الزينة في ضوء القرآن الكريم
دراسة موضوعية
د/عوض محمد يوسف أبو عليان
الأستاذ المساعد في قسم التفسيروعلوم القرآن الكريم
كلية أصول الدين / جامعة الأزهر
القاهرة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين, أنزل الفرقان علي عبده ليكون للعالمين نذيرا, وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له, وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله, خير من قرأ القرآن الكريم, وتدبر معانيه, ووقف علي أسراره,اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلي آله وأصحابه,الذين آمنوا به فعزروه ونصروه, واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم المفلحون.
وبعد:
فإن علم التفسير يعدمن أشرف العلوم,لشرف موضوعه,وهو القرآن الكريم, ذلك الكتاب الذي أنزله رب العالمين- سبحانه وتعالي- على أشرف الخلق وحبيب الحق محمد- صلي الله عليه وسلم- وعلي خير أمة أخرجت للناس,ففيه النور المبين لمن تمسك به,والشفاء لما في الصدور, قال-عز شأنه-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ من رَّبكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً }(1).
وقال سبحانه:{يأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءتكم مَّوْعِظَةٌ من رَّبكُمْ وَشِفَآءٌ لمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ للْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ ممَّا يَجْمَعُونَ }(2)
ومن هذا المنطلق اعتني به العلماء فحفظوه في الصدور, وكتبوه في السطور واتخذت هذه العناية أشكالا مختلفة, كلٌٌ علي حسب ما يراه صاحبه أن ما يقوم به هو خدمة لكتاب الله-عز وجل-
__________
(1) الآيتان:174و175من سورة النساء.
(2) **) الآيتان:57و58من سورة يونس-عليه السلام-.(1/1)
وهذا البحث الذي أقدمه إلى قراء موقع:( ملتقى أهل التفسير) بعنوان:(الزينة في ضوء القرآن الكريم) دراسة موضوعية. قسمته إلى تمهيد،وتسعة مطالب.
في التمهيد تعرضت لمفهوم الزينة عند العرب ومفهومه في الاصطلاح, ثم بعد ذلك ذكرت موارد الزينة في القرآن الكريم وبيان معناها ،وأقسامها، والفرق بين تزيين الله- عز وجل- وتزيين الشيطان الرجيم.
وفي المطلب الأول:زينة الإيمان.
وفي المطلب الثاني: زينة المساجد.
وفي المطلب الثالث: زينة الله- جل جلاله-.
وفي المطلب الرابع: زينة الحياة الدنيا.
وفي المطلب الخامس:زينة المؤمنات.
وفي المطلب السادس:زينة فرعون وملأه.
وفي المطلب السابع:زينة قارون.
وفي المطلب الثامن:زينة الأرض.
وفي المطلب التاسع: زينة السماء.
وقد بذلت كل ما في وسعي كي يخرج هذا البحث المتواضع في صورته المرجوة لأساهم به مع أساتذة أجلاء, وزملاء أعزاء, في إثراء موقعنا الحبيب:(ملتقى أهل التفسير).
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يرزقنا الهداية والتوفيق‘
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أله وصحبه وسلم,,,
د/ عوض محمد يوسف أبوعليان
أستاذ التفسير وعلوم القرآن المساعد
كلية أصول الدين/ جامعة الأزهر/ القاهر ة
التمهيد:
تعريف الزينة
يقول صاحب اللسان(1).( زين:الزَّيْنُ خلافُ الشَّيْن وجمعه أَزْيانٌ؛
زانه زَيْناً أَزانه على الأَصل تَزَيَّنَ هو وازْدان بمعنًى وهو افتعل من الزِّينةِ إِلاَّ أَن التاء لمَّا لانَ مخرجها ولم توافق الزاي لشدتها أَبدلوا منها دالاً فهو مُزْدانٌ وإِن أَدغمت قلت مُزّان وتصغير مُزْدان مُزَيَّنٌ مثل مُخَيَّر تصغير مُختار ومُزَيِّين إِن عَوَّضْتَ كما تقول في الجمع مَزَاينُ مَزَايِين.
__________
(1) أنظر اللسان مادة زين.(1/2)
قال الأَزهري(1)2): سمعت صبيّاً من بني عُقَيلٍ يقول لآخر: وجهي زَيْنٌ ووجهك شَيْنٌ؛ أَراد: أَنه صبيح الوجه وأَن الآخر قبيحه قال: والتقدير وجهي ذو زَيْنٍ ووجهك ذو شَيْن فنعتهما بالمصدر كما يقال: رجل صَوْمٌ وعَدْل أَي ذو عدل .
التهذيب: الزِّينة اسم جامع لكل شيء يُتَزَيَّن به.
الزِّينَةُ: ما يتزين به.
ويومُ الزِّينةِ: العيدُ.
وتقول: أَزْيَنَتِ الأَرضُ بعُشبها، ازَّيَّنَتْ مثله وأَصله تَزَيَّنَت فسكنت التاء وأُدغمت في الزاي واجتلبت الأَلف ليصحح الابتداء.
وفي الحديث:" زَيِّنُوا القرآن بأَصواتكم"(2)
__________
(1) الأزهري:هو صاحب التهذيب في اللغة وابن أخت أبي عوانة وشيخ الخطيب – رحمه الله –(أنظر لب الألباب في تحرير الأنساب)رقم الترجمة:124.
(2) البخاري ك التوحيد ب قول النبي – صلي الله عليه وسلم – الماهر مع السفرة الكرام البررة(فتح الباري 518و519.(1/3)
قيل هو مقلوب أَي زينوا أَصواتكم بالقرآن, والمعنى الهَجُوا بقراءته تَزَيَّنُوا به وليس ذلك على تطريب القول والتخْزين, كقوله ليس منا من لم يَتَغَنَّ بالقرآن أَي يَلْهَجْ بتلاوته كما يَلْهَج سائر الناس بالغناء والطَّرب . وقال آخرون: لا حاجة إِلى القلب وإِنما معناه: الحث على الترتيل الذي أَمر به في قوله تعالى :{ورَتّل القرآنَ ترتيلاً}؛ فكأَنَّ الزِّينَة للمُرَتِّل لا للقرآن كما يقال: ويل للشعر من رواية السَّوْءِ, فهو راجع إِلى الراوي لا للشعر فكأَنه تنبيه للمقصر في الرواية على ما يعاب عليه من اللحن والتصحيف وسوء الأَداء وحث لغيره على التوقي من ذلك فكذلك قوله زينوا القرآن بأَصواتكم . وقيل: أَراد بالقرآن القراءة, وهو مصدر قرأَ. ..يقرأَ قراءة وقُرْآناً,أَي: زينوا قراءتكم القرآن بأَصواتكم قال: ويشهد لصحة هذا وأَن القلب لا وجه له حديث أَبي موسى أَن النبي- صلّى اللَّه عليه وسلّم- اسْتَمع إِلى قراءته فقال:( لقد أُوتِيت مِزْماراً من مزامير آل داود) فقال: لو علمتُ أَنك تسمع لحَبَّرْتُه لك تحبيراً(1): أَي حَسّنْتُ قراءته زينتها .
الزِّينَةُ: الزُّونَة اسم جامع لما تُزُيِّنَ به قلبت الكسرة ضمة فانقلبت الياء واواً
وقوله عزّ وجلّ {ولا يُبْدِينَ زِينَتَهن إِلا ما ظهر منها}؛ معناه لا يبدين الزينة الباطنة كالمِخْنقة والخَلْخال والدُّمْلُج والسِّوار والذي يظهر: هو الثياب والوجه.
وقوله عزّ وجلّ :{فخرج على قومه في زينته؛ قال الزجاج :جاء في التفسير أَنه خرج هو وأَصحابه وعليهم وعلى الخيل الأُرُجُوَانُ, وقيل :كان عليهم وعلى خيلهم الدِّيباجُ الأَحمر.
وامرأَة زَائِنٌ: مُتَزَيِّنَة.
وفي تاج العروس(2):الزينة بالكسر:مايتزين به.
وفي التهذيب:اسم جامع لكل شىْيتزينب به.
__________
(1) البخاري ك فضائل القرآن ب حسن الصوت بالقراءة للقرآن رقم 5048(فتح الباري 9/92.
(2) تاج العروس:فصل الزاى من باب النون.(1/4)
وقيل:الزينة تحسين الشىْ بغيره من لبسة او حلية اوهيئة,وقيل:بهجة العين التي لاتخلص إلي باطن المزين.
وفي مقاييس اللغة(1):(الزاي والياء والنون) أصل صحيح يدل علي حسن الشىء وتحسينه,فالزين نقيض الشين,يقال:زينت الشىء تزيينا,وأزينت الأرض وازينت وازدانت :إذاحسنهاعشبه.
ومن خلال هذا العرض يتبين لنا:أن الزينة في اللغةمصدر الفعل الثلاثي الصحيح:زيًن والجمع منه:أزيان.وهوضدالشين,فمعني زين الشيْ:أىحسنه وجًمله وزخرفه وزين له الأمر:أي :حسنه ورغبه فيه,وهومن الشيطان يعني الوسوسة والإضلال.
وفي الاصطلاح:ما يتزين به الانسان من لبس وحلي وأشباه ذلك(2).
وعرفها العلامة الشوكاني(3)بقوله " الزينة:مايتزين به الانسان من ملبوسات أوغيره من الأشياء المباحة كالمعادن التي لم يرد نهي عن التزين بها والجواهر ونحوها).
أنواع الزينة
الزينة تتنوع إلي ثلاثة أنواع:
1- زينة نفسية كاالعلم والإعتقادات الحسنة.
2-وزينة بدنية كالقوة وطول القامة.
3- وزينة خارجية كالمال والجمال.
وبشئ من التفصيل نقول:
إن قوله تعالى:{حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم--- } من الزينة النفسية.
وقوله تعالى:{ من حرم زينة الله ---} قدحمل على الزينة الخارجية، وذلك أنه قد’روي أن قوما كانو يطوفون بالبيت عراة فنهوا عن ذلك بهذه الأية.
وقال بعضهم: بل الزينةالمذكورة في هذه الأية هي الكرم المذكورفي قوله تعالى:
{ إن أكرمكم عندالله اتقاكم }(4).
وعلى هذا قال الشاعر:-
وزينة المرء حسن الأدب.
وقوله تعالى:{ فخرج على قومه في زينته---}(5)هي الزينة الدنيوية من المال،والأثاث، والجاه ،يقال: زانه كذاوزينه إذأظهر حسنه إما بالفعل أو بالقول(6).
__________
(1) مقاييس اللغة مادة زبن وانظر مختار الصحاح نفس المادة.
(2) الكليات لأبي البقاء(فصل الزاي).
(3) فتح القدير 2/200.
(4) من الآية 13 من سورة الحجرات.
(5) 10) من الآية 79 من سورة القصص.
(6) 11) انظر مفردات الراغب ص223.(1/5)
نسبة التزيين
ومن الجدير بالذكر هنا أن الله –عز وجل- قد نسب التزيين في مواضع إلى نفسه، وفي مواضع إلى الشيطان الرجيم، وفي مواضع ذكره غير مسمى فاعله .
فما هي الأمثلة الدالة على ذلك ؟ وما الفرق بين تزيين الله- عزوجل- للأشياء ،
وبين تزيين الشيطان الرجيم؟
وللجواب عن ذلك نقول : لقد نسب الله تعالى التزيين في مواضع إلى نفسه، كقوله تعالى في الإيمان:{ وزينه في قلوبكم---}.
وكقوله تعالى في الكفر:{ زينا لهم أعمالهم---}(1)
وفي قوله تعالى:{ زينا لكل أمة عملهم---}(2).
وأما التزيين المنسوب إلي الشيطان ففي قوله تعالي:{وإذزين لهم الشيطان أعمالهم---}(3)
وفي قوله تعالي:{ لأزينن لهم في الأرض---}.(4)
ولم يذكر المفعول لأن المعني مفهوم.
ومما لم يسمي فاعله:قوله-عز وجل-{زين للناس حب الشهوات من النساء---}(5)
وقوله –تعالي-{زين لهم سوء أعمالهم---}(6)
وقوله-سبحانه-{زين للذين كفروا الحياة الدنيا---}(7)
وقوله-عز شأنه-{ زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم---}(8)
وأماعن الفرق بين تزيين الله-عزوجل-للأشياء,وتزيين الشيطان الرجيم,فيقول ابن القيم-رحمه الله -(9):(-وأما التزيين: فقال تعالى: {وكَذلك زَيَّنا لكلِّ أمَّةٍ عَمَلَهم}.
وقال: {أفَمَنْ زُيِّنَ لهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرآه حَسَناً فإنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ ويَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.
وقال: {وزَيَّنَ لهمُ الشيطانُ ما كانُوا يَعملُونَ}.
__________
(1) 12) من الآية 4 من سورة النمل.
(2) 13) من الآية 108 من سورة الأنعام.
(3) 14) من الآية 48 من سورة الأنفال.
(4) 15) من الآية 39 من سورة الحجر.
(5) 16) من الآية 14 من سورة آل عمران.
(6) 17) من الآية 37 من سورة التوبة.
(7) 18) من الآية 212 من سورة البقرة.
(8) 19) من الآية137 من سورة الانعام
(9) 20) شفاء العليل1/114(1/6)
فأضاف التزيين إليه منه سبحانه خلْقاً ومشيئة، وحذَف فاعله تارة، ونسبه إلى سببه ومن أجراه على يده تارة.
وهذا التزيين [منه] سبحانه حسَن إذ هو ابتلاء واختبار بعيد، ليتميز المطيع منهم من العاصي والمؤمن من الكافر، كما قال تعالى:
{إنَّا جعلنا ما علَى الأرضِ زِينةً لها لِنبلُوهم أيُّهم أَحْسَنُ عَملاً}.
وهو من الشيطان قبيح، وأيضاً: فتزيينه سبحانه للعبد عمله السيء عقوبة منه له على إعراضه عن توحيده وعبوديته وإيثار سيّء العمل على حسنه، فإنه لا بدّ أن يعرفه سبحانه السيء من الحسن. فإذا آثر القبيح واختاره وأحبّه ورضيه لنفسه زيّنه الله له وأعماه عن رؤية قبحه بعد أن رآه قبيحاً.
وكلّ ظالم وفاجر وفاسق لا بدّ أن يريَه الله تعالى ظلمه وفجوره وفسقه قبيحاً، فإذا تمادَى عليه ارتفعت رؤية قبحه من قلبه فربما رآه حسناً عقوبة له. فإنه إنما يكشف له عن قحبه بالنور الذي في قلبه وهو حجة الله عليه، فإذا تمادى في غيّه وظلمه ذهب ذلك النور فلم يرَ قبحه في ظلمات الجهل والفسوق والظلم. ومع هذا فحجّة الله قائمة عليه بالرسالة وبالتعريف الأول، فتزيين الربّ تعالى عدْل، وعقوبته حكمة، وتزيين الشيطان إغواء وظلْم، وهو السبب الخارج عن العبد، والسبب الداخل فيه حبّه وبغضه وإعراضه. والربّ سبحانه خالق الجميع، والجميع واقع بمشيئته وقدرته ولو شاء لهدَى خلقه أجمعين. والمعصوم من عصمه الله، والمخذول من خذله الله {ألاَّ لهُ الخلقُ والأمرُ تباركَ اللَّهُ ربّ العالمين}.
الزينة اللفظية
إذا كنا قد تحدثنا عن أنواع الزينة وذكرنا أن منها :الزينة النفسية, والزينة البدنية,والزينة الخارجية, ودللنا علي ذلك بآيات من الذكر الحكيم,بقي لناأن نقول:إن هناك مايعرف عند اللغويين بالزينة اللفظية,وإن كان هذا ليس مجال بحثنا,لكنني أحببت أن أشير إليه إتماما للفائدة.فما هي؟ وما مثالها؟(1/7)
وفي ذلك يقول صاحب بدائع الفوائد تحت عنوان:في دقائق المعاني,وظواهر الألفاظ(1):( من له غرض في دقائق المعاني، يتجاوز نظره قالب اللفظ إلى لب المعنى، والواقف مع الألفاظ مقصور النظر على الزينة اللفظية، فتأمل قوله تعالى: {إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى} (سورة طه: الآيتان 118 ــــ 119)، كيف قابل الجوع بالعرى، والظمأ بالضحى.
والواقف مع القالب ربما يخيل إليه أن الجوع يقابل بالظمأ، والعري بالضحى.
والداخل إلى بلد المعنى، يرى هذا الكلام في أعلى الفصاحة والجلالة، لأن الجوع ألم الباطن والعري ألم الظاهر، فهما متناسبان في المعنى، وكذلك الظمأ مع الضحى، لأن الظمأ موجب لحرارة الباطن، والضحى موجب لحرارة الظاهر، فاقتضت الآية نفي جميع الآفات ظاهراً وباطناً.
ورود مادة الزينة في القرآن الكريم
قد وردت هذه المادة ومشتقاتها في القرآن الكريم(45) خمسا وأربعين مرة،وذلك في(28) ثمان وعشرين سورة من سور القرآن الكريم، جاء منها الاسم في ثماني عشرة مرة، والفعل في سبع وعشرين مرة.
وهاك-أيهاالقارىء الكريم-جدولا بمواردهذه المادة ومشتقاتها في القرآن الكريم
م ... السورة ... الآية ... م ... السورة ... الآية
1 ... البقرة ... 212 ... 15 ... النمل ... 24،4
2 ... أل عمران ... 14 ... 16 ... القصص ... 79،60
3 ... الأنعام ... ،122،108،43 ... 17 ... العنكبوت ... 38
4 ... الأعراف ... 32،31 ... 18 ... الأحزاب ... 28
5 ... الأنفال ... 48 ... 19 ... فاطر ... 8
6 ... التوبة ... 37 ... 20 ... الصافات ... ،6
7 ... يونس ... ،24،12 ... 21 ... غافر ... 37
8 ... هود ... 15 ... 22 ... فصلت ... ،12
9 ... الرعد ... 33 ... 23 ... محمد ... 14
10 ... الحجر ... ،16 ... 24 ... الفتح ... 12
11 ... النحل ... ،8 ... 25 ... الحجرات ... 7
12 ... الكهف ... 46،28،7 ... 26 ... ق ... 6
13 ... طه ... 87،59 ... 27 ... الحديد ... 20
14 ... النور ... 60،31،،31 ... 28 ... الملك ... 5
المطلب الأول:زينة الإيمان
قال الله تعالي:
{
__________
(1) 21) بدائع الفوائد ص1.(1/8)
واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ألئك هم الراشدون,فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم}(1).
وتحت هذا المطلب سوف أتناول-بعون الله تعالي- وبشيء من التفصيل هذه الأمور.
الأمر الأول:تعريف الأيمان لغة وشرعا.
الثاني:أركان الإيمان.
الثالث:صفات المؤمنين والمؤمنات.
الرابع:معنى تزيين الله-عز وجل-للإيمان، وتكريهه للكفر والفسوق والعصيان.
أما عن الأمر الأول وهو ما يتعلق بتعريف الإيمان لغة وشرعا فنقول - ومن الله تعالى نستمد منه العون والتوفيق:
إن الإيمان في اللغة:عبارة عن مطلق التصديق، قال تعالى مخبرا عن إخوة يوسف-عليه السلام-:{وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين}(2)أي:وما أنت بمصدق لنا.
وشرعاً:تصديق الرسول-صلى الله عليه وسلم-فيما جاء به من عند الله-عز وجل.
وقد اختلف الناس فيما يقع عليه اسم ((الإيمان ))اختلافاً كثيرا:فذهب الأئمة :مالك،والشافعي ،وأحمد ،والأوزاعى،وإسحاق بن راهويه،وسائر أهل الحديث ،وأهل المدينة،وأهل الظاهر ،وجماعة من المتكلمين-:إلى أنه تصديق بالجنان ،وإقرار باللسان ، وعمل بالأركان .
وذكر الطحاوي(3)(عن أبي حنيفة وأصحابه-رحمهم الله-إلي أن الإيمان:هو الإقرار باللسان ,والتصديق با لجنان دون الجوارح.
والواقع: أ ن الاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة –إختلاف صوري.فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب,أو جزءا من الإيمان,مع الاتفاق علي أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان,بل هو في مشيئة الله,إن شاء عذبه,وإن شاء عفا عنه-نزاع لفظي,لا يترتب عليه فساد اعتقاد0
__________
(1) 22) الآيتان الكريمتان 7و8 من سورة الحجرات.
(2) 23) من الآية 17 من سورة يوسف –عليه السلام-.
(3) 24) أنظر الطحاوية في العقيدة السلفية ص314-316. (*) التعريفات ج: 1 ص: 60.(1/9)
والإيمان على خمسة أوجه: إيمان مطبوع, وإيمان مقبول, وإيمان معصوم وإيمان موقوف, وإيمان مردود, فالإيمان المطبوع ,هو إيمان الملائكة, والإيمان المعصوم ,هو إيمان الأنبياء, والإيمان المقبول, هو إيمان المؤمنين , والإيمان الموقوف , هو إيمان المبتدعين, والإيمان المردود, هو إيمان المنافقين(*).
وإذا كنا نتحدث في هذا المقام عن الإيمان فهل الإيمان هو الإسلام ؟أم أن هناك فرقا بينهما؟
وفي ذلك يقول العلامة القرطبي(1):( والأصل في مسمى الإيمان والإسلام التَّغَايُر؛ لحديث جبريل. وقد يكون بمعنى المَرادَفَة. فيسمى كل واحد منهما باسم الآخر؛ كما في حديث وفد عبد القيس وأنه أمرهم بالإيمان (بالله) وحده قال: «هل تدرون ما الإيمان» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال؛ «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تؤدوا خمساً من المغنم» الحديث. وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان بضع وسبعون بابا فأدناها إماطة الأذى وأرفعها قول لا إله إلا الله» أخرجه الترمذي. وزاد مسلم «والحياء شعبة من الإيمان»(2). ويكون أيضاً بمعنى التداخل، وهو أن يطلق أحدهما ويراد به مسماة في الأصل ومسمى الآخر، كما في هذه الآية إذ قد دخل فيها التصديق والأعمال؛ ومنه قوله عليه السلام: «الإيمان معرفة بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان»(3). والحقيقة هو الأوّل وضعا وشرعا، وما عداه من باب التوسع. والله أعلم ).
__________
(1) 25) الجامع لأحكام القرآن:4/43.
(2) 26) البخاري ك الإيمان ب دعاؤكم إيمانكم حديث رقم/9(فتح الباري1/51) والمسند3/279.*******
(3) 27) سنن ابن ماجة /مقدمة حديث رقم/53.(1/10)
وقال-رحمه الله - في آية سورة الذاريات(1)والمؤمنون والمسلمون هاهنا سواء , فجنّس اللفظ لئلا يتكرر، كما قال:{إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ا للَّهِ}. وقيل: الإيمان تصديق القلب، والإسلام الانقياد بالظاهر، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً. فسماهم في الآية الأولى مؤمنين؛ لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم. وقوله: {قَالَتِ لأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ} يدل على الفرق بين الإيمان والإسلام .وهو مقتضى حديث جبريل عليه السلام في صحيح مسلم وغيره ).
وأما عن الأمر الثاني ,وهو أركان الإيمان ,فإن مما لاشك فيه,أن الإيمان يقوم علي ستة أركان ,وهي:الإيمان بالله, والملائكة,والكتب, والرسل, واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
وقد جاء ذلك في كتاب الله-عز وجل-وفي سنة رسول الله-صلي الله عليه وسلم-
أما الكتاب فقوله-تعالي-في الآية قبل الأخيرة من سورة البقرة:{ آمَنَ ا لرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبهِ والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله ِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرقُ بَيْنَ أَحَدٍ من رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ا لمصير}.
__________
(1) 28) الآيتان الكريمتان 35و36 من السورة الكريمة.(1/11)
وفي قوله تعالى:{ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلا ئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَآءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوآ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }(1).
وهذه الأركان كلٌ لا يتجزأ فمن كفر بواحدة منها كفر بالجميع.
وأما السنة فقد جاء في حديث جبريل-عايه السلام-حينما سأل النبي-صلي الله عليه وسلم-عن الإيمان,فقال: ماا لإيمان؟قال:( الإ يمان:أن تؤ من بالله,وملائكته,وكتبه,ورسله,واليوم الآخر-------------------)(2)
وأما الأمر الثالث وهو الحديث عن صفات المؤمنين والمؤمنات,فإن القرآن الكريم حافل بالعديد من الآيات الحكيمة التي أبرزت وفصلت صفات المؤمنين والمؤمنات,من جوانب مختلفة,وكذلك حفلت كتب السنة الصحيحة بالحديث عن الصفات التي يتصفون بها وأذكر هنا بعض النماذج من كتاب الله - عز وجل.
__________
(1) 29) الآية:177 من سورة البقرة.
(2) 30( جزء من حديث طويل رواه الإمام البخلري في صحيحه عن أبي هريرة –رضي الله عنه –ك الإيمان ب سؤال جبريل النبي –صلى الله عليه وسلم – عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة.(1/12)
يقول الله تعالي في مطلع سورة الأنفال: {إِنَّمَا المؤمنون ا لَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *ا لَّذِينَ يُقِيمُونَ لصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }.
ويقول تعالي في مطلع سورة (المؤمنون): {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }.
ومن الآيات التي فصات القول عن صفات المؤمنين والمؤمنات قوله تعالي في سورة التوبة:(1). {والمؤمنون وَلْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أولياء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ ا لْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ا لصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ا لزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ ا للَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ ا للَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
__________
(1) 31) الآية الكريمة رقم:71.(1/13)
وأما عن الأمر الرابع وهو:تزيين الله-عز وجل-الإيمان للمؤمنين ,وتكريهه الكفر والفسوق والعصيان ,فيقول العلامة القرطبي في تفسيره:(1). {وَلَكِنَّ ا للَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ا لأِيمَانَ} هذا خطاب للمؤمنين المخلصين الذين لا يكذبون النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا يخبرون بالباطل؛ أي جعل الإيمان أحبّ الأديان إليكم. {وَزَيَّنَهُ} بتوفيقه. {فِي قُلُوبِكُمْ} أي حسّنه إليكم حتى اخترتموه. وفي هذا ردّ على القدرية(2)والإمامية(3)وغيرهم. فهو سبحانه المنفرد بخلق ذوات الخلق وخلق أفعالهم وصفاتهم واختلاف ألسنتهم وألوانهم، لا شريك له. {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ا لْكُفْرَ وَلْفُسُوقَ وَا لْعِصْيَانَ} قال ابن عباس: يريد به الكذب خاصة. وقاله ابن زيد.
وقيل: كل ما خرج عن الطاعة؛ مشتقٌ من فَسَقتِ الرُّطَبَةُ خرجت من قشرها. والفأرة من جُحرها. والعصيان جمع المعاصي. ثم انتقل من الخطاب إلى الخبر فقال: {أُوْلَئِكَ} يعني هم الذين وفقهم الله فحبّب إليهم الإيمان وكرّه إليهم الكفر أي قبحه عندهم {هُمُ ا الراشدون} كقوله تعالى: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ ا للَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ا المضعفون} (الروم: 93)..
ولكن لماذا جعل الله زينة الإيمان في القلب؟
والجواب:لأنه لما كانت الزينة زينتين: زينة البدن، وزينة القلب، وكانت زينة القلب أعظمهما قدرا وأجلهما خطرا، وإذا حصلت زينة البدن على أكمل الوجوه في العقبى، سأل النبي-صلي الله عليه وسلم- ربه الزينة الباطنة فقال:
«
__________
(1) 32) الجامع لأحكام القرآن:16/1.
(2) القدرية:هم الذين يزعمون أن كل عبد خالق لفعله ولا يرون الكفر والمعاصى بتقدير الله تعالى(التعريفات /الجرجانى.
(3) **) الإمامية:هم اذين قالوا بالنص الجلى على إمامة علي_رضي الله عنه- وكفروا الصحابة,وهم الذين خرجوا على علي –رضى الله عنه-عند التحكيم ,وكفروه(أنظر:المرجع السابق).(1/14)
زيِّنا بِزِينَةِ الإيمَانِ»(1).
المطلب الثاني:زينة المساجد
إن أشرف البيوت في الأرض المساجد فهي بيوت الله –عز وجل-والتي يذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال,و هذه الآية الكريمة رد على المشركين فيما كانوا يعتمدونه، من الطواف بالبيت عراة:حيث كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء، الرجال بالنهار والنساء بالليل.
قال الله تعا لي:{يَابَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ لْمُسْرِفِينَ }(2).
الخطاب في جملة النداء: {يابني آدم}: خطاب لجميع العالم، وإن كان المقصود بها من كان يطوف من العرب بالبيت عرياناً لخصوص السبب ؛ فإنه عامٌّ في كل مسجد للصلاة. لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يرى جمهور العلماء.
ومن العلماء من أنكر أن يكون المراد به الطواف؛ لأن الطواف لا يكون إلا في مسجد واحد، والذي يعم كل مسجد هو الصلاة. وهذا قول مَن خفي عليه مقاصد الشريعة. وفي صحيح مسلم عن بن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول: من يُعِيرُني تِطْوَافاً؟ تجعله على فرجها. وتقول:
اليومَ يَبْدُو بعضُه أو كلّه
وما بَدَا منه فلا أحِلّه
__________
(1) 33) جزء من حديث رواه النسائي ك/ السهو حديث رقم/1288 وأحمد في مسنده, 4/264 حديث رقم/17605 وابن حبان في صحيحه وغبرهم, من حديث عمار بن ياسر وتمام الحديث:واجعلنا هداة مهتدين) وانظر إغاثة اللهفان1/33.
(2) 34) الآية 31 من سورة الأعراف.(1/15)
فنزلت هذه الآية: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ } وهذه المرأة هي ضُباعة بنت عامر بن قُرْط؛ قاله القاضي عياض. وفي صحيح مسلم أيضاً عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحُمْس، والحُمْسُ قريش وما ولدت، كانوا يطوفون بالبيت عُراةً إلا أن تعطيهم الحُمْسُ ثياباً فيعطي الرجالُ الرجالَ والنساءُ النساءَ. وكانت الحمس لا يخرجون من المُزْدَلِفة، وكان الناس كلهم يقفون بعرفات.(1)وفي غير مسلم: ويقولون نحن أهل الحَرَم، فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا. فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يُعيره ثوباً ولا يَسارٌ يستأجره به كان بين أحد أمرين: إما أن يطوف بالبيت عُرياناً، وإما أن يطوف في ثيابه؛ فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه فلم يمسه أحد.
فكانوا على تلك الجهالة والبدعة والضلالة حتى بعث الله نبيه محمداً- صلى الله عليه وسلم-؛ فأنزل الله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ} الآية. وأذَّن مؤذِّن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ألا لا يطوف بالبيت عُرْيَان.
وقد دلت الآية الكريمة على وجوب ستر العورة. وذهب جمهور أهل العلم إلى أنها فرض من فروض الصلاة.
__________
(1) 35) مسلم ك الحج ب في الوقوف وقوله تعالى ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس(الجامع الصحيح 4/43و44. الحمس :جمع أحمس من الحماسة بمعنى الشجاعة.******(1/16)
يقول الحافظ ابن كثير:(1)( والزينة: اللباس وهو ما يواري السوءة وما سوى ذلك من جيد البز والمتاع، فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد، وهكذا قال مجاهد وعطاء وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وقتادة والسدي والضحاك ومالك، عن الزهري وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها, أنها نزلت في طواف المشركين بالبيت عراة، وقد روى الحافظ بن مردويه من حديث سعيد بن بشير والأوزاعي، عن قتادة، عن أنس مرفوعاً، أنها نزلت في الصلاة في النعال، ولكن في صحته نظر، والله أعلم،
ولهذه الآية وما ورد في معناها من السنة, يستحب التجمل عند الصلاة، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد، والطيب لأنه من الزينة والسواك لأنه من تمام ذلك.
المطلب الثالث:زينة العباد
قال الله تعالي:
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هي لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ في الْحَيَوةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }(2).
قوله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ }
ورد في سبب نزولها ثلاثة أقوال(3).
أحدها: أن المشركين عيروا المسلمين، إذ لبسوا الثياب في الطواف، وأكلوا الطيبات، فنزلت، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أنهم كانوا يحرمون أشياء أحلها الله، من الزروع وغيرها، فنزلت هذه الآية. رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: نزلت في طوافهم بالبيت عراة، قاله طاووس، وعطاء.
وفي زينة الله قولان.
أحدهما: أنها ستر العورة، فالمعنى: من حرم أن تلبسوا في طوافكم ما يستركم؟.
والثاني: أنها زينة اللباس.
__________
(1) 36( تفسير ابن كثير:3/365.
(2) 37) الآية 32 من سورة الأعراف.
(3) 38) أنظر تفسير زاد المسير في الآية الكريمة.(1/17)
قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} بيّن أنهم حَرّموا من تلقاء أنفسهم ما لم يحرّمه الله عليهم. والزينة هنا الملبس الحسن، إذا قدر عليه صاحبه. وقيل: جميع الثياب؛ كما روي عن عمر: إذا وسّع الله عليكم فأوسعوا.. وروي عن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب شيخِ مالك رضي الله عنهم أنه كان يلبس كساء خَزٍّ بخمسين ديناراً، يلبسه في الشتاء، فإذا كان في الصيف تصدّق به، أو باعه فتصدّق بثمنه، وكان يلبَس في الصيف ثوبين من مَتاع مِصر مُمَشَّقَيْن ويقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ للَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}.
وإذا كان هذا فقد دلّت الآية على لباس الرفيع من الثياب، والتجمُّل بها في الجُمَع والأعياد، وعند لقاء الناس ومزاورة الإخوان. قال أبو العالِية: كان المسلمون إذا تزاوَروا تجمّلوا. وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب أنه رأى حُلَّةَ سِيَرَاءَ تباع عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريتها ليوم الجمعة وللوفود إذا قدِموا عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة»(1)
. فما أنكر عليه ذكر التجمّل، وإنما أنكر عليه كونها سِيَرَاءَ. وقد اشترى تميم الدّارِي حُلَّة بألف درهم كان يصلي فيها. وكان مالك بن دِينار يلبس الثياب العدَنية الجياد. وكان ثوب أحمد بن حنبل يشترى بنحو الدينار. أين هذا ممن يرغب عنه ويؤثِر لباس الخشن من الكتّان والصوف من الثياب. ويقول: «وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ» هيهات أترى من ذكرنا تركوا لباس التقوى، لا والله بل هم أهل التقوى وأولو المعرفة والنُّهَى، وغيرهم أهل دَعْوَى، وقلوبهم خالية من التقوى.
__________
(1) 39) البخاري ك/الجمعة ب/يلبس أحسن مايجد رقم/846ومسلم ك/اللباس والزينة رقم/2068(1/18)
قال أبو الفرج بن الجوزِي رحمه الله: وأنا أكره لبس الفُوَط والمرقّعات لأربعة أوجه: أحدها: أنه ليس من لبس السلف، وإنما كانوا يرقعون ضرورة. والثاني: أنه يتضمن دعاء الفقر، وقد أمِر الإنسان أن يظهر أثر نِعَم الله عليه. والثالث: إظهار التزهد؛ وقد أمرنا بستره. والرابع: أنه تشبه بهؤلاء المتزحزحين عن الشريعة. ومن تشبه بقوم فهو منهم.(1/19)
وقال الطبريّ: ولقد أخطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان مع وجود السبيل إليه من حلّه. ومَن أكل البقول والعدس واختاره على خبز البر. ومن ترك أكل اللحم خوفاً من عارض شهوة النساء. وسئل بِشْر بن الحارث عن لبس الصوف، فشق عليه وتبينت الكراهة في وجهه ثم قال: لبس الخَزّ والمعَصْفَر أحب إليّ من لبس الصوف في الأمصار. وقال أبو الفرج: وقد كان السلف يلبسون الثياب المتوسطة، لا المترفعة ولا الدّون، ويتخيّرون أجودها للجمعة والعيد وللقاء الإخوان، ولم يكن تخيّر الأجود عندهم قبيحاً. وأما اللباس الذي يزري بصاحبه فإنه يتضمن إظهار الزهد وإظهار الفقر، وكأنه لسان شكوى من الله تعالى، ويوجب احتقار اللابس؛ وكل ذلك مكروه مَنْهِيّ عنه. فإن قال قائل: تجويد اللباس هَوَى النفس وقد أمِرنا بمجاهدتها، وتزيّن للخلق وقد أمِرنا أن تكون أفعالنا لله لا للخلق. فالجواب ليس كل ما تهواه النفس يُذَمّ، وليس كل ما يُتَزَيّن به للناس يُكره، وإنما يُنْهَى عن ذلك إذا كان الشرع قد نهى عنه أو على وجه الرياء في باب الدِّين. فإن الإنسان يجب أن يُرى جميلاً. وذلك حظ للنفس لا يُلام فيه. ولهذا يسرح شعره وينظر في المرآة ويسوّي عمامته ويلبس بطانة الثوب الخشنة إلى داخل وظهارته الحسنة إلى خارج. وليس في شيء من هذا ما يكره ولا يُذَم. وقد روى مَكْحول عن عائشة قالت: كان نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -فقلت: يا رسول الله، وأنت تفعل هذا؟ قال: «نعم إذا خرج الرجل إلى إخوانه فلْيُهَيِّيء من نفسه فإن الله جميل يحب الجمال». وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:
«لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقالُ ذَرّة من كِبر»
. فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة. قال:
«إن الله جميل يحب الجمال الكِبر بَطَر الحق وغَمْطُ الناس»(1)
.
__________
(1) 40) مسلم رقم/225.(1/20)
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، تدل كلها على النظافة وحسن الهيئة.
المطلب الرابع:زينة الحياة الدنيا
قال الله تعالى:
{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا والباقيات الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً }(1).
قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا } هذا رد على المشركين الذين كانوا يفتخرون بالأموال والأولاد، فأخبر الله تعالى أن ذلك مما يتزين به في الدنيا,لامما ينفع في الآ خرة.
وإنما كان المال والبنون زينة الحياة الدنيا: لأن في المال جمالاً ونفعاً، وفي البنين قوّة ودفعاً، فصارا زينة الحياة الدنيا، لكن معه قرينة الصفة للمال والبنين؛ لأن المعنى: المال والبنون زينة هذه الحياة المحتقرة فلا تُتبعوها نفوسكم. وهو رَدٌّ على عُيينة بن حِصْن(2)وأمثاله لما افتخروا بالغنى والشرف، فأخبر تعالى أن ما كان من زينة الحياة الدنيا فهو غرور يمر ولا يبقى، كالهشيم حين ذرته الريح؛ إنما يبقى ما كان من زاد القبر وعُدد الآخرة. وكان يقال: لا تعقد قلبك مع المال, لأنه فَيْءٌ ذاهب ......... ويكفي في هذا قول الله تعالى: {إنما أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} (التغابن: 15) و قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا } رد على المشركين الذين كانوا يفتخرون بالأموال والأولاد، فأخبر الله تعالى أن ذلك مما يتزين به في الدنيا، [لا] مما ينفع في الآخرة.
وقد اختلف العلماء في المراد بالباقيات الصالحات علي خمسة أقوال:
__________
(1) 41) الآية 46 من سورة الكهف.
(2) عيينة بن حصن:هو بن حذيفة أبو مالك, يقال كان اسمه حذيفة فلقب عيينة لأنه كان أصابته شجة فجحظت عيناه ,أسلم قبل الفتح وشهدها وشهد حنينا والطائف وبعثه النبي –صلى الله عليه وسلم –لبنى تميم(الإصابة فى تمييز الصحابة رقم الترجمة/6155).(1/21)
أحدها: أنها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، وبه قال مجاهد، وعطاء، وعكرمة، والضحاك. وسئل عثمان ابن عفان رضي الله عنه عن الباقيات الصالحات، فقال: هذه الكلمات، وزاد فيها: ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقال سعيد بن المسبب، ومحمد بن كعب القرظي مثله سواء.
والثاني: أنها لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله، ولا قوة إلا بالله، رواه علي بن أبي طالب عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثالث: أنها الصلوات الخمس، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال ابن مسعود، ومسروق، وإبراهيم.
والرابع: الكلام الطيب، رواه العوفي عن ابن عباس.
والخامس: هي جميع أعمال الحسنات، ورآه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة، وابن زيد.
وهو الصحيح إن شاء الله؛ لأن كل ما بقي ثوابه جاز أن يقال له هذا.(1)
يقول الإمام الطبري في تفسيره(2)بعد أن ذكرهذه الأقوال الواردة في الباقيات الصالحات مرجحا ما قاله ابن عباس ومن معه: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: هنّ جميع أعمال الخير، كالذي رُوي عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، لأن ذلك كله من الصالحات التي تبقى لصاحبها في الآخرة، وعليها يجازي ويُثاب، وإن الله عزّ ذكره لم يخصص من قوله والباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابا بعضا دون بعض في كتاب، ولا بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) 42) القرطبي 10/413.
(2) 43) جامع البيان:15/165.(1/22)
فإن ظنّ ظانّ أن ذلك مخصوص بالخبر الذي رويناه عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك بخلاف ما ظن، وذلك أن الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ورد بأن قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، هنّ من الباقيات الصالحات، ولم يقل: هنّ جميع الباقيات الصالحات، ولا كلّ الباقيات الصالحات وجائز أن تكون هذه باقيات صالحات، وغيرها من أعمال البرّ أيضا باقيات صالحات.
وقوله تعالي:{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ }(1).
أخبر الله سبحانه وتعالي-في هذه الآية الكريمة أن هذا الذي زين به الدنيا من ملاذها وشهواتها وما هو غاية أماني طلابها ومؤثريها على الآخرة سبعة أشياء: النساء اللاتي هن أعظم زينتها وشهواتها وأعظمها فتنة, والذهب, والفضة الذين هما مادة الشهوات على اختلاف أجناسها وأنواعها, والخيل المسومة التي هي عز أصحابها وفخرهم وحصونهم وآلة قهرهم لأعدائهم في طلبهم وهربهم, والأنعام التي منها ركوبهم وطعامهم ولباسهم وأثاثهم وأمتعتهم, وغير ذلك من مصالحهم, والحرث الذي هو مادة قوتهم وقوت أنعامهم ودوابهم وفاكهتهم وأدويتهم, وغير ذلك.
__________
(1) 44) الآية 14 من سورة آل عمران.(1/23)
وقدختلف الناس(1). فيمَن المزيِّن؛ فقالت فرقةٌ: الله زيَّن ذلك؛ وهو ظاهر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ّ. وفي التنزيل: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى لأَرْضِ زِينَةً لَّهَا} (الكهف: 7)؛ ولما قال عمر: الآن يا ربِّ حين زيّنتها لنا نزلت {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلِكُمْ} (آل عمران: 15) وقالت فرقة: المزيِّن هو الشيطان؛ وهو ظاهر قول الحسن، فإنه قال: مَنْ زيّنَها؟ ما أحدٌ أشدّ لها ذَمّا من خالقها. فتزيين الله تعالى إنما هو بالإيجاد والتهيئة للانتفاع وإنشاء الجِبِلّة على الميل إلى هذه الأشياء. وتزيين الشيطان إنما هو بالوَسْوَسة والخديعة وتحسين أخْذِها من غير وجوهها.. والآية على كلا الوجهين :ابتداء وعظ لجميع الناس، وفي ضمن ذلك توبيخٌ لمعاصري محمد- صلى الله عليه وسلم- من اليهود وغيرهِم.
والشّهوات جمع شَهْوة وهي معروفة. ورجل شهوان للشيء، وشيء شهيّ أي مُشْتَهًى. واتباع الشهوات مردٍ وطاعتها مهلكة. وفي صحيح مسلم(2): «حُفِّت الجنة بالمكاره وحُفّت النار بالشهوات» وفائدة هذا التمثيل: أن الجنة لا تنال إلا بقطع مفاوز المكاره وبالصبر عليها
__________
(1) 45) الجامع لأحكام القرآن 4/27 وانظر بدائع الفوائد لابن القيم ص68.
(2) 46) عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها رقم/2822.(1/24)
وقدبدأالله بالنساء لكثرة تشوّف النفوس إليهن؛ لأنهنّ حبائل الشيطان وفتنة الرجال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي فِتنةً أشدَّ على الرجال من النساء»(1)ففتنة النساء أشدّ من جميع الأشياء. ويقال: في النساء فتنتان، وفي الأولاد فتنة واحدة. فأمّا اللتان في النساء فإحداهما أن تؤدِّي إلى قطع الرِحم؛ لأن المرأة تأمر زوجها بقطعه عن الأُمَّهَات والأخوات. والثانية يُبْتلي بجمع المال من الحلال والحرام. وأمّا البنون فإن الفتنة فيهم واحدة، وهو ما ابْتُلِي بجمع المال لأجلهم.
وهذه الشهوات التي زينت للناس في هذه الآية الكريمة يقول عنها الشهيد سيد قطب(2).
(هي شهوات مستحبة مستلذة ؛ وليست مستقذرة ولا كريهة . والتعبير لا يدعو إلى استقذارها وكراهيتها ؛ إنما يدعو فقط إلى معرفة طبيعتها وبواعثها ، ووضعها في مكانها لا تتعداه ، ولا تطغى على ما هو أكرم في الحياة وأعلى . والتطلع إلى آفاق أخرى بعد أخذ الضروري من تلك "الشهوات" في غير استغراق ولا إغراق !
__________
(1) 47) الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن أسامة بن زيد ك/ النكاح ب/ مايتقى من شؤم المرأة وقوله تعالى ( إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم) رقم/4808.
(2) 48) الظلال ص374.(1/25)
وهنا يمتاز الإسلام بمراعاته للفطرة البشرية وقبولها بواقعها ، ومحاولة تهذيبها ورفعها ، لا كبتها وقمعها . والذين يتحدثون في هذه الأيام عن "الكبت" واضراره ، وعن "العقد النفسية " التي ينشئها الكبت والقمع ، يقررون أن السبب الرئيسي للعقد هو "الكبت" وليس هو "الضبط" .. وهو استقذار فدوافع الفطرة واستنكارها من الأساس ، مما يوقع الفرد تحت ضغطين متعارضين : ضغط من شعوره - الذي كونه الإيحاء أو كونه الدين أو كونه العرف - بأن دوافع الفطرة دوافع قذرة لا يجوز وجودها أصلا ، فهي خطيئة ودافع شيطاني ! وضغط هذه الدوافع التي لا تغلب لأنها عميقة في الفطرة ، ولأنها ذات وظيفة أصيلة في كيان الحياة البشرية ، لا تتم إلا بها ، ولم يخلقها الله في الفطرة عبثا .. وعندئذ وفي ظل هذا الصراع تتكون "العقد النفسية " .. فحتى إذا سلمنا جدلا بصحة هذه النظريات النفسية ، فإننا نرى الإسلام قد ضمن سلامة الكائن الإنساني من هذا الصراع بين شطري النفس البشرية . بين نوازع الشهوة واللذة ، وأشواق الارتفاع والتسامي .. وحقق لهذه وتلك نشاطها المستمر في حدود التوسط والاعتدال .
( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث .. ) ..
والنساء والبنون شهوة من شهوات النفس الإنسانية قوية .. وقد قرن اليهما ( القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ) .. ونهم المال هو الذي ترسمه ( القناطير المقنطرة ) ولو كان يريد مجرد الميل إلى المال لقال : والأموال . أو والذهب والفضة . ولكن القناطير المقنطرة تلقي ظلا خاصا هو المقصود . ظل النهم الشديد لتكديس الذهب والفضة . ذلك أن التكديس ذاته شهوة . بغض النظر عما يستطيع المال توفيره لصاحبه من الشهوات الأخرى !(1/26)
ثم قرن إلى النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة .. الخيل المسومة . والخيل كانت - وما تزال حتى في عصر الآلة المادي اليوم - زينة محببة مشتهاة . ففي الخيل جمال وفتوة وانطلاق وقوة . وفيها ذكاء وألفة ومودة . وحتى الذين لا يركبونها فروسية ، يعجبهم مشهدها ، ما دام في كيانهم حيوية تجيش لمشهد الخيل الفتية !
وقرن إلى تلك الشهوات الأنعام والحرث . وهما يقترنان عادة في الذهن وفي الواقع .. الأنعام والحقول المخصبة .. والحرث شهوة بما فيه من مشهد الإنبات والنماء . وأن تفتح الحياة في ذاته لمشهد حبيب فإذا أضيفت إ ليه شهوة الملك ، كان الحرث والأنعام شهوة .
وهذه الشهوات التي ذكرت هنا هي نموذج لشهوات النفوس ، يمثل شهوات البيئة التي كانت مخاطبة بهذا القرآن ؛ ومنها ما هو شهوة كل نفس على مدار الزمان . والقرآن يعرضها ثم يقرر قيمتها الحقيقية ، لتبقى في مكانها هذا لا تتعداه ، ولا تطغى على ما سواه :
فأما الخيل المسومة والأنعام . وأما القناطير المقنطرة من الذهب والفضة . فقد كانت في الدنيا وسائل لتحقيق متاع . فأما في نعيم الآخرة فلا حاجة إلى الوسائل لبلوغ الغايات !
ثم .. هنالك ما هو أكبر من كل متاع .. هنالك ( رضوان من الله ) . رضوان يعدل الحياة الدنيا والحياة الأخرى كليهما .. ويرجح .. رضوان . بكل ما في لفظه من نداوة . وبكل ما في ظله من حنان .
( والله بصير بالعباد ) ..
بصير بحقيقة فطرتهم وما ركب فيها من ميول ونوازع . بصير بما يصلح لهذه الفطرة من توجيهات وإيحاءات . بصير بتصريفها في الحياة وما بعد الحياة .
تلك هي أهم المشتهيات في هذه الحياة إلي نفس الإنسان قد جمعها القرآن الكريم في آية واحدة,وقد اختصها-سبحانه-بالذكر,لأنها أوضح من غيرها في الاحتياج إليها والتلذذ بها، ولأن فيها إشارة إلى أنواع المتع كلها سواء أكانت متعة جسدية ،
أم روحية، أم مالية،أم غير ذلك من ألوان المتع ومن مستلزمات الحياة.(1/27)
المطلب الخامس:زينة المؤمنات
قال الله تعالي:
{وَقُل للْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائهن أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي لإِرْبَةِ مِنَ الرجَالِ أَوِ الطفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النساء وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المؤمنون لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }(1).
هذا أمر من الله تعالى للنساء المؤمنات وغيرة منه لأزواجهن عباده المؤمنين وتمييز لهن عن صفة نساء الجاهلية وفعال المشركين وكان سبب نزول هذه الآية: ما ذكره مقاتل بن حيان قال: بلغنا ـ والله أعلم ـ أن جابر بن عبد الله الأنصاري حدث أن أسماء بنت مرثد كانت في محل لها في بني حارثة، فجعل النساء يدخلن عليها غير متأزرات فيبدو ما في أرجلهن من الخلاخل وتبدو صدورهن وذوائبهن فقالت أسماء: ما أقبح هذا, فأنزل الله تعالى: {وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ---}الآية.
وهذه الآية الكريمة تعد أكثرالآيا ت القرآنية اشتمالا علي الضمائر.
قال الإمام السيوطي في إتقانه(2)في النوع الثاني والأربعين تحت عنوان:قاعدة في الضمائر:
قال مكي:" ليس في كتاب الله آية اشتملت على ضمائر أكثر منها فإن فيها خمسة وعشرين ضميرا".
__________
(1) 49) الآية 31 من سورة النور.
(2) 50) الإتقان في علوم القرآن 1/547.(1/28)
وقد خصّ الله- سبحانه وتعالى- الإناث هنا بالخطاب على طريق التأكيد؛ فإن قوله: «قل للمؤمنين» يكفي؛ لأنه قول عام يتناول الذَّكَر والأنثى من المؤمنين، حسب كلّ خطاب عام في القرآن. وظهر التضعيف في «يَغْضُضْنَ» ولم يظهر في «يَغُضُّوا» لأن لام الفعل من الثاني ساكنة ومن الأوّل متحركة، وهما في موضع جزم جواباً. وبدأ بالغَضّ قبل الفرج لأن البصر رائد للقلب؛ كما أن الحُمَّى رائد الموت. وأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال:
ألم تر أن العين للقلب رائد
ما تألف العينان فالقلب آلف
وفي الخبر: «النظر سَهْم من سهام إبليس مسموم فمن غضّ بصره أورثه الله الحلاوة في قلبه». وقال مجاهد: إذا أقبلت المرأة جلس الشيطان على رأسها فزيّنها لمن ينظر؛ فإذا أدبرت جلس على عَجُزها فزيّنها لمن ينظر. وعن خالد بن أبي عمران قال: لا تُتْبِعنّ النظرة النظرة فربما نظر العبد نظرةً نَغِل منها قلبُه كما يَنْغَل الأديم فلا يُنتفع به.
وإذا كان الله-عزوجل-قدأمرالمؤمنين في الأيةالسابقة بغض الأبصار وحفظ الفروج-كذلك-أمرالؤمنات في هذه الآية الكريمة بمثل ما أمربه المؤمنين تزكية للنفوس وتطهيرا للمجتمع من ادران الفاحشة والتردىفي بؤرة الفساد والتحلل الخلقي،وتجنيبا للنفوس من أسباب الأغراء والغواية،وقد زاد الإسلام المرأة تزكية وطهرا,أن كلفهازيادةعلي الرجل بعدم إبداء الزينة لغير المحارم من الأقرباء وفرض عليها الحجاب الشرعي ليصون لها كرامتها,ويحفظها من النظرات الجارحة,والعيون الخائنة,ويدفع عنها مطامع المغرضين الفجار .ولما كان إبداء الزينة والتعرض بالفتنة من أهم أسباب التحلل الخلقي والفساد الاجتماعي لذلك فقد أكد الباري-جل وعلي-ذلك الأمر للمؤمنات بتجنب إظهار الزينة أمام الأجانب ليسدنوافذ الفتنة ويغلق أبواب الفاحشة ويحول دون وصول ذلك السهم المسموم
فالنظرة بريد الشهوة ورائد الفجورولقدأحسن من قال:
كل الحوادث مبداها من النظر(1/29)
ومعظم النار من مستصغر الشرر
والمرء مادام ذاعين يقلبها
في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته
لا مرحبا بسرور جاء بالضرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها
فتك السهام بلا قوس ولا وتر
فأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار عما لا يحل؛ فلا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة، ولا المرأة إلى الرجل؛ فإن علاقتها به كعلاقته بها؛ وقصدها منه كقصده منها. وفي صحيح مسلم(1)عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فالعينان تزنيان وزناهما النظر...» الحديث
وأمر الله- سبحانه وتعالى- النساء – كذلك - بألا يبدين زينتهن للناظرين، إلا ما استثناه من الناظرين في باقي الآية حذاراً من الافتتان، ثم استثنى ما يظهر من الزينة؛ واختلف الناس في قدر ذلك؛ فقال ابن مسعود: ظاهر الزينة هو الثياب. وزاد ابن جبير الوجه. وقال سعيد بن جبير أيضاً وعطاء والأوزاعِيّ: الوجه والكفان والثياب. وقال ابن عباس وقتادة والمِسْوَر بن مَخْرَمة: ظاهر الزينة هو الكحل والسّوار والخِضاب إلى نصف الذراع والقِرطة والفَتَخ؛ ونحو هذا فمباح أن تُبدِيه المرأة لكل من دخل عليها من الناس.
قال ابن عطية: ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بألا تُبدي وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بدّ منه، أو إصلاح شأن ونحو ذلك. فـ«ـما ظهر» على هذا الوجه مما تؤدّي إليه الضرورة في النساء فهو المعفوّ عنه.
__________
(1) ك/ القدر ب/قدر على ابن آدم حظه من الزنى وغيره رقم/2657.(1/30)
قلت: هذا قول حسن، إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورَهما عادةً وعبادةً وذلك في الصلاة والحج، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعاً إليهما. يدل على ذلك ما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رِقاق، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها: «يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المِحيض لم يصلح أن يُرَى منها إلا هذا» وأشار إلى وجهه وكفّيه(1)
ومن هنا يعلم أن الزينة على قسمين: خِلْقِية ومُكتسَبة؛ فالخِلْقية وجهها فإنه أصل الزينة وجمال الخلقة ومعنى الحيوانية؛ لما فيه من المنافع وطرق العلوم. وأما الزينة المكتسبة فهي ما تحاوله المرأة في تحسين خِلقتها؛ كالثياب والحلي والكُحْل والخِضاب؛ ومنه قوله تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ} [الأعراف: 13].
وإن من الزينة ظاهر وباطن؛ فما ظهر فمباح أبداً لكل الناس من المحارم والأجانب؛ وقد ذكرنا ما للعلماء فيه. وأما ما بَطَن فلا يحل إبداؤه إلا لمن سمّاهم الله تعالى في هذه الآية، أو حلّ محلهم. واختلف في السُّوار، فقالت عائشة: هو من الزينة الظاهرة لأنها في اليدين. وقال مجاهد: هي من الزينة الباطنة؛ لأنها خارج عن الكفين وإنما تكون في الذراع. قال ابن العربي: وأما الخضاب فهو من الزينة الباطنة إذا كان في القدمين(2).
__________
(1) 51) سنن أبى داود ك/الحمام , ب/ فيما تبدى المرأة من زينتها وقال:هذا مرسل خالد بن دريك لم يدرك عائشة – رضي الله عنها – الحديث رقم/4104.
(2) 52) القرطبي12/226(1/31)
"إن الإسلام-بهذا التشريع العظيم- يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف ، لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة ، ولا تستثار فيه دفعات اللحم والدم في كل حين . فعمليات الاستثارة المستمرة تنتهي إلى سعار شهواني لا ينطفئ ولا يرتوي . والنظرة الخائنة ، والحركة المثيرة ، والزينة المتبرجة ، والجسم العاري ... كلها لا تصنع شيئا إلا أن تهيج ذلك السعار الحيواني المجنون ! وإلا أن يفلت زمام الأعصاب والإرادة . فإما الإفضاء الفوضوي الذي لا يتقيد بقيد وإما الأمراض العصبية والعقد النفسية الناشئة من الكبح بعد الإثارة ! وهي تكاد أن تكون عملية تعذيب !!!
وإحدى وسائل الإسلام إلى إنشاء مجتمع نظيف هي الحيلولة دون هذه الاستثارة ، وإبقاء الدافع الفطري العميق بين الجنسين ، سليما ، وبقوته الطبيعية ، دون استثارة مصطنعة ، وتصريفه في موضعه المأمون النظيف .
ولقد شاع في وقت من الأوقات أن النظرة المباحة ، والحديث الطليق ، والاختلاط الميسور ، والدعابة المرحة بين الجنسين ، والاطلاع على مواضع الفتنة المخبوءة .. شاع أن كل هذا تنفيس وترويح ، وإطلاق للرغبات الحبيسة ، ووقاية من الكبت ، ومن العقد النفسية ، وتخفيف من حدة الضغط الجنسي ، وما وراءه من اندفاع غير مأمون ... الخ .
شاع هذا على إثر انتشار بعض النظريات المادية القائمة على تجريد الإنسان من خصائصه التي تفرقه من الحيوان ، والرجوع به إلى القاعدة الحيوانية الغارقة في الطين ! - وبخاصة نظرية فرويد - ولكن هذا لم يكن سوى فروض نظرية ، رأيت بعيني في أشد البلاد إباحية وتفلتا من جميع القيود الاجتماعية والأخلاقية والدينية والإنسانية ، ما يكذبها وينقضها من الأساس .(1/32)
نعم . شاهدت في البلاد التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي ، والاختلاط الجنسي ، بكل صوره وأشكاله ، أن هذا كله لم ينته بتهذيب الدوافع الجنسية وترويضها . إنما انتهى إلى سعار مجنون لا يرتوي ولا يهدأ إلا ريثما يعود إلى الظمأ والاندفاع ! وشاهدت الأمراض النفسية والعقد التي كان مفهوما أنها لا تنشأ إلا من الحرمان ، وإلا من التلهف على الجنس الآخر المحجوب ، شاهدتها بوفرة ومعها الشذوذ الجنسي بكل أنواعه .. ثمرة مباشرة للاختلاط الكامل الذي لا يقيده قيد ولا يقف عند حد ؛ وللصداقات بين الجنسين تلك التي يباح معها كل شيء ! وللأجسام العارية في الطريق ، وللحركات المثيرة والنظرات الجاهرة ، واللفتات الموقظة . وليس هنا مجال التفصيل وعرض الحوادث والشواهد . مما يدل بوضوح على ضرورة إعادة النظر في تلك النظريات التي كذبها الواقع المشهود .
إن الميل الفطري بين الرجل والمرأة ميل عميق في التكوين الحيوي ؛ لأن الله قد ناط به امتداد الحياة على هذه الأرض ؛ وتحقيق الخلافة لهذا الإنسان فيها . فهو ميل دائم يسكن فترة ثم يعود . وإثارته في كل حين تزيد من عرامته ؛ وتدفع به إلى الإفضاء المادي للحصول على الراحة . فإذا لم يتم هذا تعبت الأعصاب المستثارة .
وكان هذا بمثابة عملية تعذيب مستمرة ! والنظرة تثير . والحركة تثير . والضحكة تثير . والنبرة المعبرة عن هذا الميل تثير . والطريق المأمون هو تقليل هذه المثيرات بحيث يبقى هذا الميل في حدوده الطبيعية ، ثم يلبى تلبية طبيعية .. وهذا هو المنهج الذي يختاره الإسلام . مع تهذيب الطبع ، وشغل الطاقة البشرية بهموم أخرى في الحياة ، غير تلبية دافع اللحم والدم ، فلا تكون هذه التلبية هي المنفذ الوحيد !(1/33)
والزينة حلال للمرأة ، تلبية لفطرتها . فكل أنثى مولعة بأن تكون جميلة ، وأن تبدو جميلة . والزينة تختلف من عصر إلى عصر ؛ ولكن أساسها في الفطرة واحد ، هو الرغبة في تحصيل الجمال أو استكماله ، وتجليته للرجال .
والإسلام لا يقاوم هذه الرغبة الفطرية ؛ ولكنه ينظمها ويضبطها ، ويجعلها تتبلور في الاتجاه بها إلى رجل واحد - هو شريك الحياة - يطلع منها على ما لا يطلع أحد سواه . ويشترك معه في الاطلاع على بعضها ، المحارم والمذكورون في الآية بعد ، ممن لا يثير شهواتهم ذلك الاطلاع ".(1)
__________
(1) 53) الظلال 2511 وما بعدها.(1/34)
وإن من أعظم مقاصد هذا الدين إقامة مجتمع طاهر الخلق سياجه والعفة طابعه والحشمة شعاره والوقار دثاره مجتمع لا تهاج فيه الشهوات ولا تثار فيه عوامل الفتنة تضيق فيه فرص الغواية وتقطع فيه أسباب التهييج والإثارة ولقد خصت المؤمنات بتوجيهات في هذا ظاهرة ووصايا جليلة فعفة المؤمنة نابعة من دينها ظاهرة في سلوكها ومن هنا كانت التربية تفرض الانضباط في اللباس سترة واحتشاما ورفضا للسيرة المتهتكة والعبث الماجن فشرع الحجاب ليحفظ هذه العفة ويحافظ عليها شرع ليصونها من أن تخدشها أبصار الذين في قلوبهم مرض وأحكام الحجاب في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم و صريحة في دعوتها واضحة في دلالته ليست مقصورة على عصر دون عصر ولا مخصوصة بفئة دون فئة {يا أيها النبي قل لأزوجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذن وكان الله غفورا رحيما تقول أم سلمة وعائشة رضي الله عنهما لما نزلت هذه الآية خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية والجلباب كل ساتر من أعلى الرأس إلى أسفل القدم من ملاءة وعباءة وكل ما تلتحف به المرأة فوق درعها وخمارها وإدناء الجلباب يعني سدله وإرخاءه على جميع بدنها بما في ذلك وجهها وفي تفسير ابن عباس رضي الله عنهما هو تغطية الوجه من فوق رأسها فلا يبدو إلا عين واحدة وما خوطب به أمهات المؤمنين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مطالب به جميع نساء المؤمنين } يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى فنهى عن الخضوع بالقول والتبرج تبرج الجاهلية الأولى وأمر بالمعروف من القول ولزوم القرار في البيوت نساء المؤمنين في ذلك كنساء النبي صلى الله عليه وسلم بل هو في حق نساء المؤمنين آكد وأولى كما لا يخفى وما قوله سبحانه {لستن كأحد من النساء إلا تأكيدا لهذا إذ(1/35)
المقصود بيان أنهن محل الأسوة والامتثال الأول ومن بعدهن أسوتهن وفي هذا يقول أبو بكر الجصاص وهذا الحكم وإن نزل خاصا لا في النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه فالمعنى فيه عام فيه وفي غيره وفي مقام آخر أيها المؤمنون والمؤمنات يقول الله عز وجل } وقل للمؤمنات يغضضن من أبصرهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو ءابائهن أو آباء بعولتهن ولقد ذكر في الآية زينتان إحداهما لا يمكن إخفاؤها {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ولم يقل إلا ما أظهرن منه فعلم بهذا أن المراد بالزينة الأولى زينة الثياب أما الزينة الثانية فزينة باطنة يباح إظهارها لمن ذكرتهم الآية } ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو ءابائهن إلخ الآية وأنت خبير أيها المؤمن وخبيرة أيتها المؤمنة بأن ممن رخص في إبداء الزينة أمامهم الأطفال وغير أولي الإربة من الرجال والوجه مجمع الحسن ومحط الفتنة فهل يرخص كشفه للبالغين وأولي الإربة من الرجال الأمر في هذا جلي ظاهر وفي نفس الآية الكريمة {ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن هو ما يتحلى به في الأرجل من خلخال وغيره فإذا كان صوت الخلخال بريدا إلى فتنة فكيف بالوجه الذي يحكي الجمال والشباب والنضارة وصوت الخلخال يصدر من فتاة وعجوز ومن الجميلة والدميمة أما الوجه فلا يحتمل إلا صورة واحدة يقول صاحب الدر المختار في فقه أبي حنيفة رحمه الله وتمنع المرأة الشابة من كشف الوجه بين الرجال لخوف الفتنة كمسه وإن أمن الفتنة ويقول عليه الشارح ابن عابدين رحمه الله المعنى أنها تمنع من الكشف لخوف أن يرى الرجال وجهها فتقع الفتنة لأنه مع الكشف قد يقع النظر إليها بشهوة وأما قوله كمسه أي كما يمنع من مس وجهها وكفيها وإن أمن الشهوة لأنه سبيل إلى الشهوة والفتنة فكذلك يغطى الوجه لأنه طريق إلى الفتنة وقبله قال أبو بكر بن الجصاص والمرأة الشابة مأمورة(1/36)
بستر وجهها وإظهار الستر والعفاف عند الخروج لئلا يطمع فيها أهل الريب وفي السنة أيها المؤمنون والمؤمنات حين أبيح للخاطب النظر من أجل الخطبة فغير الخاطب ممنوع من النظر والمقصود الأعظم من النظر هو الوجه ففيه يتمثل جمال الصورة وحينما قال عليه الصلاة والسلام من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة قالت أم سلمة رضي الله عنها فكيف يصنع النساء بذيولهن أي الأطراف السفلى من الجلباب والرداء قال يرخين شبرا قالت إذا تنكشف أقدامهن قال فيرخينه ذراعا ولا يزدن عليه فإذا كان هذا في القدم فالوجه أكثر فتنة فلا يعدو أن يكون تنبيها بالأدنى على الأعلى والحكمة والنظر تأبيان ستر ما هو أقل فتنة والترخيص في كشف ما هو أعظم فتنة أيها الأخوة والأخوات ومهما قيل في الحجاب في كيفيته وصفته فما كان يوما ما عثرة تمنع من واجب أو تحول دون الوصول إلى حق بل لقد كان ولا يزال سبيلا قويما يمكن المرأة من أداء وظيفتها بعفة وحشمة وطهر ونزاهة على خير وجه وأتم حال وتاريخ الأمة شاهد صدق لنساء فضليات جمعن في الإسلام أدبا وحشمة وسترا ووقارا.
المطلب السادس :زينة فرعون وملأه
قال الله تعالى:
{وَقَالَ مُوسَى ربنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ واشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآن سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }(1)
__________
(1) 54) الآيتان الكريمتان :88و89.من سورة يونس – عليه السلام - .(1/37)
لما بلغ موسى- عليه السلام- في إظهار المعجزات وإقامة الحجج البينات ولم يكن لذلك تأثير في من أرسل إليهم دعا عليهم بعد أن بين سبب إصرارهم على الكفر وتمسكهم بالجحود والعناد فقال مبينا للسبب أولا { ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا}.
الملأ هم: الأشراف, والزينة: اسم لكل ما يتزين به من ملبوس ومركوب وحلية وفراش وسلاح غير ذلك ثم كررا النداء للتأكيد فقال:{ ربنا ليضلوا عن سبيلك}(1)
وأموالا : أنواعا كثيرة من المال كما يشعر به الجمع والتنوين, وذكر ذلك بعد الزينة, من ذكر العام بعد الخاص للشمول وقد يحمل على ما عداه بقرينة المقابلة وفسر بعضهم الزينة بالجمال وصحة البدن وطول القامة ونحوه, والكلام إخبار من موسى- عليه السلام- بأن الله تعالى إنما أمدهم بالزينة والأموال استدراجا ليزدادوا إثما وضلالة كما أخبر سبحانه عن أمثالهم بقوله سبحانه :{ إنما نملي لهم ليزدادوا إثما}0
وهذا إخبار من الله تعالى عما دعا به موسى عليه السلام على فرعون وملئه لما أبوا قبول الحق واستمروا على ضلالهم وكفرهم معاندين جاحدين ظلماً وعلواً وتكبراً
__________
(1) 55) روح المعاني 11/172.وفتح القدير2/468.(1/38)
وهذه الدعوة كانت من موسى- عليه السلام - غضباً لله ولدينه على فرعون وملئه الذين تبين له أنهم لا خير فيهم ولا يجيء منهم شيء كما دعا نوح- عليه السلام- فقال: {رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَفِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً }[نوح:62، 72] ولهذا استجاب الله تعالى لموسى عليه السلام فيهم هذه الدعوة التي أمن عليها أخوه هارون فقال تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا }[يونس:98] قال أبو العالية وأبو صالح وعكرمة ومحمد بن كعب القرظي والربيع بن أنس: دعا موسى وأمن هارون أي: قد أجبنا كما فيما سألتما من تدمير آل فرعون، وقد يحتج بهذه الآية من يقول: إن تأمين المأموم على قراءة الفاتحة ينزل منزلة قراءتها لأن موسى دعا وهارون أمن، وقال تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا }[يونس:98] الآية، أي كما أجيبت دعوتكما فاستقيما على أمري قال ابن جريج عن ابن عباس: فاستقيما, فامضيا لأمري, وهي الاستقامة قال ابن جريج يقولون: إِن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة، وقال محمد بن علي بن الحسين أربعين يوماً(1)
فإن قيل: كيف قال: {دَّعْوَتُكُمَا } وهما دعوتان؟ فعنه ثلاثة أجوبة(2).
أحدها: أن الدعوة تقع على دعوتين وعلى دعوات وكلام يطول { أن الكلمة تقع على كلمات، قال الشاعر:
وكان دعا دعوة قومه
هلم إلى أمركم قد صرم
فأوقع «دعوة» على ألفاظ بينها آخر بيته.
والثاني: أن يكون المعنى: قد أجيبت دعواتكما، فاكتفى بالواحد من ذكر الجميع، ذكر الجوابين ابن الأنباري. وقد روى حماد بن سلمة عن عاصم أنه قرأ «دعواتكما» بالألف وفتح العين.
والثالث: أن موسى هو الذي دعا، فالدعوة له، غير أنه لما أمن هارون، أشرك بينهما في الدعوة، لأن التأمين على الدعوة منها.
__________
(1) 56) تفسير القرآن العظيم 4/252.
(2) 57) زاد المسير5و6.(1/39)
فإن قيل: كيف جاز أن يدعو موسى على قومه؟
فالجواب: أن بعضهم يقول: كان ذلك بوحي، وهو قول صحيح، لأنه لا يظن بنبي أن يقدم على مثل ذلك إلا عن إذن من الله عز وجل، لأن دعاءه سبب للانتقام.
المطلب السابع: زينة قارون
قال الله تعالي:
{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا باليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصَّابِرُونَ }(1)
من هو قارون الذي جاء ذكره في هذه الآية الكريمة؟ بل وفى القرآن الكريم؟ وما علاقته بنبي الله موسى-عليه السلام-؟وما هي الزينة التي خرج بها علي قومه؟وما هي العظات التي تستفاد من قصته؟
نقول: إن قارون الذى جاء ذكره فى هذه الآية الكريمة وفى القرآن الكريم هو:
قارون ابن عم موسى- عليه السلام – وهذا العم اسمه يصهر(بياء تحتية مفتوحة وصاد مهملة ساكنة وهاء مضمومة)ابن قاهث بقاف وهاء مفتوحة وثاء مثلثة ) فإن يصهر أبا قارون وعمران أبا موسى كانا أخوين ابني قاهث بن لاوىبن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم – عليهما السلام – وفى رواية أن موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث الخ فيصهر على هذه الرواية جده لاعمه
فتلخص:أن قارون على الرواية الأولى :ابن عم موسى, وعلى الثانية :عمه.(2)
وقد جاء ذكر قارون فى القرآن الكريم فى أربعة مواضع, الأول والثاني: فى سورة القصص الآية 76 والآية79, والثالث: فى سورة العنكبوت الآية39. والرابع:فى سورة غافر الآية 24. وقد جاءت قصته مبسوطة فى سورة القصص.
__________
(1) 58) الآيتان الكريمتان *من سورة القصص.
(2) الجمل على الجلالين 3/359و360.(1/40)
وقيل :هو ابن خالة موسى ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة منه فنافق كما نافق السامري وخرج عن طاعة موسى, وهو معنى قوله{ فبغى عليهم} أي جاوز الحد في التجبر والتكبر عليهم وخرج عن طاعة موسى وكفر(1).
وقد ذكر المفسرون في هذه الزينة التي خرج فيها روايات مختلفة.
والمراد: أنه خرج في زينة انبهر لها من رآها ولهذا تمنى الناظرون إليه أن يكون لهم مثلها كما حكى الله عنهم بقوله:{فخرج علي قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتى قارون إنه لذو حظ عظيم} أي نصيب وافر من الدنيا .
واختلف في هؤلاء القائلين بهذه المقالة: فقيل هم من مؤمني ذلك الوقت, وقيل هم قوم من الكفار{ وقال الذين أوتوا العلم} وهم أحبار بني إسرائيل قالوا للذين تمنوا :ويلكم ثواب الله خير, أي ثواب الله في الآخرة خير مما تمنونه لمن آمن وعمل صالحا فلا تمنوا عرض الدنيا الزائل الذي لا يدوم ولا يلقاها, أي هذه الكلمة التي تكلم بها الأحبار, وقيل الضمير يعود إلى الأعمال الصالحة وقيل إلى الجنة إلا الصابرون على طاعة الله, والمصطبرون أنفسهم عن الشهوات.
{ فخسفنا به وبداره الأرض} يقال: خسف المكان يخسف خسوفا ذهب في الأرض وخسف به الأرض خسفا ,أي غاب به فيها والمعنى: أن الله سبحانه غيبه وغيب داره في الأرض{ فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله} أي ما كان له جماعة يدفعون ذلك عنه وما كان هو في نفسه من المنتصرين من الممتنعين مما نزل به من الخسف{ وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس} أي منذ زمان قريب {يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر} أي يقول كل واحد منهم متندما على مافرط منه من التمني.
العظات التي تستفاد من قصة قارون
من قصة قارون نري: -
1- أن كفران النعم يؤدي إلي زوالها.
2- أن الغرور والبغي والتفاخر كل ذلك يؤدي إلي الهلاك.
__________
(1) 59) فتح القدير 4/187.(1/41)
3- أن خير الناس من يبتغي فيما آتاه الله من نعم ثواب الآخرة دون أن يهمل نصيبه من الدنيا.
4- أن العاقل هو من يستجيب لنصح الناصحين.
5- أن الناس فى كل زمان ومكان منهم الذين يريدون زينة الحياة الدنيا, ومنهم الأخيار الأبرار يفضلون ثواب الآخرة على متع الحياة الدنيا.
6- أن العاقبة الحسنة قد جعلها الله تعالى لعباده المتقين.
المطلب الثامن: زينة الأرض
قوله تعالى:
{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَآ أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }(1).
معنى الآية-كما يقول العلامة القرطبي(2)-: التشبيه والتمثيل، أي صفة الحياة الدنيا في فنائها وزوالها وقلة خطرها والملاذ بها كماء؛ أي مثل ماء، « أي فاختلط الماء بالأرض، فأخرجت ألواناً من النبات، اختلط النبات بالمطر، أي شرب منه فتندّى وحَسُن واخضرّ. والاختلاط تداخل الشيء بعضه في بعض.
وقوله تعالى: {مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ}أي: من الحبوب والثمار والبقول. {وَالأَنْعَامُ} من الكلأ والتبن والشعير. {حَتَّى إِذَآ أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا} أي حسنها وزينتها. والزخرف كمال حسن الشيء؛ ومنه قيل للذهب: زخرف. {وَازَّيَّنَتْ} أي بالحبوب والثمار والأزهار؛ والأصل تزينت أدغمت التاء في الزاي وجيء بألف الوصل؛ لأن الحرف المد غم مقام حرفين الأوّل منهما ساكن والساكن لا يمكن الابتداء به. وقرأ ابن مسعود وأُبيّ بن كعب ««وتزينت» على الأصل.
__________
(1) 60) الآية 24 من سورة يونس – عليه السلام - .
(2) 61) الجامع لأحكام القرآن:8/326.(1/42)
وقوله تعالى: {وَظَنَّ أَهْلُهَآ} أي أيقن. {أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ} أي على حصادها والانتفاع بها؛ {أَتَاهَآ أَمْرُنَا} أي عذابنا، أو أمرنا بهلاكها. {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً} أي محصودة مقطوعة لا شيء فيها. وقال «حَصيداً» ولم يؤنّث لأنه فعيل بمعنى مفعول. قال أبو عبيد: الحصيد المستأصَل. {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} أي لم تكن عامرة؛ من غَنِي إذا أقام فيهِ وعمرَه. والمغاني في اللغة: المنازل التي يعمرها الناس.
يعني: فكما يهلك هذا الزرع هكذا كذلك الدنيا. {نُفَصِّلُ الآيَاتِ} أي نبيّنُها. {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في آيات الله.
والمعني الإجمالي للآية الكريمة:أن الله-سبحانه وتعالي- شَبَّهَ الحياة الدنيا في أنها تتزيَّنُ في عين الناظر فَتَرُوقه بزينتها وتعجبه فيميل إليها ويَهْوَاها اغتراراً منه بها، حتى إذا ظَنَّ أنه مالك لها قادر عليها سُلِبَهَا بغتةً أحوجَ ما كان إليها، وحِيلَ بينه وبينها، فشبهها بالأرض التي ينزل الغيثُ عليها فتُعْشِبُ ويَحْسُنُ نباتُها ويَرُوق منظرها للناظر، فيغتر به، ويظن أنه قادر عليها، مالك لها، فيأتيها أمر الله فتدرك نباتها الآفة بغتةً، فتصبح كأن لم تكن قبل، فيَخِيبُ ظنه، وتصبح يداه صِفْراً منها: فكذا حال الدنيا والواثق بها سواء؛ وهذا من أبلغ التشبيه والقياس، ولما كانت الدنيا عُرْضَةً لهذه الآفات، والجنة سليمة منها قال: {والله يدعو إلى دار السلام} فسماها هنا دار السلام لسلامتها من هذه الآفات التي ذكرها في الدنيا، فعمَّ بالدعوة إليها، وخص بالهداية مَنْ يشاء، فذاك عَدْله وهذا فَضْله.
قال الله تعالي:
{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلا}(1).
__________
(1) 62) الآية 7 من سورة الكهف.(1/43)
أخبر الله- تعالى-في هذه الآية الكريمة أنه جعل الدنيا داراً فانية مزينة بزينة زائلة، للابتلاء والاختبار, كما أخبر أنه خلق الموت والحياة لذلك, وخلق السماوات والأرض لهذا الابتلاء أيضاً.
والزينة كل ما على وجه الأرض؛ فهو عموم لأنه دال على بارئه. وقال ابن جبير عن ابن عباس: أراد بالزينة الرجال؛ قال مجاهد. وروى عكرمة عن ابن عباس أن الزينة الخلفاء والأمراء. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى: «إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها» قال: العلماء زينة الأرض. وقالت فرقة: أراد النّعم والملابس والثمار والخضرة والمياه، ونحو هذا مما فيه زينة؛ ولم يدخل فيه الجبال الصم وكل ما لا زينة فيه كالحيات والعقارب.
والقول بالعموم أولى، وأن كل ما على الأرض فيه زينة من جهة خلقه وصنعه وإحكامه. والآية بسط في التسلية؛ أي لا تهتم يا محمد للدنيا وأهلها فإنا إنما جعلنا ذلك امتحاناً واختباراً لأهلها؛ فمنهم من يتدبّر ويؤمن، ومنهم من يكفر، ثم يوم القيامة بين أيديهم؛ فلا يعظُمنّ عليك كفرهم فإنا نجازيهم.
ومعنى هذه الآية ينظر إلى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:
«إن الدنيا خضرة حلوة والله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون»(1)
. وقوله صلى الله عليه وسلم:
«
__________
(1) 63) من حديث طويل أخرجه الترمذي فى جامعه ك الفتن ب ما أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة وقال:هذا حديث حسن.(ومعنى الدنيا خضرة حلوة:يحتمل أن المراد به شيئان.أحدهما:حسنها للنفوس ونضارتها ولذتها كالفاكهة الخضراء الحلوة فإن النفوس تطلبها طلبا حثيثا فكذا الدنيا. والثاني:سرعة فنائها كالشيئ الأخضر فى هذين الوصفين.(1/44)
إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا» قال: وما زهرة الدنيا؟ قال: «بركات الأرض»(1)
والمعنى: أن الدنيا مستطابة في ذوقها معجبة في منظرها كالثمر المستحلى المعجب المرأى؛ فابتلى الله بها عباده لينظر أيّهم أحسن عملاً. أي من أزهد فيها وأترك لها؛ ولا سبيل للعباد إلى بغضة ما زيّنه الله إلا (أن) يعينه وهكذا هو المكثر من الدنيا لا يقنع بما يحصل له منها بل همّته جمعها؛ وذلك لعدم الفهم عن الله تعالى ورسوله؛ فإن الفتنة معها حاصلةٌ وعدم السلامة غالبة، وقد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه. وقال ابن عطية: كان أبي- رضي الله عنه- يقول في قوله: «أحسن عملاً» أحسن العمل أخذٌ بحقّ وإنفاقٌ في حق مع الإيمان، وأداء الفرائض واجتنابُ المحارم والإكثارُ من المندوب إليه.
__________
(1) 64) البخاري ك/ الرقاق ب/ مايحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها حديث رقم/6063 ومسلم ك/ الزكاة ب/ تخوف مايخرج من زهرة الدنيا رقم/1052.(1/45)
قلت(1): هذا قول حسن، وجيز في ألفاظه بليغ في معناه، وقد جمعه النبيّ صلى الله عليه وسلم في لفظ واحد وهو قوله لسفيان بن عبد الله الثَّقَفيّ لما قال: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك ـ في رواية: غيرك. قال: «قل آمنت بالله ثم استقم»(2). وقال سفيان الثّوريّ: «أحسن عملاً» أزهدهم فيها. وقد اختلفت عبارات العلماء في الزهد؛ فقال قوم: قصرُ الأمل وليس بأكل الخشن ولبس العباءة؛ قاله سفيان الثّوريّ. قال علماؤنا: وصدق رضي الله عنه فإن من قَصُر أملهُ لم يتأنّق في المطعومات ولا يتفنّن في الملبوسات، وأخذ من الدنيا ما تيسّر، واجتزأ منها بما يبلِّغ. وقال قوم: بغضُ المحمدة وحبِّ الثناء. وهو قول الأوزاعيّ ومن ذهب إليه. وقال قوم: ترك الدنيا كلها هو الزهد؛ أحَبَّ تركها أم كره. وهو قول فضيل. وعن بشر بن الحارث قال: حبُّ الدنيا حبُّ لقاء الناس، والزهد في الدنيا الزهد في لقاء الناس. وعن الفضيل أيضاً: علامة الزهد في الدنيا الزهد في الناس. وقال قوم: لا يكون الزاهد زاهداً حتى يكون ترك الدنيا أحبَّ إليه من أخذها؛ قاله إبراهيم بن أدهم. وقال قوم: الزهد أن تزهد في الدنيا بقلبك؛ قاله ابن المبارك. وقالت فرقة: الزهد حبّ الموت.
والقول الأول يعم هذه الأقوال بالمعنى فهو أولى.
المطلب التاسع : زينة السماء
قال الله تعالي:
{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ * إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ }(3).
__________
(1) 65) القرطبي 10/353
(2) مسلم ك/الإيمان ب/جامع أوصاف الإسلام حديث رقم/38
(3) 66) الآيات:16-18 من سورة الحجر.(1/46)
لما ذكر الله-تعالي-في الآيات السابقة كفر الكافرين وعجز أصنامهم ذكر- تعالى- خلقه السماء في ارتفاعها وما زينها به من الكواكب الثوابت والسيارات، لمن تأمل وكرر النظر فيما يرى من العجائب والآيات الباهرات، ما يحار نظره فيه، فقال:{ولقد جعلنا في السماء بروجا...}الآية. والبروج: القصور والمنازل. قال ابن عباس: أي جعلنا في السماء بروج الشمس والقمر؛ أي منازلهما.
وأسماء هذه البروج: الحَمَل، والثَّوْر، والجَوْزاء، والسَّرطان، والأَسَد، والسُّنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجَدْي، والدّلو، والحوت. والعرب تَعُدّ المعرفة لمواقع النجوم وأبوابها من أجَلِّ العلوم، ويستدلّون بها على الطرقات والأوقات والخِصب والجَدْب. وقالوا: الفَلَك اثنا عشر برجاً، كلّ برج مِيلان ونصف. وأصل البروج الظهور؛ ومنه تبرّج المرأة بإظهار زينتها. وقال الحسن وقتادة: البروج النجوم، وسميت بذلك لظهورها وارتفاعها. وقيل: الكواكب العظام؛ قاله أبو صالح، يعني السبعة السيارة. وقال قوم: «بروجاً»؛ أي قصوراً وبيوتاً فيها الحرَس، خلقها الله في السماء. فالله أعلم.
{وَزَيَّنَّاهَا} يعني السماء؛أي حسناها بالكواكب, كما قال في سورة المُلْك: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَالدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ}. {لِلنَّاظِرِينَ} للمعتبرين والمتفكرين.
قلت: ومما يدل علي أن زينة السماء هي الكواكب:
1- قوله تعالي:{ إِنَّا زَيَّنَّا السماء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ }6-7الصافات.
قال قتادة: خلقت النجوم ثلاثاً؛ رجوماً للشياطين، ونوراً يهتدى بها، وزينة لسماء الدنيا .
2- وقوله تعالي-أيضا-:{وَزَيَّنَّا السماء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ }. فصلت12.
أي بكواكب تضيء. والسَّمَاء الدُّنْيَا : أي القربى إلى الأرض وسمي الكوكب مصباحا: لإضاءته.(1/47)
3- وقوله تعالي:{أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إلى لسَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * }.ق6.
النظر هنا :نظر اعتبار وتفكر، وأن القادر على إيجادها قادر على الإعادة. {كَيْفَ بَنَيْنَاهَا}أي فرفعناها بلا عمد {وَزَيَّنَّهَا }:أي بالنجوم.
4-{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ}. الملك5 .
"وإن نظرة إلى السماء كافية لرؤية هذه الزينة ؛ ولإدراك أن الجمال عنصر مقصود في بناء هذا الكون ؛ وأن صنعة الصانع فيه بديعة التكوين جميلة التنسيق ؛ وأن الجمال فيه فطرة عميقة لا عرض سطحي ؛ وأن تصميمه قائم على جمال التكوين كما هو قائم على كمال الوظيفة سواء بسواء . فكل شيء فيه بقدر ، وكل شيء فيه يؤدي وظيفته بدقة ؛ وهو في مجموعه جميل .
والسماء . وتناثر الكواكب فيها ، أجمل مشهد تقع عليه العين . ولا تمل طول النظر إليه . وكل نجمة توصوص بضوئها وكل كوكب يوصوص بنوره ؛ وكأنه عين محبة تخالسك النظر ؛ فإذا أنت حدقت فيها أغمضت وتوارت ؛ وإذا أنت التفت عنها أبرقت ولمعت ! وتتبع مواقعها وتغير منازلها ليلة بعد ليلة وآناً بعد آن متعة نفسية لا تملها النفس أبداً !
ثم تقرر الآية التالية أن لهذه الكواكب وظيفة أخرى ، وأن منها شهباً ترجم بها الشياطين كي لا تدنو من الملأ الأعلى :
( وحفظاً من كل شيطان مارد . لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب دحوراً ولهم عذاب واصب . إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ) ..(1/48)
فمن الكواكب رجوم تحفظ السماء من كل شيطان عات متمرد وتذوده عن الاستماع إلى ما يدور في الملأ الأعلى ؛ فإذا حاول التسمع تلقفته الرجوم من كل جانب ، فتدحره دحراً ، وله في الآخرة عذاب موصول لا ينقطع . ولقد يخطف الشيطان المارد خطفة سريعة مما يدور في الملأ الأعلى ، فيتبعه شهاب يلاحقه في هبوطه فيصيبه ويحرقه حرقاً .
ونحن لا نعرف كيف يتسمع الشيطان المارد ؛ ولا كيف يخطف الخطفة ؛ ولا كيف يرجم بالشهاب الثاقب . لأن هذه كلها غيبيات تعجز طبيعتنا البشرية عن تصور كيفياتها ؛ ومجالنا فيها هو تصديق ما جاء من عند الله فيها . وهل نعلم عن شيء في هذا الكون إلا القشور ؟!
والمهم أن هذه الشياطين التي تمنع من الوصول إلى الملأ الأعلى ، ومن التسمع لما يدور فيه هي التي يدعي المدعون أن بينها وبين الله نسباً ، ولو كان شيء من هذا صحيحاً لتغير وجه المعاملة . ولما كان مصير الأنسباء والأصهار - بزعمهم - هو المطاردة والرجم والحرق أبداً !"(1).
واختلف العلماء0هل كانت الشياطين ترمى بالنجوم قبل مبعث نبينا - صلى الله عليه وسلم- أم لا؟ على قولين.
__________
(1) 67) الظلال:2983.(1/49)
أحدهما: أنها لم ترم حتى بعث صلى الله عليه وسلم، وهذا المعنى: مذكور في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس. وقد أخرج في «الصحيحين(1)قال: انطلق النبي – صلى الله عليه وسلم - في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا مالكم فقالوا حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قالوا ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي – صلى الله عليه وسلم- وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهنالك حين رجعوا إلى قومهم فقالوا يا قومنا { إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا } فأنزل الله على نبيه – صلى الله عليه وسلم - { قل أوحي إلي } وإنما أوحي إليه قول الجن .
وظاهر هذا الحديث أنها لم تكن قبل ذلك.
__________
(1) 68) البخاري ك/صفة الصلاة ب/ الجهر بقراءة صلاة الفجر وقالت أم سلمة:طفت وراء الناس والنبي – صلى الله عليه وسلم –يصلى ويقرأ بالطور حديث رقم/739ومسلم ك/الصلاة ب/الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن حديث رقم/449.(1/50)
والثاني: أنه قد كان ذلك قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، فروى مسلم في صحيحه(1)من حديث علي بن الحسين عن ابن عباس قال: قال أخبرني رجل من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم - من الأنصار أنهم بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم - رمي بنجم فاستنار فقال لهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ماذا كنتم تقولون في الجاهلية إذا رمي بمثل هذا قالوا الله ورسوله أعلم كنا نقول ولد الليلة رجل عظيم ومات رجل عظيم فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا تبارك وتعالى اسمه إذا قضى أمرا سبح حملة العرش ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا ثم قال الذي يلون حملة العرش لحملة العرش ماذا قال ربكم فيخبرونهم ماذا قال فيستخبر بعض أهل السماوات بعضا حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا فتخطف الجن السمع فيقذفون إلى أوليائهم ويرمون به فما جاءوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون .
وروي عن ابن عباس أن الشاطين كانت لا تحجب عن السماوات، فلما ولد عيسى، منعت من ثلاث سموات، فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، منعوا من السماوات كلها.
وقال ابن قيبة(2):إن الرجم كان قبل مبعث النبي-صلى الله عليه وسلم-ولكن لم يكن مثل ماكان بعد مبعثه في شدة الحراسة,وكانوا يسترقون في بعض الأحوال,فلما بعث منعوا من ذلك أصلا.
فعلى هذا القول يكون حمل الجن على الضرب في الأرض وطلب السبب إنما كان لكثرة الرجم ومنعهم عن الاستراق بالكلية.
وقيل:كانت الشهب قبل مرئية ومعلومة لكن رجم الشياطين وإحراقهم لم يكن إلا بعد نبوة نبينا – صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) 69) مسلم ك/السلام ب/الطيرة والفأل ما يكون فيه من الشؤم رقم/2229.
(2) 70) أنظر:تحفة الأحوزي:9/171.(1/51)
وإلى هنا أكون قد وصلت- بعون الله وتوفيقه-إلى ختام ما قصدت البحث فيه, أسأل الله-عز وجل-أن يرزقنا الهداية والتوفيق, والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات,
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم,,,
د/عوض محمد يوسف أبوعليان
أهم مراجع البحث
=============================================
- القرآن الكريم/كلام الله عز وجل/الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
- الإتقان في علوم القرآن الكريم/جلال الدين السيوطي /دار الفكر.
- أعلام الموقعين/ابن القيم الجوزية/دار الكتب العلمية .
- إغاثة اللهفان/ابن القيم الجوزية/دار المعرفة.
- الاستيعاب في معرفة الأصحاب/ ابن عبد البر القرطبي /دار الكتب العلمية/1948
- بدائع الفوائد/ابن القيم الجوزية/ دار الفكر.
- تاج العروس/الزبيدي/دار الفكر.
- تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي/المباركفوري/دار الكتب العلمية/بيروت / لبنان /الطبعة الأولى 1410هجرية/1990م.
- التعريفات/ الجرجاني/دار عالم الكتب .
- تفسير زاد المسير/ دار الفكر.
- تفسير القرآن العظيم/ابن كثير/دار إحياء التراث العربي.
- التفسير الوسيط/الأستاذ الدكتور محمد سيد طنطاوي/ الطبعة الثالثة 1410هجرية/1989م
- جامع البيان/ابن جرير الطبري/دار المعرفة1990م.
- الجامع الصحيح/الإمام مسلم/دار العربية بيروت/لبنان.
- الجامع لأحكام القرآن الكريم /القرطبي/دار الكتب العلمية.
- روح المعاني/العلامةالآ لوسي/دار إحياء التراث العربي/بيروت.
- سنن ابن ماجة / دار إحياء التراث العربي.
- سنن أبي داو /دار إحياء التراث العربي.
- شرح الطحاوية في العقيدة السلفية/العلامة أبي العز الحنفي/تحقيق/أحمد محمد شاكر/وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد1418هجرية.
- شفاء العليل/ابن القيم/دار الفكر.
- صحيح الإمام البخاري/ دار إحياء التراث العربي.
- صحيح الإمام مسلم بشرح النووي/دار الفكر1401هجرية/1981م.(1/52)
- عدة الصابرين/ابن القيم/ بدون
- العين/الفراهيدي(الخليل بن أحمد) دار الكتب العلمية
- فتح البارى/ابن حجرالعسقلاني/ دار الفكر.
- فتح القدير/الإمام الشوكاني/دار الفكر بيروت.
- الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية:تأليف سليمان بن عمر العجيلي الشافعي الشهير بالجمل/دار الفكر.
- في ظلال القرآن الكريم/دار الشروق.
- القاموس المحيط/الفيروزآبادي/مؤسسة الرسالة/1993م.
- الكليات/أبي البقاء/مؤسسة الرسالة/الطبعة الأولى1413هجرية/1993م
- لب الألباب فى تحرير الأنساب/ الجلال السيوطي/دار الكتب العلمية.
- لسان العرب/ابن منظور/دار إحياء التراث العربي.
- مختار الصحاح/الرازى/دار الكتب العلمية.
- مسند الإمام أحمد/دار إحياء التراث العربي.
- معجم الألفاظ والأعلام العربية/محمد إسماعيل إبراهيم/دار الفكر.
- معجم مفردات ألفاظ القرآن/للعلامة الراغب الأصفهاني/دار الفكر/بيروت/لبنان.
- مقاييس اللغة/ابن فارس/ دارا لمعرفة.
* * *
تم بحمد الله(1/53)