السراج الوهاج للمعتمر والحاج
الفهرس
تقديم فضيلة الشيخ عبدالله بن جبرين
المقدمة
البيت العتيق
و اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى
فاجعل أفئدة من الناس
فضل الحج و العمرة في الكتاب و السنة
قبل الرحيل
تعريف الحج و العمرة
حكم الحج و العمرة
شروط الحج و العمرة و أركانهما و واجباتهما
مواقيت الحج و العمرة:
القسم الأول: مواقيت زمانية
القسم الثاني: مواقيت مكانية
الميقات الأول: ذو الحليفة
الميقات الثاني: الجحفة.
الميقات الثالث: قرن المنازل (السيل الكبير).
... الميقات الرابع: يلملم (السعدية).
الميقات الخامس: ذات عرق.
تنبيهات:
التنبيه الأول: من ركب الباخرة أو الطائرة كيف يحرم؟!.
التنبيه الثاني: من كان دون المواقيت كيف يحرم؟!.
التنبيه الثالث: من أتى مكة لا يريد النسك هل يلزمه الإحرام؟!.
أنواع الإنساك و أفضلها و النسك الذي أهلَّ به النبي صلى الله عليه و سلم .
الإحرام: صفته و ما يتعلق به.
تنبيه مهم: من أراد أن يضحي
الاشتراط في الإحرام، صفته و متى يكون؟
صفة التلبية و مواضعها:
محظورات الإحرام:
محظورات الإحرام المشتركة بين الرجال و النساء
محظورات الإحرام الخاصة بالرجال.
محظورات الإحرام الخاصة بالنساء.
من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام
ما يباح للمحرم فعله.
الطواف حول البيت، كيفيته و شروطه.
أدعية الطواف
تنبيه: حول كتب الأدعية التي تباع عند الحرم.
السعي بين الصفا و المروة.
أعمال الحج:
يوم التروية (اليوم الثامن من ذي الحجة).
يوم عرفة (اليوم التاسع من ذي الحجة).
ليلة مزدلفة (ليلة العاشر من ذي الحجة -ليلة العيد-).
تنبيهات مهمة: أخطاء بعض المطوفين:
1- أخذهم للحجاج من مكة إلى عرفة مباشرة.
2- عدم نزولهم بالحجاج في مزدلفة و المبيت فيها.
3- التقاط الحصى قبل الصلاة.
أعمال يوم النحر (يوم العيد: اليوم العاشر من ذي الحجة)
أولاً: رمي جمرة العقبة.
ثانياً: ذبح الهدي.
ثالثاً: الحلق أو التقصير.
رابعاً: طواف الإفاضة(1/1)
أيام التشريق و ما يفعل بها (اليوم الحادي و الثاني و الثالث عشر من ذي الحجة)
أولاً: المبيت ليالي منى.
ثانياً: رمي الجمار أيام التشريق.
آخر أعمال الحج طواف الوداع.
الزيارة قبل الحج أو بعده و آثارها في الأمة.
أدعية جامعة يستحب تكرارها يوم عرفة و غيره من المناسك.
خاتمة في التوبة و الإقلاع عن المعاصي.
ملاحق الحج:
1- بعض الأخطاء التي يقع فيها الكثير من الحجاج.
2- فضل أيام عشر ذي الحجة و الأعمال الواردة فيها.
3- فتاوى الحج:
حكم الحج و الوعيد الشديد على من تركه مستطيعاً.
من حج و هو تارك للصلاة هل يحسب له حج أم لا؟.
حكم الاستنابة في الحج.
حكم الحج للجنود و هم في لباسهم الرسمي.
هل جدة ميقات؟.
أدى بعض أعمال العمرة و تركها خوف الزحام؟.
حكم الإنابة في رمي الجمار.
رمي الجمار قبل الزوال في اليوم الثاني عشر للمتعجل؟
تقديم فضيلة الشيخ العلامة
عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين
الحمد لله الذي سهل طريق العبادة، و أحكم كل ما فرضه و أراده، و بيَّن شرائع دينه ونفَّذ مراده، أحمده سبحانه و أشكره، و قد تأذن للشاكرين بالزيادة، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، و آمل أن يُختم لي بمثل هذه الشهادة، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله صلى الله عليه و على آله و أصحابه و أولاده و أحفاده، و سلم تسليماً كثيراً، و بعد:(1/2)
فقد كنت ألقيت محاضرة في بعض المساجد بمناسبة موسم الحج، تكلمت فيها على المناسك، و منافع الإحرام و الطواف و السعي، و الوقوف و التلبية و نحوها، ثم إن بعض الإخوان قام بتفريغها من الأشرطة التي سُجلت بها، و عرضها علي، فأصلحت فيها الأخطاء التي نتجت عن الارتجال، وكمَّلت ما نقص منها كأعمال يوم النحر، و طواف الوداع، و أضفت إليها مقالاً كنت قد كتبته فيما يتعلق بزيارة المسجد النبوي، و ختمتها بخاتمة تتعلق بالتوبة النصوح، و حال من أدى هذه المناسك بعد رجوعه، و علامات قبول الحج أو رده، و ما ينبغي أن يكون عليه بقية حياته، و ذلك للحاجة الماسة إلى ذلك.
و أذنت بطبع هذه المحاضرة و ما أضيف إليها، رجاء أن يعم النفع بها من أراد الله به خيراً، مع علمي بالقصور، و ضعف المادة العلمية معي، و أن الكثير من أكابر العلماء قديماً و حديثاً قد كتبوا في المناسك و توسعوا، أو اختصروا، و قلَّت الحاجة إلى إضافة شيء جديد، و لكن لكل مجتهد نصيب، و قد يكون فيما كتبته أو قلته تنبيه أو توضيح لشيء قد يخفى على البعض.
و قد رأينا كثرة الجهل في من يؤدي هذه المناسك، و وقوع المخالفات التي تقع من الجماهير، عن تقليد أو ظن خاطئ ثم بعد الوقوع يستفصل عن الحكم، فيقع في حرج و مشقة، و كان الأولى أن يتأكد من الأعمال قبل مباشرتها، فعلى المسلم أن يكون على بصيرة من دينه، و أن يحرص على براءة ذمته مما أوجب الله عليه، حتى يخرج من العهدة، و الله أعلم، و صلى الله على محمد و آله و صحبه و سلم.
عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين، نبينا محمد و على آله و صحبه و التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:(1/3)
فقد أرسل الله سبحانه محمداً بالحق بشيراً و نذيراً، و أمره بأن يبين للناس ما نزِّل إليهم، و أن يبين لهم شريعتهم، قال تعالى: ((و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم))(سورة النحر: 44). فبين لهم صلى الله عليه و سلم هذا الدين الذي بُعث به و أمر بتبليغه، و بين أن لهذا الدين أركان، بقوله صلى الله عليه و سلم: "بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، و أن محمداً رسول الله، و إقام الصلاة، و إيتاء الزكاة، و صوم رمضان، و حج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً".
فبدأ بالشهادتين و بيَّن ما يدخل فيهما، و دعى إلى التوحيد أكثر عمره في مكة، أي نحو عشر سنين.
ثم بعد مضي العشر بدأ في بيان الركن الثاني و هو الصلاة، حيث فُرضِت عليه فأقامها بمكة ثلاث سنين و بقية عمره أيضاً بالمدينة. و فرضت عليه قرينتها -و هي الزكاة- في المدينة، و هي الركن الثالث من الأركان، و قد بين أحكامها صلى الله عليه و سلم أتم بيان.
و فرض عليه الركن الرابع -و هو الصوم- بالمدينة، فبينه بقوله و فعله صلى الله عليه و سلم.
و فرض عليه الركن الخامس و هو الحج إلى بيت الله الحرام، و قيل: إنه فرض في السنة السادسة من الهجرة. و قيل: في السنة التاسعة و هو الصحيح الذي تدل عليه الأدلة.
و الحج كما هو معلوم كان مأموراً به من قبل، و لكن لم يفرض إلا في السنة التاسعة كما ذكرنا، و لم يتمكن النبي صلى الله عليه و سلم من أدائه و بيانه بالفعل إلا في السنة العاشرة فعند ذلك بيّنه صلى الله عليه و سلم بقوله و فعله بأدائه كاملاً، و كان صلى الله عليه و سلم يحث أصحابه على أن يحفظوا عنه المناسك، فكان يقول صلى الله عليه و سلم: "خذوا عني مناسككم، فلعلي لا أراكم بعد عامي هذا". و عاش بعد ذلك نحو إحدى و ثمانين أو اثنتين و ثمانين ليلة، و ختمت بذلك حياته و انتقل إلى الرفيق الأعلى صلى الله عليه و سلم.(1/4)
و قد احتفظ صحابته ببيانه، و بما بلَّغه صلى الله عليه و سلم في هذا الركن العظيم و في غيره من الأركان.
لقد أعلن النبي صلى الله عليه و سلم للناس بأنه سوف يحج في ذلك العام في سنة عشر، فلما أعلنه و أظهره توافد كثير ممن حول المدينة، إلى المدينة، و قصدهم صحبة النبي صلى الله عليه و سلم و السفر معه؛ حتى يؤدوا المناسك مثل ما يؤديها، و اجتمع في المدينة خلق كثير، أما الذين لم يتمكنوا من المجيء إلى المدينة، فإنهم توجهوا من بلادهم التي هم فيها إلى مكة مباشرة.
و كانت مكة قد طُهِّرَت من الأصنام و من المشركين و من العادات الجاهلية، و ذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم أرسل أبا بكر و غيره من الصحابة في سنة تسع، و أمرهم بأن ينادوا: "أن لا يحج بعد هذا العام مشرك، و لا يطوف بالبيت عريان". فنادوا بذلك، فعرف الناس هذا الحكم، فلم يطف بالبيت عريان بعد ذلك العام، و لم يحج أحد من المشركين حيث إن الله أظهر حرمة مكة و قداستها، و نهى المشركين أن يدخلوها.
و سوف نتناول هذه الفريضة، فضلها و أحكامها مستعرضين ما قد يقع فيه البعض من قصور أو أخطاء في أداء تلك المناسك، و نحرص أن نذكر شيئاً من الحِكَم التي تعين العبد أن يعلم الحكمة و المصلحة التي شرعت لأجلها هذه العبادة، فإن معرفة العبد للحكمة والمصلحة تشرح قلبه، و تجعله يدرك أن الله تعالى ما شرع شيئاً إلا و فيه مصلحة، وأنه ليس شيء من أحكام الله شُرع عبثاً بل كل نسك من تلك النسائك، و كل عبادة من تلك العبادات فيها مصلحة ظاهرة جليَّة، فيحرص أن يتأثر بها، و أن تبقى آثارها عليه بقية حياته.
نسأل الله أن يرزقنا حجاً مبروراً، و ذنباً مغفوراً، و سعياً مشكوراً، وعملاً صالحاً مقبولاً، و الله أعلم، و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم.
البيت العتيق(1/5)
الحج كما ذكرنا ركنٌ من أركان الإسلام، و قد كان معمولاً به في الشرائع السابقة. فقد ذكر المؤرخون أن الله تعالى أنزل هذا البيت العتيق لآدم عليه السلام لما هبط إلى الأرض، فأحب أن يكون له موضع يقصده، ويتعبّد فيه، و يطوف به كما تطوف الملائكة بالبيت المعمور. فعند ذلك جعل الله له هذا البيت العتيق ليتعبد فيه. ثم أخبر عليه الصلاة و السلام بأن الأنبياء، قد قصدوه، فقصده نوح وهود و صالح و نحوه من الأنبياء عليهم السلام، و ذكر صلى الله عليه و سلم أنهم توجهوا إليه، يُلبُّون على رواحلهم قاصدين أداء المناسك في تلك المشاعر المفضلة.
و هكذا استمروا، و لكن مع توالي السنين انهدم البيت و بقي مكانه مرتفعاً، حتى جدده إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام، قال الله تعالى: ((و إذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت))(الحج:26). يعني أخبرناه بموضعه الذي كان موجوداً فيه حتى يعيد بناءه، فأعاده هو و إسماعيل عليهما السلام، قال الله تعالى: ((و عهدنا إلى إبراهيم و إسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين و العاكفين و الركع السجود))(البقرة:125).
و أخبر بأنه أقامه هو و ابنه إسماعيل عليهما السلام في قوله تعالى: ((و إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت و إسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا و اجعلنا مسلمين لك و من ذريتنا أمة مسلمة لك و أرنا مناسكنا و تب علينا))(البقرة:127).
هكذا جدده إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام و بقي مقصوداً تعترف به العرب؛ بل و تعدُّه فخرها و عزّها و ذخرها، و يأتون إليه من أماكن بعيدة، يؤدون فيه المناسك، فيطوفون، و يسعون و يعتمرون، و يحجون و يذهبون إلى المناسك و المشاعر التي حوله، و يرجعون و قد تزودوا بما تزودوا به من الأعمال.(1/6)
لكن مع توالي الجهل، و مرور السنين أحدثوا فيه أحداثاً، و جعلوا فيه بدعاً و منكرات ليست من الدين، و الذي حملهم على ذلك جهلهم، فكان و لابد أن يكون هناك من يجدد هذه المشاعر، فبعث الله نبيه صلى الله عليه و سلم، و حج بالناس في سنة عشر، و أعاد المناسك إلى ما كانت عليه في عهد أبيه إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام، و ردّ كل المحدثات التي أقامها المشركون، سواء كانت قولية أم فعلية، و عاد الناس إلى معرفة الأحكام، و معرفة ما عليهم، و هو الذي بقي -و الحمد لله- إلى هذا الزمان.
و قد أظهر الله تعالى حرمة مكة و قداستها و نهى المشركين أن يدخلوها، و نهى المؤمنين أن يُمكِّنوا المشركين من دخولها، قال الله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجسٌ فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا))(التوبة:28). و قد امتثل المسلمون لذلك إلى زماننا هذا، فلا يجوز لأيِّ كافر أو مشرك أن يدخل مكة.
و هكذا بقيت مكة -و الحمد لله- مصونة و محفوظة من المشركين، لا يدخلها إلا الموحدون المسلمون، و ذلك لأنها البقعة المباركة المشرفة التي لها فضلها، و بها المسجد الحرام الذي أخبر الله بفضله، و سماه بهذا الاسم، فقال تعالى: ((لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم و مقصرين لا تخافون))(الفتح:28).
و قد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم بقدسية ذلك المسجد و بأهميته، فقال صلى الله عليه و سلم: "فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مئة ألف صلاة، و في مسجدي ألف صلاة، و في مسجد بيت المقدس خمس مئة صلاة".
فأخبر بفضل هذه المساجد الثلاثة، فالصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة، و المسجد النبوي بألف، و المسجد الحرام بمائة ألف.
و الصلاة الواحدة تعدل هذا الفضل! و ما ذاك إلا لشرف المكان وَ قِدَمِ العبادة، و لأنه قبلة المسلمين الذين يهوون إليه في كل زمان و مكان.(1/7)
فلما كانت هذه مكانته، كان مخصوصاً لأن يكون محلاً لأداء المناسك و العبادات، فالحجُّ لا يكون إلا إلى مكة، و العمرة لا تكون إلا إلى مكة، و لا يكون الطواف إلا بالبيت، فلا توجد بقعة أو تربة يجوز أن يُطاف بها إلا البيت العتيق، و من هنا تستمد أهميته و مكانته.
و اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى
العبادات التي يُتعبد بها في مكة المكرمة لا شك أنها قربات يُتقرب بها إلى الله تعالى، و ذلك لأنه هو المعبود وحده، و لأن تلك الأماكن لها فضلها، و لها ميزتها، و تضاعف فيها العبادة، فيقصدها المؤمنون لمضاعفة أجر العبادة فيها، و هم يعرفون أن الله تعالى هو المعبود، بخلاف المشركين الأولين، فإنهم كانوا يعتقدون أن المعبود هو أصنامهم التي كانوا يعظمونها في تلك البقاع، فمحا الإسلام ذلك، و جعل التعظيم لله تعالى وحده.
و إن تعظيم تلك المشاعر تعظيمٌ للرب الذي شرع تلك المشاعر و تلك الحرمات، فقول الله تعالى: ((و إذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تُشرك بي شيئاً))(الحج:26). بدأ بالنهي عن الشرك، و ذلك حتى لا يتخذ ذلك الموقع معبداً لغير الله، تعبد فيه الأصنام، ثم قال الله تعالى: ((و طهر بيتي للطائفين و القائمين و الرُكع السجود))(الحج:26).
أمر بأن يُطهَّر و ليس التطهير بغسله بالماء، و لكن تطهيره من الأقذار و الأرجاس و الأنجاس و الشركيات و البدع و المحدثات، فيطهره من هذه الأشياء، لأنه مكان مقدس، و لأنه موضع العبادة.
و أمر بأن يُطهر، لأن هناك من يقصده لأن يطوف به، و الطواف عبادة، و هناك من يقصده لأجل الاعتكاف فيه، و الاعتكاف عبادة، و هناك من يقصده للصلاة فيه، أي: الصلاة التي هي قيام و قعود، و ركوع و سجود، و هي كلها عبادة. فأمر بأن يكون المكان نظيفاً طاهراً من الأرجاس و الأنجاس و الشركيات و البدعيات و نحوها.(1/8)
و قد جعل الله سبحانه و تعالى تلك البقاع بقاعاً آمنة مقدسة، و أبقى فيها الآيات التي هي من آيات الله تعالى الكونية، قال تعالى: ((إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً و هدى للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم و من دخله كان آمناً و لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً))(آل عمران:96-97).
و من هذه الآيات البينات التي لا تزال فيه مقام إبراهيم عليه السلام الذي كان يقوم عليه، فإنه لما كان يبني البيت ظهرت آثار قدمه على الحجر مع طول مقامه و وقوفه عليه، فأصبح ذلك الحجر آية من آيات الله الباقية.
يقول أبو طالب:
و موطئُ إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه غير ناعل
هذا المقام جُعل آية من آيات الله، و جُعِلَ في هذا المكان، و أمر المصلون بأن يصلوا خلف المقام، قال الله تعالى: ((و اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى))(البقرة:125). أي: صلُّوا عنده، و صلاتكم تكون لربكم وحده، و إنما يكون ذلك المقام، و ذلك البيت قبلة لكم تتوجهون إليه.
و هذا البيت الذي أمر الله بتطهيره في قوله تعالى: ((أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين))(البقرة:125). له أهميته، و له مكانته، و له منزلته في النفوس، و لأجل ذلك فإن قلوب العباد تتجه إليه، و تتعلق به، في شرق البلاد و غربها، و في قريبها و بعيدها، حيث إنه قبلتهم التي يتوجهون إليها في صلاتهم، و في أدعيتهم، قال الله تعالى: ((قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام و حيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره))(البقرة:144).
فالمسلمون في بقاع الأرض عندما يتوجهون في صلاتهم يستقبلون هذا البيت، و هذا الاستقبال بلا شك يبعث هممهم و يحرك بواعثهم و قلوبهم على الإكثار من زيارته و التردد إليه، حيث إنه البيت المعظم و البيت المحرَّم.(1/9)
و قد سمى الله هذا البيت محرماً و مباركاً؛ بل و سمى البلد التي وضع بها (البلد الأمين) قال تعالى: ((ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم))(إبراهيم:37). و قال تعالى: ((و هذا البلد الأمين))(التين:3). و قال تعالى: ((إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين))(آل عمران:96).
و ما دام أن هذه أهميته، و أن هذا قدره في النفوس فإن من حق العباد أن يأتوا إليه ليقدسوا و يعظموا حرمات الله، لذلك قال الله تعالى: ((ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه))(الحج:30). و قال تعالى: ((ذلك و من يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب))(الحج:32). فالمشاعر التي حوله هي من شعائر الله، و المناسك التي عنده هي من حرمات الله، و تعظيمها تعظيم لله و عبادة لله، و ليس ذلك تقديساً لتلك البقعة بنفسها، و إنما هي لمعرفة أهميتها و مكانتها، و عظم العبادة فيها و شرفها.
فاجعل أفئدة من الناس
أمر الله نبيه إبراهيم عليه السلام أن ينادي بالحج في قوله تعالى: ((و أذن في الناس بالحج))(الحج:27). ثم إنه -كما في بعض الآثار- صعد على جبل أبي قبيس فنادى: "يا أيها الناس، إن الله فرض عليكم الحج فحجوا"، فسمعه من في أصلاب الرجال، و أرحام النساء، أي: سماع قبول، و إن لم يسمعوا الصوت كما هو، أي: أُلهموه، و قُذِفَ في قلوبهم، و عرفوا حكمه، فإذا جاء الحج، و قرب موسمه، فإن المؤمنين الذين وقرَ الإيمان في قلوبهم تجدهم في أطراف البلاد و أقاصي الأرض تحن قلوبهم، و يتمنون أن يتيسر لهم الحج، فمن تيسر له، أتى إليه -رغم ما يجد من المشقة و الصعوبات و من لم يتيسر له غَبَط الذين أدوا هذا النسك، و عرف فضلهم، و ما حازوه من الحسنات.(1/10)
و قد جعل الله الأفئدة تحنُّ إلى تلك المشاعر استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام، فقال تعالى: ((فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم))(إبراهيم:37). و لم يقل: أفئدة الناس: يعني: أفئدتهم كلهم؛ بل قال: ((أفئدة من الناس)) يعني بعضاً منهم، فالذين يحجون كل عام قسم قليل من المؤمنين في أطراف البلاد.
فضل الحج و العمرة في الكتاب و السنة
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "من حج هذا البيت فلم يرفث و لم يفسق رجع كما ولدته أمه" و في لفظ لمسلم: "من أتى هذا البيت فلم يرفث و لم يفسق رجع كما ولدته أمه". و قال صلى الله عليه و سلم: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما و الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".
و الحج المبرور هو الذي لا رياء فيه و لا سمعة، و لم يخالطه إثم و لا يعقبه معصية، و هو الحج الذي وُفِّيت أحكامه و وقع موقعاً لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل، و هو المقبول، و من علامات القبول أن يرجع خيراً مما كان و لا يعاود المعاصي. و المبرور مأخوذ من البر و هو الطاعة و الله أعلم.
و قال صلى الله عليه و سلم لعمرو بن العاص: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، و أن الهجرة تهدم ما كان قبلها، و أن الحج يهدم ما كان قبله؟".
و سُئِلَ النبي صلى الله عليه و سلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله و رسوله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "جهاد في سبيل الله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور".
و قال صلى الله عليه و سلم: "تابعوا بين الحج و العمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر و الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد و الذهب و الفضة، و ليس للحج المبرور ثواب إلا الجنة".
و عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله على النساء جهاد؟ قال: "نعم عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج و العمرة". و عند النسائي: ".. و لَكُنَّ أحسن الجهاد و أجمله، حج البيت حج مبرور".
و قال صلى الله عليه و سلم: "وفد الله ثلاثة: الغازي، و الحاج، و المعتمر".(1/11)
و عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "الغازي في سبيل الله، و الحاج، و المعتمر، وفد الله. دعاهم فأجابوه و سألوه فأعطاهم".
و قال صلى الله عليه و سلم: "جهاد الكبير، و الصغير، و الضعيف، و المرأة: الحج و العمرة".
و عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، و إنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟".
و قال صلى الله عليه و سلم: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة ... ".
و قال صلى الله عليه و سلم: " ... فإن عمرة في رمضان تقضي حجة معي".
و قال عبدالله بن عبيد لابن عمر رضي الله عنهما: ما لي أراك لا تستلم إلا هذين الركنين: الحجر الأسود و الركن اليماني؟ فقال ابن عمر: إن أفعل فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: "إن مسحهما يحط الخطايا" و سمعته يقول: "من طاف (بهذا) البيت سبعاً و صلى ركعتين كان كعتق رقبة" و سمعته يقول: "ما رفع رجل قدماً و لا وضعها إلا كتب له عشر حسنات، و حط عنه عشر سيئات، و رفع له عشر درجات".
و ثبت عنه صلى الله عليه و سلم أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه.
و من طاف بالبيت العتيق و استلم الحجر الأسود شهد له يوم القيامة؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في الحجر: "و الله ليبعثه الله يوم القيامة، له عينان يبصر بهما، و لسان ينطق به، يشهد على من استلمه بحق".
و عنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "نزل الحجر الأسود من الجنة أشد بياضاً من الثلج فسودته خطايا بني آدم".
قبل الرحيل
يجب على الحاج قبل السفر و الرحيل إلى تلك الديار المقدسة، أن يأتي بأمور تكون مكملة لحجه و عمرته و حتى تكون سبباً في قبول العمل بإذن الله تعالى و من ذلك:(1/12)
1. الاستخارة و الاستشارة: فلا خاب من استخار و لا ندم من استشار، فيستخير الله في الوقت و الراحلة و الرفيق وجهة الطريق إن كثرت الطرق. ثم يستشير أهل الخبرة و الصلاح، و صفة الاستخارة: أن يصلي ركعتين، ثم يدعو بالدعاء الوارد، في كتب الأذكار و الأدعية.
2. إخلاص النية لله تعالى: فيجب على الحاج أن يقصد بحجه و عمرته وجه الله و الدار الآخرة، لتكون أعماله و أقواله و نفقاته مقربة إلى الله تعالى، قال صلى الله عليه و سلم: "إنما الأعمال بالنيات، و إنما لكل امرئ ما نوى". و على الحاج أن يحذر كل الحذر من أن يقصد بحجه الدنيا و حطامها، أو الرياء و السمعة و المفاخرة بذلك، لأن ذلك مما يحبط العمل و العياذ بالله قال تعالى: ((من كان يريد الحياة الدنيا و زينتها نوف إليهم أعمالهم فيها و هم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار و حبط ما صنعوا فيها و باطل ما كانوا يعملون))(هود:15-16).
3. تعلم أحكام الحج و العمرة و ما يتعلق بهما: فيجب على الحاج معرفة الأحكام المتعلقة بهذا الركن العظيم، فيتعلم شروطه و واجباته و أركانه و سننه، حتى يعبد الله على بصيرة، و حتى لا يقع في الأخطاء التي قد تفسد عليه حجه. و قد كتب العلماء قديماً و حديثاً في هذا الموضوع فعلى الحاج أن يقرأها، و يسأل العلماء و المشايخ عما أشكل عليه في حجه أو عمرته.(1/13)
4. توفير المؤونة لأهله، و الوصية لهم بالتقوى: فينبغي على كل من عزم على السفر لحج أو لعمرة أو لغيره من الأمور أن يوفر لأهله و من تجب عليه نفقتهم، ما يحتاجون إليه من المال و الطعام و الشراب و غير ذلك حتى لا يتركهم عالة على الناس، فقد يحدث لأبنائه أو والديه أو زوجه مكروه و ليس عندهم المال فيقعوا في الحرج و يمدوا أيديهم للناس. ثم أمر آخر و هو وصيتهم بالتقوى، و التقوى معناها: فعل ما أمر، و اجتناب ما نهى عنه و زجر. و التقوى خير زاد للمسلم في حلِّه و ترحاله: ((و تزودوا فإن خير الزاد التقوى و اتقون يا أولي الألباب))(البقرة:197).
5. التوبة من جميع الذنوب و المعاصي: قال تعالى: ((و توبوا إلى الله جميعاً أيه المؤمنون لعلكم تفلحون))(النور:31).
و حقيقة التوبة:
- الإقلاع عن جميع الذنوب و المعاصي وتركها.
- و الندم على فعل ما مضى.
- و العزيمة على عدم العودة إليها.
- وإذا كان عنده مظالم للناس ردّها و تحللهم منها؛ سواء كانت عرضاً أو مالاً أو غير ذلك.
6. اختيار النفقة الحلال: التي تكونت من الكسب الطيب، حتى لا يكون في حجه شيءٌ من الإثم، فإن الذي يحج و كسبُه مشتبه فيه قد لا يُقبل حجُّه، و قد يكون مقبولاً، و لكنه آثم من جهة، ففي الحديث المشهور الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه و سلم: "إذا خرج الحاج حاجاً بنفقة طيبة، و وضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه منادٍ من السماء: لبيك و سعديك، زادك حلال، و راحلتك حلال، و حجك مبرور غير مأزور، و إذا خرج بالنفقة الحرام الخبيثة، و وضع رجله في الغَرْز فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه منادٍ من السماء: لا لبيك و لا سعديك، زادك حرام، و راحلتك حرام، و حجك مأزور غير مبرور".
وهكذا -كما ورد في هذا الحديث- يخاف الإنسان أن يكون حجه مأزوراً، فيدعو الله أن يقبل حجّه فيقول: اللهم اجعله حجاً مبروراً، و ذنباً مغفوراً، و عملاً صالحاً مقبولاً.(1/14)
و إذا كان كذلك فإن عليه أن يأتي بالأسباب التي تجعل حجه مبروراً، و سعيه مشكوراً، و ذنبه مغفوراً، و عمله صالحاً مقبولاً، و من هذه الأسباب: الكسب الحلال، و النفقة الطيبة التي هي من الكسب الطيب، و لا يقبل الله إلا الكسب الطيب.
و قد ذهب بعضهم إلى أنه لا يُقْبلُ حجُّ من تزود بمال حرام حتى قال بعضهم:
إذا حججت بمال أصله سحت فما حججت و لكن حجت العير
لا يقبل الله إلا كل صالحة ما كل من حج بيت الله مبرور
7. اختيار الصحبة الصالحة: فإنك إذا اخترت رفقة من الصالحين لا شك أنك تستفيد منهم، و تربح ربحاً كبيراً في الدنيا و الآخرة، أي: إذا كانت رفقتك و صحبتك الذين ترافقهم -و لو كانت المسافة قصيرة- من الصالحين فإنَّك تستفيد منهم، يذكرونك إذا نسيت، و يعلمونك ما جهلت، و يعاونونك على ما عجزت عنه، و ينشطونك على نوافل العبادة، و يساعدونك على ما قد تغفل عنه إذا كنت وحدك، فكثيراً ما يغفل الإنسان عن كثير من السنن و نوافل العبادة، و كثيراً ما يتكاسل عنها.
وهكذا إذا كان مع أُناس جهلة، فإنَّه كثيراً ما يقع منهم شيء من المخالفات، و لا يعرفون أنه خالف للسنة، فإذا كانت الرفقة من شباب متحمس من أهل المعرفة، و من طلبة العلم، الذين معهم علم و زهد و ورع و محبة للعبادة و رغبة في الاستكثار منها، فهؤلاء هم الذين يُستفاد من صحبتهم.(1/15)
8. أدعية و آداب السفر: للسفر آداب و أدعية خاصة يجب على المسافر للحج و غيره أن يتعلمها، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر، كبر ثلاثاً، ثم قال: "سبحان الذي سخر لنا هذا و ما كنا له مقرنين و إنا إلى ربنا لمنقلبون ، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر و التقوى و من العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا و اطْوِ عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، و الخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، و كآبة المنظر و سوء المنقلب في المال و الأهل" رواه مسلم.
و من آداب السفر:
* التكبير إذا صعد المسافر الثنايا، و التسبيح إذا هبط وادياً، و نحوه.
* يستحب إذا نزل منزلاً أن يقول: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، فإنه لا يضره شيء حتى يرتحل منه".
* استحباب السفر في يوم الخميس أول النهار.
و الآداب كثيرة و نكتفي بهذا حتى لا يطول بنا المقام.
تعريف الحج و العمرة
أولاً: تعريف الحج:
الحج لغة: قصد الشيء و إتيانه.
و شرعاً: قصد البيت الحرام، في وقت مخصوص، على وجه مخصوص، و هو الصفة المعلومة من الشرع من الإحرام و التلبية و الوقوف بعرفة و الطواف بالبيت و غير ذلك من الأفعال المشروعة فيه.
ثانياً: تعريف العمرة:
العمرة لغة: الزيارة.
و شرعاً: زيارة بيت الله الحرام لأداء هذا النسك على وجه مخصوص، من الإحرام، و الطواف بالبيت، و السعي بين الصفا و المروة، و الحلق أو التقصير.
حكم الحج و العمرة
فرض الله سبحانه و تعالى الحجَّ و العمرة على الصحيح، و جعلهما من واجبات المسلم في حياته، فقال تعالى،: ((و أتموا الحج و العمرة لله))[البقرة:196]. و قال: ((و لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا))[آل عمران:97].
و قالت تعالى: ((و أذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً و على كل ضامر يأتين من كل فج عميق))[الحج:27].(1/16)
تدُل هذه الآيات على فرضية تلك العبادة، و أنها أحدُ أركان الإسلام التي بني و قام عليها، كما ورد في الحديث في تفسيره صلى الله عليه و سلم للإسلام و الذي جاء فيه: "أن تشهد أن لا إله إِلاَّ الله، و أن محمداً رسول الله، و تقيم الصلاة، و تؤتيَ الزكاة، و تصوم رمضان، و تحجَّ البيت إِن استطعتَ إِليه سبيلاً".
و قد فرض الحج في آخر حياة النبي صلى الله عليه و سلم، و لهذا ذهب بعض العلماء إلى إنه يجب على التراخي!
و لكن الصحيح أنه يجب على الفور بمعنى أن العبد متى تمكن من أدائه، و زالت المحظورات، و قدر عليه وجب عليه أن يأتي به، و لم يجز له تأخيره.
و من حكمة الله أنه ما فرضه إلا مرة واحدة، فقد روى الإمام أ؛مد في "مسنده"، و أبو دواد، و ابن ماده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الأقرع بن حابس سأل النبي صلى الله عليه و سلم فقال: يا رسول الله: الحج في كل سنة، أو مرة واحدة؟ قال: "بل مرة واحدة، فمن زاد فهو تطوع".
فإذا أدَّى العبد هذه العبادة مرة واحدة، خرج من عهدة الوجوب، و مازاده فإن له أجراً في تلك الزيادات التي هي تنفُّل، و عبادات.
و الحج فضائله كثيرة لو لم يكن منها إلاَّ قول النبي صلى الله عليه و سلم: "العمرة إلى العمرة كفارةً لما بينهما، و الحج المبرور ليس له جزاء إلاَّ الجنة".
و كذلك قوله صلى الله عليه و سلم: "من حجَّ فلم يرفث و لم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه"، أي: خرج من ذنوبه، كما في الرواية الأُخرى.
و في هذا حثُّ للعبد على أَن يكون مهتماً بأَداء هذا النسك فرضاً أو تطوعاً، و يحمله على أن يكون مبادراً إلى ذلك قبل أن يعوقه عائق، و قبل أن يشغله شاغل.
شروط الحج و العمرة
و أركانهما و واجباتهما
أولاً: شروط الحج و العمرة:
معلوم أن الواجبات لا تلزم أحداً إلا بشروط يلزم وجودها ليصح منه العمل، و من ذلك فريضة الحج، فإنه لا يجب على أحد إلا بشروط خمسة ذكرها العلماء:(1/17)
الشرط الأول: الإسلام، فإن الكافر لا يقبل منه حج و لا عمرة، و لا أي عبادة من العبادات، في دين الله إلا إذا أسلم و دخل في دين الله.
الشرط الثاني: العقل، فالمجنون لا يجب عليه حج و لا عمرة.
الشرط الثالث: البلوغ، و هو ظهور أحد علامته و هي:
1- إنزال المني.
2- نبات شعر العانة.
3- تمام خمس عشرة سنة .
4- و تزيد المرأة بأمر رابع وهو: الحيض.
فائدة:
لا يجب الحج على الصغير الذي لم يبلغ، و لكن يصح الحج منه، و له أجر و لوالديه، لقوله تعالى: ((أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى))(آل عمران:195).
الشرط الرابع: الحرية ، فلا يجب الحج أو العمرة على المملوك.
الشرط الخامس: الاستطاعة، و تكون بالمال و البدن. و من الاستطاعة وجود المحرم للمرأة، فإن المرأة منهية عن السفر للحج وغيره بدون محرم، و يجب أن يكون هذا المحرم مميزاً عاقلاً بالغاً فإن الطفل لا يصلح أن يكون محرماً.
ثانياً: أركان الحج:
1- الإحرام.
2- الطواف حول البيت.
3- السعي بين الصفا و المروة.
4- الوقوف بعرفة.
و هناك خلاف بين العلماء في بعضها.
و لا يتم الحج إلا بأداء هذه الأركان، فمن ترك ركناً فسد حجّه.
ثالثاً: واجبات الحج:
ذكر العلماء أن للحج واجبات سبعة هي:
1- الإحرام من الميقات.
2- الوقوف بعرفة إلى الغروب.
3- المبيت بمزدلفة إلى ما بعد منتصف الليل.
4- رمي الجمار (جمرة العقبة، و اليوم الأول و الثاني و الثالث عشر من أيام التشريق).
5- الحلق أو التقصير.
6- المبيت بمنى ليالي منى.
7- طواف الوداع.
على خلاف بين العلماء في بعضها، و من ترك واجباً جبره بدم.
رابعاً: أركان العمرة:
ذكر العلماء أن للعمرة ثلاثة أركان هي:
1- الإحرام.
2- الطواف حول البيت.
3- السعي بين الصفا و المروة.
خامساً: واجبات العمرة:
ذكر العلماء أن للعمرة واجبين هما:
1- الإحرام من الميقات.
2- الحلق أو التقصير.
مواقيت الحج(1/18)
إذا أقبل الحجاج و المعتمرون إلى مكة قاصدين الحج أو العمرة فإن بينهم و بين مكة أماكن تسمى (المواقيت).
و يجب على الحجاج معرفة هذه المواقيت و أحكامها، و المواقيت تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: مواقيت زمانية:
قال الله تعالى: ((الحج أشهر معلومات))(البقرة:197).
ذكر العلماء هذه الأشهر و قالوا: :إنها شهر شوال، و ذو القعدة، و العشر الأول من شهر ذي الحجة.
و هذه مواقيت الحج و هي التي تسمى بالمواقيت الزمانية أي: التي يصح الإحرام بالحج فيها، و إن كان لا يتم الحج إلا بالوقوف في اليوم التاسع من ذي الحجة بعرفة. فلو أن إنساناً أحرم و عقد إحرامه بالحج في شهر شوال و بقي محرماً بالحج إلى يوم عرفة لصح إحرامه، و أصبح محرماً بالحج في زمانه، لكن لو أحرم بالحج في آخر يوم من رمضان لما صح إحرامه، لكونه وضعه في غير وقته و زمانه، هذا هو ميقات الحج الزماني.
أما العمرة فإنها تصح في كل السنة، فيصح أن يُحرم بها في أي يوم من أيام السنة.
القسم الثاني: مواقيت مكانية:
أما المواقيت المكانية فإنها التي حددها و قدرها النبي صلى الله عليه و سلم في سنته، فثبت في الصحيح عن ابن عباس و ابن عمر رضي الله عنهم: "أن النبي صلى الله عليه و سلم وقَّت لأهل المدينة ذي الحليفة، و لأهل الشام الجحفة، و لأهل نجد قرناً، و لأهل اليمن يلملم، قال: هن لهن و لمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن أراد الحج و العمرة، و من كان دون ذلك فمُهله من حيث أنشأ، حتى أهل مكة يهلون من مكة".
هذه هي المواقيت المفروضة و التي تسمى بالمواقيت المكانية.(1/19)
و سبب شرعيتها و شرعية الإحرام منها، أن هذا المكان المقدس الذي هو البيت العتيق له مكانته و شرفه و فضيلته و حرمته، فإذا أقبل الناس إليه و دفعهم الشوق إلى تلك المشاعر، و قربوا منه، شرع لهم أن يظهروا بصفة يتميزون بها عن غيرهم، فيعرفهم غيرهم بأنهم من الوافدين إلى هذا البيت، فشرع لهم لباس خاص يتميزون به قبل أن يصلوا مكة بمسافة، و شرع لهم شعارٌ خاصٌ و هو التلبية، و كان ذلك دليل إجابتهم.
لقد شرع الحج على لسان إبراهيم بقوله: ((و أذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً و على كل ضامر يأتين من كل فج عميق))(الحج:27). كما روى ذلك ابن جرير و ابن عباس و مجاهد في تفسير هذه الآية من سورة الحج، فقد أمره الله أن ينادي فقال: "يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا" فأسمع الله من في أصلاب الرجال و أرحام النساء، فجاؤوا من كل فج عميق، رافعين أصواتهم يُهِلُّون بالتلبية، لبيك اللهم لبيك، أي: نحن مجيبون لك أيها الداعي، فكان من حكمة الله أن جعل لهذا البيت أماكن نائية بعض الشيء إذا وصل إليها المسلم قاصداً مكة فإنه يعمل عملاً يتسم و يتميز به عن غيره، تدل على إجابته للنداء، و تعظيمه لشعائر الله: ((ذلك و من يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب))(الحج:32). و لا شك أن تعظيم تلك المشاعر تعظيم لله الذي أمر عباده بالتعبد فيها، لا لأنها أماكن و لا لأنها بنايات أو مقامات، و لكن يعظمونها بأمر الله، و هم يذكرون الله فيها و يقرؤون كلامه و يركعون و يسجدون و يخضعون له و يذلون و يتواضعون و هم منيبون إليه.
الميقات الأول: ذو الحليفة (أبيار علي):(1/20)
و هو ميقات أهل المدينة و من أتى على طريقهم، و يسمى الآن (أبيار علي). و ينبغي الانتباه بأن تسميته (أبيار علي) جاءت به الرافضة بزعمهم أن علياً رضي الله عنه قاتل الجن في بئر هناك كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 26/29. فينبغي هجر هذه التسمية، و تسميته بالاسم الشرعي و هو: (ذو الحليفة).
و هذا الميقات هو الذي كان يحرم منه النبي صلى الله عليه و سلم، و يحرم منه الصحابة، و يحرم منه أهل المدينة إلى يومنا هذا، و قد امتد البناء إليه أو قرب منه، ثم تجاوزه في داخل البنيان.
و هو أبعد المواقيت من مكة، فبينه و بين مكة عشر مراحل.
و المرحلة هي: مسيرة الراكب على الرواحل القديمة من أول النهار إلى آخره، كانوا يسيرون بين ذي الحليفة و مكة عشرة أيام، أي يسيرون النهار، و يبيتون الليل، هذا معنى قولهم: عشر مراحل.
الميقات الثاني: الجحفة:
و هو ميقات أهل الشام و مصر و المغرب الذين يقدمون عن طريق البحر و ينزلون على السواحل، ثم يركبوا على الرواحل و يسيرون عليها، فأول ما يمرون في طريقهم بالجحفة فيحرمون منها.
و الجحفة بلدة قديمة بينها و بين مكة ثلاث مراحل، و تسمى قديماً (مهيعة)، و سميت بالجحفة لأن السيل اجتحفها، و هي الآن خربة، و ذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم دعا لما قدم المدينة: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، و بارك لنا في صاعها و مدها، و انقل حُمّاها إلى الجحفة" كما رواه البخاري في فضل المدينة برقم 1889، و مسلم في الحج برقم 1376 عن عائشة مطولاً. فأصابها الوباء فخربت فصار الناس يحرمون قبلها بقليل من بلدة قديمة اسمها (رابغ) و هي مشهورة.
و قد ذكرها ابن حجر في فتح الباري أنها مشهورة بهذا الاسم، و لكنها لم تكن مشهورة في زمن النبوة و لم يرد لها اسم.(1/21)
فإحرام أهل الشام و من كان على تلك الطريق من رابغ، هو إحرام من الميقات، و ذلك أنه قبل الجحفة بقليل، و من أحرم قبل الميقات بقليل أجزأه إحرامه، بخلاف من أخّر الإحرام حتى تجاوز الميقات كما سيأتي. ثم إن الحكومة أيدها الله تعالى عمَّرت مسجداً كبيراً في الجحفة القديمة، و أصلحت له طريقاً معبَّداً يتصل بالمسجد الذي عمر في الجحفة ليحرم منه الناس و إن كان مائلاً عن الطريق قليلاً.
أما أهل الشام إذا مروا بالمدينة فإنهم يحرمون من ميقات أهل المدينة، و كذلك من مر بالمدينة من غير أهلها، فلو مر بالمدينة بعض أهل نجد أو أهل العراق، لزمهم أن يحرموا من ميقات أهل المدينة، لقول النبي عليه الصلاة و السلام في المواقيت: "هن لهن و لمن أتى عليهن من غير أهلهن". فإذا جاء أهل الشام و أهل مصر بالبواخر و توجهوا إلى جدة فإنه يلزمهم الإحرام إذا حاذوا رابغ، أو حاذوا الجحفة، و هم في نفس السفن أو البواخر قبل نزولهم بجدة، و لا يجوز لهم تأخير الإحرام إلى أن يصلوا جدة، كما يفعله كثير من الجهلة، و ذلك لأن ميقاتهم هو (الجحفة) أو قبلها برابغ، فإذا حاذوها و هم في نفس السفن أو البواخر تجردوا و لبسوا إحرامهم، و لبوا و عقدوا النية، دون أن يؤخروا إحرامهم إلى جدة، و لو قدِّر أنهم وصلوا إلى جدة و هم بثيابهم غير محرمين، ثم أحرموا من جدة لزمتهم الفدية، و هي فدية تجاوز الميقات بغير إحرام، إلا إذا رجعوا إلى رابغ و أحرموا منه، أي إذا رجعوا قبل أن يحرموا فإنه يسقط عنهم الدم، الذي هو دم الجبران. أما إذا أحرموا من جدة، و عقدوا الإحرام فيها فإنه يلزمهم الدم، و لا ينفعهم الرجوع بعد الإحرام.
الميقات الثالث: قرن المنازل (السيل الكبير):(1/22)
و هو ميقات أهل نجد و من كان على طريقهم من أهل المشرق و نحوهم، و يسمى أيضاً قرن الثعالب، و هو عبارة عن جبل صغير مغلق شمالاً و جنوباً من جانبي الوادي الذي يجري معه ماء يُقال له: السيل الكبير، و هذا من أقرب المواقيت إلى مكة، بينه و بين مكة مرحلتان، أي مسيرة يومين.
و لمّا فُتح الطريق الذي ينفذ من الطائف إلى مكة الذي يُسمى (بالهدا) (أو بالكرا) و لا يمر بوادي السيل، اجتهد العلماء و حددوا فيه ميقاتاً يحرم منه من أراد الحج أو العمرة، و كان يريد القدوم من ذلك الطريق.
و هذا الطريق و هو طريق الهدا يمر بوادٍ يُقال له (وادي محرم)، و وادي محرم يحاذي أعلى مكان من وادي السيل، و لذلك جعلوا وادي محرم ميقاتاً لمن قدم من ذلك الطريق و أراد الحج أو العمرة.
و العلماء نصّوا على أن من دخل مكة من غير هذه المواقيت، لزمه أن يحرم إذا حاذى أقربها، فإذا لم يحاذ بعضاً، و لم يدر بالمحاذاة، لزمه أن يحرم إذا بقي بينه و بين مكة مرحلتان.
و هذا الميقات يحرم منه أهل الطائف و أهل البلاد الجنوبية الذين ينزلون من ذلك الطريق.
الميقات الرابع: يلملم (السعدية):
و هو ميقات أهل اليمن و من على جهتهم، أو من يأتي من البلاد الجنوبية الغربية: كبلاد الساحل الجنوبي، و يسمى الآن (بالسعدية).
و هذا الميقات من أوسط المواقيت بينه و بين مكة مرحلتان، أو أكثر من مرحلتين قليلاً.
الميقات الخامس: ذات عرق:
اختلف في هذا الميقات و هو ميقات أهل العراق، فقيل أن الذي وقَّته النبي صلى الله عليه و سلم كما روي ذلك في أحاديث.
و الصحيح أن الذي وقَّته عمر رضي الله عنه، لما مُصِّرت الأمصار التي في العراق: الكوفة، و البصرة في زمن عمر، فشكوا إلى عمر بأن السيل الذي هو (قرن المنازل) جور أي: مائل عن طريقهم، فأمرهم أن ينظروا حذوها من طريقهم، و حدد لهم ذات عِرقٍ، و بينها و بين مكة قريباً من مرحلتين و إن كانت لا يمر بها طريق في هذه الأزمنة.(1/23)
و لزيادة الفائدة أذكر هنا تنبيهات:
* التنبيه الأول:
من ركب الباخرة أو الطائرة كيف يحرم؟
فإنه يلاحظ على الذين يأتون عن طريق البحر بالبواخر أنهم يؤخرون الإحرام إلى جدة، و يحرمون منها، و كذلك الذين يأتون بالطائرات فإنهم يؤخرون الإحرام و يحرمون من جدة، و هذا كله خطأ، فإن الذي يأتي من طريق يلزمه أن يحرم من الميقات الذي يمر فيه أو إذا حاذى أقرب المواقيت إليه، فالذي يأتي عن طريق الجو يحرم و هو في الجو، إذا بلغ أقرب المواقيت التي يمر بها.
فلو سافر شخص من الرياض بالطائرة إلى جدة و يريد الحج أو العمرة فعليه أن يحرم و يلبي و يعقد النية إذا حاذى الميقات الذي يمر به و هو (قرن المنازل أي ما يسمى بالسيل الكبير) أو قرب وادي السيل، و من لبّى قبل الميقات بقليل للاحتياط فهو الأولى، مخافة أن يتمادى به التساهل إلى أن يتجاوز حدود الميقات.
و بالجملة فليس لراكب السيارة، أو الطائرة، أو الباخرة و نحوهم تأخير الإحرام إلى جدة، لما فيه من مجاوزة الميقات، و إذا قُدِّر أنه فعل و نزل بالطائرة في جدة و لم يحرم، فسبيل التخلص من الفدية أن يركب سيارة و يرجع إلى ميقاته الذي قدم منه، و يحرم من هناك، و يدخل مكة محرماً، و لا يحرم من جدة، و إن أحرم من جدة لم ينفعه الرجوع، و لا يسقط عنه دم الفدية، هذا هو الطريق لإسقاط الفدية عمن تجاوز الميقات بدون إحرام.
* التنبيه الثاني:
من كان دون المواقيت كيف يحرم؟
أما من كان دون المواقيت بأن كان بينها و بين مكة، فإنه لا يُكلف بأن يذهب إلى أحد المواقيت التي ذكرناها، فأهل جدة مثلاً لا يكلفون أن يذهبوا إلى رابغ ليحرموا منه، بل ميقاتهم من بلادهم، فيُحرم أحدهم من بيته. كذلك القرى التي بين مكة و جدة، كبحرة و نحوها، فإن أهلها يحرمون من أماكنهم و بيوتهم.(1/24)
و كذلك القرى التي بين السيل الكبير و مكة كالشرائع و نحوها فإن أهلها أيضاً يحرمون من أماكنهم، و هكذا أهل مكة يحرمون من مكة على ظاهر هذا الحديث، و هو: "حتى أهل مكة يحرمون من مكة".
و ذهب بعض العلماء إلى أن أهل مكة يحرمون من مكة بالحج، و أما العمرة فإنهم يذهبون إلى أدنى الحل، فيحرمون منه، لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر عائشة أن تعتمر من التنعيم، و لم يرخص لها أن تعتمر من مكة، مع أنها في مكة، و هذا دليل على أن المعتمر يذهب من مكة إلى أدنى الحل، و يدخل فيها، حتى يجمع في العمرة بين وقوفه في الحل و الحرم، كالحجاج من أهل مكة فإنهم يجمعون في وقوفهم بين الحل و الحرم، فإنهم يقفون بعرفة و هي من الحل، ويقفون في المشاعر الأخرى و هي من الحرم.
* التنبيه الثالث:
من أتى مكة لا يريد الحج أو العمرة هل يلزمه الإحرام من المواقيت أم لا؟
أما من مر بالمواقيت السابقة قاصداً مكة و لم يكن في نيته أداء حج أو عمرة، فإنه لا يلزمه الإحرام، لكن إذا كان بعيد العهد بمكة فإنه يتأكد في حقه الإحرام، من غير أن يُلْزَمَ به، لقول النبي صلى الله عليه و سلم: "هن لهن و لمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة".
فَشَرَط النبي صلى الله عليه و سلم أنها مواقيت لمن أراد الحج أو العمرة، و هذا دليل على أن من مر بها قاصداً مكة لتجارة أو لزيارة قريب أو صديق أو عابر سبيل فإنه يجوز له أن يتجاوزها، و لا يلزمه الإحرام، و الله أعلم.
أنواع الأنساك و أفضلها
و النسك الذي أهل به النبي صلى الله عليه و سلم
إذا وصل الحاج إلى أحد المواقيت التي ذكرناها في أشهر الحج و هي: شوال، و ذو القعدة، و العشر الأول من ذي الحجة، و كان مريداً للحج من عامه فإنه مخير بين ثلاثة أنساك:
الأول: العمرة وحدها: (و يسمى التمتع):
و هو أن يحرم بالعمرة وحدها من الميقات في أشهر الحج.
و صفة التلفظ في هذا النسك عند الإحرام و عقد النية أن تقول: (لبيك عمرة).(1/25)
و يستمر في التلبية حتى يصل مكة فإذا شرع في الطواف قطع التلبية، و بدأ بأعمال العمرة، فإذا طاف و سعى و حلق أو قصر تمت عمرته، و حلَّ له كل شيء حرم عليه بالإحرام.
فإذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة (و هو يوم التروية) أحرم بالحج وحده، و صفة التلفظ في هذا النسك عند الإحرام و عقد النية أن يقول: (لبيك حجاً).
الثاني: الحج بين العمرة و الحج: (و يسمى القران): و هو أن يحرم بالعمرة و الحج جميعاً في أشهر الحج، أي: يقرن بينهما، و صفة التلفظ في هذا النسك عند الإحرام و عقد النية أن يقول: (لبيك عمرة و حجاً).
أو يحرم بالعمرة أولاً: من الميقات فيقول: (لبيك عمرة) و قبل أن يشرع في الطواف يدخل الحج عليها و يلبي، فإذا وصل إلى مكة طاف طواف القدوم، ثم سعى سعي الحج، وله تأخير هذا السعي بعد طواف الإفاضة. و لا يحلق أو يقصر، بل يبقى على إحرامه حتى يحلّ منه بعد التحلل يوم العيد.
الثالث: الحج وحده: (و يسمى الإفراد): و هو أن يحرم بالحج وحده من الميقات في أشهر الحج، و صفة التلفظ في هذا النسك عند الإحرام و عقد النية أن يقول: (لبيك حجاً). و له تأخير السعي إلى ما بعد طواف الإفاضة.
فائدة:
* عمل المفرد كعمل القارن سواء بسواء إلا أن المفرد بالحج وحده ليس عليه هدي، أما القارن و هو المحرم بالعمرة و الحج معاً فإن عليه هدياً.
* الحاج مخير بين هذه الأنساك الثلاثة، و الدليل حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم عام حجة الوداع فمنّا من أهلَّ بعمرة، و منَّا من أهلَّ بحجٍّ وعمرة، و منَّا من أهلَّ بالحج ... " الحديث، و غيره من الأَدلة.
و لكن الأفضل من هذه الأَنساك هو (التمتع) لمن لم يكن معه الهدي، لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال بعد أن سعى بين الصفا و المروة: " ... لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي و جعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه الهدي فليحل و ليجعلها عمرة ... " الحديث.(1/26)
* أما من ساق الهدي معه من بلده فإن القران أفضل في حقه لأنه النسك الذي أحرم به الرسول صلى الله عليه و سلم، و لا شك أن سوق الهدي في هذا الزمان فيه حرج و مشقة، فلذا كان الأفضل هو التمتع لما فيه من اليسر و السهولة.
* أما من كان قارناً و كذا المفرد فالأفضل له إذا طاف بالبيت و سعى بين الصفا و المروة و لم يسُق الهدي من بلده، أن يجعلها عمرة فيقصر أو يحلق و يكون بهذا متمتعاً، كما فعل أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم بأمره في حجة الوداع.
النسك الذي أهل به النبي صلى الله عليه و سلم:
ذكرنا أن النسك الذي أهل به النبي صلى الله عليه و سلم هو (القران) و هو الجمع بين العمرة و الحج بتلبية و إحرام واحد دون فصل بينهما، و هو النسك الذي اختاره الله سبحانه و تعالى لنبيه، و لا يختار الله لنبيه إلا الأفضل، فإنه صلى الله عليه و سلم ساق الهدي معه، و هذا هو الذي منعه من التحلل بالعمرة، و أن يفعل مثل الذي أمر به أصحابه.
الإحرام
صفته و ما يتعلق به
يتجرد المسلم من لباسه المعتاد إذا كان رجلاً، و يرتدي لباساً خاصاً؛ حيث يقتصر على إزار يشدّ به عورته، و رداء يلفه على ظهره، يتذكر بذلك تجرده من الدنيا، و من زينتها، و يتذكر بذلك أيضاً لباس الموتى، و هو أنهم يكفنون بأكفان كهذه الأكسية، فهو بهذه الأكسية قد دخل في النسك، و دخل في هذه العبادة العملية.
أما المرة فإنها تلبس ما تشاء من الثياب، و ليس لها لباس خاص عند الإحرام كالرجال، كما يفعله بعض الجهلة من لبس النساء لثوب أبيض أو أخضر، فإن هذا لم يشرع و أن لبسها الأبيض فيه تشبه بالرجال، و لا يجوز للمرأة أن تتشبه بالرجل لا في اللباس و لا في غيره؛ بل عليها التستر و الحشمة حتى لا تكون محل فتنة.(1/27)
و الإحرام هو أول أعمال الحج، و هو أول ما يتلبس به الحاج أو المعتمر، و هذا الإحرام هو النية، و ليس هو اللبس، بل مجردُ نية الناسك، و عزمه على الدخول في النسك هو الإحرام، و لو لم يتجرد من لباسه، فكثيراً ما يتجرد المحرم من لباسه المعتاد و يلبس ملابس الإحرام و لم ينو النسك، و العكس كذلك، أن ينوي الدخول في النسك و يصبح محرماً و هو باق على لباسه المعتاد لم يخلعه. إذاً فالنية هي الأصل، و هي العزم على الدخول في النسك.
فإذا رأينا إنساناً لبس إزاراً على عورته ورداءاً على ظهره، فليس بشرط أنه محرم و أنه دخل في النسك. و لهذا يجوز أن تلبس إزاراً و رداءً و أنت في بلدك و لا تحرم، و ذلك لأنه لباس معتاد قبل الإسلام، و جائزٌ لبسه لغير المحرم.
و كذلك قد لا يجد المحرم الرداء الذي يجعله على ظهره؛ فيتخذ ثوباً أو بطانية أو عمامة و يلقيها على ظهره، أو يبقى ظهره مكشوفاً، و قد لا يجد إزاراً؛ فيأتزر بثوب أو قميص يغطي به عورته أو ما أشبه ذلك. و هكذا بهذه النية يكون الإنسان محرماً و لو لم يلبس هذا اللباس الخاص.
و قد لا يتيسر للبعض التكشف و لبس الإحرام الخاص، كالذين يعملون الأعمال الرسمية، و يريدون أداء المناسك، فيجوز لهم أن يحرموا بأكسيتهم و ألبستهم المعتادة، فيجوز للجندي مثلاً أن يحرم و يلبي و هو لابساً قميصه، و عليه برنيطة على رأسه، و يتجنب المحظورات، و لكن يكون عليه فدية عن هذا اللباس، و إحرامه صحيح، فإن الإحرام هو النية و التلبية و ما أشبهها.
* و قد اشتهر عند الإحرام أن يقلم المحرم أظفاره، و يقص من شاربه، و يحلق شعر عانته و نحو ذلك.
فهل هذه من السنن؟!(1/28)
نقول: ليست هذه من السنن، و لكن شُرِعَت للمحرم مخافة أن يتأذَّى بهذا الشعر، و هذه الأَظفار عند إطالتها، فبعد الإحرام عادة ما يبقى الحجاج في إحرامهم نصف الشهر، أو عشرين يوماً و هم محرمون، و لا شك أن المحرم منهي أن يقلم أظفاره، و أن يقص من شعر شاربه أو شعر عانته أو إبطه أو نحو ذلك.
فلسان حاله يقول: بما أني منهي عن ذلك و أنا محرم، فسوف أقلمها و أقصها ما دام ذلك حلالاً، قبل أن تطول و تؤذي و أكون ممنوعاً منها بعد عقد النية بالنسك.
أما في هذه الأزمنة فالحاجة إلى أخذ هذه الأشياء قليلة، و ذلك لقصر مدة الإحرام لتقارب المسافة، و ذلك لوجود الناقلات التي تقرب البعيد.
و قد قيل: إن الصحابة رضي الله عنهم بقوا مع النبي صلى الله عليه و سلم خمسة عشر يوماً و هم محرمون، و بعضهم أحرم في خمس و عشرين من شهر ذي القعدة، و لم يتحلل إلا يوم العيد، فبقوا خمسة عشر يوماً و هم محرمون، و بعضهم تحلل في اليوم الخامس من ذي الحجة، حيث جعلوها عمرة، ثم أحرموا في اليوم الثامن من ذي الحجة، و بقوا على إحرامهم إلى اليوم العاشر، و بكل حال فقد خشوا في هذه المدة الطويلة أن تطول أظافرهم فتعاهدوها قبل الإحرام، و تعاهدوا شعورهم مخافة أن تؤذيهم.
أما إن أحرم مثلاً في اليوم الثامن و تحلل في اليوم العاشر، فإن هذه المدة لا يطول فيها الشعر و الظفر، فلا أهمية و لا إلزام في أخذ هذا الشعر و لا هذه الأظافر و نحوها؛ سيما إذا كانت قصيرة.
* تنبيه مهم:
من أراد أن يضحي، فإنه منهي أن يأخذ من شعره و أظفاره في أيام عشر ذي الحجة حتى يضحي، فإذا دخل عليه العشر، توقَّف عن أخذ شيء من شعره و ظفره، و تعاهدَ ذلك في اليوم التاسع و العشرين أو اليوم الثلاثين من شهر ذي القعدة، فيأخذ ما يريد أخذه، حتى لا يحتاج إلى ذلك بعد دخول العشر، لورود النهي عن ذلك.(1/29)
* كذلك إذا أراد المسلم الحج و هو ينوي أن يضحي و قد تعاهد هذا الشعر و هذه الأظفار قبل دخول العشر، ثم أحرم بالحج في اليوم السابع من ذي الحجة، أو في اليوم الثامن فلا يجوز أخذ شيء من شعره و ظفره لأنه عازم على الأضحية.
والخلاصة أن الأخذ من الشعر و الظفر عند الإحرام ليس مشروعاً إلا إذا كانت الأشعار طويلة مثلاً أو الأظافر، و خاف أن يتأذى منها بعد الإحرام.
* أما الاغتسال عند الإحرام فليس أيضاً بشرط! و لكن من باب النظافة، فيستحب أن يحرم و هو حديث عهد بنظافة، فلو اغتسل و تنظَّف في اليوم السابع و أحرم في اليوم الثامن أجزأه ذلك، لوجود النظافة المطلوبة عند الإحرام.
* و هل يشرع عند الإحرام صلاة ركعتين قبل الإحرام أو بعده؟
استحب ذلك جمع من العلماء، و لكن ليس ذلك بمستحب إلا إذا كان هناك سبب آخر، كأن توضأ أو اغتسل و صلى ركعتين كسنة وضوء، كفاه ذلك، و إن كان في وقت مكتوبة: كصلاة ظهر، أو صلاة عصر، أو صلاة فجر، كفته الصلاة، فأحرم بعدها، و إن كان في وقت نافلة كصلاة الضحى أو نحوها، كفاه ذلك أيضاً.
و ليس للإحرام سنة خاصة و ليس من ذوات الأسباب، فلا يصليها في وقت النهي: كبعد العصر، و بعد الفجر.
و بكل حال هذه من السنن المطلقة التي تصلى لمناسبة و الله أعلم.
*الاشتراط في الإحرام:
إذا كان المحرم خائفاً من عائق في الطريق كمرض أو عدو أو مطر، أو خاف المنع من قبل السلطات بسبب الإجراءات النظامية، أو نحوه، فإنه يستحب له أن يشترط عند إحرامه فيقول: "فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني". أو يقول: "لبيك اللهم لبيك و محلي من الأرض حيث حبستني".
أما من لا يخاف و غلب على ظنه أنه لا يعوقه عائق فإنه لا ينبغي له الاشتراط.
* صفة التلبية و مواضعها:(1/30)
بعد أن يلبس المسلم لباس الإحرام، ينوي بقلبه فيقول: (لبيك عمرة)، أو (لبيك حجاً)، أو (لبيك حجاً و عمرة)، و ينوي بهذه التلبية الدخول في النسك الذي اختاره، كما ينوي أيضاً التقرُّب إلى الله بهذه التلبية التي معناها التزام الطاعة.
و بعد أن ينوي الدخول في النسك فإنه يبدأ بالتلبية فيقول: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد و النعمة لك و الملك، لا شريك لك".
و قد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال".
و الإهلال هو: التلبية، و التلبية هي إجابة دعوة الخليل عليه السلام كما قال الله تعالى: ((و أَذِّن في الناس بالحج))(الحج:27). فقد روي أن إبراهيم عليه السلام صعد على جبل أبي قبيس فنادى: "أيها الناس: إن الله كتب عليكم الحج فحجوا".
و معنى قوله: (لبيك) أي: أنَّا مقيمون على طاعتك إقامة بعد إقامة، فالتلبية هي: الملازمة و التمسك بالشيء، فالملبي كأنه يعاهد ربه أنه لا يخرج عن طاعته، و أن يستقيم عليها، و أنه مقيم عليها إقامة مستمرة لا يفارقها قيد شعرة و ليس بعدها تحول؛ سواءٌ كان في تلك الحالة التي هي الإحرام، أو فيما بعده.
كذلك تشتمل التلبية على العقيدة، و التوحيد، فإن قوله: "لبيك لا شريك لك لبيك" تكرار لهذه التلبية، و شهادة منه بأن ربه تعالى متفرد بالوحدانية، ليس له شريك في استحقاق هذه العبادة، و اعتراف منه بأنه المستحق لذلك، و المستحق للحمد و الثناء.
و في قوله: "إن الحمد و النعمة" الحمد هو: ذكر محاسن المحمود، و النعمة هي: إنعامه على الخلق.
و هكذا قوله: (لك و الملك لا شريك لك) أي: منك وحدك يا رب، و نحن معترفون بذلك، إنه لا شريك لك.(1/31)
و صفة التلبية النبوية أنه صلى الله عليه و سلم كان يكرر قوله: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد و النعمة لك والملك، لا شريك لك"، ولكنه صلى الله عليه و سلم سمع من صحابته تلبيات أخرى و لم ينكر عليهم، فكان بعضهم يقول: "لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً". و بعضهم يقول: "لبيك و سعديك و الخير كله بيديك، و الشر ليس إليك نحن عبادك الوافدون إليك، الراغبون فيما لديك". و بعضهم يقول: "لبيك و الرغباء إليك و العمل". و بعضهم يقول: "لبيك إن العيش عيش الآخرة". و الكل جائز، و ذلك لأن هذه التلبية إجابة لنداء الله سبحانه و تعالى، و التزام بطاعته، فهي شعار خاص بالمتلبس بنسك حج أو نسك عمرة.
و يجوز أن يلبي غير المحرم، و لكن الأصل أنها أصبحت شعاراً للمحرم.
و يسن للرجال أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية، أما النساء فإنهن يخفضن أصواتهن فلا يسمعها أحد إلا من كان بجانبها من رفيقاتها.
وقد ابتدأ النبي صلى الله عليه و سلم بالتلبية من حين أحرم، و لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة في يوم العيد، فعند ذلك قطع التلبية لأنه شرع في أسباب التحلل، و هكذا الذي يحرم بعمرة يلبي إلى أن يبدأ بالطواف، فإنه يقطع التلبية لأنه بدأ بأسباب التحلل.
و يندب أن يكثر الحاج من التلبية لأنها ذكر و هي شعار الحجاج، و هي تتأكد في عشرة مواضع:
* الموضع الأول: إذا عقد الإحرام و دخل في النسك رفع صوته بالتلبية.
* الموضع الثاني: إذا ركب دابته أو سيارته أو نحو ذلك، فإنه يكون قد انتقل من حال إلى حال.
* الموضع الثالث: إذا نزل من دابته أو من سيارته على الأرض لسبب أو لغرض، فإنه يجدد هذه التلبية.
* الموضع الرابع: إذا صعد نشزاً أي مكاناً مرتفعاً، كأن ترتفع به دابته أو سيارته فإنه يجدد هذه التلبية.
* الموضع الخامس: إذا هبط منخفضاً أو وادياً، أو نحو ذلك، فإنه يلبي.(1/32)
* الموضع السادس: إذا أقبل الليل؛ سواء كان في مكة أو منى، أو ليلة عرفة، أو في غيرها، فإن إقبال الليل يكون تجدد حال فلهذا يجدد هذه التلبية.
* الموضع السابع: عند إقبال النهار تجدد هذه التلبية أيضاً.
* الموضع الثامن: إذا سمع من يلبي، فإنه يتذكر بذلك هذه التلبية فيلبي.
* الموضع التاسع: إذا فعل محظوراً من محظورات الإحرام ناسياً، أو لحاجة، أو نحو ذلك، فإنه يجدد التلبية.
* الموضع العاشر: إذا تلاقت الرفاق تذكروا إحرامهم فلبى كل منهم.
و هكذا .. يجدد التلبية أيضاً بعد الصلاة المكتوبة في عرفة، و في مزدلفة، و في منى، و غير ذلك، فكلما صلى صلاة مكتوبة جدد هذه التلبية.
و قد عرفنا أن هذه التلبية هي معاهدة من العبد لربه، فإذا لبى فليستحضر هذه المعاهدة، و ليعقد قلبه عليها، حتى يكون صادقاً، و يكون حجًّه مقبولاً مبروراً.
محظورات الإحرام:
يجتنب المسلم في إحرامه ما نُهي عنه في قول الله تعالى: ((فمن فرض فيهن الحج فلا رفث و لا فسوق و لا جدال في الحج))(البقرة:197). فهذه أمور نهى الله تعالى عنها، فمن أحرم سواء بحج أو عمرة فإنه يتجنب الرفث، الذي هو الكلام السيئ، و خصوصاً ما يتعلق بالعورات أو ما يتعلق بالنساء، بصون لسانه، فإذا لم يشغله بذكر الله سبحانه و تعالى، و بتلبيته، فلا يشغله بهذا الكلام الدنيء، و بالرفث في القول و وسخ الكلام ! بل عليه أن يستبدل ذلك بما ينفعه، و يتجنب ما يضره.
هذا هو الأصل في سبب شرعية هذا الإحرام، و ذلك لأن المحرم يتذكر في ليله و نهاره أنه في هذه العبادة، فتذكُّرُه يحمله على أن يحمي لسانه، فلا يتكلم إلا بخير، فيتجنب السبَّ و القذف، و الشتم، و اللعن، و الغيبة، و النميمة، و يتجنب الجدال الذي نهى الله عنه، و المخاصمة بغير حق، و شدة الاحتكاك بغير موجب.(1/33)
و عليه أيضاً أن يتجنب الفسوق التي هي المعاصي، صغيرها و كبيرها، فكل معصية؛ سواء كانت بالعين كنظرة إلى عورة، أو سماع لكلام سيئ، أو لغناء أو نحوه، أو كانت معصية بيد، أو برجل، أو بقلب، كمن يهم بمعصية بقلبه، كل ذلك من لافسوق الذي نهى الله عنه بقوله: ((فلا رفث و الفسوق و لا جدال في الحج))(البقرة:197).
فإذا تجنب الحاجُّ مثل هذه الأمور في إحرامه، رُجي أن تبقى عليه آثاره بعد تحلله، و ذلك لأن للعبادات آثاراً تبقى بقية الحياة، و من لم تبق عليه تلك الآثار فإنه حري بأن لا ينتفع بأعماله و يرجع إلى عمل السيئات.
كذلك إذا عرف العبد أنه في حال إحرامه في هذه العبادة منهيٌّ عن المعاصي و نحوها، عرف أنه مأمور بالطاعات، و من الطاعات: الإكثار من الدعاء، و الإكثار من ذكر الله تعالى، و لهذا يأمر الله بذكره في أيام المواسم كما في قوله تعالى: ((و اذكروا الله في أيام معدودات))(البقرة:203). يعني أيام التشريق، و كذلك قوله: ((فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً))(البقرة:200).
بمعنى كما أنكم منهيون عن الغفلة في وقت أداء النسك، فلا تغفلوا بعد الانتهاء من النسك أيضاً؛ بل أكثروا من ذكر الله بعد قضاء المناسك، و أعمال المشاعر، و نحوها.
و هكذا أمر سبحانه و تعالى بذكره في مزدلفة فقال: ((فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام))(البقرة:198).
فهذا و نحوه دليل على أن المحرم يكثر من ذكر الله تعالى في جميع حالاته، و أن يبقى أثر الذكر معه.
* محظورات الإحرام المشتركة بين الرجال و النساء:
1- قص الشعر: إذا قصَّ المحرم شيئاً من شعره من أيِّ شعر، من شاربه، أو من رأسه، أو من عانته، أو إبطه، فعليه فدية.
2- قص الأظفار: كذلك إذا قلّم ثلاثة أظفار أو أكثر فعليه الفدية.
3- لبس القفازين (الكفوف) و هما شراب اليدين و ما يشبهه مما هو مصنوع لليدين.(1/34)
4- استعمال الطيب: كذلك عليه عدم استعمال الطيب الذي له رائحة زكية، فإذا تطيب في ثوبه أو في بدنه أو في إحرامه فعليه فدية مثل ما ذكرنا.
5- قتل الصيد البري: و عليه عدم قتل الصيد البري أياً كان نوعه، فمن صاده و قتله فإن عليه الفدية التي ذكرها الله تعالى بقوله: ((و من قتله منكم متعمداً فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم))(المائدة:95). و مثله أيضاً صيد الحرم.
6- عقد النكاح: فلا يصح أن يعقد المحرم نكاحاً لأبنته أو ابنه، و لا يكون شاهداً، و لا يخطب، و لا يكون زوجاً و لا ولياً، فإن فعل بطل العقد و لا فدية فيه.
7- الجماع: فإنه يبطل النسك بالجماع، و إذا فعله قبل التحلل الأول، فسد نسكه، و عليه إكماله، و عليه فدية، و عليه أن يقضيه من السنة القادمة.
8- المباشرة و التقبيل و اللمس بشهوة و ما أشبهه: فإذا فعل ذلك، فعليه فدية، و لكنه لا يفسد حجه.
* محظورات الإحرام الخاصة بالرجال:
1- لبس المخيط: فإذا احتاج الرجل و لبس ثوباً مخيطاً، أو أحرم به: كالجنود الذين يحرمون بثيابهم، فعليه فدية صيام ثلاثة أيام، أو الصدقة على ستة مساكين، بثلاثة آصع، لكل مسكين نصف صاع، أو ذبح شاة، له الخيار.
2- تغطية الرأس: يجب عدم تغطية الرأس فلا يغطي المحرم رأسه بملاصق: كعمامة أو قلنسوة أو (برنيطة) أو نحوها، فإذا احتاج إلى ذلك لبرد أو لحاجة: كالجندي الذي يحرم بلباسه، فإن عليه فدية أخرى، أي: صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين.. إلخ.
* محظورات الإحرام الخاصة بالنساء:
* لبس البرقع و النقاب والقفازين و نحوهما مما هو مفصل على الوجه أو اليدين، و يباح لها من المخيط ما سوى ذلك.
* و لها أن تغطي وجهها عند حضور الرجال الأجانب و لا يضرها مماسة الغطاء لوجهها، و كذلك تغطية يديها بثوبها، و لكن لا تلبس القفازين.
* من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام:(1/35)
* إذا فعل المحرم محظوراً من محظورات الإحرام ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً فلا إثم عليه، و لا فدية للنصوص الكثيرة في رفع الحرج عن الناسي و الجاهل و المكره.
* أما من اضطر لفعل محظور من المحظورات، فيجوز له فعل ذلك المحظور و عليه فدية، و لا يلحقه الإثم للعذر.
* أما من تعمد فعل محظور من المحظورات، فإنه آثم و عليه الفدية، و الفدية على التفصيل:
1- الفدية في إزالة الشعر: و الظفر، و تغطية الرأس في حق الرجال، و لبس المخيط، و لبس القفازين في حق النساء، و انتقاب المرأة، و استعمال الطيب، فإن الفدية في كل واحد من هذه المحظورات على التخيير:
* إما ذبح شاة و تفريق جميع لحمها على فقراء الحرم.
* أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع مما يطعم.
* أو صيام ثلاثة أيام.
2- من جامع في الفرج قبل التحلل الأول فَسَدَ حجه، و لزمه بدنة يفرق لحمها على فقراء الحرم، و يجب عليه إكماله، و أن يقضيه بعد ذلك.
أما من جامع بعد التحلل الأول فعليه ذبح شاة يفرق لحمها على فقراء الحرم، و حجه صحيح.
والمرأة كالرجل في الفدية إذا كانت راضية.
3- جزاء الصيد: من قتل صيد الحرم أو قتل الصيد و هو محرم فإنه يخير بين ثلاثة أشياء:
* إما ذبح مثل الصيد المقتول من بهيمة الأنعام إن وجد، و تفريق لحمه على فقراء الحرم.
* أو أن يخرج ما يساوي جزاء الصيد المقتول طعاماً يفرَّق على المساكين لكل مسكين نصف صاع.
* أو أن يصوم عن طعام كل مسكين يوماً.
4- المباشرة بشهوة دون الفرج، كالقبلة واللمس بشهوة، سواء أنزل أو لم ينزل، من وقع في مثل هذا فحجه صحيح، و لكن عليه أن يستغفر الله و يتوب إليه، و عليه أن يجبر فعله هذا بذبح شاة للاحتياط، و إن أطعم ستة مساكين أو صام ثلاثة أيام أجزأه.
5- من منع من إتمام النسك بسبب عدو أو حصل عليه حادث أو مرض و نحوه، فعليه أن يبقى على إحرامه حتى يزول العائق، و إذا لم يتمكن و لم يستطع، فإنه يذبح ثم يحلق أو يقصر.(1/36)
هذا بالنسبة لمن لم يشترط عند إحرامه، أما من اشترط و حصل له مانع من أداء الحج فإنه يحلّ من إحرامه و ليس عليه شيء.
* ما يباح للمحرم فعله:
يجوز للمحرم و غير المحرم أن يقتل الفواسق المؤذية في الحل و الحرم، كالعقرب، والحدأة، و الغراب، و الفأرة، و الكلب العقور، و الحية، و ما شابهها.
و يجوز للمحرم لبس السراويل إذا لم يجد إزاراً، و يجوز له لبس الخفين، إذا لم يجد نعلين. كما أنه يجوز للمحرم لبس الخفاف التي ساقها أسفل من الكعبين إن لم يجد النعلين.
و يجوز للمحرم أن يغتسل للتبرد و يغسل رأسه و يحكه برفق و سهولة و لا حرج عليه إذا سقط من شعره شعرة أو شعرتان دون تعمد.
و يجوز لبس النظارة الشمسية أو الطبية و ربط الساعة على المعصم.
و لا بأس بالحجامة إذا احتاج إليها المحرم.
و لا بأس بالاستظلال بالمظلة أو سقف السيارة أو الخيمة أو الشمسية و نحوها، مما لا يكون ملاصقاً للرأس.
و لا بأس بعقد الإزار أو ربطه بخيط حتى لا يقع.
و يباح للمرأة من المخيط ما شاءت من الثياب من كل ما أباحه الله، و لكن لا تلبس النقاب و البرقع و لا القفازين، و لا حرج عليها في لبس الخفين و الشراب و السراويل، و لها أن تستر وجهها بإسدال الخمار عليه أمام الرجال الأجانب.
و لا بأس للمحرم أن يلبس حزاماً على وسطه ليحفظ ماله و يشد به إزاره.
و لا حرج في أن يخيط المحرم الشقوق في إزاره أو ردائه، أو يرقعها و الممنوع هو لبس ما فصّل على هيئة البدن أو العضو.
الطواف حول البيت
كيفيته و شروطه
أول ما يصل المحرم مكة استحب له أن يغتسل قبل دخولها لأن النبي صلى الله عليه و سلم فعل ذلك.
ثم يدخل المسجد الحرام من باب بني شيبة فهو الأفضل و يجوز أن يدخل من جميع الجهات.(1/37)
فإن أراد الدخول إلى المسجد الحرام استحب له أن يقدم رجله اليمنى، و يقول: "بسم الله، و الصلاة و السلام على رسول الله، أعوذ بالله العظيم و بوجهه الكريم، و سلطانه القديم من الشيطان الرجيم، اللهم افتح لي أبواب رحمتك". و هذا الذكر يقال عند دخول المسجد، الحرام و سائر المساجد و لم يثبت لدخول المسجد الحرام ذكر خاص.
أول ما يبتدئ به المحرم هو الطواف و هو تحية مكة، فإن كان معتمراً أو متمتعاً بالعمرة إلى الحج كان طوافه (طواف عمرة). و إن كان قارناً أو مفرداً فهو (طواف قدوم). إذا وصل المحرم بالعمرة الكعبة قطع التلبية قبل أن يشرع في الطواف لأنه شرع في أسباب التحلل.
أما القارن والمفرد فإنهما يستمران في التلبية حتى رمي جمرة العقبة يوم العيد عندها تقطع التلبية.
و قد كان المشركون قبل الإسلام يأتون إلى هذا البيت، و كان من تعظيمهم له أنهم لا يطوفون بالثياب التي عصوا الله فيها، فإما أن يستعيروا ثياباً من أهل مكة الذين هم أهل الحرم، و إما أن يطوف أحدهم في ثيابه القديمة ثم يلقيها و لا ينتفع بها، و إما أن يطوفوا و هم عراة حتى لا يطوفوا بثياب فيها معصية، هكذا زعموا! و هذا من الجهل الذي نهى عنه الإسلام، و أنكره، و أمر بأن يُطاف بالثياب التي تستر الإنسان في صلاته و عند طوافه، قال الله تعالى: ((يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد))(الأعراف:31). و من الزينة اللباس.
و قد أمر الله تعالى بالطواف في قوله تعالى: ((ثم ليقضوا تفثهم و ليوفوا نذورهم و ليطوفوا بالبيت العتيق))(الحج:29). و في قوله تعالى: ((و طهر بيتي للطائفين و القائمين و الركع السجود))(الحج:26).
و الطواف عبادة خاصة بمكة، و هي من أشرف و أفضل القربات التي يتقرب بها المسلم لله وحده، و لا يصح الطواف في غير مكة، بل و ليس في الأرض موضع يُطاف به سوى البيت العتيق، فلا يجوز أن يُطاف بأي بقعة في الأرض، فلا يُطاف حول قبر أو مسجد أو صخرة أو غير ذلك.(1/38)
و الطائف بالبيت لا يدعو الكعبة، و لكنه يدعو ربها امتثالاً لقول الله تعالى: ((فليعبدوا رب هذا البيت))(قريش:3). فلم يقل: فليعبدوا البيت؛ بل جعل العبادة لرب البيت.
و الطواف بالبيت يجوز في كل حال و في كل وقت، و هو عبادة مستقلة، كما أن الاعتكاف و الصلاة فيه عبادة فاضلة.
فلذلك يجوز لك أن تقصد البيت، و أن تقصد الكعبة بدون إحرام، قصدك أن تطوف و لو لم تكن محرماً، فحيث إن الطواف بالبيت عبادة من العبادات، فإنه يصح أن يُقْصَدَ لكي يصلي فيه، بل و يجوز أن تُشدّ إليه الرحال و لو مسيرة ألف أو ألفي كيلو أو عشرة آلاف كيلو متراً، ليس قصدك إلا أن تصلي أو تطوف بهذا البيت كما أنه يقصد لأداء مناسك الحج أو العمرة.
و الطواف بالبيت كما قلنا عبادة من أشرف و أفضل القربات، يتقرب بها المحرم و غير المحرم، و لكن للمحرم ركن، فالطواف بالبيت ركن من أركان العمرة، و ركن من أركان الحج، فالقادم إلى مكة بنية الحج يطوف بالبيت طواف القدوم إذا كان قارناً أو مفرداً، و كذلك يطوف طواف الإفاضة الذي هو من أعمال يوم النحر، و المذكور في قوله تعالى: ((ثم ليقضوا تفثهم و ليوفوا نذورهم و ليطوفوا بالبيت العتيق))(الحج:29). و كذلك يطوفون طواف الوداع عند مبارحتهم مكة بعد انتهاء أعمال الحج، فيكون طواف الوداع آخر عهدهم بالبيت.
و في الطواف يستحضر العبد أنه تعظيم لله، ليس بتعظيم للكعبة، و لا لتلك البناية المخلوقة! إنما هو تعظيم لله تعالى، فالكعبة بيتٌ أمر الله ببنائه، فأمر إبراهيم عليه السلام أن يبنيه، و كذلك جدده من بعده، و أضافه الله إلى نفسه في قوله تعالى: ((و طهر بيتي)) جعله بيتاً له، و لحرمة هذا البيت أمر المسلم بأن يطوف به، تعظيماً لربه الذي أمر بذلك.(1/39)
و هذا الطواف يشتمل على ذكر و دعاء و قراءة، و لا يصحُّ فيه غير ذلك، إلا أن الله أباح فيه الكلام، فلا يتكلم حال الطواف إلا بخير، فقد ورد في الحديث: "الطواف حول البيت مثل الصلاة، إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فيه فلا يتكلمن إلا بخير".
لذلك يشترط في الطواف الطهارة كما تشترط للصلاة، و يشترط له ستر العورة، كاشتراطها للصلاة أو نحو ذلك.
و يبدأ الطواف بمحاذاة الحجر الأسود، فإذا قدر المسلم على استلامه فإنه يقبِّله، فيضع شفتيه عليه من غير تصويت، فإن لم يستطع، لمسه بيده اليمنى و قبّلها، و إن لم يستطع لمسه بمحجن أو عصا، و قبّل رأس المحجن أو العصا، و إن لم يستطع ذلك كله اكتفى بالإشارة إليه -و لو من بعيد- و كبّر و مضى.
و يُشرع للحاج ألا يزاحم الحجاج من أجل تقبيل الحجر الأسود؛ بل إنْ وجد فرجة واسعة، استلم، و إلا مضى، لأنه قد يُشِقُّ على غيره في هذه المزاحمة، و يكلف نفسه، و قد يزاحم من لا تحل مزاحمته: كالنساء، و ما أشبه ذلك.
و إذا ابتدأ الطواف فإنه يجعل البيت عن يساره، مبتدءاً من الحجر الأسود -كما قلنا- و يبدأ بالاستدارة حول الكعبة وراء الحِجْر.
و الحِجْر هو: البناية كنصف الدائرة التي يمر بها في جهة الشمال و يطوف من ورائها، و يحذر أن يطوف من دونها، كما يفعله بعض الجهلة، و ذلك لأن هذا الحِجْر فيه جزء من البيت، لأن قريشاً حين جددوه، قصرت بهم النفقة، فأخرجوا جزءاً من البيت، نحو ستة أو سبعة أذرع من جهة الشمال، فلهذا جعل هذا الحِجْر مكملاً له ليحصل الطواف بالبيت كله، لا ببعضه، فمن طاف في داخل الحِجْر لم يطف بالبيت كله، إنما طاف ببعضه.(1/40)
فإذا وصل إلى الركن اليماني الذي هو الزاوية الغربية الجنوبية، فإن استطاع أن يستلمه بأن يضع يده عليه مجرد وضع، ثم يرفعها فعل ذلك، و لا يقبله و لا يمسح بيده زاويته و لا يقبلها و لا يمسح بها وجهه و لا غير ذلك مما يقصد به التبرك، فإن كل ذلك من البدع، و إنما جاءت السنة بوضع اليد على الركن اليماني و بتقبيل الحجر الأسود فقط، فإن لم يستطع وضع يده كما ذكرنا، فإنه يمضي و لا يشير إليه، و هكذا بقية زاويا الكعبة لا يُسْتَلَمْ شيء منها.
ذكرنا أن الطواف عبادة لله وحده و ليست تعظيماً للكعبة، و لا أستارها، و لا أركانها، فَيُنْكَرُ على من يفعل في هذا الطواف ما لا يجوز فعله، و من ذلك أن بعضهم يتمسح بجدار الحِجْر، فكلما مرّ عليه مسحه، و مسح بذلك وجهه و صدره، و هذا بلا شك خطأ، و يجب أن يُنْصَحَ الذين يفعلون مثل هذه الأخطاء.
و هكذا الذين يلصقون صدورهم على جدران الكعبة، يتبركون بذلك، أو يمسحون بأيديهم الكسوة و يمسحون بها وجوههم، فهذا كله لا أصل له، فلم يُشرع التبرك بكسوتها، و لا بحجارتها، و لا بالحِجْرِ و لا بغير ذلك.
و هكذا أجزاء بقية الكعبة، كمقام إبراهيم، و الصفا و المروة، و زمزم و جدرانها، و بقية جدران المسجد الحرام، فلا يجوز التمسح بشيء من ذلك، و لم يُشرع إلا تقبيل الحجر الأسود، و وضع اليد اليمنى على الركن اليماني.
و هكذا الحجرة النبوية بالمدينة المنورة، و المنبر النبوي، و جدران المسجد النبوي، و غير ذلك، فلا يجوز التمسح بشيء من ذلك، فإن التمسح بشيء من ذلك يعتبر تعظيماً له! و هذا التعظيم قد يؤدِّي إلى نقص التوحيد، فإنه نوع من الإشراك.
* أدعية الطواف:
ليس للطواف دعاء مخصوص، خلافاً لما اعتاده الجهلة، و هم الذين يتقيدون بتلك الأدعية المذكورة في بعض المناسك، فإن التقيد بها ليس بشرط.
فإذا شغلت الطواف بذكر الله بالتهليل، و التحميد، و التكبير، و التسبيح، و الحوقلة، و الاستغفار، و نحوه، كفى ذلك.(1/41)
و إذا شغلته بالقراءة أو بما تيسر من الأدعية، سواء الأدعية القرآنية، أو الأدعية النبوية المأثورة، أو ما تستحسنه من الأدعية الجامعة لخيري الدنيا و الآخرة، كفاك.
و ليس لكل شوط دعاء مخصوص؛ بل يصح أن تدعو بهذه الأدعية في شوط أو في الأشواط كلها بدعاء واحد أو ما أشبه ذلك، هذا كله دليل على أن ما يعتقده بعض الجهلة من أنها لا تصح إلا بتلك الأدعية المخصصة خطأ لا أصل له.
* تنبيه:
و هنا ننبه على هذه المناسك، أي: الكتب الصغيرة التي تُباع عند الحرم و غيره و التي يذكر فيها: دعاء الشوط الأول، و الشوط الثاني، و الثالث ... و هكذا، ليست ملزمة، و ليست شرطاً، و إنما جمعها بعض العلماء ليسهل على العامة الدعاء بها، و إلا فليست شرطاً؛ بل يجوز أن تدعو بدعاء الشوط الأول في الثاني، أو في الثالث، و يجوز أن تدعو بغيرها، و يجوز ألا تدعو بها كلها، و أن تقتصر على الثناء على الله، و التكبير و التهليل و التحميد، و ما أشبه ذلك؛ بل يصح الطواف و لو لم تدع بشيء منها، و يصح الطواف و لو لم تردد إلا فاتحة الكتاب، أو تردد لا إله إلا الله محمد رسول الله، أو ما أشبه ذلك، فإن القصد هو وجود الطواف، أما الذكر فإنه من مكملاته.
ذلك لأن الدعاء إنما هو ذكر لله، و قد ثبت قول عائشة رضي الله عنها: "إنما جعل الطواف بالبيت و بالصفا و المروة و رمي الجمار لإقامة ذكر الله تعالى".
فالطواف شرع لإقامة ذكر الله سبحانه و تعالى، فإذا أقامه العبد، صحَّ و أتى بما طُلِبَ منه؛ سواء بذلك الدعاء أو بغيره.
و بعد إتمام الطواف حول البيت سبعة أشواط، فإنه يشرع صلاة ركعتين خلف مقام إبراهيم عليه السلام إن تيسَّر ذلك، و إلا في أي مكان من المسجد.
و بعد أداء الركعتين و قبل الذهاب إلى الصفا و المروة يشرع الرجوع إلى الحجر الأسود و تقبيله إن تيسر أو الإشارة إليه، فإن هذا من السنة.
السعي بين الصفا و المروة(1/42)
و بعد أداء ركعتي الطواف يخرج إلى المسعى، فإن السعي بين الصفا و المروة ركن من أركان الحج و العمرة.
و قد ذكر الله تعالى أن الصفا و المروة من شعائر الله، فقال تعالى: ((إن الصفا و المروة من شعائر الله))(البقرة:158).
و هكذا بقية الأماكن فإنها تسمى شعائر، كما في قوله تعالى: ((ذلك و من يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب))(الحج:32).
و السعي بين الصفا والمروة يسمى طوافاً و هو إحياء لسنة النبي صلى الله عليه و سلم حيث يقول: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي".
* و يشرع الخروج إلى المسعى من جهة الصفا، فإذا دنا من الصفا قرأ: ((إن الصفا و المروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما و من تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم))(البقرة:158). أبدأ بما بدأ الله به.
* ثم يرقى الصفا حتى يرى البيت فيستقبله و إن وقف عند الصفا أجزأه.
* و يرفع يديه فيوحد الله و يكبره و يحمده و يقول: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبرلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد يحي و يميت و هو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنجز وعده، و نصر عبده، و هزم الأحزاب وحده".
ثم يدعو بعد ذلك بما تيسر من الدعاء فيدعو بما شاء من خيري الدنيا والآخرة و يكرر هذا الذكر و هذا الدعاء ثلاث مرات. فإن هذا من مواضع الدعاء الثابتة عن النبي صلى الله عليه و سلم في المناسك. و لا بأس أن يدعو بغير هذا الدعاء، و لكن الأفضل اتباع السنة و ما ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم.
* بعد ذلك ينزل من الصفا متوجهاً إلى المروة حتى يصل إلى العلم الأخضر، و يشرع للرجل أن يسعى سعياً شديداً يعني: يركض ركضاً، حتى يصل إلى العلم الثاني، و يحرص المسلم على عدم إيذاء إخوانه المسلمين. أما المرأة فلم يشرع في حقها إلا المشي فقط فإنها عورة.(1/43)
* فإذا وصل إلى المروة رقى عليها و يستقبل القبلة فإنها من السنة، و يقول و يفعل كما قال و فعل عند الصفا. ثم ينزل من المروة إلى الصفا ... و هكذا يمشي في موضع مشيه و يسعى في موضع سعيه.
* و السعي بين الصفا و المروة سبعة أشواط مبتدئاً بالصفا، و منتهياً بالمروة، فمن الصفا إلى المروة يعد شوطاً، و من المروة إلى الصفا يعد شوطاً آخر.. و هكذا حتى يتم سبعة أشواط.
و يشرع أن يشغل سعيه بالذكر والدعاء و القراءة بما تيسر، و ليس للسعي بين الصفا و المروة دعاء خاص، و إن دعا في السعي فقال: "رب اغفر و ارحم إنك أنت الأعز الأكرم" فلا بأس لثبوته عن ابن مسعود و ابن عمر رضي الله عنهم.
* و لا تجب الطهارة للسعي، و الطهارة أفضل، و هكذا المرأة لو حاضت أو نفست بعد الطواف أجزأها السعي على غير طهارة.
* و ليحذر من مزاحمة النساء الأجنبيات و نحوهن، أو تعمد النظر إلى العورات، أو إلى الزينة المنهي عنها، أو ما أشبه ذلك. و هكذا النساء فعليهن أن يتقين الله عز و جل، و ألا يزاحمن الرجال، لا في المطاف، و لا في السعي، و لا عند الجمرات، و لا في غيره من المشاعر.
* الحلق أو التقصير: و بعد أداء السعي بين الصفا و المروة فيشرع لمن أحرم بالعمرة أو كان متمتعاً أن يحلق أو يقصر و الحلق أفضل، فإنه صلى الله عليه و سلم: "دعا للمحلقين بالرحمة -و في لفظ: بالمغفرة- ثلاث مرات، و للمقصرين مرة". أما إذا كان وقت الحج قريباً بحيث لا يطول فيها الشعر، فإن الأفضل في حقه التقصير، فإن قصر فلا بد من تعميم التقصير، و لا يكفي تقصير بعضه، كما يفعله بعض الجهلة.
* و بالحق أو التقصير من المعتمر أو المتمتع يكون قد تحلل من عمرته و حلَّ له كل شيء حرّم عليه بالإحرام.
* أما المفرد أو القارن الذي ساق الهدي فإنهما يبقيان على إحرامهما و لا يقصران أو يحلقان حتى رمي جمرة العقبة يوم العيد.
أعمال الحج
يوم التروية
(اليوم الثامن من ذي الحجة)(1/44)
إذا كان يوم التروية و هو اليوم الثامن من ذي الحجة، استحب للحجاج الذين أحلّوا إحرامهم بعد العمرة و هم المتمتعون أن يحرموا بالحج من مساكنهم و أماكن إقامتهم.
كذلك يُستحب لأهل مكة و مجاوريها، ممن أراد الحج أن يحرموا من بيوتهم.
فيعقد الحاج النية بالحج في قلبه و يلبي بالحج فيقول: (لبيك حجاً)، و إن كان خائفاً اشترط في إحرامه كما ذكرنا سابقاً فيقول: "فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني".
أما القران و المفرد فهم باقون على إحرامهم الأول، حتى يؤدوا باقي مناسكهم.
يتوجه جميع الحجاج بعد الإحرام إلى منى قبل الزوال أو بعده، فيصلُّوا فيها الظهر و العصر و المغرب و العشاء و الفجر، يقصرون الرباعية.(1/45)
و يبيت الحجاج في منى تلك الليلة و هي ليلة التاسع من ذي الحجة، و هذا المبيت يعتبر سُنة مؤكدة، و إن ذهب بعض العلماء إلى وجوبه لأن النبي صلى الله عليه و سلم و خلفاءه حافظوا عليه، فكانوا يبيتون ليلة تسع في منى، و يتوجهون صباح التاسع بعد طلوع الشمس إلى عرفة، فيكون هذا المبيت مؤكداً، و الذين يتركونه يتركون فضلاً كبيراً، و إن غالب الذين يتركونه هم الذين يتعلقون بغيرهم، و غالبهم من الوافدين الذين يحملهم المطوفون، و ذلك أن المطوف يشق عليه أن يسكنهم أولاً بمكة ثم بمنى، ثم بعرفة، ثم بمزدلفة، ثم بمنى، ثم بمكة، فهو ينقلهم رأساً من مكة إلى عرفة، و يترك هذه الشعيرة و هذه السُّنة، و هي المبيت بمنى ليلة عرفة، و هذا فيه تقصير و خطأ و نقص في حجهم، و لكن لجهل أولئك الوافدين و لإحسانهم الظن بهذا المطوف و اعتقادهم نصحه، لا ينتبهون لما يفوتهم، و لا يسألون غيرهم، و يكتفي المطوف بإطعامهم و نقلهم و إسكانهم، أما التعليم و الإرشاد فقلَّ من يهتم به، و كان الأولى بهم أن يتركوا ذلك المطوف، و أن يبيتوا بأنفسهم بمنى، و يذهبوا على أرجلهم في صباح يوم التاسع إلى مخيماتهم في عرفة، و لكن لا يأتيهم من يُوَجِّهُهُم، و أما من هو منفرد فإنَّه يُتأكد في حقه أن لا يترك هذا المبيت في هذا اليوم.
و على الحجاج المحرمين في ذلك اليوم سواء المتمتع، أو القارن، أو المفرد، أن يشتغلوا في حال إحرامهم بالتلبية، و ذلك لأن التلبية شعار للحجاج، و علامة واضحة على أنه متلبس بهذا النسك، فيرفعون أصواتهم بالتلبية و يكررونها.
يوم عرفة
(اليوم التاسع من ذي الحجة)
فإذا أصبح الحجيج في اليوم التاسع، و طلعت الشمس، توجهوا إلى عرفة فالوقوف بها هو الركن الأعظم للحج، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه و سلم: "الحج عرفة".(1/46)
و عرفة مكان فسيح واسع ليس فيه بنا، و هو متسع من جهة الشمال، و من جهة الجنوب، أما من جهة الشرق فتحده تلك الجبال التي تعرف (بجبل الرحمة) و ما يتصل به من الجبال، و أما من جهة الغرب فيحده وادي عُرنة و ما وراءه.
و ذهب بعض العلماء إلى أن عُرنة داخلة في عرفة، و على هذا فتكون نهايته ما وراء الوادي إلى منتهى عُرنة، و يدخل فيه على الصحيح نمرة كما في حديث جابر الطويل و غيره كما اختاره الزركشي في شرح مختصر الخرقي (2373) و ذكرنا في التعليق عليه بعض الأدلة من السنة.
و يسن للحجاج النزول بنمرة في بطن الوادي إلى الزوال إن تيسَّر ذلك، لفعل النبي صلى الله عليه و سلم، فإذا زالت الشمس سن للإمام أو نائبه أن يخطب الناس خطبة تناسب الحال، يبين فيها ما شرع للحاج في هذا اليوم و بعده، و يأمرهم فيها بتقوى الله و توحيده و الإخلاص له في كل الأعمال، و يحذرهم من محارمه.. و غير ذلك.
بعد ذلك يصلي الحجاج الظهر و العصر قصراً و جمعاً في وقت الأولى بأذان واحد و إقامتين لفعله صلى الله عليه و سلم كما في حديث جابر.
ثم يقف الحجاج بعرفة، و عرفة كلها موقف، يقفون خاشعين خاضعين، متضرعين، مستكينين لربهم، مظهرين الفقر و الفاقة و شدة الحاجة إليه، مقيمين لحرماته، يعلمون أنهم في موقف عظيم يجمعهم كلهم، فالذين يتوافدون إلى البيت، يجتمعون كلهم في ذلك المكان في اليوم التاسع في تلك الصحراء خاضعين لربهم، رافعين إليه أكف الضراعة، داعين له بكرة و عشية، طالبين بحاجتهم الحاضرة و المستقبلية، راجين رحمته، فيباهي بهم ملائكته كما ورد ذلك في بعض الأحاديث: "إن الله يباهي بأهل عرفة ملائكته، فيقول: انظروا إلى هؤلاء، أتوني شعثاً غبراً من كل فج عميق".(1/47)
يقف الحجاج في ذلك اليوم، و هم على هذه الهيئة، بعد أن أدوا صلاة الظهر و العصر، جمعاً و قصراً، في وقت الظهر، و ذلك ليطول زمن الوقوف. ثم يقف الحجاج إن تيسَّر لهم الوقوف عند جبل الرحمة، فذلك أفضل، فإن لم يتيسر لهم، وقفوا في أي مكان من عرفة، في داخل خيامهم أو غيرها، و لكن الأفضل أن يبرزوا ضاحين، لأنه روي عن ابن عباس أنه رأى رجلاً قد استظل بقبة و نحوها فقال: "أضح لمن أحرمت له". يعني: أبرز فلا تستظل و لا تستكن في خيمة. فالأفضل أن يكونوا بارزين ظاهرين من بعد الظهر، إلى غروب الشمس، منشغلين كل ذلك الوقت بالدعاء، و الذكر، و التلبية، و القراءة، و الأدعية الجامعة، كل ذلك مع حضور القلب و تواطئه مع اللسان، و البكاء، و حزن القلب. فإن ذلك من أسباب قبول العمل، و من أسباب المغفرة.
بخلاف من كان في هذا الموقف قاسياً قلبه، لا يخشع و لا يخضع و لا يدعو، و لا يتضرع، إنما يترقب و ينتظر انتهاء الوقت حتى يسارع و يسابق إلى الانصراف! فإن هذا قد فاته خير كثير، و هو مباهاة الله للحجاج بالملائكة، حتى في حالة كونهم خاشعين شعثاً غبرا، يرجون الرحمة، و يخشون من العذاب.
و يسن أن يكثر من قول: "لا إله إلا الله، و حده لا شريك له، له الملك و له الحمد يحيي و يميت و هو على كل شيء قدير". لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: "خيرُ الدعاء دُعاءُ يوم عرفة، و أفضلُ ما قلتُ أنا و النبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد يحيي و يميت و هو على كل شيء قدير". و صح عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال: "أحب الكلام إلى الله أربع: سُبحان الله، و الحمدُ لله، و لا إله إلا الله، و الله أكبرُ".
فينبغي الإكثار من هذا الذكر و تكراره بخشوع و حضور قلب، و ينبغي الإكثار أيضاً من الأذكار و الأدعية الواردة في الشرع في كل وقت؛ و لا سيما في هذا الموضع، و في هذا اليوم العظيم، و يختار جوامع الذكر و الدعاء.(1/48)
و يستحب أن يلح في الدعاء، و يسأل ربه من خيري الدنيا و الآخرة، و كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا دعاء كرر الدعاء ثلاثاً، فينبغي التأسي به في ذلك عليه الصلاة و السلام.
و يكون المسلم في هذا الموقف مخبتاً لربه سبحانه متواضعاً له خاضعاً لجنابه منكسراً بين يديه يرجو رحمته و مغفرته، و يخاف عذابه و مقته، و يحاسب نفسه، و يجدد توبة نصوحاً، لأن هذا يوم عظيم، و مجمع كبير، يجود الله فيه على عباده، و يباهي بهم ملائكته، و يكثر فيه العتق من النار، و ما رُؤيَ الشيطان في يوم هو فيه أدحر و لا أصغر و لا أحقر منه في يوم عرفة إلا ما رؤي يوم بدر، و ذلك لما يرى من جُود الله على عباده و إحسانه إليهم و كثرة إعتاقه و مغفرته.
و في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، و إنَّه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟".
فينبغي للمسلمين أن يروا الله من أنفسهم خيراً، و أن يهينوا عدوهم الشيطان، و يحزنوه بكثرة الذكر و الدعاء، و ملازمة التوبة و الاستغفار من جميع الذنوب و الخطايا، و لا يزال الحجاج في هذا الموقف مشتغلين بالذكر و الدعاء و التضرع إلى أن تغرب الشمس.
ليلة مزدلفة
(ليلة العاشر من ذي الحجة "ليلة العيد")
و بعد غروب الشمس في اليوم التاسع من ذي الحجة، و هو يوم عرفة، و التحقق من ذلك، على الحجاج الانصراف قبل صلاة المغرب، متوجهين إلى مزدلفة، و يسن أن يسيروا بتؤدة، و يتجنبوا العجلة و المضايقات، و المزاحمات التي قد تؤدي إلى الضرر بالغير، فربما من تسد عليه الطريق ظلماً يدعو عليك، فتردّ أعمالك.(1/49)
فيسن أن يكون السائر إلى مزدلفة سائراً بتؤدة؛ سواء على الأرجل، أو على الدواب، أو على السيارات، و ثبت أنه صلى الله عليه و سلم كان يقول في سيره: "يا أيها الناس، السكينة السكينة". و كان يسير العَتَقْ، يعني: أنه قد جر خطام ناقته حتى التوى عنقها، فإذا وجد فجوة و متسعاً نصَّ فأسرعت، و إذا أتت كثيباً من الرمال نصَّ حتى تصعده ... و هكذا.
أما الآن فإنه لا شك أن الطرق قد سُهلت، و الكل يسير على هذه السيارات، لكن يحدث مزاحمات من كثير من قائدي السيارات فيضرون غيرهم، و يصطدمون بالآخرين، و يسببون حوادث و أضراراً بالغير.
فالأولى أن يسير كل على جهته، دون أن يحصل منهم زحام أو مضايقات.
* فإذا وصلوا إلى مزدلفة، فإن المبيت بها واجب من الواجبات، و قد فعله النبي صلى الله عليه و سلم، و فعله أصحابه، فإنهم لما وصلوا إلى مزدلفة، و كانوا قد وصلوها بعد ساعتين من الليل، أي: قطعوا الطريق في نحو ساعتين، أو ساعتين و نصف، فلما وصلوها بدؤوا بصلاة المغرب و العشاء جمع تأخير فالذي يصل إلى مزدلفة يقيم الصلاة؛ سواء وصلها مبكراً، أو متأخراً، بدأ بصلاة المغرب والعشاء فور وصوله قبل أن يحط رحاله.
هكذا فعل النبي صلى الله عليه و سلم، و ذلك لاهتمامه بهذه الصلاة، و إنما أخرها حتى يواصل سيره، و حتى يريح الدواب التي قد طال وقوفهم عليها، فمن وصلها بعد غروب الشمس بعدة دقائق فله أن يصلي ساعة وصوله، و الذي يصلها بعد غروب الشمس بأربع ساعات، أو خمس، كما يحدث لبعض الذين يتأخرون من شدة الزحام، يصلي أيضاً ساعة وصوله، أما الذي يخشى فواتها بأن ينحبس إلى ثلثي أو ثلاثة أرباع الليل فله أن يصلي في الطريق؛ سيما إذا لم يتيسر له مواصلة السير، فإن الكثير قد يقفون ساعة، أو ساعتين في مكان واحد لا يتحركون من شدة الزحام، فلهم أن يُصلّوها في الطريق مخافة فواتها.(1/50)
* فإذا صلّوا فإنهم يبيتون فيها إلى الصباح، فإن النبي صلى الله عليه و سلم لمّا وصلها، و كان متعباً، صلى المغرب و العشاء، ثم نام فيها حتى قام في آخر الليل و صلى الفجر في ذلك اليوم مبكراً، و اشتغل بالدعاء و الذكر، حتى أسفر الصباح، قال تعالى: ((ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام و اذكروه كما هداكم و إن كنتم من قبله لمن الضالين))(البقرة:198). و المشعر الحرام هو: مزدلفة، و تسمى جمعاً، لأنهم يجتمعون فيها تلك الليلة و هي داخل الحرم.
* و قبل أن تطلع الشمس توجه النبي صلى الله عليه و سلم إلى منى و ذلك لرمي جمرة العقبة.
و رخص للضعفة أن يتوجهوا آخر الليل، و لم يرخص لغيرهم، و أمر الذين ساروا قبل أن تطلع الشمس ألا يرموا الجمرة إلا بعد طلوع الشمس إلا للمعذورين من الضعفة و الظعن و غيرهم، فقد أذن لهم أن يرموا آخر الليل، و الوقت الذي رخص لهم فيه هو إذا غاب القمر ليلة العاشر، و ذلك حين يبقى من الليل ربعه، أو أقل من ثلثه.
تنبيهات مهمة: أخطاء بعض المطوفين:
1- أخذهم للحجاج من مكة إلى عرفة مباشرة.
2- عدم نزولهم بالحجاج في مزدلفة و المبيت فيها.
3- التقاط الحصى قبل الصلاة.
أعمال يوم النحر
يوم العيد
(اليوم العاشر من ذي الحجة)
يوم النحر هو يوم الحج الأكبر على القول الصحيح، فإن أكثر أعمال الحج تفعل فيه، و هو عيد للمسلمين في جميع بلاد الإسلام، فيستقر فيه الحجاج كلهم في منى، و كذا فيما بعده إلى نهاية أعمال الحج.(1/51)
فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم لما توجه من مزدلفة إلى منى لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، فذكر الرواة أنه بدأ برمي جمرة العقبة، ثم ذهب إلى بَدَنِهِ فنحرها، ثم دعى الحلاق فحلق رأسه، ثم أفاض إلى مكة لطواف الإفاضة، هكذا رتب هذه الأعمال، و مع ذلك فقد رخَّص في تقديم بعضها على بعض، حيث سأله رجل فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ فقال: "ارم و لا حرج". و قال آخر: لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر؟ فقال: "انحر و لا حرج". فما سُئلَ عن شيء قُدمَ و لا أُخِّر إلا قال: "افعل و لا حرج".
و لذلك يستحب ترتيب أعمال يوم النحر، كما رتبها النبي صلى الله عليه و سلم.
* فيبدأ برمي الجمرة لأنها تحية منى.
* ثم ينحر هديه إن كان قد ساق الهدي.
* ثم يحلق رأسه أو يقصره.
* ثم يتوجه إلى مكة لطواف الإفاضة.
* أولاً: رمي جمرة العقبة:
فأما الرمي فيقتصر على رمي جمرة العقبة هذا اليوم، و أول وقته في حق القادرين من طلوع الشمس يوم النحر إلى غروبها، و يُرخَّصُ للضعفة و الظعن في الرمي آخر الليل، فينفرون من مزدلفة بعد غروب القمر، و يرمون قبل حطمة الناس، و تختص الرخصة بالنساء العجائز، و المرضى و المسنين من الرجال و الصغار و نحوهم.
و قد توسع الناس في هذه الرخصة فصار الجمهور ينفرون من أول الليل أو من وسطه، و غالبهم أقوياء أشداء لا عذر لهم، و يتعللون بأن معهم شخص أو شخصان من أهل العذر، و ذلك لا يبرر فعلهم، فإن عليهم أن يبقوا إلى الصباح، و يؤخر النساء الرمي إلى آخر النهار، حيث يخف المكان، و يتسع لرميهم، و إن أخروه إلى الليل جاز، فهو أفضل من رميهم ليلة النحر، و تفويت الجميع للمبيت بمزدلفة الذي هو أحد الواجبات، و عند بعض العلماء أنه أحد أركان الحج.(1/52)
ثم إذا رخص للضعفاء و العجائز فإن بإمكان غيرهم البقاء في مزدلفة، و بعد الصباح يمشون على الأقدام إلى منى، فلا مشقة في ذلك لقرب المكان، و كثيراً ما يصل المشاة قبل أهل السيارات، لشدة الزحام في ذلك اليوم.
و بالجملة فإن الرمي يوم النحر يختص بجمرة العقبة، و يكون بسبع حصيات متعاقبات، يكبر مع كل حصاة، و لا يجوز الزيادة على السبع و لا النقص منها، و إن اقتصر أحياناً على ست أجزأه إن لم يتعمد للعذر، و يحرص على أن تصيب الحصيات الحوض أو الشخص، و لو تدحرجت إلى الأرض أجزأت، و إن وجهها إلى المرمى، و غلب على ظنه إصابتها أجزأت، و لا يشترط رؤيته للإصابة، فقد يشتد الزحام، و لا يتحقق من إصابة كل حصاة، فيجزئه توجيهها إلى الشاخص و لو كان بعيداً، إذا كان الغالب من معرفته و عادته الإصابة بمثل ذلك.
و يكون حصى الجمار مثل حصى الحذف، و هو الذي يرمى به بين الأصابع.
و في حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له لما ركب من مزدلفة: "ناولني سبع حصيات". قال: فالتقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف؛ فقال: "بمثل هذا فارموا يا عباد الله، و إياكم و الغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين" رواه أحمد و أهل السنن.
و الذي التقط الحصيات هو الفضل بن عباس، لأن عبدالله كان ممن ظعن مع الضعفة آخر الليل، و قال لهم النبي صلى الله عليه و سلم: "أي بني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس".(1/53)
و مناسبة النهي عن الغلو، مخافة أن يرموا بأكبر منها من باب التشدد، و قد وقع الغلو من كثير من الناس، حيث يرمون بحصى كبار مثل بعر الإبل، و ربما أكبر من ذلك، و قد يرمي بعضهم بالأحذية، و الحجارة الكبيرة ملء اليد أو نحوها، و يعتقد الكثير من العامة أنهم يرمون الشيطان، و أن الشيطان يتأثر و يتضرر بهذا الرمي، و يسميه الكثيرون بالشيطان، أي: يطلقون اسم الشيطان على الجمرات، بقولهم: الشيطان الكبير، و الشيطان الصغير ... إلخ، مع أن الحكمة في رمي هذه الجمرات هي إقامة ذكر الله تعالى، مع تذكر عداوة الشيطان الذي عرض لأبينا إبراهيم عليه السلام في هذه الأماكن لما أراد ذبح ولده، كما ورد ذلك في حديث رواه أحمد و غيره عن ابن عباس بسند صحيح، فعند رمي هذه الجمرات يكبر الله تعالى، و يدعوه و يستعيذ من الشيطان بالقول و الفعل، و يتقيد بما ورد في السنة من صفة الرمي و زمانه، و تذكر الحكمة فيه حتى يعمل بالسنة و يسلم من البدعة.
ثم إن رمى يوم النحر كما ذكرنا يختص بجمرة العقبة، و هي التي في طرف منى مما يلي مكة، و الأفضل أن يجعل مكة عن يساره، و منى عن يمينه، كما فعل ابن مسعود رضي الله عنه؛ و قال: "هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة" يعني النبي صلى الله عليه و سلم.
و قد كانت هذه الجمرة في أصل عقبة -أي جبل صغير-، ثم إنَّه أزيل في عام 1375هـ لتوسعة الطريق، و حيث إن حوض هذه الجمرة كنصف دائرة، فإن على الحاج الحرص في أن لا يرمي في غير جهة الحوض، حيث إن الجهة الشمالية و هي موضع العقبة ليس بها حوض، و إن كان طرفاه باديان لمن أتى من جهة الشمال، و إن رمى من السطح حرصاً على وقوع الجمرات في فرع الحوض الذي يشبه القعب؛ حيث إنَّها تنحدر منه و تقع في الحوض.
* ثانياً: ذبح الهدي:(1/54)
و أما ذبح الهدي فيُشرع بعد الرمي مباشرة، و المراد بالهدي: ما يُساق من خارج الحرم، و يُهدى إلى مكة تقرباً و تطوعاً، و تعظيماً لحرمات الله تعالى، و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم ساق معه هدياً بلغ مائة بدنة، جاء علي رضي الله عنه ببعضها من اليمن، و كذا كثير من الصحابة، ساقوا معهم هدياً من المدينة و من غيرها، و لا يدخل في مسماة فدية التمتع و القران، و إنما تسمى هدياً أو فدية لأنها من جنس ما يهدى من الأنعام التي هي الإبل و البقر و الغنم.
و وقت الذبح من صبح يوم النحر، إلى آخر أيام التشريق الثلاثة، و كره بعض العلماء الذبح ليلاً، لأن البعض يخفون هديهم و فديتهم في الليل، ليحرموا المساكين، و حيث إن الذبح يكثر في هذه الأيام، فأرى أن لا كراهة في الليل كالنهار، و إذا خاف أن لا يجد من يأكل فديته أو هديه يوم النحر فله التأخير، و هو أفضل، حيث إن الكثير الذين يذبحون في يوم العيد يلقون ما يذبحونه في الأرض، فتحرق تلك اللحوم أو تدفن، و تذهب ضياعاً، بخلاف ما إذا أخَّر الذبح إلى اليوم الحادي عشر أو بعده، فسوف يجد من يتقبله من المساكين و غيرهم.
و على الحاج الحرص على أن يجد من ينتفع بفديته، و لو دفع أجرة لمن يسلخها و يحملها، ثم يوزعها على الحجاج في الخيام أو في ظل الجسور، أو داخل مكة و نحوها، فسوف يجد من يفرح بذلك و يتقبله، فإن دفع فديته للشركات التي تقوم بالذبح و السلخ و إرسال اللحوم إلى الدول المسلمة الفقيرة فهو أفضل من إضاعتها، و يجزئ ذلك عنه، و لو لم يحضر الذبح معهم.
و أما دم الجبران و جزاء الصيد، فيجوز تأخيره بعد أيام التشريق، و يلزم تفريقه على مساكين الحرم، و لا يأكل منه صاحبه، بخلاف دم الهدي و الفدية فله الأكل منه، و إطعام رفقته، لقوله تعالى: ((فكلوا منها و أطعموا البائس الفقير))(الحج:28).
* ثالثاً: الحلق أو التقصير:(1/55)
و أما الحلق فهو أحد مناسك الحج، و دليله قوله تعالى: ((مُحلقين رؤوسكم و مقصرين))(الفتح:27). و قوله تعالى: ((ثم ليقضوا تفثهم))(الحج:29). و فسر بالحلق أو التقصير، و إذا كان نكسا فإن في تركه دم كسائر المناسك، لقول ابن عباس رضي الله عنه: "من ترك نسكاً فعليه دم"، و هو من أسباب التحلل.
و الحلق أفضل من التقصير، لأن النبي صلى الله عليه و سلم دعا للمحلقين ثلاثاً، و للمقصرين واحدة، و ذلك أن الحلق أدل على الامتثال، و هو من جملة العبادات التي يتقرب بها إلى الله تعالى، فإن الحالق يخضع لله تعالى و يتواضع له حالة الحلق، و يقصد بذلك امتثال أمر الله تعالى.
و وقته بعد الذبح، و يجوز قبله، و قبل الرمي، و يجوز تأخيره عن الطواف و غيره، و من اقتصر على التقصير أجزأه، و لكن لا بد من تعميم الرأس، و الأخذ من جميع جوانبه، و إن لم يكن من كل شعرة، بخلاف ما يفعله الكثير من الاقتصار على الأخذ من بعض الجوانب أو أخذ شعرات قليلة و الاكتفاء بها، فإن مسمى الرأس في الآية يعم جميع الشعر و إن كان قصيراً.
* رابعاً: طواف الإفاضة:
و أما الإفاضة إلى مكة، فإن طواف الإفاضة أحد أركان الحج، و هو المذكور في قوله تعالى: ((و ليطوفوا بالبيت العتيق))(الحج:29). و أول زمنه في النصف الأخير من ليلة النحر، و الأفضل الطواف في يوم النحر إن سهل ذلك، و يغلب في الأزمنة المتأخرة صعوبته، لشدة الزحام في ذلك اليوم، فالطائف فيه لا يطمئن و لا يحضر قلبه، و لا يدعو إلا و هو منشغل البال، يهمه الخروج من المضائق، فالأفضل في هذه الحال تأخيره حتى يطوف في سعة و راحة، يعقل ما يقول، و يستفيد من عمله.(1/56)
و من المعلوم يقيناً أن الحجاج زمن النبي صلى الله عليه و سلم لم يطوفوا كلهم في يوم النحر، لكثرة العدد الذي يزيد عن مائة ألف، و لضيق المطاف في ذلك الزمان، و لكثرة أعمالهم التي تشغل الكثير منهم عن الإفاضة في ذلك اليوم، فدل على أن أكثرهم طافوا في أيام التشريق أو بعدها، و أجزأهم ذلك بلا كراهة.
و قد سبق ذكر بعض الحِكَم و المصالح في مشروعية الطواف بالبيت، و ما يُقال فيه.
و بالطواف المذكور و ما قبله من أعمال يوم النحر يحصل التحلل الثاني من الإحرام، بحيث يحل للمحرم ما كان محظوراً عليه حال الإحرام، من الطيب و اللباس و النكاح و غيره.
أما التحلل الأول: فيحصل إذا رمى جمرة العقبة و حلق رأسه أو قصره.
و كذا لو رمى الجمرة و أفاض إلى مكة للطواف و السعي، و كذا لو طاف و سعى و حلق أو قصر، أي بفعل اثنين من ثلاثة، و هي الرمي و الحلق و الطواف مع السعي، يحل له كل شيء إلا النساء، و بفعل هذه الثلاثة يحل له كل شيء حتى النساء، و هذا هو التحلل الأول ثم الثاني.
أيام التشريق و ما يفعل فيها
(الحادي و الثاني و الثالث عشر من ذي الحجة)
و يبقى على الحاج المبيت بمنى أيام التشريق، و رمي الجمار في تلك الأيام.
أولاً: المبيت ليالي منى:(1/57)
فأما المبيت فهو من واجبات الحج، و الأصل أن الحاج يقيم في منى برَحْلِهِ و متاعه، و لا يذهب منها ليلاً و لا نهاراً إلا لغرض خاص، كالطواف و السعي، ثم يعود، و لهذا تسمى هذه الأيام بأيام منى، كما في قوله صلى الله عليه و سلم: "أيام منى أيام أكل و شرب و ذكر لله عز وجل". وإن كان نص الفقهاء رحمهم الله على المبيت الذي هو الإقامة بها ليلاً، لكن المعروف أن الحجاج مع النبي صلى الله عليه و سلم من أهل مكة و غيرهم كانوا جميعاً مقيمين بمنى تلك الأيام، يعدون ذلك نسكاً يتم به حجهم، لم يذهبوا إلى دورهم مع قربها، و حاجتهم غالباً إلى أهليهم، فلم يرجعوا إلى بيوتهم حتى أكملوا حجهم، حتى كانوا يقصرون الصلاة لطول المدة التي غابوها عن أهليهم.
ثانياً: رمي الجمار أيام التشريق:
و أما الرمي: فهو أحد الواجبات، و أول وقته بعد زوال الشمس، و آخره غروبها على المختار، و رخص بعض المشايخ في الرمي ليلاً، امتداداً للنهار قبله.
و البدء بالجمرة الصغرى التي تلي مسجد الخيف، فيرميها بسبع حصيات متعاقبات، ثم يبتعد عن الزحام و يستقبل القبلة، و يرفع يديه فيدعو طويلاً بما تيسر، و يصح رميها من كل الجهات.
ثم بعدها الجمرة الوسطى يرميها بسبع كذلك، و يدعو بعدها.
ثم جمرة العقبة، و لا يدعو بعدها.
يفعل ذلك في كل يوم من أيام التشريق الثلاثة، إن لم يتعجل، و له أن يتعجَّل في يومين و لا إثم عليه، فإن غربت عليه الشمس في اليوم الثاني و هو في منى لم يرحل، لزمه المبيت و الرمي في اليوم الثالث بعد الزوال، و قد روي عن الإمام أحمد جواز الرمي قبل الزوال يوم النفر، كما ذكره في المغني و الإنصاف و غيرهما، و لعل ذلك يجوز في هذه الأزمنة لأجل الزحام الشديد الذي قد أودى بحياة بشر كثير.(1/58)
ثم إن أيام منى هي أيام أكل و شرب، و لهذا لا يجوز صيامها إلا لمن لم يجد الهدي، و لم يتمكن من الصيام قبل يوم النحر، و كذا يسن فيها التكبير بعد الصلوات المكتوبة، و الإكثار من ذكر الله تعالى ليلاً و نهاراً، لقوله تعالى: ((و اذكروا الله في أيام معدودات))(البقرة:203). و ذلك عند الذبح و الأكل و الرمي، و في كل الحالات و الله أعلم.
آخر أعمال الحج
طواف الوداع
هذا الطواف يفعل عند العزم على السفر من مكة، و الرجوع إلى الأهل، و سمي طواف الوداع لأن الحاج يودع البيت و المشاعر، و يختم به أعمال الحج، و هو أحد واجبات الحج، من تركه فعليه دم، كسائر المناسك التي تجبر بدم، و لا يسقط هذا الطواف إلا عن الحائض والنفساء، لورود الرخصة في حق صفية أم المؤمنين لأجل الحيض، و في الحديث: "أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض"، و المراد بالناس هم الحجاج كلهم.
و من ذهب و شق عليه الرجوع جبره بدم، فإن تمكن من الرجوع فرجع، و طاف للوداع سقط عنه الدم، و لو كان الرجوع بعد قطع مسافة طويلة، أو مدة طويلة، و ذلك لسهولة الرجوع في هذه الأزمنة، بخلاف الزمن القديم، فإن من سار يومين صعب عليه الرجوع، و خاف الانقطاع عن الركب، فيفضل دم الجبران على الرجوع، لمشقته و لطول المسافة، و صعوبة السفر منفرداً خوف قطاع الطريق.
أما و قد وجدت المراكب المريحة التي تقطع المسافة في وقت قريب، مع تعبيد الطرق، و أمن البلاد، فلا خوف و لا ضرر في الرجوع لإكمال هذا النسك.
أما إن لم يرجع و واصل سيره إلى بلاده فإن عليه الدم كما ذكرنا، لكن إن كانت بلاده قريبة كجدة والطائف، و ذهب هناك بعد أيام منى خوفاً من شدة الزحام في الطواف، ثم رجع بعد يومين أو نحوها فالأصح أنه يجوز؛ حيث إنه أتى بالواجب كما أمر به.(1/59)
ثم إن هذا الطواف هو آخر أعمال الحج، فلا يقيم بعده طويلاً، فإن أقام بعده كنصف يوم، أو تعاطى تجارة، و نحوها لزمه إعادته، ليكون آخر عهده بالبيت، ثم بعد فراغه من هذا الطواف، و صلاته ركعتين، يدعو بما ورد، و يسن أن يقف بالملتزم، و هو بين الركن و الباب، و يقول: "اللهم هذا بيتك، و أنا عبدك، و ابن عبدك، و ابن أمتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك، و سيرتني في بلادك، حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك، و أعنتني على أداء نسكي، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضى، و إلا فمن الآن، قبل أن تنأى عن بيتك داري، فهذا أوان انصرافي إن أذنت لي، غير مستبدل بك و لا ببيتك، و لا راغب عنك و لا عن بيتك، اللهم اصحبني العافية في بدني، و الصحة في جسمي، و العصمة في ديني، و أحسن منقلبي، و ارزقني طاعتك ما أبقيتني، و أجمع لي بين خيري الدنيا و الآخرة، إنك على كل شيء قدير".
و يدعو أن لا يكون هذا آخر العهد، و يصلي على النبي صلى الله عليه و سلم، ثم يخرج على حالته، و لا يجوز الخروج القهقري فإنه لا أصل له، و الله أعلم.
الزيارة قبل الحج أو بعده
و آثارها في الأمة
تمكن في قلوب الكثير اعتقاد أن زيارة القبر النبوي مع الحج حتم و فرض من الفروض الواجبة، و أن من لم يزره فقد أخل بما يلزمه، فتراهم لذلك يتجشمون المشاق، و يحثون السير إلى المدينة المنورة، و ما يقوم بقلوبهم إلا استحضار القبر و تقديسه، و اعتقاد أن المسجد ما اكتسب الفضيلة، و لا حاز أجر المضاعفة إلا حيث ضمّ ذلك القبر الشريف.
و أنا أقول: إن هذا الاعتقاد خطأ محض، رغم كثرة من وقع فيه من الأوائل و الأواخر، منخدعين بشبه أحاديث مشتهرة على الألسن، قد رواها بالسند بعض من لم يلتزم التثبت: كالطيالسي، و الدار قطني، محيلين القرَّاء على السند، فعندما نظرها النقاد بعين البصيرة بينوا ضعفها أو وضعها عقلاً و نقلاً.
* وأشهرها عند العامة ما ورد بلفظ: "من حج و لم يزرني فقد جفاني".(1/60)
و قد أجمعت الأمة على عدم وجوب الزيارة مع كل حج، و لو صح هذا اللفظ لكان تركها كفراً، لما فيه من جفاء النبي صلى الله عليه و سلم، فقد اتفقوا على ترك العمل بظاهر هذا الحديث، مما يبين أنه موضوع.
* و منها حديث: "من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي". و معلوم أن زائره في الحياة يحظى بفضيلة الصحبة، و يتلقى عنه العلم و الأحكام مباشرة، مما لا يحصل لزائر قبره صلى الله عليه و سلم فبطل ظاهر الحديث أيضاً.
*و منها ما روي بلفظ: "من زار قبري وجبت له شفاعتي".
مع أن شفاعته صلى الله عليه و سلم إنَّما ينالها أهل التوحيد الخالص، كما ثبت ذلك بالسنة الصحيحة.
و ليس منه تعظيم القبر بشد الرحل إليه، و جعله مقصداً ومطلباً؛ بل يكون شركاً خفياً أو جلياً، لما يصحبه من التعظيم الذي يظهر أثره في التذلل و الخضوع، و هذا خالص حق الله تعالى، و هذا ما يحصل بكثرة من جُل أولئك الزوار، الذين يقفون أمام القبور بالمسجد و بالشهداء و بالبقيع، فتراهم هناك مهطعين مقنعي رؤوسهم، تغاشهم الذلة و الهيبة، و قد وضعوا الأيدي على الصدور أو رفعوها داعين مبتهلين بخشوع و هيبة، و استكانة لا يحصل بعضها في صلاتهم بين يدي ربهم تعالى.(1/61)
و قد يطيل أحدهم القيام، و ربما غاب عن نفسه فلا يحس بضرب و لا تأنيب، و أكثرهم يتوجهون إلى ناحية القبر حالة الجلوس أو الدعاء أو قراءة الأوراد، مفضلين له على القبلة و هم في تلك الحال، متصفون بالسكينة و الخشوع و الإخبات، و الكثير منهم أو من الملقنين لهم يتسترون خوفاً من إنكار البعض عليهم، فعند انفرادهم تظهر مخبآت الصدور، و قد يغلب الكثير منهم بعض ما يجدون، فيبوح بما في ضميره و لو رآه، أو سمعه الجمهور، و كثيراً ما تبدر منهم كلمات تنافي أصل التوحيد أو كماله: كوصف الرسول صلى الله عليه و سلم أو بعض أهل بيته بما لا يستحقه إلا الله من سعة الملك، و التصرف في الكون، و الإعطاء و المنع، و الضر و النفع.. إلخ. و أقل ذلك ملك الشفاعة بدون إذن الله و رضاه.
و بموجب هذا الاعتقاد يدعونه صلى الله عليه و سلم و يسألونه ما لا يملكه إلا الله، و يعتمدون عليه، و تصدر منهم أفعال كهذه الأقوال، تدل على التعظيم و اعتقاد التأثير، فتراهم يبتهلون غفلة الحراس، أو يدفعون لهم نقودا ليتمسحوا بالباب و الأستار و الحيطان و المنبر و نحوها، و كثيراً ما يطوفون بالحجرة كالطواف بالبيت العتيق، و أضعاف هذه الأفعال و الأقوال التي لا تصدر إلا عن اعتقاد في تلك الستور و الحيطان.
و قد دفعهم إلى هذه الزيارات و ما ينتج عنها ما يتناقل بينهم كثيراً من حكايات واهية، و أخبار ضعيفة، أو مكذوبة، و منامات أشبه بأضغاث الأحلام، و لكن راجت تلك الأمور على السذج و ضعفاء البصائر، فتناقلوها و ضمنوها مؤلفاتهم، و تداولتها الأيدي، و انتشرت و اشتهرت على الألسن، حتى وقعت منهم موقعاً، و تمكنت في النفوس، و توارثها الأجيال من غير نكير، و اعتقدوها الحق و سواها باطل و ضلال.(1/62)
و من أشهر و أقدم تلك المؤلفات كتاب: "شفاء السقام في زيارة خير الأنام" للتقي السبكي الذي اشتهر و أقبل عليه الجم الغفير قراءة و عملاً و تطبيقاً، و لم يعلموا أن أحاديثه و أدلته كلها واهية موضوعة، لا تصلح مستنداً، كما بيَّن ذلك الحافظ ابن عبد الهادي في رده الذي سماه: "الصارم المنكي في الرد على السبكي".
و من المؤلفات الباطلة أيضاً في هذا الباب كتاب: "الدر المنظم في زيارة القبر المعظم" لابن حجر المكي، حيث ذكر فيه من الحكايات، و المنامات و الأباطيل ما تمجه الأسماع، و تنفر منه الطباع، و مع ذلك تجد لها آذاناً صاغية، تتقبلها و تروجها و تحبذ العمل بها، فيعظم الشر و الضرر.
و لقد تصدى للدفاع عن هذه الأباطيل بعض المتأخرين الزائفين، أمثال النبهاني، و الحداد، و الزهاوي، و دحلان، و ابن جرجيس، و أضرابهم الذين كتبوا و تكلموا بكل جراءة، داعين إلى هذه الزيارة و الأفعال الشركية معها، و متهمين كل من نهى عنها ببغض الرسول صلى الله عليه و سلم و تنقصه.. و ما إلى ذلك.
و كأن محبة الرسول صلى الله عليه و سلم إنما تتجلَّى بدعائه و التوسل بذاته، و الخضوع و الذل أمام قبره الشريف، و شبه ذلك مما هو خالص حق الله تعالى، و مما قد نهى عنه نبينا عليه الصلاة و السلام، و عما هو دونه، ككونه خير البرية، أو تسميته سيداً، و قول: ما شاء الله و شئت.
و لم يعلم هؤلاء الأغبياء أن أشد الناس له محبة و تعظيماً هم صحابته رضي الله عنهم، و لم يكونوا يعاملونه بشيء من ذلك، حتى كانوا لا يقومون له إذا أقبل، لعلمهم بكراهته لذلك.(1/63)
و لقد أخبر صلى الله عليه و سلم: "أنه لا يؤمن أحد حتى يكون نبيه أحب إليه من ولده و والده، و نفسه، و ماله، و الناس أجمعين"، و لكن هذه المحبة تتمثل في طاعته و اتباعه، و تقليده في أفعاله، و التقيد بسنته، و التمسك بها، و العض عليها بالنواجذ في كل وقت و حال، لا في الغلو فيه و إطرائه الذي قد نهى عنه، و قال: "إنما أنا عبد فقولوا: عبدالله و رسوله". و قال لقوم دعوه بالسيادة و الفضل: "قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، أنا محمد عبدالله و رسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله" رواه النسائي.
بقي أن يُقال: لعل الكثير من هؤلاء الزوار قصدوا المسجد النبوي الذي ورد الإذن في شد الرحل إليه، لمزيته و مضاعفة الصلاة فيه.
و الجواب: أن هذا القصد مباح، و لعله مراد من ذكر الزيارة من العلماء الأجلاء في مؤلفاتهم، حيث ذكروا أنه يبدأ بالمسجد فيصلي فيه، ثم يزور القبور و البقيع والشهداء، الزيارة الشرعية المدونة أفي دواوين أهل السنة، و لكن مع ذلك فإن المقام بمكة أفضل و أولى لمن هذا قصده، فإنها خير بقاع الأرض، و الصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة صلاة بمسجد المدينة، و كما في قصة الذي نذر أن يصلي في المسجد الأقصى، فقال له النبي صلى الله عليه و سلم: "صلّ هاهنا". و ذلك حرصاً منه على مضاعفة العمل.
ثم إنَّا لا نمنع السفر إلى المدينة النبوية أو غيرها من البلاد، لا لقصد بقعة معينة لاعتقاد مزية فيها، و إنما لقصد السير في الأرض للاعتبار، و التذكر لأحوال الأمم و الأجيال الماضية، فإن ذلك مما يدخل في أمر الله تعالى في قوله: ((قل سيروا في الأرض))(النحل:69). ((أفلم يسيروا في الأرض))(محمد:10).(1/64)
و هكذا السفر إلى المدينة أو غيرها أيضاً للتعلم أو التعليم، فذلك مما يجب عيناً، أو كفاية على الأمة، و لا يدخل تحت النهي عن شد الرحال الذي يقصد منه السفر لتعظيم بقعة بعينها، والاعتقاد فيها الذي يؤول إلى تعظيمها بما لا يحل شرعاً.
و أخيراً: ننصح إخوتنا المسلمين عن تلك الأفعال، و الاعتقادات الخاطئة التي يقعون فيها عن تقليد أو عن حسن ظن، مع أنها تقدح في العقيدة، و تنافي أصل التوحيد أو كماله، و نهيب بهم أن يتعلموا ما يجب عليهم من حق الله، و عبادته وحده، و سيجدون أعذب مورد ينهلون منه عن قناعة و رضى، ألا و هو كتاب الله و سنة الرسول صلى الله عليه و سلم، الحريص على نجاة أمته، حشرنا الله في زمرته، و جعلنا من أتباع ملته، و الله أعلم، و صلى الله على محمد و آله و صحبه و سلم.
أدعية جامعة
يستحب تكرارها يوم عرفة
و غيره من المناسك
هذه مجموعة من الأدعية المأثورة التي يستحب للحاج تكرارها يوم عرفة و عند رمي الجمار و في الطواف و السعي، و عند المشعر الحرام و غير ذلك من المشاعر و المناسك. (نقلاً من كتاب: مرشد المعتمر و الحاج و الزائر في ضوء الكتاب و السنة، تأليف سعيد بن علي القحطاني).
أدعية من القرآن الكريم:
· ((رنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين))(الأعراف:23).
· ((رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم و إلا تغفر لي و ترحمني أكن من الخاسرين))(هود:47).
· ((رب أغفر لي و لوالديّ و لمن دخل بيتي مؤمناً و للمؤمنين و المؤمنات))(نوح:28).
· ((ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم))(البقرة:127).
· ((و تب علينا إنك أنت التواب الرحيم))(البقرة:128).
· ((رب اجعلني مقيم الصلاة و من ذريتي ربنا و تقبل دُعاء))(إبراهيم:40).
· ((ربنا اغفر لي و لوالدي و للمؤمنين يوم يقوم الحساب))(إبراهيم:41).(1/65)
· ((رب هب لي حكماً و ألحقني بالصالحين * و أجعل لي لسان صدق في الآخرين * و اجعلني من ورثة جنة النعيم))(الشعراء:83-85).
· ((و لا تخزني يوم يبعثون))(الشعراء:87).
· ((رب هب لي من الصالحين))(الصافات:100).
· ((ربنا عليك توكلنا و إليك أنبنا و إليك المصير))(الممتحنة:4).
· ((ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا و اغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم))(الممتحنة:5).
· ((رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي و على والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه و أدخلني برحمتك في عبادك الصالحين))(النمل:19).
· ((رب هب لي من لدُنك ذُرّيَّةً طيبة إنك سميع الدعاء))(آل عمران:38).
· ((رب لا تذرني فرداً و أنت خير الوارثين))(الأنبياء:89).
· ((لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين))(الأنبياء:87).
· ((رب اشرح لي صدري * و يسر لي أمري * و احلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي))(طه:25-28).
· ((رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي))(القصص:16).
· ((ربنا آمنا بما أنزلت و اتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين))(آل عمران:53).
· ((ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين * و نجِّنا برحمتك من القوم الكافرين))(يونس:85-86).
· ((ربنا اغفر لنا ذنوبنا و إسرافنا في أمرنا و ثبت أقدامنا و انصرنا على القوم الكافرين))(آل عمران:147).
· ((ربنا أغفر لنا ذنوبنا و إسرافنا في أمرنا و ثبت أقدامنا و انصرنا على القوم الكافرين))(آل عمران: 147).
· ((ربنا آتنا من لدنك رحمة و هيئ لنا من أمرنا رشداً))(الكهف:10).
· ((رب زدني علماً))(طه:114).
· ((رب أعوذ بك من همزات الشياطين * و أعوذ بك رب أن يحضرون))(المؤمنون:97-98).
· ((رب اغفر و ارحم و أنت خير الراحمين))(المؤمنون:23).
· ((ربنا آتنا في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة و قنا عذاب النار))(البقرة:201).
· ((سمعنا و أطعنا غفرانك ربنا و إليك المصير))(البقرة:285).(1/66)
· ((ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا و لا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا و لا تحملنا ما لا طاقة لنا به و اعف عنا و اغفر لنا و ارحمنا أنت مولانا فأنصرنا على القوم الكافرين))(البقرة:286).
· ((ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب))(آل عمران:8).
· ((ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار * ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته و ما للظالمين من أنصار * ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فأمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا و كفر عنا سيئاتنا و توفنا مع الأبرار * ربنا و آتنا ما وعدتنا على رسلك و لا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد))(آل عمران:191-194).
· ((ربنا آمنا فاغفر لنا و ارحمنا و أنت خير الراحمين))(المؤمنون:109).
· ((ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً * إنها ساءت مستقراً و مقاماً))(الفرقان:65-66).
· ((ربنا هب لنا من أزواجنا و ذرياتنا قرة أعين و اجعلنا للمتقين إماماً))(الفرقان:74).
· ((رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ و على والديَّ و أن أعمل صالحاً ترضاه و أصلح لي في ذريتي إني تبت إليك و إني من المسلمين))(الأحقاف:15).
· ((ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان و لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم))(الحشر:10).
· ((ربنا أتمم لنا نورنا و اغفر لنا إنك على كل شيء قدير))(التحريم:8).
· ((ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا و قنا عذاب النار))(آل عمران:16).
· ((ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين))(المائدة:83).
· ((رب اجعل هذا البلد آمناً و اجنبني و بنيَّ أن نعبد الأصنام))(إبراهيم:35).
· ((رب إنّى لما أنزلت إليّ من خير فقير))(القصص:24).
· ((رب انصرني على القوم المفسدين))(العنكبوت:30).
· ((ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين))(الأعراف:47).(1/67)
· ((حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت و هو رب العرش العظيم))(التوبة:129).
· ((عسى ربي أن يهديني سواء السبيل))(القصص:22).
· ((رب نجني من القوم الظالمين))(القصص:21).
* أدعية من السنة:
· "اللهم آتنا في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة، و قنا عذاب النار".
· "اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار و عذاب النار، و فتنة القبر، و عذاب القبر، و شر فتنة الغنى، و شر فتنة الفقر، اللهم إني أعوذ بك من شر فتنة المسيح الدجال. اللهم أغسل قلبي بماء الثلج و البرد، و نق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، و باعد بيني و بين خطاياي كما باعدت بين المشرق و المغرب. اللهم إني أعوذ بك من الكسل و المأثم و المغرم".
· "اللهم إني أعوذ بك من العجز و الكسل، و الجُبْن و الهرم و البخل، و أعوذ بك من عذاب القبر، و من فتنة المحيا و الممات".
· "اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء، و درك الشقاء، و سوء القضاء، و شماتة الأعداء".
· "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، و أصلح لي دُنْيَايَ التي فيها معاشي، و أصلح لي آخرتي التي فيها معادي، و اجعل الحياة زيادة لي في كل خير، و اجعل الموت راحة لي من كل شر".
· "اللهم إني أسألك الهُدى، و التُقى، و العَفَاف، و الغِنَى".
· "اللهم إني أعوذ بك من العجز، و الكسل، و الجُبْن، و البخل، و الهرم، و عذاب القبر. اللهم آتِ نفسي تقواها، و زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها و مولاها. اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، و من قلب لا يخشع، و من نفس لا تشبع، و من دعوة لا يُستَجَابُ لها".
· "اللهم اهدني و سددني. اللهم إني أسألك الهدى والسداد".
· "اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، و تحوُّل عافيتك، و فُجاءَة نقمتك، و جميع سخطك".
· "اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت، و من شر ما لم أعمل".
· "اللهم أكثر مالي، و ولدي، و بارك لي فيما أعطيتني [و أطل حياتي على طاعتك و أحسن عملي] و اغفر لي".(1/68)
· "لا إله إلا أنت العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات، و رب الأرض، ورب العرش الكريم".
· "اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، و أصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت".
· "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين".
· "اللهم إني عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك. أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، و نور صدري، و جلاء حزني، و ذهاب همي".
· "اللهم مُصرِّف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك".
· "يا مُقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك".
· "اللهم إني أسألك العافية في الدنيا و الآخرة".
· "اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، و أجرنا من خزي الدنيا و عذاب الآخرة".
· "رب أعني و لا تعن عليَّ، و انصرني و لا تنصر عليَّ، و امكر لي و لا تمكر عليَّ، و اهدني و يسر الهدي إليَّ، و انصرني على من بغى عليَّ، رب اجعلني لك شكَّاراً، لك ذكَّاراً، لك رهَّاباً، لك مطواعاً، إليك مخبتاً أوّاهاً مُنيباً، رب تقبَّل توبتي، و اغسل حوبتي، و أجب دعوتي، و ثبت حجتي، و اهد قلبي، و سدد لساني، و اسْللْ سخيمة قلبي".
· "اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه نبيك محمد صلى الله عليه و سلم، و نعوذ بك من شر ما استعاذ منه نبيك محمد صلى الله عليه و سلم، و أنت المستعان، و عليك البلاغ، و لا حول و لا قوة إلا بالله".
· "اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي، و من شر بصري، و من شر لساني، و من شر قلبي، و من شر مني".
· "اللهم إني أعوذ بك من البرص، و الجنون، و الجذام، و من سيئ الأسقام".
· "اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق، و الأعمال، و الأهواء".
· "اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعفُ عني".(1/69)
· "اللهم إني أسألك فعل الخيرات، و ترك المنكرات، و حب المساكين، و أن تغفر لي، و ترحمني، و إذا أردت فتنة قوم فتوفني غير مفتون، و أسألك حُبَّك، و حُبَّ من يُحبُّك، و حُبَّ عمل يُقرِّبني إلى حُبِّكَ".
· "اللهم إني أسألك من الخير كله: عاجله و آجله، ما علمت منه و ما لم أعلم، و أعوذ بك من الشر كله عاجله و آجله، ما علمت منه و ما لم أعلم. اللهم إني أسألك من خير ما سألك عبدك و نبيك، و أعوذ بك من شر ما عاذ منه عبدك و نبيك. اللهم إني أسألك الجنة و ما قرب إليها من قول أو عمل، و أعوذ بك من النار و ما قرب إليها من قول أو عمل، و أسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيراً".
· "اللهم احفظني بالإسلام قائماً، و احفظني بالإسلام قاعداً، و احفظني بالإسلام راقداً، و لا تشمت بي عدواً و لا حاسداً. اللهم إني أسألك من كل خير خزائنه بيدك، و أعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك".
· "اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا و بين معاصيك، و من طاعتك ما تبلغنا به جنتك، و من اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا. اللهم متعنا بأسماعنا، و أبصارنا، و قواتنا ما أحييتنا، و اجعله الوارث منا، و اجعل ثأرنا على من ظلمنا، و انصرنا على من عادانا، و لا تجعل مصيبتنا في ديننا، و لا تجعل الدنيا أكبر همنا، و لا مبلغ علمنا، و لا تسلط علينا من لا يرحمنا".
· "اللهم إني أعوذ بك من الجبن، و أعوذ بك من البخل، و أعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر، و أعوذ بك من فتنة الدنيا و عذاب القبر".
· "اللهم اغفر لي خطيئتي، و جهلي، و إسرافي في أمري، و ما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي و جدي، و خطئي و عمدي، و كل ذلك عندي".
· "اللهم اغفر لي، و ارحمني، و اهدني، و عافني، و ارزقني".
· "اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً و لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، و ارحمني إنك أنت الغفور الرحيم".(1/70)
· "اللهم لك أسلمت، و بك آمنت، و عليك توكلت، وإليك أنبت، و بك خاصمت. اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، و الجن و الإنس يموتون".
· "اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، و عزائم مغفرتك، و السلامة من كل إثم، و الغنيمة من كل بر، و الفوز بالجنة و النجاة من النار".
· "اللهم اجعل أوسع رزقك عليَّ عند كبر سني، و انقطاع عمري".
· "اللهم اغفر لي ذنبي، و وسع لي في داري، و بارك لي في رزقي".
. "اللهم إني أسألك من فضلك و رحمتك، فإنه لا يملكها إلا أنت".
· "اللهم إني أعوذ بك من التردي و الهدم، و الغرق، و الحرق، و أعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، و أعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبراً، و أعوذ بك أن أموت لديغاً".
· "اللهم إني أعوذ بك من الجوع؛ فإنه بئس الضجيع، و أعوذ بك من الخيانة، فإنها بئست البطانة".
· "اللهم إني أعوذ بك من العجز، و الكسل، و الجبن، و البخل، و الهرم، و القسوة، و الغفلة، و العيلة، و الذلة، و المسكنة، و أعوذ بك من الفقر، و الكفر، و الفسوق،و الشقاق، و النفاق، و السُمعة، و الرياء، و أعوذ بك من الصمم، و البكم، و الجنون، و الجذام، و البرص، و سيئ الأسقام".
· "اللهم إني أعوذ بك من الفقر، و القلة، و الذلة، و أعوذ بك من أن أَظْلِمَ أو أُظْلَم".
· "اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة؛ فإن جار البادية يتحول".
· "اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، و دعاء لا يسمع، و من نفس لا تشبع، و من علم لا ينفع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع".
· "اللهم إني أعوذ بك من يوم السوء، و من ليلة السوء، و من ساعة السوء، و من صاحب السوء، و من جار السوء في دار المقامة".
· "اللهم إني أسألك الجنة و أستجير بك من النار".
· "اللهم فقهني في الدين".
· "اللهم إني أعوذ بك أن أُشرك بك و أنا أعلم، و أستغفرك لما لا أعلم".
· "الهم انفعني بما علمتني، و علمني ما ينفعني، و زدني علماً".(1/71)
· "اللهم إني أسألك علماً نافعاً، و رزقاً طيباً، و عملاً متقبلاً".
· "اللهم إني أسألك يا الله بأنك الواحد الأحد، الصمد، الذي لم يلد و لم يولد، و لم يكن له كفواً أحد أن تغفر لي ذنوبي، إنك أنت الغفور الرحيم".
· "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت [وحدك لا شريك لك] المنان [يا] بديع السموات و الأرض، يا ذا الجلال و الإكرام، يا حي يا قيوم، إني أسألك [الجنة و أعوذ بك من النار]".
· "اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد، الصمد، الذي لم يلد، و لم يولد، و لم يكن له كفواً أحد".
· "رب اغفر لي، و تب عليَّ، إنك أنت التواب الغفور".
· "اللهم بعلمك الغيب، و قدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، و توفني إذا علمت الوفاة خيراً لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب و الشهادة، و أسألك كلمة الحق في الرضا و الغضب، و أسألك القصد في الغنى والفقر، و أسألك نعيماً لا ينفد، و أسألك قرة عين لا تنقطع، و أسألك الرضا بعد القضاء، و أسالك برد العيش بعد الموت، و أسألك لذة النظر إلى وجهك، و الشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، و لا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، و اجعلنا هداة مهتدين".
· "اللهم ارزقني حُبَّك، و حُبَّ من ينفعني حُبُّهُ عندك. اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب. اللهم ما زويت عني مما أحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب".
· "اللهم طهرني من الذنوب و الخطايا. اللهم نقني منها كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدنس. اللهم طهرني بالثلج و البرد و الماء البارد".
· "اللهم إني أعوذ بك من البخل، و الجبن، و سوء العمر، و فتنة الصدر، و عذاب القبر".
· "اللهم رب جبرائيل، و ميكائيل، ورب إسرافيل، أعوذ بك من حر النار و من عذاب القبر".
· "اللهم ألهمني رشدي، و أعذني من شر نفسي".
· "اللهم إني أسألك علماً نافعاً، و أعوذ بك من علم لا ينفع".(1/72)
· "اللهم رب السموات [السبع] و رب الأرض، و رب العرش العظيم، ربنا و رب كل شيء، فالق الحب و النوى، و منزل التوارة و الإنجيل و الفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته. اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، و أنت الآخر فليس بعدك شيء، و أنت الظاهر فليس فوقك شيء، و أنت الباطن فليس دونك شيء، اقضِ عنا الدين، و اغننا من الفقر".
· "اللهم ألف بين قلوبنا، و أصلح ذات بيننا، و اهدنا سبل السلام، و نجنا من الظلمات إلى النور، و جنبنا الفواحش ما ظهر منها و ما بطن، و بارك لنا في أسماعنا، و أبصارنا، و قلوبنا، و أزواجنا، و ذرياتنا، و تب علينا إنك أنت التواب الرحيم، و اجعلنا شاكرين لنعمك، مثنين بها عليك، قابلين لها و أتممها علينا".
· "اللهم إني أسألك خير المسألة، و خير الدعاء، و خير النجاح، و خير العمل، و خير الثواب، و خير الحياة، و خير الممات، و ثبتني و ثقل موازيني، و حقق إيماني، و ارفع درجاتي، و تقبل صلاتي، واغفر خطيئتي، و أسألك الدرجات العلى من الجنة. اللهم إني أسألك فواتح الخير، و خواتمه، و جوامعه، و أوله، و ظاهره، و باطنه، و الدرجات العلى من الجنة آمين. اللهم إني أسألك خير ما آتي، و خير ما أفعل، و خير ما أعمل، و خير ما بطن، و خير ما ظهر، و الدرجات العلى من الجنة آمين. اللهم إني أسألك أن ترفع ذكري، و تضع وزري، و تصلح أمري، و تطهر قلبي، و تحصن فرجي، و تنور قلبي، و تغفر لي ذنبي، و أسألك الدرجات العلى من الجنة آمين. اللهم إني أسألك أن تبارك في نفسي، و في سمعي، و في بصري، و في روحي، و في خَلْقي،و في خُلُقي، و في أهلي، و في محياي، و في مماتي، و في عملي، فتقبل حسناي، و أَسألك الدرجات العلى من الجنة آمين".
· "اللهم جنبني منكرات الأخلاق، و الأهواء، و الأعمال، و الأدواء".
· "اللهم قنعني بما رزقتني، و بارك لي فيه، و اخلف علي كل غائبة لي بخير".
· "اللهم حاسبني حساباً يسيراً".(1/73)
· "اللهم أعنا على ذكرك، و شكرك، و حسن عبادتك".
· "اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد، و نعيماً لا ينفد، و مرافقة محمد صلى الله عليه و سلم في أعلى جنة الخلد".
· "اللهم قني شر نفسي، و اعزم لي على أرشد أمري. اللهم اغفر لي ما أسررت، و ما أعلنت، و ما أخطأت، و ما عمدت، و ما علمت، و ما جهلتُ".
· "اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين، و غلبة العدو، و شماتة الأعداء".
· "اللهم اغفر لي، و اهدني، و ارزقني، و عافني، و أعوذ بالله من ضيق المقام يوم القيامة".
· "اللهم متَّعني بسمعي، و بصري، و اجعلهُما الوارث منِّي، و انصرني على من يظلمُني، و خُذ منه بثأري".
· "اللهم إني أسألك عيشةً نقيةً، و ميتةً سويةً، و مردّاً غير مخزٍ و لا فاضح".
· "اللهم أحسنتَ خَلْقِي فأَحسن خُلُقي".
· "اللهم ثبتني و اجعلني هادياً مهدياً".
· "اللهم آتني الحكمة التي من أوتيها فقد أُوتي خيراً كثيراً".
· "اللهم صلَّ على محمد و على آله و أصحابه أجمعين".
خاتمة
في التوبة و الإقلاع عن المعاصي
لا شك أن كل عامل يحب الأجر و الثواب على عمله، و يهتم بقبوله و عدم ردِّه، و لكن القبول له علامات تظهر على العامل، و أهمها أن يرجع إلى بلده متأثراً بما عمله من أعمال المناسك.
فقد أحرم لربه، و ترك مشتهياته، و شاهد المشاعر المقدسة، و ساهم مع الطائفين بالبيت، و بالصفا و المروة، و دعا بالأدعية المأثورة، و أكثر من الذكر و التلبية و التكبير و نحوه، و رأى كثرة الطائفين و القائمين و الركَّع السجود، و سمع ابتهالهم و تضرعهم، و شاركهم في البكاء و الخشوع و الإِخبات، و التذلل لله تعالى، و كل هذه الأعمال إذا كانت خالصة لله تعالى فإِن أثرها يبقى معه مدى حياته، بحيث يشعر بمحبة الطاعة، و التلذذ بالعبادة.(1/74)
فيرجع إلى أهله و قد تغير عما كان عليه من الإِهمال، و الغفلة عن ذكر الله، و التكاسل عن الصلاة، و التخلف عن الجمع و الجماعات، و تعاطي المسكرات و الدخان و المخدرات، و قد أبغض المعاصي كلها و أهلها و دان لله تعالى بهجر العصاة و المنحرفين، و دعاة الضلال و العلمانيين، و مقت أهل الفحش و الخنا، و دعاة العهر و التبرج و الاختلاط، و أهل البدع و الخرافيين، و أحب أهل الخير و الطاعة، و العلم بالله و آياته و شرائعه، و حرص على القرب منهم، و الاقتداء بهم، و تقبل نصائحهم و إرشاداتهم، و مجالسة الصالحين، و التخلق بأخلاقهم، و عمارة المجالس بالذكر و الفكر و العبادات.
و هذا و نحوه أثر هذه الأعمال التي تقرب بها إلى ربه في حجه و عمرته، و أعماله الصالحة، و ذلك لأنها تجره إلى الطاعة، و تبعده عن المعصية، و تحبب إليه أن يتوب إلى ربه توبة نصوحا، فيأتي بشروطها التي هي: الإقلاع عن الذنوب، و الندم على ما مضى منها، و العزم على أن لا يعود إلى معصية، فالذي يعمل هذه المناسك و العبادات و هو مقيم على التهاون بالصلاة أو فعل شيء من المنكرات، أو تعاطي المسكرات، أو أكل الربا أو غيره من المعاملات المحرمة، فهذا لم يتأثَّر بما تقرب له من هذه المناسك، في هذه المشاعر المقدسة.
و كذا من يفتخر بالذنوب و الجرائم التي ارتكبها قبل الحج، و يذكرها في مجالسه، و كأنها من أفضل الطاعات، و يتمدح بما اقترفه من قتل و نهب و سرقة، و زنا و قذف و نحوها، و لا يبالي بذلك، فمثل هذا ما نفعته هذه الطاعات و الأنساك التي فعلها في حجه و عمرته، حيث إِنَّه لا يزال على ما كان عليه من الاعتزاز و الفخر بما حرَّمه الله عليه.(1/75)
و هكذا من يرجع إلى أهله فيباشر ما كان يفعله قبل سفره، فيدعو الأموات، و يتقرب إلى الضرائح، و يهتف بأسماء الأولياء، و يناديهم في الكربات، و يحلف بغير الله، أو يترك الصلاة، و يتخلَّف عن جماعاتها، و يمنع حق الله في ماله و نحو ذلك، فإِن هذه الأفعال و ما أشبهها قد تركها في المواسم المقدسة، فإذا عاد على ما كان عليه، و باشر الشرك و البدع و المعاصي، فما تأثر بأعماله و قرباته، و يوشك أن ترد عليه حجته و عمرته، و أن يعاقب أشد عقوبة مما كان عليه قبل ذلك، حيث جمع بين الطاعة و المعصية.
و أغلب من يعود إلى المحرمات من هؤلاء الحجاج و الزوار من لا يكون حجهم خالصاً لله، و إنما فعلوه عادة و تقليداً لأهل بلادهم، أو افتخاراً و تمدحاً باسم أنه قد أدى الفريضة، و أتم الأركان، و هو لم يفعل ذلك تديناً و محبة لله، و لا اعترافاً بفرضيته، و إنما مجاراة و محاكاة لأهل الوطن، و هؤلاء لا تفيدهم أعمالهم إلاَّ التعب و الخسران المبين.
فننصح كل حاج و معتمر و زائر أن يتم في توبته، و أن يستمر في أعماله الصالحة، و أن يكون من الدعاة المخلصين لربهم و للأمة الإسلامية، يدعون إلى الله بأقوالهم و أفعالهم، رجاء أن ينفعهم الله تعالى و ينفع بهم، و يهدي على يديهم من أراد الله به خيراً من الأمة الإسلامية، و ينقذهم بواسطة دعوتهم من براثن الشياطين، و ضلال المضلين، و الله يهدي إلى سواء السبيل، و صلى الله على محمد و آله و صحبه و سلم.
بعض الأخطاء التي يقع فيها الكثير من الحجاج
1- تجاوز الميقات قبل الإحرام فمن لم يحرم، إلاَّ من جدة، و هو من أهل الآفاق، أو أحرم من حدود الحرم؛ فعليه دم.
2- دخول مكة بدون إحرام؛ لمن أتى مريداً الحج و العمرة.
3- الصلاة في المواقيت بعد العصر أو بعد الفجر؛ لأنه وقت نهي، و ليست سنة الإحرام من ذوات الأسباب.
4- قص شعر اللحية عند الإحرام، مع أن القص والحلق ممنوعان بكل حال، و العارضان من اللحية.(1/76)
5- التساهل بالصلاة جماعة، أو تأخيرها عن وقتها، مع أن الحاج يتقرب بعبادة فلا يتهاون بالعبادة المؤكدة في كل حين.
6- صلاة الفرض بالإزار دون الرداء، فيصلي الكثيرون و قد كشفوا ظهورهم و عواتقهم.
7- في الطواف؛ الابتداء قبل محاذاة الحجر الأسود، فلا يجزئ ذلك الشوط الذي بدأه قبل محاذاة الحجر بكل بدنه.
8- الطواف من داخل حجر إسماعيل، مع أنه أو بعضه من البيت، فلابد من الطواف من ورائه كله.
9- شدة المزاحمة عند الحجر الأسود، و إلحاق الضرر بالغير؛ فإن تيسر التقبيل، و إلاَّ اكتفى بلمسه باليد، ثم تقبيلها، فإن شق أشار إليه بيده.
10- تقبيل الركن اليماني، أو التمسح به، أو مسحه باليدين جميعاً، أو الإشارة إليه عند الزحام، و كل ذلك خطأ سوى استلامه باليمين.
11- التمسح بأركان البيت، أو كسوة الكعبة، أو حيطانها، أو مقام إبراهيم، أو حجر إسماعيل، أو أجزاء المسجد، و كل ذلك لا أصل له.
12- اعتقاد التقيد بالأدعية المطبوعة في المناسك لكل شوط، و طلب من يلقنه إياها، مع أنه يكتفى بالذكر والدعاء والقراءة المفهومة و نحوها.
13- التساهل في تقصير شعر الرأس عند التحلل من العمرة أو من الحج، فلابد من تقصير الرأس كله، أو حلقه كله.
14- ترك المبيت بمنى ليلة عرفة، و هو إن كان غير واجب فإنه سنة مؤكدة، و أوجبه بعض العلماء.
15- الوقوف خارج حدود عرفة مع أنها محدودة بأعلام واضحة، و الوقوف بها ركن لا يتم الحج إلا به.
16- الانشغال يوم عرفة بالضحك، و المزاح، و الكلام الباطل، و ترك الذكر و الدعاء في ذلك الموقف العظيم.
17- التكلف لصعود جبل الرحمة، و التمسح به، واعتقاد أن له مزية و فضيلة توجب ذلك.
18- مضايقة الغير وقت الانصراف، و ما ينتج عنه من سباب و قتال.
19- الاشتغال في مزدلفة بلقط الحصى قبل الصلاة، مع أن الحصى يصح أخذه من منى أو من غيرها.
20- انصراف الكثير من مزدلفة قبل نصف الليل، و تركهم المبيت بها، مع أنه من واجبات الحج.(1/77)
21- ترخص الأقوياء في الخروج إلى منى قبل الصبح، مع أن الرخصة إنما هي للضعفاء، أما غيرهم فقبيل طلوع الشمس.
22- طواف بعضهم للإفاضة في النصف الأول من الليل، مع أن الرخصة للضعفاء في النصف الثاني بعد الرمي.
23- توكيل بعض الأقوياء في الرمي، مع أن التوكيل إنما ورد عن الأطفال و نحوهم.
24- ذبح الهدايا يوم النحر و تعريضها للإتلاف و الإضاعة، مع أنه يمكن نقلها إلى الضعفاء، أو تأخير ذبحها إلى أيام التشريق.
25- رمي الجمار أيام التشريق ضحى، مع أن وقته إنما يبدأ بزوال الشمس في الأيام الثلاثة التي بعد العيد.
26- اعتقاد أن الجمرات هي الشياطين، و رميها بالأحذية أو بالحجارة الكبيرة، و سبها و شتمها، مع أن رميها تعبد، و تذكرة لعداوة الشيطان.
27- توكيل بعضهم بالرمي و سفره مساء الحادي عشر أو صباح الثاني عشر، فيترك بعض المبيت، و بعض الرمي.
28- طواف بعضهم للوداع قبل رمي الجمرات يوم النفر الأول، مع أن الوداع آخر أعمال الحاج.
29- التكلف في زيارة بعض البقاع و الأماكن: كجبل الرحمة، وغار حراء، و غار ثور، و مولد الرسول، أو مولد علي، أو بعض المساجد التي لا حقيقة لما يُقال فيها، و لا مزية توجب زيارتها.
30- اعتقاد أن الحج لا يتم إلا بزيارة المدينة و التكلف في الحصول على ذلك.
31- اعتقاد أن السفر إلى المدينة لأجل زيارة النبي صلى الله عليه و سلم، مع أن شد الرحال إنما جاز لأجل المسجد النبوي؛ لفضل الصلاة فيه.
32- ما يُفعل عند القبر النبوي من الهتاف باسم الرسول، و دعائه، والطواف بقبره، و التمسح به.
33- التكلف في زيارة مساجد المدينة لا مزية لها: كمسجد أبي بكر، و المساجد السبعة، و مسجد القبلتين، و نحوها.
فعلى الحاج أن يكون حذراً من الوقوع في شيء من هذه الأخطاء و نحوها، ليتم حجه، و الله الموفق و المعين.
فضل أيام عشر ذي الحجة
و الأعمال الواردة فيها
* فضل عشر ذي الحجة:(1/78)
روى البخاري رحمه الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام". بمعنى: أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، و لا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "و لا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه و ماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء".
و روى الإمام أحمد رحمه الله، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "ما من أيام أعظم و لا أحب إلى الله العمل فيهن، من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل و التكبير و التحميد".
و روى ابن حبان رحمه الله في صحيحه، عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "أفضل الأيام يوم عرفة".
* أنواع العمل في هذه العشر:
الأول: أداء الحج و العمرة، و هو أفضل ما يعمل، و يدل على فضله عدة أحاديث، منها قوله صلى الله عليه و سلم: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، و الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". و غيره من الأحاديث الصحيحة.
الثاني: صيام هذه الأيام، أو ما تيسر منها، و بالأخص يوم عرفة، و لا شك أن جنس الصيام من أفضل الأعمال، و هو ما اصطفاه الله لنفسه، كما في الحديث القدسي: "الصوم لي و أنا أجزي به، إنه ترك شهوته و طعامه و شرابه من أجلي". و عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله، إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً". متفق عليه. أي مسيرة سبعين عاماً.
و روى مسلم رحمه الله، عن أبي قتادة، عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، و التي بعده".(1/79)
الثالث: التكبير والذكر في هذه الأيام، لقوله تعالى: ((ولتكبروا الله على ما هداكم و لعلكم تشكرون))(الحج:28). و قد فسرت بأنها أيام العشر، و استحب العلماء لذلك كثرة الذكر فيها، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، عند أحمد رحمه الله، و فيه: "فأكثروا فيهن من التهليل و التكبير و التحميد".
و ذكر البخاري رحمه الله، عن ابن عمر، و عن أبي هريرة رضي الله عنهم، أنهما كانا يخرجان إلى السوق في العشر، فيكبرون و يكبر الناس بتكبيرهما.
و روى إسحاق رحمه الله عن فقهاء التابعين رحمة الله عليهم، أنهما كانوا يقولون في أيام العشر: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، و الله أكبر الله أكبر، و لله الحمد.
و يُستحب رفع الصوت بالتكبير في الأسواق، و الدور، و الطرق، و المساجد و غيرها، لقوله تعالى: ((و لتكبروا الله على ما هداكم))(البقرة:185).
و لا يجوز التكبير الجماعي، و هو الذي يجتمع فيه جماعة على التلفظ بصوت واحد؛ حيث لم ينقل ذلك عن السلف، و إنما السنة أن يكبر كل واحد بمفرده، و هذا في جميع الأذكار و الأدعية، إلا أن يكون جاهلاً فله أن يُلقَّن من غيره حتى يتعلم.
و يجوز الذكر بما تيسر من أنواع التكبير والتحميد و التسبيح، و سائر الأدعية المشروعة.
الرابع: التوبة و الإقلاع عن المعاصي و جميع الذنوب، حتى يترتب على الأعمال المغفرة و الرحمة، فالمعاصي سبب البعد و الطرد، و الطاعات أسباب القرب والود، و في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "إنا الله يغار، و غيرة الله أن يأتي المرء ما حرم الله عليه". متفق عليه.(1/80)
الخامس: كثرة الأعمال الصالحة من نوافل العبادات: كالصلاة، والصدقة، و الجهاد، و القراءة، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و نحو ذلك. فإنها من الأعمال التي تضاعف في هذه الأيام، فالعمل فيها و إن كان مفضولاً فإنه أفضل و أحب إلى الله من العمل في غيرها، و إن كان فاضلاً حتى الجهاد الذي هو من أفضل الأعمال، إلا من عقر جواده و اهريق دمه.
السادس: يُشرع في هذه الأيام التكبير المطلق؛ في جميع الوقت من ليل أو نهار إلى صلاة العيد، و يشرع التكبير المقيد: و هو الذي يكون بعد الصلوات المكتوبة التي تصلى في جماعة، و يبدأ لغير الحجاج من فجر يوم عرفة، و للحجاج من ظهر يوم النحر، و يستمر إلى صلاة العصر آخر أيام التشريق.
السابع: تُشرع الأضحية في يوم النحر، و أيام التشريق، و هو سنة أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، حين فدى الله ولده بذبح عظيم، و قد ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم: "ضحَّى بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده و سمَّى و كبَّر، و وضع رجله على صفاحهما". متفق عليه.
الثامن: روى مسلم رحمه الله و غيره، عن أم سلمة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "إذا رأيتم هلال ذي الحجة، و أراد أحدكم أن يضحي، فليمسك عن شعره و أظفاره". و في رواية: "فلا يأخذ من شعره و لا من أظفاره، حتى يضحي".
و لعل ذلك تشبهاً بمن يسوق الهدي، فقد قال الله تعالى: ((و لا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدى محله))(البقرة:196). و هذا النهي ظاهره أنه يخص صاحب الأضحية، و لا يعم الزوجة و لا الأولاد، إلا إذا كان لأحدهم أضحية تخصه، ولا بأس بغسل الرأس و دلكه، و لو سقط منه شيء من الشعر.(1/81)
التاسع: على المسلم الحرص على أداء صلاة العيد حيث تصلى، و حضور الخطبة و الاستفادة، و عليه معرفة الحكمة من شرعية هذا العيد، و أنه يوم شكر و عمل بر، فلا يجعله يوم أشر و بطر، و لا يجعله موسم معصية و توسع في المحرمات: كالأغاني، و الملاهي، و المسكرات و نحوها، مما قد يكون سبباً لحبوط الأعمال الصالحة، التي عملها في أيام العشر.
العاشر: بعد ما مر بنا، ينبغي لكل مسلم و مسلمة أن يستغل هذه الأيام بطاعة الله و ذكره و شكره، و القيام بالواجبات و الابتعاد عن المنهيات، و استغلال هذه المواسم و التعرض لنفحات الله، ليحوز على رضا مولاه.
فتاوى الحج
حكم الحج
و الوعيد الشديد على من تركه مستطيعاً
و سُئِلَ وفقه الله تعالى للحق:
ما حكم الحج إلى بيت الله الحرام، و ما الوعيد الشديد المترتب على من تركه و هو قادر عليه و مستطيع له؟
* فأجاب:
الحج كما هو معلوم ركن من أركان الإسلام، و قد ذكره النبي صلى الله عليه و سلم في قوله: "بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، و أن محمداً رسول الله، و إقام الصلاة، و إيتاء الزكاة، و صوم رمضان، و حج بيت الله الحرام". و في حديث جبريل المشهور لما سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن الإسلام فقال: "أن تشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله، و تقيم الصلاة، و تؤتي الزكاة، و تصوم رمضان، و تحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً".
يتبين لنا من هذه الأحاديث أن الحج من جملة الإسلام و هو أحد أركانه العظام.
و أركان الإسلام هي دعائمه و أُسسه التي يقوم عليها و يتكون منها، فمن أخلَّ بركن من هذه الأركان فقد اختل إسلامه؛ فالبناء إذا انهدم أحد أركانه يعني أحد جوانبه فإنه لا يُنْتَفَعُ به، بخلاف إذا ما تمت حيطانه و جوانبه و زواياه، فكذلك الإسلام إذا اختل منه ركن من هذه الأركان فإنه يكون غير كامل و يكون دين المسلم فيه نقص. هذا معنى كونه ركناً من أركان الإسلام.(1/82)
و لكن الحج يجب بشروط، ذكرها العلماء في كتبهم، فمن أراد معرفتها فإنه يُرْجَعُ إليها في مواضعها.
أما من ترك الحج و هو قادر عليه و مستطيع لأدائه و اكتملت فيه الشروط، فإنه على خطر عظيم، لما ورد من الوعيد الشديد على تركه. و قبل الحديث عن الوعيد في تركه، نذكر ما ورد في الحث على المبادرة إلى الحج.
لقد كان النبي صلى الله عليه و سلم يحث على المبادرة إلى الحج، فمن ذلك قوله صلى الله عليه و سلم: "بادروا بالحج و العمرة فإن الراحلة قد تضل و النفقة قد تذهب و الرجل قد يمرض". أو كما قال عليه الصلاة و السلام، انظر شرح الزركشي على مختصر الخرقي: (3/42) والتعليق عليه.
ففي هذا الحديث حث منه عليه الصلاة والسلام المبادرة إلى أداء هذا الركن العظيم، و المبادرة معناها: الإسراع، و هذا من أدلة وجوب الحج على الفور.
كما أن أوامر الله تعالى يجب الإسراع بها، لما علل به في الحديث السابق من خوف العوائق و العوراض التي تعرض للإنسان، فإنه لا يدري متى تعرض له.
فعلى المسلم أن يبادر بأداء الأوامر و الطاعات و هو في حال صحته و استطاعته قبل أن يندم، ولات حين مندم.
ثم إن الله تعالى إنما أوجبه مرة في العمر، كما في قوله صلى الله عليه و سلم: "أيها الناس إن الله قد كتب عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: يا رسول الله، أفي كل عام؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال: لو قلت نعم لوجبت، و لو وجبت لما استطعتم، الحج مرة، فما زاد فهو تطوع".
فمن حكمة الله و من رحمته بعباده أنه ما أوجب الحج إلا مرة واحدة في العمر على الفور، لمن استطاعه، و لا يتم الدين إلا به و ما زاد فهو تطوع.
و نعود للحديث عن الوعيد المترتب على من تركه، فقد ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "لقد هممت أن أبعث إلى بعض البلاد، فمن وجدوه قادراً على الحج فلم يحج أن أضع عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين" أو كما في الأثر.(1/83)
و رُوي أن علياً قال: "من قدر على الحج فلم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً".
و لعل هذا صدر على سبيل التهديد و الوعيد، أو لعلَّه فيمن تركه مع القدرة عليه زُهداً فيه و رغبةً عنه، أو عدم اهتمام بهذا الركن، أو تساهلاً و تهاوناً به، أو انكاراً لشرعيته، أو للحِكَم التي تترتب عليه، أو نحو ذلك، و لا شك أن هذا انتقاص للإسلام.
و قد كان الحج إلى بيت الله العتيق قديماً قبل الإسلام، فقد رُوي أن الأنبياء قد حجوا هذا البيت، و قد روي في ذلك آثار و أحاديث، و كذلك رُوي أن الملائكة طافت به قبل أن يُخلق آدم، و الله تعالى قد أمر إبراهيم ببناء هذا البيت، و أمره بالنداء إليه بقوله تعالى: ((و أذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً و على كل ضامر يأتين من كل فج عميق))(الحج:27). و ظاهر ندائه أنه كما روي في بعض الآثار: "يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا" فدلّ هذا على أن الحج واجب، فقوله: "كُتِبَ عليكم" أي: فرض عليكم، كما في قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم))(البقرة:183). أي:فُرِض عليكم الصيام.
فإذا عرفنا أن الحج أحد أركان الإسلام، و أن الله تعالى أتم به الدين، و عرفنا أنه لازم و واجب، فعلى كل مسلم إذا تمت فيه الشروط المعروفة أن يأتي لهذا البيت المعظم، ملبياً نداء الله إليه، فإن من تركه تهاوناً فإنه متعرض للوعيد الشديد؛ سيما و قد فرضه النبي عليه الصلاة والسلام و بيَّنه و أتمه، و قال للناس لما وقف بهم في المشاعر: "خذوا عني مناسككم" و لما وقف بعرفة أنزل الله عليه: ((اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام ديناً))(المائدة:3). أي: في ذلك اليوم الذي تمت فيه المناسك و المشاعر و تمت فيه أركان الإسلام، و كان به تمام الدين و كماله، و فيه إتمام لسنة الله عز و جل و رضاه بأن يكون الإسلام دينهم، فهذا كله دليل على أن الحج فرض وواجب.(1/84)
و من الأدلة على فرضيته عموم أقوال الرسول صلى الله عليه و سلم و أفعاله في التأكيد عليه و بيان فضائله و أنه خاتمة الشرائع، و أن من أتى به كان ذلك من تمام إسلامه، و من لم يأت به كان إسلامه ناقصاً.
نسأل الله أن يجعل لنا منه حظاً و نصيباً، و أن يجعلنا من المقبولين و المغفور لهم، إنه على كل شيء قدير.
من حج و لم يصل
و سُئِل فضيلته:
من حج و لم يصلِّ، هل يحسب له حج أم لا؟
* فأجاب:
إذا كان قصد السائل أن يحج وهو تارك لصلاة الفريضة، التي فرضها الله في اليوم و الليلة خمس صلوات، و هذا يقع كثيراً من بعض المنتمين إلى الإسلام في البلاد الإسلامية، و كثير من الناس يتسمون بأنهم مسلمون، و لكن ما معهم إلا مجرد التسمي، فتجد أحدهم لا يصلي طوال عمره مثلاً، و بعضهم يصلي فقط الجمع والأعياد، و أما بقية أوقاتهم فلا يعرفون الصلوات، لا فروضها و لا نوافلها، و هؤلاء بلا شك متهاونون بهذا الركن العظيم، الذي هو عمود الدين، و هو أهم أركان الإسلام بعد الشهادتين.
و قد ورد في الأحاديث إطلاق الكفر على تارك الصلاة، و قال العلماء: إن المراد به الكفر العملي، لا الاعتقادي، و على كل حال فإن الذي يحج و هو مُصرٌّ على ترك الصلاة قبل حجه أو بعده، يعتبر قد أتى بعمل، و لكن أخلَّ بعمل آخر عظيم.
و قد اختلف العلماء في تكفير تارك الصلاة و فصلوا ذلك:
* فإن من تركها جاحداً لوجوبها، فهو كافرٌ و لا ينفعه حجّه، و لا يصح، و لا يسقط فرضه، و كذلك لا تصح بقية أعماله.
* وأما من تركها متكاسلاً و متثاقلاً عنها فإنه باقٍ على دين الإسلام و ينسب إلى المسلمين، و لكنه على خطر كبير، حيث إنه أخلَّ بهذا الركن العظيم، و يعتبر قد أذنب ذنباً كبيراً، و لكن حجه صحيح، و تسقط عنه حجة الإسلام.
و ذهب كثير من العلماء و المحققين إلى القول بكفره، و بطلان حجه، و سائر أعماله؛ لإطلاق الأحاديث في كفر من ترك الصلاة.(1/85)
و معلوم أن الحاج يجب عليه قبل الحج أن يتطهر من الذنوب، و أن يُقبل على ربه بقلب منكسر خاشع ذليل، و أن يصحح نيته فينوي نية صادقةً و أنه تائبٌ إلى الله توبة نصوحاً، فيرد المظالم إن كانت هناك مظالم بينه و بين أحد من الناس، و يقلع عن المعاصي صغيرها و كبيرها، فيحافظ على الصلاة جماعة في مساجد المسلمين، و يعاهد ربه أن لا يعود إلى ما كان عليه من التثاقل و التكاسل، و يتوب عن المعاصي الأُخرى من أكل الربا، أو الزنا، أو شرب الخمر، أو أكل الحرام، أو الاعتداء على المسلمين في الدم أو المال أو ما أشبه ذلك من المحرمات، حتى يُقبل حجه و يكون حجه مبروراً و سعيه مشكوراً.
و قد ورد في الأحاديث بأن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، و لا يكون الحج مبروراً إلا إذا تمت شروطه، و أركانه، و سننه، و قام صاحبه بما لله عليه فيه، و تجنب محظوراته، وتجنب المعاصي المحرمة عليه في كل الأوقات، و تاب لله توبة نصوحاً، و سأل عن كل عمل يعمله هل هو طاعة أم معصية، أم محظور أم محرم، أم مكروه أو ما أشبه ذلك، فإذا عرف الحكم و فعل ما هو طاعة و تجنب ما هو معصية، فإن عمله مقبول إن شاء الله.
هذا إذا كان السائل يقصد ترك الصلاة قبل الحج أو بعده أي: تاركاً للفرائض، و هي الصلوات الخمس المفروضة في اليوم و الليلة.
فأما إن كان يريد ترك الصلاة عند الإحرام، فإذا قصد الحج و لبس الإحرام و لم يصل ركعتي الإحرام، فإنه ليس للإحرام صلاة مخصوصة، وقد ذكر بعض العلماء أن الصلاة عند الإحرام سنة، و بعضهم يقول: إذا وافق ذلك وقت صلاة، و قالوا: إن الرسول صلى الله عليه و سلم أحرم عقب فريضة، فإن وافق إحرامك، فهذا هو الأفضل لأنه فعل النبي صلى الله عليه و سلم.(1/86)
و لكن لا يُسن الإتيان بصلاة مخصوصة تسمى سنة الإحرام، كما يفعله كثير من الجهلة، و خاصة في أقوات النهي، فإن أحرمت في وقت نهي، فأحرم بدون صلاة، بل بمجرد النية، و هو لبس الثياب والتأهب للإحرام، و التلبية، و لا حاجة إلى الصلاة لكونه وقت نهي و الله أعلم.
الاستنابة في الحج
و سُئِلَ حفظه الله و رعاه:
طَلَب مني أحد أقاربي أن أحج عن والدته المتوفاة، و أعطاني ثلاثة آلاف ريال كنفقة، و أنا أستطيع أن أُكمل الحج بأقل من تلك النفقة، فماذا أفعل بالباقي؟
* فأجاب:
هذه مسألة الاستنابة في الحج، أو الحج عن الغير بأُجرة، و قد كثر البحث فيها، و كثر التساهل من الذين يحجون بأُجرة.
و العلماء لم يرخصوا للإنسان أن يحج بأجرة، إلا إذا كان عاجزاً عن الحج من مال نفسه، و ذلك لأن هذا عمل صالح و الأعمال الصالحة لا تباع، و لا تؤخذ عليها مصالح دنيوية، فالحج: طواف، و سعي، و إحرام، و صلاة، و رمي، و وقوف، و هذه كلها أعمال صالحة لا يؤخذ عليها أُجرة، كما أن الإنسان لا يأخذ أجراً على الصلاة، و لا الصيام و لا على الصدقة، و نحو ذلك، فلا يبيعها لقول النبي صلى الله عليه و سلم في الأذان: "اتخذوا مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً" فدلَّ على أن الأعمال الصالحة لا يجوز بيعها.
و لكن هناك حالة خاصة، فمثلاً أن إنساناً عاجز عن الحج بماله و هو قد أدى حجة الفريضة، فيجوز له أن يستعين بمال يتمكن به منه أداء الحج، فيأخذ هذا المال حتى يمكنه الحج فينفق منه بقدر حاجته و يرد باقيه على من أنابه إذا أنفق من سواء أنفق على أهله كأن يترك لأهله نفقته، و أنفق أجرة ركوبه و أجرة أكله و شربه، و قيمة فديته و غير ذلك، فالباقي يرده على أهله إلا إذا سمحوا و عفوا عن ذلك و قالوا: قد وهبنا لك ما بقي.(1/87)
أما كونه يتخذ الحج حرفة و يجعله كسباً، و يزايد فيه، و يقول: هذا قليل أعطني خمسة أو ستة آلاف ريال، فينفق منها ألفاً أو ألفين، و الباقي يتاجر به فهذا بيع للعمل الصالح، و يعتبر عمل لأجل الدنيا، و العمل لأجل الدنيا شرك، كما في قول الله تعالى: ((من كان يريد الحياة الدنيا و زينتها نوف إليهم أعمالهم فيها و هم فيها يبخسون))(هود:15).
رمي الجمار قبل الزوال في اليوم الثاني عشر
و سُئِلَ حفظه الله:
نسب إليكم فتوى في جواز رمي الجمار (قبل الزوال) لمن أراد التعجل في اليوم الثاني عشر أي: ثاني أيام التشريق؟ و قد نشرت في جريدة المسلمون؟ فهل هذا صحيح و ما هو دليلكم في ذلك؟
* فأجاب:
اتصل بنا صاحب الجريدة المذكورة هاتفياً، و ذكر ما حصل في الحج الماضي (عام 1414هـ) من الوفيات، و سأل هل من رخصة في تقديم الرمي؟.
فذكرت له أن هناك قولاً لأبي حنيفة و رواية عن الإمام أحمد بجواز الرمي قبل الزوال للمتعجِّل، حيث ذكر ذلك صاحب المغني، و الزركشي في شرح مختصر الخِرْقي، و صاحب الإنصاف، و لكن صاحب الجريدة تجرأ و نسب الفتوى إليَّ بخط بارز، و معروف أن أصحاب الصحف يبالغون في نشر مثل هذا، فجعلوا العنوان كبيراً كما قرأتموه، أو قرأه بعضكم، و هم بذلك يريدون لفت الأنظار، مع أني إنما حكيت الرواية التي ذكرها في المغني و غيره، و لم أفصح أنني أختاره، إنَّما أقول أنه جائز للضرورة، عندما يخاف الإنسان على نفسه، و هذا القول لمن أراد التعجل، أما الذي لا يريد التعجل فليس له أن يرمي إلاّ بعد الزوال.(1/88)
و بكل حال فالأصل أن وقت الرمي في أيام التشريق بعد زوال الشمس، كما ثبت في الحديث عن ابن عمر و جابر و عائشة و غيرهم، و هو قول الأئمة كلهم، ذكره ابن قدامة كما في المغني مع الشرح (3/476)، لكنه ذكر أن إسحاق بن راهويه، و أصحاب الرأي، و هم الحنفية، رخصوا في الرمي يوم النفر قبل الزوال، و لا ينفر إلاَّ بعد الزوال، و عن أحمد مثله، و رخص عكرمة في ذلك أيضاً، و قال طاووس: يرمي قبل الزوال، و ينفر قبله ... الخ.
و هكذا ذكر في الشرح الكبير في نفس الصفحة: و قال الزركشي في شرحه على مختصر الخِرَقي (3/279): و الرواية الثانية إن رمى في اليوم الآخر قبل الزوال أجزأه، و لا ينفر إلاَّ بعد الزوال (و الثالثة) كالثانية إلا أنه إن نفر قبل الزوال لا شيء عليه، قال في رواية ابن منصور: إذا رمى عند طلوع الشمس في النفر الأول ثم نفر. كأنه لم ير عليه دماً اهـ.
و ذكر القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: ((فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه))(البقرة:203) (3/9). عن عطاء أنه سمعه يذكر أنه رخص للرعاء أن يرموا بالليل في الزمن الأول، و ذكر أنه روي مرفوعاً عند الدارقطني، و غيره، و علله بأنه أرفق بهم و أحوط فيما يحاولونه من رعي الإبل.
و قال مالك: إذا تركه نهاراً رماه ليلاً، و عليه دم في رواية ابن القاسم، و لم يذكر في الموطأ أن عليه دماً.
و قال الشافعي، و أبو ثور، و يعقوب، و محمد: إذا نسي الرمي حتى أمسى يرمي و لا دم عليه، و كان الحسن البصري يرخص في رمي الجمار ليلاً، و قال أبو حنيفة: يرمي و لاشيء عليه.
و يمكن أن يستدل على تقديم الرمي يوم النفر الأول بظاهر قوله تعالى: ((فمن تعجل في يومين)) حيث إن اليوم يعم أول النهار و آخره.
و بعد هذا التفصيل و ذكر الأقوال أقول:(1/89)
أنه في هذا الزمان و خاصة ما حدث في الحج الماضي كما تعرفون من الزحام الشديد، مما أدَّى إلى الوفيات، و قد ذكر بعضهم أن من أسباب هذا الزحام هو: أن كثيراً من المطوفين يؤكدون على الحجاج التابعين لهم بأن يأتوا إليهم في المكان الفلاني في الساعة الثانية بعد الظهر مثلاً، و من لم يأت فإننا سوف نسير و نتركه، و من المعلوم أن هؤلاء المطوفين معهم أعداد كبيرة من الحجاج تصل إلىمئات الألوف فيضطر هؤلاء كلهم إلى التجمع عند الجمرة قبل الزوال، حتى إذا كان الزوال رموا جميعاً ليتمكنوا من الوصول إلى مطوفيهم في الموعد المحدد، و هنا يحدث الزحام الشديد عند الرمي و في طريقهم ذهاباً و إياباً، و بعدها يذهبون لطواف الوداع، ثم يرجعون إلى المكان الذي وعدوا فيه، و قد لا يقدرون على ذلك في ساعتين، فلأجل ذلك يحتشدون بهذه الأعداد الكبيرة في وقت واحد ثم لا تسأل عما يحدث بعدها من الوفيات الكثيرة.
و كان الأولى لهؤلاء المطوفين ألا يشددوا هذا التشديد على حجاجهم، و عليهم أن يرفقوا بهم، و ينتظروهم و لو تأخروا إلى الساعة الثالثة أو الرابعة، أو الخامسة مثلاً حتى يتكاملوا و حتى لا يتكلفوا و يضطروا بأن يرموا جميعهم في الساعة الثانية عشر و النصف في لحظة واحدة، و يحدث من المشاكل و الوفيات مثل ما حدث و يحدث كل عام.
و لو ذهبت إلى الجمرات عند الساعة الثانية و نحوها لوجدت المكان خالياً أو خفيفاً من الزحام لأن الكل أو الأغلب قد رموا و خرجوا.
و لن يكون لهذه المسألة حل إلاَّ بأحد أمرين:
الأول: إما التوسعة و الرخصة في الرمي للمضطر قبل الزوال بساعة أو ساعتين و لو لم يخرج إلا بعد الزوال.
الثانية: أو يلاحظ على المطوفين أن لا يشددوا على حجاجهم هذا التشديد، و يجب على وزارة الحج أن تأخذ على أيديهم و تعمل لهم برنامجاً ينظمهم حتى يتفادوا الأخطار، و الوقوع في الأخطاء، و الله أعلم.(1/90)