مقدمة الكتاب قلبى مع شباب الصحوة الإسلامية الذين عملوا الكثير للإسلام، وينتظر منهم أن يعملوا الأكثر.. إنهم اشتبكوا مع الروس فى أفغانستان فطلعوا عليهم بالردى، واضطروهم إلى الفرار، ولا يزالون مشتبكين مع فلول المرتدين والخونة، والمعركة لا يؤذن ليلها بصبح قريب، والمعاناة مستمرة. وقد اشتبكوا من قبل مع الفرنسيين فى الجزائر، وكانت تضحياتهم سيلا موارا بالدماء والأشلاء، حتى تأذن الله بالفرج، وانكسرت القيود، وعادت صيحات التكبير تنبعث من المساجد التى غلقت (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُّذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَّدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) وعندما كانت معركة فلسطين إسلامية القيادة والوجهة تضاعفت خسائر الهود، واصطدمت أمانيهم بأسوار من حديد. ولو ظلت المعركة على طبيعتها فترة أخرى لولى اليهود الأدبار، ورجعوا من حيث جاءوا إلى شرق أوربا أو غربها. لكن المؤامرات العالمية سحبت الإسلام من المعركة وجعلت العرب يقاتلون بلا دين فقامت إسرائيل، ونفخ أوداجها الغرور!.
ص _012(1/1)
ثم عاد الإسلام كرة أخرى إلى الساحة فإذا انتفاضة جديدة تشعل نار المقاومة، وتذكر العدو والصديق بأن الإسلام وحده هو النجاة! إن قلبى ولبى مع الصحوة الإسلامية التى تحاك لها المؤامرات العالمية، ويتعرض أبطالها إلى ظلم بعد ظلم وألم بعد ألم... أر!يد أن أقول للشباب !المكافح: إن تحرير الأرض من محتليها الأجانب هدف عظيم إلا أنه بعض ما نعمل له! إن السيخ فى القارة الهندية يسعون لإقامة دولة للسيخ! فما دولة السيخ؟ وما وزنها الإنسانى فى الأولين والآخرين؟ لا شىء. إن دولة للعرب قد تقوم هنا أو هناك بعيدة عن الدين، فما قيمة ذلك وأثره ؟ إننا طلائع الإسلام الذى يريد إعلاء الوحى الإلهى ، وإنصاف الفطرة الإنسانية، وترشيد الحضارة كى ترتبط بربها وتسير على هداه... إن تراثنا الذى قاد العالم دهرا يجب أن ينهض من كبوته، ويستأنف رسالته، ويغسل الأرض من أدرانها!. لذلك أنظر باهتمام شديد إلى الجو الفكرى الذى يسود ميدان الصحوة، وأتابع بقلق مده وجزره وخيره وشره، وخطأه وصوابه! معتقدا أنه بقدر ما يقترب من الحق تسانده بركات السماء وخيرات الأرض... وقد تدارست مع أولى الألباب هذا الجو الفكرى السائد. واتفقت كلمتنا على ضرورة التعامل معه برفق، واقتياده إلى الطريق المستقيم بأناة.. لاحظنا أن الحقائق الرئيسية فى المنهاج الإسلامى لا تحتل المساحة العقلية المقررة لها، وهذه الحقائق افتقدنا الكثير منها فى مسيرتنا التاريخية لاسيما فى القرون الأخيرة!. فلو كانت أنظمة الحكم أهدى، وعناصر الحرية والعدالة أقوى، ما كنا نسقط ص _013(1/2)
فى براثن الاستعمار الذى اجتاحنا وكاد يمحو وجودنا ورسالتنا. ما قيمة نهضة لا تعرف أسباب هزائمها السابقة؟. إن السلطات المستبدة قديما وحديثا تسرها الخلافات العلمية التى لا تمسها! هل الشك ينقض الوضوء أم لا؟ هل رؤية الله فى الآخرة ممكنة أم ممتنعة؟ج هل قراءة الإمام تكفى عن المصلين أم لا تكفى؟. إن حكام الجور- يتمنون لو غرق الجمهور- فى هذه القضايا فلم يخرج! لكنه يشعر بضر بالغ عندما يقال: هل الدولة لخدمة فرد أم مبدأ ؟ لماذا يكون المال دولة بين بعض الناس؟ هل يعيش الناس- كما ولدوا- أحرارا أم تستعبدهم. سياط الفراعنة حينا ولقمة الخبز حينا؟. إن البدوى الذى خاطب الفرس أيام الفتح الأول قال لهما: جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد.. كان هذا البدوى بفطرته الصادقة يعلم ما هى الحقائق الكبرى فى المنهاج الإسلامى فيفتح البصائر عليها.. وقد أوجع فؤادى أن بعض الشباب كان يهتم بهذه المسألة: هل لمس المرأة ينقض الوضوء أم لا؟ وكان اهتمامه أحد وأشد من إجراء انتخابات حرة أو مزورة!! إن عدم سيطرة الحقائق الكبيرة على الوعى! الإنسانى لا يمكن التغاضى عنه.. وشىء آخر نريد الحديث عنه! ما هو المنطق الذى عوملت به القضايا الثانوية بعدما استحوذت على الأفكار...؟ لقد شاعت الأقوال الضعيفة والمذاهب العسرة، ورجحت الآراء التى كانت مرجوحة أيام الازدهار الثقافى الأول، حتى وهل الناس أن الإسلام إذا حكم عاد إلى الدنيا التزمت والجمود! ! ص _014(1/3)
قال لى أحد الناس: ماذا كنت تفعل فى " أسيوط " عندما تفاجأ بفرقة من المغنين تريد " إحياء " " ليلة خليعة "؟. قلت: سأذهب إلى قائد الفرقة وأقول له: نحن نريد سماع كلمات وألحان معينة فهل تلبون رغباتنا؟ فإذا قال: ما تريدون؟ طلبت منه أغنية: "أخى جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد وحق الفدا "!! أو أغنية: يا ظالم لك يوم..!! أما أن تغنى لنا " ليل خمر... " فسوف نغلق فمك أو نحشوه بالتراب! إن إخواننا يقتلون فى ميادين كثيرة ولا نرحب بالسكر والنشوة ومصارع المجاهدين تتنامى حولنا.. إننا نكره الفنون الرقيعة ونطارد الماجنين الذين يشيعون بين الناس الخنوثة والضعف... إ إ. ماذا لو شرحنا موقف الإسلام بهذا الأسلوب؟. إن ممثلين يعيشون فى الأوحال صنعوا لأنفسهم بطولة على أساس أن الإسلام يحارب الفن! إ. نحن الذين مكنا المهازيل من الدعوى العريضة، وهم بفنونهم الرخيصة لا يساوون شيئا... وزاد الطين بلة أن قيل للشباب الساذج: نحن لا نريد أقوال الرجال ولا مذاهب الأئمة. نريد الاغتراف مباشرة من الكتاب والسنة.. وأنا أكره التعصب المذهبى وأراه قصور فقه، وقد يكون سؤ خلق.. لكن التقليد المذهبى أقل ضررا من الاجتهاد الصبيانى فى فهم الأدلة.. وبديهى أن تنشأ مشكلات ثقافية واجتماعية من هذا النهج، وأن تسمع ص _015(1/4)
حدثآ يقول: مالك لا يعرف حديث الاستفتاح، ولا سنة الاستعاذة ولا يدرك خطورة البسملة، وهو يخرج من الصلاة دون أن يتم التسليمتين، فهو جاهل بالسنة النبوية..!! وحدثآ آخر يقول: أبو حنيفة لا يرفع يديه قبل الركوع ولا بعده ويوصى أتباعه ألا يقرؤوا حرفا من القرآن وراء الإمام، وربما صلى بعد لمس المرأة. فهو يصلى بلا وضوء. إنه هو الآخر جاهل بالإسلام..!! وينظر المسلمون إلى مسالك هؤلاء الفتية فينكرونها ويلعنونهم... وقد كان علماء الأزهر القدامى أقدر الناس على علاج هذه الفتن، فهم يدرسون الإسلام دراسة تستوعب فكر السلف والخلف والأئمة الأربعة كما يدرسون ألوان التفسير والحديث وما تتضمن من أقوال وآراء.. لكن الأزهر من ثلاثين عاما أو تزيد ينحدر من الناحية العلمية والتوجيهية. ولذلك خلا الطريق لكل ناعق، وشرع أنصاف وأعشار المتعلمين يتصدرون القافلة ويثيرون الفتن بدل إطفائها. وانتشر الفقه البدوى، والتصور الطفولى للعقائد والشرائع. وقد حاولت فى كتابى "دستور الوحدة الثقافية " أن أقف هذا الانحدار، بيد أن الأمر يحتاج إلى جهود متضافرة وسياسة علمية محكمة... وفى هذا الكتاب جرعة قد تكون مرة للفتيان الذين يتناولون كتب الأحاديث النبوية ثم يحسبون أنهم أحاطوا بالإسلام علما بعد قراءة عابرة أو عميقة. ولعل فيه درسا لشيوخ يحاربون الفقه المذهبى لحساب سلفية مزعومة عرفت من الإسلام قشوره ونسيت جذوره؟. وأؤكد أولا وآخراً أننى مع القافلة الكبرى للإسلام، هذه القافلة التى يحدوها ص _016
الخلفاء الراشدون والأئمة المتبوعون والعلماء الموثقون، خلفا بعد سلف، ولاحقا يدعو لسابق.. يدعو الله بصدق قائلا : (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم) محمد الغزالى ص _017(1/5)
نماذج للرأى...والرواية صحة الحديث وشروطه- هل يعذب الميت ببكاء أهله عليه؟- دائرة القصاص- تحية المسجد- حديث دنا الجبار فتدلى- تحقيق لعائشة- فتوى رعناء…- موسى وملك الموت- متهم برىء- هل نعى الموتى حرام ؟- فضل الشام...!- نفقة المطلقة ثلاثا- إكراه الفتاة على الزواج ممن تكره. ص _018
توثيق الأخبار لون من إحقاق الحق وإبطال الباطل. وقد اهتم المسلمون اهتماما شديدا بهذا الجانب من المعرفة والاستدلال، لاسيما إذا اتصل الأمر بسيرة نبيهم وما ينسب إليه من قول أو عمل... إن هناك طريقا واحدا لإرضاء الله سبحانه وتعالى ونيل محبته هو اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - واقتفاء آثاره والسير على سنته لقوله تعالى (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم(. وأمتنا. من تاريخ بعيد تصون التراث النبوى وتحميه من الأوهام، وتعد الكذب على صاحب الرسالة طريق الخلود فى النار، لأنه تزوير للدين وافتراء على الله لقوله صلى الله عليه وسلم: " إن كذبا على ليس ككذب على أحد، من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ". وقد وضع علماء السنة خمسة شروط لقبول الأحاديث النبوية: ثلاثة منها فى السند. واثنان فى المتن: 1- فلا بد فى السند من راو واع يضبط ما يسمع، ويحكيه بعدئذ طبق الأصل.. 2- ومع هذا الوعى الذكى لابد من خلق متين وضمير يتقى الله ويرفض أى تحريف. 3- وهاتان الصفتان يجب أن يطردا فى سلسلة الرواة، فإذا اختلتا فى راو أو ص _019(1/6)
اضطربت إحداهما فإن الحديث يسقط عن درجة الصحة. وننظر بعد السند المقبول إلى المتن الذى جاء به، أى إلى نص الحديث نفسه.. 4- فيجب ألا يكون شاذا 5- وألا تكون به علة قادحة والشذوذ أن يخالف الراوى الثقة من هو أوثق منه.. والعلة القادحة عيب يبصره المحققون فى الحديث فيردونه به.. وهذه الشروط ضمان كاف لدقة النقل وقبول الآثار. بل لا أعرف فى تاريخ الثقافة الإنسانية نظيرا لهذا التأصيل والتوثيق. والمهم هو إحسان التطبيق..! وقد توفر للسنة المحمدية علماء أولو غيرة وتقوى بلغوا بها المدى. وكانت غربلتهم للأسانيد مثار الثناء والإعجاب.ثم انضم إليهما الفقهاء فى ملاحظة المتون، واستبعاد الشاذ والمعلول.. ذلك أن الحكم بسلامة المتن يتطلب علما بالقرآن الكريم، وإحاطة بدلالاته القريبة والبعيدة، وعلما آخر بشتى المرويات المنقولة لإمكان الموازنة والترجيح بين بعضها والبعض الآخر. والواقع أن عمل الفقهاء متمما لعمل المحدثين، وحارس للسنة من أى خلل قد يتسلل إليها عن ذهول أو تساهل.. إن فى السنة متواترا له حكم القرآن الكريم، وفيها الصحيح المشهور الذى يفسر العموم والمطلق فى كتاب الله، وفيها حشد كبير من أحكام الفروع التى اشتغلت بها المذاهب الفقهية بعد ما اتفقت على أن السنة المصدر الثانى للأحكام. وقد يصح الحديث سندا ويضعف متنا بعد اكتشاف الفقهاء لعلة كامنة فيه ص _020(1/7)
واكتشاف الشذوذ والعلة فى متن الحديث ليس حكرا على علماء السنة، فإن علماء التفسير والأصول والكلام والفقه مسئولون عن ذلك، بل ربما ربت مسئوليتهم على غيرهم.. ألم تر إلى ابن حجر شارح صحيح البخارى فى كتابه الجليل فتح البارى الذى قال فيه العلماء بحق لا هجرة بعد الفتح!! إن الرجل على صدارته فى علوم السنة قوَّى حديث الغرانيق، وأعطاه إشارة خضراء فمر بين الناس يفسد الدين والدنيا، والحديث المذكور من وضع الزنادقة، يدرك ذلك العلماء الراسخون!. وقد انخدع به الشيخ محمد بن عبد الوهاب فجعله فى السيرة التى كتبها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والشيخ هو من هو غيرة على عقيدة التوحيد ودفاعا عنها.. ثم جاء الوغد الهندى سلمان رشدى فاعتمد على هذا الحديث المكذوب فى تسمية روايته "آيات شيطانية! ". أليس من حق علماء الكلام والفقه والتفسير أن يحاربوا هذا القذى؟ بل إن حراس السنة الصحيحة رفضوا هذا الحديث المحقور.. وفى هذه الأيام صدر تصحيح من الشيخ الألبانى لحديث " لحم البقر داء " وكل متدبر للقرآن الكريم يدرك أن الحديث لا قيمة له، مهما كان سنده!. إن الله تعالى فى موضعين من كتابه أباح لحم البقر وامتن به على الناس فكيف يكون داء؟. فى سورة الأنعام يقول (ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) ثم يفصل ما أباح أكله فيقول : (ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين) ثم يقول: ص _021(1/8)
(ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين …) فأين موضع الداء فى هذه اللحوم المباحة على سواء؟. وفى سورة الحج يقول (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها و أطعموا القانع و المعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون) والبدن هى الإبل والبقر والجاموس! فأين الداء فيها؟. عيب بعض الذين يشتغلون بالحديث قصورهم فى تدبر القرآن وفقه أحكامه فلم الغرور مع هذا القصور؟ ولماذا يستكثرون على غيرهم من رجال الفكر الإسلامى الرحب أن يكتشفوا علة هنا أو شذوذا هناك!. إن التعاون فى ضبط التراث النبوى مطلوب، ومتن الحديث قد يتناول عقائد وعبادات ومعاملات يشتغل بها علماء المعقول والمنقول جميعا وقد يتناول الحديث شئون الدعوة والحرب والسلام، فلماذا يحرم علماء هذه الآفاق المهمة من النظر فى المتون المروية؟.. وما قيمة حديث صحيح السند عليل المتن؟؟. على أن هناك آلافا من الأحاديث الخالية من العلل والشذوذ تم تسجيلها فى دواوين السنة، فإذا بقى نزر يسير يتعاون فى ضبطه الفقهاء والمحدثون فذلك خير وأولى.. وفى عصرنا ظهر فتيان سؤ يتطاولون على أئمة الفقه باسم الدفاع عن الحديث النبوى، مع أن الفقهاء ما حادوا عن السنة، ولا استهانوا بحديث صحت نسبته وسلم متنه. كل ما فعلوه أنهم اكتشفوا عللا فى بعض المرويات فردوها- وفق المنهج العلمى المدروس- وأرشدوا الأمة إلى ما هو أصدق قيلا وأهدى سبيلا... وهم بهذا المنهج يتأسون بالصحابة والتابعين. انظر موقف عائشة رضى الله عنها عندما سمعت حديث إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه! لقد أنكرته، وحلفت أن الرسول ما قاله، وقالت- بيانا لرفضها إياه- " أين منكم قول الله ص _022(1/9)
سبحانه (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِّزْرَ أُخْرَى) . إنها ترد ما يخالف القرآن بجرأة وثقة، ومع ذلك فإن هذا الحديث المرفوض من عائشة ما يزال مثبتا فى الصحاح بل إن " ابن سعد " فى طبقاته الكبرى كرره فى بضعة أسانيد!. قال: أخبرنا ثابت عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب لما طعن عولت حفصة، فقال: يا حفصة أما سمعت النبى- صلى الله عليه وسلم- يقول إن المعؤل عليه يعذب نج قال وعول صهيب فقال عمر: يا صهيب أما علمت أن المعول عليه يعذب؟. وقال: أخبرنا ابن عون عن محمد قال: لما أصيب عمر حمل فأدخل فقال صهيب: واأخاه!. فقال عمر: ويحك يا صهيب أما علمت أن المعول عليه يعذب؟. وقال: أخبرنا أبو عقيل قال: أخبرنا محمد بن سيرين قال: أتى عمر بن الخطاب بشراب حين طعن فخرج من جراحته، فقال صهيب: واعمراه واأخاه ، من لنا بعدك . فقال له عمر: مه يا أخى أما شعرت أنه من يعول عليه يعذب؟. وقال: أخبرنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الملك بن عمير عن أبى بردة عن أبيه قال: لما طعن عمر أقبل صهيب يبكى رافعا صوته، فقال عمر: أعلى؟ قال: نعم، قال عمر: أما علمت أن رسول الله- صلى الله عليه وسم- قال: من يبك عليه يعذب؟. قال! عبد الملك: فحدثنى موسى بن طالب عن عائشة أنها قالت: أولئك الذين يعذب أمواتهم ببكاء أحيائهم، هم الكفار. ص _023(1/10)
والذى تؤكده عائشة أن الرسول- صلى الله عليه وسم- قال: إن الكافر يعذب ببكاء أهله عليه.. فعن ابن أبى مليكة قال: توفيت ابنة لعثمان رضى الله عنه بمكة، وجئنا لنشهدها وحضرها ابن عمر وابن عباس رضى الله عنهما وإنى لجالس بينهما... فقال عبد الله بن عمر لعمرو بن عثمان: ألا تنهى النساء عن البكاء؟ فإن رسول الله- صلى الله عليه وسم- قال " إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه " قال ابن عباس: قد كان عمر يقول بعض ذلك.. فما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة، فقالت: رحم الله عمر! والله ما حدث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، ولكن رسول الله قال: " إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه ". وقالت: حسبكما القرآن (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِّزْرَ أُخْرَى) قال ابن عباس عند ذلك: والله هو أضحك وأبكى- يعنى أن بكاء الراحلين طبع لا حرج! فيه ولا تثريب عليه- قال ابن أبى مليكة: والله ما قال! ابن عمر شيئا.. وماذا يقول؟ إن الخطأ غير مستبعد على راو ولو كانن فى جلالة ابن عمر.. وعندى أن ذلك المسلك الذى سلكته أم المؤمنين أساس لمحاكمة الصحاح إلى نصوص الكتاب الكريم، الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه... من أجل ذلك كان أئمة الفقه الإسلامى يقررون الأحكام وفق اجتهاد رحب، يعتمد على القرآن أولا، فإذا وجدوا فى ركام المرويات ما يتسق معه قبلوه، وإلا فالقرآن أولى بالاتباع. رد البعض على هذا كله بأن معنى تعذيب الميت ببكاء أهله عليه أن الميت ص _024(1/11)
يتعذب أى يتألم، لا أن الله يعذبه! وهو تأويل لطيف، وإذا قبلناه لم يختلف! الحديث مع الكتاب الكريم! ولكن دون هذا التأويل صعوبات: منها أن عائشة تحلف أن رسول الله صلى الله عليه وسم قال: إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه، ولم يذكر المؤمن!. وقد يقال: ولماذا يعذب الكافر بما لم يقترف؟ أليس ذلك ظلما؟ والجواب فى قوله تعالى (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون ) وما يزاد فى عذاب الكافر لأنه سبب فى إضلال غيره.ل غيره. والقول بأن المؤمن يتألم بعد موته لبكاء أهله مخالف للآية (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) روى ابن كثير أن ذلك عند الموت، ونقل عن زيد ابن أسم: " يبشرونه عند موته، وفى قبره، وحين يبعث " وعلق على ذلك بأن هذا القول يجمع الأقوال كلها، وهو حسن جدا، وهو الواقع! فأين يتعذب والحالة هذه؟ إن الله مطمئنه على ما ترك، وما سيلقى. وقد بشر الله الشهداء بأن من تركوهم سوف يلحقون بهم فى خير (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون) إننا لا نحرص على تضعيف حديث يمكن تصحيحه، وإنما نحرص على أن يعمل الحديث داخل سياج من دلالات القرآن القريبة أو البعيدة. وحديث الآحاد يفقد صحته بالشذوذ والعلة القادحة، وإن صح سنده.. فأبو حنيفة يرى أن من قاتلنا من أفراد الكفار قاتلناه، فإن قتل فإلى حيث ألقت، أما من له ذمة وعهد فقاتله يقتص منه. ومن ثم رفض حديث لا يقتل مسلم فى كافر، مع صحة سنده، لأن المتن ص _025(1/12)
معلول بمخالفته للنص القرآنى (النَفْسَ بِالنَّفْسِ) وقول الله بعد ذلك (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ). وقوله (أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) ؟ وعند التأمل نرى الفقه الحنفى أدنى إلى العدالة، وإلى مواثيق حقوق الإنسان، والى احترام النفس البشرية دون نظر إلى البياض والسواد، أو الحرية والعبودية، أو الكفر والإيمان. لو قَتَل فيلسوف، كانس طريق، قُتل فيه! فالنفس بالنفس..!! وقاعدة التعامل مع مخالفينا فى الدين ومشاركينا فى المجتمع أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا، فكيف يهدر دم قتيلهم؟. وقد بلغنى أن بدويا قتل مهندسا أمريكيا فى إحدى دول الخليج، وقال أهل الحديث لا يجوز القصاص! وشعرت الحكومة بالحرج، ولكن تم الخروج من المأزق بقتل المجرم من باب السياسة الشرعية!. القصاص شريعة الله، وهو ظاهر القرآن الكريم، والأحناف يقدمون ظاهر القرآن على حديث الآحاد، والمالكيون يقدمون عمل أهل المدينة على حديث الآحاد باعتبار أن عمل أهل المدينة أدل على السنة النبوية من حديث راو واحد. وقد أمضى مالك القصاص للفرع من الأصل، إذا كان الأب القاتل قد أقدم على الجريمة عامدا مصرا مغتالا، وترك الحديث الوارد بمنع هذا القصاص مع صحة سنده.. وأهل الحديث يجعلون دية المرأة على النصف من دية الرجل، وهذه سوأة فكرية وخلقية رفضها الفقهاء المحققون !. فالدية فى القرآن واحدة للرجل والمرأة، والزعم بأن دم المرأة أرخص، ص _026(1/13)
وحقها أهون زعم كاذب مخالف لظاهر الكتاب. إن الرجل يقتل فى المرأة كما تقتل المرأة فى الرجل، فدمهما سواء باتفاق، فما الذى يجعل دية دون دية؟. كنت فى مجلس مع أستاذنا مصطفى الزرقا، فقال لى: إدن الدية تعويض عن مفقود! وفى العوض يلاحظ التكافؤ ومقتل الرجل خسارة للأسرة أفدح من مقتل المرأة، والفقهاء لم يفكروا قط فى إهانة المرأة ماديا أو أدبيا، وإنما نظروا فى قيمة العوض المطلوب!. تم قال!: إن القوانين الغربية لم تسو بين المرأة والرجل فى أجر العمل، ولم تسو بينهما فى تصرفات مالية شتى، إنما سوت بينهما فى فرص اللذة الحرام والحلال!!. وقال الأستاذ معروف الدواليبى: إنه عندما كان يشارك فى وضع القوانين فى باكستان على أساس الشريعة الإسلامية سوى فى الدية بين الرجل والمرأة، إيثارا للرأى القائل بذلك، واستئناسا بمسلك عثمان بن عفان الذى أكمل دية الذمى وكا نت على النصف من دية المسلم... قال: رأينا أن نسد الطريق على من يتهمون الإسلام بانتقاص مكانة المرأة. وفى مسلك الخليفة الراشد الثالث ما يدل على إمكان التغيير إذا تغيرت الأوضاع، ويبدو أن أهل الذمة اندمجوا فى المجتمع الإسلامى عن إخلاص، فرأى عثمان طمأنتهم على مكانتهم بتعزيز دياتهم على أن الفقه الحنفى يسوى فى الدماء والديات بين الجميع... وقد فكرت فى السبب الذى جعل الأحناف والمالكية يكرهون تحية المسجد والإمام يخطب مع ورود حديث بطلب هذه التحية. وبعد تأمل يسير رأيت أن خطبة الجمعة شرعت بعد الهجرة، وظل المسلمون ص _027(1/14)
يصلون الجمع وراء النبى- عليه الصلاة والسلام- عشر سنين! أى أن هناك نحو خمسمائة خطبة ألقيت خلال هذه المدة، فأين هى؟. إن المحدثين لم يهملوا تسجيل كلمة عابرة، أو فتوى خاصة، أو إجابة لسائل، فكيف تركوا هذه الخطب؟. كل ما دونوه بضع خطب لا تبلغ أصابع اليد ! الواقع أن النبى- عليه الصلاة والسلام- كان يخطب الناس بالقرآن الكريم، وعندما يكون على منبره أو فى محرابه يتلو كتابه، فعلى الجميع الصمت والتدبر. يستحيل أن ينشغل عنه أحد بقراءة أو بصلاة ! كذلك جاء التوجيه الإلهى (وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) إن رب العالمين يستمع إلى نبيه وهو يقرأ كما جاء فى الحديث الشريف " ما أذن الله لشىء أذنه لنبى يقرأ القرآن يتغنى به " فكيف! يتشاغل عنه الناس؟. كانت السنة إذن هى الاستماع للخطب، وما جاء فى حديث الأمر بتحية المسجد كان حالة خاصة بالرجل المذكور، وظلت السنة العملية تمنع الكلام والصلاة فى أثناء الخطبة، بل إن مالكا أبطل هذه الصلاة، وما أظن صاحب الموطأ يهتم بمعاداة سنة ثابتة. وندع قضية الخطب فيها سهل، إلى قضية علمية مهمة لها وزنها، ولا نحب أن نجعل منها قضية عقائدية. من الذى نزل بالقرآن الكريم على صاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله؟ ص _028(1/15)
يقول المسلمون خاصتهم وعامتهم إنه أمين الوحى جبريل..! وليس هذا القول وليد إشاعة لا يدررى مصدرها! بل هو قول مستند إلى المتواتر من الكتاب والسنة جميعا.. وأذكر هنا خمسة. مواضع فى القرآن الكريم تؤيد هذه الحقيقة.. ا- (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين) والآية واضحة الدلالة.. 2- (قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين) وروح القدس هو جبريل، وهو عبد الله وليس إلها كما يتوهم البعض. وفى هذه الآية والتى سبقتها نلحظ أن الوحى الأعلى هداية وبشرى، هداية للشعوب الحائرة، وبشرى تورث الأفراح وتحقق الآمال لمن يرتبطون بهذا الوحى...! 3- (إنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربى مبين * وإنه لفى زبر الأولين). وظاهر أن الذى نزل بالوحى هو الروح الأمين وأن الرسول الكريم شرع يعم الناس. ويدعوهم بعدما تلقى هذا الوحى المبارك، وأن رسالته تصديق وامتداد لرسالات النبيين الأولين فى العقائد وحسن الخلق. 4- وقد أقسم الله تبارك وتعالى على عظمة هذا القرآن فقال : (إنه لقول رسول كريم * ذى قوة عند ذى العرش مكين * مطاع ثم أمين). ص _029(1/16)
ونلحظ هنا عدة أوصاف لأمين الوحى، فهو رسول كريم، وهو صاحب قوة، وهو صاحب مكانة عند ذى العرش، وهو مطاع فى موضعه، وأمين.. وبين هذه الصفات وبين ما جاء فى سورة النجم مشابه.. فلنتدبرها فى الموضع الأخير.. 5- (إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوْحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى * ذُو مِّرَةٍ فَاسْتَوَى * وهُوَ بِالأُفُقِ الأعَلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فكَانَ قَابَ قَوْسَيِنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى..). القوى الذى علم الوحى ونزل به إلى السماء الدنيا، وحلق به فى جو الأرض، ثم اقترب به من الرسول العربى هو جبريل بداهة. ولا يتحمل السياق إلا هذا ، ولا تتحمل آيات القرآن كلها فى غير هذا الموضوع إلا هذا...! ومع ذلك فقد جاءت فى الأحاديث المنقولة بطريق الآحاد رواية مستغربة أن الذى دنا فتدلى هو الله والرواية تخالف المتواتر المقطوع به فى الكتاب والسنة، ومن هنا لم يكترث بها المحقفون بل جمدت فى مكانها حتى جاء ضعفاء الفقه فاستحيوها دون وعى... وقد ضقت ذرعا بأناس قليلى الفقه فى القرآن كثيرى النظر فى الأحاديث. يصدرون الأحكام، ويرسلون الفتاوى فيزيدون الأمة بلبلة وحيرة. ولازلت أحذر الأمة من أقوام بصرهم بالقرآن كليل، وحديثهم عن ص _031(1/17)
ترفض أدنى تجاوز لها.. وعندما سمعت أن النبى- صلى الله عليه وسلم- وقف على حافة البئر التى دفن المشركون بها يناديهم بأسمائهم كان لها تعليق جدير بالتدبر. والرواية فى هذا أن النبى- صلى الله عليه وسلم مشى واتبعه أصحابه حتى قام على شفة الركى فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟. فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال: والذى نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع مما أقول منهم ! أنكرت عائشة عبارة " ما أنتم بأسمع مما أقول منهم " مستدلة بالآية الشريفة (وَمَا أَنْتَ ِبمُسْمِعٍ مَّنْ فِي القُبُورِ) وصححت الرواية: ما أنتم بأعلم مما أقول منهم . ! قال قتادة مبينا الرواية الأولى ومدافعا عنها: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا.. والذى أراه أن الرواية الأولى لا تحتاج إلى هذا الدفاع، فالموتى لم يفنوا، وصوت النبوة يبلغهم وهم فى سجين.. ولكن عائشة رضى الله عنها لا تقبل ما يعارض- فى ظاهره- لفظ القرآن، فالموتى عادة لا يكلمون ولا يسمعون، وإنما يعلمهم الله بما يشاء، فإذا علموا فكأنهم سمعوا، والعبارة مقبولة على طريق المجاز... كل ما نحرص نحن عليه شد الانتباه إلى ألفاظ القرآن ومعانيه، فجملة غفيرة من أهل الحديث محجوبون عنها، مستغرقون فى شئون أخرى تعجزهم عن تشرب الوحى ! ص _032(1/18)
والفقهاء المحققون إذا أرادوا بحث قضية ما، جمعوا كل ما جاء فى شأنها من الكتاب والسنة، وحاكموا المظنون إلى المقطوع، وأحسنوا التنسيق بين شتى الأدلة... أما اختطاف الحكم من حديث عابر، والإعراض عما ورد فى الموضوع من آثار أخرى فليس عمل العلماء... وقد كان الفقهاء على امتداد تاريخنا العلمى هم القادة الموثقون للأمة، الذين أسلمت لهم زمامها عن رضا وطمأنينة، وقنع أهل الحديث بتقديم ما يتناقلون من آثاركما تقدم مواد البناء للمهندس الذى يبنى الدار، ويرفع الشرفات. والواقع أن كلا الفريقين يحتاج إلى الآخر، فلا فقه بلا سنة ولا سنة بلا فقه، وعظمة الإسلام تتم بهذا التعاون. والمحنة تقع فى اغترار أحدهما بما عنده، وتزداد مع الإصرار وضعف البصيرة.. وقد ظهرت فى الجزائر فتوى لواحد من أهل الحديث حاربناها بقوة قبل أن تصيب الإسلام وأهله بضر شديد. إن على التجار فى بضائعهم زكاة يتقربون إلى الله بأدائها، والتجار فى الدنيا ملوك المال وقد افتتح الانجليز القارة الهندية بشركة تجارية، ولا يزال. الاستعمار الاقتصادى يهيمن على ميادين التجارة حتى يمتلك أعناق الشعوب!. فكيف يزعم زاعم أن عروض التجارة لا زكاة فيها؟ وأين نذهب بقوله تعالى )يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتى يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ( وقوله تعالى )ومما رزقناهم ينفقون)، وقوله ( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض). ص _033(1/19)
لكن الشاب المشتغل بالحديث النبوى نادى فى الناس ألا زكاة فى عروض التجارة، إذ لا أصل لها فيما قرأ... وضم إلى ذلك أن الزكاة فى الزراعة لا تخرج إلا من القمح والشعير والتمر والزبيب، كأن الكرة الأرضية هى نجد وتهامة والحجاز!!. والمفتى القاصر يهبط بحصيلة الزكاة إلى العشر مادام جمهور التجار والفلاحين قد أعفى من إيتاء الزكاة، وسقط عنهم ر كن الإسلام. ومتى يقع هذا؟ فى أيام جندت الكنيسة خلالها ثروات التجار والفلاحين لتنصير العالم الإسلامى المبتلى بجدب الأرض وجدب العقول!. لماذا لا نتدبر القرآن أولا حتى نعرف أبعاد التكاليف التى ناطها الإسلام بأعناقنا، وأوعية المال التى نخرج منها زكواتنا؟. ولماذا لا نعرف طبيعة الدنيا التى نعيش فيها، والأساليب التى يتبعها خصومنا لكسب معاركهم ضدنا؟. إنه لا فقه مع العجز عن فهم الكتاب ومع العجز عن فهم الحياة نفسها.. وبعض المشتغلين بالحديث يستوعر تدبر القرآن، ودراسة دلالاته القريبة والبعيدة، ويستسهل سماع حديث ما ثم يختطف الحكم منه فيشقى البلاد والعباد. قلنا: إنه لا خلاف بين المسلمين فى العمل بما صحت نسبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم- وفق أصول الاستدلال التى وضعها الأئمة، وانتهت إليها الأمة إنما ينشأ الخلاف حول صدق هذه النسبة أو بطلانها... وهو خلاف لابد من حسمه، ولابد من رفض الافتعال أو التكلف فيه.. ص _034(1/20)
فإذا استجمع الخبر المروى شروط الصحة المقررة بين العلماء فلا معنى لرفضه وإذا وقع خلاف محترم فى توفر هذه الشروط أصبح فى الأمر سعة، وأمكن وجود وجهات نظر شتى، ولا علاقة للخلاف هنا بكفر ولا إيمان، ولا بطاعة أو عصيان.. وقد وقع لى وأنا بالجزائر أن طالبا سألنى: أصحيح أن موسى عليه السلام !ا... فقأ عين ملك الموت عندما جاء لقبض روحه، بعدما استوفى أجله؟ فقلت للطالب وأنا ضائق الصدر: وماذا يفيدك هذا الحديث؟ إنه لا يتصل بعقيدة؟ ولا يرتبط به عمل! والأمة الإسلامية اليوم تدور عليها الرحى، وخصومها طامعون فى إخماد أنفاسها! اشتغل بما هو أهم وأجدى . قال الطالب: أحببت أن أعرف هل الحديث صحيح أم لا؟ فقلت له متبرما: الحديث مروى عن أبى هريرة، وقد جادل البعض فى صحته. وعدت لنفسى أفكر: إن الحديث صحيح السند، لكن متنه يثير الريبة، إذ يفيد أن موسى يكره الموت، ولا يحب لقاء الله بعدما انته أجله، وهذا المعنى مرفوض بالنسبة إلى الصالحين من عباد الله كما جاء فى الحديث الآخر "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ". فكيف بأنبياء الله؟ وكيف بواحد من أولى العزم؟. إن كراهيته للموت بعدما جاء ملكه أمر مستغرب! ثم هل الملائكة تعرض لهم العاهات التى تعرض للبشر من عمى أو عور؟ ذاك بعيد. قلت: لعل متن الحديث معلول، وأيا ما كان الأمر فليس لدى ما يدفعنى إلى إطالة الفكر فيه.. فما رجعت إلى الحديث فى أحد مصادره ساءنى أن الشارح جعل رد الحديث إلحادا ! وشرع يفند الشبهات الموجهة إليه فلم يزدها إلا قوة... وهاك الحديث أولا: ص _035(1/21)
عن أبى هريرة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "جاء ملك الموت إلى موسى- عليه السلام- فقال له: أجب ربك، قال: فلطم موسى - عليه السلام- عين ملك الموت، ففقأها، قال: فرجع الملك إلى الله تعالى، فقال: إنك أرسلتنى إلى عبد لك لا يريد الموت وقد فقأ عينى، قال: فرد الله إليه عينه، وقال: ارجع إلى عبدى فقل له: ألحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور، فما وارت يدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة، قال: ثم مه؟ قال: ثم تموت، قال: فالآن من قريب، رب أمتنى من الأرض المقدسة رمية بحجر ". قال رسول الله- صلى الله عليه وسم- "والله لو أنى عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر" قال المازرى: وقد أنكر بعض الملاحدة هذا الحديث وأنكر تصوره، قالوا: كيف يجوز على موسى فقء عين ملك الموت؟. قال: وأجاب العلماء عن هذه الشبهة بأجوبة: أحدها: أنه لا يمتنع أن يكون موسى- صلى الله عليه وسلم- قد أذن الله تعالى له فى هذه اللطمة، ويكون ذلك امتحانا للملطوم، والله- سبحانه وتعالى- يفعل فى خلقه ما شاء، ويمتحنهم بما أراد والثانى: أن هذا على المجاز، والمراد أن موسى ناظره وحاجه فغلبه بالحجة، ويقال: فقأ فلان عين فلان إذا غالبه بالحجة، ويقال: عورت الشىء إذا أدخلت فيه نقصا. وعلق المازرى على الرأى الثافى بقوله: ص _036(1/22)
وفى هذا ضعف لقوله- صلى الله عليه وسلم- فرد الله عينه، فإن قيل: أراد حجته كان بعيدا . والثالث: أن موسى - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم أنه ملك من عند الله، وظن أنه رجل قصده يريد نفسه (أى يريد قتله) فدافعه عنها، فأدت المدافعة إلى فقء عينه، لا أنه قصدها بالفقء، وهذا جواب الإمام أبى بكر بن خزيمة وغيره من المتقدمين، واختاره المازرى والقاضى عياض. قالوا: وليس فى الحديث تصريح بأنه تعمد فقء عينه، فإن قيل: فقد اعترف موسى حين جاءه ثانيا بأنه ملك الموت. فالجواب: أنه أتاه فى المرة الثانية بعلامة علم بها أنه ملك الموت فاستسلم بخلاف المرة الأولى. نقول نحن: هذا الدفاع كله خفيف الوزن، وهو دفاع تافه لا يساغ!! ومن وصم منكر الحديث بالإلحاد فهو يستطيل فى أعراض المسلمين. والحق: أن فى متنه علة قادحة تنزل به عن مرتبة الصحة. ورفضه أو قبوله خلاف فكرى، وليس خلافا عقائديا. والعلة فى المتن يبصرها المحققون، وتخفى على أصحاب الفكر السطحى. سمعت كلا ما حادا ممن يرون أن موسى فقأ عين ملك الموت حقا، وأن هذا غير مستغرب. وقبل أن أذكر ما عندى أثبت هنا حديث أحمد عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه! قلنا: يا رسول الله كلنا نكره الموت! فقال رسول الله: ليس ذلك كراهية الموت! ولكن المؤمن إذا حضر - احتضر - جاءه البشير من الله تعالى بما هو صائر إليه فليس شىء أحب إليه من أن يكون قد لقى الله تعالى، فأحب لقاء الله!!... قال: وإن الفاجر أو الكافر إذا حضر - احتضر - جاءه ص _037(1/23)
" النذير" بما هو صائر إليه من الشر أو ما يلقى من الشر فكره لقاء الله فكره الله لقاءه". والحديث المذكور يتجاوز أحوال الصحة المعتادة، وانغماس الناس فى معايشهم يزرعون ويصنعون ويتجرون، فإن إقبالهم على الحياة لا نكر فيه، ونزول الموت هنا قد يوصف بأنه مصيبة! وما تقوم الدنيا وينشأ عمرانها إلا من هذا الشعور بالحياة وحبها. على أن المؤمن قد ينبذ الحياة الدنيا فى ساعة فداء ينصر بها دينه ويلقى بها ربه، فهو وإن انغمس فى شئون الدنيا لا ينسى أبدا دينه، ولا ينكص عن لقاء ربه وحديث أحمد بن حنبل يتجاوز هذه الظروف كلها ليشرح اللحظات الأخيرة من عمر المتوفى وهو فى فراش المرض، أو وهو على أبواب الآخرة، وقد شرع ملك الموت يسترد الروح ليعود بها إلى بارئها. فى هذه الأويقات الحرجة تجىء البشرى التى يطير بها المؤمن فرحا، أو الأنباء التى ينوء بها الفاجر كمدا.... فلننظر على ضؤ هذه الحقائق إلى حديث فقء موسى لعين ملك الموت.. إن الملك قال لموسى: أجب ربك.. يعنى أن عمرك انتهى، فاستعد لتسليم روحك والعودة إلى ربك!!. أفى هذه العودة ما يضايق موسى؟ قال المدافعون عن الحديث: موسى كسائر البشر يكره الموت! ونقول: كراهية الموت مفهومة فى الأحوال العادية للناس العاديين، ولا معنى لها بعد انتهاء الأجل، ومجىء الملك ليسترد وديعته!. ما الذى يكرهه موسى من اللقاء الحتم؟ إن هذا الكره تحول إلى جزع وغضب جعلا موسى يفقأ عين الملك كما يقال. ص _038(1/24)
يقول المدافعون عن الحديث: إن موسى فقأ الصورة التى تمثل بها الملك، لأنه جاء فى صورة بشر.. ويرد ذلك ما جاء فى الحديث أن الله رد إليه عينه، أفكان موسى عاجزا عن إصلاح العور فى الهيئة التى تشكل فيها؟. وقد طلب موسى أن يدفن على مرمى حجر من حدود فلسطين التى جبن قومه عن دخولها فهل هذا الطلب تفسير لحرص اليهود الآن على نقل موتاهم إلى الأرض المقدسة؟. وسمعت من قال: إن الحديث من الابتلاء بالغيب؟ والإيمان بالغيوب حق إذا كانت مستيقنة المصدر أما السياق الغامض والأسلوب المضطرب فهما موضع بحث الفقهاء ليتعرفوا الحقيقة من خبر آحاد، يتعرض للدرس والفحص سندا وأخيرا فهذا الحديث وأمثاله مما لا صلة له بعقيدة أو سلوك قار فى مكانه تعدوه العين إلى المهم من تعاليم الإسلام العملية-، فمن نبش التراب عنه، وشغل الناس به، ونسب إلى الإلحاد من يتوقف فيه؟ إن أعداء الصحوة الإسلامية من وراء هذا الحراك الطائش... وقد رفض الأئمة أحاديث صح سندها واعتل متنها فلم تستكمل بهذا الخلل شروط الصحة.. ومن أجل ذلك. استغربنا ما رواه ثابت عن أنس أن رجلا كان يتهم بأم ولد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لعلى اذهب فاضرب عنقه، فأتاه على فإذا هو فى ركى يتبرد فيها فقال له على: أخرج. فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوب ليس له ذكر! فكف على عنه ثم أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله إنه لمجبوب ما له ذكر. يستحيل أن يحكم على رجل بالقتل فى تهمة لم تحقق، ولم يواجه بها المتهم، ولم يسمع له دفاع عنها، بل كشفت الأيام عن كذبها!. ص _039(1/25)
وقد حاول النووى غفر الله لنا وله تسويغ هذا الحكم، بقوله: لعل الرجل كان منافقا مستحقا للقتل لسبب آخر! ونقول: متى أمر رسول الله بقتل المنافقين؟ ما وقع ذلك منه! بل لقد نهى عنه. وظاهر من السياق أن الرجل نجا من القتل بعدما تبين من العاهة التى به استحالة توجيه الاتهام إليه، أفلو كان سليما أبيح دمه؟ هذا أمر تأباه أصول الإسلام.. وفروعه كلها. إن بالحديث علة قادحة، وهى كافية فى سلب وصف الصحة عنه، وأهل الفقه لا أهل الحديث هم الذين يردون هذه المرويات. قال مدافع عن هذا الخبر: لعله من باب التعزير؟ وهذا تفكير مستنكر! هل الإسلام اعطى ولى الأمر حق قتل الناس لشبهة أو شائعة؟ أبإسم التعزير تستباح الدماء على نحو طائش..؟ إننا نقتل ديننا بهذا الفهم، ونعرض سيرة نبينا للقيل والقال . . . ومما يحتاج إلى الفقه السليم تحريم نعى الموتى، ورفض ما تنشره الصحف الآن من إعلانات عن وفاة فلان وفلانة.. وقد جاءنى بعض الطلاب يقولون: إنهم قرؤوا أحاديث تفيد ذلك، ومن ثم فهم يستنكرون الايذان بأخبار الموتى. قلت: إن النعى المكروه ما كان استعراضا للمآثر والمفاخر، وتنويها بالأفراد والأسر، أما ماعدا ذلك فلا شائبة فيه، بل لابد منه..! قالوا: ما رواه الترمذى وابن ماجة غير ما تقول! عن حذيفة رضى الله عنه قال عندما احتضر: "إذا أنا مت فلا يؤذن على أحد، إنى أخاف أن يكون نعيا، وإنى سمعت رسول الله ينهى عن النعى". هكذا روى الترمذى، وأكد ابن ماجة الرواية إلا أنه قال: "كان حذيفة ص _041(1/26)
والواقع أن دار الإسلام الآن مهددة من ثغرات شتى، والغزاة يتواثبون حولها شرقا وغربا.. ولما كانت فلسطين جزءا من الشام فنحن نعد الفرار منها عصيانا والثبات فيها جهادا. وللمدافعين عن الإسلام فى أفغانستان والفلبين، وسائر أراضيه كل الحقوق التى لعرب فلسطين، أو لأرض الشام كما جاء فى الأحاديث الستة عشر كان عمر رضى الله عنه يشغل نفسه ويشغل الناس معه بالقرآن الكريم ويوصى الجيوش أن تلهج به وتعكف عليه. ومن أقضيته التى استند فيها إلى القرآن وحده: ما رواه ابن إسحاق، قال: كنت جالسا مع الأسود بن يزيد فى المسجد الأعظم، ومعى الشعبى. فحدث بحديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يجعل لها سكنى ولا نفقة- وكانت قد طلقت ثلاثا- فأخذ الأسود كفا من حصى فحصبه به! ثم قال: ويلك تحدث بمثل هذا؟ قال عمر: لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندرى حفظت أم نسيت، لها السكنى والنفقة. قال تعالى (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة). وحديث فاطمة المذكور هو موضع خلاف بين الفقهاء، رفضه الأحناف، وقبله الحنابلة، ويرى المالكية والشافعية: أن المطلقة ثلاثا لها السكنى دون النفقة. وملحظ الحنابلة: أن سياق الآية التى ذكرها عمر فى الطلاق الرجعى لا البائن، ولمن شاء أن يدرس القضية فى مصادرها، والذى يعنينا منها: هو أن "عمر" جعل ظاهر القرآن هو السنة التى تتبع وإذا كنا نقدم الرأى القوى على الرواية المريبة فيما سقنا قبلا من نماذج فإن عجبنا يشتد عندما نرى من يترك النقل والفقه معا فى بعض الأحكام. اتفق المحدثون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تنكح الايم ص _042(1/27)
حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن. قالوا: يا رسول الله كيف إذنها؟ قال: أن تسكت " وفى رواية: " الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستتأمر، وإذنها سكوتها ". وعن ابن عباس رضى الله عنه أن جارية بكرا أتت النبى- صلى الله عليه وسلم- فذكرت أن أباها زوجها وهى كارهة!، فخيرها رسول الله ". وفى رواية: "أن فتاة دخلت على عائشة فقالت: إن أبى زوجنى من ابن أخيه يرفع لى خسيسته وأنا له كارهة! قالت عائشة: اجلسى حتى يأتى رسول الله! فجاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبرته، فأرسل إلى أبي!! فدعاه، فجعل الأمر إليها! فقالت: يا رسول الله، قد أجزت ما صنع أبى، ولكنى أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شىء! " ومع هذا فإن الشافعية والحنابلة أجازوا أن يجبر الأب ابنته البالغة على الزواج بمن تكره!!، ولا نرى وجهة النظر هذه إلا انسياقا مع تقاليد إهانة المرأة، وتحقير شخصيتها وقد ذكرنا أن الأحناف أعطوا المرأة حق أن تباشر عقدها إمضاء لظواهر القرآن.. " ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا ) ص _043
فى عالم النساء
الحجاب والنقاب- المرأة والأسرة والوظائف
العامة- علاقة المرأة بالمسجد- شهادة المرأة فى الحدود والقصاص.
ص _044(1/28)
معركة الحجاب...!! نريد للصحوة الإسلامية المعاصرة أمرين: أولهما: البعد عن الأخطاء التى انحرفت بالأمة وأذهبت ريحها وأطمعت فيها عدوها.. والآخر: إعطاء صورة عملية للإسلام تعجب الرائين، وتمحو الشبهات القديمة وتنصف الوحى الإلهى.. ويؤسفنى أن بعض المنسوبين إلى هذه الصحوة فشل فى تحقيق الأمرين جميعا، بل ربما نجح فى إخافة الناس من الإسلام، ومكن خصومه من بسط ألسنتهم فيه.. ولنستعرض هنا طائفة من المعارك التى أثاروها، أو المبادئ التى رأوا أن ينطلقوا منها. ونبدأ بمعركة النقاب!. قرأت كتيبا فى إحدى دول الخليج يقول فيه مؤلفه: إن الإسلام حرم الزنا! وإن كشف الوجه ذريعة إليه، فهو حرام لما ينشأ عنه من عصيان! قلت: إن الإسلام أوجب كشف الوجه فى الحج، وألفه فى الصلوات كلها، أفكان بهذا الكشف فى ركنين من أركانه يثير الغرائز ويمهد للجريمة؟ ما أضل هذا الاستدلال!. وقد رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- الوجوه سافرة فى المواسم والمساجد والأسواق فما روى عنه قط أنه أمر بتغطيتها، فهل أنتم أغير على الدين والشرف من الله ورسوله؟. ولننظر إلى كتاب الله ورسوله لنستجلى أطراف الموضوع ! ص _045(1/29)
ا- إذا كانت الوجوه مغطاة فمم يغض المؤمنون أبصارهم؟ كما جاء فى الآية الشريفة (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم ...). أيغضونها عن القفا والظهر؟.. الغض يكون عند مطالعة الوجوه بداهة، وربما رأى الرجل ما يستحسنه من المرأة فعليه ألا يعاود النظر عندئذ كما جاء فى الحديث. قال رسول الله- صلى الله عليه وسم- لعلى رضى الله عنه: "يا على لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة "!. 2- وقد رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- من تستثار رغبته عند النظر المفاجى، وعندئذ فالواجب على المتزوج أن يستغنى بما عنده كما روى جابر عن النبى- صلى الله عليه وسلم- " إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله- أى ليذهب إلى زوجته- فإن ذلك يرد ما فى نفسه ". فإن لم تكن له زوجة فليع قوله تعالى: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله). حكى القاضى عياض عن علماء عصره- كما روى الشوكانى- أن المرأة لا يلزمها ستر وجهها وهى تسير فى الطريق، وعلى الرجال غض البصر كما أمرهم الله... 3- فى أحد الأعياد خطب النبى- صلى الله عليه وسلم- النساء- ومصلى العيد يجمع الرجال والنساء بأمر من رسول الله- فقال لهن: "تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم " فقالت امرأة سفعاء الخدين جالسة فى وسط النساء: لم نحن كما وصفت؟ قال: "لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير" يعنى- عليه الصلاة والسلام- أن نساء كثيرات يجحدن حق ص _0 ص(1/30)
الزوج، وينكرن ما يبذل فى البيت ولا تسمع منهن إلا الشكوى!.. قال الراوى: فجعلن يتصدقن من حليهن، يلقين فى ثوب بلال من أقراطهن وخواتمهن...! والسؤال: من أين عرف الراوى أن المرأة سفعاء الخدين-؟ والخد الأسفع هو الجامع بين الحمرة والسمرة- ما ذلك إلا لأنها مكشوفة الوجه. وفى رواية أخرى: كنت أرى النساء وأيديهن تلقى الحلى فى ثوب بلال.. فلا الوجه عورة ولا اليد عورة. 4- قال بعض الناس: إن الأمر بكشف الوجه فى الحج، أو فى الصلاة، يعطى أن الوجه يجب ستره فيما وراء ذلك، وأن على المرأة ارتداء النقاب والقفازين!. ونقول: هل إذا أمر الله الحجاج بتعرية رءوسهم فى الإحرام كان ذلك يفيد أن الرءوس تغطى وجوبا فى غير الإحرام؟ من قال ذلك؟ من شاء غطى رأسه ومن شاء كشفه.. 5- عن سهل بن سعد رضى الله عنه أن امرأة جاءت إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: يا رسول الله، جئت لأهب لك نفسى، فنظر إليها رسول الله فصعد النظر إليها وصوبه ثم طأطأ رأسه- لم يجبها بشىء- فلما رأت أنه لم يقض فيها بشىء جلست... ". وفى رواية أخرى أن أحد الصحابة خطبها، ولم يكن معه مهر فقال له النبى: التمس ولو خاتما من حديد . وانتهت القصة بزواجه منها. والسؤال فيم صعد النظر وصوبه إن كانت منقبة؟. 6- عن ابن عباس كان الفضل رديف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجاءت امرأة من خثعم- تسأله- فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه ص _047(1/31)
وجعل رسول الله يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر... فقالت يارسول الله إن فريضة الله على عباده الحج، وقد أدركت أبى شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم.. وكا ن ذاك فى حجة الوداع- أى لم يأت بعده حديث ناسخ-. 7- وحدثت عائشة قالت: كان نساء مؤمنات يشهدن مع النبى صلاة الفجر، متلحفات بمروطهن- مستورات الأجساد بما يشبه الملاءة- ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة، لا يعرفن من الغلس- تعنى أنه لولا غبش الفجر لعرفن لانكشاف وجوههن-. 8- على أن قوله تعالى (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) يحتاج إلى تأمل، إذ وكان المراد إسدال الخمار على الوجه لقال: ليضربن بخمرهن على وجوههن، مادامت تغطية الوجه هى شعار المجتمع الإسلامى، ومادامت للنقاب هذه المنزلة الهائلة التى تنسب إليه... وعند التطبيق العملى لهذا الفهم اضطرت النساء لاصطناع البراقع أو حجب أخرى على النصف الأدنى للوجه كى يستطعن السير، فإن إسدال الخمار من فوق يعشى العيون، ويعسر الرؤية.. ومن ثم فنحن نرى الآية لا نص فيها كل تغطية الوجوه !. ولاشك أن بعض النساء فى الجاهلية، وعلى عهد الإسلام كن يغطين أحيانا وجوههن مع بقاء العيون دون غطاء، وهذا العمل كان من العادات لا من العبادات، فلا عبادة إلا بنص. 9- ويدل على ما ذكرنا: أن امرأة جاءت إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- يقال لها " أم خلاد " وهى متنقبة تسأل عن ابنها الذى قتل فى إحدى الغزوات فقال لها بعض أصحاب النبى: جئت تسألين عن ابنك وأنت ص _048(1/32)
متنقبة؟ فقالت المرأة الصالحة: إن أرزأ ابنى فلم أرزأ حيائى..!!. واستغراب الأصحاب لتنقب المرأة دليل على أن النقاب لم يكن عبادة!. 15- قد يقال: إن ما روى عن عائشة يؤكد أن النقاب تقليد إسلامى، فقد قالت: "كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات، فإذا جازوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه " ونجيب بأن هذا الحديث ضعيف من ناحية السند، شاذ من ناحية المتن، فلا احتجاج به.. والغريب أن هذا الحديث المردود يروج له دعاة النقاب مع أنهم يردون حديثا خيرا منه حالا وهو حديث عائشة أن أسماء بنت أبى بكر دخلت على النبى- صلى الله عليه وسلم- وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها وقال: " يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وأشار إلى وجهه وكفيه ". ونحن نعرف أن الحديث مرسل، ولكن الحديث قوته روايات أخرى، وهو أقوى من الحديث الذى سبقه. 11- وأدل على ذلك السفور المباح : ما رواه لنا مسلم أن سبيعة بنت الحارث ترملت من زوجها وكانت حاملا، فما لبثت أياما حتى وضعت، فأصلحت نفسها، وتجملت للخطاب! فدخل عليها أبو السنابل أحد الصحابة- وقال لها: مالى أراك متجملة ؟ لعلك تريدين الزواج، إنك والله ما تتزوجين إلا بعد أربعة أشهر وعشرة أيام.. قالت سبيعة : فما قال لى ذلك جمعت على ثيابى حين أمسيت فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسألته عن ذلك فأفتانى بأنى قد حللت حين وضعت حملى! وأمرنى بالتزوج إن بدا لى... كانت المرأة مكحولة العين مخضوبة الكف، وأبو السنابل ليس من ص _049(1/33)
محارمها الذين يطلعون بحكم القرابة على زينتها، والملابسات كلها تشير إلى بيئة يشيع فيها السفور. وقد وقع ذلك بعد حجة الوداع، فلا مكان لنسخ حكم أو إلغاء تشريع.. وأعرف أن هناك من ينكر كل ما قلناه هنا، فبعض المتحدثين فى الإسلام أشد تطيرا من ابن الرومى! وهم ينظرون إلى فضائل الدنيا والآخرة من خلال مضاعفة الحجب والعوائق على الغريزة الجنسية.. ويعلم الله إنى- مع اعتدادى برأيى- أكره الخلاف والشذوذ. وأحب السير مع الجماعة، وأنزل عن وجهة نظرى التى أقتنع بها بغية الإبقاء على وحدة الأمة.. فهل ما قلته رأى انفردت به؟. كلا كلا إنه رأى الفقهاء الأربعة الكبار، ورأى أئمة التفسير البارزين.. إن الشاغبين على سفور الوجه يظاهرون رأيا مرجوحا، ويتصرفون فى قضايا المرأة كلها على نحو يهز الكيان الروحى والثقافى والاجتماعى لأمة أكلها الجهل والاعوجاج لما حكمت على المرأة بالموت الأدبى والعلمى. إن من علماء المذاهب الأربعة من يرى أن وجه المرأة ليس بعورة، وأثبت هنا نقولا عن كبار المفسرين من أتباع هذه المذاهب: قال أبو بكر الجصاص - وهو حنفى - فى تفسير قوله تعالى : (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) قال أصحابنا: المراد: الوجه والكفان، لأن الكحل زينة الوجه، والخضاب والخاتم زينة الكف. فإذا أبيح النظر إلى زينة الوجه والكف فقد اقتضى ذلك لا محالة إباحة النظر إلى الوجه والكفين. ص _050(1/34)
ويقول القرطبى ـ وهو مالكى ـ " لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة، وذلك فى الصلاة والحج، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعا إليهما... ". ويقول الخازن ـ وهو شافعى ـ مفسرا الاستثناء فى الآية " قال سعيد بن جبير والضحاك والأوزاعى : الوجه والكفان ". ويقول ابن كثير ـ وهو سلفى ـ " ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه أرادوا تفسير ما ظهر منها بالوجه والكفين، وهذا هو المشهور عند الجمهور.. ". وقال ابن قدامة فى " المغنى "- وهو مرجع حنبلى-: المرأة كلها عورة إلا الوجه، وفى الكفين روايتان!!. ونختم برأى ابن جرير الطبرى فى تفسيره الكبير " أولى الأقوال فى ذلك بالصواب من قال ـ فى الاستثناء المذكور عن زينة المرأة المباحة ـ عنى بذلك الوجه والكفين، ويدخل الكحل والخاتم والسوار والخضاب.. وإنما قلنا ذلك أقوى الأقوال، لأن الإجماع على أن كل مصل يستر عورته فى الصلاة وأن للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها فى الصلاة، وأن تستر ماعدا ذلك من بدنها، وما لم يكن عورة فغير حرام إظهاره... ". والمذهب الحنفى يضم ظهور- القدمين إلى الوجه والكفين، منعا للحرج... وبعد هذا السرد نسارع إلى التنبيه بأن المجتمع الإسلامى بما شرع الله له من آداب اللباس والسلوك العام هو شئ آخر غير المجتمع الأوربى- بشقيه الصليبى والشيوعى- فإن هذا المجتمع أدنى إلى الفكر المادى البحت،وأقرب إلى الإباحة الحيوانية المسعورة.. إن الملابس هناك تفصل للإثارة لا للستر، والتزين للشارع لا للبيت، والاختلاط لا يعرف التصون أو تقوى الله، والخلوة ميسورة لمن شاء، والقانون ص _051(1/35)
لا يرى الزنا جريمة ما دام بالتراضى!! وتكاد الأسر تكون حبرا على ورق... إن الإسلام شىء آخر مغاير كل المغايرة لهذا الاتجاه الطائش الكفور، فهل أحسنا نحن بناء المجتمع القائم على حدود الله؟. إننا قدمنا للإسلام صورا تثير الاشمئزاز وفى خطاب لأحد الدعاة المشاهير قال: إن المرأة تخرج من بيتها للزوج أو للقبر! ثم ذكر حديثا : إن امرأة مرض أبوها مرض الموت فاستأذنت زوجها لتعوده فأبى عليها! فلما مات استأذنته أن تشهد الوفاة وتكون مع الأهل عند خروج الجنازة فأبى.. قال الخطيب: فلما ذكرت ذلك لرسول الله قال لها: إن الله غفر لأبيك لأنك أطعت زوجك!!. أكذلك يعرض ديننا؟ سجنا للمرأة تقطع فيه ما أمر الله به أن يوصل؟.. وجاءتنى رسالة من طالبة منعها أبوها من الالتحاق بالجامعة، قالت: إن أبانا يقول لى ولأخواتى البنات: "إن الله دفنكن أحياء، فلا أترككن لما تردن من خروج !. هذا فهم الأب الأحمق لآية (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى.. )). ص _052(1/36)
المرأة والأسرة والوظائف العامة أكره البيوت الخالية من رباتها! إن ربة البيت روح ينفث الهناءة والمودة فى جنباته ويعين على تكوين إنسان سوى طيب.. كل ما يشغل المرأة عن هذه الوظيفة يحتاج إلى دراسة ومراجعة... وإلى جانب هذه الحقيقة فإنى أكره وأد البنت طفلة ، ووأدها وهى ناضجة المواهب مرجوة الخير لأمتها وأهلها.. فكيف نوفق بين الأمرين؟. لنتفق أولا على أن احتقار الأنوثة جريمة. وكذلك دفعها إلى الطرق لإجابة الحيوان الرابض فى دماء بعض الناس... والدين الصحيح يأبى تقاليد أمم تحبس النساء وتضيق عليهن الخناق. وتضن عليهن بشتى الحقوق والواجبات، كما يأبي تقاليد أمم أخرى جعلت الأعراض كلأ مباحا، وأهملت شرائع الله كلها عندما تركت الغرائز الدنيا تتنفس كيف تشاء... يمكن أن تعمل المرأة داخل البيت وخارجه، بيد أن الضمانات مطلوبة لحفظ مستقبل الأسرة ومطلوب أيضا توفير جو من التقى والعفاف تؤدى فيه المرأة ما قد تكفف به من عمل.. إذا كان هناك مائة ألف طبيب أو مائة ألف مدرس فلا بأس أن يكون نصف هذا العدد من النساء والمهم فى المجتمع المسلم قيام الآداب التى أوصت بها الشريعة، وصانت بها حدود الله، فلا تبرج ولا خلاعة، ولا مكان لاختلاط ماجن هابط، ولا مكان لخلوة بأجنبى ص _053(1/37)
(تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون). على أن الأساس الذى ينبغى أن نرتبط به أو نظل قريبين منه هو البيت، إننى أشعر بقلق من ترك الأولاد للخدم أو حتى لدور الحضانة. إن أنفاس الأم عميقة الآثار فى إنضاج الفضائل وحماية النشء. ويجب أن نبحث عن ألف وسيلة لتقريب المرأة من وظيفتها الأولى وهذا ميسور- لو فهمنا الدين على وجهه الصحيح، وتركنا الانحراف والغلو.. أعرف أمهات فاضلات مديرات لمدارس ناجحة، وأعرف طبيبات ماهرات شرفن أسرهن ووظائفهن وكان التدين الصحيح من وراء هذا كله.. وقد لاحظت أن المرأة اليهودية شاركت فى الهزيمة المخزية التى نزلت بنا وقامت دولة إسرائيل على أشلائنا، إنها أدت خدمات اجتماعية وعسكرية لدينها. كما أن امرأة يهودية هى التى قادت قومها، وأذلت نفرا من الساسة العرب لهم لحى وشوارب فى حرب الأيام الستة وفى حروب تالية.. . وقد لاحظت فى الشمال الأفريقى وأقطار أخرى أن الراهبات وسيدات متزوجات وغير متزوجات يخدمن التنصير بحماس واستبسال. ولعلنا لا ننسى الطبيبة التى بقيت فى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين وهى تهدم على رءوس أصحابها وتحملت أكل الموتى من الحيوانات والجثث، ثم خرجت ببعض الأطفال العرب آخر الحصار لتستكمل معالجة عللهم فى انجلترا.. إن هناك نشاطا نسائيا عالميا فى ساحات شريفة رحبة لا يجوز أن ننساه لما يقع فى ساحات أخرى من تبذل وإسفاف. وقد ذكرنى الجهاد الدينى والاجتماعى الذى تقوم النساء غير المسلمات به ص _054(1/38)
أرضنا أو وراء حدودنا، بالجهاد الكبير الذى قامت به نساء السلف الأول فى نصرة الإسلام. لقد تحملن غربة الدين بشجاعة، وهاجرن وآوين عندما فرضت الهجرة والإيواء، وأقمن الصلوات رائحات غاديات إلى المسجد النبوى سنين عددا، وعندما احتاج الأمر إلى القتال قاتلن. وقبل ذلك أسدين خدمات طبية- أعن فى المهام التى يحتاج إليها الجيش. وقد ساء وضع المرأة فى القرون الأخيرة، وفرضت عليها الأمية والتخلف الإنسانى العام... بل إننى أشعر بأن أحكاما قرآنية ثابتة أهملت كل الإهمال لأنها تتصل بمصلحة المرأة، منها أنه قلما نالت امرأة ميراثها، وقلما إستشيرت فى زواجها!. وبين كل مائة ألف طلاق يمكن أن يقع تمتيع مطلقة.. أما قوله تعالى : (وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين) فهو كلام للتلاوة.. والتطويح بالزوجة لنزوة طارئة أمر عادى، أما قوله تعالى (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ) فحبر على ورق.... المرأة أنزل رتبة وأقل قيمة من أن ينعقد لأجلها مجلس صلح! إن الرغبة فى طردها لا يجوز أن تقاوم...!! وقد نددت فى مكان آخر بأن خطيئة الرجل تغتفر أما خطأ المرأة فدمها ثمن له . وقد استغل الاستعمار العالمى فى غارته الأخيرة علينا هذا الاعوجاج ص _055(1/39)
المنكور، وشن على تعاليم الإسلام حربا ضارية! كأن الإسلام المظلوم هو المسئول عن الفوضى الضاربة بين أتباعه... والذى يثير الدهشة أن مدافعين عن الإسلام أو متحدثين باسمه وقفوا محامين عن هذه الفوضى الموروثة، لأنهم- بغباوة رائعة- ظنوا أن الإسلام هو هذه الفوضى! والجنون فنون والجهالة فنون! إن الأعمدة التى تقوم عليها العلاقات بين الرجال والنساء تبرز فى قوله تعالى : (أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) وقوله: ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون). وقول الرسول الكريم: " النساء شقائق الرجال ". وهناك أمور لم يجىء فى الدين أمر بها أو نهى عنها، فصارت من قبيل العفو الذى سكت الشارع عنه ليتيح لنا حرية التصرف فيه سلبا وإيجابا. وليس لأحد أن يجعل رأيه هنا دينا، فهو رأى وحسب!. ولعل ذلك سر قول ابن حزم. إن الإسلام لم يحظر على امرأة تولى منصب ما، حاشا الخلافة العظمى!. وسمعت من رد كلام ابن حزم: بأنه مخالف! لقوله تعالى : (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) فالآية تفيد - فى فهمه - أنه لا يجوز أن تكون المرأة رئيسة رجل فى أى عمل!. وهذا رد مرفوض والذى يقرأ بقية الآية الكريمة يدرك أن القوامة المذكورة هى للرجل فى بيته، وداخل أسرته.. ص _056(1/40)
وعندما ولى عمر قضاء الحسبة فى سوق المدينة للشفاء، كانت حقوقها مطلقة على أهل السوق رجالا ونساء، تحل الحلال وتحرم الحرام وتقيم العدالة وتمنع المخالفات... وإذا كانت للرجل زوجة طبيبة فى مستشفى فلا دخل له فى عملها الفنى ، ولا سلطان له على وظيفتها فى مستشفاها.. قد يقال: كلام ابن حزم منقوض بالحديث "خاب قوم ولوا أمرهم امرأة".. وجعل أمور المسلمين إلى النساء يعرض الأمة للخيبة فينبغى ألا تسند إليهن وظيفة كبيرة ولا صغيرة.. وابن حزم يرى الحديث مقصورا على رياسة الدولة، أما ما دون ذلك فلا علاقة للحديث به... ونحب أن نلقى نظرة أعمق على الحديث الوارد، ولسنا عشاق جعل النساء رئيسات للدول أو رئيسات للحكومات! إننا نعشق شيئا واحدا، أن يرأس الدولة أو الحكومة أكفأ إنسان فى الأمة... وقد تأملت فى الحديث المروى فى الموضوع، مع أنه صحيح سندا ومتنا، ولكن ما معناه؟. عندما كانت فارس تتهاوى تحت مطارق الفتح الإسلامى كانت تحكمها ملكية مستبدة مشئومة. الدين وثنى! والأسرة المالكة لا تعرف شورى،ولا تحترم رأيا مخالفا، والعلاقات بين أفرادها بالغة السوء. قد يقتل الرجل أباه أو إخوته فى سبيل مآربه. والشعب خانع منقاد.. وكان فى الإمكان، وقد انهزمت الجيوش الفارسية أمام الرومان الذين ص _057(1/41)
أحرزوا نصرا مبينا بعد هزيمة كبرى وأخذت مساحة الدولة تتقلص أن يتولى الأمر قائد عسكرى يقف سيل الهزائم، لكن الوثنية السياسية جعلت الأمة والدولة ميراثا لفتاة لا تدرى شيئا، فكان ذلك إيذانا بأن الدولة كلها إلى ذهاب.. فى التعليق على هذا كله قال النبى الحكيم كلمته الصادقة، فكانت وصفا للأوضاع كلها.. ولو أن الأمر فى فارس شورى، وكانت المرأة الحاكمة تشبه " جولدا مائير" اليهودية التى حكمت اسرائيل، واستبقت دفة الشئون العسكرية فى أيدى قادتها لكان هناك تعليق آخر على الأوضاع القائمة.. ولك أن تسأل: ماذا تعنى؟ وأجيب: بأن النبى- عليه الصلاة والسلام- قرأ على الناس فى مكة سورة النمل، وقص عليهم فى هذه السورة قصة ملكة سبأ التى قادت قومها إلى الإيمان والفلاح بحكمتها وذكائها، ويستحيل أن يرسل حكما فى حديث يناقض ما نزل عليه من وحى! كانت بلقيس ذات ملك عريض، وصفه الهدهد بقوله: " ( إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم ) . وقد دعاها سليمان إلى الإسلام، ونهاها عن الاستكبار والعناد، فما تلقت كتابه، تروت فى الرد عليه، واستشارت رجال الدولة الذين سارعوا إلى مساندتها فى أى قرار تتخذه، قائلين ( قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين ). ولم تغتر المرأة الواعية بقوتها ولا بطاعة قومها لها، بل قالت: نختبر سليمان هذا لنتعرف أهو جبار من طلاب السطوة والثروة أم هو نبى صاحب إيمان ودعوة؟ ص _058(1/42)
ولما التقت بسليمان بقيت على ذكائها واستنارة حكمها تدرس أحواله وما يريد وما يفعل، فاستبان لها أنه نبى صالح.. وتذكرت الكتاب الذى أرسله إليها: (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم * ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين) تم قررت طرح وثنيثها الأولى والدخول فى دين الله قائلة : (رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين... ". هل خاب قوم ولوا أمرهم امرأة من هذا الصنف النفيس؟ إن هذه المرأة أشرف من الرجل الذى دعته ثمود لقتل الناقة ومراغمة نبيهم صالح (فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر * فكيف كان عذابي ونذر * إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر * ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر). ومرة أخرى أؤكد أنى لست من هواة تولية النساء المناصب الضخمة، فإن الكملة من النساء قلائل، وتكاد المصادفات هى التى تكشفهن، كل ما أبغى، هو تفسير حديث، ورد فى الكتب، ومنع التناقض بين الكتاب وبعض الآثار الواردة، أو التى تفهم على غير وجهها! ثم منع التناقض بين الحديث والواقع التاريخى. إن إنجلترا بلغت عصرها الذهبى أيام الملكة " فيكتوريا "، وهى الآن بقيادة ملكة ورئيسة وزراء، وتعد فى قمة الازدهار الاقتصادى والاستقرار السياسى. فأين الخيبة المتوقعة لمن اختار هؤلاء النسوة؟. وقد تحدثت فى مكان آخر عن الضربات القاصمة التى أصابت المسلمين فى القارة الهندية على يدى " انديرا غاندى " كيف شطرت الكيان الإسلامى شطرين فحققت لقومها ما يصبون ص _059(1/43)
على حين عاد المرشال، يحيى خان يجرر أذيال الخيبة!!. أما مصائب العرب التى لحقت بهما يوم قادت " جولدا مائير" قومها فحدث ولا حرج، قد نحتاج إلى جيل آخر لمحوها! إن القصة ليست قصة أنوثة وذكورة! إنها قصة أخلاق ومواهب نفيسة.. لقد أجرت انديرا انتخابات لترى أيختارها قومها للحكم أم لا ؟ وسقطت فى الانتخابات التى أجرتها بنفسها! ثم عاد قومها فاختاروها من تلقاء أنفسهم دون شائبة إكراه!. أما المسلمون فكأنهما متخصصون فى تزوير الانتخابات للفوز بالحكم ومغانمه برغم أنوف الجماهير. أى الفريقين أولى برعاية الله وتأييده والاستخلاف فى أرضه؟ ولماذا لا نذكر قول ابن تيمية: إن الله قد ينصر الدولة الكافرة- بعدلها- على الدولة المسلمة بما يقع فها من مظالم؟. ما دخل الذكورة والأنوثة هنا ؟ امرأة ذات دين خير من ذى لحية كفور!! والمسلمون الآن نحو خمس العالم، فكيف يعرضون دينهم على سائر الناس ؟ ليهتموا قبل أى شىء بأركان دينهم وعزائمه وغاياته العظمى! أما ما سكت الإسلام عنه فليس لهم أن يلزموا الناس فيه بشىء قد ألفوه هم أنفسهم من قبل إننا لسنا مكلفين بنقل تقاليد عبس وذبيان إلى أمريكا واستراليا، إننا مكلفون بنقل الإسلام وحسب!. والأمم تلتقى عند الشئون المهمة! هب أن الانكليز يلزمون الجانب الأيسر من الطريق على عكس غيرهم من أهل أوربا، إن ذلك لا تأثير له فى حلف الأطلسى ولا فى دستور الأسرة الأوربية!. ص _060(1/44)
وإذا كان الفقهاء المسلمون قد اختلفت وجهات نظرهم فى تقرير حكم ما، فإنه يجب علينا أن نختار للناس أقرب الأحكام إلى تقاليدهم... والمرأة فى أوربا تباشر زواجها بنفسها، ولها شخصيتها التى لا تتنازل عنها، وليست مهمتنا أن نفرض على الأوربيين مع أركان الإسلام رأى مالك أو ابن حنبل إذا كان رأى أبى حنيفة أقرب إلى مشاربهم فإن هذا تنطع أو صد عن سبيل الله.. وإذا ارتضوا أن تكون المرأة حاكمة أو قاضية أو وزيرة أو سفيرة، فلهم ما شاءوا، ولدينا وجهات نظر فقهية تجيز ذلك كله، فم الإكراه على رأى ما؟. إن من لا فقه لهم يجب أن يغلقوا أفواههم لئلا يسيئوا إلى الإسلام بحديث لم يفهموه أو فهموه وكان ظاهر القرآن ضده... والجماعة من شعائر الإسلام، ومنذ قام المجتمع الإسلامى والمسجد محور نشاطه وملتقى أبنائه، تتصافح فيه الوجوه والأيدى، وتتلاقى فيه على الحب والتعاون. ويقف المؤمنون فى صفوف مرصوصة بين يدى الله تبارك وتعالى قدما لقدم وكتفا لكتف، يزينهم الخشوع لسماع القرآن؟ والتسبيح والتحميد خلال الركوع والسجود… ص _061(1/45)
وأثر الصلاة الفكرى والخلقى عميق، فإن القرآن المتلو يرفع المستوى ويورث التقوى، واللقاء المتكرر يصون العلاقات الخاصة والعامة، ويجعل الأمة تواجه يومها وغدها وهى متعارفة لا متناكرة. وثم أمر آخر.. أن المبطلين أقاموا فى هذه الدنيا جوا من المادية والأطماع والمآرب الصغيرة يملأ أنديتهم، ويسود طرقهم، ويصنع تقاليدهم، ويدعم بعدهم عن الله كفرهم بآياته؟ فيجب أن يكون للمؤمنين جو أنقى يعلو فيه ذكر الله وتسمع فيه قضايا الحق، ويتحول فيه الإيمان بالغيب إلى حقائق مأنوسة لا خيالات مستوحشة!. من ثم كانت الجماعة من معالم الدين! وبعض الفقهاء يرى الجماعة فرضا للصلوات الخمس لا يسقطه إلا عذر صحيح، ولكن الذى عليه جمهور الأمة أن الجماعة سنة مؤكدة… فهل هى سنة مؤكدة للرجال والنساء على السواء؟ كذلك يقول الظاهرية!! ولكن الأمر يحتاج إلى تأمل.. فقد صح فى السنة أن المرأة راعية فى بيتها وهى مسئولة عن رعيتها! ولا ريب أن شئون الأولاد خصوصا الرضع، وإعداد البيت لاستقبال الرجل العائد من عمله، كل ذلك يحول دون انتظام المرأة فى الجماعات الخمس. ولذلك نرى أن حضور الجماعات مطلوب منها بعد أن تفرغ من وظائف بيتها، فإذا قامت بما عليها فلا يجوز لرجلها أن يمنعها من الذهاب إلى المسجد وقد جاء فى الحديث "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله". ونحن موقنون بأن النبى- عليه الصلاة والسلام- جعل أحد أبواب المسجد خاصا بالنساء وأنه أقامهن فى الصفوف المؤخرة من المسجد- وذلك أصون لهن فى الركوع والسجود- وأنه زجر الرجال الذين يقتربون من صفوفهن، كما ص _062(1/46)
زجر النساء اللائى يتقدمن قريبا من صفوف الرجال... وقد بقيت صفوف النساء فى المسجد طيلة العهد! النبوى وأيام الخلافة الراشدة، لم يشغب عليها شاغب، تبدأ الفجر وتنتهى عند العشاء.. وربما قامت للنساء جماعات حاشدة لصلاة التراويح فى رمضان، ومعروف أن اشتراكهن فى صلاة العيد وسماع الخطبة من شعائر الإسلام. بيد أن الازدهار الذى أحدثه الإسلام فى عالم المرأة أخذ يتعرض للذبول والتلاشى فوضع حديث يمنع تعليم النساء الكتابة، كى يبقين على أميتهن الأولى!!!. لحساب من تعود هذه الجاهلية؟. وعندما يفرض على نصف الأمة الجهل والعمى فكيف تنشأ الأجيال المقبلة؟. ثم شاع حديث آخر يأبى على النساء حضور الجماعات كلها، بل طلب من المرأة إذا أرادت الصلاة فى بيتها أن تختار المكان الموحش المعزول، فصلاتها فى سرداب أفضل من صلاتها فى الغرفة، وصلاتها فى الظلمة أفضل من صلاتها فى الضوء ! وراوى هذا الحديث يطوح وراء ظهره بالسن العملية المتواترة عن صاحب الرسالة. وينظر إلى المرأة المصلية وكأنها أذى يجب حصره فى أضيق نطاق وأبعده، ولنقرأ هذا الحديث الغريب كما ذكره ابن خزيمة وغيره. " عن أم حميد امرأة أبى حميد الساعدى أنها جاءت إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: يا رسول الله إنى أحب الصلاة معك، قال: قد علمت أنك تحبين الصلاة ص _063(1/47)
معى وصلاتك فى بيتك خيرمن صلاتك فى حجرتك، وصلاتك فى حجرتك خير من صلاتك فى دارك، وصلاتك فى فى دارك خير من صلاتك فى مسجد قومك، وصلاتك فى مسجد قومك خير من صلاتك فى مسجدى ". قال الراوى: فأمرت فبنى لها مسجد فى أقصى شىء من بيتها وأظلمه، وكانت تصلى فيه حتى لقيت الله عز وجل!!. والبيت فى الحديث هو غرفة النوم، والحجرة غرفة الجلوس، والصلاة فى الأولى أفضل من الصلاة فى الأخرى !. والصلاة فى غرفة الجلوس أفضل من الصلاة فى عرصة الدار، وهى فى عرصة الدار أفضل من الصلاة فى مسجد الحى.. وكلما ضاق المكان وبعد واستوحش كانت الصلاة فيه أفضل!. ويجعل ابن خزيمة عنوان الباب الذى ذكر فيه هذه القضايا " صلاة المرأة فى بيتها أفضل من صلاتها فى مسجد رسول الله. وأن قول النبى- عليه الصلاة والسلام " صلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد " إنما أراد به صلاة الرجال دون صلاة النساء!!، والسؤال السريع إن كان هذا الكلام صحيحا فماذا ترك النبى النساء يشهدن الجماعات معه طوال عشر سنين من الفجر إلى العشاء؟ ولماذا خص أحد أبواب المسجد بدخولهن؟ ولماذا لم ينصحهن بالبقاء فى البيوت بدل هذه المعاناة الباطلة؟. ولماذا قصر صلاة الفجر على سورتين صغيرتين عندما سمع بكاء رضيع مع أمه حتى لا ينشغل قلبها ؟. ولماذا قال: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ؟ولماذا استبقت الخلافة الراشدة صفوف النساء فى المساجد بعد وفاة الرسول الكريم ؟. إن ابن حزم أراح نفسه وأراح غيره عندما كذب أحاديث ! النساء من ص _064(1/48)
الصلاة فى المساجد، وعدها من الباطل!. وعلماء المصطلح يقولون: يعتبر الحديث شاذا إذا كان الثقة قد خالف به الأوثق. فإذا كان الخالف ليس ثقة بل ضعيفا، فحديثه متروك أو منكرا . ولم يجىء فى أحد الصحيحين ما يفيد منع النساء من الصلاة فى المساجد.. فهذه الأحاديث مردودة كلها.. فكيف إذا خالف الضعيف السنة العملية المتواترة والمشهورة؟ إن حديثه يستبعد ابتداء.. وقد أتت على المسلمين عصور ماتت فيها السنة الصحيحة، ولا تزال هذه المأساة باقية تتعصب لها بيئات لا تعرف إلا المرويات المتروكة والمنكرة.. وقد يقبل زجر المرأة عن حضور الجماعات إذا كانت متبرجة، فإن الذهاب إلى المساجد ليس استعراضا للزينات، وبعثرة للفن! إنه سعى لمرضاة الله، وغرس للتقوى.. وحجز النساء عن هذا الشر هو بتنفيذ وصاة رسول الله "... يخرجن تفلات " أى فى ملابس عادية وهيئة طبيعية لا تعطر ولا تبختر.. أما إصدار حكم عام بتحريم المساجد على النساء فهو مسلك لا صلة له بالإسلام... وإن الفقهاء ليرتاعون لما يرويه المحدثون مخالفا لما ثبت لديهم!. انظر ما رواه المنذرى تحت عنوان " الترهيب من ترك التسمية على الوضوء عمدا "، قال الإمام أبو بكر بن أبى شيبة رحمه الله: ثبت لدينا أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: " لا وضوء لمن لم يسم الله... ". وعن أبى هريرة قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: " لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه "! ص _065(1/49)
وفقهاء المذاهب على أن التسمية سنة لا فريضة، واحتجوا بما رواه الدارقطنى والبيهقى عن ابن عمر مرفوعا " من توضأ وذكر اسم الله عليه كان طهورا لجميع بدنه، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهورا لأعضاء وضوئه " قال المنذرى: "فى الباب أحاديث كثيرة لا يسلم شىء منها عن مقال ". وقد ذهب الجمهور إلى أن التسمية على الوضوء سنة، وذهب الحنابلة والظاهرية إلى أنها فريضة، والأحاديث المروية بالسلب أو الإيجاب موضع أخذ ورد ولا داعى للتهويل فى الأمر... ومن الخير أن نعلم أن الفرض لا يثبت إلا بدليل قطعى وأن التحريم لا يثبت إلا بدليل قطعى، وأن الأدلة الظنية لها دلالات أقل من ذلك... والذى يدخل ميدان التدين وبضاعته فى الحديث مزجاة كالذى يدخل السوق ومعه نقود مزيفة " لا يلومن إلا نفسه إذا أخذته الشرطة مكبل اليدين..! ونريد من الجماعات العاملة للإسلام أن تكون يقظة فلا تنخدع بالآثار الواهية والأحاديث الموضوعة كما نريد منها أن تعرف المعانى الصحيحة لما صح من نقول.. وأئمة الفقه هما أرباب تلك الصناعة..! ص _066(1/50)
حول شهادة المرأة.. ومعروف أن شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل، وقد علل القرآن الكريم لذلك بأن المرأة قد تنسى أو تحار أو يشتبه عليها وجه الحق، وعندما تكون معها امرأة أخرى فسوف يتعاونان على الإدلاء بالحقيقة كاملة... وقد بحثت فى هذا الموضوع فأدركت أن المرأة فى عادتها الشهرية تكون شبه مريضة وأن انحراف مزاجها واضطراب أجهزتها الحيوية يصيبها ببعض الاشتباك " والتثبت فى أداء الشهادات واجب (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى). وكان يجب أن يقف الأمر عند هذا الحد لكن تيارا نشأ فى الفكر الدينى يستبعد شهادة المرأة استبعادا تاما فى أهم ميادين التقاضى،.! وهو ميدان القصاص والحدود أى فيما يتصل بالدماء والأعراض.. وإذا كان اللصوص يسرقون البيوت ليلا أو نهارا فما معنى رفض شهادة المرأة فى حد السرقة ؟ وإذا كان العدوان على النفس! والأطراف يقع كثيرا بمشهد من النساء فما معنى أن ترى المرأة مصرع آلها أو أقرب الناس إليها ثم ترفض شهادتها ؟ ص _067(1/51)
ولماذا لم يلتزم نصاب الشهادة كما ذكره القرآن الكريم؟. إن ابن حزم فى تمحيصه للآثار المروية يؤكد أن رفض شهادة النساء فى الحدود والقصاص لا يوجد له أصل فى السنة النبوية. ولست أحب أن أوهن دينى أمام القوانين العالمية بموقف لا يستند استنادا قويا إلى النصوص القاطعة " وإذا كان المسلمون الآن أكثر من مليار نفس ما معنى التطويح بكرامة خمسمائة مليون امرأة لقول أحد من الناس ؟. المأساة أننا نحن المسلمين مولعون بضم تقاليدنا وآرائنا إلى عقائد الإسلام وشرائعه لتكون دينا مع الدين " وهديا من لدن رب العالمين، وبذلك نصد عن سبيل الله..! وأذكر هنا قصة الناقة التى عرضها صاحبها بعشرة دراهم، واشترط أن تباع قلادتها معها بألف درهم! فكان الناس يقولون: ما أرخص الناقة لولا هذه القلادة الملعونة..! وأقول كذلك: ما أيسر الإسلام وأيسر أركانه. وما أصدق عقائده وشرائعه لولا ما أضافه أتباعه من عند أنفسهم. واشترطوا على الناس أن يأخذوا به ويدخلوا فيه..! ولننقل كلام ابن حزم فى موضوع الشهادة من كتابه" المحلى ".. قال: " ولا يجوز أن يقبل فى الزنا أقل من أربعة رجال عدول مسلمين أو مكان كل رجل امرأتان مسلمتان عدلتان فيكون ذلك ثلاثة رجال وامرأتين أو رجلين وأربع نسوة أو رجلا واحدا وست نسوة أو ثمان نسوة فقط. ولا يقبل فى سائر الحقوق كلها من الحدود والدماء وما فيه القصاص، والنكاح والطلاق والرجعة والأموال إلا رجلان مسلمان عدلان أو رجل وامرأتان كذلك أو أربع نسوة. ص _068(1/52)
قال: " وصح عن شريح أنه أجازشهادة امرأتين فى عتاقة مع رجل. وصح عن الشعبى قبول شهادة رجل وامرأتين فى الطلاق وجراح الخطأ ولم يجزشهادة النساء قى جراح عمد ولا فى حد. وصح عن إياس بن معاوية قبول امرأتين فى الطلاق. وعن محمد بن سيربن أن شريحا أجاز شهادة أربع نسوة على رجل فى صداق امرأة. وعن الزبير بن الخريت عن لبيد قال: إن سكرانا طلق امرأته ثلاثا فشهد عليه أربع نسوة فرفع الى عمر بن الخطاب فأجاز شهادة النسوة وفرق بين الزوجين. وعن سفيان بن عيينة عن أبى طلق عن امرأة أن امرأة أوطأت صبيا فقتلته فشهد عليها أربع نسوة، فأجاز على بن أبى طالب شهادتهن. وعن عطاء قال: أجازعمربن الخطاب شهادة النساء مع الرجال فى الطلاق والنكاح. وفى رواية أخرى عن عطاء بن أبى رباح قال: تجوزشهادة النساء مع الرجال فى كل شيء". قال ابن حزم عن عبد الله بن عمرعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال فى حديث: فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل. أما ما جاء عن الزهرى الذى قال: مضت السنة من النبى- صلى الله عليه وسلم- ومن أبي بكر وعمر أنه لا تجوزشهادة النساء فى الطلاق ولا فى النكاح ولا فى الحدود فبلية: لأنه منقطع من طريق إسماعيل بن عياش وهو ضعيف عن الحجاج بن أرطاة وهو هالك. وأما الرواية عن عمر: لو فتحنا هذا الباب لم تشأ امرأة أن تفرق بين رجل ص _069(1/53)
وامرأته إلا فعلت ذلك فهو عن الحارث الغنوى وهو مجهول. ثم إن عمر لا يقول هذا الكلام. انتقيت هذه السطور من عدة صفحات تضمنت آراء فيها الخطأ والصواب، ومرويات فيها المقبول والمردود، ورأيت- حتى أستنقذ نفسى والناس من هذه اللجة- أن أعتصم بالمتواتر من كتاب الله، والمشتهر من السنة النبوية ! وأن أقرر قبول شهادة المرأة فى كل شىء وفق النصاب الثابت فى ديننا. ومن حق كل مسلم أن يتجاوز ما وراء ذلك غير متهم ولا مريب.. ولى أن أتساءل: هل من مصلحة الأمن العام إهدار شهادة المرأة فى قضايا يقع ألوف منها بمحضر النساء؟ وهل من مصلحة الفقه والأثر ترجيح مذهب يسىء إلى الإسلام أكثر مما يحسن.. ثم نختم هذا الباب بقول ابن حزم: " وجائز أن تلى المرأة الحكم " وهو قول أبى حنيفة، وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه ولى الشفاء- امرأة من قومه- السوق، فإن قيل: قد قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: " لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة " قلنا: إنما قال ذلك رسول الله فى الأمر العام الذى هو الخلافة. برهان ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: " المرأة راعية على مال زوجها وهى مسئولة عن رعيتها ". وقد أجاز المالكيون أن تكون وصية ووكيلة ولم يأت نص من منعها أن تلى بعض الأمور! وبالله تعالى التوفيق... ". ص _071
الغناء خبر الواحد وقيمته- ابن حزم يناقش ما ورد فى تحريم الغناء من أخبار- الترويح عن النفس بالمباحات- نماذج للغناء الشريف- فساد أغلب البيئات الفنية- التطرف فى التحريم نزعة غير إسلامية. ص _072(1/54)
محمد صاحب الرسالة الخاتمة أحب البشر إلينا وأجلهم نعما لدينا!. وإذا حسبت أقدار الناس، وفق جهادهم لإحقاق الحق وإبطال الباطل، فمحمد أصدقهم قيلا وأهداهم سبيلا وأقدرهم- بالخلق الجميل، والصبر الطويل- على إبراز الحقيقة وحمايتها وتفتيح الجفون المغلقة على سناها.. لقد أنصف الوحى الإلهي كله، وصانه مما عراه خلال القرون الأولى، وعرفنا بالله الأحد الصمد، وخط لنا سبيل رضاه فى وجه سلطات شرسة وكهانات خرفة وجماهير توارثت الخبال. ولم يزل يصابر الليالى ويكافح الطغاة حتى بلغ رسالة الهدى والخير، فله فى أعناقنا صنائع المعروف لا ننساها له أبدا، وإن جهل الجاهلون وجحد ا الجاحدون ... إن نبوة محمد تلقى فى هذا العصر تحديا نلقاه بالازدراء تشارك فيه الصهيونية والصليبية والشيوعية يحاولن جميعا غمط حقه وبخس تراثه! ولكننا ننظر إلى ما تقدم هذه النحل للدنيا من عوج وشر وما يقدمه محمد للدنيا- فى كتابه وسنته ! من استقامة وخير، ونعلم أن المستقبل لنا، وأن يوم الإسلام قادم !" فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض ". والمهم أن نعرف رسالتنا بصدق، وأن نطبقها على أنفسنا بوفاء، وأن نبلغها إلى الناس سماوية لا يعلق بها من أكدار الأرض قذى ينفر منها أصحاب الفطر السليمة... ص _073(1/55)
نحن نعلم أن الأنبياء كلهم مبلغون عن الله، ولا نعجب عندما نقرأ قوله تعالى : " من يطع الرسول فقد أطاع الله.. " وقوله: " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم... ". فللرسول علينا حق السمع والطاعة، ونحن ندرس سيرته لننهج نهجه ونقتفى أثره ونقتدى به فيما فعل وترك. ولا خلاف بين المسلمين فى أن محمدا أسوتهم الحسنة وإمامهم الأول والصورة العملية الوسيمة لما فى القرآن الكريم من هدى ونور. وعندما نقرر مصادر الأحكام فالإجماع منعقد على أن الأصلين الأولين هما الكتاب والسنة... والكتاب لا ترقى إليه شبهة فهو متواتر حرفا حرفا، ونحن نؤمن به جملة وتفصيلا.. وما بلغ من السنة درجة اليقين فسبيله سبيل القرآن الكريم لا يزيغ عنه إلا هالك! ومن علم على وجه اليقين أن رسول الله أصدر أمرا ثم قرر رفضه فقد انسلخ عن الملة، لا خلاف فى هذا. وإذا وقع لغط حول حديثا ما فمداره: هل قال الرسول هذا؟ أم لم يقله..! فالكلام فى صحة النسبة وفى ضمانات هذه الصحة لا فى جواز التقدم بين يدى الله ورسوله، أو أخذ ما يعجب وترك ما لا يعجب..!!. وقد قرأت البحث الذى كتبه الأستاذ الشيخ يوسف القرضاوى فى أسلوب التعامل مع السنة فوجدته أوفى على الغاية وجمع أنفس ما يقال فى هذه القضية، والحق أن الشيخ يوسف من العلماء الذين يظهرون بقلة فى تاريخنا ولهم رسوخ فى الفقه والأثر، وبصر بالنص الآلهى وواقع الحياة، بل هو فى ميدانه إمام من الثقات العدول، والدعاة الأمناء.. وأنا أطمع فى أن أضيف إلى جهده أشياء ليست استدراكا، عليه، وإنما ص _074(1/56)
هى إضافات توضح مواقف جمهرة المسلمين من السنة الشريفة، عندما يتركون حديثا من الأحاديث لملحظ آخر من ملاحظ الشريعة رأوه أجدر بالترجيح.. وقبل أن أشرح ما عندى أحب أن أقول: إننى مع الجماعة الكبرى أستظل بلوائها وأنتظم فى صفوفها وأكره الشذوذ وأرفض الخروج على ما ارتضاه جمهور الأمة.. إننى أعرف العداوات الرهيبة التى تواجهها أمتنا فى هذه السنوات العجاف، وأريد ان تبقى جبهتنا متحدة لصون بيضتنا وكبت عدونا. لقد تخرجت فى الأزهر من نصف قرن، ومكثت فى الدراسة بضع عشرة سنة لم أعرف خلالها إلا أن حديث الآحاد يفيد الظن العلمى، وأنه دليل على الحكم الشرعى ما لم يكن هناك دليل أقوى منه، والدليل الأقوى قد يؤخذ من دلالات القرآن القريبة والبعيدة، أو من السنة المتواترة، أو من عمل أهل المدينة... والقول بأن حديث الآحاد يفيد اليقين كما يفيده المتواتر ضرب من المجازفة المرفوضة عقلا ونقلا ومن هنا فقد ألفنا قبول أحكام شتى تخالف المتبادر من بعض المرويات الصحيحة. كنت وأنا أدرس الفقه على المذهب الحنفى أسمع المالكيين يقولون: من أفطر فى رمضان ناسيا فعليه القضاء، أو يقولون: الشك ينقض الوضوء، وهذا يخالف أحكاما مقررة عندنا تعتمد على أحاديث صحيحة.. وكنا لا نقرأ حرفا وراء الإمام فى الصلوات الخمس، أو نترك البسملة أحيانا لما استقر عندنا من مرويات، على حين كان الشافعيون يصرون على تلاوة الفاتحة ويرون البسملة جزءا منها.. ولم نكن نشعر بغضاضة من هذا الاختلاف، وإذا ثار جدل علمى ركد بعد قليل غير مخلف غضبا ولا أسفا.. ص _075(1/57)
وفى المذهب الحنفى يعرف الفرض بأنه ما ثبت بدليل قطعى، أما الواجب- وهو دون الفرض- فا ثبت بدليل ظنى، ويعنى ذلك أن حديث الآحاد لا يثبت به فرض، كما أنه لا يقع به تحريم، بل يفيد الكراهية وحسب00 وعندما توغلنا فى دراسة القرآن الكريم وجدنا المفسرين المحققين يجنحون إلى ذلك المنهج. يقول صاحب المنار: " التفرقة بين ما ثبت بنص القرآن من الأحكام، وما ثبت بروايات الآحاد وأقيسة الفقهاء ضرورية، فإن من يجحد ما جاء فى القرآن الكريم يحكم بكفره، ومن يجحد غيره ينظر فى عذره! فما من إمام مجتهد إلا وقد قال أقوالا مخالفة لبعض الأحاديث الصحيحة لأسباب يعذر بها، وتبعه الناس على ذلك.. ولا يعد أحد ذلك عليهم خروجا من الدين حتى من لا عذر له فى التقليد.. ". تم نقل صاحب المنار عن ابن القيم فى كتابه إعلام الموقعين قوله: " الربا نوعان جلى وخفى، فالجلى حرم لما فيه من الضرر العظيم والخفى حرم لأنه ذريعة إلى الجلى.. ". ويرى ابن القيم أن ربا الفضل المعروف فى حديث الأصناف الستة إنما حرم من باب سد الذرائع، والواقع أن ربا الفضل لا يكاد يوجد فى الحياة العملية! فما معنى أن تبيع جراما من ذهب بجرام من ذهب مثلا بمثل، هاء وهاء؟. المقصود إغلاق الباب من بعيد على ربا النسيئة… والحق أن الحديث المتفق عليه فى تحريم التفاضل والإرجاء بين الأصناف الستة لا يفهم إلا فى ضوء بيان ابن القيم.. إن العقائد والأركان والمعالم الرئيسة لديننا تؤخذ مما نقل بالتواتر، أو مما استفاضت شهرته من الصحاح أما الأحكام الفرعية فلا بأس عند تقريرها من ص _076(1/58)
النظر فى أحاديث الآحاد، وقد بذل علماؤنا جهدا مقدورا مشكورا فى ضبطها، إنهم لم يهدروا نقل عدل ضابط، بل أعطوه ما يستحق من اهتمام بيد أننا فى ميدان الشهادة لا نحمى دماء الناس وأعراضهم وأموالهم بشهادة رجل واحد مهما كانت جلالته، إننا نطلب شاهدين أو أربعا فى الإثبات، ودين الله أهم من دنيا الناس!. ذلك، وهناك قضايا لا يجوز فيها التساهل لخطورتها، وقد شعرت بالغيظ والحرج وأنا أقرأ أن يهوديا وغدا سحر النبى عليه الصلاة والسلام وأعجزه عن مباشرة نسائه مدة قدرها ابن حجر بستة شهور! أكذلك تنال القمم؟. قالوا: كما يستطيع سفيه أن يقذفه بحجر أو كما يستطيع مجرم أن يصيبه بجرح! وهذا اعتذار مرفوض، فإن السحر تسلط على الإرادة والفكر وهذا مستحيل، لاسيما والوسيلة تسليط أروح شريرة، أو بعض الجن.. على الجهاز العصبى للإنسان، فيوقعه فى اضطراب وحيرة... وقد سرنى أن الشيخ محمد عبده رفض هذا الحديث، وساءنى أن الرجل الضخم اتهم فى دينه لهذا الموقف المعظم لقدر الرسول!!. وسمعت الشيخ محمد أحمد عثمان رحمه الله- وكان وكيلا للجمعية الشرعية فى مصر- يقول: إن فى سند حديث السحر مقالا، فقلت له: لست من علماء هذا الفن! وهل ما لاحظت على السند أنه يجعل نزول المعوذتين فى المدينة، وهما فى "علوم القرآن " وعند كتاب المصاحف نزلتا بمكة... إننى أطيل النظر فى كتب السنة، معتقد أن بها كنوزا ثمينة من تراث النبوة، وأستهدى بفطرتى فى تجنب الضعيف وقبول الصحيح، وهى فطرة صقلتها التلاوة الدائمة لكتاب الله، والحب الصادق لهذا الوحى المبارك، والدراسة الحسنة لمناهج الفقهاء الأربعة الكبار ومن يليهم من أهل الذكر وقادة الفكر.!. ص _077(1/59)
ومن هنا ابتعدت عن أحاديث ترحها أبو حنيفة ومالك وغيرهما، وإن رواها المشتغلون بجمع الأحاديث. لقد تركها الأئمة بتلطف وأدب، وأمامى الآن تفسير المنار لقوله تعالى: "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " يقول الشيخ رشيد: لم نر فى الأحاديث الصحيحة ما هو أقرب إلى كلام الصوفية منه إلى كلام الله عز وجل إلا حديث " من عادى لى وليا فقد آذنته بحرب.. "!!. وقد انفرد به البخارى وفى سنده كما فى متنه غرابة! قال الحافظ ابن رجب: هذا الحديث تفرد البخارى بإخراجه دون بقية أصحاب الكتب. إلى أن قال: وهو من غرائب الصحيح، تفرد به ابن كرامة عن خالد بن مخلد، وليس فى مسند أحمد، مع أن خالدا هذا تكلم فيه الإمام أحمد وغيره وقالوا: له مناكير! ثم قال: وقد روى من وجوه أخرى لا تخلو كلها من مقال! وذكر الحافظ فى تهذيب التهذيب اختلاف أئمة الجرح والتعديل فى خالد، ومنه تصريح جماعة بروايته للمناكير و فى الميزان للذهبى: يكتب حديثه ولا يحتج به! الخ.. قال الشيخ رشيد: وأما الغرابة فى متن هذا الحديث فهو قوله تعالى- والحديث قدسى- ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به.. الخ الذى استدلوا به على الحلول والاتحاد وقد أوله العلماء، وبينت أمثل تأويل له عند الكلام على حب الله تعالى... والإنصاف يقضى على بأن أؤكد مكانة صحيح البخارى فهو بلا ريب أدق كتب السنة، ومن الإنصاف كذلك توكيد احتواء كتب السنة على آلاف الأحاديث المقبولة، بذل الأسلاف فى تدوينها جهودا مضنية، ولا تتم الإفادة منها إلا بتعاون الفقهاء، والمحدثين جميعا على ضبط معانيها ومغازيها. والمأساة التى نعانى منها، ونخشى بلاءها على الصحوة الإسلامية تجئ من قبل قوم يسمون أنفسهم " الأخوة أهل الحديث " نلحظ عليهم عيوبا ثلاثة: ص _078(1/60)
اكتراثهم بالمرويات الواهية، وبناء العلالى فوقها. ثم سؤ فهمهم للصحاح وتعصبهم لما يفهمون من أخطاء. ثم عجزهم عن إدراك الحكمة القرآنية، ووقوفهم بعيدا عن محاور القرآن وغاياته... وقد نستطرد فى الشكوى فنقول: إن من هؤلاء من يرفع خسيسته بالطعن فى الأئمة الكبار، ومن يوارى سوأته باللجاجة فى تكبير أحكام محدودة أو تجسيم خلاف تافه... ولأكن صريحا فى توضيح ما أخافه. منذ أيام وقف بين الإسلاميين فى الجزائر من يصيح بأعلى صوته: إن المرأة فى الإسلام خلقت لكى تلد الرجال! لا عمل لها إلا هذا.. وهذه الصيحة تنطلق والغزو الثقافى الدينى والشيوعى يعد المرأة بالعلم والكرامة واستكمال الشخصية والمشاركة فى إصلاح الأرض وغزو الفضاء! قلت للإسلاميين وأنا كا سف البال: قفوا هذا المجون قبل أن ترتد الجزائر وتستولى عليها فرنسا مرة أخرى.. هذا المتحدث المسكين باسم الإسلام لا يعرف إلا حديثا مكذوبا أن المرأة لا ترى رجلا ولا يراها رجل وأنها خلقت ليفترشها فحل وحسب!. وهذا متحدث إسلامى آخر يرى أن خروج الرسول فى " بدر " يدل على جواز أن تكون الحرب فى الإسلام هجومية! بل يدل على أن الإسلام قام بالسيف!. يقع هذا الفهم والمسلمون لا يقدرون على التقاط أنفاسهم من وطأة الهجوم عليهم!! لا يصنعون سنانا ولا يقدمون برهانا... ولا أمضى دنى هذه الشكاة فالأمر يطول.. ص _079(1/61)
من حق المهتمين بالأحاديث الضعيفة أن يذكروها بعيدا عن دائرة العقائد والأحكام التشريعية. فإن الدماء والأموال والأعراض أكبرمن أن تتداول فيها شائعات علمية وكذلك. أصول التربية، وتقاليد المجتمع، والشعائر التى يشخص إليها الرأى العام، وتعد منارات على حقائق الإسلام وأهدافه فى الحياة... يمكن الاكتراث بالأحاديث الضعيفة فى قضايا هامشية أو حيث تكون زيادة تنبيه إلى ما قررته الأدلة المحترمة فى كتاب الله وسنة رسوله. وهذا هو منهج علمائنا من قديم، ولكن طوائف من العوام، أو من ذوى الأغراض حادوا عن هذا المنهج فرأينا أشياء تهتاج لها جماهير ما كان السلف الأول يأبه لها! . وتم ذلك على حساب حقائق الإسلام الكبرى فى مجال العقيدة والشريعة، ومجال الإدارة والاقتصاد والسياسة!. بل أستطيع القول بأنه تم على حساب الأخلاق والتزكية التى بعث بها صاحب الرسالة العظمى.. ومن الدهماء من يهتم بقضية رفع اليدين قبل الركوع وبعده أكثر مما يهتم بتوفير الخشوع والقنوت بين يدى الله سبحانه وتعالى، وخلاف الفقهاء فى هذه القضية معروف... والبعد الذى لاحظناه عن منهج السلف يرجع إلى انتشار الأحاديث الضعيفة، ويرجع قبل ذلك إلى انتشار مقولة لم يكن لها رواج بين الفقهاء القدامى، وهى أن حديث الآحاد يفيد اليقين العلمى الذى يفيده المتواتر!! إن الحديث الصحيح له وزنه والعمل به فى فروع الشريعة له مساغ وقبول، وتركه لأدلة أقوى منه أمر مقرر مأنوس بين فقهائنا! أما الزعم بأنه ص _081(1/62)
ظنى الثبوت والدلالة، وما هو قطعى الثبوت ظنى الدلالة، وما هو ظنى الثبوت قطعى الدلالة!. واستفادة الأحكام من مصادرها لها خاص بها ولها رجال ثقات وعلى العامة أن تسمع وتطيع . وقد رأيت فى هذه الأيام من يسمى نفسه أمير جماعة، والجهد الذى يتصبب له عرقا وهو يقوم به، هو إشاعة النقاب بين النساء، أو إشاعة الجلباب بين الرجال، أو تحريم الذهب على النساء والرجال جميعا، أوترك شعر اللحية ينمو فلا يؤخذ منه شئ حتى لقاء الله !. أهذه غايات تتكون لها جماعات؟ والغريب أن الأحاديث الواهية والخلافات الفرعية لها حظوظ متناقضة أو طوالع سعد ونحس!! فلست تدرى لماذا عاشت هذه؟ ولماذا ماتت تلك..؟. فى مصر تحتفل العامة بليلة النصف من شعبان وليست لهذه الليلة القيمة التى تعطيها هذا الشأو الرفيع، وفى حديث مع أحد الأخوة من علماء الخليج قال : إن للأحاديث الموضوعة والواهية سوقا رائجة عندكم! قلت: للأسف وعندكم كذلك!. قال: نحن نتحرى الأحاديث التى نصدر وفقها أحكامنا! فضحكت وأنا أرد عليه بإجابة سريعة: أظن الأحاديث التى وردت فى ليلة النصف أقوى من الأحاديث التى وردت فى تحريم الغناء . فأجاب مستنكرا : هذا غير صحيح! إن تحريم الغناء وآلاته ثابت فى السنة النبوية... قلت له: تعال نقرأ سويا ما قاله ابن حزم فى ذلك الموضوع، ثم انظر ما تفعل... ص _082(1/63)
قال ابن حزم : " وبيع الشطرنج والمزامير والعيدان والمعازف والطنابير حلال كله ومن كسر شيئا من ذلك ضمنه، إلا أن يكون صورة مصورة ـ تمثالا مجسما ـ فلا ضمان على كاسرها، وتضمين المعتدى على هذه الأشياء واجب، لأنها مال من مال مالكها ". قال "وكذلك يجوز بيع المغنيات ـ من الجوارى ـ وابتياعهن! وأساس الجواز فى كل ما ذكرنا قوله تعالى: "وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ "، وقوله: "وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ " يعنى أن الأصل فى الأشياء الإباحة، وأنه لا تحريم إلا بنص، وقد فصل الله ما حرم فى كتابه وعلى لسان نبيه، ولم يأت نص بتحريم شىء مما ذكره من البيوع السابقة" ثم ذكر ابن حزم أن أبا حنيفة يوجب الضمان على من كسر شيئا من آلات اللهو التى سماها آنفا !. قال: "واحتج المانعون بآثار لا تصح، أو يصح بعضها ولا حجة لهم فيها.. منها عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها- عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: " إن الله حرم المغنية وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها " قال ابن حزم وهو يناقش سند هذا الحديث: " فيه من الرواة " ليث " وهو ضعيف، وسعيد بن أبى رزين، وهو مجهول لا يدرى من هو؟ عن أخيه! وما أدراك ما عن أخيه! هو ما يعرف وقد سمى فكيف أخوه الذى لم يسم؟. وعن على بن أبى طالب قال رسول الله: إذا عملت أمتى خمس عشرة خصلة حل بها البلاء... منهن "واتخذوا القينات والمعازف، فليتوقعوا عند ذلك ريحا حمراء ومسخا وخسفا". ص _083(1/64)
قال ابن حزم فى رواة هذا الحديث: لاحق بن الحسين وضرار بن على والحمصى مجهولون. وفرج ابن فضالة متروك وعن معاوية قال: " نهى رسول الله عن تسع، وأنا أنهاكم عنهن الآن، فذكر فيهن الغناء والنوح " قال ابن حزم: فى رواته محمد بن المهاجر ضعيف، كيسان مجهول!. وروى أبو داود بسنده عن شيخ (!) عن ابن مسعود يقول: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الغناء ينبت النفاق فى القلب "!. يقول ابن حزم: الرواية عن شيخ عجب جدا! من هذا الشيخ؟. وعن أبى مالك الأشعرى أنه سمع النبى- صلى الله عليه وسلم- يقول: "يشرب ناس من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها، يضرب على رءوسهم بالمعازف، والقينات. يخسف الله بهم الأرض ". قال ابن حزم وهو يناقش السند: معاوية بن صالح ضعيف، وليس فيه أن الوعيد المذكور إنما هو على المعازف،. كما أنه ليس على اتخاذ القينات، والظاهر أنه على استحلالهم الخمر، والديانة لا تؤخذ بالظن. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله: " من جلس إلى قينة فسمع منها صب الله فى أذنيه الآنك يوم القيامة " والآنك هو الرصاص المذاب. قأل ابن حزم: هذا حديث موضوع فضيحة، ما عرف قط عن طريق أنس! . وعن مكحول عن عائشة قالت: قال رسول الله: "من مات وعنده جارية مغنية فلا تصلوا عليه ". قال ابن حزم: مكحول لم يلق عائشة، وهاشم وعمر الراويان مجاهيل! ص _084(1/65)
وهناك حديث لاندرى له طريقا وهو" نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن صوتين ملعونين صوت نائحة وصوت مغنية" وسنده لاشيء!. وعن أبى أمامة سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن، وثمنهن حرام ". وقد نزل تصديق ذلك فى كتاب الله وهو " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا " ، والذى نفسى بيده ما رفع رجل قط عقيرته بغناء إلا ارتدفه شيطانان يضربانه على صدره وظهره حتى يسكت " وقد نظر ابن حزم فى الرواة فوجدهم بين ضعيف ومتروك ومجهول.. ولعل أهم ما رفع فى هذا الباب ما رواه البخارى معلقا عن أبى مالك الأشعرى أنه سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: "ليكونن من أمتى قوم يستحلون الخز والحرير والخمر والمعازف ". ومعلقات البخارى يؤخذ بها، لأنها فى الغالب متصلة الأسانيد، لكن ابن حزم يقول: إن السند هنا منقطع، لم يتصل ما بين البخارى وصدقة بن خالد راوى الحديث.. نقول: ولعل البخارى يقصد أجزاء الصورة كلها، أعنى جملة الحفل الذى يضم الخمر والغناء والفسوق، وهذا محرم بإجماع المسلمين.. قال ابن حزم عن تحريم الغناء: " لا يصح فى هذا الباب شىء أبدا، وكل ما ورد فيه موضوع، والله لو أسند جميعه آو واحد منه عن طريق الثقات إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما ترددنا فى الأخذ به. ثم نظر ابن حزم فى الآية الكريمة : " ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله.. " ص _085(1/66)
فنفى أن تكون فى الغناء وقال: إن نصها يشرح المراد منها، فإن من يريد الإضلال عن سبيل الله واتخاذها هزوا كافر بإجماع المسلمين. قال: ولو أن امرءا اشترى مصحفا ليضل عن سبيل الله لكان كافرا..! إن الله ما ذم ظ من روح عن نفسه بشىء من اللهو ليعينه على الكثير من الجد، وإنما الأعمال بالنيات ولا حرج على مسلم أن ينظر فى بستان متنزها، أو يتنقل هنا وهناك متفرجا ليريح طبعه المكدود.. والحق أن الغناء كلام، حسنه حسن وقبيحه قبيح! هناك أغان آثمة، تلقى فى ليال ظالمة مظلمة وإن كثرت فيها الأضواء، لا تسمع فيها إلا صراخ الغرائز أو فحيح الرغبات الحرام.. وهناك أغان سليمة الأداء شريفة المعنى قد تكون عاطفية وقد تكون دينية وقد تكون عسكرية تتجاوب النفوس معها، وتمضى مع ألحانها إلى أهداف عالية... كنت مع رفقة طيبة نتغدى فى فندق محافظ بحى "الهرم " ووصل إلى أسماعنا صوت جذب انتباهى، وألقيت إليه زمامى، كأنه صوت ناصح حزين يقاوم المجون والاسترخاء.. وأخذت أتبين الألفاظ التى تصدر من مسجل موضوع بإحدى الزوايا، فإذا هى للبوصيرى أو بتعبير أدق تشطير لأبيات من البردة، كان البوصيرى والشاعر الآخر يدوران فيها حول البيت المشهور فى وصف الرسول الكريم: كأنه- وهو فرد- من جلالته فى عسكر حين تلقاه وفى حشم! لم تكن هناك ألحان مصاحبة تثير المشاعر، كان صوت المبتهل الشادى مزيجا من إيمان وحب جعلانى أطوى العصور القهقرى، وأمثل فى حضرة صاحب الرسالة، وهو فى مجلسه الروحى يوجه ويربى، ويخلق الجيل الذى ص _086(1/67)
سينشئ حضارة أرقى وأتقى، ويلقى بذور الإنسانية الجديدة التى ستنقذ العالم من جبروت الرومان والفرس... كان فردا يجلس كما يجلس العبد ويأكل كما يأكل العبد، ولكن الأشعة المنبثقة من أركانه تجعل الأبصار تنحسر عنه، وتجعل الأباطرة والقياصرة يجثون عند قدميه..! إن الغناء الرقيق المتواضع الذى سمعته لا يزال يؤثر فى نفسى كلما استحضرت جرسه، بعد ما صار ذكرى.. قال الإمام الشاطبى فى الجزء الأول من كتابه " الاعتصام ": إن قوما أتوا عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقالوا: يا أمير المؤمنين إن لنا إماما إذا فرغ من صلاته تغنى!!. فقال عمر: من هو؟ فذكروا له الرجل، فقال!: قوموا بنا إليه، فإنا إن وجهنا إليه- من يحضره- يظننا تجسسنا عليه أمره. وقام عمر مع جماعة من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، حتى أتوا الرجل وهو فى المسجد، فلما نظر إلى عمر قام إليه واستقبله قائلا: يا أمير المؤمنين ما حاجتك؟ وما جاء بك؟. إذا كانت الحاجة لنا كنا بذلك أحق منك أن نأتيك، وإن كانت الحاجة لك فأحق من عظمناه خليفة رسول الله!. فقال له عمر ويحك بلغنى عنك أمر ساءنى! فقال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: أتتمجن فى عبادتك- من المجانة والاتضاع-؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، لكنها عظة أعظ بها نفسى!. قال عمر: قلها، فإن كانت كلاما حسنا، قلته معك، وإن كان قبيحا نهيتك عنه ... فأنشد الرجل هذه الأبيات: وفؤاد كلما عاتبته فى مدى الهجران يبغى تعبى لا أراه الدهر إلا لاهيا فى تماديه، فقد برح بى ص _087(1/68)
يا قرين السوء ما هذا الصبا؟ فنى العمر كذا فى اللعب! وشبابى بان عنى فمضى قبل أن أقضى منى أربى ما أرجى بعده إلا الفنا ضيق الشيب علىَّ مطلبى ويح نفسى لا أراها أبدا فى جميل، لا ولا فى أدب نفسى لا كنت ولا كان الهوى! راقبى المولى، وخافى وارهبى! فقال عمر رضى الله عنه مرددا البيت الأخير: نفسى لا كنت، ولا كان الهوى! راقبي المولى وخافى، وارهبى! ثم قال عمر: على هذا فليغن من غنى أقول: ولنا فى أمير المؤمنين أسوة حسنة! حل إنشاد يبعث على السمو والجد والاستقامة فهو غناء حسن، وما أحسب أحدا يرى نفسه أتقى لله من عمر! أو يتنزه مما أقره ودعا إليه. وعندما أسمع قول شوقى ويا رب هل تغنى عن العبد حجة؟ وفى العمر ما فيه من الهفوات! أتذكر فضل الله فى جعل الحج توبة كاملة! لكن صوت المغنية الضارعة يحرك أشجان الأخطاء القديمة، كما يحرك الآمال فى عفو الله، وهذا كله لون من العبودية المطلوبة لله سبحانه. وكما ينشد المرء الخلاص من ماض! مرهق.. ينطلق الشعر والغناء إلى استنقاذ الأمة الإسلامية من حاضر مؤسف، مع مناجاة صادقة للرسول عليه الصلاة والسلام.. شعوبك فى شرق البلاد وغربها كأصحاب كهف فى عميق سبات بأيمانهم نوران ذكر وسنة!! فما بالهم فى حالك الظمات؟ يقول الدكتور عبادة: إن أبا حامد الغزالى- اقتداء بالشافعى- يرى أن الشعر كلام، حسنه حسن وقبيحه قبيح، وأن سماع الغناء منه ما هو مباح ومنه ص _088(1/69)
ما هو مستحب، ومما هو واجب وما هو مكروه، وما هو حرام!! ثم يصنف الغناء إلى سبعة أقسام: ا- إلهاب الشوق إلى زيارة الأماكن المقدسة، وابتعاث المسلمين فى الأقطار البعيدة كى يشدوا الرحال إلى الحرمين وذلك يبدو فى قصيدة شوقى: إلى عرفات الله يا خير زائر عليك سلام الله فى عرفات 2- إثارة الحمية للقتال، والدفاع عن العقائد والأوطان وأغلب الشعوب تضع لبنيها نشيدا قوميا يتغنون به جماعات.. وخير نموذج لهذا النوع من الغناء ما جمعه أبو تمام فى ديوان الحماسة! وليت أمتنا تحسن الغناء بمعانى القوة المنبثة فى قصائده.. 3- وصف المعارك والمبارزات وثبات الرجال فى الساعات الحرجة.. 4- الرثاء المحرك للأحزان النبيلة! والذى يعيد للنفس الفهم الصحيح لطبيعة الحياة الدنيا! وهذا الرثاء قد يكون بكاء سلبيا متفجعا مثل قول متمم ابن نويرة يرثى أخاه مالكا: يقول: أتبكى كل قبر رأيته؟ لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك فقلت له: إن الشجا يبعث الشجا فدعنى فهذا كله قبر مالك وقد يكون رثاء مفعما بتمجيد الفضائل والالتفاف حولها وذلك كقول دريد ابن الصمة: تقول ألا تبكى أخاك ؟ وقد أرى مكان البكا لكن بنيت على الصبر فقلت: أعبد الله أبكى أم الذى له الحدث الأعلى قتيل بنى بكر؟ أبى القتل إلا آل صِمة إنهم أبوا غيره والقدر يجرى إلى القدر وصف ساعات الرضا والسرور، احتفاء بها واستبقاء لآثارها. 6- الغزل الشريف، وشرح عواطف المحبين وارتقاب جمع الشمل. ص _089(1/70)
وربما كان للأمم- والأفراد فى هذا الميدان هبوط وهزل، لكن هناك مشاعر جديرة بكل إعزاز مثل: حننت إلى "ريا" ونفسك باعدت مزارك من ريا وشعباكما معا فما حسن أن تأتى الأمر طائعا وتجزع أن داعى الصبابة أسمعا قفا ودعا نجدا ومن حل بالحمى وقل لنجد عندنا أن يودعا بنفسى تلك الأرض ما أطيب الربا وما أحسن المصطاف والمتربعا! وليست عشيات الحمى برواجع إليك، ولكن خل عينيك تدمعا بكت عينى اليسرى فلما زجرتها عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا وأذكر أيام الحمى ثم أنثنى على كبدى من خشية أن تصدعا كانا خلقنا للنوى وكأنما حرام على الأيام أن نتجمعا 7- وصف الأمجاد الإلهية، وما يليق بذى الجلال والإكرام من تحميد وإعظام. وارتفاع المغنين إلى مستوى المعانى التى يترنمون بها أمر صعب! ونجاح الأغنية يعود بعد شرف المعنى إلى حسن الأداء وجودة اللحن، وتجميع الأنغام التى تخدم فى النفس البشرية ما يحقق الاستثارة المنشودة! وقد استمعت إلى بيت شوقى: وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق وشعرت بأن المعنى فشل فشلا ذريعا فى تلحينه، كان ينبغى أن يتعاون النغم والأداء على إبراز صوت المطارق التى تهوى على الأبواب الموصدة، وجؤار المجاهدين وهم يهاجمون السجون التى قبعت داخلها الجماهير المستعبدة، وعزائم الشهداء وهم يجودون بأنفسهم فداء للحق، وأنين الجرحى، وعناد المكابرين... إن حشودا من الأصوات المزمجرة، والجيوش الملتحمة كان يجب ص _090(1/71)
أن تبرز خلال تلحين القصيدة وعند غناء هذا البيت ذاته.. لكن الملحن المغنى ليس رجل هذه الملحمة...! والواقع أن البيئة الفنية- كما تترامى إلينا أنباؤها- تعيش فى أرض الغرائز وتحسن الطبل والزمر وهى تحدو العواطف الرخيصة، وما أحسبها تنهض إلى هدف عال. أذلك سر تحريم بعض الوعاظ للغناء؟ ربما، إنه ليس لدينا نص يحظره! وإن أولى الغيرة ينظرون إلى سيرة المشتغلين بالغناء والموسيقى ثم يرفضون هذا النمط من السلوك، ويستنكرون ما يلابسه وما يصاحبه من آلات، وجو عابث.. لكن الإنصاف يفرض علينا غير ذلك. من حملة الأقلام من عالق ذيلا لحكام الجور، يتلون كالحرباء فى خدمتهم، ويصبح ويمسى وهو يخادع الجماهير عن حقوقها وحرياتها. فهل هذا البغاء الصحفى يجعل الصحافة باطلا؟ كلا!. ومن رجال الدين نفسه من يحيا بلا دين! بل ربما كان عائقا عن الدين كما قال جل وعلا فى وصف بعض الكهان: " إن كثيرا من الأحبار و الرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل و يصدون عن سبيل الله ". فهل ذلك يعنى أن الدين باطل ؟ وهناك فنانون لا يساوون قلامة ظفر! وهناك أيضا من صليت معهم فى جماعات عامة ومن رأيتهم فى قوافل الحجاج والعمار يؤدون المناسك بأدب وتقوى!. وأذكر إنى عندما كنت مدرسا بمكة المكرمة، جلست سأمان فى بيتى يوما ص _091(1/72)
أعانى من بعض المتاعب فقلت: أتسلى عن همومى بشيء، وفتحت الراديو وسرنى أن كانت به أغنية أحبها. وما كدت أمضى مع الأبيات والألحان حتى طرق الباب طالب أشرف على رسالته. وخيل إلى أفى أستطيع السماع مع وجوده ولكنه أقسم على أن أغلق الراديو ورأيت إكراما له أن ألبى رغبته، وأكملت وحدى بعض كلمات الأغنية: أين ما يدعى ظلاما يا رفيق الليل أينا؟ إن نور الله فى قلبى! وهذا ما أراه وصاح الطالب: ما هذا ؟ قلت له: كل يغنى فى الأنام بليلاه، إننى أعنى شيئا آخر . قال: أما تعلم أن الغناء حرام كله ؟ قلت له: ما أ علم هذا ثم أقبلت عليه بجد أقول له: إن الإسلام ليس دينا إقليميا لكم وحدكم، إن لكم فقها بدويا ضيق النطاق وعندما تضعونه مع الإسلام فى كفة واحدة، وتقولون: هذه الصفقة لا ينفصل أحدها عن الآخر، فستطيش كفة الإسلام وينصرف الناس عنه. وهذا ظلم كبير لرسالات الله وهداياته قال: كيف؟ قلت له: تستطيعون إعلان حرب شعواء على"الغناء الوضيع، وستجدون/من يؤيدكم من أهل الأرض! أما الزعم بأن الإسلام حرب على الفن كله خيره وشر فلا إن أهل القارات لهم غناء يجتمعون عليه، فميزوا الخبيث من الطيب ثم دعوا لهم ما يستحبون. ص _092(1/73)
كتبت الأستاذة المهدية " مريم جميلة " فصلا عن الإسلام والفنون فى كتابها " الإسلام فى النظرية والتطبيق " وذكرت أن الأوربيين يحترمون احتراما بالغا " بيتهوفن " و" باخ " فى الموسيقى و " فردى " و " واجنر" فى الأوبرا و " شكسبير" فى المسرح.. الخ. ويلقبونهم بالسادة العظام، ويعتبرون تكريس الحياة لأى فرع من هذه الفنون الجميلة من أشرف المقاصد، وأكثرها جدا !!. قالت: وإذا عرفت موهبة شخص ما بالتفوق الفنى- وغالبا ما يقع ذلك بعد سنوات من رحيله- حسب فى زمرة العظماء الخالدين! ويحقق الروائيون التقليديون خلودهم الفنى عندما تطبع كتبهم مرات ومرات وتمتدح على أنها أعمال أدبية عظيمة يلزم كل طالب فى المدارس أن يدرسها. ويخلد مؤلفو الموسيقى السيمفونية، والأوبرا بأداء إنتاجهم مرارا وتكرارا فى قاعات الاحتفالات العظمى فى المدن الكبرى كما يكرم أعظم المغنين والعازفين بتسجيل أعمالهم على الأشرطة والاسطوانات. قلت لنفسى: ما المنهاج الإسلامى الذى أقدمه لهذه الأوساط ؟ هل أطلب إليهم إلغاء الفنون الجميلة جملة وتفصيلا ؟ علام أعتمد فى هذا الطلب؟ على جملة من الأحاديث الواهية والموضوعة التى لا وزن لها فى مجال التمحيص العلمى؟. إننى عندما أفعل ذلك أكون كأبى العلاء المعرى الذى قال لكل إنسان: غدوت مريض الدين والعقل والحجى لتعرف أنباء الأمور الصحائح! فلما التقى الناس به واستمعوا إليه رأوه نباتيا يعرض الأمور الصحيحة عنده على أنها ترك أكل اللحم 0 إننى أطلب من الأوربيين وغيرهم ترك التجسيد والتعديد لإصلاح ص _093(1/74)
عقائدهم فهل أضع عائقا أمام هذا الإصلاح الخطير بدعوتهم إلى ترك الغناء والموسيقى؟ فما يكون موقفى من قوله تعالى فى كتابه المصون "قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ " أستطيع أن أحرم نحت التماثيل، أستطيع أن أحرم كل صورة عارية، أستطيع أن أحرم الرقص مفردا ومزدوجا، إن هذه فنون رديئة وليست فنونا جميلة... أستطيع أن أبرز الضوابط الإسلامية لسلوك الأفراد مهما كانوا عباقرة، فالعبقرى فى أى علم أو فن يجب أن يستشعر نعماء الله عنده، وأن يكون أتقى لله وأحفظ لحدوده، وأرعى لحقوقه من الآخرين.. والمصادرالوثيقة لتحديد ما نفعل وما نترك وما نأمر وما ننهى، هى كتاب الله وسنة رسوله، لا الشائعات الطائرة فى ميدان العلم الدينى!. قرأت السطور التالية تعلق الأوربيين بالفنون الجميلة ثم ضربت كفا بكف من شدة العجب للضلال المبين الذى استولى على أفئدة هؤلاء الذاهلين، وهاكم ما كتب نقلا عن كتاب " الثقافة الإسلامية " للأستاذ محمد مرمادوك بكثال قال : " لا شك أن بعضكم يذكر البحث الذى أوردته الصحف البريطانية من سنوات، كان السؤال: لنفرض أن تمثالا يونانيا شهيرا جميلا فريدا فى نوعه، وهو من أجل ذلك لا يعوض، كان فى غرفة واحدة مع طفل حى، ثم اندلعت النيران فى الغرفة، ولم يكن فى الإمكان إلا إنقاذ واحد من الاثنين إما التمثال وإما الطفل (!) فأيهما يجب إنقاذه؟. ص _094(1/75)
إن كثرة عظمى من الذين أجابوا على هذا السؤال فى رسائلهم إلى الصحيفة من الرجال ذوى الثقافة والمكانة المرموقة قالوا- حسب ما أذكر ـ أنه يجب إنقاذ التمثال وترك الطفل يهلك (!). وكانت حجتهم فى ذلك: أن ملايين الأطفال يولدون يوميا على حين أن هذا التمثال لايمكن تعويضه، فإنه عمل فنى عظيم من تراث اليونان". أرأيت كفرا أقبح من هذا الكفر؟ وإهانة للإنسانية أبشع من هذه الإهانة؟. حجر يستنقذ وطفل رقيق وديع يترك حطبا للنار؟. المثير فى هذه القضية أن مصورا يرسم على الورق منظر الشروق أو الغروب بمهارة تحاكى الأصل أو تومىء إليه يعد فنانا جديرا بالإشادة والتقدير! أما صاحب الأصل نفسه، أما فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا، فهو ينسى أو يجحد، ولا توجه إليه عبارة ثناء! عندما يجىء فنان إلى حجر فيطبع عليه صورة إنسان، يكون رجلا عظيما.. وتبلغ عظمته القمة عندما يقترب فى نحته من قسمات الإنسان الأصيل وتعابير وجهه.. أما خالق الإنسان نفسه ومبدع الحياة فى خلاياه ومجرى الدم فى العروق، وبارئ الحس فى الأعصاب، ومودع الذكاء فى المخ، ومطلق هذا البشر العجيب ليملأ الدنيا حراكا وإنتاجا. هذا الخالق الماجد لا تذكره الحضارات الضالة بكلمة تقدير وإعزاز. إن الوثنيات اليونانية والرومانية انتقلت إلى الحضارة الأوربية، وليست النصرانية إلا قشرة مزورة ملصقة على وجه كفور يرفضها وينأى عنها. ص _095(1/76)
أما الحضارة الإسلامية فشأو آخر، إنها ترمق عظمة الله قبل كل شئ، وانظر إلى أبى حامد الغزالى يتحدث عن الجمال وفنونه فيقول أن الفن محاكاة للجمال الذى أبدعه الله فى آفاق العالم، أو هو تشبيه للصنعة بالخلقة وما من شىء بلغه أهل الصناعات بجهدهم إلا وله مثال فى الخلقة التى اخترعها الصانع الأعلى! فمنه تعم الصانعون، وبه اقتدوا!. ويقول: كل جمال فى العالم تدركه العقول والأبصار والأسماع وسائر الحواس من مبتدئ العالم إلى منقرضه ومن ذروة الثريا إلى سفوح الثرى، فهو ذرة من خزائن قدرته سبحانه. ****** وأنقل هنا سؤالا وجوابا يتصلان بموضوع البحث، حتى لا تبقى هنالك أثارة من شك أو شبهة... - ما موقف الإسلام من مظاهر الحضارة الحديثة، السينما والمسرح والموسيقى والفنون جميعها، كالرسم والنحت والتصوير؟. الحضارة الحديثة نتاج تقدم علمى باهر، وصل إليه الإنسان بعد قرون من البحث المضنى والتجارب الغالية! ولم يكن عجبا أن يستغل الإنسان كشوفه لأسرار الكون وقواه الخفية فى ترقية نفسه وترقية معايشه، بل إن ذلك أقرب إلى الحكمة من استغلال هذه الكشوف فى تدمير الحضارة نفسها وتيسير الانتحار الجماعى على الناس!. وأحسب أن التقدم الصناعى العام وفر للجماهير متعا ما كا ن يحصل عليها الملوك الأقدمون! الأطعمة أنعم، والأشربة صنوف، والملابس تفضل الحرير نسجا ولونا ورقة، وأدوات النقل أغنت عن الخيل والبغال والحمير، والقيان ص _096(1/77)
التى كانت تغنى فى مقاصير الأمراء انتقل صوتها إلى الأكواخ، ونام على لحنها العمال والفلاحون، والمرء فى المشرق يكلم صاحبه فى المغرب بثمن ميسور، وربما بلغ الناس من الرفاهة درجة أعلى، وملكوا غدا أنصبة أكثر..!. ومع هذا كله فالأعصاب مشدودة، والأطماع طاغية، والبكاء على القليل المنشود يفسد السعادة بالكثير الموجود، وتحاسد الأفراد والأقطار أشعل البغضاء هنا وهناك!. وقيل فى وصف العالم: أن عضلاته أكبر من فكره، ولو أنصفوا لقالوا: إنه عالم يذكر نفسه، وينسى ربه، ويجحد حقه، ويمارى فى لقائه، ويظن أن هذه الدنيا كل شىء، فلا امتداد لوجود آخر، ولا حياة إلا هنا..!!. وأنا رجل مسلم أحب الحياة وأبتهج بطيباتها! إن الله استضافنى فى كونه وأطعمنى خيره فمن السفاهة أن أرفض الكرم المبذول، ومن السفاهة كذلك أن أضن بشكر المنعم!. إن الله تبارك اسمه يعطى الفضل ولا يطلب إلا الاعتراف بالجميل، فهل هذا ثمن فادح " وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ" يبدو أن ناسا كثيرين يعز عليهم دفع هذا الثمن " . على ذلك الأساس أنظر إلى ما قدمته الحضارات قديمها وحديثها! إنه- كما علمنى الإسلام- لى وليس لغيرى، أليس يقول الله: " هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا " ومن ثم فالأصل فى الأشياء الإباحة، ولا تحريم إلا بنص قاطع، والواقع أن نفرا من سوداويى المزاج أولعوا بالتحريم ومنهجهم فى الحكم على الأشياء يخالف منهج نبى الإسلام عليه الصلاة والسلام الذى ما خير بين أمرين إلا اختار ص _097(1/78)
أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كا ن أبعد الناس عنه روى أنس بن 1مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليهم، فتلك بقاياهم فى الصوامع والأديرة رهبانية ابتدعوها ما كاتبناها عليهم ". وقد أشاعت المدنية الحديثة " الراديو والتليفزيون " وغيرهما من الأجهزة الناقلة للثقافة والملاهى على سواء، ومعروف أن هذه الأجهزة أدوات غير مسئولة عما يصدر عنها، وإن المسئولية تقع على المؤلفين والمغنين والمخرجين، فى استطاعتهم أن يقدموا النافع ويحجبوا الضار..!. لقد كان من المستطاع أن نتوسل بهذه الأجهزة لإشاعة اللغة السليمة وتذوق الآداب الرفيعة وحماية الأخلاق ودعم التقاليد الفاضلة، بل كان من الممكن أن ندرب الألوف على إتقان حرف نحن محتاجون إليها، وأن نرفع مستوى الأداء لأشغال كثيرة، فإن البطالة السافرة والمقنعة تفتك لدينا بأعمار الناس. كان من الممكن أن نحارب عادات ضارة موروثة أو مستوردة انتشرت بيننا ووقفت مسيرتنا، إن وسائل الإعلام لو أحسنا استغلالها تصنع الكثير، ولكن ذلك لا تستطيعه إلا أمة تحس أن لها رسالة فى الحياة، أما الأمة الذنب فقد سقط عنها التكليف لأن غيرها يشدها. قد يفهم من ذلك أنى أحارب الغناء والموسيقى والترويح عن النفس.. لا، ولكنى ألحظ أن الأمة العربية والإسلامية تريد أن تعمل قليلا وتغنى كثيرا، والاستجمام حق المرهقين لاحق القاعدين!. أما الغناء فكلام، حسنه حسن وقبيحه قبيح، ومن غنى أو استمع إلى غناء شريف المعنى طيب اللحن فلا حرج فيه! وما نحارب إلا غناء هابط المعنى واللحن... لم يرد حديث صحيح فى تحريم الغناء على الإطلاق، وقد احتج البعض. بقوله تعالى : ص _098(1/79)
"ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين .. " . ولعمرى أن من يشترى جد الحديث أو لهوه للأسباب المذكورة فى الآية جدير بسؤ العقاب، أما من يريح أعصابه المكدودة بصوت حسن ولحن جميل فلا علاقة للآية به، وكما يقول ابن حزم: لو اشترى مصحفا للإضلال فهو مجرم... ويبدو أن اقتران الغناء ببعض المحرمات من خمر وفحش. وما يشاع عن البيئة الفنية من تحلل، هو الذى جعل عددا من العلماء يحرمه، وإلى هذه الجملة من الرذائل يشير حديث البخارى إلى من يستحلون الحر والحرير والخمر والمعا زف.. بيد أنه ليس من الضرورى أن تجتمع هذه العناصر كلها عند سماع أغنية.. وعلى أية حال فإذا كان الغناء مقرونا بتلك المحرمات فهو مرفوض، أما إذا برئ منها فلا شئ فيه. والموسيقى كالغناء وقد رأيت فى السنة أن النبى صلى الله عليه وسلم مدح صوت أبى موسى الأشعرى- وكان حلوا وقد سمعه يتغنى بالقرآن- فقال له: لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود! ولو كان المزمار آلة رديئة ما قال له ذلك.. وقد سمع رسول الله صوت الدف والمزمار دون تحرج، ولا أدرى من أين حرم البعض الموسيقى، ونفر من سماعها؟. على أن الألحان تختلف فى تأثيرها وصداها النفسى، فإذا كان هناك مجال لاعتراض فعلى الأصوات الخنثة والألحان الطرية المائعة.. ونعود إلى ما بدأنا به موضوعنا وهو أن أمتنا بحاجة إلى الكثير من الجد والقليل من اللهو، ولو رزقنا بفنانين ذوى شرف ومقدرة لأمكن تحويل الفنون ص _099(1/80)
إلى عوامل للبناء لا للهدم، ولإثارة المشاعر النبيلة لا إهاجة الغرائز الدنيا... أما الصور فيجب أن نفرق بين نوعين: المجسم الذى يصنعه المثالون الآن لأغراض شتى! والرسوم التى توضع على المسطحات من أوراق وأقمشة وغير ذلك. والتصوير سواء كان شمسيا أو فلميا هو جزء من الطب والأمن والعلوم الكونية والحيوية والتاريخ والشئون الاجتماعية الكثيرة، والأصل فيه الإباحة لحديث مسلم " إلا رقم فى ثوب " ولحديث رزين سئل ابن عباس عن أجرة كتابة المصحف، فقال: " لا بأس إنما هم مصورون، وأنهم إنما يأكلون من عمل أيديهم ". ولم يقل أحد أن صورة الوجه فى المرآة محرمة، ولا يقول أحد أن إثباتها بطريقة أو بأخرى تحول المباح إلى محرم.. ولا يحرم من هذا النوع إلا ما حمل طابعا دينيا لعقائد يرفضها الإسلام كصور بوذا، أو ابراهما، أو صلبان النصارى، أو أى شعار دينى يخالف التوحيد..، كما يحرم أى تصوير يخل بالآداب، ويحرك الغرائز إلى المعصية.. أما التماثيل المجسمة فإن النصوص الواردة تتظاهر على رفضها ما لم تكن ألاعيب للصبية أو عرائس هزلية كحلوى ا لمناسبات المختلفة، فإن أحدا لا يفكر فى توقيرها أو عبادتها.. لقد رأيت بعينى من يعبدون هذه الأصنام فى جنوب آسيا، ورأيت فى مصر من يحيى بخشوع تمثالا لعبد الناصر!! وذلك أثناء نقله من مكان إلى مكان.. !. وأعرف أن هناك من رجال الفتوى من يحرم التصوير كله سواء كان مجسما أو كان رسما على ورق، وأخشى أن يكون سوق الخصوص مقطوعة عن ملابساتها سببا فى ضياع الدين والدنيا معا!. ص _101
الدين بين العادات والعبادات آداب الطعام آداب الملبس آداب المساكن ص _102(1/81)
آداب الطعام هناك عادات ألفها الناس ويستغربون الخروج عليها. وهناك عبادات كلفوا بها ويرون التزامها دينا! والعادات من صنع الناس، أما العبادات فمن عند الله سبحانه... وقد قرأت لعالم هندى آداب الإسلام فى الطعام، فوجدت الرجل خلط بين العادات والعبادات، وحارب عادات غربية بعادات عربية، وهى حرب لا صلة لها بالإسلام . قال: " يجب أن يوضع الطعام على الأرض لا على الطاولة " وقال : "يجب على الآكل أن يجلس متربعا أو على ساق أو جاثما على الساقين ولا يتناول الطعام أبدا مستندا إلى كرسى. ويجب أن تسبق النية الطعام- أى أن يقصد بالأكل القوة على طاعة الله- لا إشباع الشهوة، ويجب أن تشترك الأيدى الكثيرة فى الإناء الواحد، ويجب أن يذكر اسم الله قبل أن يأكل... "!!. وأكثر ما قاله الرجل بعيد عن الصواب! فالأكل جائز على الأرض وعلى المنضدة، ويجوز الجلوس على الكرسى فى أثناء الأكل، وينبغى أن يرضى ربه بالطعام فى الوقت الذى يشبع فيه نهمه منه! وله أن يأكل وحده فى إنائه. أو يأكل مع آخرين!. والواجب حقا أن يسمى الله قبل الأكل فقد صح قول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- "سم الله. كل بيمينك، كل مما يليك "!. ص _103(1/82)
وقد وردت أحاديث شتى فى آداب الأكل بعضها صحيح، وبعضها مرفوض، وبعضها من عادات العرب. فالقول بأن استعمال السكين فى الأكل حرام لا أصل له. وقد روى أبو داود حديثا عن عائشة جاء فيه "لا تقطعوا اللحم بالسكين فإنه من صنع الأعاجم وانهشوه نهشا فإنه أهنأ وأمرأ"!. وهذا حديث باطل فقد ثبت فى الصحاح أن الرسول- عليه الصلاة والسلام- كان يستخدم السكين فى تقطيع اللحم وهو يأكل، وسند الحديث المروى عن أبى داود مرفوض.. ولم يجئ أمر بالأكل على الأرض. أو نهى عن الأكل فوق طاولة، وما سكت الشارع عنه فهو فى دائرة العفو، ولا مكان لوجوب أو حرمة . وقد كان النبى- صلى الله عليه وسلم- مخشوشنا فى حياته لا مترفا، ومع ذلك لم يحرم حلالا، ولم يضيق واسعا. عن أبى حازم سألت سهل بن سعد: هل أكل النبى النقى- الخبز الخالص من القشور-؟ فقال: ما رأى النبى النقى منذ ابتعثه الله تعالى حتى قبضه!. فقلت: هل كانت لكم مناخل؟ فقال ما رأى النبى منخلا من حين ابتعثه الله حتى قبضه! قلت: كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول؟ قال : كنا نطحنه وننفخه فيطير منه ما طار- من قشر- وما بقى ثريناه فأكلناه " تلك كانت حياتهم! وعليها اعتادوا، ثم تأنق الناس فى صنع الخبز النقى دون حرج. قال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا ... " وقال : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ... " ص _104(1/83)
وروى أبو داود عن وحشى بن حرب أن الصحابة قالوا يا رسول الله، إنا نأكل ولا نشبع! قال: فلعلكم تفترقون؟ قالوا: نعم. قال: فاجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه! ". ونحن نرى فى هذا الحديث بواعث الجود واستضافة الفقراء ومحاربة الأزمات " فلا يجوز ترك المحرومين يتضورون جوعا!. ولا يجوز أن يفهم من الحديث تحريم الأكل فى غير طبق واحد! كيف والله سبحانه يقول: " لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا.." ولو وضع لكل فقير طعام فى صحفة ما كان هناك من حرج. ومن أركان النظافة أن يأكل المرء بيمينه، فإن الإسلام جعل اليد اليسرى لإزالة القذى. وهذه قسمة لابد منها، وليس من الشرف أن يضع إنسان يده على فرجه ثم يدسها بعد ذلك فى فمه ! ولأى إنسان أن يأكل بيمناه مباشرة أو يأكل بملعقة، ففى الأمر سعة! وكان العرب يأكلون بأيديهم. وتلك عادتهم. ولا غرابة إذا كان الآكل بيده يلعق أصابعه.. ولكن جعل هذه العادة دينا مما لا أصل له، ومن الدين ألا يترك المسلم فى صحفته طعاما كثيرا أو قليلا ليرمى بعد ذلك فى القمامة فهذا مسلك ذميم.. والغريب أن الأوربيين يتركون صحونهم أقرب ما تكون إلى النظافة. أما العرب فيدعون فى صحونهما ما يزحم أوانى القمامة وما يقر عين الشيطان بالإسراف. وفى هذه الأيام تذهب وفود من المسلمين إلى أوربا وأمريكا، ويمكن أن يتميزوا عن غيرهم فى آداب الأكل، بترك المحرمات وتسمية الله مثلا. أما الجلوس على الأرض حتما، والامتناع عن استعمال الملاعق، والحرص ص _105(1/84)
على لعق الأصابع.. الخ. فهذا تنطع أضر بالإسلام ورسالته، وأطلق ضد المسلمين شائعات رديئة!. فهل أمست الدعوة إلى التوحيد دعوة إلى نمط من سلوك العرب الأوائل حتى فى أيام جاهليتهم؟ إن هذا السلوك البدائى صد عن سبيل الله آداب الملبس ولنترك الطعام إلى الملابس.قرأت للعالم الهندى السابق ذكره حديثا عن البهقى. " عليكم بالعمائم فإنها سيماء الملائكة وأرخوها خلف ظهوكم " وقرأت عدة أحاديث فى فضل العمائم رواها الترمذى وأبو داود، وهى جميعها لا قيمة لها. كما قال الشيخ محمد حامد الفقى: " ليس فى فضل العمامة حديث يصح ". والعمائم لباس عرفي، وليس شارة إسلامية، وكذلك العقال، والواقع أن البيئة الحارة تفرض تغطية الرأس والقفا، ويستحب فيها البياض والسعة. أما البيئات الباردة فطلب الدفء يدفع إلى تضييق الملابس واختيار الألوان الداكنة وقد جاء فى الحديث الصحيح: "كل ماشئت، والبس ماشئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة ". ونحن نلحظ أن الإسراف والخيلاء، من وراء عادات عربية وغربية كثيرة، وأصحاب الخلق والجد يترفعون عن المبالغة فى اختيار الأزياء، حتى لكأن قيمة الرجل من عظمة ثوبه..! والحضارة الحديثة لفساد تدينها وعرام شهواتها عقَّدت تقاليد اللباس والزينة، فجعلت للسهرات ملابس فاضحة، وجعلت للإقامة زيا وللسفر زيا وللأكل زيا وللرياضة زيا، وللربيع زيا وللصيف زيا... الخ. ص _106(1/85)
والمسلم يرتدى ما يشاء غير جانح إلى إسراف أو خيلاء.. وجمهور العلماء على تحريم الحرير والذهب للرجال وإباحتهما للنساء، كما أن الجمهور على أن للنساء ملابس، وللرجال ملابس. والأصل فى ملابس النساء أن تكون ساترة لأجسامهن ول احرج فى أن تكون جميلة غير مثيرة، والأصل فى ملابس الرجال أن تلائم أعمالهم، ولا حرج فى أن تكون جميلة. كما قال ابن عباس: " رأيت على رسول الله أحسن ما يكون من الحلل". ووددت لو كانت للرجال أزياء موحدة، وللنساء كذلك أزياء موحدة، فإن هذا التوحد يقطع! دابر التنافس الباهظ التكاليف، المفسد للأخلاق، الذى نراه فى ميادين كثيرة... هل للإسلام زى معين؟ كلا. وقد توهم بعض الشباب أن الجلباب هو زى الإسلام، وأن البدلة زى الكفار! وهذا خطأ! وإذا أردنا الحفاظ على " شخصيتنا" فإن ذلك يتم بصدق اليقين وشرف السيرة وسعة المعرفة ودماثة الخلق! إن الجلباب العربى فى عواصم عالمية أمسى شارة على الإسراف السفيه. والانطلاق المجنون وراء شهوات مطاعة وأهواء جامحة..!! أذلك ما يخدم الإسلام وينشر دعوته؟. آداب المساكن وننتقل إلى المساكن، وأسلوب المعيشة داخلها.. إن الله سبحانه امتن على الناس بأن جعل لهم بيوتا يأوون إليها ويستريحون فيها " والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكمْ.. " 106 ص _107(1/86)
وظاهر من السياق أن البيوت نعمة تستوجب الشكر، وأن بناءها عادة وعبادة معا، وهل يستغنى البشر عن البيوت؟. من أجل ذلك استغربت ما رواه الشيخان عن خباب بن الأرت وهو " إن أصحابنا الذين سلفوا ومضوا لم تنقصهم الدنيا، وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعا إلا التراب… ثم يقول: إن المسلم يؤجر فى كل شئ ينفقه إلا فى شئ يجعله فى هذا التراب "!!. وكلام خباب رضى الله عنه عليه مسحة تشاؤم غلبت عليه لمرضه الذى اكتوى منه، ولا يجوزأن نعد البناء رذيلة، فقد يكون فريضة . والأصل الذى نرجع إليه فى مسالكنا كلها: هو القصد الطيب المصاحب للعمل، أو النية الطيبة الباعثة على العمل، فإن كانت النية حسنة فالعمل صالح، وتتحول فيه العادات إلى عبادات. ويظهر أن كثيرا من الناس جعل من المبانى إعلانا عن العظمة، واستطالة على الآخرين. بدل أن يجعلها مواطن استجمام وتهيؤ للعمل فى أرجاء الحياة ويظهر ذلك فى قول الله لثمود: "واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين" ولو بنينا ناطحات سحاب وعمرنا غرفاتها بالتسبيح والتحميد لتقبل الله منا! أما بناء دار صغيرة، والتقلب داخلها بطرا كبرا فذاك مالا خير فيه، وهذا ما نفسر به حديث أنس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "النفقة كلها فى سبيل الله إلا البناء فلا خير فيه ".. والواقع أن هناك حضارات بادت ومدائن دمرت لأن مبانيها كانت ص _108(1/87)
ضجيجا لا تتبين فيه شكر لله ولا أثارة من تقوى!. وفى هذه الأمم الجاحدة يساق قوله تعالى : " أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون" . ثم قوله لمن جاء من بعدهم : "وسكنتم فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال" وقد قرأت جملة أحاديث تكاد تجعل البناء جريمة! وهى تفهم على وجهها الصحيح داخل النطاق الذى رعناه هنا! ولا ضرورة لذكرها.. سمعت نقدا لاذعا لما كتبته عن آداب المساكن يحملنى على إيراد الأحاديث التى دونها صاحب "تيسير الوصول إلى جامع الأصول " تحت عنوان كتاب البنيان.. لقد أصبحت هناك ضرورة لذكرها، فلأنقلها كاملة، ولأترك دلالتها تنضح على النفوس... تم أعلق عليها بعد ذلك. كتاب البنيان عن ابن عمر رضى الله عنهما. قال: لقد رأيتنى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بنيت بيتا بيدى يكننى من المطر ويظلنى من الشمس ما أعاننى عليه أحد من خلق الله تعالى. أخرجه البخارى. وفى رواية ما وضعت لبنة على لبنة منذ قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. وعن قيس بن أبى حازم رضى الله عنه. قال: أتينا خباب بن الارت رضى الله عنه نعوده- وقد اكتوى سبع كيات فى بطنه- فقال إن أصحابنا الذين سلفوا ومضوا ولم تنقصهم الدنيا وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعا إلا التراب، ص _109(1/88)
ولولا أن النبى- صلى الله عليه وسلم- نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به. ثم أتيناه مرة أخرى وهو يبنى حائطا له فقال إن المسلم يؤجر فى كل شئ ينفقه إلا فى شىء يجعله فى هذا التراب. أخرجه الشيخان. وعن أنس رضى الله عنه. قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: النفقة كلها فى سبيل الله إلا البناء فلا خير فيه. أخرجه الترمذى. وعنه- رضى الله عنه-. قال: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوما ونحن معه فرأى قبة مشرفة. فقال ما هذه؟ قيل لفلان- رجل من الأنصار- فسكت وحملها فى نفسه حتئ جاء صاحبها فسلم عليه فى الناس فأعرض عنه فصنع ذلك مرارا حتى عرف الرجل الغضب فيه والإعراض عنه فشكى ذلك إلى أصحابه فقال والله إنى لانكر نظر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما أدرى ما حدث فى. فقالوا خرج فرأى قبتك فقال لمن هذه فأخبرناه فرجع الرجل إلى القبة فهدمها حتى سواها بالأرض. فخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات يوم فلم يرها فقال ما فعلت القبة فحدثوه بما كان من صاحبها. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: أما إن كل بناء وبال على صاحبه إلا مالا إلا مالا. يعنى: ما لابد منه. أخرجه أبو داود. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضى الله عنهما-. قال: مربى! رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأنا أطين حائطا لى من خص. فقال ما هذا يا عبد الله؟ فقلت حائطا أصلحه. فقال الأمر أيسر من ذلك، وفى رواية ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك أخرجه أبو داود والترمذى وصححه. " الخص " القصب. وعن دكين بن سعيد المزنى- رضى الله عنه-. قال: أتينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سألناه الطعام فقال يا عمر اذهب فأعطهم فارتقى بنا إلى علية فأخرج المفتاح من حجرته، ففتح...- يعنى أنه كان هناك غرفة عليا..!- فلا حرج من بناء غرفة عليا. القارئ لجلة هذه الأحاديث لا يفكر فى بناء دارة أنيقة ولا قصر شاهق بل ص _110(1/89)
لعله يرى العيش فى مدفن أقرب إلى التقوى.. والصحيح أن هناك أحاديث ترتبط بمناسباتها وما تفهم إلا فى الجو الذى قيلت فيه. ونحن فى حياتنا المعتادة قد يفكر امرؤ فى الزواج ويؤخر البت لظروف عارضة، وقد ينوى بناء بيت ثم يؤخر البناء لفتن ناشبة!. ومنطق الاستقرار غير منطق القلق، ولقد كانت المدينة المنورة تعانى الكثير من أعباء الدعوة والجهاد والحصار والدفاع، وكانت جمهرة الصحابة تشترك فى السرايا والغزوات، فهى بين قتال أو استعداد له.. وقد نظرت إلى الترهيب من بناء القصور وزخرفتها من خلال هذه الملابسات، وإلا فالأصل إباحة الطيبات فى المأكل والمسكن والمنكح، ولو أخذنا الأمر على عمومه ما بنيت مدينة ولا قامت حضارة.. وأعرف من علماء السلف المعاصرين من بنى العمائر الشاهقة، وأجرها لساكنيها بما يشاء من مال، وله أن يفعل ذلك، ولكن ليس له أن ينهى الناس عن البناء والتأنق فيه..! إننى أنظر إلى حرمة استعمال الجرس فأرى أن هذه الحرمة بدأت لحماية شعيرة الأذان وبعدا عن معالم النصرانية، فإذا استقر الأذان وارتفعت مآذنه فلا حرج من سماع جرس عند مزالق السكك الحديدية، أو عند الاستئذان فى دخول بيت أو مع الساعة الموقظة من النوم أو فى جهاز الهاتف.. إلخ. والبيت المسلم له وظائف معروفة وآداب مقررة، ومن الخير ملاحظتها عند بنائه وإعداد مرافقه. ولم يكن العرب فى العهد الأول قد ورثوا هندسة معمارية تنسجم مع تعاليم الإسلام الجديدة، بل الذى كان يحدث أن البيوت غالبا تخلو من المراحيض وكان الكبار والصغار والرجال والنساء يخرجون إلى الصحراء لقضاء حاجاتهم..! ص _111(1/90)
على أن هذا الوضع المرهق قد اختفى مع استقرار المجتمع الإسلامى وانتشار صبغته على الحياة الداخلية والخارجية!. هناك آداب للمبيت تفرق بين الأولاد فى المضاجع وتجعل لكل منهم فراشا خاصا. وهناك آداب للاستئذان والتلاقى تصون الهيئات والمروءات.. وهناك مظاهر دقيقة ترسى قواعد النظافة الشخصية إلى. جانب الوضوء والغسل... ولا شك أن المسلمين أيام ازدهار حضارتهم كانوا أطهر أهل الأرض أبدانا وثيابا وأن استخدامهم للمياه فى الأغسال المتنوعة، جعل إنسانيتهم أرقى.. أمما غيرهم من الأوربيين. فكانوا دونهم مكانة وكرامة.. وقد حرص البشر فى هذا العصر على استكمال أسباب النظافة، ونحن لا نوازن بين عادات وعادات. وإنما نتعرف على مطالب ديننا، وننشئ العادات التى تنسجم معها. وقد قرأت أن الحمام الغربى سيئ لأنه يجعل المرحاض فى المكان الذى يتم فيه الاغتسال، ولأنه يجبر الشخص على التبول قائما وهذا ما يحرمه الإسلام. والإسلام لا يحرم التبول قائما، ولا مانع لديه من التنظف أولا بالورق، ثم يزداد التطهر بالماء. وهذا يغنى يقينا عما كان مألوفا من التطهر بالحجارة ثم بالماء أو الاكتفاء بالماء وحده.. الإسلام دين الفطرة السليمة، كل ما يسمو بالجسد ويوفر له السناء والجمال مطلوب ونحن نفرض تعاليم ديننا على الناس كلهم عندما ننشىء باسمه حضارة للإنسان ص _112
الذى يحترم المبنى والمعنى أو الشكل والموضوع لقوله تعالى: " مَنْ عَمِلَ صَالحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" ص _113
المس الشيطانى حقيقته وعلاجه ص _114(1/91)
طرق بابى رجل يقول: إنه بحاجة إلى عونى، فقمت لاستقباله وأنا متعب، ودهشت لمرآه، فقد كان عملاقا بادى الصحة، ولم تكن عليه سيماء الفقر.. وبدأنى بالحديث من غير مقدمات! قال: إنه مسكون..!! واستعدت ما قال، فكرر شكواه مؤكدا أنه مسكون! قلت: من سكنك؟ قال: جنى عات غلبنى على أمرى..!! فقلت وأنا أضحك: لماذا لم تسكنه أنت؟ إنك رجل طويل عريض؟ فسكت حائرا.. وأخذت أتأمل فى ملامحه وحالته العامة ثم قلت له: ما أظنك مريضا بالصرع أتعتريك نوبات ما؟ فلم يزد على القول بأنه مسكون.. إن عددا كبيرا من النساء. وعددا قليلا من الرجال يجيئنى بمثل هذه الشكاة، كنت أبذل شيئا من الجهد فى تثبيت القلق، وتسكين الحائر، وإعادة الاستقرار النفسى والفكرى إلى هذا وذاك.. وشعرت بأن الأزمات الروحية والاضطرابات العصبية من وراء الإدعاء بأن الجن تحتل هذا الجسد. أو تحتك بهذا البائس. وربما استعنت ببعض الرقى والتلاوات والنصائح لجعل أولئك المرضى أحسن حالا، وإن تبديد أوهامهم شىء يطول.. وتحدث معى بعض أهل العلم الدينى، وكأنهم رأوا إنكارى على أولئك ص _115(1/92)
المرضى، وقالوا لى: لماذا ترفض فكرة احتلال الشياطين لأجسامهم؟. كان جوابى محددا: لقد شرح القرآن الكريم عداوة إبليس وذريته لآدم وبنيه، وبين أن هذه العداوة لاتعدو الوساوس والخداع " واستفزز من استطعت منهم بصوتك و أجلب عليهم بخيلك و رجلك و شاركهم في الأموال و الأولاد و عدهم و ما يعدهم الشيطان إلا غرورا" . وليس يملك الشيطان فى هذا الهجوم شيئا قاهرا إنه يملك استغفال المغفلين فحسب: " وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم... " وقد تكرر هذا المعنى فى موضع آخر : " ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين * وما كان له عليهم من سلطان ". إن الشيطان لا يقيم عائقا ماديا أمام ذاهب إلى المسجد! ولا يدفع سكرانا فى قفاه ليكرع الإثم من إحدى الحانات! إنه يملك الاحتيال والخادعة، ولا يقدر على أكثر من ذلك... قال لى أحدهم: هذا صحيح. لكن ما أوردته لا ينفى أن بعض المردة قد يساور بشرا مسلم وينال منه..! قلت: وأنا ضجر: هل العفاريت متخصصة فى ركوب المسلمين وحدهم؟ لماذا لم يشك ألمانى أو يابانى من احتلال الجن لأجسامهم ؟. إن سمعة الدين ساءت من شيوع هذه الأوهام بين المتدينين وحدهم! إنكما تعلمون أن العلم المادى اتسعت دائرته ورست دعائمه، فإذا كان مما وراء المادة سوف يدور فى هذا النطاق فمستقبل الإيمان كله فى خطر. فلنبحث علل ص _116(1/93)
أولئك الشاكين بروية، ولنرح أعصابهم المنهكة، ولامعنى لاتهام الجن بما لم يفعلوا..!! وجاء فى صديق يقول لى: أرى أن تسمع كلام أهل العلم فى هذه القضية! قلت: مرحبا بكلام أهل العلم، هات ما عندك... قال: إن مس الشيطان للإنسان ثابت بالكتاب والسنة، فأما الكتاب فقوله تعالى : " الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ… " . وأما السنة فقوله- صلى الله عليه وسلم-: "إن الشيطان يجرى من الإنسان مجرى الدم " وقوله: " فناء أمتى بالطعن والطاعون وخز أعدائكم من الجن. وفى كل شهادة" وقوله: "ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه عليهما السلام ".. قال الشيخ منصور ناصف رحمه الله : إن الواقع من هذا كثير ومشاهد حتى إن عبد الله بن الإمام أحمد سأل والده- كما فى آكام المرجان- فقال: يا والدى إن قوما يقولون: إن الجنى لا يدخل بدن المصروع من الإنس، فقال: يكذبون، هو ذا يتكلم على لسانه! ثم قال الشيخ منصور: من هذا وضح الحق واستبان فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر!، قلت: إقحام الإيمان والكفر هنا لا معنى له، ولعله من غلو بعض المتدينين فى إثبات قضايا هامشية.. وأهل الفقه منزهون عن هذا المسلك. إن عالم الفلك لا يعنيه أن تصب مجارى الإسكندرية فى الصحراء أو البحر المتوسط، ولا يعنيه أن تمر السفن التجارية من قناة السويس أو تدور حول رأس الرجاء... ص _117(1/94)
الذى يعنينى هو عقائد الإسلام وحاضر الوحى الآلهى ومستقبله!. وعندما تناقلت الصحف أن الشيخ عبد العزيز بن باز أخرج شيطانا بوذيا من أحد الأعراب، وأن هذا الشيطان أسلم، كنت أرقب وجوه القراء، وأشعر فى نفوسهم بمدى المسافة بين العلم والدين... إن قدر القرآن الكريم أعظم كثيرا من هذه القضايا.. ونعود إلى ما ذكره صديقنا من أدلة على أن الشيطان يسكن جسم الإنسان ويؤثر فيه بما يشاء. أما الآية الكريمة: "... لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ " فجمهور المفسرين على أن ذلك يوم الجزاء، وسبب هذا التفسير أن أحدا لم ير أكلة الربا مصروعين فى الشوارع توشك أن تدوسهم الأقدام! ومن ثم جعلوا ذلك عندما يلقون الله فيحاسبهم على جشعهم وظلمهم. ونقل الشيخ رشيد عن البيضاوى فى هذا التشبيه أنه وارد على ما يزعمون من أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع، والخبط ضربٌ على غير اتساق كخبط العشواء.. ثم قال صاحب المنار: "فالآية على هذا لا تثبت أن الصرع المعروف يحصل بفعل الشيطان حقيقة ولا تنفى ذلك وفى المسألة خلاف بين المعتزلة وبعض أهل السنة أن يكون للشيطان فى الإنسان غير ما يعبر عنه بالوسوسة. وقال بعضهم: إن سبب الصرع مس الشيطان كما هو ظاهر التشبيه وإن لم يكن نصا فيه. وقد ثبت عند أطباء هذا العصر أن الصرع من الأمراض العصبية التى تعالج كأمثالها بالعقاقير وغيرها من طرق العلاج الحديثة. وقد يعالج بعضها بالأوهام 00 الخ. أما حديث أن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم فإن القصة التى ورد ص _118(1/95)
فيها تشرح المراد منه! قالت صفية ـ زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ كان رسول الله معتكفا. فأتيته أزوره ليلا. فحدثته، ثم قمت إلى بيتى. فقام النبى- صلى الله عليه وسلم ـ يمشى معى مودعا ـ وكان مسكنها فى دار أسامة ابن زيد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبى- صلى الله عليه وسلم- أسرعا! فقال! لهما: على رسلكما- أى تمهلا- إنها صفية بنت حيى! قالا: سبحان الله يا رسول الله! قال: "إن الشيطان يجرى من الإنسان مجرى الدم، فخشيت أن يقذف فى قلوبكما شيئا أو قال شرا.. " وظاهر من الحديث أن الرسول يريد منع الوسوسة التى قد يلقيها الشيطان عندما يرى مثل هذا المنظر، ومع أن الصاحبين أنكرا واستعظما أن يجرى فى نفسهما شىء من ظنون السوء بالنسبة للمعصوم عليه الصلاة والسلام، فإن النبى أراد منع هذه الوسوسة. ولا صلة للحديث باحتلال الشيطان لجسم الإنسان.. وأما الحديث الآخر وهو أن الطاعون وخز الجن وهما أعداء البشر فيكفينا فى شرحه صاحب المنار عندما قال: يرى المتكلمون أن الجن أجسام حية خفيفة لا ترى، وقد قلنا غير مرة: إن الأجسام الحية الخفية التى عرفت فى هذا العصر بواسطة النظارات المكبرة وتسمى "بالميكروبات " يصح أن تكون نوعا من الجن وقد ثبت أنها علل لأكثر الأمراض، قلنا ذلك فى تأويل ما ورد من أن الطاعون من وخز الجن.. على أننا نحن المسلمين لسنا فى حاجة إلى النزاع في أثبته العلم وقرره الأطباء أو إضافة شىء إليه مما لا دليل فى العلم عليه لأجل تصحيح بعض الروايات الآحادية. ونحمد الله على أن القرآن أرفع من أن يعارضه العلم.. " ونجيء إلى حديث نخس الشيطان للإنسان كما يذكر الرواة.! ونقول: خيل إلى أن الشيطان قابع تحت الرحم يستقبل الوليد القادم وهو شديد ص _119(1/96)
الحقد، يقول له: إن قصتى مع أبيك الأول لم تنته بعد. وسأحاول إرهاقك كما أرهقته. ثم ينخسه نخسة يصرخ الوليد الساذج منها. ثم يستقبل بعد ذلك حياته خارج الرحم وقد اقترب الشعراء من هذا المعنى عندما قال قائلهم: لما تؤذن الدنيا به من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولد! وقد كانت أم مريم بادية القلق عليها عندما استجارت بالله أن يصونها ويصون ذريتها " وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ " ومريم وابنها على أية حال من عباد الله الصالحين، وليس للشيطان سلطان على أولئك العباد..! وننظر إلى الموضوع من خلال أقوال العلماء المحققين، قال صاحب المنار: " فى حديث أبى هريرة عند الشيخين وغيرهما واللفظ هنا لمسلم "كل بنى آدم مسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها " فسر البيضاوى المس هنا بالطمع فى الإغواء! وقال الأستاذ الإمام: إذا صح الحديث فهو من قبيل التمثيل لا من باب الحقيقة ولعل البيضاوى يرمى إلى ذلك..! قال الشيخ رشيد: والحديث صحيح الإسناد بغير خلاف، ويشهد له من وجه حديث شق الصدر وغسل القلب، بعد استخراج حظ الشيطان منه، وهو أظهر فى التمثيل، ولعل معناه أنه لم يبق للشيطان نصيب، فى قلبه ولا بالوسوسة كما يدل على ذلك قوله فى شيطانه " إلا أن الله أعاننى عليه فأسلم " وفى رواية مسلم " فلا يأمر إلا بخير". ثم قال صاحب المنار رضى الله عنه: المحقق عندنا أن ليس للشيطان سلطان على عباد الله المخلصين وخيرهم الأنبياء، والمرسلون! وأما ما ورد فى ص _120(1/97)
حديث مريم وعيسى من أن الشيطان لم يمسهما وحديث إسلام شيطان النبى- صلى الله عليه وسلم وحديث إزالة حظ الشيطان من قلبه فهو من الأخبار الظنية، لأنه من رواية الآحاد، ولما كان موضوعها عالم الغيب، والإيمان بالغيب من قسم العقائد، هى لا يؤخذ فيها بالظن لقوله تعالى: " وَإِنَّ الظَنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا " كنا غير مكلفين أن نؤمن بمضمون هذه الأحاديث فى عقائدنا. وقال بعضهم: أيؤخذ فيها بأحاديث الآحاد لمن صحت عنده! ومذهب السلف فى هذه الأحاديث تفويض العلم بكيفيتها إلى الله تعالى... الخ ". ومع أن مذهب السلف أحب إلى إلا أن مدافعة أعداء الإسلام تقتضى مزيدا من الحذر واليقظة، ولست أحب أن أفتح أبواب الشعوذة والسحر والدجل باسم أن الشيطان احتل بدن إنسان.. وقد قبضت الشرطة من أيام على رجل ظل يهوى على أحد المرضى بعصاه حتى أخمد أنفاسه، وكان الأحمق يظن أنه يضرب الشيطان ليخرج، وكان يقول له: اخرج عدو الله! وانتهت المأساة بقتل المريض البائس. وما يرويه صاحب " آكام المرجان فى أحكام الجان " أكثره خرافات وخيالات، وإن ذكره ابن حنبل وابن تيمية وغيرهما . نحن نعلم أن الأرض التى نسكنها هباءة صغيرة فى كون ضخم فخم يضج بالحياة والأحياء! نعم قد تكون أرضنا حبة رمل على شاطئ الوجود الرحب الذى تختفى أبعاده عن وهمنا!!. ونحن نشعر بسعة الملكوت عندما نتابع مباحث الفلكيين، وقطرات من المعارف التى ترشح عليهم من إدمان النظر فى الفضاء.. ص _121(1/98)
ونستطيع الحكم بأنه من الحماقة الظن بأننا وحدنا الأحياء فى هذا الوجود الكبير !! إن الذى يبنى ناطحة سحاب لا يدع الريح تصفر فى جنباتها مكتفيا بإسكان غرفة فى سرداب منها.. إن العالم مشحون بالأحياء التى خلقها الله لتدل عليه وتشهد بمجده، ومن غرور البشر أن يحسبوا أنفسهم الحياة كلها. ومع النظر فى القرآن الكريم ندرك تلك الحقيقة، يقول الله تعالى "وَ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ و َالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ " ويقول " ومِن آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ ومَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذا يَشَاءُ قَدِيرٌ". والآيات كثيرة، ومنها نعلم أن أبناء آدم نوع من المخلوقات، وليسوا المخلوقات كلها... هناك الملائكة، ولا نتحدث الآن عن وظائفهم! وقد تكون هناك كائنات أخرى لا ندرى شيئا عن سيرتها أو مصيرها، وهناك عالم الجن الذى نومىء هنا بعض سماته. إن القرآن الكريم حدثنا عن الشيطان الأكبر إبليس عدو آدم وبنيه! وحدثنا عن الجن مبينا أنهم يأكلون وينسلون ويكلفون وأن فيهم المؤمن والكافر والتقى والفاجر. وقد علمنا أن الجن لهم حياتهم الخاصة بهم، وأنهم أشد "منا قوة، وأنهم يروننا ولا نراهم! ومع ذلك فإن رجالا من البشر أمكنهم الله من تسخير الجن كسليمان الذى جاء فى " وَمِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات …إلخ. وفى هذا السياق كشف القرآن الكريم عن أن الجن لا يعلمون الغيب، وأن هوايتهم فى إغواء أبناء آدم لا تتعدى المكر السيئ واستدراج المغفلين، ولذلك قال فى وصف العصاة من البشر" ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا ص _122(1/99)
من المؤمنين، وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن با الآخرة ممن هو فى شك.. ". تدبر هذه الجملة " ما كان له عليهم من سلطان " لتعلم حدود مقدرته على الإيذاء!. هل الجراثيم الخفية من عالم الجن؟ لا يستبعد صاحب المنار هذا! مستشهدا بالحديث فى سبب الطاعون، وقد يكون رأيه صحيحا! وقد يكون الجن الواعون الخبثاء أصحاب بصر بعالم الجراثيم وأصحاب قدرة فى إصابة البشر بهذه الجراثيم وما تحمل من علل . ولعل مطالبة المؤمن بالتعوذ من فى أوقات وأماكن معينة ما يشهد لذلك، فالمسلم مكلف عند الذهاب إلى الخلاء أن يقول: " أعوذ بك من الخبث والخبائث "! وعندما يتصل بزوجته أن يقول: " اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ". ولا أحب أن أمضى فى طريق غامضة المعالم! ولا أن أشغل المسلمين بأمور توافه، وبيضتهم مستباحة وحدودهم مجتاحة!!. إن هناك قسسا فى الأديرة يزعمون أنهم يسخرون الجن، وهناك رجال منا يرددون الدعوى نفسها.. والفرصة أمام الخرافيين موجودة ليبيضوا ويفرخوا!! ولا يجوز أن ننسى قول الله لكل مسلم " ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا". إن المسلم الحق يخاصم الأوهام ويصادق اليقين ولا تستفزه ترهات المرضى.. قرأت هذا الحديث ثم استغرقنى الفكر عن عطاء بن أبي رباح، قال لى أبن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبى- صلى الله عليه وسلم-، فقالت إنى أصرع وأتكشف فادع الله لى! ص _123(1/100)
قال: إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله أن يعافيك قالت: أصبر، فادع الله لى ألا أتكشف، فدعا لها.. هذه امرأة مصابة بالصرع آثرت أن تموت به ضامنة الجنة كما بشرها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. وكل ما أحبته ألا يتكشف بدنها فى أثناء الغيبوبة التى تنتابها، وقد تكفل لها النبى بذلك.. قلت: لو كان مرضها من شيطان يركبها أكان النبى الكريم يتركها صريعة هذا اللعين؟ ما أظن..! ماذا يقع لو كان المرأة من أهل هذا العصر؟ ربما عولجت بالصدمات الكهربية لتشفى! ربما قال بعض الناس: يسكنها شيطان، وظلوا يضربونها- حتى يخرج الشيطان المزعوم منها، وربما خرجت روحها مع الضرب المبرح... ليس لدى مانع من مناقشة الموضوع كله بفكر معتدل مفتوح! أما الذى أرفضه بقوة فهو إقحام الإيمان والكفر فى الموضوع كأن الدين سلوك ماجنين، أو نزوع مجانين!!. الخطأ والصواب هنا فى تشخيص مرض، وقد أستبعد ما يصدقه الآخرون دون حرج وأنا أريد حماية أمتنا من الشعوذة، والتمائم، وحروف الجمل، وأرقام الحروف وحساب الطوالع، وصداقة الأشباح وتسخير الجان.. إلخ. المرض الحقيقى عند قوم يتهمونك بأنك تنكر الجن وعالم الغيب، لأنك ترفض أوهامهم، أولئك بلاء على الإسلام. والناس فى عصرنا يعانون من الوحشة والإرهاق، وقد لقينى فتيان وفتيات يشكون من مسن الشيطان وكد الأعصاب، وهم بحاجة إلى مربين رحماء. وفى أقطار أوربا وأمريكا يقوم الأطباء النفسيون بدور كبير فى علاج هذه المآسى بيد أن أغلب هؤلاء الأطباء من مدرسة "فرويد" وهو رجل معتل ص _124(1/101)
الفكر طافح الشهوة، ووصايا هذه المدرسة تدور على محاربة الكبت، وإرخاء العنان للنفس!. والكبت الدائم قد يكون سبب بلاء، ولكن الكبت الموقوت دعامة التربية والترقى.. والتفرقة بين الأمرين لا يعرفها عديمو الإيمان تاركو الصلوات، أحلاس الشهوات. وهناك شىء كان أولى بالمتدينين أن يعرفوه ويعرفوا الناس به، ذاك أن شياطين الإنس والجن تنتشر فى كل مكان، وتحاول الإيقاع بكل إنسان، والاستعاذة منها واجبة ونافعة!. وقد أمر الله بها نبيه (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين * وأعوذ بك رب أن يحضرون). وكان رسول الله يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه، ونفخه ونفثه " . ومن أدعيته: اللهم إنى أعوذ بك من الهرم، وأعوذ بك من الهدم ومن الغرق، وأعوذ بك أن يتخبطنى الشيطان عند الموت " هذا المسلك أفضل من إشاعة سكنى الشيطان لبدن الإنسان والاحتيال على طرده بشتى الأوهام. ص _125
فقه الكتاب أولا حاديث حرفت عن مواضعها أو جهل معناها- القتال فى الإسلام- الأمة ليست على مستوى الدعوة الناجحة- أحاديث الزهد...- جهالة بعض المتحدثين فى السنة هذه الأيام.،. ص _126(1/102)
تلاوة قليلة للقرآن الكريم، وقراءة كثيرة للأحاديث، لا تعطيان صورة دقيقة للإسلام بل يمكن القول بأن ذلك يشبه سؤ التغذية. إذ لابد من توازن العناصر التى تكون الجسم والعقل على سواء.. ولنضرب أمثلة متدرجة من الخفيف إلى الدقيق: يرى الصنعانى أن النذر حرام معتمدا على حديث ابن عمر عن النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه نهى عن النذر! وقال: " إنه لا يأتى بخير، وإنما يستخرج به من مال البخيل .. والنذر الذى لا يأتى بخير هو النذر المشروط الذى يشبه المعاوضات التجارية، يقول الإنسان : لله على كذا إن شفيت من مرضى أو إن نجح ابنى. الخ. أما النذور الأخرى فى طاعة الله فلا حرج فيها، مادامت من الناحية الفقهية صحيحة.. والسؤال: كيف يحكم بأصل الحرمة فى النذور كلها مع قوله تعالى فى وصف الأبرار (يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا) وقوله فى موضع آخر (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق). وقد رأيت الجهل بالقرآن الكريم يبلغ حدا منكورا عند شرح حديث مسلم ص _127(1/103)
"كل ذى ناب من السباع فأكله حرام " فإن شارح الحديث زعم أن الحديث قيل فى المدينة المنورة، وأنه نسخ ما نزل بمكة من قوله تعالى: " قُل لاَّ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَّطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَّكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ...". والزعم بأن حديث آحاد ينسخ آية من القرآن الكريم زعم فى غاية الغثاثة! ثم إن الآية التى قيل بنسخها تكرر معناها فى القرآن أربع مرات، مرتين فى سورتى الأنعام والنحل المكيتين، ومرتين فى سورتى البقرة والمائدة المدنيتين!!، بل ما جاء فى سورة المائدة هو من آخر ما نزل من الوحى!!. فكيف يفكر عاقل فى وقوع النسخ ؟ ثم إن عددا من الصحابة بينهم ابن عباس، وعددا من التابعين فيهم الشعبى وسعيد بن جبير، رفضوا حديث مسلم.! فكيف نترك آية لحديث موضع لغط؟. ولندع ما ذكرنا إلى حديث يدخل فى دائرة القانون الدولى بلغة العصر. عن عبد الله بن عون كتبت إلى نافع رحمه الله أسأله عن الدعاء قبل القتال ـ ويقصد بالدعاء دعوة الناس إلى الدخول فى الإسلام قبل المعركة ـ قال عبد الله فكتب إلى " إنما كان ذلك فى أول الإسلام وقد أغار النبى- صلى الله عليه وسلم- على بنى المصطلق وهم غارون.. ". ونافع- غفر الله له- مخطىء! فدعوة الناس إلى الإسلام قائمة ابتداء وتكرارا ،وبنو المصطلق لم يقع قتالهم إلا بعد أن بلغتهم الدعوة، فرفضوها وقرروا الحرب إ. ورواية نافع هذه ليست أول خطأ يتورط فيه0 فقد حد ث بأسوأ من ذلك . ص _128(1/104)
قال: كنت أمسك على ابن عمر المصحف فقرأ قوله تعالى (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) فقال: تدرى فيم نزلت هذه الآية ؟ قلت: لا.. قال: نزلت و رجل أتى امرأته فى دبرها، فشق ذلك عليه! فنزلت هذه الآية !!. قال عبد الله بن الحسن: إنه لقى سالم بن عبد الله بن عمر، فقال له : يا عم، ما حديث يحدثه نافع عن عبد الله أنه لم يكن يرى بأسا بإتيان النساء فى أدبارهن! فقال-: كذب العبد وأخطأ، إنما قال عبد الله: يؤتون فى فروجهن من أدبارهن.. ونعود إلى رواية نافع وهى عدم الدعوة قبل القتال ونقول: إنه مع اهتزازها فإن أهل الحديث- لقلة فقههم- روجوا لها حتى جعل الصنعانى عنوان الموضوع " الغارة بلا إنذار "! . غارة بلا إنذار؟ أين هذا المسلك من قوله تعالى (و إما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين) وقوله (فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون). والغريب أن الشيخ ناصر الألبانى- وهو من أ علم رجال الحديث فى عصرنا- عتب على أننى تركت رواية نافع، وآثرت عليها روايات أخرى وأنا أصور طبيعة القتال فى الإسلام!! فى كتابى " جهاد الدعوة بين عجز الداخل وكيد الخارج" أحصيت أكثر من مائة آية تتضمن حرية التدين، وتقيم صروح الإيمان على الاقتناع الذاتى، وتقصى الإكراه عن طريق البلاغ المبين. ص _129(1/105)
وليس فى تاريخ الثقافة الإنسانية كتاب ينشئ العقل المؤمن إنشاء، ويعرض آيات الله فى الأنفس والآفاق لتكون ينابيع فكر يتعرف على الله، ويستريح إلى عظمته كما وقع فى هذا القرآن .. ومع ذلك، فنحن المسلمين يوجد بيننا من ينسى هذا كله ليقف عند راو تائه يزعم أن الدعوة إلى الإسلام كانت فى صدر الإسلام ثم ألغيت! ومن ألغاها ؟. إنه لأمر ما يجئ بختام خاص لسورة براءة التى نزلت فى السنة التاسعة، يقول عن الكافرين (فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم). إكراه؟ إن الإيمان أساس، والجهاد حارس، وستبقى الحراسة فريضة قائمة ما بقى فى الدنيا من يهدد الأمان، ويستنكر الإيمان؟. ومعنى هذا أن الجهاد وسيلة وليس غاية ويوم تسود الحريات. أرجاء الحياة، وتنمو أعواد التوحيد فلا يرى من يكسرها أو يحرقها، فلا قتل ولا قتال نعم! لا قتال حيث تستخفى الفتن وتشيع العدالة. ذلك هو ديننا كما تشرحه آيات الكتاب العزيز، ويظهر فى السيرة النبوية المباركة.. وفى أربعة مواضع متشابهة من القرآن الكريم كانت وظيفة الرسالة الخاتمة: ا- تلاوة الوحى، أو قراءة المنهاج الذى يسير عليه المسلمون أو تحديد النطاق الذى يعملون داخله. 2- تربية الأمة بتنمية ملكاتها الطيبة و كبح غرائزها الجامحة. ص _130(1/106)
3- تقرير الأحكام التفصيلية التى جاء بها الكتاب نظاما للفرد والمجتمع والدولة، وهى أحكام مقرونة بالحكمة والسداد. هذه الأثلاث الثلاثة هى عناصر الرسالة التى نهض بها كبير الأنبياء، وأحيا بها مواريث من سبقوه وأغنى بها العالم عن الفلسفات الأرضية والأهواء البشرية!!. وقد ذكرت ثلاثتها عند البشارة بالبعثة الأخيرة لما دعا إبراهيم وإسماعيل ربهما بإرسال محمد. وذكرت كلها مرة ثانية عند جعل المسجد الحرام قبلة الناس فى المشارق والمغارب، فكان اتجاه البشر إلى الكعبة نعمة أخرى على العرب بعد ابتعاث النبى منهم، فكان تشريفا لأرضهم بعد تشريف نجسهم. وذكرت مرة ثالثة بعد هزيمة أحد وانكسار قلوب المؤمنين وحاجتهما إلى ما يجبرها ويعيد الثقة إليها وذلك فى سورة آل عمران. التى واست المهزومين وذكرتهم برسالتهم.. وذكرت مرة رابعة عند كشف السر فى إقصاء اليهود عن ميدان التربية ص _131(1/107)
الدينية، وإبعادهم عن رسالات الله، وإحلال العرب محلهم، بعد فشل بنى إسرائيل فى هذه الساحة. تلك هى رسالتنا تحت عناوينها الرئيسة! وما من شك فى أن الجهاد حق لتأمين الدعوة وهزيمة الفتانين!. فأما تصوير الإسلام بأنه يتحرش بالآخرين ويتعطش لدمائهم فهو افتراء على الله والمرسلين، ومع أننا أشبعنا هذا الموضوع بحثا فى كتبنا الأخرى فإن الحاجة إلى الكلام فيه لا تزال ماسة. ذلك أن حديث الإفك لا ينقطع!!. وفى هذه الأيام النحسات شاعت الخلافات فى أرجاء الأمة وقتل بعضها بعضا، بل إن حصيلة القتلى فى الفتن الداخلية أربى من القتلى فى محاربة الاستعمار الصليبى العائد المتحالف مع اليهود والناقمين.. والحكومات الإسلامية على الإجمال دون مثيلاتها من حكومات العالم عدالة ونزاهة. والجماهير أقل ثقافة وإنتاجا واقتدارا على الحياة وتكاليفها. والتقاليد السائدة تبتعد عن الإسلام الحنيف روحا ونصا. فأمتنا من أفقر أمم الأرض إلى التعليم والتربية ومعرفة الذات. وفى هذه الآونة استخرج البعض حديث "بعثت بالسيف بين يدى الساعة، وجعل رزقى تحت ظل رمحى، وجعل الذل والصغار على من خالف أمرى.. ". قلت: ليت لكم سيفا يحمى الحق، ويرد عنه العوادى! فإن الحق يغرق وليس له صريخ!. ص _132(1/108)
ليت لكم رمحا ترتزقون فى ظله، إنكم تتسولون أرزاقكم من غراس عدوكم، وهو الذى يصنع السلاح الذى تشترونه بالغالى والرخيص لأغراض يعلمها الله!.. مالكم ولهذا الحديث؟ قال لى غلام متعالم: إنه يرد كل ما تقول..! قلت: سأتجاوز عن ضعف هذا الحديث من ناحية سنده، ولن أطعن فى صحته- مع أن الطعن وارد- ولكنى أسأل: لماذا لا تتعلمون الدين وتحسنون فقهه والعمل به، ثم تحسنون الدعوة إليه؟ عندما يراكم العالم أدق مستوى منه فلن يسمع منكم ولن يرتضيكم قادة له، لا يجوز أن يكون الإمام أجهل من المأموم..! ما وظيفة السيف فى أيديكم وأنتم متظالمون؟ جائرون عن سبيل الرشاد؟. وتذكرت أن " لينين " الحاكم الأول للشيوعية، وناقلها من الميدان النظرى إلى ميادين السياسة، ألف كراسة عن اليسار الطفولى أو الطفولة اليسارية، نعى فيها على جيل من الناس يرفع شعار الشيوعية ولا يحسن خدمتها!!. قال: " هذه طفولة، والطفولة تتميز بالقصور والعناد" وقد طردها من ميدان العمل حتى تستطيع الشيوعية الانطلاق دون عائق.. وليت القياد بقى فى يد الأطفال! إذن لاختفت الشيوعية من زمان طويل بفضل الأصدقاء الجهلة . واليوم توجد طفولة إسلامية تريد الانفراد بزمام الأمة، وعندما يسمع أولو الألباب حديثها يطرقون محزونين !!. والمخيف أنها طفولة عقلية تجمع فى غمارها أرباب لحى، وأصحاب هامات ص _133(1/109)
وقامات!! يقعون على أحاديث لا يفهمونها ثم يقدمون صورة للإسلام تثير الانقباض والخوف..! إن نبينا - عليه الصلاة والسلام - تكلم كثيرا وكلامه موضع الإعزاز والطاعة، (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله). وكان يمكن أن تعرف مرامى الكلام وحقائقه لو ضبطت الملابسات التى قيل فيها.. وأيا ما كان الأمر فإن إطار القرآن الكريم ضابط دقيق إذا عزت معرفة الملابسات. ونحن نلحظ أن القرآن أطال الحوار مع مخالفيه ، وافتن قبل أى شئ فى بسط براهينه على صدق عقائده. وشرف عباداته. وجدوى ما يدعو إليه من عمل صالح وغايات كريمة ". وفى طوال السور وعرضها مناشدة حارة للإنسان أن يرعوى ويثوب إلى رشده ويتوب إلى ربه. ولم تبدأ سياسة العصا الغليظة إلا بعد أن أوجعت عصى الأعداء جلود المؤمنين، كسرت عظامهم. هنا نزل قوله تعالى (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا و إن الله على نصرهم لقدير). وأنبياء الله على اختلاف الليل والنهار- خاضوا أشرف قتال يمكن أن يقع على ظهر الأرض! والقول بأن فرعون كان أولى بالحق من موسى؟ أو أن اليهود كانوا أولى بالنصر من عيسى، أو أن خصوم محمد كانوا أولى بالبقاء منه قول عاهر منكور ، لا يصدر من صاحب دين أو خلق. المهم أن المنتمين إلى الله يحسنون أولا الدعوة ويوفرون فرص السلام ص _134(1/110)
والمصالحة، ويقدرون أخطاء الطباع البشرية فإذا ألجئوا بعدئذ للقتال كانوا رجالا، وكانوا كراما.. وهذا ما فعله محمد- عليه الصلاة والسلام- وعرف فى سيرته بوضوح، وقد لخصه شوقى في كلمات موجزة: الحرب فى حق لديك شريعة! ومن السموم الناقعات دواء! فإذا جاء مسلم قصير الرؤية، وكان أول ما يذكره فى معاملة أعداء الإسلام الحديث المعروف " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله.. " كان إنسانا ممن يحرفون الكلم عن مواضعه، ويتعاملون بغباء شديد مع تراث النبوة.. وقد شرحنا فى كتاب آخر أن الحديث قيل مع نزول سورة براءة، قبل وفاة الرسول بنحو عام وبعد جهاد رهيب مع وثنيات أعطاها الإسلام حق الحياة ولم تعطه إلا الموت!، وعاش معها دهرا على مبدأ " لكم دينكم ولى دين " فلم ير منها إلا الغدر- والاغتيال!. وكان آخر ما صنعت لتعيد الليل إلى جزيرة العرب أن كذابا اسمه "مسيلمة " قام بحركة ردة مزعجة لم يطفئها حفاظ القرآن إلا بدمائهم، فتفانوا فئ إطفائها حتى كادوا يبيدون وحتى خيف من انقراض الحفظة بعد العدد الكبير الذى استشهد منهم !! وصدر سورة براءة يعطى صورة كاملة لهذه الوثنية الخائنة الجريئة، وفى هذا الجو قيل هذا الحديث " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله... " فلا يجوز لجاهل أن يعدو به مكانه . هل قيل يوم صعد الرسول الصفا غداة أرسل وشرع يذكر الجاهليين بالبعث ويدعوهم إلى التوحيد؟. ص _135(1/111)
هل قيل يوم عاد كسير القلب من الطائف، ودخل مكة فى جوار مشرك؟. هل قيل يوم اختفى فى الغار ليضلل مطارديه ويطلب الحياة لنشر الدعوة فى أرجاء الجزيرة؟. هل قيل يوم أعطى الناس فى المدينة المنورة حق اللحاق بمشركى مكة وترك الدين إذ استبهظوا تكاليفه؟. والحمد لله لم يرتد أحد، ولم يلحق بالمشركين رجل ولا امرأة! بل الذى حدث هو العكس.. هل قيل فى عمرة القضاء، قبل فتح مكة بعام، وهو يطوف بالكعبة وحولها مئات الأصنام فلم يكسر منها صنما! ولم ينقض للمشركين عهدا؟. إن أهل الفقه هم الذين يتحدثون عن الإسلام، ويشرحون المرويات التى حفلت بها الكتب ووقع عليها الدهماء كما يقع الذباب على العسل. وقد كان أهل الفقه قديما هم المتحدثين عن الإسلام، وأعرف الناس بتراث النبوة.. وأنا وغيرى من المشتغلين بالدعوة الإسلامية ننظر باهتمام بالغ إلى أحوال الناس وراء دار الإسلام، ننظر إلى التيارات الفكرية التى تسودهم والمذاهب الخلقية والدينية التى تؤثر فيهم وأنصبة الحضارة التى حصلوا عليها، ومقادير الإنتاج التى يصدرونها للعالم.. الخ. وكيف نحسن الدعوة إذا لم نعرف ذلك كله؟ وقد قرأت كلمة للأستاذ أحمد بهاء الدين يشرح فيها شيئا من ذلك، رأيت أن أسجلها هنا. قال: " بعض القراء يرانى معجبا بالمجتمعات الأوربية والأمريكية عندما أتحدث عنها فى رحلاتى وهذا صحيح! لكننى كذلك أكره فيها أشياء أخرى ترى ما الذى أوثر نقله إلى الناس فى بلدى؟. ص _136(1/112)
البعض يفضل أن أنقل نقاط الضعف فى المجتمعات الأخرى! وهذا خداع للنفس وإرضاء لغرور كاذب واستنامة إلى أننا أحسن من غيرنا وتلك غيبوبة باهظة الثمن..! نحن هنا نحب أن نتكتم عيوبنا وأمراضنا! أما هناك فهم يسرعون إلى مناقشة أمراضهم الاجتماعية علانية ومصارحة!! ولذلك يستشفون منها. على حين يبقى المرض لدينا كامنا.. ومالا نراه أو مالا ننشره يعد كأنه غير موجود، وذاك بلاء مجتمعات الكتمان لا تزال تنافق حتى تهلك !. وقد تخطى غيرنا هذا الطور: وشرع يناقش أخطاءه بقوة. المخدرات- الخمور- تصبح مشكلة قومية رسمية وشعبية! و"الإيدز" تتفجر أنباؤه بمجرد ظهوره كالقنبلة على حين نسمى نحن "الكوليرا" حين تظهر بأمراض الصيف! ويمضى كل شىء فى هدوء!. وهناك أمر آخر الإنكليز يعتبروننا كسالى لأنهم يعملون من الصباح إلى المساء: والأمريكان يعتبرون الإنكليز كسالى: لأن الأمريكى يعمل ضعف الإنكليزي ولا يقطع يوم العمل بشرب البيرة! ومن يرى الأمريكى أو الأمريكية يعملون يظن أنهم شعب فقير يبنى مستقبله بالكدح والكفاح مع أنهم أغنى الشعوب !. والآن ظهر اليابانيون يتهمون الأمريكيين بالكسل!: والأمريكان فى ذعر من " مرض " العمل والاجتهاد والتفافى لدى اليابانيين. إنهم يعتبرونهم مرضى لعدم وجود أى متعة يرفهون بها عن أنفسهم: ولذلك يرون المنافسة غير عادلة بين الشعبين الكبيرين... هذا هو العالم الذى يتقدم من حولنا. ويلفتنى بقوة شيوع القيم التى لا تحتاج إلى عملة صعبة: ولكن لها ثمارا يانعة: أو مردودا هائلا.. النظام: احترام الدور والقواعد العامة للحياة ص _137(1/113)
النظافة التامة فلا تجد من يلقى ورقة على الأرض ". ثم قال الأستاذ أحمد بهاء الدين : "شكا لى سائح أمريكى- ونحن فى روما ـ من قذارة الإيطاليين، لأنهم ينزلون من السيارات- الحافلات- ويلقون تذاكر الركوب على أرض الشارع.. " انتهى كلامه، ونقول: هذه أنباء السباق الحضارى بين الدول الصناعية فى أوروبا وأمريكا وشرق آسيا! ترى ما أخبار العرب والمسلمين فى هذا الميدان؟ الأخبار المؤكدة أننا شعوب مستهلكة لا منتجة وأننا نأخذ أكثر مما نعطى.. ويستحيل أن تنجح رسالة كبرى يوم يكون حملتها فى هذا المستوى! إن امتلاك الحياة الدنيا عن قدرة وخبرة هو السبيل الأوحد لنصرة المبادئ والمذاهب.. ويوم اشتبك المسلمون الأوائل مع الدولتين العظميين الروم والفرس كانوا أحق بالنصر لأنهم نازلوا أعداءهم فى الميادين التقليدية المعروفة، وحملوا ذات الأسلحة، وتفوقوا عليهم بالإيمان الحق وتأييد الله... ثم وقع فى عصور التخلف الحضارى أن انسحب المسلمون انسحابا عاما شائنا من آفاق الحياة، وسيطرت عليهم أفكار غربية.. فهموا أن الاستعلاء على مغريات الدنيا يعنى ترك الدنيا، وأن النجاح فى الامتحان يكون بالفرار منه لا بالدخول فيه واجتياز مشقاته... ونسيت تعاليم القرآن التى تقرر أن الأرض مخلوقة للناس، وأن التمكين فيها جزء من رسالة الحياة الأولى والأخرى وحفت محل هذه التعاليم أحاديث تغرى بالفقر والتجرد!. ومع أن هذه الأحاديث عند التأمل تخالف أحاديث أخرى أصح منها سندا ومتنا، وقبل ذلك تخالف منطق القرآن الذى يجعل الجهاد ركنا لحراسة الإيمان ص _138(1/114)
ونظمه وشعبه، مع ذلك فإن هذه الأحاديث وجدت رواجا وسيطرت على الجماهير الكثيرة. قرأت خمسين حديثا ترغب فى الفقر وقلة ذات اليد وما جاء فى فضل الفقراء والمساكين والمستضعفين وحبهم ومجالستهم كما قرأت سبعة وسبعين حديثا ترغب فى الزهد فى الدنيا والاكتفاء منها بالقليل وترهب من حبها والتكاثر فيها والتنافس.. وقرأت سبعة وسبعين حديثا أخرى فى عيشة السلف كيف كانت كفافا... ذكر ذلك كله المنذرى فى كتابه الترغيب والترهيب وهو من أمهات كتب السنة، ورحم الله المؤلف الحافظ وغفر لنا وله، فهو حسن النية ناصح للأمة، بيد أن الفقه الصحيح يقتضى منهجا آخر، ومسلكا أرشد.. وأعرف ويعرف غيرى أن عبادة الدنيا أهلكت الأولين والأخرين وأنها من وراء جرائم مذهلة يقترفها الخاصة قبل العامة، والرؤساء قبل الأتباع والأذكياء قبل الأغبياء، ولكن العلاجي الصحيح للداء العضال يكون بالتمكن من الدنيا والاستكبار على دناياها.. املك أكثر مما ملك قارون من المال، وسيطر على أوسع مما بلغه سليمان من سلطات، واجعل ذلك فى يدك، لتدعم به الحق حين يحتاج الحق إلى دعم: وتتركه لله فى ساعة فداء حين تحين المنية!! أما أن تعيش صعلوكا، حاسبا أن الصعلكة طريق الجنة فهذا جنون وفتون. إذا كان الإلحاد يفرض سلطانه بالتمكين فى الأرض، فإن انصرافك عن التمكن من الأرض فاحشة أشد من الزنا والربا.. ولنناقش بعض ما روى فى هذا المجال لنعرف ما وراءه: عن أنس بن مالك رضى الله عنه، اشتكى سلمان الفارسى- فى مرض موته- فعاده سعد بن أبى وقاص، فرآه يبكى، فقال له سعد : ما يبكيك يا أخى؟ أليس قد صحبت ص _139(1/115)
رسول الله- صلى الله عليه وسلم ؟ أليس؟ أليس؟.. قال سلمان : ما أبكى واحدة من اثنتين، ضنا على الدنيا ولا كراهية للآخرة، ولكن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عهد إلينا عهدا، وما أرانى إلا قد تعديت! . قال سعد: وما عهد إليك؟ قال عهد إلينا أنه يكفى أحدكم مثل زاد الراكب! ولا أرانى إلا قد تعديت! وأما أنت يا سعد فاتق الله عند حكمك إذا حكمت! وعند قسمك إذا قسمت! وعند همك إذا هممت !. قال المنذرى: وقد جاء فى صحيح ابن حبان أن مال سلمان جمع بعد وفاته- فبلغ خمسة عشر درهما. إن سلمان من أكابر الصحابة وأوفيائهم، والحديث يفيد أنه وجل من لقاء الله وتركته خمسة عشر درهما. وإنها لصورة تثير الخشية والخشوع أن نرى أميرا من أمراء الفتح الإسلامى يلقى ربه بهذا التجرد والتبتل!. على حين نرى القادة والأمراء يتشبعون من الدنيا بلا حدود . لكن للفقه سؤالا هنا: إن سعد بن أبى وقاص الذى كان يحاور سلمان سمع من رسول الله هذا التوجيه "إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس " فليس الميراث الكبير جريمة! وسعد بن أبى وقاص أحد العشرة المبشرين بالجنة- كما جاء فى السنن- وهؤلاء العشرة كانوا من أغنياء المسلمين، بل لم يكن فيهم فقير! وزعم الرواة أن أحدهم خلف من الذهب ما كانت تعمل فيه الفؤوس!!. المشكلة ليست فى امتلاك المال الواسع بل المشكلة فى كيف تمتلكه؟ كيف تنفقه؟ وقد رأينا فى الدنيا أغنياء بنوا الجامعات حصونا للعلم والبحث، وأغنياء ص _140(1/116)
حاربوا المرض والشظف ببأس شديد، وأغنياء قدموا لدولهم ما تطلب من ضرائب كى تضع موازناتها إقامة للمصالح العامة. ورأينا عثمان بن عفان يعين إعانة رائعة فى الإعداد لغزوة العسرة، حتى جعل الرسول يقول: اللهم ارض عن عثمان فإنى راضي عنه. الواقع أن حديث سلما ن ليس إلا تعبيرا عن حالة نفسية خاصة، ء ولا يعطى حكما شرعيا عاما.. وننظر النظرة نفسها إلى ما رواه أحمد عن أبى عسيب قال: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليلا فمربى، فدعانى فخرجت إليه! ثم مربأبى بكر رضى الله عنه فدعاه فخرج إليه، ثم مر بعمر رحمه الله فدعاه فخرج إليه. فانطلق حتى دخل حائطا لبعض الأنصار، فقال لصاحب الحائط: أطعمنا. فجاء بعذق فوضعه، فأكل رسول الله وأصحابه، ثم دعا بماء بارد فشرب، فقال: لتسألن عن هذا يوم القيامة! فأخذ عمر العذق فضرب به الأرض حتى تناثر البسر قبل رسول الله، ثم قال: يا رسول الله : إنا لمسئولون عن هذا يوم القيامة؟ قال نعم إلا من ثلاث: " خرقة كف بها عورته (أى سترها) أو كسرة سد بها جوعته، أوجُحر يتدخل فيه من الحر والقر"!!. وفى رواية أخرى " ليس لابن آدم حق فى سوى هذه الخصال- والرواية عن عثمان بن عفان-: " بيت يكنه، وثوب يوارى عورته، وجلف الخبز والماء "!!. وفى عبارة البيهقى " كل شىء فضل عن ظل بيت،وكسرة خبز، وثوب يوارى عورة ابن آدم فليس لابن آدم فيه حق " . قال الحسن البصرى لراوى الحديث: ما يمنعك أن تأخذ به؟- وكان يعجبه ص _141(1/117)
الجمال- فقال الرجل للحسن : يا أبا سعيد إن الدنيا تقاعدت بى!!. ورأيى أن الرجل كان يستطيع تقديم إجابة أفضل، إجابة من كتاب الله تعالى، فبدل أن يرد تطلعه الفطرى إلى حب الدنيا، يقول (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة). ولو جعلنا هذه المرويات محور حياة عامة لشاع الخراب فى أرجاء الدنيا!!. فهل هذه المرويات باطلة؟ ربما ظن البعض أنى أرى ذلك! الواقع أن هذه المرويات تساق فى مجال محدد لهدف محدد، وهى جرع من أدوية يتناولها الإنسان حتى لا يكون منهوما بالدنيا شقيا وراء بعض الحرمان الذى يطرأ عليه! كم من الناس لا يجد إلا هذه الضرورات؟ومع ذلك لم يمت. كم من الناس أيام الحروب والأزمات عاش داخل هذا النطاق ومع ذلك لم يمت. كم من الناس لديه أنصبة مضاعفة من هذه الأرزاق ومع ذلك لم يقدر ولم يشكر! إن عثمان بن عفان راوى هذه المعانى كان من الأغنياء، وقد استفاد من وعيها طلب الآخرة والاستعلاء على رذائل البخل والطمع!. إن سعة الفقه لابد منها لفهم مرويات شتى. وقد وقف الحرفيون عند هذه الآثار فوقفوا بالعالم الإسلامى كما وقف حمار الشيخ فى العقبة لا يتقدم ولا يتأخر! بل لعله ترات إلى العصر الحجرى فى بعض جوانبه. ويبدو أن الطيش فى فهم المرويات، وسؤ تقديرها مرض محذور العقبى من ص _142(1/118)
قديم فقد روى الترمذى عن الحارث الأعور قال: مررت فى المسجد فإذا الناس يخوضون فى الأحاديث! فدخلت على عليّ رضى الله عنه فأخبرته، فقال: أوقد فعلوها ؟ قلت: نعم! قال: أما إنى سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: أما إنها ستكون فتنة! قلت: فما الخرج منها يا رسول الله؟. قال: "كتاب الله تعالى فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل! من تركه من جبار- قصمه الله تعالى، ومن ابتغى الهدى فى غيره أضله الله تعالى... وهو حبل الله المتين: وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم. "وهو الذى لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد " ولا تنقضى عجائبه .. وهو الذى لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا (إنا سمعنا قرءانا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به) من قال به صدق، ومن عمل به أُجر ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم! خذها إليك يا أعور". إن الحكم الدينى لا يؤخذ من حديث واحد مفصول عن غيره: وإنما يضم الحديث إلى الحديث. ثم تقارن الأحاديث المجموعة بما دل عليه القرآن الكريم، فإن القرآن هو الإطار الذى تعمل الأحاديث فى نطاقه لا تعدوه، ومن ص _143(1/119)
زعم أن السنة تقضى على الكتاب ، أو تنسخ أحكامه فهو مغرور-. ويوضح ما قلنا ما رواه ابن كثير فى تفسيره عن الإمام محمد بن إدريس الشافعى رحمه الله قال: " كل ما حكم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مما فهمه من القرآن! قال الله تعالى (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما). وقال (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون). ولهذا قال رسول الله - صلى الله غليه وسلم - : "ألا إنى أوتيت القرآن ومثله معه" يعنى السنة.. وهذا صحيح! فإن حياة محمد- صلوات الله عليه- كانت تطبيقا عمليا لتوجيهات القرآن! كانت سيرته فى العبادة والخلق والجهاد والمعاملة قرآنا حيا يغير الأرض ويصنع حضارة أخرى، ولولا هذه السنة العملية والقولية لكان القرآن أشبه بالفلسفات النظرية الثابتة فى عالم الخيال!. إن سنة محمد فى النواحى الاجتماعية والمدنية والعسكرية، وقبل ذلك كله فى شرائع العبادة والاعتقاد جزء لا يتجزأ من الرسالة الخالدة، فإن الإسلام يتكون من الكتاب والسنة كما يتكون الماء من عنصريه المعروفين.. ونحن هنا نذود المرويات الواهية، والأحاديث المعلولة كما نذود عن القرآن نفسه التفاسير المنحرفة والأفهام المختلفة، ليبقى الوحى الإلهى نقيا... إن ركاما من الأحاديث الضعيفة ملأ آفاق الثقافة الإسلامية بالغيوم، وركاما مثله من الأحاديث التى صحت، وسطا التحريف على معناها، أو لابسها كل ذلك جعلها تنبو عن دلالات القرآن القريبة والبعيدة.. ص _144(1/120)
وقد كنت أزجر بعض الناس عن رواية الحديث الصحيح حتى يكشفوا الوهم عن معناه! إذا كان هذا المعنى موهما، مثل حديث "لن يدخل أحد الجنة بعمله .. الخ". إن طوائف من البطالين والفاشلين وقفت عند ظاهرة المرفوض ، وحسبوا أن الجنة تدخل دون عمل، وتناسوا عامدين عشرات الآيات التى تجعل دخول الجنة نتيجة عمل واجب. فكنت أبين لهم أن الحديث ينفى الاغترار والاستكبار بالعمل أى ينفى أن الجنة ثمن العمل المقدم، ولكنه لا ينفى أبدا أن العمل سببها المحتوم لقوله تعالى (ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون). وكثير من القصاص والوعاظ ينقصهم الوعى الذكى بالقرآن والاقتراب الخاشع من مغازيه وبيناته.. ومع ذلك فلديهم ثروة طائلة من أحاديث الآحاد التى تحتاج إلى ترتيب وحسن إدراك.. وقد غاظنى أن أحدهم كان يطير فى المجامع بحديث " أبى وأبوك فى النار" وكأنما يسوق البشرى إلى المسلمين، وهو يشرح لهم كيف أن أبوى رسولهم فى النار!!. قلت: قبحك الله من داع أعمى البصيرة! ما لديك شىء من فقه الإسلام، ولا من أدب الدعوة.. ومثلك لا يزيد الأمة إلا خبالا باسم السنة، والسنة منك براء...! قال الشيخ يوسف القرضاوى فى شرح حديث " أبى وأبوك فى النار" : إن الأب قد يطلق لغة واصطلاحا على العم، فلعل المقصود بالأب هنا عمه أبو طالب . ص _145(1/121)
ذلك أن أبا طالب عرضت عليه كلمة التوحيد قبل أن يموت فأبى أن ينطق بها ... ونحن نقبل هذا التأويل حتى لا يقع تعارض بين السنة والكتاب..! وقد سمعت بأذنى من يقول: الحديث صحيح وهو يخصص عموم الآية، فأهل الفطرة ناجون جميعا- عدا عبد الله بن عبد المطلب..!! قلت له: ماذا فعل حتى يستحق وحده النار؟ ان عبد الله شابا شريفا عفيفا حكى عنه التاريخ ما يزينه! ولم يحك عنه ما يشينه! والآية خبر لا يتحمل استثناء، فما حماسكم فى تعذيب عبد الله؟ وما جريكم هنا وهناك بهذه الشائعة؟ وماذا وراء تأكيدكم أن أبوى الرسول فى النار..! إننى أشم رائحة النيل منه فى هذا الحماس الأعمى..!!. ص _147
أحاديث الفتن نظرة سريعة- الدجال زعيم اليهود- مصرعه، وبدء طور جديد للإسلام- مناقشة حديث الساق- مناقشة ما يقطع الصلاة. ص _148(1/122)
قرأت أحاديث كثيرة فى الفتن وعلامات الساعة، وخرجت من قراءتى وأنا أسرح البصر خلال غيوب لا أدرى أعماقها!. إننى وسائر المسلمين نؤمن بقيام الساعة، والإيمان باليوم الآخر حق، ولا يتردد فيه إلا كافر، وليس يعنينى كثيرا أن أعلم حقائق ما يقع من حساب وثواب أو عقاب، فإن تفاصيل ذلك فوق العقل... ولكنى أشعر بأن العالم فى أواخر عمره من هذه الدنيا سيتضاعف بلاؤه، وسيحصد الشر مما غرس على امتداد تاريخه من آثام وانحرافات!. لطالما نسى ربه، وأهمل وحيه، وأطاع هواه! فلا عجب إذا قال ربنا تبارك اسمه (و إن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا). (و تلك القرى أهلكناهم لما ظلموا و جعلنا لمهلكهم موعدا). ولا يستغربن أحد أن يكثر الدجالون الذين يغررون بالجماهير، ويسخرون ما لديهم من فضل معرفة فى إتاهة الناس عن الحق، وتدويخهم هنا وهناك .. وتشير الأحاديث إلى أن عشرات الدجالين سوف يظهرون.، وأن هناك دجالا مستطير الشر سيفوق إخوانه فى فنون الدجل وأن عشرات الألوف من اليهود يتبعون هذا الدجال الأخير !!.. ص _149(1/123)
وقبل أن أذكر نماذج من الأحاديث الواردة أقرر حقيقة واحدة هى أننا نحن المسلمين نؤمن بإله لا حدود لمجده ولا منتهى لكمالاته ومحامده، ليس كمثله شىء وهو السميع البصير. خلقنا ورزقنا وكسانا وآوانا وعلمنا وربانا وأفاض علينا من آلائه مالا يحصى، وأننا سنظل نذكره ونعبده ما بقينا على ظهر الأرض، مستعدين بذلك للقائه بعد الموت لنستأنف حياة أخرى عنده عامرة بالثناء عليه والتسبيح بحمده . ذلكم هو الصراط المستقيم الذى نهزم به الفتانين ونرد به الشياطين، ونراغم به كل دجال يحاول إضلالنا أو ثنينا عن هدفنا العظيم..!. بعد هذه المقدمة أذكر بعض ما قرأت عن الدجال بإيجاز، ففى حديث أنه مكبل بالقيود فى إحدى الجزر ببحر العرب أو بالمحيط الهندى، وقد لقيه تميم الدارى وهو رجل كان نصرانيا وأسلم... ثم التقى برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وحدثه بأنه لقى الدجال فى وثاقه الذى يحبسه عن الانسياح فى الأرض، وأنه موشك على الانطلاق ليقوم بفتنته آخر الزمان. وفى حديث آخر وصف لأسرة الدجال، وفيه: إن أبويه يمكثان ثلاثين عاما لا يولد لهما ولد وأخيرا يولد لهما غلام أعور أضر شىء وأقله منفعة!. قال أبو بكر رضى الله عنه: فسمعنا بمولود فى المدينة بين اليهود، فيه شىء من هذه الصفات، فذهبت أنا والزبير بن العوام حتى فى دخلنا على أبويه، فإذا هما كما سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم-! ونظرنا إلى ابنهما فإذا هو منجدل فى الشمس فى قطيفة له وله همهمة... الخ. قال الشارح: لعل الدجال- وقد ولد من يهود المدينة- قد انتقل بعد ذلك إلى الجزيرة التى رآه فيها تميم الدارى!!. وللنواس بن سمعان حديث طويل فى الدجال، ذكر فيه طرفا من القوة التى ص _150(1/124)
زود بها أو الفتنة التى يثيرها بين الناس قال: "... يأتى على القوم فيدعوهم- إلى عبادته- فيؤمنون به ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول! ما كانت ذرى وأسبغه ضروعا وأمده خواصر..!! أما الذين يكفرون به فينصرف عنهم فيصبحون مملحين ليس بأيديهم شئ من أموالهم..!!.. الخ. ثم ينزل عيسى بن مريم فلا يزال يطارد الدجال حتى يدركه باللد فيقتله، ويريح الناس من شروره... والأحاديث التى اقتبسنا نتفا منها هى أحاديث آحاد، وبعضها فى الصحاح.. والروايات عنه كثيرة. وفى إحداها: أنه مكتوب بين عينى الدجال (ك ف ر) أى كافر يقرؤه كل مسم!!. وفى رواية عن أم شريك عن النبى- صلى الله عليه وسلم-: " ليفرن الناس من الدجال فى الجبال! قالت أم شريك: يا رسول الله، فأين العرب يومئذ؟ قال: هم قليل . . ." . ويظهر لى أن الدجال من زعماء اليهود، وقد يكون من كبار علما ئهم الكونيين، وهو يمثل عوج الضمير اليهودى وانقطاعه عن الله، بل عداوته له.. وقصته قبيل الساعة تمثل خاتمة الصراع السيئ بين أتباع الأديان الثلاثة.. فاليهود بقيادة مسيحهم يحاولون الظهور والسيطرة والنصارى مستمسكون بأقانيمهم وتثاليثهم وصلبانهما وسيرتهم الاجتماعية المعروفة، وهم يظاهرون اليهود على العرب. والمسلمون فرق شتى فيهم الصالح المستميت فى المقاومة، وفيهم التائه الهائم على وجهه. ومع اشتداد الصراع الدينى يقدم الزحف الأحمر من الشرق جيشا بعد . ص _151(1/125)
جيش: وفوجا بعد فوج. فلا يصده شىء... فى غمار هذه الفوضى الضاربة ينزل عيسى بن مريم ليؤيد عقيدة التوحيد. ويصدق النبوة الخاتمة ويقتل إله اليهود. ويواجه بالمسلمين الزحف الأحمر، زحف يأجوج ومأجوج حتى يقضى بقدرة الله عليه. ذاك ما فهمته من حشد هائل من الأحاديث التى تباينت فيها عبارات الرواة، وتخللتها بعض الأوهام. وفى القرآن الكريم إشارات موجزة لبعض ما فهمنا... ونترك الأحداث العظام التى قبيل الساعة إلى بعض! مشاهد القيامة. ومواقف الحساب أمام رب العزة: لا ريب أن يوم الحساب يوم رهيب ! يلقى فيه العصاة والفجار- ما لم يخطر لهم ببال (يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون * خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون). والآيات تعنى أن الذين ألفوا العصيان فى الدنيا والتمرد على الله يحشرون بعاداتهم التى ألفوها من قبل: فلا يقام لهما عوج- ولا ينظم لهم خلل!!! وتكون حالتهم على تلك المشاهد وهما يقادون إلى العذاب ويوقع بهم القصاص... لقد أبوا فى دنياهم إلا أن يكونوا أشرارا فليذوقوا ما ارتضوا لأنفسهم وكلمة " يوم يكشف عن ساق" تعبير عربي أصيل. قال ابن عباس!!: تقول العرب للرجل إذا وقع فى أمر فظيع يحتاج فيه إلى الجد ومقاسات الشدة: شمر عن ساقك . ولما سئل عن هذه الآية قال-: إذا خفى عليكم شىء من القرآن. فابتغوه فى الشعر فإنه ديوان العرب. أما سمعتم القائل: ص _152(1/126)
سن لنا قومك ضرب الأعناق وقامت الحرب بنا على ساق! وأنشد أبو عبيدة: فإن شمرت لك عن ساقها فدتها ربيع، ولا تسأم! وقال جرير: ألا رب ساهى الطرف من آل مازن إذا شمرت عن ساقها الحرب شمرا على هذا الأساس فهم ابن عباس- وهو ترجمان القرآن- الآيات، وتبعه العلماء من الصحابة والتابعين، وما نعرف إلا هذا التفسير للوحى الكريم.. حتى جاء بعض المولعين بمشكل الحديث وغريب الروايات، فذكروا كلاما آخر لابد من كشف حقيقته لخطورة مضامينه وشذوذها عما يعرف علماء المسلمين.. قالوا: إن الساق هى العلامة التى يعرف بها المؤمنون ربهم فى امتحان عصيب يجرى لهم يوم القيامة!!. والقصة كما ذكروها تتلخص فى أنه بعد إلقاء المشركين فى العذاب يبقى المسلمون وحدهم: " حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر أتاهم رب العالمين فى أدنى صورة من التى رأوه فيها! فقال: ماذا تنتظرون؟ تتبع كل أمة ما كانت ! تعبد! قالوا: يار بنا فارقنا الناس فى الدنيا أفقر ماكنا إليهم! ولم نصاحبهم! فيقول: أنا ربكم فيقولون: نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا مرتين أو ثلاثا حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب!. فيقول: هل بينكم وبينه آية؟ فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم! فيكشف عن ساق. فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود. ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة. كلما أراد أن يسجد خر على قفاه! ثم يرفعون رءوسهم وقد تحول فى صورته التى رأوه فيها أول مرة فقال: أنا ربكم؟ فيقولون أنت ربنا.. "!. ص _153(1/127)
هذا سياق غامض مضطرب مبهم!! وجمهور العلماء يرفضه، وقد حاول القاضى عياض القول بأن الذى جاء المؤمنين فى صورة أنكروها أول الأمر هو أحد الملائكة، وكان ذلك اختبارا من الله لهم.. وهو آخر اختبار يلقاه المؤمنون!!. ومحاولة القاضى عياض لا تقدم ولا تؤخر، فليست الآخرة دار اختبار، إن الاختبار تم فى الدنيا، كما جاء فى البخارى: " اليوم عمل ولا جزاء وغدا جزاء ولا عمل ". ثم لماذا يقوم أحد الملائكة بهذه التمثيلية المزعجة وبإذن من ؟ وما جدواها؟ وإذا تركنا كلام عياض لنتأمل فى الوقائع نفسها وجدنا ما يستحيل عقلا ونقلا أن يقبل! فإن الله لا يجئ فى صورة تنقص عظمته وجلاله، ثم يبدو فى صورة حقيقة بعد ذلك، مهما قلنا: إن المقصود بالصورة هو الصفة!!. الحديث كله معلول، وإلصاقه بالآية خطأ، وبعض المرضى بالتجسيم هو الذى يشيع هذه المرويات. وإن المسلم الحق ليستحى أن ينسب إلى رسوله هذه الأخبار. سلف الأمة وخلفها متفقون على تنزيه الله سبحانه، وعلى أنه أهل الثناء والحمد والمجد. والسلف والخلف يستنكرون ما جاء فى كتب اليهود والنصارى مفيدا للتجسيد أو ناسبا إلى الذات الأقدس ما لا يليق بجلاله وجماله، تباركت أسماؤه.. وجمهور حكمائنا " المعتزلة " على تأثرهم بفلسفة الإغريق، وتصورهم للإله الواحد تصورا نظريا يكاد يجعله- من الغلو فى التجريد- وهما.. ولست أحب أن أحيى الجدل! القديم، ولا أن أخوض فيه، ولا أن أعلق عليه، فقد كرهته بفطرتى! واعتمدت على القرآن الكريم وأنا أبنى العقيدة بنفسى فى المجتمع الذى أعيش فيه. ص _154(1/128)
ولعلى استفدت من أستاذى حسن البنا فى هذا الاتجاه، كما استفدت من الشيخ محمد عبده فى اعتذاره عن الأقدمين واعتباره العراك الناشب بينهم لفظيا لا حقيقيا. وربما قيلت كلمات فى المساجلات الأولى تحتاج إلى ضبط، أو تفهم فى نطاق ملابسات خاصة وإلا فهى كلمات مرفوضة.. من ذلك ما نقل عن بعض علماء السلف: أنهم لا ينفون ولا يثبتون جسمية لله تعالى! إن ظاهر هذا الكلام مردود، وهو كل مناف للآية الكريمة "ليس كمثله شىء" إننا ننفى الجسمية بداهة، وفى عصرنا هذا استيقنا من أن الجسم مادة، وللمادة خصائصها التى تدرس فى علم الطبيعة، ومن المستحيل أن يتصف الله سبحانه بشىء من تلك الخصائص.. ونحسب أن المبالغة فى التمسك بالنقل هى من وراء تلك العبارات الحذرة، وقد لجأ الخلف إلى تأويل كل ما يوهم المادية، وآثر السلف عدم الخوض فى هذه المرويات مفوضين المعنى إلى الله، ومؤمنين بدلالتها مع إثبات التنزيه المطلق لرب العالمين. والخطب سهل كما قلت، بيد أننا حين نفتح باب التفويض نأبي أن تدخل منه آثار معلولة، فإن العقل المسلم لا يخدع بهذا الأسلوب. واضطراب القول يقع فى الأمور الغيبية كما يقع فى الأمور التكليفية العملية ولا يضير الإسلام أن تتشابه الأمور على أحد الرواة، فالكتاب معصوم والسنة فى جملتها سليمة، وليس العجب من غلط يقع فيه راو وإنما العجب من قبول هذا الخطأ ثم الحماس فى الدفاع عنه، ولم يكن ذلك شأن الأئمة ولا منهج السلف والخلف... روى مسم بسنده سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها، وخلق سمعها وبصرها ص _155(1/129)
وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضى ربك ما يشاء فيكتب الملك . تم يقول : يا رب أجله؟ فيقول ربك ما يشاء ويكتب الملك!. ثم يقول الملك: يا رب رزقه؟ فيقول ربك ما يشاء ويكتب الملك! ثم يخرج الملك الصحيفة، فلا يزيد على أمر ولا ينقص ". أما البخارى فيروى عن ابن مسعود: حدثنا الصادق المصدوق أن خلق أحدكم يجمع فى بطن أمه نطفة أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، تم يكون مضغة مثل ذلك. ثم يبعث الله ملكا بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وشقى أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح... الخ. وبين الروايتين تفاوت واضح، فالأخيرة تفيد أن الكتابة المذكورة بعد أربعة شهور والأولى تفيد أن الكتابة بعد اثنين وأربعين يوما... وندع أمر الترجيح والرد والقبول للمشتغلين بهذا الأمر، فإن أى مسلم لو ذهب إلى الله بإيمان واضح وعمل صالح فلن يضيره الجهل بأحد الحديثين أوبهما معا. إن قواعد الإيمان وأركان الصلاح مشروحة فى الكتاب والسنة وليس من بينها الإحاطة ببدء الخلق، والأزمنة التى يستغرقها، وحسبنا ما أثبته القرآن الكريم فى هذا المجال، ولتتجه العزائم بعد ذلك إلى الجهاد وما يهب رفيع الدرجات!. إن القاصرين من أهل الحديث يقعون على الأثر لا يعرفون حقيقته ولا أبعاده، ثم يشغبون به على الدين كله دون وعى، خذ مثلا ما يقطع الصلاة، فقد تشبثوا بحديث يقول إن الصلاة تقطعها المرأة: والحمار، والكلب الأسود! ص _156(1/130)
وجمهرة الفقهاء رفضت هذا الحديث، واستدلت بأحاديث أخرى تفيد أن الصلاة لا يقطعها شىء، وأن الرسول- عليه الصلاة والسلام-كان يصلى وزوجته عائشة مضطجعة أمامه، كما أن ابن عباس مر بحمار كان يركبه أمام جماعة تصلى، فلم تفسد لها صلاة، والكلاب أبيضها وأسودها سواء!. للشيخ أحمد شاكر ـ وهو من أكابر علماء السلف ـ رأى يستحق التسجيل وتتضح به هذه القضية، ذكره فى تعليقاته على " المحلى " لابن حزم فى سياق رواية جاء فيها "... سمعت عمر بن عبد العزيز يحدث عن عياش بن أبى ربيعة قال: بينما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى يوما بأصحابه إذ مر بين أيدينا حمار! فقال عياش: سبحان الله! فلما انصرف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من صلاته قال: أيكم سبح؟ قال عياش: أنا يا رسول الله! سمعت أن الحمار يقطع الصلاة فقال رسول الله لا يقطع الصلاة شىء!. وقد قلت فى شرحى على التحقيق لابن الجوزى بعد رواية هذا الحديث: هذا إسناد صحيح. وشرح الشيخ أشياء تحتاج إلى بيان ثم قال وهو صريح فى الدلالة على أن الأحاديث التى فيها الحكم بقطع الصلاة- بالمرأة والحمار والكلب- قد نسخت فقد سمع عياش أن الحمار يقطع الصلاة، وعياش من السابقين الذين هاجروا الهجرتين، ثم حبس بمكة، وكان رسول الله يدعو له فى القنوت كما ثبت فى الصحيحين، فعلم الحكم الأول ثم غاب عنه نسخه، فأعلمه رسول الله بعد أن الصلاة لا يقطعها شىء.. قال الشيخ شاك رحمه الله: وهذا تحقيق دقيق واستدلال طريف لم أر من سبقنى إليه!. ولست ممن يبنون العلالى على الخلافات فى فروع الفقه وإنما تعنينى سمعة الإسلام عندما يسافر امرؤ متعصب إلى أوربا وأمريكا ثم يذكر للناس أن المرأة والكلب والحمار سواء فى إفساد الصلاة عند مرورها...!. ص _157(1/131)
وخير له أن يتبع جمهور الفقهاء أو يلوذ بالصمت، ويمنع الفتنة، ولا يثير الدخان حول سمعة الإسلام. عندما كتبنا فى أحد مؤلفاتنا أنه لا سنة بلا فقه كنا نريد أن نمنع أناسا يشترون أحد كتب الحديث، ثم يطالعون أثرا لا يدرون ما قبله ولا ما بعده، ثم يحدثون فوضى قد تراق فيها الدماء... كان نقض البيعة فى تاريخنا القديم يعنى الخروج المسلح على دولة الخلافة، فإذا هو يتحول فى أذهان بعض الشباب إلى مفارقة إحدى الجماعات العاملة فى الميدان الإسلامى ورفض الولاء لشاب تعين أميرا على هذه الجماعة!. وقد شاعت أحكام فقهية كثيرة مصدرها هذا الاطلاع الطائش... ص _159
وسائل وغايات المتغير والثابت والثابت في.. 1- ميدان الجهاد 2-ميدان الشورى ص _160(1/132)
ذكرنا فى بعض ما كتبنا: الحديث الشريف وهو: " أنتم أعلم بشؤن دنيا كم" وقلنا: إن شئون الدنيا تتبع اجتهاد البشر مؤمنهم وكافرهم، وإن الأنبياء لم يبعثوا ليعلموا الناس الحرف وفنون الصناعات وأنواع الزراعات كما لم يبعثوا مهندسى معمار أو طرق وجسور، وكذلك ما بعثوا، أطباء بطون وعيون، إن صميم رسالاتهم هو شرح العقائد والعبادات والأخلاق وتزكية النفس والمجتمع، وبث التعاليم التى تحكم صلات الناس بربهم وصلة بعضهم بالبعض الآخر، وتعدهم للعودة إلى الله أتقياء بررة... وهناك ميادين أخرى تشبه ميادين الدنيا فى حرية الحركة والاختراع والمنافسة! هى ميادين الوسائل التى لابد منها لتحقيق غايات دينية مقررة، ترك الشارع للمؤمنين كيفية بلوغها، ولم يذكر فيها أحكاما ملزمة!. إن الصلاة واجبة، ولابد لأدائها من أغسال فصلها الشارع، فالوسائل هنا لابد من القيام بها دون تزيد ولا انتقاص.. والجهاد واجب 0 ولكن أدوات الجهاد وأساليبه ليس لها قالب معين تصب فيه! فإذا تغيرت الوسائل من السيف والرمح إلى المدافع والصواريخ تغيرت معها الأحكام القديمة وتحول رباط الخيل إلى إنشاء المطارات والحصون الحديثة، وإلى إنشاء معاهد العلوم الكيماوية والذرية والفلكية... الخ. قديما كان الرجل يشترى سلاحه من ماله الخاص، ويتعهد صيانته ويتدرب عليه! فإذا سمع النداء خرج راجلا، أو خرج مع فرسه الذى ارتبطه فى سبيل ص _161(1/133)
الله، فإذا استشهد خلف أيامى ويتامى! وإذا جرح تحفل مداواة نفسه!.. ونظام الغنائم- فى مثل هذه الأحوال- لابد منه، بل هو العدالة المفروضة... وقد وردت نصوص كثيرة تشرحه وتحدد أنصبته . أما اليوم فقد تغيرت الظروف تغيرا جذريا، فالدول تجند الأفراد تجنيدا عاما، يأتيها الشاب فتطعمه وتكسوه وتضع بين يديه سلاحه الذى اشترته له، وتعده للمعركة أتم إعداد، فإذا جرح داوته، وإذا قتل كرمته وتولت الإنفاق على أهله وولده... وهو طول حياته يأخذ مرتبا حسنا قد يتنامى مع اختلاف الرتب التى يتقلب فيها.. وهذا النظام أمسى ضرورة لامحيص عنها، ولايمكن ترك الدفاع لرغبات التطوع أو لظروف الأفراد! إن ذلك يجعل الأم تداس فى زحام الأحياء وبطش الأقوياء . ومع الأنظمة الجديدة يتغير نظام الغنائم تغيرا تاما،! وتنشئ الدولة تعاليم جديدة لمعاقبة مجرمى الحرب، ومعاملة المحسن والمسيء. وعلى ضوء ما ذكرنا نفهم ما رواه البخارى " قسم رسول الله- الغنائم- يوم خيبر للفرس سهمين وللراجل سهما ".. ومع أن الأحناف رفضوا الحديث، وقدموا عليه حديثا آخر وهو أن النبى عليه الصلاة والسلام " أعطى الفارس سهمين والراجل سهما " فنحن نرى القضية كلها منتهية، لأن دور الخيالة والرجالة انقضى وأضحى كسب الحرب منوطا بأجهزة أهم وأدق، تعمل فيها المدرعات والطائرات... ص _162(1/134)
وكذلك ينتهى العمل بمبدأ "من قتل قتيلا فله سلبه ". ويجوز للدولة أن تمنح جوائز خاصة لمن أبلوا بلاء حسنا.. ونعرض هنا لقوله تعالى (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه و للرسول و لذي القربى و اليتامى و المساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله و ما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان و الله على كل شيء قدير). ونسارع إلى القول بأن القرآن الكريم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن نصوصه باقية إلى آخر الدهر، لا ينسخها شىء! . ونتساءل ما معنى هذه الآية ؟ هل ثمانون فى المائة من الغنائم يقسم على الجيش، ويوزع الخمس الباقى على مصارفه المذكورة فى الآية؟ وكذلك يرى أغلب الأئمة..! ونحن نرجح رأى الإمام مالك رضى الله عنه، الذى يرى التخميس أحد الصور التى تقوم بها الدولة، ولكنها غير ملزمة به إذا رأت المصلحة فى غيره، فالأمر إليها تنظر فى الغنائم نظرة أوسع .. ويستشهد مالك على مذهبه بأن الرسول- عليه الصلاة والسلام- وزع غنائم حنين فأعطى الطلقاء عطاء ما توقعه أحد، كادت قلوب الأنصار تحزن منه! حتى شرح لهم الحكمة مما صنع ..! ونضم إلى هذا الدليل وغيره- مما استدل به مالك- ما صنعه عمر بن الخطاب فى الأراضى المفتوحة ، فقد رفض تقسيمها أخماسا على الفاتحين. واكتفى بإعطائهم مرتبات من الضرائب المفروضة عليها.. وجمهور العلماء يدخل القضية فى باب المصالح المرسلة ، ولا ريب أن مسلك عمر كان أرشد وأجدى على الإسلام وأمته. ص _163(1/135)
إن الوضوء وسيلة للصلاة لا مجال للرأى فيها لأن الشارع ضبطها بنص محكم، أما أدوات الجهاد ووسائله فلم يضبطها الشارع أو يضع لها إحصاء، ومن ثم كان العقل مرجعها الأول.. ولا حرج علينا أن ننقل أحدث الأسلحة من شرق أو غرب، ولا حرج أن يدربنا عليها الإخصائيون المهرة من أى لون وملة، ويبقى أن نستخدمها وفق قواعد الشرف التى سنها الإسلام!. والشورى مبدأ إسلامى عظيم! لكن وسائل تحقيق الشورى وضبط أجهزتها لم يتقرر لدينا، ويظهر أن هذا مقصود لاختلاف البيئات والمستويات الحضارية، بل إننا لاحظنا أن أمة واحدة رفيعة الحضارة غيرت وسائل الشورى فيها عدة مرات حسب تجاربها ومنافعها. وما حدث فى فرنسا خلال أقل من نصف قرن نموذج لذلك التغيير.. والشورى فى دولة الحلافة برزت فى صور شتى، وليس المهم أى طراز نستمسك به؟ بل المهم أن نوفر الضمانات والأساليب التى تجعل الشورى حقيقة مرعية، فيختفى الفرد المستبد، وتموت الوثنيات السياسية، ويترجح الرأى الصحيح دون عوائق، ويتقدم الرجل الكفء دون أحقاد... هل يمكن ذلك فى غيبة العقائد والأخلاق؟ هذا مستحيل! لقد نقل الشرق الإسلامى صورة الديمقراطيات الغربية فى مرحلة هابطة من تاريخه، صرعته فيها مواريث جاهلية، وخدعته تقاليد استعمارية سفيهة، فماذا حدث؟ تم تزوير الانتخابات على نحو مذهل، وشقت الوثنيات السياسية طريقها وسط هالة من تأييد شعبى مكذوب!. ولو أن بعثة من النقاد والرواد زارت مزبلة التاريخ لوجدت فى رغامه عددا من زعماء العرب والمسلمين، قتلوا الألوف المؤلفة لتكون لهم أمجاد ولتهتف ص _164(1/136)
بأسمائهم بلاد! وهم مع هذه الفرعنة زعماء الشعب المحبوبون... يؤسفنا أن الشورى أينعت ثمارها فى أقطار واسعة وراء دار الإسلام. ونحن نطلب الشورى، ونريد اعتبار الوسائل المؤدية لها فروضا عينية على أساس من القاعدة الفقهية " ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب ". ويتقاضانا ذلك وضع تفاسير صحيحة لأحاديث الأمر والنهى وتغيير المنكر ومقاومة مرتكبى الكفر البواح، وتوضيح الفروق الدقيقة بين المعارضة المشروعة والثورة التى تنقض بنيان المجتمع، أو بين النقد الواجب، والخروج المسلح... من خصائص " الديمقراطية " الحديثة أنها اعتبرت المعارضة جزءا من النظام العام للدولة! وأن للمعارضة زعيما يعترف به ويتفاهم معه دون حرج! ذلك أن مالك السلطة بشر له من يؤيده وله من ينقده، وليس أحدهما أحق بالاحترام من الآخر... والواقع أن هذه النظرة تقترب كثيرا من تعاليم الخلافة الراشدة، فإن على بن أبى طالب لم يستبح من عارضوه، أو يحشد الجموع لضربهم، بل قال لهم: ابقوا على رأيكم ما شئتم على شرط ألا تحدثوا فوضى ولا تسفكوا دما، أى أن الرجل العظيم يريد معارضة بناءة لا هدامة، ولا يرى أن الاعتراض على شخصه منكر!. وعبارة على رضى الله عنه للخوارج هى "كونوا حيث شئتم، وبيننا وبينكم ألا تسفكوا دما حراما، ولا تقطعوا سبيلا، ولا تظلموا أحدا! فإذا فعلتم نفذت إليكم بالحرب! ". قال عبد الله بن شداد: فوالله ما قتلهم حتى قطعوا السبيل وسفكوا الدم الحرام. قال الصنعانى: فدل ذلك على أن مجرد الخلاف على الإمام لا يوجب قتال ص _165(1/137)
من خالفه، وبهذا التفكير الصائب فسر الحديث الشريف " من خرج عن الطاعة، وفارق الجماعة. ومات فميتته ميتة جاهلية " أى كأهل الجاهلية لا إمام له ذلك كله ما لم يجنح إلى الثورة المسلحة، فإن جنح إليها فله حكم آخر، وعن عبد الله بن عمر قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "من حمل علينا السلاح فليس منا".. وقد تكون للديمقراطية الحديثة مثالب فى أنها توفر الحرية للطاعة والفسق، والإيمان والكفر!. ولكن هذه المثالب تختفى عندما يوضع فى صلب الدستور أن الإسلام دين الدولة وأن الشريعة المصدر الأوحد للقوانين، وأن ما خالفها يسقط من تلقاء نفسه!. ولولا غلو الغلاة من أصحاب العقائد، وعدوانهم على مخالفيهم فى الرأى ولو كان هاشميا ما اتسعت دائرة الحرية إلى حد قبول المتناقضات وإقرار الرذائل والشهوات.. بيد أن هناك سؤالا لا نوارب فى الإجابة عليه: هل محاربة الإسلام ذاته تحت عنوان محاربة التطرف لون من الديمقراطية ؟ هناك سلطات فى العالم العربى والإسلامى تكره كل الكره ما أنزل الله، وتثور ثائرتها إذا رأت فتاة مستورة الرأس والأذرع، وترفض بغضب كل صيحة لإلغاء الأحكام التى جلبها الاستعمار العالمى عندما طوانا تحت رايته! فهل هذه ديمقراطية؟ أم أنها امتداد للإذلال القديم وللغارة الصليبية على العالم الإسلامى؟. إن هناك من يريد قتل الشعب باسم الشعب، ووأد الحرية باسم الحرية، وفى مزبلة التاريخ- كما قلنا آنفا- زعماء من هذا القبيل المحقور، فعلوا بالمسلمين الأفاعيل..! ص _166(1/138)
وهناك من رجال الدين من يمشى فى مواكبهم راغبا فى دنياه، زاهدا فى أخراه، مستوجبا لعنة الله...! إن للغايات الجليلة وسائل نبيلة تعين على إدراكها، ومن غير هذه الوسائل يصعب أن تقوم شورى صحيحة كما يصعب أن يقوم جهاد نزيه ناجح. ويستطيع أولو الألباب أن يحددوا الغايات الثابتة والوسائل المتغيرة، والفقهاء فى الكتاب والسنة أقدر الناس على ذلك... على أن هناك استدراكا حول ما ذكرنا من شئون الدنيا، وتجدد الوسائل. صحيح أن الناس أ علم بشئون دنياهم، وبما يقرب لهم ما يصبون إليه من أهداف عظام.. لكن المهارة فى الدنيا خطيرة الآثار، وكذلك الخبرة الإدارية الواسعة! ويوم يكون الملاحدة مكرة مهرة خبراء أذكياء، ويكون المؤمنون سذجا أغرارا فإن مستقبل الإيمان على ظهر الأرض ضائع يقينا.. إن بعض الأتقياء يستكثرون حفظ النصوص ومطالعة الآثار على حين تراه فى شئون الحياة غفل الذهن خالى الصحيفة، فماذا يكسب الدين من هذا الشخص؟. لقد نجحت خرافات وسبقت أوهام لأن وراءها من أحسن خدمتها بقدراته وخبراته! على حين جمدت رسالات الله، وساءت بها الظنون لأن أتباعها أنصاف أذكياء وأنصاف عاملين.. ولا نطيل فى هذه القضية فطالما خضنا فيها.. وإنما ألفت النظر فى عجالة سريعة إلى فشل المتدينين فى عرض آرائهم الدينية وتزيينها فى القلوب، بل إن الدعاية الدينية تكاد تكون مهزومة فى ميادين الإعلام.. والأمر لا يحتاج إلى استيراد مواد من الخارج! إنه يحتاج إلى استحياء الملكات ص _167
الخامدة فى نفوس المؤمنين، وهى ملكات خمدت من طول تزويق الظاهر، ونسيان الباطن.. إننى ألقى ناسا يزعمون أنفسهم أقطابا، وهم فقراء إلى المبادئ الأولى فى تربية النفس، وإخلاص القلب، ونشدان وجه الله- وما أبرئ نفسى بل أسأل ربى المغفرة- إننا عندما نصدق نخترع ما لا يخطر ببال لخدمة الحق، ونقتحم آفاقا ما عرفها الأولون، ونكسب معارك كثرت فيها هزائمنا من قبل.. ص _169(1/139)
القدر والجبر العلم الإلهى الشامل- معنى سبق الكتاب- رد ما يفيد الجبر مثل إن الله خلق للنار ناسا وللجنة ناسا- عرض آيات الاختيار الحر والجزاء والعدل- معنى الآية "لو شاء لهداكم أجمعين "- مظاهر الإرادة العليا- ندم المذنبين يوم القيامة ودلالاته- نظرة فى ختام سورة المؤمنين- نظرة عامة إلى أحاديث القدر ص _170
العلم الإلهى مسطور فى كتاب ضابط شامل محيط. " أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسْيرٌ" وهذا الكتاب يضم عالمى الغيب والشهادة، ويتناول الأصغر والأكبر من مثاقيل الذر، فالله لا يخفى عليه شئ " عَالِمِ الغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُّبِيْنٍ " . وفى تفصيل آخر لمحتويات هذا الكتاب يقول جل شأنه : "... وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ " . وبديهى أن أعمارنا وأرزاقنا وتفاصيل حياتنا ومواعيد وفاتنا بعض محتويات هذا الكتاب. فليس من المعقول أن يجهل ربنا شئون ما خلق ومن خلق، أو يجهل الخطة التى وضعها لسير الكون وسكانه، والأرض وقطانها، أو يجهل مراحل تنفيذها بما هيأ من أدوات " وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوْ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ" والناس كلهم كافرهم ومؤمنهم، طفلهم وشيخهم ينالون ما سطر لهم فى ص _171(1/140)
هذا الكتاب، بل المخلوقات من جماد وحيوان تتحرك فى دائرة هذا العلم السابق الصادق. قال تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير). وقد أمر الله المؤمنين أن يستريحوا لهذا العم القديم، ويستكينوا لحقيقته (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا و على الله فليتوكل المؤمنون). إن هذا العلم الأعلى يتناول ملكوتا نشغل نحن البشر حيزا صغيرا منه، وما ندرى شيئا عن آماده !ما لنا وللمريخ أو للشعرى أو لغيرهم من العوالم ؟كما يتناول فى حياتنا على ظهر الأرض نوعين من الأعمال، نوعا لا ندرى كيف بدأ، ولا أين يتجه، ولا متى يتوقف؟ وهذا النوع من الأعمال وإن مس حياتنا من قريب أو بعيد فلسنا مسئولين عنه ولا مؤاخذين بخيره أو شره! إن الأقدار حولنا تصنع الكثير مما نفهم وما لا نفهم، وهذا الكثير يتحول إلى أسئلة عملية نجيب عليها بسلوكنا، ترى أنصبر فى البأساء والضراء؟ ترى أنشكر فى النعماء والسراء؟ إن البشر جنس محكوم ومختار فى آن واحد، إنه محكوم بالإمكانات التى فى كيانه والملابسات التى من حوله!، ومختار فى موقفه من هذه وتلك... ونريد أن نقول مصارحين وحاسمين إننا لن نسأل أبدا عما لا إرادة لنا فيه، ولكنا نسأل يقينا عما نملك فيه حرية الاختيار.. وبعض الناس يحلو لهم الخلط بين الأمرين أحيانا، وهذا لون من الجدل المحقور والمشاقة لله ورسله، ولنا مع هؤلاء حديث قد يطول... ص _172(1/141)
لقد شاء الله- لحكمة لا نعلمها- أن يخلقنا ويكلفنا، وقال فى وضوح: (خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور) ، فجاء من يزعم أن الحياة رواية تمثيلية خادعة! وأن التكليف أكذوبة! وأن الناس مسوقون إلى مصايرهما المعروفة أزلا طوعا أو كرها! وأن المرسلين لم يبعثوا لقطع أعذار الجهل، ومنع الاحتجاج. المرفوض، بل المرسلون خدعة تتم بها فصول الرواية أو فصول المأساة..! والغريب أن جمهورا كبيرا من المسلمين يجنح إلى هذه الفرية، بل إن عامة المسلمين يطوون أنفسهم على ما يشبه عقيدة الجبر. ولكنهم حياء من الله يسترون الجبر باختيار خافت موهوم.. وقد أسهمت بعض المرويات فى تكوين هذه الشبهة وتمكينها .. وكانت بالتالى سببا فى إفساد الفكر الإسلامى، وانهيار الحضارة والمجتمع... إن العم الإلهى! الذى ذكرنا شموله وإحاطته وصاف كشاف. يصف ما كان ويكشف ما يكون، والكتاب الدال عليه يسجل للوا قع وحسب! لا يجعل السماء أرضا ولا الجماد حيوانا إنه صورة تطابق الأصل بلا زيادة ولا نقص، ولا أثر لها فى سلب أو إيجاب.. وعندما يذكرنا ربنا بهذا كله فلكى يكشف لنا جانبا من عظمته حتى نقدره حق قدره.. وعندما نتعلم منه أن ما نجهل من مستقبل، هو مكشوف لديه فليس معنى هذا أن الامتحان الذى نتعرض له صورى وأننا مسوقون إلى هذا المستقبل برغم أنوفنا.. إن هذه الأوهام تكذيب للقرآن والسنة، فنحن بجهدنا وكدحنا ننجو أو ص _173(1/142)
نهلك، والقول بأن كتابا سبق علينا بذلك ، وأنه لا حيلة لنا إزاء ما كتب أزلا .. هذا كله تضليل وإفك لقوله تعالى (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها). ؛ (و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر). والواقع أن عقيدة الجبر تطويح بالوحى كله، وتزييف للنشاط الإنسانى من بدء الخلق إلى قيام الساعة، بل هى تكذيب لله والمرسلين قاطبة.. ولما كانت بعض المرويات مسئولة عن هذا البلاء فقد أحببت أن أشرح القضية بضرب بعض الأمثلة.. قد يقول لك الأستاذ بعد ما خبر تلامذته فى قاعة الدرس إننى أعتقد أن فلانا سوف ينجح وفلانا سوف يرسب... ثم يعقد الامتحان آخر العام ويدخله الطلاب، فإذا رأى الأستاذ يتحقق! فيقول لك مباهيا: إن كلامى لا يقع على الأرض!، كان لابد أن يتحقق ما قلت!. هل معنى ذلك أن رأى الأستاذ هو الذى أنجح هذا وأسقط ذاك؟ كلا إن ذلك نجح بجهده، وذاك سقط بلعبه.. وما قول الأستاذ إلا تصوير لصدق حكمه . إن لله المثل الأعلى، وعلمه بكل شىء مستيقن، وعلمه السابق الذى لا يتخلف ليس سببا فى نجاة ولا هلاك، إنه لا يتخلف لأنه علم الله الذى يستوى عنده الماضى والحاضر والمستقبل. والظن بأن نجاة من نجا وهلاك من هلك هو أثر إكراه الله لهذا وذاك هو من الظن السوء، وما أراه إلا كفرا..!! ومن ثم فإننا نتناول بحذر شديد ما جاء فى حديث مسلم " فوالذى لا إله ص _174(1/143)
غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكما ليعمل بعمل أهل النار... الخ " إذا كان الحديث المذكور تنويها بشمول العلم الإلهى، وأن بدايات بعض الناس قد تكون مخالفة لنهاياتهم فلا بأس من قبوله بعد الشرح المزيل للبس، المبطل للجبر.. أما المعنى القريب للحديث فمردود يقينا، وهو مخالف للكتاب والسنة، أو للعقل والنقل.. وأذكر هنا: أن الإمام مالكا فى موطئه روى حديث عائشة - الذى نقله مسلم - "كان مما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهن مما يقرأ من القرآن " (!) قال الإمام مالك: ليس على هذا العمل... ورفض الحديث. وحق له أن يرفضه، وقد بنى مالك مذهبه كالأحناف على أن مطلق الرضاع يحرم.. ونحن نؤكد مرة ومرتين أنه ليس لروايات الآحاد أن تشغب على المحفوظ من كتاب الله وسنة رسوله، أو أن تعرض حقائق الدين للتهم والريب. وقد قرأت ما رواه الترمذى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه سئل عن قوله تعالى (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين). قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه ص _175(1/144)
وسلم - يسأل عنها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -: "إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح على ظهره، فاستخرج منه ذرية فقال: هؤلاء خلقت للنار، وبعمل أهل النار يعملون. فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ قال: فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: إن الله إذا خلق العبد للجنة، استعمله بعمل أهل الجنة؟ حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الجنة، وإذا خلق العبد للنار، استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله الله النار ". وهذا السياق يكاد يكون نصا فى الجبر، ولذلك نرفضه، ونراه من أوهام الرواة، بل نراه من الجهل بمعانى القرآن الكريم . فإن هذا التفسير المنسوب لعمر يسير فى اتجاه مضاد للتفسير البديهى المفهوم من الآيات البينات، الآيات تقول للمشركين عن رب العزة: لا وجاهة لكم عندى، ليس لكم عذر قائم ولا حجة ناهضة، إننى منحتكم عقلا يفكر وفطرة تبعث على التوحيد والاستقامة، وأنزلت ما يمنعكم من تقليد الآباء الجهلة، فلماذا تجاهلتم هذه المعالم كلها، وهمتم على وجوهكم فى طرق الشر والغواية... أفبعد هذا التفصيل والتوضيح تبعدون عنى ولا ترجعون إلى؟. هذا هو تفسير الآيات كما ينقدح فى ذهن كل عاقل، وكما يثبت لأول وهلة فى فهم القارئ العادى.. ولنذكر الآيات كما وردت فى القضية كلها: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون * وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون). ص _176(1/145)
فأين- يا أولى الألباب- آثار الجبر الإلهى هنا؟ وأين ما يفيد أن الله خلق ناسا للنار يساقون إليها راغمين، وخلق ناسا للجنة يساقون إليها محظوظين؟ إن التعلق بالمرويات المعلولة إساءة بالغة للإسلام، وينبغى ألا نتجاوز كتاب ربنا وسنة نبينا، فذاك نهج سلفنا الأول... كل ميل بعقيدة القدر إلى الجبر فهو تخريب متعمد لدين الله ودنيا الناس، وقد رأيت بعض النقلة والكاتبين يهونون من الإرادة البشرية، ومن أثرها فى حاضر المرء ومستقبله، وكأنهم يقولون للناس: أنتم محكومون بعلم سابق لا فكاك منه، ومسوقون إلى مصير لا دخل لكم فيه فاجهدوا جهدكم فلن تخرجوا عن الخط المرسوم لكم مهما بذلتم . إن هذا الكلام الردىء ليس نضح قراءة واعية لكتاب ربنا، ولا اقتداء دقيق بسنة نبينا، إنه تخليط قد جنينا منه المر..!!. يقول الله لكل بشر على ظهر الأرض (فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون * من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون). فهل ربط الجزاء بالعمل هنا من قبيل المزاح أو الخديعة؟. وعندما يصف ربنا جزاء الكذبة والمكذبين، ويذيقهم عقبى ما قدموا ويقول (فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون * ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون). هل هذا الربط المتكرر بين العمل والجزاء؟ هل هذه النقمة المحسوسة على ص _177(1/146)
المجرمين، تومئ من قرب أو بعد إلى أن القوم كانوا أهل خير فلوى زمامهم قدر سابق، أو كتاب ماحق؟ ما أقبح هذا الفهم . فى يوم الحساب يحصد الناس ما زرعوا لأنفسهم، والقرآن حريص كل الحرص على إعلان هذه الحقيقة: وهى إنك واجد ما قدمت! لن تؤاخذ أبدا بشيء لم تصنعه، لم تغلب على إرادتك يوما فيحسب عليك ما لم تشأ… إن المغلوب على عقله أو قصده لا يؤاخذ أبدا، بل إن التكليف يسقط عنه!!. وتدبر قوله تعالى (ألقيا في جهنم كل كفار عنيد * مناع للخير معتد مريب * الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد * قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد * قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد * ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد). ربنا سبحانه وتعالى ينفى الظلم عن نفسه، ويقول إنه ما عذب إلا من فرط وأساء. ومع ذلك يجيء أقوام منا فيزعمون أنه رمى بناس فى النار بعد أن قهرهم على طريقها، وأنه لا يسأل عما يفعل!! وليس بظالم فيما أوقع بعباده! . هذا تفكير أعمى لا يتصل بفطرة الله ولا بوحيه ويجب فطام العوام عنه!!. وسبب هذا الشرود: سوء الفهم للآيات، وسوء النقل للأحاديث.. ولنضرب أمثلة لما ذكرنا: إن الحق يعرض على الناس، فمن قبله شرح الله به صدره، وأنار عقله، ومن أبى زاد الله قلبه ظلمة وسلوكه حيرة.. وعندما يضل الله مجرما فلن ينقذه أحد، ولن يجد وليا ولا نصيرا، وفى هذا يقول الله تعالى (من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون). ص _178(1/147)
الجملة الأولى فى الآية تفيد أن من عاقبه الله بالإضلال فلن ينفعه أحد، والجملة الثانية تفيد أنه إنما أضله لطغيانه وعماه. لكن البعض يقف عند الجملة الأولى وينسى الثانية أو يفهم أن طغيانه جاء نتيجة إضلال الله له وهذا جهل كبير، فإن إضلاله جاء نتيجة طغيانه، فالإضلال نتيجة لا سبب. ويؤكد هذا قوله تعالى فى موضع آخر (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب و إما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا و أضعف جندا * ويزيد الله الذين اهتدوا هدى). وقد يجيء بعض الناس إلى آية يقف عقله الكليل عندها فيفهمها فهما مقلوبا مثل قوله تعالى (فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين). أو قوله سبحانه: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين). إنه يفهم أن الله خلق للنار ناسا، وخلق للجنة آخرين، ثم دفع هؤلاء دفعا إلى النار ودفع هؤلاء دفعا إلى الجنة، وقد سبق بذلك كتابه!! وهذا كله جهل، فالآيات تعنى أن الله كان قادرا على أن يخلق الناس كلهم ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون! لكنه- وهو المريد المختار- صنع البشر على مثال آخر، أو على نموذج فيه صلاحية للعوج والاستقامة، وأدخلهم فى مسابقة عامة أو فى اختبار حر وسوف تمتلىء النار بالساقطين وتمتلىء الجنة بالناجحين... ص _179(1/148)
نعم هو من بدء الخلق يعرف ما سيكون، لكن علمه مبتوت الصلة بنجاة من نجا وهلاك من هلك. وقد يتقعر البعض ويقول: ما تم شىء إلا بإذنه! ولكى نجيب على هذه الشبه نقول: المجرم يذهب إلى حقل قمح ناضج السنابل حافل بالخير، فيشعل النار فيه، فإذا قبض عليه يقول: ما كانت النار لتشتعل لولا "الأكسيجين " الذى خلقه الله فى الهواء! ولو خلا الجو من هذا العنصر ما احترق الحقل، فالله هو المسئول عن جريمتى، إذ بإذنه تمت . إن إرادة الله مبثوثة فى كل شئ، ولو قهرتنا على عمل ما حوسبنا، إننا نحاسب على ما قدمت أيدينا ولن نستطيع شرح العلاقة بين إرادة الله المحيطة، وبين الحرية المتاحة لنا فى الاتجاه إلى اليمين أو الشمال... وتصيد الشبهات للفرار من المسئولية لا يجدى. كل أثر مروى يشغب على حرية الإرادة البشرية فى صنع المستقبل الأخروى يجب ألا نلتفت إليه، فحقائق الدين الثابتة بالعقل والنقل لا يهدّها حديث واهى السند أو معلول المتن ! لكننا مهما نوهنا بالإرادة الإنسانية فلا ننسى أننا داخل سفينة يتقاذفها بحر الحياة بين مد وجزر، وصعود وهبوط، والسفينة تحكها الأمواج ولا تحكم الأمواج !. ويعنى هذا أن نلزم موقفا محددا بإزاء الأوضاع المتغيرة التى تمر بنا. هذا الموقف من صنعنا وبه نحاسب! أما الأوضاع التى تكتنفنا فليست من صنعنا، ومنها يكون الاختبار الذى يبت فى مصيرنا! إن جراثيم الأمراض تملأ الجو، ولو أن كل عدوى تصيب لهلك البشر! ص _180(1/149)
وإلا، فما قيمة جهاز المناعة الكامن فى أجسامنا؟ كيف يحمى؟ كيف يفشل؟. والصبغات المورثة للخصائص المادية والنفسية والفكرية، ما نصيبنا منها ؟ إن ذلك ليس إلينا وإن حدد المجال الذى يتم فيه اختبارنا.!. إن الفلاح يرمى فى التراب حفنات من البذور، قد ترتد إليه قناطير مقنطرة، وقد تعود عطاء محدودا، وقد تذهب سدى! وجهود الناس فى الدنيا تتبع هذا المسار.. وقد نعزم وينفك عزمنا من تلقاء نفسه، وقد تعترضه عوائق تعصف به لأنه لا يطيق مواجهتها.. وقد نطيع حافزا نفسيا عابرا فيبلغ بنا إلى القمة أو يهوى بنا إلى القاع... إن الإنسان عبد لله، وليس إلها على ظهر الأرض.. وقد شاء الله أن يخلقه على نحو خاص، فليس جمادا، ولا دابة ولا ملكا.. وبهمته أن يعبد ربه، وأن ينجح فى أداء هذه العبادة، وأن يقهر المثبطات والعقبات، فإن نجح نجا، وإلا طاح!!!. ولن يغنى عنه أن يقول: إننى " جماد " لا إرادة لى.. أو أننى ورقة تطير بها الريح وتهبط.. كلا، إنك إنسان مكتمل المشيئة فى كل ما يزكى نفسك أو يدنسها، والسفسطة لا تجدى (و من الناس من يجادل في الله بغير علم و لا هدى و لا كتاب منير * ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي و نذيقه يوم القيامة عذاب الحريق * ذلك بما قدمت يداك و أن الله ليس بظلام للعبيد). وبعد انتهاء الحياة تعود الأرواح إلى بارئها، ونحن أمام موقفين متضادين، هناك من قضى عمره كدحا إلى الله وجهادا فى سبيله، وهناك من عاش ذاهلا ص _181(1/150)
غادرا لم يقم لله بحق... أما الأولون فإن الملائكة تستقبلهم بالترحاب والود تقول لهم (ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون). وأما الآخرون فالاستقبال عابس، والأفق مليء بالدخان والنذر، لقد واجه كل امرئ منهم ما كان ينكر، وعلم علم اليقين أنه كان فى ضلال مبين! إنه يتمنى فى هذه اللحظة المستحيل، يتمنى لو عاد إلى الدنيا مرة أخرى يستأنف حياة أهدى!. (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون). وقد أحصيت فى كتاب آخر نحو عشرة مواضع تكررت فيها هذه المنى! وهيهات فليس لامتحان العمر ملحق، ولا دور ثان يستدرك فيه المفرط ما فات وهذا الندم- بعد فوات الأوان- ينطق بحقيقة واحدة، شعور المجرم أنه هو الذى ظلم نفسه، وهو الذى صنع حتفه بظلفه!. إنه لن يحاول الكذب فيقول: كنت مجبورا على ما كان منى، أو سبق فى كتاب بما لم أرد لنفسى . ولو أنه حاول الافتراء لأخرس الله لسانه، وأنطق أركانه بما حدث... إن الله لا يكره أحدا على طريق الشر ثم يدخله النار! ومن تصور هذا فهو جاهل بالله طائش العقل... ومن المنتمين إلى ديننا من يتصور ذلك- للأسف الشديد- ويحاول إساغته بترهات لا تقال.. ونشرح هنا موقف الضالين كما صورته سورة المؤمنين وحدها: ص _182(1/151)
ليس العمر ساعة واحدة. إنه ساعات شتى. بعضها يسر وبعضها يضر. ليس العمر موقفا واحدا، إنه مواقف بعضها يشرف وبعضها يخزى، والمهم هو المحصل الأخير (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون * فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون * تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون). ولنتدبر هذا الحوار بين رب العزة وبين الأشقياء المسجونين فى جهنم! إنه يقول لهم (ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون). ترى ما جواب القوم؟ إنهم يطلبون فرصة أخرى ينجحون فيها بعد هذه الفرصة الضائعة! يقولون (ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضآلين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون). ويستمع رب العزة إليهم، ثم يرد بما معناه : كان على الأرض عمل ولا حساب أما هنا فحساب ولا عمل، إنها فرصة واحدة توالت الرسل للحث على انتهازها، لكن المجرمين كابروا وكذبوا. يقول الله لهم (قال اخسئوا فيها ولا تكلمون * إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين * فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون). هذا تذكير بأيام الطغيان الأولى، لطالما وثب الزائغون الطاغون على جمهور المؤمنين الضعفاء فأذاقوهم عذاب الهون، وكانوا منهم يسخرون!. ها قد تبدلت المواقف وتغيرت الأحوال، ورجحت كفة الخير، وجنى الصابرون عقبى ما تحملوا وأملوا .. ص _183(1/152)
ويقول الله سبحانه خاتما الحوار (إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون). أترى فى هذا الحوار أثارة من ظلم نزلت بمعذب ؟ أجرؤ أحد أن يفترى على الله كذبا فيقول له: إنك كتبت على ما كتبت، والآن تؤاخذنى بما لم أستطع الفرار منه؟. إن تصوير القدر على النحو الذى جاءت به بعض المرويات غير صحيح، وينبغى ألا ندع كتاب ربنا لأوهام وشائعات تأباها روح الكتاب ونصوصه… القرآن قاطع فى أن أعمال الكافرين هى التى أردتهم (يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون). وقاطع فى أن أعمال الصالحين هى التى نجت بهم (ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون). فلا احتجاج بقدر، ولا مكان لجبر. وعلى من يسيئون الفهم أو النقل ألا يعكروا صفو الإسلام.. وعندما كنت أكتب هذا البحث وقعت فى يدى كلمة جميلة للأستاذ أحمد بهجت عنوانها " المغفلون " رأيت إثباتها لغرض سينكشف بعد قليل... - "هناك ناس يحبون الله.. وهناك ناس يكرهون الحق.. هناك ناس تخشع قلوبهم لذكر الله. وهناك ناس يشمئزون إذا تعلق الأمر بالحق. هناك ناس يحبون الدين، ويحبون أن تشيع الفضيلة فى الناس وأن تنتشر ص _184(1/153)
القيم بينهم، وهناك ناس يكرهون الدين كرههم للعمى، وهؤلاء الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الناس، وأن ينتشر العرى لتسقط العيون الجائعة عليه كما يسقط الذباب على اللحم المكشوف ". والصراع بين المؤمنين والكافرين جزء من سنة الحياة. لقد خلق الله ناسا هم أهل للجنة، وخلق ناسا هم أهل للنار، والذين يدخلون الجنة يدخلونها برحمة الله وعفوه، والذين يدخلون النار يدخلونها بإصرارهم واختيارهم وحريتهم المطلقة. ولا حجة لأحد على الله عز وجل. لقد أقيمت الحجة على الناس.. فى فطرتهم وفى آيات الله فى الكون. والأصل المعروف هو استغناء الله تعالى عن الخلق، وحاجة الخلق إليه (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد). ونحن نعرف أن عبادة العابدين لا تزيد فى ملكه سبحانه، كما أن كفر الكافرين وإلحاد الملحدين لا ينقص من ملكه سبحانه شيئا. الدين فائدة للناس لا فائدة لله واتباع الدين لخير الناس لا لخير أحد غيرهم، ومن هنا نرى المغفلين عادة يقفون فى المعسكر المعادى للدين. وقد وصف المغفلون بأن لهم أعينا لا يبصرون بها، وآذانا لا يسمعون بها، وقلوبا لا يفقهون بها. . أيضا تمت مقارنتهم بالبهائم، وصرح النص القرآنى أن الأنعام أهدى منهم (أولئك كالأنعام بل هم أضل). ص _185(1/154)
وقد كان الرسول يحزن لتكذيب الناس له ويدهشه هذا الغلو فى العداء واللدد فى الخصومة، وأفهمه الله تبارك وتعالى أن الناس لا يكذبونه ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون. والظالم مغفل كبير، إنه يشترى النار بإرادته واختياره، وليس بعد هذا التغفيل تغفيل. والظالم يكسب الدنيا ويخسر الآخرة، وهذا أيضا تغفيل عظيم.. لأن الدنيا إذا قيست بالآخرة كانت أقل من جناح بعوضة. نسأل الله السلامة.. " ا. هـ وهذا كلام صادق، حسن الوقع والثمر. وقد أثبتناه بين يدى كلام آخر لا يزيد أمتنا إلا سقاما، ذكره أحد الواعظين فى مجال تخويف الناس من الله حتى يدعوا الرذائل! انظر كيف خوفهما من الله؟ قال: إننا مهما عملنا من خير لا نعرف مصايرنا. وقد نكون من أهل النار ونحن لا ندرى..!! ثم ذكر أحاديث فى القدر لا تخدم إلا مبدأ الجبر، بل تجعل العصاة يمضون مع المنحدر إلى نهايته لأنهم يحسون فقدان الإرادة التى تسيطر على الأمور. وأغلب المسلمين تساورهم هذه الظنون المجنونة لأنهم فهموا أن المثوبة والعقوبة حظوظ عمياء، أو مصادفات ليست لها ضوابط. ونحن نتلو قوله تعالى (قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا). ولكن الله القدير الحكيم العدل القائل (كتب ربكم على نفسه الرحمة). لا يخلق ناسا للنار لمجرد أنه يريد لهم العذاب. ولنذكر طرفا من هذه الأحاديث جاءت فى القدر أحاديث كثيرة، نرى أنها بحاجة إلى دراسة جادة، حتى يبرأ المسلمون من الهزائم النفسية والاجتماعية التى أصابتهم قديما وحديثا.. ص _186(1/155)
روى أبو داود عن عبادة بن الصامت رضى الله عنه أنه قال لابنه عند الموت: يا بنى إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، فإنى سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب! قال: يا رب وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شئ حتى يوم القيامة. يا بنى إنى سمعت رسول الله يقول: من مات على غير هذا فليس منى" !. وفى رواية أخرى للترمذى، ما يؤكد هذا الحديث وقد علق الشيخ محمد حامد الفقى على الحديث ورواته بأن فى السند متهما بالوضع، ومتروكا، ومنكر الحديث!! ومع ذلك فنحن مع تهافت الأسانيد نرى فى المتن جملا مقبولة تتلاقى مع دلالات القرآن القريبة والبعيدة، وتتفق مع العقيدة الصحيحة: وهى أن الله أحاط بكل شئ علما، وأنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، وعلينا بعد ذلك أن نكافح لنضع مستقبلنا فى الدار الآخرة غير وانين ولا متقاعسين.. المشكلة تكن فى أحاديث أخرى صحيحة السند، غير أن متونها تقفنا أمامها واجمين! لنبحث عن تأويل لها أو مخرج. خذ مثلا حديث عائشة رضى الله عنها قالت دُعي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى جنازة غلام من الأنصار، فقلت: يا رسول الله، طوبى لهذا! عصفور من عصافير الجنة، لم يدرك الشر ولم يعمله! قال: أو غير ذلك يا عائشة ؟ إن الله عز وجل خلق للجنة أهلا، خلقهم لها وهم فى أصلاب آبائهم! وخلق للنار أهلا، خلقهم لها وهم فى أصلاب آبائهم ". وخذ مثلا حديث سهل بن سعد أن رسول الله قال: " إن الرجل ليعمل ص _187(1/156)
بعمل أهل النار وإنه لمن أهل الجنة، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة وإنه لمن أهل النار"!!. وخذ مثلا حديث عبد الله بن عمرو قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "إن الله خلق خلقه فى ظلمة، فألقى عليهم من نوره! فمن أصابه من ذلك النور! اهتدى، ومن أخطأه ضل! فلذلك أقول: جف القلم على علم الله تعالى!". وهناك أحاديث كثيرة تدور على هذا المحور، وهو أن الإنسان مسلوب المشيئة، وأنه مقهور بكتاب سابق، وأن سعيه باطل لأنه لا يغير شيئا مما خط عليه فى الأزل. نقول: هل صحيح أن سعى الإنسان باطل ؟ فماذا يقول الله تعالى عن يوم الحساب: (إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى). ولماذا يقول: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزاء الأوفى). إن الله تبارك وتعالى يطلب من الإنسان أن ينصف نفسه من نفسه! وأن يعترف بأنه أخطأ حيث ينبغى أن يصيب، وأساء حيث يستطيع أن يحسن، ولذلك يقول له: (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا). فهل يقال له ذلك وهو مجبور مسكين؟ أم يقال له ذلك وهو حر مختار؟ إن ظواهر الجبر فى هذه الآثار كلها مرفوضة عند علماء الإسلام، وأمامنا أمران لا ثالث لهما، إما صرف هذه الظواهر إلى تأويل قريب مقبول! ص _188(1/157)
وإما اعتبارها آثارا بها علة قادحة تسقطها من درجة الصحة، وإيرادها فى مجال التربية والتعليم لا يجوز. وقد استطعت بشىء من التكلف أن أصرف شبهة الجبر عن آثار شتى! لكنى لم أستطع إصلاح عقول تريد أن تسوق الإسلام كله إلى أحاديث غير واضحة. تظهر عليها العلل القادحة. يقول الله سبحانه فى الأمم التى حكم عليها بالهلاك (وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون * ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى). الله يعاقب مقترفى السيئات بالسوآى، فهذا عدله، ولو شاء عفا، وهذا حقه. ولكنه لا يظلم مثقال ذرة... ومن العجب أن ننسب إليه الجبر ثم نقول لا يسأل عما يفعل! إن الذين يخطئون فى الفهم ويجورون فى الحكم لا ينبغى أن يسقطوا عوجهم الفكرى على دين الله... والله ولى التوفيق. وهو حسبنا ونعم الوكيل. ص _189
خاتمة ضعف الوعى القرآنى جريمة! السلسلة الذهبية لا تشفع لمتن متهافت... الفقيه مع المحدث يضبطان السنة النبوية لا يسأ ل الرجل: فيم ضرب امرأته؟. جزيرة المسيخ الدجال!. لا علاقة للمرأة بإنجاب ذكور ولا إناث. ص _190(1/158)
المنهج الذى هدانى الله إليه- وله المنة- أن أعرف الرجال بالحق، ولا أعرف الحق بالرجال! وأن أنظر بتأمل إلى ما قيل ولا أنظر بتهيب إلى من قال!. والوصول إلى الحق يحتاج إلى الذكاء قدر ما يحتاج إلى الإخلاص، ومن ثم منح الله أجرين لمن عرفه! ومنح أجرا واحدا لمن أخطأه وهو حريص على بلوغه.. وبعض الناس يظن أن خطأ مجتهد ما قضاء على مكانته، ونسف لشخصيته، وهذا جهل كبير! فما أكثر الأخطاء التى وقع فيها مجتهدون من كبار الأئمة... إن بناءهم العلمى شاهق، والخير الذى انفجر منهم دافق، فلا تهدمهم قذاة، أو تزرى بهم كبوة! والدهماء عندنا ميالون إلى القول بعصمة الأكابر، ونحن لا نعرف فى تاريخنا إلا معصوما واحدا، هو محمد بن عبد الله صاحب الرسالة الخاتمة... وقد نقدت مرويات جاءت فى الصحاح رأيتها تمس الصميم من ديننا! وتفتح ثغرات مخوفة ينفذ منها عدونا، ما قصدت بذلك أن ألمز كبيرا أو أضع من قدره، ولا قصدت بذلك أن أرفع خسيستى (يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم). وإنما كان نصحى لله ورسوله ومصلحة الدين الذى شرفت بالانتماء إليه والدفاع عنه.. ص _191(1/159)
من ذلك اعتراضى على نقل أو رأى لنافع مولى عبد الله بن عمر فى أمرين حساسين يتصل أحدهما بالأسرة والآخر بالدعوة أو الدولة، رأيت التابعى الكبير تورط فيهما تورطا مفزعا مسيئا، ولا يجوز السكوت! كلنا يقرأ قوله تعالى (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم). والحرث مكان البذر لا غير، لا يقول بغير ذلك أحد يعرف لغة الوحى.. بيد أن فهما شاذا أثبته فى الصحاح من لا يدققون فى المتون رأوا فيه أن الرجل يستطيع أن يتجاوز ذلك من زوجته!. ونظرت- بتجرد- إلى هذا النقل السيئ فرأيته يخزى النساء الحرائر، ويرضى الرجال الشواذ، ويقلب موازين الفطرة، ويفتح بابا جديدا لمرض " الإيدز " فلم أتريث فى رفضه، وقلت: لكل جواد كبوة!. ونافع غفر الله لنا وله، برأيه هذا أو بروايته يخالف دلالات القرآن، وسننا أخرى أثبتها الرواة كما يخالف طبائع الأحياء من أناسى ووحوش ودواب... ولكن ناسا فى عصرنا ما كادوا يقرؤون ما كتبت حتى انبروا لمهاجمتى والنيل منى، وليس هذا بضائرى! وإنما لفت نظرى أن القضية العلمية لفها ضباب مفتعل، فلم تبحث، ولم يذكر حكم الله فيها حتى لخيل إلى أن التجهيل فى الحكم مقصود!! والصياح الذى طال! حبله هو: أتعترض على نافع يا... أتشكك فى السلسلة الذهبية يا... أتكذب السنة النبوية يا... إلخ وتحول الاعتراض إلى عواء يسمع صداه من قريب ومن بعيد، فذكرت قول الشاعر: كريم أصابته ذئاب كثيرة فلم يدر حتى جئن من كل مذهب! قلت: لابد من إنصاف الحقيقة العلمية التى كادت تختفى مع هذا العواء، ليعرف الرجال والنساء أن ما حكاه نافع باطل، وإن إفساد الدين لا يستطيعه بعض المتحمسين العميان من عبيد الأسماء. ص _192(1/160)
قلنا: إن الشهوة الجنسية ليست رجسا من عمل الشيطان إذا تمت فى نطاقها المرسوم، هذا النطاق هو الزواج، وهو لا يتم عقلا ولا نقلا إلا بين رجل وامرأة، أما ما وراء ذلك فدنس مرفوض. والمجتمعات الوثنية، والملحدة، تمد رقعة الشهوة فلا تقف عند حد، وقد لاحظنا ذلك فى الجاهليات القديمة والحديثة على سواء. نشأت علاقات شاذة لا يبقى بها النوع! وإذا بقى فعلى نحو خبيث شرير كما قال تعالى (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا). وقد كان المشركون العرب يفتنون فى إرواء ظمئهم الجنسى، يشبههم فى ذلك الأوربيون والأمريكيون اليوم فهم يتعدون دائرة الحلال المباح إلى دائرة أخرى مليئة بالمستنقعات والأوبئة. وعندما تحدث القرآن الكريم عن قوم لوط ذكر أوصافا محددة، هى الإسراف، والعدوان، والجهالة، والإجرام والإفساد وما يتصل بهذه المعانى المظلمة.. وقد لاحظت أن أكثر ذلك كان فى القرآن النازل بمكة قمعآ لغرائز السوء، وتذكيرا بمصاير الهالكين " أتأتون الذكران من العالمين * وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون... ". تم بدأت شرائع الأسرة فى المدينة المنورة إقامة لمجتمع فاضل طاهر، وشرح القرآن الكريم أن المرأة سكن لزوجها، ونبع يفيض بالود والرحمة، وأن العلاقة بينهما تبلغ حد الامتزاج " هن لباس لكم وأنتم لباس لهن". وأن المقصود ليس إنشاء ذرية ما يبقى بها النوع بل إنشاء ذرية صالحة تزيد بها الحياة كما وكيفا، ومن ثم فلا مكان لشذوذ أو عدوان أو فساد. ولا يجوز أبدا أن يستضعف الرجل امرأته فيرتكب معها ما لا يليق، فعن ص _193(1/161)
عبد الله بن عمرو أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: هى اللوطية الصغرى! " يعنى الرجل يأتى امرأته فى دبرها ". وعن عمر بن الخطاب قال رسول الله: "استحيوا فإن الله لا يستحيى من الحق ولا تأتوا النساء فى أدبارهن"! وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله قال: "استحيوا من الله فإن الله لا يستحيى من الحق!! لا يحل مأتاك النساء فى حشوشهن " يعنى فى غير الحرث. وقد قص على صديق ثقة أن طالبة مطلقة طلبت منه أن يستمع إليها بعيدا عن الزميلات! قال: كانت بادية الغضب تبلغ حد الهياج، سألته أتستطيع أن تضع فى عقد الزواج شرطا يصون كرامتها؟ قال: ما هذا الشرط؟ فتمعر وجهها وتهدج صوتها وقالت نحن بشر! لسنا بهائم.. وخفت حديثها واستحيت من إتمامه، ولكنه عرف أن الزوج الذى طلقها أو طلقته كان شاذا. فى عالم البهائم تكره الأنثى- بعد أن تحمل- أن يتصل بها ذكر، لأن المقصود تم وهو الحمل!. أما فى عالم الإنسان فالصلة أرقى وأزكى لأن التواصل فى مهاد الأسرة استدامة للسكن المنشود والود المتبادل. وأريد أن يعرف المسلمون الحكمة العليا من الزواج فيكون كلا الزوجين امتدادا لسعادة الآخر ولا يتم ذلك إلا بالأسلوب المشروع. وإنى أطلب من الزوجة التى يشذ زوجها أن توبخه وأن تعنفه، وقد جعل ابن تيمية ذلك ذريعة إلى أن يحكم القاضى بالطلاق.. من أجل هذا كله رفضنا ما رواه نافع غفر الله لنا وله، وإن تعصب له من لا يفقهون . لقد ابتلى الإسلام بأعداء ينتقصون أطرافه من الخارج، كما ابتلى بأعداء ص _194(1/162)
يشوهون حقائقه من الداخل، ولعل العدو الداخلى أنكى من العدو الخارجى..!. لقد رأيت مرويات كثيرة لا تستحق الحياة، ومع ذلك فقد ضريت حتى زاحمت على الصدارة!. والعلة فى هذه الفوضى غفلة أهل الإيمان، واسترسالهم أحيانا مع الظنون.. إن أكذوبة الغرانيق لم يضعها مستشرقون وإنما وضعها ناس عندنا فقدوا الوعى والتقوى، وأكذوبة أن الرسول! عشق بنت عمته زينب بعد ما زوجها من زيد بن حارثة!! فرية بلغت الغاية من الغثاثة والسخف، ومع ذلك وجدت من يرويها.. ومن قديم وعلماء الإسلام النقدة يحمون الحقيقة ويزودون عنها الخرافيين وذوى الأهواء.. وقد رفضت دون تردد ما فهمه البعض من أن الرسول- عليه الصلاة والسلام- قد يغير على الناس دون دعوة، ويأخذهم على غرة، فلا يدرى القتيل لم قتل؟ ولا يدرى الجريح لم جرح؟. الإسلام بطبيعته دين دعوة، يقول لك تعلم وعلم، اقتنع وأقنع غيرك، انقل الحق وأعل مناره حتى يستطيع الآخرون السير على شعاعه " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير... ". والبلاغ يجب أن يكون مبنيا حتى ينتقل الوضوح من صدرك إلى صدر سامعك، وتكونوا سواسية فى الاستبانة والوعى!. وهذا ما عنته الآيات " قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون * فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون ". وقد كان التوحيد- ولا يزال- يشق طريقه بصعوبة، وتكمم الأفواه ص _195(1/163)
الصياحة به، ويحتدم القتال من أجل حقه فى الحياة، وقد أمر المسلمون أن تكون دعوتهم إلى الإسلام- قبل الاشتباك- هى آخر ما يقطع الأعذار!. لقد كانوا يدعون فقاومهم الفتانون، وهاهم أولاء قبل الحرب يدعون ليستجيب لهم من يؤثر الحق والسلام. والتبعة بعد هذا على عبدة الأوثان، ولا عدوان إلا على الظالمين،كما قال الرسول الأمين... فهل صحيح أن الدعوة كانت فى صدر الإسلام ثم نسخت؟ كما فهم نافع مولى عبد الله بن عمر. هذا الفهم مخالف للكتاب وللسنة وللواقع التاريخى. ولنقرأ هذا الحديث الذى رواه مسلم وغيره عن يربدة رضى الله عنه قال: "كان رسول الله إذا أمرا الأمير على جيش أو سرية أوصاه فى خاصته بتقوى الله تعالى، ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: اغزوا باسم الله فى سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا. فإذا لقيت عدوك من المشركين؟! فادعهم إلى ثلاث خلال، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف! عنهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام! فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما عليهم، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجرى عليهم حكم الله الذى يجرى على المؤمنين إلى أن قال: وإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم.. فإن أبوا فاستعن بالله تعالى عليهم وقاتلهم". والذى نلفت النظر إليه بادئ ذى بدء أن هذا الحديث قيل فى أواخر العهد النبوى! لأن ذكر الجزية ورد فيه، والجزية لم تعرف فى الشريعة إلا بعد نزول ص _196(1/164)
سورة براءة، وهذه السورة نزلت فى آخر السنة التاسعة من الهجرة، أى قبل وفاة الرسول- صلى الله عليه وسلم- بعام تقريبا... ويعنى هذا التحقيق التاريخى أن الدعوة كانت قائمة أول حياة الرسول وآخرها، وأن الزعم بنسخها لا أصل له، وأن نافعا غفر الله له جانبه التوفيق فى فهمه!. بل إن ابن هشام فى سيرته كان أولى بالحق عندما ذكر أن بنى المصطلق بلغتهم الدعوة وأنهم- حين بلغتهم- قرروا رفضها، وانحازوا جانبا كى يأخذوا أهبتهم للقتال! ثم فوجئوا بالغارة التى أجهضت استعدادهم، وفضت جموعهم.. على أن الأمر كله بحاجة إلى إيضاح، فقد كان المسلمون بعد تسعة عشر عاما من بدء الدعوة يعدون خوارج على القانون! كان المشركون يشمئزون من عقيدة التوحيد، ويبطشون بجميع دعاتها لو استطاعوا!. ومع أن عهد الحديبية منحهم اعترافا بوجودهم المادى والأدبى إلا أن هذا العهد سرعان ما خرجت قريش عليه، وعادت جزيرة العرب سيرتها الأولى فى التعصب للوثنية وعبيدها وحدهم. إن العرض الذى وضعناه تحت أعين المشركين وهو (لكم دينكم ولي دين). استبعد وتنوسى وأمسى المسلمون أحوج أهل الأرض للدفاع عن أنفسهم وإقامة دولة تحمى عقائدهم وشرائعهم، وترغم الوثنية على احترام الحرية الدينية... وأقول: ما أشبه الليلة بالبارحة إنه محظور علينا أن نحيا بالإسلام كما نريد. ولأترك هذا الشجن لأذكر أثرا آخر يعرف منه القراء خلق رسول الله، ومبلغ حرصه على حقن الدماء، ورفضه الشريف لقصة " الغارة بلا إنذار " التى توهمها بعض الرواة!. روى أبو داود عن الحارث بن مسلم عن أبيه قال: بعثنا رسول الله فى سرية، فلما بلغنا المغار- مكان المعركة،- استحثثت فرسى، فسبقت أصحابى، ص _197(1/165)
فتلقافى أهل الحى بالرنين! فقلت لهم: قولوا لا إله إلا الله تحرزوا، فقالوها! فلامنى أصحابى وقالوا حرمتنا الغنيمة... فلما قدمنا على رسول الله أخبروه بالذى صنعت فدعانى، فحسن لى ما صنعت! ثم قال لى: أما إن الله تعالى قد كتب لك بكل إنسان منهم كذا وكذا من الأجر.. وقال: أما إنى سأكتب لك بالوصاة بعدى، ففعل، وختم عليه، ودفعه إلى!! ". إن محمدا- عليه الصلاة والسلام- أشرف من أن يأخذ الناس على غرة، وعلى الذين يقرؤون الأحاديث أن يتفقهوا، وأن يدرسوا الملابسات والتواريخ والأحوال، وقد قلت ومازلت أقول لا سنة بلا فقه... إننا مع تدبر القرآن نعرف أسلوب الدعوة فى العرض والإقناع، ومع دراسة التاريخ نعرف أن الوثنيين كابروا الحق لآخر رمق، وأن الوثنية إلى آخر قادتها مسيلمة احتقرت البرهان! واعتسعت الطريق، فلم يكن من السيف بد، ولسنا نحن الذين نختل الدنيا أو نستبيح الناس. فقهاء السيرة والتاريخ والأخلاق يعلمون أن الدعوة إلى الإسلام فريضة لا يقدر أحد على الغائها، وأن هذه الدعوة عامة لا يحدها زمان ولا مكان وأنها- تتأكد- قبل نشوب الحرب خاصة. وقد شرحنا فى كتبنا الأخرى أسباب القتال، وأنها كما تكون دفاعا عن الحقائق والحقوق تكون تأمينا لمسار الدعوة من الفتانين والمعونين.. أى أنى أعرض ما عندى على الناس بأدب وتلطف، فإذا قال لى أحد: أنصرف عنى، لا أحب أن أسمعك، ولست لك عدوا ولا صديقا، اذهب إلى ص _198(1/166)
غيرى ولا شأن لى بما تصنع معه أو بما يصنع معك.! فإننى والحالة هذه أتركه غير مفكر فى إلحاق أذى به، منفذا قوله تعالى: (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا). هل الرومان الذين احتلوا مصر والشام وساقوا جيوشهم إلى الحجاز من هذا القبيل؟ لا، إنهم دخلوا بلادنا غزاة وأقاموا بها معتدين. وكانوا بأقوالهم وأعمالهم وأحوالهم مصادر طغيان وفتنة، ومابد من تحرير الأرض منهم وإعادتهم من حيث جاءوا. وترك الشعوب بعد ذلك حرة تعتنق الإسلام إذا شاءت أو تتركه مع المشاركة فى أعباء الدفاع العسكرى عن الأرض التى كانت مستعمرة ثم حررها الإسلام. هل الفرس أحسن حالا من الرومان؟ كلا! إن كسرى أصدر أمرا بالقبض على محمد بعد ما مزق رسالته، وكان حبذه يحتلون العراق، وموقفه حاسم فى رفضه الدعوة والدعاة، فما يجوز تركه تلك هى الأسباب الأولى للفتوح. وقد حرص الخلفاء والأمراء وقادة الجند ألا يشتبكوا فى حرب إلا بعد دعوة متأنية واضحة مفصلة، وهات هذه الوقائع من " حياة الصحابة " التى يجهلها للأسف بعض أدعياء السلفية، ممن صدقوا أن الرسول يأخذ الناس على غرة! أو أن الدعوة كانت ثم ألغيت، كما توهم نافع مولى ابن عمر.. جاء فى كتاب "حياة الصحابة " تحت عنوان، دعوة الصحابة إلى الله ورسوله فى القتال على عهد أبى بكر، ووصية أبى بكر الأمراء بذلك. أخرج البيهقى (ج 9 ص 85) وابن عساكر عن سعيد بن المسيب أن أبا بكر رضى الله عنه لما بعث الجنود إلى الشام أمر يزيد بن أبى سفيان، وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، ولما ركبوا مشى أبو بكر مع أمراء جنوده يودعهم حتى بلغ ثنية الوداع فقالوا: يا خليفة رسول الله! تمشى ونحن ركبان، فقال: إنى احتسبت خطاى هذه فى سبيل الله. ص _199(1/167)
ثم جعل يوصيهم، فقال: أوصيكم بتقوى الله، أغزوا فى سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله فإن الله ناصر دينه، ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تجنبوا، ولا تفسدوا فى الأرض، ولا تعصوا ما تؤمرون. فإذا لقيتم العدو من المشركين- إن شاء الله- فادعوهم إلى ثلاث، فإن هم أجابوكم فاقبلوا منهم وكفوا عنهم. ادعوهم إلى الإسلام فإن هم أجابوكم فاقبلوا منهم وكفوا عنهم. ثم ادعوهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن هم فعلوا فأخبروهم أن لهم مثل ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين. وإن هم دخلوا فى الإسلام واختاروا دارهم على دار المهاجرين فأخبروهم أنهم كأعراب المسلمين يجرى عليهم حكم الله الذى فرض على المؤمنين وليس لهم فى الفىء والغنائم شىء حتى يجاهدوا مع المسلمين. فإن هم أبوا أن يدخلوا فى الإسلام فادعوهم إلى الجزية، فإن هم فعلوا فاقبلوا منهم وكفوا عنهم وإن هم أبوا فاستعينوا بالله عليهم فقاتلوا إن شاء الله. ولا تعرقن نخلا ولا تحرقنها ولا تعقروا الهيمة ولا شجرة ثمر، ولا تهدموا بيعة ولا تقتلوا الولدان ولا الشيوخ ولا النساء، وستجدون أقواما حبسوا أنفسهم فى الصوامع فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له. وفى عهد عمر بن الخطاب أثناء فتح فارس جاءت هذه القصة تحت عنوان: دعوة سلمان الفارسى يوم القصر الأبيض ثلاثة أيام. وأخرج أبو نعيم فى الحلية (ج أص 189) عن أبي البخترى أن جيشا من جيوش المسلمين كان أميرهم سلمان الفارسى رضى الله عنه فحاصروا قصرا من قصور فارس فقالوا: يا أبا عبد الله! ألا ننهد إليهم؟ قال: دعونى لأدعوهم كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم. فقال لهم: أنا رجل منكم فارسى، أترون العرب تطيعنى فإن أسلمتم ص _200(1/168)
فلكم مثل الذى لنا وعليكم مثل الذى علينا، وإن أبيتم إلا دينكم تركناكم عليه واعطيتمونا الجزية عن يد وأنتم صاغرون. قال: ورطن إليهم بالفارسية وأنتم غير محمودين. وإن أبيتم نابذناكم على سواء، فقالوا: ما نحن بالذى نؤمن! وما نحن بالذى نعطى الجزية! ولكنا نقاتلكم!. قالوا: يا أبا عبد الله! ألا ننهد إليهم؟ قال: لا، فدعاهم ثلاثة أيام إلى مثل هذا. ثم قال: انهدوا إليهم فنهدوا إليهم. قال: ففتحوا ذلك الحصن. وأخرجه أيضا أحمد فى مسنده، والحاكم فى المستدرك كما فى نصب الراية (ج 3 ص 378) بمعناه. وفيه: فلما كان فى اليوم الرابع أمر الناس فغدوا إليها ففتحوها. وأخرجه ابن أبى شيبة كما فى الكنز (ب 2 ص 298). وأخرجه أيضا ابن جرير (بر 4 ص 173) عن أبى التبخترى قال: كان رائد المسلمين سلمان الفارسى، وكان المسلمون قد جعلوه داعية أهل فارس. قال عطية: وقد كانوا أمروه بدعاء أهل بهرسبر وأمروه يوم القصر الأبيض فدعاهم ثلاثا- فذكر الحديث فى دعوة سلمان رضى الله عنه بمعناه. هذا، والروايات فى الدعوة إلى الإسلام قبل القتال مستفيضة أيام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأيام الصحابة رضى الله عنهم. وغفلة نافع غفر الله لنا وله عن هذه الحقيقة لعلها كبوة الجواد. والملام كله على من يتعصبون لخطئه، ويخاصمون الصواب بعد ما تبين.. ولا أدرى لحساب من؟ ينشر بعض الجاهلين أن سيد الدعاة يأخذ الناس على غرة من غير دعوة ولا بلاغ، وأن الدعوة كانت فى مرحلة موقوتة ثم اختفت؟؟ ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه..! ص _201(1/169)
الكلمات الصادقة المضيئة تنبع من سرائر هادية زاكية، وهى تلتمس أول ما تلتمس فى تراث الأنبياء، ولم يبق موضع الثقة من هذا التراث الغالى إلا ما خلفه لنا محمد عليه الصلاة والسلام فى كتابه وسنته.. أما هذا القرآن فقد أعيى الإنس والجن أن يجيئوا بمثله، ومنذ نزل إلى يوم الناس هذا، إلى أن تبدل الأرض غير الأرض والسموات، وهو محفوظ بحفظ الله لا ترقى إليه ريبة، ولا يتوهم فيه تحريف، ولا يستغنى طلاب الحق عن آياته البينات... وأما السنة فأوجز ما يقال فيها أنها " تنزيل من التنزيل أو قبس من نور الذكر الحكيم " وقد أوتى محمد جوامع الكلم، وانسابت هداياته من ينبوع جياش بالرشد حافل بالخير، وسبحان من أبدع محمدا !! إنه الإنسان الفذ الذى صان الإيمان مادة ومعنى، وعاش به سيرة ودعوة، وأقام على دعائمه مجتمعا ودولة، وأنشأ باسمه حضارة ترنو إليها المشارق والمغارب، ويرهب بأسها المعتدون والفوضويون.. والثقافة الإسلامية قامت على الكتاب والسنة معا، وقد يئست الشياطين من تحريف الكتاب، فحاولت النيل من السنة ولكن العلماء النقدة صدوا هذا الهجوم، ومضوا بقافلة الإسلام منيعة الجانب على حين طاشت رسالات، وحالت رسوم..! ولا نزال- بفضل الله- نحرس الإسلام، ولن تخلو الأرض من قائم لله بحجة... ولا أعرف أحدا من علماء الإسلام هون من مكانة السنة النبوية، ولا أجاز أن يقول رسول الله كلمة ويمضى هو على خلافها، بل ذلك طريق الكفر.. وما قد يقع بين العلماء من شجار فى القضايا الفرعية أساسه: أقال رسول الله هذا الحديث أم لا..؟ ص _202(1/170)
قد تقول: فقد رسا علم المصطلح، وأتضحت منه أسس القبول والرد بشتى المرويات. ونقول: صدقت وذلك ما نريد تطبيقه لا غير!.. إننا نلتزم بما وضعه أئمتنا الأولون، ولا نفكر فى البعد عنه، كل ما لفتنا النظر إليه أن الشذوذ والعلل فى متون الأحاديث يتدخل فيهما الفقهاء إلى جانب الحفاظ، وقد تدخلوا فعلا فى الماضى، وجد فى عصرنا ما يستدعى المزيد من البحث والاستقصاء.. وأعرف أن البعض يوجس خيفة من هذا القول ولكن تجاربى فى ميدان الدعوة تجعلنى أزيد الأمر تفصيلا. فى أيام الهزائم الإسلامية التى نعانيها، والتى ألصقت بالإسلام ما شاء أعداؤه من نقائص، سمعت خطيبا يروى هذا الحديث: " لا يسأل الرجل: فيم ضرب امرأته؟ " قلت له: إن ديننا متهم بأنه ضد حقوق الإنسان، وضد كرامة المرأة خاصة! فما حملك على إيراد حديث يفيد أن الرجل يضرب امرأته كيف يشاء لا يسأل عما يفعل! وأنت تعلم أن هذا المعنى مرفوض فى الكتاب والسنة جميعا؟. قال: إننى رويت حديثا صحيحا، قلت له: ألا تحفظ حديث مسلم فى صحيحه " لتؤدين الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء " أفتكون الزوجة المضروبة أهون على الله من نعجة منطوحة ظلما؟ قال: النساء منذ حواء إلى اليوم يستحققن الحذر والتأديب، وقد جاء فى الحديث: " لولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر"! فقلت له: ما خانت حواء آدم، ولا أغرته بالأكل من الشجرة، هذا من أكاذيب التوراة!. والقرآن صريح وحاكم فى أن آدم هو الذى عصى ربه! ولكنكم دون ص _203(1/171)
مستوى القرآن الكريم، وتنقلون من المرويات ما يقف عقبة أمام سير الدعوة الإسلامية!. لماذا لا يسأل الرجل: فيم ضرب امرأته؟ أنربى بناتنا ليذهبن إلى فحل يلطمهن أو يؤذيهن دون مساءلة فى الدنيا والآخرة؟. بأى منطق تتكلمون؟ " إن الله لايظلم مثقال ذرة " " من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ". ذاك فى الآخرة، ومن حق المرأة فى الدنيا أن تشكو ما نزل بها إلى أهلها، أو الحكم الذى يمثلها أو القاضى الذى يجب أن يسائل زوجها . ولها بعدئذ أن تطلب الخلع أو تطلب التطليق للضرر.. إنك أيها المتحدث باسم الإسلام تفتن الناس عنه بهذه الأحاديث. وهاكم موقفا آخر من واعظ يحب الحكايات ويستنصت الناس بما تحوى من عجائب!. قال: إن الدجال موجود الآن فى إحدى الجزر ببحر الشام أو بحر اليمن، مشدود الوثاق، وقد رآه تميم الدارى بعد ما غرقت السفينة التى كان يركبها هو وصحبه، وتحادثوا معه، وهو موشك على الخروج!. وقد حدثت بذلك فاطمة بنت قيس فى سياق طويل!. قال لى طالب يسمع الدرس: هل يمكن أن نذهب فى رحلة إلى هذه الجزيرة لنرى الدجال؟ قلت له: وماذا تفعل برؤيته؟ الدجالون كثيرون، وإذا تحصنت بالحق نجوت منهم ومن كبيرهم عندما يخرج . قال: ألم يزر أحد هذه الجزيرة بعد تميم الدارى؟ فآثرت السكوت، وصرفت الطالب عن الموضوع بلباقة.. ص _204(1/172)
إن أساطيل الرومان والعرب والترك والصليبيين تجوب البحرين الأبيض والأحمر من بضعة عشر قرنا ولم تر هذه الجزيرة. وفى عصرنا هذا طرق كل شبر فى البر والبحر، والتقطت صور لأعماق المحيطات عن طريق الأقمار الصناعية! فأين تقع هذه الجزيرة؟. وأخيرا تذكرت كلمة عمر بن الخطاب وهو يرد حديث فاطمة بنت قيس فى نفقة المطلقة ثلاثا، قال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لحديث امرأة لا ندرى حفظت أم نسيت؟.. قلت: ونحن لا نعرض كتاب ربنا وسنة نبينا للتكذيب من أجل حديث السيدة نفسها، فى قضية أخرى!. يجب أن تسير قافلة الكتاب والسنة دون عائق!. وثم أمر أخير، لقد ثبت على وجه اليقين أن الجنين يتكون من حيوان منوى وحيد يخترق بييضة- بويضة- المرأة، هذا الحيوان الفذ يسبق مئات الملايين من أمثاله تسبح فى الماء الدافق. وعندما يصل تبدأ المرحلة الأولى من الحياة الإنسانية. وهو الذى تنشأ عنه الذكورة والأنوثة، فليس لماء المرأة دخل فى هذا بل قال العلماء، إن البلل الذى يرطب الرحم عند الوقاع لا يسمى ماء إلا مجازا ولا دخل له فى التكوين. وقد التقطت صور للحيوان المنوى الذى ينشىء الذكورة ، وللآخر الذى ينشى الأنوثة، كما أمكن فى الأنابيب الجمع بين الحيوان المنوى والبييضة. والمعروف أن القرآن الكريم سبق إلى تقرير هذه الحقيقة فى قوله تعالى: (وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى * من نطفة إذا تمنى). واليقين الثابت بالعلم وبالوحى لا يجوز أن يتقدم عليه ظن علمى يرويه حديث آحاد، يزعم فيه الراوى أن الأنوثة تنشأ من علو ماء الأنثى على ماء الرجل!!. ص _205
إن حديث الآحاد يتأخر حتما أمام النص القرآنى والحقيقة العلمية والواقع التاريخى، أو يتأخر كما يقول المالكيون أمام عمل أهل المدينة، وأمام القياس القطعى كما يقول الأحناف. ذاك ما هديت إليه، فان كان حقا فمن الله، وإن كان خطأ فمنى واستغفر الله أولا وأخرا.
ص _006(1/173)
تمهيد بينى وبين معهد الفكر الإسلامى بالولايات المتحدة صلة حميمة،وكثيرا ما أشارك فى ملتقياته وبحوثه، والمعهد يقوم برسالة حضارية جليلة. فهو يصل ما انقطع من تيار الفكر الإسلامى بعد تنقية المنبع وضبط المسار، وهو ينظر إلى المعرفة الإنسانية المعاصرة نظرة إنصاف، فما كان منها نتاج فطرة سليمة قبله. لأن الإسلام دين الفطرة! ويستحيل أن يتنكر لصفته الأولى، وماكان وليد هوى وحجاح رفضه ولا كرامة! فليس لجديد وزن إذا خالف العقل والنقل... وقد كلفتنى أسرة المعهد أن أضع كتابا أنصف به السنة النبوية، وأذود عنها جراءة القاصرين وذوى العقول الكليلة! والحق أنى رحبت بهذا التكليف بل لعله وافق رغبة فى نفسى. ومن ثم سارعت إلى التنفيذ... ومع عمق الصداقة التى تشدنى إلى الدكتور عبد الحميد أبى سليمان والدكتور طه جابر العلوانى والقرابة العقلية التى تجمعنا فقد رأيت أن أتحمل وحدى مسئولية الأحكام التى قررتها، وأن أواجه ما قد يثور من اعتراضات..! لذلك أعطيت دار الشروق الطبعة الأولى من هذا الكتاب. راجيا أن أحمى ديننا الحنيف من الأصدقاء الجهلة، وأن يستبين الناس سعة الرحمة التى بعث الله بها صاحب الرسالة الخاتمة، قال تعالى : (و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). محمد الغزالى
ص _007(1/174)
مقدمة الطبعة السادسة فوجئت بصدور خمس طبعات فى خمسة شهور من هذا الكتاب! مما دل على ظمأ القارئ المسلم إلى العلم النافع والدراسة النزيهة.. واتفقت مع الناشر على أن تصدر الطبعة الجديدة وبها زيادات ذات بال، انتفعت فيها من تصويبات أهل الذكر الذين حاورتهم أو كتبوا إلى أو سمعت صوتهم من بعد.. وقد شتمنى بعض الناس فوجدت الإعراض أولى! ومن من الأنبياء لم يشتم؟ فليتأس أتباعهم بهم فى الصبر والتجاوز…! قالوا: الإله ذو ولد قالوا الرسول قد كهنا ما نجا الله والرسول معا من لسان الورى، فكيف أنا؟ لكن الشتم الذى أوجعنى اتهام البعض لى: بأنى أخاصم السنة النبوية وأنا أعلن أن الله ورسوله أحب إلى مما سواهما، وأن إخلاصى للإسلام يتجدد ولا يتبدد، وأنه أولى بأولئك المتحدثين أن يلزموا الفقه والأدب.. فغايتى تنقية السنة مما قد يشوبها! وغايتى كذلك حماية الثقافة الإسلامية من ناس قيل فيهم: إنهم يطلبون العلم يوم السبت، ويدرسونه يوم الأحد، ويعملون أساتذة له يوم الاثنين. أما يوم الثلاثاء فيطاولون الأئمة الكبار ويقولون: نحن رجال وهم رجال!!. وهكذا بين عشية وضحاها يقع زمام المسلمين الثقافى بين أدعياء ينظر إليهم أولو الألباب باستنكار ودهشة. ص _008(1/175)
وإذ كان هؤلاء لم يرزقوا شيوخا يربونهم، أو أساتذة يثقفونهم فسوف تربيهم الأيام والليالى وما أحفلها بالعجائب..!!. وقد رأيت أن أدخل الإضافات الجديدة فى مادة الكتاب نفسه، مشيرا فى الهامش إلى أنها ردود على شبهات، أو إجابة على تساؤلات. وأؤكد أننى مع جمهرة الفقهاء والمتحدثين عن الإسلام، ولست صاحب مذهب شاذ، بل إننى من صميم الجماعة ومن حماة أهدافها، وأولو العلم يعرفون ما أعنى. والخطورة تجىء من أنصاف متعلمين أو أنصاف متدينين يعلو الآن نقيقهم فى الليل المخيم على العالم الإسلامى، ويعتمد أعداء الإسلام- فى أوربا وأمريكا- على ضحالة فكرهم فى إخماد صحوة جديدة لديننا المكافح المثخن بالجراح... إن الحضارة التى تحكم العالم مشحونة بالأخطاء والخطايا، بيد أنها ستبقى حاكمة مادام لايوجد بديل أفضل!. هل البديل الأفضل جلباب قصير ولحية كثة؟ أم عقل أذكى وقلب أنقى، وخلق أزكى وفطرة أسلم وسيرة أحكم؟.0 لقد نجح بعض الفتيان فى قلب شجرة التعاليم الإسلامية فجعلوا الفروع الخفيفة جذوعا أو جذورا، وجعلوا الأصول المهمة أوراقا تتساقط مع الرياح!. وشرف الإسلام أنه يبنى النفس على قاعدة (قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها ) وأنه يربط الاستخلاف فى الأرض بمبدأ (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر ). وأنا أتوجه إلى أمراء الجماعات الدينية الأكارم، وإلى الأوصياء الكبار على تراث السلف أن يراجعوا أنفسهم كى يهتموا بأمرين: أولهما: زيادة التدبر لآيات القرآن الكريم. ص _009(1/176)
وآخرهما: توثيق الروابط بين الأحاديث الشريفة ودلالات القرآن القريبة والبعيدة، فلن تقوم دراسة إسلامية مكتملة ومجدية إلا بالأمرين معا.. إن الصلف مع العم رذيلة، فكيف إذا كان الصلف مع عجز وقصور؟؟ وهذا الكتاب حصيلة تجارب كثيرة فى ميدان الدعوة أردت به ترشيد الصحوة، وشد أزر العاملين المخلصين. إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقى إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب . محمد الغزالى ص _030
الإسلام جرىء، واعتمادهم كله على مرويات لايعرفون مكانها من الكيان الإسلامى المستوعب لشئون الحياة... وقد جاء الإمام مسلم رحمه الله فعلق على رواية إمامه البخارى رحمه الله؟ فبين ما بها من عطب، وذكر أن الخطأ جاء من شريك عن أنس بن مالك الذى ذكر الحديث فزاد ونقص وقدم وأخر...!!. إن مسلما مضى على منهج المحدثين، فناقش عمل شريك- الراوى عن أنس- ثم رفض المتن! وحسنا فعل. إن الخطأ فى تفسير آية " النجم " والزعم بأن المعنى " دنا الجبار رب العزة فتدلى " كانا مثار استنكار السيدة عائشة رضى الله عنها! فلما سألها مسروق: يا أماه هل رأى محمد ربه؟ قالت: لقد قف شعر رأسى مما قلت! أين أنت من ثلاث؟ من حدثكهن فقد كذب!! من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) و (ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ) ومن حدثك أنه يعلم ما فى غد فقد كذب! ثم قرأت )وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأى أرض تموت) ومن حدثك أن محمدا كتم أمرا فقد كذب، ثم قرأت ) يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ..( ولكنه رأى جبريل فى صورته مرتين... وأم المؤمنين عائشة فقيهة محدثة أديبة، وهى وقافة عند نصوص القرآن، ص _040(1/177)
إذا مات له الميت قال: " لا تؤذ نوا به أحدا،أنى أخاف أن يكون نعيا، إنى سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأذنى هاتين ينهى عن النعى ". وعن عبد الله بن مسعود " أن رسول الله كان ينهى عن النعى، وقال: إياكم والنعى فإنه من عمل الجاهلية " قال عبد الله والنعى: أذان بالميت... ونحن نؤكد أن النعى المحظور ما قارنه الرياء وإحياء العصبية أما الإخبار المعتاد فيستحيل كرهه. وما أكثر الأحاديث المنتشرة اليوم بين الشباب، يستنتجون منها أحكاما سيئة، إن قبلنا سندها على إغماض فإن متنها لا يصح قبوله . وقد قرأت للمنذرى رحمه الله فى كتابه " الترغيب والترهيب " ستة عشر حديثا فى سكنى الشام وما جاء فى فضلها. منها ما جاء عن زيد بن ثابت: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوما ونحن عنده: " طوبى للشام، إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليه " وأغلب الأحاديث الستة عشر تدور على هذا المعنى، وأغلبها من رواية الترمذى والحاكم والطبرانى وابن حبان وأبى داود وأحمد.... ونحن نحب أقطار الإسلام كلها ونعد أهلها إخوتنا، ونرى نصرتهم دينا، وخذلانهم كفرا، وما يروى فى تفضيل بلد على آخر والترغيب فى سكناه أو المرابطة فيه فهو عندما يتعرض الإسلام للخطر من قبله أو تحدث ثغرة فى حدوده تتطلب الرجال لسدها.. وذلك كما تتجمع كرات الدم البيضاء لحماية الجسم من الجراثيم الغازية، عندما يصاب بجرح، أو تنشأ به قرحة.. إن مسارعة قوات الدفاع هنا مفهومة الحكمة.. أما فى حالة الجسم العادية، فموقف الكرات من جميع الأعضاء واحد... ص _080(1/178)
يفيد اليقين كالأخبار المتواترة فهى مجازفة مرفوضة... وقد قال لى أحد المتمسكين بأن خبر الواحد يفيد اليقين: إن المدرس- وهو رجل واحد- يؤتمن على التعليم، وأن السفير- وهو رجل واحد- يؤتمن على أخبار دولته، وأن الصحافى فى الحديث الذى ينقله يؤتمن على ما يذكره... الخ. قلت: إن العنعنات التى تنقل بها المرويات ليست مثل ما ذكرت من وقائع. وإذا فرضنا جدلا أنها مثلها من كل وجه فإن اليقين لا يستفاد من هذه الوقائع، فإن المدرس قد يخطئ فيصحح نفسه أو يصحح له غيره! والسفير ترقبه دولته وقد تراجعه فيما بلغ، وكذلك الأحاديث الصحافية، إن ما يحفها من قرائن النشر والإقرار أو الرد يجعل الثقة بها أقرب. ونحن مع تحرى عدالة الشاهد لا نكتفى بشاهد واحد، وربما طلبنا أربعة شهداء حتى نطمئن إلى صدق الخبر.. والشاهدان أو الأربعة ينشئون ظنا راجحا، ولا ينشئون يقينا ثابتا، بيد أن حماية المجتمع لا تتم إلا بهذا الأسلوب، أسلوب قبول الظن الراجح! وهو ما قامت عليه الشرائع والقوانين فى دنيا الناس... وذلك كله غير بناء العقائد فى النفوس، وإقامة الأمم عليها، إن العقائد أساسها اليقين الخالص الذى لا يتحمل أثارة من شك.. وعلى أية حال فإن الإسلام تقوم عقائده على المتواتر النقلى والثابت العقلى، ولا عقيدة لدينا تقوم على خبر واحد، أو تخمين فكر.. ثم يجئ دور التشريع فى تحديد مسار الأمة العام، ومسالك الأفراد الخاصة، وعندنا فى هذا من النصوص ما هو قطعى الثبوت والدلالة، وما هو(1/179)