الدكتور: عبد الملك مرتاض
السبْع المعلّقات
[مقاربة سيمائيّة/ أنتروبولوجيّة لنصوصها]
- دراسة -
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
1998
البريد الالكتروني: ... ... Email : aru@net.sy
الانترنيت ... ... :Enternet : unecriv@net.sy
((
هذا الكتاب
هذا الكتاب سعيٌ جادٌ لإعادة قراءة الشعر الجاهليّ بعامة، وقصائد المعلّقات السبع بخاصة؛ قراءة جديدة تنهض على منهج مركبٌ من الأنتروبولوجيا والسيمائيّة. وإنه لتحليل رصين أعْنت الباحث فيه نفسه فناقش كثيراً من الآراء والأفكار التي قيلت حول قصائد المعلقات من حيث مضامينها وأشكالها معا؛ وذلك عبر عشرة فصول وتمهيد عرض من خلالها لأهم القضايا التي يمكن أن تثار حول هذا الموضوع الذي لم يبرح يستهوي الدارسين؛ وذلك برؤية جديدة كالتعرض لإثنولوجية المعلقات، وبنية المطالع الطللية، وجمالية الحيز، وطقوس الماء في المعلقات، ونظام النسج اللغوي فيها، والتناص في نصوصها، وجمالية الإيقاع، والصورة الأنثوية للمرأة، والخوض في المعتقدات عبرها، والانتهاء إلى تحليل الصناعات والحِرَف والمرتفقات الحضارية من خلال مَتْنها.
إن هذا الكتاب قراءة جديدة استطاعت أن تضيء كثيراً من الزوايا التي تثار لأول مرة من حول نصوص المعلقات العجيبات. كما يتميز هذا الكتاب بمناقشة كثير من الآراء التي كُتبت من قبل عن الشعر الجاهلي مناقشة مستفيضة.
(
ما قبل الدخول في القرءاة:
-1-(1/1)
كيف يمكن لأسراب متناثرة من السِّمات اللّفظيّة- حين تجتمع، وتتعانق، وتتوامق، وتتعانق، وتتجاور، وتتحاور، وتتضافر؛ فتتناسخ ولا تتناشز- فتغتدِي نسْجاً من الكلام سحريّاً، ونظاماً من القول عطريّا؛ فأما العقولُ فتبهرُها، وأمّا القلوب فتسحرها. فأنَّى ينثال ذلك القَطْرُ المعطَّرُ، ويتأتّى ذلك السحر المَضمّخ: لهذا النسْج الكلاميّ العجيب؟ وكيف تقع تلك العناية البلاغيّة والتعبيريّة للشاعر، فيتفوّق ويَسْتَميزُ؟ ولِمَ يتفاوت الشعراء فيْ ذلك الفضل: فإذا هذا يغترف من بحر، وذاك ينحت من صخر، على حدّ تعبير المقولة النقديّة التراثية. ولِمَ، إذن، يتفاوتون في درجات الشعريّة بين محلّق في العلاء، ومُعْدٍ في سبيلٍ كَأْداء، وَسَارٍ في ليلةٍ دَأْدَاء؟
-2-
ذلك؛ ويندرج أي ُّ ضرْب من القراءة الأدبيّة، ضمن إجراءات التأويليّة- أو الهرومينوطيقا- الشديدة التسلّط على أيّ قراءة نقرأ بها نصّاً أدبيّاً، أو دينيّاً، أو فلسفيّاً، أو قانونيّاً، أو سياسيّاً... لكنّ الذي يعنينا، هنا والآن، هو النصّ الأدبيّ الخالص الأدبيّة. والأدبيُّ، هنا، في تمثّلنا ممتدّ إلى الشعريّ، شامل له، معادل لمعناه.
وإنّا إِذْ نأتي اليوم إلى الشعر الجاهليّ بعامّة، وإلى القصائدِ المعلّقاتِ، أو المعلّقاتِ السبعِ، أو السَّبْعِ الطوال، أو السُّموط- فكلُّ يقال- لِنحاولَ قراءتها في أَضواءٍ من المعطيات جديدة، على الأقلّ ما نعتقده نحن: فإنما لكي نُبْرِزَ، من حيث نبتغي أن لا نبتغي، دور هذه التأويليّة المتسلّطة في تمزيق حجاب السريّة التي كان قُصارَاهَا حَجْبَ الحُمولةِ الأدبيّة للنص المقرءِ، أن المحلِّلِ، أو المؤَوَّلِ، أو مواراة الملامح الجماليّة للكتابة...(1/2)
وسواء علينا أقرأنا نصوص المعلّقات السبع ضمن الإِجراء الأنتروبولوجي، أم ضمن الإِجراء السيمائِياني؛ فإننا في الطوريْن الاثنين معاً نَدْرُجُ في مُضْطَرَبِ التأويليّة ولا نستطيع المروق من حيزها الممتدّ، وفضائها المفتوح، وإجراءاتها المتمكّنة ممّا تودّ أن تتّخذ سبيلَها إِليه...
وإنّا لن ننظر إلى الشعر الجاهليّ نظرة مَنْ يرفضون أن يكون له سياق، أو أن ينهض على مرجعيّة، أو تكون له صلة بالمجتمع الذي ينتمي إِليه: من حيث هو بيئة شاملةُ المظاهر، متراكبة العلاقات؛ لأننا لو إِلى ذلك أردْنا، وإياهُ قَصَدْنا؛ لَمَا عُجْنا على مفهوم الأنتربولوجيا نسائله عن دلالاتها التّي تعدّدت بين الأمريكيّين والأوربيّين من وِجْهة، وتَطوّرت بين قرنين اثنيْن: القرن التاسع عشر والقرن العشرين من وجهة أخراة: كما كان شعراء ما قبل الإسلام يسائلون الربوع الدارسة، والأطلال البالية، والقِيعان التي هجرَها قطينُها، فعَزَّ أَنيسُها...
لكنّنا لسنا أيضاً اجتماعِيّيَن نتعصّب للمجتمع فنزعم أنه هو كلّ شيء، وأنّ ما عداه ممّا يبدو فيه من آثار المعرفة، ومظاهر الفنّ، ووجوه الجمال، وأَسقاط الأدب؛ لا يعدو كلّ أولئك أن يكون مجرّد انعكاس له، وانتساخ منه، وانبثاق عنه... ذلك بأنّ الفنّ قد يستعصم، والجمالَ قد يستعصي، والأدب قد يعتاص على الأَفهام فلا يعترف بقوانين المجتمع، ولا بتقاليده، فيثور عليها، وينسلخ منها رافضاً إِيّاها؛ مستشرفاً عالَماً جديداً جميلاً، وحالماً ناضراً، لا يخضع للقيود، ولا يذعن للنواميس البالية...(1/3)
إِنّا لو شئنا أن نُدَارِسَ الأدب في ضوء المنهج الاجتماعيّ لكنّا استرحنا من كلّ عناء، ولما كنّا جشّمنا النفس ضنى القراءة في المعرفيّات الإنسانيّة، ولكنّا أخلدنا إلى هذه القراءة البسيطة التي تجتزىْ، مقتنعة واثقة من أمرها، بتأويل الظاهرة الأدبيّة، أو قل بتفسيرها على الأصحّ، في ضوء الظاهرة الاجتماعيّة، وتستريح؛ ولكنها لا تريح. بل إِنّ مفهوم التأويل الذي نصطنع هنا قد يكون في غير موضعه من الدلالة الاصطلاحية؛ إِذ عادة ما يكون هذا التأويل أدعى إِلى الجهد الفكري، والذهاب في مجاهله إِلى أقصى الآفاق الممكنة من حيث إِنّ المنهج الاجتماعيّ، في قراءة الأدب، لا يكاد يُعْنِتُ نفسّه، ولا يكاد يشقّ عليها، أو يجاهدها: إِذ حَكَمَ، سلَفاً، باجتماعيّة هذا النصّ، أي بابتذالِه؛ أي بتمريغه في السوقّيّة؛ أي بعزوه إِلى تأثير الدهماء. بل لا يجتزىْ بذلك حتى يجعَلَه نتاجاً من أثارها، ومظهراً من مظاهر تفكيرها، وطوراً من أطوار حياتها، بدون استحياء...
المنهج الاجتماعيّ بفجاجته، وسطحيّته، وسوقيّته، وفزَعِه إِلى شؤون العامّة يستنطقها: لا يُجْدِي فتيلاً في تحليل الظاهرة الأدبيّة الراقية، ولا في استنطاق نصوصها العالية، ولا في الكشف عمّا في طيّاتها من جمال، ولا في تقصّي ما فيها من عبقريّ الخيال... فأَوْلَى لعلم الاجتماع أن يظلّ مرتبطاً بما حدّده بنفسه لنفسه، وبما حَكَم به على وضعه، وهو النظر في شؤون العوامّ وعلاقاتهم: بعضهم ببعض، أو تصارع بعضهم مع بعض، أو تصارعهم مع مَنْ أعلى منهم، حسَداً لهم، وطمَعَاً في أرزاقهم؛ كما قرر ذلك ماركسهم فأقام الحياة كلَّها على صراع البنية السفلى مع العليا...(1/4)
وعلى الرغم من أننا لا نعدم من يحاول ربط علم الاجتماع بالأنتروبولوجيا، أوجعل الأنتروبولوجيا مجرد فرعيّة اجتماعيّة، وأنّ قد يسمّى "الأنتروبولوجيا الاجتماعيّة" إِنما انبثق عن دراسة المجتمعات الموصوفة بـ "البدائيّة" (1): فإِنّ ذلك لا يعدو كَونَهُ حذلقةً جامعيّة تكاد لا تعني كبيرَ شيءٍ؛ وإِلاّ فما بالُ هذا العِلْمِ يتمرّد على علم الاجتماع، فيختلف عنه في منهجه، ويمرق عنه في تحديد حقوله؛ ممّا أربك علم الاجتماع نفسّه، فجعله يكاد لا يُعْنَى بشيء إِلاّألفى نفسه خارج الحدود الحقيقيّة التي كان اتخذها، أصلاً، لطبيعة وضعه؛ وذلك كشأن البحوث المنصرفة إلى الدين، وإلى الأسطورة، وإلى السحر، وإلى السياسة، وإلى علاقات القربى بين الناس، وإلى كل، مظاهر العادات والتقاليد والمعتقدات والبيئات الأولى لنشوء الإنسان...
لقد استأثرت الانتروبولوجيا- أو علم معرفة الإنسان- بمعظم مجالات الحياة الأولى للإنسان، فإذا هي كأنها: "علم الحيوان للنوع البشريّ" (2)؛ إذ تشمل، من بين ما تشمله: علم التشريح البشريّ، وما قبل التاريخ، وعلم الآثار، وعلم وصف الشعوب، وعلم معرفة الشعوب، وعلم الاجتماع نفسه، والفولكور، والأساطير، واللسانيّات (3). فما ذا بقي لعلم الاجتماع أمام كلّ هذا؟
أم أنّ علم الاجتماع يستطيع أن يزعم أنه قادر على منافسة الأنتروبولوجيا في صميم مجالات اختصاصها؟ أنّا لا نعتقد ذلك. ولكن ما نعتقده أنّ الأنتروبولوجيا ليست علماً واحداً بمقدار ما هي شبكة معقّدة من علوم مختلفة ذات موضوع واحد مشترك هو الإنسان وتطوره التاريخيّ، وتطوره فيما قبل التاريخ أيضاً (4).(1/5)
وإذن، فليس علم الاجتماع إِلاّ مجرّد نقطة من هذا المحيط، هذا العُباب الذي لا ساحل له؛ وليس إذن، إِلاّ مجرّد جملة من الظواهر التي تظهر في مجتمع ما، لتختفي، ربما، من بعد ذلك، أو لتستمر، ربما، إلى حين: كظاهرة الطلاق، أو ظاهرة المخدّرات، أو ظاهرة الجريمة، في مدينة من المدن، أو في بلد من البلدان.... على حين أنّ الأنتروبولوجيا هي العمق بعينه، وهي الأصل بنفسه؛ فهي تمثّل الجذور الأولى للإنسان، وفيزيقيّته وطبيعته، وعلاقته مع الطبيعة، وعلاقته بالآخرين، وعلاقته بما وراء الطبيعة المعتقدات- الدين- الأساطير)، وعلاقته بالأنظمة والقوانين (الأنظمة السياسيّة)، وعلاقته بالأقارب أو ارتباطه بالأسرة، وعلاقته بالعشيرة أو القبيلة، وعلاقته بالمحيط بكلّ أبعاده الطقسية، والاقتصاديّة، والثقافيّة (وتشمل الثقافة في نفسها: جملة من المظاهرة مثل الأسطورة، والسحر، وكيفيّات التعبّد، وهلّم جرّا.....).
فبينما عِلْمُ الاجتماع يتخذ، من بين ما يتّخذ، من الإحصاءات والاستبيانات إِجراءُ له في تحليل الظاهرة الاجتماعية وتفسيرها؛ نُلْغي العالِم الأنتروبولوجيّ "الغارق" في المجتمع الذي يدرسه،
يُعْنَى بصميم المعيش في هذا المجتمع. وأيّاً كان الشأن، فإنّ كُلاً منهما اغتدى الآن يستعير من منهج الآخر، دون أن يلفي في ذلك غضاضةً (5).
بيد أنّ الأنتروبولوجيا أوسعُ مجالاً، و أشدّ تسلّطاً على المجتمعات. ونحن نرى أنّ علم الاجتماع يتسلّط على الظاهرة من حيثُ كَوْنُها تَحْدُثُ وتتكرّر، وتشيع في مجتمع ما؛ أي كأنه يتسلّط على وصف ما هو كائن؛ على حين أنّ الأَناسِيَّةَ تتسلّط على المجتمعات التقليديّة، أو البدائيّة من حيث هي: فتصفها، ثم تحلّلها. فكأنّ علم الاجتماع يتسلّط على ظواهر اجتماعيّة منفردة ليصفها ويحلّلها، بينما الأَناسِيَّةُ تتسلّط على المجتمع البدائيّ في كلّيّاته فتجتهد في وصفها أوّلاً، ثم تحليلها آخراً.(1/6)
وإذن، فلأْمرٍ ما أطلق العلماء على هذه المعرفيّة اصطلاح "علم الأناسة"، أو "علم الإنسان"، أو "الأناسيّة (كما نريد نحن أن نصطلح على ذلك): فكأنها العلم الذي بواسطته، وقبل علم النفس ذاته، يستطيع معرفة الإنسان في أصوله العرقيّة، وتاريخه الحضاريّ، وعلاقته بالعالم الخارجي.. بل الإيغال في معرفة معتقداته، وعاداته، وتقاليده، وأعرافه، وكلّ علاقاته بالطبيعة والكون...
-4-
ذلك، وأنّا ألفينا الناس دَرَسوا الشعر العربيّ القديم، وينصرف، لدينا، معنى القِدَمِ، وَهُنَا، إِلى عهدِ ما قبل الإسلام تحديداً: من جملة من المستويات، وتحت جملةٍ من الأشكال، وتحت طائفة من الزوايا، وعبر مختلف الرُّؤى والمواقف، وبمختلف الإجراءات والمناهج: انطلاقاً من أبي زيد القرشي، ومحمد بن سلاّم، ومروراً بالقرطاجنّي إِلى كمال أبي ديب، ومصطفى ناصف... ونحن نعتقد أنّ الذي لا يخوض في الظاهرة الشعريّة، العربيّة القديمة، من النقاد لا تكتمل أدواتُه، ولا تَنْفُقُ بضاعتُه من العلم، ولا يقوم له وجه من المعرفة الرصينة، ولا يذيع له صيت في نوادي الأدب؛ ولا يستطيع، مع كلّ ذلك، أو أثناء كلّ ذلك، أن يزعم للناس من قرائه أنه قادر على فهم الظاهرة الأدبيّة في أيّ عهد من العهود اللاّحقة، ما لَمْ يَعُجْ على هذه الأشعار يستنطقها استنطاقاً، ويقصّ آثارها، ويتسقّط أخبارها: فيعاشر أُولئِكَ الشعراءَ، ويقْعُدُ القُرْفُصَاءَ لِرُواتِهم، ويتلطّف مع أشباح أَرِئْيّائِهِمْ؛ ثمّ على الديار البالية، ويقترِئُ الأطلالَ الخالية؛ يتتبّع بَعَرَ الأَرْأمِ في العَرَصات، ويقف لدى الدِمَنِ المقفرات: يباكي الشعراء المدلّهين، ويتعذّب مع العشاق المدنّفين..(1/7)
ما لَمْ يأتِ الناقدُ العربيُّ المعاصر شيئاً من ذلك.... ما لم ينهض بهذه التجربة الممتعة الممرعة... ما لم يجتهدْ في أَن ينطلق من الجذور الأدبيّة... ما لم يُصْرِرْ على الاندفاع من أرومة الأدب، وينابيع الشعر العذريّة... ما لمْ يُقْدِمْ، إذن، على البّدءِ مما يجب البدء منه: يظلّ، أخرى اللّيالي، مفتقراً، في ثقافته النقديّة، وفي ممارسته الدرسية، وفي تمثّله الجماليّ أيضاً، إلى شيء ما.... هو هذا المفقود مما كان يجب أن يكون، في مسيرته الأدبيّة، موجوداً موفوراً...
ولعلّ بعض ذلك التمثّل الذي نتمثّل به هذا الأمر، هو الذي حَملَنا على الإقبال على هذا الشعر الجميل الأصيل، والعُذْريّ الأثيل، نغترف من منابعه، ونرتشف من مدافعه؛ بعد أن كنّا في أول كتاب لنا، أصْلاً، عُجْنا على بعض شعر امرئ القيس نقرؤه ونحلّله، بما كنّا نعتقد، يومئذ، أنّه قراءة وتحليل... ولكن لاَ سواءٌ ما كنّا جِئناهُ منذ زهاء ثلاثين سنة، وما نزمع على مجيئه اليوم...(1/8)
إنّ الاستهواءَ لا يكفي. فقد يَهْوى أحدُنا موضوعاً فيقبل عليه، بحبّ شديد، يعالجه.. ولكنه، مع ذلك، قد لا يبلغ منه ما كان يريد... وإذن، فهوايَتُنا هذا الشعرَ القديمَ ليست شفيعة لنا؛ ما لم نجدّد في سعينا، ونبتكر في قراءتنا، بعد أن كان تعاوَرَ على هذا الشعر الكبير مئات من النقاد والمؤرخين والدارسين، قديماً وحديثاً.... ولو جئنا نحصي من المحدثين، منذ عهد طه حسين فقط، من تناولوا هذا الشعر لألفينا عدَدَهم جمّاً، وسَوادَهم كُثْراً.... فما الذي غرَّنا بالخوض فيما خاضوا فيه، مع تغازُر العدد، وتوافر المدد، واعتياص الصّدد؟ فلعلّ الذي حَمَلنا على التجرّؤ، ودَفَعنا إلى التحفّز، مع ما نعلم من عدد السابقين لنا، هو الحريّة التي جعلها الله لنا حقاً؛ وهو، أيضاً، حبّ إبداء الرأي الذي جعله الله لنا باباً مفتوحاً، وسبباً ميسوراً، إلى يوم القيامة. وهو، بعد ذلك، ما نطمع فيه من القدرة على المسابقة والمنافسة، وما نشرئبّ إلى إضافته إلى قراءات الذين سبقونا. ولَوْلا أعْتِقادُنا بشيء من هذا التفرّد الشخصيّ في هذه القراءة التي ندّعي لها صفة الجدّة في كثير من مظاهرها ومساعيها؛ لما أعْنَتْنَا النفْسَ، وجاهدنا الوُكْد، في هذه الصحائف التي نَزْدَفُّها إلى قرائنا في المشرق وفي المغرب، وكلّنا طمع في أنها ستقدّم إليهم شيئاً مما لم تستطع القراءات السابقة تقديمَه إليهم، إن شاء الله....
ولمّا كان حرصُنا شديداً على ذلك، ورجاؤُنا شديداً في تحقيق ذلك- وبعد تدبّر وتفكّر- بدا لنا أن نجيء إلى بعض هذا الشعر العربي القديم، ممثّلاً في معلّقاته السبع العجيبات البديعات، فنقرأه قراءةً تركيبيّة الإجراء بحيث قد تنطلق من الإجراء الأنتروبولوجيّ، وتنتهي لدى الإجراء السيمائياتّي؛ إذا ما انصرف السعْيُ إلى النصّ. وتنطلق من الإجراء الشكّيّ العقلانّي، وتنتهي لدى استنتاج قائم على المساءلة أكثر مما هو قائم على الحكم والجواب.(1/9)
وقد اغتدى، الآن، واضحاً أننا نحاول، في هذه التجربة، المزاوَجَة بين الأنتروبولوجيا والسيمائيّة لدى التعرض للنص، والمزاوجة بين المعلومات التاريخيّة وافتراض الفروض، لدى غياب النصّ، وحين التعرّض للحياة العامّة لدى العرب قبل الإسلام. وليست هذه المزاوجة بين الأنتروبولوجية، وما اصطلح عليه أنا بـ "السِيمائيّةِ"، أمراً مُستَهجَناً في مَسارِ علم المنهجة. فقد كنّا ألفينا بعض الدارسين الغربيين، ومنهم كلود ليفي سطروس، كان يزاوج بين الأنتروبولوجيا والبنوية؛ وكما كان يزاوج لوى قولدمان أيضاً بين البِنويّة والاجتماعية....
ونحن لم نجئ ذلك لمجرد الرغبة العارمة في هذه المزاوجة التي قد يراها بعضهم أنها تمّت، أو تتّم، على كُرْهٍ، وربما على غير طهْر!... ولكنّنا جئناه، اعتقاداً منّا أنّ الانطلاق في تأويل الظاهرة الشعريّة القديمة من الموقف الأنتروبولوجيّ هو تأصيل لمنابت هذا الشعر، وهو قدرة على الكشف عن منابعه... وعلى الرغم من أنّ كتابات ظهرت، في العِقديْن الأخيرين من هذا القرن، حول بعض هذا الموضوع، وذلك كالحديث عن الأسطورة في الشعر الجاهليّ مثلاً؛ فإنّ التركيب بين الأنتروبولوجيا والسيمائيّة، في حدود ما بلغناه من العلم على الأقلّ، لم ينهض به أحد من قبلنا.(1/10)
ونحن إنما نُرْدفُ الأنتروبولوجيا السيمائيّة لاعتقادنا أنّ الأولى كَشَفٌ عن المنابت، وبحث في الجذور؛ وأنّ الأخراةَ تأويلٌ لمِرامِزِ تلك الجذور، وتحليل لمكامن من الجمال الفنّيّ، والدلالات الخفيّة، فيها. فلو اجتزأنا بالقراءة الأنتروبولوجيّة (والمفروض أنّ النسبة الصحيحة لهذا الاصطلاح تكون: "الأنتروبولوجويّة"، ولكننا ننبّه إليها، راهناً، دون استعمالها، حتى تألف اللغة العربيّة، العُلَمائيّة، هذا التمطّط الذي يُطيل منها...) وحدها لوقعنا في الفجاجة والنضوب. كما أننا لو اقتصرنا على القراءة السيمائياتيّة (ونحن نريد بهذه النسبة إلى قُصْرِ الإجراءات والممارسات التحليليّة على التطبيقات السيماءويّة...) وحدها، لما أَمنّا أن يُفْضِيَ ذلك إلى مجرّد تأويل للسطوح، وتفسير للأشكال، ووصف للظواهر، دون التولّج في أعماق الموالج، والتدرّج إلى أواخّي المنابت.
5-
وإنما فزِعْنا إلى هذه المقاربة الأنتروبولوجيّة- والمُرْدَفة أطواراً بالسيمائيّة- لأنّ النصوص الشعريّة التي نقرؤها قديمة؛ وأنها بحكم قدمها -أو جاهليّتها- تتعامل مع المعتقدات، والأساطير، والزجر، والكهانة، والقيافة، والحيوانات، والوشم، والمحلاّت (6)، وكلّ ما له صلة بالحياة البدائيّة، والعادات والتقاليد التي كانت تحلّ محل القوانين لدينا، لديهم... ونحن نعجب كيف لم يفكّر أحد من قبل في قراءة هذا الشعر، أو قراءة طرف من هذا الشعر على الأقلّ، بمقاربة أنتروبولوجيّة تحلّل ما فيه من بعض ما ذكرنا، أو من بعض ما لم نأت عليه ذكراً.. ذلك بأنّ أيّ قراءةٍ لهذه النصوص الأزليّة، أو المفترضة كذلك (عمرها الآن ستّة عشر قرناً على الأقلّ...)، لا تتخّذ لها هذه المقاربة ممارسة: قد لا نستطيع أن تبلغ من هذه النصوص الشعرية بعض ما تريد.(1/11)
وعلى أنّنا لا نودّ أن يَتَطالَل مُتَطالِلٌ فيزعَمُ، لنا أو للناس، أنّنا إنما نريد من خلال هذه القراءة، تحت زاوية المقاربة الأنتروبولوجيّة، وتحت زاوية المقاربة السيمائياتيّة أيضاً: أنْ نَسْتَبين مقاصد الشعراء.. فذاك أمر لم نرم إليه؛ وذاك ما لم يعد أحد من حذاق منظّري النصوص الأدبيّة ومحلّليها يعيره شيئاً كثيراً من العناية؛ ولكننا إنما نريد من خلال تبيان مقاصد تلك النصوص ذاتها، وكما هي، وكما رُوِيَتْ لنا؛ أو رُويَ بعضها ونُسِجَ بعضها الآخر على روح الرواية الأصليّة وشكلها؛ أي كما وصلتنا مدّونة في الأسفار...
ومن الواضح أن من حق القارئ- المحلِّل- أن يؤوّل النصّ المقروء على مقصديّة الناصّ، ولكن دون أن يدّعيّ أن تأويله يندرج ضمن حكم الصّحة؛ إذ لا يستطيع أن يبلغ تلك المرتبة من العلم إلا إذا لابس الناصّ، وألَمَّ إلماماً حقيقياً بأحداث التاريخ التي تلابس النص والناصّ معاً، وعايش لحظة إبداع النص، وتواجَدَ في مكانه، وساءل الناصّ شخصيّاً عمّا كان يقصد إليه من وراء نسج نصّه المطروح للقراءة... ولِمَ قال ذلك؟ ولِمَ وَصَفَ هذا؟ ولِمَ، لَمْ يَصِفْ هذا؟ ولم كثّف هنا، ولم يُسَطّحْ؟ ولِمَ أومأ ولمْ يصرّح؟ أو، لِمَ صرّح ولم يُلَمّح؟ وهذا أمر مستحيل التحقيق.. إنّ تأويل النص قراءة للتاريخ، ولابحثاً عن الحقيقة، ولا التماساً للواقع، كما تدّعي المدرسة الواقعيّة التي تزعم للناس، باطلاً، أنّ الأدب يصف المجتمع كما هو؛ وأنها هي تستطيع أن تفسّره كما قَصَدَ إليه صاحُبه...، ولا طلباً للمَعيشِ بالفعل... ولكنه إنشاء لعالم جديد يُنْسَجُ انطلاقاً من عالم النصّ من حيث هو نصّ؛ لا من حيث مَقْصِدِيّةُ الناصّ من حَيْثُ هو ناصٌّ.(1/12)
ولا سواءٌ تأويلٌ يكون منطلقُه من مَقْصِديَّة النصّ فيقرؤُه بحكم ما يرى مما توحي به القراءة؛ وتأويلٌ يكون منطلقه من مقصديّة الناصّ فيقرؤه على أساس أنّه يتناول حقيقة من الحقائق (ولا نريد أن ينصرف الوهم إلى معنى "الحقيقة" في اللغة القديمة، وقد استعملت في المعلّقات..)، ثمّ على أساس أنه يخوض في أمر التاريخ...
-6-
لكن لما ذا الضَرْبَ، أو المُضْطَرَبُ، في كلّ هذه المستويات لتأويل قراءة نصوص المعلّقات السبع؟ أَلأَنَّ الأمر ينصرف إلى النصّ الشعريّ، والنصّ صورةٌ إن شئت، ولكنه ليْسَها وحْدَها؛ وهو تَشاكُلٌ إن شئت، ولكنه ليسَهُ وحده؛ وهو لذّاتٌ فنيّة روحيّة إن شئت، ولكنه لَيْسَهُما وحدهما، وهو تجليات جماليّة إن شئت، ولكنه ليْسَها وحدها؛ وهو سمات لفظيّة إن شئت، ولكنه ليْسَها وَحْدَها؛ وهو لَعِبٌ باللغة إن شئت، ولكنه لَيْسَه وحده؛ وهو أسْلبَةٌ وتشكيل إن شئت، ولكنه ليسهما وحْدَهُما؛ وهو فضاء دلاليّ يتشكّل من الصوت وصَدى الصوت، والإيقاع وظِلّ الإيقاع، والمعنى ومعنى المعنى؛ فيحمل كلّ مقوّمات التبليغ في أسمى المستويات...؟ أم لأنّ الأمر ينصرف إلى غير كلِّ ذلك...؟
ولمّا كان الأمر كذلك، كان لا مناص، إذن، من قراءة النصّ الأدبي، بإجْرائِهِ في مستويات مختلفات أصلاً، لكنها، لدى منتهى الأمر، تُفْضي، مُجْتَمعةً، إلى تسليط الضياء على النصّ، وإلى جعل التأويلات المتأوّلة حَوَالَهُ بمثابة المصابيح المضيئة التي تزيح عن النص الظلام، وتكشف عن مغامضه اللّثام....
-7-(1/13)
وممّا لاحظناه في قراءاتنا للمعلّقات أنّ هناك إلحاحاً، كأنه مقصود -أو كأنه دأب مسلوك في تقاليد بنية القصيدة العربيّة؛ أو كأنّه إرثٌ موروث من الأزمنة الموغلة في القِدَم، فيها: على ذكر أماكن جغرافيّة بعينها؛ مما حمل ياقوت الحموي على أن يستشهد، كثيراً، بهذه الأشعار الواردِ فيها ذِكْرُ الأماكن، في اجتهادٍ منه لتحديد الأمكنة في شبه الجزيرة العربيّة، وطرفي العراق والشام. ويبدو أنّ بعض الأمكنة كان من الخمول والغُمورَةِ بحيث لم يكن يعرف إلاّ في ذلك الشعر المستشهد به، ولا يكاد في سَوائِهِ...
ويحمل هذا الأمر على الاعتقاد بأنّ شعراء الجاهليّة كثيراً من كانوا يظْعَنون من مكان إلى مكان آخر؛ كما أن الحبيبات اللواتي كانوا يتحدثون عنهنّ، أو يشبّبون بهنّ؛ كُنّ، هنّ أيضاً، بحكم اتسام تلك الحياة بالتّرحال المستمرّ، والتّظعانِ غير المنقطع، يتحملّن مع أهليهنّ... فكان، إذن، ذِكْرُ الأمكنة؛ من هذه المناظير، أمراً مُنتَظراً في أشعار أولئك الشعراء....
-8-
وقد لاحظنا وحدة المعجم اللغويّ في نسج لغة مطالع المعلّقات بخاصّة، والشعر الجاهليّ بعامّة، بحيث لم يكن الشاعر، على ذلك العهد، يرعوي في أن يسلخ بيتاً كاملاً من شعر سوائه -إلاّ لفظاً واحداً- كما جاء ذلك طرفة بالقياس إلى امرئ القيس... أمّا سَلْخُ الأعجاز أو الصدور فحدّث عنها ولا حرج. فقد كان الشاعر إمّا أن يتناصّ مع نفسه، كما نلفي ذلك في سيرة شعر امرئ القيس، عبر المعلّقة والمطوّلة، مثل:
*فعادى عداءً بين ثورٍ ونعجة (تكرر في المعلّقة والمطوّلة)،
*وجاد عليها كلّ أسحم هطّال. (تكررا مرتين اثنتين في المطوّلة)
*ألحّ عليها كلّ أسحم هطّال.
على أننا نؤثر أن لا نفصّل الحديث عن هذه المسالة هنا، لأننا اختصصناها بفصل مستقلّ في هذا الكتاب.
-9-(1/14)
كيف اختار شعراء المعلّقات، وسَواؤُهُمْ من غير شعراء المعلّقات من أهل الجاهليّة، استعمال الناقة في التّظعان إلى الحبيبة عِوَضاً عن الفَرَس؛ وبمَنْ فيهم امرؤ القيس الذي نلفيه يتحدث عن نحر ناقته للعذارى يوم دارة جلجل، ويعود إلى الحيّ، فيما تزعم الحكاية، رديفاً لفاطمة ابنة عمّه...؟ مع أنّ المسافة القصيرة التي كانت تقع بين الحيّ وغدير دارة جلجل يفترض أنها كانت قصيرة: فما منع امرأ القيس من اصطناع الفَرَس في تنقّله ذاك القصير؟ ولِمَ نلفي الفرسان والفُتّاكَ، مثل عنترة بن شداد، هو أيضاً، يتحدث عن ناقته، قبل أن يتحدث عن فرسه؟ فهل كان اصطناع الناقة في الأسفار دأباً مألوفاً لديهم لا يغادرونه، أم أنّ في الأمر سرّاً آخرَ؟ أم أنّ الخيل كانت عزيزة جداً لديهم، أثيرةً في نفوسهم؛ بحيث كانوا يَضِنّونَ بالارتفاق بها في الأسفار، ويذَرونَها مكرّمةً منعّمة للارتفاق بها في الحروب؟ بل لماذا كانوا يصطنعون جيادهم في الطرد، كما نلفي امرأ القيس يذكر ذلك بالقياس إلى جواده الذي يصفه بالعِتْقِ والكرم، وأنه كان سباقاً، وأنه يقيّد الأوابد..؟ فما بالُهُ حين اندسّ لِعَذارى دارة جلجل اصطنع الناقة وهي وئيدة السير، ثقيلة الخطو، مزعجة للتنقّل القريب، وهو الأمير الغنيّ الثريُّ:
فأين كان فرسه؟ وما منعه من اصطناعه، وقد كان يفترض أنه يظهر بمظهر الفارس المغامر، وليس أدلّ على الفروسيّة والرجوليّة شيء كركوب الخيل، وحمل السلاح، في منظور المرأة العربيّة على ذلك العهد..؟
-10-(1/15)
ولا يمكن قراءة أيّ قصيدة من الشعر الجاهليّ، بَلْهَ قراءة أشهرِ قصائده سيرورةً، وأكثرها لدى الناس رواية؛ وهي المعلّقات السبع، دون التعرض لمسألة النحل والعبث بنصوصها، والتزيّد على شعرائها، والتصرّف في مادة شعرها: لبعد الزمان، وفناء الرجال، وانعدام الكتاب، وضعف الذواكر، وتدخّل العصبيّة القبليّة، وطفوح الحميّة الجاهليّة، وطفور المذهبيّة السياسيّة: لدى جمع الشعر الجاهليّ بعد أن مضى عليه ما يقرب من ثلاثة قرون من الدهر الحافل بالفتن والمكتظّ بالأحداث، والمتضرّم بالحروب.
ولم يكن هناك شعر أدعى إلى أن يُتَزَيَدَ فيه، ويُدَسّ عليه؛ كشعر المعلّقات التي جمعها أحد أوْضَعِ الرواة للشعر، وأَجْرَئِهِمْ على العبث به؛ وهو حمّاد الراوية بعد أن كان مضى على قدم المعلّقات وجوداً ما يقرب من ثلاثة قرون. والآية على ذلك أننّا لاحظنا أبياتاً إسلامية الألفاظ، كثيرة وقليلة، في جملة من المعلّقات مثل معلّقات زهير، ولبيد، وعمرو بن كلثوم... ولنضرب لذلك مثلاً في هذا التمهيد بالأبيات الأربعة، والتي نطلق عليها "أبيات القِرْبة" والمعزوة إلى امرئ القيس في نصّ المعلّقة... فإنها، كما لاحظ ذلك بعض القدماء أنفسهم (7)، مدسوسة عليه؛ وكأنّ امرأ القيس استحال إلى مجرّد صعلوك متشرّد، وضارب في الأرض متذلّل، يحمل على ظهره القراب، ويعاشر في حياته الذئاب..
إننا لا نَقْبلُ بأن تُغْزَى تلك الأبيات الأربعة الصعاليكيّة:
وقربةِ أقوامٍ جَعلْتُ عِصامَها ... على كاهلٍ مِنّي ذَلول مُرَحّلِ
ووادٍ كجَوفِ العيرِ، قَفَرٍ، قطعتُه ... به الذئب يعوي كالخليع المُعَيّلِ(1/16)
إلى امرئ القيس، وذلك لعدم عيشه تلك التجربة، ولأنه كان موسراً غنيّاً، ولم يثبت قطّ أنه كان مضطراً إلى أن يحتمل القراب. بل لا نلفيه، في هذا الشعر يحتمل تلك القراب على ظهره فحسب، ولكنّا نلفيه متعوّداً على حملها، وإنما ذلك شأن الفقراء الصعاليك، وسيرة السفلة والمماليك... ثم لعدم حاجته أيضاً إلى أن يُخَاطِبَ السيَّد حين عوى في وجهه:
فقلت له لمّا عوى إِنّ شَأْننَا ... قليلُ الغِنَى إن كنت لَمَّا تَمَوّلِ
كِلانا إذا ما نال شيئاً أفاتَه ... ومن يحترثْ حرثي وحرَثكَ يهزل
ونحن لا نرتاب في أبيات القربة الأربعة فحسب، ولكننا نرتاب، أيضاً، في أبيات الليل الأربعة التي يصف فيها الليل، وأنه كموج البحر في عمقه وظلامه، وهوله وإبهامه، وذلك لبعض هذه الأسباب:
أوّلها: إنّ الأبيات الأربعة التي يزعم فيها الرواة الأقدمون- والرواة هنا مختصرون في شخص حمّاد الراوية وحده؛ إذ هو الذي جمع المعلّقات السبع وأغرى الناس بروايتها لما رأى من عزوفهم عن حفظ الشعر (8)- أنّ امرأ القيس يصف فيها الليل، هي أيضاً، لا تجاوز الأربعة، مَثَلُها مَثَلُ الأبيات الأربعة الأخراة التي شكّ فيها الأقدمون أنفسهم وعَزَوْها إلى تأبّط شرّاً (9)؛ ولذلك لم يتفقوا على إلحاقها بشعر امرئ القيس، على أساس أنها تخالف روح سيرة حياته لديهم.. وثانيها: إنّا وجدنا امرأ القيس حين يصف شيئاً يتولّج في تفاصيله، ويلحّ عليه بالوصف، بناء على ما وصلنا من الشعر الذي زعم الرواة الأقدمون أنه له: فنلفيه يصف حبيبته، وقل أن شئت حبيبتيْه- عنيزة أو فاطمة، وبيضة الخدر-، وقل أن شئت حبيباته إذا أدخلنا في الحسبان أمّ الحويرث، وجارتها أمّ الرباب، وعذارى دارة جلجل، وعنيزة، والحبالى، والمرضعات اللواتي كان طَرَقَ قبْلَها، أو قبَلَهنّ، وبيضة الخدر التي جاوز إليها الأحراس، وجازف بحياته من جلالها أمام من كانوا حِرَاصاً على قتله، وشداداً في معاملته.(1/17)
ولقد استغرق منه وصْفُ مغامراته ومعاهراته، مع هؤلاء النساء، سبعة وثلاثين بيتاً ربما كانت أجمل ما في معلّقته. ومن أجمل ما قيل في الشعر العربيّ على وجه الإطلاق. فكأنّها الشعر الكامل. وكأنها السحر المكتوب. وكأنّها الشَّهْدُ المشتار. وكأنّها النص الأدبيّ الكامل: تشبيهاً، ونسجاً، وأسلبةً، وصورةً، وابتكاراً، وجمالاً..
على حين أنّنا ألفينا وصف الفرس يمتدّ في شعره على مدى ثمانية عشر بيتاً. وربما كان وصف الفرس لديه أجمل وصف قيل، هو أيضاً، في هذا الحيوان الجميل الأنيق، في الشعر العربيّ إطلاقاً.. بينما استغرق وصف المطر في معلّقته اثني عشر بيتاً. فما معنى، إذن، أن تستغرق هذه المواضيع الثلاثة، كلّ هذه الأحياز عبر المعلقة المَرْقِسيّةِ، وتمتدّ على كلّ هذه الأَفْضَاءِ، ويَقْصُرُ وصفُ الليل، وحده، فلا يجاوز أربعة أبيات، كما يقتصر وصف القربة، وقطع الوادي الأجوف ليلاً، ومخاطبة الذئب، على أربعة أبيات، فقط أيضاً، ولِمَ كان الملك الضليّل طويل النفس في بعض، وقصيَره في بعضٍ آخرَ؟
وآخرها: إنّ وحدة القصيدة تأبى أن يُقْحَمْ وصْفُ الليل: وأنه موقر بالهُمُوم، مُثْقَلٌ بالخطوب؛ وأنه كان يبتليه بما لا يقال، ويضربه بما لا يتصوّر: بين وصف الحبيبات الجميلات، وذكر الملذّات الرطيبات، ووصف الفرس الذي لم يركَبْه امرَؤُ القيس للذاته يوم دارة جلجل؛ ولكنه امتطي مطيّته التي نحرها للحسان، فيما تزعم تلك الحكاية العجيبة.... فما معنى، إذن، ذكر الهموم والأتراح بين التشبيب والطرد؛ بين لذّات الحبّ، ولذّات الصيد؟
-11-(1/18)
كان أستاذنا الدكتور نجيب محمد البهبيتي حَكَمَ- كما سنناقشه في المقالة التي وقفناها على متابعة المرأة، بما هي أنثى، في المعلّقاتُ السبع، ضمن هذا الكتاب- برمزيّة المرأة، وبرمزيّة أسماء النساء في الشعر الجاهليّ (10) الذي المعلّقاتُ واسَطِةُ عِقْدِهِ. بينما ألفينا الدكتور علي البطل يعلّل الأسماء في الجاهليّة تعليلا ً معتقداتيّاً (11)؛ بينما نجد أبا عثمان الجاحظ يذهب إلى غير ذلك سبيلا؛ فيرى أنّ ذلك لم يكن مرجعه إلى معتقدات دينيّة خالصة، ولكن إلى معتقداتية خرافية حميمة. وكانوا يأتون ذلك على سبيل التفاؤل والتبرّك، وخصوصاً لدى تبشيرهم بميلاد الذكور. فكان الرجل منهم "إذا ولد له ذكر خرج يتعرّض لزجر الطير والفأل، فإن سمع إنساناً يقول حجراً، أو رأى حجراً سمّى ابنه به، وتفاءل فيه الشدّة والصلابة، والبقاء والصبر، وأنه يحطم ما لقي. وكذلك إن سمع إنساناً يقول ذئباً، أو رأى ذئباً، تأوّل فيه الفطنة والخبّ، والمكر والكسب. وإن كان حماراً تأوّل فيه طول العمر والوقاحة، والقوة والجلَد. وإن كان كلباً تأوّل فيه الحراسة واليقظة وبعد الصيت، والكسب، وغير ذلك (....).. ووجدناهم (...) يسمّون بقمر، وشمس، على جهة اللقب، أو على جهة المديح..." (12).
وممّا يقرّر الجاحظ حول هذه المسألة أنّ العرب كانت تفزع إلى مثل هذه الأسامي على سبيل التفاؤل، لا على سبيل المعتقدات التي يحاول بعض الباحثين المعاصرين تأوّلها (13)، وبرهاناتُهمْ على ذلك أدنى الوَهَن منها إلى الآد، وحججهم في ذلك أقرب إلى الضعف منها إلى القوة. ذلك بأنّ نصوصهم، في سعيهم، لا تكاد تذكر مع مثل هذه النصوص التي تتجسّد في مثل كلام الجاحظ، إذ ممّا يقرره أنه إذا: "صار حمار، أو ثورٌ، أو كلبٌ: اسمَ رجلٍٍ مُعظّم، تتابعت عليه العربُ تطير إليه، ثمّ يكثر ذلك في ولده خاصة بعده" (14).(1/19)
وواضح أنّ هذا الأمر، في التسمية، لا يبرح قائماً إلى يومنا هذا؛ فما هو إلاّ أن يشتهر زعيم من الزعماء، أو سياسيّ من الساسة، أو بطل من الأبطال، أو مصلح من المصلحين، أو مغنّ من المغنّين، أوعالم من العلماء، أو أديب من الأدباء.... وإذا الناس يتهافتون على اسمه يسمّون به أولاهم: تبركاً وتحبباً، وتفاؤلاً وتشبّهاً.
ولا يرى الجاحظ أنّ العرب إنما كانت تسمّي أولادها بمثل قمر وشمس على سبيل المعتقد بهذين الكوكبين الاثنين، أو على أساس أنّ العرب كانت تعبدهما وتقدّسهما، ولكنّ ذلك كان منها "على جهة اللقب، أو على جهة المديح"(15).
-12-
وعلى أننّا لا نريد أن يعتقد معتقد أنّا نرفض الترسبّات الدينيّة، الوثنية خصوصاً، والسحريّة، والمعتقداتية في الشعر الجاهليّ، كلّه أو بعضه؛ ولكن ما لانريد أن يعتقده معتقد هو أنّنا لا نميل إلى هذا التحمس، وهذا التحفز؛ وإلى الذهاب، بأيّ ثمن، إلى ذلك التعليل الأسطوري للصورة الشعريّة، وللوقائع، وللّغة... فقد كان الأعراب أغلظ أكباداً، وأحرص على التعامل في حياتهم اليوميّة بواقعها الشظف، ورتابتها المحسوسة، مع المادّة - من أن يقعوا فيما يريد أن يوقعهم فيه، على سبيل الإرغام، بعضُ الناقدين المعاصرين، وذلك بالذهاب إلى أنّ كلّ ما هو شمس أو قمر، أو ثوراً وبقر، أو عيراً وظبي، أو نمر أوكلب، أو ثعلب أو عجل، أو ليث أو ضبّ- ممّا كانوا يقدسونه فيما غَبَر من الأزمان، ومر من الدهْرِ الدَّهارير: لم يكن يدلّ بالضرورة على التمسّك تمسّكاً دينيّاً أو روحيّاً بتلك المعتقدات الوثنيّة؛ وإلاّ فماذا سيقال في النباتات والأشجار، والسحب والأمطار، والرمال والأنهار...؟(1/20)
وإنما كانوا يسمّون أبناءهم بما كانوا يرون في بيئتهم البدويّة الشظفة: أنّه هو الأيّدُ الأقوى، أو الأشدّ الأبقى: سواء في ذلك الشجر والحجر؛ وسواء في ذلك الحيوان والهوامّ. على حين أنهم كا نوا يُؤْثِرونَ لعبيدهم الأسماء الجميلة الأنيقة اللطيفة مثل صبيح، ورباح.... ذلك بأنّ الأسماء التي تُرْعِبُ وتُخيف كانوا يرون بأنها قَمَنٌ بأن تُفْزِعَ يوم الوغى، وتُرْهِبَ في مآقِطِ النِزال، بالإضافة إلى ما كانوا يريدون أن يميلوا إليه من التفاؤل بالشيء لمجرّد منوحه لهم (16).
-13-
وممّا لا نوافق الدكتور البطل علىالذهاب إليه حول هذه المسألة حِرْصُه على الرجوع إلى أبعد الأزمنة إيغالاً في القدم، ثمّ إخضاع تلك الفترة إلى ما يطلق عليه "الفترة الطوطميّة" التي يحيل فيها قُرَّاءَه على الرجوع إلى الدكتور جواد عليّ الذي كان بسط هذه النظريّة الأنتروبولوجية بناء على تنظيرات مكلينان، وليس بناء على تنظيراته هو (17).
وإنما كان الأولى أن يحيل قراءه على الأصل الذي هو جون مكلينان الذي تعود محاولاته النظريّة إلى سنة تسع وستين وثمانمائة وألف للميلاد حيث كان نشر بعض المقالات التي نبّه فيها إلى ما أطلق عليه الطوطميّة (18). لكن لم يلبث أن جاء فرازر فنشر كتابه المؤلف من أربعة مجلدات انتقد فيها ماكلينان حيث اغتدت الطوطمية لديه: "مؤسسة ذات خصوصيّة من المعتقدات البدائية وهي تتناقض (....) مع التفكير الدينيّ، كما كان يريده وليم روبرتصون سميث، ومع التفكير العقليّ الذي كان يعتقد فرازر أنه كان الناطق باسمه، في آن واحد"(19).
وعلى أنّ الانتروبولوجيين انتقدوا انتقاداً شديداً تنظيرات فرازر، وفي طليعتهم الأسكندر قولد نويزر الذي رأى انّ إدراج ثلاث ظَواهِر في عِقْدٍ واحد من الزمن ضئيل العلميّة.. (20).(1/21)
وأياً كان الشأن؛ فإن الطوطمية في مفهومها الأدنى والأشهر،تعني وجود العبقرية الراعية (21) التي ينشأ عنها "الأنظمةُ الطوطمية" (22)، والتي حاول بعض العلماء تطبيقها على المجتمعات البدائية في استراليا، وأمريكا... ولكننا، نحن، لا نحسبها ممكنة الانطباق على المجتمع العربيّ قبل الإسلام، بحذافيرها...
إنّ هناك دعائِمَ أربعاً تنهض عليها هذه النزعة الأنتروبولوجية، ولا تَوْفُرُ في الأسامي العربية القديمة وفوراً كاملاً؛ لأن الجاحظ وهو الأعلم بعادات العرب وتقاليدها، والأقرب إليها عهداً، والأدنى منها زمناً، والألصق بها نَسَباً؛ لم يذكر أنّ العرب كانت تسميّ أبناءها بأسماء الحيوانات على سبيل التقديس والتبرك؛ ولكنّ ذلك كان "على جهة الفال" (23)، وعلى سبيل حفظ نسب الجدّ، "وعلى شكل اسم الأب، كالرجل يكون اسمه عمر فيسمّي ابنه عميراً.. " (24). والآية على عدم ثبات مزعم الذين يزعمون بطوطميّة الأسماء العربية على عهد ما قبل الإسلام أنّ العرب كانوا يتسمون "أيضاً بأسماء الجبال: فتسموا بأبان وسلمى"(25). بل أنهم قد "سمّوا بأسد، وليث، وأسامة، وضرغامة، وتركوا أن يسمّوا بسبع وسبعة.وسبع هو الاسم الجامع لكلّ ذي ناب ومخلب" (26).
إنّ من أصول الطوطميّة الأربعة تحريم أكل الحيوان المقدّس، والشجرة المباركة؛ بينما لم تكن العرب تتحرج في أكل أيّ من الحيوانات وثمر الأشجار التي كانت تسمّي بها أبناءها.
وواضح أنّ الزجر من المعتقدات العربيّة الحميمة التي لا نكاد نظفر بها في الفكر البدائيّ لدى الإغريق، وقدماء المصريّين، والبابليين، والكنعانيين على هذا النحو الذي وقعنا عليه في النصوص الأدبيّة والتاريخية العربيّة. فليس الزجر سحراً، ولا ديناً، ولا حتّى معتقداً حقيقياً، ولكنه نحو من السلوك قام في معتقداتهم فسلكوه..
وأمّا تقديس الثور فإننا نلفيه في بعض الأساطير الكنعانيّة، حيث "كان الثور هو الحيوان المقدّس"(27) لدى الكنعانيّين.(1/22)
وربما لم تعبد الشمس في شمال الجزيرة قطّ، لأنّنا لم نعثر على صنم من أصنامهم هناك كان يمثّل على الحقيقة التاريخية الدامغة، الشمس المعبودة التي عبدت في مأرب على عهد الملكة بلقيس، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم [28]. وما نراهم قد تسمّوا به من مثل عبد شمس لعله لم يك إلاّ أثراً شاحباً لذلك التوهج الوثنيّ القديم الذي محاه الزمن، ودرسه الدهر حيث أنّ بلقيساً كانت تعيش في القرنين، الحادي عشر، والعاشر قبل الميلاد.
"وقد كانت العرب- كما يقول ابن الكلبي- تسمّي بأسماء يعبّدونها؛ لا أدري أعبّدوها للأصنام، أم لا؛ منها "عبد ياليل" ، و "عبد غنم"، و "عبد كلال"، و "عبد رضى" (29).
ومن الغريب حقاً أنّ الأساطير تذكر أن الكنعانيين كانوا يقدسون الثور؛ وفي الوقت ذاته نلفي الإله "بعل" يذبح لشقيقته عناة "ثوراً ويشويه؛ فتأكل؛ ثم تغسل يديها بالندى والماء" (30).
إن هي، إذن، إلاّ أساطير في أساطير، والذي يحاول أن يستخلص منها علماً، أو يستنبط منها أحكاماً تاريخية، سيتورط في فخّ أسطوريتها فلا يفلح في بحثه، ولا يهتدي في أحكامه...
ويرى الدكتور البطل بأن العرب لم يكونوا، في الأزمنة الغابرة، "أصحاب حضارة زراعية يعتدّ بها (....) ولعل هذا هو سر اتجاههم إلى الشمس وهي أظهر ما في حياة الصحراء، خالعين عليها صفة الأمومة؛ فاعتبروها الربة، والآلهة الأم. ولعل هذا هو سر تأنيث الشمس في اللغة العربية على عكس اللغات التي ربطتها بإلهٍ ذكر"(31):
فالأولى: أن تأنيث الشمس، في اللغة العربية، لا حجة فيه على الأمومة، ولا على الإخصاب؛ لأن هناك أمماً أخراة ربما كانت تعبد الشمس، وهي، مع ذلك تذكّرها، فالتذكير والتأنيث، في اللغة، لا ينبغي له أن يخضع، في كل الأطوار، للمعايير التي يبني عليها الدكتور البطل حكمه.(1/23)
والثانية: أن الماء من الأمور التي لفتت عناية الإنسان القديم، ومع ذلك نلفي الماء مذكّراً، في اللغة العربية، وهو رمز للإخصاب، أكثر بكثير من الشمس (وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ) (32): حتى أن ملك الروم كان بعث إلى معاوية بقارورة وقال له: "ابعث إليّ فيها من كل شيء" (33)، فملأها له ماء. فقال ملك الروم لما وردت عليه: "للّه أبوه ما أدهاه" (34)؛ وذلك على أساس أن اللّه جعل في الماء كل شيء... وإن كنا نلفي هذا الماء مؤنثاً في كثير من اللغات الأخراة كالفرنسية، والإنجليزية، والإسبانية...
والثالثة: أن العرب لم تكن تؤنث الأشياء والظواهر للتعظيم والتقدير، في كل الأطوار؛ ولذلك قال أبو الطيب المتنبي:
ولو كان النساء كَمَنْ فقدَنْا ... لفُضِّلَتْ النساءُ على الرجالِ
وما التأنيثُ لاُسْمِ الشمسِ عَيْبٌ ... ولا التذكيرُ فخْرٌ لِلْهلالِ (35)
... ... وقد خاطب الله الكفار حين جعلوا له بناتٍ (أفرأيتُمُ اللاَّتَ والعُزَّى، ومَنَاةَ الثالثةَ الأُخْرى. ألَكُمُ الذّكَرُ وله الأُنُثَى؟ تلك إِذَنْ قِسْمَةٌ ضِيزَى" (36).
والرابعة: إنّ المشركين حين اتخذوا اللاّت يعبدونها من دون الله في الطائف وما والاها إنما "اشتّقّوا اسمها من اسم الله، فقالوا: اللاّتَ، يعنون مؤنّثة منه، تعالى الله عن قولهم علوّا كبيرا"(37). ويؤيّد ذلك ما ذهب إليه الزمخشري في تفسير بعض هذه الآيات حين قرر:
... ... "إنّ اللاّت والعزّى ومناة: إناثٌ، وقد جعلتموهنّ لله شركاء، وما شأنكم أن تحتقروا الإناث وتستنكفوا من أن يُولدْنَ لكم، ويُنْسَبْنَ إليكم: فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أنداداً لله وتسمّونهنّ آلهة؟" (38).
... ... وإذن، فلا يمكن أن يكون التأنيث للشمس تفخيماً لها وتعظيماً ، ولا تقديراً لها وتقديساً. ولو كانوا أرادوا إلى ما أراد إليه الدكتور البطل، وبناء على بعض ما رأينا من أمر هذه الآيات الكريمات، وما استنبطنا من تفسيرها: لكانوا، في رأينا، ذكّروها، لا أنّثوها.(1/24)
... ... فقد سقطت، إذن، تلك الحجة؛ ووهن: إذن، ذلك البرهان.
والخامسة: إنّا لا نعتقد أنه كان للمرأة العربيّة، على عهد ما قبل الإسلام، مكانةٌ محترمة، ومنزلة اجتماعية تتبوّؤُها إزاء الرجل الذي يطلّقها لأوهى الأسباب، وكان يطلبها للفراش لا للعِشْرة؛ فلمجرّد أن حكمت أمّ جندب لعلقمة الفحل على أمرئ القيس بادَرَ إلى تطليقها (39).
والسادسة: وأمّا مسألة عبادة الأرض، وأنّ المجتمعات الزراعيّة العتيقة "عبدت الأرض بوصفها أماً" (40)؛ فإنّ الإنسان البدائيّ عبد الأحجار، والأشجار، والشمس والقمر، والأرض والسماء، والحيوانات، والريح، وكل، مظاهر الطبيعة... فلا حجّة فيه على أنّ ذلك باقٍ في الصورة الشعريّة لما قبل الإسلام. فصنم "اللاّت" بينما يزعم بعض المفسريّن (41) أنه مؤّنث الله في لغتهم ومعتقداتهم جميعاً؛ كان الآخرون من المفسرين يرون أنّ اللاّت "كان(....) رجلاً يَلُتُّ السُّويْقَ، سويق الحجّ" (42). كما روى "عن ابن عباس، ومجاهد، والربيع بن أنس، أنهم قرأوا "اللاّت" بتشديد التاء وفسّروه بأنّه كان رجلاً يلتّ للحجيج في الجاهلية السويق، فلمّا مات عكفوا على قبره، فعبدوه "(43). فالمعبودات لم يكنَّ نساءً فحسب؛ ولكنْ كُنَّ رجالاً أساساً. بل إنّا أصنام العرب يغلب عليها التذكير أكثر من التأنيث.(1/25)
والسابعة: وأمّا اعتبار العرب أنهم ليسوا "أصحاب حضارة رزاعيّة يعتدّ بها "فإنا لا ندري كيف يمكن تناسي اليمن السعيد، وهو مهد العروبة، ومحْتِدُها الأوّل، وما كان فيه من زراعة نوّه بها القرآن (44)؛ وحيث كان سدّ مأرب العظيم قبل أن ينفجر؛ وحيث الجنتان عن يمين وشمال؛ وحيث البلدةُ الطيبة، والتربة الخصبة؛ وحيث الربُّ الكريم الغفور، وحيث كانت المرأة اليمنيّة "تمشي تحت الأشجار، وعلى رأسها مكتل أو زنبيل، وهو الذي تخترف فيه الثمار، فيتساقط من الأشجار في ذلك ما يملؤه من غير أن يُحْتاج إلى كلفة ولا قطاف؛ لكثرته ونضجه واستوائه" (45)؛ وحيث، كما يقرر ابن عباس كانت بلاد اليمن "أخصب البلاد وأطيبها: تخرج المرأة وعلى رأسها المكتل فتعمل بيديها وتسير بين الشجر، فيمتلئ المكتل بما يتساقط فيه من الثمر" (46).
أم لم يكن اليمن عربيَّ الأرض، عريق العروبة؟ أم لم يُبْنَ فيه أوَّلُ سدٍّ في تاريخ الزراعة على وجه الاطلاق؟ وإذن فكيف يمكن تَجْريدهمُ ممَّا هو ثابت لهم بالأخبار المتراوية، والآثار المتتالية، والوحي المنزّل، والتاريخ المفصّل؟(1/26)
ومن الغبن العلميّ أن يحاول محاول بناء مسألة على هواء، وإقامتها على فراغ، بعد أن تستهويه استهواء، وبعد أن تشدّه إليه شدّاً؛ فيجتهد في أن يجعل من الحبّة قبّة، ومن القليل كثيراً، ومن العدم وجوداً.... وقد أحسسنا بشيء من ذلك ونحن نقرأ الدكتور البطل وهو يشقّ على نفسه، ويُعْنتُها ويُضْنيها، لإثبات ما لا يمكن إثباته باليقين الدامغ، والتاريخ الناطق، فيُحسُّ ببعض الخيبة في قرارة نفسه، فيقرر: "و لانقصد بهذا أنّ شعر هذه المرحلة المتأخّرة من تاريخ العرب، يحمل لنا في صورة الدين البدائيّ القديم، فقد كانت كثرة هذه الطقوس قد درست ولم يبق منها إلاّ آثار باهتة حتّى في الممارسات الدينيّة؛ ولكننا نرى أنّ الصور المتّرسبة في الشعر من الدين القديم هي من آثار احتذاء الشعراء لنماذج فنيّة سابقة، لم تصلنا، كانت وثيقة الصلة بهذا الدين..." (47).(1/27)
ونحن نوافق الدكتور البطل على بعض ما أثبتناه له هنا لأنه عين الحقّ، وخصوصاً قوله: "فقد كانت كثرة هذه الطقوس قد درست ولم يبق منها إلاّ آثار باهتة حتّى في الممارسات الدينيّة. وهو عين الحق؛ لأنّ التاريخ العربيّ القديم دَرَسَ وباد، ولم يعد يُرْوى ولا يُعاد: فقد بادت طسم، وجديس، وجرهم، والعماليق، وعاد، وثمود... فمنهم من تفانوا فيما بينهم في حروب مدّمرة لم تُبْقِ منهم ديَّاراً، ولا تركت لهم آثاراً؛ ومنهم من سلّط الله عليهم العواصف الهوجاء، والأمطار الطوفانيّة فأبادتهم؛ ومنهم من فنوا بتهدّم سدّ مارب(سيل العرم)، فلم يصلنا مما قالوا إلاّ أقلّة، ولم يبق للتاريخ من معتقداتهم القديمة، ومعقتدانهم الوثنية، إلاّ مظاهر شاحبة لا تسمن من جوع، ولا تروى من ظمأٍ؛ فألفينا الأقدمين يفزعون لملء الفراغ التاريخيّ الهائل إلى أساطير التوراة، وأكاذيب يهود... بينما ألفينا المحدثين يصطنعون افتراض الفروض طوراً، ويفزعون إلى الاحترافيّة الفكريّة، واصطناع الإجراءات التأويليّة طوراً آخر: من أجل التوصّل إلى نتائج يقيمونها، في كثير من أطوارهم، على افتراضات تنقصها الشروط المنهجيّة لفرض الفروض، أو على نصوص واهِيَة التاريخيَّةِ. وفي الحاليْن الاثنتَين لا نجد من يقنعنا في غياب النصوص التاريخيّة التي لم تكتب عن العرب قبل ظهور الإسلام، إذ لم يسرع الناس في التأليف، وجمع الأخبار بكيفيّة مستفيضة إلاّ ابتداء من القرن الثاني للهجرة....(1/28)
وحين جاؤوا يكتبون تاريخ العرب: الأيام، والشعر، واللغة، والأديان: تكأَّدَهُمْ ذهابُ الذين كانوا يحملون هذا الشعر، وتلك الأخبار. ولقد سُقِطَ في أيدي بعض القبائل التي ضاع شعر شعرائها، أو لم يكن لها، في الأصل، إلاّ شعراً قليل، فعَمَدتْ إلى النحل... كما صادف الرواة المحترفون في تعطّش الناس لأخبار أهل الجاهليّة مصدراً للرزق الكريم، ومنزلة للعز المنيع؛ فكان حمّاد الراوية يعيث في الشعر العربيّ فساداً على مرأىً ومسمع من العلماء الذين قصروا عن إصلاح أمره... وإذا عجزوا هم عن إصلاحه، وكان الزمن الجاهليّ لا يبرح طرياً رطباً، فمن المستحيل علينا نحن اليوم إصلاحه... (48).
ولم يكن الأصمعيّ الثقة العالم بقادر على إصلاح ما كان أفسده أستاذه خلف الأحمر الذي لازمه عشْرَ سنين؛ مثله مثل أبي عمرو بن العلاء العالم الثقة المتحرّج الذي كان يتردد ويتألّم ويتحرج، لأنه كان يعلم أنّ ما انتهى إلينا مما قالت العرب إلاّ أقّلُّهُ، ولو جاءنا وافراً لجاءنا "علم وشعر كثير" (49).
-14-
والذي يعنينا في كلّ ما أوردناه في الفقرة السابقة، وما ناقشنا به الصديق الدكتور عليّ البطل، أنّ تعليل التسميّة تعليلاً دينيًاً ليس أمراً مسلمّاً. ومن الأولى التفكير في تعليلها تعليلاً يقوم على التفاؤل والتبرّك، كما قرر ذلك أبو عثمان الجاحظ.(1/29)
ذلك، وأنّا عايشنا هذه المعلّقات السبع العِجَابَ أكثر من سنتين اثنتين: ظَلْنَا، خلالَهُما، نقرؤُها، ونعيد قراءتها، حتّى تجمّع لدينا مقدارٌ صالح من الموادّ ممّا لو جئنا نحلّله كلّه لكان هذا العمل خرج في مجلّدين اثنين على الأقلّ؛ بالإضافة إلى الموادّ الأخراة الكثيرة التي ينصرف شأنها إلى الشعر الجاهليّ بعامّة، والتي قد نعود إليها يوماً لبلورتها، وإخراجها للناس. ولغزارة المادّة المصنَّفة، والمنبثقة عن قراءات نصوص المعلّقات السبع، ورغبة منّا في أن لا يكون الكتاب الذي نقدَّم بين أيدي الناس أضخم ممّا يجب، وأطول ممّا ينبغي: ونحن نحيا عصر السرعة، والميل إلى القليل المفيد: ارتأينا أن لا يزيد تقديمها على أكثر من عشر مقالات كلّ مقالة تعالج مستوىً بذاته، أو محوراً بعينه: مثل إثنولوجيّة المعلّقات، وبنية الطلليات المعلّقاتيّة، وفكرة التناص في المعلّقات، والصناعات والحرف، وطقوس الماء، والمرأة، وجماليّة الإيقاع، وجماليّة الحيز... وهلّم جرّا.
ذلك، وأنّا كنّا أزمعنا على تقديم فهارس تتناول من الحقول ذات العلاقة بالأنتروبولوجيا، لدى نهاية هذه الدراسة: ترصد بعض الظواهر التي لم نتمكّن من بلورتها، أو تحليلها في ثنايا هذه الدراسة مثل الألفاظ الدالّة على الزراعة، والزينة (أي الملابس والعطور والحليّ)، والألوان، والأديان، والمعتقدات، والألعاب... ثمّ أضربنا عن ذلك لمّا رأينا حجم الكتاب طال، وموادّه اتّسعت... -ولعلّنا أن نأتي ذلك في الطبعة الثانية إن شاء الله....
فعسى أن نكون قد وفّقنا إلى إضافة لبنة صغيرة، جديدة، إلى ذلك الصرح الأدبيّ الشامخ.
( إحالات وتعليقات
1- elisabeth copet- Rougir, in encyclopaedia uiversalis, anthropologie, t.2 p. 239.
2- a.lalande, dictionnaire de phzosophie, p. 62.
3- E.C. Rougir, op. cit.
4- Ibid.(1/30)
6- المُحِلَّتَانِ، لدى قدماء العرب: القِدْر والرَّحى. ومن كان معه المحلّتان فقد احتاج إلى الجوار ليستعير المرتفقات الأخراةَ. ولكن من كان معه "المُحِلاّت، وهي القدر، والرحى، والدلو، والقربة، والجفنة، والسكّين، والفأس، والزند (وهو المِقْدَحَة بلغة الجاحظ، البيان والتبيين: (40.3) لا يضطر إلى الجوار.
... قال الشاعر (ويبدو أنه جاهليٌّ قديم):
لا يَعْدِلَنَّ أَتَاوِيُّوَن تَضْرِبُهُمْ ... نَكْبَاءُ صِرٌّ بِأَصْحَابِ المُحِلاَّتِ
... (والأتاويّون: الغرباء، أي لا يعدلنَّ أتاويُّون أحداً بأصحاب المُحِلاَّت).
... يراجع: الجاحظ، البيان والتبيين، 3-40 وابن منظور، لسان العرب، حلل.
7- الزوزني، شرح المعلّقات السبع، ص -28 .
8- أبو الفرج، الأغاني، 2-206 ؛ ياقوت الحموي؛ معجم الأدباء، 4-140 (وقد نقل الاثنان عن أبي جعفر النحاس، شرح القصائد التسع المشهورات).
9- الزوزني، م.م.س.؛ عبد القادر بن عمر البغداديّ، خزانة الأدب، ولبّ لباب لسان العرب، تحقيق ع. هارون، 1-134 .
10- يراجع كتابه: تاريخ الشعر الجاهليّ حتى آخر القرن الثالث الهجريّ.
11- يراجع كتابه: الصورة في الشعر العربيّ حتّى آخر القرن الثاني الهجريّ: دراسة في أصولها وتطورها، دار الأندلس، بيروت، 1993.
12- الجاحظ، الحيوان، 1-324-327.
13- على البطل، م.م.س، ص. 47.
14- الجاحظ، م.م.س، 1-326.
15- م.س، 1-327.
16- م.س.
17- م.س.، 1-55.
18- Daniel de coppet,Txotem et Totemisme, in Encyclopaedia universalis, t. 18, p. 140.
19- Ibid.
20- id.
21- A.lalande, op. cit., p. 1139.
22- Daniel de coppet, op. cit.
23- الجاحظ، م.م.س، 1-326.
24- م.س، 1-326-327.
25- م.س، 1-326.
26- حسن الباش، الميثولوجيا الكنعانيّة والاغتصاب التوراتيّ، ص 60.
27- القرآن، سورة النمل، الآية: 24.
28- البغدادي، م.م.س.، 1-35، بولاق. ابن الكلبي، كتاب الأصنام، ص.30.
29- حسن الباش، م.م.س.(1/31)
30- علي البطل، م.م.س.
31- سورة الأنبياء، الآية: 30.
32- أبو العباس المبرّد، الكامل في اللغة والأدب، 1-308.
33- م.س.
34- ديوان أبي الطيب المتنبي، شرح البرقوقي، 3-149.
35- سورة النجم، الآيات: 19-22.
36- ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، 6-453.
37- الزمخشري، الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل، وعيون الأقاويل، في وجوه التأويل، 4-423.
38- المرزياني، الموشّح، ص. 28-29؛ ابن قتيبة، الشعر والشعراء، 1-145-146.
39- عليّ البطل، م.م.س.، ص 55.
40- ابن كثير، م.م.س.
41-م.س.
42-م.س.
43-سورة سبأ، الآيات: 15-17.
44- ابن كثير، م.م.س.، 6-541.
45- الزمخشري، م.م.س.، 3-575.
46- علي البطل، م.م.س.، ص. 57.
47- ابن جنّي، الخصائص، 1-386؛ ابن سلاّم الجمحي، طبقات فحول الشعراء،
1-25 و 46.
48- م.س، 1-25.
((
1- إثنولوجيّة المعلّقات
أولاً: إثنولوجيّة المعلّقاتيّين:
1- الانتماء القبليّ لاُمْرِئْ القيس:
على الرغم من أنّ القحطانيّين يجسّدون أصل العروبة وجُرثومَتَها، ومهدها وأرومتها؛ وأنّهم يشكّلون ما يطلق عليه النسّابون العرب: "العرب العاربة"، فإنما حين نعدّ شعراء المعلّقات لا نلفي منهم إلاّ شاعراً واحداً- من بين السبعة- قحطانيّاً، وهو امرؤ القيس (وهو لقب له، واسمه فيما يزعم بعض اللغوّيّين: حُنْدُج (بضم الحاء المهملة، وسكون النون)، وهو في اللغة: الرملة الطّيبة، أو الكثيب من الرمل يكون أصغر من النّقا) (1) بن حُجْر بن عمرو بن الحارث بن حجر آكِل المُرَارِ (2) بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن ثور بن كندة (3) الذي ينتهي نسبه الأعلى إلى كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قطحان(4).(1/32)
وليس نسب امرئ القيس، من جهة أمّه، أقلّ مجداً، ولا أدنى شرفاً، من مجد أبيه. بل ربما كان أعلى وأنبل، وأسمى وآثَل؛ ذلك بأنّ أمّه هي فاطمة بنت ربيعة بن الحارث بن زهير، وهي أخت كليب وائل الذي تضرب العرب به المثل في العزّ والمنعة، فقالت: "أعزّ من كليب وائل"، والذي بمقتله أضطرمت الحروب الطاحنة بين قبيلتي بكر وتغلب دهوراً طِوالاً (5). فكليب خال امرئ القيس، إذن، مَثَلُه مَثَلُ مهلهل بن ربيعة الذي يعدّ أوّل "من قصّد القصائد، وذكر الوقائع" (6)، وأوّل من هلهل الشعر.
ونعتقد أنّ امرأ القيس قد يكون تأثّر بخاله مهلهل الذي يبدو أنه كان مؤسّساً لبنية القصيدة العربيّة. ولكنّ ابن الأخت أخْمَلَ خاله، أو كاد يُخْمِله؛ وهو، على كلّ حال، لا يذكر إلاّ أنه أوّل من قصّد القصائد في رثاء أخيه كليب؛ بينما يذكر امرؤ القيس على أنّه أمير الشعراء العرب على وجه الإطلاق... وكثيراً ما يتفوّق التلميذ على أستاذه، ويشمخ النجل على من نَجَلَه.
ويبدو أنّ قباذ ملك الفرس هو الذي كان "ملّك الحارث بن عمرو جدّ امرئ القيس على العرب" (7).
على حين أنّ أهل اليمن يزعمون أنّ ملّك جدّ امرئ القيس لم يكن قباذ الفارسيّ، ولكنّه كان تبّعاً الأخير.
ثمّ لم تلبث بنو أسد أن ملّكت حجر بن عمرو، أبا امرئ القيس، عليها. ويبدو أنّ سيرته ساءت فيهم فثاروا عليه، ولم يلبثوا أن تطاولوا عليه وقتلوه في فتنة رهيبة (8). وزعم ابن الكلبي أنّ الذي كان سبباً في اضطرام تلك الفتنة رفْض بني أسد دفع الإتاوة السنويّة للملك (9).(1/33)
ومن مقتل حجر تبتدئ مأساة امرئ القيس، الشاعر الحساس، والابن الأصغر لأبيه الذي تزعم الأخبار التي نرتاب فيها أنه كان أمر بقتله صغيراً حين رفض التخليّ عن قيل الشعر، ثم طرده فعاش متشرّداً بين القبائل (10). وقد حاول أن يثأر الشاعر لأبيه من بني أسد، فاستعدى عليهم ذا جدن الحميريّ الذي أمدّه بجيش طارد به قتلة أبيه، وفتك بهم فتكاً ذريعاً. ولكنه كان، كأنّه، يريد إبادتهم عن آخرهم؛ فلم يرْضَ بمنْ قُتلَ منهم، وظلّ يتنقّل بين جبلي طيئ في انتظار جمع الرجال وحشدهم لمحاربة من بقي من بني أسد... ولكنه حين يئس من تحقيق ذلك قرر الاستنجاد بقيصر الروم الذي أمدّه بجيش، فيما تزعم بعض الروايات، ثمّ ندم على ذلك إمّاً مخافة أن يغزوه امرؤ القيس إذا انتصر على أعدائه، وقَوِيَتْ شوكتهُ، وإمّا انتقاماً لشرف ابنته التي يقال إنها أحبّت امرأ القيس...
فأرسل إليه حلّة مسمومة وهو في سبيله إلى بلاد العرب، فتساقط جِلْدُه لمّا ارتداها..(11).
ولقد حاول حمّاد الراوية أن يضفي صبغة أسطوريّة على طفولة امرئ القيس، كما سبقت الإيماءة إلى ذلك، مثله في ذلك مثل ابن الكلبي (12)، ومثل ابن الكلبي في ذلك مثل أبي زيْدٍ القرشيّ (13)، حيث إنّ أبا زيد، خصوصاً، أورد أسجاعاً تسجّل مبتدأ تفتّق العبقريّة الشعريّة لأُمرئ القيس، وتصف أيام كان أبوه حُجْر كلّفه خلالها برعي الإبل، ثمّ برعي الخيل، ثم برعي الشاة؛ فكان في كلّ يوم يرسل أسجاعاً يصف فيها تجربته الرعويّة، فيئس منه أبوه وطرده...
وعلى الرغم من أننا اختصرنا حياة امرئ القيس اختصاراً شديداً- لأنّ أخباره مدوّنة في مظانّها- فإن الذي يعنينا، من كلّ ذلك، هو قبيلته التي لاقت عناء وعقوقاً من بني أسد. ويبدو أن الملك حجراً لم يكن يستمدّ قوته من كبر عشيرته التي لم تصنع شيئاً حين تعرّض للقتل:(1/34)
1- ... إنّ قبيلة بني أسد رفضت دفع الإتاوة لحجر أبي الشاعر، فلما حاول إرغامهم على ذلك ما لبثوا أن تطاللوَا على مَقْتَلِه.
2- ... أنّ امرأ القيس أُريد لحياته أن تتّسم بالأسطوريّة حين أبى عليه أبوه قول الشعر، ومغازلة النساء؛ فحاول معاقبته برعي الأنعام؛ فلمّا لم يفلح طرده في رواية، وحاول قتله في رواية أخراة.
... ... ونلاحظ أن هذه الحكاية تتّخذ لها سيرة القوانين التي تحكم الأساطير بحيث يسبق شرط الحظر والمنع من سُلوكِ سلوكٍ معيّن، ولكنّ الطرف الذي يفرض عليه المنع لا يبرح يُصِرّ على موقفه حتى يقع في المحظور، لتفجير الحكاية، وانطلاقها.... فلو استجاب امرؤ القيس لطلب أبيه، وأذعن لإرداته فلم يقل الشعر، ولم يتغزّل بالنساء، لكانت حياته عاديّة جداً، ولما كَلِفَ بذكر أخباره التاريخ عبر الأعصار والأمصار...
3- ... إنّ خيال الرواة اختصب اختصاباً شديداً لدى ذكر أخبار امرئ القيس، قبل مقتل أبيه، وبعده... ولا يزال الرواة يختلفون من حوله حتى تجرَّأ بعضهم على التشكيك في نسبه من أمّه، بل من أبيه أيضاً حيث إنّ هناك من الرواة من لا يتردّد في أن يجعله امرأ القيس بن السمط، وأن يجعل أمه تَمْلكَ بنت عمروٍ بن زبيد بن مذحج رهط عمرو بن معد يكرب(14).
... ... ولعلّ مغالاة الرواة في هذا الاختلاف مؤئله إلى كَلَفِ الناس بعد أن استقرّوا بالأمصار- خصوصاً البصرة والكوفة- بمثل هذه الأخبار الجميلة يتسامرون بها ويتثاقفون. ونحسب أنّ التاريخانِيَّة، في هذه الأخبار، أكثر من التاريخيّة.
4- ... إنّ الناس كَلِفُوا بالحديث عن سيرة امرئ القيس وانتمائه القبليّ من جهتي أمّه وأبيه، وعن سيرة جده وأبيه أكثر من كلفهم بالحديث عن شعره الذي جمعه حمّاد الراوية، المشكوك في وثوق روايته بعد أكثر من قرنين من وفاته.
5- ... إنّ الاتفاق وقع- عبر الاختلاف- بين الرواة على أنّه يمنيّ، وأنّه من أسرة مالكة، ماجدة، وأنه، إذن، ملك بن ملك، بن ملك.(1/35)
6- ... نلاحظ أنّ امرأ القيس ربما يكون أوّل شاعر عظيم يموت متسمّماً؛ أي يموت مغتالاً بحقد قيصر الروم وغدره ونذالته (ولا ينبغي أن ننسى أنّ أسطورة جميلة أخراة ارتبطت بسفر امرئ القيس إلى أنقرة، ومقامه بالقصر القيصريّ، ووقوع ابنة القيصر في غرام الشاعر العربيّ الوسيم... وأنّ قيصر الروم حين تابع امرأ القيس بالحّلة المسمومة إنما جاء ذلك انتقاماً لشرف ابنته؛ وقد يدلّ ذلك، إن صحّ، على أنّ علاقة الشاعر العربي بالأميرة الرومية جاوز مستوى النظرة إلى مستوى الفعل.... ولا يدلّ إصرار القيصر على الانتقام من امرئ القيس إلاّ على بعض ذلك... فكأنّ امرأ القيس كتب عليه أن تظلّ المرأة فاعلة في حياته، مؤثّرة فيها، إلى نهايتها، فيموت بسببها.
7- ... ونلاحظ، أيضاً، أنّ أبا امرئ القيس مات، هو أيضاً، مقتولاً، وأنّ كليهما قتل وهو متطلّع إلى مجد السلطة، وأبّهة الحكم. وأنّ كلاً منهما انقطع أمله بذلك القتل...
8- ... إنّ امرأ القيس يمثّل عهده عصر الجاهليّة بكلّ مايحمل اللفظ من معنى، وكان محكوماً على عظماء الرجال إمّا أن يَقْتِلوا، وإما أنْ يُقْتَلُوا: إذ قُتل حجر والد امرئ القيس، كما قُتل كليب وائل، أعز العرب، فطالب أخوه مهلهل بثأره؛ فاضطرمت حرب البسوس بين بكر وتغلب فتجسّدت في خمس حروب (15)، كما تعرّض مهلهل، خال امرئ القيس للأسر مرتين اثنتين: نجا في الأسْرَة الأولى، وهلك في الأخراة (16). بينما نلفي حفيده، وهو صاحب معلّقة أخراة، وهو عمرو بن كلثوم بن ليلى ابنة مهلهل بن ربيعة لا يتعرّض هو للفتك؛ ولكنه هو الذي يُقْدِم على الفَتْك بعمرو ابن هندٍ حين أرادت أمِه هند أن تنال من شرف ليلى ابنة مهلهل لَمَّا التمست منها أن تناولها الطَّبَق...(1/36)
فالشاعر قتيل، والملك أبوه قتيل، والخال كليب- أعزّ العرب- قتيل، والخال الآخر- مهلهل أسير، وابن ابنة الخال -عمرو بنت كلثوم- قاتل...والبسوس طاحنة المعارك، مَهُولَةُ الأيام الخمسة.. والفتنة بين القبيلتين الأختين بكر وتغلب على أشدّها.... إنه عصر الشاعر امرئ القيس.... وإنه لانتِماؤُه القَبَليُّ... ولعلّ ولاءَهُ لتقاليد القبيلة، وحرصَه على شرفها.... وهوالذي جعله يخوض، هو أيضاً، حروباً طاحنة يشنّها على قبيلة بني أسد... فتنة... حروب... انتقام... تأرات... حبّ وغزل وخمر... نساء ولهو.... تلك هي
حياة المعلّقاتيّ الأوّل: امرئ القيس....
2- الانتماء القبليّ لبقيّة المعلقاتيّين:
لقد كنّا لاحظنا أنّ امرأ القيس، هو المعلّقاتيّ الوحيد الذي ينتهي نسبه الأعلى إلى قحطان من بين كلّ المعلّقاتيّين السبعة. وينشأ عن ذلك أنّ كلّ المعلّقاتيّين الستّة الآخرين ينتهي نسبهم الأعلى إلى عدنان إذْ نُلفي اثنين، من بينهم، ينتميان إلى بكر، وهما: طرفة بن العبد (17)، والحارث بن حلّزة (18). على حين أنّ عمرو بن كلثوم تغلبيّ (19)، وعنترة بن شدّاد عبسي/ قيسيّ، مضريّ (20)، وزهير بن أبي سلمى مُزَنِيّ/ تميميّ (وقد اختلط على بعض الناس أمر نسبه فعدّه غطفانيّاً، بينما هو مزنيّ، نزل بديار غطفان (21)، ولبيد بن أبي ربيعة قيسيّ (22). وكلّ من تغلب، وبكر، وعبس، وتميم، وقيس ينتهي نسبها الأعلى إلى عدنان.(1/37)
وترتبط حياة معظم أولاء المعلّقاتيّين بقبائلهم بما لها من مآثر وأمجاد، وخطوب وأهوال؛ وذلك أمثال عمرو بن كلثوم، والحارث بن حلّزة، وعنترة بن شداد، وطرفة بن العبد. وحتى زهير بن أبي سلمى اختصّ معلّقته بالأحداث المهولة، والحروب الطاحنة التي دارت بسبب سباق فرسي داحس (وكانت لقيس بن زهير سيد بني عبس)، والغبراء (وكانت لحمل بن بدر سيّد بني فزارة، غطفان). ولولا الصلح الذي سعى به كلّ من هرم بن سنان، والحارث بن عوف، وتحمّلهما دفع ديّات القتلى التي بلغت زهاء ثلاثة آلاف بعير، لتفانت عبس وفزارة. وإذا كانت دية القتيل غير الملك مائة بعير، فإنّ عدد الذين سقطوا ضحايا هذه الحروب من القبيلتين لا يقلّ عن ثلاثمائة رجل...
وعلينا أن نلاحظ أنّ موضوع معلّقة زهير، على ما يبدو فيه من حكمة وتأمّل في الكون؛ بأنّ الباعث الأوّل على قولها يَمْثُلْ في عادات عربيّة قديمة، وقد ظلّت قائمة إلى يومنا هذا، وهي تنظيم مسابقات بين الخيول... فلولا سباق تينك الفرسين لما وقعت حرب بين عبس وفزارة، ولولا تلك الحرب الطاحنة لما أنشأ زهير قصيدته المعلّقة...
على حين موضوع معلّقة عمرو بن كلثوم يرتبط بحادثة الطبق المشؤومة؛ وذلك لَمَّا التمست هند أمّ عمرو بن هند، ملك الحيرة من ليلى، أمّ عمرو بن كلثوم-وبنت مهلهل بن ربيعة خال امرئ القيس: أن تُناوِلَها الطبق، فأَبَتْ وصاحت: واذُلاَّه! وهي الحادثة التي أفضت إلى قتل ملك الحيرة عمرو بن هند على يد ابن كلثوم (23).
وكأن هذه المعلّقة، معلّقة ابن كلثوم، بمثابة سجّل لأعمال قبيلة تغلب، وما عانته من أهوال، وما لاقته من طوائل، سواء مع أختها قبيلة بكر، أم مع عمرو بن هند ملك الحيرة، الذي اتّهمته تغلب بالتحيّز لبكر في مسألة الرهائن... وقد كلفت تغلب بهذه القصيدة حتى قال أحد الشعراء يسخر منهم، ويتهكّم بهم:
ألهى بني تَغْلِبٍ عن كلّ مَكْرُمَةٍ ... قصيدةٌ قالَها عمرو بن كلثوم (24)(1/38)
بينما ترتبط أحداث معلّقة الحارث بن حّلزة، هي أيضاً، بقبيلة بكر التي ينتمي إليها الحارث، فجاء يردّ فيها على عمرو بن كلثوم التغلبيّ الذي غالى في المكابرة والمنافجة، وبالغ في المنافسة والمنافحة: فجاوز كلّ حدّ، وعدا كلّ طور. ويبدو الحارث بن حلّزة في معلّقته هذه ، على الهدوء البادي، داهيةً ألوى، استطاع أن يدافع عن قبيلته، ويبيّض وجهها، ويسُلَّها من الفتنة كما تسلّ الشعرة من العجين، ويبرئّها من كلّ ما كانت متّهمة به في علاقتها بملك الحيرة في مسألة الرهائن.... فحكمة هذا المعلّقاتي لا تتمثّل في سوق الأقوال، وضرب الأمثال؛ كما جاء ذلك طرفة وزهير، ولكن في الجدال والمساءلة والاحتكام إلى العقل.
والذي يعنينا في كلّ ذلك، أنّ همزيّة الحارث بن حلّزة تدرج في أحداث قبيلته، وتاريخها، وعلاقاتها العامة مع القبائل الأخراة من وجهة، ومع ملك الحيرة من وجهة أخراة: تذوب فيها، وتنطلق منها، لتعود فتنتهي إليها.
وترتبط معلّقة عنترة بحياته، وسيرته، ولونه، ارتباطاً وثيقاً إذ تزعم الرواة أنه تسابّ مع رجل من بني عبس (25) (ويفهم من هذه الرواية أنّ عنترة لم يكن يقول الشعر قبلها، لأنّ ذلك العبسيّ عيّره بسواد لونه، وعبوديّة أمّه، وأنه لم يكن يقول الشعر)، فردّ عليه عنترة في كلمة" (....).وأمّا الشعر، فسترى!" (62).
فموضوع معلّقة عنترة شديد الشبه بموضوع امرئ القيس الذي كان سجّل في معلّقته بعض سيرته، ومغامراته، وهواه، ولذّاته: ولم يكد يأتي عنترة إلاّ شيئاً من ذلك حين سجّل مواقفه في الحرب، وحسن بلائه في ساح الهيجاء، وإخلاصه في حبّ عبلة، ومحاورته لفرسه، ووصفه لمشاهد الأبطال الذين كان يجند لهم فيتهاوون في ساحة الوغى...(1/39)
وترتبط حكاية معلّقة عنترة بسيرته وهي الفروسيّة النادرة، والشجاعة الخارقة من وجهة، ومعاناته من مأساة العبوديّة التي ورثها بحكم عبوديّة أمّه زبيبة حيث كان النظام القبليّ لدى أهل الجاهليّة، إذا كان الابن من أَمَتِه استعبده، ولم يُلْحِقْه بنسبه.
ولا شيءَ أجمل للشعر من الدفاع عن الهويّة، وإثبات الذات، والبرهنة على سمّو النفس، ونبل الخلاق، لإقناع الناس بأنّ السواد لا صلة له بالشخصية إذا عَظُمَتْ، وبالنفسْ إذا كرمت، وبالعزيمة إذا كبرت. فكان لا مناص لعنترة لكي يصبح شخصية مرموقة أن يقول الشعر، ويحبّ فتاة، ويبلي في ساحة الحرب؛ لكي يدافع عن القبيلة التي لولا تدخّله لكانت تعرضت للفناء والعار، كما تزعمه الأخبار (27).
وأمّا معلّقة طرفة بن العبد فإنها ترتبط، هي أيضاً، بأحداث مَهُولَةٍ حيث لم يكن الفتى يرعوى عن إطلاق لسانه في عمرو بن هند، ملك الحيرة، الذي دبّر له مكيدة خسيسة حين أرسله إلى عامله بالبحرين، ليقتله فقتله (28). فمعلّقته ترتبط، هي أيضاً، بحكاية مأساة ذاتيّة عاشها الشاعر الفتى. فهي شبيهة، من هذا الوجه، بمعلّقتي امرئ القيس وعنترة.
وتبقى معلّقة لبيد التي لا ترتبط بحادثة معينّة، كما أنه لم يفخر فيها بنفسه، ولا بقبيلته؛ ولكنّ موضوعها لمّا ارتبط بوصف البقرة الوحشية، وبالطبيعة، وعلى الجبلّة الأولى، فإنه صار مرتعاً خصيباً لكلّ تحليل أنتروبولوجيّ.(1/40)
ونلاحظ أنّ ثلاثة من المعلّقاتيين ماتوا مقتولين: وهم امرؤ القيس (الحلّة المسمومة، المشؤومة)، وعنترة الذي قتله، في بعض الروايات الأسد الرهيص، بعد أن بلغ من العمر أرذله، وهو من عبس أيضاَ (29)، وطرفة بن العبد الذي يقال إنه قتله رجل عامّيّ مغمور، ويبدو أنّه كان سيّاف المعلّى بن حنش العبدي(30). كما أن طرفة نشأ يتيماً (واليتم يشبه العبوديّة...) حيث تُوفِّي أبوه وهو لايبرح صبيّاً؛ على حين أنّ امرأ القيس قضى طفولته مشرّداً منبوذاً حيث أنكر أبوه أمره والفتى لا يبرح غضّ الإهاب؛ بينما عاش عنترة طفولة العبد الذليل الذي يرعى الإبل، وينهض بأشقّ الأشغال، ويتجرع، أثناء ذلك، كثيراً من العُقَدِ في نفسه.
ثانياً: المعلّقات وتاريخ بلا أرقام:
متى كان يعيش المعلّقاتيون؟ وكم عُمِّرَ كلٌّ منهم؟ ولِمَ سكت المؤرخون عن أعمارهم، إلاّ ما كان من أمرَيْ طرفة ولَبيدٍ؟ وما أغفل الرواة عن هذه المسألة مع أنها ذات شأن بالقياس إلى كبار الرجال؟ أم أنّ هناك حلقاتٍ مفقودةً من التاريخ العربيّ قبل الإسلام؟ أم أنّ الرواة لم يكونوا يُولونَ لأَسْنانِ الرجال الكبار ما كانوا له أهلاً من العناية والاهتمام؟....
إنّ من حقّنا أن نثير أكثر من سؤال حَوالَ هذه المسألة وقد عرضنا لها في هذه الفقرة من البحث. ذلك بأنّ كلّ ما نعرف، هو أنّ امرأ القيس كان أوّل المعلّقاتيّين وأسبقهم زمناً. ونعرف ذلك، في الحقيقة، مضموناً لا منطوقاً. ولكن يبدو أنّ كلّ ما يباعد بين المعلّقاتيّ الأول، وهو امرؤ القيس، والأخير وهو لبيد لا يكاد يجاوز قرناً واحداً، وبعض قرن.
ولعلّ أوّل المؤرخين العرب تساؤلاً عن عهد امرئ القيس كان ابن قتيبة الذي قرّر أنْ ذا القروح كان يعيش على عهد أنو شروان، ملك الفرس (31) الذي ملك ما بين 531 و 579 ميلاديّة. وقل إن شئت، لمّا كان امرؤ القيس يعيش على عهد قيصر الأوّل الأكبر، ملك الروم، الذي كان يعيش بين(1/41)
482 و 565 ميلادية؛ فإنّنا نتبنّى موقف الموسوعة العالميّة التي ذهبت إلى أن امرأ القيس توفّى زهاء سنة 550 ميلاديّة، أي قبيل ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلّم بزهاء إحدى وعشرين سنةً؛ أي بزهاء إحدى وستين سنة قبل البعثة المحمديّة (32).
ونحن نفترض، بناء على الأخبار المتضاربة والمتناقضة التي كتبت حول سيرة امرئ القيس (جمهرة أشعار العرب -الشعر والشعراء- الموشّح- الأغاني- خزانة الأدب، ولبّ لباب لسان العرب....) أنه لمّا قَتَلت بنو أسد أباه حجراً لم يكن شيخاً، وربما لم يكن كهلاً أيضاً، ولعله لم يكن جاوز الثلاثين من عمره، وأنه كان أصغر إخوته (33). ونفترض أيضاً أنّ حروبه مع بني أسد لم تدم، انطلاقاً من التحضير لها بالاستنجاد بقبيلتي بكر وتغلب، وفيهما أخواله، أكثر من سنة أو سنتين اثنتين على أبعد تقدير. كما أنّ الحملة الثانية التي قادها على بني أسد في جمع من أهل حمير، وشذّاذ من العرب (34): لا ينبغي لها أن تكون قد جاوزت أكثر من سنتين اثنتين أيضاً. كما أنّ تشرّده في جبلي طيئ، من بعد ذلك، وذهابه إلى أنقرة للاستنجاد بالقيصر جوستينان (482-565) (35) لا نعتقد أنّ ذلك كلّه جاوز ثلاث سنوات... فيكون تقدير عمر امرئ القيس، بناء على هذه الاستناجات التقريبيّة، لدى تسمّمه بحلّة جوستينان المشؤومة، أقلّ من خمسين سنة غالباً.(1/42)
ولدى تتبّعنا لوفيات الشعراء الستّة الآخرين- وهم العدنانيّون- لاحظنا أنهم كانوا يعيشون، في معظمهم، في مدى زمنيّ متقارب: إمّا متعاصر، وإما سابقٍ أو لاحقٍ بقليل. وقد ذكر البغدادي أنّ زهيراً توفي بسنة واحدة قبل البعثة الشريفة (36). وحتى لبيد بن أبي ربيعة، وهو آخر المعلّقاتيّين وفاة (توفي في بداية خلافة معاوية) (في رأي ابن قتيبة، وفي أواخر خلافته في رأي أبي الفرج الأصبهاني (38). وإذا سلّمنا بما كاد المؤرخون يتفقون عليه) وهو أنه معدوداً في المُعَمَّريْنَ، وأنه توفيّ وسِنُّه مائةٌ وبِضعةٌ وأربعون عاماً في قول (39)، ومائةٌ وسبعٌ وخمسون سنةً في قولٍ آخرَ (40)؛ فإنّ ذلك لا يعني إلاّ أنّ لبيداً عاصر امرأ القيس على وجه اليقين.
ولمّا كان ضبط عمر لبيد يترواح بين مائة وسبعة وأربعين عاماً ومائة وسبعة وخمسين عاماً فإننا نجعل موقفنا بين ذلك وسطاً، ونقيمه على التقريب فنقول: إنه عاش قرناً ونصف قرن تقريباً، وأنه توفّي وسط عهد معاوية.
وإذا علمنا أنّ امرأ القيس توفّي قبل البعثة الشريفة بزهاء إحدى وستين سنة فإنّ لبيداً يكون قد عاش في الجاهليّة قريباً من قرن واحد. وأنه عاش في عهد الإسلام قريباً من نصف قرن. والذي يعنينا في كلّ ذلك خصوصاً: أنّ لبيداً، حسب هذه المعلومات التاريخيّة التي بنينا عليها استنتاجاتنا، عاصر امرأَ القيس يقيناً، وأنه حين توفّي الملك الضلّيل كان عمر لبيد زهاء أربعين عاماً....
وينشأ عن ذلك أنّ الزمن الذي عاش فيه المعلّقاتيّون السبعة كلّه (وذلك بإدخال بداية عمر امرئ القيس الذي نفترض أنه توفّي في سنّ الخمسين تقريباً، وكان ذلك زهاءً خمسمائة وخمسين ميلاديّة، أو قل كان ذلك سنة إحدى وستّين قبل البعثة المحمّديّة) لا يجاوز زهاء قرن وعشر سنوات قبل البعثة، وزهاء نصف قرن بعدها...(1/43)
ولعلّ ذلك هو الذي حملنا على اعتبار نصوص المعلّقات وحدة واحدة، ومدرسة فنّيّة مندمجة، وأنه من العسير فهمُ نصِّ معلّقةٍ معزولاً عن نصوص المعلّقات الأخراة...
لكنّنا لا نستطيع، بكلّ حزن، تحديد أعمار جميع المعلّقاتيّين، حتّى على وجه الافتراض أو الاحتمال، كما كنّا جئنا ذلك بالقياس إلى امرئ القيس. وكلّ ما في الأمر أنّ عمرو بن كلثوم توفّي فبل سنة ثلاثين وستمائة ميلاديّة (41)، وأنّ زهيراً توفّي بسنة واحدة قبل البعثة النبويّة، بينما عنترة وطرفة توفيا في أواخر القرن السادس الميلادّي. على حين أنّ الحارث بن حلّزة كان يعاصر عمرو بن كلثوم، ولعّله هو أيضاً توفّي في أوائل القرن السابع الميلادّي.
إنّ ذلك كلَّ ما نستطيع قوله حول هذه المسألة التي لم يحقّق في شأنها، على هذا النحو، أحدٌ قبلنا، فيما بلغْناه من الاطلاع.
ثالثاً: المعلّقات وقِدَمِيُّةُ الشعر العربيّ(1/44)
إنّ كلّ من يبحث في أمر الشعر الجاهليّ، قد يصاب بالحيرة والذهول، وهو يقرأ، هذه الأشعار الراقية التي ظلّت على مدى أكثر من أربعة عشر قرناً: نموذجاً يُحتذى، ومثالاً يقتدى، وكيف ورِثْنا القصيدة العربية ببنيتها الطللية المعروفة، وبإيقاعاتها المَسْكوكَة، وبتقاليدها الجماليّة المرسومة: من حاد عنها لا يكون شاعراً، ومن حاكاها عُدَّ في الشعراء...؟ وكيف أنّ امرأ القيس يتحدّث عن تاريخ لا يعرفه التاريخ، وهو وجود شعراء قبله كانوا يبكون الديار، ويقفون على الأطلال، ولا نعرف عنه شيئاً إلاّ أسماءهم، منهم ابن حمام..؟ وأين ذهب ذلك الشعر؟ وكيف أغفل التاريخ الشفويُّ سير أولئك الشعراء العماليق، كما نفترض بعضهم؟ فقد كانوا من الفحولة والشاعريّة ما جعل أعراب كلْب يزعمون أنّ الأبيات الخمسة الأولى من معلّقة امرئ القيس هي لأمرئ القيس الحمّام بن مالك بن عبيدة بن هبل "وهو ابن حمام الشاعر القديم، الذي يقول فيه بعض الناس: ابن خذام. وقد قيل أنه من بكر بن وائل، وهو الذي قال فيه امرؤ القيس:
*نبكي الديار كما بكى ابن حمام* _(42)؟
أم مثل ذلك الشعر العُذريّ البديع مما كان يهون على الناس فزهُدوا فيه، وعزفوا عنه؟ أم أن الفتن والحروب هي التي أودت بذلك الشعر كما أودت بأصحابه؟ أم أنّ اشتغال العرب بالجهاد، وفناء كثير منهم في حروب الردّة، يوم صفيّن، ويوم الجمل، وأيّام الفتن الأخراة المبكّرة التي حصدت كثيراً من أرواح الرجال هي التي عجّلت بدفن تاريخ الشعر العربي، وطمس معالمه الأولى الحقيقيّة إلى الأبد؟(1/45)
ونعود لنتساءل، ولا نملك أكثر من هذا التساؤل الحيران: كيف ولد الشعر العربيّ راقياً كاملاً، وناضجاً رائعاً؟ وكيف نشأت القصيدة العربيّة- الجاهليّة- مكتملة البناء، محكمة النسج، بديعة السبك، على هذا النحو، ثمّ كيف لا نعرف قبل هؤلاء الشعراء العماليق شعراء أوساطاً قَبْلهم، ولا شعراء عماليق أمثالهم...؟ وكيف لانكاد نجد الرواة القدماء يوردون إلاّ أبياتاً قليلة، ممّا صحّ لديهم، قد لا تزيد عن العشرين بيتاً، في مجموعها؟ وكيف يمكن للمؤرخ فكُّ هذا اللّغز، وللباحث فهم هذا السّر؟
لقد اتفق قدماء مؤرّخي الأدب، على أنه "لم يكن لأوائل العرب من الشعر إلاّ الأبيات يقولها الرجل في حاجته، وإنّما قُصِّدَت القصائدُ وطُوِّلَ الشعرُ على عهد عبد المطّلب، وهاشم بن عبد مناف" (43).
ونلاحظ أنّ أيّاً من مؤرّخي الأدب العربيّ القدامى (ابن سلاّم (44)، وابن قتيبة (45)، والشريف المرتضى (46)، والآمدي (47)....) لم يذكر مصدر خبره والظاهر أنّ مصدر هذه المصادر كلّها هو ابن سلاّم الجمحّي الذي لم يذكر هو، أيضاً من روى عنهم؛ ولا كيف صحّ لديه تلك الأبيات القديمة التي أثبتها، ولا كيف لم تصحّ لديه الأبيات الأخراة؟ (48).(1/46)
وأنّا لا ندري كيف يمكن أن نقتنع بقدم تلك الأبيات التي أثبتها ابن سلاّم، وجاراه آخرون في إثباتها، على غيرها، وصحّتها من بين سَوائِها؛ في غياب التصريح باسماء الرواة، وانعدام اتّصال السَّنَدِ؟ ثمّ ماذا يعني هذا القِدَمُ الذي لم يكن أوائل المؤرخين يضبطونه بالأرقام؟ وناهيك أنّهم لا يكادرون يؤرّخون لموت أيّ من الشعراء الكبار، والشخصيّات العظام؛ ممّا يجعلنا نعمد، هنا، إلى فرض الفروض لتفسير مقولة ابن سلام المنصرفة إلى زمن تقصيد القصائد الذي ربط بعهدي هاشم بن عبد مناف، وابنه عبد المطّلب. وإذا كان ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلّم أَرَّخَتْ له كتب السيرة بحادثة غزو أبرهة مكّة، وهي الحادثة التي عرفت في القرآن الكريم بـ "أصحاب الفيل"؛ فإنّ عام الفيل حين نحاول ترجمته إلى الأرقام سيعني سنة 570 أو 571 ميلاديّة. ولقد نعلم أنّ عبد المطلّب بن هاشم، جدّ رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ توفّي وعُمْرُ محمّد ثماني سنوات (49): فيكون عهدُ عبد المطلب هو القرن السادس الميلادّي، وعهدُ هاشم ابن عبد مناف هو نهايّة القرن الخامس، وأوائل السادس الميلاديّ.
وقد كنّا رأينا، من قبل، أنّ امرأ القيس توفيّ زهاء سنة 550م. ممّا يجعل من عهد عبد المطلب عهداً لامرئ القيس أيضاً؛ ومن عهد هاشم بن عبد مناف عهداً لمهلهل بن ربيعة التغلبيّ الذي يزعم المرزبانيّ أنه هو "أوّل من قصّد القصائد، وذكر الوقائع" (50).
ويتفق القدماء على أنّ أوائل الأبيات الصحيحة رُوِيَتْ لدرُيد بن يزيد الذي ينتهي بنسبه الشريف المرتضى إلى حمير (51)، وابن كثير إلى قحطان (52). فكأن الشعر العربيّ قحطانيّ الميلاد، حميريّ النشأة، ثمّ عمّ، من بعد ذلك، في بني عدنان بالشمال.
ويذهب الجاحظ إلى أن الشعر العربيّ حديث الميلاد، صغير السنّ: "أوّل من نهج سبيله، وسهّل الطريق، إليه: امرؤ القيس بن حجر، ومهلهل بن ربيعة (....).(1/47)
ويدلّ على حداثة قول الشعر، قولُ امرِئِ القيس بن حجر:
إِنَّ بني عوف ابْتَنَوْا حَسَناً ... ضَيَّعَهُ الدُّخلولُ إَذْ غَدَرُوا
أَدَّواْ إلى جارهم خفَارَتَه ... ولم يَضِعْ بالمغيب من نَصَروا
لا حِمْيَريٌّ ولا عَدَسٌ ... و آَسْتُ عيرٍ يَحُكُّها الثَّفَرُ
لكنْ عويرٌ وفى بِذِمّته ... لا قِصَرٌ عابه ولا عوَرُ
فانظر كم كان عمر زرارة (بن عدس). وكم كان بين موت زرارة ومولد النبيّ عليه الصلاة والسلام. فإذا استظهرنا الشعر وجدنا له إِلى أن جاء الله بالإسلام خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام" (53).
هذا هو النصّ الجاحظيّ الشهير الذي تداوله الدارسون منذ اثني عشر قرناً.
ونحن بعد أن تأمّلنا تعليق الجاحظ على أبيات امرئ القيس وجدنا هذا التعليق كأنه مقطوع عن كلام ساقط، ونص غائب، وإلا فما معنى تعجب أبي عثمان:" فأنظركم كان عمر زرارة، وكم كان بين موت زرارة ومولد النبيّ عليه الصلاة والسلام". ونحن نفترض أنّ ذكر زرارة كان ورد في شعر امرئ القيس مربوطاً بمناسبة تاريخيّة ذكر فيها زرارة بن عدس، أبو لقيط بن زرارة، فسقط من شعر امرئ القيس، إِن لم يكن ما افترضناه أَوّلاً من سقوط بعض كلام أبي عثمان.. ولم نر أحداً من الدارسين الذي استشهدوا بنصّ الجاحظ تنبّهوا إلى هذا البَتْر، أو إلى هذا الغموض على الأقلّ، ومنهم البهبيتي (54)، وشوقي ضيف(55): إذ هم يهملون الجملة التي استشهدنا بها نحن، ولا يأتون الشعر الذي استنبط منه الجاحظ حكمه حول عمر الشعر العربي قبل الإسلام؛ ويستأنفون؛ وقل أنهم يقطعونه قطعاً، ويبترونه بتراً، من قوله: "فإذا استظهرنا" مع أنّ هذا الاستظهار لم يكن إلاّ نتيجة لمقدّمة، وحكماً مستنبطاً من نصّ...(1/48)
ثمّ أين الدليل الخِرِّيتُ الذي يوجد في شعر امرئ القيس المستشهد به...؟ إنّ كلام أبي عثمان يفتقر إلى نقاش، ولا يمكن أن نجاريه عليه؛ إذ كان امرئ القيس نفسه يعترف بوجود شعراء قبل عهده، كما يدلّ على ذلك بيته الشهير:
عوجا على الطلَل المُحيل لعّلنا ... نبكي الديار كما بكى ابن حمام
وإذ كان من المستحيل التصديقُ بأنّ معلقة امرئ القيس هي مطلع الشعر العربيّ؛ وإذ كان، إذن، من المستحيل إنكار أنّ الشعر العربيّ مرّ بمرحلة طويلة تطوّر فيها إلى أن أصبح الشاعر يقول القصيدة على ذلك النحو البديع المكتمل الذي بلغتنا عليه القصائد الجاهليّة الناضجة الأدوات الفنيّة.... كما يلاحظ ذلك أستاذنا الدكتور البهبيتي ممّا كان قرّره أبو عثمان، إذ: "النموّ الطبيعيّ للقصيدة العربيّة، أوزانها وموضوعاتها، واللغة ونحوها وأساليبها، وإيجازها، يستدعي أن تكون مرّت، قبل زمن امرئ القيس، بأطوار كثيرة، وتعثّرت تعثّرات جمّة حتّى اكتمل لها هذا الشكل الذي نجدها عليه في شعر امرئ القيس، ومن سبقه، أو جاء بعده "56).
وبينما يذهب الجاحظ إلى أنّ عمر الشعر العربيّ كلّه لا ينبغي له أن يرجع إلى أقدم من عهد امرئ القيس الذي يعدّ، في رأيه، "أوّل من نهج سبيله، وسهّل الطريق إليه" -مع مهلهل بن ربيعة- فأنه يقرر، بجانب ذلك- وهذا رأي عامّ أجمع عليه كلّ الذين تحدّثوا عن قدماء العرب -أن العرب كانت تحتال في تخليد مآثرها "بأن، تَعُمِدَ على الشعر الموزون، والكلام المقفّى، وكان ذلك هو ديوانها"(57).
فهل تعود فترة التخليد إلى قرن ونصف فقط، قبل ظهور الإسلام؟ وهل يمكن أن تخلّد حضارة، وتكرّس تقاليد جماليّة، وتؤصّل أصول هذا الشعر في رقيّه، وجماله، وكماله، وسَعَة ما فيه من خيال، وإبداع ما فيه من فنّ القول، وزخرف الكلام؛ كلّ ذلك في مثل الفترة القصيرة؟ وما ذهب إليه عليّ البطل من أنّ عمر الشعر العربيّ قد يعود إلى ألف عام قبل الإسلام (58) ليس مبالغاً فيه.(1/49)
رابعاً: هل عمر الشعر العربيّ خمسة وعشرون قرناً قبل الإسلام؟
كثيراً ما كان المؤرخون القدماء يقعون في المحظور بتقريرهم الأخبار المستحيلة، وروايتهم الأشعار المنحولة، فمن ذلك اتفاقهم على أنّ عمرو بن الحارث بن مُضاض هو الذي قال تلك القصيدة الرائيّة البديعة التي لاندري ما منع حمّاداً الراوية من تصنيفها في المعلّقات، إلاّ إذا منعه من ذلك، حجمها القصيرُ، وهي التي يقول ابن مضاض، فيما تزعم كثير من الكتب التي تناولت المجتمع المكّيّ القديم، في بعضها:
وقائلةٍ والدمع سَكْبٌ مُبادر ... وقد شرقَتْ بالدمع منّا المحاجرً
كأن لم يكن بين الحَجون إلى الصَّفا ... أنيسٌ، ولم يَسْمُرْ بمكّة سامِرُ
بلى نحن كُنَّا أهلَها فأبادَنا ... صروفُ اللّيالي والجُدودُ العواثِرُ(59)(1/50)
فإن كان صاحب هذه القصيدة التي أثبتنا منها هذه الثلاثةَ الأبيات، هو عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهميّ، حقّاً؛ وأنّ هذه القصيدة وُجِدَتْ مكتوبة، فيما يزعم بعض الرواة الذين لم يسمّوا لابن هشام مَنْ رَووا عنهم، هم، على حَجَرٍ باليمن (60): فذلك يعني أنّ عمر الشعر العربيّ، بناء على المستوى الفنيّ الذي نصادفه في هذه القصيدة العجيبة، قد يكون جاوز ثلاثين قرناً قبل الإسلام؛ وذلك لأنّ هذا الجرهميّ كان يعيش قبيل زمن إبراهيم عليه السلام بزهاء قرن على الأقلّ، ولمّا كان إبراهيم كان يعيش في القرن التاسع عشر، أو الثامن عشر، قبل الميلاد (61): فإنّ عمر الشعر العربيّ قد يبلغ خمسة وعشرين قرناً على الأقلّ قبل الإسلام. ومن العجب العجيب أنّ جميع مُؤَرخي السيرة، وكلّ قدماء المؤرخين للحياة العربيّة قبل الإسلام، كانوا يتحدثون في ثقة تشبه اليقين عما يمكن أن نطلق عليه الدولة الجرهميّة التي حكمت مكّة وضواحيها بعد ولد اسماعيل عليه السلام: طوالَ زهاءِ خمسةِ قرونٍ ونصفٍ (62).(1/51)
فهل يصحّ تاريخ هذه الدولة، أو الأسرة الحاكمة (جرهم) دون صحّة شعر شاعرها، وهو أحد حكّامها غير المتوّجين؟ وهل يمكن تكذيب كلّ تلك الروايات التي رواها قدماء المؤرخين، والحال أنّ ابن هشام، وهو ثقة، يتحدّث عن وجود تلك القصيدة مكتوبةً على حَجَرِ باليمن؟ وكأنّ الشيخ كان واعياً بتساؤل الذي يأتون بعده فحسم هذه المسألة بعدم نسبتها إلى مجرّد الرواية الشفويّة الطائرة، ولكن إلى كتابه مرقومة على حجر؟ وإذا ذهب ذاهب إلى أنّ هذا الكلام الذي جاء عليه كلّ المؤرخين العرب القدماء هو مجرّد رجم بالغيب، وأسطورة في الأساطير، فما القول فيما جاؤوا به من بقيّة الأخبار الأخراة؟ وهل يمكن أن يكونوا سذّجاً يروون كلّ ما كان يقع لهم من أخبار، فنسلّم برفض كلّ ما جاؤوا به ونستريح!؟ أم أنّنا نرفض الرواية فقط، ونقول لابن هشام: لا ، إنّ ما تزعمه من أنّ تلك القصيدة وجدت مكتوبةً على الحجر باليمن، ليس صحيحاً؟ وإنما هو ليس صحيحاً لأنّنا ننفيه بدون إثباتاً. وحجج لهذا النفي، وإنما ننفيه، لأننا نستقدم العهد الذي قيلت فيه هذه القصيدة، وأنّ مضاض كان يعيش حقاً في مكة، بل كان يحكمها حقاً، ونتفق على أنه عربيّ قحّ، ونتفق على أن حكم أسرته لم يدم إلاّ زهاء خمسة قرون ونصف، ثم أطيح بحكمهم، وأُجْلُوا عن مكّة: ولكننا -وعلى الرغم من تسليمنا بكلّ ذلك؛ فإننا نرفض أن يكون بن مضاض قال ذلك الشعر؛ لأنّ الشعر العربي عمره قرن ونصف، أوقرنان اثنان على الأكثر، قبل الإسلام، فيما زعم أبو عثمان الجاحظ؟ مع أنّ المقولة التي تعزى إلى عمر بن الخطاب، والتي أومأ إليها ابن سلاّم إيماءً، وجاء بها ابن جنّي كاملة، تثبت أن الشعر العربي:
1- كثير.
2- قديم.
3- ضاع.(1/52)
لكن الضياع لا يعني الإطلاقيّة التي لم يبق معها شيء. ويضاف إلى ذلك أن عمر بن الخطاب يعلّل ذهاب الشعر بذهاب الرجال وفنائهم في الحروب، والحال أنّ قصيدة ابن مضاض تزعم الرواة والكتب القديمة أنها كانت مدوّنة على حجر... فلقد ذهب، إذن، عمر إلى أنّ الشعر العربيّ كان: "علم القوم. ولم يكن لهم علم أصحّ منه. فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب بالجهاد، وغزو فارس والروم، ولهيت عن الشعر وروايته، فلمّا كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنّت العرب في الأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يؤولوا إلى ديوان مدوّن، ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقلّ ذلك، وذهب عنهم كثيره (63).
إنّ عمر، رضي الله عنه، إنما يتحدث عن انعدام التدوين، وتعويل العرب في حفظ شعرها على الرواية الشفويّة، فما القول في الشعر الذي دوّن، إن كان قد وقع تدوينه حقاً؟.
ويدلّ على ثبوت وجود كثير من الشعر العربيّ، وقدمه قبل الإسلام قول أبي عمرو بن العلاء الشهير: "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلاّ أقلّه، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم، وشعر كثير" (64).
وإنّا لنعلم أنّ أمماً عربيّة قديمة كثيرة انقرضت منها طسم وجديس وعاد وثمود، ولكنّ جرهما لم تنقرض كلّها، ولكنها عادت إلى بلاد اليمن (65) بعد أن غلبتهم على حكم مكّة قضاعة (66)، كما كانت جرهم غلبت، قبل ذلك، بني إسماعيل فانتزعت منهم السقاية وخدمة البيت...
ونعود إلى أمر هذه القصيدة المحيِّرِ، وهي القصيدة التي يزعم ابن هشام أنها وجدت مكتوبة على حجر باليمن: هل كانت مكتوبة باللغة الحِمْيَريَّة؟ إنّا لا نعتقد ذلك. لأنّ كلّ التواريخ القديمة تزعم أنّ إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، إنما تعلّم العربية من جرهم، والحال أن العربيّة الإسماعيليّة هي العربيّة العدنانية التي نزل بها القرآن، وقيلت بها المعلّقات والوجه لدينا في حلّ هذا اللغر العجيب:(1/53)
1- ... إنّ قبيلة جرهم حين وافت البيت من اليمن تطورت لغتها من الحميريّة إلى العربية الحديثة، بفعل الاحتكاك الذي كان يقع بين الذين يقصدون البيت العتيق. ولكن قد ينشأ عن هذا المذهب أنّ جرهماً قد تكون أقامت بمكّة أكثر من خمسة قرون ونصف، وهو الذي تزعمه أخبار التاريخ، كما سلفت الإشارة إلى ذلك.
2- ... إنّ القصيدة الرائيّة البديعة المنسوبة إلى ابن مضاض، وهو أحد ملوك جرهم، قد يكون تدوينها على الحجر وقع بعد اضطرار جرهم إلى العودة إلى اليمن.
3- ... ونلاحظ أنّ ابن هشام يورد أبياتاً ثلاثة أخراة معزوة إلى الشاعر نفسه، ويزعم أنها صحّت لديه، كما يؤكّد أنها وجدت مكتوبة على حجر باليمن (57). فكأنّ الأقدمين يريدون أن يثبتوا هذه الأبيات، ويؤكّدوا صحّتها بحكم أنها وجدت مدوّنة على الحجر، فيزعمون: "أنّ هذه الأبيات أول شعر قيل في العرب" (56).
ولكن المشكلة المعرفيّة المركزيّة في هذه المسألة أن هذا الشعر قديم جداً، وإننا لا نجد شعراً آخر يُرْوى، إلاّ ماكان من عهدي مهلهل بن ربيعة وامرئ القيس.... ولكنّنا كنّا زعمنا أن القصيدة المضاضية التي ذكرت، ذُكِرَ أنها وُجِدَتْ مكتوبةً على الحجر؛ فأمْرُها إذن مختلف. لكنّ الذي يبعد ذلك، أنّ لغتها راقية جداً، وأنّ الأسلوب أنيق، وأنّ النحو مستقيم، وأن الإيقاع مستقيم، وأنّ كلّ ما فيها يوحي بخضوعها للتهذيب والتشذيب، والتغيير والتبديل، إلاّ أن يكون عمر الشعر العربيّ أكثر بكثير ممّا يتصور أي متصور، وهذا أمر مستحيل. إذ ينشأ عن تقبّل نصّ هذه القصيدة كما روتها كتب الأخبار والسيرة، أنّ الشعر العربيّ كان عظيم الأزدهار على عهد جرهم، وأنّ اسماعيل عليه السلام حين تعلّم العربيّة لم يتعلّم مجرد لغة بدائيّة قصاراها أداءُ الحاجة الدنيا مما في النفس، ولكنها كانت لغة أدب رفيع... وهذا أمر محيّر...(1/54)
إنّ الذي أردتُ أن أنبّه إليه في نقاش هذه الإشكاليّة هو أنّ القصيدة الجرهميّة لم تثبت على أنها رويت أصاغر عن أكابر، (وذلك مرفوض لبعد الزمن، وكثرة الفتن، وانعدام التدوين....)، ولكنها أثبتت على أساس أنها الفيت مكتوبةً على حجر باليمن.... وببعض ذلك تضيق شقّة المشكلة بحيث تغتدي مقتصرة على: هل وجدت مكتوبة، أو لم توجد مكتوبة؟ فإن كانت الإجابة بنعم- ولا أحد يمتلك في الحقيقة الإجابة لا بنعم، ولا بلا-: فما شأنُ اللغة التي كتبت بها ؟ وما بال الأسلوب الأنيق التي نسجت به؟ وينشأ عن التصديق أنّ الشعر العربيّ أقدم ممّا يظنّ الظانّون، والأقدمون أنفسهم يعترفون بقدميّة الشعر العربي- أقصد المتشددين في الرواية، والمحترزين في إثبات الأخبار أمثال ابن سلام- وحينئذ ننتهي إلى الميل إلى تقبّل نصّ هذه القصيدة إذا كانت وجدت، حقاً، مكتوبةً، مع ميلنا إلى أنه قد يكون وقع عليها بعض التهذيب لدى إثباتها كما رواها ابن اسحاق في القرن الأوّل الهجري (58-150؟ هـ).
والحقّ أن ابن سلاّم لَمَّا رفض الشعر إذا عاد إلى أكثر من عهد عدنان، فإنما كان مبدؤه قائماً على أساس الشعر المروّى (69)، لا على أساس الشعر المدوّن على الحجر.
والذي يعنينا في كل، هذا، وهنا والآن (وعلى أننا لم نرد أن نذهب، في بحث هذه المسألة المُعْتاصَةِ، مذهباً مُسْرِفاً في استقراء الآراء التي لا تكاد تخرج عما ذكرنا، ومناقشتها باستفاضة؛ إذ لو جئنا شيئاً لاستحالت هذه المقالة إلى كتاب....) أنّ المعلّقات نشأت على عهد مقصّد القصائد وهو المهلهل بن ربيعة التغلبيّ، خال امرئ القيس، وأنّ ذلك العهد، في أقصى التقديرات، لا يرجع إلى أكثر من قرن ونصف قبل البعثة النبويّة، وأنّ الشعر العربيّ ضاع باهمال أهله إيّاه، أو اشتغالهم بالجهاد، وسقوطهم بالآلاف في المعارك في ظرف قصير من الزمان أثناء الفتوح الأولى....(1/55)
ولكن يستحيل علينا أن نصدّق أنّ الشعر العربي نشأ طفرة، ونبغ صبيّاً..... فعلينا أن نكون سذجاً باديِّ السذاجة إذا ما اعتقدنا بذلك... إلا لا يمكن أن يكون ذلك المستوى الفنيّ الرفيع الذي جاءت عليه تلك المعلّقات والأشعار الأخراة التي عاصرتها إلاّ بعد أن يكون الشعر العربيّ مرّ بمراحل طويلة تطوّر خلالها إلى أن بلغ تلك الدرجة العالية من الجودة والنضج والرصانة.... يجب أن تكون المعلّقات نشأت في بيئة شعريّة راقية، وفي جوّ أدبيّ خصب بحيث كان كلّ عربيّ يستطيع أن يقول البيت والأبيات يؤدّي بها حاجته. كما كانت القبائل تحتفل بنبوغ شعرائها فكانت "القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنّأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر، كما يصنعون في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان، لأنّه حماية لأعراضهم، وذبّ عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم. وكانوا لا يهنّئون إلاّ بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج"(70).
وكانت النساء يروين الشعر كما يرويه الرجال، فكان الشعر بالقياس إلى العرب هو الثقافة الأولى، والعبقريّة الأولى ، والغاية الأولى.
ومع كلّ ذلك فإننا نميل إلى أنّ الشعر العربيّ، في الحقيقة، ضاع قبل مجيء الإسلام، فإشارة امرئ القيس إلى ابن حمام، وإشارة عنترة إلى أنّ الشعراء لم يكونوا غادروا شيئاً ممّا يقال إلاّ نسجوا من حوله الشعر... من الأمور التي تجعلنا نذهب إلى أنّ لعنة الضياع لم تأت على الشعر العربيّ بسبب الحروب والفتن التي وقعت بعد ظهور الإسلام: حروب الردّة، وصفيّن، والجمل، والنهروان، والحروب الطاحنة التي استمرت بين الأموّيين والخوارج، والأموّيين وابن الزبير... كلّ أولئك فتن مُدْلَهِمَّة أتت على من كان باقياً من حفظة القرآن، وحملة الشعر، ورواة الأخبار... ولم يكن الناس، في القرن الأوّل الهجرّي يدوّنون شيئاً من مآثرهم؛ فضاع علم كثير، وأخبار ذات شأن..(1/56)
وإذن فالشعر العربيّ القديم اجتاحته الجوائح قبل الإسلام بالصواعق والطوافين والأعاصير التي أذهب الله بها أمماً عربيّة قديمةً مثل طسم وجديس وعاد وثمود....، كما اجتاحته جوائح أخراة تمثّلت في الفتن التي وقعت بين العرب المسلمين أثناء القرن الأول الهجري؛ فلما جاء الناس يدوّنون بعض تلك الأخبار، انطلاقاً من القرن الثاني للهجرة، لم يجدوا منها إلاّ بقايا ضحلة، فكثر الوضع، وقلّ الخير...
خامساً: معلّقات العرب هل علّقت حقاً...؟
لقد سال كثير من الحبر حول إشكاليّة تعليق المعلّقات: أين علّقت؟ وأيّان علّقت؟ وما الكيفيّة التي علّقت بها؟ ولِمَ علّقت؟....
إنّ كثيراً من النقاد العرب القدامى، (ابن رشيق، وابن عبد ربه، وابن خلدون وغيرهم....) كانوا يذهبون إلى أنّها علّقت على أركان الكعبة... لكن هل يقتضي التعليق، حتماً، أن يكون على جدران الكعبة؟ أو لا يكون ذلك التعليق إنما كان في مكتبات قصور بعض الملوك، أمثال المناذرة؟ أم أنها لم تعلّق أصلاً، ولكن حكاية التعليق اختلقها، لبعض التعبير، بعض الرواة المحترفين، غير الموثوقين، أمثال حماد الراوية، أو بعض رواة القبائل غير المحترفين لإرضاء النزعة العصبيّة، والحميّة القبليّة، والعنجهيّة الجاهليّة: فابتدأ الأمر بمعلقة واحدة هي معلّقة امرئ القيس؛ فلمّا رأت العدنانيّة ذلك كبر عليها أن لا يكون لها بعض ذلك فوسّعت فكرة دائرة التعليق إلى طائفة من القبائل العدنانيّة الماجدة حيث توزّعت المعلّقات الأخراة على بكر وتغلب (القبيلتين المتنافستين المتعاديتين اللتين دارت بينهما حروب طاحنة) وقيس، وغطفان....(1/57)
ولقد جاهد الأستاذ طلال حرب نفسه أَعْنَتَ الجهاد وأشقَّه في سبيل رفض فكرة المعلّقات من أصلها (71)، متأثّراً في ذلك بما كان ذهب إليه الأستاذ مصطفى صادق الرافعيّ الذي أنكر فكرة المعلّقات من أساسها، وعدّها مجرّد أسطورة في الأساطير (72). وقد كان سبق إلى رفض هذه الفكرة أبو جعفر النحاس (73).
والحقّ أنّ كثيراً من قدماء المؤرخين العرب اصطنعوا مصطلح "معلّقة"، ولم يشكّوا، كما لم يشكّكوا في أمر تسميتها. ولقد وقعنا، فيما أتيح لنا الاطلاع عليه من مصادر قديمة، على زهاء ثمانية مصادر ورد فيها ذكر اصطلاح المعلّقة، أو المعلّقات، إمّا مرة واحدة، وإمّا مرات متعددة -كما هو الشأن بالقياس إلى البغدادي في خزانة الأدب- صراحة، منها نصوص قديمة يعود العهد بها إلى القرن الثاني الهجريّ. والنصوص التي وردت في تلك المصادر هي لأبي زيد القرشي (74)، وأبي الفرج الأصبهاني (75)، وابن عبد ربه الأندلسيّ(76)، وابن رشيق المَسَليّ القيرواني(77)، وياقوت الحموي (78)، وابن كثير (79)، وابن خلدون (80)، والبغدادي (81)... فهل يجب أن نعدّ هؤلاء جميعاً سُذَّجاً وغَفَلَةً عن العلم ففاتهم أن يعرفوا اللُّغْزَ في هذه المسألة؟ إننا نعتقد أنه لايمكن أو يوجد دخان بلا نار، ولا نار بلا مادّة قابلة للاحتراق. وأنّ الأخبار الكبيرة، أو ما نودّ أن نطلق عليه نحن كذلك، يمكن أن يُتَزَيَّدَ فيها، ويمكن أن تُنْحَلَ مُتونَها، وتُحَرَّفُ رواياتُها؛ لكننا لا نعتقد أنّها تُختلق من عدم، وتنشأ من هباء.... ففكرة المعلّقات، في تقديرنا، غالباً ما تكون قد وقعت بالفعل على نحو ما، ولقصائد ما، نرجّح أن تكون القصائد السبع نفسها التي شرحها الزوزني، لأنها فعلاً من روائع الشعر الإنسانيّ على الإطلاق...(1/58)
والذين لم يذكروا المعلّقات باسمها صراحة أمثال ابن قتيبة، وابن سلام الجحمي، والمرزيانيّ، والجاحظ -من مؤرّخي الأدب القدماء- فإنهم، في الحقيقة، ذكروها ضمناً حيث وقع اختيارهم على كثير من الأشعار المعلّقاتيّة، أساساً، كما وقع ذلك خصوصاً بالقياس إلى معلّقة امرئ القيس التي كلف بها القدماء كلفاً شديداً: فلهجوا برواية أبياتها والتعليق عليها، وإبداء الإعجاب بها طوراً، وانتقادها طوراً آخر. ولكنّ الإعجاب كان هو الأغلب الأطفح...
ثمّ إن المصطلح النقديّ العربيّ ظلّ طول الدهر، وفي كثير من أطوار حياته، يعاني الاضطراب والتساهل والتسامح في الاستعمال؛ فإذا كان طه حسين حين كان يتحدث عن إحدى روايات نجيب محفوظ الشهيرة ألفيناه يصطنع اصطلاح "قصّة" (وهو يريد مصطلح) "رواية"، وكان ذلك في الأعوام الخمسين من هذا القرن: فما القول في النقاد القدماء الذين كثيراً ما كانوا يعبّرون عن المعلّقة بالطويلة لأنها طويلة فعلاً، ومذهبة، لأنها مذهبة فعلاً، او واحدة، لأنّ بعض المعلّقاتيين لم يشتهر إلاّ بها مثل عمر بن كلثوم، والحارث بن حلّزة، وعنترة بن شداد.... وقل إن شئتَ كلّ المعلّقاتيين ما عدا امرأ القيس الذي اشتهر بمطوّلته الأخراة، العجيبة، أيضاً.(1/59)
وإذن، فلقد كان في أذهان من لم يذكروا المعلّقات السبع، تحت هذا المصطلح، أنها آثر القصائد لدى العرب، وأنّ وصفها بالتعليق لم يكن إلاّ ثمرة من ثمرات تلك العناية الفائقة بها، وترويتها للناشئة، وتَسْيير الرُّكبان بها... فقد ألفيناهم يذكرونها بعدّة أسماء أمثال السمط.. وبينما يذهب ابن عبد ربه إلى أنّه كان يقال للمعلّقات أيضاً "المذهبات"، فيقال: "مذهبة امرئ القيس، ومذهبة زهير، والمذهبات سبع، وقد يقال لها المعلّقات" (83)، ويجاريه في ذلك ابن رشيق فيقرر أنه كان "يقال: مذهبة فلان، إذا كانت أجود شعره. ذكر ذلك غير واحد من العلماء" (84)؛ نلفي أبازيد القرشي يميّز بين المذهبات والمعلّقات والمجمهرات(85)، بعد أن كان أطلق على المعلّقات في بداية الأمر مصطلح "السبع الطوال" نقلاً عن المفضّل، وليس عن أبي عبيدة كما زعم كثير من الناس(86) حيث إنّ النص المروّى عن أبي عبيدة ينتهي، ثم يورد بين قوسين نصّ المفضّل. فليس الخلاف إذن في الجوهر، ولكنه في الشكل؛ إذا يلاعُ كلّ القدماء بهذه السبع، لم يك إلاّ دليلاً خِرِّيتاً على اتفاقهم على روعتها وجودتها، بغضّ الطرف عن الأشكال التي اتخذتها في أذهان الناس...
وعلى أنّ ابن رشيق كان أورد في بداية كلامه أنّ الذي يقرره إنما هو نقلاً عن أبي زيد القرشي حيث قال: "وقال محمد بن أبي الخطاب في كتابه الموسوم بجمهرة أشعار العرب: إنّ أبا عبيدة قال: أصحاب السبع التي تسمّى السمط(87)" (88).... بينما أبو عبيدة، بناء على ما بين يدينا في كتاب "جمهرة أشعار العرب"، لم يقل شيئاً من هذا؛ ولكن الذي قال هو المفضّل حيث ذكر أبو الخطاب ذلك معزوّاً إلى المفضل إذ كتب: "وقال المفضّل: هؤلاء أصحاب السبع الطوال التي تسميها العرب السموط...." (89).(1/60)
ونجد أبا الخطاب القرشي، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وهو أقدم هؤلاء المؤرخين جميعاً (توفي سنة 170هـ) يطلق مصطلح "المذهبات" على غير "المعلّقات" حيث قال: "وأمّا المذهبّات فللأوس والخزرج خاصّة: وهنّ لحسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، ومالك بن العجلان، وقيس ابن الخطيم، وأحيحة بن الجلاّح، وأبي قيس بن الأسلت، وعمرو بنو امرئ القيس" (90).
فما هذا الخلط، وما هذا الغُثاء من الآراء؟
فالأولى: إنّ ابن رشيق يجعل رواية القرشي عن أبي عبيدة، بينما الرواية في النصّ المستشهد به، هي في الحقيقة، عن المفضّل.
والثانية: لعلّ المصدر الأوّل المكتوب الذي تحدّث عن المعلّقات ضمناً: تحت مصطلح "السبع الطوال" طوراً، و"السموط" طوراً آخر، وصراحة حين قال: "تمّت المعلّقات، ويليها المجمهرات" (91) إنماهي "جمهرة أشعار العرب".
والثالثة: فات الأستاذ طلال حرب أن يطّلع على أن القرشيّ هو أيضاً ذكر مصطلح المعلّقات صراحة في صلب كتابه، فأخرجه من طبقة من ذكروا المعلّقات، كما فاته الاطلاع على ما ورد من معلومات ذات شأن حول المعلّقات -بذكر هذا المصطلح صراحة- في السيرة النبويّة لابن كثير(92).
والرابعة: إنّ ما حيّر الأستاذ طلال حرب بناء، على نصّ أو رده الرافعيّ، غير موثَّقٍ، معزوّاً لابن الكلبي (93) لا يحتاج إلى كُلِّ هذا العناء ما دام الرافعي لم يكن يلتزم بالمنهج الجامعيّ الصارم في توثيق النصوص التي يستشهد بها، وهو على كلّ حال، في بعض ذلك غير مُليم، لأنه لم يضع النص الذي نقله منسوباً إلى ابن الكلبي بين علامات التنصيص، ممّا يوحي، منهجيّاً، بأنّه متصرّفٌ فيه....(1/61)
والخامسة: إنّ ما حيّر طلال حرب حين لم يتمكّن من الاطلاع على المصدر الذي استقى منه الرافعي، مرفوعاً إلى ابن الكلبيّ، والذي كان الرافعيّ أو رده: فإننا نميل إلى أنّ ذلك النص، قد يكون منقولاً من ابن كثير (94). ولكن لمّا كان الرافعي لا يلتزم باصطناع علامات التنصيص الأكاديميّة فإنه كان لايتحرّج في التصرّف في الكلام، وربما سها فعزا ما كان قاله ابن قتيبة حَوالَ عمرو بن كلثوم، كما سنرى، إلى ما قاله عن الحارث بن حلّزة (95). فقد كان ابن كثير، لدى تعرّضه للمعلّقات السبع، كثيراً ما يذكر ابن الكلبي. بيد أنّ النص الذي ذكره الرافعي متصرفٌ فيه غالباً، ونفترض أنه مركب من جملة نصوص (من ابن كثير، وابن رشيق، والبغدادي...)...
والسادسة: إنّ الأستاذ الرافعيّ وقع في خلط عجيب، ولبس مشين... ولا يمكن التعويل عليه فيما أورد في كتابه "تاريخ آداب العرب" حول هذه المسألة؛ إذ لم يتّبع أصول التوثيق الأكاديميّ المعمول به بين الباحثين، لأنه، مثلاً،:
1- يقول: "وقال ابن قتيبة في ترجمة طرفة: وهو أجودهم طويلة" (96). بينما لم يقل ابن قتيبة، في الأصل، شيئاً من هذا، ولكنّ القول مرويّ أولاً عن أبي عبيدة، والمقولة في أصلها، آخراً" أجودهم واحدة" (97)؛ وليست: "أجودهم طويلة" -إلاّ أن تكون طبعة الشيخ غير طبعتنا، فمعذرة.
2- ويخلط الرافعيّ بين النص الواردعن عمرو بن كلثوم فيجعله وارداً حول الحارث بن حلّزة، وذلك حين يقول:
"قال (ابن قتيبة) في ترجمة الحارث بن حلّزة عند ذكر قصيدته، وهي من جيّد شعر العرب، وإحدى السبع المعلّقات" (98).
والحق أنّ ذلك النص كان ورد عن شأن عمرو بن كلثوم، لا عن الحارث بن حلّزة؛ إذ يقول ابن قتيبة عن معلقة ابن كلثوم: "وهي من جيّد الشعر العربيّ القديم. وإحدى السبع" (99).(1/62)
وقدسها الرافعي مرتين اثنتين: حين نقل النص من ابن قتيبة، ثم حين نقله من البغداديّ الذي يقرر هو أيضاً، نقلاً عن ابن قتيبة: "قصيدة عمرو بن كلثوم من جيّد شعر العرب، وإحدى السبع" (100). فالأمر إذن ينصرف إلى عمرو بن كلثوم لا إلى ابن حلّزة...
إنه لا أحد يستطيع القطع، أمام هذه الاختلافات بين المؤرخين، بعدم تعليقيّة المعلّقات السبع، وإلا فعلينا أن نرفض تاريخ الأدب العربيّ كلّه ونستريح.
سادساً: استبعاد فكرة التعليق:
ولكن هل هذا ممكن؟ وكيف نذهب مذهبين اثنين، متناقضين، في مقام واحدٍ، وكيف يمكن الجمع بين الاستنتاجين؟ وهلا اجتزأنا بموقف واحد صريح، وحكم واحد صارم واسترحنا؟ أو لا يكون هذا ضرباً من التردد، وجنساً من الاضطراب، في الموقف؟
وإنّا لانرى شيئاً من ذلك. وإنّا لا نجد أيّ حرج في وقوف الموقفين، وقيام المقامين معاً... ذلك بأنّنا، لا نؤمن بإصدار الأحكام القطعيّة حول القضايا المشكلة... ونحن إذ نفتح الباب لاستبعاد فكرة التعليق، بعد أن كنّا ملنا إلى استبعاد فكرة عدم التعليق؛ فلأننا نؤمن بحرية الفكر؛ ولأننا نعتقد أن أتّرَاكَ باب البحث مفتوحاً هو الأسلم والأرصن..
ونحن إذ كنّا نؤمن بفكرة التعليق؛ فإنما نصرفه إلى غير التعليق على أركان الكعبة....وهذا ما نودّ بحثه في هذه الفقرة...
وإذن، فأَنْ تكونَ القصائدُ السبع الطوال، أو المعلّقات السبع، علّقت على جدران الكعبة كما زعمت بعض المصادر القديمة، وثلاثة منها مغاربيّة (ابن رشيق، وابن عبد ربه، وابن خلدون) فذاك أمر نرتاب فيه؛ و لانميل إليه. وإنما نرتاب فيه لبعض هذه الأسباب:
1- إنّ الكعبة كانت تعرضت للنهب، وللسيول الجارفة (101)، وللتهدّم والتساقط(102).(1/63)
2- إنّ المؤرخين القدامى من اتّفقوا على أنّ الكعبة لم تكن مسقوفة (103). وإذا لم تكن كذلك، فكيف يمكن تعليق جلود مكتوبة عليها، بَلَهْ ورق القباطيّ الشديد الحساسية للعوامل الجويّة (وذلك مجاراة لأقوال بعض الأقدمين مثل ابن رشيق الذي قرر بأنها كانت مكتوبة على القباطيّ) والحال إنّ أيّ كتابة لايمكن أن تبقى متوهّجة مقروءة، لزمن طويل، تحت تأثير العوامل الطبيعيّة مثل الرياح، وأشعّة الشمس، ورطوبة الليل، وبلّ المطر؟
3- اتّفق المؤرخين العرب القدامى أيضاً على أنّ الكعبة لم تكن مَمْلوطَة، ولكنّ بناءها كان عبارة عن رَضْم، أي رصْفِ حجرٍ على حجر من غير مِلاَطِ(104).
4-إنّ المؤرخين القدماء أمثال ابن هشام، وابن كثير، والمسعودي، وياقوت الحموي اتفقوا على أنّ الكعبة لم تسقف إلاّ حين جدّدت قريش بناءها الذي كان قبل البعثة بزهاء خمس سنوات فحسب. والذين يذهبون إلى تعليق تلك القصائد على أستار الكعبة إنما يذهبون، ضمناً، إلى أنّ ذلك كان على عهد الجاهليّة.
5- إنّ موادّ الكتابة، على تلك العهود، كانت من البدائيّة والبساطة بحيث لم يكن ممكناً، عقلاً، أن يكتب كاتب نصّاً طويلاً يقترب من ثمانين بيتاً، تزيد قليلاً، أو تنقص قليلاً، على جلد غزال، أو على قباطيّ.
6- إنّ هذه النصوص الشعريّة السبعة لطولها، لو جئنا نكتبها اليوم على جدران الكعبة، أو على جدران أيّ بناء آخر في حجم بنائها، على مواصفات العهود الأولى- وعلى ما نمتلك اليوم من وسائل متطورة للكتابة- للاقينا العناء والعنت في كتابتها كلها على تلك الجدران.(1/64)
... ... وعلى أننا كنا أثبتنا في الحيثيّة الثالثة، من هذا التحليل، أنّ جدران الكعبة لم تكن مملوطة بالملاط، ولكنّ حَجَرها كان عارياً، ويبدو أنّه كان مبنياً على الطريقة اليمنيّة التي تقوم على البناء بالحجر بدون ملاطٍ للربط بين الحجر والآخر. ولعلّ جدران الكعبة لم تملط إلا حين أعاد بناءها عبد الله بن الزبير، بعد أن تعرضت لقذفات المنجنيق التي قذفها بها الحجاج من أبي قبيس، وذلك حين احتمى بها ابن الزبير الذي كان أعاد بناءها بعد أن سمع من خالته عائشة رضي الله عنها حديثاً يرغّب في تجديد بنائها، وتغيير هندسة هيكلها (105).
7- كان في أهل الجاهليّة حنيفيّون، ولم يكن ممكناً أن يرضوا بأن تعلّق على جدران أقدس بيت وضع للناس أشعار تتحدث عن المضاجعة والمباضعة، وسيقان النساء وأثدائهن، وشعورهن وثغورهن...
فعلّ هذه العوامل، مجتمعةً، أن تَحْمِلنا على الذهاب إلى استبعاد فكرة تعليق تلك القصائد على جدران الكعبة، في أي عهد من العهود؛ وذلك على الرغم مما يروى عن معاوية بن أبي سفيان أنّه قال: "قصيدة عمرو بن كلثوم، وقصيدة الحارث بن حلزة من مفاخر العرب، كانتا معلّقتين بالكعبة" (106).(1/65)
وهذه رواية غريبة، ولا ندري من أين استقاها البغدادي. وهي على كلّ حال تدلّ على أنّ فكرة التعليق كانت، فعلاً، واردة لدى الناس. وأنّ هناك إلحاحاً على التعليق الذي نصرفه نحن، بناء على هذه المقولة وغيرها، إلى أنّ العرب ربما كانت تعلّق هذه القصائد على الكعبة أثناء موسم الحج فقط، وذلك بعد أن تكون قد أُنْشِدَتْ في سوق عكاظ.. وأعتقد أن هذا المذهب قد يحل المشكلة من أساسها فيثبت التعليق فعلاً، ولكن يحدد من زمنه بحيث لايجاوز موسم حجّ واحد.. ومن الآيات على ذلك أن معاوية هنا، إن ثبتت رواية مقولته، يقرن بين قصيدتين متكاملتين على تناقضهما وهما القصيدتان اللتان تتحدثان عن العداوة التي كانت بين بكر وتغلب. فكأن تينك القصيدتين علّقتا على الكعبة معاً في موسم واحد. ونحن لم نهتد إلى هذا الرأي إلا من خلال مقولة معاوية الذي لا يتحدث عن معلقات، ولكنه يتحدث عن معلقتين اثنتين، كما رأينا.
فذلك،إذن، ذلك.
وأما فكرة القبول بالتعليق فيمكن أن تؤوّل على أساس أنها لم تكن على جدران الكعبة، إذ لا يمكن، من الوجهة المادية، ومن الوجهة التقنية أيضاً، تعليق كلّ هذه النصوص على جدران البيت، ولكنها عُلِّقَتْ في مكتبات ما. ويؤيد ذلك ما يعزى إلى بعض الملوك حيث "كان الملك إذا استجيدت قصيدة يقول: علقوا لنا هذه، لتكون في خزانته" (107).
وربما أتت فكرة التعليق أيضاً مما يُعْزَى إلى عبد الملك بن مروان من أنه طرح شعر أربعة معلقاتيين، وأثبت مكانهم أربعة (108) آخرين.
بل ربما أتت من "أنّ بعض أمراء بني أمية أمر من اختار له سبعة أشعارٍ فسماها المعلقات" (109). لكنّ البغدادي الذي يبدو أنه تفرّد بهذه الإشارة، على الأقلّ فيما اطلعنا عليه نحن من مصادر، لم يذكر المصدر الذي استقى منه هذه المعلومة، ولا كيف سمّاها المعلقات، وهي لم تعلق (وذلك ما يفهم من قول البغدادي)؟
إننا نعتقد أن ذكر أربع ملابسات تاريخية، وهي:(1/66)
1- ورود ذكر اسم عبد الملك بن مروان، وأنه قرر طرح أربعة أسماء، وإثبات أربعة آخرين، من المعلقاتيين، ولم يكن ذلك ليحدث إلا بعد الاستئناس برأي نقّاد الشعر على عهده؛
2- ورود ذكر "بعض أمراء بني أمية"؛
3- ورود ذكر حماد الراوية المتوفّى سنة خمس وخمسين ومائة من الهجرة، وقد سلخ معظم عمره في عهد دولة بني أمية؛ وأنّه هو الذي جمع المعلقات فيما يزعم أبو جعفر النحاس (110)، وهو ذاك؛ فإنّ ابن سلام الجمحيّ كان أومأ إلى هذا حين ذكر "أنّ أوّل من جمع أشعار العرب، وساق أحاديثها، حمّاد الراوية. وكان غير موثوق به. وكان ينحل شعر الرجل غيره، وينحله غير شعره، ويزيد في الأشعار" (111).
... (وإنما جئنا بما هو ذو صلة بعدم ثقة حمّاد الراوية لكي نربط بينه وبين ما سيقوله أبو جعفر النحاس الذي قرر أنّه لمّا رأى حماد الراوية "زهد الناس في حفظ الشعر، جمع هذه السبع وحضّهم عليها، وقال لهم: هذه المشهورات"(112).
4- كان سبق لنا، منذ قليل أن أوردنا قولاً لمعاوية يقرر فيه أنّ قصيدتي عمرو بن كلثوم، والحارث بن حلزة من مفاخر العرب، وأنهما "كانتا معلقتين بالكعبة دهراً" (113). ومعاوية هو مؤسس الدولة الأموية...
ولقد ينشأ عن هذه الملابسات التاريخية الأربع:
1- ... إنّ فكرة التعليق، وحدوثها الاحتماليّ، لم تظهر إلاّ في العهد الأمويّ، لارتباطها بذكر أربع سِمَاتٍ تاريخيةً أمويّة: لا جاهليّة، ولا إسلامية، ولا عباسية.(1/67)
2- ... إنّ إشارة أبي جعفر النحاس إلى زهد الناس في الشعر هو الذي حمل حماد الراوية، ليس على جمع القصائد السبع الطوال فحسب، ولكن على التهويل من شأنها، وربطها بمقدسات وطقوس دينيّة تتمثل في أركان الكعبة حتى يقبل الناس على حفظها، وروايتها، وتَرْويَتها، وترويجها، في الآفاق، وقد أفلح حماد، حقاً، فيما أراد إليه. ونحن ندين بالفضل في حفظنا المعلقات، وعنايتنا الشديدة بها إلى هذا العهد، من حيث هي أجود، أو من أجود الشعر العربي القديم على الإطلاق، وذلك على الرغم من احتمال زيادة حماد في نصوص هذه المعلقات ما لم يكن فيها.
3- إننا نميل إلى أنّ فكرة المعلقات ليست مجرد أسطورة في الأساطير، ولكن قد يكون لها أساس من التاريخ والواقع، بشرط ربطها بأمرين اثنين:
1- إنّ التعليق هو التعليق في خزانة بعض أمراء بني أمية أو ملوكها.
2- إنّ التعليق إذا انصرف إلى الكعبة إمّا أن يكون شكل الخطّ، حينئذ، على غير القباطيّ، ولا هو من مادة الذهب، ولا من شيء مما يزعم ابن رشيق، وابن عبد ربه. ولكنّ الكتابة ربما كانت بمداد الوَذْح المحرق، وعلى لوح من الألواح التي كانوا يكتبون عليها أشعارهم أول ما تُمْلَى.
... ... وكانت تلك السيرة قائمةً إلى عهد جرير (114). وقد ظلّت في الحقيقة قائمة في كتاتيب القرآن ببلاد المغرب إلى يومنا هذا... وإمّا أنّ التعليق لم يكن يستمرّ لأكثر من أيام موسم الحج، أو لفترة معينّة، كأنها تشبه شكل المعارض على عهدنا هذا.. وقد يدل على ذلك قول معاوية:
... ... "كانتا (يريد إلى معلقتي عمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة) معلقتين بالكعبة دهراً" (115). فكأنّ معنى الدهر في كلام معاوية ينصرف إلى فترة محدّدة، ثم ينقطع. وهو أمر واضح.
4- إننا نستبعد أن تكون القصائد السبع الطوال كلها علقت على أركان الكعبة مجتمعة، وظلّ التعليق متتالياً فيها، وذلك للأسباب السبعة التي جئنا عليها ذكراً، في بعض هذا التحليل.
وإذن؟(1/68)
وإذن، فنحن نميل إلى قبول فكرة التعليق بشرط ربطها بما قدمنا منذ حين من احترازات. على حين أنّ فكرة رفض التعليق يمكن الذهاب إليها إذا أصرّ المصرون على أنّ المعلقات علقت على أركان الكعبة، في وقت واحدً، وظلّت معلقة هناك، وأنها كتبت في القباطيّ، وأنّ حبرها كان ذهباً.
ولعلنا ببعض ذلك تعمدنا أن نذر الباب مفتوحاً للنقاش والجدال من حول هذه المسألة اللطيفة التي يلذّ حولها البحث، ويحلو عنها الحديث.... فليظل باب البحث مفتوحاً للمجتهدين..
(
( إحالات وتعليقات
1- البغدادي، خزانة الأدب، ولبّ لباب لسان العرب، 1- 330-331 (تحقيق ع. هارون)، والآمدي، المؤتلف والمختلف، 5.
2- المرار: بضمّ الميم، نبت من أفضل العشب وأضخمه، "إذا أكلته الإبل قلّصت مشافرها فبدت أسنانها، ولذلك قيل لجدّ امرئ القيس: آكل المرار، لكشر كان به" (البغدادي، م.م.س.، 1-331(الخانجي).
3-القرشي، جمهرة أشعار العرب، 39، وابن قتيبة، الشعر والشعراء، 1-57.
4- ابن حزم الأندلسي، جمهرة أنساب العرب، 359-330.
5- ابن قتيبة، م.م.س.، 1-217.
6- المرزباني، الموشّح، 105.
7-ابن قتيبة، م.م.س. ، 1-50-75، أبو الفرج الأصبهاني، الأغاني، 9-80.
8- ابن قتيبة، م.م.س.، 1-26، وأبو الفرح، م.م.س.، 9-81.
9- ابن قتيبة، م.م.س.، 1-62، والأصبهاني، م.م.س.، 9-76-103 حيث أطنب أبو الفرج في سرد سيرة امرئ القيس، وأخبار أسرته، وماحدث له من خطوب قبل مقتل أبيه، وبعده. وانظر أيضاً البغدادي، م.م.م.س.، 1-329-335 (الخانجي).
10- المصادر السابقة.
11- المصادر السابقة.
12-الأصبهاني، م.م.س.، 9-86.
13- القرشيّ م.م.س.، 38.
14- الأصبهاني، م.م.س.، 9-76.
15- م.س.، 5-29-55، وابن قتيبة، م.م.س.، 1-217.
16- م.س.، 1-216-217.
17- الأصبهاني، م.م.س، 8-304، وابن قتيبة، م.م.س، 1-120-121، والبغدادي، م.م.س.، 1-414 (بولاق).(1/69)
18- ابن حزم، م.م.س.، 195، وابن قتيبة، م.م.س.، البغدادي، م.م.س.، 1-153 (بولاق).
19- ابن حزم، م.م.س.، 304، وابن قتيبة، م.م.س، 19120-121، والبغدادي، م.م.س، 1-519-520.
20- ابن حزم، م س، 400، وأبو الفرج، م.م.س، 8-242، وابن قتيبة، م.س.،1-171، والبغدادي، م.م.س.، 1-62 (بولاق).
21- ابن حزم، م.س.، 201، وابن قتيبة، م.س.، 1-76، والأصبهاني، م.س.، 10-298، والبغدادي، م.س.، 1-377 (بولاق).
22-الأصبهاني، م.س.، 15-291 وابن قتيبة، م.س.، 1-194، وابن حزم، م.س.، 285، والبغدادي، م.س.، 1-337( بولاق).
23- ابن قتيبة، م.س.، 1-157-158.
24- م.س.، 1-159.
25- م.س.، 1-172، والبغدادي، م.م.س.، 1-128-129 (الخانجي).
26- ابن قتيبة، م.م.س.، 1-173، والبغدادي، 1-128 (الخانجي).
27- ابن قتيبة، م.س.،
28- م.س.، 1-117، والبغدادي، م.م.س.، 1-414 (بولاق).
29- ابن حزم، م.م.س.، 400، والأصبهاني، م.م.س.، 8-242، وابن قتيبة، م.م.س.، 1-171، والبغدادي، م.م.س.، 1-128 (الخانجي).
30-ابن قتيبة، م.س.، 1-118.
31- م.س.، 1-66.
32- البغدادي، م.م.س.، 1-317 (بولاق)، ومن الناس يزعم أنّ الذي قتله رجل من طيئ، ومنهم من يقول: بل مات حتف أنفه.
33- الأصبهاني، م.م.س.، 9-85.
34- م.س.، 9-90-91.
35- encyclopaedia universalis, t. 19, p. 1467.
36- البغدادي، م.م.س.، 1-317 (بولاق).
37- ابن قتيبة، م.م.س.، 1-195.
38- الأصبهاني، م.م.س.، 15-291.
39- م.س.،
40- م.س.
41- encyclopaedia universalis, t. 19, p. 114.
42- ابن حزم، م.م.س.، 456.
43- محمد بن سلاّم الجمحي، طبقات فحول الشعراء، 1-26.
44- م.س.
45- ابن قتيبة، م.م.س، 1-29-30.
46- الشريف المرتضى، أمالي المرتضى، 1-237.
47- الآمدي، م.م.س، 164. وقد نقل الآمدي عن ابن سلام الجمحي. والظاهر أنهم جميعاً نقلوا عنه، بينما هو سكت عمّن عنه نقل.
48- أورد ابن سلاّم مقطوعة للعنبر بن عمرو بن تميم (طبقات فحول الشعراء،(1/70)
1-26-27). كما أورد ابن قتيبة ثلاث مقطوعات: اثنتين منسوبتين، وواحدة تحت عنوان: وقال الآخر". وهذا الآخر يسميمه ابن سلاّم فيزعم أنه دويد نهد القضاعيّ، انظر ابن سلام، م.س.، 1-32، وابن قتيبة، م.م.س.، 1-48.
49- ابن كثير، السيرة النبويّة، 1-241.
50- المرزباني، م.م.س.، 105.
51- الشريف المرتضى، م.م.س.، 1-236.
52- ابن كثير، م.م.س.، 501.
53- أبو عثمان الجاحظ، الحيوان، 1-74.
54- محمد نجيب البهبيتي، تاريخ الشعر العربيّ_ حتى آخر القرن الثالث الهجريّ، ص 4،
55- شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي، العصر الجاهليّ، 38.
56- م.س.
57-الجاحظ، م.م.س.، 1-72.
58- علي البطل، الصورة في الشعر العربيّ حتى آخر القرن الثاني الهجريّ، دراسة في أصولها وتطورها، 34.
59- ابن كثير، م.م.س.، 1-58-59، وابن هشام، السيرة النبويّة، 1-115-116، وياقوت الحموي، معجم البلدان، 3-227-228، والمسعودي، مروج الذهب، 1-23، والقرشيّ، م.م.س.، 21.
60- ابن هشام، م.س.، 1-116.
61-encyclopaedia universalis, abraham.
62-المسعودي، م.م.س.، 1-24.
63- ابن جنّي، الخصائص، 1-386، وابن سلاّم، م.م.س.، 1-24.
64-ابن جنّي، م.س.، وابن سلام، م.س.، 1-25.
65- ابن كثير، م.م.س، 1-58.
66-م. س.،
67- م.س.، 1-59، ذلك، وأنّ الأبيات، هي:
يا أيها الناس سيروا إنّ قصدكم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا
حثّوا المطايا وأرخوا من أزمتها ... قبل الممات وقضّوا ما تقضّونا
كنّا أناساً كما كنتم فغيّرنا ... دهر، فأنتم كما صرنا تصيرونا
... ... وقد ذهب ابن كثير، وابن هشام، معاً، إلى أنّ هذه، هي أيضاً لابن مضاض، ومن الغريب أنها ماضية في باب الأبيات الأولى: فهي إما صادقة جداً، وإما كاذبة جداً. أي أنها إذاً لم توجد مكتوبة على الحجر باليمن، وأنها مدسوسة، فإنّ الداسّ شاعر محترف يعرف كيف يدرج في مسلك فنّي واحد... وانظر ابن هشام، م.م.س، 1-114-116.
68- م.س.، وابن كثير، م.س.، 1-81.(1/71)
69- القرشيّ م.م.س.، ص20 وما بعدها، وانظر ابن سلامّ، م.م.س، 1-11 وابن سلاّم من أوائل من نبّه إلى ضعف هذه الأشعار، بل الذهاب إلى أنها مكذوبة. واتّهم محمد بن اسحاق بجهله بالشعر... (ابن سلام، م.س.، 1-7-8).
70- ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، 1-65.
71-طلال حرب، الوافي بالمعلقات، بيروت، 1993 (الفصل الأول).
72- الرافعي، تاريخ آداب العرب، 3-186-261.
73- أبو جعفر النحاس، شرح القصائد التسع، ص 262.
74- القرشيّ م.م.س، 34 و 100.
75- الأصبهاني، م.م.س، 2-206، 11-37، 38، 48...
76- ابن عبد ربه، العقد الفريد، 5-269.
77- ابن رشيق، م.م.س.، 1-96.
78-ياقوت الحموي، معجم الأدباء، 4-140.
79- ابن كثير، م.م.س.، 1-118-121.
80- ابن خلدون، المقدمة، 1122.
81-البغدادي، م.م.س.، مواقع كثيرة، منها مثلاً: 1-10، 16،158،339،114،
518 ط. بولاق).
82-القرشي، م.م.س.، 34.
83-ابن عبد ربه، م.م.س.، 5-269.
84- ابن رشيق، م.م.س.،
85-القرشيّ، م.م.س.، ص100.
86-م.س.، ص34.
87- كذا وردت هذه العبارة، ونحن لا نعرف هذا الحرف خالياً من الواو في معنى هذا الباب. ولقد وردت في النصّ الأصليّ لأبي الخطّاب "السبع الطوال التي تسمّيها العرب السموط"، م.س.، 34.
88- ابن رشيق، م.م.س.، 1-96.
89-القرشيّ، م.م.س.، ص 34.
90- م.س.ص، 35.
91- م.س.، ص 100.
92- طلال حرب، م.م.س.، ص 26.
93-الرافعي، م.م.س.، 3-187.
94- ابن كثير، م.م.س.،
95- الرافعي، م.م.س.، 3-188، وابن قتيبة، م.م.س.، 1-159، والبغداديّ، م.م.س.،
1-519 (بولاق).
96- الرافعي، م.س.، وابن قتيبة، م.م.س.، 1-121.
98- الرافعي، م.س.،
99- البغدادي، م.م.س.، 1-159.
100- البغداديّ، م.م.س.، 1-519.
101- ياقوت الحموي، معجم البلدان، 7-259، وابن هشام، م.م.س.، 1-193.
102-م.س.، والمسعودي، م.م.س.، وابن كثير، م.م.س.،
103- ابن كثير، م.م.س.، 1-166، وابن هشام، م.م.س.، 1-192-193.(1/72)
104- ابن هشام، م.س.، 1-193.
105- ياقوت، م.م.س.، 7-260.
106- البغدادي، م.م.س.، 1-520 (بولاق).
107- م.س.، 1-61 (بولاق).
108- م.س.،
109- م.س.،
110- ياقوت، معجم الأدباء، 4-140.
111- ابن سلاّم، م.م.س.، 1-48.
112- النحاس، شرح القصائد التسع المشهورات، تحقيق أحمد خطاب، دار الحرية، بغداد، 1973، ص 282.
113-البغدادي، م.م.س.،
114- م.س.، 1-35 (بولاق).
115- م.س.، 1-520 (بولاق).
((
بنية المطالع في المعلقات
أولاً: لماذا الطلل؟
لقد علّل ابن قتيبة نقلاً عن بعض معاصريه أنّ "مُقصِّدَ القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار: فبكى وشكا، وخاطب الربع، واستوقف الرفيق؛ ليجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنين عنها؛ إذ كان نازلة العمد في الحلول والظعن، على خلاف ما عليه نازلة المدر من انتقالهم من ماء إلى ماء، وانتجاعهم الكلأ، وتتبعهم مساقط الغيث حيث كان، ثمّ وصل ذلك بالنسيب (...) ليُمِيلَ نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه"(1).
وإذاً، فقد نَبَّه النقاد القدماء لعلة ابتداء مقصِّدِي القصائدِ بذكر الديار، ووصف الدمن، والوقوف على الربوع يبكون لديها، ويشكون من تَحّمُّل أهلها عنها، ومزايلة الأحبة إياها فيذكرون الأيام الخوالي، والأزمان المواضي؛ وما كانوا نَعِموا به فيها من اللحظات السعيدات، مع الحبيبات الوامقات: إما بالنظرات والرنوات، وإما بتبادل أسقاط الحديث، وأما بنيل أكثر من ذلك منهنّ... يذكرون كلّ ذلك فتذرف منهم العيون تذرافاً، وتهيم بهم الصبابة، وترتعش في أعماقهم العواطف، وتلتعج في قلوبهم المشاعر، فينهال عليهم الشعر الجميل انهيالاً، كما تنهال من أعينهم الدموع الغزار حتى تبلّ محامِلَهم.
__________
(1) - ابن قتيبة، الشعر والشعراء، 1-20(1/73)
وكان هذا الدّيْدُن جِبِلّةً في ذلك المجتمع البدويّ الذي لم يك نظامه ينهض على الاستقرار كما كان ذلك مفترضاً في الحواضر العربية مثل مكة، ويثرب، وصنعاء، والحيرة...، وإنما كان ينهض على نظام التظعان: انتجاعاً للكلأ، والتماساً لمدافِع الماء، وارتشافاً لمنابعها، وارتواء بما في غدرانها؛ فكان المقام لا يكاد يستقرّ بهم قرارُه. وعلى الرغم من أنّ تلك المقامات التي كانت تقع لهم على عيون الماء وغدران الأمطار لا دَيَّارَ يعرفُ مُدَدَ أزمنتها؛ فإننا نفترض، مع ذلك، أنها كانت لا تزيد عن الشهرين والثلاثة. وعلى قِصَر هذه المدد التي كانت تُقَضَّى بتلك الغدران والمراعي المُمْرِعَةِ إلاّ أنها كانت مُجْزِئةً لاضطرام علاقات غرامية بين فتيات وفتيان ما أشدّ ما كانت قلوبهم تهفو للحبّ وتتعلقّ به. وغالباً ما كانت تلك العلاقات الغراميّة تقع بين أقاربَ وأهلِ عشيرة، لقيام تلك الحياة البدويّة المتنقلة على النظام القبلي أو العَشَريّ. وربما كانت تقع بين أجنبيّ عن القبيلة المتنقّلة بإحدى فتياتها.... وغالباً ما كان ذلك الحب يظلّ مكتوماً غير معلنٍ، وخفيَّاً غير ظاهرٍ؛ وإلاّ فهي المآسي للحبيبين الاثنين... ذلك بأنّ العرب كانوا يُحرِّمون على مَن يحبُّ فتاة ويشتهر حبُّه إيّاها أن يُقْدِم على اختطابها من أهلها. وكانوا يعدُّون ذلك من الفضائح وملطّخات الشرف. وإنّا لا نحسب أنّ أولئك الشعراء كانوا يصفون الدِمَنَ والأطلال، وخصوصاً أوائلهم، لمجرد حبّ الوصف، وإمتاع المتلقين؛ وإنما كانوا يصّورون عواطفهم الجيّاشة، ويعبرون عن تجاربهم الحميمة من خلال أشعارهم. من أجل ذلك كثيراً ما كنا نُلْفيهم يذكرون أسماء المواضع التي يقع حوالها الطلل البالي الذي زايلته الحبيبة وتحمّلت عنه إلى سوائه من مُخْصِبات الأرض، ومُرْوِيَات الأودية.(1/74)
ولكننا نحسب أنّ ذِكْر أسماء النساء الحبيبات (زهير: أمّ أوفى؛ لبيد: نوار؛ عنترة: أم الهيثم؛ الحارث بن حلزة: هند.....) في المعلقات خصوصاً لم يكن يعني أن تلك الأسماء كانت تنصرف حقاً إلى حبيبات الشعراء، وإلاّ رُبَّتما كانوا قُتِلُوا قتلاً وَحِيّاً، وفُتِكَ بهم فتكاً ذريعاً. وإنما هي، في تمثّلنا على الأقل، أسماءٌ رمزيّة لا تعني إلاّ سمةً دالة على نساء بدون تخصيص للنسب، ولا تدليل على الانتماء العائليّ الحقيقيّ؛ ففي كلّ قبيلة عربية كان يوجد عدد لا يحصى من النساء ممن كن يَتَكَنَّين أويَتَسمين أُمَّ أوفى، ونَواراً، وأمَّ الهيثم، وهِنْداً...
والحق أنَّ ظاهرة الطلل في الشعر العربي قبل الإسلام الذي اتخذها له دأْباً لم تأتِ عبثاً؛ و لا لمجرد البكاء على عهود ماضية، وأزْمُنٍ خالية؛ ولا لمجرد الحنين والتعلق بالمكان؛ فتلك جوانب عاطفية وقد تناولها الناس قديماً وحديثاً من ابن قتيبة إلى نقاد عهدنا هذا؛ وإنما الذي يجب التوقّف لديه هو أن هذه الطلليات، أو المطالع الطللية، أو المقدمات الطللية- فبكلّ عبّر النقاد فيما نحسب -كانت جزءاً من تلك الحياة البدوية، الرعويّة، الشظِفَة، الضنْكة التي كان نظامها ينهض على إجبارية التنقل من مرعىً إلى مرعىً، ومن وادٍ إلى واد، ومن غديرٍ إلى غدير. وكانت القبيلة ربما اضطرت إلى التنقل فجأةً عن مستقرها من منزلها إذا خشيت العدوان عليها، أو الإغارة المبيتّة ضدها كما جاءت، مثلاً، بعض ذلك قبيلة بني أسدٍ حين تَوجَّسَتْ أن يُصَبِّحَها امرؤ القيس طلباً بثأر أبيه(1).
__________
(1) -أبو الفرج الأصبهاني، كتاب الأغاني، 9-81 -91.(1/75)
ولما كان نظام حياتهم ينهض على الترحال، وعلى التكيف بطقس الصحراء القاسي الجاف؛ فقد كانوا يجتزئون بأقل ما يمكن التبلّغُ به في الطعام والشراب من وجهةٍ، وبأقلّ ما يمكن التدثّر به من وجهة أخراةٍ. فكانوا، في باديتهم، أقدر على الإجتزاء بأيسر الطعام وأشْظَفِهِ وأسوئه كأكْلِهمُ الْعِلْهِزَ، والحيّات، والجراد، وبأقلّ الشراب وأخبثه كالفظّ والمجدوح(1)، فكانوا أقدر الناس على احتمال الجوع، والظمأ، ووعثاء الأسفار، وأصبرهم على التنقّل في مجاهل الصحراء.
ولم تكن تلك الحواضر العربية القديمة، القليلة، مثلُ مكّة، والطائف، ويثرب، والحيرة، وصنعاء، كافيةً لأن تشعّ بحضارتها، واستقرارها، ونظامها الحَضَريّ القارّ.
وعلى غير ما يحاول أن يثبت أستاذنا نجيب محمد البهبيتيّ(2) من أن العرب كانوا على حظ عظيم من الحضارة والرقي والتعلم: فإننا نميّز بين الحياة في القرى، والحياة في البادية القاحلة. ولا سواءٌ قومٌ تُفْعِمُهُمُ الحساسية بالحياة، وتطبع عواطفهم بالرقة لدى الحبّ، كما تطبع مشاعرهم بالغلظة والقسوة لدى التعرض للمهانة والضيم؛ قومٌ يحرصون على الموت كحرصهم على الحياة لا يبالون أن يُقْتُلُوا أو يُقْتَلُوا: حبُّ الضيف شِنْشِنَتُهُمْ، وإكرامه جبلَّتُهُم، ورعي الذمام خُلُقُهم، والوفاء بالعهد طبعهم، وفصاحة اللسان مجْدهُم، وذكاء الجنان هبة الطبيعة إياهم... وقوم ينتلقون من فجّ إلى فج، ومن كنف إلى كنف دون أن يستقر لهم قرار، لا يكادون يصطحبون أثناء تظعانهم إلاّ المُحِلاّت(3).
__________
(1) -ابن قتيبة، كتاب العرب في الردّ على الشعوبيّة، منشور ضمن "رسائل البلغاء" بجمع محمد كرد علي، ص 365,
(2) -يراجع تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث للهجرة (مجازات مختلفة).
(3) -تراجع إحالة رقم 6 من إحالات المقدمة.(1/76)
ولعلّ كل ذلك، أو بعضه على الأقل، تجسده هذه المطالع الطلليّة التي وردت في القصائد التي عرفت في تاريخ النقد العربي تحت مصطلح "المعلقات"، أو "السبع الطوال" (1) التي تسميها العرب أيضاً "السُّمُوط"، فيما يزعم المفضّل الضبيّ(2).
وقد لاحظنا أن بنبة كل معلقة تقوم على ثلاثة عناصر لا تكاد تعدوها، ولا تكاد تمرق عن نظامها: إذ كلٌّ منهنّ تبتدئ بذكر الطلل أو وصفه، ثم ذكر الحبيبة ووصفها، ثم الانتقال، من بعد ذلك، إلى الموضوع. ولا نستثني من هذا النظام إلاّ معلقة عمرو بن كلثوم التي تخرق العادة بابتدائها بالغزل، ثم وصف الطلل، قبل الانطلاق إلى الفخر. وعلى الرغم من خرق هذا الترتيب، فإن المعلقة تظلّ محافظة على البنية الثلاثية العناصر.
وما عدا ذلك فامرؤ القيس يبتدئ معلقته بوصف الطلل، أو البكاء على الربوع الدارسة، ثم يتدرج إلى الغزل الجسديّ بالنساء فيتوقف خصوصاً لدى حادثة دارة جلجل، لينتهي إلى الفَرَس والليل، والمطر ووصف القفر، أو طبيعة البلاد العربية اليمنية خصوصاً.
__________
(1) - القرشي، جمهرة أشعار العرب، ص. 34. 7-م.س.(1/77)
بينما نلفي زهيراً يبتدئ بالطلل، ويعوج على الغزل، وينتهي إلى وصف الحرب والتزهيد فيها. على حين أنّ طرفة، هو أيضاً، يبتدئ معلقته بذكر الطلل، ويثنّي بالغزل، وينتهي إلى وصف الناقة والافتخار بنفسه وبشيمه، وبإقباله على تبذير ماله في شراب الخمر، والإقبال على الملذّات. ولا يأتي إلاّ بعض ذلك لبيد الذي يبتدئ بوصف الطلل، ويثنّي بالتوقف لدى الغزل، لينتهي إلى الناقة فيصفها ويمجّدها، وينوّه بمكانتها، ويختم معلقته بوصف البقرة الوحشية وصفاً دقيقاً قائماً على تجربة ومُجسداً لمعرفة؛ ولكن على أساس ما لناقته بتلك البقرة الوحشية من علاقة، والتي منها التشابه في السرعة. أما عمرو بن كلثوم فيخالف جميع أصحاب السموط، كما سبقت الإشارة، بابتدائه بالغزل، ثمّ تعريجه على وصف الطلل، قبل الانتهاء إلى الفخر بنفسه، والاعتداد بقومه، في حماسة عجيبة، وغضبة عربية رهيبة.
وأما عنترة بن شداد فإنّا ألفيناه يبتدئ معلقته بوصف الطلل، قبل أن ينزلق إلى الحديث عن امرأة يجتهد في إغرائها به لينتهي، آخر الأمر، إلى وصف فرسه وحُسْنِ تجاوبه معه في المعارك، وقدرته العجيبة على فهمه، وإدراكه الذكيّ لما كان يريده منه وهو يجندل الأبطال في ساحة الوغى.
ولا يأتي الحارث بن حلّزة إلاّ بعض ذلك الضيع حيث يبتدئ بوصف الطلل، والتثنية بوصف حبيبته هندٍ، قبل الانتهاء إلى وصف الناقة التي ينزلق منها إلى وصف الحرب وشدائدها وأهوالها.
فكأنّ نظام البناء العامّ في هذه المعلقات يقوم على:
الطلل -المرأة - الفرس.
الطلل -المرأة - البعير.
الطلل -المرأة - الحرب
الطلل -المرأة -الماء.
الطلل -المرأة -الفخر.
وبتعبير رياضياتيٍّ (نحن نميّز بين النسبة إلى الرياضة، وإلى الرياضيات) تغتدي بنية المعلقات قائمة على بعض هذه القيم أو الرموز:
ا + ب + جـ
ا + ب + د
ا + ب + هـ
ا + ب + و
ا + ب + ز
إلا معلقة عمرو بن كلثوم فإنها تبتدئ بـ (ب)، ثم (أ)، ثم (ج).(1/78)
ولكننا، لدى اختصار هذه النظرة إلى بنية هذه المعلقات، نلفيها؛ في أغلبها، تنهض على: الطلل- الغزل -الحرب. ذلك بأنّ الجُزْءَ الثالث من كل معلقة يمثّل، غالباً، إما الحرب صراحة؛ كما يمثل ذلك في معلقات زهير، والحارث بن حلّزة، وعنترة؛ وإمّا شيئاً من ملازماتها كما يتمثل بعض ذلك في وصف الفرس وجَوَبَان القفار ليلاً، ومعاشرة الذئاب والوحوش الضّارية حيث إنّ هذه المواضيع، كما نرى، هي أدنى ما تكون إلى الحرب، وأبعد ما تكون عن السلم؛ وكما يتمثل في الفخر الملتهب الذي يصادفنا في معلقة عمرو بن كلثوم خصوصاً. وإذن، فهناك خمس معلقاتٍ، على الأقلّ، ينتهين بالحديث عن الحرب، إما بصورة مباشرة، وإما بصورة غير مباشرة.
ومثل هذه السيرة تمثل، بصدق، الحياة العربية قبل ظهور الإسلام حيث كان البقاء للأقوى لا للأصلح، والوجود للأشجع لا للأجبن، إذْ لم تكُ أي قبيلةٍ بمنأىً عن الحرب إما بشنّها هي الغارة على سَوائِها؛ وإما بتعرضها، هي نفسها، لغارةٍ تشُنُّها عليها قبيلةً أخراةٌ مُعادية.
وذلك همٌّ آخر الهموم التي كانت تَضْطَرُّ القبائل العربيّة البدويّة إلى التّظعان على وجه الدهر، والتي كانت تحول دون قيام مجتمع مستقرٍّ ينهض على نظام مدنيّ. وقد نلحظ، أثناء ذلك، أنّ كلّ هذه العلاقات كانت تنهض على ما يسميه الأناسيّون (الأنثروبولوجيون) "نظام القرابة" (1).
كما أننا نلاحظ أنّ الماء يرتبط بالخصب، وأنّ الخصب يرتبط بالأرض، وأنّ الأرض ترتبط بالإخصاب لدى المرأة، وأنّ المرأة نلفيها في مركز اهتمام النصوص الشعريّة الجاهلية. وكلّ ذلك يحدث في وسط يتغيّر عبر الرُّتُوبِ، ويُمارُسُ عليه الانتقال والتحول، ولكنْ داخل حيز مغلق لا يعدوه.
__________
(1) - Edmon Leach. Levi Strauss, P.P .146-171.(1/79)
ونتوقف الآن لدى طلليلة امرئ القيس لنحاول قراءتها من الوجهتين الانثروبولوجية والسِمَائياتيَّة، لنصف ونَُؤَّوِل معاً. ولعلَّنا، ببعض هذا السعي، أن نضيف شيئاً إلى القراءات الكثيرة التي سُبِقْنا إليها، قديماً وحديثاً.
وقبل أن نثبت الأبيات الستة الطلليلة المرقسيّة، نودّ أن نومئ إلى أننا لا نريد أن ننزلق إلى الحديث عن انتماء هذه الأبيات أو عدم انتمائها حقاً إلى امرئ القيس، وذلك على أساس ما ادّعت قبيلة كلب(1) من أنها لامرئ قيسها المعروف بابن الحُمَام(2)، وقل إن شئت ابن حُمام، وقل إن شئت ابن خِدَام (بالدال المهملة)، وقل إن شئت ابن خِذَام (بالذال المعجمة)(3). ولعلك تستطيع أن تحرّف المحرفين فتقول: ابن حزام، وابن حذام(4) إذ من العسير إثباتُ ذلك أو نفيه إلا بدراسة معمقة ومتأنية لخصائص النسيج للنص الشعري الذي صحّ لامرئ القيس الكندي؛ فبذلك وحده يمكن النفي أو الإثبات. أما بالأخبار والروايات فإنها اضطربت وساءت بحيث يعسر الاستنامة إليها، وذلك إما بانقطاعها عن السَّندَ، وإما بأنها مظنونة بالتعصّب (الانتماء القبلي)، وأما بورودها في إطار تبيين من هو هذا ابن حُمام الذي ورد ذكره في بيت امرئ القيس الشهير...
__________
(1) -ابن حزم الأندلسي، جمهرة أنساب العرب، ص. 456.
(2) -يراجع الأستاذ محمد عبيد، في: مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية، ص 279-288، ع-10، 1995، الإمارات العربية المتحدة .
(3) -ابن منظور، لسان العرب: خدم+ خذم.
(4) -ابن حزم الأندلسي، م.م.س.(1/80)
وكيف يصدّق عاقل بأنّ ابن حُمام هذا أو أي اسم آخر كما رأينا (كان يعايش امرأ القيس؛ وأنّ هذا استولى على شيء من شعر ذاك، ولا نعرف من شعره إلاّ أبياتاً قليلة جداً مروية، من حيث اشتهر امرؤ القيس وسار شعره في الآفاق؟ وكيف يمكن أن يكون شاعر في ذلك المستوى العالي من الشعرية (وذلك إذا صدّقنا ما زعمت أعراب كَلْبٍ من أن الأبيات الخمسة الأولى من معلقة امرئ القيس هي له) ثم يضيع شعره كله، ويبقى شعر معاصريه وصديقه امرئ القيس؟
ومن الواضح أن الأقدميين كانوا يشككون في عباراتهم الموحية في هذه المسألة حيث إن الجاحظ مثلاً حيث ذكر ابن حمام قال: "ويزعمون أنه أول من بكى في الديار" (1)، من حيث يقرر ابن سلام بأنه "رجل من طيئ لم نسمع شعره الذي بكى فيه، ولا شعراً غير هذا البيت الذي ذكر امرؤ القيس"(2).
كما أنّ هشام بن السائب قرر في شيءٍ من الشك بادٍ أنّ "أعراب كلب إذا سئلوا: بماذا بكى ابن حمام الديار؟ أنشدوا أبياتٍ متصلة من أول:
*قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل*(3)
ونلاحظ أنّ ابن سلاّم يجعل ابن حُمام طائيّاً، من حيث يجعله ابن حزم كلبيّاً.
إنه لا يجوز الاستشهاد بغائب على حاضر، وبمنفيّ على ثابت، وبمفقود على موجود.
__________
(1) -الجاحظ، الحيوان، 2-140.
(2) -ابن سلام، طبقات فحول الشعراء، 1-39.
(3) -ابن حزم الأندلسي، م.م.س.(1/81)
ونحن، لم نرد هنا الاعتراض على بحث الأستاذ عبيد، وإنما أردنا أن ننبّه، وقد أردنا إثبات ستة أبيات من معلقة امرئ القيس، إلى صعوبة البحث في مثل هذه القضايا التي يغيب عنها النص، ويقلّ من حولها التوثيق؛ فلا يبقى إلاّ سبيلُ فرض الفروض والتأويل للنصوص الضعيفة المتناقضة القليلة. فأي خمسة أبياتٍ هذه التي تزعمها أعراب كلب لابن حُمَامهم، أو خدامهم، أو خذامهم، أو خزامهم أو ما ليس إلاّ اللّه به عليم!؟ أهي الخمسة الأبيات الأولى التي وردت في معلقات الزوزني؟ أم تلك التي وردت في جمهرة القُرشيّ؟ فالخمسة الأبيات الأولى الواردة في الجمهرة تختلف اختلافاً بعيداً عن تلك الواردة في معلقات الزوزني، مثلاً؛ إذ هما لا يتفقان إلاّ في إيراد البيتين الأولين وترتيبهما ونصّهما، أما من بعد ذلك فكلٌّ يتخذ سبيله فإذا هذا يذكر ما لا يذكر الآخر إما بالزيادة عليه، وإما بالنقصان منه.
من أجل ذلك استطردنا هذه الاستطرادة ونحن نزمع إثبات الستّة الأبيات المرقسيّة. فذلك، إذاً، ذلك.
*******
قال امرؤ القيس بن حجر بن عمرو الكندي:
1-قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلٍ ... بِسِقْطِ الِلوَى بين الدُّخولِ فَحَومَل
2-فتوضِحَ فالمِقْراةِ لم يَعْفُ رسْمُها ... لِما نسجَتْها من جنوب وشَمْألِ
3-ترى بَعَرَ الآرامِ في عَرَصاتِها ... وقيعانِها، كأنه حبُّ فُلْفُلِ
4-كأنّي غداةَ البيْنِ يوم تحمَّلُوا ... لدى سَمُرَاتِ الحَيّ ناقِفُ حَنْظَلِ
5-وقوفاً بها صحْبِي عَلَيَّ مطيَّهُمْ ... يقولون: لا تهْلكْ أسىً، وتَجَمَّلِ
6-وأنّ شِفائي عَبْرَةٌ مُهَزاقَةٌ ... فهل عند رسْمٍ دارسٍ مِنْ مُعَوّلِ؟(1)
ثانياً: شعريّة المكان:
__________
(1) -الزوزني، شرح المعلقات السبع، ص 7-9.(1/82)
يقيم الناصّ ملحمة الحنين العارم على خمسة أمكنة هي: سقط اللوى، والدَّخُول، وحومل، وتوضِح، والمقراة. ذلك بأنّ الرَّسْم الدارِسَ الذي يَعْنيه، والرَّبع البالي الذي كان يضني قلبه ويبريه؛ إنما هو سِقْطَ اللِّوى الواقع بين هذه المواضع الأربعة. فكأنه واسطة عِقْدِها، وجوهرة قلادتها. فالحبيب الذي من أجله استبكى أصحابه بعد أن كان هو بكاه، كان يثوي بهذا الربع الدارس الذي طالما قضّى فيه لحظاتٍ مفعمةً بالسعادة، وأوقاتاً غامرةً بالحبّ، وأزماناً حافلة بالملذّات.
لقد اغتدت الدارُ رسماً دارساً، وربعاً خالياً، تقطنه الآرام وتسرح فيه، بعد أن كانت غانيةً حافلة، ومكتظةً بأهلها عامرة. والآية على دروسها بَعْضُ هذا الذي تراه من بَعَرِها الذي تَحْتَفِل به عرصاتها، وتمتلئ به قيعانها؛ فإذا هو كأنه حبُّ فلفل طريح.
لقد تحمّل الأحبة إذاً أياديَ سَبأ فما أنت فاعلٌ؟ لو كنت تدري أين يَمَّمُوا لكنت قَصَصْت آثارهم؛ ولو كنت تعلم إلى أين ذهبوا لالتمست ديارَهُم... لكن كيف تدري، مالا يُدْرَى؟ وكيف يجوز لك ذلك وهم رحَّلٌ نُقِّلٌ: لا يستقرّ قرارُهُم، ولا تُعْرَفُ دارهم: اليومَ هنا، وغداً هناك، وبعد غدٍ هنالك. اليوم في هذا الوادي الخصيب، وغداً في ذاك المَرْج المُمْرِعِ.
فماذا دهاكِ أيتها الحبيبة الذاهبة وقد كان رَبْعُك مُخْصِباً، وواديك مُعْشباً، وناديك مُمْرِعاً؛ حتى قلنا وقلت: عَلِقَتْ مراسيها بذي رَمْرَام! وحتى قلنا وقلت: بهذا الوادي تَحلوْلي اللّيالي والأيام. لكن وا حسرتاه!(1/83)
لكن ما يدريك؟ فلعلّ الحبيبة الظاعنة لم تتحمّلْ إلى وادٍ آخر خصيبٍ اختياراً، وإنما جاءت ذلك وأهلَها اضطراراً. والآية على ذلك لا تبرح في رَسْمِها الدارس بقيّةٌ من كلأ، وسُؤْرٍ من ماء: فأيما الآرامُ ففيه تتواثب، وأيما الأُتُنُ فخلالَهُ تتلاعب، وأيما الطير فَحَوالَهُ تتجاثم. أرْوِعْ بك أيُّها الوادي وأخْصِبْ! وأجْمِلْ بك أيها الرُّبعُ، على البلى، وأنْضِرْ! لكن كيف تَحَمَّلَ عنك الأحبة ورَغِبُوا عنك إلى سَوَائِك؟ ألم تَضْطَرْرهُم إلى ذلك دواعي الاضِطِرار؟ أم لم يك وراء ذلك غارةٌ شعواء شُنَّتْ على الحي على حين صباح، أو توجَّسوا خَوفاً من هذه الغارة فوقع التحمُّلُ على غير رغبة، وفي شيء من الإكراه، وعلى جناح من العجلة؟ إيه أيتها الحبيبة الذاهبة، والعزيزة الغائبة: أين أنتِ الآن وقد تحمّلتِ عن مغناك الذي أصبحتْ دِمْنَتُه مرتعاً للصِّيرَانِ، ومرعىً للأبقار؟ أو لاتبرحين مُدّكرةً بعض تلك الأيام الحوالِم التي مضّيناها ألْمَعا؟
أيما أنا فما أشدَّ ذكْري لك، وَعَلقي بك. ذكرى هَدَّت كياني، وفاض منها جناني، فاغتَديْتُ، غداةَ بَيْنِكِ -يوم تحملّتِ عن سقط اللِّوى وأنا قائمٌ لدى سَمُرْات الحيّ- حائراً سامِداً، وحزيناً سادِراً: فِعْلَ مَن يَنْقُفْ الحنظل فتتهاتَنُ دموعه غِزاراً...
أعلمتِ أم لم تَعْلَمي...؟ ألم تبلغكِ الأخبارُ عن صحابي حين احْدَوْدَقُوا بي ليواسوني بما أَلَمَّ عليّ من هول البيْنِ، وفاجعة الفراق؟ لو رأيت شاعِرَكِ، أيتها الحبيبة، وهويذرف الدموع تذرافاً...
وإن تعْجَبي فعَجَبٌ من شاعر صَبٍّ مستهام لا يُلْفِي عزاءَه إلاّ في البكاء، ولا سُلُوَّهُ إلاّ في النّحيب، ولا لذّاته إلاّ في تذراف العَبَرات... لكنْ ما أغرب أمرَ شاعرك أيتها الحبيبة الظاعنة إذ اغتدى باكياً لدى رسم دارس: إنْ نُودِيَ لا يُجيب، وإن طُلبَ لا يستجيب...(1/84)
وبعد، ألمْ يأن لكَ أن تتجمَّل وتَتصبّر، وتتجرَّع وتتوَّرع، فلا تُشفّي فيك مالا يَعِي عنك ولا يدرك؟....
****
ثالثاً: أنتوروبولوجيّة الوسط:
إنّ هذا الوسط بدائيّ، ولعله بذلك أن يليق كَوُنَه موضوعاً للتحليل الأنتروبولوجي بامتياز على الرغم من غياب العناصر التي ينشط لها هذا العلم الذي تعامل مع الوسط وما يحتويه:
فالأولى: إنّ الإنسان الذي كان يعيش في هذا الوسط (سِقْط اللوى) لا ينهض نظامُ عيشه على الاستقرار، ولا على الكتابة، ولا على منظومة من القوانين التي تحدّد العلاقات بين الناس فيعرف كل منهم حَدَّهُ فلا يتعدّاه، وذلك بناءً على ما سطّر من تلك القوانين، وإلاّ فهناك دولةٌ حامية، وشرطة ساهرة، وعدالة حاكمة.
والثانية: إن الإنسان هنا، في هذا الوسط، كان يتعامل مع الطبيعة في حال عُذْريَّتها، أو قل في حال وَحْشِيَّتها. خذ لذلك مثلاً الرّمال التي تنسجها الرياح من الجنوب إلى نحو الشمال، ومن الشمال إلى نحو الجنوب؛ وربما من الغرب إلى نحو الشرق، بل ربما من الشرق إلى نحو الغرب.
... ... وخذ لذلك مثلاً آخر: الآرام التي كانت تتواثب في قيعان هذا الوسط وعرصاته الخالية، والذي يدلّ على وجودها هذا البَعَرُ الأسودُ الذي بعضُه رَطْبٌ، وبعضه يابس؛ والذي يصادفك من هذا القفر أنّى دَرَجْتَ؛ حتى كأنه حب فلفل منثور على هذه الساح.
والثالثة: إنّ وسائل النقل هنا مجرّدُ حيواناتٍ توقَرُ بالبضائع والمرافق والمُحِلاَّتِ. وهي تتجسد خصوصاً في البعير. ذلك بأنه لم يَكُ في هذا الحيز عربات تَتَجرْجَرْ، ولا خيولٌ مطهّمةٌ تصهل، وإنما نجد تعاملاً مع المطايا التي كانت أحسن وسائل النقل، والتنقل، في هذا الوسط الصحراوي المقفر.(1/85)
والرابعة: إنّ هذه الأحيازَ لم يكن يحكمها نظام العمران الذي يغلب على طابع المدن المكتظة من تشييد للدّور على أساس، وشقّ للطرقات على تخطيط، وإقامة للحدائق، ونصبٍ للملاهي، وتسريح للملاعب، على تجميل؛ وإنما كانت مجرد أقفار تُطَنَّبُ عليها خيام، حتّى وقع لها واقع، أو طاف على المَعْشَر طائف: قُوِّضَتْ الخيام بعد تَطْنيبٍ، ونادى المنادي في الأصاحيب: أن ارْتَحِلوا من حَيّكُم هذا إلى حيّ آخر مُعشب مُريعٍ...
والأخرى: لم يك هنا نظامٌ للتغذية قائم على تناول ثلاث وجباتٍ في اليوم(1) ولا على أسواق نافقة، ولا على دكاكين عامرة يبتاع منها الناس ما شاء الله لهم ان يبتاعوا: من أطعمة وأشربه، ومرتفقات وألبسة؛ ولاعلى شوارع مخططة يتجوّل فيها الناس، ولا على ساح يَحْرَنْجِمُ فيها الفتيان للهو والتسلية ساعةً من نهارهم، أو سويعاتٍ من ليلهم.. لا شيء من بعض ذلك كان.. وإذن، فلم يكن هناك إلاّ مجموعةٌ من الخيام تنصب، وشيءٌ من الطعام يتبلغ به. إذا ألمّت على أحدهم، أو إحداهنّ، علّةٌ من العلل فلا آسي ولا دَوَاء؛ إلاّ ما كان من طبّ الأعشاب القائم على التجارب الشفوية؛ وإلاّ ماكان من سِحْرِ السَّحَرةِ، وكهانة الكهنة. ولكن نادراً ماكانت مثل تلك المساعي مُجْدِيةً، وتلك الطقوس نافعة، في مداواة الأدواء.
__________
(1) - Cf. C. L. Strauss, Mythologique, III, Paris, 1989.(1/86)
كانت الأميّة هي المتحكمة: لا الكتابة والعلم، وكان التنقّل هو السائد: لا الثبات والاستقرار. وكانت الحرب هي المُبْدَأة، لا السّلم. فأيما الطعامُ فمن لُحْمَان الأنعام -وربما من الحشرات والمستقذرات كالجراد والعِلْهز والحَيَّات- وإيما الشرابُ فمن حُرِّ ماء العيون والغدران؛ وربما كان من الخبيثات كالفظّ والمَجْدوح. وإيما الملابس فكانت من الأصواف والشعر والأوبار، ولم يكن القطن والحرير إلاّ للأثرياء، وما كان أقَلَّهُم.... وكانت المرأة هي التي تنسج هذه الملابس الصوفية أو الوبرية أو الشعرية بنفسها، وبالوسائل البسيطة التي كان في متناولها. وقلّما كنت تُلفيهم يرتدون، كما سَلَفَ الِقيْلُ، الحريرَ والأثواب الرّقاق. وإنما كان ذلك وقْفاً على السَّرَاةِ، وعلى من سَبَغَتْ نِعْمَتُهم، وارْتَخَتْ سِبَاُلُ عيشهم، وعلى سادات الحواضر مثل مكة، ويثرب، والطائف، وصنعاء، وسَوَائِها من القُرى العربية العتيقة التي ما كان أقلَّها على ذلك العهد المبكّر من التاريخ.
****
وقد لاحظنا في هذه الستة الأبيات المَرْقَسيّة التي نجتهد في قراءتها، في هذا المجاز من هذه الدارسة، قراءةً انتروبولوجية: مظاهرة أُخراةً لعلَّها، بعضها أوكُلَّها، تندرج ضمن الحقل الأنتروبولجي، ومنها: 1- الحبيب، في قوله:
*من ذكرى حبيب ومنزل*(1/87)
ينصرف إلى امرأةٍ كان يحبها. وإلى هنا لا غرابة في أن يحبّ شاعر امرأة. ولكننا نقرأ، نحن، هذه المرأة- الحبيب- على أنها لم تكن امرأة بالمفهوم الحضاريّ الجاري بين الناس...، وإنما كانت مجرد أنثى. فقد كان يحبها لأنه ذكر، لأنه من جنس الذكور والفحول، ولأنها هي كانت أنثى. إنّا لا نعتقد أن حبه إياها كان من أجل تأسيس بيت، وإنجاب أطفال، والتمتع معها بحياة عائلية مدنية قائمة على الوئام والاستقرار. لا ديَّارَ من العقلاء يجب أن يفهم لفظ "حبيب" المَرْقَسيّ إلاّ على أنَّ هذا الحبيب ينصرف إلى حبيبته، وإلاَّ على أنّ هذه الحبيبة تنصرف إلى أنثى جميلةٍ تكتظ بالمفاتن الأنثوية بما هي بَضَاضَةُ البَشَرة، وغضاضة الجسد، وهَفْهَفةُ الخَصْر، وهَضْمُ الكَشْح، وصَقْلُ الترائب؛ والآية على ذلك قوله في وصف امرأةٍ أخراة في بعض هذه المعلقة نفسها:
مُهَفْهَفةٌ بيضاءُ غَيْرُ مَفاضَةٍ ... ترائبُها مصقولةٌ كالسَّجَنْجَلِ
فالحبيبة التي كانت يحنّ إليها امرؤ القيس، أو قل هذا الفحل من الرجال، لم تك إلاّ انثى غامرة الأنوثة، أما ما عدا ذلك مما فيها، أو مما يمكن أن يكون فيها، من عقل، وثقافة، ورزانة، وجمال روحٍ: فلا نلفي له إيماءة بَلَه ذِكْراً.
والآية على أنّ هذه الحبيبة كانت أنثى أساساً، ولم يكن يُلاصُ لها إلاّ أن تظل أنثى عُمْرَها، أنّ العرب، على ذلك العهد، كانوا حين يظعنون يُركِبُون نساءَهم على المطايا في الظُّعنِ. وكانت المرأة من النساء لا تمتطي المطيّة ولو كانت على ذلك قادرةً، بل بَعْلُها هو الذي يُركبها حتى قالوا في أمثالهم السائرة على لسان امرأة -أنثى- تخاطب زوجها: "احمل حِرَكَ أو دَعْ"! (1).
__________
(1) -ابن منظور، لسان العرب، حرح.(1/88)
وبمقدار ما كانت المرأة العربية قبل الإسلام قادرةً على مساعدة الرجل في الحياة العامة. وتفّهم أصول الحياة البدوية بما فيها إيرادُ الإبل كما يدل على ذلك قول النوار بنت جُلّ بن عدي بن عبد مناة بن أُدٍّ من تيم الرّباب:
أوْرَدهَا سَعْدٌ وسَعْدٌ مُشْتَمِلْ ... ماهكذا تُوردُ، يا سَعْدُ، الإبِلْ(1)
فإنها، مع ذلك، ظلّت في مقام المنظور إليها على أنها أنثى قبل كلّ شيء تصلح للإنجاب وإطفاء الرغبة الجنسية لدى الرجل. والاستثناءات التي تصادفنا هنا وهناك من التراث العربي القديم والتي تذكر نساء ذوات شخصياتٍ قوية، لا تصحّح القاعدة. وإنما الإسلامُ الذي كرّم المرأة وجعلها شقيقة الرجل. وأنّ الذي يتتبّع الأشعار العربية القديمة، والتي استشهد بكثير منها المعجميون الكبار أمثال ابن منظور، فإنّ كثيراً منها ينظر إلى مكانة المرأة في المجتمع على أنها لذّاتيّة وجنسيّة وجماليّة قبل أيٍّ شيء آخر. ونحن نتحلّل من الاستشهاد ببعض هذه الأشعار الجنسية الكثيرة لأنّ الذوق الأدبيّ العامّ المعاصر يأبى علينا ذلك...
وإذن فامرؤ القيس لا يبكي هذه المرأة لأنه كان يريد أن يسكن إليها، ويزاوجها ليأنس بها، ويعاشرها ليُنْجِبَ معها، أو منها، بالمودة والرحمة، وإنما كان يبكيها لأنه فقد فيها الملذّات الجسديّة قبل كل شيء. وبين الأمرين بونٌ بعيد.
2- وأما المنزل الذي نلفي امرَأَ القيسِ يبكيه، ويحنّ إليه، ولا يرضى بذلك حتى يستبكي صِحَابَه، ويستوقف رفاقه، من أجله:
قفا نَبْكِ من ذِكْرى حبيبٍ ومنزل ... بسِقْطِ الِلِّوى بين الدَّخول فَحَوْمَلِ
__________
(1) - ابن سلاّم، م.م.س.، 1-29-30(1/89)
فلا ديَّارَ من العقلاء يعتقد أنه منزلٌ مما ألفنا رؤيته من مرصوص البنيان، ولا ممّا شُيّد على أسس وأركان، وإنما هو، في الغالب، مجردُ خباءٍ من صوفٍ، أو خيمة من شعر، أو مظلّةٍ من شجر، أو أقنةٍ من حجر، أو طِرَافٍ من أدم(1)..... فهذه هي أمّ أنواع بيوت العرب. ومنزل حبيبة امرئ القيس، أو أثناه كما نريد نحن أن نعبّر، لا ينبغي له أن يخرج عن أحد هذه البيوت التي جئنا عليها ذَكراً.
وإذ تدرّجنا إلى هذا التصور لمنزل أنثى امرئ القيس فقد وجب علينا أن نقرر أنّ كُلاً من هذه البيوت له تقنيات فولكورية يُبْنى عليها، ويتطلّب أدوات بدائيّة يُبنى بها كالنَّحيزة -وهي الَعَرقَة أيضاً- والطريقة، والرِواق، والسَّمَاوة، والأطناب، والقوائم، والأواخيّ، والعُمُدِ، وهلم جرا...
وعلينا، حين نتمثّل مثل هذا المنزل البدائي المتنقّل، أو القابل للتنقّلِ، أن نذكر أنّ قاطنيه كانوا يصطنعون أدوات بدائيّة يرتفقون بها في عيشهم الشّعِثِ، وبطشهم الشَّظِف، مثل: البُرْمةِ، والرّحَيَان، والعمد، والغِرَارة، والجُرْنِ- المِهْراس- والقُرْعَةِ- المُنْخل- والحُرْبَةِ، والجُوَالِقِ، والتَّخْتَ، والخُرْجِ، والقَعِيدة، وسِؤَائِها مما يرتفق به أهل البدو في باديتهم.
3- يجسّد لفظُ "تَحَمَّلوا" من قوله:
كأنّي غداةَ البينِ يوم تحمّلوا ... لدى سَمُرَاتِ الحيّ ناقِفُ حنْظَلِ
__________
(1) -ابن سيده، المخصص، 6و3.(1/90)
مجموعة من الخيام، والأخبية، والطُّرَفِ التي يُقام بعضها قُرْبَ بعضٍ، في صعيد واحد: تعايشها حيوانات أليفةٌ وأنعام (إبل وخيل وضأن)- ويمثّل هذا التحمّل حركةً بعد استقرارٍ، كما يمثّل هذا الاستقرارُ مجرد ثباتٍ قصيرٍ تعقبه حركةٌ وارتحال. ولكن لما كان الاستقرار موقوتاً، أي مرهوناً بانتظار وقوع رائد القبيلة على أوّل مرعىً خصيب، ووادٍ عشيب؛ فإنه لا يلبث أن ينتهي بالإفضاء إلى ارتحال؛ ولما كان هذا الارتحال قائماً على التنقل إلى مراعٍ بعينها، محددة من ذي قبل، فهو مجرد قطع مسافةٍ على الإبل، ثم، لما كان هذا الارتحال يفضي إلى استقرارٍ آخر مَوْقوتٍ في وادٍ مُعشوشِبٍ، أو مرعىً مخصَوْصِبٍ.... فإن هذه السيرة تمثل ثلاثية لا تبتدئ حتى تنتهي، ولا تنتهي حتى تبتدئ:
أ + ب + أ
ثم: ب + أ + أ
إلى مالا نهاية له من الحركة التي تغتدي في حدّ ذاتها مشابهةً للرُّتُوب، ومضارعةً للسُّكون. ولولا الوضع الذي طرأ على هذه المعادلة في مرحلتها الثانية لما وقع البكاء والاستبكاء، ولما حدث الوقوف والاستيقاف، ثم، لما كانت، ربما، هذه العلاقة الغرامية، الجسدية، بين الشاعر وتلك المرأة؛ تلك العلاقة التي فجرت فيضاً شعرياً غامراً في نفسه فخلُد هو، وخلّدَ الشعر العربي بهذه الفلتة من الجمال الفني العبقري النادر المثال.
فكأن سيرة هذا المنزل المرقَسِيِّ تقوم على ثلاث أحوال يَعْقُبْ بعضُها بَعضاً، ويحل بعضُها مَحَل بعضٍ آخر، ولكن هذه الثلاث الأحْوالَ لا يلبثْنَ أن يتجددن ليطبعن سيرة تلك الحياة البدوية في حركتها الدائبة، وتنقلها المتواصل.
4- على حين أن لفظ "الحي" من قوله:
كأني غداة البين يوم تحمّلوا ... لدى سُمرات الحي ناقف حنظل
يُحيل على مجموعة من العادات والتقاليد والظاهر والظواهر والمعتقدات. فالحيّ لفظ جامع لشبكة من العلاقات، والمعاني، والقيم المتصل بعضها ببعض، والمفضي بعضها إلى بعض، والمتوقف بعضها على بعض:(1/91)
فالأولى: إنّ الحي مجموعة من البيوت العربية، وإن شئت قلت: الأعرابية، البسيطة مثل الخيام، والطُّرُف، والأخبية المتناثرة المتقاربة والتي بعضها يقام للبشر وهو الغالب، وربما أقيم بعضها الآخر للحيوانات الحديثة الميلاد ، وخصوصاً العزيزة لديهم.
والثانية: أن هذه المجموعة من الخيام، أو البيوت، التي تشكل، في عامّتها، منزَلاً (بفتح الزاي، أي مكاناً لنزول الناس واستقرارهم) لأهل القبيلة: تتشكّل من أدوات فولكورية بسيطة، وقطع صناعية تقليدية بفضلها كان يتمّ بناء تلك البيوت مثل الأطناب، والأوتاد، والأعْمِدَة، والأزرار، والطَّوارف، والستائر، والطرائق، والقَرِيَّات، والعُويدات، والعُصَياتِ(1)، وهلم جرا مما لا نكاد نحن اليوم نعرف منه إلا قليلا.
__________
(1) -لقد برع ابن سيده في ذكرذ هذه الأخبية ومركباتها، وتفصيل أطوارها، يراجع المخصص، 206-8.(1/92)
والثالثة: أن الحياة في هذا المنحى المتحدَّث عنه، في البيت المرقَسِيّ، بمقدار ما رأينا قيامها على تلك الفولكلوريات التي كانت تُعَدُّ، يومئذ، تقنيات مقبولةً لبناء الخيام ونصب الأخبية؛ فإنها كانت مرتبطة بالإبل التي يركبونها في السفر، ويحملون عليها أمتعتهم حين التَّظعان، ويَطْعَمُونَها لدى القَرَم، ويُقدمونَها مهراً لدى النكاح، ويَدُون بها لدى حوادث القتل، ويبيعونها بَضاعة في الأسواق ليمتاروا بثمنها ما كانوا يتبلغون ويتقوتون. إذ لا يجوز تصور قيام حي من الأحياء، وحياة من الحيوات، في ذلك المجتمع الجاهلي البدائي بمعزل عن هذه الإبل التي كان غِنَاهم في اقتنائها، وعِزُّهم في امتلاكها، وشرفُهم وذيوعُ ذِكْرِهم في هِبَتِها أو نَحْرِها. وكانوا يَسِمُونها بسمات تحيل على مالكيها، وقبيلتهم. وكانوا، ربما، أطلقوا على تلك السمات "النَّار" التي تعني العلامة، ولذلك قالوا في أمثالهم السائرة، وأقوالهم الدائرة، في معرض الحديث عنها، وموقف التنويه بها: "نارُها نِجَارها"(1). ثم، لذلك قالوا في أشعارهم الشاردة:
نِجارُ كُلِّ إبلٍ نِجارُها ... وَنارُ إبْلِ العالمينَ نارُها(2)
فكانت هذه النارُ سِمَةً على شرف الأصل، وعلو النجْر، وطيران الذكر.
والحق أن للإبل مكانةً مكينة في المجتمع العربي بعامة، والمجتمع الجاهلي بخاصة. ومن حقنا، ونحن نحاول التركيز على هذه الإبل في النص الذي نريد تحليله، أن ننصرف بوهمنا إلى دَوْرها الاقتصادي الكبير في ذلك المجتمع المتبدي حيث إنها:
__________
(1) -ابن منظور، لسان العرب، نور.
(2) -م.س.(1/93)
1- كانت تُتَّخَذُ غِذَاءً إذ كان لحم الإبل مما يُؤكَلُ إلى يومنا هذا. ويبدو أن أهل البادية كانوا يُلفونَ في طعمه نَكهةً لذيذةً كانت تجعلهم يتلذَّذون بأكله، وربما كانوا يشوونه كما نفهم ذلك من أسطورة امرئ القيس مع سِرْبٍ من النساء، وأنه رأى قطيعاً من الفتيات العاريات فيهن ابنة عمه عنيزة، وهن يستحممن في غدير دارة جُلْجُل، فاقترح عليهن أن ينحر ناقته لهن فرحَّبْنَ بفكرته، وتقبلن دعوته، فجمع الإماء الحطب، ضرّموا النار فيه حتى تأجج، ثم أخذوا في شيّ لحم ناقةِ امرئِ القيس؛ وكل ذلك نفيده من بعض أبيات معلقته(1).
2- كانت الإبل تُتَّخذ للنقل، وتُصْطَنع في الأسفار، فكان يُرْتَفَق بها في أطوار كثيرة لعل أعرفها لدنيا، على الأقل:
أ- إنهم كانوا ينقلون عليها بضائعهُم في الأسفار التجارية (رحلتا الشتاء والصيف لقريش مثلاً)، كما كانوا يَحْتَمِلونَ عليها أمتعتهم في الارتحالات العادية التي كانت تقع لهم حين كانوا يتحمّلون من حيّ إلى حيّ، ومن مرعىً إلى مرعى، ومن ماءٍ إلى ماء آخر.
ب- إنهم كانوا يحْتَمِلون على متونها نساءهم في التظعان، فكانوا يتخذون عليها الخُدور ثم يُركِبون فيها حلائِلَهم إكراماً وإعزازاً. ويبدو أن هذه الظُّعُن كانت لا تتخذ إلا للحرائر والعقيلات الكريمات، ولم تكن تُتَّخَذ للإماء والعجائز وعامة النساء. وكانت العرب تطلق على الرَّجُل الفارع القامة المديدها: "مُقَبّل الظُّعُن" (2).
__________
(1) -وهي:
ألا رُبَّ يوم لَكََ منهنَّ صالحٌ ... ولا سيما يومٌ بدارَةَ جُلْجُلِ
ويومَ عقرتَّ للعَذَارى مطِيتي ... فيا عَجَبَاً من كُورِها المُتَحَمَّلِ
فظلّ العذارى يرتمين بلحمها ... وشَحْمٍ كَهُدّاب الدِمَقْس المُفَتَّلِ
(2) -أبو العباس المبرد، م.م.س.، 1-309. ومن مُقَبّلي الظُّعنُ: قيس بن سعد، والعباس بن عبد المطلب، والأشعث بن قيسٍ الكندي، وعدي بن حاتم الطائي، وزَيْد الخيل الطائي.(1/94)
3- كان ينتفع بوَبرها انتفاعاً لطيفاً بحيث كانوا يرتفقون به في جملة من المرافق لعل أهمها:
أ- ... كانت تتخذ في نَسْج الملابس حيث كان نساؤهم ينسُجْن وبَرَها لتُتَّخَذَ أثواباً يَخيطونها ثم يرتدونها. ولا يبرح الناس، إلى يومنا هذا، في جنوب الجزائر مثلاً، ينسجون برانس من هذا الوبر. وهي من أغلى الأثواب التقليدية ثمناً، وأجملها مظهراً، وأنضرها مَرْآةً، للرجال.
... ... ... ونحن وإن لم نكن نملك من المعلومات التاريخية ما يتيح لنا أن نحكم بغلاء أسعار الملابس الوبرية قديماً، في المجتمع الجاهلي، إلا أننا، وقياساً على العهد الراهن، يمكن أن نحكم بأن الوبر هو الأغلى، ثم يأتي من بعده الصوف، ثم الشعر.
... ... ... وإنما كان الوبر أغلى ثمناً لأنه أندَرُ في الأسواق وجوداً، وأعزُّ في الإنتاج وفوراً؛ على حين أن الصوف أكثر كَثْرةً في الأسواق، وأَيسْرُ إنتاجاً لدى المُتمولين. أما الشعر فلسوء مادته، وخشونتها، وتطاير شعرها، وصعوبة غزلها ونسجها، وتساقط أطرافٍ منه أثناء الغزل والنسج من الغازلات والناسجات: زَهِدَ الناس فيه زُهداً، ورغبوا عنه رُغباً؛ على الرغم من أن هناك مرافق لا يكاد يليق فيها إلا اصطناع الشعر وحده، ومنها نسج الخيام أيضاً(1) ولكنّ النوعيَّة تظل في كل الأطوار، وفي كل الأزمان، أردأ بالقياس إلى الصوف والوبر.
ب- ... كما كان العرب بنتفعون بالوبر في نسج الأخبية والبُجُدْ(2).خصوصاً وإنما سُمِيَ سكان البادية أهلَ الوبر "لأن بيوتهم كانوا يتخذونها منه"(3).
فوظيفة الوَبَر حين تتجلى من خلال هذه الاستعمالات الحضارية تبين لنا أنَّ أهميتها الاقتصادية والاجتماعية كانت عظيمة. ذلك بأنه كان يقي الناس، عرب الجاهلية، حَرَّ الشمس وصبَّارَة البرْد. كما كان هذا الوبر زينةً في المحافل، وجلالاً في المجالس، بحيث يكسو مُرتديه سكنيةً وبهاء.
__________
(1) -الأصفهاني، م.م.س.، 3-82.
(2) -ابن سيده، م.م.س.، 6-3.
(3) -ابن منظور، م.م.س.، وبر.(1/95)
كما كان له أهميةٌ اقتصادية وارتفاقية أخراةٌ تتجسَّد، كما سلفت الإشارة إلى بعض ذلك، في نسج الأخبية والبُجُد التي كان الناس يأوون إليها لَتقيهُمْ حرَّ الشمس، وقطرات المطر، وعصف الرياح، وقد تستميز منفعتها الارتفاقية بأنها خفيفٌ محملها بحيث كانت تُحمل، لدى الارتحال وأثناء التَّظعان، على ظهور الإبل. كما كان تطنيبها وتقويضها يَسِيريْن لديهم ، لأَلْفِهِمْ إياه، منذ السن الأولى.
4- ودْي القتلى:
كان من دأب العرب إذا وقعت حادثة قتلٍ، وما أكثر ما كانت تقع، إما بين شخص وآخر، وإما بين قبيلة وقبيلة أخراة، وذلك خارج إطار حرب معلنة: أن يحتكموا إلى حكمائهم لودْي القتيل، وإلاّ أخذوا بثأره دماً. وكانت دية القتيل، في حال الاتِّداء، غالباً ما تبلغ مائة بعيرٍ للقتيل الواحد، أو الأسير الواحد، فإنْ أسر أسيراً رجلان اثنان كان لكل منهما مائةٌ من البُعْران. فإن كان الأسير سيداً من سراة القوم كانت الدية أكثر من ذلك كما وقع في افتداء معبد بن زرارة الذي أسره عامر والطفيل، وجاءهما لقيط بن زرارة أخوه ليفتديه منهما بمائتي بعيرٍ فاستقلا المكافأة قائلين: "أنت سيّد الناس، وأخوك سيد مضر، فلا نقبل فيه إلاّ دِيَّةَ ملك."(1).
5- مهر النساء:
وكان الرجل الكريم يمهر العقيلة العربية مائة بعيرٍ غالباً، وظل ذلك قائماً إلى أن جاء الله بالإسلام(2). ويبدو أن العرب بدأت تستعيض عن الإبل بالدراهم حين شاع التداول بين الناس بالعملة المسكوكة، بعد ظهور الإسلام، وبعد تدفُق الثروات(3).
__________
(1) -ابن عبد ربه، العقد الفريد، 5-140.
(2) -م.س.، 6-100
(3) -أبو العباس المبرّد، م.م.س.، 1-281. وكان مهر الأثرياء ربما بلغ عشرين ألف درهم (مهر ابنة إبراهيم بن النعمان بن بشير الأنصاري.(1/96)
كما كانت الإبل تمثّل أساس الاقتصاد في المجتمع الجاهلي فكانت هي مصدر أموالهم ورزقهم، فكانوا إما يربونها فتنتج لهم فيبيعون ما يفيض منها عن حاجتهم في الأسواق، وإما يتاجرون فيها. وكان ذلك يحصل لهم إما بالابتياع، وإما بالإنتاج، وإما بالاتَّداءِ، وأما بألاتِّهابِ.
فكانت الإبل، إذن، أو المطيُ، وقد ذُكِرَتْ في نص امرئ القيس المطروح لبعض هذا التحليل، وكما رأينا، مصدر الرزق لديهم، بل مصدَرَ الحياة والبقاء، ولم يكن أحد من العرب يستغني، على ذلك العهد، عن البعير. فالذي كان يبدع به من فقراء الأعراب، كان يَسْتَحْمِلُ السَّراةَ والأسخياءَ من الناس كما حدث للأعرابي الذي استحمل الرسول، صلى الله عليه وسلم، مخاطباً أياه: "إني أُبْدِعَ بي فاحْمِلني"(1)
وإذن، فقد كانت الإبلُ في المجمع الجاهلي عِماد الاقتصاد، والمواصلات، والحرب، والسلم، والنكاح، والاتِّداء، والطعام، والنزهة.
أما الخيل فكانت أثيرةً لديهم، عزيزةً إلى قلوبهم، جليلةً في عيونهم، فكان الفارس العربي في الجاهلية ربما تَغنَّى بجواده، وخَدَمه بنفسه، وقد برع في وصف الفرس من أصحاب المعلقات امرؤ القيس وعنترة خصوصاً. فكان الفارس يمتطي فرسه يوم الزينة، ويقاتل عليه يوم الحرب، ويتظاهر به على السفر إلى قريب، ويتباهى به بوم السباق في الرياضة والعَدْو.
ويمكن أن يضاف إلى كل ذلك: الضأن التي كانت، هي أيضاً، مما يكتسبون، فكانوا يتخذون أصوافها وشعورها في لباسهم ونسج خيامهم وأخبيتهم، كما كانوا يتخذون لحومها طعاماً يَطْعمونه، وقِرىً يقدمونها إلى ضيفهم كانوا يَلمُّونَ على ديارهم، وما أكثر ما كانوا يفعلون.(1/97)
وإذاً، فالحيُّ، في عهد الجاهلية، وفي بيت امرئ القيس، كان يعني، في تمثلنا، كلَّ ماذكرناه من عناصر: من إنسان، وحيوان، وآلات، وأدوات، وطبيعة، ونبات، وعلاقة بعضٍ ببعضٍ، وكلٍّ بكل؛ فإذا كل شيءٍ مسخرٌ لما قدر له، ومهيأٌ لما دبر من أجله: من الراعي إلى الفارس، ومن الأَمة إلى نَؤوم الضحى، ومن الخادم إلى شيخ القبيلة الذي كان يعقد لواء الحرب، ويقرر إعلان السلم؛ ومن الدَّلو التي يمتح بها المتح من البئر، إلى الخِباء الذي يُتَّخَذُ للتوقي من الحر، والتدفُّوء من القرِّ.
ولقد كان التجمع في الحي الواحد، وعلى صعيد واحد، من أجل التعايُش، ومن أجل تكوين مجتمع صغير مَعْشَرُه يجمعهم أمرٌ واحد، ومنفعةٌ واحدة. وكانت وَحْدَهُ هذا التجمع القبلي البسيط تقوم على معيار قبلّي خالص بحيث إن كل قبيلةٍ كانت تتَّخذ لها وجهاً من الأرض تقيم فيه، فإذا ضخمت وعظمت، تفرعت إلى عشائر سرعان ما تستحيل من بعد إلى قبائل... وقد كان التجمع، على كل حالٍ، من أجل محاولة تشكيل قوّةٍ واقية تحمي بها القبيلة، أو العشيرة، حيازها من العدوان الخارجي. كما كان في الوقت ذاته محاولة لتكوين قوةٍ ضاربةٍ قد تستنجد بها قبيلة قريبة لها، أو متحالفة معها.
ومن المعروف أن الحي العربي الذي كان متكوناً، غالباً، من العشيرة المتقاربين في الدم، والمنتمين جميعاً إلى أب واحد أعلى، كان مؤسسةً قائمة الذات. فكانت هذه المؤسسة بمثابة الدولة الصغيرة: تتألف من شيخ القبيلة وهو رئيس القوم، وهو الذي يعود إليه قرار إعلان الحرب، وعقد الصلح، ومجلس من حكماء العشيرة وسراتها يستشيرهم الشيخ لدى أُدْلِهْمَامِ الخَطْب، واشتداد الأَزْمِ.(1/98)
أمَا عوامُّ الناس فكانوا يَتَولَّوْنِ النهوضَ بالحياة اليومية البسيطة، ومنها الإشراف على رَعْي الإبل والأنعام وسقيها مع العبيد... بينما كان الرُّماةُ يتولون صيد الظباء، والحُمُر الوحشية وسواها للاقتيات بها. بينما كان النساء يتولين طهي الطعام ومَخْضَ اللبن، ونسج الملابس من الصوف أوالشعر أو الوبر. وكان للأغنياء منهم إماءٌ وعبيد كانوا غالباً ما يتولون النهوض بالخدمات المنحطة في الحي وخارجه.
فكانت العلاقة في هذا الوسط العجيب تقوم على التفاضل بين الناس: الأعلى، فالأوسط، فالأدنى من وِجْهَةٍ؛ والرجل، ثم المرأة، ثم الطفل، من وجهة أخراة. وعلى أنه يمكن اختصار هذه العلاقة القائمة على الغَبْن في وسط القبيلة، وداخل الحي، بين صنفين اثنين في جهة، وهما: السادة والعبيد، وصنفين اثنين آخرين في جهة أخراةٍ، هما: الرجال والنساء.
ثم، أنّ هذا التجمع السكانيَّ القائم على رابطة القرابة أساساً، بحيث لا تُلْفي بين سكان الحيّ، في الغالب، ساكناً واحداً غير مُنْتَمٍ إلى العشيرة: كان يجعل هذه العشيرة في مأمن من هجوم الحيوانات المفترسة.
ونحن نحسب أثناء ذلك أن سكان تلك الأحياء البدوية لم يكونوا يصطنعون الشموع ولا القناديل الزيتية في الإنارة أثناء الليل، وهي التي كانت لا تُسْرَج إلاّ في المعابد، ولدى السَّراة في الحواضر العربية القليلة؛ فكانوا يُوقِدون النارَ في ساحة الحي صدْراً من الليل قبل أن يُخْلِدوا إلى الدَّعَةِ والكَرى، والآية على بعض ذلك قول امرئ القيس:
تُضيءُ الظلامَ بالعِشاءِ كأنها ... منارةُ مُمْسَى راهبٍ مُتَبَتِّلِ
فهذه المرأة لجمال وجهها، ونضارة مُحيّاها، وفرْطِ بياضها وصفائها اسطاعَتْ أن تُضيءَ ديجور هذا الليل حتى كأنها مسرجة راهبٍ منقطع في ديره عِشاءً؛ وقوله أيضاً:
يضيء سَناهُ أو مَصابيحُ راهبٍ ... أمالَ السَّليطَ بالذُّبَال المُفَتَّلِ(1/99)
فالملك الضِلّيلُ، كما نَرى، نلفيه يُلحّ في بعض شعره على أن الإنارة بالليل كانت وقفاً على الأحبار والرهبان في معابدهم، ولم تك شائعة الارتفاق بين عامة الناس في الأحياء المنقطعة التي هذا الحي الذي يتحدث عنه امرؤ القيس يجب أن يكون أحدها.
ونلاحظ أن الحياة في هذا الحي؛ في هذا المجتمع القبلي، تنهض على جملة من العلاقات المتضافرة والمفضي بعضها إلى بعض، وكلها ينتهي إلى التماس البقاء، والحرص على التعلق بالحياة. فالعلاقة مع الكون هي علاقة اعتقادٍ، ويأتي الاعتقاد بالغيب والإيمان به، والتعامل معه، على أسسٍ تقديسيةٍ التماساً للبقاء.
والعلاقة مع الطبيعة هي علاقة استغلال وانتفاع: احتفار للآبار، وتحقين للغدران، واصطياد للحيوانات؛ طلباً للعيش والتماساً للبقاء.
والعلاقة داخل القبيلة (العلاقة الداخلية)، هي علاقة قائمة على تبادل المنفعة بين أفراد العشيرة فسيقع التكتل من أجل اكتساب القوة التي تكمن فيها القدرة على المقاومة، والدفاع عن النفس من أجل البقاء.
والعلاقة مع غير القبيلة (العلاقة الخارجية) علاقة مختلفة الأطوار؛ فإما أن تكون علاقة عَدَاءٍ فيكون الاحْرِنْجامُ داخل القبيلة مفضياً إلى القدرة على المقاومة من أجل البقاء؛ وإما أن تكون علاقة صداقةٍ فيكون التكتل داخل القبيلة من أجل مظاهرة القبيلة الجارة، أو الحليفة ، أو التي تربطها بها روابط القُرْبى، وكل ذلك من أجل البقاء: هنا بقاء الذات في طور، وبقاء الآخر المرتبط ببقاء الذات في طور آخر.
والعلاقة مع الأنثى، بالقياس إلى الذكر، ومع الذكر، بالقياس إلى الأنثى، هي علاقة ملذات وإنجاب من أجل البقاء.
فالموت هنا يكون من أجل الحياة والبقاء، واللذة الجسدية تكون، هي أيضاً، من أجل الحياة والبقاء.
******
رابعاً: جغرافية الأطلال المرقسية:(1/100)
إن الذي يحاول من الدارسين والباحثين أن يحلّل الوسط القبلي، عن طريق قراءة الشعر، وقراءة الطلليّات المعلقاتية بعامة، والطللية المرقسيَّة بخاصة؛ يلاحظ، إذا توحّدت ملاحظة مع ملاحظتنا، أن الأحياز التي كانت تشكل هذا الذي يسميه الانتروبولوجيون وعلماء الاجتماع "الوسط": تتسم بالجمالية مما يجعلنا، ونحن نُعْنَى بمُدارَسَةِ هذا الحيز الجغرافي وتحليله ومحاولة فهمه -خصوصاً- أثناء ذلك، نذهب إلى أن هذه الجمالية الحادة نتحسسها لدى عامة المعلقاتيين في تعاملهم مع الحيز ونظرتهم إليه.
وعلى الرغم من أن هذه الأحياز التي تصادفنا في قراءة هذه الطلليات هي أمكنة جغرافية، كما ثبت ذلك في معاجم البلدان العربية، وهي سيرة كانت ذهبت بنا إلى حقل الانتروبولوجيا، في وجه من هذه الدراسة، ما دامت هذه الأحياز أمكنةً، ومِياهاً، وودياناً، ومراعي، وجبالاً، وروابي، وقفاراً مُقْوِيَةً. وما دامت هذه الأمكنة بجذاميرها تشكل وسطاً تقليدياً تجري فيه الحياة على أبسط ما تكون من البدائية، وتجري فيه العلاقات بين الناس على أساس رابطة القربى (نظام العشيرة)، وهلم جرا...
فإن مُدارَسَتِها، كما نرى، تندرج ضمن حقل الأنتروبولوجيا.
ولكن، هل يمكن تحديدُ منزلِ حبيبة امرئ القيس، أو أنثاه، من خلال بعض الإشارات الجغرافية المقتضبة طوراً، والغامضة طوراً، والمُورَدَة تحت الشك طوراً آخر(1)؟ إن المعلومات التي احتفظ لنا بها معجم ياقوت تميل إلى أن كلاً من "الدَّخول، وحومل، وتوضِحَ، والمقراة، مواضع بين إِمّرة، وأَسْوَد العين"(2). لكن ما المعرِّفُ به، بأوضح من المعَّرف، وإذاً، فأين تقع إِمّرة هذه، وأسود العين هذا؟
__________
(1) -ياقوت الحموي، معجم البلدان (الأماكن التي ذكرت في بيتي امرئ القيس...).
(2) -م.س.، 2-430.(1/101)
يذكر ياقوت الحموي أن "امّرة الحمى لغنى وأسد، وهي أدنى حمى ضربة أحماه عثمان لإبل الصدقة. وهو اليوم (بالقياس إلى يوم ياقوت) لعامر بن صعصعة"(1). بينما يعدّ أسود العين عبارة عن "جبل بنجد يشرف على طريق البصرة إلى مكة"(2).
ونلاحظ أن هذين المكانين الشهيرين اللذين عرّف بهما السُكّريُّ، لدى شرح بيتي امرئ القيس الأوليْن في معلقته:
1- أن أحدهما، وهو امّرة، مجال فسيح، ومرعىً خصيب، وكأنه لم يكن مملوكاً لأحد، ولذلك أحماه عثمان بن عفّان رضي الله عنه لإبل الصدقة. وربما كان قبل ذلك لغنى وأسد، ثم زالت مُلكيتها عنه. ويدل إحماءُ عثمان لإمرة ووقْفُها على إبل الصدقة أن هذا الرَّجَا من الأرض كان منقطعاً على نحو ما من العمران مما كان يجعله لائقاً للرعي، كما كان معشوشباً مُمْرِعاً، وهو سبب آخر لجعله أليق للرعي. ونلاحظ أن الحموي لم يومئ إلى مائية هذا المكان الذي كأنه كان بادية قاحلة.
2- وأن أحَدَهُما الآخر جبل بنجد يشرف على طريق البصرة إلى مكّة، ويبدو أنه مرتفع شامخ، من أجل ذلك قال الشاعر فيه:
إذا ما فقدتُمْ أَسْوَدَ العَيْنِ كنُتمُ ... كِرَاماً، وأنتُمْ ما أقَام أَلائِمُ(3)
__________
(1) -م.س.، 1-335.
(2) -م.ي.، 1-250.
(3) -م.س.(1/102)
وإذا كان هذان المكانان (المرعى والجبل) اللذان عَرَّفَ بهما السكرى الأماكن الخمسة التي وردت في بيتي امرئ القيس ليس لهما في معجم الشهرة والذيوع لدى الناس ما يجعلهما حقاً صالحين لشرح غيرهما؛ فإن الطمع في تحديد مواقع سقْطِ اللِّوى، (وتحدث كثير من القدماء عن "السِقْطِ" على أنه "منقطع الرمل حيث يستدق من طرفه" (1)، وعن "الِلِّوَى" على أنه "رمل يعوج ويلتوى"(2). فكأنه، إذاً، غَيْرُ مكانٍ؛ وإنما هو وصفٌ له، وتحديدٌ لتضاريسه؛ ولكن كيف يوصف مكانٌ لا مكانية له؟ إننا نعتقد أنه موضع يقع، من الوجهة الجغرافية، بين الأمكنة الأربعة الأخراة) والدخول، وحومل، وتوضح، والمقراة، يُعَدُّ من العسر بمكان بعيد. ولكننا من خلال بحثنا عن هذه الأماكن في معجم البلدان لياقوت، ولم نكد نعثر إلاّ على مكان "توضح" في سَوَائِه(3)، كما لم نستطع العثور في جميع المظان التي بمكتبتنا على تعريف أو ذكر لمكان "سقط اللوى"، فاقتنعنا بأنه كان مجرد مَعْبَرٍ عَرَضي نزل به أهلُ امرأ القيس هذه زمناً، ثم زايلوه إلى الأبد فباد ذكره، ودرس أثره إلاّ في هذا البيت المرقسي العجيب.
__________
(1) -الزوزني، م.م.س.، ص 7.
(2) -م.س.وانظر أيضاً القرشي م.م.س.، ص 39.
(3) -ابن عبد ربه، م.م.س.، 1-105.(1/103)
والآية على أن هذا الموضع كان مغموراً مجهولاً، لدى عامة العرب، وقل لدى عامة الجغرافيين العرب، أن امرأَ القيس أُضْطُرَّ إلى أن يذكر، على غير دأب الشعراء في تحديد مواقع الأمكنة أو ذكرها، أربعة مواضع أخراة يبدو أنها كانت أشهر وأعرف لدى الناس من هذا المكان "السحري": سِقْط اللِوى؛ فجعله بينها مجتمعةً تحْدَوْدِقُ به ؛ فكأنه تعريفٌ قانوني يشمل الحدود الشمالية والجنوبية والشرقية، على دأب الذين يكتبون عقود تمليك الأرض(1)
ونحن نعتقد أن سِقْط اللِوى، هذا، لم يَكُ، بأي وجه، مُسْتَقَراً ومُقاماً لأهل أنثى الشاعر؛ وإنما كان في الغالب مَرْعىً جادت به عليه السماء فمر به القوم فمكثوا فيه إلى حين إجهاد ما كان فيه من كلأٍ، ثم تحملوا عنه إلى سوائه...
والآية على ذلك أن معاد الضمير في قوله: "لما نسجتها" اختلف النحاة في تخريجه، ومنهم أبو الحسن، وأبو علي الفارسي: فهو إما يعود على "المقراة"، وإما يعود على المواضع الخمسة كلها(2). فالعجب من شاعر يذكر حبيبة ويربطها بمكان محدد، ثم لايكاد يمضي إلى البيت الموالي حتى يتنكر لذلك المكان فيهمل إعادة الضمير عليه، وينصرف إلى سَوائِه. فما أنسى الشاعر سِقْط لِوَاهَ؟ وما أعجله إلى سواه؛ والحال أن أنثاه كانت تحيا في الموضع الأول، ولم تذكر المواضع الأربعة الأخراة إلاّ على سبيل التعريف به، والتحديد له؟ فما هذا الإشكال؟ إلاّ أن يكون "بين" في بيت امرئ القيس وارداً بمعنى المصاحبة أو العطف، فنعم. ولكن لا أحد من النحاة يجعل "بين" بهذا المعنى، فماذا؟
__________
(1) -زعم ابن كثير (السيرة النبوية، 1-118: أن "هذه مواضع معروفة بحوران"، وحوران بالشام، هذا وقد ورد ذكر موضع "حومل" في معلقة طرفة، من حيث ورد ذكر موضع "توضح" في معلقة لبيد.
(2) -أبو علي الفارسي، كتاب الشعر أو شرح الأبيات المشكلة الإعراب، 2-468-469.(1/104)
كأن هناك سَقْطاً في الكلام، ضاع من الرواة، وقع لِمَا بعد "سِقْط اللِوى"؛ وإلاّ فكيف يتحدَّث الناص عن مكان، ثم يعيد الضمير على سواه، في حيز ضيق من الكلام؟ هل يعقل أن تكون الأمكنة الخمسة بجذاميرها دارِسَةً عافيَةً، ومُقْفِرَةًً بالية، والحال أن البكاء إنما كان ينصرف، أصلاً، إلى المكان الأول، إلى سِقْط اللِّوى، لا إلى الأمكنة التي يقتصر دورها، في ظاهرة الدلالة، على مجرد التعريف به؟ وما جدوى ذِكْرِ الأمكنة التالية واّتِرَاك المكان المقصود، المكان الذي كان يُؤوي منزل الحبيب؟ ومهما يكن من شأن، فإن هذه الحبيبة، فيما يبدو، لم تك إلا ورقيّة، إذ نلفي ذا القروح يفرغ لوصف النساء الحقيقيات، فيما بعد من معلقته، فيذكر بعضهن بأسمائهن (فاطمة -أم الرباب -أم الحويرث -عنيزة (ولعلها غير فاطمة، وهو ما يزعمه الرواة) ويعفّ عن ذكر أسماء الأخريات. وقد ألفيناه يبدع في الوصف الجسدي المفصل: للشعر، والكشح، والساقين، والترائب، والبشرة، والخد، والعينين، والجيد، والأصابع، والقامة الفارعة...(1/105)
وكل ذلك إذا صَدَّقنا، وسنكون إذاً سُذَّجاً، أن معلقة امرئ القيس (والطللية التي نحن بصدد تحليلها طرف منها)، كما أَثْبِتَتْ في المتون، وكما تداولها حَمَّادٌ وخَلَف، هي حقاً كلها من حُرِّ شعره، وخالص إبداعه، وأنها، إذن، استطاعت أن تُفْلِتَ من عبث الرواة المحترفين الذين كانوا يتزيدون في الأشعار، وخصوصاً منهم حماداً الراوية الذي عاث في الشعر الجاهلي فساداً فلا يَصْلُحُ بعده أبداً، مع أنه "كان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها (....). وكان غير موثوق به، وكان ينحل الرجل غيره، وينحله غير شعره، ويزيد في الأشعار"(1). وكان حبيب بن يونس لا يبرح يردد، في حيرة وحزن: "العجب ممن يأخذ عن حمادٍ، وكان يكذب...."(2). وقد حاولنا أن نتتبع آراء النقاد الأقدمين في حماد الراوية وخلف الأحمر، حول كذبهما وزيادتهما في أشعار الناس، وذلك فيما لدينا من مصادر محدودة في مكتبتنا الشخصية، فبلغ ذلك تسعة مصادر على الأقل لكل منهما(3).
__________
(1) -ابن سلاّم الجمحي، م.م.س.، 1-48. 42-م س ، 1-49.
(2) -م.س.، 1-49.
(3) -بالقياس إلى حماد نحيل على المصادر التالية: السيوطي، المزهر، 1-175 وما بعدها؛ أبي الفرج، الأغاني، 6-83-84؛ ابن عبد ربه، العقد الفريد، 5-307؛ نفسه، 6-84-88، 90-91؛ ابن سلام، طبقات فحول الشعراء، 1-48-49؛ ابن خلكان، وفيات الأعيان، 2-207؛ الجاحظ، الحيوان، 4-447-448؛ ياقوت الحموي، معجم الأدباء، 4-140؛ الشريف المرتضى، أمالي المرتضى، 1-132. وبالقياس إلى خلف الأحمر يراجع ما يلي: الزبيدي، طبقات النحويين واللغويين، ص 177 وما بعد؛ السيوطي، المزهر، 1-176-177؛ ابن عبد ربه، العقد الفريد، 5-307؛ المرزوقي، شرح حماسة أبي تمام، 2-827؛ ابن النديم، الفهرست، ص 80؛ المرزباني، الموشح، ص 198-199؛ السيوطي، بغية الوعاة، 1-554؛ أبو علي القالي، الأمالي، 1-155؛ الجاحظ، الحيوان، 4-181.(1/106)
وعلى الرغم من أننا سنتناول هذه المسألة في مقالة مستقلة، وسنُعيدُها ببعض ذلك جَذَعَةً؛ فإننا نلاحظ أن هناك مكرراتٍ في معلقة امرئ القيس، كتكرار بعض الأوصاف الجسدية أكثر من مرة واحدة، وذلك على أساس أن الذي يكذب يَنْسى، وأقصد كَذَبَة الرواة. ولو كانت كلها من حر قوله لما كررت هذه الأوصاف وذلك على غرار ما نلفيه من تكرار الكشح مرتين، والساق مرتين، والتشبيه بمصباح الراهب مرتين... كما نلاحظ هذا الاختلاف الشنيع بين روايتي الزوزني، والقرشي، فالقرشي يضيف آباييت كثيرة لم يذكرها الزوزني، وخصوصاً في المطلع الطلليّ مما يدل على عبث حماد الذي يعود معظم الشعر الجاهلي وروايته إليه، وقد عرفنا ما قال فيه قدماء العلماء....
ومهما يكن من شأن، فإننا استطعنا أن نعرف، بفضل ياقوت الحموي، أن موضع الحومل لا تحديد لموقعه، ولا لصفته، وهل هو ماء، أو جبل، أو مرعى، وإنما سمي حوملاً "من الحمل لَمّا كثر التحميل"(1) منه، وأن "الدَّخول اسم واد من أودية العلية بأرض اليمامة" (2)، وأن هذا الدَّخول، لدى نهاية الأمر، هو من مياه عمرو بن كلاب. وزعموا أنه كان بئراً نميرةً كثيرة الأمواه(3)، وأن هناك دَخولاً آخر ذُكِرَ في قول شاعر من شعرائهم، ولكنه لم يكُ دَخُولَ عمرو بن كلاب، وإنما كان ماءً لبني العجلان(4). كما أن هناك توضح آخر باليمامة يقول فيه شاعرهم:
أيا أثلاثَ القاعِ من بَطْن تُوضِحٍ ... حنيني إلى أَفْيائِكُنَّ طويلُ(5)
__________
(1) -ياقوت الحموي، معجم البلدان، 3-372.
(2) -م.س.، 4-45. ويذكر القرشي أن "الدخول وحومل موضعان شرقي اليمامة"، الجمهرة، 39.
(3) - ياقوت، م.م.س.
(4) -م.س.
(5) - م.س.، 2-430، 7-58 وهي أبيات ذكرت مع حكاية طريفة. والرواية في الإحالة الثانية: "إلى أطلالكن "بدل" "أفيائكن" -وينسب ياقوت هذا الشعر ليحيى بن طالب الحنفي.(1/107)
ويبدو أن هذا الموضع كان قرية من قرى أرض قرقري الخصبة التي كان "فيها قرى وزروع ونخيل كثيرة"(1)،وأن توضح والمقراة "قريتان من نواحي اليمامة"(2).
وقد يَسْتبين من خلال هذه التلميحات أن سقط اللوى كان بين أماكن تتسم بشيء من الخصب، وأن تلك المواضع كانت مواقع مياه كان العرب يتقصدونها. ولم نستطع التوصل إلى أكثر من هذه النتيجة، إنْ حقّ أن يكون مثلُ هذا نتيجة!
خامساً: جمالية الحيز الطللي:
لانحسب أن الناص ذكر هذه الديار، وأومأ إلى هذه الآثار، وهو في معرض سَوْقٍ لذكريات جميلة بادت، وأزمنة قشيبة بَليتْ، وفتيات فاتنات الملامح، بَضَّات الترائب، سود الجفون، أسيلات الخدود، نحيلات القدود، ضامرات الكشوح، مستشزرات الشّعور: ثم لاَ يقْرِن تلكم الذكريات بالجمال البديع، ولا يربطها بعهد الشباب الجديد، ولا يغمسها في غدران وعيون، لَتَترَهْيَأَ من بعد ذلك بين الرياض والزروع. فالحبيب هنا يعني امرأة، والمرأة قد تعني مجرد أنثى، ولكنّ أُنثِيَّتها(3) هي التي، ربما، تضفي عليها شعاع الحب، ويعني الحب حزماً من الذكريات المتراكمة؛ وتعني الذكريات هذه الأسقاط من الأزمن العائمة في أحياز الأمكنة التي تشكل، لدى نهاية الأمر، متضافرةً بجذاميرها، شحناً من التمثلات التي تعتور الذاكرة، أو تتواثب في مجاهلها الشاسعة؛ كلما حدث حنين عارم إلى ماضٍ غابر، أو دعا داعٍ إلى نبش معيش الأمس الدابر.
__________
(1) -م.س.، 7-56.
(2) -م.س.، 8-123. ولم يزد الزوزني على تحديدهما بأكثر من أنهما موضعان (شرح المعلقات السبع، ص8)،ولم يزد القرشي على قوله: إنهما "موضعان بالقرب من الأول" (جمهرة أشعار العرب، ص40).
(3) - لانريد إلى الأنوثة، وإنما نريد إذاً إلى ما نطلق عليه "الأنثية" التي تتخذ معنى الجنس أساساً، لا معنى جمال الجنس.(1/108)
ذلك بأننا نذهب إلى أن هذه الأحياز، أو هذه المواضع التي أراد الناص أن يتخذها مسرحاً لعرض بعض ذكرياته العذاب، في بعض هذه الأبيات الشعرية الوحشية، أو العذرية، أو الغجرية: هي في معظمها مياهٌ للعرب كانت معروفةٍ لديهم، مثل الدخول الذي كان وادياً جارياً، ولا يعقل أن يكون هناك وادٌ في بلاد العرب، أو في بعض بلاد اليمن، ثم لا ماء فيه. فعهدنا بتلك الأودية السحيقة مسايل للماء، ومجارٍ للسيول، ومدافع للعيون. فكان فيها ظل وماء، وفيها دفء واعتدال. ولأمر ما ألفينا شجر البن يخضر فيها وينضر، ثم يزهر ويثمر، فتراه يتخذ منابته المخضوضرة في جنبات تلك الأودية السحيقة التي لا نكاد نلفي لها مثيلاً في العالم: الظل، والماء، والاعتدال الدائم على وجه الدهر.
ولا يقال إلا نحو ذلك في توضح والمقراة اللتين كانتا قريتين من نواحي اليمامة(1). ولا يعقل أن تكون قرية يقطنها الناس، ولا يكون فيها ماء و لامرعىً ولا شجر، ولا يكون بِدِمنَها وعرصاتها، ومرتفعاتها وقيعانها، نَبْتٌ ولا كلأٌ ولا اخضرار. إن ذِكْرَ المواضع الغانية، لا يمكن إلاّ أن ينشأ عنه الحد الأدنى من التصور الجمالي المتجسد في ضرورة وجود الماء الذي يفضي بالضرورة إلى وجود الشجر والزرع الذي يفضي بالضرورة إلى وجود الحياة الغانية التي تفضي بالضرورة إلى التخاصب والتزواج والتعايش والتحابّ.
فلا يترعرع الحبّ إلا في ظل شجر، وحول ماء جارٍ، وفي وادٍ ممرع، ووسط مخصب؛ إذا لم تكن بلاد العرب كلها مجرد رمال قاحلة، وسوافٍ عاصفة؛ فإن فيها مواضع ليس أجمل منها على الأرض...
ونريد أن نتوقف لدى ضربين من الحيز ونحن نحاولُ مُدارَسَةَ جماليَّاتِهِ، في بعض هذه الأبيات الستة:
الحيز بين الانتساج والانتساخ، والحيز الأخضر، عافّيِنْ عما بقي من أضربه إلى حين.
1- الحيز بين الانتساج والانتساخ:
__________
(1) -ياقوت الحموي، م.م.س.، 7-56.(1/109)
يصادفنا في طللية امرئ القيس حين يتحول من حال إلى حال، ومن وجه إلى وجه، في إفراز الجمال، فترى سطحه ينتسخ، وشكله ينتسج؛ وذلك بفعل انتساج الرمال وحركتها الناشئة عن عصف الرياح، وهبوب السافيات. فتلك الأحيازَ قاومت الطبيعة بالطبيعة، وقل: إنّ الطبيعة العذراء هي التي تقاوم ذاتها، فانْتَسأ العفاءُ بفضل الرياح التي كانت تذرو الرمال على هذا الوسط الصحراوي العجيب:
لم يعف رسمُها* لما نسجتْها من جَنوب وشَمأَلِ
ويبدو أن حركة الانتساخ الرملي التي كان ينشأ عنها مناظرُ عاريةٌ عجيبة كانت تتم تارة بفعل هبوب الرياح من الجنوب نحو الشمال، وتارةً أخراة بفعل هبوب الرياح من الشمال إلى الجنوب.
ونلاحظ أنّ الحيز الشعريّ هنا لا يزال يبدّل سطحه، ويغيّر وجهه، كلما هبت عليه الرياح؛ وكلما سكنت عنه، أيضاً، هذه الرياح. والتبدل الذي يعتوره إنما كان يتمّ بفعل حركة الرياح وسكونها معاً. وواضح أن الحيز هنا ذو لونٍ أصفر ضاربٍ إلى الحُمْرة، لأنه لون الرمال. وهو حيز، إذاً، أغبرُ أشعث لأنَّ السوافي لم تبرح تثير مادّته هذه فتفعل فعلها فيما حَوالَها، ومن ذلك حيلولتها بين هذه الأطلال والدروسَ فلا تَدْرُسُ؛ فإذا هي باقيةٌ قائمة، محتفظة بأهم مما كان فيها من أثافي القدور، ومن معاطن الإبل، ومن حظائر الغنم، وربما من مرابط الخيل: أطلال كأنها ليست أطلالاً، وكأنّها لا تبرح غانية كما كانت بالأمس.
2- الحيز الأصفر وملحمة الألوان:(1/110)
إن اللون الأصفر، وقل اللَّون الأدكن؛ اللون المتشكّل في أصله من لونين اثنين أصفر وآخر أحمر، أو قريب من الحمرة: كان يتلاقى مع لون آخر يماثله، أو يقترب من مماثلته؛ وهو لون الشمس المتمثّل في أشعّتها المذّهبة العجيبة. فكان لون سطح الأرض يمتزج بلون آخر آتٍ من نحو العلاء: فيذوب اللون في اللون، ويتزاوج الشكل مع الشكل، فيُحْدِثان ملحمة عبقرية طبيعية من الألوان الساكنة الناعسة، وهي ألوان ما تَحْتَ، والألوان المتحركة المتحفّزة وهي ألوان ما فوق.
وكانت هذه الألوان لا تلبث، هي أيضاً، أن تنتسخ وتنتسج تبعاً لما يعتورها من شعاع وفَيْءٍ، وضياء وظلّ؛ فإذا بعضُها مصفرٌّ فاقع يشّع من بعيد فيبهر البصر، ويسحر الجنان؛ وإذا بعضها داكن خامد، كأنه سكون نائم، أو منظر عائم؛ لأنه وقع تحت ظلّ الشمس؛ ولأنّ سطحه كان متعالياً بعضه على بعض بحكم أنّ السطح لا يكون في كلّ الأطوار ممتدّاً لا عوج فيه ولا أمت، ولا ارتفاع ولا انخفاض؛ وإنما تراه في كثير من أطواره السطحية مرتفعاً بعضه، ومنخفضاً بعضه، ومنبسطاً بعضه الآخر، فإذا هو يشكّل أضرباً من الحيز الداكن الخامد وهو الواقع تحت سلطان الظلّ؛ وأضرباً أخراةً من الحيز المصفّر المشعّ، وهو الواقع تحت سلطان الشمس المتوّهجة.
وكان هذا الحيز الملحميّ لا يلبث أن ينفلت من هذين الشكلين ليجّسد شكلاً ثالثاً هو الشكل المغبرّ المتكوّن من حبّات الرمال المتطايرة حين تذروها السوافي فتتناثر فيما حوالها من الفضاء شظايا. وهو شكلٌ حيزيٌّ بمقدار ما هو مذهلٌ مريع، بمقدار ماهو غجريّ وحشيّ، يجسّد الطبيعة في عذريتها، وعبقريّتها وتغيّرها، وانتساخ مظهرها تبعاً لما يعتور أطوارها، ويخامر أحوالها.(1/111)
ومن الواضح أنَّ هذا الحيز -الثالث- متحركٌ لا ثابت، ومتناثر لا ساكن؛ وهو الذي كان يفضي بسطح الرسوم المرقسيّة السحرية إلى أن تظلّ باقيّةً غير فانيةٍ، وقائمة غير ذاهبة؛ وكلّ أولئك أمور حدثت بفعل انتساج الرمال التي إنّما تناسجت، هي أيضاً، بفعل هبوب السوافي عليها تارة من تلقاء الجنوب، وتارة أخراةً من تلقاء الشمال؛ في حركة كأنها دائبة، ونشاط كأنه أزليّ. وكأنّ كلّ أولئك إنما كان لأجل حفظ الحيز الأصليّ الثابت من أن يَبْلى ويَدْرُسْ.
فهل يمكن أن يوجد أسحر وأبهر من هذا الحيز الثلاثي الأشكال، المركّب الألوان، المتغيّر الأطوار، من حال إلى حال؟
3- الحيّز الأخضر وملحمة الجمال العذريّ:
يصادفنا في هذه الطللية العجيبة ضرب من الحيز يتّسم بجملة من المظاهر المفضية إلى تشكيل ملامح من الجمال تتضافر بجذمورها لتبدع لوحة طبيعة عبقرية، وتتمثّل خصوصاً في :
أ- بعر الآرام:
إنّا لنعلم أن بَعَر الآرام، وتواثب الأرانب، وغناء الطير، ونحوها: بمقدار ما تدلّ على وحشيّة المكان وإقفاره، تدلّ على خصبه وإمْرَاعِهِ، وتواجد الخضرة فيه، في الوقت ذاته. سواء علينا أكانت تلك الخضرة ناشئة عن مياه المطر، أم عن مياه الغدارن والعيون؛ فإنها في الحالين الاثنتين تدلّ على الخصب والإمراع. إذ لا ينبغي أن يكون بعرٌ إلا بارتعاء؛ ولا ارتعاءٌ إلاّ لعشب أخضر.
إنّا؛ حقاً، لو قرأنا "بعر الآرام"، تقليديّاً، لما انتهينا إلى شيء مما زعمناه، ولكانت قراءتُنا إيّاه على مقتضى السابقين؛ وإذاً لما كان لقراءتنا وجوبٌ ولا غناءٌ. ولكننا نحن سخّرنا في هذه القراءة التأويليّة ما نطلق عليه "الحيز الخلفيّ" الذي أفادنا بالتسلسل الذهني بهذا الذي استنتجناه من قراءة هذه العبارة. إنّ بعر الآرام، فعلاً، وحقّاً، وانطلاقاً من سياق النص، يسبّب شبكة من المعطيات الدلالية التي تفضي حقاً إلى بعض ما اهتدينا إليه.
ب- العَرَصات:(1/112)
تعني العرصات في اللغة المعجميّة الملاعب والمغاني التي تحدودق بالمنازل، وتحيط بالدور. فهي من هذه الوجهة تحيل على حيز مرتبط بعمران كائن أو كان. فكأنّ العرصات عبارة عن مساحة مخضرة ممتدّة يسرح مع خضرتها الطرف، وتمتدّ مع امتدادها العين المبهورة بعبقرية الطبيعة ورونقها وأناقتها. فهذه الآرام التي يُتَحدَثُ عنها تمثل مع هذه العرصات وسطاً طبيعياً عذرياً ، أو متوحشاً غجرياً، لمَّا تُهذّبه مهذّبات الحضارة بالتضيع والتغيير. فهناك إذن الخضرة؛ وهناك إذاً ما يعيش في أحضان هذه الخضرة (الآرام)؛ وهناك من يحسُّ بهذه الخضرة العرصاتية، أو يمتزج بها، أو يندمج فيها بشعور أو بدون شعور.
ج- وقيعانها:
لو لم يتحدث النصّ عن القيعان بعد العرصات لحقّ لنا أن نتأوّل هذا الحيز على أنه وَعْرٌ حَزْنٌ، وعلى أنه شاهقٌ عالٍ، ولكنه حين أعقبه بـ "القيعان" أسْتَبان أنّ هذه العرصات المرقسيّة كانت تَخْضَوضِرُ فتمتدّ ظلالها في كل اتجاه، ولعلها كانت تتربّع في قيعةٍ من الأرض حيث إنها مظنونةٌ باحتقان الماء.
ولا نعتقد، لمن سيعترض علينا، بأنّ تلك القيعان كانت مجدبة، وأن تلك الآرام كانت تتواثب وتتلاعب في مجرّد الرمال القاحلة. كما لاينبغي أن ينصرف الوهم إلى أنّ الحيز الشعري الجميل الذي كان يحنّ إليه امرؤ القيس، ويتلذّذ بذكراه، كان مجرد قفر عجيب. وإلاّ فبم كانت تلك الآرام تقتات؟ وأين كانت من شجر الأراك؟ ثم أين كانت تختبئ لتتّقي عدوان القنّاصين المتربّصين بها؟ ثم من سيستطيع أن يثبت لنا بأن حيز امرئ القيس المتحدّث عنه هنا كان مجرد رمال جافّة، وحجارة صلدة، ومناظر موحشة؟ وما القول في العرصات، والسّمرات، والآرام، والمنزل...؟
د. سَمُرات الحيّ:(1/113)
قد تكون هذه السَمُرات مجرد بيان للعرصات المتقدمة الذكر، وذلك من الوجهة الوصفية الخالصة، لكن من الوجهة الدلالية تعني، أو قد تعني أنّ الشأن منصرف، هنا، وفعلاً، إلى طبيعة مخضرّة عذراء؛ وأنّ الاخضرار لم يَكُ، ربما، وقفاً على ما ابتعد عن الحيّ وانتشر حَوَاله من فضاء يبدو كأنه مريع؛ وإنما نلفيه أيضاً يوفر، ربما، في هذا الحيّ الذي تباسَقَتْ سَمُراته المخضرّة فتَرَهْيَأت أغصانها المورقة فامتدّت أفقياً وعمودياً: فنشأ عنها شيء من الظلّ والنّعمة والرّغد...
ونلاحظ أنّ خضرة العرصَات كأنها وقفت على الآرام وما كان يشبهها من حيوانات وحشية كالذئاب وسوائها؛ بينما خضرةُ السَّمُرات وقفَتْ هنا على الإنسان يتظلّل بظلّها، ويتنسّم بنسيم أغصانها المصطفقة، وفروعها المتراصة. فعلاقة الطبيعة انصرفت في الحال الأولى إلى مجرد حيوان، بينما انصرفت في الحال الأخراة إلى الإنسان.
هـ- رسْم دارس:
لعلّ من عجيب المفارقات، ولطيف المباعدات، أن يغتدي الخراب اليباب مظنّةً للجمال البديع، ومقصدةً لاستعادة الذكريات العذاب. فالرسم الدارس من حيث هو ديارٌ بالية، وبنايات متهدّمة: لا جمال فيه، ولا إلهام منه، ولا سعادة تجثم حَوالَه. بيد أنّ الذي جعل من جَلاله جمالاً، ومن شقائه سعادة، ومن وحشته أُلفَةً، ومن بشاعته نُضْرَةً؛ هو تلكم الذكريات الجميلة التي كان يطويها في نفسه، وتلك العلاقات العاطفية الكريمة العارمة، وتلكم الأزمنة التي قضّاها أناسٌ فيها حتّى ضجّت بهم، وغصّت بوجودهم: ما بين ذاهبٍ وآتٍ، وخارج وداخل، وسارٍ وقائمٍ، ويقظان ونائمٍ، ومفارق ومُوامقٍ، ومُغاضِب ومعانق... حياة على الشظف رغيدة، وعلى الاضطراب وديعة، وعلى الشقّاء سعيدة.... الحبّ والشعر، والشعر والحب، على الرغم من كلّ المهدّدات التي كانت تمثّل في الإغارات المشنونة، والحروب المستعرة...(1/114)
أو لم يكن فيما توقفنا لديه من هذه المنازل القائمة، والمغاني الممرعة، والقيعان المخصبة، والعرصات المخضوضرة، والسّمرات الباسقة، والرسوم الدارسة الموقورة أطلالها بالأسرار والألغاز، والمشحونة رواكدها برسيس الذكريات العذاب: ما يجعل هذه الأخبار طافحاً جمالها...؟
***
ولمّا كنّا نعلّق شأناً مهماً على مدارسة الحيز وتحليل أنواعه في هذه المعلّقات، فإنّ ما عرضنا له في نهاية هذه المقالة يحملنا على عقد مقالة بحذافيرها لجمالية الحيز في المعلّقات، من حيث هو، وليس من حيث هو طلل، وهو الأمر الذي حاولنا أن نعوج عليه معاجاً عجلاً في نهاية هذه المقالة. حقاً، أنّ الطلل ينضوي تحت مفهوم الحيز، بامتياز، ولكنّ للطلل شأناً آخر ينصرف إلى سير أخراة اجتهدنا في أن نعرض له في القسم الأكبر من هذه المقالة.
((
3- جماليّة الحيز في المعلّقات
لقد خالفنا جماعة النقاد العرب المعاصرين في أنهم يصطنعون "الفضاء"، وفي أننا نصطنع "الحيز".
فلماذا إذاً الحيز، وليس الفضاء؟
إننا نعتقد أنّ الفضاء أوسع من أن يشمل الحيز شمولاً تفصيلياً، وأشسع دلالة من أن يحتوي هذه المساحة الضيقة، أو المحدودة الأطراف، التي نودّ إطلاقها على مكان جغرافيّ ما، أو على ما له صلة بالمكان الجغرافيّ، على نحو أو على آخر. فالفضاء كلُّ هذا الفراغ الشاسع الذي يحيط بنا من الكون الخارجيّ. وهو أيضاً كلّ هذا الفراغ الهائل الذي يمتدّ من حولنا مع امتداد مدى أبصارنا. أمّا أن نطلق الفضاء على مكان محدود بالمساحة والمسافة تركض فيه أحداث رواية، أو تضطرب حَوالَه حركةٌ حيزيّة حيّة في قصيدة شعرية؛ فإننا لا نرى إتيان ذلك إلاّ من الحرمان، وقصور الذوق اللغويّ.(1/115)
إن الفضاء، في تصوّرنا، نحن على الأقلّ لمدلول هذا اللفظ، أوسع من مدلول لفظ الحيز الذي نتصرف فيه، نحن، تبعاً لورود أطواره، وتعرض أحواله في النصّ الأدبيّ شعراً كان أم سرداً. ذلك بأننا نعدُّ كلّ جسم ناتئٍ، كأن يكون شجرة، أو نبتة، أو كرسياً، أو سيارة، أو حيواناً متحركاً، أو إنساناً ماشياً، أو هيئة للحركة في أيّ من مظاهرها، أو نهراً جارياً، أو وادياً متخدّداً، أو ربوة عالية، أو كثيباً بادياً، أو نخلة باسقة، أو خيوط مطرٍ هاتنة، أو حبّات ثلجٍ هاطلة، أو طريقاً مستقيماً أو ملتوياً: حيزاً.
ثم لا نزال نتصرف في ذلك ونتوسع حتى نُنْشِئَ من النخلة العَيْدَانَةِ المَتَرَهْيئَةِ حيزاً، ومن امتداد القامة واهتزاز هيئتها حيزاً، ومن الفَيْءِ الذي تحدثه الشجرة الوارفة الظّلال، تحت أشعة الشمس المتوهجة، حيزاً، ومن تلاطم أمواج البحر وتصاخبها حيزاً، ومن كلّ شيء يمكن أن يتحرك، فيُمَسَّ، أو يُلْمَسَ، حيزاً.
وإننا، وانطلاقاً من هذا التصور، نَمِيزُ المكان من الفضاء، كما نَمِيزُ الفضاء من الحيز، كما نميز الحيز من المجال، كما نميز المجال من المحلّ، وهلّم جرا.... فنطلق، في العادة، المكانَ على كلّ حيز جغرافي معروف (ولعلّ التعريفات الفلسفية تجنح لهذا أيضاً، ولكن في سياق آخر) على حين أننا نطلق الحيز على الأحياز الخيالية والخرافية والأسطورية، وما لا يمكن أن يقع تحت حكم الاحتواء الجغرافيّ بشكل واضح دقيق.....
ولقد كان لنا في ذلك تطبيقاتٌ كثيرة على النصوص الأدبيّة التي حلّلناها في كتاباتنا الأخيرة (1).(1/116)
وللمكان، وللحيز بعامة، على الإنسان فضل الاحتواء، وشرف الاشتمال، فالحيز شامل والإنسان مشمول. وقل إن شئت، كما ورد في بعض التعريفات الإسلامية القديمة، فالحيز شاغل والإنسان به مشغول. فلا يمكن لأيّ كائنٍ حيّ، كما لايمكن لأيّ آلة أيضاً، أن تكون، أو تتحرك، إلاّ في إطار الحيز الذي استهوى تفكير الفلاسفة منذ القديم فحاولوا فلسفته، وتحديده، ومفْهَمته(2).
وإذا كان المكان بالمفهوم الماديّ المحسوس لا يكاد يعنى به إلاّ الجغرافيّون؛ وإذا كان المكان بالمفهوم العامّ المجرد لا يعنى به إلاّ الفلاسفة؛ فإن الحيز، كما نتصوّره نحن، عالم شديد التعقيد، متناهي التركيب، يتشكّل بلا حدود، ويتنوع في أفق مفتوح.... ومن العسير الانتهاءُ فيه، نتيجةً لذلك، إلى تعريف صارم، وحكم قائم. ولعلّ سعة مفهوم الحيز وامتداد أبعاد مدلولاته هما اللذان جعلانا نُعْنَى به من الوجهة الأدبية الخالصة فنجتهد في بلورة مفهومه ضمن إطار الأدب البحث، لا ضمن إطار الفلسفة المجرد؛ وضمن إطار الخيال المجنّح، لا ضمن إطار الواقع المحدَّد.
ولقد كان للحيز شأنٌ شريف في أخيلة قدماء الشعراء العرب حيث استرعى أخيلة شعراء أهل الجاهلية فكان له لديهم أهمَّيةٌ فبكَوْهُ من خلال بكاء آهِلِه، وأحبّوه ضمن حُبِّ قاطنه، وحزِنوا عليه عبر الحزن على مُزايله؛ فإذا الشعر الجاهليّ بعامة، والمعلّقات بخاصة؛ تعجّ بذكر الأحياز عجيجاً، وتلهج بسردها ومَوْقَعَتِها لهجاً. ولعلّ أشهر بيت في الأدب العربي على وجه الإطلاق وهو:
قفا نبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزِلِ ... بِسقْطِ اللِّوى بين الدّخول فَحَومَلِ(1/117)
قائمٌ نسْجُه على ذكر الأمكنة، والحنين إليها، والازدلاف منها، والبكاء عليها، وبالتلذّذ بتردادها: فقرِنَتْ الحبيبة الذاهبة بالحيز الباقي، وبُكِيَتْ الراحلة بالمكان الدارس، والرسم البالي. ففي هذا البيت الذي يكمّله صِنْوُهُ الذي يليه، تصادفنا سلسلة من الأحياز الشعرية كأنّ النّاصّ كان يحرص أشدّ الحرص على أن يحدّد لنا من خلالها دار حبيبته، وموطن حبه، ومَسْقَطَ ذكرياته -أو لم نجده يُمَوقِعُ دار هذه الحبيبة بهذا المكان الذي لاتعرف الجغرافيا عنه شيئاً يذكر- وهو سِقْط اللِّوى- وإن كان الشعر قد يعرف عنه شيئاً يذكر...؟ ثم ألم تَمَوْقَعْ هذه الدار بين أربعة أمكنةٍ أخراةٍ كيما تكون هي واسطة عِقْدِها، ومركَزَ مَواقِعِها...؟(1/118)
إنّ الشاعر العربيّ القديم لم يكن قادراً على قيل الشعر خارج المكان الذي كان يملأ عليه نفسه وروحه، ولا بالتخيّل خارج حبل الحنين العارم الذي كان يشدّه إلى هذا المكان شدّاً؛ فكان المكان، بالقياس إليه، بمثابة المادّة الكريمة التي يستمدّ منها إلهامه؛ بينما كانت الحبيبة، التي تقطنه، ثم تحمّلت عنه وزايلته إلى غير إياب، هي ينبوع الإلهام الثّرّ الذي كان يستلهمه: فيجهش بالبكاء، وتتبجّس نفسه بالحنين، ويطلق لسانه في الوصف، ويرسل ذاكرته مع الزمن الذاهب، والعهد الغابر، ثم لا يزال ينسج على الذكرى، والبكى، والحنين، نسوجاً متفرّعة عنها تقوم في وصف الناقة التي بفضلها استطاع أن يَعُوجَ على حيز الذكرى، ويَمرَّ دار الحبيبة المتحمّلة. كما تقوم في وصف البقرة الوحشية التي كانت تذكّره عيناها بعينيها؛ وفي وصف الرئم الذي كان يذكّره بياضه ببياضها، وجيدُه بجيدها، ورشاقته برشاقتها.... فحتى ما قد يَبدو، لأول وهلة، منفصلاً عن ملحمة المكان، بعيداً عن مناسبته، هو في حقيقته مُنْطَلقٌ منه، صابٌّ فيه، مُفْضٍ إليه. فلولا الناقةُ لما استطاع الشاعر الجاهليّ أن يعوج على طلل الديار المُقْفِرَةِ. ولكن ما كان ليكون لهذه الناقة شأنٌ لو ضربت به في أقاصي الأرض الشاسعة دون المَعاجِ على ذلك المكان الذي لم يكن يتجانَفُ عنه؛ وإنه كان، فيما يبدو، يتعّمد الجنوح له، والمَيْل عليه.
ذلك، وقد ذهب جميل صليبا إلى أنه لا تمييز في المعنى بين المكان والحيز(3). والأسوأ من ذلك أنه ذكر لفظ (espace) مرادفاً للمكان في عنوان مقالته، ثم لم يلبث، من بعد ذلك، أن أطْلَقَ عليه "المحل" أيضاً، وكتب مُقابِلَه الفرنسيّ بين قوسين وهو (lieu): ليتضح المعنى في الذهن، وليتبدّد الغموض من العقل. ونحن لا نوافقه على ذلك:(1/119)
1- لأننا نرى أن المكان لا ينبغي أن يكون مرادفاً للفظ الفرنسي (espace) والانجليزيّ (space) والإيطاليّ (spazio)؛ إذ لا أحد من عقلاء الأمم الغريبة يطلق (le lieu) على (L’espace) ولا ( L’espace) على المكان إن ( Lelieu ) ليس المحلّ بالمفهوم الضيق، وإنما هو المكان.
وقد ألفينا الشيخ يعقد مادة أخراة في معجمه، تماشياً مع معجمات الفلسفة العالمية، تحت عنوان: "الأين" ويترجمها أيضاً بـ (lieu)(4). بيد أنه يلْبِسُه، تارة أخراة، بالحيز. ولم نجده خصّ هذا المصطلح بمادة على حدةٍ، كما كنا رأينا، حيث تناوله تحت مصطلح "المكان" الذي يبدو أنّ مفهومه ظلّ يلتبس، في المقررات الفلسفية العربية، بالمحلّ والحيز التباساً شديداً على الرغم من وجود بعض الإشارات التي توحي، في مقررات الفلاسفة المسلمين، بجزئيّة الأين، وكلية المكان.
وكنّا نودّ لو أنّ مصطلح (espace) ترجم تحت مصطلح الحيز الذي نتعصب له وننضح عنه، ومصطلح (lieu) تحت مصطلح المكان. وكنّا نودّ لو أنهم دقّقوا في شأنه تدقيقاً صارماً في ضوء المفاهيم الفلسفية المعاصرة التي بلورت إلى حدّ بعيد. وبدون ذلك، وفي انتظار ذلك أيضاً، سيظلّ الالتباس شأننا، والخلط سيرتنا، في اصطناع هذه المفاهيم التي هي موجودة، أصلاً، في التراث الفكري العربي الإسلاميّ؛ وإنما الذي ينقصها هو التطوير والتدقيق، والتوسعة والبلورة.
وإذن، فإننا نعتقد بسوء الترجمة التي اجتهد فيها جميل صليبا فاتخذها مقابلاً للمصطلح الغربي (Espase).وقد نشأ عن هذا المنطلق الذي نعتقد أنه خاطئ، تصوّر خاطئ، والشيخ يعرف هذا حقّ المعرفة.(1/120)
وفي هذه الحال، قد يكون مصطلح "الفضاء" حين يتخذه النقاد العرب المعاصرون مرادفاً لـ (l’espace): أهون شرّاً، وأخفّ ضرّاً، وإنما تردّدنا، نحن، في متابعة أولاء النقاد في اصطناع هذا المصطلح لما أحسسناه، من الوجهة الدلالية، من سعة معناه؛ فهو عامّ جداً. وإذا كان النقاد الغربيون يصطنعون مصطلح (l’espasce)، فلأنهم لا يريدون به حتماً إلى المكان، ولا إلى الفضاء بمعناه الشامل أيضاً؛ حيث كيّفوه فصرفوه في مصارف ضيقة فأفادوا من هذا الصرف. من أجل كلّ ذلك ترجمناه نحن بـ "الحيز" (5) لاعتقادنا بأنه بمقدار ما هو ضيّق الدلالة أو دقيقها حين ينصرف الشأن إلى معنى المكان؛ بمقدار ما هو أشدّ تسلطاً، وأقدر قدرة على التنّوع الدلاليّ الذي وضع له بحيث لا يمتنع في الغرب، كما لا يمتنع في دلالة الحيز، بالمعنى الذي نريده له، أن يتمطّط ويتمدّد، ويتشعّب ويتبدّد، ويتحرك نحو الوراء كما يمكنه أن يتحرك نحو الأمام، ويَصَّاعَدَ إزاء الأعلى كما يهوي إزاء الأدنى: ينكمش كما ينطلق، ويتقلّص كما يتطالل.(1/121)
وقد تعامل الفلاسفة المسلمون، ولكن بشيء من الغموض الذي لايُنْكَر؛ فهو لدى ابن سينا مثلاً: "السطح الباطن من الجرْم الحاوي المماسّ للسطح الظاهر للجسم المَحّوِيّ" (6). فالمكان لدى ابن سينا إذاً: سطح يتفرع عن السطح الأصليّ (الظاهر) الذي يَظْرِفُ الجسم (ولعل الجسم هنا بالمفهوم الفيزيائي، لا بالمفهوم المعجميّ البسيط). فكأنّ المكان لديه جزء مِمَّنْ، أو ممّا، يتجزّأ في المكان. أو قل: هو بعضٌ أدنى، لكلّ أعلى؛ أو جزء باطن، لكلّ ظاهر. فالحيز لديه (وذلك إذا حقّ أن نمرق به عن المتصوّر في ذهن ابن سينا أصلاً) كأنه مجرد هيئة محدودة في المكان؛ فالمكان أعمّ منها وأشمل؛ فما قولك في الفضاء الذي زعمنا أنه أوسع سعةً في الدلالة من المكان. ولو ذهبنا نتلطّف في قراءة تعريف ابن سينا للمكان لألفيناه يدنو به إلى أدنى مستواه الدلاليّ. وكأنه كان يريد به، في منظورنا، إلى الحيز فطفر في تعبيره المكان.
وأيّاً كان الشأن، فإنّ المكان لدى جميل صليبا هو الحيز نفسه بصريح عبارته (7). لا فرق بينهما و لاتمييز. ولا اختلاف في معناها ولا ابتعاد. هذا ذلك، وذلك هذا. فأيّما مفكّرٍ اصطنع الحيز فهو إنما يريد، أو يجب أن يريد، إلى معنى المكان. وأيّما ناقد استعمل المكان في كتابته، أو تفكيره، فهو إنما يريد غالباً إلى الحيز. وهذا أمر لانتفق معه عليه.
وإذا كان علماء الكلام كانوا يرون أنّ الحيز، أو المكان (ما دام الفلاسفة العرب المسلمون، فيما يبدو، لم يميزوا المكان من الحيز، ولا الحيز من المكان بدقّة معرفية صارمة) هو "الفراغ" المتوهّم الذي يشغله الجسم، وينفذ فيه أبعاده"(8)؛ فإننا نلاحظ على هذا التعريف:(1/122)
1-أنهم يصطنعون "الفراغ المتوهم"، وكأنهم كانوا يؤمنون ببعض ذلك إلى أنّ الحيز لا يَرِدُ على الحقيقة؛ وإنما يَرِدُ على التخيّل والتوهُّم. وكأنه ينشأ عن هذا أنّ هذا التعريف أليق بالحيز كما نتمثله نحن في الأدب، منه بالفلسفة التي تنشد الدقة والإحاطة والصرامة والشمول الذي لا يغادر شيئاً ولا يتّركه إلاّ قرّره وناقشه.
2-إنّ هذا "الفراغ المتوهّم" يجب أن يضادّه "الفراغ المدرَك". فكان الأولى، في تصورنا، اصطناع هذا المصطلح الموصوف؛ إذ كان لفظ التوهّم، في اللغة العربية، منصرفاً لمعاني الغلط، وسوء الإدراك، والإغراق في السهو، والوقوع في التخيّل الشاحب أكثر مما هو منصرف إلى الدلالة والإدراك الدقيق (9).ولعلّ الآية على ذلك قول زهير:
فلأياً عرفْتُ الدارَ بعد تَوَهُّمِ*
حيث إن المعرفة والإدراك جاءا بعد معاناة التوهّم، ومكابدة التخيّل. وإذاً، فإنّا لا ندري كيف يَلْبِسُ هؤلاء المتكلمون التوهّم بالتحقّق، ومجرّد التخيّل بالإدراك الصارم؟
3-أنهم يربطون هيئة هذا الفراغ، وهو غير الحيز لدينا (إذ ما أكثر من يكون الحيز في تمثّلنا عامراً لا خاوياً، وممتلئاً لا فارغاً) بوجود جسم ما يشغله ويملؤه. فكأنّ المكان لديهم كلّ حيز مشغول بجسم متشِكّل فيه، ماثلٍ فوق سطحه.
على حين أنّ المكان لدى الحكماء الإشراقيين يتمثلونه "بعداً منقسماً في جميع الجهات، مساوياً للبعد الذي في الجسم، بحيث ينطبق أحدهما على الآخر، سارياً فيه بكلّيّته"(10).
ولا نحسب أنّ هذا التعريف يبتعد كثيراً في إجماله عن تعريف المتكلّمين؛ وإنما يختلف عن تعريفهم في تفصيله؛ إذ تصوّر الإشراقيين للمكان أنه يتساوى، ضرورة، بَعْدُهُ بالبُعْد الذي في الجسم. فكأنّ المكان لا تتجسّد كينونته إلاّ بالكائن فيه؛ فتساوي بُعْد المكان بالبعد الكائن فيه لا يعني إلاّ بعض ذلك.(1/123)
والحق أَنّ هَذا التعريف لا يكاد يختلف عن التعريف الشائع في الفلسفة العامة (11)؛ وإنما المزعج في تمثّل الفلاسفة المسلمين هو عدم مَيْزِهِمُ المكان (lieu) من الحيز (espace) والحيز من المكان؛ مع أنهما مفهومان مختلفان في مقررات الفلسفة العامة؛ إذ كلّ منهما يذكر في بابه، لا في باب الآخر (12).
من أجل ذلك لا نحسبنا مغالطين حين كنا زعمنا أنّ المفكرين العرب بعامة، والمحدثين منهم بخاصة، لا يكادون يَميزون المكان من الحيز، ولا الحيز من المكان، ولا المكان من المحل، الذي قرر فيه جميل صليبا ما قرر حين كتب: "المكان الموضع، وجمعه أمكنة، وهو المحل (lieu) المحدد الذي يشغله الجسم" (13). بينما نلفيه يطلق لفظ "lieu" الفرنسي، في موطن آخر، على الأين، في معجمه (14): فبأيّ القولين أو الأقوال نعمل؟ وما هذا الخلط المبين؟(1/124)
إنّ الحيز، لدينا، لا يرتبط وجوده ولا مثوله، ضرورة، بالجسم الذي يشغله؛ لأننا نعدّ هذا الجسم الذي يشغله في حد ذاته حيزاً قائماً بنفسه فيه؛ فالشجرة لدينا من حيث هي هيئة نباتيّة تتكوّن من جذع وأغصان وفروع وأوراق: حيز يشغل مكاناً (وهذا المكان يشغل فضاء، وهذا الفضاء يشغل كوناً) إلاّ أنّ المكان لايكون إلاّ بهذا الحيز. فالحيز متفرّع، في تصوّرنا، عن المكان. فالمكان أصل ثابت، قائمٌ، باقٍ، لأنه مستقرّ الكينونة ذاتها، ولأنه موئل للكائنات من حيث هي لا تستطيع أن تُفْلِتَ من قبضته: صغيرة أو كبيرة، عاقلة أو غير عاقلة. فكما أن المَقام (بفتح الميم) مستقرّ للقيام من حيث هو هيئة حيزية، فإنّ المكان مستقرّ للكيان من حيث هو؛ فلا كينونة إلا بمكان. ولا مكان إلاّ بكينونة. فهما متلازمان لا يفترقان. بينما الحيز مجرد هيئة تعرض عبر المكان ذاته. من أجل ذلك ألفينا أرسطوطاليس يقرر، منذ القدم، أنّ المكان لا يتحرك، وأنه محيط بالشيء الذي فيه، وأنه ليس بجزء مما يحتويه (15). وإذا كان المكان ثابتاً باقياً، فإنّ الحيز عارض ناشئ طارئٌ فانٍ؛ وهو قابل للتغير والتبدل، والتمظهر والتشكّل.
خذ لذلك مثلاً آخر الشخصية الروائية حين تتنقّل في حيزها من نقطة (1)، ثم تتوقف إما للاضطرار، وإما على سبيل الاختيار في نقطة (ب)، لتنتهي إلى نقطة (ج) حيث تقضي حاجتها، ثم تعود إلى نقطة (ا)، ولكن عن طريق نقطة(د)، لا عن طريق نقطة (ب): فإننا نعدّ حركتها هذه حيزاً متحركاً عبر المكان.(1/125)
فنحن إذاً، وبنعمة الله، نختلف مع الفلاسفة المسلمين الذين يربطون وجود المكان بالجسم الذي يشغله، فالمكان لديهم غائب ومنعدم خارج شغل الجسم إياه. ذلك ما فهمناه من مضمون تعريفهم ومنطوقه أيضاً. كما نختلف مع النقاد العرب المعاصرين الذي لا نراهم يتعاملون، في الغالب، إلاّ مع المكان الجغرافيّ (في التحليلات المُنْجَزَةِ حول السرديات مثلاً). أما حين يَمْرُقون به عن هذا الإطار، ويتناولون به الشعر تحت مصطلح "الفضاء"، فإننا لم نُلْفِهِمِ، وذلك في حدود إلمامنا بكتاباتهم التي يكتبون، تناولوا مفهوم الفضاء، من حيث هو مصطلح كما أرادوه أن يكون، فعرّفوه، وبلوروا دلالته انطلاقاً من الدلالة المعجمية إلى الدلالة المُصْطلحاتيّة.
إن الحيز، كما نتصوره نحن، هو هيئة تتخذ لها أشكالاً مختلفة لا نهاية لتمثّلها: فتعرض لنا ناتئة ومقَعَّرةً، ومسطّحة، ومستقيمة، ومعوّجة، وعريضة، وطويلة؛ كما تمْثُلُ لنا في صورة خطوط، وأبعاد، وأحجام، وأوزان، دون أن ترتبط، بالضرورة، بما، أو بِمَنْ، فيها.
ذلك، وأنّ في البادية العربيّة، أو في الحيز العاري، أو في الحيز المفترض كذلك: قد نلفي كلّ شجرة ذات دلالة، وكلّ نبتة ذا معنى، وكلّ صخرة ذات شأن، وكلّ منعطف طريق ذا مغزى، وكلّ عين ماء ذات خبر، وكلّ كثيب رمل ذا خطر.... حيث الحيز، ضمن ذلك الفضاء المنساح، هناك، أساس العلاقات بين الناس، وأساس التفكير في معنى الوجود، بل أساس العبادات والازدلاف إلى الله...
ذلك بأنّ العرب كانوا يثوون بأرض براح، فلم يكن يحول بينهم وبين تلك الأحياز العارية في كثير منها، حائل، ولم يكن يحجز بينهم وبين تلك الأمكنة المتنوعة المناظر حاجز: فكانت ألصق بقلوبهم وأعلق بنفوسهم، وأمثل في أبصارهم وبصائرهم فلا تكاد تمحّي منها أو تزول. ذلك إلى ما كانوا يحيونه فيها، أو في بعضها على الأقلّ، من جميل الذكريات، وما كانوا يقضّونه فيها من معسول اللحظات...(1/126)
وللأحياز في هذه المعلّقات السبع حقّ علينا أن نصنّفها، انطلاقاً من قراءتها، لنرى ما كان يربطها، وما كان يناسب بينها: إذ هناك أحياز دالّة على المياه، وأخراة دالّة على الطرقات والمسالك، كما نلفي أحيازاً دالّة على الروابي والجبال، وأخراة دالّة على التلدات وكثبان الرمال....
وليس غريباً أن يكون للحيز شأن أهمّ في حياة أولئك الأعراب البادين من الحيز لدينا نحن اليوم الذي أصبحوا يتنقّلون في المدن الكبرى بباطن الأرض، ويسافرون بين القارات، وربما بين المدن المتقاربة أو المتباعدة، في الجوّ..... فلم يعد للحيز، كما نرى، في حياتنا الروحية والعاطفية والاجتماعية ما كان له في أخيلة أولئك الشعراء وعواطفهم الجياشة، ومشاعرهم الفياضة.
وعلى الرغم من أنّ شعراء المعلّقات كثيراً ماكانوا يذكرون أماكن جغرافيّة لا تبرح معروفة إلى يومنا هذا مثل الحجاز، والعراق، ودمشق وقاصرين، واليمامة، وبعلبكّ، ونجد.....، وأماكن مقدّسة في الجاهليّة والإسلام مثل البيت الحرام، وأماكن مقدّسة في الجاهلية فقط إذ ترتبط بالطقوس الوثنيّة مثل صنم دوار: فإنّ الأغلبيّة الغالبة من الأمكنة الأخراة تنضوي تحت الحيز الشعريّ المحض.
ولقد بلغ عدد هذه الأمكنة في المعلّقات زهاء ثلاثة ومائة موزّعة خمسة وعشرين حيزاً في معلّقة امرئ القيس وحدها، وثلاثة وعشرين في معلّقة الحارث بن حلّزة، وتسعة عشر لدى لبيد، واثني عشر لدى زهير، وعشرة لدى عنترة وعمرو بن كلثوم، بينما لم يرد في معلّقة طرفة إلاّ أربعة أحياز فحسب.
ذلك، وأنّا لاحظنا أنّ هناك أحيازاً يشترك في ذكرها أكثر من معلقاتيّ واحد، مثل: وجرة: التي يشترك في ذكرها امرؤ القيس ولبيد،
وتوضح: الذي يشترك في ذكره امرؤ القيس ولبيد أيضاً.
والقنان: الذي يشترك في ذكره امرؤ القيس وزهير بن أبي سلمى (وورد لدى زهير مرتين اثنتين).
والمتثلّم: الذي ورد ذكره لدى زهير وعنترة.(1/127)
وبرقة: التي وردت في معلّقتي الحارث بن حلّزة وطرفة بن العبد.
وخزازى: الذي اشترك في ذكرها، أو ذكره، الحارث بن حلّزة وعمرو بن كلثوم.
فهؤلاء المعلّقاتيّون يشتركون في ذكر أمكنة بأعيانها؛ ممّا يدلّ على وحدة الثقافة، ووحدة الخيال؛ كما يشتركون في ذكر أحياز كثيرة تختلف من معلّقاتيٍّ إلى آخر، إلاّ أنّ الاشتراك في ذكرها، والحرص على سردها: قد لايعني إلاّ شيئاً واحداً، من منظورنا الخاصّ على الأقلّ؛ وهو وحدة الخيال -كما أسلفنا القال- لديهم، ووحدة التقاليد الشعرية في ممارساتهم؛ وإلاّ فَلِمَ لم يَشُذَّ واحدٌ منهم عن البكاء على الديار، وعن النسيب بالنساء؟ وإذا كان عالي سرحان القرشي يذهب إلى انعدام وحدة الرؤية الفنيّة في المعلّقات السبع (16)؛ فإننا لا نذهب مذهبة، ولا نتقبّل رأيه الذي تدلّ بعض مقررات مقالته على ضده، وذلك حين يقرر، ضمنيّاً، وحدة الرؤية الفنية في المعلّقات السبع من حيث يقرر منطوقاً مغايرتها واختلافها إذ يقول:
"ولو نظرنا إلى كلّ قصيدة من المعلّقات على حدة، لوجدنا لكلّ معلّقة بناء مغايراً لبناء المعلّقة الأخرى، حتى وأن تشابهت في بعض الجزئيّات مع المعلّقات الأخرى" (17).
وإنّا لنختلف معه، لأنّنا كنّا حاولنا إثبات الوحدة الفنيّة والبنوية (ولا نقول البنائيّة لأنّ البناء عامّ، والبنية خاصة. والغربيّون يَمِيزُونَ هذا من ذلك مَيْزاً كبيراً....) في المقالة التي وقفناها، ضمن هذا البحث، على بنية الطلليّات المعلّقاتيّة....
ولا ينبغي أن يُنْظَرَ إلى مسألة اختلاف بنية المعلّقات نظرة سطحيّة، أو عجلى؛ إذ لو جئنا نتابع اللغة الفنيّة، أو حتى اللغة في مستواها المعجميّ البَحْت؛ لألفينا أولاء المعلقاتيين يلتقون التقاء عجيباً في اصطناع اللغة الشعرية (18)، وفي لغة الوصف، وفي لغة الألوان، وفي الإيلاع الشديد بذكر مواطن الماء
((1/128)
وقد أومأ إلى بعض الأستاذ سرحان نفسه، وإن لم يذكره في السياق الذي نودّ نحن ذكره فيه)، وفي الكَلَف الشديد بذكر الأحياز المتفِقَةِ الأسامي، أو المتشابهتها، وفي الإيقاع الشعريّ (أربع معلّقات وردت على إيقاع الطويل مثلاً)(19). يضاف إلى كلّ ذلك المضمون الحضاريّ العامّ: الطلل -المرأة -الناقة- الفرس- البقرة الوحشيّة- الظبي والرئم- النعامة....
فلا معلّقاتيّ يختلف عن الآخر إلاّ بما حبته به الطبيعة من تفرّد ذاتيّ ضيّق، أمّا البناء الفنيّ العامّ للقصيدة الجاهليّة بعامة، والقصيدة المعلّقة بخاصة؛ فإنه كان متشابهاً متقارباً، يكاد يغترف من ثقافة شعريّة واحدة، ويكاد يصف بيئة اجتماعية، وجغرافية أيضاً، واحدة. فقد كانت، إذن، مواقفهم، وأحداثهم، ومشاهدهم، وصورهم، ومعانيهم، وتعابيرهم، وتجاربهم، وتقاليدهم، ورؤيتهم إلى العالم، وإدراكهم للكون: تَتَشاكَهُ تشَاكُهاً يوحي بصدور هذا الأدب عن عقل متّحد، وفكر جماعيّ ذي مصدر متشابه. ذلك بأنّ المعاني والصور والتعابير والتراكيب تبدو أناشيد جماعيّة "أبدعها عقل الأمة، ونظمها ضميرها" (20).
إنّ المعلّقات تنهض على بنية ثلاثيّة، كما كنّا عالجنا ذلك بتفصيل في المقالة السابقة، تتمثّل خصوصاً في الطلل، والمرأة، ثم: إمّا في الناقة، وأما في الفرس، وأما في مضمون آخر: فهناك إذن: ا+ب: وهما عنصران -ربما- لايخطئان حتّى معلّقة عمرو بن كلثوم التي استثناها الأستاذ القرشي.... فهما إذن عنصران ثابتان، ثم ترى الشاعر المعلقاتي يثّلث بمضون قد يتفق فيه مع سَوائِهِ (الناقة: طرفة- لبيد- عنترة، والفرس: امرؤ القيس- عنترة- وربما عمرو بن كلثوم، والحرب: زهير- الحارث بن حلّزة- عمرو بن كلثوم)....(1/129)
وأمّا مسألة شذوذ عمرو بن كلثوم في أنه لم يذكر الطلل، فإننا نعتقد أنّ هذا الاستثناء يقوم إذا تابعنا الترتيب الوارد لدى الزوزنيّ لهذه المعلّقة التي نعتقد أنّ ترتيبها يحتاج إلى إعادة ترتيب.... ذلك بأنّا نعتقد أن المطلع الحقيقيّ لهذه المعلّقة هو:
قفي قبل التفرق يا ظعينا ... نُخَبِّرْك الِيقينا وتُخْبِرينَا
قفي نسألْكِ هل أحدثْتِ صَرْماً ... لِوَشْكِ البَيْنِ أم خُنْتِ الأَمينا؟
ليأتي من بعد ذلك:
ألا هُبّي بصحنِكِ فاصْبَحينا ... ولا تُبْقي خُمور الأندرينا
ليأتي:
وأنّا سوف تدركنا المَنايا ... مقدّرةً لنا ومُقَدَّرينَا
قبل:
بيوم كريهة ضربا وطعنا ... أقَرَّ به مواليك العيونا
فتكون بنيةُ هذه المعلّقة قائمةً على التزام الوقوف على الطلل مضموناً يدلّ عليه منطوقه:
قفي قبل التفرّق يا ظعينا ... نُخَبِّركِ اليقينا وتُخبْرِينا
فهذه المرأة كانت ظاعنة لا مستقرّة، أزمعت الفراق، وآذنته بالبين، فتحمّلت في خدرها، عن حيّها.... فامرؤ القيس يتحدث عن البين:
كأنّي غداة البين يوم تحملّوا ... لدى سَمُراتِ الحيّ ناقفُ حنظل
وعمرو بن كلثوم يتحدث عن وشك هذا البين:
لو شك البين أم خنتِ الأمينا؟
يوم ركبت الحبيبة ناقتها، وأزمعت التّظعان، وهمّت بالتَّزيالِ: فأين البَوْنُ، في هذا البين؟ شاعر جعل البين في الماضي فسرد وحكى، وشاعر آخر جعله في الحاضر فتساءل واستخبر أحدهما يقول:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
وأحدهما الآخر يقول:
قفي قبل التفرق يا ظعينا:(1/130)
الوقوف، والبين، والكشح، والمتن، وطول القامة، والساقان... فأين البَوْنُ، تارة أخراة؟ وعلى الرغم من أنّ الناس سيعترضون على هذا الترتيب الجديد الذي اقترحنا إجراءه على معلّقة عمرو بن كلثوم، وأن المطلع الذي جاءت عليه لدى الأقدمين هو المطلع الصحيح؛ فإننا لا نرى حلاًّ لهذه المسألة الفنية -إلحاق معلّقة عمرو بن كلثوم بمجموعة المعلّقات- غير إجراء هذا التغيير على ترتيبها... ولعلّ حجتنا في ذلك أنّ كافّة المعلّقاتيّين ممّن تحدثوا عن الخمر، مثل عنترة وطرفة، لم يبدأوا معلّقاتهم بالحديث عن الخمر، وإنما بدأوها بالحديث عن الطلل والمرأة، فكيف يشذّ عنهم عمرو بن كلثوم، والحال أنّ شعره الذي اقترحناه مطلعاً لمعلّقته وارد فيها؟ ألا يكون ذلك مجرد اضطراب وقع في الترتيب؟ وإلاّ فإنّ هذا الشعر أسهل ألفاظاً من أن يكون جاهليّاً!....
وأيّاً كان الشأن، فإنّ الثقافة الشعريّة واحدة لدى المعلّقاتين، حتى فيما قد يبدو لنا مختلفاً، فلا يمكن فهم معلقّة امرئ القيس إِلاّ في صَبِّهَا في الخضمّ الشعريّ المعلّقاتيّ العامّ؛ كما لا يمكن فهم زهير في تأملاته إلاّ بقرن شعره ببعض شعر طرفة، ولا فهم معلّقة الحارث بن حلّزة إلاّ في الإطار التاريخي والقَبَليّ للسياق الذي وردتْ فيه معلقة عمرو بن كلثوم، وهلمّ جرا...(1/131)
فالمعلّقات مدرسة شعريّة، ولا ينبغي أن تُدْرَسَ إلاّ ضمن هذا المنظور الفنيّ، وضمن وحدة التصور لدى المعلقّاتيّين؛ إذ كانت تضطرب في مُضْطَربٍ حيزيّ واحد، وتَدْرُجُ ضِمْنَ وحدةٍ زمنيةٍ واحدة أيضاً. فمعظم هذه المعلّقات قيل في قرن واحد، وفي بلاد العرب، فكيف يمكنُ مدارَسَتُها منفصلة عن بعضها بعض، والتماس مواطن الاختلاف بينها على أساس تفرّدٍ غير واردٍ، وتميّز غيرِ ماثلٍ. إنّ كلّ ما في الأمر أنّ المعلّقاتيّ قد يختلف عن الآخر في تفاصيل بعض المضامين المتناولة كتفرّد امرئ القيس بوصف الليل، وتفرّد لبيد بوصف البقرة الوحشية... ولكنّ الاختلاف الفنيّ لا ينبغي أن يُلْتَمَسَ في مثل هذه التفاصيل المضمونيّة، ولكن يلتمس في مستوى البنية العامة للمعلّقة التي تظلّ، في رأينا، هي هي: لدى هؤلاء مثل لدى أولئك، في معظم تماثلاتها الفنية.... وفيما يلي نحاول متابعة الأحياز وأنواعها التي وردت في المعلقات.
أولاً: الحيز المائل:
لقد صادفتْنا أحياز كثيرة تضطرب في الماء- كما سيستبين ذلك بالتفصيل في المقالة التالية من هذا البحث- أو تحيل على ماء، وتركض في سائل، أو توحي بمثولها فيما له دلالة على هذا السائل. ونحن حين ندارس الحيز لا نريد أن نحلّله على ظاهره، ونمضي عنه عِجَالاً؛ ولكننا نريد أن نتوقف لديه توقّفا، ونسائله مُساءَلَةً، ونَلوُصه على ما رَسَمْنا نحن في ذهننا من تأويليّة القراءة الأدبيّة التي هي حقّ أدبيّ مشروع للناقد إلى يوم القيامة.
فنحن حين نقرأ، كما يذهب إلى بعض ذلك امبرتوايكو(21)، لا ينبغي، وبالضرورة الحتميّة، أن نهتدي السبيلَ إلى ما كان يريد إليه الناصّ من نصّه؛ فإنما الذي يزعم شيئاً من ذلك هو، حتماً، مكابِرٌ أو مغالط؛ ولكننا، إذن، نقرأ النص على أساس ما نريده له نَحْن... بيد أنّ ذلك لا ينبغي له أن يكون خارج سياقه، ولا بعيداً عن إطار مضمونه...(1/132)
ولولا أن لكلّ شيء حدّاً، وما جاوز الحدّ انقلب إلى سوء الضدّ؛ لَكُنَّا أَقدمنا على إِملاء مجلّد كامل في أنواع الحيز في المعلّقات... ومن أجل أن لا نقع في بعض ذلك، سنجتزئ بالتوقّف لدى نَماذِجَ قليلةٍ من أصناف هذا الحيز لِنَذَرَ لِمَنْ شاء أن ينسج على نهجنا المجال مفتوحاً...
* ولا سيّما يوم بدارة جلجل:
لقد ذهب الأقدمون، ومنهم ابن قتيبة(22)، والقرشي(23) إلى أنّ دارة جلجل غدير ماء كان يقع"بين شعبى وبين حسلات، وبين وادي المياه، وبين البردان -وهي دار الضباب- ممّا يواجه نخيل بني فزارة... وفي كتاب جزيرة العرب للأصمعي: دارة جلجل من منازل حجر الكندي بنجد" (24). ويبدو أنّ الناس كانوا يستحمّون فيه، وكانوا، فيما يبدو، يوردون إبلهم وأنعامهم فيه. وربما كانت العذارى يُيَمِمّنَه لينغمسن فيه، ويستمتعن بمائه تحت وهج شمس نجد، وَكُلْبة حرارتها، وأوج حمارتّها.
ونحن لم نر حكاية أدنى إلى المشاهد السينمائيّة منها بالحقيقة من حكاية دارة جلجل. فهي كما رواها الفرزدق عن جده -وهي الرواية الوحيدة التي ترددت في المصادر القديمة(25)- لا تخلو من تناقض:
فالأولى: كيف يحقّ لامرئ القيس، هذا الفتى الذي كان موصوفاً، أو كان يصف نفسه، بالإباحيّة والمجون أن يفضح سرباً من حسناوات الحيّ فيهِنَّ ابنةُ عمه فاطمة؟ وهل كان العربيّ يسمح بأن يهان شرفه إلى هذا الحدّ؟ وهل قتل عمرو بن كلثوم عمرو بن هند إِلاّ لأَنَّ أمه أرادَتْ أن تصطنع ليلى-أم عمرو بن كلثوم- حين التمست منها مناولتها الطبق(26)؟ فكيف يجرؤ العربيّ على قتل ملك همام من أجل هذه الحادثة، ولا يقتل حين تعرّى أخته أو حليلته أو ابنته اغتصاباً، وتهان في شرفها، والشمس متوهّجة، والنهار في ضحاه!؟(1/133)
أَيْما ما قد يعترض به علينا مُعْتَرِضٌ -ولو على وجه الافتراض والتوقع- من أنّ امرأ القيس كان أميراً، ولم يكن أحد بقادر على أن يعرض له بسوء؛ فإننا نعترض عليه، كما اعْتُرِضَ علينا على سبيل الافتراض على الأقلّ، بأنّ إمارته لم تكن بقادرة على أن تشفع له في أن يفعل ذلك؛ وأنّ إمارته، على كلّ حال، كانت نسبيّة، كما كانت ملكيّة أبيه على بني أسد نسبية أيضاً؛ إذ لم يكن أبوه، في تمثّلنا، أكثر من شيخ قبيلة في حقيقة الأمر؛ وإلاّ فأين آثار مملكته، ومخلّفات حضارته؟ ثم من كان أعزّ نفراً، وأحدُّ شوْكاً، وأرفع قدراً: عمرو بن هند ملك الحيرة أم الملك الضلّيل؟
وإذن، فالضعف الأوّل يأتي إلى هذه الحكاية من هذه الناحية.
والثانية: ... كيف يتفرّد النساء هذا التفرّد بالمسير فلا يخبر بشأنهنّ عبد، ولا تشي بأمرهنّ أمة:
... ... يتخلّفن وجهاً كاملاً من النهار دون أن يقلق على مصيرهنّ رجالهنّ فيسألوا عنهنّ...؟(1/134)
والثالثة: ... كيف تتحدث حكاية دارة جلجل عن العبيد الذين جمعوا الحطب، وأجّجوا النار، فكان امرؤ القيس"ينبذ إلى الخدم من ذلك الكباب(المتّخذ من لحم المطيّة المذبوحة للعذارى) حتى شبعوا"(27)؟ وهل كان الشَّيءُّ للحِسَانِ، أم للإماء والغلمان؟ ثمّ كيف تسكت الحكاية و عن ذكر أيّ أنيس من الرجال، لدى إِرادة انغماس الفتيات في ماء الغدير، ولدى إصرار امرئ القيس على أن لا يسلّم أياً منهنّ ملابسها إِلاّ إذا ما خرجت من ماء الغدير عارية، واستعرضت جسدها أمامه مقبلة ومدبرة، وكما ولدتها أمها!.. ثمّ فجأة يظهر العبيد حين يقرر الشاعر نحر مطيّته للنساء؟ ألم يكن ظهور هؤلاء العبيد لمجرد غاية فنيّة، لا من أجل غاية واقعيّة حتّى تجنّب الحكاية امرأ القيس تكلّف جمع الحطب على أساس أنه سيّد أمير، وتجنّب، في الوقت ذاته، أولئك النساء اللواتي كنّ يصطحبن فاطمة ابنة عمّ امرئ القيس على أساس أنهنّ سيدات عقيلات، لأنهنّ رفيقات ابنة عمّ الأمير المزعوم؟ (وإن كنّا ألفينا رواية ابن قتيبة تومئ إلى وجود عبيد كانوا مع النساء، ولكن كيف ظلّ دور العبيد منعدماً على هذا النحو....؟)
والرابعة:إنّ مطلع الحكاية يوحي بأنّ أولئك النساء كنّ مسافرات إلى حيّ آخر من ذلك الوجه من الأرض، على حين أنّ آخرها يوحي بأنهنّ أُبْنَ إلى حيّهنّ، وأن سفرهنّ لم يتمّ، وأن الرحلة لم تحدث، وأنهنّ لم يعدن إلى حيّهنّ حتى جَنَّهُنَّ، والشاعِرَ، الليلَ(27): فما هذا الخلط العجيب، والتناقض المريب؟
والأخراة، إنّ أبا زيد محمد بن أبي الخطاب القرشيّ يذهب إلى أنّ صاحبة دارة جلجل هي فاطمة ابنة عمّ امرئ القيس(28)، بينما يذهب ابن قتيبة إلى أنها فاطمة بنت العبيد بن ثعلبة ابن عامر العذرية(29)، على حين أنه كان يعدّ عنيزة"هي صاحبة دارة جلجل" (30). وإنما يدلّ هذا الخلط، وسوء الضبط، على شكّ في الصحّة، وريبة في الرواية: لذهاب الرجال، وانقطاع الزمان، وخيانة الذاكرة، وفساد الرواية.(1/135)
وعلى أننا لا نريد أن نذهب إلى أبعد الحدود في البرهنة على أدبيّة هذه الحكاية وخياليّتها، وأنّ مسألة دارة جلجل مجرد حكاية جميلة إن وقع بعضها على نحو ما، فإنّ باقي ما ذكر من تفاصيلها لا يمكن لعاقل أن يصدّقه بِجَذاميره، ولا أن يتقبّله بحذافيره.
ونعمد الآن إلى تحليل بعض هذا الحيز المائيّ، ليس على أساس ما نعتقد من أسطوريتّه، ولكن على أساس ما اعتقد الناس من صدق واقعيّته. والحق أننا، بعدُ، شَرَعْنَا في بعض هذا التحليل حين حاولنا تناول الخلفيّة التاريخيّة، والأسس التاريخانِيّة، لا التاريخيّة، لهذه الحكاية الجميلة وحيزها البديع.
1. إننا نلاحظ أنّ النساء اللائي تعاملن مع هذا الحيز المائيّ الجميل لم يكنّ عجاِئَز شُمْطاً، ولا هِرَماتٍ شُعْثاً؛ ولكنّهنّ كنّ حِساناً رائعاتِ الجمال، باديات الدلال، نحيلات الخصور، طويلات القدود، سوداوات العيون، مشرقات الثغور، منسدلات الشعور.
2. إنهنّ كنّ مخدومات منعَّماتٍ، وثريّات مُوسِرَاتٍ، وإلى بعض ذلك أومأتْ رواية ابن قتيبة إِذْ ذكرت أنّ أولاء الفتيات"نزلن في الغدير، ونحّين العبيد، ثم تجردّن فوقعن فيه"(31).
3. لعل من الحقّ لنا أن نتمثّل هذا الغدير فنتصوره بمثابة مسبح صافٍ ماؤُه، أزرق لونه، وأنه، من أجل ذلك، لم يك حِمْئاً ولا مَوْحَلاً: تسوخ فيه الأقدام، ويتحرّك الماءُ والطين فيه فتتّسخ له الأجساد إذا غطست... بل كان إذن حيزاً مائِياً غيرَ ذلك شأناً؛ وإلاّ لَمَا أمكن للنساء السَّبْحُ فيه، والاستمتاع بمائه.(1/136)
4. ولنا أن نتمثل ما كان يحيط بهذا الحيز المائيّ من أشجار، ونباتات؛ وما كان يكيّف به الهواء الصادر عنه، والذي يفترض أنه كان رطيباً. ولنا أن نتمثّل ما كان يجاور هذا الغدير أيضاً، وهو حيز مقعّر حتماً؛ وأنه كان مرتفعاً عنه قليلاً أو كثيراً. ولنا أن نتمثّل الطرقات والثَّنِيَّاتِ التي كانت تُفضي إليه، أو تُفْضي منه. ولنا أن نتمثّل أسراب النساء الأخريات، في غير ذلك اليوم الذي حدث فيه للشاعر ما حدث مع العذارى، واللائي كنّ ييمّمنه للتنزه والاستحمام؛ ولنا أن نتمثّل الإماء اللواتي كنّ يقصدنه ليغسلن على ضفافه الملابس والفرش، وكل ما يغسل وينظّف...
5. إنّ أيُّ مدفع للماء، غديراً كان أمْ بِئْراً، أم نَهْراً، أم عَيْناً، أم ساقية، أم سربّا: يكون مَظَنَّةً للحياة الناعمة، والخصب الضافي، والعمران القائم. فكأنّ دارة جلجل كانت هي الغدير الذي كان يستقي منه الحَيُّ لإِرْواءِ الأنعام، وغالباً ما كانوا يشربون هم أيضاً منه؛ وكلّ ما في الأمر أنهم كانوا يُمْهِلُوَن الجِرارَ حتى ترْسُب حَمْأَتُها، ويَقَرُّ في القَعْرَةِ طِينُها، ليصْفُوَ الماءُ وبَرِقَّ؛ فيشرَبوه مَرِيئاً.
... ... فلم يكن هذا الحيز، إذن، منقطعاً عن الحياة الاجتماعية والحضاريّة للحيّ الذي كانت العذارى تَقْطُنُهُ؛ وإِنما كانت حكاية العُرْي مجرَّدَ مظهرٍ شعريّ غذاه الخيال الشعبيّ المكبوت فسار بين الناس على ما أراد ذلك الخيال؛ فأضاف إليه ما لم يكن فيه، حتى يتلاءم مع ما كانوا يودّون أن يكون الأمر عليه: فتسير به ركبانهم، وتتحدث به وِلْدانُهم. ولنلاحظْ أن حكاية العُرْي تفرّد بذكرها الفرزدق رواية عن جده، وأنها دوّنت، لأول مرة، بعد منتصف القرن الثاني الهجري؛ فكأنها دوّنت بعد عهد امرئ القيس بأكثر من قرنين اثنين.(1/137)
... ... ولا يذر امرؤ القيس، في حقيقة الأمر، شيئاً عن هذا المشهد الذي لم يكن يمنعه من ذكره لادين وقد كان وثنيّاً، ولا خوف وقد كان أميراً عزيزاً، ولا مروءة وقد كان، فيما تزعم الرواة، عاهراً زانياً(32). فما منعه من أن يفصّل القول في حادثة في هذا الحيز المائيّ الجميل، فيذكر هو ما ذكرت الرواة؟ وهل كان عَييّاً بَكِيّاً غيرَ مبينٍ،. وهو الشاعر العملاق، والفصيح المِهْذَار، واللسِنُ المِكْثار؟ وإِنما اجتزأ هو بذكر عقره مطّيته للعذارى، ولم يقل أكثر من ذلك، ولم يتحدّث عن العُرْي لا تَكْنيَةً ولا تصريحاً... أفلا تكون مسألة العُرْي حكايةً لفقها الرواة؟
6. وإذا سلّمنا بصحّة هذه الحكاية، وما علينا أن نكون سذَّجاً؛ فإنّ هذا الحيّز يغتدى عجيباً مثيراً: غديرَ ماءٍ مكتظّ بأجسام الفتيات العاريات، وفتىً قريباً منهنّ في اليابسة، جاثِماً على ملابسهنّ وهو ينظر إلى عوراتهنّ المغلّظة في شَبَقٍ شديد، ثمّ يستحيل المشهد العاري العامّ إلى مشاهِدِ عُرْيٍ جُزْئِيَّةٍ تمثل في ثُنائِيَّةِ الحركة التي تُحْدثها الفتاة وهي تخرج من الغدير عارية وحركة الرجل وهو يسلّمها ثيابّها، أو أنها هي نفسها تنحني على ثيابها لتأخذها لتستر بها جسدها والفتى ينظر ويتلّهّى: لا هو يخاف، ولا هو يستحي، ولا هو يرعوي!.. إنه مشهد على ما فيه مِنْ فعل الاغتفاص والاغتصاب- من الوجهة الأخلاقية والوجهة القانونيّة أيضاً؛ فإِنه من الوجهة الخياليّة لو وقع في أدب الغرْب لكانوا ملأوا به الدنيا وأقعدوها، ولكانوا صوّروه ألف تصوير، ولكانوا أخرجوه في تمثيلهم ألف إِخراج...(1/138)
7. من غير الممكن أن لا نتمثّل في وهمنا حيز هذا الغدير الذي كان مسبحاً لأولئك العذارى... ونحن، مع ذلك، لا نستطيع، ولو أردنا وأصرَرْنا، أن نتمثّل حيّزه على وجه الدقّة: لغياب النصوص، وانعدام الوثائق، وغفلة الرجال، وشحّ الأخبار. بيد أنّ ذلك ما كان ليحظرنا من أن نساءل ولكن على أن لا نجيب، وقد يُلْتَمَسُ الجواب في إحدى المساءلات نفسها: فكيف كان، إِذن، شكل هذا الغدير(33)؟ وكم كان حجم مساحته؟ وهل كان مستطيلاً، أو مربّعاً، أو دائرياً، أو على شكل آخر من الأشكال الهندسيّة؟ وهل يمكن أن نفترض أنه لم يكن صغيراً جداً فلا يجاوز حجم شكل العين، ولا كبيراً جداً فيبلغ حجم البحيرة؟ ولكنّ ذلك كلّه لا يظاهرنا على أن نحدّد شكل هذا الغدير/ الأسطورة، ولا مساحته؛ وإنما تُتْرَكُ ملكة الإدراك، وطاقة التخيّل، مفتوحتين على كلّ احتمال، وتحت كل تأويل. فالقراءة الحيزيّة، من هذا المنظور بالذات، يجب أن تظلّ مفتوحة...
8. وعلينا أن نتمثل وجهاً آخر لهذا الحيز المائيّ: وهو سطحه حين تشرق عليه الشمس صباحاً، وسطحه حين توشك أن تغرب عنه مساء، وحين يداعبه النسيم الرُّخاءُ، وحين تعصف عليه السافِيَات... فسطحه تراه يتغير ويتشكل ويتبدل تبعاً لطبيعة الشمس، وشكل مائه يتغيّر تبعاً لحركة النسيم العليل فيتحرك السطح قليلاً قليلاً، أو لعصف السوافي فيتحرك السطح بعنف واغتفاص شديدين؛ فتراه متخذاً له تموّجات تحددها الاتجاهات الأربعة-المفترضة- للرياح العاصفة. فإن كانت الريح إنما تهبّ من جهات مختلفة، وهي التي تسميّها العرب المتناوِحَة، اتّخذ هذا الحيز المائيّ له شكلاً آخر...(1/139)
9. ومن حقّنا أن نتساءل-وما لنا لا نتساءل؟- عن أشكال ضفاف هذا الغدير، فتبعاً لهذه الأشكال، تتحدّد الأحياز التي تحيط به. ونحن نفترض أن تكون جهة واحدة من هذه الضفاف، على الأقلّ، أعلى من الجهات الأخرى، وإلاّ فمن أين كانت هذه الأمواه تتجمع حتى تشكّل غديراً صالحاً لأن يسبح فيه الناس؟
وقد كِلفَتْ معلقة امرئ القيس بذكر الأحياز المائيّة كما نلاحظ ذلك في المجازات التالية:
- على قطن بالشيم أيمن صَوْبِهِ(أي مطره)
- كأنّ مكاكيّ الجِوَاءِ غُدّيَّةً(لا يمكن أن تتجمّع الطيْرُ إلاّ في جِوَاءٍ، أي وَادٍ، فيه ماء وخضرة...)
- ومرّ على القَنانِ من نَفَيَانِه(ممّا تطاير من قَطْرِ مائه)
- فأضحى يَسُحُّ الماءَ حول كُتَيْفَةٍ
- يكبّ على الأذقانِ دَوْحَ الكَنَهْبِلِ(استطاع السيل الجارف أن يجتثَّ الدوح)
- كأنّ السِبْاع فيه غَرْقَى عَشيَّةً(لا يكون الغرَق إلاّ في الماء، والمقصود هنا: انغمارُها، وغطْسُها)
- كأنّ ثبيراً في عرانينِ وبْلِهِ
كأنّ ذُرَى رِأْسِ المُجَيْمِرِ غُدْوَةً ... من السيل والأَغْثَاءِ فلْكَهُ مغْزِلِ
- غذاها نَمِيرُ الماء غير المُحَلَّلِ...
وإذا كانت الخطّة التي رسمناها في هذا العمل لا تسمح لنا بأن نحلّل هذه الأحياز المرقسيّة كلها، بعد أن كنّا توقّفنا، طويلاً، لدى حيز مائيّ واحد وهو غدير دارة جلجل؛ فإِنَّ ذلك، مع ذلك، ما كان ليحول بيننا وبين أن نلاحظ أنّ ما لا يقلّ عن تسعة أحياز أخراة، كما رأينا، تنطلق من ماء، أو تُحيل على ماء. ولكنْ غالباً ما كان الشأن ينصرف إلى أمواه المطر والسيول وما يضطرب حَوالَها...(1/140)
ولا نحسب أنّ الإيلاعَ بوصف المطر، في معلّقة امرئ القيس، والتلذّذ بذكر الماء، والتبدّع في وصف السيول والأغثاء التي تجترفها: كان وارِداً على سبيل الاتفاق والعفويّة، ولكنّ ذلك كان، في منظورنا؛ لأنّ العرب كانوا يحبّون الماء، فكانوا يَدْعُوَن لِمَنْ يُحِبّون بالسقْيا، وكانوا يتسقّطون مواطن المطر، ويتتبّعون مهاطله، ويرتعون النبات الذي ما كان لينبت إلاّ بوابل المطر، أو طَلِّهِ... من أجل ذلك تصرفّوا في أسامي درجات هذا المطر فإذا هو غيث، ورَذاذ، وجَدىً، ووابِلُ، وطَلٌّ، ووَسْمِيٌّ، وَوَليٌّ(34)، وحَيَا، وسَحاب، وسَمَاء، وشُؤبْوب، وهلمّ جرا...
والآية على العناية الشديدة التي كان يوليها العربيّ للخصب والماء، أنّ الحياة نفسها، في اللغة العربية، وارادة في تركيب الحَيَا والْحَيَاءِ، وهما المطر. فكأنّ الحياء يحيل على الحياة، وكأن الحياة تحيل على الحياء؛ لأن الحياة لا يجوز لها أن تقوم خارج كيان الماء...
******
وتصادفنا ظاهرة العناية بالصور المائية، أي بالصور الشعريّة التي تضطرب أحداثها في الماء، أو حواله، في معلّقة لبيد أيضاً. وقد تردّدت هذه الصور المائيّة، أو المضطربة في الحيز المائيّ أو السائل، سبع مرات على الأقلّ لدى لبيد.
والحقّ أنّنا وقعنا في حيرة من أمرنا حين أزمعنا على تحليل نموذج من الحيز المائيّ لدى لبيد، كما كنّا جئنا ذلك لدى امرئ القيس؛ إذ لولا صرامة متطلّبات المنهج المرسوم لكنّا قرأنا كلّ هذه الصور المائية الفائقة الجمال في هذا الشعر اللبيديّ العذريّ... ولكن لا مناص من الاجتزاء بوقفة واحدة، حول نموذج واحد من الحيز المائيّ لدى لبيد؛ فَأَسَفاً وعُذْراً.
وجلا السُّيولُ عن الطلولِ كأَنها ... زُبُرٌ تُجِدُّ مُتُونَها أَقْلاَمُها(1/141)
لقد كنّا حلّلنا حيز امرئ القيس المتمثل في غدير دارة جلجل، فتوقفنا، طويلاً، لدى شكله وموقعه، وما قد يحيط به، وما قد يتأثر به، وما قد يؤثّر فيه، وما قد كان حَوالَهُ من النعمة والنعيم، والرغد والجمال.
وأمّا هنا، ولدى لبيد، فالحيز المائي لم يعد يرى في هذه الصور الحيزيّة؛ إذْ كان غدير دارة جلجل إنما كان ثمرة من ثمرات تجمّع ماء المطر في حيز مقعّر بعينه؛ فإنّ السيول التي صنعت الحيز لدى لبيد لا نراها، ولكننا نرى آثارَها. لقد أصابت الأمطار هذا الحيز، وهذا الوجه من الأرض فخدّدت سَطْحَه، ووسَمَتْ وَجْهَه فبدا منه ما كان خافياً، وظهر ما كان مستتراً متوارياً؛ ومن ذلكم تلك الطلول التي كانت الرمال نسجت عليها كُثباناً حتى وارَتْها؛ فكان المارُّ ربما مَرَّها فاعتقد أنها كثبانٌ ليس تحتها بقايا حياةٍ، وأنقاض حضارة، وآثار مجتمع... حتى جاءت هذه السيول، فلم تبرح تُلِحّ عليها بالجَرْفِ حتى انجرفت، فبدت خدودٌ هنا، وخدود هناك، وبدا معها بقايا الديار المقفرة: أثافِيّها ونُؤيِها، ومَحَلِّها ومُقَامِها؛ فخَزِنَ لذلك غَوْلُها فِرجَامُها، كما حزن لذلك مَدافِعُ الرَّيَّانِ حين عُرّبَتْ رُسومها، فاغتدت كشكل الكتابة على الصخور...
كانت الطلول مدفونة تحت الرمال، جاثمة تحت التراب، فكانت الذكريات معها مدفونةً، فكانت القلوب من حبّها مشحونة. لقد كانت مغبّرَّة، مُرَمَّلَة، مُتَرّبةً، لا تكاد تبدو للعين؛ فلمّا أصابتْها هذه السيول الجارفة، والناشئة عن هذه الشآبيب الهاطلة؛ لمَّعَتْها فاغتدت كباقي الوشم في ظاهر اليد، وأظهرتها فأمست كلوحة مكتوبة تجدد مَتْنَها أقلامُها بالكتابة فلا تمَّحِى ولا تزول...(1/142)
1. نلاحظ أنّ لبيداً يصطنع، في هذه اللوحة الحيزيّة، وسيلةً حضاريّة لم تبرح تشعّ بالنور على الإنسانية، وهي الكتابة. فحيزه يمتزج بآثار المطر الهاتن المفضي إلى تمثّل الزَّبْر الماثل. فهل كانت الكتابة شائعةً على النحو الذي يذكره لبيد بحيث كانت الألواح، وكانت المكتوبات عليها، أم إنما كان يومئ إلى مجرد الحفريّات المنقوشة على الصخور والأحجار، والتي يُفَترضُ أن لبيداً، وعامّةَ المستنيرين في عهود ما قبل الإسلام كانوا يلمّون بها فيتمثّلونها في أنفسهم على ما هون ما؟
... إنّ منطوق بيت لبيد ومضمونه لا يُبْعِدَان أيّاً من الاحتمالين الاثنين...
2. إنّ الصورة الحيزيّة المائيّة هنا، كما سبقت الإيماءة إلى بعض ذلك، تقوم على خلفيّة حضاريّة لا يكاد التاريخ يعرف عنها إلاّ نُتفَاً قِلاَلاً، ونُبَذاً صِغَاراً. فالإشارة إلى الكتابة، هنا في بيت لبيد، إشارة دقيقة، وفي الوقت ذاته بريئة. فهي إذن توحي بوجود حضارة مكتوبة في الجزيرة قبل الإسلام الذي لم يُبْعَثْ في مجتمع جاهل متخلّف كما قد يتصوّر بعض المؤرخين، ولكنه بُعِثَ في مجتمع مستنير متعلم كانت حضارتُه الفّنية والجماليَّةُ والتقاليديّة تنهض على أسس وقيم مثل تمجيد الفصاحة، وتجويد الكلام، وقرْض الشعر، وارتجال الخُطَب، وارسال الحكم والأمثال وحماية المستجير(35). بل لقد كان في قريش"بقايا من الحنيفيّة يتوارثونها عن إسماعيل صلى الله عليه وسلّم، منها حجُّ البيت الحرام وزيارته، والختان والغسل، والطلاق والعتق، وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والرضاع والصهر" (36).
... ... وقد زعم الزجّاجيّ أن"الحَنِيفَ في الجاهليّة مَنْ كان يَحُجُّ البيت، ويغتسل من الجنابة، ويختتن" (37).(1/143)
3. إنّ الصورة الشعريّة، في هذا البيت الَّلبِيدِيّ، تنهض على حيز معلَّقّ في كَتِفِ جبل، حيث السيل حرْبٌ للمكان العالي؛ كما يعبّر أبو تمّام. فَلِعُلُوّ هذا الحيز، وحَزْنه، واتسامه بالارتفاع: يَسُرَ على السيل أن يعرِّيَهُ من ترابه، ويجرّده من رماله، فيتخدّد ويتجرّد، ويبدوَ ما كان منه متوارياً؛ فيغتدِيَ ظاهراً بادِياً. فلو كان هذا الحيز مقعَّراً أو مسطّحاً ممتدّاً على وجه من الأرض سهل، لما استطاع السيل أن يعرّيه؛ بل لكانت أغثاؤُه زادته انغماراً فوق انغمار: فلا تبدو الطلول، ولا تتعرّى الرسوم.
4. نؤكّد ما كنّا أومأنا إليه آنفاً من أننا، هنا، إنما نحن بصدد ملاحظة الحيز بعد حدوث فعل السيول؛ فهو حيزٌ مائيٌّ باعتبار العلاقة المفعوليّة التي تعرض لها. فكما أنّ الأحياز المائيّة(البحار- الأنهار- الآبار- العيون- الغدران...) كانت، أو تكون، ثمرةً من ثمرات تَهاتُنِ الأمطار؛ فإنَّ هذه الطلول التي كانت مغمورةً تحت ركام الرمال والتراب والأغثاء لم تغتَدِ كذلك إلاّ بفعل هذه الأمطار.(1/144)
5. إنّ الحيز الميت الموحي بالحزن، والمفضي إلى القتامة والوجوم، بفعل السيول السائلة، والأمواه الجارفة؛ يستحيل إلى حيز آخر قمين بالجمال والنور، وهو رسوم الكتابة، وأشكال الخطوط. فالأقلام هنا كأنها بمثابة السيل الفاعل الذي لا يبرح ينشط ويتحرّك، ويدْفَع ويحتفر، إلى أن يَتّركَ أُثرَه بادياً على وجه الأرض وسطحها الهشّ؛ بينما المُتونُ تقابلُ سطح الأرض القابل لأنّ تعملَ فيه السيولُ فتخدِّدَه وتَسِمَهُ وسَمْاً. فكأنّ السيول أقلامٌ تَكتْبُ؛ وكأنّ الطلول متون كانت من أجل أن يُكْتَبَ فيها، أو عليها. فاللوحة الحيزيّة هنا مركّبة، ولا تُفْهَمُ إلا بتعويم هذا التركيب وإذابته في بعضه بعضٍ. فكما أنّ الأقلام تزبر بحروفها التي هي علامات تَتِّركُ على المَتْن المزبور؛ فإنّ السيول بحرفها وغشيانها سَطْحَ الأرض تَتَّرِكُ، هي أيضاً، على هذا المتن الأرضيّ علاماتٍ هي تلك الآثار الطليليّة المختلفةِ الأشكالِ التي تبدو من بعيدٍ كالكتابة على متن من المتون، أو وجه من الوجوه.
6. نلاحظ أنّ هذه اللوحة الحيزيّة المركّبة تنهض على مظاهِرَ تشاكليّة مثل تشاكل السيول التي تحفر بسيلانها سطح الأرض فتتّرك عليه علاماتٍ؛ وتطبعه بأماراتٍ؛ مثل الأقلام التي تَزْبُرُ بسيلان حِبْرها على الورق فتذر عليه أيضاً علامات. فالطلول تتشاكل مع الزّبر، والأقلام تتماثل مع السيول، ومتون الوَرق تتجانَسُ مع سطح الأرض الوارد في صدر البيت ضِمْناً، وقد غاب، لمقتضيات التكثيف الشعري، منطوقاً.
7. يجمع هذا الحيز المائيّ-الَّلبِيديّ- بين المظهر الأنتروبولوجيّ المتجسّد في الطلول البالية، وإن شئت في هذه التخديدات التي تذرها السيول على وجه الأرض بما ينشأ عن ذلك من طقوس تعامل الناس مع المطر، وخصوصاً في المناطق الصحراويّة، وبين المظهر السيماءَوِيّ الماثِلِ في سمة الكتابة التي تتركها المزابِرُ على القرطاس فتغتدي سماتٍ دالّةً يتفاهم المتلقّون من خلالها .(1/145)
... ... فالألفاظ المكتوبة، أو اللغة الخرساء، تغتدى مُمَاثِلاَتٍ(إقُونات) للأصوات الدالّة الغائبة ضمناً. فالألفاظ إذن سمات حاضرة دالّة على سمات غائبة. فالدلالة هنا تقوم على مبدأ المُمَاثِلِيةِ.
8. إنّ هذه الطلول كانت قائمة، ولكنها كانت شديدة البلى، متناهية الشحوب؛ فلما جاءت السيول جَلَتْها، وصقَلت آثارَها، فتجدّدت كفعل الكاتب حين يجدّد حروف كتابته على صفحة ورقة: فتبرُزُ بعد أمِحّاءٍ، ويتوهَّجُ لونُها بعد شحوب.
9. كأنّ النص هنا يصوِّرُ حيزاً حاضراً على سبيل العناية باللوحة الأماميّة. أمّا ما نطلق عليه نحن"الحيز الخلفيّ"، وهو الذي كان علّة في إيجاد الحيز الماثل، فالحديث عنه لم يكُ إلا عَرضاً؛ إذ السيول هي التي كانت علّة في تخديد الأرض، فالأخاديد سمة حاضرة دالّة على سمة غائبة هي السيول، فهي تنضوي تحت الصور السيماءَوِيَّةِ القائمة على مثول القربنة.
ونلفي صوراً لِلَوحاتٍ حيزية أخراة تَمْثُلُ في معلقّة لبيد كقوله:
رُزِقَتْ مرابيعَ النجوم وصابَها ... ودْقُ الرَّواعِد: جَوْدُها فَرِهَامُها
يعلو طريقَةَ مَتْنِها مُتواتِرٌ ... في ليلةٍ كَفَرَ النجومَ غَمامُها
من كلّ سارية وغادٍ مُدْجِنٍ ... وعَشيَّةٍ متجاوبٍ إرزامُها
فَمَدافِعُ الرَّيَّانِ عُرّيَّ رَسْمُها
وأسْبلَ واكِفٌ من دِيَمةٍ ... يُرْوي الخمائلَ دائِماً تَسْجامُها
عَلِهَتْ(جزعت) تَرَدَّدُ في نِهَاءِ(غدير) صُعَائِدٍ...
*****
ولعلّ عنترة أن يكون ثالث المعلّقاتيّنين الذين عُنُوا عنايةً شديدة برسم الحيز المائيّ، ووصف الأمكنة الخصيبة التي هي ثمرة من ثمرات تهاتن الأمطار، وتساقط الغيوث.
ونحن لا يسعنا إلاّ أن نتوقّف لدى الصورة الشعريّة المائية التي أبدع فيها، فحلّق وتفرّد... وهي تلك التي تَمْثُلُ في قوله:
أو رَوْضَةً أُنُفاً تضَمَّنَ نَبْتَها ... غَيْثٌ قليلُ الدِمْنِ ليس بمُعْلَم
جادَتْ عليها كُلُّ عينٍ ثَرَّةٍ ... فتركْنَ كلَّ حديقة كالدِرْهم(1/146)
سَحّاً وتَسْكاباً فكُلُّ عشيّةٍ ... يَجْرى عليها الماءُ لم يَتَصرَّمِ
فهذه اللوحة الحيزيّة بديعةُ المظهر، جميلة المنظر؛ فغيْثُها نظيف شريف؛ فكان نبتُه أنيقاً ناضراً، ومُخضَوْضِراً فاخراً؛ قد تغافص في هذه الحديقة الأُنُفِ فتكاثر واعشوشب، وَرَبَا واخْضَوْضرَ. لقد سقت الغيوث هذه الحديقة سَحّاً وتَسْكاباً، وأمطرتها جَوْداً غَدَقاً، وتَهْتَاناً طَبَقاً؛ حتى اهتزّت وربّتْ، واخْضَرَّتْ وأزهرَّتْ:
1. إنّ أوّل ما يسم هذا الحيز الخصيب البديع هو اخضرار نبْته، وتغافص عشبه متنامِياً متعاليا.
2. لم يكن هذا الحيز مخضرَّاً، أصلاً؛ ولكنه اخضرَّ بفعل تهاتن الأمطار، وتساكب الغيوث الكريمة عليه، فاستحال من مجرد حيز قاحل، إلى روضةٍ أُنُفٍ خَصِيبٍ.
3. إن هذا الحيز الأماميّ البديع، لا يلبث أن يُفضي إلى حيز أبدعَ منه بَدَاعَةً، وأروع منه روعةً؛ وهو الحيز الخلفيّ الناشئ عن الحيز الأماميّ الذي هو، في الأصل، مشهد تهاتن الأمطار خيوطاً بيضاءَ ممتدّة امتداداً عموديّاً من عَلُ إلى تَحْتُ؛ فتلك الخيوط المائيّة(القطر المتهاطل) -وهي حيز مائيّ- هي التي تفضي، بفعل تَسكابها المِلْحاح، وتَسْجامِها المِغْزار، إلى تشكيل حيز آخر هو هذه الِبَركُ المائيّة الصغيرة التي تحتقنها الأرض في أيّ بقعة منقعرة منها؛ حتى إذا ما أصابتها الشمس، وأشرقت عليها بأشعّتها، رأيت هذه العيون كالمرايا المثبتة على وجه الأرض، أو كالدراهم المستديرة الشّكل، الفضيّة اللون، الناصعة المنظر. فالحيزّ الغائب هو هذه الأشعة الشمسيّة التي بفضلها استحالت العيون المائيّة إلى ذات مرآة تُشَاكِهُ مَرْآةَ المرايَا الضخمة اللَّقَى في الفَلْوَاتِ، والعاكسة لأشِعَّةِ الشمس المتوهّجة.(1/147)
4. ولعلّ من الواضح أنّ حيز العيون/الدراهم، أو العيون/ المرايا: لم يكن ممكِناً مشاهَدَةُ مَرْآتِهِ من مكان مستوٍ، ولكن من مكانٍ عالٍ. فكأنّ هذه الأمطارَ كانت تهاتنَتْ على سهول شاسعة، فتركتها عيوناً، عيوناً؛ ولكنّ مشاهدتها لم تكن ممكنة إلاّ من أَعالِيها، ومن فَوْقِ ذُرَاهَا، لِتَبْلُغَ رَوْعَةُ الجمالِ الطِبيعِيّ غايَتَاهَا...
5. واستخلاصاً من بعض ما حَّلْلنا، يمكن أن نعدّ هذا الحيز المائِيَّ متحوّلاً، أي أنه ليس أصلياً، لأنّ الأصل فيه القُحولَةُ لا الخِصْبُ، واليبس لا الإمراعُ الرَّطْب، ولم يغتِد إلى ما اغتدى إليه إلاّ بفضل الحَيَا النازل، والسماءِ الهاتن. فكأنّ هذا الحيز الخصيب الماثل في هذه اللوحة، يشكّل مُمَاثِلاً(إقونة) ناقصاً لحيز غائب. أو قل إنه على الأقل معلول لعلّة غائبة، فيكون الخصب معلولاً للماء، والماء معلولاً للسحاب؛ فهو إذن إمّا مُماثل ناقص، أو قرينة كاملة. أو ليس الخِصْبُ الماثل في هذا النص المؤلَّف من ثلاثة أبيات، إنما هو سمة حاضرة وقعت بفضل سمة غائبة، وهي المطر النازل؟ (38).
6. وبينما مَرآةُ العيونِ الثّرَّةِ، أو الغُدْران الصغيرة، التي تشكّلت بها الأرض المسقيَّةُ بماء المطر هي أيضاً إمّا مُمَاثل ناقص(غدران الماء الماثلة للعَيْنِ) تماثل مياه الأمطار الغائبة عن العين)؛ فإنّ الغدران لم تَكُ، وهي السِّمةُ الحاضرة، إلا قرينةً للسمة الغائبة التي هي الغيث الهاتن.
7. إنّ هذا الحيز المائيّ، أو الحيز الخصيب، له شبه بحيز لبيد:
وجَلا السيولُ عن الطُّلولِ كأَنها ... زُبُرٌ تُجِدُّ مُتونَها أقْلامُها
... ... من حيث تأثيرُ المطرِ في الأرض، غير أن صورة لبيد توحي بالوحشة، وصورة عنترة توحي بالأنس. ولا سواء مطر يُعَرّي الأرض فيذكّر بمدفونات الذكريات، ومطر يسقيها فتغتدي مُخْصِبَةً مخضرّة، ومُمْرِعة مُعْشِبة.(1/148)
8. ويسْتَمِيزُ هذا الحيز-العَنْتَرَيّ- المسقِيُّ بتحديد علاقته بالزمن بحيث لا يكاد يحدث له ذلك إلاّ في العَشايا والأمساء. والذي يعرف الجزيرة العربيّة وَجَنوبَها خصوصاً يدرك مدى صدق هذا الوصف. ولعلّ من فوائد أمطار الأماسي أنّ الناس في معظمهم يكونون قد قضوا مآربهم اليوميّة فيكونون إمّا آبُّوا إلى بيوتهم، وإما هم بصدد الإيَابِ، كما أنه يتحاين مع حلول الليل ورطوبته التي تسمح للأرض بارتشاف الماء على مهل؛ ممّا يجعل النفع بهذا المطر أكثر. ولو تساكب المطر ضُحىً، ثمّ جاءت عليه الشمس المحرقة لكانت أتَتْ على رطوبة الماء، وجفّفتْ قشرة الأرض؛ فلا ينتفع النبات، أثناء ذلك، إلاّ قليلا.
*****
وأمّا الحيز المائيّ لدى المعلّقاتيّين الآخرين فإنه شحيح الوجود، وربما يكون طرفة بن العبد أذكرَهم له، وأكثرَهم تعامُلاً معه، وإن ظلّ هذا الحيز المائيّ إمّا بحريّاً ونهريّاً، كما في قوله:
- يجوز بها الملاّحُ طوارا ويَهْتَدِي
- يَشُقُّ حبابَ الماءِ حَيزْومُها بِها
- كَسُكَّانِ(ذَنَبِ السفينة) بُوصِيّ(ضرب من السفن) بِدِجْلَةَ مُصْعدِ؛
وإمَّا صحراويّاً، ولكنه يظلّ مع ذلك خِصْباً مثل قوله:
- (...) تَرْتَعِي ... حدائِقَ مَوْليّ الأَسِرَّةِ أَغْيَدِ
ولكن أين ذلك من اللوحات الحيزية المائيّة البديعة التي كنّا صادفناها لدى امرئ القيس، ولبيد، وعنترة بن شداد؟
ولا يقال إلاّ مثلُ ذلك في الحارث بن حلّزة، وعمرو بن كلثوم، وزهير بن أبي سلمى.
****
ثانياً: الحيز الخصيب:
قد لا يختلف الحيز الخصيب عن الحيز المائيّ، فذلك ملحق بهذا، وهذا علّة في ذاك. وليس إِفراد الحيز الخصيب، هنا بالذكر، إِلاّ من باب التفصيل والتجزِيءِ.
فمن ذلك ما جاء في معلقة زهير بن أبي سلمى:
بها العِينُ والآرامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً ... وأطلاؤُهُنَّ ينهَضْ من كُلِّ مَجْثَمِ(1/149)
فهذه الرسوم الدَّوارِسُ، والطُّلولُ البَوالي، والدُّيارُ الخَوالي، أخضارَّ نباتُها، وتغازَر ماؤُها، فاغتدت مَراتِعَ خصيبةً للبقَر والثيران الوحشية؛ كما أمست مغانِيَ لِلأْرْءَامِ يتراكض فيها، ويطوّفن بين أرجائها. فلولا خِصْبُ هذا الحيز المسكوت عن اخضراره منطوقاً، ولكنه وارد في هذا البيت مضموناً: لما صادفْنا هذه الحيوانات الوحشيّة التي لا تعيش في مألوف العادة إلاّّ في الأماكن الخصيبة، والمغاني الرطيبة. وقد طاب لها المقام فيها إلى أن توالدت فتكاثرت بحيث لا نلفي الأبقار الوحشيّة وحدها هي التي تنعَمُ بهذا الإمراع والسكون؛ فقد يدلّ ذلك على أنّ وجودها هناك كان مجرّد عبور، ولكننا نصادف أَطلاءَها وهنّ ينهضن من كلّ مجثم، ويتواثبن في كلّ مرتع.
وإنما يدلّ قوله"من كلّ مجثم" على التكاثر والتسافد.
ومثل ذلك لا ينشأ إلاّ عن الخصب الذي هو بمثابة الرخاء للإنسان.
وتصادفنا لوحة حيزيّة أخراة خصيبة في بعض معلّقة لبيد، وتتجسّد في قوله:
من كلّ ساريَةٍ وغادٍ مُدْجنٍ ... وَعِشيَّةٍ مُتجاوِب أَرْزَامُها
فَعَلا فروع الأيْهقانِ وأطفَلَتْ ... بالجَلْهتَيْن ظِباؤُها ونَعامُها
- والعينُ ساكنُةُ على أطْلائِها
- فالضيف والجارُ الجَنِيبُ كَأنّما ... هَبَطا تَبَالَةَ مُخْصِباً أهَضْامُها
فالأولى: إنّ هذه الصور الحيزيّة مُمرعة الخِصْب، شديدة الخضرة؛ فكأنها تمثّل حال الربيع في أوج طوره، وذروة اعْشِيشَابِه؛ فهل هي صورة حقيقيّة عاشها الناصّ فرسمها لنا رسْماً عبقرياً، أم هي مجرّد صورة جماليّة كان يتمثلَّهُا للطبيعة العذريّة فضمّنها نَصُّه، فأحسن نَسْجَه؟
والثانية: إننا نصادف تقارباً بلغ التشابه والتماثل بين قول عنترة:
سَحّاً وتَسْكاباً فكُلُّ عشيّةٍ ... يجرى عليها الماء لم يَتَصرَّمِ
وبين قول لبيد بن أبي ربيعة:
من كلّ سارية وغادٍ مُدْجِنٍ ... وعَشيَّةٍ متجاوبٍ إرْزامُها(1/150)
وأيّاً كان الشأن؛ فإنّ بلاد العرب، وخصوصاً المرتفعات اليمنيّة، تتهاطل أمطارها، في الغالب، بالرعود أولاً، وبالعشايَا آخِراً. وما ورد لدى عنترة ولبيد قد يكون مجرد توكيد لهذه الحال الطقسيّة التي تبرح قائمة إِلى يومنا هذا.
والثالثة ... : إنّ قول لبيد:
والعِينُ ساكنةٌ على أطلائِها
يُشارِكهُ قولَ زهير:
بها العِينُ والأرآمُ يمشِينَ خِلْفَةً ... وأطلاؤُهُنَّ ينهَضَ من كُلِّ مَجْثَمِ
وكلّ ما في الأمر أنّ أبقار لبيد لا تبرح محتضنة لأطلائها؛ على حين أنّ أبقار زهير كأنها كانِتْ تخلّت عن الحَضْن، وسَمحت لأطلائها بأن تسرح معها فتتلاعب في هذا الخصب الكريم، وهذا الحيز الرطيب.
ولعلّ هذا التشابه أن يدلّ، كما كنّا أومأْنا إلى بعض ذلك من قبل، على أن نصوص المعلقّات تشكّل وحدة واحدة على ما قد يبدو فيها من تفرّد؛ فالتفرّد إنما يَمْثُلُ على مستوى المعالجة والطرْح، لا على مستوى القضّية والمضمون. بل إننا لَنلاحظ أنّ التشابه يطفر على مستوى النسج وتوظيف اللفظ...
والرابعة ... : إنّ هناك تماثُلاً آخرَ يمثل في بيتَيْ زهير السابقيْن، وبيت لبيد:
فعلا فروعُ الأيهقانِ وأطفلَتْ ... بالجلهتين ظباؤها ونَعامُها
فصورة الخصب في حيز زهير غائبة، وإنما يدلّ عليها الحال التي تعيشها الأبقارُ العِينُ، وأطلاؤهنّ المَرِحاتُ. على حين أنّ صورة الخصب في لوحة لبيد مفصّلة بشكل أدقَّ حيث إنه يذكر ارتفاع نبْت الأَيِهَقَانِ بفعل الغيوث المتهاتنة والمتتابعة... ولقد بلغ الخصب بهذه الْعِينِ إلى أن تسافدت، فتوالدت بما أطفلت بضفَّتيْ هذا الوادي الخصيب.
فالشأن في هذه اللوحة الحيزيّة المخضرّة ينصرف إلى الماء الجاري في الوادي المسكوت عنه، والذي تتضمّنه الجَلْهَتَانِ(الضفّتان)-؛ وإلى جَلْهَتَيْ هذا الوادي وقد جاء ذكرهما نَصّاً.(1/151)
والخامسة ... : نجد كلاًّ من زهير ولبيد يتحدث عن ثلاثة أصناف من الحيوانات الوحشية- التي ترتبط حياتُها بالخصب والماء، والكلأِ والسَّماءِ-: العِين(الأبقار الوحشيّة)، والآرم- أو الأْرْآم- (الظباء البيضاء)، والأطلاء(أولاد البقر في السنّ الأولى التي قد لا تتجاوز شهراً واحداً) (39).
بيد أنّ لبيدا يفوق زهيراً بحيوان وحشيّ رابع هو النَّعام. ولعلّ ذلك أدعى إلى زيادة الخِصْبِ في حيزه، وأدلّ على تكاثر نباته، على الرغم من أنّ هذه الحيوانات كلها قادرة على العيش في الصحراء. ولكن لا ينبغي أن تتمثَّل هذه الصحراء على أنها مجرّد حيز أجرد أجدب، قاحل ما حل: لا نبت فيه ولا شجر، ولا عشب ولا كَلأَ؛ إِذ كلّ هذه الحيوانات إنما تتغذَّى من حُرِّ الكلأِ وخالِصِ أوَراقِ الأراكِ...
والسادسة: إنّ أطفال الظباء والنعام يؤكّد الخصب الخصيب لهذه اللوحة الحيزيّة لسببين:
1- لوجود الوادي وضفّتيه.
2- لا يمكن أن يقع الأطفالُ والحَضْنُ إلاّ إذا كان المكانُ خصيباً، والجوّ ملائماً للتكاثر والتسافد.
والسابعة: ومن الآيات على ثبوت خصب هذا الحيز، وإِلحاح النص المعلقّاتي عليه، معاودة لبيد الحديث عنه في موطن آخر من معلقّته، وهو قوله متحدثاً عن زوج البقرة والثور:
فتوسَّطا عُرْضَ السَّرِيّ وَصدَّعَا ... مَسْجُورَةً مُتَجاوراً قُلاَّمُها
محفوفَةً وسْطَ اليَراعِ يُظِلُّها ... منها مُصَّرعُ غابةٍ وقِيَامُها
ففي هذين البيتين نصادف لوحة حيزية عجيبة الخصب، فهناك:
1- الماء(السريّ وهو النهر الصغير، ومسجورة: أي عيناً مسجورة؛ أي عيناً نضَّاحَةً بالماء)،
2- الغابة،
3- اليراع (وهو القصب بما فيه اخضرار وبُسُوقٍ وتَرَهْيُؤٍ حين يُصيبه النسيم)،
4- يُظِلُّها(والضمير فيه يعود على اليراع).(1/152)
فهنا لا يصادفنا الشجر وحده، ولا الماء وحده، ولكنهما اجتمعا؛ بل لقد اجتمع كلّ منهما في صورتين اثنتين: السريّ الذي هو نهْر صغيرٌ جارٍ، والعَيْن المسجورة بالماء، الطافحة به؛ فإن شئت، إذن، نظرت إِلى الماء في هذا الحيز جارِياً، وهو ذاك الماثل في هذا السرِيّ الذي قيّض الله مثله لمريم حين وضعت عيسى(40) -فكانت تتشرّب من مائه، وتننسّم من نسيمه- فعَلْت؛ وإن شئت، إذن، تظلَّلْت بظِلال اليَراع، وظِلال أشجار الغاب، أَتَيْتَ...
فكأنَّ هذا الحيز يمثّل طبيعة بعض بلاد الألب؛ ولكنّ الذي يذهب اليوم إلى بلدة إبّ مثلاً، باليمن، يدرك حقيقة هذه اللوحة الحيزيّة الخصيبة، وإنّ بلاد العرب، فيما يبدو، كانت من الخصب والماء على غير ما هي عليه الآن...
*****
ذلك، وأنّا كنّا، في الأصل، رَصْدَنَا أضرُباً أُخراةً من الحيز في هذه المقالة، ابتغاءَ تحليلِها، ولكن لَمَّا طال النفَس، أضرَبْنا عن ذلك إلى حين. ومما كنّا رصدناه من أنواع الحيز ما أطلقنا عليه: الحيز المتعالِي، والحيز المضيء، والحيز المنشطر، والحيز العارِي... وقد اجتزأنا، كما رأينا، بالحيز المائيّ، والحيز الخصيب، وركّزنا خصوصاً، على المظاهِر الجماليّة في تحليلاتنا لذيْنِكَ الضربَيْن من الحيز. فذلك، ذلك.
(
( إحالات وتعليقات
1- نحيل مثلاً على كتابنا ا-ى، وشعريّة القصيدة، قصيدة القراءة.
2- أرسطو، الطبيعة، 271 - 278.
3- جميل طيبا، المعجم الفلسفيّ، 2. 412 - 413 .
4- م. س.، 1. 187 - 188 .
5- يقال: الحيز بتشديد الياء المكسورة، وبسكونها أيضاً، ويجمع على أحياز.
6- ابن سينا، رسالة الحدود، 94 .
7- م. س.
8- تعريفات الجرجاني، عن جميل صليبا، م. م. س.
9- ابن منظور، لسان العرب(وهم).
10- التهاونيّ، كشاف اصطلاحات الفنون، عن جميل صليبا، م. م. س.
11- DESCARTES, PRINCIPES de Philosophie, 2, p. 14; A. LALANDE, Dictionnaire de philosophie (lieu), p. 567 -568.(1/153)
12- A. LALANDE, LBID, (Espace), p. 298- 299; Lieu, p. 567 -568.
13- جميل صليبا، م. م. س.، 2. 214.
14- م. س.، 1. 187 .
15- أرسطو، م. م. س.، ص306 .
16- عالي سرحان القرشي، بناء المعلقّات السبع، علامات، جدة، ج. 5، م 2/
سبتمبر 1992
17- م. س.، ص171 .
18- تراجع المقالة التي كتبناها عن نظام النسج اللغويّ في المعلقّات، في هذا الكتاب.
19- تراجع المقالة التي دبّجناها عن الإيقاع والضجيج في المعلقات، في هذا الكتاب.
20- أنور أبو سليم، المطر في الشعر الجاهليّ، 108، دار الجيل، بيروت، 1987
21- لعل مقالتنا التي كتبناها، ضمن هذه الدراسة، عن نظام النسيج اللغويّ في المعلّقات أن توضّح ملامح هذه المسألة.
22- ابن قتيبة، الشعر والشعراء، 1. 65 -66.
23- القرشيّ جمهرة أشعار العرب، 38 -39 .
24- ياقوت الحموي، معجم البلدان، 3. 120 ، 1604.
25- ابن قتيبة، والقرشي: م. م. س.
26- القرشيّ م. م. س.، ص. 39 .
27- م. س.
28- م. س.
29- ابن قتيبة، م. م. س.، 1- 64 .
30- م. س.
31- م. س.، 1- 65.
32- ابن سلام الجمحي، طبقات فحول الشعراء، 4101- 42 .
33- أخبرني أحد الشعراء المعاصرين أنه زار غدير دارة جلجل، وأنه قريب من مدينة الرياض ولكن من المحتمل أنّ هذا المكان تعرّض لتغيّرات محسوسة.
34- يراجع الثعالبي، فقه اللغة، ص 408، وابن سيدة، المخصص، 9- 79.
35- ابن قتيبة، كتاب العرب، ص. 361 - 464ـ في رسائل البلغاء.
36- م. س.، ص. 372. وقد ورد لفظ"الحنيفيّة" في أصل نصّ الكتاب تحت لفظ"الحنفيّة"، وهو محض خطا مطبعيّ سهي عن تصحيحه.
37- ابن منظور، م. م. س.،(حنف).
38- نحن الآن نصطنع مصطلح مُماثل ترجمة للمصطلح الغربيّ الذي ترجم إلى العربية، أولَ الأمر، تحت مصطلح أقونة، وهو لا يعني شيئاً في دلالة اللغة العربية. وقد أنى تعريبُه. وقد جئنا نحن ذلك.
39- الزوزني، ص. 93 .(1/154)
40- إشارة إلى قوله تعالى: (فَنادَاها مِنْ تحتِها أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ ربُّكِ تَحْتَكِ سَرِياً)، مريم، 24 .
((
4. طقوس الماء في المعلقات
ما أكثر ما تحدّث الناس عن المطر في الشعر الجاهليّ؛ وما أكثر ما تحدّثوا عن علاقة الماء بالطقوس المعتقداتيّة مثل الاستسقاء، على عهد الجاهليّة الأولى، وما كان يصطحب ذلك من ممارسات لم تلبث أن اغتدت كالطقوس الوثنية لدى قدماء العرب(1).
وقد نَبِهَ إلى هذه المسألة قدماء كتّاب العرب مثل أبي عثمان الجاحظ(2)، ومثل بعض المعاجم الموسوعية(3)؛ فَدُوّنَ من حولها إشاراتٌ مختلفة هي التي يمكن أن تغتدى أساساً لأنتروبولوجيا الماء، وكلّ الطقوس الفولكلوريّة التي كانت ترتبط به حين تشحّ السماء، ويُلحّ الجدب، فيصيب الناس روع وهلع، وإشفاق وقلق..
ولا نريد نحن، في هذه المقالة، أن نتوقف لدى طقوس المطر وحدها؛ ولكننا نريد أن نمتدّ بوهمنا إلى كلّ ما هو سائل شفّاف، أو قابل للشَّفَافَةِ والسَّيَلان. كما أننا لا نريد أن نمتدّ بسعينا إلى كلّ الشعر الجاهليّ بِجَذاميره نستقريه لنرصد ما جاء فيه من طقوس الماء، وفولكلوريات المطر؛ ولكن بحكم محدوديّة موضوعنا، سنجتزئ برصد هذه الطقوس في المعلّقات السبع وحدها...وإنّا لدى قراءاتِنا المعلقّاتِ، من هذه الوِجْهة، صادفتنا مجازات كثيرة تدلّ على العناية الشدَيدَةِ بالمطر لدى أولئك المعلقّاتيّين.(1/155)
والمطر، أو الماء، هو مصدر الحياة، فيه تَخْصَوْصِبُ الأرض، وبِقَطْرِه تَربْوُ الثَّرى، وبرذاذه يَخْضَوْضِرُ النبات ويزهو؛ فتمسي الطبيعة كالعروس تترهْيَأُ في ملابسها السندسيّة، وتتبختر في حُلَلِها المُخْضَوْضِرَة؛ لِمَا ينشأ عن ذلك من جمال بديع لمشهد الأرض وهي تزهو بما على وجهها من حقول وغلال، ولما ينشأ عن ذلك من تسافد الطيور، وتوالد الفراش، وتكاثر الحشرات الطائرة والزاحفة معاً، وكلّ الكائنات اللطيفة التي كانت أغرت عنترة بن شداد بأن يتوقّف لدى صورة الذباب وهو يترنّم، وحملت امرأ القيس على أن يلتفت إلى صورة الطير وهُنَّ يملأن الجِواءَ بأصواتَهنّ الحِدَادِ، والشديداتِ الاختلافِ؛ حتى كأنّهنّ كائنات سَكْرى بما شربت من سُلاف، وبما احتست من رحيق وراح...
أولاً: طقوس الماء في معلّقة امرئ القيس
1- المطر:
ربما تكون معلّقة امرئ القيس أكثر المعلّقات للمطر ذِكْراً، وأشدّها به اهتماماً، وأحرصها على التغنّي به تحت صور مختلفة، وفي لقطات مشهديّة متباينة. وَيَمْثُلُ ذلك خصوصاً في الإثني عشر بيتاً الأخيرة من معلّقته، من:
أصاحِ ترى برقا أُرِبكَ وَميضَه ... كلَمْعِ اليديْن في حَبِيٍّ مُكَلَّلِ
إلى قوله:
كأنّ السِّباعَ فيه غَرْقى عَشِيَّةً ... بأرجائه القُصوْى أنابيشُ عُنْصُلِ
ولعلّ الذي حمل امرأ القيس على تخصيص نسبة صالحة من أَبابيتِ معلّقته لوصف المطر من وِجْهة، وتخصيص هذا الوصف بنهايتها من وجهة أخراة: أن يكون الطقس اليمنيّ الذي يعرف إلى يومنا هذا بظاهرة الأمطار الرعديّة الغريزة، والتي لدى هطلها قد تمتلئ بها الأدوية، وقد تسيل بها المنحدرات، فتجرف الأغثاء، وتسقي الأرض، وتروى النبات في أزمنة معيّنة من السنة، وفي ساعات معيّنة من النهار.(1/156)
لم يكن ممكناً لأمرئِ القيس، وهو العربيّ اليمنيّ، أن ينتقل بين القبائل، ويضرب في الأرض لاهياً أوّلاً، وطالباً بثأر أبيه آخراً، ثم لا يصف ما كان يعرض له من هذه الأمطار الرعديّة الشديدة الغزارة التي كانت تصادفه كلّ مساء من أسفاره، فكانت تضطره، غالباً، إلى أن يَلْتَحِدَ، وَصَحْبَهُ، إلى كَتِفِ جبل، أو جِذْع شجرة عظيمة، أوْ أيّ مُلْتَحَدٍ من المُلْتَحَدات...
كانت الرعود والبروق، وكان القَطْر الطَّلُّ، وكان المطر الثَّرُّ: تساور سبيلَه كلّ مساء من مُقاماته وتَظعانَاتِه؛ فلم يكمن له بُدٌّ من أن يصف ما كان يستمتع به طوراً-وهو الشاعر-، ويزعجه طوراً آخر: فيتأذّى له، وذلك حين تَظعانه غالباً.
ويمكن أن نلتمس أكثر من علّة لوصف أُمْرِئِ القيس المطر، واهْتِمامه بالماء، وَكَلَفِهِ بكلّ ما يسيل فتختصب له الأرضُ، ويربو له النبت:
فالأُولَى: أنّ البلاد العربيّة، منذ القِدَم، شحيحة، فيما يبدو، بالمطر، ضنينة بالهطل، تميل طبيعتها إلى الجفاف والإمحال، وإلى اليبس والجدب. فكان الناس ينتظرون تَهتان الغيث بفراغ الصبر، وحرارة الشوق، وشدّة التطلّع. والآية على ذلك أنهم كانوا يستسقون في طقوس معتقداتيّة، وممارسات فولكلوريّة عجيبة؛ حين كان المطر يعوزهم فيُلِمُّ عليهِم الجَدْبُ، وتشحّ من حولهم السماء. ولم يكن امرؤ القيس بدعاً من بقيّة الشعراء في الجاهلية، ولكنه، ربما فَسَحَ لهم في المجال، وهيَّأ من أجلهم السبيل؛ إذ نلفي عامّة شعراء أهل الجاهلية يلتفتون إِلى ظاهرة المطر، فإمَّا أن يصفوها وصفاً، وإِمَّا أن يجتزئوا بذكرها عَرَضاً(4).(1/157)
والثانية: إنّ امرأ القيس كان ينتقل بين القبائل، وكان يختلف إلى الأسواق، وكان يتردّد على الحانات، وكان في كلّ ذلك لا يعدم مطراً هاتنا، وغيثاً هاطلاً؛ فكان مشهد خيوط الماء وهي تتساقط من فوقه يؤثّر في شاعريّته المرهفة فتفيض بما تفيض به، إلى أن جاء ينشئ معلقّته العجيبة فاختصّ المطر بخاتمتها ليكون ذلك أبقى من النفسْ، وأَذْكَرَ في القلب، وأجرى على اللسان. فهو يذكر المطر في مطلعها، ضمناً، حين يقول مثلا:
ترى بعر الأرآم في عرصاتها ... وقيعانها كأنه حَبُّ فُلْفُل
فلولا المطر الهاتن لما كانت الآرام راتعة في تلك العرصات، ولا مَرِحَةً في تلك القيعان والتَّلَعَات: تمرح وتلعب، وتتواثب وتتراكض...
ولكنّ وصف الطلل صَرَف وهْمَه في وصف المطر والفراغ له إلى حين الانتهاء إلى خاتمة معلّقته فأشبعه وصفاً بديعاً جعلّنا نُحِسّ بأن الأرض، كأنها، كلّها، بدأت تتحرك بوديانها، والجبال تلقي بأَغثائها، والسواقي تتغازر بأَمْواهِها، فتُحيل سطحَ الأرض كلَّه إلى خصب وجمال ونعيم... وإذا كانت السعادة امتدّت إلى الطير فاغتدَيْنَ صادِحاتٍ، وإلى الحيوانات الأخراةِ فأمسَيْن سابحات؛ فما القول في بني البشر، وفيمن يُحسّون بجمال الطبيعة وعبقريّة تجليّها مزدهية مختالة كالحسناء المتبرّجة...
والأخراة: كأنّ امرأ القيس لِمَا كان يرى من أهمية الماء، من حيث هو عنصر للحياة، وللمطر من حيث هو وسيلة للخصب والعمران، ولما كان يرى من تهالك الأحياء على التنافس على مساقطه، وربما التحارب على غدرانه ومدافعه: شاء أن يسجّل، ربما من حيث لم يكن يشعر، ولكن على الطبيعة السمحة، في معلّقته، مشاهد الماء، ومناظِرَ المطر، وَمَرائِيَ العيون والغدران.
لم يكن في البلاد العربيّة إلاّ آبار وعيون قليلة احتفظت لنا بها كتب الموسوعات والمسالك بمعظم أسمائها(5).(1/158)
كان العرب إذا أحبّوا أحَداً، كما أومأنا إلى ذلك مراراً، دَعَواْ له بالسَّقْيا، وحتى التحيّة، في اللغة العربية، قد يكون اشتقاقُها من الحَيَا(6) الذي هو الخصب والمطر. وناهيك أنّ الحَيا، بالقصر، إن شئت، والحياء، بالمدّ، إن شئت(7)، وهما اللذان يعنيان المطر؛ وردا في المادّة نفسها التي ورد فيها مادَّةُ الحياة.
فماذا كان يكون الشعر الجاهليّ لو خلا من ذكر المطر، ووصف السيول، وملاحظة الأنواء، والتغنّي بالخصب، والتلهّي بالحيا؟ وهل كان يمكن لامرئ القيس أن يضطرب في تلك المضطربات من الجَدْب والخِصْب، ومن الرعد والبرق، والهَطْل والهَتْن؛ ثمّ لا يحتفل بكلّ ذلك في شعره فيخلدّه عبر الأزمنة المتطاولة؟...
المطر والمعتقدات في المعلقات
لا نظنّ أن هناك من ينكر أنّ المطر في عامة المجتمعات البدائية، ومنها المجتمع الجاهليّ، يرتبط بطقوس فولكلورية، وبمعتقدات وثنيّة، وربما بمعتقدات دينيّة صحيحة كسنّة الاستسقاء التي يمارسها المسلمون كلّما ألحّ عليهم الجدب، وشحّت الأمطار في موسم الحرب والزرع... بيد أنّ هذه الفكرة لا ينبغي لها أن تطفح فتفيض فتغرق كلّ ما حوالها من المعقولات...
ذلك بأنّ بعض الدارسين العرب المعاصرين أرادوا أن يؤوّلوا كلّ شيء تأويلاً أسطوريّاً في الحياة الجاهليّة، وأن يربطوا كلّ صغيرة وكبيرة بخرافات بائدة لا نلفي لها أثراً صحيحاً في النصوص الشعريّة المظنونة بالصحة، وفي الأخبار المرويّة المظنونة بالثقة، ولا، ربّما، حتى في الحفريات الأثرية... ومن ذلك ما ذهب إليه الدكتور مصطفى ناصف حين توقّف لدى بعض أبيات امرئ القيس المطرية، ومنها:
أصاحِ ترى برْقاً أُريك وميضه ... كلمع اليدين في حَبيّ مُكَلَّل
يُضيء سناه أو مصابيحُ راهِبِ ... أمالَ السَّليط بالذُّبَالِ المُفَتَّل(1/159)
فذهب إِلى أنَّ: البرق يُشبه في تحركه تحرّك اليدين، أو مصابيح الرهبان التي يصبّ الزيت عليها. وبعبارة أخرى: حينما هيّأ الراهب المصباح سقط المطر، فالمطر استجابة لدعوات راهب عظيم.
ويمكن أن نرى تقلّب الكفين سمة من سماته أيضاً. ويبدو أنّ مصباح الراهب وتقليب الكفين أعانا على ولادة المطر. فالولادة ظاهرة في قول امرئ القيس: إنّ السحاب متراكم، يشبه أعلاه الإكليل، وقد لمع البرق وتلألأ في أثنَائه.
هذه صورة واضحة الدلالة على فعل الانبثاق العظيم. وليس عندي شكّ في أنّ المعنى الروحيّ لولادة المطر قد فهِمَه شعراء العربية(8).
ونحن نعتقد أنّ مثل هذا الربط الحميميّ لإسراج الراهب مصباحه، ولابداء المرأة الحسناء معصميها، بتهتان المطر قد لا يقوم له أمر، ولا يستقيم له شأن. وهو يزداد سوءاً حين يقوم على التوكيد واليقين: على أنّ المذهب الذي ذهب إليه الشيخ سليم صحيح. (ويؤكّده قوله: "وليس عندي شكّ في أنّ المعنى الروحيّ لولادة المطر قد فهمه شعراء العربيّة"). وذلك من أغرب المواقف العلميّة التي يمكن أن يقفها باحث-مشهود له بحصافة الرأي- من قضيّة شائكة، بعيدة الزمن، بعيدة الحدوث:(1/160)
فالأولى: هل كان العرب جميعاً مسيحيّين يربطون حياتهم الروحيّة بالأديرة والكنائس؟ وهل كانت توجد ديور بمكّة ويثرب، والحيرة، وسوائها من الحواضر العربيّة الأزليّة إذا استثنينا بعض الحواضر ذات التأثير الثانويّ كنجران مثلاً...؟ وهل يمكن أن نغيّر مجرى حياة أمّة كانت تقوم، أساساً، على الوثنيّة، والجاهليّة، والعصبيّة العمياء، والثأر، وعدم الارعواء في إراقة الدماء، والطيران نحو الشرّ: فنجعلها وديعة روحيّة، تنهض على التعبّد والتحنّث؟ ولو ربط الكاتب بعض ذلك بما اتفق عليه المؤرخون واللغويون القدامى من وجود بقايا حنيفيّة في المجتمع الجاهلي لَعَسَيْنا أن نسلّم له بِبَعْضِ ما ذهب إليه؛ لكنّه وقد ربط ذلك صراحة، بما لا يبعد عن هذه الحنيفيّة(9)، فإننا لا نستطيع الموافقة على رأيه... إنّ بضعة أديرةٍ كانت بشبه الجزيرة العربيّة كلها ما كان لها لتؤثّر في الحياة العقليّة، والدينية، والروحيّة، كلّ هذا التأثير... ولقد نعلم أنّ كل بيت عربيّ كان فيه صنم صغير يعبده صاحبه وأسرته(9)، فكيف إذن يقوم هذا النص التاريخيّ الماثل في أنه لم يكن:
... ... "يظعن في مكة ظاعن منهم(...) إلاّ حمل معه حجراً من حجارة الحرم، تعظيماً للحرم. فحيثما نزلوا وضعوه فكانوا به كطوافهم بالكعبة"(10).
... ... مع ما قرره مصطفى ناصف؟ بل لقد كان العرب في جاهليّتهم الأولى إذا لم يجدوا حجراً يعبدونه، من بعض تلك الحجارة، جمعوا حثية من التراب، وجاؤوا بالشاة فحلبوها عليه، ثمّ طافوا بها(11).
والثانية: أنّ العرب لم تكن تستمطر ببركة الأحبار والرهبان، كما لم تكن تستسقي بعناية الأديرة والكنائس؛ ولكنها كانت تستمطر بالأصنام والأوثان؛ فقد أجيب عمرو بن لحيّ حين سأل أهل مآب: ما بال هذه الأصنام التي تعبدون؛ أن: "هذه أصنام نعبدها، فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا"(12): فماذا بقي من برهان في قول امرئ القيس:
يضيء سناه أو مصابيح راهب(1/161)
إلاّ صورة شعرية ماديّة بريئة ممّا حمّلت إياه من هذه المعتقدات والروحيات والرهبانيات...؟ وهل يمكن أن يبقى معنى لقول الدكتور ناصف:
"حينما هيّأ الراهب المصباح سقط المطر؛ فالمطر استجابة لدعوات راهب عظيم".
بعد الذي رأينا من قولي ابن الكلبي وابن كثير القديمين، واللذين يثبتان فيهما وثنية الاستمطار، ومعتقداتية الاستسقاء، وأن الروحانية المسيحية التي يجعلها الدكتور ناصف علة في تأويل بيت امرئ القيس قد تغتدي غير ذات معنى... وإلاّ فعلينا أن نرفض ما ذهب إليه كلّ من ابن الكلبي وابن كثير، ونقبل برأي مصطفى ناصف. وإلاّ فعلينا، أيضاً، أن نرفض النصوص التاريخية التي تبدو موثوقة، ونقبل بمجرد قراءة تأويلية لنص شعري؟ وأنا لنعجب كيف فات الدكتور ناصف، وهو الملم بالتراث، والضارب في مضطرباته كلّ ضربان، أن يلّم على هذه النصوص القديمة ويستظهر بها لدى قراءة نصوص الشعر الجاهلي...؟
والثالثة: إنّ لمعان اليدين الذي يحتج به المتعصبون للقراءة الأسطورية لنصوص الشعر الجاهلي، وبخاصة نصوص المعلقات، والقائمة على المبالغة والتهويل والتضخيم، والذي ورد في قول امرئ القيس:
* كلمع اليدين في حبيّ مكلّل
كان تعبيراً، فيما نحسب، جارياً؛ أو كان تعبيراً مسكوكاً كما يريد أن يعبّر بعض المعاصرين، في اللغة العربية على تلك العهود الموغلة في القدم إذ كان كل عربي يطلق على إشارة اليد بالثوب، أو السوار، أو نحوهما: لمعانا(13)؛ ومن ذلك:
1- حديث زينب، رضي اللّه عنها، : "رآها تلمع من وراء الحجاب، أي تشير بيدها" (14).
2- ورد هذا التعبير نفسه في بيت للأعشى أيضاً:
حتى إذا لمع الدليل بحبه ... سقيت وصبّ رواتها أشوالها(15).
3- وورد معناه في قول عديّ بن زيد العبّادي:
عن مبرقات بالبرين تبدر ... وبالأكفّ اللامعات سور(16).
والأخراة: إن طقوس الاستمطار لم تكن لديهم قائمة على استدرار البركة من الرهبان العظام؛ كما زعم الدكتور مصطفى ناصف؛ ولكنهم:(1/162)
"كانوا إذا تتابعت عليهم الأزمات، وركد عليهم البلاء، واشتد الجدب، واحتاجوا إلى الاستمطار؛ اجتمعوا، وجمعوا ما قدروا عليه من البقر؛ ثم عقدوا في أذنابها، وبين عراقيبها السلع والعشر(17)؛ ثم صعدوا بها في جبل وعر، وأشعلوا فيها النيران، وضجّوا بالدعاء والتضوع. فكانوا يرون ذلك من أسباب السقيا" (18).
فأين مصابيح الرهبان من هذا؟ وما صلة تشبيه ينصرف إلى تصوير انعكاس الضوء وانتشاره[وهو تشبيه ضوء كاسح بضوء شاحب من باب تقريب الصورة في ذهن المتلقي] بالاستمطار والاستسقاء في الجاهلية الأولى؟
إن ما أورد أبو عثمان الجاحظ، بناء على ما كان ورد في شعر أحد أكبر الشعراء الذين سجّلوا العادات والتقاليد والطقوس الفولكلورية العربية القديمة؛ وهو أمية بن أبي الصلت، يبعد تأويل مصطفى ناصف لذينك البيتين المرقسيّين المنصرفين إلى طقوس استمطار المطر... بادّعاء أن امرأ القيس إنما كان يومئ إلى تقليب الكفين؛ وأن العرب كانت تستظهر ببعض ذلك على استمطار المطر... كما أن ما كنا استشهدنا به من أشعار قديمة؛ بما اشتملت عليه من لمع اليدين: قد يضعف من مذهب الشيخ في جعل العرب وكأنهم لم يكونوا يستسقون إلاّ بركة أمثال ذلك" الراهب العظيم" على حد تعبيره.
ثم أين كان الشيخ من الحنيفية الإبراهيمية التي كانت لا تبرح بقية باقية منها في بلاد العرب؛ والتي كانت تسم سلوك كثير من عقلاء العرب وأشرافهم وسراتهم إلى أن جاء اللّه بالإسلام؛ فكانوا يحجون إلى البيت العتيق، ويغتسلون من الجنابة، ويختتنون، ويتحنثون(19)؟ وكيف أهمل الحديث عنها لدى قراءة شعر امرئ القيس، فذهب في تأويله إلى ما ذهب؟
*****
2. الغدران:
الغدران ابنة الأمطار، مَثَلُها مثل العيون والأنهار.(1/163)
وقد مِرْنا بين هذه الغدران والأمطار التي هي المتسبّبةُ في تكوينها كِأَنَّ الأمطار قد تتهاتن ولكن إمّا أن تتسربَ داخل الثرى وتَغِيَضَ في أعماقها، وإِمَا أَنْ تَسِيَل بها الأوديةُ العميقةُ نحو المنحدرات البعيدة التي قد تمضي بها إلى نحو البحار. ويضاف إلى ذلك أنّ الغدران تمثّل، في المجتمعات البدائيّة، البحيرات والمسابح في المجتمعات المتطوّرة؛ حَذْوَ النعلِ بالنعل. فإنما العذارى، الوارد ذِكْرُهُنَّ في بيت امرئ القيس:
فظل العذارى يرتمين بلحمها ... وشحْمٍ كَهُدَّابِ الدِمَقْسِ المُفَتَّلِ
يمّمن الغدير القريب من الحيّ إمّا لغسل الثياب، وإمّا للسباحة والاستحمام.
وللغدران، بعد، أثناء ذلك، خاصّيّة تمثل في أنها مَظَنّةٌ للخِصْب والجمال، والحياة والعمران. فالأمطار قد توجد اليوم، ولكنها قد لا توجد من بعد ذلك إلاّ بعد أسابيع، وربما بعد شهور؛ فتجفّ الأرض من جديد، ويذبل النبات، ويستحيل كلّ أخضر إلى شبه أسود، وتحزن الطبيعة بعد مرح وازدهاء. على حين أنّ الغدران مَظَنَّةٌ لأَنْ يَمْكُثََ ماؤُها، بحكم طبيعتها ووظيفتها أيضاً، شهوراً طِوالا فتتشكّل الحياة الوديعة الخصيبة من حولها ضفافها، وترتع الحيوانات وترتوي منها، وتزقزق الأطيار، وتخضرّ الأرض بجوارها إلى حدّ الازدهاء.(1/164)
ونودّ أن نتوقّف لدى غدير دارة جلجل، تارةً أخرى. فقد تفرّد، فيما نعلم، برواية أسطورته الجميلة جدّ الفرزدق(20). وقد ظلّ تفسير دارة جلجل في قول امرئ القيس غيرَ متداوَلٍ بين الناس، في حدود ما انتهى إليه علمنا على الأقلّ، إلى نهاية القرن الأوّل الهجري حين حكى الفرزدق لفتيات البصرة، العاريات أيضاً، حكايتَها... ونلاحظ أنّ الفرزدق وقع له ما وقع للشاعر الآخر -امرئ القيس- قبل ذلك بقرنين على الأقل حيث يتكرر مشهد عرى النساء وهنّ يغتسلن في غدير بقرب البصرة، وأنّ الفرزدق وحده هو الذي اهتدى السبيل، أو ضلّ تلك السبيلَ؛ فوقع على أولئك النساء وهنّ يَستَحْمِمْنَ في ماء ذلك الغدير... وإنه حين استحى وعاد أدراجه يريد الابتعاد عنهن، هنّ اللواتي رَغِبْنَ إليه في أن يحدّثهنّ بحديث دارة جلجل... وإذا صحّت هذه الحكاية الجميلة، المتعلّقة، هذه المرة، بالشاعر الفرزدق، لا بالشاعر امرئ القيس، وبنسوة من البصرة لا بنسوة من نجد؛ فإنّ حكاية دارة جلجل لم تَكُ مشهورةً بين عامّة الناس في البصرة التي كانت عاصمة إشْعاع ثقافيّ وأدبيّ ونحويّ لدى نهاية القرن الأول للهجرة، وإلاّ لافْتَرَضْنا أنه يكون في أولئك النساء المستحمّات في الغدير مَن تعرف شيئاً عن حكاية غدير دارة جلجل؛ إذا نفترض أنه كان في أولئك النساء-نساء البصرة- مَن تروى شيئاً من شعر امرئ القيس الغزليّ... ومن العجيب، في كلّ الأطوار الممكنة والمستحيلة معاً، أنْ لا تُرْوَى هذه الحكاية الجميلة المتعلقة بغدير دارة جلجل عن خلف الأحمر، وخصوصاً عن حمّاد الراوية الذي كان هو الذي روى نصوص المعلّقات كما بلغتنا... (21).
وعلى ما في حكاية دارة جلجل من جمال سينمائيّ، وإثارة، ومغامرة، وعُرْي، وإباحيّة؛ وكلّ ما يمنعه المجتمع المحافظ عن الناس... فإنّ الذي يعنينا فيها خصوصاً مائيَّتُها(22).(1/165)
فالأولى: إن ساحة العذارى -مع عنيزة التي لا يعرف التاريخ- بواقعيّته وأسطوريّته معاً- إلاّ اسمها(23)- في هذا الغدير- لم تحدث لأوّل مرة في التاريخ، ولكننا نفترض أنهنّ كنّ ييمّمنه كلّما كنّ يُرِدْن النزهة والمتاع ببرودة الماء وزرقته وجماله. ومن الواضح أنّ امرأ القيس لم تسنح له تلك الفرصة مصادفة، ولكننا نظنّ أنّ ذلك كان دأباً لديه ولديهنّ جميعاً، مألوفاً؛ فربما كنّ يقصدن الغدير في يوم معيّن، طوال موسم معيّن. من أجل ذلك استطاع أن يتسقط أخبار النساء، نساء الحيّ، ويقص آثارهنّ إلى أن وقع له معهنّ ما وقع، فيما يزعم جدّ الفرزدق الذي يبدو أنه حين حكى حكاية دارة جلجل لحفيده(وقد ذكر الفرزدق أنه كان في سنّ الصبا حين حكاها له إذ يقول: "وأنا يومئذ غلام حافظ"(24) إنما كان يرمي بها إلى ما يرمي الأجداد حين يحكون حكايات لأحفادهم الصغار: التسلية والمتعة، قبل الواقع والتاريخ...
والثانية: إنّ منظر الماء في الغدير، ومنظر العذارى عاريات في هذا الغدير، ومنظر ما يَحْدَوْدِقُ بِجَلْهَتَيْ هذا الغدير: كُلُّها يُحِيلُ على المشاهد البديعة الحسنة؛ فبمقدار ما هي مثيرة، نلفيها، في نفسها، عفويّة بريئة. فكأنّها تمثّل سلوك الطبيعة الأولى، وتجليّات الجمال الغَجَريّ في توحّشه وعذريتّه وحصانته من الاستعمال، ومنعته من الابتذال. فلم يك لأولاءِ النساء، فيما نفترض، أكثر من فلقة واحدة، كنّ يرتدينها لتستر أجسامهنّ، وربما عوراتهنّ فحسب، فمَنْ يدري...؟(1/166)
... ... ففي مشهد هؤلاء السابحات، في هذا الغدير المغمور بالماء، تكمن العادة في ممارستهنّ السباحةَ عارياتٍ فيه، وَتَمْثُلُ الحضارةُ في حيث إنَّ فِعلَ السِباحةِ يدلّ على الحدّ الأدنى من التمثّل العالي للحياة، والتذوّق المرهف للجمال، والتمتّع الواعي بالطبيعة. كما يكشف عن أنّ النساء العربيّات، على عهد الجاهليّة، كنّ يتنقّلن في الحيّ، أو بين الأحياء، أسراباً أسراباً؛ وكنّ في الغالب يمشين في موكب سيّدة ماجدة، وعقيلة موسِرة(وقد تبلورت هذه العادة الحضارية على عهد الدولة العباسيّة فكانت الخيزران والعبّاسة وزبيدة وغيرهنّ يمشين في عشرات من الجواري...). ويبدو أنّ هذه الماجدة الموسرة هنا كانت عنيزة. فمن أجلها إذن وقع تنقّل العذارى من الحيّ إلى الغدير ابتغاء السبْح والنزهة؛ ومن أجلها، أيضاً، كان امرؤ القيس يقصّ أثار النساء، ويتجسس على حركاتهنّ ومتّجهاتهنّ...
والثالثة: لقد نشأ عن هذه الحادثة-التي نميل إلى أسطوريّتها- شأن آخر لم نكن لنعرفه لولاها: فقد أفضى استيلاء الفتى على ملابس العذارى، وتردّدهنّ تردّداً طويلاً قبل الخروج إلى ملابسهنّ من الغدير وهنّ عاريات، إلى تدبير حَدَثٍ آخر يبدو متكلَّفاً ملفقّاً، ومتدبّراً مقحماً؛ وهو دعوةُ العذارى الفتى الشاعر إلى أن يستضيفهنّ؛ فاستجاب لرغبتهنّ، واقترح عليهن نحر ناقته لهنّ...
وهنا يطفر عنصر المائدة، وهي مسألة تحلو مدارستُها تحت زاوية الأنتروبولوجيا: كيفيّة النحر، والسلخ، وجمع الحطب، وإيقاد النار، وَخضْئِها وتأجيجها، ثم وضع اللحم عليها لينضج بفعل الشَيّ؛ ثم تناول الطعام على ضفاف ذلك الغدير مع العذارى... إنّ هذا المنظر يجمع كل معاني الجمال في أرقّ معانيه، وأروع تجليّاته، وأبدع مشاهداته... فالحيز يستحيل هنا إلى فضاء عبقريّ كأنّه سرّ الحياة ومعناها الأول...(1/167)
ولمّا كان الحدث هنا، غير تاريخيّ، ولكنه تاريخانيّ؛ ولمّا كان، إذن، سينمائيّاً على الطريقة الهوليوديّة؛ فقد قبلت عنيزة وصُوَيْحِبَاتُها دعوةَ الشاعر المغامر... فنحر الفتى لهنّ مطيّته، وظلوا يشتوون لحمها، ويشربون من بعض خمر كانت في بعض رحله.
ويتسرّب الشكّ إلى تاريخيّة هذه الحادثة، لبعض هذه الأسباب:
أوّلها ... : إنّ فيها تناقضاً مريعاً، وأموراً لا تتفق مع طبيعة الأشياء، ولا مع تقاليد المجتمع العربي الذي يقوم على الغيرة الشديدة على المرأة...
وثانيها ... : إنّ الأسطورة، أو ما نراه نحن كذلك، تذكر لدى طفوح حادثة نحر الناقة: عبيداً لم يذكروا من قبل. فهل كان يمكن لفتىً مغامر يتتبّع فتيات في ضاحية من الحيّ أن يصطحب معه عبيداً وخدما؟
وثالثها ... : يدلّ نحر الناقة على أنّ امرأ القيس لم يكن يتنزّه، ولا يغازل، ولا يتمتّع من لهو؛ ولكنه كان أزمع على سفر طويل، وتَظعان بعيد. وإلاّ فمالَه لم يّتّخذ ركوبته فرساً، واتّخذها ناقة؛ وهي للفارس ليست الرَّكوبَةَ المثاليّة، ولا الركوبة الشديدةَ السرعةِ التي يحرص عليها الظاعن في تَظْعَانَاتِه القصيرة.. كان يجدر بالشاعر الأمير أن يتنقّل على فرسه لا على مطيّته، لأنّ سفره كان للنزهة، ولأنّ الحكاية الأسطوريّة، تزعم أنه كان معه عبيد... ألم يكن من الأولى أن يمتطي هو حصانه، ويترك بعض الجنائب يقودها العبيد لبعض خدماته في الطريق؟...(1/168)
ورابعها ... : إنّ هؤلاء النساء حين كنّ أزمعن على الذهاب إلى الغدير(وكان يوماً معلوماً كما يفهم ذلك من نصّ الحكاية نفسها: "فلم يصل إليها(أي لم يصل امرؤ القيس إلى ابنة عمه فاطمة) حتى كان يوم الغدير") (25): ألم يكن من الأولى لهنّ أن يصطحبن معهنّ طعاماً ما، يلي بمتطلّبات النزهة؟ فما بال نحر الناقة، إذن؟ إلاّّ أن تكون تكملة لما كان معهنّ، وإضافة إلى ما كان لديهنّ، فنعم. ولكن، لا نَعَمْ! فقد ثَرِبَتِ العذارى امرأَ القيس فاصطنعن عبارة: "فضَحْتَنا، وحبَسْتنا، وأجعتنا" (26). والشاهد لدينا في هذا هو قولهنّ "وأَجعْتَنا"، وهي عبارة تدلّ على أنهن يَمَّمْنَ الغديرَ ولا طعام معهنّ.
وآخرها ... : تصور هذه الحكاية هؤلاء العذارى، ومعهنّ هذا الرجل، وكأنهم كانوا يعيشون في جزيرة نائية عن العالم، أو في غابة متوحّشة، أو في فلاةٍ قّفْرٍ: لا نظام، ولا قِيَمَ، ولا شرف، ولا غيرة، ولا حِمِيَّة جاهليّة... إنها حكاية ساذجة، على جمالها، تصور المجتمع العربي، على عهد الجاهليّة، مجتمعاً متحّللاً، إباحيّاً، من رغب إلى امرأة وَصَلَها؛ كما وقع ذلك لامرئ القيس بالأمر المقدَّر، والسلوك المدبّر؛ فظلّ بياضَ نهاره مع هؤلاء النساء، واستولى على ملابسهنّ كيما يَرَاهُن ... كلّهن عارياتٍ: ثمّ لم يحدث من بعد ذلك شيء... بل إنّ أولئك الحسان هن اللواتي دعونه إلى أن يُطعمهنّ من لحم ناقته؛ بحيث لم يغضبن جَرَّاءَ اغتصابِهِنَّ(إجبارهنّ على أن يراهنّ وهُنَّ عَوارٍ).(1/169)
كما لم تغضب ابنة عمّه عنيزة التي أذلَّها وأهانها، وأقسرها على ما لم تك إليه راغبة أمام صويحباتها، وربما أمام العبيد أيضاً(مادام ذِكْرُ العبيد ورد في نصّ هذه الحكاية): فأين الشهامة العربية التي تتحلّى بها سِيَرُ الرجال، والتي تكتظّ بها نصوص الشعر؟ وأين الشرف العربيُّ الذي تحفل به مواقف الأبطال، في المجتمع الجاهليّ؟ أَلَمْ تَتفانَ بكر وتغلب، ابنا وائل، وهما أختان، من أجل جرح ضرْع ناقة كانت للبسوس خالة جساس بن مرة الشيبانيّ: على مدى أربعين سنة؟ وإذا اندلعت حرب طاحنة من أجل شرف ناقة امرأة كان جسّاس بن مرّة أجارها، في رواية، وأنها خالته في رواية أخرى، ومن أجل شرف طائر كان أجاره كليب وائل(27) أعزّ العرب: فما القول في شرف امرأة سيدة، بل في شرف سيدات عربيّات كنّ يتنزهن فوقع اغتصابهنّ...؟
وكانوا يأنفون أشدّ الأنفة أن يزوّجوا بناتهم لأيّ رجل شاع بينهم أنه وقع في غرام من يريد التزوج منها: خشية العار، وحرصاً على السِّمْع، ورغبة في حسن الصِّيتِ.
أم لم يقتل رباح بن الأسل الغَنَويُّ شأس بن زهير لمجرّد أن حليلته نظرت إليه(ونلاحظ أنّ المرأة هي التي حانت منها التفاتة فشاهدت الرجل وهو يغتسل في عين، وبدون قصدٍ منها هي... لا هو الذي كان ينظر إليها؛ ومع ذلك لم يرحمْه بعلُها، فرماه، وهو غافل في العين، بسهم كان فيه حتفه...) (28)؟ وعلى أننا لا نريد استيعاب هذه المسألة، ولا استقراء البحث فيها، هنا، لأنها معروفة لدى الناس... فكيف إذن يجوز أن نصدّق أنّ دارة جلجل حادثة تاريخية، وأنّ حكاية تعرية العذارى، ومعاقرتهنّ الخمر، ومغازلتهنّ في وضح النهار -وقد كنّ عقيلات كريمات- ممّا يجوز أن يحدث في حيٍّ من أحياء العرب؟(1/170)
إنّ إيمائَة امرئِ القيس إلى يوم دارة جلجل، ربما كان مجرّد نظرة مختلسة، أو حديث عابر، أو إشارة بعين... فجاء إليها حُكّاةُ الأخبار، ورُواةُ الأساطير، والمُلْتَذُّونَ بما لم يكن، والمتعلّقون بما لم يوجد؛ فأضافوا إليها ما ليس فيها، وأَدخلوا عليها هذه المسحة السينمائيّة، باللغة العصريّة؛ كيما تكونَ مثيرةًً للعجب، وحاملة على الانتباه، وباعثة على التلذّذ والتمتّع... وإلاّ فما لهم سكتوا عمّا وقع لامرئ القيس مع أمّ الحارث الكلبيّة، وأمّ الرباب، وَسَوَائِهَما... إن لم يكن ما ذكره في شِعْرِه مجرّد تَبَاهٍ وادِّعاء، كما كان يفعل بعده عمر بن أبي ربيعة؟ فقد عهدنا الشعراءَ يتزيّدون ويتنفَّجون، وخصوصاً في تصوير صِلاتَهم بالنساء، وخصوصاً امرأ القيس الذي كان يتهم بأَنَّهُ مُفَرَّكُ يَزْهَدُ فيه النساء(29)، ويرغب عنه الحسان، على ما كان موصوفاً به من الوسامة والجمال....
إنّ ما تشتمل عليه الحكاية التي كَلِفَتْ كلفاً شديداً بتجميل الحيز، لم يكن له صلةٌ، في الغالب، حقيقةٌ بالتاريخيّة، ولكنّ صلته بالتاريخانيّة وثيقة. إنّ تلك الحكاية الجميلة تصوّر المجتمع العربيّ قبل الإسلام: كأنّه مجتمع يعيش في غابة، بحيث لا يوجد فرق بين حيوان وإنسان، وبين إِنْسٍ وَجَان... ولم يكن فيه محرّمات محرّمة، ولا ممنوعات ممنوعة: فكل، من رغب إلى شيء ناله، ومن تطلّع إلى رغبة اشْتارَها؛ كما جاء ذلك امرؤ القيس الذي عاد إلى الحيّ ممتطِياً غارِبَ بعير ابنةِ عمه فاطمة(بعد أن كان نحر مطيّته للعذارى، واشتواها لهنّ)، وهو يقبّلها، وهو يعانقها، وهو يغازلها، أمام القبيلة كلها(أمام صويحباتها- وأمام إِمائها، وأمام العبيد....): وَلاَ دَيَّارَ يُنْكِرُ عليه فِعْلَتَه، ولا أحَدَ يَنْعَى عليه سلوكَه... بل آب الشاعر المغامِرُ، العاشق الوامق، أَوْبَة الأبطال إلى الحيّ والقبيلةُ كلها تنظر ولا تعجب، تَرَى ولا تنكر!...(1/171)
لكنّ الذي يعنينا في رسم هذا الحيز الجميل، ليس الجانب التاريخيّ، بالذات، ولكن الجانب التاريخانيَّ الميثولوجيّ خصوصاً... إنّ الذي أردنا التوقّف لديه، من حادثة دارة جلجل، ليس المنحى العقليّ، ولا الواقعيّ، ولا التاريخيّ، ولكنّ الأسطوري، أو التاريخانيّ؛ نكرر ذلك.
إنّ الذي يتأمّل أمر هذه الحكاية يُحِسُّ إحساساً شديداً بأنّ حاكيها كأنه كان يريد أن يشبع رغبة عارمة كامنة: يشبعها من اللذة الجسدية، ومن ملء العين بِالأَجْسَادِ النسويّة العارية، تحت الطبيعة العارية، وتحت وهج أشعّة الشمس المشرقة، وعلى ضفاف غدير أزرق الماء...
إنه لا يمكن أن يوجد مشهد أجمل من هذا على الأرض... ولا يمكن أن نلتمس حيزاً أروع من هذا الحيز الشعريّ الجميل الذي لا ينبغي أن نكون سذَّجاً فنلتمس البحث في صدقه أو عدم صدقه، أو نسعى إلى مناقشة تاريخيّته من عدم تاريخيته... لأنه لم يكن حيزاً من أجل تصوير واقع التاريخ، ولا وجه الجغرافيا، ولا سيرة الواقع المَعِيشِ في تلك الحقبة من الدهر؛ ولكنه حيز شعريّ خالص؛ كانت الغاية منه إمتاعَ المتلقَّي الشغوف بمثل هذه الحكايات، حكايات العشق والعري، في كل زمان ومكان...
فذلك، إذن، ذلك.
وهناك مواقع أُخراةٌ للماء، وذِكْرٌ لضُروبٍ ممّا يسيل كماء المطر، وماء العين والبئر، وماء السيل، وماء العَرَق، وماء الدمع، في معلّقة امرئ القيس... لم نرد التوقف لديها لسببين اثنين:
أولهما: إنّنا عجلون إلى تحليل المطر والماء في بعض المعلّقات الأخراة. ولا ينبغي أن يجاوز الحديث عن امرئ القيس طورَه، من حيث لا يبلغ عن سِوَائِهِ شأْوَه.
وآخرهما: وهو نتيجة للأوّل، إنّا لو جئنا نحلّل كلّ أحياز الماء بما فيها من جمال، لكان هذا المقال استحال إلى كتاب كامل؛ إذ سينشأ عن ذلك السعي أننا نتوقف لدى جمالية الحيز المائيّ، ولدى أحياز أخراة ذات صلة بهما... وهي سيرة فعلاً تذهب بنا، في هذا السعي، إلى بعيد...
*****(1/172)
ثانياً: طقوس الماء في معلقة لبيد
لم تخْلُ معلّقة واحدة، من بواقي المعلّقات، من ذكر المياه، أو الأمطار، أو الغدران، أو العيون، أو ما في حكمها، أو ما يكون ملازماً لها، أو ما يكون ذا صلة بها.
وربما يكون لبيد أكثر المعلّقاتيّين، مع امرئ القيس، ذِكْراً للسوائل والسيول، والأمطار والغدران؛ إذ ورد في معلقته ذِكْرٌ لمدافع الرَّيَّان، وَوَدْق الرَّواعد، والجَوْد(بفتح الجيم)، والرِهام، والغَاد المُدْجن، والسيول، والسَرِيّ، والواكف من الدِّيمَة، والتَّسجام، والغَمام، والنِهاء(مفرده: َنِهْي(بفتح النون وكسرها): وهو الغدير)، وَأَسْبل، والخلج...
فكأنّ لبيد بن أبي ربيعة كان يريد أن يسقي شعرَه بهذه السواقي، كما يحتفظ بالماء، ويترقرق بالجَوْد، ويطفَح بالغمَام... وهي سيرة لعلّ الذي حمله عليها ما تتطلّبه الحياة من الماء الذي هو أصل الحياة. إذْ بدونه لا يكون ازدهار، ولا خصب، ولا رخاء، ولا جمال...
ونودّ أن نتوقّف لدى بعض العناصر الدالّة على الماء لدى لبيد، ومنها:
*عَلِهَتْ تَرَدَّدُ في نِهَاءِ صُعَائِدٍ.
إن النِّهاء، في اللغة العربيّة القديمة، يعني الغُدْران. وإذا كان امرؤ القيس أومأَ إِلى ما كان له في غدير دارة جلجل من مغامرات مع النساء، وإن لم يصرّح بذلك تصريحاً، وإن لم يصفه وصفاً... فعزّ على الرواة ذلك وهواة التزيّد في الأخبار فشحنوه بأسطورة النساء العاريات، وما نشأ عن ذلك من مائدة مثلت في نحر المطيّة المرقسيّة للعذارى، ثم العمْد إلى شي لَحْمِها لَهُنَّ، وسَقْيهنّ خمراً كانت معه... فإنّ لبيداً لا يربط الغدران بالنساء، ولكنّه يربطها بالحيوان. فكأنّ الحيز الجميل لديه منصرف إلى الحيوان، قبل الإنسان..(1/173)
إنه يصف، في هذا المصراع الشعريّ، بقرة وحشيّة فقدت جُؤْذَرَها بعد أن أصابه الصيّادون بسهامهم فقتلوه من حيث لم تستطع، هي، حِمايَتَه، ولا إنقاذَه من مخالب الإنسان القَرِمِ إلى اللحم، والذي لا يشبع إلاّ إذا التهم لُحْمان الحيوانات:
صادَفْنَ منها غِرَّةً فأَصَبْنَها ... إِنْ المَنَايَا لا تَطيش سِهَامُها
لقد ظلّت البقرة الأمّ تنتظر، من حول هذه الغدران الجميلة التي كانت تقع في صُعائد؛ فكانت تلوذ نجاة ببعض الشُّجيراتِ التي تَكْفُرُها وتُخْفْيها عن أعين الصيّادين القرِمين: ظلّت تنتظر ابنها لعله أن يَؤُوبَ، وتَرْقُبُ صغيرها عساه أن يعود: طَوالَ ليالٍ سَبْعٍ، بأَيّامها:
عَلِهَتْ تَرَدَّدُ في نِهاءِ صُعَائِدٍ ... سَبْعاً تُؤَاماً كامِلا أَيَّامُها
ظلت البقرة الوحشية بغدران صُعائد تنتظر، وتترقب، وتتحسّس، وتتمسك بالأمل الخُلَّب، والرجاء الكُذَّبِ، لعل جُؤْذَرها أنْ يعودَ؛ ولكنْ أنَّى له ذلك وقد هَلَكَ برمية صياد؟...
ومع ذلك، بقيت تلك البقرة تقاوم اليأس؛ فكانت تَأْتَوِي إلى تلك الشُّجيرات التي كانت تتوقّى بها من المطر الهاطل، والوكف الهاتن: لعلّ صغيرها أن يعود...
البقرة عالِهَةٌ حَيْرَى... ولَبَنُها يتغازَرُ في ضَرْعِها... لقد أَلِفَتْ أن تستقبل الجُؤْذَرَ وهو يرضع من لبنها... فأيْنَ صغيرُها إذن ذاك الوديعُ البريءُ الذي كان يعتقد، أو كانت أمّه تعتقد، بغزيرتها الفطريّة أنّ الله وهَبَه الحياةَ ليحيا، لا ليحيا لكي يَخْتَطِفَ منه ذلك الصيّاد القاسي ما وهبه الله من حياة...؟
إنّ لبيداً لا يصوّر، هنا، جمال تلك الغدران، بمقدار ما كان يودّ، أو يودّ نصّه(إذا أوّلناه بحسب مقتضيات مَقْصِدِيَّةِ النص، لا بحسب مقتضيات مقصِديَّةِ الناصِّ): تصوير المآسي التي تقع، حَوَالها، في ذلك الحيز العاري المَخُوفِ، في صراع أبديٍّ بين الإنسان والحيوان، وبين الحيوان والطبيعة، وبين الطبيعة والإنسان: من أجل البقاء.(1/174)
كان الصراع حَوَالَ غُدْران صُعائد: صراعاً وجوديّاً... فلم يعد الماء سبباً من أسباب الحياة، ولا عنصراً من عناصر الخِصْب والرخاء؛ ولكنّه اغتدى سبباً من أسباب الموت والفناء.... البقرة الوحشيّة الثكلى تُيَمِّمُ الغديرَ لأَنْ تَشَرَب مع إِشراقة شمس الصباح، وبعد ليلة نديّة ممطرة؛ فكانت ترى قوائمها تسيخ في الرِّمال والثَّرى... وتيمّمه أيضاً من أجل البحث الغريزيّ عن صغيرها المفقود... فيصادفها جمع من الصيّادين القرِمين إلى لَحْمِها؛ فيشدّون عليها بكِلابهم ويحاولون رَشْقَها بسهامهم؛ ولكنها تَشُدُّ هي، بدافع الدفاع عن الوجود المشروع، على الكلاب الملاحقة لها؛ فتقتل منها سُخَامَاً وَكَسَابِ؛ ثم تطلق، من بعد ذلك، قوائمَها للريح حتى لا تُصيبَها سهامَ الصيّادين المرسَلة عليها من كلّ اتجاه... إنها محنة وجوديّة رهيبة تمرّ بها هذه البقرة المسكينة التي لا يرحمها على الأرض أحد من البشر... فهي لم تفقد جُؤْذُرُّها فحَسْب، ولكنها، الآن توشك أن تفقد نفسَها أيضاً... فهبوطُها تلقاءَ غدران صُعائد، الحيزِ المائيّ الجميل، بحثاً عن صغيرها الضائع كاد يأتي عليها، فيلحقها بولدها المُتَقَصِّدِ.
يا لها مأساةً تعيشها هذه البقرة على ضفاف هذه الغدران التي كان من المفروض أن تمرح من حولها وترتع، عوض أن تشقى وتقلق!..
الغدير لدى امرئ القيس مصدر للسعادة والمرح والنزهة والجمال والمتاع، ولكنه لدى لبيد مصدر للشقاء والترح والتعب والشظف والصراع من أجل البقاء؛ إذْ لا الصّيادون الذين كانوا يكْمُنون قريباً منه لهذه البقرة الوحشية لاصطيادها حقّقوا ما كانوا يريدون إليه، حقاً؛ حيث على مدى سبعة أيّام من الانتظار والترقّب لم يستطيعوا الظَفر إلاّ بذلك الجُؤذَرِ الغضّ الذي لا يسمن ولا يغني؛ ولا البقرة الوحشيّة استطاعت أن تحتفظ بجؤذرها الفتيّ، وترتع معه، وتشبعه من لبنها الدافئ، وحنانها الغامر...(1/175)
خسر الإنسان، لدى نهاية الأمر، والحيوان أُلْمَعَا، أمام هذه الطبيعة المتجسّدة في غدران صُعائد... فكأنها غدرانُ شؤمٍ ونكَدٍ، لا غدرانُ خير ورغَدٍ.
والرياح لدى لبيد كأنها ريح. والأمطار لديه كأنها مطر؛ وكأنّ الطبيعة حين تضطرب وتنشز إنما تُبْدِي عن غضَبِها وعُبوسها: فتربدّ سماؤُها، ويتغازر ماؤُها، وتسيل وديانها، وتدوّي بالرعد فِجاجُها؛ فيتضافر ما هو فوق، مع ما هو تحت: ليجعلا مِمَّنْ، ومِمَّا، يعيش على هذه الأرض مُعَنّىً معذّباً، وخائفاً مترقّباً:
باتتْ وأسبلَ واكِفٌ من دِيَمةٍ ... يَروي الخمائلَ، دائِماً تَسْجَامُها
يعلو طريقَةَ مَتْنِها مُتَواتِرٌ ... في لَيْلَةٍ كَفَرَ النّجومَ غَمامُها
الليل، الظلمات، الحَيا المتواتر، والقَطْرُ المُتهاتن: لا النجوم تُرَى فتُضيء بعض هذه الأصقاع من الأرض؛ ولا السماء تُقْلِعُ فيتاح للأحياء أن يَأْمَنُوا على أنفسهم غضبة هذه الطبيعة الهوجاء. فالبقرة لم تُصّبْ بفقدان جُؤْذُرِها فَقَطْ، ولكنها أصيبت، في ليلها ذلك البهيم، ببَلِيَّةٍ ممطرة باتت تُلِحُّ عليها بدِيمَتها السُّجُومِ.
وما عُفْرُ اللَّيالي، كالدَّآدِي! ليلةٌ دَأْدَاءُ كَفَرَ الغَمَامُ نُجومَها، وَغَطَّى السحابُ قمرَها وأَدَيمَها، وتناوحت رياحُها: فلم يعد أحدٌ يرى فيها شيئاً: إن مَدَّ يده انقطعتْ، وإن حرّك رجلَه تعثَّرَتْ. ليلُةٌ لا تَسْمَعُ فيها إلاّ تناوُح الرياح، وتصايُحَ الحيوانات، وتباكِيَ الأطفال...
وكلُّ هذه الأهوالِ التي هالَتْ الأرضَ في هذه الليلةِ الدَّأْدَاءِ إنما كان أسبابُها آتِيَةً من هذا الواكِفِ السُّجُوِم، وهذا المطر الهَتُونِ الذي يَفْتَأُ يَسْجُمُ ويدوم.
فعل الماء(1/176)
وكأنَّ للماء عقدةً مع المعلّقاتيّ لبيد، فهو حين يصف ديار حبيبته يُنحِي باللوائم، من طرْف خفيّ، على جبروت الماء وما تسبّبه من مآسٍ وشقاء، وأتراح وعناء. فهذه السيول سارعت إلى الديار حتى اغتدت عافية. ولولا هذه السيول المتسلّطة لقاومت تلك الديار عوامل الزمن، فظلت كما عَهِدَها الشاعر حين غادرها... لكنّ السيول الجارفة لم ترحمه ولم ترحَمْها، فأمست أثراً بعد عين، ولم تُبْقِ منها السيولُ إلاّ آثاراً تُحْزِنُ أكثرَ مما تُفْرِح، وتشقي أكثر مما تُسْعِد...
إنّ الماء هنا أيضاً لا يكون مَظِنَّةً للسعادة والرَّخاء والنعيم، بمقدار ما يكون مَظِّنةَ شقاءٍ وقساوة وجحيم.
بيد أنّ هذا الماء بأشكاله المختلفة: من غُدران، وأنهار، وأمطار، وسيول، وعيون، لا يلبث أن يثوب إلى جِبِلَّتِهِ الأولى التي يُسِّرَتْ له؛ وهو إخصاب الأرض وتخْضِيرُها، وإِنبات النباتات والتمكين لها في النَّماء. ويمْثُل ذلك خصوصاً في وصف الرسوم والديار، وما آلَ إليه أمرُها بعد أن تَحَمَّل عنها قطينُها:
رُزقَتْ مرابيعَ النُّجوم وصابَها ... ودْقُ الرواعِدِ جَوْدُها فَرِهامُها
مِنْ كلِّ ساريةٍ وغادٍ مُدْجِنٍ ... وَعِشيَّةٍ مُتَجاوبٍ إرزامُها
فَعَلاَ فروعُ الأيهقانِ وأطفلَتْ ... بالجَلْهَتَيْنِ: ظِباؤُها ونَعَامُها
والعِينُ ساكنةٌ على أَطْلائِها ... عوذاً تَأَجَّلُ بالفَضاءِ بهامُها
وجلاَ السُّيولُ عن الطُّلولِ كأنَّها ... زُبُرٌ تُجِدُّ مُتبونَها أَقْلاَمُها(1/177)
إنّ هذه الطبيعة المتجسدة في هذه اللوحة الحيزية الخصيبة العجيبة، والمترسمة عبر هذه الأبيات الخمسة لَهِيَ ذاتُ طبيعة عذريّة، كريمة، سعيدة، سخيّة، غنيّة، معطاء. فهذه الديار، أو قل: هذه الآثار الباقية من الديار، ألحّت عليها الأمطار حتّى أصبحت سيولاً تجرفها، وصابَها ودْقُ الرواعد بما هي أمطار غزيرة حتى لم تَتَّرِكْ حجراً، ولا شجراً، ولا غُثاءً، إلاّ اجتثّتْه اجتثاثاً، واقتلعته اقتلاعاً؛ فتخدّد وَجْهُ الأرض، وارتسمت على سطحه ارتسامات كأَنَّها خطوط الكتابة حين تخطّ على صفحة القرطاس.
وماذا عن النهر؟ وماذا عن هذا الأَيْهَقَان المُخضِّر، المُمَرِع الناضِر؟ ثم ماذا عن هذه الظباء المتواثبة وِبَهامِها الرَّاتعة؟ ثمّ ماذا عن هذه العِينِ-هذه الأبقار الوحشّية الواسعات العيون- وهي ساكنة في هذا الوادِ المُمْرِعِ: على أطلائها؟ ثمّ ماذا عن هذه الطبيعة العذريّة الساحرة؟ ثمّ ماذا عن هذه الأمْواهِ الزرقاء، المتغازرة الجارية؟ وكيف سكنت الأبقار وهي تُرْضِعُ أطلاءها؟ وكيف مرحت الظباء وهي تتواثب مع بهامها؟
كأنّ عبقريّة الحياة، بكل ما فيها من نضارة وبهاء، ووداعة وسخاء، لم تتجَلَّ إلاّ في هذا الوادِي الخصيب، ولم تَمْثُلُ إلاّ في هذا الربيع الرطيب؟
الرعود تُدوّي فيتجاوب دَوِيُّها عبْر مَهاوِي الأودية، وخلال الفجاج السحيقة؛ فالأصوات تنحدر من نحو العلاء إلى نحو أعماق الفجاج التي تشبه المهاويَ اللاّمتناهِيَةَ لِعمقها، وَبُعْدِ قَعْرِها. وإنها لَعَشَايَاً عجيبةٌ تلك التي تُرزِمُ فِجَاجُها وَتِلاعُها، وَتَصْدَى جبالُها وسفوحُها. وإنها لعَشَايَا رطيبةٌ هذه التي يدجن سَحابُها، وتغدق سارِيتُها، فتَسْقِي الأرض، وتُسِيلُ الوديان، وتُحْيي الموات، وتُنبت النبات...(1/178)
إن الماء يعود، هنا، إلى طبيعته الأولى. إنه يتّخذ له وظيفة طقوسيّة بحيث تتجاوب السماء مع الأرض، ويتضافر الأسفل والأعلى، وتتهيّأ كلّ الكائنات الحيّة لاستقبال هذا الماء، هذا المطر، هذا الحيا: بما هو له أهل من العناية والاحتفاء والاحتفال: والإنسان في كلّ ذلك يستوي مع النبات والحيوان. بل رُبَّتَمَا ألفينا هذا الدأْبَ يتجلَّى في سلوك الحيوانات أكثر ممّا يبدو في سلوك الإنسان الذي يعنيه على كلّ حال، كثيراً، أمرُ هذا المطر الذي بفضله يتغافص نبْتُ النبات، وتربُو فروعُ الأيقهانِ، وتُخْصِبُ الجَلْهَتَانِ، وتتناسل الأبقار فتتكاثر حتّى يكتظّ بها الوادي، وتتلافح الظباء فتتعدّد حتى تحتلف بها السفح: فيَيْسُرُ على الإنسان اصطيادُها إن شاء، ويتمتع بالنظر إليها إن شاء، وَيَعُبُّ، في ماء المطر إن شاء...
فالماء هنا هو الحياة نفسها.
فما كان للإنسان ليكون لولا هذا الماءُ الذي بفضله كان له كلُّ شيءٍ على الأرض ممّا يشتهي أكلَه أو شربَه، أو لمْسَه أو شَمَّه...
وإذن، فغدران صُعائد الشقيّة المُشقية مَعاً ليستْ إلاّ أمراً عارضاً، وشأناً عابِراً، لتلك البقرة الوحشية التي اصْطِيدَ طَلْؤُها فأمستْ ثَكْلَى: تبغم وتخور، وتضطرب من حولها وتدور، لعلّها أن تقع على جُؤْذُرِها المفقود، ولكن سُدىً!.. الأبقار هنا ساكنات على أطلائها تُرْضِعُها من ألبانها، بعد أن كانت اُرْتَعَتْ وَرَتَعَتْ، وشرِبَتْ فَرَوِيَتْ. وإنما يدلّ سكونُها على أمريْن اثنين:
أولهما: إن كثرة الكلأ جعلتْها تَشْبَعُ من الارتعاء من أوّل مَرْتَعٍ. فقد أغنتْها الأكلاءُ والأعلاف والأعشاب عن أن تركُضَ وراء العُشَيْبَاتِ الشاحبة الذابلة المتباعدة المواقِعِ: تقْضِمُها وَتخْضِمُها.(1/179)
وآخرهما: إنّ سكون هذه العِينِ قد يعود إلى أنها كانت آمنةً على نفسها من الصيادين الذين هم أيضاَ، لِمَا كان أصابهم من خِصْبٍ، صابَهُمْ من جَدىً، أمْسَوْا في غنىً، ولو على هونٍ ما، عن اصطياد هذه الأبقار والتماسِها تحت كلّ صقع. أو لتكاثر هذه الأبقار، في ذلك الموسم الخصيب، أَمِنَتْ على نفسها، في هذا الوادي الذي يبدو أنه كان منقطعاً عن العمران، بعيداً عن السكّان. إنّ الحيز، هنا، بديع، لأنه مُمرع خصيب، وجميل، لأنه مُخْضَوْضِرٌ قشيب؛ ونضير، لأنه يقوم أساساً على غزارة الماء، الهاطل من السماء....
ويغيب الصيّادون، هنا، عن هذا المشهد العجيب، كما يغيب عنه الرِعاءُ: فأيْنَ سهام الصيّادين المترصّدة؟ وأين المرتادون ليجلُبوا على هذا الوادي بشائِهِمْ ونَعامهم فيغضّ بهم وبها، ويصطخب بأصواتهم وصيحاتهم؛ فيمسي هذا الحيز مضطرباً بالحركة، مصطِخباً بالأصوات...؟
*****
ثالثاً: طقوس الماء في معلقة عنترة
لم يَكُ عنترة بِدْعاً من المعلَّقاتييّن الآخرين في معلقته التي ورد فيها ذكر العيون، والسَّحّ، والتسكاب، والقرارة، وماء الدحرضين، والروضة الأنف، والغيث، والنبت، وحياض الديلم، كما ورد فيها ذكر الشراب-الذي هو سائل- مراراً...
غير أنّ الماء في معلّقة عنترة لا ينهض على وجوديّة عارمة، كما لاحظنا ذلك في معلّقة لبيد العجيبة، وخصوصاً حين يربط وجود غديرٍ صُعائد بحياة البقرة التي هي إن ظلّت بعيدةًعن الغدير أوشكت أن تهلك ظَمَأً، وتمعن يأساً من العثور على طَلْئِها، وإن هي هبطت إلى الغدير فإنها توشك أن تتعرَضَ لِخَطَر الموت، ولسِهام الصّيادين المترصّدة، ولمطاردة الكلاب المتحرّشة، ولكلّ الطوائل والمحن... فما عسى كانت أن تصنع وقد بُليَتْ بأمريّن اثنين كلاهما مُرٌّ وضُرٌّ: الثكل، والوقوع تحت طلب الصيادين الجشعِين...(1/180)
صورةُ الماء، وطقوسُ السوائل في معلّقة عنترة أبسط من ذلك كثيراً... إنها لا تحمل فلسفة الصراع من أجل البقاء، ولا المناضلة من أجل الحياة، إلاّ في صورة تنشأ، أصلاً، عن هَطْلِ المطر، وتَغازُرِ الماء، واندلاع الربيع، وفيض الخصب. وهي صورة الذباب التي كان أبو عثمان الجاحظ أُعْجِبَ بها إعجاباً شديداً، والتي يجسدها قوله في وصف الروضة الأُنفِ التي يجتابها الذباب، وتكثر من حولها الحشرات:
أو روضةً أُنفاً تَضَمَّنَ نبْتُها ... غيثٌ قليلُ الدِمْنِ ليْس بمُعْلِمِ
جادَتْ عليها كُلُّ عين ثَرَّةٍ (31) ... فتركْنَ كُلَّ حديقةٍ كالدِرْهَمِ
فترى الذُّبابَ بها يُغنّي وحّدَه ... هَزَجاً كفعل الشّارِب المترنِّمِ
غرِداً يَحُكُّ ذراعَه بذراعه ... فِعْلَ المُكِبّ على الزِّنَادِ الأَجْذَمِ (32).
إنها ملحمة الماء والخصب في هذه اللوحة الحيزيّة البديعةِ الجمالِ، والتي تتغافص فيها السمات اللفظيّة المائيّة، والسمات التي لها صلة بجمال الماء؛ فَيَقُصُّ بعضها بعْضِاًً، وذلك مثل: الروضة الأُنفُ، والنبْت، والغيث، والدمن، والربيع، والجود، والبكر الحرّة(السحابة الممطرة)، وقرارة الماء، والسَّحّ، والتسَّكاب، وجَرَيان الماء الذي لا يتصرّم سيلانُه...(1/181)
وإذا كانت أمواهُ النهر وضفَّتيْه الخصيبتَيْن ذُكِرَتْ لدى لبيد في معرض الأمْن الذي استتبّ في ذلك الوادي حتى أمِنَتْ فيه الأبقارُ الوحشيّة على نفسها وعلى أطلائها من غائلة الصيادين؛ كما كانت أمنتْ معها الظباء وبهامُها؛ فإنّ الخصب هنا -الروضة الأنف وما كان له صلة بها- ذُكِرَ عَرَضاً من أجل تشبيه ثَغْرِ الحبيبة عبلة وُوضوح غروبها، وطِيبُ مُقَبَّلِها أوّلاً، ثم من أجل وصف ربوعها الدراسة، وديارها البالية: فذكر مع ذلك، أثناء ذلك، هذا الذباب السعيد الذي خلا بهذه الروضة الأنف، إذا حقّ للحيوان أن يسعد: وذلك بفضل ما وقع له من هذا الخصب الخصيب، وهذا الجو الرطيب، وهذا الكَلأ المتكاثر، وهذا النبت المتغافص، فصار من فرْط سعادته ورِضاه، غِرداً هِزجَاً، ومتغنيّاً مترنّماً، يحك الذراع بالذراع، كفعل المكبّ الأجذم حين يقدح بعودين اثنين.
أخيراً: وقد كان الجاحظ أعجب، بهذه الصورة الغجريّة العذريّة، إعجاباً شديداً فلاحظ أن عنترة لم يُسْبَقْ إليها في الشعر العربيّ، ولم يلاحقه فيها أحد من الشعراء مخافَة أن يقصروا عما بلغه هو فيها من الجودة وحسن التصوير؛ فزعم أنْ لوْ "أنَّ امرأَ القيس عَرَضَ في هذا المعنى لعنترة لافتضح" (33)، وأنّ الشعراء كانوا يقلّدون كلّ "تشبيه مصيب تامّ"(34) سبق إليه شاعر منهم" إلا ما كان من عنترة في صفة الذباب، فإنه وصفه فأجاد صفته، فتحامى معناه جميع الشعراء فلم يعرض له أحد منهم"(35).(1/182)
ونحن قد كنّا رددنا على أبي عثمان، في غير هذا المقام، حيث إننا لا نشاطره الرأي، وأنّ الشعراء لم يتحاموا هذه الصورة بمقدار ما تجانَفوا عنها لقذارتها وَبَشَاعَتِها. فلو كانت هذه الصورة تتعلّق بثغِر امرأة جميلٍ، أو بشذى وردةٍ عبق، أو بقدِّ حسناءَ ممشوقٍ- كاتفاقهم في وصف المرأة بالكشح اللطيف (امرؤ القيس)، أو الأهضم (عنترة)، أو كشح جنوبيّ (عمرو بن كلثوم)... أو بعيني الحبيبة السوداويْن المشبّهتين غالباً بعيون ظباء وجرة (امرؤ القيس- لبيد)، وببقر وَحْشِ تُوضِحَ.... لكانت الشعراء تَسَابَقَتْ إليها، وتهافتَتْ عليها، وَكَلِفَتْ بها كلفاً شديداً؛ ولكانت، إذن، جَرْت في أشعارها، ولتكاثرت حتماً في آثارها... أمّا والأمر منصرف إلى الذباب الساقط، وهيئته المستبشعة، وقذارته المستسمجة، وإلى طنينه المزعج، وغنائه المضجر، ولسعاته المؤذية، وتكالبه على الناس لَيَعَضَّ جلودهم، ولِيَسَّاقَطَ على شرابهم فيتحاموه، وليحطّ على طعامهم فيعافوه... حتى إنه ورد في الأثر الشريف بأنّ "الذباب في النار" (36). وقد كانت العرب تكنوا الرجلَ الأبخر: "أبا ذباب" (37).
أفيعقل مع كلّ ما ذكرنا، أن تتهافت الشعراء على صورة الذباب القذرة المتوحّشة لتلهج بها بدل المناظر الجميلة، والمشاهد العجيبة، والأصوات الرنينة، والحركات الرشيقة التي تأتيها الحَشَراتُ الأخراة الجميلة والنافعة كالنحل والفراش...؟
وأياً كان الشأن، فإنّ الذي يعنينا، هنا والآن، أنّ المطر هو الذي كان علّة في إخصاب حيز الروضة الأنف التي تكاثرت حشراتها، وتكالب ذبابها؛ فكانت تنتقّل من نبتة إلى نبتة، ومن عشبة إلى عشبة أخراة: التماساً للغذاء، وطلباً للحركة، ورغبة في التسافد...(1/183)
والذي نلاحظ أنّ الماء كأنه أشدّ ارتباطاً بالحيوان منه بالإنسان، إلاّ ما كان من غدير دارة جلجل (الحيز المائي الذي صوّره امرؤ القيس الفتى المتأنِق الذي لم يبرح يطوّف في بلاد العرب، إلى أن انتهى به التطواف إلى الشام، ثم إلى بلاد الروم، ثم إلى قصر القيصر...) وإلاّ فإننا كنّا ألفينا لبيدا يتحدث عن البقر العِيَنِ وهنّ ساكناتٌ على أطلائِها، على جَلْهَتَي الوادي، دون ذكر للإنسان الذي كان هو الأَوْلَى بالإحساس بالخصب، والأجدر بالحرص على تَسجام الغَيث.
كما نلفي الشَّأْنَ نفسَه لدى عنترة في وصف الحديقة الغنّاء التي ربط كلّ ما فيها من نبات وزهور وأعشاب وأكلاء بهذا الذباب التي تحوم خِلالَها بدون توقّف ولا مَلَلٍ ولا كَلَلٍ.
فالماء، إذن، في التمثّل البدائي أنه كان للحيوان والنبات، ثم الإنسان الذي يتسقّط مساقطه، ويرتدي مراعَيه حين يجودها فتربو وتنمو. وكأنّ الإنسان مجرّد شريك للحيوان الذي هو هنا ذو حقوق متساوية معه، فيه.
*****
رابعاً: طقوس الماء في المعلقات الأخراة
لم تَخْلُ أيُّ معلقّةٍ من ذِكْرِ الماء، والتعامل مع المطر، وربطه بالحياة البدويّة الصحراوية بكلّ ما فيها من شَظِف العيش، وشقاوة السعْي، وشحّ الطبيعة وقساوتها. ولعلّ زهير بن أبي سلمى أن يأتي، بعد لبيد، وامرئ القيس، وعنترة، في المرتبة الرابعة من حيث الإيلاعُ بذكر الماء، ومن حيث القدرةُ على توظيفه في معلّقته، ومن حيث، خصوصاً، ربُطُه بالحياة والأحياء، وذلك حين يقول:
بها الْعِينُ والأرآمُ يمشِينَ خِلْفَةً ... وأطلاؤُها ينهَضْ من كُلِّ مَجْثَمِ (....)
وفيهنّ ملهَّىً لِلَّطِيفِ ومنظَرٌ ... أنيقٌ لِعَيْنِ الناظِر المتَوسِّمِ
وقوله أيضاً:
* فهنّ ووادِي الرَّسِّ كاليَدِ لِلْفَمِ*
*فلمّا وَرَدْنَ الماءَ زُرقْاً جِمَامُهُ*
ولكننا نلاحظ أن زهيراً يتناصّ في هذه اللقطة الشعرية مع عنترة في الأبيات التي قدمناها منذ قليل، ومع لبيد قوله:(1/184)
فعلا فروع الأيهقان وأطفلَتْ ... بالجَلْهَتَيْنِ ظِباؤُها ونَعامُها( ...)
*والعِينُ ساكِنَةٌ على أَطْلائِها*
وربما مع قول امرئ القيس أيضاً:
تَرَى بَعَرَ الأرآم في عَرصاتِها ... وقيعانِها: كأنه حبُّ فُلْفُلِ
فكلُّ هذه الصوِر يَتَقَارَبث ويتشابه، وَيَنْسُجُ بعْضُها على بعضها الآخر. فهناك: العِينُ، والأطلاء، والأرآم المتلاعبة، لدى زهير، حتّى كأنّ الصورتيْن في المعلّقتين هما صورة واحدة. وهناك منظر أنيق لعَيْن الناظر المتوسّم، لدى زهير أيضاً. بينما هناك لَعِبَ الربيعُ بربْعِها المتوسمّ، لدى عنترة. على حين أنّ امرأ القيس لم يذكر إلاّ بعر الأرآم في العرصات، فذكر السمة الحاضرة (البعر) الدالّة على السمة الغائبة (الأرآم)؛ فكلامه يجري مجرىً سيماءَوِياً قائِماً على اصطناع القرينة من باب: لا دُخانَ بلا نار. وعلى أنه يمكن أن يُقْرَأَ على أنّه سمة مُماثِليَّةٌ(إقونيّة)، إذا راعينا أنّ مثل هذا البَعَر الأسود المتساقط في العَرَصات لا يدل لدى العارفين، على إبل، ولا على شاة، ولا على بقر، ولا على ظباء. وإذ اختصَّتْ هذه السمةُ الحاضرة بالسمة الغائبة التي لا يمكن أن تخرج عن جنس الظباء البيض، فقد اغتدى هذا الكلامُ وارِداً مَوْرِدَ ما نطلق عليه نحن في مصطلحاتنا "المماثل" (أي"الإقونة"، بالمصطلح الأجنبيّ).
وصورة الحيوانات في معلّقة زهير، صورة تقوم على الماء والخصب:
*رَعَوْا ظِمْأَهُمْ
* بها العِينُ والأرآمُ يمشين خِلْفَةً ... وأطلاؤُها ينهضْ من كلّ مَجْثَمِ(1/185)
إذ لولا الغيث النازل، والمطر الهاطل؛ لما وقع هذا الرعْيُ لهذا الكلأ المُخْضَوْضِرِ، ولما تواجدت هذه الأبقار الوحشية، وهذه الظباء الجميلة: المُطْفِلَة. فولا الإمراعُ لَما حدث تلاقح هذه الحيوانات وتسافُدُها، ولما أطفلت، إذن، ما أَطْفَلَتْ. لكننا نلاحظ، أثناء ذلك، أنّ زهيراً يتفرّد، عن بعض المعلقّاتّيين الآخرين، بربطه الماء بالإنسان، وخصوصاً بمواقف الجمال، ومآقط الحُسْنِ والدّلال، أي بالنساء الجميلات السَّاحرات، فكأنّ الماء لم يكن، من منظوره، إلاّ من أجل الحسناوات؛ وإلاّ من أجل أن يسْعَدْنَ في رِياضه، وَيرْفُلْن في أزهاره، ويستمتعن بَسَيلانِهِ وهو يسيل، ويتشنّفن بخريره وهو يَخِرُّ:
*فهنّ ووادي الرسّ كاليد لِلْفَمِ
*وفيهنّ ملهىً للطيف ومنظرٌ ... أنيق لعَيْن الناظر المتوسِّم
*فلمّا وردن الماء زُرْقاً جِمامُه
فلأوّل مرة نصادف في معلّقة تخصيصَ الماء للإنسان، صراحةً ، ووقْفَه عليه، وجعْلَه يستمتع به، ثم جَعْلَه، خصوصاً، يُحِسّ به:
*فلمّا وردن الماء زرقا جِمامُه ... وضعْنَ عِصِيَّ الحاضِرِ المُتَخَيِّمِ
فما هنّ إلاّ أن يَردْنَ هذا الماء الصافِيَ الرقراق الذي تكتظّ به هذه البئر الثَّرَّةُ؛ وإذا هنّ يُبْهَرْنَ بما في هذا الماء الزّلال من جمال، وعذوبة، وصفاء، وشفافة: فيقرّرِن الإضراب عن المسير، ويُزمعن على الثواء من حوله: فيُطَنِبْنَ الخيام، ويُزَمِعْنَ المُقام.(1/186)
فلم يكن تخييمُ أولاءٍ النساء، ومعهنّ بعولُهُنَّ وأطفالُهنّ وأقاربهنّ، هنا، إلاّ من أجل جمال هذا الماء؛ إذ كان هو عنصر الحياة الأوّل، وسرّها الأكبر. فنساء دارة جلجل لم يكدن يستمتعن بالماء إلاّ ساعةً من نهار، لَمَّا تعرّضن للمضايقة والفضيحة حين استحوذ امرؤ القيس، فيما تزعم الحكاية، على ملابسهن، ثمّ زايلْنَه، وربما إلى غير إياب. بينما الماء لدى لبيد وعنترة لا يكاد يتصّل شأنه إلاّ بالحيوانات. فكأن سعادة تلك الحيوانات من سعادة الإنسان، أو كأنّ تلك الصور الخصيبة، والمشاهد المُمْرِعَة، سمة حاضرة تجسّد سمة غائبة: هي حياة أولئك البدو الذين كانوا يرتادون الكلأ، ويتسقّطون مواقع الماء، ويتوخّون المآقط التي يكون فيها خصب وريٌّ، وعُشْب وَكَلأٌ. فتسمنُ أنعامُهم متى ارتعوها، وتَرْوَى إبِلُهم متى أوردوها؛ إذْْ كانت حياتُهم من حياتها، بل وجودهم من وجودها.
وأمّا عمرو بن كلثوم فإنه يرقى بالماء إلى أنه أساس الوجود، وسرّ العزّة، وقوام السلطة؛ وأنه وقومَه كانوا لا يبالون، حين يطلبون الماء ويلتمسون الخصب، أن يقتلوا من يُلفونه في سبيلهم من أجله:
ونشرَبُ إِن ورَدْنا الماءً صفْواً ... ويشرَبُ غيرُنا كدَراً وطِيناً
إنّ هذا البيت يواري وراءه عالَماً معقّداً من الصراع الضاري من أجل الماء، في الحياة الجاهليّة، حيث كثيراً ما كانوا يتقاتلون على الماء، أو حول الماء، أو من أجل الماء. ويعني ذلك أنّ القبائل الخاملة، كانت ربما التمست من الماء أملحه، ورضَيتْ من العيون بأكدرها: فكان الماء العذب الزلال وَقْفَاً على القبائل العزيزة، والبطون الماجدة التي تقوى على البطش والصراع.
*****
إنّ الماء حين يذكر في المعلقات، إنَّما يذكر:
1. إمّا غيثاً هاتِناً تُخْصِبُ عليه الأرضُ، وينمو به النبت:
2. وإمّا شآبيبَ غزيرةً تقع منها السيول، وتسيل بها الأودية:
*من السيل والأغثاء فلكهُ مغزَلِ(امرؤ القيس)،(1/187)
*وألقى بصحراء الغبيط بَعَاعَهُ(نفسه)،
*كأنّ السباع فيه غرْقَى عِشيَّةً(نفسه)،
*وجلا السيولُ عن الطُّلولِ (لبيد)؛
3. وإمّا غُدْراناً يسبح فيها العذارى، وتَرْوَى منها الحيوانات:
*ولاسيما يوم بدارة جلجل(امرؤ القيس)،
*شرِبَتْ بماء الدُّحْرُضَيْنِ فأصبحَتْ ... زوراءَ تنفُرُ عن حِيَاضِ الدَّيْلَمِ(عنترة)،
عَلِهَتْ تَرَدَّدُ في نِهاءِ صُعَائِدٍ ... سَبْعاً تُؤَاماً كاملاً أَيَّامُها(لبيد)؛
4. وإمّا عيوناً ثرثارة يغتسل فيها الناس، ويستقون منها ما يشربون:
*فمدافِعُ الرَّيَّانِ(لبيد)،
*فتركن كلّ حديقة كالدرهم (عنترة)،
*فلمّا وردن الماء زرقا جِمَامُهُ ... وضَعْنَ عِصِيَّ الحاضِر المتوَسِّمِ(زهير)؛
5. وإمّا أنهاراً صغيرة، يكثر الخصب على ضفافها:
*فتوسّط عرض السرى(لبيد)،
*وأطفلَتْ بالجَلْهَتَيْنِ ظِباؤُها وَنَعَامُها(لبيد أيضاً)؛
6. وإمّا عُيوناً أو آباراً يشتدّ من حولها الصراع، فلا ينالها إلا الأعزّ، ولا يُبْعَدُ عنها إلاَّّ الأذلالّ:
*ونشرَبُ إِن ورَدْنا الماء صفوا ... ويشرب غيرُنا كَدراً وطينا(عمرو بن كلثوم)؛
7. وإمّا بحراً طامِياً، تمخر فيه الفُلْكُ:
*يَشُقُّ حَبابَ الماءِ حيزومُها بِها (طرفة)،
*وماءُ البحر نَمْلَؤُه سَفِينَا (عمرو بن كلثوم).
(
( إحالات وتعليقات:
1. يراجع الدكتور أنور أبو سليم، المطر في الشعر الجاهليّ، بيروت، 1987 .
2. الجاحظ، الحيوان، (مجازات متفرقة من هذا المصدر).
3. الثعالبي، فقه اللغة، وابن سيده، المخصصّ... الخ...
4. أنور أبو سليم، م. م. س.، ص 45 وما بعدها.
5. يراجع مثلاً: ياقوت الحموي، معجم البلدان، (عين).
6. ابن منظور، لسان العرب، حيا.
7. م. س.
8. الدكتور مصطفى ناصف، قراءة ثانية لشعرنا القديم، منشورات الجامعة الليبيّة، كليّة الآداب، ليبيا(بدون تاريخ)، ص126 وما بعدها. وانظر أيضاً، أنور أبا سليم، م. م. س.، ص48- 49.(1/188)
9. ابن قتيبة، كتاب العرب، ص372، في رسائل البلغاء، وابن منظور، م. م. س.، (حنف)
9م- ابن الكلبي، كتاب الأصنام، تحقيق أحمد زكي، مجازات متفرقة من هذا الكتاب.
10. ابن كثيرة، السيرة النبويّة، 1 . 62 . ابن الكلبي، م. م. س.، ص 6- 8.
11. م. س.
12. م. س.
13. ابن منظور، م. م. س، لمع.
14. م. س.
15. ديوان الأعشى، ص153. ويروى أيضاً: "أوشالها"، وهي اختيار ابن منظور، م. م. س.
16. "لمع الرجل بيديه: أشار بهما، وألمعت المرأة بسوارها وثوبها كذلك" (ابن منظور، م. م. س.، لمع). وانظر أيضاً شرح ديوان حماسة أبي تمّام، للمرزوقي، ص2. 631- 632، 743، والجاحظ، م. م. س.، 5. 521 .
17. السلع والعشر: ضرب من الشجر كان يوقد في مثل هذه المناسبة المعتقداتيّة.
18. الجاحظ، م. م. س، 4. 466. هذا، ويورد الجاحظ ثمانية أبيات لأميّة بن أبي الصّلت يتحدث فيها عن هذه الطقوس الاستمطارية: م. س.، 4. 466- 468.
19. ابن قتيبة، م. م. س.، ص. 361، وابن منظور، م. م. س.، حنف.
20. راجع أبا زيد القرشي، جمهرة أشعار العرب، 38- 39(بولاق)، وابن قتيبة، الشعر والشعراء، 1. 64 -66، مثلاً.
21. ياقوت الحموي، معجم الأدباء، 4. 140. ونصّ الحديث: "وذكر أبو جعفر أحمد بن محمّد النحاس أن حماداً هو الذي جمع السبع الطوال".
22. كتبنا مقالة عن جماليّة الحيّز، ومنها قسم ينصرف إلى الحيز المائيّ، ضمن هذا الكتاب، فلترجع.
23. ابن قتيبة، م. م. س.
24. القرشيّ م. م. س.
25. م. م. س.
26. ابن عبد ربه، العقد الفريد، 3. 71، والجاحظ، م. م. س، 1. 120- 123.
27. م. س، 5. 133- 134 .
28. ابن قتيبة، م. م. س.، 1. 63 .
29. الجاحظ، م. م. س.، 3- 127 و311 -312 .(1/189)
30. لقد وقع اضطراب شديد في رواية أبيات عنترة وترتيبها، والحذف منها: بين الزوزنيّ، والقرشيّ، والجاحظ الذي روى الصدر من البيت الثاني في هذا الشاهد كما أثبتناه؛ وكأنّ الضمير في"طيها" يعود على"الروضة الأنف" لديه. بينما رواية الزوزني:
جادت عليه كُلُّ بِكْرٍ حُرّة ... فتركن كلّ حديقة كالدرهم
... ... ولا ينبغي للضمير لديه أن يعود على شيء مذكَّر في البيت السابق، كما أن الشرح الذي كتبه حول هذا البيت ليس جيّداً حيث الاضطرابُ فيه بَادٍ. بينما رواية القرشيّ أعلى وأدنى إلى منطق الترتيب لهذه الأبيات: لولا ما ورد فيها من هذا البيت الذي لا يخفَى التكلُّفُ في دَسِّهِ، وخصوصاً ما جاء في صدره:
وبحاجب كالنون زُيِّنَ وجْهُها ... وبِنَاهِدٍ حَسَنٍ وكَشْحٍ أهْضَم
... ... فعلينا أن نكون سُذَّجاً غَفَلَةً لكي نصدّق أنّ الشاعر الجاهليّ كان يُشَبِه شكْلَ الحاجِبِ الأَزَجِّ بشكل حرف النون(وهو على كل حال تشبيه سيئ، لأنّ شكل النون مقوّس أكثر بكثير من شكل الحاجب الذي يشبه شكله شكل الهلال مثلاً... فالحاجب الذي يشبه شكل النون يجب أن يشبه شكل حاجب الشيطان، كما يجب أن يتمثّله الخيال...)، فهنا يستحيل عنترة من حامل للرمح والسيف، إلى حامل للقلم والقرطاس، وهو أمر غير ممكن. وإذن فالبيت منحول مدسوس، والذي نحله ليس ذكيّاً ولا مثقفا بالثقافة التاريخية...
... ... والذي يعنينا، هنا، أكثر هو أنّ معاد الضمير لدى القرشي، مطابق لما ورد في رواية الزوزنيّ، ولكنّ معاده واضح حيث يلتفت إلى رَبْعِ عبلة:
ولقد مررتُ بدار عَبْلَةَ بعدما ... لَعِبَ الربيعُ بِرَبْعِها المتوسِّم
... ... ويضاف إلى كلّ ذلك أن رواية الجاحظ "كلّ عين ثرّة"، ورواية الزوزني والقرشي: "كلّ بكر حرّة".
... ... ونحن كنّا نؤثر أن تكون رواية صدر بيت عنترة على هذا النحو:
... ... *جادَتْ عليها كُلُّ بِكْرٍ حُرَّةٍ*
... ... فلعلّ تلك الصياغة أدنى إلى أن تتلاءم مع ما سبقها من معان...(1/190)
31. الزوزني، شرح المعلّقات السبع، 140- 141؛ والجاحظ، م. م. س.، 3. 312؛ والقرشيّ، م. م. س.، ص 95.
32.الجاحظ، م. س.، 3. 127 .
33.م. س.، 3. 311 .
34.م. س.، 3. 331- 312.
35. ابن منظور، م. م. س.، ذبب.
36.م. س.
((
5. نظام النسج اللغوي في المعلقات
حين نتحدّث عن نظام النسج اللغويّ، قد لا نستطيع المروق من جلودنا، ولا الإفلات من قبضة طبيعة الأشياء. وإذن، سنقع، حتماً، تحت سلطان الأسلوبيّة. وحين نتحدّث عن الأسلوبيّة، فإننا لن نستطيع إخراجها، هي أيضاً، من إهابِها، ولا تغريبها عن وضعها الذي وُضِعَت فيه، وَقَدَرِها الذي قدّرت له، ومَنزِلَها الذي بُوِئَّتْ إيّاه. فإنما الأسلوبيّة تعني، أو قد تعني، في أشهر التعريفات: الإجراءَ الذي يضبط سطح النظام النسجيّ للكلام؛ إمّا في نص من النصوص، وإما في مجموعة من النصوص تشكّل أدباً بِرُمَّتِه، في عصر من العصور، وعبر لغة من اللغات.
وسينشأ عن هذا التمثّل الذي نتمثله نحن للأسلوبيّة على الأقلّ، بشيء من التجاوز والتسطيح، والتسامح والتعميم: أنّ الحديث عنها، أي عن نظام النسج اللغويّ في نصوص المعلّقات؛ أننا لا نخرج عن ملاحظة الاسْمِ والفعل، وعلاقة أحدهما بالآخر، وتوظيف بعضهما بإزاء بعض- نسجيّاً(أسلوبياً) لا نحوياً- ثم عن ملاحقة النداء والاستفهام والقَسَمْ والتشبيه، ثم نُحاول التوقف لدى ما نتوخّى أنه يمثّل نسج النصّ-أو نسج النصوص- ويجسّد روحه جميعاً.(1/191)
فكأننا، إذن، نقع من كثير من الوجوه، أو من بعضها حتماً، في فخّ المفاهيم البلاغّية. ونحن لا نأنف من أن نكون بلاغييّن على الطريقة الحداثيّة، إذ كانت الحداثة لدينا لا تنهض على إلغاء التراث بَجذاميرِه، ولا الزُّهْد فيه بحَذافيره؛ ولكنها تلقيحُ التراث بالحداثة، وتوظيفُ الحداثة للتراث؛ والنظر إلى التراث برؤية متحررة متطوّرة، وبأدوات إجرائيّة جديدة تكون لها القدرة على فكّ اللغز، وتعربة المغشَّى، ونبْش المغَطَّى... فليست البلاغة عِلْماً مُفْلِساً؛ ولكن الذي أفلس البلاغة هم الذين لم يبرحوا يضيّقون من حولها الخِناق، ويُوغِلون في التطبيقات الباردة، ويُصِرّون على تجزئة الظاهرة الأسلوبيّة وقصْرِها على تشبيه واحد مقطوع عن أصله....
بتمثّلّنا الخاص نتعامل مع بعض هذه الأدوات البلاغية القديمة للإفادة منها في فهم الظاهرة الأسلوبيّة لنصوص المعلقّات، وليس بتمثّل بعض الأقدمين الذين كان قصاراهم التوقّفَ لدى أحسن تشبيه؛ وأجمل استعارة، وألطف كناية، خارج إطار النصّ العامّ، وبدون ربط هذا بذاك، ولا ذاك بهذا، ولا استنتاج شيء من هذا بالقياس إلى ذاك: إلاّ ما كان من الانطباع البارد الذي ينشأ عن الإعجاب غير المبرّر: أي باقتلاع جملة من أصلها، واجتثاثها من أَوَاِخِّيها؛ فإذا هي ناشزة شاحبة، وحائرة وخائبة، وسادرة باردة...
إننّا إذْ نحلّل أطرافاً من النصّ المعلّقاتيّ، في منظور مستوى النسج اللغويّ، لِنكررْ ذلك؛ فإنما لكي نراعِي هذه الأدوات البلاغية في إطار النصّ العامّ؛ لا في جزئيّاته التي تمزّق النصّ، وتؤذي نظامه، وتشوّه سطحه، فتجعلهُ رُقَعَاً خَلْقَاءَ، وأحلاساً بالية.
وسنرى أنّ ارتفاقنا، ببعض الأدوات البلاغيّة، في طَرفٍ من هذه المقالة، يندرج، بوعي منهجّي، ضمن الرؤية الحداثيّة لهذا العلم التراثيّ.(1/192)
وقد اضطُرِرْنا، ضمن إطار منهجنا المستوياتيّ، إلى عقد هذه المقالة التي تتحدّث، هنا، عن نظام النسج اللغوي لسطح النص الشعريّ المعلقّاتيّ؛ لأننا لا نرى كيف يمكن، من منظورنا نحن على الأقل، فهم الظاهرة الأسلوبيّة المُتبنَّاة في نسج شعر المعلَّقات بدون المَعاجِ على بعض أدوات البلاغة نستأنس بها، ونتعامل معها؟..
وسنحاول، أثناء كلّ ذلك، تعويم بعض هذه الأدوات في طرائق القراءة الجديدة التي تَتَجالَفُ ، بتلك البلاغيات، نحو تأويليّة القراءة، وسيماءَوِيّةِ التحليل.
وسنجتزئ بالتوقف، فيما يرتدّ إلى التشبيه خصوصاً، لدى معلقتي امرئِ القيس وطرفة؛ وذلك على أساس أنّ معلقّتيهما أوفر المعلّقات حظّاً من التشبيه(أحصيْنا واحِداً وثلاثين تشبيهاً في معلّقّة امرئ القيس، وتسعة وثلاثين في معلّقة طرفة: كما وردتا لدى الزوزني). كما سنركّز على تحليل تشبيهات امرئ القيس خصوصاً لِمَا سنعلّل به هذا الصنيع بعد قليل. من حيث سيكون توقُّفُنا لدى تشبيهات طرفة أقصر نفَساً، وأعجل مَرّاً. أمّا توقّفنا لدى معلّقات الآخرين فسيكون مجرّد عرْضٍ لموضوعات التشبيهات المستعمَلة، وعددها، لقلّة أهميّتها لدى أولئك المعلّقّاتيين الذين يبدو أنهم لم يركّزوا عليها في نسج اللغة الشعرية عبر معلقّاتهم، على نقيض امرئ القيس وطرفة...
بينما سنجتزئ، مضطرين، بالتوقف لدى معلقاتيين اثنين فحسب، وهما لبيد وعمرو بن كلثوم، وذلك فيما ينصرف إلى ما أطلقنا عليه"عذرية اللغة، ووحشيّة النسْج".
أولاً: المعلقات: عذرية اللغة، ووحشية النسج(1/193)
وعلى أننا لا نريد بمصطلح الوحشيّة إلى دلالة تهجينيّة، كما يتبادر إِلى الأذهان؛ ولكننا أردنا به إلى دلالة تحسينيّة. وإن لم يُعْجِبْ مُعْجِباً هذا الإطلاق فذلك لا ينبغي أن يصرِفَه عن المعنى الذي أردنا إليه من وراء اصطناع مصطلح الوحشيّة التي رمَيْنا بها إلى معنى الطبيعة الأولى، إلى السليقة العذراء، إلى معنى أيّ شيء في حالِ كينونَتِه، ومخاضِ صيرورتِه، وهو يلامس التوهّج والعنفوان فهذا التوحّش اللغوي، في شعر المعلّقات، هو كالماء حين ينبع من النَّبْع، وكالصوت حين يصدر من الطبع، وكالصدى حين ينبعث من أصل الصوت فيصاديه، ولا يعاديه...
والحقّ أننا حين نريد أن نعالج هذه المسألة نودّ أن ننبّه إلى أهمّيتها وخطورتها؛ إذ بدون مُدارَسَةِ المادّة الشعريّة، أو المادة الخام-بتعبير اللغة العصريّة- للشعر الجاهليّ لا يمكن اهتداءُ السبيلِ إلى خصائص النسج فيه؛ وأنظمة الأسلوب عَبْرَهُ. ذلك بأنّ النقاد القدامى، ولقرب عهدهم من زمن الجاهليّة، ثمّ لانعدام الأدوات الإجرائيّة للقراءة لديهم التي نمتلكها نحن اليوم، كانت هِمَمُهم تقف بهم لدى شرح الغرائب من الألفاظ، والغوامض من المعاني، ممزَّعَةً موزّعة... ولم يدُرْ بخَلَدِهم، قطّ، أن يتناولوا لغة المعلقات في تجلياتها الإفرادية والتركيبيّة معاً، وفي مظاهرها النسجية والجمالية جميعاً.
بيد أنّنا لا نودّ أن ندَّعِيَ ما ليس من الحقَّ لنا أن ندَّعِيَه؛ فَنْزُعمَ للناس أنّنا سنتناول هذه المسألة بالتحليل الدقيق، والدرس العميق، وبالمتابعة الشاملة الكاملة: فذلك ما لا يطمع في إدراكه العقلاء؛ ذلك بأنّ هذا الوجه من التحليل يُفضْي إلى آفاق شاسعة، وأَفْضِيَةٍ واسعة، ليس يستطيع اجتيابَها إلاّ الأديبُ المُخِفُّ، الذي نحن لَسْنَاهُ.(1/194)
وما تَكَأَّدَنَا شيءٌ في هذه الكتابات، عن المعلّقات، ما تَكَأَّدَنَا من هذا الأمر الذي نُثيره، هنا في هذه المقالة، لأنه استهوانا، حتى أغوانا؛ فأَضْنانا... ذلك بأنّنا، لدى الإِقبال على إنجازه، بذات خُطُوَاتُ العِلْم تتعثّر، وأخذ الفكرُ يَكِلٌ، وأنشأ الخيال يحسر، وسُقِطَ في يَدِنَا، مع الإصرار على الإِقدام على التناول والمعالجة...
ونقول للباحثين البارعين، والدارسين اللامعين، والذين قد تستهويهم هذه المسألة فيشرئّبن إلى أن يُبدعوا فيها ويُجَوِّدُوا في كتابتها-وَكَأَنَّا بِهْمْ قَدِ!-: سنكتب ما نكتب هنا لمجرّد إثارة الانتباه إلى هذه المسألة اللطيفة دون الاِلتزام بالذَّهاب فيها إلى غاية المذهب الذي كنا نودّ الذهاب فيه، أو إليه؛ ونُضْطَرِبُ في مُعالجتها المُضطرَبَ الذي كنّا نتطلّع إلى اجتيابه...
فذلك، ذلك.
1. اللغة الإفرادية:
إنّ أيَّ بناء من النسج اللغويّ ينهض على اصطناع العناصر الأولى في هذا البناء، وهي اللغة.
فاللغة في أيّ نسج أدبيّ، كما نتمثّلها، إنما هي بمثابة الألوان الزيتيّة المصطنَعة في النسج الرسميّ. فكما أنّ الرسّام لا يستطيع أن يُنجز لوحة زيتيَّةَ إلاَّ بواسطة الألوان، والمواد الزيتيّة، فكذلك الشاعر لا يستطيع إنجازَ قصيدةٍ إلا بواسطة الألفاظ اللغوية التي تمثّل، في نسج الشعر، عناصِرَ البناء.
وإنّ أيَّ بناءٍ باللغة، عَبْرَ النسج الأسلوبيّ، ينشأ عنه، بالضرورة؛ معرِفَةُ طبيعةِ السِّماتِ التي تتسّم بها عناصر اللغة في ذلك النسج. فاللغة بناءٌ، والبناء لغة. والسمة لفظ لغويّ، واللفظ اللغوي سمة.
وتلك العناصر الصوتيّة التي تتبادل المواقع التركيبيّة، داخل لغة ما، هي التي تمثّل النظام اللغويّ للكلام؛ لتلك اللغة التي يغتدى اللعب بها شكلاً أدبيّاً يبهر ويسحر.(1/195)
وعلى الرغم من أنّ اللغة الجاهلية، كما وصلتنا عن طريق ما صحّت روايته(وما صحّت روايته لا يعني، توكيداً ويقيناً، أنه صحيح، وأنه هو حقّاً كما قاله أًصحابُه حرفيّا، وَنَسَجَه شعراؤُه لفظِيّاً، لأسباب كثيرة منها أنّ الرواية الشفويّة معرّضة لأَنْ يقَعَ فيها التغييرُ والتبديل؛ لا سيما إذا علمنا أن الشعر الجاهليّ استقرّت نصوصه بعد أكثر من قرنين من ميلاده المفترَضِ على الأقلّ: عَرَفَ العربُ أثناءهما أحداثاً مَهُولَةً، وانقلاباتٍ عقليَّةً وروحيّةً وسياسّية جذريّة، وأنّ كثيراً من الرواة عَبثوا بنصوص الشعر الجاهليّ، ومنهم حمّاد الراوية، وعاثُوا: لأسباب ذَكَرها النقاد القدماء، وقد عَرَضْنا لها نحن بالتفصيل والتحليل في غير هذه المقالة...): هي الأساس الذي قام عليه التركيب اللغويّ في العصور اللاحقة بدون تغيير يذكر، بفضل نصّ القرآن العظيم دينيّاً، ثم بفضل النصوص الشعريّة والنثريّة، العربيّة القديمة الجميلة التي ربطت الأحفادَ بالأجدادِ رَبْطاً عاطفيّاً وجماليّاً فظلّوا يحِنُّون إلى تلك العهود الغابرة، والحقب الدارسة: حنيناً عارماً؛ فظلّوا يتمثّلونها في أنفسهم، ويتصوّرونها في ضمائرهم، فَيَنْعَمونَ بما يتمثّلون، ويتمتّعون بما يتصوّرون: فإنّ اللغة الجاهليّة، كما وصلتنا من خلال النصوص الشعريّة الجاهلية بعامّة، ومن خلال نصوص المعلّقات بخاصة؛ يجب أن تظلّ ذات خصوصيّة دلاليّة وتركيبيّة جميعاً. كما يجب أن تظلّ، بعد لغة القرآن ونظمه، مرجعيّة عالِيَة لنماذج الكتابة، وطرائق النسج الأسلوبي في اللغة العربيّة.
ونحن لا نقبل بأن نذهب إلى عَدِّ هذه اللغة غريبةً لمجرد أنها غريبة علينا نحن؛ فالغريب حقاً هو ما كان غريباً في زمانه، وبين أهله وقُطَّانِه، والحال أنّ تلك الألفاظ، أو تلك العربيّة العُذْرية، كانت مفهومة فهمْاً عامّاً لدى أهل الجاهليّة وصدرٍ طويلٍ من الإِسلام، وخصوصاً لدى الرواة والنقاد.(1/196)
ثمّ ذهب العهد بأهلها، فبدأت تغترب قليلاً قليلاً إلى أن اغتدى في العربيّة لغتان اثنتان: لغةٌ قديمة، وهي على جمالها وجزالتها، يكاد المعاصرون من أوساط الثقافة لايفهمون منها شيئاً ذا بال؛ ولغةٌ حديثة رَوَّجَتْ لها الصحافَةُ السيّارة، والصحافة الطيّارة، والصحافة الثَّيَّارة، فاغتدَتْ هي اللغةَ الشائعةَ الذائعة بين عامة هؤلاء الناس.
وإذا كانت اللغة القديمة رَوَّجَ لاستقرارها وانتشارها، في الجزيرة، المواسِمُ والأسواق ثم القرآنُ الكريم، والحديث النبويّ الشريف، ثمّ نصوص الخُطَب، والأشعار، والرسائل، والأحاديث، والأقوال المأثورة، والحكم السائرة... فإنّ اللغة الحديثة رَوَّجَ لها ما يعرف اليوم في اللغة المعاصرة تحت مصطلح"وسائِلُ الإعلام"، أو"وسائلُ الاتصال". ويضاف إليها الكتابات الأدبيّة على اختلافها من شعر ورواية وقصة ومسرحيّة ومحاورات سينمائيّة...
والذي يتأمّل لغة المعلّقات يصادف عدداً ضخماً من ألفاظها لم يَعُدْ مستعَملاً بيننا لأنّ المعاني التي قيل فيها لم نعد محتاجين إِليها على عَهْدِنا هذا. وقد لاحظنا أنّ كثيراً من هذه الألفاظِ التي يمكن أن نصِفَها الآنَ بأنها ميتة، أو مُمَاتَة، أو على الأقلّ مجمّدة الاستعمال، كانت نُطْلَقُ على الناقة، وعلى الأماكن، وعلى جملة من المرتفقات الحضاريّة، والمعاني الوثيّة، أو المعاني الأثنولوجيّة، والأثنوغرافيّة، المرتبطة بطقوس فولكلوريّة بادَتْ، أو بادَ كثيرُ منها على الأقلّ. بإِشراق الإِسلام بنوره الوهّاج على ربوع الأرض.
وكثيراً ما نصطنع اليوم تلك الألفاظ، أو بعض تلك الألفاظ، ولكن بمعان لاعهد لأهل الجاهليّة، ولا لِمَنْ بعْدَهم في الزمن قليلاً، بها: مثل"البليّة" التي كانت تطلق على الناقة التي تُشَدُّ على قبر صاحبها حتى تَهْلَكَ من حوله جوعاً وظَمَأ. فقد رأينا، إذن، أن معنى البليّة الأوّل، والذي ورد في معلّقة لبيد:(1/197)
تَأْوي إلى اْلأَطْنابِ كلُّ رَذِيَّةٍ ... مِثْلِ البَلِيَّةِ قَالِصٍ أَهْدامُها
مات بموت تلك العادة المعتقداتيّة التي لا يمكن فَهْمُها إلاّ بتعويمها في الرؤية الأنتروبولوجية، ولكنّ لفظها ظلّ مستعمَلاً في معنىً آخرَ؛ وهو المعنى الشائع الاستعمال في اللغة المعاصرة، حين ينطق، أو حين يكتب.
ولا يقال إلاّ بعضُ ذلك في لفظ "الحقيقة" التي كانت تستعمل، في اللغة الجاهليّة، استعمالاً واسعاً بمعنى ما يَحِقُّ عليك حِفْظُه، فكانت"حقيقة الرجل: ما يَلْزَمُهُ حِفْظَهُ وَمَنعُه، ويحق، عليه الدفاعُ عنه من أهل بيته" (1). وكانت العرب كثيراً ما تردّد، حول هذا المعنى، وحين يريدون إلى مدح بمكارم الأخلاق، ومآثر الأفعال: "فلانٌ يَسوق الوسيقَة، وينسل الوديقَة، وَيَحمِيْ الحقيقة"(2).
وقد ورد لفظ الحقيقة في معلّقة عنترة بهذا المعنى:
ومِشَكِّ سابغةٍ هتكْتُ فُرُجَها ... بالسيف عن حامي الحقيقة مُعْلَمِ
فالحقيقة إذن لدى قدماء العرب كانت تعني ما يجب، أو ما يحق، عليك حمايتُه؛ أو ما هو حقّ لك من الأشياء والممتلكات، ثمّ تنوسي هذا المعنى القديم، لهذا اللفظ الجميل، بضعف الحميّة الجاهليّة التي لم يبرح الإسلام يحاربها، واغتدى موقوفاً على معنى الشيء اليقينيّ في التصورّ لدى الفلاسفة، ولدى أهل التصوّف أيضاً.
ومثل لفظ"الضريبة" الذي اغتدى اليوم يطلق في لغة أصحاب الضرائب والجبايات، والذين يتابعون الناس في أرزاقهم يقتطعون منها، على مقدار معلوم يقتطع من مرتّب الموظف، أو يفرض على التاجر ورجل الأعمال، وكلّ ذي دَخْل(وبالمناسبة فإنّ لفظ"الدّخل" كان يطلق، في العربيّة القديمة، على ما يناقض المظهر الخارجيّ للمرء، وقد خلّدت هذا المعنى تلك الفتاة العربيّة التي أجابت أباها لمّا سألها عن أمر فتيان إخْوَةٍ جاؤوا جميعاً يختطبونها، فلمّا حارت في أمر اختيار أحَدِهِمْ قالت:(1/198)
"ترى الرجالَ كالنَّحْل، وما يُدْرِكَ ما الدَّخْل؟": بينما أصبح لفظ"الدخل" يطلق في لغة التّجار ورجال الأعمال، وعلماء الاقتصاد، على الرزق الذي يقع للموظف، أو المواطن، أو الربح الذي يقع للتاجر...)؛ في حين أنه كان يطلق على الشيء الذي يُضْرَبُ بالسيف، والشخص الذليل الذي كان يُضْرَبُ بالسيف، فلا يَضْرِبُ هو: "المُضَّرب". وقد جاء هذا اللفظ بهذا المعنى، في معلّقة الحارث بن حلزّة:
ليس منّا المُضَرَّبونَ ولا قيـ ... ـسٌ، ولا جَنْدَلٌ، ولا الحَذَّاء
ولعلّ الذي أبعد العربيَّة القديمةَ على ما يجري به الاستعمال المعاصر، الشائع، ثلاثةُ أمورٍ: أولهما: موت المعاني التي استُعْمِلَتْ فيها العربيّة القديمة، مثل العتيرة، والحقيقة، والمُضَرَّب، وكثير من تلك المعاني كان مندرجاً في طقوس وثنيّة بادَتْ.
وثانيها: شيوع الأميّة اللغويّة، وغلَبَة الكسل، وانعدام حبّ المعرفة، لدى كثير من الناس.
ولم تبق هذه الأميّة اللغويّة مقصورةً على عامة الناس فحسب، ولكنها جاوزتهم إلى الكتاب والشعراء أنفسهم؛ فإذا هم لا يكادون يستعملون إلاّ ألفاظاً بسيطة قليلة في كتابات كثيرة: فغاب الدور الجماليّ للّغة، في أعمال أدبيّة يفترض أنّ الوجود اللغويّ فيها هو الذي يمنحها الشرعيّة، ويشرئّب بها نحو الخلود.(1/199)
ولقد نشاهد كلّ يوم في الفضائيات الأجنبيّة الساقطة علينا من أَجْوَاءِ أوربا أنّ هناك برامَج ثقافيَّةً وترفيهيّة كثيرة تقدّم إلى الناس باللغة، وعن اللغة... بينما الذين يشرفون على البرامج المبثوثة عبر الأثير، في معظم بلدان الوطن العربيّ، لا يملكون أن يقدّموا مثل تلك البرامج الثقافيّة اللغويّة الجميلة؛ لأنّ الصحفيّ العربيّ في أوّل درس يتلقّاه في مدرسة الصحافة، يقال له: اللغة للمختصّين، وللذين يدرّسون اللغة العربيّة في المدارس والجامعات... أمّا أنت فعليك بالكتابة، وبكتابة لا تكلّف نفسَها معرفة أكثر من ثلاثة آلاف لفظة!... والله المستعان!...
وآخرها: طفوحُ معانٍ جديدة، بحكم التطوّر الحضاريّ المذهل، ثم بحكم التطور الطبيعيّ للمجتمعات والأشخاص بحيث أنّ إنشاء ألفاظ جديدة كثيراً يكون شؤماً مشؤوما على حياة ألفاظ قديمة فتموت، أو تُمَاتُ، وتُنْسَى، أو تُتَنَاسَى... وهذا قانون ينطبق، في الحقيقة(بالمعنى الحديث)، على جميع اللغات الإنسانية التي تَطَوُّرُها واتّسِاعُها وتَبَحُّرُها لا يحَدْثُ في كلّ الأطوار، دون أن يَضِيرَ ما قَدُمَ من الألفاظ، وما غَبَرَ من المعاني. من أجل ذلك، ارتأينا أن نطلق على لغة المعلّقات، في بعض استعمالاتها على الأقلّ. صفة التوحّش، لا صفة الغرابة؛ وصفة العذريّة، لا صفة البَداوة.(1/200)
ولمَّا كان الأصلُ في كلّ تركيب لغويّ، هو اللغةَ نفْسَها في لَعِبِها بنفسها؛ ولمَّا كانت هذه اللغة هي المادّةَ الأولى التي يتشكّل منها التركيب، ويتركَّب منها النسج، ولمّا كانت هذه اللغة التي قيل عبرها الشعر الجاهلي وحشيَّةً، غجريّة: كأنّها نبْعُ الماء حين يتبجّس، أو شذَى الوردِ حين يعبق، أو خضرةُ النبْتَة حين تَدْهَامُّ، أو زَرْقَةُ السماء حين تصفو، أو إِشراقة الشمس حين تتوهَّج، أو نور القمر حين يتلألأ: سمحةً كعطاء الطبيعة، وكريمةً كقَطْرِ الغيث، وعبِقَةً كنفَس الفجر، ودافئةً كَلَبَنِ الثدي، كان التركيب اللغويّ الذي هو أثر من آثار عطائها، وشكل من ثمرات تشكّلها: غجريّاً مثلها.
خذ لذلك مثلاً قول لبيد:
*في لَيْلَةٍ كَفَرَ النجومَ غَمَامُها*
فإننا نلاحظ فيه:
1. فعلى المستوى النحويّ تقديمُ المفعول على الفاعل، على غير المألوف من التركيب، بحيث يمكن للقارئ، أو المتلقيّ، أن يقع في غَلَط إذا تسرّع في قراءته فيرفع المفعول، وينصب الفاعل، قبل أن يَنْبَه إلى وجه الكلام، ويهتدي السبيلَ إلى صواب الإعراب.
2. وعلى المستوى النحويّ أيضاً-لأنّ النحو ليس إِقامة الإعراب فحسب، ولكنه إقامة المعنى أيضاً- نلاحظ أنّ لفظ "غمامها"، هنا، مُشْكِلٌ بحيث يمكن أن تعود الهاء منه إِمّا على"ليلة"، وإِما على"النجوم": دون أن يمتنع إمكانُ توجيهِ إعرابِ على إعرابِ، وتخريج على تخريج.
3. وعلى المستوى الدلاليّ فإنّ اصطناع لفظ "كَفَرَ" الشائع في اللغة العربيّة، منذ ظهور الإسلام، بمعنى الشرك بالله، أو الشكّ في وجوده، أو القطْع بعدم وجوده: يوهم القارئَ العاديّ فيتسرّع وَهْمُهُ إلى المعنى الإسلاميّ، لا إلى المعنى الوصفِيّ لهذا اللفظ الذي كان معناه في أصل الوضع للسَّتْرِ والإِخفاء والمُواراة.(1/201)
4. نلاحظ أنّ إضافة الهاء المُشْبَعَة بالسكون المفتوح الممدود، إلى الميم من لفظ (أو "ضَرْب"، كما يصطلح العَروضيّون): "غَمَامُها" ينهض بوظيفة إِيقاعيّة وجماليّة عجيبة؛ فلو أُورِدَ هذا المصراعُ على التركيب البسيط، فقيل:
*في ليلةٍ كَفَرَ فيها الغَمَامُ النجومَ
لخرج عن كلّ انزياح؛ ولَمَزَق من دائرة الخرْق النسجي، والتوتُّر اللغويّ؛ وإذن، لَمَا كان له مثل هذا الوقع الجميل، وهذا التنغيم البديع.
كما أنه لو أُوِرَد على طريقةِ النسج في هذه القصيدة، ولكنْ بتقديم وتأخير المفعول، وقيل:
*في ليلةٍ كفَرَ الغَمَامُ نُجومَها
لفسد الإيقاع، ولخرج من صوت الضمّ إلى صوت الفتح؛ وإذن لانْكَسَرَ الصوت؛ وإذن لحدث اضطراب مُريع في مسار الإيقاع الشعريّ الأخير لهذه القصيدة الوحشيّةِ الخارقةِ الجمال.
ويبدو أنّ نسج هذه القصيدة يُعَدُّ أُمَّ النسوج الشعريَّة التي قيلت على شاكلتها، على نحو أو على آخر، ابتداءً من الفرزدق إلى أبي الطيب المتنبي:
وفاؤُكما كالربْع أَشجاه طاسِمُهْ ... بِأَنْ تُسْعِدَا والدَّمْعُ أشقاه ساجِمُه(3)
إلى أبي الحسن الحُصْرِيّ في داليته البديعة (وهي الداليّة التي تناصّ معها كثيراً من الشعراء منهم نجم الدين القمراوي، وناصح الدين الأزّجانيّ، وأحمد شوقي...)(4) فنسج على غرار قصيدة لبيد، مع وجود الفارق، ولكن مع استلهام روح الإيقاع، متناصّاً معه:
يا ليلُ الصَّبُّ مَتى غَدُهُ ... أقيامُ الساعة مَوْعِدُهُ؟
ولعلّ من الواضح أنّ إعادة الضمير على سابق في هذا الإيقاع، واجْتِعَاَلَ هذه الهاءِ عنصراً إيقاعيّاً، إضافيّاً، بجانب ما قبله: يفجّر اللغة بما فيها من الطاقات النغميّة، والعطاءات الصوتيّة؛ فيغتدى النسج كأنّه منظومة من الأنغام المتتالية المتصاقبة التي تخرج ألفاظ اللغة من مجرّد سمات صوتيّة فيزيائية دالة على مدلول، إلى سمات جماليّة تستحيل بالوظيفة اللغويّة من الذهن إلى السمع، ومن المدلول إلى الدالّ...(1/202)
وممّا يمكن أن يندرج ضمن ما نطلق عليه التركيب الوحشيّ للغة العربيّة، قول لبيد أيضاً:
*قَسَمَ الخلائِقَ بيننا عَلاَّمُها*
فهذا التركيب بعيدٌ عن النسْج المألوف للغة العربية وأسلوبِها"الأَرْطودُوْكْسِي" بين الناس؛ وَفَهْمُ معناه لا يتأتَّى إلا باستعمال الذكاء، والاندماج في روح النّصّ حيث تصادفنا جملة من الانزياحات النسجّية منها:
1- تقديم المفعول على الفاعل، هنا أيضاً، كما كنّا لاحظْنا ذلك لدى تحليل المصراع الشعريّ السابق، وهو قوله:
*في ليلة كَفَرَ النجومَ غَمامُها*
... ... ... وإن كان المفعول هنا، على موقعه المتقدّم، يبدو أكثر اطمئناناً في النسج، وأشدّ استقراراً في التركيب، وذلك على أساس أنّ القارئ العربيّ الذكِيَّ يُدرك، لأوّل وهلة، أن الذي يَقْسِمُ الأرزاقَ بين الناس لا يكون إلاّ علاَّمَ الغيوب؛ فهو الفاعل الأعظم، والمقِّدَّر الأكرم.
2- إن الضمير الوارد، هنا، في هذا المصراع الشعري اللَّبِيديّ، جَاءَ لِمُجَرَّدِ إِشباعِ الإيقاعْ بصوت إضافيّ، بعد الميم التي كأنَّها، لو أُبْقِيَ على ضَمِّها غير الممدود لكان في ذلك قمْعٌ للنفَس، وقهر لاندفاع الصوت، وغَفْص لمخْرَجِه، وَكَبْت لمنتهاه: أعِيدَ على الخلائق، ولكن بتغليب الكائنات غير العاقلة على العاقلة، وكأنّ الحياة كانت لا تبرح في تلك اللحظة الشعريّة العذريّة، تمثّل النشأة الأولى للإنسانيّة. وكأنه لم يكن هناك أي فرْقٍ بين ما لا يعقل، وبين من يعقل، ولذلك وقع التغليب. وعلى أننا نعلم، من الوجهة النحويّة الخالصة، أنه يجوز إعادة الضمير على جمع التكسير على هذا النحو دون حرج. ولكننا أردنا إلى تأويل هذا الضمير سيماءَوِياً، لا نحويّاً.(1/203)
3- إنّ التركيب في هذا المصراع لا يستقيم، كما يجب أن يلاحظ ذلك كل مُتَلقٍ من الناس، وأنه مكثّف إلى درجة أن المتلقّي هو الذي عليه تأويلُ الصياغة، وتخريجُ المعنى، وتركيب النسج على الوجه المألوف، إن شاء أن يَفْهَم. وهو ببعض ذلك كأّنّه شعر حديث جداً، لأنّ الباثّّ، هنا، يرسم نصف صورة، ويترك للمتلقّي تكملةَ رسْمِ النصف الآخر من هذه الصورة.
ويغتدي المفعول، حين يُعْمِلُ المتلقي ذهنه، منصوباً على المُغَالَطَةِ (ونحن نتجرَّأُ على النحاة باقتراح هذا المصطلح الذي فرضتْه إجراءات هذه القراءة)، وهو هنا نائب لمفعول غائب اقتضاه التكثيف الشعري: يتمثل في لفظ"الرزق". وعلى بعض ذلك يغتدي تقدير نسج هذا المصراع العجيب:
* قَسَم العلاَّمُ الرِزقَ بين الخلائق.
فكأنّ التكثيف اقتضى تغييُبُ لفظ "الرزق"، المفهوم لدى المتلقّي الذكيّ، وتعويضه بمَنْ ينتفعون به وهم الخلائق: من الوِجْهة الدلاليّة، كما اقتضى حذف لفظ "الرزق" واتخاذ "الخلائق" نائباً له، للدّلالة عليه من الوجهة النحويّة. أمّا الهاء التي أُشْبِعَ بها صوتُ الميم من اللفظ الأخير في المصراع (الضرب)؛ فقد جاء، كما أَسْلفْنا الْقَالَ، لينهض بوظيفة جماليّة أساساً؛ ولكن لا يمتنع من أن ينهض بوظيفة إضافيّة تتجسّد في تعميق الدلالة، وتوكيد المعنى.
ولو جئنا نقرأ مثلاً هذا البيت لعمرو بن كلثوم:
ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أَدْمَاءَ بِكْرٍ ... هِجَانِ اللَّونِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينَا
لتأكّد لنا ما كنّا زعمناه في شيء ممّا كنّا قرأناه من بعض شعرِ لبيدٍ، ولاٌ ستبانَ لنا أنّ هذا النسِج حوشيّ غجَريّ في معناه، وفي تركيبه:(1/204)
1. فأَيْمْا في معناه فإنه يُشّبِهُ ذراعَيِ المرأةِ بذراعَي الناقة؛ وهي صورة في منتهى السوء، وانحطاط الذوق البدويّ، وقصوره عن إدراك جمال الحياة، وجمال الأشياء. ولعلّ الذي حمله على ذلك هو حرصه على إقناع المتلقّي بضخامة هذه المرأة: طولِ قامةٍ، وضخامَةِ جسدٍ. وإذِ اغتدتْ ذراعاً هذه المرأة العجيبة ذراعَيْ عيْطلٍ من النُّوق؛ فقد وُصِفَتْ بأنَّها كومُةُ من اللُّحْمانِ، وكثيبٌ من الأعصاب: فهي فارعة طويلة، وضخْمة بدينةٌ؛ فكأنّها مجموعة من النساء مجسّدة في امرأة، وطائفة من الأجساد مطويّة في واحد، وعلى الرجل الذي يريدها كلّها، أو يريد شيئاً منها: أن يكون، على الأقلّ، في مستوى طولها وعَرْضها، وبَدانتها وضَخامتها... وهذه أوصاف كلّها عيوب، ونعوت كلّها منفِرّات من المرأة، لا مرِغبات فيها.
... ... ... وبياض هذه المرأة مثْلُ أَمْرِ ذراعيْها. فكما أنّ ذراعيها تشبهان ذراعي الناقة في الضخامة والبضاضة، فإنّ لونها، أيضاً، يشبه بياضُه بياضَ الناقةِ الأَدْمَاءِ. وتذوب هذه المرأة في هذا الحيوان، في هذه الناقة، أو البقرة الوحشيّة، لتتّخذ لها وصْفاً آخَرَ منهما؛ فكأنّ خيال الناصّ كان من القصور والحرمان بحيث لم يستطع قطّ مجاوزة صورة تلك الناقة التي كان يشاهدها ويركَبُها، فصوَّرَ فيها صاحَبَتَه، وجعلها امتداداً منها، أو امتداداً لها.
ولمّا جاء الناصّ يصف هذه المرأة، أو قل جاء ليؤكّد الوصف، بياض اللون، اصطنع لفظ "الِهجان"، وهو لفظ لا يكاد يطلق إلاّّ على البيضِ من النُّوق، وإِلاَّ على البِيضِ من العقيلات. وأنهى الصورة التي أراد من ذكرها تجميلَ صاحبتِه وتقديمها للمتلقّين في صورة من الحُسْن والجمال، بِجَعْلِ هذه المرأة ناقةً لمَّا تَقْرَأَ: أي لمَّا تَحْمِلْ. فهاتان الذَّراعان السمينتان، الغضّتان البضّتان، كأنهما ذراعا ناقة فتيّة ضخمة الجسم، طويلة العنق؛ لَمَّا تتجشّم الحمل...(1/205)
... ... ... وقد رأينا أنّ جمال هذه المرأة المسكينة انقلب من سحر الأنوثة، وفتنتها، ولطافتها، ورشاقتها؛ إلى مجرد كثيبٍ من اللّحمان المترهّلة، وقامة غليظة عملاقة تشبه هيئة النخلة المتهاوِيَة.
2. وَأيَمْا في تركيبه فإِنه تغْلُبُ عليه هذه الأوصاف التي هي، أصلا، للناقة، ثمّ استعيرت لهذه المرأة: فإذا العيطل، والأدماء، والبكر، وهجان اللون، وَعَدَم القَرْءِ.
ولو جاء معاصر يقرؤها لأَلْفاها ألفاظاً مسلوكةً في اللغة الغجريّة المنصرفة إلى هذا الحيوان الذي كان يلازم العرب ويلازمونه، وهو الناقة. فعلى ما يبدو في هذا النسج من أُلْفَةِ التركيب العربيّ، فإنّ المادة اللغويّة المنسوجَ منها تَجْعَلُهِ في مُجْتَعَلِ التوحُّش، وتعود به إليها. إذ الكلام واردٌ في معارِضَ حَوَالَ المرأةِ في معناه، وحوْل الناقِة في لفظه؛ فإذا صورة المعنى تطفو على صورة النسج، وإذ الدالُّ حيوان، وإذا المدلول إنسان.(1/206)
أو قل إنه لا يمكن فَهْمُ هذا البيتِ فهْماً صحيحاً إلاّ بتعويمه في الأنتروبولوجيا والسيمائيّة معاً. فهو من الوِجهة الأولى يضطرب في مجتمع بدائيّ ينهض فيه الحيوان بوظيفة مركزيّة في الحياة اليوميّة، وَيُنْظَرُ فيه إلى الأشياء نظرة بدائيّة، ويُتَمَثَّلُ فيه الجمال بناء على ما بلغته الحياة الخياليّة في ذلك المجتمع... وهو من الوِجهة الأَخراةِ نُلفي الناقةَ تنهض، في هذا البيت، بوظيفة السمة الحاضرة، الدالّة على السِّمَة الغائبة. وليست السِّمَةُ الحاضرة هي المقصودة في الكلام، ولكن السمة الغائبة... وتذوب الصورة الغائبة في الصورة الحاضرة، أو قل إنّ الصورة الحاضرة هي التي تُذيبُ الصورة الغائبة فيها حتى ترقى بها إلى مستوى المُماثِل(الإقونة): إذْ لم تكن هاتان الذِّراعان المشاهَدَتانِ إلاّ صورةً للذراعيْن الغائبتين؛ كما أنّ هذه العَيْطل الأدْمَاءَ الحاضرةَ ليست إلاّ صورة كاملة مُمَاثِلَةً للمرأة الغائبة... ويمكن قلْبُ الصورة المُماثِليَّة بتعويم صورة المرأةِ في صورة الناقة؛ حيث إنّ هذه ذابت في تلك، وتلك ذابت في هذه؛ فلا ندري أيٌّ منهما يُرادُ؟ ولا ندرِي في أيّ منهما كان الناصّ يفكّر، وأيّاً منهما كان يَصِفُ، وأيَّاً منهما كان يَحِبُّ؟ إِنَّ منزلة الناقة تستوي هنا بمنزلة المرأة فليس بينهما فرق.
ولو جئنا نتابع أبياتاً لهذا، وأبياتاً لذلك، من المعلّقاتييّن، لَما أمِنَّا أن يستحيل هذا المجاز، في هذه المقالة، إلى فصل طويل، وربما إلى مجلدّ كامل. من أجل ذلك نجتزئ ببعض ما قدّمنا. ولكن قبل أن ننفض اليد من ذلك نودّ أن ننبّه إلى أنّ الشّاهديْن السابقَيْن لهذا: على الرغم من عذريّتهما النسجيّة، إلاّ أنّ التصوير فيهما كان بديعاً، وأنّ البَداوة لم تَحْرِمْهُما من فيض فيّاض من الجمال العبقريّ؛ فكأنّ مثل ذلك الشعر يظلّ، أبد الدهر، مصدَرَاً من مصادر الإلهام وينبوعاً من ينابيع الجمال.
****(1/207)
ثانياً: النسج اللغويّ بالتشبيه
ليس هناك أيّ أدبٍ في العالم، وبأيّ لغة كُتِبَ، وفي أي نسْج نُسِجَ، وتحت أيّ خيال أنْشِئَ: تراه يخلو من التشبيه. وليس التشبيهُ مقصوراً على المبدِعين، شعراء وكتّاباً، وَحْدَهُمْ، ولكنه زينةٌ يصطنعها كلّ المتعاملين باللغة في حياتهم اليوميّة، وفي تعاملاتهم التبليغيّة الابتذاليّة، وفي تعابيرهم الشعبيّة، حيث تلفي المرأة البدويّة تستعمل التشبيه، بلغتها العاميّة، وَحَسَبْ مستواها الذهني والثقافي؛ فتصيب المحَزَّ، وتقطع المفصَلَ. وحيث تلفي الشاعر الشعبيّ يصطنع هذه الزينة الكلامية، في شعره، فتراه يشبّه صغير الحجم بكبيره، وناضر الوجه بأنضر منه، وطويل القامة بأطول منه، وهلمّ جرا...
وقد لاحظنا أنّ كثيراً من الأوصاف التي كنّا نلفيها لدى الشعراء الجاهلييّن لا تبرح متداوَلَةً بين الشعراء الشعبييّن، في العالم العربيّ بعامة، مع اختلاف في النسج، وتفاوت في درجة التعبير. فإذا كان العربيّ القديم كان يصطنع عبارة "بعيدة مَهْوَى القُرْطِ" ليصف بها عنق المرأة في طوله، وإذا كان امرؤ القيس يشبّه جِيدَ صاحبتِه بجيد الرئم في طوله-غير الفاحش- وفي لطفه واستوائه؛ فإننا نلفي شاعراً شعبيّاً جزائريّاً يستعمل الرَّقَبَةَ عَوِضَ العُنُق، ويستعمل الطْول صراحةً عَوِضَ التكنية عنه ببُعْدِ مَهْوَى القُرْطِ، أو تشبيهه بجيد الرئم...
وقد توقف البلاغيّون العرب لدى التشبيه، طويلاً، فقتلوه تعريفاً وتصنيفاً، وتقسيماً وترتيباً؛ ولكنّ الذي فاتهم، فيما يبدو، أنهم لم يميلوا إلى تناول جماليّته، وما يضفيه على النسج الأدبيّ من حسن فنّيّ بديع. فكأنهم تعاملوا مع التشبيه، كما تعاملوا في أطوار كثيرة مع الاستعارة أيضاً، تعاملاً إجرائيّاً؛ فغلب التصنيف والتقسيم على التحليل، وطغَا التعريف والترتيب على إبراز ما يجب أن يكمُنَ فيه من جمال يرقى بالنسج الأٍسلوبيّ من مجرد كلام عاديّ مبتذل، إلى كلام فنّيّ بديع.(1/208)
وقد اجتهد في أن يُدَارِسَ التشبيه من الوِجْهة النفسيّة، ولكن ضمن التقسيم البلاغيّ المدرسيّ(5). ولعلّ أوّل من حاول أن يراعي الجانب الجمالي، في البلاغيّات بوجه عامّ، كان الأستاذ عليّ الجارم في كتابه المدرسيّ "البلاغة الواضحة". ولكن مساعيه، هي أيضاً، لن تجاوز المنطلقات التقليدية لمفهوم الإجراءات البلاغيّة، وتقسيماتها الركبكة...
وإنّ ما نودّ التوقّف لديه نحن، هنا، هو أنّ التشبيه حتى في حال اشْتِيَاقِهِ إلى التقبيح، وتعلّقه بأداء وظيفة التشويه: يظل، في منظورنا، راكِضاً في رياض الجمال، وسابحاً في مروج الخيال. فالشاعر حين يقول:
وإذا أشارَ مُحَدِّثاً فكَأَنَّه ... قِرْدٌ يُقَهْقِهُ، أو عجوزٌ تَلْطِمُ!
فلا يعني حُبُّ التقبيح والتشنيع في رسم هذه الصورة، أنَّ التشبيه، من حيث هو إجراءٌ فنَيَ جماليَ، يلتحق بغاية أبي الطيب من إِرادة تشويه هيئة هذا المتحدّث الذي يشبّه هنا بصورة القِرْد حين يُقَهْقِه، وصورة العجوز الشمطاء حين تلطم. فالجمال الفنّيّ يكمن، بالذات، وهنا، في هذا القبح الجميل. أي أنّ عبقرية النسج تكمن في أنّ الناصّ استطاع أن يُصوِّرَ لنا القبيح الدميم، في صورة تشبيّه جميلة، فصوّر لنا الدميم البشع في صورة أدبيّة طافحة الجمال. فكأنّ المفارقة تقوم في أن الدميم من الأحياء، والرديء من الأشياء: قد يذوّبها الأديب الكبير في نسج عبقريّ فتغتدي الدمامة في نفسها، كأنها دمامة جميلة في نسج الكلام.(1/209)
فلا شيء أسوأ من مَرآةِ قِرْدٍ وهو يضحك، ولا شيءَ أبشعُ من منظر عجوز وهي تلطم على وجهها؛ بيد أن نقل هذه الصورة المركّبة من منظريّن بشعِيْن إلى صورة شخص بشع يتحدّث بيْن أصحابه، ثم ربط المناسبة بينهما بجَعْل الصورة الأولى كأنها الصورة الأخراةُ لهذا الشخص: هو الذي جسّد عبقريّة النسج، وجمال التصوير، وحُسْن التشبيه: فتوارَتِ البشاعةُ، أو كأَنْ قَدِ! والسرّ في كلّ ذلك، ذلك الجمالُ الطافح الذي أنشأ هذا النسيج الكريم من الألفاظ، من مجرد الألفاظ؛ فتكوّنت علاقة بين بَشِعٍ واحدٍ، وبشعيْن اثنيْنِ؛ ولكن عَبْرَ عرائِسَ من الألفاظ، وعجيباتٍ من الصور.
ومما لاحظناه في تشبيهات امرئ القيس أنه كان يعمد، أطواراً، إلى تشبيه قويّ بضعيف، ومتوهّج باهر، بشاحب ذابل: أي أنه كان يصطنع ما يمكن أن نطلق عليه"التشبيه المقلوب".
ولعلّ بعض ذلك يَمْثُلُ في قوله، مثلاً:
أصاحِ تَرى برْقاً أُريكَ وَميِضَهُ ... كَلَمْعِ اليَدَيْنِ في حَبِيٍّ مُكَلَّلِ
فهذا الوَمَضَانُ الخاطِفُ للأبصار، حين يَمِضُ في السَّحاب المركوم: لا يعدو أن يُشْبِهَ حركةَ اليديْن الصغيرتين. وماذا في حركة اليدين من وَمَضَانٍ، وماذا فيهما من سُرعة الحركة حتى يُشَبَّه بهما وميضُ البرق الخاطف؛ إلاّ أن يكون تشبيهاً مقلوباً؟
وذلك، مع أنّ الذي يقرّره البلاغيّون هو أنّ التشبيه يقوم على ضرورة بروز الحالة التي يراد تشبيهُها: في المشبَّه به، أكثر من المشبّه: فيشبّه الضعيف بالأضعف منه، والقويّ بالأقوى منه، والجميل بالأجمل منه، وهلمّ جرا... كما يقرّرون أنّ التشبيه، من وجهة أخراة، يقوم على تشبيه المجرّد بالمحسوس... ولكنّ هذه المقرّرات لا يمكن الالتزام بها لدى الكتابة الإبداعيّة التي تنهض على الإبداع في اللغة، وفي النسج، وفي الصور... وليس على تقليد الصور البالية، والتشبيهات العتيقة...، كما كان يقرر ذلك القدماء، ومنهم ابْنُ طَبَاطِبَا(6).(1/210)
وقد لاحظنا أنّ التشبيهات لدى امرئ القيس تتنازعها ثلاثَةُ محاوِرَ كُبرى: وهي البياض، واللمعان، والنضارة، والصفاء، وما في حكمها. ثمّ الحركة والتبختر والاهتزاز وما في حكمها. ثمّ الطول والاعتدال والنحافة والرِّقّةُُ والاستواء. ونسعى الآن إلى متابعة ذلك خلال شعره.
أولاً: البياض والصفاء والإشراق والبريق
1. البياض والطراوة:
... *وشَحْمٍ كَهُدَّاب الدِمَقْسِ المُفَتَّلِ*
2. البياض والصَّقْل والصفاء:
... *ترائِبُها مصقولَةٌ كالسَّجَنْجَلِ*
3. البياض القائم على التمازج مع الأصفر(الصفاء):
... *كبِكْرِ المُقاناةِ البَيَاضِ بِصُفْرَةٍ*
4. البياض والصفاء والإشراق:
تُضيءُ الظلامَ بالعِشاءِ كَأَنَّها ... منارةُ مُمْسَى راهبٍ مُتَبَتِّلِ
5. بياض اللون، وطول الذيول، وسُبوغ الشعور، وتبختر الحركة: معاً:
فَعَنَّ لنا سِرْبٌ كأنَّ نِعَاجَه ... عَذَارَى دَوَارٍ في مُلاءٍ مُذَيَّلِ
6. بياض: أطرافُه سُودٌ:
فأَدْبَرْنَ كالجِزْعِ المُفَصَّلِ بَيْنَهُ ... بِجيدِ مُعَمٍّ -في العشيرة- مُخْوَلِ
7. البياض واللّمعان(له علاقة بالبياض)، وسرعة الحركة:
أصاحِ تَرى برْقاً أُريِكَ وميضَه ... كلمْع اليديْن في حِبَيٍّ مُكَلَّلِ
8. البياض المخطّط:
كأنَّ ثبيراً في عَرانينِ وَبْلِهِ ... كبيرُ أناسٍ في بِجَادٍ مُزَمَّلِ
9. البياضُ واللّمعان:
... ... ... ... ... كلمْع اليديْن في حَبيٍّ مُكَلَّلِ
يُضيء سناه، أو مصابيحُ راهبٍ ... أمالَ السليطَ بالذُّبال المُفَتَّلِ
****
ثانياً: الحركة السريعة، والاهتزاز، والتبختر:
1. فعَنَّ لنا سِرْبٌ كأنّ نِعاجه ... عَذارى دَوارٍ في مُلاءٍ مُذَيَّلِ
2. على الذَبْل جَيَّاش كأنَّ اهتزامَه ... إذا جاشَ فيه حِمْيُهُ- غَلْيُ مِرْجَلِ
3. كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللِبْدُ عن حَالِ مَتْنِهِ ... كما زلَّتِ الصفواءُ بالمُتَنَزِّلِ
4. دريرٍ كخُذْروفِ الوليدِ أَمَرَّهُ ... تتابُعُ كفَّيْه بخَيْطٍ مُوَصَّلِ(1/211)
5. له أيْطَلاَ ظَبْيٍ وساقا نَعامةٍ ... وإرخاءُ سِرْحانٍ وتقريبُ تَتْفُلِ
6. مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعاً ... كجُلمودِ صَخْرٍ حَطَّه السيلُ مِن عَلِ
7. كأنّ ذرى رأس المُجَيْمِرِ غُدْوَةً ... من السيل والأغثاءِ فلْكَهُ مِغْزَلِ
****
ثالثاً: الطول والاعتدال والنحافة والدّقة والاستواء:
1. وكَشْحٍ لطيفٍ كالجَديلِ مُحَضَّرٍ
2. وفرعٍ يَزِينُ المَتْنَ أسْوَدَ فاحِمٍ ... أَثيثٍ كقِنْوِ النَّخْلَةِ المُتَعَثْكِلِ
3. وجيدٍ كجيد الرئْم ليس بفاحش ... إذا هي نَصَّتْه، ولا بِمُعَطَّلِ
4. وتعطو برَخْصٍ غيِر شَشْنٍ كأنه ... أساريعُ ظَبْيٍ، أَوْمَساويكُ إِسْحِلِ
ثم تأتي معانٍ أُخَرُ مِثْلُ القوّة والفراهة والفتاء:
كأنّ على المتنين منه إذا انتحى ... مَدَاكَ عَروسٍ، أو صَلاَيَةَ حَنْظَلِ
ثم تأتي معانٍ أُخَرُ متفرّقةٌ مثلُ الاستدارة والدقّة، والتلاؤم في الطبع، والعَبَق وانتشار الشذى، والظهور، وتداخل الأصوات وتكاثرها، والرسوب، والثبات والسكون...
لكننا إن قرأنا هذه التشبيهاتِ قراءةً تَشاكُلِيَّةً، وهو إِجراء سيماوِيٌّ، أمكَننا أن نُلْحِقَ بعُضَها بما سبق من التشبيهات المتواتِرَةِ المعانِي مثل الشذى أو العبق الذي هو هنا متلائم مع سيرة النساء اللواتي تكررت صُوَرُهُنَّ الجميلات فتبوَأّنَ المنزلة الأولى من الاهتمام عبر نصّ معلقة امرئ القيس. فبَضاضة جسد المرأة وغضاضَتُه: لا شيءَ أولى بالتلاؤم معه كالعطر والشذى. ويمكن أن يضاف إلى ذلك، التلاؤم في الطبع بين أمّ الحُويرِثِ وجارَتِها أمِّ الرَّباب. وأمّا تَداخُلُ الأصوات، أَصواتِ المَكَاكِيِّ، مَكاكِيّ الوادِي في الغُدِيَّةِ الربيعيَّةِ فلا ينبغي أن يستأثِرَ به شيء كجمال المرأة ودلالها وحركتها وحديثها، ورقّة صوتها، وحسن تَرَهْيُئها، وإشراقة ابتسامتها...(1/212)
إنّ معظم الصور التشبيهيّة واردة في معلّقة امرئ القيس في إطار الإحساس اللطيف، بل الشعور الحادّ، بالجمال في صوره المختلفة، ومظاهره المتباينة: في أصوات الطير، في حركة العذارى، في عطر النسا، في ركض الحِصان، في شآبيب الصَّفْواءِ، في السحاب السابح في الفضاء، في حركة خُذروف الوليد، في غَلْيِ المِرْجل، في جُلمود الصخر المندفع من الأعلى نحو الأدنى، في جِيدِ الرئْمِ الجميل- أوفي جِيدِ الجميلة التي يشبه جيدُها جِيدَ الرئم- في الشَّعَرِ الأسود الأَثِيثِ، في البَنان الناعمة الرقيقة، في صفاء الترائب وَصقْلِ النَّحْرِ، في مصباح الراهب المضيء عِشَاءً...
ونلاحظ أنّ هذه الصور منتزعةٌ من صميم بيئة الناصِّ وحياته اليوميّة، وتقاليد مجتمعه البدويّ: الطبيعةُ مادَّتُها، والتعايُشُ معها أداتُها.
وحين نعمد إلى محاولة تحليل الأسس التي نهضت عليها التشبيهات لدى طرفة، نلاحظ أنه يختلف اختلافاً بعيداً عن امرئ القيس الذي صرف معظم عنايته إلى تشبيه الحِصان أوّلاً، ثم المرأة ثانياً، ثم من بعد ذلك تأتي الطبيعة والأشياء.
على حين أن التشبيهات، لدى طرفة، تنصرف، أساساً، إلى الناقة بتواتر بلغ أربعاً وعشرين مرة من تسع وثلاثين، ثم يأتي الرجل بعشر مراتٍ، ثمّ الطبيعة والمرأة بثلاث مرّات لكلّ منهما.(1/213)
فالتشبيهات الواردة في معلّقة امرئ القيس متوازِنَةٌ بحيث توزّعت على المرأة، والحسان، والطبيعة، والأشياء، لكنّ الحصان هو الذي استأثر بالمنزلة الأولى بأربع عشرة مرّة، ثمّ المرأة بعشر، ثم الطبيعة والأشياء، مجتمعةً، بسبع. فاهتمام امرئ القيس يتوزّع، أساساً، على هذه الحقول الثلاثة. وإذا كان الحصان، لديه، نال المرتبة الأولى من العناية فلأنّه كان أميراً فارساً؛ ولأنه كان صيّاداً مقامراً، ولأنه كان متنزِّهاً سائحاً. وإذا كانت المرأة، لديه، وردت في المنزلة الثانية من الاهتمام فلأنه كان شاعراً عاشقاً، ومغامراً فاسِقاً(7) ومنادِماً فائقاً(7)؛ فكانت المرأة بالقياس إليه أساساً من أسُسِ الحياة، ومُتْعةً من مُتَعِها، وَملَّذَّة من ملذَّاتها. فكأنّه كان يعّدها مجرّد أنثى يتمتّع بها، ويلهو معها غير مُعْجَل؛ ثمّ لا شيء وراء ذلك. وهو ببعض ذلك يختلف عن عنترة الذي كان يحبّ امرأة واحدة، بوفاء، ويَمِقُها بِكَرمٍ، كما يختلف عن عمرو بن كلثوم الذي نلفيه يمجّد نساء قبيلته اللواتي كنّ يَقُتْنَ الخيْلَ للمحاربين أثناء المعركة، وكنّ يحْضُضْن الرجال على القتال، في حروب البسوس، حتى يتجنّبن سُبَّةَ السَّبْيِ، وعار الذُّلِ.
فالمرأة لدى عمرو بن كلثوم خُصوصاً، اثنتان: إحداهما للمتعة واللهو والنعيم، وتتمثّل في القِيان والجواري الميسَّرات لِمَا خُلِقْنَ له لديه، وإحداهما الأخراة هي السيدة الكريمة، والدُّرَّةُ العقيلة: التي كانت تشارك الرجل عَذابه ونعيمَه، وأملَه وألَمَه، وَضَنْكَ عيشهِ ورغده...(1/214)
بينما المرأة لدى امرئ القيس لا. فهي ذلك الكائن اللطيف الذي وقف عليه، بعد الحصان، معظم تشبيهاته. إنها كانت لديه مجرّد جسَدٍ غضّ: للتمتّع العارض، والتلذّذ العابر، ثمّ لا شيء من بعد ذلك، يترتّب على ذلك. كانت مجرّد أنثى إذن. من أجل ذلك نجد ذِكْرَاً لنساء كثيرات في معلّقته؛ وكأنّ كلّ واحدة منهنّ كانت تمثّل جزءاً من حياته، أو لحظات سعيدات في حياته، ووجهاً من وجوه مغامراته معها. ثم، لعلّ من أجل ذلك، ألفيناه يصيب في تشبيه النساء، ويجوّد في إجراء الحِوار بينه وبينهنّ، ويبدع في تصوير علاقته بهنّ: وكيف كان يجاوز إليهنّ الأحراسَ، وكيف كان يلهو بالبِيض منهنّ في غيرِ عجلة من أمره، وكيف كان يَتَأَوّبُهُنَّ إذا جَنَّهُنَّ، وجَنَّهُ، الليلُ؛ وإذا نَضَضْنَ للنوم ملابِسَهُنَّ...
وربما تعود عبقريّة التشبيه التصويريّ للمرأة لديه، إلى كَلَفِهِ بها، وعِشْقِه إيّاها، وملازمتِهِ لها طويلاً؛ ثم إلى ممارساته العمليّة معها معاً. ثمّ إلى جُرأته على الجَهْرِ بفِسْقِه، والصَّدْعِ بفَضائح علاقاته الجنسية: إذا مارس العِشْقَ والاضطجاع... وهي سيرةَ عَفَّ عنها سَواؤُهُ من نُظرائِهِ المعلقّاتييّن .(1/215)
وعلى الرغم من أنّ طرفة بن العبد يأتي في المنزلة الأولى، من حيث عدد التشبيهات التي اشتملت عليها معلّقتُه، على سبيل الإطلاق؛ فإنّ تشبيهاته، مع ذلك، لم يتوقف النقاد والبلاغيّون القدماء لديها إلاّ قليلاً، من حيث أُعْجِبُوا إعجاباً مَهُووساً بمعظم تشبيهات امرئ القيس؛ وخصوصاً ما ورد منها حوال المرأة والحِصَان. ولا نحسب أنّ الأقدمين جانبوا الصواب، إذا حقّ لنا إصدارُ حُكِم قيمةٍ، فيما كانوا يذهبون إليه. من أجل ذلك، قد نقضي بأن امرأ القيس وإن كان يأتي في المرتبة الثانية من حيث الترتيب العددي، بعد طرفة، بزهاء واحد وثلاثين تشبيهاً، مقابل زهاء تسعة وثلاثين تشبيهاً لدى طرفة: إلاّ أنّ ذلك ما كان ليكون مانعاً من عدّ امرئ القيس أحسن المعلقاتيين تشبيهاً، وأجملهم تصويراً، وأقربهم إلى الذوق العربي العام؛ فظل ذلك قائماً على امتداد ستة عشر قرناً.
ولعل الذي أضرّ بطرفة أنّ كلّ عبقريته الشعرية أهدرها في وصف الناقة في لغة بدويّة، وألفاظ حوشيّة، وتعابير وحشيّة، وصور غجريّة لم تلبث أن فقدت رُواءَها مع مرور الزمن، وأضاعت طلاوتها مع كُرِّ الأيام. على حين أنّ موضوع المرأة الذي عالجه امرؤ القيس، بإثارة وإباحيّة، هو موضوع، يظل إنسانيّاً، ماثِلاً لدى الناس إلى يوم القيامة، على الرغم من اختلافهم في النظرة إليه...
لقد استغنى كثير من الناس عن الناقة فلم يعودوا يعنون بها، ولا يلتفتون إليها ولا يتّخذونها همّاً في حياتهم، بينما من النِّفاق أن يَزْعُم الرجال أنهم قادرون على الاستغناء عن المرأة التي هي الحياة وسِرُّها وهِبَتُها وإِكْسيرها، ونضارَتُها وعَبَقُها.
فقد عرفْنا إذن علّة خُلودِ تشبيهاتِ امرئِ القيسِ، ودُرُوسِ تشبيهاتِ طَرَفَة، وَسَوَائِهِ من المعلّقاتيّين الآخرين.(1/216)
وإنّا وقد ذكرنا المعلّقاتيّين الآخرين الخمسة، فما بالُها لديهم؟ وما شأنُها في معلقاتهم؟ وهل قصَّرَتْ، لديهم عن تشبيهات امرئ القيس وطرفة، أو فاقَتْها؟ لِنَرَ ذلك.
إنّ التشبيهات لدى الخمسة الآخرين تتفاوَتْ في الكثرةِ والقِلَّةِ، والرداءةِ والجَوْدَةِ: ولكنها مجتمعة لدى هؤلاء الخمسة(لبيد- زهير- عنترة- عمرو بن كلثوم- الحارث بن حلّزة) لا تمثّل إلاّ أقلّ من نصفها لدى الأوّلين: امرئ القيس، وطرفة. بيد أنّنا لاحظنا، أثناء ذلك، أن عنترة يأتي في المرتبة الثالثة بتسعة عشر تشبيهاً موزّعة، بحسب تكاثر التواتر، على الناقة، ثم الرجل، ثم المرأة، ثم الظَّليم، ثم الذُباب، ثم المطر؛ ولبيداً في المرتبة الرابعة بستّة عشر تشبيهاً موّزعة، بحسب تكاثر التواتر، على البقرة الوحشية، ثم على المرأة، ثم الطبيعة والأشياء، ثم الناقة، ثم الرجل، ثمّ الحصان بتشبيه واحد فحسب، وعمرو بن كلثوم في المرتبة الخامسة بأربعة عشر تشبيهاً موزَّعَةً، بحسب تكاثُرُ التواتر، على الرجل؛ ثم على المرأة، ثم الطبيعة والأشياء، ثم الحصان بتشبيه واحد فقط-مثله في ذلك مَثَلُ لبيد-؛ والحارث بن حلّزة في المرتبة السادسة بأحد عشرَ تشبيهاً موزّعةً، بحسب تكاثر التواتر، على الرجل، ثم الناقة، ثم الطبيعة والأشياء؛ وزهير بن أبي سلمى في المرتبة الأخيرة بأربعةِ تشبيهاتٍ فقط، موزعّةً على المرأة بتشبيهيْن اثنين، وعلى الطبيعة والأشياء بتشبيهيْن اثنيْن آخرين.
وربما قلّت التشبيهات لدى زهير لأنه كان في معلّقته، خصوصاً في القسم الحكميّ، مجرَّدَ حكم متأمِّلِ يَبُثُ تجاربَه، ويَسوق تعاليمَه، ليتعلّم بها الناس ويُفيدوا منها في حياتهم ممّا به يبتلون.
****
ثالثاً: النسج اللغوي، في المعلقات،
بين نظام الفعل ونظام الاسم(1/217)
لاحظنا في المقالة التي عرضنا فيها لتحليل الإيقاع المعلقاتيّ أنّ هناك نصوصاً منها تميل إلى نحو ما أطلقنا عليه، في شيء من التجاوز والتساهل: "الحميمّية"، أو "الانضواءِ على الذات"؛ وذلك بناء على تأويل دلالة الخَفْضِ في اللغة العربيّة، مثلاً. وإذا كنّا لا نطمع في أن يتفق الناس معنا على ما ذهبنا إليه؛ فإنّنا قد نكون أفلَحْنا في تحفيزهم، على الأقلّ، إلى البحث عن تأويلٍ آخر، عن قراءة جديدة أخراة، من آلاف القراءات التي اقتُرِئَتْ بِها هذه النصوصُ ماضِياً، والتي ستقرأ بها مستقبلاً.
وإذا كنّا جئْنا نثير مسألَة نظامِ النسج اللغويّ فبِما رغْبَةٍ عارِمةٍ مِنَّا في الكشف عن الظاهرة النسجيّة التي تستأثر بنظام اللغة، وبنية التعبير لسطح هذه النصوص الشعريّة العذريّة.
وقد انتهينا من خلال الإِحصاء الذي اضْطُرِرْنا إليه (والذي لا نحمل أي عُقْدَةٍ له أو عليه، فهو لدينا مجرّد من الإجراءات التي قد نعمد إليها، في بعض المستويات من قراءتنا، وذلك ابتغاء استكشاف ظاهرةٍ ما، حين نعتقد أنه لا يمكن استكشافَها إلاّ به، أو إلاّ عَبْرَه): إلى أنّ النسج الشعريَّ يهيمن عليه النظام الاسْمِيُّ لدى عامّة المعلقّاتيّين إِلاّّ لدى زهير الذي يغلب، في نسجه الشعريّ، النظامُ الفعليّ، لِمَا سنعلّله من بعد حين.
وقد رأينا، والحال أنّ الشأنَ منصرِفٌ إلى نسج شعريّ، أن نراعي مَطْلَعَ صَدْرِ البيت، وآخر عجزه على أساس أنهما مفتاحَا البيتِ الشعريّ. ولم نُرِدْ أن ننزلِقَ إلى ملاحظة النظامين الفعليّ والاسميّ في أكثّر من هذين المستويْين الاثنين خشْيَة أن يُفضي ذلك إلى تطويل قد لا يكون فيه، لهذا البحث، غَناء كبير.
والحُكْم العامُّ الذي نستخلصه من هذه المتابعات المنصرفة إلى مطالع الأبَايِيتِ، وأواخر أعْجَازِها: أنّ الشعراء كانوا يجنحون للتعامُل مع النظام الاسميّ أكثر من جنوحهم للتعامل مع النظام الفعليّ، لأسباب مختلفة، منها:(1/218)
1. إنّ نسجْ الأسلوب العربيّ ينهض أساساً على النظام الاسميّ أكثر من نهوضه على النظام الفعليّ. وهو قادر، على نقيض اللغات الأوربية وحتى بعض اللغات الشرقيّة، على الاستغناءِ عنِ الفعل من حيث لايستطيع الاستغناءَ عن الاسم. أَضْرِبُ لذلك مثلاً نَصَّ البسملةِ الذي يُردّده كلَّ يومٍ قريبَاً من مليارِ مُسْلم في العالَم، فإنه لا يشتمل على أيّ فعل. ودَعْكَ من تخريجاتِ النُّحاةِ وفي طليعتهم الشيخ عبد القادر الجرجاني؛ والتي فيها يزعمون أنّ الباء في"بِسم اللَّهِ" متعّلقة بفعل تقديرُه: "أَقْرَأُ، أَوْ أَتْلُو" (8). وعلى أنّ تقدير عامّة النحاة هو: "ابْتَدِئُ". فنحن لسنا نجنح إلى هذه التقديرات والمتعَلَّقات، ونحن نبحث في أمر المعلقّات، التي لا تتعلّق إلاّ بأوهام اغتدت فيما بعد قواعد للإعراب؛ وإلاّ فإن الله تبارك وتعالى، لو كان شاء إلى ما شاؤوا، وقصد إلى ما إليه قصدوا، لكان قال كما قالوا. والآية على ضعف هذا المذهب أنّ الله تبارك وتعالى حين أراد إلى أن يتبرَّكَ بأسمه، وَصَلَهُ بالاسْمِ لا بالفعل، فقال: "باسِمْ اللَّهِ مُجْرَاهَا ومُرسَاهَا(9)، ولم يَقُلْ: "أُجْرِيَها ببِسْمِ اللّهِ، وأُرسِيَها".
... ... وقد لاحظنا، أيضاً، أنّ سورة النحل لا يوجد فيها إلاّ ثلاثة أفعال فحسب من بين سبعة عشر اسماً على الأقل؛ مَثَلُهُا مَثَلُ سورة الفاتحة التي تشتمل على أربعةِ أفعالٍ فحسب من حيث نُحصِيْ فيها من الأسماء ما لا يقلّ عن واحد وعشرين.(1/219)
... ... وقد يمكن النسجُ بالاسم وحده، في اللغة العربيّة، دون أن يَعْتَاَصَ ذلك على الفُصحاء الأبْبِنَاء، والَّلِسِنين البُلغُاء؛ كما نلاحظ ذلك في بعض خطبة قسّ بن ساعدة الإيادي الذي كان يُضْرَبُ به المثل في فصاحة اللسان، والقدرة على نسج البيان(10): "(...) في هذه آياتٌ محكمات، مَطَرٌ، ونبات، وآباءٌ وأمهات، وذاهبٌ وأت، ونجوم تَمور، وبحور لا تَغُور، وسقف مرفوع، ومِهَادٌ موضوع، وليلٌ داج، وسماءُ ذاتُ أبراج"(11). ففي هذه الكلمة لم يرد الفعل إلاّ مرتيْن اثنتيْن من بين عشرين اسماً؛ وكما يمكن أن يُلاحَظَ ذلك في بعض نصّ إحدى خطب الحجّاج، إذ يقول: "يا أهل العراق، يا أهل الشِّقاق والنِّفاق، ومساوئَ الأخلاق، وَبني اللَّكيعة، وعبيد العصا، وأولاد الإماء، والَفْقْع بالقَرْقِرَ..."(12): فهنا نجد خمسةَ عشرَ اسْمَاً بدون ورودِ أيّ فعلٍ، وبدون أن يمكن أن يذهب أحد من الناس إلى أنّ مثل هذا الكلام كان محتاجاً إلى أن يَتَعلَّق بغيره الغائب، على نحو أو على آخر...
... ... ومثل هذا في العربية كثير مشهور، ومتواتر معلوم؛ بحيث لايحتاج معه إلى برهنة ولا إلى تدليل.
2. إن النظام الإسْميَّ يفيد الثبات والسكون؛ ولعلّ السكون هو الدَّيْدَنُ الغالب على حياة الجاهلية الذين كان الرُّتُوبُ يحكم حياتَهم، والسكون يقيّدها. وكانتْ تلك السيرةُ تُحَتِّمُها نوعيَّةُ الطبيعة المحيطة بهم، والبدائيّة التي كانت تحكم حياتَهم، بحيث كانت أسفارهم الطويلة، قليلةً، وإقاماتهم، أو تنقلاتهم القصيرة، كثيرة. لا تغير في نظام العيش، ولكن الرتوب... يعيش الأبناء كعيشة الآباء، ويعيش الأحفاد، كعيشة الأجداد. من خرج عن نظام القبيلة، وعاداتها، عُدَّ مارِقاً، ومَنْ تنكّر لتقاليدها اعْتُبَر عاقّاً مُفَارِقاً.(1/220)
... ... وإذن، فإنّ النظام الاسميَّ في نسج اللغة في المعلّقات السبع لا يعدو كونَه امتداداً للحياة الجاهليّة بمظاهرها الاجتماعيّة والعقليّة والاقتصادية والثقافيّة التي كانت تتجسّد، خصوصاً، في رواية الشعر، وفي إنشاده في المحافل والمناسبات الكبرى وفي التغنّي به في التظّعان. كما أنّ الأشعار التي كانت تتردّد في المآقِطِ المختلفة كانت تتشابه وتتقارب أشكالُها، ومضامينها: البكاءُ على الأطلال، ووصْفُ جمال النساء، ثم وصْفُ النُّوقِ والسَّفَر، أو الخيلُ، أو المطر، أو البلاء في الحرب... أو سَوْقٌ لبعض الحِكَمِ، وضَرْبٌ لبعض الأمثال، وذِكْرٌ لبعض الوقائع...
... ... فلم يكن الثبات الذي يقتضيه النظام الاسِميُّ في نسج اللغة، عَبْرَ المعلقات، متمثِلاً في الحياة بمعانيها المادّية فحسب؛ ولكننا نلفيه ثابتاً أيضاً، في المظاهر الأدبيّة والثقافيّة (بناء القصيدة- نظام القبيلة- تقاليد الرعي والتماس الكَلأ، وهلمّ جرا من سائر المظاهر الأنتروبولوجيّة).
3. الاسْمُ يحيل على الكائن الحيّ ويعيّنه، فهو يحيا: يحبّ ويكره، إن كان عاقلاً، ويضطرب ويتحرّك، إن لم يكُنْهُ. على حين أنّ الفعل حدَثٌ، والحدث لا ينشئ نفسه، ولا يقوم بذاته بمعزل عن الاسم؛ عن الكائن الحيّ الذي يُسَبّبُهُ، أو يكون نتيجة له، أو يكون مندمجاً فيه.. فالفعل- وإذن النظام الفعلي، بجَذامِيرِه- لا ينبغي له أن يكون إلاَّ مجرّدَ تابِعَ للنظام الاسِميّ، خاضعٍ له، ناشئٍ عنه.
4. قد يجتزئ الاسم وحده في الكلام؛ إذا ظاهرتْه قرينةٌ ما، مثل قوله تعالى: "الرّحْمن"(13). فاسم الجلالة: الرحمن، هنا آية بنفسه؛ ولم نجد ذلك حَدَثَ في فعل من الأفعال. فالاسْمُ هو صاحب الشأن والبال؛ أما الفعل فلا يأتي إلا خَدَماً له، وسائِراً في فلكه.(1/221)
5. وإذا كانَتْ بعض المعلّقات(خصوصاً معلّقة زهير) تَغَلَّبَ فيها النظامُ الفعليّ على النظام الاسميّ؛ فلأَنَّحكيمُ المعلّقاتيين عَمَدَ إلى بثّ الحكمة، وإرسال الأمثال، وتذكيرٍ بمآسي الحرب، وتصوير لبشاعتها، وتزهيد الناس في سفك الدماء، وترغيبهم في أن يجعلوا المحبّة والسلام يسودان بينهم. ومثل هذا السلوك الذهنيّ ينشأ عنه قلةٌ في استعمال الأسماء، وكثرةٌ في استعمال الأفعال. ولعلّ الذي ظاهر على ذلك أنّ نظام النسْج في معلَّقة زهير اقتضى أن ينتهي كثير من أبياتها بأفعال مضارعة، إذْ نلفي اثنيْن وعشرين بيتاً من بين اثنين وستين ينتهين بأفعال أغْلَبُهَا مُضارِعٌ. وهي سيرة من النسج الشعريّ ليست عاديّة.
ونحن حين اصطنعنا عبارة"نظام النسج"، في هذه المعلّقة، فلأننا، فعلاً، لاحظنا أنّ أسلوب الكَمِّ يكاد يختلف، هنا، عنه في سائر المعلّقات. فكأنّ نظام النّسْج في معلّقة زهير ينهض على تسخير هذه الفُيوض الفائضة من الأفعال المضارعة المجزومة التي كان وراء جزمها، في عامّتها، ذلك العامل الجازم لفعلين اثنين، وهو: "مَنْ"، وأخواته مثل "متى"، و"مَهْما"... التي تكرّرت، في جملتها، زُهاءَ أربعٍ وعشرينَ مرَّةً.
وعلى أنّنا لو انزلقنا إلى عدِّ الأفعال المضارِعة المجزومة المعطوفة على الجُمل الأصليّة الناشئة عن إعمال الجزم لوجدنا النص الزُّهَيْرِيَّ يَعْجُّ بها عجيجاً، مثل: يوخّرْ، فيوضعْ، فيدّخرْ، يعجَلْ، فينقم. ومثل: وَتَضْرَ، فتضْرَم، وتلقحْ، تنتج، فتُتْئَم، فتُنْتج، فتغلل....(1/222)
وإذا كان اسم "مَنْ" جاء في العربيّة للدلالة على العقلاء، إلاّ لدى الانزياح(فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ...) (14)؛ فِلأَنَّ الناصّ كان يريد من وراء هذا الاستعمال إلى مخاطبة العقلاء حقاً، وتخصيصهم بالخطاب فعلاً. كان الشاعر الحكيم يريد أن يخاطبهم، فيؤثّر فيهم، ويبلغ غايته منهم؛ فيعدل بهم عمّا كانوا فيه من جَهالةٍ جهلاء، وما كانوا يَخْبِطون فيه من حروب هوجاء، وما كانوا يشنّونه من غارات شعواء، وما كانوا عليه من التساهل في سفك الدماء: باسْمِ الشجاعة، واستحلال أموال سَوائِهِمْ تحت عادياتٍ تَعَوَّدوها...
وإذا كانت لغة عنترة تجري في بعض ما نحن بصدده من افتخار بسفك الدماء، وتمجيد القتل وخوض الحروب، وتصوير لمكارم الأخلاق كلّها في طعن الفرسان بالرماح، وَشَكِّ الرجال بالسلاح، وجندلتهم في سَاحِ الوغَى، وتغنٍّ بمناظر الموت البشعة، وتبجّج بمشاهد الدماء وهي تنزف من أجساد البشر، وهم يَتَهَاوَوْنَ على الأرض صَرْعىً لَقىً كأجْذاع النخْل: بفعل العَضْبِ بالسيوف، والطَّعْنِ بالعوالي: فإنَّ الصورة لدى زهير هي غيرها لدى عنترة. فكأنّ عنترة قاتل محترف:
*قيلُ الفوارسِ: ويْكَ عَنْتَرَ أَقْدِمِ*
ومحاربٌ متخصّص في جندلةِ الأبطال، على حين أنّ زهيراً رجلُ سلامٍ، ومحبّة، وعقل... وأيّاً كان الشأن؛ فإنّ الفكرة التي نهضت عليها معلقة زهير كانت تقتضي فيْضاً من هذه الأفعال، كأنه لِيَصِفَ بها، بطريقٍ غير مباشر، معارِكَ الحرب، وأهوالُ الموت، ومناظر العذاب والخرابِ. فكأنّ زهيراً لا يصف الحرب وأهوالَها وآلامها وأتراحَها ومِحَنَها وشقاءَها في اللغة، ولكنه كان يصفها باللغة. وكأنَّ هذه اللغة، اللغة الزهيريّة، حركات الفرسان وهم يتقاتلون ويتصاولون ويتطاعنون: في خِفّةِ حركةٍ، وفي كرٍ وفر، وفي إقبال وإدبار، وفي وَثَبَانٍ وَرَوَغَانٍ...(1/223)
بينما نلفي نظام النسج اللغويّ لدى عنترة، وقد اقتضى المقام أن نقرن بينهما، هنا، ينهض على تصوير الحركة الفعليّة، الماديّة: للتقاتُلِ والتَّطَاعُنِ والتَّنَاحُرِ والتصاولُ بين الفرسان؛ وقل إن شئت بين عنترة وَحْدَهُ والفرسان الآخرين الذين كانوا يَعْرِضون له، أو يجرؤون على التَّطالُلِ على فروسيّته ورجوليته، وشجاعته التي سارت بذكرها الركبان... فاللغة لدى عنترة تنهض بوصف ما يحدث، فكأنّها سخّرت لِسَوَائِها، على حين أنّ اللغة لدى زهير تنهض بوصف الخارج فيها؛ فكأنها مسّخرةٌ لذاتِها، من أجل ذاتها. فكأنّ العمل باللغة في معلقة زهير يتّخذ من النسج باللغة غايةً له. فلغة زهير تصوّر الخارج عَبْرَ فَيْضٍ من وجدان الذات، فكأنّها تحويل للخارج نحو الداخل: لِتَركِّبَهُ، ثم تَبُثَّه نحو الخارج في صورة أخراةٍ جديدة. بينما اللغة لدى عنترة كأنها تصوير للخارج في واقع الداخل، وإٍسقاط للواقع الخارجيّ على حميميّة الذات.
وإذا كانت التقريريّة هي التي تحكم نظام النسج لدى زهير في معلّقته، مَثَلُه مَثَلُ عمرو بن كلثوم، وربما طرفة أيضاً؛ فإنّ السرديّة هي التي تحكم نظام النسج لدى المعلّقّاتيّين الآخرين على الرغم من أنّ صفة السردية تجمع معظم المعلّقاتيّين، إن لا نقل كلّهم، إذا انصرف الوهم إلى المطالع الطللّية. لكنّ امرأ القيس يظلّ أشدهم تعلّقاً بالسرديّة، وأكثر استعمالاً لها، وقد كان ذلك أثار عنايتنا منذ أكثر من ربع قرن(15).(1/224)
وأياً كان الشأن؛ فإنه يمكن أن نقرر أنّ المعلّقاتيّين السبعة، في نظام النسج اللغويّ المستعمل في معلّقاتهم، هم إمّا سُرَّادٌ، وذلك عَامٌّ في مطالِعِهم؛ وإمَّا مُقَرِّرُونَ؛ وذلك خاصّ بأصحاب الحكمةِ والتأمّل، ولا سيما طرفة وزهير. ثم يقع التفاوت فيما بينهم على درجات من حيث الإغراقُ في السْردِ فحسب؛ أو الإغراق في التقرير فحسب؛ أو الجنوح للسرد أكثر من التقرير، أو الميل إلى التقرير أكثر من السرد...
ومن الواضح أنّ هذا الوضع يؤثّر في طبيعة الأسلوب، وشكل اللغة، ونظام النسج.
وهناك مسألة أخراةٌ عالجْناها، في غير هذا المقام، وهي أننا لاحظنا أن نظّام النسج كان يخضع، لدى هؤلاء المعلّقّاتيّين، لطبيعة المضمون المتناوَل، ولحال الوضع العاطفيّ الماثل، للمعلّقاتي حين يُنشئ شعرَه. فمَنْ النسْج ما يغْلُب عليه ما أطلقْنا عليه الضجيجيَّةُ كما في معلقتي عمرو بن كلثوم والحارث بن حلّزة، ومنه ما يطْغُو عليه الحميميَّةُ والذاتيَّةُ مثلما يصادفنا بعض ذلك لدى امرئِ القيس، وربما لدى عنترة أيضاً، ولدى طرفة في وجه من معلّقته. وقد كنّا لاحظنا أنّ الضجيجيّة تعني ذَوَبّان الذاتِ في الآخَرِ، وليس الآخَرُ هنا إلاّ القبيلةَ التي ينتمي إليها المعلّقاتي، فَيَنْضَحُ عنها، وَيُرَوِّجُ لِمَكَارِمِهَا، ويتغنّى بمآثرها، حتى يجعلها في ذروة من المجد، وقُلَّةٍ من السُّؤْدد. بينما الحميميّة إنما تُعْنى بتوهّج الذات، وطفوح قوة النفْس، وبروز شدة الحضور الداخلي، أو الحميميّ الذاتيّ، للمعلّقاتيّ: فإذا هو لا يلتفت إلا قليلاً إلى العالم الخارجي، ولا يكترث بما حوله، ولكنّ التعبير عن عالَمَه هو الذي يعنيه في المنزلة الأولى.
****
رابعاً: زخرفيّات نسجيّة أخرى(1/225)
وممّا يمكن أن يكون له صلة بنظام النسج اللغويّ في المعلّقات ما لاحظناه من طفور بعض الأدوات الإنشائيّة، بتعبير البلاغيّين، وأدوات الزخرفة اللفظيّة باصطلاحنا: وذلك مثل الاستفهام، والقَسَمَ، والنداء، والتعجّب ونحوها.
وقد لاحظنا أنّ الاستفهام، بنوعيه البسيط والإِنكاري، يأتي في المرتبة الأولى بثلاثة وثلاثين استفهاماً، والنداء يتبوأ المنزلة الثانية بتسع عَشْرَةَ حالَةَ نداءٍ، والقسمَ يَردُ في المرتبة الثالثة بإِحدى عشرة حالة قَسَمِ، من حيثُ يتبوَّأُ التعجُّبُ المرتبةَ الأخيرة بسبع حالاتٍ تعجّبٍ فحسب.
والذي لاحظناه أيضاً حول هذه الظاهرة أنّنا ألفينا كلّ المعلّقاتيّين مستفهمين، مع تفاوت بينهم في كثرة الاستعمال: كثرة تتراوح بين تسعة استفهامات لدى الحارث بن حلّزة، واستفهاميْن فحسب لدى امرئ القيس.
ولعلّ أداة الاستفهام أن تكون زخرفة كلاميّة تجلو الرتابة عن النسج، وتنفض غبار السكون الأسلوبيّ عن الكلام، وتحمل المتلقيّ على التيقّظ والتّحفّز، وتدفعه إلى استعمال مَلَكَته الذوقيّة، وطاقته الذهنيّة من أجل أن يجيب عمّا أثير من تساؤلات، وطُرِحَ من استفهامات. إنّ الاستفهام، وخصوصاً الإنكاريَّ منه-وهو كثير- مُساءَلَةٌ، وَحَيْرةٌ، وقلق. ولعلّ المُساءلة أن تكون دعوة إلى المعرفة، والمعرفة أرقى مستويات الإدراك.
والاستفهام إبداءٌ لما في النَفْس من فضول معرفيّ، وَبَوْح بما في القلب من وجدان الذات، وكشْف عمَّا في الضمير من حَيرة حَيْرَى: فإِذا ما كان مخبوءاً يغتدي مكشوفاً، وإذا ما كان مستكيناً يُمْسِي مُعرّىً.(1/226)
وبينما كنّا ألفينا امْرَأ القيس يتبوَأ المنزلة الثانية بالقياس إلى زَخْرَ فَةِ التشبيه (واعتبرناه الأوّل من حيث تنويع تشبيهاته، وجمالها، وإِصابتها-كما يعبّر الجاحظ- وابتكارها وابتداعها): نلفيه الأخير في زخرفة الاستفهام. فكأنّه وقع تبادلٌ في المواقع النسجيّة بين المعلّقات فإذا هذه تُغْرِقُ في التشبيهات، وتلك تغرق في الاسْتِفَهامات، والأخراة تجنح لِلْقَسَم، وهلمّ جرّا...
وإنما ألفينا الحارث بن حلزة يغرق في استعمال الاستفهامات فيبلغ بها تِسْعَ حالاتٍ متبَّوئاً المنزلةَ الأولى بين المعلقّاتيين لأنه كان يدافع عن قضيّة، وَيَنْضَحُ عن مَوْقِفٍ. لقد كان قصاراه إِقْنَاعَ المتلقّين بظلم قبيلة تغلِب مجسَّدَةً، أو مُجَسَّداً، في موقف عمرو بن كلثوم، وتجاوزه كل طَوَرْ، وعَدَوه كل حدٍ: في الادِعِاءِ على بَكْر، وذهابه في كلّ ذلك المذاهب المستحيلة من سَوْقِ التُّهَمِ بالباطل...
وقد لاحظْنا أن الحارث لم يندفع في نسج الاستفهامات من ذاته إلاّ مرة واحدة:
لا أرى مَنْ عَهِدْتُ فيها فأَبْكِي الـ ... ـيوم، وما يُحيِرُ الْبُكَاءُ؟
وعلى أنّ هذا الاستفهام وارِدٌ ضمنياً، إذ يمكن أن تُقَرَأَ عبارة: "وما يُحَيُر الْبُكَاءُ" على معنى النفْي، لا على معنى الاستفهامِ؛ على الرغم من أنّ قراءتها على معنى الاستفهام يمنحها قوةًً دلالية أجمل وأقلق وأغنى؛ وكأن الحارث كان يريد أن يقول بالتسطيح النثري: وهل رأيتم، قط، بكاءً حارَ جَواباً، وردَّ خِطاباً؟ وهو كما يقرر الزوزنيّ: "استفهام يفيد الجحود"(16) فهذا الاستفهام: الشعريّ، الانزياحيُّ، الجميل(وهو جميل حقّاً لأنه خَرَقَ قواعد الصياغة المألوفة فاستفهم في غير مكان الاستفهام؛ وهي سيرة نعهدها لدى كبار الشعراء، وفصحاء الأبيناء) أفضى إلى الاستنكار والقَلَقِ، والحَيْرة والسُّمود.(1/227)
وأمّا بقيّة الاستفهامات فتنطلق، في عامّتها من الضمير الجمعيّ: من صرخة القبيلة، ومن صوت العشيرة، مثل:
أم علينا جَرَّى قُضاعَةَ أم ليـ ... ـس علينا، فيما جَنَوْا، أَنْدَاءُ؟
إنّ معظم التشبيهات لدى الحارث بن حلّزة واردة في معنى الإنكار والحجود، والرفض والنفي. وهو مازاد هذه التشبيهات فَيْضَاً جماليّاً بديعَاً، لأنّه يحمل جماليّة في نفسه من حيث هو مُساءلة، أي إيقاظٌ لانتباهِ المتلقّي ودَفْعَه إلى المشاركة في تشكيل الرسالة المطروحة، كما يحمل جماليّة أخراة تتمثّل في أنّه يحمل مُخادَعةً للمتلقّي، ومُغَالطَةً للمستقبل الذي يعتقد، لأول وهلة، أن الرسالة أُلقِيَتْ عليه ليجيب عنها، بينما هي تحمل جوابَها في نفسها، وإقناعَها في ذاتها، وإنكارَها في نسجها.
على حين أنَّنا ألفيْنا كُلَّ الاستفهامات الواردة لدى طرفة بن العبد، وهي ستّة، وهي تمثّل المرتبة الثانية بعد الحارث بن حلّزة، تنطلق من ذات الناصّ، وتنبع من نفسه، وتنبثق عن جَوَّانيته، لأنه كان بصدد نَعْيِ نَفْسِه، فيما يزعم مؤرخّو الأدب (17): فكان مُضطَرَّاً إلى التساؤل عن كثير ممّا يَحْدُثُ مِنْ حَوْلِهِ، أو قُلْ: ما يحدث له، أو قل: ما يحدث له عبر هذا العالم الغريب، وما يتعرّض له من ظلم ومَضاضَةٍ:
* وأنْ أَشْهَدَ اللّذّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخِلْدِي؟
* ستَعْلَمُ، إن متْنا غَداً، أَيُّنا، الصَّدِي؟
وأمّا منطلق مُساءلات عمرو بن كلثوم، وقد تواترتْ خمسَ مرّاتٍ، وهو الشاعر الذي كان يبشّر بقضيّة القبيلة، ويدافع عن مجدها، وينضَحُ عن شَرَفها: فإنّها وردت، هي أيضاً، وعلى سبيل الإطلاق، في معرض التحدّث عن الجماعة، والتكلّم باسمِها، ورفع العقيرة بصوتها:
بأيِّ مشيئةٍ، عمرو بْنَ هِنْدٍ ... تُطيع بنا الوُشاةَ وتَزْدَرِينا؟
أَلَمَّا تَعْلَمُوا، مِنَّا ومنكم، ... كتائِبَ يَطَّعِنَّ ويَرْتَمينَا؟(1/228)
بينما انطلقت استفهامات عنترة، وهي خمسة أيضاً، من أعماق نفسه؛ إذْ كان بصدد النَّضْحِ عن حَقِهِ في الحريّة، وَجدارته بالوجودِ؛ وإذْ كان على شجاعته وَحُسْنِ بَلائه في الحروب كان أبوه يتردّد في إلحاقِه بنَسَبِه، كما أنّ حُبَّهَ عَبْلَةَ أَجَّجَ في قلبه رسيس الهوى فأنطقه بما أنطق، وألهمه بما ألهم: فجعله يخاطبها، وهي بعيدةٌ عنه، معاتباً إيّاها عن عدم مُساءَلَتِها عن بَلائه في الحروب، ومتابعتها لمقاماتِه في الوغى؛ وكيف أنّ الخيل كانت تعرفه لفُروسيّته، وكيف أن الفرسان كانت تتَهَيَّبُه لشجاعته: إلاّ هي التي ظلّت جاهِلَةً، أو متجاهلةً، بما كان يجب عليها أن تعلم من أمره، وتعرفَ من شأنه:
هَلاَّ سأَلْتِ الخيلَ يا ابنةَ مالكٍ ... إن كنتِ جاهلةً بما لم تَعْلَمِي؟
وقد أثار انتباهَنا، هنا، شيءٌ آخرُ في نظام النسيج اللغويّ للمعلّقات؛ وهو هذه النداءات المتكررة، والأصوات المتعالية: الدالّة على الدَّلَهِ وَالْوَلَهِ، والقَلق والفَزَع، والتخوّف والترقّب. وكانت هذه النداءاتُ ربما خرجت عن إطارها الاستعمالِيّ المألوفِ، لتخرق القاعدة، ولتغتدي مُنزاحةً مُنساحةً، مثل ما نلفيه لدى امرئِ القيسِ الذي خاطب الليل فجعله يَعْقِلُ نداءه، ويعي خطابه (وإن كنّا شكَكْنا في أنّ الأبيات الأربعة التي يصف فيها الملك الضليل الليل، قد تكون له... وقد عللّنا ذلك في موقعه من هذه الدراسة...)، ومثل ما نجده لدى زهير الذي يخاطب الرَّبْعَ ويدعو له بالسَّلامة، وكأنّه عاقِلٌ واعٍ، وسامِعٌ سَاعٍ.
ذلك، وقد ألفينا هذه النداءات الصريحة، أو النداءات المنزاحةَ الواردة في صور التعجب، تبلغ زهاء تِسْعَةَ عَشَرَ. وقد توزّعت على عامّة نصوص المعلقات إلاّ معلقة الحارث بن حلّزة إنها خَلَتْ من أيّ نداء أو تعجّب. أمّا التواتر فكان يتراوح بين ستّةِ نداءاتٍ (عمرو بن كلثوم)، ونداءٍ واحدٍ (زهير بن أبي سُلمى).(1/229)
وإذا كنّا زعمنا أنّ الاستفهام يعبّر عن مدى القلق الناشئ عن فضول المُساءلة النائشة عن الحَيرة والتعجّب، فإنّ النداء لا يَقِلُّ جماليّة من حيث هو مظهرٌ تعبيريّ أنيق رشيق، وخصوصاً حين ينزاح النداء فينصرف إلى ما لا يعقل، أو حين يَحَارُ فينصرف إلى التعجّب كقول امرئ القيس:
ألا أَيُّها الليلُ الطويلُ ألا انجلِِ ... بِصُبْحٍ، وما الإصباحُ منك بأَمْثَلِ
فهذا الليل لطول زمنهِ، وكثافة ظلمته، وكثرة هُمومه، وشِدّة أهواله، ولمُلازِمة النَّاصِّ له، ولملازِمة الليل للنَّاصّ: مسافِراً يتسقَّطُ المجْد، وظاعِناً يحاول السُّؤُدْدُ، وأرِقاً يتجرّع العِشّق، وساهِراً يَحْتَسِي كؤوس الرَّاح، وشاعراً يلتمس بناتِ الشعر: اندمج في هذا الليل، واندمج الليل فيه، فذاب، ما كانَ بينهما من فروق: أحدهما إنسان حيّ عاقلٌ واعٍ، وأحدهما الآخر زمن مظلم غير عاقل ولا واع: فإذا هذا ذاك؛ وإذا ذاك هذا؛ وإذا النَّاصُّ يُلفي سبيلَه على ليله؛ فتنزاح له الحُجُب، وتتكشّف له الأسرار، وَيُؤْتَى من هذه الأسرار ما يُتيح له الفهمَ عن الليل؛ بل يُتيح له ما يجعله: يجعل هذا الليلَ يفهم عنه، وَيَعِيَ خطابه، ويستجيب لندائه... وإنه لِسِحْرُ الشعر! وإنه لَجمال النسْج الأدبي العبقريّ. وإنّها لَعُذْرِيَّةُ الخيال، ووحشيّة اللغة الشعريّة...
وإذا كنا توقّفنا لدى نداء امرئ القيس، هذا، فلِمَا رأَيْنا من اشتماله على انزياح لغويّ عجيب، وانسياج نسْجيّ مبكِرٍّ في الشعر العربيّ. أمّا النداءات الأخراة وعلى كثرتها في معلّقة عمرو بن كلثوم مثلاً؛ فإنها لا تجاوز حدود الاستعمال المألوف الذي إن كان يعني قلقَاً وعجَبَاً، وَحيرةً وتطلّعاً؛ فإنه، مع ذلك، وعلى الرغم من ذلك، لا يستطيع أن يرقى إلى مستوى الاستعمال المنزاح، مثل قوله:
أَبَا هِنْدٍ فلا تعْجَلْ عليْنا ... وأَنظِرْنا نُخَبِّرْكَ اليقينا؟(1/230)
وربما كان أجمل نداءات عمرو بن كلثوم حين قَرَنَ بين الاستفهام والنداء، في مثل قوله:
بأيِّ مشيئةٍ، عمرو بْنَ هندٍ، ... تُطيع بنا الوُشاةَ، وتَزْدَرينا؟
أمّا المظهر النسجيّ الآخر الجديرُ لِلَّتَوَقُفِ، والقمينُ للْمُلاحظة؛ فهو القَسَمُ الذي هو زينةٌ من زيناتِ النسج الأدبيّ في الأدب العربيّ: شعره ونثره. فقد كان الفصحاء يتفنّنون في هذه الأقسام، ويتأبَّهُونَ بها، ويتبجّحون باستعمالها لِمَا كانوا يُحسِّون، إحساساً فطريّاً، فيها من الجمال الدافق، والوهَج الطافح: فكانوا يسحرون المتلقّين سحراً، ويأْسرونهم أسْراً.
فلا عجب أن نلفي هذه المعلّقاتِ تُنَمِّقُ نُسِوجَها ببعض هذه الأقسام فنلفيها تتكرّر لدى ثلاثة معلقّاتيّين هم طرفة، وزهير، وامرؤ القيس. بيد أنّها لم تكد تتكرّر لدى هؤلاء إلاّ عشرَ مرات: أربعاً لدى الأوّلين، واثنتَيْنِ لدى الآخر.
وقد وردت تلك الأقسام في صورة العبارات التالية:
*لعَمْرُكَ، ولَعَمْرِي(أربع مرات)،
*آليت، وأقسمت، وحلفت (ثلاث مرات)،
*يميناً، ويمين الله(مرتين اثنتين)،
*وجَدِّكَ(مرة واحدة).
وقد وردت هذه الأقسام الثمانية، لدى طرفة وزهير، على لساني هذين المعلقّاتيّين أنفسهما، بينما القَسَمان الاثنان الآخران الواردان في معلّقة امرئ القيس ورداً على لسان إحدى النساء اللواتي شبَّب بهنّ:
*ويَوْماً على ظَهر الكثيب تعذَّرَتْ ... عَلَيّ، وآلَتْ حَلْفَةً لم تَحَلَّلِ
*فقالت: يَمِينَ اللّهِ مالكَ حيلَةٌ ... وما إِنْ أَرَى عَنكَ الغِوايَةَ تَنْجَلِي(1/231)
ولكن يبدو أنّ القسم، هنا، ومن الوجهة الدلالية الخالصة، لا يعني الرفض، ولا يعني التقديس؛ بمقدار ما هو كلام تقوله المرأة حين تريد باطناً ولا تريد ظاهراً. فالتَّأَبِّي، والتَّأَلِيَّ لدى هذه المرأة لم يكن يُقْصَدُ منه التمنُّعُ الحقيقيّ، ولا التأييسُ منها، ولا التزهيدُ فيها؛ بمقدار ما كان ضَرْبَاً من الغَنَجِ والإِغراء بها، حتّى قيل: إنّ البيت الثاني هو أغنج بيت قيل في الشعر العربيّ على سبيل الإطلاق(18).
فكأنّ النسيج الشعريّ لدى امرئ القيس أبداً يَسْتَمِيزُ عن النسوج الشعريّة لدى زملائه المعلّقاتيّين، ويتفرّد عنها، إن لاّ نقل يتسامى عليها. فالقَسَم لديه، هنا، مُنْزاحٌ لأنّه لا يحتمل ظاهِرَ الدلالة، بينما نلفي الأَلاَيَا، لدى طرفة وزهير، لا تخرج عن وَضْعِها اللغويّ، المألوف لدى الناس مثل قول زهير:
فأقسمتُ بالبيتِ الذي طاف حوله ... رِجالٌ بَنَوْهُ مِنْ قُريشٍ وجُرْهُمِ
يَميناً لَنِعْمَ السيّدان وجَدْتُما(1/232)
فالتَّالِيَّ، هنا في بيت زهير، مسلوكٌ في مَسْلَكِهِ المألوف؛ بحيث إنّ النَّاصُّ يُقْسِمُ يميناً بالبيت العتيق الذي كان تعاقب على بنائه أقوامٌ وأمم منها جُرْهُمٌ وقريش (ولأمر ما كانت قريش تؤثر شعرَ زهير على صِحَابِه، زاعمةً أنّه"لا يعاظِلُ بين الكلاميْن، ولا يتتبّع وحشيّ الكلام، ولايمدح أحداً بغير ما فيه" (19)، بينما قد يكون ذلك عائداً إلى أنّه لأنه ربما ذكر قريشاً في معلقته؛ وإلاّ فأين المُعَاظَلَة التي نجدها، مثلاً، في شعر امرئ القيس... فهناك شعراء لم يمدحو قطّ منهم عمرو بن كلثوم، وربما عنترة أيضاً(بينما مدائح امرئ القيس-وهي قليلة- لا يمكن أن ترقى إلى مستوى شعره في المعلّقة أو المطولّة-، فالمَدْح في مسألة تفضيل زهير غير وارد إذن، فلماذا ذكر؟ إلا أن تكون المفاضلة كانت بينه وبين سَوَاءِ المعلقّاتِيّينَ، والحال أنها كانت بينه وبينهم؛ فهم أَكْفَاؤُه وأَنْدَادُه. وهناك شعراء ظلت لغة شعرهم جاريةً على كلّ لسان، ومعانيهم مسرعةً إلى كلّ جَنان؛ منهم امرؤ القيس، فأين الوحشيّة اللغويّة المزعومة التي تتحدّث عنها تلك الرواية...؟ وَلِمَ قَدَّمَ الرسولُ الكريم، صلى الله عليه وسلم، امرَأَ القيس(20)، ضمناً، بينما لم تقدّمه قريْشٌ...؟) إنّ هذين السيّدين اللذين هما هرم بن سنان، والحارث ابن عوف: لَكَرِيمان ماجدان، بسعيهما إلى وقف سَفْكِ الدماء"بين عبس وذبيان، وتحمّلهما أعباءَ دِيَاتِ القَتْلَى"(21).
فالقَسَمْ، على شرف مستعملِه، لا يخرج هنا عن الإطار المألوف للنسْج الأدبيّ؛ فليس فيه خرّق ولا انْزِيَاحٌ. ومثل ذلك يقال في بقية الأَ لاَيَا الأخراةِ التي لا تكاد تخرج عن الاستعمال المألوف إلا ما رأينا من قَسَمَي امرئِ القيس على لسان فاطِمته.(1/233)
وعلى أنّ هناك مُزَخْرَفِاتٍ أخراةً صادفتنا ونحن نقرأ نصوص المعلّقات وهي التعجّب، والدُّعاء، والتحيّة والتمنّي... وقد صادَفنا بعض ذلك، خصوصاً، لدى زهير، وعنترة، ولبيد، وامرئِ القيس، وطرفة. ولكنّ ذلك كلّه لم يجاوز تسع مزخرفات مثل قول امرئ القيس حكايةً عن حبيبته وهي تدعو إليه: دعاء المتدلِلَّةِ المتغِنّجَة، الوامقة العاشقة، لا الحاقدة الحانقة؛ فكأنّها كانت، إذن،
تدعو له:
*فقالَتْ: لَكَ الوَيْلاتُ، إنَّكَ مُرْجِلي
وهنا، أيضاً، نُلفي هذا الدعاءَ مارِقاً عن نظام الاسْتعمال المألوف، ونازحاً عن أصل الاستخدام المعروف: فإذا هو معدول به عن وضْعه الأصليّ. ذلك بأنّ الدعاء إمّا أن يكون عليك، وإمّا أن يكون لك؛ فإذا كان عليك فهو بالويل والثبور، وهو بالشقاء والتِّبارِ؛ وهو بكلّ ما هو سيّء ضار... وأمّا إذا كان لك فهو بالسَّقْيا والخَيْر، والرحمة والسعادة، والتوفيق والفَلَجْ. والويل، في ظاهره، مصروف إلى مصارف الشرّ، ومدفوع إلى وجوه الضَّيْر، لكنّ ذلك كله مجرّد مغالطة أسلوبيّة يحملها سطْح النسج: إذا كان السياق يقتضي أنّ الوبل، هنا، لا يزال يفقد من غُلُوَاءِ شِرّهِ وضيْره إلى أن يغتدِيَ مجرّدَ كلامٍ أبيضَ، أي إلى أن يغتدِيَ عبارةً تَحَبُّبٍ وَتَوَدُّدٍ، وقولَةِ إِغْراءٍ وتقرُّبٍ، وإعلانَ دُعاءٍ وتَوَمُّقٍ؛ فكأنَّ معنى هذا الدعاء الجميل: ارْفُقُ بِي أيها الحبيبُ الغالِ؛ والتزِمْ شيْئاً من الحِذَارِ حينُ تُقَبِلُّني؛ وأنا في غبيطيَ الصغير؛ فإنّك توشك أن تُوقعني أَرْضَاً، وإنّي أخشى أن تَقَعَ، قبل أن أَقَعَ أنا أيْضاً، أرْضاً! ومع ذلك، فامْضِ فيما أنتَ فيه ماضٍ؛ فإني مُلْفِيَةٌ فيه اللذاذَةَ، ومُحِسَّةٌ فيه بالنعيم!... فامْضِ، إذن، فيما أنت فيه، وَلأُرْجَلْ، أثناء ذلك، أَلْفَ إِرْجَالَةٍ!...ويَحْكَ امْضِ... ويحك ادْنُ..
ونُلْفِي زُهيراً يُحِيّي طَلَلَه الْبَالِ، وربْعَه الدارِسَ، فيخاطبه:(1/234)
فلَمَّا عرْفتُ الدارَ قلت لربْعِها، تَكَلَّمي ... أَلا عِمْ صباحاً، أيُّها الربْعُ، واسْلَمٍِ
كما نلفي عنترة يخاطب حبيبته، يحيّيها، ويدعو لها:
يا دارَ عَبْلَةَ، بالجَواءِ، تَكَلَّمِي ... وعِمِي صَباحاً، دارَ عَبْلَةَ، واسْلَمِي
وقد يكون هذا البيت من أجمل الشعر العربيّ زخرفةً، فقد جمع فيه الناصّ بين عدّة مُزَخْرَفاتٍ:
المزخرِفُ الأوّلُ يَمْثُلُ في النداء الذي تكرر مرتيْن اثنتين:
... يا دارَ...+ دار عَبْلَةَ (نداء بالياء، ونداء آخر بحذف حرف النداء).
ولقدْ يمكن أن نُؤَوِّلَ استعمالَ أدَاةِ النداء أوّلاً، ثم العدول عنها آخِراً، في موقف واحد، وفي بيت واحد؛ لم يكن إلاّّ تجسيداً لِمَا كان يلتعج في نفسْ الشّخصية الشعريّة التي كانت ترى مُبْتَدأَ الأمِر، أنّ دار الحبيبة، فِعْلاً، بعيدةٌ من حيث الحيزُ، من أجل ذلك كان الأليقُ بالنسج استعمالَ أداة النداء الدالّة على بعيد. ولكن لَمَّا دَعا لدار الحبيبة، عاد في موقفه، وكأنه اسْتَحَى أنْ يُخاطِبَها بأداة النداء الدالّة على البعيد، فناداها، تارةً أخراةً، بوجهٍ آَخَرَ من الكلام، واصطنع زَخْرَفَةً دالة على الاقتراب والالتصاق؛ فكأنّ عَبْلَةَ كانت مستقِرَّة في نفسه، وكأنها كانت كَظِّلهِ لا تُزايلهِ، وتقارفه ولا تفارقه، فقال: دارَ عبلة...
وأمّا المزخرِفُ الثاني فَيْمثُلُ في تَحيَّةِ الحبيبة والتسليم عليها، وقد اصطنع الناصّ عبارة أهل الجاهليّة في التحيّة، وهي:
عِمِي صباحاً.
والمزخرف الثالث يَمْثُلُ في الدعاء، وهو قوله:
اسلَمِي!
على حين أنّ المزخرِف الرابع يَمْثُل في استعمال الطَلب الوارد، ظاهريّاً، في صورة الأمر، وهو قوله:
تَكَلَّمي.(1/235)
وعلى أنّ ذكر الحيز الذي كانت تقطنه عبلة أمرٌ واردٌ ضمن الإغراق في هذا التحبّب وهذا التومّق؛ إذْ ذِكْرُ المكان تخصيصٌ لِلاسْمْ؛ فكأنّه ذِكْرٌ لَعَبْلَةَ مرتين اثنتين... فما يدري المتلِقّي وقد تكون العَبَلاَتُ كثيراتٍ... فلمّا خصّ عَبْلَتَه بمكان الجَواءِ، بمقامها زادَ دلالةَ التسميةِ تَخْصيصاً. وأمّا المزخرِف الذي يُحَسَّ ولا يَلْمَسُ، وَيُفْهَمَ ولا يُنْطَقُ؛ فهو مخاطبةُ الشخصيّة الشعريّة ما لا يعقل إذا خاطب دارَ عبلة وكأنها كائِنٌ حَيٌّ عاقل يَفْهَم عنه، ويَسْمع منه، وذلك غاية الدَّلَهِ والسُّمود.... ونكاد نلاحظ في بيت زهير ما لاحظناه في بيت عنترة حيث إنّ النّاصّين يَدْعُوانِ من خلال الدعوة لداريَ الحبيبتيْن، في الحقيقة، للحبيبتيْن...
((
( إحالات وتعليقات
1. ابن منظور، لسان العرب، حقق.
2. م. م. س.
3. ديوان المتنبي(شرح البرقوقي)، 4. 43- 61 .
4. زكيّ مبارك، مقدمة زهر الآداب، 1. 6-9.
5. أحمد مصطفى المراغي، علوم البلاغة، 219- 220. وعلى أنّ الشيخ خرج في تقرير هذه المسألة من التشبيه إلى وجه آخر من الكلام.
6. ابن طباطبا، عيار الشعر، ص. 15 وما بعدها.
7. ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، 1. 43 .
8. الزمخشري، الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل، وعيون الأقاويل، في وجوه التأويل، 1. 2.
9. سورة هود، الآية: 41، وانظر الزمخشري، م.م.س، 2. 394 - 395.
10. الجاحظ، البيان والتبيين، 1. 58- 59 .
11. م. س.، 1. 297- 298
12. م. س.، 2. 142 .
13. سورة الرحمن، الآية: 1.
14. سورة النور، الآية: 45 .
15. عبد الملك مرتاض، القصّة في الأدب العربي القديم، 37 -88.
16. الزوزني، شرح المعلّقات السبع، 155 .
17. ابن قتيبة، الشعر والشعراء، 1. 118.
18. الزوزنيّ، م. م. س.، 18 .
19. أبو زيد القرشيّ، جمهرة أشعار العرب، 25؛ وابن قتيبة، م. م. س، 1. 76-81 .
20. القرشيّ، م. س.
21. الزوزنيّ، م. م. س.، 78 .
((1/236)
6. الناصية والتناصية في المعلقات
لقد كثر الحديث عن التناص في العِقدين الأخيرين بين النقاد الحداثيين، والجامعيّين المشتغلين بالدرس الأدبيّ؛ حتى اغتدى جارياً على كلّ لسان، وعالقاً بكل جَنان، ودائراً في المجالس، ومتداوَلاً في المآقط.
ولقد سبق لنا، في كتاباتنا الأخيرة أن تناولنا الحديث عن التناصّ، أو التناصيّة على أصحّ ما ينبغي أن يقابل المفهوم الغربيَ [INTERTEXTUALITE]: إما تنظيراً، وإما تطبيقاً(1)؛ كما سبق لنا أن أحلنا على كثير ممن تناولوا هذا المفهوم السيماءويّ الجميل من الأجانب والعرب(2) جميعاً.
وحين جئنا اليوم نتناول نصوص المعلقات السبع أثار انتباهنا ما في هذه النصوص الشعرية من مواقف متشاكلة على المستوى المضمونيّ، وألفاظ متشاكلة، أو مكررة، على المستوى الشكلي: لدى أولئك وهؤلاء؛ بحيث لاحظنا نسوجاً تعبيرية متشاكلة ومتماثلة. وواصح أن الأول من المعلقاتيين يُفترَض أن يكون هو المؤثّر، واللاحق له هو المتأثر. ذلك هو قانون الزمن، وناموس الإبداع؛ ولا ينبغي أن يدفعه إلاّ معارض مكابر، ومناوئ مغالط. ومن العسير الذهابُ إلى أن مثل هذه الأمور تندرج ضمن إطار ما كان يطلق عليه في النقد العربي القديم"وقوع الحافر على الحافر"؛ ذلك بأن المعلقاتيين السبعة، كما كنا حققنا ذلك في مقالة ضمن هذه الدراسة، كانوا متعاصرين جميعاً؛ فكانوا يشكّلون مدرسة شعرية واحدة...(1/237)
وقبل أن ننزلق إلى تناول هذا الموضوع الذي اختصصنا به هذه المقالة، نودّ أن نومئ إلى نصّ لأبي عثمان الجاحظ عثرنا عليه في قراءاتنا إياه؛ ونحسب الناس لم يحيلوا عليه، ولا نبهو إليه، ولا احتفلوا به، وهو -من بين النصوص النظرية، التي كنا أومأنا إليها في مقالة لنا بعنوان"فكرة السرقات الأدبية ونظرية التناص" [ونشرناها في مجلة"علامات"، بجدة، 1991]؛ وهي: لعبد العزيز الجرجاني، ولجملة من النقاد العرب الأقدمين الآخرين(3)- تنبّهُه إلى أن الشعراء عالات على بعضهم بعض، وأن الإبداع الذي به يتبجحون قد يكون نسبياً جداً؛ إذ"لا يُعلم في الأرض شاعر تقدم في تشبيه مصيب تام، وفي معنى غريب عجيب، أو في معنى شريف كريم، أو في معنى بديع مخترع؛ إلاّّ وكلّ من جاء مَن الشعراء، من بعده أو معه، أن هو لم يَعْدُ على لفظه فيسرق بعضه أو يدّعيه بأمره: فإنه لا يَدَعْ أن يستعين بالمعنى، ويجعل نفسه شريكاً فيه، كالمعنى الذي تتنازعه الشعراء فتختلف ألفاظهم، وأعاريض أشعارهم، ولا يكون أحدهم أحقَّ بذلك المعنى من صاحبه..."(4).
ومثلُ هذا النصّ النقديّ العجيب هو الذي كان يحملنا، دَوْمَاً، على الانطلاق من التراث نحو الحداثة، أو من الحداثة ولكن بالاستناد إلى التراث؛ وذلك على أساس أنّ التراث النقديّ العربيّ، غنيّ بالنظريّات والآراء النقديّة... والذين يكابرون فيتحاملون على هذا التراث لا يَعْدُوَن أن يكونوا واحِداً من اثنيْن: إمّا لأنَّهم يجهلون هذا التراث، وإمّا لأنهم، لبعض ما في قلوبهم من مَرَضٍ، يمقتونه فيقعون في المكابرة. ولاحجّة لهم في الحاليّن، ولا سَدَادَ لرأيهم في الطوريْن.(1/238)
فأبو عثمان، هنا يُؤَكِّدُ أنّ هناك معانِيَ مشتركةً، أو اغتدت مشتركة، بفعل تكالب الشعراء عليها، ولهجهم بها، واحتفالهم عليها؛ فإذا لا دَيَّارَ منهم أحقّ بذلك المعنى من صاحبه. ولنلاحظْ أَنَّ الجاحظ لم يقع فيما كان يسمّيه النقاد الأقدمون، وخُصوصَاً عَلِيَّا الجرجانيّ،"السرقات". إنّ هذا المصطلح الأخلاقيّ، القضائيّ مزعجٌ ومُؤْذٍ، ولايستقيم به الطريق للنقد في أيّ عهد ، إذْ كانت السرقة أمراً محرَّماً، وسُلوكاً مشنّعاً، في كلّ الأديان والشرائع والقوانين الوضعّية، والحال أنّ الأديب كثيراً ما لايتعمّد، بالتجربة والممارسة، هذه السرقة، ولا يقصد إليها؛ وربّما لا يريدها أصلاً؛ ولكنّ سلوكه يكون، في الغالب، من باب وقوع الحافر على الحافر؛ أو من باب تشابه المواقف فتتشابه معها الألفاظُ: كالبكاء على الأطلال، وكالنوح على الديار، وكالحنين إلى الربوع الدارسة، وكالوقوف على الدِّمَنْ البالية. وتماثل العواطف كحبّ الشعراء لحبيبات كنّ يعشن في تلك الديار التي لم يبق لهم منها إلاّ آثارُها، بعد أن تَحَمَّل عنها أهلها، وزايلَها أصحابُها... فقد كان واقعاً اجتماعياً محتوماً، وكان على الشعراء أن يخوضوا فيه، ويصوّروا تجاربهم من حوله. ولم يكن من المنصف أن يسكت اللاّحقون عنه، لمجرّد أن السابقين تناولوه...(1/239)
إنّ الجاحظ، إذن، رفض، ضمنيّاً، مصطلح السرقات وأثبت أنّ هذا المصطلح غيرُ سليم، وهو إذن غيرُ مقبول. ولا نعرف شاعراً مُغلِقاً، ولا خطيباً مِصْقَعاً، ولا مترسِّلاً مُفَوَّهَاً: سَطَا، متعمِّداً، على آثار مَن سَبقه من الأدباء فسرقها علانية؛ وقلّدها من باب العيّ والعجز، والبَكاءة والفَهَاهة.. فإنّما كان الفصحاء الأبْيِنَاءُ ربما جال بِخَلَدِهم بعضُ نسوجِ سَوَائِهِمْ فرَكَضَتْ على أَلسنتهم وهم يخطبون، أو جرت علىأقلامهم وهم يكتبون ولا ينبغي لِسُرَّاق الأدب والأفكار أن ينضووا تحت لواء المتناصّين. فكلُّ سارق ساطٍ؛ ومَن كان ساطياً سارقاً كيف يمكنه أن يكون كاتباً أدبياً؟ فالمسألة محسومة من أصلها إذن. والأمر يجب أن ينصرف إلى التناصّ، أو التّكاتُب الذي هو سلك تأثيريٌّ تأثُّرِيٌّ معاً، وفاعِليٌّ تَفَاعِليٌّ جميعاً: بين كبار الأدباء... أمَّا السرقة الأدبيّة فلا يَعْمِدُ إليها إلاّ صغارُ النفوس، والمحرومين مِمَّن لم يخلقهم الله ليكونوا أدباء فتحدَّوْا إرادته، وحاولوا أن يَكُونُوهُمْ فأمْسَوْا من الخاسرين.
وقد لاحظنا حين جئنا نقرأ الشعر الجاهليّ بِعَامَّة، والمعلّقات بخاصّة، أنّ تأثير امرئ القيس فيمن عَداهُ من الشعراء العرب الأقدمين واضح ظاهر. ويبدو أنّ الشعراء الأقدمين لم يكونوا يتحرجون في تناول بعض الأَبَايِيتِ، أو مصاريع منها، أو أجزاء من مصاريعها، على سبيل التضمين، أو قل بلغة العصر على سبيل التناصّ؛ فإذا الواحِدُ منهم لا يرعوى عن أن يكرّر ما كان قاله سَوَاؤُهُ، دون أن يُلْفِيَ في ذلك حرجاً أو حُوباً.
ويمكن أن نمثّل لبعض ذلك في مقدّمة هذه المقالة من آثار امرئ القيس في الشعر العربي: جاهلِّيه، وإسلاميِّه، وأُمَوِيّه، دون إعنات النفسْ في متابعة ذلك إلى أزمنة أخرى متأخرة، أو إلى شعراء آخرين، على العهود الأولى للشعر العربيّ.(1/240)
فهل يمكن، نتيجة لذلك، عَدُّ امرئِ القيس ناصّاً، ومعظم الشعراء الباقين في الجاهلية، وصدرٍ من عهد الإسلام، متناصّين معه، مُعْجَبِين به؛ محاكين له؟ فعلى الرغم مِنْ أنّ امرأ القيس نفسَه يعترف بأنه، هو أيضاً، تناصَّ مع امرئ قيسٍ آخَرَ، يُدْعَى ابْنُ حُمَام(5) حين زعم أنه هو الذي كان بكى الديار من قبله(6)، بل زعمت كَلْبٌ أنّ الخمسةً الأبياتَ الأولى كلّها من معلّقة امرئ القيس هي لابن حُمام(7): فإنّ معظم الشعراء على عهد الجاهلية خصوصاً، بل شعراء العهود المتأخرة، ظلّوا يتناصّون معه في وصف الديار، وفي وصف النساء، وفي وصف الخيل، وفي وصف الليل، وفي وصف المطر... فمنهم من كان يتعلّق به جودةً، ومنهم من كان ينأى عنه ولا يزدلف منه.
ولو لم يكن امرؤ القيس أميناً حين أومأ إلى هذا الشاعر المنقرِض السيرةِ، والذي لا يعرف عنه النقادُ الأقدمون شيئاً، ولا سَمِعُوا "شعره الذي بكى فيه، ولا شِعْراً غير هذا البيت الذي ذكرَ امْرؤُ القيس" (8)، لَمَا عُرِفَ ابْنُ حمام هذا بين نقّاد الشعر الأقدمين باسمه على الأقلّ.
والحق أنّ عبارة ابن سلاّم الجمحي تفتقر إلى نقاش، لأنّ قوله: "غير هذا البيت الذي ذكر امرؤ القيس" : يفهم منه أنّ امرأ القيس ذكر فعلاً بيتاً من الشعر لامْرِئِ القيس بن حُمام، يقول امرؤ القيس في مطولته الشهيرة:
أَلا عِمْ صَباحاً أيُّها الطَّلَلُ البَالِي ... وهل يَعمِمَنْ مَن كان في العُصُرِ الْخَالي؟
ويقول عنترة:
يا دَارَ عَبْلَةَ بالجَوَاءِ تَكَلِّمِي ... وعِميِ صَباحاً، دَارَ عَبْلَةَ، واسْلَمِي
ويقول زهير
*أَلا أنْعم صباحاً أيُّها الربْعُ واسْلَمِ*
وعلى أنّنا سنعالج، بعد حين، ما يتمحّض للتناصّ في المعلقات.
ويقول امرؤ القيس:
وجِيدٍ كجيدِ الرئم ليس بفاحشٍ ... إذا هي نصًّتْه، ولا بمُعَطَّلِ
ويقول قيس بن الخطيم:
وجيدٍ كجيدِ الرئم حالٍ يَزِينُهُ ... على النَّحْرِ منظومٌ وفصل زبرجَدِ (11)
ويقول امرؤ القيس:(1/241)
فبات عليه سرْجُه ولِجامُه ... وبات بعيني قائِماً غيْرَ مُرْسَلِ
ويقول الراعي:
فبات يُريِه عِرْسَهُ وبَنَاتِهِ ... وبَتُّ أُراعي النجمَ أيْنَ مَخَافِقُه؟ (12)
ويقول امرؤ القيس:
أَلا أيُّها الليلُ الطويلُ ألا انْجَلِي ... بصُبْحٍ، وما الإِصباحُ منك بِأَمْثَلِ
ويقول الطرمّاح بن حكيم الطائي:
أَلا أَيُّها اللَّيْلُ الطويلُ ألا أصْبِحِ ... بِبَمَّ، وما الإْصْباحُ مِنْكَ بِأَروحِ (13)
ويقول امرؤ القيس:
أغرّكِ منّي أنّ حُبَّكِ قاتِلي ... وأَنَّكَ مَهْما تَأْمُرِي القَلبَ، يَفْعَلِ
ويقول جرير:
أغرّك مِنّي أَنَّما قاَدَني الْهَوَى ... إليك، وما عَهْدٌ، لَكُنَّ، بِدَائِم(14)؟
ويقول امرؤ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ ... بسِقْطِ اللِوّى بين الدَّخولِ فَحَوْمَلِ
ويقول عمرو بن الأهتم التميمي:
قِفا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ وأطْلالِ ... بذي الرَّضْمِ، فَالرُّمَّانَتَيْنِ فأَوْعَالِ(15)
ويقول امرؤ القيس:
*فَمِثْلِكِ حُبْلَى قدْ طَرقْتُ ومُرْضِعٍ*
ويقول قيس بن الخطيم:
*ومِثْلكِ قَدْ أَصَبْتُ لَيْسَتْ بِكَنَّةٍ* (16)
ويقول امرؤ القيس:
*كأنّي غداةَ البَيْنِ يومَ تَحَمَّلُوا*
ويقول بشر بن أبي خازم:
*وكَأَنَّ ظَعْنَهُمُ غَداةَ تَحَمَّلُوا* (17)
ويقول امرؤ القيس:
فيالَكَ من لَيْلٍ كَأَنَّ نُجومَه ... بأَمراسِ كتّانٍ إلى صُمِّ جَنْدَلِ (رواية الزوزني).
ويقول الأعشى:
كأن نُجومَها رُبِطَتْ بِصَخْرٍ ... وأَمْراسٍ تَدُورُ وتَسْتَزِيدُ(18)
ويقول امرؤ القيس:
*فَمِثْلِكِ حُبلْى قد طَرقْت ومُرْضِعٍ
ويقول الأعشى:
*فَمِثْلِكِ قَدْ لَهَوْتُ بَها، وَأَرْضٍ*(19).(1/242)
ذلك، وأنه استرعى انبتاهَنا جملةٌ من الظواهر في هذا التناصِّ الذي قصَصْنا أثرَه في نصوص المعلّقات السبعِ قصاً لطيفاً حتَّى وقع لنا منه طائفةٌ صالحة، ومقادِيرُ وافِرَةٌ: فَوَفَر لنا منه ما نطلق عليه اللّغة المشتركة، أو التناصّ اللفظيّ؛ وما نطلق عليها التناصّ النسجي؛ وما قد نطلق عليه التناصّ الذاتي؛ وما قد نطلق عليه التناصّ المضمونيّ. ونعالج في هذه المقالّة كلّ هذه المستويات من التناصّ الذي يَحْكُمُ علاقاتِ التفاعُلِ بين المعلّقات السبع.
المستوى الأول: التناصّ اللفظيّ
ونحن نقرأُ نصوص المعلّقات، ونعيد قراءَتَها مُرُوراً كِثَاراً -لم نتمكّن من تَعدادها- :اسْتُبَان لنا أنّ هنَّاك ألفاظاً كثيرةً وردَتْ لدى ناصِيّنَ فتداوَلَها آخرون متناصِيّنَ معها، معجبين بها، مُحاكِين لها، وقد لا يعود ذلك، في رأينا، إلى قصور في المخزون اللغويّ لدى هؤلاء، أو لدى أولئك؛ ولا إلى ضيقٍ في الأفق الخياليّ، ولكن إلى انضواء المعلقّاتيّين من حول مسائَل متقاربَةٍ، حتّى إنهم كانوا يتعمّدون التقارب فيها، أو التناصّ من حولها.
وعلينا، أثناء ذلك، أن نعترف بأنّ الشعراء السبعة كانوا يعيشون في بيئة واحدة، متشابهة ومتناظرة، وفي عصر واحد لم يكد يجاوز قرناً واحداً: قيلت فيه هذه الروائع السبع التي ظلّت نموذجاً رفيعاً تحتذيه الشعراء طوال عمر الأدب العربي البالغ، الآن، ستّة عشر قرناً...
ولكن لماذا التناصّ اللفظي؟
لقد عقدنا له هذه الفقرة من البحث لأنّنا نعتقد أنّه يمثل المادّة الأولى التي كان المعلقّاتيّون يغترفون منها، ويبنون قصائدهم عليها. وإنّ مثل هذا السعي الذي ينهض على الملاحظة، ثم الإحصاء، سيسمح بتمثّل الاهتمامات المشتركة التي كانت تجمعهم، كما تجسّد ما يمكن تسميتُه بوحدة التصورّ للأشياء والعالَم. فتشابُه اللغة وتماثُلُها يَدُلاَّنِ على تشابه الخيال وتماثله.(1/243)
وبمقدار ما تتشاكل اللغة وتتماثل لديهم، بمقدار ما سيسمح ذلك بإعطائنا فكرة عن منشغلاتهم، وصورة عن منطلقاتهم الشعريّة.
إننا نتمثّل اللغة التي يبني منها، أو بها، الشعراء قصائدهم، في كلّ عصر وفي كلّ مصر، بمثابة الألوان الزيتيّة التي يبني منها الفنّان المُلْهَمُ لوحَته بريشته السَّخِيَّة.
ولكن علينا، وهو ما سنفعله، محاولة تأويل طغيان مادّة لغويّة بعينها على مادّة أخراةٍ، وذلك بعد استعراض أهم الموادّ اللغويّة بين معلّقاتيَّيْنِ اثنَتيْن أو أكثر(20). وإنَّا نتحلّل، سلفاً، من عدم متابعتنا، بدقّة دقيقة، واستقراء شامل، لكلّ ما هو مشترك من اللغة بين المعلّقاتيين. ولعلّ ما سنقدّمه، في هذه المقالة، أن يكون مجرّد انتقاء، لا إحصاء شامل. فذلك، إذن، ذلك.
الحقل الأوّل للتناصّ اللّفظيّ:
الطَللُ والرسم والدار والمنزل وما في حكمها
مق:
1. قِفا نَبْكِ من ذِكْرى حبيبٍ ومَنْزِلِ
2. فتوضِحَ فالْمِقْراةِ لم يَعْفُ رسْمُها
3. تَرَى بَعَرَ الأرِآم في عَرَصَاتها
4. فهَلْ عَنْدَ رَسْمٍ دارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ؟
ط:
1. لَخَوْلَةَ أَطْلاَلٌ بِبُرْقَةَ ثَهْمَدِ
ل:
1. عَفَتِ الدِيَارُ مَحَلُّها فَمُقامُها
2. فَمَدافِعُ الرَّيَّانِ عُرِّيَ رَسْمُها
3. دِمَنٌ تَجَرَّمَ بَعْدَ عَهْدٍ أَنِيسها ... ... حِجَجٌ
4. وجَلاَ السُّيولُ عنِ الطُّلولِ كَأَنّها ... زُبُرٌ
5. فوقَفْتُ أسأَلُها وَكَيْفَ سُؤَالُنا؟ ...
6. عَريَتْ وكان بها الجميعُ فأَبْكَرُوا
ز:
1. أَمِنْ أُمِّ أوفى دِمْنَةٌ لَمْ تَكَلَّمِ؟
2. ودارٌ لها بالرَّقْمَتَيْنِ كَأَنَّها ... ... مَراجِعُ وَشْمٍ
3. فَلأَيّاً عَرْفتُ الدارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ
4. أَلاَ أنْعِمْ صَبَاحاً أَيُّها الرَّبْعُ واسْلَمِ
ع:
1. أَمْ هل عرفْتَ الدارَ بعد تَوَهُّمِ؟
2. يا دارَ عبْلَةَ، بالجَواءِ، تَكَلَّمِي
3. وعِمي صباحاً، دَارَ عَبْلَةَ، واسْلَمِي
4. فوقفْتُ فيها ناقَتِي وكَأَنَّها ... ... ... فَدَنٌ(1/244)
5. حُيِّيت مِن طَلَلٍ تقادَمَ عهْدُهُ
6. أقوى وأقْفرَ بَعْدَ أمِّ الهيْثَمِ
ح.ح :
1. فأدْنى دِيارَها الْخَلْصَاءُ
2. لا أَرّى مَنْ عهِدْتُ فيها، فَأبْكِي...
إنّنا، من خلال عرْض لبعض هذه التناصّات الماثلةِ في مستوى اللغة-وقل إن شئت في مستوى اللفظ- أن أكثر المعلّقاتيّين تمسُّكاً بالديار، وبكاءً على الآثارِ، هما: لبيد وعنترة بستّة تَواتُرَاتٍ، لكلّ منهما. بينما نلفي زُهيراً يستبدّ بالمنزلة الثالثة بخمسٍ مراتٍ، من حيث يتبوَّأُ امرؤُ القيس المنزلة الرابعة بأربعة تَواتُراتٍ. ويأتي الحارث بن حلّزة في المرتبة الخامسة بتناصَّتيْنِ اثنتين فحسب. واجتزأ طرفة بتناصَّةٍ واحدة في المرتبة الأخيرة.
وقد جاء التَّناصُّ المنصِرفُ إلى ذِكْرِ الديار، والبكاء على الآثار، انعكاساً طبيعياً للخيال الجاهليّ الذي كان مقصوراً على التفكير، لدى الشعراء بعامّة، والمعلقاتيّين بخاصّة، في تلك الديار المقفرة، والرسوم البالية، والربوع الخالية؛ بعد أن تحمّلت عنها الحبيبة وَيَمَّمَتْ إلى حيث لا يكاد يَدْرِي إِلاَّ أَهْلُ حَيِّها. وكانت العلاقات الاجتماعيّة من الانغلاق، ووسائل النقل من البدائيّة، ما كان يجعل من العسير متابعة الحبيبة، والتمكّن من رؤيتها تارة أخراةً، بلْة الاستمتاعَ بجمالها، والتَّمِلّيَ بِبَهَائها.(1/245)
لقد كان مثل ذلك الوضع الراكض في نَفَقٍ ضيّق، وفي حيز محدود الآفاق، على السِّعَةِ الجغرافيّة، عاملاً قويّاً على شيوع البُكائيات، وظهور ما يعرف بالطَليّات، تقليداً شعرياً في بناء القصيدة العربية الأولى، كما بلغَتْنا على الأقل. وإلاّ فماذا كان على الشاعر أن يأتي من الأمر وَقَدْ فَقَدَ الحبيبة، وأَضاعُ مُتَّجَهَ حَيِّها: غَيْرَ هذا البكاءِ، وغيرَ الوقوفِ على ديَارها، وغيرَ تأمُّلِ رسْم طُلولِ حيّها، وتشبيهه بوشم اليد البالي طوراً، وبالكتابة الشاحبة طوراً آخر: وقد عَرَّتَّهْا السيول الجارفة، أو عرّتّها الرياح العاصفة من رمالها التي كانت تغمرها...؟
إنّ طغيان هذه التناصّات يَسْتَبِينُ لنا كيف كان المعلّقاتيّون متمسّكين بهذه البِنْيَةِ الفنيَّة التي أسّسها، غالباً، شعراء قبل امرئ القيس، من بينهم امرؤ القيس بن حُمام؛ ولكنّ أشعارهم ضاعت وبادت؛ فإذا القصيدةُ الجاهليّة تتأسَّسُ على عهد الْمُهَلْهِلِ وامرئ القيس(21)، كما سلفت الإشارة إلى بعض ذلك، في مطلع هذه المقالة. وإذا معلقةُ امرِئِ القيس تصادف رواجاً عجيباً بحيث اغتدت القصيدة العربيّة الأولى، وأساس الأدب العربيّ لدى الناشئة والجامعيّين معاً؛ بحيث يكون أكثرَ الشعراءِ العرب محفوظيّةٍ على وجه الإطلاق؛ وإذا كلُّ عربيّ، في المشرق والمغرب، يردّد مع صدى الدهر، وصوت الزمن:
*قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكرْى حَبيبٍ ومَنْزِلِ*
وإذا المتنبيّ، وعلى الرغم من أنّه تنبَّأ بأنّ الدهر لن يكون شيئاً غيرَ رُواةِ قصائِدِه، قد يكون آتِياً في المرتبة الثانية بعد أبي الشعراء العرب امرئ القيس.(1/246)
والذي يعنينا، هو أنّ امرأ القيس لم يكن في بُكائه الأطلالَ ناصَّاً، ولكنه، هو أيضاً كان مُتناصاً مع ابن حُمام الذي، فيما يَبْدُو، كان متناصَّاً هو أيضاً، مع شعراء بَادُوا؛ ولم يكن لهم من الحِظَةِ ما جعل الدهر يحتفظ لنا بأسمائهم وأشعارهم؛ فضاع وجه كبير من التاريخ في ظلام الأميّة والتخلّف والبَّداوة والفِتَنِ والإِحْنِ والحرُوب والكوارث الطبيعيّة المُدْلَهِمَة...
أمّا وقد ضاع تاريخُ الشعر الجاهليّ، مما كان قبل عهد امرئ القيس، فليس لنا إلاّ الإذْعانُ للأمر الواقع، واعتبار هذا الشاعر العظيم أبَّاً للشعر العربيّ؛ وإذن فكل التناصّات التي عرضْناها لديه، ثمّ لدى المعلّقاتيّين ممّن عاصروه أو تعقبّوه زَمَناً: جاءت من تأثيره فيهم، وكانت من وقوعهم تحت سلطان إعجابهم به، واعترافهم له.
وإذا كنّا ألفينا معلّقة عمرو بن كلثوم تخلو من هذه التناصّات التي اشترك فيها زملاؤه، والمنصرف إلى الديار المقفرة، والأطلال الخالية؛ فلأنّه، في رأينا، ليس شاعراً بالمعنى الاحترافيّ؛ ولكن المناسبة اقتضت أن يقول شعراً يدافع فيه عن شرفه، ويصّور فيه غضبته الْقَبَلِّيّة لَمَّا أحسّ أنّ كرامته قد أُهينتْ، في شخص أمّه، فقال ما قال. ولم يقل، من بعد ذلك، غير ما قال.(1/247)
فشعر ابن كلثوم تنقصه الاحترافيّة، والتصويرُ البديع الذي نجده لدى معظم المعلّقاتيّين الآخرين، فكأنّ قصيدتَه خُطْبَةٌ من الشعر، أو كأنّها مجرد قصيدة خطابيّة (ولا يعجبني مصطلح غنائيّة الذي لا معنى لغنائيّته الغائبة بالفعل، وربما بالقّوة، أيضاً) صبّ فيها جام غَضَبِه على عَمْرِو بْنِ هند، وأنحى عليه باللَّوائِم إذْ تعصّب لبَكْرٍ على تغلب، بل أَصْلَت السيف عليه فقتله به... ولمَّا كانت المعلَّقاتُ السِّتُّ البواقِي مشتملاتٍ على هذه التناصّات اللفظيّة فقد اقتضى ذلك أن يكون بمثابة قاعدة كانت تتّبع، وبنية كانت تُبْنَى، وتقليدٍ كان يُقْتَفَى؛ فكان اللاَّحق يتناصُّ مع السابق ويستلهمه في بناء مطلع معلّقته؛ مع اعتراف اثنين من المعلّقاتيّين بذلك: امرئ القيس(الذي اعترف ببعض ذلك في شعره خارج المعلّقة)(22)، وعنترة الذي افتتح معلّقته بالمُساءلة عن جَدْوَى نَسْجِ الشِّعْرِ وقد كان الشعراء من قبله جاءوا على كلّ معنىً، وتناولوا كلّ فكرة، وصوّروا ما عرضوا له ما استقام لهم التصوير:
*هلْ غادر الشعراءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ؟*
وإِنَّمَا عُنِيَ المعلقّاتيون بُبكاء الديار، والوقوف لدى الآثار؛ لأنّ علاقة الحبيبة كانت بتلك الديار حميمة؛ ولأن الشاعر كان كلّما مرّ بديار هذه الحبيبة وهو يشاهدها وقد بَلِيَتْ ودَرَسَتْ، وَأَقْفَرَتْ من أهلها وَخَلَتْ: كان يقف ليذكر في نفسه ذكرياتٍ جميلاتٍ حَييَتْ ثُمَّ بادَت، وعهود من اللَّذاذة والسعادة كانت. ثمّ ذهبت واضْمَحَلَّتْ ، فلَمْ تَعُدْ إلاّ تُوهُّماً في الذاكرة كأنّه لم يكن، على الرغم من أنّه كان، وإلا تصوّرا في المُخَيِّلَةِ كأنه لم يُوجَد في سالِفِ الأزْمان. فأيّ موقف كان أدعى إلى البكاء من موقفه ذاك، في مقامه ذاك؟(1/248)
فكأن تلك الديارَ المُقْفرة، على إِقفارها وَخُلُوِّهِا من أهلها، هي التي كانت مَصَدراً لإلهام أولئك المعلّقاتييّن. وكأنّ الْقَفْر كان وراءَ وجودِ الشعر. وكأنّ الجمال الفنّيّ البديع الذي تطفح به هذه المعلقات، في معظمها، كان مصدرُه تلك الديارَ المقفرة، والربوع البالية، والرسوم الدارسة. وكأنّ الحياة التي ينبض بها ذلك الشعر نشأت عن الموت الذي كان أصاب تلك الديار. بل كأنّ ذلك الضجيج الطافح الذي كانت تجلجل به أصواتُ المعلقّاتيّين إنما كان مصدَرُه ذلك الصمتُ المطبقُ على تلك الديار.
لكن ماذا نقول؟ وهل يُعْقَلُ أن يكون الموتُ مصدراً للحياة، لولا أنّ الحياة التي كانت من قبل في تلك الديار هي التي ظلّت تمدّ المعلقاتيّين بينابيع الإلهام، وَتُزَيِّنُ في أنفسهم ملذّات الذكرى: فتتفجّر أشعاراً لم يعرف تاريخ الشعر العربيّ لها مثيلاً في جمالها...؟
لقد كانت الدار، إذن، وما في حكمها، مصدراً من مصادر الإلهام للشاعر الجاهليّ لأنها هي التي كانت تُؤْوِي الحبيبةَ الظاعنة عنها، ثمّ لأنّ الشاعر نَفْسَه، رُبَّما، كان ثَوَى بها زَمَناً ما، أو أَوَى إليها عَهْداً ما؛ ثم، لأنها كانتْ مجتمعَ العشيرةِ، ومُلْتَقى الأحبَّة، وَمَوْطِنَ الأفراح، وَمَسْقِطَ السَّعادة واللَّذَّات، فاستأثرَتْ بالاهتمام، واستبدَّتْ بالحبّ والحنين العارم.
الحقل الثاني للتناص اللفظي:
الماء والمطر وما حكمها
وقد لاحظنا أنّ هناك حقلاً آخرَ مشتركاً بين المعلّقاتيّين في المعجم الفنّي لديهم تناصُّوا فيه، وتداولوا عليه، وهو الماء والمطر والرَّعد وما في حكم هذه المعاني حيث نلفيهم إمَّا أَنْ يَتَمَاثلُوا، وإمَّا أن يتقاربوا، وإمَّا أن يتشابَهُوا في استعمال ألفاظ هذه المعاني مثل استعمال امرئِ القيس للوَبْل، والسيل، والغَرَق (من آثار الأمطار)، والصَّوْبِ (المطر)، والسَّحِّ، والمَاءِ والنَّفْيَانِ(تطاير قطرات المطر):(1/249)
1. كأَنَّ ثَبِيراً في عَرانِينِ وَبْلِهِ
2. من السَّيْلِ والأَغثْاء فَلْكَةُ مِغْزَلٍ
3. وألْقَى(المطر) بصحراءِ الغَبيطِ بَعَاعَهُ
4. كأنَّ السِّباعَ فيه غَرْقى عَشِيَةً
5. فأضحى يَسُحُّ الماءَ حَوْلَ كُتَيْفَةٍ ... . على قَطَنِ بالشَّيْمِ أَيْمَنُ صَوْبِهِ
من حيث نلفي لبيداً يصطنع ألفاظاً تركض هذا المَرْكَضِ، وتتناول هذا الحقل؛ وذلك مثل الوَدَق، والجَوْد، والرِّهَام، والغَادِ، والمَدافِع، و(القَطْر) المُتَواتِر:
1. وَصَابها ... ودْقُ الرَّواعدِ جَوْدُها فَرِهامُها
2. مِنْ كُلِّ ساريَةٍ وغَادٍ مُدْجِنٍ
3. وَعَشيَّةٍ متجاوِبٍ إرّزامُها
4. فَمَدافِعُ الرَّيّانِ عُرّيَ رَسْمُها
5. يَعْلُو طريقَةَ مَتْنِها مُتَواتِرٌ
بينما ألفينا عنترة يستعمل ألفاظاً قريبة من هذه، وذلك مثل العين(أو البِكْر: السحابة الممطرة)، والسَّحّ (ويلتقي في استعمال هذا اللفظ مع امرئ القيس)، والتَّسْكاب، والماء الذي لم يتصرّم (والذي يلتقي في استعماله مع امرئ القيس، وطرفة، وزهير)، والغيث:
1. تضمّن نَبْتَها ... غَيْثٌ قِليلُ الدِمْنِ ليس بمُعْلَمَِ
2. جادَتْ عليْها كُلُّ بِكْرٍ حُرَّةٍ
3. سَحّاً وتَسْكاباً...
4. فكُلُّ عَشِيَّةٍ ... يَجْري عليها الماءُ لم يتصرَّمِ
على حين أننا نجد زهيراً وطرفَةَ يجتزئانِ باستعمال لفظ الماء:
* فلمّا ورَدْنَ الماءَ زُرْقاً جِمامُه
*يَشُقُّ حَبابَ الماءِ حَيْزومُها بِها.(1/250)
تقوم التناصّات، هنا، بين المعلقّاتيّين السبعة على مادّة لغوية تركض في سياق المادّة اللغويّة الأولى التي كنّا جئنا على تحليلها؛ والتي كانت تضطرب حَوالَ الديار الخالية، والطلول البالية، والرسوم الدارسة التي لم يكن القصدُ من ذكرها وتردادها، على نقيض ما قد يتصور بعض الناس، التقبيحَ أو التهجينَ؛ ولكن كان من باب الحنين إلى ذكريات مَضَتْ فيها، وإلى سعادة ارْتُشِفَ رحيقُها-بين أحيائها- في مَأَمَنٍ من غوائل الدهر، وفي غفلة من الحُسّاد والعُذّال.
فذكر الطلول يندرج ضمن جماليّة الشعر الجاهلي بعامّة، ومطالع المعلّقات السبع بخاصة. ولم يكن ذِكْرُ الدّيار إلاّ مدرجةً لساكنات الديار. ولم يكن تَأَوُّبُ الطلولِ إلا استئناساً بِمَنْ كُنَّ فيها من حبيباتٍ أَيْمَا شعورُهن فسودٌ طويلاتٌ، وأيْمَا شِفاهُهُنَّ فحُمْرٌ رقيقات، وأيْما قدودهُنَّ فرشيقاتٌ ممشوقاتٌ...
تقوم التناصات، هنا، إذن على الماء الذي هو أحد مقوّمات جماليّة الحيز الذي كان يَمْثُلُ في تلك الرسوم والطلول، وفي تلك الديار والآثار. فإنما تكتَمِلُ جمالِيَّةُ الحيز بوفور الماء، وتَهتان الغيث، وَجَرَيانِ السيول.
لقد كانت الأحياء من العرب لا تفتأ تبحث عن مدافع الماء، وتتوخّى منابعه، وترتاد الكلأ الذي هو ثمرة من ثمراته: فتُقيمُ هنالك ولا تَرِيمُ. كانت الحياة الصحراويّة الجافّة تفرض على قَطِيْنها تَسَقُّط هذه المادِّة الحيويّة واعتبارها أَحَدَ مصادر الإِلهام للشعراء، وإحدى دعائم الحياة للرِّعِاءِ والأَبَّالِينَ. من أجل كل ذلك كانت العرب تدعو لمن تُحبُّه بالسَّقيا: لِمَا في ذلك من مظاهر الحياة الرخيّة، السخيّة، والسعيدة الرغيدة.
وإنما يقيم الناس الدَّورَ والخِيام، والمُدَن والعُمْران، من حول الماء، ولايمكن أن يقيموا ذلك بعيداً عنه، إذا البُعْد عن الماء لا يعني إلاّ الموت. فكلّ جمال، إذن، لا يمكن تصوّره خارج عطاءات الماء.(1/251)
ولعلّ الدّيارَ المَبْكِيَّ عليها لم تُقْفِرْ من أهلها إلاّ حين نُضِبَ ماؤُها، وَجفَّتْ ينابيعُها، وغارت عيونها، فاضْطُرَّ من كانوا يَثْوُونَها، أو يَثْوون حَوَالَها، إلى التَّظعان عنها التماساً لغدران وعيون أخراة، فزعمنا أنّها مرتبطة بجماليّة الحنين، إنما ينهض على اعتبار ماكانت عليه، لا على اعتبار ماهي عليه كائنة.... ولعلّ ذلك أنْ يُفْضِيَ بنا إلى ربط الماء بالطّلَلِ، على أساس أنّ الطلل حين كان بناءً معموراً، وَسَقْفَاً مرفوعاً، لم يكن ممكِناً نهوضُه إلاَّ على وفور الماء، فكأنّ الطلل إحالَهُ على ماضِ من الماء.
وكأنّ جماليّة الحيز في المعلّقات لا تَمْثُلُ إلاّ في ماضِيَّةِ الماء.
فليس الماءُ مصدراً للحياة فحسب، ولكنه مصدر للجمال أيضاً.
فلا عجب أن ألفينا ألفاظ الماء تتكاثر في المعلّقات وتتغافص في نسْجها؛ فإذا كُلُّ معلّقاتِيّ لا يَعْدَمُ استعمالاً لها ، وإذا شبكةٌ من التناصَّاتِ اللفظيّة تنشأ عن ذلك السلوك اللغويّ بحيث نصادف، كما رأينا، ألفاظاً مائيَّة في هذه المعلّقة، وأُخْرَاةً في تلك....
الحقل الثالث للتناصّ اللفظيّ
الإيلاع باستعمال "كأنّ"
لقد كنا عَرَضْنا لتحليل جمالِيَّةِ التشبيهِ في مقالة أخراة، من هذه الدراسة، غير هذه. وهنا إنما نُعْرِضُ لأداة التشبيه المركَّبة "كأنّ" ليس من باب وظيفتها التشبيهيّة، ولكن من حيث وظيفتُها التناصِيَّةُ. ولكن لما كَلِفَ المعلقّاتِيُّون بهذه الأداة التشبيهيّة من دون سَوَائِها؟ لَعَلَّ ذلك أنْ يَرْجِع إلى جمالها المتمثّل في رصانة إيقاعها، بالإضافة إلى ذلك، مركّبة من عنصرين اثنين: أداة التشبيه (الكاف)، وأداة التوكيد (أنّ): فكأنّ، كَأَنَّ: ليست أداةً للتشبيه فحسب، ولا أداة للتوكيد فحسب، ولكنها إيّاهُما جميعاً.
ولمّا جئنا نتابع التناصّات التي وقعت في المعلّقات بهذه الأداة (كأنّ - كأنّها- كأنّما- كأنّي- كأنّه- كأنّهما- كأنّا - كأنّهم) لاحظنا:(1/252)
1- أنّ "كأنّ" هي التي تستبدّ بالتواتُر أكثر من صنواتها اللواتي يلحقن بالضمائر أو بـ "ما" الكافّة، وذلكَ بتردادٍ بلغ تِسْعَ عَشْرَةَ مرَّةً من بين زهاء اثنتيْن وأربعينَ حالَ تشبيهٍ.
2- إنّ امرّأَ القيس يصطنع "كأنّ" تسع مرات -من بين ثلاثَ عَشْرَةَ "كأنّةً". بطريقِ الحياد النسجيّ:
1- كَأنّهُ حَبُّ فُلْفُلِ (بعر الآرام).
2- كأَنِّي غَداةَ البَيْنِ (الشاعرُ نفسه).
3- كأنّه أسارِيعُ ظَبْي (بنان صاحبته).
4- كأنّها مَنارَةُ مُمْسَى راهبِ (صاحبته).
5- كأنّ نُجومُه بأمراس كَتَّانِ (الليل).
6- على الذبل جيّاش كأنّ اهتزامَه (تَكَسُّرَه) (الفرس).
7- كأنّ على المتنيْن منه إذا انتحى) مَدَاكَ عَرُوسٍ... (الفرس).
8- كأنَّ دِماءَ الهادياتِ بنَحْرِهِ (الفرس).
9- كأنَّ نِعَاجَه عَذَارَى دَوَارٍ (سِرْبَ بَقَرِ الوَحْشِ).
10- كأنّ ثبيراً في عَرانينِ وَبْلِهِ (المطر).
11- كأنّ ذُرَى رَأْسِ المُجَيْمِر غُدْوةً (الأكمَة).
12- كأنّ مَكَاكِيَّ الجِوَاءِ غُدَيَّةً (الطير).
13- كأنَّ السِباعَ فيه غَرْقَى عَشِيَّةَ (السباع).
3- لعلّ الناقة هي التي تستأثر بـ "كأنّ" التشبيهيّة التوكيديّة، وذلك بتواتر بلغ زهاء ثَلاثَ عَشْرَة مَرَّةً. وقد أُوْلِعَ طرفَةُ بذلك فاستعملَها في تشبيهِ ناقتِهِ، تسْع مرّاتٍ وحْدَها:
1- كأنّه ظَهْرُ بُرْجُدِ (أصل التشبيه للناقة).
2- كأنّها سَفَنْجَةٌ (الناقة).
3- كأنّ جَناحيْ مَضْرَحيٍ (نسر أبيض) (وأصل التشبيه للناقة).
4- كأنّهما بَابَا مُنيفٍ ( أصل التشبيه للناقة).
5- كأنَّ كِنَاسَيْ ضَالَةٍ (الناقة).
6- كأنَّها تَمُرَّ بِسَلْمَيْ دالِجٍ (الناقة).
7- كأنَّ عُلوبَ (آثار) النِّسْعِ (الناقة).
8- كأنَّها بَنائِقُ (الناقة).
9- كأنَّمَا وعَى المُلْتَقَى (الناقة).
10- كأنّ حُدوجَ المَالِكيَّةِ (المرأة).
11- كأنَّ الشمس (وجه المرأة).
12- كأنّ البُرِينَ (المرأة حالَ كونها حالِيَةً).(1/253)
13-كأنّا وضعْناه (يتحدّث عن ابن عمّه).
بينما شبّه بها لبيد ناقته مرتين اثنتين، واصطنعها في معلّقته سِتّ مراتٍ:
1- كأنّها صَهْبَاءُ (الناقة).
2- كأنّها جِنُّ البَدِيّ (الناقة).
3- كأنّها زُبرٌ (الطلول).
4- كأنّها أجزاعُ بيشَةَ (المرأة).
5- كأنّ نعاجِ تُوضِحَ (المرأة).
6- كأنّما هَبَطا تبالَةَ (حيوان).
على حين أنّ الحارث بن حلّزة اصطنع كأنّ أربع مرات في معلّقته، ومنها مرة واحدة للناقة:
1- كأنّها هَقْلَةٌ (الناقة).
2- وكأنّ المنون تَرْدِي بِنَا (البشر).
3- كأنّهم أَلْقَاهُ (اللصوص).
4- كأنّها دَفْوَاءُ (كتيبة).
من حيث اصطنعها عمرو بن كلثوم ثلاثَ مراتٍ، في غير الناقة في المّرات الثلاثِ:
1- كأنّ ثيابَنَا مِنَّا ومنهم (القبيلة).
2- كأنّ غضونَهُنَّ متونُ غَدْرٍ (الدروع).
3- كأنّا والسيوفَ مُسَلَّلات (القبيلة والسيوف).
واصطنعها عنترة مرتين، أحداهما للناقة:
1- وكأنّها فَدَنٌ (الناقة).
2- وكأنَّ فارةَ تاجرِ بقَسيمَةٍ (المرأة).
بينما لم يصطنعها زهير، هو أيضاً، الاّمرتين اثنتين، وفي غير الناقة:
1- كأنّها مراجيعُ وشْمٍ (الطلول).
2- كأنّ فُتاتَ العِهْنِ في كلّ منزل (النساء).
بينما لم تنل المرأة إلاّ تسع مرّات من هذه التناصات الكَأَنِيَّةِ كلّها: توزّعت على ثلاثِ مراتٍ لطرفة، ومرّتين اثنتيْن لامِرْئِ القيس، ومثلهما للبيد، ومرّة واحدة لكل من عنترة وزهير. ونجد هذه الأداة الكَأَنَّية، من بعد ذلك، تتوزّع على طائفة من الموضوعات كالفَرَس بثلاث مرات لدى امرئ القيس، ثم الكتيبة، والسيوف، والدروع، والقبيلة، والإنسان، لدى معلّقاتيّين آخرين.(1/254)
4- إنَّ امْرَأَ القيس وطرفة هما اللذان يستأثران بالمنزلة الأولى باستعمال كلّ منهما ثلاث عشرة "كَأنَّه". وقد توزّعْت كأنَّاتٌ امِرئِ القيسِ على تسعةِ مواضيعَ هي: الفرس، والمرأة، والأرآم، والشاعر نفسه، وَبنان المرأة، والليل، والمطر، وسِرْب بقر الوحش، والأَكَمَة، والطير، والسباع، ومثل هذا الأمر يجعلنا نقرّر أنّه هو أكثر المعلقّاتيّين توظيفاً لكأنَّ بحيث وزّعها توزيعاً أُسلوبيّاً، متوازِناً، قائماً على تجديد الموضوع في كلّ تشبيه، وإِغناء نسْجِه بالتصوير الفنّي البديع: كلّما اقتضى ذلك مقتضيات الكلام. بيننما ألفينا الباقين إيمَا أنَّهُمْ كانوا يقفِونها على موضوعين اثنيْن أو ثلاثةٍ غالِباً: طرفة: الناقة والمرأة فقط، وعنترة: الناقة والمرأة أيضاً، فقط، ولبيد الناقة والمرأة، والطلول والحيوان (خارج إطار الناقة)؛ وزهير: الطلول والمرأة فقط؛ والحارث بن حلّزة: الناقة، والإنسان، والكتيبة، واللصوص، وعمرو بن كلثوم: القبيلة، والسيوف، والدروع، وإيمَا أنَّهُم كانوا يصطنعونها في موضوعاتٍ غير مظنونةٍ بالجمال الشعريّ مثل اللصوص والكتيبة، والدروع والحيوان..
وتنهض جماليُّة التناصِّ الكَأنِّي، هنا خصوصاً على موضوعين اثنيْن كانا ذَوَيْ علاقةٍ حميميةٍ بحياة المعلّقاتيّين وعواطِفِهِم وبيئتهم، وهما: الناقة التي كانوا يسافرون عليها، وَيَطعَمُونَ لَحْمَها، ويتاجرون فيها، ويَتَّدُون بها لدى سَفْكِ الدماء... والمرأة التي كانوا يستمدّون سعادتهم من حبّها، والاستمتاع بجَمال جَسدها، فكأَنَّ هذيْن الموضوعين يشكّلان محور هذه النشاط التناصّيّ القائم على توظيف أداة /كَأَنَّ/ في التشبيهات، التي كانوا يُحَلُّون بها نسج الكلام في معلّقاتهم السبعِ.(1/255)
أمَّا لماذا وظّف المعلّقاتيّون هذه الأداة، وكيف تناصّ بعضهم مع بعض بها، أو قل: كيف تناصّ اللاّحقون بها مع السابقين، بل قل: كيف تناصّ الستة المعلّقاتيّون مع الواحد الذي هو امرؤ القيس: فلعلّ ذلك أن يكوّن لحميميّة علاقة هذه الأداة برسم جماليّة الحيز، ورسم جمالية الحبيبة وما يَحْدَوْدِقُ بها، أو يضطرب من حولها. فما كان تكرارُها لديهم إلاّ تعزيزاً لمظهر جماليّة الحيز الشعريّ، وحرص المعلّقاتيين على الإصرار على وصْفِهِ بهذه الجماليّة، وادّعائها فيه، وإثباتّها له، ووقفها عليه.
وربّما كانت البنية الصوتيّة لأداة كَأَنَّ هي التي حَمَّلتِ المعلّقاتيين على الإكثار من استعمالها دُونَ سَوائِها من أدوات التشبيه مثل الكاف، ومِثْل؛ فقول القائل منهم:
كأنّها، أو: كأنّما، أو كأنَّني، أو:كأنّهُ.. يظاهر على إقامة الشعر بشكلٍ جميل؛ بينما الكاف وحدها، ومِثْل، أيضاً، لا يستطيعان النهوض بما تنهض به كأنّ: حيث إنّ، "كأنّها"، مثلاً تأتي على ميزان: "فَعَلْنَها"، بينما الكاف ومثل لا تتعلّقان بشيء من رصانة ذلك الإيقاع، وغَنائِهِ..
الحقل الرابع للتناصّ اللفظّي:
لفظ الحيّ
لقد ورد ذكر لفظ الحيّ لدى المعلّقاتيين زهاء إحدى عشرة مرة، واستأثر بهذا التناصّ اللفظّيّ خمسة منهم، هم: امرؤ القيس، وطرفة، وزهير، ولبيد، وعمرو بن كلثوم. بينما غاب من معلّقتي عنترة والحارث بن حلّزة:
مق:
1. لَدَى سَمُراتِ الحَيّ ناقِفُ حَنْظَلِ
2. فلّما أجَزْنَا ساحَةَ الحَيِّ وانْتَحَى...
ط:
1. وإِنْ يَلْتَقِ الحَيُّ الجميعُ تُلاقِني
2. كما لامَني الحَيِّ قرطُ بْنُ مَعْبَدِ
ز:
1. لَعَمْري لَنِعْمَ الحَيُّ جَرَّ عليهم
2. لِحَيٍّ حِلاَلٍ يَعْصُم الناسَ أمْرُهُم
ل:
1. ولقد حميت الحَيَّ تَحْمِلُ شَكَّتِي
2. شاقَتْكَ ظُعْنُ الحَيِّ حينَ تَحَمَّلوا
ع.ك:
1. ونحن إذا عمادُ الحَيِّ خَرَّتْ
2. ترانا بارزين وكُلُّ حَيٍّ(1/256)
3. وقد هَرَّتْ كِلابُ الحَيِّ منّا.
ولقد نلاحظ أنّ لفظ الحيّ ذُكِرَ غالباً في معرض تصوير جماليّة الحيز الشعريّ المرتبط إمّا بالحبيبة، وإما بِطَلَلِهِا، وإمّا بديار القبيلة التي تنتمي إليها. وعلى الرغم من اختلاف توظيف هذا اللفظ حين نُذِيبُه في سياقهِ، ونصبّه في مرجعيّته الاجتماعيّة؛ فإنّه، مع ذلك ظلّ محافظاً على الدلالة العامة المرتبطة إمّا بالقبيلة وشرفها، وإمّا بالحبيبة وهواها.
وقد وظّف كلّ معلّقاتِيٍّ، هذا اللفظَ الجميلَ، الدّال على الحياة والحركة والعمران والتلاقي والتعاون و التضافر، فيما يلائم روحه ويُوائِم نفْسَه، ويتفق مع نظرته إلى الحياة، وتجربته فيها: فامرؤ القيس يوظّفه في حَيْرَته السامدة الناشئة عن تحمّل الحبيبة وأهلها عن الحيّ الذي كان يشهد ساعات النعيم لديه تارة، وفي تخلّصّه وحبيبته من الرقباء والمترّبصين به إلى حيث يصادف اللذة والمتاع تارة أخراة، فلفظ الأوّل، لديه يشهد على مأساة حبّه، وعذاب بَيْنِه، وَنَكَدِ سَعْدِهِ. على حين أنّ لفظ الحيّ الآخرَ يدلّ على تخلّصه من حيزه، ليُلْفِيَ، خارجه، نعيماً وسعادة مع تلك المرأة الحسناء التي يصفها بأبدع الأوصاف وأرّقها وألطفها وألذّها غزليّةً في الشعر الجاهليّ. فالحَيُّ الأوّل لديه مواطن للحَيرة والبكاء والعذاب، بينما الحيّ الآخرُ كان مَدْرَجَةً إلى حيز آخر يظفَرُ فيه النّاصُّ بأجمل اللحظات، وألذِّ السعادات.(1/257)
بينما لا يكاد يخرج لفظ الحيّ لدى المعلّقاتيّين الآخرين عن معنى العَشِيرة، أو قَطِيِنِ الحيّ ورجالاتِه، كما يَمْثُلُ ذلك لدى طرفة وزُهيرُ ولبيد وابن كلثوم، فالحيّ لدى الناصّ الأوّل يجسد جماليّةً طافحة، ولدى المتناصّين معه يمثل مجرد بَشَرٍ يَحْرَنْجِمُوَن في صعيد واحدٍ من أجل الحياة. فالحي لدى النَّاصّ الأوّل -امرئِ القيس- حيز شعريّ طافح بالحركة والجمال، بَيْنَمَا هُوَ لدى الآخرين لا يكاد يجسد ألاّ أحْياءً لا خصوصيّة لهم، ولا جمال في حياتهم.. فكأنّ الحيز مُجسّداً في لفظ الحيّ يَمْثُل لدى امرئِ القيس الشعريّة، ويمثّل لدى أضرابه الاجتماعيَّةَ. وإذا تأمَّلْنا، في الحاليْن الاثنتيْن، المَواطن التي وُظِفَ فيها لفظ الحيَّ استبان لنا أنّ هذا المعنى ينضوي تحت جماليّة الحيز، حيز الحبيبة لدى امرئ القيس ولبيد، وأحياز القبيلة لدى المعلّقّاتيّين الآخرين.
الحقل الخامس للتناصّ اللّفظيّ.
البكاء والدمع ومافي حكمهما
لقد لاحظَنا أنّ أيّاً من المعلّقاتيّين لم يَكْلَفْ بتَرداد لفظ البكاء، ومايدلّ عليه، مثل ماجاء ذلك امرُؤُ القيس الذي تواتَرَ لديهِ زهاءَ سَبْعِ مرّاتٍ، بينما لم يتناصَّ معه في هذا البُكى إلاّ الحارِثُ بِذْكْرِ البكاءِ مرتيّن اثنتيْن فَقَطْ. وكأنّ امرأَ القيس كان يجسّد القصيدة العربيّة الأولى بامتياز، وكأنّ سلوك البكاء الذي كان يجيئه قبلَهُ امرؤ القيس بن حُمام، كان عالقاً بذاكرتهِ مترسّباً في نفسه، جارياً على لسانهِ، فلمّا جاء يُنشئ هذه المعلّقة العجيبة لم يستطع التخلّص من تلك الترسّبات التناصّية التي كانت تُفْعِمُ نفْسَه، وتملأُ قلبَه؛ فكان من أمره ماكان.(1/258)
إنّ الأمّر المحيّر في هذه المسألة أنَّ امرأ القيس هو الذي يُولِي العناية الفائقة للبكاءِ فيردّده صراحة في مطلع معلّقتهِ، بينما الآخرون، ماعدا لبيد، يقفون على الطلول والديار، ولكنهم لا يبكونَّها. أجاؤوا ذلك لأنّهم لم يكونوا يُحِبّون؟ أم جاءوه لأنّهم رفضوا تَذرف الدموع وهم الرجالُ الأشداءُ الأَقْويَاءُ، وإنما كان البكاء للنساء والأطفال؟ لكن، البكاء لا يدلّ في كلّ الأطوار على ضعف النفْس، بل قد يدلّ على قوتها وصفائها وقدرتها على إفراز الأحزان الراسبة، وتذويبها بماء الدمع... ثمّ لِمَ تناصَّ مع امرئ القيس الحارِثُ وَحْدَهُ من بين جميع المعلّقاتيّين الآخرين؟ أم يعني ذلك أنّ كلباً مُحِقّةٌ فيما زعمتْ من أنّ الأبيات الخمسة الأولى ليست لامرئ القيس، ولكنها لاِبْنَ حُمام (23)؟ وإلاّ فما بال امرئِ القيس يبكي وحده، ولا يتابعه المعلّقاتيّون الآخرون إلاّ واحداً منهم بكى مرتيْن، من حيثُ نُلفي المَلِكِ الضليّل يبكي سبْعاً، أو قل: أنّه يبكي خمْسَاً، ويُبْكِي صَبيّاً مرّة، وحبيبتهِ مرّة أخراة...
مق:
1. قفا نَبْكِ من ذِكْرَى حبيبٍ ومنزل.
2. إذا مابكى من خلْفِها انصرَفتْ له.
3. لدى سَمُراتِ الحيّ ناقِفُ حَنْظَلِ (كناية هنا عن تَذْرافِ الدموع).
4. وإنّ شفائي عَبْرَةٌ مُهرّاقَةٌ.
5. ففاضت دموعُ العَيْنِ منّي صَبابَةً
6. وما ذَرَفتْ عيناكِ إلا لِتَضْرِبي...
ح.ح:
1. فأَبْكِي دَلَهاً.
2. وما يُحيرُ البُكَاءُ.(1/259)
إنّ أوّل مانلاحظ أَنّ هذا البكاء استبدّ به امرؤ القيس بِسَبْعِ مرّات، ولم يتناص، معه، كما أسلَفْنَا الْقَّالَ، إلاّ الحارث بن حلّزة في حاليْن اثنتين فحسب، أو قل: في حالٍ واحدة عبّر عنها بتعبيريْن أحدهما يتّصّل بالآخر. فكأنّ البكاء، إذن، معجم وَقْفٌ على لغة امرئ القيس الذي اصطنع البكاء في مواطن مختلفة ليس للدلالة على حبّة هو وحده، ولكن للدلالة على حب، صاحبته إيّاه أيضاً فكأنّ دَيْدَنُهُ البكاء، الشاعر وصاحبته في ذلك سَواءٌ، ولم يَبْكِ امرؤ القيس الطُّلولَ وحْدَها، كما كان بكاها من قبله ابن حمام، ولكنه بكى من جَرَّاءِ مُزايلة الحبيبة: فهو إِذن بكاء وفاء، وذلك على الرغم من أنّ النقاد الأقدمين يزعمون أنّ امرأ القيس كان زِيرَ نساءٍ (24)، وعلى الرغم من أنه يناقض نفْسَه، عَبْرَ هذا البكاء، وذلك بذكر نساء كثيرات في معلّقته، فهل كان قادراً على حبّهنّ جميعاً في وقت واحد؟ أم كان يحبّ هذه؛ فلمَّا يُقْضِّي معها من الزمن مايقضّي، يَتَّرِكُها ويلتمس غيرها...؟ أم هي احترافية الشعر ومتطلبّاته الرفيعة؟...
ذلك، وقد صادفتنا تناصّات لفظية أخراة أقل تواتُراً مما ذكرنا، وأقل أَهمّيَّة ممَّا عالجنا، مثل الغزال الذي ورد ذكره في المعلّقات السبع- امرؤ القيس سبق إلى ذكره أكثر من مرة في معلّقته -إحدى عشرة مرّة- والوقوف الذي وقع التناصُّ به ثماني مَراتٍ، والثياب التي تواترتْ خمسَ مراتٍ، والبياض، والمتْن، والتحمُّل، والوشم التي تواتر كلّ منها أربع مرّات، والرسم والغبيط والحَب (بفتح الحاء) التي ورد كلّ منها ثلاث مرّات في المعلّقات. ونستخلص من بعض ما سبق أنّ الشعراء كثيراً ماكانوا يشتركون في اصطناع ألفاظ بعينها، وخصوصاً حين كانوا يتناولون موضوعات متشابهة، أو متماثلة، وقد ألفينا عامّة تلك الألفاظ المشتركة تصّب في مصب واحد: هو جماليّة الحبيبة، وجماليّة حيزها.(1/260)
فكأنّ المادّة اللغوية المشتركة الأولى التي بَنَى منها المعلقّاتيّون معلّقاتهم تَمْثُل في الديار والرسوم، والربوع والطلول، والوقوف عليها، والبكاءِ من أجلها حَوْلِهَا، ثمّ في الغيوث والسيول التي كانت تُعَرِّي أثافِيَّها، وتجري في نُؤَيِّها، ثم في الآرام التي كانت تَجْثُمُ في قِيعَانها، وترتع في عَرَصَاَتها، بعد أن أقْوَتِ الديار، وأقفرت الأطلال...
وتجسّد هذه المادّة اللغويّة المشتركة بين المعلقّاتيّين، خصوصاً، مطالع هذه المعلّقات أو مقدّماتها الطليّة.
*****
المستوى الثاني: التناصّ المضموني
بعد أن تحدّثنا، في الفقرة السابقة من هذه المقالة، عن التناصّ اللفظيّ في المعلّقات السبع، وخصوصاً في مطالعها، نتناول الآن، بشيء من التحليل ما أطلقنا عليه "التناصّ المضمونيّ وعلى أنّ هذا الضرب من التناصّ قد يتوسّع إلى التناصّ النسجيّ أيضاً.
ونعرض، فيما يلي، أنموذجات لذلك.
1- العين والآرام ومافي حكمهما:
1- ترى بَعْرَ الارآمِ في عرصاتها (مق).
2-بها العِينُ والأرامُ يَمْشِيَن خِلْفَةً ... وأطلاؤُها يَنْهَضْنَ من كُلِّ مَجْثَمِ(ز)
3- والعينُ ساكنةٌ على أطلائها (ل).
2- الديار والرسوم والبكاء والحيرة والسمواد:
1-إنَّ شفائي عَبْرَةٌ مُهرَاقَةٌ ... فهل عند رسْم دارسٍ من مُعَوَّلِ؟ (مق).
2- فوقفْتُ أسأَلُها وكيف سؤالُنا ... صُمَّا خَوالِدَ ما يَبينُ كَلاَمُها؟(ل).
3- لا أَرَى مَنْ عَهدْتُ فيها فأبْكي الـ ... ــيوم دَلْهاً: ومايُحيرُ البُكَاءُ (ح.ح)
3- الشاعر في وجه من الأرض، وحبيبته في وجه آخر منها:
جاءت فكرة هذه التناصَّةُ التي لَهِجَ بها كثير من الشعراء الجاهليّين، ومنهم شعراء المعلّقّات من أصل بيتِ امرئ القيس الشهير من مطوّلته المعروفة:
تنوَّرْتُها من أذْرِعاتٍ وأهلُها ... بيَثْرِبَ: أدنى دارِها نَظَرٌ عَالِ
فنسج على ذلك من بعده آخرون أمثال:(1/261)
1- مُرِّيَّةٌ خَلَّتْ بِفَيْدَ وجاوَرَتْ ... أهْلَ الحِجَازِ: فأَيْنَ مِنْكَ مَرامُها؟ (ل).
2- وتحلّ عبْلَةُ بالجَواءِِ وأهلُنا ... بالحَزْنِ فالصَّمانِ فالْمُتَثَلَّمِ
كيف المزار وقد تربّع أهلها ... بعُنيزَتَيْن وأهْلُنا بالغَيْلَمِ؟(ع).
3- بَعْدَ عَهْدٍ بِبُرقَةِ شَمَّا ... ءَ: فأدْنَى دِيَارِها الخَلْصَاءُ
فتنوّرت دارَها من بعيد ... بِخَزازى ، هيهات مِنْكَ الصِّلاءُ(ح.ح).
4- ملاحقة الموت للإنسان:
1- لَعَمْرُكِ إنّ الموتَ ما أخْطَأَ الفَتَى ... لكالطِّولِ المُرْخَى وثِنْياهُ بِالْيَدِ (ط).
2- رأيْتُ المَنْايا خَبْطَ عَشْواءَ مَنْ تُصِبْ ... تُمِتْهُ، ومَنْ تُخْطِئْ يُعَمَّرْ فَيَهرَمِ(ز).
3- إنّ المَنَايا لا تَطِيشُ سِهامُها(ل).
5- التحمّل والارتِحال:
1- كَأنَّي غداةَ البَيْنِ يومَ تَحَمَّلُوا ... لَدَى سَمُراتِ الحَيِّ ناقِفُ حَنْظَلِ(مق)
2- تَبَّصَرْ خَلِيليَّ هل ترى من ظَعائِنٍ ... تَحَمَّلْنَ بالعَلْياءِ مَنْ فَوْقِ جُرْثُمِ(ز).
3- شاقَتْكَ ظُعْنُ الحَيِّ حين تحَمَّلوا ... فتكنَّسُوا قُطُناً تَصِرُّ خِيامُها (ل).
6- الوقوف على الديار:
1- قِفا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ (مق).
2- فوَقفْتُ أسألها وكيف سؤالُنا؟ (ل).
3- قِفي قبل التفرُّقِ يا ظَعِينا (ع.ك).
7- الوشم ولمع اليدين:
1- كلَمْعِ اليديْنِ في حَبِّي مُكلَّلِ (مق).
2- تلوح كباقِي الوَشْمِ في ظاهرِ اليد(ط).
3- مراجِيعُ وَشْمٍ: في نواشِرِ مِعْصَمِ(ز).
4- أو رْجع واشمةٍ أُسِفَّ نَؤُورُها ... كِفَفاً تَعَرَّض فَوْقَهُنَّ وَشامُها(ل).
8- الاستعانة على الهمّ، وقضاء اللّبانة، بركوب الناقة:
1-
وإنّي لأَمضي الهَمَّ عند احضاره ... بِعَوجاءَ مِرْقَالٍ تروح وتَغْتَدِي(ط)
2- فبتلك إذْ رَقَص اللوامِعُ بالضُّحَى ... (......).
أقضي اللُّبانَة لا أُفَرِطُ ريبَةً ... (ل).
3- غيرَ أنِّي قد أستعينُ على الْهَمِّ ... (....)
بِزَفوفٍ كأنّها هَقْلَةٌ... ... (ح.ح).(1/262)
وهناك تناصّات نسجيّة طوراً، ومضمونيّة طوراً، ونسجيّة مضمونيّة طوراً آخر: تنهض على التناصّ الثنائيّ بحيث نلفي معلّقاتيّاً ناصّاً، ومعلّقاتِيَّاً آخرَ مُتناصاً معه، مثل:
1- التناصّ حول الكَشْح:
1- هصْرتُ بفوْدَي رأسِها فتمايَلَتْ ... عَليَّ هضيمَ الكشح ريّا المُخلخَلِ(مق).
ومَأْكَمةٍ يضَيقُ البابُ عنها ... وكَشْحَا قد جُنِنْتُ به جُنونا (ع.ك).
2-التناصّ حول القدّ الممشوق:
1- إذا ما اسبكرَّتْ بين دِرْعٍ ومِجْوَلِ (مق).
2- ومَتْنَيْ لَدْنَةِ سَمَقَتْ وطالَتْ (ع.ك).
3- التناصّ من حول الساقَيْن:
1- عليّ هضيمَ الكشح ريّا المُخلْخَلِ (مق).
2- وسارَيتَيْ بَلَنطٍ أو رُخَامٍ (ع.ك).
4- التناصّ حول الصرْم والفراق:
1- وإن كنتِ قد أزمعتِ صَرْمِي فأجْمِلي (مق).
2- إن كنتِ أزْمعتِ الفِراقَ فإنّما (ع).
5- التناصّ حول الوشم (وقد ذُكِرَ من قبلُ مقروناً بِلَمْعِ اليدين):
1- ودار لها بالرقمتيْنِ كَأَنَّها ... مراجيعُ وشْمٍ في نواشِرِ مِعْصَمِ (ز).
أو رَجْعُ واشِمَةٍ أُسفَّ نَؤُورها ... كِفَفاً تَعرَّضَ فوقهنُ وِشَامُها (ل).
6- التناصّ حول ظِباء وَجْرة:
1- بناظرِةٍ مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ مُطْفِلِ (مق).
2- زُجَلاً كأنّ نِعَاجَ تُوضِحَ فوقَها ... وظِباءَ وَجْرَةَ عُطّفاً أرْآمُها(ل).
7- النتاصّ حول الشجاعة والإقدام في ساحة الوغى:
ألا أيُّهذا اللاّئِمِي أحْضُر الوَغَى ... وأنْ أَشْهَد اللّذاتِ هل أنت مُخْلِدي؟(....).
وكَرِّي إذا نادَى المُضافُ مُحَنِّباً ... كَسِيدِ الغَضا -نَبَهْتَه- المُتَورِّدِ(ط).
2- هلا سأَلْتِ الخيلَ يا ابنةَ مالِكٍ ... إن كنتِ جاهلةً بما لَمْ تعلمي (.... )
ولقد شَفَى نفْسي وأذْهَبُ سُقْمَها ... قيلُ الفوارسِ: وَيْكَ عَنْتَرَ، أقْدِمِ(ع).
8- التناصّ حول الملامة والكفران بالنعمة:
1- فما لي أراني وابنَ عَمِّي مالِكاً ... مَتَى أَدْنُ منه: يَنْأَ عنّي، ويَبْعُدِ؟(1/263)
يَلومُ وما أدري علامَ يَلومُني؟ ... كما لامني في الحيّ قُرْطُ بْنُ مَعْبَدِ(ط).
2-نُبِئْتُ عَمْراً غيرَ شاكرِ نِعْمَتِي ... والكَفْرُ مَخبَثةٌ لنفس المُنْعِمِ(ع).
9- التناصّ حول الشراب واللّهو:
1- فإنّ تبغِني في حَلْقةِ القوم تلفَنِي ... وإنْ تلتمسْني في الحوانيتِ تصْطَدِ
ومازال تَشرابي الخمورَ ولَذَتِي ... وبيعي وإنفاقي طريفي ومُتْلَدِي(ط).
2- فإذا شرِبْتُ فإنَّني مسْتهِلُكُ ... مالي، وعْرضِي وافِرٌ لم يُكْلِمِ
وإذا صحوْتُ فما أقصِرُ عن نَدىً ... وكما عَلِمْتِ شَمائلي وتكرُّمي(ع).
10- التناصّ حول نقاوة الثغر وبريق الأسنان:
1- وتبسِمُ عن ألْمَى كَأنَّ مُنَوَّراً ... تخلَّلَ حُرَّالرملِ دِعْصٍ لَهُ نَدِ(ط)
2- إذ تستبيك بذِى غُروبٍ واضِحٍ ... عَذْبٍ مُقَبَّلُه، لذِيذِ المَطْعَمِ(ع).
11- التناصّ حول تَهتان الغيث على الدمن والرياض بالعشايا:
1- دِمَن (...)
رُزِقَتْ مرابيعَ النجوم وصابَها ... ودْقُ الرواعِدِ جَودُها فرِهامُها
من كلّ ساريةٍ وغادٍ مُدجن ... وعَشِيَّةٍ مُتجاوبٍ إِرزامُها (ل).
2- أو روضةً أنُفاً تَضَمَّنَ نبْتُها ... غَيْثٌ قليلٌ الدِّمْنِ ليسَ بمُعَلمِ
جادت عليها كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ ... فتركْنَ كُلَّ حديقةٍ كالدِّرهم
وسَحّاً وتَسْكابا فكُلُّ عَشّيةٍ ... يجري عليها الماءُ لم يَتَصرَّمِ (ع).
12- التناصّ حول الوقوف على الطلول بعد مضّي عدد من الحِجَجِ:
وقفْتُ بها من بعد عشرين حِجَّةً ... فَلأْياًعرفْتُ الدَارَ بعد توهُّمِ(ز).
دِمَنٌ تَجَرَّمَ بَعدَ عَهْدِ أنيسِها ... حِجَجٌ خَلَوْنَ: حَلالُها وحَرامُها(ل).
13- التناصّ حول النُّؤْي:
1- أثافِيَّ سُفْعاً في مُعَرَّسِ مِرْجَلٍ ... ونُؤْياً كجِذْمِ الحَوْضِ لم يَتَثَّلمِ(ز).
2- عَريَتْ وكان بها الجميعُ فأبْكروا ... منها، وغودر نُؤْيُها وثَمامُها(ل).
******
المستوى الثالث: التناصّ النسجيّ(1/264)
إنّا نلاحظ أنّ هذا المستوى من التناصّ يتعدّى فيه حدود الاستلهام والاستيحاء، إلى مايمكن أن نطلق عليه التناسج: بحيث نحسّ أنّ الآخر ينسج على منوال الأوّل، ولم يجتزئ باستلهام فكرته، ولكنْ جاوزها إلى محاكاة النسْج، ومقابسة الكلامَ، ومُنَاصَّةِ الخِطاب. والحق أنّ بعض ذلك قد يَمْثل فيما كنا أطلقْنا عليه التناصّ المضمونيّ حيث نُحِسّ، أطواراً، بتقارب المسافة بين المضمونين الاثنين إلى حدّ غياب الفروق، واختفاء الاختلاف، واحتضار التماثل. ونذكر طائفة من هذه التناصّات الثنائية، النسجيّة، فيما يلي:
1-وقوفاً بها صَحْبِي عَليَّ مَطِيُّهُم ... يقولون: لا تَهْلِكْ أسىً، وتَجمَّلِ (مق).
2- وقوفاً بها صَحْبِي عَليَّ مَطِيَّهُم ... يقولون: لا تهلك أسىً، وتَجَلَّدِ(ط).
1- فظلّ العَذَارَى يرْتمين بِلَحْمِها(مق).
2- فظلّ الإماءُ يمتلِلْنَ حُوارَها(ط).
1- فلّما عرفت الدارَ قلتَ لرِبْعِها ... ألا انْعِمْ صباحاً، أيُّها الربْع، واسْلَمِ(ز).
2- يادارَ عبلة، بالجَواءِ، تكلَّمي ... وعمِي صباحاً، دار عبلة، واسْلَمِي(ع).
1- فلأيا عرفت الدارَ بعد توهّم(ز).
2- أم هل عرفت الدار بعد توهّم؟(ع).
تحليل وتركيب(1/265)
إنّ هذا الضرب من التناصّ الذي أطلقنا عليه التناًص المضمونيّ، وعقّبنا عليه بـ التناصّ النسجيّ يركض مثل صِنْوهِ الذي كنّا أطلقنا عليه التناص اللّفظيّ حول المحاور التي كنّا عرضنا لها بشيء من التحليل في الفقرة السابقة. وما يمكن ملاحظتُهُ أنّ هذا الضرب من التناصّ كان يقوم بين أربعة معلّقاتيّين على أقصى غاية، وقد تمثّل ذلك في الوشم، ولمع اليدين: حيث اشترك في هذا التناص: امرؤ القيس، وطرفة، وزهير، ولبيد (ونحن نقضي بأنّ كلّ تناصّةٍ اشترك فيها امرؤ القيس، فمنطلق التسلسل الزمنّي أنّ الملك الضليل هو الناصّ، وأنّ الآخرين هم المتناصّون). ولا تكاد التناصّات الأخراة تجاوز ثلاثةَ معلّقاتيّين كما هو الشأن بالقياس إلى مُساءلة الرُّبوع والبكاء عليها، امرَؤ القيس، ولبيداً، والحارثَ بن حلّزة اليشكري، وفي التحمّل والتظعان: امرأ القيس، وزهيراً، ولبيداً، وفي الوقوف على الديار: امرأ القيس، ولبيداً، وعمرو بن كلثوم... أو اثنين من المعلّقاتيّين، كما يمثل ذلك في ظِباء وجرة: امرأ القيس، ولبيداً؛ والملامة والكفران بالنعمة: طرفة، وعنترة، والكشح: امرؤ القيس، وعمرو بن كلثوم؛ وطول قامة المرأة: امرؤ القيس، وعمرو بن كلثوم أيضاً، والصَّرْم والفِراق: امرؤ القيس وعنترة؛ ونقاوة الثغر وبريق الأسنان: طرفة، وعنترة وهلمّ جرّا...(1/266)
وعلى الرغم من أنّنا لم نَأْتِ على كلّ حالات التناصّ المضموني والنسجّي معاً، ولم نستثمر كلّ ماكنّا رَصْدنا لدى قراءاتنا المتكرّرة لنصوص المعلّقات: فإنّ ما أثبتناه، هنا، على سبيل التمثيل، قبل كلّ شيء، يجعل من لبيد: المعلّقاتيّ الأوّل في شبكة التناصّ المضمونيّ والنسجيّ جميعاً؛ إذْ هو أكثرُ زملائه قابليَّةً للاتِصّالِ والتفاعل حيث نلفيه يشترك مع امرئِ القيس في سبعِ تناصّاتٍ، ومع زهير في سِتٍّ، ومع الحارث بن حلّزة في أربعٍ، ومع طرفة في ثلاثٍ، ومع عنترة في اثنتين، ومع عمرو بن كلثوم في تناصّة واحدة فَقَط.
ونحن نعتقد أنّ لبيداً كان متناصّاً مع امرئ القيس، محاكياً له، محتذِياً حَذْوَه، وأنّ التناصّات التي تواترت لديه تمثّل موضوعاتُها الاهتمام الأوّل في نشاط أولئك المعلّقاتيّين الذين كانوا يضطربون في مُضْطَرَبٍ واحد؛ فكأنّهم وجوهٌ سبعةٌ لشخصيّةٍ واحدةٍ، أو كأنّهم صوت واحد لسبعة على الرغم من أنّنا كنّا قررنا، في غير هذا الموطن، أنّ أولئك السبعةَ تقوم بِنْيَاتُ قصائِدهم، لدى نهاية الأمر، على بنية واحدة ثلاثيّة تتشكّل من : 1+ب+ج: بحيث نلفيهم يتفقون في بنية (1) (مطلع المعلّقات)، ثمّ يختلفون في بنيتي (ب) و(ج).(1/267)
ولا يعني مثل هذا السلوك الشعريّ، في رأينا، إلاّ أنّ المعلّقاتيّين كانوا يمثّلون مايمكن أن نطلق عليه ثُرَيَّا شِعْرِيَّةً لم يَلْحَنْ لها ناقِدٌ، فيما قرأناه، من قبل. ولم تَكُ تلك المدرسة الشعريّة العربيّة الأولى، في تاريخ الأدب العربيّ، مجرّدَ اتفاق عابرٍ كان يقع بينهم عفو الخاطر، فلا ينبغي أن يقول بالعفويّة الفنيّة إلا ساذَج؛ ولكنها كانت نشاطاً شعريّاً ينهض على أُسُسٍ فنيّة يَنْسُجُ على مِنْوالها: الّلاَّحِقُ السابِقَ. وإلاّ فَمِن السذاجة الساذّجة، والغفلة الغافلة: أنّ يذهب ذاهب إلى أنّ التناصّ الذي حدث، مثلاً، في مطالع المعلّقات كان مجرّد اتفاق، أو كان مجرّد تقليد ساذَج ينسج على منواله اللاّحق السابق، دون شيء من الوعي الفنّيّ.
والتناصّ الذي توقّفنا لديه، بأَضْرُبِهِ الثلاثةِ، إِنْ أمكنه أن يَكْشِفَ عن شيءٍ فإنما قد يكشف عن مدرسيَّة قصائِد المعلّقات، ومذهبيّتها الفنّيّة لأوّل مرّة في تاريخ الشعر العربيّ إطلاقاً.
******
المستوى الرابع: التناصّ الذاتيّ
إنّا لا نريد أن نَحْمِلَ الناس على أن يتّفقوا معنا في تقبل صياغة هذا المصطلح الذي يمكن أن يتناول مضمونه تحت عنوان آخر، أو حتّى تحت عُنوَاناتٍ أخراة، ونقصد به إلى هذا التكرار الذي يحدث لدى ناصٍ واحدٍ، عبر قصيدته أو قصائده، من حيث يشعر أو من حيث لا يشعر.
ويدلّ مثل هذا الصنيع على الاحترافيّة النسجيّة، أو على مايمكن أن نطلق عليه ذلك، أي يدلّ على أنّ الشاعر لكثرة مانسج من نسوج كلاميّة تكوَّنَ لديه مايشبه الأسلوب الذي يلازمه ولا يزايله، ويفارقه ولا يفارقه.(1/268)
وقد ألفينا شيئاً من هذا التناصّ الذاتيّ لدى امرئ القيس، ولعله أن يكون أكثرهم اصطناعاً لهذا الذي نطلق عليه التناًص الذاتيّ؛ وذلك بخمس تناصّات، ثمّ لدى لبيد، وعنترة والحارث بن حِلّزَة اليَشْكُريّ، أمَّا عمرو بن كلثوم فيمكن عدّ "أنَّوَاتِه" (اجتهاداً منّا في جمع "أنَّا"): تناصّاً ذاتِيّاً، مثلُّها "نَحْنُ" الذي تكرّر لديه، هو أيضاً، مُرُوراً.
ويمكن أن نُسَوَقِ نماذِجَ من هذه التناصّاتِ الذاتيّة لدى بعض هؤلاء المعلّقاتيّين:
مق:
1- كأنّ دماءَ الهادياتِ بنحرهِ
... فألحقنا بالهادِيَاتِ ودونه
2- ألا رُبَّ يومٍ لك منهن صالح
... ألا ربّ خصْم فيك ألْوَى رددْتُه
3- ويوم عقرْتُ للعذارَى مَطَّيتي
... ... ويوم دخلتُ الخِدْرَ: خِدْرَ عنيزة
4- تُضيءُ الظلام بالعِشَاءِ كَأنّها ... مَنارةُ مُمْسَى راهِبٍ متَبتِّل
يُضيءُ سناهُ أو مصابيحَ راهِبٍ ... أمالَ السليط بالذُّبالِ المُفَتَّل
وإذا جاوزنا إطار المعلّقات ألفينا امرأ القيس يتناصّ مع نفسه مُرُوراً مختلفاتٍ، مثل تناصِّه التالي:
5- قِفَا نَبْكِ من ذِكْرَى حبيبٍ ومنزلِ
قِفَا نَبْكِ من ذِكرَى حبيبٍ وعِرْفَانِ(24).
ونلاحظ أنّ هذه التناصّات الذاتيّة لم تحدث على مستوى المضمون فَقَط، ولكنها وقعت على مستوى النسْج اللفظيّ نفسِه، إذ التناصَّةُ الأوْلى تقع من حول الفرَس، والثانية والثالثة من حول المرأة، والرابعة تشترك فيها المرأة والبرْق، والخامسة تَجُرُّ ورَاءها شبكةً معقَّدةً ومتداخلة من التناصّات الواقعة من حول الوقوف، والبُكْى والذكرى، والحبيب. وهي أغنى التناصّات وأكثرها تشابكاً مع سَوائِها، وتأثيراً في غيرها، في العصور اللاّحقة.
وأمّا لبيد بن أبي ربيعة فقد تناصّ مع نفسه، عبر معلّقته، خمس مرّات أيضاً، ولكن بعبارة واحدة مسكوكة بدون تغيير ولا تبديل، وهي: "حتّى إذا..." التي تواترت على هذا النحو:
1- حتى إذا انحَسَرَ الظلامُ وأَسْفَرتْ(1/269)
2- حتّى إذا يَئِسْتْ وأَسْحَقَ حالِقٌ
3- حتّى إذا يَئِسَ الرُّماةُ، وأرسَلُوا ... ... غضفا...
4- حتّى إذا ألقَتْ يَداً في كَافِرٍ (ليل).
5- حتّى إذا سَخِنتْ وخَفَّ عِظَامُها
ولمعترِضْ أن يَعُدَّ مثل عباراتِ لبيد في بابِ التكرار، لا في باب التناصّ، والذي يجيء ذلك، أو يذهب إليه، أو يتعلّق به، يكون كمن وقع فيما فرّ منه. أرأيت أنّ التناصّ، في حقيقة شكله وجوهره، ليس إلاّ تكراراً، أو ضرْباً من التكرار: إمّا بلفظه، وإمّا بنسجه، وإمّا بمعناه، وإما بهما جميعاً، وإمّا بالتضّادِ والاعتراض... وفي كلّ الأطوار لا يستطيع أن يمرُقَ من جِلدهِ، ولا أن يتنكّر لوضعه، فيخرج عن دائرة التكرار، بالمفهوم التقليديّ لتجلّيات الكلام. ولو حقّ لنا أن نُعِيدها جَذعَةً، كما تقول العرب، فنُطْلِقَ مَعْنَى "السَّرِقَة" على هذا الضرْب من النسج لقلنا: إنّ لبيداً، هنا، سَرَقَ من نفسه، وَسَطَا على حُرّ نسج شعره. ولكنّ الحداثيّين تحاشوا اصطناع اصطلاح السرقة لما في معناها من إدانة أخلاقيّة للأديب، أوّلاً، ثمّ لما فيها من يقينيّة الحكم باطّلاع الآخِرِ على ماقال الأوّل -وهو أمر غير ثابت بالدليل القطعيّ في كلّ الأطوار، وتلك نقطة الضعف المهينة في وضع مايسمّى الأدب المقارن -ثانياً، ثم لِمَا فِيها من تهجينيّة المتناصّ إذا صَرفوه إلى التكرار (كما هو الشأن بالقياس إلى مانحن فيه، والذي تجّنبنا، متعمّدين، اصطناع التكرار لما فيه من إساءة إلى الناصين والمتناصّين معاً) آخِراً.
ويمكن أن نُنصف لبيداً فنقرّر أنه صرّف هذه التناصّات الذاتيّة مصارِف مختلفة من النسوج المعنويّة حيث يبتدئ متناصّاً، وينتهي غير متناصّ.
وأمّا عنترة فقد تناصّ، هو أيضاً، مع نفسهِ، في معلقّته، مرتين اثنتين على الأقلّ، وذلك حين يقول:
1- سَبَقَتْ يَدايَ له بعاجلٍ طعْنَةٍ
جادَتْ له كَفِيّ بِعَاجِلِ طعْنةٍ
وحين يقول أيضاً:(1/270)
2-(.....) فلقد تركت أبَاهُما ... جَزَرَ السِّباع وكل نَسْرٍ قَشْعَمِ
فتركْتُهُ جَزَرَ السِّباعِ يَنُشْنَهُ
وإذا كانت تناصّات امرئ القيس اضطربت، في معظمها، حَوَالَ جماليّة الحيز، وجماليّة الزمن (مثول الذكرى السعيدة في الأيّام الخَوالي)، وجماليّة المرأة، وجماليّة الفَرَس، ثمّ إذا كانت تناصّاتُ لبيدٍ سَلَكَتْ مسالِكَ مختلفاتٍ، ولكن في غير الفَيْض الجماليّ: فإن تناصَّتَيْ عنترة لم تَمْرقا عمّا كان يُفْعِمُ نَفْسَه، ويملأُ روحَه، وهو لَهَجُهُ بتصوير سُلوكه حين كان يطعن الأبطال، ويجندل شجعان الرجال، وهما تناصّتان في غاية من البشاعة، بالقياس إلى ذوقنا العصري، حيث الطعنُ والقتل، وحيث سَفْكُ الدماء البشريّة، وحيث جُثَثُ الناس تَنُوشُها السِّباعُ، على حدّ تعبيره، وتلتهمها الجوارح. لكنّ هذا الشيء الذي نراه نحن، على عهدنا هذا، بشاعةً فتقزّز منه نفوسُنا، وتشمئز منه أذواقُنا، كان لدى القدماء مفخرةً من المفاخر، ومأثرة من المآثر. وأيَّاً كان الشأنُ، فلا شيء أعجب، ولا أَبْشَعُ، ولا أَشْنَعُ، ولا أسمج، من عَدِّ قتلِ الناس شرفاً يرتفع به الذكر، ومجْداً يَقْعَنْسِ به السِّمْعُ.
على حين أنّ الحارث بن حلّزة تناول معنيين اثنين مختلفيّن في التناصّتيْن اللتين اسْتَبَانَتَا لنا أثناء قراءتنا لمعلّقته، وذلك حين يقول:
1- (...) ببُرقَة شَمَّا ... ءَ: فأدنى دِيارِها الخَلْصَاء
(...) قبّة مَيْسُو ... نَ: فأَدْنَى دِيَارِها العَوْصَاءُ
وحين يقول:
2- أيّها الناطقُ المرقّشُ عنّا ... عند عمَروٍِ، وهل لذاك بَقاء؟
أيّها الناطق المبلّغ عنّا ... عند عمرو، وهل لذاك انتهاءُ؟
ولعلّ القارئ أن يلاحظ معنا أنّ الحارث بن حلّزة تناصّ مع امرئ القيس تناصّاً معنويّاً في التناصة الأولى التي تناول فيها المرأة، بينما يختلف عنه في الأخراة حيث يتناول شأناً آخر من المعنى.(1/271)
وعلى أنّه لا ينبغي لأحد أن يعتقد أننا أرْدنا من هذا الإحصاء والشمول، وإلى الاستقراء والاستيعاب؛ ولكننا أردنا من بعض هذا إلى رسم صورة نسجية لهذه النصوص المعلّقاتيّة دون أن تكون غايُتُنا، في أيّ طور من أطوار سعينا، الانتهاء إلى استيعاب المُطْلق، ولا إلى بلوغ الغاية مما كنّا نريد...
******
( إحالات وتعليقات
1- نشرت لنا مقالة، أخيراً، في مجلة "قوافل"، بالرياض تحت عنوان:"بين التناصّ والتكاتب: الماهية والتطور: ع.7، السنة الرابعة ، 1417، حاولنا أن نعيد النظر في المفهوم الشائع وهو التناصّ الذي أصبح عامّاً جداً، بينما التكاتب يتمخّض لتبادل التفاعل بين الكتابة، والكتابة الأخراة، أو بين كاتب وكاتب آخر.
2- عبد الملك مرتاض، مقامات السيوطي: المستوى التناصّيّ، ص.33-36، اتحاد الكتّاب العرب، دمشق، 1996.
3- عبد الملك مرتاض، فكرة السرقات الأدبيّة ونظريّة التناص، علامات، جدة، ج1، م1، 1991 ،
4 - الجاحظ، الحيوان، 3. 311.
5- تراجع المقالة التي وقفناها على الحديث عن "بنية الطليّات في المعلّقات".
6- إشارة إلى قوله:
عوجا على الطَللّ المُحيل لعَلَّنا ... نبكي الديار، كما بكى ابنُ حُمامِ
... وقد روى اسم ابن حمام، تحت أسماء مختلفة متقاربة المرفولوجيا مثل ابن حزام، وابن خزام.
7- ابن حزم الأندلسي، جمهرة أنساب العرب، ص. 456، وانظر محمد عبيد، مجلّة كلّيّة الدراسات الإسلامية والعربيّة، ع.10، ص. 279-288.
8- ابن سلام الجمحي، طبقات فحول الشعراء، 1. 39، والبيت الذي يومئ إليه ابن سلاّم، هو الذي أثبتناه في الإحالة السادسة. وعلى أنّ الذي يفهم من كلام ابن سلاّم، أنّ البيت المومأ إليه هو لابن حمام، بينما البيت لامرئ القيس الذي يُحيل هو على مضمون فكرة ابن حمام، لا على لفظه، وإلاّ لما قال: (...) كما بكى ابن حمام. -
... 9.م.س.، 1. 25.
10- الجاحظ، م.م.س 1. 74.
11- ابن سلام، م.م.س،1. 228 -229.(1/272)
12- أبو عليّ الفارسي، كتاب الشعر، 2. 469 .
13- المرزباني، الموشّح، ص 35، و"بمّ" : أرض بكرمان.
14- م.س.، ص . 38.
15- ياقوت الحموي، معجم البلدان، 1. 376-4. 260
16- ابن سلاّم، م.م.س، 1. 228.
17- ابن منظور، لسان العرب، كفاْ.
18- ديوان الأعشى، ص. 63.
19- م.س.
20- نرمز لأسماء المعلّقاتييّن اختصاراً بمايلي:
امرؤ القيس : مق.
طرفة: (ط).
زهير: (ز).
لبيد : (ل).
عمرو بن كلثوم: (ع.ك).
عنترة: (ع).
الحارث بن حلزّة: (ح.ح).
21- ابن سلاّم، م.م.س.، وابن قتيبة، الشعر والشعراء، 1. 215.
22- وذلك في البيت الذي أثبتناه في الإحالة السادسة.
23- ابن حزم، م.م.س.
24- ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، 1. 43.
(((
7- جماليّة الإيقاع في المعلّقات
لماذا نقف هذه المقالة على الإيقاع في المعلّقات؟ وهلاّ انصرفْنا إلى سَوَائِهِ ممّا قد يكون أهمّ منه شأْناً، وأَخْطَرَ أمْراً؟ لكن أي شيءٍ يمكن أن يكون أهمّ من الإيقاع في مُدارسَةِ النص الشعريّ وتحليله؟ وإذا سلّمنا بأهمّيّة هذا الإيقاع، ومالنا إلاّ أن نسلّم بذلك؛ فماذا يمكن أن يُلاصَ، لدينا، منه: وقد قرّرْنا اختصاصَه، في هذه الدراسة، بهذه المقالة، على حِدَةٍ؟ أيُلاَصُ منه الحديثُ عن التركيبِ العَروضيّ الخالِص، أمْ أنَّه ذَهابٌ إلى مايمكن من المذاهب في تأويليّة الصوت، ودلالة النغَم، وتناسق اللّفظ، وائْتِلاف التركيب؟ ثمّ هل يمكن ربْطُ الإيقاع بالنسج، والنسج بالإيقاع، وتعليل لماذيّة هذا، بلماذيّة ذاك؟(1/273)
وعلى أنّا لا نريد بمفهوم الإيقاع إلى الميزان العروضي بالمعنى التقني للاصطلاح الخليليّ. فإنّما العَرَوض تنهض على التماس الميزان الدقيق، وإنما كان الميزان دقيقاً، في الأعارِيض، لأنه ينهض على تَقدير زَمنّي شديدِ الصرامة. فكأنّ العَروضَ تعني، قبل كلّ شيء، حساب الزمن، ودقّته وصرامته، مَثَلُها مثلُ الموسيقى في تحديدِ أنغامِها، وضبط ألحانِها، بالميزان الصوتيّ الدقيق.
وإذاً، فليس الإيقاعُ الذي نريد إليه: ذلك؛ ولكنه مجموعة أصوات متجانسة متناغمة، ومتشاكلة متماثلة، ومتضافرة متفاعلة: تتشكّل داخل منظومة كلاميّة لتجسّد، عبر نظام صوتيّ ذاتيّ ينشأ عن تلقائيّات النسج بالسِّمِاتِ اللفظية، نِظاماً إيقاعِيّاً يقع وَسَطاً بين دقّة العروض في ميزانها، وتساهل النثر في فوَضْاهُ.
ويختلف الوزن عن الإيقاع لدى منظّري الشعر اختلافاً محسوساً بحيث إنّ الوزن ينصرف معناه إلى انقسام إبداع موسيقيّ إلى أقسام: يكون لها، كلّها، المدّة الزمنيّة نفسها: تتوزّع بينها على سَواءٍ، على حين أنّ الإيقاع يتشكّل من انقسام، من جنس آخر، مختلفٍ عنه كلّ الاختلاف، ومِقدّرٍ لأقسام التركيب الماثل: مُدَداً زمنيّة ليست بالضرورة متساوية"(1).
وأياً كان الشأنُ، فإنه لا يمكن تحليلُ أيّ نصٍّ شعريّ دون المَعاج على إيقاعه لمُدارسَةِ جماله، وتحديد عناصر هذا الجمال، وبلْوَرَةِ علاقة التعاطِي والتضافر فيما بينها، عبر ذلك النّصّ، ويمكن الخوض، أثناء ذلك، في تأويل علّة اختيار ذلك الإيقاع بذاته، أو اختيار تلك الطائفة من الإيقاعات الجزئيّة التي تشّكّل، في مُثولها العامّ عبر النص الشعريّ المطروح للتحليل، نظام الإيقاع المركزيّ الذي غالِباً ماتكون وظيفتُه جماليّةً أولاً، ثم دلاليّة آخِراً.(1/274)
وينشأ عن تمثّلنا لهذا الإيقاع وربطه بفنيّة الجمال، ثمّ ربط جماليّته بالدلالة: أنّا نتناوله تحت إجراء التأويليّة، وذلك كيما نتّخذّ في قراءتنا، وقد نكون، في بعض ذلك، على قدر كبير من الحق، حرّيَّةَ التمثُيلِ في قراءة الإيقاع عبْرَ نصّه الماثل فيه. أي أنّنا لا نزعم أنّنا نخضعه لسلطان نظريّة علميّة صارمة، ولكننا نزعم أنّنا نُخضعه لإجراءِ التأويليّة القائم، أساساً، على التعامل مع النّصّ الأدبيّ بحرّيّة تنهض على التماس المخارج والمَوالج للنّصّ، والسلوك بقراءته في مُضْطَرباتٍ جماليّة وسيمائَيِاتيّةٍ: تكون في الغالب مفتوحةَ الحدود، غير منغلقة الآفاق.
ولعلّ التأويليّة -أو الهرمينوطيقا بلفظها الأصليّ- جاءت إجراءً فعّالاً لتخليص النقد الأدبيّ الذي القراءة الأدبيّة فرع منه: من بعض وَرْطتهِ حيث إنّه ما أكثر ما كان يدّعي لنفسه الموضوعيّة، تحت عقدة الموضوعيّة العلميّة، بينما لا يكاد يمتلك من تلك الموضوعيّة إلاّ قليلاً، وذلك بحكم انتمائه إلى حقل العلوم الإنسانيّة التي لايُبَرْهَنُ فيها، ولدى تحليل ظاهرة معيّنة منها - على صحّتها أو زَيْفَها- بَرْهَنةَ علميّة صارمة، كما يبرهن على صحّة نظريّة فيزيائيّة، أو رياضياتيّة...
فلعلّ، إذن، التأويليّة بإجراءاتها المتفتّحة، أن تكون من بين الأدوات الحداثيّة التي اجتهدت في أن النقدَ، ممّا كان متورِّطاً فيه من أَبَوِيَّةٍ وأستاذيّةٍ واستعلائيّة، كما تنقذ، نتيجة لذلك، النصّ الأدبيّ من ذلك البَلاء الذي كان يَمْثُل في إصدار أحكامِ القيمةِ القائمة على التماس الجودة أو الرداءة في العمل الأدبي، لدى قراءته، بالضرورة...
أوّلاً: أثر الحميميّة في تشكيل الإيقاع الداخليّ(1/275)
إنّا حين نَقْتَرِئُ نُصوص هذه المعلّقات لنحاول تسجيل شيء من الملاحظات حوال إيقاعِها، استبان لنا، ولا نقول استكشفْنا، أنّ البنية الإيقاعيّة الداخليّة لهذه النصوص ربما أمكن حصرُها في مجموعتينْ اثنتيْن من المعلّقات: معلّقاتِ امرئِ القيس، وطرفة، وعنترة من وجهة، ومعلّقات لبيد، وزهير، وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلّزة، من وجهة أخراة.
وقد يكون من القصور، في إنجاز التحليلات الإيقاعيّة على الطريقة الحداثيّة، أن نتحدث عن مجرّد الإيقاع الخارجيّ الذي كثيراً ماينصرف لدى الناس إلى مجرد مايطلق عليه العروض: إما الرويّ في حال، وإمّا القافية في حال أخراة: ثم نَتَّرِك الروافد الخلفيّة الثرثارة التي تمدّ هذا الإيقاعَ بالأنغام، وتمكّن له في الحَصْحَصَةِ والقِيام. إنَّا لو جئنا ذلك لكان سعْيُنا مُجَرّدَ ملاحظات ساذَجة، وتقريرات فجّة، إن لا نقل فاسدة، وهل يجوز جَنْيُ الثمرة، وقطع الشجرة؟ إِنّ أيَّ إيقاع، حين ندارسه ونداخله، لا مناص لنا من العودة إلى الخلفيّات اللّفظيّة (نحن هنا ندارس نصَّاً أدبيَّاً لا منغومة موسيقيّة، ولذلك فإنّ المادّة الإيقاعيّة تتمثّل في مادّة الألفاظ وما تأتلف منه من حروف تجسّد أصواتاً هي بمثابة الأنغام في علم الموسيقى...)، والتي تشكّل هيكله الصوتيّ العامّ...(1/276)
فلماذا اصطنع امرؤ القيس الإيقاع الخارجيّ الوطيءَ الصوت (الرويّ المكسور)؟ وهل كان ذلك مجرّد مصادفة واتفاق؟ ولكن مَنْ مِنَ الحُذّاق يذهب إلى عفويّة مثول الفنّ؟ وحتى إذا كان ماحدث من نسوج نغميّة، كان في الأصل، افتراضاً، مصادَفَةًً وعفواً: فكان بمثابة الصوت الذي يصدر عن الحنجرة، والنظرة التي تصدر عن الطرْف، والشذى الذي يعبق من الورد... فإنّ من حقّنا، ومن واجبنا أيضاً، ونحن نقرأ: أن نقرأ النصّ الأدبيّ على غير ماكان لاصَ النّاصُّ، وعلى ما لم يكن فكّرَ فيه قط، إذّ من حقّنا البحث عن اللاَّمحدودِ في الدلالات التي ضمّنها المؤلّف نَصَّهََ، كما أنّ من حقِّنا البحثَ أيضاً عن اللاّمحدودِ في المعاني التي جَهِلَها المؤلِّف (2)، أو تلك التي لم تَدُرْ له بِخلَدٍ.
ذلك بأنّ الغاية من القراءة لم تعد، كما يقرّر ذلك امبرتو ايكو، مقصورةً على جانبها التجريبيّ فحسب (ارتضاؤها بالاقتصار على تحقيق هدف يتمثّل فيما يمكن أن يطلق عليه سوسيولوجيّة التلقّي): ولكن إبراز وظيفة التطنيب (البناء) والتقويض (أي مايطلق عليه النقاد الحداثيّون في شيء من القصور: التفكيك) للنّصّ الذي تتولّى القراءةُ النهوضَ بِلَعِبِهِ: بما هو وظيفة فاعلة وضرورية لإنجازِهِ كما هو (3).
أرأيت أنّنا يمكن أن نقرأ النص الأدبيّ، إذا ركضنا به في مضطَربِ التأويليّة الرمزيّة، على نحوين اثنين:
1- بالبحث عن اللاّمحدود في الدلالات التي كان المؤلّف ضمّنها نصّه.
2- بالبحث عن اللاّ محدود في المعاني، أو الدلالات، (وذلك هو الذي يعنينا في تحليل مسألة الإيقاع في المعلّقات، وفي كلّ الجماليات السيماءَوِيَّةِ التي نطرحها من هذه القراءة من حولها التي جَهِلَها المُؤَلِّفُ (والتي أْنَتَتجَتْ- كذلك نريد أن نُعَبِّرَ- احتمِالاً، من المتلقّي، ولكن دون أن نعلم ما إذا كان ذلك نتيجة، أو قصوراً، عن مقصديّة النّاص)(4).(1/277)
والمشكلة المنهجيّة التي قد تظلّ قائمةً لزمن بعيد، تَمْثُلُ في هاتين المُساءلتينْ الاثنتين:
1- هل يجب أن نبحث في النّص عمّا كان المؤلّف يريد قوله؟
2- أو يجب البحث في النّص عمّا يقوله هو، لا عمّا يقوله صاحبُه؟
أي أننا في الحال الأخيرة نعالج النص الأدبيّ بمعزل عن مقصديّات مؤلّفه.
وفي حال التسليم بالاحتمال الثاني للقراءة، فإنّ التعارُضَ، حينئذٍ، سيحدث بين:
أ- هل يجب أن نبحث في النّص عمّا يقوله النصّ بالإحالة على نَسَقِهِ السياقيّ، وبالإحالة على وضع أَنْسِقَةِ الدلالة التي يُحيل عليها؟
ب- أم هل يجب أن نبحث في النّصّ عمّا يجده فيه المتلّقي بالإحالة على أَنْسَاقِ دلالته و/أو بالإحالة على رغباته، أو قابليّة ميوله، أو مشيئاته الممكنة...؟ (5).
ويبدو أنه من الأمثل للقارئ، وللنصّ المقروءِ، وللمؤلف الذي كان أبدع النص: من الأمثل للجميع أن تكون القراءة على المذهب الثاني.
وإذن، فلِمَ الإيقاعُ الخارجيّ في معلّقة امرئ القيس وطيء الصوت، بتعبيرنا؟
إنّا ونحن نجتهد، ولا نملك إلاّ قولَ ذلك، في الإجابة عن هذا السؤال المعرّفي الإجرائيّ معاً: ربما نكون قد أجبنا عمّا لم نطرحه من سؤال، من قبل، وهو: ومابال الإيقاع الخارجيّ، وإنما غايتُنا، في هذه الفقرة من البحث، تحليلُ الإيقاع الداخلي أساساً؟
والحقّ أنّ الفصل بين الداخليّ والخارجيّ من الإيقاع لم يكن إلاّ إجراء تيسيرِيَّاً للمتلقيّ، وإلاّ فَهُما، في الأصل، مندمجٍان، منسجمان، متزاوجان متكاملان، بحيث لا يكون الأوّل إلاّ بالآخر، وإن أمكن كَوْنُ أحدِهما فما كان ليكون إلاّ ضعيفاً هَشاً وهزيلاً فَجَّاً.(1/278)
لقد لاحظنا أنّ امرأ القيس ابتدأ أوّل حرف في معلّقته بالصوت المخفوض: قِـ +فا... فكان، أو كأنّ ذلك كان، بمثابة إعلان عن هويّة المنظومة الإيقاعيّة عَبْرَ هذا النص الشعريّ العجيب... ولقد ازداد ذلك رُسوخاً بورود خفض واحد على الأقل في كلّ السمات اللفظيّة التي يتألّف منها البيت الأول من المعلّقة المرقسيّة- إلاّ ظرفاً واحداً كان يجب أن يظلّ مبنياً على الفتح هنا:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبيبٍ ومَنْزِلِ ... بِسِقْطِ اللِوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فحَوْمَلِ
إنّ الصوت الأوّل في النّص كأنّه يأتي بمثابة إعلان عن الهويّة الإيقاعية للصوت الأخير فيه. والصوت الأوّل في البيت، يؤذن بالهويّة الإيقاعية للصوت الأخير منه...
إنّا نُحِسُّ، منذ الوهلة الأولى، أنّنا أمام نظام إيقاعيّ مُتماسِكٍ تتركّب أنغامُه، خصوصاً، من أصوات وطيئة (من مخفوضات متلاحقة). ولكن هذه الأصواتَ المنخفضة المتلاحقة، المتضافرة المتغافصة، والآخِذَ أوّلُها بتلابيب آخرها: هي، في نهاية الأمر وأوّله أيضاً، جزء من نظام صوتيّ تقوم جماليَّتُه على حميميّة المضمون، وعلى سياق الحال، فأفضى إلى نظام للتركيب الإيقاعيّ الداخليّ الذي هو بمثابة الخزّان الجماليّ للإيقاع الخارجيّ الذي ماكان ليأتي، في الحقيقة، إلاّ تتويجاً لهذه الخلفية المتناغمة التي ازدانت بها منطوقات هذه القصيدة.(1/279)
ولقد نؤول أنّ الصوت المخفوض، أو المنكسر، أو الوطيء، هو أليق بالذات، وأولى بحميميّتها من سَوَائِهَ في هذا المَقام، وذلك على أساس أنّه يتلاءم، في اللغة العربيّة، مع ياء الاحتياز ( ياء المتكلّم) الدّالّة على الامتلاك والأحقّيّة. وَلِمَّا اقتنعْنا بهذا التمثّل ربطناه بنصّ معلّقة امرئ القيس الذي بصرف الطرف عن الأحشاء، والأعاريض والأَضْرُبِ، والأضْرُبِ، بلغة العَروضيّين، أو الفونيمات بلغة الصَّوْتانِيّينّ، والتي تمثّل أواخِرَ المصاريع خصوصاً - وهي تمتدّ على مدى نصّ المعلّقة -فإنه اشتمل على سِمَاتٍ لفظيّة كثيرة: إمّا لأنّها تنتهي بصوت وطيء، أو منخفض، وهو الصوت الذي زعمنا أنه يرتبط بالذات، ويتمحض لباطن النّفس، وذلك لأنه كثيراً مايرتبط بياء الاحتياز؛ وإمّا لأنّها تدلّ على حميميّة المدلول.
إنّ الإيقاعَ الداخليّ، كما يجب أن يتبادَرَ إلى الأذهان، نقصد به إلى العناصر الصوتيّة، أو السمات اللّفظية، التي تأتَلِفُ منها الوحدة الشعريّة (البيت) بِجَذاميرها، والتي تشكّل هي في ذاتها، مع صِنْوَتِها، هيئة النص الشعريّ المطروح للقراءة، بحذافيره.
وقد كُنّا لاحظّنا منذ قليل أنّ هذا الإيقاع، في تشكيلاته الكبرى، يتحكّم فيه الصوت المنخفض الدالّ، في رأينا، على الانهيار، والبّثّ، والحزن، والحرقة، وإذا غَضَضْنا الطْرف عن الصوت الساكن الذي لا يأتي في الكلام إلاَّ لِلْحَدِّ من الحركة الصوتيَّة وقمعها، أو التلطيف من غلوائها وعنفوانها؛ فإنّ العناصر الصوتيّة المنخفضة، هنا، هي السائدة المهيمنة، والماثلة المتحكِّمة. ولعلّ هذا الأمر أن يندرج ضمن هذا الوضع المتدّنّي لمعنويّات نفس النّاصّ.
ونحن حين جئنا نتابع العناصر اللفظية المُفرزة للأنغام، ونتقصّى طبيعة أصواتِها، ألفينا مالا يقل عن عشرين عُنْصَراً اتّخذ له الصوت المفتوح (منها اثنا عشر صوتاً مفتوحاً ممدوداً):(1/280)
قِفَا- ذِكْرَى- اللِّوَى- بَيْن- فَتُوضِح- رسْمُها- لِمَا- نَسَجَتْها- تَرَى- بَعَرَ- عرصاتِهَا- قِيْعَانِهَا- غَدّاةَ- يَوْمَ- لَدَى- بِهَا- عليَّ- لا- وإنَّ- عِنْدَ (وقد رصَدْنا ذلك من الستة الأبيات الأولى من المعلّقة).
ودلّت الهيمنة النسبية للصوت المفتوح على أنّ حال الشاعر كانت تستدعي البثّ والشكوى، والحنين والبُكى، لأنّ الذين يَشْكِي أو يبكي مضطرّ، في مألوف العادة، إلى أن يرفع عقيرته كَيْما يَسْمَعُهُ الناسُ ويلتفتوا إليه. ولأمر ما كانت حروف النداء، في اللغة العربيّة، مفتوحةً كلّها (أ- أيْ- يَا- أيّا- هيّا....): ولعلّ ذلك من أجل أن يُسمَع المُنادِي حاجته، ويبلّغَ لهم رسالتَه، وَيَسْتَبين عمّا في نفسه من كوامِنِ الأسرار، ومكنون الأخبار، الدعاءُ مدٌّ للصّوت، والشكوى مدٌّ، أيضاً، لهذا الصوت، والحنينُ، من بعض الوجوه، مَدٌّ للصوت. ويكون الصوت في مثل هذه الأطوار مفتوحاً لينفتح به الفم، ولتنطق به الحنجرة حال كونها مفتوحةًً، ولتنادي به العقيرة في الهواء، ولترتفع به في الفضاء.
أمّا العناصر الصوتيّة المنخفضة الأخرى، والمشكّلة للإيقاع الداخليّ، أو لكثير منه، في الطليّة المرقسيّة؛ فإنها بلغت، هي أيضاً، زهاء ثمانيةَ عَشَرَ عنصراً صوتيّاً، وهي (وراعينا في ذلك النطق الفعليّ، لا الحالة النحويّة في مثل "في"، وفي مثل "كأنّي"): نَبْكِ- ومنزل- بسِقْط- الدُّخولِ- فَحَوْمَلِ- فالمقراةِ- وشمأَل- الاْرآمِ- في -فُلْفِل، كأنّي- البينِ -سَمُراتِ- الحيِّ- الحيّ- حَنْظّلِ- صَحْبِي- وتجَمَّلِ- شِفَائِي- مُعَوَّلِ.(1/281)
وإذا توسّعنا في استقراء القراءة وجاوزّنا بها الستةَ الأبيات الأولى إلى مابعدها نصادف سِماتٍ كثيرةً تنتهي منخفضةَ الصوت. ودالّة على الحميميّة والامِتلاك.. مثل قوله: (شِفائِي- دَمْعي- مِحْمَلي- مَطِيَّتي- يا امرأ القيس- بعيري- ولا تُبعِديني- وتحْتي- صَرمْي- أغرّكِ- مِنّي- حُبَّكِ- ساءَتْكِ- فسُلّي- ثيابِي- أمْشي- فُؤادي- هواكِ- فيكِ- مِنّي- حَرْثي- أغتدي- بعيني- أصاح- وصَحْبَتِي...
وإذا حقّ لنا أن نؤوِّلَ هذا السعيَ الماثل في النّص، فسيكون، مثلاً، أنّ الناصّ إنما اصطنع الأصوات المنخفضة على دأبه في التعامل مع المنخفضات من الأصوات، من أجل أن يدلّ بها، في رأينا على الأقلّ، على انقطاع الماضِي، وموْت الزمن الفائت، وذهاب الحال، واستحالة الأمر. وقد لاحظنا أنّ الأصوات المكسورة [والمكسور، من الوجهة اللغويّة، مقهور- ومن الوجهة الإحصائية] متقارِبَةُ العدد مع الأصوات المفتوحَةِ الآخِرِ: ولعلّ ذلك لتناسب حالة الحنين والشكوى والبثّ المعبَّر عنها بالأصوات المفتوحة الممدودة، وغير الممدودة، بحالة الزمن المنقطع، والماضي المندحر، والأمس المندثر.
فهناك إذن تلاؤُمَ تامّ، وانسجامٌ عجيب، بين الأصوات المنفتحة، أو الأصوات الممتدّة إلى نحو الأعلى، والأصوات الممتدة إلى نحو الأسفل: في التعبير عن الراهن من الحال، والدّلالة على الوضع القائم في ذات الناصّ ونفسه.
وهناك سمات صوتيّة أخراةٌ تَرِدُ في النسج الداخلي للإيقاع، بعضها حميميّ خالص، وبعضها له صِلَةٌ بالحميميّة حين يُذابُ في النسيج العامّ للنّصّ، وذلك مثل: عَقَرْتُ- دَخلْتُ- فقُلْتُ- فألهَيْتُ+ها- تمتَّعْتُ- تجاوزْتُ+ فجئت-خرجت+ هصرت-فقلت- جعلت- قطعت+ه- فقلت. -طرقت.- عقرت...
ومثل:(1/282)
بنا- وراءنا- أثرَيْنا- يا (امرأ القيس)- وما (أن أرى)- انتحى- بنا- أرخى- عصامها- لمّا- عَوَى... إنّ الصوت الخارجيّ (الرّويّ) الطاغِي على النّصّ ليس إلا صورة للأصوات الداخليّة المُتتالية المتناغمة، والتي تتّخّذ لها سَلالم صوتيّة مختلفة بين الامتداد المفتوح، والانكسار المخفوض، وكُلُّها ذو صِلَةٍ بحميميّة النفْس، وجوانيّة الذات للناصّ: التي كانت بمثابة المُرْتَكَزِ الحصين الذي يرتكز عليه الصوت الخارجيّ، وإذا وَفُرَ للإيقاع، بنوعيهْ، أصواتٌ داخليّة تدعمّه وتُثريه، وصوت خارجي، يُزِيْنُه ويُؤْوِيه، كان غنيّاً سَخِيّاً، وطافحاً عبقريّاً.
والحميميّة التي ردّدناها، والتي نردّدها كًثيراً في هذه المقالة، كما رأينا بعد، ترتبط ارتباطاً داخليّاً بنفس الناصّ، وحُبّه، وسيرته، وهمومه، فالذات، في هذا النّص، هي الطاغية؛ إذ لم يكد يخاطب إلاّ بعض أصحابه، وبعض حبيباته، وبعضَ ليلهِ، وبعضَ ذئابه (على الرغم من أنني أذهب مع من يذهبون من القدماء، إلى أنّ الأبيات الأربعة التي يتناول فيها الذئبَ ومحاورته ليست له). وماعدا ذلك فصوت الناصّ هو الطاغِي، وذاتيّته هي الطافحة، وحميميّته، هي البادية الماثلة.
إنّ الإيقاع في معلّقة امرئ القيس لم يكن، من منظورنا على الأقلّ، اعتباطِيّاً تركيبُه، ولكنه ينهض على نظام صوتيّ موظّف عبر النسج الشعريّ بحيث نلفي الدالّ -وهو السمة التي تمثّل الصوت- يُحيلُ على المدلول؛ والمدلول يحيل على الدّالِّ، في انتظام وانسجام، وتناسق والتحام.(1/283)
ولا يُصادفنا إلا شَيءٌ من ذلك حين ننزلِق إلى الحديث عن معلّقة طرفَة التي تطالعنا فيها حميميّة طاغية. وإنما قلنا: طاغية؛ لأنّ دوالَّها أوفرُ كثرةً، وأوسَعُ انتشاراً في هذا النصّ، من معلّقّة امرئ القيس نفسها، كما نصادف فيها فيْضاً من "الفونيمات" المنخفضةِ الأصواتِ التي كانت هي أيضاً بمثابة خزّانِ سخيّ للمنظومة الصوتيّة العامّة التي يتركّب منها نسج المعلّقة. ومن العجيب أنّ أوَّلَ حرف، في أوّلِ لفظٍ، في أوّل بيْتٍ، في هذه المعلقة يبتدئ بالخفض: مثل أوّل حرف، في أوّل لفظ، في أوّل بيت -أيضاً في معلّقة امرئ القيس، حَذْوِ النعلِ بالنعلِ. ونلاحظ في نصّ طرفة أيضاً فئتين اثنتيْن من الأصواتِ: فئة الأصوات المنخفضة، وهي التي تركض، فيما نزعمه، في مركض الحميميّة التي تَسْتَمِيزُ بها قصيدة طرفة، وفئة الألفاظ التي وإن لم تكن منخفضة من حيث هي سِماتٌ صوتية، إلا أنها دالة على ذلك من حيث هي مدلولات.
ويمكن أن نمثّل للفئة الأولى ببعض مايلي:
صَحْبي-وإنّي- صاحِبي- تَبْغِني- تلْقَني- تلتَمسْني- تُلاقِني- تَشْرابي -ولذَّتي- وبِيْعي- وإنفاقي- طريفي- ومُتْلَدِي- تحامَتْني- سْبقي- وكَرّي- فَما لي- أرانِي- وابنُ عَمِّي- عَنّي- يلومني- لامَنَي- وأيأسَنِي.... وهلمّ جرّا ما تَكَلُّفُ إدراجِه، كلّه، قد يثقل كاهِل هذه المقالة، ويمدُّ في طولها، فعسى أن يكون هذا التمثيل كافياً لمن أراد أن يتابع ذلك في معلّقة طرفة حيث وصلّنا به، نحن، إلى زهاء إحدى وستّين حالة منطلقة من ذات الناصّ، أو صابّة في فيضه الذاتيّ الثرثار.
أمّا الشقّ الثاني لحميميّة هذا النّصّ، تلك الحميميّة التي نربطها بالإيقاع الخارجيّ المنخفض الصوت: فيتمثّل، هو أيضاً، في فيض من السِّمات الصوتية الضاربة في هذه الحميميّة، الحائلة عليها، أو المنطلقة منها، وذلك مثل:(1/284)
وإنّي -لأمْضي- وإن شئتُ- وإن شئتُ- وإن شئْتُ- أمْضِي- خِلْتُ- أنّني- عنيت- لم أكْسَلْ- لم أتبلَّدْ- أحَلْتُ- ولسْتُ- أَفِرْدْتُ- رأيت- أبادر- أحفل- أرى- أرى- أرى- أدرى- نشدت- أغفل- قرّبت- وأنْ أدع- أكُنْ- أشهدَ- أجهدَ- أسقهم- أحدثته... وهلمّ جرّا ممّا عَفَفْنا عنه من ألفاظ أخراةٍ باقية كثيرة تدلّ على حميمية المعنى، وذاتيّة المدلول، ويكون لها أثناء ذلك دور في إغناء الإيقاع بالأنغام الصوتية المتماثلة، أو القريبة التماثل...
ويأتي عنترة في المرتبة ذاتها، أو في مرتبة من الحميميّة قريبة من مَرْتَبَتَيْ ضَرْبَيْهِ امرئِ القيس، وطرفة. وواضحّ أنّ ذلك يعود إلى طغيان الذاتيّة لدى هؤلاء الثلاثة المعلّقّاتيّين لأنّ غايتهم، من قول الشعر، لم تكن للحكمة أساساً، ولا لالتماس صلح بين قبائل متحاربة (زهير)، ولا لالتماس الفخر بالقبيلة والتغنّي بأمجادها (عمرو بن كلثوم)، ولا لتجسيد اللوم والتثريب، والتوبيخ والتقريع، لخصوم القبيلة (الحارث بن حلّزة)؛ لكنّها كانت للتعبير عن النفسْ، والترويح عن القلب، والتغنّي بالذّات، ووصف ماله صلة بها كالرّكوبة، والحبيبة، والفَرَس، ومجالس اللهو، والشراب...
علاقة الإيقاع بالنسج الشعرّي لدى عنترة(1/285)
ولمّا كانت الميم شَفَويّةً، فكأنها حرف الذات، وصَوْتٌ للنفس، إذ الشفتان تنضمّان عليه كما تنضّم الرّحِمُ على الجنين، وكما ينطوي الكِمُّ على الوَرْدَةِ قبل أن تنشق عنه، وكما يَشُّدُّ كُلُّ امْرئٍ على ذي قيمة. ونلاحظ أنّ الميم حين تكسر، تظلّ محتفظة بالصوت، وحين تخرجه، لدى نهاية الأمر، تُلْقِيَ به نحو الأسفل، نحو القلب، نحو الجوانح... كذلك نتمثّل أمر وظيفة هذا الصوت... على حين أنّه حين يُفْتَح، يطيرُ به الصوت في الهواء، وينتشر في الفضاء. أمّا حينَ يُضَمُّ، فإنّه يتلاشى في الهواء، ولكن نحو الأمام من وجهة، ولمَدَّى من الانتشار، يقلَّ عن الانتشار الذي يتمخّض للصوت المفتوح -وخصوصاً حين يمتدّ- من وجهة أخراة.
من أجل كلّ ذلك وافَقَ صوْتُ الميم المنخفض دلالة النسج على المدلول، وهو هذه الحميميّة التي تصادفنا في معلّقة عنترة حيث إنّ هناك مالا يقلّ عن ستٍّ وسبعين حالةً يقترن فيها السِّمَةُ الصوتيّة بياء الاحتياز، أو همز الأَنَا، أو تاء المتكلّم، أو مافي حكم ذلك.. ممّا يجعل من معلّقة عنترة، من الوجهة النسجيّة: نصّاً يدور في دائرة معلّقتي امرئِ القيس وطرفة حيث كنّا رأيناهما، هما أيضاً تحملان كثيراً من هذه السمات الصوتيّة: الرويّ المكسور غير الممدود، وهو الصوت المقترب من النفس والذات، واستعمال اللاّم التي يمكن أن نطلق عليها لام الامتلاك، واصطناع الدال، وهي حَرْفٌ صوته يقترب من النطق الشفويّ (تُصَنَّفُ الدالُ حَرْفَاً لَثَوِيّاً، لأن مبدأ نطقها من اللّثّة) الذي يعني شَيْئَاً من الحميميّة والانغلاق على النفس، والانْزِواء داخل حيز الذات...(1/286)
فلو كان حرف الرويّ الذي هو الميم، هنا، مضموماً لكان رمى بكلّ شيء إلى الخارج، ولألْقَى بكلّ القيم الدلاليّة نحو العَدَم؛ لكنّ هذه الميم خُفِضَتْ؛ فكان خفضها من أجل إرسالِ هذه القيم الدلاليّة إلى نحو الأسفل، إلى نحو القلب والذات، والإحالة بها على الماضي الغابر على أساس أنّ النُّصَّاصَ، هنا، يسردون ذكرياتٍ وأحداثاً ممّا كان وقع لهم في بعض ذلك الماضي.
ولقد ظاهرت هذه السِتَّةُ والسَّبْعُونَ عُنْصَرَاً المكسورة الآخِرِ، وفي نصّ معلّقة عنترة، على التمكين لِمّا نُطْلِقْ عليه حميميّة الإِيقاع الناشئة عن اغتفاص هذه الاحْتِيازات الكثيرة، والتي منها ناقِتي- وحشيّتي_ مخالقتي- مالي- وعِرضي- شمائلي- وتكرّمي- يدايّ- كِفّي- عهدي- لبّي- جاريتي- نعمتي - عمّي- مقدمي- دمي...- لي- إليّ...
وهناك سِمات أخراة تحيل على الذَّات، والداخل، والحميميّ، ولكن لا يعبّر عنها بياء الاحتياز، ولكن بأدوات أُخراةٍ مثل تاء المتكلّمْ، وهمزة المضارع الدالّ على المفرد المتكلّم، مثل: فوقفت- أقتل- أبيت- ظُلِمْتُ- أظلم- تركت- شَرِبْتُ- صَحْوتُ- أغشى- فشكَكْتُ- فتركتُه- نزلت- قطعتُ+ـهُ- فبعثْتُ- نُبِّئْتُ- حفظت- رأيت- مازلت- شئت...
كما أنّ هناك سماتٍ دالّةً على الذات؛ ولكن بصورة غير مباشرة مثل:
مِنّي- راعَنِي- دُونِي- إنني - عَلَيَّ - بي - ولكنّني- مشايعي...(1/287)
وكلّ ذلك كان من أجل التمكين للنسج من أن ينسجم مع المنسوج، وجعل الدّالِ يتماشى مع المدلول؛ إذْ لمّا كان الإيقاع الخارجيُّ مكسوراً فإنه كان- والحال إنّ الشعر جمالٌ وسحر وقول يبهر ويدهش، وكلام يمتع ويؤنس- مُنْتظَراً أنْ تتلاءَمَ مُعظمُ النسوج (الألفاظ، أو السمات الصوتية، المنتسجة منها الجُمَلُ داخل النّص) بأن تنتهي، هي أيضاً، بالكسر، أو بياء الاحتيازِ (ياء المتكلّم) الناشئة عن الكسر، أو المُنْشِئَة لهذا الكسر المُحيل على الذات الدّالَّة على الحميميّة المتقبّلة كلّ ما يأتيها من الخارج لتختزنَه في الداخل المضطرِبِ فَتَزْدَخِرَ بِهَ ازْدخاراً...
فهؤلاء المعلّقاتيّون الثلاثةُ، كما رأينا، (وإن لم نعمّق تحليل الإيقاع في نصوص معلّقّاتهم، لأسباب منهجيّة...) تشيع في قصائدهم الحميميَّةُ بمعنَيَيْهَا لدينا: ياءِ الاحتيازِ، وضمير المتكلّم المفرد.
ويمكن أن نصنّف لبيداً ضمن الخاصيّة النسجيّة الأولى حيث وردت في معلّقته سِماتٌ صوتيّة كثيرة تَرْتَكِضُ مُرْتَكَضَ الثلاثة أتيْنا عليهم ذِكْراً في هذه المقالة. وقد أحصيْنا من ألفاظ الحميميّة في معلّقته ما أناف على الثلاثين.
فكأنّ لبيداً يمثّل حلقةَ وصْلٍ بين السبعة، وكأنّه يقترب، في هذه الخاصيّة الإيقاعيّة، من الثلاثة الأوائل دون أن ينضِويَ، مع ذلك في لِوائهم، ويدرج في فَلَكهم، فكأنَّه، إذن، في الوقت ذاته، يَزْدَلِفُ من الثلاثة الأواخِر (ولفظ "الأواخر" هنا لا يعني إصدار حكم قيمة، وأنّ هؤلاء الثلاثة أدنى شاعريّةً من الثلاثة الذين توقفنا، في هذه المقالة، لدى بعض عناصر الإيقاع في شعرهم، ولكنه يعني مجرّد نظام الحساب...) على نحو ما...(1/288)
إنّ حميميّة لبيد لا ترقى إلى تشكيل ظاهرة نسجيّة، تمثّل جهازاً صوتيّاً يمدّ الصوت الخارجيّ بالأنغام على نحو ما كنّا ألفيناها لدى طرفة، وبدرجة أقلّ لدى امرئ القيس، فإنما كان لبيد يصف حالاً، ويتحدّث عن وضع كأنه كان يعيشه قبل، أو قُبَيلَ، إنشاءَ هذه المعلّقة التي يبدو أنها تعرضت لتنقيح شديد... فنسْج شعره يقوم إيقاعُه على مايمكن أن نطلق عليه الروح السرديّة أكثر ممّا يقوم على الحميميّة. وينهض إيقاعه على الإحالة على ماضٍ قريب حتّى كأنّه حاضر ملفوف فيه: مُهَا.
فالضمّ الوارد قبل الفتح، في الإيقاع الخارجيّ، يُبعدُ الحميميَّة، وهَا الممدودة تُدْنِي النًّسْجَ من الحاضر، بمقدار ما تَزْدَجِيهِ نحو الماضي. فكأنّ الماضِيَ، هنا في تمثّلنا نحن على الأقلّ، يمتزج بالحاضر، والذاتَ تذوب في الآخرَ، كما أنّ الآخَرَ يذوب في الأنّا. من أجل ذلك تمازجت النسوج بالإيقاعات، فكانت تحيل على الخارج، ولكن انطلاقاً من الداخل المتمثّل خصوصاً في صوت الميم الدال على الحميميّة، حتى وإن كان مضموماً فإنه باعتبار ميميّته- أي باعتبار مخرجه الشفويّ الذي يستدعي أن تَضْطَمَّ عليه الشفتان معاً- يظلّ محتفظاً بمسحة من هذه الحميميّة.
بينما نُلفي هذه الحميمية تضعُف لدى زهير، وعمرو بن كلثوم، والحارث بن حلّزة، وتحلّ مَحَلّها؛ وخصوصاً لدى الحارث وعمرو، نَا الدّالةُ على الجماعة، المنبثقةُ عن ضمير القبيلة وصوتها الجمّاعيّ.
وإذا كان زهير لم يكد يورد من ألفاظ الحميميّة إلاّ زهاء اثني عشر لفظاً، فَبِمَا إغراقهِ في التأمّلّية؛ وَبِمَا نَهْيِهِ عن الانغِماس في رِجْسِ الحرب؛ وبما دعوته الناسَ إلى السلم وترغيبهم في الجنوح لها حيث كانوا، إذ لا يَجْنُون من الحرب إلاّ المآسيَ والشقاء، والإحن والعذاب.(1/289)
ونلفي عمرو بن كلثوم والحارث بن حلّزة يتفرّدان بالإضراب- والشأن منصرف إلى الإيقاع الداخليّ في معلقتيهما- عن الحميميّات والذاتيّات إلى : نَا ونَحْنُ الدّالّيْن على الجماعة، أي على القبيلة؛ لأنّ نصّيْهما كان يجريان مجرى النطق باسم العشيرة، والاحتجاج لها، والنضح عنها، والتعصّب لمذهبها، والدفاع عن مصالِحَها، والتغنِّي بمآثرها، وقد تكاثرَ ذلك وتغازر، ولاسيما لدى عمرو بن كلثوم، حتّى شكّلّ منظومةً إيقاعيّة داخليّة كانت تمدّ الإيقاع الخارجي نفسَه القائمَ على نَا بُكِلِّ الطاقات الصوتيّة الغنيّة التي لا يكاد مَدُدها ينقطع، ولا صوتها يَبَحُّ.
ولم تستأثر الحميميّة لدى عمرو بن كلثوم إلاّ بأربعِ حالاتٍ، من حيث هيمنت ظاهرةٌ إيقاعيّةٌ أخراةٌ، هي مانطلق عليه الضجيجيّة، كما سنرى، في القسم الأخير من هذه المقالة، هيمنةً مطلقةً على النص الشعريّ الذي لم تكن الغاية من وراء إنشائه تلك التي كنّا صادفناها لدى امرئ القيس، وطرفة وعنترة، وربما لدى لبيد أيضاً، من بعض الاعتبارات؛ ولكنها كانت تتمثّل في التعبير عن غَضْبَةِ القبيلة التي نهضت رجُلاً واحداً وراء الشاعر. فقصيدة عمرو بن كلثوم لا تمثّل ذاتَ صاحِبها، ولا صوتَه، ولا حميميّته؛ ولكنها تمثّل، بامتياز، ذاتَ القبيلة وشرفَها، وإباءَها وأَنَفَتْهَا، واسْتِعْلاءَهَا ورفضها المهانة التي أراد عمرو بن هند إلحاقَها بها حين همّ باجْتِعَالِ السيدة ليلى، ابنةِ مهلهل بْنِ ربيعة، وبنت أخِي كُلَيْب وائل أعزّ العرب، وأمّ عمرو بن كلثوم الشاعر الفارس، والشجاع الفاتك: خادماً لأُمه هندٍ؛ كما كان تعصّب؛ قبل ذلك، لقبيلة بكر على تغلب، من وجهة نظر ابن كلثوم على الأقلّ... فكانت تلك المعلّقة المُجَعْجِعَةُ صدىً لتلك الأحداث المَهولة، ووجْهَاً لذلك الصَّراع القبَليّ الذي يمثّل بامتياز روح الجاهليّة الأولى.
****
ثانياً: ضجيجيّة الإيقاع(1/290)
قد يكون الإيقاع، من الوجهة الاعِتباطيّة الخالصة، ضجيجاً، فهل يكون، إذن، كلُّ ضجيج إيقاعاً؟ لا نعتقد ذلك، بل نعتقد شيئاً من ذلك! ذلك بأنّنا نودّ أن نُلَطِّفَ من مدلول هذا الضجيج فنرقى به إلى طبقة النغَم والإيقاع، وذلك على أساس أنه ينهض على نظام صوتيّ لا يعدوه، ويقوم على ميزان عروضيّ لا يَمْرُقُ عنه.
ولقد ألفينا إيقاعَ البحر الطويل يستأثر بمعلّقاتِ امرئِ القيس، وطرفة، وزهير. ولقد كانت رويّات المعلّقات الثلاث مكسورة الصوت إيغالاً في حميميّه الأوّل والثاني خصوصاً. من أجل بعض ذلك نذهب إلى أنّ هذه الرويّات المنخفضة لدى هؤلاء، مضافاً إليها رَويُّ عَنترة، أبعدت هذه المعلّقات من إيقاع الضجيجيّة إلى إيقاع الحميميّة؛ إلاّ ماكان من أمر معلّقة زهير.
بينما نلفي المعلّقات الثلاث، الأخريات، يذهبن في أودية مختلفات:
* ــمُها
* سينا
* سآءُ
ولعلّ من الواضح أنّ اختيار هذه الأصوات، إيقاعاً خارجيّاً، أو رَوّياً: كان بدافع الرغبة العارمة في إشباع النفْس الشعرية من الضجيجيّة الدالّة على الاحتِجاج والغضَب، والتحفّز والاستعلاء.
كما أنّ إيقاع البحر، أو ميزانَه، تنوّع في هذه الثلاثِ القصائدِ فإذا هوكامل، ووافر، ومديد.
ونحن نرى أنّ بحر الطويل قد يكون دالاً على هدوء النفس واطمئنانِها (على الرغم من أنّ النّاس لم يتّفقوا على علّة اختيار الشعراء لإيقاعاتٍ دون إيقاعات أخرى؛ وذلك على الرغم أيضاً ممّا كان ذهب إليه حازم القرطاجنّيّ في محاولة تعليل ذلك (7) ، أو على الأقلّ: على شيء مطمئّن في النفْس، كامنٍ فيها، ولكن لا تراه يتخرّج منها إلاّ بمقدار. على حين أنّ إيقاع المديد، خصوصاً، يدلّ، في منظورنا، على تحفز النفْس وعذابها. وتقّطع الضمير حسراتٍ على ما مضى، أو على ماوقع، وكان يجب أن لا يقع، لو كانت إرادة الإنسان قادرةً على التحكّم فيما يقع، وفيما لا يقع، فتقطّعُ الصوت يجب أن يدلّ على تقطُّع حبال النفس من داخلها.(1/291)
وأيّاً كان الشَّأْنُ؛ فإنّ تعليل اختيار الشعراء لإيقاعات معيّنة لا ينبغي أن يُنْظَرَ إليه نظرة علميّة صارمة، ولكن يجب أن يُتَحَدَّثَ عنه ضمن عطائيات التأويليّة، ويجب أن يظّلّ الاجْتهاد في ذلك مفتوحاً إلى يوم القيامة.
والألفاظ الدالة على الضجيجيّة في معلّقّة امرئِ القيس ألفاظٌ قليلة، ولا تدلّ عليها إلاّ بتعويمها في إِجراء التأويليّة مثل موج البحر بما يتلاطم، وسيل المطر بما يسوقه من صخور وأَغْثَاءَ، ومكاكِي الجِواء، وهي تغرّد بأصواتها المتداخلة التي ينشأ عنها ضجيجٌ حادّ، ومثل الألفاظ الدالّة على النداء في هذه المعلّقة نفسها.
بيد أن ذلك ماكان ليجعل من مجرّد هذه النماذج القليلة منظومةً ضجيجيّة، كما سنرى لدى عمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة، مثلاً فالحميميّة في معلّقة امرئ القيس هي الأطغى. وحديثنا عن الضجيجيّة، في بعضها، لم يكن في الحقيقة إلاّ تنبيهاً على ضعفها فيها، وقلّتها في نسجها.
فقد رأينا أنّ نظام الإيقاع يقوم لدى امرئ القيس على حميميّة الذات، وجَوَّانيّة النفْس: دالاّ ومدلولاً، وشكلاً ومضموناً.
ولا نكاد نقول إلاّ بعض ذلك بالقياس إلى طرفة الذي تختفي في شعره الضجيجيّة من حيث تفغر الحميميّة فاهَا فيه. وقد كُنّا رأينا أنّ نظام النسج لديْه. ولدى امرئ القيس وعنترة أيضاً من كثير من الوجوه: هو من نظام الإيقاع. فكأنّ الدالّ إلاّ مادّة نغميّة لبناء الإيقاع. وقد كنّا رأينا، لديه، ذوبان النسج في الإيقاع ودلالته عليه، وإفضاءَه إليه. وقد كنّا رأينَا. في معلّقته ياءَ الاحتياز (ياء المتكلّم باصطلاح النحاة) إنما جاءت لتعبّر، طبيعيّاً، عمّا في نفسه، وصاحِبَيْهِ، امرئِ القيس، وعنترةَ: لتترجم ما في الوعي لديهم، ولتكشف عمّا في جوانحهم. فإنما الظاهر ترجمان للباطن، وإنّما النسج بلورة للمضمون، وإنما الدّال معادل للمدلول.(1/292)
ثمّ إنّ الإيقاع الخارجيّ لدى طرفة، والمؤلَّفَ من صوت مكسور، والدالَّ في تمثّلنا القائم على معطيات التأويليّة: على ماض ذاهب، وزمن فائتٍ، وربما على حظ عاثر؛ وربما على غَبْنٍ قاهر: ينسجم انسجاماً عجيباً مع نسج الخطاب الذي ينهض، معظمهُ، على خفض أواخرِ السّمات الصوتيّة من وجهة، والحاق الخفض بياءِ الاحتياز، نتيجة لذلك، وتذويبه معها من وجهة أخراة.
ولمّا جئنا نقصّ طبيعة الإيقاع لدى طرفة لم نكد نعثر إلاّ على مظاهر قليلة وضعيفة معاً، في مجال الضجيجيّات. فكأنّ الحميميّة والذاتيّة هما اللّتّان تَطْغُوَان على الضجيجيّة الغائبة في معلّقته.
وأمّا طبيعة النسج لدى زهير فإنّ من العسير تصنيفها، بناءً على مانحن فيه، وذلك على الرغم من كثرة الألفاظ المنخفضةِ الأصواتِ، وذلك لقلّة المدلولات المنصرفة إلى الذات، أي لغياب الحميميّة عن معظم النص الذي أُنْشِئَ في معرض السرد: سَرْدِ أخبارٍ، وحكْيِ وقائع، وتصوير مآسِي الحروبِ الطاحنةِ التي تضرّمت بين قبيلتَيْ عبس وذبيان، إذْ تَوَسَّطَ في الصلح بينهما الكريمان السّخيان الماجدان: هرم بن سنان، والحارث بن عوف اللذان دَفَعَا ديات القَتْلَى : فحقنا الدماء بين القبيلتين، وأطفأا نار حرب ظلّت متأجّجة بينهما زمناً طويلاً.(1/293)
فموضوع معلّقة زهير يتناول حادثة حروب عبس وذبيان، أساساً، فكان تصوير لويلات الحرب الضروس، ومدحا ضَافياً لِمَنْ حَقَنا نزيفَ دمها المسفوك. من أجل كلّ ذلك كان استعمال الصوت المنخفض للدّلالة على وقوع الحدث وانتهاء حَدْثَانه، ولكن بدون ربْطِه بالذات، وإِلْصَاقِه بالنفس، وَسلْكِهِ في الحميميّة: إذ كانت الغاية، من تلك الألفاظ المنخفضة: سرْداً لعالمَ خارجيّ ووصفاً له؛ لا إبرازاً لهموم في نفس الشاعر؛ فارتبط الخفض، خصوصاً، بالبكاء على الديار، وهي بكائيّة تكاد تكون ميكانيكيّة بحيث لا نعتقد أنّها تمثّل تجربة مع النساء شخصيّة، ولا تجسّد هوى قديماً في النفس، شأن امرئ القيس مثلاً. فكأنها كانت تعني تقليداً شعريّاً، كان أوماْ إليه امرؤ القيس، وكأنّ الذين كانوا يَخْرُجُون عنه، يخرجون عن السبيل السويّة التي كان الشعراء يسلكونها إذا هَمّوا بِقيِلِ الشعر...
وحين نتدرّج إلى متابعة الإيقاع لدى لبيد نلاحظ أنّ الميم المضمومة كأنّها تجسّد الحاضر، بينما الفتح الممدود: هَا صوت تكميليّ، إشباعيّ: كأنّ الغاية منه جماليّة خالصة، فهو هنا يشبه حرف السَّكْتْ، أو الوَقْف، اللاّحق لبعض الاستعمالاتِ الرفيعةِ النسجِ مثل الاسماء المنتهيَة بياء الاحتياز ( يدل أن ينطِق الناطِقُ مثلاً على الياء الساكنة في مثل كتابِي، يقف على هذا الاسم مقروناً بهاء السكت الجميلة فيقول: كِتَابِيَهْ)، ومثل بعض الضمائر عندما تورد للتوكيد (فلا يوقف على ماهي عليه في مقتضى الاستعمال العاديّ، غير الأدبيّ، ولكن يوقف عليها مقرونةً بهاء الوقف فيقال: "ماهِيَه"، وهلمّ جرّا...(1/294)
بيد أنّنا نعترف بأن ذلك الإيقاع العجيب الذي سَلَكَ فيه لبيد معلَّقَتَه ليس عاديّاً، وليس أمراً ميسوراً على كلّ شاعرٍ فحلٍ، فكيف بِشُوَيْعِرٍ أو شُعرْور؟ فتلك الهاءُ التي كانت تأتي بعد الميم، والتي يخرجها العَروضيون قُصُوراً، من تركيبَة الإيقاع، وُظِفَتْ لأمريْن اثنيْن: للإيقاع وهذا منتظر معلوم، ووظّفت للدلالة التي نهضَتْ في نسج الكلام، على مدى طول المعلّقة، على تقديم علاقة لفظيّة تنهض عليها هذه الهاء، أو تعود عليها، كما يصطلح النحاة. خذ لذلك مثلاً قوله:
فَعَلا فروعُ الإيهقانِ وأطفلَتْ ... بالجَلْهَتَيْنِ: ظِباؤُها ونَعَامُها
فـ: ظباؤها ونعامها اتّخذا موقِعَاً متمكِّناً من نسج الشعر في هذا البيت بحيث لو قال:
* بالجهلتين الظباء والنعام.
لكان الكلام غيرَ شعريّ من الوجهة الإِيقاعية على الأقلّ، وَلَفَقَدَ ذلك الإيقاع الغنِيُّ الرصين المكين، وخصوصاً حين يُثنَّى الأوّل بالثاني، ويردف السابق باللاّحق؛ فيتضاعف النغم، ويتزايد الرنين:
* ظباؤها ، ونعامها.
فكأنّ هذا البيت ينهض على ضربين اثنين، بتعبير العَروضّيين، لا على ضرب واحد: حيث تكرّر الثاني في الصورة نفسِها التي جاء عليها الأوّل فتضاعف الإيقاع، وتشابه علينا الأمر حتى لا ندري وإن كنّا دارين، أيهما الضربُ، وأيّهما غيرُ الضرْبُ؟
لقد كان اصطناع هذه الهاء الممدودة العجيبة يستدعي مَلَكَةً لغويّة غجريَّةً لكي يستقيم ذلك الإيقاع القائم على مقطعين صوتيّيين: آ+ مُها.
وإذا كانت هذه الهاء الممدودة، اللَّبِيْديِّة، لا تُمْثُّل دَلالَةً، ولا تجسّد وظيفةً صوتيّة بالقياس إلى العَروضيّين إذ يعدّون لبيد ميميَّةً، لا هائيّة، لأنهم لايعترفون، هنا بهذا الصوت، فهي في رأينا: الصوت، والدّلالة، والنسج، والإيقاع الكريم. إنها مصدر للجمال الطافح.(1/295)
ونحن نعجب من العروضيّين، ولهم، كيف لا يعدّون إيقاع الهاء هو الإيقاع، مرتبطاً بماقبله؟ أرأيتُ أنّ الشاعِرَ لو أرادَ أن تكون قصيدتُه ميميَّةً، بسيطة القافية، لكان أنهاها بالميم (كما جاء ذلك زهير وعنترة مثلاً) واستراحَ، ولكنّه إنما أراد إلى إشباع الصوت بالصوت، وإغناء الإيقاع بالإيقاع؛ فأطرب وأعجب، وشنّف الأسماع بما أنشأ وأبدع.
فلإيقاع الهاء، في قافية معلّقة لبيد، أكثر من دلالة:
1- فمن الوجهة الجماليّة يُعَدُّ هذا الإيقاع عُذْرِيَّاً، غجريّاً، كأنّه يمثّل ينبوع العربيّة الأول، وعُنْفُوان صِباها، وجمال سَناها، فترداد هذا الصوت البديع معتمِداً على الميم لدى نهاية كُلِّ وِحْدةٍ إيقاعيّة يملأ النفس جمالاً، ويُفعِمُها بهاءً، فتَزْدَخِرُ بما تزدخر به من ضروب الأحاسيس اللطيفة التي تذوب عبرَ النفْس كلّها فتُحْيِي مواتها، وتوقظ سُباتَها.
فكما كنّا ألفينا هاءَ الوْقفِ في مثل قوله تعالى: ( هاؤُمُ اقْرَأُوا كِتَابِيَهْ) (8) - حين الوقوفٍ عليها أجملَ وأروع، وأحلى وأطلى، من الوقوف على "كتابي" فكذلك هَا هُنا. فهذه الهاء الممتدّة بالصوت إلى نحو الأعلى تُضفي على النسج الشعريّ رَوْنقاً بديعاً من العسير إمكانُ تفصيلِ القولِ فيه هُنا؛ والإلمام بكلّ عطّاءاته الجماليّة التي لا تَنْفَدُ، وينابيعه الفنّيّة التي لا تَنْضَب.
وكأنّ هذه الهاءَ الممدودة، هنا، ليست مجرّد ضميرٍ عائدٍ، ولكنّها هاءُ تنبيهٍ، وهاءُ تقريرٍ، وهاءُ إشباع للصوت، وهاءُ إِثراءٍ للنغَمِ الشعريّ الدافق.
2- ومن الوجهة الدلاليّة نلفي هذه الهاء ذات وظيفة نحويّة، إذا اشْتَاقَ وَهْمُنَّا إلى هذا المستوى، وليست مجرّد صوت ضائع في الهواء، إذ حين يقول لبيد:
* في ليلةٍ كَفَرَ النجومَ غَمامُها*(1/296)
نلفي هذه الهاء الرشيقةَ القامَةِ، الممشوقةَ القدِّ، النحيلةَ الخَصْرِ، المُسبطرَّة إلى العُلا: تنهضُ بوظيفة دلاليّة تتجسّد في ربط الغمَام بالليلة المظلمة ربْطاً عذرياً، متوحّشاً، يمنحنا انطباعاً بأنّنا نسمع العربيّة في حال نشأتِها الأولى؛ وكأنّها فتاةٌ تبدو لأوّل مرة للنّاس متبرّجة متزّينة، ومستحْييةً متخَفِرَةً.
ولو قال لبيد:
* في ليلة كَفَرَ الغمامُ نجُومَها
على الأصل فيما كان يجب أن يكون عليه النسج في الكلام المبتذل: لكان الفاعل سبق المفعول، ولمرق الكلام عن سَنن الإيقاع العامّ القائم على ضَمِّ يتلوه صوت متناغم مفتوح ممدود، كما كنّا لاحظنا بعض ذلك في المقالة التي وقفناها على نظام النسج في المعلّقات...
بينما قوله:
* في ليلة كَفَرَ النجومَ غَمامُها*
أ- حافظ على الإيقاع العامّ للقصيدة من الوجهتين الإيقاعيّة والبِنْيَويَّةِ جميعاً.
ب- وَكَّدَ العلاقةَ بين لفظيْن اثنيْن متجاوريْن: فلم يجعل تجاوُرُهما قائماً على مجرد المصادفة، وربما المناشزة، ولكنّه جعل هذا الحوار قائماً على التلاؤم والتشاكل حيث النجومُ عاليةٌ، والغمامُ عالٍ، بل ربط الليلةَ بالنجوم، والنجومَ بالغمام، في منظومة صوتيّة متواشجة عجيبة. فلا تكون النجوم إلاّ في الليل، ولا يَكْفُرُ النجومَ إلاّ الغمامُ، ولا يكون الغمامُ إلاّ فوقَنا، مَثلهُ مَثَلُ النجوم.
فالعَلاقة هنا دلاليّة، نحويّة، إيقاعيّة، تشاكليّة: إذ هناك الليلةُ التي تَعْنِي الظلام، والكَفْر (بالمعنى الجاهلِيّ، لا بالمعنى الإسلاميّ)، الذي يعني التغطية والتغشَية والتخفية (وفيه معنى الظلام) والغمام الذي هو غِطاء يقع بَرْزَخَاً بين أضواء النجوم فيشتدّ الظلام، ويُطْبقُ الدّيْجور.(1/297)
وليس ينبغي أن يعزب عن خَلَدِنا، ونحن نصرفِ الوهمْ إلى مايمكن أن تَمْنَحُنَاهُ السيمائيّة، أنّ النجوم تشاكل الليلةَ لأنَّها لا تُضيءُ إلاّ فيها. فالتشاكل بين الأربعةِ عناصرِ عجيبٌ. ولكنّ الأجمل في كلّ ذلك والأدعى إلى الانبِهار والانْدِهَاش تَجْلّي هذه الهاء المشبّعة بالألف الممدودة التي تَوَّجَتْ كلّ هذه السلسلة من المُتشاكِلات اللفظيّة المتناغمة؛ فجعلتها نَغَمَاً عرائِسِياً معسولاً حين يتولّج في الذوق، ولذيذاً عجائبيّاً حين يُشنِّفُ السَّمع.
والصورة الليليّة هنا صورة بدائيّة، أو صورة، كما تعوّدت في هذه الدراسة أن أطلق، متوحّشة؛ أو صورة غجريّة: حيث لا نلفي في هذه الليل مصابيح منيرة، ولا قناديل مضيئة، بل ولا قمراً يتلألأ نورُه فيبعث على الأرض شيئاً من الأُنْسِ. بل إنه التوَّحُّشُ والبدائيّة. وإنها للحياة في صورتها الناشئة الأولى، على طبيعتها، الإنسان هنا غائب التأثير، فاقد التحكّم في الطبيعة، لأنّهُ عاجِزٌ عَنْ أَنْ يأتِيَ شيئاً يحوّل صورة الطبيعة في أصلها وتوّحشها. الليل والغمام والظلام والنجوم التي لا تبدو، فيتعطّل دَورُها في الإنارة لتمكّن الغمام من كَفْرِهِا وَتَخْفِيَتها.
ففي الأرض نجد الإنسان عاجزاً عن التغيير، فيخضع لسلطان الطبيعة المظلمة.
وفي السماءُ نُلفي الطبيعة عاجزةً، هي أيضاً، عَنْ أنْ تنهض بوظيفتها المقدّرة لها، فإذا نجومُها تعجز عن أن تؤدي وظيفتَها المتمثّلةَ في إنارة الأرض ليلاً، أمام عتو الطبيعة الأخراة الماثلة في انتشار الغمام الكثيف بين مواقع النجوم، وسْطح الأرض.
وَنَصِلُ إلى معلّقتيَّ عمرو بن كلثوم والحارث بن حلّزة فنلفيهما تشكّلان معاً ما أطلقنا عليه ضجيجّية الإيقاع بحيث كأنّهما كانا يريدان إلى أن يَضْرِبا بالصوت، وإلى أن يطْعَنا بالحرف، وإلى أنْ يَقْذِفَا باللّفظِ الملفوظ. فكأنّ الدالّ لديهما سلاح آخر يضاف إلى سلاح السيوف والرماح والسهام.(1/298)
وتتمثّل ضجيجيّة النسج في ضجيجية الإيقاع نفسه بحيث من العسير الفصلُ بين النظام النسجّي الذي يتّخذ له من عنصر نا، لدى عمرو بن كلثوم، مادّةً أساسية لنسج الكلام، ونتيجة لذلك: لتركيب ضجيجيّة الإيقاع الشعريّ؛ وبين النظام الإيقاعيّ الذي يتّخذ من هذا العنصر الصوتيّ نفسه أساساً لإغناء الإيقاع ونسج أنغامه.
ولقد اجتهدنا في أن نُحْصِّيَ مادَّة نَا، في معلّقة عمرو بن كلثوم، للاسْتِئْنَاسِ بحكمِ نُصْدِرهُ حوال هذه المسألة اللطيفة فعدّدْنَا من ذلك لايقلّ عن ثمانية وسبعين عنصراً ومائة عنصرٍ، يضاف إليها عنصر نحن الذي تواتَر في المعلّقة الكلثوميّة سبع مرات: ممّا يرقى بعنصر الصوت الجماعيّ إلى زهاء خمسة وثمانين عنصراً ومائة عنصرٍ.
يبقى أن نسجّل، للأمانة العلميّة، أنّ هناك في المعلّقة، نَاوَاتٍ، أَوْنَاءَاتٍ
(لا ندري ما يجيز النحاة منهما ومالا يجيزون ممّا نستعمله من هذه اللغة الجديدة...) لا تدلُّ، صراحةً، على ضمير الجماعة أمثال سَفِينا، ساجِدَينا، طِينَا، أجمَعِينَ، مُعْلِمَينَا... بيد أنها بالتوكيد لا تستطيع أن تمثّل ماينقض هذه القاعدة التي استنبطناها من نصّ المعلّقة، وما قد يفضي إلى فساد الحكم الذي قَضَينا به من جَلَبةِ ضجيجيّةِ الجَمَاعة، وضوضاءِ القبيلةِ، واصطخاب قَطِينِها وهم يتحرّكون في كلّ صَوْبٍ، وَيَرْكُضون في كلّ وجه.(1/299)
ومن المزعوم لدى المؤرخين الأقدمين أنّ هذا النص الشعري أُنْشِئَ ارتجالاً، هو ونصّ الحارث ابن حلّزة اليشكريّ(9) على الرغم من أننا نرفض هذا المزعم، ولا نؤمن بالقدرة على ارتجال القصائد الطِوال، فقد يمكن أن يرتجل الشاعر بيتاً واحداً، أو بيتين اثنين، أو ثلاث أبيات... أمّا القصائد الطِوال فلا مناص له من التأمُّل والتفكّر، والاستيحاءِ والاستلهام، ولا مناص له من القُعود لها، والتأهّب لنسْجها بيتاً بيتاً... وإلاّ إذا كانوا يريدون بلفظ الارتجال إلى وقت قصير كأَنّ يكون يوماً واحداً أو يوميْن اثنيْن؛ فنعَم...).
وإذا حَكَمَ النقّادُ الأقدمون بارتجاليَّتها، وهم زاعمون، فكأنّهم كانوا يميلون إلى غِنَائِيَّتّها، أي إلى خِطَابِيّتها، أي إلى ضجيجيّتها، أكثر ممّا كانوا يميلون إلى شعريّتها، لأنّها لا تمثّل تجربة شاعرها، في مسألة حميمية تتمخّض لنفسه، وتخلصُ لقلبه، بمقدار ماكانت تمثّل تجربة قبيلته، على الرغم من أنهم كانوا يزعمون أنّ عمرو بن كلثوم قالها بعد قتله عَمْرُو بْنَ هندٍ(10).
ومن الآيات على جماعيّة الضمير في هذا الشعر، أو تمثيله تمثيلاً أميناً للجماعة التي كان ينتمي إليها، وهي قبيلة تغلب: أنّ بكراً كانت تعيّر تغلب باشتغالها بِتَرداد هذه القصيدة الكُلْثُّوميَّةِ في المحافل، وإنشادها في المآقط، والافتخار بها في المواقف، والكلف بها في المقامات، حتّى قال أحد شعرائها:
ألْهى بَنِي تَغْلِبٍ عن كُلِّ مَكْرُمةٍ ... قصيدةٌ قالها عمروُ بن كُلْثُوم
يَروْونَها أبَدَاً مُذْ كان أوّلُهُم ... يالَلرّجالِ لِشِعْرٍ غير مَسْؤُومِ(11).
ويبدو أنّ إعجاب العرب في صدر الإسلام بقصيدة ابن كلثوم، والقصيدة المناقضة لها من بعض الوجوه، وهي معلّقة الحارث بن حلّزة، كان شديداً، فقد روى عن معاوية بن أبي سفيان أنّه قال: "قصيدة عمرو بن كلثوم، وقصيدة الحارث بن حلّزة من مفاخر العرب..."(12).(1/300)
فكأنّ قصيدة عمرو بن كلثوم كانت خطبة شعرية، أو شعراً خطابيّاً، من أجلّ كلّ ذلك غابت عنها الحميميّة التي نصادفها في معلّقة امرئ القيس، وطرفة، وعنترة، ولبيد، وربما زهير أيضاً في بعض المجازات، واحْتَضَرَتْ فيها الضجيجيَّةُ الجماعيّة، والأنَفَة القبَليّة، والحُمِيّة الجاهليّة؛ بكل ماتحمل هذه الأَلْفَاظ من معانٍ، فكأنها القصيدة الجاهليّة الأولى، من حيث روحُها، بحقّ، لا لِمَّا قال صاحبها:
ألاَ لاَ يجْهَلَنْ أحَدٌ عَلْينا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجاهِلِينا
ولكن لأنّ معظم ماورد في هذا النصّ هو فخر بالقبيلة، فخر لا يخلو من مبالغة تصل حدّ الادِّعِاء والمُنَافَجَة في كثير من أبياتها. وهي سيرة تمثّل سلوك أهل الجاهليّة من عدم ارعوائهم إذا افتخروا، وعدم اقتصادهم إذا تنافسوا في سَرْد المكارم، وَسَوْق المآثر.
ولم يكن ممكناً أن يَخْلُوَ هذا النصّ من هذه الضجيجيّة القبليّة التي تمثّل إباءَ القبيلة العربية الجاهليّة وقِيمَها، والحال أنّه قالَها في معرض الافتخار على القبائل العربيّة الأخراة، وخصوصاً القبيلة الغريمة بكر بن وائل، وتذكيرها بماكان لقبيلة الشاعر التغلّبيّ من عزّة قَعْساء. ومجد مُؤثَّل، وشجاعة خارقة، ومقامات في الحرب مشهورة، حتى لا يثبت الإهانة التي أراد ملك الحِيرة عمرو بن هند أن يلحقها بقبيلة تغلب في حال ما لو خدمت ليلى، أمّ عمرو بن كلثوم، هنداً أمّ عمرو بن هند، وناولتها الطَبق المشؤوم....(13). الذي أفضت حادثته إلى قتل الملك بسيفه.(1/301)
لكنّ هذا الطَّبَقَ، من تصوّر آخر، لم يكن مشؤوماً، إذْ تلك الحادثة التافهة هي التي أفضت إلى إنشاءِ هذه القصيدة المِئِيَّةِ العجيبَةِ التي تمتلئ بالأصوات وتعجّ بالحركات، وتحفل بقعقعة السلاح، وتكتظّ باهتزاز الرماح، كما تحفل بوَسْوسة الخَلاخل، وَخَشْخَشَة الدّمالج، واحتجاج النساء على بعولتهنّ إنْ همْ لَمْ يَنْضَحُوا عنهنّ في الحرب التي كُنَّ يشاركنهم فيها بَقْوتِ الخيل وخِدْمَتِها...
إنّ الأصوات الحادّة تشكّل ضجيجيّة هذا النصّ. وضجيجيّته تشكّل إيقاعيَّتَه: داخلياً وخارجياً، وإيقاعيّته تشكّل امتداداً سطحياً لنسجه المتناغم.
وحين نتحدّث عن الضجيجيّة فإننا نَوَدُّ التوقُفَ لدى بعض السِّماتِ الصوتيّةِ التي تجسّد، من الوجهة المعجميّة، هذه الضجيجيّة. فلدى تقصّينا هذا الضَرْب من الضجيجيَّةِ المباشرة ألفيناها تَمْثُلُ في مظهرين اثنين:
الأوّل: وينصرف إلى الأصوات الحيّة مثل أصوات الكِلابَ، والإبل، والخيل، وممّا يتمثّل فيه قوله:
* وقد هرّت كِلابُ الحَيّ منا.
* فتصبح خيلُنا عُصَباً ثُبِينَا.
* عَشَوْزَنَةً إذا انقلبَتْ أَرَنَّتْ.
والآخر: وينصرف إلى الأصوات الشيئّية كقعقعة السلاح، ووسوسة الحُليّ، وجعجعة الرُّحِيّ، وسوائِها من الأصوات الضجيجيّة، مثل:
* بيوم كريهةٍ: ضرْباً وطَعْناً.
* متى ننقلْ إلى قومٍ رحانَا ... يكونوا في اللِّقاء لها طِحِينَا
* نُطاعن ماتراخَى الناس عنّا ... ونضْرِبُ بالسيوفِ إذا غُشِينَا
* تصفِّقُها الرياحُ إذا جَرَيْنا ...
* وماءُ البحرِ نملؤه سَفِينَا ...
* يَرِنُ خَشاشُ حَليْهِما رَنِينَا(1/302)
وتمثّل هذه الأصواتُ المختلفاتُ المتناغمات امتداداً لضجيجيّة النصّ الذي آثر تسخير السمات اللفظيّة، وتسخير الجملة الكلاميّة التي تتشكّل منها هذه الألفاظ، ثمّ، تسخير كلّ ذلك في الإيقاع الشعريّ الذي اخْتَير راقِصاً ، مدوّياً متعالِياً، عنيفاً، فَخْماً: ليليق بالغضبة التي أراد الشاعر أن يصبّها في هذا النصّ الشعريّ العجيب في إيقاعه وموضوعه.
ونلاحظ أنّ الناصّ اختار الفتح الممدود في الرويّ إيقاعاً، وهو الإيقاع الذي قام على عنصرين اثنين أساسيّينْ، وهما مفاعلتن التي تتكرر مرتين اثنتين ليعقبها ميزان فعول لمحاولة التعديل من لَهَبِ الامتداد، وغُلواءِ الارتفاع، وفرط التصويت.
فلو اصطنع الشاعر إيقاعاً لا يَقُومُ على مفاعلتن من وجهة، ولا يعتمِدُ على الصوت المفتوح المائل نحو العُلا: نا من وجهة أخراة: لَخَشِينا أن لا يُفْضِيَ ذلك إلى التعبير، بصدق، عن الموقف الشعريّ، وعن الغضبّة القبَليّة، وعن العاطفة المتأججّة في النفس، وعن ذلك الامتعاض والمَضاضة الكامنْيْن في نفوس أبناء العُمومة: فكأنّ كلّ صوبٍ مفتوح مُمْتدٍ إلى الأعلى على هون ما - وقد أحصينا ماله صلة بـ نا فقط، فألفينا مالا يقلّ عن مائة وثمانية وسبعين إيقاعيّاً، كما سبقت الإيماءة إلى بعض ذلك، في هذه المعلّقة -مُعادِلٌ لصَرْخَةٍ، وكأنّ كل صرخة تكمن في داخلها صرخة أخراةٌ.
فكأنّ كلّ صوت مفتوح، إذن، يحمل غضبة، ويعبّر عن امتعاضة، ويجسّد مضاضة، وذلك إذا قرأنا الصوت المفتوح على أنه يُظاهِرُ المُصوِّتَ به على مَدِّهِ إلى أقصى الحدود الممكنة. فكأنّ كلّ صوت مفتوح، ممتدّ، مُماثِل صوتيّ (إقونة) حاضر، لصوت غائب.
ولدى انتهائنا إلى الحارث بن حلّزة، لاحظنا في إِيقاع معلّقته ضجيجاً وَعَجِيجاً، وصراخاً وصياحاً، وصهيلاً ونُوَاحَاً، ورُغَاء وعُواءً، ورَجَعا وحُداءً:
فلمّا ... أصبحوا، أصبحت لهم ضَوْضاء
من منادٍ، ومن مُجيب، ومن تَصـ ... ــهالِ خيلٍ: خلالَ ذاكَ رُغَاءُ(1/303)
فالصوت هنا صوت الجماعة كلّها، والبشر والحيوانات، ومن الحيوانات: الخيل والإبل، فالضوضاء هنا شاملة، عامّة كأنها جزء من الحياة بكل صَخَبِها واضطرابِها، وعُنْفُوانِها وحَرَكَتِها. والذات، هنا، تذوب ذَوَبَانَاً كامِلاً في ذات العشيرة: فتمتزج بها، وتتعانق معها، فتشكّل لحمة واحدة تغيب فيها الحميميّةُ لتتجلَّى في حميميّة الجماعة، وضمير صوتها، ومتعلّق آمالها. من أجل كلّ ذلك يتغيّر نظام النسج الشعريّ، في معلّقة الحارث بن حلزّة، من اصطناع ياء الاحتياز التي كنّا رأيناها طاغية على النسج الشعري لدى المجموعة الأولى من المعلّقاتيين (امرئ القيس، وطرفة، وعنترة: خصوصاً): إلى نا الدّالّة على ضمير الجماعة، وعلى صوتها المتعدّد.
وقفد حاوْلنا أن نحصي مايرتَكِضُ هذا المُرْتَكَضَ، من باب الاستئِناس لا من باب الاطمئنانِ، فبلغنا به إلى ثمانِ وأربعين حالةً من حالات الضميرِ المتعدَّد، وذلك مثل:
* آذنَتْنا
* بعْدَ عهدٍ لنا.
* وأتانَا من الحوادث
* نعنى به.
* ونساء.
* إنّ إخوانَنا الأراقِمَ.
* يغْلُون علينا
* يخلِطُون البريءَ منّا.
* فرددناهم بطعن
* وحملناهم على حزم.
* وجبَهْناهم بطعن.
*وفعلنا بهم، كما عَلِمَ الله.
* وفككنا غُلَّ امرئ القيس...
بينما لم نكد نعثر إلاّ على ثماني حالاتٍ دالّةٍ على الحميميّة وردَ معظمُها في الطَلليّة مثل قوله:
* لا أراني.
* مَنْ عَهِدْتُ فيها.
* فأبكي.
* فتنوّرتُ نارَها.
غيرَ أنِّي...
* قد أستعين
* أتلهَّى بها الهواجر...(1/304)
والحقّ أنّ هذه المسألة معروفة في النقد العربيّ، وأنّ الدارسين المحدَثين لاحظوا هذه الظاهرة الصوتيّةَ القائِمَ إيقاعُها على التماسِ الضجيجيّة، ونحن إنما كان لنا التفصيل والتحليل والبَلْوَرَة. أرأيتَ أنّ أستاذنا المرحوم الدكتور البهبيتي كان لاحظ، منذ عهد بعيد، أنّ "الحارث سيد شعراء الجاهليّة جميعاً في القدرة الخارقة على استغلال موسيقى الألفاظ. تسمع لقصيدته فتخالها غناءً منطوقاً، تتالى نغماته رَهْوَةً في غير عُنْفٍ أو قَسْر"(14).
وعلى أنّنا نختلف مع الشيخ، رحمه الله، فيما يذهب إليه من رَهْويَّةِ الأنغام، ولُطْفِ الأصوات، إذ هو نفسه يتابع نصّ الحارث بن حلّزة فيلاحظ تكاثر حروف بأعيانها مثلي السين والصاد(15)، وسَوَائِهمِا، من الحروف التي تُحْدِثُ قلقلة وصفيراً. وتلك الحروف لا تدلّ على مايذهب إليه الشيخ أوّلاً، بمقدار ماتدلّ على حدّة الضجيج الدّالّة على شدّة الحرقة، وعمق الأسى، وبالغ المضاضة.
إنّ الأصوات الواردة في إيقاع الحارث بن حلّزة لم تأتِ من أجل الزينة الشعرية فحسب، ولكنها جاءت لتنهض بوظيفة تتلاءم مع مضمون النص، وتتواكب مع أحداثه ومناسبته، فهي قصيدة حرب، أو قصيدة أنشئت في ظروف حرب، وماكان ينبغي لمنشئها أن يتّخذ لها لغة مرقِسِيَّةً جمالُها يكمن في حميمية اللغة، ووصف المشاهد الناضرة، وسردْ الحكايات عن النساء الفاتنة، كان الحارث يتحدث باسم القبيلة، قبيلةِ بكر، وكان يردّ على مزاعم عمرو بن كلثوم، وكان محكوماً عليه بأن يرقى، على الأقلّ، إلى مستوى قصيدته، وإلاّ لاكان هو، ولا كانت قصيدته، ولا قبيلته، فكأنّ المسألة وُجُوديّة، أو كأنها، على الأقلّ، منصرفة إلى إثبات الكرامة، كرامة النفس أوّلاً، وكرامة القبيلة آخرا.(1/305)
إنّ عمرو بن كلثوم ذاته يصطنع، كما كنّا رأينا، إيقاعاً راقصاً غاضباً حانقاً حتى يتلاءم مع مناسبة مضمون المعلّقة، ولم يكن ممكناً أن لايأتي الحارث بن حلّزة إلاّ بعض ذلك. وإذن فلا يمكن فهم إحدى المعلّقتين الاثنتين إلاّ بقَرْنِ الأولى بالأخراة، والموازنة بينهما على المستويين: المضموني، والإيقاعي الْمَعَا.
إنّ النسج في معلّقة الحارث ضجيجيّ، خطابيّ، جماعيّ، تبرزُ فيه جماعة القبيلة، ويطفو ضميرُها، من خلال أَحَدِ أفرادها، بل من خلال أحد شعرائها الناطقين باسمها، والناضحين عن شرفها، والمعتزّين بمجدها وسُؤدُدِها، والمعتزّين إلى عُتورها وجُرثومتها؛ ذلك بأنّنا، وعلى نقيض ماكنّا انتهينا إليه بالقياس إلى معلّقات امرئ القيس، وطرفة، وعنترة، لم نُلْفِ إلاّ...الثمانِي، الأحوالِ النابعةَ من الذات، ومن النفس - والتي كنّا أثبتناها في بعض هذه الفقرة من البحث؛ بينما نلفي مالا يقلّ عن ثمانٍ وأربعين حالاً (ضمائر ومافي حكمها) تجسّد ضمير الجماعة ومعشر القبيلة.
فذات الشاعر، هنا، تكاد تكون مفقودة، فكأنّها ذابَتْ في سَوائِها، وتلاشت في شخصيّة القَبيلة مَثَلُهَا مَثَلُ ذاتِ عمرو بن كلثوم في معلّقته.
وكأنّ الحارث بن حلّزة سابَقَ الحدث، حدث مقتل عمرو بن هند وافتخار عمرو بن كلثوم -وهو الحدث الذي كان نتيجة للحروب الطاحنة التي تضرّمت بين بكر وتغلب - فبَكَّتَهُ تَبْكِيْتَاً، وكأنّه أراد أن يحاجّه بجنس سلاحه الذي سيكون لدى عمرو بن كلثوم فخراً بالقبيلة، وَتَعداداً لأمجادها، وَتَغَنيّاً بمكارمها، وتذكيراً بأيّامها المتجسّدة خصوصاً في الشجاعة الخارقة حين الهجوم، وحين الدفاع، وفي الكرم الفائق لدى إلمام الضيفان، وفي كثرة العدد لإمكان إمداد الحرب بالرجال.(1/306)
وإذا كان ضميرُ الجماعة، أقلّ وروداً، في معلّقة الحارث بن حلّزة بالقياس إلى معلّقة عمرو بن كلثوم، فإنّ ذلك ماكان له ليغيّر من الحكم فَتِيلاً، طالما هذا النّصّ تهيمن على نسجه هذه الظاهرة: فثمانُ وأربعونَ حالاً من ضمير المتكلم الدالّ على الجماعة، مقابل ثمانٍ فقط من ضمير المتكلّم الدالّ على الذات إنما يدلّ، كما أسلفنا القيل، على الحضور القويّ للجماعة على حساب الأنا. فـ أنا غائب أو شبه غائب من معلّقة الحارث بن حلّزة، لأنّ أنا الشاعر لا يعني شيئاً ذا بال خارج نظام القبيلة وشرفها وعاداتها وتقاليدها، وهو غائب لأنّ الغاية من نسج النّصّ لم تكن سرداً لحدث مضى وانقضى، ولا لحدث ذي صلة حميمية بالآخر خصوصاً (والآخر هنا هو الأجنبيّ عن القبيلة): لم ينشأ نصّ القصيدة، إذن، ( ولا نريد أن نعود إلى خرافة الارتجال التي تحدّث عنها الأقدمون بشيء من الثقة (16)، فذاك أمر، في تقديرنا، غير وارد، وشأن غير ثابت) من أجل سرد وقائع الآخرين، وحكي حوادث الأباعد غير الأقربين، ولكنه كان تجسيداً لواقع القبيلة في حاضرها، ولموقف الجماعة المنتمي الشاعرُ إليها في راهنِها، أساساً.
أمّا الماضي فلم يكُ إلاّ شاحباً. وكأنّ هذا الشحوب كانت شفويّة المجتمع الجاهليّ الذي ينهض، أساساً، على الرواية، وعلى النقل السائر بين الناس لأخبار الحوادث والأيام: تقتضيه. ولا ريبَ في أنّ مِثْلَ هذا الصنيعِ كان يقضي بذهاب كثير من الأحداث وفنائها. مع فناء الرجال وذهابهم.(1/307)
إنّ التعلق بالماضي لم يكن، هنا، ممكناً، لأنّ الإمكان، منصرفٌ إلى شأن القبيلة في حاضرها، وإلى حلّ مشكلة سياسيّة بين ملك الحِيرة، وعمرو بن هند، من وجهة، وبين قبيلة بكر (المنتمي إليها الحارث بن حلزّة)، وقبيلة تغلب (المنتمي إليها عمرو بن كلثوم)، من وجهة أخراةٍ فلم يكن ذِكْرُ الماضي، إذن، والحال هذه إلاّ من باب التذكير ببعض ماكان لا يبرح باقياً، أو مرويّاً، من أمجاد القبيلة وسؤددها، وإلاّ من باب الاستناد إليه لرسم الحالِ الراهنةِ، والسيرة القائمة.
وإذنْ، فلا الماضي كان موضوعاً لنصّ معلّقة الحارث، ولا الذاتُ الفرديّة أيضاً كانت له موضوعاً؛ ولكن كان الحاضر من وجهة، والذات الجماعيّة، إن صحّ مثل هذا الإطلاق، من وجهة أخراة: هما اللّذان كانا موضوعاً له، ومحوراً يضطرب حَوالَه.(1/308)
من أجل كلّ ذلك لم نُلفِ الضمائر الاحتيازيّة الذاتيّة وخصوصاً ياء الاحتياز (ياء المتكلّم): تَطْغُو على نسج هذا النصّ فتحوّله إلى الماضي الذي كنّا زَعمْنا أنّ الأصوات المنكسرة أولى لها أن تكون به أَلْيَقْ، وله أَنْسَبَ. لقد غابت ظاهرة الأصوات المنكسرة (وهي سيرة تمثُلُ بقوة شديدة لدى امرئ القيس، وطرفة، وعنترة)، ليحلّ محلّها صوت مفتوح ممدود ينتهي إلى صوت مضموم مقطوع. وكأنّ الفتح يعني دفْعَ الشِّكَاةِ إلى الخارج، والتخلّص من مُعاناتها، في حين أنّ صوت الهمز المضموم، قد يدل، في منظورنا على الأقل، على محاولةٍ لتحويل الحاضر إلى مستقبل، أو قل إنه تطلّع إلى التخلّص من عناء القبيلة وما ألمّ عليها. فالمدّ المفتوح، يسمح ببثّ الشكوى وإِخراجها وإبعادها إلى أقصى حيز ممكن، فكأنه بكاءٌ، أو كأنّه نِداء، أو كأنّه شكوى، أو كأنّه بثّ من الداخل نحو الخارج. بينما يأتي صوت الهمز المضموم مختَتماً منغومة الأصوات، داخل البيت، ثمّ داخل القصيدة كلّها، ومجسّداً لقطع تلك الشكوى، والتخفيف من حِدَّة النداء، والتقليل من غلواء الضَّيم الذي ألمّ بالقبيلة التي طولبت بالطوائل، وحُمِلّت بما لا طاقة لها به، واتّهمت بالجرائر التي لم تقترفْها، ورُمِيَت بالجنايات التي لم تجتَرِمْها، وذلك بناءً على مضمون المعلّقة الحارثيّة نفسها.
فالصوت المفتوح الممدود الواقع قبل حرف الرويّ كأنّه تجسيد لمعاناة القبيلة، وتذمّرها، وتشكّيها. بينما الصوت المضموم (الروّي) يجسّد الفخر والاعتزاز والشموخ والتعالي).
(
( إحالات
1- عبد الملك مرتاض، 1-ى، ص . 143. ومابعدها.
2- UMBERTO ECO , Les limites de linterpretation , p. 30-31.
3- Ibid, 21-22.
4- ID., 30-31.
5- ID. , P 29-30.
6- الزوزنّي، شرح المعلّقات السبع، 28، القُرشي، جمهرة أشعار العرب، 44.
7- أبو الحسن حازم القرطاجنيّ، منهاج البلغاء، وسراج الأدباء، 205.
8- سورة الحاقّة، الآية: 19.(1/309)
9- أبو الفرج الأصبهاني، الأغاني، 11. 37. 38.
10- م.س. 11 ،48-49
11- م.س.، ابن قتيبة، الشعر والشعراء، 1. 159-160 مع اختلاف طفيف في الرواية.
12- البغدادي، خزانة الأدب ولبّ لُباب لسان العرب، 1. 520 (ط. بولاق).
13- الأصبهاني، م.م.س.
14- نجيب محمد البهبيتي، تاريخ الشعر العربيّ، حتّى آخر القرن الثالث الهجريّ، ص. 60 (ط2)
15- م.س.، ص . 61.
16- ابن قتيبة، م.م.س، 1. 127.
((
8- الصورة الأنثويّة للمرأة في المعلّقات
ما أكثر ماتحدّث الناس عن المرأة في الشعر الجاهليّ، وما أكثر ماتوقّفوا لديها فتحدّثوا عن رمزيّتها، وواقعيّتها، ووضعها الاجتماعِّي... لكنّ أحداً، في حدود مابلغْناه من العلم، لم يتناول المرأة الجاهليّة على هذا النحو الذي عليه نحن تناولناه:
فالأَوْلَى: إنّ الكتابات التي كُتِبَتْ عن العصر الجاهليّ، والتي أتيح لنا الإِلمام عَلَيْهَا، لم تحاولْ تناوُلَ المرأة، من خلال النصوص الشعريّة، على نحوٍ أُحاديٍّ: متمخِّض لها، ووقف عليها، ولكنها تناولها إمّا عَرَضَاً، وإمَّا مُعَوِّمَة إيَّاهَا في القضايا الأخراة التي عرض الشعر الجاهليّ لها. وفي ذلك شيء من الإجحاف بحقّ المرأة العربيّة، وتقصير في ذاتها.
والثانية: إننا عالجنا وضع المرأة الجاهليّة، أو المرأة العربيّة قبل الإسلام، وعلاقتها بالرجل من خلال نصوص المعلّقات السبع وَحْدَها، وقد تعمدّنا وَقْفَ هذه الدراسة على هذه المعلّقات تخصيصاً، توخّياً للتحكّم في البحث، إذا لو وسَّعْنا دائرة سعْيِنا إلى الشعر الجاهليّ كلّه لَخَشِينا أن لا ننتهي إلى رأيٍ رصين، وأن لا نتمكّن من إصدار حكم مبين.(1/310)
والثانية: إننا حاولنا معالجة هذا الموضوع بمنهج ركّبناه، في مجازاتٍ متعدّدة منه: من السيمائيّة والأنتروبولوجيا معاً، وذلك ابتغاء الكشف عن وضع المرأة في المجتمع الجاهليّ، ونظرة الرجل إليها، وهي النظرة التي كانت تقوم، في الغالِب، على اعتبار أُنْثَوِيَّتها وأُنُوثتها جميعاً، وليس على اعتبار أنها كائن إنسانيّ عاقلّ، حسّاس، وأنّها شقيقة الرجل، وأنّها ، إذن، عضو فعّال ومؤثّر في المجتمع..
وربّما فزعنا، أثناء تحليل الأبيات المستشهَدِ بها حَوالِ المرأةِ في المعلّقات، إلى الإِجراء الجماليّ، أيضاً.
والأخراة: إننا لم نُرَكِزْ على الآَراء المعروفة التي قُرِرت من حول المرأة الجاهليّة - إلاّ ماكان من مناقشة الدكتور البهبيتي الذي ذهب إلى رمزيّة المرأة في المعلّقات - قبلنا، هنا وهناك. وتوّخينا التقاط الأَبَاِييتِ التي تحمل دلالةً ما: إمّا سيماءَوِيَّةً، وإمّا أنتروبولوجيّة: اعتقاداً منّا بأنّ مالم نتناولْه، نحن في هذه الكتابة، قد يكون سَوَاؤُنَا تناولَه قبْلَنَا: منذ الأعصار الموغلة في القدم، وإلى هذا العهد.
*****
أوّلاً الحضور الاجتماعي ّ للمرأة في الجاهليّة
إنّ وَأْدَ كِنْدَة - وقبائل أخراةٍ كانت تحذو حذْوَها -بناتِهَا في الأَسْنَانِ المُبَكِّرةِ لَبُرْهَانٌ خِرّيتٌ على قوّة حضور المرأة في الجاهليّة، وعلى قوّة شخصيّتها، وعلى رِفْعَة مكانتها، في المجتمع العربيّ قبل الإسلام: لا على ضعف قوّتها، وقلّة حيلتها، وانحطاط منزلتها. وإنّ الآية على ذلك أنّ الوَأْدَ كان يقع للصبايا وهُنَّ في سنّ الرضاعة أو نحوها. وكان الحامل على ارتكاب تلك الجريمة البشعة هو خوف العار، فيما كان الوائدون يزعمون، ولكنّ القرآن العظيم فضح أولئك اللئام بأنّ وَأدَهُمْ بناتِهمْ، لم يكُ خشْيَةََ العار، ولكنه كان خشية الوقوع تحت ضائقة الفقر والإملاق(1).(1/311)
وقد صوّر القرآن الكريم الحال الحزينة التي تقارف بعضَ لِئَامِهِمْ حين كان تولد له جاريَةٌ؛ فقد كان وجُهه يسودّ، ومُحَيَّاهُ يَربَدُّ؛ فكان يُلِمُ عليه، من أجل ذلك، الحزنُ والعبوسِ، والكلوح والقطوب (2). ويبدو أنّ قرار الوأد، كما يفهم ذلك من نصّ القرآن الكريم، كان يتمّ، غالباً، في الأيّام الأولى من ميلاد الصبيّة.
وكان الأعرابيّ ربّما غضب على امرأته وزايلها إذا لم تنجب له صبياً. وقد كان الناس يعتقدون أنّ الحليلة هي المسؤولة عن صفة جنس المولوَد، وذلك على الرغم من أنّ أعرابيّة أجابت بعلها حين غضب عليها وهجرها حولاً كاملاً: أَن وَضَعَتْ له صِبْيَّةً، بأنها لا تلد، في حقيقة الأمر، إلاّ ماكان يُزْرًعُ فيها(3). ولعلّ رجز تلك المرأة العربية يوحي بأنّ النساء كن يَرَيْنَ في أمر تحديد صفة جنس الجنين غير ماكان الرجال يرون.
لم يكن أهل الجاهليّة، إذن، يئدون صباياهم لأنهم كانوا يخشَوْنَ أن يلحَقَهُم من جرّائِهَنَّ العارُ والشنار، ولكن الحق ماقاله القرآن. أي أنه كانوا يخشون الفقر والإملاق. وإنما كانوا يخشون ذلك لعلل كثيرة منها، في تمثّلنا:
1- إنّ الصبيّة في السنّ الأوّلى ربما أسهمت في النهوض ببعض الأعمال الاقتصاديّة اليوميّة البسيطة مثل رعي الأغنام، على مقربة من الحيّ، وذلك لانتفاء الظنّ عن تعرّضها للاغتصاب، ولِمَا لا يجوز من التخوّفات عليها...(1/312)
2- لكنّ الجارية مجرّد أن تقترب من سنّ المراهقة تُحْبَسُ في البيت حَبْسَاً، خَوْفَاً عليها مِمَّا لا يجوز.... وكان ينشأ عن ذلك السلوك أَنّ أباها، أو أخاها، هُوَ الذي يتولّى الإنفاق عليها، إذ تغتدي محرومةً من الإسهام في الحياة الاقتصادية الخارجيّة للأسرة: فإذا هي لا تذهب إلى الأسواق، ولا تزاول الأعمال التجارّية بنفسها، ولا تحتطب إلاّ من الأماكن القريبة جداً من الحيّ بحيث لا تغيب عنها عيْنُ الحيّ. وحينئذ ينحصر دَوْرَها في البيت الذي لم يكن مركز النشاط الاقتصاديّ للأسّرة... وتظلّ تنتظر الرجل الذي سيختطبها. ولعلّ من أجل هذا العامل الاقتصاديّ الخالص كان يتّمّ تزويج العربيّات في سنّ مبكّرّة جداً، ولا يبرح هذا الوضع قائماً إلى يومنا هذا في بعض البلدان العربيّة مثل اليمن؛ على الرغم مِنْ أنَّ تلك الأسبابَ زال بعضُها... والفتاة الشقية هي تلك التي كان يطول مُقامها في بيتِ أهلها فتَعْنس ولا تتزوّج...
بينما شأن الفتى شأنٌ آخر. لا يخاف أبوه عليه، صغيراً وكبيراً. وهو إلى ذلك يستطيع أن يكلّفه ببعض المهمّات منذ بلوغه الأوّل. وهو في أسوأ الأحوال قادر على الإغارة مع القبيلة، كما يُعَدُّ للدفاع عن نفسه أوّلاً بِحَدِّ السيف؛ ثم الدفاع عن القبيلة آخِراً إذا دُهِيَتْ بداهية، وتعرّضُ أمْنُها للأخطار... الفتاة لا؛ لم تكن في منطق الظروف الحضاريّة البدائيّة السائدة قادرةًً على الدفاع لا عن نفسها، ولا عن قبيلتها، إلاّ من الإسهامات الخلفيّة للمعركة كَقَوْتِ الخيْلِ، وتضميد كِلامَ الجرْحَى؛ كما سنستنتنج بعض ذلك من بعض معلّقة عمرو بن كلثوم.
فكانت المرأة من ذلك المنظور الجاهليّ اللّئيم عالةً على أسرتها؛ فكان يسارع بعض الطّغامِ إلى وأدها مجرّد ميلادِها.(1/313)
من الغريب في هذا الأمر أنّ الوائدينَ كانوا يَفْزَعونَ إلى المرأة زَوْجَاً، ويحرصون على مودّتها وإكرامها، كما كانوا يُحبّون، ويُحْبُونَ، معاً أخواتِهِمْ، ويحمونَهُنَّ مثل البنات والحليلات حين كانوا يُصَبَّحُوَنَ بالغارات. وكانت المرأة العربية إذا زُوِّجَتْ في الغُرباء ربما جَزِعَتْ وَحَزِنَتْ لمُزايَلَتِها مغانِيَ قبيلتها، ومفارقتها ديارَ عشيرتِها، كما يؤكد ذلك بيتان من الشعر ينسبان إلى امرأة من بني عامر بن صعصعة وقد زوّجت في طيئ : فاستوحشت المقام بين أهل بعلها، فقالت:
لا تَحْمَدنَّ الدهرَ أُخْتٌ أخاً لَها ... ولا تَرْثِيَنَّ، الدَّهْرَ، بِنْتٌ لِوَالِدِ
هُمُ جعلوها حيْثُ ليْسَتْ بِحُرَّةٍ ... وهُمْ طرحَوها في الأقاصي الأباعِدِ(4).
ولعلّ تخوفّ المرأة العربيّة، على عهد الجاهلية، وجزَعها من التزوّج في غير بني قومِها: يعودان إلى انغلاق ذلك المجتمع، وبدائيّة وسائل المواصلات فيه: إذْ كان التنقل من صُقْعٍ إلى صُقْعٍ يتطلّب أيّاماً طِوالاً من السفر الشاقِّ، مع انعدام أمْنِ الطُرقاتِ، وقلّة موافاة القبائل؛ القبائل الأخراة.
وإذا كانت المرأة، لدى امرئ القيس، وطرفة وعنترة: كأنّها لم تَكُ إلاّ للَّذاتِ والمُضاجعاتِ؛ فإنها، لدى عمرو بن كلثوم، كانت لذلك أيضاً، وذاك أمرٌ طبيعيّ؛ ولكنها كانت تُسهِمُ في الحروب مع الرجل، وكأنّ النساء كانت بمثابة القاعدة الخلفيّة التي يستمدّ منها الرجال القوّة، ويستلهمون من جمالها ولطفها الشجاعة وحسن البلاء في ساح الوغى: حمايةً لها، وحُبَّاً فيها، وتعلٌّقاً بأطفالها، وَنْضَحَاً عن شَرَفِها:
على آثارِنا بيضٌ حِسانٌ ... نُحاذِرُ أن تُقَسَّمَ أو تَهُونا(1/314)
فقد كان الرجال -ولا يبرحون- من أن يقع نساؤهم تحت السبي فتُقَسَّمَ تقسيماً بين المُغيرين، أو تقع تحت وطأة المَهانة والعار. فكانت مشاركة النساء في الحروب مزدوجةً الفائدة: أنهن كنّ يَقُتْنَ خَيْلَ البُعولةِ، ويُشْرِفنَ على تمريض الكَلْمَى. كما كُنَّ، في الوقت ذاته، يَحْضُضن أولئك البعولَ على الثَّبات في ساحة الهيجاء، وإِلاّ تعرَّضْن للسَّبْي والغصب:
يَقُتْنَ جِيَادَنا ويَقُلْنَ لَسْتُمْ ... بعولَتَنَا إذا لم تَمْنَعُونَا
لقد تفرّد عمرو بن كلثوم، إذن، من بين كلّ المعلقّاتييّن؛ بتسجيل هذه الصورة الراقية لدور المرأة في العربية في ذلك المجتمع المتطاحِن المتحارِب المتصارع من أجل البقاء، بل من أجل الاستعلاء، إذ ليست المرأة لدى معظم المعلّقاتييّن، إلاّ لعبة جميلةً يتلذّذ بها الرجل، لأنّها تصلح لأن يُشْبِعَ منها رَغْبَتَه الجنسيّة: ثمّ لاشيءَ من وراء ذلك يوجد فيها من غَناء! على حين أنّها لدى عمرو بن كلثوم عضو مؤثّر في المجتمع: لها كامل الحقوق، وعليها كلّ الواجباتِ - ضَمْناً على الأقل- إذْ مَنْ يشارك في الحرب يكون له السهم المُعَلَّى في بقيّة مظاهر الحياة الأخراةِ: وهي دون الحرب خَطَراً، وأهون منها شأناً.
ومن الآيات على شرف مكانة المرأة، وسمّو منزلتها على عهد الجاهليّة، وحرص الرجل الشديد على حمايتها في ذلك المجتمع المضطرب الذي لم يكن الاستقرارُ يعرفُ إليه سبيلاً : أنّ عمرو بن كلثوم قَتَلَ عمرو بن هند، وقد كان مَلِكَاً للحيرة؛ لأنّ الملك أزمَعَ على إِهَانَة عمرو بن كلثوم في شخصِ أمِّه ليلى ابنة مهلهل بن ربيعة: بأن دسّ لها أُمَّهُ هِنْداً لتطلب من ليلى مناولتَها الطبَّق وهي لديها ضَيْفٌ، فاعتذرت ليلى لهند أوّلاً؛ فلمّا أعادت عليها الطلب وألحّت، صاحت ليلى: "واذلاَّهُ! يالتَغلِب!"(5) فلَمَّا سمِعَها ابْنُهَا عمرو بن كلثوم عَمَد إلى سيف كان معلّقاً قريباً من عمرو بن هند فقتله به...(1/315)
وقد كانت المرأة العربيّة على عهد الجاهلية شاعرةً تفْهَم الشعر، وناقدة تستطيع التعليق عليه، وتمييزَ جيّدهِ من رديئهِ، ولا يعني ذلك إلاّ أنّها كانت بلغت مقداراً صالحاً من الثقافة الشعريّة حيث تزعم أمّهات التراث العربيّ أنّ امرأ القيس وعلقمة بن عبدة -الفحل- تنازعا في أيّهما أشعر؛ ولم يُسَلِّمْ أحدُهما للآخر فاتفقا على أن يحتكما لحليلة امرئ القيس، يومئذ، أمّ جُنْدُب التي حَكَمَتْ لعلقمة على امرئ القيس مما أحفظ الملكَ الضَّلّيِلَ فطلّقها(6).
فإنّ صحّت هذه الحكاية فإنّ ذلك يعني أنّ المرأة لم تَكُ شاعرةً فحسب، ولكنها كانت أيضاً ناقدة تُصْدِرُ الأحكام، وتُجرى التعليقات، في كفاءةً مدهشة.
ولعلّ، ممّا قد يؤيّد هذه الحكاية، في مضمونها على الأقلّ، خبر آخر يزعم أنّ الخنساء (تماضر بنت عمرو بن الشريد السُّلميَّة) بارَتْ في سوق عكاظ، أمام النابغة الذبياني، حسّانَ بْنَ ثابتٍ فَحَكَمَ النابغةُ لها عليه(7).
وجاء في الأخبار أيضاً أنّ ابنةَ حسانَ بْنِ ثابتٍ كانت شاعرة، وأنّ حَسّاناً أرِقَ ذاتَ ليلةٍ فارتجل بيتيْن اثنيْن من الشعر فسمعتْه ابنتُه فأجازَتْهُ مرّتين متتاليتيّن، فقال لها أبوها: "لا أقول بيتَ شعرٍ وأنت حَيَّةٌ."(8). لكنّ الفتاة أمّنَتْ أباها قائِلَةً: "لا أقول بيتَ شعرٍ مادمتَ (أنت) حيّاً!".(8).
كما أنّ الأشعار الكثيرة، المتفرّقة، التي وردتْ شواهد على قواعدِ النحوِ، أو على صحّة اللغة في كتب النحو والمعاجم والأمهات مثل "الكتاب" لسيبويه، و"لسان العرب" لابن منظور: تدلّ على أهمّيّة مكانة المرأة العربيّة في المجتمع الجاهلي؛ إذ هناك العدد الجمّ من أبيات الاستشهاد التي قيلت إمّا في وصف أعضاء معيّنة من جسد المرأة مثل العينين، والثغر، والشعر، والأسنان، والجيد، والكشح، والثديين، والسّاقيين، والأنامل، والقدّ.... وأمّا في وصف علاقة الرجل بالمرأة، أو قالها، في الأصل، نساء...(1/316)
ويفتقر هذا الموضوع إلى بحثٍ على حدة...
بينما لانكاد نجد مادّة واحدة، من موادّ المعجم العربيّ، لا تُذْكَرُ فيها المرأة على نحو أو على آخر، فكأنّ اللغة العربيّة لغة نسويّة أساساً! وكأنّ هذه التسويّة تستأثر بأمرها إلى حدّ أن العرب تعتبر كثيراً من المسمّيات مؤنّثة على الرغم من خُلِوِّها مِنْ هاءِ التأنيث في آخرِها مثل الحرب، والعَصا، والعين، والأذن، والساق، والرِجلْ، واليد، والنار، والبئر...، بالإضافة إلى الألفاظ الكثيرة التي يجوز تأنيثها وتذكيرها مثل السوق، والحال، والسبيل والرُّوح...وكأنّ العرب كانت تراعي في أصل إطلاق الأسماء على المسمّيات اتّصالَها بالمرأة، أو اعتبارها مؤنّثة لتوهم النَّسوية فيها... على حين أنّنا نلفي الأعضاء الجنسيّة للمرأة، خصوصاً، وما يتّصل بها أيضاً من حركة أو فعل تشكّل مادّة ضخمة في اللغة العربية.
ولا يقال إلاّ نحو ذلك في جمع مالا يعقل، وجمع التكسير حيث يعاملان، لدى إعادة الضمير عليهما، معاملةَ المؤنّثِ.
حقاً، لم يكن هناك نظام اجتماعيٌّ قائم، وإن كانَهُ على نحو ما، ولا قانون وضعيٌّ صارم، ولا تعاليمُ دينية تحمي المرأةَ في الجاهليّة من عُدّوان نفسِها أوّلاً، ثمّ من تسلّط الرّجل المفرِطْ عليها آخراً: إلى أن جاء الله بالإسلام فقنّن علاقتها بالرجل، وجعلها سيّدة في مالها، ورفع من شأنها في المجتمع حين جعلها شقيقة الرجل، وحين جعل الجنّة تحت أقدامها - حين تغتدي أماً - وحين اشترط في صفة العشرة بينهما أن تكون بالمودّة والمعروف....(1/317)
ولكن على الرغم من الحقوق المادّية والمعنويّة التي قرّرها الإسلام للمرأة، فإنّه كان في الجاهليّة أعرافٌ وقيم تحفط للمرأة العربيّة شيئاً من حقوقها، وتحفظ لها شيئاً من كرامتها ( ونقصد بذلك المرأة الحُرَّة؛ أمّا الأمَّةُ فظلّت حالُها على هَوْنٍ، ومكانتها على سوء، إلى أن تخلّصت الإنسانيّة من نظام الرِقِّ المَقِيت) فكان الرجل يعاشرها بشيء من المعروف، والمودّة، وربما الوفاء أيضاً... وقد يدلّ على بعض ذلك هذه الوفرة الوافرة من الأشعار التي تتحدّث عن علاقات البعول بحليلاتهم، أمثال أقوالهم:
* ذريني للغنى أسْعى فإنّي ... رأيْتُ الناسَ شرّهم الفقيرُ(9)
*ِتلْك عِرْسي غَضْبَى تُرُيد زِيَالِي ... اَلِبَيْنٍ تريد أم لِدَلال؟(10)
* فإن تسألوني بالنساء فإنّني ... بصيرٌ بأدواء النساء طبيبُ (11)
* تِلك عِرْسَايَ تنطِقانِ عَلى عمْـ ... ــد، لي اليوم قَوْلَ زُورٍ وهتْرِ(12)...
إنّ طفوح الأشعار العربيّة القديمة - الجاهليّة خصوصاً- بذكر هذه المرأة، وإنّ التباري بين عامة الشعراء في وصف جمالها، وفي ذكر دلالها، وربما التغنّي بصفاتها الروحيّة الأخراة كما يمثل بعض ذلك في شعر عمرو بن كلثوم:
ظعائن من بني جشم بن بكر ... خَلَطْنَ بميسَمٍ حَسَباً ودِينا
لَدليلٌ خِرّيتٌ، وبُرْهان ساطعٌ، على سُمُو مكانة المرأة العربية في المجتمع الجاهلي بعامّة، وفي أَنْفُسُ الشعراء بخاصة.
وعلى الرغم من أنّنا نرتاب، ارتياباً شديداً، في صحة نسبة هذا البيت إلى عمرو بن كلثوم، لأنّ هذا الشاعر لم يكن من الوَرَع والتقوى والإيمان -وهو الجاهليّ الوَثَنِّيّ- مايجعله يمتدح في النساء العنصرَ الديني لديهنّ. وكيف لا يرتاب في نسبة هذا البيت إليه وهو الذي يقول في المعلّقة نفسها:
ألاَ لاَ يَجْهَلنْ أحدٌ عليْنا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجاهلينا(1/318)
فهل نصدّق بصحّة هذا البيت أم بصحّة البيت السابق؟ أمّا أَنْ نُصَدِّقَ بصحّتهما معاً، فعلينا أن نكون سُذَّجَاً، وإذن، فإن صحّ لابن كلثوم هذا البيت: الجاهِليُّ، الجاهِلُ، فليكن؛ ولكن على أن لا يصِحَّ له البيت الآخرَ الذي يتغنّى فيه بمكارم الأخلاق، وورع نساءِ تَغْلِب.
وإنّ صحّ الآخرُ له، فليكن، ولكن على أن لا يصحّ له هذا. وهبْ سلَّمْنا بمسألة الحسب والنسب في البَيْتِ السابق، لكن مابالُ ذِكْرِ الدِّيْن لدى شاعر مثل عمرو بن كلثوم الذي لم يتورّع في قتل عمرو بن هند لمجرّد حادثة كان يمكن أن يتخلّص منها بمغادرة الحيرة مع أمّه، وكتابة قصيدة هجائية فيه، ويستريح.... ولكنّه آثَرَ سفك الدّم، فقتل....
ثمّ ، إن المرأة المتدّينة - لو كان ماورد في هذا البيت يصدق على نساء بني تغلب- تسمو بنفسها، وتتواضع، وتتلطّف، وتتسامح، وتساعد الآخرين... فكان يمكن، إذن، لليلى أمّ عمرو بن كلثوم، أن تناول هنداً الطبَق -ولو من باب تجاهل العارف- أو لا تناولها إيّاه، ولكنها تتسامى بنفسها، وتتعالى بخلاقِها، وتتسامح بحُكْم، أو بفضل، دينها المزعوم مع تلك الجاهلة الفجَّةِ، الْفَظَّةِ الجِلْفَة، الغليظةِ القلب المتغطرسَةِ في جاهليّتها الجهلاء، والسامدة في ضلالتها العمياء... لكنّ ليلى كانت أجهل من هند، كما كان عمرو بن كلثوم أجهل من عمرو بن هند، في هذه الحادثة. فأين مظاهر الدين في هذا الأمر؟ ومابال التّقى والوَرِع لدى بني تغلب؟ وهل نلوم عمراً أنْ لم يَكُ متديّناً في زمن ومكان لم يَكُ فيهما نبيّ مُرسَل، ولا كتابٌ مسطّرٌ، ولا رسالة إلهيّة...(1/319)
إننا، إذن، لا نعتقِدُ أن يكونَ مِثْلُ هذا الوصف الوارد لدى نهاية البيت الأخير، للمرأة الجاهليّة -من خلال وصف نساء بني تغلب- صحيحَ المتْن، ولا سليمَ الرواية، ولا صادق النسبة إلى صاحبه، لتناقضه مع الوضع الذي كان يعيشه الشاعر، ولتعارضه مع السيرة التي كان يسيرها في حياته العامّة. ولا نَخَالُ ذلك إلاّ من دَسَّ حمّاد الراوية الذي جمع نصوص المعلّقات، ثم رَوّاها الناس (13) (وهي رواية يأتيها الضعف والشكّ من كونها جاءت بعد أكثر من قرنين من الزمن، وأنّه تفرّد بها وحده، وأنّها إذن لَمْ تَكُ رواية متواتِرةً) وهي الرواية الذي كان اشتهر بالكذب، فكان لا يتحرّج في التزّيد في أشعار الناس(14).
إنّ كائناً مثل المرأة التي تمثّل الأمّ، والأخت، والبنت، والزَوْج، بالقياس إلى الرجل من وٍجهة، وتمثّل الرٍقًّة المتناهية، والحنان الغامر، وتزدخر بالحبّ العارم، والإحساس الفائض، من وجهة أخراة... وإنّ كائناً كان هو الذي ينهض في ذلك المجتمع الذي كان يحكمه الشَّظَفُ والغِلْظُ، وتَسِمُه الخُشونة والشدّة -بقسط كبير من أعباء الحياة اليوميّة فينسج الملابس ويغسلها إذا اتّسخت، ويصنع الأخبية والخيامَ ويتعهّد نظافَتها، ويطْهُو، إلى ذلك، الطعام، ويُنْجِب الأطفال، ويُرضِعُهُم ويُنْشِئُهُمْ تَنْشِئَةً.....- لَمَجْدُرَةٌ لأنْ يَلْقَى من الاحترام والتقدير، والحبّ والتكريم، والعناية والتعظيم: مانلفيه قائماً في أشعار الجاهليّين التي المعلّقاتُ السبعُ يجب أن تكون أجملّها وأروعَها.
وكأنّنا نفترض أن هناك حلقةً مفقودةً من هذا الشعر، وطَرفاً ضائعاً من هذا الأدب، وأنّ الرواة لم يكادوا يحفظون لنا منه إلاّ ماكان وَصْفَاً لجسد المرأة وعلاقتها بالرجل، أو علاقة الرجل بها: وزهدوا ، أو كادوا يزهدون، في كل، أو بعض، ماكان وصْفاً لروحها، وتسجيلاً، ولو على هون ما، لمكانتها الاجتماعيّة، وحياتها اليوميّة: على الوجه الأعمّ، والنحو الأشمل.(1/320)
******
ثانياً: هل نساء المعلّقات رمزّيات؟
لقد ذهب كثير ممّن يحلو لهم أن يؤوّلوا الأشياء على غير ظاهرها، ويفسّروا الأمور على غير منطوقها، كما يقول علماء الأصول، إلى رمزّية المرأة في كثير من مواطن ذِكْرِها في أشعار الجاهليّين، وأنّها واردة بالمعنى الذي ذكرت عليه بظاهر اللّفظ، وفي صريح النسجْ. ومن ذلك ماذهب إليه أُستاذُنا الدكتور نجيب البهبيتي حول هذا الأمر الذي لا يمكن تقبُّلُه، بدون مناقشة ولا مُقادَحَة. فقد كان الشيخ ذهب إلى أنّ كلَّ امرأةٍ كان ذِكْرُها رمزاً حيث إنّ هذه المرأة، في كلّ مواردها من الشعر الجاهليّ، كانت رمزاً لقيمة؛ وأنّ الأسماء المُطْلَقة على النساء هي أسماء تقليديّة، تجري عند الشعراء دون وقوع على صاحباتها"(15).
فيما ذهب إليه الشيخُ قد يصدق على هذه المرأة، أو على هؤلاء النساء إن شئت، في الطلليّات، أو في مطالع القصائد العيون، لكنّه لا يجوز، في تمثّلنا نحن على الأقل، أن يصدق عليها في أصلابِ الطِّوالِ، والمعلّقات السبع، وخصوصاً لدى عنترة وامرئ القيس. بل ربما لدى عامة المعلّقاتيّين الآخرين أمثال الحارث بن حلّزة (أسماء- ميسون- هند)، وزهير (أمّ أوفى)، ولبيد (نوَار).
ولعلّ المرأة لم تُرْمَّز إلاّ فيما بعد لدى الشعراء الغزِليين، وخصوصاً لدى أهل التصوّف الذين بلوروا رمزّية المرأة، ووظّفوا قيمتها الجماليّة فاغتدَوْا يُطلْقِون اسمَ ليلى على كلَّ موضوع، وعلى كلّ أمل، وعلى كلّ قيمة معنويّة خِيّرة أو نبيلة، وعلى كلّ غاية كانوا يتعلّقون بها من ابن الحرّاق إلى محمّد العيد(16).(1/321)
وأمّا ماقبل ذلك، فقد كان كلّ شاعر، على الأغلب، يذكر صاحبته التي كان يُحِبُّها باسمها الشخصيّ. وحتّى إذا سلَّمنْا، جَدَلاً، بأنّ هذه الأسماء التي تمتلئ بها الأشعار الجاهليّة بعامّة، والمعلّقات السبع بخاصّة -كما سنرى بعد حين- لم تكُ حقيقيّةً، فهي لم تَرْقَ قَطُّ إلى مستوى الرمز؛ وإنما قد تكون رَقِيَتْ إلى مانطلق عليه نحن "مستوى التَّعْمِيَة" وعلى أنّ القدماء من مؤرّخي الأدب العربيّ - وعلى عنايتهم الشديدة بالشعر الجاهليّ، وعلى إيلاعهم باستيعاب أخبار شعرائه، وخصوصاً في علاقاتهم بالنساء -لم يؤمنوا ، فيما بلغّنا من العلم، قط، إلى أنّ أولئك الشعراء كانوا يتحرّجون في التصريح بأسماء حبيباتهم وعشيقاتهم. بل إنّا ألفينا حكاية "دارة جلجل"، المشكوك في صحّتها لدينا، تُلحُّ على أنّ امرأ القيس كان يتابع العذارى وكان يتعشّق ابنة عمّه عنيزة جهاراً، بل كان يُراكبها على بعيرها، ويقبّلها في خدرها، ويتفرّج على جسدها وهي عارية حين كانت تسبح، وحين أرغمها على أن تخرج من ماء الغدير ليشاهدها عُريانةً: مُقْبِلَةً ومدبرة، فيما يزعم الرواة الأقدمون(17).
فما هذا التناقض المريع بين رواية تذهب إلى الإباحيَّةِ المطلقة في العلاقة مع المرأة الجاهليّة، بتواتر الروايات، واتفاق الحكايات، وبيْن رأي يذهب إلى اتّخّاذ هذه المرأة مجرّدَ رمز وقيمة؟ إنّنا إذن نستبعدُ ورودَ أسماءِ النساءِ الجاهليّات في الشعر، في الشعر على ذلك العهد، مَوْرِداً رمزيّاً في ذلك المجتمع الذي لم يكن يكاد يعرف شيئاً كثيراً أو قليلاً من الروحيات، والمعنويّات، ومن باب أولى: الرمزّيات: فكلّ العالم يعرف أنّ عبلة هي ابنة عمّ عنترة.
وكلّ العَالَم يعرف أيضاً أنّ عنيزة هي ابنة عمّ امرئِ القيس بالرواية المتواترة، والأخبار المتطابقة ولا يقال إلاّ نحو ذلك في نساء المعلّقاتيّين الآخرين.(1/322)
ففيم تَمْثُلُ، إذن، هذه الرمزيّة؟ وهلا وقفناها على البكاء على الديار؟ وهلا قصرناها على الوصف العامّ لامرأة حبيبة بدونِ ذِكْرِ لاسمها، ولا وَصْفٍ لجَسَدِها، واسترحْنا فأرَحْنَا؟ أمَّا أن نعمّم الترميز، فنجعلَ من الأسماء المختلفة الكثيرة لأُوْلاءِ النساء مجرّد رموز لقيم ومبادئ وآمال؛ فإنما لا نحسب ذلك يجسّد حقيقة، ولا نراه يمثّل تقريراً لوجه من التاريخ الصحيح، والخبر الصريح.
فامرؤ القيس بن حجر حين يقول:
* قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ*
فذلك، غالباً، لم يكن يعني حبيبةً بعينها، ولا امرأةً بذاتها، بمقدار ما كان يكرّس، مطلعَ قصيدته، تقليداً شعريّاً كان كرّسه، قبله، آخرون منهم امرؤ القيس بن حارثة بن الحمام بن معاوية(18).
وأمّا حين يقول، مثلاً:
ويوم دخلت الخِدْرَ: خِدْرَ عُنَيْزَةٍ ... فقالت: لك الويلاتُ، إنكّ مُرْجِلِي
فذلك لا يعني، غالِباً ، إلاّ امرأة بعينها، امرأةً عاش معها الشاعر وأحبَّها، فأراد أن يتمتّع بها، كما كان يتمتّع بسَوائِها غَيْرَ مُعْجَلٍ ولا خائِفٍ، فيما يزعم:
* تمتّعت من لهوٍ بها غَيْرِ مُعْجِلِ*
ولم تكُ هذه المرأة، فيما أجمع عليه مؤرّخو الأدب العربيّ القديم، إلاّ عنيزَةَ نَفْسَها.(19).(1/323)
أم هل كان هذا التمتّعُ تسابِيحَ روحيَّةً، وابتهالاتٍ ملائكيَّةً، نَسَجَهَا الشاعر نَسْجَاً؟ أم هل كان مجرّد عيش وهميٍّ يأتيه مع طَيْفها المُتأَوِبِ، وحُضورها المُحوِّمِ، من نفسه؟ أم كان ذلك اللهوُ مجرّد صورة رمزّية لعلاقة رجل مع امرأة لم تتمّ قطّ.؟ إنّا لا نلفي أيّ أَثَرٍ لهذه الرمزيّة في مثل هذه الأبيات التي استشهدْنا ببعضها، بمقدار ما نلفي فيها حضوراً واقعيّاً لهؤلاء النساء، مثل الوجود الواقعيّ لأولئك الشعراء أنفسهم. وإلآّ فإنّ بالغنا في الذهاب إلى أقصى الحدود في استعمال التأويل؛ فإننا سنْخُرج من حدود التأويل الممكنة، والمشروعة أدبيّاً، ونتولّج في حدود التأويل غير الممكنة، أي أنّنا سنمُرقُ من مستوى تأويل النّصّ، إلى مستوى استعمال النص فنقوِّلُه مالا يقول، ونُحَمِّلُه، مالا يحتمل؛ ونسلكه في مسالك الشَّطَطِ، وندرجه في مدارج التعسُّف، بحيث سنؤَوِّلُ، في هذه الحال، كلّ شيءٍ على غير ماهو عليه، أو على غير ما يجب أن يكون عليه؛ فيُمسي، أو يوشك أن يُمْسِي، كلُّ شيءٍ رمزيّاً، أو قل إن شئت إلاّ شيئاً من الدّقة في التعبير: يُمسي كلُّ شيء وهميَّاً في حياة الجاهليّة التي ماكان أبعَدَها عن الروحيّات والرمزّيات، بمقدار ماكان أقْرَبَها، بل ألصقها بالمادِّيَّاتِ والواقعيّات.
إننّا نعتقد، إذن، أنّ الأسماء: أسماء النساء التي وردت في المعلّقات لم ترد بمعاني الرمز ولكنها وردت بمعاني الحقيقة والواقع.
ثالثاً: ماذا عن حقيقيّة المرأة الجاهليّة
في المعلّقات؟(1/324)
إذا قلنا، معجميّاً ودلاليّاً معاً: حقيقيّة المرأة، فكأنّما قلنا: عدم رمزيّتها: إمّا على وجه الإطلاق، وإمّا على سبيل النسبيّة، وكان سبق لنا في المحور الثاني، من هذه المقالة، أن زعمنا أنّنا لا ننكر، جملة وتفصيلاً، رمزيّة المرأة في الشعر الجاهلي، ولكننا لا نجاوز بها مواطنَ منه معيّنةً لا تعدْوها، ومنها -وربما أهمّها- مايذكر في الطلليّات والمطلعيّات، وما قد تدلّ عليه ظواهرُ الأحوال. وكانت حجَّتُنا، في ذلك، أنّ المؤرخيّن أجمعوا على مادّيّة العصر الجاهليّ، وواقعيّة كثير من المظاهر العامّة فيه، بناء على النصوص الشعريّة التي بلغتْنا منه، ورُوِيَتْ لنا عنه: أكثر ممّا ذهبوا إلى روحيّته ومثاليّته. يضاف إلى ذلك أنّ عامّة المؤرّخين يزعمون أنّ المرأة لم تكن لها مكانة شريفة، في كلّ الأطوار، على عهد الجاهلية، وأن الإسلام وحده هو الذي أنصفها فحقّق لها مالم يكن لديها...
ونحن مع إقرارنا واقتناعنا بما أعطى الإسلامُ المرأةَ، وبما حقّق لها من كرامة، وبما حفظ لها من ماء الوجه فاغتدتْ شقيقة الرجل (20)، بل لم يزل يكرّم المرأة الأمّ إلى أن جعل الجنة تحت أقدامها: فإنّا كنّا زعمنا، في الوقت ذاته، أنّ مكانة المرأة، على عهد الجاهليّة، لم تكن من السوء والبؤس، والمهانة والذّلّ، بحيث كانت كلّها شقاء مطلقاً.
وقد قنن الاسلام العلاقةَ بين الرجل والمرأة، واجْتَعَلَ لها حدوداً صارمةً -من خلال آيات قرآنيّة كثيرة- لا تعدوها، ومن خلال أحاديث نبويّة جمّة، وخصوصاً ماجاء في خطبة حجّة الوداع... ذلك بأنّ المرأة كانت تتدلّل على الرجل أكثر ممّا نتصوّر من سطحيّة المواقف واستعجاليّة الرأي، فمن ذلكم أنّ الرجل هو الذي كان يُرْكِبُ حليلَتَه لدى الإزماع على التَّظعان، حتى قالت إحدى النساء العربيّات إدْلالاً بنفسها، ووثوقاً من منزلتها لدى بعلها: "احْمِلْ حِرَكَ أَوْ دَعْ"!.(21).(1/325)
وقد علق ابن منظور على هذه القولة التي صارت مَثَلاً، بأنّ ذلك لم يكُ منها إلاّ إدلالاً، وحثّ بعلها "على حَمْلِهَا" ولو شاءت لرَكِبَتْْ"(25).
ومن الواضح أنّ لهذا المثل العربيّ القديم دلالةً حضاريّة واجتماعيّة وعاطفيّة ذاتَ بال، وأنّه يدلّ على المنزلة المكينة التي كانت للمرأة في المجتمع الجاهليّ، فعدم ركوب المرأة، بدون مساعدة الرجل لم يكن عن عجز منها عن الركوب، بمقدار ما كان إدلالاً منها، وتغنُّجاً على بعلها، ولقد يُشْبِهُ هذا السلوكُ المتحضِّرُ مانراهُ، على عهدنا هذا، في الأشرطة السينمائيّة لدى الغربيّين، وذلك حين يفتح الرجل باب السيّارة للسيّدة -لدى الصعود والنزول- مع أنها قادرة على فتحه بنفسها، وبدون عناء، ولكنّ الرجل يأتي ذلك لباقةً وتلطّفاً، وترى المرأة تتثاقل لدى الاقتراب من السيّارة حتى يسارع هو إلى فتح الباب لها.
وعلى الرغم من اختلاف الأحوال، وتبدّل الأطوار؛ فإنّ النيّة في الحالين الاثنتين واحدة: رجل يعيش على عهد الجاهليّة يُركِبُ حليلته على البعير وهي على ذلك قادرة، ولكنها لا تفعل تدلُّلاً، ورجلٌ يعيش في نهاية القرن العشرين يستبق حليلته، أو خدينَتَه، بابَ السيّارة فيفتحه لها لكي تمتطِيَها، وهي على فتحه قادرة، لكنها تتثاقل وتتباطأ غَنَجَاً. فالنيّة هِيَ، في الحالينْ والعهدينْ، ولكنّ المظهر الحضاري هو الذي تغيّر فاستحال من البعير إلى السيّارة.
ويعني ذلك، كما نرى من خلال تحليل مضمون هذا المثل الجاهلي، أنّ الرجل العربيّ سبق الرجل الغربيّ، بقرون طِوالٍ، إلى هذا السلوك المتحضّر.
كما أنّ قول امرئ القيس:
وما ذرفتْ عيناكِ إلاّ لتضرِبي ... بسهَميْكِ في أعشارِ قلبٍ مُقتَّلِ(1/326)
برهانٌ ساطع على رقة قلب الرجل العربيّ، وَرَهَافَةِ كِبدِه، ولطافة إحساسه، إزاء المرأة: هذا الكائِن اللطيفِ المُدَمِّرِ معاً. كما يدلّ على بعض ذلك، أيضاً، هذا الفيض الفائض، والوَفْرُ الطافِحُ، من جميل الأشعار التي قيلت وَصْفَاً للمرأة، وتشريحاً لأعضاء جسدها، وتمجيداً لعينيها وثدييها وساقيها وجِيدِها وشعَرِها وثَغْرها وابتسامتها وصوتها ومِشْيَتَهِا التي تترَهْيَأُ فيها...
إنّ التغني بجمالِ نساءٍ معيّنات، في جملة من المعلّقات، لدليل قاطع على أنّ هؤلاء الشعراء كانوا يحبّون، حقاً، نساء بأعيانهنّ، ولم يكن ذلك مجرّد رمز من الرموز، ولا مجرّد قيمة من القيم الفنّيّة، أو الجماليّة. فقد كَلِفَ امرؤ القيس بذِكْرِ جملة من أسماء النساء كما ذكر نساءً أخرياتٍ في صور عامّة مثل:
* وبيضةِ خِدْرٍ لا يُرامُ خِباؤُها ... تمتّعْتُ، من لهوٍ، بها : غيرَ مُعْجِلِ
* عَذارَى دَوَارٍ في مُلاءٍ مُذَيَّلِ
* فظلّ العذارَى يرْتمِينَ بِلَحْمِها
* ويوم عقرتُ للِعَذارَى مَطيَّتِي
ونلاحظ أن امرأ القيس قد يكون سَيِّدَ المُعَلَّقَاتِيّينَ: لا في وصف المرأة، وصفاً جسدياً، فحسب، فذلك أمر لا ينازع فيه أحدٌ، ولكنْ في تقديره المرأةَ، واحترامه إيّاها في مواقف معيّنة- وذلك على الرغم من أنّه كان أميراً سَرِيَّاً، وفارساً كِمِيَّاً؛ ومن ذلك قولُه، وقد كانت الإيماءة سبقت إليه:
وماذرفت عيناكِ إلا لتَضْرِبي ... بِسَهمَيْكِ في أعشارِ قلبٍ مُقتّل
فامرؤ القيس في هذا البيت وفيّ، ومقدّرِ لجمال هذه المرأة وسِحْرها إيّاه، وتعذيبها لقلبه الوامق، ولو كان امرؤ القيس زانياً، كما تصوّره بعض الأخبار المدسوسة(23): لمَا وصفَ حبّه هذه المرأةَ وأبدى تأجّج عاطفتِهِ نحوَها بهذا التقدير الذي جعله يتهالك على حبّها، ويتدلَّه بجَمالها، ويتعذّب بسْحِرْها، فإذا بكاؤُها يُدْلّهُهُ؛ وإذا دموعُها تفطِّرُ كَبدَه، وتكلمُ قلبَه.(1/327)
ومن ذلك أيضاً قولُه في بعض وصف يوم دارة جُلْجُل العجيبِ، لو كانت حكايته ممّا يَصِحُّ لدينا:
* فظلّ العذارَى يرْتمِينَ بِلَحْمِها
بينما نلفي طرفة بن العبد يعبّر عمّا يشبه هذا المشهد، وهذا المعنى، بقوله:
* فَظلَّ الإماءُ يَمْتَلِلْنَ حُوارَها.
ولا سِواءٌ شاعِرٌ يذكر عذارَى، وشاعرٌ آخر يذكر إماءٌ. فالإماء مظِّنَةٌ للخدمة والامتهان، والعذارى مظنّة للعزّة والدّلال. فحِسُّ امرئِ القيس، هنا، الشعريُّ أرَقُّ، وذوقُهُ أرقى، وموقفه من المرأة أكرم. فكأنّه أراد باصطناعه لفظ "العذارى" أن يُلغي الفوارق الطبّقية بين امرأة وامرأة، فكلُّ عذراء، لدى نهاية الأمر، تمتلك خصائص العذراء، بصرف النظر عن طبقتها الاجتماعية التي كُتِبَ عليها أن تُجْتَعَل فيها. فَمَعَ مانعلم من رواية الفرزدق عن جدّة، وهي الرواية التي تذهب إلى أنّ الإماء هنّ اللواتي جمعن الحطب "فأجّجن ناراً عظيمة"(24).
إلاّ أنّ هذا الشاعر المرهَفَ الإحساسِ، الشاعرَ الإنسانَ؛ كأنَّه تَأَبَّى أن يصف أولئك الفتياتِ الجميلاتِ بالإماء، فِعْلَ طرفةَ بخَدينَاتِهِ؛ فينال من كرامتهن وجمالهنّ: ووَصْفَهُنَّ، تكريماً لهنّ، بالعذارى، كما وَصَفَ نساءَ صَنَمِ دوارٍ بالعذارى أيضاً:
* عذارى دوارٍ في مُلاءٍ مُذيّل.
إننا لنحسب ذلك التّطوافَ من حول صنم دوار كان عامّاً في النساء والرجال؛ وكان عامّاً في العذارى والمتزوّجات -أو الثيبّات-، ولكن لمّا كان لقب العذراء أكرم للمرأة (بدليل قوله تعالى لدى وصْف نساء الجنّة: (لم يَطْمَثُهنَّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ ولا جَانٌ)(25)؛ فإنّه وصف أولئك النساءَ بهذ العُذريّة إِغراقاً في التصوير الجمالِيّ لهنّ. فقد كان يمكنه أن يقول مثلاً:
* نساء دَوارٍ...(1/328)
لكنه لو قال ذلك لكان أَذْهَبَ عن هذه الصورة الشعريّة البديعة (التي هي صورة تنهض على حركة كأنها دائريّة حيّة، مصطحبة بأجسام جميلة لطيفة، تجرّر أذيالّها حول بناية تجسّد معتقداً وثنياً... فهي صورة تمثّل شيئاً من جمال الحركة؛ وذلك على الرغم من أنّنا الآن ننظر إليها على أنها تجسّد مجرّد معتقدٍ باطل....). أطرافاً من جماليّتها. بل لاغتدتْ مجرّد صورةٍ لكائنات حيّة تتحرّك، ليس إلاّ. ولقد يسْتَميزُ لفظُ عذارى عن لفظ نساء، كما يستميز وصف مذيّل عن لفظ مُلاء، إذ لو قال: "في مُلاء" وسكت عن صفة هذه المُلاء، لما كان لذلك شيء من الوقْع الشعريّ، ولا مِنْ بَدَاعَتِه، ولا من مائه، ولا من نضارَتَهِ، ولا مِنْ توهُّجه وعُنفُوانه، لكنه لمّا وَصَفِ المُلاء بطول الذْيْل دَلَّ على كرمِ هؤلاءِ العذارى، وعزّتهن لدى قومهنْ، وَسعَةِ أيديهنّ في أُسَرِهِنّ؛ بحيث لا ترتدي المُلاءَة المُذيَّلة -أي الطويلة المتجرْجرة- إلاّ من كانت موسَرِةً مُقْتَدّرَةً على الإنفاق والمُغالاة في التماس أَجْوَدِ الأثواب وأرقِّها نَسْجَاً، وأَدَقّها صُنْعاً، وأبدعها نقشاً.
إنّ أسماءً كثيرةً تصادفنا في المعلّقات ممّا يطلق على النساء مثل: فاطمة، وعنيزة، وعبلة، ونوار، وهند، وأسماء ، وميسون، وخولة، بالإضافة إلى الأمّهات: أمّ الحويرث، وأمّ الرباب، وأمّ الهيثم، وأمّ أوفى.(1/329)
ولا نحسب أنّ اختلافَ هؤلاء النساءِ يدلّ على رمزيّتهنّ؛ بمقدار مايدلّ على حقيقتهنّ. وأنّ مايذهب إليه أستاذنا البهبيتي، لدى حديثه عن الحارث بن حلّزة من أن ظاهر الشعر يقتضي "أنّ الحارث يَنْسِبُ بأسماءَ وبهندٍ، وحقيقة الأمر ليست كذلك. وإنّما أسماءُ هذه شخصيّة خياليّة تذكر أيضاً في قصة حبّ المرّقش الأكبر البكريّ الذي خرج على ملوك المناذرة"(26) لا يعدو كونه تحمّساً لفكرة كان الشيخ رَسَمَها في نفسه للعصر الجاهليّ؛ ثم راح يَنْضَحُ عنها بكلّ ما أُوْتِيَ من قوّة عقليّة، وكفاءة فكريّة، وإلاّ فإنّ مايُعَدُّ لديه "حقيقة أمر" لا ينبغي أن يجاوز كونَه وجهةَ نظرٍ، ومن ذا الذي يستطيع أن يكتب عن الشعر الجاهليّ (ويتناول المرأة من خلال هذا الشعر)؛ وذلك بعد أن مضى عليه قريبٌ من ستّةَ عشرَ قرناً: ثمّ يتحدّث، بثقة عجيبة، عن هذه الحقيقة؟ بل لا يزال كذلك حتّى يتعصَّبَ لها، ويدافِعَ عنها، على أساس أنّها عين التاريخ!....
ولِمَ تكونُ أسماءُ الحارثِ بن حلّزة مجرّدَ امرأةٍ خياليّة من حيث لم يكن هذا الحارث إلاّ شاعراً كجَميع شعراء البشر، عبر خمسة وعشرين قرناً من التاريخ الإنسانيّ المسجّل بشيء من الانتظام، يحبّ ويعشق، ويصوّر في شعره مَنْ يحبّ، ويصف مَنْ يَعْشَقُ؟ ولِمَ نَسْعَى إلى حرمان شاعر من أوّل مادّة يقوم عليها شعرُه، وهو الحبّ؟ فليس هناك شاعر حقّ على الأرض لا يحبّ. وإذن فكلّ مَن لا يحبّ لا يكون شاعراً، وماينبغي له. وإذن، ليس هناك شعر حقّ على الأرض لا يتحدّث عن الحبُ، ولا يصف المرأة، ولا يتغزّل بالحبيبة، ولا يتغنّى بجمالها.... فما لِهذا الحارث إذن يكون بِدْعاً من الشعراء قاطبة: من قدم منهم ومن حدث؟(1/330)
ثمّ إنّا لا ندري كيف يذهب شيْخُنا المذَاِهَبَ الصارِمَةَ في مناقضة طه حسين، ومعارضته في موقفه المتعسّف من العصر الجاهليّ: شعرائِهِ وشعرِه، ثم يأتي إلى أسماءَ بنت عوف بن مالك بن ضبيعة بنت قيس بن ثعلبة (27) فهي إذن شخصيّة تاريخيّة، وهي التي كان يتغزّل بها المرقّش الأكبر (وهو ربيعة بن سعد بن مالك، ومن الناس من يقول: أنه عمرو، وليس ربيعة)(28). فيحرمها من وُجودها التاريخيّ الذي اتّفق عليه جميع القدماء، باسْمِ وُثوقِه بمعرفةِ الحقيقة؟ أنه ينشأُ عن هذا الموقف المنكِر لوجود الأَسْمَاءَيْنِ الاثْنَتَيْنِ: أسماءِ الحارثِ بْنِ حلزةَ، وأسماء المُرقَّش الأكبرِ رَفْضُ الفاطمتَيْنِ الاثنتَيْنِ أيضاً: فاطمةِ امرئِ القيسِ، وفاطمةِ المرّقشِ الأصغرِ (29).
ولا يزال الشيخ، رحمه الله، يتعسّف في إنكار هذه الأسماء النسويّة، الجاهليّة، التي لا نرى لإنكار تاريخيّتها أيّ مبرّرٍ مقبولٍ إلى أن يذهب إلى إنكار هندِ الحارثِ بْنِ حلزةَ أيضاً، وأنّ اسم هند "يكاد يقع في شعر كلّ شاعر اتّجه إلى ملوك المناذرة بمدح أو ذم"(30).
ونحن نعجب من شيخنا كيف يتناقض مع نفسه في موقف واحد: فبعد أن كان قررّ في الأسطار السابقة، من الصفحة نفسها، من الكتاب نفسه: أنّ أسماءَ شخصيةٌ أسطوريّة، أو خياليّة بتعبيره، نلفيه يعمّم ذلك على هندٍ أيضاً فيزعم أنّها كانت مجرّد اسم تتحلّى بذكره الشعراء على بسيل الاِزدلاف إلى المناذرة كلّما يمّمتْهم مادِحَةً، أو كلّما زايلتْهم قادِحَةً.... وماقول شيخنا في ميسون التي تغنّى بذكرها الحارثِ بْنِ حلّزةَ؟ أهي أيضاً مجرّد شخصيّة خياليّة، وامرأة رمزيّة لا صلة لها بالواقع، ولا صلة للواقع بها؟(1/331)
ولِمَ ألفينا هندَ ابنةَ عُتبة يبرُزُ دورُها، ويعظُمُ شأنُها، في المجتمع المكِّيِّ حتى يمكن أن نلقبّها سيدة نساء قريش على عهد الجاهليّة؟ ومابال هند أمّ عمرو -ملك الحيرة- حتى بلغت منزلة من السؤدد، وتبوّأتْ مكانةً من العِزّ: قوّة شخصيّة، وعلوّ قدر، ورفعة نفْس: حتّى أمكن نسج حكاية أَنَفَة خدمة ليلى، أمّ عمرو بن كلثوم -وبنت مهلهل بن ربيعة- ومن حولها، وأنّ ليلى هذه هي الوحيدة، من بين نساء العرب، التي كان يمكن أن تأْنَفَ من خدمتها؟ (ونلاحظ ذلك أنّ عمرو بن هند تَسَمَّىَ، على غيرِ ديدَنِ العرب في الانِتساب، باسم أمِّه، وألحق لقبه بها: تكريماً لها، وتشريفاً لمنزلتها). ثم مابالُ هندٍ بنتِ الخُسّ التي كانت من أعقل النساء العربيَّاتِ في الجاهليّة، وأَعزِّهنَّ...؟ ثمّ مابال الهُنُودِ الأخرياتِ اللواتي لا يأتي عليهنّ العّدُّ... ؟ فهل كنّ جميعاً ذوات صلةٍ، أو كان الرجال الذينَ كان لهم بهنّ صلةٌ ما، بالمَناذرة؟... ثمّ، لم ألفيْنا الزبَّاءَ تحكمُ، وبلقيساً تَمْلِكُ، وتُماضرُ تُبْدِعُ، وَسَلّمَّنا بذلك تسلِيماً، وأقررنا به إقراراً؟ ثمّ لِمَ ألفينا هؤلاء النساء جميعاً مذكوراتٍ في التاريخ المضطرَبِ في الشعرُ الجاهليّ فلَمْ ننُكر أسماءَهن، ولا فكّرنا في رفض تاريخيّتِهِنّ، ولا شكَّكْنَا في وجودهنّ: حتّى إذا صادفنا شاعراً من شعراء المعلّقات، أو من شعراء الجاهليّة بعامّة، يتغزّل بامرأة تُسَمَّى هِنْدَاً، أو أسماءَ أو فاطمةَ، أقمْنا القيامة، وأقعدنا الدنيا، وأقلقْنا الكون؛ من أجل أن نزعم للناس أنّ هنداً هذه لا تعدو كونَها أسطورةً في أساطير الأوّلين !؟...(1/332)
إنّ الرأي لدينا يقوم على الاِعتدال، فمَنْ ذَكَرَ الشعراءُ من النساء في المطالع، أو الطلليّات، قد ربّما يكون مجرّدَ رمزٍ، أو مجرّد تقليدٍ شعريّ. وقد يكون هذا المذهب، لدينا، أدنى إلى الوَجاهة والسَّداد، أمَّا النساء اللائي ذُكِرِتْ بأسْمائِهَا، والتي ذكرْنا طائفةً منها، في صلب المعلّقات، وتحت أَسْيَقَةٍ تاريخيَّةٍ لا يُنكِرها أحدٌ من العقلاء، فأَوْلئكَ نِساءٌ حقيقيَّاتُ الوجودِ، تاريخيَّاتُ الشخصيَّاتُ، في أغلب الظنّ. وليس لنا في ذلك من حُجّة سِوَى أنّ الأدب الإنسانيّ منذ كان، وعبر قريب من خمسة وعشرين قرناً من تاريخه؛ أي منذ عهد هوميروس إلى أحمد شوقي: كان الغزل من موضوعاته الكبرى، والتغنّي بجمال المرأة من تقاليده المُثلى.(1/333)
وإلاّ فكيف نَقْبَلُ بأن يكون لعُمَرَ بْنِ أبي ربيعة -وكان يعيش في أول عهد الإسلام- أي لم يكن بعيداً عن عهد الجاهليّة من الوجهة الزمنيّة الخالصة -فاطمةُ، ونُعْمٌ ، وغيرهما، نِساءٌ في حياته، ومغامراته غراميّة في تاريخه، على نحو أو على آخر.... نسلّم بكلّ ذلك حتى إذا أُبْنا الْقَهْقَرَى إلى أقّلَّ من قرنٍ في عهد الجاهليّة خُضنا الباطِل خَوْضَاً: فأثبتنا مالا يُثْبَتْ، وأنكرنا مالا يُنكر؟ إنّا لا نكاد نقول عن عصر عمر بن أبي ربيعة إلاّ ما ألفيناه مدّونَّاً في كتب تاريخ الأدب؛ لكننا إن عُدنا إلى عصر امرئ القيس، وعنترة، والحارث بن حلّزة.... أوّلنا الأشياء على سَواءِ ظاهِرها، وذهبْنا في ذلك المذاهِبَ الغريَبَةَ، واضطربنا المضطرَبَاتِ العجَيبة، وزعمنا للناس أنّ أولئك الشعراءَ كانوا يصطنعون الرمز، قبل أن يغتدِيَ هذا الرمز تقليداً أدبيّاً يعترف به النقد، ويرتاح إليه العِلمْ. وإذن، فقد كانوا يعرفون الرمزيّة قبل أوّانها، ويتعاملون معها قبل زمانها؛ فكانوا يقرضون الشعر ضمن تياراتها. وإذن، فلا حرج ولا إثم أن نجعل من مثل الحارث بن حلّزة، على مذهب أستاذنا البهبيتي، مالارْمِي العرب، بل مالاَرْمِي العرَبِ على عهدِ الجاهليّة؛ وأنه كانّ يرمز بالأسماءِ، أسماءِ النساء؛ دون أسماء الرجال، مثلُه مَثُل أصاحِيبهِ من المعلّقّاتيّين.
ذلك هو التعسُّفُ في المذهَب، والتكلُّفُ في الرأْي، والمغالاةُ في التأويل.(1/334)
وإذا كانت نَوار، وأسماءُ، وهِنْدُ، ومَيْسُون، وفاطِمةُ، وعنيزةُ، وعَبْلَةُ، وَخولةُ، وأمُّ الحويرث، وأمُّ الرباب، وأمّ الهيثم، وأمّ أوفى، ومُرِّيَّةُ لبيدٍ، وابنةُ مالكِ عنترةَ!، وجارَيتُه أيضاً، وبيضَةُ خدرٍ امرئِ القيس، وعذارَى دَوارِهِ، وعذارَى دارةِ جُلْجُلِةِ، وحِسَانُ عمرو بنِ كلثوم، وظَعائِنُ بُنِيَ جُشَمٍ: لَمْ يَكُنَّ إلاّ مجرّد رموز في الرموز، وأساطير في الأساطير: فما القول في أثدائِهِنَّ التي كانت تشبه الأحْقاقَ، وكشوحِهِنَّ التي كانت تشبه الجُدُلُ، وسُوْقِهِنَّ الرَّيَّا التي كانت تشبه البَلْنَطَ أو الرُّخام، وشعورِهِنَ المُسْتَشْزَراتِ إلى العلا، وعطورِهِنَ الشذّية التي كانت تعبق من فُرُشِهِنّ إذا نِمْنَ، وتنتشر من حولهنّ إذا تَرَهْبَأْنَ متكسِّرات في المَشِي...؟
أم كان كُلُّ أولئك مجرّد رموزٍ؟ أم يعني ذلك أنّ بعض الناس يريد أن ينكر وجود المرأة، أصلاً، في الحياة من حيث هي، فيحتال على إنكار دورها في المجتمع، وحضورها في أخْيِلَة الشعراء بتلفيق هذا الشيءِ الذي لم يفكّر فيه شعراء الجاهليّة قطّ، والذي يقال له الرمزيّة؟ أم ماذا يُلاصُ من إنكارِ أسماءِ النساءِ؟ فهل هو إنكار لوجودهنّ، ورَفْضٌ لحضورهن، في المعلّقات؟
******
رابعاً : جماليّةُ المرأة في المعلّقات
ربما سنتولّج إلى معالجة هذه الفقرة من آخر ماكنّا أثرّناه من مُساءلاتٍ في أواخر الفقرة السابقة. وإذا كنّا دَأبنا، في كثير من كتاباتنا الأخيرة، على إيثار عدَم الإجابة عن الأسئلة التي نثيرها، فلأننا نعتقد أنّ طريقَتَنا في إِلْقَائِها تجعل الإجابة عنها كامنةً فيها، أو أنها توحي على الأقلّ، بوجه من الوجوه، بِضَرْبٍ من الإجابة عنها.(1/335)
وإنما ذهبنا إلى مادِّيَّةِ الوصف النسِويِّ في المعلّقات بخاصّة، وإلى مادّيّة الوصف من حيث هو بعامّة: لأنّنا لا نرى أيّ مُبرّرٍ: لا أخلاقيّ، ولا دينيّ، ولا قانونيّ، ولا نفسيّ، ولا اجتماعيّ، كان يحمل أولئك المعلّقاتيّين على التلميح دون التصريح، وعلى الترميز دون التقرير والتوضيح، ولعلّ الأوصاف الدقيقة التي حاول المعلّقاتيّون توصيفَ المرأةِ بها أن تكون من بين الآيات التي نتخّذ منها ظَهِيراً لنا على إِبعاد رمزيّة المرأة، في المعلّقات، من سبيلنا.
ونحاولُ الآن التوقَف لدى تفاصيل هذا الوَصف الجماليّ، لعلنا أن نستطيع تبيانَ جسديَّةِ أولئك النساء المعلّقاتيّات، وجماليّتهنّ في تلك السُّمُطِ الرائعات.
1- وصف المرأة في المعلّقات
نلاحظ أن وصف المرأة في المعلقات ، إلا في استثناءات نادرة يرتكز على الجسد الجميل للمرأة، ويُعْنَى برسْم أعضائِها رسْماً تجسيديّاً، كما يعمد إلى وصف مَفَاتِنها (من الذراعين والساقين والثديَيْن إلى النَّحر والكشح والعجيزة والشَّعْرَ والجَيدِ)، وإلى وصف كلّ ماهو مِظنّةٌ لإثارة الرغبة الجنسيّة لدى الرجل من جسدها. فصورة المرأة في المعلّقات هي صورة أنثى تصلح لإطفاء الرغبة الجنسيّة العارمة لدى الذِّكْرِ؛ لا امرأة تشاطر الرجل حياته وآماله وآلامه، وتظاهره في الكدح اليوميّ، وتقاسمه جمال الحياة الروحية التي يبدو أنّها -من خلال ماوصلّنا من شعر جاهليّ على الأقلّ- كانت غائبةً من وجودهم إلاّ في مظاهر نادرة...(1/336)
فالصورة العامّة التي ينهض عليها وجود المرأة، إٍذن، في الشعر الجاهليّ بعامّة، وفي المعلّقات بخاصّة؛ تتمثّل في أُنْثَوِيَّتَها (نسبة إلى الأنثى)، لا في أُنُوَثَتِها، أو امْرأَتَيَّتِها. فكانت لديهم، كما يبدو ذلك من كثير من النصوص الشعريّة، مجرّد جسد غضٍّ بضٍّ، يتلذّذ به الرجل، ويُشْبِعُ رغبتَه الجنسيَّة منه، دون أن تكون شيئاً آخرَ متمَثِّلاً في شيء آخر... فهل كان ذلك حقاً؟ إنّنا نعتقد أنّ المرأة ربّما كانت أرقى منزلةً من ذلك؛ كما كنّا رأينا في الفقرتين: الأولى والثانية من هذه المقالة، ولكنّ النصوص التي تتحدّث عن منزلتها الشريفة في المجتمع الجاهليّ هي التي تُعْوزنا...
ولعلّ أهم مايمكن استخلاصُه من قراءتنا المتكرّرة، لهذه السبعِ المعلّقاتِ، أنّ وصف المرأة فيهنّ ينصرف، في جملة منه، إلى أعضاء جسدها. وكثيراً ما ينصرف هذا الوصف، كما كنّا أومأنا إلى بعض ذلك منذ قليل، خصوصاً إلى شَعَرها، وعينيها، وثغرها، وأسنانها، وجيدِها، ونحْرِها، وَنَهْدَيْهَا، وكشحها، ومتْنِها، وَبَشَرَتِهَا، وقامتها، وبَنانها، وساقَيْها، وذراعيها، وملابسها، وعِطْرها، وابتسامتها، ومِشْيَتها، وصوتها، وحُليّها، وكُحِلها، ودموعها...(1/337)
وقد انصرف الوصف لدى امرئ القيس، في معلّقته خصوصاً، إلى شَعَر المرأة، وقامتها، وساقيها، وكشحها، ونحْرها -وتَرائبها- وبَشَرتها، وجيدها، وعينيها، وخدّيها ومتنها، وبُنانِها، وملابسها، وتمايلُهِا في مشيتها، وعطرها، وحليها، ودموعها، ومَرْاَكبِها...بينما يتجَسَّدُ وصف المرأةِ، في معلّقة طرفة، في ثغرها البسّام ومشيتها المُتَرَهْيئَة، وَبَشَرَتِهَا البضّة، ووجهها الناضر، وصوتها الرخيم، وملابسها الفَضْفَاضَة، المفتوحة، وحُلِّيّها المُثيرة، وكُحلها، وظُعُنها، ويتمثّل وصف المرأة لدى زهير في وشم مِعْصَمْيْها، وَمَلْهَاها، وليس أكثر من ذلك. على حين أنّ لبيداً أثاره في جمال المرأة وشْمُها فوصفه، وسوادُ عينيها فذكره.
أمّا عمرو بن كلثوم فقد ألفيناه يصف من المرأة ثديْيها البضّيْن الرخصيْن معاً، وأنّهما يشبهان حُقَّ العاج، وذراعيها وأنّهما تشبهان ذراعِي الناقةِ البيضاءِ غضاضةً وضخامةً وامتلاءً، وبياضَ لونِ جسدها، وفَتاءَ سِنِّها، وطولَ قامتِها، وضخامةَ مأْكَمَتِها، حتّى إنّ الباب ليضيق عن سعتها فيه، وطراوةََ ساقيْها وبياضُها، ولطافَةَ كَشْحِها، وضخامةَ رَوادفها، وخَشاشَ حَلْيِها...
ولم يَفْتْ عنترةَ أن يصف في المرأة ثغرَها، وريقَتَها، وفِرَاشها وجِيدَها، وقِنَاعَها...
ونلاحظ أنّ عنترة يلتقي في وصف مفاتن المرأة من حول الجِيِد الذي يشبه جيدَ الرئم مع امرئ القيس. كما يلتقي طرفة مع امرئ القيس وعنترة في وصف فراشِها الوثير أو الضائِعِ بالمِسْك.(1/338)
ويلتقي عنترة مع امرئ القيس في وصف عِطرها، ويلتقي لبيد مع امرئ القيس في وصف عيني المرأة بالسواد، وتشبيههاً بعيون أرآم وَجْرة. ويلتقي طَرَفة وعمرو بن كلثوم مع امرئِ القيس في وصف بياض لونها. بينما يلتقي عمرو بن كلثوم مع امرئ القيس في وصف كشحها، وساقيها، وطول قامتها، ويلتقي طرفة مع عنترة في وصف ثَغْرِها وريقَتَها. ويلتقي طرفة أيضاً مع امرئ القيس في ذكر ظُعُنِها (مراكبها)، ومِشْيَتها...
وقد تفرّد امرؤ القيس بوصف شَعْر المرأة، ونحْرِها وترائِبها، وَخَدَّيْهَا، وَبنانها، وكفِّها؛ من حيث تفرّد طرفة بن العبد بوصف جمال مِشيتها، ونَضارة وجهها، ورَخَامَة صوتها، وكُحْلِها. على حين أنّ عمرو بن كلثوم تفرّد بوصف ثديَيْها، وذراعيها، وضخامة مأكمَتِها، ورودِافِها، ورنين حَلْيِها.
ويمكن أن نستخلص من هذه المتابعات الوصفيّة التي تابعنا بها نصوص المعلّقات، في الجانب المنصرف إلى وصف المرأة منها، جملةَ استنتاجات، لعلّ أهمّها:
أ- ... أن امرأ القيس هو أوصف المعلّقاتيّين للمرأة، وأقدرُهم على ملاحظة مكامن الجمال فيها، ومظاهر الفتنة منها. وقد يكون ذلك إمّا لطول عشرته إيّاها، وإمّا لقدرته العجيبة على تصوير عواطفه إزاءها، ولبراعته في تصوير عواطفها، هي أيضاً، إزاءه.
ب- إنّ امرأ القيس المعلّقاتيّ الوحيد الذي يحاور المرأة، ويُسمِعُنا حِوَارَها، هي أيضاً، على حين أنّ المعلّقّاتيّين الآخرين كأنما يتحدّثون عن كائن ميت. إنه يجعلنا نسمع منه ومنها. إنّ حبيبات امرئ القيس يتحدثّن ويتغنّجن ويتدلّلن حديث الأنثى المغنّج...
ج- إنّ امرأ القيس المعلّقاتيّ الوحيد الذي يجعلنا نشهد مصاحَبَتِه إيّاها: يُراكِبُها في هودجها على بعيرها، ويُماشيها ليلاً إلى نحو الخلوة للإلتذاذ بها، وليَهْصِرَ بِفَوْدَيْ رأسِها، لتتمايل عليه: هضيمَ الكشحَ ريَّا المُخَلْخَلِ...(1/339)
د- إن امرأ القيس أقدر من أصحابه، في منظورنا نحن على الأقل، قدرةً على تصوير المرأة ليس من حيث هي أنثى يطفئ الرجلُ منها شبَقَ الرغبة الجنسيّة فحسب، ولكن من حيث هي امرأةٌ عزيزة في نفسها، كريمةٌ في شرفها، موسِرَةٌ، مخدومة:
* نؤوم الضُّحَى لم تَنْتَطِقْ عن تَفَضُّلِ.
هـ- أنّ امرأ القيس أكثر المعلّقاتيّين تَعداداً لأوصاف المرأة حيث عرض، كما سبقت الإِيماءة إلى بعض ذلك، لصفة شَعْرِها، وساقيْها، وكشْحها، ونحرها، وبشرتها، وجيدها، وعينيها، وخديها، وبنانها، وكفّها، وقامتها، وملابِسها، وعطرها، وبعض حَلْيِها، وظُعُنِها، ومشيتها... وهو أمر لم يستطع أحد من المعلّقاتيّين تحقيقَه؛ إذا كان قُصارَى الواحدِ منهم أن يصف بعض ماوصف؛ ولم يكد الواحد منهم يتفرّد إلاّ بصفات قليلة تغاضى عنها هو مثل الثغر، والريق، والثديين، والذراعْين، ورنين الحلي...
... ... ونلاحظ أَنَّ امرأ القيس عَمَدَ إلى اصطناع اللغة الإيحائيّة بحيث وصف الخَدَّ بالأَسَالة، والعينين بالسَّواد، والجِيْدَ بالطول غير الفاحِش، والنحْر بالصفاء والبياض واللَّمَعان: فدلّ ذلك - من المرأةَ الموصوفة- على إِشراقة الثغر، ولذاذة الريق، وطيب النفس... كما أنّه حين وصف صاحَبَتَه بأنها نؤوم الضحى أجمل، في هذه الصورة الموسرة، كُلُّ معاني اليَسار والثراء، والنِّعمة والنَّعمة معاً، إذْ لا يعقل أن نصادف سيّدة "نؤوم الضحى" مخدومة، ولا تكون موسرة، وإذن لا تكون متحليةً بأنواع الحليّ، وأصناف الجواهر من أساوِر وقلائدَ وخلاخِيلَ وأقراطٍ ودَمالجَ وَخَواتِمَ وَفَتَخٍ... مِمّا تعتقد المرأة أنّه يزيدها جمالاً وحُسناً، وبهاء وفتنة.(1/340)
و- إنّ ستّة من سبعة من المعلّقاتييّن وصفوا المرأة بشكل يختلف، كثيراً أو قليلاً، عن الآخر. ويمكن ترتيبُهم، بناء على تواتر هذا الوصف لديهم وكثافته في معلّقاتهم؛ فنجد أمرأ القيس يتبوّأ المنزلة الأولى بخمسةَ عشرَ وصفاً، وعمرو بن كلثوم في المنزلة الثانية بأحد عشر وصفاً، وطرفة في المنزلة الثالثة بتسعة أوصاف، ثم عنترة بخمسة، ولبيداً بوصفين اثنين، من حيث لم يجاوز زهيراً وصْفاً واحِداً، وهو في الحقيقة غير صريح.
أمّا الحارث بن حلّزة اليشكريّ فكأنّه لم يستهوِهِ في المرأة شيء من جمالِها فغاب وصفُها من معلّقته التي كان عَجِلا فيها، فيما يبدو، إلى وصف أشياءَ أخراةٍ برع فيها الحارث براعة عجيبة، وخصوصاً وصفَ الأصواتِ والحركات...
2- القيمة الجماليّة لوصف المرأة في المعلّقات(1/341)
لماذا هذا الإيلاعُ بوصف جمال المرأة، ونعْتِ كافّة أعضاء جسدها؟ ولم استأثر الرجل وَحْدَهُ -الشاعر- بوصف المرأة دون استئثار المرأة بوصف الرجل؟ فهل وُلِدَ الشِّعْرُ ذَكَرَاً، لا أنثى؟! أم كان ذلك قصوراً من المرأة، أو تقصيراً؟ أم لم يكُ لا هذا ولا ذاك، ولكن شِعْرَها، أو بعض شعرها، الذي يُفْتَرَضُ أنَّها قالته في وصف الرجل: اندثر لأنّ الرواة الرجال لم يَرْوُوهُ، لبعض التدبير؟ وإذا ثبت أنّ المرأة العربيّة على عهد الجاهليّة لم يُتَحْ لها أن تصف ذُكًوْرَةَ الرجل، وقوّةَ عضلاتِه، وجهارة صوتِه، وشِدَّةَ قَبْضَتِهِ، وشجاعةَ نفْسِه، وسخاءَ يده حين يُنفق عليها، وحين يَهّبُها مايَهَبُها... فماذا كان يمنعها من ذلك وقد ثبت أنّ الشعريَّةَ تُتاح للرجل، كما تتاح للمرأة؟ أَلأَنَّ المجتمع العربيّ، حتى في جاهليّته الأولى، كان يأبى على المرأة أن تُبْدي عمّا في نفسها، فتعبّر عن ذلك في شعر تصف فيه، ماتصف؟ أمّ لأنّ همّ المرأة ليس التعبير اللفظّي، السطحيّ، ولكنّ همَّها، منذ الأزل، التعبير الجسديّ، الجماليّ، وحده؟... ذلك بأنّ ماعدا ماوصلنا من الأرجاز التي تداولتْها المعاجم العربيّة القديمة استشهاداً بها على صحّة الألفاظ المعجميّة؛ فإنّنا لا نكاد نظفر إلاّ بقليل من الأشعار الغزليّة التي قالتْها المرأة في الرجل... وأشهر شواعِرهنْ الخنساءُ وهي التي استنفدتْ معظم شِعْرِها رثاءً لأخوَيْها صخرٍ ومُعاويةً حين قٌتَلا في إحدى الغارات...(1/342)
بينما نلفي الرجل غيرَ ذلك شأناً. نجده صُراحاً مقداماً في وصف المرأة يتعرّض لأدقّ الأعضاء منها حيث نجد المعلّقاتيّين، مجتمعين، يصفون منها: الشعرَ، والساقين، والكشح، والنحر، والبشرة، والجِيدَ، والعينين، والخدّين، والذراعين، والمتْن، والكفَّ، والبَنان، والقدُّ، والمِشية التي تترهْيَأُ بها، والملابس التي تتبختر فيها، والعطر الذي تتعطّر به، والحُلِيِّ التي تتحلّى بها، والمراكب الخالصة لها، مثل الغَبيطِ والْحُدُجِ.
وحين نتأمّل هذه الأوصاف التي بلغت، عبر المعلّقات، زهاء ثلاثين وصفاً، نلاحظ أنّها طَوّقَتِ المرأة من أخمصِ قدميها إلى قُلّةِ رأسِها بحيث لم تكد تغادر منها شيئاً ممّا يمكن أن توصَفَ به، جَمالياً، إلاّ وصفتْه وْصْفَاً. ولعلّ أغلظهم وَصْفَاً للمرأة، وأدناهم إلى الحس الجنسيّ أن يكون عمرو بن كلثوم الذي وصف الثَّدْيَ فشبّهه بالحُق، والروادف فوصفها بأنها مُثْقَلَّة باللّحم الغضّ... بينما نلفي عنترة يتعفّف فلا يصرّح بالمغلّظات فيذكر من المرأة غُروبها الواضِحَ، ثَغْرَها الجميلَ العَذْبَ المُقبَّلِ....
وعلى نقيض مايشيع في عامّة الكتابات النقديّة العربيّة فإنّ أوصاف امرئ القيس للمرأة محتشمة إلى حدّ بعيد، مترفّعة بعيدة، مهذّبة على نحو نلفيه، فيه، يَسْلُك سبيل الدلالة الحافِّية (الإيحائيّة)، ولا يَسْقُطُ في المباشرة المغلّظة، إذ نجد عامّة أوصافه توحي بالجمال العبقريّ للموصوفة، ولكن دون التصريح بذلك على النحو الذي نلفي عمرو بن كلثوم يعالج به وصف المرأة:
* وثدياً مثلَ حُقِّ العاجَ رَخْصاً ... حَصاناً من أكفِّ اللاّمسينا
* وكَشْحاً قد جُنِنْتُ به جُنونَا(1/343)
بل إنّا نجده في الحال الثانية لا يصف، في الحقيقة، حيث يذكر الكشح مجرّدَاً، من كلّ وصف، وأنّ الجنون الذي أَلمَّ عليه منه هو الدالّ على جماله واتّصافه بكلّ مواصفات الرشاقة، وكأنّ الناصّ، هنا، أَسَفَّ إلى أدنى مستوىً ممكِن من القصور في وصف هذا الكشح الذي حمله على الجنون، وأفضى به إلى الدَّالَةِ. فهو لم يَصِفْه لنا، لم يُرِدْ أو لم يستطع، ولكنّه وصف لنا موقفه منه، وتأثير جماله في نفسه...
بينما نلفي امرأ القيس يصف كشح صاحبته في معلّقته مرّتين اثنتين:
* فتمايلت ... عليَّ هَضِيمَ الكَشْحِ رَيَّا المُخلخلِ
* وكشحٍ لطيفٍ كالجَديلِ مُخَضَّرٍ
فنلاحظ أنه، هنا، كأنّه شاعر من شعراء باريس يصف حسناءَ باريسيّةً تترهيأُ في حُلّة شفّافة عبر أحد شوارِعها الأنيقةِ النّظيفة؛ لا شاعر جاهليّ كان يعيش في بعض روابِي كِنْدَةَ، أو في بعض الجبليْن من بعد ذلك (أجأ وَسَلْمى) ببلاد طّيّئ. فالتنصيص على هضم الكشح، وخُموص البطن، ودقّة الخصر: دليل على رفعة الحسّ الجماليّ، ورقّة الذوق ورقيّه لدى الرجل العربيّ منذ الجاهليّة الأولى. فهذا الكشح هضيمٌ في طور، ولطيفٌ في طور آخر. ونجد امرأ القيس يربط الكشح، في الحاليْن الاثنتين، بالساقين، في الحال الأولى يصفه بدون تشبيه، ويجمله بدون تفصيل.
* هضيم الكشح ريّا المخلخلِ.(1/344)
أمّا في الحال الأخراةِ فإننا نُلفيه يفصّل الوصف تفصيلاً، فيَعْمِدُ إلى تشبيه الكشح بالجَديل (أي خِطَامِ البعير المتّخَذِ من الجِلدْ)؛ فلقد بالغ الشاعر واحترز في وصف هذا الكشح بالنَّحالة حتّى ضَأَّلَهُ إلى أدنى مستواه لدى هذه المرأة؛ فكأنّه تمثّلَ فيه الحدّ الأقصى من الرشاقة التي تُلْتَمَسُ في الفتاة المتريِّضَةِ الأنيقة الخفيفة الرهيفة التي تُتَّخَذ، في مألوف العادة، لِعَرْضِ الأزياء الجديدة في المجتمعات الراقية، ثمّ يعمَد إلى تشبيه الساق بأنبوب البَرْدِيّ. السَّقِيّ، فكأنّه لاحظ الساق التي هي بين الركبة والكَعْب، والبَرْدِيّ والسَّقِيِّ الذي هو بين العقدتين: فأذاب الصورة في الصورة، وألحق الشكل بالشكل، واحترز من اليَبْسِ والكَزَازِة بالبَرْدِيِّ الغَضِّ الرَّطْبِ الرَّيَّانِ؛ بالدلالة على طَراوة هذه الساق التي وُصِفَتْ في الحال الأولى بأنَّها رَيَّا (كناية عن امتلائها ونَعمتها، واعتدالها، وارتوائها)؛ وشبّهت في الحالِ الأُخراة بِأُنْبَوب البَرْدِيِّ، السَّقِيِّ:
* ساقٍ كأُنبوبِ السَّقِيّ، المُذلَّلِ.
بينما نجد عمرو بن كلثوم يصف ساقَيْ صاحبتهِ بأنّهما ساريَتانِ من العاج، أو الرُّخام.
* وسارَيَتَيْ بَلَنْطٍ أو رُخام.(1/345)
وهو وصف جميل من حيث دلالتُه على صفاء لون هذه المرأة، ولكنّ الذي يبشِّعِه هو وَصْفُهما بالسارَيِتَيْنِ فكأنَّ هذا الوصف يجعلهما ضخمَتيْن إلى حدّ غير معقول، وكأنّهما كومتان، أو كثيبان، من اللُّحمانِ المتراكِمِ بعْضُها فوق بعض. وتتضاءل جماليّة هذه الصورة الوصفيّة لساقَيْ هذه المرأة بكونِهِمَا كزّتَيْنِ، يابستَيْنِ يَبَسَ العاجِ، وباردتين بُرودَة الرُّخام، فبشيءٍ قليلٍ من الذهول والشرود، والسهو والسّمود، لدى المتلّقي: تستحيل هذه الصورة في ذهنه إلى ساقيْن ضخمتين يابستيْن -على الصفاء- لِجُثَّةٍ هامدة باردة، كأنَّها التمثال المعروض. على حين أنّ الساقين لدى امرئ القيس مرتويتان بماء الفَتاء. وممتلئتان بنضارة النَّعْمة؛ وأنَّ فيهما من الحياة مايشبه الدبيب الذي يَسْرِي في أنبوب البَرْدِيِّ الطّرِيِّ، المُذَلَّلِ السَّقِيّ.
فصورة ساقيْ صاحبةِ عمرو بن كلثوم تمثّل الصفاءَ والطول، ولكن بدون توكيد وجود حياة في المشبّه به، وطراوة فيه. بينما هي لدى امرئ القيس تمثّل الصفاء والنقاء، والطراوة والنَّعْمة، والدِّفْءِ والنِّعْمَةَ، والاستقامة والاعتدال، والبضاضة والارتِواء: معاً.(1/346)
وعلى أنّه يمكن قراءةُ الساريتيْن، في بيت عمرو بن كلثوم، على أنّه كان يريد بهما إلى الطرَفِ الأسفلِ كلّه من جسد هذه المَرْأَةِ: أي إلى قدميْها، وساقيها، وفخذيها، وتبدو لنا هذه القراءة وجيهةً طالما عمد الشاعر إلى استعارة الساريتيْن لذلك. أرأيت أنّنا لا نستطيع تمثّل الجزء الأسفل من السارية دون تمثّل منتهى ارتفاعها. فقد كان، إذن، يقصِد، احتمالاً، إلى ارتفاع الساريتين -بلغة أصحاب الرياضيّات- بكلّ أبعادِ ذلك الارتفاع. وقد ينشأ عن هذه القراءة أنَّه كان لهذه المرأة ساقِان ممتلئتان، وفخذان ضخمْتَان، من الكعبين إلى الوَرْكِيْن... وإذا انضاف إلى صورة هاتين الساقين، وهاتين الفخذين المتضمَّنَتَيْن في صورة الساريتين العاجيّتين: صورة الذراعين البضّتين الممتلئتين اللتين تشبهان ذراعي الناقة الفتيّة البيضاء، الطويلة العنق (أو : العَيْطَل الأدْمَاء، بتعبير عمرو بن كلثوم): اكتمل في ذهننا ماكان يريده الشاعر من صفة بعض أطراف هذه المرأة العجيبة، وقامتها المديدة؛ حتى كأنَّها عملاقة عاتية.
أمَّا جيد المرأة فقد اختصّه امرؤ القيس وعنترة وحدهما بالوصف، من حيث سكت عنه المعلّقاتيّون الآخرون. ذلك بأنّ كُلاًّ منهما شَبَّهَ جِيْدَ صاحبتهِ بجِيد الرئم، أو الجِدَايَة:
* وجيدٍ كجيدِ الرئْمِ ليس بفاحشٍ ... إذا هي نصَّتْه - ولا بِمُعَطَّلِ
* وكأنّما التفتت بجيدِ جِدايةٍ ... رَشَإٍ من الغِزْلانِ جُرٍّ أَرْثَمِ
وتبدو صورة هذا الجِيدِ، لدى عنترة، مُحتاجةً إلى تكلّف الذوق لكي تغتدَي مقبولة. فكأنّ طول هذا الجيدِ مسرف فاحش، وكلَّ مازاد عن الحدّ، انقلّب إلى الضدّ، كما يقال. ولعلّ صورة جيد امرأة امرئ القيس أجمل، وطوله أمثل، لأنّه حين شبَّه جيدها بجيد الرئم، كأنّه أحسّ بأنّه طويل، وكأنّه جاوز حدّ المقبول من الطول لهذا العضو من المرأة، فاستدرك قائلاً:
ليس بفاحشٍ ... إذا هي نصَّتْه - ولا بِمُعَطَّلِ(1/347)
فالأولى: أنّ هذه المرأة، حتّى في حَال نَصِّها جِيدَها، نحو العلاء، لا يبدو هذا الجيدُ فاحش الطول، ولا فاضل الامتْداد.
والأخراة: أنَّ هذا الجيد لم يكن معطَّلاً من حُلِّي، بل كان محلّىً بِعِقْدٍ يَزْدَانُ به، وقلادة تتدلَّى على النحر منه.
أمّا صورةُ جيدٍ حبيبة عنترة بن شداد فقد ظلّ حيوانِيّاً، متوحِّشاً: لا يَمْرُقُ عن صِفَةِ جِيدِ هذا الرَّشَإِ الذي على جماله يظَلُّ مجرّد حيوان. وكيف يجوزُ تسويةُ جمالِ المرأة البديع الفاتن، بجمال حيوان متوحّش في الصحراء؟
وأمّا طرفة بن العبد، ومراعاةً لتقاليد الذوق الشعريّ، في تشبيه المرأة، على عهد الجاهليّة، وفي أطراف صالحة من عهد الإسلام: فقد أطلق الغزال الأحوى على حبيبته، هو أيضاً. وعلى الرغم من أنّ طرفة سكت عن وصف عينيْ صاحبته؛ إلاّ أنّه كان يرمي إلى الصورةِ الكاملة لهذا الشادِنِ: من طول الجيدِ، ورشاقَةِ الحركة، ونحافة الجسد، وسواد العينين:
* وفي الحيّ أَحْوَى ينفض المُرْدَ شادِنٌ.
ومن الواضح أنَّ طرفة رَكَّبَ صورةَ هذه المرأة الغائبة، مجسّدةً في صورة هذا الشادن الحاضرِ بِجَعْلِهِ يَمُدُّ جيدَهُ ليكون له أطول، ولمنظره أجمل، ولشكله أظهر. فكأنّ طول هذا الجيد يتمثّل في طولْين اثنيْن، لا في طول واحد: الطول الكامن في جسمه بالقوة، كما يقول المناطقة، بدون حركة ولا تمديد، والطول الناشئ عَنْ مَدِّهِ لدى نفْضِ ورق الأَراكِ -وهو الطول بالفعل- حيث يضطر إلى تمديد أقصى مافي جيده من إمكان الاستطالة والاِمتداد.(1/348)
وتشبيه المرأة بالحيوان، في الشعر العربيّ القديم بعامة، وفي المعلّقات بخاصّة، سيرةُ كانت معروفةً، وسلوكٌ كان متعارَفَاً بين الشعراء. فكما أنّ جيد الحبيبة الجميل يذكّر بجيد الرئم، أو الجِداية، أو الرَّشإِ، أو الشادِن - فبِكُلٍّ جاءَتْ تعابيرُهم: فإنّ عينيها تشبهان، في ذوقهم، عينَي البقرة الوحشيّة، بل ألفينا أمرأ القيس يختصّ هذه الأبقار بِعَزْوِهَا إلى وَجْرةَ حيث كانوا يرون بأنّ عيونها أَشَدُّ سَوَاداً، وقد تكرّرت هذه الصورة، فيما بعد، لدى لبيد بن ربيعة:
زُجَلاً كَأنَّ نِعَاجَ تُوضَحَ فَوْقها ... وظِبَاءَ وَجْرَةَ عُطَّفاً أنعامُها
وكما سبق لنا أن زعمنا حول موقف امرئ القيس من المرأة، وأنّه كان يعاملها في شعره معاملة مزدوجة: من حيث هي مجرّد أنثى في حال، ومن حيث هي كائن إنسانيّ رقيق لطيف، كريم جميل، في حال أخراة... فَلَعَلَّ شيْئَاً من بعض ذلك أن يتمثّل في قوله:
تُضِيءُ الظلامَ بالعِشاءِ كأَنَّها ... مَنارةُ مُمْسَى راهِبِ متبَتِّلِ
فهذه الصورة لهذه المرأة كريمة، وهّاجة، تعِجُّ بالعَطاء الإنسانيّ الثرثار فهنا لا يصف امرؤ القيس ثديَيْها، ولا ساقيْها ولا وِرْكَيْها، ولا عينيْها، ولا كشْحِها ولا جِيدَها، ولا شَعَرها..(1/349)
ممّا ألِفْنَا مصادفتَه في أوصاف المعلّقاتييّن لحبيباتهم؛ ولكنه يصف منها صورة تكاد تكون مثاليَّةً؛ بحيث تشكّل من حولها هالَةً من الجمال العبقريّ البديع. فكأنَّا نقرأ من خلال هذا البيت شعراً لابن الحَرَّاقِ، أو لأبي مدين، أو لِسَوائِهِمَا من شعراء أهل التصوّف، لا لشاعر جاهليّ كان يعيش في مجاهل الصحراء، وأوائل الأزمان، فهذه المرأة - المرقسيّة- إن خرجت ليلاً بَدا وجُهها مُضيئاً عبْر الظلامِ الصّفيق، والديجور الكثيف، حتّى كأنّها منارَةُ راهبٍ أسْرَجَ قنديلَه عِشاءً فبدَتْ من بعيدٍ لمُؤَوِبِيِنَ. وإنّ ربطَ بَهاءِ الوجه، وطفوح توهّجه بضوء قنديل الراهب لَفيهِ صورةٌ رومنتيكيَّةٌ من العسير علينا القدرةُُ على تحليلها ببراعة وكفاءة: فإنّ من الصور الشعريّة لمَّا يَقْصُرُ عن تحليله النثْرُ؛ وإنّ منها لَمَا يَقِفُ لديه حائِرَ الذهنِ حَسِيَراً، وإنّ منها لمَّا يَحْتَفِلُ عَلَيْهِ الجِنانُ بالفيضِ الجماليّ الطافح فيُصاب بالذهول؛ وإنّ منها لمَّا يَرْتَدُّ عنه الذوق وهو سامِدٌ كليل. نجمة مضيئة، متوهّجة بالجمال، نضّاحة بالنور، تتلألأ في ظلام الليلُ في عِشائِه... فأيّ جمال أجملُ، وأيّ روعة أروع، وأيُّ بداعةٍ أبدع، مِمَّا نقرأ، وممَّا نتصوَّر ونتذّوّق، فيما نقرأ؟ لقد تَنْضَخُ هذه الصورةُ، لهذه المرأة الليليّة النورانيَّةِ؛ بالبَراءة الغَجَرِيّة، وبِالوصف السمح، وبالتصوير السَّخِيَّ، وبالذوق العبقريّ، وبالجمال العذريّ... إنها ، كأنّها صورةُ الحياة الأولى، أو كأنّها براءةُ الكلمة حين نُطِقَتْ لأوّل مرة: عذراء طاهرة....
لم تكن هذه النجمة، هذه المرأة الفاتنة: مجرّدَ نجمةٍ ناريَّةٍ يأتي ضوؤُها الخافِتُ الخجولُ من أقاصي الكون السحيق، ولكنَّها كانت بيضةَ خِدْرٍ عَيْناءَ، ونؤومَ ضُحىً حسناءَ: لم يبرح الجمال يطفح منها، والنورُ يتضوَّعُ من أعضاء جسدها، حتّى باتت فَلْقَةً من النور العظيم الذي يضيء الظلام.(1/350)
ويُوَسْوِسُ إلينا أَنَّ الناصّ نفسَه، بعد أن صوّر من هذه المرأة البديعة ما صوَّر، وبعد أن ذَكَر كشحها، وساقيها، وبياضَها، وصفاءَ نحرِها، وأسالَةَ خدِّها، وسواد عينيها وكِبَرِهُما، وطول جيدِها واعتدالَ طولِه، وكثافة شَعَرِها وطولَه، ورقّة بنانِها، وطراوةَ كَفِّها... كأنّه لم يقتنع بكلِّ ما ذَكّرَ من صفات هذه المرأة التي أَذْهَلته بجمالها الكريم فأوجزها في أَنَّها تضيء الظلام، ليقطع سؤالَ أَيِّ سائلٍ له: وعمَّا يَصنع اللهُ بما لم يُذْكَرْ من صفاتها الأخراةِ؟...
ولدى تتبّعنا للموصوفات في المرأة، أو منها، عبر المعلّقات، ألفينا صفة الحلي تستبدّ باهتمامهم بورُودها لدى ثلاثة من المعلّقاتيّين، على حين أنّنا ألفينا عِطْرَها، وسواد عينيها ، وطول قامتها، ووشْمِها، وبياض لونها، وهِضَمَ كشْحِها، وإشراقةَ ثغرها، ولطف مشيتها: لا تِردُ إلاّ مرّتين اثنتين في المعلّقات كلّها.
ويتبوَّأ امرؤ القيس المنزلة الأولى حين نلفيه مذكوراً في وصف الحلي، وفي وصف العطر، وسواد العينين، وطول القامة، وبياض اللون وصفائه، وَهِضَم الكشحْ ولطافته، وجمال المشية وأناقتها... فهذه هي الأوصاف التي استأثرتْ بعناية المعلّقاتيّين وأذواقهم، يضاف إليها أوصاف أخراة لم تتكرّر إلاّ مرّة واحدة لدى هذا أو ذاك منهم. وقد كنّا عرضنا لها في بعض هذه الفقرة.
3- ملابس المرأة الجاهليّة في المعلّقات:(1/351)
لو طَلَبَ إلينا طالب أن نقدَّم له صورةً دقيقة، وأمينة لِمَا كانت تلبسه المرأة العربيّة في الجاهليّة - ولِمَا كان الرجل، أيضاً، يلبسه على ذلك العهد -لعجزْنا عن ذلك عجْزاً، ولاضطرْبنا اضطراباً: لصمت التاريخ، ولِخَرَسِ الأخبار، ولِشُحِّ النصوص الشعريّة بالمعلومات، ولاضطراب الروايات في معظم الحالات.. ولولا هذه النُّتَف النزْرة، والنُّبَذُ الضَّحلة، من الأشعار التي بلغتْنا، صحيحة أو منحولة عن عهد الجاهليّة، والتي قد نظفر في تضاعيفها ببعض الإيحاءات، أو بعض الإيماءات، إلى بعض هذه الملابس التي نَنْشُدُ تفاصيلَ شأنِها: لكان تصوُّرُنا، إِذن، لهذه المسألة مُظْلِمَاً، وإذن لَمَا كنا استطعنا أن نتولّج إليها من أيّ باب.
ولقد أغرانا بأن نتناول هذه المسألة الطريفة في هذا البحث الذي نقفه على شأن المرأة في المعلّقات السبع، ضمن هذه المقالة، أمران اثنان على الأقلّ:(1/352)
أوّلهما: أنّا لم نقرأْ، ممّا كتب الناس عن هذا العهد، أو عن هذه النصوص الشعرية المُعْتَزِيَةِ إلى ذلك العهد -إِلاّ أن نكون مقِصّرين في القراءة، قليلِي الإلمامِ بما كتبوا - شيئاً عن هذه الملابس التي كانت المرأة العربية، على عهد الجاهليّة، تتّخذها للسُّترة والتدفُّؤِ أوّلاً، ثمّ للتزّين والتبرّج آَخِرَا. ولقد أشار القرآن العظيم إلى سيرة المرأة في الجاهليّة الأولى فوصفها بأنّها كانت تتبرّج للرجال، وتكشف عن بعض مفاتِن جسدِها لتفتنهم، ولتغريهم بكلّ مايدفعهم إليها، ويعلّقهم بها، فقال:(ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهِليَّةِ الأولى)(31)، وإنّما أُمَرتِ المرأة في الإسلام بالتصوّن والتعفّف، والتستّر والتخلّق؛ حتى لا تشبه المرأة الجاهليَّة التي كانت "تُلقي الخمار على رأسها ولا تَشُدُّه، فيواري قلائدها وقُرُطَها وعُنقها، ويبدو ذلك كله منها" (32): فيكون ذلك أفتن للرجال، وأشدّ إغراءً لهم بِهَنّ، وكأنَّ دَعْوَةٌ متغنّجِةٌ إيّاهُم إليهنّ؛ فكان "لهنّ مِشيةٌ وتكسُّرٌ وتغنّج"(32)، فكانت المرأة العربيّة في الجاهليّة ربما لبست "الدرع من اللؤلؤ غير مَخِيط الجانبيْن"(34)، بالإضافة إلى الملابس الشفّافة التي كانت تُبْدِي من المرأة ما بالداخل، من الخارج...(1/353)
ولعلّ هذه الوثيقة الدينيّة الأولى -وهي نصّ القرآن العظيم- التي تفْضَح سلوك أولئك النساء الجاهليّات. وإذا كان التبرّجُ معنىً ينصرف إلى كلّ ماتُظهره المرأة وترفعه من زينتها وجسدها؛ أي إلى كل المُغْرِيات التي تُغْرِي بها الرجَلَ الضعيف؛ فإنه يجب أن يكون هذا التبرّج مصحوباً، وانطلاقاً من كتب التفسير(35) المختلفة، بجملة من المظاهر الإغرائيّة الماثلة، خصوصاً، في رقّة الملابس، وَشَفَافِةِ القِناع، وَوَسْوَسَة الحَلِّيِ، ورنينِ الخلاخل، وخَشاشِ الأساور واهتزاز الأقراط، وإرسال الشّعرِ، وكلَّ مايمكن أن تَفْتِنَ به المرأةُ الرجلَ،وتُدَلِّههُ: من جسدها، من خلال ملابسها وحركاتها...
بيد أنّ يَسْتَبِينُ لنا أنّ المرأة الجاهليَّة كانت ترتدي ملابَس فاتنةً في الحفلات والمناسبات السعيدة؛ وأنّ ذلك لم يك لدى البدويّات من النساء -ذاك شيء نتمثّله بالمنطق وجريان العادات - ولكنه كان، ربما، وقْفَاً على نساء القرى مثل مكة، ويثرب واليمامة، والحِيرة، والطائف، وصنعاء وما ضارع هذه المدَن العربيّة الأزليّة التي كانت تعرف شيئاً قليلاً أو كثيراً من الازْدِهار، والتي كانت تكتظّ بشيء من الحركة وسعادةِ الأحوال. إن هذه الآية الشريفة هي التي كشفت لنا عن أنّ أولئك النساء لَمْ يَكُنَّ يرتدين ملابَس من الشَّعْرِ والوبَر، ولا من الصوف والجِلْدِ، ولكنهنّ كن، يرتدين ملابَسُ يُظَنُّ، أنها كانت منسوجة من القطن والحرير.
كما كنّ يتحلّين بأنواع الحلى ليتبرجْن بها، ويترهيَأن فيها؛ حتّى أنّ المرأة الجاهليّة ربما كانت "تلبس الدرع من اللؤلؤ فتمشي وسط الطريق تعرِضُ نفْسَها على الرجال"(36) ولعلّ قول امرئ القيس:
* عذارى دَوارٍ في ملاء مُذيَّلِ.(1/354)
أَنْ يَسْتَبِيْنَ لنا بعض هَذا ويوضَّحِهُ تَوْضِيحاً ما: ذلك بأنَّ فيه إيماءَةً باديَةً إلى التبرَّج الذي كان النساء في الجاهليَّة يتبرَّجن به، وهو الطواف حول ذلك الصنم بملابس طويلة تتجرجر من ورائهنّ مع ماكان ينشأ عن ذلك حتماً من تحلٍّ بالحُلِيِّ، وتعطّرٍ بالعُطور، وتزّينُ بأنواع الزينات الأخراة...
وآخرهما: أنّا لاحظنا في نصوص المعلّقات، إشارات إلى ملابس المرأة وحليها وعطرها وزينتها بوجه عامّ. وعلى أنّ الحديث من ملابس المرأة لم يكد يرد إلاّ في معلّقتي امرئ القيس، وطرفة. ولم يكن ذكرها وِصفاً مقصوداً لذاته، كما صادَفْنَا بعض ذلك في وصف بعض أعضاء جسد المرأة، ولكنه كان عارضاً. وقد نقرأ لدى امرئ القيس، من هذه الملابس، لِبْسَةَ المُتَفَضِّلِ، وعدم الانتطاق عن التفضّل أيضاً، كما نقرأ الدِّرْع، والمِجْوَل، والمُلاءِ المذيّل، وثياب النوم، والمِرْط المرحّل. بينما نقرأ لدى طرفة: البُرْد، والمِجْسَد، وأذيال السَّحْل الممدَّد، وسَعة قِطَابِ جَيْبِ المرأة، والبُرْجُد.(1/355)
ويدلّ أغلب صفات هذه الملابس، التي استخلصناها من معلّقتي امرئ القيس وطرفة، على سعة أيدي أولئك النساء، وتبرّجهنّ وتزّينهنّ، أكثر ممّا يدلّ على تعرّضهنّ للابتذال والخدمة، ذلك بأنّ مقتضيات الأحوال كانت تقتضي أن يذكر هذا الضرب من الملابس النسويّة الدالّة على غَضاضة العيش، وَسَعةِ الحالِ، وسُبوغ النعمة، لأنَّ الشاعرين الاثنيْن كانا بصدد وصف حبيباتٍ أنيقاتِ العيش، رقيقاتِ الذوق؛ إذ لا يمكن لشاعر أن يحبّ امرأة بدون قلب، ولا فتاة غليظة الكبد، فَظّة الطبع، سيئة الذوق، منعدمة الأنوثة، خالية من الغنج، محرومة من الدلال النسويّ... فكأنّ أناقة الملابس كانت دليلاً على رقّة العاطفة، وجمال مظهرها، فكانت برهاناً على جمال المخبر لدى أولئك النساء الموصوفات بالحُسن والجمال، والرقّة والدلال، والغَنج والذكاء، والقدرة على التجاوب، والقابليّة لمبادلة الهوى بالهوى، والعشق بالعشق: فقد كُنّ طويلاتِ القامات ممشوقاتِ القدود، وكنّ مسودَّاتِ الشعور نُجْلَ العيوِنِ، وكنّ رقيقاتِ القلوب نحيلاتِ الخُصور، وكنّ مُضْطَمِرَاتِ الكُشوح مُشرقات الثّغور، وكنّ عذباتِ الرّياقِ شديداتِ الاشتياق...
وكنّ يتّخذن لذلك من الملابس مايَدْلُلنَ به من الخارج على ما بالداخل، ومن السطح على مافي العمق، ومن الظاهر على مافي الباطن...
وقد كانت المرأة الجاهليَّة لا تحتزم على قميص النوم، بل كانت ترسله إرسالاً فضفاضاً على جسدها حتى يكون أفتنَ لمظهرها، وأغرى لِمَرْآَتِها. قد يدلّ على شيء من ذلك قولُ امرئ القيس:
* نؤوم الضحى لم تنتطِقْ عن تفضُّلِ.
أي أنَّ هذه المرأة لم تحتزِمْ على لباسها، كما يدل، على ذلك بعض قوله أيضاً:
فجئتُ وقد نضَّتْ لنومٍ ثيابَها ... لدى السترِ، إلاّ لِبْسَةَ المتفضِّلِ.(1/356)
ولعلّ ذلك أن يعني أنّ المرأة لم تكن ترتدِي من الملابس، أثناء النوم، ماكانت ترتديه أثناء النهار، وأوقات الامتهانِ، فكانت تتخفّف من كلّ ملابسها النهارِيّة، عند النوم غير ثوب واحدٍ تنام فيه (37) ويدلّ هذا على ماكانت الحياة بلغته لدى أهلّ الجاهليَّة، خصوصاً في القرى، من حضارة وتنعَّم، وإلاّ فإنَّ المرءَ قد يتصوَّر أمورَ النساءِ على ذلك العهد البعيد على غير ماذكر امرؤ القيس... بيد أنّ النّصَّ، هنا، حجّة على غير النص.
إنّ لبْسَةَ التفضّل، هنا، لا تَعْنِي شيئاً عن شعر امرئ القيس: غيرَ قميصِ النوم في لغتنا المعاصرة. وعلى الرغم من أنّ المتفضَّل، في دلالة اللغة العربيّة القديمة، يعني "اللابس ثوباً واحداً، إذا أراد الخِفَّة في العمل"، (38) في مزعم الزوزنّي، إلاّ أنّ سياق البيت لا يدلّ، هنا، على معنى التخفّف من أجل العمل والكَدْحْ، ولكنه ينصرف إلى معنى التخّفّف من الملابس الضّيقة، أو الغليظة، أو التي تستدعي حِزاماً عليها، والاجْتِزَاء بثوب واحد خفيف شفاف ناعم هو لباس النوم لدى المرأة المنعَّمة الموسِرَة؛ كما يدلّ على ذلك صريح عبارة امرئ القيس.
ذلك هو تأويلنا لقراءة بيت امرئ القيس، على الرغم من أنّ المعاجم العربيّة تخلط معنى هذا اللباس بين الرجل والمرأة فتجعله الثوبَ الواحد يرتديه الرجل أو المرأة في البيت من أجل الامتهان، أو الراحة (39)، وإنَّا لا ندري كيف استطاع الزوزني أن يحرِّفَ معنى لفظ التفضّل عن سياقه في بيت امرئ القيس، ويذهب به إلى دلالته العامّة في المعجم، ويجرّده من دلالته الجماليّة في هذا الشّعر.(1/357)
وعلى أنّ المعجم العربيّ نفسَه يذكر من معاني هذا اللفظ مايختصّ بالمرأة ونومها أو اختلائها؛ أكثر ممّا يذّكر من معانيه المنصرفة إلى لِبْسة الرجل؛ إذ الأصل في الفَضْلة أنّها "الثياب التي تبتذل للنوم لأنها فضلت عن ثياب التصرّف"(40) وأيُّ سيدة تتخذ لبسة المتفضّل إنّما تتخذها حين تَسَعُ ذاتُ يدِها، فترتديها ليلاً لأنها فضلت عن ثياب التصرَّف التي ترتديها أثناء النهار، سواء أتعلّق الشأن بلباس الخروج، أم بلباس المنزل...
وكانت العرب تطلق الدِّرْعَ على لباس المرأة العَوَانِ المستوية، ولذلك ورد في تفسير الزمخشريّ، وأنّ المرأة - في آية التبرّج- كانت ترتدي الدرع من اللؤلؤ (41)؛ بينما كانت العرب تطلق على لباس الجارية المِجْول. وقد جمع امرؤ القيس بين ذيْنك معاً، على أن حبيبته، هي أيضاً، جَمَعَتْ بين الحالينْ في لباسها؛ فكأنَّها أفضلُ من الجارية الغِرَّةِ، من حيثُ نُضْجُها، وأفضل من المرأة المستوية من حيث احتفاظُها بفَتائِها، ونضارة جسدها: فكأنّها المرأة الكاملة التي تجمع بين فَتاء الفتاة ومافيها من غِرَّةٍ وَغَفْلَةٍ، وبين استواءِ المرأةِ العَوان ومالديها من تجربة وقابليّة للاستجابة:
* إذا ما اسْكَرَّتْ بين دِرْعٍ ومِجْوَلِ.
واللغة الشعريّة، هنا، ذات دلالة سيماءَوِيَّةٍ لطيفة، وإيحائيّة. فالاسْبِكْرارُ رمزٌ لطول القامة ومَثلُه مَثَلُ قولهِ:
* نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضّل.(1/358)
وكانت المرأة الطُّوالَةُ أثيرةً لديهم كما يطالعنا ذلك في كثير من أوصافهم الدَّالة على ملامح المرأة، ومحامِدِها في كتاب الأغاني لأَبِي الفرج، وَسَوائِهِ من كُتُبِ التراث.... على حين أنّ ذِكْرَ الدّرعِ قرينة دالّة على المرأة المستوية. وفي ذكر المجول مُماثِلٌ (إقونة) للفتاة الفتيّة الحَييّةِ. فكأنَّ هذه العبارة تجمع بين ثلاثَةِ مُماثِلاتٍ (42)، إذ الاسْبكرارُ من مُلازمات الطُّولِ، والدِّرْعُ من ملازمات السيّدة المستوية، أو العوان، والمِجْوَلُ من ملازمات الجارية الفتيّة. فهنّ سِماتٌ حاضرات، يجسّدن سِماتٍ غائبات. ولعلّ إلحاحَ القيس على طولِ لباس المرأة في أكثرَ مِنْ موطنٍ من شعرهِ دليلٌ آخرُ على أنَّ المرأة حين كانت تتبرّج في الجاهليّة كان تتخّذ لها لباساً مُذيَّلاً، ورِداءً مُطوَّلاً: يتجرجرْ وراءَها فيمسح الأرضَ، شأن "فستان" العروس الموسَرة على عهدنا الراهن. ويعني ذلك أنّ هذا الضرْب من اللّباس النَّسْوِيّ عُرِفَ، لدى العرب، منذ العهود الموغلة في القدم. وإنَّ هذا الضرب من الملابس لم يكن يتّخذ للابتذال والامتهان، ولكنه كان يتّخذ للتبرُّج والزِيْنَة، وللتبخْتُرُ والفتنة. وقد كان امرؤ القيس أومأ إلى بعض ذلك بقولهِ حين وصف حركة عَذَارَى دَوَارٍ يوم كُنَّ يَطُفنْ بهذا الصنم في ثيابهنّ الطوال:
* عذارى دَوارٍ في مُلاءِ مُذيَّل.
والمُلاءةُ هي اللباس المُركَّب من لِفْقَيْنِ اثنيَن. بيد أنّ يعنينا في هذه المُلاءِ أنّها كانت تتجَرْجَرْ وراء الفتيات. وهو هنا مشهدٌ جماليّ عجيبٌ، ومُثير أنيق.
وهناك شاهد آخَرُ على طول ملابس المرأة الجاهليّة من معلّقة امرئ القيس، وهو:
* خرجْتُ بها أمْشِي تَجُرُّ وراءَنا ... على أثَرَيَنْا -ذَيْلَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ(1/359)
ونحن لا نتفّق مع الزوزنيّ في شرحه لعبارة جرّ الذيل، ذيل صاحبةِ امرئ القيس، حيث أعاد طول لباسها إلى أَنّها كانت تبغي به إعفاءَ أثريْهِما (43) وهما يتمايشان. وهو وجه من القراءة، لديهِ، غريب بعيد. وكأنّ قراءة الشيخ لم تَلْحَنْ إلى دور جماليّة الثوب بالنسبة للمرأة؛ وكأنّه تغافل عن أنّ امرأ القيس ذكر اللباس المذيَّل مرتين اثنتين. وكأنّه كان يرى أنَّ العبارات تَرِدُ في النصوص الأدبيّة عفْواً، وأنّها لم توظَّفْ لموقف سيماءَوِيّ من خلال أدائها الوظيفةَ الدلاليّة العارضة الأولى.
إنّ جرّ الذيل على أَثَرِيْ العشيقيْن -امرئ القيس وصاحبته- لم يكن من أجل إِعْفاء الأثر وحده، وربما لم يرد في الحِسَابِ ذلك المعنى في ذهن تلك المرأة العاشقة؛ ولكن كان طول لباسها، أو فَضْلَتِها، دالاًّ على دَأْبٍ حضاريّ كان يَمْثُلُ في أنّ المرأة الموسَرَةِ كانت إذا شاءت النوم، أو ماله صلة به... اجتزأتْ بلباس فَضْلَتِها غيرَ محتزمةٍ عليها. ويُفْهَم من دلالة اشتقاق الفضلة، أنّها كانت خالصة للمرأة الموسرة التي تستطيع أن تستغني عن ثوب نومها أثناء الاِمتهان، أو الخروج من البيت، أمَّا المرأة الفقيرة فل تكن ترتدي لِبْسَة المتفضّل. وهذا عامّ في جميع الأزمنة والأمكنة.
ويكون ثوب النوم، في الغالب، أطولَ من ثوب الامتْهان، فكان لباس صاحبة امرئ القيس يتجرْجر وراءَها، وقل إن شئت وراءهما، ومن الواضح أنّ لفظ /أَثَرَيْنا يعني أنّ لباس المرأة كان طويلاً مذيّلاً؛ وأنّ العشيقيْن كانا متعانقيْن حتّى كأنّهما كان يشكّلان جسداً واحداً... فدلالة /على أثرينا/، كما نرى، لاتستطيع معانِي اللغة المُعْجَمِيَّة تفسيرَها؛ ولكنَّ السيمائيّة ممثّلة في التأويليّة هي التي تستطيع ذلك...(1/360)
إنّ تفسيرَ الزوزني لعبارة / على أثريْنا/ يبدو غيرَ مقنع، وذلك على أساس أنّ ثوب هذه السيّدة كان من الخِفَّةِ والشفافة ما لايسمح له بأن يَقْدِرَ على الإغفاء على أَثَرَي المَشْيِ المتداخل. ثمّ إنّ المشي كان ليلاً، ولم يكن الحَيُّ مُقفِراً من قاطِنيهِ إلا من هذيْن العشيقين فيعرف الناس في غداة الغد أنهما هما اللذان كانا قد مَرَّا من هناك... ثم، إنّ الريحَ كانت بالمرصادِ لِمِثْلِ هذا المُماثِل (الإقونة: إقونة أثرَي العشيقيْن المرتسميْن على الرمل): لكي تُعْفَي عليه، وتنسج نسوجها على مواقعه.
والمعلّقاتيّ الآخَرَ الذي عُنِيَ بلباس المرأة، ولكن بدرجة أدنى، هو طرفة بن العبد، فقد ذكر أكثر من مرة، لباس قينة من القيان، ومن ذلك قوله:
* وقينة ... تروح علينا بين بُرْدٍ ومَجْسَدِ
والبُرْدُ كِسَاء مخطّط، وقد فسرَّه المعجميّون العرب، القُدامى ، على أنه ثوب يمانٍ، مخطّط مُوَشّىً(44)، على حين أنّ المَجْسَدَ هو ثوب مصبوغ من الزعرفان في تعريف معجميّ، وثوبٌ أحمرُ قانٍ في تعريف معجميّ آخر(45)، ولكنّ التعريفيْن يتفقان على أنّ المَجْسَدَ قانِي اللون، أو فاقعه، وهما لونان يتمحّضان للمرأة. وكأنّنا نتمثل اشتقاق هذا المَجْسد من الجَسد، وكأنّه كان يرتدى على حُرِّ جسد المرأة.
ويمكن أن نستخلص من نصّ طرفة ثلاثة أمور مَجْدَرةٌ بالدلالة لدينا:
أوّلها: أنّ هذه القينة -المغنيّة- كانت الفتيان تغشى مَلْهَاها رواحاً لا غَدوّا؛ ممّا قد يدلّ على أنّ هؤلاء الشَّرْبَ كانوا يسْهَرون على شرابِهم ولهوهم في ذلك الملهَى الذي كانوا يختلفون إليه؛ فكان مجلسُهم ذاك، إذن، اغتباقاً لا اصطحاباً، وقد يدلّ ذلك على بعض الاِزدهار في حياتهم:
... ... وإلاّ لَما كانوا اتَّخذوا مجالسَ للشراب، ولمّا يَمَّموا مَرتَعَ اللهو؛ فكانوا لا يتجزئون بما كانوا يترشَّفونه اصطحاباً، حتّى طِمعُوا في وَصْلهِ اغْتِباقاً.(1/361)
وثانيها: أنّ هذه المغنيّة التي كانت تُقْبِلُ على الشَّرْبُ مُتراقِصَةً، مغريَةً إيّاهم في ملابس كأنها عُرْيٌ، إذ كانت ترتدي لِمُرتادي حانتِها قميصاً مخَطَّطاً من صُنْعِ يَمَانٍ، ولم تكن ترتدي لِباساً خَشِناً من الصوف شأنَ البدويّات. فكأنّ الفتاة التي يتحدّث عن لباسها طرفة كانت متحضِّرة منعَّمَة، ورقيقةَ العيشِ ناعِمةً، وأنيقة الحركة مدلّلّة: لتُغْرِيَ الفتيان باللهو في حانة صاحبها، ولتجعلهم يُقبِلون عليها، فيستمتعون بصوتها إذا غَنَّت، كما يستمتعون بالنظر إلى جمال وجهها، واعتدال قامتها، وأناقة ثوبها الذي كان يتّخذ اللون القاني إذا احمّر، واللون الفاقع إذا اصفرّ.
وكأنّ هذا الضرْب من الملابس، مضافَاً إليه ماوَصَفَ به امرؤ القيس من ملابس النساء، يصدق عليه آية التبرَّج التي فَضَحَ القرآن بها المرأة الجاهليّة.
وآخرها: إنّ هذه القينة اتّخذت لها ثوبَينْ اثنين: أحدهما داخِليٌّ ممّا يَلِي الجسد، وهو بمثابة القميص، وهو مُخَطّط موشّىً، مؤنَّقٌ؛ وأحدهما الآخرُ مُغْرٍ منظرُهُ، فاتِنٌ لونُه؛ لأنّه مصبوغ بلون الزعفران الأصفر الفاقع في تعريفٍ، أو لأنّه أحمرُ اللونِ قانِيهُ، في تعريف آخر.
واللون الأحمر إذا ارتدتْه المرأة -الجميلة الفتيّة خصوصاً - يتّخذ له دلالةً لونيّةً جديدةً كأنّها لم تكُ فيه من ذي قبل حين كان غيرَ ملبوسٍ، مَثَلُهُ مَثُلُ الأسودِ، والوَرْدِيَّ... فكما أنّ الألوان الفاتحة تزّين المرأة وتزيدها فتنة؛ فإنّ المرأة، هي أيضاً بلونها، تزّين هذه الألوان:
ولاسيما إذا بدت على ضوء الشموع، وقناديل السّليطِ التي كانت، فيما يبدو، تُتَّخَذ لديهم للإضاءة(46) وهو الضوء الذي يُحيل على الليل. وهو الليل الذي يحيل عليه قوله /تروح/ الدالُّ على زمن المَساء السحريُّ...(1/362)
لكنّنا نلاحظ أنّ قينة طرفة بن العبد تضيءُ أو تُضاءُ، من حولها القناديل لكي يبرز جمالها، ويرتسم جسدها، من خلال ماكانت ترتديه من أثواب مخطّطة وملونّة معاً، بينما نلفي صاحبة امرئ القيس هي التي تضيء الظلام؛ فهي مصدر للنور، فالنور عنها ينبثق، وهي منبع للضياء، فالضياء منها يَنْبَجِسُ، ولا سواءٌ امرأةٌ تضيء الظلام عِشَاءٌ، وامرأةٌ تُضاءُ بالشموع والقناديل عِشاءً. فالأَوْلَى مصدرٌ للجمال العبقريّ الكريم، والأخرى مظهر لهذا الجمال في حدوده المألوفة لدى الناس، والممكنة في تقاليد الأعراف.
ويبدو أنّ طرفة لم يجاوز وصْفُه هذه القينةَ إلى سَوائِها من النساء، ويبدو أنه كان بها مُعْجَباً، بل لها هاوياً، فكان يتأوَّبُها إذا جَنّهُ الليل وهي في حانة الشراب، ولذلك نلفيه يصف بعض ثوبها، تارة أخراة، فيقول:
* رحيب قِطاب الجَيْبِ منها رقيقة ... بَجسِّ النّدامى ، بَضَّة المُتَجرَّدِ
فكأنَّ طرفة يُسِفُّ، في هذا البيت، من منظورنا على الأقلّ، إلى وصف امرأة عموميّة هي مِلْكٌ مُشاعٌ بين الناس جميعاً، من أجل ذلك تراها أوسعت في جَيبِ مَخْرَجِ رأسها من ثوبها؛ حتى يبدوَ من جسدها جيدُها وَنْحْرُها، وكلّ ما علا منه للندامى، وحتّى يَيْسُر عليهم جَسُّ جسدِها البَّضِّ العارِي المَفاتِن.
بينما يمحّض امرؤ القيس وصْفَهُ لحبيبتهِ الخالصة له، القاصرة الطْرف عليه، فالفضلة التي كانت ترتديها، لَيْلَةَ أَوَّبَها؛ إنما ارتدتْها له وحْده، والثوب الضَّافِي المذيّل الذي أضافته إلى فَضْلَتِها، أو استغنت عن فضلتها فارتدته وحده، لدى خروجها مع الشاعر خارج الحيّ، إنما ارتدته ليتمتَّع بِهَا وحدَهُ أيضاً -من لَهْوٍ- تمتُّعاً غيرَ مُعْجَلِ. وشتّان حبيبةٌ قاصرةُ الطرْف على حبيبها، وقينةٌ عموميّة كلُّ من شاءَها، نالَها: لا تُرُدُّ يدَ لامسٍ يلمَسُها، ولا جاسَ يجُسُّها.(1/363)
ونجد عمرو بن كلثوم يحترز لعفّة صاحبته واستئثاره بها وحده حين يصف منها الثَّدْيَّ بأنّه مثلُ حُقِّ العاج رَخْص، وأنّه -وهو أهمّ من ذلك شأناً- حصانٌ من أكُفِّ اللاّمسين. فكأنَّ طَرفة وحدهُ، من بين المعلّقاتيّين، هو الذي أَسَّفَّ في وصفه حين نزل إلى وَصْفِ امرأة عموميّة، على حين أن زملاءَه قدّموا لنا صورة مشرقة وجميلة للمرأة الجاهليّة التي كانت تبادل الرجل حبّاً بحب، ولكن في سمّو واعتزاز، لا في ابتذال واستخذاء.
ويذكر طرفة الثوب المذيّل، هو أيضاً، مرّة واحدة إذْ يقول:
فذَالَتْ كما ذَالَتْ وليدةٌ مَجْلِسٍ ... تُريّ رَبَّها أذيالَ سَحْلٍ مُمَدَّدِ
فهذه القينة التي شُبِهَتْ بها الناقة: كانت تترهْيَأُ في مشيتهأ، وتتكسَّر في حركتها، وتتبختر في ملابسها، وذلك كيما تُرِي سَيَّدَها ومالِكَها أذيالَ ثوبها الأبيض المتجرْجر، لكنّ هذه الصورة الجميلة للثوب سرعان مايخمد وَهْجُها، وتنطفئ جَذْوَتُها، حين تصطدم بامرأة هي ملك للناس جميعاً، أوّ كأنّ قَدِ!...
4 - الزينة والتزيّن في المعلّقات
تصادفنا في المعلّقات السبع مظاهرُ من الزينة وأدواتها مثل السَّجنجل والحِنَاء اللذين يصطنعهما امرؤ القيس عَرْضَاً:
* ترائِبُها مصقولةٌ كالسَّجَنْجَلِ
* عُصارةُ حِنَّاءِ بِشَيْبٍ مُرَجَّلِ.
بينما يذكر طرفة بن العبد أدواتٍ للزينة والتجمّل، كما يؤخذ ذلك من قوله:
* وعينان كالمَاويَّتَيْنْ استَكنَّتا (اي كالمِرْآتين)،
* ولم تكمِدْ عليه بإثْمِدِ ... (أي لم تعْضضْ عليه بالكُحْلِ).
على حين أنّ زهير بن أبي سُلمى يومئ إلى استعمال المرأة العربيّة في الجاهليّة لزينة الوشْم في المِعْصَمِ، إذ يقول:
* مراجيعَ وَشْمٍ في نواشِرِ مِعْصَمِ.
أمّا لبيد بن أبي ربيعة فيتحدّث عن الواشمة، والنُّؤُور (أي الإثْمدِ)، فيقول:
* أو رجع واشمةٍ أُسِفَّ نَؤُورُها.(1/364)
وعلى الرغم من قلّة أدوات الزينة النسويّة، ووسائل التجمّل، في نصوص المعلّقات؛ وعلى الرغم من أنّ الذين أومأوا إلى بعض ذلك لا يكاد يجاوز أربعة معلّقاتييّن هم امرؤ القيس، وطرفة، ولبيد، وزهير، فإنّ ذِكْرَ شيءٍ من هذه الأدوات يدلّ على أنّ المرأة الجاهليّة كانت تتزّين بالمساحيق، وتتعطّر بالعطور، كما كانت تتبرّج بالملابس الشفافة، وتتحلّى بالحلّي الذهبيّة والفضّية والنحاسيّة والخرزيّة.(47).
ولقد نلاحظ أَنّ هذه الزينة كانت تنهض على التَّمَرئِي في المَرايا، التي ذُكِرتْ مرتين اثنتين:
مرة لدى امرئ القيس (السَّجَنْجَل)، ومّرة أخراةً لدى طرفة (كالْمَاوِيتَّيْنِ)، ممّا يدُلُّ على أنّ اصطناع المَرايَا كان شائعاً لدى النساء الجاهليّات؛ وخصوصاً لدى الموسراتِ منهنّ، وبوجه أخصّ في القرى العربيّة والمراكز الحضريّة.
5 - حلي المرأة الجاهليّة من خلال المعلّقات
نلاحظ أنّ لفظ الحلية وارِدٌ في اللغة العربيّة في تركيب حَلاَ في المعاجم؛ فكأنّه مشتقّ من الحَلاوة. وفي الحلاوة معانٍ جميلةً تنصرف إلى الذوق الحِسّيّ. ثمّ تُوُسِّعَ في هذا المعنى فأُطلِقَ على كلّ مايَسُرُّ الناظِر، ويُسْعِد الرائِي، فانتقل من المادّة إلى الرَّوح، ومن الذوق إلى النَّظر. فكأنّ الحلية معناها أنّ صاحبَتَها التي تتحلّى بها تغتذي ذات حلاوة: بالمعنيين الحسيّ والماديّ؛ والحقيقيّ والمجازيّ، معاً.(1/365)
ويبدو أنّ التحلّي دأبٌ قديم في تقاليد الجمال... وكان الرجل ربما تحلّى، هو أيضاً، بخاتَمٍ من حديد، وقد نَهَى الشارع عن مثل هذا التحلّي لِمَا يسبّبُه من زُهوكَةٍ (48)، ولِمَا في مَرآتِهِ من دَمامة وبَشاعة. وكان نساء الجاهليّة كثيراً مايتحلّين، حين يُعْوزهن المال، بأَسْخِبَةٍ بدائيّة(49) لا ذهب فيها ولا فضة، ولا نُحاس. وكأنّ التحلّي ليس ضرورة أن يكون بالذهب والفضة والعقيق فحسب، ولكنه قد يتم بأَسْخَبةٍ يُنظَمُ فيها قَرَنْفَلُ، وسكٌّ، ومحلب(50) ولعلَّ السِّخابَ قلادةٌ كانت خالصةً للفقيرات، أو للجواري قبل أن يتزوجْن. وعلى عهدنا الراهن نجد كثير من النساء الغَرْبِيّات يتحلّيّن بالأَسْخِبَة على سبيل التَّخَنْفُسِ والتغجُر؛ فتراهنّ يَعْزِفْنَ عن التحلِّي بالذَّهب، وَيَفْزَعْنَ إلى التحلِّي بأَخرازٍ غيرٍ ثمينةٍ ولا جميلة. فكأنّهنّ يأتين ذلك لتكسير الذوق العامّ.
والذي يعنينا، هنا والآن، وبناء على ماورد في نصوص المعلّقات بخاصّة، أنّ المرأة الجاهليّة كانت تتحلّى بالأساور، والخلاخيل، والخواتِيم، وبالفَتَخ (وكثيراً ماكانت المرأة تضع الفَتَخ في أصابِع رِجْلَيْها، وقد ظِلّ ذلك قائماً إلى عهد العجَّاج(51)، والفَتَخْ يتمخّض، في أصله، لتحلية أصابع الرِّجل)، وبالأقراط، وبالقلائد، والأَسْخِبَة. وربما كانت المرأة الموسرة الأنيقة المتبرّجِة، على عهد الجاهليّة، تجمع بين قلادتيْن اثنتيْن في جِيدها، كما سنرى...(1/366)
وقد كان سبق لنا أن أومأْنا. صدرَ الحديثِ عن لباس المرأة الجاهليّة، إلى هذه المسألة حين ربطْناها بالتبرُّج الذي نهى عنه القرآن العظيم، وقد كنّا نقلنا عن بعض المفسّرين(52) أنّ المرأة الجاهليّة ربّما كانت ترتدي الدِّرْعَ المُحَلّى باللؤلؤ لتتبرّج به، ولتتزيّن تزيُّنَ فتنةٍ وإغراء. من أجل ذلك ألفينا المعلّقاتييّن، وخصوصاً أمرأ القيس وطرفة بن العبد وعمرو بن كلثوم، يأتون على ذكر أطراف من مظاهر حَلْي المرأة وزينتها بإِزاء ذِكْرِ اللباس، وذكر العِطْر الذي تفرّد به امرؤ القيس وحده، في المعلّقات.
بيد أنَّ طرفة هو سيّد المعلّقاتيّين في تفصيل الحلية، وذِكْر طائفة من الأحجْار الكريمة التي كانت المرأة الجاهلية المُوسَرةُ تتحلّى بها، كما يدلّ على ذلك قوله:
* مُظاهِرُ سِمْطَيْ لُؤْلُؤٍ وزَبَرْجَدِ.
فهذه المرأة التي يضارع جيدُها جيدَ الشادِنِ الجميل، كانت تُحلِّي جيدَها بِعْقَدَيْن اثنين: أحدهما من اللؤلؤ، وأحدهما الآخر من الزبرجد، فقد كان جيدها، إذن، مُحَلًّى، بل مُثْقَلاً بهاتين القِلادَتين الجميلتين. ولم يكن الجمع بين هاتين القلادتين في عنق هذه المرأة ابتغاء إظهار البذْخ، وإبداء نعمة اليسار، بمقدار ماكان دأْباً دأْبَتْ عليه هذه المرأة لدى تزيّنها وتبرُّجِها، إذ مُظُاهَرَةُ عِقْدَيْن اثنين مختلفيْن في جيدِ حسناءَ قد يُضْفِي عليها جمالاً إِضافيّاً... فكأنّ كل عِقْدٍ من هذين العقدين الاثنين يشكّل بنفسه علىعنقها جمالَه الخاصّ...
ولعلّ الذي كان يزيد هذا الجيد جمالاً وفتنةً: طولهُ وامتدادُهُ، وصفاؤُه ونحافَتُهُ، جميعاً. وهي صفة من الجمال أتاحت لهذين العِقدِين بالارتسال على النحر في غير اغتفاص ولا اعتساف. ولو كانت هذه المرأة قريبةَ مهوى القُرْطِ، لَمَا أَمِنْتْ أن يضيع هذان العِقدان حول رَقْبَتِها الغليظة...(1/367)
ولقد كانت صاحبة طرفة طويلاً جيدُها، نحِيْفاً عنُقُها، ممشوقاً قَدُّها، فارعةً قامَتُها؛ فكانت إذا تزيَّنَتْ بالأساوِر، وتحلَّت بالدّماليج، أشبهتْ شجرَتَي العُشْرِ والخْرْوَعِ في الضخامة والنّعْمة والامتلاء...(53).
فكأنّ هذه، هنا، غيرُ تلك القينةِ التي كنّا ألفينا طرفة يَكْلَفُ بها في وصفه. وكأنّ هذه كانت له خالصة، وبه خاصة. وقد استَأْثَرَها بيوم اختلائِه وراحتِه ونزهتِهِ ليَسْتمتع بجمال جسدها.. ونلاحظ أنّ هذه المرأة تشبه صاحبة عمرو بن كلثوم في امتلاء الذراعين، وامتشاق القدّ، وامتداد القامة، وضخامة الشِّقِ الأسفلِ منْها: من الساقين إلى الوَرْكِيْن، ومن أخمص القدمين إلى الرَّبِلاَتِ، وكأنّ طرفة أراد ببعض ذلك أن يُعيدها جَذَعَةً. وكأنّه كان يَميلُ إلى أنّ جمال المرأة الكامل إنّما يَمْثُلُ في امتداد قامتَها، وَسَمَانَة جَسَدِها، وَبَياضِ لَوْنِها وكثرة حليها.
ولم يَقْتَصِرْ وصف زينة المرأة، لدى طرفة، عند الجيد والنَّحْر، ولكنه جاوزهما إلى الساقين اللتين كانتا مزدانتيْن بالبُرِين (أي الخلاخيل)، وإلى معصميها اللذين كانا مزيّنين بالأساور:
* كأنّ البُرِيَن والدّماليجَ عُلِّقَتْ ... على عُشَرٍ، أو خِرْوَعٍ لَمْ يُخَضَّدِ(1/368)
أمَّا امرؤُ القيس فقد أغْفل وصفَ حَلْيِ المَرْأَةِ، أو ذكْرها، فعلى الرغم من أنّه وصف كثيراً من أعضاء جسدها، فإنّ ذلك الوصف ظَلّ عامّاً ولم يجاوزه إلى ذكر القلائد والخلاخِيل والأساورِ وغيرِها ممّا كانت تتحلّى به المرأةُ وتزيّن به أذنيْها، وجيدَها، ومِعْصَمَيْها، وساقَيْها... وذلك على الرغم من أنَّنا نعدّ امرأ القيس مؤسِّساً لجماليَّة الوصف المتمحِضّ للمرأة في الشعر العربيّ على سبيل الإطلاق؛ فإنما هو الذي أرسى معالِمَه، ومكّنَ لتقاليده في الاستقرار والانتشار: كوصف الشِّعر وسواده، والكشح وهَضِمِهِ، واللون وَصَفَائِه، والخدِّ وأسَّالتِهِ، والقِدَّ وامتشاقه، والمُخَلْخْل وامتلائه، والجيدِ وطوله... بينما لم يذكر، في معلّقته، حّلْي المرأة إلاّ مَرتيْن اثنتين ذكراً إيحائياً لا تقريرّياً، وهو يصف الجيد:
وجيدٍ كجَيدِ الرِئمِ ليسَ بفاحشٍ ... إذا هي نضَّتْهُ ولا بِمُعَطَّلِ
فهو هنا يصف هذا الجيد الجميل الصقيل الأسيل بأنه، إلى جماله واكتسابه شَكَلَ الرشاقة والنَّحافة، لم يَكُ، مع ذلك عُطْلاً، ولكنه كان حالِياً، لكنّ الصمت يظل مطبقاً على طبيعة حِلْيْ هذا الجيد: وهل كان عِقْداً أو قِلادة؟ ثم هل كانت تلك المرأة تتحلّى بقلادة واحدة أم كانت تُظاهِرُ بين اثنتيْن في جيدها، كصاحبة طرفِة؟ ثمّ هل كانت تلك القلادة ذهبيّة، أم فضيّة، أم كانت من أحجار كريمة أخراة أغلى وأبهظ ثمناً؟ أم لم تكن تتحلَّى إلاّ بسِخِاب منتظم من الخرز الرخيص؟.
وتصادفنا إيماءة أخراة إلى حلي المرأة الجاهلية تَمْثُلُ في قول امرئ القيس أيضاً:
* ريَّا المُخَلْخَلِ،(1/369)
فقد كان مُخلْخَل هذه المرأة (أي ساقها) ريّان مَلآن معاً. ولقد كانت تانِك الساقان، إِذنن حاليَتيَنْ مزدانَتَيْنْ بِخَلْخَالَيْنِ جميليْن. بيدَ أَنَ ذِكْرَ الخَلْخَال هنا، ضِمْنَاً، كان عرضاً، إذا كانت الغاية من الوصف إنما ترمي إلى نعت ساقيْها بالامتلاءِ والنَّعْمة، والرَّيِّ والطَّراوة، بينما لم يكن ذِكْرُ الخَلْخَال (مُجَسّداً، ضمناً، في ذكر المُخَلْخَل (وهو موقع الخَلْخَال من أسفل الساق)، إلاَّ إيماءَة شعريّة جميلة جمعت بين وصف شيئين اثنين في عبارة واحدة حيث استعاض الشاعر عن ذكر الساق الجميلة الممتلئة بذكر أحد ملازِماتها وهو عبارة / رَيَّا المُخَلْخَلِ/. فكأنّه أراد أن يذكر من وراء نسج هذا التعبير، أنّ ساقَيْ تلك المرأة كانَتَا غضّتَيْن بضتين، وكانتا ممتلئتين ناعمتين، وكان يحلّيهما خلخال من الفضّة أو من الذهب: جميل. ونشأ عن كلّ ذلك أنّ تلك المرأة لم تكُ جميلة الجسد فحسب، ولكنها كانت مُوسَرِةً أيضاً، إذ لا يدلّ التحلّي بالخَلخال إلاّ على يَسار المرأة، وَسَعة ذاتِ يد بَعْلِها، وتكريمه إيّاها....
وأومأ امرؤ القيس، أخيراً، إلى وصف عُنقُ صَبِيٍّ كريمِ الأعمام، ماجد الأخوال، محلًّى بالخرز اليمانيّ، فقال:
* فأدْبرن كالجِزْعِ المُفَصَّلِ ... بجِيدٍ مُعَمٍّ، في العشيرة ، مُخْوَلِ
بيد أن هذا الوصف، هنا، لا يعنينا:
1- لأنّه يقع على جيد صبيٍّ، لا على جيد صبيّة.
2- لأنّه ذُكرَ عَرْضَاً في تقرير صورة سِرْبٍ من بقر الوحش كان عَنَّ للشاعر وصحبه في بعض الطريق.
ويعرض عمرو بن كلثوم لوصف ساقَيْ صاحبته فيصفهما بالبياض والضِّخَمِ، كما كان وصفَهَا من قبل بضخامة الجسم، وطول القامة، وثقل الروادف، وعظم المآكم، وروعة الكشح:
(*ومتَنْي لدْنَةٍ سَمَقَتْ وطالَت ... روادِفُها تَنوءُ بما وَلينَا
* ومأكْمَةٍ يضيقُ البابُ عنها ... وكَشْحَاً قد جُنِنْتُ به جُنونا)
فيقول:(1/370)
وساريتَيْ بَلَنْطٍ أو رُخام ... يَرِنُّ خشاشُ حَلْيهِما رَنينَا
فلهذه المرأة ساقان ممتلئتان بضّتان تشبهان لون العاج الخالص، أو لون الرخام الأبيض الرفيع، فتراها إذا مشت، أو حركت ساقيها، رنّت خلاخيلها رنيناً جميلاً حتّى كأنه ضرب من إيقاع الموسيقى.
ونلاحظّ أنّ عمرو بن كلثوم لاتغادر الصورة المادّيّة الباردة الخامدة ذهنه في تشبيه جمال حبيبته: فثديُها مثلُ حقِّ العاج كِبَراً، واستدارَةً وَبَيَاضَاً، وساقاها تشبهان ساريتيْن من عاجٍ أيضاً، أو من رخام. وقد يكون تشبيه الحيّ بالميت، والناضر بالذابل -إذا كان يصر ابن كلثوم على تحويل جسد هذه المرأة من نبض وحركة ودفء وحياة ونضارة، إلى جمود وخمود، وبرودة وموت -من أسوأ الصور وأردئِها في الشعر.
إنّا لاننكر أنّ مَقْصِديَّةَ ابن كلثوم كانت طيّبة، وأنه كان يرمي من وراء تشبيه ساقَيْ هذه المرأة بساريتي البلنط أو الرخام، إلى البياض والصفاءِ والصَّقَلِ: ولكن أين دِفْءُ الحياة؟ وأين جمال النَّضَارَة؟ وأين ذِكْرُ النبْضِ الدافئ العارم الذي يجب أن يتبجّس من تينيك الساقين؟ وأنّها لصورة تبدو لنا باردة هامدة.
بينما يتحدّث امرؤ القيس، حين يصف ساقيّ صاحبته، عن شبكة من السِّمات الدّالة على جمال تلك المرأة، وطراوة جسدِها، ودلالِ طِبْها، وهِضَمِ كشحْها، وطفوح ساقيْها بالنعمة والطراوة والماء:
* هصرْتُ بفودَيْ رأسَها فتمايلَتْ ... عليَّ هضيمَ الكشْحِ ريَّا المُخلْخَلِ
فتحدث عن أربع سماتٍ من الجمال في هذه المرأة في بيتٍ واحد: عن طِول شعرها، وتكسُّرِ مِشيْتها وتَرَهْيُئِها، وهِضَمِ كشحها، وعن أنّ مُخَلْخَلَها ريَّانَ مَلآَنَ؛ فأَوْمَأ إلى الخَلخال بذكر المُخلْخَل، وهو موضع الخَلخال من ساقِ المرأة: فكأنّه، إذن، جمعَ بين خمسِ سماتٍ من الجمال جماليّةٍ كلُّها يُحيل على صفةٍ من صفات هذا الجمال البديع الذي وُهِبَتْه تلك المرأةُ في بيت واحد.(1/371)
بينما لم يذكر عمرو بن كلثوم إلاّ سمةً واحدة تمثّلُ في غِلَظِ الساقين...
6- العِطَرُ والتعطَّر في المعلّقات
لعلّ مما يمكن أن يكون له صلة بالمرأة وجمالها، والمرأة ومظْهَرَها، عطرها، وطيب نَكْهَتِها. ولم نَكَدْ نُصَادِفُ هذا العِطْرُ ضمن وصف المرأة، ونَعْت جمالها، وذِكْرْ حُسْن مظهرها، وطيب مَشَمِّها، وإلاّ لدى عنترة بن شداد أيضاً. وعلى أن عنترة لم يصف، في معلّقته، في حقيقة الأمر، عِطْرَ المرأة بكيفيّة صريحة، ولكنّه وَصَفَ عِطْرَهَا الطبيعيَّ، ذَفَرَ جسدِها، وَنَكْهَةَ فِيهَا:
* وكأنَّ فارةَ تاجرٍ بقَسيمةٍ ... سَبقتْ عوارِضَها إليْك من الفَمِ
فكأنّ نَكْهَة فَمَهِا، العذبِ المُقَبَّلِ، اللّذيذِ المَطْعمِ، تفور برائحة العطر إذا اقتربْتَ منها، أوعُجْتَ عليها، أو رُمْتَ تقبيلَها. إنّها حسناء مُعَطَّرةٌ بالطبيعة الواهبةٌ.
ولقد أومأ امرؤ القيس إلى عِطْر المرأة الجاهليّة، في معلّقته، مرتيْن اثنتين على الأقلّ: أولاهما حين قال:
* وتُضْحِي فتيتُ المِسْكِ فوق فِراشِها
حيث نصادف، هنا، صورةً مزدوجةً: نِصْفُها بَصَرِيْ (فتيت المِسْك المتناثر فوق فراشها)، ونِصْفُها الآخرُ شَمَّيٌّ (فتيتُ المسك الذي يوجد له عَبَقٌ وشذىً ينبعثُ من ذلك الفراش الذي كانت تُضْحِي عليه، تلك المرأة المنعَّمة، نائمة).
ويمكن تناولُ هذه الصورة النسويّة بتفصيل أكثر:
فالأولى: ... أنّ هذه المرأة كانت موسّرةً لا فقيرة، وفتيّة لا طاعنة، ومخدومة لا خادمة. فسمة /تضحي/ لا تدلّ على أنّها كانت كسلى لِعَيْبٍ فيها؛ ولكن لأنّها مَكْفيّةً: لها خَدَمٌ ينهضْ بشؤونها فيكفينها مؤونةَ الإبكار، وتَعَبَ شَدِّ الإزار. فكأنّ /تضحي/ سمة ترقى إلى مستوى المُماثِلِ (الإقونة) الذي يجسّد صورةًً حاضرة، لصورة غائبة، مماثلة لها.(1/372)
... ... ولقد يعزّز من صفة اليسار التي زعمناها آنفاً، وورودِها في دلالة مَدْلول سِمَة /تُضْحِي/: ما ورد في عَجُزِ هذا البيت الطافح بجمال المرأة الجاهليّة:
* نؤوم الضحى لم تنتَطِقْ عن تَفَضُّلِ.
... ... فقد كانت، إذن، هذه السيدة الماجدة نؤومَ الضحى ليَسارِها، وسُبوغِ نِعمتها؛ ولم تكن تحتزم على فَضْلْتِها إذْ كان الخَدَمُ والحَشَمُ يُجْزِئونها مؤونتَها؛ فلم يكن لها هي إلاّ التعطّر والتزيّن والتدلّل والتبرّج.
والثانية: ... ولمّا كانت هذه المرأة موسِرَةً، فإنّ صفةَ اليسار أتاحَتْ لها، أن تملأ فِراشَها مِسْكاً، وتضَمِّخَهُ عِطْرَاً، حتى يُشمَّ عبَقُه من بعيد. وهي صورة نسويّة مثيرة للرجل، لذيذة في النفس؛ وتنشأ عن الشمّ، قبل النَّظر. فكأنّ / فتيت المسك/ حين يُجَرَّدُ من حاسّة البصر، يغتدى، هو أيضاً، مماثلاً (إقونة)، إذ أنّنا نستطيع، بواسطة الشمّ، أن نَسْتَمِيزَ ذَفَرَ العِطْرِ، وعَبق الشَّذَى، وربما دلَّنَا على طبيعة المادّة المُقّطَّرةِ، أوالمستخْرَج منها، كَشَمِنَا، على هذا العهد، عطراً أنيقاً راقياً -فنعرف الدار التي صنعته دون أن يدّلنا على ذلك دالّ إلاّ حاسّة شمّنا، وصدق تجربتنا، ورفعة ذوقنا.
... ... فـ /فتيت المسك/ بالقياس إلى الأعمى، وبالقياس إلى البصير الذي لم يتمكّن من رؤيته لقًى على الفِراشِ، يغتدي حَتْماً مُماثِلاً (إقونة) في هاتين الحاليْن؛ فإذا هو سِمَةٌ شميّةٌ حاضرة (العبق المنتشر إلى نحو حاسّة الشّمّ)، دالّة على سمة غائبة (طبيعة العطر ومادّته).
والأخراة: ... ويمكن أن نستخلص من هذه الصورة النسويّة الباعثة على شَبَقِ الفحل من الرجال:
... ... أنّ هذه المرأة كانت على صلة جنسيّة بالرجل، وإلاّ ففيم كانت الحكمة من وراءَ تعطُّرِها، وتضخّمها؟ وأنّها ربّما كانت تسهر طائفة من الليل من جرّاء ذلك: وإلاّ ففيم كانت الحكمة من نومها إلى ارتفاع الضحى؟(1/373)
وكان امرؤ القيس من الشعراء الذين سبقوا إلى إفادتنا بأنّ المرأة الجاهليّة كانت تتعطّر، وأنّه كان لها حجر خاصّ كانوا يسمّونه المَدَاك، وكانت المرأة عَرُوساً أو غيرَ عَروسٍ، تَسْحَقُ عليه الطّيبَ:
* مَدَاكَ عَرُوسٍ (...).
وإنما خَصَّ امرؤ القيس المَداكَ بالعروس للزوم العِطْرِ لها أثناء الاِزْدِفَاف؛ فكأنّه عِطْرٌ إجباريُّ(54) الاستعمال.
ويبدو أنّ تلك الصورة الشمّيّة، التي كنّا نحلّلها، كانت حاضرة في ذهن امرئ القيس، وفي أَنْفِه أيضاً، وذلك حين باكَرَ بها يومَ أن وصف عِطْرَ أمّ الحويرث، وأمّ الرباب، وماناله منهما، أوْ ما أنلْنَاهُ منهما:
إذا قامتا تَضَوَّعَ المِسْكُ منهما ... نسيمَ الصَّبا جاءَت بِرَيَّا القَرَنْفُلِ
فهذه صورة نسويّة ضُمْخَتْ بالعِطْر، ورُشَّت بالقرنفُل، حتّى تضوَّع الجوُّ واعْتَبَقَ. وكأنَّ ذلك المسك الذي كانت تتعطّر به تانِك المرأتانِ يشبه رَيَّا القرنفل. وكأنّ امرأ القيس لم يكن يرتضي إلاّ المرأة المعطّرة المضمخّة، والمشبوبة بالمِسْكِ المعتبقة. وكأنّ ذلك المجتمع كان بلغ من التطوّر والتحضّر، والتنعّم والترهّف، ماكان يجعله يضاهي أيّ مجتمع آخر في بعض العصور التالية.
وإلاّ فما بالُنا نقرأ تلك الأبيات وهي تضوع بالعِطْر، ونتشمَّم في أولئك النسوة المَرْقِسيَّاتِ:
من العبق والشذى، والعطر والريّا، والمِسْكِ والقرنفل: ما يجعلنا نتمتّع بالشعر، كما نستمتع بشّم العطر، ونتلذّذ بالقول، كما نتلذّذ بالتنسّم: فيستهوينا جمال الشَّعْرِ، كما يستهوينا جمال النساء.
فكأنّ الصور الشعريَّة لدى امرئ القيس، حين تتمحّض للنساء، تغتدى مضمّخة معطّرة، فإذا أنت لا تلتمس الجمال الفَنِّيَّ في إيقاع الشعر وحده، وهذا أمر قبيل السِّمة الصوتيِّة، ولكنك تلتمسه أيضاً في جمال العِطْرِ وأَنَاقَتِه، وهذا شأن يتمحّض للسِّمة الشمّيّة.
(
( إحالاتٌ وتعليقات(1/374)
1-أشار القرآن إلى ذلك بقوله: (ولا تَقْتُلُوا أولادَكُمْ خَشْيَةَ إملاقٍ، نحن نرزقُهُمْ وإيَّاكُمْ)
سورة الإسراء، الآية:31.
2-(وإذا بُشّرَ أحدهُمْ بالأنُثْى ظَلّ وجهه مُسْوداً وهو كظيمٌ يتوارى من القوم من سوء ما بُشْرَ به: أيُمْسكهُ على هونٍ، أمْ يَدُسُّهُ في التُّراب؟)، النحل: 59.
3-ونصّ الأبيات التي خاطبت الأعرابيّة بها بعلها حين عاجَ على خِبائها، بعد سنة من ميلاد صَبِيَّتِها وهي تُرَقِّصُها:
ما لأبي حمزة لا يَأتِينا؟ ... يَظَلُّ في البيتِ الذي يَلينا
غضبْانَ أَنْ لا نَلِدَ البَنِيْنَا ... تَاللّهِ ما ذَلِكَ في أيْدينا
وإنّما نَأخُذُ ما أُعْطينَا ... ونحن كالأرْضِِ لِزَارِِعينا
نُنْبِتُ ما قَدْ زرعوهُ فِيْنَا
... (ينظر أبو عثمان الجاحظ، البيان والتبيين، 18901، 4704) (تحقيق ع. هارون) ويُنْظر أيضاً أبو العبّاس المبردّ، الكامل في اللغة والأدب،1، 281.
4-ومن ذلك ما يحكى من أنّ دريد بن الصِّمَّة خَطَبَ الخنساء بعد أن رآها تَهْنَأُ إبلاً لها (أي تَطْلِيْها بالهِنَاء (بكسر الهاء) وهو ضرب من القطران كانت الإبل تُطْلَى به على سبيل تَوْقِيتَها من الجرب) فَهَوِيَها، ولكنّ الخنساء ردّتْه بشيءٍ من القساوة قائلة: "أتُرانِي تارِكةً بني عمّي كأنّهم عوالى الرماح، ومُرتَشَّةً شيخ بَنِي جُشَمِ؟ ":ابن قتيبة، الشعر والشعراء،1، 350. (طبعة القاهرة).
5-م. س، 1، 240-241 (ط. القاهرة)، و145.1-146ط بيروت.
6-وممّن أورد قصّة التحكيم ابن قتيبة وخلاصتها أنَّ أمَّ جُنْدُب طلبَتْ إلى امرئِ القيس وعلقمة أن يقولا شعرا يصفان "فيه الخيل على رَوِيّ واحدٍ، وقافية واحدة "(فهل كانت أمّ جندب عروضيّة تعرف مصطلحات العَروض؟ ولعلّ هذا ممّا يشكّك في قضّية التحكيم. وربما كانت هذه الحكاية من نسج خيال بني تميم الذي ينتمي إليهم علقمة..) فقال امرؤ القيس من ضمن ما قال:
فللسّوط ألهْوبٌ وللِسَّاقِِ درَّةٌٌ ... وللزَّجْرِ منه وقْعُ أخرَجَ مُهذِبِ(1/375)
فأجابه علقمة:
فأدركهُنَّ ثانِياً من عِنَانِه ... يَمُرُّ كَمِرّ الرّائِحِ المُتَحَلّبِ
... فزعمت أمّ جندب أنّ علقمة أشعر لأنّ الفرس لديه أدرك طريدته وهو ثان من عنانه: "لم يضربه بسوط، ولامراه بساق، ولا زجره..."، بينما جهد امرؤ القيس "فرسه بسوطه، ومراه بساقه "م.س.
... ولو جئنا نحلّل هذين البيتين، ونوازن بينهما، لكانت الشعريّة في بيت امرئ القيس أجمل وأغنى، وهي تبتدئُ من هذا الإيقاع الذي يشبه عَدْوَ الحصان الكريم. وهو أدنى إلى واقعيَّة الأشياء حيث فرسُ امرئِ القيس يُشبْه الظّليم، وزجرُه له به واقع الأمر، بينما فرسُ علقمة مُفْعمٌ بالمُبالغة والادْعِاء، لأنه يُدرك الصيد وهو يَثْني من عِناَنه، ولأنه يشبه الريح السافية في رَكْضِه.. فهاتان الصفتان لا وجود لهما في عالَم الواقع.. راجع الحكاية في ابن قتيبة الشعر والشعراء، 1، 145-146.
7. م. س،1،351.
8-م.س. 241.1.
9. الشعر لعروة الصعاليك، أو عروة بن الورد، انظر الجاحظ، م. م.س، 23401
10. م.س.1، 236. والشّعر لعبيد بن الأبرص، وتتألّف القصيدة التي أوردها الجاحظ من أحَدَ عشر بيتاً.
11. ابن قتيبة م.م.س، 1،225 والبيت من أصلِ أبياتٍ ثلاثة: لعلقمة بن عبدة الفحل. وتتمّة الشعر:
إذا شاب رأْسُ المرءِ أو قَلّ مالُهُ ... فليس له في وُدّهنّ نصَيب
يُردَن ثَراء المال حيث عَلِمْنه ... وشْرخُ الشباب عندهّن عجيب
12. الجاحظ، م. م. س، 1،235 والشعر لأبي الأعور (زوج فاطمة أخت عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وفي بيته أسلم عمر، كما هو معروف) سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. وتألَّفُ المقطوعة، في الأصل، من سبعة أبيات.
13. ياقوت الحمويّ، معجم الأدباء،4،14 .(1/376)
14. لقد خصَصْنا مقالّةً كاملةً تحدثنا فيها عن حمّاد الراوية وخَلّفَ الأحمر وما دسّاه من أشعار لهما في أشعار الناس، وخُصوصاً حمّاداً الرواية الذي يقول فيه، مثلاً، ابن سلام الجمحي. إنه "كان غير موثوق به: كان ينحل شعر الرجل غيرَّه، وينحله غيرَ شعرِه، ويزيد في الأشعار (طبقات فحول الشعراء، 48.1 وكان ربَّما أنشأ القصيدة بِجَذَامِيرِها ثمَّ غَزَاها إلى شاعر آخرَ كما أقُدم على دسّ قصيدةٍ كاملة "على الحطيئة: م.س وكان يونس لا يلبث يردّد عن حمّاد: "العجَبُ لِمَنْ يأخذ عن حمّادٍ كان يكذب، ويلْحَن، ويكسر"، م.س".
... ... وإنما ناقشنا مسألة الدّين أو التدّين بناءً على شرح الزوزني الذي قال عن بيت عمرو بن كلثوم: "هنّ نساء من هذه القبيلة جمعن إلى الجمال الكرم والدِّين" (شرح المعلقات ص133) لكن بعض الجامعين لم يَرْو هذا البيت وأهمله فِعْل أبي زيد القرشي" جمهرة أشعار العرب").
15. البهبيتي، تاريخ الشعر العربيّ حتّى آخر القرن الثالث الهجري، ص100.
16. عبد الملك مرتاض، 1-ى، ديوان المطبوعات الجامعيّة، الجزائر، 1993
17. ابن قتيبة م.م.س 128.1 -131.
18. م.س، 134.1 وايّاه عَنَى امرؤ القيس حين قال:
عوُجا على الطّلل المُحيل لعّلنا ... نَبْكِي الدِّيارَ كما بَكَى ابْنُ حُمَامِِ
... وقد ورد اسم ابن حمام بروايات أخراةٍ مثل ابن خزام، وابن خذام، انظر البغدادي، خزانة الأدب، ولبّ لباب لسان العرب، 234.2-235 وحسن السندوبيّ، أخبار المَراقِسَة، ص82، 19. م.س. 130.1-131.
20. إشارة إلى الكلمة المأثورة: "النساءُ شقائِقُ الرِّجال".
21. ابن منظور، م.م.س، حرح هذا، وتجري هذه الكلمة مجرى المثل.
23. ابن قتيبة، م.م.س، 64.1.
25. ابن قتيبة، 130.1 وانظر أيضاً أبا الخطّاب القرشيّ، جمهرة أشعار العرب، ص39.
26. البهبيتي، م.م.س، 101.
27. ابن قتيبة، م.م.س، 216.1.
28. م.س
29. م.س، 220.1
30. البهبيتي، م.م.س
31. سورة الأحزاب، 33(1/377)
32. ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، 452.5
33. م.س
34. ابن منظور، م.م. س، برج.
35. الزّمخشريّ، تفسير الكشّاف عن حقائق غوامض التّنزيل وعيون الأقاويل، في وجوه التّأويل، 537.3 ابن كثير م.م.س، ابن منظور، م.م.س
36. الزّمخشريّ، م.س
37. الزّوزنيّ، شرح المعلقات السبّع، ص18.
38. م.س
39. ابن منظور، م.م. س، فضل.
40. م.س فتخ
41. م.س الزّمخشريّ، م.م.س
42. نقترح مصطلح "مُمَاثِل" للمصطلح الأجنبيّ "إقون" (icone) والذي عُرِّبَ تحت مصطلح "إقونة"، وذلك على أساس أنّ "المُمَاثِل"، في اللّغة السّيمائيّة، يعني صورة حاضرة تُماثِل صورة غائبة، سواء كانت ذهنيّةً أم حِسِّيَّة، وقد قلنا: "المُمَاثِل"، ولم نقل: "المُشابِه" لأنّهما معنيان مختلفان، ذلك بأنّ المُشابَهَة لا ينبغي لها أن تعني المُمَاثلة. فذلك، إذن ذلك.
43. الزّوزنيّ، م.م.س، ص19.
44. ابن منظور، م.م.س برد ذلك، وقد وَهِمَ لويس معلوف في معجمه "المنجد"، برد، وذلك حين ساوى بين البُرّدِ البُرْدَةَ فجعلهما بمعنىً واحدٍ والحالُ أن البُرْدة هي غيرُ البُرد فكأنّ البُرْدِ ثوب مخطَّطٌ موشّى (ويفهم من تعريفات المعجميّين القدماء أنّ هذا الثّوب لم يكن من الصّوف، فكأنّه ثوب منسوج من القطن أو الحرير"، بينما البُردَةُ كِساءٌ من صوف كان الأعراب يشتملون به، وإذن، فالبُرد ثوب للنّساء، والبُردة ثوب للرجال.
45.ابن منظور، م.م.س، جسد.
46. إشارة إلى قول امرئ القيس، لدى وصْفِه قنديلَ الرَّاهب:
"أمالَ السّليط بالذُبال المُفتّل"
47. ابن منظور، م.م.س، حلا.
48. والسّخاب قلادة كانت تنتظم من الخَرَز ونحوه تضعه الجارية في جيدها. ويبدو أنّه كان خاصّاً بالفقيرات، أو بالجواري قبل التّزوّج.
49. ابن منظور، م.م.س. وانظر أيضاً تركيب "فَلْهَم" في "لسان العرب".
50. م.س
51. م.س، فتخ
52. الزّمخشريّ، م.م.س
53. الزّوزنيّ، م.م.س، ص62.
54. أبو الخطّاب القرشيّ، م.م.س، ص45.
((((1/378)
9. مظاهر اعتقاديّة في المعلّقات
أوّلاً: معتقدات العرب في الجاهليّة
إنّنا نعتقد أنّ المعتقدات، بأنواعها وأشكالها وطقوسها الكثيرة المختلفة، قديمةٌ قِدَمَ الإنسان. ويبدو أنّ مفهوم المعتقداتِ مظهرٌ ذهنيّ عاطفيّ معاً ينشأ لدى الإنسان حين يضعف ويُحِسُّ بالصِّغَر والضَّآلة أمامَ قوى الطبيعة العاتية، وحين يقصُرُ عن تأويل ظواهر القوى الغيبيّة الهائلة التي تَذَرُهُ حيرانَ أمامَ كثيرٍ من المواقف والأحداث التي لا يُلفي لها تَفسيراً مُقْنِعاً، فيذعن لمعتقدات يعتقد أنها تنقذه مِمّا هو فيه، أو تُقَرِّبُه إلى تلك القُوى الغيبية التي يُؤْمِن بها. من أجل ذلك كانت غريزةُ العاطفةِ الدينيّة جبلّةً في سلوك الإنسان ومعتقداته منذ الأزل، ولكنّ طقوسها ومظاهرها هي التي تختلف.
ولعلّ حتّى أولئك الذين لا يؤمنون بالله تعالى، أو لا يوحّدونه، تراهم يَعْمَدونَ إلى الإيمان بمظاهر غيبيّة أخراةٍ فيقدّسونها تقديساً، ويعبدونها من دون الله زُلْفَى، طمَعاً في خيرها، ورغبة في أن ينالَهم شيءٌ من بركاتها، فيما يعتقدون. ولعل، من أجل ذلك كثرت الديانات غيرُ السماويّة، فشاعت عبادةُ الأصنام، وتعدّدت مظاهر الوثنية في شبه الجزيرة العربيّة فإذا كُلّ قبيلةٍ كانت تَتَّخِذُُ لها صَنَمَاً بعينه تَزْدَلفُ منه "وتَعْبُده على سبيل الشرك بالله: إمّا جَهْلاً، وإمّا مُكابرةً وعِناداً(1).
وقد "كان دينُ الحنيفيةِ غالباً على العرب يَدينون به حتى أنشأ عمرو بن قمعة(2) صنم اللاّت، فهم أوّل من غيّر دين إبراهيم وإسماعيل وكفَرَ بتعاليمهما، فهو، إذن، أوّل مَنْ عَبَدَ اللاّت من العرب. وكانت اللاّتُ صخرةً عظيمة فكان ابن لحي يَلُتُّ عليها الطعام (أي يَبُلُّهُ بالماء، ويَخْلِطُهُ بشيء من السمن)، ثمّ يُطعمه قومَه، فسُمِيَتْ تلك الصخرةُ اللاّتَ(3).(1/379)
ولكن قبل سعْيِ عمرو بن لحي كانت هناك معتقدات عربيّة قديمة تَمْثُلُ في تقديس الشمس والقمر خصوصاً، وقد أومأ القرآن الكريم إلى عبادة أهل اليمن القدماء الشمسَ، وذلك على عهد الملكة بلقيس(4). من أجل ذلك كانوا يسمّون أطفالهم باسم عبد شمس، على سبيل التبّرك والإقرار، ومن ذلك أنّ قَيْلاً من أقيال بني قحطان كان "يسمّى عبد شمس بن يشجب"(5) ويزعم صاحب التيجان أنّ سبأ بن عبد شمس هو الذي بنى سدّ مأرب(6).
وكانت العرب، لتقديسها الشمسَ والقمر، لا تفتأ تقول عن مالها مثل عبارة: "استرعيْتُ مالِيَ القَمَرَ (إذا تركَتْهُ هَمْلاً، لَيْلاً، بلا راعٍ)، واسترعْيتُه الشمسَ"(7) إذا أهملتْه نهاراً).
وقد عبّر عن هذا المعتقد العربيّ القديم طرفة بن العبد، فقال:
وكان لها جارانِ قابوسُ مِنْهُما ... وبشرٌ، ولَمْ اسْتَرْعِها الشَمسَ والقَمَر(8).
فكأنّ الشمس والقمر كانا مُوَكّلَيْنِ، في معتقداتِ قدماءِ العرب، بحفظ أموالهم، ورعاية أبنائهم، وكَلْئِهمْ من شَرِّ الشياطين، وحِفْظِهمْ من نَكَباتِ الدهر، وكأنّ اسم القمر مشتقّ، من بعض الوجوه، من التَقَمُّرِّ الدالِّ على قوّة الخِداع والمِحَال، والقدرة على المُباغتة والمُفاجأة. وكأنّ القمر، إِذن، مأخوذٌ من بعض ذلك، وهو تأويل اشتقاقيٌّ استنبطناه من المعاجم العربيّة القديمة(9).
وقد سرد القرآن شيئاً من تلك الوثنيات التي كانت قائمة في الجاهليّة على تقديس الشمس والقمر، ونهى عن استمرارها، وممارسة طقوسها، كما سبقت الإيماءة إلى ذلك في آَيَتَيِ النمل وفصّلت(10).
كما أنّ هذه المعتقدات كثيراً ما كانت تنشأ عن المبالغة في الأخبار، والتزيُّدِ في الروايات، والتهويل في مشاهد الأسفار، وقد ذكروا أنّ العجم كانت "تكذب فتقول: كان رجل ثُلُثُهُ من نحاس، وثلثه من رصاص، وثلثه من ثَلْج، فتعارضها العرب بهذا وما أشبهه"(11).(1/380)
ومن ذلكم اعتقادُ العرب في النار، وزعْمها المزاعمَ حَوالَها، فكانت تزعم في أساطيرها قبل ظهور الإسلام: "إنّ الغيلان توقد بالليل النيران، للعَبَثِ والتَحَيُّل، واختلال السابلة"(12).
وقد تحدّثتْ كتب السيرة النبويّة عن نار التحكيم اليمنية التي كانت تحرق الظالم، ولا تضير المظلوم(13). ويبدو أنّ هذه النار العجيبة كانت من نسج أخيلة بني إسرائيل الذين ربطوها بِحَبْريْنِ يهوديَّيْن: فهما اللذان لم تكن النار تُحْرقهما، وهما اللذان كانا يَحْكُمان بتلك النار بين المختصِمين: فهي نار تُحرْق العرب، ولكنها لا تُحْرِقُ اليهود(14).
ومن معتقدات العرب القديمة توهُّمُهُمْ أنّ كُلَّ شيءٍ كان يَعْرِفُ وينطقُ، في الأزمنة الموغلة في القدم، وأنّ الصخور كانت رطبة، فكانت تؤثِّرُ فيها الأقدامُ إذا وَطِئَتْها، وأنّ الطّلْحَ كان خَضِيداً: لا شوك عليه(15).
وعلى أننا لا نريد أن نذهب، في بحث هذه المسألة اللطيفة، إلى أبعد حُدودها التي، في حقيقة الأمر، خاض الناس فيها خيَاضاً، قَبْلنَا، وإنما آثْرْنا الكلامَ حَوَالَها من باب التمهيد والاستهلال لهذه المقالة. وهي إِشارات تدلّ على أنّ الجوّ الروحيّ، أو النفسيّ، كان مهيّاً، في المجتمع الجاهليّ، لِتُعشّشَ فيه المعتقداتُ، ولتتبوّأ لها مكانة مكينة في نفوس النساء والرجال. من أجل ذلك تعدّدت الديانات، وشاعَت عبادة الأصنام، وكثر التصديق بالأوهام أمثال السَّعالِي، والغيلان، والشِّقّ، والنَّسْنَاس، والرَّئِيّ..(16)، ومثل التصديق بأنّ الجنّ كانت تقرض الشعر وتُبْدِع الأدب الجميل(17).(1/381)
وقد أردنا، أن نقف هذه المقالة على طائفة من المعتقدات العربيّة القديمة المرتبطة بالطقوس الوثنيّة، والتي أومأت إليها المعلّقات السبعُ: كلُّها أو بعضُها، ونحلّلها تحليلاً انتروبولوجيّا مثل الذّبائح، والعَتَائِر، والتَّمائم، ومسألة تقديس الثَّوْر في المعتقدات الجاهليّة، وطواف العذارَى حول بعض الأصنام مثل طوافهنّ حوال صنم دَوارٍ، وغيرها ممّا له صلة بها كلعبة المسير التي كانت طقوسها العجيبة لا تخلو، هي أيضاً، من مظاهر اعتقاديّة.
ثانياً: الحيوان في المعلّقات
لقد كَلِفَ الشعراء، على عهد الجاهليّة، كلّفاً شديداً بتناوُل البقر والثور ووصفها، ومعالجة الحمار والأتان ونِعْتِهِما.. ولم يَنْبِه النقّادُ القدماءُ، وشارِحُو النصوص، إلى لطف هذه المسألة، وإلى إمكان ربطها بالمعتقدات العربيّة القديمة، وكان علينا أن ننتظر حتّى تتطوّر الدراسات، ويدور الزمن دورة سحيقة، وتتقدّم الأطوار بالمعرفة والعلم، من أجل أن تخصّص دراسات تحاول تأويل مُثِولِ الثور والحمار، في الشعر الجاهليّ، تأويلاً انتربولوجيّا قائماً على ادِّعاء وجود ترسّبات معتقداتية موغلة في القِدَمِ كانت سائدةً، في شبه الجزيرة العربيّة، ثمّ بادت، أو خمدت جَذْوتُها أو كادت.. وهي التي حملت شعراء الجاهليّة بعامة، وشعراء المعلّقات بخاصة، على أن يَعْرِضُوا لها، أو يومئوا إليها في أشعارهم.
وإذا كان النقاد الأقدمون لم يُعْنَوا بهذه المسألة ولم يجاوزوا، أو لم يكادوا يجاوزن، شرحَها على ظاهر النصّ، فإنّ المحدثين -وخصوصاً المعاصرين الحداثيّين -من النقّاد لم يفتأوا يتأوّلون التأويلات، ولم يبرحوا يذهبون في ذلك المذاهب حتّى تعسَّفوا، فعَدَوْا طَوْرْ المعقول.(1/382)
ولعلّ ما يذهب إليه الدكتور عليّ البطل من أنّ صورة الحيوان في الشعر الجاهليّ “تُنْبِئُ بأصول أسطوريّة قديمة كالثور الوحشيّ، وحمار الوحش، والظليم، والناقة، والحِصان، وهي من المعبودات الأساسيّة القديمة"(18) يندرج ضمن هذا المنظور.
وقد رأينا من خلال ما ذهب إليه الدكتور البطل أنّ كلّ حيوانٍ كان مقدّساً لدى أهل الجاهليّة: ابتداءً من الثور الوحشيّ، إلى الظليم، والناقة، والحصان. وهو مذهب من الصعوبة الموافقةُ عليه، لأنّنا لا نحسبه يستند إلى نصوص موثوقة، ولا إلى منطق مقبول، إذ لو أنّ العرب كانوا يعبدون هذه الحيوانات كلّها، حقّا، لما اصطادوها، ولما أكلوها، ولامتنعوا عن امتطائها في تَظْعانِهم، ولكانوا عَفُّوا عن تسخيرها في حياتهم الاقتصاديّة والحربيّة:
فالأولى: أنّ الذي يقدِّسُ حيواناً، ويعبده، لا يسمح لنفسه بايذائِه، بَلْهَ قَتْلَهُ واصطيادَه، بله أكْلَهُ والتهامَه. ولم نَعْثُرْ على نصّ من النصوص التاريخيّة، ولا الأدبيّة القديمة، ما يفيد أنّ العرب كانت تمتنع عن أكل لحمان الناقة، والفرس، والثور الوحشيّ، والنعامة، والعير..
والثانية: أننا لم نعثر على نصّ شعريّ جاهليّ يثبت أنّ العرب كانت تعبد كلّ هذه الحيوانات التي ذَكَرَ طائفةً منها الدكتور البطل. ولا نعتقد أن ما اسْتُكْشِفَ من رسوم، هنا وهناك، يَرْقَى، تاريخيّاً، إلى أن يدُلّ على تقديس العرب إياها، على سبيل القطع واليقين. فقد يرسم المرء ما يحبّ، كما قد يرسم ما لا يحبّ. وتظلّ المسألة، هنا، قائمة على التخمين والظنّ، لا على اليقين والقَطْع.
والثالثة: أنّ ما ذهبَ إليه الدكتور ابراهيم عَبد الرحمن من "أنه لم يحدث ولو مرة واحدة، أن قتل الصائد ثوراً في شعر الجاهليّين القَصَصِيّ، إلاّ في شعر صَدْر الإسلام"(19): لا نتّفق معه عليه، هو أيضاً، لجُنوحِنا إلى الاعْتقادِ بنقْصِ الاستقراءِ قبل إصدار هذا الحكم.(1/383)
وعلى أنّا لا ندري ماذا كان يعني الدكتور ابراهيم عبد الرحمن بقوله "في شعر الجاهلييّن القصصيّ"، على وجه الدّقّة؟ فهل كان يريد به إلى الشعر الذي يحكي فيه صاحبُه مغامرةَ صَيدٍ، أو نزهة طَرَدٍ، أم كان يريدُ إلى غير ذلك؟ ونحن ألفينا كثيرا من الأشعار الجاهليّة تتحدّث عن قتل الثور، أو العَيْر، وعن أكله -وهي مندرجة بشكل أو بآخر في مجال القصّ -ومن ذلكم قولُ امرئِ القيس:
فعادَى عِدَاءً بين ثورٍ ونَعْجةٍ ... دراكاً، ولم يَنْضَحْ بماءٍ فَيُغْسَلِِ
فظّلُّ طُهاةُُ اللَّحِمْ مِنْ بين مُنْضِجٍ ... صَفِيفَ شِوَاءٍ، أو قَديرٍ مُعَجَّلِ
ولعلّ ما يذكره الدكتور إبراهيم عبد الرحمن لم يرد إلاّ في أشعار قليلة منها معلّقة لبيد التي نلفي في بعضها البقرة تنتصر على الصّياد وكلابهِ معاً:
لِتَذُودهُنَّ وأيْقَنَتْ إنْ لَمْ تَذُدْ ... أنْ قدْ أحمّ مِنَ الحُتوفِ حِمَامُها
فتقَصَّدَتْ منها كَسَابِ فضُرِجَتْ ... بِدَم، وغُودرَ في المَكِرّ سُخامُها
لكنّ هذه البقرة لم تأتِ ذلكَ إلا بعد أن كانت، في الحقيقة، ابْتُلِيَتْ بعدوان الصيّاد وكلابِه على جُؤْذُرها، وبعد أن كانت أيقنت، بعد سبعِ ليالٍ مَضَّتْها تنتظره لعلّه أن يَؤُوبَ إليها، أنَّ ابنَها قد اُصْطِيدَ:
صادَفْنَ مِنْها غِرَّةٌ فأصَبْنَها ... إنّ المنايَا لا تَطِشُ سِهامُها
فكأنّ سلوكَ البقرة وغضَبَها كان ضَرْباً من التعبير عن الحُزْن الذي أصابَها بعد أن فَقَدَتْ جُؤذَرَها.(1/384)
وعلى أنّ المعركَةَ الضارَيَة التي تَحْدُثُ بين الصّيّادِ وبقرةِ الوَحْشِ، في معلّقة لبيد، لا تدلّ على أنّ هذه البقرة كانت مقدّسةً معبودةً لديهم على نحو صريح، بمقدار ما نلفي تصويراً دقيقاً وأميناً لها، قائماً على المُعايشة والمُخالطة والمُعاينة والمُمارسة، نابِعاً من التجربة والمُشاهدة: لِمَا كانَ الصَّيّادُ يكابده لدى اصطياده بَقَرَةً أو ثَوْراً. ولعلَّ مثل ذلك هو الذي حمل امرَأَ القيس على أن يفتخر بفرسه فيجعلَها سابقة إلى درجة خروجها عن مألوف العادة ممّا يعرف الناس من سرعة الخيل، فإذا جوادُه قَيْد الأوابِدِ، ولذلك استطاع أن يعادِيَ بين ثور وبقرة في طلْقٍ واحد دون أن يُلِمَّ عليه العَرَقُ، أو يصيبَه شيء من البُهْر والنَّصَب: فقد استطاع الصيّادُ بفضل هذا الحِصَان السابق أن يجارِيَ ثَوْرَاً ونعْجَةً في وقت واحد، فيتيح لصاحبه أن يقتلهما معاً، ليقدّمهما من بعد ذلك طعاماً شهيّاً لأهلْ الحيّ، فيشوِيَ منهم مَن شاءَ ما يشاء، ويطبخَ منهم مَنْ شاء ما يشاء، مِنْ لحومهما.
ثالثاً: أصناف الحيوانات والطير والحشرات
في المعلّقات(1/385)
لقد رصدنا من خلال قراءاتنا المعلّقاتِ السبعَ ما لا يقلّ عن ثلاثة وعشرين صِنْفاً من الحيوانات والطير والحشرات مثل الناقة وما في حكمها (البعير -المطيّة الخ)، والأرآم وما في حكمها (الرشأ- الغزال- الظبْي -الخ) والحصان، والنَّعام، والذئب، والثعلب، والبقر، والثور، والأَتان، والعَيْر، والأسارِيع، والمَكاكِيّ، والسباع، والأوْعَال، والحَمام، والحَيّة، والعُقَاب، والذُّباب.. وألفينا امرأ القيس أكثرَهم ذِكْراً لأصنافِها حيث ذكر في معلّقته ما لا يدنو عن أربعةََ عشَرَ صِنْفاً، ثمّ يأتي بعده لبيد وطرفة بذكر تسعةِ أصنافٍ من الحيوانات، ثم عنترة بذكر ثمانية أصْنَافٍ، ثم الحارث بن حلّزة بذكر سبعة، ثمّ زهير بذكر ثلاثةٍ فقط: وهي الناقة، والآرام، والأسَد، ومثله عمرو بن كُلثوم بذكر ثلاثة هي الناقة، والكِلاب، والخيل.
وعلى أنّ كثيراً من هذه الحيوانات وَردَ مكرَّراً، وقد بلغ التكرارُ لدى طرفة إحدى عشرة مرّة على الأقلّ للناقة وما في حكمها، وبلغت درجة التكرار لدى عنترة سبع مرات، ولدى لبيد خمساً، ولدى امرئ القيس وعمرو بن كلثوم أرْبعاً، ولدى زهير ثلاثاً، ولَمْ يقع التكرار لدى الحارث بن حلزّة.
وربما يأتي ذِكْرُ الخيلِ في المرتبة الثانية، ولكنْ بعيداً عن الناقة التي استأثر ذِكْرها بخمس وثلاثين مرة في المعلّقات السبع، حيث لم نُلْفِ ذِكْرَها يعلو إلاّ لدى عنترة وعمرو بن كلثوم بستّ مرّات، ثمّ لدى امرئِ القيس وزهير بزهاء ثلاثِ مرات. ولم يرد ذكر الخيل في معلّقات لبيد، وطرفة، وزهير، إطلاقاً.
ثم يأتي ذِكْرُ الظبي وما في حكمه بتواتُرٍ بلغ سِتَّ عَشْرَةَ مرّةً: أربع مرّات لدى كلٍّ من امرئ القيس، ولبيد، والحارث بن حلزّة وثلاثاً لدى عنترة، ومرّةً واحدةً فقطْ لَدى طرفة.
ثم يأتي ذِكْرُ النّعام بتسع مرّاتٍ: ثلاثِ مرّاتٍ لدى كُلٍ من زُهير، والحارث بن حلّزة، ومرّة واحدة لدى كلّ من امرئِ القيس، وطرفة، ولبيد...(1/386)
ولعل قائلاً أنْ يقولَ، ولا نحسبه إلاّ مكابراً مُناوئاً: وما بَالُ هذه الإحصاءات(20)؟ وما قيمتها ما دامت تنهض على جَهْدٍ عَضَليٍّ بَحْتٍ، وما دامت، بحكم يدويّتها، لا تستطيع أن تَبْرأَ من بعض الأخطاء لدى القيام بالإحصاء: إمّا زيادةً، وإمّا نقصاً؟ ولَوْلاَ عَدَلنَا عَنْها إلى إجراءٍ آخرَ أجدى نَفْعاً للقارئ والباحث معاً؟
ونحن مع اقتناعنا بأنّ الإحصاء لم يَكُ قطُّ لدينا غايةً في ذاته، ومع تسليمنا بأنّ نتائج الإحصاء لا تكون مسلّمة على سبيل القطع واليقين، فإننا، مع ذلك، نريد أن نُبْهِتَ هذا المعارضَ المُكابر، ونبْكّتَ هذا المُشاكِسَ المُناوِئَ، بأن نلقي عليه أسئلة أخراةً، وهي: بل ماذا كان يمكن أن نأتي، ونحن نتحدّث عن هذه الحيوانات في نصوص المعلّقات لَوْ لَمْ نَعْمدْ إلى هذا الإحصاء؟ وما الوسيلة الإجرائيّة التي كان يمكن بواسطتها أن نهتدِيّ السبيلَ إلى أنّ الناقة، مثلاً، هي التي استأثَرَتْ بالتواتُرِ لدى المعلّقاتيّين، وأنّها الحيوان الوحيد الذي ألفينا ذِكْرَهُ يَرِدُ في جميع المعلّقات؟ وما ضُرّ هذا الإحصاءِ، في هذه الاِستنتاجات، وقد أتاح لنا، كما أسلْفنا الْقَال، أن نعرف الحيوانَ الذي كان مستْبِدّاً، لدى المعلّقاتيّين، بالاهتمام، مستأثراً بالعناية، حاضراً في الأذهان، عالِقاً بالقلوب: وهو البعير الذي كان يُتّخَذَ رَكوبَةً، وطَعَاماً، كما كان يُتخّذُ لِمَنَافِعَ أخراةٍ كثيرةٍ كالاتّئِادِ والإمْهْار؟
وإذا كُنّا لَمْ نُلْفِ حيواناً، كان أكثرَ استبداداً بالحضورِ في نصوص هذه المعلّقات من البعير، فَبِمَا اتّصاله اتّصالاً وثيقاً بحياة أهل الجاهليّة.(1/387)
والحقُّ أنّ للإبل مكانةً مكينةً في المجتمع العربيّ البدويّ بعامة، والمجتمع الجاهليّ بخاصّة. ولعل من حقّنا، ونحن نحاول التركيز على موضوع الإبل، أن ننصرف بوهمنا إلى دَوْرِها الاقتصادّي في ذلك المجتمع بحيث كانت تُمَثّلُ أساسَ الحياة، بعد الماء، حتّى قالت إحدى بناتِ ذي الإصبع العُدْوانيّ: "الإِبل (...) نأكل لُحمانَها مُزَعاً، ونشْرَبُ ألبْانها جُرَعاً، وتَحْمِلُنا وضَعَفَتَنا مَعاً"(21) فكانت الإبل بالقياس إلى العرب طعاماً يقتاتونَه، وشراباً يتجرَّعونه، ومْركَباً يمتطونه:
1-كانت الإبلُ تُتَّخَذُ غِذَاءً إذْ لَحْمُها مِمّا يُؤكَلُ، في المجتمعات البدوية والصحراوية، إلى يومنا هذا. ويبدو أنّ أهل البادية كانوا يجدون في طَعمه نَكهة خاصّةً كانت تجعلهم يتلذّذون بطعمه تلذُّذاً، وربما كانوا يشوونه كما نفهم ذلك من حكاية امرئ القيس مع النساء يوم دارة جُلْجُل، حيث اقترح الشاعر على العذارى أن يعقر لهنّ ناقتَه، فرحبّن بالفكرة، وتقبّلن الدعوة، فجمع الإماءُ الحطب، وضرَّموا النار فيه، ثمّ أخذوا في شَيِّ لَحِمْ ناقة امرئ القيس:
ويوم عَقْرتُ للِعَذارَى مَطيّتي ... فيَا عَجَباً مِنْ كُورِها المُتَحَمُّلِ
فظلَّ العَذارى يَرْتَمينَ بلَحْمِها ... وشَحْم كَهُدَّاب الدَمقْس المُفَتَّل(22).
2-كانت الإبل تُتّخَذُ للنقل، وتُصْطَنَعُ في الأسفار، فكان يُرْتَفَقُ بها في مُرْتَفَقاتٍ اجتماعيّة كثيرة، لعلّ أعْرَفَها لدينا:
أ-إنهم كانوا ينقلون عليها بضائعهم في الأسفار التجاريّة (رحْلَتَا الشتاءِ والصيف لدى قريش)، ويحتملون عليها أمتعتهم في الارتحالات العاديّة التي كانت تقع لهم حين كانوا يتحمّلُونَ من حَيٍّ إلى حَيٍّ، ومن مَرْعى إلى مَرْعى، ومن ماء إلى ماء، ومن صُقع إلى صقع آخر.(1/388)
ب-إنهم كانوا يحتملون على مُتونها نساءَهم في الأسفار التي كانوا يتّخذون هوادج يُركِبون فيها نساءَهم على ظهورهم. ويبدو أنّ هذه الهوادج كانت تتّخذ للحرائر والعقيلات، ولم تَكُ تُتّخَذُ لعامّة النساء، ولطبقة الإماء. وكانت العرب تطلق على الرجل المديدِ القامةِ، الفارِعِها "مُقبّل الظُّعُن"(23).
وشاهُد استعمال الهوادج للنساء واحتمالها فوق المطايا، قولُ امرئ القيس مثلاً:
ويوْم دخَلْتُ الخِدْرَ: خِدْر عُنَيْزَةٍ ... فقالَتْ: لكَ الويلاتُ إنّك مُرْجلي
تقول وقد مال الغَبِيطُ بنا مَعاً ... عَقَرْتَ بعيري يا اُمْرأ الْقَيْسِ، فأنْزِلِ
3-كان يُنْتَفَعُ بوبرها انتفاعاً لطيفاً بحيث كانوا يرتفقون به في جملة من المرافق لعلّ أهمّها:
أ-كانوا يصطنعونها في نَسْج المَلابس بحيث كان نساؤُهم ينْسُجْنَ وَبَرَها لاتّخاذِها أثواباً يرتدونها. ولا يبرح الناس، إلى يومنا هذا، في جَنوب الجزائر مثلاً، ينسُجون، من هذا الوَبَر، بَرانِسَ. وهِيَ من أغلى الأثوابِ التقليديّة ثمَناً، وأجْملها لباساً عربيّاً، وأبهاها مَرْآةً للرجال، وأجلّها في المجالس والمَآقط.
... ... ونحن وإن كنّا لا نمتلك من المعلومات التاريخيّة ما يتيح لنا أن نحكم بِغَلاءِ سِعْرِ الملابس الوَبريّة قديماً، في المُجتمعِ الجاهليّ، إلاّ أننّا وقياساً على ما نعيشه إلى يومنا هذا في المجتمعات البدَويّة، نعرف أنَّ الوبر هو الأغلى، ثمّ يأتي من بعده الصوف، ثم الشَّعَر.(1/389)
... ... وإنما كان الوبر أغلى ثمَناً لأنّه أندرُ وجوداً في الأسواق، وأعزّ مادّةً في الإنتاج، على حين أنّ الصوف أكثرُ كثرةً في هذه الأسواق، وأيسر إنتاجاً لدى مُرَبيّ المواشي. أمَّا الشعر فلِرداءة مادّته، وخُشونتها، وعُسْرَ غَزَلِها ونسْجِها، وتساقُطِ أَسْقاطِ الشعَر منها أثناء الغزْل- وقد يتطاير الشعرَ على الطعام إذا كان منه قريباً، وربما صادف الطاعِمُ شيئاً من ذلك في أصل الطعام الذي يطْهوه النساءُ اللواتي لا يتشدّدن في التزام النظافة- فإنَّ زُهْدَ الناسِ فيه كثيرٌ، ورغبتهم عنْه شديدةٌ على الرغم من أنّ هناك مُرتَفَقاتٍ لا تليق إلاّ به، ولا يليق إلاّ لها، ومن ذلكم نسْجُ الخيام التي تُنْسَجُ أيضاً من الصوف والوبر(24)- بيد أنّ نوعيّة الخِيام الشّعَريّة هي الأردأ والأسوأ بالقياس إلى مادّتِيَ الوبر والصوف.
ب-كما كان العرب ينتفعون بالوَبَر في نسْج الأخبية، والبُجُد(25)، خصوصاً. وإنما سُمِّيَ سكّانُ الباديَة أهْلَ الوبر "لأنّ بيوتهم (كانوا) يتّخذونها منه"(26).
فوظيفة الوبر حين تربط بهذه الارتفاقات تبيّن لنا أنّ أهميّتّها الاقتصاديّة والعُمْرانيّة والغذائيّة عظيمةُ الشأن، شريفة المكانة، ذلك بأنّه كان يَقِي الناس حَرّ الشمس وَصَبَارَّة الشتاء، كما كان هذا الوبر زينةً في المجالس، وَجلالاً في المَحافل بحيث يُضْفي شيْئاً من البَهاء والسكينة على مُرتديه. بل كان أيْضاً ضرْباً من الطعام يُضْطَرُّ الناس إلى الاقتيات به أيّام المجاعات. ذلك بأنّ الأعراب البادين المحرومين، كانوا في أيّام المحَن والضُّرِّ، يُضطرّون إلى شَيّ هذا الوبر بعد أن يصبّوا عليه شيئاً من الدَّم ابتغاءَ الاقتياتِ به، وذلك هو العِلْهزُ(27).
4-وْديُ القَتْلى:(1/390)
كان من دأب العرب إذا وقعتْ حادثةُ قَتْلٍ بين شخص وشخص آخر، من قبيلتين مختلفتين، خارج إطار حرب معلنة، أو عَداوة مبيّتة: أن يحتكموا إلى حكمائهم لِوَدْي القَتيل، والاّ أُخِذَ بثأره دَمَاً. وكانت دِيَةُ القتيل، في حال الاتّدَاءِ، غالباً ما تتوقّف لدى مائةٍ بعيرٍ للقتيل الواحد، أو لافتكاك الأسير الواحد، فإن أسَرَ أسيراً رجلان اثنان، كان لكلّ منهما مائةٌ مِن البُعْران. فإن كان الأسيرُ سيّداً من سَراةِ القوم وأشْرافهم كانت الدِّية أكثرَ من ذلك كما وقع في افتداء معبد بن زُرارة الذي أسَرَه عامِرٌ والطُّفَيْل، ابنا مالك بن جعفر بن كلاب، فلمّا جاءهما لَقِيط ابْنُ زُرارة، أخو معْبَد، ليفتدِيَه منهما بمائَتَيْ بعير استَقَلاّ الدّيَة، وَقَالا: "أنت سيّد الناس" وأخوك معبد سيّد مضر، فلا نقبل فيه إلاّ دِيَةَ مَلكٍ(28)!
وقد نَهَى النبي عليه الصلاة والسلام عن أن يزيد وَدْيُ القتيل عن أكثر من مائة بعيرٍ، وعَدّ ذلك من فعل أهل الجاهليّة(29).
5-مهْرُ النِساء:
وكان الرجل الكريمُ رُبَّما مَهَرَ العقيلةَ العربيّة مائةَ بعيرٍ، بل كان ذلك هو الأغلب، وقد ظَلّ قائماً إلى أن جاء الله بالإسلام(30).
ويبدو أنّ العرب بدأت تستعيض عن الإبل بالدراهم حين شاع التداول بين الناس بالعملة المسكوكة بعد ظهور الإسلام، وبعد تدفّق الثروات، وتكاثر الأرزاق(31).
كما كانت الإبل تمثّل أساسَ الاقتصاد في المجتمع الجاهليّ فكانت هي مصدرَ أموالِهم، ومآل أرزاقهم، فكانوا إمّا أنْ يُرَبّوها فَتُنْتَجَ لهم فَيَبِيعُوا ما يفيض منها عن لُباناتِهم في الأسواق، وإِمَّا أن يُتاجِروا فيها فيتموَّلوا من ذلك أموالاً، ويُحرزوا أرْباحاً، فكان ذلك يحصل لهم، إذن، إمّا بالابتياع، وإمّا بالإنتاج، وإمّا بالاتّداء، وإمّا بالامتهار، وإمّا بالاتِّهاب..(1/391)
لم يكن البعير سفينةَ الصحراءِ فحسْب، ولكنه كان مصدرَ الحياة والبقاء، ولم يكن أحدٌ يستغني عنه من العرب على ذلك العهد، فالذي كان يُبْدَعُ به في تَظعانِه، من فقراءِ الأعراب ومَحْروميهم، كان ربّما اسْتحْمَلَ السّراة والأكارِمَ من الناس، كما حَدَثَ للأعرابي الذي استحمل الرسولَ عليه السلام قائلاً: "إنّي أُبْدعَ بي فأُحْمِلْنِي"(32) ولعلّ هذا الاهتمام الفائق بالبعير هو الذي أفضى إلى نشوء طائفةٍ من الطقوس والمعتقدات والوثنيّات حَوَالَهُما، فإذا نحن نصادف في هذه الطقوس الفولكلوريّة لُعبةَ الميْسرِ القائمة على نَحْر الإبل، ثم توزيع لُحمانِها على الفقراء والغرباء والضِّيفانِ، كما نصادف معتقدات ووثنيّاتٍ أخراةً تنهض من حولها مثل معتَقَدِيِ البليَّة والعَتيرة وسَوائِهِما. ولنبدأْ في تحليلها بما انتهَيْنا منه.
1-العتيرة:
وردت هذه المُعْتَقَدةُ المرتبطةُ بعادات أهل الجاهليّة، الوثنيّة، في معلّقة الحارث بن حلّزة، لدى قوله:
عَنَتا باطلاً وظُلْماً كما تُعْـ ... تُر، عن حَجْرَةِ الربيض(33)، الظّبَاءُ
فقوله:/ كما تُعْتَرُ/ إيماءةٌ إلى طقوس وثنيّة قديمة كانت تُمارَسُ في معتقدات الجاهليّين، وظلّت قائمةً إلى أن جاء الله بالإسلام فأبطلَها. وينصرف معنى "العَتْر"، و"العَتيَرِة" إلى جملة من الطقوس المعتقداتيّة، لعلّ أهمّها:
أ- أنّ العَتْرَ كان عبارة عن "شاةٍ كانوا يذبحونها في رَجَبٍ لآلهتهم"(34) وكانوا يدَمُّونَ رأس صَنَمِهم الذي كانوا يقَرِّبون له عَتْراً، في هذا الشهر المحرّم: بِدَم العتيرة. وكانوا يطلقون على تلك الطقوس الوثنيّة العجيبة "أيّام ترْجيبٍ وتعْتَارٍ"(35).
ب- كانوا يذْبَحون أوّل ما يُنْتَجُ لهم لآلهتهم على سبيل التبرُّك، والتماس الأزدِلاف منها.(1/392)
ج- وهناك المُعْتقدةُ (التي أومأ إليها الحارث بن حلّزة والتي كانت متمِثّلة في أنّ الرجل منهم "كان يقول في الجاهلية: إن بلغت إبلي مائةً، عَتْرتُ عنها عَتِيرةً، فإذا بلغت مائةً ضَنَّ بالغنم فصادَ ظَبْياً فذبَحه"(36).
وكانوا في كلّ الأطوار، إذا ذبحوا عتائرهم، يَصُبُّونَ دمها على رؤوس الأصنام المقرّب إليها. وكانت طقوس الذّبْحِ تَتِمُّ، فيما يبدو، في كلّ الأطوار، في شهر رجب. ولعلّ من أجل ذلك كانوا يطلقون على هذه المُعْتقَدةِ الوثنيّةِ: الرجبيّة(37).
د- وكان العَتْر بمثابة النَّذْر، في الشؤون العامّة، بحيث كان الرجل، على عهد الجاهليّة، إذا طلب "أمراً: نذَرَ لئِنْ ظَفرَ به ليذْبَحَنّ من غنمه في رجب: كذا وكذا. وهي العتائر أيضاً. فإذا ظفَرَ، فربما ضاقت نفسُه عن ذلك وَضَنَّ بغَنَمِه، وهي الربيض، فيأخذَ عدَدَها ظِباءً فيذبحها في رجب مكان تلك الغنم"(38).
وقد شرح ابن منظور بيت الحارث بن حلّزة الذي نحن بصدد تحليل بعض الطقوس الفولكلوريّة فيه، فذهب إلى أنّ "معناه: أنّ الرجل كان يقول في الجاهليّة: إن بلغت إبلي مائةً عتْرتُ عنها عتيرةً، فإذا بلغت مائةً ضَنَّ بالغنم فصاد ظَبْياً فذبحه. يقول: فهذا الذي تَسَلُونَنا اعتراضٌ وباطلٌ وظُلْمٌ، كما يُعْتَرُ الظَّبْيُ عن ربيض الغنم"(39).
فالعتيرة، إذن ذبيحةٌ كان أهل الجاهليّة يتقرّبون بها لآلهتهم كلّما ألمّ عليهم رجَبٌ في طقوس وثنيّة عجيبة إلى أن جاء الإسلام "فكان على ذلك حتّى نسخ بعد"(40)، وذلك بنهْي النبيّ عليه السلام عن ذلك في الحديث المعروف: "لا فرْعَ ولا عَتِيْرَةَ"(41).(1/393)
ولقائِل أن يعترض علينا فيقرّر أنّ أمر هذه العتيرة خالصٌ للغنم، ومتحوّل عنها إلى الظِباء، فما بالُ الإبلِ وهي هنا منشودَةٍ للْعَتْر، ولا مطلوبةٍ للنّحر، ونحن نُجيبه مبكّتين إيّاه: إنّ كلّ هذه الطقوس لم تكن إلاّ من أجل أن يبلُغَ تعدادُ إبل الرجل مائة، فلمّا كانت هذه الإبل هي موضوع هذه الطقوس، وهي الغاية التي كانت من أجلها تتّخذ هذه الوسيلة، فقد اقتضى الأمر أن تكون هي مركزَ الاهتمام، ومِحْوَرَ العنايةِ في هذه المقالة التي انزلقنا فيها من العناية بالإبل، والارتفاق بها، والانتفاع من بَيْعِها إلى حُبّها، والحرص على امتلاكها، إلى درجة إيرادِ شأنها ضمن طقوس كَهْنوِتيَّةٍ كانت تُقامُ كُلّ شهرِ رجب من العام.
2-البَلِيَّة:
ورد ذكر البليّة في بيت واحد من معلّقة لبيد، وهو:
تأْوي إلى الأطْنَابِ كُلُّ رديَّةٍ ... مِثْلِ البليَّةِ قالِصٍ أَهْدامُها
وكانت البَليّةُ تُطْلَقُ على الناقة التي كانت تُشَدُّ إلى قَبْر صاحبها: فلا تبرح هنالك، جوعا وظمأ، حتّى تَهْلِكَ. وكانت هذه العادة الوثنيّة مرتبطةً بفقدان عزيز عليهم، وأثيرٍ لديهم، فكانوا إذن "في الجاهليّة يَعْقِرون عند القبر بقرةً أو ناقةً أو شاةً، ويسمّون العقيرة: البليّة"(42).
ولكنهم لم يكونوا يجتزئون بنحر ناقة أو بقرة على قبر الفقيد العزيز، فكانوا يتّخذون عادة وثنيّة أخراةً كانت تَمْثلُ في عَقْلِ ناقةِ عند قبره: فلا تُعْلَفُ ولا تُسْقَى إلى أن تموت. وربما حفروا لها حفيرةً، وتركوها فيها إلى أن تموت"(43).(1/394)
فالناقة، كما رأينا، كانت مَظِنّةً للضَّنِّ بها لدى تكاثُرها، لِشِدَّةِ حِرْصِهم على اكتساب أعداد كثيرة منها. كما كانت، في الوقت ذاته، جزءاً من حياتهم الروحيّة، في حدودها الجاهليّة: فكانوا يعتقدون أنّهم إذا نحروها على قبر العزيز عليهم انتفع بذلك وناله منها ما يحبّ. ولم يجتزئوا بذلك حتى قاسوا على العادة الوثنيّة عادةً أخراة هي عقلُ ناقةٍ من حول قبر الميت واتِّرَاكها هنالك جوعاً وظمأً حتى تهلك بالموت البطيء. وهي عادة سيئة، بل شنيعة في حقّ الحيوان. إنّ إهلاكَ هذا الحيوان المسكين، بممارسة هذه العادة الوثنيّة الفظيعة، كان سلوكاً غيرَ متحضِّرٍ، ولا يليق إلاّ بأهلِ الجاهليّة الأولى.
3-المَيْسِر:
وورد ذِكْرُ لفظ الميسر، هو أيضاً، في بيت واحد للبيد، وهو:
وجزُورِ أيْسارٍ دَعَوْتُ لِحَتفها ... بمَغالقٍ مُتَشابِهٍ أجْسَامُها
وبيت واحد لعنترة، وهو:
رَبذٍ يَداهُ بالقِدَاحِ إذا شتَا ... هَتّاكِ غاباتِ التّجارِ مُلَوِّم
فلقد كانت الجَزورُ التي لم يكن يستطيع القمارَ بها غيرُ الأغنياء، في حال الرّبح، تُبْذَلُ لفقراء الحيّ وغُربائهم. وكانت هذه اللّعبة الوثنيّةُ التي لا تخلو من طقوس معتقداتيّة، يُلْعَبُ بها في فصل الشتاء، بل في كَلَبِهِ، كما يُفْهم ذلك من بيت عنترة(44). وكانوا يأبَونَ أن يَطْعَمُوا منها، كما كانوا يأبَوْنَ بيعَ لِحَامِها. ولذلك قال لبيد بعد البيت الذي اثبتناه له منذ حين:
فالضيْفُ والجْارُ الجَنيُب كأنّما ... هبطا تبالَةَ مُخْصباً أَهْضَامُها
وذلك على أساس أنّ لحُمانَ هذهِ الجزور كانت تُقدّمُ للغرباء، والضِّيفَانِ، والجيرانِ، وعامّة الفقراء في الرّبْع، فكانوا يُمْسون في رغدٍ من العيش بَعْدَ شظَفٍ، وفي سَعَةٍ من الأمر بعد ضِيقٍ.(1/395)
ولعلّ الأهمّ في لُعبة الميْسِرِ تلك الطقوس المعتقداتيّة التي كانت تصطحب ممارستها: من إِحضار الأقداح، وتحَفّز الياسرين، واختيار الحَكَمَ الذي كان يُجَلْجِلُ تلك الأقداح في الرّبابة، ثمّ يخرجها، فيخرج باسم كلّ لاعبٍ قدْحاً معيّناً..
وقد ذكر ابن سيده أسماء الأقداح العَشْرَةِ، ولكنّه لم يحدّد مقاديرَ أجْزائِها، وهي لديه: "الفَذّ، والتَّوْأَمُ، والرْقِيب، والحِلْسُ، والنافِسُ، والمُصْفَحُ، والمُعَلّى. فهذه التي كانت لها أنْصِبَاءُ وهي سبعة(...) والسِّهامُ التي لا أَنْصِبَاءَ لها: السَفيحُ، والمنيحُ، والوَغْدُ"(45).
ويبدو أنّ اختلاف اللغويّين والرّواة حول وَصْفِ هذه اللعبة الوثنيّة التي كانت تنهض، أساساً، على التفاخُر والتباهي بإظهار الثّراء، والمقدرة على الإنفاق: كان يعود إلى أنّ الأعرابَ أنفسهُم الذين رُويَتْ عنهم مواصفاتُ هذه اللعبة كانوا ربما عجزوا عن معرفة تفاصيلِها، فقد زعم أبو عُبيْد أنّهُ سَأَلَ "الأعراب عن أسماءِ القِداح فلم يعرفوا منها غيرَ المَنيح، ولم يعرفوا كيف يفعلون في الميسر"(46).
أمّا الاختلافُ في مقادير أجزاء الجَزور، أو الأنْصِبَارْ، بين عشرة وثمانيَة وعشرين، فقد يعود إلى الاختلاف بين أبي عُبَيدَةَ الذي ذهب إلى أنّهم كانوا يجعلون الجَزوَر عشْرةَ أجزاءٍ، ثمّ يتقامرون عليها"(47)، من حيث زعم الأصمعي أنهم "كانوا يجعلونها ثمانيةً وعشرين جُزْءاً، ثمّ يقتسمونها على القمار(48)".
ونحن نفترض أنّ علة هذا التباعد في وصف هذه اللعبة بين الروايتين قد يعود إلى أنّه، ربما، كان هناك ضَرْبَانِ من المَيْسِر: أحدهما ينهَض على تقسيم ثمانيةٍ وعشرين، وأحدهما الآخر يقوم على تقسيم عشرة فحسب، تبعاً لعاداتٍ قبليّة، وخصوصيّات ظرفيّة.(1/396)
وقد فصّل الزمخشريّ، تفصيلاً تفرّد به وحده، فيما ألْمَمْنا عليه من مصادر، أنصباءَ الأقداح، وكيفيّة اللِّعِبِ بالجَزور، ولكنه هو بلَغَ بها إلى تسعة وعشرين نصيباً، كما سَنرى من النص الذي سنثبته، والذي يقول فيه الشيخ: "وكانت لهم عَشْرَةُ أقداحٍ، وهي الأزْلامُ، والأقْلامُ والفَذّ، والتوْأمُ، والرّقيبُ، والحِلْسُ، والنّافِس، والمُسْبِلُ، والمُعَلَّى، والمُنيفُ، والسَّفيحُ،، والوَغْدُ. لكلّ منها نصيب معلوم من جَزورٍ ينحرونها، ويُجَزِّئونها عشرةَ أجزاء. للْفذِّ سَهمان، وللتوأم سهمان، وللرقيب ثلاثة، وللحِلْسِ أربعة، وللنافس خمسة، وللمُسْبِل سِتّة، وللْمُعَلّى سبْعَة: يجعلونها في الرّبابة -وهي خريطة- ويضعونها على يَدِيْ عدْلٍ. ثم يُجَلْجِلُها، ويدخل يده فيخرج باسم رجُلٍ رَجُلٍ قِدْحاً منها. فمَنْ خرج له قِدْحٌ من ذَواتِ الأنصباءِ أخَذَ النصيَب الموسومَ به ذلك القِدْحُ. ومَنْ خرج له قدحٌ مِمّا لا نصيبَ له لَمْ يأخُذْ شَيْئاً، وغَرِمَ ثَمَنَ الجَزورِ كُلّه.
وكانوا يدفعون تلك الأنصباءَ إلى الفقراء ولا يأكلون منها. ويفتخرون بذلك، ويذمّون من لم يدخل فيه، ويسمّونه البَرّم..."(50).
ويمكن أن نستخلص من نصّ الزمخشري أموراً لعلّ أهمّها:
1-أنّ الزمخشري يذكر في الحقيقة في هذا النص اثنيْ عشرَ قدْحاً لا عشرةَ أقداحٍ، فيضيف على ما ذكره ابنُ سيده اثنيْن وهما: الأزلام، والأقْلام.(1/397)
2-يختلف الزّمخشري مع ابن سيده في مستوَى تحديدِ أسامِي بعض الأقداح فيجعل الزمخشري المُصفح مسبلا، وهما بمعنى واحد في قول(51)، وبمعنيين مختلفين في قول آخر إذ يجعل ابن منظور المسبل خامس الأقداح(52)، والمصفح سادساً فيقرر: "المُصْفَح من سهام الميْسر: السادس. ويقال له: المُسْبِل أيضاً"(35). فابن منظور نفسه يضطرب في تحديد معنيَيْ هذين القِدْحيْن، فإذا كانا بمعنّىً واحدٍ في القول الثاني، فكيف يكون المُصْفَحُ خامِساً في القَوْل الأول: فالمُسْبِلُ خامسُ الأقداح في مادة (سبل)، فهو إذن يختلف مع المُصْفح الذي هو سادس الأقداح (صفح) لكنّ الذي أرْبكَ هذه التحديدات ذهابُ ابن منظور إلى أنهما بمعنىً واحدٍ (صفح)؟
3-إنّ الناسخ حرّف لفظ "المَنيح" فجعله في تفسير الكشّاف، كما رأينا ذلك في النص المثبت، "منيفاً". ونَحْنُ لا نعرف المنيف على أنّه مرادِفٌ للمَنِيح.
4-إنّ الزمخشري لا يجعل للأزلام والأقلام أيَّ سهْمِ، ويشرع في تحديد أنصباءِ الأقداحِ ابتداءَ من قدْحِ "الفّذّ".
5-يذكر الزمخشري لقدح الفَذّ سهمْين اثنيْن، مَثَلُهُ مَثُل قدْح "التوأم" ممّا يجعل، في هذه الحال، عددَ الأسهم تسعةً وعشرينَ، لا ثمانيةً وعشرين. ونحن نعتقد أنّه وقع سهوٌ للمؤلّف، أو لأحد نسّاخ تفسيره، إذْ جعل للفَذّ سهمْين اثنيْن، وهو مذهب غيرُ صحيح، إذ الفذّ، بحكم منطوقه لا يدلّ إلاّ على سَهْمٍ واحد. وقد قررت ذلك معاجم اللغة العربيّة القديمة الموثوقة(45) وممّا يدلّ على ذلك أنّ تحديد الانْصِبَاءِ يبتدئُ بالواحِدِ المعيّن للقِدْح الأوّلِ الذي هو الفَذّ، ثمّ بالاثنين المعيّنيّن للقِدْح الثاني الذي هو التوأم -الذي يدلّ لفظه على معناه هنا-، وبالثلاثةِ الأسْهُمِ لِقدْح الرقيب الذي هو الثالث في ترتيب أقداح الميسر، وهلمّ جرّا..(1/398)
6-ونلاحظ أنّ عدد سبعة يلعب دوره في هذه اللعبة الفولكلوريّة الوثنيّة حيث تبتدئ الأقداح بنصب واحد وتنتهي بسبعة أنصباءَ لدى القِدْح السابع -من ذوات الأنصباء- الذي هو المُعَلّى. بينما لا يغيب العدد الفولكلوريُّ الثاني الذي هو ثلاثة حيث يشمل ثلاثة أقداحٍ لا أنصباء لها. كما لا يغيب العدد الفولكلوريّ الثالث الذي هو عشرة حيث جعلت هذه الأقداح، في أصلها عشرة، ثم صنّفت سبعة منها لوظائف معيّنة، كما صنّف منها ثلاث لوظائف معيّنة. ونلاحظ أنّ عدد سبعة، وهو العدد الفولكلوريّ بامتياز في جميع الثقافات الإنسانية البدائيّة، ينهض بوظيفتين: الوظيفة الأولى أنه يكون خاتمة لأقداح الميسر ذوات الأنصباء. والوظيفة الأخراة أنّ القدح السابع في الترتيب يستبدّ بسبعة أنصباء.
وكان الحَكَم الْتُرضَى حُكومَتُه بينهم يُخرِجُ الأقداح من الرَّبَابة، بعد جَلْجَلتها، فيَخْرج إمّا القدح الرابح، وإمّا القِدْح الغُفل. فمن خرج له قِدْحٌ رابح فاز وأخذَ نصيبه من الجَزور ثمّ وزّعها على فقراء الحيّ ومساكينه وغُربائه، ومَن خرج له القِدْحُ الغُفْل غُرّمَ ثمن الجزور كلّها.
والذي يتولى قِسْمَةَ الجزور يسمّى اليَاسِر، والذين يتولّون الضْرب بالقِداح -وهم المتقامرون على الجَزور- يسمّون الياسِريَن(55). وأمّا الذي يرفض الدخول، مع المتقامرين، في هذه اللعبة التي لا تخلو من طقوس معتقداتيّة فيُسَمّى، كما سبقت الإيماءةُ إلى ذلك، البَرَم. ويبدو أنّ اشتقاق لُعبَة المَيْسِر جاءَ من اليُسْر، وذلك على أساس أنّ الربح فيها يأتي من غير كدٍّ ولا تعب.(1/399)
بيد أنّ هذا الوجه من الاشتقاق لا ينهض على منطِق الأشياء، إذ ليس الربح، في هذه اللعبة، إلاّ شَكلياً، إذ الرابحُ لا يجوز له، في طقوسهم، أن يُفيدَ من الأنصباءِ التي رَبِحَها من الجذور والا اغتدى ذلك عليه عاراً. فكأنّ هذه اللعبة، من الوجهة العمليّة، لا رِبْحَ فيها: فالياسر إمّا خَاسِرٌ فيغْرَم ثمن الجزور، وإمّا لا خَاسِرٌ ولا رابح!
وتشتمل هذه اللعبة على طقوس فولكلوريّة مُثيرة، منها:
1-اجتماع الياسرين في صعيد واحد نفترض أنّه ساحةٌ من سَاحِ الحيّ، وتَجَمْهُر الفقراء والمتفرجين والفُضوليّين من أطفال ورجالّ، وانتظار نتائج اللعبة الفولكلوريّة.
2-جمْع الأقداح وإدخالها في رَبابَتِها، والتحقُّق من عَدَدها وصفاتها.
3-التشاوُر والتفاوض حول اختيار العَدْل الذي يحكم بينهم.
4-جمع الإبل التي تنحر في وجْهٍ من ساحة الحيّ والأطفال ينظرون ويعجبون، والفقراء ينتظرون ويأملون، والقرِمون إلى اللّحم يتلمَّظون.
وواضح أنّ هذه اللعبة لم تكن تُلْعَبُ لوجه الله، ولا رغبةً في إطعام الفقراء والمساكين، ولا تطلّعا إلى التخفيف من عناء المُعْوزين، ولكنها كانت قِماراً كان أغنياءُ أهل الجاهلية يأتونه تَبَاهياً وتفاخراً، وتَعَالياً وتكابُراً، لا كرَماً ولا سخاء. وإلاّ فما كان يمنعهم من أن يتصدّقوا على المُحْتاجين دون هذا التهويل الإعلاميّ حيث كانت أخبارُ هذه المجالس، حتماً، تسير بذكرْها الرُّكبان، ويَسمُرُ بتًردادِها الشيوخ والوِلْدان.
وأيْاً كان الشأن، فذكر هذه اللعبة، بصرف النظر عن كونه يحتمل معتقداتٍ أو لا يحتمل، فإنها تنهض على نحر الإبل والتفاخر بنحرها، للتقامر بلحومها.(1/400)
وأمّا إيلاعهم بذكر الخيل، وَكَلَّفهم بوصْفها، بل ذهاب بعضهم في ذلك، ونبغي به عنترة، إلى حدّ محاورَتِها ومُحادثتها باللغة السماءَوِيَّةِ، فلأنّها حقّاً كانت أثيرةً لديهم، عزيزة إلى قلوبهم، جليلةَ القدر في عيونهم، فكان الفارس ربما تغنّى بجواده، وافتخر بكَرَمَه، وانتقى له اُسماً يُناديه به(56) بل ربما كان الفارس العربيّ يؤثره على أبنائه الصغار(57)، فقد كانت "الخيل حصون العرب، ومنبت العزّ، وسلّم المجد، وثمال العيال، وبها تدرك الثأر، وعليها تصيد الوحش، وكانوا يؤثرونها على الأولاد باللبن، ويشدّونها بالأقنية للطلّب والهرَب"(58).
وقد برع في وصف الخيل من أصحاب المعلّقات امرؤ القيس وعنترة خصوصاً، على حين أنّ الذي عُني بإِظهار منافِعها، وتوصيف مكانتها أيّام الحرب، وأنّ النساء هنّ اللواتي كنّ يَقُتْنَها ويَعْلِفْنها: إنما هو عمرو بن كلثوم.
بيد أنّ الذي وصف الفرس، وصال وجال في الأطوار التي يتّخذها حين يسابق، وحين يعادي الثوّرَ والبقَرة، وحين يغتدي مِكَرّاً مِفرّاً، وحين يكون مُقْبلاً مُدبراً معاً، وحين يُمْسي قَيْدَ أوابد:
شديدَ الاقتدار على المُسابقة والمُلاحقة، وقويّاً على المُعاداة والمُطارَدة، إنما هو امرؤ القيس ابن حجر. فكأنّه الشاعر الذي أسّس أصول الوصْف، في معلّقته، لأطوار هذا الحيوان الجميل، وخلّد بعض النعوت التي تُحْمَدُ فيه، والتي إذا وفرَتْ في صفاته كان سابقاً لاحقاً، لا مُصَلّياً ولا سُكَّيْتاً(59).
ولقد أحبّ العرب الفرسَ وأصَّلُوها، وعتَّروا نسَبَها، وغالَوْا في التماس أوصافها على النحو الأكمل، والوجه الأمثل، لأنّ هذه الفرسَ هي التي كان الفارس يمتطيها يومَ الزينة، ويظهر عليها في المآقط، ويقاتل عليها يوم الهيجاء، ويعادي بها الوحْش يوم الصّيدِ، ويتظاهر بها على التّظعان، كما يتباهى بها في الرياضة يوم الاسْتباق.(1/401)
فلا عجب أنْ أَلْفَيْنَا ذِكْرَ الفَرَسِ يأتي في المعلّقّات بعد البعير والناقة، ولا عجب أن ألفينا كُلاً من امرئ القيس وعنترة وعمرو بن كلثوم يختصَّه بَمكانه مَكينة في معلّقته، على تفاوت في الوصف، وعلى اختلاف في التعامل، ولكنْ على اتفاق في حبّ الفرس، والافتخار بكرمه وعِتْقِه.
وقد لا يقال إلاّ بعضُ ذلك عن الظبي وما يرادفه، أو يقترب من معناه، من رِئْم، وَرَشَإِ، وجَدَايةٍ.. حيث لم يذكر في المعلّقات بخاصّة، وفي الشعر الجاهليّ بعامّة، إلاّ في معارض تشبيهِ الحبيبةِ، أو استعارتِه لها. وقد استرعى الشاعرَ الجاهليّ ما في هذا الحيوان الجميل من صفات الرشاقة حين يعدو، ثمّ ما فيه من طول الجِيْدِ حين يَنُصُّه، وما له من سَواد المُقلتين حين يرْنو، ثمّ ما استَأْثَرَ به من الضعف حين يُصاد. وقد ظلّت هذه الصفات الأربعُ- على وجه الدهر، وفي جميع الثقافات، ولدى عامّة الأذواق- منشودةً في المرأة الجميلة، مطلوبة في الفتاة الرشيقة.
ولم يَكْلَفِ الشعراء حبيباتهم بالآرام لمجرّد أنَّهنَّ كنّ يُشْبِهْنَهَا، ولكنّ ذلك شاع في أشعارهم لأنهم كانوا يعايشون هذا الحيوان، ويصطادونه يوم الطَرَّدِ، ويشاهدونه في تَظعاناتهم وتنزُّهاتهم، فلم يكن ذِكْرُه، إذن، إلاّ من باب رسْم البيئة التي كانوا فيها يَحْيَوْن، ووصف المحيط الذي كانوا فيه يضطربون.
وقد ظلّ الظبي (أو الغزال في اللغة الأشيع بين الناس في هذا العصر مجسِّداً للصورة الجميلة التي توضع فيها المرأة حين يراد نعْتُها بخِفَة اللحم، وهَضْمِ الكشح، وطول الجِيد، وسواد المُقلتين، ورشاقة الحركة، وضعف المقاومة، على المقاومة..(1/402)
وقد عَرضَ لذكر الظّبي وما في معناه مثل الرئم، أو الرشإِ، أو الشادِنِ، أو ما في حكم هذه الأسماء المتقارِبَةِ المعانِي والتي كانت تطلق كلّها على الغزال، أو على أنواعٍ منه، كالجِداية، والرَّبْرَب: خمسة من المعلّقاتيين هم امرؤ القيس، ولبيد، وعنترة، وطرفة، وزهير بتواتُرٍ لديهم مجتمِعين اثنتَيْ عشرة مرةً استَبدَّ منها امرؤ القيس ولبيد، وحدهما، بثَمانٍ.
وعلى أنّ زُهيراً لم يذكر الأطلاءَ (ويطلق الطّلاَ في العربيّة على ابن الظبية، وابن البقرة الوحشيّة، وربما على الصبيّ نفسِه، في الشهر الأول من الميلاد) إلاّ في معرِض وصف جمال الحيز الذي كان يَبْكِيه، ونَعْتِ الطَّللِ الذي كان يَعُوجُ عليه فيَسْتَهْوِيه.
رابعاً: الثور والحمار والمعتقدات القديمة.
قد لا تكتمل بنية هذه المقالة إلاّ بالتعرّض لزوجيْن اثنيْن، آخريْن، من الحيوانات الوحشيّة، لمعالجتهما، وهما: الثور وبقرتُه، وحمار الوحش وأتَانُه.
وقد اغتدت صورة هذين الحيوانين: الثور والحمار، مثيرةً في الدراسات المعاصرة بحيث يجتهد، في هذه الأيام طائفةٌ من الباحثين، في تأويل إيلاعِ الشعراءِ بذِكْرِهما، ورصْد حركتهما، ومتابعة سلوكهما إزاء الصيّادين، ووصْف تصرفّهما إزاء أُنْثَيَيْهِما، فتراهم يعيدون ذلك، في الغالب، إلى أنّ الثور، خصوصاً، له في الثقافة الجاهليّة دلالاتٌ أعمقُ مِمّا كان يعتقد القدامى من شرّاح النصوص الجاهليّة، وأنّ ظاهر القراءة لم يكن بذى بال.(1/403)
والْحَقُّ أنّ القدماء أنفسَهم، كأنّهم كانوا يَرَوْنَ في شيءٍ من التقيّة والاستحيْاء، أنّه كان لمثل هذه الحيوانات مكانُةُ ما، وشأنٌ ما من القداسة.. ولعلّ ذلك هو الذي ضَرَبَ على صائديها أن لا يزالوا فُقراءَ محرومين(60) أُخْرَى اللّيَالِي ولهم في هذه المعتقدات أشعار كانوا يُنْشِدونها، ومنها أبياتٌ لِذِي الرُّمّةِ، وأبيات أخراةٌٍ لمجهولِ(61). فَكَأَنّ الذين كانوا يعْرضون لهذه الحيوانات من القُنَّاصِ لا يزالون فقراءَ عِقاباً لهم على ما يجترمون..
وعلى الرغم من أنّ أبا عثمان الجاحظ يستشهد بأبياتٍ لذي الرُّمَّةِ يذكر فيها الثور الوحشيّ، فإنّ المعتقد العامّ، لدى العوِامّ، أنّ هناك مِهَناً وتجاراتٍ ومرتفعاتٍ لا يُفلح ممارسُها في الدنيا أبداً، مثل ما تراهم إلى يومنا هذا، يعتقدون في البنّائِين الذين هم على الرغم من الأموال الكثيرة التي ينالونها مقابل ما يبطشون ويكْدَحون، فإنك لا تكاد ترى واحداً منهم أَنْيَقَ الثياب، سليم الإهاب، عامِرَ الجيب، ناضر الوجه.. وتزعم عامّة هذا الزمان أنّ ذلك عائد، في الغالب إلى أنهم مجبُولون على الغِشِّ حين يَبْنُون، فلم يكن الله لِيَجْزَيَهُمْ إلاّ فَقْراً وضُرّاً، وكَدْحاً وَنَصْباً، إلى يوم الممات..(1/404)
ونحن نعلم، بعدُ، أنّ القانِصَ لا يصطاد الثورَ والحمار وحْدَهما، ولكنه يجاوز ذلك إلى الظباء، والنِّعام والوُعول، فما بالُ ربْطِ لعنةِ الفقر بالقانصين الذين يصطادون هذيْن الحيوانيْن وحْدَهُما، وقل هذا الحيوان وحده، وهو الثور؟ ألأنّ هذيْن الحيوانيْن كانا، حَقاً، لديهم، مقدَّسيْنِ فيما كانوا وَرِثوه من معتقداتِهم الوثنيّة القديمة، وديانتهم الصنميّة الغابرة؟ أم لأنّ هذا المعتقد نَشَأَ من باب السخريّة بهؤلاء القانصين الذين كنتَ تراهم ربما قَضّوا اللّيالي المُتطاولةَ، عُفْراً كُنّ أَمْ ذآدِيَ، في انتظار سُنوح هذا الحيوان لهم من أجلِ اصطيادِه، حتى إذا سَنَحَ فإنْ كانوا لا يكادون يُفلحون في سعْيهم، ويُصيبون في رَمْيهم؟ إنّ السرعة التي وهبَها هذا الحيوانُ حين يَشُدُّ عادِياً، بَلْهَ هارِباً من سِهام الرُّماةِ، ثمّ إنّ بُطْءِ انطلاقِ السّهم البِدَائِيّ الذي كانت تصنعه الأعرابُ من شجر النّبع، وتعرّض مثل هذا السهم لدى مُروقه عن القوس لبعض الريح، وقد يضاف إلى ذلك هَوْلُ المفاجَأة الذي قد يَجْعَلُ الأعرابيَّ حين يَرمي: يضطرِب ويرتَعِش.. كلّ أولئك عواملُ كانت تجعل مسعَى الصيّاد يَخيب، وحظّه ينكد، وأملَه يضيع. فكان، إذن، ما يعاني الصيَّاد من طول الانتظار، ومن البُعْد عن الدَّيار، ومن سهَرِ الليالي الطّوال الدّآدِ، بالقياس إلى ما كان يَجْنِيه من وراء كلّ ذلك العَنَاءِ: لا يُمثّلُ، في حقيقته، إلاّ شأناً يسيراً، وَنَيْلاً قليلاً، فكأنّ أمرَ أولئك القُنّاصِ المحرومين كان يُشْبِه، على عهدنا هذا، صادَةَ السَّمْكِ حيث لم نَرَ واحِداً منهم أفلح قطّ، ولا أثْرَى قَطّ من وراء سعْيه، وذلك على الرغم من تقضَيتِه الليالي الطوال، والأيّام الثّقالِ، في انتظار ما تجود به سنّارتُه الشحيحةُ التي لا تكاد تجود عليه، في الغالب، إلاّ بسمكات صغيرات قليلاتٍ لا يُسْمِنّ ولا يُغنينَ.(1/405)
ولكنْ لا دَيَّارَ من هؤلاء السَّمَّاكِينَ يُفكّر، أو يحاول أن يفكّر، في الإقلاع عن هذا الدأب الذي لدى فشله في تحقيق الجانب النفعيِّ منه، وهو الذي كان، في الحقيقة، الأصلَّ في ممارسة هذه الهواية التي تزعج ولا تربح: ربما الفيْتَه يفلسِفُ الأمور فيزعم لك أنّ صيد السّمك، بالسّنّارة التقليديّة، ثقافة، وتسْلِيَة، وتأَمّل، ورياضة ذهنيّة، وتعودّ على المصابرة، وابتعاد عن ضجيج المدينة، ومزعجات الناس..
حقاً، لم يكن القُنّاصُ يفلحون، ولكن لاَ لأنَّ الثّورَ كان مقدَّسَاً مبارَكاً لدى قدماء العرب، على وجه التوكيد، فكانت عناية البركة، أو قل إن شئت لعنة القداسة، تصيب الذين كانوا يمارسون صيده: ولكن لأنَّ ذلك الحيوان -ومعه بقيّة الحيوانات التي وقع الْكَلَفُ بذِكْرِها في الشعر الجاهلي- كان أقلَّ مِمَّا نظن عَدداً، في أرجاء شبه الجزيرة العربية (وقد كان عائداً ذلك إلى قلّة نَبَاتِها، وصِغَرِ أشجارِها، وشُحّ أنوائها) فكان سُنوحُه للصّيادين نادراً من وِجْهَة، ثمّ لأنّ الوسائل البدائية التي كان الأعراب البادون يَصطادون بها -ولم تكن تجاوز، في الغالب، كِلاباً هزيلة، وسِهاما طائِشة -لم تكن تسمح لهم بالتمكّن من هذا الحيوان القويّ الذي كان يصول ويجول في الصحراء العربيّة الشاسعة الأرجاءِ، المتراميَةِ الأطرافِ.
وربما كانوا يُعيدون هذا الفشل في سعيهم إلى العَدْوِ الخارق الذي وُهِبْتَه الحُمُر والبَقَر، وإلى لعنةٍ من القوة الغيبيّة، والتي إن كانَتْ لَتُفْضِي إلى طيش السِّهام فإذا هي لا تُصيب، وإقْصارِ الكلابِ التي إن كانَتْ لَتَعْدُوا فتُبْهَرُ وتَخِيب.
كان قنّاصو الثيران والحُمُر كثيراً ما يَخيبون، إذن، في مساعيهم للْعلل التي ذكرنا، والأسباب التي بيّنّا.(1/406)
وأيْما ما يُعَلّلُ بعض الباحثين المعاصرين بأنّ ذلك كان يعود إلى اعتقادهم بقُدْسِيَّة الثور الوحشيّ، فلا نحسبه إلاّ تبريراً من أولئك الباحثين لعَجْزِ أولئك الصيّادين، وقلّة حيلتهم: أمام قوّة هذا الحيوان وقدرته الهائلة على العّدْوِ والرَّكْضِ، والشَّدِّ والفَرِّ. إذْ ما أكثر ما يعجز المرء عن قتل ذُبابة حقيرة وهو في بيته، وفي مُتّسَّعِ من أمره، وفي رَخاءٍ من عيشه، وفي كاملٍ من وعيه، فما بالُه وقد كان ربما قضَّى طويلاتِ الليالِي منتظِراً سُنوحَ هذا الحيوان، قُرْبَ غدير ماء، ليَرْمِيَهُ بِسَهْم طائشِ التصويب، ويُرسل عليه كِلاباً هِزالاً تَخِيب، هي أيضاً في الغالب، ولا تُصيب؟ وما بالُه وربما سَنَحَ له بعض هذه الحيوانات وقد بلغ منه الجهْد مبلَغه، ونال منه الضّرُّ مناله، فاغتدى ضعيف التركيز، خائر القوى، قليل الحيلة؟
إنّا لو أدرنا الزمن خمسةَ عشر قرناً إلى الأمام، انطلاقاً من ذلك العهد، فكان أولئك الصيّادون يصطنعون البنادِقَ المكِبِّرَةَ للرؤيةِ، وذات المرمَى البعيد: أكان يُعْجِزُهم في هذه الحال قتل تلك الثيران، ورميْها من بعيد رَمَياتٍ مصيبةًٍ قاتلة؟ إنْ العجْز إذن، في إِصابة ذلك الحيوان، وفي أطوار قليلة لا يعود إلى ما كان مُتَرسِّباً في أنفسهم من معتقدات يقدّسون بها هذا الحيوان بمقدار ما كان ضرْباً من التبرير لعَجْزِهم أمام قوّتِه وهو يَعْدو، و وإخفاقهم أمام سرعته وهو يركض: لبدائيّة السِّلاح الذي به كانوا يصطادونه.
وقد كان "الأعراب لا يصيدون يرْبُوعاً، ولا قُنفُذاً، ولا وَرَلاً، مِنْ أوّل الليل. وكذلك كلّ شيء يكون عندهم من مطايا الجنّ كالنّعام والظِّباء(...) فإن قَتَل أعرابيّ قُنفذاً أو رَوَلاً، من أوّل الليل، أو بعض هذه المراكب، لم يأمَنْ على فحل إبله...(62).(1/407)
وعلى الرغم من تحكّم كثير من المعتقدات في ذهنيّات أولئك الأعراب(63) المحرومين، فإنّا لم نعثر، مع ذلك، على نصّ موثوقٍ يَقْطَعُ بُمعتقداتِيَّةِ الأعرابِ في قُدْسِيَّةِ الثور وَبَرَكته، أو في جِنِّيَّتِهِ وشَيْطانِيّتِهِ، أو في استئثاره بَبَرّكةٍ روحيّة ما، ولكنهم كانوا يعتقدون بحُلوليّة الجِّنّ في بعض الحيوانات المُصطادة كالقُنفِذ والوَرَلِ والنّعامة والظّبْي.. فكانوا يتحرّجون في اصطيادها لَيْلاً، لخَشيتهم الظلامَ المظنونَ بخروج الكائناتِ الشريرة تحت جُنْحِهِ..
وعلى أنه، وبصرْف النظر عن المعتقَد الذي يُومِئ إليه أبو عثمان، لم يكن يسيراً عليهم اصطيادُ أيّ حيوان بليلٍ والظلامُ مطِبقٌ، والدُّجى مُحْدِق. فكأنْ تقريرَ بعض هذه المعتقدات، في سلوكهم، كان جِنْساً من الإذعان للأمر الواقع. وكأنّهم كانوا كلّما عَسُرَ عليهم تحقيقُ شيءٍ في واقع الأمر، فأصيبوا بهزيمة معنويّة، اجتهدوا في تعليله بمعتقدٍ ما، أو بقوّة غيبيّة خارقة، مثل ما عللّ بعض الدارسين المعاصرين تعليل اعْتِيَاصِ وقوع الثور في حبائِلِ صيْد الأعرابِ بقدسيّة ذلك الحيوان في معتقداتهم القديمة(64).
وما يذهب إليه الدكتور ابراهيم عبد الرحمن من حتميَّة انهزامِ الصيَّاد وانتصار الثور "الذي يظهر دائماً على مسرح الأحداث وحيداً قلِقاً، ضامراً، جائعاً، وهو لذلك يطلق عليه كلابه في موعد بزوغ الشمس في مطاردة عنيفة(...) محكومة في كلّ القصائد بنهاية محتومة هي قتل الكلاب ونجاة الثور قبل مغيب الشمس(...). إنه لم يحدث ولو مرّة واحدة أن قتل الصائد ثورا في شعر الجاهليين(65): قد لا ينبغي له أن يكون سليماً مقبولاً. ونحن لا نسلّم للصديق الدكتور إبراهيم عبد الرحمن، خصوصاً، هذا التعميم في إقامة أحكامه التي يركّزها على أنَّ هذا الثور:
1-يظهر دائماً وحيداً على مسرح الأحداث.(1/408)
2-أنه يُطارَد مطارَدة عنيفة محكومة في كلّ القصائد بنهاية محتومة هي تعرّض الكِلاب المرسَلّة عليه للقتل، ونجاته هو متغطرِساً عِمْلاقاً.
3-أنه لم يحدث ولو مرة واحدة أن قَتَل الصائِدُ ثوراً في شعر الجاهليّين.
إنّ عامّة الشعر الجاهليّ المتمحّض لاصطياد الثور وصِراعه مع الصائد تمثُلُ في ثلاثة أطوار:
الطور الأول: ينتصر فيه الصيّاد على الثور (ولا يقتصر ذلك على قصائد المراثِي كما يذهب إلى ذلك الدكتور عليّ البطل(66): إذْ ما أكثر ما ألفيْنا الصيّاد ينتصر على الثور والبقرة الوحشيّة، خارج إطار قصائد الرثاء، كما سَنَرى حين نَعْرِضُ لبعض معلَّقَتَيِ امرئِ القيس ولبيد..) وقد صادفتْنا، حول ذلك، قصائدُ جاهليّة كثيرةٌ نُحيل على بعضها في هذا المجاز(67).
والطور الثاني: ينتصر فيه الثور على الصيّاد، وقد كان ذهب إلى هذا الحكم الأستاذ إبراهيم عبد الرحمن وعليّ البطل جميعاً، ولا اختلافَ فيه بين الناس..
والطور الثالث: ولم نَرَ أحداً أومأ إليه، وكأنّه لُطْفٌ خَفِيٌ، هو ذلك الوضع المحايد الذي يقع للثور والصيّاد معاً بحيث يسكت الشاعر عن تقرير الأمِر في مصير الصِراع بين الاثنيْن: مثل ما نلاحظ ذلك في قصيدة للأعشى الذي ذكر فيها ناقته ليشبّهها في قُوَّتِها وسرعتها بالثور الوحشيّ(68)، ومثل الذي نلاحظ في قصيدة أخراةٍ للأعشى أيضاً حيث ذكر، هذه المرة، الحمارَ الوحشِيّ لا الثورَ: ليشبّه به ناقته أساساً(69): إذ يسكت الأعشى عن وصْف "سيناريو" الصيد والمطاردة ورمْي الصيّاد، وامكان طَيْشِ سهامِه، وإمكان تمكُّن العير، أيضاً، من الفِرار عدْواً..(1/409)
وعلى الرغم من ثبوت بعض الحفريّات والآثار القديمة التي قد تومئ، على نحو أو على آخر، إلى تعامُل الإنسان القديم في شبه الجزيرة العربيّة والشام مع الثور تعامُلاً لا يخلو من بعض التقديس(70) فإننا نعتقد مع ذلك، بضعف صحّة هذه النصوص، وغُموضها، وتناقُضِها، وقِلّتها، وكلّ أولئك عواملُ تَحْمِلُنا على أن لا ننظر إليها بمثل تلك الحَماسة المثيرة التي ينظر بها إليها مَنْ سَبَقَنا مِنَ الدارسين، في مصر وفي غير مصر، وتجعلنا، نحن إذن، نحتاط أشدّ الاحتياط في إصدار أحكامٍ صارمة، قطعيَّة، حَوَالَها، لأنّنا نَعُدُّها، في الزمن الراهن، لا تبرح تَدْرُجُ في مدارج الإشكاليّة التي يعْسُرُ معها الانْتِهاءُ إلى حكم لا يختلف من حوله اثنان.
وإذن، فصورةُ الثّور المنتصر على الصيّاد ليست قاعدةً مطّردة، فهناك استثناءات كثيرة، تصادفنا هنا وهناك (امرؤ القيس- لبيد (العير)- حُمَيْد بن ثور..).(1/410)
ويبدو أنّ صورة الوحش المنتصر على الكلاب والرماة، ولو كانوا محترِفين بارعين، مظهرٌ موروث في القصيدة العربيّة كانوا يقصدون به إلى وصف الأَعْرابِيَّ بالعُنْجِهيَّة، ووحشيّة البَّداوة، وشدَّة احتماله للانتظار أيّاماً بلَياليها، في الفضاءِ الْخالِ، والحيز القَفْرِ. ومَن كان كذلك كان شُجاعاً لا يخاف، وشديداً لا يلين، وقويّاً لا يضْعُف، ومغامِراً لا يَهاب. ويشبه إيلاع كثير من الشعراء في الجاهلية، وصدر من الإسلام، بذِكرْ بعض هذه الحيوانات الوحشيّة بالبُكاء على الدِّيار، والوقوف على الأطلال، حتّى لو لم يكن الشاعر، فِعْلاً وَحقاً، فَقَدَ حبيبتَه، أو كان له على الحقيقة حبيبةٌ بالطلل الذي يصف، والرّبْع الذي يَرْسُم.. وإذا كان البكاء على الديار أوْمَأ إليه امرؤ القيس في بيتهِ الشهير، فإنّ صيد الثور وانتصاره على الصائد ضاعت آثارُه فيما ضاع من شعر وأخبار، وَتَلِفَ من أيّام وأحداث: في غياب التاريخ، وأمام صمْته، وبحكم أمّيّته البَيّنَة التي شانَتْه فلم يكتب لنا شيئاً ذا بالٍ ممَّا وقع في غابر الأزمان، واجتزأَ ببعض الروايات الشفويّة التي تقترب من عهد الإسلام. وللذين حاولوا إقامّة دراسةٍ كاملةٍ على مسألة انتصار الثور على الصائد، وأنّ الثور كان متبرّكاً به لديهم فكان اصطيادُه كالمستحيل الذي لا يُدْرَكُ، والمحال الذي لا يتحقَّق، نقول:
1-هل يُعْقَلُ أن يكمُنُ للثور الوحشيّ، أو الحمار الوحشيّ، أبرعُ الرُّماةِ وأشدّهم تجربةٌ فلا يبلغوا من أمره شيئاً، لو كان هذا الشأن وارداً على الحقيقة؟
2-كنّا قرأنا إشارة ذكيّة للشّيخيْن: أحمد محمد شاكر، وعبد السلام هارون(71)، وهي أنّ الشاعر العربيّ إنما كان يذكر أنّ العير تستطيع النجاة من رمية الرامي الصائد، لأنّه لم يكن يذكر هذه العير إلاّ في معرض الحديث عن ناقته التي كان يتطلّع إلى وصفها بالسرعة الفائقة، فهو إذن إنما كان يأتي ذلك ليجعله "شبها لسرعة ناقته"(72).(1/411)
... ... ... فالأمر، إذن، ينصرف إلى تفسير سرعة ناقة الشاعر، لا إلى مقدَّسات مزعومة ليس على ورودها من برهان مبين. فرَأْيُ الشيخيْن، هنا، فيه براءةٌ، ولذلك نأخذ به في معرِض الرَّدِّ على مَن يزعمون بقدسيّة الثور والعير في الشعر الجاهليّ.
3-وعلى افتراض أنّ الصيّاد كان، يخيب في رمْي الثور، في بعض النصوص الشعريّة التي وصلتنا حكايةً عن صيد العير والثيران الوحشيّة: فهل يَعتقد عاقلٌ أنّ سهماً مصنوعاً من شجر النَّبْع، في رأسه نَصْلَةُ بدائيّة حافِيَة يُمكنه أنّ يقْتُل ثوراً وحشِياً جبّاراً: مِنْ على مكمَن مسافةٍ ليست قريبةً؟ ألا يكون بُعْدُ المسافة المَرّمّي منها، وقوةُُ جَلَدِ الثور، وسرعَتُه الهائلة، وبدائِيَّة السَّهْم المتَّخَذِ في الرمّي، من العلل الموضوعيّة التي لا تجعل الصائد قادراً، في كلّ الأطوار، على اصطياد الثور والحمار بنجاعة ونجاح؟
4-أنّا نفترض أنّ الشعراء الذين كانوا يتعاطفون مع البقر الوحشيّ، فإنما كانوا يأتون ذلك على أساس أنّ عيونه تشبه عَيْنَي الحبيبة.. أرأيت أنْه لا يكاد يُخطئ قصيدة، يعرض فيها صاحبها لرسم هذه الصورة الجميلة، فالمَهارةُ، إَيَما أنَ تُشَبِهَ الحبيبةَ، وإيما أنْ تْشُبِهَ الناقةَ، وفي كلتا الحاليْن تذكر الوحوش البريْة بادعاء السرعة والقوّة، وبعد ذكر الحبيبة التي يربطونها ببعض تلك الصفات الجميلة بادّعاء العُذْْرِيَّة والطُّهْر والنّقاء، والعيون النّجلاء السوداء.
وقد نَبِهَ الدكتور البطل إلى أنّ الثور لم يكن يهْلك "إذا اقترنت صورته بصورة الناقة"(73)، بيد أنه فاته أن يَنْبَهَ إلى أنّ ذِكْرَ الثور، بجوار الناقة، إنّما يأتي، في الغالب، لغرض تشبيهها به، لا على أنه صيْدٌ سانح.(1/412)
5-وعلى عكس ما يذهب إليه الدكتور البطل من أنّ الثور ينهزم في الشعر الرثائيّ (ولعله كان يلمح إلى مرثية أبي ذُؤَيْب لأبنائه) فإننا ألفينا الحمار وأتانَه ينتصران على الصيّاد في مرثيّة صَخْر الغَيِّ لابنه، مثلاً:
فراغا ناجييْن وقام يرْمي ... فآبَتْ نَبْلُه قَصْداً حُطاماً(74).
ولنكرّرْ، تارةً أخراةً، وعلى الرغم من زَعْم الزاعمين أنّ الثور كان مقدّساً لدى الإله أيل في الميثولوجيا الكنعانيّة، إلاّ أنّ ذلك لم يمنع الكنعانيين أنفسَهم من ذَبْحِهِ(75)، وأَكْلِ لحمِهِ مِشْويّاً مثل أيّ حيوان آخر غير مقدّس. وإذن، فما ذا كانت الحكمة من تقديس الثور إذا كان التعامل غير مقدّس؟ وماذا كانت الفائدة من وراء الاعتقاد بالتقديس إذا كان ذلك لا يمنع من ذبح الثور وأكله؟
أنّا نحسب أنّ تلك المعتقدات المتمحّضة لتقديس الثور، على نحو ما، ربما لم تنضج روحياً في نفوس قدماء العرب قطّ، وربّما كانت تسرّبت إليهم من بعض الثقافة الوثنيّة الهندوسيّة فكانوا يتمثّلونها تمثّلاً غامِضاً شاحِباً، لم يتبلوْر تبلوُراً واضحاً ولا دقيقاً في نصوص الشعر التي ورثناها، وفي وثائق التاريخ التي تلقّيناها...
ويبدو أنّ كثيراً من المعتقدات والطقوس الوثنيّة لم تكن واضحةً في أذهان الأعراب الذين كانوا يتجانفون عن التعقيد والتشديد. وقد كنّا رأينا أنّ الأعراب لم يكونوا يَفْهَمون لُعبةَ الميسِر التي كانوا يشْهَدونها، وربما كانوا يُمارِسونها أيْضاً، فما القول في معتقدات شاحبة غامضة ترتبط بحيوان ظلّوا أشدّ الناس حِرْصاً على صَيْدِه، وأقْرَمَهُ إلى أَكِلْ لَحْمِهِ؟...(1/413)
ويضاف إلى ذلك أنّ وسائل الصيد، إذا حقّ لنا إعادةُ الإشارة إلى ما كنّا قررناه منذ حين، كانت بدائيّة، بينما كانت الثيران من القوة والقدرة الهائلة على الركض ما كان يجعل اللحاق بها عسيراً على الكلاب، يضاف إلى ذلك أنها كانت تدافع عن نفسها بقُرونها الحِدَادِ، فلم يكن ممكناً للكلاب الوصولُ إليها إلاّ إذا جُرِحَت أو نَصِبَتْ. على حين أنّ النِبالَ التي كان الأعراب يرمونها بها كانت حافِيَةً النّصْل، بسيطةَ الصنع، ضعيفةَ الوَقْع، فكان الصيد بها لا يُغني الاّ إذا سنح الحيوانُ قريباً جِداً من الصَّيَّاد، واستطاع أن يصيبه في بعض مَقْتَلِه..
والذي يعنينا، خصوصاً، هنا والآن، هو صورة الثور والحمار في المعلّقات السبع، من بين الشعر الجاهليّ بعامّة.
1-الثور والبقر في معلّقة امرئ القيس:
نصادف في معلّقة امرئ القيس بيتيْن اثنيْن يصف فيهما معركةً وقعت بين فرسه، وبين ثور وبقرته، ولم تُلْفِ فرَسَه أيّ عناءٍ في مُعاداتهما، وإدراكهما بدون جهد، وتمكين الفارس من رَمْيهما، ليظلّ النُّدماء، وعامَّةُ أَهْلِ الحيّ، يطْعَمون من لَحْمها: طوراً قديراً مُعَجّلاً، وطوراً آَخَرَ صَفِيفاً مَشْوِيّاً:
فعادى عِدَاءً بَيْنَ ثَوِرْ ونَعْجَةٍ ... دَراكاً: ولَمْ يَنْضَحْ بماءٍ فَيُغْسَلِ
فَظَلّ طُهاةُ الحَيِّ مِنْ بَيْنِ مُنْضِجٍ ... صَفيفً شِوَاءُ، أو قَدِيرٍ مُعَجْلِ
فأين أثَرُ المعتقداتِ في صيْدِ هذا الثور، عبر هذا النصّ؟ ثمّ ما بالُ شعر الرثاء الذي كان الدكتور البطل زعم أنّه هو وحده الذي يرتبط بصرْع البقرة الوحشيّة حيث إنّ "الحمار الوحشيّ، مثله في ذلك مثل ثور الوحش، ينجو مع أُُتنه من أسهم الصيّاد الذي لا يصحب كلابه في صيده، ذلك إذا اقترنت صورته بصورة الناقة، أمّا إذا اقترنت بالإنسان، في الرثاء، فإنه يهلك مثل سابقه"(76)؟
وأنّا نلاحظ، إذن، أنّ الثور لدى امرئ القيس:
1-لا ينتصر على الصيّاد، ولكنّ الصيّاد هو الذي ينتصر عليه.(1/414)
2-أنّ الثور وبقرتَه إنما ذُكِرَا من باب توكيد سبْقِ هذا الحصان العجيب.
3-إنْ صرع الثور وبقرتَه لم يُذْكَرْ في إطار شعرٍ رثائيّ، ولا حتّى سرديّ صريح.
4-إنّ مصير لحم الثور، في كلّ الأطوار كما نصادفه في الميثولوجيا الكنعانيّة(77) لم يتغيّر شأنه بحيث لم يبرحُ يُشْوَّى ويُطْهَى، ويُقَدّرُ ويَصفَّفُ، على حدّ تعبير امرئ القيس، فلا شيءَ، إذن، بناء على منطوق هذه النصوص ومضمونها، يُثبت أنّ العرَب كانوا يعتقدون في الثور، وأنّهم كانوا يقدّسونه في عبادتهم على نحو ما. وعلى أنا لم نعْثُرْ على نصّ يومئ، أو يصرّح، بوجود صنم كانت العرب تعبده في شكل ثور.
ذلك، وقد ورد ذِكْرُ بَقَرِ الوحش، أو النعاج، في بيت آخر من معلّقة امرئ القيس، وهو قوله:
فَعَنّ لَنا سِرْبٌ كأنَّ نِعاجَه ... عذارَى في مُلاءِ مُذَيَّلِ
وتتجسّد في هذا البيت الطافِحِ بالجَمال الشعرِيَّ صورةٌ أدبيّةٌ ساحرةُ النسج، بديعةُ التصوير، لا ينبغي أن نصادفها إلاّ في شعر المِلك الضلّيل. فقد جمع هذا التشبيه العذريّ بين جمال العذارى ومُلائِهِنّ الملوَّنة المذيَّلة، وحركتهنّ الفاتنة الآسِرة، وبين صورة هذه الْعانَة البديعة وهي تتحرّك، وتتحرّك، وتتحرّك: حتّى كأنّها تدور من حول نفسها، أو تضطرب وهي مربوطة إلى بعضها. ولعلّ الأروعَ في كلّ ذلك، لدينا على الأقلّ، هو ربط الناصّ صورةً محسوسةً بصورة محسوسة أخراةٍ تُفضي إلى صورة ذهنيّةٍ تَمْثُلُ في اعتقاد أُوْلاءِ العَذَارَى في بَرَكَة هذا الضم الذي لم يَبْرَحْن يُطَوِفّنَ حَوالَه، فيُضْفينَ على هذه القدسيّة الوثنية من سِحْر الجمال، وفتنة الخيال، وغُنْجِ الدَّلال، ورشاقة الحركة، وبَداعة التَّرَهْيُؤِ والتكَسّر، والتثني والتبخْتُر: ما يجعل هذه الصورةَ الشعريّة المركّبة قليلةَ النظير، في الشعر القديم والجديد.
2-البقرة والثور في معلّقة لبيد:(1/415)
ربما يكون لبيد المعلّقاتيّ الثاني، والأخير، الذي تعامل مع الثور في إطار فنّيّ ينهض على التماس وصْفِ سلوكه، وذكر صراعه مع القنّاص، ونضاله من أجل البقاء، إذْ لم يَذْكُر هذا الحيوانَ، أو أُنُثاهُ، أو ولَدَه: طرفة (الفرْقَد: ولَد البقرة الوحشيّة) إلاّ عَرَضَاً، بينما لم يَذْكُرُه الحارث بن حلزّة إلاّ على سبيل تأويل قراءة العير الذي يَعْنِي في المعاجم العربيّة: سَيِدَ القوم، والوَتَدَ، والقَذَى: على أنّه الحمارُ الوحشيّ أيضاً.
والحقّ أنّ لبيداً هو المعلّقاتي الوحيد، من بين السبعة، الذي ألفيناه يصوّر البقرة الوحشيّة وهي تصارع من أجل البقاء، وهي تجتهد في أن تحافظ على جُؤذرِها الذي تصطاده كِلابُ الصيّاد بعد أن ذهبت هي إلى بعض رَعِيْها، وغفلَتْ بعض الغفلة عن الرَّمحْ عنه:
صادَفْنَ مِنْها غِرَّة فأَصَبْنَها ... إنّ المُنايا لا تَطِيشُ سِهامُها
وقد لاحظْنا أنّ لبيداً يُشْبّه ناقتَه، أوْلَ الأمرِ، في معلّقته، بالأتانِ المسِرَعَةٍ القويّة: من البيت الخامس والعشرين إلى البيت الخامس والثلاثين، ثمّ يسرد قصّتها مع عيرها، وكيف كَانا متلازمين لا يفترقان، ومتقارفيْن لا يتزايَلان.. بيد أنّ لبيداً ظلّ محايِداً، في هذا الموقف، بحيث لا هو انتصر للصياد فجعلَه يصرع هذه الأتانَ وعيرَها، ولا هو انتصر لهذه الأتان وعيرها فجعلهما يُفلتان من سَطْوة ذلك الصيّاد الشرِهِ القَرْمانِ، ذلك بأنّه ذكرهما دون قطع بنتيجة رمْي سهم الصيّاد، وهل كان طائشاً أو صائباً؟
فلها هِبابٌ في الزِّمام كَأََنّها ... صهبّاءُ خَفّ مَع الجنوبِ جَهامُهَا
أو مُلْمِعٌ وسْقَتْ لأحْقَبَ لاحَهُ ... طَرْدُ الفُحولِ، وضَرْبُها وكِدَامُهَا(1/416)
فالصورة، هنا، بريئةٌ، أو غافلةٌ، أو متغافلة على سبيل البتِ المفتوح للمتلقّي، فالحمار وأتانُه يُطَوِفّان بين الأشجارِ والأعشاب، ويرتعان في المراعي ويَمْرَحان، ويرتَوِيَان ما شاءَ لهما الارتواءُ من ماءِ الغدران: حتّى إذا بلغَا بعض ما كانا يريدانِهِ من هذا الرَّتْعِ وهذا الارتواءِ، مَضَيّا لشأنهما دون أن يَعْرِضَ لهما أحدٌ بسوء أو ضيْرٍ، فكأنّها صورة شعريّة بيضاءُ لحركة الحمار واتانه بمعزل عن لُؤْمِ الصيّاد واحتياله ومكره.
ويعمِدُ لبيد، انطلاقاً من البيت الخامس والثلاثين إلى الثاني والخمسين مِنْ معلّقته، إلى وصف البَقَرِ الوحشيّة التي تَثْكَلُ، هذه المرّة جُؤْذُرَها الرَضيع، حيث تنتصر عليه الكلابُ وتفترسه شَرّ افتراسٍ لضعفه، وقلّة حيلته على الهَرب، وضعف قوته لدى الفرار.. بيد أنّ هذه البقرة، لدى نهاية الأمر، تستطيع، هي، النجاة بجِلْدِها من سِهام الرُّماة وكلابِهم، بعد أن تستطيع أنْ تَتَقَصَّدَ منها كَسَابَها وسُخامها- وكأنّها ببعض ذلك تَثْأرُ لجُؤذرِها الفقيد- وكيف لا تنجو وقد كانت الأسرعَ والأقوى، والأحذَرَ والأعدى، وإلاّ فلمَ إذن شبّه لبيدٌ بها ناقته العجيبة:
أفتلْكَ أمْ وحْشِيّةٌ مسْبوعَةٌ ... خَذَلَتْ وهادِيَة الصّوارِ قِوَامُها؟
ويُنهِي لبيدٌ هذا السْردَ بربط البقرة الوحشيّة، تارةً أخراةً، بناقته، وذلك بعد أن تتقصّد البقرة كلبتين اثنتْين هما كَسَاب وسُخام:
فتقصّدَتْ منها كَسابِ فَضُرّجَتْ ... بدمٍ، وغُودِر في المَكِرّ سُخامُها
فَبِتلْك إذْ رقَصَ اللوامعُ في الضّحَى ... واجْتابَ أرديَةَ السرابِ إكَامُها
ويمكن أن نستخلص طائفة من الأحكام من بعض التحليلات السابقة، منها:
1-إنّ لبيدا هو المعلّقاتيّ الوحيد الذي وصف البقرة والأتان من بين السبعةِ المعلّقاتيّينَ.(1/417)
2-إنه، وعلى الرغم من الوصف الطويل لهذيْن الحيوانْين الوحشيَّيْن، لم يذكرهما إلاّّ من أجل تشبيه سرعة ناقتهِ بهما، وأنهما، على السرعة الفائقة، تظلّ ناقتُه أعدى منهما إذا عدت، وأسرع منهما إذا مشت.
3-إنّ لبيدا سكت عن مصير الأتان، وانتصر للبقرة التي تُفْلِتُ من قَبْضة كلاب الصيادين بمحاولتها قتل اثنيْن، أو اثننتيْن، منها، فتثأر ببعض ذلك لجُؤذُرِها الذي أكلتْه أثناء تغيُّبِها عنه، أو أنها ظاهرت أصَاحِيبَها على أصطيادِه.
4-أنه يعدّ في هذا الوصف الدقيق البديع أحدَ أكبرِ الوصّافينَ للبقرة والأتان في الشعر العربي، ولم نعثر على شاعر واحد استطاع أن يتولَّج إلى نفْسِ هذين الحيوانيْن فيصوّرَ ما يجري بداخلهما، من داخلهما، ويرسم الحال التي تعتورهما حين يُحسّان بخطر الصيّادين، ومداهمة كلابهم إيّاها.
5-إنّ نجاة البقرة الوحشيّة بنفسها قد لا يكون انتصاراً لها طالَما أبَتْ وهي ثَكْلَى بفُقدانها جُؤْذُرَها الفتيَّ الذي ظلْت سبْعَ ليالٍ بأيّامها تختلف إلى بعضِ هذا المكان الذي كانت وذَرَتْ طلاَها فيه.. فإفْلاتُها لم يكن، في الحقيقة، إلاّ هزيمةً معنويّة منكَرةًً لها، إذْْ لم تغادر هذا المكانَ على ما كان فيه من خصب وعشب وماءِ إلا مُكْرَهَةً مُرْغمَةً، فهي بمُغادرتها هذا الحيزَ الجميلَ أصِيبَتْ برزيّتيْن اثنتَيْن لا بواحَدةٍ: الأولى فقدانها اُبْنَها، والأخراةِ مغادرتها مَوْطِنَها الذي ألِفَتِ العيشَ فيه، والارتعاءَ في ريَاضهِ..
****
وهناك بعض المعتقدات الأخراة الواردة في نصوص المعلّقات السبع لم نشأ أن نختصّها بالتفصيل ولا أن نُفْرِدَها بالتحليل، لأنّها ذُكِرَتْ في بعض هذه المعلّقات عَرَضَاً مثل إيماءة امرئِ القيسِ إلى تمائم صَبِيْ الأمِّ التي كان يضاجعها:
*عن ذي تَمائم مُحْول(1/418)
فلا يعني ذِكْرُ تعليق التمائِم على الصَّبيّ الماجِدِ إلاّ أنّ العرب كانوا يعتقدون بالعَيْن، وِبِشّرِّ الجِنِّ، وسَطْوة العفاريت، وغَضَب الآلهة، فكانوا، إذن، يعلّقون التمائم في أعناق الصبيان حتّى تَحَفُظَهم، في معتقداتهم التي كانوا يعتقدون، من شرّ العين، ومكر الشياطين.
و"التميمة خرزة رقْطَاء تنظم في السِّير ثم يُعْقَدُ في العنق. وقيل هي قلادة يُجْعُل فيها سُيورٌ وعُوَذٌ"(78).
فالتميمة إذن قلادة من سُيور كانت تُعَلِّقُ في أعناق صِبْيَةِ الأَعراب لينفوا بها النفْسْ والعيْن فيما كانوا يزعمون(79). وقد أبطل الإسلام هذا المعتَقَد الوثنيّ وعدّهُ من الشرْك الذي هو من الكبائر(80).
وألفينا ابن خلدون يصطنع لفظ هذا المعتقد في نصّ مقدّمةِ مقدّمِتِهِ فقال: "(...) المتحلّى منذ خَلْعِ التّمائم، وَلَوثِ العَمائم(81).
ولعلّ ذلك يعني أنَّ مُعتقَدَ تعليقِ التمائم، على الرغم من أنّ الإسلامِ حَرَّمه، وعدّه من رَبَائِبِ الكبائر، إلاّ أنّه كان لا يبرح قائماً شائِعاً على عهد ابن خلدون، بل لا يبرح قائماً شائعا إلى بعض أيّامِنا هذه حيث تَحَوَّلت التمائِمُ التي كانتْ تُعَلّقُ في الرِقابِ إلى حُروز تُجْتَعَلُ في الأعناقِ(82).
( إحالات وتعليقات
1-يراجع محمد بن السائب الكلبيّ، كتاب الأصنام، تحقيق أحمد زكي، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب 1924.
2-الصحيح أنه عمرو بن لُحيٍّ، وليس عمرو بن قمعة. انظر ابن هشام، السيرة النبوية،1،76: حيث ذكر في حديث نبويّ نصّه: "رأيت عمرو بْنَ لُحيّ يُجرُّ قُصْبَهُ (أمعاءَه) في النّارِ"، وابن كثير، السيرة النبوية،1،63، وانظر أيضاً كتاب التيجان في ملوك حمير، ص217.
3-كتاب التيجان، 213.
4-يقول الله تعالى: (وجَدْتُها وقومَها يسْجُدون للشمسِ من دون اللهِ)، النمل، 24، ويقول أيضاً: (لا تَسْجُدوا للشمسِ ولا لِلْقَمَرِ، واسجدوا لِلّه الذي خَلَقَهُنّ)، فُصّلَتْ، 37.
5-التيجان، 56.(1/419)
6-م.س، ص58.
7-ابن منظور، لسان العرب، قمر.
8-م.س.
9-م.س.
10-النمل، 24، فصّلت، 37.
11-أبو العباس المبّرد، الكامل في اللغة والأدب، 1،359-360.
12-المسعودي، مروج الذهب، ومعادن الجوهر،1،137. وفي بعض الطبعات: "والتخييل"، وهو وجيه أيضاً.
13-ابن كثير، م.م.س، 1،22-23، ابن هشام، م.م.س، 1،26-27، التيجان، ص307-308.
14-م.س
15-أبو عثمان الجاحظ، كتاب الحيوان، 202.4-205-206
16-عبد الملك مرتاض، الميثولوجيا عند العرب، الجزائر، المؤسسة الوطنية للكتاب 1989.
17-القرشي، جمهرة أشعار العرب، ص23-24
18-عليّ البطل، الصورة في الشعر العربيّ حتى آخر القرن الثاني الهجري، ص10-11
19-ابراهيم عبد الرحمن، بين القديم والجديد، 58
20-نهض الأستاذ طلال حرب بجهد محمود في كتابه: "الوافي بالمعلّقات"، في متابعة هذه الأمور ومعالجتها بالإحصاء.
... ... وقد خَشِينَا لدى أطلاعنا على هذا الكتاب في آخر سنة 1996 حيث وقع لنا من معرض الكتاب بصنعاء، أن يكون ما قاله هو، حول المعلّقات، هو الذي نريد نحن قوله، فيضيع جهدّنا بعد أن ظلْنا نبحث في شأن هذا الموضوع قريباً من ثلاثِ سنوات، وقد أطلعْنا عليه ونحن نهُمُّ بالقَذْف بعملنا هذا إلى المطبعة، لكنّنا لاحظنا أنّ الأستاذ حرب اشتدّت عنايتُه خصوصا بالمتابعات الإحصائيّة، وقلّتْ لدى التحليل. كما فاته أن يورد الألفاظ المُحصاة في سياقها النّصِّيِّ...
... ... وأيّاً كان الشأن، فإنّ حَقْلاً أدبيّاً كبيراً كنصوص المعلّقات العربيّة سيظّل، أبدَ الدهِر، وأُخْرى الليالِي أيْضاً، مثارَ عِنايَةِ الباحثين والدارسين ومُحَلّلي النصوص الأدبيّة. ولا يجوز لأيّ من الناس إن كَتَبَ شيئاً عنها أن يعتقد أنّهُ قال الكلمَةَ الأخيرة. بل إنْ كلْ دراسة ستفتح أبواباً جديدة، لدراسة أخراة جديدةٍ، وهكذا إلى يوم القيامة.
21-المبرد، م.م.س، 329.1
22-القرشيّ، م.م.س، 38-39(1/420)
23-المبرد، م.م.س، 309.1، وواضح أنّ في هذا الكلام مبالغةً وكذباً، إذ سينشأ عن هذا أنّ قامة الرجل لا ينبغي لها أن تقلّ عن مترين ونصف، ولا نحسب ذلك ممكناً إلاّ إذا ما انحنت المرأة برأسها إلى أسفل لَطِيَّ المسافة الفاصلة بين الراجل، وراكبة الظعن..
24-أبو الفرج، الأغاني، 82.3
25-ابن سيدة، المخصّص، 306
26-ابن منظور، م.م.س، وبر.
27-م.س، علهز.
28-ابن عبدريه، العقد الفريد، 140.5 هذا، وكانت دِيَةُ المِلك ومَنْ في حُكمه ألفَ بعير.
29-ونصّ الحديث النبويّ: "والعمد قود، وشبه العمد ما قُتِل بالعصيّ والحَجَر، وفيه مائةُ بعير. فمن زاد، فهو من أهل الجاهليّة"، ينظر الجاحظ، البيان والتبيين، 28.2.
30-ابن عبد ربه، م.م.س، 100.6
31-المبرد، م.م.س، 28101. وكان مهر السيّدات الكريمات ربما بلغ عشرين ألفَ درهم (مهر ابنة ابراهيم بن النعمان بن بشير الأنصاريّ).
32-ابن منظور، م.م.س بدع.
33-الرّبيض: الغَنَم بُرعاتِها المجتمعة في مَرْبضِها، الجوهري، صحاح العربيّة، ربض.
34-ابن منظور، م.م.س، عتر.
35-الجوهري، م.م.س، عتر.
36-ابن منظور، م.م.س.
37-م.س
38-م.س.
39-م.س، ذلك، وقد كان الجوهريّ استشهد، هو أيضاً، بهذا البيت في صِحاحه، وشَرَحَه.
40-م.س
41-صحيح مسلم، 453.5 وابن منظور، م.م.س
42-م.س، بلا
43-م.س
44-وكما يستخلص بعض ذلك من قول متمّم بن نويرة في رثاء أخيه مالك:
ولا بَرّماً تُهدي النساءُ لعرْسِهِ ... إذا القَشْعُ من حِسِّ الشِتاء تَقَعْقَعا
45-ابن سيده، م.م.س، 20.13
46-م.س
47-م.س
48-م.س
49-الزمخشري، تفسير الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل، وعيون الأقاويل، في وجوه التأويل، 261.1-262
50-م.س وراجع الإحالة: 44 من هذا الفصل.
51-ابن منظور م.م.س، صفح.
52-م.س، سبل.
53-م.س، صفح.(1/421)
54-م.س فذذ. وقد ذكر ابن منظور أنّ سهام الميسر عشرة، وهي: الفذّ ثمّ التوأم، ثمّ الرقيب، ثمّ الحِلْس، ثمّ النافس، ثمّ المُسْبل، ثمّ المُعَلّى، والثلاثةُ السِهامُ التي لا انصِباءَ لها، هي: السّفيح، والمَنِيح، والوَغْد.
55-م.س. يسر.
56-يراجع ابن الكلبيّ، أنساب الخيل في الجاهليّة والإسلام وأخبارها.
57-المبرد، م.م.س، 242.2
58-ابن قتيبة، كتاب العرب، في رسائل البلغاء، ص349
59-يبتدئ وصف الفرس من معلّقة امرئ القيس من قوله:
وقد أغتدي والطيرُ في وكُنَاتِها ... بمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الأوابِدِ هَيْكَلِ
إلى قوله:
فبات عليه سرْجهُ ولجامُهُ ... وبات بعيني قائِماً غَيْرَ مُرْسلِ
60-الجاحظ، كتاب الحيوان، 436.4
61-م.س، 437.4-440
62-م.س، 46.6-47
63-م.س، 357.6-358
64-علي البطل، م.م.س، 135 وما بعدها
65-ابراهيم عبد الرحمن، م.م.س، 57-58
66-علي البطل، م.م.س، ص138. وانظر، مثلاً، ديوان الهذليّين، 3،2-4: حيث ينتصر الصيّاد على الثور خارج إطار الرثاء في قصيدة تُعْزَى، على الشَّكِ، وإمّا إلى الخناعي، وإمّا إلى أبي ذؤيب الهذليّ.
67-قصيدة لمالك بن خالد الخناعيّ، الهذليّ: ديوان الهذليّين، 2.3-4، وقصيدة لزهير بن حرام أحد بني سَهّم بن معاوية (وصف مشهد الصراع الذي ينتهي بانتصار الصيّاد في سبعة عشر بيتا)، وديوان الهذليّين، 99.3-104 وقصيدة لخفاف بن ندبة (مخضرم، ونفترض أنّ قصيدة وصف الثور قالها في الجاهليّة): الأصمعيات، 30 وقصيدة لعقبة بن سابق، الأصمعيّات، 42، وقصيدة لعمرو بن مَعْدِ يكرِبَ الزبيدي، الأصمعيّات (أبيات: 13-19)، ص174-175. وقصيدة لضابئ بن الحارث بن أرطاة البرجميّ، الأصمعيّات أيضاً، 191..
68-الأعشى، ديوانه، 128
69-م.س، 160
70-حسن الباش، الميثولوجيا الكنعانيّة والاغتصاب التوراتيّ، ص57
71-المفضّليّات، شرح عبد السلام هارون، وأحمد شاكر، ص180
72-م.س
73-البطل، م.م.س 138
74-ديوان الهذليّين 64.2
75-حسن الباش، م.م.س، 60(1/422)
76-البطل م.م.س ذلك، وقد ذهب الدكتور البطل إلى أنّ الثور يظْهَرُ في الليل، بينما الحمار الوحشيّ يظهر نهاراً في الغالِب.. ولا نعتقد أنّ هذا المذهبَ مُسَلَّمٌ له ما دامت الأشعار تدلّ على غيره، يُنْظَرُ شرح المفضّليات، إحالة رقم 37، تعليق الشيخين شاكر وهارون، ص87. وينظر أيضاً م.س، ص335
77-حسن الباش، م.م.س، ص57
78-ابن سيدة، م.م.س، 28.13
79-ابن منظور، م.م.س، تمم
80-ذهب ابن مسعود إلى أن تعليق التمائم من الشّرْك: "التمائمُ والرُّقي والتّوَلة من الشرك"، م.س (تمم). وفي أين منظور تفصيل عن تحريم تعليق التمائم.
81-ابن خلدون، المقدّمة، ص91
82-هناك مظاهر اعتقاديّة أخراةٌ كثيرة يمكن إدراجُها في هذا الحقل لو تكلّفنا لها إجراءَ لتأويل مثل الوشم الذي هو مظهر من مظاهر المعتقدات لدفع العين، قبل أن يكون مظهراً من مظاهر الزينة والجمال، ومثل اصطناع النار وتوظيفها لأغراض معتقداتيّة: ينظر التيجان، 137-305-308، وابن هشام، م.م.س، 26.1-28-104-105، وابن كثير، م.م.س، 22.1، والجاحظ، م.م.س 202.4-466-468-470-472-478-471 -481-483-489-491-492.
... ومثل ذلك يقال في مصباح الراهب، ولمْع اليدين، وقدْح المِكَبّ على الزّناد الأجذم. ثمّ علاقة المعتقدات القديمة بأسامِي العرب (وقد كتبنا مقالة على حدة حول هذه المسألة اللطيفة).
... وقد عفَفْنا عن التعرُّض لكلْ هذه المعتقدات، في هذه المقالة، لأمرين:
1-لأهمّيْتها الثانويّة، في تقديرنا الخاصّ، على الأقلّ.
2-لِخَشْيتِنا أن تَعْدُو هذه المقالةُ طوَرَها من تقدير الطُّولِ.
(((
10-الصناعات والحِرَفُ والمُرتفقات الحضاريّة
في المعلّقات(1/423)
لعلّ قرَّاءَنا أن يكونوا قد ألِفوا منا أنْ لا نُحَدِثهَم عن سيرة المُجتمعات وصلاتِها بالإبداع: تأثيراً وتأثُراً، وَعَكْسَاً وانْعِكَاسَاً.. ولا نحْسَبُنا، هنا، مَرَقنْا عَمّا ألِفوا مِنَّا، إذْْ ليس هذا العنوان الذي اقترحناهُ سِمَةٌ لهذه المقالةِ أميناً إلى درجة الصّرامة الصارِمةِ، ذلك بأنّنا لا نريد أن نُلْقِيَ بأنفسنا في أحضان المجتمع الجاهليّ لندارِسَه ونُحَلّله، ثم لا نأتِيَ من بعد ذلك شيئاً...، ولا سيما بعد الكتابات الكثيرة التي اجتهدت في أن تلقي بضيائها على هذا المجتمع العجيب.. ولكننا، اليوم، نجتهد في أن نحلّل حضاريَّات هذا المجتمع ومَرتفقاتِه على بَدائيتّها: لننظُرَ ماذا كان أولئك الأعرابُ البادُوَن يصطنعون من مرافق في حياتهم اليوميّة: من الدّلْوِ والمحْلَب، إلى السيف والخنجر، ومن طَهْو الطعام، إلى شيّ اللّحْمان، ومن إفراغ السّليط في القنديل للاتّقادِ، إلى الرحل والهودج المتّخذَيْنِ للركوب، ومن فلْكَة المُغْزَلِ إلى مَدَاكِ العَروسِ، وَصَلاَية الحَنْظَل، ومن السَّرْج واللّجام، إلى الكور والزِّمام، ومن الخُرْبَةِ والقِرْبة، إلى القَرَظِ والعِظِلم، ومن ثِفال الرَّحَى، إلى المِرْداةِ والأخفْاضِ..
إننا نودُّ أن نتوقَّف لدى بعض ما كانت العرب تصطنعه في حياتها اليوميّة: في حربها وسلمها، وإقامتها وَظعَنِها، وطعامها وشرابها، وفي بيوتها وأثاثها، وفي أَلعابها وأيّام زينتِها.. ولعلّ ذلك كفيل بأن يجعلنا نقرأ هذه المعلّقات، من بعض هذا المسعى، قراءة انتربولوجيّة تحاول الكشف عن الخصائص التفصيليّة للحياة الجاهليّة الأولى، انطلاقاً من نصوص المعلّقات السبعِ.
أوّلاً: الصناعات والحرف:(1/424)
لا يخلو أيّ مجتمع بشريٍّ من التعويل على مرافق ضروريّة لقيام الحَدِّ الأدنى من النظام والرفاهية في حياته اليوميّة. ولكي يستقيمَ له بعضُ ذلك يجتهِدُ في التغلْب على الصعوبات التي تساور سبيل قضاء حاجاته، وتعترض إنجازَ ما يريد تحقيقه أثناء البطش والسعي: فقد مضى على الإنسانيّة عهد لم تكن تصطنع فيه إلاّ الأدواتِ الحجريّة: فالحجر قدْر، والحجر آثَافِيّ، والحجرَ أداةٌ لتكسير الأحجار الأخراةِ، والحجرَ سِلاح للدفاع عن النفس، وللهجوم على العدوّ، والحجر رَحَى، والحجر بُنْيان، والحجر جِفَان، والحَجَر هو كلُّ شيء لدى ابتغاء الارتفاق في الحياة..
وممّا شاهدنا، من بقايا الأدوات الحجريّة العربيّة: القدور المتَّخَذَة من الحَجَر، والتي لا تبرح تُصْطَنع مرافقَ في بعض المجتمع اليمِنيّ، وخصوصاً في طهْي الحَلْبَة. وقد أمست الآن هذه الأدواتُ الحجريّة باهِظَةَ الثمّن، عزيزةَ الوجود. والقدورَ الحجريّة هي التي تُقَدّم فوق السِّماط إلى الضيف الكريم، وأغلب ما تُطْبَّخُ فيها الحَلْبّةُ التي تقدّم لتحريش الشهيّة، وللحيلولة دون التّخمة، لدى تنناول الأطباق الدسمة الأخراة. ولا يبرحُ صُنّاع، هناك في اليمن إلى يومنا هذا، ينحتونَ هذه القدور من الأحجار، وهي حين تصاب بكسرٍ تعاد إلى صُنّاع مهَرَةٍ ليعالجوا كَسْرَها فتغتدِي صالحةً للارتفاق كما كانت قبل الانكسار..
والذي يزور بلاد اليمن خصوصاً، وهو مهْدُ العروبة وأرومتُها، يندهش للصناعات والحرف اليدويّة التي تزدهر هناك، ممّا يمنح انطباعاً بأنّ تلك الصناعات ليستْ إلاّ استمراراً لِمَا كانت عليه منذ الأزمنة الموغلة في القِدَمِ، وذلك كصناعة الجلود، والسيوف، والخناجر، والأَفْرِشَة، والأثواب التقليديّة، والقدور الحَجَريّة وسَوائِها من الصناعات التي لا نكاد نلفي لها إلاّ أثراً ضيئلاً في مجتمعات عربيّة أخراة لمباكرة الحضارة الغربيّة إيّاها..(1/425)
ولمّا كانت المعلّقات شِعراً عربيّاً، ولمّا كانت تضرب بجِرَانِها في أَوَاخِيّ الدهر الذي كان قبل الإسلام: فلم يعد مقبولاً أن لا نتوقّف لدى هذه المعلّقات لننظر ماذا كانت العرب تصطنع من هذه الأدوات، انطلاقاً من نصوص المعلّقات السبع، وما لم تكن تصطنع، ولنحاول، من خلال ذلك، التوقّف لديها لقراءتها قراءة انتروبولوجيّة.
1-الصناعات والحرف في معلّقة امرئ القيس:
لقد ألفينا الدباغة هي التي تستأثر بالمرتبة الأولى، لدى تتبّعنا لمعلّقة امرئ القيس نبحث في مَتْنِها عن شأن المرتفقات والصناعات والحِرَف التي كانت، بحكم التاريخ، كلها يدويّة، كما يؤخذ ذلك من بعض قوله:
*وأرْخِي /زِمَامَه/،
*وكشْحٍ لطيفٍ /كالجَدِيلِ/ مُخَضّرٍ.
ثمّ تتوالَى الحرف والمرتفقات الأخراة بتواتر لا يزيد عن المرّة الواحدة، مثل قوله:
*وقِرّيَةِ أقوامٍ جَعَلْتُ عِصامَها: (سِقاية).
*مَداكَ عَروسٍ أو صَلايَةَ حَنْظَلِ: (زيّنة).
*فبات عليه سرْجُه ولجِامُه: (فروسيّة ودباغة أيضاً)
*أمالَ السّليط بالذّبال المُفَتّلِ: (إنارة منزليّة).
*فلْكَة مُغزَلِ: (صناعة النسيج).
*حتّى بلّ دَمْعِيَ مِحْمَلي: (صناعة حربيّة قائمة على تصنيع ... الفولاذ والدباغة).
وكذلك نلفي أدوات: محْمَلِي، وفلْكَة المُّغْزَل، والذُّبال المُفَتّل، والسّرج، واللّجام، وَمَداك العروس، والقِرْبة، والعِصَام (الوِكَاء)، والجَديِل (خطام يُتّخَذُ من أدم) والزِّمام.. تُشَكِّلُ أَهمَّ ألفاظ المرتفقات والصناعات في متن معلّقّة امرئ القيس. وهي قائمةٌ من الألفاظ الحضاريّة فقيرةٌ إذا قِيسَتْ، مثلاً، بما ورد منها، في هذا الحقل، لدى طرفة بن العبد في معلّقته. وليس هناك من عِلّةٍ في منظورنا إلاّ لأنَّ امرأَ القيس كان أميراً من الأمراءِ العربِ، منعماً موسراً، فكانت ألفاظ الصناعات والحرف قد تفوته لِتَرَفّعِهِ عَنْها، لانْعِدام تجرَبِتِه معها، ومُعايَشَتِه اليوميّة لها.(1/426)
وحتّى هذه المرتفقات الحضاريّة الذي وَرَدَتْ في معلّقة امرئ القيس، حين نعيدها إلى سياقها في متن المعلّقة، نُلفيها متّصلةً، غالِباً، بمواقفِ الحُبِّ والجمال، ما عدا:
*وقربةِ أقوامٍ جعلْتُ عِصامَها
لكنّ الأقدمين أنفسهم كانوا ذهبوا إلى أنّ هذا الشعر ليس له، وأنّه مدسوسٌ عليه، وأنّ جمهورَ الأئمّة لم يَرْوِ بعض هذه الأبيات التي وقع ترجيحُ عَزْوِها لتَأبّطَ شَراً(1). ويعني ذلك أنّ هذه الأبيات الأربعة التي هذا الصدُر منها كأنّها لم تُوجَدْ. وما استشْهَدنا به، منها، كان من باب احترام متن النصّ كما أورده الزوزنىّ، والقُرشيّ.. إلاّ فإننا لا نرتاب في أنّ هذا الشعر لا يتلاءم مع اللغة الشعريّة لامرئِ القيس، ولامع حياته أيضاً، فكيف نعزوه له، وهو عليه، في الغالب، مدسوس؟
فقوله: وأرخِي زمامه: إنما قيل في معرض محاورته فاطمة يوم دارة جلجل.
وقوله: حتّى بلّ دمعي محملي: إنما قيل في معرض البَكّى على الحبيبة الراحلة، والعزيزة الظاعنة. وقوله أيضاً: كالجَديل مُخَصَّرٍ: إنما قيل في معرض وْصفِ كشْح امرأةٍ كان يتمتّع بها من لهوٍ غيَرُ مُعْجَلٍ. وهلمّ جرّا....
2-الصناعات والحرف في معلّقة طرفة:
وممّا لاحظناه، ونحن نتابع سيرة هذه الصناعات والألفاظ الحضاريّة المصطّنعة في متون المعلّقات، أنّ طرفة بن العبد يأتي في المرتبة الأولى في تعامله مع الأدوات والصناعات والمرتفقات مثل الأسلحة، والمراكب.. حيث نصادف سيْلاً من الاستعمالات الحضاريّة التي تُحيل، حتما، على حضارة عربيّة شاملة تمتدّ إلى معظم حقول الحياة القديمة مثل: الخياطة، والسِّقاية، والسِّكافة، والدِّباغة، والبِنَاء والفروسيّة، والزِّينة، والحرب، والشراب، والطعام، والحِدادة، والنّجارة، والرَّعيْ، والبَحْرِيّة، واللّعب، كما في مثل قوله:
عَدَوْليّةٌ أو مِنْ سَفِينِ ابْنِ يَامِنٍ ... يَجورُ بها المَلاّحُ طوراً ويَهْتَدِى(1/427)
يَشُقُّ حبابَ الماءِ حَيْزومُها بِهَا ... كما قَسَمَ التُّرْبَ المُغايُل باليَدِ
ففي هذين البيتين الاثنين تطالعنا أربعُ صناعات، أو أربعةُ مظاهر من مظاهر الحياة البحريّة السائدة على عهده:
أوّلاً: حيزوم السفينة، وهو صدُرها، ومَقَدّمُها. ولا يعني ذلك إلاّ لأنّ العرب كانوا أهلَ بحريّة على عكس ما يُشاعُ عنهم بعد أن جاء الله بالإسلام، وأنّ عمر بن الخطّاب كان يتخوّف من البحر ويفضّل أن لا يكون بينه وبين المسلمين حاجِزٌ مائيّ(2): فإنّ البلاد العربيّة يَحْدَوْدقُ بها الماءُ من ثلاث جهاتٍ، فكيف لا يكون للعرب القدماء علاقة بالبحر، وقد رأينا أنّ السفن كانت تُبْحِرُ إلى جدّة، وأنّ الكعبة سقفت من بقايا سفينة روميّةٍ غَرقَتْ قُرْبَ شاطئ جدّة(3)؟
وعلى الرغم مِنَ أن الروايات القديمة تزعم أنّ هذه السفينة كانت لأَحَدِ تُجّار الروم طوراً، ولقيصر ملك الروم طوراً آخر(4)، فإنّ ذلك لا يأتي في رأينا، إلاّ لتوكيد علاقةِ العرب بالبحر على كلّ حال..
وإنّا لنتساءَل كيف كان العرب ييمّمون الحبَشة: أكانوا يأتون ذلك على متون إبلهم، في البحر الأحمر؟ وكيف وَقَعَتْ هجرةُ أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى بلاد الحبشة أيضاً؟ وكيف وقع تزويج الرسول عليه السلام من أمّ حبيبة وهي بالحبشة، وهو بالمدينة(5)؟... لقد تعامل العرب مع البحْرِ حتْماً، وهو أمْرٌ كان الموقع الجغرافيّ يفرضه عليهم فرْضاً...
وأيّاً كان الشأنُ، فإنّ الذي يعنينا، هنا والآن، أنّ طرفة يلتقط لنا هذه الصورة الدالّة على أنه كان يشاهِدُ السفينة، على الأقلّ، إن لم يكن يمتطيها وهي تمخر به عُباب البحر، كما تحدّث عن البحر والسُّفُنِ عمرو بن كلثوم أيضاً:
*وماء البحر نَمْلؤُه سَفِينا.
وكما كان امرؤ القيس، هو أيضاً، تحدّث عن البحر وشبّه به أهوال الليل، وظلامه، ومخاوفه:
وليلٍ كموجٍ البحر أرخى سُدوله ... عليّ بأنواع الهمومِ لَيْبتَلِي(1/428)
ومن الواضح أنّ طرفة يتحدّث، هنا عن السفينة وهي تمخر أمواج البحر الطامية، وتشقّ حَبابَ الأمواهِ بحَيزْومها، ولم يذْكُرهَا تشبيهاً، فِعْلَ امرئِ القيس، ولا ادّعاءً وافتخاراً، شأنَ عَمْرِو بنِ كلثوم..
ثانياً: أنّ ذِكْرَ السفينة:
*عَدَوْليّةٌ أو مِنْ ابْنِ يَامِنٍ
يؤكّد أنّ هذه السفينة كانت لرجل عربيٍّ من البَحْريْن، كما اتفق رواة المعلّقات(6). ولعلّ اسم ابن يامنٍ يدلّ على عروبته، وأنّ البحرين، خصوصاً، كانوا يصطنعون السُّفُنَ في التبادل التجاريّ مع الحبشة..
ثالثاً: أنّ طرفة يلحّ في وصف حركة هذه السفينة والمَلاّحُ يبطشُ بها، ويكُدُّ في توجيهها: فَطْوْرَا يجور بها عن نحو الغاية، وطوراً يهتدى السبيلَّ إليها اهتداءً.
رابعاً: أنّ هذه السفن لم تَكُ مصنوعةً من حديد، ولا من فولاذ، ما عدا بعض أجزائها، ولكنّ المادّة الأوّليّة التي كانت مصنوعة منها كانتْ خشباً. ويعني ذلك أنّه كان وراء هذه السفن نُجّارُون وحدّادون بارعون، للإصلاح من بعض شأنها، على الأقلّ، حين تتعرّض -بفعل كثرة الاستعمال وإلحاح البِلَى- لبعض العَطَب: في ميناءِ البحرين، وربما الحُديدة، وجدّة، وَسَوائِها من الموانِئِ العربيّة القديمة.
وعلى أنّنا ألفينا الحرب هي التي تستأثر بالمنزلة الأولى، في معلّقة طرفة، وذلك باستعمال أدواتها وآلاتها ومُرْتفقاتها بوجه عامّ، مثل: الحُسام، والعَضْب الرقيق الشفرتَيْنِ المُهَنّد، وقائم السيفِ، والوَبيل، والحَنِيّ (القسيّ). وربما طًغَا الاهتمام الحرْبيُّ على اللغة المعلّقاتيَّةِ لدى طَرَّفة لأنَّ مجتمَعَه، وعهّده، معاً: كانا ينهضان على التناحر والتنافر، والتحارب والتصارع، من أجل البقاء طورا، ومن أجل السلطان والجاهِ طورا، ومن أجل التعصّب للقبيلة، ونُصْرَتِها، طورا آخر...(1/429)
فالقِيَمُ التي كانت تحكم المجتمعَ الجاهليّ، أساساً، هي قيَم الحرْبِ، والنّضْحِ عن القبيلة، وحماية الجار، وَردِ الغاراتِ المشنونةِ على القبيلة من وِجْهة، وشنّ غاراتٍ على قبائلَ أخراةٍ كُلّما دعا إلى ذلك دَواعِي الضرورة، مِنْ وِجهة أخراةٍ. فلم يكن الحَكَم التُرْضَى حُكوَمتُه بين الناس، في معظم الأطوار، إلاّ السيف والرَّمح، والقوس والسهم. إذْ ما أكثر ما كان يقع الاعتداءُ على شخص ما، لأتفْهِ الأسباب، كرَمِيْ جسّاسِ بنِ مُرَّة الشيبانيّ كُليبَ بْن وائلٍ لمجرّد أنّ كُلَيْباً كان رمى ناقة البَسوس... فقد كان يمكن تقديم تعويضات عن الناقة المرميّة بسهم قاتل، أو الاعتذار، أو التغاضي، من أحد الطرفين، من أجل حَقْن الدماء، ولكنّ شيئاً من ذلك لم يكن! وتمادَتْ بكر وتغلب، وهما قبيلتان أختان، في التقاتل والتناحر، والتشاحن والتعادي، على مدى أربعين سنة فقدت القبيلتان الاثنتان الماجدتان، خلالّها، أفضل رجالاتِها، وأشرَفَهُ حَسَباً، وأَعْلاهُ نَسَباً، وأشْجَعَهُ قلْباً.. لم تَنْتَصِرْ أيّ قبيلةٍ على أُخْتِها.. بل إنّ القبيلتيْن كلتيْهما خرجَتَا خائبتَيْن من هذه الحرب، منهوكتيْن، حزينتيْن على ما فقدت من رجالاتها سُدىً..
فكان من غير المنتظَر، وحالُ المجتمع الجاهليّ شيءٌ ممّا ذكرنا، أن لا تستبدَّ الحربُ باللغة الشعريّة لدى طرفة في معلّقته.
ذلك هو تفسيرنا لغَلَبة اللغة الحربيّة على لغة السلام لدى تتبّعنا الأسماء الأدوات والآلات والمرافق الواردة في معلقة ابن العبد.
ثمّ تأتي في معلَّقته ألفاظ الزينة، في المرتبة الثانية، كما يَمْثُلُ ذلك في بعض قوله:
*تلوح كباقي الوَشِمْ في ظاهر اليد
*ولم تَكْدِمْ عليه بِإثْمِدِ
*وعينان كالماوّيتين اسْتكَنّتا (الماويّتان: السّجَنْجَلان).
وتتبوَّأُ معها ألفاظُ الدِّباغة والسِّكافة هذه المرتبة -الثانية- ويمثل ذلك في قوله:
*وكأنّ عُلوبَ النِّسْعِ في دَأَيّاتِها(1/430)
*ومِشْفَرٌ ... كَسِبْتِ اليَمانِي..
*ملوىّ من القَدِّ
ومعها تأتي المرتفقات المتمحّضة للبناء كما يَمْثُلُ ذلك في بعض قوله:
* بابا مُنيفٍ مُمّرّدِ
*كِمْرداةِ صَخْرٍ في صفيح مُصَمّدِ
*ولَتَكتْنَفَنْ حَتّى تُشادَ بِقَرمَدِ
ثم ترد ألفاظُ السِّقاية، مثل:
*على حَشَفٍ كالشَّنِّ (كالقِربة) ذَا و مُجَدَّدٍ (مقطوع)
*بسَلّمَيْ دالِجٍ (السَّلْمَانِ: الدّلوان)
ونلاحظ أنّ هناك أدوات أخراةً، صنّفناها في تصنيفاتٍ أخراةٍ، مثل الأدوات المتّصلة بالمراكب والأَسفار والبيوتِ والفُروسيّة وَسَوائِها...
3-الصناعات والحرف في معلّقة لبيد:
ونُلفي الدِّباغة هي التي تستأثر، في باب الصناعات والحرف، باللغة الشعريّة في معلّقة لبيد، إذ تواتر ما له صلة بها أربعٍ مراتٍ على الأقل، وذلك مثل قوله:
*خِدَامُها
*أَعْصامُها
*في الزِّمام
*العِنَان
وإنما تكاثرت حِرَفُ الدّباغة والجُلود لصلة الصناعات التقليديّة بها، فمن الجُلود تُصْنَعُ الفُرُش، والسروج، والأعِنّة، والأَزِمَّة، والخَدَم، ومحامل السيوف، وأجربتها، والمَزاوِد، والشِّنّان، وما لا يُحْصَى من المرتفقات البِدائيّة التي كان يرتفق بها في الحياة الجاهليّة بأنواعها..
ثمّ نلغي أضْرُباً أخراةً من منتوج الصناعاتِ المختلفة مثل الأدوات الموسيقيّة:
*اليَراع.
*المُوَتَّر (عود الطَّرَب).
ومثل: النِّجارة، والتِّجارة، والفَتِالة، والفِرَانة.
فلمّا كانتْ لغةُ الشعر امتداداً للغة الحياة اليوميّة، مع التسليم بضرورة رقيّ تلك عن هذه -ولكنّ ذلك لم يكن على ذلك العهد حيث كانت اللغة العربيّة لا تزال وحشيّةً كأنّها خرَجَتْ من حِضْن الطبيعة، وعذريّة كأنها وُلِدَتْ من رَحِم أُمِّها لِلْتَّوِّ.. ولكنه أصبح قائماً على عَهْدِنا هذا حيث تكاثرَتِ اللغاتُ داخلَ لسانٍ واحد...
4-الصناعات والحرف لدى معلّقاتيّين آخرين:(1/431)
وتصادفُنا، في مُتون المعلّقات الأخراة، مجموعةٌ من الألفاظ الاِرتفاقيّة، والحِرَفيَّة لعلّ أهمَّها ما يُمَثّلُ النِّجارَة، والطِّحانة، والفِتَالة، والبِنَايَة لدى عمرو بن كلثوم: (الباب -السارية- البَلَنط- الرُّخام- اللّهْوة- المرْداة- الحَبْل)، وما يمثّل الصباغة، والسكافة أو الدباغة، والبناية، والسقاية لدى الحارث بن حلّزة (القَرَظ- المَزاد- الخُربَة (بضمّ الخاء، وخربة المزاد: ثقبتها) - الطِّويّ- (البئر التي تُطْوَى، أي تُبنَى بالحجارة أو اللبن)- الأدلاء)، وما يمثّل البيطرة، والفِرَانة، والدباغة: لدى عنترة (الكُحَيْل- (وهي مادّة كالقطران تطلى بها جلود الإبل اتْقاءً للجَرَب...)
الوقود- السِّبْت (بكسر السين: جلود البقر المدبوغة)، وما يمثّل الصِّوافَة، والجِزَارة، والحِدادة: لدى زهير بن أبي سُلمى:
*كأنّ فُتاتَ العِهْنِ
*على كُلّ قَيْنيّ (القينِيّ: الحِرَفيّ).
ويمكن، بعد أن عُجْنَا على متون المعلقات نستنبط منها الحِرَفيَّاتِ، والقيْنيَّاتِ، نقرّر أنّ طرفة يتبوَّأُ المَقامَ الأوّل بتواتُرِ الحَرِفيّات لديه عشرينَ مرّةً، ثم يليه لبيد بن أبي ربيعة بعَشْرِ صناعاتٍ، ثم يليه امرؤ القيس بزهاء تسْعٍ، ثمّ يليه عمرو بن كلثوم بسَبْعٍ ثمّ يليه الحارث بن حلّزة بخمْسٍ. ويأتي في المرتبة الأخيرة زُهير باثنتيْن فحسب.
ويُمْكِنُ للفضول العِلْمِيَّ أن يحْملَنَا على أن نتساءل: ما الصِّناعَةُ الأولى التي تستأثر بالاهتمام في نصوص المعلّقات؟
إننا لاحظنا أنّ الدّباغة -أو السكافة- تتواتر، من بين زهاء خمسٍ وخمسين صناعَةً وحِرْفَةً ومُرْتفَقاً حضارِيّاً: تتوزَّع على المُعلّقات السبع: خمس عشرة مرة، وتأتي بعْدها العَمِارةُ والبِنَايةُ بسِتِّ مرات، ثمَّ السقاية بأربعٍ، والنجارة بثلاثٍ، والزينة مِثْلها. ثم تَرِدُ الصناعات الباقية بأعداد أقلّ فيتراوح تواترها ما بين مرّة واحدة، ومرتيْن اثنتين.(1/432)
فكأنّ الصناعاتِ والحِرَفَ الأربع الأولى -ومعهنّ الصناعة الحربيّة -والتي أتينا عليها ذِكْراً، كانت هي أساس الصناعات لديهم. فالدِّباغة تنهض عليها كلُّ صناعاتِ الجُلود على اختلافِ موادِّها: من قِرَبٍ، وشِنَانٍ، وأَزمَّةٍ، وأَعِنَّةٍ، وَأَخْطِمَةٍ، وسُروج، ولُجُمٍ، ومحامِل السيوفِ، وأجْرِبَتِها، والعُلوُب التي تُشتَدُّ بها الأحمال، والقُدود، والخِدَم، والأعْطام، والأَوكيَة.. من أجل كل ذلك، ولشدّة اتّصالها بحياتهم، نجد تواترها في متون المعلّقات السبع يتبوَّأُ المنزلةَ الأولى..
وأمّا البناية، أو العمارة "فَقَدْ يدلّ ذِكْرُ أطرافٍ من أدواتها -وخصوصاً لدى طرفة وعمرو بن كلثوم- مثل القَرْمَد، والباب، والمُنيف المُمَرّد (القصر الشامخ المُمَلّس)، والسوارى، والرُّخام- على أنّ الحواضر العربيّة- مُدُنَها وقُراها -كانت تصطنع أدواتِ البناء، وكانت تتحكّم في العمارة، وخصوصاً في جنوب الجزيرة، وفي حواضرها الشهيرة مثل مأرب، وصنعاء..
ونستخلص من ورد كلّ هذه الصناعات والحِرَفِ على اختلافها وتبايُنِها، أنّ المجتمع الجاهليّ على ما كان فيه من بَداوة، فإنّه كان يعتمد في نظامه العامّ على جملة من الصناعات والحرف التي كانت تؤمّن للنّاس الحَدَّ الأدنى من الرفاهية، ومن الصّحّة، ومن صحّة الحيوان، ومن الدفاع عن النفس، ومن التماسٍ للعيش الرقيق ما أمكن، والرغيد ما وُجِدَ إليه سبيلٌ من السُّبُلِ..
ثانياً- مرتفقات الحرب والسُّلطان:
وعلى الرغم من أننّا لم نُوَفَّقْ إلى تجَنُّبِ بعضِ التكرارِ في تقديم فقراتِ هذه المقالة، إلاّ أنّنا أصْرَرنا مع ذلك، على التزام الْحَدِّ الأدنى فيها من التقسيم والترتيب..(1/433)
ولم تبرح الحرب تستبِدُّ بتفكير الإنسان، وتستولي على مطامعه، وتهيمن على مطامحه، وتزيّن له كلّ شرّ، وتسوّل له كلّ سوء. فهو يتحارب باسم الدين (الحروب الصليبيّة)، وهو يتحارب من أجل الغَزْو والاحتلال بأنواعه في القديم والحديث، وهو يتحارب من أجل التحرّر (الانتفاضة الفلسطينيّة- حرب التحرير الجزائريّة...)، وهو يتحارب من أجل أن يتحارَب، ويتسلّط ويتغطرس، ويعتدي، ويحتقر، ويُذلُّ الآخرين إذا لم يكونوا على دينِه، ولا من عِرْقِةِ شأن بعض الدول الغربيّة العاتية الي لم تبرح تزْرع القِيَمَ بالصَّواريخ، ومبادئ الحريّة بسفك الدماء.. والإنسان، في كثير من أطواره، يتحارب، ربما، من أجل لا شيء، وإن كان الذي يَشُنُّ الحربَ على سَوائِهِ يُوهِمُ الناس، ولا سيما السُّذَّج والغُفَّل والبُله، بأنّه يحارب من أجل تكريس الحريّة الجميلة، ومن أجل أن تسود المبادئُ السامية علاقاتِ الناس، ومن أجل أن لا يكون الظلمُ والفقرُ والاضطهاد على هذه الأرض المعذبَّة بسكانها، وقل إن شئت: المعذَّبِ سُكانُها..
وأيّاً كانت العلَلُ والأسبابُ التي تنهض وراء شَنِّ الحروب، فإنّ قتلَ الإنسان جريمةُ الجرائم، ومنكر المنكرات، وإثْمَ الآثام...
وإذا كانت الحرب لا تبرح هي التي تستبدّ بالنفقات الباهظة من أرزاق الشعوب، وثروات الدول، غنيّاتها وفقيراتها -ونحن نشارف القرن الواحد والعشرين -فما القول في مجتمع بدائيّ إلى حد بعيد، كالمجتمع العربيّ على عهد الجاهليّة؟ من أجل ذلك نُلفي الحرب، وملازماتها، تتواتر في متون المعلّقات الستّ (حيث خلت معلّقة امرئ القيس من لغة الحرب ما عدا مِحْمَلِي الذي يدّل سياق ذكره على أنّه لم يكن للحرب في تلك اللحظة التي ذكر فيها على الأقلّ، وكأنّه كان للزينة، والدلالةِ على الرجولة والفروسيّة..) سبعاً وخمسين مرةً..(1/434)
ولمّا كانت معلّقة عمرو بن كلثوم قامت على الحرب، ونشأت عن غَبْن وإهانة، فإنّها لم تتغنَّ بشَيءٍ تَغَنّيها بعظمة القبيلةِ وشجاعتها وعِزَّتها وخِفّتِها للنّضْحِ عن الشَّرف: إباءً للضيم، واستنكافاً من الذّل، وتجانفاً عن العار، فكان العربيّ، على عهد الجاهليّة، إمّا قاتِلاً وإمّا مقتولا. وقلمّا كان الرجل الكريم يموت حْتفَ أَنْفِه. ذلك بأنّ معظم ساداتِ العرب ماتوا بِضَرْبٍ بالسيف، أو رَمْي بالسهم، أو طعنٍ بالرمح، مثل كُلَيب وائِل، ولقيط بن زُرارة في يوم شِعْبِ جَبَلَة، كما مات أخوه مَعْبد بن زُرارة في الأسرْ صبّراً وضُرَّاً.
إنّ معظم سادات العرب ماتوا مقتولين.. فكانت الحرب تقليداً بدائياً لحلّ المُعضلات الناجمة عن سوء العلاقات بين القبائل، أو بين الأفراد فَقَط، لِتتورَّطَ، من بعد ذلك، فيها القبائلُ فتسيل الدماء، وتتضَرَّى الأحقاد، وتقَع الكوارث، ويطول العهدُ بها، في بعض الأطوار، عقوداً من السنين طِوالاً، كما وقع ذلك بالقياس إلى حروب داحس والغبراء، وحروب البسوس لمجرّد أسباب تافهةٍ لا يتعلّق بها إلاّ البَدْو، وأصحابُ الذهنيَّاتِ المُغْلَقَة..
فكانت الحرب، إذن، سلوكاً يومياً في حياة العرب على عهد الجاهليّة، والذي يقصّ أيّام العرب، ويتابِعُها، ويتأمّلها، لا يُلْفِي سيّداً واحداً من سادات العرب انتصَرَ على سَوائِهِ، ولعلّ من أجل ذلك أرسلوا مقولتهم الشهيرة: يومٌ لك، ويومٌ عليك! إذْ لا تُفْضي إراقَةُ الدِم اليومَ، إلاّ إلى إراقة دَمٍ آخرَ غَداً.. وكثيراً ما كان الرجال يَفِرّون إلى غيرِ وجْه من الأرض ابتغاءَ الإفلات من هذا البلاء المبين(7).(1/435)
فكان الرجل ربما استجارَ بسيدٍ من ساداتِ العرب، ولكنّ ذلك، أيضاً، لم يكن حَلاًّ مثاليّاً، إذ ما أكثر ما يتابع أصحابُ الثأرِ الرجُلَ المُسْتَجَار، فيصيب المُستجار به من ذلك بلاءٌ عظيم.. لقد كانت الحربُ هي السلوكَ الأوّلَ في المجتمع العربيّ على عهد الجاهليّة، ولقد نشأ عنها تقاليدُ كثيرةَ مثلُ تقليدِ الجِوار (وهو أن يطلب هارب إلى سيّد من السادات ليجيَرَه من متابعة خصومه، أو أعدائه، وكأنه يشبه ما يُطْلَقُ عليه، على عهدنا هذا، اللجوء السياسيّ، وحينئذ سَيَجِبُ على المُجِيرِ أن لا يَخْذُلَه أبَداً، ولو تَلِفَتْ نفسه، وزهقتْ مُهْجَتُه، فإن لم يفعلْ، غُيَّر بتخاذُله في حقّ المستجِيرِ به، وعُدَّ لئيماً جَباناً..)، ومسألة الثأر للقتيل حتّى يُقتَلَ بمثْله مِثْلُهُ، أو يُؤدى.
ولكنّ السادات كثيرا ما كانوا يرفضون الدِّيَةَ، ولا يَأْبَونَ إلاّ الدَّمَ بالدَّم، أو النفْس مقابل النفس...(1/436)
ومن العادات والتقاليد التي ترعرت مع طقوس الحرب، تُسلَّحُ الرجل، وتقَلُّدُه بسيفه أيَّانَ انتقل، وحيّثُ ظعَنَ، إذْ لم يكن هناك نظامٌ أمْنِيٌّ يحميه، ولا دولةٌ قائمة تتولى المحافظة على أمْنِ حياته، هو وأسرته، فكان لا مناصَ لأيِّ شخص يبلغ مبْلَغَ الرجالِ من أن يَحْتَمِل سيفَه معه، وربَّما قوسه ورُمْحَه أيضاً. ولكنّ السيف كان هو السلاح الأشيع في الاستخدام الدّفاعي، والهجومي، معاً، فلا شيءَ كان يُفَكِّرُ فيه العربيّ، في الجاهليّة، بعد ارتداءِ اللباس كسَيْفِه يتقلّدُه ليُدافِعَ به عن نَفسْه، وعمّن تحتَ جناحِه: مِنْ أيّ عُدوان مُحْتَملٍ، وفي أيّ لحظةٍ كانت، على الرغم من أن مَبْدَأ العُدوان لم يكن واضِحَ المفهوم في المجتمع الجاهليّ: فقد ربما كان يُجير سيّدٌ شَخْصاً، وهو في أصل سيرته عدّو لسيّد آخر، فيستبيح المغرورُ منه دمَ الفارّ، ويُعْلنُه بين القبائل، وقد يطلبه تحت كلّ كوكب، فيقع ما يقع.. وقد يقْتلُ الرجل آخر لمجرد أنَّ امرأته شاهدتْه وهو يستحِمّ في عَيْنٍ.. فقد كان ما يُسَمَّى بالشَرف أمراً غير واضِحٍ، فيما يبدو لدى الجاهليّين، فقد كان ذلك الشرف ربما تمثّل في طلب الثأر، وربما في الغَيْرةِ على المرأة، وربما في الدفاع عن الجار، وربما في التضامن مع القبيلة، ظالِمّة أو مظلومة.. وربما في غير ذلك من المواقف.. ولكنَّ ثمن ذلك الشَرف، كان في معظم الأطوار، هو الدّم، دم الرجال الأعزّاء، والفتيان الأشدّاء.
ولولا الأشهرُ الحُرُمُ، الأربعةُ، التي كانوا يلتزمون فيها بالإسلام، ويستمتعون خلالها بشيء من الأمن والطمأنينة، لكان العرب قد تفانَوْا قبل ظهور الإسلام..(1/437)
من أجل كلّ ذلك نُلْفِي متن معلّقة عمرو بن كلثوم يكْلَفُ بذكر الحرب، ويُورِدُ ألفاظاً دالّةً عليها، أو على شيء من مُلازِماتها. وقد بلغَ عددُ هذه الألفاظ زهاءَ اثنيْن وعشرين لفظاً على الأقلَّ، مثل الأسياف، والرايات، وتاج الملك، والسُّمْر (الرماح) والنِّهاب، والسابِغَة، والنقائذ...
ولقد ارتبطت معاني الحرب بذكر هذه الآلات والأسلحة البدائيّة، والتي لم تكن، في الحقيقة، يومئذ في نفسها بدائيّة، والتي ارتبطت هي، في نفسها، بالصناعات والحِرَف التي كانت سائدة على ذلك العهد.
ويتبَّوأُ عنترةُ المنزلة الثانيّة، بالقياس إلى اصطناعه ألفاظَ الحربِ في معلّقته، بتواتر بلغ ثلاث عَشْرَةَ مرةً. وكما ارتبطت معلّقة عمرو بن كلثوم بشجاعته وإِقدامه، بل ببطشه وشدَّة غضبِه، حين كان يُحسّ بأنّه أُهين، أو بأنَّ قبيلته أُذلّتْ، بحيث وَقَفَ متْنَ معلّقته على موضوع الحرب، والتغنّي بعزّة القبيلة، والفخار بسُؤْددها، والذهاب في ادّعاء شُموخ عظمتِها كُلَّ مذهب: فإنّ عنترة يُشاكِهُهُ، من بعض الوجوه، فقد أُهِينَ الفارِسُ المِقْدَامُ، والكَمِيُّ المِغْوار، وعُيْرَ في بعض المجالس بما لا يجوز فيه: بَسوادِ لونه، وسوادِ لونِ إِخوته وأمِّه أيضاً، وأنه ليس شاعِراً، إذْ لم يكن يقول إلاّ البيتين الاثنين والثلاثّة الأبيات، فأنشأ الفارسُ الشاعرُ قصيدتَه هذه التي صُنّفَتْ فيما بعد في المعلّقات(8).
ولمّا أحب عنترة عبلة ابنة عمه، وهو ابن الأمَّةِ زَبيبَة، كان عليه أن يُثْبتَ تفوَّقُه في ساحة الوغى من أجل أن يَفْتَكَّ إعجابَها به، وتقديرها إيّاه، ولتنتشر أخبارُ شجاعته فتسير بها الركبان، ويتغنّى بمآثرها الوِلْدان، فتجري على كلّ لسان. وذلك ما كان..(1/438)
ولقد كان منتظَراً، والحال بعضُ ما ذكَرْنا، أن يكون للحرب في شعره حيزٌ واسعٌ، واهتمام بالغ، لأنّه تغنّى بشجاعته، وقوة بطشه، وشدّة فتْكْه بالأبطال في ساحِ الهيجاء، وربط كلّ ذلك بسلوك حِصانه العجيب.. ولعلّ من أجل ذلك تكاثرت ألفاظ الحرب في معلّقته، نسْبياً، فتواترت ثلاث عشرة مرةً مثل: المُسْتَلْئمِ، والرّمح، والسابِغَة، والقِسِيّ، والسيف، والحَقِيقة (الرَّاية)..
ثم يأتي، من بعد ذلك، زُهير بن أبي سُلمى الذي ذكر السلاح، والرماح، والعوالي.. لكنّ زهيرا، حين ذكر من ألفاظ الحرب ما يقرب من سبع مرات، لم يأتِ ذلك ليتغنّى ببطشه وشجاعته، وحُسْن بلائه في ساحة المعركة، كما جاء ذلك عنترة بن شداد، وعمرو بن كلثوم معاً، ولكنه ذكر تلك الحرب ليبيّن مضارَّها، وليكشف عن مآسيها، وليذكّر الناس بويلاتها:
وما الحربُ إلا ما عَلِمْتُمْ وذُقْتُمْ ... وما هُوَ عَنْها بالحَديثِ المُرَجّمِ
فهو الحكيم العاقل، الرزين الثابت، لا ينوهّ بالحرب، ولا يفتخر بالاشتراك فيها، ولا يتغنّى بجْندَلة الأبطال، وطَعْن الرجال، ولكننا نلفيه يُشَنْع بها. وزهير لا يتغنّى، نتيجةٌ لذلك، بشجاعة الرجال وهم يُقْتَلُون ويَقْتُلون، ولكننا نجده يمجّد شجاعة النفوس، ورجاجة العقول:
لسانُ الفَتَى نِصْفٌ، ونصفٌ فؤادُه ... فلم يبقَ إلاّ صورةُ اللّحمِ والدمِ(1/439)
فكأنّ صورة اللحم والدم هي الصورة الشيطانيّة من الإنسان، على حين أنّ لسانه وقلبه يشكّلان الصورة الطيبة منه. وبعبارة أخراة: فإنّ الإنسان بلسانه وعقله، لا بيديْه ورجليّه، إنّ ألفاظ الحرب في معلّقة زهير يأتي ذِكْرُها على غير ما يأتي عليه ذكرُها في متون المعلّقات الأخرياتِ، ولا سيما معلّقتا عمرو بن كلثوم وعنترة بن شدّاد. فهذان فارسان من فرسان العرب، ومَغَاويرها. وزُهير حكيمٌ من حكمائها ولا سواءٌ شاعرٌ يتغنّى بِنَزَواتِ الشيطان، وينوّه بسَفْكِ الدماء: دماءِ الإنسان، وشاعرٌ آخرُ يَنْهَى عن ذلك، ويزهّد الناس فيه، ويرغِّبُهم عنه.
بينما لم تنل الحرب لدى امرئ القيس إلاّ إشارة غير مقصودة لذاتها:
*حتى بَلّ دَمْعِيَ مِحْمَلِي
فـ /محملي/، هنا، قد يدلّ على الرجولة أكثر ممّا يدلّ على الحرب، بلْه التنويهَ بها، والافتخار بسَفْكِ الدماء في سَاحِهِا..
وقد نال موضوع الحرب لدى الحارث بن حلّزة، وطرفة، ولبيد، بعض الاهتمام أيضاً.
وكأنّ صناعة الحرب كانت تنهض، أساساً، على آلة السيف بمُرادفاته الكثيرة مثل الحسام، والمخذم، والعَضْب، والمُهَنّد.. حيث ذكر -السيف- في متون المعلّقات زهاء ثلاثَ عشرة مرّة، بينما ذُكِرَ الرمح بمُرادفاته أيضاً مثل السِّنان، والمُثقّف، والسُّمْر، واللّهْذَم، والزجاج، والعَوالي، والسْمهَرِيّ، زهاء عشر مرات.
وإنما ذُكِرَ هذان السِّلاحانِ كثيراً في المعلّقات، وفي مواطن الحديث عن الحرب منها، لأنهما كانا بمثابة ما يسمّى، على عهدنا هذا، المسدّس والبندقيّة. فلا يمكن لأيّ حرب أن تتضرَّى نارُها، ويشتعل أُوارُها، بدونهما: فهذيْن حديثاً، وذَيْنكَ قديماً. من أجل ذلك تكاثرتْ مرادفاتُهما في القديم، وتعددت صفاتهما، حتى اغتدى من العسير إِحصاءُ أسماء السيف والرمح في اللغة العربيّة..
ثالثاً: المائدة ومُرتفقاتُها:(1/440)
يُعْنَى الأنتروبولوجيّون اليوم، ضمن تحليلاتهم للحياة الاجتماعيّة البِدائيّة، وعنايتهم بتفاصيلها اليوميّة: بما يطلق عليه كلود ليفي سطروس "أصول المائدة"(9) وطقوسها. ولمّا كنّا نحن نعاود قراءة متون المعلّقات، كانت تساوُرِنا، أثناء قراءاتنا، مظاهرُ انتربولوجيّة تنتظم ضمن نظام المائدة وموادّها وطقوسها. وهي سيرة أغفلْتها الدِّراسات الكثيرة التي تناولت الشعر الجاهليّ بعامَّة، والمعلّقات بخاصة. فهناك أسئلة كثيرة يجب أن نُلْقِيَها، وإن كنّا لسْنا ملزَمين، كما لا نُلْزمُ أحداً، بالإجابة عنها مثل: كيف كان العرب في الجاهليّة يَحْيَوْنَ حياتهم اليوميّة الرتيبة؟ وماذا كانوا يأكلون؟ وكيف كانوا يأكلون؟ وهل كان هناك ألوان من الطعام خارج نطاق لبن الناقة والنعجة؟ وأيّ شيء كان أمثل لديهم، وأحبّ إلى نفوسهم حين كانوا يجوعون؟ وكيف كانوا يشرّبون من العيون، ويمتحون من الآبار؟ أكانوا يأتون ذلك كيفما اتفق، وإذن لكانوا أصيبوا بالأمراض، أو كان لهم من النظام الصّحّي الحدَّ الأدنى الذي كانوا يلتزمون به، ويُلْزِمون سَواءَهُمْ به؟ وما الموادُّ الغذائيَّة التي كانَتْ تشكِّلُ أساسَ مطبَخِهم، وأطباق مائدتهم؟(1/441)
وإنّا لنعلم أنْ كُلّ عربيّ، وكلّ أسرة عربيّة، كان لا يخرج أمرهُ عن حَالَيْنِ اثنتين: فإمّا أن يرْحَلَ، حين كان يرتحل بأسرته وينتقل من مكان إلى آخر، وإما أن يَظْعَنَ بالمُحِلاّتِ. فإمّا المُحِلَّتَانِ، لديهم، فكانت تقتصر على مُرْتفَقَيْنِ اثنيْن فَقَط وَهُمَا: القدْرُ والرَّحَى. ومن كان منهم معه المُحِلّتَّانِ فحسب كان مُضْطراً إلى أن يجاور سَواءَهُ ليستعيرَ المرتفقات الأخراةَ المتمحّضةَ للمطبخ والمائدة. بينما الذي كان معه المُحِلاّت، لم يكن يضطرّ إلى الجِوار سواء أكان ظاعِناً أم مقيماً. وكانت المحلاّت لديهم تتمثّل في جملة من مرتفقات المطبخ والمائدة أهمّها: القِدْر، والرَّحَى، والدَّلْو، والقِرْبة، والجَفْنَة، والسِّكين، والفَأْس، والزَّند (وهو المِقْدَحَة -التي تقدح بها النار- بلغة الجاحظ)(10).
فأيّ بيتٍ كان نظامُه الغذائيّ الأدنى ينهض، فيما يبدو، على امتلاك المُحِلاّت، واصطناعها، وتسخيرها في الحياة اليوميّة لنظام التغذية، أو للمائدة. ويبدو أنّ النساء (أو الإماء في الأسر المُوسَرِة) هنَّ اللواتي كَنَّ يَطْحَنّ حَبَّ البُرِّ، أو الشعير، أو الذّرة.. وقد ورد ذكر لفظ الرَّحَى، جملة مرات، في معلّقتي زهير وعمر بن كلثوم. كما ورد ذكر الثِّفال، واللّهْوة، والطَّحِين.. في معلّقتيهما أيضاً..(1/442)
وإذا كان الثِّفال في أصله هو مجرَّدَ جِلْدٍ يُبْسَطُ تحت الشِّقِّ الأسفل لقُطْبَي الرَّحَى، حتّى إذا طُحِنَ الحَبُّ لم يختلط الدقيق بالتراب، فإنّ التقاليد الغذائيّة المتّصلة تمتدّ إلى طقوس كانت معروفة في نظامهم الغذائيّ، فقد كان اللبَنُ هو الغذاءَ الأوّلَ في المائدة العربيّة على عهد الجاهليّة، وخصوصاً في البوادي. وكانوا لا يعدِلُون به أيَّ غذاءٍ آخر، ولكنّ ذلك لم يكن يتأتّى لهم إلاّ حين كانوا يَتَبَنّكون في الخِصْب، فإنْ أعوزتْهم هذه المائدةُ المفضّلةُ، كانوا يعْمِدون، على شيء من المضَضِ، إلى التْمْر أو الزَّبيبِ واللحم أو الحَبّ. وكانوا "يسمّون كلّ ما يؤكل من لحم أو خبز أو تمر ثُفْلاً"(11).
وكانوا يتناولون الطعام بأصابعهم، ويأنّفون من اصطناع السِّكّين التي كانوا يَرَوْنَها مَفْسَدَةً للطعام، مَنْقَصَةً لِلَذّتهِ (12)، وكانوا يرون "أنّ أطيب المأكول ما باشرتْه كفّ آكلِهِ، ولذلك خُلِقَتِ الكِفّ للبطش والتناول"(13).
وكانت مائدتهم تقوم على قول قائلهم، وهو أبو ذؤيب:
والنفس راغبّةٌ إذا رغّبَّتْها ... وإذا تُردُّ إلى قليلِ تَقْنَعُ
فقد كان البُرُّ معروفاً لديهم، وكان فيما يبدو، هو أجودَ الطعامَ، وأطيب العيش، لدى أهل القرى والمدن والحواضر، ويؤيّد هذا المذهب قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن أطيب العيش بأنه "لُباب البُرّ، بصِغار المِعزَى"(14). بيد أنّ الأعراب البادين كانوا يُضطرّون أيام المجاعات التي كثيراً ما كانت تضربهم، فتُمضُّ أجسامهم، إلى أن يأكلوا خبائِبَ الطعام مثل العِلْهِزِ"(15)، والحَيّات، وإلى أن يشرَبوا أسوَّأَ المشروبات مثل الفَظّ والمَجدوع(16).
وكانوا ربما اضطُروا إلى أكل اليَرابِيع، والضِّباب، والغِرْبان، والجَراد.. ولكنّ هذه المائدة كانت موقوفة:
1-على الأعراب البادين المحرومين.(1/443)
2-لكنهم لم يكونوا يتناولون مثل هذه الأطعمة المستقذَرَة إلاّ حين كانت السنون تضربهم بجَدْبها، وتصيبهم بإِمْحالَتِها.
وأمّا أهل اليَسار فكانوا يعرفون، منهم، خُبْزَ البُرّ، وسميذَه، كما يدّل على ذلك بعض أسماء الأطعمة العربيّة القديمة مثل المَّضيرة، والهَريسة، والوَشِيقَة، والعَصِيدة، والفالوذ(17)، والتمر، أو الرَّض، والمَحْض (اللبن الفصيح) وزبدة وَسَمْنه، والعسل المُصَفّى، والمرق المعقود باللحم.. ويدلّ على ذلك بعض أطبختهم مثل الغسّانية، والحيسة، والرَّبيكة، والخَرِيزة، واللّفِيتَة.. وكانوا، ربما، عافوا أكل الدِّماغ، وإلية الشَّاه(18). كما كانوا ربما يستعجلون أكل اللحم قبل أن ينضج، وخصوصاً "إذا سافروا، وَغَزَوْا"(19).
وتزعم بعض النصوص القديمة، في شيء من التناقض(20)، أنّ المائدة المفضّلة لدى العربيّ كانت هي اللبن، وكانوا لا يرتضون بهذا المشروب المغذِي أيَّ طعام آخر ما وفر لديهم، ووُجدَ في بيتهم، فإن أعوزَّهم، عَمَدوا إلى نِشْدانِ أطعمةٍ أهْل المَدَرِ كاللحم والخبز والزبيب.. وكانوا يسمّون هذا الوضع المعيشي، كما سبقت الإيماءة إلى بعض ذلك، التَّثافُل، فكانوا، إذن، في تلك الحال، هُمُ المُتَثافلِينَ. ولكنهم كانوا إذا وقعوا في المُثافَلَة "كانوا أشدّ ما تكون عليه"(21) حالُهم من الشَّظَفِ وسُوءِ الغِذاء.
فكأنّ اللحم والخبز والزبيب والتمر كانت أطباقاً تأتي في المنزلة الأخيرة من مائدتهم، وكأنّ اللبن كان هو الطعام الأوّل في نظامهم الغذائيّ، فكانوا يعدّونه الألذ الأرقى والأجودَ جميعاً.(1/444)
ويبدو أنّ المائدة العربيّة كانَتْ تنهضُ على وَجْبَتَيْنِ اثنتيْن فقط: الاصطباح والاغتباق (الفَطور والعَشاء بلغتنا اليوم، وإن كان لفظ "الاصطباح لا يبرح مستعملاً في المائدة اليمنيّة إلى يومنا هذا). ويبدو أنّ طبَق الصباح، أو الاصطباح، كان يقوم في الأطوار الباذخة على اللبن المَحْضِ الفَصِيْح، بينما كانت تقوم وَجْبَة المَساء (الاغتباق) على الرَّضّ (وهو طبق يقوم في تركيبته على رضّ التمر ثم نقْعة في اللبن المحض)(22).
وأيّاً كان الشأن، فإننا نصادف في متون المعلّقات إشاراتٍ واضحةً إلى المائدة العربيّة، ومرتفقاتها ومركّبَاتِها مثل: الأَثافيّ، والمِرْجل، والمُعَرّس، والرّحى، والثِّفال، واللّهْوَة، والقِرَى، والطَّحين، والمزاد، وخُربة المزاد، والقِرْبة..
وكان المعلّقاتيّون يتباهون بإطعام الطعام، وعَقْرِ المطايا، شأن امرئ القيس الذي صوّر بعض ما حدث، أو ما اعتقد الرواه الأقدمون أنّه قد حدث، يوم دارة جلجل، وذلك حين قال:
ويوم عقرتُ للعَذَارى مطيتي ... فيا عجباً من كُورها المُتَحَمَّل
فظلَ العذارى يرْتمين بلحْمها ... وشَحْمٍ كهُدَّاب الدمقْسِ المُفَتّلِ
فلم يكن هذا العَقْرُ مجرّدَ عَقْرٍ في نفسه، ولكن تلاه، أو صاحبه وزامنه، جَمْعُ الحطب، وتأجيجُ النار، وتحضير الجَمْر، ليقع، من بعد ذلك، شيُّ لحم مطيَّة الشاعر، وليظلّ العذارى يَطْعَمْنَ منه حتى شبِعْن، فأَنْشَأْنَ به يترامْين: كلّ واحد تُلْقِي لصُوَيْحِبتِها بقطع اللحم المشويّ لكثرته، وهي عادة عربية لا تبرح قائمةً في المائدة -في بعض البلدان العربيّة الأصيلة - إلى يومنا هذا.
ويمكن أن نستخلص من هذا النص المرقسيّ بعض ما يلي:(1/445)
1-إنه يؤكّد اتخاذ العرب، وكلّ المجتمعات الصحراويَّة تَأْتِي أتْيَهُم، الإبلَ طعاماً لهم، إلى جانب معظم لحوم الحيوانات الأخراةِ التي جرت العادةُ لدى الناس بأكْلِها. وقد شاع بين الناس أنّ حاتما الطائيّ نَحَرَ فَرَسه لِضيفَانِه، حين لم يجدْ شيئاً يقدّمه لهم قِرىً من اللّحمان، ولكن ذلك كان ضرورة..
2-إنّ عادة الشَيِّ أزليّة، وإنّ المجتمعات البدائيّة كانت اهتدَت السبيل، منذ فجر التاريخ، إلى مائدة اللحم المشويّ، وطعمه. وإنّ المائدة العربيّة كانت تقوم على شَيِّ اللحم كقيامها على العناصر الغذائيّة الأخراةِ..
3-إنّ طقوس الاحتفال بالطعام كانت معروفة لديهم، فكان الواحد منهم ربما أبّى أن يأكُلَ وحده حتى يُلفِى من يُطاعِمُه. ولعلّ سلوك امرئ القيس بِنَحْر المطيّة، وَشيِّها، وإطعام هؤلاء النساء، مع عبيده أو عبيدهن، من لحمها، يندرج ضمن هذه الطقوس الجاهلية للتعامل المائديّ.
4-إنّ المطيّة (قد تكون جَمَلاً، وقد تكون ناقة) التي نحرها الشاعر للعذَارى لم تكُ هزيلة عجْفاء، ولا شارِفة هِمَّةً، ولكنها كانت سمينةً فَتِيَّةً، وآيتُنا على فتائِها وسمنها أمران:
أوّلهما: أنّ لحمها على الرغم من أنّه ذُبِحَ لِتَوّهِ (والمعروف أنّ اللحم يعْسُر طهْيَه أو شَيُّهُ قبل أن يبرُدَ، ويتعذّر ذلك كلّما قلّ فَتاؤُه، وتأكّد هُزالُه): كان صالحاً للشَيِّ، كما كان، نتيجة لذلك، صالحاً للأكل.
وآخرهما: أنّ هذه الذبيحة كانْت سمينةً بحكم منطوق النص ومضمونه، أي أنّ شحمها كان أبيض كأهداب الحرير، فكان، إذن، لحمُها مشبَعاً ببعض الشحم الذي يُشَمّ له قُتَارٌ يُسيل اللعابَ فتتلمّظ له الشفاه، وذلك حين يوضع على النار ليُشوَى، لا سيما إذا كان ذلك في الهواء الطلق، وفي الحيز الرحب. وعلى حطب طبيعيٍّ، وعلى ضِفافِ غدير، وبُقْرْبِ عَذارى، وعَبْرَ فضاءٍ مُنْسَاحٍ..(1/446)
ويؤكّد عادةَ الاحتفال بالطعام، وإقامة طقوس احتفائيّة بالطاعِمين لدى العرب، من خلال متون المعلّقات قولُ امرئ القيس أيضاً:
فظلّ طُهاةُ اللحم من بيْن مُنْضِج ... صَفيفَ شواءٍ، أو قَديرٍ مُرَجَّلِ
حيث يمكن استخلاص جملة الأحكام التي لها صلة بالمائدة، لعلّ أهمّها:
1-أنّ عادة المائدة العربيّة في الإطعام، سواء أكانت الدعوةُ جَفَلَى، أمْ نَقَرَى: كانت تَتُمُّ أثناء النهار لأسباب يمكن تصوّرها، ومنها:
أوّلاً: انعدامُ الإضاءة- إلاّ في ليالي القمر حين تُصادفُ الجوّ مُصْحِياً- وقلّة انتشار السَّلِيط بين الناس ليُنيُروا به فتائِلَهم الهزيلة التي لم يكونوا يأمَّنون من الريح أن تُطْفئَها.. أمّا تضْريم النار فإنّ ضَوْءَ التهابِها لا يساعد على الرؤية السليمة أثناء الليل، وكان ذلك يحتاج إلى أكوام من الحطب ضخمة، وإلى عدد كثير من الناس، لتبيت متأجّجة ومشتعلة حتّى تضيء خطوات قليلة من حولها ليرَتَفقَ بها الناس.
وآخِراً: ولقدْ ينشأ عن انعدام الإضاءة تعذُّرُ عودةِ الناس إلى بيوتهم، ولا سيما خارج الحيّ، مع انعدام الأمن، والتعرض لغازات الفُتّاك والصعاليك واللصوص.
2-إنّ عادة الوجبات العربيّة كانت -نقرّر ذلك تارة أخراة -تجتزئ، في الغالب، بوجبتْين اثنتيْن. وربما كانت وجبةُ الاغتباق تَتِمُّ قبيل الغروب للأسباب التي ذكرْنا، إلاّ حين يطرق ضيْفٌ طارئٌ، وغريب جائع، فإنّ الأسخياءَ كانوا يذبحون له ما تيسّر مما كان لديهم من الشَّاء.
3-إنّ اللحم لم يكن يُشْوَى فقطْ، ولكنه كان يُطْهَى أيضاً، فقد ظلّ الطهاة يُنْضجوَن اللحمَ على لونيّن اثنين من المائدة: شَواءٍ، وقَدِيرٍ.
4-إنّ اللحم القَدِيرَ، أو المَطْهُو، كان كأنَّه الطعام الذي يقدّمُ قِرىً، قبل العَمْدِ إلى الشِّيِّ الذي يحتاج إلى جمع حطب جَزْل، وتأجيج نار، وانتظارِها إلى أن تستحيل جَمْراً، ليوضَعَ فوقها اللحْمُ، ابتغاءَ اشْتِوَائِهِ.(1/447)
وقد يحتاج كلّ ذلك إلى أكثر من ساعتيْن اثنتيْن من الزمان.
وممّا يؤكّد ما زعمناه من أنّ طقوس الاحتفال بالطعام كانت تتمّ، غالباً، أثناء النهار، قول طرفة ابن العبد أيضاً:
*فظلّ الإماء يمتَللْن حُوارَها(23).
وعلى أننا نرتاب، بعض الارتياب، في شأن هؤلاء الإماء اللواتي قد يكنّ من نَفْج الشعراء الذين هم كثيراً ما يقولون غيرَ ما يفعلون، فذِكْر الإماء هنا إيماءَةٌ تقوم على الفَخْرِ والنفْج، وأنّ طرفة كان له إماءٌ كثيرات هُنّ اللواتي كنّ يتولّين طهْوَ الطعام، والقيام بكلّ الأعمال اليوميّة في البيت.
وأيّاً كان الشأن، فصورة الاحتفال بالطعام لدى طرفة امتدادٌ، حتّى لا أقول: مُحاكاة لصورة احتفال امرئ القيس. وقد يكون امرؤُ القيس أصدقَ من طَرفة في هذا الموقف بالذاتِ. وقد ذكر امرؤ القيس، على كلّ حال، طقوسِيَّة المائدِة مرتيّن اثنتيْن في معلّقته -مقابل ذِكْرِها مرةً واحدة لدى طرفة وانعدامها لدى الباقين- وفي الحالين الاثنتيْن ذَكَرَها الملِكُ الضِّلِيلُ على أساسٍ من حدوثها نهاراً لا ليلاً.
والذي دلّنا على ذلك اصطناعُه فعل /ظلّ/ (مثله مثل طرفة)، بدل بعض أخواتها الدالّة على الزمن المنحصِر، أو المنقطع، مثل: أمسى، وبات.
وممّا يتصل بطقوس المائدة، على عَهْدِ الجاهليّة، ممارسة لُعْبَة الميسر التي كانت خالِصَةً للأغنياء، وقل: الأغنياء الأسخياء، حيث إنَّ الياسِرَ محرَّمَاً عليه، اجتماعياً، أن يأخذ شيئاً من لحم البعير الذي نُحِرَ للميسر.. وممّن أومأ إلى هذه الطقوس المائديّة لبيد بن ربيعة في معلّقته إذْ يقول:
وجَزورِ أيسارٍ دعوْتُ لحَتْفها ... بمغالق متشابهٍ أَجْسامُها
أدعو بهنّ لعاقلٍ أو مُطْفِلٍ ... بُذلَتْ لجيرانِ الجميع لحَمُها
فالجارُ والضّيْفُ الجَنيبُ كأنّما ... هبطا تَبَالَةَ مُخصِباً أهَضْامُها(1/448)
فحفل الطعام، أو قل حفل الإطعام، أو قل حفل مادّة المائدة، هنا مختلف كلّ الاختلاف إذ الطاعم لم ينْحَرْ ذبيحَتَه ليُطْعِمَ منها الناسَ، ولكنه نحرها تباهِياً وتفاخُراً(24): ليأكل من لحمها الغُرباءُ، وقد يطعم من لُحمانها الضِّيفانُ، لكن دون أن يَطْعَمَ هو منها قطعةً من اللحم واحدةً، فطقوس هذه المائدة العجيبة كانت مرتبطة بالمعتقدات الوثنية، والتقاليد الاجتماعية البِدائيّة، والسلوك الجاهليّ الذي ينهض على التفاخر والرِثَاءِ والمَنِّ.
والمائدة، من حيث هي، لا يستقيم طعامُها، ولا تتمّ طقوسُها، ما لم يكن مع الطعام شراب. ويبدو أنّ عامة الناس كانوا يشربون من ماء العيون، أو الغدران، أو الأطواء، أو السيول التي تظلّ زمناً قائمة في السواقي والوديان بعد تَهاتُنِ الأمطار. وغالباً ما كانوا يشربون الماء بعد البيات حتى يستقِرَّ طِينُه، فيصفُو مِمَّا به من كدَرِ التراب أو الغُبار. وكانوا يستقون الماءَ ويدّخرونه في الشِّنان أو القِرَابِ..
ولكنّ نصوص المعلّقات حين تتحدث عن شراب المائدة لا تكاد تتحدث عنه إلاّ على أساس أنَّه خمر، وخصوصاً طرفة وعنترة وعمرو بن كلثوم الذين فصَّلوا في صفات الشراب ومواصفاته بوجه جَعَلنا نُدرك الكيفيَّة التي كان أهل الجاهليَّة يشرَبون عليها، أو بها، الخمر، كما يمثل ذلك في بعض قول طرفة:
*وما زال تَشْرابي الخمورَ ولذّتي..
كريمٌ يروّي نفْسَه في حَياتِه ... سَتْعَلمُ، إن مِتْنا غَداً، أيُّنا الصَّدِي؟
وفي بعض قول عنترة:
ولقد شَربْتُ من المُدامة بعد ما ... رَكَدَ الهواجِرُ بالمَشوفِ المُعْلَمِ
بزُجاجةٍ صفراءَ ذاتِ أسِرَّةٍ ... قُرنَتْ بأزْهَر في الشمال مُفدَّمِ
فإذا شربْتُ فإنّني مُسْتهلكٌ ... مالي، وعِرْضي وافرٌ لمْ يُكْلِمِ
وفي بعض قول عمرو بن كلثوم:
ألاّ هُبّي بصَحْنِكِ فاصْبَحينا ... ولا تُبْقي خُمورِ الأندرينَا
مشعشعةً كأنّ الحُصّ فِيَها ... إذا ما الماءُ خالَطها سخيَنا(...)(1/449)
وكأسٍ قد شرِبْتُ ببَعْلَبَكَّ ... وأُخْرى في دِمشْقَ وقاصرينَا
ويمكن أن نستخلص من هذه النصوص المعلّقاتيّة الثلاثةِ طائفةً من الأحكام، لعلّ أهمّ ما يذكر منها:
1-أنّ مجالس الشراب كانت مَفْخَرةً للرجال، فكان الشاعر يفتخر بكونه يغدو عليها فيشرب فيها، ويشارِب أصاحيَبُه، ويَحْسُو من الخمر ويُعاقِر.. وكأنّ هذه المجالس كانت وقْفاً على كِرام القوم وسَراتِهم.
2-أنّ أهل الجاهليّة كانوا يَعُدُّونَ ذلك فرْصةً لإشباع النّهَمِ الجَسَديّ من رغبة جامحةٍ فيه إلى هذا الشراب الذي كانوا يُلْفون فيه لذْةً عارمة، ومُتْعة غامِرَةً:
كريمٌ يُروّي نفْسَه في حياته ... سَتْعلَمُ، إنِ مُتْنا غَداً، أيُّنا الصّدِي؟
... ... فكأنّهم كانوا يَخْشَوْن الصَّدى في الدار الآخرة، فكانوا، في اعتقادهم، يدّخرون لها بعض ما يحتسون من هذه الخمر في الدار الدنيا. ومن الغريب أنَّ طرفة كان مُوقِناً من أنّ الشراب في الدنيا نافع له في الآخرة، وأنَّ من لمْ يشرب، في هذه الدنيا، هو الذي سيكابد الظَمّأ في الآخرة. وربما كانت هذه الفكرة جُزْءَاً من بعض المعتقدات الوثنيّة التي زالت وبادت، والتي كانوا بها يؤمنون.
3-إنّ وقت الشراب كان يتمّ في الصباح، وفي الضُّحى غالباً. وقد كنا علّلنا بعض ذلك بأنّ المساء يُظلّه الليل، والليلُ يُطْبِقُ عليه الظلامُ، وأنّهم لم يكونوا يمتلكون الوسائل المتطوّرة للإنارة فيسَهُروا في الحانات في ظروف مقبولة. وقد يضاف إلى ذلك أنّ الصباح يكون، عادةً، رطِيباً يحلو فيه المجلس. وتدلّ معظم النصوص الشعريّة الجاهليّة، وبما فيها النصوص المعلّقاتيّة (عنترة- عمرو بن كلثوم- الأعشى) وهو أحد المعلّقاتيّين لدى بعض الرواة والنقاد الأقدمين) على أنّ أوقات الشراب كانت غالِباً في الصَّباح، وربّما امتدَّ بها المَجْلِسُ إلى الظّهيرة، وأثناء اشتداد الحرّ بالهاجرة، كما يُفْهَمُ ذلك من قول عنترة:(1/450)
ولقَدْ شرِبْتُ من المُدامة بعدَما ... رَكَدَ الهواجُر بالمَشُوفِ المُعْلَمِ
على حين أن عمرو بن كلثوم يَدُلّ كلامه على أنّ أوقات الشراب كانت في الغَداة:
ألاَ هُبّي بصَحْنكِ فاصْبَحِينا ... ولا تُبْقي خُمورَ الأنْدَرِيَنا
وقد يدلّ على صاحِيَّةِ هذا المجلس أمرانِ اثنانِ في هذا البيت:
أوّلهما: /أَلاَ هُبّي/ حيث إنّ الهبوب إنما يكون عن نوم، فالشاعر يُهيبُ بالجارية أن تنهض من كَراهَا لتَجِدّ في خِدْمتِه، ولتَسْقِيَه الخمرَ.
وآخرهما: /فاصْبَحينا/ فتقدير النسج في البيت الكُلثْومي: "هُبّي من نَوْمِك، وأصبَحِيَنا بصَحْنِك" ونحن نعلم أنّ الصّبْحَ -بفتح الصاد- هو سَقْيُ الصَّبوح. والصَّبوحُ هي شراب الصَّباح (وقد ينصرفِ إلى طعام الصباح أيضاً..) فمعنى هذا البيت منصرف إلى زمن الصباح، ووقت الغدوّ. ويُعزّزُ هذا ما ورد لدى شاعر آخر من شعراء المعلّقات (وإن لم نعرض لمعلّقته، نحن، في هذه الكتابة، لاختلاف الإجماع عليها(25)، وهو الأعشى حين يقول:
وقد غَدَوْتُ إلى الحانوتِ يتبَعُني ... شاوٍ مِشَلٌّ شلُولٌ شُلْشُلٌ شَوِلُ(26).
فقد كان الذهاب إلى الحانة يتمّ غدوّا لا رواحا، وصُبْحا لا مساءً.
وقد كان الشراب يَتِمّ على صورتيْن: صورةِ الشارب المُدْمِن، الناشِدِ للَّذَّةِ، والملتمس لسَماع القِيان، والتمتّع بِرَقْصِهنّ. وكان ذلك يتمّ في حاناتٍ منصوَبةٍ تُتاجِر في الخَمْر والجَوارِي. وربما كان الأعشى يُومِئُ ببَيْته العَجيب إلى هذا الضرْب من الحوانيت التي كانت منصوَبةً من الحواضر العربيّة هنا وهناك. والصورة الأخراة: إنّ الشارب كان رُبّما ابتاعَ زقّاً من الخمر، ثمّ دعا أصدقاء له ليُشاربُوهُ في مناسبة من المناسبات، أو على وجه الإدمان، أو على وجه تبادل المجالس بين الصَّديق والإِخوان. وغالباً ما كان يصحب هذا الشرابَ أكْلُ لحمٍ مشويٍّ، كما وردت الإِشارة إلى ذلك في أبيات امرئ القيس، وطرفة (والأعشى):(1/451)
*فظلّ طُهاةُ الحَيّ من بيْنِ مُنْضِجٍ صفِيفَ شِوَاءٍ..
*فظلّ الإماء يَمْتَللْنَ حُوارها.
وقد غدوْتُ إلى الحانوتِ يتبعُني ... شاوٍ، مَشلٌّ، شَلُولٌ، شُلشُلٌ شَوِلُ
وكما كانت زعمت الرواةُ حول يوم دارة جلجل حيث كان الشاعر والنساء يأكلون من لحم المطيّة المنحورة، ويشربون من فضلة خمر كانت مع النساء في رواية، ومع امرئ القيس في رواية أُخراة(27).
وأمّا شراب الماء، في المائدة الجاهليّة، فيبدو أنّه لم يكن يقدّم في مجالس اللهو والطربَ، فغدير امرئ القيس (غدير داره جلجل) إنما ذُكِرَ في معرض السباحة والعُرْي، وكان التمتّع بماء الغدير على بعض هذا الأساس. وحين ذَكَرَ امرُؤُ القيس القِرْبَة (وإن كنّا نذهب مع القدماء إلى أنَّ هذه الأبيات الأربعةَ التي جاءت بعد ذكر القِرْبَةِ ليست لأمرئِ القيس، غالِباً) فإنما ذكرَها على أساس أنّها سِقَاءٌ للماء يَصْلُح للسّفْرِ يشرَبون منه لدَى الظّمَأ. فلم يُذْكر الماءُ، هنا إِذن، في معرض النزهة واللهو، ولكنه ذُكِرَ في معرض البطش والشظف والكدح.
وأمّا عنترة فيذكر الماء على أساس أنَّه شراب جيّد للإبل، حيث يمدح ماءَ عينِ الدُّحرُضَيْنِ الذي شرَبتْ منه ناقتُه فحَسُنَتْ لذلك حالُها، فسمنَتْ وفُرُهَتْ من وجهة، وأمست راغبةً من الشراب من ماء حِيَاضِ الدَّيْلَمِ (وهو ماء الأعداء لزُعُوقِهِ) من وجهة أخراة:
شرِبَتْ بِمَاءِ الدُّحْرُضَيْنِ فأصْبَحَتْ ... زَوْراءَ تَنْفُرُ عَنْ حِياضِ الدَّيْلَمِ
بينما أمرُ الماءِ لدى زهير يقع بين ذلك وسطاً: فلا هو شراب الدوابِّ كما هو لدى عنترة، ولا هو شراب السَّفْرِ والظّعْنِ كما هو لدى امرئِ القيس (إذا سلّمنا بأنّ أبيات القربة الأربعة هي له حقّا)، ولكنه صالحٌ للشراب والمتاع والمُقام جميعاً:
فلمّا وَردْنَ الماءَ زُرْقاً جِمَامُهُ ... وضَعْنَ عِصِيّ الحاضر المُتَخَيّمِ
وكأنّ طقوس الماء المتعلّقة بالارتفاق به كانت استقرَّت لدى بعض هذه الحاجات:(1/452)
1-الاستحمام والسباحة (في الغُدران، والوديان، والعيون)
2-إِرواء الإبل والمواشي والإنسان منه.
3-اصطحابه أيّام الظَّعَنِ في القِراب أو الشِّنان.
4-اشْتِرَابه في المائدة مع الطعام لإِرواء الظَّمَأ.
وكانوا يصطنعون في الارتفاق بالماء الأدلاء لدى امْتِحائِهِ، والشِّنان لدى نقْلِهِ من الآبار أو العيون إلى البيت، والقِراب لدى اُدِّخاره لبعض الوقت، لبعض الحاجة. كما كانوا يعَوّلوُنَ، أساساً، على مياه الأطواءِ، والعيون، والغُدْران، والوِدْيان.. وقل إِنهم كانوا يعوّلون على المِياه السطحيّة، أكثر مما كانوا يعوّلون على المياه الجوفيّة.
رابعاً: مرتفقات الفروسيّة والسفر:
كانت الحياة العربيّة، على عهد الجاهليّة، قائمة على الحركة والتَّظعان، والسفرَ والتَّطواف، فكانت القبائلُ تنتقل من شِعْب إلى شِعْبِ، ومن سَهل إلى سهل، ومن ماء إلى ماء، لأسباب كثيرة، منها:
1-إنّ مجتمع أولئك العرب البادين كان رَعَوِيَّاً، أساساً، لا زراعيَّا، فكانوا يُيَمّمُونَ مَساقِطَ الحَياءِ، ويتتبَّعون مواقِعَ الخِصْبِ والماء، فكانوا كُلّما ارتعت إبلُهُم الكلأَ الذي نزلوا به، أرسلوأ مُرتادَهُمْ يَرْتَادُ لَهمُ لينتَقِلُوا إلى موقع آخر، وهلمّ جرا.. ولو استقرّوا في موقع واحد لكانوا ابْتَنَوا البنايات، وشيّدوا الناطحات، كما وقع بعض ذلك في بعض حواضرهم الأزليّة مثل الحيرة ويثرب، وصنعاء ومأرب، حيث بني بمدينة صنعاء قصْرُ غَمْدان الذي ربما يكون أوَّل ناطحةِ سحابٍ في التاريخ.. ولكن لم يكن ممكناً أن يستقِرَّ العربُ، وقل إن شئت الأَعراب، لأنَّ حياتهم، كما سلفت الإِيماءة إلى ذلك، كانت تنهض، في نظامِها الاقتصادي، على الرَّعْي، لا على الزراعة إلاّ في الجنوب، وفي بعض الأودية الخصيبة.(1/453)
2-إنهم لكثرة ما كانوا يُغيرون على بعضهم، ولكثرة ما كان سَواؤُهم يُغِيرُ عليهم، في الوقت ذاته، فقد كانوا مُضْطَرِين إلى التماس الشِّعاب الآمِنة، والروابي البعيدة التي قد تجعلهم في مأمَن مَّا مِنَ الغارات المشنونة عليهم. ولكنّ تلك المواقع التي كانوا يتوخّون اختيارها ليقطنوها، لم تكن حِصْنا حصينا لهم من القبائل المناوِئَة لهم، والأقوى من قبيلتهم التي إليها ينتمون فكانوا يرتحلون كلّما أحسَّوا بخطر داهم، وشرّ واقِع، بهم.
وعلى الرغم من أننا نصادف ألفاظَاً حضاريّة تدلّ على تقدّم العمارة، وتطُور البنيان، في بعض الحواضِر العربيّة العتيقة مثل القصر، والباب، والمُمَرّد، وذلك لدى طرفة خصوصاً، فإنّ عامة متون المعلّقات تجنح لوصف المجتمع العربيّ الجاهليّ كما ألفْنا تمثُّلَه من خلال القراءات والأوصاف الموروثة في بطون المجلّدات والأمهات من المصادر: وهو قيامه على نظام الخِيام، والطِرافِ والخِبَاءِ، والنُّؤْي، والأطناب والرّحل، والكوُر، والسَّرْج، والِلَّجام..
كان الفرسان يتّخذون لهم الخيل مَرْكَبَاً (امرؤ القيس -عنترة- عمرو بن كلثوم)؛ وكانوا يتّخذون لهم السُّروَج غالِباً، وربما كانوا يركَبونها وهي عُريانَةٌ. وكانوا يَعُدّون ذلك من الفروسيّة العاليّة، حيث كان الفارس غيرُ العَنيفِ، أو الفارس المُتمكِّنُ، كان ينزو على الحصان نزوة واحدة على متنه فكأنما خُلِقَ على ظهره، وهي سيرة كان يأتيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه(28). من أجل ذلك كان عمر يوصي العرب بعدم اتّخاذ السُّرج والرُّكُبِ، والنّزْوِ على الخيل نَزْوَاً(29)، لأنَّ اتخاذ السرج والرُّكُبِ يوشك أن يُثْقِلَ حركة الفارس لدى الصّريخ، كما يوشك أن يحمل الفارس على الكَسَل...(1/454)
وكان للفروسية أصول مرعيّة لديهم. وقد أبدع الشعراء في وصف الخيل وركْضِها إِبداعاً عجيباً. وكان الخيّالون يتّخذون تقاليدَ يتبعونها في تسمين الجِياد وتفريهَها، فنجد لديهم الإضمار أو التضمير الذي كان، يعني لديهم، شدّ السروج عليها، وتجليلها "بالأَجِلّةِ حتّى تعْرَقَ تحتها، فيَذْهَب رَهَلُها، ويشتدّ لَحْمها، ويُحْمَل عليها غلمان خِفاف يُجرْونها ولا يَعْنُفُون بها، فإذا فُعِلَ ذلك بها، أُمِنَ عليها البُهْرُ الشديد عند حُضْرِها، ولمْ يَقطعها الشّدُّ"(30). وربما كان يمتدّ ذلك على مدى أربعين يوماً(31) وكانوا يطلقون على الحير الذي تركض فيه الخيل، مسافةً معيّنة، المِضْمَار. وكانت المسافة التي تقطعها الجياد حُضْرَاً تُسمَّى لديهم المَيدان. بينما كان منتهى الميدان يسمَّى الغاية. وكان مقدارُ المسافةِ التي أَحْضَرَهَا داحِس والغبراءُ مائةَ غلوةٍ(32) وكانت مسافة الغلوة مقدَّرةً بمدَى رمية السهم. وربما لا يجاوز مدى رمية السهم عشرينَ مِتراً ممّا نصطلح عليه نحن اليوم، مما يمكن تقدير مسافة حُضْر تينكِ الفرسَيْن الشهيرتيْن بزهاء ألفَيْ مِتْرٍ، أو ثلاثةِ آلاف في أقصَى الاحتمالات.
من أجل ذلك لم تغب، أمام حضور الفرس لدى العرب، الفروسيّة والسفر من متن المعلّقات، وقد تحدّث معظم المعلّقاتيّين عن السَّفَرِ، ووصفوا رَحَلاتهم وما كان يساورهم فيها من أهوال وشدائد، كما جاء ذلك امرؤ القيس، ولبيد، وعنترة.. بيد أنّ الذي تَوقف لدى الفرَس يصفه بدِقّةٍ وحُبٍّ، هو امرؤ القيس، بينما الذي وصف لنا عواطِفَه إزاءَه، بل صوَّر لنا مُحاوَرته إيَّاه، إنما هو عنترة. فكأنّهما أبرعُ المعلّقاتيّين ليس في وصف الفرس فَقَطْ، ولكنْ في حبّه أيضاً.(1/455)
من أجل كلّ ذلك، ألفينا المعلّقاتيّين يتعاملون مع الحصان من حيث هم فرسان، ويتعاملون مع البعير من حيث هم رُحَّلٌ على وجه الدهر، فكثرت الألفاظ الدالّة، في معلّقاتهم على بعض هذا الاهتمام، مثل الكور، والرَّحل، والغَبيط، والسرْج، واللِّجام، والزِّمام، والمِحْزَم، والبعير، والشدنيّة، والقَلوص، والمَطيِّة، والرِّحالة، والعِنان، والعَنيفِ(33)، والاهتزام، والصَّهَوات، والمَتْن، والحَال (مقعد الفارس من ظهر الفرَس)، والمُنْجَرد، والهَيْكَل، والكُمَيْت، والحداء، والمَرَاكل، والرِكاب، والصافِن.. وما لا ييْسُر تتبُّعُه بدقّةٍ في متون المعلّقات، حيث إننا لو جئنا نتحدث فقط عن الرِّحلة والفروسية وملازماتِهِما لاستغرق ذلك منّا مجلّداً كاملاً. وهو أمرٌ بادٍ.
ومن الواضح أنّ هذه الآلات والتجهيزات التي كانت تُتّخَذُ للسّفَرِ، وسواء علينا أكان سَفَرُ المرأة (الغبيط، والخِدْر، والحدج..)، أم سفر الفارس على الفَرس إلى حرْبِ، أو إلى نُزْهة، أم سفر المسافر إلى بعيدٍ في تجارة، أو قضاء حاجة على البعير: كانت وراءها أيْدٍ صَناع، وعقولٌ مُبْدعِة. وكانت الغاية من إِنشائها، ثمّ تطويرها، هو رفاهية المسافر حتّى لا يَشُقّ عليه سَفرُه.
وكانت تلك الأدواتُ والآلاتُ والمُرتفقات التي تَلْزَمُ المسافرَ تَتّجِّه في اتجاهين اثنيْن: أحدهما راحة الإنسان ويَمْثُلُ ذلك في مثل السَّرْج، والكُوُر، والرَّحْل، والرِّحالة، والركاب، والغبيط، والخِدَّر.. وأحدهما الآخر يمثل في راحة العيون المركوب -أو الرَّكوَبة- وابتغاءَ التحكُّم فيه دون إيذائه، ما أمكن ذلك، مثل الزِّمام، واللِّجام، أو العِنان، ونحوِهَما...
***
( إِحالات وتعليقات
1-الزوزني، شرح المعلّقات السبع، 28، والقرشي، جمهرة أشعار العرب، 44
2-ياقوت الحموي، معجم البلدان، 379.6 (الفسطاط).
3-ابن كثير، السيرة النبويّة، 276.1، وابن هشام، السيرة النبويّة، 193.1
4-م.س(1/456)
5-ابن كثير، م.م.س، 273.3 وما بعدها
6-الزوزنيّ، م.م.س، 46
7-ابن عبد ربه، العقد الفريد، 148.4 وانظر أيضاً ابن قتيبة كتاب العرب، في: رسائل البلغاء، 344-377
8-ابن قتيبة، الشعر والشعراء، 172.1-173
9-C.L.STRAUS, MYTHOLOGIQUES, TIII P.7 1 ET SUIV
10-ينظر أبو عثمان الجاحظ، البيان والتبيين، 40.3 وابن منظور، لسان العرب، حلل.
11-ابن منظور، م.س، ثفل
12-ابن قتيبة، كتاب العرب، في رسائل البلغاء، ص370
13-م.س
14-الجاحظ، م.م.س، 36.1
15-اختلف في وصف أُكْلَة العِلْهِز، فمنهم من زعم أنّها نباتٌ كان ينبت ببلاد بني سُلَيم، له أصل كأصل البُرْدِيّ، ومنهم من ذهب- وهذا هو الأشهر- إلى أنها أكلة تتركَّبُ من أوبار الإبل ودم الحَلَم (بفتح الحاء واللام). وكانوا يَشْوون هذه التركيبةَ العجيبة ثم يبتلعونها اضْطراراً. وزعم ابن الأعرابيّ أنّ العِلْهِز هو "الصوف ينفش ويُشْرَبُ بالدماء، ويُشْوَى ويؤكل (ابن منظور، علهز).
16-المجدوح: دم كان يُخْلَطُ مع غيره فيؤكل في الجَدْب. وقيل: المجْدوح: دم الفَصِيدِ كان يُسْتعمل في الجدْب، على عهد الجاهليّة، وكان ربما عَمَدَ أحدهم إلى ناقته ففَصَدَها وأخذ دمَها في إناء فشرِبَه. وأمّا شراب الفَظِّ فقد كان عبارةً عن “ماء الكُرِشِ يُعْتَصُر فُيشْرَبُ منه عند عوزِ الماءِ في الفلَوَات، وبه شُبّهَ الرُجلُ الفَظّ الغليظ، لِغلَظِه "ابن منظور، م.س، فظظ.
17-تزعم المعاجم العربيّة أنّ هذه اللفظة فارسيّة الأصْل، وهي حلوى تصنع من لُباب البُرِّ وشَهْدِ العسل، كما يدلّ على ذلك قول أميّة بن أبي الصلت في عبد الله بْنِ جُدْعان:
له داعٍ بمكّة مُشْمَعِلٌّ ... وآخرُ فوق دارته يُنَادِى
إلى ردْح من الشِيزَى مِلاءٍٍ ... لُباب البُرِ يُلْبَكُ بالشِّهِادِ
... والردح هو الجِفان ، أمّا الشِّيزى فَضَرْبٌ من الخَشَبِ تُصْنَعُ منه الجِفَان.(1/457)
... هذا، وقد اضطرب ابن منظور في تفسير لفظ "الفالوذ" (لسان العرب، فلذ). وانظر ابن قتيبة، كتاب العرب، ص367.
18-م.س، 368
19-م.س، 369
20-ابن منظور، م.م.س، ثفل.
21-م.س
22-ومما يدلّ على ذلك قول راجزهم:
جارية شبَّتْ شَباباً غَضَّا ... تُصْبحُ مَحْضاً، وتُعِشَّى رَضَّا
... م.س، رضّ.
23-الحُوار (بضمّ الحاء): ولَدُ الناقة الفتيّ، يطلق على الذكر والأنثى.
24-تراجع المقالة التي كتبناها حول بعض هذه الطقوس والمعتقدات (وهي التاسعة).
25-راجع نصّ معلّقة الأعشى في: القرشيّ جمهرة أشعار العرب، 56-63 وديوانه 163-169
26-الأعشى، ديوانه، 147
27-القرشيّ م.م.س، 39، وابن قتيبة، الشعر والشعراء، 66.1
28-الجاحظ، م.م.س، 20.3-21 ذلك، وقد ذهب الجاحظ إلى أنّ الرّكُبَ للسَّرج والرّحل قديمة في تاريخ الفروسيَّة العربيّة، ولكن رُكُبَ الحديدِ المتمحّضة للسروج لمْ تُتّخذ إلاّ أيامَ الأزارقة
29-م.س، 21.3
30-ابن منظور، م.م.س، ضمر
31-م.س، وابن عبد ربّه، م.م.س، 151.5
32-م.س
33-ردّدنا هذه اللفظة عدة مرات، وهي في كلّ أطوار تَردادنا لها تَرْمْي دلالّتُها لدينا إلى غير ما هو شائع في دلالة اللغة العربية المعاصرة حيث إنّ العَنِيفَ في مصطلحات الفروسيّة العربيّة يعني الشّخْص الذي لا يُحْسِنُ ركوب الخيل، فيَقَعُ مِنْ على صَهْوَتِها، ويُجْمَعُ العَنيف، بهذا المعنى، على عُنُفٍ. وقد غَلطَ الزوزنيّ حين ذهب في تفسيرها إلى أقرب دَلالة اللفظ الشائعة بين الناس، وذلك كلّه مستخلص من بيت امرئ القيس:
يُزِلّ الغلامَ الخِفّ عنْ صهواتِهِ ... ويُلوي بأثوابِ /العنيفِ/ المْثُقّلِ
... انظر الزوزني، م.م.س، 32، وابن منظور، م.م.س، عنف.
(((
( مصادر البحث ومراجعه
أولاً: عربية:
الآمدي، أبو القاسم الحسن بن بشر بن يحيى،
... المؤتلف والمختلف:
... تحقيق عبد الستار أحمد فراج، نشر عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1381-1961
ابراهيم عبد الرحمن.(1/458)
... بين القديم والجديد: مكتبة الشباب، القاهرة 1986
الأصفهاني، أبو الفرج علي بن الحسينب بن محمد بن الهيثم القرشي
... كتاب الأغاني: دار القافلة، بيروت، ط5، 1401-1981
الأعشى، ميمون بن قيس.
... ديوانه: نشر دار بيروت، 1400-1980
أنمور أبو سليم.
... المطر في الشعر الجاهلي، دار الجيل، بيروت، 1987
الباش، حسن.
... الميثولوجيا الكنعانية والاغتصاب التوراتي: دار الجليل، دمشق، ط1-1988
البطل، علي،
الصورة في الشعر العربي حتى آخر القرن الثاني الهجري [دراسة في أصولها وتطورها]
... دار الأندلس، بيروت، 1983
البغدادي، عبد القادر بن محمد،
... خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب،
... تحقيق عبد السلام هارون، نشر الخانجي، ط3، القاهرة، 1409-ت1989
البهبيتي، نجيب محمد.
... تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري
... نشر مؤسسة الخانجي، القاهرة، 1381 ت1961
... المعلقة العربية الأولى عند جذور التاريخ
... دار الثقافة، الدار البيضاء، 1981
الثعالبي، أبو منصور عبد الملك بن محمد
... فقه اللغة
... المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، 1357-1938
الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر
1-البيان والتبيين
تحقيق حسن السندوسي، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، 1366-1947
2-الحيوان
تحقيق عبد السلام هارون، دار الكتاب العربي، بيروت، 1366-1696
الجمحي، محمد بن سلام،
... طبقات فحول الشعراء
... تحقيق محمود شاكر، مطبعة المدني [ب،ت]: 1947؟
جميل صليبا،
... المعجم الفلسفي
... دار الكتاب اللبناني، دار الكتاب المصري، بيروت، القاهرة: 1978
ابن حزم، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد،
... جمهرة أنساب العرب
... تحقيق عبد السلام هارون، دار المعارف، مصر 1962
... الحصري، أبو اسحاق ابراهيم بن علي،
... زهر الآداب
... تحقيق زكي مبارك ومحمد عبد الحميد، المكتبة التجارية الكبرى، ط3، القاهرة، 1372-1953
الحموي، شهاب الدين ياقوت بن عبد الله،
1-معجم الأدباء [ارشاد الأريب، إلى معرفة الأديب]
... تصحيح د.س مرجليوث، القاهرة، 1923(1/459)
2-معجم البلدان
... تحقيق محمد أمين الخانجي [بقراءته على أحمد بن الأمين الشنقيطي] القاهرة، 1324، ت1906
ابن خلدون، عبد الرحمن،
... المقدمة
... دار الكتاب اللبناني، 1981
... ابن خلكان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر،
... وفيات الأعيان، وأنباء أبناء الزمان
... تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، 1971
الرافعي، مصطفى صادق الرافعي، تاريخ آداب العرب
... المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، 1373-1953
ابن رشيق، أبو علي الحسن
... العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده
... تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، نشر المكتبة التجاية الكبرى، القاهرة، 1383-1963
رومية، وهب أحمدن
... شعرنا القديم والنقد الجديد
... سلسلة عالم المعرفة، رقم 207، الكويت، 1416-1996
الزبيدي، أبو بكر محمد بن الحسن ،
... طبقات النحويين واللغويين
... تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، نشر الخانجي، القاهرة، 1373-1954
الزمخشري، جاد اللّه محمود بن عمر،
... الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، وعيون الأقاويل، في وجوه التأويل
... دار الكتاب العربي، بيروت، 1366-1947
الزوزني، أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن الحسين،
... شرح المعلقات السبع
... دار بيروت، بيروت 1406-1986
... ابن سيده، أبو الحسن علي بن اسماعيل،
... المخصص
... المكتب التجاري للطباعة والتوزيع، بيروت [ب،ت].
السيوطي، عبد الرحمن جلال الدين،
1-بغية الوعاة، في طبقات اللغويين والنحاة
... تحقيق محمد أبي الفضل ابراهيم، نشر عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1384-1964
2-المزهر في علوم اللغة وأنواعها.
... تحقيق: محمد أحمد جاد المولى، محمد أبو الفضا ابراهيم، علي محمد البجاوي - ... نشر دار عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1378-1958
شوقي ضيف،
... تاريخ الأدب العربي [العصر الجاهلي]
... دار المعارف، القاهرة، 1960
... ابن طباطبا العلوي، أبو الحسن محمد بن أحمد،
... تحقيق عبد العزيز بن ناصر المانع، نشر الخانجي والمدني، القاهرة [ب.ت]
طلال حرب،(1/460)
... الوافي بالمعلّقات [قراءة حديثة لخطابها الشعري وتاريخها]
... المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1413-1993
ابن عبد ربه الأندلسي، أحمد بن محمد،
... العقد الفريد
... تحقيق: أحمد أمين، ابراهيم الأبياري
... نشر لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1384-1965
... الفارسي، أبو علي الحسن أحمد بن عبد الغفار،
... كتاب الشعر أو الأبيات المشكلة الأعراب
... تحقيق محمد أطناحي، نشر الخانجي، القاهرة، 1408-1988
القالي، أبو علي اسماعيل بن القاسم
... كتاب الأمالي
... نشر مصطفى بن اسماعيل بن دياب، القاهرة، ط3-1373-1953
ابن قتيبة، أبو محمد عبد اللّه بن مسلم،
1-الشعر والشعراء.
... دار الثقافة، بيروت، 1964
2-كتاب العرب في الرد على الشعوبية
... [نشر ضمن /رسائل البلغاء/]، اختيار علي كرد: من ص. 443 إلى 373
... لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، ط4، 1374-1954
القرشي، أبو زيد بن أبي الخطاب،
... جمهرة أشعار العرب
... دار المسيرة، بيروت، 1398-1978
القرطاجني، أبو الحسن حازم،
... منهاج البلغاء، وسراج الأدباء
... تحقيق محمد الحبيب الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط3 ن1986
ابن كثير، أبو الفداء اسماعيل.
1-تفسير القرآن العظيم.
... دار الأندلس، بيروت، 1401-1981
2-السيرة النبوية.
... دار المعرفة، بيروت، 1402-1982
ابن الكلبي، محمد بن السائب.
1-أنساب الخيل
... تحقيق أحمد زكي، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، 1384-1965
2-كتاب الأصنام
... تحقيق أحمد زكي
... نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب الصادرة سنة 1343-1924، ونشرتها الدار القومية للطباعة والنشر القاهرة 1965
المبرد، أبو العباس محمد بن يزيد
... الكامل في اللغة والأدب
... المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة [ب.ت]
المتنبي، أبو الطيب أحمد بن الحسين،
... ديوانه
... شرح عبد الرحمن البوقوقي، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة [ب.ت]
المراغي، أحمد مصطفى،
... علوم البلاغة، المكتبة العربية، القاهرة؟ [ب.ت]
مرتاض، عبد الملك،
1-ا ي(1/461)
... [تحليل سيميائي تفكيكي لقصيدة /أين ليلاي؟/ لمحمد العيد]
... ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1992
2-القصة في الأدب العربي القديم
... نشر شركة مرازقة وأبي داود، الجزائر،1968
3-مقامات السيوطي
... [تحليل سيمائي لجمالية الحيز في المقامة الياقوتية] - اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1996
4-الميثولوجيا عند العرب
... المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، الدار التونسية للنشر، تونس، 1989
... المرتضى، الشريف علي بن الحسين الموسوي،
... أمالي المرتضى
... تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم، دار الكتاب العربي، بيروت، ط. 2ن 1378-1967
المزرباني، أبو عبيد اللّه محمد بن عمران،
... الموشح
... تحقيق علي البجاوي، دار نهضة مصر، 1965
المرزوقي، علي أحمد بن محمد بن الحسن،
... شرح ديوان حماسة أبي تمام
... تحقيق أحمد أمين، عبد السلام هارون، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1371-1951
المسعودي، أبو الحسن علي بن الحسين،
... مروج الذهب ومعادن الجوهر
... دار الأندلس، بيروت، 1385-1965
ابن منظور، محمد بن مكرم بن علي بن أحمد الأنصاري،
... لسان العرب
... دار لسان العرب، بيروت [ب.ت]
ناصف، مصطفى،
... قراءة ثانية لشعرنا القديم
... منشورات الجامعة الليبية، كلية الآداب، ليبيا [ب.ت]
النحاس، أبو جعفر أحمد بن محمد بن اسماعيل،
... شرح القصائد التسع المشهورات
... تحقيق أحمد خطاب، نشر وزارة الإعلام، بغداد، 1973
... ابن النديم
... الفهرست
... المكتبة التجارية الكبرى [ب.ت]
ابن هشام، أبو محمد عبد الملك،
1-السيرة النبوية
... تحقيق: مصطفى السقا، ابراهيم الأبياري، عبد الحفيظ شلبي
... نشر البابي الحلبي، القاهرة، 1375-1955
2-كتاب التيجان [رواية عن وهب بن منبه]
... نشر مركز الدراسات اليمني، صنعاء [ب.ت]
ثانياً: دوريات:
علامات
النادي الأدبي الثقافي جدة [أعداد متفرقة]
مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية
دبي، العدد العاشر، 1415-1995
ثالثاً: مراجع بالفرنسية:
DUBOIS, JEAN (ET AUTRES),(1/462)
DICTIONNAIIRE DE LINGUISTIQUE, LAROUSSE, PARIS, 1973
ECO, UMBERTO, LE SIGNE, L.P, N4159-PARIS, 1988.
LE MEME,
LES LIMITES DEL, INTERPRETATION, L.P, N 4192- PARIS 1990 (T. DE L,ITALIEN PARM. BOUZAHER)
ENCYCLOPAEDIA UNIVERSALIS, FRANCE, S.A, 1985
LALANDE, ANDRE,
VOCABULAIRE TECHNIQUE ET CRITQUE DE LA PHILOSOPHIE P.U.F, PARIS, 13e EDL, 1980
LEVI STRAUSS, SEGHERS, PARIS, 1970
LYON, JOHN
LINGUISTIQUE GENERALE (INTRODUCTION a LA LINGUISTIQUE THEORIQUE)
T.PARF. DUBOIS CHARLIEB ET D. ROBINSON, LAROUSSE, PARIS 1970
STRAUSS, CLAUDE LEVI.
MYTHOLOGIQUES, LORIGINE DES MATIERES DE TABLE, PLON, PABIS, 1989
((
فهرست:
ما قبل الدخول في القراءة: ...
( إحالات وتعليقات ...
1- إثنولوجيّة المعلّقات ...
أولاً: إثنولوجيّة المعلّقاتيّين: ...
1- الانتماء القبليّ لاُمْرِئْ القيس: ...
2- الانتماء القبليّ لبقيّة المعلقاتيّين: ...
ثانياً: المعلّقات وتاريخ بلا أرقام: ...
ثالثاً: المعلّقات وقِدَمِيُّةُ الشعر العربيّ ...
رابعاً: هل عمر الشعر العربيّ خمسة وعشرون قرناً قبل الإسلام؟ ...
خامساً: معلّقات العرب هل علّقت حقاً...؟ ...
سادساً: استبعاد فكرة التعليق: ...
( إحالات وتعليقات ...
2 - بنية المطالع في المعلقات ...
أولاً: لماذا الطلل؟ ...
ثانياً: شعريّة المكان: ...
ثالثاً: أنتوروبولوجيّة الوسط: ...
رابعاً: جغرافية الأطلال المرقسية: ...
خامساً: جمالية الحيز الطللي: ...
1- الحيز بين الانتساج والانتساخ: ...
2- الحيز الأصفر وملحمة الألوان: ...
3- الحيّز الأخضر وملحمة الجمال العذريّ: ...
أ- بعر الآرام: ...
ب- العرصات: ...
ج- وقيعانها: ...
د. سمُرات الحيّ: ...
هـ- رسْم دارس: ...
3- جماليّة الحيز في المعلّقات ...
أولاً: الحيز السائل ...
ثانياً: الحيز الخصيب: ...
( إحالات وتعليقات ...
4. طقوس الماء في المعلقات ...
أولاً: طقوس الماء في معلّقة امرئ القيس ...
1- المطر: ...
المطر والمعتقدات في المعلقات ...(1/463)
2. الغدران: ...
ثانياً: طقوس الماء في معلقة لبيد ...
فعل الماء ...
ثالثاً: طقوس الماء في معلقة عنترة ...
رابعاً: طقوس الماء في المعلقات الأخراة ...
( إحالات وتعليقات: ...
5. نظام النسج اللغوي في المعلقات ...
أولاً: المعلقات: عذرية اللغة، ووحشية النسج ...
1. اللغة الإفرادية: ...
ثانياً: النسج اللغويّ بالتشبيه ...
أولاً: محور البياض والصفاء والإشراق والبريق ...
ثانياً: محور الحركة السريعة، والاهتزاز، والتبختر: ...
ثالثاً: محور الطول والاعتدال والنحافة والدّقة والاستواء: ...
ثالثاً: النسج اللغوي، في المعلقات، بين نظام الفعل ونظام الاسم ...
رابعاً: زخرفيّات نسجيّة أخرى ...
( إحالات وتعليقات ...
6. الناصية والتناصية في المعلقات ...
المستوى الأول: التناصّ اللفظيّ ...
الحقل الأوّل: الطلل والرسم والدار والمنزل وما في حكمها ...
الحقل الثاني: الماء والمطر وما حكمها ...
الحقل الثالث: الإيلاع باستعمال "كأنّ" ...
الحقل الرابع: التناص لفظ الحيّ. ...
الحقل الخامس: البكاء والدمع ومافي حكمهما ...
المستوى الثاني: التناصّ المضموني ...
المستوى الثالث: التناصّ النسجيّ ...
تحليل وتركيب ...
المستوى الرابع: التناصّ الذاتيّ ...
7- جماليّة الإيقاع في المعلّقات ...
أولاً: أثر الحميميّة في تشكيل الإيقاع الداخليّ ...
علاقة الإيقاع بالنسج الشعرّي لدى عنترة ...
ثانياً: ضجيجيّة الإيقاع ...
8- الصورة الأنثويّة للمرأة في المعلّقات ...
أوّلاً الحضور الاجتماعي للمرأة في الجاهليّة ...
ثانياً: هل نساء المعلّقات رمزّيات؟ ...
ثالثاً: ماذا عن حقيقيّة المرأة الجاهليّة في المعلّقات؟ ...
رابعاً : جماليّةُ المرأة في المعلّقات ...
1- وصف المرأة في المعلّقات ...
2- القيمة الجماليّة لوصف المرأة في المعلّقات ...
3- ملابس المرأة الجاهليّة في المعلّقات: ...
4 - الزينة والتزيّن في المعلّقات ...
5 - حلي المرأة الجاهليّة من خلال المعلّقات ...
6- العطر والتعطّر في المعلّقات ...
9. مظاهر اعتقاديّة في المعلّقات ...
أوّلاً: معتقدات العرب في الجاهليّة ...(1/464)
ثانياً: الحيوان في المعلّقات ...
ثالثاً: أصناف الحيوانات والطير والحشرات في المعلّقات ...
رابعاً: الثور والحمار والمعتقدات القديمة. ...
2-البقرة والثور في معلّقة لبيد: ...
10-الصناعات والحِرَفُ والمُرتفقات الحضاريّة في المعلّقات ...
1-الصناعات والحرف في معلّقة امرئ القيس: ...
2-الصناعات والحرف في معلّقة طرفة: ...
3-الصناعات والحرف في معلّقة لبيد: ...
4-الصناعات والحرف لدى معلّقاتيّين آخرين: ...
ثانياً- مرتفقات الحرب والسُّلطان: ...
ثالثاً: المائدة ومُرتفقاتُها في المعلقات ...
رابعاً: مرتفقات الفروسيّة والسفر: ...
((
رقم الايداع في مكتبة الأسد - الوطنية
السبع المعلقات ... : مقاربة سيمائية- أنتربولوجية لتصوصها: دراسة/ عبد الملك مرتاض- دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 1999-364ص ؛ 24سم .
1- 811.1009 م ر ت س ... 2- العنوان ...
3 - مرتاض
ع -1127/7/1999 ... ... ... مكتبة الأسد
(
هذا الكتاب
دراسة هامة وجديدة في موضوعة أدبية قديمة، ولكن الرؤى التي تحكم هذه الدراسة جديدة وطازجة ومهمة ومشغولة على مبدأ التأويل وقراءة المحتوى تجمع على الإحاطة بالشروط الموضوعية للبيئة والدور التاريخي الذي لعبته القصيدة في حياة المجتمع العربي كما تعتمد الدراسة على تحليل المعلقات العربية الشهيرة بالاستناد إلى معرفة المؤثرات الاجتماعية واللغوية التي لفّت الظاهرة وأوجدت كينونتها المتبوعة بإحالات فكرية وأنثروبولوجية وسوسيولوجية بهدف توضيح ماغمض وبيان ما استبطن.
(((1/465)