قال أبو سليمان الداراني ركبت مرة حمارا فضربته مرتين أو ثلاثا فرفع رأسه ونظر إلي وقال يا أبا سليمان هو القصاص يوم القيامة فإن شئت فأقلل وإن شئت فأكثر قال فقلت لا أضربه شيئا بعده أبدا
ومر ابن عمر رضي الله عنهما بصبيان من قريش قد نصبوا طائرا وهم يرمونه وقد جعلوا لصاحبه كل خاطئة من نبلهم فلما رأوا ابن عمر تفرقوا
فقال ابن عمر من فعل هذا لعن الله من فعل هذا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا أي هدفا يرمى إليه
ونهى صلى الله عليه وسلم أن تصبر البهائم أي أن تحبس للقتل فإن كانت مما ندب قتله كالفواسق الخمس قتلت دفعة من غير تعذيب للحديث إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وكذا لا يحرقها بالنار للحديث الصحيح إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا بالنار وإن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما
قال ابن مسعود رضي الله عنه كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة فجعلت ترفرف فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال من فجع هذه بولديها ردوا عليها ولديها
ورأى صلى الله عليه وسلم قرية نمل أي مكانه قد حرقناها
فقال من حرق هذه قلنا نحن فقال صلى الله عليه وسلم إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار وفيه النهي عن التعذيب بالنار حتى في النمل والبرغوث
____________________
(2/690)
@ 691 كتاب الجنايات الكبيرة الثالثة عشرة بعد الثلاثمائة قتل المسلم أو الذمي المعصوم عمدا أو شبه عمد قال تعالى ومن يفعل ذلك أي قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وما بعده وما قبله يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وقال تعالى من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا اختلفوا في متعلق من أجل والأظهر أنه كتبنا وذلك إشارة إلى قتل ابن آدم لأخيه والأجل في الأصل الجناية يقال أجل الأمر أجلا وإجلا بفتح الهمزة وكسرها إذا جناه وحده فمعنى فعلته من أجلك أو لأجلك أي بسببك لأنك جنيت فعله وأوجبته وكذا فعلته من جراك وجرائك أي من أن جررته ثم صار يستعمل بمعنى السبب
ومنه الحديث من جراي من أجلي ومن لابتداء الغاية أي نشأ الكتب وابتدئ من جناية القتل
ووجه المناسبة بين ما بعد من أجل وهو كتب القصاص على بني إسرائيل وما قبلها وهو قصة قابيل وهابيل ما قاله الحسن والضحاك أنهما من بني إسرائيل لا ولد آدم صلى الله عليه وسلم لصلبه
وعلى الأصح أنهما ولداه لصلبه فالإشارة ليست لمجرد قتل قابيل لهابيل بل لما ترتب على ذلك من المفاسد الحاصلة بسبب القتل المحرم لقوله تعالى فأصبح من الخاسرين أي حصل له خسارة الدين والدنيا قوله تعالى فأصبح من النادمين أي حصل له أنواع الندم والحسرة والحزن من غير أن يجد دافعا لشيء من ذلك عنه وهكذا كل قاتل ظلما فيحصل له ذلك الخسار والندم الذي لا دافع له وإنما خص الكتب ببني إسرائيل مع أنه جار في أكثر الأمم تغليظا على اليهود وبيانا لخسارهم الأكبر لأنهم مع علمهم بما وقع لقابيل من الخسار والندم مع أن أخاه المقتول لم يكن نبيا أقدموا على قتل الأنبياء والرسل وذلك يدل على غاية قساوة قلوبهم وبعدها عن طاعة الله تعالى
وأيضا فالغرض من ذكر هذه القصص تسلية نبينا صلى الله عليه وسلم عما وقع منهم من العزم على الفتك به وبأصحابه فخصوا بالذكر لذلك ثم قوله تعالى من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل استدل به القائلون بالقياس على أن أفعاله تعالى قد
____________________
(2/691)
تعلل
والمعتزلة على أن أفعاله تعالى معللة بمصالح العباد فيمتنع خلقه للكفر والقبائح فيهم وإرادته وقوعها منهم لأنه حينئذ لا يكون مراعيا لمصالحهم
وأجاب القائلون باستحالة تعليل أحكامه تعالى بأن العلة إن كانت قديمة لزم قدم المعلول أو محدثة لزم تعليلها بعلة أخرى ولزم التسلسل وبأنها لو كانت معللة بعلة فوجود تلك العلة وعدمها بالنسبة إلى الله تعالى إن كان سواء امتنع كونه علة أو غير سواء فأحدهما به أولى وذلك يقتضي كونه مستفيدا تلك الأولوية من ذلك الفعل على الدواعي ويمتنع وقوع التسلسل في الدواعي بلى يجب انتهاؤها إلى الداعية الأولى التي حدثت في العبد لا منه بل من الله تعالى وحينئذ فالكل منه فيمتنع تعليل أحكامه تعالى وأفعاله برعاية المصالح فظاهر هذه الآية غير مراد وإنما ذلك حكمة شرع هذا الحكم لهم وقد قال تعالى قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا فهذا نص في أنه يحسن من الله كل شيء لا يتوقف خلقه وحكمه على رعاية المصالح ألبتة وقوله تعالى أو فساد هو بالجر عند الجمهور عطفا على نفس أي أو بغير فساد احترازا من القتل للفساد كالقود والكفر والزنا بعد الإحصان وقطع الطريق ونحوه
وجعل قتل النفس الواحدة كقتل جميع الناس مبالغة في تعظيم أمر القتل الظلم وتفخيما لشأنه أي كما أن قتل جميع الناس أمر عظيم القبح عند كل أحد فكذلك قتل الواحد يجب أن يكون كذلك فالمراد مشاركتهما في أصل الاستعظام لا في قدره إذ تشبيه أحد النظيرين بالآخر لا يقتضي مساواتهما من كل الوجوه وأيضا فالناس لو علموا من إنسان أنه يريد قتلهم جدوا في دفعه وقتله فكذا يلزمهم إذا علموا من إنسان أنه يريد قتل آخر ظلما أن يجدوا في دفعه وأيضا من فعل قتلا ظلما رجح داعية الشر والشهوة والغضب على داعية الطاعة ومن هو كذلك يكون بحيث لو نازعه كل إنسان في مطلوبه وقدر على قتله قتله ونية المؤمن في الخيرات خير من عمله كما ورد فكذلك نيته في الشر شر من عمله فمن قتل إنسانا ظلما فكأنما قتل جميع الناس بهذا الاعتبار
وقال ابن عباس من قتل نبيا أو إمام عدل فكأنما قتل الناس جميعا ومن شد عضد أحد فكأنما أحيا الناس جميعا
وقال مجاهد من قتل نفسا محرمة يصلى النار بقتلها كما يصلاها لو قتل الناس جميعا ومن أحياها أي من سلم من قتلها فكأنما سلم من قتل الناس جميعا
وقال قتادة أعظم الله أجرها وأعظم وزرها أي من قتل مسلما ظلما فكأنما قتل الناس جميعا في الإثم لأنهم لا يسلمون منه ومن أحياها وتورع عن قتلها فكأنما أحيا الناس جميعا في الثواب لسلامتهم منه وقال الحسن فكأنما قتل الناس جميعا أي
____________________
(2/692)
أنه يجب عليه من القصاص ما يجب عليه لو قتل الكل ومن أحياها أي عفا عمن له عليه قود فكأنما أحيا الناس جميعا
قال سليمان بن علي للحسن يا أبا سعيد أهي لنا كما كانت لبني إسرائيل قال والذي لا إله غيره ما كانت دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا
ومن أحيا النفس بتخليصها من المهلكات كالحرق والغرق والجوع المفرط والحر والبرد المفرطين
وقال تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما
اعلم أن القتل له أحكام كالقود والدية وقد ذكرا في سورة البقرة في آية يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص واقتصر في هذه الإثم والوعيد اعتناء بشأنهما وبيانا لعظيم خطبهما ومبالغة في الزجر عن سببهما
وسبب نزولها أن قيس بن ضبابة الكناني أسلم هو وأخوه هشام فوجد هشاما قتيلا في بني النجار فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه رجلا من بني فهر إلى بني النجار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمركم إن علمتم قاتل هشام بن ضبابة أن تدفعوه إلى قيس فيقتص منه وإن لم تعلموه أن تدفعوا إليه ديته فأبلغهم الفهري ذلك فقالوا سمعا وطاعة لله ورسوله ما نعلم له قاتلا ولكنا نؤدي ديته فأعطوه مائة من الإبل ثم انصرفا راجعين إلى المدينة فأتى الشيطان قيسا يوسوس إليه فقال تقبل دية أخيك فتكون عليك مسبة اقتل الذي معك فتكون نفسا مكان نفس وتفضل الدية فقتل الفهري فرماه بصخرة فشدخه ثم ركب بعيرا منها وساق بقيتها راجعا إلى مكة كافرا فنزل فيه ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها أي بكفره وارتداده وهو الذي استثناه النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ممن أمنه فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما وذكر تعالى العمد في هذه الآية والخطأ في التي قبلها ولم يذكر في كتابه شبه العمد فلذا اختلف الأئمة في إثباته فأثبته الشافعي كالأكثرين ونفاه مالك وجماعة وقالوا فيمن قتل بما لا يقتل غالبا كعضة ولطمة وضربة بسوط إنه عمد وفيه القود أيضا
وأجمعوا على أن دية العمد في مال الجاني ودية الخطأ على العاقلة واختلفوا في دية شبه العمد فقال جمع إنها على الجاني والأكثرون أنها على العاقلة
واعلم أنهم اختلفوا في حكم هذه الآية
فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قاتل المؤمن عمدا لا توبة له فقيل له أليس قد قال الله تعالى في سورة الفرقان ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق إلى قوله ومن يفعل ذلك يلق أثاما ثم قال تعالى إلا من تاب فقال كان ذلك في الجاهلية
____________________
(2/693)
وذلك أن ناسا من أهل الشرك كانوا قتلوا وزنوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا إن الذي تدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملناه كفارة فنزل والذين لا يدعون مع الله إلها آخر إلى قوله تعالى إلا من تاب فهذه لأولئك
وأما التي في سورة النساء فالرجل إذا عرف الإسلام وشرائعه ثم قتل فجزاؤه جهنم
وقال زيد بن ثابت رضي الله عنه لما نزلت التي في الفرقان أي وهي المذكورة عجبنا من لينها فلبثنا سبعة أشهر ثم نزلت الغليظة أي آية النساء بعد اللينة فنسخت اللينة
وقال ابن عباس آية الفرقان آية مكية وهذه مدنية نزلت ولم ينسخها شيء وذهب أهل السنة إلى قبول توبة القاتل مطلقا لقوله تعالى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى وقوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وأجابوا عما روي عن ابن عباس بأنه على تقدير صحته عنه إنما أراد به المبالغة والزجر والتنفير عن القتل وليس في الآية دليل للمعتزلة ونحوهم ممن يقول بتخليد مرتكب الكبيرة في النار لأنها نزلت في قاتل كافر كما مر وعلى التنزل لما يأتي فهي فيمن قتل مستحلا للقتل المحرم بالإجماع المعلوم من الدين بالضرورة واستحلال ذلك كفر كما مر أوائل الكتاب قيل جاء عمرو بن عبيد إلى أبي عمرو بن العلاء فقال هل يخلف الله وعده فقال لا
فقال أليس قد قال تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا إلخ فقال له من العجمة أتيت يا أبا عثمان إن العرب لا تعد الإخلاف في الوعيد خلفا وذما وإنما تعد إخلاف الوعد خلفا وأنشد وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
والدليل على أن غير الشرك لا يوجب التخليد في النار قوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية
وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة وإن زنى وإن سرق الحديث
وفي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم بايع أصحابه ليلة العقبة على أن لا يشركوا بالله شيئا ولا يسرقوا ولا يزنوا وأشياء أخر ثم قال فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه فبايعوه على ذلك
قال الواحدي وسلك الأصحاب في الجواب عن هذه الآية طرقا كثيرة ولا أرتضي شيئا منها لأن ما ذكروه إما تخصيص وإما معارضة وإما إضمار واللفظ لا يدل على شيء من ذلك قال والذي أعتمده وجهان
____________________
(2/694)
@ 695 الأول إجماع المفسرين على أن الآية نزلت في كافر قتل مؤمنا ثم ذكر القصة
والثاني أن قوله تعالى فجزاؤه جهنم معناه الاستقبال والتقدير أنه سيجزى بجهنم وهذا وعيد وخلف الوعيد كرم
وضعف الفخر الرازي أول وجهيه بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وبالقاعدة المقررة في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على أن ذلك الوصف علة لذلك الحكم كقوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما فكما دل على أن سبب القطع والجلد هو السرقة والزنا فكذا هنا يدل على أن الموجب لهذا الوعيد هو القتل العمد لأنه الوصف المناسب للحكم وإذا كان كذلك لم يبق لكون الآية مخصوصة بالكافر وجه أيضا فالموجب إن كان الكفر لم يبق للقتل العمد أثر ألبتة في هذا الوعيد الشديد وهو باطل وإن كان هو القتل العمد لزم أنه متى حصل حصل هذا الوعيد فوجهه هذا ليس بشيء
وأما وجهه الثاني فهو في غاية الفساد أيضا لأن الوعيد قسم من أقسام الخبر فإذا جوزنا الخلف فيه على الله تعالى فقد جوزنا الكذب على الله وهذا خطأ عظيم بل يقرب من الكفر لإجماع العقلاء على أنه تعالى منزه عن الكذب
ا ه حاصل كلام الرازي
ووجه الواحدي الثاني لم ينفرد به بل سبقه إليه من هو أجل منه كأبي عمرو بن العلاء كما مر عنه وغيره فيتعين تأويل ذلك ليسلم قائلوه الأئمة من هذا الشنيع العظيم بأن يقال لم يريدوا بذلك وقوع خلف في الخبر إنما مرادهم أن التقدير سيجازيه بجهنم إن لم يحلم عليه ويغفر له أو إن لم يتب أو يقتص منه أو يعف عنه والدليل على ذلك ظاهر
أما الأول فهو قطعي الصدق وأما الثلاثة بعده فالسنة قاضية بها وليس في تقرير الأول ما يخرج الآية عن الوعيد إذ لو قال السيد لعبده لا عاقبتك على كذا إلا إن حلمت عليك أو فعلت ما يكفر إثمك أو يشفع فيك كان وعيدا ثم الخلف في الآية إنما هو من حيث إن تلك التقديرات ليست فيها لفظا وإن كانت مضمرة فهو خلف باعتبار الظاهر وفي الحقيقة لا خلف فاستفد ذلك لتعلم به الجواب عما شنع به الإمام الرازي على قائلي تلك المقالة وما ألزمهم به مما لم يقولوه ولا خطر ببالهم إلا غاية التنزيه عنه
ثم رأيت القفال حكى في تفسيره وجها آخر في الجواب غير ما ذكرته كما يعرف بالتأمل فقال الآية تدل على أن جزاء القتل هو ما ذكر لكن ليس فيها أنه تعالى يوصل
____________________
(2/695)
هذا الجزاء إليه أم لا وقد يقول الرجل لعبده جزاؤك أن أفعل بك كذا إلا أني لم أفعله
وضعف أيضا بأنه ثبت بهذه الآية أن جزاء القتل العمد هو ما ذكر وثبت بسائر الآيات أنه تعالى يوصل الجزاء إلى المستحقين
قال تعالى من يعمل سوءا يجز به وقال ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ويرد بأن المراد من قوله تعالى يجز به وقوله يره ما لم يقع عفو بدليل ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فجزاء الشرط في يجز و يره المراد به أن هذا مترتب على شرطه ولا يلزم من الترتب الوقوع وكذا في الآية المراد فجزاؤه جهنم خالدا فيها مترتبا على القتل العمد ولا يلزم من الترتب الوقوع ألا ترى أنك لو قلت إن جئتني أكرمتك لم تكن مريدا به إلا أن الإكرام مترتب على المجيء فإذا حصل المجيء فقد يقع الإكرام وقد لا وهذا لكونه قريبا مما أجبت به أيضا أولا يصح أن يكون جوابا عن مقالة الواحدي وغيره السابقة ويكون معنى الخلف أن ذلك الترتيب الذي دلت عليه الآية قد يحصل إن لم يقع عفو ونحوه وقد لا إن وقع ذلك فلم يكن في الخلف بهذا المعنى خلف في الخبر ولا يوهم دخول الخلف في خبر الله تعالى
ثم رأيت الفخر الرازي أجاب بما يرجع لما ذكرته أولا وهو أن هذه الآية مخصوصة في موضعين أحدهما أن يكون القتل العمد غير عدوان كالقصاص فإنه لا يحصل فيه هذا الوعيد ألبتة
والثاني القتل العمد العدوان إذا تاب منه لا يحصل فيه هذا الوعيد وإذا دخله التخصيص في هاتين الصورتين فيدخله التخصيص فيما إذا حصل العفو عنه بدليل قوله تعالى ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء
فإن قلت ما ذكروه هو محل النزاع وهو أن القاتل هل له توبة أم لا وهل يعفو الله عنه أم لا فكيف صح له الجواب بذلك قلت لأن السنة لما صرحت بذلك وجب حمل الآية عليه ولم يلتفت إلى المخالفين في ذلك لضعف شبهتهم وسفساف طريقتهم
وأخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اجتنبوا السبع الموبقات أي المهلكات قيل يا رسول الله وما هن قال الإشراك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات
____________________
(2/696)
وأخرجا أيضا عن أنس رضي الله عنه قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر فقال الشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس
الحديث
وأخرجا أيضا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله تعالى قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت إن ذلك لعظيم ثم أي قال أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قلت ثم أي قال أن تزاني حليلة جارك
والبخاري الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس
وأحمد والنسائي وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر قال الإشراك بالله وقتل النفس المسلمة والفرار يوم الزحف
والبزار بسند فيه مختلف في توثيقه الكبائر أولهن الإشراك بالله وقتل النفس بغير حق وأكل الربا الحديث
والطبراني بسند فيه ابن لهيعة اجتنبوا الكبائر السبع الشرك بالله وقتل النفس والفرار من الزحف الحديث
والطبراني عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الكبائر عقوق الوالدين والشرك بالله وقتل النفس وقذف المحصنات الحديث
والطبراني الكبائر سبع الإشراك وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وقذف المحصنة الحديث
وفي كتابه صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن وإن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة الإشراك بالله وقتل النفس المؤمنة بغير الحق الحديث وقد تقدم
والبخاري وغيره لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما
قال ابن عمر راويه من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم
____________________
(2/697)
الحرام بغير حله وهي جمع ورطة بسكون الراء الهلكة وكل أمر يعسر النجاة منه
وابن حبان بإسناد حسن لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق
زاد البيهقي والأصبهاني ولو أن أهل سمواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم النار
والبيهقي لزوال الدنيا جميعا أهون على الله من دم سفك بغير حق
ومسلم وغيره لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم
والنسائي والبيهقي قتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا
وابن ماجه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول ما أطيبك وما أطيب ريحك ما أعظمك وما أعظم حرمتك والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتك ماله ودمه
والترمذي وقال حسن غريب لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار
والبيهقي قتل بالمدينة قتيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعلم من قتله فصعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فقال أيها الناس يقتل قتيل وأنا فيكم ولا يعلم من قتله لو اجتمع أهل السماء والأرض على قتل امرئ مؤمن لعذبهم الله إلا أن يفعل ما يشاء
ورواه الطبراني بلفظ لو أن أهل السموات والأرض اجتمعوا على قتل مسلم لكبهم الله جميعا على وجوههم في النار
وابن ماجه والأصبهاني من أعان على قتل مؤمن ولو شطر كلمة لقي الله مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله
زاد الأصبهاني عن سفيان بن عيينة هو أن يقول اق يعني لا يتم كلمة اقتل
____________________
(2/698)
والبيهقي من أعان على دم امرئ مسلم ولو بشطر كلمة كتب بين عينيه يوم القيامة آيس من رحمة الله
والطبراني بسند رواته ثقات من استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين الجنة ملء كف من دم امرئ مسلم أن يهريقه كما يذبح دجاجة كلما تعرض لباب من أبواب الجنة حال الله بينه وبينه ومن استطاع منكم أن لا يجعل في بطنه إلا طيبا فإن أول ما ينتن من الإنسان بطنه
ورواه البيهقي مرفوعا هكذا وموقوفا وقال الصحيح وقفه أي ومع ذلك له حكم المرفوع إذ مثله لا يقال من قبل الرأي
والشيخان لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل
والشيخان وغيرهما أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء
والنسائي أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة وأول ما يقضى بين الناس في الدماء ولا ينافي ما قبله لأن أول ما يحاسب الإنسان عليه من حقوق الله الصلاة لأنها آكد حقوقه وأول ما يحاسب عليه من حقوق الآدميين القتل لأنه أشد حقوقهم
والنسائي والحاكم وصححه كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا
والترمذي وحسنه والطبراني بسند رواته رواة الصحيح أن ابن عباس رضي الله عنهما سأله سائل فقال يا ابن عباس هل للقاتل من توبة فقال ابن عباس كالمتعجب من شأنه ماذا تقول فأعاد عليه مسألته فقال ماذا تقول مرتين أو ثلاثا قال ابن عباس سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول يأتي المقتول معلقا رأسه بإحدى يديه متلببا قاتله باليد الأخرى تشخب أوداجه دما حتى يأتي به العرش فيقول المقتول لرب العالمين هذا قتلني فيقول الله للقاتل تعست ويذهب به إلى النار
____________________
(2/699)
والطبراني يجيء المقتول آخذا قاتله وأوداجه تشخب دما عند ذي العزة فيقول يا رب سل هذا فيم قتلني فيقول الله عز وجل فيم قتلته قال قتلته لتكون العزة لفلان قيل هي لله
وابن حبان في صحيحه إذا أصبح إبليس بث جنوده فيقول من خذل اليوم مسلما ألبسه التاج قال فيجيء هذا فيقول لم أزل به حتى طلق امرأته فيقول يوشك أن يتزوج ويجيء هذا فيقول لم أزل به حتى عق والديه فيقول يوشك أن يبرهما ويجيء هذا فيقول لم أزل به حتى أشرك فيقول أنت أنت ويجيء هذا فيقول لم أزل به حتى قتل نفسا فيقول أنت أنت ويلبسه التاج
وأبو داود من قتل مؤمنا فاغتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفا ولا عدلا أي فرضا ولا نفلا وقيل غير ذلك ثم نقل عن الغساني أن معنى اغتبط بقتله أن يقتله في الفتنة ظانا أنه على هدى فلا يستغفر الله
وأحمد يخرج عنق من النار يتكلم يقول وكلت اليوم بثلاثة بكل جبار عنيد ومن جعل مع الله إلها آخر ومن قتل نفسا بغير حق فينطوي عليهم فيقذفهم في جمر جهنم
والبزار والطبراني بإسنادين أحدهما صحيح يخرج عنق من النار يتكلم بلسان طلق ذلق له عينان يبصر بهما ولسان يتكلم به فيقول إني أمرت بمن جعل مع الله إلها آخر وبكل جبار عنيد وبمن قتل نفسا بغير حق فينطلق بهم قبل سائر الناس بخمسمائة عام
____________________
(2/700)
والبخاري واللفظ له من قتل معاهدا لم يرح أي بفتح الراء لم يجد ولم يشم رائحة الجنة وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما ورواه النسائي بلفظ من قتل قتيلا من أهل الذمة
وأبو داود من قتل معاهدا في غير كنهه أي وقته الذي يجوز قتله فيه حين لا عهد حرم الله عليه الجنة
زاد النسائي أن يشم ريحها
والنسائي من قتل رجلا من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاما
وابن حبان في صحيحه من قتل نفسا معاهدة بغير حقها لم يرح رائحة الجنة وإن ريح الجنة ليوجد من مسيرة خمسمائة عام ويجمع بين أربعين وسبعين وخمسمائة ألف في رواية مرت باختلاف وجدان ريحها باختلاف الناس ومراتبهم
والترمذي وصححه ألا من قتل نفسا معاهدة لها ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر ذمة الله ولا يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين خريفا فإذا كان هذا في قتل معاهد وهو الكافر المؤمن إلى مدة في دار الإسلام فما ظنك بقاتل المسلم
تنبيه عد هذا هو ما صرحت به الأحاديث الصحيحة كما علمت ومن ثم أجمعوا عليه في القتل العمد
واختلفوا في أكبر الكبائر بعد الشرك والصحيح المنصوص أن أكبرها بعد الشرك القتل
وقيل الزنا
وما ذكرته من عد شبه العمد هو ما صرح به الهروي وشريح الروياني وعبارة الأول وتبعه الثاني وحد الكبيرة أربعة أشياء أحدها ما يوجب حدا أو قتلا أو قدرة من الفعل والعقوبة ساقطة للشبهة وهو عامد
ثم قال الجلال البلقيني قوله أو قتلا يعني قتل القصاص فإنه لا يسمى حدا إلا قتل قاطع الطريق فإن في المغلب فيه خلافا هل هو معنى القصاص أو معنى الحد ويختلف الحكم بحسب ما يقوي النظر فيه وقوله أو قدرة إلخ يشير به إلى أن شبه العمد يدخل الفعل فيه بحسب اسم الكبيرة لقدرته على الفعل بخلاف الخطأ فإنه لم يفعله باختياره
وكذلك ما سقط القصاص فيه للشبهة كبيرة وإنما سقط القصاص لمانع
وقد قال الهروي قبل ذلك يشترط في العدل أن لا يقترف الكبائر الموجبات للحدود مثل السرقة
____________________
(2/701)
والزنا وقطع الطريق أو قدرة من الفعل وإن لم يجب الحد فيها لشبهة أو عدم حرز والقتل عمدا من غير حق أو شبه عمد
وقد أشار الرافعي إلى ذلك بقوله يوجب جنسها حدا من قتل أو غيره
قال الخطابي قوله صلى الله عليه وسلم إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال إنه كان حريصا على قتل صاحبه هذا إنما يكون كذلك إذا لم يتقاتلا بتأويل بل بعداوة أو عصبة أو طلب دنيا أو نحوها فأما من قاتل أهل البغي بالصفة التي يجب قتالهم عليها فقتل أو دفع عن نفسه وحريمه فإنه لا يدخل في هذا الوعيد لأنه مأمور بالقتال للذب عن نفسه غير قاصد به قتل صاحبه ألا تراه يقول إنه كان حريصا على قتل صاحبه
ومن قاتل باغيا أو قاطع طريق من المسلمين فإنه لا يحرص على قتله إنما يدفعه عن نفسه فإن انتهى صاحبه كف عنه ولم يتبعه فالحديث لم يرد في أهل هذه الصفة فلا يدخلون فيه بخلاف من كان على غير هذه الصفة فإنهم المرادون منه
الكبيرة الرابعة عشرة بعد الثلاثمائة قتل الإنسان لنفسه قال تعالى ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا أي لا يقتل بعضكم بعضا وإنما قال أنفسكم لقوله صلى الله عليه وسلم المؤمنون كنفس واحدة ولأن العرب يقولون قتلنا ورب الكعبة إذا قتل بعضهم لأن قتل بعضهم يجري مجرى قتلهم أو المراد النهي عن قتل الإنسان لنفسه حقيقة وهو الظاهر وإن كان الأول هو المنقول عن ابن عباس والأكثرين ثم رأيت ما يصرح بالثاني وهو أن عمرو بن العاص رضي الله عنه احتلم في غزوة ذات السلاسل فخاف الهلاك من البرد إن اغتسل فتيمم وصلى بأصحابه الصبح ثم ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له صليت بأصحابك وأنت جنب فأخبره بعذره ثم استدل وقال إني سمعت الله يقول ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا فدل هذا الحديث على أن عمرا تأول في هذه الآية قتل نفسه لا نفس غيره ولم ينكره صلى الله عليه وسلم
قيل المؤمن مع إيمانه لا يجوز أن ينهى عن قتل نفسه لأنه ملجأ إلى أن لا يقتلها لوجود الصارف وهو شدة
____________________
(2/702)
الألم وعظم الذم فحينئذ لا فائدة للنهي عنه
وإنما يكون هذا النهي فيمن يعتقد في قتل نفسه ما يعتقده أهل الهند وذلك لا يتأتى في المؤمن وجوابه منع ما ذكر من الإلجاء بل المؤمن مع إيمانه وعلمه بقبح ذلك وعظم ألمه قد يلحقه من الغم والأذية ما يسهل قتله نفسه بالنسبة إليه ولذلك ترى كثيرا من المسلمين يقتلون نفوسهم
أو المراد لا تفعلوا ما يوجب القتل كالزنا بعد الإحصان والردة ثم بين تعالى أنه رحيم بهذه الأمة ولأجل رحمته نهاهم عن كل ما يلحقهم به مشقة أو محنة ولم يكلفهم بالتكاليف والآصار التي كلف بها من قبلهم فلم يأمرهم بقتلهم نفوسهم إن عصوه توبة لهم كما فعل ببني إسرائيل حيث أمرهم بقتل نفوسهم في التوبة بقوله تبارك وتعالى فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ففعلوا ذلك حتى قتل منهم في ساعة واحدة نحو سبعين ألفا
والإشارة في ومن يفعل ذلك إلى قتل النفس فيترتب عليه هذا الوعيد الشديد وقيل يعود إلى أكل المال بالباطل أيضا لذكرهما في آية واحدة
وقال ابن عباس يعود إلى كل ما نهى الله عنه من أول السورة إلى هذا الموضع
وقال الطبراني يعود إلى كل ما نهى الله عنه من أول السورة لأن كل كلمة قرن بها وعيد بل من قوله يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها إلى هنا لأنه لا وعيد بعده إلا هذا وقيد الوعيد بذكر العدوان والظلم ليخرج منه فعل السهو والغلط والجهل المعذور به مع تقارب معناهما لاختلاف لفظهما كبعدا وسحقا وكقول يعقوب صلى الله على نبينا وعليه وعلى بنيه وآبائه وسلم إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وكقول الشاعر وألفى قولها كذبا ومينا والعدوان بالضم وقرئ بالكسر مجاوزة الحد
والظلم وضع الشيء في غير محله
ونصليه نارا ندخله إياها ونمسه حرها
وقرأ الجمهور بضم أوله من أصلي وقرئ بفتحها من صليته وبالنون للتعظيم وقرئ بالياء أي الله وتنكير نارا للتعظيم ويسيرا أي هينا
وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن
____________________
(2/703)
قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا
وتردى أي رمى نفسه من عال كجبل فهلك
ويتوجأ بالهمز
أي يضرب بها نفسه
والبخاري الذي يخنق نفسه يخنقها في النار والذي يطعن نفسه يطعنها في النار والذي يقتحم يقتحم في النار
والشيخان عن الحسن البصري قال حدثنا جندب بن عبد الله في هذا المسجد فما نسينا منه حديثا وما نخاف أن يكون جندب كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كان رجل به جراح فقتل نفسه فقال الله بدرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة
وفي رواية كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات فقال الله تعالى بادرني عبدي بنفسه
ولفظ رواية مسلم قال إن رجلا كان ممن قبلكم خرجت بوجهه قرحة فلما آذته انتزع سهما من كنانته أي بكسر أوله جعبة النشاب فنكأها بالهمز أي نخسها وفجرها فلم يرقأ الدم أي يسكن حتى مات قال ربكم قد حرمت عليه الجنة
وابن حبان في صحيحه أن رجلا كانت به جراحة فأتى قرنا له أي بفتحتين جعبة النشاب فأخذ مشقصا أي بكسر فسكون للمعجمة ففتح القاف سهم فيه نصل عريض فذبح به نفسه فلم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم
والشيخان من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبا متعمدا فهو كما قال ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة وليس على رجل نذر فيما لا يملك ولعن المؤمن كقتله ومن رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله ومن ذبح نفسه بشيء عذب به يوم القيامة
والترمذي وصححه ليس على رجل نذر فيما لا يملك ولاعن المؤمن كقاتله ومن قذف مؤمنا بكفر فهو كقاتله ومن قتل نفسه بشيء عذبه الله بما قتل به نفسه يوم القيامة
____________________
(2/704)
والشيخان أنه صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون فاقتتلوا فلما مال إلى عسكره ومال الآخرون إلى عسكرهم وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل لا يدع لهم شاذة ولا فاذة أي وهما بالشين المعجمة والفاء وتشديد الذال المعجمة فيهما ما انفرد عن إلا اتبعها يضربها بسيفه فقالوا ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنه من أهل النار
وفي رواية فقالوا أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار فقال رجل من القوم أنا صاحبه أبدا قال فخرج معه كلما وقف وقف معه وإذا أسرع أسرع معه قال فجرح الرجل جرحا شديدا فاستعجل الموت فوضع سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه فخرج الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أشهد أنك رسول الله قال وما ذاك قال الرجل الذي ذكرت آنفا أنه من أهل النار فأعظم الناس ذلك فقلت أنا لكم به فخرجت في طلبه حتى جرح جرحا شديدا فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة
تنبيه عد ذلك هو صريح الآية والأحاديث التي بعدها وهو ظاهر لم أر من تعرض له والظاهر أنه يدخل فيه وفيما يترتب عليه من الوعيد قتل المهدر لنفسه كالزاني المحصن وقاطع الطريق المتحتم قتله لأن الإنسان وإن أهدر دمه لا يباح له هو إراقته بل لو أراقه لا يكون كفارة له لأنه صلى الله عليه وسلم إنما حكم بالكفارة على من عوقب بذنبه وأما من عاقب نفسه فهو ليس في معنى من عوقب
الكبيرة الخامسة عشرة والسادسة عشرة بعد الثلاثمائة الإعانة على القتل المحرم أو مقدماته وحضوره مع القدرة على دفعه فلم يدفعه أخرج ابن ماجه والأصبهاني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعان على قتل مؤمن ولو بشطر كلمة لقي الله وهو مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله ومر هذا الحديث قريبا مع بيان معناه
____________________
(2/705)
والطبراني والبيهقي بإسناد حسن لا يقفن أحدكم موقفا يقتل فيه رجل ظلما فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه
والطبراني بإسناد جيد من جرح ظهر مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان وفي رواية له ظهر المؤمن حمى إلا بحقه
وأحمد بسند رجاله رجال الصحيح إلا ابن لهيعة لا يشهد أحدكم قتيلا لعله أن يكون مظلوما فتصيبه السخطة
والطبراني بسند رجاله كذلك لا يشهد أحدكم قتيلا فعسى أن يقتل مظلوما فتنزل السخطة عليهم فتصيبه معهم
تنبيه عد الأولى من هذين هو صريح الحديث الأول والثانية هو صريح الحديث الثاني وما بعده ولم أر من تعرض لذلك ثم رأيت الحليمي ذكر ما يخالف ذلك فقال إذا دل على مطلوب ليقتل ظلما أو أحضر لمريد القتل سكينا فهذا كله محرم لدخوله في قوله تعالى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان لكنها صغائر لأن النهي عنها ليس لأنفسها بل لكونها ذرائع إلى التمكين من ظلمه فأكثر ما في إعانة القاتل بها أن المعين يصير مشاركا له في القصد والقصد إذا خلا عن الفعل لا يكون كبيرة وكذلك سؤال الرجل غيره الذي لا يلزمه طاعته أن يقتل آخر ليس من الكبائر لأنه ليس فيه إلا إرادة هلاكه من غير أن يكون معه فعل انتهى
وهو مبني على اصطلاحه الغريب الآتي على الأثر والموافق لكلامهم والأحاديث ما ذكرته وإن سلمنا أن أولها ضعيف وهو من أعان على قتل مؤمن إلخ
ثم رأيت الأذرعي اعترض الحليمي فقال ما ذكره من أن الدلالة على القتل من الصغائر مشكل لا يسمح الأصحاب بموافقته عليه وقد عدوا من الكبائر السعاية إلى السلطان والدلالة على قتل المعصوم ظلما أقبحها
وفي الحديث المشهور من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة لقي الله مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله وما ذكره في سؤال من لا تلزمه طاعته فيه نظر سيما إذا علم أو ظن أنه يطيعه ويبادر إلى امتثال أمره
انتهى
وهو ظاهر فالوجه بل الصواب ما ذكرته
____________________
(2/706)
الكبيرة السابعة عشرة بعد الثلاثمائة ضرب المسلم أو الذمي بغير مسوغ شرعي أخرج الطبراني بسند جيد عن أبي أمامة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من جرح ظهر مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان وروي أيضا ظهر المؤمن حمى إلا بحقه
ومسلم إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا
وفي رواية الذين يقذفون الناس والأولى أعم
وروي ولا يقفن أحدكم موقفا يضرب فيه رجل ظلما فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه
تنبيه عد هذا هو ما جرى عليه الشيخان وغيرهما وهو ظاهر لهذا الوعيد الشديد الذي فيه لكنهما قيداه بالمسلم واعترضه جمع متأخرون بأن الوجه أنه لا فرق بينه وبين الذمي
وعبارة الأذرعي في توسطه في التقييد بالمسلم نظر ولا سيما إذا كان المضروب ذا رحم ولا خفاء أن الكلام فيمن له ذمة أو عهد معتبر وأطلق الحليمي أن الخدشة والضربة والضربتين من الصغائر
وقد يفصل بين مضروب ومضروب من حيث القوة وضدها ومن حيث الشرف والدناءة انتهت
وقال في الخادم بعد إيراد كلام الحليمي إلا أن يحمل كلام العدة أي المطلق لكون الضرب كبيرة وأقره الشيخان على الزائد على ذلك ثم إن التقييد بالمسلم لا مفهوم له فالذمي كذلك انتهى وما ذكر عن الحليمي هو ما ذكره أول كلامه في منهاجه وذكره في آخره على وجه أشكل من الأول فقال وإن ترك القتل إلى شيء دونه من إيلام بضرب غير منتهك أو جرح لا ينقص من المجروح عضوا ولا يعطل عليه من منافع بدنه منفعة لم يكن كبيرة فإن فعل ذلك بأب أو أم أو ذي رحم أو فعله في حرم أو شهر حرام أو استضعافا لمسلم أو استعلاء عليه فذلك كبيرة
انتهى كلامه
وهو مبني على ما أسسه قبل واختاره من الفرق بين الفاحشة الكبيرة والصغيرة وأنه ما من ذنب إلا وفيه صغيرة وكبيرة وقد تنقلب الصغيرة كبيرة بقرينة تضم إليها والكبيرة فاحشة بذلك إلا الكفر فإنه أفحش الكبائر وليس من نوعه صغيرة
____________________
(2/707)
ثم ذكر لذلك أمثلة منها القتل كبيرة ولنحو رحم فاحشة وما دونه بقيده الذي قدمته عنه صغيرة وهذا اصطلاح مخالف لما عليه الأصحاب والشيخان والمتأخرون فالوجه أن ضرب المعصوم ونحوه المؤذي إيذاء له وقع كبيرة
ثم رأيت الأذرعي ذكر ما يؤيد ما ذكرته حيث اعترض الحليمي فقال الخدشة والضربة إذا عظم ألمهما أو كان إحداهما لوالد أو ولي ينبغي أن تلحقا بالكبائر
الكبيرة الثامنة عشرة والتاسعة عشرة بعد الثلاثمائة ترويع المسلم والإشارة إليه بسلاح أو نحوه أخرج البزار والطبراني وأبو الشيخ ابن حبان عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه أن رجلا أخذ نعل رجل فغيبها وهو يمزح فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تروعوا المسلم فإن روعة المسلم ظلم عظيم
والطبراني من أخاف مؤمنا كان حقا على الله أن لا يؤمنه من أفزاع يوم القيامة
والطبراني وأبو الشيخ من نظر إلى مسلم نظرة يخيفه فيها بغير حق أخافه الله يوم القيامة
وأبو داود والطبراني بسند رواته ثقات لا يحل لمسلم أن يروع مسلما قاله لما روع رجل من أصحابه بأخذ حبل معه وهو نائم فانتبه ففزع
وأبو داود والترمذي وقال حسن غريب لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعبا ولا جادا
____________________
(2/708)
ومسلم من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى ينتهي وإن كان أخاه لأبيه وأمه
والشيخان إذا توجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار
وفي رواية لهما إذا المسلمان حمل أحدهما على أخيه السلاح فهما على حرف جهنم فإذا قتل أحدهما صاحبه دخلاها جميعا قال فقلنا أو قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال إنه كان أراد قتل صاحبه
والشيخان لا يشر أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار وينزع بالمهملة وكسر الزاي يرمي أو بالمعجمة مع فتح الزاي ومعناه يرمي ويفسد وأصل النزع الطعن والفساد
تنبيه عد هذين هو صريح حديث الغضب وغيره بالنسبة للأول واللعن وغيره بالنسبة للثاني ويتعين حمل الحرمة في الأول على ما إذا علم أن الترويع يحصل خوفا يشق تحمله عادة والكبيرة فيه على ما إذا علم أن ذلك الخوف يؤدي به إلى ضرر في بدنه أو عقله وحمل الثاني على ذلك أيضا ولم أر من تعرض لذلك
الكبيرة العشرون والحادية والثانية والثالثة والعشرون بعد الثلاثمائة السحر الذي لا كفر فيه وتعليمه كتعلمه وطلب عمله قال تعالى واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون
في هذه الآيات دلالات ظاهرة على قبح السحر وأنه إما كفر أو كبيرة كما يأتي في الأحاديث
وقد وسع المفسرون الكلام على هذه الآيات وأردت تلخيصه لكثرة فوائده وعظيم جدواه
____________________
(2/709)
قوله تعالى واتبعوا معطوف على جملة ولما جاءهم إلخ
وزعم خلافه فاسد وما موصولة وزعم أنها نافية غلط وتتلوا بمعنى تلت و على بمعنى في أي في زمن ملكه أي شرعه أو تتلوا مضمن تتقول أي ما تتقوله وتكذب به على شرعه وهذا أولى إذ التجوز في الأفعال أولى منه في الحروف وأحوج إلى ذلك أن تلا إذا تعدى بعلى يكون المجرور بها متلوا عليه والملك ليس كذلك وقال أبو مسلم يقال تلا عليه إذا كذب وعنه إذا صدق فإن أطلق جاز الأمران
قال الفخر الرازي ولا يمتنع أن الذي كانوا يخبرون به عن سليمان ما يتلى ويقرأ فتجتمع كل الأوصاف والتلاوة الاتباع أو القراءة وهذا في اليهود قيل الذين كانوا في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم وقيل الذي كانوا في زمن سليمان من السحرة لأن أكثر اليهود ينكرون نبوته ويعدونه من جملة ملوك الدنيا ويعتقدون أن ملكه نشأ عن السحر والأولى أنه يتناول الفرقتين
قال السدي عارضوا نبينا صلى الله عليه وسلم بالتوراة فوافقت القرآن ففروا إلى السحر المنقول عن آصف وهاروت وماروت فهذا هو قوله تعالى ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم إلخ
والشياطين هنا مردة الجن لأنهم كانوا يسترقون السمع من السماء ويضمون إليه أكاذيب يلقونها إلى الكهنة فدونوها في كتب وعلموها الناس وفشا ذلك في زمن سليمان عليه السلام وقالوا إن الجن تعلم الغيب وكانوا يقولون هذا علم سليمان وما تم ملكه إلا به وسحر الجن والإنس والطير والريح التي تجري بأمره ومردة الجن لما روي أن سليمان صلى الله على نبينا وعليه كان قد دفن كثيرا من العلوم التي خصه الله تعالى بها تحت سرير ملكه خوفا على أنه إن هلك الظاهر من تلك العلوم يبقى هذا المدفون منها فبعد مدة توصل منافقون إلى أن كتبوا في خلالها أشياء من السحر تناسب تلك الأشياء من بعض الوجوه ثم بعد موته واطلاع الناس على تلك الكتب أوهموا الناس أنه من عمل سليمان وأنه ما وصل إلى ما وصل إلا به
ثم إضافتهم السحر لسليمان إما لتفخيم شأن السحر لتقبله الناس وإما لقول اليهود إنه ما وجد ذلك الملك إلا بالسحر وإما لأنه لما سخر له ما مر كالجن وكان يخالطهم ويستفيد منهم أسرارا عجيبة غلب على الظنون الفاسدة أنه حاشاه الله من ذلك استفاد السحر منهم وذلك السحر كفر فلذلك برأه الله تعالى بقوله وما كفر سليمان الدال على أنهم نسبوه للكفر كما روي عن بعض أحبار اليهود أنهم قالوا ألا تعجبون من محمد يزعم أن سليمان كان نبيا وما كان ساحرا
وروي أن سحرة اليهود زعموا أنهم أخذوا السحر عن سليمان فبرأه الله من ذلك وبين
____________________
(2/710)
أن ذلك الكفر القبيح إنما هو لاحق بهم بقوله تبارك وتعالى ولكن الشياطين كفروا والسحر لغة كل ما لطف ودق من سحره إذا أبدى له أمرا فدق عليه وخفي ومنه فلما ألقوا سحروا أعين الناس وهو مصدر شاذ إذ لم يأت مصدر لفعل يفعل بفتح عينه فيهما على فعل بكسر فسكون إلا هذا وفعل والسحر بفتح أوله الغذاء لخفائه والرئة وما تعلق بالحلقوم وهو يرجع لمعنى الخفاء أيضا ومنه قول عائشة رضي الله عنها توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري وقوله تعالى إنما أنت من المسحرين معناه من المخلوقين الذي يطعمون ويشربون بدليل قوله ما أنت إلا بشر مثلنا أي وما أنت إلا ذو سحر مثلنا
وشرعا يختص بكل أمر يخفى سببه وعمل على غير حقيقته ويجري مجرى التمويه والخداع وحيث أطلق فهو مذموم وقد يستعمل مقيدا فيما ينفع ويمدح ومنه قوله صلى الله عليه وسلم إن من البيان لسحرا أي لأن صاحبه يوضح المشكل ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه وبليغ عبارته والقول بأنه خرج مخرج الذم للفصاحة والبلاغة إذ شبهه بالسحر بعيد واستدل بما لا دلالة فيه وهو قوله صلى الله عليه وسلم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض
وقوله إن أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون
الثرثرة كثرة الكلام وترديده يقال ثرثر الرجل فهو ثرثار مهذار والمتفيهقون نحوه ويقال فلان يتفيهق في كلامه إذا توسع وتنطع نعم
نقل هذا القول أعني أن ذلك ذم عن عامر الشعبي راوي الحديث وصعصعة بن صوحان فقال أما قوله صلى الله عليه وسلم إن من البيان لسحرا فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق وهو عليه وإنما يحمد العلماء البلاغة واللسان ما لم تخرج إلى حد الإطناب والإسهاب وتصوير الباطل في صورة الحق وعلى القول الأول أعني أن ذلك مدح للفصاحة المبينة للحق والرافعة لأشكاله فإنما سمي ما يوضح الحق سحرا وهو إنما قصد به إظهار الخفاء لا إخفاء الظاهر عكس ما يدل عليه لفظ السحر لأن ذلك القدر للطفه وحسنه استمال القلوب فأشبه السحر الذي يستميل القلوب من هذا الوجه
وأيضا فالقادر على البيان يكون غالبا قادرا على تحسين القبيح وتقبيح الحسن فأشبه السحر من هذا الوجه أيضا
____________________
(2/711)
واختلف العلماء في أن السحر له حقيقة أم لا فقال بعض العلماء إنه تخييل لا حقيقة له لقوله تعالى يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى وقال الأكثرون وهو الأصح الذي دلت عليه السنة له حقيقة لأن اللعين لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر صلى الله عليه وسلم بإخراج سحره من بئر ذي أروان بدلالة الوحي له على ذلك فأخرج منها فكان ذا عقد فحلت عقده فكان كلما حلت منه عقدة خف عنه صلى الله عليه وسلم إلى أن فرغت فصار صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال
وذهب ابن عمر رضي الله عنهما إلى خيبر ليخرص ثمرها فسحره اليهود فانكتفت يده فأجلاهم عمر
وجاءت امرأة إلى عائشة رضي الله عنها فقالت يا أم المؤمنين ما على المرأة إذا عقلت بعيرها فقالت عائشة ولم تفهم مرادها ليس عليها شيء فقالت إني عقلت زوجي عن النساء فقالت عائشة رضي الله عنها أخرجوا عني هذه الساحرة
والجواب عن الآية أنا لا نمنع أن من السحر ما هو تخييل بل منه ذلك وما له حقيقة
وإنما أثر السحر في رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قوله تعالى والله يعصمك من الناس إما لأن المراد منه عصمة القلب والإيمان دون عصمة الجسد عما يرد عليه من الحوادث الدنيوية ومن ثم سحر وشج وجهه وكسرت رباعيته ورمي عليه الكرش والتراب وآذاه جماعة من قريش وإما لأن المراد عصمة النفس عن الافتلات دون العوارض التي تعرض للبدن مع سلامة النفس
وهذا أولى بل هو الصواب لأنه صلى الله عليه وسلم كان يحرس فلما نزلت الآية أمر بترك الحرس
ثم السحر على أقسام أولها سحر الكسدانيين الذين كانوا في قديم الدهر يعبدون الكواكب ويزعمون أنها المدبرة للعالم ومنها يصدر كل مظهر خير وشر وهم المبعوث إليهم إبراهيم صلى الله على نبينا وعليه وعلى آبائه وأبنائه وسلم مبطلا مقالتهم ورادا عليهم وهم ثلاث فرق الأولى الذين يزعمون أن الأفلاك والكواكب واجبة الوجود لذواتها غنية عن موجد ومدبر وخالق وهي المدبرة لعالم الكون والفساد وهم الصابئة الدهرية
والثانية القائلون بإلهية الأفلاك زعموا أنها هي المؤثرة للحوادث باستدارتها وتحركها فعبدوها وعظموها واتخذوا لكل واحد منها هيكلا مخصوصا وصنما معينا واشتغلوا بخدمتها فهذا دين عبدة الأصنام والأوثان
والثالثة أثبتوا لهذه النجوم والأفلاك فاعلا مختارا أوجدها بعد العدم إلا أنه تعالى أعطاها قوة غالبة نافذة في هذا العالم وفوض تدبيره إليها
____________________
(2/712)
النوع الثاني سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية
الثالث الاستعانة بالأرواح الأرضية
واعلم أن القول بالجن مما أنكره بعض متأخري الفلاسفة والمعتزلة وأما أكابر الفلاسفة فلم ينكروه إلا أنهم سموهم الأرواح الأرضية وهي في نفسها مختلفة منها خيرة وهم مؤمنوهم وشريرة وهم كفارهم
الرابع التخييلات والأخذ بالعيون وذلك لأن أخلاط البصر كثيرة فإن راكب السفينة ينظرها واقفة والشط متحركا والمتحرك يرى ساكنا والقطرة النازلة ترى خطا مستقيما والذبالة تدار بسرعة ترى دائرة وأمثال ذلك
الخامس الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات على النسب الهندسية مثل صورة فرس في يده بوق فإذا مضت ساعة من النهار صوت البوق من غير أن يمسه أحد ومثل تصاوير الروم على اختلاف أحوال الصور من كونها ضاحكة وباكية حتى يفرق بين ضحك السرور وضحك الخجل وضحك الشامت وكان سحر سحرة فرعون من هذا القبيل ويندرج في هذا علم جر الأثقال وهو أن يجر شيئا ثقيلا عظيما بآلة خفيفة سهلة وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب السحر لأن لها أسبابا معلومة يقينية من اطلع عليها قدر عليها
السادس الاستعانة بخواص الأدوية المبلدة والمزيلة للعقل ونحوها
السابع تعليق القلب وهو أن يدعي إنسان أنه يعرف الاسم الأعظم وأن الجن تطيعه وينقادون له فإذا كان السامع ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق وتعلق قلبه بذلك وحصل في نفسه نوع من الرعب والخوف فحينئذ يتمكن الساحر من أن يفعل فيه ما شاء
وحكي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال السحر يخبل ويمرض ويقتل وأوجب القصاص على من قتل به فهو من عمل الشيطان يتلقاه الساحر منه بتعليمه إياه فإذا تلقاه منه استعمله في غيره
وقيل إنه يؤثر في قلب الأعيان وقيل الأصح أنه تخييل لكنه يؤثر في الأبدان بالأمراض والموت والجنون وللكلام تأثير في الطباع والنفوس كما إذا سمع إنسان ما يكره فيحمر ويغضب وربما حم منه وقد مات قوم بكلام سمعوه فهو بمنزلة العلل التي تؤثر في الأبدان
قال القرطبي قال علماؤنا لا ينكر أن يظهر على يد الساحر خرق العادات بما ليس في مقدور البشر من مرض وتفريق وزوال عقل وتعويج عضد إلى غير ذلك مما قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات العباد
قالوا ولا يبعد في السحر أن يستدق جسم
____________________
(2/713)
الساحر حتى يتولج في الكوات والانتصاب على رأس قصبة والجري على خيط مستدق والطيران في الهواء والمشي على الماء وركوب كلب وغير ذلك ولا يكون السحر علة لذلك ولا موجبا له وإنما يخلق الله تعالى هذه الأشياء عند وجود السحر كما يخلق الشبع عند الأكل والري عند شرب الماء
وروى سفيان عن عامر الذهبي أن ساحرا كان عند الوليد بن عقبة يمشي على الحبل ويدخل في است الحمار ويخرج من فيه فاشتمل جندب على سيفه وقتله به وهو جندب بن كعب الأزدي ويقال البجلي وهو الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم في حقه يكون في أمتي رجل يقال له جندب يضرب ضربة بالسيف يفرق بها بين الحق والباطل فكانوا يرونه جندبا هذا قاتل الساحر
قال علي بن المديني روى عنه حارثة بن مصرف وأنكر المعتزلة الأنواع الثلاثة الأول قيل ولعلهم كفروا من قال بها وبوجودها وأما أهل السنة فجوزوا الكل وقدرة الساحر على أن يطير في الهواء وأن يقلب الإنسان حمارا والحمار إنسانا وغير ذلك من أنواع الشعبذة إلا أنهم قالوا إن الله تعالى هو الخالق لهذه الأشياء عند إلقاء الساحر كلماته المعينة ويدل لذلك قوله تعالى وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله
ومر أنه صلى الله عليه وسلم سحر وعمل فيه السحر حتى قال إنه ليخيل إلي أني أقول الشيء وأفعله ولم أقله ولم أفعله والساحر له صلى الله عليه وسلم لبيد بن الأعصم وبناته جعلوا تلك العقدة التي نفثن عليها في مشط ومشاطة وجف طلع نخلة ووضعوا ذلك تحت راعوفة البئر السافلة فأثر فيه صلى الله عليه وسلم ودام ذلك حتى رأى ملكين في النوم يقول أحدهما للآخر ما مرض الرجل فقال له صاحبه مطبوب أي مسحور قال من طبه قال لبيد بن الأعصم قال فيم ذا قال في مشط ومشاطة وجف طلع نخلة
قال فأين هو قال في بئر ذي أروان
رواه الشيخان ولفظهما عن عائشة رضي الله عنها يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه جاءني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال الذي عند رأسي للذي عند رجلي أو الذي عند رجلي للذي عند رأسي ما وجع الرجل قال مطبوب قال من طبه قال لبيد بن الأعصم
قال في أي شيء
قال في
____________________
(2/714)
مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر
قال فأين هو قال في بئر ذي أروان ولما أخبر صلى الله عليه وسلم بذلك ذهب إلى تلك البئر فأخرج ذلك السحر على الصفة التي نعتت له ومسخ ماؤها حتى صار كنقاعة الحناء وطلع النخل الذي حولها حتى صار كرءوس الشياطين وأنزل الله تبارك وتعالى المعوذتين فكانتا شفاء له ولأمته من السحر
وروي أن امرأة أتت عائشة رضي الله عنها فقالت إني ساحرة هل لي من توبة قالت وما سحرك فقالت سرت إلى الموضع الذي فيه هاروت وماروت أطلب علم السحر فقالا يا أمة الله لا تختاري عذاب الآخرة بأمر الدنيا فأبيت فقالا لي اذهبي فبولي على ذلك الرماد فذهبت لأبول عليه ففكرت في نفسي فقلت لا فعلت وجئت إليهما فقلت قد فعلت فقالا لي ما رأيت لما فعلت فقلت ما رأيت شيئا فقالا لي اذهبي فاتقي الله ولم تفعلي فأبيت فقالا لي اذهبي فافعلي فذهبت وفعلت فرأيت كأن فارسا مقنعا بالحديد قد خرج من فرجي فصعد إلى السماء فجئتهما فأخبرتهما فقالا لي ذاك إيمانك قد خرج منك قد أحسنت السحر
قلت وما هو قالا لا تريدين شيئا فتصورينه في وهمك إلا كان فتصورت في نفسي حبا من حنطة فإذا أنا بحب فقلت انزرع فانزرع فخرج من ساعته سنبلا فقلت انطحن فانطحن من ساعته وانخبز وأنا لا أريد شيئا أصوره في نفسي إلا حصل
فقالت عائشة ليس لك توبة
قال القرطبي أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده إنزال الجراد والقمل والضفادع وفلق البحر وقلب العصا وإحياء الموتى وإنطاق العجماء وأمثال ذلك من آيات الرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام
والفرق بين السحر والمعجزة أن السحر يأتي به الساحر وغيره أي من كل من تعلم طريقة وقد يكون جماعة يعلمونه ويأتون به في وقت واحد وأما المعجزة فلا يمكن الله تعالى أن يأتي بمثلها ومعارضتها
قال الفخر واتفق المحققون على أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور لأن العلم لذاته شريف لعموم قوله تعالى هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ولو لم يعلم السحر لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة والعلم بكون المعجز معجزا واجب وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجبا وما يكون واجبا يكون حراما وقبيحا
____________________
(2/715)
ونقل بعضهم وجوب تعلمه على المفتي حتى يعلم ما يقتل منه وما لا يقتل فيفتي به في وجوب القصاص
انتهى
وما قاله فيه نظر وبتسليمه فهو لا ينافي ما قدمناه في الترجمة من أن تعلمه وتعليمه كبيرتان لأن الكلام ليس فيهما وإنما هو في شخص تعلمه جاهلا بحرمته أو تعلمه عالما بها ثم تاب فما عنده الآن من علم السحر الذي لا كفر فيه هل هو قبيح في ذاته وظاهر أنه ليس قبيحا لذاته وإنما قبحه لما يترتب عليه وما نقل عن بعضهم غير صحيح لأن إفتاءه بوجوب القود أو عدمه لا يستلزم معرفته علم السحر لأن صورة إفتائه إن شهد عدلان عرفا السحر وتابا منه أنه يقتل غالبا قتل الساحر وإلا فلا وكذا العلم بالمعجزة لا يتوقف على العلم بالسحر لأن أكثر العلماء أو كلهم إلا النادر عرفوا الفرق بينهما ولم يعرفوا علم السحر وكفى فارقا بينهما أن المعجزة تكون مقرونة بالتحدي بخلاف السحر فبطل قول الفخر لما أمكن الفرق إلخ
وأما كونه خارقا فهو أمر يشترك فيه السحر والمعجزة وإنما يفترقان باقترابها بالتحدي بخلافه فإنه لا يمكن ظهوره على يد مدعي نبوة كاذبا كما جرت به عادة الله عز وجل المستمرة صونا لهذا المنصب الجليل عن أن يتسور حماه الكذابون
وقد مر عن القرطبي أن المسلمين أجمعوا على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده إنزال الجراد وغيره مما سبق فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون ولا يفعله الله عند إرادة الساحر
قال القاضي الباقلاني وإنما منعنا ذلك للإجماع ولولاه لأجزناه انتهى
وأورد عليه القرطبي قوله تعالى عن حبال سحرة فرعون وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأخبر عن العصي والحبال بأنها حيات وليس هذا الإيراد بصحيح لأن المجمع عليه نفي الانقلاب حقيقة وهذا تخييل
ألا ترى إلى قوله تعالى يخيل إليه
واختلف العلماء في الساحر هل يكفر أو لا وليس من محل الخلاف النوعان الأولان من أنواع السحر السابقة إذ لا نزاع في كفر من اعتقد أن الكواكب مؤثرة لهذا العالم أو أن الإنسان يصل بالتصفية إلى أن تصير نفسه مؤثرة في إيجاد جسم أو حياة أو تغيير شكل
وأما النوع الثالث وهو أن يعتقد الساحر أنه بلغ في التصفية وقراءة الرقى وتدخين بعض الأدوية إلى أن الجن تطيعه في تغيير البنية والشكل فالمعتزلة يقرونه دون غيرهم
وأما بقية أنواعه فقال جماعة إنها كفر مطلقا لأن اليهود لما
____________________
(2/716)
أضافوا السحر لسليمان صلى الله على نبينا وعليه وسلم قال تعالى تنزيها له عنه وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر فظاهر هذا أنهم إنما كفروا بتعليمهم السحر لأن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يشعر بعليته وتعليم ما لا يكون كفرا لا يوجب الكفر
وهذا يقتضي أن السحر على الإطلاق كفر وكذا يقتضي ذلك قوله تعالى عن الملكين وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر وأجاب القائلون بعدم الكفر كالشافعي رضي الله عنه وأصحابه بأن حكاية الحال يكفي في صدقها صورة واحدة فيحمل على سحر من اعتقد إلهية النجوم وأيضا فلا نسلم أن ذلك فيه ترتيب حكم على وصف يقتضي إشعاره بالعلية لأن المعنى أنهم كفروا وهم مع ذلك يعلمون السحر
واختلفوا هل تقبل توبة الساحر فأما النوعان الأولان فمعتقد أحدهما مرتد فإن تاب فذاك وإلا قتل
وقال مالك وأبو حنيفة لا تقبل توبتهما
وأما النوع الثالث وما بعده فإن اعتقد أن فعله مباح قتل لكفره لأن تحليل المحرم المجمع على تحريمه المعلوم من الدين بالضرورة كفر كما مر وإن اعتقد أنه حرام فعند الشافعي رضي الله عنه أنه جناية فإذا فعله بالغير وأقر أنه يقتل غالبا قتل به لأنه عمد أو نادر فهو شبه عمد أو أخطأ من اسم غيره إليه فهو خطأ والدية فيهما على العاقلة إن صدقته إذ لا يقبل إقراره عليهم
وعن أبي حنيفة أن الساحر يقتل مطلقا إذا علم أنه ساحر بإقراره أو ببينة تشهد عليه بأنه ساحر ويصفونه بصفة تعلم أنه ساحر ولا يقبل قوله أترك السحر وأتوب عنه فإن أقر بأني كنت أسحر مدة وقد تركت ذلك منذ زمان قبل منه ولم يقتل
وسئل أبو حنيفة لم لم يكن الساحر بمنزلة المرتد حتى تقبل توبته فقال لأنه جمع مع كفره السعي في الأرض بالفساد ومن هو كذلك يقتل مطلقا
ورد ما قاله بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقتل اليهودي الذي سحره فالمؤمن مثله لقوله صلى الله عليه وسلم لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين
واحتج أبو حنيفة بما روي أن جارية لحفصة أم المؤمنين رضي الله عنها سحرتها فأخذوها فاعترفت بذلك فأمرت عبد الرحمن بن زيد فقتلها فبلغ ذلك أمير المؤمنين عثمان فأنكره فجاءه ابن عمر فأخبره بأمرها وكأن عثمان إنما أنكر ذلك لأنها قتلتها بغير إذنه
وبما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال اقتلوا كل ساحر وساحرة فقتلوا ثلاث سواحر
وأجاب أصحابنا عن ذلك بأن هذين على تقدير ثبوتهما يحتمل أن القتل
____________________
(2/717)
فيهما بكفر الساحر لوجود أحد النوعين الأولين فيه وذلك ليس من محل الخلاف كما مر وأي دليل قام على أنه من بقية الأنواع التي هي محل الخلاف كالشعبذة والآلات العجيبة المبنية على الهندسة وأنواع التخويف والتقريع والوهم
تنبيه قال القرطبي هل يسأل الساحر حل السحر عن المسحور قال البخاري عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قيل يجوز وإليه مال المازري وكرهه الحسن البصري
وقال الشعبي لا بأس بالنشرة
قال ابن بطال وفي كتاب وهب بن منبه أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ عليه آية الكرسي ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل به فإنه يذهب عنه ما به إن شاء تعالى وهو جيد للرجل إذ حبس عن أهله
قوله تعالى وما أنزل على الملكين فيها أربعة أقوال أظهرها أنها موصولة عطفا على السحر أي يعلمون الناس السحر والمنزل على الملكين وقيل نافية أي وما أنزل على الملكين إباحة السحر وقيل موصولة محلها جر عطفا على ملك سليمان لأن عطفها على السحر يقتضي أن السحر نازل عليهما فيكون منزله هو الله وذلك غير جائز وكما لا يجوز في الأنبياء أن يبعثوا لتعليم السحر فالملائكة أولى وكيف يضاف إلى الله ما هو كفر وإنما يضاف للمردة والكفرة وإنما المعنى أن الشياطين نسبوا السحر إلى ملك سليمان والمنزل على الملكين مع أن ملكه والمنزل عليهما بريئان من السحر بل المنزل عليهما هو الشرع والدين
وكانا يعلمان الناس قبوله والتمسك به فكانت طائفة تتمسك وأخرى تخالف
انتهى
واعترضه الفخر بأن عطفه على ملك بعيد فلا بد له من دليل
وزعم أنه لو كان نازلا عليهما لكان منزله هو الله لا يضر لأن تعريف صفة الشيء قد يكون لأجل الترغيب فيه حتى يوجده المكلف وقد يكون لأجل التنفير عنه حتى يحترز عنه كما قيل عرفت الشر لا للشر بل لتوقيه
وزعم أنه لا يجوز بعثة الأنبياء لتعليمه لا يؤثر أيضا لأن المراد هنا تعليم فساده وإبطاله وزعم أن تعليمه كفر ممنوع وبتسليمه هي واقعة حال يكفي في صدقها صورة واحدة وزعم أنه إنما يضاف للمردة والكفرة إنما يصح إن أريد به العمل لا التعليم لجواز أن يكون العمل منهيا عنه وتعليمه لغرض التنبيه على فساده مأمور به وما تقرر أنهما ملكان هو الأصح الذي عليه الأكثرون
وقرئ شاذا بكسر اللام فيكونان إنسيين وسيأتي ما فيه والباء في ببابل معنى في سميت بذلك قيل لتبلبل ألسنة الخلق بها لأن الله تعالى أمر ريحا فحشرتهم بهذه الأرض فلم يدر أحدهم ما يقول الآخر ثم فرقهم الريح في البلاد فتكلم كل واحد بلغة والبلبلة
____________________
(2/718)
التفرقة وقيل لما أرست سفينة نوح بالجودي نزل فبنى قرية وسماها ثمانين باسم أصحاب السفينة فأصبح ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة وقيل لتبلبل ألسنة الخلق بها عند سقوط صرح نمروذ وهي بابل العراق
وقال ابن مسعود بابل أرض الكوفة
والجمهور على فتح تاء هاروت وماروت وهما بناء على فتح لام الملكين بدل منهما وقيل من الناس بدل بعض من كل
وقيل بل هما بدل من الشياطين وقيل نصبا على الذم أي أذم هاروت وماروت من بين الشياطين كلها ومن كسر لامهما أجرى فيهما ما ذكر نعم إن فسر الملكان بداود وسليمان كما ذكره بعض المفسرين وجب في هاروت وماروت أن يكونا بدلا من الشياطين أو الناس وعلى فتح اللام قيل هما ملكان من السماء اسمهما هاروت وماروت وهو الصحيح للتصريح به في الحديث الصحيح الآتي في بحث الخمر وقيل هما جبريل وميكائيل صلى الله على نبينا وعليهما وسلم وعلى كسرها قيل هما قبيلتان من الجن وقيل داود وسليمان وقيل رجلان صالحان وقيل رجلان ساحران وقيل علجان أقلفان ببابل يعلمان الناس السحر ويعلمان على بابه من التعليم وقيل يعلمان من أعلم إذ الهمزة والتضعيف يتعاقبان إذ الملكان لا يعلمان السحر إنما يعلمان بقبحه
وممن حكى أن يعلم بمعنى أعلم ابنا الأعرابي والأنباري ثم القائلون بأنهما ليسا من الملائكة احتجوا بأن الملائكة لا يليق بهم تعليم السحر وبقوله تعالى ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون وبأنهما لو نزلا في صورتي رجلين كان تلبيسا وهو لا يجوز وإلا لجاز في كل من شوهد من آحاد الناس أنه لا يكون رجلا حقيقة لاحتمال أنه ملك من الملائكة أولا في صورتي رجلين نافى قوله تعالى ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا
ويجاب عن الأول بما مر أن المحذور تعليمه للعمل به لا لبيان فساده
وعن الثاني بأن المراد لو أنزلنا ملكا رسولا داعيا إلى الناس لجعلناه رجلا حتى يمكنهم الأخذ عنه والتلقي منه وما هنا ليس كذلك فلا محذور في كون الملك على غير صورة الرجل
وعن الثالث بأنا نختار أنهما ليسا في صورتي رجلين ولا منافاة بين ذلك وتلك الآية كما بيناه وعلى أنهما في صورة رجل فإنما يجوز الحكم على كل ذات بأنهما ملك في زمن يجوز فيه إنزال الملائكة كما أن صورة دحية من كان يراها بعد علمه أن جبريل ينزل فيها لا يقطع بأنها صورة دحية لاحتمال أنها جبريل وقد أجاب بعض المفسرين عن تلك الحجج بما لا يجدي بل بما فيه نظر ظاهر
واعلم أن المفسرين ذكروا لهذين الملكين قصة عظيمة طويلة
حاصلها أن الملائكة لما اعترضوا بقولهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ومدحوا أنفسهم بقولهم
____________________
(2/719)
ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك أراهم الله تعالى ما يدفع دعواهم فركب في هاروت وماروت منهم شهوة وأنزلهما حاكمين في الأرض فافتتنا بالزهرة مثلت لهما من أجمل النساء فلما وقعا بها خيرا بين عذابي الدنيا والآخرة فاختارا عذاب الدنيا فهما يعذبان إلى يوم القيامة
ونازع جماعة في أصل ثبوت هذه القصة وليس كما زعموا لورود الحديث بل صحته بها وسيأتي لفظه في مبحث الخمر ومن جملته أنها لما مثلت لهما وراوداها عن نفسها أمرتهما بالشرك فامتنعا ثم بالقتل فامتنعا ثم بشرب الخمر فشرباها ثم وقعا بها وقتلا ثم أخبرتهما بما فعلتاه فخيرا كما ذكر
ومن المنازعين الفخر قال هذه القصة رواية فاسدة مردودة ليس في كتاب الله ما يدل عليها بل فيه ما يبطلها من وجوه الأول عصمة الملائكة من كل ذنب
ويجاب بأن محل العصمة ما داموا بوصف الملائكة أما إذا انتقلوا إلى وصف الإنسان فلا
على أنه يعلم من الحديث المذكور أن ما وقع لهما إنما هو من باب التمثيل لا الحقيقة لأن الزهرة تمثلت لهما امرأة وفعلت بهما ما مر دفعا لقولهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك كما يأتي ذكر ذلك في الحديث المذكور
الثاني زعم أنهما خيرا بين العذابين فاسد بل كان الأولى أن يخيرا بين التوبة والعذاب لأن الله خير بينهما من أشرك طوال عمره فهذان أولى
ويجاب بأن ذلك إنما فعل تغليظا في العقوبة عليهما ولا يقاسان بمن أشرك لأن الأمور التوقيعية لا مجال فيها
الثالث من أعجب الأمور أنهما يعلمان الناس السحر في حال كونهما يعذبان ويدعوان إليه وهما يعاقبان ويجاب بأنه لا عجب في ذلك
إذ لا مانع أن العذاب يفتر عنهما في ساعات فيعلمان فيها لأنهما أنزلا فتنة عليهما لما وقع لهما مما ذكر وعلى الناس لتعلمهم منهما السحر
قال بعضهم والحكمة في إنزالهما أمور أحدها أن السحرة كثرت في ذلك الزمن واستنبطت أنواعا عجيبة غريبة في النبوة وكانوا يدعونها ويتحدون الناس بها فأنزل الله الملكين ليعلما الناس السحر حتى يتمكنوا من معارضة أولئك السحرة المدعين للنبوة كذبا وهذا غرض ظاهر
ثانيها أن العلم بأن المعجز مخالف للسحر يتوقف على علم ماهيتهما والناس كانوا جاهلين ماهية السحر فتعذرت عليهم معرفة حقيقة السحر فبعث الله هذين الملكين لتعريف ماهية السحر لأجل هذا الغرض
____________________
(2/720)
ثالثها لا يمتنع أن السحر الذي يوقع الفرقة بين أعداء الله والألفة بين أولياء الله كان مباحا عندهم أو مندوبا فبعثهما الله لتعليمه لهذا الغرض فتعلم القوم ذلك منهما واستعملوه في الشر وإيقاع الفرقة بين أولياء الله والألفة بين أعداء الله
رابعها تحصيل العلم بكل شيء حسن ولما كان السحر منهيا عنه وجب أن يكون معلوما متصورا وإلا لم ينه عنه
خامسها لعل الجن كان عندهم أنواع من السحر لم يقدر البشر على الإتيان بمثلها فبعثهما الله تعالى ليعلما البشر أمورا يقدرون بها على معارضة الجن
سادسها أن يكون ذلك تشديدا في التكاليف من حيث إنه إذا علم ما يمكنه أن يتوصل به إلى اللذات العاجلة ثم منعه من استعمالها كان ذلك في نهاية المشقة يستوجب به الثواب الزائد فثبت بهذه الوجوه أنه لا يبعد من الله تعالى إنزال الملكين لتعليم السحر
قال بعضهم وهذه الواقعة كانت زمن إدريس صلى الله على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وسلم والمراد بالفتنة في الآية المحبة التي يتميز بها الحق من الباطل والمطيع من العاصي وإنما قالا إنما نحن فتنة إلخ بذلا للنصيحة قبل التعليم أي هذا الذي نصفه لك وإن كان الغرض منه تمييز السحر من المعجز ولكنه يمكنك أن تتوصل به إلى المفاسد والمعاصي فإياك أن تستعمله فيما نهيت عنه
واختلفوا في المراد بالتفريق بين المرء وزوجه في قوله تعالى فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه فقيل المراد أن هذا التفريق إنما يكون إن اعتقد أن السحر مؤثر فيه وهذا كفر وإذا كفر بانت زوجته منه
وقيل المراد أنه يفرق بينهما بالتمويه والحيل وذكر التفريق دون سائر ما يتعلمونه تنبيها على الباقي فإن ركون الإنسان إلى زوجته زائد على مودة قريبه فإذا وصل بالسحر إلى هذا الأمر مع شدته فغيره أولى ويدل له قوله تعالى وما هم بضارين به من أحد فإنه أطلق الضرر ولم يقصره على التفريق فدل على أنه إنما خص بالذكر لكونه أعلى مراتب الضرر
قال الفخر والإذن حقيقة في الأمر والله لا يأمر بالسحر لأنه ذمهم عليه ولو أمرهم به لما ذمهم عليه فلا بد من التأويل في قوله إلا بإذن الله وفيه وجوه أحدها قال الحسن المراد منه التخلية يعني إذا سحر الإنسان فإن شاء الله منعه منه وإن شاء خلى بينه وبين ضرر السحر
____________________
(2/721)
ثانيها قال الأصم إلا بعلم الله إذ الأذان والإذن الإعلام
ثالثها بخلقه إذ الضرر الحاصل عند فعل السحر لا يكون إلا بخلقه تعالى
رابعها بأمره بناء على تفسير التفريق بين المرء وزوجه بالكفر لأن هذا حكم شرعي وهو لا يكون إلا بأمره تعالى
والخلاق النصيب في هذا آكد ذم وأقبح عذاب للسحرة إذ لا أخسر ولا أفحش ولا أحقر ولا أذل ممن ليس له نصيب في نعيم الآخرة ومن ثم عقب تعالى ذلك بقوله عز وجل قائلا ولبئس ما شروا أي باع اليهود به أي بالسحر أنفسهم لو كانوا يعلمون أي لو علموا ذم ذلك هذا الذم العظيم لما باعوا به أنفسهم وأثبت لهم العلم أولا بقوله تعالى ولقد علموا ونفاه عنهم بقوله ثانيا لو كانوا يعلمون لأن معنى الثاني لو كانوا يعلمون بعلمهم جعلهم حين لم يعملوا به كأنهم منسلخون عنه أو المراد بعلم الثاني العقل لأن العلم من ثمرته فلما انتفى الأصل انتفت ثمرته فصار وجود العلم كالعدم حيث لم ينتفعوا به كما سمى الله تعالى الكفار عميا وبكما وصما إذ لم ينتفعوا بحواسهم أو تغاير بين متعلق العلمين أي علموا ضرره في الآخرة ولم يعلموا نفعه في الدنيا هذا كله إن كان فاعل علموا ويعلمون واحدا كما هو الظاهر فإن قدر مختلفا كأن يجعل الضمير علموا للملكين أو الشياطين وضمير شروا وما بعده لليهود فلا إشكال
وبما تقرر في هذه الآية علم أصل السحر ومنشؤه وحقيقته وأنواعه وضرره وقبحه وما يترتب عليه من الوعيد الشديد فلا ينتحله إلا كل شيطان مريد أو جبار عنيد
وجاء في السنة أحاديث كثيرة في ذمه أيضا
أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اجتنبوا السبع الموبقات أي المهلكات قالوا يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات
وابن مردويه بسند فيه ضعيف وابن حبان في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا فيه الفرائض والسنن والديات والزكاة وكان فيه إن أكبر الكبائر عند الله تعالى الإشراك بالله تعالى وقتل النفس المؤمنة بغير الحق والفرار في سبيل الله يوم الزحف وعقوق الوالدين ورمي المحصنات وتعلم السحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم
____________________
(2/722)
والطبراني أن رجلا قال يا رسول الله وكم الكبائر قال تسع أعظمهن الإشراك بالله وقتل المؤمن بغير حق والفرار من الزحف وقذف المحصنة والسحر وأكل مال اليتيم وأكل الربا الحديث
والنسائي بسند عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه ولم يسمع منه عند الجمهور من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ومن سحر فقد أشرك ومن تعلق بشيء وكل إليه أي من يعلق على نفسه الحروز والعوذ يوكل إليها
وأحمد عن علي بن زيد عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه
واختلف في سماع الحسن عن عثمان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كان لداود نبي الله ساعة يوقظ فيها أهله يقول يا آل داود قوموا فصلوا فإن هذه الساعة يستجيب الله فيها الدعاء إلا لساحر أو عاشر
والطبراني في الكبير والأوسط بسند فيه مختلف فيه ثلاث من لم تكن فيه واحدة منهن فإن الله يغفر له ما سوى ذلك لمن يشاء من مات لا يشرك بالله شيئا ولم يكن ساحرا يتبع السحرة ولم يحقد على أخيه
وابن حبان في صحيحه لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا مؤمن بسحر ولا قاطع رحم
وأحمد وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن خمر وقاطع الرحم ومصدق بالسحر الحديث
تنبيه عد هذه الأربعة التي جريت عليه كشيخ الإسلام الجلال البلقيني وغيره هو صريح الآية في بعضها والأحاديث في بعضها وهو ظاهر لما مر أن فيها قولا قال به
____________________
(2/723)
كثيرون إنها كلها كفر فلا أقل من كونها كبيرة لا سيما مع ما ورد فيها من الوعيد الشديد والزجر الغليظ الأكيد كما قدمته في الكلام على الآية الكريمة وكما علم من هذه الأحاديث الصحيحة أعاذنا الله من غضبه ومعاصيه بمنه وكرمه آمين
الكبيرة الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتاسعة والعشرون والثلاثون والحادية والثانية والثالثة والرابعة والخامسة والثلاثون بعد الثلاثمائة الكهانة والعرافة والطيرة والطرق والتنجيم والعيافة وإتيان كاهن وإتيان عراف وإتيان طارق وإتيان منجم وإتيان ذي طيرة ليتطير له أو ذي عيافة ليخط له قال تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا أي لا تقل في شيء من الأشياء ما ليس لك به علم فإن حواسك مسئولة عن ذلك
وقال تعالى عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول أي عالم الغيب هو الله وحده فلا يطلع عليه أحدا من خلقه إلا من ارتضاه للرسالة فإنه مطلعه على ما يشاء من غيبه وقيل هو منقطع أي لكن من ارتضاه للرسالة فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا
والصحيح هو الأول لأن الله تعالى أطلع أنبياءه بل وراثهم على مغيبات كثيرة لكنها جزئيات قليلة بالنسبة إلى علمه تعالى فهو المنفرد بعلم المغيبات على الإطلاق كليها وجزئيها دون غيره
وأخرج البزار بإسناد جيد عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن أو تكهن له أو سحر أو سحر له ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد
ورواه الطبراني من حديث ابن عباس دون قوله ومن أتى إلخ بإسناد حسن
والبزار بإسناد جيد قوي من أتى كاهنا فصدقه بما قال فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/724)
والطبراني من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد برئ مما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم ومن أتاه غير مصدق له لم تقبل له صلاة أربعين ليلة
والطبراني من أتى كاهنا فسأله عن شيء حجبت عنه التوبة أربعين ليلة فإن صدقه بما قال فقد كفر
والطبراني بإسنادين أحدهما ثقات لن ينال الدرجات العلى من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر تطيرا
ومسلم من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوما
والأربعة والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين من أتى عرافا أو كاهنا فصدق بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم
والبزار وأبو يعلى بإسناد جيد موقوف على ابن مسعود قال من أتى عرافا أو كاهنا أو ساحرا فسأله فصدق بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم
والطبراني في الكبير بسند رواته ثقات من أتى عرافا أو ساحرا أو كاهنا يؤمن بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم
وأبو داود وابن ماجه من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد
وأبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه العيافة والطيرة والطرق من الجبت وهو بكسر الجيم كل ما عبد من دون الله
تنبيه عد هذه المذكورات هو وإن لم أره كذلك صريح هذه الأحاديث في أكثرها
____________________
(2/725)
وقياسا في البقية وهو ظاهر لأن الملحظ في الكل واحد والكاهن هو الذي يخبر عن بعض المضمرات فيصيب بعضها ويخطئ أكثرها ويزعم أن الجن تخبره بذلك
وفسر بعضهم الكهانة بما يرجع لذلك فقال هي تعاطي الإخبار عن المغيبات في مستقبل الزمان وادعاء علم الغيب وزعم أن الجن تخبره بذلك
والعراف بفتح المهملة وتشديد الراء قيل الكاهن ويرده الحديث السابق عرافا أو كاهنا وقيل الساحر
وقال البغوي هو الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها كالمسروق من الذي سرقه ومعرفة مكان الضالة ونحو ذلك ومنهم من يسمي المنجم كاهنا
قال أبو داود والطرق أي بفتح فسكون الزجر أي زجر الطير ليتيمن أو يتشاءم بطيرانه فإن طار إلى جهة اليمين تيمن أو إلى جهة الشمال تشاءم
وقال ابن فارس الضرب بالحصى وهو نوع من التكهين
والمنهي عنه من علم النجوم هو ما يدعيه أهلها من معرفة الحوادث الآتية في مستقبل الزمان كمجيء المطر ووقوع الثلج وهبوب الرياح وتغير الأسعار ونحو ذلك يزعمون أنهم يدركون ذلك بسير الكواكب لاقترانها وافتراقها وظهورها في بعض الأزمان وهذا علم استأثر الله به لا يعلمه أحد غيره فمن ادعى علمه بذلك فهو فاسق بل ربما يؤدي به ذلك إلى الكفر أما من يقول إن الاقتران والافتراق الذي هو كذا جعله الله علامة بمقتضى ما اطردت به عادته الإلهية على وقوع كذا وقد يتخلف فإنه لا إثم عليه بذلك وكذا الإخبار عما يدرك بطريق المشاهدة من علم النجوم الذي يعرف بها الزوال وجهة القبلة وكم مضى وكم بقي من الوقت فإنه لا إثم فيه بل هو فرض كفاية
وفي حديث الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح في أثر سماء أي مطر كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال أتدرون ماذا قال ربكم قالوا الله ورسوله أعلم
قال قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب
وأما من قال مطرنا بنوء كذا أي وقت النجم الفلاني فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب
قال العلماء من قال ذلك مريدا أن النوء هو المحدث والموجد فهو كافر أو أنه علامة على نزول المطر ومنزله هو الله وحده لم يكفر ويكره له قول ذلك لأنه من ألفاظ الكفر وروى الشيخان أن ناسا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الكاهن أو الكهان فقال ليسوا
____________________
(2/726)
بشيء فقالوا يا رسول الله إنهم يحدثونا أحيانا بشيء أو بالشيء فيكون حقا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الكلمة من الوحي يخطفها الجني فيقرها أي يلقيها في أذن وليه فيخلط معها مائة كذبة
والبخاري إن الملائكة تنزل من العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قضي في السماء فيسترق الشيطان السمع فيسمعه فيوجه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم
باب البغاة الكبيرة السادسة والثلاثون بعد الثلاثمائة البغي أي الخروج على الإمام ولو جائرا بلا تأويل أو مع تأويل يقطع ببطلانه قال تعالى إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم
وأخرج مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد
والترمذي وقال حسن صحيح وابن ماجه والحاكم وقال صحيح الإسناد عن أبي بكرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من ذنب أجدر أي أحق من أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم
وفي حديث البيهقي الآتي في اليمين الغموس ليس شيء مما عصي الله به هو أعدل عقابا من البغي
وفي الأثر لو بغى جبل على جبل لجعل الله الباغي منهما دكا وقد خسف الله تعالى بقارون اللعين الأرض لما بغى على قومه
كما أخبر الله تعالى عنه بقوله عز قائلا إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم إلى قوله فخسفنا به وبداره الأرض الآية
____________________
(2/727)
قال ابن عباس من بغيه أن جعل لبغية جعلا على أن تقذف موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم المبرأ من كل سوء بنفسها ففعلت فاستحلفها موسى على ما قالت فأخبرته بأن قارون هو المغري لها على ذلك فغضب موسى فدعا عليه فأوحى الله تعالى إليه إني قد أمرت الأرض تطيعك فمرها فقال موسى يا أرض خذيه فأخذته حتى غيبت سريره فلما رأى قارون ذلك ناشد موسى بالرحم فقال يا أرض خذيه فأخذته حتى غيبت قدميه فما زال موسى يقول يا أرض خذيه حتى غيبته فأوحى الله إليه يا موسى وعزتي وجلالي لو استغاث بي لأغيثنه فخسفت به الأرض إلى الأرض السفلى
وقال سمرة يخسف به كل يوم قامة
ولما خسف به قيل إنما أهلكه موسى ليأخذ ماله وداره فخسف الله تعالى بهما بعد ثلاثة أيام وقيل بغيه كبره وقيل كفره وقيل زيادته في طول ثيابه شبرا وقيل إنه كان يخدم فرعون فتعدى على بني إسرائيل وظلمهم
تنبيه عد هذا هو ما صرح به بعضهم لكنه أطلق فقال الكبيرة الخمسون البغي وهو مشكل فقد قال أئمتنا إن البغي ليس باسم ذم إذ البغاة ليسوا فسقة فمن ثم قيدته في الترجمة بأن يكون بلا تأويل أو بتأويل قطعي البطلان وحينئذ اتجه كونه كبيرة لما يترتب على ذلك من المفاسد التي لا يحصى ضررها ولا ينطفئ شررها مع عدم عذر الخارجين حينئذ بخلاف الخارج بتأويل ظني البطلان فإن لهم نوع عذر ومن ثم لم يضمنوا ما أتلفوه حال الحرب ولم يقتل مدبرهم
الكبيرة السابعة والثلاثون بعد الثلاثمائة نكث بيعة الإمام لفوات غرض دنيوي أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه ابن السبيل ورجل بايع رجلا سلعة بعد العصر فحلف بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه وهو على غير ذلك ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا فإن أعطاه منها وفى وإن لم يعطه منها لم يف
وأخرج ابن أبي حاتم عن علي كرم الله وجهه الكبائر الإشراك بالله وقتل
____________________
(2/728)
النفس وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة والفرار من الزحف والتعرب بعد الهجرة والسحر وعقوق الوالدين وأكل الربا وفراق الجماعة ونكث البيعة
تنبيه عد هذا هو صريح الحديث والأثر المذكورين وبه صرح غير واحد من المتأخرين وهو قريب لما يترتب عليه من المفاسد الكثيرة التي لا نهاية لها
باب الإمامة العظمى الكبيرة الثامنة والتاسعة والثلاثون والأربعون بعد الثلاثمائة تولي الإمامة أو الإمارة مع علمه بخيانة نفسه أو عزمه عليها وسؤال ذلك وبذل مال عليه مع العلم أو العزم المذكورين أخرج البزار والطبراني في الكبير بسند رواته رواة الصحيح عن عوف بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة وما هي فناديت بأعلى صوتي وما هي يا رسول الله قال أولها ملامة وثانيها ندامة وثالثها عذاب يوم القيامة إلا من عدل وكيف يعدل مع أقربيه
وأحمد بسند رواته ثقات إلا يزيد بن أبي مالك ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله تعالى مغلولا يوم القيامة يداه إلى عنقه فكه بره أو أوثقه إثمه
أولها ملامة وأوسطها ندامة وآخرها خزي يوم القيامة
ومسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قلت يا رسول الله ألا تستعملني قال فضرب بيده على منكبي ثم قال يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها إمارة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها
ومسلم وأبو داود والحاكم وقال صحيح على شرطهما عنه إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تلين مال يتيم
____________________
(2/729)
والبخاري والنسائي إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعمت المرضعة وبئس الفاطمة
وابن حبان في صحيحه والحاكم واللفظ له وقال صحيح الإسناد ويل للأمراء ويل للعرفاء ويل للأمناء ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم معلقة بالثريا يدلون بين السماء والأرض وأنهم لم يلوا عملا
والحاكم وصحح إسناده ليوشكن رجل أن يتمنى أنه خر من الثريا ولم يل من أمر الناس شيئا
والشيخان يا عبد الله بن سمرة لا تسل الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها
وأحمد بسند رواته ثقات إلا ابن لهيعة جاء حمزة بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله اجعلني على شيء أعيش به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا حمزة نفس تحييها أحب إليك أم نفس تميتها قال نفس أحييها قال عليك نفسك
وأبو داود بسند في رواته كلام قريب لا يقدح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب على منكب المقدام بن معديكرب ثم قال أفلحت يا قديم إن مت ولم تكن أميرا ولا كاتبا ولا عريفا
والطبراني بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال شريك لا أدري أرفعه أم لا قال الإمارة أولها ندامة وأوسطها غرامة وآخرها عذاب يوم القيامة
والطبراني أن عمر رضي الله عنه استعمل بشر بن عاصم رضي الله عنه على صدقات
____________________
(2/730)
هوازن فتخلف بشر فلقيه عمر فقال ما خلفك أما لنا سمعا وطاعة قال بلى ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من ولي شيئا من أمر المسلمين أتي به يوم القيامة حتى يوقف على جسر جهنم فإن كان محسنا نجا وإن كان مسيئا انخرق به الجسر فهوى فيه سبعين خريفا
فخرج عمر رضي الله عنه كئيبا محزونا فلقيه أبو ذر فقال ما لي أراك كئيبا حزينا فقال ما لي لا أكون كئيبا حزينا وقد سمعت بشر بن عاصم يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من ولي شيئا من أمر المسلمين أتي به يوم القيامة حتى يوقف على جسر جهنم فإن كان محسنا نجا وإن كان مسيئا انخرق به الجسر فهوى فيه سبعين خريفا فقال أبو ذر وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من ولي شيئا من أمر المسلمين أتي به يوم القيامة حتى يوقف على جسر جهنم فإن كان محسنا نجا وإن كان مسيئا انخرق به الجسر فهوى فيه سبعين خريفا وهي سوداء مظلمة فأي الحديثين أوجع لقلبك قال كلاهما أوجع قلبي فمن يأخذها بما فيها فقال أبو ذر من سلت أي بمهملة فلام مفتوحة ففوقية جدع الله أنفه وألصق خده بالأرض أما إنا لا نعلم إلا خيرا أو عسى إن وليتها من لا يعدل فيها أن لا تنجو من إثمها
وأحمد بسند فيه مجهول ستفتح عليكم مشارق الأرض ومغاربها وإن عمالها في النار إلا من اتقى الله عز وجل وأدى الأمانة
ومسلم وأبو داود وغيرهما عن عدي بن عميرة رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم القيامة فقام إليه رجل أسود من الأنصار كأني أنظر إليه فقال يا رسول الله اقبل عني عملك قال ومالك قال سمعتك تقول كذا وكذا
قال وأنا أقوله الآن من استعملناه منكم على عمل فليجئ بقليله وكثيره فما أوتي منه أخذ وما نهي عنه انتهى
والشيخان وغيرهما استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية أي نسبة لبني لتب بضم اللام وسكون التاء على الصدقة فلما قدم قال هذا لكم
____________________
(2/731)
وهذا أهدي إلي فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقا والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة
الحديث
والنسائي وابن حبان في صحيحه عن أبي رافع رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر ذهب إلى بني عبد الأشهل فيتحدث عندهم حتى ينحدر للمغرب
قال أبو رافع فبينما النبي صلى الله عليه وسلم مسرعا إلى المغرب مررنا بالبقيع فقال أف لك أف لك فكبر ذلك في روعي فاستأخرت وظننت أنه يريدني
فقال مالك امش فقلت أحدثت حدثا قال ومالك قال أففت بي قال لا ولكن هذا فلان بعثته ساعيا إلى بني فلان فغل نمرة فدرع مثلها من النار والنمرة بكسر الميم كساء من صوف مخطط
تنبيه عد هذه الثلاثة هو صريح هذه الأحاديث الصحيحة وهو ظاهر ولم أر من ذكره وهي وإن كانت مطلقة إلا أنها محمولة على ما ذكرناه بقرائن وأحاديث أخر
الكبيرة الحادية والأربعون بعد الثلاثمائة تولية جائر أو فاسق أمرا من أمور المسلمين أخرج الحاكم أي لكن فيه من وثقه ابن معين في رواية ووهاه غيره وأحمد باختصار وفيه رجل لم يسم عن يزيد بن أبي سفيان قال قال لي أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين بعثني إلى الشام يا يزيد إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة وذلك أكثر ما أخاف عليك بعدما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ولي من أمر المسلمين شيئا فأمر عليهم أحدا محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا حتى يدخله جهنم
والحاكم وصححه أي لكن فيه واه إلا أن ابن نمير وثقه وحسن له الترمذي غير ما حديث
قال الحافظ المنذري بعد ذكره ذلك وصحح له الحاكم ولا يضر في المتابعات عن
____________________
(2/732)
ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من استعمل رجلا من عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين
تنبيه عد هذا هو صريح الحديث الأول للتصريح فيه باللعن وظاهر الحديث الثاني وهو ظاهر وإن لم أره وأشرت كما ذكرته في الترجمة إلى أنه ينبغي حمل الحديثين عليه وإلا فظاهرهما مشكل جدا ثم رأيت بعضهم صرح بعد ذلك فقال أن يولي القاضي أو الإمام من لا يصلح لقرابته أو صحبته
الكبيرة الثانية والأربعون بعد الثلاثمائة عزل الصالح وتولية من هو دونه وذكر هذا أشار إليه بعضهم ويستدل له بالحديث المذكور فأمر عليهم أحدا محاباة فعليه لعنة الله إلخ
الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والأربعون بعد الثلاثمائة جور الإمام أو الأمير أو القاضي وغشه لرعيته واحتجابه عن قضاء حوائجهم المهمة المضطرين إليها بنفسه أو نائبه أخرج الطبراني بسند رواته ثقات إلا واحدا منهم فمختلف فيه وفي الصحيح بعضه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أشد الناس عذابا يوم القيامة من قتل نبيا أو قتله نبي وإمام جائر
ورواه البزار بإسناد جيد إلا أنه قال وإمام ضلالة
والنسائي وابن حبان في صحيحه أربعة يبغضهم الله البياع الحلاف والفقير المختال والشيخ الزاني والإمام الجائر
____________________
(2/733)
ورواه مسلم بنحوه إلا أنه قال وملك كذاب وعائل مستكبر
والحاكم وصححه واعترض بأن فيه واهيا مبهما عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ألا أيها الناس لا يقبل الله صلاة جائر
والطبراني في الأوسط ثلاثة لا يقبل الله منهم شهادة أن لا إله إلا الله فذكر منهم الإمام الجائر
وابن ماجه والبزار واللفظ له السلطان ظل الله تعالى في الأرض يأوي إليه كل مظلوم من عباده فإن عدل كان له الأجر وكان على الرعية الشكر وإن جار أو حاف أو ظلم كان عليه الوزر وعلى الرعية الصبر وإذا جارت الولاة قحطت السماء وإذا منعت الزكاة هلكت المواشي وإذا ظهر الزنا ظهر الفقر والمسكنة وإذا أخفرت الذمة أديل الكفار أو كلمة نحوها
والبيهقي واللفظ له والحاكم بنحوه وقال صحيح على شرط مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كيف أنتم إذا وقع فيكم خمس وأعوذ بالله أن تكون فيكم أو تدركوهم ما ظهرت الفاحشة في قوم قط يعمل بها فيهم علانية إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم وما منع قوم الزكاة إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا وما بخس قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان ولا حكم أمراؤهم بغير ما أنزل الله تعالى إلا سلط الله عليهم عدوهم فاستنفذوا بعض ما في أيديهم وما عطلوا كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم إلا جعل الله بأسهم بينهم
وأحمد بإسناد جيد واللفظ له وأبو يعلى والطبراني عن بكير بن وهب قال قال لي أنس أحدثك حديثا ما أحدثه كل أحد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على باب البيت ونحن فيه فقال الأئمة من قريش إن لي
____________________
(2/734)
عليكم حقا وإن لهم عليكم حقا مثل ذلك ما إن استرحموا رحموا وإن عاهدوا وفوا وإن حكموا عدلوا فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين
وفي رواية صحيحة إن هذا الأمر في قريش ما إذا استرحموا رحموا وإذا حكموا عدلوا وإذا قسموا أقسطوا فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا
والطبراني عن معاوية رضي الله عنه عنه بإسناد رواته ثقات
وعن ابن مسعود رضي الله عنه بإسناد جيد قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقدس الله أمة لا يقضى فيها بالحق ويأخذ الضعيف حقه من القوي غير متعتع
والأصبهاني يا أبا هريرة عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة قيام ليلها وصيام نهارها ويا أبا هريرة جور ساعة في حكم أشد وأعظم عند الله عز وجل من معاصي ستين سنة
وفي رواية عدل يوم واحد أفضل من عبادة ستين سنة
ورواه الطبراني بإسناد حسن بلفظ يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة وحد يقام في الأرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين صباحا
والطبراني وقال حسن غريب أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلسا إمام عادل وأبغض الناس إلى الله تعالى وأبعدهم منه مجلسا إمام جائر
____________________
(2/735)
والطبراني بسند فيه ابن لهيعة وحديثه حسن في المتابعات أفضل الناس عند الله منزلة يوم القيامة إمام عادل رفيق وشر عباد الله عند الله منزلة يوم القيامة إمام جائر خرق
والترمذي وقال حسن غريب وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه ولم يبال بتضعيف بعضهم بعض رواته لأن الأكثرين على توثيقه إن الله مع القاضي ما لم يجر فإذا جار تخلى عنه ولزمه الشيطان
ورواية الحاكم فإذا جار تبرأ الله منه
وابن ماجه والبزار واللفظ له يؤتى بالقاضي يوم القيامة فيوقف للحساب على شفير جهنم فإن أمر به دفع فهوى فيها سبعين خريفا
وابن أبي الدنيا وغيره عن أبي هريرة أن بشر بن عاصم حدث عمر رضي الله عنهم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يلي أحد من أمر الناس شيئا إلا وقفه الله تعالى على جسر جهنم فيزلزل به الجسر زلزلة فناج أو غير ناج فلا يبقى منه عظم إلا فارق صاحبه فإن هو لم ينج ذهب به في جب مظلم كالقبر في جهنم يبلغ قعره سبعين خريفا وإن عمر سأل سلمان وأبا ذر هل سمعتما ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا نعم
والطبراني من ولي أمة من أمتي قلت أو كثرت فلم يعدل فيهم كبه الله تعالى على وجهه في النار
والحاكم وصححه ما من أحد يكون على شيء من أمور هذه الأمة فلا يعدل فيهم إلا كبه الله في النار
____________________
(2/736)
والطبراني بسند حسن وأبو يعلى والحاكم وصححه إن في جهنم واديا وفي الوادي بئر يقال له هبهب حقا على الله أن يسكنه كل جبار عنيد
وأحمد بسند جيد ورجاله رجال الصحيح ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولا لا يفكه إلا العدل
وفي رواية صحيحة له أيضا ما من أمير عشرة إلا يؤتى يوم القيامة مغلولا لا يفكه من ذلك الغل إلا العدل
وفي أخرى صحيحة أيضا ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولا حتى يفكه العدل أو يوثقه الجور
وفي رواية للطبراني وإن كان مسيئا زيد غلا إلى غله والطبراني بسند صحيح ما من رجل ولي عشرة إلا أتي به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه حتى يقضي بينه وبينهم
وابن حبان في صحيحه ما من والي ثلاثة إلا لقي الله مغلولة يمينه فكه عدله أو غله جوره
وابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما عرض علي أول ثلاثة يدخلون النار أمير مسلط وذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله فيه وفقير فخور
والبزار والطبراني بسند رواته ثقات إلا واحدا اختلف في توثيقه واحتج به الترمذي
وأخرج له ابن خزيمة في صحيحه إني أخاف على أمتي من أعمال ثلاثة قالوا وما هي يا رسول الله قال زلة عالم وحكم جائر وهوى متبع
ومسلم اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به
____________________
(2/737)
ورواه أبو عوانة في صحيحه وقال فيه ومن ولي منهم شيئا فشق عليهم فعليه بهلة الله قالوا يا رسول الله وما بهلة الله قال لعنة الله
والطبراني ما من أمتي أحد ولي من أمر الناس شيئا لم يحفظهم بما يحفظ به نفسه إلا لم يجد رائحة الجنة
والشيخان ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش رعيته إلا حرم الله تعالى عليه الجنة وفي رواية لهما فلم يحطها بنصحه لم يرح رائحة الجنة
ومسلم ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة
ورواه الطبراني وزاد كنصحه وجهده لنفسه والطبراني بسند رواته ثقات إلا واحدا اختلف فيه من ولي من أمر المسلمين شيئا فغشهم فهو في النار والطبراني بإسناد حسن ما من إمام ولا وال بات ليلة سوداء غاشا لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة
وفي رواية له ما من إمام يبيت غاشا لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة وعرفها يوجد يوم القيامة من مسيرة سبعين عاما
والطبراني بسند رجاله رجال الصحيح إلا واحدا اختلف فيه من ولي شيئا من أمر المسلمين لم ينظر الله في حاجته حتى ينظر في حوائجهم
وأبو داود عن عمرو بن مرة الجهني أنه قال لمعاوية رضي الله عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من ولاه الله شيئا من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة فجعل معاوية رجلا على حوائج المسلمين
____________________
(2/738)
والحاكم بنحو ذلك وصححه والترمذي بلفظ ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة إلا أغلق الله تعالى أبواب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته
وأحمد بسند جيد من ولي من أمر المسلمين شيئا فاحتجب عن أولي الضعف والحاجة احتجب الله عنه يوم القيامة
وعن أبي الشماخ الأزدي عن ابن عم له من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتى معاوية فدخل عليه فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من ولي من أمر الناس شيئا ثم أغلق بابه دون المسكين والمظلوم وذي الحاجة أغلق الله تبارك وتعالى أبواب رحمته دون حاجته وفقره أفقر ما يكون إليها
والطبراني بسند رواته ثقات إلا شيخه خيرون قال الحافظ المنذري لم أقف فيه على جرح ولا تعديل عن أبي جحيفة أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ضرب على الناس بعثا فخرجوا فرجع أبو الدحداح فقال له معاوية ألم تكن خرجت قال بلى ولكن سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا أحببت أن أضعه عندك مخافة أن لا تلقاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يا أيها الناس من ولي عليكم عملا فحجب بابه عن ذي حاجة أو قال دون حاجة المسلمين حجبه الله أن يلج باب الجنة ومن كانت همته الدنيا حرم الله عليه جواري فإني بعثت بخراب الدنيا ولم أبعث بعمارتها
تنبيه عد هذه الثلاثة هو صريح هذه الأحاديث الصحيحة وهو ظاهر وإن لم أر من ذكره وقيدت الحوائج بما قدمته في الترجمة لما هو واضح أنه المراد من الحوائج المطلقة في الأحاديث لكن أشير إلى ذلك التقييد بالتعبير في بعض الأحاديث بالمسكين والمظلوم ثم رأيت الجلال البلقيني صرح بما ذكرته في الغش فقال الكبيرة الستون غش الولاة الرعية لحديث الشيخين ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة
ورأيت غيره ذكر جور الحكام وغشهم لرعيتهم واحتجابهم عن أولي الحاجات والمسكنة
____________________
(2/739)
الكبيرة السادسة والسابعة والثامنة والتاسعة والأربعون والخمسون بعد الثلاثمائة ظلم السلاطين والأمراء والقضاة وغيرهم مسلما أو ذميا بنحو أكل مال أو ضرب أو شتم أو غير ذلك وخذلان المظلوم مع القدرة على نصرته والدخول على الظلمة مع الرضا بظلمهم وإعانتهم على الظلم والسعاية إليهم بباطل قال تعالى ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار
وقال تعالى وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون وقال تعالى ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون والركون إلى الشيء السكون والميل إليه بالمحبة ومن ثم قال ابن عباس رضي الله عنهما في الآية لا تميلوا إليهم كل الميل في المحبة ولين الكلام والمودة
وقال السدي وابن زيد لا تداهنوهم وقال عكرمة لا تطيعوهم وتودوهم وقال أبو العالية لا ترضوا بأعمالهم والظاهر أن ذلك كله مراد من الآية
وقال تعالى احشروا الذين ظلموا وأزواجهم أي أشباههم وأتباعهم
وأخرج الشيخان وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الظلم ظلمات يوم القيامة
ومسلم وغيره اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم
ومسلم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل أنه قال يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا الحديث
وابن حبان في صحيحه والحاكم إياكم والظلم فإن الظلم هو الظلمات يوم القيامة وإياكم والفحش فإن الله تعالى لا يحب الفاحش والمتفحش وإياكم والشح فإن الشح دعا من كان قبلكم فسفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم
____________________
(2/740)
والطبراني في الكبير والأوسط وله شواهد كثيرة إياكم والخيانة فإنها بئس البطانة وإياكم والظلم فإنه ظلمات يوم القيامة وإياكم والشح فإنما أهلك من كان من قبلكم الشح حتى سفكوا دماءهم وقطعوا أرحامهم
والطبراني لا تظالموا فتدعوا فلا يستجاب لكم وتستسقوا فلا تسقوا وتستنصروا فلا تنصروا
والطبراني بسند رجاله ثقات صنفان من أمتي لن تنالهما شفاعتي إمام ظلوم غشوم وكل غال مارق
وأحمد بسند حسن أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ويقول والذي نفسي بيده ما تواد اثنان فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما والشيخان وغيرهما إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد
وأبو يعلى واللفظ له بسند فيه مختلف في توثيقه وقد أخرج له ابن خزيمة وحبان في صحيحيهما أحاديث عامتها مستقيمة وأحمد والطبراني بسند حسن نحوه باختصار الشيطان قد يئس أن تعبد الأصنام في أرض العرب ولكنه سيرضى منكم بدون ذلك بالمحقرات وهي الموبقات يوم القيامة اتقوا الظلم ما استطعتم فإن العبد يجيء يوم القيامة بالحسنات يرى أنها ستنجيه فما زال عبد يقوم يقول يا رب ظلمني عبدك مظلمة فيقول امحوا من حسناته فما يزال كذلك حتى ما يبقى به حسنة من الذنوب أي من أجلها وإن مثل ذلك كسفر نزلوا بفلاة من الأرض ليس معهم حطب فتفرق القوم ليحتطبوا فلم يلبثوا أن احتطبوا فأعظموا النار وطبخوا ما أرادوا وكذلك الذنوب
____________________
(2/741)
والبخاري من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو من شيء فليتحلله منه اليوم من قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته لأخيه من عرض أو من شيء فليتحلله منه اليوم من قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه
ومسلم وغيره أتدرون من المفلس قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار
والشيخان وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ لما بعثه إلى اليمن اتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب
وأحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه وابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما ثلاثة لا ترد دعوتهم الصائم حتى يفطر والإمام العادل ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول الرب وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين
والبزار ثلاثة حق على الله أن لا يرد لهم دعوة الصائم حتى يفطر والمظلوم حتى ينتصر والمسافر حتى يرجع
والترمذي وحسنه ثلاث دعوات لا شك في إجابتهن دعوة المظلوم ودعوة المسافر ودعوة الوالد على الولد
والحاكم وقال رواته متفق على الاحتجاج بهم إلا عاصم بن كليب فاحتج به مسلم وحده اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة
____________________
(2/742)
والطبراني بسند صحيح ثلاث تستجاب دعوتهم الولد والمسافر والمظلوم
وأحمد بسند حسن دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرا ففجوره على نفسه
والطبراني بسند له شواهد كثيرة دعوتان ليس بينهما وبين الله حجاب دعوة المظلوم ودعوة المرء لأخيه بظهر الغيب
والطبراني بسند لا بأس به في المتابعات اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام يقول الله عز وجل وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين
وأحمد بسند رجاله محتج بهم إلا واحدا قال المنذري لم أقف فيه على جرح ولا تعديل دعوة المظلوم ولو كان كافرا ليس دونها حجاب
والطبراني في الصغير والأوسط يقول الله اشتد غضبي على من ظلم من لا يجد له ناصرا غيري
ومسلم المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى هاهنا التقوى هاهنا ويشير إلى صدره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله
وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه عن أبي ذر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله ما كانت صحف إبراهيم عليه السلام قال كانت أمثالا كلها أيها الملك المسلط المبتلى المغرور لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ولكني بعثتك لترد عني
____________________
(2/743)
دعوة المظلوم فإني لا أردها وإن كانت من كافر
وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبا على عقله أن يكون له ساعات ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يتفكر فيها في صنع الله وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب
وعلى العاقل أن لا يكون ظاعنا إلا لثلاث تزود لمعاد أو مرمة لمعاش أو لذة في غير محرم وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه حافظا للسانه ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه
قلت يا رسول الله فما كانت صحف موسى عليه السلام قال كانت عبرا كلها عجبت لمن أيقن بالموت كيف هو ثم يفرح عجبت لمن أيقن بالنار ثم هو يضحك عجبت لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب عجبت لمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم اطمأن إليها عجبت لمن أيقن بالحساب غدا ثم لا يعمل قلت يا رسول الله أوصني قال أوصيك بتقوى الله فإنها رأس الأمر كله
قلت يا رسول الله زدني قال عليك بتلاوة القرآن وذكر الله تعالى فإنه نور لك في الأرض وذكر لك في السماء
قلت يا رسول الله زدني قال إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب ويذهب بنور الوجه
قلت يا رسول الله زدني قال عليك بالجهاد فإنه رهبانية أمتي
قلت يا رسول الله زدني قال أحب المساكين وجالسهم
قلت يا رسول الله زدني قال انظر إلى من هو تحتك ولا تنظر إلى من هو فوقك فإنه أجدر أن لا تزدري نعمة الله عندك
قلت يا رسول الله زدني قال قل الحق وإن كان مرا
قلت يا رسول الله زدني قال لا يردك عن الناس ما تعلمه عن نفسك ولا تجد عليهم فيما تأتي وكفى بك عيبا أن تعرف من الناس ما تجهله من نفسك وتجد عليهم فيما تأتي ثم ضرب بيده على صدري وقال يا أبا ذر لا عقل كالتدبير ولا ورع كالكف ولا حسن كحسن الخلق رواه ابن حبان في صحيحه واللفظ له والحاكم وقال صحيح الإسناد
قال الحافظ المنذري عقب ذكره هذا الحديث انفرد به إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني عن أبيه وهو حديث طويل في أوله ذكر الأنبياء عليه الصلاة والسلام ذكرت منه هذه القطعة لما فيها من الحكم العظيمة والمواعظ الجسيمة ورواه الحاكم أيضا من طريقه والبيهقي كلاهما عن يحيى بن سعيد السدي البصري حدثنا عبد الملك بن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن أبي ذر بنحوه ويحيى بن سعيد فيه كلام والحديث منكر من هذا الطريق وحديث إبراهيم بن هشام هو المشهور
انتهى
____________________
(2/744)
وأبو داود ما من مسلم يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته وما من امرئ مسلم ينصر امرأ مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته
وأبو الشيخ وابن حبان أمر بعبد من عباد الله تعالى يضرب في قبره مائة جلدة فلم يزل يسأل الله ويدعو حتى صارت جلدة واحدة فامتلأ قبره عليه نارا فلما ارتفع عنه وأفاق قال علام جلدتموني قالوا إنك صليت صلاة بغير طهور ومررت على مظلوم فلم تنصره
وأبو الشيخ أيضا قال الله عز وجل وعزتي وجلالي لأنتقمن من الظالم في عاجله وآجله ولأنتقمن ممن رأى مظلوما فقدر أن ينصره ولم يفعل
والبخاري والترمذي انصر أخاك ظالما أو مظلوما فقال رجل يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما أفرأيت إن كان ظالما كيف أنصره قال تحجزه أو تمنعه عن الظلم فإن ذلك نصره
ومسلم ولينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصرة فإن كان مظلوما فلينصره
وأبو داود من حمى مؤمنا من منافق أراه قال بعث الله ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم الحديث
وأحمد بإسنادين أحدهما صحيح من بدا جفا ومن تبع الصيد غفل ومن أتى أبواب السلطان افتتن وما ازداد عبد من السلطان قربا إلا ازداد من الله بعدا
وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي من بدا جفا ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى السلطان افتتن
وأحمد واللفظ له والبزار ورواتهما محتج بهم في الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي
____________________
(2/745)
الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة أعاذك الله من إمارة السفهاء قال وما إمارة السفهاء قال أمراء يكونون بعدي لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا مني ولست منهم ولا يردون على حوضي ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم وسيردون على حوضي
يا كعب بن عجرة الصيام جنة والصدقة تطفئ الخطيئة والصلاة قربان أو قال برهان
يا كعب بن عجرة الناس غاديان فمبتاع نفسه فمعتقها أو بائع نفسه فموبقها
وابن حبان في صحيحه ستكون أمراء من دخل عليهم فأعانهم على ظلمهم وصدقهم بكذبهم فليس مني ولست منه ولن يرد على الحوض ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم فهو مني وأنا منه وسيرد على الحوض الحديث
والترمذي والنسائي من حديث كعب بن عجرة أعيذك يا كعب بن عجرة من أمراء يكونون من بعدي فمن غشي أبوابهم فصدقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولا يرد علي الحوض ومن غشي أبوابهم أو لم يغش فلم يصدقهم في كذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وسيرد علي الحوض الحديث
واللفظ للترمذي وفي رواية له أيضا عن كعب بن عجرة قال خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن تسعة وخمسة وأربعة أحد العددين من العرب والآخر من العجم فقال اسمعوا هل سمعتم أنه سيكون بعدي أمراء فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه وليس بوارد علي الحوض ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم فهو مني وأنا منه وهو وارد علي الحوض قال الترمذي حديث غريب صحيح
وأحمد بسند رواته محتج بهم في الصحيح إلا راويا لم يسم
عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في المسجد بعد صلاة العشاء فرفع بصره إلى السماء ثم خفض حتى ظننا أنه حدث في السماء أمر فقال ألا إنه ستكون بعدي أمراء يظلمون ويكذبون فمن صدقهم بكذبهم ومالأهم على ظلمهم فليس منى ولا أنا منه ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يمالئهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه الحديث
____________________
(2/746)
والطبراني وابن حبان في صحيحه واللفظ له عن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنه قال كنا قعودا على باب النبي صلى الله عليه وسلم فخرج علينا فقال اسمعوا قلنا قد سمعنا قال اسمعوا قلنا قد سمعنا قال إنه سيكون بعدي أمراء فلا تصدقوهم بكذبهم ولا تعينوهم على ظلمهم فإنه من صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم لم يرد على الحوض
وأحمد يكون أمراء تغشاهم غواش أو حواش من الناس يكذبون ويظلمون فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ومن لم يدخل عليهم ولم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه
وفي رواية لأبي يعلى وابن حبان في صحيحه فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأنا منه بريء وهو مني بريء
وابن ماجه بسند رواته ثقات إن ناسا من أمتي سيتفقهون في الدين يقرءون القرآن يقولون نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم ونعتزلهم بديننا ولا يكون ذلك كما لا يجتنى من القتاد إلا الشوك كذلك لا يجتنى من قربهم إلا
قال ابن الصباح كأنه يعني الخطايا
والطبراني بسند رواته ثقات عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأهله فذكر عليا وفاطمة وغيرهما فقلت يا رسول الله أنا من أهل البيت قال نعم ما لم تقم على باب سدة أي سلطان أو نحوه أو تأتي أميرا تسأله
وابنا ماجه وحبان في صحيحيهما أن علقمة بن وقاص مر برجل له شرف من أهل المدينة فقال له إن لك حرمة وحقا وإني رأيتك تدخل على هؤلاء الأمراء فتكلم عندهم وإني سمعت بلال بن الحارث صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما
____________________
(2/747)
بلغت فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها سخطه إلى يوم القيامة انظر ويحك ماذا تقول وما تكلم به فرب كلام قد منعنيه ما سمعت من بلال بن الحارث وروى الترمذي والحاكم المرفوع منه وصححاه ورواه الأصبهاني إلا أنه قال عن بلال بن الحارث أنه قال لبنيه إذا حضرتم عند ذي سلطان فأحسنوا المحضر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فذكره
وابن الأثير في نهايته الساعي مثلث أي مهلك بسعايته نفسه والمسعي به وإليه
تنبيه عد هذه الخمسة هو صريح هذه الآيات والأحاديث الصحيحة وهو ظاهر وإن لم أر من ذكر غير الأولى والأخيرة ثم رأيت بعضهم ذكر الرابعة وعبر عنها بقوله والدخول على الظلمة بغير قصد صحيح بل إعانة أو توقيرا أو محبة
قال الأذرعي فإطلاق كون السعاية كبيرة مشكل إذا كان ما ينشأ عنها صغيرة إلا أن يقال تصير كبيرة بما ينضم لذلك من الرعب للمسعي عليه أو خوف أهله أو ترويعهم بطلب السلطان ثم ذكر كلام الحليمي السابق في إعانة القاتل ودلالته على من يريد قتله وقال لا شك أنه لا يقتضي أن السعاية ليست كبيرة
انتهى
ومر أن كلام الحليمي هذا مردود لا معول عليه فلا نظر لما اقتضاه فالوجه بل الصواب أنها كبيرة لأنها نميمة بل هي أقبح أنواع النميمة وقد ثبت في الحديث الصحيح تسمية النميمة كبيرة ثم المراد كما ذكرته في الترجمة السعي إلى السلطان أو غيره من الولاة بالبريء فأما ما جازت فيه شهادة الحسبة فليس من ذلك بل يجب الرفع فيه إلا لعذر
وقد قال القمولي في الجواهر في النميمة قال النووي فلو دعت إلى النميمة حاجة فلا منع منها كما إذا أخبره أن إنسانا يريد الفتك به أو بأهله أو بماله أو أخبر الإمام أو من له ولاية بأن فلانا يسعى بما فيه مفسدة ويجب على المتولي الكشف عن ذلك وإزالته وكذا ما أشبه ذلك فكله لا حرمة فيه بل قد يجب تارة ويندب أخرى بحسب المواطن
وقولي في الترجمة في الأخيرة بباطل هو ما صرحوا به وقال بعض المتأخرين السعاية بما يضر المسلم كبيرة وإن كان صادقا وهو محتمل بل يجب الجزم به إذا اشتد الضرر به
واعلم أن من يعتاد الدخول على الظلمة قد يحتج بأن قصده نصرة مظلوم أو مساعدة ضعيف أو رد ظلامة أو التسبب في معروف وجوابه أنه متى تناول من مطعمهم أو شاركهم في مقاصدهم أو في شيء من أموالهم المحرمة أو داهنهم في منكر
____________________
(2/748)
فهذا لا يحتاج النظر في سوء حاله إلى دليل لأن كل ذي بصيرة يشهد أنه ضال عن سواء السبيل وأنه عبد بطنه وهواه فهو ممن أضله الله وأرداه فهو من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
ومن الذين يزعمون أنهم مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ومتى تنزه عن ذلك كله فهو محل اشتباه ولحاله ميزان يقضي بكماله تارة ونقصه أخرى فمتى رأى أنه كمكره في دخوله عليهم ويود أنه لو كفي بغيره وانتصر المظلوم بسواه ولا يتبجح بصحبتهم فلا يجري في فلتات لسانه قلت للسلطان مثلا ولا انتصر بي فلان ونحوه ولو قدم السلطان عليه أحدا وقربه واعتقده وقام بما كان قائما به لما شق عليه بل يجد له انشراحا إذ أجاره الله تعالى من هذه الفتنة العظيمة فهو صحيح القصد مأجور مثاب الثواب الجزيل ومتى لم توجد فيه جميع هذه الخصال فهو فاسد النية هالك إذ قصده طلب المنزلة والتمييز على الأقران
ولنتمم هذا المبحث بذكر أحاديث وآثار أخرى ذكرها بعضهم وعهدة أكثرها عليه كحديث إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة
وحديث من ظلم شبرا من أرض طوقه الله من سبع أرضين يوم القيامة
وفي بعض الكتب يقول الله تعالى اشتد غضبي على من ظلم من لا يجد له ناصرا غيري
وما أحسن قول بعضهم لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا فالظلم ترجع عقباه إلى الندم تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم وقول الآخر إذا ما الظلوم استوطأ الأرض مركبا ولج غلوا في قبيح اكتسابه فكله إلى صرف الزمان فإنه سيبدي له ما لم يكن في حسابه وقال بعض السلف لا تظلمن الضعفاء فتكن من شرار الأقوياء وقال أبو هريرة رضي الله عنه إن الحبارى لتموت هولا في وكرها من ظلم الظالم
وقيل مكتوب في التوراة ينادي مناد من وراء الجسر يعني الصراط يا معشر الجبابرة الطغاة ويا معشر
____________________
(2/749)
المترفين الأشقياء إن الله يحلف بعزته أن لا يجاوز هذا الجسر اليوم ظلم ظالم
وعن جابر رضي الله عنه قال لما رجعت مهاجرة الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ألا تخبروني بأعجب ما رأيتم في أرض الحبشة فقال قتيبة وكان منهم بلى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما نحن يوما جلوسا إذ مرت بنا عجوز من عجائزهم تحمل على رأسها قلة من ماء فمرت بفتى منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها فخرت المرأة على ركبتيها وانكسرت قلتها فلما قامت التفتت إليه ثم قالت سوف تعلم يا غدر إذا وضع الله الكرسي فجمع الأولين والآخرين وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون سوف تعلم ما أمري وأمرك عنده غدا قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يقدس الله قوما لا يؤخذ من شديدهم لضعيفهم
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال خمسة غضب الله عليهم إن شاء أمضى غضبه عليهم في الدنيا وإلا ثوى بهم في الآخرة إلى النار أمير قوم يأخذ حقه من رعيته ولا ينصفهم من نفسه ولا يدفع الظلم عنهم وزعيم قوم يطيعونه ولا يسوي بين القوي والضعيف ويتكلم بالهوى ورجل لا يأمر أهله وولده بطاعة الله ولا يعلمهم أمر دينهم ورجل استأجر أجيرا فاستعمله ولم يوفه أجره ورجل ظلم امرأة في صداقها
وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه قال إن الله تعالى لما خلق الخلق واستووا على أقدامهم رفعوا رءوسهم إلى الله وقالوا يا رب مع من أنت قال مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه
وعن وهب بن منبه رضي الله عنه بنى جبار من الجبابرة قصرا وشيده فجاءت عجوز فقيرة فبنت إلى جانبه شيئا تأوي إليه فركب الجبار يوما وطاف حول القصر فرأى بناءها فقال لمن هذا فقيل لامرأة فقيرة تأوي إليه فأمر بهدمه فهدم فجاءت العجوز فرأته مهدوما فقالت من هدمه فقيل لها الملك رآه فهدمه فرفعت العجوز رأسها إلى السماء وقالت يا رب أنا لم أكن حاضرة فأنت أين كنت قال فأمر الله عز وجل جبريل أن يقلب القصر على من فيه فقلبه
وقيل لما حبس بعض البرامكة وولده قال يا أبت بعد العز صرنا في القيد والحبس
فقال يا بني دعوة مظلوم سرت بليل غفلنا عنها ولم يغفل الله عز وجل عنها
وكان يزيد بن حكيم يقول ما هبت أحدا قط هيبتي رجلا ظلمته وأنا أعلم أنه لا ناصر له إلا الله يقول لي حسبي الله الله بيني وبينك
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال يجيء الظالم يوم القيامة حتى إذا
____________________
(2/750)
كان على جسر جهنم فلقيه المظلوم وعرف ما ظلمه فما يبرح الذين ظلموا بالذين ظلموا حتى ينزعوا ما بأيديهم من الحسنات فإن لم يجدوا لهم حسنات حملوا عليهم من سيئاتهم مثل ما ظلموهم حتى يردوا الدرك الأسفل من النار
وعن عبد الله بن أنيس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يحشر العباد يوم القيامة حفاة عراة غرلا بهما فيناديهم مناد بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة حتى اللطمة فما فوقها ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وعنده مظلمة حتى اللطمة فما فوقها ولا يظلم ربك أحدا قلنا يا رسول الله كيف وإنما نأتي حفاة عراة غرلا بهما قال بالحسنات والسيئات جزاء وفاقا ولا يظلم ربك أحدا وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال من ضرب سوطا ظلما اقتص منه يوم القيامة
ومما ذكر أن كسرى اتخذ مؤدبا لولده يعلمه ويؤدبه فلما بلغ الولد الغاية في الفضل والأدب استحضره المؤدب يوما وضربه ضربا وجيعا من غير جرم ولا سبب فحقد الولد على المعلم إلى أن كبر ومات أبوه فتولى الملك بعده فاستحضر المعلم وقال له ما حملك على أن ضربتني في يوم كذا ضربا وجيعا من غير جرم ولا سبب فقال له المعلم اعلم أيها الملك أنك لما بلغت الغاية في الفضل والأدب علمت أنك تنال الملك بعد أبيك فأردت أن أذيقك طعم الضرب وألم الظلم حتى لا تظلم أحدا بعد فقال له جزاك الله خيرا ثم أمر له بجائزة وصرفه
ومن الظلم كما علم مما قدمته في الترجمة المكس وأكل مال اليتيم ومر الكلام عليهما مستوفى والمماطلة بحق عليه مع قدرته على وفائه لخبر الصحيحين مطل الغني ظلم
وفي رواية لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته أي شكايته وتعزيره بالحبس والضرب كما مر أيضا
ومنه تظلم المرأة في نحو صداق أو نفقة أو كسوة وهو داخل في لي الواجد
____________________
(2/751)
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة فينادى به على رءوس الخلائق هذا فلان بن فلان من كان له عليه حق فليأت إلى حقه قال فتفرح المرأة أن يكون لها حق على ابنها أو أخيها أو زوجها ثم قرأ فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون قال فيغفر الله من حقه ما شاء ولا يغفر من حقوق الناس شيئا فينصب العبد للناس ثم يقول الله عز وجل لأصحاب الحقوق ائتوا إلى حقوقكم قال فيقول العبد يا رب فنيت الدنيا فمن أين أوتيهم حقوقهم فيقول الله لملائكته خذوا من أعماله الصالحة فأعطوا كل ذي حق حقه بقدر طلبته فإن كان عبدا وليا لله وفضل له مثقال ذرة ضاعفها الله تعالى له حتى يدخله الجنة بها وإن كان عبدا شقيا ولم يفضل له شيء فتقول الملائكة ربنا فنيت حسناته وبقي طالبون فيقول الله عز وجل خذوا من سيئاتهم فأضيفوا إلى سيئاته ثم صكوا به صكا إلى النار
انتهى
ويؤيد ذلك الخبر السابق أتدرون من المفلس فذكر صلى الله عليه وسلم أن المفلس من أمته من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ويأتي وقد شتم هذا وضرب هذا وأخذ مال هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار
ومن الظلم أيضا عدم إيفاء الأجير حقه كما مر بدليله وهو قوله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطي بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه العمل ولم يعطه أجره
ومنه أن يظلم يهوديا أو نصرانيا بنحو أخذ ماله تعديا لقوله صلى الله عليه وسلم من ظلم ذميا فأنا خصمه يوم القيامة وأن يقتطع حق غيره بيمين فاجرة لخبر الصحيحين من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة قيل يا رسول الله وإن كان شيئا يسيرا قال وإن كان قضيبا من أراك
وروي إنه لا أكره إلى العبد يوم القيامة من أن يرى من يعرفه خشية أن يطالبه بمظلمة ظلمه بها في الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلل منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان
____________________
(2/752)
له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه ثم طرح في النار
وروى عبد الله بن أبي الدنيا بسنده إلى أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أول من يختصم يوم القيامة الرجل وامرأته والله ما يتكلم لسانها ولكن يداها ورجلاها يشهدان عليها بما كانت تعنت لزوجها في الدنيا ويشهد على الرجل يداه ورجلاه بما كان يولي زوجته من خير أو شر ثم يدعى بالرجل وخدمه مثل ذلك فما يؤخذ منهم دوانيق ولا قراريط ولكن حسنات الظالم تدفع إلى المظلوم وسيئات المظلوم تحمل على الظالم ثم يؤتى بالجبارين بمقاطع من حديد فيقال سوقوهم إلى النار
وكان شريح القاضي يقول سيعلم الظالمون حق من انتقصوا إن الظالم لينتظر العقاب والمظلوم ينتظر النصر والثواب
وروي إذا أراد الله بعبد خيرا سلط عليه من ظلمه دخل طاوس اليماني على هشام بن عبد الملك فقال له اتق يوم الأذان قال هشام
وما يوم الأذان قال وقوله تعالى فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين فصعق هشام فقال طاوس هذا ذل الصفة فكيف المعاينة ومر أن النبي صلى الله عليه وسلم تبرأ ممن أعان الظالم
وفي حديث من أعان ظالما سلط عليه
وقال سعيد بن المسيب لا تملئوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم لئلا تحبط أعمالكم الصالحة
وقال مكحول الدمشقي ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأعوانهم فما يبقى أحد حبر لهم دواة أو برى لهم قلما فما فوق ذلك إلا حضر معهم فيجمعون في تابوت من نار فيلقون في جهنم
وجاء خياط إلى سفيان الثوري رحمه الله تعالى فقال إني أخيط ثياب السلطان أفتراني من أعوان الظلمة فقال له سفيان بل أنت من الظلمة أنفسهم ولكن أعوان الظلمة من يبيع منك الإبرة والخيوط
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أول من يدخل النار يوم القيامة السواطون الذين يكون معهم الأسواط يضربون بها الناس بين يدي الظلمة
وعن ابن عمر رضي الله
____________________
(2/753)
عنهما قال الجلاوزة أي أعوان الظلمة والشرط أي بضم المعجمة وفتح الراء ولاة الشرطة وهم أعوان الولاة والظلمة الواحد منهم شرطي بضم ففتح كلاب النار يوم القيامة
وروي إن الله تعالى أوحى إلى موسى صلى على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين أفضل الصلاة والسلام أن مر ظلمة بني إسرائيل أن يقلوا من ذكري فإني أذكر من ذكرني وإن ذكري إياهم أن ألعنهم
وفي رواية فإني أذكر من ذكرني منهم باللعنة
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يقفن أحدكم في موقف يضرب فيه رجل ظلما فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه
وجاء كما مر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أمر بعبد من عباد الله يضرب في قبره مائة جلدة فلم يزل يسأله ويدعو حتى صارت جلدة واحدة فامتلأ قبره عليه نارا فلما ارتفع عنه وأفاق قال علام جلدتموني قيل إنك صليت بغير طهور ومررت على مظلوم فلم تنصره فهذا حال من لم ينصر المظلوم مع قدرته على نصره فكيف حال الظالم
قال بعضهم رأيت في المنام رجلا ممن كان يخدم الظلمة والمكاسين بعد موته وهو في حالة قبيحة فقلت له ما حالك فقال شر حال فقلت له إلى أين صرت فقال إلى عذاب الله قلت فما حال الظلمة عند ربهم قال شر حال أما سمعت قول الله عز وجل وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون
وقال بعضهم رأيت رجلا مقطوع اليد من الكتف وهو ينادي من رآني فلا يظلمن أحدا فتقدمت إليه وقلت له يا أخي ما قصتك فقال يا أخي قصتي عجيبة وذلك أني كنت من أعوان الظلمة فرأيت يوما صيادا قد اصطاد سمكة كبيرة فأعجبتني فجئت إليه فقلت أعطني هذه السمكة فقال لا أعطيكها أنا آخذ بثمنها قوتا لعيالي فضربته وأخذتها منه قهرا ومضيت بها قال فبينما أنا ماش بها حاملها إذ عضت على إبهامي عضة قوية فلما جئت بها إلى بيتي وألقيتها من يدي ضربت علي إبهامي وآلمتني ألما شديدا حتى لم أنم من شدة الوجع وورمت يدي فلما أصبحت أتيت الطبيب وشكوت إليه الألم فقال هذه بدو أكلة اقطعها وإلا تلفت يدك كلها فقطعت إبهامي ثم ضربت يدي فلم أطق النوم ولا القرار من شدة الألم فقيل لي اقطع كفك فقطعتها وانتشر الألم إلى الساعد وآلمني ألما شديدا ولم أطق النوم ولا القرار وجعلت أستغيث من شدة الألم فقيل لي اقطعها من المرفق فانتشر الألم إلى العضد وضربت علي عضدي أشد من
____________________
(2/754)
الألم فقيل لي اقطع يدك من كتفك وإلا سرى إلى جسدك كله فقطعتها فقال لي بعض الناس ما سبب ألمك فذكرت له قصة السمكة فقال لي لو كنت رجعت من أول ما أصابك الألم إلى صاحب السمكة فاستحللت منه واسترضيته ولا قطعت يدك فاذهب الآن إليه واطلب رضاه قبل أن يصل الألم إلى بدنك
قال فلم أزل أطلبه في البلد حتى وجدته فوقعت على رجليه أقبلهما وأبكي وقلت يا سيدي سألتك بالله إلا ما عفوت عني فقال لي ومن أنت فقلت أنا الذي أخذت منك السمكة غصبا وذكرت له ما جرى وأريته يدي فبكى حين رآها ثم قال يا أخي قد حاللتك منها لما قد رأيت بك من هذا البلاء فقلت له بالله يا سيدي هل كنت دعوت علي لما أخذتها منك قال نعم
قلت اللهم هذا تقوى علي بقوته على ضعفي وأخذ مني ما رزقتني ظلما فأرني فيه قدرتك فقلت له يا سيدي قد أراك الله قدرته في وأنا تائب إلى الله عز وجل عما كنت عليه من خدمة الظلمة ولا عدت أقف لهم على باب ولا أكون من أعوانهم ما دمت حيا إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق
الكبيرة الحادية والخمسون بعد الثلاثمائة إيواء المحدثين أي منعهم ممن يريد استيفاء الحق منهم والمراد بهم من يتعاطى مفسدة يلزمه بسببها أمر شرعي وعد هذا هو ما صرح به الجلال البلقيني وهو صريح خبر مسلم وغيره عن علي كرم الله وجهه قال حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات قلت ما هن يا أمير المؤمنين قال لعن الله من ذبح لغير الله لعن الله من لعن والديه لعن الله من آوى محدثا لعن الله من غير منار الأرض
____________________
(2/755)
____________________
(2/756)
@ 757 كتاب الردة الكبيرة الثانية والثالثة والخمسون بعد الثلاثمائة قول إنسان لمسلم يا كافر أو يا عدو الله حيث لم يكفره به بأن لم يرد به تسمية الإسلام كفرا وإنما أراد مجرد السب أخرج الشيخان في جملة حديث ومن دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه أي رجع عليه ما قاله
وفي رواية لهما من رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله
تنبيه هذا وعيد شديد وهو رجوع الكفر عليه أو عداوة الله له وكونه كإثم القتل فلذلك كانت إحدى هاتين اللفظتين إما كفرا بأن يسمى المسلم كافرا أو عدو الله من جهة وصفه بالإسلام فيكون قد سمى الإسلام كفرا ومقتضيا لعداوة الله وهذا كفر وإما كبيرة بأن لا يقصد ذلك فرجوع ذلك إليه حينئذ كناية عن شدة العذاب والإثم عليه وهذا من أمارات الكبيرة فلذا اتضح عد هذين من الكبائر وإن لم أر من ذكره ثم رأيت بعضهم عد من الكبائر رمي المسلم بالكفر ولو قال لمسلم سلبه الله الإيمان أو نحوه كفر على ما رجحه بعض المتأخرين ومر أول الكتاب خلافه
____________________
(2/757)
____________________
(2/758)
@ 759 كتاب الحدود الكبيرة الرابعة والخمسون بعد الثلاثمائة الشفاعة في حد من حدود الله تعالى أخرج أبو داود واللفظ له والطبراني بسند جيد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى فقد ضاد الله عز وجل ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع ومن قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال
زاد الطبراني وليس بخارج
ورواه الحاكم مختصرا ومطولا وقال وفي كل منهما صحيح الإسناد ولفظ المختصر من أعان على خصومة بغير حق كان في سخط الله حتى ينزع
وفي رواية لأبي داود من أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب الله الردغة بفتح الراء وسكون المهملة وفتحها وبالمعجمة الوحل والخبال بفتح المعجمة وبالموحدة عصارة أهل النار وعرقهم كما جاء مفسرا في صحيح مسلم وغيره
والطبراني أيما رجل حالت شفاعته دون حد من حدود الله لم يزل في غضب الله حتى ينزع وأيما رجل شد غضبا على مسلم في خصومة لا علم له بها فقد عاند الله حقه وحرص على سخطه وعليه لعنة الله تتابع إلى يوم القيامة وأيما رجل أشاع على رجل مسلم بكلمة وهو منها بريء يشينه بها في الدنيا كان حقا على الله أن يذيبه يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاذ ما قال
والطبراني من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى فقد ضاد الله في ملكه ومن أعان على خصومة لا يعلم أفي حق أو باطل فهو في سخط الله حتى ينزع
____________________
(2/759)
ومن مشى مع قوم يرى أنه شاهد وليس بشاهد فهو كشاهد زور ومن تحلم كاذبا كلف أن يعقد بين طرفي شعيرة وسباب المسلم فسوق وقتاله كفر
تنبيه عد هذا هو صريح الحديث الأول وما بعده وهو ظاهر وإن لم أر من ذكره لأن في ترك إقامة حد من حدود الله تعالى مفسدة عظيمة جدا ومن ثم مر في الحديث الحسن وحد يقام في الأرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين صباحا
ومر في التي قبل هذه عن الجلال ما يؤيد ما ذكرته هنا ثم رأيت بعضهم صرح بما ذكرته
الكبيرة الخامسة والخمسون بعد الثلاثمائة هتك المسلم وتتبع عوراته حتى يفضحه ويذله بها بين الناس أخرج ابن ماجه بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته
والترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع فقال يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يوشك أن يفضحه ولو في جوف رحله
ونظر ابن عمر يوما إلى الكعبة فقال ما أعظمك وما أعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك
ورواه ابن حبان في صحيحه إلا أنه قال فيه يا معشر من أسلم بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تطلبوا عثراتهم الحديث
وأبو داود وأبو يعلى بإسناد حسن يا معشر من أسلم بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإن من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه في بيته
____________________
(2/760)
وأبو داود وابن حبان في صحيحه عن معاوية رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم
وأبو داود إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم
ومسلم وأبو داود واللفظ له والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجه من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه
وأبو داود واللفظ له والترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة
ومسلم لا يستر عبد عبدا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة
والطبراني في الأوسط والصغير لا يرى مؤمن من أخيه عورة فيسترها عليه إلا أدخله الله بها الجنة
وأبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه واللفظ له والحاكم وقال صحيح الإسناد أن كاتب عقبة بن عامر قال قلت لعقبة رضي الله عنه إن لنا جيرانا يشربون الخمر وأنا داع الشرط أي جمع شرطي بضم ففتح فيهما وهم أعوان الولاة والظلمة ليأخذوهم فقال عقبة لا تفعل وعظهم وهددهم قال إني نهيتهم فلم ينتهوا وأنا داع الشرط ليأخذوهم قال عقبة ويحك لا تفعل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من ستر عورة فكأنما أحيا موءودة في قبرها
____________________
(2/761)
وأبو داود والنسائي عن يزيد بن نعيم عن أبيه أن ماعزا رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر عنده أربع مرات فأمر برجمه وقال لهزال لو سترته بثوبك لكان خيرا لك ونعيم الراوي هو ابن هزال قيل لا صحبة له وإنما هي لأبيه وسبب قوله صلى الله عليه وسلم لهزال ذلك ما رواه أبو داود وغيره أن هزالا أمر ماعزا أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم
وروي في موضع آخر عن يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه قال كان ماعز بن مالك يتيما في حجر أبي فأصاب جارية من الحي فقال له أبي ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنعت لعله يستغفر لك
وذكر الحديث في قصة رجمه واسم التي زنى بها ماعز فاطمة وقيل غير ذلك وكانت أمة لهزال
والطبراني بسند رجاله رجال الصحيح من علم من أخيه سيئة فسترها ستر الله عليه يوم القيامة
والطبراني من ستر على مسلم عورة فكأنما أحيا موءودة
تنبيه عد هذا هو ظاهر الحديث الأول وما بعده لأن كشف العورة والافتضاح فيهما من الوعيد ما لا يخفى وهو محمول على ما قررته في الترجمة حتى لا ينافي ذلك كلام أصحابنا فإنهم قالوا يستحب للزاني وكل من ارتكب معصية الحق فيها لله تعالى أن يستر على نفسه بأن لا يظهرها ليحد أو ليعزر
لخبر الحاكم والبيهقي بإسناد جيد من أتى شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله تعالى فإن من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه الحد بخلاف من قتل أو قذف فإنه يلزمه أن يقر به ليستوفي منه لما في حقوق الآدمي من التضييق وبخلاف التحدث بالمعصية تفكها أو مجاهرة فإنه حرام قطعا للأخبار الصحيحة فيه وكذا يسن للشاهد الستر بأن يترك الشهادة بها إن رآه مصلحة فإن رأى المصلحة في الشهادة بها شهد فإن لم ير مصلحة في شيء فالأقرب أنه لا يشهد وعلى هذا التفصيل حمل إطلاقهم في موضع آخر عدم ندب ترك الشهادة ثم حمل ندب تركها إذا لم يتعلق بتركها إيجاب حد على الغير فإن تعلق به ذلك كأن شهد ثلاثة بالزنا فيأثم الرابع بالتوقف ويلزمه الأداء
وأما قول إمام الحرمين ما اتفق عليه الأصحاب من أن من ارتكب ما يوجب الحد يلزمه أن يقر به حتى يجد فيه احتمالا بناء على القول
____________________
(2/762)
الضعيف إن الحد لا يسقط بالتوبة ورده النووي بأن الصواب أنه لا يلزمه ذلك وإنما لا يسقط الحد بالتوبة على ذلك القول الضعيف في الظاهر وأما في الباطن فالتوبة تسقط المعصية
ا ه الكبيرة السادسة والخمسون بعد الثلاثمائة إظهار زي الصالحين في الملأ وانتهاك المحارم ولو صغائر في الخلوة أخرج ابن ماجه بسند رواته ثقات عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بأعمال أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباء منثورا
قال ثوبان صفهم لنا يا رسول الله أو جلهم لنا لئلا نكون منهم ونحن لا نعلم قال أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها
والبزار والبيهقي واللفظ له الطابع معلق بقائمة عرش الله عز وجل فإذا انتهكت الحرمة وعمل بالمعاصي واجترئ على الله سبحانه وتعالى بعث الله الطابع فيطبع على قلبه فلا يعقل بعد ذلك شيئا
والترمذي وحسنه إن الله ضرب مثلا صراطا مستقيما على كتفي الصراط أي جانبيه داران لهما أبواب مفتحة على الأبواب ستور وداع يدعو فوقه والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم والأبواب التي على كتفي الصراط حدود الله فلا يقع أحد في حدود الله حتى يكشف الستر والذي يدعو من فوقه واعظ ربه عز وجل
ورزين ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعن جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعند رأس الصراط داع يقول استقيموا على الصراط ولا تعوجوا وفوق ذلك داع يدعو كلما هم عبد أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه
ثم فسره فأخبر أن الصراط هو الإسلام وأن الأبواب المفتحة محارم الله جل وعلا وأن الستور المرخاة حدود الله والداعي على رأس الصراط هو القرآن والداعي من فوقه هو واعظ الله في قلب كل مؤمن
____________________
(2/763)
ورواه أحمد والبزار مختصرا بغير هذا اللفظ بإسناد حسن والترمذي وأعله
وابن ماجه والبيهقي وغيرهما من يأخذ مني هذه الكلمات فيعمل بهن أو يعلم من يعمل بهن فقال أبو هريرة قلت أنا يا رسول الله فأخذ بيدي وعد خمسا قال اتق المحارم تكن أعبد الناس وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب
والبزار أنا آخذ بحجزكم أقول إياكم وجهنم إياكم والحدود إياكم وجهنم إياكم والحدود ثلاث مرات فإذا أنا مت تركتكم وأنا فرطكم على الحوض فمن ورد أفلح الحديث
والشيخان إن الله يغار وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه
تنبيه عد هذا هو ظاهر الحديث الأول وليس ببعيد وإن لم أر من ذكره لأن من كان دأبه إظهار الحسن وإسرار القبيح يعظم ضرره وإغواؤه للمسلمين لانحلال ربقة التقوى والخوف من عنقه
الكبيرة السابعة والخمسون بعد الثلاثمائة المداهنة في إقامة حد من الحدود أخرج النسائي مرفوعا وموقوفا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحد يقام في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا ثلاثين صباحا وفي رواية إقامة حد في الأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة
وابن ماجه حد يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحا
____________________
(2/764)
وأحمد وابن حبان في صحيحه إقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين صباحا
وابن ماجه إقامة حد من حدود الله خير من مطر أربعين ليلة في بلاد الله
والطبراني بسند حسن يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة وحد يقام في الأرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين عاما
وابن ماجه بسند رواته ثقات أقيموا حدود الله في القريب والبعيد ولا تأخذكم في الله لومة لائم
والشيخان والأربعة إن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت فقالوا من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله تعالى ثم قام فخطب فقال إنما أهلك الذين كانوا من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها
والبخاري وغيره مثل القائم في حدود الله والراتع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذي في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا وسلموا جميعا
تنبيه عد هذا هو ظاهر الحديث الأخير وما قبله وهو ظاهر وإن لم أر من ذكره وإذا سبق في الشفاعة في الحد ما مر فكيف بالحاكم إذا تركه مداهنة أو تساهلا
____________________
(2/765)
الكبيرة الثامنة والخمسون بعد الثلاثمائة الزنا أعاذنا الله منه ومن غيره بمنه وكرمه قال تعالى ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا
وقال تعالى واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما
وقال تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا وصف تعالى النكاح الذي هو زنا في الآية الأخيرة بأوصاف ثلاثة والزنا في الآية الأولى بوصفين فقط لأن الثاني أفحش وأقبح لأن زوجة الأب تشبه الأم فكانت مباشرتها من أفحش الفواحش لأن نكاح الأمهات من أقبح الأشياء حتى عند الجاهلية الجهلاء
فالفاحشة أقبح المعاصي والمقت بغض مقرون باستحقار فهو أخص من الفاحشة وهو من الله عز وجل في حق العبد يدل على غاية الخزي والخسار وإنما قيل فيه ذلك مع قوله تعالى وساء سبيلا لأن ذلك قبل النهي عنه كان منكرا في قلوبهم ممقوتا عندهم وكانوا يقولون لولد الرجل من امرأة أبيه مقيت وكان في العرب قبائل اعتادت أن يخلف الرجل على امرأة أبيه وكانت هذه السيرة في الأنصار لازمة وفي قريش مباحة مع التراضي
واعلم أن مراتب القبح ثلاثة عقلي وشرعي وعادي فاحشة إشارة للأول ومقتا إشارة للثاني وساء سبيلا إشارة للثالث ومن اجتمعت فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية في القبح
والاستثناء في إلا ما قد سلف قيل منقطع إذ الماضي لا يجامع الاستقبال أي لكن ما سلف فلا إثم فيه وقيل المراد بالنكاح العقد الصحيح وبالاستثناء ما كان بعضهم يتعاطاه من الزنا فالمعنى ولا تعقدوا على من عقد عليه آباؤكم في الجاهلية إلا ما قد سلف من زناهم فإنه لا يحرم عليكم من زنوا بهن
وقيل متصل بحمل النكاح على الوطء أي لا تطئوا ما وطئ آباؤكم وطئا مباحا بالترويج إلا من كان وطؤها فيما مضى وطء زنا في الجاهلية
وقيل ما مصدرية والمعنى ولا تنكحوا مثل نكاح آبائكم في الجاهلية إلا ما قد تقدم منكم من تلك العقود الفاسدة فمباح لكم الإقامة عليها في الإسلام إذا كانت مما يقر عليه في الإسلام
وحاصل كلام الزمخشري أنه متصل وأن المعنى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم إلا اللاتي مضين وفنين وكون هذا محالا لا يمنع صحة الاستثناء ولا يخرجه عن الاتصال
____________________
(2/766)
وقيل إلا بمعنى بعد نحو إلا الموتة الأولى وقيل إلا ما قد سلف قبل نزول آية التحريم فإنه مقرر عليه لأنه صلى الله عليه وسلم أقرهم عليهن مدة ثم أمرهم بمفارقتهن ليكون إخراجهم عن العادة الرديئة على سبيل التدريج
ورد بأنه لم يقر أحدا على نكاح امرأة أبيه مطلقا بل قال البراء بن عازب مر بي خالي أبو بردة بن نيار ومعه لواء قلت أين تذهب قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج بامرأة أبيه من بعده آتيه برأسه وآخذ ماله وفي الرد بذلك نظر لأنه يحتمل أن ذلك كان بعد الأمر بمفارقتهن فلا دليل فيه على نفي ذلك المدعى
وأحسن ما يرد به على قائل ذلك أنه يطالب بإثبات ما قاله من أنه صلى الله عليه وسلم أقرهم مدة ثم أمرهم بمفارقتهن
و كان في إنه كان لا تدل هنا على الماضي فقط لأنها بمعنى لم يزل في علمه وحكمه موصوفا بهذا الوصف قيل وهذا المعنى هو الذي ألجأ المبرد إلى ادعاء زيادتها فمراده بزيادتها ما تقرر من أنها تدل على الماضي فقط وإلا فشرط الزائدة من عدم ذكر الخبر غير موجود هنا
ووجه انتظام الآية الثانية بما قبلها أنه تعالى لما أمر في الآيات المتقدمة بالإحسان إلى النساء أمر في هذه الآية بالتغليظ عليهن فيما يأتينه من الفاحشة فإن ذلك إحسان إليهن في الحقيقة وأيضا فهو تعالى كما يستوفي لخلقه يستوفي عليهن إذ ليس في أحكامه تعالى محاباة وأيضا فلئلا يجعل أمر الله بالإحسان إليهن سببا لترك إقامة الحدود عليهن فيكون ذلك سببا لوقوعهن في أنواع المفاسد
وأجمعوا على أن المراد بالفاحشة هنا الزنا كذا قيل وينافيه ما يأتي عن أبي مسلم إلا أن يقال لا يعتد بخلافه وأطلقت عليه لزيادته في القبح على كثير من القبائح
لا يقال الكفر أقبح منه وكذا القتل ولا يسمى أحدهما فاحشة
لأنا نقول ممنوع عدم تسمية كل منها فاحشة وإنما الصواب أن يقال ولم ترد تسميتهما بذلك
وجوابه حينئذ أن الكفر لا يستقبحه الكافر من نفسه ولا يعتقده قبيحا بل صوابا وكذلك القتل ويفتخر به القاتل ويعده شجاعة وأما الزنا فكل فاعل له يعتقده فحشا وقبيحا وعارا إلى الغاية
وأيضا فالقوى المدبرة لقوى الإنسان ثلاثة ناطقة وغضبية وشهوانية ففساد الأولى بالكفر والبدع ونحوها والثانية بالقتل ونحوه وأخس هذه القوى الثلاثة الشهوانية فلا جرم كان فسادها أخس أنواع الفساد فلهذا السبب خص هذا الفعل باسم الفاحشة
ومنكم أي المسلمين وإنما جعل تعالى الشهادة على الزنا أربعة دون غيره تغليظا على المدعي وسترا على العباد وهذا الحكم ثابت في التوراة والإنجيل أيضا كذلك
أخرج أبو داود وغيره عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم ائتوني بأعلم رجل منكم فأتوه باثنين
____________________
(2/767)
فنشدهما كيف تجدان أمر هذين في التوراة قالا نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما قال فما يمنعكم أن ترجموهما قال ذهب سلطاننا فكرهنا القتل فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة فأمر صلى الله عليه وسلم برجمهما
وقال قوم إنما كان الشهود في الزنا أربعة ليكون على كل واحد من الزانيين شاهدان كسائر الحقوق إذ هو حق يؤخذ من كل منهما
ورد بأن اليمين لا مدخل لها هنا فليس هو كسائر الحقوق
قال جمهور المفسرين والمراد من هذه الآية أن المرأة إذا نسبت إلى الزنا
فإن شهد عليها أربعة رجال أحرار عدول أنها زنت أمسكت في بيت محبوسة إلى أن تموت أو يجعل الله لها سبيلا
وقال أبو مسلم المراد من الفاحشة هنا السحاق وحد فاعلته الحبس إلى الموت
ومن قوله تعالى واللذان يأتيانها منكم أهل اللواط وحدهما الأذى بالقول والفعل
والمراد بآية النور الزنا بين الرجل والمرأة وحده في البكر الجلد وفي المحصن الرجم
واحتج لذلك بأن اللاتي للنساء واللذان للمذكرين
ولا يقال غلب المذكر لأن إفراد النساء من قبل يرد ذلك وبأنه حينئذ لا نسخ في شيء من الآيات وعلى خلافه يلزم النسخ في هاتين الآيتين والنسخ خلاف الأصل وبأنه يلزم على خلافه أيضا تكرير الشيء الواحد في المحل الواحد مرتين وأنه قبيح وبأن القائلين بأن هذه في الزنا فسروا السبيل بالجلد والتغريب والرجم وهذه الأشياء عليهن لا لهن
وأما نحن فنفسر بتسهيل الله لها قضاء الشهوة بطريق النكاح
قال ويدل لما ذكرناه قوله صلى الله عليه وسلم إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان وردوا عليه بأن ما قاله لم يقل به أحد من متقدمي المفسرين وبأنه جاء في حديث تفسير السبيل برجم الثيب وجلد البكر فيدل على أن الآية في حق الزنا
وبأن الصحابة اختلفوا في حكم اللواط ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية فعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص يدل على أن هذا الحكم من أقوى الدلائل على أن هذه الآية ليست في اللواط
وأجاب أبو مسلم بأن مجاهدا قال بذلك وهو من أكابر متقدمي المفسرين وبأنه ثبت في أصول الفقه أن استنباط تأويل جديد في الآية لم يذكره المفسرون جائز وبأن ما ذكروه يفضي إلى نسخ القرآن بخبر الواحد وهو ممنوع وبأن مطلوب
____________________
(2/768)
الصحابة أنه هل يقام الحد على اللوطي وليس في الآية ذلك فلم يرجعوا إليها
ويرد بأن الذي يأتي عن مجاهد خلاف ذلك وبأنه لا محذور في نسخ القرآن بخبر الواحد لأن النسخ إنما هو في الدلالة وهي ظنية فيهما على أنه سيأتي أن التحقيق أنه لا نسخ في ذلك وزعمه أن تفسير السبيل بالجلد أو الرجم عليها لا لها مردود فإنه صلى الله عليه وسلم فسر السبيل بذلك كما مر فقال خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام
وبعد أن فسر صلى الله عليه وسلم السبيل بذلك يجب قبوله على أن وجهه ظاهر لغة أيضا لأن المخلص من الشيء سبيل له سواء كان أخف أم أثقل
والمراد بنسائكم فيها الزوجات وقيل الثيبات
وحكمة إيجاب الحبس أولا أن المرأة إنما تقع في الزنا عند الخروج والبروز
فإذا حبست في البيت
لم تقدر على الزنا
قال عبادة بن الصامت والحسن ومجاهد كان هذا في ابتداء الإسلام حتى نسخ بالأذى الذي بعده ثم نسخ ذلك بالرجم في الثيب
وقيل كان الإيذاء أولا ثم نسخ بالإمساك ولكن التلاوة أخرت
قال ابن فورك وهذا الإمساك والحبس في البيوت كان في صدر الإسلام قبل أن يكثر الخنا فلما كثروا وخشي قوتهم اتخذ لهم سجن
ومعنى يتوفاهن الموت يأخذهن أو يتوفاهن ملائكته لقوله تعالى الذين تتوفاهم الملائكة طيبين وأو في أو يجعل إما عاطفة فالجعل غاية لإمساكهن أيضا أو بمعنى إلا فليس غاية
وعن علي كرم الله وجهه أنه جلد سراحة الهمدانية يوم الخميس مائة ثم رجمها يوم الجمعة وقال جلدتها بكتاب الله ورجمتهما بسنة رسول الله
وعامة العلماء على أن الجلد يدخل في الرجم لأنه صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية ولم يجلدهما
وقال لأنيس امض إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ولم يأمره بالجلد
وعند أبي حنيفة رضي الله عنه أن التغريب منسوخ في حق البكر وأكثر العلماء على ثبوته لأنه صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب وكذا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما
واختلفوا في الحبس في البيت فقيل كان توعدا بالحد لا حدا
وقال ابن عباس والحسن إنه حد زاد ابن زيد وأنهن منعن من النكاح حتى يمتن عقوبة لهن حين طلبن النكاح من غير وجهه وهو يدل على أنه كان حدا بل أشد غير أنه حد إلى غاية هي الأذى في الآية الأخرى على اختلاف التأويلين السابقين وكلاهما ممدود إلى غاية هي الجلد أو الرجم كما بينه صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث السابق خذوا عني إلخ
وحينئذ فلا نسخ في الآية عند المحققين
____________________
(2/769)
من المتأخرين لأنها على حد ثم أتموا الصيام إلى الليل فيه يرتفع حكم الصيام لانتهاء غايته لا نسخه
وأيضا فشرط النسخ تعذر الجمع وهنا الجمع ممكن بين الحبس والتغريب والجلد أو الرجم كما تقرر فإطلاق المتقدمين النسخ هنا تجوز
وقال بعضهم الأذى والتغريب باقيان مع الجلد لأنهما لا يتعارضان بل يحملان على شخص واحد
وأما الحبس فمنسوخ بالإجماع أي على ما فيه كما عرف مما تقرر
واختلفوا في وجه تكرير اللذان إلخ
فقال مجاهد الأولى في النساء وهذه في الرجال وخص الإيذاء بهم لأن المرأة إنما تقع في الزنا عند الخروج غالبا فبحبسها تنقطع مادة ذلك والرجل يتعذر حبسه لاضطراره إلى الخروج لإصلاح معاشه
وقيل كان الإيذاء مشتركا بينهما والحبس مختصا بالمرأة
وقال السدي هذه في البكر منهما والأولى في الثيب
قال عطاء وقتادة فآذوهما عيروهما باللسان أما خفت الله ونحوه وقال مجاهد سبوهما واشتموهما وقيل قولوا لهما فجرتما وفسقتما
وقال ابن عباس آذوهما بالتعيير واضربوهما بالنعال
وقال تعالى والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب سبب نزولها أن ناسا من المشركين أكثروا من القتل والزنا فقالوا يا محمد ما تدعو إليه حسن لو تخبرنا أن لما عملناه كفارة فنزلت ونزل قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا
وجاء أن رجلا قال يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قال إن ذلك لعظيم قال ثم أي قال أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قال ثم أي قال أن تزاني حليلة جارك فأنزل الله تعالى تصديق ذلك هذه الآية
وسيأتي في الأحاديث ما يؤيد ذلك ويوافقه
وذلك إشارة إلى جميع ما قبله لأنه بمعنى ما ذكر فلذلك حد
والأثام العقوبة وقيل الإثم نفسه أي ملاق جزاء إثم وقال الحسن هو اسم من أسماء جهنم
وقال مجاهد اسم واد في جهنم وقيل بئر فيها
ويضاعف ويخلد بالرفع حالا أو استئنافا وبالجزم بدل من يلق بدل اشتمال ومهانا من أهانه أذله وأذاقه الهوان
وفيه أي العذاب أو التعذيب أو تضعيفه وسبب هذا التضعيف أن المشرك ضم تلك المعاصي إلى شركه فعوقب عليه وعليها
____________________
(2/770)
وقال تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين الجلد الضرب وأوثر ليفهم أن المقصود منه أن يبرح ولا يبلغ اللحم والرأفة الرحمة والرقة
وسبب النهي ارتكاب فاعله لهذه الكبيرة الفاحشة بل هي أكبر الكبائر بعد القتل كما يأتي ومن ثم قرنه تعالى بالشرك والقتل في الآية السابقة
وقال صلى الله عليه وسلم يا معشر الناس اتقوا الزنا فإن فيه ست خصال ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة أما التي في الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر وأما التي في الآخرة فسخط الله وسوء الحساب وعذاب النار قال مجاهد وجماعة من أئمة عصره ولا تأخذكم بهما رأفة فتعطلوا الحدود ولا تقيموها وقيل إنه نهى عن التخفيف وأمر بأن يوجعا ضربا وهو قول ابن المسيب والحسن ومعنى في دين الله في حكمه
جلد ابن عمر أمة له زنت فقال للجلاد اضرب ظهرها ورجليها فقال له ابنه ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله فقال يا بني إن الله تعالى لم يأمرني بقتلها وقد ضربت فأوجعت
ومن ثم قال أئمتنا يضرب هنا وفي بقية الحدود بسوط معتدل لا حديد يجرح ولا خلق لا يؤلم ولا يمد ولا يربط بل يترك وإن اتقى بيديه ويضرب الرجل قائما ولا يجرد إلا مما يمنع وصول الألم إليه والمرأة جالسة وتربط عليها ثيابها حتى لا يبدو منها شيء وتفرق السياط على أعضائه ولا يجمعها في موضع واحد وتتقي المهالك كالوجه والرقبة والبطن والفرج
واختلف في الطائفة هنا فقيل واحد وقيل اثنان وقيل ثلاثة وقال ابن عباس أربعة عدد شهود الزنا وهو الأصح وقيل عشرة وظاهر وليشهد وجوب الحضور ولم يقل به الفقهاء بل حملوه على الندب لأن القصد إعلان إقامة الحد لما فيه من الردع ودفع التهمة وقيل المراد بالطائفة الشهود يستحب حضورهم ليعلم بقاؤهم على الشهادة
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه إن ثبت الزنا بالبينة لزم الشهود أن يبدءوا بالرمي ثم الإمام ثم الناس أو بالإقرار بدأ الإمام ثم الناس
واحتج الشافعي رضي الله عنه بأن
____________________
(2/771)
النبي صلى الله عليه وسلم أمر برجم ماعز والغامدية ولم يحضر ثم ما ذكر من الجلد بينت السنة أنه في غير المحصن وأما المحصن وهو الحر المكلف الذي وطئ في نكاح صحيح ولو مرة في عمره فحده الرجم بالحجارة إلى أن يموت
قال العلماء ومن مات من غير حد ولا توبة عذب في النار بسياط من نار كما ورد أن في الزبور مكتوبا أن الزناة يعلقون بفروجهم في النار ويضربون عليها بسياط من حديد فإذا استغاث أحدهم من الضرب نادته الزبانية أين كان هذا الصوت وأنت تضحك وتفرح وتمرح ولا تراقب الله جل وعلا ولا تستحي منه
وجاء في السنة تغليظ عظيم في الزاني لا سيما بحليلة الجار والتي غاب عنها زوجها
أخرج الشيخان في التفسير والأدب والتوحيد والديات والمحاربين ومسلم في الإيمان وأحمد والترمذي والنسائي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت إن ذلك لعظيم قلت ثم أي قال أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قلت ثم أي قال أن تزاني حليلة جارك
زاد النسائي والترمذي في رواية وتلا هذه الآية والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيها مهانا إلا من تاب الحليلة بفتح الحاء المهملة الزوجة
ومسلم وأحمد والنسائي ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم شيخ زان وملك كذاب وعائل أي فقير مستكبر
والطبراني لا ينظر الله يوم القيامة إلى الشيخ الزاني ولا إلى العجوز الزانية
والنسائي وابن حبان في صحيحه أربعة يبغضهم الله البياع الحلاف والفقير المختال والشيخ الزاني والإمام الجائر
____________________
(2/772)
والبزار بإسناد جيد ثلاثة لا يدخلون الجنة الشيخ الزاني والإمام الكذاب والعائل المزهو
وفي حديث صحيح الثلاثة الذين يبغضهم الله الشيخ الزاني والفقير المختال والغني الظلوم
والطبراني بسند رواته ثقات إلا ابن لهيعة وحديثه حسن في المتابعات لا ينظر الله إلى الأشيمط الزاني والعائل المزهو
والأشيمط تصغير أشمط وهو من اختلط شعر رأسه الأسود بالأبيض
والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن زاد النسائي فإذا فعل ذلك فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه فإن تاب تاب الله عليه
والبزار لا يسرق السارق وهو مؤمن ولا يزني الزاني وهو مؤمن الإيمان أكرم على الله من ذلك
والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة
وأبو داود والنسائي لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا
____________________
(2/773)
رسول الله إلا في إحدى ثلاث زنا بعد إحصان فإنه يرجم ورجل خرج محاربا لله ورسوله فإنه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض أو يقتل نفسا فيقتل بها
والطبراني بإسنادين أحدهما صحيح يا بغايا العرب إن من أخوف ما أخاف عليكم الزنا والشهوة الخفية وضبطه بعض الحفاظ بالراء والتحتية
وأحمد والطبراني واللفظ له تفتح أبواب السماء نصف الليل فينادي مناد هل من داع فيستجاب له هل من سائل فيعطى هل من مكروب فيفرج عنه فلا يبقى مسلم يدعو دعوة إلا استجاب الله عز وجل له إلا زانية تسعى بفرجها أو عشارا
وأحمد والطبراني واللفظ له إن الله يدنو من خلقه أي بلطفه ورحمته فيغفر لمن يستغفر إلا لبغي بفرجها أو عشار
والطبراني إن الزناة تشتعل وجوههم نارا
والبيهقي الزنا يورث الفقر
والبخاري وتقدم بطوله في ترك الصلاة رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة فذكر الحديث إلى أن قال فانطلقنا إلى نقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع يتوقد تحته نار فإذا ارتفعت ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا وإذا خمدت رجعوا فيها وفيها رجال ونساء عراة الحديث
وفي رواية فانطلقنا إلى مثل التنور قال فأحسب أنه كان يقول فإذا فيه لغط وأصوات قال فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا أي صاحوا الحديث
وفي آخره وأما الرجال والنساء العراة الذين هم في مثل بناء التنور فإنهم الزناة والزواني
____________________
(2/774)
وابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما قال المنذري ولا علة له عن أبي أمامة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بينما أنا نائم أتاني رجلان فأخذا بضبعي فأتيا بي جبلا وعرا فقالا اصعد فقلت إني لا أطيقه فقالا إنا سنسهله لك فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل فإذا أنا بأصوات شديدة فقلت ما هذه الأصوات قالوا هذا عواء أهل النار ثم انطلق بي فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دما قال قلت من هؤلاء قيل هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم فقال خابت اليهود والنصارى قال سليم ما أدري أسمعه أبو أمامة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أم شيء من رأيه ثم انطلق بي فإذا أنا بقوم أشد شيء انتفاخا وأنتن ريحا وأسوأ منظرا فقلت من هؤلاء فقال هؤلاء قتلى الكفار ثم انطلق بي فإذا أنا بقوم أشد شيء انتفاخا وأنتنه ريحا كأن ريحهم المراحيض قلت من هؤلاء قال هؤلاء الزانون والزواني ثم انطلق بي فإذا أنا بنساء تنهش ثديهن الحيات قلت ما بال هؤلاء قيل هؤلاء يمنعن أولادهن ألبانهن ثم انطلق بي فإذا أنا بغلمان يلعبون بين نهرين قلت من هؤلاء قيل هؤلاء ذراري المؤمنين ثم شرف بي شرفا فإذا أنا بثلاثة يشربون من خمر لهم قلت من هؤلاء قال هؤلاء جعفر وزيد وابن رواحة ثم شرف بي شرفا آخر فإذا أنا بنفر ثلاثة قلت من هؤلاء قال هذا إبراهيم وموسى وعيسى وهم ينتظرونك
وأبو داود واللفظ له والترمذي والبيهقي إذا زنى الرجل أخرج منه الإيمان وكان عليه كالظلة فإذا أقلع رجع إليه الإيمان
والحاكم من زنى أو شرب الخمر نزع الله منه الإيمان كما يخلع الإنسان القميص من رأسه
والبيهقي إن الإيمان سربال يسربله الله من يشاء فإذا زنى العبد نزع منه سربال الإيمان فإن تاب رد عليه
ورزين أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب فقال أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله فمن أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله فإنه من يبد لنا صفحته
____________________
(2/775)
نقم عليه كتاب الله وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما وقال قرن الزنا مع الشرك
وقال لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن
وابن حبان في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قال تعبد عابد من بني إسرائيل فعبد الله في صومعته ستين عاما فأمطرت الأرض فاخضرت فأشرف الراهب من صومعته فقال لو نزلت فذكرت الله فازددت خيرا فنزل ومعه رغيف أو رغيفان فبينما هو في الأرض لقيته امرأة فلم يزل يكلمها وتكلمه حتى غشيها ثم أغمي عليه فنزل الغدير ليستحم فجاء سائل فأومأ إليه أن يأخذ الرغيفين ثم مات فوزنت عبادة ستين سنة بتلك الزنية فرجحت الزنية بحسناته ثم وضع الرغيف أو الرغيفان مع حسناته فرجحت حسناته فغفر له
والطبراني من رواية الصباح بن خالد عن أبي أمية عن نافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواته إلى الصباح ثقات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يدخل الجنة مسكين مستكبر ولا شيخ زان ولا منان على الله بعمله
والطبراني عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن مجتمعون فقال فذكر الحديث إلى أن قال إياكم وعقوق الوالدين فإن ريح الجنة يوجد من مسيرة ألف عام والله لا يجدها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا جار إزاره خيلاء إنما الكبرياء لله رب العالمين
والبزار إن السموات السبع والأرضين السبع ليلعن الشيخ الزاني وإن فروج الزناة ليؤذي أهل النار نتن ريحها
____________________
(2/776)
وابن أبي الدنيا والخرائطي وغيرهما عن علي كرم الله وجهه قال إن الناس يرسل عليهم يوم القيامة ريح منتنة فيتأذى منها كل بر وفاجر حتى إذا بلغت منهم كل مبلغ ناداهم مناد يسمعهم الصوت ويقول لهم هل تدرون هذه الريح التي قد آذتكم فيقولون لا ندري والله ألا إنها قد بلغت منا كل مبلغ فيقال ألا إنها ريح فروج الزناة الذين لقوا الله بزناهم ولم يتوبوا منه ثم ينصرف بهم ولم يذكر عند الصرف بهم جنة ولا نارا وسيأتي في شرب الخمر حديث أبي موسى وفيه ومن مات مدمن الخمر سقاه الله من نهر الغوطة قيل وما نهر الغوطة قال نهر يجري من فروج المومسات يعني الزانيات يؤذي أهل النار ريح فروجهم
والخرائطي وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال المقيم على الزنا كعابد وثن
ويؤيده ما صح أن مدمن الخمر إذا مات لقي الله كعابد وثن ولا شك أن الزنا أشد وأعظم عند الله من شرب الخمر
والبيهقي لما عرج بي مررت برجال تقرض جلودهم بمقاريض من نار فقلت من هؤلاء يا جبريل قال الذين يتزينون للزينة قال ثم مررت بجب منتن الريح فسمعت فيه أصواتا شديدة فقلت من هؤلاء يا جبريل قال نساء كن يتزين للزينة ويفعلن ما لا يحل لهن
وأحمد بسند حسن لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم الزنا فإذا فشا فيهم الزنا فأوشك أن يعمهم الله بعذاب
وأبو يعلى لا تزال أمتي بخير متماسك أمرها ما لم يظهر فيهم ولد الزنا
والبزار إذا ظهر الزنا ظهر الفقر والمسكنة
____________________
(2/777)
وأبو يعلى بسند حسن ما ظهر في قوم الزنا والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله
وأبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين نزلت آية الملاعنة أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله جنته وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه يوم القيامة وفضحه على رءوس الأولين والآخرين
وأحمد بسند رواته ثقات أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ما تقولون في الزنا قالوا حرام حرمه الله ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه لأن يزني الرجل بعشرة نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره
وابن أبي الدنيا والخرائطي وغيرهما الزاني بحليلة جاره لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيه ويقول له ادخل النار مع الداخلين
والطبراني في الأوسط والكبير من قعد على فراش مغيبة أي بضم فكسر أو فسكون فكسر من غاب عنها زوجها قيض الله له ثعبانا يوم القيامة
والطبراني بسند رواته ثقات مثل الذي يجلس على فراش المغيبة مثل الذي ينهشه أسود من أساود أي حيات يوم القيامة
ومسلم حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم ما من رجل من القاعدين يخلف رجلا من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم إلا وقف له يوم القيامة فيأخذ من حسناته ما شاء حتى يرضى ثم التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فما ظنكم
____________________
(2/778)
ورواه أبو داود إلا أنه قال فيه إلا نصب له يوم القيامة فقيل هذا خلفك في أهلك فخذ من حسناته ما شئت ورواه النسائي كأبي داود وزاد أترونه يدع له من حسناته شيئا
تنبيه عد الزنا هو ما أجمعوا عليه بل مر في الحديث الصحيح أنه بحليلة الجار من أكبر الكبائر وقيل الزنا مطلقا أكبر من القتل فهو الذي يلي الشرك والأصح أن الذي يلي الشرك هو القتل ثم الزنا وأفحش أنواعه الزنا بحليلة الجار قال في الإحياء والزنا أكبر من اللواط لأن الشهوة داعية إليه من الجانبين فيكثر وقوعه ويعظم الضرر بكثرته أي ولأنه يترتب عليها اختلاط الأنساب وقد يعارضه ما يأتي أن حده أغلظ بدليل قول مالك وأحمد وآخرين برجم اللوطي ولو غير محصن بخلاف الزاني وبدليل ما يأتي أيضا أن جماعة آخرين شددوا في حد اللوطي ما لم يشددوا به في حد الزنا وقد يجاب بأن المفضول قد يكون فيه مزية وفيه ما فيه وللحليمي كلام هنا مر عنه نظائره وهو مبني على رأي له والأصحاب على خلافه
وعبارة منهاجه والزنا كبيرة وإن كان بحليلة الجار أو بذات رحم أو بأجنبية لكن في شهر رمضان أو في البلد الحرام فهو فاحشة وأما دون الزنا الموجب للحد فإنه من الصغائر فإن كان مع امرأة الأب أو حليلة الابن أو مع أجنبية على سبيل القهر والإكراه كان كبيرة انتهت
ورده الأذرعي بأن الزنا فاحشة مطلقا كما أفاده قوله تعالى ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة فقصره تسميته فاحشة على الزنا بحليلة الجار وما ذكره معه ممنوع وذكر بعضهم هنا أمورا عهدتها عليه وهي عن عطاء في تفسير قوله تعالى عن جهنم لها سبعة أبواب أشد تلك الأبواب غما وكربا وحرا وأنتنها ريحا للزناة
وعن مكحول قال يجد أهل النار رائحة منتنة فيقولون ما وجدنا أنتن من هذه الرائحة فيقال لهم هذه ريح فروج الزناة
وقال ابن زيد أحد أئمة التفسير إنه ليؤذي أهل النار ريح فروج الزناة ففي العشر الآيات التي كتبها الله عز وجل لموسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ولا تسرق ولا تزن فأحجب وجهي عنك فإذا كان هذا الخطاب لنجيه موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم فكيف بغيره
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إن إبليس يبث جنوده في الأرض ويقول لهم أيكم أضل مسلما ألبسه التاج على رأسه فأعظمهم فتنة أقربهم إليه منزلة فيجيء إليه أحدهم فيقول لم أزل بفلان حتى طلق امرأته فيقول ما صنعت شيئا سوف يتزوج غيرها ثم يجيء الآخر فيقول لم أزل بفلان حتى ألقيت بينه وبين أخيه العداوة فيقول ما صنعت شيئا
____________________
(2/779)
سوف يصالحه ثم يجيء الآخر فيقول لم أزل به حتى زنى فيقول إبليس نعم ما فعلت فيدنيه منه ويضع التاج على رأسه نعوذ بالله من شر الشيطان وجنوده
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له
وعنه أنه قال في جهنم واد فيه حيات كل حية ثخن رقبة البعير تلسع تارك الصلاة فيغلي سمها في جسمه سبعين سنة ثم يتهرأ لحمه وإن في جهنم واديا اسمه جب الحزن فيه حيات وعقارب كل عقرب منها بقدر البغل لها سبعون شوكة في كل شوكة زاوية سم تضرب الزاني وتفرع سمها في جسمه يجد مرارة وجعها ألف سنة ثم يتهرأ لحمه ويسيل من فرجه القيح والصديد
وورد أيضا إن من زنى بامرأة متزوجة كان عليه وعليها في القبر نصف عذاب هذه الأمة فإذا كان يوم القيامة يحكم الله تعالى زوجها في حسناته هذا إذا كان بغير علمه فإن علم وسكت حرم الله عليه الجنة لأن الله تعالى كتب على بابها أنت حرام على الديوث وهو الذي يعلم بالفاحشة في أهله ويسكت ولا يغار وورد أيضا إنه من وضع يده على امرأة لا تحل له بشهوة جاء يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه فإن قبلها قرضت شفتاه في النار فإن زنى بها نطقت فخذه وشهدت عليه يوم القيامة وقالت أنا للحرام ركبت فينظر الله إليه بعين الغضب فيقع لحم وجهه فيكابر ويقول ما فعلت فيشهد عليه لسانه ويقول أنا بما لا يحل لي نطقت وتقول يداه أنا للحرام تناولت وتقول عينه أنا للحرام نظرت وتقول رجله أنا لما لا يحل لي مشيت ويقول فرجه أنا فعلت ويقول الحافظ من الملائكة وأنا سمعت ويقول الملك الآخر وأنا كتبت ويقول الله تعالى وأنا اطلعت وسترت ثم يقول يا ملائكتي خذوه ومن عذابي أذيقوه فقد اشتد غضبي على من قل حياؤه مني
وتصديق ذلك من كتاب الله عز وجل يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون وأعظم الزنا على الإطلاق الزنا بالمحارم فقد صحح الحاكم أنه صلى الله عليه وسلم قال من وقع على ذات محرم فاقتلوه ا ه
____________________
(2/780)
وعلم مما ذكر وغيره أن الزنا له ثمرات قبيحة منها أنه يورد النار والعذاب الشديد وأنه يورث الفقر وأنه يؤخذ بمثله من ذرية الزاني ولما قيل لبعض الملوك ذلك أراد تجربته بابنة له وكانت غاية في الجمال أنزلها مع امرأة فقيرة وأمرها أن لا تمنع أحدا أراد التعرض لها بأي شيء شاء ثم أمرها بكشف وجهها وأنها تطوف بها في الأسواق فامتثلت فما مرت بها على أحد إلا وأطرق رأسه عنها حياء وخجلا فلما طافت بها المدينة كلها ولم يمد أحد نظره إليها حتى قربت بها من دار الملك لتريد الدخول بها فأمسكها إنسان وقبلها ثم ذهب عنها فأدخلتها على الملك فسألها عما وقع فذكرت له القصة فسجد لله شكرا وقال الحمد لله ما وقع مني في عمري قط إلا قبلة لامرأة وقد قوصصت بها
وعلم من ذلك أيضا أن الزنا له مراتب فهو بأجنبية لا زوج لها عظيم وأعظم منه بأجنبية لها زوج وأعظم منه بمحرم وزنا الثيب أقبح من البكر بدليل اختلاف حديهما وزنا الشيخ لكمال عقله أقبح من زنا الشاب والحر والعالم لكمالهما أقبح من القن والجاهل
خاتمة فيما جاء في حفظ الفرج
أخرج الشيخان من السبعة الذين يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله
والترمذي وحسنه وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث حديثا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين حتى عد سبع مرات ولكن سمعته أكثر من ذلك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله كان الكفل من بني إسرائيل وكان لا يتورع من ذنب عمله فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال ما يبكيك أكرهتك قالت لا ولكنه عمل ما عملته قط وما حملني عليه إلا الحاجة فقال تفعلين أنت هذا من مخافة الله فأنا أحرى اذهبي فلك ما أعطيتك ووالله لا أعصيه بعدها أبدا فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه إن الله قد غفر للكفل فعجب الناس من ذلك
والشيخان حديث الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار فقالوا إنه لا ينجيكم من هذه
____________________
(2/781)
الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم فقال أحدهم اللهم إنه كانت لي ابنة عم وكانت أحب الناس إلي فراودتها عن نفسها فامتنعت حتى ألمت بها سنة من السنين أي نزل بها حاجة وفقر لشدة القحط فجاءتني فأعطيتها مائة وعشرين دينارا على أن تخليس بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت لا أحل لك أن تفض الخاتم أي تطأ إلا بحقه أي بالنكاح فتحرجت من الوقوع عليها فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت لها الذهب الذي أعطيتها اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة الحديث
والحاكم وصححه على شرطهما والبيهقي يا شباب قريش احفظوا فروجكم لا تزنوا ألا من حفظ فرجه فله الجنة
وفي رواية للبيهقي يا فتيان قريش لا تزنوا فإنه من سلم له شبابه دخل الجنة
وابن حبان في صحيحه إذا صلت المرأة خمسها وحصنت فرجها وأطاعت بعلها دخلت من أي أبواب الجنة شاءت
والبخاري من يضمن لي ما بين لحييه أي لسانه وما بين رجليه أي فرجه ضمنت له الجنة
والترمذي وحسنه
من وقاه الله شر ما بين لحييه وشر ما بين رجليه دخل الجنة
والطبراني بإسناد جيد من حفظ لي ما بين فقميه أي بسكون القاف لحييه وفخذيه دخل الجنة وفي رواية صحيحة ما بين فقميه وفرجه
وأحمد وابن أبي الدنيا وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه
واعترض بأن فيه انقطاعا اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة اصدقوا إذا حدثتم
____________________
(2/782)
وأوفوا إذا وعدتم وأدوا إذا اؤتمنتم واحفظوا فروجكم وغضوا أبصاركم وكفوا أيديكم
وعشق بعض العرب امرأة وأنفق عليها أموالا كثيرة حتى مكنته من نفسها فلما جلس بين شعبتيها وأراد الفعل ألهم التوفيق ففكر ثم أراد القيام عنها فقالت له ما شأنك فقال إن من يبيع جنة عرضها السموات والأرض بقدر فتر لقليل الخبرة بالمساحة ثم تركها وذهب
ووقع لبعض الصالحين أن نفسه حدثته بفاحشة وكان عنده فتيلة فقال لنفسه يا نفس إني أدخل أصبعي في هذه الفتيلة فإن صبرت على حرها مكنتك مما تريدين ثم أدخل أصبعه في نار الفتيلة حتى أحست نفسه أن الروح كادت تزهق منه من شدة حرها في قلبه وهو يتجلد على ذلك ويقول لنفسه هل تصبرين وإذا لم تصبري على هذه النار اليسيرة التي طفئت بالماء سبعين مرة حتى قدر أهل الدنيا على مقابلتها فكيف تصبرين على حر نار جهنم المتضاعفة حرارتها على هذه سبعين ضعفا فرجعت نفسه عن ذلك الخاطر ولم يخطر لها بعد
الكبيرة التاسعة والخمسون والستون والحادية والستون بعد الثلاثمائة اللواط وإتيان البهيمة والمرأة الأجنبية في دبرها
أخرج ابن ماجه والترمذي وقال حسن غريب والحاكم وصححه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط
والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ما نقض قوم العهد إلا كان القتل بينهم ولا ظهرت الفاحشة في قوم إلا سلط الله عليهم الموت ولا منع قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر
____________________
(2/783)
وابن ماجه أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا معشر المهاجرين خمس خصال إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا الحديث
والطبراني إذا ظلم أهل الذمة كانت الدولة دولة العدو وإذا كثر الزنا كثر السباء وإذا كثر اللوطية رفع الله عز وجل يده عن الخلق فلا يبالي في أي واد هلكوا
والطبراني في الأوسط بسند رجاله رجال الصحيح إلا محرزا بالراء والزاي وقد حسن له الترمذي ومشاه بعضهم ورواه الحاكم من رواية أخي محرز وصححه واعترض بأنه واه كأخيه لكن أخوه أصلح حالا منه
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعن الله سبعة من خلقه من فوق سبع سمواته وردد اللعنة على واحد منهم ثلاثا ولعن كل واحد منهم لعنة تكفيه قال ملعون من عمل عمل قوم لوط ملعون من عمل عمل قوم لوط ملعون من عمل عمل قوم لوط ملعون من ذبح لغير الله ملعون من أتى شيئا من البهائم ملعون من عق والديه ملعون من جمع بين امرأة وابنتها ملعون من غير حدود الأرض ملعون من ادعي إلى غير مواليه
وابن حبان في صحيحه والبيهقي لعن الله من غير تخوم الأرض ولعن الله من كمه أعمى عن السبيل ولعن الله من سب والديه ولعن الله من تولى غير مواليه ولعن الله من عمل عمل قوم لوط قالها ثلاثا فيمن عمل عمل قوم لوط فقط
والنسائي لعن الله من عمل عمل قوم لوط لعن الله من عمل عمل قوم لوط لعن الله من عمل عمل قوم لوط
____________________
(2/784)
والطبراني والبيهقي أربعة يصبحون في غضب الله تعالى ويمسون في سخط الله قلت من هم يا رسول الله قال المتشبهون من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال والذي يأتي البهيمة والذي يأتي الرجال
وأبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي بسند صحيح لكن أنكر على بعض رواة هذا الحديث من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به
وأبو داود وغيره بالإسناد المذكور من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه
والطبراني ثلاثة لا تقبل لهم شهادة أن لا إله إلا الله الراكب والمركوب والراكبة والمركوبة والإمام الجائر
والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه لا ينظر الله عز وجل إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في دبرها
وأحمد والبزار بسند صحيح قال هي اللوطية الصغرى يعني الرجل يأتي امرأته في دبرها
وأبو يعلى بإسناد جيد استحيوا فإن الله لا يستحيي من الحق ولا تأتوا النساء في أدبارهن
وابن ماجه واللفظ له والنسائي بأسانيد أحدها جيد إن الله لا يستحيي من الحق ثلاث مرات لا تأتوا النساء في أدبارهن
____________________
(2/785)
والطبراني بسند رواته ثقات أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن محاش النساء والدارقطني استحيوا من الله فإن الله لا يستحيي من الحق لا يحل مأتاك النساء في حشوشهن
والطبراني لعن الله الذين يأتون النساء في محاشهن أي جمع محشة بفتح الميم وكسرها فمهملة فمعجمة وهي الدبر
والطبراني بسند رواته ثقات من أتى النساء في أعجازهن فقد كفر
وابن ماجه والبيهقي لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأة في دبرها
وأحمد ملعون من أتى امرأة في دبرها
وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم
وأبو داود من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فصدقه فقد برئ مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم
وأحمد والترمذي وحسنه لا تأتوا النساء في أستاههن فإن الله لا يستحيي من الحق
رواه النسائي وابن حبان في صحيحه بمعناه
تنبيه عد هذه الثلاثة هو ما أجمعوا عليه في الأول وقد سماه الله فاحشة وخبيثة كما يأتي وذكر عقوبة قوم عليه من الأمم السالفة وهو داخل تحت اسم الزنا على المشهور عند الشافعية ثبوت اللغة قياسا وفيه الحد عند جمهور العلماء كما يأتي وذكره جماعة من
____________________
(2/786)
أئمتنا في الثاني والثالث كالأول كما هو ظاهر جلي وهو من فعل قوم لوط أيضا وقد قص الله عز وجل علينا في كتابه العزيز قصتهم تحذيرا لنا من أن نسلك سبيلهم فيصيبنا ما أصابهم في غير موضع
قال تعالى فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها أي أمر الله تعالى جبريل بأن يقلع قراهم من أصلها فاقتلعها وصعد بها على خافقة من جناحه إلى أن سمع أهل سماء الدنيا أصوات حيواناتهم ثم قلبها بهم
وأمطرنا عليها حجارة من سجيل أي من طين محرق بالنار منضود أي متتابع يتلو بعضه بعضا مسومة أي مكتوبا على كل منها اسم من يصيبه أو معلمة بعلامة يعلم بها أنها ليست من حجارة الدنيا عند ربك أي في خزائنه التي لا يتصرف فيها إلا بإذنه وما هي من الظالمين ببعيد أي وما أصحاب تلك القرى من الكافرين الظالمين ببعيد وقيل ما هي ببعيد من ظالمي هذه الأمة إذا فعلوا فعلهم أن يحل بهم ما حل بأولئك من العذاب ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما مر إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط ولعن من فعل فعلهم ثلاثا
وقال تعالى أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون أي متعدون مجاوزون الحلال إلى الحرام
وقال تعالى ونجيناه أي لوطا من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين فأعظم خبائثهم إتيان الذكور في أدبارهم بحضرة بعضهم
ومنها أنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم ويمشون ويجلسون كاشفي عوراتهم كما يأتي وكانوا يتحنون ويتزينون كالنساء وكانوا يفعلون خبائث أخر
وذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما من خبائثهم عشر تصفيف الشعر وحل الإزار ورمي البندق والحذف بالحصى واللعب بالحمام الطيارة والصفير بالأصابع وفرقعة العلك وإسبال الإزار أي إذا لبسوه وحل أزرار الأقبية وإدمان شرب الخمر وإتيان الذكور
قال وستزيد عليها هذه الأمة مساحقة النساء النساء
وروي إن من أعمالهم أيضا اللعب بالنرد والمهارشة بين الكلاب والمناطحة بالكباش والمناقرة بالديوك ودخول الحمام بلا مئزر ونقص المكيال والميزان ويل لمن فعلها
وفي الخبر من لعب بالحمام لم يمت حتى يذوق ألم الفقر ولم يجمع الله تعالى على أمة من العذاب ما جمع على قوم لوط فإنه طمس أبصارهم وسود وجوههم وأمر جبريل بقلع قراهم من أصلها ثم بقلبها ليصير عاليها سافلها ثم خسف بهم ثم أمطر عليهم حجارة من السماء من سجيل وأجمعت الصحابة على قتل فاعل ذلك وإنما
____________________
(2/787)
اختلفوا في كيفية قتله كما يأتي
وقال مجاهد قال أبو هريرة رضي الله عنه من أتى صبيا فقد كفر
وقال ابن عباس رضي الله عنهما إن اللوطي إذا مات من غير توبة مسخ في قبره خنزيرا
وقيل في هذه الأمة قوم يقال لهم اللوطية وهم ثلاثة أصناف صنف ينظرون وصنف يصافحون وصنف يعملون ذلك العمل الخبيث
قال بعضهم والنظر بالشهوة إلى المرأة والأمرد زنا كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال زنا العين النظر وزنا اللسان النطق وزنا اليد البطش وزنا الرجل الخطو والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه
ولأجل ذلك بالغ الصالحون في الإعراض عن المرد وعن النظر إليهم وعن مخالطتهم ومجالستهم
وقال الحسن بن ذكوان لا تجالس أولاد الأغنياء فإن لهم صورا كصور العذارى وهم أشد فتنة من النساء
وقال بعض التابعين ما أنا بأخوف على الشاب الناسك من سبع ضار من الغلام الأمرد يقعد إليه
وحرم كثير من العلماء الخلوة بالأمرد في نحو بيت أو دكان كالمرأة لقوله صلى الله عليه وسلم ما خلا رجل بامرأة إلا دخل الشيطان بينهما بل في المرد من يفوق النساء بحسنه فالفتنة به أعظم ولأنه يمكن في حقه من الشهرة ما لا يمكن في حق النساء ويتسهل في حقه من طرق الريبة والشر ما لا يتيسر في حق المرأة فهو بالتحريم أولى وأقاويل السلف في التنفير عنهم والتحذير من رؤيتهم أكثر من أن تحصر وسموهم الأنتان لأنهم مستقذرون شرعا وسواء في كل ما ذكر نظر المنسوب إلى الصلاح وغيره وما قيل إن النظر إليهم اعتبارا لا محذور فيه فدسيسة شيطانية وإن زل بها قلم بعضهم ولو نظر الشارع الذي هو أعلم بالناس من أنفسهم إلى ذلك لأشار إليه فلما أطلقه ولم يفصل علمنا أنه لا فرق والمعتبرات غير ذلك مما هو أعجب منه كثيرة ولكن من خبثت نفوسهم وفسدت عقولهم وأديانهم ولم يتقيدوا بالشرعيات يزين الشيطان لهم ذلك حتى يوقعهم فيما هو أقبح منه كما هو دأب اللعين مع مساخرة القاصرين الأغنياء الجاهلين ومن فتح على نفسه أدنى مغمز للشيطان استهان به واسترذله واتخذه ضحكة يلعب به لعب الصبيان بالكرة فعليك أيها العاقل الحازم البصير الناقد الكامل أن تتجنب طرقه وتسويلاته وتحسيناته قليلها وكثيرها خفيها وظاهرها وأن تستحضر أنه لا يفتح لك بابا لم يفتحه الشرع فتحا ظاهرا من غير ريبة ولا شبهة إلا وهو يريد أن يوقعك فيما هو شر منه لأنك تتيقن أنه عدو لك بنص الكتاب العزيز وبإجماع الأمة والعدو لا يرضيه إلا هلاك عدوه أصلا ورأسا
____________________
(2/788)
دخل سفيان الثوري وناهيك به معرفة وعلما وزهدا وتقدما الحمام فدخل عليه صبي حسن الوجه فقال أخرجوه عني أخرجوه عني فإني أرى مع كل امرأة شيطانا ومع كل صبي بضعة عشر شيطانا
وجاء رجل إلى الإمام أحمد رضي الله عنه ومعه صبي حسن الوجه فقال له الإمام من هذا منك قال ابن أختي قال لا تجئ به إلينا مرة أخرى ولا تمش معه في طريق لئلا يظن بك من لا يعرفك ويعرفه سوءا
وروي أن وفد عبد القيس لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم كان فيهم أمرد حسن الوجه فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم خلف ظهره وقال إنما كانت فتنة داود من النظر وأنشدوا كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين العين موقوف على الخطر كم نظرة فعلت في قلب صاحبها فعل السهام بلا قوس ولا وتر يسر ناظره ما ضر خاطره لا مرحبا بسرور عاد بالضرر وكان يقال النظر بريد الزنا
وفي الحديث النظرة سهم مسموم من سهام إبليس من تركها من مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه
ومما روي أن عيسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم مر في سياحته على نار تتوقد على رجل فأخذ ماء ليطفئها عنه فانقلبت النار صبيا وانقلب الرجل نارا فتعجب عيسى من ذلك فقال يا رب ردهما إلى حالهما في الدنيا لأسألهما عن خبرهما فأحياهما الله تعالى فإذا هما رجل وصبي فقال لهما عيسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم ما خبركما وما أمركما فقال الرجل يا روح الله إني كنت في الدنيا مبتلى بحب هذا الصبي فحملتني الشهوة أن فعلت به الفاحشة فلما مت ومات الصبي صير الله الصبي نارا يحرقني مرة وصيرني نارا أحرقه أخرى فهذا عذابنا إلى يوم القيامة نعوذ بالله من عذابه ونسأله العافية والتوفيق لمرضاته
تنبيه ثان مر الحديث في من أتى البهيمة أنها تقتل معه قال الخطابي قد عارض
____________________
(2/789)
هذا الحديث نهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل الحيوان وما قاله صحيح فلا تقتل غير المأكولة ولا تذبح المأكولة خلافا لمن زعمه
ومر أيضا في الحديث قتل اللائط والملوط به
وروى البيهقي وغيره اقتلوا الفاعل والمفعول به والذي يأتي البهيمة
قال البغوي اختلف أهل العلم في حد اللوطي فذهب قوم إلى أن حد الفاعل حد الزنا وإن كان محصنا يرجم وإن لم يكن محصنا يجلد مائة وهو قول ابن المسيب وعطاء والحسن وقتادة والنخعي وبه قال الثوري والأوزاعي وهو أظهر قولي الشافعي ويحكى أيضا عن أبي يوسف ومحمد بن الحسن وعلى المفعول به عند الشافعي على هذا القول جلد مائة وتغريب عام رجلا كان أو امرأة محصنا كان أو غير محصن
وذهب قوم إلى أن اللوطي يرجم ولو غير محصن رواه سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس
وروي عن الشعبي وبه قال الزهري وهو قول مالك وأحمد وإسحاق
وروى حماد بن إبراهيم عن إبراهيم يعني النخعي قال لو كان أحد يستقيم أن يرجم مرتين لرجم اللوطي
والقول الآخر للشافعي أنه يقتل الفاعل والمفعول به كما جاء في الحديث
ا ه
قال الحافظ المنذري حرق اللوطية بالنار أربعة من الخلفاء أبو بكر وعلي وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم وهشام بن عبد الملك
وروى ابن أبي الدنيا ومن طريقه البيهقي بإسناد جيد عن محمد بن المنكدر أن خالد بن الوليد رضي الله عنه كتب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه وجد رجلا في بعض ضواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة فجمع لذلك أبو بكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم علي بن أبي طالب فقال إن هذا ذنب لم تعمل به أمة إلا أمة واحدة ففعل الله بهم ما قد علمتم أرى أن نحرقه بالنار فاجتمع رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحرق بالنار فأمر به أبو بكر أن يحرق بالنار فحرقه خالد
وقال علي كرم الله وجهه من أمكن من نفسه طائعا حتى ينكح ألقى الله عليه شهوة النساء وحمله شيطانا رجيما إلى يوم القيامة
وأجمعت الأمة على أن من فعل بمملوكه فعل قوم لوط من اللوطية المجرمين الفاسقين الملعونين فعليه لعنة الله ثم عليه لعنة الله ثم عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وقد فشا ذلك في التجار والمترفين فاتخذوا حسان المماليك سودا وبيضا لذلك فعليهم أشد اللعنة الدائمة الظاهرة وأعظم الخزي والبوار والعذاب في الدنيا والآخرة ما داموا على هذه القبائح الشنيعة البشيعة الفظيعة الموجبة للفقر وهلاك الأموال وانمحاق البركات
____________________
(2/790)
والخيانة في المعاملات والأمانات
ولذلك تجد أكثرهم قد افتقر من سوء ما جناه وقبيح معاملته لمن أنعم عليه وأعطاه ولم يرجع إلى بارئه وخالقه وموجده ورازقه بل بارزه بهذه المبارزة المبنية على خلع جلباب الحياء والمروءة والتخلي عن سائر صفات أهل الشهامة والفتوة والتحلي بصفات البهائم بل بأقبح وأفظع صفة وخلة إذ لا نجد حيوانا ذكرا ينكح مثله فناهيك برذيلة تعففت عنها الحمير فكيف يليق فعلها بمن هو في صورة رئيس أو كبير كلا بل هو أسفل من قذره وأشأم من خبره وأنتن من الجيف وأحق بالشرر والسرف وأخو الخزي والمهانة وخائن عهد الله وما له عنده من الأمانة فبعدا له وسحقا وهلاكا في جهنم وحرقا
الكبيرة الثانية والستون بعد الثلاثمائة مساحقة النساء وهو أن تفعل المرأة بالمرأة مثل صورة ما يفعل بها الرجل
كذا ذكره بعضهم واستدل له بقوله صلى الله عليه وسلم السحاق زنا النساء بينهن وقوله ثلاثة لا يقبل الله منهم شهادة أن لا إله إلا الله الراكب والمركوب والراكبة والمركوبة والإمام الجائر
الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والستون بعد الثلاثمائة وطء الشريك للأمة المشتركة والزوج لزوجته الميتة والوطء في نكاح بلا ولي ولا شهود وفي نكاح المتعة ووطء المستأجرة وإمساك امرأة لمن يزني بها
وعد هذه الخمسة لم أره ولكنه ظاهر وإن سلم أنه لا يسمى زنا إذ لا يوجب الجلد ولا الرجم عند بعض الأئمة كالشافعية في الأوليين والرابعة وكغيرهم في الباقي
____________________
(2/791)
والحاصل أن كل شبهة لم تقتض الإباحة لا تفيد إلا رفع الحد دون زوال اسم الكبيرة لأن ذلك في المعنى كالزنا من حيث الحرمة المغلظة لما يترتب عليه من الفحش الشنيع واختلاط الأنساب
وأما عد السادسة فهو ما ذكره ابن عبد السلام فقال من أمسك امرأة محصنة لمن يزني بها أو أمسك مسلما لمن قتله فلا شك أن مفسدته أعظم من مفسدة أكل مال اليتيم
ا ه
والظاهر أن التقييد بالمحصنة غير مراد فلذا حذفته إذ المفسدة التي أشار إليها لا تتقيد بالمحصنة
واعلم أن أصحابنا صرحوا بأن الزنا لا يباح بالإكراه وإن تصور فيه إذ الانتشار عند رؤية المشتهى أمر طبيعي لا يتوقف على داعية الاختيار وصرحوا أيضا بأن الإكراه وإن لم يبح الزنا لكنه شبهة يسقط بها الحد وحينئذ فهل هو شبهة يسقط بها كون الزنا كبيرة أو كونه كبيرة باق بحاله وإثمه ولو مع الإكراه لم أر من تعرض له وللنظر فيه مجال ولا يبعد أن يقال إنه صغيرة حينئذ لأنه لم يفعله إلا لداعية الإكراه وليس كالقتل إكراها لأنه ثم آثر نفسه بالبقاء ومن ثم أجمعوا على أن القتل لا يباح بالإكراه
وقال جماعة إن الزنا يباح به فعلمنا فرق ما بينهما
فإن قلت لم آثرت الشبهة هنا ولم تؤثر في الصور الخمس المذكورة قلت يفرق بأن الشبهة ثم لا قائل بأنها عذر مفضية للحل أما الأوليان والخامسة فظاهر
وأما الثالثة والرابعة فلأن القائل بإباحتهما يشترط تقليد القائل بالإباحة أما المقلد للقائل بالحرمة فلا يباح له ذلك إجماعا
والكلام إنما هو في المقلد للقائل بالحرمة
وأما الإكراه فهو يعد عذرا مسقطا للإثم في مسائل كثيرة بل في سائر الصور إلى الزنا والقتل فلم يبعد أن يكون عذرا مسقطا للكبيرة هنا وإن لم يسقط الإثم لأنه يغتفر في الأمر في الأمر التابع ما لا يغتفر في الأمر المقصود وهو أصل للإثم
وأما وصفه بكونه كبيرة أو صغيرة فأمر تابع له
الكبيرة التاسعة والستون بعد الثلاثمائة السرقة قال تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم قال ابن شهاب نكل الله تعالى بالقطع في السرقة من أموال الناس والله عزيز أي في انتقامه من السارق حكيم أي فيما أوجبه من قطع يده ومر قريبا في الحديث الصحيح لا يزني الزاني حين يزني وهو
____________________
(2/792)
مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن
رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وزاد مسلم في رواية وأبو داود بعد قوله ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولكن التوبة معروضة بعد
وفي رواية للنسائي فإذا فعل ذلك فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه فإن تاب تاب الله عليه
ومر أيضا خبر البزار لا يسرق سارق وهو مؤمن ولا يزني الزاني وهو مؤمن الإيمان أكرم على الله من ذلك
وفي رواية لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولكن التوبة معروضة
وقال صلى الله عليه وسلم لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده قال الأعمش كانوا يرون أنه بيض الحديد والحبل كانوا يرون أنه يساوي ثمنه ثلاثة دراهم
تنبيه عد السرقة هو ما اتفقوا عليه وهو صريح هذه الأحاديث والظاهر أنه لا فرق في كونها كبيرة بين الموجبة للقطع وعدم الموجبة له لشبهة لا تقتضي حل الأخذ كأن سرق حصر مسجد أو نحوها أو لعدم حرز ثم رأيت الهروي من أئمة أصحابنا صرح بذلك فقال وتبعه شريح الروياني في روضته
وحد الكبيرة أربعة أشياء أحدها ما يوجب حدا أو قتلا أو قدرة من الفعل والعقوبة ساقطة للشبهة وهو عامد آثم
قال الجلال البلقيني
قوله أو قدرة إلخ يشير به إلى أن سرقة ما لا يوجب القطع لكونه من غير حرز أو لشبهة فإنه كبيرة ولكن سقطت العقوبة لمانع وذلك لأنه قال قبل ذلك إنه يشترط في العدل أن لا يقترف الكبائر الموجبات للحدود مثل السرقة والزنا وقطع الطريق أو قدرة من الفعل وإن لم يجب الحد فيها لشبهة أو عدم حرز
ا ه
قال ابن عبد السلام أجمعوا على أن غصب الحبة وسرقتها كبيرة واعترض بأن هذه دعوى لا تصح فقد اعتبر البغوي وغيره في المال المغصوب أن يبلغ ربع دينار ومقتضاه اشتراطه في السرقة
ومر في مبحث الغصب زيادة بسط في ذلك فراجعه
وقال الحليمي والسرقة كبيرة وأخذ المال في قطع الطريق فاحشة والقتل في قطع الطريق فاحشة وسرقة الشيء التافه صغيرة فإن كان المسروق منه مسكينا لا غنى به عما أخذ منه فذلك كبيرة وإن لم يجب الحد
انتهى
____________________
(2/793)
وقوله مسكينا لا غنى به عنه فيه نظر بل لو كان غنيا لا غنى به عنه كمائه أو رغيفه بمفازة لا يجد غيره كان كبيرة أيضا قال وأخذ أموال الناس بغير حق كبيرة فإن كان المأخوذ ماله فقيرا أو أصلا للآخذ أو أخذ بالكره والقهر منه فهو فاحشة وكذا إذا كان على سبيل القمار فإن كان المأخوذ شيئا تافها والمأخوذ منه غنيا لا يتبين عليه من ضرر فذلك صغيرة انتهى
ويوافقه ما مر في الغصب وغيره والمعتمد خلاف ذلك
فائدة جاء في رواية أنه صلى الله عليه وسلم قطع فيما ثمنه ثلاثة دراهم وفي أخرى قطع في ربع دينار فصاعدا لا أقل ولا تنافي لأن ربع الدينار كان يومئذ ثلاثة دراهم وكان الدينار اثني عشر درهما وعن عبد الرحمن بن محيريز قال سألنا فضالة بن عبيد عن تعليق اليد في عنق السارق أمن السنة فقال أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعت يده ثم أمر بها فعلقت في عنقه
قال العلماء رحمهم الله ولا ينفع السارق والغاصب وغيرهما من كل من أخذ مالا بغير وجهه توبة إلا أن يرد ما أخذه كما يأتي في مبحث التوبة إن شاء الله تعالى
الكبيرة السبعون بعد الثلاثمائة قطع الطريق أي إخافتها وإن لم يقتل نفسا ولا أخذ مالا
قال الله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم لما ذكر تعالى تغليظ الإثم في قتل النفس بغير حق والإفساد في الأرض أتبعه ببيان نوع من أنواع الفساد في الأرض فقال إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله أي أولياءه كذا قرره الجمهور
وقال الزمخشري يحاربون رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاربة المسلمين في حكم محاربته يعني أن القصد محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر اسم الله تعالى تعظيما لمحاربة رسوله نحو إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ولك أن تحمل المحاربة على مخالفة الأمر إنما جزاء
____________________
(2/794)
الذين يخالفون أحكام الله وأحكام رسوله
ويسعون في الأرض فسادا القتل أو الصلب أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف أو النفي من الأرض وإن تحملها بالنسبة إلى الله تعالى على ذلك وبالنسبة إلى رسوله وخلفائه على المقاتلة ويسعون في الأرض فسادا أي بالقتل أو أخذ المال أو إخافة السبيل فكل من شهر السلاح على المسلمين كان محاربا لله ورسوله قيل نزلت في قوم من أهل الكتاب نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطعوا السبيل وأفسدوا وقيل في قوم هلال الأسلمي وادعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يعينه ولا يعين عليه ومن مر به إليه فهو آمن فمر بقومه في غيبته قوم من كنانة يريدون الإسلام فقتلهم قومه وأخذوا أموالهم فنزل جبريل عليه السلام بالقصة وقيل في قوم من عرينة وعكل أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وهم كذبة فاستوخموا المدينة فبعثهم صلى الله عليه وسلم إلى إبل الصدقة ليشربوا من ألبانها فارتدوا وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم من ردهم وأمر بقطع أيديهم وأرجلهم وكحل أعينهم بمسامير محماة بالنار وطرحهم في الحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا
قال أبو قلابة فهؤلاء قتلوا وسرقوا أي أخذوا المال وحاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا فنزلت هذه الآية ناسخة لفعله صلى الله عليه وسلم فهو من نسخ السنة بالقرآن
ومن منعه قال إنما نسخ السنة سنة أخرى وهذه الآية مطابقة للسنة الناسخة ثم المنسوخ إنما هو كحل الأعين والمثلة وأما القتل فباق
وعن ابن سيرين أن ذلك قبل أن تنزل الحدود
قال أبو الزناد لما فعل صلى الله عليه وسلم ذلك بهم أنزل الله الحدود ونهاه عن المثلة
قال قتادة بلغنا أنه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان يحث على الصدقة وينهى عن المثلة
وعن أنس إنما سمل أعينهم لأنهم سملوا أعين الرعاة فإن صح فلا نسخ والظاهر أنه لم يصح فقد قال الليث بن سعد نزلت هذه الآية معاتبة له صلى الله عليه وسلم وتعظيما له بعقوبتهم فقال إنما جزاؤهم هذا لا المثلة ولذلك ما قام صلى الله عليه وسلم خطيبا إلا نهى عن المثلة وقيل نزلت في قطاع الطريق من المسلمين وعليه أكثر الفقهاء قالوا ومما يدل على أنه لا يجوز حمل الآية على المرتدين أن قتل المرتد لا يتوقف على المحاربة ولا على إظهار الفساد في دارنا
ولا يجوز الاقتصار فيه على قطع ولا على نفي وأنه يسقط قتله بالتوبة ولو بعد القدرة وأن الصلب غير مشروع في حقه
ثم المحاربون هم الذين يجتمعون ولهم منعة لأخذ مال أو نحوه
فإن كانوا في الصحراء فقطاع اتفاقا أو في البلد فكذلك عند الأوزاعي ومالك والليث والشافعي إن لم يلحقهم غوث واحتجوا بأنهم في المدن أعظم ذنبا وبأن كلام غير موجود في الكتاب الآية عامة
____________________
(2/795)
وبأن هذا حد فلا يختلف بالمكان كسائر الحدود
وقال أبو حنيفة ومحمد لا يكونون قطاعا
واختلفوا في أو في الآية ففي رواية عن ابن عباس بها قال الحسن وابن المسيب ومجاهد والنخعي إنها للتخيير والإباحة فيفعل الإمام بالقطاع ما شاء من القتل وما معه وفي رواية أخرى عنه أيضا أنها لبيان اختلاف الأحكام وترتيبها باختلاف الجناية فهي للتنويع فإذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا مالا قتلوا فقط ويتحتم القتل في هذين فلا يسقط بعفو الولي وإذا أخذوا المال فقط قطعوا من خلاف وإذا أخافوا السبيل نفوا من الأرض وهذا قول قتادة والأوزاعي والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي
واختلفوا في كيفية القتل والصلب فعند الشافعي يقتل ويغسل ويكفن ويصلى عليه ثم يصلب على خشبة معترضة ثلاثة أيام زجرا وتنكيلا عن مثل فعله ثم يدفن وقيل يصلب حيا ثم يطعن حتى يموت وهو قول الليث
وقيل يصلب ثلاثة أيام حيا ثم ينزل ويقتل وقيل يقطع من خلاف فتقطع يده اليمنى ثم تحسم ثم رجله اليسرى ثم تحسم
واختلفوا في النفي فقال سعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز يطلبه الإمام فكل محل وجده فيه نفاه عنه
وقيل يطلبه ليقيم عليه الحد
وقال ابن عباس رضي الله عنهما هو أن يهدر الإمام دمه فيقول من لقيه فليقتله هذا فيمن لم يقدر عليه فمن قدر عليه فنفيه حبسه وقيل النفي الحبس وهو اختيار أكثر أهل اللغة قالوا لأنه إن أريد النفي من جميع الأرض فهو محال أو إخراجه إلى بلد أخرى من بلاد الإسلام فهو غير جائز لأنه يؤذيهم أيضا أو من بلاد الكفر فهو حمل له على الردة فلم يبق إلا أنه يحبس والمحبوس يسمى منفيا من الأرض لأنه لا ينتفع بشيء من طيبات الدنيا ولذاتها ولا يجتمع بأقاربه وأحبائه فكان كالمنفي حقيقة ومن ثم لما حبسوا صالح بن عبد القدوس على تهمة الزندقة في حبس ضيق وطال لبثه قال خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها فلسنا من الموتى عليها ولا الأحياء إذ جاءنا السجان يوما لحاجة عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا ذلك أي الجزاء المتقدم لهم في الدنيا خزي أي فضيحة وهوان وعذاب ولهم في الآخرة عذاب عظيم أي إلا أن يعفو الله عنهم كما دلت عليه أدلة أخرى خلافا للمعتزلة قبل القدرة عليهم أي الظفر بهم إن الله غفور أي لهم رحيم أي بهم فيسقط عنهم عقوبة قطع الطريق
وقيل كل عقوبة وحق لله أو لآدمي سواء الدم والمال إلا أن يكون معه المال بعينه فيرده لصاحبه وقيل كل عقوبة وحق لله فقط
____________________
(2/796)
تنبيه عد هذا هو ما صرح به جمع لكن بدون الغاية التي ذكرتها في الترجمة وما ذكرته فيها ظاهر والآية ناصة عليه لأنه تعالى حكم على كل نوع من الأنواع السابقة من المخيف للطريق فقط وما قبله بالخزي في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة وهذا وعيد شديد جدا ثم رأيت بعضهم صرح به حيث قال بعد ذكره الآية السابقة فبمجرد قطع الطريق وإخافة السبيل قد ارتكب الكبيرة فكيف إذا أخذ المال أو جرح أو قتل أو فعل عدة كبائر مع غالب القطاع عليه من ترك الصلاة وإنفاق ما يأخذونه في الخمر والزنا وغير ذلك انتهى
الكبيرة الحادية والثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتاسعة والسبعون والثمانون والحادية والثانية والثمانون بعد الثلاثمائة شرب الخمر مطلقا والمسكر من غيرها ولو قطرة إن كان شافعيا وعصر أحدهما واعتصاره بقيده الآتي وحمله وطلب حمله لنحو شربه وسقيه وطلب سقيه وبيعه وشراؤه وطلب أحدهما وأكل ثمنه وإمساك أحدهما بقيده الآتي
فهذه اثنتا عشرة في الخمر ومثلها في المسكر من غيرها ومجموع ذلك ما ذكر قال تعالى يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما أي يسألونك عن حكمهما والخمر المعتصر من العنب إذا غلى وقذف بالزبد ويطلق مجازا بل حقيقة بناء على ما يأتي من الأحاديث المصرحة بذلك أو على الأصح أن اللغة تثبت بالقياس على ما غلى وقذف بالزبد من غير العنب وسميت بذلك لأنها تخمر العقل أي تستره ومنه خمار المرأة لستره وجهها والخامر وهو من يكتم شهادته وقيل لأنها تغطى حتى تشتد ومنه خمروا آنيتكم أي غطوها وقيل لأنها تخالط العقل ومنه خامره داء أي خالطه وقيل لأنها تترك حتى تدرك
ومنه اختمر العجين أي بلغ إدراكه وهي متقاربة وعليها فالخمر مصدر يراد به اسم الفاعل أو المفعول
واحتج من عمم الخمر في عصير العنب وغيره بحديث أبي داود نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة من العنب والتمر والحنطة والشعير والذرة والخمر ما خامر العقل
وحديث الصحيحين عن عمر رضي الله
____________________
(2/797)
عنه أنه قال على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا إن الخمر قد حرمت وهي من خمسة من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل وهذان صريحان في أن تحريمها يتناول تحريم هذه الأنواع أما الأول فظاهر
وأما الثاني فلأن عمر عالم باللغة يرجع إليه فيها وقد قال والخمر ما خامر العقل سيما وقد وافق حديث أبي داود المذكور
وروى أبو داود أيضا حديث إن من العنب خمرا وإن من التمر خمرا وإن من العسل خمرا وهذا صريح أيضا في دخول هذه الأشياء في تحريم الخمر فإن الشارع صلى الله عليه وسلم ليس مقصوده تعليم اللغات وإنما مراده بيان أن الحكم الثابت في الخمر ثابت في كل مسكر
قال الخطابي وتخصيص الخمر بهذه الخمس ليس إلا لأجل أنها المعهودة في ذلك الزمان لاتخاذ الخمر منها فكل ما في معناها كذلك كما أن تخصيص الأشياء الستة بالذكر في خبر الربا أي السابق فيه لا يمنع من ثبوت حكم الربا في غيرها
وروى الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي كل مسكر خمر وكل مسكر حرام
وأبو داود وكل مسكر خمر وكل خمر حرام
وأحمد وأبو يعلى ألا فكل مسكر خمر وكل خمر حرام
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن البتع أي نبيذ العسل فقال كل شراب أسكر فهو حرام
قال الخطابي والدلالة فيه من وجهين أحدهما أن الآية لما دلت على تحريم الخمر وكان مسماها مجهولا للقوم حسن للشارع أن يقول مراد الله تعالى من هذه اللفظة هذا ويكون على سبيل إحداث لغة كما في الصلاة والصوم
والوجه الآخر أن يكون معناه أنه كالخمر في الحرمة لأن قوله هذا خمر إن كان حقيقة حصل المدعى أو مجازا فكذلك فيكون حكمه كحكمه لأنا بينا أن الشارع ليس مقصوده تعليم اللغات بل تعليم الأحكام وحديث البتع المذكور عن الصحيحين يبطل كل تأويل ذكره القائلون بحل الأنبذة ويفسد قول من زعم حل ما لا يسكر من الأنبذة لأنه صلى الله عليه وسلم سئل عن نوع واحد من الأنبذة فأجاب بتحريم الجنس الشامل للقليل والكثير
____________________
(2/798)
ولو كان ثم تفصيل في شيء من أنواعه ومقاديره لذكره ولم يهمله وفي الحديث ما أسكر كثيره فقليله حرام
وفي حديث آخر ما أسكر الفرق أي بفتح الراء كيل يسع ستة عشر رطلا منه فملء الكف منه حرام
وروى أبو داود نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر
قال الخطابي المفتر كل شراب يورث الفتور والخدر في الأعضاء واستدلوا أيضا بالاشتقاق المتقدم وبقوله تعالى إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة وهذه العلة موجودة في سائر الأنبذة لأنها كلها مظنة لذلك وأيضا فإن عمر ومعاذا قالا يا رسول الله إن الخمر مسلبة للعقل مذهبة للمال وهذه العلة موجودة في الأنبذة والاستدلال بآية ومن ثمرات النخيل والأعناب مردود بأن هذا نكرة في سياق الإثبات
فإن قلت إن ذلك السكر هو هذا النبيذ على أن المفسرين أجمعوا على أن هذه سابقة النزول على الآيات الدالة على تحريم الخمر فهي ناسخة أو مخصصة لهذه وبأنه صلى الله عليه وسلم أتى السقاية عام حجة الوداع فاستند إليها وقال اسقوني فقال العباس نسقيك مما ننبذه في بيوتنا فقال مما يسقى الناس فجاءه بقدح من نبيذ فشمه فقطب وجهه ورده فقال العباس يا رسول الله أفسدت على أهل مكة شرابهم فقال ردوا علي القدح فرده فدعا بماء من زمزم فصب فيه وشرب فقال إذا اغتلمت أي اشتدت عليكم الأشربة فاقطعوا متونها بالماء
مردود أيضا بعد تسليم فرض صحته بأن هذه واقعة حال يحتمل أنه كان مما نبذت فيه تمرات لتجذب ملوحته فتغير طعم الماء قليلا إلى الحموضة وطبعه صلى الله عليه وسلم في غاية اللطافة فلم يحتمله فقطب وجهه وإنما صب الماء فيه إزالة لتلك
____________________
(2/799)
هذه الكلمة غير موجودة في الكتاب الحموضة أو الرائحة وبأن فيه آثارا عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم تقتضي الحل ككتب عمر رضي الله تعالى عنه إلى بعض عماله إن أرزاق المسلمين الطلاء وهو ما ذهب ثلثاه وشرب أبي عبيدة ومعاذ له مردود أيضا بعد فرض صحتها بأنه قد عارضها آثار أخر فتدافعت وتساقطت وبقيت الحجة فيما صح عنه صلى الله عليه وسلم من تحريم كل مسكر قليله وإن لم يسكر وكثيره
ومر أن أخبار حرمة ذلك صرائح لا تحتمل التأويل ولضعف شبه الحل
قال الشافعي رضي الله عنه أحد معتقده وأقبل شهادته وإنما حده لما ذكر من ضعف شبهته ولأن العبرة بمذهب الحاكم المرفوع إليه لا الخصم وإنما قبل شهادته لأنه لم يرتكب مفسقا في اعتقاده ثم محل الخلاف كما علم مما تقرر في شرب شيء لا يسكر هو أصلا فأكثر العلماء على تحريمه وأن جميع أحكام الخمر تثبت له وأطالوا في رد خلاف ذلك وتزييفه
أما شرب ما يسكر بالفعل فهو حرام وفسق بالإجماع وكذا قليل عصير العنب أو الرطب إذا اشتد وغلا من غير عمل النار فيه فهو حرام ونجس إجماعا يحد شاربه ويفسق بل ويكفر إن استحله قالوا ونزل في تحريم الخمر أربع آيات بمكة قوله تعالى ومن ثمرات النخيل الآية
وكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال ثم إن عمر ومعاذا وآخرين قالوا يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزل قوله تعالى فيهما إثم كبير ومنافع للناس فقال صلى الله عليه وسلم إن الله يقدم في تحريم الخمر فمن كان عنده شيء منها فليبعه فتركها قوم لقوله إثم كبير وشربها قوم لقوله ومنافع للناس إلى أن صنع عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه طعاما فدعا ناسا من الصحابة وأتاهم بخمر فشربوا وسكروا وحضرت صلاة المغرب فتقدم بعضهم ليصلي بهم فقرأ قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون هكذا إلى آخر السورة بحذف لا فأنزل الله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون فحرم السكر في أوقات الصلاة ولما نزلت هذه الآية حرمها قوم وقالوا لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة وتركها قوم في أوقات الصلاة فقط فكان أحدهم يشرب بعد صلاة العشاء فيصبح وقد زال سكره بعد صلاة الصبح فيصحو إذا جاء وقت الظهر
واتخذ عتبان بن مالك صنيعا ودعا رجالا من المسلمين فيهم سعد بن أبي وقاص وكان قد شوى لهم رأس بعير فأكلوا منه وشربوا الخمر حتى أخذت منهم ثم إنهم افتخروا عند ذلك واستبوا وتناشدوا الأشعار فأنشد بعضهم قصيدة فيها هجاء الأنصار وفخر لقومه فأخذ رجل من الأنصار لحي البعير فضرب به رأس سعد فشجه موضحة فانطلق سعد
____________________
(2/800)
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه الأنصاري فقال اللهم بين لنا رأيك في الخمر بيانا شافيا فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون
وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام فقال عمر انتهينا يا رب
قال الفخر الرازي والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب أن الله تعالى علم أن القوم كانوا قد ألفوا شرب الخمر وكان انتفاعهم بذلك كثيرا فعلم أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق ذلك عليهم فلا جرم درجهم في التحريم رفقا بهم ومن الناس من قال إن الله حرم الخمر والميسر بهذه الآية أي آية البقرة ثم نزل قوله لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فاقتضى تحريم شربها أيضا لأن شاربها تتعذر عليه الصلاة مع السكر فكان المنع من ذلك منعا من الشرب ضمنا ثم نزلت آية المائدة فكانت في غاية القوة في التحريم
قال أنس رضي الله عنه حرمت الخمر ولم يكن يومئذ للعرب عيش أعجب منها وما حرم عليهم شيء أشد منها وقال ما كان لنا خمر غير فضيخكم فإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلانا وفلانا إذا جاء رجل فقال حرمت الخمر قالوا أهرق هذه القلال يا أنس قال فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل
والميسر القمار وسيأتي الكلام عليه في مبحثه باب الشهادات في قوله تعالى فيهما أي تعاطيهما إثم كبير أي بالموحدة والمثلثة والإثم يوصف بالكبر مبالغة في تعظيم الذنب ومنه إنه كان حوبا كبيرا إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه وشرب الخمر والقمار من الكبائر فناسب وصف إثمهما بذلك وقد اتفقت السبعة في أكبر من نفعهما على أنه بالموحدة
ووجه قراءة الأخوين كثير بالمثلثة أنه باعتبار الآثمين من الشاربين والمقامرين أو باعتبار ما يترتب على تعاطيهما من توالي العقاب وتضعيفه أو باعتبار ما يترتب على شربها واللعب به من الأقوال السيئة والأفعال القبيحة أو باعتبار من تداولها من لدن كانت عنبا إلى أن شربت فقد لعن صلى الله عليه وسلم الخمر ولعن معها عشرة كما سيأتي فناسب ذلك أو باعتبار أن الإثم مقابل لمنافع وهو جمع فناسب وصف مقابله بمعنى الجمعية وهو الكثرة فاتضحت القراءتان بل مآلهما إلى شيء واحد لأن الكبير كثير وعكسه كما أن الصغير حقير ويسير
ومما يجب على المتكلم في توجيه القراءات أن يوجه كلا من غير تعرض لتضعيف قراءة
____________________
(2/801)
متواترة وما وقع من ذلك للزمخشري وغيره في مواضع فهو من زللهم وخطئهم ودل قوله تبارك اسمه إثم كبير على تحريم الخمر بدليل قوله تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم وأيضا فالإثم إما العقاب أو سببه وكل منهما لا يوصف به إلا المحرم وأيضا فقد قال تعالى أكبر من نفعهما فرجح الإثم وذلك يوجب التحريم
فإن قيل هذا لا يدل على أن شرب الخمر حرام بل على أن فيه إثما وهب أن ذلك الإثم حرام فلم قلتم إن شرب الخمر لما حصل فيه ذلك الإثم وجب أن يكون حراما أجيب بأن السؤال كان واقعا عن مطلق الخمر فلما بين تعالى أن فيه إثما كان المراد أن ذلك الإثم لازم له على جميع التقديرات فكان شرب الخمر مستلزما لهذه الملازمة المحرمة ومستلزم المحرم محرم فوجب أن يكون الشرب محرما
فإن قيل إن هذه الآية لا تدل على التحريم لأنها أثبتت فيها منافع والمحرم ليس كذلك ولأنهم لم يقنعوا بها في الدلالة على الحرمة حتى نزلت آية المائدة وآية تحريم الصلاة ولأنها أثبتت أن من أوصافها أن فيها إثما كبيرا فلو دل على التحريم لدل على أنها لم تحل قط في شرعنا ولا في غيره وهو باطل
وأجيب عن الأول بأن حصول النفع فيها غير مانع من حرمتها لأن صدق الخاص يوجب صدق العام أي ولا يرد عليه قوله صلى الله عليه وسلم إن الله لن يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليهم لأن المنافع أعم من الشفاء فلا يلزم من نفيه نفي مطلق المنافع
وعن الثاني بأنه جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت وحرم الخمر والتوقف الذي ذكروه غير مروي عنهم إنما كان من بعضهم على أنه يجوز أن يطلب أكابر الصحابة ما هو آكد من هذه الآية في التحريم كما التمس إبراهيم صلى الله على نبينا وعليه وسلم مشاهدة إحياء الموتى ليزداد يقينا وطمأنينة
وعن الثالث بأن قوله تعالى فيهما إثم كبير إخبار عن الحال لا عن الماضي فعلم تعالى أن شرب الخمر مفسدة لهم دون من قبلهم
ومن إثم الخمر الكبير إزالة
____________________
(2/802)
العقل الذي هو أشرف صفات الإنسان وإذا كانت الخمر عدوة للأشرف لزم أن تكون أخس الأمور لأن العقل إنما سمي عقلا لأنه يعقل أي يمنع صاحبه عن القبائح التي يميل إليها بطبعه فإذا شرب الخمر زال ذلك العقل المانع عن القبائح وتمكن إلفها وهو الطبع منها فارتكبها وأكثر منها حتى يرتد إليه عقله
ذكر ابن أبي الدنيا أنه مر بسكران وهو يبول في يده ويغسل به يده كهيئة المتوضئ ويقول الحمد لله الذي جعل الإسلام نورا والماء طهورا
وعن العباس بن مرداس أنه قيل له في الجاهلية لم لا تشرب الخمر فإنها تزيد في حرارتك فقال ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله في جوفي ولا أرضى أن أصبح سيد قومي وأمسي سفيههم
ومنه صدها عن ذكر الله وعن الصلاة وإيقاعها العداوة والبغضاء كما ذكره الله تعالى في آية المائدة ومنه أن هذه المعصية من خواصها أن الإنسان إذا ألفها اشتد ميله إليها وكاد أن يستحيل مفارقته لها بخلاف أكثر المعاصي
وأيضا فمتعاطيها لا يمل منها بخلاف سائر المعاصي ألا ترى أن الزاني تفتر رغبته من مرة وكلما زاد زاد فتوره والشارب كلما زاد زاد نشاطه واستغرقته اللذة البدنية فأعرض عن تذكر الآخرة وجعلها خلف ظهره نسيا منسيا فكان من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون
وبالجملة إذا زال العقل حصلت الخبائث بأسرها ولذلك قال صلى الله عليه وسلم اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث
ومن منافعها المذكورة فيها أنهم كانوا يتغالون فيها إذا جلبوها من النواحي وكان المشتري إذا ترك المماكسة في شرائها عدوه فضيلة له ومكرمة فكانت أرباحهم تكثر بسبب ذلك ومنها أن تقوي الضعيف وتهضم الطعام وتعين على الباه وتسلي المحزون وتشجع الجبان وتصفي اللون وتنعش الحرارة الغريزية وتزيد في الهمة والاستعلاء ثم لما حرمت سلبها جميع هذه المنافع وصارت ضررا صرفا وموتا حتفا أعاذنا الله من معاصيه بمنه وكرمه
وجاء في السنة الغراء تشديد عظيم في شرب الخمر وبيعها وشرائها وعصرها وحملها وأكل ثمنها وترغيب عظيم في ترك ذلك والتوبة منه
أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن زاد مسلم في رواية له وأبو داود آخره ولكن التوبة معروضة بعد
____________________
(2/803)
وفي رواية للنسائي قال لا يزني الزاني وهو مؤمن ولا يسرق السارق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر وهو مؤمن وذكر رابعة فنسيتها فإذا فعل ذلك فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه فإن تاب تاب الله عليه
وأبو داود لعن الله الخمر وشاربها وساقيها ومبتاعها وبائعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه
ورواه ابن ماجه وزاد وآكل ثمنها
وابن ماجه والترمذي واللفظ له وقال حسن غريب
قال الحافظ المنذري رواته ثقات لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة له وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشترى له
وأبو داود وغيره إن الله حرم الخمر وثمنها وحرم الميتة وثمنها وحرم الخنزير وثمنه
وأبو داود لعن الله اليهود ثلاثا إن الله حرم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها إن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه
وأبو داود من باع الخمر فليشقص الخنازير
قال الخطابي معنى هذا توكيد التحريم والتغليظ فيه يقول من استحل بيع الخمر فليستحل أكل الخنازير فإنهما في الحرمة والإثم سواء فإذا كنت لا تستحل أكل لحم الخنزير فلا تستحل ثمن الخمر
انتهى
وأحمد بسند صحيح
وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه أتاني جبريل عليه السلام فقال يا محمد إن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومبتاعها وساقيها ومسقاها
____________________
(2/804)
وأحمد مختصرا وابن أبي الدنيا والبيهقي يبيت قوم من هذه الأمة على طعم وشرب ولعب ولهو فيصبحوا قد مسخوا قردة وخنازير وليصيبنهم خسف وقذف حتى يصبح الناس فيقولون خسف الليلة ببني فلان وخسف الليلة بدار فلان خواص ولترسلن عليهم حجارة من السماء كما أرسلت على قوم لوط على قبائل فيها وعلى دور ولترسلن عليهم الريح العقيم التي أهلكت عادا على قبائل فيها وعلى دور بشربهم الخمر ولبسهم الحرير واتخاذهم القينات وأكلهم الربا وقطيعتهم الرحم وخصلة نسيها جعفر
والترمذي
وقال غريب إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء قيل وما هن يا رسول الله قال إذا كان المغنم دولا والأمانة مغنما والزكاة مغرما وأطاع الرجل زوجته وعق أمه وبر صديقه وجفا أباه وارتفعت الأصوات في المساجد وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره وشربت الخمور ولبس الحرير واتخذت القينات والمعازف ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء أو خسفا أو مسخا
والحاكم من زنى أو شرب الخمر نزع الله منه الإيمان كما يخلع الإنسان القميص من رأسه
والطبراني من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يشرب الخمر من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر
والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها لم يشربها في الآخرة
والبيهقي من شرب الخمر في الدنيا ولم يتب لم يشربها في الآخرة وإن دخل الجنة
ومسلم من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة
____________________
(2/805)
قال الخطابي قال البغوي في شرح السنة وفي قوله حرمها في الآخرة وعيد بأنه لا يدخل الجنة لأن شراب أهل الجنة خمر إلا أنهم لا يصدعون عنها ولا ينزفون ومن دخل الجنة لا يحرم شرابها
انتهى وفيه نظر
وحديث البيهقي المذكور يرده للتصريح فيه بأنه لا يشربها وإن دخل الجنة
وأحمد وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن الخمر وقاطع الرحم ومصدق بالسحر ومن مات مدمن الخمر سقاه الله جل وعلا من نهر الغوطة
قيل وما نهر الغوطة قال نهر يجري من فروج المومسات أي الزواني يؤذي أهل النار ريح فروجهم
وابن حبان لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا مؤمن بسحر ولا قاطع رحم
والحاكم وصححه واعترض بأن فيه متروكا أربع حق على الله ألا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها مدمن الخمر وآكل الربا وآكل مال اليتيم بغير حق والعاق لوالديه
وأحمد لا يلج حائط القدس مدمن خمر ولا العاق ولا المنان عطاءه
ورواه البزار إلا أنه قال لا يلج جنات الفردوس
وأحمد بسند رجاله رجال الصحيح مدمن الخمر إن مات أي من غير توبة لقي الله كعابد وثن
وابن حبان في صحيحه من لقي الله مدمن خمر لقيه كعابد وثن
____________________
(2/806)
والنسائي عن أبي موسى رضي الله عنه أنه كان يقول ما أبالي أشربت الخمر أو عبدت هذه السارية دون الله أي أنهما في الإثم متقاربان وكأنه أخذ ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم كعابد وثن ومما يأتي عن الصحابة أنها لما حرمت مشى بعضهم إلى بعض وقالوا حرمت الخمر وجعلت عدلا للشرك
والطبراني بسند رواته ثقات عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا عاق ولا منان
قال ابن عباس فشق ذلك علي لأن المؤمنين يصيبون ذنوبا حتى وجدت ذلك في كتاب الله عز وجل في العاق فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم الآية
وفي المنان لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى وفي الخمر إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان
وأحمد واللفظ له والنسائي والبزار والحاكم وصححه ثلاثة قد حرم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة مدمن الخمر والعاق والديوث الذي يقر في أهله الخبث
والطبراني يراح ريح الجنة من مسيرة خمسمائة عام ولا يجد ريحها منان بعمله ولا عاق ولا مدمن خمر
والطبراني بسند
قال الحافظ المنذري لا أعلم في رواته مجروحا وله شواهد كثيرة ثلاثة لا يدخلون الجنة أبدا الديوث والرجلة من النساء ومدمن الخمر قالوا يا رسول الله أما مدمن الخمر فقد عرفناه فما الديوث قال الذي لا يبالي من دخل على أهله
قلنا فما الرجلة من النساء قال التي تشبه بالرجال
____________________
(2/807)
والحاكم وصححه اجتنبوا الخمر فإنها مفتاح كل شر
ورزين الخمر جماع الإثم والنساء حبائل الشيطان وحب الدنيا رأس كل خطيئة
وابن ماجه والبيهقي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم أن لا تشرك بالله شيئا وإن قطعت وإن حرقت ولا تترك صلاة مكتوبة متعمدا فمن تركها متعمدا فقد برئت منه الذمة ولا تشرب الخمر فإنها مفتاح كل شر
والطبراني بسند صحيح والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن أبا بكر وعمر وناسا جلسوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا أعظم الكبائر فلم يكن عندهم فيها علم فأرسلوني إلى عبد الله بن عمرو أسأله فأخبرني أن أعظم الكبائر شرب الخمر فأتيتهم فأخبرتهم فأنكروا ذلك ووثبوا إليه جميعا حتى أتوه في داره فأخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن ملكا من ملوك بني إسرائيل أخذ رجلا فخيره بين أن يشرب الخمر أو يقتل نفسا أو يزني أو يأكل لحم خنزير أو يقتلوه فاختار الخمر وإنه لما شرب الخمر لم يمتنع من شيء أرادوه منه وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من أحد يشربها فتقبل له صلاة أربعين ليلة ولا يموت وفي مثانته منه شيء إلا حرمت بها عليه الجنة فإن مات في أربعين ليلة مات ميتة جاهلية
وابن حبان في صحيحه واللفظ له والبيهقي مرفوعا مثله وموقوفا وذكر أنه المحفوظ اجتنبوا أم الخبائث فإنه كان رجل ممن كان قبلكم يتعبد ويعتزل الناس فعلقته امرأة فأرسلت إليه خادما إنا ندعوك لشهادة فدخل فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه حتى إذا أفضى إلى امرأة وضيئة جالسة وعندها غلام وباطية فيها خمر فقالت إنا لم ندعك هذه الكلمة غير موجودة في الكتاب لشهادة
____________________
(2/808)
ولكن دعوتك لتقتل هذا الغلام وتقع علي أو تشرب كأسا من الخمر فإن أبيت صحت بك وفضحتك فلما رأى أنه لا بد له من ذلك قال اسقيني كأسا من الخمر فسقته كأسا من الخمر فقال زيديني فلم يزل حتى وقع عليها وقتل النفس فاجتنبوا الخمر فإنه والله لا يجتمع إيمان وإدمان الخمر في صدر رجل أبدا ليوشكن أحدهما يخرج صاحبه
وأحمد وابن حبان في صحيحه وقيل الصحيح وقفه على كعب عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن آدم لما أهبط إلى الأرض قالت الملائكة أي ربي أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون قالوا ربنا نحن أطوع لك من بني آدم قال الله تعالى لملائكته هلموا ملكين من الملائكة فننظر كيف يعملان قالوا ربنا هاروت وماروت قال فاهبطا إلى الأرض فتمثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر فجاءاها فسألاها نفسها فقالت لا والله حتى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك قالا والله لا نشرك بالله أبدا فذهبت عنهما ثم رجعت إليهما ومعها صبي تحمله فسألاها نفسها فقالت لا والله حتى تقتلا هذا الصبي
فقالا لا والله لا نقتله أبدا فذهبت ثم رجعت بقدح خمر تحمله فسألاها نفسها فقالت لا والله حتى تشربا هذه الخمر فشربا فسكرا فوقعا عليها وقتلا الصبي فلما أفاقا قالت المرأة والله ما تركتما من شيء أبيتما علي إلا فعلتما حين سكرتما فخيرا عند ذلك بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا
والطبراني بسند رجاله رجال الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما حرمت الخمر مشى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم إلى بعض وقالوا حرمت الخمر وجعلت عدلا للشرك
____________________
(2/809)
وأحمد وأبو يعلى كلاهما عن شيخ من حمير لم يسمياه عن أبي تميم أنه سمع قيس بن سعد بن عبادة سيد الأنصار رضي الله عنهم وهو على مصر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من كذب علي كذبة متعمدة فليتبوأ مضجعا من النار أو بيتا في جهنم
وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من شرب الخمر أتى عطشان يوم القيامة ألا فكل مسكر خمر وكل خمر حرام وإياكم والغبيراء وسمعت عبد الله بن عمر بعد ذلك يقول مثله لم يختلفا إلا في بيت أو مضجع
والطبراني من شرب الخمر خرج نور الإيمان من جوفه
والبزار من شرب الخمر سقاه الله من حميم جهنم
ومسلم والنسائي أن رجلا قدم من جيشان وجيشان من اليمن فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مسكر هو قال نعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مسكر حرام وإن على الله عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال قالوا يا رسول الله وما طينة الخبال قال عرق أهل النار أو عصارة أهل النار
والبزار بسند صحيح ثلاثة لا تقربهم الملائكة الجنب والسكران والمتضمخ بالخلوق
والطبراني وابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما والبيهقي ثلاثة لا يقبل الله لهم صلاة ولا تصعد لهم إلى السماء حسنة العبد الآبق حتى يرجع إلى مواليه فيضع يده في أيديهم والمرأة الساخط عليها زوجها حتى يرضى والسكران حتى يصحو
____________________
(2/810)
وأحمد إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين وأمرني أن أمحق المزامير والكبارات يعني البرابط أي العيدان جمع بربط بفتح الموحدتين وهو العود والمعازف والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية وأقسم ربي بعزته لا يشرب عبد من عبيدي جرعة من خمر إلا سقيته مكانها من حميم جهنم معذبا أو مغفورا له ولا يدعها عبد من عبيدي من مخافتي إلا سقيته إياها من حظيرة القدس
والبزار بسند حسن من ترك الخمر وهو يقدر عليه إلا سقيته منه من حظيرة القدس ومن ترك الحرير وهو يقدر عليه إلا كسوته إياه في حظيرة القدس
والطبراني بسند رواته ثقات إلا شيخه وقد وثق وله شواهد من سره أن يسقيه الله الخمر في الآخرة فليتركها في الدنيا ومن سره أن يكسوه الله الحرير في الآخرة فليتركه في الدنيا
والطبراني من شرب حسوة من خمر لم يقبل الله منه ثلاثة أيام صرفا ولا عدلا ومن شرب كأسا لم يقبل الله صلاته أربعين صباحا والمدمن الخمر حق على الله أن يسقيه من نهر الخبال قيل يا رسول الله وما نهر الخبال قال صديد أهل النار
وعبد الله بن الإمام أحمد في زياداته والذي نفسي بيده ليبيتن أناس من أمتي على أشر وبطر ولعب ولهو فيصبحون قردة وخنازير باستحلالهم المحارم واتخاذهم القينات وشربهم الخمر وأكلهم الربا ولبسهم الحرير
وابن ماجه وابن حبان في صحيحه يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يضرب على رءوسهم بالمعازف والقينات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير
____________________
(2/811)
والترمذي من رواية عبد القدوس وقد وثق وقال غريب وقد روى الأعمش عن عبد الرحمن بن لنسكيه مرسلا في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف قال رجل من المسلمين يا رسول الله متى ذلك قال إذا ظهرت القينات أو القيان والمعازف وشربت الخمور
وأحمد بسند رواته ثقات من مات من أمتي وهو يشرب الخمر حرم الله عليه شربها في الجنة ومن مات من أمتي وهو يتحلى الذهب حرم الله عليه لباسه في الجنة
والترمذي من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه
وأبو داود واللفظ له وابن حبان في صحيحه بنحوه إذا شربوا الخمر فاجلدوهم ثم إن شربوا فاجلدوهم ثم إن شربوا فاجلدوهم ثم إن شربوا فاقتلوهم
وأبو داود والنسائي وابن ماجه إذا سكر فاجلدوه ثم إن سكر فاجلدوه ثم إن سكر فاجلدوه ثم إن عاد في الرابعة فاقتلوه ورواية الأخيرين فاضربوا عنقه
وجاء قتل شارب الخمر في المرة الرابعة من غير ما وجه صحيح قال العلماء وهو منسوخ
والترمذي وحسنه والحاكم وصححه من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه فإن
____________________
(2/812)
عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب لم يتب الله عليه وسقاه من نهر الخبال قيل لابن عمر راويه يا أبا عبد الرحمن وما نهر الخبال قال نهر من صديد أهل النار
والنسائي موقوفا على ابن عمر من شرب الخمر فلم ينتثر لم تقبل له صلاة ما دام في جوفه أو عروقه منها شيء وإن مات مات كافرا فإن انتثر لم تقبل له صلاة أربعين يوما وإن مات فيها مات كافرا
والنسائي من شرب الخمر فجعلها في بطنه لم تقبل منه صلاة سبعا وإن مات فيها مات كافرا فإن أذهبت عقله عن شيء من الفرائض وفي رواية عن القرآن لم تقبل له صلاة أربعين يوما وإن مات فيها مات كافرا أي إن كان مستحلا لشربها أو كافرا للنعمة
وابن حبان في صحيحه من شرب الخمر فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن مات دخل النار فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد فشرب فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن مات دخل النار فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد فشرب فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن مات دخل النار فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد الرابعة كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال قال يا رسول الله وما طينة الخبال قال عصارة أهل النار
والحاكم وقال صحيح على شرطهما لا يشرب الخمر رجل من أمتي فتقبل له صلاة أربعين صباحا
وأبو داود كل مخمر خمر وكل مسكر حرام ومن شرب مسكرا نجست صلاته أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد الرابعة كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال قيل وما طينة الخبال يا رسول الله قال صديد أهل النار ومن سقى صغيرا لا يعرف حلاله من حرامه كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال
____________________
(2/813)
وأحمد عن أسماء بنت يزيد بسند حسن
وأحمد والبزار والطبراني عن أبي ذر بسند حسن أيضا من شرب الخمر لم يرض الله عنه أربعين ليلة فإن مات مات كافرا وإن تاب تاب الله عليه فإن عاد كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال قيل يا رسول الله وما طينة الخبال قال صديد أهل النار
والأصبهاني من شرب الخمر سخط الله عليه أربعين صباحا وما يدريه لعل منيته تكون في تلك الليالي فإن عاد سخط الله عليه أربعين صباحا وما يدريه لعل منيته تكون في تلك الليالي فإن عاد سخط الله عليه أربعين صباحا فهذه عشرون ومائة ليلة فإن عاد فهو في ردغة الخبال قيل وما ردغة الخبال قال عرق أهل النار وصديدهم
والأصبهاني من فارق الدنيا وهو سكران دخل القبر سكران وبعث سكران وأمر به إلى النار سكران إلى جبل يقال له سكران فيه عين يجري منها القيح والدم وهو طعامهم وشرابهم ما دامت السموات والأرض
والحاكم وصححه من ترك الصلاة سكرا مرة واحدة فكأنما كانت له الدنيا وما عليها فسلبها ومن ترك الصلاة أربع مرات سكرا كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال قيل وما طينة الخبال قال عصارة أهل جهنم
وأحمد بسند رواته ثقات من ترك الصلاة سكران مرة واحدة فكأنما كانت له الدنيا وما عليها فسلبها
والبيهقي إذا استحلت أمتي خمسا فعليهم الدمار إذا ظهر التلاعن وشربوا الخمور ولبسوا الحرير واتخذوا القيان واكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء
____________________
(2/814)
تنبيه عد جميع ما مر من الكبائر هو صريح هذه الأحاديث السابقة والآتية وهو ظاهر
أما شرب الخمر ولو قطرة منها فكبيرة إجماعا ويلحق بذلك شرب المسكر من غيرها وفي إلحاق غير المسكر خلاف والأصح إلحاقه إن كان شافعيا وقد جاء تسمية الخمر أكبر الكبائر
وروى ابن أبي حاتم في تفسيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر فقال هي أكبر الكبائر وأم الفواحش من شرب الخمر ترك الصلاة ووقع على أمه وخالته وعمته
وأما ما اقتضاه كلام الروياني من أن شرب غير الخمر إنما يكون كبيرة إذا سكر منه فمردود بأن القدر الذي لا يسكر داخل تحت الخمر على المشهور عند الشافعية من ثبوت اللغة قياسا وفيه الحد عندهم أيضا أي والحد من العلامات القطعية على كون الشيء المحدود عليه كبيرة فسكوت الرافعي على كلام الروياني ضعيف وكذلك قول الحليمي لو خلط خمرا بمثلها من الماء فذهبت شدتها وشربها فصغيرة
انتهى
وقد قال الأذرعي عقبه وفيه نظر ولا يسمح الأصحاب بذلك فيما أراه وقد قالوا إن شرب القطرة منه كبيرة ومعلوم أنها لا تؤثر انتهى وهو ظاهر وهذا في حق من يعتقد التحريم أما من يعتقد الحل فقال الشافعي رضي الله عنه أحده وأقبل شهادته ومر بيان ذلك
ومنه أنه لم يأت كبيرة في عقيدته على أن ما نقله الرافعي عن الروياني ذكر مثله القاضي أبو سعيد الهروي وحكم الخلاف ولم يرجح منه شيئا فقال في تعداد الكبائر وشرب الخمر والمسكر من غيره وفي اليسير منه خلاف إذا كان شافعيا
انتهى
والأرجح ما ذكر أنه كبيرة أيضا
وأما قول الحليمي شرب الخمر كبيرة فإن استكثر منه حتى سكر أو جاهر به ففاحشة فإن مزج خمرا بمثلها من الماء فذهب شدتها وضررها فذلك من الصغائر فمردود أيضا بل الصواب ما قاله الجلال البلقيني بأن الأصحاب لا يسمحون بما قاله في مزج الخمر بمثلها الجزم بخلاف ما قاله وأن ذلك كبيرة لا محالة
ومر أن ابن عبد السلام اختار ضبط الكبيرة بما يشعر بتهاون مرتكبها بدينه إشعار
____________________
(2/815)
أصغر الكبائر المنصوص عليها وقرر ذلك إلى أن قال فعلى هذا كل ذنب يعلم أن مفسدته كمفسدة ما اقترن به وعيد أو لعن أو حد أو كان أكثر مفسدة منه فهو كبيرة
انتهى
وذيل عليه تلميذه الإمام ابن دقيق العيد أنه لا بد أن توجد المفسدة مجردة عما يقترن بها من أمر آخر فإنه قد يقع الغلط في ذلك قال ألا ترى أن السابق إلى الذهن في مفسدة الخمر السكر وتشوش العقل فإن أخذنا بمجرده لزم أن لا يكون شرب القطرة الواحدة منه كبيرة لخلوها عن المفسدة المذكورة فيها لكنها كبيرة لمفسدة أخرى وهي التجرؤ على شرب الكثير الموقع في المفسدة فهذا الاقتران يصيره كبيرة
انتهى
وفي الخادم وأما النبيذ المختلف فيه إذا شرب اليسير منه معتقدا تحريمه ففي كونه كبيرة خلاف من أجل اختلاف العلماء فيه وقد صرح الرافعي فيما بعد بأنه على وجهين وأن الأكثرين على الرد أي رد الشهادة به لأنه فسق ولو استعملت الخمر للتداوي على القول بالتحريم فيحتمل أن يقال ليس بكبيرة إذا قلنا لا يجب فيه الحد كما صححه النووي ويحتمل خلافه للجرأة
انتهى
قال غيره والأوجه الأول وإذا تقرر أن شرب الخمر ولو قطرة كبيرة وكذا شرب كل مسكر ولو قطرة أيضا على ما تقرر فجاء في الأحاديث لعن نحو عشرة في الخمر وهي جارية في غيرها إما بطريق النص بناء على الأصح السابق أن اللغة ثبتت قياسا وإما بطريق القياس لما علم من تساويهما في الأحكام
قال شيخ الإسلام العلائي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن في الخمر عشرة عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشترى له رواه أبو داود ا ه
قال الجلال البلقيني وهذا الحديث الذي أشار إليه ليس بهذا اللفظ الذي ذكره إنما روى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعنت الخمر على عشرة وجوه لعنت الخمر بعينها وشاربها وساقيها وبائعها ومشتريها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها وهذه الرواية تشتمل على ثمانية من الملعونين غير الشارب هذا لفظ أحمد
ولأبي داود وابن ماجه لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه هذا لفظ أبي داود
ولابن ماجه نحوه وزاد وآكل ثمنها وهذه الرواية اشتملت على ثمانية غير الشارب أيضا
وروى الترمذي وقال غريب وابن
____________________
(2/816)
ماجه عن أنس قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة عاصرها ومعتصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشترى له
وأخرجه ابن ماجه بنحوه وهذه الرواية مشتملة على تسعة غير الشارب
انتهى
وقدمت في أوائل الحديث الصحيح لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشترى له
والحديث الصحيح أيضا أتاني جبريل عليه السلام فقال يا محمد إن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومبتاعها وساقيها ومستقاها
وفي رواية يا محمد إن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومبتاعها وشاربها وآكل ثمنها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها ومستقاها
وبمجموع هذه الأحاديث يعلم منها ما ذكرته في الترجمة على أن الأصحاب صرحوا بأكثره فقد قال الصلاح العلائي نص الأصحاب على أن بيع الخمر كبيرة يفسق متعاطيه وكذلك يكون حكم الشراء وأكل الثمن والحمل والسقي وأما عاصرها ومعتصرها فقالوا لا يفسق بذلك وينبغي أن يكون ذلك دائرا مع القصد فإن نوى به الخمر دخل في حكم الحديث وإن نوى به شيئا غيره لم يدخل
وحكى ابن الصباغ أن مجرد إمساك الخمر ليس بكبيرة ويجوز إمساكها لتنقلب خلا
وقال الماوردي إن إمساكها لذلك لم يحرم وإن قصد ادخارها على حالها فيفسق به وهذا موافق لما أشرنا إليه من معنى القصد
انتهى
قال الجلال البلقيني وما أشار إليه من القصد هو الصواب أما الخالي عن القصد أو لقصد الخل فلا
انتهى
والحاصل أن تعمد شرب القليل من الخمر أو النبيذ ولو مطبوخا مع علم التحريم كبيرة وكذا بيعها وشراؤها لغير حاجة كتداو أو قصد تخلل وكذا عصرها واعتصارها ونحوهما مما مر إن قصد به شربها أو الإعانة عليه بخلاف نحو إمساكها لقصد تخليل أو تخلل
خاتمة ذكر بعضهم تتمات لما سبق فأذكرها وإن كان في خلالها بعض ما مر لتبقى عهدة غير ما سبق عليه قال ما حاصله نهى الله عز وجل بقوله إنما الخمر والميسر إلى قوله تعالى فهل أنتم منتهون في هذه الآية عن الخمر وحذر منها
____________________
(2/817)
وقال صلى الله عليه وسلم اجتنبوا الخمر أم الخبائث فمن لم يجتنبها فقد عصى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم واستحق العذاب بمعصية الله عز وجل ورسوله قال الله تعالى ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين
ولما نزل تحريم الخمر مشى الصحابة بعضهم إلى بعض وقالوا حرمت الخمر وجعلت عدلا للشرك
ومدمن الخمر كعابد الوثن وإذا مات ولم يتب لا يدخل الجنة كما مر في أحاديث أي إن استحلها
وذهب عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إلى أن الخمر أكبر الكبائر وهي بلا ريب أم الخبائث وقد لعن شاربها ونحوه في أحاديث كثيرة ومر في الحديث أن السكران لا تقبل له صلاة أربعين يوما ولا ترفع له إلى السماء حسنة
وقال صلى الله عليه وسلم من شرب الخمر ولم يسكر أعرض الله عنه أربعين ليلة ومن شرب الخمر وسكر لم يقبل الله له صرفا ولا عدلا أربعين ليلة فإن مات فيها مات كعابد وثن وكان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال قيل يا رسول الله وما طينة الخبال قال عصارة أهل النار القيح والدم
وقال عبد الله بن أبي أوفى من مات مدمن خمر كعابد اللات والعزى قيل مدمن الخمر هو الذي لا يستفيق من شربها قال لا ولكن هو الذي يشربها إذا وجدها ولو بعد سنين
وفي الحديث من شرب الخمر ممسيا أصبح مشركا ومن شربها مصبحا أمسى مشركا
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال لا تعودوا شربة الخمر إذا مرضوا
قال البخاري وقال ابن عمر لا تسلموا على شربة الخمر
وقال صلى الله عليه وسلم لا تجالسوا شراب الخمر ولا تعودوا مرضاهم ولا تشهدوا جنائزهم وإن شارب الخمر يجيء يوم القيامة مسودا وجهه مدلعا لسانه على صدره يسيل لعابه يقذره كل من رآه
____________________
(2/818)
قال بعض العلماء وإنما نهى عن عيادتهم والسلام عليهم لأن شارب الخمر فاسق ملعون قد لعنه الله ورسوله كما مر فإن اشتراها وعصرها كان ملعونا مرتين وإن سقاها لغيره كان ملعونا ثلاث مرات فلذلك نهى عن عيادته والسلام عليه إلا أن يتوب فإن تاب تاب الله عليه
ولا يحل التداوي بها فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت اشتكت بنت لي فنبذت لها في كوز فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يغلي قال ما هذا يا أم سلمة فذكرت له أني أداوي به ابنتي فقال صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها
وروي في الخمر أحاديث متفرقة من ذلك ما ذكره أبو نعيم في الحلية عن أبي موسى رضي الله عنه قال أتي النبي صلى الله عليه وسلم بنبيذ في جرة له نشيش فقال اضربوا بهذا الحائط فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان في صدره آية من كتاب الله وصب عليها الخمر يجيء كل حرف من تلك الآية فيأخذ بناصيته حتى يوقفه بين يدي الله تعالى فيخاصمه ومن خاصمه القرآن خصم فالويل لمن كان القرآن خصمه يوم القيامة
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من قوم اجتمعوا على مسكر في الدنيا إلا جمعهم الله في النار فيقبل بعضهم على بعض يتلاومون يقول أحدهم للآخر يا فلان لا جزاك الله عني خيرا فأنت الذي أوردتني هذا المورد فيقول له الآخر مثل ذلك
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال من شرب الخمر في الدنيا سقاه الله من سم الأساود شربة يتساقط منها لحم وجهه في الإناء قبل أن يشربها فإذا شربها يتساقط لحمه وجلده يتأذى به أهل النار ألا وإن شاربها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها شركاء في إثمها لا يقبل الله منهم صلاة ولا صوما ولا حجا حتى يتوبوا فإن ماتوا قبل التوبة كان حقا على الله أن يسقيهم بكل جرعة شربوها في الدنيا من صديد جهنم ألا وكل مسكر حرام وكل خمر حرام
____________________
(2/819)
وروي أن شربة الخمر إذا أتوا على الصراط تخطفهم الزبانية إلى نهر الخبال فيسقون بكل كأس شربوا من الخمر شربة من نهر الخبال فلو أن تلك الشربة تصب من السماء لاحترقت السموات من حرها نعوذ بالله منها
وجاء فيها آثار عن السلف فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال إذا مات شارب الخمر فادفنوه ثم اصلبوني على خشبة ثم انبشوا عنه قبره فإن لو تروا وجهه مصروفا عن القبلة وإلا فاتركوني مصلوبا
وعن الفضيل بن عياض رضي الله عنه أنه حضر عند تلميذ له حضره الموت فجعل يلقنه الشهادة ولسانه لا ينطق بها فكررها عليه فقال لا أقولها وأنا بريء منها ثم مات فخرج الفضيل من عنده وهو يبكي ثم رآه بعد مدة في منامه وهو يسحب به في النار فقال له يا مسكين بم نزعت منك المعرفة فقال يا أستاذ كان بي علة فأتيت بعض الأطباء فقال لي تشرب في كل سنة قدحا من الخمر وإن لم تفعل تبق بك علتك فكنت أشربها في كل سنة لأجل التداوي فهذا حال من شربها للتداوي فكيف حال من يشربها لغير ذلك نسأل الله العافية من كل بلاء ومحنة
وسئل بعض التائبين عن سبب توبته فقال كنت أنبش القبور فرأيت فيها أمواتا مصروفين عن القبلة فسألت أهاليهم عنهم فقالوا كانوا يشربون الخمر في الدنيا وماتوا من غير توبة
وقال بعض الصالحين مات لي ولد فلما دفنته رأيته بعد مدة في المنام وقد شاب رأسه فقلت يا ولدي دفنتك صغيرا فما الذي شيبك فقال يا أبت لما دفنتني دفن إلى جانبي رجل كان يشرب الخمر في الدنيا فزفرت النار لقدومه إلى قبره زفرة لم يبق منها طفل إلا شاب رأسه من شدة زفرتها
وقال أيضا واعلم أن الحشيشة المعروفة حرام كالخمر يحد آكلها أي على قول قال به جماعة من العلماء كما يحد شارب الخمر وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج أي إفسادا عجيبا حتى يصير في متعاطيها تخنث قبيح ودياثة عجيبة وغير ذلك من المفاسد فلا يصير له من المروءة شيء ألبتة ويشاهد من أحواله خنوثة الطبع وفساده وانقلابه إلى أشر من طبع النساء ومن الدياثة على زوجته وأهله فضلا عن الأجانب ما يقضي العاقل منه بالعجب العجاب وكذا متعاطي نحو البنج والأفيون وغيرهما مما مر قبل البيع والخمر أخبث من جهة أنها تفضي إلى الصيال على الغير وإلى المخاصمة والمقاتلة والبطش وكلاهما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة
ورأى آخرون من العلماء
____________________
(2/820)
تعذير آكلها كالبنج
ومما يقوي القول بأنه يحد أن آكلها ينتشي ويشتهيها كالخمر وأكثر حتى لا يصبر عنها وتصده عن ذكر الله وعن الصلاة مع ما فيها من تلك القبائح
وسبب اختلاف العلماء في الحد فيها وفي نجاستها كونها جامدة مطعومة ليست شرابا فقيل هي نجسة كالخمر وهو الصحيح أي عند الحنابلة وبعض الشافعية
وقيل طاهرة لجمودها أي وهو الصحيح عند الشافعية وقيل المائعة نجسة والجامدة طاهرة
قال وعلى كل حال فهي داخلة فيما حرم الله ورسوله من الخمر المسكر لفظا ومعنى
قال أبو موسى رضي الله عنه يا رسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن البتع وهو من العسل ينبذ حتى يشتد والمزر وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطي جوامع الكلام بخواتيمه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مسكر حرام رواه مسلم
وقال صلى الله عليه وسلم ما أسكر كثيره فقليله حرام ولم يفرق صلى الله عليه وسلم بين نوع ونوع ككونه مأكولا أو مشروبا على أن الخمر قد يتأدم بها بالخبز والحشيشة قد تذاب فكل منهما يؤكل ويشرب وإنما لم يذكرها العلماء لأنها لم تكن على عهد السلف الماضين وإنما حدثت في مجيء التتار إلى بلاد الإسلام
وما أحسن ما قيل فآكلها وزاعمها حلالا فتلك على الشقي مصيبتان فوالله ما فرح إبليس بمثل فرحه بالحشيشة لأنه زينها للأنفس الخسيسة
حكي عن عبد الملك بن مروان أن شابا جاء إليه باكيا حزينا فقال يا أمير المؤمنين إني ارتكبت ذنبا عظيما فهل لي من توبة فقال وما ذنبك قال ذنبي عظيم
قال وما هو فتب إلى الله فإنه يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات قال يا أمير المؤمنين كنت أنبش القبور وكنت أرى فيها أمورا عجيبة قال ما رأيت قال يا أمير المؤمنين نبشت ليلة قبرا فرأيت صاحبه قد حول وجهه عن القبلة فخفت منه وأردت الخروج وإذا بقائل في القبر يقول ألا تسأل عن الميت لماذا حول وجهه عن القبلة فقلت لماذا حول قال لأنه كان مستخفا بالصلاة فهذا جزاء مثله ثم نبشت قبرا آخر فرأيت صاحبه قد حول خنزيرا وقد شد بالسلاسل والأغلال في عنقه فخفت منه وأردت الخروج وإذا بقائل يقول ألا تسأل عن عمله ولماذا يعذب فقلت لماذا فقال كان يشرب الخمر ومات من غير توبة ثم نبشت قبرا آخر فوجدت صاحبه قد شد في الأرض بأوتاد من نار وأخرج لسانه من قفاه فخفت ورجعت وأردت الخروج فنوديت ألا
____________________
(2/821)
تسأل عن حاله لماذا ابتلي فقلت لماذا فقال كان لا يتحرز من البول وكان ينقل الحديث بين الناس فهذا جزاء مثله
ثم نبشت قبرا آخر فوجدت صاحبه قد اشتعل بالنار فخفت وأردت الخروج فقيل لي ألا تسأل عنه وعن حاله فقلت وما حاله قال كان تاركا للصلاة فهذا جزاء مثله ثم نبشت قبرا فرأيته قد وسع على مد البصر وفيه نور ساطع والميت نائم على سريره وقد أشرق نوره وعليه ثياب حسنة فأخذتني منه هيبة فأردت الخروج فقيل لي ألا تسأل عن حاله لماذا أكرم بهذه الكرامة فقال لماذا فقيل لي إنه كان شابا طائعا نشأ في طاعة الله عز وجل وعبادته
فقال عبد الملك عند ذلك إن في ذلك لعبرة للعاصين وبشارة للطائعين جعلنا الله ممن أطاعه فرضي عنه بمنه وكرمه آمين
باب الصيال الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والثمانون بعد الثلاثمائة الصيال على معصوم لإرادة نحو قتله أو أخذ ماله أو انتهاك حرمة بضعه أو لإرادة ترويعه وتخويفه
أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى ينتهي وإن كان أخاه لأبيه وأمه
والشيخان عن أبي بكر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار
وفي رواية لهما إذا المسلمان حمل أحدهما على أخيه السلاح فهما على حرف جهنم فإذا قتل أحدهما صاحبه دخلاها جميعا قال قلنا أو قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال إنه قد أراد قتل صاحبه
وأبو داود وآخرون بسند صحيح من طرق لا يحل لمسلم أو مؤمن أن يروع مسلما
قال صلى الله عليه وسلم لما مزح بعض الصحابة مع بعضهم فأخذ سهما من كنانته وهو نائم إيهاما
____________________
(2/822)
له أن سرق وفي طريق أخرى عند البزار والطبراني وأبي الشيخ ابن حبان أنه صلى الله عليه وسلم قال لمن فعل نظير ذلك لا تروعوا المسلم فإن روعة المسلم ظلم عظيم
والطبراني أن رجلا قام ونسي نعليه فأخذهما رجل فوضعهما تحته فرجع الرجل فقال نعلي فقال القوم ما رأيناهما فقال هو ذه فقال صلى الله عليه وسلم فكيف بروعة المؤمن فقال يا رسول الله إنما صنعته لاعبا فقال فكيف بروعة المؤمن مرتين أو ثلاثا
والطبراني من أخاف مؤمنا كان حقا على الله أن لا يؤمنه من فزع يوم القيامة
والطبراني وأبو الشيخ من نظر إلى مؤمن أو مسلم نظرة يخيفه فيها بغير حق أخافه الله فيها يوم القيامة
تنبيه عد هذه المذكورات هو في الأخيرة صريح الحديث الأول وما بعده وفيما قبلها مفهوم منه بالأولى وهو ظاهر وإن لم أر من ذكره لكن يؤيده أن أئمتنا أهدروا دم الصائل على شيء من ذلك فأباحوا للمصول عليه تارة وأوجبوا عليه أخرى أن يدفعه وإذا دفعه لزمه أن يدفعه بالأخف فالأخف فلا ينتقل لرتبة وهو يرى أن ما دونها كاف فإذا أفضى دفعه حينئذ إلى قتله كان مهدرا لا قصاص فيه ولا دية ولا كفارة فإهداره صريح ظاهر في فسقه لأن صياله إذا كان مهدرا لدمه فأولى أن يكون مفسقا له وهذا لو لم ترد تلك الأحاديث بهذا فكيف وقد وردت
ثم رأيت ما هو نص في ذلك وهو خبر مسلم يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي قال فلا تعطه مالك قال أرأيت إن قاتلني قال قاتله قال أرأيت إن قتلني قال فأنت شهيد قال أرأيت إن قتلته قال هو في النار
وروى النسائي يا رسول الله أرأيت إن عدي على مالي قال فانشد بالله
قال فإن أبوا علي قال فأنشد بالله
قال فإن أبوا علي قال فأنشد بالله قال فإن أبوا علي قال فقاتل فإن قتلت ففي الجنة وإن قتلت ففي النار
وصح من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه
____________________
(2/823)
فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد
ثم رأيت بعض المتأخرين من الشافعية صرح في الأخيرة بأنها كبيرة فقال وأن يشير إلى أخيه بحديدة أو سلاح مروعا وهو موافق لما ذكرته
الكبيرة السابعة والثمانون بعد الثلاثمائة أن يطلع من نحو ثقب ضيق في دار غيره بغير إذنه على حرمه
أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقئوا عينه
وفي رواية أبي داود ففقئوا عينه فقد هدرت
والنسائي من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه فلا دية ولا قصاص
وأحمد بسند رواته رواة الصحيح إلا ابن لهيعة ومر أن حديثه حسن في المتابعات
والترمذي وقال غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة أيما رجل كشف سترا فأدخل بصره قبل أن يؤذن له فقد أتى حدا لا يحل له أن يأتيه ولو أن رجلا فقأ عينه لهدرت ولو أن رجلا مر على باب لا ستر له فرأى عورة أهله فلا خطيئة عليه إنما الخطيئة على أهل المنزل
والطبراني بسند رواته ثقات إلا أن فيه انقطاعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الاستئذان في البيوت فقال من دخلت عينه قبل أن يستأذن ويسلم فلا إذن له وقد عصى ربه
والشيخان وغيرهما أن رجلا اطلع من بعض حجر النبي صلى الله عليه وسلم فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم بمشقص أو بمشاقص فكأني أنظر إليه يختل الرجل ليطعنه
____________________
(2/824)
والنسائي أن أعرابيا أتى باب النبي صلى الله عليه وسلم فألقم عينه خصاصة الباب فبصر به النبي صلى الله عليه وسلم فتوخاه بحديدة أو عود ليفقأ عينه فلما أن أبصره انقمع فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما إنك لو ثبت لفقأت عينك والمشقص بكسر فسكون للمعجمة ففتح للقاف سهم له نصل عريض وقيل طويل وقيل هو النصل العريض نفسه وقيل الطويل ويختله بكسر الفوقية يخدعه ويراوغه وخصاصة الباب بفتح المعجمة وبمهملتين الثقب والشقوق فيه أي جعل شقه محاذي عينه وتوخاه بتشديد المعجمة أي قصده
والشيخان وغيرهما أن رجلا اطلع على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرة من حجر النبي صلى الله عليه وسلم ومع النبي صلى الله عليه وسلم مدراة يحك بها رأسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو علمت أنك تنظر لطعنت بها في عينك إنما جعل الاستئذان من أجل البصر
وأبو داود واللفظ له والترمذي وحسنه ثلاث لا يحل لأحد أن يفعلهن لا يؤم رجل قوما فيخص نفسه بالدعاء دونهم فإن فعل فقد خانهم ولا ينظر في قعر بيت قبل أن يستأذن فإن فعل فقد دخل أي صار كالذي دخل بيت غيره بلا إذنه ولا يصلي وهو حقن حتى يتخفف
والطبراني من طرق أحدها جيد لا تأتوا البيوت من أبوابها ولكن ائتوها من جوانبها فاستأذنوا فإن أذن لكم فادخلوا وإلا فارجعوا
تنبيه عد هذا هو صريح هذه الأحاديث وهو ظاهر وإن لم أر من ذكره لأن هدر العين صريح في أن ذلك الفعل فسق لأن قلعها كالحد لنظرها والحد من أمارات الكبيرة اتفاقا فكذا ما هو بمنزلته على أنه لا مانع من تسميته حدا لكون الشارع رتب جواز فعله على هذا الفعل ولم يتجاوز به إلى غيره من بقية الأعضاء وهذا شأن الحدود دون التعازير إذ لا محل لها مخصوص من البدن ولا ينافي ذلك أن لصاحب الدار ترك رميه لأن ذلك بمنزلة حد القذف في جواز العفو عنه
____________________
(2/825)
الكبيرة الثامنة والثمانون بعد الثلاثمائة التسمع إلى حديث قوم يكرهون الاطلاع عليه
أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك أي بالمد وضم النون الرصاص المذاب يوم القيامة ومن صور صورة عذب وكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ
تنبيه عد هذا هو صريح هذا الحديث وهو ظاهر وإن لم أر من ذكره لأن صب الرصاص المذاب في الأذنين يوم القيامة وعيد شديد جدا ثم رأيت بعضهم ذكره ومر في مبحث الغيبة معنى قوله تعالى ولا تجسسوا وقوله صلى الله عليه وسلم ولا تجسسوا ولا تحسسوا قيل هما مترادفان ومعناهما طلب معرفة الأخبار وقيل مختلفان فهو بالحاء أن تسمعها بنفسك وبالجيم أن تفحص عنها بغيرك وقيل بالحاء استماع حديث القوم وبالجيم البحث عن العورات ومن ذلك وغيره علم أنه ليس للإنسان أن يسترق السمع من دار غيره وأن لا يستنشق ولا يمس ثوب إنسان ليسمع أو يشم أو يجد منكرا وأن لا يستخبر من صغار دار أو جيرانها ليعلم ما يجري في بيت جاره
نعم لو أخبره عدل باجتماعهم على معصية فله أن يهجم عليهم بلا استئذان قاله الغزالي وسيأتي في بحث النهي عن المنكر ما يؤيده ويفيده إن شاء الله
الكبيرة التاسعة والثمانون بعد الثلاثمائة ترك ختان الرجل أو المرأة بعد البلوغ
كذا ذكر هذا بعضهم وله نوع وجه في ترك ختان الذكر لما يترتب على ذلك من المفاسد التي من جملتها ترك الصلاة غالبا لأن غير المختون لا يصح استنجاؤه حتى يغسل الحشفة التي داخل قلفته لأنها لما كانت مستحقة الإزالة كان ما تحتها في حكم الظاهر فوجب غسله والغالب من أحوال غير المختونين التساهل في ذلك وعدم الاعتناء به فلا تصح صلاتهم فكأن هذا هو ملحظ من قال إن ذلك كبيرة
وأما كون تركه في حق الأنثى كبيرة فلا وجه له ثم رأيت في كلام أصحابنا ما يصرح بما ذكرته وذلك أنهم حكموا وجهين في قبول شهادة الأقلف
قال بعض شراح المنهاج كالكمال الدميري والصحيح أنا إن أوجبنا الختان فتركه بلا عذر فسق
انتهى
فأفهم ذلك أن الكلام إنما هو في الذكر دون الأنثى وأن الذكر يفسق بترك الختان بلا عذر ويلزم من فسقه بذلك كونه كبيرة ووجهه ما قدمته
____________________
(2/826)
@ 827 كتاب الجهاد الكبيرة التسعون والحادية والثانية والتسعون بعد الثلاثمائة ترك الجهاد عند تعينه بأن دخل الحربيون دار الإسلام أو أخذوا مسلما وأمكن تخليصه منهم وترك الناس الجهاد من أصله وترك أهل الإقليم تحصين ثغورهم بحيث يخاف عليها من استيلاء الكفار بسبب ترك ذلك التحصين
قال تعالى ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وهي مصدر بمعنى الهلاك فلا فرق بينهما
وقال قوم التهلكة ما أمكن التحرز عنه والهلاك ما لم يمكن التحرز عنه وقيل هي نفس الشيء المهلك وقيل هي ما تضر عاقبته
واختلفوا في تفسير الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة فقيل هو راجع إلى نفس النفقة وعليه قول ابن عباس والجمهور وإليه ذهب البخاري ولم يذكر غيره على أن لا ينفقوا في جهات الجهاد أموالهم فيستولي العدو عليهم ويهلكهم فكأنه قيل إن كنت من رجال الدين فأنفق مالك في سبيل الله وإن كنت من رجال الدنيا فأنفق مالك في دفع الهلاك والضر عن نفسك وقيل هي الإسراف في النفقة لأن إنفاق جميع المال قد يؤدي إلى الهلاك عند الحاجة الشديدة إلى المأكول أو المشروب أو الملبوس وقيل هي السفر إلى الجهاد بلا نفقة وقد فعل ذلك قوم فانقطعوا في الطريق وقيل المراد غير النفقة وعليه فقيل هي أن يخلوا بالجهاد فيتعرضوا للهلاك الذي هو عذاب النار وقيل هي اقتحام الحرب بحيث يقتل من غير نكاية تحصل منه للعدو لأنه حينئذ قاتل لنفسه تعديا ورده بعضهم واستدل بأن رجلا من المهاجرين حمل على صف العدو فصاح به الناس ألقى بيده إلى التهلكة
فقال أبو أيوب الأنصاري نحن أعلم بهذه الآية وإنما نزلت فينا صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصرناه وشهدنا معه المشاهد فلما قوي الإسلام وكثر أهله رجعنا إلى أهلينا وأموالنا نصلحها فنزلت الآية فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد فما زال أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى كان آخر غزاة غزاها بقسطنطينية في زمن معاوية رضي الله عنهما فتوفي هنالك ودفن في أصل سورها وهم يستسقون به ولا شاهد في هذا لأن أبا أيوب لم يقل يحل إلقاء الإنسان نفسه في القتل من غير إظهار نكاية وهذا هو المدعى
واستدل أيضا بأن جماعة من الصحابة ألقوا
____________________
(2/827)
بنفوسهم في العدو وأثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وكذا وقع في زمن عمر لرجل فقيل ألقى بيده إلى التهلكة فقال كذبوا ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ولا شاهد له في كل ذلك لأنه لم يلاق المدعى أيضا لأن كل هذه الوقائع ليس فيها أن أحدا ألقى بنفسه في العدو حتى قتل مع علمه بأنه لا تظهر منه نكاية فيهم بل الظاهر من أحوالهم رضي الله عنهم أنهم ما أقدموا ذلك الإقدام الأعظم إلا لإيقاع نكاية في عدوهم هذا قصدهم ثم تارة يظهر من قاصد ذلك نكاية وتارة لا ولا يضره ذلك لأن المدار على قصد النكاية فيهم لا ظهورها وقيل هي إحباط الإنفاق في الجهاد بالرياء والسمعة والمنة وقيل هي القنوط بأن يصيب ذنبا فيرى أنه لا ينفعه معه عمل فينهمك في المعاصي وقيل إنفاق الخبيث وقيل غير ذلك
قال الطبري وهي عامة في جميع ما ذكر لأن اللفظ يحتمله وما مر في قصة أبي أيوب رواها بنحوها الترمذي وقال حسن غريب صحيح ولفظه عن أبي عمران قال كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم فأمروا على أهل مصر عقبة بن عامر وعلى الجماعة فضالة بن عبيد
فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل بينهم فصاح الناس وقالوا سبحان الله يلقي بيده إلى التهلكة فقام أبو أيوب فقال أيها الناس إنكم تتأولون هذا التأويل وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أموالنا قد ضاعت وإن الله تعالى قد أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا وأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله تعالى على نبيه ما يرد علينا ما قلنا وللفقراء في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وصلاحها وترك الغزو فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم
وروى أبو داود وغيره إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورغبتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم
ومسلم وغيره من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من النفاق
____________________
(2/828)
وأبو داود وابن ماجه من لم يغز ولم يجهز غازيا أو يخلف غازيا في أهله بخير أصابه الله تعالى بقارعة قبل يوم القيامة
والترمذي وابن ماجه من لقي الله بغير أثر من جهاد لقي الله وفيه ثلمة
والطبراني بسند حسن ما ترك قوم الجهاد إلا عمهم الله تعالى بالعذاب
تنبيه عد هذه الثلاثة ظاهر لأن كل واحد منها يحصل به من الفساد العائد على الإسلام وأهله ما لا يتدارك خرقه وعليها يحمل ما في هذه الآية والأحاديث من الوعيد الشديد فتأمل ذلك فإني لم أر أحدا تعرض لعد ذلك مع ظهوره
الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والتسعون بعد الثلاثمائة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة بأن أمن على نفسه ونحو ماله ومخالفة القول الفعل
قال تعالى والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر قال الغزالي أفهمت الآية أن من هجرهما خرج من المؤمنين
وقال القرطبي جعله الله تبارك وتعالى فرقا بين المؤمنين والمنافقين
وقال جل ذكره وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان فترك الإنكار تعاون على الإثم
وقال تعالى لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ففيها غاية التهديد ونهاية التشديد كما يأتي في الأحاديث
وقال تعالى أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون
____________________
(2/829)
أخرج مسلم وغيره عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان
والنسائي من رأى منكم منكرا فغيره بيده فقد برئ ومن لم يستطع أن يغيره بيده فغيره بلسانه فقد برئ ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه فغيره بقلبه أي أنكره فقد برئ وذلك أضعف الإيمان
والشيخان عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم
وأبو داود واللفظ له والترمذي وقال حسن غريب وابن ماجه أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر
وأبو داود أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم إلى قوله فاسقون ثم قال كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا زاد أبو داود في رواية في سندها انقطاع وفي أخرى مرسلة أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم
والترمذي وقال حسن غريب لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهاهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله على قلوب بعضهم
____________________
(2/830)
ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئا فقال لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا
أي تعطفوهم وتقهروهم وتلزموهم باتباع الحق
وأبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وغيرهم ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه ولا يغيرون إلا أصابهم الله منه بعقاب قبل أن يموتوا
وأبو داود والترمذي وقال حسن صحيح والنسائي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وكرم الله وجهه قال يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده ولفظ النسائي إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الناس أو القوم إذا رأوا المنكر فلم يغيروه عمهم الله بعقاب وفي رواية لأبي داود سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيرون إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب
والأصبهاني أيها الناس مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا الله فلا يستجيب لكم وقبل أن تستغفروه فلا يغفر لكم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يدفع رزقا ولا يقرب أجلا وإن الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى لما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعنهم الله على لسان أنبيائهم ثم عموا بالبلاء
____________________
(2/831)
والأصبهاني لا تزال لا إله إلا الله تنفع من قالها وترد عنهم العذاب والنقمة ما لم يستخفوا بحقها قالوا يا رسول الله وما الاستخفاف بحقها قال يظهر العمل بمعاصي الله تعالى فلا ينكر ولا يغير
ومسلم وغيره تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا يضره فتنة ما دامت السموات والأرض والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه مجخيا بضم ففتح للجيم فكسر للمعجمة أي مائلا أو منكوسا أي إن القلب إذا افتتن وخرجت منه حرمة المعاصي خرج منه نور الإيمان كما يخرج الماء من الكوز إذا مال أو انتكس
والحاكم وصححه إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منهم
وأبو داود إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها وكرهها وفي رواية فأنكرها كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها
والحاكم الإسلام أن تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتسليمك على أهلك فمن انتقص شيئا منهن فهو سهم من الإسلام يدعه ومن تركهن فقد ولى الإسلام ظهره
والبزار الإسلام ثمانية أسهم الإسلام أي الشهادتان سهم والصلاة سهم والزكاة سهم والصوم سهم وحج البيت سهم والأمر بالمعروف سهم والنهي عن المنكر سهم والجهاد في سبيل الله سهم وقد خاب من لا سهم له
وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت دخل النبي صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/832)
فعرفت وجهه أنه قد حضره شيء فتوضأ وما كلم أحدا فلصقت بالحجرة أستمع ما يقول فقعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال يا أيها الناس إن الله يقول لكم مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أستجيب لكم وتسألوني فلا أعطيكم وتستنصروني فلا أنصركم فما زاد عليهن حتى نزل
وأحمد والترمذي واللفظ له وابن حبان في صحيحه ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر
ورزين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كنا نسمع أن الرجل يتعلق بالرجل يوم القيامة وهو لا يعرفه فيقول له ما لك إلي وما بيني وبينك معرفة فيقول كنت تراني على الخطأ وعلى المنكر ولا تنهاني
والشيخان إياكم والجلوس بالطرقات قالوا يا رسول الله ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها قال فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه قالوا وما حقه قال غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وأخرج الشيخان عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أي تخرج أقتاب بطنه أي أمعاؤها وأحدها قتب بكسر القاف فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ما لك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه
وفي رواية لمسلم يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور كما يدور الحمار برحاه فتجتمع أهل النار عليه فيقولون يا فلان ما شأنك أليس كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه وإني سمعته يعني النبي صلى الله عليه وسلم يقول مررت ليلة أسري بي بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار قلت من هؤلاء يا جبريل قال خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون
وابن أبي الدنيا وابن حبان في صحيحه واللفظ له والبيهقي رأيت ليلة أسري بي
____________________
(2/833)
رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت من هؤلاء يا جبريل فقال الخطباء من أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون
زاد ابن أبي الدنيا في رواية كلما قرضت عادت وفي أخرى للبيهقي ويقرءون كتاب الله ولا يعملون به
وابن أبي الدنيا والبيهقي عن الحسن مرسلا بسند جيد ما من عبد يخطب خطبة إلا الله سائله عنها يوم القيامة ما أردت بها قال فكان مالك يعني ابن دينار إذا حدث بهذا بكى ثم يقول أتحسبون أن عيني تقر بكلامي عليكم وأنا أعلم أن الله سائلي عنه يوم القيامة يقول ما أردت به فأقول أنت الشهيد على قلبي لو لم أعلم أنه أحب إليك لم أقرأ على اثنين أبدا
والطبراني إن ناسا من أهل الجنة ينطلقون إلى أناس من أهل النار فيقولون بماذا دخلتم النار فوالله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم فيقولون إنا كنا نقول ولا نفعل
والطبراني بسند حسن والبزار مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج
ورواية البزار مثل الفتيلة يضيء للناس ويحرق نفسه
والطبراني والبزار بسند رجاله محتج بهم في الصحيح إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان
____________________
(2/834)
والأصبهاني إن الرجل لا يكون مؤمنا حتى يكون قلبه مع لسانه سواء ولا يخالف قوله عمله ويأمن جاره بوائقه
والطبراني بسند فيه مختلف فيه إني لا أتخوف على أمتي مؤمنا ولا مشركا
أما المؤمن فيحجزه إيمانه وأما المشرك فيقمعه كفره ولكن أتخوف عليهم منافقا عالم اللسان يقول ما تعرفون ويعمل ما تنكرون
وابن حبان في صحيحه يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجذع في عينه
ومن أقبح البدع أن بعض الجهلة إذا أمر بالمعروف أو نهي عن منكر يقول قال الله تعالى عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وما علم الجاهل بقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه وكرم الله وجهه إن من فعل ذلك أردف إثم معصيته بإثم تفسيره القرآن برأيه أي وهو من الكبائر كما مر وإنما معنى الآية عليكم أنفسكم بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قاله ابن المسيب وفيها أقوال أخر
وقال أبو عبيدة ليس لنا آية جمعت بين الناسخ والمنسوخ سواها وقال غيره الناسخ إذا اهتديتم إذ الهدى هنا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
تنبيه عد هذه الثلاثة هو صريح هذه الأحاديث لما فيها من الوعيد الشديد في ذلك فأما الأخيرة فلم أر من صرح بها ولكن الأحاديث المذكورة مصرحة بها كما تقرر
وقد يستشكل بأنه إن خالف بفعل كبيرة فالتشديد إنما جاء من فعل الكبيرة لا من مجرد مخالفة القول للعمل أو بفعل صغيرة فالإشكال أقوى لأن الكبيرة حينئذ لا مقتضى لها
وقد يجاب بأن لنا أن نلتزم الأول ولا نسلم أن التشديد جاء من فعل تلك الكبيرة فحسب وإنما جاء من انضمام مخالفة القول العمل إليها وهذا ظاهر فحسن حينئذ العد لأن هذا الانضمام ترتب عليه من مزيد العقاب ما لم يترتب على عدمه وأن نلتزم الثاني ونقول لما أن انضم إلى تلك الصغيرة التغرير للناس بإظهاره لهم القيام بوظائف أكابر العلماء والصالحين وأنه جار على سنتهم ومهتد بهديهم وهو في الباطن بخلاف
____________________
(2/835)
ذلك كان هذا التغرير العظيم المؤدي إلى مفاسد لا تحصى كبيرة
ثم رأيت ما يؤيد ذلك وهو ما سأذكره في السعاية من قول الأذرعي إطلاق كون السعاية كبيرة مشكل إذا كان ما ينشأ عنها صغيرة إلا أن يقال تصير كبيرة بما ينضم إلى ذلك من الرعب للمسعي عليه وإرجاف أهله وترويعهم بطلب السلطان
انتهى
فقوله إلا أن يقال إلخ هو نظير ما ذكرته فهو غير بعيد من كلامهم فليعتمد
وأما الأولان فعدهما هو ما نقله الرافعي ثم توقف فيه وأقره النووي على توقفه واعتذر عنه الجلال البلقيني بأن الدليل لم يقو على ذلك وهو رواية أبي داود السابقة ثم ليلعنكم كما لعنهم لما مر أن إحدى طريقيها فيه انقطاع والأخرى مرسلة انتهى
ويرد بأن خبر الترمذي الذي مر عقب رواية أبي داود السابقة والأخبار الصحيحة بعده سيما خبر أبي بكر رضي الله عنه صريح في أن ذينك من الكبائر لما فيهما من الوعيد الشديد فليس هذا الذي ذكره الجلال ملحظ التوقف وإنما الظاهر وسيصرح به الجلال نفسه كما يأتي عنه أن ملحظ ما ذكره الأذرعي ونقله الجلال عنه لكنه قال قال بعض المتأخرين ينبغي أن يفصل في النهي عن المنكر فيقال إن كان كبيرة فالسكوت عليه مع إمكان دفعه كبيرة وإن كان صغيرة فالسكوت عليه صغيرة ويقاس ترك المأمور بها إذا قلنا إن الواجبات تتفاوت وهو الظاهر انتهى كلام الجلال عن الأذرعي وبقي من كلامه شيء يظهر به صحة ما فصله وهو قوله ولك أن تأخذ من إطلاق كون ترك النهي عن المنكر كبيرة أن ترك النهي عن الغيبة المحرمة كبيرة وقد أطلق قائل هذا وهو صاحب العدة أن الغيبة من الصغائر
انتهى
أي فكيف يتعقل أن الغيبة نفسها صغيرة وترك النهي عنها كبيرة فاتضح تفصيله أن ترك النهي عن الكبيرة كبيرة بخلافه عن الصغيرة
قال الجلال وما ذكره أي الأذرعي في الواجبات أي من أنها تتفاوت معناه أن جواب السلام مثلا واجب وإجابة الدعوة واجبة وهما دون الصلاة والزكاة والحج والصوم فترك الأمر بالصلاة ونحوها مع الإمكان كبيرة وترك الأمر بجواب السلام أو إجابة الدعوة مع الإمكان ليس بكبيرة انتهى
قال الجلال أيضا وأما المندوبات فليس ترك الأمر بها كبيرة قيل ولا صغيرة لأن المعروف الذي يجب الأمر به ما يكون فعله واجبا على المكلف وكذلك المكروهات ليس إنكارها واجبا كما يجب إنكار المحرمات بل يستحب الأمر بالمندوبات والنهي عن المكروهات
وحكى في الروضة وجهين في وجوب الأمر بصلاة العيد وصحح الوجوب وإن قلنا إنها سنة لأنها شعار ظاهر
____________________
(2/836)
قلت تخريجا عليه ينبغي أن ينهى عن الصلاة في الأوقات المكروهة وإن قلنا هي تنزيه لأنه لو تحرم بها بطلت على الأصح على ما عليه التفريع فحينئذ السكوت عن الأمر بصلاة العيد لا يلحق بالكبائر ولا السكوت عن النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة
إذا قلنا إن النهي تنزيه لا يلحق بالكبائر فلعل هذا مراد الرافعي بقوله وللتوقف مجال في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إطلاقهما
انتهى
وما ذكره من وجوب الأمر بصلاة العيد خاص بالمحتسب وبه جمع بين قول الشيخين المراد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بواجبات الشرع والنهي عن محرماته وقول الروضة ويجب الأمر بصلاة العيد
وإن قلنا إنها سنة لأن الأمر بالمعروف هو الأمر بالطاعة لا سيما ما كان شعارا ظاهرا فالأول في الآحاد فلا يلزمهم الأمر والنهي إلا في الواجب والمحرم والثاني في المحتسب فيلزمه ذلك في الشعار الظاهر وإن لم يكن واجبا
وأما قول الإمام معظم الفقهاء على أن الأمر في المستحب مستحب فمحله في غير المحتسب فقد فرق الأئمة بينهما في مواضع منها قولهم لو أمر الإمام أو نائبه بنحو صلاة الاستسقاء أو صوم صار واجبا ولو أمر به بعض الآحاد لم يصر واجبا
ومما يدل على أن للمحتسب أحكاما يختص بها قولهم وعلى الإمام أن يأمر محتسبا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وإن كانا لا يختصان به لأن كلمته أنفذ ولا يجوز له أن يحمل أحدا على غير مذهبه إذ لا يلزم الناس اتباع مذهب غير إمامهم ويأمر المسلمين بالمحافظة على الفرائض والسنن ولا يعترض عليهم في التأخير عن أول الوقت لاختلاف العلماء فيه ويأمر بما يعم نفعه كعمارة سور البلد ومؤنة المحتاجين ويجب ذلك من بيت المال فإن لم يكن فيه شيء أو منع ظلما لزم كل من له قدرة على ذلك من الأغنياء وينهى الموسر عن مطل دائنه إن استعداه الغريم عليه
وينكر على من وقف مع امرأة بطريق خال ويقول له إن كانت محرما لك فصنها عن مواقف الريبة وإن كانت أجنبية فخف الله تعالى من الخلوة بها فإنها محرمة ويأمر الأولياء بإنكاح الأكفاء والنساء بإيفاء العدد والسادة بالرفق بالمماليك وأصحاب البهائم بتعهدها والرفق بها
وينكر على من أسر في جهرية أو عكس أو زاد في الأذان أو نقص ولا ينكر في حقوق الآدميين قبل استعداء ذي الحق عليه ولا يحبس ولا يضرب للدين وينكر على القضاة إن احتجبوا على الخصوم أو قصروا في النظر في أمورهم وعلى أئمة المساجد المطروقة إن طولوا في الصلاة للاتباع ويمنع الخونة من معاملة النساء
____________________
(2/837)
قال الأئمة ويجب إنكار الصغيرة كالكبيرة بل لو لم يكن الفعل معصية لخصوص الفاعل وجب الإنكار كما لو رأى غير مكلف يزني أو يشرب الخمر فإنه يلزمه منعه من ذلك وليس بعد انقضاء المعصية إلا الوعظ بل يسن الستر كما مر في باب الحدود بتفصيله
وفي شرح مسلم من عرف بالفساد يسن كشفه ورفعه إلى الحاكم إن لم يخف مفسدة ومن علم بمنكر سيوجد كأن سمع من إنسان أنه عازم على نحو شرب خمر أو زنا غدا وعظه فقط فإن أدرك ذلك منه بقرائن دون السماع حرم وعظه لتضمنه إساءة الظن بالمسلم
كذا قيل
وفي إطلاق حرمة الوعظ نظر بل إنما تتجه الحرمة إن سجل عليه في وعظ بفسق أو نحوه
ومن خلا بأجنبية أو وقف لينظر أجنبية ينكر عليه باليد ثم اللسان لتحقق المعصية منه
قال الأئمة أيضا ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمسموع القول بل على كل مكلف أن يأمر وينهى وإن علم بالعادة أنه لا يفيد وإن كان الآمر والناهي غير ممتثل ولا مأذون له من جهة الإمام وعليه أن يأمر نفسه وغيره فإذا اختل أحدهما لم يسقط الآخر
ولا يأمر وينهى في دقائق الأمور إلا العلماء دون العامة لجهلهم بها ومن ثم استوى الكل في الظواهر كالصلاة والصيام وشرب الخمر
ولا ينكر العالم إلا مجمعا على إنكاره أو ما يرى الفاعل تحريمه له دون ما عدا ذلك نعم يندب له أن يندبه على وجه النصيحة إلى الخروج من الخلاف إن لم يقع في خلاف آخر وترك سنة ثابتة لاتفاق العلماء على استحباب الخروج من الخلاف حينئذ
وعلم من الأحاديث السابقة أن إنكار المنكر يكون باليد ثم إن عجز فباللسان فعليه أن يغيره بكل وجه أمكنه فلا يكفي الوعظ ممن أمكنه إزالته ولا كراهة القلب لمن قدر على النهي باللسان ويرفق في التغيير بمن يخاف شره وبالجاهل فإن ذلك أدى إلى قبول قوله وإزالة المنكر ويستعين عليه بغيره إن لم يخف فتنة من إظهار سلاح وحرب ولم يمكن الاستقلال فإن عجز عن اليد واللسان رفعه للوالي فإن عجز أنكره بقلبه وليس لآمر ولا ناه تجسس ولا بحث ولا اقتحام دار بظن فإن أخبره ثقة بمن اختلى بمحرم فيه انتهاك حرمة يفوت تداركها كأن أخبره أن رجلا خلا بامرأة ليزني بها أو بشخص ليقتله لزمه أن يقتحم له الدار وأن يتجسس ولو علم به كأن سمع صوت الملاهي أو القينات أو السكارى دخل وكسر الملاهي وأخرج نحو القينات
ولا يجوز كشف ذيل فاسق فاحت من تحته رائحة الخمر قال بعضهم وكذا لو علم تحته عودا ونحوه
ا ه
وفيه نظر ظاهر بل ظاهر كلامهم أنه إذا علم تحته عودا أخرجه وكسره بشرطه
واعلم أن التحسس هو كل أمر إذا فتشت عنه ثقل على صاحبه علمك به ولا يسقط
____________________
(2/838)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا إن خاف منهما على نفسه أو ماله أو بضعه أو عضوه أو خاف مفسدة على غيره أكثر من مفسدة المنكر الواقع أو غلب على ظنه أن المرتكب يزيد فيما هو فيه عنادا
فائدة وجوب الأمر والنهي يعم كل مكلف من حر وقن وذكر وأنثى لكنه وجوب على الكفاية لقوله تبارك وتعالى ولتكن منكم أمة إلخ إذ لو كان فرض عين لقال ولتكونوا نعم قد يكون فرض عين كما إذا كان بمحل لا يعلمه غيره أو لا يقدر عليه غيره
ثم فرض الكفاية هو الذي إذا قام به واحد حاز ثوابه وأسقط الحرج عن الباقين ومن ثم قال جمع إنه أفضل من فرض العين لتعدي نفعه نعم محل سقوطه عن الغير إن علم بقيام غيره به وإلا لم يسقط عنه كتركه واجبا عمدا بالنسبة لظنه والمدار في الإثم عليه لا على نفس الأمر ألا ترى أن من وطئ امرأة يظنها أجنبية وهي زوجته أثم إثم الزنا وفي عكسه لا إثم عليه ومحل استوائهم أيضا إن استووا في القدرة باليد وباللسان فلو قدر واحد باليد وآخرون باللسان تعين على الأول إلا أن يكون الرجوع لذي اللسان أقرب أو أنه يرجع له ظاهرا وباطنا ولا يرجع لذي اليد إلا ظاهرا فقط فيتعين على ذي اللسان حينئذ ولا يسقط الإنكار بالقلب عن مكلف أصلا إذ هو كراهة المعصية
وهو واجب على كل مكلف بل ذهب جماعة منهم أحمد أن ترك الإنكار بالقلب كفر لخبر وهو أضعف الإيمان
ومن قدم على منكر جاهلا به ولو علمه رجع عنه يجب تعليمه برفق حتى لو علم أنه يفيد إسماعه مخاطبة الغير بالتعليم خوطب به الغير أو عالما به ابتداء أو لكونه عرفه كالمواظب على نحو مكس أو غيبة وعظه وخوفه بذكر وعيد ذنبه ثم يتدرج معه بغاية اللطف والبشاشة إذ كل شيء بقضاء وقدر ويلاحظ لطف الله به إذ حفظه من ذلك ولو شاء لعكس بل ليس هو آمنا من ذلك فإن عجز عن الإنكار باللسان أو لم يقدر وقدر على التعبيس والهجر والنظر شزرا لزمه ذلك ولا يكفيه إنكار القلب فإن لم يتعظ ويتذكر وعلم منه الإصرار خشن عليه الكلام وسبه بلا فحش كيا فاسق يا جاهل يا أحمق يا من لا يخاف الله
وليحذر أن يغضب فيبقى إنكاره لنصرة نفسه أو يسترسل لما يحرم فينقلب الثواب عقابا هذا كله فيما لا ينكر باليد أما ما ينكر بها كخمر غير محترمة وكسر آلة اللهو وتجريده من حلي ذهب أو حرير ومنعه من شدخ نحو شاة وإخراج نحو جنب وأكل منتن وذي نجس ينضح من مسجد فلا يكفي غير الإنكار باليد فيجره برجله أو بمعين إن عجز وليتوق في نحو إراقة الخمر وكسر آلة اللهو الكسر الفاحش إلا إذا لم ترق إلا به أو يخشى أن الفساق يدركونه ويمنعونه فيفعل ما لا بد منه ولو بحرق وغرق
وللإمام ذلك مطلقا زجرا أو
____________________
(2/839)
تعزيرا وله فيمن لم ينكف بخشن الكلام أن يضربه بنحو يده فإن لم ينكف إلا بشهر سلاح منه وحده أو مع جماعة فعلوا لكن بإذن الإمام على المعتمد
وقال الغزالي لا يحتاج لإذنه قيل وهو الأقيس كما يجوز قتل فاسق يناضل عن فسقه وإذا قتل المنكر المحق فهو شهيد ونحو السلطان يوعظ ثم يخشن له إن لم يخش ضرره وله ذلك وإن أدى إلى قتله للحديث الصحيح أفضل الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله
ولو رأى بهيمة تتلف مال غيره لزمه كفها إن لم يخف ومن وجده يريد قطع طرف نفسه منعه وإن أدى إلى قتله لأن الغرض حسم سبيل المعاصي ما أمكن لا حظ نفسه وطرفه وكذا يمنع وإن أدى إلى القتل من رآه يريد إتلاف ماله أو يريد حليلته وينكر على امرأة يعلم فسقها إذا رآها تزينت وخرجت ليلا وعلى من عرف بقطع الطريق إذا وقف فيه بسلاحه ويأمر الولد أبويه وينهاهما برفق لا بتخويف ونحوه إلا إن اضطر إليه ولو منعه الاشتغال بالإنكار من كسب قوته تركه حتى يحصل قوته وقوت ممونه ودينه دون ما زاد على ذلك
الكبيرة السادسة والتسعون بعد الثلاثمائة ترك رد السلام
كذا ذكره بعضهم وفيه نظر وقد صرح بعض الأئمة بأن ذلك صغيرة وهو متجه نعم إن احتف بالترك قرائن تخيف المسلم إخافة شديدة وتؤذيه أذى شديدا لم يبعد حينئذ أن الترك كبيرة لما فيه من الأذى العظيم الذي لا يحتمل
الكبيرة السابعة والتسعون بعد الثلاثمائة محبة الإنسان أن يقوم الناس له افتخارا أو تعاظما أخرج أبو داود بإسناد صحيح والترمذي وقال حديث حسن عن معاوية رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار
وأبو داود وابن ماجه بإسناد حسن عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال خرج
____________________
(2/840)
علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئا على عصا فقمنا إليه فقال لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضا
تنبيه عد هذا هو صريح الحديث الأول ومحله ما ذكرته ومن ثم قال أصحابنا يحرم على الداخل محبة القيام له واستدلوا بالحديث المذكور والمراد بتمثلهم له قياما أن يقعد ويستمروا له قياما كعادة الجبابرة كما أشار إليه البيهقي وكان بعضهم أخذ منه قوله في تعداد الكبائر ومحبة الرجل أن يقوم الناس بين يديه وهو جالس ومثله حب القيام له تفاخرا وتطاولا على الأقران
أما من أحب ذلك إكراما له لا على الوجه المذكور فلا يتجه تحريمه لأنه صار شعارا في هذا الزمان لتحصيل المودة نبه عليه ابن العماد رحمه الله وإيانا بمنه وكرمه ولا ينافي الحديث الثاني قول أصحابنا يستحب القيام لمن فيه علم أو صلاح أو شرف أو ولادة أو رحم أو ولاية مصحوبة بصيانة أو صداقة أو نحوها لأنهم قيدوا ذلك بقولهم برا واحتراما وإكراما لا رياء وتفخيما وهذا الذي نفوه هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله كما يقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضا ومن ثم ثبت في ندب القيام بقيده المذكور أحاديث صحيحة جمعها النووي رحمه الله في جزء صنفه في ذلك ردا على من أطلق إنكار ندبه
قال الأذرعي بل يظهر وجوبه في هذا الزمان دفعا للعداوة والتقاطع كما أشار إليه ابن عبد السلام فيكون من باب درء المفاسد
الكبيرة الثامنة والتسعون بعد الثلاثمائة الفرار من الزحف أي من كافر أو كفار لم يزيدوا على الضعف إلا لتحرف لقتال أو لتحيز إلى فئة يستنجد بها
قال تبارك وتعالى ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير
وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اجتنبوا السبع الموبقات أي المهلكات قالوا يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات
____________________
(2/841)
وأحمد والنسائي سئل صلى الله عليه وسلم عن الكبائر قال الإشراك بالله وقتل النفس المسلمة وفرار يوم الزحف
والطبراني في تفسيره أنه صلى الله عليه وسلم قيل له ما الكبائر قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وفي رواية له الإشراك بالله والفرار من الزحف وقتل النفس
والبزار بسند فيه مختلف فيه الكبائر سبع أولهن الإشراك بالله وقتل النفس بغير حقها وأكل الربا وأكل مال اليتيم وفرار يوم الزحف وقذف المحصنات
الحديث
والطبراني بسند فيه ابن لهيعة وحديثه حسن في المتابعات اجتنبوا الكبائر السبع الشرك بالله وقتل الناس والفرار من الزحف الحديث
وأبو القاسم البغوي عن ابن عمر أنه سئل عن الكبائر فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هن سبع
قلت وما هن قال الإشراك بالله وقذف المحصنات وقتل النفس المؤمنة والفرار من الزحف والسحر الحديث
وابن مردويه في تفسيره وابن حبان في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا فيه الفرائض والسنن والديات وبعث به مع عمرو بن حزم قال وكان في الكتاب إن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة إشراك بالله وقتل النفس المؤمنة بغير حق والفرار في سبيل الله يوم الزحف وعقوق الوالدين ورمي المحصنة وتعلم السحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم
والطبراني ثلاثة لا ينفع معهن عمل الشرك بالله وعقوق الوالدين والفرار من الزحف
____________________
(2/842)
وأحمد بسند فيه مختلف فيه من لقي الله عز وجل لا يشرك به شيئا وأدى زكاة ماله طيبة بها نفسه محتسبا وسمع وأطاع فله الجنة أو دخل الجنة
وخمس ليس لهن كفارة الشرك بالله وقتل النفس بغير حق وبهت مؤمن والفرار من الزحف ويمين صابرة يقطع بها مالا بغير حق
والطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فقال لا أقسم لا أقسم ثم نزل وقال أبشروا أبشروا من صلى الصلوات الخمس واجتنب الكبائر دخل من أي أبواب الجنة شاء قيل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرهن قال نعم عقوق الوالدين والشرك بالله وقتل النفس وقذف المحصنات وأكل مال اليتيم والفرار من الزحف وأكل الربا
والطبراني بسند حسن إن أولياء الله المصلون من يقيم الصلوات الخمس التي كتبهن الله عليه ويصوم رمضان ويحتسب صومه ويؤتي الزكاة محتسبا طيبة بها نفسه ويجتنب الكبائر التي نهى الله عنها فقال رجل من أصحابه يا رسول الله وكم الكبائر قال تسع أعظمهن الإشراك بالله وقتل المؤمن بغير حق والفرار من الزحف وقذف المحصنة والسحر وأكل مال اليتيم وأكل الربا وعقوق الوالدين المسلمين واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا لا يموت رجل لم يعمل هؤلاء الكبائر ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة إلا رافق محمدا صلى الله عليه وسلم في بحبوحة جنة أي وسطها مصاريع أبوابها الذهب
تنبيه عد هذا كما ذكرته في الترجمة هو ما صرحوا به
قال الشافعي رضي الله عنه إذا غزا المسلمون فلقوا ضعفهم من العدو حرم عليهم أن يولوا إلا متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة وإن كان المشركون أكثر من ضعفهم لم أحب لهم أن يولوا ولا يستوجبون السخط عندي من الله لو ولوا عنهم على غير التحرف للقتال أو التحيز إلى فئة وهذا مذهب ابن عباس رضي الله عنهما المشهور عنه
____________________
(2/843)
الكبيرة التاسعة والتسعون بعد الثلاثمائة الفرار من الطاعون
قال تعالى ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم اعلم أن عادته تعالى أن يذكر القصص بعد بيان الأحكام ليفيد الاعتبار للسامع والهمزة هنا للاستفهام التقريري لدخولها على حرف النفي بناء على علم المخاطب بالقصة قبل نزولها أنها للتنبيه وللتعجب من حالهم والمخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كل سامع قال أكثر المفسرين هي قرية قرب واسط وقع بها طاعون فخرج عامة أهلها وبقيت طائفة فلم يبق منهم إلا قليل مرضى فلما ارتفع الطاعون رجع الهاربون سالمين فقال المرضى هؤلاء أحزم منا لو صنعنا كما صنعوا نجونا ولئن وقع الطاعون ثانيا لنخرجن إلى أرض لا وباء فيها فوقع الطاعون من قابل فهرب عامة أهلها وهم بضعة وثلاثون ألفا
وقيل سبعون ألفا وقيل ثلاثة آلاف
قال الواحدي ولم يقولوا دون ثلاثة آلاف ولا أكثر من سبعين ألفا والوجه من حيث اللفظ أن يكون عددهم أكثر من عشرة آلاف جمع الكثرة إذ لا يقال في عشرة وما دونها ألوف أي إلا نادرا حتى نزلوا واديا أفيح وظنوا النجاة فناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه أن موتوا فماتوا جميعا وبليت أجسامهم فمر بهم نبي يقال له حزقيل ثالث خلفاء بني إسرائيل بعد موت موسى صلى الله على نبينا وعليهما وسلم إذ خليفته الأكبر يوشع ثم كالب وحزقيل هذا هو خليفة كالب ولكون أمه سألت الله الولد بعد ما كبرت وعقمت سمي ابن العجوز قال الحسن ومقاتل وهو ذو الكفل لأنه تكفل سبعين نبيا وأنجاهم من القتل فلما مر حزقيل بأولئك الموتى وقف متفكرا متعجبا فأوحى الله إليه أتريد أن أريك آية قال نعم فقيل له ناد يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي فتطاير بعضها إلى بعض حتى تمت ثم أوحى الله إليه أن نادها يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تكتسي لحما ودما ثم نادى الله يأمرك أن تقومي فقاموا أحياء قائلين سبحانك ربنا وحدك لا إله إلا أنت ثم رجعوا إلى قومهم وأمارات الموت ظاهرة عليهم في وجوههم وأبدانهم إلى أن ماتوا بعد بحسب آجالهم
وجاء أن عمر رضي الله عنه لما خرج للشام وبلغ سرغ بلغه أن الوباء قد وقع بالشام فاستشار أكابر الصحابة فلم يجد عند أحد منهم علما حتى جاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فروى له أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه فرجع عمر من سرغ
____________________
(2/844)
وقال ابن عباس وجماعة سبب موت أولئك أن ملكا لبني إسرائيل أمر عسكره بالقتال فجبنوا واعتلوا بأن الأرض التي نذهب إليها بها الوباء فلا نأتيها حتى يزول فأرسل الله عليهم الموت فخرجوا من ديارهم فرارا منه فلما رأى الملك ذلك قال اللهم رب يعقوب وإله موسى قد ترى معصية عبادك فأرهم آية في أنفسهم حتى يعلموا أنهم لا يستطيعون الفرار منك فلما خرجوا قال لهم الله موتوا أمر تحويل فماتوا جميعا وماتت دوابهم كموت رجل واحد وبقوا ثمانية أيام حتى انتفخوا وأروحت أجسادهم وبلغ بني إسرائيل موتهم فخرجوا لدفنهم فعجزوا لكثرتهم فحظروا عليهم الحظائر دون السباع فأحياهم الله بعد الثمانية أيام وبقي فيهم شيء من ذلك النتن وفي أولادهم إلى يومنا هذا وقيل غير ذلك
قوله تعالى فقال لهم الله موتوا هو من باب قوله تعالى إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون والمراد سرعة وقوع المراد وعدم تخلفه عن تعلق الإرادة به إذ لا قول هناك وقيل أمر للرسول أو الملك أن يقول ذلك والأول هو الظاهر ثم أحياهم صريح في حياتهم بعد موتهم وهو ممكن وقد أخبر به الصادق فوجب القطع به
وقول المعتزلة إحياء الميت أمر خارق للعادة فلا يجوز إظهاره إلا معجزة لنبي رده أهل السنة بأنه يجوز بأنه خرقها كرامة لولي ولغير ذلك وإنكار ذلك مكابرة للحس وليس ذلك ببعيد من عقولهم الفاسدة الضالة
وسبب الإحياء استيفاء بقية آجالهم وقد مر في القصة ما يقتضي أن الموت فجأهم بغتة كالنوم ولم يعاينوا شدة ولا هولا
فاندفع قول المعتزلة أيضا المعارف تصير ضرورية عند القرب من الموت ومعاينة الأهوال فيجب إذا عاشوا أن يبقوا ذاكرين ذلك لأن الأشياء العظيمة لا تنسى مع كمال العقل فتبقى لهم تلك العلوم ومع بقائها يمتنع التكليف كما في الآخرة على أن لنا أن نلتزم أنهم عاينوها ولا يلزم ما ذكروه لجواز أن الله تعالى يلقي عليهم بعد حياتهم نسيان ما وقع لهم ابتلاء لهم حتى يتم تكليفهم في بقية آجالهم التي أحيوا ليستوفوها والطاعون وزنه فاعول من الطعن غير أنه لما عدل به عن أصله وضع دالا على الموت بالوباء قال الجوهري وهو مبني على اتحادهما والصحيح خلافه إذ الوباء الموت العام بسبب باطن والطاعون بثرات صغيرة تخرج في البدن يغلب وجودها في مراقه كالآباط
وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فناء أمتي بالطعن والطاعون فقلت يا رسول الله الطعن قد عرفنا فما الطاعون قال غدة كغدة البعير تخرج من المراق والآباط
قال العلماء وهذا قد يرسله الله نقمة وعقوبة
____________________
(2/845)
على من يشاء من عصاة عبيده وكفرتهم وقد يرسله الله تعالى شهادة ورحمة لصالحيهم لقول معاذ في طاعون عمواس إنه شهادة ورحمة لكم ودعوة نبيكم وهو قوله صلى الله عليه وسلم اللهم أعط معاذا وأهله نصيبهم من رحمتك فطعن في كفه رضي الله عنه
وروى أحمد وأبو يعلى والطبراني عن عائشة رضي الله عنهما قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفنى أمتي إلا بالطعن والطاعون قلت يا رسول الله هذا الطعن قد عرفناه فما الطاعون قال غدة كغدة البعير المقيم بها كالشهيد والفار منه كالفار من الزحف
وفي رواية لأبي يعلى أنه صلى الله عليه وسلم قال وخزة أي طعن تصيب أمتي من أعدائهم من الجن كغدة الإبل من أقام عليها كان مرابطا ومن أصيب به كان شهيدا ومن فر منه كان كالفار من الزحف
ورواه البزار وعنده قلت يا رسول الله هذا الطعن قد عرفناه فما الطاعون قال يشبه الدمل يخرج من الآباط والمراق وفيه تزكية أعمالهم وهو لكل مسلم شهادة
قال الحافظ المنذري أسانيد هذه الروايات كلها حسان
وروى أحمد بسند حسن والبزار والطبراني عن جابر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الطاعون الفار منه كالفار من الزحف ومن صبر فيه كان له أجر شهيد
والترمذي وقال حسن غريب وابن حبان في صحيحه
تنبيه عد هذا هو ظاهر الآية بناء على ما مر عن أكثر المفسرين وهو أيضا ظاهر هذه الأحاديث لأن تشبيهه فيها بالفرار من الزحف يقتضي أنه مثله في كونه كبيرة وإن كان التشبيه لا يقتضي تساوي المتشابهين من كل وجه لأن المقام هنا يشهد لتساويهما في هذا الشيء الخاص وهو كونه كبيرة
إذ القصد بهذا التشبيه إنما هو زجر الفار والتغليظ عليه حتى ينزجر ولا يتم ذلك إلا إن كان كبيرة كالفرار من الزحف على أنا لو قلنا
____________________
(2/846)
بذلك فنحن عالمون بأن المتشابهين غير متساويين من كل وجه لأنا نعلم أن كلا وإن كان كبيرة إلا أن إثم الفرار من الزحف أغلظ وأعظم لما يترتب عليه من المفاسد العامة الشديدة القبح وهي كسر قلوب المسلمين واستيلاء الكفار وغلبتهم وهذه أعظم المفاسد وأقبحها
وروى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال حين ذكروا الوباء إنه رجز وعذاب عذب به بعض الأمم ثم بقي منه بقية فيذهب المرة ويأتي الأخرى فمن سمع به بأرض فلا يقدم عليه ومن كان بأرض وقع بها فلا يخرج منها فرارا منه
وقد عمل عمر والصحابة رضوان الله عليهم بمقتضى هذا الحديث لما رجعوا من سرغ حين أخبرهم به ابن عوف
قال الطبري والحديث يدل على أنه يجب على المرء توقي المكاره قبل نزولها وتجنب الأشياء المخوفة قبل هجومها وكذلك كل مشق من غوائل الأمور سبيله سبيل الطاعون في ذلك ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا
ولما أراد عمر الرجوع لما ذكر قال أبو عبيدة رضي الله عنهما أفرارا من قدر الله فقال عمر لو غيرك قالها يا أبا عبيدة
نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله ومعنى ذلك أنه لا محيص للإنسان عما قدره الله عليه ولكن أمرنا الله بالتحرز من المخاوف والمهلكات واستفراغ الوسع في التوقي من المكروهات ثم قال أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليست إن رعت الخصبة رعتها بقدر الله وإن رعت الجدبة رعتها بقدر الله فرجع عمر من موضعه ذلك إلى المدينة
وجاء في كون الطعن شهادة أحاديث أخر فيها ذكر شهداء آخرين غير المقتول في سبيل الله
أخرج مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال ما تعدون الشهداء فيكم قالوا يا رسول الله من قتل في سبيل الله فهو شهيد قال ومن مات في سبيل الله فهو شهيد ومن مات في الطاعون فهو شهيد ومن مات من البطن فهو شهيد
والشيخان الشهيد خمسة المطعون والمبطون والغريق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله
وأحمد والطبراني بسند رواته ثقات إن في القتل شهادة وفي الطاعون شهادة
____________________
(2/847)
وفي البطن شهادة وفي الغرق شهادة وفي النفساء يقتلها ولدها في بطنها جمعا أي بتثليث الجيم وسكون الميم بأن تموت وولدها في بطنها شهادة
والطبراني بسند رواته محتج بهم في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم عاد بعض الأنصار فبكى أهله فقال عمه لا تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصواتكم فقال دعهن يبكين ما دام حيا فإذا وجبت أي مات فليسكتن فقال بعضهم للمريض ما كنا نرى أن يكون موتك على فراشك حتى تقتل في سبيل الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم أوما الشهيد إلا القتل في سبيل الله إن شهداء أمتي إذن لقليل
إن الطعن شهادة والبطن شهادة والطاعون شهادة والنفساء بجمع شهادة والحرق شهادة والغرق شهادة وذات الجنب شهادة
وأحمد بسند حسن القتل في سبيل الله عز وجل شهادة والطاعون شهادة والغرق شهادة والبطن شهادة والنفساء يجرها ولدها بسرره إلى الجنة
وفي رواية وسادن بيت المقدس أي خادمه والحرق والسل هو بكسر أوله وضمه وتشديد اللام داء يحدث في الرئة يئول إلى ذات الجنب وقيل زكام أو سعال طويل مع حمى هادئة وقيل غير ذلك
وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه الشهداء سبع سوى القتل في سبيل الله المبطون شهيد والمطعون شهيد وصاحب الحرق شهيد والذي يموت تحت الهدم شهيد والمرأة التي تموت بجمع شهيدة
والشيخان الطاعون شهادة لكل مسلم
والبخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فقال كان عذابا يبعثه الله على من كان قبلكم فجعله الله رحمة للمؤمنين ما من عبد يكون في بلد فيكون فيه فيمكث لا يخرج صابرا محتبسا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد
____________________
(2/848)
وأحمد بسند رواته ثقات مشهورون أتاني جبريل عليه السلام بالحمى والطاعون فأمسكت الحمى بالمدينة وأرسلت الطاعون إلى الشام فالطاعون شهادة لأمتي ورجس على الكافر
وأحمد بسند جيد خطب معاذ بالشام فذكر الطاعون فقال إنها رحمة ربكم ودعوة نبيكم وقبض الصالحين قبلكم اللهم أنزل على آل معاذ نصيبهم من هذه الرحمة ثم نزل عن مقامه ذلك فدخل على عبد الرحمن بن معاذ فقال عبد الرحمن الحق من ربك فلا تكن من الممترين فقال معاذ ستجدني إن شاء الله من الصابرين
وأحمد عن معاذ رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ستهاجرون إلى أرض الشام فتكون لكم ويكون فيكم داء كالدمل أو كالحزة يأخذ بمراق الرجل يستشهد الله به أنفسهم ويزكي به أعمالهم اللهم إن كنت تعلم أن معاذا سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطه هو وأهل بيته الحظ الأوفر منه فأصابهم الطاعون فلم يبق منهم أحد فطعن في أصبعه السبابة فكان يقول ما يسرني أن لي بها حمر النعم
وصح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال فناء أمتي بالطعن والطاعون فقيل يا رسول الله هذا الطعن عرفناه فما الطاعون قال وخز أعدائكم من الجن وفي كل شهادة وفي رواية صحيحة وخز أعدائكم من الجن وهو لكم شهادة
وصح اللهم اجعل فناء أمتي قتلا في سبيلك بالطعن والطاعون
وروى النسائي يختصم الشهداء والمتوفون على فرشهم إلى ربنا في الذين يتوفون في الطاعون فيقول الشهداء قتلوا كما قتلنا ويقول المتوفون على فرشهم إخواننا ماتوا على فرشهم كما متنا فيقول ربنا انظروا إلى جراحهم فإن أشبهت جراح المقتولين فإنهم منهم ومعهم فإذا جراحهم قد أشبهت جراحهم
____________________
(2/849)
والطبراني بسند لا بأس به يأتي الشهداء والمتوفون بالطاعون فيقول أصحاب الطاعون نحن شهداء فيقول انظروا فإن كانت جراحتهم كجراح الشهداء تسيل دما كريح المسك فهم شهداء فيجدونهم كذلك
وصح عند ابن حبان من قتله بطنه لم يعذب في قبره
الكبيرة الأربعمائة والحادية بعد الأربعمائة الغلول من الغنيمة والستر عليه
قال تعالى وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون
وأخرج البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال كان على نفل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي غنيمته رجل يقال له كركرة بكسر الكافين وحكي فتحهما مات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو في النار فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها
وأحمد بسند صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قيل له استشهد مولاك أو غلامك فلان فقال بل يجر إلى النار في عباءة غلها
ومالك وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم توفي يوم خيبر فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلوا على صاحبكم فتغيرت وجوه الناس لذلك فقال إن صاحبكم غل في سبيل الله ففتشوا متاعه فوجدوا فيه خرزا من خرز اليهود لا يساوي درهمين
ومسلم وغيره عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم قال لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا فلان شهيد وفلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا
____________________
(2/850)
فلان شهيد فقال صلى الله عليه وسلم كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة غلها
ثم قال صلى الله عليه وسلم يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون
والطبراني بسند جيد لو لم تغل أمتي لم يقم لهم عدو أبدا
قال أبو ذر لحبيب بن مسلمة هل يثبت لكم العدو حلب شاة قال نعم وثلاث شياه غزر
قال أبو ذر غللتم ورب الكعبة
والشيخان قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره حتى قال لا ألفين أي أجدن أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء أي هو بضم الراء وبالمعجمة والمد صوت الإبل وذوات الخف فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة أي بمهملتين مفتوحتين صوت الفرس فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء أي بضم المثلثة وبالمعجمة والمد صوت الغنم يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع أي جمع رقعة وهي ما يكتب فيه الحق تخفق أي تتحرك وتضطرب فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة وعلى رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك
وأبو داود وابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيخمسه ويقسمه فجاء رجل يوما بعد النداء بزمام من شعر فقال يا رسول الله هذا كان فيما أصبناه من الغنيمة فقال أسمعت بلالا ينادي ثلاثا قال نعم
قال فما منعك أن تجيء به فاعتذر إليه فقال كن أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله منك
والشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ففتح الله علينا فلم نغنم ذهبا ولا ورقا غنمنا المتاع والطعام والثياب ثم انطلقنا
____________________
(2/851)
إلى الوادي يعني وادي القرى ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد له وهبه له رجل من جزام يدعى رفاعة بن يزيد من بني الضبيب فلما نزلنا الوادي قام عبد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحل رحله فرمي بسهم فكان فيه حتفه فقلنا هنيئا له الشهادة يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا والذي نفس محمد بيده إن الشملة أي وهو كساء أصغر من القطيفة لتلتهب عليه نارا أخذها من الغنائم لم تصبها المقاسم قال ففزع الناس فجاء رجل بشراك أو شراكين فقال أصبت يوم خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم شراك من نار أو شراكان من نار
والنسائي وابن خزيمة في صحيحه عن أبي رافع رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر ذهب إلى بني عبد الأشهل فيتحدث عندهم حتى ينحدر للمغرب قال أبو رافع فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يسرع إلى المغرب مررنا بالبقيع أي بقيع الغرقد كما في رواية فقال أف لك أف لك أف لك قال فكبر ذلك في ذرعي أي بالمعجمة عظم عندي موقعه فاستأخرت وظننت أنه يريدني فقال مالك امش
قلت أحدث حدث فقال وما ذاك قلت أففت بي قال لا ولكن هذا فلان بعثته ساعيا على بني فلان فغل نمرة أي بفتح فكسر بردة من صوف يلبسها الأعراب فدرع مثلها من نار أي جعل له درع منها من نار
والنسائي وابن حبان في صحيحه واللفظ له والحاكم وقال صحيح على شرطهما من جاء بريئا من ثلاثة دخل الجنة الكبر والغلول والدين
وأبو داود والطبراني أتي صلى الله عليه وسلم بنطع من الغنيمة فقيل يا رسول الله هذا لك تستظل به من الشمس قال أتحبون أن يستظل نبيكم بظل من نار
زاد الطبراني يوم القيامة
وأبو داود عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال أما بعد فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من يكتم غالا أي يستر عليه فإنه مثله
____________________
(2/852)
تنبيه عد الغلول هو ما صرحوا به
قال بعضهم وكالغنيمة في ذلك الغلول من الأموال المشتركة بين المسلمين ومن بيت المال والزكاة انتهى
وهو ظاهر ولا فرق في غال الزكاة بين أن يكون من مستحقيها وغيرهم لأن الظفر ممنوع فيها إذ لا بد فيها من النية بل لو أفرز المالك قدرها ونوى لم يجز الظفر أيضا لتوقف ذلك على إعطاء المالك فعند عدم إعطائه يتعذر الملك فكان باقيا على ملك مالكه حتى يعطيه فاتضح امتناع الظفر في مال الزكاة مطلقا
وروى الطبراني أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا الكبائر وهو متكئ فقالوا
الشرك بالله وأكل مال اليتيم والفرار من الزحف وقذف المحصنة وعقوق الوالدين وقول الزور والغلول والسحر وأكل الربا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين تجعلون الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا إلى آخر الآية وعد الستر عليه وهو صريح الحديث لقوله صلى الله عليه وسلم فيه فإنه مثله
وعلم من الأحاديث المذكورة أن الغلول هو اختصاص أحد الغزاة سواء الأمير وغيره بشيء من مال الغنيمة قبل القسمة من غير أن يحضره إلى أمير الجيوش ليخمسه وإن قل المأخوذ نعم يجوز عندنا التبسط بأخذ بعض المأكول له أو لدابته من مال الغنيمة قبل القسمة بشروط مذكورة في محلها
باب الأمان الكبيرة الثانية والثالثة والرابعة بعد الأربعمائة قتل أو غدر أو ظلم من له أمان أو ذمة أو عهد
قال تعالى وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا
وقال عز قائلا يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أي العهود ومن جملتها العهد والأمان الذي بيننا وبين المشركين كما قاله بعض أئمة التفسير
وأخرج الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر
____________________
(2/853)
وروى أحمد والبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه العمل ولم يوفه أجره
ومسلم وغيره إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء يعرف به يقال هذه غدرة فلان بن فلان
ومسلم وغيره ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلما أي غدره ونقض عهده فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة عدلا ولا صرفا
وأحمد والبزار والطبراني في الأوسط عن أنس رضي الله عنه قال ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له
ورواه ابن حبان في صحيحه لكن بلفظ خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في خطبته فذكر الحديث
والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ما نقض قوم العهد إلا كان القتل بينهم ولا ظهرت الفاحشة في قوم إلا سلط الله عليهم الموت ولا منع قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر
وأبو داود عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم لكن الأبناء مجهولون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة
وابن حبان في صحيحه أيما رجل أمن رجلا على دمه ثم قتله فأنا من القاتل بريء وإن كان المقتول كافرا
____________________
(2/854)
وابن ماجه وابن حبان في صحيحه واللفظ له وقال ابن ماجه فإنه يحمل لواء غدر يوم القيامة
وأبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه من قتل نفسا معاهدة بغير حق لم يرح رائحة الجنة وإن ريح الجنة ليوجد من مسيرة مائة عام
وفي رواية من قتل معاهدا في عهده لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام يرح بضم أوله من أرحت الشيء وجدت ريحه وبفتحه وكسر الراء من رحت الريح وجدته وبفتح أوليه ومعنى الكل شم الرائحة
والترمذي وقال حسن صحيح واللفظ له وابن ماجه ألا من قتل نفسا معاهدة له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله فلا يريح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا
تنبيه عد هذه الثلاثة هو صريح هذه الأحاديث الصحيحة وهو ظاهر وبه صرح بعضهم في قتل المعاهد وفي الغدر لكن خصه بالأمير وليس بشرط كما هو ظاهر وقد جاء عن علي كرم الله وجهه أنه عد من الكبائر نكث الصفقة أي الغدر بالمعاهد بل صرح شيخ الإسلام العلائي بأنه جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سماه كبيرة لكن اعترضه الجلال البلقيني بأنه لم يرد في الأحاديث السابقة أي التي ساقها منصوصا فيها على الكبائر النص على أن ذلك كبيرة قال وإنما فيه وعيد شديد كما تقدم
انتهى
والظاهر أنه إنما أراد بما تقدم حديث أحمد والبخاري الذي قدمته فيه ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر فمن أمن كافرا ثم غدر به فقد نكث أمانه الذي أعطاه إياه وكأن وجه تسمية الأمان صفقة أنه عهد أفاد الأمن فهو كعقد البيع المفيد للملك وعقد البيع يسمى صفقة لأن العرب كان الاثنان منهم إذا تبايعا صفق أحدهما على يد الآخر فسمي العقد بذلك تجوزا
____________________
(2/855)
الكبيرة الخامسة بعد الأربعمائة الدلالة على عورة المسلمين دليله الحديث الصحيح أن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه كتب إلى أهل مكة يخبرهم بمسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فأعلم الله نبيه بذلك فأرسل إلى حاملة الكتاب عليا والمقداد رضي الله عنهما فأخذاه منها قهرا بعد أن بالغت في إنكاره وإخفائه فلما جاءا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقرئ عليه
قال عمر يا رسول الله دعني أضرب عنقه فمنعه صلى الله عليه وسلم من قتله لكونه شهد بدرا
فإن ترتب من الدلالة على ذلك وهن للإسلام أو لأهله أو قتل أو سبي أو نهب كان ذلك من أعظم الكبائر وأقبحها لأنه سعى في الأرض فسادا وأهلك الحرث والنسل فمأواه جهنم وبئس المهاد
قال بعضهم ويتعين قتل فاعل ذلك وليس كما قال على إطلاقه
باب المسابقة والمناضلة الكبيرة السادسة والسابعة والثامنة بعد الأربعمائة اتخاذ نحو الخيل تكبرا أو نحوه أو للمسابقة عليها رهانا أو مقامرة والمناضلة بالسهام كذلك وترك الرمي بعد تعلمه رغبة عنه بحيث يؤدي إلى غلبة العدو واستهتاره بأهل الإسلام
أخرج الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال الخيل ثلاثة هي لرجل وزر ولرجل ستر ولرجل أجر فأما الذي هي له وزر فرجل ربطها رياء وفخرا ونواء أي بكسر النون وبالمد معاداة لأهل الإسلام فهي له وزر الحديث ورواه ابن خزيمة في صحيحه وقال وأما الذي هي عليه وزر فالذي يتخذها أشرا وبطرا وبذخا عليهم أي بفتح الموحدة وسكون المعجمة وآخره خاء معجمة كبرا
ومعناه أنه اتخذ الخيل تكبرا وتعاظما واستعلاء على ضعفاء المسلمين وفقرائهم
وأحمد بإسناد حسن الخيل في نواصيها الخير معقود أبدا إلى يوم القيامة فمن ارتبطها عدة في سبيل الله وأنفق عليها احتسابا في سبيل الله فإن شبعها وجوعها وريها
____________________
(2/856)
وظمأها وأرواثها وأبوالها فلاح في موازينه يوم القيامة ومن ارتبطها رياء وسمعة ومرحا فإن شبعها وجوعها وريها وظمأها وأرواثها وأبوالها خسران في موازينه يوم القيامة
والطبراني الخيل ثلاثة ففرس للرحمن وفرس للإنسان وفرس للشيطان فأما فرس الرحمن فما اتخذ في سبيل الله وقتل عليه أعداء الله وأما فرس الإنسان فما استبطن أي أولد وحمل عليه وأما فرس الشيطان فما روهن وقومر عليه
ورواه أحمد بسند جيد بمعناه وفيه وأما فرس الشيطان فالذي يقامر عليه ويراهن
وأحمد بسند رجاله رجال الصحيح الخيل ثلاثة
فرس يرتبطه الرجل في سبيل الله عز وجل فثمنه أجر وركوبه أجر وعاريته أجر وفرس يقامر عليه الرجل ويراهن فثمنه وزر وركوبه وزر وفرس للبطنة فعسى أن يكون سدادا من الفقر إن شاء الله
وأخرج مسلم وغيره عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي
ومسلم من تعلم الرمي ثم تركه فليس منا أو فقد عصى
وابن ماجه من تعلم الرمي ثم تركه فقد عصاني
والطبراني بسند حسن من تعلم الرمي ثم نسيه فهو نعمة جحدها
وأبو داود واللفظ له والنسائي والحاكم وصححه والبيهقي من طريق الحاكم وغيرها إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة صانعه محتسبا في صنعته الخير والرامي به ومنبله أي مناوله للرامي ليرمي به أي معطيه للمجاهد من ماله إمدادا وتقوية وارموا
____________________
(2/857)
واركبوا وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه لأنها نعمة تركها أو قال كفرها
وفي رواية للبيهقي صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير والذي يجهز به في سبيل الله والذي يرمي به في سبيل الله وصح عليكم بالرمي فإنه من خير لعبكم
وفي رواية صحيحة أيضا فإنه خير أو من خير لهوكم وصح أيضا كل شيء ليس من ذكر الله عز وجل فهو لهو أو سهو إلا أربع خصال مشي الرجل بين الغرضين أي مثنى غرض وهو ما يقصده الرماة بالإصابة وتأديبه فرسه وملاعبته أهله وتعلم السباحة
وصح من رمى بسهم في سبيل الله فهو له عدل محررة أي رقبة معتقة
وصح من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة ومن رمى بسهم في سبيل الله فبلغ العدو أو لم يبلغه كان له كعتق رقبة ومن أعتق رقبة مؤمنة كانت فداءه من النار عضوا بعضو
تنبيه عد هذه الثلاثة لم أره لكنه في الأول ظاهر الأحاديث الأول وقياسه الثاني وأما الثالث فقضية ليس منا على ما قاله بعضهم في نظيره أنه كبيرة لأن التبري وعيد شديد ولعدم كون أصحابنا لا يسمحون بالحرمة فيه فضلا عن كونه كبيرة أولت ذلك بما ذكرته في الترجمة مما يقربه من الكبيرة لأن في الترك حينئذ مفاسد عظيمة عامة
____________________
(2/858)
____________________
(2/859)
____________________
(2/860)
@ 861 كتاب الأيمان الكبيرة التاسعة والعاشرة والحادية عشرة بعد الأربعمائة اليمين الغموس واليمين الكاذبة وإن لم تكن غموسا وكثرة الأيمان وإن كان صادقا
قال تعالى إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم نزلت كما يعلم مما يأتي في الأحاديث الصحيحة في رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أرض فهم المدعى عليه أن يحلف فلما نزلت نكل وأقر للمدعي بحقه ومعنى يشترون يستبدلون ويأخذون بعهد الله أي بما عهد إليهم وأيمانهم أي الكاذبة ثمنا قليلا أي عرضا يسيرا من الدنيا وهو ما يحلفون عليه كاذبين أولئك لا خلاق لهم في الآخرة أي لا نصيب لهم من نعيمها وثوابها
ولا يكلمهم الله أي بكلام يسرهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة أي نظر رحمة ولا يزكيهم أي ولا يزيدهم خيرا ولا يثني عليهم ولهم عذاب أليم أي مؤلم شديد الإيلام
وأخرج الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من حلف على مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان قال عبد الله ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله عز وجل إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا إلى آخر الآية
زاد في رواية قال فدخل الأشعث بن قيس الكندي فقال ما يحدثكم أبو عبد الرحمن فقلنا كذا وكذا فقال صدق أبو عبد الرحمن كان بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهداك أو يمينه قلت إذن يحلف ولا يبالي فقال صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان ونزلت إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا إلى آخر الآية
____________________
(2/861)
ومسلم وغيره جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي يا رسول الله إن هذا قد غلبني على أرض كانت لأبي فقال الكندي هي أرض في يدي أزرعها ليس له فيها حق فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألك بينة قال لا قال فلك يمينه قال يا رسول الله إن الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه وليس يتورع عن شيء فقال ليس لك منه إلا ذلك فانطلق ليحلف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أدبر لئن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض
وأبو داود إن رجلا من كندة وآخر من حضرموت اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض باليمن فقال الحضرمي يا رسول الله إن أرضي اغتصبنيها أبو هذا وهي في يده فقال هل لك بينة قال لا ولكن أحلفه بالله ما يعلم أنها أرضي اغتصبنيها أبوه فتهيأ الكندي لليمين فقال صلى الله عليه وسلم لا يقتطع أحد مالا بيمين إلا لقي الله وهو أجذم فقال الكندي هي أرضه
وابن ماجه من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله أجذم
وأحمد بسند حسن وأبو يعلى والبزار والطبراني اختصم رجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أرض أحدهما من حضرموت فجعل صلى الله عليه وسلم يمين أحدهما فضج الآخر فقال إذن يذهب بأرضي فقال إن هو اقتطعها بيمينه ظلما كان ممن لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم وورع الآخر فردها
قال الحافظ المنذري وقد وردت هذه القصة من غير ما وجه وورع بكسر الراء أي تحرج من الإثم وكف عما هو قاصده ويحتمل أنه بفتح الراء أي جبن وهو معنى ضمها أيضا والأول أظهر
والبخاري وغيره الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس
وفي رواية له أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما أكبر الكبائر
____________________
(2/862)
قال الإشراك بالله قال ثم ماذا قال اليمين الغموس قلت وما اليمين الغموس قال الذي يقتطع مال امرئ مسلم يعني بيمين هو فيها كاذب
والطبراني وابن حبان في صحيحه واللفظ له من أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس والذي نفسي بيده لا يحلف رجل على مثل جناح بعوضة إلا كانت كية في قلبه يوم القيامة
والطبراني في الأوسط بسند قيل رجاله موثقون أكبر الكبائر الشرك بالله واليمين الغموس ورواه الترمذي وحسنه وقال وما حلف حالف بالله بيمين صبر فأدخل فيها مثل جناح بعوضة إلا جعلت نكتة في قلبه إلى يوم القيامة
والحاكم وقال صحيح على شرطهما عن ابن مسعود رضي الله عنه قال كنا نعد من الذنب الذي ليس له كفارة اليمين الغموس قيل وما اليمين الغموس قال الرجل يقتطع بيمينه مال الرجل
والحاكم وصححه عن الحارث رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج بين الجمرتين وهو يقول من اقتطع مال أخيه بيمين فاجرة فليتبوأ مقعده من النار ليبلغ شاهدكم غائبكم مرتين أو ثلاثا وفي رواية لابن حبان في صحيحه فليتبوأ بيتا من النار
والبزار بسند صحيح لو صح سماع أبي سلمة من أبيه عبد الرحمن بن عوف راويه رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اليمين الفاجرة تذهب المال أو تذهب بالمال
____________________
(2/863)
والبيهقي ليس شيء مما عصي الله به هو أعجل عقابا من البغي وما من شيء أطيع الله به أسرع ثوابا من الصلة واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع
وأحمد بسند فيه مدلس لم يصرح بالسماع من لقي الله لا يشرك به شيئا وأدى زكاة ماله طيبة بها نفسه محتسبا وسمع وأطاع فله الجنة أو دخل الجنة
وخمس ليس لهن كفارة الشرك بالله وقتل النفس بغير حق وبهت مؤمن والفرار من الزحف ويمين صابرة يقتطع بها مالا بغير حق
وأبو داود والحاكم وقال صحيح على شرطهما من حلف على يمين مصبورة كاذبة فليتبوأ مقعده من النار
والحاكم وصححه من اقتطع مال امرئ مسلم بيمين كاذبة كانت نكتة سوداء في قلبه لا يغيرها شيء إلى يوم القيامة
والطبراني بسند صحيح والحاكم وصححه إن الله جل ذكره أذن لي أن أحدث عن ديك قد مرقت رجلاه الأرض وعنقه منثن تحت العرش وهو يقول سبحانك ما أعظمك ربنا فيرد عليه ما علم ذلك من حلف بي كاذبا
والطبراني واللفظ له والحاكم وصححه من اقتطع مال امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار قيل يا رسول الله وإن كان شيئا يسيرا قال وإن كان شراكا
ومالك ومسلم والنسائي وابن ماجه من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة
قالوا وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله قال وإن كان قضيبا من أراك
زاد مالك وإن كان قضيبا من أراك وإن كان قضيبا من أراك
____________________
(2/864)
وابن ماجه بسند صحيح لا يحلف عند هذا المنبر عبد ولا أمة على يمين آثمة ولو على سواك رطب إلا وجبت له النار
وابن ماجه واللفظ له وابن حبان في صحيحه من حلف على يمين آثمة عند منبري هذا فليتبوأ مقعده من النار ولو على سواك أخضر
ويستفاد منه ومما قبله كما ذكره أبو عبيدة والخطابي أن اليمين كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المنبر
وابنا ماجه وحبان في صحيحه إنما الحلف حنث أو ندم
والطبراني بإسناد جيد عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه افتدى يمينه بعشرة آلاف درهم ثم قال ورب الكعبة لو حلفت حلفت صادقا وإنما هو شيء افتديت به يميني
وروي أيضا عن الأشعث بن قيس رضي الله عنه أنه اشترى يمينه مرة بسبعين ألفا
تنبيه عد الأولى هو ما صرحت به هذه الأحاديث للتصريح فيها تارة بأن ذلك كبيرة وتارة أخرى بأنه من أكبر الكبائر وبذلك الوعيد الشديد بل الذي لا أشد منه ومن ثم اتفق أصحابنا على أن ذلك كبيرة
وأما عد الثانية فهو ظاهر الحديث الصحيح السابق ما علم ذلك من حلف بي كاذبا إذ في هذا تهديد عظيم ووعيد شديد ثم رأيت ما يصرح بذلك وهو تعبير بعض أئمتنا كصاحب العدة باليمين الفاجرة وفسرها الزركشي بما يشمل الكاذبة وإن لم تكن غموسا بالمعنى السابق فقال وهي عبارة عن اليمين الغموس وهي التي يحلف بها باطلا أو يبطل بها حقا سميت غموسا لأنها تغمس صاحبها في النار انتهى فقوله يحلف بها باطلا أي وإن لم يبطل بها حقا وهذه لا تسمى غموسا اصطلاحا خلافا لما يوهمه كلام الزركشي المذكور ويؤيد عدها أيضا أن عبد الرزاق روى في باب الكبائر من الباب الجامع عن معمر عن أبي سعيد الخدري أن رجلا جاء ابن عمر فقال إني أصبت ذنوبا فأحب أن تعد علي الكبائر قال فعد عليه سبعا أو ثمانيا الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وأكل الربا وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات واليمين الفاجرة
ويؤيده أيضا بل يصرح به خبر مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم
____________________
(2/865)
عذاب أليم قال فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فقلت خابوا وخسروا من هم قال المسبل أي إزاره خيلاء والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب فهذا هو ظاهر أو صريح في أن الحلف بالله كذبا كبيرة وإن لم تكن غموسا بالتفسير الذي ذكروه
اللهم إلا أن يدعي أن إنفاق السلعة بالحلف الكذب اقتطع به مال مسلم وهو أخذ الثمن من المشتري بواسطة اليمين الكاذبة إذ لولاها لما بذل له في تلك العين فكأنه اقتطع حقه بها
وأخرج الشيخان ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل على فضل ماء يمنعه ابن السبيل ورجل بايع رجلا سلعة بعد العصر فحلف بالله لقد أخذها بكذا وكذا فصدقه وهو على غير ذلك ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا فإن أعطاه منها وفى له وإن لم يعطه لم يف له
والتقييد ببعد العصر لأن الحلف الكذب فيه أقبح لا لأنه شرط في استحقاق هذه العقوبة الشديدة كما يدل عليه خبر مسلم المذكور
وأما عد الثالثة فهو ما بحثه الزركشي فقال فلا شك أنه يطرق البحث الذي أشار إليه الرافعي بقوله وللتوقف مجال في بعض هذه الصور تقييد اليمين بالفاجرة ويقال إن كثرة الأيمان وإن كان صادقا تقتضي ذلك أي الفسق كما قيل به في كثرة المخاصمة انتهى وهو محتمل ويحتمل خلافه وهو أقرب لأن من شأن كثرة المخاصمة ولو بحق الوقوع فيما لا ينبغي كما يأتي مبسوطا بخلاف ما هنا
وعلم من تلك الأحداث أن اليمين الغموس هي التي يحلفها الإنسان عامدا عالما أن الأمر بخلاف ما حلف عليه ليلحق بها باطلا أو يبطل بها حقا كأن يقتطع بها مال معصوم ولو غير مسلم كما هو ظاهر ومن عبر بالمسلم فقد جرى على الغالب وسميت غموسا بفتح المعجمة لأنها تغمس الحالف في الإثم في الدنيا وفي النار يوم القيامة واليمين الصابرة والصبر والمصبور السابقة في الأحاديث هي اللازمة لصاحبها من جهة الحكم فيصير من أجلها أن يحبس وأصل الصبر الحبس ومنه قولهم قتل فلان صبرا أي حبسا على القتل وقهرا عليه
الكبيرة الثانية والثالثة والرابعة عشرة بعد الأربعمائة الحلف بالأمانة أو بالصنم مثلا وقول بعض المجازفين إن فعلت كذا فأنا كافر أو بريء من الإسلام أو النبي
أشار إلى هذه الثلاثة بعضهم لكنه توسع فقال ومن جملة ذلك أي اليمين
____________________
(2/866)
الغموس الحلف بغير الله عز وجل كالنبي والكعبة والملائكة والسماء والآباء والحياة والأمانة وهي من أشدها نهيا والروح والرأس وحياة السلطان ونعمة السلطان وتربة فلان ثم ساق أدلة فيها نهي ووعيد عن الحلف بذلك كحديث إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت وكحديث مسلم لا تحلفوا بالطواغي ولا بآبائكم والطواغي جمع طاغية وهي الصنم ومنه الحديث هذه طاغية دوس أي صنمهم ومعبودهم
وكحديث من حلف بالأمانة فليس منا
وكحديث من حلف فقال إني بريء من الإسلام فإن كان كاذبا فهو كما قال وإن كان صادقا فلن يرجع إلى الإسلام سالما وكحديث ابن عمر أنه سمع رجلا يقول لا والكعبة فقال لا تحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من حلف بغير الله فقد كفر وأشرك
قال بعض العلماء وهذا محمول على التغليظ كحديث الرياء شرك وكحديث من حلف فقال في حلفه واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله
وسبب ذلك أنه كان في الصحابة رضوان الله عليهم من هو حديث عهد بالحلف بذلك قبل إسلامه فربما سبق لسانه إلى الحلف بها فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يبادر إلى قوله لا إله إلا الله ليكفر بذلك ما سبق على لسانه هذا ملخص ما ذكره ذلك البعض
وكلام أئمتنا لا يساعد ذلك لأنهم أطلقوا أن الحلف بغير الله مكروه نعم
إن اعتقد له من العظمة بالحلف به ما يعتقده لله تعالى كان الحلف حينئذ كفرا وهو محمل حديث ابن عمر السابق والأحاديث الآتية
وأما الحلف بالصنم ونحوه فإن قصد به نوع تعظيم له كفر وإلا فلا وحينئذ فكونه كبيرة له نوع احتمال وأما قول بعض المجازفين المذكور فالحكم عليه بالكبيرة غير بعيد لما في الحديث السابق والأحاديث الآتية من الوعيد الشديد
____________________
(2/867)
وهو إما الكفر إن كذب أو أنه لا يرجع إلى الإسلام سالما إن صدق
ولا بأس بذكر مخرجي تلك الأحاديث التي ذكرها ذلك البعض عرية عن الإسناد والتعرض لكونها صحيحة أو لا
أخرج الشيخان وغيرهما إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت
وابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يحلف بأبيه فقال لا تحلفوا بآبائكم من حلف فليحلف بالله ومن حلف له بالله فليرض ومن لم يرض بالله فليس من الله
والترمذي وحسنه وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرطهما من حلف بغير الله فقد كفر وأشرك
والحاكم كل يمين يحلف بها دون الله شرك
وصح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره وأنا صادق
وأبو داود من حلف بالأمانة فليس منا
وأبو داود وابن ماجه والحاكم وقال صحيح على شرطهما من حلف فقال إني بريء من الإسلام فإن كان كاذبا فهو كما قال وإن كان صادقا فلن يرجع إلى الإسلام سالما
وأبو يعلى والحاكم واللفظ له وصححه من حلف على يمين فهو كما حلف إن قال هو يهودي فهو يهودي وإن قال هو نصراني فهو نصراني وإن قال هو بريء من الإسلام فهو كذلك ومن ادعى دعاء الجاهلية فإنه من جثي جهنم قالوا يا رسول الله وإن صام وصلى قال وإن صام وصلى
وروى ابن ماجه عن أنس رضي الله عنه قال سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يقول أنا إذا يهودي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبت
____________________
(2/868)
والشيخان والأربعة من حلف بملة غير الإسلام كاذبا فهو كما قال
الكبيرة الخامسة عشرة بعد الأربعمائة الحلف بملة غير الإسلام كاذبا
كذا ذكره بعضهم وفيه نظر والظاهر أنه أراد به ما مر من قول بعض الجهلة إن فعل كذا فهو يهودي لكن هذا لا يتوقف كونه كبيرة على الكذب بل يفسق قائله وإن لم يكن كاذبا لأن التعلق يحتمل الكفر بل هو ظاهر فيه وإن كان غير مراد
وفي أذكار النووي رحمه الله
وإذا قال هو يهودي أو نصراني أو نحوهما إن أراد تعليق خروجه من الإسلام بما قال صار كافرا في الحال وجرت عليه أحكام المرتدين وإن لم يرده ارتكب محرما فتجب عليه التوبة حقيقة بأن يقلع عن معصيته ويندم على فعله ويعزم على عدم عوده أبدا ويستغفر الله ويقول لا إله إلا الله محمد رسول الله
انتهى والاستغفار والتشهد مستحبان
باب النذر الكبيرة السادسة عشرة بعد الأربعمائة عدم الوفاء بالنذر سواء أكان نذر قربة أم نذر لجاج وعد هذا ظاهر لأنه امتناع من أداء حق لزمه على الفور فهو كالامتناع عن أداء الزكاة إذ الصحيح عندنا أن النذر يسلك به مسلك واجب الشرع في أحكامه فكذلك يسلك به مسلك الواجب في عظيم إثم ترك ما يترتب عليه من أن تركه كبيرة وفسق
باب القضاء الكبيرة السابعة والثامنة والتاسعة عشرة والعشرون والحادية والعشرون بعد الأربعمائة تولية القضاء وتوليه وسؤاله لمن يعلم من نفسه الخيانة أو الجور أو نحوهما والقضاء بجهل أو جور
قال تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون
____________________
(2/869)
ثم قال عز قائلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ثم قال جل عليما حكيما ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون
وأخرج أبو داود والترمذي واللفظ له وقال حسن غريب وابن ماجه والحاكم وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من ولي القضاء أو جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين
قال الخطابي معناه أن الذبح بالسكين يحصل به راحة الذبيحة بتعجيل إزهاق روحها فإذا ذبحت بغير سكين كان فيه تعذيب لها وقيل إن الذبح لما كان في ظاهر العرف وغالب العادة بالسكين عدل صلى الله عليه وسلم عن ظاهر العرف والعادة إلى غير ذلك ليعلم أن مراده صلى الله عليه وسلم بهذا القول ما يخاف عليه من هلاك دينه دون هلاك بدنه ويحتمل غير ذلك وعلى كل فالمراد بذلك الكناية عن أن القاضي عرض نفسه بقبوله القضاء إلى حصول مشقة لا تطاق في العادة وهي ما يلحقه من عذاب الله وغضبه ومن ثم نفر السلف عن ذلك نفورا عظيما ولم يفسق الممتنع عن قبوله وإن تعين عليه لعذره بخوفه من وقوعه في ورطاته وغوائله الكثيرة القبيحة الغالب حصولها لمن دخل فيه
وأبو داود والترمذي وابن ماجه القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار
والترمذي واللفظ له وقال حسن غريب وابن ماجه القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة رجل قضى بغير الحق يعلم بذلك فذلك في النار وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النار وقاض قضى بالحق فذلك في الجنة
وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه وفيه أيضا انقطاع أن عثمان قال لابن عمر رضي الله عنهم اذهب فكن قاضيا
قال أو أوتعفيني يا أمير المؤمنين قال اذهب فاقض بين الناس قال تعفيني يا أمير المؤمنين قال عزمت عليك إلا ذهبت فقضيت قال
____________________
(2/870)
لا تعجل أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من عاذ بالله فقد عاذ بمعاذ قال نعم قال فإني أعوذ بالله أن أكون قاضيا قال وما يمنعك وقد كان أبوك يقضي قال لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من كان قاضيا فقضى بالجهل كان من أهل النار ومن كان قاضيا فقضى بالجور كان من أهل النار ومن كان قاضيا فقضى بحق أو بعدل سأل التفلت كفافا فما أرجو منه بعد ذلك ورواه الترمذي باختصار عنهما وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من كان قاضيا فقضى بالعدل فبالحري أن يتفلت منه كفافا فما أرجو بعد ذلك وأحمد ليأتين على القاضي العدل يوم القيامة ساعة يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في تمرة واحدة قط
وابن حبان في صحيحه يدعى القاضي العدل يوم القيامة فيبقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في عمره وتمرة وعمره قيل متقاربان خطا ولعل أحدهما تصحيف انتهى ولا حاجة إلى ذلك لأن المعنى صحيح في كليهما فما المانع من أنهما روايتان
والطبراني من ولي شيئا من أمر المسلمين أتي به يوم القيامة حتى يوقف على جسر جهنم فإن كان محسنا نجا وإن كان مسيئا انخرق به الجسر فهوى فيه سبعين خريفا وهي سوداء مظلمة
وأحمد ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله به مغلولا يوم القيامة يداه إلى عنقه فكه بره أو أوثقه إثمه أولها ملامة وأوسطها ندامة وآخرها خزي يوم القيامة
ومسلم وغيره يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تلين مال يتيم
____________________
(2/871)
والشيخان يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها
وأبو داود والترمذي وقال حسن غريب من ابتغى القضاء وسأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده
وابن ماجه من سأل القضاء وكل إلى نفسه ومن جبر عليه ينزل ملك فيسدده
وأبو داود من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة وإن غلب جوره عدله فله النار
والترمذي وابنا ماجه وحبان إن الله تعالى مع القاضي ما لم يجر فإذا جار تخلى عنه ولزمه الشيطان
ورواه الحاكم وصححه إلا أنه قال فإذا جار تبرأ الله منه
ومالك إن مسلما ويهوديا اختصما إلى عمر رضي الله عنه فرأى الحق لليهودي فقضى عمر له به فقال له اليهودي والله لقد قضيت بالحق فضربه عمر بالدرة وقال وما يدريك فقال اليهودي والله إنا نجد في التوراة ليس قاض يقضي بالحق إلا كان عن يمينه ملك وعن شماله ملك يسددانه ويوفقانه للحق ما دام مع الحق فإذا ترك الحق عرجا وتركاه
وابن ماجه والبزار واللفظ له يؤتى بالقاضي يوم القيامة فيوقف للحساب على شفير جهنم فإن أمر به دفع فهوى فيها سبعين خريفا
وابن أبي الدنيا وغيره لا يلي أحد من أمر الناس شيئا إلا أوقفه الله على جسر
____________________
(2/872)
جهنم فزلزل به الجسر زلزلة فناج أو غير ناج لا يبقى منه عظم إلا فارق صاحبه فإن هو لم ينج ذهب به في جب مظلم كالقبر في جهنم لا يبلغ قعره سبعين خريفا
ومسلم ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لم يجهد لهم ولا ينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة
زاد الطبراني كنصحه وجهده لنفسه
وأحمد بسند حسن من ولي من أمر الناس شيئا ثم أغلق بابه دون المسكين والمظلوم وذي الحاجة أغلق الله تبارك وتعالى أبواب رحمته دون حاجته وفقره أفقر ما يكون إليها
تنبيه عد هذه الخمسة لم أره لكنه صريح هذه الأحاديث الصحيحة
أما الثانية فواضح لأنها صريحة الحديث الأول المكني عن شدة العذاب والوعيد فيه بالذبح بغير سكين وحملها على ما ذكرته في الترجمة ظاهر متعين وصريحة الحديث الثاني وما بعده لأن الحكم على القاضيين الجاهل والجائر بكونهما في النار وعيد شديد وإذا ثبت ذلك في ولاية القضاء يثبت في لازمها من التولية وسببها من السؤال في ذلك وأما الأخيرتان فهما صريح الحديث الثاني وما بعده أيضا فينتج من ذلك اتضاح عد هذه الخمسة
قال الفضيل بن عياض رضي الله عنه ينبغي للقاضي أن يكون يوما في القضاء ويوما في البكاء على نفسه
وقال محمد بن واسع أول من يدعى يوم القيامة إلى الحساب القضاة
وقال علي رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ليس من قاض ولا وال إلا يؤتى به يوم القيامة حتى يوقف بين يدي الله عز وجل على الصراط ثم تنشر صحيفة سيرته فتقرأ على رءوس الخلائق فإن كان عدلا نجاه الله بعدله وإن كان غير ذلك انتفض به الجسر انتفاضة فصار بين كل عضو من أعضائه مسيرة كذا وكذا ثم ينخرق به الجسر إلى جهنم
____________________
(2/873)
وقال مكحول لو خيرت بين القضاء وضرب عنقي لاخترت ضرب عنقي ولم أختر القضاء
وقال أيوب السختياني إني وجدت أعلم الناس أشدهم هربا منه ودعا مالك بن المنذر محمد بن واسع ليجعله على قضاء البصرة فأبى فعاوده وقال لتجلس وإلا جلدتك فقال إن تفعل فأنت سلطان وإن ذليل الدنيا خير من ذليل الآخرة
وقيل لسفيان الثوري إن شريحا قد استقضي فقال أي رجل قد أفسدوه
والحاصل أن هذا المنصب أخطر المناصب وأفظع المتاعب والمثالب وقد أفردت قضاة السوء بتأليف مستقل سميته جمر الغضا لمن تولى القضا وذكرت فيه من أحوالهم الفظيعة الشنيعة ما تمجه الأسماع وتستنكره الطباع لما أن الجرأة على فعله توجب القطع واليقين بأنهم ليسوا من المتقين بل ولا من المسلمين نسأل الله العافية بمنه وكرمه آمين
الكبيرة الثانية والعشرون بعد الأربعمائة إعانة المبطل ومساعدته
أخرج الحاكم وصححه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من أعان على خصومة بغير حق كان في سخط الله حتى ينزع
وأبو داود من أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله
وأبو داود وابن حبان في صحيحه مثل الذي يعين قومه على الحق كمثل بعير تردى في بئر فهو ينزع منها بذنبه ومعناه أنه وقع في الإثم وهلك كالبعير إذا تردى في بئر مهلكة فصار ينزع بذنبه ولا يقدر على الخلاص
والطبراني أيما رجل حالت شفاعته دون حد من حدود الله لم يزل في غضب الله حتى ينزع وأيما رجل شد غضبا على مسلم في خصومة لا علم له بها فقد عاند الله حقه وحرص على سخطه وعليه لعنة الله تتابع إلى يوم القيامة وأيما رجل أشاع على رجل مسلم بكلمة وهو منها بريء يشينه بها في الدنيا كان حقا على الله أن يذيبه يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاد ما قال
____________________
(2/874)
والطبراني من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في ملكه ومن أعان على خصومة لا يعلم أحق أو باطل فهو في سخط الله حتى ينزع ومن مشى مع قوم يرى أنه شاهد وليس بشاهد فهو كشاهد زور ومن تحلم كاذبا كلف أن يعقد بين طرفي شعيرة وسباب المسلم فسوق وقتاله كفر
والطبراني والأصبهاني من أعان ظالما بباطل ليدحض به حقا فقد برئ من ذمة الله وذمة رسوله ومن مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام
تنبيه عد هذا هو صريح هذه الأحاديث وهو ظاهر وإن لم أره
الكبيرة الثالثة والعشرون بعد الأربعمائة إرضاء القاضي وغيره من الناس بما يسخط الله تعالى
أخرج ابن حبان في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس
والطبراني بسند جيد قوي من أسخط الله في رضا الناس سخط الله عليه وأسخط عليه من أرضاه في سخطه
ومن أرضى الله في سخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه من أسخطه في رضاه حتى يزينه ويزين قوله وعمله في عينه
والحاكم من أرضى سلطانا بما يسخط ربه خرج من دين الله
____________________
(2/875)
والبزار من طلب محامد الناس بمعاصي الله عاد حامده له ذاما أو قال ذاما له
وابن حبان في صحيحه واللفظ له والبيهقي من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله ومن أسخط الله برضا الناس وكله الله إلى الناس
والبيهقي من أراد سخط الله ورضا الناس عاد حامده من الناس ذاما
والطبراني من تحبب إلى الناس بما يحبوه وبارز الله تعالى لقي الله تعالى يوم القيامة وهو عليه غضبان
ويحبوه كذا رأيته وهو لغة والأشهر يحبونه
تنبيه عد هذا هو صريح هذه الأحاديث وهو ظاهر وإن لم أره
الكبيرة الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والعشرون بعد الأربعمائة أخذ الرشوة ولو بحق وإعطاؤها بباطل والسعي فيها بين الراشي والمرتشي وأخذ مال على تولية الحكم ودفعه حيث لم يتعين عليه القضاء ولم يلزمه البذل
قال تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون
وقال المفسرون ليس المراد من ذلك الأكل خاصة ولكن لما كان المقصود الأعظم من الأموال وصار العرف فيمن أنفق ماله أن يقال أكله خص بالذكر
وقوله تعالى بالباطل يشمل سائر وجوهه ويجمعها في كل ما نهى الشارع عنه لمعنى في عينه كالمسكر والمؤذي أو لخلل في اكتسابه كالمغصوب والمسروق أو مصرفه كأنه يصرفه في معصية وتدلوا بها عطف على المجزوم بدليل قراءة أبي ولا تدلوا بها
وقيل غير ذلك والإدلاء إرسال الدلو إلى البئر للاستقاء ودلاه يدلوه أخرجه ثم جعل إلقاء كل
____________________
(2/876)
قول أو فعل إدلاء ومنه أدلى بحجته كأنه يرسلها لتصل إلى مراده وأدلى إلى الميت بقرابته لطلب الميراث بتلك النسبة وباء بها للتعدية وقيل للسببية
فالمراد بالإدلاء الإشراع بالخصومة في الأموال وباء بالإثم للسببية أو المصاحبة ووجه تشبيه الرشوة بالإدلاء إما كونها تقرب بعيد الحاجة كما أن الدلو المملوءة ماء تصل من البعيد إلى القريب بواسطة الرشاء فالبعيد يصير قريبا بسبب الرشوة وإما كون الحاكم بسبب الرشوة يمضي الحكم ويثبته من غير تثبت كمضي الدلو في الرشاء ثم المراد من ذلك عند ابن عباس وجماعة الودائع وما لا بينة عليه وقيل مال اليتيم في يد وصيه يدفع بعضه للحاكم ليبقيه على وصايته وتصرفه الفاسد وقيل شهادة الزور والضمير في بها عائد على مذكور للعلم به
وقال الحسن هو أن يحلف ليحق باطلا لأن سبب نزولها أن امرأ القيس بن عباس الكندي ادعى عليه ربيعة بن عبدان الحضرمي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضا أنه غلبه عليها فالتمس منه صلى الله عليه وسلم بينة فلم يجد فقال لك يمينه فانطلق ليحلف فقال صلى الله عليه وسلم أما إن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض فنزلت أي لا يأكل بعضكم مال بعض من غير الوجه الذي أباحه الله له
وقيل هو أن يدفع إلى الحاكم رشوة
قال بعض المفسرين وهذا أقرب إلى ظاهر الآية أي لا تصانعوا الحكام بأموالكم ولا ترشوهم ليقتطعوا لكم حق غيركم ولا يبعد حملها على كل ما مر لأن الكل أكل للمال بالباطل
وأنتم تعلمون أي بكونه باطلا
ولا شك أن الإقدام على القبيح مع العلم بقبحه أقبح وصاحبه بالتوبيخ أحق
وأخرج أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي
وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه لعنة الله على الراشي والمرتشي
والطبراني بسند رجاله ثقات الراشي والمرتشي في النار
____________________
(2/877)
وأحمد ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنة وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب
والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي في الحكم
والحاكم عنه لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي في الحكم والرائش الذي يسعى بينهما
وأحمد والبزار والطبراني عن ثوبان رضي الله عنه قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش يعني الذي يمشي بينهما
والطبراني بسند جيد لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم
والحاكم من ولي عشرة فحكم بينهم بما أحبوا أو بما كرهوا جيء به مغلولة يداه فإن عدل ولم يرتش ولم يحف فك الله عنه وإن حكم بغير ما أنزل الله وارتشى وحابى فيه شدت يساره إلى يمينه ثم رمي به في جهنم فلم يبلغ قعرها خمسمائة عام
والطبراني بإسناد صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال الرشوة في الحكم كفر وهي بين الناس سحت
تنبيه عد الأولى هو ما ذكروه والثانية والثالثة هو ما ظهر لي من صريح الأحاديث الآتية والأخيرتين هو ما رأيته بعد ذلك في كلام الجلال البلقيني وهو يؤيد ما ذكرته في الثانية والثالثة وعبارته أخذ الرشوة على الأحكام سواء أخذها على الحكم بالباطل أو الحكم بالحق وفي معناه الأخذ على تولية الحكم ودفعه حيث لم يتعين ولم يجب عليه البذل
انتهت
____________________
(2/878)
والأحاديث التي ذكرتها صريحة في أكثر ذلك لما فيها من الوعيد الشديد واللعنة للراشي وللمرتشي وللسفير بينهما وإنما قلت في الثانية باطل لقولهم قد يجوز الإعطاء ويحرم الأخذ كما في هذه المسألة وكما يعطاه الشاعر خوفا من هجوه فالإعطاء جائز للضرورة والأخذ حرام لأنه بغير حق ولأن المعطي كالمكره على إعطائه فمن أعطى قاضيا أو حاكما رشوة أو أهدى إليه هدية فإن كان ليحكم له بباطل أو ليتوصل بها إلى نيل ما لا يستحق أو إلى أذية مسلم فسق الراشي والمهدي بالإعطاء والمرتشي والمهدى إليه بالأخذ والرائش بالسعي وإن لم يقع حكم منه بعد ذلك أو ليحكم له بحق أو لدفع ظلم عنه أو لينال ما يستحقه فسق الآخذ فقط ولم يأثم المعطي لاضطراره إلى التوصل إلى حقه بأي طريق كان
وأما الرائش هنا فالذي يظهر أن يقال فيه إنه كان من جهة الآخذ فسق لما تقرر أن الآخذ يفسق مطلقا فمعينه كذلك وإن كان من جهة المعطي فإن كنا حكمنا بفسقه فسق رسوله وإلا فلا
ثم رأيت بعضهم ذكر نحو ذلك في الرائش فقال هو تابع للراشي في قصده إن قصد خيرا لم تلحقه اللعنة وإلا لحقته
ولا فرق في الرشوة المقتضي أخذها الفسق بين قليل المال وكثيره ومن ثم قال الأذرعي في توسطه أطلق شريح الروياني وغيره أن أكل أموال اليتامى وغيرهم بالباطل من الكبائر وكذا أخذها رشوة ولم يفرقوا بين أن يبلغ ذلك ربع دينار وأن لا وكذا أطلق صاحب العدة أكل أموال اليتامى وأخذ الرشوة وجرى على إطلاقه فيها وفي كيل أو وزن الشيخان وسيأتي عن النص ما يشهد له وذلك يورث تضعيف التقييد في المغصوب بربع دينار
انتهى
ومر في الغصب وغيره ما له تعلق بذلك
ومما يدل على أن تحريم الرشوة لا يختص بالقضاة كما صرح به غير واحد خلافا للبدر بن جماعة وغيره ما رواه أحمد عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هدايا العمال غلول
وما رواه أبو داود في سننه عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من شفع لرجل شفاعة فأهدى له عليها هدية فقد أتى بابا كبيرا من أبواب الربا
وقال ابن مسعود السحت أن تطلب لأخيك الحاجة فتقضى فيهدي إليك هدية فتقبلها منه
وعن مسروق أنه كلم ابن زياد في مظلمة فردها فأهدى إليه صاحب المظلمة وصيفا فرده
____________________
(2/879)
ولم يقبله
وقال يعني مسروقا سمعت ابن مسعود يقول من رد عن مسلم مظلمة فأعطاه على ذلك قليلا أو كثيرا فهو سحت فقال الرجل يا أبا عبد الله ما كنا نظن أن السحت إلا الرشوة في الحكم فقال ذلك كفر نعوذ بالله من ذلك
وجاء نصراني إلى الإمام الأوزاعي وكان يسكن بيروت فقال إن والي بعلبك ظلمني وأريد أن تكتب في إليه وأتاه بقلة عسل فقال له إن شئت رددت عليك قلتك وأكتب إليه وإن شئت أخذتها ولا أكتب فقال النصراني بل اكتب لي وارددها فكتب له أن ضع عنه من خراجه فشفعه الوالي فيه وحط عنه من جزيته ثلاثين درهما
قال الشافعي رضي الله عنه وإذا أخذ القاضي رشوة على قضائه فقضاؤه مردود وإن كان بحق والرشوة مردودة وإذا أعطى القاضي على القضاء رشوة فولايته باطلة وقضاؤه مردود وليس من الرشوة بذل مال لمن يتكلم مع السلطان مثلا في جائزة فإن هذا جعالة جائزة
الكبيرة التاسعة والعشرون بعد الأربعمائة قبول الهدية بسبب شفاعته أخرج أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم قال من شفع شفاعة لأحد فأهدى له هدية عليها فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الكبائر
ومر عن ابن مسعود أن ذلك سحت ونقله القرطبي عن مالك
تنبيه عد هذا هو ما صرح به بعض أئمتنا وفيه نظر لأنه لا يوافق قواعدنا بل مذهبنا أن من حبس فبذل لغيره مالا ليشفع له ويتكلم في خلاصه جاز وكانت جعالة جائزة فالذي يتجه حمل ذلك على قبول مال في مقابلة شفاعة في محرم
الكبيرة الثلاثون والحادية والثانية والثالثة والرابعة والثلاثون بعد الأربعمائة الخصومة بباطل أو بغير علم كوكلاء القاضي أو لطلب حق لكن مع إظهار لدد وكذب لإيذاء الخصم والتسلط عليه والخصومة لمحض العناد بقصد قهر الخصم وكسره والمراء والجدال المذموم
قال تعالى ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في
____________________
(2/880)
قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد
أخرج الترمذي وقال غريب عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كفى بك أن لا تزال مخاصما
والبخاري أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم أي كثير الخصومة
والشافعي في الأم عن علي كرم الله وجهه أنه وكل في خصومة وهو حاضر قال وكان يقول إن الخصومة لها قحما وإن الشيطان يحضرها وقحما بضم القاف وبالمهملة المفتوحة أي شدة وورطة وعد المطرزي في المغرب فتح الحاء خطأ
وورد أنه صلى الله عليه وسلم قال من جادل في خصومة بغير علم لم يزل في سخط الله حتى ينزع
وأنه قال ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا جدلا ثم تلا ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون
تنبيه عد ما ذكر هو صريح ما مر عن البخاري في الأولى وفي معناها ما بعدها وهو ظاهر
ثم رأيت من عد الفجور في المخاصمة كبيرة وأطلق في المراء والجدال أنهما كبيرتان وفيه نظر فمن ثم قيدت بالمذموم
ومما يؤيد عد ذلك قول النووي عن بعضهم إنه قال ما رأيت شيئا أذهب للدين ولا أنقص للمروءة ولا أضيع للذة ولا أشغل للقلب من الخصومة
وفي أذكار النووي فإن قلت لا بد للإنسان من الخصومة لاستيفاء حقوقه
فالجواب ما أجاب به الغزالي أن الذم إنما هو لمن خاصم بباطل أو بغير علم كوكيل القاضي فإنه يتوكل قبل أن يعرف أن الحق في أي جانب ويدخل في الذم من طلب حقا لكنه لا يقتصر على قدر الحاجة بل يظهر اللدد والكذب للإيذاء أو التسليط على خصمه وكذلك من يحمله على الخصومة محض العناد لقهر الخصم وكسره وكذلك من يخلط
____________________
(2/881)
الخصومة بكلمات تؤذي وليس له إليها ضرورة في التوصل له إلى غرضه فهذا هو المذموم بخلاف المظلوم الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير لدد وإسراف وزيادة لجاج على الحاجة من غير قصد عناد ولا إيذاء ففعله هذا ليس مذموما ولا حراما لكن الأولى تركه ما وجد إليه سبيلا لأن ضبط اللسان في الخصومة على حد الاعتدال متعذر والخصومة توغر الصدور وتهيج الغضب فإذا هاج الغضب حصل الحقد بينهما حتى يفرح كل واحد منهما بمساءة الآخر ويحزن بمسرته ويطلق اللسان في عرضه فمن خاصم فقد تعرض لهذه الآفات وأقل ما فيها اشتغال القلب حتى إنه يكون في صلاته وخاطره معلقا بالمحاججة والخصومة فلا يبقى حاله على الاستقامة والخصومة مبدأ الشر وكذا المراء والجدال فينبغي للإنسان أن لا يفتح عليه باب الخصومة إلا لضرورة لا بد منها وعند ذلك يحفظ لسانه وقلبه عن آفاتها
قال بعض المتأخرين وعدم قبول شهادة وكلاء القاضي مسألة غريبة انتهى
ولا غرابة فيها بالنسبة لأكثر وكلاء القضاة الآن لانطوائهم في وكالاتهم على مفاسد قبيحة شنيعة وكبائر بل فواحش فظيعة
قال الغزالي ومما يذم المراء والجدال والخصومة فالمراء طعنك في كلام لإظهار خلل فيه لغير غرض سوى تحقير قائله وإظهار مرتبتك عليه والجدال هو ما يتعلق بإظهار المذاهب وتقريرها والخصومة لجاج في الكلام ليستوفي به مالا أو غيره ويكون تارة ابتداء وتارة اعتراضا والمراء لا يكون إلا اعتراضا
وقال النووي الجدال قد يكون بحق بأن يكون للوقوف على الحق وإظهاره وتقريره وقد يكون بباطل بأن يكون لمدافعة حق أو بغير علم قال تعالى ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن وقال وجادلهم بالتي هي أحسن وقال تعالى ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا
وعلى ذلك التفصيل تتنزل هذه النصوص وغيرها مما ورد في مدحه تارة وذمه أخرى
فائدة نقل الشيخان عن صاحب العدة أن من الصغائر كثرة الخصومات وإن كان الشخص محقا
قال الأذرعي وقد فهما منه أنه أراد بالصغائر المعاصي التي يأثم فاعلها كما هو المتبادر والمشهور في اصطلاح الفقهاء ويجوز أن لا يريد ذلك بل أراد عد جملة منه ومن غيره مما ترد به الشهادة وإن لم يأثم به وسيأتي ما يؤيده إذ يبعد أن يقال بتأثيم المحق في الخصومة إلا أن يقال من أكثر الخصومات وقع في الإثم
انتهى
وذكره
____________________
(2/882)
تلميذه في الخادم نحوه فقال والظاهر أنه أراد الأعم من ذلك ومما يقتضي رد الشهادة من منقص المروءة ولهذا ذكر من جملتها المحق في الخصومة فإنه لا يقول أحد بتأثيمه وإنما هو من باب ترك المروءة وكذا الضحك من غير عجب ونحوه
فإن قلت فإطلاق الصغيرة على ما لا إثم فيه خارج عن الاصطلاح
قلت المراد أن حكمها حكم الصغيرة في رد الشهادة إذا أصر عليها
وقد ذكر الرافعي في الكلام على المروءة أن من اعتاد ترك السنن الرواتب وتسبيحات الركوع والسجود ردت شهادته لتهاونه بالسنن فهذا صريح في أن المواظبة على ارتكاب خلاف المسنون ترد الشهادة به مع أنه لا إثم فيه
وقد أطلق الحليمي أن رد السائل صغيرة
وقال في الإحياء إن المباح يصير صغيرة بالمواظبة كاللعب بالشطرنج فقد أطلق لفظ الصغيرة على ما لا يحرم
انتهى
فظهر بهذا أن ما بحثه الرافعي في الخصومات وصوبه النووي ليس كما قال وأنه لا يلاقي كلام صاحب العدة فإنه لم يقل إنه معصية كما أن متدارك السنن ليس بعاص وترد شهادته للتهاون ولا شك أن كثرة الخصومات وعدم الإغضاء والتجاوز يورث ضراوة وجرأة وفي معنى الإكثار في الخصومة المخاصمة بغير علم كوكلاء القاضي صرح به الغزالي ونقله عنه النووي في الأذكار
انتهى
باب القسمة الكبيرة الخامسة والسادسة والثلاثون بعد الأربعمائة جور القاسم في قسمته والمقوم في تقويمه
أخرج الطبراني بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيت فيه نفر من قريش فأخذ بعضادتي الباب فقال هل في البيت إلا قرشي فقالوا لا إلا ابن أخت لنا فقال ابن أخت القوم منهم ثم قال إن هذا الأمر في قريش ما إذا استرحموا رحموا وإذا حكموا عدلوا وإذا قسموا أقسطوا ومن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين
تنبيه عد هذين لم أره لكنه صريح الحديث في الأولى وقياسها في الثانية بل هي مما يصدق عليه الحديث لأن الجور في القسمة المتوعد عليه بتلك اللعنة العامة يشمل الجور في الأنصباء وفي القسمة
____________________
(2/883)
____________________
(2/884)
@ 885 كتاب الشهادات الكبيرة السابعة والثامنة والثلاثون بعد الأربعمائة شهادة الزور وقبولها
أخرج الشيخان عن أبي بكرة واسمه نفيع بن الحارث رضي الله عنه قال كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت
والبخاري الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس
والشيخان ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر فقال الشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس فقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قول الزور أو قال شهادة الزور
وأبو داود واللفظ له
والترمذي وابن ماجه صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح فلما انصرف قام قائما فقال عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ثلاث مرات ثم قرأ فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به
ورواه الطبراني موقوفا على ابن مسعود بسند حسن وأحمد بسند رواته ثقات لكن تابعيه لم يسم من شهد على مسلم شهادة ليس لها بأهل فليتبوأ مقعده من النار
وابن ماجه والحاكم وصححه لن تزول قدما شاهد الزور حتى يوجب الله له النار
____________________
(2/885)
والطبراني إن الطير لتضرب بمناقيرها وتحرك أذنابها من هول يوم القيامة وما يتكلم به شاهد الزور ولا يفارق قدماه الأرض حتى يقذف به في النار
والطبراني من رواية من احتج به البخاري من كتم شهادة إذا دعي إليها كان كمن شهد بالزور
والطبراني بسند فيه منكر ألا أخبركم بأكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان صلى الله عليه وسلم محتبيا فحل حبوته فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بطرف لسانه فقال ألا وقول الزور
والطبراني بسند رجاله ثقات ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك بالله ثم قرأ ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما وعقوق الوالدين ثم قرأ أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وكان متكئا فقعد فقال ألا وقول الزور
تنبيه عد هذين هو ما صرحوا به في الأولى وقياسها الثانية وشهادة الزور هي أن يشهد بما لا يتحققه
قال العز بن عبد السلام وعدها كبيرة ظاهر إن وقع في مال خطير فإن وقع في مال قليل كزبيبة أو تمرة فمشكل فيجوز أن تجعل من الكبائر فطما عن هذه المفاسد كما جعل شرب قطرة من الخمر من الكبائر وإن لم تتحقق المفسدة ويجوز أن يضبط ذلك المال بنصاب السرقة
قال وكذلك القول في أكل مال اليتيم
قال في الخادم ويشهد للثاني ما سبق عن الهروي أي وهو اشتراطه في كون الغصب كبيرة أن يكون المغصوب ربع دينار لكن مر عن ابن عبد السلام نفسه أنه حكى الإجماع على أن غصب الحبة وسرقتها كبيرة وهذا مؤيد للأول أعني أنه لا فرق في كون شهادة الزور كبيرة بين قليل
____________________
(2/886)
المال وكثيره فطما عن هذه المفسدة القبيحة الشنيعة جدا ومن ثم جعلت عدلا للشرك ووقع له صلى الله عليه وسلم عند ذكرها من الغضب والتكرير ما لم يقع له عند ذكر ما هو أكبر منها كالقتل والزنا فدل ذلك على عظم أمرها ومن ثم جعلت في بعض الأحاديث السابقة أكبر الكبائر
قال الشيخ عز الدين أيضا وإذا كان الشاهد بها كاذبا أثم ثلاثة آثام
إثم المعصية وإثم إعانة الظالم وإثم خذلان المظلوم وإن كان صادقا أثم إثم المعصية لا غير لتسببه إلى إبراء ذمة الظالم وإيصال المظلوم إلى حقه
قال ومن شهد بحق فإن كان صادقا أجر على قصده وطاعته وعلى إيصال الحق إلى مستحقه وعلى تخليص الظالم من الظلم وإن كان كاذبا بسبب سقوط الحق الذي تحمل الشهادة به وهو لا يشعر بسقوطه أثيب على قصده ولا يثاب على شهادته لأنها مضرة بالخصمين
قال وفي تغريمه ورجوعه على الظالم بما أخذه من المظلوم نظر
إذ الخطأ والجهل في الأسباب والمباشرات سواء في باب الضمان انتهى
الكبيرة التاسعة والثلاثون بعد الأربعمائة كتم الشهادة بلا عذر قال تعالى ومن يكتمها فإنه آثم قلبه
وأخرج الطبراني من رواية من احتج به البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال من كتم شهادة إذ دعي إليها كان كمن شهد بالزور
تنبيه عد هذا هو ما صرحوا به وقيده الجلال البلقيني بما إذا دعي إليها لقوله تعالى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا أما من كانت عنده شهادة لرجل وهو لا يعلم بها أو كان شاهدا في أمر لا يحتاج إلى الدعوى بل يجوز حسبة فلم يشهد ولم يعلم صاحب الحق حتى يدعي به هل يسمى ذلك كتما فيه نظر
وكلام الشيخين في الأداء دليل على أنه ليس قادحا انتهى وفيه نظر كما قال بعضهم والآية لا تدل لما قيد به فالأوجه أنه لا فرق
الكبيرة الأربعون بعد الأربعمائة الكذب الذي فيه حد أو ضرر
قال تعالى ألا لعنة الله على الظالمين
____________________
(2/887)
وأخرج أبو داود والترمذي وصححه واللفظ له عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا
وابن حبان في صحيحه عليكم بالصدق فإنه مع البر وهما في الجنة وإياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار
وأحمد من رواية ابن لهيعة يا رسول الله ما عمل الجنة قال إذا صدق العبد بر وإذا بر آمن وإذا آمن دخل الجنة وقال يا رسول الله ما عمل النار قال الكذب إذا كذب العبد فجر وإذا فجر كفر وإذا كفر دخل النار
والبخاري رأيت الليلة رجلين أتياني فقالا لي الذي رأيته يشق شدقه فكذاب يكذب الكذبة تحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به ذلك إلى يوم القيامة
والشيخان آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر
زاد مسلم في رواية وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم
والشيخان وغيرهما أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر
وأبو يعلى بسند محتج به ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وحج واعتمر وقال إني مسلم إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان
وأحمد والطبراني لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب في المزاح والمراء وإن كان صادقا
____________________
(2/888)
وأبو يعلى لا يبلغ العبد صريح الإيمان حتى يدع المزاح والكذب ويدع المراء وإن كان محقا
وأحمد يطبع المرء على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب
والطبراني والبيهقي وأبو يعلى بسند رواته رواة الصحيح ويطبع المؤمن على كل خلة غير الخيانة والكذب
ومالك مرسلا قيل يا رسول الله أيكون المؤمن جبانا قال نعم
قيل له أيكون المؤمن بخيلا قال نعم
قيل له أيكون المؤمن كذابا قال لا
وأحمد لا يجتمع الكفر والإيمان في قلب امرئ ولا يجتمع الصدق والكذب جميعا ولا تجتمع الأمانة والخيانة جميعا
وأحمد بسند فيه مختلف فيه وأبو داود كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك مصدق وأنت له كاذب
ورواية أبي داود وأنت له به كاذب
وأبو يعلى والطبراني وابن حبان في صحيحه والبيهقي ألا إن الكذب يسود الوجه والنميمة عذاب القبر
والأصبهاني بر الوالدين يزيد في العمر والكذب ينقص الرزق والدعاء يرد القضاء
____________________
(2/889)
والترمذي وقال حسن إذا كذب العبد تباعد الملك عنه ميلا من نتن ما جاء به
وأحمد والبزار واللفظ له عن عائشة رضي الله عنها قالت ما كان من خلق أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب ما اطلع على أحد من ذلك بشيء فيخرج من قلبه حتى يعلم أنه قد أحدث توبة
وابن حبان في صحيحه عنها قالت ما كان من خلق أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب ولقد كان الرجل يكذب عنه الكذبة فما يزال في نفسه حتى يعلم أنه قد أحدث فيها توبة
والحاكم وصححه عنها قالت ما كان شيء أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب وما جربه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد وإن قل فيخرج له من نفسه حتى يجدد له توبة
وأحمد وابن أبي الدنيا والبيهقي بسند لا مجهول فيه خلافا لمن زعمه عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله إن قالت إحدانا لشيء تشتهيه لا أشتهيه أيعد ذلك كذبا قال إن الكذب يكتب كذبا حتى تكتب الكذيبة كذيبة
وأحمد وابن أبي الدنيا عن الزهري عن أبي هريرة رضي الله عنه ولم يسمع منه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من قال لصبي تعال هاك أعطيك ثم لم يعطه فهي كذبة
وأبو داود والبيهقي عن عبد الله بن عامر رضي الله عنه قال دعتني أمي يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا فقالت ها تعال أعطيك فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أردت أن
____________________
(2/890)
تعطيه قالت أردت أن أعطيه تمرا فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة
وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والبيهقي ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب ويل له ويل له
ومسلم وغيره ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم شيخ زان وملك كذاب وعائل أي فقير مستكبر
والبزار بسند جيد ثلاثة لا يدخلون الجنة الشيخ الزاني والإمام أو قال والملك الكذاب والعائل المزهو أي المعجب بنفسه المستكبر
تنبيه عد هذا هو ما صرحوا به قيل لكنه مع الضرر ليس كبيرة مطلقا بل قد يكون كبيرة كالكذب على الأنبياء وقد لا يكون انتهى وفيه نظر بل الذي يتجه أنه حيث اشتد ضرره بأن لا يحتمل عادة كان كبيرة بل صرح الروياني في البحر بأنه كبيرة وإن لم يضر فقال من كذب قصدا ردت شهادته وإن لم يضر بغيره لأن الكذب حرام بكل حال روى فيه حديثا وظاهر الأحاديث السابقة أو صريحها يوافقه وكأن وجه عدولهم عن ذلك ابتلاء أكثر الناس به فكان كالغيبة على ما مر فيها عند جماعة وقال الأذرعي قد تكون الكذبة الواحدة كبيرة وفي الأم للشافعي رضي الله عنه كل من كان منكشف الكذب مظهره غير مستتر به لم يجز شهادته ثم الكذب عند أهل السنة هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه سواء أعلم ذلك وتعمده أم لا
وأما العلم والتعمد فإنما هما شرطان للإثم وأما المعتزلة فقيدوه بالعلم به فعلى مذهب أهل السنة من أخبر بشيء على خلاف ما هو عليه وهو يظنه كذلك فهو كاذب فليس بآثم فيقيد كونه صغيرة أو كبيرة بالعلم وحينئذ فلا فرق بين قليله وكثيره كما صرح به الشافعي رضي الله عنه في الرسالة لكن الكذبة الواحدة أي الخالية عما مر من الحد والضرر لا توجب الفسق كما صرح به الشيخان في باب الرهن ولهذا لو تخاصما في شيء ثم شهدا في حادثة قبلت شهادتهما وإن كان أحدهما كاذبا في ذلك التخاصم ذكره الرافعي ثم في
____________________
(2/891)
أثناء تعليل ومحل ذلك إن خلت عن الضرورة والحد فقد قال الأذرعي قد تكون الكذبة الواحدة كبيرة وذكر في البحر حديثا مرسلا أنه صلى الله عليه وسلم أبطل شهادة رجل في كذبة كذبها
واعلم أن الكذب قد يباح وقد يجب والضابط كما في الإحياء أن كل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعا فالكذب فيه حرام وإن أمكن التوصل بالكذب وحده فمباح إن أبيح تحصيل ذلك المقصود وواجب إن وجب تحصل ذلك كما لو رأى معصوما اختفى من ظالم يريد قتله أو إيذاءه فالكذب هنا واجب لوجوب عصمة دم المعصوم وكذا لو سأل عن وديعة يريد أخذها فيجب إنكاره وإن كذب بل لو استحلف لزمه الحلف ويوري وإلا حنث ولزمته الكفارة ومهما كان لا يتم مقصود حرب أو إصلاح ذات البين أو استمالة قلب المجني عليه إلا بالكذب فالكذب فيه مباح ولو سأله سلطان عن فاحشة وقعت منه سرا كزنا أو شرب خمر فله أن يكذب ويقول ما فعلت وله أيضا أن ينكر سر أخيه
قال الغزالي بعد ذكره ذلك وينبغي أن يقابل مفسدة الكذب بالمفسدة المترتبة على الصدق فإن كانت مفسدة الصدق أشد فله الكذب وإن كان بالعكس أو شك حرم الكذب وإن تعلق بنفسه استحب ألا يكذب وإن تعلق بغيره لم تجز المسامحة لحق غيره والحزم تركه حيث أبيح وليس من الكذب المحرم ما اعتيد من المبالغة كجئتك ألف مرة لأن المراد تفهيم المبالغة لا المرات فإن لم يكن جاء إلا مرة واحدة فهو كاذب انتهى ملخصا
وما قاله في المبالغة يدل له الخبر الصحيح وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ومعلوم أنه يضعها كثيرا وما قاله من وجوب الحلف في مسألة الوديعة ضعيف والأصح عدم وجوبه وما ذكره في المباح يؤيده ما في الحديث من استثناء ما فيه صلح بين اثنين أو رجل وامرأة أو في الحرب بأن يوري بغير الجهة التي هو قاصدها أو في الزوجة لإرادة إمضائها به ومما يستثنى أيضا الكذب في الشعر إذا لم يمكن حمله على المبالغة فلا يلحق بالكذب في رد الشهادة قال القفال والكذب حرام بكل حال إلا أن يكون على طريق الشعراء والكتاب في المبالغة كقوله أنا أدعو لك ليلا ونهارا ولا أخلي مجلسا عن شكرك لأن الكاذب يظهر أن الكذب صدق ويروجه وليس غرض الشاعر الصدق في شعره وإنما هو صناعة وعلى هذا فلا فرق بين القليل والكثير
قال الشيخان بعد نقلهما ذلك عن القفال والصيدلاني وهذا حسن بالغ
انتهى
وسيأتي لذلك تتمات في مبحث الشعر
قال في الخادم وحيث جاز الكذب فهل تشترط التورية أو تجوز مطلقا يتجه تخريج خلاف فيه مما إذا أكره على الطلاق وقدر على التورية هل يشترط أن ينوي غيره
____________________
(2/892)
والأصح لا ويحتمل غيره لأن ذاك يرجع إلى النية وحدها وهذا يرجع إلى اللفظ أي أن المباح هل هو التصريح أو التعريض فإن في المعاريض مندوحة عن الكذب
انتهى
والذي يتجه عدم وجوب التورية مطلقا لأن العذر المجوز للكذب مجوز لترك التورية لما فيها من الحرج ثم رأيت الغزالي صرح بما قدمته عنه من قوله والأحسن أنه يوري وهي أن يطلق لفظا هو ظاهر في معنى ويريد معنى آخر يتناوله ذلك اللفظ لكنه خلاف ظاهره كما قال النخعي إذا بلغ إنسانا عنك شيء قلته فقل الله يعلم ما قلت من ذلك شيئا تفهم السامع النفي ومقصودك بما أنها بمعنى الذي وهو مباح إن دعت إليه حاجة مكروه إن لم تدع إليه حاجة ولا يحرم إلا إن توصل به إلى باطل أو دفع حق
قال الشافعي رضي الله عنه في الرسالة ومن الكذب الكذب الخفي وهو أن يروي الإنسان خبرا عمن لا يعرف صدقه من كذبه
قال الصيرفي شارحها لأن النفس تسكن إلى خبر الثقة فيصدق في حديثه ويكون ذلك الخبر كذبا فيكون شريكا له في الكذب قال ونظيره الرياء الشرك الخفي
انتهى
الكبيرة الحادية والأربعون بعد الأربعمائة الجلوس مع شربة الخمر وغيرهم من الفساق إيناسا لهم
وهذا ما ذكره الأذرعي حيث قال أقر الشيخان صاحب العدة على أن ذلك من الصغائر
قلت وهذا الإطلاق ممنوع بل الوجه أن جلوسه مع شربة الخمر ونحوهم من أهل الفسوق والملاهي المحرمة مع القدرة على النهي أو المفارقة عند العجز عن إزالة المنكر من الكبائر ولا سيما إذا قصد اتباعهم بجلوسه معهم على ذلك
الكبيرة الثانية والأربعون بعد الأربعمائة مجالسة القراء والفقهاء الفسقة
وهذا ما ذكره بعضهم وظاهره أنه لا فرق عنده بين جلوسه معهم حال مباشرتهم لما فسقوا به ومجانبتهم له وقد يوجه بأن أولئك بصورة أهل الخير والطاعة فإذا كانوا مع تلك الصور الظاهرة منطوين على فسق باطن مثلا كان في الجلوس معهم خطر كبير لأن النفس بتكرير جلوسها معهم تألفهم وتميل إلى أفعالهم ضرورة لأنها مجبولة على
____________________
(2/893)
حب الشر وكل ما يضرها فحينئذ تبحث عن خصالهم وتتأسى بها
ومن جملتها ذلك المفسق فترتكبه لما جبلت عليه من محبته ولما ألفته من التأسي بأولئك الفسقة فكان في مجالستهم ذلك الضرر العظيم
هذا غاية ما توجه به هذه المقالة وقد علمت من التي قبلها أن هذا لا يوافق مذهبنا لأنهم إذا عدوا الجلوس مع الفسقة في حال فسقهم صغيرة على خلاف ما مر عن الأذرعي فأولى هذا وأما على ما مر عن الأذرعي فالفرق بينه وبين هذا أن حاضر تعاطي الفسق قادرا على إزالته مختارا يعد مقررا له راضيا به معينا عليه
وهذه قبائح لا يبعد عد مجموعها كبيرة وبه يتجه ما مر عن الأذرعي وأما مجرد الجلوس مع فاسق قارئ أو فقيه أو غيرهما مع عدم مباشرته لمفسق فيبعد عد ذلك كبيرة بل الكلام في حرمته من أصله حيث لم يقصد بالجلوس معه إيناسه لأجل فسقه أو مع وصف فسقه وإنما قصد إيناسه لنحو قرابة أو حاجة مباحة له عنده أو نحو ذلك فحينئذ لا وجه للحرمة من أصلها فإن قصد إيناسه من حيث كونه فاسقا فلا شك في حرمة ذلك ثم رأيت الغزالي عد من الذنوب مصادقة الفجار ومجالسة الشراب وقت الشرب والأول صريح في أن مجرد المصادقة حرام وإن لم يجالسهم والثاني صريح في أن مجرد المجالسة من غير مصادقة ولا قصد إيناس لا إثم فيها وهو يؤكد ما ذكرته
الكبيرة الثالثة والأربعون بعد الأربعمائة القمار سواء كان مستقلا أو مقترنا بلعب مكروه كالشطرنج أو محرم كالنرد
قال تعالى إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون والميسر القمار بأي نوع كان وسبب النهي عنه وتعظيم أمره أنه من أكل أموال الناس بالباطل الذي نهى الله عنه بقوله تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل أيضا فهو داخل في قوله صلى الله عليه وسلم إن رجالا يتخوضون في مال الغير بغير حق فلهم النار
____________________
(2/894)
وروى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال من قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق فإذا اقتضى مطلق القول طلب الكفارة والصدقة المنبئة عن عظيم ما وجبت أو سنت فما ظنك بالفعل والمباشرة
تنبيه عد هذا صريح الآية الأولى وهو ظاهر
الكبيرة الرابعة والأربعون بعد الأربعمائة اللعب بالنرد أخرج أبو داود وغيره وصححه ابن حبان والحاكم وقيل فيه انقطاع عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من لعب بنرد أو نردشير فقد عصى الله ورسوله
ومسلم من لعب بالنردشير أي بفتح الدال فكأنما صبغ يده بدم خنزير
ولمسلم وأبي داود وابن ماجه فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه
وروى أحمد وأبو يعلى والبيهقي وغيرهم أنه صلى الله عليه وسلم قال مثل الذي يلعب بالنرد ثم يقوم يصلي مثل الذي يتوضأ بالقيح ودم الخنزير ثم يقوم فيصلي
أي فلا تقبل له صلاة كما صرحت به رواية أخرى
وأخرج البيهقي عن يحيى بن أبي كثير قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم يلعبون بالنرد فقال قلوب لاهية وأيد عاملة وألسنة لاغية
وأخرج أحمد إياكم وهاتان الكعبتان المرسومتان اللتان يزجران زجرا فإنهما ميسر العجم
____________________
(2/895)
وأخرج الطبراني اجتنبوا هذه الكعاب المرسومة التي يزجر بها زجرا فإنها من الميسر
وأخرج الديلمي إذا مررتم بهؤلاء الذين يلعبون بهذه الأزلام والشطرنج والنرد وما كان من هذه أي وما شابه ذلك من كل لهو محرم فلا تسلموا عليهم وإن سلموا عليكم فلا تردوا
وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي اتقوا هذين الكعبين المرسومين اللذين يزجران زجرا فإنهما من ميسر العجم
وأخرج أبو داود في مراسيله ثلاث من الميسر القمار والضرب بالكعاب والصفير بالحمام
تنبيه عد هذا هو ظاهر هذه الأخبار لا سيما الخبر الثاني والخبر الثالث لأن التشبيه الذي فيهما يفيد وعيدا شديدا لو لم يكن منه إلا عدم قبول الصلاة وبذلك صرح في البيان نقلا عن أكثر الأصحاب فقال أكثر أصحابنا يحرم اللعب به وهو المنصوص في الأم ويفسق به وترد به الشهادة انتهى وسبقه إلى ذلك الماوردي فصرح به في حاويه وعبارته الصحيح الذي ذهب إليه الأكثرون تحريم اللعب بالنرد وأنه فسق ترد به الشهادة انتهت وتبعه الروياني في البحر على عادته فقال بعد قول الشافعي في المختصر وأكره اللعب بالنرد للخبر قال عامة أصحابنا يكره اللعب بالنرد وترد به الشهادة والكراهة للتحريم
وقال أبو إسحاق هو كالشطرنج سواء وهذا غلط
انتهى
وعبارة تجربة الروياني وقال بعض أصحابنا فإن فعل ذلك فسق وردت شهادته وعبارة المحاملي في مجموعه من لعب به فسق وردت شهادته هذا قول عامة أصحابنا إلا أبا إسحاق
قال هو كالشطرنج وليس بشيء والأول هو المذهب
انتهى
وقال إمام الحرمين الصحيح أنه من الكبائر وجرى على ذلك الأذرعي فقال من لعب بالنرد عالما بما جاء فيه مستحضرا له فسق وردت شهادته في أي بلد كان لا من جهة ترك المروءة بل لارتكاب النهي الشديد
انتهى
والذي جرى عليه الرافعي وسبقه
____________________
(2/896)
إليه الشيخ أبو محمد أنه صغيرة وعبارة الرافعي ما حكمنا بتحريمه كالنرد
فهل هو من الكبائر حتى ترد الشهادة بالمرة الواحدة منه أو من الصغائر يتعين فيه الإكثار فيه وجهان كلام الإمام يميل إلى ترجيح أولهما والأشبه الثاني وهو المذكور في التهذيب وغيره
انتهى
واعتمده الإسنوي فقال والصحيح ما قاله الشيخ أبو محمد كذا رجحه الرافعي في آخر الفصل ثم أورد كلامه هذا ثم قال ورجحه في الشرح الصغير لكن اعترض البلقيني ما قاله الرافعي فقال إن كان مورد التصحيح ما صححه الأكثر فقد نقل المحاملي في التجريد عن عامة الأصحاب مثل ما صححه الإمام أي من أنه كبيرة مطلقا وذكره الماوردي عن الأكثرين وقال إنه الصحيح وحينئذ فلا يستقيم قول الرافعي إنه المذكور في التهذيب وغيره وإن كان المراد الدليل فأين الدليل الذي استدل به على مدعاه
انتهى
وأشار بذلك إلى أن القول بأنه صغيرة مخالف لما عليه الأكثرون وهو ظاهر لما مر من النقل عنهم ولما جاء في السنة وهو ظاهر أيضا لما مر من الوعيد الشديد فيه في خبر مسلم وفصل بعضهم فقال ينظر إلى عادة البلد فحيث استعظموه ردت الشهادة بمرة واحدة منه وإلا فلا وهذه التفرقة ضعيفة كما قاله البلقيني وعلى القول بأنه صغيرة فمحله حيث خلا عن القمار وإلا فهو كبيرة بلا نزاع كما أشار إليه الزركشي وهو واضح
إذا تقرر ذلك علم أن في اللعب بالنرد أربعة آراء أحدها أنه مكروه كراهة تنزيه وعليه أبو إسحاق المروزي والإسفراييني وحكي عن ابن خيران واختاره أبو الطيب ومر أنه غلط ليس بشيء لمخالفته المنقول والدليل
وقول جماعة إنه منصوص عليه في الأم وغيرها مردود بأنه لا ينبغي التعلق بذلك لأنه رضي الله عنه كثيرا ما يطلق الكراهة ويريد بها التحريم ولهذا قال في البيان كما مر إن المنصوص في الأم التحريم وبه قال أكثر أصحابنا
وقال الروياني في الحلية أكثر أصحابنا على التحريم وقالوا إنه مذهب الشافعي ومما يزيف القول بكراهة التنزيه نقل القرطبي في شرح مسلم اتفاق العلماء على تحريم اللعب به مطلقا ونقل الموفق الحنبلي في مغنيه الإجماع على تحريم اللعب به
ثانيها أنه حرام صغيرة ومر أن الرافعي وغيره رجحوه
ثالثها أنه حرام كبيرة ومر أنه الذي عليه الشافعي وأكثر أصحابنا والخبر الصحيح صريح فيه
رابعها التفصيل بين بلد يستعظمون ذلك فترد الشهادة به وبلد لا يستعظمونه فلا ترد
____________________
(2/897)
به الشهادة إلا إن كثر منه وسمي نردشير بالشين المعجمة والراء نسبة لأول ملوك الفرس من حيث كونه أول من وضعه ذكره في المهمات
وقال القاضي البيضاوي في شرح المصابيح يقال أول من وضعه سابور بن أردشير ثاني ملوك الساسان ولأجله يقال له النردشير وشبه رقعته بالأرض وقسمها أربعة أقسام تشبيها بالفصول الأربعة
وقال الماوردي قيل إنه على البروج الاثني عشر والكواكب السبعة لأن بيوته اثنا عشر كالبروج ونقطه من جانبي القصر سبعا كالكواكب السبعة فعدل به إلى تدبير الكواكب والبروج
الكبيرة الخامسة والأربعون بعد الأربعمائة اللعب بالشطرنج عند من قال بتحريمه وهم أكثر العلماء وكذا عند من قال بحله إذا اقترن به قمار أو إخراج صلاة عن وقتها أو سباب أو نحوها
أخرج أبو بكر الأثرم في جامعه بسنده عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إن لله تعالى في كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة إلى خلقه ليس لصاحب الشاه فيها نصيب
وفسر صاحب الشاه بلاعب الشطرنج لأنه يقول شاه
وأبو بكر الآجري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا مررتم بهؤلاء الذين يلعبون بهذه الأزلام النرد والشطرنج وما كان من اللهو فلا تسلموا عليهم فإنهم إذا اجتمعوا وأكبوا عليها جاءهم الشيطان بجنوده فما يزالون يلعبون حتى يتفرقوا كالكلاب اجتمعت على جيفة فأكلت منها حتى ملأت بطونها ثم تفرقت
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال أشد الناس عذابا يوم القيامة صاحب الشاه يعني صاحب الشطرنج ألا تراه يقول قتلته والله مات والله افتراء وكذبا على الله
قال علي كرم الله وجهه الشطرنج ميسر الأعاجم ومر رضي الله عنه على قوم يلعبون الشطرنج فقال ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون لأن يمس أحدكم جمرا حتى يطفأ خير له من أن يمسها ثم قال والله لغير هذا خلقتم
وقال أيضا رضي الله عنه صاحب الشطرنج أكثر الناس كذبا يقول أحدهم قتلت وما قتل ومات وما مات
____________________
(2/898)
وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه لا يلعب بالشطرنج إلا خاطئ
وقيل لإسحاق بن راهويه أترى في اللعب بالشطرنج بأسا فقال البأس كله فيه
فقيل له أهل الثغور يلعبون بها لأجل الحرب فقال هو فجور
وسئل محمد بن كعب القرظي عن اللعب بالشطرنج فقال أدنى ما يكون فيها أن اللاعب بها يعرض يوم القيامة أو قال يحشر يوم القيامة مع أصحاب الباطل
وسئل ابن عمر رضي الله عنهما عن الشطرنج فقال هي شر من الميسر ويوافقه قول مالك رضي الله عنه وقد سئل عن الشطرنج الشطرنج من النرد أي ومر في النرد أنه كبيرة عند أكثر العلماء
قال مالك بلغنا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه ولي مالا ليتيم فوجدها في تركة والد اليتيم فأحرقها ولو كان اللعب بها حلالا لما جاز إحراقها لكونها مال يتيم لكن لما كان اللعب بها حراما أحرقها فتكون من جنس الخمر إذا وجدت في مال يتيم تجب إراقتها وهذا مذهب حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما
وقيل لإبراهيم النخعي ما تقول في اللعب بالشطرنج فقال إنه ملعون
وقال وكيع الجراح وسفيان في قوله تعالى وأن تستقسموا بالأزلام هي الشطرنج
وقال مجاهد رضي الله عنه ما من ميت يموت إلا مثل له جلساؤه الذي كان يجالسهم فاحتضر رجل ممن كان يلعب بالشطرنج فقيل له قل لا إله إلا الله فقال شاهك ثم مات فغلب على لسانه ما كان يعتاده في حال حياته من اللعب بها فقال ذلك اللغو الباطل عوض كلمة الإخلاص التي أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم أن من كانت آخر كلامه في الدنيا دخل الجنة أي من غير عذاب مطلقا أو من بعض الوجوه وإنما أولناه بذلك لأن كل مسلم لا بد وأن يدخل الجنة وإن عذب فليس للإخبار فائدة بأن ختم الكلام بكلمة الإخلاص يقتضي دخول الجنة إلا أن فيه مزية اقتضت تخصيصه بذلك وتلك المزية هي إما دخوله لها مع الناجين من غير عذاب أو أن الله سبحانه يخفف عنه مما استحقه من العذاب فيدخل الجنة قبل الأوان الذي كان يستحقه لو لم يختم له بهذه الكلمة
ونظير ما ذكر عن هذا المختوم له بقوله شاهك ما جاء عن إنسان كان يجالس شربة الخمر فلما احتضر لقن الشهادة فقال لمن يلقنه اشرب واسقني ثم مات فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وهذا مصداق الحديث المشهور يموت كل إنسان على ما عاش عليه ويبعث على ما مات عليه
فنسأل الله الكريم الغني المنان بفضله أن يتوفانا وأن يبعثنا على أكمل الأحوال إلى أن نلقاه وهو راض عنا بكرمه هو الجواد الرحيم آمين
____________________
(2/899)
وفي فتاوى النووي الشطرنج حرام عند أكثر العلماء وكذا عندنا إن فوت به صلاة عن وقتها أو لعب به على عوض فإن انتفى ذلك كره عند الشافعي وحرم عند غيره
فإن قلت كون الشطرنج كبيرة عند من قال بتحريمه وإن خلا عن القمار وتضييع الصلاة ونحوهما هو ظاهر ما مر عن ابن عمر ومالك وابن عباس رضي الله عنهم وغيرهم لأن إلحاقه بالميسر الواقع في كلام مالك وكونه شرا منه الواقع في كلام ابن عمر وإحراق ابن عباس له ظاهر في كونه كبيرة وكذا قول إسحاق إن البأس كله فيه وإنه فجور وكذلك تفسير وكيع وسفيان الاستقسام بالأزلام في الآية باللعب بالشطرنج فهذه كلها ظواهر في أنه عند القائلين بتحريمه كبيرة وأما كونه كبيرة عند القائلين بحله إذا اقترن به ما مر فالكبيرة إنما جاءت المنضم إليه لا من ذاته
قلت نعم هو كذلك لكن قد يفيد الانضمام من القبيح ما لم يفده الانفراد فلا يبعد جعل هذا الانضمام مقتضيا لمزيد التغليظ والتنفير عنه بتسميته كبيرة نظرا لذلك
فإن قلت لو استغرقه اللعب به حتى أخرج الصلاة عن وقتها غير متعمد لذلك فما وجه تأثيمه مع أنه الآن غافل والغافل غير مكلف فيستحيل تأثيمه
قلت محل عدم تكليف الناسي والغافل حيث لم ينشأ النسيان والغفلة والجهل عن تقصيره وإلا كان مكلفا آثما أما في الغفلة فلما صرحوا به في الشطرنج من أنه لا يعذر باستغراقه في اللعب به حتى خرج وقت الصلاة وهو لا يشعر لما تقرر أن هذه الغفلة نشأت عن تقصيره بمزيد إكبابه وملازمته على هذا المكروه حتى ضيع بسببه الواجب عليه وأما في الجهل فلما صرحوا به من أنه لو مات إنسان فمضت عليه مدة ولم يجهز ولا صلي عليه أثم جاره وإن لم يعلم بموته لأن تركه البحث عن أحوال جاره إلى هذه الغاية تقصير شديد فلم يبعد القول بعصيانه وتأثيمه
فإن قلت ما الفرق عندنا بين النرد والشطرنج قلت فرق أئمتنا بأن التعويل في النرد ما يخرجه الكعبان فهو كالأزلام وفي الشطرنج على الفكر والتأمل وأنه ينفع في تدبير الحرب
قال الشافعي رضي الله عنه وأكره اللعب بالحزة والقرق انتهى والحزة بحاء مهملة وزاي مشددة قطعة خشب يحفر فيها حفر ثلاثة أسطر ويجعل فيها حصى صغار يلعب بها وقد تسمى الأربعة عشر وهي المسماة في مصر المنقلة وفسرها سليم في تقريبه بأنها خشبة يحفر فيها ثمانية وعشرون حفرة أربعة عشر من جانب وأربعة عشر من الجانب الآخر ويلعب بها ولعلها نوعان فلا تخالف والقرق بكسر القاف وسكون الراء
____________________
(2/900)
وحكى الرافعي عن خط القاضي الروياني فتحهما وتسمى شطرنج المغاربة أن يخط على الأرض خط مربع ويجعل في وسطه خطان كالصليب ويجعل على رأس الخطوط حصى صغار يلعب بها
قال الرافعي وفي الشامل أن اللعب بهما كهو بالنرد
وفي تعليق الشيخ أبي حامد أنه كالشطرنج ويشبه أن يقال ما يعتمد فيه على إخراج الكعبين فهو كالنرد وما يعتمد فيه على الفكر فهو كالشطرنج قال الأذرعي وهذا صحيح مليح موافق لفرق الجمهور بين النرد والشطرنج ثم نازع فيما نقله عن الشيخ أبي حامد بأن المحاملي نقل عنه أن الحزة كالنرد وسليما نقل عنه أن الحزة والقرق كالنرد وبأن البندنيجي صرح بأنها كالنرد وهؤلاء الثلاثة رواة طريقة الشيخ أبي حامد وتعليقه وهو ما أورده الروياني والعمراني
ونقل ابن الرفعة في المطلب أن تحريمها هو ما ذهب إليه العراقيون كما صرح به البندنيجي وابن الصباغ ثم ذكر حكاية الرافعي عن تعليق أبي حامد وما بحثه وأقره
وقال الإسنوي يؤخذ من بحث الرافعي القرق السابق حلهما لأن كلا منهما يعتمد فيه على الفكر لا على شيء يرمى وأسقط من الروضة هذا البحث
انتهى
واعترض الأذرعي ما ذكره بما مر عن سليم وغيره من أنهما في معنى النرد سواء إذ لو كان المعتمد فيهما الفكر لم يكونا كالنرد سواء ثم قال الأذرعي ولعل ذلك يختلف باختلاف عادات البلاد أو غير ذلك انتهى
والحق أن الخلاف في ذلك ليس له كبير جدوى لأن الضابط إذا عرف وتقرر أدير الأمر عليه فمتى كان المعتمد على الفكر والحساب فلا وجه إلا الحل كالشطرنج ومتى كان المعتمد على الحزر والتخمين فلا وجه إلا الحرمة كالنرد
قال الأذرعي وقضية ما مر عن الرافعي وقول الماوردي الصحيح الذي ذهب إليه الأكثرون تحريم اللعب بالنرد وأنه فسق ترد به الشهادة وهكذا اللعب بالأربعة عشر المفوضة إلى الكعاب وما ضاهاها فهي في حكم النرد في التحريم
ا ه
وتحريم اللعب بما تسميه العامة الطاب والدك فإن الاعتماد فيه على ما تخرجه القصبات الأربع وفي النفس منه شيء إذا خلا عن القمار والسخف لكنه قد يجر إليهما
وذكر نحوه في الخادم قال ومثله الكنحفة وأما اللعب بالخاتم فكلام الرافعي في باب المسابقة يقتضي أيضا ويلحق باللعب بالنرد اللعب بالأربعة عشر وبالصدر والسلفة والثواقيل والكعاب والرباريب والذرافات
قال وكل من لعب بهذا الجنس فسخيف مردود الشهادة قمارا أو غيره انتهى
قال الأذرعي وبعض ما ذكر لا أعرفه
____________________
(2/901)
الكبيرة السادسة والسابعة والثامنة والتاسعة والأربعون والخمسون والحادية والخمسون بعد الأربعمائة ضرب وتر واستماعه وزمر بمزمار واستماعه وضرب بكوبة واستماعه قال تعالى ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين فسر ابن عباس والحسن رضي الله عنهم لهو الحديث بالملاهي وسيأتي بيانها
وقال تعالى واستفزز من استطعت منهم بصوتك فسره مجاهد بالغناء والمزامير وسيأتي حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال إن الله يغفر لكل مذنب إلا لصاحب عرطبة أو عرطابة أو كوبة والأولى العود
تنبيه عد هذه الست تبعت فيه الأكثرين في بعضها وقياسه الباقي بل في الشامل كما يأتي التصريح بذلك في الكل
قال الإمام قال شيخي أبو محمد سماع الأوتار مرة واحدة لا يوجب رد الشهادة وإنما ترد بالإصرار
وقطع العراقيون ومعظم الأصحاب أنه من الكبائر هذا لفظه وتابعه عليه الغزالي قالا وما ذكرناه في سماع الأوتار مفروض فيما إذا لم يكن الإقدام عليها مرة يشعر بالانحلال وإلا فالمرة الواحدة ترد بها الشهادة وطرد الإمام ذلك في كل ما يجانسه
وتوقف ابن أبي الدم فيما نسبه الإمام للعراقيين وقال لم أر أحدا منهم صرح به بل جزم الماوردي وهو منهم بنقيض ما حكاه الإمام فقال إذا قلنا بتحريم الأغاني والملاهي فهي من الصغائر دون الكبائر تفتقر إلى الاستغفار ولا ترد به الشهادة إلا بالإصرار ومتى قلنا بكراهة شيء منها فهي من الخلاعة لا تفتقر إلى الاستغفار ولا ترد الشهادة بها إلا مع الإكثار انتهى
وتابعه في المهذب وكذلك القاضي حسين فإنه قال في تعليقه قال بعض أصحابنا لو جلس على الديباج عند عقد النكاح لم ينعقد لأنه محل الشهادة فيه كالأداء والذي صار إليه المحصلون أن هذا من الصغائر وما يندر منه لا يوجب الفسق وتابعه الفوراني في الإنابة ورد إنكار ابن أبي الدم على الإمام ما ذكر بأن المحلي صرح في ذخائره بما يوافقه فقال إن كون ذلك من الكبائر هو ظاهر كلام الشامل حيث قال من استمع إلى شيء من هذه المحرمات فسق وردت شهادته ولم يشترط تكرار السماع
انتهى
هذا حاصل كلام القائلين بالحرمة ووراء ذلك مقالات لا بأس ببيانها فنقول يحرم ضرب واستماع كل مطرب كطنبور وعود ورباب وجنك وكمنجة ودريج وصنج ومزمار
____________________
(2/902)
عراقي ويراع وهو الشبابة وكوبة وغير ذلك من الأوتار والمعازف جمع معزفة قيل هي أصوات القيان إذا كانت مع العود وإلا فلا يقال لها ذلك وقيل هي كل ذي وتر لأنها آلات الشرب فتدعو إليه وفيها تشبه بأهله وهو حرام ولذلك لو رتب جماعة مجلسا وأحضروا له آلة الشرب وأقداحه وصبوا فيه السكنجبين ونصبوا ساقيا يدور عليهم ويسقيهم ويجيب بعضهم بكلماتهم المعتادة منهم حرم ذلك وصح من طرق خلافا لما وهم فيه ابن حزم فقد علقه البخاري ووصله الإسماعيلي وأحمد وابن ماجه وأبو نعيم وأبو داود بأسانيد صحيحة لا مطعن فيها وصححه جماعة آخرون من الأئمة كما قاله بعض الحفاظ
على أن ابن حزم صرح في موضع آخر بأن العدل الراوي إذا روى عمن أدركه من العدول فهو على اللقاء والسماع سواء
قال أخبرنا أم حدثنا أو عن فلان أو قال فلان فكل ذلك محمول منه على السماع
انتهى
فتأمل تناقضه لنفسه حيث حكم على قول البخاري
قال هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد قال حدثنا عبد الرحمن بن يزيد وساق سنده إلى أبي عامر وأبي مالك الأشعري أنه صلى الله عليه وسلم قال ليكون في أمتي قوم يستحلون الحر أي بكسر الحاء المهملة وفتح الراء المهملة مع التخفيف وهو الفرج أي الزنا والحرير والخمر والمعازف وهذا صريح ظاهر في تحريم آلات اللهو المطربة وقد حكى الشيخان أنه لا خلاف في تحريم المزمار العراقي وما يضرب به من الأوتار
ومن عجيب تساهل ابن حزم واتباعه لهواه أنه بلغ من التعصب إلى أن حكم على هذا الحديث وكل ما ورد في الباب بالوضع وهو كذب صراح منه فلا يحل لأحد التعويل عليه في شيء من ذلك
وقال الإمام أبو العباس القرطبي أما المزامير والأوتار والكوبة فلا يختلف في تحريم استماعها ولم أسمع عن أحد ممن يعتبر قوله من السلف وأئمة الخلف من يبيح ذلك وكيف لا يحرم وهو شعار أهل الخمور والفسوق ومهيج الشهوات والفساد والمجون وما كان كذلك لم يشك في تحريمه ولا تفسيق فاعله وتأثيمه انتهى وقول بعض شراح المنهاج كون المزمار من شعار الشربة قد يمنع والغالب أنهم لا يحضرونه فإن فيه إظهارا لحالهم
قال الأذرعي باطل بل يحضرونه في مكانهم الذي لا تظهر فيه أصوات المعازف ويظهره أرباب الولايات المجاهرون بالفسق
وفي الإحياء المنع من الأوتار كلها لثلاث علل كونها تدعو إلى شرب الخمر فإن
____________________
(2/903)
اللذات الحاصلة تدعو إليها فلهذا حرم شرب قليلها
وكونها في قريب العهد يشربها تذكره مجالس الشرب والذكر سبب انبعاث الفسوق وانبعاثه سبب للإقدام
وكون الاجتماع على الأوتار صار من عادة أهل الفسق مع التشبه بهم ومن تشبه بقوم فهو منهم
انتهى
إذا تقرر ذلك فقد حكيت آراء باطلة وآراء ضعيفة مخالفة للاتفاق المذكور منها قول ابن حزم لم يصح في تحريم العود حديث وقد سمعه ابن عمر وابن جعفر رضي الله عنهم وهو من جموده على ظاهريته الشنيعة القبيحة كيف والعود من جملة المعازف وقد صح في تحريمها الحديث المذكور آنفا وما زعمه عن هذين الإمامين ممنوع ولا يثبت ذلك عنهما وحاشاهما من ذلك مع شدة ورعهما وتحريمهما واتباعهما وبعدهما من اللهو
ولئن سلم ما زعمه ابن حزم في ذلك الحديث ففي عموم الأحاديث الناصة على ذم البدع والمحدثات وإنكارها ما يدل على تحريمه دلالة لا مدفع لها
وقد قال الماوردي من أجلة أصحابنا كان بعض أصحابنا يخص العود بالإباحة من بين الأوتار ولا يحرمه لأنه موضوع على حركات تنفي الهم وتقوي الهمة وتزيد في النشاط
قال الماوردي وهذا لا وجه له انتهى
وتقول الماوردي في رد هذا الوجه لا وجه له تندفع منازعة الإسنوي الشيخين في نفيهما الخلاف في الأوتار
ووجه الاندفاع أنه شاذ مناف للدليل فكان في حيز الطرح والإعراض عنه وعدم الاعتداد به على قول الإسنوي في حكاية هذا الوجه إطلاق الشيخين نفي الخلاف في الأوتار ليس كذلك فقد حكى الماوردي والروياني في البحر وجها أن العود بخصوصه حلال لما يقال إنه ينفع من بعض الأمراض معترض بأنه إذا كان معللا بنفعه لبعض الأمراض فينبغي تقييد الإباحة بمن به ذلك المرض دون غيره
وأيضا فإذا أبيح لحاجة المرض فلا ينبغي أن يقتصر على حكايته وجها بل يجزم بجوازه إذا انحصر التداوي فيه كما يجوز التداوي بالنجس حينئذ وقد جزم الحليمي في منهاجه بأن آلات اللهو إذا كانت تنفع من بعض الأمراض أبيح سماعها
قال ابن العماد وما قاله متعين
انتهى وهو كما قال وحينئذ فلا حقيقة لهذا الوجه فاتضح نفي الشيخين الخلاف في الأوتار وأنها كلها حرام بلا خلاف
وأما حكاية ابن طاهر عن صاحب التنبيه أنه كان يبيح سماع العود ويسمعه وأنه مشهور عنه وأن أحدا من علماء عصره لم ينكره عليه وأن حله هو ما أجمع عليه أهل المدينة فقد ردوه على ابن طاهر بأنه مجازف إباحي كذاب رجس العقيدة نجسها ومن ثم قال الأذرعي عقب كلامه هذا وهذه مجازفة وإنما فعل ذلك بالمدينة أهل المجانة والبطالة ونسبته ذلك إلى صاحب التنبيه كما رأيته في كتابه في السماع نسبة باطلة قطعا
____________________
(2/904)
وقد صرح في مهذبه هنا وفي الوصايا بتحريم العود وهو قضية ما في تنبهه
ومن عرف حاله وشدة ورعه ومتين تقواه جزم ببعده عنه وطهارة ساحته منه وكيف يظن ذو لب في هذا العبد القانت أنه يقول في دين الله ما يفعل ضده مع ما في ذلك من غليظ الذم والمقت
وكل من ترجم له رحمه الله لم يذكر شيئا من هذا فيما نعلم
ومن مجازفة ابن طاهر أيضا قوله وأنه مشهور عنه ودعوى ابن طاهر إجماع الصحابة والتابعين على إباحة الغناء واللهو تعمي وتصم انتهى كلام الأذرعي وبه يرد نقل الإسنوي عن ابن طاهر ما ذكر عن الشيخ أبي إسحاق ولم يتعقبه ومن ثم قال في الخادم وهذا تلبيس من الإسنوي قلد فيه صاحبه الكمال الأدفوي في كتابه الإمتاع ولا يجوز حكاية هذا عن الشيخ أبي إسحاق فإن ابن طاهر متكلم فيه عند أهل الحديث بسبب الإباحة وغيرها وقول الخادم اعتراضا على قول الشيخين بل المزمار العراقي وما يضرب به الأوتار حرام بلا خلاف هذا فيه نظر
إذ لا مناسبة لذكر ذي الأوتار مع مزامير القصب يرد بأن بينهما مناسبة تامة لما بين المزامير وذوات الأوتار من التجانس
ومنها قول الماوردي في الصنج يكره مع الغناء ولا يكره منفردا لأنه بانفراده غير مطرب وهو شاذ ومن ثم لما نقله عنه في البحر زيفه مع أن صاحب البحر كثير المتابعة للماوردي بل أكثر بحره من حاويه
قال أبو حامد وسئل الشافعي رضي الله عنه عن هذا فقال أول من أحدثه الزنادقة في العراق حتى يلهوا الناس عن الصلاة وعن الذكر
قال الجوهري وغيره والصنج هو ما يتخذ من صفر يضرب أحدهما بالآخر مختص بالعرب وذو الأوتار مختص بالعجم وهما معربان
قال الأذرعي وزعم قاضي حماة البارزي أن مراد الرافعي الثاني وهذا عجيب منه وقد قال الرافعي من بعد إن الضرب بالصفاقتين حرام ذكره الشيخ أبو محمد وغيره وتوقف الإمام فيه لأنه لم يرد فيه خبر بخلاف الكوبة
انتهى
ثم قال الأذرعي والصنج العربي كالصفاقتين أو هو هي ويوافقه قول ابن معين الجزري في تنقيبه على المذهب من الآلات المحرمة المطربة من غير غناء الصليل بكسر المهملة وتشديد اللام المكسورة وهو الصنج من الصلول وهو صوت الحديد إذا وقع بعضه على بعض
انتهى
والذي دل عليه كلام المحكم أن الصنج يطلق على ما في الدفوف وهو عربي وعلى ذي الأوتار وحينئذ يجوز حمل كلام الرافعي في الصنج على النوعين لا كما ظنه البارزي رحمه الله وفي البحر نقل تحريم الضرب بالصفاقتين عن الأصحاب مطلقا وفي الخادم لم يبن الرافعي المراد بالضرب بالصفاقتين
____________________
(2/905)
وقال ابن أبي الدم اختلف الفقهاء المتأخرون فيه فبعضهم يقول هو الشيزات ويعضده التعليل بأنه من عادة أهل الشرب وبعضهم يفسره بالصنوج المتخذة من الصفر التي تضرب مع الطبول والرباب والنقارات وهذا يضعفه أنه ليس بمطرب ولا يحدث بسماعه لذة لذي لب سليم وعقل صحيح
وفي الحاوي الملاهي إما حرام كعود وطنبور ومعزفة وطبل ومزمار وما ألهى بصوت مطرب إذا انفرد أو مكروه وهو ما يزيد الغناء طربا ولم يطرب منفردا كالصنج والقصب فيكره مع الغناء لا وحده أو مباح وهو ما خرج عن آلة الطرب إلى إنذار كالبوق وطبل الحرب أو لمجمعة وإعلان كالدف في النكاح انتهى وما ذكره في الصنج شاذ كما مر ومحله إن فسر بغير الصفاقتين
أما هما فلا طرب فيهما كما مر نعم المخنثون يتعاطونهما في بعض البلاد فحينئذ تتجه الحرمة لما يأتي في الكوبة
والطنبور بضم أوله غير العود كما هو مشهور عند أهل الصناعة وقال اللغويون هو العود قيل وكأن كلا من العود والطنبور وغيرهما اسم جنس تحته أنواع وقد يشمل اسم العود سائر الأوتار وعبارة العمراني وخلائق من الأصحاب الأصوات المكتسبة ثلاثة أضرب محرم وهو ما يطرب من غير غناء كعود وطنبور وطبل ومزامير ومعازف ونايات وأكبار ورباب وما أشبههما انتهى
والمزامير تشمل الصرناي وهي قصبة ضيقة الرأس متسعة الآخر يزمر بها في المواكب والحرب وعلى النقارات ويشمل الكرجة وهي مثل الصرناي إلا أنه يجعل في أسفل القصبة قطعة نحاس معوجة يزمر بها في أعراس البوادي وغيرها ويشمل الناي وهو أطرب من الأولين والمقرونة وهي قصبتان ملتقيتان قيل وأول من اتخذ المزامير بنو إسرائيل
قال الرافعي وفي ضرب القضيب على الوسائد وجهان الذي أورده العراقيون أنه يكره وأشار صاحب المهذب إلى ترجيح التحريم انتهى وفي الكافي عن المراوزة التحريم أيضا واعترض بأن الشيخ أبا علي من أكابرهم جزم بالكراهة وألحق صاحب الكافي بالضرب بالقضيب فيما ذكر التصفيق باليد في السماع
وقال الحليمي يكره التصفيق للرجال لأنه مما خص به النساء وقد منع الرجال من التشبه بهن كما منعوا من لبس المزعفر انتهى
وقضيته كما قال الزركشي أنها كراهة تحريم لأن التشبه بالنساء حرام بل كبيرة على ما مر
____________________
(2/906)
ومنها قول الرافعي كالماوردي والخطابي والروياني والغزالي وصاحبه محمد بن يحيى والباجرمي يحل اليراع وهو الشبابة لأنها تنشط على السير في السفر فأشبهت الحداء وهذه مقالة شاذة كما قاله الأذرعي فقد حرمها جمهور الأصحاب ورجحه النووي وصوبه ابن أبي عصرون قال بل أجدر بالتحريم من سائر المزامير المتفق على تحريمها لشدة طربها وهي شعار الشربة وأهل الفسق
إذ هي آلة كاملة عند أهل الموسيقى وافية بجميع النغمات وقيل تنقص قيراطا وقال بعضهم هي من أعلى المزامير فكل ما لأجله حرمت المزامير موجود فيها وزيادة فتكون أولى بالتحريم والمنازعة في هذا مكابرة وهو الموافق للمنقول فإنه الذي نص عليه الشافعي والجمهور وأيضا فقد حرم الشافعي ما دونها في الإطراب بكثير كالكوبة وطبل اللهو وهو الطبل الكبير والدف في غير العرس والختان وما حرمه إلا لأنه لهو لا ينتفع به فيما يجوز ففي الشبابة مع كونها لهوا يصد عن ذكر الله وعن الصلاة الميل إلى أوطار النفوس ولذاتها فهي بالتحريم أحق وأولى
قال الأذرعي ومخالفة النووي الرافعي في الشبابة هي المذهب وقضية كلام العراقيين وغيرهم وأحسن في الذخائر بنقله عن الأصحاب تحريم المزامير مطلقا
انتهى
وحرم العراقيون المزامير كلها من غير تفصيل فإذا المذهب الذي عليه الجماهير تحريم الشبابة وقد أطنب الإمام مجزأة في دليل تحريمها وقال العجب كل العجب ممن هو من أهل العلم يزعم أن الشبابة حلال ويحكيه وجها لا مستند له إلا خبال ولا أصل له وينسبه إلى مذهب الشافعي ومعاذ الله أن يكون ذلك مذهبا له أو لأحد من أصحابه الذين يقع عليهم التعويل في علم مذهبه والانتماء إليه
وقد علم من غير شك أن الشافعي رضي الله عنه حرم سائر أنواع الزمر والشبابة من جملة الزمر وأحد أنواعه بل هي أحق بالتحريم من غيرها لما فيها من التأثير فوق ما في ناي وصرناي وما حرمت هذه الأشياء لأسمائها وألقابها بل لما فيها من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة ومفارقة التقوى والميل إلى الهوى والانغماس في المعاصي وأطال النفس في تقرير هذا التحريم وأنه الذي درج عليه الأصحاب من لدن الشافعي رضي الله عنه إلى آخر وقت من البصريين والبغداديين والخراسانيين والشاميين والخزريين ومن سكن الجبال والحجاز وما وراء النهر واليمن كلهم استدل بقصة ابن عمر رضي الله عنهما انتهى وكأنه يعرض في صدر كلامه بالغزالي فإنه كان كالمعاصر له لولادته بعد وفاته بنحو عشر سنين
وقال الإمام جمال الإسلام بن البزري بكسر الباء فزاي فراء نسبة إلى البزر وهو حب الكتان في فتاويه الشبابة زمر لا محالة حرام بالنص والمشهور تحريمها ويجب إنكارها
____________________
(2/907)
وتحريم استماعها ولم يقل العلماء المتقدمون ولا أحد منهم بحلها وجواز استماعها ومن ذهب إلى حلها واستماعها فهو مخطئ
انتهى
وقول الماوردي تكره في مصر لاستعمالها في السخف وتباح في السفر والمرعى لأنها تحث السير وتجمع البهائم إذا سرحت ضعيف بل شاذ أيضا اللهم إلا أن يحمل كالقول بالحل مطلقا على ما إذا كان يصفر فيها كالأطفال والرعاء على غير قانون بل صفيرا مجردا على نمط واحد لأن الحل حينئذ قريب كما قاله الأذرعي قال أما لو صفر بها على القانون المعروف من الإطراب فهي حرام مطلقا بل هي أجدر بالتحريم من سائر المزامير المتفق على تحريمها لأنها أشد إطرابا وهي شعار الشربة وأهل الفسوق
وقال بعض أهل الصناعة هي آلة كاملة وافية بجميع النغمات وقال الآخرون تنقص قيراطا
قال أبو العباس القرطبي هي من أعلى المزامير وكل ما لأجله حرمت المزامير موجود فيها وزيادة فتكون أولى بالتحريم
قال الأذرعي وما قاله حق واضح والمنازعة فيه مكابرة وحديث ابن عمر الذي مرت الإشارة إليه اختلف فيه الحفاظ وهو ما رواه نافع عنه أنه سمع صوت زمارة راع فجعل أصبعيه في أذنيه
وعدل عن الطريق وجعل يقول يا نافع أتسمع فأقول نعم فلما قلت لا رجع إلى الطريق ثم قال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله
رواه أبو داود وقال إنه منكر وأخرجه ابن حبان في صحيحه
وسئل عنه الحافظ محمد بن نصر السلامي فقال إنه حديث صحيح قال وكان ابن عمر رضي الله عنهما بالغا إذ ذاك عمره سبع عشرة سنة قال وهذا من الشارع ليعرف أمته أن استماع الزمارة والشبابة وما يقوم مقامهما محرم عليهم استماعه ورخص لابن عمر لأنه حالة ضرورة ولم يمكنه إلا ذلك وقد يباح المحظور للضرورة قال ومن رخص في ذلك فهو مخالف للسنة انتهى
قال الأذرعي بهذا الحديث استدل أصحابنا على تحريم المزامير وعليه بنوا التحريم في الشبابة
وأما من استدل به على إباحتها تمسكا بأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر ابن عمر بسد أذنيه ولا نهى الراعي فدل على أنه إنما فعله تنزيها أو أنه كان في حال ذكر أو فكر وكان السماع يشغله فسد أذنيه لذلك فردوا عليه بأمور منها أن تلك الزمارة لم تكن مما يتخذه أهل هذا الفن الذي هو محل النزاع من هذه الكلمة غير موجودة في الكتاب الشبابات
____________________
(2/908)
التي يتقنونها وتحتها أنواع كلها مطربة ومعلوم أن زمر الراعي في قصبة ليس كزمر من جعله صنعة وتأنق فيه وفي طرائقه التي اخترعوا فيها نغمات تحرك إلى الشهوات
ومنها أنه صلى الله عليه وسلم إنما لم يأمر ابن عمر بسد أذنيه لأنه تقرر عندهم أن أفعاله صلى الله عليه وسلم حجة كأقواله فحين فعل ذلك بادر ابن عمر إلى التأسي به وكيف يظن به أنه ترك التأسي وهو أشد الصحابة رضي الله عنهم تأسيا ومن ثم قال مجزأة هذا لا يخطر ببال محصل قط عرف قدر الصحابة رضي الله عنهم واطلع على سبيلهم قال وقوله صلى الله عليه وسلم يا عبد الله هل تسمع معناه تسمع هل تسمع وإنما أسقط تسمع لدلالة الكلام عليه إذ من وضع أصبعيه في أذنيه لا يسمع وإنما أذن له في هذا القدر لموضع الحاجة
ومنها أن الممنوع هو الاستماع لا السماع لا عن قصد اتفاقا ومن ثم صرح أصحابنا أن من بجواره سماع آلات لهو محرمة ولا يمكنه إزالتها لا تلزمه النقلة ولا يأثم بسماعها لا عن قصد وإصغاء
قال الأذرعي والجواب بأن قوله زمارة راع لا يتعين أنها الشبابة فإن الرعاة يضربون بالشعيبة وغيرها يوهم أن يسمى شعيبة مباح مفروغ منه وهذا لم أره لأحد وهي عبارة عن قصبات عدة صغار تجعل صفا ولها إطراب بحسب حذق متعاطيها وهي شبابة أو مزمار لا محالة
انتهى
وبما تقرر في الدليل اندفع قول البلقيني ميلا لإباحة الشبابة لا يثبت التحريم إلا بدليل معتبر ولم يقم النووي دليلا على ذلك ورد عليه أيضا بأنه لو سلم أنه لا دليل في الحديث فهنا دليل واضح على تحريمها وهو كما علم مما مر القياس على الآلات المتفق على تحريمها لاشتراكها معها في كون كل مطربا بل ربما كان الطرب الذي في الشبابة أشد منه في نحو الكمنجة والربابة فهو إما قياس أولى أو مساواة بالنسبة إلى المذكورين وهما حرام بلا خلاف فكذا هي وسميت يراعا بفتح التحتية وتخفيف الراء وبالعين المهملة لخلو جوفها ومنه رجل يراع لا قلب له وهو اسم جنس واحده يراعة كما في تهذيب النووي
وقال الجوهري اليراع القصب واليراعة القصبة وحينئذ فتفسير اليراع بالشبابة فيه تجوز لما تقرر أنه جمع يراعة فكيف يفسر بالمفرد قال بعض المتأخرين وليس من محل اختلاف الشيخين القصب المسمى بالموصول لأنه يضرب به مع الأوتار وهو من شعار شاربي الخمر كما لا يخفى على من اطلع على أحوالهم وقد قال الرافعي ليس المراد باليراع كل قصب بل المزمار العراقي وما يضرب به مع الأوتار حرام بلا خلاف ولفظة مع هو ما في نسخة معتمدة من العزيز والموجود في كثير منه وما تضرب به الأوتار وبما
____________________
(2/909)
تقرر قريبا في رد كلام البلقيني يرد أيضا قول التاج السبكي في توشيحه لم يقم عندي دليل على تحريم اليراع مع كثرة التتبع والذي أراه الحل فإن انضم إليه محرم فلكل منهما حكمه ثم الأولى عندي لمن ليس من أهل الذوق الإعراض عنه مطلقا لأن غاية ما فيه حصول لذة نفسانية وهي ليست من المطالب الشرعية
وأما أهل الذوق فحالهم مسلم إليهم وهم على حسب ما يجدونه في أنفسهم
ونقل القاضي حسين عن الجنيد أنه قال الناس في السماع إما عوام وهو حرام عليهم لبقاء نفوسهم وإما زهاد وهو مباح لهم لحصول مجاهدتهم وإما عارفون وهو مستحب لهم لحياة قلوبهم وذكر نحوه أبو طالب المكي وصححه السهروردي في عوارفه والظاهر أن الجنيد لم يرد التحريم الاصطلاحي وإنما أراد أنه لا ينبغي ثم نقل عن والده إفتاء نظما حاصله أن نحو الرقص والدف فيه خلاف وأنه لم تأت شريعة قط بأنه قربة وأن من قال بحله إنما جعله مباحا وأن من اصطفاه لدينه متعبدا بحضوره فقد باء بحسرة وخسار وأن العارف المشتاق إذا هزه وجد فهام في سكراته لا يلحقه لوم بل يحمد حاله لطيب ما يلقاه من اللذات انتهى
قال غيره أما سماع أهل الوقت فحرام بلا شك ففيه من المنكرات كاختلاط الرجال بالنساء وافتتان العامة باللهو ما لا يحصى فالواجب على الإمام قصرهم عنه
وذكر القاضي أن من تعود السماع مرارا في كل شهر فسق وردت شهادته أو مرة فسق ولم ترد شهادته ورده الأذرعي بأنه خلاف المفهوم من كلام الفقهاء
وقال الغزالي السماع إما محبوب بأن غلب عليه حب الله ولقائه فيستخرج به أحوالا من المكاشفات والملاطفات وإما مباح بأن كان عنده عشق مباح لحليلته أو لم يغلب عليه حب الله ولا الهوى وإما محرم بأن غلب عليه هوى محرم
وسئل العز بن عبد السلام عن استماع الإنشاد في المحبة والرقص فقال الرقص بدعة ولا يتعاطاه إلا ناقص العقل فلا يصلح إلا للنساء وأما سماع الإنشاد المحرك للأحوال السنية المذكر لأمور الآخرة فلا بأس به بل يندب عند الفتور وسآمة القلب ولا يحضر السماع من في قلبه هوى خبيث فإنه يحرك ما في القلب
وقال أيضا السماع يختلف باختلاف السامعين والمسموع منهم وهم إما عارفون بالله ويختلف سماعهم باختلاف أحوالهم فمن غلب عليه الخوف أثر فيه السماع عند ذكر المخوفات بنحو حزن وبكاء وتغير لون وهو إما خوف عقاب أو فوات ثواب أو أنس وقرب وهو أفضل الخائفين والسامعين وتأثير القرآن فيه أشد ومن غلب عليه الرجاء أثر فيه السماع عند ذكر المرجيات وسماع من رجاؤه للأنس والقرب أفضل من سماع من رجاؤه الثواب
ومن
____________________
(2/910)
غلب عليه حب الله لإنعامه عليه فيؤثر فيه سماع الإنعام والإكرام أو لكماله المطلق فيؤثر فيه ذكر شرف الذات وكمال الصفات فهو أفضل من جميع ما قبله ويختلف هؤلاء في المسموع منه فالسماع من الولي أشد تأثيرا من السماع من عامي ومن نبي أشد تأثيرا منه من ولي ومن الرب تعالى أشد تأثيرا منه من النبي ولهذا لم يشتغل النبيون والصديقون وأصحابهم بسماع الملاهي والغناء واقتصروا على سماع كلام ربهم ومن غلب عليه هوى مباح كمن يعشق حليلته فيؤثر فيه آثار الشوق وخوف الفراق ورجاء التلاق فسماعه لا بأس به ومن غلب عليه هوى محرم كعشق أمرد أو أجنبية فيؤثر فيه السعي إلى الحرام وما أدى إلى الحرام حرام أما من لم يجد في نفسه شيئا من هذه الأقسام الستة فيكره سماعه ومر عن الغزالي أنه مباح وقد يحضر السماع فجرة يبكون وينزعجون لأغراض خبيثة أبطنوها يراءون بأنه لشيء محمود
واعلم أنه لا يحصل السماع المحمود إلا عند ذكر الصفات الموجبة للأحوال السنية والصفات المرضية
انتهى كلام الشيخ ملخصا
قال الأذرعي ولأبي قاسم القشيري رحمه الله وهو معدود من أئمة الشافعية مؤلف في السماع ذكر فيه أن من شرائطه معرفة الأسماء والصفات ليعلم صفات الذات من صفات الأفعال والمخلوقات وما الممتنع في نعت الحق وما يجوز وصفه به وما يجب وما يصح إطلاقه عليه من الأسماء وما يمتنع فهذه شرائط صحة السماع على لسان أهل التحصيل من ذوي العقول
وأما عند أهل الحقائق فالشرط فناء النفس بصدق المجاهدة ثم حياة القلب بروح المشاهدة فمن لم تتقدم بالصحة معاملته ولم تحصل بالصدق منازلته فسماعه ضياع وتواجده طباع والسماع فتنة يدعو إليها استيلاء الفسق إلا عند سقوط الشهوة وحصول الصفوة وأطال بما يطول ذكره وبما ذكره يتبين تحريم السماع والرقص على أكثر متصوفة الزمان لفقد شروط القيام بآدابه
انتهى
ومنها قول الإمام في الكوبة لو رددنا إلى مسلك المعنى فهي في معنى الدف ولست أرى فيها ما يقتضي تحريمها إلا أن المخنثين يولعون بها ويعتادون ضربها وقوله أيضا الذي يقتضيه الرأي أن ما يصدر منه ألحان مستلذة تهيج الإنسان وتستحثه على الطرب ومجالسة أحداثه فهو المحرم والمعازف والمزامير كذلك وما ليس له صوت مستلذ وإنما يفعل لأنغام قد تطرب وإن كانت لا تستلذ فجميعها في معنى الدف
والكوبة في هذا المسلك كالدف فإن صح فيها تحريم حرمناها وإلا توقفنا فيها وقوله أيضا ليس فيه من جهة المعنى ما يميزه من سائر الطبوع إلا أن المخنثين يعتادون ضربه ويتولعون به فإن صح حديث عملنا به
انتهى
ويرده ما يأتي أن هذا بحث منه مخالف للإجماع فلا نعول عليه وأنه حيث وجد في
____________________
(2/911)
المسألة إجماع فلا نظر إلى صحة الحديث وضعفه وقد نقل الإمام نفسه عن أبيه الشيخ أبي محمد الجويني ما يوافق الإجمال فقال كان شيخي يقطع بتحريمها ويقول فيها أخبار مغلظة على ضاربها والمستمع إلى صوتها
وقد نص الشافعي على أن الوصية بطبل اللهو باطلة ولا نعرف طبل لهو يلتحق بالمعازف حتى تبطل الوصية به إلا الكوبة وتبعه في البسيط فقطع بتحريمها وأنه لا يحرم من الطبول إلا هي لكن اعترض ذلك بقول الكافي الكوبة حرام وطبل اللهو في معناها فدل على أنه غيرها وبأن العراقيين حرموا الطبول كلها من غير تفصيل
ويجاب بأن هذه طريقة ضعيفة
والأصح حل ما عدا الكوبة من الطبول وقيل أراد العراقيون طبول اللهو كما صرح به غير واحد وممن أطلق تحريم طبول اللهو العمراني والبغوي وصاحب الانتصار وهو المحكي عن الشيخ أبي حامد وقضية ما في الحاوي والمقنع وغيرهما وعبارة القاضي أما ضرب الطبول فإن كان طبل لهو فلا يجوز
واستثنى الحليمي من الطبول طبل الحرب والعيد وأطلق تحريم سائر الطبول وخص ما استثناه في العيد بالرجال خاصة وهذه طريقة ضعيفة أيضا
وعد جمع من العراقيين من المحرمات الأكبار وأما قول الأذرعي عقب كلام الإمام الثاني إنه بحث في غاية الحسن فغير مقبول منه لمخالفته لصريح كلامهم وقد قال ابن الرفعة عقبه وهذا يدل على أن الأخبار الواردة في الكوبة لم تصح عنده
ومما يرده أيضا قول سليم في تقريبه بعد أن ذكر تحريم الكوبة وفي الحديث إن الله يغفر لكل مذنب إلا صاحب عرطابة أو كوبة والأولى العود ومع هذا فإنه إجماع انتهى
فتأمل نقله الإجماع على تحريم الكوبة وهو من أكابر أصحابنا ومتقدميهم يتضح لك أن بحث الإمام الذي استحسنه الأذرعي مخالف للإجماع وحينئذ فلا فرق بين أن يصح الحديث وأن لا وهو ما قاله بعضهم لأن الإجماع حجة وإن صح الحديث بخلافه
إذ لا يكون إلا عن دليل سالم من الطعن والمعارض فكان أقوى وقد نقل الإجماع أيضا على تحريم الكوبة القرطبي وهو من أئمة النقل فقال كما مر عنه لا يختلف في تحريم استماعها ولم أسمع عن أحد ممن يعتبر قوله من السلف وأئمة الخلف من يبيح ذلك وقول الإمام إن المخنثين يعتادون ضرب الكوبة ويتولعون به من أقوى الأدلة على تحريمها لأن ما كان من شعار المخنثين يحرم فعله لحرمة التشبه بهم
قال الإمام والطبول التي تهيأ لملاعب الصبيان إن لم تلحق بالطبول الكبار فهي كالدف وليست كالكوبة بحال ا ه
والذي يتجه أنها إن كانت على صورة الكوبة حرم تمكين الصبي منها أو على صورة
____________________
(2/912)
بقية الطبول لم تحرم لما مر أنه لا يحرم من الطبول إلا الكوبة كما صرح به الشيخان وغيرهما
وعبارة الرافعي وفي الإحياء ولا يحرم صوت طبل إلا الطبل الذي يسمى الكوبة فإنه ورد النهي عنه وهو طبل طويل متسع الطرفين ضيق الوسط انتهى
وتفسيره الكوبة بما ذكر تبع فيه الإمام والغزالي وقضية كلام الإسنوي تفرد هؤلاء به وليس كذلك وممن فسرها بالطبل أحد رواة الحديث علي بن بذيمة كما ذكره البيهقي عن سفيان عنه وتفسير الراوي مقدم على تفسير غيره لأنه أعلم بمرويه وكذا الجوهري فقال هي الطبل الصغير المخصر وكذا عبد اللطيف البغدادي في لغة الحديث وكذا الماوردي قال الأذرعي وهو مراد الفقهاء
وقال صاحب التنقيب الصحيح أنها الطبل المذكور كان يلعب به شباب قريش بين الصفا والمروة
وقال آخرون هي النرد منهم الخطابي وغلط من قال إنها الطبل وذكر مثله ابن الأعرابي والزمخشري وصححه ابن الأثير في النهاية
قال الأذرعي وفيما سبق عن الجوهري وغيره ما يدفع التغليظ نعم إطلاقها على كل ما يسمى طبلا ليس بجيد انتهى
والحاصل أن الكوبة تطلق على الطبل السابق وهو مراد الفقهاء وحملوا الحديث السابق إن الله يغفر لكل مذنب إلا صاحب عرطابة أو كوبة عليه وعلى النرد وهو لغة أهل اليمن وعلى الشطرنج وأما زعم الإسنوي أن تفسيرها بالطبل خلاف المشهور في كتب اللغة فيرده ما مر عن الجوهري وغيره بل الصواب إطلاقها لغة على الطبل السابق وعلى النرد ومراد الفقهاء الأول لكن الموجودة الآن ليس اتساع طرفيها على حد سواء وأيضا فأحدهما وهو المتسع هو الذي عليه الجلد الذي يضرب عليه والآخر ضيق لا شيء عليه وكل ذلك لا ينافي تفسير الفقهاء المذكور خلافا لمن وهم فيه ممن لا يعتد به
الكبيرة الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والخمسون بعد الأربعمائة
التشبيب بغلام ولو غير معين مع ذكر أنه يعشقه أو بامرأة أجنبية معينة وإن لم يذكرها بفحش أو بامرأة مبهمة مع ذكرها بالفحش وإنشاد هذا التشبيب
وكون الأول كبيرة هو ما صرح به الروياني حيث قال ولو كان يشبب بغلام ويذكر أنه يعشقه فسق وإن لم يعينه لأن النظر إلى الذكور بالشهوة حرام بكل حال انتهى
والذي في التهذيب وغيره اعتبار التعيين في الغلام كالمرأة قال الأذرعي وهو الأقرب والأول ضعيف جدا إذ ليس في التشبيب دلالة على النظر بشهوة والغالب أن الشاعر
____________________
(2/913)
إنما يقوله ترقيقا لشعره وإظهارا لصنعه لا أنه عاشق حقيقة فالوجه أنه لا يفسق بمجرد التشبيب بمجهول ثم ذكر للشافعي رضي الله عنه غزلا من جملته لو أن عيني إليك الدهر ناظرة جاءت وفاتي ولم أشبع من النظر ثم قال ليس في هذا تصريح بأنه غلام لجواز كونه رضي الله عنه قاله في زوجته أو أمته
وكون الثانية والثالثة كبيرتين أيضا هو ما ذكره شريح في روضة الحكام حيث قال إذا شبب بامرأة وذكرها بفحش فهو فاسق وإن ذكرها بطول أو قصر فإن عينها وكانت أمته أو امرأته لم يفسق لأنه سفه يسير
وقيل ترد شهادته وإن كانت أجنبية معينة فسق أو مبهمة لم يفسق وقيل يفسق لأنه سفه
انتهى
وظاهر عبارة الشيخين أنه لا يفسق بذلك وأن رد الشهادة إن قيل به إنما هو لعدم المروءة لا للفسق
وحاصل عبارة أصل الروضة وينبغي أن يقال في التشبيب بالنساء والغلمان من غير تعيين لا يخل بالعدالة وإن أكثر منه لأن التشبيب صنعة وغرض الشاعر تحسين الكلام لا تحقيق المذكور قالا وكذلك ينبغي أن يكون الحكم لو سمى امرأة لا يدري من هي وترد شهادة الشاعر إذا كان يفحش أو يشبب بامرأة بعينها أو يصف أعضاء باطنة فإن شبب بجاريته أو زوجته فوجهان أحدهما يجوز ولا ترد شهادته وهذا القائل يقول إذا لم تكن المرأة معينة لا ترد شهادته لأنه يجوز أن يريد من تحل له والصحيح أنه ترد شهادته إذا ذكر حليلته بما حقه الإخفاء لسقوط مروءته انتهت ونظر فيه بأن دعوى سقوط المروءة بكل ما حقه الإخفاء ممنوعة وبأن الشافعي نص على عدم الرد بذلك
ويجاب عن الأول بأن هذا انضم إليه عدم المبالاة بما فيه من نوع فضيحة لعياله ولا شك أن عدم المبالاة بذلك ينافي المروءة وعن الثاني بأن غايته أن في المسألة نصين للشافعي رجح الشيخان أحدهما لظهور مدركه فلا اعتراض عليهما وإن قيل جمهور الأصحاب على عدم الرد ثم رأيت البلقيني وغيره أجمعوا فقالوا لا منافاة بين ما رجحاه والنص الذي جرى عليه جمهور الأصحاب لأن ما ذكراه فيما إذا ذكر حليلته بما يخفى كالأحوال التي تتفق بينهما عند الجماع والخلوة ومقابله فيما إذا شبب بغير معينة أو بحليلته ولم يذكر ما يخفي مروءة
ا ه
والحمل الأول صريح فيما ذكرته ويؤيد عدم التحريم أن كعب بن زهير رضي الله عنه شبب بسعاد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكره وحمل ذلك على أنها كانت امرأته وابنة عمه وطال عهده بها وغيبته عنها
وقد ذكر في
____________________
(2/914)
الروضة ما يؤيد ذلك فقال مما يخل بالمروءة أن يقبل حليلته بحضرة الناس أو يحكي ما جرى بينهما في الخلوة
وفي الروضة في كتاب النكاح كراهية ذلك وفي شرح مسلم حرمته ولا تنافي لأن الأول في غير ذكر الجماع ومقدماته والثاني في ذكرهما
لا يقال ينبغي رد شهادة المشبب وإن لم يعين لأنها إن كانت حليلته فقد ذكر ما حقه الإخفاء أو أجنبية فأشد
لأنا نقول يجوز أن يسامح عند عدم التعيين بذلك والتنظير في ذلك ممنوع خلافا لمن زعمه ويؤيده قول الأذرعي يجب القطع بأنه إذا شبب بحليلته ولم يذكر سوى المحبة والشوق أو ذكر شيئا من التشبيهات الظاهرة أنه لا يضر وكذا إذا ذكر امرأة مجهولة ولم يذكر سوءا
انتهى
وقال في موضع آخر الذي يجب القطع به أن تسميته من لا يدري من هي وذكر محاسنها الظاهرة والشوق والمحبة من غير فحش ولا ريبة لا يقدح في قائله ولا يتحقق فيه خلاف ومن ذلك توارد الشعراء على ذكر ليلى وسعدى ودعد وهند وسلمى ولبنى وكيف وقد أنشد كعب بن زهير النبي صلى الله عليه وسلم بانت سعاد فقلبي اليوم مبتول وفيها من الأشعار كل بديع والنبي صلى الله عليه وسلم يستمع فلا ينكر منها شيئا
وذكر الروياني في البحر أنها كانت زوجته وابنة عمه وطالت غيبته عنها في هربه من النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عبد البر ولا ينكر الحسن من الشعر أحد من أولي العلم ولا من أولي النهى وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم ومواضع القدوة إلا وقد قال الشعر أو تمثل به أو سمعه فرضيه ما كان حكمة أو مباحا ولم يكن فيه فحش ولا خنا ولا لمسلم أذى
وكان عبيد الله بن عتبة بن مسعود أحد فقهاء المدينة العشرة ثم المشيخة السبعة شاعرا مجيدا انتهى
وفي الإحياء في التشبيب بنحو وصف الخدود والأصداغ وسائر أوصاف النساء نظر والصحيح أنه لا يحرم نظمه ولا إنشاده بصوت وغير صوت وعلى المستمع أن لا ينزله على امرأة معينة فإن نزله على حليلته جاز أو غيرها فهو العاصي بالتنزيل ومن هذا وصفه فينبغي أن يتجنب السماع
انتهى
____________________
(2/915)
الكبيرة السادسة والسابعة والثامنة والتاسعة والخمسون بعد الأربعمائة الشعر المشتمل على هجو المسلم ولو بصدق وكذا إن اشتمل على فحش أو كذب فاحش وإنشاد هذا الهجو وإذاعته وعد هذه كبائر هو ما يصرح به قول الجرجاني في شافيه ولا ترد شهادة من ينشد الشعر وينشئه ما لم يكن هجو مسلم أو فحشا أو كذبا فاحشا انتهى أي فإن كان هجو مسلم أو فحشا أو كذبا فاحشا ردت شهادته ورد الشهادة لغير نحو خرم المروءة والتهمة إنما يكون للفسق ومعلوم أنه ليس هنا خرم مروءة ولا نحوه فتعين أن الرد هنا إنما هو لكون كل من هذه الثلاثة فسقا وممن صرح بأن هجو المسلم فسق العمراني في البيان حيث قال إن هجا مسلما فسق أو ذميا فلا بأس والروياني في البحر حيث قال أما إذا آذى في شعره بأن هجا المسلمين أو رجلا مسلما فسق به لأن إيذاء المسلم محرم
قال أصحابنا وهذا إذا كثر وفيه نظر عندي ا ه
وكأن الشيخين تبعاه حيث أطلقا رد الشهادة بالهجو سواء أصدق أم كذب وقول البلقيني في تصحيح المنهاج لا يلزم من رد الشهادة التحريم فقد يكون الرد لخرم المروءة رده تلميذه أبو زرعة بأن لا خرم فيه قال وإنما سبب ردها التحريم أي وإذا كان سبب ردها التحريم لزمه كونه كبيرة إذ الصغيرة لا تقتضي رد الشهادة فتعين كون ذلك كبيرة وبهذا الذي ذكره أبو زرعة ينظر في قول شيخنا شيخ الإسلام زكريا سقى الله مهده قول الشيخين فإن هجا في شعره ردت شهادته محمول على ما إذا هجا بما يفسق به كأن أكثر منه ولم تغلب طاعاته بقرينة ما ذكراه بعد ذلك
ا ه
ووجه التنظير فيه أنه إذا أكثر منه فسق كما مر عن الروياني عن الأصحاب وكذا إذا لم يكثر كما مر عن اختيار الروياني وإذا فسق بالإكثار لزم أنه كبيرة وارتكاب الكبيرة مفسق وإن غلبت الطاعات المعاصي والتفصيل بين غلبة الطاعات وغلبة المعاصي إنما هو عند ارتكاب الصغائر أما عند ارتكاب كبيرة فيفسق وترد شهادته مطلقا وصوب الزركشي ما مر عن الأصحاب من التقييد بالإكثار فقال وقضية كلام الشيخين رد الشهادة بمطلق الهجو أنه لا فرق بين قليله وكثيره لكن اغتفر الدارمي يسيره وهو مقتضى تقييده الأم بالإكثار وهو الصواب
ا ه
ولخص ذلك من قول شيخه الأذرعي إطلاق رد الشهادة بالهجو بعيد إذ النظم كالنثر وذكر الدارمي أن الشاعر حيث لم يمدح بالكذب ولم يذم به إلا يسيرا قبلت شهادته ويؤيده قول الأم ومن أكثر الوقيعة في الناس على الغضب أو الحرمان حتى
____________________
(2/916)
يكون ذلك فيه ظاهرا كثيرا مستعلنا كذبا محضا ردت شهادته بالوجهين وبأحدهما لو انفرد هذا نصه وحينئذ يجب أن يقال إن أكثر منه أو عرف به أو هجا بما يفسق به لكون التلفظ به كبيرة ردت شهادته لا محالة أما لو لم يكثر ولم يعرف به ولا كان التلفظ به كبيرة فلا اللهم إلا أن يقال الغيبة كبيرة أو يتضمن ذلك شيئا مؤذيا يحفظ عنه وينشد كل وقت فيتأذى به المهجو وولده فهذا محتمل بخلاف النثر لأن النظم يحفظ ويعلق بالأذهان ويعاود قال في البحر الشعر يحفظ نظمه فيسير ويبقى على الأعصار والدهور بخلاف النثر
وفيه أيضا أما إذا آذى في شعره بأن هجا المسلمين أو رجلا مسلما فسق به لأن إيذاء المسلم محرم قال أصحابنا وهذا إذا أكثر وفيه نظر عندي
ا ه كلام الأذرعي ملخصا وقال أيضا قضية كلام المنهاج حرمة إنشاء الهجو والتشبيب المحرم كما يحرم إنشاؤهما ولا يمكن بقاؤه على إطلاقه ولقد أحسن الشيخ الموفق حيث قال ذكر أصحابنا أن التشبيب بامرأة بعينها بالإفراط في وصفها محرم وهذا إن أريد به أنه محرم على قائله فصحيح
وأما على راويه فلا يصح فإن المغازي روي فيها قصائد الكفار التي هجوا فيها الصحابة رضي الله عنهم ولا ينكر ذلك أحد
وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم أذن في الشعر الذي تقاولت به الشعراء في يوم بدر وأحد وغيرهما إلا قصيدة ابن أبي الصلت الحائية وقد سمع صلى الله عليه وسلم قصيدة كعب بن زهير ولم يزل الناس يروون أمثال هذا ولا ينكر
ا ه
قال الأذرعي ولا شك فيما قاله إذا لم يكن فيه فحش ولا أذى لحي ولا ميت من المسلمين ولم تدع حاجة إليه وقد ذم العلماء جريرا والفرزدق في تهاجيهما ولم يذموا من استشهد بذلك على إعراب وغيره من علم البيان
ويجب حمل كلام الأئمة على غير ذلك مما هو عادة أهل اللعب والبطالة وعلى إنشاد شعر شعراء العصر إذا كان إنشاؤه حراما
إذ ليس فيه أذى أو وقيعة في الأحياء أو إساءة الأحياء في أمواتهم أو ذكر مساوئ الأموات وغير ذلك وليسوا ممن يحتج به في لغة ولا غيرها فلم يبق إلا التفكه بالأعراض
ا ه
قال الرافعي ويشبه أن يكون التعريض هجوا كالتصريح وقد يزيد بعض التعريض وجزم به في الشرح الصغير واستحسن الأذرعي قوله وقد يزيد إلخ وهو كما قال فقول ابن كج ليس التعريض هجوا ضعيف
ويؤيد ما ذكرته قول الحليمي وكل ما حرم التصريح به لعينه فالتعريض به حرام أيضا وما حرم لا لعينه بل لعارض فالتعريض به جائز كخطبة المعتدة وأما قول الزركشي ما قاله ابن كج أقيس فإنهم لم يجعلوا التعريض في باب القذف ملحقا بالكناية فكيف يلتحق بالتصريح فيرد بأن هذا خلاف
____________________
(2/917)
ما نحن فيه لأن كلامهم إنما هو في عدم الإلحاق في الحد وكلامنا إنما هو في الحرمة ولكل ملحظ ومدرك فلا يقاس أحدهما بالآخر وقد مر في مبحث القذف أنه كبيرة وإن لم يوجب الحد
قال الرافعي وليس إثم حاكي الهجو كإثم منشده
قال الأذرعي وتبعه الزركشي وهذا صحيح إذا استويا أما إذا أنشأه ولم يذعه فأذاعه الحاكي فإثمه أشد بلا شك
ا ه
ونازع البلقيني فيما مر عن الشيخين من أن الصادق في الهجو كالكاذب فيه فقال قضية نص الشافعي على أن الشعر كلام حسنه كحسنه وقبيحه كقبيحه أنه لا يحرم الهجو الصادق حيث لا يحرم الكلام بذلك فإن كان فيه إشاعة فاحشة فهو حرام
ا ه
وله وجه لكن يؤيد ما قاله الشيخان قول الروياني يحرم الهجو ولو كان صادقا
قال بعضهم وجرى عليه المتأخرون زاد القمولي في جواهره وإثم الصادق أخف من إثم الكاذب
واحترزت بالتقييد في الترجمة بالمسلم عن الكافر فإن فيه خلافا وتفصيلا بل في المسلم تفصيل أيضا
وحاصل ذلك أن كثيرين من الأصحاب أطلقوا جواز هجو الكافر منهم الروياني والصيدلاني وابن الصباغ والمحاملي والجرجاني وأصحاب الكافي والبيان والإيضاح وجرى على هذا الإطلاق ابن الرفعة في المطلب واستدلوا بأمره صلى الله عليه وسلم لحسان رضي الله عنه بهجو المشركين وقوله صلى الله عليه وسلم اللهم أيده بروح القدس فكان يهجو قريشا ويقول صلى الله عليه وسلم إنه فيهم أشد من رشق النبل
ومحل ذلك في الكفار على العموم وفي المعين الحربي ميتا كان أو حيا حيث لم يكن له قريب معصوم يتأذى به أما الذمي أو المعاهد والحربي الذي له قريب ذمي أو مسلم يتأذى به فلا يجوز هجوه كما قاله جماعة من المتأخرين منهم الأذرعي وكذا ابن العماد وزاد إن المؤمن كالذمي وعلل ذلك بأن يلزمنا الكف عن أهل الذمة كما صرحوا به وكذا الزركشي وهذا التفصيل هو الوجه
والجواب عن هجو حسان وغيره رضي الله عنه كفار قريش أنه وإن كان في معين لكنه في حربي وعلى التنزل فهو ذب عن الله ورسوله فهو من القرب فضلا عن المباحات ولذلك أمره صلى الله عليه وسلم به ودعا له بما مر وألحق الغزالي وتبعه جمع متأخرون المبتدع بالحربي فيجوز هجوه ببدعته لكن لمقصد شرعي كالتحذير من بدعته
قال ابن العماد ويجوز هجو المرتد دون تارك الصلاة والزاني المحصن ا ه
وما قاله في المرتد واضح لأنه كالحربي بل أقبح وفي الآخرين محله حيث لم يتجاهرا
أما المتجاهر بفسقه فيجوز هجوه
____________________
(2/918)
بما تجاهر به فقط لجواز غيبته به فقط كما مر وعلى هذا يحمل إطلاق جمع جواز هجو الفاسق المجاهر وقول البلقيني الأرجح تحريم هجوه إلا لقصد زجره لأنه قد يتوب وتبقى وصمة الشعر السائر عليه ولا كذلك الكافر إذا أسلم يرد بأن مجاهرته بالمعصية وعدم مبالاته بالناس وكلامهم فيه صيراه غير محترم ولا مراعى فهو المهدر لحرمة نفسه بالنسبة لما تجاهر به فلم يبال ببقاء تلك الوصمة عليه
الكبيرة الستون والحادية والستون بعد الأربعمائة
الإطراء في الشعر بما لم تجر العادة به كأن يجعل الجاهل أو الفاسق مرة عالما أو عدلا والتكسب به مع صرف أكثر وقته وبمبالغته في الذم والفحش إذا منع مطلوبه وكون هذين كبيرتين هو ما دل عليه ما يأتي عند الماوردي ويدل عليه أيضا قول الفوراني في العمدة ولو بالغ في مدح رجل فقال ما لم تجر به العادة فهو كذب صريح وسفه ترد به الشهادة
قال الأذرعي وتقييده بالعادة حسن
وقال الشيخ أبو محمد إن لم يكثر الكذب المحض فشهادته جائزة ثم قال في العمدة إن ذكر مثل تشبيهه الرجل بالأسد وبالبدر فلا يقدح وكذلك الكاتب إذا ذكر ما تجري به العادة كقوله أنا في ذكرك آناء الليل والنهار ولا أخلي مجلسا عن ذكرك وأنت أحب إلي من نفسي فهذا لا يقدح لأنه لا يقصد الكذب ولكنه تزيين للكلام فهو بمنزلة لغو اليمين وما ذكره حسن بالغ وعليه ينزل ما ذكر عن شيخه القفال والصيدلاني وقد مر في مبحث الكذب ويحتمل أن يفرق بين ممدوح وممدوح فإذا بالغ في وصف من عنده نحو كرم أو علم أو شجاعة مما هو متصف به وأغرق فيه لم يضر وإن عري عن ذلك الوصف بالكلية بأن جعل فاسقا أو جاهلا أو شحيحا أعلم الناس أو أعدلهم أو أكرمهم أو نحو ذلك مما يقطع بكذبه الحس فهذا مطرح لجلباب الحياء والمروءة وكذلك من اتخذ المدح حرفة وأنفق فيه غالب أوقاته بخلاف من مدح في بعض الأحيان أفرادا لمعروف وصل إليه منهم فهذا يغتفر له الإغراق في الثناء لأنه يراد به إظهار الصنعة وجودة النظم
وقال الماوردي إذا كان المكتسب بالشعر إذا أعطي مدح ولا يذم إذا منع ويقبل ما وصل إليه عفوا فهو على عدالته وقبول شهادته ا ه
وهذا حسن صحيح ا ه
كلام الأذرعي وبمفهوم ما ذكره عن الماوردي واستحسنه يتأيد ما ذكرته في الترجمة
وقال أيضا لو كان الشاعر يمدح ويطري فإن أمكن حمله على ضرب مبالغة جاز وإلا كان كذبا محضا على ما قاله عامة الأصحاب ا ه
____________________
(2/919)
واختلف الأدباء وغيرهم في أن الأولى في الشعر المبالغة أو ذكر الشيء على حقيقته فقيل المبالغة أولى وقيل عدمها وذكر الشيء على حقيقته أولى ليؤمن الكذب وعليه حسان وغيره وقيل إن أدت إلى مستحيل تركت وإلا فهي أولى
وخرج مما ذكرته في الترجمة إنشاء الشعر وإنشاده إذا خلا عما في الترجمة فلا بأس به فقد كان له صلى الله عليه وسلم شعراء يصغي إليهم كحسان وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك واستنشد من شعر أمية بن أبي الصلت مائة بيت رواه مسلم واستنشد الشعر وأنشده خلائق من الصحابة والتابعين ومن بعدهم
وقال الأصمعي قرأت شعر الهذليين على محمد بن إدريس يعني الشافعي رضي الله عنه وفي حفظ دواوين العرب أبلغ معونة على معرفة الكتاب والسنة
وروى البخاري إن من الشعر لحكمة
وروى الشافعي رضي الله عنه مرسلا الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح أي أن كونه شعرا غير مستقبح بل هو كالكلام
قال الرافعي وغيره وحفظ ما تدعو الحاجة إليه من ذلك متأكد لأن ما أعان على الطاعة طاعة قال الشافعي وفضله على الكلام أنه سائر أي بالراء خلافا لمن صحفه ومعناه أنه يثبت في الدواوين ويدرس بخلاف النثر
قال الأذرعي وما أحسن قول الماوردي الشعر في كلام العرب مستحب ومباح ومحظور فالمستحب ما حذر من الدنيا ورغب في الآخرة أو حث على مكارم الأخلاق والمباح ما سلم من فحش أو كذب والمحظور نوعان كذب وفحش وهما جرح في قائله وأما منشده فإن حكاه اضطرارا لم يكن جرحا أو اختيارا كان جرحا
ا ه
وتبعه الروياني على ذلك ولا شك أن ما حث على طاعة الله تعالى واتباع السنة واجتناب البدعة وحذر من معصية الله قربة وكذا ما اشتمل على مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شك أن هجاء الشاعر حرام صدقا أو كذبا وترد شهادته به وكذا لو فحش بذكر ما لا ينبغي أو صرح بقذف وقد حمل الشافعي رضي الله عنه الحديث الوارد في ذم الشعراء على هذا وحمله الأكثرون على ما إذا غلب عليه الشعر واشتغل به عن القرآن والفقه ولذلك ذكر الامتلاء وما فيه فخر فقليله مذموم ككثيره
الكبيرة الثانية والستون بعد الأربعمائة إدمان صغيرة أو صغائر بحيث تغلب معاصيه طاعته وكون هذا كبيرة أي مثلها في سقوط العدالة هو ما صرحوا به
وعبارة الرافعي قال
____________________
(2/920)
الأصحاب يعتبر في العدالة اجتناب الكبائر فمن ارتكب كبيرة فسق وردت شهادته وأما الصغائر فلا يشترط تجنبها بالكلية لكن الشرط أن لا يصر عليها فإن أصر كان الإصرار كارتكاب الكبيرة وأما الإصرار السالب للعدالة أهو المداومة على نوع من الصغائر أم الإكثار من الصغائر سواء كانت من نوع أو أنواع مختلفة منهم من يفهم كلامه الأول ومنهم من يفهم كلامه الثاني ويوافقه قول الجمهور إن من يغلب طاعته معاصيه كان عدلا ومن يغلب معاصيه طاعته كان مردود الشهادة ولفظ الشافعي في المختصر قريب منه وإذا قلنا به لم تضر المداومة على نوع واحد من الصغائر إذا غلبت الطاعات وعلى الاحتمالات الأول تضر
ا ه
وتبعه في الروضة وقضية كلامهما ترجيح الثاني وهو كذلك وبه صرح ابن سراقة وغيره
والحاصل أن المعتمد وفاقا لكثيرين من المتأخرين كالأذرعي والبلقيني والزركشي وابن العماد وغيرهم أنه لا تضر المداومة على نوع من الصغائر ولا على أنواع سواء كان مقيما على الصغيرة أو الصغائر أو مكثرا من فعل ذلك حيث غلب الطاعات المعاصي وإلا ضر وعلى هذا يحمل ما وقع للشيخين في موضعين آخرين من أن المداومة على الصغيرة تصيرها أي مثلها في رد الشهادة لكن النوع إن انضم إليه كون طاعته لم تغلب معاصيه ووقع للإسنوي تقرير لكلام الرافعي المذكور قد يخالف بعض ما قررته فلا تغتر به فقد اعترضه ورده البلقيني وابن العماد وغيرهما ويؤيد ما قررناه قول الجمهور ومن غلبت طاعاته معاصيه كان عدلا
إذ ظاهره أن من غلبت معاصيه طاعاته ردت شهادته سواء كانت المعاصي من نوع أو أنواع ومن ثم قال الأذرعي المذهب وقول الجمهور وما تضمنته النصوص إن من كان الأغلب عليه الطاعة والمروءة قبلت شهادته أو المعصية وخلاف المروءة ردت شهادته فقول الشيخين عن بعضهم إن العضل ثلاثا كبيرة إنما يأتي على الضعيف أي أو يحمل كما مر ما إذا انضم إليه غلبة المعاصي
وعبارة العبادي حد الفسق الذي يثبت فيه الجرح أن يرتكب كبيرة أو يغلب صغائره على طاعاته قال وحد المروءة أن لا يأتي بما يستكرهه الناس من مثله مثل المطعم والملبس وفيه دليل على أن الإنسان لو قتر على نفسه في الأكل أو ضيق عليها في الملبس ردت شهادته
ثم رأيت ابن العماد قال ما نقله الإسنوي عن الرافعي من أن الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة ليس كذلك ولم يذكر الرافعي هذه العبارة وإنما ذكر أن الشاهد يفسق والتفسيق ورد الشهادة لا يلزم أن يكونا عن كبيرة فقد يكونان عن الإصرار على الصغائر وعن صغيرة واحدة يعظم خطرها كقبلة أجنبية بحضرة الناس
ا ه
وليس كما ذكر في التفسيق إذ لا يكون إلا على كبيرة بخلاف رد الشهادة فإنه يكون
____________________
(2/921)
عن خرم مروءة كما في القبلة التي ذكرها عند من لم يجعلها كبيرة
وأما تمثيله بالإصرار المذكور فهو المتنازع فيه فلا دليل فيه ثم رأيت بعضهم قال عقب كلامه وما ذكره في هذا غير صحيح
قال البلقيني والرجوع في الغلبة للعرف فإنه لا يمكن أن يراد مدة العمر فالمستقبل لا يدخل في ذلك وكذلك ما ذهب بالتوبة وغيرها ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه في المختصر ليس من الناس أحد نعلمه إلا أن يكون قليلا يمحض الطاعة والمروءة فإذا كان الأغلب على الرجل الأظهر من أمره الطاعة والمروءة قبلت شهادته فإذا كان الأغلب الأظهر من أمره المعصية وخلاف المروءة ردت شهادته
قال البلقيني واتفق الأصحاب على أن المراد الصغائر فإن الكبيرة بمجردها تخرج عن العدالة وإن كان الأغلب الطاعة فكان ينبغي أن يقال شرط العدالة اجتناب الكبائر وعدم غلبة الصغائر على الطاعة
ا ه
وقضية قوله وعدم غلبة الصغائر على الطاعة أنهما لو استويا فلم يغلب أحدهما على الآخر بقيت العدالة وهو محتمل ويحتمل سلبها كما لو اجتمع حلال وحرام يغلب الحرام لخبثه وكذا ينبغي هنا تغليب المعاصي لخبثها وفسر القاضيان الماوردي والطبري الإصرار في قوله تعالى ولم يصروا بأن لم يعزموا على أن لا يعودوا إليه وقضيته حصول الإصرار بالعزم على العود بترك العزم على عدم العود ويوافقه قول ابن الصلاح الإصرار التلبس بضد التوبة باستمرار العزم على المعاودة واستدامة الفعل بحيث يدخل به في حيز ما يطلق عليه الوصف بصيرورته كبيرة وليس لزمن ذلك وعدده حصر
وقال ابن عبد السلام الإصرار أن تتكرر منه الصغيرة تكرارا يشعر بقلة مبالاته بدينه إشعار ارتكاب الكبيرة بذلك قال وكذلك إذا اجتمعت صغائر مختلفة الأنواع بحيث يشعر مجموعها بما يشعر به أصغر الكبائر
ا ه
وإنما يحتاج لمعرفة ضابط الإصرار على الضعيف أن مطلق الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة أما على المعتمد السابق فالمدار على غلبة الطاعات والمعاصي ويؤخذ من ضبط البلقيني لها بالعرف أنه لا نظر إلى مضاعفة الطاعات وإنما يقابل إفراد الطاعات بإفراد المعاصي من غير نظر إلى المضاعفة وتردد بعضهم فيما لو استوت معاصيه وطاعاته والذي يتجه سلب العدالة
الكبيرة الثالثة والستون بعد الأربعمائة ترك التوبة من الكبيرة
وكون هذا كبيرة ظاهر وإن لم أر من عده ويصرح به ما سأذكره من الأحاديث
____________________
(2/922)
ويشير إليه قوله تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون أشارت الآية إلى أن عدم التوبة خسار أي خسار ولذلك كانت التوبة من الكبيرة واجبة عينا فورا بنصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة
قال القاضي الباقلاني وتجب التوبة من تأخير التوبة وأما التوبة من الصغيرة فواجبة عينا فورا أيضا كما في الكبيرة قاله الشيخ أبو الحسن الأشعري إمام أهل السنة والجماعة ولم يحك فيه خلافا إلا عن الجبائي المعتزلي والمنقول عن أصحابنا وغيرهم ما قاله الأشعري بل حكى إمام الحرمين الإجماع عليه وكأنه لم يعتد بخلاف الجبائي على أنه حكى عنه في الجواهر أنه يقول بوجوبها من الصغائر إذا داوم
وبما ذكرته من أن الإمام لم يعتد بخلافه لضعفه بل شذوذه اندفع قول الأذرعي في دعوى إجماع الأمة في الصغائر نظر فإن المعتزلة قالوا إنها تقع مغفورة عند اجتناب الكبائر
واختلفوا في وجوب التوبة منها انتهى
وكون اجتناب الكبائر يكفرها لا يمنع الإجماع على وجوب التوبة منها لأن الكفر لا يزيد على الستر فإذا سترت كانت في رجاء أن يمحى أثرها وهذا أمر قد يقع وقد لا يقع إذ لا يجب على الله شيء فوجبت التوبة منها لتزول عن فاعلها وصمة المخالفة والتعدي الذي ارتكبه وبارز الله تعالى بعصيانه له وبهذا الذي ذكرته مع الإجماع المذكور يندفع قول السبكي
أما الصغيرة فيحتمل أن يقال لأنها تكفر بالصلاة واجتناب الكبائر وبغير ذلك لا تجب التوبة منها عينا بل إما هي أو مكفر آخر أو هي لا فورا حتى يمضي ما يكفرها أو هي فورا وهو ما قاله الأشعري ا ه ملخصا ولوضوح رده خالفه ولده التاج فقال تجب التوبة عينا فورا من كل ذنب نعم إن فرض عدم التوبة عن الصغيرة ثم جاء مكفر كفر الصغيرتين المعصية وتأخير التوبة منها
وقال الإمام التكفير الستر فمعنى تكفير نحو الصلاة ستره عقوبة الذنب العظيم ثوابه فيغمره ويغلبه كثرة أما إنه يسقطه أصلا فذلك إلى مشيئة الله تعالى
وقال أيضا بعد تقريره عدم القطع بقبول التوبة خلافا للخصوم فإن قيل إذا لم تقطعوا بقبولها وأنها لا تزيل العقاب فعلام يحملون قول الله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وقوله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس كفارات لما بينهن
وقوله الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما وصوم يوم عرفة كفارة سنتين وصوم يوم عاشوراء كفارة سنة
إن الله ليكفر عن المؤمن خطاياه كلها بحمى ليلة وأمثال هذه الأخبار
____________________
(2/923)
قلنا التوبة واجبة على حيالها فيجب أداؤها كسائر الواجبات وهي في نفسها طاعة وعد الثواب عليها
وأما زوال العقاب فهو مفوض إلى الله تعالى فهو سبحانه خير مأمول وأكرم مسئول
وقال المعتزلة الصغائر تقع مغفورة عند اجتناب الكبائر وادعوا وجوب ذلك عقلا ويلزمهم أن تلك القربات لا تكفر شيئا لأن مجرد اجتناب الكبائر مكفر فما الحاجة لمقاساة تعب صوم نحو عرفة ولا شك أنها لا تكفر ما فيه حق للعباد بل لا بد من إرضائهم وعلى أصولنا ليس في الذنوب ما يقع مكفرا عقلا والشرع ورد بهذه الألفاظ المبهمة والعلم بتأويلها عند الله تعالى
قال أبو القاسم الأنصاري تلميذه وشارح إرشاده يحتمل أن المكفر الصغائر التي نسيت وإن تعلقت بحق الغير لتعذر الاعتذار منها وقد لا يمكنه إظهارها ومن ذلك التقصير في الطاعات إذ لا يجبره إلا الله ولا يكفره إلا استكثار النوافل مع الاستغفار انتهى
قال الزركشي وما ذكره الإمام لحظ فيه مدلوله اللغوي فإن الكفر لا يزيد على الستر لكنا نقول إذا سترت غفرت وإجماعهم على وجوب التوبة لا ينافي ذلك وتفصيل الأنصاري غير مسلم بل كل الصغائر يمحوها اجتناب الكبائر كما دلت عليه الأحاديث ولا دليل على التخصيص الذي ذكره نعم ما فيها من حق الآدمي لا بد فيها من إسقاطه له إذا أمكن وهذا يعضده دليل موجب التخصيص
والحق وجوب التوبة عينا من كل ذنب نعم إن فرض عدم التوبة عن الصغيرة ثم جاءت المكفرات كفرت الصغيرتين تلك الصغيرة وعدم التوبة منها
انتهى
وقال ابن الصلاح في فتاويه قد يكفر نحو الصلاة بعض الكبائر إذا لم يجد صغيرة
واعلم أنهم اختلفوا هل قبول التوبة قطعي أو ظني والصحيح كما قاله النووي وغيره أن قبول توبة الكافر بإسلامه قطعي وقبول توبة غيره إذا وجدت شروطها ظني خلافا لجمع من متقدمي أصحابنا
قال الإمام وإذا أسلم فليس إسلامه توبة من كفره وإنما توبته ندامة على كفره ولا يتصور أن يؤمن ولا يندم على كفره بل تجب مقارنة الإيمان للندم على الكفر ثم وزر الكفر يسقط بالإيمان والندم على الكفر بالإجماع هذا مقطوع به وما سواه من ضروب التوبة فقبوله مظنون غير مقطوع به وقد أجمعت الأمة على أن الكافر إذا أسلم وتاب عن كفره صحت توبته وإن استدام معاصي أخر
قال الزركشي وهذا في الكفر فغيره لا يكفر إلا بتوبة عنه بخصوصه كما ذكره البيهقي في سنده الكبير
____________________
(2/924)
واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم إن أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بالأول ولا بالآخر وإن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر
ولو كان الإسلام يكفر سائر المعاصي لم يؤاخذ بها إذا أسلم
قال البيهقي في الشعب قد جاءت أحاديث في أن الحدود كفارة وكأنه إذا تاب بدليل قوله صلى الله عليه وسلم للسارق حين قطعه تب إلى الله ويوافقه قول الشيخين في الروضة وأصلها ويتعلق بالقتل المحرم سوى عذاب الآخرة مؤاخذات في الدنيا القصاص والدية والكفارة فإن ظاهره بقاء العقوبة في الآخرة وإن استوفى منه القود أو بدله لكن صرح النووي في شرح مسلم والفتاوى بأن الاستيفاء مسقط للإثم والمطالبة في الآخرة
وقال الزركشي وقضيته عدم الاحتياج لتوبة والأشبه التفصيل بين من سلم نفسه امتثالا لأمر الله تعالى فيكون ذلك توبة أو قهرا فلا انتهى والذي يتجه في ذلك أنه إذا استوفى منه بريء من حق العبد وعليه يحمل كلام شرح مسلم والفتاوى كحديث البخاري فمن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له
وبقي حق الله تعالى فإن تاب سقط أيضا وإلا فلا
وعليه يحمل كلام الروضة وأصلها كقوله صلى الله عليه وسلم لمن قطعه تب إلى الله وبهذا وإن لم أر من ذكره تجتمع الأحاديث والأقوال المتعارضة في ذلك
واعلم أيضا أن التوبة التي تمحو الإثم تنقسم إلى توبة عن ذنب لا يتعلق به حق آدمي وإلى توبة عن ذنب يتعلق به حق آدمي
فالضرب الأول كوطء أجنبية فيما دون الفرج وشرب الخمر فشروط التوبة أو أركانها على الخلاف في ذلك ويتجه أنه لا خلاف في الحقيقة إذ من أراد بالتوبة مدلولها اللغوي وهو الرجوع يجعل تلك شروطا ومن أراد بها معناها الشرعي يجعل تلك أركانا ثلاثة قيل وعليه الأصوليون والتوبة الندم فقط لخبر الندم توبة
وأما الإقلاع في الحال والعزم على عدم العود فثمرة الندم وليسا بشرطين لها لاستحالته بدونهما لما يأتي أنه لا بد أن يكون لله وإذا كان كذلك يستلزم ذينك
وأجاب الأول بأنه إنما خص بالذكر في الحديث لأنه معظم أركانها كقوله صلى الله عليه وسلم الحج عرفة
وجمع
____________________
(2/925)
التاج السبكي بين طريقتي الأصوليين والفقهاء حيث فسرها بالندم ثم ذكر أن الندم لا يتحقق إلا ببقية الأمور التي اعتبرها الفقهاء ثلاثة بل خمسة بل أكثر على ما يأتي الأول الندم على ما مضى وإنما يعتد به إن كان على ما فاته من رعاية حق الله تعالى ووقوعه في الذنب حياء من الله تعالى وأسفا على عدم رعاية حقه فلو ندم لحظ دنيوي كعار أو ضياع مال أو تعب بدن أو لكون مقتوله ولده لم يعتبر كما ذكره أصحابنا الأصوليون وكلام أصحابنا الفقهاء ناطق بذلك وإنما لم يصرحوا به لأن التوبة عبادة وهي لا تكون إلا لله فلا يعتد بها إن كانت لغرض آخر وإن قيل من خصائص التوبة أنه لا سبيل للشيطان عليها لأنها باطنة فلا تحتاج إلى الإخلاص لتكون مقبولة ولا يدخلها العجب والرياء ولا مطمع للخصماء فيها
وذكر أبو نصر القشيري عن والده الإمام أبي القاسم أن من شرط التوبة أن يذكر ما مضى من الزلة ويندم عليه فلو أسلف ذنبا ونسيه فتوبته من ذنوبه على الجملة وعزمه على ألا يعود إلى ذنب ما يكون توبة مما نسيه وما دام ناسيا لا يكون مطالبا بالتوبة عما نسيه ولكنه يلقى الله وهو مطالب بتلك الزلة وهذا كما لو كان للغير عليه دين فنسيه أو لم يقدر على الأداء فهو حالا غير مطالب مع النسيان أو الإعسار ولكن يلقى الله وهو مطالبه وهي من ذنب دون آخر صحيحة عندنا ومن جملة الذنوب من غير ذكر تفاصيلها غير صحيحة قال الزركشي وهذا ظاهر لأنها الندم وهو لا يتحقق إلا إذا تذكر ما فعله حتى يتصور ندمه عليه وقال القاضي أبو بكر إن لم يتذكر تفصيل الذنب فليقل إن كان لي ذنب لم أعلمه فإني تائب إلى الله تعالى ولعله إنما قال هذا فيما إذا علم لنفسه ذنوبا لكنه لا يتذكرها فأما إذا لم يعلم لنفسه ذنبا فالندم على ما لم يكن محال وإن علم له ذنبا لكنه لم يتعين له في التذكر فيمكن أن يندم على ما ارتكب من المخالفة على الجملة ثم العزم على ألا يعود إلى المخالفة أصلا
انتهى
وحاصل عبارة القاضي لو كان المصيب للذنب الواحد أو الذنوب عالما بها أو ذاكرا لها على التفصيل أو الجملة فيقول إذا كان مني ذنب لم أعلمه فأنا تائب إلى الله تعالى منه ويستغفر من عقابه ولا تجب عليه فيما لم يعلمه أو علمه ولا يعتقده ذنبا أو لم يخطر له ببال بل يستغفر الله في الجملة كما بينا وإن كان ذاكرا للذنوب صحت التوبة من بعضها وإن علم بها على التفصيل لزمه التوبة عن آحادها على التفصيل ولا يكفيه توبة واحدة بخلاف التوبة عما لم يعلمه
وقال الشيخ عز الدين يتذكر الذنوب السالفة ما أمكن تذكره وما تعذر فلا يلزمه ما لا يقر عليه
الثاني العزم على ألا يعود في المستقبل إليه أو إلى مثله وهذا إنما يتصور اشتراطه
____________________
(2/926)
فيمن يتمكن من مثل ما قدمه أما من جب بعد الزنا أو قطع لسانه بعد نحو القذف فالشرط في حقه عزمه على الترك لو عادت إليه قدرته على الذنب وبهذا علم أن توبة العاجز عن العود صحيحة ولم يخالف فيها إلا ابن الجبائي قال لأنه ملجأ إلى الترك وردوا عليه بما تقرر في نحو المجبوب ولا ينافي ذلك ما في شرح إرشاد الإمام من أنه إنما يصح العزم من متمكن من مثل ما قدمه فلا يصح من المجبوب العزم على ترك الزنا مثلا وإنما يعزم على تركه لو عادت إليه آلته
ونقل القشيري عن الأستاذ أبي إسحاق أنه تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على مثله حتى تصح من الزنا بامرأة مع المقام على الزنا بامرأة أخرى في مثل حالها ولو زنى بامرأة مرتين صحت من مرة فقط قال والأصحاب يأبون هذا ويقولون شرط صحة التوبة العزم على أن لا يعود إلى مثله وذلك محال مع الإصرار على مثله
انتهى
وقال الحليمي تصح من كبيرة دون أخرى من غير جنسها وقضيته عدم صحتها إذا كانت من جنسها وبه صرح الأستاذ أبو بكر وخالفه الأستاذ أبو إسحاق كما تقرر وقال شارح إرشاد الإمام قال القاضي لا خلاف بين سلف الأمة في صحة التوبة من بعض القبائح مع المقام على قبائح أخر وقال الإمام التوبة لها ارتباط بالدواعي لا تصح بدونها ثم الدواعي تختلف منها حقوق العباد بكثرة الزواجر فلا تصح من ذنب مع الإصرار على مثله عند استواء الدواعي إليهما ولو اختلفا جنسا كقتل وشرب واستوت الدواعي فيهما فهما مثلان لا تصح التوبة من أحدهما مع الإصرار على الآخر لاستوائهما فيما لأجله ندم عليه مثل أن يكون الداعي إلى التوبة كونه مخالفة ومعصية لله تعالى وإن دعاه إلى التوبة منه عظم العقوبة عليه ولم يعتقده في الآخر صح تبعيض الندم قال أعني الإمام والعارف الذاكر لله تعالى بما توعد به تعالى على الذنب من العقاب لا يهجم على الذنب إلا بتأويل ولا يصح منه القصد إلى الذنب مع العلم باطلاع الله تعالى عليه فإن تداخله فقد تغلبه شهوته ويقع على بصيرته شبه سل وظلمة وغشاوة ويرتكب الذنب فإن زالت غفلته وفترت شهوته فإنه يتوب إلى الله تعالى من جميع الذنوب ولا يتصور منه والحالة هذه التبعيض في الندم قال تعالى إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون
قال وإذا كان إيمانه اعتقاديا فيتصور منه التبعيض عند غلبة الشهوة ومن صار من الخوارج إلى أن كل ذنب كفر فلعلهم لاحظوا ما ذكرناه غير أنهم لم يحيطوا به حق الإحاطة انتهى
قال الأذرعي والمشهور من مذهب أهل السنة صحتها من بعض الذنوب مع الإصرار على بعضها وما ذكره الإمام فمن تصرفه وتوسطه
الثالث الإقلاع عن الذنب في الحال بأن يتركه إن كان متلبسا به أو مصرا على
____________________
(2/927)
المعاودة إليه وعد هذا شرطا هو ما نقله الرافعي عن الأصحاب لكنه لما لم يقيده بما ذكرناه اعترض بأن الجمهور لم يتعرضوا لهذا الشرط
والجواب أن من أهمله نظر إلى غير المتلبس والمصر إذ لا يتصور منه إقلاع ومن ذكره نظر إلى المتلبس والمصر فلا بد من إقلاعهما قطعا
إذ يستحيل حصول الندم الحقيقي على شيء هو ملازم له في الحال أو مع العزم على معاودته
إذ من لازم الندم الحزن على ما فرط من الزلة ولا يوجد ذلك إلا بتركها مع العزم على عدم معاودتها ما بقي
الرابع الاستغفار لفظا على ما قال به جمع ففي المطلب أن كلام الوسيط قد يفهم أنه لا بد من قول الفاسق تبت قال ولم أره لغيره نعم قال القاضي حسين وغيره إنه يستغفر الله بلسانه ظاهرا وباطنا عند ظهور الذنب
ا ه
وفي تصحيح المنهاج للبلقيني قضية كلام المنهاج أنه لا يعتبر في معصية غير قولية كالقذف قول وليس كذلك بل يعتبر فيها الاستغفار وجزم به القضاة أبو الطيب والحسين والماوردي وغيرهم
قال أعني البلقيني والذي يظهر والله أعلم من الكتاب والسنة أن الذنب المذكور وإن كان ذنبا باطنا لا بد أن يظهر قولا يظهر منه ندمه على ذنب بأن يقول أستغفر الله من ذنبي أو رب اغفر لي خطيئتي أو تبت إلى الله من ذنبي ثم بسط ذلك وفيه نظر فقد ذكر ابن الرفعة ما يدل على أن الذين عبروا بالاستغفار إنما أرادوا به الندم لا التلفظ حيث قال اعلم أن التوبة في الباطن التي تعقبها التوبة في الظاهر المرتب عليها غفران الذنب وغيره تحصل كما قال الأصحاب حيث لا يتعلق بالمعصية حد لله تعالى ولا مال ولا حق للعباد كتقبيل أجنبية واستمناء ونحو ذلك بأمرين الندم على ما كان والعزم على أن لا يعود إليه
وقد يعبر عن ذلك بعبارة أخرى فيقال أن يستغفر الله على ما مضى ويترك الإصرار في المستقبل قال تعالى والذين إذا فعلوا فاحشة الآية كذلك قاله البندنيجي والقاضي أبو الطيب والماوردي وابن الصباغ والبغوي والمحاملي وسليم الرازي وغيرهم
انتهى
فتأمل قوله وقد يعبر عن ذلك إلخ تجده صريحا فيما ذكرته أن مؤدى العبارتين واحد وأن من ذكر الاستغفار لم يرد به لفظه وإنما أراد به الندم الذي عبر به غيره فلا خلاف ولا قائل من هؤلاء الأئمة حينئذ باشتراط التلفظ بالاستغفار
الخامس وقوع التوبة في وقتها وهو ما قبل الغرغرة والمعاينة كما ذكروه
السادس ألا يكون عن اضطرار بظهور الآيات كطلوع الشمس من مغربها
وذكر بعضهم أن الشمس إذا طلعت من مغربها وهو مجنون ثم أفاق وتاب صحت توبته لعذره السابق وهو غريب
____________________
(2/928)
السابع أن يفارق مكان المعصية على ما ذكره الزمخشري وهو شاذ وجعل صاحب التنبيه ذلك مستحبا حيث قال يسن للحاج أن يفارق حليلته في المكان الذي جامعها فيه أي لأن النفس قد تتذكر المعصية فتقع فيها في ذلك المكان كما حكي في زمننا عمن جاء بحليلته من مكان بعيد من أقصى المغرب فلما وصلا مزدلفة جامعها فجاور للعام الآتي ليحج قضاء فجامعها بذلك المحل فجاور للعام الثالث لذلك فجامعها وكذلك فلما ضجر فارقها في الحجة الرابعة حتى سلم لهما حجهما
الثامن تجديد التوبة عن المعصية كلما ذكرها بعد التوبة فيما زعمه القاضي أبو بكر الباقلاني قال فإن لم يجددها فقد عصى معصية جديدة تجب التوبة منها والتوبة الأولى صحيحة إذ العبادة الماضية لا ينقضها شيء بعد تصرفها وقال إمام الحرمين لا يجب ذلك لكنه يستحب قال الأذرعي في توسطه ويشبه أن يقال إن كان حين تذكره للذنب تنفر نفسه فما اختاره الإمام ظاهر وإن كانت لا تنفر منه وتلتذ بذكره فذلك معصية جديدة تجب التوبة منها
فالتوبة الصادقة تقتضي تذكر صاحبها زلله أسفا وحياء من الله تعالى مما سلف منه ومن تتبع الآثار والأخبار وجد لذلك شواهد كثيرة انتهى وكأنه أخذ ذلك من قول الإمام لا يبعد أن يندم عليها وتصح توبته ثم إذا ذكرها أضرب عنها فلم يفرح بها ولا خلاف أنه لا يلزمه استدامة الندم واستصحاب ذكره جهده وقال في موضع آخر عليه أن لا يصر فأما أن يقال عليه توبة مقصودة فلا
وفي الشامل أن الوجوب ليس بشيء لأن الذين أسلموا كانوا يذكرون ما كانوا عليه في الجاهلية ولم يلزموا بتجديد الإسلام ولا أمروا به انتهى
ثم الخلاف إنما هو الوجوب أما الندب فلا خلاف فيه
وفي صحيح البخاري إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب يطير على أنفه فقال به هكذا قال الإمام ولعل القاضي بنى ما مر عنه على أن التوبة لا تزيل عقاب الذنب قطعا وأن ذلك مرجو ومظنون غير مقطوع به فإذا كان كذلك فمهما ذكره وهو غير قاطع بقبول توبته وزوال العقاب عنه فيندم عليه لا محالة ثانيا لا سيما ولا يعلم عاقبة أمره انتهى
التاسع أن لا يعود للذنب على ما زعمه الباقلاني أيضا حيث قال لو نقض التائب توبته جاز أن تعود عليه ذنوبه لأنه ما وفى بها لكنه أقل إثما ممن تركها دائما
قال الأذرعي وعلى هذا من شروط التوبة ألا يعود إلى الذنب فإن عاد إليه كان نقضا
____________________
(2/929)
للأولى وتظهر فائدة ذلك في الفاسق إذا تاب وعقد به النكاح ثم عاد إلى الفسق فعلى قول القاضي يتبين عدم صحة النكاح بتبيين الفسق حال العقد
العاشر أن يمكن من إقامة حد ثبت عليه عند الحكم فتتوقف التوبة منه على التمكين من استيفائه فلو مكن فلم يحده الإمام ولا نائبه أثما دونه وظاهر كلام ابن الصباغ أن الاشتهار بين الناس كالثبوت عند الحاكم حيث قال لو اشتهر بين الناس أنه ارتكب ما يوجب الحد ولم يثبت عند الحاكم اشترط صحة توبته منه التمكين من إقامة الحد عليه إن لم يطل عهده به وإلا ففيه الخلاف في سقوطه بطول العهد فإن لم يثبت ولا اشتهر قال القاضي أبو الطيب فالأفضل له أن يستر على نفسه وقال القاضي حسين يكره تنزيها إظهاره
قال البندنيجي إلا أن يتقادم عهده به ونقول الحد يسقط بتقادم العهد فلا يحل له التمكين من استيفائه لسقوطه
قال الأذرعي ويحتمل أن يقال إنه لم يقم به بينة ولا ظهر عليه ولو أظهره لترتب على إظهاره مفاسد كثيرة من بطلان ولايته على وقف وأيتام وغيرهما ويستولي بسبب ذلك عليها الظلمة والخونة ولو ستر نفسه لحفظت به أنه لا يجوز له حينئذ إظهاره درءا لهذه المفاسد ونحوها فتأمله انتهى
الحادي عشر التدارك فيما إذا كانت المعصية بترك عبادة ففي ترك نحو الصلاة والصوم تتوقف صحة توبته على قضائها لوجوبها عليه فورا وفسقه بتركه كما مر فإن لم يعرف مقدار ما عليه من الصلوات مثلا قال الغزالي تحرى وقضى ما تحقق أنه تركه من حين بلوغه
وفي ترك نحو الزكاة والكفارة والنذر مع الإمكان لتوقف صحة توبته على إيصاله إلى مستحقه
قال الواسطي وكانت التوبة في بني إسرائيل بقتل النفس كما قال تعالى فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم قال فكانت توبتهم إفناء نفوسهم وتوبة هذه الأمة أشد وهي إفناء نفوسهم عن مرادها مع بقاء رسوم الهياكل وفسره بعضهم بمن أراد كسر لوزة أو لؤلؤة في قارورة وذلك مع عسره يسير على من يسره الله عليه
انتهى
الضرب الثاني ما يتعلق به حق آدمي فالتوبة منه يشترط فيها جميع ما مر ويزيد هذا بأنه لا بد من إسقاط حق الآدمي فإن كان مالا رده إن بقي وإلا فبدله لمالكه أو نائبه أو لوارثه بعد موته ما لم يبرئه منه ولا يلزمه إعلامه به فإن لم يكن وارث أو انقطع خبره دفعه إلى الإمام ليجعله في بيت المال أو إلى الحاكم المأذون له التصرف في مال المصالح فإن تعذر قال العبادي والغزالي تصدق عنه بنية العزم وألحق الرافعي في الفرائض واعتمده الإسنوي وغيره بالصدقة سائر وجوه المصالح فإن لم يكن هناك قاض بشرطه صرفه الأمين بنفسه في مال المصالح وإن كان هناك قاض بشرطه غير
____________________
(2/930)
مأذون له في التصرف في مال المصالح ففيه أوجه يدفعه إليه يصرفه بنفسه إن كان أمينا في مال المصالح وإلا دفعه للقاضي يوقف إلى ظهور بيت المال أو ما يقوم مقامه بشرطه
قال النووي الثالث ضعيف والأولان حسنان وأصحهما الأول ولو قيل يتخير بينهما لكان حسنا
قال بل هو عندي أرجح انتهى
قيل وقد يقال إذا لم يكن للقاضي الأهل الأمين صرف ذلك في المصالح إذا لم يكن مأذونا له فكيف يكون ذلك لغيره من الآحاد فتأمله انتهى
وبتأمله مع ما قبله فعلم فساده
ومن أخذ حراما من سلطان لا يعرف مالكه فعن قوم يرده إليه ولا يتصدق به وهو اختيار المحاسبي وعن آخرين يتصدق به أي عن مالكه إذا علم أن السلطان لا يرده إليه وقال النووي المختار أنه إن علم أو ظن ظنا مؤكدا أنه يصرفه في باطل لزمه صرفه في المصالح كالقناطر فإن شق عليه لنحو خوف تصدق به على الأحوج فالأحوج وأهم المحتاجين ضعفاء الجثة وإن لم يظن أنه يصرفه في باطل فليدفعه أو لنائبه حيث لا ضرر وإلا صرفه في المصالح وعلى نفسه إن احتاج
قال الغزالي وحيث جاز صرفه للفقراء فليوسع عليهم أو لنفسه ضيق عليها ما أمكنه أو لعياله يوسط بين السعة والضيق ولا يطعم غنيا منه إلا إن لم يجد غيره لكونه في نحو برية ولو عرف من حال فقير أنه لو عرفه تورع عنه أخره إلى أن يجوع وأخبره بالحال ولا يكتفي بكونه لا يدري الحال وليس له كراء مركوب ولا شراؤه وإن كان مسافرا انتهى
فإن أعسر به قال الماوردي انتظرت ميسرته وصحت توبته
وفي الجواهر لو مات المستحق واستحقه وارث بعد وارث ففيمن يستحقه في الآخرة أربعة أوجه الأول آخر الورثة الكل فيثبت الآخر لكل وارث مدة عمره ونقله الرافعي عن العبادي في الرقم ورابعها إن طالبه صاحبه به فجحده وحلف فهو له وإلا انتقل إلى ورثته وادعى القاضي أنه لا خلاف أنه لو حلف عليه يكون للأول
انتهى
والذي رجحه في الروضة هو الأول حيث قال أرجحها وبه أفتى الحناطي أنه صاحب الحق أولا انتهى
وقال القاضي حسين إنه الصحيح وحكى وجها آخر أنه يكون للكل
قال الإسنوي وترجيح الروضة ليس في الرافعي وإنما حكاه عن الحناطي فقط وعبارته عنه يرثه الله تعالى بعد موت الكل ويرده إليه في القيامة ولفظ الروضة لا يعطي هذه الكيفية انتهى أي ولا ينافيها فيحمل عليها
وقال النسائي لو استحق الوفاء وارث بعد وارث فإن كان المستحق ادعاه وحلف قال في الكفاية فالطلب في الآخرة لصاحب الحق بلا خلاف أو لم يحلف فوجوه في الكفاية أصحها ما نسبه الرافعي للحناطي كذلك والثاني للكل والثالث للأخير ولمن فوقه ثواب المنع
قال الرافعي وإذا دفع لآخر
____________________
(2/931)
الورثة خرج عن مظلمة الكل إلا فيما سوف وماطل انتهى
وهو من بقية كلام الحناطي خلافا لما توهمه عبارة الرافعي ولا خلاف أن الوارث لو أبرأ واستوفى سقط الحق ثم إن كان عصى بالمماطلة تاب عنها ولو أعسر من عليه الحق نوى الغرم إذا قدر
قال القاضي ويستغفر الله أيضا فإن مات قبل القدرة فالمرجو من فضل الله تعالى المغفرة قال في الخادم وما قاله تفقها لا خلاف فيه كما جزم به الأنصاري شارح إرشاد الإمام حيث قال لو حال بينه وبين تسليم النفس أو المال مانع كحبس ظالم له وحدوث أمر يصده عن التمكين سقط ذلك عنه وإنما يلزمه العزم على التسليم إن أمكنه قال وهذا مما لا خلاف فيه انتهى وخالف في ذلك النووي فقال ظواهر السنة الصحيحة تقتضي ثبوت المطالبة بالظلامة إذا كان معسرا عاجزا إن عصى بالتزامه انتهى
قال الزركشي وفيه نظر وفي الروضة لو استدان لحاجة مباحة من غير سرف وهو يرجو الوفاء من جهة أو سبب ظاهر واستمر به العجز إلى الموت أو أتلف شيئا خطأ وعجز عن غرامته حتى مات فالظاهر أن هذا لا يطالب في الآخرة والمرجو من فضل الله تعالى أن يعوض صاحب الحق وقد أشار إليه الإمام انتهى
وذكر السبكي ما يوافقه ونقل الزركشي عن الإحياء ما يوافقه أيضا وعبارته من كان غرضه الرفق وطلب الثواب فله أن يستقرض على حسن الظن بالله تعالى لا اعتمادا على السلاطين والظلمة فإن رزقه الله من حلال قضاه وإن مات قبل القضاء قضى الله عنه وأرضى غرماءه ويشترط أن يكون مكشوف الحال عند من يقرضه ولا يغش المقرض ويخدعه بالمواعيد وأن يكشف عنده ليقدم على إقراضه عن بصيرة ودين مثل هذا واجب أن يقضى من بيت المال والزكاة
انتهى
وأفهم قول النووي ولا سرف أن السرف حرام واعتمده الإسنوي وقال تفطن له قال غيره وهو واضح ويدل على تحريمه قوله تعالى كلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين وقوله تعالى ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين والتبذير والسرف واحد انتهى
وقد ينافيه قولهم إن صرف المال في الأطعمة والثياب والمراكب النفيسة غير سرف ويجمع بأن هذا فيما إذا كان يصرف من ماله والأول فيما إذا كان يصرف من اقتراض وليس له جهة ظاهرة يوفي منها
والأصل في توقف التوبة على الخروج من حق الآدمي عند الإمكان قوله صلى الله عليه وسلم من كان لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فليستحله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم
____________________
(2/932)
فإن كان له عمل يؤخذ منه بقدر مظلمته وإلا أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه كذا أورده الزركشي عن مسلم
والذي في صحيحه كما مر أتدرون من المفلس قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار رواه الترمذي
ورواه البخاري بلفظ من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها فإنه ليس هناك دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته فإن لم يكن حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه
ورواه الترمذي بمعناه وقال في أوله رحم الله عبدا كانت لأخيه مظلمة في عرض أو مال فجاءه فاستحله
وكأن ابن عبد السلام أخذ من هذه الأحاديث قوله من مات وعليه دين تعدى بسببه أو بمظلمة أخذ من حسناته بمقدار ما ظلم به فإن فنيت حسناته طرح عليه من سيئات المظلوم ثم ألقي في النار وإن كان لم يتعد بسببه ولا بمظلمة أحد أخذ من حسناته في الآخرة كما يؤخذ من أمواله في الدنيا حتى لا يبقى له شيء فإن فقدت لم يطرح عليه من سيئات المستحق لأنه غير عاص
فإن قيل فما حكم من يفضل عليه شيء من الدين بعد فناء حسناته قلت الأمر فيه إلى الله تعالى إن شاء عوض رب الدين من عنده وإن شاء لم يعوضه وهذا موقوف على صحة الخبر فيه ولا يؤخذ من ثواب إيمانه الواجب كما لا تؤخذ في الدنيا ثياب بدنه وفي ثواب الإيمان المندوب نظر
انتهى
قال في الخادم والتحقيق في هذا ما صار إليه الرافعي والنووي وهو المناسب لأحكام الحليم الكريم أن يكون في هذه الديون على نسبة أحكام الدنيا فإذا حكم الشرع في الدين بسبب مباح إذا عجز أن يؤدي عنه جميع دينه من سهم الغارمين المحصل في بيت المال على يد حاكم الشرع فلم يرجو المدين العاجز عن الأداء إلى حين موته من غير
____________________
(2/933)
عصيان أن الله يقضي عنه بإرضاء غرمائه من خزائن أفضاله كما أمر خلفاءه أن يقضوا عنه من بيوت أموالهم قال ثم ما جزموا به من انقطاع الطلب عنه في الدنيا ليس على وجهه فإنه إذا كان له في بيت المال ما يفي بما عليه وجب أداؤه منه وهذا من دقيق الفروع الذي ينبغي أن يتنبه له الأئمة العادلون والقضاة الذين تحت أيديهم الزكوات وفيها سهم الغارمين وقد نبه على هذا ابن عبد البر في الاستذكار فإنه لما ذكر أحاديث تعظيم الدين وأنه لا يغفر للشهيد قال وهذا منه صلى الله عليه وسلم كان قبل أن يفتح الله عليه الفتوحات وأما بعد فقال صلى الله عليه وسلم من ترك مالا فلورثته ومن ترك دينا أو عيالا فعلي
فكل من مات وقد ادان في مباح وعجز عن أدائه أدى عنه الإمام من سهم الغارمين أو من الزكاة أو الفيء وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم فعلي أنه لا فرق بين من ترك مالا ومن لم يتركه والمعنى فيه أن الميت المسلم كان قد وجبت له حقوق في بيت المال من الفيء وغيره لم يصل إليها فلزم الإمام أن يؤدي منها دينه ويخلص ماله لورثته فإن لم يفعل الغريم ولا السلطان وقع القصاص بينهم في الآخرة ولم يحبس عن الجنة بدين له مثله على غيره من بيت المال أو غريم جحده ومحال أن يحبس عن الجنة من له مال يفي بما عليه عند سلطان أو غيره
انتهى
قال الزركشي وهو حسن فيمن له في بيت المال مثل الذي عليه وليس كل أحد كذلك وقد سبق في الخصائص أن قضاء دين الميت المعسر كان واجبا على النبي صلى الله عليه وسلم وهل على الأئمة بعده قضاؤه من مال المصالح وجهان
وإن كان قودا أو حد قذف اشترط مع الإتيان بجميع ما مر أيضا أن يمكن المستحق من استيفائه بأن يعلمه إن جهل القاتل ويقول له إن شئت فاقتص وإن شئت فاعف فإن امتنع من كل منهما صحت التوبة ولو تعذر وصوله للمستحق نوى التمكين إذا قدر ويستغفر الله
وقال الإمام وتبعه ابن عبد السلام وسكت عليه في الروضة تصح توبته وإن لم يسلم نفسه لكن بالنسبة لحق الله تعالى ومنعه التمكين معصية جديدة تقتضي توبة أخرى واعترضه البلقيني بأنه يلزم الإمام مثل ذلك في الأموال ولا قائل به وفرق في الخادم بأن المال الذي حصلت المعصية بأخذه ممكن رده أو رد بدله والنفس التي فاتت بالقتل لا يمكن ردها ولا رد بدلها في الدنيا فجوزنا التوبة والتغييب عند رجاء العفو صيانة للأنفس عن القتل
ونقل الإمام عن الباقلاني أنه يجوز للقاتل أن يختفي أياما حتى يسكن غضب ولي الدم مع العزم على التسليم وأكثرها ثلاثة أيام وادعاء كثيرين إحالة وجود الندم مع
____________________
(2/934)
الامتناع من التمكين ممنوع ويجب الإخبار والتمكين في حد القذف أيضا قال الغزالي ولو أتى بكناية قذف مريدا له لزمه إخباره به لوجوب الحد عليه باطنا ويحتمل ألا يجب فيه لأن فيه إيذاء فيبعد إيجابه وستره أولى ويؤيد قول العبادي والبغوي وغيرهما يخبره عن القذف الصريح خفية كما في حق القصاص والثاني ما في التوسط للأذرعي وهو قوله مر ببالي تفصيل في وجوب إعلام المقذوف وهو أن القاذف إن أمن على نفسه وغيرها لو أخبره لزمه إخباره لا محالة وإن لم يأمن كأن ظن أنه يتجاوز إلى نحو تعذيبه لم يلزمه إعلامه بل يلجأ إلى الله تعالى في إرضائه عنه إن كذب في قذفه
نعم يلزمه بعد موته إعلام وارثه إن أمن منه مع التضرع إلى الله تعالى في إرضائه المقذوف الميت عنه في الآخرة ويستغفر له كما يأتي في الغيبة قال الأذرعي ويشبه أن يأتي مثل هذا التفصيل في قود النفس أو الطرف فلا يجب إعلام إلا حيث لم يغلب على الظن ظلمه بنحو أخذ مال أو تعذيب زائد على مثل جنايته
ولو بلغت الغيبة المغتاب أو قلنا إنها كالقود والقذف لا يتوقف على بلوغ
فالطريق أن يأتي المغتاب ويستحل منه فإن تعذر لموته أو تعذر لغيبته الشاسعة استغفر الله تعالى والاعتبار بتحليل الورثة ذكره الحناطي وغيره وأقرهم في الروضة قال فيها وإفتاء الحناطي بأن الغيبة إذا لم تبلغ المغتاب كفاه الندم والاستغفار وجزم به ابن الصباغ حيث قال إنما يحتاج لاستحلال المغتاب إذا علم لما داخله من الضرر والغم بخلاف ما إذا لم يعلم فلا فائدة في إعلامه لتأذيه فليتب فإذا تاب أغناه عن ذلك
نعم إن كان انتقصه عند قوم رجع إليهم وأعلمهم أن ذلك لم يكن حقيقة انتهى
وتبعهما كثيرون منهم النووي واختاره ابن الصلاح في فتاويه وغيره قال الزركشي وهو المختار وحكاه ابن عبد البر عن ابن المبارك وأنه ناظر سفيان فيه وقال له لما أنكر عليه لا تؤذه مرتين
وحديث كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته تقول اللهم اغفر لنا وله فيه ضعيف كما قاله البيهقي وقال ابن الصلاح هو وإن لم يعرف له إسناد معناه ثابت بالكتاب والسنة قال تعالى إن الحسنات يذهبن السيئات
وقال صلى الله عليه وسلم وأتبع السيئة الحسنة تمحها
وحديث حذيفة لما اشتكى إليه ذرب اللسان على أهله أين أنت من الاستغفار
____________________
(2/935)
انتهى
واعترض بأنه صح ما يعارضه وهو قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة في تلك المرأة قد اغتبتيها قومي فتحلليها وقوله من كانت له عند أخيه مظلمة فليستحله اليوم وبأنه لو أجزأ الاستغفار هنا لأجزأ في أخذ المال
وقد يجاب بمنع المعارضة بأن يحمل هذا على أنه أمر بالأفضل أو بما يمحو أثر الذنب بالكلية على الفور بخلاف الأول فإنه ليس كذلك وبوضوح الفرق بين الغيبة وأخذ المال
ومن ثم وجهوا القول بأنها صغيرة مع عظيم ما ورد فيها من الوعيد بأن عموم ابتلاء الناس بها اقتضى المسامحة بكونها صغيرة لئلا يلزم تفسيق الناس كلهم إلا الفذ النادر منهم وهذا حرج عظيم فلأجله خفف فيها بذلك فلم تكن كالأموال حتى تقاس بها فيما ذكره المعترض وإنما يجب إعلام ذي الحق المكلف فغيره يبقى حقه وإن سامح
ونقل ابن القشيري عن القاضي أنه لو أظهر الاعتذار بلسانه حتى طاب قلب خصمه كفاه عن هاشم أنه لو أظهر بلسانه دون باطنه لم يكفه ثم قال والحق أنه لو لم يخلص فيه كان ذنبا فيما بينه وبين الله تعالى والأظهر بقاء مطالبة خصمه له في الآخرة لأنه لو علم عدم إخلاصه في اعتذاره لتأذى به وما ذكره صرح به الإمام فقال عليه أن يخلص في الاعتذار إذ هو قول النفس عند أصحابنا والعبارة ترجمة عنها فإن لم يخلص فهو ذنب فيما بينه وبين الله تعالى ويحتمل أن يبقى لخصمه عليه مطالبة في الآخرة لأنه لو علم أنه غير مخلص لما رضي به انتهى
وهذا كله في غيبة اللسان فغيبة القلب لا يجب الإخبار بها على قياس ما صححه النووي في الحسد ونظر فيه الأذرعي
ونقل القاضي عن بعض القدرية أنه إنما يجب الاعتذار إلى المقذوف مثلا إن ظن أنه علم ليزيل غمه وإلا فلا
لأن القصد بالاعتذار إزالة الغم وهذا يجدده قال القاضي وهذا باطل لأن علة وجوب الاعتذار من الذنب كونه إساءة لا كونه موجبا لغمه إذ لو سرق درهما من مال سلطان وأعلم أنه لا يغمه لزمه الاعتذار إليه لكونه إساءة كما يلزمه لو أخذه من فقير يعظم أسفه بفقده نعم لا يبعد أن يجب هنا من الاعتذار أشد مما وجب منه ثم وكذا لو سرق مالا ثم رده لمحله ولم يشعر مالكه فيلزمه الاعتذار إليه لكونه إساءة إليه وظلما له ولو كان كما ادعاه هذا القائل لسقط وجوب الاعتذار إليه من الإساءة العظيمة في الأهل والمال إذا علم أن المساء إليه يغتم بذلك
انتهى ملخصا
وما ذكره في السرقة خالفه فيه غيره فقال من سرق مالا ورده لا يلزمه أن يخبر بأنه أخذه سرقة بل الأولى أن يستر
____________________
(2/936)
نفسه ومر عن الحناطي وغيره أنه لا اعتبار بتحليل الورثة ووافقهم القاضي حسين في تعليقه وألحق به كل ما ليس فيه حد فإن كان فيه حد كالقذف اعتبر تحليله وفي الروضة حكاية وجهين في أنه هل يكفي الاستحلال من الغيبة المجهولة والذي رجحه في الأذكار أنه لا بد من معرفتها لأن الإنسان قد يسمح عن غيبة دون غيبة وكلام الحليمي وغيره يقتضي الجزم بالصحة لأن من سمح بالعفو من غير كشف فقد وطن نفسه عليه مهما كانت الغيبة يوافقه قول النووي في الروضة أيضا
وأما الحديث أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته قال إني تصدقت بعرضي على الناس فمعناه لا أطلب مظلمتي لا في الدنيا ولا في الآخرة وهذا ينفع في إسقاط مظلمة كانت موجودة قبل الإبراء فأما ما يحدث بعده فلا بد من إبراء جديد بعدها
انتهى
ففي عبارتها هذه تصريح بالسقوط مع الجهل بالمبرأ منه الواقع من قبل فيوافق قضية كلام الحليمي
وقال في الإحياء يستحل ممن تعرض له بلسانه أو أذى قلبه بفعل من أفعاله فإن غاب أو مات فقد فات أمره ولا يدرك إلا بكثرة الحسنات لتؤخذ عوضا في القيامة
ويجب أن يفصل له إلا أن يكون التفصيل مضرا له كذكره عيوبا يخفيها فإنه يستحل منه مبهما ثم تبقى له مظلمة فليجبرها بالحسنات كما يجبرها مظلمة الميت أو الغائب
انتهى
وأوجب العبادي في الحسد الإخبار كالغيبة واستبعده الرافعي وصوب النووي أنه لا يجب بل ولا يستحب قال ولو قيل يكره لم يبعد قال الأذرعي وهو كما قال ونص الشافعي رضي الله عنه يفهمه ويشبه حرمته إذا غلب على ظنه أنه لا يحلله وأنه يتولد منه عداوة وحقد وأذى للمخبر وكذا لو شك فإن النفس الزكية نادرة وإن غلب على ظنه أنه لو أخبره حلله من غير ضرر يتولد منه لزمه إخباره ليخرج من ظلامته بيقين انتهى ملخصا
قال الزركشي بعد إيراده كلام شيخه الأذرعي بصيغة قيل
فإن قيل تضافرت الأحاديث على ذم الحسد وهو من أعمال القلوب فتجب التوبة منه ولا طريق للتوبة إلا ذلك فيقوى ما قاله العبادي
قلت لكن ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به يقتضي أنه مرفوع واختاره المحب الطبري فقال الذي نعتقده من
____________________
(2/937)
سعة رحمة الله عدم المؤاخذة بحديث النفس بكل حال سواء الهم وغيره ما لم يقل أو يفعل عملا بالأحاديث الصحيحة في ذلك وتحمل أحاديث المؤاخذة على ما إذا اقترن به عمل جارحة ولا يخرج من ذلك إلا الكفر فإنه من أعمال القلوب إجماعا
وأما أحاديث الحسد فصحيحة وكل عمل سيء فهو مذموم باطنا كان أو ظاهرا
وأما المؤاخذة عليه فلا نعلم حديثا صحيحا تضمنه ولو صح فيه حديث تضمنه حملناه على حد اقترن بقول أو فعل جمعا بين الأحاديث وما مر عن العبادي بعيد كما قال الرافعي وهو كمن هم بسيئة ولم يعملها لا سيما إذا غلبته نفسه بجبلتها وهو كاره لما تهواه غير راض عنها في ذلك كاف لها عن العمل بموجبه قولا وفعلا مع القدرة عليه بل أرجو أن جزاء ذلك أن يكتب له به حسنة لأنه ترك السيئة من أجل الله فجاهد نفسه فخليق به أن يوصف بالإحسان ثم ذكر ثلاثة أحاديث تتعلق بما ذكره ثم قال إن المعصية التي من عمل القلب ولا تعلق لها بأمر خارجي غير مؤاخذ بها وأما الحسد الذي يمكن دفعه عن نفسه ولم يدفعه فيحتمل أنه كذلك ويحتمل الفرق وهو المختار فإنه تمنى زوال نعمة الغير عنه وقد يمكنه التسبب في إزالتها فتتوقف المؤاخذة على المسبب الممكن بخلاف سوء الظن فإنه لا تعلق له بفعل خارجي يتصور وجوده معه لأن متعلق الصفات المظنونة بالمظنون به لا غير ولا صنع له فيها قال والقول بالتسوية بين جميع المعاصي ما سوى الشرك وما ألحقناه به قول حسن جيد إلحاقا للمعاصي بعضها ببعض انتهى
وعجيب من الزركشي نقل هذه المقالة واعتمادها مع ضعفها ومخالفتها لما عليه المحققون من التفصيل بين الهاجس والواجس وحديث النفس والهم والعزم وقد بينت ذلك كله وكلام الناس فيه أواخر شرح الأربعين حديثا النووية فاطلبه منه فإنه مهم
وحاصل شيء من ذلك مع الزيادة عليه أنه ورد في المؤاخذة بأفعال القلوب وعدمها أخبار وقد حرر الغزالي ذلك بأن ما يرد على القلب إما خاطر وهو حديث النفس ثم بعده الميل ولا يؤاخذ بهما ثم الاعتقاد ويؤاخذ به إن كان اختياريا لا اضطراريا ثم العزم ويؤاخذ به قطعا
انتهى
وقيل هذه الأربعة الهاجس وهو ما يلقى في النفس من المعصية ولا يؤاخذ به إجماعا لأنه ليس من فعل العبد وإنما هو وارد لا يستطاع دفعه وفسر غيره الخاطر بجريانه في النفس وحديث النفس بالتردد هل يفعل أو لا وقطعه بالمؤاخذة بالعزم هو المحكي عن المحققين لحديث إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال إنه كان حريصا على قتل صاحبه
وقيل
____________________
(2/938)
لا يؤاخذ بالعزم أيضا
وفي جمع الجوامع أن حديث النفس ما لم يتكلم أو يعمل والهم مغفوران ومراده أن عدم المؤاخذة بهما ليس مطلقا بل بشرط عدم التكلم والعمل حتى إذا عمل يؤاخذ بشيئين همه وعمله ولا يغفر كل منهما إلا إذا لم يعقبه عمل هو ظاهر الحديث فقوله والهم أي ما لم يتكلم أو يعمل أيضا ولم يحتج إلى تقييد لأنه إذا قيد بذلك حديث النفس الآتي فالهم الأقوى أولى وهل يؤاخذ بهما إذا عمل عملا غير المعصية التي هم أو حدث نفسه بها كمن هم بالزنا بامرأة فمشى إليها ثم رجع من الطريق فهذا موضع نظر قال السبكي تظهر المؤاخذة من إطلاق النبي صلى الله عليه وسلم العمل بكونه لم يقل ولم يعمله قال فيؤخذ منه تحريم المشي إلى معصية وإن كان المشي في نفسه مباحا ولكن لانضمام قصد الحرام فكل واحد من المشي والقصد لا يحرم عند انفراده
أما إذا اجتمعا فيحرم فإن مع الهم عملا لما هو من أسباب المهموم به فاقتضى إطلاق أو يعمل المؤاخذة به قال فاشدد بهذه الفائدة يديك واتخذها أصلا يعود نفعها عليك
قال الزركشي وما قاله من المؤاخذة بالمقدمة إن انضمت إلى حديث النفس لإطلاق أو بعمل حسن إذا لم يعتبر في حديث آخر
لكن جاء في رواية الصحيحين أو يعمل به ويحتمل أن يقال إن رجع عن فعل السيئة بعد فعل مقدمتها لله تعالى لم يؤاخذ بالفعل لقوله في الحديث فإن تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من جرائي أي من أجلي رواه مسلم
وفي لفظ لابن حبان وإن تركها من أجلي فاكتبوها حسنة
وذكر السبكي في موضع آخر أنه لا مفهوم لقوله أو يعمل حتى يقال إذا تكلمت أو عملت يكتب عليها حديث النفس لأنه إذا لم يكن الهم لا يكتب فحديث النفس أولى قال الزركشي وهذا خلاف ظاهر الحديث وخلاف ما قاله ابنه تاج الدين هنا وقد نازعه ابنه وقال يلزمه أن لا يؤاخذ عند انضمام عمل من مقدمات المهموم به بطريق أولى
قال وقوله وإذا كان الهم لا يكتب فحديث النفس أولى ممنوع ولا نسلم أن الهم لا يكتب مطلقا بل يكتب عند انضمام العمل إليه انتهى
وفي تعليق القاضي حسين كما يحرم فعل الحرام يحرم الفكر فيه لقوله تعالى ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض فمنع من التمني فيما لا يحل كما منع من النظر إلى ما لا يحل بقوله قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ولو نوى أنه يكفر غدا كفر حالا على الأصل بل الصواب لأنه أخطر
قال العز بن عبد السلام وقد يكون الشيء في الظاهر معصية لكن يقترن به نية صالحة
____________________
(2/939)
تخرجه عن ذلك وقد يصير قربة كما مر في الشهادة على المكوس
قال الزركشي بعد نقله ما مر عن المحب الطبري وأما النميمة فينبغي أن تكون على هذا التفصيل ويحتمل أن يفصل بين ما هو شديد الأذى وما هو خفيفه فالخفيفة يسامح به صاحبه غالبا انتهى
وفيه نظر بل لا وجه لهذا التفصيل لأن الغيبة دون النميمة إجماعا ومع ذلك فلم يفصلوا فيها كذلك فالنميمة أولى قال ثم رأيت بعد هذا في منهاج العابدين للغزالي أن الذنوب التي بين العباد أما في المال فيجب رده عند المكنة فإن عجز لفقر استحله فإن عجز عن استحلاله لغيبته أو موته وأمكن التصدق عنه فعله وإلا فليكثر من الحسنات ويرجع إلى الله تعالى ويتضرع إليه في أن يرضيه عنه يوم القيامة وأما في النفس فيمكنه أو وليه من القود فإن عجز رجع إلى الله تعالى في إرضائه عنه يوم القيامة وأما في العرض فإن اغتابه أو شتمه أو بهته فحقه أن يكذب نفسه بين يدي من فعل ذلك معه إن أمكنه بأن لم يخش زيادة غيظ أو هيج فتنة في إظهار ذلك وإن خشي ذلك فالرجوع إلى الله ليرضيه عنه وأما في حرمه فإن فتنه في أهله أو ولده أو نحوه فلا وجه للاستحلال والإظهار لأنه يولد فتنة وغيظا بل يتضرع إلى الله سبحانه وتعالى ليرضيه عنه ويجعل له خيرا في مقابلته فإن أمن الفتنة والهيج وهو نادر فليستحل منه وأما في الدين فإن كفره أو بدعه أو ضلله فهو أصعب الأمور فيحتاج إلى تكذيب نفسه بين يدي من قاله في ذلك وأن يستحل من صاحبه إن أمكنه وإلا فالابتهال إلى الله تعالى جدا والندم على ذلك ليرضيه عنه انتهى كلام الغزالي
قال الأذرعي وهو في غاية الحسن والتحقيق انتهى
وقضية ما ذكره في الحرم الشامل للزوجة والمحارم كما صرحوا به أن الزنا واللواط فيهما حق للآدمي فتتوقف التوبة منهما على استحلال أقارب المزني بها أو الملوط به وعلى استحلال زوج المزني بها هذا إن لم يخف فتنة وإلا فليتضرع إلى الله في إرضائهم عنه ويوجه ذلك بأنه لا شك أن في الزنا واللواط إلحاق عار أي عار بالأقارب وتلطيخ فراش الزوج فوجب استحلالهم حيث لا عذر
فإن قلت ينافي ذلك جعل بعضهم من الذنوب التي لا يتعلق بها حق آدمي وطء الأجنبية فيما دون الفرج وتقبيلها من الصغائر والزنا وشرب الخمر من الكبائر وهذا صريح في أن الزنا ليس فيه حق آدمي فلا يحتاج فيه إلى استحلال
قلت هذا لا يقاوم به كلام الغزالي لا سيما وقد قال الأذرعي عنه إنه في غاية الحسن والتحقيق فالعبرة بما دل عليه دون غيره على أنه يمكن الجمع بحمل الأول على الزنا بمن لا زوج لها ولا قريب فهذه يسقط فيها الاستحلال لتعذره والثاني على من لها ذلك
____________________
(2/940)
وأمكن الاستحلال بلا فتنة فيجب ولا تصح التوبة بدونه وقد يجمع أيضا بأن الزنا من حيث هو فيه حق الله إذ لا يباح بالإباحة وحق للآدمي فمن نظر إلى حق الله تعالى لم يوجب الاستحلال ولم ينظر إليه وهو محمل عبارة غير الغزالي ومن نظر إلى حق الآدمي أوجب الاستحلال
ويؤيده قول ابن عبد السلام فمن أخذ مالا في قطع الطريق هل عليه الإعلام به إن غلبنا عليه حق الله تعالى لم يجب الإعلام به وإن غلبنا في الحد حق الآدمي وجب إعلامه ليستوفيه أو يتركه ليستوفيه الإمام به ثم رأيت ابن الرفعة مثلا نقلا عن الأصحاب للمعصية التي لا حق فيها للعباد بتقبيل الأجنبية وقد يفهم أن وطأها فيه حق للعباد وحينئذ فيوافق كلام الغزالي وإن كان نحو ضرب لا قود فيه تحلل من المضروب لطيب نفسه فإن أحله وإلا أمكنه من نفسه ليفعل به مثل ما فعله لأنه الذي في وسعه فإن امتنع من تحليله والاستيفاء منه صحت توبته ذكره الماوردي
وذكر القاضي نحوه وقال لو مات صاحب الحق لم يستحل من وارثه بل يستغفر الله للميت وتعقبه البلقيني بانتقال الحق للوارث فلا بد من إعلامه
انتهى
وفيه نظر لأن الفرض أنه لا قود فيه ومثل هذا لا ينتقل للوارث اللهم إلا أن يكون جرحا فيه حكومة فهو باعتبار تضمنه للمال ينتقل للوارث ولا بد حينئذ من استحلاله وليس هذا مراد القاضي قطعا وإنما مراده ضرب بنحو يد لا قود فيه ولا مال وهذا لا ينتقل للوارث ولو بقي المستحق لكن تعذر استحلاله لنحو غيبته البعيدة كفاه الإقلاع والندم مع عزمه أن يمكنه من نفسه عند القدرة
قال الحليمي ومن أضر بمسلم وهو لا يشعر أزاله عنه ثم سأله العفو عنه وأن يستغفر له لأن أولاد يعقوب صلى الله على نبينا وعليه لما جاءوه تائبين سألوه الاستغفار لهم فدل على أن الاحتياط الجمع بين عفو المظلوم واستغفاره
وحكى في الخادم وغيره في التحلل من الظلامات والتبعات ثلاثة مذاهب أحدها قال وهو مذهب الشافعي أن ترك التحلل منها أولى لأن صاحبها يستوفيها يوم القيامة بحسنات من هي عنده وتوضع سيئاته على من هي عنده كما شهد به الحديث وهل يكون أجره على التحلل موازنا ما له من الحسنات في الظلامات أو يزيد عليها أو ينقص عنها وهو محتاج إلى زيادة حسناته ونقصان سيئاته والثاني أن التحلل منها أفضل لأنه إحسان عظيم ينبغي عليه المكافأة من الله وهو سبحانه أكرم من أن يكافئ بأقل مما وهب له منه مع قوله إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم الآية
قال وهو الأظهر
____________________
(2/941)
والثالث وهو قول مالك التفرقة بين الظلامات والتبعات فيحلل من التبعات لأن الظلامات عقوبة لفاعلها أخذا بقوله تعالى إنما السبيل على الذين يظلمون الناس الآية
وأما في الدنيا فالعفو عن الظالم أولى من الاقتصاص منه انتهى
وما نقله عن الشافعي ومالك فيه نظر والذي دل عليه حديث أبي ضمضم السابق أن العفو أفضل مطلقا وعليه يدل قول الروضة السابق معناه لا أطلب مظلمتي لا في الدنيا ولا في الآخرة وقد حث صلى الله عليه وسلم على الإغراء على مثل فعل أبي ضمضم بقوله أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته يقول إني تصدقت بعرضي على الناس
الكبيرة الرابعة والخامسة والستون بعد الأربعمائة بغض الأنصار وشتم واحد من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أخرج البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال من علامة الإيمان حب الأنصار ومن علامة النفاق بغض الأنصار
والشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال في الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق من أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله
ومسلم لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر
قال بعض الحنابلة والمراد بهم من نصر الله ورسوله ودينه وهم باقون إلى يوم القيامة فمعاداتهم من أكبر الكبائر انتهى ودعواهم أن المراد ذلك إن كانت لدليل خارجي فواضحة وإلا قال إنما هي للعهد الذهني ولا معهود بهذا الوصف غير الأنصار الذين هم الأوس والخزرج
والشيخان لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه
والترمذي وقال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه الله الله في أصحابي لا
____________________
(2/942)
تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله أوشك أن يأخذه
والأحاديث في ذلك كثيرة وقد استوفيتها وما يتعلق بها في كتاب حافل لم يصنف في هذا الباب فيما أظن مثله ومن ثم سميتهالصواعق المحرقة لإخوان الشياطين أهل الابتداع والضلال والزندقة فاطلبه إن شئت لترى ما فيه من محاسن الصحابة وثناء أهل البيت عليهم لا سيما الشيخان ومن افتضاح الشيعة والرافضة في كذبهم وتقولهم وافترائهم عليهم بما هم بريئون منه رضوان الله عليهم أجمعين
تنبيه عد ما ذكر كبيرتين هو ما صرح به غير واحد وهو ظاهر وقد صرح الشيخان وغيرهما أن سب الصحابة كبيرة قال الجلال البلقيني وهو داخل تحت مفارقة الجماعة وهو الابتداع المدلول عليه بترك السنة فمن سب الصحابة رضي الله عنهم أتى كبيرة بلا نزاع انتهى
ويؤيد ذلك أيضا صريح هذه الأحاديث وغيرها كحديث إن الله اختارني واختار لي أصحابا فجعل لي منهم وزراء وأنصارا وأصهارا فمن شتمهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا
وحديث إن الله اختارني واختار لي أصحابا فجعل لي إخوانا وأصحابا وأصهارا وسيجيء قوم بعدهم يعيبونهم ويبغضونهم فلا تؤاكلوهم ولا تشاربوهم ولا تناكحوهم ولا تصلوا معهم ولا تصلوا خلفهم
وكحديث إذا ذكر أصحابي فأمسكوا
ونقل بعضهم عن أكثر العلماء أن من سب أبا بكر وعمر كان كافرا وأنهم استندوا في ذلك لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال من سبك يا أبا بكر فقد كفر
وفي الحديث من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما فمن قال ذلك
____________________
(2/943)
لأبي بكر وذريته فهو كافر هنا قطعا وأيضا فقد نص الله تعالى على أنه رضي الله عن الصحابة في غير آية قال تعالى والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه فمن سبهم أو واحدا منهم فقد بارز الله بالمحاربة ومن بارز الله بالمحاربة أهلكه وخذله ومن ثم قال العلماء إذا ذكر الصحابة بسوء كإضافة عيب إليهم وجب الإمساك عن الخوض في ذلك بل ويجب إنكاره باليد ثم اللسان ثم القلب على حسب الاستطاعة كسائر المنكرات بل هذا من أشرها وأقبحها ومن ثم أكد النبي صلى الله عليه وسلم التحذير من ذلك بقوله الله الله أي احذروا الله أي عقابه وعذابه على حد قوله ويحذركم الله نفسه وكما تقول لمن تراه مشرفا على الوقوع في نار عظيمة النار النار أي احذرها
وتأمل أعظم فضائلهم ومناقبهم التي نوه بها صلى الله عليه وسلم حيث جعل محبتهم محبة له وبغضهم بغضا له وناهيك بذلك جلالة لهم وشرفا فحبهم عنوان محبته وبغضهم عنوان بغضه ومن ثم كان حب الأنصار من الإيمان وبغضهم من النفاق لسابقتهم وبذلهم الأنفس والأموال في محبته صلى الله عليه وسلم ونصرته وإنما يعرف فضائل الصحابة من تدبر سيرهم معه صلى الله عليه وسلم وآثارهم الحميدة في الإسلام في حياته وبعد مماته فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأكمله وأفضله فقد جاهدوا في الله حق جهاده حتى نشروا الدين وأظهروا شرائع الإسلام ولولا ذلك منهم ما وصل إلينا قرآن ولا سنة ولا أصل ولا فرع فمن طعن فيهم فقد كاد أن يمرق من الملة لأن الطعن فيهم يؤدي إلى انطماس نورها ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون وإلى عدم الطمأنينة والإذعان لثناء الله ورسوله عليهم وإلى الطعن في الله وفي رسوله إذ هم الوسائط بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم
والطعن في الوسائط طعن في الأصل والإزراء بالناقل إزراء بالمنقول عنه وهذا ظاهر لمن تدبره وقد سلمت عقيدته من النفاق والغلول والزندقة
فالواجب على من أحب الله ورسوله حب من قام بما أمر الله ورسوله به وأوضحه وبلغه لمن بعده وأداء جميع حقوقه والصحابة هم القائمون بأعباء ذلك كله
وقد قال أبو أيوب السختياني من أكابر السلف من أحب أبا بكر فقد أقام منار الدين ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل ومن أحب عثمان فقد استنار بنور الله ومن أحب عليا فقد استمسك بالعروة الوثقى ومن قال الخير في جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد برئ من النفاق ومناقبهم وفضائلهم أكثر من أن تذكر
وأجمع أهل السنة والجماعة على أن أفضلهم العشرة المشهود لهم بالجنة على لسان
____________________
(2/944)
نبيه صلى الله عليه وسلم في سياق واحد وأفضل هؤلاء أبو بكر فعمر قال أكثر أهل السنة فعثمان فعلي ولا يطعن في واحد منهم إلا مبتدع منافق خبيث
وقد أرشد صلى الله عليه وسلم إلى التمسك بهدي هؤلاء الأربعة بقوله عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ
والخلفاء الراشدون هم هؤلاء الأربعة بإجماع من يعتد به
ولقد شوهد على سابهم قبائح تدل على خبث بواطنهم وشدة عقابهم منها ما حكاه الكمال بن القديم في تاريخ حلب قال لما مات ابن منير خرج جماعة من شبان حلب يتفرجون فقال بعضهم لبعض قد سمعنا أنه لا يموت أحد ممن كان يسب أبا بكر وعمر إلا ويمسخه الله في قبره خنزيرا ولا شك أن ابن منير كان يسبهما فأجمعوا أمرهم إلى المضي إلى قبره فمضوا ونبشوه فوجدوا صورته صورة خنزير ووجهه منحرف عن جهة القبلة إلى جهة أخرى فأخرجوه على شفير قبره ليشاهده الناس ثم بدا لهم فأحرقوه بالنار وأعادوه في قبره وردوا عليه التراب وانصرفوا
قال الكمال أيضا وأخبرني أبو العباس بن عبد الواحد عن الشيخ الصالح عمر الرعيني قال كنت مجاورا بالمدينة الشريفة على مشرفها أفضل الصلاة والسلام فخرجت يوم عاشوراء الذي يجتمع فيه الإمامية في قبة العباس وقد اجتمعوا في القبة قال فوقفت أنا على باب القبة وقلت أريد في محبة أبي بكر الصديق شيئا قال فخرج إلي شيخ منهم وقال اجلس حتى نفرغ ونعطيك فجلست حتى فرغوا ثم خرج إلي ذلك الرجل وأخذ بيدي ومضى بي إلى داره وأدخلني الدار وأغلق الباب ورائي وسلط علي عبدين فكتفاني وأوجعاني ضربا ثم أمرهما بقطع لساني فقطعاه ثم أمرهما فحلا كتافي وقال اخرج إلى الذي طلبت في محبته ليرد عليك لسانك
قال فخرجت من عنده إلى الحجرة الشريفة النبوية وأنا أبكي من شدة الوجع والألم وقلت في نفسي يا رسول الله قد تعلم ما أصابني في محبة أبي بكر فإن كان صاحبك حقا فأحب أن يرجع إلي لساني وبت في الحجرة قلقا من شدة الألم فأخذتني سنة من النوم فرأيت في منامي أن لساني قد عاد إلى حاله كما كان فاستيقظت فوجدته في فمي صحيحا كما كان وأنا أتكلم فقلت الحمد لله الذي رد علي لساني قال فازددت محبة في أبي بكر رضي الله عنه فلما كان العام الثاني في يوم عاشوراء اجتمعوا على عادتهم فخرجت إلى باب القبة
____________________
(2/945)
وقلت أريد في محبة أبي بكر الصديق دينارا فقام إلي شاب من الحاضرين وقال لي اجلس حتى نفرغ فجلست فلما فرغوا خرج إلي ذلك الشاب وأخذ بيدي ومضى بي إلى تلك الدار فأدخلني ووضع بين يدي طعاما فأكلنا فلما فرغنا قام الشاب وفتح بابا على بيت في داره وجعل يبكي فقمت لأنظر ما سبب بكائه فرأيت في البيت قردا مربوطا فسألته عن قصته فازداد بكاؤه فسكنته حتى سكن فقلت بالله أخبرني عن حالك فقال إن حلفت لي أن لا تخبر أحدا من أهل المدينة أخبرتك فحلفت له
فقال اعلم أنه أتانا عام أول رجل وطلب في محبة أبي بكر رضي الله عنه شيئا في قبة العباس يوم عاشوراء فقام إليه أبي وكان من كبار الإمامية والشيعة وقال له اجلس حتى نفرغ فلما فرغوا أتى به هذه الدار وسلط عليه عبدين فضرباه وأمر بقطع لسانه فقطع وأخرجه فمضى لسبيله ولم نعرف له خبرا فلما كان من الليل ونمنا صرخ أبي صرخة عظيمة استيقظنا من شدة صرخته فوجدناه قد مسخه الله قردا ففزعنا منه وأدخلناه هذا البيت وربطناه وأظهرنا للناس موته وها أنا أبكي عليه بكرة وعشيا قال فقلت له إذا رأيت الذي قطع أبوك لسانه تعرفه قال لا والله قلت أنا هو والله أنا الذي قطع أبوك لساني وقصصت عليه القصة قال فأكب علي وقبل رأسي ويدي ثم أعطاني ثوبا ودينارا وسألني كيف رد الله علي لساني فأخبرته وانصرفت
هذا وقد قال الشعبي رحمه الله ورضي عنه وهو من أكابر التابعين الرافضة يهود هذه الأمة لأنهم يبغضون الإسلام مثلهم إذ لم يدخلوا فيه رغبة ولا رهبة وإنما دخلوا فيه مقتا لأهله وبغيا عليهم لو كانوا دواب لكانوا حميرا ولو كانوا من الطير لكانوا رخما ومحنتهم محنة اليهود قالت اليهود لا يكون الملك إلا في آل والنسائي ولا جهاد حتى يخرج المسيح ويؤخرون المغرب إلى اشتباك النجوم ولا يرون الطلاق الثلاث وينأون عن القبلة ويستحلون أموال غيرهم ويقولون ليس علينا في الأميين سبيل ويحرفون التوراة ويبغضون جبريل ويقولون هو عدونا من الملائكة وأنه غلط في الوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولا يأكلون لحم الجزور
وكذلك الرافضة يقولون بنظير ذلك كله كقولهم لا يكون الملك إلا في آل علي ولا جهاد حتى يخرج المهدي ويؤخرون المغرب لاشتباك النجوم ولا يرون الطلاق الثلاث وينأون عن القبلة ويستحلون أموال المسلمين ويحرفون القرآن ويبغضون جبريل ويقولون غلط في الوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإنما بعث إلى علي
ثم قال الشعبي ولليهود والنصارى عليهم مزية في خصلتين
إحداهما إذا سئلوا من خير ملتكم قالوا أصحاب موسى وكذلك النصارى قالوا خير ملتنا أصحاب عيسى
وسئلت الرافضة من شر ملتكم قالوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/946)
والثانية أن اليهود والنصارى يستغفرون لمتقدميهم والرافضة أمروا بالاستغفار للصحابة رضوان الله عليهم فسبوهم والسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة لا يثبت لهم قدم ولا تقوم لهم حجة ولا تجتمع لهم كلمة دعوتهم مدحورة وحجتهم داحضة وكلامهم مختلف وجمعهم متفرق كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين
قال بعض الصالحين خرجت أنا وجماعة إلى زيارة قبر علي كرم الله وجهه فنزلنا على نقيب من نقباء الأشراف العلويين وكان له خادم يهودي يتولى أمر خدمته داخلا وخارجا وكان قد عرف بيننا وبينه رجل هاشمي صديق لي فأكرمنا ذلك النقيب وأحسن إلينا فقال صديقي الهاشمي أيها النقيب إن أمورك كلها حسنة قد جمعت الشرف والمروءة والكرم إلا أنا أنكرنا استخدامك لهذا اليهودي مع مخالفته لدينك ودين جدك فقال النقيب إني قد اشتريت غلمانا كثيرة وجواري فما رأيت أحدا منهم وافقني وما وجدت فيهم أمانة ونصحا مثل هذا اليهودي يقوم بأموري كلها ظاهرها وباطنها وفيه الأمانة والكفاية فقال بعض الجماعة الحاضرين أيها النقيب فإذا كان بهذه الصفة فاعرض عليه الإسلام لعل الله أن يهديه بك فأرسل إليه من دعاه فجاء
وقال الله لقد عرفت لماذا دعوتموني فقال له بعض الجماعة أيها اليهودي إن هذا النقيب الذي أنت في خدمته قد عرفت فضله ورئاسته وشرفه وهو يحبك ويثني عليك بالأمانة وحسن الرعاية
فقال اليهودي وأنا أيضا أحبه قلنا فلم لا تتبعه على دينه وتسلم فقال اليهودي أيها الجماعة أنا أعتقد أن عزيرا نبي كريم وكذلك موسى عليهما الصلاة والسلام ولو علمت أن في اليهود من يتهم زوجة نبي ويسب أباها ويسب أصحابه لما تبعت دينهم فإذا أسلمت أنا فمن أتبع قلنا تتبع هذا النقيب الذي أنت في خدمته فقال اليهودي ما أرضى هذا لنفسي قلنا ولم قال لأن هذا النقيب يقول في عائشة زوجة نبيه ما يقول ويسب أباها وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما فلا أرضى لنفسي أن أتبع دين محمد وأقذف أزواجه وأسب أصحابه فرأيت ديني الذي أنا عليه خيرا مما هو عليه
فوجد النقيب ساعة ثم عرف صدق اليهودي فأطرق رأسه إلى الأرض ساعة وقال صدقت مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وقد تبت إلى الله عما كنت أقول وأعتقده فقال اليهودي وأنا أيضا أقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأن كل دين غير دين الإسلام باطل فأسلم وحسن إسلامه وتاب النقيب عما كان عليه وحسنت توبته بتوفيق الله عز وجل وهدايته وفقنا الله لمرضاته وهدانا لاقتفاء آثار نبيه وسنته صلى الله عليه وسلم إنه الجواد الكريم
____________________
(2/947)
الرءوف الرحيم
وإنما أسلم النقيب المذكور لأن سب عائشة رضي الله عنها بالفاحشة كفر إجماعا لأن فيه تكذيبا للقرآن النازل ببراءتها مما نسبه إليها المنافقون وغيرهم وكذلك إنكار صحبة أبيها كفر إجماعا أيضا لأن فيه تكذيبا للقرآن أيضا قال تعالى إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا وقد أفتى غير واحد بقتل ساب عائشة رضي الله عنها
ومن ثم قال عبد الله الهمداني كنت يوما بحضرة الحسن بن يزيد الداعي بطبرستان وكان يلبس الصوف ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويوجه كل سنة إلى بغداد عشرين ألف دينار تفرق على أولاد الصحابة رضوان الله عليهم فحضر عنده رجل فذكر عائشة رضي الله عنها بذكر قبيح من الفاحشة فقال الحسن لغلامه يا غلام قم فاضرب عنق هذا فنهض إليه العلويون وقالوا هذا رجل من شيعتنا فقال معاذ الله هذا رجل طعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون فإذا كانت عائشة رضي الله عنها خبيثة فإن زوجها يكون خبيثا وحاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك هو الطيب الطاهر بل هو أطيب الخلق وأكرمهم على الله وهي الطيبة الطاهرة المبرأة من السب
قم يا غلام فاضرب عنق هذا الكافر فضرب عنقه
وقد تميزت رضي الله عنها بمناقب كثيرة جاء جبريل بصورتها في راحته إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوجها ولم يتزوج بكرا غيرها وما تزوج امرأة هاجر أبواها إلا هي وكانت أحب نسائه إليه وأبوها أعز أصحابه وأكرمهم وأفضلهم عنده ولم ينزل عليه الوحي في غير لحافها ونزلت براءتها من السماء ردا على من طعن فيها ووهبتها سودة يومها وليلتها فكان لها يومان وليلتان دون بقية أمهات المؤمنين وكانت تغضب فيترضاها وقبض صلى الله عليه وسلم بين سحرها ونحرها واتفق ذلك في يومها وكان قد استأذن نساءه أن يمرض في بيتها فلم يمت إلا في اليوم الموافق لنوبتها واستحقاقها وخالط ريقها ريقه في آخر أنفاسه ودفن بمنزلها ولم ترو عنه امرأة أكثر منها ولا بلغت علوم النساء قطرة من علومها فإنها روت عنه صلى الله عليه وسلم ألفي حديث ومائتي حديث ولقد خلقت طيبة وعند طيب ووعدت مغفرة ورزقا كريما
وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه ما أشكل علينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حديث قط فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علما وكانت فصيحة الطبع غزيرة الكرم من غير تكلف قسمت رضي الله عنها سبعين ألفا في المحاويج ودرعها مرقوع ولقد شاع حبه صلى الله عليه وسلم لها حتى كان الناس ينتظرون بهداياهم يومها حتى أضجر ذلك جماعة من ضرائرها فسألن النبي صلى الله عليه وسلم على لسان فاطمة رضي الله عنها بنته
____________________
(2/948)
وعلى لسان غيرها العدل في بنت أبي بكر فلم يجب صلى الله عليه وسلم إلا ب لا تؤذوني في عائشة فوالله ما نزل علي الوحي في لحاف امرأة منكن غيرها
ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام
وكشف عن بصرها فرأت جبريل فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم سلم عليها فقال لها هذا جبريل يقرأ عليك السلام وما أحسن قول بعض الشعراء ولو كان النساء كمن ذكرنا لفضلت النساء على الرجال فما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال
____________________
(2/949)
____________________
(2/950)
@ 951 كتاب الدعاوى الكبيرة السادسة والستون بعد الأربعمائة دعوى الإنسان على غيره بما يعلم أنه ليس له
فيه حديث من ادعى بما ليس له فليتبوأ مقعده من النار
وهذا وعيد شديد وبه يتجه عد هذا كبيرة وإن لم أر من صرح به
____________________
(2/951)
____________________
(2/952)
@ 953 كتاب العتق
أعتقنا الله من النار وجعلنا من أوليائه المصطفين الأخيار
الكبيرة السابعة والستون بعد الأربعمائة استخدام العتيق بغير مسوغ شرعي كأن يعتقه باطنا ويستمر على استخدامه وذكر هذا ظاهر وإن لم أر من صرح به وقد مر في استعباد الحر الشامل لهذا ما فيه من الوعيد الشديد
____________________
(2/953)
____________________
(2/954)
الخاتمة في ذكر أمور أربعة الأمر الأول ما جاء في فضائل التوبة ومتعلقاتها اعلم أن الآيات فيها كثيرة ومشهورة كقوله تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون وقوله والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا
والأحاديث في ذلك كثيرة أخرج مسلم إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها
والترمذي وصححه إن من قبل المغرب لبابا مسيرة عرضه أربعون عاما أو سبعون سنة فتحه الله عز وجل للتوبة يوم خلق السموات والأرض فلا يغلقه حتى تطلع الشمس منه
وصحح أيضا إن الله تعالى جعل بالمغرب بابا عرضه مسيرة سبعين عاما للتوبة لا يغلق ما لم تطلع الشمس من قبله وذلك قوله تعالى يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها الآية قيل وليس في هذه الرواية ولا الأولى تصريح برفعه كما صرح به البيهقي انتهى
ويجاب بأن مثل هذا لا يقال من قبل الرأي فله حكم المرفوع
والطبراني بسند جيد للجنة ثمانية أبواب سبعة مغلقة وباب مفتوح للتوبة حتى تطلع الشمس من نحوه
____________________
(2/955)
وابن ماجه بسند جيد لو أخطأتم حتى تبلغ خطاياكم السماء ثم تبتم لتاب الله عليكم
والحاكم وصححه من سعادة المرء أن يطول عمره ويرزقه الله الإنابة
والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون
والشيخان إن عبدا أصاب ذنبا فقال يا رب إني أذنبت ذنبا فاغفره لي فقال له ربه علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به فغفر له ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنبا آخر وربما قال أذنب ذنبا آخر فقال يا رب إني أذنبت ذنبا آخر فاغفره لي فقال ربه علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به فغفر له ثم مكث ما شاء الله تعالى ثم أصاب ذنبا آخر وربما قال أذنب ذنبا آخر فقال يا رب إني أذنبت ذنبا آخر فاغفره لي فقال ربه علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به فقال ربه غفرت لعبدي فليعمل ما شاء
قال المنذري قوله فليعمل ما شاء معناه والله أعلم أنه ما دام كلما أذنب ذنبا استغفر وتاب منه ولم يعد إليه بدليل قوله ثم أصاب ذنبا آخر فليعمل إذا كان هذا دأبه ما شاء لأنه كلما أذنب كانت توبته واستغفاره كفارة لذنبه فلا يضره لا أن المعنى أنه يذنب فيستغفر منه بلسانه من غير إقلاع ثم يعاوده فإن هذه توبة الكذابين
وجماعة وصححوه إن المؤمن إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل منها وإن زادت زاد حتى يغلق بها قلبه فذلك الران الذي ذكر الله في كتابه كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون
والترمذي وحسنه إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر أي تبلغ روحه حلقومه
____________________
(2/956)
والطبراني بسند حسن لكن فيه انقطاع والبيهقي بسند فيه مجهول عن معاذ قال أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى ميلا ثم قال يا معاذ أوصيك بتقوى الله وصدق الحديث ووفاء العهد وأداء الأمانة وترك الخيانة ورحمة اليتيم وحفظ الجوار وكظم الغيظ ولين الكلام وبذل السلام ولزوم الإمام والتفقه في القرآن وحب الآخرة والجزع من الحساب وقصر الأمل وحسن العمل وأنهاك أن تشتم مسلما أو تصدق كاذبا أو تكذب صادقا أو تعصي إماما عادلا وأن تفسد في الأرض يا معاذ اذكر الله عند كل شجرة وحجر وأحدث لكل ذنب توبة السر بالسر والعلانية بالعلانية
والأصفهاني إذا تاب العبد من ذنوبه أنسى الله حفظته ذنوبه وأنسى ذلك جوارحه ومعالمه من الأرض حتى يلقى الله يوم القيامة وليس عليه شاهد من الله بذنب
والأصفهاني أيضا النادم ينتظر من الله الرحمة والمعجب ينتظر المقت واعلموا عباد الله أن كل عامل سيقدم على عمله ولا يخرج من الدنيا حتى يرى حسن عمله وسوء عمله وإنما الأعمال بخواتيمها والليل والنهار مطيتان فأحسنوا السير عليهما إلى الآخرة واحذروا التسويف فإن الموت يأتي بغتة ولا يغترن أحدكم بحلم الله عز وجل فإن النار أقرب إلى أحدكم من شراك نعله ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
والطبراني بسند صحيح لكن فيه انقطاع التائب من الذنب كمن لا ذنب له
ورواه البيهقي من طريق آخر وزاد والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه
وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه الندم توبة أي أنه معظم أركانها كخبر الحج عرفة
ولا بد في الندم أن يكون من حيث المعصية وقبحها وخوف عقابها بخلافه لنحو هتك أو ضياع مال على المعصية أو نحو ذلك
____________________
(2/957)
والحاكم وصححه لكن فيه ساقط ما علم الله من عبد ندامة على ذنب إلا غفر له قبل أن يستغفره منه
ومسلم وغيره والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا وتستغفروا لذهب الله بكم ولجاء بقوم غيركم يذنبون ويستغفرون الله فيغفر لهم
ومسلم ليس أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه وليس أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش وليس أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل
ومسلم إن امرأة من جهينة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا فقالت يا رسول الله أصبت حدا فأقمه علي فدعا نبي الله صلى الله عليه وسلم وليها فقال أحسن إليها فإذا وضعت فأتني بها ففعل بها نبي الله صلى الله عليه وسلم فشدت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها فقال عمر تصلي عليها يا رسول الله وقد زنت قال صلى الله عليه وسلم لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم وهل وجدت أفضل ممن جادت بنفسها لله عز وجل
والترمذي وحسنه وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث حديثا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين حتى عد سبع مرات ولكن سمعته أكثر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت فقال ما يبكيك أكرهتك قالت لا ولكنه عمل ما عملته قط وما حملني عليه إلا الحاجة فقال تفعلين أنت هذا وما فعلتيه قط اذهبي فهي لك وقال لا والله لا أعصي بعدها أبدا فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه إن الله قد غفر للكفل
وصح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال كانت قريتان إحداهما صالحة والأخرى طالحة فخرج رجل من القرية الطالحة يريد القرية الصالحة فأتاه الموت حيث شاء الله
____________________
(2/958)
فاختصم فيه الملك والشيطان فقال الشيطان والله ما عصاني قط وقال الملك إنه قد خرج يريد التوبة فقضى الله بينهما أن ينظر إلى أيهما أقرب فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة بشبر فغفر له
قال معمر وسمعت من يقول قرب الله إليه القرية الصالحة
والشيخان كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعا وتسعين نفسا فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال له إنه قتل تسعا وتسعين نفسا فهل له من توبة فقال لا فقتله فكمل به مائة ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة فقال نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى إذا بلغ نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله تعالى وقالت ملائكة العذاب إنه لم يعمل خيرا قط فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما هو أدنى كان له فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة
وفي رواية فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر فحمل من أهلها وفي رواية فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقربي وقال قيسوا ما بينهما فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له
وفي رواية قال قتادة قال الحسن ذكر لنا أنه لما أتاه ملك الموت ناء بصدره نحوها
والطبراني بسند جيد أن رجلا أسرف على نفسه فلقي رجلا فقال إن الآخر قتل تسعا وتسعين نفسا كلهم ظلما فهل تجد لي من توبة قال لا فقتله وأتى آخر فقال إن الآخر قتل مائة نفس كلها ظلما فهل تجد لي من توبة فقال إن حدثتك أن الله لا يتوب على من تاب كذبتك هاهنا قوم يتعبدون فأتهم تعبد الله معهم فتوجه إليهم فمات على ذلك فاختصمت ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فبعث الله إليهم ملكا فقال قيسوا ما بين المكانين فأيهم كان أقرب فهو منهم فوجدوه أقرب إلى دير التوابين بأنملة فغفر له وفي رواية له ثم أتى راهبا آخر فقال إني قتلت مائة نفس فهل تجد لي من توبة فقال أسرفت ما أدري ولكن هنا قريتان إحداهما يقال لها نصرة والأخرى يقال لها كفرة فأما أهل نصرة فيعملون عمل أهل الجنة لا يثبت فيها غيرهم وأما أهل كفرة فيعملون عمل أهل النار لا يثبت فيها غيرهم فانطلق إلى نصرة فإن ثبت فيها وعملت عمل
____________________
(2/959)
أهلها فلا شك في توبتك فانطلق يريدها حتى إذا كان بين القريتين أدركه الموت فسألت الملائكة ربها عنه فقال انظروا إلى أي القريتين كان أقرب فاكتبوه من أهلها فوجدوه أقرب إلى نصرة بقيد أنملة فكتب من أهلها
ومسلم واللفظ له والبخاري بنحوه قال الله عز وجل أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني والله لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة ومن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإذا أقبل يمشي أقبلت إليه أهرول
وأحمد بسند صحيح قال الله عز وجل يا ابن آدم قم إلي أمش إليك وامش إلي أهرول إليك
والشيخان لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله بأرض فلاة
ومسلم لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت من يده وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح
والشيخان لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها حتى إذا اشتد عليها الحر والعطش أو ما شاء الله قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته الدوية بفتح المهملة وتشديد الواو والياء الفلاة القفر والمفازة
والطبراني بسند حسن من أحسن فيما بقي غفر له ما مضى ومن أساء فيما بقي أخذ بما مضى وبما بقي
____________________
(2/960)
وأحمد والطبراني بسند صحيح إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته ثم عمل حسنة فانفكت حلقة ثم عمل حسنة أخرى فانفكت أخرى حتى تخرج إلى الأرض وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه والطبراني بسند رواته ثقات أن معاذ بن جبل أراد سفرا فقال يا رسول الله أوصني
قال صلى الله عليه وسلم اعبد الله ولا تشرك به شيئا قال يا رسول الله زدني قال إذا أسأت فأحسن ولتحسن خلقك
والترمذي وصححه اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن
وأحمد بسند حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر ستة أيام ثم اعقل يا أبا ذر ما يقال لك بعد فلما كان اليوم السابع قال أوصيك بتقوى الله في سرائرك وعلانيتك وإذا أسأت فأحسن ولا تسألن أحدا شيئا وإن سقط سوطك ولا تقبض أمانة
ومسلم وغيره جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها دون أن أمسها فأنا هذا فاقض في ما شئت فقام له عمر لقد سترك الله لو سترت نفسك قال ولم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا
فقال الرجل فانطلق فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلا دعاه فتلا عليه هذه الآية وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين فقال رجل من القوم يا رسول الله هذا له خاصة قال بل للناس كافة
والبزار والطبراني بسند جيد قوي واللفظ له أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أرأيت من عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئا وهو في ذلك لم يترك حاجة أي وهو الذي يقطع الطريق على الحاج إذا توجهوا ولا داجة أي وهو الذي يقطع عليهم إذا رجعوا إلا أتاها فهل لذلك من توبة قال فهل أسلمت قال أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله قال تفعل الخيرات وتترك السيئات فيجعلهن الله تعالى خيرات كلهن قال وغدراتي وفجراتي قال نعم قال الله أكبر فما زال يكبر حتى توارى
____________________
(2/961)
تتمة أخرج البزار بسند حسن إن بين أيديكم عقبة كئودا لا ينجو منها إلا كل مخف
والطبراني بسند صحيح إن وراءكم عقبة كئودا لا يجوزها المثقلون
قال أبو الدرداء راويه فأنا أحب أن أتخفف لتلك العقبة والكئود بفتح فضم الهمزة العقبة الصعبة
والطبراني خرج صلى الله عليه وسلم يوما وهو آخذ بيد أبي ذر فقال يا أبا ذر أعلمت أن بين أيدينا عقبة كئودا لا يصعدها إلا المخفون قال رجل يا رسول الله أمن المخفين أنا أم من المثقلين قال أعندك طعام يوم قال نعم وطعام غد قال وطعام بعد غد قال لا قال لو كان عندك طعام ثلاث كنت من المثقلين
والترمذي وحسنه الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله عز وجل
والبخاري الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك
والحاكم وصححه اقتربت الساعة ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصا ولا يزدادون من الله إلا بعدا
وابن حبان وابن ماجه يا أيها الناس توبوا إلى الله قبل أن تموتوا وبادروا بالأعمال الصالحات قبل أن تشغلوا وصلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له وكثرة الصدقة في السر والعلانية ترزقوا وتنصروا وتجبروا
____________________
(2/962)
والحاكم وصححه اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك
والترمذي والبيهقي في الزهد ما من أحد يموت إلا ندم قالوا وما ندامته يا رسول الله قال إن كان محسنا ندم أن لا يكون ازداد وإن كان مسيئا ندم أن لا يكون نزع
وابن حبان في صحيحه والحاكم والبيهقي إذا أحب الله عبدا عسله قالوا وما عسله يا رسول الله قال يوفق له عملا صالحا بين يدي رحلته حتى يرضى عنه جيرانه أو قال من حوله
عسله بفتح العين والسين المهملتين من العسل وهو طيب الثناء وقال بعضهم هذا مثل أي وفقه الله لعمل صالح يتحفه به كما يتحف الرجل أخاه إذا أطعمه العسل
والترمذي وآخرون بسند صحيح أن رجلا قال يا رسول الله أي الناس خير قال من طال عمره وحسن عمله قال فأي الناس شر قال من طال عمره وساء عمله
والطبراني إن لله عبادا يضن بهم عن القتل ويطيل أعمارهم في حسن العمل ويحسن أرزاقهم ويحييهم في عافية ويقبض أرواحهم في عافية على الفرش ويعطيهم منازل الشهداء وأحمد بسند حسن لا تمنوا الموت فإن هول المطلع شديد وإن من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله الإنابة
والشيخان لا يتمنى أحدكم الموت إما محسنا فلعله يزداد في إحسانه أو مسيئا فلعله يستعتب
____________________
(2/963)
والشيخان سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله فذكرهم إلى أن قال ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله
والشيخان كان رجل يسرف على نفسه فلما حضره الموت قال لبنيه إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا فلما مات فعل به ذلك فأمر الله الأرض فقال اجمعي ما فيك ففعلت فإذا هو قائم فقال ما حملك على ما صنعت قال خشيتك يا رب أو قال مخافتك فغفر له
والترمذي وقال حسن غريب يقول الله عز وجل أخرجوا من النار من ذكرني يوما أو خافني في مقام
والشيخان يقول الله تعالى إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها فإن عملها فاكتبوها بمثلها وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة الحديث
وابن حبان في صحيحه قال الله عز وجل وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين إذا خافني في الدنيا أمنته في القيامة وإذا أمنني في الدنيا أخفته في القيامة
ومسلم لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد
والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما أنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم هذه الآية يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فخر فتى مغشيا عليه فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على فؤاده فإذا هو يتحرك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا فتى قل لا إله إلا الله فقالها فبشره بالجنة فقال أصحابه يا رسول الله أمن بيننا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ما سمعتم قوله تعالى ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد
____________________
(2/964)
الأمر الثاني في ذكر الحشر والحساب والشفاعة والصراط ومتعلقاتها ويشتمل على فصول الأمر الثاني في ذكر الحشر والحساب والشفاعة والصراط ومتعلقاتها ويشتمل على فصول الفصل الأول في الحشر وغيره أخرج الشيخان إنكم ملاقو الله حفاة عراة غرلا أي بضم المعجمة وإسكان الراء جمع أغرل وهو الأقلف زاد في رواية مشاة وفي رواية لهما قالت عائشة رضي الله عنها فقلت الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض قال الأمر أشد من أن يهمهم ذلك
وفي أخرى صحيحة عن أم سلمة رضي الله عنها فقلت واسوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض فقال صلى الله عليه وسلم شغل الناس قلت وما يشغلهم قال نشر الصحائف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل
وفي أخرى صحيحة عن سودة بنت زمعة رضي الله عنها فقالت يبصر بعضنا بعضا قال شغل الناس لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه
وفي أخرى صحيحة أيضا فقالت امرأة يا رسول الله فكيف يرى بعضنا بعضا فقال إن الأبصار شاخصة فرفع بصره إلى السماء فقالت يا رسول الله ادع الله أن يستر عورتي قال اللهم استر عورتها
والشيخان يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء أي ليس بياضها بالناصع كقرصة النقي وهو الخبز الأبيض ليس فيها علم لأحد
وفي
____________________
(2/965)
رواية معلم وهو بفتح الميم ما يجعل علامة للطريق أو الحد وقيل المعلم الأثر ومعناه أنها لم توطأ قبل فيكون بها أثر أو علامة لأحد
وفي رواية لهما إن رجلا قال يا رسول الله قال الله تعالى الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أيحشر الكافر على وجهه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أليس الذي أمشاه على رجلين في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة قال قتادة حين بلغه بلى وعزة ربنا
والترمذي وحسنه إنكم تحشرون رجالا وركبانا وتجرون على وجوهكم
والشيخان يحشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق أي حالات راغبين وراهبين واثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير وتحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا وتبيت معهم حيث باتوا وتصبح معهم حيث أصبحوا وتمسي حيث أمسوا
والشيخان يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعا وإنه يلجمهم حتى يبلغ آذانهم ورويا أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم يقوم الناس لرب العالمين قال يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه
ومسلم تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل قال سليم بن عامر والله ما أدري ما يعني بالميل أمسافة الأرض أو الميل الذي تكحل به العين قال فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يلجمه العرق إلجاما وأشار صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه
وفي رواية صححها الحاكم وغيره ومنهم من يبلغ نصف الساق ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه ومنهم من يبلغ العجز ومنهم من يبلغ الخاصرة ومنهم من يبلغ منكبيه ومنهم من يبلغ عنقه ومنهم يبلغ وسط فيه وأشار بيده ألجمها فاه ومنهم من يغطيه عرقه
____________________
(2/966)
وأحمد والطبراني بسند جيد عن عبد العزيز العطار عن أنس رضي الله عنه لا أعلم إلا رفعه قال لم يلق ابن آدم شيئا منذ خلقه الله عز وجل أشد عليه من الموت ثم إن الموت أهون مما بعده وإنهم ليلقون من هول ذلك اليوم شدة حتى يلجمهم العرق حتى إن السفن لو أجريت فيه لجرت
والطبراني بسند جيد إن الرجل ليلجمه العرق يوم القيامة فيقول يا رب أرحني ولو إلى النار
وأبو يعلى بسند صحيح يوم يقوم الناس لرب العالمين مقدار نصف يوم من خمسين ألف سنة فيهون ذلك على المؤمن كتدلي الشمس للغروب إلى أن تغرب
وفي رواية صححها ابن حبان والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة
والطبراني وابن حبان في صحيحه تجتمعون يوم القيامة فيقال أين فقراء هذه الأمة ومساكينها فيقومون فيقال لهم ماذا عملتم فيقولون ربنا ابتليتنا فصبرنا وآتيت الأموال والسلطان غيرنا فيقول الله جل وعلا صدقتم قال ويدخلون الجنة قبل الناس وتبقى شدة الحساب على ذوي الأموال والسلطان قالوا فأين المؤمنون يومئذ قال يوضع لهم كراسي من نور ويظلل عليهم الغمام ويكون ذلك اليوم أقصر على المؤمنين من ساعة من نهار
وصح إن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام
وفي حديث رواه ابن أبي الدنيا والطبراني من طرق أحدها صحيح والحاكم وصححه إن الناس يعطون في الموقف نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يعطى نوره مثل
____________________
(2/967)
الجبل العظيم يسعى بين أيديهم ومنهم من يعطى نوره أصغر من ذلك ومنهم من يعطى مثل النخلة بيده ومنهم من يعطى أصغر من ذلك حتى يكون آخرهم رجلا يعطى نوره على إبهام قدميه يضيء مرة ويطفأ مرة فإذا أضاء قدم قدمه وإذا طفئ قام
وفيه أيضا إن الناس يمرون على الصراط على قدر نورهم منهم من يمر كطرفة العين ومنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالسحاب ومنهم من يمر كانقضاض الكواكب ومنهم من يمر كالريح ومنهم من يمر كشد الفرس ومنهم من يمر كشد الرحل حتى يمر الذي يعطى نوره على ظهر قدميه يحبو على وجهه ويديه ورجليه تجر يد وتعلق يد وتجر رجل وتعلق رجل وتصيب جوانبه النار فلا يزال كذلك حتى يخلص فإذا خلص وقف عليها فقال الحمد لله الذي أعطاني ما لم يعط أحدا إذ نجاني منها بعد إذ رأيتها فينطلق به إلى غدير عند باب الجنة فيغتسل فيعود إليه ريح أهل الجنة وألوانهم فيرى ما في الجنة من خلل الباب فيقول رب أدخلني الجنة فيقول الله عز وجل أتسأل الجنة وقد نجيتك من النار فيقول رب اجعل بيني وبينها حجابا حتى لا أسمع حسيسها فيدخل الجنة ويرى أو يرفع له منزل أمام ذلك كأن ما هو فيه بالنسبة إليه حلم فيقول رب أعطني ذلك المنزل فيقول لعلك إن أعطيته تسأل غيره فيقول لا وعزتك يا رب لا أسأل غيره وأي منزل أحسن منه
فيعطاه فينزله ويرى أمام ذلك منزلا فيقول كما تقدم فينزله ثم يسكت فيقول الله عز وجل ما لك لا تسأل فيقول رب قد سألتك حتى استحييتك فيقول الله جل ذكره ألم ترض أن أعطيك مثل الدنيا منذ خلقتها إلى يوم أفنيتها وعشرة أضعافه فيقول أتهزأ بي وأنت رب العزة فيقول الرب جل ذكره لا ولكني على ذلك قادر سل فيقول ألحقني بالناس فيقول الحق بالناس قال فينطلق فيرمل في الجنة حتى إذا دنا من الناس رفع له قصر من درة فيخر ساجدا فيقال له ارفع رأسك ما لك فيقول رأيت ربي أو تراءى لي ربي فيقال إنما هو منزل من منازلك ثم يلقى رجلا فيتهيأ للسجود فيقال له مه فيقول رأيت أنك ملك من الملائكة فيقول إنما أنا خازن من خزانك وعبد من عبيدك تحت يدي ألف قهرمان على مثل ما أنا عليه فينطلق أمامه حتى يفتح له باب القصر وهو من درة مجوفة سقائفها وأبوابها وأغلاقها ومفاتيحها منها تستقبله جوهرة خضراء مبطنة
____________________
(2/968)
بحمراء فيها سبعون بابا كل باب يفضي إلى جوهرة خضراء مبطنة
كل جوهرة تفضي إلى جوهرة على غير لون الأخرى في كل جوهرة سرر وأزواج ووصائف أدناهن حوراء عيناء عليها سبعون حلة يرى مخ ساقها من وراء حللها كبدها مرآته وكبده مرآتها إذا أعرض عنها إعراضة ازدادت في عينه سبعين ضعفا عما كانت قبل ذلك فيقول لها والله لقد ازددت في عيني سبعين ضعفا وتقول له أنت لقد ازددت في عيني سبعين ضعفا فيقال له أشرف فيشرف فيقال له ملكك مسيرة مائة عام ينفذه بصرك
فقال عمر لما سمع هذا الحديث من ابن مسعود لكعب ألا تسمع ما يحدثنا به ابن أم عبد يا كعب عن أدنى أهل الجنة منزلا فكيف أعلاهم قال يا أمير المؤمنين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت فذكر الحديث
الفصل الثاني في ذكر الحساب وغيره
أخرج الترمذي وصححه لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن علمه ما عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن جسمه فيما أبلاه
ورواه الطبراني بسند صحيح إلا أنه قال وعن شبابه فيما أبلاه
والبزار والطبراني بسند صحيح من نوقش الحساب هلك
وأحمد بسند صحيح لو أن رجلا خر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرما في طاعة الله عز وجل لحقره ذلك اليوم ويود أنه لو رد إلى الدنيا كيما يزداد من الأجر والثواب
والبزار يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين ديوان فيه العمل الصالح وديوان فيه ذنوبه وديوان فيه النعم من الله عليه فيقول الله تبارك وتعالى لأصغر نعمة أحسبه قال في ديوان النعم خذي ثمنك من عمله الصالح فتستوعب عمله الصالح ثم يتنحى ويقول وعزتك ما استوفيت وتبقى الذنوب والنعم وقد ذهب العمل الصالح فإذا أراد الله أن يرحم عبدا قال يا عبدي قد ضاعفت لك حسناتك وتجاوزت عن سيئاتك أحسبه قال ووهبت لك نعمي
____________________
(2/969)
والطبراني إن رجلا من الحبشة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله فضلتم علينا بالألوان والنبوة أفرأيت إن آمنت بمثل ما آمنت به وعملت بمثل ما عملت به إني لكائن معك في الجنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم نعم ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم من قال لا إله إلا الله كان له بها عهد عند الله ومن قال سبحان الله كتب له مائة ألف حسنة فقال رجل يا رسول الله كيف نهلك بعد هذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده إن الرجل ليجيء يوم القيامة بعمل لو وضع على جبل لأثقله فتقوم النعمة من نعم الله فتكاد تستنفد ذلك كله لولا ما يتفضل الله تعالى من رحمته ثم نزلت هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إلى قوله تعالى وملكا كبيرا فقال الحبشي يا رسول الله وهل ترى عيني في الجنة مثل ما ترى عينك فقال النبي صلى الله عليه وسلم نعم فبكى الحبشي حتى فاضت نفسه قال ابن عمر فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه في حفرته
والحاكم وصححه خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خرج من عندي خليلي جبريل آنفا فقال يا محمد والذي بعثك بالحق إن لله تعالى عبدا من عباده عبد الله عز وجل خمسمائة سنة على رأس جبل في البحر عرضه وطوله ثلاثون ذراعا في ثلاثين ذراعا والبحر محيط به أربعة آلاف فرسخ من كل ناحية وأخرج له عينا عذبة بعرض الأصبع تبض بماء عذب فيستنقع في أسفل الجبل وشجرة رمان تخرج في كل ليلة رمانة يتعبد يومه فإذا أمسى نزل فأصاب الوضوء وأخذ تلك الرمانة فأكلها ثم قام لصلاته فسأل ربه عن وقت الأجل أن يقبضه ساجدا وأن لا يجعل للأرض ولا لشيء يفسده عليه سبيلا حتى يبعثه وهو ساجد قال ففعل فنحن نمر عليه إذا هبطنا وإذا عرجنا فنجد له في العلم أنه يبعث يوم القيامة فيوقف بين يدي الله فيقول له الرب جل جلاله أدخلوا عبدي الجنة برحمتي فيقول رب بل بعملي فيقول أدخلوا عبدي الجنة برحمتي فيقول رب بل بعملي فيقول الله تعالى قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله فتوجد نعمة البصر قد أحاطت بعبادة خمسمائة سنة وبقيت نعمة الجسد فضلا عليه فيقول أدخلوا عبدي النار فيجر إلى النار فينادي رب برحمتك أدخلني الجنة فيقول ردوه فيوقف بين يديه فيقول يا عبدي من خلقك ولم تك شيئا فيقول أنت يا رب فيقول من قواك لعبادة خمسمائة سنة فيقول أنت يا رب فيقول من أنزلك في جبل وسط اللجة وأخرج لك الماء العذب من الماء الملح وأخرج لك كل ليلة رمانة وإنما تخرج مرة في السنة وسألته أن يقبضك ساجدا ففعل
____________________
(2/970)
فيقول أنت يا رب قال فذلك برحمتي وبرحمتي أدخلك الجنة أدخلوا عبدي الجنة فنعم العبد كنت يا عبدي فأدخله الله الجنة قال جبريل إنما الأشياء برحمة الله يا محمد
والشيخان سددوا وقاربوا وأبشروا فإنه لن يدخل أحدا الجنة عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته وفي رواية سندها حسن ولا أنا إلا أن الله تغمدني برحمته وقال أي فعل بيده فوق رأسه
ومسلم لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء أي التي لا قرن لها من الشاة القرناء
وأحمد بسند صحيح يقتص للخلق بعضهم من بعض حتى للجماء من القرناء وحتى للذرة من الذرة
وأحمد بسند حسن ليختصمن كل شيء يوم القيامة حتى الشاتان فيما انتطحتا
ومر الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم دعا وصيفة له أو لأم سلمة فلم تجبه فغضب وكان بيده سواك فقال لولا خشية القود لأوجعتك بهذا السواك
وأحمد بسند صحيح يحشر الله العباد أو قال الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا بهما قال عبد الله بن أنس راوي الحديث رضي الله عنه قال قلنا وما بهما قال ليس معهم شيء ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الديان أنا الملك لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وعنده لأحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وعنده لأحد من أهل النار حق حتى أقصه منه حتى اللطمة قال قلنا كيف وإنما يأتي الناس حفاة عراة غرلا بهما قال الحسنات والسيئات
ومسلم وغيره المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار
____________________
(2/971)
والطبراني يكون للوالدين على ولدهما دين فإذا كان يوم القيامة يتعلقان به فيقول أنا ولدكما فيودان أو يتمنيان أن لو كان أكثر من ذلك
والشيخان واللفظ لمسلم قلنا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم فهل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوا ليس معها سحاب وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوا ليس فيها سحاب قالوا لا يا رسول الله قال فما تضارون في رؤية الله يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما
إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر وغبر أهل الكتاب
أي بمعجمة مضمومة فموحدة مشددة مفتوحة جمع غابر وهو الباقي فتدعى اليهود فيقال لهم ما كنتم تعبدون قالوا كنا نعبد عزيرا ابن الله فيقال كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فماذا تبغون قالوا عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار ثم تدعى النصارى فيقال لهم ما كنتم تعبدون قالوا كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فماذا تبغون فيقولون عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر أتاهم الله في أدنى صورة من التي رأوه فيها قال فما تنتظرون لتتبع كل أمة ما كانت تعبد قالوا يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا مرتين أو ثلاثا حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقال هل بينكم وبينه آية فتعرفونه فيقولون نعم فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود
ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رءوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة فقال أنا ربكم فيقولون أنت ربنا ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون اللهم سلم سلم قيل يا رسول الله وما الجسر قال دحض بسكون الحاء زلق مزلق أي لا يثبت عليه قدم إلا زل فيه خطاطيف وكلاليب وحسكة تكون بنجد فيها شويكة
____________________
(2/972)
يقال لها السعدان أي وهو نبت ذو شوك معقف فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوش أي بمعجمة مدفوع دفعا عنيفا في نار جهنم حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد مناشدة لله تعالى في استيفاء الحق من المؤمنين لله تعالى يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار
وفي رواية لهما فما أنتم بأشد مناشدة في الحق قد تبين لكم من المؤمنين يومئذ للجبار إذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم فيقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار نصف ساقيه وإلى ركبتيه فيقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا فيقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا
ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا وكان أبو سعيد الخدري راوي الحديث يقول إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما فيقول الله عز وجل شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما أي بضم المهملة ففتح جمع حممة وهي الفحمة فيلقيهم في نهر على أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة أي وهي بكسر الحاء المهملة بزر البقول والرياحين أو بزر العشب أو نبت في الحشيش صغير أو جميع بزور النبات أو بزر ما نبت من غير بزر وما بذر تفتح حاؤه أقوال في حميل السيل أي بفتح فكسر زبده وما يلقيه على ساحله ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشمس أصفر وأخضر وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض فقالوا يا رسول الله كأنك كنت ترعى بالبادية قال فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم فيعرفهم أهل الجنة يقولون هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه ثم يقول الله تعالى ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم فيقولون ربنا أعطيتنا ما لم تعط
____________________
(2/973)
أحدا من العالمين فيقول لكم عندي أفضل من هذا فيقولون ربنا وأي شيء أفضل من هذا فيقول رضاي فلا أسخط عليكم أبدا
ومسلم كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فضحك فقال هل تدرون مم أضحك قلنا الله ورسوله أعلم قال من مخاطبة العبد ربه فيقول يا رب ألم تجرني من الظلم فيقول بلى فيقول إني لا أجيز اليوم على نفسي شاهدا إلا مني فيقول كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا وبالكرام الكاتبين شهودا
قال فيختم على فيه ويقال لأركانه انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل أي أخاصم وأدافع
وابن حبان في صحيحه قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية يومئذ تحدث أخبارها قال أتدرون ما أخبارها قالوا الله ورسوله أعلم قال فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها تقول عمل كذا وكذا في يوم كذا وكذا
والترمذي وحسنه وابن حبان في صحيحه والبيهقي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى يوم ندعو كل أناس بإمامهم قال يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ويمد له في جسمه ستون ذراعا ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ
قال فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون اللهم ائتنا بهذا وبارك لنا في هذا حتى يأتيهم فيقول لهم أبشروا فإن لكل رجل منكم مثل هذا وأما الكافر فيعطى كتابه بشماله مسودا وجهه ويمد له في جسمه ستون ذراعا على صورة آدم ويجعل على رأسه تاج من نار فيراه أصحابه
فيقولون نعوذ بالله من شر هذا اللهم لا تأتنا بهذا
قال فيأتيهم فيقولون اللهم اخزه فيقول أبعدكم الله فإن لكل رجل منكم مثل هذا
____________________
(2/974)
@ 975 الفصل الثالث في الحوض والميزان والصراط أخرج الشيخان حوضي مسيرة شهر وزواياه سواء وماؤه أبيض من الورق وفي رواية اللبن وفي أخرى صحيحة أيضا وأحلى من العسل وفي أخرى صحيحة وريحه أطيب من المسك وكيزانه كنجوم السماء من شرب منه لا يظمأ أبدا
وفي رواية صحيحة ولا يسود وجهه أبدا
قال القاضي عياض ظاهره تأخر الشرب منه على الحساب والمرور على الصراط إذ هذا هو الذي يأمن من العطش وقيل لا يشرب منه إلا من قدر له السلامة من النار ويحتمل أن من شرب منه من هذه الأمة وقدر عليه دخول النار يعذب فيها بغير الظمأ لأن ظاهر الحديث الآخر أن جميع الأمة يشربون منه إلا من ارتد وقيل جميع مؤمني الأمم يأخذون كتبهم بأيمانهم ثم يعذب الله من شاء من عصاتهم وهذا مثله
انتهى
وقال غيره اختلف العلماء هل الحوض في أرض المحشر قبل جواز الصراط أو في أرض الجنة التي لا يتوصل إليها إلا بعد جوازه
وأحمد بسند رواته محتج بهم في الصحيح إن الله تعالى قد وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب فقال يزيد بن الأخنس والله ما أولئك في أمتك إلا كالذباب الأصهب في الذباب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ربي عز وجل قد وعدني سبعين ألفا مع كل ألف سبعون ألفا وزادني ثلاث حثيات
قال فما سعة حوضك يا نبي الله قال كما بين عدن إلى عمان وأوسع يشير بيده فيه مثعبان بميم فمثلثة فمهملة فموحدة فألف فنون فتحان من الجنة من ورق وذهب
والمثعب مسيل الماء
وفي رواية أول الناس ورودا عليه فقراء المهاجرين الشعث رءوسا الدنس ثيابا الذين لا ينكحون المنعمات ولا تفتح لهم أبواب السدد يعني أبواب السلاطين
وأحمد بإسناد حسن حوضي كما بين عدن وعمان أبرد من الثلج وأحلى من العسل وأطيب ريحا من المسك وأكوابه مثل نجوم السماء من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها
____________________
(2/975)
أبدا أول الناس عليه ورودا صعاليك المهاجرين قال قائل من هم يا رسول الله قال الشعثة رءوسهم أي بعيدة عهد بدهن وغسل وتسريح شعر الشحبة وجوههم أي من الشحوب وهو تغير الوجه من جوع أو هزال أو تعب الدنسة ثيابهم أي الوسخة لا تفتح لهم السدد أي الأبواب ولا ينكحون المنعمات الذين يعطون كل الذي عليهم لا يعطون كل الذي لهم
وفي رواية لمسلم يغت فيه ميزابان يمدانه من الجنة أحدهما من ذهب والآخر من فضة ويغت بمعجمة مضمومة ففوقية أي يجريان فيه جريا له صوت وفيها إني لبعقر أي بضم المهملة فقاف ساكنة مؤخرة حوضي أذود أي أدفع الناس عنه لأهل اليمن أي لأجل شربهم أضرب بعصاي حتى يرفض عليهم أي بتشديد المعجمة يسيل الماء ويترشش
وفي رواية للشيخين فيه أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء زاد في رواية أو أكثر من عدد نجوم السماء وفي رواية صحيحة فيه ميزابان ينثعبان من الجنة من ورق وذهب
وأخرج أبو داود عن الحسن عن عائشة أنها بكت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبكيك قالت ذكرت النار فبكيت فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة فقال صلى الله عليه وسلم أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحدا عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل وعند تطاير الصحف حتى يعلم أين يقع كتابه في يمينه أم في شماله أم وراء ظهره وعند الصراط إذا وضع بين ظهراني جهنم حتى يعلم أيجوز أم لا
وأخرجه الحاكم وقال إنه صحيح على شرطهما لولا إرسال فيه بين الحسن وعائشة والترمذي وقال حسن غريب عن أنس رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة قال أنا فاعل إن شاء الله تعالى قلت فأين أطلبك قال أول ما تطلبني على الصراط قلت فإن لم ألقك على الصراط قال فاطلبني عند الميزان قلت فإن لم ألقك عند الميزان قال قال فاطلبني عند الحوض فإني لا أخطئ هذه الثلاثة مواطن
____________________
(2/976)
والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم يوضع الميزان يوم القيامة فلو وزنت أو وضعت فيه السموات والأرض لوضعت فتقول الملائكة يا رب لمن يزن هذا فيقول الله تعالى لمن شئت من خلقي فتقول الملائكة سبحانك ما عبدناك حق عبادتك ويوضع الصراط مثل حد الموسى فتقول الملائكة من يجوز على هذا فيقول من شئت من خلقي فيقولون سبحانك ما عبدناك حق عبادتك
والطبراني بسند حسن عن ابن مسعود رضي الله عنه قال يوضع الصراط على سواء جهنم مثل حد السيف المرهف مدحضة مزلة عليه كلاليب من نار يختطف بها فممسك يهوي فيها ومصروع ومنهم من يمر كالبرق فلا ينشب ذلك أن ينجو ثم كالريح فلا ينشب ذلك أن ينجو ثم كجري الفرس ثم كسعي الرجل ثم كرمل الرجل ثم كمشي الرجل ثم يكون آخرهم إنسانا رجل قد لوحته النار ولقي فيها شرا ثم يدخله الله الجنة بفضله وكرمه ورحمته فيقال له تمن وسل فيقول أي رب أتهزأ مني وأنت رب العزة فيقال له تمن وسل حتى إذا انقطعت به الأماني قال لك ما سألت ومثله معه
ومسلم عن أم مبشر الأنصارية رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة رضي الله عنها لا يدخل النار إن شاء الله تعالى من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها
قالت بلى يا رسول الله فانتهرها فقالت حفصة رضي الله عنها وإن منكم إلا واردها فقال النبي صلى الله عليه وسلم قد قال الله تعالى ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا
وأحمد بسند رواته ثقات والبيهقي بسند حسن إن جماعة اختلفوا في الورود فقال بعضهم لا يدخلها مؤمن وقال بعضهم يدخلونها جميعا ثم ينجي الله الذين اتقوا فسأل بعضهم جابر بن عبد الله رضي الله عنه فقال تردونها جميعا ثم أهوى بأصبعيه إلى أذنيه وقال صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم حتى إن للنار أو قال لجهنم ضجيجا من بردهم ثم ننجي الذي اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا
____________________
(2/977)
والحاكم وقال على شرط مسلم يرد الناس ثم يصدرون عنها بأعمالهم أولهم كلمح البرق ثم كلمح الريح ثم كحضر الفرس ثم كالراكب في رحله ثم كشد الرجل ثم كمشيه
والحاكم وقال على شرط مسلم أيضا يلقى رجل أباه يوم القيامة فيقول يا أبت أي ابن كنت لك فيقول خير ابن فيقول هل أنت مطيعي اليوم فيقول نعم فيقول خذ بأزرتي فيأخذه بأزرته ثم ينطلق حتى يأتي الله تبارك وتعالى أي عن صفات المحدثات فالإتيان هنا مجاز وهو يعرض بين الخلق فيقول يا عبدي ادخل من أي أبواب الجنة شئت فيقول أي رب وأبي معي فإنك وعدتني أن لا تخزيني قال فيمسخ أباه ضبعا فيهوي في النار فيأخذ بأنفه فيقول الله تعالى أبوك هو فيقول لا وعزتك وهو في البخاري إلا أنه قال يلقى إبراهيم عليه السلام أباه آزر فذكر القصة بنحوه
الفصل الرابع في الإذن في الشفاعة ووضع الصراط متأخر عن الإذن في الشفاعة العامة أخرج الشيخان كل نبي سأل سؤالا أو قال لكل نبي دعوة قد دعاها لأمته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة
والبيهقي وصححه رأيت ما تلقى أمتي من بعدي وسفك بعضهم دم بعض فأحزنني وسبق ذلك من الله عز وجل كما سبق في الأمم قبلهم فسألته أن يوليني فيهم شفاعة يوم القيامة ففعل
وأحمد بسند صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال لقد أعطيت الليلة خمسا ما أعطيهن أحد قبلي إلى أن قال والخامسة هي ما قيل لي سل فإن كل نبي قد سأل فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله
____________________
(2/978)
والبزار والطبراني بسند حسن يا رسول الله ألا سألت ربك ملكا كملك سليمان فضحك ثم قال فلعل لصاحبكم عبد الله أفضل من ملك سليمان إن الله تعالى لم يبعث نبيا قط إلا أعطاه دعوة منهم من اتخذها دنيا فأعطيها ومنهم من دعا بها على قومه إذ عصوه فأهلكوا بها وإن الله أعطاني دعوة فاختبأتها عند ربي شفاعة لأمتي يوم القيامة
والأحاديث في هذا كثيرة من الصحاح وغيرها
والطبراني بأسانيد أحدها جيد ألا أخبركم بما خيرني ربي آنفا قلنا بلى يا رسول الله
قال خيرني بين أن يدخل ثلثي أمتي الجنة بغير حساب ولا عذاب وبين الشفاعة قلنا يا رسول الله ما الذي اخترت قال الشفاعة قلنا جميعا يا رسول الله اجعلنا من أهل شفاعتك قال صلى الله عليه وسلم إن شفاعتي لكل مسلم
والطبراني بسند صحيح عن سلمان رضي الله عنه قال تعطى الشمس يوم القيامة حر عشر سنين ثم تدنى من جماجم الناس قال فذكر الحديث
قال فيأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون يا نبي الله أنت الذي فتح الله لك وغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر وقد ترى ما نحن فيه فاشفع لنا إلى ربك فيقول أنا صاحبكم فيخرج بجرس بين الناس حتى ينتهي إلى باب الجنة فيأخذ بحلقة بالباب من ذهب فيقرع الباب فيقال من هذا فيقول محمد فيفتح له حتى يقوم بين يدي الله عز وجل فيسجد فينادى ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع فذلك المقام المحمود
وأحمد بسند رواته ثقات محتج بهم في الصحيح إني لقائم أنتظر أمتي تعبر الصراط إذ جاء عيسى عليه السلام فقال هذه الأنبياء قد جاءتك يا محمد يسألون أو قال يجتمعون إليك يدعون الله تعالى أن يفرق بين جميع الأمم إلى حيث يشاء لعظم ما هم فيه فإنهم ملجمون بالعرق فأما المؤمن فهو عليه كالزكمة
وأما الكافر فيغشاه الموت قال يا عيسى انتظر حتى أرجع إليك
قال وذهب نبي الله صلى الله عليه وسلم فقام تحت العرش فلقي ما لم يلق ملك مصطفى ولا نبي مرسل فأوحى الله تعالى إلى جبريل عليه السلام أن أذهب إلى محمد فقل له ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفع
قال فشفعت في أمتي أن أخرج من تسعة وتسعين إنسانا واحدا
قال فما زلت أتردد على ربي جل وعلا فلا أقوم فيه مقاما إلا شفعت حتى أعطاني الله من ذلك قال أدخل من أمتك من خلق الله تعالى ممن شهد أن لا إله إلا الله يوما مخلصا ومات على ذلك
____________________
(2/979)
والطبراني بسند حسن يدخل من أهل هذه القبلة النار من لا يحصي عددهم إلا الله تعالى بما عصوا الله تعالى واجترءوا على معصيته وخالفوا طاعته فيؤذن لي في الشفاعة فأثني على الله ساجدا كما أثني عليه قائما فيقال لي ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع
وأحمد وأبو يعلى والبزار وابن حبان في صحيحه وقال عن إسحاق بن راهويه هذا من أشرف الحديث عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وكرم الله وجهه قال أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فصلى الغداة ثم جلس حتى إذا كان من الضحى ضحك صلى الله عليه وسلم وجلس مكانه حتى صلى الأولى والعصر والمغرب كل ذلك لا يتكلم حتى صلى العشاء الآخرة ثم قام إلى أهله فقال الناس لأبي بكر رضي الله عنه سل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شأنه صنع اليوم شيئا لم يصنعه قط قال فسأله فقال عرض علي ما هو كائن من أمر الدنيا والآخرة يجمع الأولون والآخرون بصعيد واحد حتى انطلقوا إلى آدم عليه السلام والعرق يكاد يلجمهم فقالوا يا آدم أنت أبو البشر اصطفاك الله تعالى اشفع لنا إلى ربك فقال لقد لقيت مثل الذي لقيتم انطلقوا إلى أبيكم بعد أبيكم إلى نوح إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين فينطلقون إلى نوح عليه السلام فيقولون اشفع لنا إلى ربك فأنت الذي اصطفاك الله واستجاب الله لك في دعائك فلم يدع على الأرض من الكافرين ديارا فيقول ليس ذاكم عندي فانطلقوا إلى إبراهيم فإن الله اتخذه خليلا فينطلقون إلى إبراهيم عليه السلام فيقول ليس ذاكم عندي فانطلقوا إلى موسى فإن الله كلمه تكليما فينطلقون إلى موسى عليه السلام فيقول ليس ذاكم عندي ولكن انطلقوا إلى عيسى ابن مريم فإنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى فيقول عيسى ليس ذاكم عندي ولكن انطلقوا إلى سيد ولد آدم فإنه أول من تنشق عنه
____________________
(2/980)
الأرض يوم القيامة انطلقوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فليشفع لكم إلى ربكم
قال فينطلقون فيأتي جبريل ربه فيقول ائذن له وبشره بالجنة
قال فينطلق به جبريل عليه السلام فيخر ساجدا قدر جمعة ثم يقول الله تبارك وتعالى يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع واشفع تشفع فيرفع رأسه فإذا نظر إلى ربه خر ساجدا قدر جمعة أخرى فيقول الله يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع واشفع تشفع فيذهب ليقع ساجدا فيأخذ جبريل بضبعيه ويفتح الله تعالى عليه من الدعاء ما لم يفتح على بشر قط فيقول أي رب جعلتني سيد ولد آدم ولا فخر وأول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر حتى أنه ليرد على الحوض أكثر ما بين صنعاء وأيلة ثم يقال ادعوا الصديقين فيشفعون ثم يقال ادعوا الأنبياء قال فيجيء النبي ومعه العصابة والنبي معه الخمسة والستة والنبي ليس معه أحد ثم يقال ادعوا الشهداء فيشفعون فيمن أراد فإذا فعلت الشهداء ذلك يقول الله عز وجل أنا أرحم الراحمين أدخلوا جنتي من كان لا يشرك بي شيئا فيدخلون الجنة ثم يقول الله تعالى انظروا في النار هل فيها من أحد عمل خيرا قط فيجدون في النار رجلا فيقال له هل عملت خيرا قط فيقول لا غير أني كنت أسامح الناس في البيع فيقول الله تعالى اسمحوا لعبدي كإسماحه إلى عبيدي ثم يخرج من النار آخر فيقال له هل عملت خيرا قط فيقول لا غير أني كنت أمرت ولدي إذا مت فأحرقوني بالنار ثم اطحنوني حتى إذا كنت مثل الكحل اذهبوا إلى البحر فذروني في الريح فقال الله لم فعلت ذلك قال من مخافتك فيقول انظروا إلى ملك أعظم ملك فإن لك مثله وعشرة أمثاله فيقول لم تسخر بي وأنت الملك فذلك الذي ضحكت به من الضحى
ورواه جماعة من الصحابة بنحو هذا منهم حذيفة وابن مسعود وأبو هريرة وغيرهم رضي الله عنهم
ومسلم يجمع الله تبارك وتعالى الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون يا أبانا استفتح لنا الجنة فيقول وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم لست بصاحب ذلك اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله قال فيقول إبراهيم لست بصاحب ذلك إنما كنت خليلا من وراء اعمدوا إلى موسى الذي كلمه الله تكليما قال فيأتون موسى فيقول لست بصاحب ذلك اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه فيقول عيسى لست بصاحب ذلك ائتوا محمدا فيأتون محمدا صلى الله عليه وسلم فيقوم فيؤذن له وترسل الأمانة والرحم فيقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا فيمر أولكم كالبرق الخاطف قال قلت بأبي أنت وأمي أي شيء كالبرق قال ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين ثم كمر الريح ثم كمر الطير وشد الرجال تجري بهم أعمالهم ونبيكم قائم على الصراط يقول رب سلم سلم حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيء الرجل فلا يستطيع إلا زحفا وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة تأخذ من أمرت به فمخدوش ناج ومكدوش في النار والذي نفس محمد بيده إن قعر جهنم لسبعين خريفا
____________________
(2/981)
والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش منها نهشة وقال أنا سيد الناس يوم القيامة هل تدرون مم ذاك يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيبصرهم الناظر ويسمعهم الداعي وتدنو منهم الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس ألا ترون إلى ما أنتم فيه أي إلى ما بلغكم ألا تنتظرون من يشفع لكم إلى ربكم فيقول بعض الناس لبعض ائتوا آدم فيأتونه فيقولون يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك وأسكنك الجنة ألا تشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه وما بلغنا أو قال ألا ترى إلى ما قد بلغنا فيقول إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح
فيأتون نوحا فيقولون يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وقد سماك الله عبدا شكورا اشفع لنا إلى ربك أفلا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما بلغنا فيقول لهم نوح إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقولون يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا فيقول إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني كنت كذبت ثلاث كذبات فذكرها نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى
فيأتون موسى فيقولون أنت رسول الله وكليمه فضلك برسالاته وبكلامه على الناس اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه ألا ترى إلى ما قد بلغنا فيقول إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قتلت نفسا لم أومر بقتلها نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى فيأتون إلى عيسى فيقولون يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا فيقول عيسى إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ولم يذكر ذنبا نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيأتون محمدا صلى الله عليه وسلم فيقولون يا محمد أنت رسول الله وخاتم النبيين وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي ثم يقال يا محمد ارفع
____________________
(2/982)
رأسك وسل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول يا رب أمتي يا رب أمتي فيقول يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ثم قال صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصرى
وأبو داود والطبراني وابن حبان في صحيحه والبيهقي شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي
وأحمد والطبراني بسند جيد خيرت بين الشفاعة أو يدخل نصف أمتي الجنة فاخترت الشفاعة لأنها أعم وأكفى أما إنها ليست للمؤمنين المتقين ولكنها للمذنبين الخاطئين المنكوبين
____________________
(2/983)
الأمر الثالث في ذكر النار وما يتعلق بها أعاذنا الله منها بمنه وكرمه أخرج البخاري كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
وأبو يعلي أنه صلى الله عليه وسلم خطب فقال لا تنسوا العظيمتين الجنة والنار ثم بكى حتى جرى أو بل دموعه جانبي لحيته ثم قال والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم من أمر الآخرة لمشيتم على الصعيد ولحثيتم على رءوسكم التراب
والطبراني في الأوسط جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حين غير حينه الذي كان يأتيه فيه فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا جبريل ما لي أراك متغير اللون فقال ما جئتك حتى أمر الله عز وجل بمنافح النار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا جبريل صف لي النار أو انعت لي جهنم فقال جبريل إن الله تبارك وتعالى أمر بجهنم فأوقد عليها ألف عام حتى ابيضت ثم أمر فأوقد عليها ألف عام حتى احمرت ثم أمر فأوقد عليها ألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة لا يضيء شررها ولا يطفأ لهبها والذي بعثك بالحق نبيا لو أن قدر ثقب إبرة فتح من جهنم لمات من في الأرض كلهم جميعا من حره والذي بعثك بالحق لو أن خازنا من خزنة جهنم برز إلى أهل الدنيا لمات من في الأرض كلهم جميعا من حره والذي بعثك بالحق لو أن خازنا من خزنة جهنم برز إلى أهل الدنيا لمات من في الأرض كلهم جميعا من قبح وجهه ومن نتن ريحه والذي بعثك بالحق لو أن حلقة من حلق سلسلة أهل النار التي نعت الله في كتابه وضعت على جبال الدنيا لارفضت وما تقارت حتى تنتهي إلى الأرض السفلى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبي يا جبريل لا ينصدع قلبي فأموت قال فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل وهو يبكي فقال تبكي يا جبريل وأنت من الله بالمكان الذي أنت به فقال وما لي لا أبكي وأنا أحق بالبكاء لعلي أكون في علم الله على غير الحال التي أنا عليها وما أدري لعلي أبتلى بما ابتلي به إبليس فقد كان من الملائكة
وما أدري لعلي أبتلى بما ابتلي به
____________________
(2/984)
هاروت وماروت قال فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبكى جبريل فما زالا يبكيان حتى نوديا أن يا جبريل ويا محمد إن الله تعالى قد أمنكما أن تعصياه فارتفع جبريل وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بقوم من الأنصار يضحكون ويلعبون فقال أتضحكون ووراءكم جهنم فلو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولما أسغتم الطعام والشراب ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل فنودي يا محمد لا تقنط عبادي إنما بعثتك مبشرا ولم أبعثك معسرا فقال صلى الله عليه وسلم سددوا وقاربوا
وأحمد من رواية إسماعيل بن عياش وبقية رواته ثقات أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل ما لي لا أرى ميكائيل ضاحكا قط قال ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار
وابن ماجه والحاكم وصححه إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ولولا أنها أطفئت بالنار مرتين لما انتفعتم بها وإنها لتدعو الله عز وجل أن لا يعيدها فيها
ومسلم يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها
ومالك والشيخان وغيرهما ناركم هذه التي يوقد بها بنو آدم جزء واحد من سبعين جزءا من نار جهنم قالوا والله إن كانت لكافية قال إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها
زاد أحمد وابن حبان في صحيحه والبيهقي وضربت بالبحر مرتين ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد
وأخرج أحمد بسند صحيح إن هذه النار جزء من مائة جزء من جهنم
وأبو يعلى بسند حسن لو كان في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون وفيهم رجل من أهل النار فتنفس فأصابهم نفسه لأحرق المسجد ومن فيه
أبو داود والنسائي والترمذي وصححه واللفظ له لما خلق الله تعالى الجنة والنار
____________________
(2/985)
أرسل جبريل إلى الجنة فقال انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها فجاء ونظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها فرجع إليه فقال وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها فأمر بها فحفت بالمكاره فقال ارجع فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالمكاره فرجع إليه وقال وعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد فقال اذهب إلى النار فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها فنظر إليها فإذا هي يركب بعضها بعضا فرجع إليه فقال وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها فأمر بها فحفت بالشهوات فقال ارجع إليها فرجع إليها فقال وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها
والبيهقي بسند لا بأس به عن ابن مسعود رضي الله عنه إنها ترمي بشرر كالقصر قال أما إني لست أقول كالشجر ولكن كالحصون والمدائن
وأحمد وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره
والترمذي ويل واد بين جبلين يهوي فيه الكافر سبعين خريفا قبل أن يبلغ قعره
وابن ماجه واللفظ له والترمذي تعوذوا بالله من جب الحزن قالوا يا رسول الله وما جب الحزن قال واد في جهنم تتعوذ منه جهنم كل يوم أربعمائة مرة قيل يا رسول الله من يدخله قال أعد للقراء المرائين بأعمالهم وإن من أبغض القراء إلى الله الذين يزورون الأمراء الجورة
والطبراني إن في جهنم لواديا تستعيذ جهنم من ذلك الوادي كل يوم أربعمائة مرة أعد للمرائين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/986)
وابن أبي الدنيا إن في النار سبعين ألف واد في كل واد سبعون ألف شعب في كل شعب سبعون ألف حجر في كل حجر حية تأكل وجوه أهل النار
والبخاري في تاريخه بسند فيه نكارة إن في جهنم سبعين ألف واد في كل واد سبعون ألف شعب في كل شعب سبعون ألف دار في كل دار سبعون ألف بيت في كل بيت سبعون ألف بئر وفي كل بئر سبعون ألف ثعبان في شدق كل ثعبان سبعون ألف عقرب لا ينتهي الكافر أو المنافق حتى يواقع ذلك كله
والترمذي بسند فيه انقطاع إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوي فيها سبعين خريفا وما تفضي إلى قرارها
وكان عمر رضي الله عنه يقول أكثروا ذكر النار فإن حرها شديد وإن قعرها بعيد وإن مقامعها حديد
والبزار وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه والبيهقي لو أن حجرا قذف به في جهنم لهوى بها سبعين خريفا قبل أن يبلغ قعرها
ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعنا وجبة فقال النبي صلى الله عليه وسلم أتدرون ما هذا قلنا الله ورسوله أعلم قال هذا حجر أرسله الله في جهنم منذ سبعين خريفا فالآن حين انتهى إلى قعرها
والطبراني عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوتا هاله فأتاه جبريل عليه السلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا الصوت يا جبريل فقال هذه صخرة هوت من شفير جهنم من سبعين عاما فهذا حين بلغت قعرها فأحب الله تعالى أن يسمعك صوتها
فما رئي رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا ملء فيه حتى قبضه الله عز وجل
وأحمد والترمذي وحسنه لو أن رصاصة مثل هذه وأشار إلى الجمجمة أرسلت من السماء إلى الأرض وهي مسيرة خمسمائة سنة لبلغت الأرض قبل الليل ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفا الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها
____________________
(2/987)
وأحمد وأبو يعلى والحاكم وصححه لو أن مقمعا من حديد جهنم وضع في الأرض فاجتمع له الثقلان ما أقلوه من الأرض
والحاكم وصححه لو ضرب الجبل بمقمع من حديد جهنم لتفتت فصار رمادا المقمع المطراق وقيل السوط
وابن أبي الدنيا إن الحجر الواحد منها لو وضع على جبال الدنيا لذابت منه وإن مع كل إنسان منهم حجرا وشيطانا
والحاكم وصححه إن الأرضين السبع بين كل أرض والتي تليها مسيرة خمسمائة عام فالعليا منها على ظهر حوت قد التقى طرفاه في السماء والحوت على صخرة والصخرة بيد ملك والثانية سجن الريح فلما أراد الله تعالى أن يهلك عادا أمر خازن الريح أن يرسل عليهم ريحا تهلكهم
قال يا رب أرسل عليهم من الريح قدر منخر الثور قال له الجبار تبارك وتعالى إذن تكفيء الأرض ومن عليها ولكن أرسل عليهم بقدر خاتم فهي التي قال الله في كتابه العزيز ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم
والثالثة فيها حجارة جهنم والرابعة فيها كبريت جهنم قالوا يا رسول الله أللنار كبريت قال نعم والذي نفسي بيده إن فيها الأودية من كبريت لو أرسل فيها الجبال الرواسي لماعت والخامسة فيها حيات جهنم إن أفواهها كالأودية تلسع الكافر اللسعة فلا يبقى منه لحم على عظم السادسة فيها عقارب جهنم إن أدنى عقرب منها كالبغال الموكفة تضرب الكافر ضربة تنسيه ضربتها حر جهنم والسابعة فيها إبليس مصفد بالحديد يد أمامه ويد خلفه فإذا أراد الله أن يطلقه لمن شاء من عباده أطلقه
وأحمد والطبراني وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه إن في النار حيات كأمثال أعناق عين تلسع إحداهن اللسعة فيجد حموها سبعين خريفا وإن في النار عقارب كأمثال البغال الموكفة تلسع إحداهن اللسعة فيجد حموها أربعين سنة
____________________
(2/988)
والترمذي وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه عنه صلى الله عليه وسلم في قوله تبارك وتعالى كالمهل قال كعكر الزيت فإذا قرب إلى وجهه سقط فروة وجهه فيه
والترمذي وقال حسن غريب صحيح إن الحميم ليصب على رءوسهم فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان والحميم الماء الحار الذي يحرق
وقال الضحاك الحميم يغلي منذ خلق الله السموات والأرض إلى يوم يسقونه ويصب على رءوسهم وقيل هو ما يجتمع من دموع أعينهم في حياض النار فيسقونه وقيل غير ذلك وهو المذكور في قوله تبارك وتعالى وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم
وأحمد والترمذي وقال غريب والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم عنه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه قال يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا دنا منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره قال الله عز وجل وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم وقال جل ذكره وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب
وأحمد والحاكم وصححه لو أن دلوا من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا والغساق هو المذكور في قوله تعالى فليذوقوه حميم وغساق وقوله تعالى إلا حميما وغساقا واختلف فيه فعند ابن عباس رضي الله عنهما هو ما يسيل من جلد الكافر ونحوه وعند الآخرين هو صديدهم
وقال كعب هو عين في جهنم يسيل إليها حمة كل ذات حمة من حية أو عقرب أو غير ذلك فيستنقع فيؤتى بالآدمي فيغمس فيها غمسة واحدة فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام ويتعلق جلده ولحمه في عقبيه وكعبيه فيجر لحمه كما يجر المرء ثوبه
والترمذي وقال حسن صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية اتقوا الله حق تقاته ولا
____________________
(2/989)
تموتن إلا وأنتم مسلمون فقال صلى الله عليه وسلم لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون طعامه وفي رواية فكيف بمن ليس له طعام غيره
وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى وطعاما ذا غصة شوك يأخذ بالحلق لا يدخل ولا يخرج
والشيخان ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع والمنكب مجمع رأس الكتف والعضد
وأحمد ضرس الكافر مثل أحد وفخذه مثل البيضاء أي وهو جبل ومقعده من النار كما بين قديد ومكة أي نحو ثلاثة أيام وكثافة جلده اثنان وأربعون ذراعا بذراع الجبار أي ملك باليمن له ذراع معروف المقدار كذا قال ابن حبان وغيره وقيل ملك بالعجم
ومسلم ضرس أو قال ناب الكافر مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاث
والترمذي ولفظه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرس الكافر يوم القيامة مثل أحد وفخذه مثل البيضاء ومقعده من النار مسيرة ثلاث من الربذة أي كما بين المدينة والربذة
وأحمد بسند جيد ضرس الكافر يوم القيامة مثل أحد وعرض جلده سبعون ذراعا وعضده مثل البيضاء وفخذه مثل البيضاء ومقعده من النار ما بيني وبين الربذة
وفي رواية ومقعده من النار مسيرة ثلاث مثل الربذة
وأحمد والطبراني وإسناده قريب من الحسن كما قاله الحافظ المنذري
والترمذي عن الفضيل بن يزيد إن الكافر ليسحب لسانه الفرسخ والفرسخين يتوطؤه الناس
____________________
(2/990)
والفضيل بن يزيد عن أبي جمة إن الكافر ليجر لسانه فرسخين يوم القيامة يتوطؤه الناس
أخرجه البيهقي وغيره وهو الصواب
قال النبي صلى الله عليه وسلم يعظم أهل النار حتى إن بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام وإن غلظ جلده سبعون ذراعا وإن ضرسه مثل أحد
وأحمد بسند صحيح والحاكم وصححه عن مجاهد قال ابن عباس أتدري ما سعة جهنم قلت لا
قال أجل والله ما ندري إن بين شحمة أذن أحدهم وبين عاتقه مسيرة سبعين خريفا تجري فيه أودية القيح والدم قلت أنهار قال لا بل أودية
وأحمد والترمذي والحاكم وصححاه عنه صلى الله عليه وسلم قال وهم فيها كالحون قال تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي السفلى حتى تضرب سرته
قال الحافظ المنذري وقد ورد إن من هذه الأمة من يعظم في النار كما يعظم فيها الكافر ومنه الحديث الصحيح إن من أمتي من يدخل الجنة بشفاعته أكثر من ربيعة ومضر وإن من أمتي من يعظم للنار حتى يكون أحد زواياها
والشيخان إن أهون الناس عذابا من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل وما يرى أن أحدا أشد منه عذابا وإنه لأهونهم عذابا
ومسلم إن أهون أهل النار عذابا أبو طالب وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه
ومسلم منهم من تأخذه النار إلى كعبيه ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه ومنهم من تأخذه النار إلى حجزته ومنهم من تأخذه النار إلى ترقوته
والطبراني والبيهقي إن جهنم لما سيق إليها أهلها تلقتهم فلفحتهم لفحة فلم تدع لحما على عظم إلا ألقته على العرقوب
____________________
(2/991)
والبيهقي إن عمر رضي الله عنه قرأ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب قال يا كعب أخبرني بتفسيرها فإن صدقت صدقتك وإن كذبت رددت عليك فقال إن جلد ابن آدم يحرق ويجدد في ساعة أو في يوم ستة آلاف مرة قال صدقت
والبيهقي إن الحسن البصري قال في الآية تأكلهم النار في كل يوم سبعين ألف مرة كلما أكلتهم قيل لهم عودوا فيعودون كما كانوا
ومسلم يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيصبغ في النار صبغة ثم يقال له يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط هل مر بك نعيم قط فيقول لا والله يا رب ويؤتى بأشد النار بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال يا ابن آدم هل مر بك شدة قط فيقول لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط
وابن ماجه بسند احتج برواته إلا يزيد الرقاشي
الشيخان يرسل البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع ثم يبكون الدم حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود لو أرسلت فيها السفن لجرت
وأبو يعلى يا أيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون في النار حتى تسيل دموعهم في خدودهم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فيسيل يعني الدم فتقرح العيون
الأمر الرابع في الجنة ونعيمها وما يتعلق بذلك أخرج الطبراني إن ريح الجنة يوجد من مسيرة ألف عام وإنه لا يجدها عاق ولا قاطع رحم
وابن أبي الدنيا مرفوعا والبيهقي وغيرهما موقوفا وهو أصح وأشهر عن علي رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا قال قلت يا رسول الله ما الوفد إلا ركب قال صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/992)
والذي نفسي بيده إنهم إذا خرجوا من قبورهم استقبلوا بنوق بيض لها أجنحة عليها رحال الذهب شرك نعالهم نور يتلألأ كل خطوة منها مثل مد البصر وينتهي إلى باب الجنة فإذا حلقة من ياقوتة حمراء على صفائح الذهب وإذا شجرة على باب الجنة ينبع من أصلها عينان فإذا شربوا من أحدها جرت في وجوههم نضرة النعيم فإذا توضئوا من الأخرى لم تشعث شعورهم أبدا فيضربون الحلقة بالصفيحة فلو سمعت طنين الحلقة يا علي فيبلغ كل حوراء أن زوجها قد أقبل فتستخفها العجلة فتبعث قيمها فيفتح له الباب فلولا أن الله عز وجل عرفه نفسه لخر له ساجدا مما يرى من النور والبهاء فيقول أنا قيمك الذي وكلت بأمرك فيتبعه ويقفو أثره فيأتي زوجته فتستخفها العجلة فتخرج من الخيمة فتعانقه وتقول أنت حبي وأنا حبك وأنا الراضية فلا أسخط أبدا وأنا الناعمة فلا أبأس أبدا وأنا الخالدة فلا أظعن أبدا فيدخل بيتا من أساسه إلى سقفه مائة ألف ذراع مبني على جندل اللؤلؤ والياقوت طرائق حمر وطرائق صفر وطرائق خضر ما منها طريقة تشاكل صاحبتها
فيأتي الأريكة فإذا عليها سرير على السرير سبعون فراشا على كل فراش سبعون زوجة على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ ساقيها من وراء باطن الحلل يقضي جماعهن في مقدار ليلة تجري من تحتهن أنهار مطردة من ماء غير آسن صاف ليس فيه كدر وأنهار من لبن لم يتغير طعمه لم يخرج من بطون الماشية وأنهار من عسل مصفى لم يخرج من بطون النحل وأنهار من خمر لذة للشاربين لم تعصره الرجال بأقدامها فإذا اشتهوا الطعام جاءتهم طير بيض فترفع أجنحتها فيأكلون من جنوبها من أي الألوان شاءوا ثم تطير فتذهب فيها ثمار متدلية إذا اشتهوها انبعث الغصن إليهم فيأكلون من أي الثمار شاءوا إن شاء قائما وإن شاء قاعدا وإن شاء متكئا وذلك قوله تعالى وجنى الجنتين دان وبين أيديهم خدم كاللؤلؤ
والشيخان إن ما بين النفختين أربعون سنة ثم ينزل ماء من السماء فينبتون كما ينبت البقل وليس من الإنسان شيء لا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب منه يركب الخلق يوم القيامة
وأبو داود وابن حبان في صحيحه وفيه من تكلم فيه لكن أخرج له الشيخان الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها
____________________
(2/993)
قال الحافظ المنذري قد قال كل من وقفت على كلامه من أهل اللغة إن المراد بقوله يبعث في ثيابه التي قبض فيها أي أعماله
قال الهروي وكذا الحديث الآخر يبعث العبد على ما مات عليه قال وليس قول من ذهب إلى الأكفان بشيء لأن الميت إنما يكفن بعد الموت
ا ه
وفعل أبي سعيد الخدري راوي الحديث يدل على إجرائه على ظاهره وأن الميت يبعث في ثيابه التي قبض فيها وفي الصحاح وغيرها إن الناس يبعثون عراة انتهى وهذا والذي قبله وقع ذكرهما هنا سهوا لكن فيهما فوائد
وابن أبي الدنيا يساق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا انتهوا إلى باب من أبوابها وجدوا عنده شجرة يخرج من تحت ساقها عينان تجريان فعمدوا إلى إحداهما كأنما مروا بها فشربوا منها فأذهبت ما في بطونهم من أذى أو قذى أو بأس ثم عمدوا إلى الأخرى فتطهروا منها فجرت عليهم نضرة النعيم فلن تغير أبشارهم بعدها أبدا ولن تشعث أشعارهم كأنما دهنوا بالدهان ثم انتهوا إلى خزنة الجنة فقالوا سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين قال ثم تلقاهم الولدان يطوفون بهم كما يطوف ولدان الدنيا بالحميم أي القريب يقدم من غيبته فيقولون أبشروا بما أعد الله لكم من الكرامة قال ثم ينطلق غلام من أولئك الولدان إلى بعض أزواجه من الحور العين فيقول قد جاء فلان باسمه الذي يدعى به في الدنيا فيقول أنت رأيته فيقول أنا رأيته وهو ذا بأثري فيستخف إحداهن الفرح حتى تقوم على أسكفة بابها فإذا انتهى إلى باب منزله نظر إلى أي شيء أساس بنيانه فإذا جندل اللؤلؤ فوقه صرح أخضر وأصفر وأحمر من كل لون ثم رفع رأسه فنظر إلى سقفه فإذا مثل البرق لولا أن الله تعالى قدره له لذهب ببصره ثم طأطأ رأسه فنظر إلى أزواجه
وأكواب موضوعة أي جمع كوب وهو كوز لا عروة له وقيل لا خرطوم له فإذا كان له خرطوم فهو الإبريق ونمارق مصفوفة أي وسائد وزرابي مبثوثة أي بسط فاخرة فنظروا في تلك النعم ثم اتكئوا وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله الآية ثم ينادي مناد تحيون ولا تموتون أبدا وتقيمون فلا تظعنون وتصحون فلا تمرضون أبدا
____________________
(2/994)
والشيخان ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا أو سبعمائة ألف متماسكون آخذ بعضهم بيد بعض لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم وجوههم على صورة القمر ليلة البدر
والشيخان إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يتفلون أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألوة أزواجهم الحور العين أخلاقهم على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء وفي رواية لهما لكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم على قلب رجل واحد يسبحون الله بكرة وعشيا
قال ابن أبي شيبة خلق بضم الخاء وأبو كريب بفتحها والألوة بفتح الهمزة وضمها وضم اللام وتشديد الواو وفتحها من أسماء العود الذي يتبخر به وقال الأصمعي أراها كلمة فارسية عربت والمجامر جمع مجمر لأنه بغير هاء البخور نفسه وبهاء إناء البخور واستشكله السهيلي بأن في بعض روايات البخاري ووقود مجامرهم الألوة قال يعني العود
ا ه
ولا إشكال إن حمل هذا على التجوز
والترمذي وقال حسن غريب يدخلون أهل الجنة الجنة جردا مردا بيضا جعادا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين وهم على خلق آدم ستون ذراعا في عرض تسعة أذرع
والبيهقي بسند ما من أحد يموت سقطا ولا هرما وأيما الناس فيما بين ذلك إلا بعث ابن ثلاث وثلاثين سنة فإن كان من أهل الجنة كان على مسحة آدم وصورة يوسف وقلب أيوب وإن كان من أهل النار عظموا أو فخموا كالجبال
ومسلم إن موسى عليه السلام سأل ربه ما أدنى أهل الجنة منزلة قال رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة فيقال له ادخل الجنة فيقول أي رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم فيقال له أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك
____________________
(2/995)
من ملوك الدنيا فيقول رضيت رب فيقول له لك مثل ذلك ومثله ومثله ومثله فقال في الخامسة رضيت رب فيقول هذا لك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك فيقول رضيت رب قال رب فأعلاهم منزلة قال أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر
وفي رواية له في الأدنى أنه إذا انقطعت به الأماني قال الله تعالى هو لك وعشرة أمثاله وأنه يقول ما أعطي أحد مثل ما أعطيت
وفي رواية سندها صحيح برواتها في الصحيح إلا واحدا إنه يتمنى مقدار ثلاثة أيام من أيام الدنيا ويلقنه الله ما لا علم له به فيسأله ويتمنى فإذا فرغ قال لك ما سألت
قال أبو سعيد ومثله معه وقال أبو هريرة رضي الله عنهما وعشرة أمثاله معه فقال أحدهما لصاحبه حدث بما سمعت وأحدث بما سمعت وهو في البخاري بنحوه إلا أن أبا هريرة هو القائل ومثله وأبا سعيد هو القائل وعشرة أمثاله على العكس وتقدم قريبا
وأحمد إن أدنى أهل الجنة منزلة لينظر في ملكه ألف سنة فيرى أقصاه كما يرى أدناه ينظر إلى أزواجه وخدمه رواه البيهقي وإن أفضلهم منزلة لمن ينظر إلى الله عز وجل في كل يوم مرتين
والترمذي وابن حبان في صحيحه إن أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم واثنان وسبعون زوجة وينصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية إلى صنعاء
وابن أبي الدنيا والطبراني بسند رواته ثقات إن أسفل أهل الجنة أجمعين درجة لمن يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم بيد كل خادم صحفتان واحدة من ذهب والأخرى من فضة في كل واحدة لون ليس في الأخرى مثله يأكل من آخرها مثل ما يأكل من أولها يجد لآخرها من الطيب واللذة مثل الذي يجد لأولها ثم يكون ذلك جشاء كريح المسك الأذفر لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون إخوانا على سرر متقابلين
____________________
(2/996)
قال الحافظ المنذري لا منافاة بين حديث له ثمانون ألف خادم وحديث يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم وحديث من يغدو عليه منهم ويروح كل يوم خمسة عشر ألف خادم فيجوز أن يكون له ثمانون ألف خادم تقوم على رأسه منهم عشرة آلاف ويغدو عليه خمسة عشر ألفا
انتهى
وأقول لا مانع أن الأدنى مراتب مناسبة وكل أدنى بالنسبة إلى قومه أو أمته له صفة غير صفة الأخرى ولعل هذا أولى به تجتمع الأحاديث التي ظاهرها التنافي في غير هذا العدد أيضا كما يعلم من تأمل ما مر
والشيخان إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم قالوا يا رسول الله منازل الأنبياء لا يملكهما غيرهم قال بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين وفي رواية لهما كما تتراءون الكوكب الغارب والغابر بمعناه إذ هو بالمعجمة ثم الموحدة الذاهب الذي تولى للغروب
وصح إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله لمن أطعم الطعام وأفشى السلام وصلى بالليل والناس نيام
والبخاري إن في الجنة مائة درجة أعدها تعالى للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض
والترمذي وقال حسن غريب في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مائة عام
والطبراني وابن حبان في صحيحه قلنا يا رسول الله حدثنا عن الجنة ما بناؤها قال صلى الله عليه وسلم لبنة من ذهب ولبنة من فضة وملاطها المسك وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وترابها الزعفران من يدخلها ينعم ولا يبأس ويخلد ولا يموت ولا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه الحديث
____________________
(2/997)
ورواه ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفا قال حائط الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة ودرجها الياقوت واللؤلؤ قال وكنا نحدث أن رضراض أنهارها اللؤلؤ وترابها الزعفران الرضراض بفتح الراء وبمعجمتين والحصباء ممدود بمعنى واحد وهو الحصى وقيل الرضراض صغارها
ابن أبي الدنيا والطبراني بسند حسن وسئل صلى الله عليه وسلم عن الجنة فقال من يدخل الجنة يحيا فيها ولا يموت وينعم فيها ولا يبأس لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه قيل يا رسول الله ما بناؤها قال صلى الله عليه وسلم لبنة من ذهب ولبنة من فضة وملاطها المسك وترابها الزعفران وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت والملاط بكسر الميم هو ما يبنى به أي إن الطين الذي يجعل بين لبنات الذهب والفضة في الحائط مسك
والطبراني بسند جيد خلق الله تعالى جنة عدن بيده أي بقدرته الباهرة ودلى فيها ثمارها وشق أنهارها ثم نظر إليها فقال لها تكلمي فقالت قد أفلح المؤمنون فقال وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل زاد ابن أبي الدنيا إنها لبنة من درة بيضاء ولبنة من ياقوتة حمراء ولبنة من زبرجدة خضراء وملاطها مسك حشيشها الزعفران حصباؤها اللؤلؤ ترابها العنبر
وابن أبي الدنيا أرض الجنة بيضاء عرصتها صخور الكافور وقد أحاط به المسك مثل كثبان الرمل فيها أنهار مطردة فيجتمع فيها أهل الجنة أدناهم وآخرهم فيتعارفون فيبعث الله ريح الرحمة فتهيج عليهم ريح المسك فيرجع الرجل إلى زوجته وقد ازداد حسنا وطيبا فتقول لقد خرجت من عندي وأنا بك معجبة وأنا بك الآن أشد إعجابا
والطبراني بسند جيد إن في الجنة مراغا من مسك مثل مراغ دوابكم في الدنيا
والشيخان إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا وفي رواية لهما عرضها ستون ميلا
____________________
(2/998)
وابن أبي الدنيا والبيهقي عن ابن عباس موقوفا الخيمة درة مجوفة فرسخ في فرسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب
وفي رواية حولها سرادق دوره خمسون فرسخا يدخل عليه من كل باب منها ملك بهدية من عند الله عز وجل
والطبراني والحاكم وصححه على شرطهما إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها فقال أبو مالك الأشعري لمن هي يا رسول الله قال لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وبات قائما والناس نيام
والطبراني والبيهقي بنحوه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى ومساكن طيبة في جنات عدن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر في الجنة من لؤلؤة بيضاء فيها سبعون دارا من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء في كل بيت سبعون سريرا على كل سرير سبعون فراشا من كل لون على كل فراش امرأة في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لونا من طعام في كل بيت سبعون وصيفا ووصيفة يعطى المؤمن من القوة ما يأتي على ذلك كله في غداة واحدة
والترمذي وصححه الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت تربته أطيب من المسك وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج
زاد الترمذي بسند حسن فيه طير أعناقها كأعناق الجزر أي الإبل قال عمر رضي الله عنه إن هذه لناعمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلتها أنعم منها
وابن حبان في صحيحه أنهار الجنة تخرج من تحت تلال أو جبال المسك
____________________
(2/999)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما بسند حسن إن أرض الجنة مرمرة بيضاء من فضة كأنها مرآة أي بالنسبة لبعض الجنات حتى لا ينافي ما مر وإن نورها مثل ما قبل طلوع الشمس وأنهارها لتجري على الأرض من غير أخدود مسكفة لا تفيض هاهنا ولا هاهنا وإن حللها من شجرة فيها ثمر كأنه رمان فإذا أراد ولي الله منها كسوة انحدرت إليه من أغصانها فانفلقت له عن سبعين حلة ألوانا بعد ألوان ثم تنطلق فترجع كما كانت
وأحمد والترمذي وصححه في الجنة بحر للماء وبحر للعسل وبحر للخمر ثم تنشق الأنهار منها بعد
وابن أبي الدنيا عن أنس موقوفا وهو أشبه وغيره مرفوعا لعلكم تظنون أن أنهار الجنة أخدود في الأرض لا والله إنها لسائحة على وجه الأرض إحدى حافتيها اللؤلؤ والأخرى الياقوت وطينه المسك الأذفر وهو الذي لا خلط له
والبخاري إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها إن شئتم فاقرءوا وظل ممدود وماء مسكوب
والشيخان إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام لا يقطعها زاد الترمذي وذلك الظل الممدود
وصح عن ابن عباس موقوفا الظل الممدود شجرة في الجنة على ساق يسير الراكب المجد في ظلها مائة عام في نواحيها فيخرج أهل الجنة أهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في ظلها فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا فيرسل الله ريحا من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو كان في الدنيا
والطبراني وابن حبان في صحيحه أن أصل شجرة طوبى شبه أصل شجرة الجوزة ينبت على ساق واحد ثم ينتشر أعلاها وإن أعظم أصلها أن الجذعة من الإبل لو ارتحلت لما قطعتها حتى تنكسر ترقوتها هرما وإن عظم عنقود من عنبها مسيرة شهر للغراب الأبقع لا يقع ولا ينثني ولا يفتر وإن عظم الحبة منه كالدلو الكبير
وروى أبو يعلى هذا الأخير بسند حسن
____________________
(2/1000)
وجاء عن البراء بن عازب رضي الله عنه بسند حسن في قوله تعالى وذللت قطوفها تذليلا قال إن أهل الجنة يأكلون من ثمار الجنة قياما وقعودا ومضطجعين
وصح عن ابن عباس إن جذوع نخلها من زمرد أخضر وأصول سعفها ذهب أحمر وسعفها كسوتهم وثمرها أمثال القلال والدلاء أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وألين من الزبد ليس فيها عجم
ومسلم وغيره يأكل أهل الجنة فيها ويشربون ولا يمتخطون ولا يتغوطون ولا يبولون ولكن طعامهم ذلك جشاء كريح المسك يلهمون التسبيح والتكبير كما يلهمون النفس
وصح إن أحدهم ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع تكون حاجة أحدهم رشحا يفيض من جلودهم كرشح المسك فيضمر بطنه
وابن أبي الدنيا والطبراني بسند رواته ثقات إن أسفل أهل الجنة أجمعين من يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم مع كل خادم صحفتان واحدة من فضة وواحدة من ذهب في كل صحفة لون ليس في الأخرى مثلها يأكل من آخره كما يأكل من أوله يجد لآخره من اللذة والطعم ما لا يجد لأوله ثم يكون ذلك رشح مسك وجشاء مسك لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون
وأحمد بسند جيد إن طير الجنة كأمثال البخت ترعى في شجر الجنة فقال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله إن هذه لطير ناعمة فقال صلى الله عليه وسلم أكلتها أنعم منها قالها ثلاثا وإني لأرجو أن تكون ممن يأكل منها
وابن أبي الدنيا إن الرجل من أهل الجنة ليشتهي الطير من طيور الجنة فيقع في يده منفلقا نضيجا
____________________
(2/1001)
وابن أبي الدنيا إن الرجل ليشتهي الطير في الجنة فيجيء مثل البختي حتى يقع على خوان لم يصبه دخان ولم تمسه النار فيأكل منه حتى يشبع ثم يطير
وابن أبي الدنيا بسند حسنه الترمذي إن في الجنة طائرا له سبعون ألف ريشة فيقع على صحفة الرجل من أهل الجنة فينتفض فيقع من كل ريشة لون أبيض من الثلج وألين من الزبد وألذ من الشهد ليس فيها لون يشبه صاحبه ثم يطير
وابن أبي الدنيا بسند حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال لأعرابي زعم أن شجرة السدر مؤذية لأن لها شوكا أليس الله يقول في سدر مخضود خضد الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة فإنها لتنبت ثمرا تنفتق الثمرة منها عن اثنين وسبعين لونا من طعام ما فيها لون يشبه الآخر
والشيخان ولنصيفها أي خمارها على رأسها خير من الدنيا وما فيها
والطبراني بسند حسن لكل واحد منهم زوجتان من الحور العين على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ سوقهما من وراء لحومهما وحللهما كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء
وذكر الزوجتين من الحور العين هنا لا ينافي ذكر أكثر منهما في بعض الأحاديث كحديث أحمد وإن له أي أدنى أهل الجنة من الحور العين لاثنان وسبعون زوجة سوى أزواجه من الدنيا وإن الواحدة منهن لتأخذ مقعدتها قدر ميل
وصح عن البيهقي إن الرجل من أهل الجنة ليتزوج خمسمائة حوراء وأربعة آلاف بكر وثمانية آلاف ثيب يعانق كل واحدة منهن مقدار عمره في الدنيا
____________________
(2/1002)
وروى الشيخان ولكل امرئ منهم زوجتان اثنتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم وما في الجنة أعزب
وفي حديث عند أبي يعلى والبيهقي والذي بعثني بالحق ما أنتم في الدنيا بأعرف بأزواجكم ومساكنكم من أهل الجنة بأزواجهم ومساكنهم فيدخل رجل منهم على اثنتين وسبعين زوجة مما ينشئ الله تعالى واثنتين من ولد آدم لهما فضل على من أنشأ الله بعبادتهما في الدنيا يدخل على الأولى منهما في غرفة من ياقوتة على سرير من ذهب مكلل باللؤلؤ عليه سبعون زوجا أي صنفا من سندس وإستبرق ثم يضع يده بين كتفيها ثم ينظر إلى يده من صدرها من وراء ثيابها وجلدها ولحمها وإنه لينظر إلى مخ ساقها كما ينظر أحدكم إلى السلك في قصبة الياقوت كبده لها مرآة وكبدها له مرآة فبينا هو عندها لا يملها ولا تمله ولا يأتيها مرة إلا وجدها عذراء ما يفتر ذكره ولا يشتكي قبلها فبينا هو كذلك إذ نودي إنا قد عرفنا أنك لا تمل ولا نمل إلا أنه لا مني ولا منية ألا إن لك أزواجا غيرها فيخرج فيأتيهن واحدة بعد واحدة كلما جاء واحدة قالت والله ما في الجنة شيء أحسن منك أو ما في الجنة شيء أحب إلي منك
وأخرج أبو نعيم يزوج كل رجل من أهل الجنة أربعة آلاف بكر وثمانية آلاف أيم ومائة حوراء فيجتمعون في كل سبعة أيام فيقلن بأصوات حسان لم تسمع الخلائق بمثلهن نحن الخالدات فلا نبيد ونحن الناعمات فلا نبأس ونحن الراضيات فلا نسخط ونحن المقيمات فلا نظعن طوبى لمن كان لنا وكنا له
ووجه عدم المنافاة بين هذه الأحاديث والله أعلم أن الموصوفين بما ذكر من تلك الخلل المذكورة اثنتان والباقيات منهن لسن كذلك أو أعلم صلى الله عليه وسلم بالقليل فأخبر به ثم أعلم بالكثير فأخبر به نظير ما قالوه في حديث صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة
وفي رواية بسبع وعشرين درجة وما أشبه ذلك
والترمذي وابن حبان في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى وفرش
____________________
(2/1003)
مرفوعة ارتفاعها كما بين السماء والأرض مسيرة ما بينهما خمسمائة عام
والطبراني في الكبير والأوسط عن أم سلمة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله أخبرني عن قول الله عز وجل وحور عين قال صلى الله عليه وسلم حور بيض عين ضخام العيون شفر الحور بمنزلة جناح النسر قلت يا رسول الله فأخبرني عن قول الله عز وجل كأنهن الياقوت والمرجان قال صلى الله عليه وسلم صفاؤهن كصفاء الدر الذي في الأصداف الذي لم تمسه الأيدي قلت يا رسول الله فأخبرني عن قول الله عز وجل فيهن خيرات حسان قال صلى الله عليه وسلم خيرات الأخلاق حسان الوجوه قلت يا رسول الله فأخبرني عن قول الله عز وجل كأنهن بيض مكنون قال رقتهن كرقة الجلد الذي في داخل البيضة مما يلي القشر قلت يا رسول الله فأخبرني عن قول الله عز وجل عربا أترابا قال هن اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز رمصا شمطا خلقهن الله تعالى بعد الكبر فجعلهن عذارى
عربا متعشقات متحببات أترابا على ميلاد واحد
قلت يا رسول الله أنساء الدنيا أفضل أم الحور العين قال بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة قلت يا رسول الله وبم ذاك قال صلى الله عليه وسلم بصلاتهم وصيامهن وعبادتهن لله عز وجل ألبس الله عز وجل وجوههن النور وأجسادهن الحرير بيض الألوان خضر الثياب صفر الحلي مجامرهن الدر وأمشاطهن الذهب يقلن ألا نحن الخالدات فلا نموت أبدا ألا ونحن الناعمات فلا نبأس أبدا ألا ونحن المقيمات فلا نظعن أبدا ألا ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا طوبى لمن كنا له وكان لنا
قلت يا رسول الله المرأة منا تتزوج الزوجين والثلاثة والأربعة في الدنيا ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها من يكون زوجها منهم قال يا أم سلمة إنها تخير فتختار أحسنهم خلقا فتقول أي رب إن هذا كان أحسنهم معي خلقا في دار الدنيا فزوجنيه يا أم سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة وما في هذا الحديث من تخييرها الظاهر والله سبحانه أعلم أنه لا ينافي قول بعض أئمتنا إنها تكون
____________________
(2/1004)
لآخرهم لأن ما في الحديث محله فيمن ماتت لا في عصمة أحد وما قاله ذلك الإمام فيمن ماتت في عصمة إنسان فهي له دون غيره بخلاف من ماتت لا في عصمة أحد ولها أزواج فإن أحدا ليس أولى بها منهم فخيرت
والطبراني بسند صحيح إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات ما سمعها أحد قط وإن مما يغنين به نحن الخيرات الحسان أزواج قوم كرام ينظرون بقرة أعيان وإن مما يغنين به نحن الخالدات فلا نمتنه ونحن الآمنات فلا نخفنه ونحن المقيمات فلا نظعنه
ومسلم إن في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنا وجمالا فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا فيقول لهم أهلوهم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا فيقولون وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا
والترمذي وابن ماجه وابن أبي الدنيا بسند رواته ثقات إن أبا هريرة رضي الله عنه قال لسعيد بن المسيب أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة قال سعيد أو فيها سوق قال نعم
أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون الله عز وجل ويبرز لهم عرشه ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة فتوضع لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من ياقوت ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ويجلس أدناهم وما فيهم دنيء على كثبان مسك وكافور وما يرون أن أصحاب الكراسي أفضل منهم مجلسا
قال أبو هريرة قلت يا رسول الله هل نرى ربنا قال نعم هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر قلنا لا قال صلى الله عليه وسلم كذلك لا تتمارون في رؤية ربكم عز وجل ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره الله تعالى محاضرة حتى إنه ليقول الرجل ألا تذكر يا فلان يوم عملت كذا وكذا يذكره بعض غدراته في الدنيا فيقول يا رب ألم تغفر لي فيقول بلى فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه فبينما هم كذلك غشيتهم سحابة من فوقهم فأمطرت عليهم طيبا لم يجدوا مثل ريحه شيئا قط ثم يقول ربنا تبارك وتعالى قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا ما اشتهيتم قال فنأتي سوقا قد حفت به الملائكة فيه ما لم تنظر
____________________
(2/1005)
العيون إلى مثله ولم تسمع الآذان ولم يخطر على القلوب قال فيحمل لنا ما اشتهينا ليس يباع فيه شيء ولا يشترى وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضا قال فيقبل الرجل ذو المنزلة المرتفعة فيلقى من دونه وما فيهم دنيء فيروعه ما يرى عليه من اللباس فما ينقضي آخر حديثه حتى يتمثل له أن ما عليه أحسن منه وذلك أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها ثم ننصرف إلى منازلنا فيتلقانا أزواجنا فيقلن مرحبا وأهلا لقد جئت وإن بك من الجمال والطيب أفضل مما فارقتنا عليه فيقول إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار عز وجل ويحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا
والترمذي والطبراني وابن أبي الدنيا إن في الجنة لسوقا ما يباع فيها ولا يشترى ليس فيها إلا الصور فمن أحب صورة من رجل أو امرأة دخل فيها
وابن أبي الدنيا إن من نعيم أهل الجنة أنهم يتزاورون على المطايا والنجب وأنهم يؤتوا إلى الجنة بخيل مسرجة ملجمة لا تروث ولا تبول فيركبونها حتى ينتهوا إلى حيث شاء الله عز وجل
فيأتيهم مثل السحابة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت فيقولون أمطري علينا فما يزال المطر عليهم حتى ينتهي ذلك فوق أمانيهم ثم يبعث الله ريحا غير مؤذية فتنسف كثبانا من المسك عن أيمانهم وعن شمائلهم فيأخذون ذلك المسك في نواصي خيولهم وفي مفارقها وفي رءوسهم ولكل رجل منهم جمة أي شعر من رأسه على ما اشتهت نفسه فيتعلق ذلك المسك في تلك الجمات وفي الخيل وفيما سوى ذلك من الثياب ثم يقبلون حتى ينتهوا إلى ما شاء الله فإذا المرأة تنادي بعض أولئك يا عبد الله أما لك فينا حاجة فيقول ما أنت ومن أنت فتقول أنا زوجتك وحبك فيقول ما كنت علمت بمكانك فتقول المرأة أو ما تعلم أن الله تعالى قال فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون فيقول بلى وربي فلعله يشتغل عنها بعد ذلك الموقف أربعين خريفا لا يلتفت ولا يعود ما شغله عنها إلا ما هو فيه من النعيم والكرامة
وابن أبي الدنيا والبزار إذا دخل أهل الجنة الجنة فيشتاق الإخوان بعضهم إلى
____________________
(2/1006)
بعض فيسير سرير هذا إلى سرير هذا وسرير هذا إلى سرير هذا حتى يجتمعا جميعا فيتكئ هذا ويتكئ هذا فيقول أحدهما لصاحبه تعلم متى غفر الله لنا فيقول صاحبه نعم يوم كنا في موضع كذا وكذا فدعونا الله فغفر لنا
وابن أبي الدنيا إن في الجنة لشجرة يخرج من أعلاها خيل ومن أسفلها خيل من ذهب مسرجة ملجمة من در وياقوت لا تروث ولا تبول لها أجنحة خطوتها مد البصر فيركبها أهل الجنة فتطير بهم حيث شاءوا فيقول الذين أسفل منهم درجة يا رب بم بلغ عبادك هذه الكرامة كلها قال فيقال لهم إنهم كانوا يصلون بالليل وكنتم تنامون وكانوا يصومون وكنتم تأكلون وكانوا ينفقون وكنتم تبخلون وكانوا يقاتلون وكنتم تجبنون
وأبو نعيم عن علي كرم الله وجهه قال إذا سكن أهل الجنة الجنة أتاهم ملك فيقول إن الله يأمركم أن تزوروه فيجتمعون فيأمر الله تعالى داود عليه الصلاة والسلام فيرفع صوته بالتسبيح والتهليل ثم توضع مائدة الخلد قالوا يا رسول الله وما مائدة الخلد قال صلى الله عليه وسلم زاوية من زواياها أوسع مما بين المشرق والمغرب فيطعمون ثم يسقون ثم يكسون فيقولون لم يبق إلا النظر إلى وجه ربنا عز وجل فيتجلى لهم فيخرون سجدا فيقال لهم لستم في دار عمل إنما في دار جزاء
ومسلم وغيره إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله عز وجل تريدون شيئا أزيدكم فيقولون ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار قال فكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم ثم تلا هذه الآية للذين أحسنوا الحسنى وزيادة
وابن أبي الدنيا والطبراني بسند جيد قوي وأبو يعلى مختصرا ورواته رواة الصحيح والبزار أتاني جبريل عليه السلام وفي يده مرآة بيضاء فيها نكتة سوداء فقلت ما هذه يا جبريل قال هذه الجمعة يعرضها عليك ربك لتكون لك عيدا ولأمتك من
____________________
(2/1007)
بعدك قال ما لنا فيها قال لكم فيها خير لكم فيها ساعة من دعا ربه فيها بخير هو له قسم إلا أعطاه إياه أو ليس له بقسم إلا ادخر له ما هو أعظم منه أو تعوذ فيها من شر هو له عليه مكتوب إلا أعاذه من أعظم منه
قلت ما هذه النكتة السوداء فيها قال هذه الساعة تقوم في يوم الجمعة وهو سيد الأيام عندنا ونحن ندعوه في الآخرة يوم المزيد قال قلت لم تدعونه يوم المزيد قال إن ربك عز وجل اتخذ في الجنة واديا أفيح من مسك أبيض وإنه تعالى يتجلى فيه يوم الجمعة لأهل الجنة وقد جلس الأنبياء على منابر من نور حفت بكراسي من ذهب للصديقين والشهداء وبقية أهل الجنة على الكثب فينظرون إليه تعالى وهو يقول أنا الذي صدقتكم وعدي وأتممت عليكم نعمتي هذا محل كرامتي ما سألوني فيسألونه الرضا فيقول عز وجل رضاي أن أحلكم داري وتنالكم كرامتي فاسألوني فيسألونه حتى تنتهي رغبتهم فيفتح لهم عند ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر إلى مقدار منصرف الناس يوم الجمعة ثم قال صلى الله عليه وسلم فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى يوم الجمعة ليزدادوا فيه كرامة وليزدادوا فيه نظرا لله تبارك وتعالى ولذلك دعي يوم المزيد
ورواه البزار مطولا
وفيه إن الجنة ليس فيها ليل ولا نهار إلا أن الله تعالى قد علم مقدار ذلك وساعاته فإذا كان يوم الجمعة في الحين الذي يبرز أو يخرج فيه أهل الجمعة إلى جمعتهم ينادي مناد يا أهل الجنة اخرجوا إلى دار المزيد لا يعلم سعته وعرضه وطوله إلا الله عز وجل فيخرجون في كثبان من المسك قال حذيفة وإنه لهو أشد بياضا من دقيقكم هذا فيخرج غلمان الأنبياء بمنابر من نور ويخرج غلمان المؤمنين بكراسي من ياقوت فإذا وضعت لهم وأخذ القوم مجالسهم بعث الله تبارك وتعالى عليهم ريحا تدعى المثيرة تثير عليهم المسك الأبيض فتدخله من تحت ثيابهم وتخرجه في وجوههم وأشعارهم فتلك الريح أعلم كيف تصنع بذلك المسك من امرأة أحدكم إذا دفع إليها كل طيب على وجه الأرض لكانت تلك الريح أعلم كيف تصنع بذلك المسك من تلك المرأة لو دفع إليها ذلك الطيب بإذن الله عز وجل
قال ثم يوحي الله سبحانه إلى حملة العرش فيوضع بين ظهراني الجنة وبينه وبينهم الحجب فيكون أول ما يسمعون منه أن يقول أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني وصدقوا رسلي واتبعوا أمري فسلوني فهذا يوم المزيد فتتفق كلمتهم ربنا رضينا عنك فارض عنا فيجيبهم لولا رضيت عنكم ما أسكنتكم جنتي فاسألوني فهذا يوم المزيد فتتفق كلمتهم ربنا أرنا ننظر إليك فيكشف الله تبارك وتعالى الحجب ويتجلى لهم فيغشاهم من نوره شيء لولا أنه قضى عليهم ألا يحترقوا لاحترقوا مما غشيهم من نوره تبارك وتعالى ثم يقال لهم ارجعوا
____________________
(2/1008)
إلى منازلكم فيرجعون إلى منازلهم وقد خفوا على أزواجهم وخفين عليهم مما غشيهم من نوره تبارك وتعالى فإذا صاروا إلى منازلهم وتراد النور وأمكن وتراد وأمكن حتى يرجعوا إلى صورهم التي كانوا عليها فيقول لهم أزواجهم لقد خرجتم من عندنا على صورة ورجعتم على غيرها فيقولون ذلك بأن الله تبارك وتعالى تجلى لنا فنظرنا منه إلى ما خفينا به عليكم فلهم في كل سبعة أيام الضعف على ما كانوا وذلك قوله عز وجل فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون
وأحمد والترمذي إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة
وابن أبي الدنيا إن أفضل أهل الجنة منزلة من ينظر إلى وجه الله تبارك وتعالى كل يوم مرتين
والشيخان إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك فيقول هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون وأي شيء أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا
والشيخان قال الله عز وجل أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر اقرءوا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون
وصح قدر سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا ومثلها معها ولقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا ومثلها معها ولنصيف امرأة من الجنة خير من الدنيا ومثلها معها
وصح عن ابن عباس ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء
ومسلم وغيره إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد آن لكم أن تصحوا فلا تسقموا
____________________
(2/1009)
أبدا وآن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا وآن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا وآن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا وذلك قول الله عز وجل ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون
والشيخان يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد يا أهل الجنة فيشرئبون أي يمدون أعناقهم لينظروا فينظرون فيقول هل تعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رأوه ثم ينادي مناد يا أهل النار فيشرئبون وينظرون فيقول هل تعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رأوه فيذبح بين الجنة والنار ثم يقول يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت ثم قرأ وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون وأشار بيده إلى الدنيا وفي رواية لهما ثم يقوم مؤذن بينهم فيقول يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت كل خالد فيما هو فيه
جعلنا الله من أهل الجنة الذين أحل عليهم رضوانه وأدام لهم جوده وكرمه وإحسانه وآمننا في الدارين من سائر الفتن والمحن إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير آمين آمين آمين
وهذا آخر ما قصدته وتمام ما أردته والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله والحمد لله أولا وآخرا وباطنا وظاهرا
يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك سبحانك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك فلك الحمد دائما أبدا حمدا يوافي نعمك ويكافئ مزيدك عدد خلقك ورضاء نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك وصل يا ربنا وسلم وبارك أفضل صلاة وأزكى سلام وأعظم بركة على عبدك ونبيك ورسولك أشرف الخلق ورسول الحق المؤيد من رب العالمين بالصدق سيدنا محمد وآله وأصحابه وأزواجه وذريته الطيبين الطاهرين كما صليت وسلمت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد عدد خلقك ورضاء نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك كلما ذكرك وذكره الذاكرون وكلما غفل عن ذكرك وذكره الغافلون دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين
____________________
(2/1010)