بسم الله الرحمن الرحيم ! 2 < قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين > 2 ! قرآن كريم خطبة الكتاب الحمد لله الذي حمى من أجل رأفته بعباده وغيرته المنزهة عما لا يليق بجلال قدرته وكمال عزته حمى حومة الكبائر والفواحش والمناهي والمفاسد والشهوات والملاهي والأهوية والقبائح والمعاصي بقواطع النصوص الزواجر وآيات كتبه البحور الزواخر ونواميس عدله القواصم القواهر عن أن يلموا بذلك الحمى الوعرة سبله وآثاره المضرمة جحيمه وناره المحرقة وراده وزواره إذا لم يخشوا من غضب رب الأرباب الموجب لمعالجتهم بعظيم العقاب والخلود في خزي الهوان والعذاب ولم يطمعوا في المسارعة إلى سوابغ رحمته ورضاه وأفضاله على كل من أطاعه بما يحبه ويتمناه وتوفيقه إلى ما يبلغ إلى دار كرامته ومحياه ولا آثروا تقديم مراده ولا أعرضوا عما لا يرضيه في عباده ولا أحرزوا قصب السبق في داري معاشه ومعاده
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أفوز بها بالحفظ من معاصيه القاطعة عن علي جنابه وأتبوأ بالإخلاص فيها غرف قربه مع الكمل من أحبابه
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي أمرنا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه والتأدب بآدابه صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه الذين صانهم الله عن أن يدنسوا صفاء صدقهم بدنس المخالفات وأن يؤثروا على رضا الله ورسوله شيئا من قواطع الشهوات وأن لا يتطلعوا إلا إلى امتثال الأوامر واجتناب النواهي في سائر الحالات صلاة وسلاما دائمين بدوامه الأقدس عطرين بعبوق شذاه الأطيب الأنفس وكذا على تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين الذي كما يدين كل أحد به يدان ويقال
____________________
(1/5)
للعاصي هل جزاء العصيان إلا الخزي والهوان وللمحسن هل جزاء الإحسان إلا الإحسان
أما بعد فإنه كان ينقدح في نفسي أثناء سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة مدة مديدة وأزمنة عديدة أن أؤلف كتابا في بيان الكبائر وما يتعلق بها حكما وزجرا ووعدا ووعيدا وأن أمد في تهذيب ذلك وتنقيحه وتوضيحه باعا طويلا مديدا وأن أبسط فيه بسطا مفيدا وأن أطنب في أدلته إطنابا حميدا لكني كنت أقدم رجلا وأؤخر أخرى لما أنه ليس عندي مواد ذلك بأم القرى إلى أن ظفرت بكتاب منسوب في ذلك لإمام عصره وأستاذ أهل دهره الحافظ أبي عبد الله الذهبي فلم يشف الأوام ولا أغنى عن ذلك المرام لما أنه استروح فيه استرواحا تجل مرتبته عن مثله وأورد فيه أحاديث وحكايات لم يعز كلا منها إلى محله مع عدم إمعان نظره في تتبع كلام الأئمة في ذلك وعدم تعويله على كلام من سبقه إلى تلك المسالك فدعاني ذلك مع ما تفاحش من ظهور الكبائر وعدم أنفة الأكثر عنها في الباطن والظاهر لما أن أبناء الزمان وإخوان اللهو والنسيان قد غلبت عليهم دواعي الفسوق والخلود إلى أرض الشهوات والعقوق والركون إلى دار الغرور والإعراض عن دار الخلود ونسيان العواقب وعدم المبالاة بالمعايب حتى كأنهم أمنوا عقاب الله ومكره ولم يدروا أن ذلك الإمهال إنما هو ليحق عليهم قهره إلى الشروع في تأليف يتضمن ما قصدته ويتكفل ببيان جميع ما قدمته ويكون إن شاء الله في هذا الباب زاجرا أي زجر وواعظا وآمرا أي واعظ وآمر ومن ثم سميته الزواجر عن اقتراف الكبائر وأرجو إن تم كما ذكرت أن ينفع الله به البادي والحاضر وأن يجعله سببا لتطهير الباطن والظاهر فهو حسبي ونعم الوكيل وإليه أفزع في الكثير والقليل وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ما شاء الله لا قوة إلا بالله
ورتبته على مقدمة في تعريف الكبيرة وما وقع للناس فيه وفي عدها وما يتعلق بذلك وبابين الأول في الكبائر الباطنة وما يتبعها مما ليس له مناسبة بخصوص أبواب الفقه
الثاني في الكبائر الظاهرة وأرتب هذه على ترتيب أبواب فقهنا معشر الشافعية لما في ذلك من تيسير الكشف عليها في محالها وأما تفاصيل مراتبها فحشا وقبحا فأشير إليه في كل منها بذكر ما يدل عليه ويهدى إليه
وخاتمة في ذكر فضائل التوبة وأما ذكر شروطها ومتعلقاتها فأذكره كما ذكروه في باب الشهادات
ثم في ذكر النار وصفاتها وما اشتملت عليه من أنواع الزواجر والعقاب الأليم
ثم في ذكر الجنة وصفاتها وما اشتملت عليه من أنواع المفاخر والثواب والنضرة
____________________
(1/6)
والنعيم ليكون ذلك من آكد الدواعي إلى اجتناب الكبائر المؤدى ارتكاب بعضها بحسب المشيئة الإلهية إلى الدخول إلى ذلك السعير ومقاساة ماله من الحميم والشهيق والزفير واجتنابها إلى الفوز بذلك النعيم المقيم والحلول في رضوان الله الأكبر ذلك الفوز العظيم
جعلنا الله من أهله وأدام علينا هواطل جوده وفضله وختم لنا بالحسنى وبلغنا من فضله المقام الأرفع الأسنى إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير آمين
____________________
(1/7)
مقدمة في تعريف الكبيرة وما وقع للناس فيه وفي عدها وما يتعلق بذلك اعلم أن جماعة من الأئمة أنكروا أن في الذنوب صغيرة وقالوا بل سائر المعاصي كبائر منهم الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني والقاضي أبو بكر الباقلاني وإمام الحرمين في الإرشاد وابن القشيري في المرشد بل حكاه ابن فورك عن الأشاعرة واختاره في تفسيره فقال معاصي الله تعالى عندنا كلها كبائر وإنما يقال لبعضها صغيرة وكبيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها ثم أول الآية الآتية ! 2 < إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه > 2 ! النساء 31 بما ينبو عنه ظاهرها وقالت المعتزلة الذنوب على ضربين صغائر وكبائر وهذا ليس بصحيح انتهى
وربما ادعى في موضع اتفاق الأصحاب على ما ذكره واعتمد ذلك أيضا التقي السبكي وقال القاضي عبد الوهاب لا يمكن أن يقال في معصية إنها صغيرة إلا على معنى أنها تصغر باجتناب الكبائر
ويوافق هذا القول ما رواه الطبراني عن ابن عباس لكنه منقطع أنه ذكر عنده الكبائر فقال كل ما نهى عنه فهو كبيرة وفي رواية عنه كل شيء عصى الله فيه فهو كبيرة
وقال جمهور العلماء إن المعاصي تنقسم إلى صغائر وكبائر ولا خلاف بين الفريقين في المعنى وإنما الخلاف في التسمية والإطلاق لإجماع الكل على أن من المعاصي ما يقدح في العدالة ومنها ما لا يقدح فيها وإنما الأولون فروا من هذه التسمية فكرهوا تسمية معصية الله تعالى صغيرة نظرا إلى عظمة الله تعالى وشدة عقابه وإجلالا له عز وجل عن تسمية معصيته صغيرة لأنها بالنظر إلى باهر عظمته كبيرة أي كبيرة ولم ينظر الجمهور إلى ذلك لأنه معلوم بل قسموها إلى صغائر وكبائر لقوله تعالى ! 2 < وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان > 2 ! الحجرات 7 فجعلها رتبا ثلاثة وسمى بعض المعاصي فسوقا دون بعض وقوله تعالى ! 2 < الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم > 2 ! الآية النجم 32 وسيأتي في الحديث الصحيح الكبائر سبع وفي رواية تسع وفي الحديث الصحيح أيضا ومن كذا إلى كذا كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر فخص الكبائر ببعض الذنوب ولو كانت الذنوب كلها كبائر لم يسغ ذلك ولأن ما عظمت مفسدته أحق باسم الكبيرة على أن قوله تعالى ! 2 < إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم > 2 ! النساء 31 صريح في انقسام الذنوب إلى
____________________
(1/8)
كبائر وصغائر ولذلك قال الغزالي لا يليق إنكار الفرق بين الكبائر والصغائر وقد عرفا من مدارك الشرع
ثم القائلون بالفرق بين الكبيرة والصغيرة اختلفوا في حد الكبيرة ولأصحابنا في حدها وجوه أحدهما أنها ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة
هذه عبارة الروضة وأصلها وغيرهما وحذف بعض المتأخرين تقييد الوعيد بكونه شديدا وكأنه نظر إلى أن كل وعيد من الله تعالى لا يكون إلا شديدا فهو من الوصف اللازم وخرج بالخصوص ما اندرج تحت عموم فلا يكفي ذلك في كونه كبيرة بخصوصه قيل ولكون الوعيد لا يكون إلا في الكتاب أو السنة لم يحتج إلى التصريح بذلك في الحد
انتهى وليس كذلك لأن قولهم بنص كتاب أو سنة مصرح بذلك
ثانيها أنها كل معصية أوجبت الحد وبه قال البغوي وغيره
قال الرافعي وهذان الوجهان أكثر ما يوجد لهم وهم إلى ترجيح هذا أميل ولكن الأول أوفق بما ذكروه في تفصيل الكبائر أي لأنهم نصوا على كبائر كثيرة ولا حد فيها كآكل الربا ومال اليتيم والعقوق وقطع الرحم والسحر والنميمة وشهادة الزور والسعاية والقوادة والدياثة وغيرها
وبهذا يعلم أن الحد الأول أصح من الحد الثاني وإن قال الرافعي إنهم إلى ترجيحه أميل وأخذ منه صاحب الحاوي الصغير وغيره أنه الراجح فجزم به ثم رأيت الأذرعي صرح بما ذكرته فقال عجيب قول الشيخين إن الأصحاب إلى الثاني أميل وهو في غاية البعد
انتهى لكن إذا أول على أن مراد قائله ما عدا المنصوص عليه وإن لم يكن فيه حد خف بعده واندفع الإيراد عليه بأن في الصحيحين تسمية العقوق وشهادة الزور كبيرتين مع أنه لا حد فيهما على أنه يرد على الأول أيضا بعض ما يأتي مما علم أنه كبيرة ولم يرد فيه وعيد شديد وسيأتي عن ابن عبد السلام ذكر أنواع من الكبائر اتفاقا مع أنه لم يرد فيها نص بذلك
ثالثها أنها كل ما نص الكتاب على تحريمه أو وجب في جنسه حد وترك فريضة تجب فورا والكذب في الشهادة والرواية واليمين زاد الهروي في إشرافه وشريح في روضته وكل قول خالف الإجماع العام
رابعها قال الإمام وغيره كل جريمة على ما نقله الرافعي وعبارة إرشاده جريرة وهي بمعناها تؤذن أي تعلم بقلة اكتراث أي اعتناء مرتكبها بالدين ورقة الديانة مبطلة للعدالة وكل جريمة أو جريرة لا تؤذن بذلك بل يبقى حسن الظن ظاهرا بصاحبها لا تحيط العدالة قال وهذا أحسن ما يميز به أحد الضدين عن الآخر انتهى
____________________
(1/9)
ولهذا تابعه ابن القشيري في المرشد واختاره الإمام السبكي وغيره وفي معناه قوله في نهايته الصادر من الشخص إن دل على الاستهانة لا بالدين ولكن بغلبة التقوى وتمرين غلبة رجاء العفو فهو كبيرة وإن صدر عن فلتة خاطر أو لفتة ناظر فصغيرة ومعنى قوله لا بالدين أي لا بأصله فإن الاستهانة بأصله كفر ومن ثم عبر في الأول بقلة الاكتراث ولم يقل بعدم الاكتراث والكفر وإن كان أكبر الكبائر فالمراد تفسير غيره مما يصدر من المسلم
قال البرماوي ورجح المتأخرون مقالة الإمام الحسن الضبط بها ولعلها وافية بما ورد في السنة من تفصيل الكبائر الآتي بيانها وما ألحق بها قياسا انتهى وكأنه لم ير منازعة الأذرعي فيما قاله الإمام فإنه قال وإذا تأملت بعض ما عد من الصغائر توقفت فيما أطلقه انتهى وكأنه أخذ ذلك من اعتراض ابن أبي الدم ضابط النهاية بأنه مدخول وبينه بما بسطه عنه في الخادم
على أنك إذا تأملت كلام الإمام الأول ظهر لك أنه لم يجعل ذلك حدا للكبيرة خلافا لمن فهم منه ذلك لأنه يشمل صغائر الخسة وليست بكبائر وإنما ضبطه به ما يبطل العدالة من المعاصي الشامل لصغائر الخسة نعم هذا الحد أشمل من التعريفين الأولين لصدقه على سائر مفردات الكبائر الآتية ولكنه غير مانع لما علمت أنه يشمل صغائر الخسة ونحوها كالإصرار على الصغائر ولما نقل البرماوي عن الرافعي الأوجه السابقة قال قال بعض المحققين ينبغي أن تجمع هذه التعاريف كلها ليحصل استيعاب الكبائر المنصوصة والمقيسة لأن بعضها لا يصدق عليه هذا وبعضها لا يصدق عليه الآخر
قلت لكن تعريف الإمام لا يكاد يخرج عنه شيء منها لمن تأمله انتهى
وقال في الخادم بعد إيراده ما مر عن الرافعي التحقيق أن كل واحد من هذه الأوجه اقتصر على بعض أنواع الكبيرة وأن مجموع هذه الأوجه يحصل به ضابط الكبيرة انتهى ولهذا قال الماوردي الكبيرة ما أوجب الحد أو توجه إليه الوعيد وقال ابن عطية كل ما وجب فيه حد أو ورد فيه توعد بالنار أو جاءت فيه لعنة وسيأتي نحو ذلك عن ابن الصلاح وغيره
واعترض قول الإمام كل جريمة لا تؤذن بذلك ا ه
بأن من أقدم على غصب ما دون نصاب السرقة أتى بصغيرة ولا يحسن في نفوس الناس الظن فكان القياس أن يكون كبيرة وكذلك قبلة الأجنبية صغيرة ولا يحسن في نفوس الناس الظن بفاعلها
ويجاب بأن كون هذين صغيرتين إنما هو على قول جمع كما يأتي فيهما وأما على مقابله الآتي إنهما كبيرتان فلا اعتراض وإنما يحسن أن لو اتفقوا على أنها صغيرة وأنها مما يسوء ظن أكثر الناس بفاعلها
____________________
(1/10)
خامسها أنها ما أوجب الحد أو توجه إليه الوعيد والصغيرة ما قل فيه الإثم ذكره الماوردي في حاويه
سادسها أنها كل محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه فإن فعله على وجه يجمع وجهين أو وجوها من التحريم كان فاحشة فالزنا كبيرة وبحليلة الجار فاحشة والصغيرة تعاطى ما تنقص رتبته عن المنصوص عليه أو تعاطيه على وجه دون المنصوص عليه فإن تعاطاه على وجه يجمع وجهين أو وجوها من التحريم كان كبيرة فالقبلة واللمس والمفاخذة صغيرة ومع حليلة الجار كبيرة كذا نقله ابن الرفعة وغيره عن القاضي حسين عن الحليمي وسيأتي بسط عبارته في محلها وأنه اختار أنه ما من ذنب إلا وفيه صغيرة وكبيرة وقد تنقلب الصغيرة كبيرة بقرينة تضم إليها وتنقلب الكبيرة فاحشة بقرينة تضم إليها إلا الكفر بالله تعالى فإنه أفحش الكبائر وليس من نوعه صغيرة ثم مثل لذلك بأمثلة تأتي في محلها مع الكلام عليها
سابعها أنها كل فعل نص الكتاب على تحريمه أي بلفظ التحريم وهو أربعة أشياء أكل لحم الميتة والخنزير ومال اليتيم ونحوه والفرار من الزحف ورد بمنع الحصر في الأربعة
ثامنها أنه لا حد لها بحصرها يعرفه العباد واعتمده الواحدي من أصحابنا في بسيطه فقال الصحيح أن الكبيرة ليس لها حد يعرفها العباد به وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها ولكن الله عز وجل أخفى ذلك عن العباد ليجتهدوا في اجتناب المنهي عنه رجاء أن تجتنب الكبائر ونظائره إخفاء الصلاة الوسطى وليلة القدر وساعة الإجابة ونحو ذلك انتهى وليس كما قال بل الصحيح أن لها حدا معلوما كما مر ثم رأيت بعضهم نقل عنه هذه المقالة لكن على وجه يخف به الاعتراض عليه فقال قال الواحدي المفسر الشافعي وغيره الكبائر كلها لا تعرف أي لا تنحصر قالوا لأنه ورد وصف أنواع من المعاصي بأنها كبائر وأنواع أنها صغائر وأنواع لم توصف بشيء منهما وقال الأكثرون إنها معروفة
واختلفوا هل تعرف بحد وضابط أو بالعد انتهى
ووراء ما ذكرناه عن الأصحاب عبارات للمتأخرين وغيرهم منها قول الحسن وابن جبير ومجاهد والضحاك كل ذنب أوعد فاعله بالنار
ومنها قول الغزالي كل معصية يقدم المرء عليها من غير استشعار خوف ووجدان ندم تهاونا واستجراء عليها فهي كبيرة وما يحمل على فلتات النفس ولا ينفك عن ندم يمتزج بها وينغص التلذذ بها فليس بكبيرة
وقال مرة أخرى ولا مطمع في معرفة الكبائر مع الحصر إذا لا يعرف ذلك إلا بالسمع ولم يرد
واعترض العلائي ما قاله
____________________
(1/11)
أولا بأنه بسط لعبارة الإمام وهو مشكل جدا إن كان ضابطا للكبيرة من حيث هي إذ يرد عليه من ارتكب نحو الزنا نادما عليه فقضيته أنه لا تنخرم به عدالته ولا يسمى كبيرة حينئذ وليس كذلك اتفاقا وإن كان ضابطا لما عدا المنصوص عليه فهو قريب انتهى
قال الجلال البلقيني كأن العلائي فهم أن كل من يذكر حدا يدخل المنصوص وهذا ممنوع أي فضابط الغزالي لما عدا المنصوص عليه فهو قريب وقد ذكر العلائي نفسه أن الحدود إنما هي لما عدا المنصوص عليه
ومنها قول ابن عبد السلام الأولى ضبط الكبيرة بما يشعر بتهاون مرتكبها بدينه إشعار صغر الكبائر المنصوص عليها
قال وإذا أردت الفرق بين الصغيرة والكبيرة فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها فإن نقصت عن أقل الكبائر فهي صغيرة وإلا فكبيرة انتهى واعترضه الأذرعي فقال وكيف السبيل إلى الإحاطة بالكبائر المنصوص عليها حتى ينظر في أقلها مفسدة ونقيس بها مفسدة الذنب الواقع هذا متعذر انتهى
قال الجلال البلقيني عقب نقله اعتراض الأذرعي هذا ولا تعذر في ذلك إذا جمع ما صح من الأحاديث في ذلك انتهى
والحق تعذر ذلك لأنه وإن فرض إمكان جمع ما صح من الأحاديث في ذلك إلا أن الإحاطة بمفاسدها كلها حتى نعلم أقلها مفسدة في غاية الندور بل التعذر والاستحالة إذ لا يطلع على ذلك إلا الشارع صلى الله عليه وسلم
ومما هو منتقد أيضا قوله أعني ابن عبد السلام من شتم الرب سبحانه أو استهان برسول من رسله أو ضمخ الكعبة أو المصحف بالقذر كان فعله ذلك من أكبر الكبائر مع أن الشارع صلى الله عليه وسلم لم يصرح بأنه كبيرة ووجه رده أن هذا مندرج تحت الشرك بالله تعالى الذي هو أول المنصوص عليه من الكبائر إذ المراد منه مطلق الكفر إجماعا لا خصوص الشرك
قال الشمس البرماوي وهذا كله بناء على تفسير الكبيرة بالأعم من الكفر وغيره لا على المعنى الذي سبق من مقتضى كلام إمام الحرمين انتهى وقد قدمت أن مقتضى كلام الإمام وغيره أن الحدود السابقة إنما هي لما عدا الكفر وإن صح أن يسمى كبيرة بل هو أكبر الكبائر كما في الحديث
ثم قال ابن عبد السلام بعد ما ذكر وكذلك من أمسك امرأة محصنة لمن يزني بها أو أمسك مسلما لمن يقتله فلا شك أن مفسدته أعظم من مفسدة أكل مال اليتيم وكذلك لو
____________________
(1/12)
دل الكفار على عورة المسلمين مع علمه بأنهم يستأصلونهم بدلالته ويسبون حريمهم وأطفالهم ويغنمون أموالهم فإن نسبة هذه المفاسد أعظم من التولي يوم الزحف بغير عذر وكذا لو كذب على إنسان وهو يعلم أنه يقتل بسبب كذبه وأطال في ذلك إلى أن قال وقد ضبط بعض العلماء الكبائر بأن كل ذنب قرن به وعيد أو حد أو لعن فهو من الكبائر فتغيير منار الأرض أي طرقها كبيرة لاقتران اللعن به فعلى هذا كل ذنب يعلم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به الوعيد أو اللعن أو الحد أو كان أكبر من مفسدته فهو كبيرة انتهى
قال ابن دقيق العيد وعلى هذا فيشترط أن لا تؤخذ المفسدة مجردة عما يقترن بها من أمر آخر فإنه قد يقع الغلط في ذلك ألا ترى أن السابق إلى الذهن في مفسدة الخمر إنما هو السكر وتشويش العقل فإن أخذنا بمجردة لزم أن لا يكون شرب القطرة الواحدة منه كبيرة لخلوها عن المفسدة المذكورة لكنها كبيرة لمفسدة أخرى وهي التجري على شرب الكثير الموقع في المفسدة فهذا الاقتران يصيره كبيرة انتهى
قال الجلال البلقيني وما ذكره في القطرة من الخمر قاله ابن عبد السلام قبله وقال في قواعده أيضا بعد حكايته ما سبق لم أقف لأحد من العلماء على ضابط ذلك ولعله أراد ضابطا يسلم من الاعتراض أو ضابطا جامعا مانعا انتهى
ومنها قول ابن الصلاح في فتاويه قال الجلال البلقيني وهو الذي اختاره الكبيرة كل ذنب عظم عظما يصح معه أن يطلق عليه اسم الكبيرة ويوصف بكونه عظيما على الإطلاق
ولها أمارات منها إيجاب الحد ومنها الإيعاد عليه بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب أو السنة ومنها وصف فاعلها بالفسق ومنها اللعن انتهى
ولخصه كالذي قبله شيخ الإسلام البارزي في تفسيره الذي على الحاوي فقال والتحقيق أن الكبيرة كل ذنب قرن به وعيد أو لعن بنص كتاب أو سنة أو علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به وعيد أو حد أو لعن أو أكثر من مفسدته أو أشعر بتهاون مرتكبه في دينه إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها بذلك كما لو قتل من يعتقده معصوما فظهر أنه مستحق لدمه أو وطيء امرأة ظنا أنه زان بها فإذا هي زوجته أو أمته انتهى وما ذكره آخرا سبقه إليه ابن عبد السلام في قواعده وما ذكره أولا يؤيده قول ابن عباس الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب رواه عنه ابن جرير
واعلم أن كل ما سبق من الحدود إنما قصدوا به التقريب فقط وإلا فهي ليست بحدود جامعة وكيف يمكن ضبط ما لا طمع في ضبطه
وذهب آخرون إلى تعريفها
____________________
(1/13)
بالعد من غير ضبطها بحد فعن ابن عباس وجماعة أنها ما ذكره الله تعالى في أول سورة النساء إلى قوله تعالى ! 2 < إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه > 2 ! النساء 31 وقيل هي سبع
ويستدل له بخبر الصحيحين اجتنبوا السبع الموبقات الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات وفي رواية لهما الكبائر الإشراك بالله والسحر وعقوق الوالدين وقتل النفس زاد البخاري واليمين الغموس
ومسلم بدلها وقول الزور
والجواب أن ذلك محمول على أنه صلى الله عليه وسلم إنما ذكره كذلك قصدا لبيان المحتاج منها وقت ذكره لا لحصر الكبائر في ذلك وممن صرح بأن الكبائر سبع علي كرم الله وجهه وعطاء وعبيد بن عمير وقيل خمس عشرة وقيل أربع عشرة وقيل أربع ونقل عن ابن مسعود وعنه أنها ثلاث وعنه أنها عشرة وعن ابن عباس كما رواه عبد الرزاق والطبراني هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع وقال أكبر تلامذته سعيد بن جبير رضي الله عنهما هي إلى السبعمائة أقرب يعني باعتبار أصناف أنواعها وروى الطبراني هذه المقالة عن سعيد عن ابن عباس نفسه أن رجلا قال لابن عباس كم الكبائر سبع هي قال هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى سبع غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار أي التوبة بشروطها ولا صغيرة مع الإصرار
قال الديلمي من أصحابنا وقد ذكرنا عددها في تأليف لنا باجتهادنا فزادت على أربعين كبيرة فيؤول إلى ما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
وقال شيخ الإسلام العلائي في قواعده إنه صنف جزءا جمع فيه ما نص صلى الله عليه وسلم فيه على أنه كبيرة وهو الشرك والقتل والزنا وأفحشه بحليلة الجار والفرار من الزحف وأكل الربا وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات والسحر والاستطالة في عرض المسلم بغير حق وشهادة الزور واليمين الغموس والنميمة والسرقة وشرب الخمر واستحلال بيت الله الحرام ونكث الصفقة وترك السنة والتعرب بعد الهجرة واليأس من روح الله والأمن من مكر الله ومنع ابن السبيل من فضل الماء وعدم التنزه من البول وعقوق الوالدين والتسبب إلى شتمهما والإضرار في الوصية فهذه الخمسة والعشرون هي مجموع ما جاء في الأحاديث منصوصا عليه أنه كبيرة
قلت ويزاد عليه الغلول من الغنيمة ومنع الفحل بل جعله صلى الله عليه وسلم في حديث البزار
____________________
(1/14)
الآتي من أكبر الكبائر والإلحاد بالبيت كما في حديث البيهقي وهذا غير استحلاله كما هو ظاهر لصدقة بفعل معصية فيه ولو سرا ثم رأيت الجلال البلقيني قال بعد ذكره ما مر عنه وقد بقي عليه مما جاء في الأحاديث السابقة أشياء وهي منع الفحل وتعلم السحر وطلب عمله وسوء الظن بالله عز وجل والغلول والجمع بين صلاتين بغير عذر لكن حديثه ضعيف وبذلك يبلغ المنصوص عليه ثلاثين كبيرة لكن منع الفحل إسناد حديثه ضعيف ولا يبلغ ضرره ضرر غيره من الكبائر وإنما ذكرناه لتقدم ذكره في الحديث ويقال عليه السرقة لم يجئ في الأحاديث النص على أنها كبيرة إنما جاء فيها الغلول وهو السرقة من مال الغنيمة نعم في حديث الصحيحين ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن وفي رواية النسائي فإن فعل ذلك فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه فإن تاب تاب الله عليه وقوله ونكث الصفقة لم يجئ في الأحاديث السابقة النص على أنه كبيرة وإنما فيه وعيد شديد وقوله وترك السنة لم يأت أيضا في الأحاديث النص على أنه كبيرة وإنما روى الحاكم في المستدرك وصححه على شرط مسلم أن نحو المكتوبة والجمعة ورمضان كفارات إلا من ثلاث الإشراك ونكث الصفقة وترك السنة وفسر صلى الله عليه وسلم نكث الصفقة بأن تبايع رجلا بيمينك ثم تخالف إليه فتقاتله بسيفك وترك السنة بالخروج من الجماعة ويعضده خبر أحمد وأبي داود من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه والمراد بذلك اتباع البدع أعاذنا الله منها
ولا بأس بالإشارة إلى تلك الأحاديث وهي نوعان ما صرح فيه بأنه كبيرة أو أكبر الكبائر أو أعظم الذنوب أو موبق أو مهلك وما ذكر فيه نحو لعن أو غضب أو وعيد شديد
فمن الأول خبر الشيخين ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور وقول الزور وكان متكئا فجلس فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت وفي رواية لهما جعل الأولين من الكبائر وضم القتل إليهما وجعل قول الزور وشهادته أكبر الكبائر
ورويا أيضا أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت إن
____________________
(1/15)
ذلك لعظيم ثم أي قال وأن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قلت ثم أي قال أن تزاني حليلة جارك ورويا أيضا من الكبائر شتم الرجل والديه قيل وهل يشتم الرجل والديه قال نعم يسب الرجل أبا الرجل وأمه فيسب أباه وأمه وفي رواية للبخاري أن هذه الأخيرة من أكبر الكبائر وفي رواية له أيضا عد الشرك والعقوق والقتل واليمين الغموس من الكبائر وعد في أخرى الشرك والقتل إلا بالحق وأكل مال اليتيم والربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات موبقات وفي رواية صحيحة عد هذه السبع وعقوق الوالدين المسلمين واستحلال البيت الحرام كبائر وسيأتي روايات أن عدم التنزه من البول كبيرة وفي حديث للبزار فيه من ضعفه شعبة وغيره ووثقه ابن حبان وغيره زيادة والانتقال إلى الأعراب بعد هجرته وفي أخرى فيها ابن لهيعة والتعرب بعد الهجرة وفي أخرى فيها ضعيف والرجوع إلى الأعرابية بعد الهجرة وفسر بأن يهاجر الرجل حتى إذا وقع سهمه في الفيء ووجب عليه الجهاد خلع ذلك من عنقه فرجع أعرابيا كما كان واستدل له بعض السلف بقوله تعالى ! 2 < إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى > 2 ! محمد صلى الله عليه وسلم 25 ويوافقه نقل ابن سيرين عن عبيدة أن من الكبائر المرتد أعرابيا بعد هجرته
وفي رواية للطبراني فيها رجل منكر ألا أخبركم بأكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان صلى الله عليه وسلم محتبيا فحل حبوته وأخذ صلى الله عليه وسلم بطرف لسانه فقال ألا وقول الزور وفي أخرى فيها مدلس ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك بالله ثم قرأ ! 2 < ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما > 2 ! النساء 48 وعقوق الوالدين ثم قرأ ! 2 < أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير > 2 ! لقمان 14 وكان متكئا فاحتفز وقال ألا وقول الزور
وأخرج أحمد أكبر الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين وما حلف حالف بالله يمين صبر فأدخل فيها مثل جناح بعوضة إلا جعله الله نكتة في قلبه إلى يوم القيامة وأخرج البزار بسند فيه ضعيف أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين ومنع فضل الماء ومنع الفحل
____________________
(1/16)
وأخرج ابن مردويه بسند فيه ضعيف أيضا أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة الإشراك بالله وقتل النفس المؤمنة بغير حق والفرار في سبيل الله يوم الزحف وعقوق الوالدين ورمي المحصنات وتعلم السحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم وابن أبي حاتم هي أي الخمر أكبر الكبائر وأم الفواحش من شرب الخمر ترك الصلاة ووقع على أمه وخالته وعمته
وروي أيضا إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق ويوافقه رواية أحمد وأبي داود من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق والبزار بسند فيه ضعيف من جمع بين صلاتين بغير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر
وابن أبي حاتم والبزار أنه صلى الله عليه وسلم سئل ما الكبائر فقال الشرك بالله والإياس
____________________
(1/17)
من روح الله والأمن من مكر الله وهذا أكبر الكبائر
قيل والأشبه أن يكون هذا الحديث موقوفا والدارقطني الإضرار في الوصية من الكبائر
قال ابن أبي حاتم الصحيح أنه موقوف
ومن الثاني خبر مسلم وغيره ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم
قال أبو ذر فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فقلت خابوا وخسروا من هم يا رسول الله قال المسبل إزاره أي خيلاء كما في روايات أخر والمنان الذي لا يعطي شيئا إلا منة والمنفق سلعته بالحلف الكاذب وفي رواية له تفسيرهم بشيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر
وفي رواية للشيخين برجل على فضل ماء بفلاة يمنعه ابن السبيل ورجل بايع رجلا سلعة بعد العصر فحلف بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه وهو على غير ذلك ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه منها ما يريد وفى له وإن لم يعطه لم يف له
وأخرج أحمد إن لله تعالى عبادا لا يكلمهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم قيل ومن أولئك يا رسول الله قال متبرئ من والديه راغب عنهما أو متبرئ من ولده ورجل أنعم عليه قوم فكفر نعمتهم وتبرأ منهم أي أنعموا عليه بالعتق
لخبر مسلم من تولى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة عدلا ولا صرفا
وروى الشيخان لا يدخل الجنة قتات أي نمام
____________________
(1/18)
وأحمد ثلاث لا يدخلون الجنة مدمن خمر وقاطع رحم ومصدق بالسحر
وأحمد والبخاري ثلاث أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه العمل ولم يوفه أجره
وأحمد والنسائي لا يدخل الجنة عاق ولا مدمن خمر ولا نمام
وأحمد وابن ماجة لا يدخل الجنة عاق ولا مدمن خمر ولا مكذب بقدر
وروى أحمد بسند فيه ضعف لا يدخل الجنة صاحب خمس مدمن خمر ولا مؤمن بسحر ولا قاطع رحم ولا كاهن ولا منان
ومسلم وغيره لعن الله من ذبح لغير الله لعن الله من لعن والديه لعن الله من آوى محدثا لعن الله من غير منار الأرض أي طرقها
والحاكم وصححه ثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والديوث ورجلة النساء
فهذه الأحاديث هي التي أشار إليها العلائي وغيره من أنه نص فيها
____________________
(1/19)
على بعض الذنوب أنه كبيرة أو ما يستلزمها وسيأتي إن شاء الله تعالى بعون الله وقوته عند ذكرنا لتفاصيلها من الأحاديث ما يزيد على ذلك بكثير ولكن قد قصدنا بتقديم هذه الإشارة إلى بيان أصل ما قاله العلائي وغيره
وأما تحقيق كل كبيرة وما جاء فيها فسنبسطه عند ذكرها مفصلة مستوفاه يسر الله ذلك بمنه وكرمه آمين
وقال أبو طالب المكي الكبائر سبع عشرة أربع في القلب الشرك والإصرار على المعصية والقنوط والأمن من مكر الله وأربع في اللسان القذف وشهادة الزور والسحر وهو كل كلام يغير الإنسان أو شيئا من أعضائه واليمين الغموس وهي التي تبطل بها حقا أو تثبت بها باطلا وثلاث في البطن أكل مال اليتيم ظلما وأكل الربا وشرب كل مسكر واثنتان في الفرج الزنا واللواط واثنتان في اليد القتل والسرقة وواحدة في الرجل الفرار من الزحف وواحدة في جميع الجسد عقوق الوالدين انتهى
خاتمة في التحذير من جملة المعاصي كبيرها وصغيرها قدمتها هنا لتكون إن شاء الله زاجرة عن اقتحام حمى المعاصي والآثام الموجبة للهلاك والبعد والطرد عن دار السلام
وللخزي والهوان والذلة والخسران والبوار والدمار والوبال والعثار لا سيما في دار القرار
____________________
(1/20)
اعلم وفقني الله وإياك لطاعته وأنالنا من سوابغ رضاه ومهابته أن الله تعالى حذر عباده من معصيته بما أعلمهم به من نواميس ربوبيته وأقامه من سطوات قهره وجبروته ووحدانيته
قال تعالى ! 2 < فلما آسفونا > 2 ! أي أغضبونا ! 2 < انتقمنا منهم > 2 ! الزخرف 55 وقال تعالى ^ فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ^ الأعراف 166 وقال تعالى ! 2 < ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة > 2 ! فاطر 45 وقال تعالى ! 2 < ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا > 2 ! النساء 115 وقال تعالى ! 2 < من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا > 2 ! النساء 123 والآيات في ذلك كثيرة
وفي الحديث الصحيح إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله يغار وإن المؤمن يغار وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه
وفيهما أنه صلى الله عليه وسلم قال لا أحد أغير من الله فلذا حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل
وفي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال إن المؤمن إذا أذنب نكتت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب واستغفر صقل قلبه وإن لم يتب زادت حتى تعلو قلبه أي تغشيه وتغطيه تلك النكتة السوداء فذلك الران الذي ذكره الله في كتابه ! 2 < كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون > 2 ! المطففين 14
____________________
(1/21)
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب
وعن ابن الجوزي أنه ذكر عن أم سليم أم أنس بن مالك رضي الله عنهما أنها قالت يا رسول الله أوصني
قال اهجري المعاصي فإنها أفضل الهجرة وحافظي على الفرائض فإنها أفضل الجهاد وأكثري من ذكر الله فإنه لا يأتي العبد بشيء أحب إلى الله من كثرة ذكره
وسأل أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أي الهجرة أي أصحابها أفضل قال من هجر السيئات
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة
وعن حذيفة رضي الله عنه أنه قيل له هل تركت بنو إسرائيل دينهم أي حتى عذبوا بأنواع العذاب الأليم كمسخهم قردة وخنازير وأمرهم بقتل أنفسهم قال لا ولكنهم كانوا إذا أمروا بشيء تركوه وإذا نهوا عن شيء ركبوه حتى انسلخوا من دينهم كما ينسلخ الرجل من قميصه
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال يا صاحب الذنب لما تأمن سوء عاقبته ولما يتبع الذنب أعظم من الذنب وقلة حيائك من ملك اليمين والشمال وأنت على الذنب أي بقاؤك عليه بلا توبة أعظم من الذنب الذي عملته وفرحك بالذنب إذا ظفرت به أعظم من الذنب وضحكك وأنت لا تدري ما الله صانع بك أعظم من الذنب وحزنك على الذنب إذا فاتك أعظم من الذنب وخوفك من الريح إذا حركت ستر بابك وأنت على الذنب ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك أعظم من الذنب ويحك هل تدري ما كان ذنب أيوب عليه الصلاة والسلام فابتلاه الله بالبلاء في جسده وذهاب ماله إنما كان ذنبه أنه استعان به مسكين على ظالم يدرؤه عنه فلم يعنه عليه ولم ينه الظالم عن ظلم هذا المسكين فابتلاه الله تعالى انتهى
والظاهر أن ذلك لم يصح عن ابن عباس ولو صح وجب تأويله إذ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصومون عن الذنب كبيرها وصغيرها عمدها وسهوها قبل النبوة
____________________
(1/22)
وبعدها على الصحيح المختار في الأصول وكأنه إنما سكت لعجزه عن نصرته ومع ذلك يمكن أن يعتب الله تعالى عليه لكونه ترك الأكمل من نصره وإن ظن عجزه عنه
وقال بلال بن سعد لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت
وقال الحسن يا ابن آدم ترك الخطيئة أيسر من طلب التوبة
وقال محمد بن كعب القرظي ما عبد الله بشيء أحب إليه من ترك المعاصي
ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه فأتى بالاستطاعة في جانب المأمورات ولم يأت بها في جانب المنهيات إشارة إلى عظيم خطرها وقبيح وقعها وأنه يجب بذل الجهد والوسع في المباعدة عنها سواء استطاع ذلك أم لا بخلاف المأمورات فإن العجز له مدخل فيها تركا وغيره فتأمل ذلك
وقال الفضيل بن عياض رضي الله عنه بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله تعالى
وقيل أوحى الله تعالى إلى موسى يا موسى أول من مات أي هلك وخسر من خلقي إبليس وذلك أنه أول من عصاني وإنما أعد من عصاني من الأموات
وقال حذيفة إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء فإذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء حتى يصير قلبه كله أسود ويؤيده قول السلف المعاصي بريد الكفر أي رسول باعتبار أنها إذا أورثت القلب هذا السواد وعمته لم يبق يقبل خيرا قط فحينئذ يقسو ويخرج منه كل رحمة ورأفة وخوف فيرتكب ما أراد ويفعل ما أحب ويتخذ الشيطان وليا من دون الله ويضله ويغويه ويعده ويمنيه ولا يرضى منه بدون الكفر ما وجد له إليه سبيلا
قال تعالى ! 2 < إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا > 2 ! النساء 117 121 وقال تعالى ! 2 < يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير > 2 ! فاطر 5 6
____________________
(1/23)
وروى أحمد في مسنده عن وهب قال إن الرب سبحانه وتعالى قال في بعض ما يقول لبني إسرائيل إني إذا أطاعني العبد رضيت عنه وإذا رضيت عنه باركت فيه
وفي آثاره وليس لبركتي نهاية وإذا عصاني العبد غضبت عليه وإذا غضبت عليه لعنته ولعنتي تبلغ السابع من ولده انتهى ويؤيده قوله تعالى ! 2 < وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا > 2 ! النساء 9
وقال المفسرون في قوله تعالى ! 2 < مالك يوم الدين > 2 ! الفاتحة 4 أي الجزاء
وفي الحديث كما تدين تدان أي كما تفعل يفعل معك فالقصاص إن لم يكن فيك أخذ من ذريتك ولذا قال تعالى ! 2 < خافوا عليهم فليتقوا الله > 2 ! النساء 9 فإن كان لك خوف على صغارك وأولادك المحاويج المساكين فاتق الله في أعمالك كلها لا سيما في أولاد غيرك فإن الله تعالى يحفظك في ذريتك وييسر لهم من الحفظ والخير والتوفيق ببركة تقواك ما تقر به عينك بعد موتك وينشرح به صدرك وأما إذا لم تتق الله في أولاد الناس ولا في حرمهم فاعلم أنك مؤاخذ في ذلك بنفسك وذريتك وأن ما فعلته كله يفعل بهم
فإن قلت هم لم يفعلوا فكيف عوقبوا بزلات آبائهم وانتقم منهم بمعاصي أصولهم قلت لأنهم أتباع لأولئك الأصول وناشئون عنهم
! 2 < والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا > 2 ! ! 2 < وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري > 2 !
قيل كان ذلك الصالح هو الجد السابع لأم
فإن قلت قد نجد في فرع العصاة صالحا وبالعكس ألا ترى ابن نوح وابن آدم القاتل صلى الله على آدم ونوح وسائر الأنبياء والمرسلين وسلم
قلت هذا مع قلته لأمر باطن يعلمه الله تعالى لو لم يكن عنه منه إلا الإعلام بعجز الخلق حتى الكمل منهم عن هداية أقرب الناس إليهم ! 2 < إنك لا تهدي > 2 ! أي لا توصل من أحببت على أن الذي أفادته آية ! 2 < وليخش الذين > 2 ! الخ أن بعض الأصول ربما عوقب
____________________
(1/24)
به الفروع ولا يلزم من ذلك بفرض استواء الأمرين إلا أن صلاح الأصول ربما انتفع به الفروع فليس ذلك أمرا كليا فيهما وربما كان للفاسق ظاهرا أعمال صالحة باطنة يثيبه الله بها في ذريته فيتعين الأخذ بقوله تعالى ! 2 < وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا > 2 ! النساء 9 وفي مسند أحمد أيضا كتبت عائشة إلى معاوية رضي الله عنهما أما بعد فإن العبد إذا عمل بمعصية الله عاد حامده من الناس ذاما وقال أبو الدرداء احذر أن تبغضك قلوب المؤمنين وأنت لا تشعر
قال الفضيل هو العبد يخلو بمعاصي الله فيلقى الله بغضبه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر
ولما ارتكب الدين محمد بن سيرين وحصل له من ذلك غم شديد قال إني لأعرف سبب هذا الغم أصبت ذنبا من منذ أربعين سنة
وقال سليمان التيمي إن الرجل ليصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلة
وقال يحيى بن معاذ عجبت من ذي عقل يقول في دعائه اللهم لا تشمت بي الأعداء ثم هو يشمت بنفسه كل عدو قيل له كيف ذلك قال يعصي الله فيشمت في القيامة كل عدو
وقال مالك بن دينار أوحى الله إلى نبي من الأنبياء أن قل لقومك لا يدخلوا مداخل أعدائي ولا يلبسوا ملابس أعدائي ولا يركبوا مراكب أعدائي ولا يطعموا مطاعم أعدائي فيكونوا أعدائي كما هم أعدائي وقال الحسن هانوا على الله فعصوه ولو عزوا عليه لعصمهم
وقال إن الرجل أي الكامل ليذنب الذنب فما ينساه ولا يزال متخوفا منه حتى يدخل الجنة
وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال إن المؤمن يرى ذنوبه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار
وعن كعب الأحبار رضي الله عنه قال إن رجلا من بني إسرائيل أصاب ذنبا فحزن عليه فجعل يذهب ويجيء ويقول بم أرضي ربي فكتب صديقا
وعن عمار بن دادا قال قال لي كهمس يا أبا سلمة أذنبت ذنبا فأنا أبكي عليه منذ أربعين سنة قلت ما هو قال زارني أخ لي فاشتريت له سمكا بدانق فلما أكل قمت إلى حائط جار لي فأخذت منه قطعة طين فغسل بها يده فأنا أبكي على ذلك أربعين سنة
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عماله أما بعد فإذا مكنك الله القدرة من ظلم العباد فاذكر قدرة الله عليك واعلم أنك لا تفعل بهم أمرا من الظلم إلا كان زائلا عنهم أي بموتهم باقيا عليك أي عاره وناره في الآخرة
واعلم أيضا أن الله آخذ للمظلوم حقه من الظالم وإياك إياك أن تظلم من لا ينتصر عليك إلا بالله عز وجل
____________________
(1/25)
أي فإن الله تعالى إذا علم التجاء عبد إليه بالصدق والاضطرار انتصر له على الفور
^ أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ^ النمل 62
وقال عبد الله بن سلام لما خلق الله الملائكة رفعت رؤوسها إلى السماء فقالت ربنا مع من أنت قال مع المظلوم حتى يؤدي إليه حقه
وقال بعض السلف يا أهل المعاصي لا تغتروا بطول حلم الله عليكم واحذروا أسفه أي غضبه بسبب المعاصي فإنه قال تعالى ! 2 < فلما آسفونا انتقمنا منهم > 2 ! الزخرف 55
وقال يعقوب القاري رأيت في النوم رجلا آدم أي أسمر طوالا والناس يتبعونه فقلت من هذا فقالوا أويس القرني فاتبعته فقلت أوصني رحمك الله تعالى فكلح أي عبس في وجهي فقلت مسترشد فأرشدني أرشدك الله فأقبل علي وقال ابتغ رحمة الله عند طاعته واحذر نقمته عند معصيته ولا تقطع رجاءك منه في خلال ذلك ثم ولى وتركني
وفي التوراة يا بني إسرائيل إني كنت أحبكم فلما عصيتموني أبغضتكم
وعن عبد الله بن زيد قال غرني القمر فمررت في المقابر فإذا أنا برجل قد خرج من قبر يجر سلسلة فإذا رجل آخذ بالسلسلة فجذبه حتى رده إلى قبره قال فسمعته يضربه وهو يقول ألم أكن أصلي ألم أكن أغتسل من الجنابة ألم أكن أصوم قال بلى ولكنك كنت إذا خلوت بالمعاصي لم تراقب الله تعالى
وقال إبراهيم التيمي كنت كثير التردد إلى المقابر أذكر الموت والبلى فبينما أنا ذات ليلة بها إذ غلبتني عيناي فنمت فرأيت قبرا قد انشق وسمعت قائلا يقول خذوا هذه السلسلة فاسلكوها في فيه وأخرجوها من دبره وإذا الميت يقول يا رب ألم أكن أقرأ القرآن ألم أحج بيتك الحرام وجعل يعدد أفعال البر شيئا بعد شيء وإذا قائل يقول كنت تفعل ذلك ظاهرا فإذا خلوت بارزتني بالمعاصي ولم تراقبني
وعن عبد الله بن المديني قال كان لنا صديق فقال خرجت إلى ضيعتي فأدركتني صلاة المغرب فأتيت إلى جنب مقبرة فصليت المغرب قريبا منها فبينما أنا جالس إذ سمعت من جانب القبور أنينا فدنوت إلى القبر الذي سمعت منه الأنين وهو يقول آه قد كنت أصوم قد كنت أصلي فأصابني قشعريرة فدعوت من حضرني فسمع مثل ما سمعت ومضيت إلى ضيعتي ورجعت يعني في اليوم الثاني وصليت في موضعي الأول وصبرت حتى غابت الشمس وصليت المغرب ثم استمعت إلى ذلك القبر فإذا هو يئن ويقول آه قد كنت أصلي قد كنت أصوم فرجعت إلى منزلي ومرضت بالحمى شهرين وأقول قد وقع لي نظير ذلك وذلك أني كنت وأنا صغير أتعاهد قبر والدي رحمه الله للقراءة عليه فخرجت يوما بعد صلاة الصبح بغلس في رمضان
____________________
(1/26)
بل أظن أن ذلك كان في العشر الأخير بل في ليلة القدر فلما جلست على قبره وقرأت شيئا من القرآن ولم يكن بالمقبرة أحد غيري فإذا أنا أسمع التأوه العظيم والأنين الفظيع بآه آه آه وهكذا بصوت أزعجني من قبر مبني بالنورة والجص له بياض عظيم فقطعت القراءة واستمعت فسمعت صوت ذلك العذاب من داخله وذلك الرجل المعذب يتأوه تأوها عظيما بحيث يقلق سماعه القلب ويفزعه فاستمعت إليه زمنا فلما وقع الإسفار خفي حسه عني فمر بي إنسان فقلت قبر من هذا قال هذا قبر فلان لرجل أدركته وأنا صغير وكان على غاية من ملازمة المسجد والصلوات في أوقاتها والصمت عن الكلام وهذا كله شاهدته وعرفته منه فكبر علي الأمر جدا لما أعلمه من أحوال الخير التي كان ذلك الرجل متلبسا بها في الظاهر فسألت واستقصيت الذين يطلعون على حقيقة أحواله فأخبروني أنه كان يأكل الربا فإنه كان تاجرا ثم كبر وبقي معه شيء من الحطام فلم ترض نفسه الظالمة الخبيثة أن يأكل من جنبه حتى يأتيه الموت بل سول له الشيطان محبة المعاملة بالربا حتى لا ينقص ماله فأوقعه في ذلك العذاب الأليم حتى في رمضان حتى في ليلة القدر ولما قلت ذلك لبعض أهل بلده قال لي أعجب منه عبد الباسط رسول القاضي فلان وهذا الرجل أعرفه أيضا كان رسولا للقضاة أول أمره ثم صار ذا ثروة فقلت وما شأنه قال لما حفرنا قبره لننزل عليه ميتا آخر رأينا في رقبته سلسلة عظيمة ورأينا في تلك السلسلة كلبا أسود عظيما مربوطا معه في تلك السلسلة وهو واقف على رأسه يريد نهشه بأنيابه وأظافره فخفناه خوفا عظيما وبادرنا برد التراب في القبر
قالوا ورأينا فلانا عن رجل آخر لما حفرنا قبره لم يبق منه إلا جمجمة رأسه فإذا فيها مسامير عظيمة القدر عريضة الرؤوس مدقوقة فيها كأنها باب عظيم فتعجبنا منها وردينا عليها التراب قالوا وحفرنا عن فلان فخرجت لنا حية عظيمة من قبره ورأيناها مطوقة به فأردنا دفعها عنه فتنفست علينا حتى كدنا كلنا نهلك عن آخرنا فنعوذ بالله من عذاب القبر الناشئ عن غضب الله ومعصيته
وقال سليمان بن عبد الجبار أذنبت ذنبا فاحتقرته فأتيت في منامي فقيل لي لا تحقرن من الذنوب شيئا وإن كان صغيرا إن الصغير عندك اليوم يكون كبيرا غدا عند الله
وقال علي بن سليمان الأنماطي رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المنام على خلقته التي وصفوه بها وهو يقول % لولا الذين لهم ورد يقومونا % وآخرون لهم سرد يصومونا % % لدكدكت أرضكم من تحتكم سحرا % لأنكم قوم سوء لا تطيعونا % واعلم أن أعظم زاجر عن الذنوب هو خوف الله تعالى وخشية انتقامه وسطوته وحذر عقابه وغضبه وبطشه ! 2 < فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم > 2 ! النور 63
____________________
(1/27)
جاء أنه صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال كيف تجدك قال أرجو الله يا رسول الله وأخاف ذنوبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف
وعن وهب بن الورد قال كان عيسى صلى الله على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وسلم يقول حب الفردوس وخشية جهنم يورثان الصبر على المصيبة ويبعدان العبد من لذات الدنيا وشهواتها ومعاصيها
وعن الحسن قال والله لقد مضى بين أيديكم أقوام لو أنفق أحدهم عدد الحصى ذهبا أن لا ينجوا لعظم الذنب في نفسه
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تسمعون ما أسمع أطت السماء وحق لها أن تئط والذي نفسي بيده ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك ساجد لله تعالى أو قائم أو راكع ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولخرجتم أو لصعدتم إلى الصعدات أي الجبال تجأرون إلى الله تعالى خوفا من عظيم سطوته وشدة انتقامه وفي رواية لا تدرون تنجون أو لا تنجون وقال بكر بن عبد الله المزني من أتى الخطيئة وهو يضحك دخل النار وهو يبكي
وفي الحديث لو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن النار
وفي الصحيحين قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه ! 2 < وأنذر عشيرتك الأقربين > 2 ! الشعراء 214 فقال يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئا يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت يا رسول الله ^ والذين يؤتون ما آتوا
____________________
(1/28)
وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون ^ المؤمنون 60 يا رسول الله هو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر وهو يخاف الله قال لا يا بنت أبي بكر يا بنت الصديق ولكنه الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف أن لا يتقبل منه رواه أحمد
وقيل للحسن البصري يا أبا سعيد كيف نصنع بمجالسة قوم يحدثونا عن الرجاء حتى تكاد قلوبنا تطير فقال له إنك والله أن تصحب قوما يخوفونك حتى تدرك أمنا خير لك من أن تصحب أقواما يؤمنونك حتى تلحقك المخاوف ولما طعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقربت وفاته قال لابنه ويلك ضع خدي على الأرض لا أم لك وويلي وأي ويلي إن لم يرحمني وقال له ابن عباس ما هذا الخوف يا أمير المؤمنين وقد فتح الله بك الفتوح ومصر بك الأمصار وفعل بك وفعل قال وددت أن أنجو لا علي ولا لي وفي رواية لا أجرا ولا وزرا
وكان زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنهم إذا توضأ وفرغ من وضوئه أخذته رعدة فقيل له في ذلك
فقال ويحكم أتدرون إلى من أقوم ولمن أريد أن أناجي
وقال أحمد بن حنبل الخوف يمنعني من أكل الطعام والشراب فما اشتهيه
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم ذكر من السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل له إلا ظله رجلا ذكر الله أي وعيده وعقابه خاليا ففاضت عيناه أي خوفا مما جناه واقترفه من المخالفات والذنوب
وفي حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عينان لا تمسهما النار عين بكت في جوف الليل من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله تعالى
وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كل عين باكية يوم القيامة إلا عينا غضت عن محارم الله وعينا سهرت في سبيل الله وعينا يخرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله تعالى
____________________
(1/29)
وأخرج الترمذي وقال حسن صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلج أي لا يدخل النار رجل بكى من خشية الله تعالى حتى يعود اللبن في الضرع ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما لأن أدمع دمعة من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بألف دينار وقال عون بن عبد الله بلغني أنه لا تصيب دموع الإنسان من خشية الله مكانا من جسده إلا حرم الله ذلك المكان على النار وكان لصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أزيز كأزيز المرجل من البكاء أي فوران وغليان كغليان القدر على النار
وقال الكندي البكاء من خشية الله تطفيء الدمعة منه أمثال البحار من النار
وكان ابن السماك يعاتب نفسه ويقول لها تقولين قول الزاهدين وتعملين عمل المنافقين ومن ذلك الجنة تطلبين أن تدخليها هيهات هيهات للجنة قوم آخرون ولهم أعمال غير ما نحن عاملون
وعن سفيان الثوري قال دخلت على جعفر الصادق فقلت له يا ابن رسول الله أوصني قال يا سفيان لا مروءة لكذوب ولا راحة لحسود ولا إخاء لملول ولا سؤدد لسيء الخلق قلت يا ابن رسول الله زدني قال يا سفيان كف عن محارم الله تكن عابدا وارض بما قسم الله لك تكن مسلما واصحب الناس بما تحب أن يصحبوك به تكن مؤمنا ولا تصحب الفاجر فيعلمك من فجوره أي للحديث المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل وشاور في أمرك الذين يخشون الله
قلت يا ابن رسول الله زدني قال يا سفيان من أراد عزا بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فليخرج من ذل معصية الله إلى طاعة الله قلت يا ابن رسول الله زدني قال أدبني أبي بثلاث قال لي أي بني إن من يصحب صاحب السوء لا يسلم ومن يدخل مداخل السوء يتهم ومن لا يملك لسانه يندم
وقال ابن المبارك سألت وهيب بن الورد أيجد طعام العبادة من يعصي الله تعالى قال لا ولا من يهم بمعصية الله تعالى
وقال الإمام أبو الفرج بن الجوزي الخوف هو النار المحرقة للشهوات فإذا فضيلته بقدر ما يحرق من الشهوة وبقدر ما يكف عن المعصية ويحث على الطاعة وكيف لا يكون الخوف ذا فضيلة وبه تحصل العفة والورع والتقوى والمجاهدة والأعمال الفاضلة التي يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى كما علم من الآيات والأخبار كقوله تعالى ^ هدى
____________________
(1/30)
ورحمة للذين هم لربهم يرهبون ^ الأعراف 154 وقوله تعالى ^ رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه ^ البينة 8 وقوله تعالى ^ وخافون إن كنتم مؤمنين ^ آل عمران 175 وقوله تعالى ^ ولمن خاف مقام ربه جنتان ^ الرحمن 46 وقال تعالى ^ سيذكر من يخشى ^ الأعلى 10 وقال تعالى ^ إنما يخشى الله من عباده العلماء ^ فاطر 28
وكل ما دل من الآيات والأحاديث على فضيلة العلم دل على فضيلة الخوف لأن الخوف ثمرة العلم
وأخرج ابن أبي الدنيا أنه صلى الله عليه وسلم قال إذا اقشعر جسد العبد من مخافة الله عز وجل تحاتت عنه خطاياه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها
وقال صلى الله عليه وسلم قال الله سبحانه وتعالى وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين إن أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة وإن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة
وقال أبو سليمان الداراني كل قلب ليس فيه خوف الله فهو خراب
وقد قال تعالى ^ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ^ الأعراف 99 وقال مالك ابن دينار البكاء على الخطيئة يحط الذنوب كما يحط الريح الورق اليابس
وقال بعض السلف لو نودي ليدخل الجنة كل الناس إلا رجلا واحدا لخشيت أن أكون أنا ذلك الرجل وهذا عمر أفضل الناس بعد أبي بكر رضي الله عنهما وقد بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ومع ذلك سأل حذيفة صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم المتعلق بالمنافقين والفتن فقال له يا حذيفة هل أنا من المنافقين فقال لا والله لست منهم يا أمير المؤمنين فخاف عمر أن تكون نفسه قد لبست عليه حاله وسترت عيوبه عنه وعظم ذلك عليه حتى جوز أن يكون ذلك الوعد مشروطا بشروط لم تحصل منه فلم يغتر به
وقال الحسن بكى أبونا آدم صلى الله عليه وسلم حين أهبط من الجنة ثلاثمائة عام حتى جرت أودية سرنديب من دموعه وسرنديب محل من الهند أعدل البلاد مطلقا نزل به آدم حتى لا يؤثر فيه مفارقة الجنة
____________________
(1/31)
إضرارا بينا ولو نزل بغيره مما لم يعتدل حره وبرده في سائر الأزمنة لأضر به إضرارا بينا
وقال وهيب بن الورد لما عاتب الله تعالى نوحا صلى الله عليه وسلم في ابنه فأنزل عليه ! 2 < إني أعظك أن تكون من الجاهلين > 2 ! هود 46 بكى ثلاثمائة عام حتى صار في خديه أمثال الجداول أي الأنهار الصغار من البكاء
وقال وهب بن منبه كان داود يبكي حتى يبل ما بين يديه من دموعه ويبكي حتى ينبت العشب من دموعه ثم يبكي حتى ينقطع صوته
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يحيى بن زكريا صلى الله على نبينا وعليهما وسلم يبكي حتى تقطع خداه وبدت أضراسه فقالت له أمه لو أذنت لي يا بني حتى أتخذ لك قطعتين من لبود تواري بهما أضراسك عن الناظرين فأذن فألصقتهما بخديه فكان يبكي فكانتا تبتلان بالدموع فتجيء أمه فتعصرهما فتسيل دموعه على ذراعيها
وفي صحيح البخاري عن عائشة وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن
وفيه أيضا أنه صلى الله عليه وسلم لما مرض فأمر أبا بكر أن يصلي بالناس قالت يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف أي يغلب عليه الحزن إذا قام مقامك لا يسمع الناس من البكاء
وقال عبد الله بن عيسى كان في وجه عمر بن الخطاب خطان أسودان من البكاء
وقال ابن عمر رضي الله عنهما في قوله تعالى ^ أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ^ الزمر 9 هو عثمان بن عفان رضي الله عنه
وقال معاوية بن أبي سفيان لضرار صف لي عليا قال ألا تعفيني قال بل صفه قال أو لا تعفيني قال لا أعفيك قال أما إذا أنه لا بد فإنه كان بعيد المدى أي واسع العلوم والمعارف لا تدرك غايته فيهما شديد القوى أي في ذات الله ونصرة دينه يقول فصلا ويحكم عدلا يتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه يستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل وظلمته كان والله غزير الدمعة طويل الفكرة يقلب كفيه أي تأسفا وحزنا إذ هذا فعل المتأسف الحزين ويخاطب نفسه أي بالمزعجات والمقلقلات يعجبه من اللباس ما خشن ومن الطعام ما حضر كان والله كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ويأتينا إذا دعوناه ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه هيبة له فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم يعظم أهل الدين ويحب
____________________
(1/32)
المساكين ولا يطمع القوي في باطله ولا ييئس الضعيف من عدله وأشهد بالله لرأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل ستوره وغارت نجومه وقد تمثل في محرابه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم أي اللديغ ويبكي بكاء الحزين وكأني أسمعه يقول يا ربنا يا ربنا يتضرع إليه ثم يقول يا دنيا يا دنيا إلي تعرضت أم بي تشوقت هيهات هيهات غري غيري قد بتتك ثلاثا لا رجعة لي فيك فعمرك قصير وعيشك حقير وخطرك كبير آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق فذرفت عيون معاوية على لحيته فما ملكها وهو ينشفها بكمه وقد احتنق القوم بالبكاء قال معاوية رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك فكيف حزنك عليه يا ضرار قال حزن من ذبح ولدها في حجرها فلا ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها
وبكى ابن عباس رضي الله عنهما حتى صار كأنه الشن البالي وبكى تلميذه سعيد بن جبير حتى عمشت عيناه
وعن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال قلت ليزيد بن مرثد مالي أرى عينك لا تجف قال وما مسألتك عنه فقلت له عسى الله أن ينفعني به قال يا أخي إن الله قد توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار والله لو لم يتوعدني أن يسجنني إلا في حمام لكنت حريا أن لا تجف لي عين قال فقلت له فهكذا أنت في خلواتك قال وما مسألتك عنه قلت عسى الله أن ينفعني بذلك فقال والله إن ذلك ليعرض لي حين أسكن إلى أهلي أي لإرادة وطئها فيحول ذلك بيني وبين ما أريد وإنه ليوضع الطعام بين يدي فيعرض لي فيحول بيني وبين أكله حتى تبكي امرأتي ويبكي صبياننا لا يدرون ما أبكانا ولربما أضجر ذلك امرأتي فتقول يا ويحها ما خصت به من طول الحزن معك في الحياة الدنيا ما تقر لي معك عين
وقال جعفر بن سليمان اشتكى ثابت البناني عينيه فقال له الطبيب اضمن لي خصلة تبرأ عينك فقال وما هي قال لا تبك
وأي خير في عين لا تبكي وقال الحسن بن عرفة رأيت يزيد ابن هرون بواسط وكان أحسن الناس عينين ثم رأيته بعد ذلك مكفوف البصر فقلت يا أبا خالد ما فعلت العينان الجميلتان قال ذهب بهما بكاء الأسحار
ودخل بعض أصحاب فتح الموصلي عليه فرآه يبكي ودموعه خالطها صفرة فقال بكيت الدم قال نعم قال على ماذا قال على تخلفي عن واجب حق الله ثم رآه في المنام بعد موته فقال له ما فعل الله بك قال غفر لي قال فما صنع في دموعك قال قربني فقال لي يا فتح على ماذا بكيت قلت يا رب على تخلفي عن واجب حقك قال فالدم قلت خوفا أن لا تفتح لي فقال يا فتح ما أردت بهذا كله وعزتي لقد صعد حافظاك أربعين سنة بصحيفتك ما فيها خطيئة
____________________
(1/33)
وذكر أبو حاتم بن حبان في صحيحه عن عطاء
قال دخلت أنا وعبيد بن عمر على عائشة فقالت لعبيد بن عمر قد آن لك أن تزورنا فقال أقول يا أماه كما قال الأول زر غبا تزدد حبا فقالت دعونا من بطالتكم هذه فقال ابن عمر أخبرينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فسكتت ثم قالت لما كان ليلة من الليالي قال يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي
قلت والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك قالت فقام فتطهر ثم قام يصلي قالت فلم يزل يبكي حتى بل حجره قالت وكان جالسا فلم يزل يبكي حتى بل لحيته قالت ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض فجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال يا رسول الله لم تبكي وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال أفلا أكون عبدا شكورا لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها
! 2 < إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار > 2 ! الآية كلها آل عمران 190
واعلم أن البكاء إما من حزن وإما من وجع وإما من فزع وإما من فرح وإما شكرا وإما خشية من الله تعالى وهذا هو أعلاها درجة وأغلاها ثمنا في الدار الآخرة وأما البكاء للرياء والكذب فلا يزداد صاحبه إلا طردا وبعدا ومقتا وحق لمن لم يعلم ما جرى له به القلم في سابق علم الله تعالى من سعادة مؤبدة أو شقاوة مخلدة وهو فيما بين هاتين الحالتين قد ركب المحرمات وخالف خالقه في المنهيات أن يكثر بكاءه وأسفه وحزنه ونحيبه ولهفه وأن يهجر الفواحش ما ظهر منها وما بطن وأن يجأر إلى الله على ما سلف منه من سوابق مخالفاته وقبائح شهواته عسى أن يوفقه إلى التوبة النصوح وأن يخرجه من ظلمات الجهل والعصيان إلى العلم والطاعة وما لهما من ثمرات المعرفة والفتوح
قال بعضهم أرق الناس قلوبا أقلهم ذنوبا
وفي حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله ما النجاة قال أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك
وقال صلى الله عليه وسلم أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية ومن ثم غلب الخوف على الأنبياء والرسل والعلماء والأولياء وغلب أمن المكر على الظلمة الأطغياء والفراعنة
____________________
(1/34)
الأغبياء والجهلة والعوام والرعاع والطغام حتى كأنهم حوسبوا وفرغ منهم فلم يخشوا سطوة العقاب ولا نار العذاب ولا بعد الحجاب
! 2 < نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون > 2 ! الحشر 19
وفي صحيح البخاري عن أم العلاء امرأة من الأنصار أنهم اقتسموا المهاجرين أول ما قدموا عليهم بالقرعة قالت فطار لنا أي وقع في سهمنا عثمان بن مظعون من أفضل المهاجرين وأكابرهم ومتعبديهم وممن شهد بدرا فاشتكى فمرضناه حتى إذا توفي وجعلناه في ثيابه دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله تعالى فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريك أن الله أكرمه فقلت لا أدري بأبي أنت وأمي يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما عثمان فقد جاءه اليقين والله إني لأرجو له الخير أي فالإنكار عليها إنما هو من حيث إنها أبرزت تلك الشهادة جازمة بها متيقنة لمقتضاها من غير مستند قطعي تعتمد عليه في ذلك فكان اللائق بها أن تبرزها في حيز الرجاء لا الجزم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال صلى الله عليه وسلم ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي قالت فوالله لا أزكي أحدا بعده أبدا أي على جهة الجزم والتيقن بل على جهة الرجاء وحسن الظن بالله تعالى قالت وأحزنني ذلك فنمت فرأيت لعثمان عينا تجري فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال ذاك عمله
ولما توفى عثمان هذا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم خده وبكى حتى سالت دموعه الكريمة على خد عثمان وبكى القوم فقال صلى الله عليه وسلم اذهب عنها أي الدنيا أبا السائب لقد خرجت عنها ولم تتلبس منها بشيء وسماه صلى الله عليه وسلم السلف الصالح وهو أول من قبر بالبقيع رضي الله عنه
فتأمل زجره صلى الله عليه وسلم عن الجزم بالشهادة على الله في عثمان هذا مع كونه شهد بدرا وقوله وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر وقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وكونه قبله وبكى ووصفه له بأعظم الأوصاف وأفضلها وهو أنه لم يتلبس من الدنيا بشيء وبأنه السلف الصالح تعلم أنه ينبغي لك وإن عملت من الطاعات ما عملت أن تكون على حيز الخوف والخشية من الله تعالى وعذابه وأليم عقابه فإنه لا يجب عليه لأحد من خلقه شيء
! 2 < قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا > 2 ! المائدة 17
____________________
(1/35)
ونظير إنكاره صلى الله عليه وسلم هذا على هذه المرأة إنكاره على عائشة رضي الله عنها
فقد أخرج مسلم أنها قالت دعى النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنازة غلام من الأنصار فقلت يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يدرك الشر ولم يعمله قال أو غير ذلك يا عائشة إن الله عز وجل خلق للجنة أهلا خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم وفي رواية خلقهم لها
وقد أخذ بعض الناس من هذا الحديث أن أطفال المؤمنين لا يقطع بدخولهم الجنة واشتد إنكار العلماء عليه في هذه المقالة الشنيعة المخالفة لقواطع الآيات والأحاديث وتزييفهم وتغليطهم لقائلها ولا متمسك في هذا الحديث لأن ظاهره غير مراد إجماعا وإنما ذلك قبل أن يعلم الله تعالى نبيه بأنهم يقطع لهم بالجنة فحينئذ كان لا ينبغي الجزم فأنكر عليها من حيث الجزم
وأما بعد ذلك بحسب ما شهدت به النصوص القطعية فلا إنكار على من جزم بذلك وإنما الخلاف في أطفال الكفار والأصح منه أنهم في الجنة أيضا وربما يأتي لنا عودة إلى ذلك وكيف لا يخاف المؤمنون كلهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول شيبتني هود وأخواتها الحاقة والواقعة وعم يتسائلون وإذا الشمس كورت والغاشية
قال العلماء لعل ذلك لما فيهن من التخويف الفظيع والوعيد الشديد باعتبار اشتمالهن مع قصرهن على حكاية أحوال الآخرة وعجائبها وفظائعها وأحوال الهالكين والمعذبين مع ما اشتملت عليه هود من الأمر بالاستقامة كما أمر وهذا من أصعب المقامات الذي لا يتأهل للقيام به إلا هو صلى الله عليه وسلم وهو كمقام الشكر إذ هو صرف العبد في كل ذرة ونفس جميع ما أنعم الله به عليه من حواسه الظاهرة والباطنة إلى ما خلق لأجله من عبادة ربه وطاعته بما يناسب كل جارحة من جوارحه على الوجه الأكمل ولذا لما قيل له صلى الله عليه وسلم عن مجاهدته لنفسه وكثرة بكائه وخوفه وتضرعه أتفعل هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال أفلا أكون عبدا شكورا
ومن العجب أن قوله تعالى ! 2 < وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى > 2 ! طه 82 ربما فهم منه بعض من لا تأمل له أن فيه رجاء عظيما وأي
____________________
(1/36)
رجاء عظيم فيه مع كونه تعالى شرط للمبالغة في مغفرته أربعة شروط التوبة والإيمان الكامل المراد في نحو قوله صلى الله عليه وسلم لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه والعمل الصالح ثم سلوك سبيل المهتدين من مراقبة الله تعالى وشهوده وإدامة الذكر والفكر والإقبال بالخلق على الله تعالى بقاله وحاله ودعائه وإخلاصه
ونظير ذلك قوله تعالى ! 2 < فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين > 2 ! القصص 67 ولا تغتر بما قيل عسى من الله واجبة الوقوع فإن ذلك أكثرى لا كلى
قال تعالى ! 2 < فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى > 2 ! طه 44 وفرعون لعنه الله لم يتذكر ولم يخش تذكرا وخشية نافعين له بل نبهك الله تعالى على أنك إذا تبت توبة نصوحا وآمنت إيمانا كاملا وعملت صالحا كنت على رجاء حصول الفلاح لك والهداية والقرب من حضرة الحق فإياك وأن تأمن مكر الله وإن وصلت إلى ما وصلت
! 2 < فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون > 2 ! الأعراف 99 واستحضر قوله تعالى ! 2 < ليسأل الصادقين عن صدقهم > 2 ! الأحزاب 8 وقوله ^ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره إلا لأجل معدود يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق ^ الآية هود 102 106 وقوله تعالى ! 2 < وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا > 2 ! مريم 71 72 وقوله ! 2 < وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا > 2 ! الفرقان 23 وقوله ! 2 < ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين > 2 ! سبأ 20 وقوله ! 2 < فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره > 2 ! الزلزلة 7 8 وقوله ! 2 < والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر > 2 ! العصر
فانظر بعين بصيرتك ونور سريرتك إلى أنه تعالى قد حكم على كل إنسان إذ أل فيه للعموم والاستغراق بدليل الاستثناء بأنه خاسر إلا من جمع أربعة أمور فإنه الذي ينجو من الخسران المؤدي إلى الهلاك الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق بأن يتلبسوا بما دل عليه الكتاب والسنة من الأخلاق والآداب والأحكام والشروط في سائر أقولهم
____________________
(1/37)
وأفعالهم الباطنة والظاهرة فلا يوجد منها شيء إلا وقد أخلصوا فيه وابتغوا به وجه الله وحده والتواصي بالصبر بأن يصبروا على الطاعات وما يلقونه من المكاره والبليات وعن المعاصي وما لها من الشهوات واللذات فمن تحقق بهذه الشروط الأربعة كما ذكرنا كان على رجاء عظيم من السلامة من الخسار والعار والشنار والبوار ومن الوصول إلى شهود الكبير المتعال والفوز برضاه في الحال والمآل حقق الله لنا ذلك بمنه وكرمه
كيف يصح لعاقل أن يأمن سطوات الحق وانتقامه وقلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن أي بين إرادته تعالى السعادة لأقوام والشقاوة لآخرين وسمى القلب قلبا لأنه أشد تقلبا من قدر أغلى على ما فيها بأعظم الوقود ومن ثم كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في سجوده يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك
وقد قال مقلب القلوب ! 2 < إن عذاب ربهم غير مأمون > 2 ! المعارج 28 ولولا أنه تعالى لطف بعباده العارفين والعلماء الوارثين فروح قلوبهم بروح الرجاء لاحترقت أكبادهم من نار خوفه التي سعرها بما أظهره من نواميس قهره وعدله التي لو انكشفت حقائقها لزحقت النفوس وتقطعت القلوب
وكان أبو الدرداء رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلق بالله إن من أمن السلب عند موته سلب عند موته أي جزاء لأمنه مكر الله
وقال عبد الرحمن بن مهدي مات سفيان الثوري فلما اشتد به جعل يبكي فقال له رجل يا أبا عبد الله أتراك كثير الذنوب فرفع رأسه وأخذ شيئا من الأرض فقال والله لذنوبي أهون عندي من هذا إني أخاف أن أسلب الإيمان قبل أن أموت
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل لما احتضر أبي جلست عنده وبيدي الخرقة لأشد بها لحييه فجعل يغرق ثم يفيق ويقول ألا ابعد فقلت يا أبت ما هذا الذي قد لهجت به في هذا الوقت فقال يا بني أو ما تعلم قلت لا قال إبليس قائم بحذائي يقول يا أحمد فتنى فأقول ألا ابعد حتى أموت
وكان سهل يقول المريد يخاف أن يبتلى بالمعاصي والعارف يخاف أن يبتلى بالكفر
ويروى أن نبيا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام شكا إلى الله تعالى الجوع والعرى فأوحى الله تعالى إليه عبدي أما رضيت أن عصمت قلبك عن أن تكفر بي حتى تسألني الدنيا فأخذ التراب فوضعه على رأسه وقال بلى قد رضيت يا رب فاعصمني
____________________
(1/38)
من الكفر فإذا كان هذا خوف العارفين من سوء الخاتمة مع رسوخ أقدامهم وقوة إيمانهم فكيف لا يخاف ذلك الضعفاء قال العلماء ولسوء الخاتمة علامات تتقدم على الموت مثل البدعة ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم أهل البدعة كلاب أهل النار في النار
ومثل نفاق العمل وهو الذي أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم ولذلك اشتد خوف السلف منه حتى قال بعضهم لو أعلم أني بريء من النفاق كان أحب إلي مما طلعت عليه الشمس
وقال أبو الدرداء استعيذوا بالله من خشوع النفاق قيل وما خشوع النفاق قال أن يرى الجسد خاشعا والقلب فاجرا
وروى البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه أنه قال إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في عينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات
وروى الشيخ نصر المقدسي إمام الشافعية في زمنه عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال أوصاني حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات هن أحب إلي من الدنيا وما فيها قال لي يا أبا ذر جدد السفينة فإن البحر عميق يعني الدنيا وخفف الحمل فإن السفر بعيد واحمل الزاد فإن العقبة طويلة وأخلص العمل فإن الناقد بصير وسئل سعيد ابن جبير رضي الله عنه عن الخشية فقال هي أن تخشى الله تعالى حتى تحول خشيته بينك وبين معاصيه فهذه هي خشيته
وأما الغرة بالله فهي أن يتمادى الرجل في المعصية ويتمنى على الله المغفرة
ودخل بعضهم متنزها فخطر في سره أن يفعل فيه معصية وقال من يراني فسمع صوتا مزعجا ! 2 < ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير > 2 ! الملك 14 وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى ! 2 < ولا يغرنكم بالله الغرور > 2 ! فاطر 5 وهو الذي يدوم على المعاصي ويتمنى المغفرة
وقال بشر للفضيل عظني يرحمك الله فقال من خاف الله تعالى دله الخوف على كل خير
واستأذن رجل على طاوس فخرج له شيخ فقال له أنت طاوس قال لا أنا ابنه قال إن كنت ابنه لقد خرف أبوك فقال إن
____________________
(1/39)
العالم لا يخرف ثم قال إذا دخلت عليه فأوجز فدخل فقال إذا سألت فأوجز فقال لئن أوجز لي أوجزت فقال إني معلمك في مجلسي هذا التوراة والإنجيل والقرآن فقال لئن علمتني هذه الثلاثة لا أسألك عن شيء فقال خف الله مخافة حتى لا يكون عندك شيء أخوف عندك منه وارجه رجاء أشد من خوفك إياه وأحب للناس ما تحب لنفسك
ويؤيد قوله إن العالم لا يخرف قول عكرمة في قوله تعالى ! 2 < ومنكم من يرد إلى أرذل العمر > 2 ! النحل 70 من قرأ القرآن أي بحقه لا يصل لهذه الحالة فالمراد بكون العالم لا يخرف أنه لا يصل إلى خرف العوام من عود الكبير كالطفل في سائر أحواله بل أقبح منه فهذا هو الذي تصان عنه العلماء بالله
وفسر مجاهد قوله تعالى ! 2 < ولمن خاف مقام ربه جنتان > 2 ! الرحمن 46 فقال هو الذي يهم بالمعصية فيذكر الله تعالى فيدعها ويتركها خوفا وحياء من الله تعالى
وروي أن شابا تقيا عابدا ملازما للمسجد في زمن عمر أحبته امرأة فدعته إلى نفسها حتى اختلى بها ثم ذكر وقوفه بين يدي ربه فخر مغشيا عليه فأخرجته وألقته على بابها فجاء أبوه وحمله إلى بيته فاصفر وارتعد حتى مات فجهز ودفن فوقف عمر على شفير قبره وقرأ ! 2 < ولمن خاف مقام ربه جنتان > 2 ! فنودي من قبره إن الله قد أعطانيهما يا عمر وأعطاني الرضا
عن يحيى بن معاذ قال من أعظم الاغترار أن المذنب يرجو العفو من غير ندامة ويتوقع القرب من الله بغير طاعة وينتظر الجزاء بلا عمل ويتمنى على الله مع الإفراط
وأعظم حامل على خوف الله تعالى وخشية سطوته العلم قال تعالى ! 2 < إنما يخشى الله من عباده العلماء > 2 ! فاطر 28 ومن ثم غلب الخوف على علماء الصحابة ومن بعدهم حتى قال أبو بكر رضي الله عنه ليتني كنت شعرة في صدر مؤمن
وقال عمر عند موته الويل لعمر إن لم يغفر له
وقال ابن مسعود ليتني إذا مت لا أبعث
وقد يستشكل هذا التمني بما مر في المكفرات إلا أن يجاب بأنه لم يرد حقيقة التمني بل إظهار أن له قبائح يخاف من المؤاخذة بها بعد البعث
ونظير ذلك ما وقع لأسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه حيث قتل من نطق بالشهادتين ظنا أنه إنما نطق بهما اتقاء لا حقيقة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاتبه وكرر عليه قوله هلا شققت عن قلبه قال أسامة حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت يومئذ فإنه لم
____________________
(1/40)
يتمن الكفر ولا تأخير إسلامه حقيقة إلى بعد هذه الواقعة وإنما تمنى سبق هذه الفعلة منه لإسلامه حتى يكفرها الإسلام فتأمل ذلك
قيل ولما بعد عن العلم أقوام لاحظوا أعمالهم واتفق لبعضهم من الألطاف ما يشبه الكرامات انبسطوا بالدعاوى ولم يتبعوا طريق السلف الصالح في ترك الدعاوى رأسا حتى نقل عن بعضهم أنه قال وددت أن قد قامت القيامة حتى أنصب خيمتي على جهنم فسأله رجل ولم ذلك فقال إني أعلم أن جهنم إذا رأتني تخمد فأكون رحمة للخلق
وهذا من أقبح الكلام وأفحشه لأنه يتضمن تحقير ما عظم الله شأنه من أمر النار فإنه تعالى بالغ في وصفها فقال ! 2 < فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة > 2 ! البقرة 24 وقال تعالى ! 2 < إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا > 2 ! الفرقان 12
وفي الحديث الصحيح عند مسلم وغيره ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءا من جهنم قالوا والله إن كانت نارنا لكفاية يا رسول الله
قال فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها
وفي الحديث الصحيح أيضا يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها
ولقد وقع لبعض الصالحين أنه كان جالسا وعنده سراج فخطرت له معصية فقال لنفسه أنا أجعل أصبعي في هذه الفتيلة فإن صبرت عليها أطعتك في هذه المعصية ثم أدخل أصبعه في النار فصاح صيحة مزعجة فقال يا عدوة الله إذا لم تصبري على نار الدنيا هذه التي طفئت سبعين مرة فكيف تصبرين على نار جهنم وعن عمر رضي الله عنه أنه قال لكعب الأحبار خوفنا يا كعب فقال يا أمير المؤمنين لو وافيت القيامة بعمل سبعين نبيا لازدريت عملك مما ترى فأطرق عمر مليا ثم أفاق فقال زدنا يا كعب
قال يا أمير المؤمنين لو فتح من جهنم قدر منخر ثور بالمشرق ورجل بالمغرب لغلى دماغه حتى يسيل من حرها فأطرق عمر مليا ثم أفاق فقال زدنا يا كعب قال يا أمير المؤمنين إن جهنم لتزفر يوم القيامة زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خر جاثيا على ركبتيه ويقول رب نفسي نفسي لا أسألك اليوم غير نفسي وقال كعب الأحبار أيضا إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين
____________________
(1/41)
والآخرين في صعيد واحد ونزلت الملائكة فصارت صفوفا فيقول يا جبريل ائتني بجهنم فيأتي بها جبريل تقاد بسبعين ألف زمام حتى إذا كانت من الخلائق على قدر مائة عام زفرت زفرة طارت لها أفئدة الخلائق ثم زفرت ثانية فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا لركبتيه ثم تزفر الثالثة فتبلغ القلوب الحناجر وتفزع العقول فيفزع كل امرئ إلى عمله حتى إن إبراهيم الخليل يقول بخلتى لا أسألك إلا نفسي ويقول موسى بمناجاتي لا أسألك إلا نفسي وإن عيسى ليقول بما أكرمتني لا أسألك إلا نفسي لا أسألك مريم التي ولدتني
وفي حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال يا جبريل ما لي لا أرى ميكائيل ضاحكا قال ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار وما جفت لي عين منذ خلقت جهنم مخافة أن أعصي الله عز وجل فيجعلني فيهما وبكى عبد الله بن رواحة يوما فقيل له ما يبكيك قال أنباني الله أني وارد النار ولم ينبئني أني خارج منها
فإذا كانت هذه حالة الملائكة والأنبياء والصحابة وهم المطهرون من الأدناس وهذا انزعاجهم من النار فكيف هانت عند ذلك المدعى المغرور وسولت له نفسه أن خيمته تطفيء جهنم وأنه يقطع لنفسه فضلا عن غيره بالنجاة وهي ليست إلا للعشرة الذين بشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ومع ذلك كان عندهم من الخوف ما اقتضى أن يقول الصديق وهو أكبرهم ليتني كنت شعرة في صدر مؤمن وأن يقول عمر الويل لعمر إن لم يغفر له
وفي حديث من قال إني في الجنة فهو في النار ولسنا نعني بالخوف رقة النساء فتبكي ساعة ثم تترك العمل وإنما نريد خوفا يسكن القلب حتى يمنع صاحبه عن المعاصي ويحثه على ملازمة الطاعة فهذا هو الخوف النافع لا خوف الحمقى الذين إذا سمعوا ما يقتضي الخوف مما مر وغيره لم يزيدوا على أن يقولوا يا رب سلم نعوذ بالله وهم مع ذلك مصرون على القبائح والشيطان يسخر بهم كما تسخر أنت بمن رأيته وقد قصده سبع ضار وهو إلى جانب حصن منيع بابه مفتوح له فلم يفزع إليه وإنما اقتصر على رب سلم حتى جاءه السبع فأكله
____________________
(1/42)
روى البخاري في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قال كان رجل مسرف على نفسه فلما حضره قال لبنيه إذا أنا مت فأحرقوني واطحنوني ثم ذروني في الريح فوالله لئن قدر الله علي أي لئن أراد تعذيبي والتعبير بالقدرة عن الإرادة سائغ ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا فلما مات فعل به ذلك فأمر الله الأرض فقال اجمعي ما فيك منه ففعلت فإذا هو قائم قال ما حملك على ما صنعت قال يا رب خشيتك فغفر له
وفي رواية مخافتك
وفي صحيح البخاري أيضا قال عقبة لحذيفة ألا تحدثنا بما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم قال سمعته يقول إن رجلا حضره الموت فلما أيس من الحياة أوصى أهله إذا مت فاجمعوا لي حطبا كثيرا ثم أوقدوا نارا حتى إذا أكلت لحمى وخلصت إلى عظمي فخذوه واطحنوه فذروني في يوم رائح فجمعه الله تعالى فقال لم فعلت قال خشيتك فغفر له
قال عقبة وأنا سمعته يقول وفيه أيضا إن رجلا كان قبلكم أعطاه الله مالا فقال لبنيه لما حضرته الوفاة أي أب كنت لكم قالوا خير أب قال فإني لم أعمل خيرا قط فإذا مت فاحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في يوم عاصف ففعلوا فجمعه الله تعالى فقال ما حملك على ذلك قال مخافتك فتلقاه برحمته
____________________
(1/43)
الباب الأول في الكبائر الباطنة وما يتبعها وقدمتها لأنها أخطر ومرتكبها أذل العصاة وأحقر ولأن معظمها أعم وقوعا وأسهل ارتكابا وأمر ينبوعا فقلما ينفك إنسان عن بعضها للتهاون في أداء فرضها فلذلك كانت العناية بهذا القسم أولى وكان صرف عنان الفكر إلى تلخيصه وتحريره أحق وأحرى
ولقد قال بعض الأئمة كبائر القلوب أعظم من كبائر الجوارح لأنها كلها توجب الفسق والظلم وتزيد كبائر القلوب بأنها تأكل الحسنات وتوالي شدائد العقوبات
ولما ذكر بعض الأئمة الكبائر الباطنة وأوصلها إلى أكثر من ستين قال والذم على هذه الكبائر أعظم من الذم على الزنا والسرقة والقتل وشرب الخمر لعظم مفسدتها وسوء أثرها ودوامه فإن آثارها تدوم بحيث تصير حالا للشخص وهيئته راسخة في قلبه بخلاف آثار معاصي الجوارح فإنها سريعة الزوال بمجرد الإقلاع مع التوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفرة ^ إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ^ هود 114
الكبيرة الأولى الشرك الأكبر أعاذنا الله منه بمنه وكرمه وختم لنا بالحسنى في عافية بلا محنة إنه أكرم كريم وأرحم رحيم
اعلم وفقني الله وإياك لمرضاته وأجزل علينا هواطل جوده وسوابغ هباته أنه مر أن كلا من تعاريف الكبيرة السابقة ظاهره إنما هو تعريف للكبيرة المصاحبة للإيمان فلذلك بدأ كثيرون في تعدادها بما يلي الكفر وهو القتل ولم نجر على ذلك لأن مقصودنا في هذا الكتاب استيفاء الكلام على سائر ما قيل إنه كبيرة مع بيان مراتبها وما ورد فيها من الوعيد والتهديد
ولما كان الكفر أعظم الذنوب كان أحق بأن يبسط الكلام عليه وعلى أحكامه فنقول قال الله تعالى ! 2 < إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء > 2 ! النساء 48 وقال تعالى ! 2 < إن الشرك لظلم عظيم > 2 ! لقمان 13 وقال تعالى ! 2 < إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار > 2 !
____________________
(1/44)
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت
وفي الحديث الصحيح أيضا اجتنبوا السبع الموبقات وذكر منها الإشراك بالله
وروى أحمد والبخاري والترمذي والنسائي الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس الحديث
وأحمد والشيخان والترمذي والنسائي الكبائر الإشراك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قول الزور وكونه أكبرهن إنما هو فيما لم يرد فيه ما يدل على أنه أكبر منها كالشرك والقتل والزنا
وأبو داود والنسائي الكبائر تسع وأعظمهن إشراك بالله الحديث
والطبراني اجتنبوا الكبائر السبع الشرك بالله الحديث
والبزار إن أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين ومنع فضل الماء ومنع الفحل
وأحمد والشيخان والترمذي ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقول الزور
والطبراني الكبائر سبع الإشراك بالله الحديث
وذكر منها الأعرابية بعد الهجرة وسيأتي إن شاء الله تعالى
____________________
(1/45)
والبخاري أكبر الكبائر الإشراك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وشهادة الزور
وأحمد والترمذي وابن حبان والحاكم إن من أكبر الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس وما حلف حالف بالله يمين صبر فأدخل فيها جناح بعوضة إلا جعلت نكتة في قلبه إلى يوم القيامة
والطبراني من أكبر الكبائر الشرك بالله واليمين الغموس
والطبراني والحاكم والبيهقي ألا إن أولياء الله المصلون ومن يقيم الصلوات الخمس التي كتبهن الله على عباده ويصوم رمضان ويحتسب صومه يرى أنه عليه حق ويؤتي زكاة ماله طيبة بها نفسه أيحتسبها ويجتنب الكبائر التي نهى الله عنها قيل يا رسول الله كم الكبائر قال هي تسع أعظمهن الإشراك بالله وقتل المؤمن بغير حق والفرار من الزحف وقذف المحصنة والسحر وأكل مال اليتيم وأكل الربا وعقوق الوالدين المسلمين واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا لا يموت رجل لم يعمل هؤلاء الكبائر ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة إلا رافق محمدا صلى الله عليه وسلم في بحبوحة جنة أبوابها مصاريع الذهب
وقال صلى الله عليه وسلم اذهب يا ابن الخطاب وفي رواية قم يا عمر فناد في الناس إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون رواه أحمد ومسلم والترمذي وقال حديث حسن صحيح
وقال صلى الله عليه وسلم يا ابن عوف اركب فرسك ثم ناد إن الجنة لا تحل إلا لمؤمن رواه أبو داود
____________________
(1/46)
وقال صلى الله عليه وسلم يا بلال قم فأذن لا يدخل الجنة إلا مؤمن وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر رواه البخاري
وقال صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجة إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر رواه أحمد والشيخان من بدل دينه فاقتلوه رواه أحمد والبخاري والأربعة من ارتد عن دينه فاقتلوه
والطبراني أسلم وإن كنت كارها
والبخاري وأبو يعلى والضياء آمركم بثلاث وأنهاكم عن ثلاث أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وتطيعوا لمن ولاه الله أمركم وأنهاكم عن ثلاث قيل وقال إضاعة المال وكثرة السؤال
ورواه أبو نعيم أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه إليه فإن تاب فاقبل منه وإن لم يتب فاضرب عنقه وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن تابت فاقبل منها وإن أبت فاسبها
رواه الطبراني وظاهره أن المرأة المرتدة لا تقتل والأصح عندنا خلافه لعموم الخبر الصحيح من بدل دينه فاقتلوه وروى البيهقي من بدل دينه أو رجع عن دينه فاقتلوه ولا تعذبوا عباد الله بعذاب الله يعني النار
والطبراني من بدل دينه
____________________
(1/47)
فاقتلوه ولا يقبل الله توبة عبد كفر بعد إسلامه أي ما دام مصرا على كفره
وابن حبان من رجع عن دينه فاقتلوه ولا تعذبوا بعذاب الله أحدا يعني النار
والشافعي والبيهقي من غير دينه فاضربوا عنقه
والطبراني من خالف دينه دين المسلمين فاضربوا عنقه وإذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فلا سبيل إلا أن يأتي شيئا فيقام عليه حده
تنبيهات منها بيان الشرك وذكر جملة من أنواعه لكثرة وقوعها في الناس وعلى ألسنة العامة من غير أن يعلموا أنها كذلك فإذا بان لهم بعضها فلعلهم أن يجتنبوها لئلا تحبط أعمالهم ويخلدوا في أعظم العذاب وأشد العقاب ومعرفة ذلك أمر مهم جدا فإن من ارتكب مكفرا تحبط جميع أعماله ويجب عليه قضاء الواجب منها عند جماعة من الأئمة كأبي حنيفة
وقد توسع أصحابه في المكفرات وعدوا منها جملا مستكثرة جدا وبالغوا في ذلك أكثر من بقية أئمة المذاهب مع قولهم بأن الردة تحبط الأعمال وبأن من ارتد بانت منه زوجته وحرمت عليه فمع هذا التشديد العظيم بالغوا في الاتساع في المكفرات فتعين على كل ذي مسكة من دينه أن يعرف ما قالوه حتى يجتنبه ولا يقع فيه فيحبط عمله ويلزمه قضاؤه وتبين زوجته عند هؤلاء الأئمة بل عند الشافع رضي الله عنه أن الردة وإن لم تحبط العمل لكنها تحبط ثوابه فلم يبق الخلاف بينه وبين غيره إلا في القضاء فقط والأكثرون وإن لم يقلدوهم لكن الاستبراء للدين والنفس المأمور به يوجب الاحتياط ومراعاة الخلاف ما أمكن سيما في مثل هذا الباب الضيق الشديد الحرج في الدنيا والآخرة بل لا أشد منه ولذلك استوفيت جميع ما قالوه مما هو معتمد وغير معتمد عندهم وما قاله غيرهم من بقية المذاهب في كتابي الآتي ذكره أشير هنا إلى جملة من ذلك ومن أراد الإحاطة بجميع تلك الفروع فعليه بالكتاب المذكور فمن أنواع
____________________
(1/48)
الكفر والشرك أن يعزم الإنسان عليه في زمن بعيد أو قريب أو يعلقه باللسان أو القلب على شيء ولو محالا عقليا فيما يظهر فيكفر حالا أو يعتقد ما يوجبه أو يفعل أو يتلفظ بما يدل عليه سواء أصدر عن اعتقاد أو عناد أو استهزاء كأن يعتقد قدم العالم ولو بالنوع أو نفي ما هو ثابت لله تعالى بالإجماع المعلوم من الدين بالضرورة كإنكار أصل نحو علمه أو قدرته أو كونه يعلم الجزئي أو إثبات ما هو منفي عنه كذلك كاللون أو أنه متصل بالعالم أو خارج عنه على ما في ذلك من نزاع
وتفصيل حاصله أن النقص إما أن يعتقد اتصاف الله عز وجل وتبارك وتعالى عنه به صريحا أو لازما فالأول كفر إجماعا والثاني كذلك على خلاف فيه الأصح منه عندنا عدم الكفر فعلم أن نحو المجسم أو الجوهري لا يكفر بما يلزم من مقالته من النقص إلا إن اعتقده أو صرح به وكأن يسجد لمخلوق كالشمس إن لم تدل قرينة ظاهرة على عذره ويأتي هذا القيد في كثير من المسائل الآتية وفي معنى ذلك كل من فعل فعلا أجمع المسلمون على أنه لا يصدر إلا من كافر وإن كان مصرحا بالإسلام كالمشي إلى الكنائس مع أهلها بزيهم من الزنانير وغيرها أو يلقي ورقة فيها شيء من قرآن أو علم شرعي أو فيها اسم الله تعالى بل أو اسم نبي أو ملك في نجاسة
قال بعضهم أو قذر طاهر كمنى أو مخاط أو بصاق أو يلطخ ذلك أو مسجدا بنجس ولو معفوا عنه أو يشك في نبوة نبي أجمع عليها لا كالخضر وخالد بن سنان أو في إنزال كتاب كذلك كالتوراة أو الإنجيل أو زبور داود أو صحف إبراهيم صلى الله عليه وسلم أو في آية من القرآن مجمع عليها كالمعوذتين أو في تكفير كل قائل قولا يتوصل به إلى تضليل الأمة أو تكفير الصحابة أو في مكة أو الكعبة أو المسجد الحرام أو في صفة الحج أو هيئته المعروفة وكذا الصلاة والصوم أو في حكم مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة كتحريم المكس ومشروعية السنن كصلاة العيد أو استحل محرما كذلك كالصلاة بغير وضوء بخلافها مع نجاسة للخلاف فيها وكإيذاء مسلم أو كافر ذمي بلا مسوغ شرعي بالنسبة لاعتقاده أو حرم حلالا كالبيع والنكاح أو يقول عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه كان أسود أو توفى قبل أن يلتحي أو ليس بقرشي أو عربي أو إنسي لأن وصفه بغير صفته تكذيب له ويؤخذ منه أن كل صفة أجمعوا على ثبوتها له يكون إنكارها كفرا كما لو جوز بعثة نبي بعده أو قال لا أدري أهو الذي بعث بمكة ومات بالمدينة أو غيره أو النبوة مكتسبة أو أن رتبتها يوصل إليها بصفاء القلب أو الولي أفضل من النبي أو أنه يوحى إليه وإن لم يدع نبوة أو يدخل الجنة قبل موته أو يعيب نبينا صلى الله عليه وسلم ومثله غيره من الأنبياء بل والملائكة أو يلعنه أو يسبه أو يستخف أو يستهزئ به أو بشيء من أفعاله
____________________
(1/49)
كلحس الأصابع أو يلحق به نقصا في نفسه أو نسبه أو دينه أو فعله أو يعرض ذلك أو يشبهه بشيء على طريق الإزراء أو التصغير لشأنه أو الغض منه أو تمني له مضرة أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام وهجر ومنكر من القول وزور أو غيره لشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه فيكفر بواحد مما ذكر إجماعا فيقتل ولا تقبل توبته عند أكثر العلماء وقد قتل خالد بن الوليد رضي الله عنه من قال له عند صاحبكم وعد هذه الكلمة تنقيصا له صلى الله عليه وسلم أو يرضى بالكفر ولو ضمنا كأن يشير على كافر بأن لا يسلم وإن لم يستشره أو يقول له لقني كلمة الإسلام فيؤخر كأن يقول خطيب اصبر حتى أفرغ من خطبتي بخلاف الدعاء نحو لا رزقه الله الإيمان أو ثبته الله على الكفر أو سلبه عن فلان المسلم إن أراد تشديد الأمر عليه الرضا أو سؤال الكفر لغيره لأنه رضا به أو يقول لمسلم يا كافر بلا تأويل لأنه سمى الإسلام كفرا أو يسخر باسم الله تعالى أو نبيه كأن يصغره أو بأمره أو نهيه أو وعده أو وعيده كأن يقول لو أمرني بكذا لم أفعله أو لو جعل القبلة هنا ما صليت إليها أو لو أعطاني الجنة ما دخلتها استخفافا أو عنادا أو لو آخذني بترك الصلاة مع ما بي من الشدة والمرض ظلمني أو قال ظالم لمظلوم القائل هذا الظلم بتقدير الله أنا أفعل بغير تقدير الله أو لو شهد عندي ملك أو نبي ما صدقته أو لو كان فلان نبيا ما آمنت به أو إن كان ما قاله النبي صدقا نجونا أو كفر مكذبه لأن فيه تنقيصا لمرتبة النبوة أو قيل له قلم أظافرك فإنه سنة فقال لا أفعل وإن كان سنة استهزاء أو قال لا حول ولا قوة إلا بالله لا تغني من جوع ومثلها في ذلك سائر الأذكار كما هو ظاهر أو المؤذن يكذب أو صوته كالجرس وأراد تشبيهه بناقوس الكفر أو الاستخفاف بالأذان أو سمى الله على محرم كخمر استهزاء أو لا أخاف القيامة استهزاء أيضا أو قال عن الله إنه لا يتبع السارق ناسبا العجز إليه أو تشبه بالعلماء أو الوعاظ أو المعلمين على هيئة مزرية بحضرة جماعة حتى يضحكوا أو يلعبوا استخفافا أو قال قصعة ثريد خير من العلم استخفافا أيضا أو قال من اشتد مرضه أو مات ولده إن شئت توفني مسلما أو كافرا أو أخذت ولدي فما بقي لم تفعله أو قيل له يا كافر فقال نعم ناويا غير مجرد الإجابة أو تمنى كفرا
ثم إسلاما حتى يعطى دراهم مثلا أو تمنى حل ما لم يحل في زمن قط كالقتل أو الزنا أو الظلم أو نسب الله تعالى إلى جور في التحريم أو لبس زي كافر ميلا لدينه أو قال اليهود خير من المسلمين لا النصرانية خير من المجوسية إلا إن أراد حقيقتها أو قال لمن شمت كبيرا يرحمك الله لا تقل له هكذا قاصدا أنه غني عن الرحمة أو أجل من أن يقال له ذلك أو قال قن لا أصلي فإن الثواب يكون لمولاي على نظر فيه وواضح جهل أكثر الأرقاء بما في ذلك من محظور فليس الكلام فيهم بل في عالم بالحكم الشرعي
____________________
(1/50)
وحينئذ فلا نظر فيه
أو قيل له ما الإيمان فقال لا أدري استخفافا أو قال لزوجته أنت أحب إلي من الله ورسول الله وأراد محبة التعظيم لا الميل كما أشار إليه شراح البخاري
أو أنكر صحبة أبي بكر أو قذف عائشة رضي الله عنهما لأنه مكذب للقرآن بخلاف غيرهما أو قال إنه يخلق فعل نفسه لا بالمعنى الذي تقوله المعتزلة أو قال أنا الله ولو مازحا أو لا أدري حقه جحدا للواجبات أو قال الله يعلم أني فعلت كذا وهو كاذب فيه لنسبة الله سبحانه إلى الجهل
أو قال استخفافا شبعت من القرآن أو الصلاة أو الذكر أو نحو ذلك أو أي شيء المحشر أو جهنم أو أي شيء عملت وقد ارتكب معصية أو أي شيء أعمل بمجلس العلم وقد أمر بحضوره أو لعنة الله على كل عالم إن لم يرد الاستغراق وإلا لم يشترط استخفاف لشموله الأنبياء والملائكة أو ألقى فتوى عالم أو قال أي شيء هذا الشرع وقصد الاستخفاف أو قال في حق فقيه هذا هو شيء مستخفا بالعلم أو قال الروح قديم أو قال إذا ظهرت الربوبية زالت العبودية وعنى بذلك رفع الأحكام أو أنه فني من صفاته الناسوتية إلى اللاهوتية أو أن صفاته تبدلت بصفات الحق أو أنه يراد عيانا في الدنيا أو يكلمه شفاها أو أنه يحل في صورة حسنة أو أنه أسقط عنه التكليف أو قال لغيره دع العبادات الظاهرة الشأن في عمل الأسرار أو سماع الغناء من الدين أو أنه يؤثر في القلوب أكبر من القرآن أو العبد يصل إلى الله تعالى من غير طريق العبودية أو الروح من نور الله فإذا اتصل النور بالنور اتحد
وبقيت فروع أخرى كثيرة بينتها مع بسط الكلام عليها وعلى جميع ما مر بقيوده وما فيه من الخلاف والبحث ومع استيفاء جميع ما في هذا الباب على المذاهب الأربعة بل استيفاء جميع ما قيل بأنه كفر ولو على الأقوال الضعيفة في كتابي الإعلام بما يقطع الإسلام وهو كتاب حافل لا يستغني طالب علم عنه ومر أن من قال لأخيه المسلم يا كافر كفر بشرطه وكذا من قال مطرنا بنجم كذا مريدا أن للنجم تأثيرا
وأخرج الطبراني إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان الذي قيل له كافرا فهو كافر وإلا رجع على من قال
والخرائطي والديلمي وابن النجار ما شهد رجل على رجل بكفر إلا باء بها أحدهما إن كان كافرا فهو كما قال وإن لم يكن كافرا فقد كفر بتكفيره إياه
____________________
(1/51)
والطبراني والبيهقي ما من مسلمين إلا بينهما ستر من الله فإذا قال أحدهما لصاحبه هجرا هتك ستر الله وإذا قال يا كافر فقد كفر أحدهما
والطبراني إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فهو كقتله ولعن المؤمن كقتله
وأبو داود أيما رجل مسلم كفر رجلا مسلما فإن كان كافرا وإلا كان هو الكافر
والنسائي وابن ماجه والحاكم من قال إني بريء من الإسلام فإن كان كاذبا فهو كما قال وإن كان صادقا لم يعد إلى الإسلام سالما
والبخاري وغيره إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما
والطبراني كفوا عن أهل لا إله إلا الله لا تكفروهم بذنب فمن كفر أهل لا إله إلا الله فهو إلى الكفر أقرب
ومسلم والترمذي أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه
وابن حبان ما كفر رجل رجلا قط إلا باء بها أحدهما
____________________
(1/52)
ومسلم ما أنزل الله من السماء من بركة إلا وأصبح فريق من الناس بها كافرين ينزل الله الغيث فيقولون مطرنا بكوكب كذا وكذا
وأحمد ومسلم والنسائي ألم تروا ما قال ربكم قال ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين يقولون الكوكب وبالكوكب
وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي هل تدرون ماذا قال ربكم الليلة قال الله أصبح من عبادي مؤمن وكافر فأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب
والشيرازي لا تزال أمتي في مسكة من دينها ما لم تضلهم النجوم
وأحمد أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر فقالوا هذه رحمة وقال بعضهم لقد صدقنا نوء كذا وكذا ومنها مر قوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وبه يخص عموم قوله تعالى يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وبالآيتين جميعا يعلم أن الحق ما عليه أهل السنة والجماعة وهو أن الميت مؤمنا فاسقا تحت المشيئة فإن شاء تعالى عذبه كما يريد ثم مآله إلى أن يعفو عنه فيخرجه من النار وقد اسود فينغمس في نهر الحياة ثم يعود له أمر عظيم من الجمال والنضارة والحسن ثم يدخله الله الجنة ويعطيه ما أعد له بسابق إيمانه وما قدمه من الأعمال الصالحات كما صح بذلك كله حديث البخاري وغيره وإن شاء الله تعالى عفا عنه ابتداء فسامحه وأرضى عنه خصماءه ثم يدخل الجنة مع الناجين
وأما قول الخوارج إن مرتكب الكبيرة كافر
وقول المعتزلة إنه مخلد في النار حتما وأنه لا يجوز العفو عنه كما لا يجوز عقاب المطيع فهو من تقولهم وافترائهم على الله تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا
وقوله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما
____________________
(1/53)
إما محمول على المستحل لما مر أن ذلك كفر فيكون المراد بالخلود حينئذ التأبيد في النار كسائر الكفار أو على غيره والخلود لا يستلزم التأبيد كما تشهد النصوص الشرعية والمواد اللغوية أي فهذا جزاؤه إن عذب وإلا فقد يعفو تعالى عنه كما علم من قوله ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وقوله إن الله يغفر الذنوب جميعا وقول من قال لا توبة للقاتل مرادهم به الزجر والتنفير عن القتل وإلا فنصوص الكتاب والسنة صريحة في أنه له توبة كالكافر بل أولى
وأما قول المرجئة لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة فهو من افترائهم أيضا على الله تعالى وما ورد مما قد يؤيده لم يرد به ظاهره بدليل نصوص أخر قاطع برهانها واضح بيانها فيجب على كل مسلم أن يعتقد أن جماعة من عصاة المؤمنين يدخلون النار لما أن إنكار ذلك كفر إذ هو صريح في تكذيب النصوص القطعية الدالة على ذلك
ومنها نقل إمام الحرمين عن الأصوليين أن من نطق بكلمة الردة وزعم أنه أضمر تورية كفر ظاهرا وباطنا وأقرهم على ذلك ومن حصل له وسوسة فتردد في الإيمان أو الصانع أو تعرض بقلبه لنقص أو سب وهو كاره لذلك كراهة شديدة ولم يقدر على دفعه لم يكن عليه شيء ولا إثم بل هو من الشيطان فيستعين بالله على دفعه ولو كان من نفسه لما كرهه
ذكر ذلك ابن عبد السلام وغيره
ومنها لا يحصل الإسلام من كافر أصلي أو مرتد إلا بنطقه بالشهادتين وإن كان مقرا بإحداهما ولو أبدل الإله في أشهد أن لا إله إلا الله بالبارئ أو الرحمن أو الملك أو الرزاق جاز وكذا لو أبدل لا بما من فقال ما من إله أو إلا بغير أو سوى أو عدا أو الجلالة بالمحيي المميت وهو غير طبائعي أو بالرحمن أو البارئ أو من آمن به المسلمون أو من في السماء أو الملك أو الرزاق بخلاف ساكن السماء والفرق بينه وبين من في السماء أن الأول نص في الجهة المستحيلة على الله تعالى عنها وعما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا والقول بالجهة كفر عند كثيرين من العلماء فكيف يحصل الإسلام بما يشتمل على الكفر بخلاف من في السماء لأنه ليس صريحا في ذلك إذ المراد من في السماء أمره وسلطانه ولأنه موافق للفظ القرآن المؤول عند الخلف والسلف
فلا خلاف بينهم في ذلك خلافا لفرقة ضالة من الحنابلة وغيرهم وإنما الخلاف بينهما في أنا نعين ذلك التأويل ولا نصرف الظاهر إليه وهو مذهب الخلف أو نؤول إجمالا ولا نعين شيئا بل نفوض علم ذلك بعينه إلى الله تعالى وهو مذهب السلف واختاره بعض الأئمة من المتأخرين واختار بعضهم تفضيلا في ذلك وهو أن تعيين التأويل بأن قرب من الظاهر وشهدت له قواعد اللغة العربية بالقبول كان أولى وإلا فالتفويض
____________________
(1/54)
أولى ومن تأمل الآيات والأحاديث وجدها شاهدة للتأويل لأن ظاهرها بدونه يوهم التناقض فوجب المصير إليه صونا عن ذلك الإيهام
ألا ترى إلى قوله تعالى ثم استوى على العرش مع قوله ونحن أقرب إليه من حبل الوريد وهو معكم أينما كنتم ومع خبر لو أدليتم حبلا لوقع على الله فأحد تلك النصوص يجب تأويله إذ لا يمكن أحد أن يقول بظواهر تلك النصوص جميعها وإذا وجب تأويل بعضها وجب تأويل كلها
إذ لا قائل بالفرق على أن الخلف لم ينفردوا بذلك بل أول جماعة من السلف كمالك وجعفر رضي الله عنهما وغيرهما
والحاصل أن مذهب أهل الحق في هذه المسألة ما قررته وأنه يجب على كل أحد اعتقاده وإنما يحصل ذلك بتنزيه الله عز وجل وعلا عن كل نقص صريحا أو استلزاما بل وعن كل ما لا نقص فيه ولا كمال واعتقاد أنه تعالى إنما اتصف بأكمل الكمال المطلق في ذاته وإرادته وأوصافه وأسمائه وسائر شؤونه وأفعاله
وأما الشهادة الثانية فيجوز أن يبدل محمدا فيها بأحمد أو أبي القاسم والرسول بالنبي ويشترط ترتيب الشهادتين
فلو قال أشهد أن محمدا رسول الله وأشهد أن لا إله إلا الله لم يسلم إلا الموالاة بينهما ولا النطق بهما بالعربية لكن يشترط فهم ما تلفظ به ثم من كان كفره بإنكار أصل رسالته صلى الله عليه وسلم كفاه الشهادتان أو بتخصيصها بالعرب كالعيسوية اشترط أن يقول رسول الله إلى كافة الإنس والجن وإشارة الأخرس كالنطق ولا يحصل الإسلام بغير ما مر كقوله آمنت فقط أو آمنت بالذي لا إله غيره أو أنا مسلم أو أنا من أمة محمد أو أنا أحبه أو أنا من المسلمين أو مثلهم أو دينهم حق بخلاف قول من لم يكن قد دان بشيء آمنت بالله أو أسلمت لله أو الله خالقي أو ربي ثم أتى بالشهادة الأخرى فإنه يصير مسلما ويندب أمر كل من أسلم بالإيمان بالبعث ويشترط لنفع الإسلام في الآخرة مع ما مر تصديق القلب بوحدانية الله وكتبه ورسله واليوم الآخر فإن آمن بذلك بأن صدق به بقلبه ولم يتلفظ بالشهادتين بلسانه مع القدرة فهو باق على كفره مخلد في النار أبدا كما نقل النووي عليه الإجماع لكن اعترض بأن فيه قولا للأئمة الأربعة إن إيمانه ينفعه وغايته أنه مؤمن عاص وإن تلفظ بهما بلسانه ولم يؤمن بقلبه فهو في الآخرة كافر إجماعا وأما في الدنيا فتجري عليه أحكام المسلمين ظاهرا فإن تزوج مسلمة ثم صدق بقلبه لم تحل له حتى يجدد النكاح بعد إسلامه
ومنها مذهب أهل الحق أن الإيمان لا ينفع عند الغرغرة ولا عند معاينة عذاب الاستئصال
قال تعالى فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون نعم
يستثنى من ذلك قوم
____________________
(1/55)
يونس لقوله تعالى إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين بناء على أن الاستثناء متصل وأن إيمانهم كان عند معاينة عذاب الاستئصال وهو قول عليه بعض المفسرين وعليه فوجه استثنائهم أن ذلك وقع كرامة وخصوصية لنبيهم فلا يقاس عليها
ألا ترى أن نبينا صلى الله عليه وسلم قد أكرمه الله بحياة أبويه له حتى آمنا به كما جاء في حديث صححه القرطبي وابن ناصر الدين حافظ الشام وغيرهما فنفعهما الله تعالى بالإيمان بعد الموت على خلاف القاعدة إكراما لنبيه صلى الله عليه وسلم والخصوصيات لا يقاس عليها ونازع بعضهم في خبر إحياء أبويه صلى الله عليه وسلم وأطال فيه بما رددته عليه في الفتاوى وقد قال القرطبي وابن دحية وغيرهما لم تزل فضائله صلى الله عليه وسلم وخصائصه تتوالى وتتتابع إلى حين وفاته فيكون هذا مما فضله الله تعالى به وأكرمه وليس إحياؤهما وإيمانهما به ممتنعا عقلا ولا سمعا فقد أحيا قتيل بني إسرائيل حتى أخبر بقاتله وكان عيسى عليه السلام يحيي الموتى وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم أحيا الله على يديه جماعة من الموتى وحينئذ فأي مانع من إحيائهما بعد موتهما زيادة في كرامته وفضيلته وقد صح أن الله تعالى رد عليه صلى الله عليه وسلم الشمس بعد مغيبها حتى صلى علي كرم الله وجهه العصر فكما أكرم بعود الشمس والوقت بعد فواته فكذلك أكرم بعود الحياة ووقت الإيمان بعد فواته إكراما له أيضا ولا ينافي ذلك قول بعض المفسرين إن ولا تسأل عن أصحاب الجحيم نزلت في أبويه لأن ذلك أعني سبب نزولها لم يصح فيه شيء وعلى التنزل فالمراد أصحاب الجحيم لولا كرامتك
وخبر مسلم أبي وأبوك في النار
إما كان قبل علمه أو قاله تطمينا وإرشادا لذلك الأعرابي فإنه تغير لما قال أبوك في النار وأخذ علماء الأمة ومجتهدوها الذين عليهم المعول من الآية الأولى أعني قوله تعالى فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا إجماعهم على كفر فرعون ورواه الترمذي في تفسيره في سورة يونس عليه السلام من طريقين وقال في إحداهما حديث حسن وفي الأخرى حديث حسن غريب صحيح
____________________
(1/56)
وروي عن ابن عدي والطبراني أنه صلى الله عليه وسلم قال خلق الله يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا وخلق فرعون في بطن أمه كافرا
وأما ما حكاه الله تعالى عنه في سورة يونس عز قائلا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين فهو لا ينفعه بدليل قوله تعالى عقب ذلك آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين وسبب ذلك مع أنه كرر الإيمان مرتين بناء على فتح أن وثلاثا بناء على كسرها أنه إنما آمن عند نزول عذاب الاستئصال له ولقومه والإيمان حينئذ غير نافع لما تقرر وأيضا فإيمانه إنما كان تقليدا محضا بدليل قوله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل فكأنه اعترف بأنه لا يعرف الله وإنما سمع من بني إسرائيل أن للعالم إلها فآمن بذلك الإله الذي سمع بني إسرائيل يقرون بوجوده فآمن به وهذا هو محض التقليد على أنه كان دهريا منكرا لوجود الصانع ومثل هذا الاعتقاد الخبيث البالغ نهاية القبح والفحش لا يزول بتقييد محض بل لا بد في مزيله من أن يكون برهانا قطعيا وعلى التنزل فلا بد في إسلام الدهري ونحوه ممن كان قد دان بشيء أن يقر ببطلان ذلك الشيء الذي كفر به فلو قال آمنت بالذي لا إله غيره لم يك مسلما كما مر وفرعون لم يعترف ببطلان ما كان كفر به من نفي الصانع وإلهية نفسه وقوله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل لا يدرى ما الذي أراد به فإذا صرح الأئمة في آمنت بالذي لا إله غيره بأنه لا يحصل الإيمان لاحتماله فكذا فيما قاله
وعلى التنزل فالإجماع منعقد على أن الإيمان بالله مع عدم الإيمان برسول الله لا يصح فلو سلمنا أن فرعون آمن بالله إيمانا صحيحا هو لم يؤمن بموسى صلى الله عليه وسلم ولا تعرض له حينئذ أصلا فلم يكن إيمانه نافعا ألا ترى أن الكافر لو قال ألوفا من المرات أشهد أن لا إله إلا الله أو الذي آمن به المسلمون لا يكون مؤمنا حتى يقول وأشهد أن محمدا رسول الله
فإن قلت السحرة لم يتعرضوا في إيمانهم للإيمان بموسى ومع ذلك قبل إيمانهم
قلت ممنوع بل تعرضوا لذلك بقولهم آمنا برب العالمين رب موسى وهارون على أن إيمانهم حينئذ إيمان بمعجزة موسى وهي العصا التي تلقفت ما صنعوا والإيمان بالله مع الإيمان بمعجزة الرسول إيمان بالرسول فهم آمنوا بموسى صريحا بخلاف فرعون لم يؤمن به صريحا ولا إشارة بل ذكره بني إسرائيل
____________________
(1/57)
دون موسى مع أنه الرسول الحق العارف بالإله وما يليق به والهادي إلى طريقه فيه إشارة ما إلى بقائه على كفره به
فإن قلت قد صرح الإمام القاضي عبد الصمد الحنفي في تفسيره أن مذهب الصوفية أن الإيمان ينتفع به ولو عند معاينة العذاب وهذا يدل على أنه مذهب قديم لأن القاضي المذكور وهو متقدم كان موجودا أوائل المائة الخامسة في سنة ثلاثين وأربعمائة وقال الذهبي الحد الفاصل بين العلماء المتقدمين والمتأخرين رأس القرن الثالث وهو الثلاثمائة وإذا كان مذهب الصوفية ذلك فكيف ساغ الإجماع على كفر فرعون
قلت لو سلمنا صحة ذلك عن الصوفية الذين هم من أهل الاجتهاد المعول عليهم حتى لا ينعقد الإجماع مع مخالفتهم لم يرد ذلك علينا ولم يختل به ما قدمنا من إجماع الأمة على كفر فرعون لأنا لم نحكم بكفره لأجل إيمانه عند اليأس فحسب بل لما انضم إليه من أنه لم يؤمن بالله إيمانا صحيحا وعلى التنزل فهو لم يؤمن بموسى أصلا فلا يرد ما حكي عن مذهب الصوفية على ما قررنا
فإن قلت قد قال الإمام العارف المحقق محيي الدين بن العربي في فتوحاته المكية بصحة الإيمان عند الاضطرار وأن فرعون مؤمن فإنه قال ما حاصله لما حال الغرق بين فرعون وبين أطماعه لجأ إلى الله تعالى وإلى ما أعطاه باطنه مما كان عليه من الذلة والافتقار فقال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل لرفع الإشكال كما قالت السحرة لما آمنت آمنا برب العالمين رب موسى وهارون لرفع الارتياب وإزاحة الإشكال ثم قال وأنا من المسلمين فخاطبه بلسان العتب آلآن أظهرت ما كنت قبل علمته وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين في اتباعك فاليوم ننجيك فبشره قبل قبض روحه لتكون لمن خلفك آية أي لتكون النجاة علامة له إذا قال ما قلته كانت له النجاة مثل ما كانت لك إذ العذاب ما يتعلق إلا بظاهرك وقد أريت الخلق نجاته من العذاب فكان ابتداء الغرق عذابا وصار الموت فيه شهادة خالصة كل ذلك حتى لا ييأس أحد من رحمة الله تعالى إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون والأعمال بالخواتيم
وأما قوله تعالى فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا فكلام محقق في غاية الوضوح فإن النافع هو الله فما نفعهم إلا الله وقوله تعالى سنة الله التي قد خلت في عباده يعني الإيمان عند رؤية اليأس وإنما قبض فرعون ولم يؤخر في أجله في حال إيمانه لئلا يرجع إلى ما كان عليه من الدعوى
____________________
(1/58)
وأما قوله تعالى فأوردهم النار فما فيه نص أنه يدخلها معهم بل قال الله تعالى أدخلوا آل فرعون ولم يقل أدخلوا فرعون ورحمة الله أوسع من حيث أن لا يقبل إيمان المضطر وأي اضطرار أعظم من اضطرار فرعون في حال الغرق والله تعالى يقول أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء فقرن للمضطر إذا دعاه الإجابة وكشف السوء عنه فلم يكن عذابه أكثر من الغرق في الماء انتهى كلامه
فهل هذا الكلام مقرر أو مردود فما وجه رده قلت ليس هذا الكلام مقررا وإن كنا نعتقد جلالة قائله فإن العصمة ليست إلا للأنبياء
ولقد قال مالك رضي الله عنه وغيره ما من أحد إلا مأخوذ من قوله ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر يعني النبي صلى الله عليه وسلم على أنه قد نقل عن بعض كتب ذلك الإمام أنه صرح فيها بأن فرعون مع هامان وقارون في النار وإذا اختلف كلام إمام فيؤخذ منه بما يوافق الأدلة الظاهرة ويعرض عما خالفها بل قد مر لك أن الآية وحديث الترمذي الصحيح صريحان في بطلان الإيمان عند اليأس فلا يلتفت بعد ذلك إلى ما مر من تأويل فلم يك ينفعهم إيمانهم بأن النافع هو الله وأيضا فمما يبطل هذا التأويل أن اصطلاح القرآن والسنة إضافة الأشياء إلى أسبابها
فإذا قيل لا ينفع الإيمان فليس معناه الشرعي إلا الحكم عليه بأنه باطل لا يعتد به وأي معنى مسوغ لهذا القائل أن يخص نفع الله بهذه الحالة التي هي حالة وقوع العذاب مع النظر إلى ما هو الواقع الحق من أن الله هو النافع حقيقة في كل وقت ولو نفعهم الله لما استأصلهم بالعذاب
وقوله تعالى وخسر هنالك الكافرون دليل واضح على أن المراد فلم يك ينفعهم إيمانهم أنهم باقون مع ذلك الإيمان على الكفر وكفى بتفسير أئمة الصحابة والتابعين فمن بعدهم الموافق للحديث الصحيح وللإجماع السابقين الآية بما يوافق ما ذكرناه وإذا ثبت واتضح أنه لا يصح إيمان اليأس ثبت أن إيمان فرعون لا يصح على أننا قدمنا أننا لو قلنا بصحة إيمان اليأس فالآية دالة على أنه لا يصح إيمانه أيضا لعدم إيمانه بموسى وهارون صلى الله عليهما وسلم بخلاف السحرة ومن تأمل صيغة إيمانهم المحكيتين عنهما في القرآن علم اتضاح ما بين الإيمانين فلا يصغ إلى قياس أحدهما على الآخر وقوله إنه لجأ إلى ما أعطاه باطنه مما كان عليه من الذلة والافتقار عجيب وأي ذلة وافتقار كان عليهما باطنه وهو ينكر ربوبية رب الأرباب ويعتقد أنه الإله المطلق والرب الأكبر يؤذي موسى ويكذبه ويعانده
____________________
(1/59)
فهل هو في ذلك إلا كأبي جهل
ومن ثم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرعون هذه الأمة وبتسليم أن باطنه كان عليهما فأي نفع لهما مع عدم الإيمان الصحيح وحمل آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين على العتب في غاية البعد إذ لو صح إسلامه وإيمانه لكان الأنسب بمقام الفضل الذي طمح إليه نظر الشيخ أن يقال له الآن نقبلك ونكرمك لاستلزام صحة إيمانه رضا الحق عنه
ومن وقع له ذلك الرضا الأكبر لا يقال له باعتبار رعاية مقام الفضل جوابا لإيمانه الصحيح آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين لأن كل أحد له أدنى روية وسليقة يقطع بأن هذا الخطاب إنما يخاطب به المغضوب عليه لا المرضي عنه وتخصيص وكنت من المفسدين بما مر يأباه هذا البيان الذي تقرر لأنه إذا صح إيمانه محي عنه ما عصاه وأفسده في أتباعه وغيرهم فكيف مع ذلك المحو العظيم يعاقب ويخاطب بذلك التأنيب المحض والتقريع الصرف والتوبيخ الحق فلم يكن هذا إلا لإقامة أعظم نواميس الغضب عليه وتذكيره بقبائحه التي قدمها وإعلامه بأنها هي التي منعته عن النطق بالإيمان إلى آخر رمق منه فلم ينفعه النطق بها حينئذ
سيما وهو باق على تكذيبه برسوله وعناده لآياته وإعراضه عن جنابه وتخصيص النجاة بالبدن أعظم وأعدل شاهد على أنه لم يرد بها إلا ما قاله المفسرون وأطبق عليه المعتبرون من أنهم لم يصدقوا بغرقه سيما مع دعواه الإلهية وأن مثله لا يموت فألقي بنجوة من الأرض أي ربوة مرتفعة وعليه درعه ليعرف بها والعرب تطلق البدن على الدرع وكانت له درع يعرف بها ويؤيده القراءة الشاذة بأبدانك أي دروعك لأنه كان يلبس كثيرا منها خوفا على نفسه أو وهو عريان لا شيء يستره أو أنه بدن بلا روح ولا تنافيه القراءة المذكورة لأنه عليها جعل كل جزء من بدنه بدنا على حد شابت مفارقه
وقرئ شاذا أيضا ننحيك بالحاء المهملة أي نلقيك بناحية مما يلي البحر
قال المفسرون رماه إلى جانب البحر كالثور ليكون لمن خلفه من بني إسرائيل وغيرهم علامة على أن مثله ممن تجبر وتكبر على الله لا بد وأن يقصم ويؤخذ على غاية من الذلة والمهانة لينزجر الناس عن طريقته مع ما في تخصيصه من بين سائر قومه بالإخراج من الدلالة على باهر قدرة الله تعالى وصدق موسى فيما جاء به ثم ختم تعالى هذا المقام عز قائلا وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون زجرا لهذه الأمة المحمدية عن الإعراض عن الدلائل وحثا لهم على التأمل فيها والاعتبار بها كما قال تعالى لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب
ومنها دلت الآيات والأحاديث على أن عذاب الكفار في جهنم دائم مؤبد وما ورد مما يخالف ذلك يجب تأويله فمن ذلك قوله تعالى خالدين فيها ما دامت السموات
____________________
(1/60)
والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد فظاهره أن مدة عقابهم مساوية لمدة بقاء السموات والأرض إلا ما شاء الله من هذه المدة فلا يكونون فيه خالدين فيها وقد أوله العلماء بنحو عشرين وجها يرجع بعضها إلى حكمة التقييد بمدة دوام السموات والأرض وبعضها إلى حكمة الاستثناء ومعناه
فمن الأول أن المراد سموات الجنة وأرضها إذ السماء كل ما علاك والأرض كل ما استقريت عليه وكون الجنة والنار لهما سماء وأرض بهذا الاعتبار أمر قطعي لا يخفى على أحد فاندفع التنظير في هذا القول بأنه لا يجوز حمل ما في الآية عليه لأنه غير معروف للمخاطبين أو سموات الدنيا وأرضها وأجري ذلك على عادات العرب في الإخبار عن دوام الشيء وتأبيده بذلك ونحوه كقولهم لا آتيك ما دامت السموات والأرض أو ما جن ليل وسال سيل أو ما اختلف الليل والنهار أو ما طما البحر أو ما قام الجبل لأنه تعالى يخاطب العرب على عرفهم في كلامهم
وهذه الألفاظ في عرفهم تفيد الأبد والدوام وعن ابن عباس أن جميع الأشياء المخلوقة أصلها من نور العرش وأن السموات والأرض في الآخرة يردان إلى النور الذي خلقا منه وهما دائمان أبدا من نور العرش ثم هذا الجواب إنما يحتاج إليه بناء على أن مفهوم التقييد بدوام السموات والأرض أنهم لا يبقون في النار إلا بقدر مدة دوامهما من حين إيجادهما إلى إعدامهما ومنع بعضهم ذلك بأن المفهوم من الآية أنهما متى كانتا دائمتين كان كونهما في النار باقيا وقضية ذلك أنه كلما حصل الشرط وهو دوامهما حصل المشروط وهو بقاؤهم في النار ولا يقتضي أنه إذا عدم الشرط يعدم المشروط ونظيره أنك إذا قلت إن كان هذا إنسانا فهو حيوان ثم قلت لكنه إنسان أنتج أنه حيوان أو لكنه ليس هذا بإنسان لم ينتج أنه ليس بحيوان لأن استثناء نقيض المقدم عقيم فكذا هنا إذا قلنا ما دامتا بقي عقابهم ثم قلنا لكنهما دائمتان لزم دوام عقابهم
أو لكنهما ما بقيتا لم يلزم عدم دوام عقابهم
لا يقال إذا دام عقابهم بقيتا أو عدمتا فلا فائدة للتقييد بدوامهما
لأنا نقول بل فيه أعظم الفوائد وهو دلالته على بقاء ذلك العذاب دهرا دائما طويلا لا يحيط العقل بقدر طوله وامتداده فأما أنه هل لذلك العذاب آخر أم لا فذلك يحصل من أدلة أخرى وهو الآيات المصرحة بتأبيد خلودهم المستلزم أنه لا آخر له
ومن الثاني أنه استثناء من فيها لأنهم يخرجون من النار إلى الزمهرير وإلى شرب الحميم ثم يعودون فيها فهم خالدون فيها أبدا إلا في تلك الأوقات فإنها وإن كانت أوقات عذاب أيضا إلا أنهم ليسوا حينئذ فيها حقيقة أو أن ما لمن يعقل ك فانكحوا ما طاب لكم من النساء فحينئذ فيكون استثناء لعصاة المؤمنين من ضمير خالدين متصلا بناء على شمول شقوا لهم أو منقطعا بناء على عدم شموله لهم وهو
____________________
(1/61)
الأظهر أو أنه منقطع وإلا بمعنى سوى أي ما دامتا سوى ما شاء ربك زيادة على ذلك وبقيت أجوبة كثيرة أعرضت عنها لبعدها ولا ينافي ذلك ما رواه أحمد عن عبد الله بن عمر ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابا
لأن في سنده من قالوا فيه إنه غير ثقة وصاحب أكاذيب كثيرة عظيمة نعم نقل غير واحد هذه المقالة عن ابن مسعود وأبي هريرة قال ابن تيمية وهو قول عمر بن الخطاب وابن عباس وابن مسعود وأبي هريرة وأنس
وذهب إليه الحسن البصري وحماد بن سلمة وبه قال علي بن طلحة الوالبي وجماعة من المفسرين انتهى
ويرد ما نقله عن الحسن قول غيره
قال العلماء قال ثابت سألت الحسن عن هذا فأنكره والظاهر أن هؤلاء الذين ذكرهم لم يصح عنهم من ذلك شيء
وعلى التنزل فمعنى كلامهم كما قاله العلماء ليس فيها أحد من عصاة المؤمنين
أما مواضع الكفار فهي ممتلئة بهم لا يخرجون عنها أبدا كما ذكره الله تعالى في آيات كثيرة وفي تفسير الفخر الرازي
قال قوم إن عذاب الكفار منقطع وله نهاية واستدلوا بهذه الآية
وب لابثين فيها أحقابا وبأن معصية الظلم متناهية فالعقاب عليها بما لا يتناهى ظلم انتهى
والجواب عن الآية مر وقوله تعالى أحقابا لا يقتضي أن له نهاية لما مر أن العرب يعبرون به وبنحوه عن الدوام ولا ظلم في ذلك لأن الكافر كان عازما على الكفر ما دام حيا فعوقب دائما فهو لم يعاقب بالدائم إلا على دائم فلم يكن عذابه إلا جزاء وفاقا
واعلم أن التقييد والاستثناء في أهل الجنة ليس المراد بهما ظاهرهما باتفاق الكل لقوله تعالى غير مجذوذ فيؤول بنظير ما مر ويكون المراد بما إذا جعلناها بمعنى من أهل الأعراف وعصاة المؤمنين الذين لم يدخلوها إلا بعد قال ابن زيد أخبرنا الله تعالى بالذي يشاء لأهل الجنة فقال عطاء غير مجذوذ أي مقطوع ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار
خاتمة أخرج ابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال للكعبة ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ماله ودمه وأن نظن به إلا خيرا
____________________
(1/62)
وأحمد والنسائي وابن حبان والحاكم من جاء يعبد الله لا يشرك به شيئا ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان ويتقي الكبائر فإن له الجنة قالوا وما هي الكبائر قال الإشراك بالله وقتل النفس المسلمة الحديث
والنسائي وابن حبان
والحاكم والبيهقي أنا زعيم لمن آمن بي وأسلم وهاجر ببيت في ربض الجنة أي أسفلها وببيت في وسط الجنة وببيت في أعلى غرف الجنة فمن فعل ذلك لم يدع للخير مطلبا ولا من الشر مهربا يموت حيث شاء أن يموت
وابن ماجه والحاكم من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده لا شريك له وأقام الصلاة وآتى الزكاة مات والله عنه راض
وأحمد ومسلم إن الله تعالى لا يظلم المؤمن حسنة يعطى عليها في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة وأما الكافر فيعطى بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يعطى بها خيرا
والطبراني لا يقبل إيمان بلا عمل ولا عمل بلا إيمان
والبخاري والترمذي إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه اضرب له مثلا فقال اسمع سمعت أذنك واعقل عقل قلبك إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ثم بنى فيها بيتا ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه فالله هو الملك والدار الإسلام والبيت الجنة وأنت يا محمد رسول من أجابك دخل الإسلام ومن دخل الإسلام دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل ما فيها
وأبو نعيم إن الله تعالى يعذب الموحدين في جهنم بقدر نقصان أعمالهم ثم يردهم إلى الجنة خلودا دائما أبدا بإيمانهم
____________________
(1/63)
وأحمد وغيره طوبى لمن رآني وآمن بي مرة وطوبى لمن لم يرني وآمن بي سبع مرات
وفي رواية للطيالسي ثلاث مرات
والطبراني والحاكم أفلح من هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافا وقنع به
ومسلم أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله
الكبيرة الثانية الشرك الأصغر وهو الرياء قد شهد بتحريمه الكتاب والسنة وانعقد عليه إجماع الأمة
أما الكتاب فمنه قوله عز قائلا الذين هم يراءون وقال تعالى والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد قال مجاهد هم أهل الرياء وقال تعالى ولا يشرك بعبادة ربه أحدا أي لا يرائي بعمله ومن ثم نزلت فيمن يطلب الأجر والحمد بعباداته وأعماله وقال تعالى إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا
وأما السنة فمنها ما رواه أحمد إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر الرياء يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا انظروا هل تجدون عندهم جزاء
والطبراني إن أدنى الرياء وأحب العبيد إلى الله الأتقياء الأسخياء الأخفياء أي المبالغون في ستر عباداتهم وتنزيهها عن شوائب الأغراض الفانية والأخلاق الدنيئة الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا شهدوا أي حضروا لم يعرفوا أولئك أئمة الهدى ومصابيح الدجى
____________________
(1/64)
والطبراني الشهوة الخفية والرياء شرك
وابن ماجه إن أخوف ما أخاف على أمتي الإشراك بالله أما إني لست أقول يعبدون شمسا ولا قمرا ولا وثنا ولكن أعمالا لغير الله وشهوة خفية
والترمذي الحكيم الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا
والحاكم الشرك الخفي أن يعمل الرجل لمكان الرجل
والترمذي الحكيم والحاكم وأبو نعيم الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء وأدناه أن تحب على شيء من الجور أو تبغض على شيء من العدل وهل الدين إلا الحب في الله والبغض في الله قال الله تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله
والترمذي والحاكم إن الله إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد أي يتجلى لهم تجليا منزها عن الحركة والانتقال وسائر لوازم الجهات والأجسام ليقضي بينهم وكل أمة جاثية فأول من يدعى به رجل جمع القرآن ورجل قتل في سبيل الله ورجل كثير المال فيقول الله للقارئ ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي قال بلى يا رب
قال فماذا عملت فيما علمت قال كنت أقوم آناء الليل وآناء النهار فيقول الله له كذبت بل أردت أن يقال فلان قارئ فقد قيل ذلك ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد قال بلى يا رب قال فما عملت فيما آتيتك قال كنت أصل الرحم وأتصدق فيقول الله له بل أردت أن يقال فلان جواد فقد قيل ذلك ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له في ماذا قتلت فيقول أمرت
____________________
(1/65)
بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول الله له كذبت ويقول الله له بل أردت أن يقال فلان جريء أي شجاع فقد قيل ذلك يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة
وأحمد ومسلم والنسائي إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتي به فعرفه أي الله نعمته فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت ليقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمته فعرفها قال فماذا عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن
قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمته فقال فماذا عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها قال كذبت ولكنك فعلته ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار
والحاكم أول الناس يدخل النار يوم القيامة ثلاثة نفر يؤتى بالرجل فيقول رب علمتني الكتاب فقرأته آناء الليل والنهار أي ساعاتهما رجاء ثوابك فيقول كذبت إنما كنت تصلي ليقال إنك قارئ مصل وقد قيل اذهبوا به إلى النار ثم يؤتى بآخر فيقول رب رزقتني مالا فوصلت به الرحم وتصدقت به على المساكين وحملت به ابن السبيل رجاء ثوابك وجنتك فيقال كذبت إنما كنت تتصدق وتصل ليقال إنه سمح جواد فقد قيل اذهبوا به إلى النار ثم يجاء بالثالث فيقول رب خرجت في سبيلك فقاتلت فيك غير مدبر رجاء ثوابك وجنتك فيقال كذبت إنما كنت تقاتل ليقال إنك جريء وشجاع فقد قيل اذهبوا به إلى النار
والحاكم ثلاثة مهلكون عند الحساب جواد وشجاع وعالم
____________________
(1/66)
وأحمد والترمذي وابن ماجه إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عنده فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك
والطيالسي وأحمد إن الله تعالى يقول أنا خير قسيم لمن أشرك بي من أشرك بي شيئا فإن عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك بي أنا عنه غني
ومسلم وابن ماجه قال الله تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه إذا كان يوم القيامة أتي بصحف مختمة فتنصب بين يدي الله تعالى فيقول الله لملائكته اقبلوا هذا وألقوا هذا فتقول الملائكة وعزتك ما رأينا إلا خيرا فيقول نعم لكن كان لغيري ولا أقبل اليوم إلا ما ابتغي به وجهي وفي رواية إذا كان يوم القيامة يجاء بالأعمال في صحف مختمة فيقول الله عز وجل اقبلوا هذا وردوا هذا فتقول الملائكة وعزتك ما كتبنا إلا ما عمل فيقول إن عمله كان لغير وجهي وإني لا أقبل اليوم إلا ما كان لوجهي
وفي أخرى لابن عساكر والدارقطني يجاء يوم القيامة بصحف مختومة فتنصب بين يدي الله عز وجل فيقول للملائكة ألقوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة وعزتك ما رأينا إلا خيرا فيقول وهو أعلم إن هذا كان لغيري لا أقبل اليوم من العمل إلا ما كان ابتغي به وجهي
وفي
____________________
(1/67)
أخرى مرسلة لابن المبارك إن الملائكة يرفعون عمل العبد من عباد الله يستكثرونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله من سلطانه فيوحي الله إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه إن عبدي هذا لم يخلص لي في عمله فاجعلوه في سجين ويصعدون بعمل العبد يستقلونه ويحقرونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله من سلطانه فيوحي إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على نفسه إن عبدي هذا أخلص لي عمله فاجعلوه في عليين
وابن سعد إذا كان يوم القيامة نادى مناد من عمل عملا لغير الله فليطلب ثوابه ممن عمل له
وابن ماجه إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا
وإذا حضروا لم يدعوا ولم يعرفوا مصابيح الهدى يخرجون من كل غبراء مظلمة
والبخاري في التاريخ والترمذي وابن ماجه تعوذوا بالله من جب الحزن واد في جهنم تتعوذ منه جهنم كل يوم أربعمائة مرة يدخله القراء المراءون بأعمالهم وإن أبغض القراء إلى الله تعالى الذين يزورون الأمراء
وفي رواية للطبراني إن في جهنم لواديا تستعيذ جهنم من ذلك الوادي في كل يوم أربعمائة مرة أعد ذلك الوادي للمرائين من أمة محمد لحامل كتاب الله تعالى وللمتصدق في غير ذات الله وللحاج إلى بيت الله وللخارج في سبيل الله وأحمد ومسلم من سمع سمع الله به ومن راءى راءى الله به ومن شاق شق الله عليه يوم القيامة
والعقيلي والديلمي أبغض العباد إلى الله من كان ثوباه خيرا من عمله أن تكون ثيابه ثياب الأنبياء وعمله عمل الجبارين
وأبو عبد الرحمن
____________________
(1/68)
السلمي في ستر الصوفية والديلمي احذروا الشهرتين الصوف والخز أشد الناس عذابا يوم القيامة من يرى الناس أن فيه خيرا ولا خير فيه وأبو نعيم والديلمي إن الله حرم الجنة على كل مراء
والديلمي إن الأرض لتعج إلى الله من الذين يلبسون الصوف رياء
وابن ماجه رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر
وأحمد والطبراني والحاكم رب قائم حظه من قيامه السهر ورب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش
والديلمي
____________________
(1/69)
ريح الجنة يوجد من مسيرة خمسمائة عام ولا يجده من طلب الدنيا بعمل الآخرة
والطبراني وأبو يعلى والبيهقي من أحسن الصلاة حيث يراه الناس ثم أساءها حيث يخلو فتلك استهانة استهان بها ربه
والطبراني من تزين بعمل الآخرة وهو لا يريدها ولا يطلبها لعن في السموات والأرض
وابن عدي إذا تزين القوم بالآخرة وتجملوا للدنيا فالنار مأواهم
والطبراني من راءى بالله لغير الله فقد برئ من الله
والطبراني من قام مقام رياء وسمعة فإنه في مقت الله حتى يجلس
وأحمد والترمذي وابن ماجه
من يراء يراء الله به ومن يسمع يسمع الله به
وهو بتشديد الميم أي من يظهر عمله للناس رياء يسمع الله به أي يفضحه يوم القيامة ومعنى من راءى راءى الله به أي من أظهر للناس العمل الصالح ليعظم عندهم وليس هو كذلك راءى الله به أي أظهر سريرته على رءوس الخلائق
وأحمد والشيخان وأبو داود المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور
والحكيم الترمذي الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل على الصفا أي على الحجر الأملس
____________________
(1/70)
وأحمد والطبراني أيها الناس اتقوا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل قالوا وكيف نتقيه يا رسول الله قال قولوا اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر رضي الله عنه الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل وسأدلك على شيء إذا فعلته أذهب عنك صغار الشرك وكباره تقول اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم تقولها ثلاث مرات
وفي أخرى عند الترمذي الحكيم عن ابن جريج بلاغا يا أبا بكر الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل إن من الشرك أن يقول الرجل ما شاء الله وشئت ومن الند أن يقول الرجل لولا فلان لقتلني فلان أفلا أدلك على ما يذهب الله به عنك صغار الشرك وكباره تقول كل يوم ثلاث مرات اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم
وأحمد والطبراني والحاكم وأبو نعيم والبيهقي أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية قيل يا رسول الله أتشرك أمتك من بعدك قال نعم أما إنهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولا وثنا ولكن يراءون الناس بأعمالهم والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائما فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه
وفي رواية يصبح العبد صائما فتعرض له شهوة من شهواته فيواقعها ويدع صومه
والديلمي إن الرجل ليعمل عملا سرا فيكتبه الله عنده سرا فلا يزال به الشيطان حتى يتكلم به فيمحى من السر ويكتب علانية فإن عاد تكلم الثانية محي من السر والعلانية وكتب رياء
والخطيب إن الله تعالى يقول أنا خير شريك فمن أشرك معي شيئا فهو لشريكي يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله فإن الله لا يقبل من
____________________
(1/71)
الأعمال إلا ما أخلص له ولا تقولوا هذا لله وللرحم فإنه للرحم وليس لله منه شيء وأبو داود بسند صحيح من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة أي ريحها الطيب
والطبراني إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر الرياء يقال لمن يفعل ذلك إذا جاء الناس بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون فاطلبوا ذلك عندهم
وأحمد والحاكم والبيهقي ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الشرك الخفي أن يقوم الرجل يعمل لمكان الرجل
والديلمي إياكم أن تخلطوا طاعة الله تعالى بحب ثناء العباد فتحبط أعمالكم
والبيهقي
أيها الناس إياكم وشرك السرائر أن يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهدا لما يرى من نظر الناس إليه فذلك شرك السرائر
وفي رواية له إياكم وشرك السرائر أن يتم ركوعها وسجودها لما يلحظه من الحدق والنظر فذلك شرك السرائر
وأبو نعيم الشرك أخفى في أمتي من دبيب الذر على الصفا وليس بين العبد والكفر إلا ترك الصلاة وابن جرير والنسائي قال الله عز وجل من عمل عملا أشرك فيه غيري فهو له كله وأنا أغنى عن الشركاء
والبيهقي ما من عبد يقوم في الدنيا مقام سمعة ورياء إلا سمع الله به على رءوس
____________________
(1/72)
الخلائق يوم الجمعة أي يوم القيامة لأن فيه الجمع الأعظم
والديلمي من تزين للناس بما يعلم الله منه غير ذلك شنأه الله عز وجل
والحاكم من تهيأ للناس بقوله ولباسه وخالف ذلك في أعماله فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين
والطيالسي وأحمد والطبراني والحاكم والبيهقي من صلى وهو يرائي فقد أشرك ومن صام وهو يرائي فقد أشرك ومن تصدق وهو يرائي فقد أشرك
وأحمد وابن سعد ويعقوب بن سفيان والبغوي وابن السكن والباوردي وابن منده وابن نافع والطبراني وأبو نعيم وسعيد بن منصور من قام بخطبة لا يلتمس بها إلا رياء وسمعة أوقفه الله يوم القيامة موقف رياء وسمعة
والطبراني وأبو نعيم من يسمع يسمع الله به ومن يراء يراء الله به ومن كان ذا لسانين في الدنيا جعل الله له لسانين من نار يوم القيامة
والطبراني وأبو نعيم والبيهقي وابن عساكر وابن النجار يؤمر بناس
وفي رواية بفئة أي جماعة من الناس يوم القيامة إلى الجنة حتى إذا دنوا منها واستنشقوا ريحها ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعده الله لأهلها فيها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيرجعون بحسرة ما رجع الأولون والآخرون بمثلها فيقولون ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثوابك وما أعددت فيها لأوليائك كان أهون علينا قال ذاك أردت بكم يا أشقياء كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم وإذا
____________________
(1/73)
لقيتم الناس لقيتموني مخبتين تراءون الناس بأعمالكم خلاف ما تعطوني من قلوبكم
هبتم الناس ولم تهابوني وأجللتم الناس ولم تجلوني وتركتم للناس ولم تتركوا لي فاليوم أذيقكم العذاب مع ما حرمتم من الثواب
وفي رواية فاليوم أذيقكم أليم عذابي مع ما حرمتكم من جزيل ثوابي
وأبو نعيم لا يسمع الله من مسمع ولا من مراء ولا لاه ولا لاعب
والديلمي إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليسمع أهل الجمع أين الذين يعبدون الناس قوموا وخذوا أجوركم ممن عملتم له فإني لا أقبل عملا خالطه شيء من الدنيا وأهلها
والذهبي سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما النجاة غدا قال صلى الله عليه وسلم أن لا تخادع الله
قال وكيف يخادع الله قال أن تعمل بما أمرك الله ورسوله وتريد به غير وجه الله فاتقوا الرياء فإنه الشرك بالله وإن المرائي ينادى عليه يوم القيامة على رءوس الخلائق بأربعة أسماء يا كافر يا فاجر يا غادر يا خاسر ضل عملك وبطل أجرك فلا خلاق أي نصيب لك اليوم فالتمس أجرك ممن كنت له تعمل يا مخادع
وأما الإجماع فهو واضح بعد أن علمت ما جاء فيه من تلك النصوص القطعية والأحاديث الصحيحة السنية ومن ثم تطابقت كلمات الأئمة على ذمه وأطبقت الأمة على تحريمه وتعظيم إثمه وقد قال عمر رضي الله عنه لمن رآه يطأطئ رقبته يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك ليس الخشوع في الرقاب وإنما الخشوع في القلب
ورأى أبو أمامة رجلا يبكي في المسجد في سجوده فقال أنت أنت لو كان هذا في بيتك
وقال علي كرم الله وجهه للمرائي ثلاث علامات يكسل إذا كان وحده وينشط إذا كان في الناس ويزيد في العمل إذا أثني عليه وينقص إذا ذم
وقال يعطى العبد على نيته ما لا يعطى على عمله لأن النية لا رياء فيها
وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه لمن قال أقاتل بسيفي في سبيل الله أريد وجه الله ومحمدة الناس لا شيء لك لا شيء لك
____________________
(1/74)
لا شيء لك إن الله تعالى يقول أنا أغنى الشركاء عن الشرك الحديث وقد ذم غير واحد من السلف من يقول هذه لوجه الله ووجه فلان فإن الله تعالى لا شريك له وقال قتادة إذا راءى العبد يقول الله تعالى عبدي يستهزئ بي
وقال إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه ما صدق الله تعالى من أراد أن يشتهر
وقال الفضيل رضي الله عنه من أراد أن ينظر إلى مراء فلينظر إلي وقال أيضا ترك العمل لأجل الناس رياء والعمل لأجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله منهما
وقال بعض الحكماء مثل من يعمل رياء وسمعة كمثل من ملأ كيسه حصى ثم دخل السوق ليشتري به فإذا فتحه بين يدي البائع افتضح وضرب به وجهه فلم يحصل له به منفعة سوى قول الناس ما أملأ كيسه ولا يعطى به شيئا فكذلك من عمل للرياء والسمعة لا منفعة له في عمله سوى مقالة الناس ولا ثواب له في الآخرة
قال تعالى وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا أي الأعمال التي قصد بها غير الله تعالى يبطل ثوابها صارت كالهباء المنثور وهو الغبار الذي يرى في شعاع الشمس
تنبيهات منها الرياء مأخوذ من الرؤية والسمعة من السماع
وحد الرياء المذموم إرادة العامل بعبادته غير وجه الله تعالى كأن يقصد اطلاع الناس على عبادته وكماله حتى يحصل له منهم نحو مال أو جاه أو ثناء
إما بإظهار نحول وصفرة ونحو تشعث شعر وبذاذة هيئة وخفض صوت وغمض جفن إيهاما لشدة اجتهاده في العبادة وحزنه وقلة أكله وعدم مبالاته بأمر نفسه لاشتغاله عنها بالأهم وتوالي صومه وسهره وإعراضه عن الدنيا وأهلها وما درى المخذول أنه حينئذ أقبح من أراذلهم كالمكاسين وقطاع السبيل
وأمثالهم لأنهم معترفون بذنوبهم لا غرور لهم في الدين بخلاف ذلك المخذول الممقوت
وإما بإظهار زي الصالحين كإطراق الرأس في المشي والهدوء في الحركة وإبقاء أثر السجود على الوجه ولبس الصوف وخشن الثياب وتقصيرها وغير ذلك إيهاما أنه من العلماء والسادة الصوفية رضي الله عن محقيهم وخذل مبطليهم مع الإفلاس عن حقيقة العلم والتصوف بباطنه وما درى المخادع أن كل ما وصل إليه لأجل هذا التلبيس حرام عليه قبوله فإن قبله كان فاسقا لأكله أموال الناس بالباطل
وإما بالوعظ والتذكير وإظهار حفظ السنن ولقاء المشايخ وإتقان العلوم وغير ذلك من الطرق الكثيرة إذ الرياء بالقول كثير وأنواعه لا تنحصر
وإما بنحو تطويل أركان الصلاة وتحسينها وإظهار التخشع فيها وكذا الصوم والحج وغيرهما من العبادات
وأنواع الرياء بالأعمال لا تنحصر وربما أن المرائي من شدة حرصه على إحكام الرياء وإتقانه يتألف ذلك بفعله في خلواته ليكون ذلك خلقا له في الملإ لا للخوف من الله تعالى والحياء منه
وإما بالأصحاب والزائرين
____________________
(1/75)
والمخالطين كمن يطلب من عالم أو أمير أو صالح أن يأتي إليه لزيارته إيهاما لرفعته وتبرك الأكابر به وكمن يذكر أنه لقي شيوخا كثيرين افتخارا بهم وترفعا بذلك على غيره
فهذه مجامع أبواب الرياء الحامل إيثارها على طلب نحو الجاه والمنزلة واشتهار الصيت حتى تنطلق الألسن بالثناء عليه ويجلب الحطام من سائر الآفاق إليه
ومنها حيث أطلق الرياء على لسان حملة الشرع فالمراد به المذموم الذي مر حده ثم إن لم يقصد غير الرياء فعبادته باطلة وليته لم يحصل له من السوء غير ذلك بل عليه عظيم الإثم وقبيح الذم كما علم تفصيل ذلك من الآيات والأحاديث السابقة والمعنى في تحريمه وكونه كبيرة وشركا مقتضيا للعن أن فيه استهزاء بالحق تعالى كما مرت الإشارة إليه في الأحاديث ومن ثم قال قتادة كما مر إذا راءى العبد قال الله تعالى انظروا إليه كيف يستهزئ بي ويوضحه أن أحد خدام الملك القائمين في خدمته لو كان قاصدا بوقوفه فيها ملاحظة أمة أو أمرد للملك كان ذلك عند كل من له أدنى مسكة من عقل استهزاء بذلك الملك لأنه لم يقصد تقربا إليه بوجه مع إيهامه أنه على غاية من التقرب وحينئذ فأي استحقار واستهزاء يزيد على قصدك بعبادة ربك مثلك عاجزا عن نفسه من سائر الوجوه فضلا عنك ومع ذلك فقصدك إياه متبرعا بعبادتك ينبئ عن اعتقادك فيه أنه أقدر على تحصيل أغراضك من الله فرفعت العبد الضعيف العاجز على مولاك القوي القادر ومن ثم كان الرياء من كبائر الكبائر المهلكة ولهذا سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر
وفيه أيضا تلبيس على الخلق لإيهامه لهم أنه مخلص مطيع لله تعالى وهو بخلاف ذلك بل التلبيس في الدنيا حرام أيضا حتى لو قضى دين إنسان ليخيل إليه أو إلى غيره أنه متبرع حتى يعتقدوا سخاوته أثم به لما فيه من التلبيس وتملك القلوب بالخداع والمكر
فإن قلت قد تقرر وجه كون الرياء الشرك الأصغر فما وجه افتراقه من الشرك الأكبر قلت يتضح ذلك بمثال هو أن المصلي حتى يقول الناس إنه صالح مثلا يكون رياؤه سببا باعثا له على العمل لكنه في خلال ذلك العمل تارة يقصد به تعظيم الله تعالى وتارة لا يقصد به شيئا وفي كل منهما لم يصدر منه مكفر بخلاف الشرك الأكبر فإنه لا يحصل في هذا إلا إذا قصد بالسجود مثلا تعظيم غير الله تعالى فعلم أن المرائي إنما نشأ له ذلك الشرك بواسطة أنه عظم قدر المخلوق عنده حتى حمله ذلك التعظيم على أن يركع ويسجد فكان ذلك المخلوق هو المعظم بالسجود من وجه وهذا هو عين الشرك الخفي لا الجلي وذلك غاية الجهل ولا يقدم عليه إلا من خدعه الشيطان وأوهم عنده أن
____________________
(1/76)
العبد الضعيف العاجز يملك من معايشه ومنافعه أكثر مما يملكه الله تعالى فلذلك عدل بوجهه وقصده إليهم عن الله تعالى فأقبل يستميل قلبهم فيكله تعالى إليهم في الدنيا والآخرة كما مر في الأحاديث اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون فاطلبوا ذلك عندهم وهم لا يملكون لأنفسهم شيئا سيما في الآخرة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور
وقد يطلق الرياء على أمر مباح وهو طلب نحو الجاه والتوقير بغير عبادة كأن يقصد بزينة لباسه الثناء عليه بالنظافة والجمالة ونحو ذلك وقس على ذلك ما أشبهه من كل تجمل وتزين وتكرم لأجل الناس
كالإنفاق على الأغنياء لا في معرض العبادة والصدقة بل ليقال إنه سخي
ووجه عدم حركة هذا النوع أنه ليس فيه ما مر في المحرم من التلبيس بالدين والاستهزاء برب العالمين وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد الخروج سوى عمامته وشعره ونظر وجهه في المرآة فقالت عائشة رضي الله عنها أوتفعل ذلك يا رسول الله فقال نعم إن الله يحب من العبد أن يتزين لإخوانه إذا خرج إليهم
نعم هذا منه صلى الله عليه وسلم عبادة متأكدة لأنه مأمور بدعوة الخلق واستمالة قلوبهم ما أمكنه
إذ لو سقط من أعينهم لأعرضوا عنه فلزمه أن يظهر لهم محاسن أحواله لئلا يزدروه فيعرضوا عنه لامتداد أعين عامة الخلق إلى الظواهر دون السرائر فهذا قصده صلى الله عليه وسلم وفيه قربة أي قربة ويجري ذلك في العلماء ونحوهم إذا قصدوا بتحسين هيئاتهم نحو ذلك
ومنها اختلف الغزالي وابن عبد السلام فيمن قصد بعمله الرياء والعبادة فقال الغزالي إن غلب باعث الدنيا فلا ثواب له أو باعث الآخرة فله الثواب وإن تساويا تساقطا فلا ثواب أيضا وقال ابن عبد السلام لا ثواب مطلقا للأخبار السابقة كخبر من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء هو للذي أشرك
وأول الغزالي الحديث على ما إذا استوى القصدان أو كان قصد الرياء أرجح وصريح كلام الغزالي أن الرياء ولو محرما لا يمنع أصل الثواب عنده إذا كان باعث العبادة أغلب ومن ثم قال لو كان اطلاع الناس مرجحا ومقويا نشاطه ولو فقد لم يترك العبادة ولو انفرد قصد الرياء لما أقدم فالذي نظنه والعلم عند الله تعالى أنه لا يحبط أصل الثواب ولكنه يعاقب على مقدار قصد الرياء ويثاب على مقدار قصد الثواب انتهى وقد ينافيه قوله قبل
____________________
(1/77)
ذلك إذا قصد الأجر والمحمدة جميعا في صدقته وصلاته فهو الشرك الذي يناقض الإخلاص وقد ذكرنا حكمه في كتاب الإخلاص وما نقلناه عن سعيد بن المسيب وعبادة بن الصامت رضي الله عنهما يدل على أنه لا ثواب له أصلا انتهى وبهذا يترجح كلام ابن عبد السلام
والحاصل أن الذي يتجه ترجيحه في ذلك أنه متى كان المصاحب لقصد العبادة رياء مباحا لم يقتض إسقاط ثوابها من أصله بل يثاب على مقدار قصده العبادة وإن ضعف أو محرما اقتضى سقوطه من أصله كما دلت عليه الأحاديث الكثيرة السابقة قوله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره قد لا يعكر على ذلك لأن تقصيره بقصده المحرم أوجب سقوط الأجر فلم يبق له ذرة من خير فلم تشمله الآية
واعلم أن العبد إذا عقد عبادته على الإخلاص ثم ورد عليه وارد الرياء فإن كان بعد تمام العمل لم يؤثر فيه لأنه تم على الإخلاص فلا ينعطف عليه أثر ما طرأ إن لم يتكلف إظهاره والتحدث به
فإن تكلف ذلك قصدا للرياء قال الغزالي فهذا مخوف وفي الآثار والأخبار ما يدل على أنه يحبط العمل وساق ذلك ثم استبعد أن يكون ذلك الطارئ مبطلا لثواب العمل
قال بل الأقيس أنه مثاب على عمله الذي انقضى ويعاقب على مراءاته بطاعة الله ولو بعد فراغه منها بخلاف ما لو تغير عقده إلى الرياء في أثنائها فإنه يحبطها بل يفسدها إن تمحض قصد الرياء فإن لم يتمحض لكنه غلب حتى انغمر قصد القربة فيه فهذا يتردد في إفساده للعبادة وميل الحارث المحاسبي إلى إفساده
والأحسن عندنا أن هذا القدر إذا لم يظهر أثره في العمل بل بقي العمل صادرا عن باعث الدين وإنما انضاف إليه سرور باطلاع فلا يفسد عمله لبقاء أصل النية الباعثة عليه والحاملة على إتمامه بخلاف ما لو عرض له ما لولا الناس لقطع صلاته مثلا فإنه يفسدها فيعيدها وإن كانت فرضا
والأخبار الواردة في الرياء محمولة على ما إذا لم يرد بالعمل إلا الخلق
وأما ما ورد في الشركة فهو محمول على ما إذا كان قصد الرياء مساويا لقصد الثواب أو أغلب منه أما إذا كان ضعيفا بالإضافة إليه فلا يحبط بالكلية ثواب العمل ولا ينبغي أن تفسد الصلاة ولو قارن الرياء ابتداء عقد الصلاة مثلا واستمر إلى أن سلم فلا خلاف أنه يقضي ولا يعتد بصلاته فإن ندم عليه أثناءها واستغفر فقالت فرقة هي لم تنعقد فيستأنفها وقالت فرقة يلغو جميع ما فعله إلا التحريم فيتم عليه وقالت فرقة لا يلزمه شيء بل يتمها لأن النظر إلى الخواتيم كما لو ابتدأ بالإخلاص وختم بالرياء فإن عمله يفسد والقولان الأخيران خارجان عن قياس الفقه جدا خصوصا أولهما وكذا القول بأنه إذا ختم بالإخلاص صح لأن الرياء يقدح في النية والذي يستقيم على قياس الفقه أن
____________________
(1/78)
يقال إن كان باعثه هو مجرد الرياء في ابتداء العقد دون طلب الثواب وامتثال الأمر لم ينعقد افتتاحه ولم يصح ما بعده لأنه لم يجزم بالنية لأنه إنما تحرم لأجل الناس وإن كان ثوبه نجسا ولو كان وحده لم يصل أصلا فإن كان بحيث إنهم لو فقدوا صلى أيضا صلاة صحيحة إلا أنه ظهر له الرغبة في المحمدة أيضا فاجتمع الباعثان فإن كان في نحو صدقة فقد عصى بإجابة باعث الرياء وأطاع بإجابة باعث الثواب فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره فله ثواب بقدر قصده الصحيح وعقاب بقدر قصده الفاسد ولا يحبط أحدهما الآخر وصلاة النافلة كالصدقة فيما ذكر ولا يمكن أن يقال صلاته فاسدة ولا الاقتداء به باطل وإن ظهر أن قصده الرياء وإظهار حسن قراءته تحسينا للظن بالمسلم أنه يقصد الثواب أيضا بتطوعه فتصح باعتبار ذلك القصد صلاته والاقتداء به
وإن اقترن به قصد آخر هو عاص به فإن اجتمع الباعثان في فرض وكل لا يستقل وإنما يحصل الانبعاث بمجموعهما فهذا لا يسقط الواجب عنه فإن استقل كل منهما بحيث لو عدم باعث الرياء أدى الفرض ولو عدم باعث الفرض أنشأ صلاة للرياء فهذا محل النظر وهو محتمل جدا فيحتمل أن يقال الواجب صلاة خالصة لوجه الله تعالى ولم توجد وأن يقال الواجب امتثال الأمر بباعث مستقل بنفسه وقد وجد فاقتران غيره به لا يسيغ سقوط الفرض عنه كما لو صلى في دار مغصوبة ولو كان الرياء في نحو المبادرة إلى الصلاة دون ذاتها قطع بصحتها لأن باعث أصل الصلاة من حيث إنها صلاة لم يعارضه غيره
هذا في رياء باعث على العمل
فأما مجرد السرور بإطلاع الناس إذا لم يبلغ أثره بحيث يؤثر في العمل فبعيد أن يفسد الصلاة فهذا ما تراه لائقا بقانون الفقه والمسألة غامضة من حيث إن الفقهاء لم يتعرضوا لها في الفقه والذين خاضوا فيها لم يلاحظوا قوانين الفقهاء بل حملهم الحرص على تصفية القلوب وطلب الإخلاص على إفساد العبادات بأدنى الخواطر وما ذكرناه هو القصد فيما نراه والعلم عند الله تعالى فيه انتهى
ومر آنفا ما يعلم به ما في بعضه
ومنها الرياء ينقسم إلى درجات متفاوتة في القبح فأقبحها الرياء في الإيمان وهو شأن المنافقين الذين أكثر الله من ذمهم في كتابه العزيز وتوعدهم بقوله عز قائلا إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار وهؤلاء قلوا من بعد زمن الصحابة نعم كثر من هو مثلهم في القبح كالمعتقدين للبدع المكفرة كإنكار الحشر أو علم الله تعالى بالجزئيات واعتقاد الإباحة المطلقة مع إظهارهم خلاف ذلك فليس وراء قبيح أحوال هؤلاء شيء ويليهم المراءون بأصول العبادات الواجبة كأن يعتاد تركها في الخلوة ويفعلها في الملأ خوف المذمة وهذا أيضا عظيم عند الله تعالى لإنبائه على غاية
____________________
(1/79)
الجهل وأدائه إلى أعلى أنواع المقت ويليهم المراءون بالنوافل كأن يعتاد ذلك فيها وحدها خوف الاستنقاص بعدم فعلها في الملإ وإيثارا للكسل وعدم الرغبة في ثوابها في الخلوة ويليهم المراءون بأوصاف العبادات كتحسينها وإطالة أركانها وإظهار التخشع فيها واستكمال سائر مكملاتها في الملإ والاقتصار في الخلوة على أدنى واجباتها خوف إيثار ما ذكر في النوافل فهذا محظور أيضا لأن فيه كالذي قبله تقديم المخلوق على الخالق وقد يكيد الشيطان فاعله فيزين له أنه إنما يفعل ذلك صيانة لهم عن الوقوع فيه ولو صدق لصان نفسه عن فوات تلك الكمالات بما يفعله في خلواته فدلت قرائن أحواله على أن باعث ذلك ليس إلا النظر إلى الخلق رجاء محمدتهم لا صيانتهم
وللمرائي لأجله درجات أيضا فأقبحها أن يقصد التمكن من معصية كمن يظهر الورع والزهد حتى يعرف به فيولى المناصب والوصايا وتودع عنده الأموال أو يفوض إليه تفرقة الصدقات وقصده بكل ذلك الخيانة فيه وكمن يذكر أو يعظ أو يعلم أو يتعلم للظفر بامرأة أو غلام ثم فهؤلاء أقبح المرائين عند الله تعالى لأنهم جعلوا طاعة ربهم سلما إلى معصيته ووصلة إلى فسقهم وتسوء عاقبتهم
ويليها من يتهم بمعصية أو خيانة فيظهر الطاعة والصدقة قصدا لدفع تلك التهمة
ويليها أن يقصد نيل حظ مباح من نحو مال أو نكاح أو غيرهما من حظوظ الدنيا
ويليها أن يقصد بإظهار عبادته وورعه وتخشعه ونحو ذلك أن لا يحتقر وينظر إليه بعين النقص أو أن يعد من جملة الصالحين وفي الخلوة لا يفعل شيئا من ذلك ومن ذلك أن يترك إظهار النظر في يوم يسن صومه خشية أن يظن به أنه لا اعتناء له بالنوافل فهذه أصول درجات الرياء ومراتب أصناف المرائين
قال الغزالي وجميعهم تحت مقت الله تعالى وغضبه وهو من أشد المهلكات
ومنها مر في الخبر أن من الرياء ما هو أخفى من دبيب النمل
وهذا هو الذي يزل فيه فحول العلماء فضلا عن العباد الجهلاء بآفات النفوس وغوائل القلوب
وبيانه أن الرياء إما جلي وهو ما يحمل على العمل ويبعث عليه
وإما خفي وهو ما لا يحمل عليه لكنه يخفف مشقته كمن يعتاد التهجد كل ليلة ويثقل عليه لكنه إذا نزل به ضيف أو اطلع عليه أحد نشط له وخفف عليه ومع ذلك هو إنما يعمل لله ولولا رجاء الثواب لما صلى
وأمارة ذلك أنه يتهجد وإن لم يطلع عليه أحد وأخفى من هذا ما لا يحمل على تسهيل وتخفيف ومع ذلك عنده رياء كامن في قلبه ككمون النار في الحجر لا يمكن الاطلاع عليه إلا بالعلامات وأجلى علاماته أنه يسره اطلاع الناس على طاعته وعبادته فرب عبد مخلص في عمله يكره الرياء ويذمه فلا يكون عنده منه شيء يحمل على العمل ابتداء ولا دواما ولكنه إذا اطلع الناس عليه سره ذلك وارتاح له وروح ذلك عن قلبه
____________________
(1/80)
شدة العبادة عليه وهذا السرور يدل على رياء خفي إذ لولا التفات القلب للناس لما ظهر سروره عند اطلاعهم فاطلاعهم مع عدم كراهته له حرك ما كان ساكنا وصار غذاء للعرق الخفي من الرياء وحينئذ يحمل على تكلف سبب الاطلاع عليه ولو بالتعريض أو نحوه كإظهار النحول وخفض الصوت ويبس الشفتين وغلبة النعاس الدال على طول التهجد
وأخفى من ذلك أن يختفي بحيث لا يريد الاطلاع عليه ولا يسره ولكنه يحب أن يبدأ بالسلام والتعظيم وأن يقابل بمزيد الثناء والمبادرة إلى حوائجه وأن يسامح في معاملته وأن يوسع له المكان إذا أقبل ومتى قصر أحد في ذلك ثقل على قلبه لعظمة طاعته التي أخفاها عند نفسه فكأن نفسه تطلب أن يحترم في مقابلتها حتى لو فرض أنها لم تفعل تلك الطاعات لما كانت تطلب ذلك الاحترام ومهما لم يكن وجود الطاعة كعدمها في كل ما يتعلق بالخلق لم يكن قد قنع بعلم الله تعالى ولم يكن خاليا عن شوب خفي من الرياء أخفى من دبيب النمل
قال الغزالي وكل ذلك يوشك أن يحبط الأجر ولا يسلم منه إلا الصديقون
وعن علي كرم الله وجهه أنه قال إن الله عز وجل يقول للقراء يوم القيامة ألم يكن يرخص عليكم السعر ألم تكونوا تبدءون بالسلام ألم تكن تقضى لكم الحوائج وفي الحديث لا أجر لكم قد استوفيتم أجوركم ومن ثم لم يزل المخلصون خائفين من الرياء الخفي يشهدون ذلك في مخادعة الناس عن أعمالهم الصالحة يحرصون على إخفائها أعظم ما يحرص الناس على إخفاء فواحشهم
كل ذلك رجاء أن يخلص عملهم فيجازيهم الله في القيامة على ملإ من الخلائق إذ علموا أن الله تعالى لا يقبل في القيامة إلا الخالص وعلموا شدة حاجتهم وفاقتهم في القيامة وأن لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ولا يجزي والد عن ولده ولا مولود عن والده ويشتغل الصديقون بأنفسهم فيقول كل واحد منهم نفسي نفسي فضلا عن غيرهم وكل من وجد في نفسه فرقا بين اطلاع الصغار والمجانين واطلاع غيرهم على عباداته فعنده شوب من الرياء
إذ لو علم أن الله هو النافع الضار القادر على كل شيء وغيره هو العاجز عن كل شيء لاستوى عنده الصغار وغيرهم ولم تتأثر نفسه بحضور كبيرهم ولا صغيرهم وليس كل شوب من الرياء مفسدا للعمل ومحبطا له بل السرور إما محمود بأن يشهد أن الله أطلعهم عليه إظهارا لجميل أحواله ولطفه به فإنه في نفسه يستر طاعته ومعصيته ثم الله تعالى يستر معصيته ويظهر طاعته ولا لطف أعظم من ستر القبيح وإظهار الجميل فيكون فرحه بجميل نظر الله ولطفه به لا بحمد الناس وقيام المنزلة في قلوبهم قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا
أو يشهد أنه لما ستر قبيحه وأظهر جميله
____________________
(1/81)
في الدنيا فكذلك يفعل معه في الآخرة
لخبر ما ستر الله على عبد ذنبا في الدنيا إلا ستره عليه في الآخرة أو بأن يظن رغبة المطلعين على الاقتداء به في الطاعة فيتضاعف بذلك أجره فيكون له أجر العلانية بما ظهر آخرا وأجر السر بما قصده أولا إذ من اقتدي به في طاعة له مثل أجر المقتدين به من غير أن ينقص من أجورهم شيء وتوقع ذلك جدير بأن ينشأ عنه السرور فإن ظهور مخايل الربح لذيذ يوجب السرور لا محالة أو بأن يفرح بكونه تعالى وفقه إلى سبب يحمدونه عليه ويحبونه لأجله ولم يجعلهم كجماعة آخرين مذنبين يهزئون بالمطيعين ويؤذونهم وعلامة هذا الفرح أن يكون فرحه بحمدهم غيره كفرحه بحمدهم له
وإما مذموم وهو أن يكون فرحه لقيام منزلته في قلوبهم حتى يعظموه ويكرموه ويقوموا له بقضاء حوائجه وهذا مكروه وبما تقرر علم أن في كتم العمل فائدة الإخلاص والنجاة من الرياء وفي إظهاره فائدة الاقتداء وترغيب الناس في الخير ولكن فيه آفة الرياء وقد أثنى الله على القسمين فقال عز قائلا إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم لكنه مدح الإسرار لسلامته من تلك الآفة العظيمة التي قل من يسلم منها
وقد يمدح الإظهار فيما يتعذر الإسرار فيه كالغزو والحج والجمعة والجماعة فالإظهار المبادرة إليه وإظهار الرغبة فيه للتحريض بشرط أن لا يكون فيه شائبة رياء
والحاصل أنه متى خلص العمل من تلك الشوائب ولم يكن في إظهاره إيذاء لأحد فإن كان فيه حمل للناس على الاقتداء والتأسي به في فعله ذلك الخير والمبادرة إليه لكونه من العلماء أو الصلحاء الذين تبادر الكافة إلى الاقتداء بهم فالإظهار أفضل لأنه مقام الأنبياء ووراثهم ولا يخصون إلا بالأكمل ولأن نفعه متعد ولقوله صلى الله عليه وسلم من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من يعمل بها إلى يوم القيامة وإن اختل شرط من ذلك فالإسرار أفضل
وعلى هذا التفصيل يحمل إطلاق من أطلق أفضلية الإسرار
نعم مرتبة الإظهار الفاضل مزلة قدم للعباد والعلماء فإنهم يتشبهون بالأقوياء في الإظهار ولا تقوى قلوبهم على الإخلاص فتحبط أجورهم بالرياء والتفطن لذلك غامض وعلامة الحق فيه أن من قام به مع علمه من نفسه أن غيره لو قام به مثله من أقرانه لم يتأثر به كان مخلصا وإن لم يعلم من نفسه ذلك كان مرائيا إذ لولا ملاحظة نظره للخلق لما آثر نفسه على غيره مع علمه بكفاية غيره فليحذر العبد خدع النفس فإنها خدوع والشيطان مترصد وحب الجاه على القلب غالب وقلما تسلم الأعمال الظاهرة عن الآفات والأخطار
فالسلامة الإخفاء
____________________
(1/82)
ومن الإظهار التحدث بالعمل بعد فراغه بل هذا أشد خطرا من جهة أنه قد يجري على اللسان زيادة أو مبالغة وللنفس لذة في إظهار الدعاوى وأهون من جهة أن الرياء به لا يحبط ما مضى خالصا
واعلم أن كثيرين ربما يتركون الطاعات خوف الرياء وليس ذلك بمحمود مطلقا فإن الأعمال إما لازمة للبدن لا تتعلق بالغير ولا لذة في عينها كالصلاة والصوم والحج فإن كان باعث الابتداء فيها رؤية الناس وحدها فهذا محض معصية فيجب تركه ولا رخصة فيها على هذه الكيفية وإن كان الباعث نية التقرب إلى الله تعالى لكن عرض الرياء عند عقدها شرع فيها وجاهد نفسه في دفع ذلك العارض وكذا لو عرض في أثنائها فيرد نفسه للإخلاص قهرا حتى يتمها فإن الشيطان يدعوك أولا إلى الترك فإذا عصيته وعزمت وشرعت دعاك للرياء فإذا أعرضت عنه وجاهدته إلى أن فرغت ندمك حينئذ وقال لك أنت مراء ولا ينفعك الله بهذا العمل شيئا حتى تترك العود إلى مثل ذلك العمل فيحصل غرضه منك فكن منه على حذر فإنه لا أمكر منه وألزم قلبك الحياء من الله تعالى إذ أوجد فيك باعثا دينيا على العمل فلم تتركه بل جاهدت نفسك في الإخلاص فيه ولم تغتر بمكائد عدوك وعدو أبيك آدم صلى الله عليه وسلم
وإما متعلقة بالخلق وهذه تعظم فيها الآفات والأخطار فأعظمها الخلافة ثم القضاء ثم التذكير والتدريس والإفتاء ثم إنفاق المال فمن لا تستميله الدنيا ولا يستفزه الطمع ولا تأخذه في الله لومة لائم وأعرض عن الدنيا وأهلها جملة ولا يتحرك إلا للحق ولا يسكن إلا له هو الذي يستحق أن يكون من أهل الولايات الدنيوية والأخروية ومن فقد فيه شرط من ذلك فالولايات بأقسامها المذكورة عليه ضرر أي ضرر فليمسك عنها ولا يغتر فإن نفسه تسول له العدل فيها والقيام بحقوقها وعدم الميل إلى شوائب الرياء والطمع فإنها كاذبة في ذلك فليحذر منها فإنه لا ألذ عندها من الجاه والولايات فربما حملتها محبة ذلك على هلاكها
ومن ثم استأذن رجل عمر رضي الله عنه أن يعظ الناس إذا فرغ من صلاة الصبح فمنعه فقال تمنعني من نصح الناس فقال أخشى أن ننتفخ حتى تبلغ الثريا فينبغي أن لا يغتر الإنسان بما جاء في فضائل التذكير بالله والعلم لأن خطره عظيم ولسنا نأمر أحدا بتركه إذ ليس فيه نفسه آفة إنما الآفة في إظهاره بالتصدي له وعظا وإقراء وإفتاء ورواية ولا يترك التصدي له ما دام يجد في نفسه باعثا دينيا وإن مزج بشيء من رياء بل نأمره به مع مجاهدة نفسه على الإخلاص والتنزه عن خطرات الرياء فضلا عن شوائبه
فالأمور ثلاثة الولايات وهي أعظمها آفة فليتركها الضعفاء رأسا والصلوات ونحوها
____________________
(1/83)
فلا ينبغي أن يتركها الضعفاء ولا الأقوياء ولكن يجاهدون في دفع شوائب الرياء عنها والتصدي للعلوم وهي مرتبة وسطى بين تينك المرتبتين لكنها بالولايات أشبه وإلى الآفات أقرب فالحذر منها في حق الضعيف أسلم
وبقيت مرتبة رابعة وهي جمع المال وإنفاقه فمن العلماء من فضله على الاشتغال بالذكر والنوافل ومنهم من عكس والحق أن فيه آفات عظيمة كطلب الثناء واستجلاب القلوب وتميز النفس بالإعطاء فمن خلص من تلك الآفات فالجمع والإنفاق له أفضل لما فيه من وصل المنقطعين وكفاية المستحقين والتقرب ببرهم إلى رب العالمين ومن لم يخلص منها فالأولى له ملازمة العبادات واستفراغ الوسع فيما لها من الأدب والمكملات
ومن علامات إخلاص العالم في علمه أنه لو ظهر من هو أحسن منه وعظا وأغزر منه علما والناس له أشد قبولا فرح به ولم يحسده نعم لا بأس بالغبطة وهو أن يتمنى لنفسه مثل علمه وأنه لو حضر الأكابر مجلسه لم يتغير كلامه بل يكون ناظرا للخلق كلهم بعين واحدة وأن لا يحب اتباع الناس له في الطرقات
ومنها قد بان لك بما سبق من الآيات والأحاديث وكلام الأئمة أن الرياء محبط للأعمال وسبب للمقت عند الله واللعن والطرد وأنه من كبائر المهلكات
وما هذا وصفه فجدير بأن يشمر كل موفق عن ساق الجد في إزالته بالمجاهدة وتحمل المشاق الشديدة والمكابدة لقوة الشهوات إذ لا ينفك أحد عن الاحتياج لذلك إلا من رزق قلبا سليما نقيا خالصا عن شوائب ملاحظة الأغراض والمخلوقين ومستغرقا دائما في شهود رب العالمين وقليل ما هم
وإلا فغالب الخلق إنما طبع عليه إذ الصبي يخلق ضعيف العقل ممتد العين للخلق كثير الطمع فيهم فيرى بعضهم يتصنع لبعض فيغلب عليه حب التصنع بالضرورة ويترسخ ذلك في نفسه فإذا كمل عقله ووفق لاتباع الحق رأى ذلك مرضا مهلكا فاحتاج إلى دواء يزيله ويقطع عروقه باستئصال أصوله من حب لذة المحمدة والجاه والطمع فيما بأيدي الناس وذلك الدواء النافع هو أن يعرض عن رغبته في كل ذلك لما فيه من المضرة وفوات صلاح القلب وحرمان التوفيق في الحال والمنزلة الرفيعة في الآخرة والعقاب العظيم والمقت الشديد والخزي الظاهر حيث ينادى على رءوس الخلائق ويقال للمرائي يا فاجر يا غادر يا مرائي أما استحييت إذا اشتريت بطاعة الله تعالى عرض الحياة الدنيا راقبت قلوب العباد واستهزأت بنظر الله تعالى وطاعته وتحببت إلى العباد بالتبغيض إلى الله تعالى وتزينت لهم بالشين عند الله تعالى وتقربت إليهم بالبعد من الله تعالى
ولو لم يكن في الرياء إلا إحباط عبادة واحدة لكفى في شؤمه وضرره فقد يحتاج الإنسان في الآخرة إلى عبادة ترجح بها كفة حسناته
____________________
(1/84)
وإلا ذهب به إلى النار ومن طلب رضا الخلق في سخط الله تعالى سخط عليه وأسخطهم عليه أيضا على أن رضاهم غاية لا تدرك وما أرضى قوما إلا أغضب آخرين ثم أي غرض له في مدحهم وإيثاره على ذم الله وغضبه مع أن مدحهم لا يفيده نفعا ولا يدفع عنه ضرا وإنما ذلك الله وحده فهو المستحق لأن يقصد وحده إذ هو المسخر للقلوب بالمنع والإعطاء فلا رازق ولا معطي ولا ضار ولا نافع إلا هو عز وجل ولا يخلو الطامع في الخلق من الذل والخيبة أو من المنة والمهانة فكيف يترك ما عند الله تعالى برجاء كاذب ووهم فاسد قد يصيب وقد يخطئ على أنهم لو اطلعوا على ما في قلبه من الرياء لطردوه ومقتوه وذموه وأحرموه ومن نظر لذلك بعين البصيرة فترت رغبته في الخلق وأقبل على الصدق فهذا دواء علمي وثم دواء عملي وهو أن يتعود إخفاء العبادات كإخفاء الفواحش حتى يقنع قلبه بعلم الله تعالى واطلاعه عليه ولا تنازعه نفسه إلى طلب علم غير الله تعالى به
ويكلف الإخفاء كذلك وإن شق ابتداء لكن من صبر عليه مدة بالتكلف سقط عنه ثقله وأمده الله تعالى فيه من فضله ما يكون سببا لرقيه إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فمن العبد المجاهدة وقرع باب الكريم ومن الله تعالى الهداية والفتح إن الله لا يضيع أجر المحسنين وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما
خاتمة في الإخلاص لما تكلمنا بحمد الله وتأييده وإمداده ومعونته وتوفيقه على هذه الكبيرة العظيمة وما يتعلق بها مما يحتاج الخلق إليه وبسطنا الكلام في ذلك بالنسبة لموضوع الكتاب وإن كان في نفسه بالنسبة إلى اتساع كلام الناس في الرياء وتوابعه سيما الأحياء مختصرا جدا أردنا أن نختم الكلام فيها بذكر شيء من الآيات والأحاديث الدالة على مدح الإخلاص وثواب المخلصين وما أعد الله لهم ليكون ذلك باعثا للخلق على تحري الإخلاص ومباعدة الرياء إذ الأشياء لا تعرف كمالا وضده إلا بأضدادها
قال تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة
وقال تعالى إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله
أخرج الشيخان إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت
____________________
(1/85)
هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه
وأخرجا أيضا يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم
قلت يا رسول الله كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم قال يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم وأخرجا أيضا ولكن جهاد ونية
وأخرجا أيضا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك يكون في سبيل الله فقال صلى الله عليه وسلم من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله وفي نسخة فذلك في سبيل الله
وأخرج الطبراني نية المؤمن خير من عمله وعمل المنافق خير من نيته وكل يعمل على نيته فإذا عمل المؤمن عملا نار في قلبه نور
والترمذي الحكيم أفضل العمل النية الصادقة
وابن المبارك إن الله تعالى يعطي الدنيا على نية الآخرة وأبى أن يعطي الآخرة على نية الدنيا
والديلمي النية الحسنة تدخل صاحبها الجنة
والخطيب النية الصادقة معلقة بالعرش فإذا صدق العبد بنيته تحرك العرش فيغفر له
____________________
(1/86)
ومسلم العجب إن ناسا من أمتي يؤمون البيت لرجل من قريش أي وهو المهدي قد لجأ بالبيت حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم فيهم المستبصر والمجبور وابن السبيل يهلكون مهلكا واحدا ويصدرون مصادر شتى يبعثهم الله على نياتهم
وأحمد والبخاري إذا أنزل الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم يبعثون على نياتهم
وأخرج ابن أبي الدنيا والحاكم أخلص دينك يكفك القليل من العمل
والدارقطني أخلصوا أعمالكم لله فإن الله لا يقبل إلا ما خلص له
والديلمي يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله فإن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما خلص له ولا تقولوا هذا لله وللرحم
والطبراني إن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا وابتغي به وجهه والطبراني أخلصوا عبادة الله وأقيموا خمسكم وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم وصوموا شهركم وحجوا بيت ربكم تدخلوا جنة ربكم
وابن عدي والديلمي اعمل لوجه واحد أي لله وحده يكفك الوجوه كلها
وابن ماجه الأعمال كالوعاء إذا طاب أسفله طاب أعلاه
____________________
(1/87)
وابن عساكر إن الأعمال بخواتيمها كالوعاء إذا طاب أعلاه طاب أسفله وإذا خبث أعلاه خبث أسفله
وفي رواية صحيحة إن ما بقي من الدنيا بلاء وفتنة إنما مثل أعمال أحدكم كمثل الوعاء إذا طاب أعلاه طاب أسفله وإذا خبث أعلاه خبث أسفله
والنسائي إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا وابتغي به وجهه
ومسلم وابن ماجه إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم
وابن ماجه إن العبد إذا صلى في العلانية فأحسن وصلى في السر فأحسن قال الله تعالى هذا عبدي حقا
والرافعي إذا صلى العبد في العلانية فأحسن وصلى في السر فأحسن قال الله تبارك وتعالى أحسن عبدي
وأبو يعلى تمام البر أن تعمل في السر عمل العلانية صلاة الرجل تطوعا حيث لا يراه الناس تعدل صلاته على أعين الناس خمسا وعشرين
وابن المبارك مرسلا طوبى للمخلصين أولئك مصابيح الهدى تنجلي عنهم كل فتنة ظلماء
وابن حبان ما تقرب العبد إلى الله بشيء أفضل من سجود خفي
وابن حبان ما كرهت أن
____________________
(1/88)
يراه الناس منك فلا تفعل بنفسك إذا خلوت
وأبو نعيم من أخلص لله أربعين يوما ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه
وأبو داود من أراد منكم أن لا يحول بينه وبين قلبه أحد فليفعل
والديلمي السر أفضل من العلانية والعلانية لمن أراد الاقتداء وفي رواية ولمن أراد الاقتداء العلانية أفضل
والبخاري وأبو يعلى وابن حبان والحاكم لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله كائنا ما كان
والحاكم من أحسن ما بينه وبين الله كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته
والطبراني ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها إن خيرا فخير وإن شرا فشر
وأبو نعيم من كانت له سريرة صالحة أو سيئة أظهر الله تعالى عليه منها رداء يعرف به
والترمذي الحكيم والحاكم هل تدرون من المؤمن المؤمن من لا يموت حتى يملأ الله مسامعه مما يحب ولو أن عبدا اتقى في جوف بيت إلى سبعين بيتا على كل بيت باب من حديد ألبسه الله رداء عمله حتى يتحدث الناس به ويزيدون
قالوا كيف يزيدون قال إن التقي لو يستطيع أن يزيد في سره لزاد وكذلك الفاجر يتحدث الناس بفجوره
____________________
(1/89)
ويزيدون لأنه لو يستطيع أن يزيد في فجوره لزاد
وابن جرير والذي نفس محمد بيده ما عمل أحد قط سرا إلا ألبسه الله رداء علانيته إن خيرا فخير وإن شرا فشر
وسئل بعض الأئمة من المخلص فقال المخلص الذي يكتم حسناته كما يكتم سيئاته وسئل آخر ما غاية الإخلاص قال أن لا تحب محمدة الناس
الكبيرة الثالثة الغضب بالباطل والحقد والحسد لما كانت هذه الثلاثة بينها تلازم وترتب إذ الحسد من نتائج الحقد والحقد من نتائج الغضب كانت بمنزلة خصلة واحدة فلذلك جمعتها في ترجمة واحدة لأن ذم كل يستلزم ذم الآخر إذ ذم الفرع وفرعه يستلزم ذم الأصل وأصله وبالعكس
قال الله تعالى إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها ذم الكفار بما تظاهروا به من الحمية الصادرة عن الغضب بالباطل ومدح المؤمنين بما أنزل الله عليهم من السكينة والطمأنينة الناشئ عنها إلزامهم كلمة التقوى وأنهم هم أهلها وأحق بها
وقال تعالى أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله
وأخرج ابن عساكر الغضب من الشيطان والشيطان خلق من النار والماء يطفئ النار فإذا غضب أحدكم فليغتسل
وابن أبي الدنيا وابن عساكر اجتنب الغضب
وابن عدي إذا غضب أحدكم فقال أعوذ بالله سكن غضبه
وأحمد إذا غضب أحدكم فليسكت
والخرائطي إذا غضبت فاجلس
____________________
(1/90)
وأحمد وأبو داود وابن حبان إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع
وأبو الشيخ الغضب من الشيطان فإذا وجده أحدكم قائما فليجلس وإن وجده جالسا فليضطجع
والديلمي إذا غضبت فاقعد فإن لم يذهب عنك فاضطجع فإنه سيذهب
وابن أبي الدنيا أشدكم من غلب نفسه عند الغضب وأحلمكم من عفا بعد القدرة
وأحمد وأبو داود إن الغضب من الشيطان والشيطان خلق من النار وإنما تطفأ بالماء النار فإذا غضب أحدكم فليتوضأ
وابن أبي الدنيا إن لجهنم بابا لا يدخله إلا من شفى غيظه بمعصية الله
والطبراني ألا أدلكم على أشدكم أشدكم أملككم لنفسه عند الغضب
وابن أبي الدنيا مرسلا الخرق شؤم والرفق يمن
والبزار سأحدثكم بأمور الناس وأخلاقهم الرجل يكون سريع الغضب سريع الفيء أي الرجوع فلا له ولا عليه كفافا والرجل بعيد الغضب سريع الفيء فذلك له ولا عليه والرجل يقتضي الذي له ويقتضي الذي عليه فذلك لا له ولا عليه والرجل يقتضي الذي له ولا يقضي الذي عليه فذلك عليه ولا له
وأحمد الصرعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد
____________________
(1/91)
غضبه ويحمر وجهه ويقشعر شعره فيصرعه غضبه
وابن أبي الدنيا أتحسبون أن الشدة في حمل الحجارة إنما الشدة في أن يمتلئ أحدكم غيظا ثم يغلبه
وأحمد والشيخان ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب
والعسكري ليس الشديد الذي يغلب الناس إنما الشديد من يغلب نفسه عند الغضب
وابن النجار إن الشديد ليس الذي يغلب ولكن الشديد من غلب نفسه
والبيهقي هل تدرون ما الشديد إن الشديد كل الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب تدرون ما الرقوب الرقوب الذي له الولد لم يقدم منهم شيئا تدرون ما الصعلوك كل الصعلوك الرجل له المال لم يقدم منه شيئا
والترمذي الحكيم للنار باب لا يدخله إلا من شفى غيظه بسخط الله
والطبراني من دفع غضبه دفع الله عنه عذابه ومن حفظ لسانه ستر الله عورته
وأحمد والبخاري والترمذي وأبو يعلى أن غير واحد من الصحابة قال يا رسول الله أوصني
قال لا تغضب قال أوصني قال لا تغضب
وفي رواية لا تغضب فإن الغضب مفسدة
وفي أخرى قلت يا رسول الله مرني بعمل وأقلل قال لا تغضب ثم أعاد عليه فقال لا تغضب
____________________
(1/92)
وفي أخرى عن ابن عمر رضي الله عنهما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم قل لي قولا وأقلل لعلي أعقله قال لا تغضب فأعدت عليه مرتين كل ذلك يرجع إلي لا تغضب
والطبراني لا تغضب ولك الجنة
والحكيم لا تغضب يا معاوية بن حيدة فإن الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل
والبيهقي وابن عساكر يا معاوية إياك والغضب فإن الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل
والحكيم الغضب ميسم من نار جهنم يضعه الله على نياط أحدكم ألا ترى أنه إذا غضب احمرت عينه وأربد وجهه وانتفخت أوداجه
والخرائطي إياكم والبغضاء فإنها الحالقة
والديلمي قال الله تعالى من ذكرني حين يغضب ذكرته حين أغضب ولا أمحقه فيمن أمحق
وابن شاهين يقول الله ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب ولا أمحقك فيمن أمحق
والطبراني لو يقول أحدكم إذا غضب أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه غضبه
وأحمد والطبراني والحاكم إني لأعلم كلمة لو قالها هذا الغضبان لأذهبت الذي به من الغضب اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم
وأحمد والحاكم اللهم مطفئ الكبير ومكبر الصغير أطفئها عني
والخرائطي عن أم هانئ
____________________
(1/93)
قولي اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلات الفتن
وقال سليمان بن داود صلى الله على نبينا وعليهما وسلم يا بني إياك وكثرة الغضب فإن كثرة الغضب تستخف فؤاد الرجل الحليم
وقال عكرمة في قوله تعالى وسيدا وحصورا
السيد الذي لا يغلبه الغضب
وقال يحيى لعيسى صلى الله على نبينا وعليهما وسلم لا تغضب قال يا أخي لا أستطيع أن لا أغضب إنما أنا بشر قال لا تقتن مالا قال هذا عسى
وقال الحسن يا ابن آدم كلما غضبت وثبت يوشك أن تثب وثبة تقع في النار
وعن ذي القرنين أنه لقي ملكا وقال له علمني علما أزداد به إيمانا ويقينا قال لا تغضب فإن الشيطان أقدر ما يكون على ابن آدم حين يغضب فرد الغضب بالكظم وسكنه بالتؤدة وإياك والعجلة فإنك إذا عجلت أخطأت حظك وكن سهلا لينا للقريب وللبعيد ولا تكن جبارا عنيدا
وعن وهب بن منبه رضي الله عنه أن راهبا في صومعته أراد الشيطان أن يضله فعجز عنه فناداه ليفتح له فسكت فقال إن ذهبت ندمت فسكت فقال أنا المسيح فأجابه وقال إن كنت المسيح فما أصنع بك ألست قد أمرتنا بالعبادة والاجتهاد ووعدتنا القيامة فلو جئتنا اليوم بغير ذلك لم نقبله منك فأخبر أنه الشيطان جاء ليضله فلم يستطع ثم قال له سلني عما شئت أخبرك قال ما أريد أن أسألك عن شيء فولى الشيطان مدبرا فقال له الراهب ألا تسمع قال بلى
قال أخبرني أي أخلاق بني آدم أعون لك عليهم قال الحدة إن الرجل إذا كان حديدا قلبناه كما يقلب الصبيان الكرة
وقال جعفر بن محمد رضي الله عنهما الغضب مفتاح كل شر
وقال بعض الأنصار رأس الحمق الحدة وقائده الغضب ومن رضي بالجهل استغنى عن الحلم والحلم زين ومنفعة والجهل شين ومضرة والسكوت عن جواب الأحمق سعادة
وقال مجاهد قال إبليس ما أعجزني بنو آدم فلن يعجزوني في ثلاث إذا سكر أحدهم أخذنا بخرامته فقدناه حيث نشاء وعمل لنا بما أحببنا وإذا غضب قال بما لا يعلم وعمل بما يندم وإذا بخل بما في يده منيناه بما لا يقدر عليه
وقال ابن مسعود رضي الله عنه انظروا إلى حلم الرجل عند غضبه وأمانته عند طمعه وما علمك بحلمه إذا لم يغضب وما علمك بأمانته إذا لم يطمع
____________________
(1/94)
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله لا تعاقب غضبك بل احبسه فإذا سكن غضبك عاقبه بقدر ذنبه ولا تجاوز به خمسة عشر سوطا
وأغلظ له قرشي فأطرق طويلا ثم قال أردت أن يستفزني الشيطان لعز السلطان فأنال منك اليوم ما تناله مني غدا
وقال بعضهم أقل الناس غضبا أعقلهم فإن كان للدنيا كان دهاء ومكرا وإن كان للآخرة كان علما وحكما
كان عمر رضي الله عنه يقول في خطبته أفلح من حفظ من الهوى والطمع والغضب
وقال بعضهم من أطاع شهوته وغضبه قاداه إلى النار
وقال الحسن من علامات المسلم قوة في دين وحزم في لين وإيمان في يقين وعلم في حلم وكيس في رفق وإعطاء في حق وقصد في غنى وتجمل في فاقة وإحسان في قدرة وصبر في شدة لا يغلبه الغضب ولا تجمع به الحمية ولا تغلبه شهوته ولا يفضحه بطنه ولا يستخفه حرصه ينصر المظلوم ويرحم الضعيف ولا يبخل ولا يبذر ولا يسرف ولا يقتر يغفر إذا ظلم ويعفو عن الجاهل نفسه منه في عناء والناس منه في رخاء
وقال وهب للكفر أركان أربعة الغضب والشهوة والخلف والطمع ويؤيده أن بعض الصحابة حمله الغضب على أن ارتد عن الإسلام ومات كافرا فتأمل شر الغضب وما يحمل عليه
وقال نبي لأتباعه من يتكفل لي منكم أن لا يغضب يكن خليفتي ومعي في درجتي في الجنة فقال شاب أنا فأعاد فقال ذلك الشاب أنا ووفى فلما مات كان خليفته في منزلته وهو ذو الكفل سمي به لأنه تكفل نفسه أن لا يغضب ووفى به وقيل لأنه تكفل بقيام الليل وصيام النهار ووفى به
وأخرج البيهقي إن الله يطلع على عباده في ليلة النصف من شعبان فيغفر للمستغفرين ويرحم المسترحمين ويؤخر أهل الحقد كما هم عليه
وأخرج أيضا إذا كان ليلة النصف من شعبان اطلع الله إلى خلقه فيغفر للمؤمنين ويملي للكافرين ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه
ومسلم تعرض الأعمال في كل جمعة مرة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد مؤمن إلا عبدا بينه وبين أخيه شحناء فيقال اتركوا هذين حتى يفيئا
____________________
(1/95)
والطبراني تعرض الأعمال على الله تعالى يوم الاثنين والخميس فيغفر الله إلا ما كان من متشاحنين أو قاطع رحم
وأحمد وأبو داود والترمذي تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر فيهما لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال أنظروا هذين حتى يصطلحا
وابن عساكر إن الأعمال تعرض يوم الخميس ويوم الجمعة فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلين فإنه يقول أخروا هذين حتى يصطلحا
والخطيب وابن عساكر إن أعمال العباد تعرض على الله في كل اثنين وخميس فيغفر الله لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا عبدا بينه وبين أخيه شحناء
والطبراني والخرائطي تعرض الأعمال على الله يوم الاثنين والخميس فيغفر الله الذنوب إلا ما كان من متشاحنين أو قاطع رحم
وابن زنجويه والطبراني تعرض أعمال بني آدم كل يوم اثنين وخميس فيرحم المسترحمين ويغفر للمستغفرين ثم يذر أهل الحقد بحقدهم
والشيخان وابن زنجويه وأبو داود والنسائي وابن حبان تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس فيغفر الله فيهما لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال أنظروا هذين حتى يصطلحا
وابن خزيمة والبيهقي ينزل الله أي أمره ورحمته إلى سماء الدنيا ليلة النصف من شعبان فيغفر لكل مؤمن إلا العاق والمشاحن
والبزار وحسنه والدارقطني والبيهقي ينزل الله إلى
____________________
(1/96)
السماء الدنيا ليلة النصف من شعبان فيغفر لكل مؤمن إلا رجلا مشركا أو رجلا في قلبه شحناء
وابن زنجويه ينزل ربنا إلى السماء الدنيا ليلة النصف من شعبان فيغفر لأهل الأرض إلا مشركا أو مشاحنا
وابن حبان والطبراني وابن شاهين والبيهقي وابن عساكر يطلع الله عز وجل إلى خلقه في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن
وأحمد والنسائي يطلع الله على خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا لاثنين مشاحن أو قاتل نفس
وأخرج ابن ماجه الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار والصلاة نور المؤمن والصيام جنة أي ساتر ووقاية من النار
وابن عساكر الحسد في اثنين رجل آتاه القرآن فقام به وأحل حلاله وحرم حرامه ورجل آتاه الله مالا فوصل به أقرباءه ورحمه وعمل بطاعة الله تمني أن يكون مثله
والديلمي الحسد يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل وابن عدي إذا حسدتم فلا تبغوا وإذا ظننتم فلا تحققوا وإذا تطيرتم فامضوا وعلى الله فتوكلوا
وأبو داود إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب
وأحمد والترمذي والضياء دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة حالقة الدين لا حالقة الشعر والذي نفس محمد بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا
____________________
(1/97)
السلام بينكم
وابن صصرى الغل والحسد يأكلان الحسنات كما تأكل النار الحطب
والطبراني ليس مني ذو حسد ولا نميمة ولا كهانة ولا أنا منه
وأبو نعيم كل ابن آدم حسود ولا يضر حاسدا حسده ما لم يتكلم باللسان أو يعمل باليد
وفي رواية كل ابن آدم حسود وبعض الناس في الحسد أفضل من بعض ولا يضر حاسدا حسده ما لم يتكلم باللسان أو يعمل باليد
والطبراني لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا
والحاكم والديلمي إن إبليس يقول ابغوا من بني آدم البغي والحسد فإنهما يعدلان عند الله الشرك
وأحمد والبخاري في الأدب المفرد والترمذي وابن ماجه والحاكم وابن حبان ما من ذنب أجدر من أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم
وابن عدي وابن النجار واحذروا البغي فإنه ليس من عقوبة هي أخطر من عقوبة البغي
وابن لال لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما
____________________
(1/98)
والترمذي وحسنه لا تظهر الشماتة لأخيك فيعافيه الله
وفي رواية فيرحمه الله ويبتليك والبيهقي من أسوأ الناس منزلة من أذهب آخرته بدنيا غيره
والبخاري في تاريخه إن أشد الناس ندامة يوم القيامة رجل باع آخرته بدنيا غيره
وابن ماجه من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة عبد أذهب آخرته بدنيا غيره
وابن ماجه والطبراني إن من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة عبد أذهب آخرته بدنيا غيره
والسجزي إياكم والهوى فإن الهوى يصم ويعمي
والطبراني وأبو نعيم ما تحت ظل سماء من إله يعبد من دون الله أعظم عند الله من هوى متبع
وقال صلى الله عليه وسلم في النهي عن الحسد وأسبابه وثمراته لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تنابزوا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة رواه الشيخان
وقال أنس رضي الله عنه كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال يطلع الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه وقد علق نعليه بيده الشمال فسلم فلما كان من الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فطلع ذلك الرجل
____________________
(1/99)
بعينه مثل المرة الأولى فلما كان يوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضا فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأول فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فقال عبد الله إني لاحيت أبي خاصمت أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثا فإن أردت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلاث فعلت فقال نعم
قال أنس وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئا غير أنه إذا تعار بالتشديد أي استيقظ وتقلب على فراشه ذكر الله تعالى وكبره ولا يقوم حتى تقوم الصلاة قال غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا فلما مرت الثلاث وكدت أحتقر عمله فقلت يا عبد الله إنه لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجرة ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك أي عنك ثلاث مرات يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلعت أنت الثلاث المرات فأردت أن آوي إليك فأنظر ما عملك فأقتدي بك فلم أرك عملت كبير عمل فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما هو إلا ما رأيت فلما وليت دعاني وقال ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد لأحد من المسلمين في نفسي غشا ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله تعالى إياه فقال عبد الله هي التي بلغت بك رواه أحمد بإسناد على شرط الشيخين
والنسائي بسند صحيح أيضا
وأبو يعلى والبزار بنحوه وسمى الرجل المبهم سعدا وقال في آخره فقال ما هو إلا ما رأيت يا ابن أخي إلا أنني لم أبت ضاغنا على مسلم أو كلمة نحوها زاد النسائي في رواية له والبيهقي والأصبهاني فقال عبد الله هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق أي نحن على القيام بها ورواه البيهقي أيضا عن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنهما قال كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ليطلعن عليكم رجل من هذا الباب من أهل الجنة فجاء سعد بن مالك فدخل منه
قال البيهقي فذكر الحديث قال فقال عبد الله بن عمرو ما أنا بالذي أنتهي حتى أبايت هذا الرجل فأنظر عمله قال فذكر الحديث في دخوله عليه قال فناولني عباءة فاضطجعت عليها قريبا منه وجعلت أرمقه بعيني ليلة كلما تعار سبح وكبر وهلل وحمد حتى إذا كان في وقت السحر قام فتوضأ ثم دخل المسجد فصلى اثنتي عشرة ركعة باثنتي عشرة سورة من المفصل ليس من طواله ولا من قصاره يدعو في ركعتين بعد التشهد بثلاث دعوات يقول اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار اللهم اكفنا ما أهمنا من أمر آخرتنا ودنيانا اللهم
____________________
(1/100)
إنا نسألك من الخير كله ونعوذ بك من الشر كله حتى إذا فرغ فذكر الحديث في استقلال عمله إلى أن قال فقال آخذ مضجعي وليس في قلبي غمر بكسر المعجمة أي حقد على أحد
وفي حديث كاد الفقر أن يكون كفرا وكاد الحسد أن يغلب القدر
وفي آخر سيصيب أمتي داء الأمم قالوا وما داء الأمم قال الأشر والبطر والتكاثر والتنافس في الدنيا والتباغض والتحاسد حتى يكون البغي ثم يكون الهرج
وفي آخر أخوف ما أخاف على أمتي أن يكثر بهم المال فيتحاسدون ويقتتلون ثم قال صلى الله عليه وسلم استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود
وفي آخر إن لنعم الله أعداء قيل ومن أولئك قال الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله
وفي آخر ستة يدخلون النار قبل الحساب بسنة قيل من هم يا رسول الله قال الأمراء بالجور والعرب بالعصبية والدهاقين بالتكبر والتجار بالخيانة وأهل الرستاق بالجهالة والعلماء بالحسد
وروي أن موسى صلى الله وسلم على نبينا وعليه لما تعجل إلى ربه عز وجل رأى في ظل العرش رجلا فغبطه بمكانه وقال إن هذا لكريم على ربه فسأل ربه عز وجل أن يخبره باسمه فلم يخبره باسمه وقال أحدثك من عمله بثلاث كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله وكان لا يعق والديه وكان لا يمشي بالنميمة
وعن زكريا صلى الله وسلم على نبينا وعليه أنه قال قال الله تعالى الحاسد عدو لنعمتي متسخط لقضائي غير راض بقسمتي التي قسمت بين عبادي
وقال بعض السلف أول خطيئة عصي الله بها هي الحسد حسد إبليس آدم أن يسجد له فحمله الحسد على المعصية
ووعظ بعض الأئمة بعض الأمراء فقال إياك والكبر فإنه أول ذنب عصي الله تعالى به ثم قرأ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم الآية وإياك والحرص فإنه أخرج آدم من الجنة أسكنه الله جنة عرضها السموات والأرض يأكل فيها إلا شجرة واحدة نهاه عنها فمن حرصه أكل منها فأخرجه الله من الجنة ثم قرأ قال اهبطا منها جميعا الآية وإياك والحسد فإنه الذي حمل ابن آدم على
____________________
(1/101)
أن قتل أخاه حين حسده ثم قرأ واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين
وقيل كان السبب أيضا في قتله له أن زوجته أخت القاتل كانت أجمل من زوجة القاتل أخت المقتول لأن حواء ولدت لآدم عشرين بطنا في كل بطن اثنين ذكرا وأنثى فكان آدم صلى الله وسلم على نبينا وعليه يزوج أنثى كل بطن لذكر بطن آخر لا لذكر بطنها فلما رأى قابيل أن زوجة أخيه هابيل أجمل حسده عليها حتى قتله ومن جملة ما قاله له أيضا وإذا ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسكت وإذا ذكر القدر فاسكت وإذا ذكرت النجوم فاسكت
وكان بعض الصلحاء يجلس بجانب ملك ينصحه ويقول له أحسن إلى المحسن بإحسانه فإن المسيء ستكفيه إساءته فحسده على قربه من الملك بعض الجهلة وأعمل الحيلة على قتله فسعى به للملك فقال له إنه يزعم أنك أبخر وأمارة ذلك أنك إذا قربت منه يضع يده على أنفه لئلا يشم رائحة البخر فقال له انصرف حتى أنظر فخرج فدعا الرجل لمنزله وأطعمه ثوما فخرج الرجل من عنده وجاء للملك وقال له مثل قوله السابق أحسن للمحسن كعادته فقال له الملك ادن مني فدنا منه فوضع يده على أنفه مخافة أن يشم الملك منه رائحة الثوم فقال الملك في نفسه ما أرى فلانا إلا قد صدق وكان الملك لا يكتب بخطه إلا بجائزة أو صلة فكتب له بخطه لبعض عماله إذا أتاك صاحب كتابي هذا فاذبحه واسلخه واحش جلده تبنا وابعث به إلي فأخذ الكتاب وخرج فلقيه الذي سعى به فقال ما هذا الكتاب فقال خط الملك لي بصلة فقال هبه مني فقال هو لك فأخذه ومضى إلى العامل فقال العامل في كتابك أن أذبحك وأسلخك فقال إن الكتاب ليس هو لي الله الله في أمري حتى أراجع الملك قال ليس لكتاب الملك مراجعة فذبحه وسلخه وحشا جلده تبنا وبعث به ثم عاد الرجل إلى الملك كعادته وقال مثل قوله فعجب الملك وقال ما فعل الكتاب فقال لقيني فلان فاستوهبه مني فدفعته له فقال الملك إنه ذكر لي أنك تزعم أني أبخر قال ما قلت ذلك قال فلم وضعت يدك على أنفك وفيك قال أطعمني ثوما فكرهت أن تشمه قال صدقت ارجع إلى مكانك فقد كفى المسيء إساءته
فتأمل رحمك الله شؤم الحسد وما جر إليه تعلم سر قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق
____________________
(1/102)
لا تظهر الشماتة لأخيك فيعافيه الله ويبتليك
وقال ابن سيرين ما حسدت أحدا على شيء من أمر الدنيا لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا وهي حقيرة في الجنة وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه ما أكثر عبد ذكر الموت إلا قل فرحه وقل حسده
وقال معاوية رضي الله عنه كل الناس أقدر على رضاه إلا حاسد نعمة فإنه لا يرضيه إلا زوالها
وقال أعرابي مأ رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد إنه يرى النعمة عليك نقمة عليه
وقال الحسن رضي الله عنه يا ابن آدم لا تحسد أخاك فإن كان الذي أعطاه الله لكرامته عليه فلا تحسد من أكرمه الله تعالى وإن كان لغير ذلك فلم تحسد من مصيره إلى النار وقال بعضهم الحاسد لا ينال من المجالس إلا مذمة وذلا ولا ينال من الملائكة إلا لعنة وبغضا ولا ينال من الخلق إلا جزعا وغما ولا ينال عند النزع إلا شدة وهولا ولا ينال عند الموقف إلا فضيحة وهوانا ونكالا
تنبيهات منها مر في أحاديث الغضب السابقة ما يدل على أن الله تعالى خلق الغضب من نار وغرزه في الإنسان وعجنه بطينته فمهما قصد في غرض من أغراضه اشتعلت فيه تلك النار إلى أن يغلي منها دم قلبه ثم تنتشر في بقية عروق البدن فترتفع إلى أعاليه كما يرتفع الماء المغلي فينصب الدم بعد انبساطه إلى الوجه وتحمر الوجنة والعين والبشرة لصفائها تحكي لون ما وراءها من حمرة الدم هذا إن استشعر القدرة على من غضب عليه وإلا فإن غضب على من قوته أشد من قوته وكان معه يأس من الانتقام انقبض دمه من ظاهر جلده إلى جوف قلبه وصار خوفا فيصفر لونه أو من مساويه وشك في قدرته على الانتقام منه تردد دمه بين الانقباض والانبساط فيحمر ويصفر ويضطرب فعلم أن قوة الغضب محلها القلب وأن معناها غليان دمه لطلب الانتقام وأن هذه القوة إنما تتوجه عند ثورانها إلى دفع مؤذ قبل وقوعه أو التشفي والانتقام بعده
فالانتقام هو لذتها وممسكها ثم إن التفريط فيها بانعدامها أو ضعفها مذموم جدا لانعدام الحمية والغيرة حينئذ ومن لا غيرة له ولا مروءة لا يتأهل لشيء من أنواع الكمال بوجه من الوجوه لأنه بالنساء بل بحشرات الحيوان أشبه وهذا هو معنى قول الشافعي رضي الله عنه من استغضب فلم يغضب فهو حمار ومن استرضي فلم يرض فهو شيطان وقد وصف الله تعالى الصحابة رضوان الله عليهم بالشدة والحمية فقال تعالى أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين أشداء على الكفار رحماء بينهم
____________________
(1/103)
يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم وثمرة التفريط في ذلك قلة الأنفة مما يؤنف منه من التعرض للحرم كالأخت والزوجة واحتمال الذل من الأخساء وصغر النفس وهذه كلها قبائح ومذام ولو لم يكن من ثمراتها إلا قلة الغيرة وخنوثة الطبع وقد قال صلى الله عليه وسلم أتعجبون من غيرة سعد أنا أغير منه والله أغير مني ومن غيرته أن حرم الفواحش
وأخرج أحمد والشيخان والترمذي لا أحد أغير من الله ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدح من الله ولذلك مدح نفسه ولا أحد أحب إليه العذر من الله ومن أجل ذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل
والبيهقي إن الغيرة من الإيمان
وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه إن من الغيرة ما يحب الله تعالى ومنها ما يبغض الله وإن من الخيلاء ما يحب الله ومنها ما يبغض الله فأما الغيرة التي يحبها الله فالغيرة في الريبة
وأما الغيرة التي يبغضها الله فالغيرة في غير ريبة
وأما الخيلاء التي يحبها الله فاختيال الرجل في القتال واختياله عند الصدقة وأما الخيلاء التي يبغض الله فاختيال الرجل في البغي والفخر
والطبراني إن الله تعالى يحب من عباده الغيور إن الله تعالى يغار للمسلم فليغر
والشيخان والترمذي إن الله تعالى يغار وإن المؤمن يغار وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه
____________________
(1/104)
وأما الإفراط في تلك القوة فهو مذموم جدا أيضا وذلك بأن يغلب عليه حتى يخرج عن سياسة العقل والدين ولا يبقى له معها فكر ولا بصيرة ولا اختيار بل يصير في صورة المضطر إما لأمور خلقية أو عادية أو مركبة منهما بأن تكون فطرته مستعدة لسرعة الغضب أو يخالط من يتبجح به ويعده كمالا وشجاعة حتى ترسخ مدحه عنده ومهما اشتدت نار الغضب واشتعلت أعمت صاحبه وأصمته عن كل موعظة بل لا تزيده الموعظة إلا اشتعالا لانطفاء نور عقله ومحوه حالا بدخان الغضب الصاعد إلى الدماغ الذي هو معدن الفكر وبما يتعدى إلى معادن الحس فيظلم بصره حتى لا يرى شيئا إلا سوادا بل ربما زاد اشتعال ناره حتى تفنى رطوبة القلب التي بها حياته فيموت صاحبه غيظا
ومن آثار هذا الغضب في الظاهر تغير اللون كما مر وشدة رعدة الأطراف وخروج الأفعال عن الانتظام واضطراب الحركة والكلام حتى يظهر الزبد على الأشداق وتشتد حمرة الأحداق وتنقلب المناخر وتستحيل الخلقة ولو يرى الغضبان في حال غضبه صورة نفسه لسكن غضبه حياء من قبح صورته لاستحالة خلقته وقبح باطنه أعظم من قبح ظاهره فإن الظاهر عنوان الباطن إذ قبح ذاك إنما نشأ عن قبح هذا فتغير الظاهر ثمرة تغير الباطن هذا أثره في الجسد
وأما أثره في اللسان فانطلاقه بالقبائح كالشتم والفحش وغيرهما مما يستحي منه ذوو العقول مطلقا وقائله عند فتور غضبه على أنه لا ينتظم كلامه بل يتخبط نظمه ويضطرب لفظه
وأما أثره في الأعضاء فالضرب فما فوقه إلى القتل عند التمكن فإن عجز عن التشفي رجع غضبه عليه فمزق ثوبه وضرب نفسه وغيره حتى الحيوان والجماد بالكسر وغيره وعدا عدو الواله السكران والمجنون الحيران وربما سقط وعجز عن الحركة واعتراه مثل الغشية لشدة استيلاء الغضب عليه
وأما أثره في القلب فالحقد على المغضوب عليه وحسده وإظهار الشماتة بمساءته والحزن بسروره والعزم على إفشاء سره وهتك ستره والاستهزاء به وغير ذلك من القبائح
وأما الكمال المطلق فهو اعتدال تلك القوة بأن لم يكن فيها تفريط ولا إفراط وإنما تكون طوع العقل والدين فتنبعث حيث وجبت الحمية وتنطفئ حيث حسن الحلم
____________________
(1/105)
وهذا هو الاستقامة التي كلف الله بها عباده والوسط الذي مدحه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله خير الأمور أوسطها فمن أفرط أو فرط فليعالج نفسه إلى وصولها إلى هذا الصراط المستقيم أو إلى القرب قال تعالى ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ولا ينبغي لمن عجز عن الإتيان بالخير كله أن يأتي بالشر كله فإن بعض الشر أهون من بعض وبعض الخير أرفع من بعض والله تعالى من فضله يعطي كل عامل ما أمله وييسر له ما توجه إليه وأم له
ومنها محل ذم الغضب إن كان بباطل وإلا فهو محمود ومن ثم كان صلى الله عليه وسلم لا يغضب إلا لله
أخرج الشيخان أن رجلا قال يا رسول الله إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب في موعظته يومئذ فقال يا أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أم الناس فليوجز فإن من ورائه الكبير والصغير وذا الحاجة
قالت عائشة قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر وقد سترت سهوة لي أي صفة بين يدي البيت بقرام أي ستر رقيق فيه تماثيل فلما رآه صلى الله عليه وسلم هتكه أي أفسد الصورة التي فيها ورماه بيده وقال يا عائشة أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله عز وجل
قال أنس رأى صلى الله عليه وسلم نخامة في القبلة فشق ذلك عليه حتى رئي في وجهه الغضب فقام فحكها بيده وقال إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه أو قال إن ربه بينه وبين القبلة فلا يبزقن أحدكم قبل القبلة ولكن عن يساره أو تحت قدمه أو في غير المسجد ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه ثم رد بعضه على بعض وقال أو يفعل هكذا
ومنها ظن قوم أن الرياضة تزيل الغضب بالكلية وآخرون أنه لا يقبل العلاج أصلا
قال الغزالي والحق ما سنذكره
____________________
(1/106)
وحاصله أن الإنسان ما دام يحب شيئا ويكره شيئا فلا يخلو من الغضب ثم المحبوب إن كان ضروريا كالقوت والمسكن والملبس وصحة البدن فلا بد من الغضب لأجل تفويته وإن كان غير ضروري كالجاه والصيت والتصدر في المجالس والمباهاة بالعلم والمال الكثير أمكن عدم الغضب عليه بالزهد ونحوه وإن صار محبوبا بالعادة والجهل بمقاصد الأمور وأكثر غضب الناس على هذا القسم أو ضروريا في حق بعض الناس ككتب العلماء وآلات المحترفين وهذا القسم لا يغضب لفواته إلا المضطر إليه بخلاف غيره
إذا علم ذلك فالقسم الأول لا تؤثر الرياضة في زواله بالكلية لأنه قضية الطبع بل في استعماله على حد يستحسنه الشرع والعقل وذلك ممكن بالمجاهدة وتكلف التحلم والاحتمال مدة حتى يصير الحلم والاحتمال خلقا راسخا
وكذلك القسم الثالث لأن من هو ضروري في حقه بمنزلة المضطر إلى الغضب على فواته فلا يمكن بالمجاهدة زواله بل ضعفه نظير ما تقرر في الذي قبله
وأما القسم الثاني فيمكن بالمجاهدة زواله بالكلية لإمكان إخراج حبه من القلب لعدم اضطراره إليه ولملاحظة أن وطن الإنسان الحقيقي القبر ومستقره الآخرة وإنما الدنيا محل تزوده بقدر الضرورة وما وراء ذلك وبال عليه في وطنه ومستقره فليزهد فيها ما حيا حبها من قلبه
نعم وصول الرياضة إلى قلع أصل هذا نادر جدا
وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم اللهم إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر فأيما مسلم سببته أو لعنته أو ضربته فاجعلها مني صلاة عليه وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة
وقال ابن عمرو بن العاص يا رسول الله أكتب عنك ما قلت في الغضب والرضا فقال صلى الله عليه وسلم اكتب فوالذي بعثني بالحق ما يخرج منه إلا حق وأشار إلى لسانه ولم يقل إني لا أغضب ولكن قال إن الغضب لا يخرجني عن الحق أي لا أعمل بموجب الغضب
قال علي كرم الله وجهه كان صلى الله عليه وسلم لا يغضب للدنيا فإذا غضب للحق لم يعرفه أحد ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له
____________________
(1/107)
والحاصل أن أعظم الطرق في الخلاص من الغضب محوه حب الدنيا عن القلب بمعرفة آفاتها وغوائلها وأعظم الطرق في الوقوع في ورطته الزهو والعجب والمزاح والهزل والهزء والتعيير والمماراة والمضارة والغدر وشدة الحرص على فضول المال والجاه فهذه بأجمعها أخلاق رديئة مذمومة شرعا ولا خلاص من الغضب مع بقاء هذه الأسباب فلا بد من إزالتها بالمجاهدة والرياضة إلى أن يتحلى بأضدادها
ومنها مر من الأحاديث ما يعلم به دواء الغضب ومزيله بعد هيجانه ومرجعه إلى العلم والعمل فالعلم بأن يتفكر فيما سيجيء في فضل كظم الغيظ وفي العفو والحلم والاحتمال فإنه حينئذ يرغب فيما أعده الله له من الثواب فيزول ما عنده وما يضطره إلى الهوان والعذاب ومن ثم لما أمر عمر رضي الله عنه بضرب رجل قرأ عليه خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين فقرأها عمر وتأملها فخلاه وكان وقافا عند كتاب الله لا يتجاوزه وتأسى به عمر بن عبد العزيز حفيده في هذا فأمر بضرب رجل ثم قرأ والكاظمين الغيظ فأمر بإطلاقه وبأن يتأمل في أن قدرة الله عليه أعظم من قدرته هو فربما لو أمضى غضبه أمضى الله عليه غضبه فهو أحوج ما يكون للعفو يوم القيامة ومن ثم جاء كما مر يا ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب فلا أمحقك فيمن أمحق وبأن يحذر نفسه عاقبة الانتقام من تسلط المنتقم منه على عرضه وإظهار معايبه والشماتة بمصائبه وغير ذلك من مكائد الأعداء فهذه غوائل دنيوية ينبغي لمن لا يعول على الآخرة أن لا يقطع نظره عنها وبأن يتفكر في قبح صورته عند غضبه مع قبح الغضب عند نفسه ومشابهة صاحبه للكلب الضاري ومشابهة الحليم للأنبياء والأولياء ويتأمل بعد ما بين الشبهين وبأن لا يصغي إلى وسوسة الشيطان المهيجة لغضبه فإن تركه يورث عجزه عند الناس ويتأمل أن هذا دون عذاب الله وانتقامه المفرعين على الغضب والانتقام
إذ الغضبان يود جريان الشيء على وفق مراده دون مراد الله ومن وقع في هذه الورطة لا يأمن غضب الله وعذابه بما هو أعظم من غضبه وانتقامه والعمل بأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ويأخذ بأنف نفسه ويقول اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلات الفتن لحديث فيه ثم ليجلس ثم يضطجع ليقرب من الأرض التي خلق منها حتى يعرف حقارة أصله وذل نفسه وليسكن عن الحركة الناشئ عنها الحرارة الناشئ عنها الغضب كما في حديث إن الغضب جمرة توقد في القلب ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه فإذا وجد أحدكم من ذلك شيئا فليجلس وإن كان جالسا فلينم
____________________
(1/108)
فإن لم يزل ذلك فليتوضأ بالماء البارد أو ليغتسل فإن النار لا يطفئها إلا الماء
وفي حديث آخر إذا غضب أحدكم فليتوضأ بالماء فإن الغضب من النار
وفي رواية إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ
وفي رواية إذا غضبت فاسكت
وفي أخرى ألا إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم ألا ترون إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه فمن وجد من ذلك شيئا فليلصق خده بالأرض
قال الغزالي وكأن هذا إشارة إلى السجود وتمكين أعز الأعضاء من أذل المواضع وهو التراب لتستشعر به النفس فتزيل به العزة والزهو الذي هو سبب الغضب واستنشق عمر بماء عند غضبه وقال إن الغضب من الشيطان وهذا يذهب الغضب
وعير أبو ذر رضي الله عنه رجلا بأمه قيل هو بلال فعتبه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال له يا أبا ذر ارفع رأسك فانظر أي إلى السماء وعظم خالقها ثم اعلم أنك لست بأفضل من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بالعلم ثم قال إذا غضبت فإن كنت قائما فاقعد وإن كنت قاعدا فاتكئ وإن كنت متكئا فاضطجع
ومنها لا يجوز لك إذا ظلمت بنحو غيبة أو قذف أو تجسس أن تقابل ذلك بمثله لأنه لا حد له يوقف على المماثلة فيه والقصاص إنما يجري فيما فيه المماثلة نعم رخص أئمتنا أن يقابله بما لا ينفك عنه أحد كأحمق وقال مطرف كل الناس أحمق فيما بينه وبين ربه إلا أن بعض الناس أقل حماقة من بعض
وقال عمر الناس كلهم حمقى في ذات الله وكجاهل إذ ما من أحد إلا وفيه جهل
قال الغزالي وكذا يا سيئ الخلق يا صفيق الوجه يا ثلاب الأعراض إذا كان ذلك فيه وكذا لو كان فيك حياء ما تكلمت
____________________
(1/109)
ما أحقرك في عيني بما فعلت وخزاك الله وانتقم منك فأما نحو القذف وسب الوالدين فحرام اتفاقا والدليل على جواز ذلك أن زينب سبت عائشة رضي الله عنهما فأجابتها حتى غلبتها بحضرته صلى الله عليه وسلم فقال إنها ابنة أبيها
والمراد بالسب هنا أنها أجابتها عن كلامها بالحق وقابلتها بالصدق والأفضل ترك ذلك وإن جاز لأنه يجر إلى ما هو أقبح وأفحش
وفي حديث المؤمن سريع الغضب سريع الرضا فهذه بتلك وفي آخر أنه قسم الخلق إلى سريعهما وبطيئهما وسريع أحدهما بطيء الآخر وجعل خيرهم بطيء الغضب سريع الرضا وشرهم عكسه
ومنها قد مر أن من ثمرات الغضب الحقد والحسد وبيانه أن الغضب إذا لزم كظمه لعجزه عن التشفي حالا رجع إلى الباطن واحتقن فيه فصار حقدا وحسدا وحينئذ يلزم قلبه استثقاله وبغضه دائما فهذا هو الحقد
ومن ثمراته أن تحسده بأن تتمنى زوال نعمته عنه وتتمتع بنعمته وتفرح بمصيبته وأن تشمت ببليته وتهجره وتقاطعه وإن أقبل عليك وتطلق لسانك فيه بما لا يحل وتهزأ به وتسخر منه وتؤذيه وتمنعه حقه من نحو صلة رحم أو رد مظلمة وكل ذلك شديد الإثم والتحريم وأقل درجات الحقد الاحتراز من هذه الآفات المنقصة للدين ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم المؤمن ليس بحقود
ومنها قد علمت قريبا معنى الحسد فلا حسد إلا على نعمة بأن تكرهها للغير وتحب زوالها عنه فإن اشتهيت لنفسك مثلها مع بقائها لذويها فهو غبطة وقد يخص باسم المنافسة وهي قد تسمى حسدا كما مر في خبر لا حسد إلا في اثنتين وفي حديث المؤمن يغبط والمنافق يحسد
إذا تقرر ذلك فالأول حرام وفسوق بكل حال
نعم إن تمنى زوال نعمة فاجر من حيث إنها آلة فساده وإيذائه الخلق ولو صلح حاله لم يتمن زوالها عنه فلا حرمة لأنه لم يتمن زوالها من حيث كونها نعمة بل من حيث كونها آلة الفساد والإيذاء ويدل على تحريم الحسد وأنه فسوق وكبيرة ما قدمناه من الأخبار
____________________
(1/110)
ومن آفاته أن فيه تسخطا لقضاء الله إذ أنعم على الغير مما لا مضرة عليك فيه وشماتة بأخيك المسلم قال الله تعالى إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله
والثاني أعني الغبطة والمنافسة فليس بحرام بل هو إما واجب أو مندوب أو مباح قال تعالى وفي ذلك فليتنافس المتنافسون سابقوا إلى مغفرة من ربكم والمسابقة تقتضي خوف الفوت كعبدين يتسابقان لخدمة مولاهما حتى يحظى السابق عنده فالواجب يكون في النعم الدينية الواجبة كنعمة الإيمان والصلاة المكتوبة والزكاة فيجب أن يحب أن يكون مثل القائم بذلك وإلا كنت راضيا بالمعصية والرضا بها حرام والمندوب يكون في الفضائل كالعلوم وإنفاق الأموال في المبرات والمباح يكون في النعم المباحة كالنكاح نعم المنافسة في المباحات تنقص من الفضائل وتناقض الزهد والرضا والتوكل وتحجب عن المقامات الرفيعة من غير إثم نعم هنا دقيقة ينبغي التنبه لها وإلا وقع الإنسان في الحسد الحرام من غير أن يشعر وهي أن من أيس من أن ينال مثل نعمة الغير فبالضرورة أن نفسه تعتقد أنه ناقص عن صاحب تلك النعمة وأنها تحب زوال نقصها وزواله لا يحصل إلا بمساواة ذي النعمة أو بزوالها عنه قد فرض يأسه عن مساواته فيها فلم يبق إلا محبته لزوالها عن الغير المتميز بها عنه إذ بزوالها يزول تخلفه وتقدم غيره عليه بها فإن كان بحيث لو قدر على إزالتها عن الغير أزالها فهو حسود حسدا مذموما وإن كان عنده من التقوى ما يمنعه عن إزالتها مع قدرته عليها وعن محبة زوالها عن الغير فلا إثم عليه لأن هذا أمر جبلي لا تنفك النفس عنه ولعله المعني بالخبر السابق كل ابن آدم حسود
وفي رواية ثلاثة لا ينفك المسلم عنهن الحسد والظن والطيرة وله منهن مخرج إذا حسدت فلا تبغ أي إن وجدت في قلبك شيئا فلا تعمل به ويبعد ممن يريد مساواة غيره في النعمة فيعجز عنها سيما إن كان من أقرانه أن ينفك عن الميل إلى زوالها فهذا الحد من المنافسة يشبه الحسد الحرام فينبغي الاحتياط التام فإنه متى صغي إلى محبة نفسه ومال
____________________
(1/111)
باختياره إلى مساواته لذي النعمة بمحبة زوالها عنه فهو مرتبك في الحسد الحرام ولا يتخلص منه إلا إن قوي إيمانه ورسخ قدمه في التقوى ومهما حركه خوف نقصه عن غيره جره إلى الحسد المحظور وإلى ميل الطبع إلى زوال نعمة الغير حتى ينزل لمساواته وهنا لا رخصة فيه بوجه سواء أكان في مقاصد الدين أم الدنيا
قال الغزالي ولكن ذلك يعفى عنه ما لم يعمل به إن شاء الله تعالى وتكون كراهته لذلك من نفسه كفارة له ومنها قد عرفت ماهية الحسد وأحكامه
وأما مراتبه فهي إما محبة زوال نعمة الغير وإن لم تنتقل للحاسد وهذا غاية الحسد أو مع انتقالها إليه أو انتقال مثلها إليه وإلا أحب زوالها لئلا يتميز عليه أو لا مع محبة زوالها وهذا الأخير هو المعفو عنه من الحسد إن كان في الدنيا والمطلوب إن كان في الدين كما مر
ومنها لا شك أن الحسد من أمراض القلوب العظيمة وأمراض القلوب لا تداوى إلا بالعلم فالعلم النافع لمرض الحسد أن تعرف أنه يضر دينا ودنيا ولا يضر المحسود لا دينا ولا دنيا إذ لا تزول نعمة بحسد قط وإلا لم يبق لله نعمة على أحد حتى الإيمان لأن الكفار يحبون زواله عن أهله بل المحسود منتفع بحسدك دينا لأنه مظلوم من جهتك سيما إن أبرزت حسدك إلى الخارج بالغيبة وهتك الستر وغيرهما من أنواع الإيذاء فهذه هدايا تهدي إليه حسناتك بسببها حتى تلقى الله يوم القيامة مفلسا محروما من النعم كما حرمت منها في الدنيا ودينا لسلامته من غمك وحزنك وغيرهما مما يأتي ومتى انكشف غشاء بصيرتك ورين قلبك وتأملت ذلك ولم تكن عدو نفسك ولا صديق عدوك أعرضت عن الحسد أصلا ورأسا حذرا من أن تكون قد وقعت به في ورطة عظيمة وهي أنك قد سخطت قضاء الله وكرهت قسمة الله وعدله وهذه جناية أي جناية على حضرة التوحيد وناهيك بها جناية على الدين وكيف لا وأنت قد فارقت بذلك الأنبياء والأولياء والعلماء العاملين في حبهم وصول الخير لعباد الله وشاركت إبليس والشياطين في محبتهم للمؤمنين البلايا وزوال النعم وهذه خبائث في القلب تأكل حسناتك كما تأكل النار الحطب هذا مع ما ينضم لذلك من ضررك الدنيوي بتوالي الهم والغم عليك كلما رأيت محسودك يتزايد في النعم وأنت تتناقص فيها فإن هذا من جملة آفات حسدك فأنت دائما في غاية الحزن والغم وضيق الصدر وتشعب القلب فلو فرض أنك لم تؤمن ببعث ولا حساب لكان من الحزم ترك الحسد حتى تسلم من هذه العقوبات
____________________
(1/112)
الدنيوية الناجزة قبل العقوبات الأخروية فظهر أنك عدو نفسك وصديق عدوك إذ تعاطيت ما تضررت به في الدنيا والآخرة وانتفع به عدوك فيهما وصرت مذموما عند الخلق والخالق شقيا حالا ومآلا
وأما العمل النافع لذلك المرض فهو أن تكلف نفسك أن تصنع بالمحسود ضد ما اقتضاه حسدك فتبدل الذم بالمدح والتكبر عليه بالتواضع له ومنع إدخال رفق عليه بزيادة الإرفاق به وهكذا فبهذا يضعف داء الحسد وكلما زدت من ذلك زاد تناقص الحسد إلى أن ينعدم فافهم تسلم وامتثل تغنم والله سبحانه الموفق وإليه ترجع الأمور
ومنها لا شك أن كل أحد يبغض من آذاه طبعا فلا يستوي عنده حسن حاله وسوءه غالبا وبهذا ينازع الشيطان النفس إلى حسده فإن أطاعته حتى أظهرت الحسد بقول أو فعل اختياري أو أبطنته بأن أحبت زوال نعمته فهي عاصية بحسدها إذ معصية الحسد بالقلب فحسبت مظلمة متعلقة بالخلق فلا يشترط في التوبة منها استحلال المحسود لأنها أمر باطن لا يطلع عليه إلا الله تعالى فمتى كففت ظاهرك وألزمت مع ذلك قلبك كراهة ما يترسخ فيه بالطبع من حب زوال النعمة حتى كأنك مقت نفسك على ما في طبعها كانت تلك الكراهة من جهة العقل في مقابلة الميل من جهة الطبع وحينئذ تكون قد أديت الواجب ولا يدخل تحت اختيارك غالبا أكثر من هذا فأما تغيير الطبع إلى أن يستوي عنده المؤذي والمحسن ويكون فرحه بنعمتهما وغمه ببليتهما سواء فأمر يأباه الطبع ما لم يستغرق في محبة الله تعالى ويشتغل بها إلى أن يرى الخلق كلهم بعين واحدة وهي عين الرحمة وبتقدير حصول هذه الحالة لا تدوم بل تكون كالبرق ثم يعود القلب إلى طبعه والشيطان إلى منازعته بالوسوسة ومهما قابل ذلك بكراهته بقلبه فقد أدى ما كلفه
وقد ذهب قوم إلى أنه لا يأثم ما دام الحسد لم يظهر على جوارحه لخبر ثلاث لا يخلو منهن مؤمن وله منهن مخرج فمخرجه من الحسد أن لا يبغي وهذا ضعيف أو شاذ بل الصواب ما مر من حرمته مطلقا ويحمل الخبر إن صح على ما تقرر من أنه يكره ذلك دينا وعقلا في مقابلة حب الطبع لزوال نعمة العدو وهذه الكراهة تمنعه من البغي والإيذاء وقد مرت الأخبار الصريحة الصحيحة في ذم كل حاسد وإثمه والحسد ليس حقيقته إلا في القلب وكيف يسوغ لأحد أن يجوز محبة إساءة مسلم واشتمال قلبه عليها من غير كراهة منه لذلك
____________________
(1/113)
في ذكر شيء من فضائل كظم الغيظ والعفو والصفح والحلم والرحمة والحب في الله تعالى قال تعالى والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور فاصفح الصفح الجميل وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم واخفض جناحك للمؤمنين ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك والآيات في ذلك كثيرة معلومة
وأخرج الشيخان إن الله عز وجل رفيق يحب الرفق في الأمر كله يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا
ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه
وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط في شيء إلا أن تنتهك حرمات الله عز وجل فينتقم لله عز وجل
هل أتى عليك يا رسول الله يوم كان أشد من يوم أحد قال لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيته منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلم علي وقال يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بما شئت فإن شئت أطبقت عليهم الأخشبين فقلت بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا
____________________
(1/114)
قال أنس كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته ثم قال يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه وضحك ثم أمر له بعطاء
قال ابن مسعود كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء وقد ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون
ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب
ومسلم إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة قاله لأشج عبد القيس كما يأتي إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على ما سواه
إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه
من يحرم الرفق يحرم الخير كله
إن الله عز وجل كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته
ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم شيئا قط بيده ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله وما نيل شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله عز وجل فينتقم لله عز وجل
قال أبو هريرة قال رجل يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إلي وأحلم عليهم ويجهلون علي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل أي الرماد الحار ولا يزال معك من الله عز وجل ظهير عليهم ما دمت على ذلك
والبخاري أن ذا الخويصرة لما بال في المسجد قام الناس إليه ليقعوا فيه فقال صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/115)
دعوه وأريقوا على بوله سجلا أي بفتح المهملة وسكون الجيم من ماء أو قال ذنوبا أي بفتح المعجمة وكلاهما الدلو الممتلئة ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين
وأحمد والبخاري في الأدب وابن سعد وأبو يعلى والبغوي وابن حبان عن الأشج واسمه المنذر بن عامر إن فيك لخلتين يحبهما الله الحلم والأناة
ومسلم والترمذي عن ابن عباس ومسلم عن أبي سعيد وأحمد والطبراني وأبو داود والبغوي والبيهقي عن أم أبان عن جدها والطبراني وأبو يعلى عن الأشج والطبراني عن ابن عمر والترمذي وأبو نعيم عن جويرية إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله الحلم والأناة والبارودي يا أشج إن فيك خلتين يحبهما الله ورسوله
والطبراني فيك خلقان يحبهما الله الأناة والتؤدة
والترمذي وحسنه ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو قال بمن تحرم عليه النار قلنا بلى يا رسول الله قال تحرم على كل قريب هين لين سهل
والطبراني خيار أمتي أحداؤهم الذين إذا غضبوا رجعوا
الحدة تعتري خيار أمتي
____________________
(1/116)
وابن عدي الحدة تعتري حملة القرآن لعزة القرآن في أجوافهم
والديلمي الحدة لا تكون إلا في صالحي أمتي وأبرارها
والسجزي والديلمي ليس أحد أحق بالحدة من حامل القرآن لعزة القرآن في جوفه
وأبو نعيم إن الرجل ليدرك بالحلم درجة الصائم القائم وإنه ليكتب جبارا ولا يملك إلا أهل بيته
والخطيب الحليم سيد في الدنيا وسيد في الآخرة
كاد الحليم أن يكون نبيا
وابن ماجه يا أشج إن فيك خصلتين يحبهما الله تعالى الحلم والتؤدة وهي بالدال المهملة التأني في الأمور حتى يتبين حسنها من قبحها
والبيهقي ليس بحليم من لم يعاشر بالمعروف من لا بد له من معاشرته حتى يجعل الله له من ذلك مخرجا
وأبو نعيم ما أزين من حلم ما أوذي أحد ما أوذيت في الله
____________________
(1/117)
وأحمد والطبراني ما تجرع عبد جرعة أفضل عند الله من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله
وابن ماجه ما من جرعة أعظم أجرا عند الله من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله
وابن أبي الدنيا ما جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد ما كظمها عبد إلا ملأ الله جوفه إيمانا
وأبو داود من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا ومن ترك لبس ثوب جمال وهو يقدر عليه تواضعا كساه الله حلة الكرامة ومن زوج لله توجه الله تاج الملك
وأصحاب السنن الأربعة من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء الله
وابن أبي الدنيا من كف غضبه ستر الله عورته
وابن عساكر وجبت محبة الله على من أغضب فحلم
وابن عدي ابغ الرفعة عند الله تحلم عمن جهل عليك وتعطي من حرمك
____________________
(1/118)
وابن السني ما أضيف شيء إلى شيء أفضل من حلم إلى علم
وابن شاهين عن ابن مسعود ما أعز الله بجهل قط ولا أذل الله بحلم قط ولا نقصت صدقة من مال قط
والديلمي غريبتان كلمة حكمة من سفيه وكلمة سفه من حليم فاغفروها فإنه لا حليم إلا ذو عثرة ولا حكيم إلا ذو تجربة
والعسكري لا حليم إلا ذو أناة ولا عليم إلا ذو عثرة ولا حكيم إلا ذو تجربة
والطبراني من لا يرحم من في الأرض لا يرحمه من في السماء أي عزه وسلطانه من لا يرحم لا يرحم ومن لا يغفر لا يغفر له ومن لا يتب لا يتب عليه إنما يرحم الله من عباده الرحماء
ليس منا من لم يرحم صغيرنا ولم يعرف حق كبيرنا وليس منا من غشنا ولا يكون المؤمن مؤمنا حتى يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه
البركة في أكابرنا
فمن لم يرحم صغيرنا ويجل كبيرنا فليس منا
____________________
(1/119)
والدولابي وأبو نعيم وابن عساكر خاب وخسر عبد لم يجعل الله تعالى في قلبه رحمة للبشر
وأحمد وأبو داود والترمذي والحاكم الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء
زاد الثلاثة المتأخرون والرحم شجنة من الرحمن أي لفظها مشتق من اسمه الرحمن فمن وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله
وأحمد والشيخان وأبو داود والترمذي من لا يرحم لا يرحم
وأحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم لا تنزع الرحمة إلا من شقي
وأحمد وأبو نعيم والبيهقي ارحموا ترحموا واغفروا يغفر لكم
ويل لأقماع القول الذين يستمعونه ولا يعملون به وويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون
ومسلم لا يستر عبد عبدا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة
وابن ماجه من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته
وأحمد والطبراني والبيهقي وابن عدي أشكر الناس لله أشكرهم للناس
____________________
(1/120)
والترمذي خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكرا صابرا ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله شاكرا ولا صابرا من نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به
ونظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله به عليه كتبه الله شاكرا صابرا ومن نظر في دينه إلى من هو دونه ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسف على ما فاته منه لم يكتبه الله شاكرا ولا صابرا
وأحمد والطبراني انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم
والبيهقي بعثت بمداراة الناس رأس العقل المداراة وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة
وابن حبان والطبراني والبيهقي مداراة الناس صدقة
والديلمي إن الله أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض
وابن أبي الدنيا رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس وأهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة وأهل التكبر في الدنيا أهل التكبر في الآخرة
وأحمد من أذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر على أن ينصره أذله الله على رءوس الأشهاد يوم القيامة
____________________
(1/121)
ومسلم إن الله عز وجل يقول يوم القيامة أين المتحابون لجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي
والترمذي وحسنه المتحابون لجلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء
ومالك بسند صحيح قال الله تبارك وتعالى وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في والمتزاورين في والمتباذلين في
وفي الحديث الصحيح إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه
الكبيرة الرابعة الكبر والعجب والخيلاء قال الله تعالى سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار إنه لا يحب المستكبرين إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين أي صاغرين
والآيات في ذم الكبر كثيرة
وأخرج الشيخان بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل أي ممشط رأسه مختال في مشيته إذ خسف الله به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة
والبخاري وغيره بينما رجل ممن كان قبلكم يجر إزاره من الخيلاء خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة
والخيلاء بضم الخاء المعجمة أو كسرها وبفتح الياء ممدودا هو الكبر والعجب ويتجلجل بجيمين أي يغوص وينزل فيها
وأحمد والبزار بسند صحيح بينما رجل ممن كان قبلكم خرج في بردين أخضرين
____________________
(1/122)
مختالا فيهما أمر الله الأرض فأخذته فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة
وصح أيضا أن رجلا كان في حلة حمراء فتبختر واختال فيها فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة
ومسلم إن الله لا ينظر إلى من يجر إزاره بطرا لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر قيل إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة قال إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق أي بفتح الموحدة والمهملة رده ودفعه وغمط الناس أي بفتح المعجمة وسكون الميم وبالمهملة وهو احتقارهم وازدراؤهم وكذا غمصهم بالمهملة
وقد رواه الحاكم فقال ولكن الكبر من بطر الحق وازدرى الناس
وقد احتجا أي الشيخان برواته
ومسلم والنسائي وابن ماجه إن الذي يجر ثيابه من الخيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة
والترمذي خرج رجل ممن كان قبلكم في حلة له يختال فيها فأمر الله الأرض فأخذته فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة
ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه لا يدخل النار من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر
والترمذي لا يزال الرجل يتكبر ويذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين فيصيبه ما أصابهم
____________________
(1/123)
والنسائي والترمذي واللفظ له وقال حديث حسن يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صورة الرجال يغشاهم الذل من كل مكان يساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال وبولس بموحدة مضمومة فواو ساكنة فلام مفتوحة فمهملة والخبال بفتح المعجمة فالموحدة
وفي رواية يحشر المتكبرون يوم القيامة ذرا في صور الرجال يعلوهم كل شيء من الصغار ثم يساقون إلى سجن في جهنم يقال له بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار
وفي أخرى يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة في صور الذر تطؤهم الناس لهوانهم على الله
والحاكم وصححه على شرط مسلم الكبرياء ردائي فمن نازعني في ردائي قصمته
وميمونة قال الله تعالى الكبرياء ردائي والعز إزاري من نازعني في شيء منهما عذبته
وأحمد وأبو داود وابن ماجه قال الله تعالى الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار
والطبراني إن الله تعالى يقول العز إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما عذبته
ومسلم وأبو داود وابن ماجه واللفظ له يقول الله تعالى الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في جهنم
____________________
(1/124)
وأحمد وابن ماجه والحاكم ما من رجل يتعاظم في نفسه ويختال في مشيته إلا لقي الله تعالى وهو عليه غضبان
والبزار كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب لينتهين قوم يفتخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان
وابن عساكر إياكم والكبر فإن إبليس حمله الكبر على أن لا يسجد لآدم وإياكم والحرص فإن آدم حمله الحرص على أن أكل من الشجرة وإياكم والحسد فإن ابني آدم إنما قتل أحدهما صاحبه حسدا فهذا أصل خطيئته
والطبراني إياكم والكبر فإن الكبر يكون في الرجل وإن عليه العباءة
وأحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه ألا أخبركم بأهل النار كل عتل أي بضمتين فشدة الغليظ الجافي جواظ أي بفتح الجيم وتشديد الواو بالمعجمة هو الجموع المنوع وقيل الضخم المختال في مشيته وقيل القصير البطين جعظري مستكبر
والشيخان ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر
وأبو داود لا يدخل الجنة الجواظ ولا الجعظري
قال والجواظ الغليظ الفظ
والطبراني إن الله يبغض ابن سبعين في أهله ابن عشرين في مشيته ومنظره
والديلمي إن الله يبغض البذخين الفرحين المرحين
____________________
(1/125)
وأبو بكر بن لال وعبد الغني بن سعد وابن عدي اجتنبوا الكبر فإن العبد لا يزال يتكبر حتى يقول الله تعالى اكتبوا عبدي هذا في الجبارين
والترمذي وحسنه لا يزال العبد يذهب بنفسه أي يرتفع ويتكبر حتى يكتب في الجبارين فيصيبه ما أصابهم
وصح لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أكبر منه العجب
وأبو داود والحاكم الكبر من بطر الحق وغمط الناس
وأبو نعيم والبيهقي براءة من الكبر لبس الصوف ومجالسة فقراء المؤمنين وركوب الحمار واعتقال العنز
والبيهقي من حمل سلعته فقد برئ من الكبر
والحاكم سيصيب أمتي داء الأمم الأشر والبطر والتكاثر والتشاحن في الدنيا والتباغض والتحاسد حتى يكون البغي
وأحمد الفخر والخيلاء في أهل الإبل والسكينة والوقار في أهل الغنم
ومسلم والنسائي ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم شيخ زان وملك كذاب وعائل أي فقير مستكبر
____________________
(1/126)
والنسائي وابن حبان في صحيحه أربعة يبغضهم الله البياع الحلاف والفقير المختال والشيخ الزاني والإمام الجائر
وابنا خزيمة وحبان وصححاه عرض علي أول ثلاثة يدخلون النار أمير مسلط وذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله فيه وفقير فخور
والبزار بإسناد جيد ثلاثة لا يدخلون الجنة الشيخ الزاني والإمام الكذاب والعائل المزهو أي المعجب بنفسه المتكبر
والطبراني لا يدخل الجنة مسكين متكبر ولا شيخ زان ولا منان على الله بعمله
وأحمد وأصحاب السنن الأربعة من تعظم في نفسه واختال في مشيته لقي الله وهو عليه غضبان
والطبراني أقبل رجل يمشي في بردين له قد أسبل إزاره ونظر في عطفيه وهو يتبختر إذ خسف الله به في الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة
والديلمي إن الله يحب ابن عشرين إذا كان شبه ابن ثمانين أي في التضعف والتواضع ويبغض ابن الستين إذا كان شبه ابن عشرين
وأحمد والبخاري لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا
____________________
(1/127)
وأحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة
وابن لال الجبروت في القلب
والبيهقي إن الناس لا يرفعون شيئا إلا وضعه الله
والديلمي إن العجب يحبط عمل سبعين سنة
والطبراني لو كان العجب رجلا لكان رجل سوء
والبيهقي لو لم تكونوا تذنبون لصب عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب
وروى أحمد بسند رواته رواة الصحيح والبيهقي في شعب الإيمان من طريقه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال التقى عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر على المروة فتحدثا ثم مضى ابن عمرو وأقام ابن عمر يبكي
قالوا وما يبكيك يا أبا عبد الرحمن قال هذا يعني عبد الله بن عمرو زعم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر أكبه الله في النار على وجهه
وروى أبو داود والترمذي وحسنه لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعل أي بضم ففتح دويبة أرضية الذي يدهده أي يدحرج وزنا ومعنى الخرأة بأنفه
إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء إنما هو مؤمن تقي وفاجر شقي الناس بنو آدم وآدم خلق
____________________
(1/128)
من تراب
وعبية بضم العين المهملة أو كسرها وتشديد الموحدة وكسرها وتشديد التحتية هي الكبر والفخر والنخوة
وقال سليمان بن داود صلى الله وسلم على نبينا وعليهما يوما للجن والإنس والطير والبهائم اخرجوا فخرجوا في مائتي ألف من الإنس ومائتي ألف من الجن فرفع حتى سمع زجل الملائكة بالتسبيح في السموات ثم خفض حتى مست قدماه البحر فسمع صوتا لو كان في قلب صاحبكم مثقال ذرة من كبر لخسفت به أبعد مما رفعته
وقال صلى الله عليه وسلم لا ينظر الله إلى رجل يجر إزاره بطرا متفق عليه
وقال زيد بن أسلم دخلت على ابن عمر فمر به عبد الله بن واقد وعليه ثوب جديد فسمعته يقول يا بني ارفع إزارك فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لا ينظر الله إلى من جر إزاره خيلاء رواه مسلم مقتصرا على المرفوع دون ذكر مرور عبد الله بن واقد على ابن عمر
وفي رواية لمسلم إن المار رجل من بني ليث غير مسمى
وروى ابن ماجه والحاكم وصحح إسناده إن النبي صلى الله عليه وسلم بزق يوما على كفه ووضع أصبعه عليها وقال يقول الله تعالى يا ابن آدم أتعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد جمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق وأنى أوان الصدقة
وقال صلى الله عليه وسلم يخرج من النار عقرب له أذنان تسمعان وعينان تبصران ولسان ينطق يقول وكلت بثلاثة بكل جبار عنيد وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين رواه الترمذي وقال حسن صحيح غريب
وأخرج الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وأسقاطهم وعجزتهم فقال الله عز وجل للجنة إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها
____________________
(1/129)
وفي رواية لمسلم احتجت الجنة والنار فقالت النار في الجبارون والمتكبرون وقالت الجنة في ضعفاء المسلمين ومساكينهم فقضى الله تعالى بينهما إنك الجنة رحمتي أرحم بك من أشاء وإنك النار عذابي أعذب بك من أشاء ولكليكما علي ملؤها
وقال صلى الله عليه وسلم بئس العبد عبد بخل واختال ونسي الكبير المتعال بئس العبد عبد تجبر واعتدى ونسي الجبار الأعلى بئس العبد عبد سها ولها ونسي المقابر والبلى بئس العبد عبد عتا وطغى ونسي المبتدا والمنتهى بئس العبد عبد يختل الدين بالشهوات بئس العبد عبد طمع يقوده بئس العبد عبد هوى يضله بئس العبد عبد رغب يذله رواه الترمذي وقال غريب وليس إسناده بذاك ورواه الحاكم وصححه والبيهقي وضعفه ورواه الطبراني من حديث نعيم الغطفاني أخصر منه
وقال صلى الله عليه وسلم إذا مشت أمتي المطيطا وخدمتهم فارس والروم سلط بعضهم على بعض رواه ابن حبان في صحيحه ورواه الترمذي وابن حبان من طريق أخرى والمطيطا بضم الميم وفتح الطاءين المهملتين بينهما تحتية مصغرا ولم يسمع مكبرا ممدودا ويقصر هو التبختر ومد اليدين في المشي
وقال صلى الله عليه وسلم من تعظم في نفسه أو اختال في مشيته لقي الله تعالى وهو عليه غضبان رواه الطبراني بسند صحيح
وقال صلى الله عليه وسلم ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه
وأخرج أحمد والبخاري في الأدب والحاكم بزيادة في أوله وصححه عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن نوحا صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة دعا ابنيه وقال إني آمركما باثنتين وأنهاكما عن اثنتين أنهاكما عن الشرك والكبر وآمركما بلا إله إلا الله
____________________
(1/130)
فإن السموات والأرض وما فيهن لو وضعت في كفة الميزان ووضعت لا إله إلا الله في الكفة الأخرى كانت لا إله إلا الله أرجح منها ولو أن السموات والأرض كانتا حلقة فوضعت لا إله إلا الله عليهما لقصمتهما وآمركما بسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق كل شيء
وقال عيسى صلى الله وسلم على نبينا وعليه طوبى لمن علمه الله كتابه ثم لم يمت جبارا
وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه مر في السوق وعليه حزمة من حطب فقيل له ما يحملك على هذا وقد أغناك الله عن هذا قال أردت أن أدفع الكبر عن نفسي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يدخل الجنة من في قلبه خردلة من كبر رواه الطبراني بإسناد حسن والأصبهاني إلا أنه قال مثقال ذرة من كبر
وعن كريب قال كنت أقود ابن عباس في زقاق أبي لهب فقال يا كريب بلغنا مكان كذا وكذا قلت أنت عنده الآن قال حدثني العباس بن عبد المطلب قال بينما أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع إذ أقبل رجل يتبختر في بردين وينظر إلى عطفيه فأعجبته نفسه إذ خسف الله به الأرض في هذا الموطن فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة رواه أبو يعلى
وأخرج أحمد والبيهقي أنه صلى الله عليه وسلم قال أهل النار كل جعظري جواظ مستكبر جماع مناع وأهل الجنة الضعفاء المغلوبون
ورواه الطبراني بإسناد حسن والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ولفظه يا سراقة ألا أخبرك بأهل الجنة وأهل النار قلت بلى يا رسول الله قال أما أهل النار فكل جعظري جواظ مستكبر وأما أهل الجنة فالضعفاء المغلوبون
وفي رواية لأحمد رواتها رواة الصحيح أنبأنا محمد بن جابر عن حذيفة قال كنا مع
____________________
(1/131)
النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فقال ألا أخبركم بشر عباد الله الفظ المستكبر ألا أخبركم بخير عباد الله الضعيف المستضعف ذو الطمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره
وأخرج الشيخان ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف مستضعف لو أقسم على الله لأبره ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر
وقال صلى الله عليه وسلم إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون المتشدقون أي المتوسعون في الكلام المتفيهقون قالوا يا رسول الله قد علمنا الثرثارون المتشدقون فما المتفيهقون قال المتكبرون رواه الترمذي وحسنه
وأحمد والطبراني وابن حبان في صحيحه والثرثار بمثلثتين مفتوحتين وتكرير الراء كثير الكلام تكلفا والمتشدق المتكلم بملء شدقه تفاصحا وتعاظما واستعلاء على غيره وهو معنى المتفيهق
وعن محمد بن واسع قال دخلت على بلال بن أبي بردة فقلت له يا بلال إن أباك حدثني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن في جهنم واديا يقال له هبهب حق على الله أن يسكنه كل جبار عنيد فإياك يا بلال أن تكون ممن يسكنه رواه أبو يعلى والطبراني وصححه الحاكم
وهبهب بفتح الهاءين وبموحدتين
وقال صلى الله عليه وسلم يحشر المتكبرون يوم القيامة في صور الذر رواه البزار وسنده حسن
وقال صلى الله عليه وسلم إن في النار توابيت يجعل فيها المتكبرون فتغلق عليهم
وقال صلى الله عليه وسلم من فارقت روحه جسده وهو بريء من ثلاث دخل الجنة الكبر والدين والغلول
رواه الترمذي بلفظ من مات وهو بريء من الكبر والغلول
____________________
(1/132)
والدين دخل الجنة
والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرطهما وضبطه بعض الحفاظ الكنز بالنون والزاي وليس بمشهور
وقال أبو بكر رضي الله عنه لا تحقرن أحدا من المسلمين فإن حقير المسلمين عند الله كبير
وقال وهب لما خلق الله تعالى جنة عدن نظر إليها فقال لها أنت حرام على كل متكبر
وقال الأحنف عجبا لابن آدم يتكبر وقد خرج من مجرى البول مرتين
وقال الحسن العجب لابن آدم يغسل الخراء بيده كل يوم مرة أو مرتين ثم يعارض جبار السموات والأرض
وسئل سليمان عن السيئة التي لا تنفع معها حسنة فقال الكبر
ونظر الحسن إلى أمير يمشي متبخترا فقال أف أف لشامخ بأنفه ثان عطفه مصعر خده ينظر في عطفيه أي حميق أين تنظر في عطفيك في نعم غير مشكورة ولا مذكورة غير المأخوذ بأمر الله فيها ولا المؤدى حق الله منها فسمع فجاءه معتذرا فقال لا تعتذر إلي وتب إلى ربك أما سمعت قول الله تعالى ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا واختال عمر بن عبد العزيز في مشيته قبل الخلافة فغمز طاوس جنبه بأصبعه وقال ليست هذه مشية من في بطنه خير فقال كالمعتذر يا عم لقد ضرب كل عضو مني على هذه المشية حتى تعلمتها
ورأى محمد بن واسع ولده يختال في مشيته فقال له أتدري ما أنت أما أمك فاشتريتها بمائتي درهم وأما أبوك فلا أكثر الله في المسلمين مثله
ورأى مطرف المهلب يتبختر في جبة خز فقال يا عبد الله إن هذه مشية يبغضها الله ورسوله فقال له المهلب أما تعرفني فقال بلى أعرفك أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة وأنت بين ذلك تحمل العذرة فترك المهلب مشيته تلك
تنبيهات منها عد ما ذكر من الكبائر ظاهر وبه صرح جماعة
وعبارة بعضهم الكبيرة التاسعة عشرة الكبر والفخر والخيلاء والعجب والتيه وسيأتي في باب اللباس بسط فيه واستدلوا له ببعض ما مر من الأحاديث كحديث لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر وحديث الخسف بالمتبختر وفي تفسير القرطبي في قوله تبارك وتعالى ولا يضربن بأرجلهن إن فعلته تبرجا وتعرضا للرجال حرم وكذا من ضرب بنعله من الرجال عجبا حرم لأن العجب كبيرة
ومنها الكبر إما على الله تعالى وهو أفحش أنواع الكبر
كتكبر فرعون ونمرود حيث استنكفا أن يكونا عبدين له تعالى وادعيا الربوبية قال تعالى إن الذين
____________________
(1/133)
يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين أي صاغرين
لن يستنكف المسيح الآية وإما على رسوله بأن يمتنع من الانقياد له تكبرا جهلا وعنادا كما حكى الله ذلك عن كفار مكة وغيرهم من الأمم وإما على العباد بأن يستعظم نفسه ويحتقر غيره ويزدريه فيأبى على الانقياد له أو يترفع عليه ويأنف من مساواته وهذا وإن كان دون الأولين إلا أنه عظيم إثمه أيضا لأن الكبرياء والعظمة إنما يليقان بالملك القادر القوي المتين دون العبد العاجز الضعيف فتكبره فيه منازعة لله في صفة لا تليق إلا بجلاله فهو كعبد أخذ تاج ملك وجلس على سريره فما أعظم استحقاقه للمقت وأقرب استعجاله للخزي ومن ثم قال تعالى كما مر في أحاديث إن من نازعه العظمة والكبرياء أهلكه أي لأنهما من صفاته الخاصة به تعالى فالمنازع فيهما منازع في بعض صفاته تعالى وأيضا فالتكبر على عباده لا يليق إلا به تبارك وتعالى فمن تكبر عليهم فقد جنى عليه إذ من استذل خواص غلمان الملك منازع له في بعض أمره وإن لم يبلغ قبح من أراد الجلوس على سريره ومن لازم هذا الكبر بنوعيه مخالفة أوامر الحق لأن المتكبر ومنه المتجادلون في مسائل الدين بالهوى والتعصب تأبى نفسه من قبول ما سمعه من غيره وإن اتضح سبيله بل يدعوه كبره إلى المبالغة في تزييفه وإظهار إبطاله فهو على حد قوله تعالى وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد وقال ابن مسعود كفى بالرجل إثما إذا قيل له اتق الله أن يقول عليك بنفسك
وقال صلى الله عليه وسلم لرجل كل بيمينك فقال متكبرا لا أستطيع فشلت يده فلم يرفعها بعد
فإذن التكبر على الخلق يدعو إلى التكبر على الخالق ألا ترى أن إبليس لما تكبر على آدم وحسده بقوله أنا خير منه جره ذلك إلى التكبر على الله لمخالفة أمره فهلك هلاكا مؤبدا ومن ثم جعل صلى الله عليه وسلم من علامة الكبر بطر الحق أي رده وغمط الناس أي احتقارهم وازدراؤهم ثم الحامل على التكبر هو اعتقاد كمال تميزه على الغير بعلم أو عمل أو نسب أو مال أو جمال أو جاه أو قوة أو كثرة أتباع فالتكبر أسرع إلى العلماء الذين لم يمنحوا نور التوفيق منه إلى غيرهم لأن الواحد منهم يرى غيره بالنسبة إليه كالبهيمة فيقصر في حقوقه التي طلبها الشارع منه كالسلام والعيادة والبشر ويطلب منه أن لا يخل بشيء من حقوقه لمحبته الترفع عليه وفاعل ذلك
____________________
(1/134)
أجهل الجاهلين لأنه جهل مقدار نفسه وربه وخطر الخاتمة وعكس الموضوع إذ من شأن العلم أن يوجب مزيد الخوف والتواضع لعظم حجة الله عليه بالعلم وتقصيره في شكر نعمته لكن سبب ذلك أن علمه إما يرجع إلى الدنيا أو لأنه لم يخلص النية فيه فخاض فيه على غير وجهه فأنتج له تلك القبائح وكذلك العلماء الذين ظهرت عليهم سيما الصالحين يسرع إليهم الكبر لكن الناس يترددون إليهم بقضاء مآربهم والمبالغة في إكرامهم فيرون حينئذ أنهم أرفع وأحق بأن يكون الناس دونهم لعدم وصولهم إلى صور أعمالهم وما دروا أن ذلك ربما يكون سببا لسلبهم
كما وقع أن خليعا من بني إسرائيل جلس إلى عابد لينتفع به فأنف من مجالسته وطرده فأوحى الله تعالى إلى نبيهم أنه غفر للخليع وأحبط عمل العابد
فالجاهل العامي إذا تواضع وذل هيبة لله وخوفا منه فقد أطاع بقلبه فهو أطوع من العالم المتكبر والعابد المعجب
وقد ينتهي الحمق والغباوة ببعض العباد إلى أنه إذا أوذي يتوعد مؤذيه ويقول سترون ما يحل به وإذا نكب مؤذيه يعد ذلك من كراماته لعظم قدر نفسه عنده واستيلاء الجهل عليه لجمعه بين العجب والكبر والاغترار بالله تعالى
وقد قتل جماعة الأنبياء وماتوا من غير أن يعاجلوا بعقاب في الدنيا فما مرتبة هذا الجاهل وإذا اتضح لك كبر هذين النوعين اللذين هما في الظاهر عليهما معول الدين والدنيا اتضح لك كبر البقية من ذوي الأموال والجاه وغيرهم فالمتكبر بالنسب قد يرى من ليس كنسبه مثل عبده وكذا بالجمال وأكثر ما يجري بين النساء ونحوهن وكذا بالمال كما هو مشاهد بين أرباب الدنيا من المناصب والمتاجر وغيرها وكذا بالأتباع والجند وأكثر ما يجري بين الملوك ومما يهيج الكبر ويسعر ناره العجب والحقد والحسد والرياء إذ التكبر خلق باطني لأنه استعظام النفس ورؤية قدرها فوق قدر الغير وموجبه الحقيقي هو العجب وحده كما يعلم مما يأتي في معناه من أعجب بشيء من علمه أو عمله أو غيرهما مما مر استعظم نفسه وتكبر وتمرد وتجبر
وأما غير العجب مما ذكرنا فإنما هو سبب للتكبر الظاهر لأن باعثه على التكبر عليه هو الحقد والحسد وعلى غيره هو الرياء
ومنها يتعين على كل إنسان أراد الخلاص من ورطة الكبر وثمرته القبيحة إذ هو من المهلكات ولا يخلو أحد من الخلق عن شيء منه وإزالته فرض عين وهي لا تمكن بمجرد التمني بل بالمعالجة باستعمال أدويته النافعة في إزالته من أصله أن يعرف نفسه حق المعرفة بأن يتأمل ما أشار إلى بدايته من أذل الأشياء وأحقرها وأقذرها وهو التراب ثم المني ووسطه من التأهل لاكتساب العلوم والمعارف وحيازة المناصب والمراتب ونهايته من
____________________
(1/135)
الزوال والفناء والعود إلى مثل بدايته ثم إعادته إلى ذلك الموقف الأكبر ثم إلى الجنة أو إلى النار ومن أظهر ما أشار لكل ذلك قوله تعالى قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره كلا لما يقض ما أمره فلينظر الإنسان إلى طعامه إلى آخر السورة
وقوله تعالى هل أتى على الإنسان حين من الدهر الآيات
فمن تأمل ذلك ونظائره وما أشارت إليه الآيات علم أنه أذل وأحقر من كل ذليل وحقير وأنه لا يليق به إلا الذلة والتواضع وأن يعرف ربه سبحانه ليعلم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا به تعالى بخلاف نفسه فإنه لا يليق به الفرح لحظة واحدة فكيف البطر والخيلاء بعد أن ظهر له مبدأ أمره ووسطه ولو ظهر له آخره والعياذ بالله ربما اختار أن يكون بهيمة ولو كلبا سيما إن كان في علم الله أنه من أهل النار ولو رأى أهل الدنيا صورة من صور أهل النار لصعقوا من قبحها وماتوا من نتنها فمن هذا عاقبته إلا أن يعفو الله عنه وهو على شك في العفو كيف يتكبر ويرى نفسه شيئا وأي عبد لم يذنب ذنبا يستحق به عقوبة الله إلا أن يعفو عنه الكريم بفضله
ومن تأمل ما ذكرناه حقيقة التأمل زال عنه النظر إلى علمه وعمله ومنصبه وجاهه وماله وفر إلى الله من كل شيء وتواضع له وعلم أنه أحقر وأذل من كل شيء كيف وهو يجوز أن يكون عند الله شقيا ومما يظهر التكبر الكامل في النفس ويعلم به من سولت له نفسه أنها متنزهة عنه أن يناظر في مسألة مع بعض أقرانه ويظهر الحق على يد صاحبه فإن اطمأن لقبوله وأعلن بشكره وفضله وأنه ظهر له الحق على يديه وكان كذلك مع كل مناظر ظهرت القرائن على براءته من الكبر وإن اختل شرط من ذلك فهو كامن فيه فعليه علاجه بالتفكر فيما مر ونحوه إلى أن تنقطع عروقه من نفسه وبأن يقدم أقرانه على نفسه في المجالس ونحوها لكن على وجه لا يظن به فيه أنه أظهر تواضعا كأن يترك صفهم ويجلس معبسا كان ذلك عين الكبر وبأن يجيب دعوة الفقير ويحادثه ويجالسه ويمر في الأسواق لحاجته وحاجات الفقراء والمنقطعين وبأن يحمل حاجته وحاجة غيره فإن ذلك براءة من الكبر كما في حديث ويستوي ذلك عنده في الخلاء وبحضرة الملأ وإلا فهو متكبر أو مراء وكل ذلك من أمراض القلوب وعللها المهلكة لها إن لم يتدارك وقد أهمل الناس طبها واشتغلوا بطب الأجساد مع أنه لا سلامة في الآخرة إلا بسلامتها إلا من أتى الله بقلب سليم أي من الشرك أو مما سوى الله
____________________
(1/136)
ومنها مر في الأحاديث ذم العجب وأنه من المهلكات ومن ثم ذمه الله تعالى بقوله ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا
وبقوله وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا فقد يعجب الإنسان بعمله وهو مصيب فيه أو مخطئ
وقال ابن مسعود الهلاك في اثنتين القنوط والعجب أي لأن القانط آيس من نفع الأعمال ومن لازم ذلك تركها والمعجب يرى أنه سعد وظفر بمراده فلا يحتاج لعمل ومن ثم قال تعالى فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ومن تزكية النفس اعتقاد أنها بارة وهو معنى العجب
وقال مطرف لأن أبيت نائما وأصبح نادما أحب إلي من أن أبيت قائما وأصبح معجبا
ولقد أطال بشر بن منصور الصلاة فقال بعد سلامه لمن أدرك أنه فطن له لا يعجبك ما رأيت مني فإن إبليس لعنه الله قد عبد الله مع الملائكة مدة طويلة ثم صار إلى ما صار إليه
ومنها للعجب آفات كثيرة منها تولد الكبر عنه كما مر فتكون آفات الكبر آفات العجب لأنه الأصل هذا مع العباد وأما مع الله فهو ينسي الذنوب لظنه أنه لا يؤاخذ بها فلا يتدارك ورطاتها ولا يتنصل من مذامها ويورث استعظام عبادته ويمتن على الله بفعلها فيعمى عن تفقد آفاتها فيضيع كل سعيه أو أكثره إذ العمل ما لم يتنق من الشوائب لا ينفع وإنما يحمل على تنقيته منها الخوف والمعجب غرته نفسه بربه فأمن مكره وعقابه وعد أن له على الله حقا بعمله فزكى نفسه وأعجب برأيه وعقله وعلمه حتى استبد بذلك ولم تطمئن نفسه أن يرجع لغيره في علم ولا عمل فلا يسمع نصحا ولا وعظا لنظره إلى غيره بعين الاحتقار فعلم أن العجب إنما يكون بوصف هو كمال في حد ذاته لكنه ما دام خائفا من سلبه من أصله فهو غير معجب به وكذا لو فرح به من حيث إنه نعمة من الله تعالى أنعم بها عليه بخلاف ما إذا فرح به من حيث إنه كمال متصف به مع قطع نظره عن نسبته إلى الله تعالى فإن هذا هو العجب فهو استعظام النعمة والركون إليها مع نسيان إضافتها إلى الله تعالى فإن ضم لذلك توقعه جزاء عليها لاعتقاده أن له عند الله حقا وأنه منه بمكان سمي مدلا فالإدلال أخص من العجب
ومنها قد علم مما مر الفرق بين الكبر والعجب
وإيضاحه أن الكبر إما باطن وهو خلق في النفس واسم الكبر بهذا أحق وإما ظاهر وهو أعمال تصدر من الجوارح وهي ثمرات ذلك الخلق وعند ظهورها يقال له تكبر وعند عدمها يقال في نفسه كبر فالأصل
____________________
(1/137)
هو خلق النفس الذي هو الاسترواح والركون إلى رؤية النفس فوق المتكبر عليه فهو يستدعي متكبرا عليه ومتكبرا به وبه فارق العجب فإنه لا يستدعي غير المعجب به حتى لو فرض انفراده دائما أمكن أن يقع منه العجب دون الكبر ومجرد استعظام الشيء لا يقتضي التكبر إلا إن كان ثم من يرى أنه فوقه
ومنها يتعين علاج العجب أيضا وعلاج كل علة إنما يكون بضدها وعلة العجب الجهل المحض كما علم مما مر في حده وشفاؤها النظر إلى ما لا ينكره أحد وهو أن الله تعالى هو المقدر لك على نحو العلم والعمل والمنعم عليك بالتوفيق إلى حيازته ويجعلك ذا نسب أو مال أو جاه فكيف يعجب بما ليس إليه ولا منه وكونه محل ذلك لا يجديه شيئا لأن المحل لا مدخل له في الإيجاد والتحصيل وكونه سببا فيه نزول ملاحظته له إذا تأمل أن الأسباب لا تأثير لها وإنما التأثير لموجدها والمنعم بها فينبغي أن لا يكون إعجابه إلا بما أسداه إليه الحق وأجراه عليه وآثره به دون غيره من مزايا جوده وكرمه مع عدم سابقة استحقاق منه لذلك فإن قال لولا ما علم في من صفة محمودة باطنة لما آثرني بذلك
قيل له وتلك الصفات أيضا من خلقه وإنعامه على أن من انطوى علم خاتمته وعاقبته عن نفسه كيف يسوغ له عجب بأي نوع فرض من أنواعه فإنه لا أعبد من إبليس ولا أعلم من بلعم بن باعوراء في زمنه ولا أقرب ولا أشفق من أبي طالب على نبينا صلى الله عليه وسلم ولا أشرف من الجنة ومكة وقد علمت ما وقع لأولئك من سوء الخاتمة والعياذ بالله وما وقع لآدم في الجنة ولكفار مكة فيها فاحذر أن تعجب وتغتر بنسب أو علم أو محل أو غير ذلك هذا كله إن كنت معجبا بحق فكيف وكثيرا ما يقع الإعجاب بباطل قال تعالى أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن هذا يغلب في آخر هذه الأمة إذ جميع أهل البدع والضلال إنما أصروا عليها لعجبهم بآرائهم الفاسدة وبذلك أهلكت الأمم السابقة لما افترقوا فرقا وأعجب كل برأيه كل حزب بما لديهم فرحون فذرهم في غمرتهم حتى حين أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون أي إن ذلك ربما كان مقتا واستدراجا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين
قد بان لك ذم الكبر والاختيال والعجب وآفات ذلك وقبائحه وكل ذلك يستدعي ذكر فضائل التواضع وغاياته الرفيعة فإن الأشياء إنما تعرف بأضدادها
____________________
(1/138)
أخرج مسلم وأبو داود وابن ماجه إن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد
ومسلم والترمذي ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله
وابن أبي الدنيا والتواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرفعكم الله والعفو لا يزيد العبد إلا عزا فاعفوا يعزكم الله والصدقة لا تزيد المال إلا كثرة فتصدقوا يرحمكم الله عز وجل
والطبراني بسند صحيح حسن طوبى لمن تواضع في غير منقصة وذل نفسه في غير مسألة وأنفق مالا جمعه في غير معصية ورحم أهل الذل والمسكنة وخالط أهل الفقه والحكمة
طوبى لمن طاب كسبه وصلحت سريرته وكرمت علانيته وعزل عن الناس شره طوبى لمن عمل بعلمه وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله
والخرائطي إذا تواضع العبد رفعه الله إلى السماء السابعة
وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم من يتواضع لله درجة يرفعه الله درجة حتى يجعله في عليين وفي رواية في أعلى عليين ومن يتكبر على الله درجة يضعه درجة حتى يجعله في أسفل سافلين
وأبو نعيم وابن ماجه إن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا ولا يبغي بعضكم على بعض
____________________
(1/139)
والطبراني من تواضع لأخيه المسلم رفعه الله ومن ارتفع عليه وضعه الله
وفي رواية له سندها صحيح إياكم والكبر فإن الكبر يكون في الرجل وإن عليه العباءة
والطبراني والبيهقي إن من التواضع لله الرضا بالدون من شرف المجالس
وأبو نعيم تواضعوا وجالسوا المساكين تكونوا من كبار عباد الله وتخرجوا من الكبر
والطبراني وابن عساكر صاحب الشيء أحق بشيئه أن يحمله إلا أن يكون ضعيفا يعجز عنه فيعينه عليه أخوه المسلم
والطبراني عليكم بالتواضع فإن التواضع في القلب ولا يؤذين مسلم مسلما
فلرب متضعف في أطمار لو أقسم على الله لأبره
وأبو نعيم والبيهقي ما استكبر من أكل خادمه معه وركب الحمار بالأسواق واعتقل الشاة فحلبها
والطبراني بسند حسن ما من آدمي إلا وفي رأسه حكمة بيد ملك فإن تواضع قيل للملك ارفع حكمته وإذا تكبر قيل للملك ضع حكمته
____________________
(1/140)
وأبو نعيم من تواضع لله رفعه الله
وابن منده البس الخشن الضيق حتى لا يجد العز والفخر فيك مساغا
وأحمد والترمذي والحاكم البذاذة من الإيمان أي ترك رفيع الثياب وإيثار رثها تواضعا لله تعالى
والترمذي والحاكم من ترك اللباس تواضعا لله تعالى وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها
وعبد بن حميد والطبراني والضياء التؤدة والاقتصاد والسمت الحسن جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة
وأبو داود والحاكم والبيهقي التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة
والطبراني التأني من الله والعجلة من الشيطان
وأبو الشيخ يا عائشة تواضعي فإن الله عز وجل يحب المتواضعين ويبغض المتكبرين
____________________
(1/141)
وابن منده وأبو نعيم من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله
وابن النجار من تواضع لله رفعه الله ومن اقتصد أغناه الله ومن ذكر الله أحبه الله
وأبو نعيم من تواضع لله رفعه الله فهو في نفسه ضعيف وفي أنفس الناس عظيم ومن تكبر وضعه الله فهو في أعين الناس صغير وفي نفسه كبير حتى لهو أهون عليهم من كلب أو خنزير
وأبو الشيخ من تواضع لله تخشعا رفعه الله ومن تطاول تعظما وضعه الله والناس تحت كنف الله يعملون أعمالهم فإذا أراد عز وجل فضيحة عبد أخرجه من تحت كنفه فبدت ذنوبه
والديلمي التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرفعكم الله
وأبو نعيم قال الله تعالى من لان لخلقي وتواضع لي ولم يتكبر في أرضي رفعته حتى أجعله في عليين
وابن صصرى ما من آدمي إلا وفي رأسه حكمة موكل بها ملك فإن تواضع رفعه الله وإن ارتفع قمعه الله والكبرياء رداء الله فمن نازع الله قمعه
____________________
(1/142)
وأبو نعيم والديلمي ما من آدمي إلا وفي رأسه حكمة أي وهي بفتح المهملة والكاف ما يجعل في رأس الدابة كاللجام ونحوه بيد ملك فإذا تواضع رفعه الله بها وقال ارتفع رفعك الله وإذا رفع رأسه جذبه إلى الأرض وقال اخفض خفضك الله
وابن صصرى ما من عبد إلا في رأسه حكمة بيد ملك فإذا تواضع رفع بها وقال ارتفع رفعك الله وإن رفع نفسه جذبه إلى الأرض وقال انخفض خفضك الله
والخرائطي والحسن بن سفيان وابن لال والديلمي ما من آدمي إلا وفي رأسه سلسلتان سلسلة في السماء السابعة وسلسلة في الأرض السابعة فإن تواضع رفعه الله بالسلسلة إلى السماء السابعة وإذا تجبر وضعه الله بالسلسلة إلى الأرض السابعة
وابن عساكر من رفع رأسه في الدنيا قمعه الله يوم القيامة ومن تواضع في الدنيا بعث الله إليه ملكا يوم القيامة فانتشطه من بين الجمع فقال أيها العبد الصالح يقول الله عز وجل إلي فإنك ممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
وأبو نعيم من كان حسن الصورة في حسب لا يشينه متواضعا كان من أخالص الله يوم القيامة
والخطيب لكن أورده ابن الجوزي في الموضوعات من التواضع أن يشرب الرجل من سؤر أخيه ومن شرب من سؤر أخيه رفعت له سبعون درجة ومحيت عنه سبعون خطيئة وكتبت له سبعون حسنة
وأبو علي الذهبي وابن النجار من ترك زينة لله وآثر ثيابا خشنة تواضعا لله
____________________
(1/143)
وابتغاء وجهه كان حقا على الله أن تبدل بعبقري الجنة والحاكم وقال صحيح على شرطهما
عن طارق قال خرج عمر رضي الله عنه إلى الشام ومعه أبو عبيدة فأتوا على مخاضة وعمر على ناقة له فنزل وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه وأخذ بزمام ناقته فخاض فقال أبو عبيدة يا أمير المؤمنين أنت تفعل هذا ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك فقال أوه لو يقول هذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالا لأمة محمد إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله
وأخرج البغوي وابن قانع والطبراني والبزار طوبى لمن تواضع في غير مسكنة وأنفق مالا جمعه في غير معصية ورحم أهل الذل والمسكنة وخالط أهل الفقه والحكمة
وفي حديث كان صلى الله عليه وسلم عندنا بقباء وكان صائما فأتيناه عند إفطاره بقدح من لبن وجعلنا فيه شيئا من عسل فلما رفعه وذاقه وجد حلاوته فقال ما هذا قلنا يا رسول الله جعلنا فيه شيئا من عسل فوضعه وقال أما إني لا أحرمه ومن تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله ومن اقتصد أغناه الله ومن بذر أفقره الله ومن أكثر ذكر الله أحبه الله
رواه البزار دون قوله ومن أكثر ذكر الله أحبه الله ولم يقل بقباء
قال شيخ الإسلام الزين العراقي قال الذهبي في الميزان إنه خبر منكر
ورواه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة قالت أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح فيه
____________________
(1/144)
لبن وعسل
الحديث وفيه أما إني لا أزعم أنه حرام الحديث وفيه ومن أكثر ذكر الموت أحبه الله
وروى المرفوع منه أحمد وأبو يعلى من حديث أبي سعيد دون قوله ومن بذر أفقره الله وذكرا فيه قوله ومن أكثر ذكر الله أحبه الله
وفي آخر كان صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه في بيت يأكلون فقام سائل على الباب وبه زمانة يكره منها فأذن له فلما دخل أجلسه صلى الله عليه وسلم على فخذه ثم قال له اطعم فكأن رجلا من قريش كره ذلك واشمأز منه فما مات ذلك الرجل حتى كانت به زمانة كذا في الإحياء
قال شيخ الإسلام الزين العراقي لم أجد له أصلا
والموجود حديث أكمله صلى الله عليه وسلم مع مجذوم رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وقال غريب
وفي آخر إذا هدى الله عبدا للإسلام وحسن صورته وجعله في موضع غير شائن له ورزقه مع ذلك تواضعا فذلك من صفوة الله
وروى الطبراني نحوه موقوفا على ابن مسعود وفيه مختلف فيه
وفي آخر أربع لا يعطيهن الله إلا من يحب الصمت وهو أول العبادة والتوكل على الله والتواضع والزهد في الدنيا رواه الطبراني والحاكم بلفظ أربع لا يصبن إلا بعجب الصمت وهو أول العبادة والتواضع وذكر الله وقلة المشي
وقال الحاكم صحيح الإسناد
واعترض بأن فيه من قال ابن حبان في حقه إنه يروي الموضوعات ثم روى له هذا الحديث
____________________
(1/145)
وفي آخر كان صلى الله عليه وسلم يطعم فجاء رجل أسود به جدري قد تقشر فجعل لا يجلس إلى أحد إلا قام من جنبه فأجلسه صلى الله عليه وسلم إلى جنبه كذا في الإحياء
واعترض بنحو ما مر آنفا
وفي حديث آخر لكنه غريب أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ما لي لا أرى عليكم حلاوة العبادة قالوا وما حلاوة العبادة قال التواضع
وفي آخر غريب أيضا إذا رأيتم المتواضعين من أمتي فتواضعوا لهم وإذا رأيتم المتكبرين فتكبروا عليهم فإن ذلك لهم مذلة وصغار
وقال عمر رضي الله عنه إن العبد إذا تواضع لله رفع الله حكمته وقال انتعش رفعك الله وإذا تكبر وعدا طوره رهصه الله أي رماه بشدة إلى الأرض وقال اخسأ أخسأك الله فهو في نفسه كبير وفي أعين الناس حقير حتى إنه لأحقر عندهم من الخنزير
وقالت عائشة أفضل العبادة التواضع
وقال الفضيل التواضع أن تخضع للحق وتنقاد له ولو سمعته من أجهل الناس قبلته منه
وكان سليمان بن داود صلى الله وسلم على نبينا وعليه إذا أصبح تصفح وجوه الناس حتى يجيء إلى المساكين فيقول مسكين جلس مع مساكين
وقال الحسن التواضع أن تخرج من منزلك فلا تلقى مسلما إلا رأيت له عليك فضلا
وقال مجاهد استأثر الله الجودي بالسفينة لأنه تواضع أكثر من غيره أي وكذا حراء استأثره الله بتعبده صلى الله عليه وسلم فيه لمزيد تواضعه على غيره واختص الله قلب نبينا صلى الله عليه وسلم بتمييزه على سائر الخلق لأنه فاقهم في التواضع وقال بعضهم رأيت عند الصفا رجلا راكبا بغلة وبين يديه غلمان يعنفون الناس ثم رأيته ببغداد حافيا حاسرا طويل الشعر فقلت له ما فعل الله بك قال ترفعت في موضع يتواضع الناس فيه فوضعني الله حيث يرتفع الناس
الكبيرة الخامسة الغش
السادسة النفاق
السابعة البغي
الثامنة الإعراض عن الخلق استكبارا واحتقارا لهم
التاسعة الخوض فيما لا يعني
____________________
(1/146)
العاشرة الطمع
الحادية عشرة خوف الفقر
الثانية عشرة سخط المقدور
الثالثة عشرة النظر إلى الأغنياء وتعظيمهم لغناهم
الرابعة عشرة الاستهزاء بالفقراء لفقرهم
الخامسة عشرة الحرص
السادسة عشرة التنافس في الدنيا والمباهاة بها
السابعة عشرة التزين للمخلوقين بما يحرم التزين به
الثامنة عشرة المداهنة
التاسعة عشرة حب المدح بما لا يفعله
العشرون الاشتغال بعيوب الخلق عن عيوب النفس
الحادية والعشرون نسيان النعمة
الثانية والعشرون الحمية لغير دين الله
الثالثة والعشرون ترك الشكر
الرابعة والعشرون عدم الرضا بالقضاء
الخامسة والعشرون هوان حقوق الله تعالى وأوامره على الإنسان
السادسة والعشرون سخريته بعباد الله تعالى وازدراؤه لهم واحتقاره إياهم
السابعة والعشرون اتباع الهوى والإعراض عن الحق
الثامنة والعشرون المكر والخداع
التاسعة والعشرون إرادة الحياة الدنيا
الثلاثون معاندة الحق
الحادية والثلاثون سوء الظن بالمسلم
الثانية والثلاثون عدم قبول الحق إذا جاء بما لا تهواه النفس أو جاء على يد من تكرهه وتبغضه
الثالثة والثلاثون فرح العبد بالمعصية
الرابعة والثلاثون الإصرار على المعصية
____________________
(1/147)
الخامسة والثلاثون محبة أن يحمد بما يفعله من الطاعات
السادسة والثلاثون الرضا بالحياة الدنيا والطمأنينة إليها
السابعة والثلاثون نسيان الله تعالى والدار الآخرة
الثامنة والثلاثون الغضب للنفس والانتصار لها بالباطل
اعلم أن التصريح يكون جميع هذه المذكورات من الخامسة إلى هنا مع ما فيها من التداخل الكثير كبائر باطنة وقع في كلام بعض أئمتنا المتأخرين ممن جمع بين الفقه والمعرفة والعلم والعمل وهداية السالكين وتربية المريدين والكرامات الظاهرة والأحوال والأخلاق العلية المتكاثرة وقال في أولها وأما كبائر الباطن فيجب على المكلف معرفتها ليعالج زوالها لأن من كان في قلبه مرض منها لم يلق الله والعياذ بالله بقلب سليم
ومن الأمراض التي تعتوره وتعتريه الكفر والعياذ بالله والنفاق والكبر والفخر والخيلاء والحسد والغل والحقد والبغي والغضب لغير الله والغيظ لغير الله والرياء والسمعة والغش والبخل والإعراض عن الحق إلى آخر ما قدمته
ثم قال عقبه وأمثال هذه يذم العبد عليها أعظم مما يذم على الزنا والسرقة وشرب الخمر ونحوها من كبائر البدن وذلك لعظم مفسدتها وسوء أثرها ودوامه فإن آثار هذه الكبائر ونحوها تدوم بحيث تصير حالا وهيئة راسخة في القلب بخلاف آثار معاصي الجوارح فإنها سريعة الزوال تزول بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفرة
قال صلى الله عليه وسلم إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب والقلب ملك الأعضاء وهي جنوده وتابعة له فإذا فسد الملك فسدت الجنود كلها كما قال أبو هريرة رضي الله عنه القلب ملك والأعضاء جنوده فإذا طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث الملك خبثت جنوده فمن أعطي قلبا سليما من هذه الأمراض فليحمد الله تعالى ومن وجد في قلبه مرضا من هذه الأمراض وجب عليه أن يعالجه حتى يزول فإن لم يعالجه أثم وإنما يأثم من هذه الأمراض على ما نواه وقصده بقلبه دون ما خطر بقلبه أو سبق إليه لسانه ووهمه انتهى
وتسمية جميع هذه المذكورات كبائر إنما يليق بطريقة أهل المعارف والأخلاق والتصوف الذين منهم هذا الإمام الفقيه فلذا جرى على ذلك مخالفا لمقتضى كلام الشافعية أهل
____________________
(1/148)
مذهبه نعم فيها ما هو من الكبائر كالحسد والحقد والرياء والسمعة والكبر والعجب وغيرها مما مر الكلام فيه وكذا كثير منها لا يبعد القول بأنه كبيرة كما ستعلمه مما أورده من الأحاديث الدالة على ما في ذلك من الوعيد الشديد نعم البغي بالمعنى المصطلح عليه عند الفقهاء صغيرة لا كبيرة كما صرحوا بها وسيأتي الكلام على بعض منها في محاله كالبخل والشح في الكلام على ترك الزكاة وكسوء الظن في الكلام على الغيبة
وممن صرح من أئمتنا بأن الفرح بالدنيا حرام البغوي في تهذيبه فلعل ذلك الإمام أخذ ما مر عنه ثم زاد أنه كبيرة لأنه يؤدي إلى قبائح يعظم ضررها ويضطرم شررها إذ من الواضح أن محل حرمة الفرح بها إن كان من حيث الخيلاء والفخر والتكبر والاستطالة على الأقران ونحو ذلك من المفاسد والقبائح
أما الفرح بها ليستر بها عرضه ويصون بها ماء وجهه ووجه عياله عن التطلع لما في أيدي الناس أو ليواسي منها المحتاج فهذا فرح محمود قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ثم أصل هذه المذكورات كلها سوء الخلق وفساد القلب فلنبدأ ببعض ما جاء فيه من الذم ثم ببعض ما جاء فيها أو فيما يستلزم بعضها أو يقرب منه فنقول أخرج الحارث والحاكم سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل
وابن منده سوء الخلق شؤم وطاعة النساء ندامة وحسن الملكة نماء
والخطيب سوء الخلق شؤم وشراركم أسوءكم خلقا
وأحمد إذا سمعتم بجبل زال عن مكانه فصدقوا وإذا سمعتم برجل زال عن خلقه فلا تصدقوا فإنه يصير إلى ما جبل عليه
والخطيب إن لكل ذنب توبة إلا صاحب سوء الخلق فإنه لا يتوب من ذنب إلا وقع فيما هو شر منه
____________________
(1/149)
والصابوني
ما من ذنب إلا وله توبة عند الله إلا سوء الخلق فإنه لا يتوب أي صاحبه من ذنب إلا رجع إلى ما هو شر منه
وأحمد والطبراني وأبو نعيم الشؤم سوء الخلق
والخرائطي لو كان سوء الخلق رجلا يمشي في الناس لكان رجل سوء وإن الله تعالى لم يخلقني فحاشا
والحارث وابن السني وأبو نعيم من ساء خلقه عذب نفسه ومن كثر همه سقم بدنه ومن لاحى الرجال ذهبت كرامته وسقطت مروءته
والترمذي وابن ماجه لا يدخل الجنة سيئ الخلق
والبيهقي الناس معادن والعرق دساس وأدب السوء كعرق السوء
والعسكري بسند صحيح إن الخلق السيئ يفسد العمل كما يفسد الخل العسل
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم في افتتاح صلاته اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت
وبقي أحاديث كثيرة في ذلك منها ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة وإنه يدرك بحسن الخلق درجة الصائم القائم ودرجات الآخرة وشرف المنازل وإن سوء الخلق ذنب لا يغفر وإن العبد ليبلغ من خلقه أسفل درك جهنم وإن حسن الخلق يذيب الخطيئة كما تذيب الشمس الجليد وإنه يمن وإن أقرب الناس منه صلى الله عليه وسلم مجلسا يوم القيامة أحاسنهم أخلاقا وإن أحسن الخلق خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أفضل المؤمنين إيمانا أحاسنهم أخلاقا وإنه أفضل الأعمال وأثقل ما وضع في الميزان
____________________
(1/150)
قالت عائشة رضي الله عنها كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ثم قال صلى الله عليه وسلم هو أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك وأخرج الحاكم والديلمي إن إبليس يقول ابغوا من بني آدم البغي والحسد فإنهما يعدلان عند الله الشرك والخرائطي إياكم والبغضاء فإنها الحالقة
والطبراني يا معشر من أسلم بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه لا تذموا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يطلب عورة أخيه المسلم هتك الله ستره وأبدى عورته ولو كان في ستر بيته
وأبو يعلى والبيهقي يا معشر من آمن بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته حتى يفضحه الله في بطن بيته
والترمذي الحكيم مرسلا يا معشر الذين أسلموا بألسنتهم ولم يدخل الإيمان في قلوبهم لا تؤذوا المسلمين ولا تضروهم ولا تتبعوا عثراتهم فإنه من تتبع عثرة أخيه المسلم تتبع الله عثرته ومن تتبع الله عثرته يفضحه وهو في قعر بيته قيل يا رسول الله وهل على المؤمن ستر قال ستور الله على المؤمنين أكثر من أن تحصى إن المؤمن ليعمل بالذنوب فيهتك عنه سترا سترا حتى لا يبقى عليه شيء فيقول الله تعالى للملائكة استروا على عبدي من الناس فإنهم يعيرون ولا يغيرون فتحف عليه الملائكة بأجنحتها يسترونه فإن تتابع في الذنوب قالت الملائكة يا ربنا قد غلبنا وأقذرنا فيقول للملائكة تخلوا عنه فلو عمل ذنبا في بيت مظلم في ليلة مظلمة في جحر أبدى الله عنه وعن عورته
____________________
(1/151)
والديلمي حب الثناء من الناس يعمي ويصم
وتمام والخطيب إذا كان يوم القيامة دعا الله بعبد من عبيده فيقف بين يديه فيسأله عن جاهه كما يسأله عن ماله
وابن النجار من أساء بأخيه الظن فقد أساء بربه إن الله تعالى يقول اجتنبوا كثيرا من الظن
وابن ماجه إذا ظننتم فلا تحققوا وإذا حسدتم فلا تبغوا وإذا تطيرتم فامضوا وعلى الله فتوكلوا وإذا وزنتم فأرجحوا
والطبراني أعرضوا عن الناس ألم تر أنك إن ابتغيت الريبة في الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم
وابن قانع وابن المبارك الصفا الزلال الذي لا تثبت عنه أقدام العلماء الطمع
والطبراني تعوذوا بالله من ثلاث من طمع حيث لا مطمع ومن مطمع يرد إلى طبع ومن طبع يرد إلى مطمع تعوذوا بالله من طمع يهوي إلى طبع ومن طبع يهوي إلى مطمع
وأحمد والطبراني والحاكم استعيذوا بالله من مطمع يهوي إلى طبع ومن طمع يهوي إلى غير مطمع ومن مطمع حيث لا مطمع
____________________
(1/152)
والطبراني إياكم والطمع فإنه الفقر الحاضر وإياكم وما يعتذر منه
والحاكم عليك بالإياس مما في أيدي الناس وإياك والطمع فإنه الفقر الحاضر وصل صلاتك وأنت مودع وإياك وما يعتذر منه
وابن عساكر قلب الشيخ شاب في حب اثنتين طول الأمل وحب المال
وأبو نعيم وابن عساكر ألا تعجبون من أسامة المشتري إلى شهر إن أسامة لطويل الأمل والذي نفسي بيده ما طرفت عيناي إلا ظننت أن شفري لا يلتقيان حتى يقبض الله روحي ولا رفعت طرفي وظننت أني واضعه حتى أقبض ولا لقمت لقمة إلا ظننت أني لا أسيغها حتى أغص بها من الموت يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم في الموتى والذي نفسي بيده إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين
وابن عدي أخوف ما أخاف على أمتي الهوى وطول الأمل
____________________
(1/153)
والبخاري لا يزال قلب الكبير شابا في اثنتين في حب الدنيا وطول الأمل
وأبو الشيخ قال الله عز وجل لولا أن الذنب خير لعبدي المؤمن من العجب ما خليت بين عبدي المؤمن وبين الذنب
والديلمي لولا أن المؤمن يعجب بعمله لعصم من الذنب حتى لا يهم به ولكن الذنب خير له من العجب
والدارقطني ليس بالخير أن يقضي العبد القول بلسانه والعجب في قلبه
وأبو الشيخ شرار أمتي المعجب بدينه المرائي بعمله المخاصم بحجته والرياء شرك
وأبو نعيم من حمد نفسه على عمل صالح فقد ضل شكره وحبط عمله
والديلمي ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء والحاكم ينصب لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة
والشيخان وأبو داود والنسائي إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال ألا هذه غدرة فلان بن فلان
والطيالسي وأحمد إن لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به عند استه
وأحمد والشيخان عن أنس وأحمد ومسلم عن ابن مسعود ومسلم عن ابن عمر لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة
____________________
(1/154)
ومسلم عن عمر إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء فقيل هذه غدرة فلان بن فلان
وابن ماجه ألا إنه ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة بقدر غدرته
ومسلم عن أبي سعيد لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدرته ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة
والخرائطي لواء الغادر يوم القيامة عند استه
ومسلم عن أبي سعيد لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة
وأحمد وأبو داود لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم
والبيهقي المكر والخديعة في النار
وأبو داود المكر والخديعة والخيانة في النار
والترمذي ملعون من ضار مؤمنا أو مكر به
وأبو داود من خبب زوجة امرئ أو مملوكه فليس منا
وأبو داود والحاكم ليس منا من خبب امرأة على زوجها أو عبدا على سيده
____________________
(1/155)
والطبراني وأبو نعيم من غشنا فليس منا والمكر والخداع في النار
والرافعي ليس منا من غش مسلما أو ضره أو ماكره
والترمذي لا يدخل الجنة خب أي لئيم ولا بخيل ولا منان
وأبو نعيم من غش مسلما في أهله وضاره فليس منا
وأحمد والبيهقي من خبب خادما على أهله ومن أفسد امرأة على زوجها فليس منا
والشيرازي من خبب عبدا على مولاه فليس منا
والسجزي إياكم والهوى فإن الهوى يصم ويعمي
والطبراني وأبو نعيم ما تحت ظل سماء من إله يعبد من دون الله أعظم عند الله من هوى متبع
وأبو الشيخ من اعتذر إليه أخوه المسلم من ذنب قد أتاه فلم يقبل منه لم يرد على الحوض غدا
وأبو نعيم من لم يقبل العذر من محق أو مبطل لم يرد على الحوض
____________________
(1/156)
والديلمي ستة أشياء تحبط الأعمال الاشتغال بعيوب الخلق وقسوة القلب وحب الدنيا وقلة الحياء وطول الأمل وظالم لا ينتهي
وأبو الشيخ وابن عساكر مرسلا ثمانية هم أبغض خلق الله إليه يوم القيامة السفارون وهم الكذابون والمختالون وهم المستكبرون والذين يكنزون البغض لإخوانهم في صدورهم فإذا أتوهم تخلقوا لهم والذين إذا دعوا إلى الله ورسوله كانوا بطاء وإذا دعوا إلى الشيطان وأمره كانوا سراعا
والذين لا يشرف لهم طمع من الدنيا إلا استحلوه بأيمانهم وإن لم يكن لهم ذلك بحق والمشاءون بالنميمة والمفرقون بين الأحبة والباغون للبرآء الدحضة أولئك يقذرهم الرحمن عز وجل
وابن عساكر ألا أنبئكم بشر الناس من أكل وحده ومنع رفده وسافر وحده وضرب عبده ألا أنبئكم بشر من هذا من يبغض الناس ويبغضونه ألا أنبئكم بشر من هذا من يخشى شره ولا يرجى خيره ألا أنبئكم بشر من هذا من باع آخرة بدنيا غيره ألا أنبئكم بشر من هذا من أكل الدنيا بالدين
وابن عدي وأبو نعيم والبيهقي والخطيب وابن عساكر وابن النجار ابن آدم عندك ما يكفيك وأنت تطلب ما يطغيك ابن آدم لا بقليل تقنع ولا من كثير تشبع ابن آدم إذا أصبحت معافى في جسدك آمنا في سربك عندك قوت يومك فعلى الدنيا العفاء
والديلمي إذا أراد الله بعبد خيرا أرضاه بما قسم له وبارك له فيه
وهناد والبيهقي إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والجسم فلينظر إلى من هو دونه في المال والجسم
____________________
(1/157)
وأحمد والشيخان إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه
والترمذي والحكيم والديلمي إذا أراد الله بعبد خيرا جعل غناه في نفسه وتقاه في قلبه وإذا أراد بعبد شرا جعل فقره بين عينيه
وابن لال إنما يكفي أحدكم ما قنعت به نفسه ثم يصير إلى أربعة أذرع في شبر أي القبر وإنما يرجع الأمر إلى الآخرة
وأحمد وابن عساكر إن أحبكم إلي وأقربكم مني من لقيني على مثل الحال التي فارقني عليها
والديلمي خير المؤمنين القانع وشرهم الطامع وابن شاهين وقال غريب وابن عساكر كان في بني إسرائيل جدي ترضعه أمه فترويه فأفلت فارتضع الغنم ثم لم يشبع فأوحى الله إليهم إن مثل هذا كمثل قوم يأتون من بعدكم يعطى الرجل منهم ما يكفي الأمة والقبيلة ثم لا يشبع
وتمام شرار أمتي أول من يساق إلى النار الأقماع من أمتي الذين إذا أكلوا لم يشبعوا وإذا جمعوا لم يستغنوا
وأبو نعيم من سخط رزقه وبث شكواه ولم يصبر لم يصعد له إلى الله عمل ولقي الله تعالى وهو عليه غضبان
____________________
(1/158)
وأبو يعلى والخطيب وابن عساكر من قل ماله وكثر عياله وحسنت صلاته ولم يغتب المسلمين جاء يوم القيامة وهو معي كهاتين
والترمذي وابن سعد والحاكم وصححه لكن تعقب يا عائشة إذا أردت اللحوق بي فليكفك من الدنيا كزاد الراكب وإياك ومجالسة الأغنياء ولا تستخلقي ثوبا حتى ترقعيه
وابن عساكر إن الله عز وجل يقول أحب عبادة عبدي إلي النصيحة
وأحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وأبو عوانة وابنا خزيمة وحبان والبغوي والبارودي وابن قانع وأبو نعيم والبيهقي عن تميم الداري والترمذي وحسنه النسائي والدارقطني عن أبي هريرة وأحمد والطبراني عن ابن عباس وابن عساكر عن ثوبان إن الدين النصيحة إن الدين النصيحة إن الدين النصيحة قالوا لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم
وابن النجار من جاء يوم القيامة بخمس لم يصد وجهه عن الجنة النصح لله ولدينه ولكتابه ولرسوله ولجماعة المسلمين
وللدارقطني والديلمي لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما محض أخاه النصيحة فإذا حاد عن ذلك سلب التوفيق
ومسلم والنسائي من قتل تحت راية حمية ينصر العصبية ويغضب للعصبية فقتلته جاهلية
وأبو داود ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية
____________________
(1/159)
والبيهقي من أسوأ الناس منزلة من أذهب آخرته بدنيا غيره
وفي رواية أنه أشر الناس ندامة وفي أخرى أنه أشر الناس منزلة يوم القيامة
والترمذي من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس
والبيهقي مرسلا ثلاث خلال من لم يكن فيه واحدة منهن كان الكلب خيرا منه ورع يحجزه عن محارم الله عز وجل أو حلم يرد به جهل جاهل أو حسن خلق يعيش به في الناس
وأبو الشيخ والطبراني ثلاث لازمات لأمتي سوء الظن والحسد والطيرة فإذا ظننت فلا تحقق وإذا حسدت فاستغفر الله وإذا تطيرت فامض
وفي رواية مرسلة ثلاث لم تسلم منها هذه الأمة الحسد والظن والطيرة ألا أنبئكم بالمخرج منها إذا ظننت فلا تحقق وإذا حسدت فلا تبغ وإذا تطيرت فامض
والبيهقي ثلاث ليس لأحد من الناس فيهن رخصة بر الوالدين مسلمين كانا أو كافرين والوفاء بالعهد لمسلم كان أو كافرا وأداء الأمانة إلى مسلم كان أو كافرا
وابن ماجه ثلاث أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه حقه
رواه أحمد والبخاري بمعناه
____________________
(1/160)
تنبيهات منها قد علم مما مر ومما هو مقرر معلوم أن الشيطان هو عدو الإنسان المبين وأن أشرف ما في الإنسان قلبه فهو أعني الشيطان لا يقنع من الإنسان بفساد ظاهره بل لا مقصد له بطريق الذات إلا فساد ذلك الأشرف فلذلك وجب وجوبا عينيا على كل مكلف حماية قلبه عن فساد الشيطان لكن لا يتوصل لذلك إلا بمعرفة مداخله وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به واجب فحينئذ تجب معرفة مداخله وهي صفات العبد وهي كثيرة من أعظمها الحسد والحرص فمهما كان العبد حريصا على شيء أعماه حرصه وأصمه
كما قال صلى الله عليه وسلم في الخبر السابق حبك الشيء يعمي ويصم
فنور البصيرة هو الذي يدرك تلك المداخل فإذا غطاه الحرص والحسد لم يبصر فحينئذ يجد الشيطان فرصة أي فرصة ومدخلا أي مدخل وقد روي أن نوحا وجده معه في السفينة فقال لم دخلت قال لأصيب قلوب أصحابك حتى يكونوا معي ولا يكون معك إلا أبدانهم قال اخرج منها يا عدو الله فإنك رجيم فقال إبليس خمس أهلك بهن الناس وسأحدثك بثلاث منها دون اثنتين
فأوحى الله تعالى لنوح صلى الله وسلم على نبينا وعليه مره يحدثك بالاثنتين ولا حاجة لك في الثلاث قال له ما الاثنتان فقال هما اللتان لا يكذباني هما اللتان لا يخلفاني بهما أهلك الناس الحرص والحسد بالحسد لعنت وجعلت شيطانا رجيما وبالحرص أصبت حاجتي من آدم لأنه أبيح له الجنة كلها إلا شجرة واحدة فلم يصبر عنها
ومن أعظمها أيضا الغضب والشهوة فبالغضب يضعف العقل فيلعب الشيطان بالغضبان كما يلعب الصبي بالكرة
وروي أن إبليس استشفع بموسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم إلى ربه أن يتوب عليه فشفع فقال يا موسى إن سجد لقبر آدم
فأعلمه فقال بعد أن أظهر الغضب لم أسجد له حيا فكيف أسجد له ميتا لكن لك علي حق شفاعتك اذكرني عند ثلاث لا أهلكك فيهن اذكرني حين تغضب فإني أجري منك مجرى الدم وحين تلقى الزحف فإني أذكر ابن آدم حينئذ ولده وزوجته وأهله حتى يولي وحين تجالس امرأة أجنبية فإني رسولها إليك ورسولك إليها
وقال له بعض الأنبياء بأي شيء تغلب ابن آدم قال آخذه عند الغضب وعند الهوى وقيل له أي أخلاق بني آدم أعون لك قال الحدة أي المذمومة حتى لا ينافي ما مر في مدحها إن العبد إذا كان حديدا قلبناه كما تقلب الصبيان الكرة
ومن أعظمها أيضا حب القلب زينة الحياة الدنيا وما يرجع إليها فيبيض الشيطان فيه حينئذ ويفرخ ويفتح له من الملاهي والقواطع عن الله وآياته ورسوله وسنته ما يزين له
____________________
(1/161)
البقاء عليه إلى أن يأتيه الموت وهو على نقصه وغفلته وإنفاق نفائس أوقاته في البطالات فربما ختم الله له بسوء والعياذ بالله تعالى
ومن أعظمها محبة الأكل والشرب إذ الشبع ولو من حلال طيب يقوي الشهوات وهي أسلحة الشيطان ومن ثم رآه يحيى بن زكريا صلى الله على نبينا وعليهما وسلم ومعه معاليق من كل شيء فسأله عنها فقال هي الشهوات التي بها أصيب ابن آدم فقال هل لي فيها شيء فقال ربما شبعت فثقلناك عن الصلاة والذكر قال هل غير ذلك قال لا قال لله علي أن لا أملأ بطني من طعام أبدا قال إبليس ولله علي أن لا أنصح مسلما أبدا
ومن أعظمها أيضا الطمع
فإنه إذا غلب على قلب لم يزل الشيطان يحسن التزين والتصنع وللمطموع فيه بأنواع الرياء والتلبيس حتى يصير كأنه إلهه فلا يزال يتفكر في حبل التودد والتحبب إليه والتوصل إلى ذلك بكل ما رضيه وإن أغضب الله كالمداهنة له بإقراره على فعل محرم
ومنها العجلة وترك التثبيت في الأمور لقوله تعالى وكان الإنسان عجولا وفي الحديث العجلة من الشيطان والتأني من الله وإنما كانت العجلة من الشيطان لأنه عندها يروج شره على الإنسان من حيث لا يشعر بخلاف من تمهل وتروى عند الإقدام على عمل يريده فإنه تحصل له بصيرة به ومتى لم تحصل تلك البصيرة فلا ينبغي الاستعجال اللهم إلا في واجب فوري فهذا لا مساغ للتمهل فيه ومن أعظمها المال إذا ما زاد على الحاجة والقوت فهو مستقر الشيطان فإن من ليس معه ذلك الزائد قلبه فارغ فلو وجد مائة دينار بطريق انبعث من قلبه عشر شهوات كل شهوة منها تحتاج إلى مائة دينار فيحتاج إلى تسعمائة أخرى وقد كان قبل ظفره بالمائة مستغنيا فلما وجد المائة ظن أنه استغنى وقد بان له أنه صار محتاجا لتسعمائة لشراء دار وأمة وأثاث وكل شيء من ذلك يستدعي شيئا آخر يليق به وذلك لا آخر له فيقع في هاوية لا آخر لها إلا قعر جهنم ولما ضجرت شياطين إبليس من عدم ظفرهم من الصحابة رضوان الله عليهم بشيء وشكوا إليه قال لهم رويدا عسى تفتح لهم الدنيا فتصيبوا حاجتكم منهم
ومنها البخل وخوف الفقر فإنه يمنع من التصدق والإنفاق في وجوه الخيرات ويأمر بالإمساك والتقتير والكنز وعذاب الله الأليم هو الموعد للكانزين كما نطق به القرآن
____________________
(1/162)
العزيز
قال أبو سفيان للشيطان سلاح مثل خوف الفقر فإذا قبل منه أخذ في الباطل وتكلم بالهوى وظن بربه السوء
ومن آفات البخل الحرص على ملازمة الأسواق لجمع المال وهي معشش الشيطان
وفي الحديث لما نزل إبليس إلى الأرض قال يا رب اجعل لي بيتا
قال الحمام قال اجعل لي مجلسا
قال الأسواق
قال اجعل لي مؤذنا
قال المزامير
قال اجعل لي طعاما
قال ما لا يذكر اسم الله عليه
قال اجعل لي قرآنا
قال الشعر
قال اجعل لي حديثا
قال الكذب
قال اجعل لي مصائد
قال النساء
ومنها التعصب للمذاهب والأهواء والحقد على الخصوم والنظر إليهم بعين الازدراء والاحتقار وذلك مما يهلك العباد والعلماء فضلا عن غيرهم فإن الاشتغال بالطعن في الناس وذكر نقائصهم مما جبل عليهم الطبع فإذا خيل الشيطان إليه أن ذلك هو الحق زاد فيه واستكثر وحلا له وفرح به ظنا منه أنه يسعى في الدين وما هو إلا ساع في اتباع الشيطان دون اتباع المتعصب له من الصحابة أو من بعدهم ولو اعتنى بصلاح نفسه وكان على نحو أخلاق من تعصب له لكان ذلك هو الأولى له والأحرى به وظن أن التعصب له بنقص الناس واحتقارهم بحبه إليه كاذب فإنه لو كان حيا لم يتعصب لنفسه وعفا عمن سفه عليه فاتباعه أولى بذلك منه وكل من تعصب لإمام ولم يسر على سيرته فذلك الإمام هو خصمه ومن جملة الموبخين له وقد قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة وهي بضعة منه اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئا
فعليك أن تصلح باطنك وظاهرك ولا تشتغل بغيرك إلا حيث كلفك الشرع بذلك كأن تأمر بمعروف وتنهى عن منكر بعد استيفائك لشروطه الشرعية
ومنها حمل العوام ومن لم يمارس العلوم على التفكر في ذات الله وصفاته وفي أمور لا تبلغها عقولهم وهذا مضلة لهم لأنهم يتشككون به في أصول الدين بل ربما تخيلوا في الله تعالى ما هو متعال عنه فيصير به كافرا أو مبتدعا وهو به فرح مسرور لغلبة حمقه وقلة عقله وأشد الناس حماقة أقواهم اعتقادا في نفسه وأثبتهم عقلا أشدهم اتهاما لنفسه وظنه وأحرصهم على السؤال من العلماء العاملين والأئمة المهديين
ومنها سوء الظن بالمسلمين
قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا
____________________
(1/163)
من الظن ومن حكم بشر على غيره بمجرد الظن حمله الشيطان على احتقاره وعدم القيام بحقوقه والتواني في إكرامه وإطالة اللسان في عرضه وكل هذه مهلكات
وقد قال صلى الله عليه وسلم لمن أبصره يكلم زوجته صفية إنها أمكما فتطورا لذلك فقال إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا فأشفق عليهما فحرسهما وعلى أمته فعلمهم طريق الاحتراز من التهمة حتى لا يتساهل العالم الورع في أحواله ظنا منه أنه لا يظن به إلا الخير إعجابا منه بنفسه وهي زلة عظيمة إذ أورع الناس وأتقاهم وأعلمهم لا بد له من منقص ومبغض فتعين الاحتراز عن تهمة الأعداء والأشرار فإنهم لا يظنون بالناس كلهم إلا الشر وكل من رأيته سيئ الظن بالناس طالبا لإظهار معايبهم
فاعلم أن ذلك لخبث باطنه وسوء طويته فإن المؤمن يطلب المعاذير لسلامة باطنه والمنافق يطلب العيوب لخبث باطنه فهذه بعض مداخل الشيطان إلى القلب وفيها تنبيه على باقيها
وبالجملة فليس في الآدمي صفة مذمومة إلا وهي سلاح الشيطان وبها يستعين على إضلاله وإغوائه فالجأ إلى الله وفر إليه من مكائده لعل أن ينجيك منها برحمته واتخذ الذكر سميرا وتذكر الآخرة معينا وظهيرا ودم على ذلك تحفظ إن شاء الله من سائر تلك المهالك
ومنها إذا تأملت ما قررنا واتضح من جميع ما ذكرناه لك عظيم ضرر أكثر تلك الكبائر التي سردناها عن ذلك الإمام وأن ذلك ليس من تفرده بل أخذه من كلمات الأئمة والعلماء الأعلام فاحذر أن يكون بقلبك أو بباطنك شيء من تلك الكبائر فإنها تفسد منك الباطن بل والظاهر
ومنها أن جميع تلك الكبائر يرجع فعلها إلى سوء الخلق وتركها إلى حسن الخلق وحسنه يرجع إلى اعتدال قوة العقل بكمال الحكمة وإلى اعتدال القوة الغضبية والشهوية وإطاعة كل منها للعقل مع الشرع ثم هذا الاعتدال إما أن يكون بجود إلهي وكمال فطري وإما أن يكون باكتساب أسبابه من المجاهدة والرياضة بأن يحمل نفسه على كل عمل يوجب حسن خلقها ويضاد سوء طويتها إذ هي لا تألف ربها ولا تأنس بذكره إلا إذا فطمت عن عادتها وحفظت عن شهواتها بالخلوة والعزلة أولا ليحفظ السمع والبصر عن المألوفات ثم بإدمان الذكر والدعاء في تلك الخلوة إلى أن يغلب عليه الأنس بالله وبذكره فحينئذ يتنعم به في نهايته وإن شق عليه في بدايته وربما ظن من جاهد نفسه
____________________
(1/164)
أدنى مجاهدة بترك فواحش المعاصي أنه قد هذبها وحسن خلقها وأنى له بذلك ولم توجد فيه صفات الكاملين ولا أخلاق المؤمنين قال الله تعالى إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا إلى أن قال أولئك هم المؤمنون حقا وقال تعالى قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون إلى أن قال أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون وقال تعالى التائبون العابدون إلى وبشر المؤمنين وقال عز وجل وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا إلى آخر السورة
فمن أشكل عليه حال نفسه فليعرضها على هذه الآيات ونظائرها فوجود جميع هذه الصفات علامة حسن الخلق وفقد جميعها علامة سوء الخلق ووجود البعض يدل على البعض
وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى مجامع محاسن الأخلاق بقوله المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويأمره بإكرام الضيف والجار وبأن المؤمن إما أن يقول خيرا أو يصمت وبما جاء إذا رأيتم المؤمن صموتا وقورا فادنوا منه فإنه يلقي الحكمة
لا يحل لمسلم أن يشير إلى أخيه بنظر يؤذيه
لا يحل لمسلم أن يروع مسلما
إنما يتجالس المتجالسان بأمانة الله فلا يحل لأحدهما أن يفشي على أخيه ما يكره
وجمع بعضهم علامات حسن الخلق فقال أن يكون كثير الحياء قليل الأذى كثير الصلاح صدوق اللسان قليل الكلام كثير العمل قليل الفضول قليل
____________________
(1/165)
الزلل وهو بر وصول وقور صبور رضي شكور حليم رفيق عفيف شفيق لا لماز ولا سباب ولا نمام ولا مغتاب ولا عجول ولا حقود ولا بخيل ولا حسود هشاش بشاش يحب في الله ويبغض في الله ويرضى في الله ويغضب في الله فهذا هو حسن الخلق
وفقنا الله تعالى للتحلي بمعاليه وأدام علينا سوابغ أفضاله وموانح قربه والاندراج في سلك أوليائه وأحبائه ومواليه آمين
الأمن من مكر الله بالاسترسال في المعاصي مع الاتكال على الرحمة قال تعالى فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون وقال تعالى وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين
وفي الحديث إذا رأيتم الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته
فإنما ذلك منه استدراج
ثم تلا قوله تعالى فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون أي آيسون من النجاة وكل خير سديد ولهم الحسرة والحزن والخزي لاغترارهم بترادف النعمة عليهم مع مقابلتهم لها بمزيد الإعراض والإدبار
ومن ثم قال الحسن من وسع الله عليه فلم ير أنه مكر به فلا عقل له وقال في قوم لم يشكروا مكر بهم ورب الكعبة أعطوا حاجتهم ثم أخذوا
وفي الأثر لما مكر بإبليس بكى جبريل وميكائيل فقال الله عز وجل لهما وما يبكيكما قالا ربنا ما أمنا من مكرك فقال تعالى هكذا كونا لا تأمنا مكري ومن ثم كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك وفي رواية فقالوا يا رسول الله أتخاف قال إن القلب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء
أي بين مظهري إرادته الخير والشر فهو يصرفها أسرع من ممر الريح على اختلاف في القبول والرد والإرادة والكراهة وغير ذلك من الأوصاف
وفي التنزيل واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه أي بينه
____________________
(1/166)
وبين عقله حتى لا يدري ما يصنع قاله مجاهد ويؤيده قوله تعالى إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أي عقل
واختار الطبراني أن معنى تلك الإحالة إعلام العباد بأنه أملك لقلوبهم منهم وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء حتى لا يدرك أحد شيئا إلا بمشيئته تعالى
ولما كان صلى الله عليه وسلم يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قالت له عائشة رضي الله عنها يا رسول الله إنك تكثر أن تدعو بهذا الدعاء فهل تخشى قال وما يؤمنني يا عائشة وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن إذا أراد أن يقلب قلب عبده قلبه
وقد أثنى تعالى على الراسخين في العلم بقولهم ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب
واعلم أن في هذه الآية دلالة ظاهرة وحجة واضحة لرد ما عليه المعتزلة والحقيقة ما عليه أهل السنة من أن الزيغ والهداية بخلق الله وإرادته وبيانه أن القلب صالح للميل إلى الخير وإلى الشر وإلى الإيمان وإلى الكفر ومحال أن يميل إلى أحدهما بدون داعية بل لا بد في ميله لذلك من حدوث داعية وإرادة يحدثها الله تعالى فإن كان داعية الكفر فهو الخذلان والإزاغة والصد والختم والطبع والرين والقسوة والوقر والكنان وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن وإن كان داعية الإيمان فهو التوفيق والإرشاد والهداية والتسديد والتثبيت والعصمة وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن
ثم المراد بالأصبعين في الحديث السابق وفيما روي قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن إذا شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه هما الداعيتان المذكورتان فتأمل ذلك
ومما يحذرك أيضا من أمن المكر استحضارك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها
وفي حديث البخاري إن العبد ليعمل بعمل أهل النار وإنه من أهل الجنة ويعمل الرجل بعمل أهل الجنة وإنه من أهل النار وإنما الأعمال بالخواتيم
ولا يتكل على ذلك فإن الصحابة رضوان الله عليهم لما قالوا عند سماع ذلك ففيم العمل يا
____________________
(1/167)
رسول الله أفلا نتكل على كتاب أعمالنا قال لهم بلى اعملوا فكل ميسر لما خلق له ثم قرأ فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى وتأمل أيضا ما قصه الله علينا من قصة بلعام عالم بني إسرائيل حيث أمن المكر فقنع بالفاني من حطام الدنيا عن الباقي من نعيم الجنة فأطاع هواه وقيل ما بذل له على أن يدعو على موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم فأدلع لسانه على صدره وصار يلهث كالكلب وسلبه الله الإيمان والعلم والمعرفة وكذلك برصيصا العابد مات بعد عبادته التي لا تطاق على الكفر
وكان ابن السقاء ببغداد من مشاهيرها فضلا وذكاء وقع له مع بعض الأولياء أنه أنكر عليه فدعا عليه فانتقل به الحال إلى القسطنطينية فهوى امرأة فتنصر لأجلها ثم مرض فألقي على الطريق يسأل فمر به بعض من يعرفه فسأله عن حاله فحكى له فتنته وأنه تنصر والآن يريد أن يستحضر حرفا واحدا من القرآن فلا يقدر عليه ولا يمر بخاطره قال ذلك الرائي له فمررت عليه بعد قليل فرأيته محتضرا ووجهه إلى الشرق فصرت كلما أدرت وجهه إلى القبلة التفت للشرق ولا زال كذلك حتى خرجت روحه
وكان بمصر مؤذن عليه سيما الصلاح فرأى نصرانية من المنارة فافتتن بها فذهب إليها فامتنعت أن تجيبه لريبة فقال النكاح فقالت أنت مسلم ولا يرضى أبي فقال إنه يتنصر فقالت الآن يجيبك فتنصر ووعدوه أن يدخلوه عليها ففي أثناء ذلك اليوم رقي سطحا لحاجة فزلت قدمه فوقع ميتا فلا هو بدينه ولا هو بها
فنعوذ بالله من مكره ونعوذ به منه وبمعافاته من عقوبته وبرضاه من سخطه
ومن ثم قال العلماء إذا كانت الهداية مصروفة والاستقامة على مشيئته موقوفة والعاقبة مغيبة والإرادة غير معلومة ولا مغالبة فلا تعجب بإيمانك وصلاتك وجميع قربك فإنها من محض فضل ربك وجوده فربما سلبها عنك فوقعت في هوة الندم حيث لا ينفع الندم
تنبيه عد ذلك كبيرة هو ما أطبقوا عليه لما علمت من الوعيد الشديد الذي فيه بل
____________________
(1/168)
جاء تسميته أكبر الكبائر وروى ابن أبي حاتم في تفسيره والبزار عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم سئل ما الكبائر فقال الشرك بالله والإياس من روح الله والأمن من مكر الله وهذا أكبر الكبائر
قيل والأشبه أن يكون موقوفا وبكونه أكبر الكبائر صرح ابن مسعود كما رواه عبد الرزاق والطبراني
واعلم أن حقيقة المكر مستحيلة على الله سبحانه وتعالى
وأما قوله عز قائلا ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين فهو من باب المقابلة على حد وجزاء سيئة سيئة مثلها تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك قيل ومعنى المقابلة أنه لا يجوز أن يوصف تعالى بالمكر إلا لأجل ما ذكر معه من لفظ آخر مسند لمن يليق به انتهى
ورد بأنه جاء وصفه تعالى به من غير مقابلة في قوله تعالى أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله على أن المكر ربما يصح اتصافه تعالى به إذ هو لغة الستر يقال مكر الليل أي ستر بظلمته ما هو فيه ويطلق أيضا على الاحتيال والخداع والخبث وبهذا الاعتبار عبر عنه بعض اللغويين بأنه السعي بالفساد وبعضهم بأنه صرف الغير عما يقصد بحيلة وهذا الأخير إما محمود بأن يتحيل في أن يصرفه إلى خير وعليه يحمل قوله تعالى والله خير الماكرين وإما مذموم بأن يتحيل به في أن يصرفه إلى شر ومنه ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله
الكبيرة الأربعون اليأس من رحمة الله قال تعالى إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون
وقال تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وقال تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم
وقال تعالى ورحمتي وسعت كل شيء
وفي الحديث إن لله مائة رحمة كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الطير والوحوش على أولادها وأخر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة
____________________
(1/169)
وأخرج الترمذي وحسنه
عن أنس رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله تعالى يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك يا ابن آدم لو أتيتني بقرابة الأرض بضم القاف ويجوز كسرها أي قريب ملئها خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة
وعن أنس بسند حسن أنه صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال كيف تجدك قال أرجو الله يا رسول الله وإني أخاف ذنوبي فقال صلى الله عليه وسلم لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف
وأخرج أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال إن شئتم أنبأتكم ما أول ما يقول الله عز وجل للمؤمنين يوم القيامة وما أول ما يقولون له قلنا نعم يا رسول الله
قال إن الله عز وجل يقول للمؤمنين هل أحببتم لقائي فيقولون نعم يا ربنا
فيقول لم فيقولون رجونا عفوك ومغفرتك فيقول قد وجبت لكم مغفرتي
والشيخان قال الله عز وجل أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني الحديث
وأبو داود وابن حبان في صحيحه حسن الظن من حسن العبادة
والترمذي والحاكم إن حسن الظن بالله من حسن العبادة
ومسلم وغيره عن جابر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل
____________________
(1/170)
وأحمد وابن حبان في صحيحه والبيهقي قال الله جل وعلا أنا عند ظن عبدي بي إن ظن خيرا فله وإن ظن شرا فله
والبيهقي أمر الله عز وجل بعبد إلى النار فلما وقف على شفيرها التفت فقال أما والله يا رب إن كان ظني بك لحسنا فقال الله عز وجل ردوه أنا عند ظن عبدي بي
والبغوي إن أفضل العبادات حسن الظن بالله عز وجل يقول الله لعباده أنا عند ظنك بي
تنبيه عد هذا كبيرة هو ما أطبقوا عليه وهو ظاهر لما فيه من الوعيد الشديد الذي علمته مما ذكر بل في الحديث الذي مر آنفا التصريح بأنه من الكبائر بل جاء عن ابن مسعود أنه أكبر الكبائر
الكبيرة الحادية والأربعون والثانية والأربعون سوء الظن بالله تعالى والقنوط من رحمته أخرج الديلمي وابن ماجه في تفسيره أنه صلى الله عليه وسلم قال أكبر الكبائر سوء الظن بالله عز وجل
وقال عز قائلا ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون
تنبيه عد هذين كبيرتين مغايرتين لليأس من رحمة الله هو ما وقع للجلال البلقيني وغيره وكأنهم لم ينظروا إلى ما بين الثلاثة من التلازم ومن ثم قال أبو زرعة في معنى الإياس القنوط والظاهر أنه أبلغ منه للترقي إليه في قوله تعالى وإن مسه الشر فيئوس قنوط انتهى والظاهر أيضا أن سوء الظن أبلغ منهما لأنه يأس وقنوط وزيادة لتجويزه على الله تعالى أشياء لا تليق بكرمه وجوده
وفي تفسير ابن المنذر عن علي كرم الله وجهه قال أكبر الكبائر الأمن من مكر الله واليأس من روح الله والقنوط من رحمة الله وفي تفسير ابن جرير عن أبي سعيد نحوه
____________________
(1/171)
فإن قلت ينافي هذا إطباق أئمتنا على أن تحسين الظن بالله تعالى مندوب للمريض واختلفوا في الصحيح فقيل الأولى له تغليب خوفه على رجائه
والذي رجحه النووي في شرحه على المهذب الأولى له استواؤهما
وقال الغزالي إن أمن داء القنوط فالرجاء أولى أو أمن المكر فالخوف أولى
قلت الكلام في مقامين أحدهما شخص يجوز وقوع الرحمة له والعذاب فهذا هو الذي تعرض له الفقهاء فإن كان مريضا ندب له تغليب جانب الرجاء وإن كان صحيحا اختلفوا فيه كما رأيت
ثانيهما شخص أيس من وقوع شيء من أنواع الرحمة له مع إسلامه وهذا هو الذي كلامنا هنا فيه فهذا اليأس كبيرة اتفاقا لأنه يستلزم تكذيب النصوص القطعية التي أشرنا إليها ثم هذا اليأس قد ينضم إليه حالة هي أشد منه وهي التصميم على عدم وقوع الرحمة له وهو القنوط بحسب ما دل عليه سياق فهو يئوس قنوط
وتارة ينضم إليه أنه مع عدم وقوع رحمته له يشدد عذابه كالكفار وهذا هو المراد بسوء الظن هنا فتأمل ذلك فإنه مهم
الكبيرة الثالثة والأربعون تعلم العلم للدنيا أخرج أبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه على شرط الشيخين أنه صلى الله عليه وسلم قال من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله تعالى لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة
ومر في مبحث الرياء حديث مسلم وغيره وفيه ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت ليقال عالم وقرأت ليقال قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار
والترمذي وقال حديث غريب وابن أبي الدنيا والحاكم شاهدا والبيهقي من تعلم العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار
____________________
(1/172)
وابن ماجه بلفظ من طلب العلم ليماري به أو ليباهي به العلماء أو ليصرف وجوه الناس إليه فهو في النار
وبلفظ من تعلم العلم ليباهي به العلماء ويماري به السفهاء ويصرف به وجوه الناس أدخله الله جهنم
وابن ماجه وحبان في صحيحه والبيهقي بسند فيه من احتج به الشيخان وغيرهما ولا التفات لمن شذ فيه لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا لتماروا به السفهاء ولا تحبروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار النار
وصح بسند فيه انقطاع
من تعلم العلم لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار
وابن ماجه بسند رواته ثقات إن أناسا من أمتي سيتفقهون في الدين ويقرءون القرآن ويقولون نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم ونعتزلهم بديننا ولا يكون ذلك إلا كما لا يجتنى من القتاد إلا الشوك كذلك لا يجتنى من قربهم لا كما قال ابن الصباح كأنه يعني الخطايا
وأبو داود من تعلم صرف الكلام ليسبي به قلوب الرجال أو الناس لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا
قال الحافظ المنذري ويشبه أن يكون فيه انقطاع
وعبد الرزاق عن ابن مسعود موقوفا كيف بكم إذا أتتكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير وتتخذ سنة فإن غيرت يوما قيل هذا منكر
قالوا ومتى ذلك قال إذا قلت أمناؤكم وكثرت أمراؤكم وقلت فقهاؤكم وكثرت قراؤكم وتفقه لغير الله والتمست الدنيا بعمل الآخرة
وروي موقوفا أيضا أن عليا ذكر فتنا تكون فقال له عمر رضي الله عنهما متى ذلك يا علي قال إذا تفقه لغير الدين وتعلم العلم لغير العمل والتمس الدنيا بعمل الآخرة
____________________
(1/173)
تنبيه عد هذا كبيرة غير الرياء السابق هو ما وقع في كلام غير واحد من المتأخرين وكأنهم نظروا إلى ما في هذا من الوعيد الشديد الخاص فأفردوه لذلك ولم ينظروا إلى أن تلك تشمل هذه وغيرها فبينهما عموم وخصوص مطلق
الكبيرة الرابعة والأربعون كتم العلم قال تعالى إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون
قال ابن عباس وجماعة نزلت في اليهود والنصارى وقيل في اليهود لكتمهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم التي في التوراة وقيل إنها عامة وهو الصواب لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ولأن ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية وكتمان الدين يناسب استحقاق اللعن فوجب عموم الحكم عند عموم الوصف وقد صرح جمع من الصحابة بالعموم كعائشة فإنها استدلت بالآية على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكتم شيئا مما أوحي إليه وأبي هريرة فإنه احتج بأنه لولا هذه الآية ونحوها ما كثر الحديث والكتم ترك إظهار الشيء المحتاج إلى إظهاره ونظيرها إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار ونظيرها أيضا وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون فهاتان وإن كانتا في اليهود أيضا لكتمهم صفته صلى الله عليه وسلم وغيرها إلا أن العبرة بعموم اللفظ كما تقرر والبينات ما أنزل على الأنبياء من الكتب والوحي
والهدى الأدلة النقلية والعقلية ومن بعد ظرف ليكتمون لا لأنزلنا لفساد المعنى
قيل وفي الآية دلالة على أن من أمكنه بيان أصول الدين بالدلائل العقلية لمن كان محتاجا إليها ثم تركها أو كتم شيئا من أحكام الشرع مع الحاجة إليه فقد لحقه هذا الوعيد انتهى واللعنة لغة الإبعاد وشرعا الإبعاد من الرحمة اللاعنون دواب الأرض وهوامها تقول منعنا القطر لمعاصي بني آدم ولإدراكها ذلك جمعت بالواو والنون جمع من يعقل نحو رأيتهم لي ساجدين في فلك يسبحون أعناقهم لها خاضعين كل شيء إلا الجن والإنس المؤمنين كلهم الملائكة والأنبياء والأولياء أقوال
وصوب الزجاج أنهم الملائكة والمؤمنون
ورد الأول بأنه يتوقف على نص ولم يوجد ورده القرطبي بأنه
____________________
(1/174)
جاء به خبر في ابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم فسر اللاعنون بدواب الأرض وقال الحسن هم جميع عباد الله
قال بعض المفسرين دلت الآية على أن هذا الكتمان من الكبائر لأنه تعالى أوجب فيه اللعن والنبذ وراء الظهر كناية عن الإعراض الشديد والثمن القليل ما كانوا يأخذونه من سفلتهم برئاستهم في العلم فبئس ما يشترون معناه قبح شراؤهم وخسروا فيه
وجاء في الكتم أحاديث كثيرة في السنة
أخرج أبو داود والترمذي وحسنه وابنا ماجه وحبان في صحيحه والبيهقي والحاكم بنحوه وقال صحيح على شرط الشيخين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار
وفي رواية صحيحة لابن ماجه ما من رجل يحفظ علما فيكتمه إلا أتي يوم القيامة ملجما بلجام من نار
وأبو يعلى بسند صحيح من سئل عن علم فكتمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار ومن قال في القرآن بغير ما يعلم جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار
والطبراني شطره الأول بسند جيد
قال الحافظ المنذري وخبر من كتم علما ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار وروي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم كجابر وأنس وابني عمر ومسعود وعمرو بن عنبسة وعلي بن طلق وغيرهم وأبي سعيد الخدري بزيادة مما ينفع الله به في أمر الناس في الدين
وابن ماجه وفيه انقطاع إذا لعن آخر هذه الأمة أولها فمن كتم حديثا فقد كتم ما أنزل الله
____________________
(1/175)
والطبراني بإسناد فيه ابن أبي لهيعة مثل الذي يتعلم العلم ثم لا يحدث به كمثل الذي يكنز الكنز ثم لا ينفق منه
والطبراني بسند رواته ثقات إلا واحدا اختلف فيه ناصحوا في العلم فإن خيانة أحدكم في علمه أشد من خيانته في ماله وإن الله عز وجل مسائلكم
والطبراني في الكبير عن بكير بن معروف عن علقمة بن سعد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خطبة فأثنى على طوائف من المسلمين خيرا ثم قال ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم ولا يعلمونهم ولا يأمرونهم ولا ينهونهم وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتعظون والله ليعلمن قوم جيرانهم ويفقهونهم ويعظونهم ويأمرونهم وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتفقهون ويتعظون أو لأعاجلنهم العقوبة ثم نزل فقال قوم من ترون عنى بهؤلاء قالوا الأشعريين هم قوم فقهاء ولهم جيران جفاة من أهل المياه والأعراب فبلغ ذلك الأشعريين فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله ذكرت بخير وذكرتنا بشر فما بالنا فقال ليعلمن قوم جيرانهم وليفقهنهم وليعظنهم وليأمرنهم ولينهوهم وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتفقهون ويتعظون أو لأعاجلنهم العقوبة في الدنيا فقالوا يا رسول الله أنعظ غيرنا فأعاد قوله عليهم وأعادوا قولهم أنعظ غيرنا فقال ذلك أيضا فقالوا أمهلنا سنة فأمهلهم سنة ليفقهوهم ويعلموهم ويعظوهم ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون الآية
تنبيه عد هذه كبيرة هو ما صرح به غير واحد من المتأخرين وكأنهم نظروا إلى ما ذكرته من هذا الوعيد الشديد فيه وليس ذلك على إطلاقه فإن الكتم قد يجب والإظهار قد يجب وقد يندب ففيما لا يحتمله عقل الطالب ويخشى عليه من إعلامه به فتنة يجب الكتم عنه وفي غيره إن وقع وهو فرض عين أو في حكمه وجب الإعلام وإلا ندب ما لم يكن وسيلة لمحظور
____________________
(1/176)
والحاصل أن التعليم وسيلة إلى العلم فيجب في الواجب عينا في العين وكفاية فيما هو على الكفاية ويندب في المندوب كالعروض ويحرم في الحرام كالسحر والشعبذة
قال بعض المفسرين لا يجوز تعليم الكافر قرآنا ولا علما حتى يسلم ولا تعليم المبتدع الجدل والحجاج ليحاج به أهل الحق ولا تعليم الخصم على خصمه حجة يقتطع بها ماله ولا السلطان تأويلا يتطرق به إلى إضرار الرعية ولا نشر الرخص في السفهاء يتخذونها طريقا لارتكاب المحظورات وترك الواجبات
قال صلى الله عليه وسلم لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ولا تضعوها في غير أهلها فتظلموها
وقال صلى الله عليه وسلم لا تعلقوا الدر في أعناق الخنازير يريد تعليم الفقه من ليس من أهله انتهى
وما ذكره من الأحكام على الكافر بعيد من قواعدنا لأن المرجو إسلامه يجوز تعليمه القرآن عندنا فأولى العلم والحديثان اللذان ذكرهما واردان وروى ابن ماجه وغيره طلب العلم فريضة على كل مسلم وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب
الكبيرة الخامسة والأربعون عدم العمل بالعلم أخرج مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها
والشيخان يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون يا فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر فيقول كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن الشر وآتيه
____________________
(1/177)
والطبراني وأبو نعيم وقال غريب الزبانية أسرع إلى فسقة القراء منهم إلى عبدة الأوثان فيقولون يبدأ بنا قبل عبدة الأوثان فيقال لهم ليس من يعلم كمن لا يعلم
قال الحافظ المنذري ولهذا الحديث مع غرابته شاهد صحيح وهو ما في الحديث السابق في مبحث الرياء أول من يدعى يوم القيامة رجل جمع القرآن ليقال له قارئ وفي آخره أولئك الثلاثة نفر أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة
والترمذي وقال إسناده ليس بالقوي ما آمن بالقرآن من استحل محارمه
والترمذي وقال حسن صحيح لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه وعن علمه فيم فعل وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه
والترمذي بسند حسن في المتابعات لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس عن عمره فيم أفناه وعن شبابه فيم أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وماذا عمل فيما علم
والطبراني في الكبير إن أناسا من أهل الجنة ينطلقون إلى أناس من أهل النار فيقولون بم دخلتم النار فوالله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم فيقولون إنا كنا نقول ولا نفعل وابن أبي الدنيا والبيهقي مرسلا بإسناد جيد عن الحسن ما من عبد يخطب خطبة إلا الله عز وجل سائله عنها أظنه قال ما أراد بها
____________________
(1/178)
قال جعفر كان مالك بن دينار إذا حدث بهذا الحديث بكى حتى ينقطع ثم يقول تحسبون أن عيني تقر بكلامي عليكم وأنا أعلم أن الله عز وجل سائلي عنه يوم القيامة ما أردت به
والبزار وهو غريب يا رسول الله أي الناس شر فقال صلى الله عليه وسلم اللهم اغفر سل عن الخير ولا تسل عن الشر شرار الناس شرار العلماء
والطبراني بسند حسن مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه الحديث وفي رواية في سندها من تكلم فيه ابن حبان كل علم وبال على صاحبه إلا من عمل به
والطبراني والبيهقي أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه علمه
والبزار والطبراني عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حي من قيس أعلمهم شرائع الإسلام قال فإذا هم قوم كأنهم الإبل الوحشية طامحة أبصارهم ليس لهم هم إلا شاة أو بعير فانصرفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا عمار ما عملت فقصصت عليه قصة القوم وأخبرته بما فيهم من السهوة فقال يا عمار ألا أخبرك بأعجب منهم قوم علموا بما جهل أولئك ثم سهوا كسهوهم
والطبراني بسند فيه الأعور وثقه ابن حبان وغيره إني لا أتخوف على أمتي مؤمنا ولا مشركا فأما المؤمن فيحجزه إيمانه وأما المشرك فيقمعه كفره ولكن أتخوف عليكم منافقا عليم اللسان يقول ما تعرفون ويعمل ما تنكرون وصح إن أخوف ما
____________________
(1/179)
أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان
وصح عن ابن مسعود من قوله إني لأحسب الرجل ينسى العلم كما تعلمه للخطيئة يعملها
وأخرج أحمد والبيهقي عن منصور بن زاذان قال نبئت أن بعض من يلقى في النار يتأذى أهل النار بريحه فيقال له ويلك ما كنت تعمل ما يكفينا ما نحن فيه من الشر حتى ابتلينا بك وبنتن ريحك فيقول كنت عالما فلم أنتفع بعلمي
تنبيه عد هذا كبيرة هو ظاهر ما في هذه الأحاديث من الوعيد الشديد
فإن قلت التغليظ إنما جاء من حيث إنه ترك الواجبات أو فعل المحرمات لا من مجرد عدم العمل بالعلم ولو في المندوبات والمكروهات وحينئذ فلو سلم تصريحهم بأن ذلك كبيرة لم يحسن عده كبيرة مغايرة لنحو ترك الصلاة المكتوبة وغيرها مما يأتي
قلت يمكن أن يوجه عده وإن لم أر من صرح به بأن المعصية مع العلم أفحش منها مع الجهل كما دلت عليه أيضا تلك الأحاديث ونظير ذلك ما يأتي في المعصية بحرم مكة ونحوه من أن شرفه اقتضى فحش المعصية فيه وإن كانت صغيرة فكذلك العالم إذا أفحش في فعل الصغائر فلا بعد أن يكون ذلك منه كبيرة بواسطة ما أوتيه من تلك المعارف المقتضية لانزجاره عن المكروهات فضلا عن المحرمات
الكبيرة السادسة والأربعون الدعوى في العلم أو القرآن أو شيء من العبادات زهوا وافتخارا بغير حق ولا ضرورة أخرج الطبراني في الأوسط والبزار بإسناد لا بأس به عن عمر وأبو يعلى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يظهر الإسلام حتى تختلف التجار في البحر وحتى تخوض الخيل في سبيل الله ثم يظهر قوم يقرءون القرآن يقولون من أقرأ منا من أعلم منا من أفقه منا ثم قال لأصحابه هل في أولئك من خير قالوا الله ورسوله أعلم قال أولئك منكم وأولئك هم وقود النار
____________________
(1/180)
والطبراني في الكبير قال الحافظ المنذري وإسناده حسن إن شاء الله عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بمكة من الليل فقال اللهم هل بلغت ثلاث مرات فقام عمر رضي الله تعالى عنه وكان أواها
فقال اللهم نعم وحرضت وجهدت ونصحت
فقال ليظهرن الإيمان حتى يرد الكفر إلى مواطنه ولتخاض البحار بالإسلام وليأتين على الناس زمان يتعلمون فيه القرآن يتعلمونه ويقرءونه ثم يقولون قد قرأنا وعلمنا فمن ذا الذي هو خير منا فهل في أولئك من خير قالوا يا رسول الله ومن أولئك قال أولئك منكم وأولئك هم وقود النار
والطبراني من قال أنا عالم فهو جاهل
تنبيه عد هذا كبيرة بالقيود التي ذكرتها فيه هو ظاهر ما في هذه الأحاديث وليس ببعيد من قياس كلامهم لأنهم إذا عدوا إسبال نحو الإزار خيلاء كبيرة فأولى أن يعدوا هذا لأنه أقبح وأفحش وقياس سائر العبادات كالذي ذكرته ظاهر أيضا وقولي بغير حق ولا ضرورة احترزت به عما لو دخل بلدا لا يعرفون علمه وطاعته فله أن يذكر ذلك لهم قصدا لأن يقبلوا عليه وينتفعوا به ومنه نحو قول يوسف صلى الله عليه وسلم على نبينا وعليه الصلاة والسلام اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم وكذا لو أنكر علمه معاند أو جاهل فله أن يذكر علمه ويستدل عليه إرغاما لأنف ذلك الجاهل العنيد حتى يقبل الناس عليه وينتفعوا بعلومه
الكبيرة السابعة والأربعون إضاعة نحو العلماء والاستخفاف بهم أخرج الطبراني بسند حسنه الترمذي عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة لا يستخف بهم إلا منافق ذو الشيبة في الإسلام وذو العلم وإمام مقسط
____________________
(1/181)
وأحمد بإسناد حسن ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا
والترمذي ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا
والطبراني تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والوقار وتواضعوا لمن تعلمون منه
وأحمد بسند فيه ابن لهيعة اللهم لا يدركني زمان أو لا تدركوا زمانا لا يتبع فيه العليم ولا يستحيا فيه من الحليم قلوبهم قلوب الأعاجم وألسنتهم ألسنة العرب
وصح البركة مع أكابركم
وصح أيضا ليس منا من لم يوقر الكبير ويرحم الصغير ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر
وصح أيضا
ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا
تنبيه عد هذا كبيرة هو ظاهر ما في الحديث الأول وما بعده وليس ببعيد قياسا وإن لم يذكروه لأنهم إذا فرقوا بين نحو العلماء وغيرهم في الغيبة على ما يأتي فكذا يفرق بينهما في نحو الاستخفاف وسيأتي قريبا في أذية الأولياء ما هو صريح في هذا إذ الأولياء في الحقيقة هم العلماء العاملون
____________________
(1/182)
خاتمة في سرد أحاديث صحيحة أو حسنة تتعلق بالعلم قال صلى الله عليه وسلم من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين
إذا أراد الله بعبد خيرا فقهه في الدين وألهمه رشده
أفضل العبادة الفقه وأفضل الدين الورع
وفي حديث سنده مختلف فيه والجمهور على قبوله
فضل العلم خير من فضل العبادة وخير دينكم الورع ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء
وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ أوفر ووقع للناس في هذا الحديث اختلاف كثير
قال صفوان بن عسال يا رسول الله جئت أطلب العلم قال مرحبا بطالب العلم إن طالب العلم لتحفه الملائكة بأجنحتها ثم يركب بعضهم بعضا حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب
يا أبا ذر لأن تغدو فتعلم آية من كتاب الله خير لك من أن تصلي مائة ركعة ولأن تغدو فتعلم بابا من العلم عمل به أو لم يعمل به خير لك من أن تصلي ألف ركعة
الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما ومتعلما
إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما
____________________
(1/183)
نشره أو ولدا صالحا تركه أو مصحفا ورثه أو مسجدا بناه أو بيتا لابن السبيل بناه أو نهرا أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته وتلحقه من بعد موته
خير ما يخلف الرجل من بعده ثلاث ولد صالح يدعو له وصدقة تجري يبلغه أجرها وعلم يعمل به من بعده
علماء هذه الأمة رجلان رجل آتاه الله علما فبذله للناس ولم يأخذ عليه طمعا ولم يشتر به ثمنا فذلك يستغفر له حيتان البحر ودواب البر والطير في جو السماء ورجل آتاه علما فبخل به عن عباد الله وأخذ عليه طمعا واشترى به ثمنا فذلك يلجم يوم القيامة بلجام من نار وينادي مناد هذا الذي آتاه علما فبخل به عن عباد الله وأخذ عليه طمعا واشترى به ثمنا وكذلك حتى يفرغ الحساب
فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم
إن الله وملائكته وأهل السموات وأهل الأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في الماء ليصلون على معلمي الناس الخير
يقول الله عز وجل للعلماء يوم القيامة إني لم أجعل علمي وحلمي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان فيكم ولا أبالي
وإضافة العلم والحلم اللذين فيهم إليه تعالى صريح في أنهم كانوا عاملين مخلصين
العلم علمان علم في القلب فذلك العلم النافع وعلم في اللسان فذلك حجة الله على ابن آدم
من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرا أو يعلمه كان له كأجر حاج تاما حجه
من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع
____________________
(1/184)
من غدا يريد العلم يتعلمه لله فتح الله له بابا إلى الجنة وفرشت له الملائكة أكتافها وصلت عليه ملائكة السموات وحيتان البحر
وللعالم من الفضل على العابد كفضل القمر ليلة البدر على أصغر كوكب في السماء
والعلماء ورثة الأنبياء
إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكنهم ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر
زاد البيهقي وموت العالم مصيبة لا تجبر وثلمة لا تسد وهو نجم طمس
موت قبيلة أيسر من موت عالم
نضر الله امرأ أي رزقه النضارة وهي النعمة والبهجة والحسن سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه ورب حامل فقه ليس بفقيه منه
ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم إخلاص العمل لله ومناصحة ولاة الأمر ولزوم الجماعة فإن دعوتهم لا تحبط
وفي رواية تحفظ من وراءهم
ومن كانت الدنيا نيته فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ومن كانت الآخرة نيته جمع الله أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة
من دل على خير فله مثل أجر فاعله أو قال عامله
الدال على الخير كفاعله والله يحب إغاثة اللهفان
من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه
لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا
____________________
(1/185)
الكبيرة الثامنة والتاسعة والأربعون تعمد الكذب على الله تعالى أو على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة قال الحسن هم الذين يقولون إن شئنا فعلنا وإن شئنا لم نفعل أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ولهذا الحديث طرق كثيرة صحيحة بلغت التواتر على أن معناه واقع قطعا لأنه إن لم يكذب عليه فواضح وإلا فقد كذب عليه به
ومسلم وغيره من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين
وأيضا إن كذبا علي ليس ككذب على أحد فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار
والطبراني اللهم ارحم خلفائي قلنا يا رسول الله ومن خلفاؤك قال الذين يأتون من بعدي يروون أحاديثي ويعلمونها الناس والطبراني عن واثلة إن من أكبر الكبائر أن يقول الرجل علي ما لم أقل
والطبراني في الكبير ما من قوم يجتمعون على كتاب الله يتعاطونه بينهم إلا كانوا أضيافا لله وإلا حفتهم الملائكة حتى يقوموا أو يخوضوا في حديث غيره وما من عالم يخرج في طلب علم مخافة أن يموت أو ينسخه مخافة أن يدرس إلا كان كالغادي الرائح في سبيل الله ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه
وفي هذا الحديث وأمثاله كحديث مسلم إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أي وهي الوقف أو علم ينتفع به أو ولد صالح أي مسلم
____________________
(1/186)
يدعو له
وكالأحاديث فيمن سن سنة حسنة أو سيئة بشرى عظيمة لمن نسخ علما نافعا وهي أنه يكون له أجره وأجر من قرأه أو نسخه أو عمل به من بعده ما بقي خطه والعمل به وإنذار عظيم لمن نسخ علما فيه إثم وهو أن عليه وزره ووزر من قرأه أو نسخه أو عمل به بعده ما بقي خطه والعمل به
تنبيه عد هذين كبيرتين هو ما صرحوا به وهو ظاهر بل قال الشيخ أبو محمد الجويني إن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم كفر
وقال بعض المتأخرين وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الكذب على الله ورسوله كفر يخرج عن الملة ولا ريب أن تعمد الكذب على الله ورسوله في تحليل حرام أو تحريم حلال كفر محض وإنما الكلام في الكذب عليهما فيما سوى ذلك
وقال الجلال البلقيني جاء الوعيد في أحاديث كثيرة بأن من كذب عليه متعمدا فليتبوأ مقعده من النار
وقال العلماء إنها بلغت حد التواتر قال البزار رواه مرفوعا نحو أربعين صحابيا
وقال ابن الصلاح إنه حديث بلغ حد التواتر رواه الجم الكثير من الصحابة قيل إنهم يبلغون ثمانين نفسا وجمع الحافظ طرقه في جزء ضخم قيل رواته فوق سبعين صحابيا وذكر أن من جملة من رواه العشرة إلا عبد الرحمن بن عوف وبلغ بهم الطبراني وابن منده سبعة وثمانين منهم العشرة
الكبيرة الخمسون من سن سنة سيئة أخرج مسلم وغيره عن جرير رضي الله عنه قال كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء قوم عراة مجتابي النمار أي لابسيها قد خرقوها في رءوسهم من الجوب وهو القطع جمع نمرة وهي كساء من صوف مخطط أو العباء مقلدي السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر فتمعر أي بتشديد المهملة تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى ما بهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى ثم خطب فقال يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا والآية التي في سورة الحشر يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من
____________________
(1/187)
صاع تمره حتى قال ولو بشق تمرة
فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تهلل كأنه مدهنة أي بالمهملة والنون وضم الهاء أو المعجمة والموحدة وفتح الهاء وهو الأشهر أي كأنه ورقة مطلية بذهب وكلاهما كناية عن ظهور البشر والإشراق من شدة السرور فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء
وصح أيضا من سن خيرا فاستن به كان له أجره ومثل أجور من تبعه غير متنقص من أجورهم شيئا ومن سن شرا فاستن به كان عليه وزره ومثل من تبعه غير متنقص من أوزارهم شيئا
وفي رواية سندها لا بأس به من سن سنة حسنة فله أجرها ما عمل بها في حياته وبعد مماته حتى تترك
ومن سن سنة سيئة فعليه إثمها حتى تترك ومن مات مرابطا جرى عليه عمل المرابط حتى يبعث يوم القيامة
في أخرى سندها حسن عن الترمذي واعترض بأن فيه واهيا
وأجيب بأن له شواهد من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا
وصح ما من داع يدعو لشيء إلا وقف يوم القيامة لازما لدعوته ما دعا إليه وإن دعا رجل رجلا
وابن ماجه وغيره بسند فيه لين إن هذا الخير خزائن ولتلك الخزائن مفاتيح فطوبى لعبد جعله الله مفتاحا للخير مغلاقا للشر وويل لعبد جعله الله مفتاحا للشر مغلاقا للخير
____________________
(1/188)
تنبيه عد هذا كبيرة هو ظاهر ما في هذه الأحاديث الصحيحة من الوعيد الشديد وهو مضاعفة تلك الآثام وذلك لمضاعفة العذاب المضاعفة الكثيرة التي يعجز عنها الحساب
فإن قلت إن كانت المعصية التي سنها كبيرة فعدها غير صحيح أو غير كبيرة فعدها مشكل
قلت بل الوجه حمل عدها كبيرة وإن لم أر من ذكره على ما إذا سن صغيرة ولا إشكال فيه لأنه لما سنها لغيره فاقتدى به فيها فحشت وتضاعف عقابها فصارت بذلك كالكبيرة بل وأعظم بكثير إذ الكبيرة ينقطع إثمها بالفراع منها وهذه إثمها متضاعف مستمر وشتان ما بينهما ثم رأيت جمعا عدوا من الكبائر الإحداث بالدين واستدلوا بالخبر الصحيح لعن الله من أحدث حدثا
قال ابن القيم وهي تختلف باختلاف الحدث نفسه فكلما كان أكبر كانت الكبيرة أعظم
قال الذهبي ومنه من دعا لضلالة أو سن سنة سيئة
انتهى وفي ذلك تصريح بما ذكرته
الكبيرة الحادية والخمسون ترك السنة أخرج الحاكم في المستدرك في الدليل على أن الإجماع حجة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة المكتوبة إلى التي بعدها كفارة لما بينهما والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما ثم قال بعد ذلك إلا من ثلاث الإشراك بالله ونكث الصفقة وترك السنة قلنا يا رسول الله أما الإشراك فقد عرفناه فما نكث الصفقة وترك السنة قال أما نكث الصفقة أن تبايع رجلا بيمينك ثم تخالف إليه فتقتله بسيفك وأما ترك السنة فالخروج من الجماعة
قال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه
ويعضده رواية أحمد وأبي داود من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه
____________________
(1/189)
قال الجلال البلقيني والمراد بذلك اتباع البدع عافانا الله من ذلك
وصح أيضا لعن الله من أحدث حدثا
وأيضا ستة لعنهم الله وكل نبي مجاب الدعوة الزائد في كتاب الله عز وجل والمكذب بقدر الله والمتسلط على أمتي بالجبروت ليذل من أعزه الله ويعز من أذله الله والمستحل حرمة الله والمستحل من عترتي ما حرم الله والتارك لسنتي
وصح أيضا من رغب عن سنتي فليس مني
وروى الطبراني ما من أمة ابتدعت بعد نبيها في دينها بدعة إلا أضاعت مثلها من السنة
وهو وابن أبي عاصم ما تحت ظل السماء من إله يعبد أعظم عند الله من هوى يتبع
تنبيه عد هذا كبيرة هو ما صرح به شيخ الإسلام الصلاح العلائي في قواعده والجلال البلقيني وغيرهما
وعبارة الجلال في تعداد الكبائر السادسة عشرة البدعة وهي المراد بترك السنة انتهى
والمراد بالسنة ما عليه إماما أهل السنة والجماعة الشيخ أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتريدي والبدعة ما عليه فرقة من فرق المبتدعة المخالفة لاعتقاد هذين الإمامين وجميع أتباعهما
وصح في تقريع المبتدعة أحاديث منها من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد
أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة
إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات
____________________
(1/190)
الهوى
إياكم والمحدثات فإن كل محدثة ضلالة
إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته
وفي رواية لابن ماجه أبى الله أن يقبل عمل صاحب بدعة حتى يدع بدعته
وفي أخرى له لا يقبل الله لصاحب بدعة صوما ولا حجا ولا عمرة ولا جهادا ولا صرفا ولا عدلا يخرج من الإسلام كما تخرج الشعرة من العجين
لقد تركتم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك
لكل عمل شرة أي بكسر المعجمة فشدة للراء فتاء تأنيث نشاط وهمة ولكل شرة فترة فمن كانت شرته إلى سنني فقد اهتدى ومن كانت شرته إلى غير ذلك فقد هلك
إني أخاف على أمتي من ثلاث من زلة عالم وهوى متبع وحكم جائر وهذا حسنه الترمذي بسنده في مواضع وصححه في مواضع
واعترض بأن فيه واهيا لكن احتج به ابن خزيمة في صحيحه
وصح عن ابن مسعود أنه وقف على قصاص فقال له لقد ابتدعت بدعة ضلالة أو إنك لأهدى من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه
فتفرق الناس عنه لم يبق عنده أحد وهو محمول أنه كان يذكر في قصصه ما ابتدعه جهلة القصاص من ذكر الأكاذيب والأحاديث الموضوعة ونحو ذلك
وأما القصص على ما ينبغي بأن يذكرهم بالله وآياته ويعرفهم ما ينبغي أو يتعين عليهم تعلمه فهذا من أفضل القربات وأجل المقامات
____________________
(1/191)
الكبيرة الثانية والخمسون التكذيب بالقدر أي بأن الله يقدر على عبده الخير والشر كما زعمه المعتزلة لعنهم الله فإنهم يزعمون أن العبد يخلق أفعال نفسه من دون الله تبارك وتعالى فهم ينكرون القدر فسموا قدرية لذلك وزعمهم أن الأحق بهذا الاسم هم المثبتون نسبة القدر إلى الله تعالى يرده صريح ما يأتي من الأحاديث وعن الصحابة رضوان الله عليهم والحجة ليست إلا في ذلك دون العقول الفاسدة التي استندوا إليها وترك النصوص على عاداتهم القبيحة الشنيعة من تركهم صرائح النصوص القطعية لمجرد خيال تخيلته عقولهم كإنكارهم سؤال الملكين وعذاب القبر والصراط والميزان والحوض ورؤية الله تعالى في الدار الآخرة بالبصر وغير ذلك مما صحت به الأحاديث بل تواترت من غير ريب ولا مرية فقبحهم الله ما أخذلهم وأسفههم وأجهلهم بالسنة وبنبيهم صلى الله عليه وسلم الذي نطق بها عن الله تعالى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ودليلنا عليهم فيما نحن بصدده قوله تعالى إنا كل شيء خلقناه بقدر أكثر المفسرين أنها نزلت في القدرية
ويؤيده ما أخرجه مسلم أن سبب نزولها أن كفار مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزل إن المجرمين في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر فالقدرية هم المجرمون الذين ذكرهم الله تعالى ومن كان على طريقتهم كالمعتزلة وإن لم يكونوا عليها من كل وجه وفيها قال آخر أن أسقف نجران جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال تزعم يا محمد أن المعاصي بقدر وليس كذلك فقال صلى الله عليه وسلم أنتم خصماء الله فنزل إن المجرمين إلخ
وصح كتب الله مقادير الخلائق كلها من قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة الحديث وسيأتي
وقال طاوس أدركت ما شاء الله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون كل شيء بقدر الله وسمعت عبد الله بن عمر يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء بقدر حتى العجز والكيس أو الكيس والعجز
____________________
(1/192)
وعن علي كرم الله وجهه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يؤمن بالله عبد حتى يؤمن بأربع يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق ويؤمن بالبعث بعد الموت ويؤمن بالقدر
وفي رواية خيره وشره وحديث كل شيء بقدر حتى العجز والكيس رواه مسلم
وهو صريح في مذهب أهل السنة
وأخرج ابن حبان والحاكم أنه صلى الله عليه وسلم قال ستة لعنهم الله وكل نبي مجاب الدعوة المكذب بقدر الله والزائد في كتاب الله والمتسلط بالجبروت ليذل من أعزه الله والمستحل حرمة الله والمستحل من عترتي ما حرم الله والتارك لسنتي
قال بعض المفسرين اعلم أن الجبري يقول القدري من يقول الطاعة والمعصية بفعلي فهو ينكر القدر والمعتزلي يقول الجبري قدري لأنه يقول الخير والشر قدره الله علي فهو مثبت للقدر والفريقان متفقان على أن السني القائل بأن الأفعال بخلق الله وكسب من العبد ليس بقدري انتهى
وفيه إن صح رد على الزمخشري الحامل راية المعتزلة إلى النار في زعمه في مواضع أن القدرية هم أهل السنة وكذب في ذلك وافترى على الله وعلى رسوله وعلى الصحابة وتابعيهم بإحسان إلى يوم القيامة وإنما الحامل له على ذلك خبث عقيدته وفساد طويته فهو أحق أن يقرأ عليه ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا
قال الفخر الرازي والحق أن القدري هو الذي ينكر القدر وينسب الحوادث لاتصالات بالكواكب لما روي أن قريشا تخاصموا في القدر
ومذهبهم أن الله مكن العبد من الطاعة والمعصية وهو قادر على خلق ذلك في العبد وقادر على أن يطعم الفقير ولهذا قالوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه منكرين لقدرته تعالى على الإطعام
وأما قوله صلى الله عليه وسلم القدرية مجوس هذه الأمة
فإن أريد بالأمة أمة الدعوى
____________________
(1/193)
فالقدرية في زمانه هم المشركون المنكرون قدرته تعالى على الحوادث فلا تدخل فيهم المعتزلة أو أمة الإجابة فمعناه أن نسبة القدرية إليهم كنسبة المجوس إلى الأمم المتقدمة فإنهم أضعف الأمم شبهة وأشدهم مخالفة للعقل وكذا القدرية في هذه الأمة وكونهم كذلك لا يقتضي الجزم بكفرهم فالحق أن القدري هو الذي ينكر قدرة الله تعالى انتهى
وقوله تعالى كل منصوب على الاشتغال وقرئ شاذا بالرفع ورد بأنه يوهم ما لا يجوز عند أهل السنة إذ كل مبتدأ و خلقناه صفته أو صفة شيء وبقدر خبره أي كل شيء موصوف بالخلق هو بتقدير واحد في ماهيته وزمانه وحينئذ فمفهومه أن الشيء الغير المخلوق لله تعالى ليس بقدر وهذا هو عين مذهب المعتزلة من أن ثم مخلوقات لغير الله تعالى كالإنسان يخلق أفعال نفسه بخلاف قراءة النصب المجمع عليها فإنها تفيد عموم خلقه تعالى لكل شيء
إذ التقدير إنا خلقنا كل شيء خلقناه فخلقناه الثانية تفسير وتأكيد لخلقنا الأولى لا صفة لشيء لأن الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف فيضيع نصب كل فتعين أن ناصبه مضمر وأن خلقناه المذكور تأكيد وتفسير له كما تقرر والتأكيد في نية الطرح فكل شيء باق على عمومه من شمول الخلق له وبقدر حال أي إنا خلقنا كل شيء حال كونه ملتبسا بتقديرنا له أو بمقدار في ذاته وصفاته وهذا هو عين مذهب أهل السنة
فالآية صريحة في حقية مذهبهم وبطلان مذهب المعتزلة ولم يشتد تعصب الزمخشري لهم هنا كعادته لضعف وجه الرفع خلافا لقوم زعموا أنه الاختيار صناعة بل زعم بعضهم أنه الوجه في العربية وليس كما زعم لأن إنا عندهم تطلب الفعل فكان النصب هو الاختيار صناعة أيضا
ولك أن تقول ولو سلمنا قراءة الرفع هنا لا دلالة فيها للمعتزلة لأن خلقناه كما يحتمل الوصف يحتمل الخبرية لكل وهما خبران فأفادت ما يفيده النصب من العموم وإذا احتملت العموم وغيره لم يكن فيها دلالة عليه وعلى التنزل وأنه صفة فغاية الأمر أنه يفهم ما يمكن حمله على مذهبهم ومذهب أهل السنة إذ لنا شيء غير مخلوق هو ذات الحق تبارك وتعالى فهذا هو مفهوم الآية فأي دليل على أن الآية تفهم غير هذا على أن دلالة المفهوم ضعيفة جدا لوقوع الخلاف في حجيتها في الظنيات فما بالك بها في القطعيات ومن لطائف علم العربية الدلالة على جلالته وإفهامه المعاني الغامضة القراءة بالرفع والنصب هنا وبالرفع وحده فيما يليه وهو كل شيء فعلوه في الزبر إذ لو نصب لفسد المعنى إذ التقدير فعلوا كل شيء في الزبر وهو خلاف الواقع
إذ فيه أشياء كثيرة لم تفعلوها وأما الرفع فمعناه أن كل شيء موصوف بكونهم فعلوه ثابت في الزبر وهذا معنى صحيح واقع
____________________
(1/194)
قال أهل السنة قدر الله تعالى الأشياء أي علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها وسائر ما ستوجد عليه قبل وجودها ثم أوجد منها ما سبق في علمه على ما في علمه فلا يحدث شيء في العالم العلوي والسفلي إلا وهو صادر عن علمه وقدرته وإرادته فقط وليس للخلق في تلك الأنواع اكتساب ومحاولة ونسبة ما وإضافة وأن ذلك كله إنما حصل لهم بتيسير الله وقدرته وإلهامه لا إله إلا هو ولا خالق غيره كما دل عليه الكتاب والسنة لا كما افتراه القدرية وغيرهم من أن الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا
وأخرج ابن ماجه ولما قيل يا محمد يكتب علينا الذنب ويعذبنا به قال صلى الله عليه وسلم أنتم خصماء الله يوم القيامة
وأخرج ابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن مجوس هذه الأمة المكذبون بقدر الله إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم
وأخرج أيضا عن ابن عباس وجابر رضي الله عنهم قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صنفان من أمتي ليس لهم في الإسلام نصيب أهل الإرجاء والقدر وستأتي بقية طرقه والأول هم المرجئة الذين يقولون لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة وسميت القدرية خصماء الله لأنهم يخاصمون في أنه لا يجوز أن يقدر المعصية على العبد ثم يعذبه عليها
وعن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة أمر مناديا ينادي نداء يسمعه الأولون والآخرون أين خصماء الله فتقدم القدرية فيؤمر بهم إلى النار يقول الله تعالى ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر
رواه الطبراني في الأوسط بلفظ إذا كان يوم القيامة نادى مناد ألا ليقم خصماء الله وهم القدرية ومن ثم قال الحسن والله لو أن قدريا صام
____________________
(1/195)
حتى صار كالحبل ثم صلى حتى صار كالوتد لكبه الله على وجهه في سقر ثم قيل له ذق مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر وقال تعالى والله خلقكم وما تعملون أي خلقكم وخلق عملكم أو وخلق الذي تعملونه بأيديكم ففيها دليل على أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله تبارك وتعالى وقال تعالى فألهمها فجورها وتقواها والإلهام إيقاع الشيء في النفس فهو تعالى الموقع لإلهام الفجور والتقوى فهو الخالق لهما ومن ثم قال سعيد بن جبير ألزمها فجورها وتقواها
وقال ابن زيد جعل ذلك بتوفيقه إياها للتقوى وخذلانه إياها للفجور
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله من على قوم فألهمهم الخير وأدخلهم في رحمته وابتلى قوما فخذلهم وذمهم على أفعالهم ولم يستطيعوا غير ما ابتلاهم فعذبهم وهو عادل لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وستأتي أحاديث بمعناه وأكثر لفظه وقال تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا وهذه الآية كالتي قبلها من أقوى الآيات الدالة على ضلالة القدرية وانحرافهم عن سبيل الاستقامة
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بعث الله نبيا قط إلا وفي أمته قدرية ومرجئة إن الله لعن القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبيا
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل أمة مجوس ومجوس هذه الأمة الذين يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف
قال فإذا لقيتهم فأخبرهم أني منهم بريء وأنهم مني برآء والذي نفس عبد الله بيده لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ما تقبل الله منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره من الله تعالى ثم
____________________
(1/196)
@ 197 ذكر حديث جبريل الذي في مسلم وغيره وفيه إنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره
وورد في القدر أحاديث كثر غير ما مر أحببت ذكر أكثرها لعظم فائدتها وعموم عائدتها
منها أخرج ابن عدي من كذب بالقدر فقد كفر بما جئت به وأبو يعلى من لم يؤمن بالقدر خيره وشره فأنا منه بريء
وأحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق ويؤمن بالموت ويؤمن بالبعث ويؤمن بالقدر خيره وشره
والطبراني في الأوسط من لم يرض بقضاء الله ويؤمن بقدر الله فليلتمس إلها غير الله
وأيضا القدر نظام التوحيد فمن وحد الله وآمن بالقدر فقد استمسك بالعروة الوثقى
وأيضا فرغ إلي ابن آدم من أربع الخلق والخلق والرزق والأجل
وأيضا إذا أراد الله أن يزيغ عبدا أعمى عليه الحيل
والحاكم لا يغني حذر عن قدر
والبيهقي قال الله تعالى من لم يرض بقضائي وقدري فليلتمس ربا غيري
____________________
(1/197)
وابن عدي والطبراني خلق الله يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا وخلق فرعون في بطن أمه كافرا
والطبراني في الصغير السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه
وأحمد والطبراني فرغ الله عز وجل إلى كل عبد من خمس من أجله ورزقه وأثره ومضجعه وشقي أو سعيد
والطبراني فرغ الله من المقادير وأمور الدنيا قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة
وأحمد والترمذي قدر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة
ومسلم كتب الله تعالى مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء
وأحمد ومسلم كل شيء بقدر حتى العجز والكيس
وأبو نعيم لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه كما يدركه الموت
وابن عساكر لو دعا لك إسرافيل وجبرائيل وميكائيل وحملة العرش وأنا فيهم ما
____________________
(1/198)
تزوجت إلا المرأة التي كتب الله لك
والدارقطني وأبو نعيم لو قضى كان
وأبو نعيم ليس أحد منكم بأكسب من أحد قد كتب الله المصيبة والأجل وقسم المعيشة والعمل فالناس فيها يجرون إلى منتهى
وابن ماجه ما أصابني شيء منها إلا وهو مكتوب علي وآدم في طينته
والبيهقي لا تكثر همك ما يقدر يكون وما ترزق يأتيك
والديلمي إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم حتى ينفذ فيهم قضاؤه وقدره فإذا مضى أمره رد إليهم عقولهم ووقعت الندامة
والخطيب إذا أحب الله إنفاذ أمر سلب كل ذي لب لبه
والسلمي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده إذا أراد الله إمضاء أمر نزع عقول الرجال حتى يمضي أمره فإذا أمضاه رد إليهم عقولهم ووقعت الندامة
ومسلم إذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء
والطبراني اعملوا فكل ميسر لما خلق له اعملوا فكل ميسر لما يهدى إليه من القول من خلقه الله لواحدة من المنزلتين وفقه لعملها
وأحمد والطبراني والحاكم كل امرئ مهيأ لما خلق له
وأحمد والشيخان وأبو داود كل ميسر لما خلق له
والدارقطني
____________________
(1/199)
والديلمي إن الله من على قوم فألهمهم الخير فأدخلهم في رحمته وابتلى قوما فخذلهم وذمهم على فعالهم فلم يستطيعوا أن يرحلوا عما ابتلاهم به فعذبهم وذلك عدله فيهم
وأحمد عن زيد بن ثابت وأحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والطبراني في الأوسط عنه عن أبي بن كعب وحذيفة وابن مسعود لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم ولو أنفقت مثل أحد ذهبا في سبيل الله ما قبله منك حتى تؤمن بالقدر فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولو مت على غير هذا لدخلت النار
وأحمد والشيخان والأربعة ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة قيل أفلا نتكل قال لا اعملوا ولا تتكلوا فكل ميسر لما خلق له أما أهل السعادة فييسرون لعمل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل الشقاوة
وابن ماجه من تكلم بشيء من القدر سئل عنه يوم القيامة ومن لم يتكلم فيه لم يسأل عنه
وأحمد ومسلم وابن ماجه المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان
والترمذي لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه
____________________
(1/200)
والبخاري والنسائي يا أبا هريرة جف القلم بما أنت لاق
الحديث
والأربعة والعقيلي بعثت داعيا ومبلغا وليس إلي من الهدى شيء وخلق إبليس مزينا وليس له من الضلال شيء
ومسلم عن حذيفة بن أسيد إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها وشحمها وعظمها ثم قال يا رب أذكر أم أنثى فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول يا رب أجله فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول يا رب رزقه فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يخرج الملك بالصحيفة فلا يزيد على ما مر ولا ينقص
ومسلم عنه أيضا إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتصور عليها الملك الذي يخلقها فيقول يا رب ذكر أم أنثى فيجعله الله ذكرا أو أنثى ثم يقول يا رب سوي أم غير سوي فيجعله الله سويا أو غير سوي ثم يقول ما رزقه وما أجله ثم يجعله الله شقيا أو سعيدا
وأحمد ومسلم عنه أيضا يدخل الملك على النطفة بعدما استقرت في الرحم بأربعين ليلة فيقول يا رب ماذا أشقي أو سعيد ذكر أو أنثى فيقول الله فيكتب ويكتب عمله وأثره ورزقه وأجله ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد على ما فيها ولا ينقص
والشيخان والأربعة عن ابن مسعود إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكا ويؤمر بأربع كلمات ويقال له اكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح فإن الرجل منكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة
وظاهر ثم فيه ينافي ما قبله فإما أن تكون بمعنى الواو أو أن ذلك يختلف
____________________
(1/201)
باختلاف الأجنة فمنهم من يرسل له الملك بعد الأربعين الأولى ومنهم من يرسل له بعد الأربعين الثالثة
وأحمد والترمذي والنسائي أتدرون ما هذان الكتابان هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص وهذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا
سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل
فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير
والخطيب أحسنوا فإن غلبتم فكتاب الله تعالى وقدره ولا تدخلوا اللو فإن من أدخل اللو دخل عليه عمل الشيطان
ومالك وأحمد وأبو داود والترمذي والحاكم في صحيحه إن الله تعالى خلق آدم ومسح ظهره بيمينه أي أوجد فيه ذرية ملتبسة بقدرته ويمنه وبركته فاستخرج منه ذرية فقال هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون
وفي رواية إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل به الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار
وأحمد وأبو داود والترمذي إن الله خلق آدم ثم أخذ الخلق من ظهره فقال هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي
وأحمد والشيخان وأبو داود والترمذي وابن ماجه احتج آدم وموسى فقال موسى
____________________
(1/202)
أنت الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأسكنك جنته أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم قال آدم يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالته وأنزل عليك التوراة أتلومني على أمر كتبه الله علي قبل أن يخلقني فحج آدم موسى
وفي رواية لأبي داود إن موسى سأل ربه أن يريه آدم فأراه إياه فقال له أنت أبونا آدم أنت الذي نفخ الله فيك من روحه وعلمك الأسماء كلها وأمر الملائكة فسجدوا لك قال نعم قال فما حملك على أن أخرجتنا ونفسك من الجنة فقال له آدم ومن أنت قال أنا موسى قال أنت نبي بني إسرائيل الذي كلمك الله من وراء حجاب لم يجعل بينك وبينه رسولا من خلقه قال نعم
قال فما وجدت أن ذلك في كتاب الله قبل أن أخلق قال نعم قال فبم تلومني في شيء سبق من الله فيه القضاء قال فحج آدم موسى
وجاء في القدرية أحاديث غير ما مر
يتعين حملهم على من مر من المعتزلة ونحوهم وتنزه أهل السنة من قول أولئك المبتدعة الضلال إن أهل السنة هم القدرية
منها أخرج أحمد لكل أمة مجوس ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم
والشيخان والنسائي لكل أمة مجوس ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر فإن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم وهم شيعة الدجال وحق على الله أن يحشرهم معه وأحمد والحاكم في مستدركه سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر
____________________
(1/203)
والبخاري في تاريخه والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس وابن ماجه عن جابر والخطيب عن ابن عمر والطبراني في الأوسط عن أبي سعيد صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب المرجئة والقدرية
وأبو نعيم عن أنس والطبراني في الأوسط عن واثلة وعن جابر صنفان من أمتي لا تنالهم شفاعتي يوم القيامة المرجئة والقدرية
والطبراني في الأوسط عن أنس صنفان من أمتي لا يردان على الحوض ولا يدخلان الجنة القدرية والمرجئة
والخطيب عزمت على أن لا تتكلموا في القدر
وابن عدي عزمت على أن لا تتكلموا في القدر ولا يتكلم في القدر إلا شرار أمتي في آخر الزمان
والدارقطني لعنت القدرية على لسان سبعين نبيا
وأحمد وأبو داود والحاكم في مستدركه لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم
وابن أبي عاصم والطبراني وابن عدي اتقوا القدر فإنه شعبة من النصرانية
____________________
(1/204)
وأبو داود والحاكم القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم
وأبو يعلى وابن عدي والخطيب أخاف على أمتي من بعدي خصلتين تكذيبا بالقدر وتصديقا بالنجوم
والطبراني في الأوسط والحاكم في المستدرك آخر الكلام في القدر لشرار أمتي يوم القيامة
تنبيه عد ما مر في الترجمة كبيرة هو ما صرح به بعضهم والأحاديث التي ذكرتها نص فيه وهو وإن كان داخلا في ترك السنة الذي مر أنه كبيرة لكن أفرد هذا بالذكر لشدة قبحه ولكثرة وقوع الخلاف فيه بين أهل السنة وغيرهم إذ مسألة خلق الأفعال من مهمات مسائل الكلام ومن أدلة المعتزلة فيها على ما زعموه افتراء على الله وإعراضا عن صرائح الآيات السابقة وغيرها وعن جميع ما مر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا
قال إمامهم في الضلالة الجبائي قد ثبت أن لفظ السيئة تارة يقع على البلية والمحنة وتارة يقع على الذنب والمعصية ثم إنه تعالى أضاف السيئة إلى نفسه أولا وإلى العبد ثانيا ولا بد من التوفيق بينهما فنقول لما كانت السيئة بالمعنى الأول مضافة إليه تعالى وجب أن تكون بالمعنى الثاني مضافة إلى العبد ليزول التناقض بين هاتين الآيتين المتجاورتين وقد حمل المخالفون أنفسهم على تغيير الآية وقرءوا أفمن نفسك أي على الاستفهام فغيروا القرآن وسلكوا مثل طريقة الرافضة في ادعاء المعنيين في القرآن
____________________
(1/205)
فإن قيل لم أضاف الله تعالى الحسنة التي هي الطاعة إلى نفسه دون السيئة وكلاهما فعل العبد عندكم
قلنا الحسنة وإن كانت فعل العبد فإنما وصل إليها بتسهيله وألطافه فصحت الإضافة إليه وأما السيئة فهي غير مضافة إليه تعالى بأنه فعلها ولا أرادها ولا أمر بها ولا رغب فيها فلا جرم انقطعت هذه النسبة إلى الله تعالى من جميع الوجوه
انتهى كلام الجبائي المنبئ عن قصور فهمه وفساد تصوره وقلة علمه إذ ليس المراد بالسيئة والحسنة أولا وثانيا طاعة ولا معصية بل النعم والمحن وهما ليسا من فعلهم ودليل ذلك التعبير بأصابك إذ لا يقال في الطاعة المعصية أصابني بل أصبته بخلاف النعم والمحن فإنها التي يقال فيها أصابتني والسياق صريح في ذلك إذ سبب نزول الآية أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة قال المنافقون اليهود ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا منذ قدم الرجل وأصحابه فكانوا ينسبون النعم إلى الله والمحن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ذلك مخبرا عنهم بمقالتهم الفاسدة ثم ردها بقوله قل كل من عند الله مبينا لمصدرها الأصلي ثم بين السبب فخاطبه صلى الله عليه وسلم والمراد غيره بقوله تعالى ما أصابك من حسنة أي نعمة كخصب ونصر فمن الله أي من محض فضله إذ لا يستحق أحد عليه تعالى شيئا وما أصابك من سيئة أي محنة كجدب وهزيمة فمن نفسك أي من أجل عصيانها فهي من الله لكن بسبب ذنب النفس عقوبة لها كما قال الله تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويدل عليه رواية مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك
وقد قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم على نبينا وعليه وسلم وإذا مرضت فهو يشفين فأضاف المرض لنفسه والشفاء إلى الله تعالى ولم يقدح ذلك في كونه تعالى خالقا للشفاء والمرض وإنما فصل بينهما رعاية للأدب لأنه تعالى إنما يضاف إليه على الخصوص الشريف دون الخسيس فيقال يا خالق الخلق ولا يقال يا خالق القردة والخنازير ويقال يا مدبر السموات والأرض ولا يقال يا مدبر القمل والخنافس فكذا هنا
وإذا تأملت هذا الذي قررناه وجدت نظم الآية عليه على غاية من السبك والالتئام والرصانة والبلاغة اللائقة بالقرآن
وأما على ما زعموه فيختل النظم ويتغير الأسلوب لغير موجب ولا داع إلا بتكليف تام وجلالة القرآن تأبى ذلك على أن التعبير بالإصابة الموافق للاستعمال اللغوي صريح فيما قلناه وعلى التنزل وأن المراد بالسيئة والحسنة ما
____________________
(1/206)
قالوه فلا دلالة لهم في ذلك أيضا بل الآية دالة عليهم لدلالتها على أن الإيمان حصل بخلق الله تعالى لأنه حسنة إذ هي الغبطة الخالية عن جميع جهات القبح وهو كذلك فوجب أن تكون حسنة ومن ثم اتفقوا على أن المراد من قوله تعالى ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله كلمة الشهادة وبها فسر الإحسان في قوله تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإذا ثبت أن الإيمان حسنة فكل حسنة من الله بنص الآية حتى على ما زعموه وحينئذ فيجب القطع بأن الإيمان من الله سبحانه وتعالى كما دلت عليه هذه الآية وهم لا يقولون به
لا يقال المراد من قوله فمن الله أنه قدره عليه وهداه لمعرفة حسنه وقبح ضده الذي هو الكفر
لأنا نقول جميع الشرائط مشتركة بالنسبة إلى الإيمان والكفر عندكم فالعبد باختيار نفسه أوجده ولا مدخل فيه لقدرة الله وإعانته على زعمكم فهو منقطع عندكم عن الله من كل الوجوه وهذا مناقض لقوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله فبان بطلان ما ذهبتم إليه من الآية وأنه لا ينفعكم وإذا ثبت بها أن الإيمان من الله تعالى فكذلك الكفر إذ كل من قال الإيمان من الله قال الكفر من الله فالقول بأن أحدهما من الله دون الآخر مخالف لإجماع الأمة
وأيضا فالعبد لو قدر على إيجاد الكفر فالقدرة الصالحة لإيجاد الكفر إما أن تصلح لإيجاد الإيمان أو لا فإن صلحت لإيجاده عاد القول بأن إيمان العبد منه وقد علم بطلانه من الآية كما تقرر وإن لم تصلح لإيجاده لزم أن القادر على الشيء غير قادر على ضده وذلك عندهم محال فثبت أنه لما لم يكن الإيمان منه وجب أن لا يكون الكفر منه
وأيضا إذا لم يوجد العبد الإيمان فأولى أن لا يوجد الكفر لأن المستقل بإيجاد الشيء هو الذي يمكنه تحصيل مراد وليس في الدنيا عاقل قط يريد أن يكون الحاصل في قلبه هو الجهل والضلال فإذا كان العبد موجدا لأفعال نفسه وهو لا يقصد إلا تحصيل العلم الحق المطابق وجب أن لا يتحصل في قلبه إلا الحق وإذا كان الإيمان الذي هو مقصوده ومطلوبه ومراده لم يقع بإيجاده فبأن يكون الجهل الذي لم يرده وما قصد تحصيله وهو في غاية النفرة عنه غير واقع بإيجاده أولى
وأما ما شنع به الجبائي على من قرأ أفمن نفسك بالاستفهام فهو من جملة افترائه كشيعته
إذ أهل السنة لم يعولوا على هذه القراءة ولا جعلوها حجة لهم وإنما الحق في ذلك أنه إن صح أنه قرأ بها أحد من الصحابة والتابعين وجب قبولها وتكون حينئذ دليلا عليهم لأن القراءة الشاذة إذا صح سندها كالخبر الصحيح في الحجية على الأصح
____________________
(1/207)
وإن لم يصح ذلك لم يلتفت إليها وليست الحجية مفتقرة إليها على أن القراءة المشهورة يصح حملها على الاستفهام الإنكاري كهو في تلك القراءة إن صحت نظير ما قاله أكثر المفسرين في قوله تعالى حكاية عن خليله فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي من أن هذا إنما ذكره استفهاما على سبيل الإنكار فكذا هنا يصح أن يقال فيه ذلك وإن لم تتوقف الحجية عليه كما علم مما تقرر والمعنى عليه أن الإيمان الذي وقع على وفق قصده قد بان بقوله فمن الله أنه ليس واقعا منه بل من الله فهذا الكفر الذي لم يقصده ولم يرده ولم يرض به ألبتة كيف يدخل في العقل أن يقال إنه واقع منه بل هو من الله من باب أولى لما تقرر أن ما للنفس فيه حظ وقصد وإرادة ومحبة لا يقع منها بل من الله فأولى ما ليس لها فيه شيء من ذلك أن يكون هو الواقع من الله لا منها
وفي ختم الآية بقوله تعالى وكفى بالله شهيدا إيماء إلى أن المراد منها إسناد جميع الأمور إلى الله تعالى إذ المعنى ليس لك إلا الرسالة والتبليغ وقد فعلت وما قصرت وكفى بالله شهيدا على ذلك
وأما حصول الهداية فليس إليك بل إلى الله ليس لك من الأمر شيء إنك لا تهدي من أحببت أو كفى بالله شهيدا على صدقك وإرسالك أو على أن الحسنة والسيئة من الله
ومن الأدلة لمذهب أهل السنة ما في القرآن في آي كثيرة من نحو الختم على القلب والسمع والطبع والكنان والرين على القلب والوقر في الأذن والغشاوة على البصر فإن الناس اختلفوا في ذلك فالقائلون بأن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى وهم أهل السنة فذلك كله ظاهر على مذهبهم ثم لهم قولان أحدهما أن ذلك كله كناية عن خلق الكفر في قلوب الكفار وثانيهما أنه خلق الداعية التي إذا انضمت إلى القدرة صار مجموع القدرة معها سببا لوقوع الكفر
وأما المعتزلة قبحهم الله فإنهم تأولوا هذه الألفاظ وأخرجوها عن ظواهرها بطريق التحكم والتشهي تحكيما لعقولهم الفاسدة القاصرة في نصوص الشرع يتصرفون فيها كيف شاءوا تارة بالرد وتارة بالتأويل فخذلهم الله وأبادهم فما أغباهم وأصمهم وأعماهم وأبعدهم عن سبيل الهدى ومجانبة الضلال والردى وأنساهم لآيات الله البينات ودلائل خلقه تعالى لسائر الحادثات وكيف يليق بالعبد الضعيف العاجز المقصر الجاهل بالله تبارك وتعالى وبما طواه عنه مما استأثر به من علمه وحكمه أن ينسى قوله تعالى لخلقه
____________________
(1/208)
إعلاما لهم بذلك لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ثم يقول كيف يذم الكفار على شيء خلقه فيهم وأي ذنب لهم حينئذ حتى يعذبهم عليه ونحو ذلك من الخرافات المنبئة عن الخروج عن حيز العبودية والخضوع للحق والرضا بقسمته تعالى وكفى هؤلاء هذه المهاوي السخيفة التي وقعوا فيها فضلوا وأضلوا وعاندوا ولجوا ولو تأملوا ما هم عليه لوجدوا أنفسهم آخذين بحجزة قول الكفار وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه قال تعالى جوابا لهم إن أنتم إلا في ضلال مبين فكذا أولئك أعاذنا الله من مضلات الآراء وغوائل الفتن وأصلح منا ما ظهر وجميع ما بطن إنه الجواد الكريم الرءوف الرحيم
الكبيرة الثالثة والخمسون عدم الوفاء بالعهد قال الله تعالى وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا
وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود قال ابن عباس بالعهود وهي ما أحل الله وحرم وما فرض وما حد في جميع الأشياء وكذا قال مجاهد وغيره ومن ثم قال الضحاك هي التي أخذ الله على هذه الأمة أن يوافوا بها مما أحل وحرم ومما فرض من الصلاة وغيرها وهذا أولى من قول ابن جريج إنه في أهل الكتاب
أي يا أيها الذين آمنوا بالكتب المتقدمة أوفوا بالعقود التي أخذت عليكم في شأن محمد صلى الله عليه وسلم التي من جملتها وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ومن قول قتادة أراد بها الحلف الذي تعاقدوا عليه في الجاهلية قال الزجاج والعقود أوكد العهود
إذ العهود إلزام والعقود إلزام على سبيل الإحكام والاستيثاق من عقد الشيء بغيره وصله به كما يعقد الحبل بالحبل ولما كان الإيمان هو المعرفة بالله وصفاته وأحكامه ومن جملتها أنه يجب على الخلق إظهار الانقياد لله تعالى في جميع التكاليف أمر بالوفاء بالعقود
والمعنى أنكم قد التزمتم بإيمانكم أنواع العقود وإظهار الطاعة لله تعالى في سائر أوامره ونواهيه فأوفوا بتلك العهود
قال ابن شهاب قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وفي صدره هذا بيان من الله ورسوله يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود إلى سريع الحساب فالمقصود التكاليف فعلا وتركا وسميت عقودا لأنه تعالى عقد أمرها وحتمه وأوثقه فلا انحلال له وقل هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم والدليل على ما اخترناه فيما مر أنها
____________________
(1/209)
عامة أن أبا حنيفة رضي الله عنه استدل بها على صحة نحو نذر صوم يوم العيد وعضدها بقوله تعالى يوفون بالنذر والموفون بعهدهم إذا عاهدوا أوف بنذرك ونفي خيار المجلس لأن العقد قد انعقد وحرمة الجمع بين الطلقات لأن النكاح عقد فحرم رفعه لقوله تعالى أوفوا بالعقود ترك العمل به في الطلقة الواحدة بالإجماع فبقي فيما عداه على الأصل وخالفه الشافعي رضي الله عنه في المسائل الثلاث لأن هذا العموم مخصوص بالخبر الصحيح لا نذر في معصية الله والخبر الصحيح البيعان بالخيار ما لم يتفرقا والقياس الجلي إذا لو حرم الجمع في الأخيرة لما نفذ فلما نفذ إجماعا دل على حله
إذ الأصل في نفوذ العقود أنه يقتضي حلها على أن فيه حديثا صحيحا وهو أن الملاعن طلق ثلاثا ظانا أنها تنفذ ولم ينهه صلى الله عليه وسلم عنها
إذ لو كان جمع الثلاث حراما لكان أتى بحرام فكان يجب نهيه عنه فلما لم ينهه عنه دل ذلك على إباحته
ولا يقال إنما لم ينهه عنه لأنه لغو لما أشرنا إليه أنه ليس لغوا إلا في الواقع وأما في ظنه فلم يكن لغوا لأنه ظن أنه يفيده تأييد حرمتها فأوقع الثلاث فهو دليل على أن المتعارف بين الصحابة أن إيقاع الثلاث لا يحرم وإلا لنهاه صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما تقرر
ومما يدل على تأكد العهود وأن الإخلال بالوفاء بها كبيرة الحديث المتفق عليه أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر
وفي الحديث لكل غادر لواء يوم القيامة يقال هذه غدرة فلان
وروى البخاري يقول الله تعالى ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه العمل ولم يعطه أجره
وروى مسلم من خلع يدا من طاعة الله لقي الله يوم القيامة ولا حجة له ومن
____________________
(1/210)
مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ومرت أحاديث كثيرة في هذا المعنى
تنبيه عد هذا من الكبائر هو ما وقع في كلام غير واحد لكن منهم من عبر بما مر ومنهم من عبر بخلف الوعد فالعبارتان إما متحدتان أو متغايرتان وعلى كل فقد يشكل عدهم من الكبائر بأنه قد تقرر في مذهبنا أن الوفاء بالوعد مندوب لا واجب وفي العهد أنه ما أوجبه الله أو حرمه ومخالفة المندوب جائزة والواجب والحرام تارة تكون كبيرة وتارة تكون صغيرة فكيف يطلق أن عدم الوفاء بذلك كبيرة فإن أريد عدم الوفاء بما يكون الإخلال به كبيرة كان عد هذا كبيرة مستقلة غير سائغ
إذ لا وجود له إلا في ضمن غيره من الكبائر
ويجاب بحمل الأول بناء على تغايرهما على الملتزم بالنذر ونحوه وكون منعه كبيرة ظاهر إذ النذر يسلك به مسلك واجب الشرع وسيأتي أن ترك الصلاة أو الزكاة أو الحج أو الصوم كبيرة فكذا هذا
ويحمل الثاني على شيء خاص لا يعلم إلا من التصريح بهذا وهو ما لو بايع إماما ثم أراد الخروج عليه لغير موجب ولا تأويل لهذا فهذا كبيرة كما يستفاد من خبر الصحيحين ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم إلى أن قال ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا فإن أعطاه منها ما يريد وفى له وإن لم يعطه لم يف له
ومن قوله صلى الله عليه وسلم في خبر البخاري السابق رجل أعطي بي ثم غدر
وفي خبر مسلم من خلع يدا من طاعة
وفي الحديث الآخر من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاءه أحد ينازعه فاضربوا عنق الآخر ويدخل في ذلك أيضا ما يأتي في الجهاد إن من أمن حربيا ثم غدر به وقتله كان كبيرة وهو المراد بنكث الصفقة وقد مر فيه وعيد شديد وسيأتي
____________________
(1/211)
الكبيرة الرابعة والخامسة والخمسون محبة الظلمة أو الفسقة بأي نوع كان فسقهم وبغض الصالحين أخرج الطبراني في الكبير من حديث ابن مسعود وفي الصغير والأوسط بسند جيد عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث هن حق لا يجعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له ولا يتولى الله عبدا فيوليه غيره ولا يحب الرجل قوما إلا حشر معهم
وأحمد بإسناد جيد ثلاث أحلف عليهن لا يجعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له وأسهم الإسلام ثلاث
الصوم والصلاة والزكاة ولا يتولى الله عبدا في الدنيا فيوليه غيره يوم القيامة ولا يحب الرجل قوما إلا جعله الله معهم
والحاكم وصححه الشرك أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء وأدناه أن يحب على شيء من الجور ويبغض على شيء من العدل وهل الدين إلا الحب في الله والبغض في الله قال الله تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله
وابن حبان في صحيحه لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي
تنبيه عد هذين كبيرة هو ما دلت عليه تلك الأحاديث الماضية والأحاديث الصحيحة الآتية المرء مع من أحب وإن لم يعمل بعملهم وله وجه إذ الفرض أنه أحب الفاسقين لفسقهم وبغض الصالحين لصلاحهم وظاهر أن محبة الفسق كبيرة كفعله وكذا بغض الصالحين لأن حب أولئك الفاسقين وبغض الصالحين يدل على انفكاك ربقة الإسلام وعلى بغضه وبغض الإسلام كفر فما يؤدي إليه ينبغي أن يكون كبيرة
____________________
(1/212)
خاتمة في سرد أحاديث صحيحة وحسنة في ثواب المتحابين في الله تعالى قال صلى الله عليه وسلم ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن أحب عبدا لا يحبه إلا لله ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار وفي رواية وأن يحب المرء في الله ويبغض في الله إن الله تعالى يقول يوم القيامة أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي
إن من الإيمان أن يحب الرجل رجلا لا يحبه إلا لله من غير مال أعطاه فذلك الإيمان
ما تحاب رجلان في الله إلا كان أحبهما إلى الله أشدهما حبا لصاحبه
خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره يقول الله تبارك وتعالى وجبت محبتي للمتحابين في وللمتجالسين في وللمتزاورين في وللمتباذلين في
المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء
يقول الله تعالى حقت محبتي للمتحابين في وحقت محبتي للمتواصلين في وحقت محبتي للمتزاورين في وحقت محبتي للمتباذلين في وحقت محبتي للذين يتصادقون من أجلي
المتحابون في الله في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله يغبطهم لمكانهم النبيون والشهداء
إن لله تعالى جلساء يوم القيامة عن يمين العرش وكلتا يدي الله يمين على منابر من نور وجوههم من نور ليسوا بأنبياء ولا شهداء ولا صديقين قيل من هم
____________________
(1/213)
يا رسول الله قال هم المتحابون بجلال الله تعالى
إن من عباد الله عبادا ليسوا بأنبياء يغبطهم الأنبياء والشهداء قيل من هم لعلنا نحبهم قال هم قوم تحابوا بنور الله من غير أرحام ولا أنساب وجوههم نور على منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
ليبعثن الله أقواما يوم القيامة في وجوههم النور على منابر اللؤلؤ يغبطهم الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء فجثا أعرابي على ركبتيه فقال يا رسول الله حلهم لنا نعرفهم قال هم المتحابون في الله تعالى من قبائل شتى وبلاد شتى يجتمعون على ذكر الله يذكرونه وفي رواية هم ناس من أفناء الناس ونوازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متقاربة تحابوا في الله وتصادقوا يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم عليها فيجعل وجوههم نورا وثيابهم نورا يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة قال وما أعددت لها قال لا شيء غير أني أحب الله ورسوله
قال أنت مع من أحببت قال أنس فما فرحنا بشيء فرحنا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت مع من أحببت قال أنس فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وقال يا رسول الله كيف ترى في رجل أحب قوما ولم يلحق بهم قال المرء مع من أحب
الكبيرة السادسة والخمسون أذية أولياء الله ومعاداتهم قال تعالى والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا وقال تعالى واخفض جناحك للمؤمنين
____________________
(1/214)
وأخرج البخاري عن أنس وأبي هريرة رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال عن الله تبارك وتعالى من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما ترددت في شيء أنا فاعله ما ترددت في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه وما تقرب إلي عبدي المؤمن بمثل الزهد في الدنيا ولا تعبد لي بمثل ما افترضته عليه
وفي رواية له قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى قال من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب أي أعلمته أني محارب له وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي من أداء ما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني أعطيته وإن استعاذني أي بالنون أو الباء لأعيذنه
وفي الحديث الصحيح إن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال رضي الله عنهم في نفر فقالوا ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها أي لم تستوف حقها منه لأنه إذ ذاك كان على كفره فقال أبو بكر رضي الله عنه أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال يا أبا بكر لعلك أغضبتهم لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك فأتاهم أبو بكر رضي الله عنه وقال يا إخوتاه أغضبتكم قالوا لا يغفر الله لك يا أخي
ومن عظيم احترام الفقراء سيما فقراء الصحابة الذين استبقوا إلى الإيمان قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم لما عذله المشركون في الجلوس معهم وقالوا اطردهم فإن نفوسنا تأنف أن تجالسهم ولئن طردتهم ليؤمنن بك أشراف الناس ورؤساؤهم ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه فلما أيس المشركون من طردهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم يوما ولهم يوما فأنزل تعالى واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا أي لا تتعداهم ولا تتجاوزهم بنظرك رغبة عنهم وطلبا لصحبة أبناء
____________________
(1/215)
الدنيا وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ثم ضرب لهم مثل الغني والفقير بقوله عز قائلا واضرب لهم مثلا رجلين إلى قوله تعالى واضرب لهم مثل الحياة الدنيا
الآية
كل ذلك تقرير لفخامتهم وحث على تعظيمهم ورعايتهم ومن ثم كان صلى الله عليه وسلم يعظم الفقراء ويكرمهم سيما أهل الصفة وهم فقراء المهاجرين معه صلى الله عليه وسلم كانوا في صفة المسجد ملازمين لها ينضم إليها كل من هاجر إلى أن كثروا وكانوا على غاية من الفقر والصبر لكن حملهم على ذلك شهودهم ما أعد تعالى لأوليائه لما أزال عن قلوبهم التعلق بشيء من الأغيار وحثهم على الاستباق إلى الخيرات وحيازة أفضل الأحوال والمقامات فحينئذ استحقوا أن لا يطردوا عن بابه وأن يعلن بمدحهم بين أحبابه لما أن المساجد مأواهم والله مطلوبهم ومولاهم والجوع طعامهم والسهر إذا نام الناس إدامهم والفقر والفاقة شعارهم والمسكنة والحياء دثارهم فقرهم ليس من الفقر العام الذي هو مطلق الحاجة إلى الله تعالى لأن هذا وصف كل مخلوق وهو المراد بقوله تعالى يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله بل من الفقر الخاص الذي هو شعار أولياء الله تعالى وأحبائه وهو خلو القلب من التعلق بغير أو سوى والتملي بشهوده تعالى في سائر الحركات والسكنات حشرنا الله في زمرتهم لما من به علينا من حقائق محبتهم آمين
تنبيه عد هذا كبيرة هو ما صرح به بعضهم وهو صريح هذا الوعيد الذي لا أشد منه إذ محاربة الله تعالى للعبد لم تذكر إلا في أكل الربا ومعاداة الأولياء ومن عاداه الله لا يفلح أبدا بل لا بد والعياذ بالله تعالى من أن يموت على الكفر عافانا الله من ذلك بمنه وكرمه ثم رأيت الزركشي في الخادم أشار إلى ذلك حيث قال بعد الحديث وتأمل هذا الوعيد وهو حينئذ وأكل الربا في قرن فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وفي فتاوى البديعي من الحنفية من استخف بالعالم طلقت امرأته وكأنه جعله ردة انتهى وقال بعض الأئمة يعني الحافظ الإمام ابن عساكر اعلم يا أخي وفقك الله وإيانا وهداك سبيل الخير وهدانا أن لحوم العلماء مسمومة
وعادة الله في هتك منتقصهم معلومة ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم
____________________
(1/216)
الكبيرة السابعة والخمسون سب الدهر من عالم بما يأتي أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر وبيدي الليل والنهار وفي رواية أقلب ليله ونهاره وإذا شئت قبضتهما
ومسلم لا يسب أحدكم الدهر فإن الله هو الدهر وفي رواية للبخاري لا تسموا العنب الكرم ولا تقولوا خيبة الدهر فإن الله هو الدهر
وأبو داود والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم قال الله عز وجل يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر فلا يقل أحدكم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره
ومالك لا يقل أحدكم يا خيبة الدهر فإن الله هو الدهر
والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم يقول الله عز وجل استقرضت عبدي فلم يقرضني ويشتمني عبدي وهو لا يدري يقول وادهراه وادهراه وأنا الدهر والبيهقي لا تسبوا الدهر قال الله عز وجل أنا الدهر الأيام والليالي أجددها وأبليها وآتي بملوك بعد ملوك
تنبيه عد هذا هو ظاهر هذه الأحاديث ببادئ الرأي لا سيما قوله تعالى ويشتمني عبدي فعد تعالى سب الدهر شتما له أي يؤدي إليه وهو كفر وما أدى إلى الكفر أدنى مراتبه أن يكون كبيرة لكن كلام أئمتنا يأبى ذلك ويصرح بأن ذلك مكروه لا حرام
فضلا عن كونه كبيرة والذي يتجه في ذلك تفصيل وهو أن من سب الدهر فإن أراد به
____________________
(1/217)
الزمن فلا كلام في الكراهة أو الله تعالى فلا كلام في الكفر وإن أطلق فهذا هو محل التردد لاحتماله الكفر وغيره وظاهر كلام أئمتنا الكراهة هنا أيضا لأن المتبادر منه الزمن وإطلاقه على الله تعالى إنما هو بطريق التجوز ومن ثم قالوا في معنى الحديث إن العرب كانوا إذا نزلت بأحدهم نازلة أو أصابته مصيبة أو مكروه يسب الدهر اعتقادا منه أن الذي أصابه فعل الدهر كما كانت العرب تستمطر بالأنواء وتقول مطرنا بنوء كذا اعتقادا أن فاعل ذلك هو الأنواء فكان هذا كاللعن للفاعل ولا فاعل لكل شيء إلا الله تعالى خالق كل شيء وفاعله فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ثم رأيت غير واحد قالوا إن سب الدهر كبيرة إن اعتقد أن له تأثيرا فيما نزل به وفيه نظر لما تقرر أن اعتقاد ذلك كفر وليس الكلام فيه
واعلم أن ابن داود كان ينكر رواية أهل الحديث وأنا الدهر بضم الراء ويقول لو كان كذلك كان الدهر اسما من أسماء الله تعالى
وكان يرويه وأنا الدهر بفتح الراء ظرفا لأقلب أي وأنا أقلب الليل والنهار الدهر أي على طول الزمان وممره وتبعه بعضهم فرجح الفتح وليس كما قالا لأن رواية فإن الله هو الدهر تبطل ما زعماه ومن ثم كان الجمهور على ضم الراء ولا يلزم عليه ما زعمه ابن داود أن الدهر يكون من أسمائه تعالى لما سبق أن ذلك على التجوز لأنه جعل فيه المؤثر هو عين الأثر مبالغة في تعظيم ذلك الأثر وفي الزجر عن سبه ونقصه
الكبيرة الثامنة والخمسون الكلمة التي تعظم مفسدتها وينتشر ضررها مما يسخط الله تعالى ولا يلقي لها قائلها بالا وعد هذه كذلك هو ما وقع لبعض المتأخرين وليس ببعيد لما في ذلك من المفاسد العظيمة والضرر الظاهر كما علم من الترجمة والدليل على ذلك خبر الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها فينزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب
وجاء أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له
____________________
(1/218)
رضوانه إلى يوم القيامة وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له به سخطه إلى يوم القيامة
قال بعض العلماء وهذا كالكلام عند الملوك أو الولاة مما يحصل به خير عام أو شر عام ومنه كلمة تضمنت مذمة سنة أو إقامة بدعة أو إبطال حق أو تحقيق باطل أو سفك دم أو استحلال فرج أو مال أو هتك عرض أو قطع رحم أو وقوع غدرة بين المسلمين أو فراق زوجة أو نحو ذلك
الكبيرة التاسعة والخمسون كفران نعمة المحسن كذا ذكره جماعة وهو بعيد يتعين حمله على كفران نعمة الله تبارك وتعالى إذ هو المحسن على الحقيقة ويمكن حمله أيضا على كفران نعمة محسن تجب مراعاته كالزوج
ويستدل له بخبر النسائي لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر زوجها وهي لا تستغني عنه وبأنه صلى الله عليه وسلم جعل من موجبات كون النساء أكثر أهل النار كفرانهن نعم الزوج وأنه لو أحسن إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منه شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط
ولا شك أن ما في هذين الحديثين فيه وعيد شديد جدا فلا بعد أن يكون كفران نعمة الزوج كبيرة وأما استدلال بعضهم لذلك على إطلاقه بالخبر الصحيح لا يشكر الله من لا يشكر الناس
برفعهما أو نصبهما ورفع الأول ونصب الثاني وعكسه فواضح أنه لا دليل فيه لخصوص الكبيرة إذ لا شيء فيه من علاماتها وقوله عقب الحديث والشكر بالمجازاة أو الثناء أو الدعاء
لخبر الترمذي وابن حبان من أعطي عطاء فوجد فليجز به فمن لم يجد فليثن به فمن أثنى به فقد شكره ومن كتمه فقد كفره
ولا يؤيد ما استدل له فالوجه حمل ذلك على ما ذكرته مع ما فيه أيضا
____________________
(1/219)
الكبيرة الستون ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند سماع ذكره صلى الله عليه وسلم أخرج الحاكم وصححه عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم احضروا المنبر فحضرناه فلما ارتقى درجة قال آمين فلما ارتقى الدرجة الثانية قال آمين فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال آمين فلما نزل قلنا يا رسول الله لقد سمعنا منك اليوم شيئا ما كنا نسمعه قال إن جبريل عرض لي فقال بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له قلت آمين فلما رقيت الثانية قال بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليك قلت آمين فلما رقيت الثالثة قال بعد من أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قلت آمين
وابن حبان في صحيحه صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فلما رقي عتبة قال آمين ثم رقي أخرى فقال آمين ثم رقي عتبة ثالثة فقال آمين ثم قال أتاني جبريل فقال يا محمد من أدرك رمضان ولم يغفر له فأبعده الله فقلت آمين ومن أدرك والديه أو أحدهما فدخل النار فأبعده الله فقلت آمين قال ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فأبعده الله قلت آمين
والطبراني بسند لين أنه صلى الله عليه وسلم ارتقى على المنبر فأمن ثلاث مرات ثم قال تدرون لم أمنت قالوا الله ورسوله أعلم قال جاءني جبريل عليه السلام فقال إنه من ذكرت عنده فلم يصل عليك فأبعده الله وأسحقه قلت آمين ومن أدرك أبويه أو أحدهما فلم يبرهما دخل النار فأبعده الله وأسحقه قلت آمين ومن أدرك رمضان فلم يغفر له دخل النار فأبعده الله وأسحقه فقلت آمين
والبزار والطبراني أنه صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وصعد المنبر فقال آمين آمين آمين فلما انصرف قيل يا رسول الله رأيناك صنعت شيئا ما كنت تصنعه فقال إن جبريل تبدى لي في أول درجة فقال يا محمد من أدرك والديه فلم يدخلاه الجنة فأبعده
____________________
(1/220)
الله ثم أبعده فقلت آمين ثم قال لي في الدرجة الثانية ومن أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فأبعده الله ثم أبعده فقلت آمين ثم تبدى لي في الدرجة الثالثة فقال ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فأبعده الله ثم أبعده فقلت آمين
وابنا خزيمة وحبان في صحيحه واللفظ له أنه صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فقال آمين آمين آمين قيل يا رسول الله إنك صعدت المنبر فقلت آمين آمين آمين فقال إن جبريل عليه السلام أتاني فقال من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين ومن أدرك أبويه أو أحدهما فلم يبرهما فمات فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين
والترمذي وقال حسن غريب
رغم أي بفتح المعجمة ذل أو بكسرها لصق بالرغام وهو التراب ذلا وهوانا أنف من ذكرت عنده فلم يصل عليك ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة
والطبراني عن حسين بن علي رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذكرت عنده فخطئ الصلاة علي خطئ طريق الجنة
وروي مرسلا عن محمد ابن الحنفية قال الحافظ المنذري وهو أشبه وفي رواية لابن أبي عاصم عن محمد ابن الحنفية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذكرت عنده فنسي الصلاة علي خطئ طريق الجنة
وابن ماجه والطبراني وغيرهما بسند فيه مختلف فيه من نسي الصلاة علي خطئ طريق الجنة
____________________
(1/221)
والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه عن الحسين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم والترمذي وزاد في سنده علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال حسن صحيح غريب البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي
وابن أبي عاصم ألا أخبركم بأبخل الناس قالوا بلى يا رسول الله قال من ذكرت عنده فلم يصل علي فذلك أبخل الناس
تنبيه عد هذا هو صريح هذه الأحاديث لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر فيها وعيدا شديدا كدخول النار وتكرر الدعاء من جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم بالبعد والسحق ومن النبي صلى الله عليه وسلم بالذل والهوان والوصف بالبخل بل بكونه أبخل الناس وهذا كله وعيد شديد جدا فاقتضى أن ذلك كبيرة لكن هذا إنما يأتي على القول الذي قال به جمع من الشافعية والمالكية والحنفية والحنابلة إنه تجب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كلما ذكر
وهو صريح هذه الأحاديث وإن قيل إنه مخالف للإجماع قيل هؤلاء على أنها لا تجب مطلقا في غير الصلاة فعلى القول بالوجوب يمكن أن يقال إن ترك الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند سماع ذكره كبيرة
وأما على ما عليه الأكثرون من عدم الوجوب فهو مشكل مع هذه الأحاديث الصحيحة اللهم إلا أن يحمل الوعيد فيها على من ترك الصلاة على وجه يشعر بعدم تعظيمه صلى الله عليه وسلم كأن يتركها لاشتغاله بلهو ولعب محرم فهذه الهيئة الاجتماعية لا يبعد أن يقال إنه حقها من القبح والاستهتار بحقه صلى الله عليه وسلم ما اقتضى أن الترك حينئذ لما اقترن به كبيرة مفسق فحينئذ يتضح أنه لا معارضة بين هذه الأحاديث وما قاله الأئمة من عدم الوجوب بالكلية فتأمل ذلك فإنه مهم ولم أر من نبه على شيء منه ولا بأدنى إشارة
____________________
(1/222)
خاتمة في سرد أحاديث صحيحة وحسنة في فضل الصلاة والسلام على نبينا صلى الله عليه وسلم وقد استوفيت جميع ما فيها وما يتعلق بها في كتابيالدر المنضود في فضائل الصلاة والسلام على صاحب المقام المحمود قال صلى الله عليه وسلم من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشرا
من ذكرت عنده فليصل علي
ومن صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا
من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات وحط عنه بها عشر سيئات ورفعه بها عشر درجات
وفي رواية للطبراني من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشرا ومن صلى علي عشرا صلى الله عليه مائة ومن صلى علي مائة كتب الله بين عينيه براءة من النفاق وبراءة من النار وأسكنه يوم القيامة مع الشهداء
إن جبريل قال لي ألا أبشرك إن الله عز وجل يقول من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت عليه فسجدت لله شكرا
وفي رواية لأبي يعلى سجدت لربي شكرا فيما أبلاني أي أنعم علي في أمتي من صلى علي صلاة من أمتي كتب الله له عشر حسنات
____________________
(1/223)
ومحا عنه عشر سيئات
زاد ابن أبي عاصم ورفعه بها عشر درجات وكن له عدل عشر رقاب
وفي أخرى للنسائي والطبراني والبزاز من صلى علي من أمتي صلاة مخلصا من قلبه صلى الله عليه بها عشر صلوات ورفعه بها عشر درجات وكتب له بها عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات
إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة أي وجبت وتحتمت منه صلى الله عليه وسلم له
من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم واحدة صلى الله عليه وملائكته سبعين صلاة قاله ابن عمر رضي الله عنهما ومثله لا يقال من قبل الرأي فهو في حكم المرفوع
أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة فإنه أتاني جبريل آنفا عن ربه عز وجل فقال ما على الأرض من مسلم يصلي عليك مرة واحدة إلا صليت أنا وملائكتي عليه عشرا
إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام حيثما كنتم فصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني
من صلى علي بلغتني صلاته وصليت عليه وكتب له سوى ذلك عشر حسنات
ما من أحد يسلم علي إلا رد الله إلي روحي أي نطقي إذ الأنبياء أحياء في قبورهم حتى أرد عليه السلام
وفي رواية فيها مجهول إن الله وكل بقبري ملكا أعطاه أسماع الخلائق فلا يصلي علي أحد إلى يوم القيامة إلا بلغني باسمه واسم أبيه هذا فلان بن فلان قد صلى عليك
إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة
من صلى علي
____________________
(1/224)
صلاة لم تزل الملائكة تصلي عليه ما صلى علي فليقلل عبد من ذلك أو ليكثر
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ربع الليل قام فقال يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه
قال أبي بن كعب فقلت يا رسول الله إني أكثر الصلاة فكم أجعل لك من صلاتي قال ما شئت
قلت الربع قال ما شئت وإن زدت فهو خير لك
قال النصف قال ما شئت وإن زدت فهو خير لك
قال أجعل لك صلاتي كلها قال إذا تكفى ما همك ويغفر لك ذنبك
وقال رجل يا رسول الله أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك قال إذا يكفيك الله تبارك وتعالى ما أهمك من دنياك وآخرتك
أيما رجل مسلم لم يكن عنده صدقة فليقل في دعائه اللهم صل على محمد عبدك ورسولك وصل على المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات فإنها زكاة
وقال لا يشبع مؤمن من خير حتى يكون منتهاه الجنة أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة وإن أحدا لن يصلي علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ منها
قال أبو الدرداء قلت وبعد الموت
قال إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء
أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة فإن صلاة أمتي تعرض علي في كل يوم جمعة فمن كان أكثرهم علي صلاة كان أقربهم مني
____________________
(1/225)
منزلة
من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي قالوا يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت أي بفتح أوليه أو بضم الهمزة فكسر الراء يعني بليت فقال إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء
وروى الطبراني في الكبير والأوسط من قال جزى الله عنا محمدا ما هو أهله أتعب سبعين كاتبا ألف صباح
وأبو يعلى ما من عبدين متحابين يستقبل أحدهما صاحبه ويصليان على النبي صلى الله عليه وسلم إلا لم يتفرقا حتى يغفر لهما ذنوبهما ما تقدم منها وما تأخر
الكبيرة الحادية والستون قسوة القلب بحيث تحمل صاحبها على منع إطعام المضطر مثلا أخرج الحاكم عن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اطلبوا المعروف من رحماء أمتي تعيشوا في أكنافهم ولا تطلبوه من القاسية قلوبهم فإن اللعنة تنزل عليهم يا علي إن الله خلق المعروف وخلق له أهلا فحببه إليهم وحبب إليهم فعاله ووجه إليهم طلابه كما وجه الماء إلى الأرض الجدبة ليحيي به أهلها وإن أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة
والخرائطي في مكارم الأخلاق اطلبوا الحوائج عند الرحماء من أمتي تعيشوا في أكنافهم فإن فيهم رحمتي ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم فإنهم ينتظرون سخطي
____________________
(1/226)
تنبيه عد هذا هو صريح هذين الحديثين فإن اللعنة والسخط من أمارات الكبيرة لما فيهما من الوعيد الشديد ولكن ينبغي حمل القسوة المذكورة فيهما على ما ذكرته في الترجمة وهذا كله ظاهر وإن لم أر من صرح به ولا أشار إليه
الكبيرة الثانية والثالثة والستون الرضا بكبيرة من الكبائر أو الإعانة عليها بأي نوع كان وذكري لهذين ظاهر معلوم من كلامهم فيما يأتي في بحث ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الكبيرة الرابعة والستون ملازمة الشر والفحش حتى يخشاه الناس اتقاء شره أخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من ودعه الناس أو تركه الناس اتقاء فحشه
والترمذي وابن حبان الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة والبذاء أي الفحش من الجفاء والجفاء في النار
وأحمد إن الفحش والتفحش ليسا من الإسلام في شيء وإن أحسن الناس إسلاما أحسنهم خلقا
الكبيرة الخامسة والستون كسر الدراهم والدنانير كذا ذكره بعضهم واستدل بقوله تعالى وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون
نقل المفسرون عن زيد بن أسلم أنهم كانوا يكسرون الدراهم
____________________
(1/227)
ولخبر أبي داود نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس انتهى
ولا دليل في ذلك بل الكلام في حرمة ذلك فضلا عن كونه كبيرة والوجه أنه لا يحرم إلا إن كان فيه نقص لقيمتها وعليه يحمل الحديث إن صح
الكبيرة السادسة والستون ضرب نحو الدراهم والدنانير على كيفية من الغش التي لو اطلع عليها الناس لما قبلوها وذكري لهذا ظاهر وإن لم أر من صرح به
ووجهه أن دلائل الغش الآتية في كتاب البيع تشمل هذا وأيضا ففيه أكل أموال الناس بالباطل إذ غالب المنهمكين على ضرب الكيمياء أنهم لا يحسنونها وإنما يصبغون أو يلبسون أو نحو ذلك من الغش المستلزم لتغرير الناس وأكل أموالهم بالباطل
ولذلك تجدهم قد محقهم الله البركة وسحقهم فلا يستتر لهم عوار ولا تحمد لهم آثار ولا يقر لهم في محل قرار بل ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بأقبح وصف وحرموا الجنة لأنهم أخلصوا القصد في محبة الدنيا وتحصيلها بالباطل ورضوا بغش المسلمين وأكل أموالهم وضياعها فيما ليس بطائل فوفقهم الله لاتباع الحق وسلوك سبيله ومجانبة الباطل وقبيله
سيما أهل هذه الصناعة الرذيلة التي أوسعوا في طرق تحصيلها الحيلة ومع ذلك لا يزدادون إلا فقرا ولا يذوقون فيها إلا ذلا وقهرا وفقنا الله وإياهم لطاعته آمين
____________________
(1/228)
@ 229 الباب الثاني في الكبائر الظاهرة وقد عزمت أن أرتبها على ترتيب أبواب الفقه ليسهل الكشف عنها كتاب الطهارة باب الآنية الكبيرة السابعة والستون الأكل أو الشرب في آنية الذهب أو الفضة أخرج مسلم وابن ماجه عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الذي يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر أي يصوت في بطنه نار جهنم
زاد الطبراني إلا أن يتوب
والنسائي عن أنس
نهي عن الأكل والشرب في إناء الذهب والفضة
وروى الشيخان عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم
وفي رواية لمسلم عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يشرب في إناء من ذهب أو فضة فإنما يجرجر في بطنه نارا من جهنم
تنبيهات منها عد هذا كبيرة هو ما جرى عليه بعض أئمتنا وكأنه أخذ ذلك مما ذكر في هذه الأحاديث فإن تصويت النار في جوفه المتوعد به على ذلك عذاب شديد
ثم رأيت شيخ الإسلام صلاح الدين العلائي صرح بما ذكرته من توجيه كون ذلك كبيرة وزاد نقله عن الأصحاب وتبعه شيخ الإسلام الجلال البلقيني فقال قال الشيخ صلاح الدين العلائي وقد صرح أصحابنا بأن الشرب من آنية الذهب والفضة كبيرة وهو منطبق على ما تقدم من أن ما توعد عليه بالنار كبيرة انتهى
ونقل ذلك الدميري في منظومته عن جماعة أيضا فقال
____________________
(1/229)
وعد منهن ذوو الأعمال آنية النقدين في استعمال لكن الذي جرى عليه الأذرعي وغيره ونقلوه عن الجمهور أن ذلك صغيرة
ومنها ذكر الأكل والشرب في الحديث مثال ولذا ألحقوا بهما سائر وجوه الاستعمال وألحقوا بالاستعمال الاقتناء أيضا فيحرم لأن اقتناء ذلك يجر إلى استعماله كاقتناء آلة اللهو والمراد بالإناء كل ما يستعمل في أمر وضع له عرفا فيدخل فيه المرود والمكحلة والخلال وما يخرج به وسخ الأذن ونحو ذلك
نعم إن كان بعينه أذى وقال له طبيب عدل إن الاكتحال بمرود الذهب أو الفضة ينفع ذلك حل له استعماله للضرورة ولا يشترط تمحض الإناء من الذهب أو الفضة بل لو غشي إناء نحو نحاس بذهب أو فضة بحيث ستر عينه وكان يتحصل منه شيء لو عرض على النار حرم استعماله أيضا لأنه حينئذ بمنزلة إناء النقدين والعلة في تحريمه العين والخيلاء ومن ثم لو غشي إناء النقد بنحو نحاس حتى عمه جميعه حل استعماله وإن لم يتحصل منه شيء بالنار كما لو صدئ إناء الذهب وعمه الصدأ فإنه يحل استعماله لفوات أحد جزأي العلة وهو الخيلاء ويحل استعمال الأواني النفيسة المثمنة كالياقوت واللؤلؤ لانتفاء العين ولا نظر لوجود الخيلاء فيها لأنه وحده لا يكفي على أنه لا يعرف ذلك إلا الخواص فلا تنكسر باستعماله قلوب الفقراء لأنهم لو رأوه لم يعرفه غالبهم بخلاف الذهب أو الفضة فإنه لا يخفى على أحد منهم فلو جاز استعماله لأدى إلى كسر قلوبهم
ومنها لا فرق في تحريم ما مر بين الرجال والنساء والمكلفين وغيرهم حتى يحرم على المرأة أن تسقي طفلها في مسعط فضة ويستثنى من حرمة استعمال ما مر الضبة الصغيرة عرفا للزينة إذا كانت من فضة فإنها تحل مع الكراهة لأن قدح النبي صلى الله عليه وسلم كان به ضبة وأصل الضبة ما يصلح به خلل الإناء كشريط يشد به كسره أو خدشه ثم أطلقت على ما هو للزينة توسعا وكذا تحل ضبة لحاجة لكن تكره إن كانت كبيرة وليس من الاستعمال المحرم ما يتلقى بالفم أو اليد من ماء ميزاب الكعبة النازل منه لأن ذلك لا يعد استعمالا عرفا ولا الجلوس تحت سقف مموه بما لا يتحصل منه شيء من ذهب أو فضة
والحيلة في حل استعمال آنية النقد أن يصب مما فيه في اليد اليسار أو في إناء ثم يأخذ منه بيمينه لأنه حينئذ لا يسمى عرفا مستعملا لإناء النقد
نعم الظاهر أن هذه الحيلة إنما تمنع حرمة مباشرة الاستعمال من الإناء
أما حرمة استعماله بوضع مظروفه فيه وحرمة اتخاذه فلا حيلة فيهما فتأمل ذلك فإنه مهم وربما يتوهم من كلامهم نفع هذه الحيلة في الكل
____________________
(1/230)
@ 231 باب الأحداث الكبيرة الثامنة والستون نسيان القرآن أو آية منه بل أو حرف أخرج الترمذي والنسائي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد وعرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها
وأبو داود عن سعد بن عبادة ما من امرئ يقرأ القرآن ثم ينساه إلا لقي الله يوم القيامة أجذم
وأخرج محمد بن نصر عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال إن من أكبر ذنب توافى به أمتي يوم القيامة لسورة من كتاب الله كانت مع أحدهم فنسيها
وأخرج ابن أبي شيبة عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عرضت علي الذنوب فلم أر فيها شيئا أعظم من حامل القرآن وتاركه أي بعد ما كان حامله بأن نسيه
وأخرج أيضا عن سعد بن عبادة ما من أحد يقرأ القرآن ثم ينساه إلا لقي الله وهو أجذم
وأخرج محمد بن نصر عن سعد بن عبادة من تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله وهو أجذم
تنبيهات عد نسيان القرآن كبيرة هو ما جرى عليه الرافعي وغيره لكن قال في الروضة إن حديث أبي داود والترمذي عرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها في إسناده ضعف
وقد تكلم فيه الترمذي انتهى
وكلام الترمذي الذي أشار إليه هو قوله عقبه غريب لا نعرفه إلا من
____________________
(1/231)
هذا الوجه وذاكرت به محمد بن إسماعيل أي البخاري فلم يعرفه واستغربه
قال محمد ولا نعرف للمطلب بن حنطب أي رواية سماعا من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
قال عبد الله وأنكر علي بن المديني أن يكون المطلب سمع من أنس
انتهى كلام الترمذي وبه يعلم أن مراد النووي بقوله في إسناده ضعف أي انقطاع لا ضعف في الراوي الذي هو المطلب لأنه ثقة كما قاله جماعة
لكن قال محمد بن سعيد لا يحتج بحديثه لأنه يرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا وليس له لقي
وبين الدارقطني أن فيه انقطاعا آخر وهو أن ابن جريج راويه عن المطلب المذكور لم يسمع من المطلب شيئا كما أن المطلب لم يسمع من أنس شيئا فلم يثبت الحديث بسبب ذلك وما ذكر أنه لم يسمع من أحد من الصحابة شيئا يرد عليه قول الحافظ المنذري إنه روى عن أبي هريرة
وحديث ما من امرئ يقرأ القرآن ثم ينساه إلا لقي الله يوم القيامة أجذم فيه انقطاع وإرسال أيضا وسكوت أبي داود عليه معترض بأن فيه يزيد بن أبي زياد وليس صالحا للاحتجاج به عند كثيرين
لكن قال أبو عبيد الآجري عن أبي داود لا أعلم أحدا ترك حديثه وغيره أحب إلي منه
وقال ابن عدي هو من شيعة أهل الكوفة ومع ضعفه يكتب حديثه انتهى وبالتعبير فيه بامرئ الشامل للرجل وغيره يعلم أن ذكر الرجل في الحديث الذي قبل هذا إنما هو للغالب
ومنها الظاهر من الروضة أنه موافق للرافعي على ما مر عنه من أن ذلك كبيرة فإنه لم يعترضه في الحكم وإنما أفاد أن الحديث ضعيف على ما مر ومن ثم جرى مختصرو الروضة وغيرهم على ذلك وبه يتضح قول الصلاح العلائي في قواعده إن النووي قال اختياري أن نسيان القرآن من الكبائر لحديث فيه انتهى فأراد باختياره لذلك أنه أقر الرافعي عليه وذلك مشعر باختياره واعتماده
نعم قوله لحديث فيه فيه نظر لأنه لم يختره لذلك الحديث كيف وهو مصرح بضعف ذلك الحديث والطعن فيه وإنما سبب تقريره للرافعي على ذلك اتضاحه من جهة المعنى وإن كان في دليله شيء على أن الذي مر أن فيه انقطاعا وإرسالا وقد يؤخذ من تعداد طرقه التي أشرت إليها فيما مر جبر ما فيه
وبما وجهت به كلام العلائي مع النظر فيه من الجهة السابقة يعلم ما في قول الجلال البلقيني لم يظهر من كلام النووي اختيار كونه كبيرة خلافا للعلائي وبذلك أيضا يرد قول الزركشي إنه في الروضة خالف الرافعي في كون نسيان القرآن كبيرة
____________________
(1/232)
ومنها قال الخطابي قال أبو عبيدة الأجذم المقطوع اليد
وقال ابن قتيبة الأجذم هاهنا المجذوم
وقال ابن الأعرابي معناه لا حجة له ولا خير فيه
وجاء مثله عن سويد بن غفلة
ومنها قال الجلال البلقيني والزركشي وغيرهما محل كون نسيانه كبيرة عند من قال به إذا كان عن تكاسل وتهاون انتهى وكأنه احترز بذلك عما لو اشتغل عنه بنحو إغماء أو مرض مانع له من القراءة وغيرهما من كل ما لا يتأتى معه القراءة وعدم التأثيم بالنسيان حينئذ واضح لأنه مغلوب عليه لا اختيار له فيه بوجه بخلاف ما إذا اشتغل عنه بما يمكنه القراءة معه وإن كان ما اشتغل به أهم وآكد كتعلم العلم العيني لأنه ليس من شأن تعلمه الاشتغال به عن القرآن المحفوظ حتى نسي ويؤخذ من قولهم إن نسيان آية منه كبيرة أيضا أنه يجب على من حفظه بصفة من إتقان أو توسط أو غيرهما كأن كان يتوقف فيه أو يكثر غلطه فيه أن يستمر على تلك الصفة التي حفظه عليها فلا يحرم عليه إلا نقصها من حافظته أما زيادتها على ما كان في حافظته فهو وإن كان أمرا مؤكدا ينبغي الاعتناء به لمزيد فضله إلا أن عدمه لا يوجب إثما
وحمل أبو شامة شيخ النووي وتلميذ ابن الصلاح الأحاديث في ذم نسيان القرآن على ترك العمل لأن النسيان هو الترك لقوله تعالى ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي قال وللقرآن يوم القيامة حالتان إحداهما الشفاعة لمن قرأه ولم ينس العمل به
والثانية الشكاية على من نسيه أي تركه تهاونا به ولم يعمل بما فيه قال ولا يبعد أن يكون من تهاون به حتى نسي تلاوته كذلك انتهى
وهذا الذي زعم أنه لا يبعد هو المتبادر من النسيان الواقع في الأحاديث السابقة فهو المراد منها خلافا لما زعمه
وسيأتي في حديث البخاري في كتاب الصلاة تشديد عظيم وعذاب أليم لمن أخذ القرآن ثم رفضه ونام عن الصلاة المكتوبة وهذا ظاهر في النسيان أيضا
ومنها قال القرطبي لا يقال حفظ جميع القرآن ليس واجبا على الأعيان فكيف يذم من تغافل عن حفظه لأنا نقول من جمعه فقد علت رتبته وشرف في نفسه وقومه وكيف لا ومن حفظه فقد أدرجت النبوة بين جنبيه وصار ممن يقال فيه هو من أهل الله وخاصته فإذا كان كذلك فمن المناسب تغليظ العقوبة على من أخل بمرتبته الدينية ومؤاخذته بما لا يؤاخذ به غيره وترك معاهدة القرآن يؤدي إلى الجهالة انتهى
____________________
(1/233)
الكبيرة التاسعة والستون الجدال والمراء وهو المخاصمة والمحاججة وطلب القهر والغلبة في القرآن أو الدين أخرج الطيالسي والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال لا تجادلوا في القرآن فإن جدالا فيه كفر
والحاكم عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال الجدال في القرآن كفر
وأبو داود والحاكم عنه أيضا المراء في القرآن كفر
والسجزي عن أبي سعيد نهي عن الجدال في القرآن وفي رواية له عن ابن عمر دعوا المراء في القرآن فإن الأمم قبلكم لم يلعنوا حتى اختلفوا في القرآن إن مراء في القرآن كفر
والطبراني وغيره لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر
والديلمي لا تجادلوا في القرآن ولا تكذبوا كتاب الله بعضه ببعض فوالله إن المؤمن ليجادل به فيغلب وإن المنافق ليجادل به فيغالب
والطبراني عن ابن عمر قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم يتنازعون في القرآن فقال يا قوم بهذا هلكت الأمم قبلكم من القرون إن القرآن يصدق بعضه بعضا فلا تكذبوا بعضه ببعض
والطبراني وفيه من اختلف في توثيقه عن أبي سعيد الخدري قال كنا جلوسا عند باب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتذاكر ينزع هذا بآية وينزع هذا بآية فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما ينقع في وجهه حب الرمان فقال يا هؤلاء أبهذا بعثتم أم بهذا أمرتم لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض وصح ما
____________________
(1/234)
ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدال ثم قرأ ما ضربوه لك إلا جدلا
وروى الشيخان إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم أي الشديد الخصومة الذي يحج مخاصمه
وصح عنه صلى الله عليه وسلم إن عيسى قال إنما الأمور ثلاثة أمر تبين لك رشده فاتبعه وأمر تبين لك غيه فاجتنبه وأمر اختلف فيه فرده إلى عالمه
وروى الطبراني أن جماعة من الصحابة قالوا خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ونحن نتمارى في شيء من أمر الدين فغضب غضبا شديدا لم يغضب مثله ثم انتهرنا فقال مهلا يا أمة محمد
إنما هلك من كان قبلكم بهذا ذروا المراء لقلة خيره ذروا المراء فإن المؤمن لا يماري ذروا المراء فإن المماري قد تمت خسارته ذروا المراء فكفى إثما أن لا تزال مماريا ذروا المراء فإن المماري لا أشفع له يوم القيامة ذروا المراء فأنا زعيم بثلاثة أبيات في الجنة في رباضها أي أسفلها ووسطها وأعلاها لمن ترك المراء وهو صادق ذروا المراء فإن أول ما نهاني عنه ربي بعد عبادة الأوثان المراء الحديث وقوله بعد عبادة الأوثان لا يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم عبدها حاشاه من ذلك إذ الأنبياء معصومون من الكفر بإجماع من يعتد به
تنبيه عد هذا كبيرة لم أر من سبقني إليه وهذه الأحاديث كما ترى ظاهرة في ذلك والحديث الأخير وإن كان ضعيفا إلا أنه يعضده حديث البخاري أبغض الرجال عند الله الألد الخصم
وقد أخذ جمع عد الوطء في دبر الحليلة كبيرة من نظير هذا وهو الحكم عليه في بعض الأحاديث الآتية بأنه كفر فكذا يقال هنا إن تسميته كفرا ظاهر في أنه كبيرة بل ما هنا أولى لأنه أقرب إلى الكفر الحقيقي من ذلك الوطء
____________________
(1/235)
لأن الجدال والمراء في القرآن إن أدى إلى اعتقاد وقوع تناقض حقيقي أو اختلال في نظمه كان كفرا حقيقيا وإن لم يؤد لذلك وإنما أوهم به الناس تناقضا أو اختلالا أو أدخل بالكلام في القرآن عليهم شبهة ونحوها فهذا وإن لم يكن كفرا حقيقيا إلا أنه لا يبعد أن يكون كبيرة لعظم ضرره في الدين وأدائه إلى سلوك سبيل الملحدين
ولقد ضرب عمر رضي الله عنه من أراد إدخال أدنى شبهة على الناس بسؤاله عن نحو قوله تعالى فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون مع قوله تعالى فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون وعن قوله تعالى اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم مع قوله تعالى يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم قوله تعالى هذا يوم لا ينطقون ونفاه من المدينة لأنه خشي من فتح هذا الباب أن يتطرق الناس إلى اعتقاد نوع نقص في القرآن المنزه المكرم
والحاصل أن الجدال فيه إما كفر أو عظيم الضرر في الدين فكان إما كفرا أو كبيرة
وبذلك صح ما ذكرته واتضح ما حررته والله تعالى الموفق
ثم رأيت بعضهم عد الخصام من الكبائر كما سيأتي وهو يؤيد ما ذكرته
خاتمة في بعض أحاديث منبهة على أمور مهمة تتعلق بالقرآن أخرج أحمد والبخاري والترمذي وابن حبان تذاكروا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم من عقلها
ومحمد بن نصر والطبراني والحاكم تعاهدوا القرآن فإنه وحشي فلهو أسرع تفصيا من صدور الرجال من الإبل من عقلها
والطبراني والخطيب تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا من صدور الرجال من الإبل النوازع إلى أوطانها
____________________
(1/236)
وأبو داود والترمذي وابن ماجه لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث أي لأنه حينئذ لا يتأمل معانيه ولا يحكم مبانيه
والطبراني والدارقطني والحاكم لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر
وأبو داود والترمذي لا يمس القرآن إلا طاهر
ومسلم لا يقل أحدكم نسيت آية كيت وكيت بل هو نسي
والشيخان وغيرهما بئسما لأحدكم أن يقول نسيت آية كيت وكيت بل هو نسي
وأيضا نهي أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو
والترمذي ما آمن بالقرآن من استحل محارمه
والبيهقي من قرأ القرآن ليأكل به أموال الناس جاء يوم القيامة ووجهه عظم ليس عليه لحم
والبيهقي وضعفه عن أبي بن كعب قال علمت رجلا القرآن فأهدى إلي قوسا فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن أخذتها أخذت قوسا من نار
وفي رواية لأحمد وابن منيع وعبد بن حميد والطبراني والحاكم والبيهقي وأبي داود وابن ماجه وأبي يعلى عن عبادة بن الصامت بمثل قصة أبي إن كنت تحب أن تطوق بها طوقا من نار فخذها
وأبو نعيم إن أردت أن يقلدك الله قوسا من نار فخذها
____________________
(1/237)
والطبراني من يأخذ على تعليم القرآن قوسا قلده الله قوسا من نار
وأبو نعيم من أخذ على القرآن أجرا فقد تعجل حسناته في الدنيا والقرآن يحاججه يوم القيامة
وأخذ جماعة بظاهر هذه الأحاديث فحرموا الاستئجار لتعليم القرآن وجوزه الأكثرون لقوله صلى الله عليه وسلم إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله
ومحمد بن نصر عن عمير بن هانئ قال قالوا يا رسول الله إنا لنجد للقرآن منك ما لا نجد من أنفسنا إذا نحن خلونا فقال أجل
أنا أقرؤه لبطن وأنتم تقرءونه لظهر
قالوا يا رسول الله ما البطن من الظهر قال أنا أقرؤه وأتدبره وأعمل بما فيه تقرءونه أنتم هكذا وأشار بيده فأمرها
والسجزي وقال غريب وفي بعض رواته مقال
وابن السني والديلمي حملة القرآن ثلاثة أحدهم اتخذه متجرا والآخر يزهو به حتى لهو أزهى به من مزامير على منبر فيقول والله لا ألحن ولا يعيبني فيه حرف فتلك الطائفة شرار أمتي وحمله آخر فسربله جوفه وألهمه قلبه فاتخذ قلبه محرابا الناس منه في عافية ونفسه منه في بلاء فأولئك أقل في أمتي من الكبريت الأحمر
وابن حبان في الضعفاء والسجزي وقال غريب وفي رواته مقال
والديلمي عن بريدة
والبيهقي عن الحسن من قوله قراء القرآن ثلاثة رجل قرأ القرآن فاتخذه بضاعة استمال به الناس ورجل قرأ القرآن فأقام حروفه وضيع حدوده كثر هؤلاء من قراء القرآن لا كثرهم الله تعالى ورجل قرأ القرآن فوضع دواء القرآن على داء قلبه فأسهر به ليله وأظمأ به نهاره وقاموا في مساجدهم وحفوا به تحت برانسهم فهؤلاء
____________________
(1/238)
يدفع الله بهم البلاء وينيل من الأعداء وينزل غيث السماء فوالله لهؤلاء من القراء أعز من الكبريت الأحمر باب قضاء الحاجة الكبيرة السبعون التغوط في الطرق أخرج الطبراني والبيهقي وغيرهما بسند رواته ثقات إلا محمد بن عمرو الأنصاري عن محمد بن سيرين قال قال رجل لأبي هريرة أفتيتنا في كل شيء يوشك أن تفتينا في الخرء فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من سل سخيمته على طريق من طرق المسلمين فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين
والطبراني بإسناد حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم
والخطيب من تغوط على حافة نهر يتوضأ منه ويشرب فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين
وأحمد اتقوا الملاعن الثلاث قيل ما الملاعن الثلاث يا رسول الله قال أن يقعد أحدكم في ظل يستظل به أو في طريق أو في نقع ماء
وفي رواية مرسلة اتقوا الملاعن الثلاث البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل
____________________
(1/239)
وفي أخرى لمسلم وغيره اتقوا اللاعنين قالوا وما اللاعنان يا رسول الله قال الذي يتخلى في طريق الناس وفي ظلهم
أي الذي اتخذوه مقيلا ومنزلا لا مطلقا لأنه صلى الله عليه وسلم قضى حاجته تحت حائش من النخل وهو لا محالة له ظل قاله الخطابي
وفي أخرى لابن ماجه بسند رواته ثقات إياكم والتعريس على جواد الطريق والصلاة عليها فإنها مأوى الحيات والسباع وقضاء الحاجة عليها فإنها الملاعن
تنبيه عد هذا من الكبائر هو ما اقتضاه الحديث الأول والثاني لما مر أن من أمائر الكبيرة اللعن
لكن أئمتنا لم يعولوا على ذلك لضعف الحديث الأول كما عرف مما مر فيه وإنما الخلاف بينهم في أنه هل هو صغيرة أو مكروه والأصح أنه مكروه
لكن تلك الأحاديث ترجح الحرمة التي جرى عليها صاحب العدة من أصحابنا ونقله عنه الشيخان في باب الشهادة وأقراه واعتمده بعض المتأخرين
وفي الخادم مراد صاحب العدة التحريم من جهة أن فيه إيذاء للمسلمين بإشغال الطريق بغير حقه من الطروق
أما من حيث كونه أدبا من آداب قضاء الحاجة فلا ينتهي إلى التحريم فهو ذو وجهين هذا إن جرينا على أن مراد صاحب العدة ما فهمه عنه الرافعي والظاهر خلافه وإنما أراد أن ذلك مما ترد به الشهادة لأنه يخل بالمروءة لا لكونه حراما
انتهى ملخصا
الكبيرة الحادية والسبعون عدم التنزه من البول في البدن أو الثوب أخرج الشيخان وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير بلى إنه لكبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستنزه من بوله
وفي رواية للبخاري وابن خزيمة في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم مر بحائط فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما فقال صلى الله عليه وسلم إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير ثم قال بلى إن أحدهما كان لا يستنزه من بوله وكان الآخر يمشي بالنميمة الحديث
____________________
(1/240)
وفي رواية سندها لا بأس إلا أن فيها مختلفا في توثيقه عامة عذاب القبر في البول وفي لفظ من البول فاستنزهوا من البول
وفي أخرى صحيحة أكثر عذاب القبر من البول
وفي أخرى سندها لا بأس به اتقوا البول فإنه أول ما يحاسب به العبد في القبر
وفي أخرى لأحمد والطبراني واللفظ له عن أبي بكرة قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي بيني وبين رجل آخر إذ أتى على قبرين فقال إن صاحبي هذين القبرين يعذبان فأتياني بجريدة قال أبو بكر فاستبقت أنا وصاحبي فأتيته بجريدة فشقها نصفين فوضع في هذا القبر واحدة وفي ذا القبر واحدة وقال لعله يخفف عنهما ما دامتا رطبتين
وفي أخرى لأحمد واللفظ له وابن ماجه عن أبي أمامة قال مر النبي صلى الله عليه وسلم في يوم شديد الحر ببقيع الغرقد قال وكان الناس يمشون خلفه قال فلما سمع صوت النعال وقر ذلك في نفسه فجلس حتى قدمهم أمامه فلما مر ببقيع الغرقد إذا بقبرين قد دفنوا فيهما رجلين قال فوقف النبي صلى الله عليه وسلم فقال من دفنتم هاهنا اليوم قالوا فلان وفلان قالوا يا نبي الله وما ذاك قال أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة وأخذ جريدة رطبة فشقها ثم جعلها على القبر قالوا يا نبي الله لم فعلت هذا قال ليخفف عنهما قالوا يا نبي الله حتى متى هما يعذبان قال غيب لا يعلمه إلا الله ولولا تمزع قلوبكم وتزيدكم في الحديث لسمعتم ما أسمع
وفي أخرى لابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه كنا نمشي مع
____________________
(1/241)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررنا على قبرين فقام فقمنا معه فجعل لونه يتغير حتى رعد كم قميصه فقلنا ما لك يا رسول الله فقال أما تسمعون ما أسمع فقلنا وما ذاك يا نبي الله قال هذان رجلان يعذبان في قبورهما عذابا شديدا في ذنب هين أي في ظنهما أو هين عليهما اجتنابه قلنا فبم ذاك قال كان أحدهما لا يستنزه من البول وكان الآخر يؤذي الناس بلسانه ويمشي بينهم بالنميمة فدعا بجريدتين من جرائد النخل فجعل في كل قبر واحدة قلنا يا رسول الله وهل ينفعهم ذلك قال نعم يخفف عنهما ما دامتا رطبتين
وأخرج ابن أبي الدنيا والطبراني بإسناد لين وأبو نعيم أنه صلى الله عليه وسلم قال أربعة يؤذون أهل النار على ما بهم من الأذى يسعون بين الحميم والجحيم يدعون بالويل والثبور يقول أهل النار بعضهم لبعض ما بال هؤلاء قد آذونا على ما بنا من الأذى قال فرجل يغلق عليه تابوت من جمر ورجل يجر أمعاءه ورجل يسيل فوه قيحا ودما ورجل يأكل لحمه قال فيقال لصاحب التابوت ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى فيقول إن الأبعد مات وفي عنقه أموال الناس ما يجد لها قضاء أو وفاء
ثم يقال للذي يجر أمعاءه ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى فيقول إن الأبعد كان لا يبالي أين أصاب البول منه لا يغسله
ويأتي في بحث الغيبة تمام الحديث
وأخرج أحمد والنسائي أو ما علمتم ما أصاب صاحب بني إسرائيل كانوا إذا أصابهم شيء من البول قرضوه بالمقاريض فنهاهم صاحبهم فعذب في قبره
تنبيه قد علمت من هذه الأحاديث أنها مصرحة بأن عدم التنزه عن البول كبيرة وبه صرح جماعة من أئمتنا وسبقهم إليه البخاري فإنه ترجم على روايته السابقة باب من الكبائر أن لا يستنزه من البول
قال الخطابي قوله صلى الله عليه وسلم وما يعذبان في كبير معناه أنهما لم يعذبا في أمر كان يكبر عليهما أو يشق فعله لو أرادا أن يفعلاه وهو التنزه من البول وترك النميمة ولم يرد أن المعصية في هاتين الخصلتين ليست بكبيرة في حق الدين وأن الذنب فيهما هين سهل
قال الحافظ المنذري ولخوف توهم مثل هذا استدرك
____________________
(1/242)
صلى الله عليه وسلم فقال بلى إنه كبير
وفي هذه الأحاديث دلالة ظاهرة لقول جماعة من أصحابنا يجب الاستبراء بأن يمشي خطوات أو ينتر ذكره أو يتنحنح وقد جرت لكل إنسان عادة في الاستبراء لا تخرج فضلات بوله إلا بها فليفعل كل إنسان عادته لكن لا ينبغي له الاستقصاء في ذلك فإنه يورث الوسواس ويضر به سيما بالذكر إذا أكثر من جذبه وكذلك يتعين على الإنسان في غائطه أن يبالغ في غسل محله وأن يسترخي قليلا حتى يغسل ما في تضاعيف شرج حلقة دبره فإن كثيرين ممن لا يسترخون ولا يبالغون في غسل ذلك المحل يصلون بالنجاسة فيحصل لهم ذلك الوعيد الشديد المذكور في تلك الأحاديث لأنه إذا ترتب على البول فلأن يترتب على الغائط من باب أولى لأنه أقذر وأفحش
وقد حكى الأئمة أن ابن أبي زيد المالكي رئي في النوم فقيل له ما فعل الله بك قال غفر لي قيل بماذا قال بقولي في الرسالة في باب الاستنجاء وأن يسترخي قليلا وكان أول من قالها أي لما تقرر من أن الإنسان إذا أرخى مقعدته قليلا ظهرت تلك التضاعيف والتثني الذي في فم الدبر فيصله الماء وينقي ما فيه بخلاف ما إذا غسله بدون ذلك والواجب في ذلك أن يغسل حتى يغلب على ظنه زوال عين النجاسة وآثارها عن جميع حد الظاهر وإذا غلب على ظنه زوال ذلك ثم شم في يده ريح النجاسة فإن كان في جرم اليد المباشر للمحل وجب غسله لأن ذلك يدل على نجاسته وإن لم يشمها من ذلك كأن شمها من بين أصابعه أو شك لم يلزمه إلا غسل يده لاحتمال أن الريح في المحل الذي لم يباشر الدبر
باب الوضوء الكبيرة الثانية والسبعون ترك شيء من واجبات الوضوء أخرج الطبراني في الكبير أنه صلى الله عليه وسلم قال من لم يخلل أصابعه بالماء خللها الله بالنار يوم القيامة ورواه في الأوسط مرفوعا وفي الكبير موقوفا على ابن مسعود بإسناد حسن بلفظ لتنهكن الأصابع بالطهور أو لتنهكنها النار النهك المبالغة أي
____________________
(1/243)
لتبالغن في غسلها أو لتبالغن النار في إحراقها وفي رواية له في الكبير موقوفا خللوا الأصابع الخمس لا يحشوها الله نارا
وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا لم يغسل عقبيه فقال ويل للأعقاب من النار وفي رواية لهما أنه رأى قوما يتوضئون من المطهرة فقال أسبغوا الوضوء فإني سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم قال ويل للأعقاب من النار أو ويل للعراقيب من النار
وفي رواية موقوفة لأحمد ومرفوعة للطبراني في الكبير وابن خزيمة في صحيحه ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار
وفي أخرى للطبراني في سندها ابن لهيعة عن أبي الهيثم رضي الله عنه قال رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوضأ فقال بطن القدم يا أبا الهيثم
وروى مسلم وأبو داود واللفظ له والنسائي وابن ماجه وكذا البخاري بنحوه أنه صلى الله عليه وسلم رأى قوما وأعقابهم تلوح فقال ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء
وروى أحمد بسند صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاته بسورة الروم فلبس بعضها فقال إنما لبس علينا الشيطان القراءة من أجل أقوام يأتون الصلاة بغير وضوء فإذا أتيتم الصلاة فأحسنوا الوضوء
وفي رواية له صحيحة أيضا فتردد في آية فلما انصرف قال إنه لبس علينا القراءة أن أقواما منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء
____________________
(1/244)
وروى ابن ماجه بإسناد جيد أنه صلى الله عليه وسلم قال لا تتم صلاة لأحد حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله بغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح رأسه ورجليه إلى الكعبين
وأخرج أحمد والطبراني بسند لا بأس به خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حبذا المتخللون من أمتي قالوا وما المتخللون يا رسول الله قال المتخللون بالوضوء والمتخللون من الطعام
أما تخليل الوضوء فالمضمضة والاستنشاق وبين الأصابع
وأما تخليل الطعام فمن الطعام أنه ليس شيء أشد على الملكين من أن يريا بين أسنان صاحبهما طعاما وهو قائم يصلي
تنبيه استفيد من هذه الأحاديث التوعد الشديد على من ترك شيئا من واجب غسل الأيدي والأرجل ويقاس به بقية واجبات الوضوء فيدخل ذلك في حد الكبيرة السابق بأنه ما توعد عليه فلذلك عددت ذلك من الكبائر وإن لم أر من سبقني لذلك لأن أحدهم شامل له على أن ترك ذلك أعني الواجب إجماعا أو بالنسبة لاعتقاد التارك يستلزم ترك الصلاة فيكون داخلا تحت قولهم الآتي إن تركها كبيرة
باب الغسل الكبيرة الثالثة والسبعون ترك شيء من واجبات الغسل أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود وابن ماجه وابن جرير عن علي كرم الله وجهه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ترك موضع شعرة من جسده في جنابة لم يغسلها فعل بها كذا وكذا في النار قال علي فمن ثم عاديت شعر رأسي وكان يجز شعره
وابن جرير مرفوعا وموقوفا تحت كل شعرة جنابة
والبيهقي مرسلا وابن
____________________
(1/245)
جرير موصولا تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر ونقوا البشر
وأحمد يا عائشة إن على كل شعرة جنابة
والطبراني اتقوا الله وأحسنوا الغسل فإنها من الأمانة التي حملتم والسرائر التي استودعتم
تنبيه ما ذكر في أول هذه الأحاديث وعيد شديد كما ترى وبه يتضح عد ذلك كبيرة سيما مع ملاحظة ما مر أن تركه يستلزم ترك الصلاة نظير ما مر في الوضوء
الكبيرة الرابعة والسبعون كشف العورة لغير ضرورة ومنه دخول الحمام بغير مئزر ساتر لها أخرج ابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال لا يتناجى اثنان على غائطهما ينظر كل واحد منهما إلى عورة صاحبه فإن الله عز وجل يمقت على ذلك
وفي رواية لأبي داود وابن خزيمة في صحيحه لا يخرج الرجلان يضربان الغائط أي يأتيانه كاشفين عن عورتهما يتحدثان فإن الله عز وجل يمقت على ذلك وفي سندهما من روى له أصحاب السنن لكن قال المنذري إنه مجهول
وأخرج الطبراني بسند لين لا يخرج اثنان إلى الغائط فيجلسان يتحدثان كاشفين عن عورتهما فإن الله عز وجل يمقت على ذلك وصحح ابنا السكن والقطان خبر إذا تغوط الرجلان فليتوار كل واحد منهما عن صاحبه
وأخرج أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحاكم والبيهقي احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك قيل إذا كان القوم بعضهم في بعض قال فإن
____________________
(1/246)
استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها قيل فإذا كان أحدنا خاليا قال فإن الله أحق أن يستحيا منه من الناس
وأحمد وأبو داود والنسائي إن الله تعالى حيي ستير يحب الحياء والستر فإذا اغتسل أحدكم فليستتر
والحاكم عن جبار بن صخر رضي الله عنه إنا نهينا أن ترى عوراتنا
والطبراني عن العباس رضي الله عنه نهيت أن أمشي عاريا
والترمذي إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى أهله فاستحيوهم وأكرموهم
وابن عساكر إن الله عز وجل حيي عليم ستير فإذا اغتسل أحدكم فليستتر ولو بجرم حائط
وعبد الرزاق إن الله عز وجل حيي يحب الحياء ستير يحب الستر فإذا اغتسل أحدكم فليتوار
والطبراني يا أيها الناس إن ربكم حيي كريم فإذا اغتسل أحدكم فليستتر
والديلمي لا تدخلن الماء إلا بمئزر فإن للماء عينين
وعبد الرزاق عن ابن جريج قال بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج فإذا هو بأجير له يغتسل عاريا فقال لا أراك تستحي من ربك خذ إجارتك لا حاجة لنا بك
وأخرج النسائي والترمذي وحسنه والحاكم وصححه من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام
____________________
(1/247)
وابن ماجه وأبو داود ستفتح عليكم أرض العجم وستجدون فيها بيوتا يقال لها الحمامات فلا يدخلنها الرجال إلا بالإزار وامنعوها النساء إلا مريضة أو نفساء
وفي رواية إسنادها ليس بذلك القائم كما قاله الترمذي نهى الرجال والنساء عن دخول الحمامات ثم رخص للرجال أن يدخلوها في المئزر ولم يرخص للنساء
وفي أخرى صحيحة الحمام حرام على نساء أمتي وفي أخرى صحيحة أيضا من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر من نسائكم فلا تدخل الحمام
وصح أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله منع لأجل هذه الرواية النساء عن الحمام
وفي أخرى صحيحة أيضا احذروا بيتا يقال له الحمام فقالوا يا رسول الله إنه يذهب الدرن أي الوسخ وينفع المريض قال فمن دخله فليستتر
زاد الطبراني في أولها شر البيوت الحمام ترفع فيه الأصوات وتكشف فيه العورات
وفي أخرى صحيحة أيضا إن نساء من حمص أو الشام دخلن على عائشة رضي الله تعالى عنها فقالت أنتن اللاتي يدخلن نساؤكن الحمامات سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت الستر بينها وبين ربها
وفي رواية أنه وقع نظير ذلك لأم سلمة وأنها قالت لهن لما قلن لها وبالحمامات بأس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أيما امرأة نزعت ثيابها في غير بيتها خرق الله عنها ستره
____________________
(1/248)
وفي رواية لأحمد والبزار والطبراني من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته أي موطوءته من زوجة أو أمة الحمام
وفي أخرى في سندها ابن لهيعة أن عائشة رضي الله عنها سألته صلى الله عليه وسلم عن الحمام فقال إنه سيكون بعدي حمامات ولا خير في الحمامات للنساء فقال يا رسول الله إنها تدخله بإزار فقال لا وإن دخلته بإزار ودرع وخمار وما من امرأة تنزع خمارها في غير بيت زوجها إلا كشفت الستر فيما بينها وبين ربها
وفي رواية للطبراني إنكم ستفتحون أفقا أي ناحية فيها بيوت يقال لها الحمامات حرام على أمتي دخولها فقالوا يا رسول الله إنها تذهب الوصب أي المرض وتنقي الدرن قال فإنها حلال لذكور أمتي في الأزر حرام على إناث أمتي
وفي أخرى له أيضا من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يشرب الخمر من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر
من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة أجنبية ليس بينه وبينها محرمية
وروى البيهقي إن الحمام بيت لا يستر وماء لا يطهر لا يحل لرجل أن يدخله إلا بمنديل مر المسلمين لا يفتنون نساءهم الرجال قوامون على النساء علموهن ومروهن بالتسبيح
وأصحاب السنن الأربعة بئس البيت الحمام ترفع فيه الأصوات وتكشف فيه العورات
وابن عساكر أنشد الله رجال أمتي لا يدخلون الحمام إلا بمئزر وأنشد الله نساء أمتي لا يدخلن الحمام
____________________
(1/249)
والطبراني شر البيت الحمام تعلو فيه الأصوات وتكشف فيه العورات فمن دخله فلا يدخله إلا مستترا
والشيرازي من دخل الحمام بغير مئزر لعنه الله والملائكة
والحكيم الترمذي وابن السني وابن عساكر نعم البيت يدخله الرجل المسلم بيت الحمام وذلك أنه إذا دخل سأل الله الجنة واستعاذ من النار
وبئس البيت يدخله الرجل المسلم بيت العروس وذلك أنه يرغبه في الدنيا وينسيه الآخرة
والعقيلي والطبراني وابن عدي والبيهقي أول من دخل الحمامات ووضعت له النورة سليمان بن داود
فلما دخله ووجد حره وغمه قال أوه من عذاب الله أوه قبل أن لا يكون أوه
وابن عساكر إذا كان آخر الزمان حرم فيه دخول الحمام على ذكور أمتي بمآزرها قالوا يا رسول الله لم ذاك قال لأنهم يدخلون على قوم عراة ألا وقد لعن الله الناظر والمنظور إليه
وأخرج الحاكم ما بين السرة والركبة عورة
وسموية
عورة المؤمن ما بين سرته إلى ركبته
والدارقطني والبيهقي ما فوق الركبتين من العورة وما أسفل السرة من العورة
والطبراني فخذ المرء المسلم من عورته
والحاكم غط فخذك فإن الفخذ عورة
والترمذي الفخذ عورة وأحمد
____________________
(1/250)
وأبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم يا جرهد غط فخذك فإن الفخذ عورة
وأبو داود وابن ماجه والحاكم لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت
والحاكم عورة الرجل على الرجل كعورة المرأة على الرجل وعورة المرأة على المرأة كعورة المرأة على الرجل
تنبيه مقتضى ما مر من أحاديث فإن الله يمقت على ذلك أي كشف العورة إذ الكلام مباح فلا يترتب المقت عليه
وما مر في أحاديث دخول الحمام يشهد لما ذكرته من أن كشف العورة الصغرى أو الكبرى بحضرة غير زوجته أو أمته التي تحل له كبيرة
وبه صرح من أصحابنا إبراهيم بن محمد العتبي حيث قال كشفها فسق بين الناس المغلظة أي وهي السوأتان والمخففة في الحمام وغيرها وكلام الشافعي رضي الله عنه يقتضيه ففي طبقات العبادي أن المزني روى عن الشافعي أنه قال في رجل في الحمام يرى مكشوفا إنه لا تقبل شهادته فإن الستر فرض انتهى
وكذا حكاه التوحيدي في البصائر عن رواية المزني وقال بدل مكشوفا السابق مكشوف العورة وقضيته أنه يفسق بالمرة الواحدة من ذلك وهذا شأن الكبيرة ويوافق ذلك ما في أدب القضاء للحسن بن أحمد الحداد البصري أدرك أصحاب ابن شريح أن زكريا الساجي قال لا تجوز شهادة من دخل الحمام بغير مئزر أو وقع في نهر بغير مئزر ونقله أبو بكر أحمد بن عبد الله بن سيف السختياني عن المزني عن الشافعي نصا
ثم قال الحداد إن زكريا قال يشبه أن يكون ذلك وإن لم يحضره من يرى عورته لأنه ليس من المروءة وصوبه الحداد وقال هو مسقط للمروءة وإن لم يكن معصية انتهى
وصرح ابن سراقة في أدب الشاهد بأنه مسقط للشهادة غير أنه قيد ذلك بما إذا كشفها من غير ضرورة ولا بد منه وفي فتاوى الشاشي كشف العورة في الحمام يقدح في العدالة
وقال ابن برهان كشفها بحضرة الناس يقدح في العدالة بخلافه في الخلوة
لكن أقر الشيخان في الروضة وأصلها صاحب العدة على إطلاقه أن كشفها صغيرة ويوافقه إفتاء الحناطي بأن من دخل الحمام بغير إزار يصير فاسقا إذا تعود ذلك انتهى
____________________
(1/251)
فتقييده الفسق بالتكرر صريح في أنه صغيرة وحمل بعضهم القول بأن ذلك صغيرة على ما إذا كشفها في الخلوة وإن أمن حضور من يراه لوجوب الستر فيها أيضا
والحاصل أن المعتمد في المذهب أنه صغيرة مطلقا لكنه بحضرة الناس يوجب خرم المروءة وقلة المبالاة فتبطل به الشهادة ويكون كالفسق في منعه لها وعليه يحمل ما مر عن أدب القضاء للحداد وما بعده وأن الذي دل عليه كلامهم في حد الكبيرة وصرح به من مر من أصحابنا أنه بحضرة الناس لغير ضرورة كبيرة
تنبيه آخر قضية الحديث الأخير الذي فيه لعن الناظر والمنظور أن النظر إلى العورة كبيرة وأن كشفها كبيرة لما مر من أن اللعن من علامات الكبيرة ويؤيده أن تعمد نظر أجنبية أو أمرد بغير حاجة فسق وسيأتي ما فيه
باب الحيض الكبيرة الخامسة والسبعون وطء الحائض أخرج أبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أتى حائضا في فرجها أو امرأة في دبرها أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد
قال الترمذي ضعف محمد يعني البخاري هذا الحديث من قبل إسناده ورواه النسائي من طرق عن أبي هريرة من قوله
تنبيه ما ذكر من أن ذلك كبيرة نقله في زيادة الروضة عن المحاملي وفي المجموع عن الشافعي رضي الله عنه وكذا نقله في شرح المهذب عن المحاملي أيضا قال شيخ الإسلام الجلال البلقيني والظاهر أن الشيخ محيي الدين لم يروه عن غيره فنقله نقل مستغرب له وقد جاء فيه حديث وذكر ما مر ثم قال فهذا الحديث لا حجة فيه لضعف إسناده كما قال البخاري فلا ينبغي أن تثبت الكبيرة بذلك مع احتمال تأويله بأن يكون مستحلا فإنه محرم بالإجماع أي المعلوم من الدين بالضرورة فيكفر مستحله
وقال الشيخ صلاح الدين العلائي إن الوطء في الحيض جاء في بعض الأحاديث لعن فاعله ولم أقف إلى الآن على ذلك
انتهى
لكن جرى جماعة على ما مر من أنه كبيرة لكون النووي نقله في الروضة والمجموع عن الشافعي رضي الله عنه
____________________
(1/252)
@ 253 كتاب الصلاة الكبيرة السادسة والسبعون تعمد ترك الصلاة قال تعالى مخبرا عن أصحاب الجحيم ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين
وأخرج أحمد بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة
ومسلم بين الرجل وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة
وأبو داود والنسائي ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة
والترمذي بين الكفر والإيمان ترك الصلاة
وابن ماجه بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة
وصح كما قاله الترمذي وغيره
قال الحاكم ولا يعرف له علة العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر
والطبراني بإسناد لا بأس به من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر جهارا
وفي رواية بين العبد والكفر أو الشرك ترك الصلاة فإذا ترك الصلاة فقد كفر
وفي أخرى ليس بين العبد والشرك إلا ترك الصلاة فإذا تركها فقد أشرك
____________________
(1/253)
وفي أخرى سندها حسن عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاث عليهن أس الإسلام من ترك واحدة منهن فهو بها كافر حلال الدم شهادة أن لا إله إلا الله والصلاة المكتوبة وصوم رمضان
وفي أخرى سندها حسن أيضا من ترك منهن واحدة فهو بالله كافر ولا يقبل منه صرف ولا عدل وقد حل دمه وماله
والطبراني وغيره بإسنادين لا بأس بهما عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع خلال قال لا تشركوا بالله شيئا وإن قطعتم أو حرقتم أو صلبتم ولا تتركوا الصلاة تعمدا فمن تركها متعمدا فقد خرج من الملة ولا تركبوا المعصية فإنها سخط الله ولا تشربوا الخمر فإنها رأس الخطايا كلها الحديث
والترمذي كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة
وصح خبر بين العبد وبين الكفر والإيمان الصلاة فإذا تركها فقد أشرك
والبزار لا سهم في الإسلام لمن لا صلاة له
ولا صلاة لمن لا وضوء له
والطبراني لا إيمان لمن لا أمانة له ولا صلاة لمن لا طهور له ولا دين لمن لا صلاة له
إنما موضع الصلاة من الدين كموضع الرأس من الجسد
وابن ماجه والبيهقي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم أن لا تشرك بالله شيئا وإن قطعت وإن أحرقت ولا تترك صلاة مكتوبة متعمدا فمن تركها متعمدا فقد برئت منه الذمة ولا تشرب الخمر فإنها مفتاح كل شر
____________________
(1/254)
والبزار وغيره بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما قام بصري أي ذهب مع بقاء صحة الحدقة قيل نداويك وتدع الصلاة أياما قال لا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من ترك الصلاة لقي الله وهو عليه غضبان
والطبراني بسند لا بأس به في المتابعات أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله علمني عملا إذا أنا عملته دخلت الجنة قال لا تشرك بالله شيئا وإن عذبت وحرقت وأطع والديك وإن أخرجاك من مالك ومن كل شيء هو لك ولا تترك الصلاة متعمدا فإن من ترك الصلاة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله الحديث
وفي رواية سندها صحيح لكن فيه انقطاع لا تشرك بالله شيئا وإن قتلت وحرقت ولا تعقن والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك ولا تتركن صلاة مكتوبة متعمدا فإن من ترك صلاة مكتوبة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله ولا تشربن خمرا فإنه أي شربها رأس كل فاحشة وإياك والمعصية فإن بالمعصية حل سخط الله وإياك والفرار من الزحف وإن هلك الناس وإن أصاب الناس موت فاثبت وأنفق على أهلك من طولك ولا ترفع عصاك عنهم أدبا وأخفهم في الله
وابن حبان في صحيحه بكروا بالصلاة في يوم الغيم فإنه من ترك الصلاة فقد كفر
والطبراني عن أميمة مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت كنت أصب على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوءه فدخل رجل فقال أوصني فقال لا تشرك بالله شيئا وإن قطعت وحرقت بالنار ولا تعص والديك وإن أمراك أن تخلي من أهلك ودنياك فتخله ولا
____________________
(1/255)
تشربن خمرا فإنها مفتاح كل شر ولا تتركن صلاة متعمدا فمن فعل ذلك فقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله الحديث
وأبو نعيم من ترك الصلاة متعمدا كتب الله اسمه على باب النار ممن يدخلها
والطبراني والبيهقي من ترك الصلاة فإنما وتر أهله وماله
والحاكم عن علي أنه صلى الله عليه وسلم قال والله يا معشر قريش لتقيمن الصلاة ولتؤتن الزكاة أو لأبعثن عليكم رجلا فيضرب أعناقكم على الدين الحديث والبزار لا سهم في الإسلام لمن لا صلاة له ولا صلاة لمن لا وضوء له
وأحمد مرسلا أربع فرضهن الله في الإسلام فمن أتى بثلاث لم يغنين عنه شيئا حتى يأتي بهن جميعا الصلاة والزكاة وصيام رمضان وحج البيت
والأصبهاني من ترك صلاة متعمدا أحبط الله عمله وبرئت منه ذمة الله حتى يراجع الله عز وجل توبة
والطبراني من ترك الصلاة فقد كفر جهارا
وأحمد بسند صحيح لكن فيه انقطاع لا تترك الصلاة متعمدا فإنه من ترك الصلاة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله ورسوله
وابن أبي شيبة والبخاري في تاريخه موقوفا على علي رضي الله عنه قال من لم يصل فهو كافر
ومحمد بن نصر وابن عبد البر موقوفا على ابن عباس من ترك الصلاة فقد كفر
وابن نصر موقوفا على ابن مسعود قال من ترك الصلاة فلا دين له
____________________
(1/256)
وابن عبد البر موقوفا على جابر من لم يصل فهو كافر
وابن عبد البر وغيره موقوفا على أبي الدرداء قال لا إيمان لمن لا صلاة له ولا صلاة لمن لا وضوء له
وقال ابن أبي شيبة قال النبي صلى الله عليه وسلم من ترك الصلاة فقد كفر
وقال محمد بن نصر سمعت إسحاق يقول صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة كافر
وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة عمدا من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر
وقال أيوب ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه
الكبيرة السابعة والسبعون تعمد تأخير الصلاة عن وقتها أو تقديمها عليه من غير عذر كسفر أو مرض على القول بجواز الجمع به قال تعالى فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا إلا من تاب قال ابن مسعود ليس معنى أضاعوها تركوها بالكلية ولكن أخروها عن أوقاتها
وقال سعيد بن المسيب إمام التابعين هو أن لا يصلي الظهر حتى تأتي العصر ولا يصلي العصر إلى المغرب ولا يصلي المغرب إلى العشاء ولا يصلي العشاء إلى الفجر ولا يصلي الفجر إلى طلوع الشمس فمن مات وهو مصر على هذه الحالة ولم يتب أوعده الله بغي وهو واد في جهنم بعيد قعره شديد عقابه
وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون
قال جماعة من المفسرين المراد بذكر الله هنا الصلوات الخمس فمن اشتغل عن الصلاة في وقتها بماله كبيعه أو صنعته أو ولده كان من الخاسرين ولهذا قال صلى الله عليه وسلم أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن نقصت فقد خاب وخسر
وقال تعالى فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون
____________________
(1/257)
قال صلى الله عليه وسلم هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها
وقال تعالى إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا
وأخرج أحمد بسند جيد والطبراني وابن حبان في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم ذكر الصلاة يوما فقال من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف
قال بعض العلماء وإنما حشر مع هؤلاء لأنه إن اشتغل عن الصلاة بماله أشبه قارون فيحشر معه أو بملكه أشبه فرعون فيحشر معه أو بوزارته أشبه هامان فيحشر معه أو بتجارته أشبه أبي بن خلف تاجر كفار مكة فيحشر معه
والبزار بسند ضعيف عن سعد بن أبي وقاص قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل الذين هم عن صلاتهم ساهون قال هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها
وأبو يعلى بسند حسن عن مصعب بن سعد قال قلت لأبي يا أبتاه أرأيت قوله تعالى الذين هم عن صلاتهم ساهون أينا لا يسهو أينا لا يحدث نفسه قال ليس ذاك إنما هو إضاعة الوقت
والويل شدة العذاب وقيل واد في جهنم لو سير فيه جبال الدنيا لذابت من شدة حره فهو مسكن لمن يتهاون بالصلاة ويؤخرها عن وقتها إلا أن يتوب إلى الله تعالى ويندم على ما فرط
وابن حبان في صحيحه من فاتته صلاة فكأنما وتر أهله وماله
والحاكم بسند فيه من اختلف في توثيقه والأكثر على عدمه من جمع بين صلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر
____________________
(1/258)
والشيخان والأربعة الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله
زاد ابن خزيمة في صحيحه قال مالك تفسيره ذهاب الوقت
والنسائي من الصلاة صلاة من فاتته فكأنما وتر أهله وماله
يعني العصر
ومسلم والنسائي إن هذه الصلاة يعني العصر عرضت على من كان قبلكم فضيعوها فمن حافظ منكم اليوم عليها كان له أجره مرتين ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد أي النجم
وأحمد والبخاري والنسائي من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله
وأحمد بإسناد صحيح وابن أبي شيبة من ترك صلاة العصر متعمدا حتى تفوته فقد حبط عمله
وابن أبي شيبة مرسلا من ترك العصر حتى تغيب الشمس من غير عذر فقد حبط عمله
وعبد الرزاق لأن يوتر أحدكم أهله وماله خير له من أن يفوته وقت صلاة العصر
والطبراني وأحمد من ترك صلاة العصر متعمدا حتى تغرب الشمس فكأنما وتر أهله وماله
والشافعي والبيهقي من فاتته الصلاة فكأنما أوتر أهله وماله
والبخاري عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يكثر أن يقول لأصحابه هل رأى أحد منكم رؤيا فيقص عليه ما شاء الله أن يقص وإنه قال لنا
____________________
(1/259)
ذات غداة إنه أتاني الليلة آتيان وإنهما انبعثا بي وإنهما قالا لي انطلق وإني انطلقت معهما وإنا أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه فيتدهده الحجر أي فيتدحرج فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل في المرة الأولى قال قلت لهما سبحان الله ما هذا قالا لي انطلق انطلق فأتينا على رجل مستلق على قفاه وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر أي يشق شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعيناه إلى قفاه قال وربما قال أبو رجاء فيشق قال ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول قال فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل في المرة الأولى قال قلت سبحان الله ما هذا قالا لي انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على مثل التنور قال فأحسب أنه كان يقول فإذا فيه لغط وأصوات قال فاطلعنا عليه فإذا فيه رجال ونساء عراة وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم
فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا أي بفتح المعجمتين وسكون الواوين صياح مع انضمام وفزع قال قلت ما هؤلاء قالا لي انطلق انطلق قال فانطلقنا فأتينا على نهر حسبت أنه كان يقول أحمر مثل الدم وإذا في النهر رجل سابح يسبح وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة فيلقمه حجرا فينطلق فيسبح ثم يرجع إليه كلما رجع إليه فغر أي بفاء فمعجمة مفتوحتين فتح فاه فألقمه حجرا قلت لهما ما هذا قالا لي انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على رجل كريه المرآة كأكره ما أنت راء رجلا مرئيا وإذا عنده نار يحشها أي بمهملة مضمومة فمعجمة يوقدها ويسعى حولها قال قلت لهما ما هذا قالا لي انطلق انطلق فانطلقنا على روضة معتمة أي طويلة النبات من اعتم إذا طال فيها من كل نور الربيع وإذا بين ظهراني الروضة رجل طوال لا أكاد أرى رأسه طولا في السماء
وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قال قلت ما هذا ما هؤلاء قالا لي انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على دوحة عظيمة لم أر دوحة قط أعظم ولا أحسن منها قالا لي ارق فيها فارتقينا فيها إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فأتينا باب المدينة فاستفتحنا ففتح لنا فدخلناها فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطر منهم كأقبح ما أنت راء قالا لهم اذهبوا فقعوا في ذلك النهر
قال وإذا النهر معترض يجري كأن ماءه المحض أي الخالص في البياض فذهبوا فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة قالا لي هذه جنة عدن وهذا منزلك قال فسما أي ارتفع بصري صعدا بضمتين إلى فوق فإذا قصر مثل الربابة أي السحابة البيضاء قال
____________________
(1/260)
قالا لي هذا منزلك قال قلت لهما بارك الله فيكما فذراني فأدخله قالا أما الآن فلا وأنت داخله قال قلت لهما فإني رأيت منذ الليلة عجبا فما هذا الذي رأيت قالا لي إنا سنخبرك أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة
وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعيناه إلى قفاه فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق
وأما الرجال والنساء العراة الذين هم في مثل بناء التنور فإنهم الزناة والزواني
وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجر فإنه آكل الربا
وأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحشها ويسعى حولها فإنه مالك خازن النار
وأما الرجل الطوال الذي في الروضة فإنه إبراهيم
وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة فقال بعض المسلمين يا رسول الله وأولاد المشركين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولاد المشركين
وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم قوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا تجاوز الله عنهم
وفي حديث البزار قال ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم على قوم ترضخ رءوسهم بالصخر كلما رضخت عادت كما كانت ولا يفتر عنهم من ذلك شيء قال يا جبريل من هؤلاء قال هؤلاء الذين تثاقلت رءوسهم عن الصلاة
وأخرج الخطيب وابن النجار علم الإسلام الصلاة فمن فرغ لها قلبه وحافظ عليها بحدها ووقتها وسننها فهو مؤمن
وابن ماجه قال الله تعالى افترضت على أمتك خمس صلوات وعهدت عندي عهدا أن من حافظ عليهن لوقتهن أدخلته الجنة ومن لم يحافظ عليهن فلا عهد له عندي
وأحمد والحاكم من علم أن الصلاة عليه حق واجب وأداها دخل الجنة
والترمذي وقال حسن غريب والنسائي وابن ماجه أول ما يحاسب به العبد يوم
____________________
(1/261)
القيامة من عمله الصلاة فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر وإن انتقص من فريضته قال الرب انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على ذلك
والنسائي أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة وأول ما يقضى به بين الناس في الدماء
وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن كان أتمها كتبت له تامة وإن لم يكن أتمها قال لملائكته انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع فيكملون بها فريضته ثم الزكاة كذلك ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك
وأحمد وأبو داود وابن ماجه والدارمي وابن قانع والحاكم والبيهقي عن تميم الداري وابن أبي شيبة وأحمد عن رجل من الصحابة أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن كان أتمها كتبت له تامة وإن لم يكن أتمها قال الله عز وجل للملائكة انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع فتكملون بها فريضته ثم الزكاة كذلك ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك
والطبراني أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة ينظر في صلاته فإن صلحت فقد أفلح وإن فسدت فقد خاب وخسر
وابن عساكر أول ما يحاسب به العبد صلاته فإن صلحت صلح سائر عمله وإن فسدت فسد سائر عمله ثم يقول انظروا هل لعبدي نافلة فإن كانت له أتم بها الفريضة ثم الفرائض كذلك لعائدة الله ورحمته
وأحمد وأبو داود والنسائي والحاكم أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من
____________________
(1/262)
أعمالهم الصلاة فيقول ربنا عز وجل لملائكته وهو أعلم انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها فإن كانت تامة كتبت تامة وإن انتقص منها شيئا قال انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان له تطوع أتموا لعبدي فريضته من تطوعه ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم
والطيالسي والطبراني والضياء في المختارة أتاني جبريل من عند الله تبارك وتعالى فقال يا محمد إن الله عز وجل يقول إني افترضت على أمتك خمس صلوات فمن أوفى بهن على وضوئهن ومواقيتهن وركوعهن وسجودهن كان له بهن عهد أن أدخله الجنة ومن لقيني قد انتقص من ذلك شيئا فليس له عندي عهد إن شئت عذبته وإن شئت رحمته
والبيهقي للصلاة ميزان فمن أوفى استوفى
والديلمي الصلاة تسود وجه الشيطان والصدقة تكسر ظهره والتحابب في الله والتودد في العلم يقطع دابره فإذا فعلتم ذلك تباعد منكم كمطلع الشمس من مغربها
والترمذي وابن حبان والحاكم اتقوا الله وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدوا زكاة أموالكم وأطيعوا إذا أمرتكم تدخلوا جنة ربكم
وأحمد والشيخان وأبو داود والنسائي أحب الأعمال إلى الله الصلاة لوقتها ثم بر الوالدين ثم الجهاد في سبيل الله
والبيهقي عن عمر رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول أي الأعمال أحب إلى الله في الإسلام فقال الصلاة لوقتها ومن ترك الصلاة فلا دين له والصلاة عماد الدين
ولذلك لما طعن عمر رضي الله عنه قيل له الصلاة يا أمير
____________________
(1/263)
المؤمنين قال نعمة أما إنه لا حظ لأحد في الإسلام أضاع الصلاة وصلى رضي الله عنه وجرحه يجري دمه
وروى الذهبي أنه صلى الله عليه وسلم قال إذا صلى العبد الصلاة في أول الوقت صعدت إلى السماء ولها نور حتى تنتهي إلى العرش فتستغفر لصاحبها إلى يوم القيامة وتقول له حفظك الله كما حفظتني وإذا صلى العبد الصلاة في غير وقتها صعدت إلى السماء وعليها ظلمة فإذا انتهت إلى السماء تلف كما يلف الثوب الخلق ويضرب بها وجه صاحبها
وأخرج أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم قال ثلاث لا يقبل الله منهم صلاتهم وذكر منهم من أتى الصلاة دبارا أي بعد أن تفوته
قال بعضهم وورد في الحديث أن من حافظ على الصلاة أكرمه الله بخمس خصال يرفع عنه ضيق العيش وعذاب القبر ويعطيه الله كتابه بيمينه ويمر على الصراط كالبرق ويدخل الجنة بغير حساب ومن تهاون عن الصلاة عاقبه الله بخمس عشرة عقوبة خمسة في الدنيا وثلاثة عند الموت وثلاث في قبره وثلاث عند خروجه من القبر
فأما اللواتي في الدنيا فالأولى تنزع البركة من عمره والثانية تمحى سيما الصالحين من وجهه والثالثة كل عمل يعمله لا يأجره الله عليه والرابعة لا يرفع له دعاء إلى السماء والخامسة ليس له حظ في دعاء الصالحين
وأما التي تصيبه عند الموت فإنه يموت ذليلا والثانية يموت جائعا والثالثة يموت عطشانا ولو سقي بحار الدنيا ما روي من عطشه
وأما التي تصيبه في قبره فالأولى يضيق عليه القبر حتى تختلف أضلاعه والثانية يوقد عليه القبر نارا فينقلب على الجمر ليلا ونهارا والثالثة يسلط عليه في قبره ثعبان اسمه الشجاع الأقرع عيناه من نار وأظفاره من حديد طول كل ظفر مسيرة يوم يكلم الميت فيقول أنا الشجاع الأقرع وصوته مثل الرعد القاصف يقول أمرني ربي أن أضربك على تضييع صلاة الصبح إلى بعد طلوع الشمس وأضربك على تضييع صلاة الظهر إلى العصر وأضربك على تضييع صلاة العصر إلى المغرب وأضربك على تضييع صلاة المغرب إلى العشاء وأضربك على صلاة العشاء إلى الفجر
فكلما ضربه ضربة يغوص في
____________________
(1/264)
الأرض سبعين ذراعا فلا يزال في القبر معذبا إلى يوم القيامة وأما التي تصيبه عند خروجه من القبر في موقف القيامة فشدة الحساب وسخط الرب ودخول النار
وفي رواية فإنه يأتي يوم القيامة وعلى وجهه ثلاثة أسطر مكتوبات
السطر الأول يا مضيع حق الله السطر الثاني يا مخصوصا بغضب الله الثالث كما ضيعت في الدنيا حق الله فآيس اليوم أنت من رحمة الله
وما ذكر في هذا الحديث من تفصيل العدد لا يطابق جملة الخمس عشرة لأن المفصل أربع عشرة فقط فلعل الراوي نسي الخامس عشر
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال إذا كان يوم القيامة يؤتى برجل فيوقف بين يدي الله عز وجل فيأمر الله به إلى النار فيقول يا رب بماذا فيقول الله تعالى بتأخير الصلاة عن أوقاتها وحلفك بي كاذبا
قال بعضهم أيضا وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوما لأصحابه قولوا اللهم لا تدع فينا شقيا ولا محروما ثم قال صلى الله عليه وسلم أتدرون من الشقي المحروم قالوا ومن هو يا رسول الله قال تارك الصلاة
قال أيضا ويروى أنه أول ما يسود يوم القيامة وجوه تاركي الصلاة وإن في جهنم واديا يقال له لملم فيه حيات كل حية بثخن رقبة البعير طولها مسيرة شهر تلسع تارك الصلاة فيغلي سمها في جسمه سبعين سنة ثم يتهرأ لحمه
قال وروي أيضا أن امرأة من بني إسرائيل جاءت إلى موسى صلى الله على نبينا وعليه وعلى سائر النبيين فقالت يا نبي الله أذنبت ذنبا عظيما وقد تبت إلى الله تعالى فادع الله لي أن يغفر ذنبي ويتوب علي فقال لها موسى وما ذنبك قالت يا نبي الله زنيت وولدت ولدا وقتلته فقال لها موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام اخرجي يا فاجرة لا تنزل نار من السماء فتحرقنا بشؤمك فخرجت من عنده منكسرة القلب فنزل جبريل عليه السلام وقال يا موسى الرب تعالى يقول لك لم رددت التائبة يا موسى أما وجدت شرا منها قال موسى يا جبريل ومن شر منها قال من ترك الصلاة عامدا متعمدا
وقال أيضا عن بعض السلف إنه دفن أختا له ماتت فسقط منه كيس فيه مال في قبرها ولم يشعر به حتى انصرف عن قبرها ثم تذكره فرجع إلى قبرها فنبشه بعدما انصرف الناس فوجد القبر يشتعل عليها نارا فرد التراب عليها ورجع إلى أمه باكيا حزينا فقال يا أماه أخبريني عن أختي وما كانت تعمل قالت وما سؤالك عنها قال يا أماه رأيت قبرها يشتعل عليها نارا قال فبكت وقالت يا ولدي كانت أختك تتهاون بالصلاة وتؤخرها عن وقتها فهذا حال من يؤخر الصلاة عن وقتها فكيف حال
____________________
(1/265)
من لا يصلي فنسأل الله تعالى أن يعيننا على المحافظة عليها بكمالاتها في أوقاتها إنه جواد كريم رءوف رحيم
تنبيهات منها عد ما ذكر من أن كلا من ترك الصلاة وتقديمها على وقتها وتأخيرها عنه بلا عذر كبيرة وهو ما نقله الشيخان عن صاحب العدة وأقراه وتقييد الأنوار لذلك بلا إعادة ليس في محله لأنه وإن أعادها في الوقت هو بفعلها قبله متعمدا متلاعب بالدين
وأما قول الإسنوي إن عد الشيخين تقديم الصلاة على وقتها كبيرة لا تحقيق له لأنه إن كان معتقدا للجواز فلا كلام فيه وإن كان عالما بالمنع فالصلاة فاسدة وحينئذ فإن صلاها في وقتها فالتحريم وقع لكونه أتى بصلاة فاسدة فينبغي التعبير به ولا يقتصر على هذه الصورة الشاذة النادرة وإن لم يصلها في وقتها فالعصيان بالتأخير وبالصلاة الفاسدة فهو ليس في محله أيضا ومن ثم قال الأذرعي ما ذكره تخليط لا مزيد عليه وليس مراد صاحب العدة وغيره بتقديم الصلاة على وقتها إلا إذا قدمها عالما بعدم دخول الوقت وأن ذلك لا يجوز وهذا ما اقتضاه كلام خلائق من الأئمة ولا نزاع فيه ولا ريب أنه من الكبائر والتلاعب بالدين سواء قضاها أم لا انتهى
وفي التهذيب حكاية وجه ضعيف أن ترك الصلاة الواحدة إلى أن يخرج وقتها ليس بكبيرة وإنما ترد الشهادة به إذا اعتاده
قال الحليمي ترك الصلاة كبيرة فإن اتخذه عادة فهو فاحشة فإن أقامها ولم يوفها حقها من الخشوع كأن التفت فيها أو فرقع أصابعه أو استمع إلى حديث الناس أو سوى الحصا أو أكثر من مس اللحية فذلك من الصغائر انتهى
قال الأذرعي قضية كلام غيره عد ذلك من المكروهات والقلب إلى ما قاله رحمه الله تعالى أميل ا ه
وهو موافق للوجه الموجب للخشوع فعليه كل ما نافى الخشوع من أصله بأن لا يوجد في جزء منها يكون محرما أما على الأصح أن الخشوع سنة فلا حرمة في شيء من ذلك
ومنها اختلف العلماء من الصحابة ومن بعدهم في كفر تارك الصلاة وقد مر في الأحاديث الكثيرة السابقة التصريح بكفره وشركه وخروجه من الملة وبأنه تبرأ منه ذمة الله وذمة رسوله وبأنه يحبط عمله وبأنه لا دين له وبأنه لا إيمان له وبنحو ذلك من التغليظات وأخذ بظاهرها جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم فقالوا من ترك الصلاة متعمدا حتى خرج جميع وقتها كان كافرا مراق الدم
منهم عمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبو هريرة وابن مسعود وابن عباس وجابر بن عبد الله وأبو الدرداء ومن غير الصحابة أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعبد الله بن المبارك والنخعي والحكم بن عيينة وأيوب السختياني وأبو داود الطيالسي وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن
____________________
(1/266)
حرب وغيرهم فهؤلاء الأئمة كلهم قائلون بكفر تارك الصلاة وإباحة دمه
قال ابن حزم قد جاء عن عمر وذكر بعض ما ذكرنا أن من ترك صلاة فرض واحدة متعمدا حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد ولا نعلم لهؤلاء الصحابة مخالفا انتهى
وقال محمد بن نصر المروزي قال إسحاق صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة كافر وكان رأي أهل العلم من لدنه صلى الله عليه وسلم أن تاركها عمدا من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر
انتهى
وفي هذه الدعوى نظر بل هي ممنوعة كما علم مما تقرر من حكاية الخلاف عن الصحابة ومن بعدهم
وأما الشافعي وآخرون فإنهم وإن قالوا بعدم كفره إذا لم يستحل الترك لكنهم قائلون بأنه يقتل بترك صلاة واحدة فإذا أمر بها في وقتها حتى خرج ولم يصلها ثم قيل له صلها فأبى ضرب عنقه بالسيف
ومنها ورد في الحديث الصحيح مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع أي إن ميزوا واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع
قال الخطابي هذا الحديث يدل على إغلاظ العقوبة لتارك الصلاة إذا بلغ تاركا لها وكان بعض أصحاب الشافعي يحتج به في وجوب قتله ويقول إذا استحق الضرب وهو غير بالغ فيدل على أنه بعد البلوغ يستحق من العقوبة ما هو أبلغ من الضرب وليس بعد الضرب شيء أشد من القتل انتهى
وفيه ما فيه ومما وجه به قتله أن تاركها جنى على جميع الأنبياء والملائكة والمؤمنين لأنه يجب عليه في التشهد أن يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين قال صلى الله عليه وسلم إذا قالها بلغت كل عبد صالح في السماء والأرض
وهذه الجناية العامة لا يليق بها إلا القتل والأولى أن يستدل لقتله بالأحاديث الصحيحة السابقة أن تاركها تبرأ منه ذمة الله وذمة رسوله وأنه لا عهد له لأن ذلك ظاهر أو صريح في إهدار دمه ومن لازم إهداره وجوب قتله وإنما لم يقتل بترك الزكاة لأنه يمكن أخذها منه بالمقاتلة ولا بترك الصوم لأنه يمكن إلجاؤه إليه بالحبس ومنع المفطر كالطعام والشراب فإنه إذا علم أنه لا مخلص له إلى تناول مفطر نهارا نوى ليلا وصام ولا بترك الحج لأنه على التراخي ويمكن قضاؤه من تركته والصلاة ليست كذلك في الكل فلم يناسب عقوبة تركها إلا القتل وإذا جازت المقاتلة لتخليص الزكاة فلأن يجوز القتل بحمل الناس بالخوف منه على فعل الصلاة من باب أولى
____________________
(1/267)
الكبيرة الثامنة والسبعون النوم على سطح لا تحجير به أخرج أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم أنه قال من بات على ظهر بيت ليس له حجار فقد برئت منه الذمة وفي بعض النسخ حجاب بالباء الموحدة وهو بمعناه
وأخرج الترمذي وقال حديث غريب نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينام الرجل على سطح ليس بمحجور عليه
والطبراني من رمانا بالليل فليس منا ومن رقد على سطح لا جدار له فمات فدمه هدر
وعن أبي عمران الجوني قال كنا بفارس وعلينا أمير يقال له زهير بن عبد الله فأبصر إنسانا فوق بيت أو إجار أي بكسر فجيم مشددة سطح ليس حوله شيء فقال لي سمعت في هذا شيئا قلت لا قال حدثني رجل أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال من بات فوق إجار أو فوق بيت ليس حوله شيء يرد رجله فقد برئت منه الذمة ومن ركب البحر بعدما يريح أي يهيج ويضطرب فقد برئت منه الذمة رواه أحمد مرفوعا هكذا وموقوفا ورواتهما ثقات والبيهقي مرفوعا
وفي رواية للبيهقي عن أبي عمران أيضا قال كنت مع زهير الشواء فأتينا على رجل نائم على ظهر جدار وليس له ما يدفع رجليه فضرب يده برجله ثم قال قم ثم قال زهير قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من بات على ظهر جدار وليس له ما يدفع رجليه فوقع فمات فقد برئت منه الذمة
قال البيهقي رواه شعبة عن أبي عمران عن محمد عن أبي زهير وقيل عن محمد بن زهير بن أبي علي وقيل عن زهير بن أبي جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل غير ذلك
تنبيه أخذ غير واحد من المتأخرين من هذه الأحاديث عند النوم على سطح غير محوط من الكبائر وليس هذا الأخذ بصحيح لأن براءة الذمة ليس معناه هنا بخلافه فيما قدمته
____________________
(1/268)
آنفا لما هو ظاهر من سياق تلك الأحاديث وهذا الحديث إلا أنه وكل إلى نفسه لارتكابه ما هو سبب للهلاك عادة في بعض الناس فلم يقتض ذلك الحرمة فضلا عن كونه كبيرة فمن ثم اتجه أن الصواب ما عليه أصحابنا وغيرهم أن ذلك إنما هو مكروه كراهة تنزيه وعلى قياس قول من عد ذلك كبيرة فركوب البحر وقت هيجانه يكون كبيرة بالأولى لأن هذا حرام فلا يبعد أن يكون فعله كبيرة لأنه إلقاء بالنفس إلى التهلكة والتغرير الشنيع فبراءة الذمة فيه بمعنى أنه يوكل إلى نفسه حتى إذا مات عذب بسبب تعديه بركوبه المحرم بخلاف النوم على السطح غير المحوط فإن الهلاك لا يغلب منه كما يغلب من ركوبه البحر المذكور كما هو مشاهد وهذا هو ملحظ قول الأئمة بحرمة هذا وكراهة ذلك
الكبيرة التاسعة والسبعون ترك واجب من واجبات الصلاة المجمع عليها أو المختلف فيها عند من يرى الوجوب كترك الطمأنينة في الركوع أو غيره أخرج جماعة وصححه الترمذي والدارقطني والبيهقي أنه صلى الله عليه وسلم قال لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم صلبه في الركوع والسجود
وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقرة الغراب وافتراش السبع وأن يوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير وصح أيضا أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته قالوا يا رسول الله كيف يسرق من صلاته قال لا يتم ركوعها ولا سجودها أو قال لا يقيم صلبه في الركوع والسجود
وصح أيضا أسرق الناس الذي يسرق صلاته قيل يا رسول الله كيف يسرق صلاته قال لا يتم ركوعها ولا سجودها وأبخل الناس من بخل بالسلام
____________________
(1/269)
وأحمد وابن ماجه وابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما أنه صلى الله عليه وسلم لمح بمؤخر عينه رجلا خلفه لا يقيم صلاته يعني صلبه في الركوع والسجود فلما قضى صلاته قال يا معشر المسلمين لا صلاة لمن لا يقيم صلبه في الركوع والسجود والطبراني بسند رواته ثقات لا ينظر الله إلى صلاة عبد لا يقيم فيها صلبه بين ركوعها وسجودها
والطبراني وأبو يعلى بإسناد حسن وابن خزيمة في صحيحه عن أبي عبد الله الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا لا يتم ركوعه وينقر في سجوده وهو يصلي فقال صلى الله عليه وسلم لو مات هذا على حاله مات على غير ملة محمد صلى الله عليه وسلم ثم قال صلى الله عليه وسلم مثل الذي لا يتم ركوعه وينقر في سجوده مثل الجائع يأكل التمرة والتمرتين لا يغنيان عنه شيئا
قال أبو صالح قلت لأبي عبد الله من حدث بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أمراء الأجناد عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وشرحبيل بن حسنة سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأبو القاسم الأصبهاني إن الرجل ليصلي ستين سنة وما تقبل له صلاة لعله يتم الركوع ولا يتم السجود ويتم السجود ولا يتم الركوع
والطبراني بإسناد حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه لو أن لأحدكم هذه السارية لكره أن يجدع أي يقطع بعضها كيف يعمد أحدكم فيجدع صلاته التي هي لله فأتموا صلاتكم فإن الله عز وجل لا يقبل إلا تاما
وصح عن بلال رضي الله عنه أنه رأى رجلا لا يتم الركوع ولا السجود فقال
____________________
(1/270)
لو مات هذا مات على غير ملة محمد صلى الله عليه وسلم
والبخاري عن حذيفة أنه رأى رجلا يصلي لا يتم ركوع الصلاة ولا سجودها فقال له حذيفة ما صليت ولو مت وأنت تصلي هذه الصلاة مت على غير فطرة محمد صلى الله عليه وسلم
زاد أبو داود أنه قال مذ كم تصلي هذه الصلاة قال منذ أربعين سنة قال ما صليت منذ أربعين سنة شيئا ولو مت مت على غير فطرة محمد صلى الله عليه وسلم
وأحمد بإسناد جيد لا ينظر الله إلى عبد لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده وما ترون في الشارب والزاني والسارق وذلك قبل أن ينزل فيهم الحدود قالوا الله ورسوله أعلم قال هن فواحش وفيهن عقوبة وأسوأ السرقة الذي يسرق صلاته قالوا وكيف يسرق صلاته قال لا يتم ركوعها ولا سجودها
والبيهقي من توضأ فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة فأتم ركوعها وسجودها والقراءة فيها قالت الصلاة حفظك الله كما حفظتني ثم صعد بها إلى السماء ولها ضوء ونور وفتحت لها أبواب السماء حتى ينتهى بها إلى الله فتشفع لصاحبها وإذا لم يتم ركوعها ولا سجودها ولا القراءة فيها قالت ضيعك الله كما ضيعتني ثم صعد بها إلى السماء وعليها ظلمة فأغلقت دونها أبواب السماء ثم تلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها
والطبراني ومن صلاها لغير وقتها ولم يسبغ لها وضوءها ولم يتم لها خشوعها ولا ركوعها ولا سجودها خرجت وهي سوداء مظلمة تقول ضيعك الله كما ضيعتني حتى إذا كانت حيث شاء الله لفت كما يلف الثوب الخلق ثم ضرب بها وجهه
وصح كما قاله ابن عبد البر في حديث المسيء صلاته
وقال الترمذي إنه حديث حسن إنه لما صلى وجاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه ثم قال له ارجع فصل فإنك لم تصل فرجع وصلى ثم جاء وسلم فرد عليه ثم قال له ذلك ففعل ثم جاء فقال له ذلك فقال لا أدري ما عبت علي فقال صلى الله عليه وسلم إنه لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما
____________________
(1/271)
أمره الله ويغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين ثم يكبر الله ويحمده ويمجده ويقرأ من القرآن ما أذن الله له فيه وتيسر ثم يكبر ويركع فيضع كفيه على ركبتيه حتى تطمئن مفاصله وتسترخي ثم يقول سمع الله لمن حمده ويستوي قائما حتى يأخذ كل عظم مأخذه ويقيم صلبه ثم يكبر فيسجد ويمكن جبهته من الأرض حتى تطمئن مفاصله وتسترخي ثم يكبر فيرفع رأسه ويستوي قاعدا على مقعدته ويقيم صلبه فوصف الصلاة هكذا حتى فرغ ثم قال لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل ذلك
والبزار بإسناد حسن الصلاة ثلاثة أثلاث الطهور ثلث والركوع ثلث والسجود ثلث فمن أداها بحقها قبلت منه وقبل منه سائر عمله ومن ردت عليه صلاته رد عليه سائر عمله
تنبيه عد ذلك من الكبائر واضح وإن لم أر من ذكره لما علمته من هذا الوعيد الشديد في هذه الأحاديث على أن ترك واجب لها مجمع عليه يستلزم ترك الصلاة وأنه كبيرة وكذا المختلف فيه عند من يرى وجوبه فتركه مستلزم لتركها أيضا ففيه أيضا الوعيد السابق في ترك الصلاة
الكبيرة الثمانون الوصل وطلب عمله الكبيرة الحادية والثمانون الوشم وطلب عمله الكبيرة الثانية والثمانون وشر الأسنان أي تحديدها وطلب عمله الكبيرة الثالثة والثمانون التنميص وطلب عمله وهو جرد الوجه أخرج الشيخان وغيرهما لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة وفي رواية لهما عن ابن مسعود لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله فقالت له امرأة في ذلك فقال وما لي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا
____________________
(1/272)
وأبو داود وغيره عن ابن عباس قال لعنت الواصلة والمستوصلة والنامصة والمتنمصة والواشمة والمستوشمة من غير داء
والشيخان أن امرأة من الأنصار زوجت ابنتها فتمعط شعر رأسها فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له وقالت إن زوجها أمرني أن أصل في شعرها فقال لا إنه قد لعن الموصولات
وروي أيضا أن معاوية رضي الله عنه قام على المنبر عام حج وتناول قصة من شعر فقال يا أهل المدينة أين علماؤكم سمعت النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن مثل هذا ويقول إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذها نساؤهم
وفي رواية له أنه أخرج كبة من شعر فقال ما كنت أرى أحدا يفعله إلا اليهود إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه فسماه الزور
وفي أخرى لهما أنه قال ذات يوم إنكم قد اتخذتم زي سوء فإن نبي الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الزور
قال قتادة يعني ما تكثر به النساء أشعارهن من الخرق
وقال جاء رجل بعصا وعلى رأسها خرقة فقال معاوية ألا هذا الزور
وفي رواية للطبراني في سندها ابن لهيعة أنه صلى الله عليه وسلم خرج بقصة فقال إن نساء بني إسرائيل كن يجعلن هذا في رءوسهن فلعن وحرم عليهن المساجد
والواصلة التي تصل الشعر بشعر آخر والواشمة التي تفعل الوشم وهو معروف والنامصة التي تنقش الحاجب حتى ترقه كذا قال أبو داود والأشهر ما قاله الخطابي وغيره أنه من النمص وهو نتف شعر الوجه والمتفلجة هي التي تفلج أسنانها بنحو مبرد للحسن والمستوصلة والمتنمصة والمستوشمة المفعول بها ذلك
تنبيه ذكر هذه كلها من الكبائر وهو ما جرى عليه شيخ الإسلام الجلال البلقيني في الأولين وغيره في الكل وهو ظاهر لما مر أن من أمارات الكبيرة اللعن وقد علمت صحة الأحاديث بلعن الكل لكن لم يجر كثير من أئمتنا على إطلاق ذلك بل قالوا إنما يحرم غير الوشم والنمص بغير إذن الزوج أو السيد وهو مشكل لما علمت في قصة الأنصارية فإنه صلى الله عليه وسلم قال لها لا مع قولها إن الزوج أمر بالوصل وعجيب قولهم
____________________
(1/273)
بكراهة النمص بمعنييه السابقين مع اللعن فيه ومع قولهم بالحرمة في غيره مطلقا أو بغير إذن الزوج على الخلاف فيه وأي فرق مع وقوع اللعن على الكل في حديث واحد والجواب عن ذلك أشاروا إليه في محله
الكبيرة الرابعة والثمانون المرور بين يدي المصلي إذا صلى لسترة بشرطها أخرج الشيخان وأصحاب السنن لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه
وفي رواية صحيحة لكان أن يقوم أربعين خريفا سنة أي خيرا له من أن يمر بين يديه
قال الترمذي وقد روي عن أنس أنه قال لأن يقف أحدكم مائة عام خير له من أن يمر بين يدي أخيه وهو يصلي
وصح فيه حديث وهو لو يعلم أحدكم ما له في أن يمشي بين يدي أخيه معترضا وهو يناجي ربه لكان أن يقف في ذلك المكان مائة عام أحب إليه من الخطوة التي خطاها
وأخرج الشيخان إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفع في نحره فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان
وصح أيضا فلا يدع أحدا يمر بين يديه فإن أبى فليقاتله فإن معه القرين أي وأطاعه وإلا فلا خصوصية له
وأخرج ابن عبد البر موقوفا لأن يكون الرجل رمادا يذرى به خير له من أن يمر بين يدي رجل متعمدا وهو يصلي
تنبيه عد هذا كبيرة هو ما وقع لبعض أئمتنا وكأنه أخذه من نحو ما ذكرته من هذه الأحاديث فإن فيها وعيدا شديدا كما لا يخفى واستفيد منها أن شرط التحريم أن يصلي إلى ساتر وهو عندنا جدار أو عمود أو نحو عصا يغرزها أو متاع يجمعه فإن عجز بسط مصلى فإن عجز خط خطا طولا عن يمينه أو يساره ويشترط قربه منه بأن لا يكون بين عقبه وبينه أكثر من ثلاثة أذرع وأن يكون طول أحد الثلاثة الأول ثلثي ذراع فأكثر وأن لا يقف بطريق كالمطاف وقت طواف أحد به وأن لا يكون بين يديه فرجة في
____________________
(1/274)
صف وإن بعد عنه فإن انتفى شرط مما ذكر لم يحرم المرور بين يديه بل يكره وقيل يحرم في محل سجوده وعليه جماعة من أئمتنا
الكبيرة الخامسة والثمانون إطباق أهل القرية أو البلد أو نحوهما على ترك الجماعة في فرض من المكتوبات الخمس وقد وجدت فيهم شروط وجوب الجماعة أخرج الشيخان لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الجماعة فأحرق عليهم بيوتهم
وأحمد وأبو داود والنسائي وابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما عن أبي الدرداء رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان أي غلب فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية زاد رزين وإن ذئب الإنسان الشيطان إذا خلا به أكله
والحاكم في مستدركه ثلاثة لعنهم الله من تقدم قوما وهم له كارهون وامرأة باتت تحذف وزوجها عليها ساخط ورجل سمع حي على الصلاة حي على الفلاح فلم يجب
والشيخان وغيرهما عن ابن مسعود قال من سره أن يلقى الله غدا مسلما يعني يوم القيامة فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن فإن الله تعالى شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم
وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة ويحط بها عنه سيئة ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق
____________________
(1/275)
معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف وفي رواية لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه أو مريض إن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا سنن الهدى وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه
وفي رواية لأبي داود بدل قوله ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم ولو تركتم سنة نبيكم لكفرتم
وأحمد والطبراني الجفاء كل الجفاء والكفر والنفاق من سمع منادي الله ينادي إلى الصلاة فلا يجيبه
وفي رواية للطبراني بحسب المؤمن من الشقاء والخيبة أن يسمع المؤذن يثوب بالصلاة فلا يجيبه والتثويب هنا اسم لإقامة الصلاة
ومسلم وغيره لقد هممت أن آمر فتيتي فيجمعوا إلي حزما من حطب ثم آتي قوما يصلون في بيوتهم ليست بهم علة فأحرقها عليهم فقيل ليزيد هو ابن الأصم الجمعة عنى أو غيرها قال صمتا أذناي إن لم أكن سمعت أبا هريرة يأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر جمعة ولا غيرها
وأحمد بسند جيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المسجد فرأى في القوم رقة فقال إني لأهم أن أجعل للناس إماما ثم أخرج فلا أقدر على إنسان يتخلف عن الصلاة في بيته إلا أحرقته عليه فقال ابن أم مكتوم يا رسول الله إن بيني وبين المسجد نخلا وشجرا ولا أقدر على قائد كل ساعة أيسعني أن أصلي في بيتي قال أتسمع الإقامة قال نعم قال فأتها
ومسلم إن أعمى قال يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فرخص له فلما ولى دعاه فقال هل تسمع النداء بالصلاة قال نعم قال فأجب
وأبو داود إن ابن أم مكتوم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن المدينة كثيرة الهوام والسباع وأنا ضرير البصر شاسع الدار أي بعيدها ولي قائد لا يلائمني فهل
____________________
(1/276)
لي رخصة أن أصلي في بيتي فقال هل تسمع النداء فقال نعم قال فأجب فإني لا أجد لكم رخصة
وابن ماجه لينتهين رجال عن ترك الجماعة أو لأحرقن بيوتهم وصحح الحاكم خبر من سمع النداء فارغا صحيحا فلم يجب فلا صلاة له لكن قال المنذري الصحيح وقفه
وأبو داود من يسمع المنادي بالصلاة فلم يمنعه من اتباعه عذر قيل وما العذر قال خوف أو مرض لم تقبل منه الصلاة التي صلى يعني في بيته
وقال إبراهيم التيمي في قوله تعالى يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون إن ذلك اليوم يوم القيامة فإنه يغشاهم فيه ذل الندامة لأجل كونهم كانوا يدعون في الدنيا إلى السجود وهم سالمون فلم يجيبوا وقال أيضا يدعون إلى الصلاة المكتوبة بالأذان والإقامة
وقال ابن المسيب كانوا يسمعون حي على الفلاح فلا يجيبون وهم أصحاء سالمون
وقال كعب الأحبار والله ما نزلت هذه الآية إلا في المتخلفين عن الجماعات فأي وعيد أبلغ وأشد من هذا لمن ترك الجماعة من غير عذر
وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عمن يصوم النهار ويقوم الليل ولا يصلي في الجماعة ولا يجمع فقال إن مات هذا فهو في النار
وقال أبو هريرة لأن يمتلئ أذن ابن آدم رصاصا مذابا خير له من أن يسمع النداء ولا يجيب
وقال علي كرم الله وجهه لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد قيل ومن جار المسجد قال من يسمع الأذان وكل من هذين اللذين قالهما جاء حديثا وقال حاتم الأصم فاتتني مرة صلاة فعزاني أبو إسحاق البخاري وحده ولو مات لي ولد لعزاني أكثر من عشرة آلاف نفس لأن مصيبة الدين عند الناس أهون من مصيبة الدنيا
وحكى ابن عمر أن عمر خرج إلى بستان له فرجع وقد صلى الناس العصر فقال إنا لله وإنا إليه راجعون فاتتني صلاة العصر في الجماعة أشهدكم أن حائطي على
____________________
(1/277)
المساكين صدقة لتكون كفارة لما صنع
وقال ابن عمر رضي الله عنهما كنا إذا فقدنا الإنسان في صلاة العشاء والصبح في الجماعة أسأنا به الظن أن يكون قد نافق أي لحديث إنهما أثقل الصلوات على المنافقين ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا
تنبيه في هذه الأحاديث التي ذكرناها دليل لمذهب أحمد وغيره أن الجماعة فرض عين وبه يظهر ما دلت عليه هذه الأحاديث أيضا من أن ترك الجماعة بالقيود التي قدمتها كبيرة ولم أر من صرح بذلك بل الظاهر من الأحاديث أيضا أن تركها بالقيود التي قدمتها كبيرة وإن قلنا بالراجح في مذهبنا أنها فرض كفاية ويؤيد ذلك أن الإمام يقاتلهم على تركها وأما ما رجحه الرافعي من أنها سنة وأنهم لا يقاتلون على تركها فلا يقتضي أنا على المعتمد لا نجعله كبيرة لأنه يؤول الأحاديث بحملها على المنافقين فهي واردة في قوم كفار منافقين فلا حجة فيها فهو وإن سلم له فيمن عزم على حرقهم فلا يسلم له في الملعونين ونحوهم وقد مر أن اللعن من أمارات الكبيرة فظهر أن تركها كبيرة فيفسق أهل البلد مثلا إذ تواطئوا عليه ولو في صلاة واحدة من الصلوات الخمس كما مر لأنه دليل ظاهر على تهاونهم بالدين فهو جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة
ثم رأيت الذهبي ذكر أن ذلك من الكبائر لكن على غير الوجه الذي ذكرته فإنه قال الكبيرة السادسة والستون الإصرار على ترك صلاة الجماعة من غير عذر واستدل له ببعض ما سبق وما ذكره لا يتمشى إلا على مذهب أحمد القائل بأنها فرض عين على كل أحد لا على مذهبنا لأنها إما فرض كفاية أو سنة وكل من فرض الكفاية إذا قام به غيره ومن السنة لا إثم بتركه فضلا عن كونه كبيرة
الكبيرة السادسة والثمانون إمامة الإنسان لقوم وهم له كارهون أخرج الحاكم في مستدركه ثلاثة لعنهم الله من تقدم قوما وهم له كارهون وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط ورجل سمع حي على الصلاة حي على الفلاح فلم يجب
والترمذي وقال حسن غريب ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم العبد الآبق حتى يرجع وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط وإمام قوم وهم له كارهون
____________________
(1/278)
وأبو داود وابن ماجه ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة من تقدم قوما وهم له كارهون ورجل يأتي الصلاة دبارا والدبار أن يأتيها بعد أن تفوته ورجل اعتبد حرا أي جعله عبدا
والطبراني بسند قيل في بعض رجاله إن له مناكير أن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه صلى بقوم فلما انصرف قال إني نسيت أن أستأمركم قبل أن أتقدم أرضيتم بصلاتي قالوا نعم ومن يكره ذلك يا حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أيما رجل أم قوما وهم له كارهون لم تجاوز صلاته أذنيه
وابن خزيمة في صحيحه مرسلا ومرفوعا ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة لا تصعد إلى السماء ولا تجاوز رءوسهم رجل أم قوما وهم له كارهون ورجل صلى على جنازة ولم يؤمر وامرأة دعاها زوجها من الليل فأبت عليه
وابن ماجه ثلاثة لا ترفع صلاتهم على رءوسهم شبرا رجل أم قوما وهم له كارهون وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط وأخوان متصارمان
وابن حبان في صحيحه ثلاثة لا يقبل الله لهم صلاة إمام قوم وهم له كارهون وامرأة باتت وزوجها عليها غضبان وأخوان متصارمان
تنبيه عد هذا من الكبائر مع الجزم به وقع لبعض أئمتنا وكأنه نظر إلى ما في هذه الأحاديث وهو عجيب منه فإن ذلك مكروه عندنا إن كرهه أكثر القوم لأمر مذموم فيه شرعا مما لا يقدح في عدالته ونحوها مما تكره الإمامة والاقتداء معه وليس الاقتداء به مكروها مطلقا ولا إمامته بمحرمة مطلقا
فضلا عن كونه كبيرة لأن الإمام ليس بمجبر لأحد على الاقتداء به إذ هم بسبيل من أن لا يصلوا وراءه فهم المقصرون دونه نعم
إن حملت تلك الأحاديث على من تعدى على وظيفة إمام راتب فصلى فيها قهرا على
____________________
(1/279)
صاحبها وعلى المأمومين أمكن أن يقال حينئذ إن ذلك كبيرة لأن غصب المناصب أولى بالكبيرة من غصب الأموال المصرح فيه بأنه كبيرة
خاتمة صح عند ابني خزيمة وحبان من أم الناس فأصاب الوقت وأتم الصلاة فله ولهم ومن انتقص من ذلك شيئا فعليه ولا عليهم
وأخرج الطبراني من أم قوما فليتق الله وليعلم أنه ضامن مسئول لما ضمن وإن أحسن كان له من الأجر مثل أجر من صلى خلفه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا وما كان من نقص فهو عليه
وروى البخاري يصلون لكم فإذا أصابوا فلكم وإن أخطئوا فلكم وعليهم
وفي حديث حسن ثلاثة على كثبان المسك أراه قال يوم القيامة عبد أدى حق الله وحق مواليه ورجل أم قوما وهم به راضون ورجل ينادي بالصلوات الخمس في كل يوم وليلة
وفي أخرى بسند لا بأس به ثلاثة لا يهولهم الفزع الأكبر ولا ينالهم الحساب هم على كثيب من مسك حتى يفرغ من حساب الخلائق رجل قرأ القرآن ابتغاء وجه الله وأم به قوما وهم به راضون الحديث
الكبيرة السابعة والثمانون والكبيرة الثامنة والثمانون قطع الصف وعدم تسويته أخرج جماعة وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم من وصل صفا وصله الله ومن قطع صفا قطعه الله
وأيضا إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف
____________________
(1/280)
وأخرج ابن خزيمة في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم كان يسويهم في صفوفهم بيده ويقول لا تختلفوا فتختلف قلوبكم
ويقول إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف الأول
وفي رواية في سندها متروك من سد فرجة رفعه الله بها درجة وبنى له بيتا في الجنة
وفي أخرى بسند حسن من سد فرجة في الصف غفر له
وفي أخرى بسند لا بأس به إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف ولا يصل عبد صفا إلا رفعه الله به درجة ودرت عليه الملائكة من البر
وروى الشيخان وغيرهما لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم
وفي رواية لأبي داود وابن حبان في صحيحه أقيموا صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم
وفي أخرى لأحمد وغيره لتسون الصفوف أو ليطمسن الوجوه وليغمضن أبصاركم أو لتخطفن أبصاركم
تنبيه عد هذين من الكبائر هو قضية الوعيد الشديد عليهما بقوله صلى الله عليه وسلم ومن قطع صفا قطعه الله إذ هو بمعنى لعنه الله أو قريب منه ومر أن من أمارات الكبيرة اللعن ونحوه وقوله صلى الله عليه وسلم أو ليخالفن الله بين وجوهكم أو قلوبكم إذ هو تهديد الطمس أو المسخ كما دلت عليه الرواية الأخيرة التي استحسن سندها بعضهم وهذا وعيد شديد لكن لم أر أحدا عد ذلك من الكبائر على أن قطع الصف أو عدم تسويته عندنا إنما هو مكروه لا حرام فضلا عن كونه كبيرة نعم يلزم من عد إمامة من يكرهونه والنوم
____________________
(1/281)
على سطح غير محوط وترك الجماعة كبائر مع أنها إنما هي مكروهات أن يعد هذين من الكبائر بالأولى لأن الوعيد هنا أشد منه في أولئك
وأخرج أبو داود لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم الله في النار
وفي رواية لابن خزيمة في صحيحه وابن حبان حتى يخلفهم الله في النار وكأن الأئمة فهموا من هذه فإنه ليس المراد بها ظاهرها إجماعا أن التغليظات في هذا الباب لم يقصد بها ظواهرها بل الزجر عن خلل الصفوف وحمل الناس على إكمالها وتسويتها ما أمكن
الكبيرة التاسعة والثمانون مسابقة الإمام أخرج الشيخان وأصحاب السنن الأربعة أنه صلى الله عليه وسلم قال أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه من ركوع أو سجود قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار أو يجعل الله صورته صورة حمار
ورواه الطبراني بإسناد جيد بلفظ ما يأمن أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس كلب
وصح وقفه من طريق أخرى على ابن مسعود ومثله لا يقال من قبل الرأي فهو مرفوع ورواه ابن حبان في صحيحه بلفظ أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس كلب
وفي رواية سندها حسن الذي يخفض ويرفع قبل الإمام إنما ناصيته بيد الشيطان
تنبيه عد هذا من الكبائر هو صريح ما في هذه الأحاديث الصحيحة وبه جزم بعض المتأخرين وإنما يتضح بناء على ما روي عن ابن عمر أن من فعل ذلك لا صلاة له
قال الخطابي وأما عامة أهل العلم فإنهم قالوا قد أساء وصلاته مجزئة غير أن أكثرهم يأمرونه أن يعود إلى السجود ويمكث في سجوده بعد أن يرفع الإمام رأسه بقدر ما كان ترك انتهى
ومذهبنا أن مجرد رفع الرأس قبل الإمام أو القيام أو الهوي قبله مكروه كراهة تنزيه وأن يسن له العود إلى الإمام إن كان باقيا في ذلك الركن فإن سبقه بركن
____________________
(1/282)
كأن ركع واعتدل والإمام قائم لم يركع حرم عليه ولا يبعد أن يحمل الحديث على هذه الحالة وتكون هذه المعصية كبيرة أو بركنين كأن هوى إلى السجود والإمام لم يركع وكان ركع واعتدل والإمام لم يركع فلما أراد الإمام الاعتدال هوى المأموم للسجود بطلت صلاته ويكون فعله ذلك تسميته كبيرة ظاهرة
الكبيرة التسعون والحادية والتسعون والثانية والتسعون رفع البصر إلى السماء والالتفات في الصلاة والاختصار أخرج البخاري وغيره ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم فاشتد قوله في ذلك حتى قال لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم
وابن ماجه والطبراني بسند رواته رواة الصحيح وابن حبان في صحيحه لا ترفعوا أبصاركم إلى السماء فتلتمع يعني في الصلاة أي يذهب بها
ومسلم وغيره لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم إلى السماء عند الدعاء في الصلاة أو لتخطفن أبصارهم
ومسلم وغيره لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم
وأبو داود دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فرأى فيه ناسا يصلون رافعي أيديهم إلى السماء فقال لينتهين رجال يشخصون أبصارهم في الصلاة أو لا ترجع إليهم أبصارهم
والبخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التلفت في الصلاة فقال اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد
وأحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة في صحيحه والحاكم وصححه وفي سنده من صحح له الترمذي وابن حبان وغيرهما لا يزال الله مقبلا على العبد في صلاته ما لم يلتفت فإذا صرف وجهه انصرف
____________________
(1/283)
وأحمد بسند حسن وغيره عن أبي هريرة أوصاني خليلي بثلاث ونهاني عن ثلاث نهاني عن نقرة كنقرة الديك وإقعاء كإقعاء الكلب والتفات كالتفات الثعلب والإقعاء بكسر أوله أن يجلس على ألييه ناصبا فخذيه قال أبو عبيدة واضعا يديه بالأرض وخرج به الجلوس على عقبيه فإنه سنة بين السجدتين فقط كما في مسلم ومع ذلك الافتراش أفضل منه
والبزار إذا أقبل الرجل في الصلاة أقبل الله عليه بوجهه أي رحمته فإذا التفت قال يا ابن آدم إلى من تلتفت إلى من هو خير لك مني أقبل إلي فإذا التفت الثانية قال مثل ذلك فإذا التفت الثالثة صرف الله تبارك وتعالى وجهه عنه أي رحمته عنه
والترمذي وحسنه يا بني إياك والالتفات في الصلاة فإن الالتفات في الصلاة هلكة الحديث
والطبراني من قام في الصلاة فالتفت رد الله عليه صلاته
والبخاري عن أبي هريرة نهي عن الخصر في الصلاة
ومسلم ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي الرجل مختصرا
زاد أبو داود يعني يضع يديه على خاصرته
وابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما الاختصار في الصلاة راحة أهل النار
تنبيه عد هذه الثلاثة من الكبائر هو ما قد يتوهم من خطف البصر في الأول
____________________
(1/284)
وانصراف الرحمة في الثاني وكون ذلك راحة أهل النار في الثالثة وهو قياس ما مر في إمامة الكارهين له وفي غير مسابقة الإمام وغيرهما وما يأتي في لبس الحرير لأنهم إذا أخذوا من منع لبسه في الآخرة ذلك فأخذ ذلك مما هنا أولى لكن المعتمد أن ذلك كله لا حرمة في شيء منه فضلا عن كونه كبيرة وإنما هي مكروهات كراهة تنزيه
الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتسعون اتخاذ القبور مساجد وإيقاد السرج عليها واتخاذها أوثانا والطواف بها واستلامها والصلاة إليها أخرج الطبراني بسند لا بأس به عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال عهدي بنبيكم قبل وفاته بخمس ليال فسمعته يقول إنه لم يكن نبي إلا وله خليل من أمته وإن خليلي أبو بكر بن أبي قحافة وإن الله اتخذ صاحبكم خليلا ألا وإن الأمم قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد وإني أنهاكم عن ذلك اللهم إني بلغت ثلاث مرات ثم قال اللهم اشهد ثلاث مرات الحديث
والطبراني لا تصلوا إلى قبر ولا تصلوا على قبر
وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان عن ابن عباس رضي الله عنهما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج
ومسلم ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد فإني أنهاكم عن ذلك
وأحمد إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد
____________________
(1/285)
وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام
والشيخان وأبو داود قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
وأحمد عن أسامة وأحمد والشيخان والنسائي عن عائشة وابن عباس ومسلم عن أبي هريرة لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
وأحمد والشيخان والنسائي أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة
وابن حبان عن أنس نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور
وأحمد والطبراني إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد
وابن سعد ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك
وعبد الرزاق إن من شر الناس من يتخذ القبور مساجد
وأيضا كانت بنو إسرائيل اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فلعنهم الله تعالى
تنبيه عد هذه الستة من الكبائر وقع في كلام بعض الشافعية وكأنه أخذ ذلك مما
____________________
(1/286)
ذكرته من هذه الأحاديث ووجه أخذ اتخاذ القبر مسجدا منها واضح لأنه لعن من فعل ذلك بقبور أنبيائه وجعل من فعل ذلك بقبور صلحائه شر الخلق عند الله يوم القيامة ففيه تحذير لنا كما في رواية يحذر ما صنعوا أي يحذر أمته بقوله لهم ذلك من أن يصنعوا كصنع أولئك فيلعنوا كما لعنوا واتخاذ القبر مسجدا معناه الصلاة عليه أو إليه وحينئذ فقوله والصلاة إليها مكرر إلا أن يراد باتخاذها مساجد الصلاة عليها فقط نعم إنما يتجه هذا الأخذ إن كان القبر قبر معظم من نبي أو ولي كما أشارت إليه رواية إذا كان فيهم الرجل الصالح ومن ثم قال أصحابنا تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركا وإعظاما فاشترطوا شيئين أن يكون قبر معظم وأن يقصد بالصلاة إليه ومثلها الصلاة عليه التبرك والإعظام وكون هذا الفعل كبيرة ظاهر من الأحاديث المذكورة لما علمت وكأنه قاس على ذلك كل تعظيم للقبر كإيقاد السرج عليه تعظيما له وتبركا به والطواف به كذلك وهو أخذ غير بعيد سيما وقد صرح في الحديث المذكور آنفا بلعن من اتخذ على القبر سرجا فيحمل قول أصحابنا بكراهة ذلك على ما إذا لم يقصد به تعظيما وتبركا بذي القبر
وأما اتخاذها أوثانا فجاء النهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم لا تتخذوا قبري وثنا يعبد بعدي أي لا تعظموه تعظيم غيركم لأوثانهم بالسجود له أو نحوه فإن أراد ذلك الإمام بقوله واتخاذها أوثانا هذا المعنى اتجه ما قاله من أن ذلك كبيرة بل كفر بشرطه وإن أراد أن مطلق التعظيم الذي لم يؤذن فيه كبيرة ففيه بعد نعم قال بعض الحنابلة قصد الرجل الصلاة عند القبر متبركا بها عين المحادة لله ورسوله وإبداع دين لم يأذن به الله للنهي عنها ثم إجماعا فإن أعظم المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد أو بناؤها عليها
والقول بالكراهة محمول على غير ذلك إذ لا يظن بالعلماء تجويز فعل تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعله وتجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد الضرار لأنها أسست على معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه نهى عن ذلك وأمر صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر ولا يصح وقفه ونذره انتهى
____________________
(1/287)
الكبيرة التاسعة والتسعون سفر الإنسان وحده أخرج أحمد من رواية الطيب بن محمد وبقية رواته رواة الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم مخنثي الرجال الذين يتشبهون بالنساء والمترجلات من النساء المتشبهات بالرجال وراكب الفلاة وحده
والبخاري وغيره لو أن الناس يعلمون ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده
والحاكم وصححه أن رجلا قدم من سفر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من صحبت قال ما صحبت أحدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الراكب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة ركب
وروى المرفوع منه مالك وأبو داود والترمذي وحسنه النسائي وابن خزيمة في صحيحه وبوب عليه باب النهي والدليل على أن ما دون الثلاثة من المسافرين عصاة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعلم أن الواحد شيطان والاثنان شيطانان ويشبه أن يكون معنى قوله شيطان أي عاص لقوله تعالى شياطين الإنس والجن أي عصاتهم انتهى
والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم الواحد شيطان والاثنان شيطانان والثلاثة ركب
تنبيه عد هذا هو صريح الحديث الأول وظاهره ما بعده لكنه لا يوافق كلام أئمتنا فإنهم مصرحون بكراهة ذلك فليحمل كقول ابن خزيمة السابق بالعصيان على من علم حصول ضرر عظيم له بسفره وحده أو مع آخر فقط كأن كان بتلك الطريق سبع ضار أو نحوه
____________________
(1/288)
الكبيرة المائة سفر المرأة وحدها بطريق تخاف فيها على بضعها أخرج الشيخان وغيرهما لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا يكون ثلاثة أيام فصاعدا إلا ومعها أبوها أو أخوها أو زوجها أو ابنها أو ذو محرم منها
وفي رواية لهما يومين
وفي أخرى لهما مسيرة يوم وليلة
وفي أخرى لهما مسيرة يوم
وفي أخرى لهما مسيرة ليلة
وفي أخرى لأبي داود وابن خزيمة أن تسافر بريدا
تنبيه عد هذا بالقيد الذي ذكرته ظاهر لعظيم المفسدة التي تترتب على ذلك غالبا وهي استيلاء الفجرة وفسوقهم بها فهو وسيلة إلى الزنا وللوسائل حكم المقاصد وأما الحرمة فلا تتقيد بذلك بل يحرم عليها السفر مع غير محرم وإن قصر السفر وكان أمنا ولو لطاعة كنفل الحج أو العمرة ولو مع النساء من التنعيم وعلى هذا يحمل عدهم ذلك من الصغائر
الكبيرة الحادية بعد المائة ترك السفر والرجوع منه تطيرا عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الطيرة شرك الطيرة شرك وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل رواه أبو داود واللفظ له والترمذي وابن ماجه في صحيحه من غير تكرار
وقال الترمذي حديث حسن صحيح
قال الحافظ أبو القاسم الأصفهاني وغيره في الحديث إضمار والتقدير ما منا إلا وقد وقع في قلبه شيء من ذلك يعني قلوب أمته ولكن الله تعالى يذهب ذلك عن قلب كل من يتوكل على الله ولا يثبت على ذلك انتهى
واعترضه الحافظ المنذري لأن الصواب ما ذكره البخاري وغيره أن قوله وما منا إلخ من كلام ابن مسعود مدرج غير مرفوع
ونقل البخاري عن سليمان بن حرب أنه كان ينكر رفع ذلك ويقول كأنه من قول ابن مسعود
وأبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه العيافة أي الخط والطيرة والطرق أي الزجر
____________________
(1/289)
من الجبت
والطبراني بسند صحيح والبيهقي لن ينال الدرجات العلا من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر تطيرا
تنبيه عد هذا هو ظاهر الحديث الأول والثاني وينبغي حمله على ما إذا كان معتقدا حدوث تأثير للتطير لكن الكلام في إسلام مثل هذا
الكبيرة الثانية بعد المائة ترك صلاة الجمعة مع صلاة الجماعة من غير عذر وإن قال إنه يصليها ظهرا وحده
أخرج مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم
ومسلم وغيره أيضا أن أبا هريرة وابن عمر رضي الله تعالى عنهم قالا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعة أي بفتح فسكون أي تركهم إياها أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين
وأحمد وأصحاب السنن الأربعة وحسنه الترمذي وصححه ابنا خزيمة وحبان والحاكم وقال على شرط مسلم من ترك ثلاث جمع تهاونا طبع على قلبه
وفي رواية لابني خزيمة وحبان من ترك الجمعة ثلاثا من غير عذر فهو منافق
وفي أخرى لرزين فقد برئ من الله
____________________
(1/290)
وأحمد بإسناد حسن وابن ماجه بإسناد جيد والحاكم وصححه
من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير ضرورة طبع الله على قلبه
زاد البيهقي وجعل قلبه قلب منافق
وفي رواية لها شواهد كتب من المنافقين
وفي أخرى سندها صحيح عن ابن عباس موقوفة فقد نبذ الإسلام وراء ظهره
والطبراني بسند حسن لينتهين أقوام يسمعون النداء يوم الجمعة ثم لا يأتونها أو ليطبعن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين
وابن ماجه عن جابر رضي الله عنه
خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا أيها الناس توبوا إلى الله قبل أن تموتوا وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشتغلوا وصلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له وكثرة الصدقة في السر والعلانية ترزقوا وتنصروا وتجبروا واعلموا أن الله افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في يومي هذا في شهري هذا في عامي هذا إلى يوم القيامة فمن تركها في حياتي أو بعدي وله إمام عادل أو جائر استخفافا بها وجحودا بها فلا جمع الله له شمله ولا بارك له في أمره ألا ولا صلاة له ولا زكاة له ولا حج له ولا صوم له ولا بر له حتى يتوب فمن تاب تاب الله عليه
تنبيه عد هذا من الكبائر واضح مما ذكرته في هذه الأحاديث وبه صرح غير واحد ويؤيده أن فعلها في الجماعة على غير ذوي الأعذار المذكورة في الفقه فرض عين إجماعا بل هو معلوم من الدين بالضرورة فمن استحله وهو مخالط المسلمين كفر فيما يظهر لأنه مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة ومن ثم لو قال إنسان أصلي ظهرا لا جمعة قتل على الأصح عندنا لأن ذلك بمنزلة تركها من أصلها وقال الحليمي إن ترك الجمعة لغيرها صغيرة ومعنى قوله لغيرها أنه أعرض عن الجمعة وقصد صلاة الظهر بدلها وما ذكره من أن ذلك صغيرة حينئذ فيه نظر كما قاله الأذرعي ولعله مبني على الوجه الضعيف أن من قال أصلي الظهر ولا أصلي الجمعة لا يقتل بناء على الضعيف أيضا أن الجمعة ظهر مقصورة أما على الأصح فإنه يقتل بناء على الأصح أنها صلاة مستقلة وليست بدلا عن الظهر فتركها كبيرة وإن قال أصلي الظهر كما تقرر
____________________
(1/291)
@ 292 فائدة أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم من ترك الجمعة من غير عذر فليتصدق بدينار فإن لم يجد فنصف دينار
وفي رواية للبيهقي بدرهم أو نصف درهم أو صاع أو مد
وفي أخرى لابن ماجه مرسلة أو صاع حنطة أو نصف صاع
الكبيرة الثالثة بعد المائة تخطي الرقاب يوم الجمعة أخرج الترمذي وقال حديث غريب والعمل عليه عند أهل العلم وابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسرا إلى جهنم
والطبراني في الصغير والأوسط عن أنس رضي الله تعالى عنه بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس إذ جاء رجل يتخطى رقاب الناس حتى جلس قريبا من النبي صلى الله عليه وسلم فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال ما منعك يا فلان أن تجمع معنا قال يا رسول الله قد حرصت أن أضع نفسي بالمكان الذي ترى قال قد رأيتك تتخطى رقاب الناس وتؤذيهم من آذى مسلما فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله عز وجل
وأحمد والطبراني في الكبير والحاكم إن الذي يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة ويفرق بين الاثنين بعد خروج الإمام كجار قصبه أي أمعائه في النار قيل والتقييد بالجمعة للغالب
وأحمد وأبو داود والنسائي وابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما عن عبد الله بن بسر رضي الله تعالى عنه قال جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال صلى الله عليه وسلم اجلس فقد آذيت
زاد ابن خزيمة وأوذيت
وزاد أيضا كأحمد وابن حبان وآنيت أي بالمد أخرت المجيء
____________________
(1/292)
تنبيه عد هذا كبيرة هو ما جرى عليه بعض المتأخرين وكأنه أخذه من هذه الأحاديث وهو وإن كان أخذا قريبا إلا أن الأصح من مذهبنا أنه مكروه كراهة تنزيه ويجمع بينه وبين تلك الأحاديث بحملها على من آذى به الناس أذى شديدا عرفا وحمل الكراهة على ما إذا خف ذلك الأذى ويأتي على الأثر نظير ذلك في الجلوس وسط الحلقة
الكبيرة الرابعة بعد المائة الجلوس وسط الحلقة أخرج أحمد وأبو داود بإسناد حسن والترمذي والحاكم عن حذيفة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال لعن الله من جلس وسط الحلقة
والترمذي وقال حسن صحيح أن رجلا قعد وسط حلقة فقال حذيفة ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم أو لعن الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم من جلس وسط الحلقة
والطبراني عن أبي أمامة من تخطى حلقة قوم بغير إذنهم فهو عاص
وأبو داود لا تجلس بين رجلين إلا بإذنهما
وأحمد والترمذي لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما
والبغوي والطبراني والبيهقي إذا انتهى أحدكم المجلس فإن وسع له فليجلس وإلا فلينظر إلى أوسع مكان يراه فليجلس فيه
تنبيه عد هذا كبيرة وقع في كلام بعض الشافعية وكأنهم أخذوه من اللعن عليه المذكور وهو أخذ ظاهر إن آذى به غيره إيذاء لا يحتمل عرفا وعليه يحمل الحديث أيضا
وأما قول أصحابنا بكراهته فيحمل على ما إذا خف الإيذاء به ويؤيد هذا التفصيل ما ذكرناه في كتبنا الفقهية في حمل السلاح في صلاة الخوف وتقبيل الحجر الأسود عند الزحمة وغير ذلك من أن الإيذاء إن خف كره وإلا حرم وبهذا اتضح أنه لا مخالفة بين كلام أئمتنا والحديث فتأمل ذلك فإني لم أر من تنبه له
____________________
(1/293)
@ 294 الكبيرة الخامسة بعد المائة لبس الذكر أو الخنثى البالغ العاقل الحرير الصرف أو الذي أكثره حرير وزنا لا ظهورا من غير عذر كدفع قمل أو حكة
أخرج الشيخان وغيرهما عن عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة
زاد النسائي وقال ابن الزبير رضي الله عنهما من لبسه في الدنيا لم يدخل الجنة
قال الله تعالى ولباسهم فيها حرير والشيخان وغيرهما إنما يلبس الحرير من لا خلاق له
زاد البخاري وغيره لا خلاق له في الآخرة
والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه
والشيخان من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة
وأبو داود والنسائي عن علي رضي الله عنه رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريرا فجعله في يمينه وذهبا فجعله في يساره ثم قال إن هذين حرام على ذكور أمتي
والحاكم وصححه من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربه في الآخرة ومن شرب في آنية من الذهب والفضة لم يشرب بها في الآخرة ثم قال لباس أهل الجنة أي الحرير وشراب أهل الجنة أي الخمر وآنية أهل الجنة أي الذهب
____________________
(1/294)
والشيخان سمعت ابن الزبير يخطب ويقول لا تلبسوا نساءكم الحرير فإني سمعت عمر يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة
زاد النسائي ومن لم يلبسه في الآخرة لم يدخل الجنة قال الله تعالى ولباسهم فيها حرير والنسائي والحاكم وقال صحيح على شرطهما عن عقبة بن عامر أنه كان يمنع أهله الحلية والحرير ويقول إن كنتم تحبون حلية الجنة وحريرها فلا تلبسوهما في الدنيا
وفهمه هو وابن الزبير أن هذا الوعيد بعدم لبسه في الآخرة يجري في النساء ونحوهن ممن أبيح له لبسه إنما هو مجرد احتياط وإلا فتجويز لبسه لهن الظاهر منه أنه لا يمنع لبسه في الآخرة
والشيخان أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروج حرير أي بفتح الفاء فراء مضمومة مشددة فجيم قباء شق من خلفه فلبسه ثم صلى فيه ثم انصرف فنزعه نزعا شديدا كالكاره له ثم قال لا ينبغي هذا للمتقين
وابن حبان في صحيحه أن عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار
وأشهدكم أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من لبس الحرير في الدنيا حرمه في الآخرة
والبخاري نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها وعن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه
وأحمد لا يستمتع بالحرير من يرجو أيام الله أي لقاء الله وحسابه
وأحمد إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا يرجو أن يلبسه في الآخرة
قال الحسن فما بال أقوام يبلغهم هذا عن نبيهم فيجعلون حريرا في ثيابهم وبيوتهم
____________________
(1/295)
وأحمد والبيهقي يبيت قوم من هذه الأمة على طعم وشرب ولهو ولعب فيصبحوا قد مسخوا قردة وخنازير وليصيبنهم خسف وقذف حتى يصبح الناس فيقولون خسف الليلة ببني فلان خسف الليلة بدار فلان ولترسلن عليهن حجارة من السماء كما أرسلت على قوم لوط على قبائل فيها وعلى دور ولترسلن عليهم الريح العقيم كما أرسلت إلى عاد على قبائل فيها وعلى دور بشربهم الخمر ولبسهم الحرير واتخاذهم القينات وأكلهم الربا وقطيعتهم الرحم
والبخاري تعليقا وأبو داود ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحرير يمسخ منهم قردة وخنازير إلى يوم القيامة
والبيهقي وقواه إذا استحلت أمتي خمسا فعليهم الدمار أي الهلاك إذا ظهر التلاعن وشربوا الخمر ولبسوا الحرير واتخذوا القينات واكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء
والحاكم وقال صحيح على شرطهما عن سعد رضي الله عنه أنه قال لمن استأذن عليه فكان متكئا على شبه مخدة من حرير فأزالها فأخبر أنه أزالها لأجله نعم الرجل أنت إن لم تكن ممن قال الله تعالى فيهم أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا والله لأن أضطجع على جمر الغضى أحب إلي من أن أضطجع عليها
والبزار والطبراني بسند رواته ثقات رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبة مجيبة بحرير أي لها جيب أي طوق منه فقال طوق من نار يوم القيامة وهو محمول على غير التسجيف بدليل أنه صلى الله عليه وسلم كان له جبة
مكفوفة أي مسجفة بالديباج
وأحمد والطبراني بسند فيه جابر الجعفي وقد وثقه جماعة من لبس ثوب حرير ألبسه الله يوما أو ثوبا من النار يوم القيامة
وفي رواية من لبس ثوب حرير في الدنيا ألبسه الله تعالى ثوب مذلة من النار أو ثوبا من النار
____________________
(1/296)
ورواه البزار عن حذيفة موقوفا من لبس ثوب حرير ألبسه الله تعالى يوما من نار ليس من أيامكم ولكن من أيام الله تعالى الطوال
الكبيرة السادسة بعد المائة تحلي الذكر البالغ العاقل بذهب كخاتم أو فضة غير خاتم أخرج أحمد بسند رواته ثقات من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس حريرا ولا ذهبا
وأحمد بسند رواته ثقات أيضا والطبراني عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من مات من أمتي وهو يشرب الخمر حرم الله عليه شربها في الجنة ومن مات من أمتي وهو يتحلى بالذهب حرم الله عليه لبسه في الجنة
ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم رأى خاتما من ذهب في يد رجل فنزعه وطرحه وقال يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيطرحها في يده فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم خذ خاتمك انتفع به فقال والله لا آخذه وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم
والنسائي إن رجلا قدم من نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من ذهب فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال إنك جئتني وفي يدك جمرة من نار
وابن حبان في صحيحه ويل للنساء من الأحمرين الذهب والمعصفر
وأبو الشيخ وغيره أريت أني دخلت الجنة فإذا أعالي أهل الجنة فقراء المهاجرين وذراري المؤمنين وإذا ليس فيها أحد أقل من الأغنياء والنساء فقيل لي أما الأغنياء
____________________
(1/297)
فإنهم على الباب يحاسبون ويمحصون وأما النساء فألهاهن الذهب والحرير الحديث وبه يعلم معنى قوله ويل للنساء في الحديث قبله أي أن هذين سبب للهوهن وإعراضهن عن الخير وليس المراد به ظاهره لأنهما حلالان لهن إجماعا
تنبيه عد لبس الحرير كبيرة هو الظاهر من أحاديثه الصحيحة السابقة فيه لما فيها من ذلك الوعيد الشديد لكن جمهور أئمتنا على أنه صغيرة ولعلهم نظروا إلى اختصاص الكبيرة بما فيه حد ومر أن الصحيح خلافه
فالوجه الذي لا محيد عنه عند النظر إلى تلك الأحاديث وحدها بأنها ما فيه وعيد شديد الجزم بأن ذلك كبيرة وممن اختار ذلك الجلال البلقيني وغيره إليه ميل إمام الحرمين وأما عد لبس الذهب الذي ذكرته بحثا كبيرة فهو أولى بذلك من الحرير مع الوعيد الشديد عليه الذي في أحاديثه الصحيحة المذكورة وإلحاق حلية الفضة به الذي ذكرته محتمل وإن أمكن الفرق بأن الذهب أغلظ ومن ثم قال بعض أئمتنا يحل لبس بعض حلية الفضة غير الخاتم للرجل واتفقوا على حل بل ندب لبس خاتمها له وتحريم خاتم الذهب له
فوائد يحل نحو الجلوس على الحرير بحائل ولو رقيقا ومهلهلا بخلاف المخرق ومن استعماله المحرم التدثر به واتخاذه سترا ويحل التسجيف به بقدر العادة وجعل الطراز منه على الكم إذا كان بقدر أربع أصابع وخيط السبحة وعلم الرمح وكيس المصحف وإلباسه كحلي النقدين للمجنون والصبي إلى البلوغ
وأفتى ابن عبد السلام بتأثيم متخذ الحرير لكنه دون إثم اللبس والنووي بتحريم كتابة الصداق فيه للرجل وهو المعتمد خلافا لمن نازع فيه وتزيين البيوت والمساجد بحرير أو بصور حرام ولو لامرأة وبغيرهما مكروه وكالحرير ما صبغ بزعفران أو عصفر أو ورس على كلام فيه بينته كفوائد غزيرة في شرح العباب
الكبيرة السابعة بعد المائة تشبه الرجال بالنساء فيما يختصصن به عرفا غالبا من لباس أو كلام أو حركة أو نحوها وعكسه أخرج البخاري والأربعة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال
____________________
(1/298)
والطبراني أن امرأة مرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم متقلدة قوسا فقال لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء
والبخاري لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء والأول جمع مخنث بفتح النون وكسرها وهو من فيه انخناث وهو التكسر والتثني كما يفعله النساء وإن لم يفعل الفاحشة الكبرى والثاني المتشبهات من النساء بالرجال
وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبس الرجل
وأحمد بسند حسن لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم مخنثي الرجال الذين يتشبهون بالنساء والمترجلات من النساء المتشبهات بالرجال وراكب الفلاة وحده
والطبراني بسند فيه مختلف فيه أربعة لعنوا في الدنيا والآخرة وأمنت الملائكة رجل جعله الله ذكرا فأنث نفسه وتشبه بالنساء وامرأة جعلها الله أنثى فتذكرت وتشبهت بالرجال والذي يضل الأعمى ورجل حصور ولم يجعل الله حصورا إلا يحيى بن زكريا
وأبو داود أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بال هذا قالوا يتشبه بالنساء فأمر به فنفي إلى النقيع أي بالنون وهو بعيد من المدينة
قال المنذري في متنه نكارة وليس في سنده مجهول خلافا لمن زعمه
وصح ثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والديوث ورجلة النساء
وفي رواية قال المنذري لا أعلم في رواتها مجروحا ثلاثة لا يدخلون الجنة أبدا الديوث
____________________
(1/299)
ورجلة النساء ومدمن الخمر قالوا يا رسول الله أما مدمن الخمر فقد عرفناه فما الديوث قال الذي لا يبالي بمن يدخل على أهله قلنا فما الرجلة من النساء قال التي تتشبه بالرجال
تنبيه عد هذا من الكبائر واضح لما عرفت من هذه الأحاديث الصحيحة وما فيها من الوعيد الشديد والذي رأيته لأئمتنا أن ذلك التشبه فيه قولان أحدهما أنه حرام وصححه النووي بل صوبه
وثانيهما أنه مكروه وصححه الرافعي في موضع
والصحيح بل الصواب ما قاله النووي من الحرمة بل ما قدمته من أن ذلك كبيرة ثم رأيت بعض المتكلمين على الكبائر عده منها وهو ظاهر وعلم من خبر المخنث المخضوب الذي نفاه صلى الله عليه وسلم لأجل تشبهه بالنساء بخضبه يديه ورجليه أن خضب الرجل يديه أو رجليه بالحناء حرام بل كبيرة على ما ذكر فيه من التشبه بالنساء وأن الحديث المذكور صريح في ذلك وقد وقعت هذه المسألة قريبا من اليمن فاختلف فيها علماؤها وصنفوا في الحل والحرمة ثم أرسلوا إلي بمكة سنة اثنتين وخمسين وتسعمائة ثلاث مصنفات اثنين في حله مطلقا وواحدا في حرمته وطلبوا مني إبانة الحق في المسألة فألفت فيها كتابا حافلا سميته شن الغارة على من أظهر معرة تقوله في الحناء وعواره وإنما سميته بذلك ليطابق اسمه مسماه فإن بعض القائلين بالحل تعدى طوره إلى أن ادعى فيه الاجتهاد وزعم أن القائلين بالحرمة أي وهم الأصحاب قاطبة بل والشافعي كما بينته ثم استروحوا ولم يتأملوه فغلطوا في ذلك ثم أكثروا في الكلام من نحو هذه الخرافات والمجازفات وسولت له نفسه أنه أبرز أدلة خفيت عليهم وأن تقليده أو تقليد شيخه التابع له في الحل أولى من تقليدهم فلعظيم ضرر هذه الحادثة وسوء صنيع وطوية هذا المجازف جردت صارم العزم وباتر التنقيب والفحص والفهم وأوريت زند الفكر حمية لأئمتنا غيوث الهدى ومصابيح الدجى وانتصارا لإيضاح الحق الصراح وإدحاض ذلك الباطل البراح فلذلك اتسع مجال ذلك الكتاب وتعين فيه إيثار جادة الإطناب وظهرت به سبل الصواب بحمد ربنا لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب
خاتمة يجب على الزوج أن يمنع زوجته مما تقع فيه من التشبه بالرجال في مشية أو لبسة أو غيرهما خوفا عليها من اللعنة بل وعليه أيضا فإنه إذا أقرها أصابه ما أصابها وامتثالا لقوله تعالى قوا أنفسكم وأهليكم نارا أي بتعليمهم
____________________
(1/300)
وتأديبهم وأمرهم بطاعة ربهم ونهيهم عن معصيته ولقول نبيه صلى الله عليه وسلم كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته الرجل في أهله راع وهو مسئول عنهم يوم القيامة وفي الحديث إن هلاك الرجال طاعتهم لنسائهم ومن ثم قال الحسن والله ما أصبح اليوم رجل يطيع امرأته فيما تهوى إلا كبه الله في النار
الكبيرة الثامنة بعد المائة لبس المرأة ثوبا رقيقا يصف بشرتها وميلها وإمالتها أخرج مسلم وغيره صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا
وكاسيات أي من نعم الله وعاريات أي من شكرها والمراد كاسيات صورة عاريات معنى بأن تلبس ثوبا رقيقا يصف لون أبدانهن ومائلات أي عن طاعة الله وما يلزمهن فعله وحفظه ومميلات أي لغيرهن إلى فعلهن المذموم بتعليمهن إياهن ذلك أو مائلات يمشين متبخترات مميلات لأكتافهن أو مائلات تمشطن المشطة الميلاء وهي مشطة البغايا
مميلات أي يمشطن غيرهن تلك المشطة
رءوسهن كأسنمة البخت أي يكبرنها ويعظمنها بلف نحو عمامة أو عصابة
وابن حبان في صحيحه واللفظ له والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم يكون في آخر أمتي رجال يركبون على سروج كأشباه الرحال ينزلون على أبواب المساجد نساؤهم كاسيات عاريات على رءوسهن كأسنمة البخت العجاف العنوهن فإنهن ملعونات لو كان وراءكم أمة من الأمم خدمتهن نساؤكم كما خدمتكم نساء الأمم قبلكم
وأبو داود مرسلا عن عائشة أن أختها أسماء رضي الله عنها دخلت على رسول
____________________
(1/301)
الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا أسماء إن المرأة إذا بلغت زمن الحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وأشار إلى وجهه وكفيه
تنبيه ذكر هذا من الكبائر ظاهر لما فيه من الوعيد الشديد ولم أر من صرح بذلك إلا أنه معلوم بالأولى مما مر في تشبههن بالرجال
قال الذهبي ومن الأفعال التي تلعن المرأة عليها إظهار زينتها كذهب أو لؤلؤ من تحت نقابها وتطيبها بطيب كمسك إذا خرجت
وكذا لبسها عند خروجها كل ما يؤدي إلى التبهرج كمصوغ براق وإزار حرير وتوسعة كم وتطويله فكل ذلك من التبهرج الذي يمقت الله عليه فاعله في الدنيا والآخرة ولهذه القبائح الغالبة عليهن قال عنهن النبي صلى الله عليه وسلم اطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء
الكبيرة التاسعة بعد المائة طول الإزار أو الثوب أو الكم أو العذبة خيلاء الكبيرة العاشرة بعد المائة التبختر في المشي أخرج البخاري وغيره ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار
وفي رواية للنسائي إزرة المؤمن إلى عضلة ساقه ثم إلى نصف ساقه ثم إلى كعبيه وما تحت الكعبين من الإزار ففي النار
والشيخان وغيرهما لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثوبه خيلاء
وأيضا لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرا
وأيضا من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه يا رسول الله إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك لست ممن يفعله خيلاء
وفي رواية لمسلم عن ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني هاتين يقول من جر إزاره لا يريد بذلك إلا المخيلة فإن الله لا ينظر إليه يوم القيامة
والخيلاء بضم أو كسر ففتح ومد الكبر والعجب والمخيلة من الاختيال وهو الكبر واستحقار الناس
____________________
(1/302)
وأبو داود عن ابن عمر ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإزار فهو في القمص
ومالك وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه قال سألت أبا سعيد عن الإزار فقال على الخبير بها سقطت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إزرة المؤمن إلى نصف الساق ولا حرج أو قال ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين ما كان أسفل من ذلك فهو في النار ومن جر إزاره بطرا لم ينظر الله إليه يوم القيامة
وأحمد بسند رواته ثقات عن ابن عمر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعلي إزار يتقعقع فقال من هذا قلت عبد الله بن عمر قال إن كنت عبد الله فارفع إزارك فرفعت إزاري إلى نصف الساقين فلم تزل إزرته حتى مات
ومسلم والأربعة ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قال فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات
قال أبو ذر خابوا وخسروا من هم يا رسول الله قال المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب
وفي رواية المسبل إزاره
وأبو داود والنسائي وابن ماجه من رواية من وثقه الجمهور والإسبال في الإزار والقميص والعمامة من جر شيئا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة
وفي رواية إياك وإسبال الإزار فإنه من المخيلة ولا يحبها الله
والطبراني في الأوسط يا معشر المسلمين اتقوا الله وصلوا أرحامكم فإنه ليس من ثواب أسرع من صلة الرحم وإياكم والبغي فإنه ليس من عقوبة أسرع من عقوبة البغي وإياكم وعقوق الوالدين فإن ريح الجنة يوجد من مسيرة ألف عام والله لا
____________________
(1/303)
يجدها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا جار إزاره خيلاء إنما الكبرياء لله رب العالمين الحديث
وأيضا من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة وإن كان على الله كريما
والبيهقي أتاني جبريل عليه السلام فقال لي هذه ليلة النصف من شعبان ولله فيها عتقاء من النار بعدد شعور غنم بني كلب لا ينظر الله فيها إلى مشرك ولا إلى ساحر ولا إلى قاطع رحم ولا إلى مسبل ولا إلى عاق لوالديه ولا إلى مدمن خمر
والبزار عن بريدة قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل رجل من قريش يخطر في حلة له فلما قام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يا بريدة هذا لا يقيم الله له يوم القيامة وزنا ومرت بقية أحاديث التبختر في أوائل الكتاب في بحث الكبر
تنبيه عد هذين من الكبائر هو ما صرحت به هذه الأحاديث لما فيها من شدة الوعيد عليهما وتقرير الشيخين صاحب العدة على أن التبختر في المشي من الصغائر يتعين حمله على ما إذا لم ينته به الحال إلى أن يقصد به التكبر المنضم إليه نحو استحقار الخلق وإلا فهو كبيرة إذ التكبر من الكبائر كما مر وصرح به جمع من أئمتنا ومن ثم اعترض على الشيخين جمع بأن تقريرهما له على ذلك فيه نظر إذا تعمده تكبرا وفخرا وإكثارا قال تعالى ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها والمرح التبختر كما في رياض النووي
وروى مسلم لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر
وفي الصحيحين ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر وفيهما لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثوبه بطرا
وفيهما أيضا بينما رجل يمشي في
____________________
(1/304)
حلة تعجبه نفسه مرجلة رأسه يختال في مشيته إذ خسف الله به فهو يتجلجل في الأرض
ويتجلجل بالجيم أي يغوص وينزل فيها إلى يوم القيامة
الكبيرة الحادية عشرة بعد المائة خضب نحو اللحية بالسواد لغير غرض نحو جهاد أخرج أبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد وزعم ضعفه ليس في محله
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة
تنبيه عد هذا من الكبائر هو ظاهر ما في هذا الحديث الصحيح من هذا الوعيد الشديد وإن لم أر من عده منها وكان الأنسب ذكر هذا مع ملائمه السابق في شروط الصلاة إلا أن له مناسبة ما بهذا الباب أيضا
الكبيرة الثانية عشرة بعد المائة قول الإنسان إثر المطر مطرنا بنوء نجم كذا أي وقته معتقدا أن له تأثيرا أخرج الشيخان عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إثر سماء أي مطر من الليل هل تدرون ما قال ربكم قالوا الله ورسوله أعلم قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فهو كافر بي مؤمن بالكواكب
تنبيه عد هذا كبيرة هو ما وقع في كلام غير واحد وليس بصحيح لأن من قال ذلك معتقدا ما ذكر كافر حقيقة والكلام إنما هو في الكبائر التي لا تزيل الإسلام وقد قال الشافعي رضي الله عنه من قال مطرنا بنوء كذا وهو يريد أن النوء نزل بالماء فهو كافر حلال دمه
____________________
(1/305)
إن لم يتب
وفي الروضة إن اعتقد أن النوء ممطر حقيقة كفر وصار مرتدا
وقال ابن عبد البر إن اعتقد أن النوء سبب ينزل الله به الماء على ما قدره وسبق في علمه فهو وإن كان مباحا فقد كفر بنعمة الله وجهل بلطيف حكمته
الكبيرة الثالثة عشرة والرابعة عشرة والخامسة عشرة والسادسة عشرة والسابعة عشرة والثامنة عشرة بعد المائة خمش أو لطم نحو الخد وشق نحو الجيب والنياحة وسماعها وحلق أو نتف الشعر والدعاء بالويل والثبور عند المصيبة أخرج الشيخان ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية
وأخرجا أيضا عن أبي موسى الأشعري أنه قال أنا بريء ممن برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة أي الرافعة صوتها بالندب والنياحة والحالقة أي لرأسها عند المصيبة والشاقة أي لثوبها وفي رواية للنسائي أبرأ إليكم كما برئ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس منا من حلق ولا خرق ولا صلق
وأخرج مسلم اثنتان من الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت
وابن حبان والحاكم وصححه ثلاثة من الكفر بالله شق الجيب أي طوق القميص والنياحة والطعن في النسب
وفي رواية لابن حبان ثلاث هي الكفر وفي أخرى ثلاث من عمل الجاهلية
____________________
(1/306)
وأحمد بإسناد حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة رن إبليس رنة اجتمعت إليه جنوده فقال ايأسوا أن تردوا أمة محمد على الشرك بعد يومكم هذا ولكن افتنوهم في دينهم وأفشوا فيهم النوح
والبزار بسند رواته ثقات صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة مزمار عند نعمة ورنة عند مصيبة وأحمد بسند قال المنذري حسن إن شاء الله تعالى لا تصلي الملائكة على نائحة ولا مرنة
ومسلم وغيره أربع في أمتي من الجاهلية لا يتركونهن الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة
وقال النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران أي بفتح فكسر نحاس مذاب أو ما تداوى به الإبل وقيل غير ذلك ودرع من جرب
وابن ماجه النياحة من أمر الجاهلية وإن النائحة إذا ماتت ولم تتب قطع الله لها ثيابا من قطران ودرعا من لهب النار
والطبراني في الأوسط إن هذه النوائح ليجعلن يوم القيامة صفين في جهنم صف عن يمينهم وصف عن يسارهم فينبحن على أهل النار كما تنبح الكلاب وأبو داود وغيره قال الحافظ المنذري وليس في إسناده من ترك
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النائحة والمستمعة
والشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت لما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل زيد بن
____________________
(1/307)
حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف فيه الحزن قالت وأنا أطلع من شق الباب فأتاه رجل فقال أي رسول الله إن نساء جعفر وذكر بكاءهن فأمره أن ينهاهن فذهب الرجل ثم أتى فقال والله لقد غلبنني أو غلبننا فزعمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فاحث في أفواههن التراب فقلت وأرغم الله أنفك فوالله ما أنت بفاعل ولا تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناء
وأبو داود عن امرأة من المبايعات قالت كان فيما أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعروف الذي أخذ علينا أن لا نخمش وجها ولا ندعو ويلا ولا نشق جيبا ولا ننتف شعرا
وابنا ماجه وحبان في صحيحه عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الخامشة وجهها والشاقة جيبها والداعية بالويل والثبور
والشيخان الميت يعذب في قبره بما نيح عليه
وفي رواية ما نيح عليه
ورويا أيضا من نيح عليه فإنه يعذب بما نيح عليه يوم القيامة
والبخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته تبكي وا جبلاه وا كذا وا كذا تعدد عليه فقال حين أفاق ما قلت لي شيئا إلا قيل لي أنت كذلك فلما مات لم تبك عليه ورواه الطبراني وفيه فقال يا رسول الله أغمي علي فصاحت النساء وا عزاه وا جبلاه فقام ملك ومعه مرزبة فجعلها بين رجلي فقال أنت كما تقوله قلت لا ولو قلت نعم ضربني بها
وروي أيضا أن معاذا وقع له نظير ذلك وأنه قال ما زال ملك شديد الانتهار كلما قلت وا كذا وا كذا قال أكذلك أنت فأقول لا والترمذي وقال حسن غريب ما من ميت يموت فيقوم باكيهم فيقول وا جبلاه وا سنداه أو نحو ذلك إلا وكل به ملكان يلهزانه أهكذا كنت واللهز الدفع بجمع اليد إلى الصدر
____________________
(1/308)
والحاكم وصححه إن الميت ليعذب ببكاء الحي إذا قالت وا عضداه وا مانعاه وا كاسياه حبذا الميت فقيل أناصرها أنت أكاسيها أنت
وحكى الأوزاعي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع صوت بكاء فدخل ومعه غيره فمال عليهم ضربا حتى بلغ النائحة فضربها حتى سقط خمارها فقال اضرب فإنها نائحة ولا حرمة لها إنها لا تبكي لشجوكم إنها تهريق دموعها على أخذ دراهمكم وإنها تؤذي موتاكم في قبورهم وأحياءكم في دورهم إنها تنهى عن الصبر وقد أمر الله به وتأمر بالجزع وقد نهى الله عنه
تنبيه قد ظهر من هذه الأحاديث التي ذكرناها وما اشتملت عليه من اللعن وأن ذلك كفر أي يؤدي إليه أو لمن استحل أو بالنعم ومن غير ذلك من أنواع الوعيد صحة ما قاله غير واحد من أن تلك كلها كبائر ويلحق بها ما في معناها
وأما تقرير الشيخين لصاحب العدة على أن النياحة والصياح وشق الجيب في المصائب من الصغائر فمردود
قال الأذرعي لم أر ذلك لغيره والأحاديث الصحيحة تقتضي أن ذلك من كبائر الذنوب لأنه صلى الله عليه وسلم تبرأ من فاعل ذلك وقال ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب الحديث
وقال اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت رواه مسلم
قال النووي في شرح مسلم وهذا الحديث يدل على تغليظ تحريم الطعن في النسب والنياحة قيل فيه أقوال أصحها أنهما من أعمال الكفار وأخلاق الجاهلية
والثاني أنه يؤدي إلى الكفر
والثالث أنه كفر النعمة والإحسان والرابع أن ذلك في المستحل انتهى
فيجب الجزم بأن من جمع بين النياحة وشق الجيب والصياح مع العلم بالتحريم واستحضار النهي عنه والتشديدات فيه وتعمد ذلك خرج عن العدالة لجمعه بين هذه القبائح وإيذاء الميت بذلك كما نطقت به السنة
انتهى كلام الأذرعي
وقال في موضع آخر وأما النياحة وما بعدها فإن كان ذلك تسخطا بالقضاء وعدم رضا بالمقضي فالظاهر أنه كبيرة وإن كان لفرط الجزع والضعف عن حمل المصيبة من غير استحضار سخط ونحوه فمحتمل
وهل يعذر الجاهل فيه نظر
وقال في الخادم وأما النياحة وما بعدها فقضية الخبر بالتوعد عليه أن يكون كبيرة انتهى
فيحرم الندب وهو تعديد محاسن الميت كوا جبلاه والنوح وهو رفع الصوت بالندب
____________________
(1/309)
ومثله إفراط رفعه بالبكاء وإن لم يقترن بندب ولا نوح وضرب نحو الخد وشق نحو الجيب ونشر الشعر وحلقه ونتفه وتسويد الوجه وإلقاء الرماد على الرأس والدعاء بالويل والثبور أي الهلاك وكل شيء فيه تغيير للزي كلبس ما لا يعتاد لبسه أصلا أو على تلك الصفة وكترك شيء من لباسه والخروج بدونه على خلاف العادة وقد ابتلي كثير من الناس بتغيير الزي مع ما تقرر من حرمته بل كونه كبيرة وفسقا قياسا على تلك المذكورات وإن كانت أفحش منه لأنهم عللوها بما يعم الكل وهو أن ذلك يشعر إشعارا ظاهرا بالسخط وعدم الرضا بالقضاء أما البكاء السالم من كل ذلك فهو جائز قبل الموت وبعده لكن الأولى تركه بعده إن أمكن وقال جمع إنه مكروه لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح فإذا وجبت فلا تبكين باكية
وقد بكى صلى الله عليه وسلم قبله على ولده وغيره
أخرج الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم عاد سعد بن عبادة ومعه جماعة فبكى فلما رأوه بكوا فقال ألا تسمعون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا أو يرحم وأشار إلى لسانه
وأخرجا أيضا أنه رفع إليه صلى الله عليه وسلم ابن لبنته وهو في الموت ففاضت عيناه فقال له سعد ما هذا يا رسول الله قال هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء
والبخاري أنه صلى الله عليه وسلم دخل على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف وأنت يا رسول الله فقال يا ابن عوف إنها رحمة ثم أتبعها بأخرى فقال إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون
وأخذ أصحابنا من ذلك كله قولهم دمع العين بلا بكاء لا كراهة فيه بل هو مباح وما مر في الأحاديث الصحيحة من أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه اختلفوا في ماذا يحمل عليه والصحيح عندنا أنه محمول على ما إذا أوصى بذلك بخلاف ما إذا سكت فلم يأمر ولم ينه أو أمر فإنه يعذب بسبب أمره وامتثالهم له لأن من سن سنة سيئة عليه وزرها ووزر من يعمل بها فالإثم يزيد عليه بالامتثال بما لا يوجد لو لم يمتثل وقيل
____________________
(1/310)
إنه إذا سكت ولم ينههم عن نحو النوح يعذب بذلك أيضا لأن سكوته عن نهيهم رضا منه به فعذب به كما لو أمر فمن أراد الخروج من ورطة هذا القول ينبغي له إذا نزل به مرض أن ينهاهم عن بدع الجنائز وغيرها من المحرمات الشنيعة والقبائح الفظيعة
قال أصحابنا وغيرهم ويتأكد لمن ابتلي بمصيبة بميت أو في نفسه أو أهله أو ماله وإن خفت أن يكثر من إنا لله وإنا إليه راجعون
اللهم اجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها
لخبر مسلم أن من قال ذلك أجره الله وأخلف له خيرا منها ولأنه تعالى وعد من قال ذلك بأن عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأنهم المهتدون أي للترجيع أو للجنة والثواب
قال ابن جبير لقد أعطيت هذه الأمة عند المصيبة ما لم يعطه غيرهم إنا لله وإنا إليه راجعون
ولو أوتوه لقاله يعقوب ولم يقل يا أسفى على يوسف
وفي الحديث ما أصيب عبد بمصيبة إلا لذنب لم يكن يغفر إلا بها أو درجة لم يكن يبلغها إلا بها
ورواه ابن أبي الدنيا بلفظ ما أصاب رجلا من المسلمين نكبة فما فوقها حتى الشوكة إلا لإحدى خصلتين إما ليغفر الله له من الذنوب ذنبا لم يكن ليغفر له إلا بمثل ذلك أو يبلغ به من الكرامة كرامة لم يكن يبلغها إلا بمثل ذلك
وأخرج الشيخان أن بنتا له صلى الله عليه وسلم أرسلت إليه تخبره أن ابنها في الموت فقال صلى الله عليه وسلم للرسول ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر ولتحتسب
قال النووي هذا الحديث من أعظم قواعد الإسلام المشتملة على مهمات كثيرة من أصول الدين وفروعه والأدب والصبر على النوازل كلها والهموم والأسقام وسائر الأعراض ومعنى أن لله ما أخذ أن العالم كله ملكه فلم يأخذ إلا ما هو له عندكم في معنى العارية وله ما أعطى أي ما وهبه لكم إذ لم يخرج عن ملكه فيفعل فيه ما شاء وكل شيء عنده بأجل مسمى أي فلا يمكن تقديمه عليه ولا تأخيره عنه
فمن علم هذا أداه إلى أن يصبر ويحتسب
____________________
(1/311)
وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال لمن شق عليه موت ابنه أيما كان أحب إليك أن تمتع به عمرك أو لا تأتي غدا بابا من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه فيفتحه لك فقال يا رسول الله هذا أحب إلي قال هو لك فقيل يا رسول الله هو له خاصة أم للمسلمين عامة فقال بل للمسلمين عامة
وفي خبر مسلم ما من مصيبة يصاب بها المؤمن إلا كفر بها عنه حتى الشوكة يشاكها
وفي حديث آخر من أصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها أعظم المصائب
وكأن القاضي حسينا من أكابر أئمتنا أخذ من هذا قوله الذي أقروه عليه يجب على كل مؤمن أن يكون حزنه على فراق النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا أكثر منه على فراق أبويه كما يجب عليه أن يكون صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه وأهله وماله
وفي حديث إن من حمد الله واسترجع عند موت ولده أمر الله ملائكته أن يبنوا له بيتا في الجنة ويسموه بيت الحمد
وفي أخرى عند البخاري ما لعبدي المؤمن جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة
وفي أخرى إنما الصبر عند الصدمة الأولى أي إنما يحمد الصبر عند مفاجأة المصيبة وأما فيما بعد فيقع السلو طبعا
ومن ثم قال بعض الحكماء ينبغي للعاقل أن يفعل بنفسه أول أيام المصيبة ما يفعله الأحمق بعد خمسة أيام
وفي حديث آخر من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كانوا له حصنا من النار فقال أبو الدرداء قدمت اثنين قال واثنين قال آخر قدمت واحدا قال وواحدا ولكن ذلك في أول صدمة
وفي أخرى من كان له فرطان أي ولدان من أمتي دخل الجنة قالت عائشة ومن له فرط قال ومن له فرط الحديث
____________________
(1/312)
وفي خبر مسلم أنه مات ابن لأبي طلحة من أم سليم فقالت لأهلها لا يحدثه إلا أنا فلما جاءت قربت إليه عشاءه فأكل وشرب ثم تصنعت له أحسن ما كانت تتصنع له قبل فغشيها فلما رأت أنه قد شبع وأصاب قالت يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوما أعاروا عاريهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم قال لا قالت أم سليم فاحتسب ابنك فغضب ثم انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال بارك الله لكما في ليلتكما الحديث
وفي حديث ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر
وقال علي للأشعث إنك إن صبرت صبرت إيمانا واحتسابا وإلا سلوت كما تسلو البهائم أي لأنه بطول الزمن يقع السلو طبعا وقيل لمصاب لا تجمع بين مصيبتين عظيمتين ذهاب الولد والأجر
وفي حديث مسلم إن الأطفال دعاميص الجنة أي حجاب أبوابها يتلقى أحدهم أباه أو قال أبويه فيأخذ بثوبه أو قال بيده فلا ينتهي حتى يدخله الجنة
وضحك ابن عمر عند دفنه لابنه فقيل له فقال أردت أن أرغم الشيطان
ورأى عمر بن عبد العزيز ولده في الموت فقال يا بني لأن تكون في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك ولما أسيل دم عثمان على وجهه عند قتله قال لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين اللهم إني أستعين بك عليهم وأستعينك على جميع أموري وأسألك الصبر على ما أبليتني ولما قطعت رجل عروة لأكلة بها لم يتأوه وإنما قال لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ولم يدع ورده تلك الليلة وقدم فيها على الوليد أعمى فسأله عن شأنه فأخبره أنه كان له أهل وأولاد وأموال عظيمة فجاءهم سيل فأهلكهم إلا بعيرا وصبيا فند البعير فاتبعه فجاء الذئب فأكل صبيه ولما لحق البعير رمحه فأذهب عينيه وذهب فأصبح لا مال ولا ولد فقال الوليد انطلقوا به إلى عروة ليعلم أن في الأرض من هو أشد بلاء منه
ورأى المدائني امرأة بالبادية في غاية الجمال فظن أن هذا نضرة السرور فبينت له أنها قريبة أحزان وهموم وأن زوجها ذبح شاة فأراد أحد ابنيها أن يفعل بأخيه كذلك فذبحه فخاف ففر إلى الجبل فأكله الذئب وفر أبوه خلفه فتاه ومات عطشا فقال لها كيف أنت والصبر قالت كان جرحا فاندمل
____________________
(1/313)
قيل وسبب توبة مالك بن دينار أنه كان سكيرا فماتت له بنت كان يحبها فرأى ليلة نصف شعبان أنه خرج من قبره وحية عظيمة تتبعه كلما أسرع أسرعت فمر بشيخ ضعيف فسأله أن ينقذه منها فقال أنا عاجز مر وأسرع لعلك تنجو منها فأسرع وهي خلفه حتى مر على طبقات النار وهي تفور وكاد أن يهوي فيها وإذا بصوت لست من أهلي فمر حتى أشرف على جبل به طاقات وستور وإذا بصوت أدركوا هذا اليائس قبل أن يدركه عدوه فأشرف عليه أطفال فيهم بنته فنزلت إليه وضربت بيدها اليمنى إلى الحية فولت هاربة وجلست في حجره قائلة ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق فقلت أتقرءون القرآن قالت نحن أعرف به منكم ثم سألها ما مقامهم هنا فأخبرته أنهم أسكنوا هنا إلى يوم القيامة ينتظرون آباءهم يقدمون عليهم ثم سأل عن تلك الحية فقالت عملك السوء وعن الشيخ فقالت عملك الصالح أضعفته حتى لم تكن له طاقة بعملك السوء فتب إلى الله ولا تكن من الهالكين ثم ارتفعت عنه واستيقظ فتاب توبة النصوح لوقته فتأمل نفع الذرية لكن إنما يحصل لمن رضي أو صبر وأما من سخط فدعا بويل أو لطم أو شق أو حلق مثلا فعليه سخط الله ولعنته رجلا كان أو امرأة
وروي أن الضرب على الفخذ عند المصيبة يحبط الأجر
وروي أيضا من أصابته مصيبة فخرق عليها ثوبا أو لطم خدا أو شق جيبا أو نتف شعرا فكأنما أخذ رمحا يريد أن يحارب به ربه
قال صالح المزني نمت ليلة جمعة بمقبرة فرأيت الأموات خرجوا من قبورهم وتحلقوا ونزلت عليهم أطباق مغطاة وفيهم شاب يعذب فتقدمت وسألته فقال لي والدتي جمعت النوادب فأنا معذب بذلك فلا جزاها الله عني خيرا وبكى ثم أمرني أن أذهب إليها وأعلمني محلها وأن أناشدها بترك هذا العذاب العظيم الذي تسببت له فيه فلما أصبحت ذهبت إليها ورأيت عندها تلك النوادب ووجهها قد اسود من كثرة اللطم والبكاء فذكرت لها ذلك المنام فتابت وأخرجت النوادب وأعطتني دراهم أتصدق بها عنه فأتيت المقبرة ليلة الجمعة على عادتي وتصدقت عنه بتلك الدراهم فنمت فرأيته وهو يقول لي جزاك الله عني خيرا أذهب الله عني العذاب ووصلتني الصدقة فأخبر أمي بذلك فاستيقظت وذهبت إليها فوجدتها ماتت فحضرت الصلاة عليها ودفنت بجنب ولدها
وأخرج الترمذي وغيره يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت بالمقاريض
____________________
(1/314)
والطبراني من رواية من وثق به يؤتى بالشهيد يوم القيامة فيوقف للحساب ثم يؤتى بالمتصدق فينصب للحساب ثم يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان فيصب عليهم الأجر صبا حتى إن أهل العافية ليتمنون في الموقف أن أجسادهم قرضت بالمقاريض من حسن ثواب الله
والبخاري وغيره من يرد الله به خيرا يصب منه أي يوجه إليه مصيبة أو بلاء وصح إذا أحب الله قوما ابتلاهم فمن صبر فله الصبر ومن جزع فله الجزع
وصح أيضا إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل فما يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها
وأخرج أحمد وأبو داود وأبو يعلى والطبراني إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة فلم يبلغها بعمل ابتلاه الله في جسده أو ماله أو في ولده ثم صبره على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله عز وجل
والطبراني إن الله ليجرب أحدكم بالبلاء كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار فمنهم من يخرج كالذهب الإبريز فذلك الذي حماه الله من الشبهات ومنهم من يخرج دون ذلك فذلك الذي يشك بعض الشك ومنهم من يخرج كالذهب الأسود فذلك الذي افتتن
والشيخان ما يصيب المؤمن من نصب أي تعب ولا وصب أي مرض ولا هم أي ولا حزن ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه
وفي رواية لهما ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله عنه بها حتى الشوكة يشاكها
____________________
(1/315)
ولمسلم ما من مسلم يشاك الشوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة
وصح ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة
وصح أيضا من أصيب بمصيبة في ماله أو في نفسه فكتمها ولم يشكها إلى الناس كان حقا على الله أن يغفر له
وصح وصب المؤمن كفارة لخطاياه
إذا اشتكى المؤمن أخلصه الله من الذنوب كما يخلص الكير خبث الحديد
سألت امرأة بها لمم أي جنون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها فقال إن شئت دعوت الله فشفاك وإن شئت صبرت ولا حساب عليك قالت بل أصبر ولا حساب علي
ما ضرب على مؤمن عرق قط إلا حط الله عنه بها خطيئة وكتب الله له حسنة ورفع له درجة
إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحا
إن المريض تتحات عنه خطاياه كما يتحات ورق الشجر
صداع المؤمن وشوكة يشاكها أو شيء يؤذيه يرفع الله بها يوم القيامة درجته ويكفر عنه بها ذنوبه
إن الله ليبتلي عبده بالسقم حتى يكفر ذلك عنه كل ذنب
لا تسبن الحمى فإنها
____________________
(1/316)
تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد
إن الله ليكفر عن المؤمن خطاياه كلها بحمى ليلة
الحمى حظ المؤمن من النار
وصح أيضا لما نزل من يعمل سوءا يجز به شق عليهم مشقة شديدة فقال صلى الله عليه وسلم نعم يجزى به في الدنيا من مصيبة في جسده مما يؤذيه
وسأل أبو بكر رضي الله عنه عن ذلك فقال له صلى الله عليه وسلم غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض ألست تحزن ألست تصيبك اللأواء أي شدة الضيق قال قلت بلى قال هو الذي تجزون به
وفي رواية إن عائشة رضي الله عنها روت نظير ذلك في وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله
الكبيرة التاسعة عشرة والعشرون بعد المائة كسر عظم الميت والجلوس على القبور أخرج أبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قال كسر عظم الميت ككسره حيا
____________________
(1/317)
ومسلم وغيره لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر
وابن ماجه بإسناد جيد لأن أمشي على جمرة أو سيف أو أخصف نعلي برجلي أحب إلي من أن أمشي على قبر
والطبراني بإسناد حسن عن ابن مسعود رضي الله عنه قال لأن أطأ على جمرة أحب إلي من أن أطأ على قبر مسلم
والطبراني أيضا لكن من رواية ابن لهيعة عن عمارة بن حزم قال رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا على قبر فقال يا صاحب القبر انزل من على القبر لا تؤذي صاحب القبر ولا يؤذيك
تنبيه عد هذين من الكبائر لم أره لكن قد تفهمه هذه الأحاديث لأن الوعيد الذي فيها شديد ولا ريب في ذلك في كسر عظمه لما علمت من الحديث أنه ككسر عظم الحي
وأما الجلوس فجماعة من أصحابنا على حرمته وتبعهم النووي في بعض كتبه أخذا من الحديث السابق فيه فكما أنهم أخذوا حرمته من ذلك فكذلك نحن نأخذ كونه كبيرة منه لصدق حدها السابق عليه إذ هو مما فيه وعيد شديد
الكبيرة الحادية والثانية والثالثة والعشرون بعد المائة اتخاذ المساجد أو السرج على القبور وزيارة النساء لها وتشييعهن الجنائز أخرج أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان في صحيحه لكن في سنده مختلف فيه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج
____________________
(1/318)
والترمذي وقال حسن صحيح وابنا ماجه وحبان في صحيحه بسند مختلف في اتصاله أنه صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور
وأبو داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قبرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني ميتا فلما فرغنا انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرفنا فلما حاذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بابه وقف فإذا نحن بامرأة مقبلة قال أظنه عرفها فلما ذهبت فإذا هي فاطمة رضي الله عنها فقال لها صلى الله عليه وسلم ما أخرجك يا فاطمة من بيتك قالت أتيت يا رسول الله أهل هذا الميت فرحمت إليهم ميتهم أو قالت عزيتهم به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلك بلغت معهم الكدى بكاف مضمومة أي المقابر فقالت معاذ الله وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر فقال لو بلغت معهم الكدى فذكر تشديدا في ذلك
ورواه النسائي إلا أنه قال في آخره لو بلغتها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك
وابن ماجه وأبو يعلى عن علي كرم الله وجهه قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا نسوة جلوس قال ما يجلسكن قلن ننتظر الجنازة قال هل تغسلن قلن لا قال هل تحملن قلن لا قال هل تدلين فيمن يدلي قلن لا قال فارجعن مأزورات غير مأجورات
تنبيه عد هذه الثلاثة هو صريح الحديث الأول في الأولين لما فيه من لعن فاعلهما وصريح الحديث الثاني في الثانية وظاهر حديث فاطمة في الثالثة بل صريح رواية النسائي ما رأيت الجنة إلى آخرها ولم أر من عد شيئا من ذلك بل كلام أصحابنا في الثلاثة مصرح بكراهتها دون حرمتها فضلا عن كونها كبيرة فليحمل كون هذه كبائر على ما إذا عظمت مفاسدها كما يفعل كثير من النساء من الخروج إلى المقابر وخلف الجنائز بهيئة قبيحة جدا إما لاقترانها بالنياحة ونحوها أو بالزينة عند زيارة القبور بحيث يخشى منها الفتنة خشية قوية وكأن بني المسجد في مقبرة مسبلة لأنه من حيز الغصب حينئذ وكأن يسرف في الإيقاد عليها لأنه من التبذير والإسراف وإنفاق
____________________
(1/319)
المال في المحرمات فحينئذ يتضح عد هذه كبائر نعم صرح أصحابنا بحرمة السراج على القبر وإن قل حيث لم ينتفع به مقيم ولا زائر وعللوه بالإسراف وإضاعة المال والتشبه بالمجوس فلا يبعد في هذا حينئذ أن يكون كبيرة
الكبيرة الرابعة والخامسة والعشرون بعد المائة الرقى وتعليق التمائم والحروز الآتي بيانها أخرج أحمد وأبو يعلى بإسناد جيد والحاكم وصححه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من علق تميمة فلا أتم الله له ومن علق ودعة فلا ودع الله له
وأحمد بسند رواته ثقات والحاكم واللفظ له عنه أيضا أنه جاء في ركب عشرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايع تسعة وأمسك عن رجل منهم فقالوا ما شأنه فقال إن في عضده تميمة ففصى الرجل التميمة فبايعه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال من علق فقد أشرك
وصح أنه صلى الله عليه وسلم أبصر على عضد رجل حلقة أراه قال من صفر فقال ويحك ما هذه قال من الواهنة
قال أما إنها لا تزيدك إلا وهنا انبذها عنك فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا
وصح أن ابن مسعود رضي الله عنه دخل على امرأته وفي عنقها شيء تتعوذ به فجذبه فقطعه ثم قال لقد أصبح آل عبد الله أغنياء عن أن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الرقى والتمائم والتولة شرك قالوا يا أبا عبد الرحمن هذه الرقى والتمائم قد عرفناها فما التولة قال شيء تصنعه
____________________
(1/320)
النساء يتحببن إلى أزواجهن وفسر بعضهم التولة بكسر الفوقية وفتح الواو أنه شيء يشبه السحر أو من أنواعه تفعله المرأة لتحببها إلى زوجها وفي رواية أن زوجته قالت له إني خرجت يوما فأبصرني فلان فدمعت عيني التي تليه فإذا رقيتها سكنت دمعتها وإذا تركتها دمعت قال ذلك الشيطان إذا أطعته تركك وإذا عصيته طعن بأصبعه في عينك ولكن لو فعلت كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كان خيرا لك وأجدر أن تشفى تنضحي في عينك الماء وتقولي أذهب البأس رب الناس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما
وصح ليست التميمة ما يعلق به بعد البلاء إنما التميمة ما يعلق به قبل البلاء
تنبيه عد هذين من الكبائر هو ما يقتضيه الوعيد الذي في هذه الأحاديث لا سيما تسميته شركا لكن لم أر أحدا صرح بذلك بخصوصه ولكنهم صرحوا بما يفهم جريان ذلك فيه بالأولى نعم يتعين حمله على ما كانوا يفعلونه من تعليق خرزة يسمونها تميمة أو نحوها يرون أنها تدفع عنهم الآفات ولا شك أن اعتقاد هذا جهل وضلال وأنه من أكبر الكبائر لأنه إن لم يكن شركا فهو يؤدي إليه إذ لا ينفع ويضر ويمنع ويدفع إلا الله تعالى
وأما الرقى فهي محمولة على ذلك أو على ما إذا كانت بغير لسان العربية ولم يعرف معناها فإنها حينئذ حرام كما صرح به الخطابي والبيهقي وغيرهما واستدل له ابن عبد السلام بأنهم لما سألوه صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال اعرضوا علي رقاكم وسبب ذلك ما قالوه من أن ذلك المجهول قد يكون سحرا أو كفرا
قال الخطابي بعد ذكره ذلك فأما إذا كان مفهوم المعنى وكان فيه ذكر الله تعالى فإنه مستحب متبرك به
الكبيرة السادسة والعشرون بعد المائة كراهة لقاء الله تعالى أخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فقلت يا نبي الله أما كراهة الموت فكلنا نكره الموت فقال ليس ذلك ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه
____________________
(1/321)
وفي رواية صحيحة عن أنس من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه
قلنا يا رسول الله كلنا نكره الموت قال ليس ذاك كراهة الموت ولكن المؤمن إذا احتضر جاءه المبشر من الله فليس شيء أحب إليه من أن يكون قد لقي الله فأحب الله لقاءه وإن الكافر أو الفاجر إذا احتضر جاءه ما هو صائر إليه من الشر أو ما يلقى من الشر فكره لقاء الله فكره الله لقاءه
وفي رواية صحيحة أيضا لم يكن شيء أحب إليه من لقاء الله وكان الله للقائه أحب وإن الكافر إذا جاءه ما يكره لم يكن شيء أكره إليه من لقاء الله وكان الله للقائه أكره
وابن ماجه والطبراني أنه صلى الله عليه وسلم قال اللهم من آمن بي وصدقني وعلم أن ما جئت به الحق من عندك فأقلل ماله وولده وحبب إليه لقاءك وعجل له القضاء ومن لم يؤمن بي ولم يصدقني ولم يعلم أن ما جئت به الحق من عندك فأكثر ماله وولده وأطل عمره
وفي رواية لابن حبان وابن أبي الدنيا والطبراني اللهم من آمن بك وشهد أني رسولك فحبب إليه لقاءك وسهل عليه قضاءك وأقلل له من الدنيا ومن لم يؤمن بك ولم يشهد أني رسولك فلا تحبب إليه لقاءك ولا تسهل عليه قضاءك وأكثر له من الدنيا
تنبيه عد ما ذكر كبيرة هو ظاهر تلك الأحاديث وإن لم أر من ذكره إذ كراهة الله للقاء من كره لقاءه كناية عن غاية الوعيد الشديد والتهديد وليس مجرد كراهة الموت كذلك لأن ذلك أمر طبيعي للنفس فلم تكن كراهته مقتضية للإثم بخلاف كراهته من حيث كراهة لقاء الله فإنها تنبي عن اليأس من الرحمة كما أشار إليه الحديث الثاني ومر أنه كبيرة فكذا هذا الذي يستلزمه ثم رأيت غير واحد عدوا من الكبائر سوء الظن بالله تعالى وهو صريح فيما ذكرته إذ هو عين كراهة لقائه تعالى
وأخرج أحمد وابن حبان في صحيحه والبيهقي عن واثلة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله عز وجل أنا عند ظن عبدي بي إن ظن بي خيرا فله وإن ظن شرا فله
____________________
(1/322)
@ 323 الكبيرة السابعة والثامنة والعشرون بعد المائة ترك الزكاة وتأخيرها بعد وجوبها لغير عذر شرعي قال الله تعالى وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة سماهم المشركين وقال تعالى ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير وقال تعالى يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون
وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره أي ويوسع جسمه لها كلها وإن كثرت
كما رواه الطبراني عن ابن مسعود كلما بردت أعيدت له في كل يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار قيل يا رسول الله فالإبل قال ولا صاحب إبل لا يؤدي حقها ومن حقها حلبها يوم ورودها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أي مكان أملس أوفر أي أسمن ما كانت لا يفقد فصيلا واحدا تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار قيل يا رسول الله فالبقر والغنم قال ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها شيئا ليس منها عقصاء أي ملتوية قرن ولا جلحاء أي لا قرن لها ولا عضباء أي بالمعجمة مكسورة قرن تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها أي هي للبقر والغنم بمنزلة الحافر للفرس كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة
____________________
(1/323)
حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار
قيل يا رسول الله فالخيل قال الخيل ثلاثة هي لرجل وزر وهي لرجل ستر وهي لرجل أجر فأما التي هي وزر فرجل ربطها رياء وفخرا ونواء أي بكسر النون لأهل الإسلام أي معاداة لهم فهي له وزر وأما التي هي له ستر فرجل ربطها في سبيل الله ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها فهي له ستر وأما التي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج أو روضة فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات ولا يقطع طولها أي بكسر ففتح حبل تشد به قائمتها وترسل لترعى أو يمسك طرفه وترسل فاستنت أي بالتشديد جرت بقوة شرفا أي بالمعجمة فراء مفتوحتين شوطا وقيل نحو ميل أو شرفين إلا كتب له عدد آثارها وأرواثها حسنات ولا مر بها صاحبها على نهر فشربت منه ولا يريد أن يسقيها إلا كتب الله تعالى له عدد ما شربت حسنات قيل يا رسول الله فالحمر قال ما أنزل علي في الحمر إلا هذه الآية الفاذة الجامعة فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
وأحمد والشيخان لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء أي بضم الراء وبالمعجمة وبالمد صوت البعير يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء أي بضم المثلثة وبالمعجمة وبالمد صوت الغنم يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بقرة لها صياح فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة وعلى رقبته رقاع تخفق فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا
وأحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه هم الأخسرون ورب الكعبة يوم القيامة هم الأخسرون ورب الكعبة الأكثرون إلا من قال في عباد الله هكذا وهكذا وقليل ما هم والذي نفسي بيده ما من رجل يموت ويترك غنما أو إبلا أو بقرا لم يؤد زكاتها إلا جاءته يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه حتى تطأه بأظلافها وتنطحه بقرونها حتى يقضى بين الناس كلما نفدت أخراها عاد عليه أولاها
____________________
(1/324)
والنسائي ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جاء يوم القيامة شجاعا من نار أي بضم أوله المعجم أو كسره حية وقيل الذكر خاصة وقيل نوع من الحيات فتكوى بها جبهته وجنبه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس
ومسلم ما من صاحب إبل لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت وقعد لها بقاع قرقر تستن عليه بقوائمها وأخفافها ولا صاحب بقر لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كان وقعد لها بقاع قرقر تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها ليس فيها جماء ولا منكسر قرنها ولا صاحب كنز لا يفعل فيه حقه إلا جاء كنزه يوم القيامة شجاعا أقرع يتبعه فاتحا فاه فإذا أتاه فر منه فيناديه خذ كنزك الذي خبأته فأنا عنه غني فإذا رأى أن لا بد له منه سلك أي أدخل يده في فيه فيقضمها قضم الفحل
وابن ماجه واللفظ له والنسائي بإسناد صحيح وابن خزيمة في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع حتى يطوق به عنقه ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله تعالى ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة
والطبراني وقال تفرد به ثابت أي وهو ثقة وبقية رواته لا بأس بهم وروي عن علي موقوفا
قال المنذري وهو أشبه إن الله عز وجل فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم ولن يجهد الفقراء إن جاعوا وعروا إلا بما يضيع أغنياؤهم ألا وإن الله يحاسبهم حسابا شديدا ويعذبهم عذابا أليما
وأحمد وأبو يعلى وابن حبان وخزيمة عن مسروق قال قال عبد الله آكل الربا وموكله وشاهده إذا علما والواشمة والمستوشمة ولاوي الصدقة أي الممتنع من أدائها أو المماطل بها والمرتد أعرابيا بعد الهجرة ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة
____________________
(1/325)
والأصبهاني لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه والواشمة والمستوشمة ومانع الصدقة والمحلل والمحلل له
والطبراني وغيره بسند فيه مطعون فيه ويل للأغنياء من الفقراء يوم القيامة يقولون ظلمونا حقوقنا التي فرضت عليهم فيقول الله تعالى وعزتي وجلالي لأدنينكم ولأباعدنهم ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم
وابن أبي شيبة وأحمد والحاكم وابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما عرض علي أول ثلاثة يدخلون الجنة وأول ثلاثة يدخلون النار فأما أول ثلاثة يدخلون الجنة فالشهيد ومملوك أحسن عبادة ربه ونصح لسيده وعفيف متعفف وفي لفظ وعبد مملوك لم يشغله رق الدنيا عن طاعة ربه وفقير متعفف ذو عيال
وأما أول ثلاثة يدخلون النار فأمير مسلط وذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله تعالى في ماله وفقير فخور
وصح عن ابن مسعود أمرنا بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ومن لم يزك فلا صلاة له
وفي رواية لمسلم من أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة فليس بمسلم ينفعه عمله
والبزار بسند حسن والطبراني وابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما من ترك بعده كنزا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يتبعه فيقول من أنت فيقول أنا كنزك الذي خلفت فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها ثم يتبعه سائر جسده
والنسائي بسند صحيح إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يخيل إليه ماله يوم القيامة
____________________
(1/326)
شجاعا أقرع له زبيبتان أي الزبيبتان في شدقيه وقيل هما النكتتان السوداوان فوق عينيه قال فيلزمه أو يطوقه يقول أنا كنزك أنا كنزك
والبخاري والنسائي من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا هذه الآية ولا يحسبن الذين يبخلون الآية
وأحمد بسند فيه ابن لهيعة ومن طريق آخر مرسلا أربع فرضهن الله في الإسلام فمن جاء بثلاثة لم يغنين عنه شيئا حتى يأتي بهن جميعا الصلاة والزكاة وصيام رمضان وحج البيت
والبزار عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم أتي بفرس يجعل كل خطوة منه أقصى بصره فسار وسار معه جبريل فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم كلما حصدوا عاد كما كان قال يا جبريل من هؤلاء قال هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه ثم أتى على قوم ترضخ رءوسهم بالصخر كلما رضخت عادت كما كانت ولا يفتر عنهم من ذلك شيء قال يا جبريل من هؤلاء قال الذين تثاقلت رءوسهم عن الصلاة ثم أتى على قوم على أدبارهم رقاع وعلى أقبالهم رقاع يسرحون كما تسرح الأنعام إلى الضريع والزقوم ورضف جهنم قال من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم وما ظلمهم الله وما الله بظلام للعبيد
والطبراني ما تلف مال في بر ولا بحر إلا بحبس الزكاة مانع الزكاة يوم القيامة في النار
والبزار والبيهقي ما خالطت الصدقة أو قال الزكاة مالا إلا أفسدته أي ما
____________________
(1/327)
تركت في مال ولم تخرج منه إلا أهلكته بدليل الحديث الذي قبله أو المراد أن من أخذها وهو غني فوضعها مع ماله أهلكته وهذا تفسير أحمد رضي الله عنه
والبزار ظهرت لهم الصلاة فقبلوها وخفيت لهم الزكاة فأكلوها أولئك هم المنافقون
وصح ما منع قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر
وفي رواية صحيحة إلا ابتلاهم الله بالسنين
وفي أخرى عند البيهقي وغيره يا معشر المهاجرين خصال خمس إن ابتليتم بهن ونزلت بكم أعوذ بالله أن تدركوهن لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا المطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ولا نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدو من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم وما لم يحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم
والطبراني بسند قريب من الحسن وله خمس شواهد خمس بخمس قيل يا رسول الله وما خمس بخمس قال ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الموت ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر ولا طففوا المكيال إلا حبس عنهم النبات وأخذوا بالسنين وهي جمع سنة وهو العام المقحط الذي لا تنبت الأرض فيه شيئا وقع مطر أو لا
وصح عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى في مانعي الزكاة يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم قال لا يكوى رجل يكنز فيمس درهم درهما ولا دينار دينارا يوسع جلده حتى يوضع كل دينار ودرهم على حدته وإنما خص الله تعالى الجباه والجنوب والظهور بالكي لأن الغني البخيل إذا رأى الفقير عبس وجهه وزوى ما بين عينيه وأعرض لجنبه فإذا قرب منه ولاه
____________________
(1/328)
ظهره فعوقب بكي هذه الأعضاء ليكون الجزاء من جنس العمل
وعنه قال من كسب طيبا خبثه منع الزكاة ومن كسب خبيثا لم تطيبه الزكاة
والشيخان عن الأحنف بن قيس قال جلست في ملإ من قريش فجاء رجل خشن الشعر والثياب والهيئة حتى قام عليهم فسلم ثم قال بشر الكانزين برضف أي بفتح فسكون المعجمة حجارة يحمى عليها في نار جهنم ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض أي بضم النون فسكون المعجمة بعدها معجمة غضروف كتفه ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه فيتزلزل ثم ولى فجلس إلى سارية وتبعته وجلست إليه وأنا لا أدري من هو فقلت لا أرى القوم إلا قد كرهوا الذي قلت قال إنهم لا يعقلون شيئا قال لي خليلي قلت من خليلك قال النبي صلى الله عليه وسلم أتبصر أحدا
قال فنظرت إلى الشمس ما بقي من النهار وأنا أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسلني في حاجة له قلت نعم قال ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير وإن هؤلاء لا يعقلون إنما يجمعون الدنيا لا والله لا أسألهم دنيا ولا أستفتيهم في دين حتى ألقى الله عز وجل
وفي رواية لمسلم أنه قال بشر الكانزين بكي في ظهورهم يخرج من جنوبهم وبكي من قبل أقفائهم يخرج من جباههم قال ثم تنحى فقعد قال قلت من هذا قالوا هذا أبو ذر قال فقمت إليه فقلت ما شيء سمعتك تقول قبيل قال ما قلت إلا شيئا سمعته من نبيهم صلى الله عليه وسلم قال قلت ما تقول في هذا العطاء قال خذه فإن فيه اليوم معونة فإذا كان ثمنا لدينك فدعه
والطبراني الزكاة قنطرة الإسلام
والطبراني وأبو نعيم والخطيب حصنوا أموالكم بالزكاة وداووا مرضاكم بالصدقة وأعدوا للبلاء الدعاء
____________________
(1/329)
الترمذي وغيره إذا أديت زكاة مالك فقد أديت ما عليك
والحاكم وغيره إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره
وابن عدي إن الصدقة لا تزيد المال إلا كثرة
والبيهقي كل ما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا تحت الأرض وكل ما لا تؤدي زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرا
وأحمد ومسلم والنسائي ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله
وروى أحمد وأبو داود والترمذي والدارقطني ولفظهما أن امرأتين أتتا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أيديهما سواران من ذهب فقال لهما أتؤديان زكاته فقالتا لا فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أتحبان أن يسوركما الله بسوارين من نار قالتا لا قال فأديا زكاته
وفي رواية سندها حسن نحو ذلك
وفي آخرها أما تخافان أن يسوركما الله أسورة من نار أديا زكاته وهذا كما قال الخطابي تأويل قوله عز وجل يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم الآية
وصح أنه صلى الله عليه وسلم رأى في يد عائشة حلقات من ورق فقال ما هذا قالت أتزين لك يا رسول الله قال أتؤدين زكاتهن قالت لا قال هي حسبك من النار
وصح أيضا أيما امرأة تقلدت قلادة من ذهب قلدت في عنقها مثلها من النار يوم
____________________
(1/330)
القيامة
وأيما امرأة جعلت في أذنها خرصا من ذهب جعل في أذنها مثله من النار يوم القيامة
وصح أيضا من أحب أن يحلق جنبيه حلقة من نار فليحلقه حلقة من ذهب ومن أحب أن يطوق جنبيه طوقا من نار فليطوقه طوقا من ذهب ومن أحب أن يسور جنبيه بسوار من نار فليسوره بسوار من ذهب ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها
وهذه كأحاديث أخر بمعناها محمولة عندنا على أن الحلي للنساء كان محرما أول الإسلام فوجبت زكاته أو على أنهن كن أسرفن فيه والحلي إذا أسرفن فيه يلزمهن زكاته وكذا لو كان مكروها كالضبة الصغيرة لزينة والكبيرة لحاجة
وفي حديث أول ثلاثة يدخلون النار أمير مسلط وذو ثروة لا يؤدي حق الله من ماله وفقير فخور
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال من كان له مال يبلغه حج بيت الله الحرام ولم يحج أو تجب فيه الزكاة ولم يزك سأل الرجعة عند الموت فقال له رجل اتق الله يا ابن عباس فإنما يسأل الرجعة الكفار فقال ابن عباس سأتلو عليك بذلك قرآنا
قال الله تعالى وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق أي أؤدي الزكاة وأكن من الصالحين أي أحج
وحكي أن جماعة من التابعين خرجوا لزيارة أبي سنان فلما دخلوا عليه وجلسوا عنده قال قوموا بنا نزور جارا لنا مات أخوه ونعزيه فيه
قال محمد بن يوسف الفريابي فقمنا معه ودخلنا على ذلك الرجل فوجدناه كثير البكاء والجزع على أخيه فجعلنا نعزيه ونسليه وهو لا يقبل تسلية ولا عزاء فقلنا له أما تعلم أن الموت سبيل لا بد منه قال بلى ولكن أبكي على ما أصبح وأمسى فيه أخي من العذاب فقلنا له قد أطلعك الله على الغيب قال لا ولكن لما دفنته وسويت عليه التراب وانصرف الناس
____________________
(1/331)
جلست عند قبره وإذا صوت من قبره يقول آه أفردوني وحيدا أقاسي العذاب قد كنت أصوم قد كنت أصلي قال فأبكاني كلامه فنبشت عنه التراب لأنظر ما حاله وإذا القبر يلمع عليه نارا وفي عنقه طوق من نار فحملتني شفقة الأخوة ومددت يدي لأرفع الطوق من رقبته فاحترقت أصابعي ويدي ثم أخرج إلينا يده فإذا هي سوداء محترقة قال فرددت عليه التراب وانصرفت فكيف لا أبكي على حاله وأحزن عليه فقلنا فما كان أخوك يعمل في الدنيا قال كان لا يؤدي الزكاة من ماله قال فقلنا هذا تصديق قوله ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة وأخوك عجل له العذاب في قبره إلى يوم القيامة قال ثم خرجنا من عنده وأتينا أبا ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرنا له قضية الرجل وقلنا له يموت اليهودي والنصراني ولا نرى فيهم ذلك فقال أولئك لا شك أنهم في النار وإنما يريكم الله في أهل الإيمان لتعتبروا
قال الله تعالى فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ
وأخرج الخطيب إن الله تعالى يبغض البخيل في حياته السخي عند موته
وأبو داود والحاكم إياكم والشح فإنما هلك من كان قبلكم بالشح أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالفجور ففجروا
والبخاري في الأدب والترمذي خصلتان لا يجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق
والبخاري في الأدب شرار الناس الذي يسأل بالله ولا يعطي
____________________
(1/332)
والبخاري في تاريخه وأبو داود شر ما في الرجل شح هالع وجبن خالع
والخطيب الشحيح لا يدخل الجنة
وأحمد والطبراني والبيهقي صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين ويهلك آخرها بالبخل والأمل
والخطيب وغيره طعام السخي دواء وطعام الشحيح داء
وابن عساكر أقسم الله تعالى لا يدخل الجنة بخيل
وأبو يعلى ما محق الإسلام محق الشح شيء
وأحمد والشيخان والنسائي مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جنتان أي من أجن بمعنى ستر
وفي رواية بالباء والمراد درعان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت على جلده حتى تجن أي تستر بنانه وتقفو أثره وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئا إلا لزقت كل حلقة مكانها فهو يوسعها فلا تتسع ومعناه أنها بالإنفاق تطول حتى تستر بنان يديه ورجليه وبعدمه تلزق كل حلقة مكانها فهو يوسعها فلا تتسع
كنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة أو الجبة عن نعم الله تعالى ورزقه فالمنفق كلما أنفق اتسعت عليه النعم وسبغت حتى تستر جميعه سترا كاملا
____________________
(1/333)
والبخيل كلما أراد أن ينفق منعه حرصه وشحه وخوف نقص ماله فهو بمنعه يطلب أن تزيد نعمه وماله فهي لا تزداد إلا ضيقا ولا تستر منه شيئا يروم ستره
وابن أبي الدنيا نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد ويهلك آخرها بالبخل والأمل
والديلمي الويل كل الويل لمن ترك عياله بخير وقدم على ربه بشر
وسموية لا تجتمع خصلتان في مؤمن البخل والكذب
والخطيب إن السيد لا يكون بخيلا
وأبو يعلى والطبراني برئ من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة
ومسلم وغيره يهرم ابن آدم ويشب معه خصلتان الحرص على المال والحرص على العمر
قلب الشيخ شاب على حب اثنتين حب العيش والمال
وابن عدي أخوف ما أخاف على أمتي الهوى وطول الأمل
والديلمي إن الله عز وجل ليغضب للسائل الصدوق كما يغضب لنفسه
وابن جرير إياكم والبخل فإن البخل دعا قوما فمنعوا زكاتهم ودعاهم فقطعوا أرحامهم ودعاهم فسفكوا دماءهم
وأيضا إياكم والشح فإنما أهلك من كان
____________________
(1/334)
قبلكم الشح أمرهم بالكذب فكذبوا وأمرهم بالظلم فظلموا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا
والدارقطني والخطيب البخل عشرة أجزاء تسعة في فارس وواحد في سائر الناس
والخطيب يقولون أو يقول قائلكم الشحيح أغدر من الظالم وأي ظلم أظلم عند الله من الشح يحلف الله تعالى بعزته وعظمته وجلاله أن لا يدخل الجنة شحيح ولا بخيل
وأبو نعيم وغيره خلق الله اللؤم فحفه بالبخل والمال
وابن أبي شيبة وهناد والنسائي والحاكم والبيهقي لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا
وابن عدي لا يجتمع الإيمان والبخل في قلب رجل مؤمن أبدا
والديلمي يا ابن آدم كنت بخيلا ما دمت حيا فلما حضرتك الوفاة عمدت إلى مالك تبدده فلا تجمع خصلتين إساءة في الحياة وإساءة عند الموت انظر إلى قرابتك الذين يحرمون ولا يرثون فأوص لهم بمعروف
تنبيهات منها عد منع الزكاة كبيرة هو ما أجمعوا عليه لما علمت ما فيه من أنواع ذلك الوعيد الشديد الذي دلت عليه تلك الأحاديث وظاهر كلامهم أو صريحه أنه لا
____________________
(1/335)
يفرق بين منع قليلها وكثيرها لكن سيأتي في الغصب ونحوه تقييده بنصاب السرقة
قيل فيحتمل أن ذلك يأتي هنا لكنه تحديد لا مستند له
انتهى
وأقول لو سلمنا ما يأتي في نحو الغصب لا نقول به هنا لأن الزكاة مفوضة إلى المالك فلو سومح في منع البعض بالحكم عليه بأنه غير كبيرة أداه ذلك إلى منع الكل كما قالوه في أن شرب قطرة من الخمر كبيرة مع تحقق عدم الإسكار فيها وعللوا ذلك بأن قليلها يؤدي إلى كثيرها ففطم عنها بالكلية وكذلك المال إذ محبة النفس لتكثيره تدعو إلى أنه لو سهل لها في قليله اتخذته ذريعة إلى منع كثيره
فاتضح أنه لا فرق هنا بين منع القليل والكثير وأما عد تأخيرها بعد وجوبها بشرطه فهو صريح ما أخرجه أحمد وابنا خزيمة وحبان وأبو يعلى عن ابن مسعود إن لاوي الصدقة أي مؤخرها من جملة الملعونين على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ومن ثم جزم بعضهم بعده كبيرة
ومنها مر في أحاديث توعد شديد على تحلي النساء بالذهب وقدمت الإشارة إلى الجواب عنها ونزيده هنا بسطا وهو أنه أجيب عنها بأجوبة أحدها أن ذلك منسوخ لثبوت إباحة تحليتهن بالذهب
ثانيها أن ذلك في حق من لا يؤدي زكاته دون من أداها بناء على وجوبها فيه وعليه جماعة من الصحابة والتابعين وتبعهم أبو حنيفة وأصحابه واختاره ابن المنذر
وقال آخرون من الصحابة والتابعين ومن بعدهم كمالك والشافعي وأحمد بعدم وجوبها فيه
قال الخطابي والظاهر من الآيات يشهد للأولين الذين أوجبوها والأثر يؤيده
ومن أسقطها ذهب إلى النظر ومعه طرف من الأثر
والاحتياط أداؤها انتهى
ثالثها حمل ذلك على من تزينت به وأظهرته لخبر أبي داود والنسائي أما إنه ليس منكن امرأة تتحلى ذهبا وتظهره إلا عذبت به نعم صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يمنع أهله الحلية والحرير ويقول إن كنتن تحببن حلية الجنة وحريرها فلا تلبسنهما في الدنيا
رابعها أن سبب المنع ما رأى في ذلك من الغلظة كما مر المؤدي إلى الإسراف وهو في حلي النقد يحرمه
____________________
(1/336)
ومنها سبق في الأحاديث ذم البخل والإشارة إلى آفاته وغوائله وبيان ذلك أن البخل شرعا هو منع الزكاة وألحق بها كل واجب فمن منع ذلك كان بخيلا وعوقب بما مر في الأحاديث
قال الغزالي وحده قوم بأنه منع الواجب فمن أدى ما يجب عليه غير بخيل وهذا غير كاف إذ من يرد اللحم أو الخبز إلى قصاب أو خباز لنقص حبة يعد بخيلا اتفاقا وكذا من يضايق عياله في لقمة أو تمرة أكلوها من ماله بعد أن سلمهم ما فرض لهم القاضي ومن بين يديه رغيف فحضر من يظن أنه يشاركه فيه فأخفاه عنه عد بخيلا
وقال آخرون البخيل الذي يستصعب كل العطية وهو قاصر فإنه إن أريد أنه يستصعب كل عطية ورد عليه أن كثيرا من البخلاء لا يستصعب نحو الحبة أو الكثير فقط لم يقدح ذلك في البخل
وكذلك اختلفوا في الجود ما هو فقيل هو عطاء بلا من وإسعاف على غير روية وقيل عطاء من غير مسألة وقيل السرور بالسائل والفرح بعطاء ما أمكن وقيل عطاء على روية أنه وماله لله وهذا كله غير محيط بحقيقة البخل والجود
والحق أن الإمساك حيث وجب البذل بخل والبذل حيث وجب الإمساك تبذير وبينهما وسط هو المحمود وهو الذي ينبغي أن يعبر عنه بالسخاء والجود فإنه صلى الله عليه وسلم لم يؤمر إلا بالسخاء وقد قال الله تعالى له ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما أي بالغل محسورا أي بالبسط
وقال تعالى والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا فالجود وسط بين الإسراف والإقتار وبين القبض والبسط وكماله أن لا يكون ناظرا بقلبه إلى ما أعطاه بوجه بل ينبغي أن لا يعلق قلبه من المال إلا بصرفه فيما يحمد صرفه ثم الواجب بذله فيه إما شرعا وإما مروءة وعادة فالسخي هو الذي لا يمنعها وإلا فهو البخيل لكن مانع واجب الشرع كالزكاة ونفقة العيال أبخل وأقبح من مانع واجب المروءة كالمضايقة والاستقصاء في المحقرات واستقباح هذا يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص فيستقبح من ذوي المال ومع الجار والأهل والصديق ما لا يستقبح مع أضدادهم
وللبخل درجة ثالثة وهي ما لو كثر ماله وهو قائم بواجبي الشرع والمروءة ثم أمسك عن الإنفاق منه في وجوه القربات ليكون عدة له على النوائب وإيثارا لهذا الغرض الفاني على ما أعد الله له لو أنفق من الثواب الباقي والدرجات العلية والمراتب المرضية فهذا بخيل أي بخيل لكن عند الأكياس دون عامة الخلق لأنهم يرون إمساكه للنوائب مهما على أنهم ربما استقبحوا منه حرمانه لفقير بجواره وإن كان يؤدي الزكاة ويختلف استقباح ذلك باختلاف مقدار ماله وشدة حاجة الفقير وصلاحه ثم إنه هو
____________________
(1/337)
بأداء ذينك الواجبين يبرأ من البخل ولا يثبت له الجود ما لم يبذل زيادة عليهما لنيل الفضيلة لا لطمع في ثناء أو خدمة أو مكافأة ويكون وجوده بحسب ما اتسعت له نفسه من قليل البذل وكثيره
ومنها يتعين على كل من أراد البراءة لدينه وعرضه التنصل من داء البخل حذرا مما فيه من المهلكات ولا يتم ذلك إلا بمعرفة سببه وعلاجه فسببه حب المال إما لحب الشهوات التي لا وصول إليها إلا به مع طول الأمل إذ من علم أنه يموت بعد يوم لا يبقى عنده من أثر البخل شيء ألبتة وإما لحب ذات المال ولذلك ترى من تيقن أن معه من الأموال ما يزيد على كفايته لو عاش العمر الطبيعي وأنفق نفقة الملوك ولا وارث له ومع ذلك هو من البخل ومنع الزكاة وغيرها بمكان فيكنزه تحت الأرض عالما بأنه يموت بل ربما عند موته يبتلعه ومرض مثل هذا عسر علاجه بل محال بخلاف الأول فحب الشهوات يعالج بالقناعة باليسير وبالصبر ويعالج طول الأمل بكثرة ذكر الموت والنظر في موت الأقران وطول تعبهم في جمع المال وضياعه بعدهم في أقبح المعاصي وأقرب زمن
ويعالج الالتفات إلى الولد باستحضار الخير السابق إن شر الناس من ترك ورثته في خير وقدم على الله بشر وبأن الله خلق للولد رزقا لا يزيد ولا ينقص وكم ممن لم يخلف له أبوه فلسا صار غنيا ومن خلف له القناطير المقنطرة صار فقيرا في أسرع وقت وبأن يتأمل في أحوال البخلاء وأنهم على مدرجة المقت والبعد من كل خير ولذلك تجد النفوس تنفر عنهم بالطبع وتستقبحهم حتى إن بعض البخلاء يستقبح كثير البخل من غيره ويستثقل كل بخيل من أصحابه ويغفل عن أنه مستثقل ومستقذر في قلوب الناس كما أن البخلاء عنده كذلك ويتأمل في المنافع التي يقصد لها المال فلا يحفظ منه إلا ما يحتاجه وما زاد ينبغي له أن يدخر ثوابه وبره عند الله تعالى بإخراجه في مرضاته
ومن أمعن تأمله في هذه الأدوية انصقل فكره وانشرح قلبه فيجانب البخل بسائر أنواعه أو بعضها بحسب كمال استعداده ونقصه وينبغي له حينئذ أن يجيب أول خاطر الإنفاق فإن الشيطان ربما زين للنفس الرجوع عنه ولذلك خطر لبعض الأكابر قيل أبو بكر كرم الله وجهه التصدق بثوبه وهو في الخلاء فخرج فورا وتصدق به ثم رجع فلما خرج سئل فقال خشيت أن الشيطان يثني عنان عزمي ولا تزول صفة البخل إلا بالبذل تكلفا كما لا يزول العشق إلا بالسفر عن محل المعشوق
ومنها للمال فوائد دينية ودنيوية لأنه تعالى سماه خيرا في قوله عز وجل إن
____________________
(1/338)
ترك خيرا الوصية وامتن به على عباده وفي حديث كاد الفقر أن يكون كفرا أما الدنيوية فظاهرة وأما الدينية فمن أمهات العبادات ما لا يتوصل إليها إلا به كالحج والعمرة وبه يتقوى على العبادات كالمطعم والملبس والمسكن والمنكح وضرورات المعيشة إذ لا يتفرغ للدين إلا من كفي ذلك وما لا يتوصل للعبادة إلا به عبادة بخلاف ما زاد على الحاجة فإنه من حظوظ الدنيا
ومن فوائده الدينية ما يصرفه من صدقة وفضائلها مشهورة وقد ألفت فيها كتابا حافلا أو هدايا وضيافات ونحوهما للأغنياء وفيهما فضائل مع أنه يكتسب بهما الأصدقاء وصفة السخاء أو وقاية عرض من نحو شاعر أو مارق وفي خبر إن ما وقي به العرض صدقة أو أجرة من يقوم بأشغالك إذ لو باشرتها فاتت مصالحك الأخروية إذ عليك من العلم والعمل والذكر والفكر ما لا يتصور أن يقوم به غيرك فتضييعك الوقت في غيره خسران أو في خير عام كبناء مساجد أو ربط أو قناطر أو سقايات بالطرق أو دور للمرضى أو غير ذلك من الأوقاف المرصدة للخيرات وهذه من الخيرات المؤبدة الدائمة بعد الموت المستجلبة بركة أدعية الصالحين إلى أوقات متمادية وناهيك بذلك خيرا
فهذه جملة فوائد المال في الدين سوى ما فيه من الحظوظ العاجلة كالعز وكثرة الخدم والأصدقاء وتعظيم الناس له وغير ذلك مما يقتضيه المال من الحظوظ الدنيوية
وكذلك للمال آفات كثيرة دينية ودنيوية فالدينية أنه يجر إلى المعاصي للتمكن به منها إذ من العصمة أن لا تجد ومتى استشعرت النفس القدرة على معصية انبعثت داعيتها إليها فلا تستقر حتى ترتكبها ويجر أيضا ابتداء إلى التنعم بالمباحات حتى يصير إلفا له لا يقدر على تركه حتى لو لم يتوصل إليه إلا بسعي أو كسب حرام لاقترفه تحصيلا لمألوفاته إذ من كثر ماله كثر احتياجه إلى معاشرة الناس ومخالطتهم ومن لازم ذلك أنه ينافقهم ويعصي الله في طلب رضاهم أو سخطهم فتثور العداوة والحقد والحسد والرياء والكبر والكذب والغيبة والنميمة وغير ذلك من المعاصي والأخلاق والأحوال السيئة الموجبة للمقت واللعن ويجر أيضا إلى ما لا ينفك عنه أحد من ذوي الأموال وهو الاشتغال بإصلاح ماله عن ذكر الله ومرضاته وكل ما شغل عن ذكر الله فهو شؤم وخسران مبين وهذا هو الداء العضال فإن أصل العبادات وسرها ذكر
____________________
(1/339)
الله والتفكر في جلاله وذلك يستدعي قلبا فارغا ومحال فراغه مع ما تعلق به من إصلاح المال والاعتناء بتحصيله ودفع مضاره وذلك بحر لا ساحل له فهذه جمل الآفات الدينية سوى ما يقاسيه أرباب الأموال في الدنيا قبل الآخرة من الخوف والحزن والهم والغم الدائم والتعب في دفع الخسار وتجشم المصاعب والمشاق في حفظ الأموال وكسبها فإذا ترياق المال أخذ نحو القوت منه وصرف الباقي إلى وجوه الخير وما عدا ذلك سموم وآفات
إذا تقرر ذلك فالمال ليس بخير محض ولا شر محض بل هو سبب للأمرين جميعا يمتدح تارة لا محالة ويذم أخرى لكن من أخذ من الدنيا أكثر مما يكفيه فقد أخذ حتفه وهو لا يشعر كما ورد ولما مالت الطباع إلى الشهوات القاطعة عن الهدى وكان المال آلة فيها عظم الخطر فيما يزيد على الكفاية فاستعاذ الأنبياء من شره حتى قال نبينا صلى الله عليه وسلم اللهم اجعل قوت آل محمد كفافا فلم يطلب من الدنيا إلا ما تمحض خيره
وقال اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا وقال تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش
خاتمة في مدح السخاء والجود وغير ذلك إذ به تعرف غوائل البخل وما فيه من الانحطاط عن تلك الدرجات العلية إذ الشيء إنما يتم انكشافه بمعرفة ضده أخرج الشيخان ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا
وفي رواية لابن حبان إن ملكا بباب من أبواب الجنة وفي رواية من أبواب السماء يقول من يقرض اليوم يجز غدا وملك بباب آخر يقول اللهم أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا وأيضا قال الله تعالى أنفق أنفق عليك
وقال يد الله ملأى لا يغيضها
____________________
(1/340)
نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما بيده وكان عرشه على الماء وبيده الميزان أي العدل يخفض ويرفع
ومسلم وغيره يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل أي ما زاد على الحاجة خير وإن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف أي إمساك قدر الكفاية وابدأ بمن تعول واليد العليا خير من اليد السفلى
وأحمد وابن حبان في صحيحه
والحاكم بنحوه وصححه ما طلعت شمس قط إلا وبجنبيها ملكان يناديان اللهم من أنفق فأعقبه خلفا ومن أمسك فأعقبه تلفا وفي رواية للبيهقي إنه ليسمع نداءهما ما خلق الله كلهم غير الثقلين وإنه ينادي يا أيها الناس هلموا إلى ربكم فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى وإن الله تعالى أنزل في قولهما هلموا قوله في سورة يونس والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وفي دعائهما قوله تعالى والليل إذا يغشى إلى للعسرى
والحاكم وصححه على شرطهما الأخلاء ثلاثة فإما خليل فيقول أنا معك حتى تأتي قبرك وإما خليل فيقول أنا لك ما أعطيت وما أمسكت فليس لك فذلك مالك وإما خليل فيقول أنا معك حيث دخلت وحيث خرجت فذلك عملك فيقول والله لقد كنت من أهون الثلاثة علي
والبخاري وغيره أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله قالوا يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه قال فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر
والبزار بسند حسن أنه صلى الله عليه وسلم دخل على بلال وعنده صبر من تمر فقال ما هذا يا بلال قال أعد ذلك لأضيافكم قال أما تخشى أن يكون لك دخان في جهنم أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا
وفي رواية أما تخشى أن يثور له بخار في نار جهنم
____________________
(1/341)
والشيخان لا توكي فيوكأ عليك أي لا تدخري وتمنعي ما في يدك فتقطع مادة بركة الرزق عنك
وصح يا بلال الق الله فقيرا ولا تلقه غنيا فقال وكيف لي بذلك قال ما رزقت فلا تخبئ وما سئلت فلا تمنع قال وكيف لي بذلك قال هو أو النار
وجاء بسند حسن أن زوجة طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه رأت منه ثقلا فقالت له ما لك لعله رابك منا شيء فنعتبك قال لا ولنعم حليلة المرء المسلم أنت ولكن اجتمع عندي مال ولا أدري كيف أصنع به
قالت وما يغمك منه ادع قومك فاقسمه بينهم فقال يا غلام علي بقومي فكان جملة ما قسم أربعمائة ألف
وروى الطبراني في الصغير والأوسط وسع الله على عبدين من عباده أكثر لهما من المال والولد فقال لأحدهما أي فلان بن فلان قال لبيك رب وسعديك قال ألم أكثر لك من المال والولد قال بلى يا رب قال وكيف صنعت فيما آتيتك قال تركته لولدي مخافة العيلة أي الفقر قال أما إنك لو تعلم العلم لضحكت قليلا ولبكيت كثيرا أما إن الذي قد تخوفت عليهم قد أنزلت بهم
ويقول للآخر أي فلان بن فلان فيقول لبيك أي رب وسعديك
قال ألم أكثر لك المال والولد قال بلى يا رب قال فكيف صنعت فيما آتيتك قال أنفقته في طاعتك ووثقت لولدي من بعدي بحسن طولك أي بفتح أوله فضلك وقدرتك وغناك قال أما إنك لو تعلم العلم لضحكت كثيرا ولبكيت قليلا أما إن الذي قد وثقت به قد أنزلت بهم
وروى الطبراني في الكبير أن عمر رضي الله عنه أرسل مع غلامه بأربعمائة دينار لأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما وأمره بالتأني ليرى ما يصنع فيها فذهب بها إليه وأعطاها له وتأنى يسيرا ففرقها كلها فرجع الغلام لعمر وأخبره فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل رضي الله عنه فأرسلها معه إليه وأمره بالتأني كذلك ففعل ففرقها فاطلعت زوجته وقالت نحن والله مساكين فأعطنا فلم يبق بالخرقة إلا ديناران فأعطاهما لها فرجع الغلام لعمر وأخبره فسر بذلك وقال إنهم إخوة بعضهم من بعض
وصح أنه صلى الله عليه وسلم لما مرض كان عنده سبعة دنانير فأمر عائشة أن تعطيها لعلي
____________________
(1/342)
ليتصدق بها فاشتغلت بإغمائه صلى الله عليه وسلم فكان كلما أفاق أمرها بذلك حتى أعطتها لعلي فأمست ليلة موته صلى الله عليه وسلم وليس عندها شيء فاحتاجت لمصباح فأرسلت إلى امرأة من نسائه تطلب منها ما تسرجه
وصح أن أبا ذر خرج عطاؤه فأنفقه في حوائجه ولم يبق معه إلا سبعة دنانير فأمر بإخراجها أيضا فقيل له فقال إن خليلي صلى الله عليه وسلم عهد إلي أيما ذهب أو فضة أوكي عليه فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله عز وجل
وفي رواية صحيحة عنه أيضا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من أوكى على ذهب أو فضة فلم ينفقه في سبيل الله كان جمرا يوم القيامة يكوى به
وورد بإسناد حسن وله شواهد ما أحب أن لي أحدا ذهبا أبقى صبح ثالثة وعندي منه شيء إلا شيئا أعده لدين
وصح والذي نفسي بيده ما يسرني أن أحدا تحول لآل محمد ذهبا أنفقه في سبيل الله أموت يوم أموت أدع منه دينارين إلا دينارين أعدهما لدين إن كان
وكتب سلمان إلى أبي الدرداء رضي الله عنهما يا أخي إياك أن تجمع من الدنيا ما لا تؤدي شكره فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول يجاء بصاحب الدنيا الذي أطاع الله فيها وماله بين يديه كلما تكفأ به الصراط أي مال قال له امض فقد أديت حق الله في ثم يجاء بصاحب الدنيا الذي لم يطع الله فيها وماله بين يديه كلما تكفأ به الصراط قال له ماله ويلك ألا أديت حق الله في فما يزال ذلك حتى يدعو بالويل والثبور
____________________
(1/343)
وأرسل عمر إلى أم المؤمنين زينب رضي الله عنهما بعطائها فقسمته كله لوقته في أرحامها وأيتامها وقالت اللهم لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا فكانت أول نسائه صلى الله عليه وسلم لحوقا به
وقال الحسن والله ما أعز الدراهم أحد إلا أذله الله تعالى وقيل أول ما ضربت الدنانير والدراهم رفعهما إبليس إلى جبهته وقبلهما وقال من أحبكما فهو عبدي حقا ومن ثم قال بعضهم إنهما أزمة المنافقين يقادون بها إلى النار
وقال ابن معاذ الدرهم عقرب فإن أخذته بغير رقية قتلك بسمه قيل ما رقيته قال أن تأخذه من حله وتضعه في حقه
ولما قيل لعمر بن عبد العزيز بمرضه تركت أولادك الثلاثة عشر فقراء لا دينار لهم ولا درهم قال لم أمنعهم حقا لهم ولم أعطهم حقا لغيرهم وإنما ولدي أحد رجلين إما مطيع لله فالله يكفيه وهو يتولى الصالحين وإما عاص لله فلا أبالي علام وقع
وقيل لمن أنفق ماله الكثير لو ادخرته لولدك فقال بل أدخره لنفسي عند ربي وأدخر ربي لولدي
وقال ابن معاذ مصيبتان لم يسمع الأولون والآخرون بمثلهما تصيبان العبد عند موته يؤخذ منه ماله كله ويسأل عنه كله
شح الدائن على مدينه المعسر مع علمه بإعساره بالملازمة أو الحبس أخرج أحمد بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد وهو يقول هكذا وأومأ أبو عبد الرحمن بيده إلى الأرض من أنظر معسرا أو وضع له أي حط عنه دينه أو بعضه بالبراءة منه وقاه الله من فيح جهنم
وابن أبي الدنيا عنه قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وهو يقول أيكم يسره أن يقيه الله من فيح جهنم قلنا يا رسول الله كلنا يسره أن يقيه الله عز وجل قال من أنظر معسرا أو وضع له وقاه الله عز وجل من فيح جهنم
أو في حديث حسن من نفس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة
____________________
(1/344)
وجاء في تظليله بظل العرش إذا أنظر معسرا أحاديث كثيرة
منها من أنظر معسرا أو وضع له أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله
من أنظر معسرا أو وضع له أظله الله في ظله
إن أول الناس يستظل في ظل الله يوم القيامة لرجل أنظر معسرا حتى يجد شيئا أو تصدق عليه بما يطلبه يقول مالي عليك صدقة ابتغاء وجه الله ويخرق صحيفته أي كتاب الدين الذي له عليه
الأولان صحيحان والثالث حسن
وأخرج الطبراني من فرج عن مسلم كربة جعل الله تعالى له يوم القيامة شعبتين من نور على الصراط يستضيء بضوئهما عالم لا يحصيهم إلا رب العزة
وابن أبي الدنيا من أراد أن تستجاب دعوته وأن تكشف كربته فليفرج عن معسر
ومسلم وأبو داود والترمذي واللفظ له وحسنه والحاكم وصححه على شرطهما من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر في الدنيا يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر على مسلم في الدنيا ستر الله عليه في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه
وصح من أنظر معسرا فله كل يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدين فإذا حل الدين فأنظره بعد ذلك فله كل يوم مثليه صدقة
ومسلم وغيره من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه
____________________
(1/345)
والشيخان إن رجلا ممن كان قبلكم أتاه الملك ليقبض روحه قال هل عملت من خير قال ما أعلم قيل له انظر قال ما أعلم شيئا غير أني كنت أبايع الناس في الدنيا فأنظر الموسر وأتجاوز عن المعسر فأدخله الله الجنة
وفي رواية لهما كنت أداين الناس فآمر فتياني أن ينظروا الموسر ويتجاوزوا عن المعسر قال الله تعالى تجاوزوا عنه
وفي أخرى لمسلم أتي الله بعبد من عباده آتاه الله مالا فقال له ماذا عملت في الدنيا قال ولا يكتمون الله حديثا قال يا رب آتيتني مالا فكنت أبايع الناس وكان من خلقي التجاوز فكنت أيسر على الموسر وأنظر المعسر
فقال الله تعالى أنا أحق بذلك منك تجاوزوا عن عبدي
وفي أخرى لهما كان يقول لفتاه إذا أتيت معسرا فتجاوز عنه لعل الله أن يتجاوز عنا فلقي الله فتجاوز عنه
وفي أخرى للنسائي فإذا بعثته يتقاضى قلت له خذ ما تيسر واترك ما تعسر وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا قال الله تعالى قد تجاوزت عنك
تنبيه ما ذكرته من أن فعل الدائن بمدينه ما ذكر كبيرة ظاهر جدا وإن لم يصرحوا به إلا أنه داخل في إيذاء المسلم الشديد الذي لا يطاق عادة ومفهوم الحديثين الأولين أن من لم ينظر مدينه المعسر لا يوقى فيح جهنم وذلك وعيد شديد وبه يتأكد عد ذلك كبيرة
الخيانة في الصدقة أخرج مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم القيامة فقام إليه أنصاري فقال يا رسول الله اقبل مني عملك قال ومالك قال سمعتك تقول كذا وكذا قال وأنا أقوله الآن من استعملناه منكم على عمل فليجئ بقليله وكثيره فما أوتي منه أخذ وما نهي عنه انتهى
____________________
(1/346)
وصح أنه صلى الله عليه وسلم قال لسعد بن عبادة رضي الله عنه يا أبا الوليد اتق الله لا تأت يوم القيامة ببعير تحمله له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة لها ثغاء قال يا رسول الله إن ذلك كذلك قال إي والذي نفسي بيده قال فوالذي بعثك بالحق لا أعمل لك على شيء أبدا
وأحمد ستفتح عليكم مشارق الأرض ومغاربها وإن عمالها في النار إلا من اتقى الله عز وجل وأدى الأمانة
وأبو داود وابن خزيمة في صحيحه أنه كان ماشيا مع النبي صلى الله عليه وسلم في البقيع فسمعه يقول أف لك أف لك فتأخر وظن أنه يريده فقال له ما لك امش قال أحدثت حدثا قال لا قال وما لك أففت بي قال لا ولكن هذا فلان بعثته ساعيا على بني فلان فغل نمرة أي بفتح فكسر كساء من صوف مخطط فدرع مثلها من النار
وصح المتعدي في الصدقة كمانعها أي عليه من الإثم كما على المانع إذا منع قاله الترمذي وأبو يعلى والبزار بإسناد جيد إني ممسك بحجزكم أي جمع حجزة وهي معقد الإزار عن النار هلم عن النار هلم عن النار هلم عن النار وتغلبونني تقاحمون تقاحم الفراش أو الجنادبة فأوشك أن أرسل بحجزكم وأنا فرطكم أي بفتحات هو من يتقدم القوم إلى المنزل ليهيئ مصالحهم فيه على الحوض فتردون علي معا وأشتاتا فأعرفكم بسيماكم وأسمائكم كما يعرف الرجل الغريبة من الإبل في إبله ويذهب بكم ذات الشمال وأناشد فيكم رب العالمين فأقول أي رب قومي أي رب أمتي فيقول يا محمد إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك كانوا يمشون بعدك القهقرى على أعقابهم فلا أعرفن أحدكم يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء فينادي يا محمد يا محمد فأقول لا
____________________
(1/347)
أملك لك شيئا قد بلغتك فلا أعرفن أحدكم يوم القيامة يحمل بعيرا له رغاء فينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك شيئا قد بلغتك فلا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرسا لها حمحمة أي بمهملتين اسم لصوتها فينادي يا محمد يا محصد فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك فلا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل سقاء من أدم ينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك
تنبيه عد ما ذكر من الكبائر ظاهر وإن لم يصرحوا به لأن كلامهم في أماكن صريح فيه وقد عدوا مطلق الخيانة من الكبائر وهو شامل لهذه وغيره وسيأتي ما فيه
جباية المكوس والدخول في شيء من توابعها كالكتابة عليها لا بقصد حفظ حقوق الناس إلى أن ترد إليهم إن تيسر وهو داخل في قوله تعالى إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم
والمكاس بسائر أنواعه من جابي المكس وكاتبه وشاهده ووازنه وكائله وغيرهم من أكبر أعوان الظلمة بل هم من الظلمة بأنفسهم فإنهم يأخذون ما لا يستحقونه ويدفعونه لمن لا يستحقه ولهذا لا يدخل صاحب مكس الجنة لأن لحمه ينبت من حرام كما يأتي
وأيضا فلأنهم تقلدوا بمظالم العباد ومن أين للمكاس يوم القيامة أن يؤدي الناس ما أخذ منهم إنما يأخذون من حسناته إن كان له حسنات وهو داخل في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أتدرون من المفلس قالوا يا رسول الله المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام وقد شتم هذا وضرب هذا وأخذ مال هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرح عليه ثم طرح في النار
أخرج أحمد عن علي بن زيد عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كان لداود نبي الله صلى الله عليه وسلم ساعة يوقظ فيها أهله يقول يا آل داود قوموا فصلوا فإن هذه الساعة يستجيب الله فيها الدعاء إلا لساحر أو عشار
____________________
(1/348)
وأبو داود وابن خزيمة في صحيحه والحاكم كلهم من رواية محمد بن إسحاق وهو ثقة
وقول الحاكم إنه صحيح على شرط مسلم معترض بأن مسلما إنما أخرج لابن إسحاق في المتابعات
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يدخل الجنة صاحب مكس
قال يزيد بن هارون يعني العشار وقال البغوي يريد بصاحب المكس الذي يأخذ من التجار إذا مروا عليه مكسا باسم العشر أي الزكاة
قال الحافظ المنذري أما الآن فإنهم يأخذون مكسا باسم العشر ومكسا آخر ليس له اسم بل شيء يأخذونه حراما وسحتا ويأكلونه في بطونهم نارا حجتهم فيه داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد
وسئل السراج البلقيني عن قوله صلى الله عليه وسلم فإنه تاب توبة لو تابها صاحب مكس الحديث هل المكاس المعلوم عند الناس هو الذي يتناول المرتب على البضائع أو غيره فأجاب المكاس يطلق على من أحدث المكس ويطلق على من يجري على طريقته الرديئة
والظاهر أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم المكاس الذي ذنبه عظيم وهو الذي يقال له أيضا صاحب مكس وكذلك يقال للجاري على طريقته ويظهر من هذا الحديث أن الذي أحدث المكس تقبل توبته وأن الذي استن السيئة إنما يكون عليه وزرها ووزر من يعمل بها إذا لم يتب فإذا تاب قبلت توبته ولم يكن عليه وزر من يعمل بها
انتهى
وروى أحمد بإسناد فيه من اختلف في توثيقه وبقية رواته محتج بهم في الصحيح عن الحسن قال مر عثمان بن أبي العاص على كلاب بن أمية وهو جالس على مجلس العاشر بالبصرة فقال ما يجلسك ها هنا قال استعملني على هذا المكان يعني زيادا فقال له عثمان ألا أحدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بلى فقال عثمان سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كان لداود نبي الله ساعة يوقظ فيها أهله يقول يا آل داود قوموا فصلوا فإن هذه الساعة يستجيب الله فيها الدعاء إلا لساحر أو عاشر
فركب كلاب بن أمية بنفسه فأتى زيادا فاستعفاه فأعفاه
واختلف في سماع الحسن من عثمان ورواه الطبراني في الكبير ولفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تفتح أبواب السماء نصف الليل فينادي مناد هل من داع فيستجاب له هل من سائل فيعطى هل من مكروب
____________________
(1/349)
فيفرج عنه فلا يبقى مسلم يدعو بدعوة إلا استجاب الله عز وجل له إلا زانية تسعى بفرجها أو عشارا
وفي رواية له في الكبير أيضا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله يدنو من خلقه أي برحمته وجوده وفضله فيغفر لمن استغفر إلا لبغية بفرجها أو عشار
وأحمد بسند فيه ابن لهيعة عن أبي الخير قال عرض مسلمة بن مخلد وكان أميرا على مصر على رويفع بن ثابت رضي الله عنه أن يوليه العشور فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن صاحب المكس في النار
ورواه الطبراني بنحوه وزاد يعني العاشر
والطبراني عن أم سلمة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحراء فإذا مناد يناديه يا رسول الله فالتفت فلم ير أحدا ثم التفت فإذا ظبية موثقة فقالت ادن مني يا رسول الله فدنا منها فقال ما حاجتك فقالت إن لي خشفين في هذا الجبل فحلني حتى أذهب فأرضعهما ثم أرجع إليك قال وتفعلين قالت عذبني الله عذاب العشار إن لم أفعل فأطلقها فذهبت فأرضعت خشفيها ثم رجعت فأوثقها وانتبه الأعرابي فقال ألك حاجة يا رسول الله قال نعم تطلق هذه فأطلقها فخرجت تعدو وهي تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله صلى الله عليه وسلم
ورواه البيهقي من طرق وأبو نعيم الأصبهاني وقال بعض حفاظ المتأخرين إن هذا ورد في الجملة في عدة أحاديث يتقوى بعضها ببعض وردها شيخ الإسلام العسقلاني في تخريج أحاديث المختصر انتهى
والحاصل أنه وإن ضعفه جماعة من الأئمة لكن طرقه يقوي بعضها بعضا وبذلك يرد قول الحافظ ابن كثير لا أصل له وقد ذكره القاضي عياض في الشفاء
وقال التاج
____________________
(1/350)
السبكي في شرح المختصر هو وتسبيح الحصى وإن لم يتواترا فلعلهما استغني عنهما بنقل غيرهما أو لعلهما تواترا إذ ذاك
وابن عساكر ألا أنبئك بشر الناس من أكل وحده ومنع رفده وسافر وحده وضرب عبده ألا أنبئك بشر من هذا من يبغض الناس ويبغضونه ألا أنبئك بشر من هذا من يخشى شره ولا يرجى خيره ألا أنبئك بشر من هذا من باع آخرته بدنيا غيره ألا أنبئك بشر من هذا من أكل الدنيا بالدين
وأحمد من طرق رواة بعضها ثقات عن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ويل للعرفاء ويل للأمناء ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم معلقة بالثريا يتدلون بين السماء والأرض ولم يكونوا عملوا على شيء
وابن حبان في صحيحه والحاكم واللفظ له وصححه ويل للأمراء ويل للعرفاء ويل للأمناء ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم معلقة بالثريا يدلون بين السماء والأرض وأنهم لم يلوا عملا
والبزار إن في النار حجرا يقال له ويل يصعد عليه العرفاء وينزلون
وأبو يعلى قال الحافظ المنذري وإسناده حسن إن شاء الله عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقال طوبى له إن لم يكن عريفا
وأبو داود عن المقدام بن معدي كرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب على منكبيه ثم قال أفلحت يا قديم إن مت ولم تكن أميرا ولا كاتبا ولا عريفا
____________________
(1/351)
والطبراني عمن قال الحافظ المنذري فيه إنه لا يعرفه إن جده أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن رجلا من بني تميم ذهب بمالي كله فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه ليس عندي ما أعطيكه ثم قال هل لك أن تعرف على قومك أو ألا أعرفك على قومك قلت لا قال أما إن العريف يدفع في النار دفعا
وأبو داود إن قوما كانوا على منهل من المناهل فلما بلغهم الإسلام جعل صاحب الماء لقومه مائة من الإبل على أن يسلموا فأسلموا وقسم الإبل بينهم وبدا له أن يرتجعها فأرسل ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفي آخره ثم قال إن أبي شيخ كبير وهو عريف الماء وإنه يسألك أن تجعل لي هذه العرافة بعده قال إن العرافة حق ولا بد للناس من عرافة ولكن العرفاء في النار
وابن حبان في صحيحه ليأتين عليكم أمراء يقربون شرار الناس ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها فمن أدرك ذلك منكم فلا يكونن عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا خازنا
وصح أنه صلى الله عليه وسلم قال لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت النار أولى به والمكس من أقبح السحت وأفحشه
وذكر الواحدي في تفسير قوله تعالى لا يستوي الخبيث والطيب عن جابر أن رجلا قال يا رسول الله إن الخمر كانت تجارتي وإني جمعت من بيعها مالا فهل ينفعني ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله عز وجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أنفقته في حج أو جهاد أو صدقة لم يعدل عند الله جناح بعوضة إن الله لا يقبل إلا الطيب فأنزل الله تعالى تصديقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم قل لا يستوي الخبيث والطيب
قال الحسن وعطاء هو الحلال والحرام
وفي حديث المرأة التي طهرت نفسها بالرجم لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له أو لقبلت منه
____________________
(1/352)
والديلمي ستة أشياء تحبط العمل الاشتغال بعيوب الخلق وقسوة القلب وحب الدنيا وقلة الحياء وطول الأمل وظالم لا ينتهي
وابن حبان مرسلا البر لا يبلى والذنب لا ينسى والديان لا يموت اعمل ما شئت كما تدين تدان
تنبيه عد ذلك من الكبائر ظاهر وبه صرح جماعة والأحاديث في وعيده كثيرة صحيحة لا تحصى وسيأتي جملة منها في الظلم وكلها يدخل المكاسون وأعوانهم في وعيدها وما ذكرته في كاتب المكس في الترجمة هو ما أفتى به ابن عبد السلام وهو ظاهر لأن الفرض كما هو ظاهر أنه لا يحضر لأخذ شيء من المكس بل لمجرد ضبط ما يؤخذ ويعطى فحسب ولو جعل له السلطان شيئا من بيت المال على الحضور فحضر بقصد الضبط جاز ثم رأيت كلام ابن عبد السلام
وفيه التصريح بجواز أخذ الأجرة بنية ردها وذلك لأنه سئل عن الشهادة على المكس وأخذ الظلمة الأموال فقال إن قصد الشاهد بذلك حفظ المال على أربابه والشهادة لهم ليرجعوا به في وقت آخر عند إمكانه برجوع السلطان إلى العدل أو تولية عدل جاز وإن قصدوا إعانة الظلمة لم يجز
ويجوز أن يأخذوا الأجرة بنية ردها على أربابها إلا أن يكونوا من العلماء الذين يقتدي بهم الناس لأنهم لا يطلعون على نياتهم
واعلم أن بعض فسقة التجار يظن أن ما يؤخذ من المكس يحسب عنه إذا نوى به الزكاة وهذا ظن باطل لا مستند له في مذهب الشافعي لأن الإمام لم ينصب المكاسين لقبض الزكاة ممن تجب عليه دون غيره وإنما نصبهم لأخذ عشور أي مال وجدوه قل أو كثر وجبت فيه زكاة أو لا وزعم أنه إنما أمر بأخذ ذلك ليصرفه على الجند في مصالح المسلمين لا يفيد فيما نحن فيه
لأنا لو سلمنا أن ذلك سائغ بشرطه وهو أن لا يكون في بيت المال شيء
واضطر الإمام إلى الأخذ من مال الأغنياء لكان أخذه غير مسقط للزكاة أيضا لأنه لم يأخذه باسمها
وذكر لي بعض التجار أنه إذا أعطى المكاس نوى به أنه من الزكاة فيكون المكاس قد ملكه زكاة وأنه ضيعه هو بإعطائه للغير وهذا لا يفيد شيئا لأن المكسة وأعوانهم عز أن تجد فيهم مستحقا للزكاة لأنهم كلهم لهم قدرة على صنعة وكسب ولهم قوة وتجبر لو صرفوه في تحصيل مؤنتهم من كسب حلال لاستغنوا به عن
____________________
(1/353)
هذه الفاحشة القبيحة
ومن هذه حالته كيف يعطى من الزكاة لكن محبة التجار لأموالهم أعمتهم عن أن يبصروا الحق وأصمتهم عن أن يسمعوا ما ينفعهم في دينهم اتباعا للشيطان وتسويله لهم أن هذا المال مأخوذ منهم قهرا وظلما فكيف مع ذلك يخرجون الزكاة وما دروا أن الله أوجب عليهم الزكاة فلا يبرءون منها إلا بدفعها على وجه سائغ جائز وأما ما ظلموا به فكيف يكتب لهم به حسنات ويرفع لهم به درجات وقد جعل العلماء المكاسين من جملة اللصوص وقطاع الطريق بل أشر وأقبح ولو أخذ منك قطاع الطريق مالا فنويت به الزكاة فهل ينفع ذلك مطلقا فكما أن ذاك لا ينفعك فكذا هذا لا ينفعك ولا يجديك شيئا فاحذر ذلك
ولقد شنع العلماء على بعض الجهال الزاعمين أن الدفع إلى المكاسين بنية الزكاة يجديهم وأطالوا في رد هذه المقالة وتسفيهها وأن قائلها جاهل لا يرجع إليه ولا يعول عليه فتأمل ذلك واعمل به تغنم إن شاء الله تعالى
سؤال الغني بمال أو كسب التصدق عليه طمعا وتكثرا أخرج الطبراني وغيره بسند صحيح من سأل من فقر فكأنما يأكل الجمر
وفي رواية للبيهقي الذي يسأل الناس من غير حاجة كمثل الذي يلتقط الجمر
والترمذي وقال غريب عن حبشي بن جنادة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو واقف بعرفة وأتاه أعرابي فأخذ بطرف ردائه فسأله إياه فأعطاه وذهب فعند ذلك حرمت المسألة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن المسألة لا تحل لغني ولا لذي مرة أي بكسر فشدة أي قوة سوي تام الخلق سالم من موانع الاكتساب إلا لذي فقر مدقع أي بضم فسكون للمهملة فكسر وهو الشديد الملصق صاحبه بالدقعاء وهي الأرض التي لا نبات فيها أو لذي غرم مفظع ومن سأل الناس ليثري أي بالمثلثة يزيد من ماله كان خموشا في وجهه يوم القيامة ورضفا أي بفتح فسكون للمعجمة ففاء حجارة محماة تأكله من جهنم
فمن شاء فليقلل ومن شاء فليكثر زاد رزين وإني لأعطي الرجل العطية فينطلق بها تحت إبطه وما هي إلا النار فقال له عمر ولم تعطي يا رسول الله ما هو نار
____________________
(1/354)
فقال يأبى الله لي البخل وأبوا إلا مسألتي قالوا وما الغنى الذي لا ينبغي معه المسألة قال قدر ما يغديه أو يعشيه
قال الحافظ المنذري وهذه الزيادة لها شواهد كثيرة لكن لم أقف عليها في شيء من نسخ الترمذي وأحمد
والأربعة والحاكم من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح قيل وما الغنى قال خمسون درهما أو قيمتها من الذهب
وأبو داود والحاكم من يتكفل لي أن لا يسأل الناس شيئا وأتكفل له بالجنة
وأحمد والنسائي وابن ماجه من يتقبل لي بواحدة وأتقبل له بالجنة لا يسأل الناس شيئا
وابن حبان من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف
والنسائي من سأل وله قيمة أربعين درهما فهو الملحف
وأحمد من استعف عفه الله ومن استغنى أغناه الله ومن سأل الناس وله عدل خمس أواق فقد ألحف
ومسلم وغيره من سأل الناس تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر
____________________
(1/355)
وعبد الله بن أحمد وغيره بسند جيد من سأل الناس مسألة عن ظهر غنى استكثر بها من رضف جهنم قالوا وما ظهر غنى قال عشاء ليلة
والشيخان لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم أي بضم فسكون الزاي فمهملة قطعة
والترمذي وقال حسن صحيح المسألة كد يكد بها الرجل وفي رواية
كدوح أي بضم الكاف آثار خموش يكد وفي رواية يكدح بها الرجل وجهه فمن شاء أبقى على وجهه ومن شاء ترك إلا أن يسأل ذا سلطان أو في أمر لا يجد منه بدا وروي من طريق أخرى رواتها ثقات مشهورون والبزار وغيره لا يزال العبد يسأل وهو غني حتى يخلق وجهه فما يكون له عند الله وجه
والبيهقي قال الحافظ المنذري وهو حديث جيد في الشواهد من فتح على نفسه باب مسألة من غير فاقة تنزلت به أو عيال لا يطيقهم فتح الله عليه باب فاقة من حيث لا يحتسب
وصح مسألة الغني شين في وجهه إلى يوم القيامة
زاد البزار ومسألة الغني نار إن أعطي قليلا فقليل وإن أعطي كثيرا فكثير
وصح من سأل مسألة وهو عنها غني كانت شينا في وجهه يوم القيامة
والبيهقي أنه صلى الله عليه وسلم أتي برجل ليصلي عليه قال كم ترك قالوا دينارين أو ثلاثة
____________________
(1/356)
قال ترك كيتين أو ثلاث كيات فلقيت عبد الله بن القاسم مولى أبي بكر فذكرت ذلك له فقال ذاك رجل كان يسأل الناس تكثرا
تنبيه عد ما ذكر كبيرة ظاهر وإن لم أر من صرح به لهذه الأحاديث المشتملة على الوعيد الشديد ومر تقييد الحرمة بالغنى
وفي خبر أبي داود من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار قال أحد رواته قالوا وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة قال بقدر ما يغديه ويعشيه
ورواه ابن حبان في صحيحه وقال فيه من سأل شيئا وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم قالوا يا رسول الله وما يغنيه قال ما يغديه أو يعشيه كذا عنده أو يعشيه بألف
ورواه ابن خزيمة باختصار إلا أنه قال قيل يا رسول الله وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة قال أن يكون له شبع يوم وليلة أو ليلة ويوم
قال الخطابي اختلف الناس في تأويل هذا الحديث فقال بعضهم من وجد غداء يوم وعشاء لم تحل له المسألة على ظاهر الحديث وقال بعضهم إنما هو فيمن وجد غداء وعشاء على دائم الأوقات فإذا كان عنده ما يكفيه لقوته المدة الطويلة حرمت عليه المسألة
وقال آخرون هذا منسوخ بالأحاديث التي فيها تقدير الغنى بملك خمسين درهما أو قيمتها وبملك أوقية أو قيمتها انتهى
والراجح عندنا هو القول الأول إن كان يسأل صدقة التطوع فإن كان يسأل الزكاة لم تحرم عليه إلا إن كان عنده كفاية بقية العمر الغالب وادعاء النسخ ممنوع إذ شرطه علم التاريخ وتأخر الناسخ عن المنسوخ ولم يعلم ذلك
قال الشافعي رضي الله عنه قد يكون الرجل بالدرهم غنيا مع كسبه ولا تغنيه الألف مع ضعفه وكثرة عياله
وذهب سفيان الثوري وابن المبارك والحسن بن صالح وأحمد وإسحاق إلى أن من له خمسون درهما أو قيمتها من الذهب لا يدفع إليه شيء من الزكاة وكان الحسن البصري وأبو عبيدة يقولان من له أربعون درهما فهو غني
وقال أصحاب الرأي يجوز دفعها إلى من يملك دون النصاب وإن كان صحيحا مكتسبا مع قولهم من كان له قوت يوم لا يحل له السؤال استدلالا بهذا الحديث وغيره
____________________
(1/357)
وعن أنس رضي الله عنه
أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله قال أما في بيتك شيء قال بلى حلس أي بكسر المهملة فسكون فمهملة كساء غليظ يكون بظهر البعير وقد يطلق على ما يداس من الأكسية ونحوها يلبس بعضه ويبسط بعضه وقعب يشرب فيه من الماء قال ائتني بهما فأتاه بهما فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال من يشتري هذين قال رجل أنا آخذهما بدرهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يزيد على درهم مرتين أو ثلاثا قال رجل أنا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري وقال اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك واشتر بالآخر قدوما فأتني به فأتاه به فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا بيده ثم قال اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوما ففعل فجاء وقد أصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة إن المسألة لا تصلح إلا لثلاث لذي فقر مدقع أو لذي غرم أي وهو ما يلزم أداؤه تكلفا لا في مقابلة عوض مفظع أي شديد شنيع أو لذي دم موجع أي وهو من يتحمل دية عن قاتل ليعفو عنه أولياء الدم خشية من أن يقتلوه فيتوجع لنحو قرابة أو صداقة
وصح طوبى لمن هدي للإسلام وكان عيشه كفافا أي بقدر الحاجة وقنع وصح أيضا يا أبا ذر أترى كثرة المال هو الغنى قلت نعم يا رسول الله قال أفترى قلة المال هو الفقر قلت نعم يا رسول الله قال إنما الغنى غنى القلب والفقر فقر القلب
وروى الشيخان ليس المسكين الذي ترده اللقمة أو اللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس
ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس وصح أن رجلا قال أوصني يا رسول الله وأوجز فقال صلى الله عليه وسلم عليك بالإياس مما في أيدي الناس
____________________
(1/358)
وإياك والطمع فإنه فقر حاضر وإياك وما يعتذر منه وروى البيهقي القناعة كنز لا يفنى ورفعه غريب
الإلحاح في السؤال المؤذي للمسئول إيذاء شديدا أخرج ابن ماجه وأبو نعيم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله يبغض السائل الملحف أي الملح
والبزار لا يؤمن عبد حتى يأمن جاره بوائقه
من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت
إن الله تبارك وتعالى يحب الغني الحليم المتعفف ويبغض البذيء الفاجر السائل الملح
وابن خزيمة في صحيحه إن الرجل يأتيني فيسألني فأعطيه فينطلق وما يحمل في حضنه إلا النار
وابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم ذهبا إذ أتاه رجل فقال يا رسول الله أعطني فأعطاه ثم قال زدني فزاده ثلاث مرات ثم ولى مدبرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني الرجل فيسألني فأعطيه ثم يسألني فأعطيه ثلاث مرات ثم ولى مدبرا وقد جعل في ثوبه نارا إذا انقلب إلى أهله
وأحمد وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه عن عمر رضي الله عنه أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله رأيت فلانا يشكر يذكر أنك أعطيته دينارين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن فلان قد أعطيته ما بين العشرة إلى المائة فما شكره وما يقوله
إن
____________________
(1/359)
أحدكم ليخرج من عندي بحاجته متأبطها أي جاعلها تحت إبطه وما هي إلا النار قال قلت يا رسول الله لم تعطيهم قال يأبون إلا مسألتي ويأبى الله لي البخل
وصح لا تلحفوا في المسألة فإنه من يستخرج منا بها شيئا لم يبارك له فيه
وصح أيضا عند مسلم وغيره لا تلحفوا في المسألة فوالله لا يسألني أحد منكم شيئا فتخرج له مسألته مني شيئا وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته
تنبيه ما ذكرته من أن الإلحاح بقيده المذكور كبيرة هو ظاهر وكلامهم لا يأباه وإن لم يصرحوا بذلك ويؤيده ما في الحديث الأول والثاني لأن البغض المترتب عليه ولو مع غيره يقرب من اللعن الذي من أمارات الكبيرة
ومما يصرح بذلك جعله صلى الله عليه وسلم في الحديث الثالث والرابع ما يؤخذ به نارا وهذا وعيد شديد
نعم لو كان السائل مضطرا والمسئول مانع له ظلما فيظهر أنه لا يحرم عليه الإلحاح حينئذ والذي يظهر أيضا أن كون الإلحاح كبيرة لا يتقيد بتكرير السؤال ثلاث مرات بل ينبغي تقييده بما يؤذي ويضجر عرفا لأنه حينئذ يحمل المسئول على غاية الغضب ويخرجه عن حيز الاعتدال ويوقعه في أشر السب والشتم وغيرهما وهذا أذى شديد وخلق قبيح ومعاص متعددة جر إليها الإلحاح وحمل عليها وكان سببا فيها فظهر ما ذكرته من أنه حينئذ كبيرة
خاتمة أخرج الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما كان صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول أعطه من هو أفقر إليه مني قال فقال خذه إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه فتموله فإن شئت كله وإن شئت تصدق به وما لا لا تتبعه نفسك
قال ولده سالم فلأجل ذلك كان عبد الله لا يسأل أحدا شيئا ولا يرد شيئا أعطيه
وروى مالك مرسلا والبيهقي موصولا أن عمر أرسل له رسول الله صلى الله عليه وسلم بعطاء فرده فقال له لم رددته فقال أليس أخبرتنا أن خيرا لأحد أن لا يأخذ من أحد شيئا فقال صلى الله عليه وسلم إنما ذلك عن المسألة وأما ما كان من غير مسألة فإنما ذلك رزق
____________________
(1/360)
يرزقه الله فقال عمر أما والذي نفسي بيده لا أسأل أحدا شيئا ولا يأتيني بشيء من غير مسألة إلا أخذته
وصح من بلغه عن أخيه معروف من غير مسألة ولا إشراف نفس فليقبله ولا يرده فإنما هو رزقه ساقه الله عز وجل إليه
وصح أيضا من آتاه الله شيئا من هذا المال من غير أن يسأله فليقبله فإنما هو رزقه ساقه الله إليه
وصح أيضا من عرض له من هذا الرزق شيء من غير مسألة وإشراف نفس فليتوسع به في رزقه فإن كان غنيا فليوجهه إلى من هو أحوج إليه منه
وسأل عبد الله أباه أحمد بن حنبل عن الإشراف فقال تقول في نفسك سيبعث إلي فلان سيصلني فلان وورد ما الذي يعطي بسعة بأفضل من الذي يقبل إذا كان محتاجا
منع الإنسان لقريبه أو مولاه مما سأله فيه لاضطراره إليه مع قدرة المانع عليه وعدم عذر له في المنع أخرج الطبراني في الأوسط والكبير بإسناد جيد عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من ذي رحم يأتي ذو رحمه فيسأله فضلا أعطاه
____________________
(1/361)
الله إياه فيبخل عليه إلا أخرج الله من جهنم حية يقال لها شجاع يتلمظ فيطوق به والتلمظ تطعم ما يبقى في الفم من آثار الطعام
والطبراني بسند رواته ثقات والذي بعثني بالحق لا يعذب الله يوم القيامة من رحم اليتيم وألان له في الكلام ورحم يتمه وضعفه ولم يتطاول على جاره بفضل ما آتاه الله يا أمة محمد والذي بعثني بالحق لا يقبل الله صدقة من رجل وله قرابة محتاجون إلى صلته ويصرفها إلى غيرهم والذي نفسي بيده لا ينظر الله إليه يوم القيامة
وأبو داود واللفظ له والنسائي والترمذي وقال حديث حسن عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال قلت يا رسول الله من أبر قال أمك ثم أمك ثم أباك ثم الأقرب فالأقرب
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسأل رجل مولاه من فضل ما هو عنده فيمنعه إياه إلا دعا له فضله يوم القيامة الذي منعه شجاعا أقرع
قال أبو داود الأقرع الذي ذهب شعر رأسه من السم
والطبراني في الصغير والأوسط وهو غريب أيما رجل أتاه ابن عمه يسأله من فضله فمنعه منعه الله فضله يوم القيامة الحديث
تنبيه عد ما ذكرته في الترجمة بشروطه من الكبائر واضح جلي وعليه تجرى هذه الأحاديث المتضمنة لذلك الوعيد الشديد إذ لا تعلم أحدا قال بظاهرها على إطلاقه لما فيه من الحرج والمشقة التي لا تطاق بل تكون الصدقة على الأجنبي أفضل منها على القريب لصلاح الأجنبي وفسق القريب ولتحقق أن ذاك يصرفها في طاعة وهذا يصرفها في معصية أو نحو ذلك
____________________
(1/362)
فإن قلت إذا فرضت المنع لمضطر فلا فرق في كونه كبيرة بين المولى والقريب وغيرهما كما هو ظاهر قلت هو وإن كان كذلك إلا أنه وجه الفرق ما هو معلوم مما مر أن الكبائر بعضها أقبح من بعض فالمنع للمضطر وإن ظهر أنه كبيرة إلا أن لمولاه وقريبه الذي تلزمه نفقته أشد وأقبح من مطلق القريب وهو من سائر الأجانب لأمور منها وجوب نفقته عليه ومنها شدة تعلقه به ومنها قطعه لما بينهما من الموالاة والقرابة ومنها سعيه في إهلاكه أو نحوه وليس في الأجنبي إلا هذه الأخيرة فجاز أن يختص أولئك عنه بذلك التغليظ الشديد الفظيع فهذا هو حكمة التخصيص بالذكر وهي حكمة جليلة ظاهرة ومنها أيضا التنبيه على تأكد مراعاة حق الوالدين ثم بقية الأقارب وأن قطع وصلتهما ليس كقطع وصلة غيرهما ومن ثم جعل الله الرحم معلقة بساق العرش تقول اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني فيجيبها الله تعالى وعزتي لأصلن من وصلك ولأقطعن من قطعك وسيأتي في بحث كون العقوق وقطيعة الرحم من الكبائر ما يعلمك بخطر هذين وأكيد حقوقهما الكثيرة
ثم رأيت بعضهم ذكر نحو ما ذكرته في الترجمة فعد من الكبائر منع إنسان مولاه أو ذا رحمه فضلا عنده مع شدة حاجتهما إليه
المن بالصدقة قال تعالى الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون إلى قوله يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إياكم والمن بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويمحق الأجر ثم تلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى
بين الله سبحانه وتعالى بالآية الأولى أن من أنفق شيئا في وجه من وجوه القربات
____________________
(1/363)
كالإنفاق على نفسه وأهله
وبالآية الثانية أن من تصدق بشيء من أنواع الصدقات اشترط لنيله ذلك الثواب العظيم الذي أعده الله سبحانه وتعالى للمنفقين والمتصدقين أن يسلم إنفاقه وصدقته من المن بها على المعطى في الثاني وعلى الله وعلى رسوله وعلى المؤمنين في الأول كما أشار إليه القفال بقوله وقد يكون هذا الشرط أي عدم المن والأذى معتبرا أيضا فيمن أنفق على نفسه كمن ينفق على نفسه في الجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم ابتغاء مرضاة الله تعالى ولا يمن به على النبي والمؤمنين ولا يؤذي أحدا من المؤمنين مثل أن يقول لو لم أحضر لما تم هذا الأمر أو يقول لغيره أنت ضعيف لا منفعة بك في الجهاد
ثم إن المن هو أن يعدد نعمته على الآخذ أو يذكرها لمن لا يحب الآخذ اطلاعه عليه وقيل هو أن يرى أن لنفسه مزية على المتصدق عليه بإحسانه إليه ولذلك لا ينبغي أن يطلب منه دعاء ولا يطمع فيه لأنه ربما كان في مقابلة إحسانه فيسقط أجره وأصل المن القطع ولذلك يطلق على النعمة لأن المنعم يقطع من ماله قطعة للمنعم عليه
والمنة النعمة أو النعمة الثقيلة ومنه وصفه تعالى بالمنان أي المنعم ومنه وإن لك لأجرا غير ممنون أي غير مقطوع
وتسمية الموت منونا لأنه يقطع الحياة والأذى هو أن ينهره أو يعيره أو يشتمه فهذا كالمن مسقط لثوابه وأجره كما أخبر الله تعالى وإنما كان المن من صفاته تعالى العلية ومن صفاتنا المذمومة لأنه منه تعالى إفضال وتذكير بما يجب على الخلق من أداء واجب شكره ومنا تعيير وتكدير إذ آخذ الصدقة مثلا منكسر القلب لأجل حاجته إلى غيره معترف له باليد العليا فإذا أضاف المعطي إلى ذلك إظهار إنعامه تعديدا عليه أو ترفعا أو طلبا لمقابلته عليه بخدمة أو شكر زاد ذلك في مضرة الآخذ وانكسار قلبه وإلحاق العار والنقص به وهذه قبائح عظيمة على أن فيه أيضا النظر إلى أن له ملكا وفضلا وغفلة عن أن الله هو المالك الحقيقي وهو الذي يسر الإعطاء وأقدر عليه
فوجب النظر إلى جناب الحق والقيام بشكره على ذلك والإعراض عما يؤدي إلى منازعة الحق في فضله ووجوده إذ لا يمن إلا من غفل أن الله تعالى هو المعطي والمتفضل
و منا في الآية مفعول أول و أذى عطف عليه وأبعد بعضهم فجعله اسم لا وخبرها محذوف
والمعنى ولا أذى حاصل له بالإنفاق فيكون من صفات المنفق بمعنى أنه يشترط أن لا يتأذى بالإخراج ومما يرد هذا التكلف البعيد تنوين أذى إذ المشهور في اسم لا عدم تنوينه لبنائه على الفتح وليس ظاهر الآية أنه لا يبطل الأجر إلا وجود المن والأذى معا دون أحدهما لأن مدلول منا ولا أذى أنه لا بد من انتفاء كل منهما على أن قضية كلام سفيان أنهما متلازمان فإنه قال هما أن يقول قد أعطيتك فما شكرت
____________________
(1/364)
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم كان أبي يقول إذا أعطيت رجلا شيئا ورأيت أن سلامك يثقل عليه أي لكونه يتكلف لك قياما ونحوه لأجل إحسانك عليه فكف سلامك عنه وسمع ابن سيرين رجلا يقول لآخر أحسنت إليك وفعلت وفعلت فقال له ابن سيرين اسكت فلا خير في المعروف إذا أحصي
وأخرج أحمد ومسلم والترمذي وأبو داود عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قال فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فقلت خابوا وخسروا من هم يا رسول الله قال المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب
وفي رواية المنان الذي لا يعطي شيئا إلا منه
وفي أخرى المسبل إزاره
والطبراني وابن عدي أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة عاق ومنان ومدمن خمر ومكذب بقدر
والنسائي لا يدخل الجنة منان ولا عاق ولا مدمن خمر
والطبراني ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة المنان عطاءه والمسبل إزاره ومدمن الخمر
وأحمد والنسائي والحاكم ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال والديوث وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والمدمن على الخمر والمنان بما أعطى
وأحمد ومسلم والأربعة ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم المسبل إزاره والمنان الذي لا يعطي شيئا إلا منه والمنفق سلعته بالحلف الكاذب
____________________
(1/365)
والحاكم ثلاثة لا يقبل الله منهم يوم القيامة صرفا ولا عدلا عاق ومنان ومكذب بالقدر
وفي رواية ثلاثة لا يحجبون عن النار المنان وعاق والديه ومدمن الخمر
والنسائي لا يدخل الجنة خب أي ذو مكر وخديعة ولا بخيل ولا منان
وأحمد لا يدخل الجنة صاحب خمس مدمن خمر ولا مؤمن بسحر ولا قاطع رحم ولا كاهن ولا منان
تنبيه عد ما ذكر من الكبائر هو ما صرح به جماعة وهو ظاهر ما في هذه الأحاديث من ذلك الوعيد الشديد
خاتمة مما أنشد للشافعي رضي الله تعالى عنه لا تحملن من الأنام عليك إحسانا ومنه واختر لنفسك حظها واصبر فإن الصبر جنه منن الرجال على القلوب أشد من وقع الأسنه وكذا لبعضهم وصاحب سلفت منه إلي يد أبطا عليه مكافأتي فعاداني لما تيقن أن الدهر حاولني أبدى الندامة مما كان أولاني أفسدت بالمن ما قدمت من حسن ليس الكريم إذا أعطى بمنان
____________________
(1/366)
منع فضل الماء بشرط الاحتياج أو الاضطرار إليه أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل على فضل ماء بفلاة يمنع منه ابن السبيل
زاد في رواية يقول الله له اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك الحديث
وأبو داود يا رسول الله ما الشيء الذي لا يحل منعه قال الماء قال يا نبي الله ما الشيء الذي لا يحل منعه قال الملح قال يا نبي الله ما الشيء الذي لا يحل منعه قال أن تفعل الخير خير لك
وأبو داود الناس شركاء في ثلاث في الكلأ والماء والنار
وابن ماجه عن عائشة يا رسول الله ما الشيء الذي لا يحل منعه قال الماء والملح والنار قالت قلت يا رسول الله هذا الماء قد عرفنا فما بال الملح والنار قال يا حميراء من أعطى نارا فكأنما تصدق بجميع ما أنضجت تلك النار ومن أعطى ملحا فكأنما تصدق بجميع ما طيبت تلك الملح ومن سقى مسلما شربة من ماء حيث يوجد الماء فكأنما أعتق رقبة ومن سقى مسلما شربة من ماء حيث لا يوجد الماء فكأنما أحياها
وابن ماجه المسلمون شركاء في ثلاث في الماء والكلأ والنار وثمنه حرام
قال أبو سعيد يعني الماء الجاري
تنبيه عد هذا من الكبائر هو صريح حديث الشيخين الأول لما فيه من الوعيد الشديد وبه صرح جماعة منهم الجلال البلقيني وقال بشرطه المعتبر وكأنه أشار إلى ما ذكرته في الترجمة
سقط
____________________
(1/367)
@ 368 الكبيرة السابعة والثلاثون بعد المائة كفران نعمة الخلق المستلزم لكفران نعمة الحق أخرج أبو داود والنسائي واللفظ له وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سألكم بالله فأعطوه ومن استجار بالله فأجيروه ومن آتى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه
وفي رواية فإن عجزتم عن مجازاته فادعوا له حتى تعلموا أن قد شكرتم فإن الله شاكر يحب الشاكرين
والترمذي وقال حسن غريب من أعطي عطاء فوجد فليجز به فإن لم يجد فليثن فإن من أثنى فقد شكر ومن كتم فقد كفر
وابن حبان من أولي معروفا فلم يجد له جزاء إلا الثناء فقد شكره ومن كتمه فقد كفره ومن تحلى بباطل فهو كلابس ثوبي زور
وفي رواية جيدة لأبي داود من أبلي أي أنعم عليه إذ الإبلاء الإنعام فذكره فقد شكره وإن كتمه فقد كفره
وأحمد بسند رواته ثقات إن أشكر الناس لله تبارك وتعالى أشكرهم للناس
وفي رواية لا يشكر الله من لا يشكر الناس
صححها الترمذي وغيره وهي برفعهما ونصبهما ورفع الأول ونصب الثاني وعكسه أربع روايات
____________________
(1/368)
والطبراني وغيره من أولي معروفا فليذكره فمن ذكره فقد شكره ومن كتمه فقد كفره
وعبد الله بن أحمد بسند لا بأس به من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله والتحدث بنعمة الله شكر وترك التحدث كفر والجماعة رحمة والفرقة عذاب
والترمذي وقال حسن غريب من صنع إليه معروف فقال لفاعله جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء
تنبيه عد هذا كبيرة هو ظاهر ما في الحديث الثاني من أن ذلك كفر أي يجر إلى كفر نعم الله تعالى لكن لم أر أحدا تعرض لذلك وكأن عذرهم أنهم فهموا أن المراد أنه كفر لنعمة المحسن ومجرد هذا لا يقتضي أنه كبيرة
الكبيرة الثامنة والتاسعة والثلاثون بعد المائة أن يسأل بوجه الله غير الجنة وأن يمنع المسئول سائله بوجه الله أن يسأل السائل بوجه الله غير الجنة وأن يمنع المسئول سائله بوجه الله أخرج الطبراني بسند رجاله رجال الصحيح إلا شيخه وهو ثقة على كلام فيه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ملعون من سأل بوجه الله وملعون من سئل بوجه الله ثم منع سائله ما لم يسأل هجرا
وهو بضم فسكون للجيم أي ما لم يسأل أمرا قبيحا لا يليق ويحتمل أنه أراد ما لم يسأل سؤالا قبيحا بكلام قبيح
وأبو داود وغيره لا يسأل بوجه الله إلا الجنة
والطبراني ملعون من سأل بوجه الله وملعون من سئل بوجه الله فمنع سائله
____________________
(1/369)
والترمذي وقال حسن غريب
والنسائي وابن حبان في صحيحه
ألا أخبركم بشر البلية قالوا بلى يا رسول الله قال الذي يسأل بالله ولا يعطي
وأبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سأل بالله فأعطوه ومن دعاكم فأجيبوه ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه
والطبراني وغيره قال الحافظ المنذري وحسن بعض مشايخنا إسناده وفيه بعد ألا أحدثكم عن الخضر قالوا بلى يا رسول الله قال بينما هو ذات يوم يمشي في سوق بني إسرائيل أبصره رجل مكاتب فقال تصدق علي بارك الله فيك فقال الخضر آمنت بالله ما شاء الله من أمر يكون ما عندي شيء أعطيكه
فقال المسكين أسألك بوجه الله لما تصدقت علي فإني نظرت السماحة في وجهك ورجوت البركة عندك فقال الخضر آمنت بالله ما عندي شيء أعطيكه إلا أن تأخذني فتبيعني فقال المسكين وهل يستقيم هذا قال نعم أقول لقد سألتني بأمر عظيم أما إني لا أخيبك بوجه ربي بعني قال فقدمه إلى السوق فباعه بأربعمائة درهم فمكث عند المشتري زمانا لا يستعمله في شيء فقال إنما اشتريتني التماس خير عندي فأوصني بعمل قال أكره أن أشق عليك إنك شيخ كبير ضعيف قال ليس يشق علي قال قم فانقل هذه الحجارة وكان لا ينقلها دون ستة نفر في يوم فخرج الرجل لبعض حاجته ثم انصرف وقد نقل الحجارة في ساعة قال أحسنت وأجملت وأطقت ما لم أرك تطيقه ثم عرض للرجل سفر فقال إني أحسبك أمينا فاخلفني في أهلي خلافة حسنة
قال وأوصني بعمل قال إني أكره أن أشق عليك قال ليس يشق علي قال فاضرب من اللبن لبيتي حتى أقدم عليك قال فمر الرجل لسفره قال فرجع وقد شيد بناءه قال أسألك بوجه الله ما سببك وما أمرك قال سألتني بوجه الله ووجه الله أوقعني في هذه العبودية فقال الخضر سأحدثك من أنا أنا الخضر الذي سمعت به سألني مسكين صدقة فلم يكن عندي شيء أعطيه فسألني بوجه الله فأمكنته من رقبتي فباعني وأخبرك أنه من سئل بوجه الله فرد سائله وهو يقدر وقف يوم القيامة
____________________
(1/370)
جلده ولا لحم له يتقعقع فقال الرجل آمنت بالله شققت عليك يا نبي الله لم أعلم
قال لا بأس أحسنت وأتقنت فقال الرجل بأبي أنت وأمي يا نبي الله احكم في أهلي ومالي بما شئت أو اختر فأخلي سبيلك قال أحب أن تخلي سبيلي فأعبد ربي فخلى سبيله فقال الخضر الحمد لله الذي أوثقني في العبودية ثم نجاني منها
تنبيه عد كل من هذين كبيرة وهو صريح اللعن عليهما في الحديث الصحيح وأن من سئل بالله ولا يعطي شر الناس كما في الحديث الذي بعده لكن لم يأخذ بذلك أئمتنا فجعلوا كلا من الأمرين مكروها ولم يقولوا بالحرمة فضلا عن الكبيرة ويمكن حمل الحديث في المنع على ما إذا كان لمضطر وتكون حكمة التنصيص عليه أن منعه مع اضطراره وسؤاله بالله أقبح وأفظع وحمله في السؤال على ما إذا ألح وكرر السؤال بوجه الله حتى أضجر المسئول وأضره وحينئذ فاللعن على هذين وكون كل منهما كبيرة ظاهر ولا يمتنع من ذلك أصحابنا وكلامهم إنما هو في مجرد السؤال بوجه الله تعالى وفي منع السائل بذلك لا عن اضطراره وبهذا اتضح الجمع بين كلام أئمتنا وتلك الأحاديث التي قدمناها ثم رأيت في كلام الحليمي في منهاجه ما يصرح بما ذكرته
فإنه قال ما من ذنب إلا وفيه صغيرة وكبيرة وقد تنقلب الصغيرة كبيرة بقرينة تضم إليها وتنقلب الكبيرة فاحشة بانضمام قرينة إليها إلا الكفر بالله تعالى فإنه أفحش الكبائر وليس من نوعه صغيرة وأما ما عداه فالأمر فيه على ما ذكرت ثم قال ومنع الزكاة كبيرة ورد السائل صغيرة فإن أجمع على منعه أو كان المنع من واحد إلا أنه زاد على المنع الانتهار والإغلاظ فذاك كبيرة وهكذا إن رأى محتاج رجلا موسعا عليه على طعام فتاقت إليه نفسه وسأله منه فرده فذلك كبيرة
انتهى
واعترض عليه الأذرعي بأن ما قاله من أن رد السائل صغيرة وأن رد المحتاج الذي تاقت نفسه وسأل من الموسر فرده كبيرة مشكلان إلا أن يؤول وكلامه بعيد من التأويل انتهى
قال الجلال البلقيني جوابا عن ذلك
قلت يحمل كلامه الثاني على المضطر والأول على سائل لمن لزمته الزكاة في بلد فقراؤه محصورون انتهى
فما ذكره الجلال البلقيني تأويلا لكلام الحليمي صريح في تأييد ما ذكرته
نعم إطلاق
____________________
(1/371)
الجلال بأن ما ذكر آخرا صغيرة فيه نظر ظاهر فإنهم إذا انحصروا في ثلاثة فأقل من صنف ملكوا الزكاة ملكا تاما مستقرا فمنع أحدهم حينئذ كبيرة بلا شك فإن انحصروا حصرا يقتضي وجوب استيعابهم على المالك بأن سهل ضبطهم عليه عادة ووفى المال بهم اتجه أن الرد حينئذ صغيرة لأن التعميم واجب عليه ولكنهم لا يملكون فكان الرد صغيرة لا كبيرة وعلى هذه الحالة يحمل كلام الجلال
خاتمة في ذكر شيء من فضائل الصدقة وأحكامها وأنواعها وقد ألفت فيها كتابا حافلا لا يستغنى عن مثله فضائل وأحكاما وفوائد وفروعا فعليك به
اعلم أن جميع ما أسرده في هذه الخاتمة من غير عزو أحاديث صحيحة إلا قليلا منها فإنه حسن فلم أحتج إلى ذكر مخرجيها
قال صلى الله عليه وسلم من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا فإن الله يقبلها بيمينه أي ملتبسة بيمينه وبركته ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه بفتح فضم فتشديد مهره أول ما يولد حتى تكون مثل الجبل
وفي رواية كما يربي أحدكم مهره حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات يمحق الله الربا ويربي الصدقات
ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل
وفي رواية للطبراني ما نقصت صدقة من مال وما مد عبد يده لصدقة إلا ألقيت في يد الله أي إلا قبلها الله تعالى ورضي بها قبل أن تقع في يد السائل وما فتح عبد باب مسألة له عنها غنى إلا فتح الله له باب فقر
يقول العبد مالي مالي وإنما له من ماله ثلاث ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى أو أعطى فاقتنى ما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس
ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة
____________________
(1/372)
ليق أحدكم وجهه من النار ولو بشق تمرة
الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار
يا كعب بن عجرة إنه لا يدخل الجنة لحم ودم نبتا على سحت النار أولى به
يا كعب بن عجرة الناس غاديان فغاد في فكاك نفسه فمعتقها وغاد موبقها
يا كعب بن عجرة الصلاة قربات والصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يذهب الجليد على الصفا وفي رواية كما يطفئ الماء النار
إن الصدقة لتطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء وفي رواية إن الله ليدرأ أي يدفع بالصدقة سبعين بابا من ميتة السوء
كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس لا يخرج رجل شيئا من الصدقة حتى يفك عنها لحيي سبعين شيطانا
أي الصدقة أفضل قال جهد المقل وابدأ بمن تعول
سبق درهم مائة ألف درهم فقال رجل كيف ذاك يا رسول الله فقال رجل له مال كثير أخذ من عرضه أي بضم أوله المهمل وبالضاد المعجمة جانبه مائة ألف درهم وتصدق بها ورجل ليس له إلا درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به
لا ترد سائلك ولو بظلف هو بكسر أوله المعجم للبقر والغنم بمنزلة الحافر للفرس
____________________
(1/373)
سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إلى أن قال ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه
صنائع المعروف تقي مصارع السوء وصدقة السر تطفئ غضب الرب وصلة الرحم تزيد في العمر
وفي رواية للطبراني صنائع المعروف تقي مصارع السوء والصدقة خفيا تطفئ غضب الرب وصلة الرحم تزيد في العمر وكل معروف صدقة وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة وأول من يدخل الجنة أهل المعروف
وفي أخرى له ولأحمد ما الصدقة يا رسول الله قال أضعاف مضاعفة وعند الله المزيد ثم قرأ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة قيل يا رسول الله أي الصدقة أفضل قال سر إلى فقير أو جهد من مقل ثم قرأ إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم
من كسا مسلما ثوبا لم يزل في ستر الله تعالى ما دام عليه منه خيط أو سلك
أيما مسلم كسا مسلما ثوبا على عري كساه الله تعالى من خضر الجنة وأيما مسلم أطعم مسلما على جوع أطعمه الله تعالى من ثمار الجنة وأيما مسلم سقى مسلما على ظمأ سقاه الله تعالى من الرحيق المختوم
____________________
(1/374)
الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي رحم اثنتان صدقة وصلة
أي الصدقة أفضل قال على ذي الرحم الكاشح أي المضمر لعداوتك في كشحه أي خصره كناية عن باطنه
من منح منيحة لبن أي بأن أعطى لبونا لمن يأكل لبنها ثم يردها أو ورق أي بأن أقرض دراهم أو هدى رفاقا أي إلى الطريق كان له مثل عتق رقبة
كل قرض صدقة
وفي رواية عند جماعة رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوبا الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر
ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقتها مرة من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة أي الإسلام خير
قال تطعم الطعام وتقرئ السلام على من عرفت ومن لم تعرف
أنبئني عن كل شيء
قال كل شيء
خلق من الماء فقلت أخبرني بشيء إذا عملته دخلت الجنة قال أطعم الطعام وأفش السلام وصل الأرحام وصل بالليل والناس نيام تدخل الجنة بسلام
اعبدوا الرحمن وأطعموا الطعام وأفشوا السلام تدخلوا الجنة بسلام
____________________
(1/375)
من موجبات الرحمة إطعام المسلم المسكين
من أطعم أخاه حتى يشبعه وسقاه من الماء حتى يرويه باعده الله من النار سبع خنادق ما بين كل خندقين مسيرة خمسمائة عام
إن الله عز وجل يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدني
قال كيف أعودك وأنت رب العالمين قال أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني
قال يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين قال أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني
قال يا رب وكيف أسقيك وأنت رب العالمين قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي
يا رسول الله إن أمي توفيت ولم توص أفينفعها أن أتصدق عنها قال نعم وعليك بالماء
يا رسول الله أي الصدقة أفضل قال سقي الماء صححه الحاكم وغيره واعترض بأن فيه انقطاعا
من حفر ماء لم يشرب منه كبد حراء من جن ولا إنس ولا طائر إلا آجره الله يوم القيامة
وروى البيهقي أن رجلا سأل ابن المبارك عن قرحة في ركبته لها سبع سنين وقد أعيت الأطباء فأمره بحفر بئر في محل يحتاج الناس إلى الماء فيه وقال له أرجو أن ينبع فيه عين فيمسك الدم عنك
وحكى البيهقي أن شيخه الحاكم أبا عبد الله صاحب المستدرك وغيره أن وجهه تقرح وعجز في معالجته قريبا من سنة فسأل الأستاذ أبا عثمان الصابوني أن يدعو له في مجلسه يوم الجمعة فدعا له فأكثر الناس من التأمين ففي الجمعة الأخرى ألقت امرأة
____________________
(1/376)
رقعة في المجلس بأنها عادت لبيتها واجتهدت في الدعاء للحاكم تلك الليلة فرأت في نومها رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه يقول قولوا لأبي عبد الله يوسع الماء على المسلمين فجئت بالرقعة إلى الحاكم فأمر بسقاية بنيت على باب داره وحين فرغوا من بنائها أمر بصب الماء فيها وطرح الجمد في الماء وأخذ الناس في الشرب فما مر عليه أسبوع حتى ظهر الشفاء وزالت تلك القروح وعاد وجهه إلى أحسن ما كان وعاش بعد ذلك سنين
وروى البزار وغيره سبع تجري للعبد بعد موته وهو في قبره من علم علما أو أجرى نهرا أي حفره أو حفر بئرا أو غرس نخلا أو بنى مسجدا أو ورث مصحفا أو ترك ولدا صالحا يستغفر له بعد موته
ورواه ابن ماجه بسند حسن لكنه ذكر موضع حفر البئر وغرس النخل الصدقة وبيت ابن السبيل
وروى أبو داود واللفظ له وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه والحاكم وصححه لكن اعترض بأن فيه انقطاعا أن سعد بن عبادة رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن أمي ماتت فأي الصدقة أفضل قال الماء فحفر بئرا وقال هذه لأم سعد
وروى البيهقي ليس صدقة أعظم أجرا من الماء أي في محل الاحتياج فيه للماء أكثر منه لغيره أخذا من أحاديث أخر فإن كان الاحتياج لغير الماء أكثر فهو الأفضل
____________________
(1/377)
____________________
(1/378)
الكبيرة الأربعون والحادية والأربعون بعد المائة ترك صوم يوم من أيام رمضان والإفطار فيه بجماع أو غيره بغير عذر من نحو مرض أو سفر أخرج أبو يعلى بإسناد حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال حماد بن زيد ولا أعلمه إلا وقد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن ابتني الإسلام من ترك واحدة منهن فهو بها كافر حلال الدم شهادة أن لا إله إلا الله والصلاة المكتوبة وصوم رمضان
وفي رواية من ترك منهن واحدة فهو بالله كافر ولا يقبل منه صرف ولا عدل وقد حل دمه وماله
والترمذي واللفظ له وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه والبيهقي من أفطر يوما من رمضان من غير رخصة ولا مرض لم يقضه صوم الدهر كله وإن صامه
وذكره البخاري تعليقا غير مجزوم به فقال ويذكر عن أبي هريرة رفعه من أفطر يوما من رمضان من غير عذر ولا مرض لم يقضه صوم الدهر وإن صامه
وأخذ بظاهر هذا الخبر علي وابن مسعود رضي الله عنهما فقالا إن من أفطر يوما من رمضان لا يقضيه صوم الدهر لكن قال النووي في شرح المهذب إسناده غريب وإن سكت عليه أبو داود وبالغ النخعي فأوجب في كل يوم أفطر من رمضان ثلاثة آلاف يوم وقال ابن المسيب يجب في كل يوم ثلاثون يوما وقال ربيعة شيخ مالك رضي الله عنهما يجب في كل يوم اثنا عشر يوما
والذي عليه أكثر العلماء أنه يجزئ عن اليوم يوم ولو أقصر منه لظاهر قوله تعالى فعدة من أيام أخر
وابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما بينما أنا نائم أتاني رجلان فأخذا بضبعي فأتيا بي جبلا وعرا فقالا اصعد فقلت إني لا أطيقه فقالا إنا سنسهله لك فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة فقلت ما هذه الأصوات قالوا هذه عواء أهل النار ثم انطلق بي فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم
____________________
(1/379)
دما قلت من هؤلاء قال الذين يفطرون قبل تحلة صومهم الحديث أي قبل تحقق دخول وقته
وأحمد مرسلا أربع فرضهن الله في الإسلام من أتى بثلاثة لم يغنين عنه شيئا حتى يأتي بهن جميعا الصلاة والزكاة وصوم رمضان وحج البيت
والدارقطني من أفطر يوما من رمضان في الحضر فليهد بدنة
تنبيه عد ما ذكر كبيرة هو ما صرحوا به ودليله ما ذكرته
وظاهر أن مثل ذلك ترك واجب مضيق من نذر وكفارة فيكون كبيرة كالإفطار منه بغير عذر وظاهر والله أعلم أن حكمة كثرة ما جاء من الوعيد في ترك الصلاة والزكاة دون الصوم أنه لا يتركه كسلا مع القدرة عليه إلا الفذ النادر بخلاف ترك الصلاة والزكاة فإنه كثير في الناس بل أكثر الناس يتهاونون بالصلاة والزكاة ومع ذلك يثابرون على الصوم ومن ثم تجد كثيرين يصومون وهم لا يصلون وكثيرين لا يصلون إلا في رمضان دون غيره
الكبيرة الثانية والأربعون بعد المائة تأخير قضاء ما تعدى بفطره من رمضان وعد هذا كبيرة وإن لم أره إلا أنه ظاهر لما تقرر من أنه إذا تعدى بالإفطار يكون فاسقا فتجب عليه التوبة فورا خروجا من الفسق ولا تصح التوبة إلا بالقضاء فإذا أخره من غير عذر كان متماديا في الفسق والتمادي في الفسق فسق فاتضح أن التأخير هنا فسق فتأمله ويجري ذلك في كل واجب تركه تعديا وأخر قضاءه كفرض الصلاة والحج الذي أفسده ولا يبعد جريان ذلك أيضا فيما لو أخر قضاء رمضان إلى رمضان الثاني وإن كان إنما أفطر لعذر لأنه يتضيق عليه قرب رمضان
ثم رأيت الهروي من أكابر أصحابنا صرح في كتابه أدب القضاء بما ذكرته وهو أن ترك الفرائض المأمور بها وهي واجبة على الفور كبيرة
____________________
(1/380)
@ 381 الكبيرة الثالثة والأربعون بعد المائة صوم المرأة غير ما وجب فورا وزوجها حاضر بغير رضاه أخرج الشيخان لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته إلا بإذنه
زاد أحمد بسند حسن إلا رمضان
وفي رواية صحيحة لا تصم المرأة وزوجها شاهد يوما من غير شهر رمضان إلا بإذنه
والطبراني من رواية بقية وهو حديث غريب وفيه نكارة أيما امرأة صامت بغير إذن زوجها فأرادها على شيء فامتنعت عليه كتب الله عليها ثلاثا من الكبائر
والطبراني خبرا فيه ومن حق الزوج على الزوجة أن لا تصوم تطوعا إلا بإذنه فإن فعلت جاعت وعطشت ولا يقبل منها
تنبيه عد هذا كبيرة وإن لم أره لكنه صريح الحديث الثالث وعلى تسليم أن لا يحتج به لما ذكر فيؤخذ كونه كبيرة من أمر آخر أشير إليه في الحديث الأول بقوله ولا تأذن في بيته إلا بإذنه وذلك الأمر المشار إليه بذلك هو إيذاؤه بالتسبب إلى منعه من حقه المقدم على الصوم وغيره ولا نظر إلى أنه يمكنه شرعا أن يطأها والإثم عليها إن كان فرضا لأن الغالب أن الإنسان يهاب إبطال العبادة كما صرحوا به وإذا هابها امتنع من وطئها وإن احتاج إليه فيحصل له الضرر الشديد غالبا ولا شك أن ضرر الغير الشديد بمنعه لحقه أو التسبب فيما يمنعه منه يكون كبيرة فاتجه ما ذكرته والحديث حينئذ إنما هو عاضد فقط
صوم العيدين وأيام التشريق أخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي والحاكم يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب
____________________
(1/381)
وابن ماجه صام نوح الدهر إلا يوم الفطر ويوم الأضحى
ومسلم لا يصلح الصيام في يومين يوم الأضحى ويوم الفطر من رمضان
وأحمد والنسائي لا تصوموا هذه الأيام أيام التشريق فإنها أيام أكل وشرب
تنبيه الأخبار في النهي عن ذلك كثيرة فعده كبيرة محتمل لما فيه من الإعراض به عن ضيافة الله عز وجل لعباده
خاتمة في سرد أحاديث صحيحة أو حسنة تتعلق بالصوم وقد ألفت فيه كتابا حافلا سميته إتحاف أهل الإسلام بخصوصيات الصيام
وهذه الأحاديث من خلاصته
قال الله تعالى كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة أي وقاية من النار فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل أي بلسانه وقلبه إني صائم
والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك
للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره أي طبعا أو لإتمامه هذه العبادة العظيمة الفضل وإذا لقي ربه فرح بصومه أي لعظيم ما يلقى من ثوابه ومن ثم أضافه تعالى إليه إعلاما بأنه لا يحصي ثوابه غيره
كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف
قال الله تعالى إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي
والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أي تغير ريحه من الصوم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك
إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد أبدا من دخل شرب ومن شرب لم يظمأ
____________________
(1/382)
أبدا
اغزوا تغنموا وصوموا تصحوا وسافروا تستغنوا
الصيام جنة وحصن حصين من النار
الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة
يقول الصيام أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه قال فيشفعان
عليك بالصوم فإنه لا عدل له
ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله تعالى إلا باعد الله اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا
من صام يوما في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقا كما بين السماء والأرض
من صام يوما في سبيل الله بعدت منه النار مسيرة مائة عام
وخص طوائف سبيل الله هنا بالجهاد وقال آخرون المراد به خلوصه لله تعالى ثلاثة لا ترد دعوتهم الصائم حين يفطر وفي رواية صحيحة حتى يفطر والإمام العادل ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول الرب وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين
من صام رمضان إيمانا واحتسابا أي تصديقا ورغبة في ثوابه طيبة به نفسه طالبا لوجه الله وعظيم ما عنده غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وفي رواية صحيحة وما تأخر وذكرها أحمد بعد الصوم أيضا بإسناد حسن إلا أن حمادا
____________________
(1/383)
شك في وصله أو إرساله من صام رمضان وحفظ حدوده وتحفظ مما ينبغي له أن يتحفظ منه كفر ما قبله
الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر
احضروا المنبر فحضرنا فلما ارتقى درجة قال آمين فلما ارتقى الدرجة الثانية قال آمين فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال آمين فلما نزل قلنا يا رسول الله لقد سمعنا منك اليوم شيئا ما كنا نسمعه قال إن جبريل عرض لي فقال بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له قلت آمين فلما رقيت الثانية قال بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليك قلت آمين فلما رقيت الثالثة قال بعد من أدرك أبويه عنده الكبر أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قلت آمين
خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان فقال يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مبارك شهر فيه ليلة خير من ألف شهر شهر جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعا من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة وشهر المواساة وشهر يزاد في رزق المؤمن فيه من فطر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء قالوا يا رسول الله ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم قال صلى الله عليه وسلم يعطي الله هذا الثواب من فطر صائما على تمرة أو شربة ماء أو مذقة لبن وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار من خفف عن مملوكه فيه غفر الله له وأعتقه من النار واستكثروا فيه من أربع خصال خصلتين ترضون بهما ربكم وخصلتين لا غنى بكم عنهما فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه وأما الخصلتان اللتان لا غنى بكم عنهما فتسألون الله الجنة وتتعوذون به من النار ومن سقى صائما سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ بعدها أبدا وفي سنده من صحح وحسن له الترمذي لكن ضعفه غيره ومن ثم ذكره ابن خزيمة في صحيحه وعقبه بقوله إن صح
____________________
(1/384)
وفي رواية في سندها من ذكر من فطر صائما في شهر رمضان من كسب حلال صلت عليه الملائكة ليالي رمضان كلها وصافحه جبريل ليلة القدر ومن صافحه جبريل عليه السلام يرق قلبه وتكثر دموعه إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين أي شدت بالأغلال فلا يبلغون فيه من الإفساد ما يبلغونه منه في غيره
وفي رواية الشياطين ومردة الجن وفي أخرى مردة الجن
إذا كان أول ليلة من شهر رمضان فتحت أبواب الجنان فلم يغلق منها باب واحد الشهر كله وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب واحد الشهر كله وغلت عتاة الجن ونادى مناد من السماء كل ليلة إلى انفجار الصبح يا باغي الخير تمم وأبشر ويا باغي الشر أقصر وأبصر هل من مستغفر يغفر له هل من تائب يتاب عليه هل من داع يستجاب له هل من سائل يعطى سؤاله ولله عز وجل عند كل فطر من شهر رمضان كل ليلة عتقاء من النار ستون ألفا فإذا كان يوم الفطر أعتق الله مثل ما أعتق في جميع الشهر ثلاثين مرة ستين ألفا
____________________
(1/385)
____________________
(1/386)
@ 387 الكبيرة الخامسة والسادسة والسابعة والأربعون بعد المائة ترك الاعتكاف المنذور المضيق وإبطاله بنحو جماع والجماع في المسجد ولو من غير معتكف
وعدي لهذه الثلاثة كبائر غير بعيد أما الأولان فقياسا على ما مر في رمضان وغيره بجامع الوجوب والتضييق وأما الثالث فلما فيه من القبح الشديد المنبئ عن قلة اكتراث مرتكبه بالدين ورقة الديانة لأن المساجد منزهة عن مثل ذلك وقد ذكر أن تلطيخها بالقذر كفر فالجماع فيها ينبغي أن يكون كبيرة لأن فيه من هتك حرمتها ما يقرب من تلطيخها بالقذر
____________________
(1/387)
____________________
(1/388)
@ 389 الكبيرة الثامنة والأربعون بعد المائة ترك الحج مع القدرة عليه إلى الموت عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا وذلك أن الله يقول ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا رواه الترمذي والبيهقي من رواية الحارث عن علي وكلام الناس في الحارث مشهور كذبه الشعبي وابن المديني وقال أيوب كان ابن سيرين يرى أن عامة ما يروى عن علي رضي الله عنه باطل
واختلف فيه رأي ابن معين والنسائي وابن حبان فضعفوه تارة ووثقوه أخرى وميل النسائي إلى توثيقه والاحتجاج به وتقوية أمره
وقال الترمذي في الحديث المذكور حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه انتهى
والحاصل أن الحديث ضعيف كما قاله النووي في شرح المهذب نعم صح ذلك عن عمر رضي الله عنه ومن ثم قال لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من له جدة ولم يحج فليضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ومثل ذلك الحديث لا يقال من قبل الرأي فيكون في حكم المرفوع ومن ثم أفتيت بأنه حديث صحيح وقد رواه البيهقي أيضا عن عبد الله بن سابط عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من لم تحبسه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائر ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا
وأخرج البزار الإسلام ثمانية أسهم الإسلام أي كلمته سهم والصلاة سهم والزكاة سهم والصوم سهم وحج البيت سهم والأمر بالمعروف سهم والنهي عن المنكر سهم والجهاد في سبيل الله سهم وقد خاب من لا سهم له
____________________
(1/389)
وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يقول الله عز وجل إن عبدا صححت له جسمه ووسعت عليه في المعيشة تمضي عليه خمسة أعوام لا يغدو علي لمحروم رواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي وقال قال علي بن المنذر أخبرني بعض أصحابنا كان حسن بن حي يعجبه هذا الحديث وبه يأخذ ويحب للرجل الموسر الصحيح أن لا يترك الحج خمس سنين
وقال ابن عباس رضي الله عنهما كما مر عنه ما من أحد لم يحج ولم يؤد زكاة ماله إلا سأل الرجعة عند الموت فقيل له إنما يسأل الرجعة الكفار وقال وإن ذلك في كتاب الله عز وجل قال الله تعالى وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق أي أؤدي الزكاة وأكن من الصالحين أي أحج
وجاء عن سعيد بن جبير قال مات لي جار موسر لم يحج فلم أصل عليه
تنبيه عد ما ذكر كبيرة هو ما صرحوا به ودليله هذا الوعيد الشديد فإن قلت هو لا يحكم عليه بالفسق إلا بعد الموت فما فائدته قلت أما بالنسبة للآخرة فواضح وأما بالنسبة لأحكام الدنيا فله فوائد منها أنه يتبين موته فاسقا من آخر سني الإمكان وحينئذ فما كان شهد به أو قضى فيه يتبين بطلانه وكذلك تزويج موليته وكل ما العدالة شرط فيه إذ فعله في السنة الأخيرة من سني الإمكان يتبين بموته بطلانه وهذه فوائد جليلة يحتاج للتنبيه عليها
الكبيرة التاسعة والأربعون بعد المائة الجماع وهو إيلاج الحشفة أو قدرها ولو من ذكر مبان في فرج ولو لبهيمة من عامد عالم مختار في الحج قبل تحلله الأول أو في العمرة قبل تحللها وهذا وإن لم أر فيه شيئا من الوعيد ولم أر من عده كبيرة إلا أن قياس جعلهم إفساد الصوم كبيرة بجماع أو غيره أن يكون إفساد النسك بالجماع كذلك بل أولى لأن الصائم إذا أفسد بغير الجماع لا شيء عليه غير الإثم والقضاء وهنا عليه مع الإثم والقضاء المضي في فاسده والكفارة وهي ذبح بدنة من الإبل ثنية وهي ما لها خمس سنين كاملة فإن عجز فثنية بقر وهي ما لها سنتان كاملتان فإن عجز فسبع من
____________________
(1/390)
الغنم الجذعة لها سنة والثنية لها سنتان فإن عجز اشترى بقيمة البدنة طعاما يجزئ في الفطرة وتصدق به فإن عجز صام عن كل مد يوما وتمم المنكسر وصومه في الحرم أولى
الكبيرة الخمسون بعد المائة قتل المحرم بحج أو عمرة صيدا مأكولا وحشيا وإن تأنس بريا أو في أحد من أصوله ما هو بهذه الصفات عامدا عالما مختارا قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام
تنبيه عد ما ذكر كبيرة هو صريح ما في هذه الآية وبه صرح جماعة فإنهم ذكروا هنا أن من قتل صيدا كذلك يكون فاسقا لأنه قتل حيوانا محترما بلا ضرورة وفيه كلام بسطته في حاشية الإيضاح
والظاهر أن بقية محرمات الإحرام ليست كبائر لأن من قال بأن هذا كبيرة لم يلحظ كونه من محرمات الإحرام وإنما لحظ ما ذكر من أنه قتل حيوان محترم بلا ضرورة نعم يؤخذ من هذا أن إيذاء المحرم له بأي وجه كان مما لا يحتمل عادة يكون كبيرة
الكبيرة الحادية والخمسون بعد المائة إحرام الحليلة بتطوع حج أو عمرة من غير إذن الحليل وإن لم تخرج من بيتها وعد ذلك كبيرة هو قياس ما قدمته بحثا أيضا في صوم المرأة بغير إذن زوجها الحاضر بل هذا أولى لطول زمنه واحتياجها في الخروج منه إلى سفر ونوع من الهتك
الكبيرة الثانية والخمسون بعد المائة استحلال البيت الحرام أخرج الحاكم في مستدركه وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه أن رجلا قال يا رسول الله ما الكبائر قال هن تسع الإشراك بالله وقتل نفس المؤمن بغير حق
____________________
(1/391)
وفرار يوم الزحف وأكل مال اليتيم وأكل الربا وقذف المحصنة وعقوق الوالدين المسلمين وعمل السحر واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا
وأخرجه البيهقي بلفظ الكبائر تسع أعظمهن إشراك بالله وقتل نفس مؤمن وأكل الربا وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة والفرار من الزحف وعقوق الوالدين واستحلال البيت الحرام
الكبيرة الثالثة والخمسون بعد المائة الإلحاد في حرم مكة قال الله تعالى ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم نزلت كما رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس بسند فيه ابن لهيعة في عبد الله بن أنيس بعث معه صلى الله عليه وسلم مهاجريا وأنصاريا فافتخروا في الأنساب فغضب ابن أنيس فقتل الأنصاري ثم ارتد وهرب إلى مكة والإلحاد العدول عن القصد
واختلف المفسرون فيه فقيل إنه الشرك وهو إحدى الروايات عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو قول مجاهد وقتادة وغير واحد وفي رواية أخرى عن ابن عباس هو أن تقتل فيه من لا يقتلك أو تظلم من لا يظلمك
وفي رواية أخرى عنه هو أن تستحل من الحرام ما حرم الله عليك من لسان أو قتل فتظلم من لا يظلمك وتقتل من لا يقتلك فإذا فعلت ذلك فقد وجب العذاب الأليم
وعن مجاهد بظلم تعمل فيه عملا سيئا فاختلف قوله تبعا لاختلاف قول أستاذه وعنه الإلحاد فيه لا والله وبلى والله
وقال سعيد بن جبير وجندب بن ثابت وغير واحد هو احتكار الطعام بمكة وكأنهم أخذوه من قول ابن عمر بيع الطعام بمكة أي بعد احتكاره كما هو ظاهر إلحاد ومن قول ابن عباس تبعا للرواية الثانية عن أستاذه ابن عباس أيضا شتم الخادم ظلم فما فوقه وعن سعيد بن جبير إن الظلم في الآية تجارة الأمير فيه
وعن عطاء هو قول الرجل في المبايعة لا والله وبلى والله
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل فقيل له في ذلك فقال كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل لأهله كلا والله وبلى والله
وعن عطاء هو دخول الحرم غير محرم وارتكاب شيء من محظورات الإحرام من قتل صيد أو قطع شجر
____________________
(1/392)
وفائدة قوله بظلم بيان أن الإلحاد ليس المراد به هنا أصل معناه وهو مطلق الميل فإنه قد يكون إلى حق وإلى باطل وإنما المراد به الميل المتلبس بالظلم ومعلوم أن أصل الظلم يشمل سائر المعاصي والكبائر والصغائر إذا لا معصية وإن صغرت إلا وهي ظلم إذ هو وضع الشيء في غير محله ويدل له قوله تعالى إن الشرك لظلم عظيم فخرج بعظيم غير الشرك فهو ظلم لكنه ليس بعظيم كالشرك وإن كان عظيما في نفسه وقوله نذقه من عذاب أليم بيان للوعيد المترتب على الإلحاد المذكور وأخذ من ذلك مجاهد قوله المروي عن ابن عباس أيضا إن السيئات تضاعف في مكة كما تضاعف الحسنات فيها وحمله على أن المراد بالمضاعفة زيادة قبحها وعذابها لا المضاعفة المزادة في الحسنات لأن النصوص مصرحة بأن السيئة لا جزاء عليها إلا مثلها متعين لكن ظاهر كلام مجاهد وغيره القول بحقيقة المضاعفة ويجعلون ذلك مستثنى من النصوص لدليل قام عندهم على استثنائه
ولولا أنهم قائلون بحقيقة المضاعفة وإلا لم يكونوا مخالفين للجمهور إذ لا خلاف أن المعصية بمكة أقبح منها بغيرها
ودليل أن الإرادة كافية في ذلك خصوصية للحرم ما صح عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا وموقوفا لكن وقفه أشبه في قوله تعالى ومن يرد فيه بإلحاد بظلم قال لو أن رجلا أراد فيه بإلحاد بظلم وهو بعدن أبين لأذاقه الله تعالى من العذاب الأليم وروى الثوري عنه ما من رجل يهم بسيئة إلا كتبت عليه ولو أن رجلا بعدن أبين هم أن يقتل رجلا بهذا البيت لأذاقه الله عز وجل من عذاب أليم وكذا قال الضحاك بن مزاحم
تنبيه ذكري الاستحلال والإلحاد كبيرتين متغايرتين هو ما في حديثين أخرج أبو القاسم البغوي وغيره أن ابن عمر رضي الله عنهما سئل عن الكبائر فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هن تسع الإشراك بالله وقذف المحصنة وقتل النفس المؤمنة والفرار من الزحف والسحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم وعقوق
____________________
(1/393)
الوالدين المسلمين والإلحاد بالبيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا
وجاء ذلك موقوفا عليه فالمرفوع مقدم على الموقوف فتعبيره صلى الله عليه وسلم بالاستحلال في الحديث السابق وبالإلحاد هنا يحتمل أن يريد بهما واحدا هو ما في الآية ويحتمل أن يريد بالأول استحلال حرصه وإن لم يكن بالحرم وبالثاني وقوع معصية منه فيه وكل من هذين كبيرة أشار إليه الجلال البلقيني وصرح به غيره فقال أعني الجلال واستحلال البيت الحرام ثم قال بعد أسطر والإلحاد في الحرم واستدل بالآية فقال الرابعة عشرة الإلحاد في البيت الحرام ولو بالإرادة قال تعالى ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم انتهى
ومما يؤيد الأخذ بإطلاق الآية من أن كل معصية في حرم مكة كبيرة ما مر عن ابن عباس وغيره أن الظلم يشمل كل معصية وما مر عن ابن جبير في شتم الخادم وما فوقه وعن ابن عمر ومجاهد وعطاء من أن لا والله وبلى والله أي الحلف الكاذب من الإلحاد
وعن عطاء من أن منه دخول الحرم بغير إحرام وما سبق معه وقول جماعة من المفسرين تبعا لما مر عن ابن جبير في قوله بظلم هو كشتم الخادم ومما هو أقوى من ذلك كله في الدلالة لما ذكر رواية أبي داود وابن أبي حاتم عن يعلى بن أمية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم احتكار الطعام في الحرم إلحاد ورواية الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال احتكار الطعام بمكة إلحاد إذ ظاهره أن هذا من جملة جزئيات الإلحاد فلا يختص باحتكار الطعام بمكة بل يعم كل معصية بها ولو بالإرادة
ثم رأيت بعض المفسرين من المحدثين لما ذكر أكثر الآثار السابقة قال وهذه الآثار وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد ولكن هو أعم من ذلك وإنما هي منبهة على ما هو أغلظ منها ولهذا لما هم أصحاب الفيل بتخريب البيت أرسل الله تعالى عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول أي دمرهم وجعلهم عبرة ونكالا لمن أراده بسوء وسيأتي في الجيش الذي يغزوها أن الأرض تخسف بهم
وروى أحمد أن ابن عمر قال لابن الزبير رضي الله عنهم يا ابن الزبير إياك والإلحاد في حرم الله تعالى فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنه سيلحد فيه رجل من قريش لو توزن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت فلتنظر لا تكنه
____________________
(1/394)
وأخرج ذلك أيضا عن ابن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه أتى ابن الزبير وهو في الحجر فقال يا ابن الزبير إياك والإلحاد في الحرم فإني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وذكر نحو ما مر وعليه فتكون الصغائر في غير مكة كبائر فيها بمعنى شدة عقابها المترتب عليها من حيث المحل لا من حيث ذواتها وحينئذ فليست كبائر موجبة للفسق والقدح في العدالة لأن ذلك لا يمكن القول بعمومه
وإلا لم يكن بأهل الحرم عدل لتعذر الصون عن محقرات الذنوب وصغائرها وللإجماع قديما وحديثا على عدالتهم مع العلم بارتكابهم الصغائر إذ لا عصمة ولا حفظ بالكلية فتعين تأويل عد ذلك كبيرة على ما ذكرته لأن من عده كبيرة لا يمكن أن يريد به فعل كبيرة بالحرم لأن هذا فسق وكبيرة في غير الحرم فأي مزية للحرم حينئذ وإنما مراده أن الصغائر بغير مكة كبائر فيها وهذا مستحيل الظاهر لما علمت فتعين تأويله
فإن قلت كيف وحد الكبيرة بأنها ما جاء فيها وعيد شديد يشمل الصغيرة المفعولة في الحرم قلت لا يبعد حمل الحد أيضا على ما يترتب الوعيد على قبحه من حيث ذاته لا من حيث شرف محله
والذي اضطرنا إلى ذلك ما ذكرناه فوجب المصير إلى التأويل
ومما يعلمك بشدة قبح المعصية ثم وتعجيل عقابها ولو صغيرة أن بعض الطائفين نظر إلى أمرد أو امرأة فسالت عينه على خده وبعضهم وضع يده على يد امرأة فالتصقتا وعجز الناس عن فكهما حتى دلهم بعض العلماء أنهما لا يرجعان إلى معصيتهما ويبتهلان إلى الله ويصدقان في التوبة ففعلا ذلك ففرج عنهما
وقصة إساف ونائلة مشهورة وهي أنهما زنيا فمسخهما الله حجرين ولا يغرنك أنك ترى من يعصي ثم ينظر أو غيره ولا يعاجل بالعقوبة لأن العاقل لا ينبغي له أن يغرر بنفسه وليس المغر لنفسه بمحمود وإن سلم وربما عجل الله لك العقوبة دون غيرك فإنه لا حجر عليه تعالى على أن تعجيل العقوبة قد يكون بما هو أشنع وأقبح وهو مسخ القلب وبعده عن حضرة الحق وغوايته بعد هدايته وإعراضه بعد إقباله
وقد وقع لبعض من نعرفه وكان على هيئة جميلة وفضل تام وتصون بالغ أنه زل فقبل امرأة عند الحجر على ما حكي لكن ظهرت آثار صدق تلك الحكاية فمسخ مسخا كليا
وصار بأرث هيئة وأقبح منظر وأفظع حالة بدنا ودنيا وعقلا وكلاما فنعوذ بالله سبحانه وتعالى من الزلات ونسأله سبحانه وتعالى أن يعصمنا من الفتن إلى الممات إنه أكرم كريم وأرحم رحيم
وبلغني عن بعض من أعرف أيضا أنه وقعت منه هنات بالمسجد الحرام
____________________
(1/395)
فعوجل عليها بعقاب شديد في بدنه ودينه أيضا
وكذا وقع ذلك لجماعة بلغنا ذلك عنهم في زمننا ولولا ضيق المقام وخوف الفضيحة وطلب الستر بسطت أحوالهم ولكن في الإشارة ما يغني عن العبارة وإنما قصدنا بذلك أن الإنسان ربما اغتر فظن مما يرى من عدم تعجيل العقوبة الظاهرة أنه لا يعاجل بشيء وليس كما ظن بل لا بد لمن تمادى على ذلك أو قدم عليه آمنا أن تعجل له العقوبة الظاهرة أو الباطنة هذا قبل عذاب الآخرة الذي أشار سبحانه وتعالى إلى عظمته بلى وإلى عظمة عذاب الدنيا أيضا بقوله سبحانه وتعالى ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم
خاتمة في أمور مشيرة إلى بعض فضائل الحرم وما فيه ومن فيه أخرج الطبراني والحاكم إن الله سبحانه وتعالى ينزل على أهل المسجد يعني مسجد مكة في كل يوم وليلة عشرين ومائة رحمة ستين للطائفين وأربعين للمصلين وعشرين للناظرين
قال المنذري ورواه البيهقي بإسناد حسن وجاء في أحاديث صحيحة كما بينته في حاشية الإيضاح ما هو صريح في أن الصلاة الواحدة في مسجد مكة بمائة ألف ألف ألف صلاة في غيره غير المدينة وبيت المقدس فإن الصلاة بمسجد المدينة بألف صلاة مما في بيت المقدس والصلاة فيه بخمسمائة صلاة وفي حديث بألف صلاة في غيره
وصح أن الصلاة بمكة بمائة ألف صلاة في مسجد المدينة والصلاة فيه فيها ما ذكر فإذا ضربت بلغ الحاصل ما ذكرته فتأمل سعة هذا الفضل فإني لم أر من نبه عليه
والطبراني في الأوسط إن للكعبة لسانا وشفتين ولقد اشتكت فقالت يا رب قل عوادي وقل زواري فأوحى الله عز وجل إني خالق بشرا خشعا سجدا يحنون إليك كما تحن الحمامة إلى بيضها
والبزار رمضان بمكة أفضل من ألف رمضان بغير مكة
____________________
(1/396)
وابن ماجه من أدرك رمضان بمكة فصامه وقام منه ما تيسر له كتب الله له مائة ألف شهر رمضان فيما سواها وكتب الله له بكل يوم عتق رقبة وكل ليلة عتق رقبة وكل يوم حملان فرس في سبيل الله وفي كل يوم حسنة وفي كل ليلة حسنة
والترمذي والحاكم والبيهقي إنما سمي البيت العتيق لأن الله تعالى أعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه جبار قط
والبيهقي أول بقعة وضعت في الأرض البيت ثم مدت منها الأرض وإن أول جبل وضعه الله تعالى على وجه الأرض أبو قبيس ثم مدت منه الجبال
والأربعة مكة أم القرى
والدارقطني من أكرم القبلة أكرمه الله تعالى
وابن ماجه لا تزال هذه الأمة بخير ما عظموا هذه الحرمة حق تعظيمها فإذا ضيعوا ذلك هلكوا
والشيخ النظر إلى الكعبة عبادة
وأحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه أول مسجد وضع في الأرض المسجد الحرام ثم المسجد الأقصى وما بينهما أربعون سنة الحديث
والشيخان والنسائي ليس من بلد إلا سيطؤها الدجال إلا مكة والمدينة وليس نقب من أنقابها إلا عليه الملائكة حافين تحرسها فينزل بالسبخة فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات يخرج إليه منها كل كافر ومنافق
____________________
(1/397)
والترمذي وابن حبان والحاكم ما أطيبك من بلد وأحبك إلي ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك
وأحمد والترمذي وابن حبان والحاكم والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلي ولولا أني أخرجت منك ما خرجت وأيضا لا تغزى مكة بعد اليوم أي يوم الفتح إلى يوم القيامة
ومسلم لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح
والشيخان وغيرهما يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه أي وهو شاذروانه وستة أذرع أو سبعة من الحجر وألزقته أي بابه بالأرض وجعلت له بابين بابا شرقيا وبابا غربيا فبلغت به أساس إبراهيم
وفي رواية لمسلم زيادة لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله
وفي أخرى أن قريشا لما بنته استقصرت أي النفقة بهم لأنهم لم يبنوه إلا من مال متيقن الحل فأعوزهم فتركوا الشاذروان ومن الحجر ما ذكر وقللوا طولها في السماء وسدوا بابها الغربي ورفعوا بابها الشرقي ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا
ولما سمع ابن الزبير رضي الله عنهما من خالته عائشة تلك الأحاديث بادر لهدمه وأعاده على ما فيه ثم جاء الحجاج فأزال بناءه من ناحية الحجر فقط وجعله على ما كان عليه وسد الباب الغربي ورفع الشرقي
وأخرج البخاري يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم
____________________
(1/398)
ومسلم وغيره يعوذ عائذ بالبيت فيبعث إليه بعث فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم قيل يا رسول الله فكيف بمن كان كارها قال يخسف به معهم ولكنه يبعثه يوم القيامة على نيته
وبينت في كتابي الدرر في علامات المهدي المنتظرأنه ذلك العائذ وأن تلك البيداء الخليفة وأنه لا يخص منهم إلا اثنان أو واحد وفي رواية لمسلم وغيره فلا يبقى منهم إلا الشريد الذي يخبر عنهم وأنهم أرسلوا إلى المهدي من الشام ليقتلوه فيفر من المدينة إلى مكة عائذا بها
وأحمد والبخاري كأني أنظر إلى أسود أفحج ينقضها حجرا حجرا يعني الكعبة
وجاء في أحاديث أن الحجر الأسود من الجنة وأنه يرفع بينما هم يطوفون به إذ أصبحوا وقد فقدوه وأنه يبعث يوم القيامة وله عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق وفي رواية في الحجر أنه يشهد لمن استلمه وقبله من أهل الدنيا وأنه شافع مشفع سنده حسن وكذلك سند يأتي الركن اليماني يوم القيامة أعظم من أبي قبيس له لسان وشفتان وأنه كان أشد بياضا من الثلج حتى سودته خطايا أهل الشرك ولولا ذلك ما مسه ذو عاهة إلا شفي وسنده حسن وأنه نزل من السماء فوضع على أبي قبيس كأنه مهاة أي بالقصر بلورة بيضاء فمكث أربعين سنة ثم وضع على قواعد إبراهيم
وصح وقفه على ابن عمر رضي الله عنهما وهو لا يقال من قبل الرأي وأنه يمين الله في الأرض يصافح بها عباده أي يمنه وبركته ينزلهما عليهم إذا استلموه وأنه والركن اليماني يحطان الخطايا حطا وأنهما يبعثان يوم القيامة ولهما عينان ولسان وشفتان يشهدان لمن استلمهما بالوفاء وأن عنده تسكب العبرات وأنه والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة فرواية ما
____________________
(1/399)
في الأرض من الجنة غيره مخصوصة بذلك وأن الله طمس نورهما ولولا ذلك لأضاء ما بين المشرق والمغرب وأن بالركن اليماني سبعين ملكا موكلا يؤمنون على من قاله اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة ربنا آتنا في الدنيا حسنة الآية وأن بين الركن والمقام ملتزم ما يدعو به صاحب عاهة إلا برئ وأن جبريل لما وكز زمزم بعقبه جعلت أم إسماعيل تجمع البطحاء
رحم الله هاجر لو تركتها كانت عينا معينا وأنها هزمة جبريل وسقيا إسماعيل وأن ماءها لما شرب له من أمور الدنيا والآخرة وأن التضلع منه براءة من النفاق وأنه خير ماء على وجه الأرض وهاك سرد أحاديث صحيحة أو حسنة أي العمل أفضل قال إيمان بالله ورسوله قيل ثم ماذا قال الجهاد في سبيل الله قيل ثم ماذا قال حج مبرور أي وهو الذي لا معصية فيه ولو صغيرة من حين الإحرام إلى التحلل الثاني
من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه والرفث اسم لكل فحش أو لما يريده من حليلته أو الجماع أقوال قال بكل جماعة
العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة
وقد بسطت الكلام على هذه الأحاديث في حاشية مناسك النووي فاطلبه فإنه مهم
أما علمت يا عمر أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله
إني جبان وإني ضعيف فقال هلم إلى جهاد لا شوكة فيه الحج أفضل جهاد وحج مبرور جهاد الكبير والضعيف والمرأة
الحج والعمرة عملان هما أفضل الأعمال إلا من عمل بمثلهما حجة مبرورة أو عمرة مبرورة
الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة قيل وما بره قال إطعام الطعام وطيب الكلام
وهذا لا ينافي ما مر في تفسير المبرور فتأمله
____________________
(1/400)
تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة
ليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة
من حج من مكة ماشيا حتى يرجع إلى مكة كتب الله له بكل خطوة سبعمائة حسنة كل حسنة مثل حسنات الحرم قيل وما حسنات الحرم قال بكل حسنة مائة ألف حسنة صححه الحاكم لكن فيه ابن سوادة ضعفه البخاري
إن آدم أتى البيت ألف أتية لم يركب قط فيهن من الهند على رجليه
صححه ابن خزيمة واعترض بأن فيه واهيا
والحجاج والعمار وفد الله دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم اللهم اغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج استمتعوا بهذا البيت فقد هدم مرتين ويرفع في الثالثة أي بعدها
لما أهبط الله آدم من الجنة قال إني مهبط معك بيتا أو منزلا يطاف حوله كما يطاف حول عرشي ويصلى عنده كما يصلى حول عرشي
فلما كان زمن الطوفان رفع وكان الأنبياء يحجونه ولا يعلمون مكانه فبوأه الله لإبراهيم فبناه من خمسة أجبل حراء وثبير ولبنان وجبل الطير وجبل الخير فتمتعوا منه ما استطعتم
صح هذا عن ابن عمر ومثله لا يقال من قبل الرأي فكان كالمرفوع وفي حديث قال المنذري رواته كلهم موثقون إن من أم البيت لا تضع ناقته خفا ولا ترفعه إلا كتب له به حسنة ومحي عنه خطيئة وإن ركعتي الطواف كعتق رقبة من بني إسماعيل والسعي كعتق سبعين رقبة والوقوف تغفر به الذنوب وإن كانت بعدد الرمل أو كقطر المطر أو
____________________
(1/401)
كزبد البحر وبكل حصاة من الجمار تكفير كبيرة من الموبقات والنحر مذخور عند الله وبكل شعرة حلقت حسنة ومحو خطيئة وبالطواف بعد ذلك يضع ملك يديه بين كتفيه فيقول اعمل فيما استقبل فقد غفر لك ما مضى
من خرج حاجا فمات كتب الله له أجر الحاج إلى يوم القيامة
ومن خرج معتمرا فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة
ومن خرج غازيا فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة
قال صلى الله عليه وسلم لعائشة في عمرتها إن لك من الأجر على قدر نصبك أي تعبك ونفقتك النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف
ما أملق حاج قط قال جابر ما افتقر
عمرة في رمضان تعدل حجة معي
ما يعدل الحج معك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة في رمضان
ما من مؤمن يظل يومه محرما إلا غابت الشمس بذنوبه
ما من ملب يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض هاهنا وهاهنا عن يمينه وشماله
مسحهما أي اليمانيين كفارة للخطايا
لا يضع أي الطائف قدما ولا يرفع أخرى إلا حط الله عنه بها خطيئة وكتب له بها حسنة
____________________
(1/402)
من طاف بالبيت أسبوعا لا يلغو فيه كان كعدل رقبة يعتقها
الكبيرة الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتاسعة والخمسون بعد المائة إخافة أهل المدينة النبوية على مشرفها أفضل الصلاة والسلام وإرادتهم بسوء وإحداث حدث أي إثم فيها وإيواء محدث ذلك الإثم وقطع شجرها أو حشيشها
أخرج الشيخان عن سعد رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع كما ينماع الملح في الماء زاد مسلم ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء
قال المنذري وقد روي هذا الحديث عن جماعة من الصحابة في الصحاح وغيرها
وأحمد بسند صحيح من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنبي
وفسره جابر راويه رضي الله عنه بأن من أخافهم فقد أخافه صلى الله عليه وسلم والظاهر أن ذلك من مجاز المقابلة وأن إخافته صلى الله عليه وسلم كناية عن قطع الوصلة بين المخيف وبين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إذ غاية الإخافة قطع الوصلة وتحقق العداوة وما يترتب على ذلك من المخاوف والخزي والعذاب الأليم
والطبراني بإسناد جيد اللهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم فأخفه وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف أي فرض أو تطوع أو توبة أو اكتساب أو وزن أقوال ولا عدل أي فرض أو تطوع أو فدية أو كيل أقوال
وأخرج الشيخان من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا
وصرح ابن القيم بأن استحلال حرم المدينة كبيرة
قال غيره أي عند الأئمة الثلاثة خلافا لأبي حنيفة لخبر مسلم أن أنسا قيل له أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فقال بلى حرام لا يختلى أي يقطع خلاها أي كلؤها الرطب من فعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين
____________________
(1/403)
تنبيه عد هذه الستة هو صريح ما في هذه الأحاديث الصحيحة ولم أر من عد الأولين مع ظهورهما ثم رأيت بعض المتأخرين صرح بهما لكنه عبر بقوله واستحلال حرم المدينة والإحداث فيها والظاهر أن مراده به ما ذكرته لما علمته من الأحاديث المصرحة به
فإن قلت لا خصوصية بالأولين لهم بل ينبغي أن يكونا كبيرتين في حق غيرهم أيضا كما يدل عليه كلامهم الآتي في الإيذاء والظلم
قلت يتعين حمل الخصوصية على أن إرادتهم بأي سوء وإخافتهم بأي نوع كبيرة بخلاف غيرهم فإن شرط كون كل مما ذكر كبيرة أن يكون مما له وقع وبال في العادة
خاتمة في سرد أحاديث أكثرها صحيح وبقيتها حسن في فضلها لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي إلا كنت له شفيعا يوم القيامة أو شهيدا إذا كان مسلما
إني أحرم ما بين لابتي المدينة أي حرتيها وطرفيها أن يقطع عضاهها أي شجرها أو يقتل صيدها
المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه
ليأتين على أهل المدينة زمان ينطلق الناس منها إلى الأرياف يلتمسون الرخاء فيجدون رخاء ثم يأتون فيتحملون بأهليهم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون
من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت بها فمن مات بالمدينة كنت له شفيعا وشهيدا
الوباء والدجال لا يدخلانها
اللهم إن إبراهيم خليلك وعبدك ونبيك دعاك لأهل مكة وأنا محمد عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة مثل ما دعاك إبراهيم لمكة ندعوك أن تبارك لهم في صاعهم ومدهم وثمارهم
____________________
(1/404)
اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة واجعل ما بها من وباء بخم أي بضم المعجمة فتشديد غيضة قريب من الجحفة فلا يمر عليها طائر إلا حم
اللهم إني حرمت ما بين لابتيها أي أنشأت تحريمه إذ لم يكن حراما قبل كما حرمت على لسان إبراهيم الحرم أي أظهرت حرمته بعد اندثارها وإلا فهو حرام من يوم خلق الله السموات والأرض كما صح
اللهم بارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في مدينتنا وبارك لنا في صاعنا ومدنا أي ما يكال بهما من الأطعمة
اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك وإني عبدك ونبيك فإنه دعاك لمكة وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك به لمكة ومثله معه واجعل مع البركة بركتين وانقل حماها فاجعلها بالجحفة أي لأنها إذ ذاك مسكن اليهود والذي نفسي بيده ما من المدينة شيء ولا شعب ولا نقب إلا وعليه ملكان يحرسانها اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا وبارك لنا في شامنا ويمننا قيل وعراقنا قال إن بها قرن الشيطان أي أتباعه أو قوة ملكه وتصريفه وتهييج الفتن وإن الجفاء بالمشرق المدينة قبة الإسلام ودار الإيمان وأرض الهجرة ومثوى الحلال والحرام
____________________
(1/405)
____________________
(1/406)
@ 407 الكبيرة الستون بعد المائة ترك الأضحية مع القدرة عند من قال بوجوبها عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجد سعة لأن يضحي فلم يضح فلا يحضر مصلانا
تنبيه عد ذلك كبيرة هو ظاهر هذا الحديث وإن لم أر من صرح به فإن منعه من حضور المصلى فيه وعيد شديد ويجاب من طرف القائلين بندب الأضحية كالشافعي وغيره بأن الحديث وإن رواه الحاكم مرفوعا هكذا وصححه لكنه رواه موقوفا
قال غيره ولعله أشبه فلم تتم الحجة في الحديث على أن لنا أن نقول منعه من الحضور لا وعيد فيه
ألا ترى أنه جاء في الحديث الصحيح من أكل ثوما أو بصلا أو كراثا وفي رواية أو فجلا فلا يقربن مسجدنا ومع ذلك فلا حرمة في أكل ما ذكر إلا أن يجاب بأن المنع هنا ظهرت حكمته وهي إيذاء الناس أو الملائكة بالرائحة فحملنا النهي عليه وأما في خبر الأضحية فلم يكن للمنع حكمة إلا تغليظ تركه لها
وورد للأضحية فضائل تقتضي مزيد اعتناء الشارع بها
منها يا فاطمة قومي إلى أضحيتك فاشهديها فإن لك بأول قطرة تقطر من دمها أن يغفر لك ما سلف من ذنوبك قالت يا رسول الله ألنا خاصة أهل البيت أو لنا وللمسلمين قال بل لنا وللمسلمين رواه جماعة وفي سنده من تكلم فيه لكنه وثق
وفي رواية حسن بعض الحفاظ سندها يا فاطمة قومي فاشهدي أضحيتك فإن لك بأول قطرة تقطر من دمها مغفرة لكل ذنب أما إنه يجاء بدمها ولحمها فيوضع في ميزانك سبعين ضعفا
فقال أبو سعيد يا رسول الله هذا لآل محمد خاصة فإنهم أهل لما خصوا به من الخير أو لآل محمد وللمسلمين عامة فقال لآل محمد خاصة وللمسلمين عامة
ما هذه الأضاحي قال سنة أبيكم إبراهيم قالوا فما لنا فيها يا رسول الله قال بكل شعرة حسنة
قالوا فالصوف قال بكل شعرة من الصوف حسنة صححه الحاكم واعترض بأن في سنده ساقطين
____________________
(1/407)
ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفسا قال الترمذي حسن غريب والحاكم صحيح الإسناد وفيه واه لكنه وثق
ما عمل آدمي في هذا اليوم أي الأضحى أفضل من دم يهراق إلا أن تكون رحما توصل
قال المنذري في إسناده يحيى الخشني لا يحضرني حاله
يا أيها الناس ضحوا واحتسبوا بدمائها فإن الدم وإن وقع في الأرض فإنه يقع في حرز الله عز وجل
من ضحى طيبة نفسه محتسبا لأضحيته كانت له حجابا من النار رواهما الطبراني
الكبيرة الحادية والستون بعد المائة بيع جلد الأضحية لقوله صلى الله عليه وسلم من باع جلد أضحيته فلا أضحية له
تنبيه عد هذا كبيرة لم أره لكن ظاهر هذا الحديث يقتضي ذلك فإن انتفاء الأضحية ببيعه يدل على أن فيه وعيدا شديدا لإبطاله ثواب تلك العبادة العظيمة من أصلها كما اقتضاه ظاهر النفي الموضوع أصالة لانتفاء الذات من أصلها ويؤيده أيضا أنه بالأضحية خرج عن ملكه وصار ملكا للفقراء فإذا استولى عليه وباعه كان كالغاصب لحق الغير وسيأتي أن الغصب كبيرة وهذا منه كما علمت فاتضح عدي له كبيرة
وينبغي أن يلحق بالبيع إعطاؤه أجرة للجزار فإنهم صرحوا بأنه حرام كبيعه وكما أن في البيع غصبا له كما تقرر فكذا في إعطائه أجرة للجزار فلم يبعد أنه مثله في أنه كبيرة أيضا
____________________
(1/408)
الكبيرة الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والستون بعد المائة المثلة بالحيوان كقطع شيء من نحو أنفه أو أذنه ووسمه في وجهه واتخاذه غرضا وقتله لغير الأكل وعدم إحسان القتلة والذبحة أخرج أحمد بسند رواته ثقات مشهورون أنه صلى الله عليه وسلم قال من مثل بذي روح ثم لم يتب مثل الله به يوم القيامة
وابن حبان في صحيحه عن مالك بن نضلة قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هل تنتج إبل قومك صحاحا فتعدل إلى الموسى فتقطع آذانها وتشق جلودها وتقول هذه صرم أي بضم المهملة وسكون الراء جمع صريم وهو ما صرم أذنه أي قطع فتحرمها عليك وعلى أهلك قلت نعم قال فكل ما آتاك الله حل ساعد الله أشد من ساعدك وموسى الله أشد من موساك
وأخرج مسلم أنه صلى الله عليه وسلم مر بحمار وسم في وجهه فقال لعن الله الذي وسمه
وصح نهيه صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه وصح لعن صلى الله عليه وسلم من يسم في الوجه
وصح أنه صلى الله عليه وسلم مر بحمار قد كوي في وجهه تفور منخراه من دم فقال صلى الله عليه وسلم لعن الله من فعل هذا ثم نهى عن الكي في الوجه والضرب في الوجه
____________________
(1/409)
والشيخان أن ابن عمر مر بفتيان من قريش قد نصبوا طيرا أو دجاجة يترامونها وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم فلما رأوا ابن عمر تفرقوا فقال من فعل هذا لعن الله من فعل هذا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا وهو بالمعجمة ما تنصبه الرماة يقصدون إصابته من قرطاس ونحوه
والنسائي وابن حبان في صحيحه من قتل عصفورا عبثا عج إلى الله يوم القيامة يقول يا رب إن فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني منفعة
والنسائي والحاكم وصححه ما من إنسان يقتل عصفورا فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله عز وجل عنها يوم القيامة قيل يا رسول الله وما حقها قال يذبحها فيأكلها ولا يقطع رأسها فيرمي بها
ومسلم والأربعة إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته أي سكينه وليرح ذبيحته
والحاكم بسند صحيح على شرط البخاري أنه صلى الله عليه وسلم مر على رجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يحد شفرته وهي تلحظ ببصرها إليه قال أفلا قبل هذا أتريد أن تميتها موتات هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها
وعبد الرزاق موقوقا أن ابن عمر رضي الله عنه رأى رجلا يجر شاة برجلها ليذبحها فقال له ويلك قدها إلى الموت قودا جميلا
وصح من لا يرحم الناس لا يرحمه الله
لن تؤمنوا حتى تراحموا قالوا يا رسول الله كلنا رحيم قال إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكنها رحمة العامة
ارحموا ترحموا واغفروا يغفر لكم
____________________
(1/410)
ويل لأقماع القول ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون وأقماع القول من يسمعه ولا يعيه ولا يعمل به
شبهوا بالقمع وهو ما يجعل برأس الإناء الضيق حتى يملأ بجامع أن نحو الماء يمر منه إلى غيره ولا يمكث فيه وكذلك القول يمر على آذانهم ولا يعملون به
تنبيه ما ذكرته من عد هذه الخمسة من الكبائر لم أره لكنه في الثلاثة الأول هو صريح الوعيد الشديد الذي في الحديث الأول والثاني في المثلة والثالث والرابع في الوسم والخامس في اتخاذ الحيوان غرضا والسادس في القتل لغير الأكل
وأما السادس فدليله الحديث السادس مع القياس على المثلة والوسم بالأولى لأنه يؤدي إلى تعذيب الحيوان أو أكله ميتة
وتعذيبه الشديد لا شك في كونه كبيرة كأكل الميت الآتي ثم رأيت جمعا أطلقوها أن تعذيب الحيوان كبيرة
وبعضهم عد حبس الحيوان حتى يموت جوعا أو عطشا والكي في الوجه وكذا ضربه واستدل بخبر الصحيحين في المرأة التي حبست الهرة فأدخلتها النار وبقول شرح مسلم هذه المرأة كانت مسلمة والمعصية كبيرة انتهى
فإن قلت قد صرح أصحابنا بكراهة الذبح بالسكين الكالة فكيف مع ذلك يكون عدم الإحسان السابق كبيرة قلت يتعين الجمع بحمل كلامهم على ما إذا كانت كالة لكنها تقطع المريء والحلقوم قبل وصوله إلى حركة مذبوح لحله حينئذ مع خفة التعذيب
وهذا هو مرادهم بأنه الذي يكره بدليل قولهم لو ذبح بكال لا يقطع إلا بقوة الذابح لم يحل
أما إذا وصل إليها قبل قطع المريء أو بعض الحلقوم فإن ذلك يحرمها ويصيرها ميتة كما صرحوا به فالقول بأن ذلك كبيرة يتعين حمله على هذا لأن تصيير الحيوان ميتة لا شك في كونه كبيرة
واعلم أنه لا يحل الحيوان البري المقدور عليه ولو وحشيا إلا بالقطع المحض من مسلم أو ذمي تحل ذكاته لجميع الحلقوم والمريء مع استقرار الحياة في الابتداء بمحدد جارح غير العظم ولو سنا والظفر فلو ذبحه من قفاه أو من صفحة عنقه أو بإدخال السكين في أذنه حل وإن انتهى بعد قطع المريء وبعض الحلقوم إلى حركة المذبوح لما ناله بقطع القفا لكنه يعصي ويأثم بذلك بل ربما يفسق إن علم وتعمد لما فيه من إيذاء الحيوان الإيذاء الشديد
ويكفي في استقرار الحياة الظن كأن تشتد حركته بعد الذبح ويتفجر دمه ويتدفق ويحرم ما أبين رأسه بسكين مع بقاء شيء من الحلقوم أو المريء أو بنحو بندقة وإن قطعا
____________________
(1/411)
وما تأنى في ذبحه فلم يتمه حتى ذهب استقرار الحياة أو شك في بقائها وما قارن ذبحه إخراج أمعائه وميت بمثقل محدد أصابه كعرض سهم وإن أنهر الدم أو بمحرم ومبيح كجرح سهم وصدم عرضه في مروره وكجرحه جرحا مؤثرا فوقع على محدد أو في نحو ماء ولو جرح سبع صيدا أو سقط جدار على بعير أو أكل علفا مضرا فذبحه لم يحل إلا إن كانت حياته مستقرة عند ابتداء الذبح بخلاف ما لو مرض أو جاع فإنه يحل ذبحه وإن انتهى إلى أدنى رمق إذ لا سبب هنا يحال عليه الهلاك بخلافه ثم
الكبيرة السابعة والستون بعد المائة الذبح باسم غير الله على وجه لا يكفر به بأن لم يقصد تعظيم المذبوح له كنحو التعظيم بالعبادة والسجود كذا عد هذه الجلال البلقيني وغيره واستدل له بقوله تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق أي والحال أنه كذلك بأن ذبح لغير الله إذ هذا هو الفسق هنا كما ذكره الله تعالى بقوله أو فسقا أهل لغير الله به
وبهذا بان أن متروك التسمية حلال
ويؤيد ذلك أن ابن عباس قال في تفسير الآية يريد الميتة والمنخنقة إلى قوله وما ذبح على النصب
وقال الكلبي يعني ما لم يذك أو ذبح لغير الله تعالى
وقال عطاء نهي عن ذبائح كانت تذبحها قريش والعرب على الأوثان
قيل ومعنى وإنه لفسق أي أكل ما لم يذكر اسم الله عليه من الميتة فسق أي خروج عن الدين
ومعنى وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم أي يوسوس الشيطان لوليه فيلقي في قلبه الجدل للمؤمنين في الميتة بالباطل
قال ابن عباس أوحى الشيطان إلى أوليائه من الإنس كيف تعبدون شيئا لا تأكلون ما يقتل وأنتم تأكلون ما قتلتم فأنزل الله قوله وإن أطعتموهم يعني في استحلال الميتة إنكم لمشركون قال الزجاج فيه دليل أن كل من أحل شيئا مما حرم الله أو حرم شيئا مما أحل الله مشرك
أي بشرط أن يجمع عليه ويعلم من الدين بالضرورة
فإن قيل كيف أبحتم ذبيحة المسلم والآية كالنص في التحريم
____________________
(1/412)
قلنا لم يفسرها المفسرون إلا بالميتة ولم يحمله أحد منهم على ذبيحة المسلم إذا ترك التسمية عليها
ومما يدل على أنها في الميتة قوله تعالى وإنه لفسق ولا يفسق آكل ذبيحة المسلم التارك للتسمية وإن اعتقد الحرمة لأن ذلك لقوة الخلاف في حله ينبغي أن يكون صغيرة عند القائل بتحريمه
وقوله تعالى وإن الشياطين إلخ إذ المناظرة إنما كانت في الميتة بإجماع المفسرين لا في ذبيحة تارك التسمية من المسلمين
وقوله تعالى وإن أطعتموهم إنكم لمشركون والشرك في استحلال الميتة لا في استحلال الذبيحة التي لم يسم عليها ذكر ذلك الواحدي وغيره
وروى الواحدي بسنده أحاديث في بعضها حل متروك التسمية سهوا وفي بعضها حله مطلقا
وجعل أصحابنا مما يحرم الذبيحة أن يقول باسم الله واسم محمد أو محمد رسول الله بجر اسم الثاني أو محمد إن عرف النحو فيما يظهر أو أن يذبح كتابي لكنيسة أو لصليب أو لموسى أو لعيسى ومسلم للكعبة أو لمحمد صلى الله عليه وسلم أو تقربا لسلطان أو غيره أو للجن فهذا كله يحرم المذبوح وهو كبيرة على ما مر بخلاف ما لو قصد الفرح بقدومه أو شكر الله عليه أو قصد إرضاء ساخط أو التقرب إلى الله ليدفع عنه شر الجن
الكبيرة الثامنة والستون بعد المائة تسييب السوائب قال الله تعالى ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام
وقال صلى الله عليه وسلم ليس منا من سيب السوائب
تنبيه عد هذا كبيرة ظاهر وإن لم أره لما فيه من التشبه بالجاهلية المقتضي لشدة الوعيد المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم ليس منا من سيب السوائب
وقد قال أصحابنا من ملك صيدا ثم سيبه أثم ولم يزل ملكه عنه وإن قال عند إرساله أبحته لمن يأخذه لكن عند قوله ذلك لمن أخذه أكله لا التصرف فيه بالبيع ونحوه وليس من ذلك ما يلقيه الملاك إعراضا عنه ككسرة خبز وسنابل الحصادين ومن ثم يملكه من أخذه
____________________
(1/413)
خاتمة لو اختلط حمامه بحمام غيره لزمه رده بأن يخلي بينه وبين مالكه وما تناسل منهما لمالك الإناث فإن لم يتميز فله أخذ قدر ملكه بالاجتهاد ولا يخفى الورع أو نحو درهم أو دهن حرام بدراهمه أو دهنه جاز له على ما قاله الغزالي وغيره إفراز قدر الحرام وصرفه لجهة استحقاقه والتصرف في الباقي ونظر فيه بأن الشريك لا يستقل بالقسمة فليرفعه إلى القاضي ليقاسمه عن المالك إن تعذر
ويجاب بأن هذا محل ضرورة إذ لا تقصير هنا من ذي المال بخلاف الشركة فإنها تثبت بالاختيار وما لا يثبت بالاختيار كالإرث يلحق بما يثبت بالاختيار على أن في رفعه للقاضي مشقة ظاهرة لأنه لا يقسمه إلا بعد إقامة بينة عنده بحقيقة الحال أخذا من قولهم لو رفع إليه أصحاب يد على شيء ذلك الشيء ليقسمه بينهم لم يجبهم إلا ببينة تشهد له بالملك ولا يكتفي باليد لأن قسمته تتضمن الحكم منه لهم به وهو لا يجوز إلا أن يستند إلى بينة لا إلى مجرد اليد فلهذه المشقة التي لا تطاق غالبا اقتضت الضرورة أنه يجوز له أن يستقل بإفراز قدر الحرام حتى يتصرف في الباقي ولا ينافي ذلك بحث الرافعي إلحاق ذلك باختلاط الحمامين لأنه أراد أنه مثله في طريق التصرف ولو اختلفا في القدر صدق من أنشأه على ملكه لأن اليد له
ولو اختلط حمام مملوك بمباح في صحراء فإن كان المباح محصورا بأن يسهل عده بمجرد النظر إليه حرم الاصطياد منه أو غير محصور لم يحرم
قال ابن المنذر ولو أرسل جمع كلابهم على صيد فأدركوا صيدا قتيلا وقال كل كلبي قتله حل الصيد ثم إن وجدت الكلاب ممسكة له فهو بين أربابها أو بعضها فهو لصاحبه أو غير ممسكة أقرع بينهم عند أبي ثور ووقف للصلح عند غيره فإن خيف فساده بيع ووقف ثمنه إلى إصلاحهم
____________________
(1/414)
@ 415 الكبيرة التاسعة والستون بعد المائة التسمية بملك الأملاك أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه رجل يسمى ملك الأملاك لا مالك إلا الله
والشيخان إن أخنع اسم عند الله عز وجل رجل يسمى ملك الأملاك زاد في رواية لا مالك إلا الله
قال سفيان مثل شاهين شاه
وقال أحمد بن حنبل سألت أبا عمرو عن أخنع فقال أوضع
وقال سفيان بن عيينة أخنع أبشع أو أقبح أو أكره
تنبيه عد ما ذكر هو صريح هذين الحديثين وهو ظاهر وإن لم أر من صرح به ثم رأيت بعضهم صرح به
قال أئمتنا وتحرم التسمية بكل من ملك الأملاك وشاهين شاه إذ هو بمعناه وذلك أنه لا يوصف بذلك غير الله عز وجل وألحق بذلك بعض أئمتنا حاكم الحكام وقاضي القضاة
وفي ذلك كلام بينته في مبحث الطواف والسعي من حاشية مناسك النووي الكبرى
____________________
(1/415)
____________________
(1/416)
@ 417 الكبيرة السبعون بعد المائة أكل المسكر الطاهر كالحشيشة والأفيون والشيكران بفتح الشين المعجمة وهو البنج وكالعنبر والزعفران وجوزة الطيب فهذه كلها مسكرة كما صرح به النووي في بعضها وغيره في باقيها ومرادهم بالإسكار هنا تغطية العقل لا مع الشدة المطربة لأنها من خصوصيات المسكر المائع وسيأتي بحثه في باب الأشربة وبما قررته في معنى الإسكار في هذه المذكورات علم أنه لا ينافي أنها تسمى مخدرة وإذا ثبت أن هذه كلها مسكرة أو مخدرة فاستعمالها كبيرة وفسق كالخمر فكل ما جاء في وعيد شاربها يأتي في مستعمل شيء من هذه المذكورات لاشتراكهما في إزالة العقل المقصود للشارع بقاؤه لأنه الآلة للفهم عن الله تعالى وعن رسوله والمتميز به الإنسان عن الحيوان والوسيلة إلى إيثار الكمالات عن النقائص فكان في تعاطي ما يزيله وعيد الخمر الآتي في بابها وقد ألفت كتابا سميته تحذير الثقات عن استعمال الكفتة والقات لما اختلف أهل اليمن فيه وأرسلوا إلي ثلاث مصنفات اثنان في تحريمه وواحد في حله وطلبوا مني إبانة الحق فيهما فألفت ذلك الكتاب في التحذير عنهما وإن لم أجزم بحرمتهما واستطردت فيه إلى ذكر بقية المسكرات والمخدرات الجامدة وبسطت في ذلك بعض البسط
ولا بد من ذكر خلاصة ذلك هنا فنقول الأصل في تحريم كل ذلك ما رواه أحمد في مسنده وأبو داود في سننه نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر
قال العلماء المفتر كل ما يورث الفتور والخدر في الأطراف وهذه المذكورات كلها تسكر وتخدر وتفتر
وحكى القرافي وابن تيمية الإجماع على تحريم الحشيشة قال ومن استحلها فقد كفر
قال وإنما لم يتكلم فيها الأئمة الأربعة لأنها لم تكن في زمنهم وإنما ظهرت في آخر المائة السادسة وأول المائة السابعة حين ظهرت دولة التتار
وذكر الماوردي قولا أن النبات الذي فيه شدة مطربة يجب فيه الحد ثم ما ذكرته في الجوزة هو ما أفتيت به فيها قديما لما وقع فيها نزاع بين أهل الحرمين ومصر وظفرت فيها
____________________
(1/417)
من النقل بعد الفحص والتنقير بما لم يظفروا به
ولذا سئل عنها جمع متأخرون فأبدوا فيها آراء متخالفة بحثا من غير نقل فلما عرض علي السؤال أجبت فيها بالنقل الصريح والدليل الصحيح رادا على من خالف ما ذكرته وإن جلت مرتبته
ومحصل السؤال هل قال أحد من الأئمة أو مقلديهم بتحريم أكل جوزة الطيب وهل لبعض طلبة العلم الآن الإفتاء بتحريم أكلها وإن لم يطلع على نقل به فإن قلتم نعم فهل يجب الانقياد لفتواه ومحصل الجواب الذي أجبت به عن ذلك السؤال الذي صرح به الإمام المجتهد شيخ الإسلام ابن دقيق العيد أنها أعني الجوزة مسكرة ونقله عنه المتأخرون من الشافعية والمالكية واعتمدوه وناهيك بذلك بل بالغ ابن العماد فجعل الحشيشة مقيسة على الجوزة المذكورة
وذلك أنه لما حكى عن القرافي نقلا عن بعض فقهاء عصره أنه فرق في إسكار الحشيشة بين كونها ورقا أخضر فلا إسكار فيها بخلافها بعد التحميص فإنها تسكر قال والصواب أنه لا فرق لأنها ملحقة بجوزة الطيب والزعفران والعنبر والأفيون والبنج وهو من المسكرات المخدرات ذكر ذلك ابن القسطلاني في تكريم المعيشة انتهى
فتأمل تعبيره بالصواب وجعله الحشيشة التي أجمع العلماء على تحريمها مقيسة على الجوزة تعلم أنه لا مرية في تحريم الجوزة لإسكارها أو تخديرها
وقد وافق المالكية والشافعية على إسكارها الحنابلة فنص إمام متأخريهم ابن تيمية وتبعوه على أنها مسكرة وهو قضية كلام بعض أئمة الحنفية
ففي فتاوى المرغيناني منهم المسكر من البنج ولبن الرماك أي أناثى الخيل حرام ولا يحد شاربه قاله الفقيه أبو حفص ونص عليه شمس الأئمة السرخسي انتهى
وقد علمت من كلام ابن دقيق العيد وغيره أن الجوزة كالبنج فإذا قال الحنفية بإسكاره لزمهم القول بإسكار الجوزة فثبت بما تقرر أنها حرام عند الأئمة الأربعة الشافعية والمالكية والحنابلة بالنص والحنفية بالاقتضاء لأنها إما مسكرة أو مخدرة وأصل ذلك في الحشيشة المقيسة على الجوزة على ما مر
والذي ذكره الشيخ أبو إسحاق في كتابه التذكرة والنووي في شرح المهذب وابن دقيق العيد أنها مسكرة
قال الزركشي ولا يعرف فيه خلاف عندنا وقد يدخل في حدهم السكران بأنه الذي اختل كلامه المنظوم وانكشف سره المكتوم أو الذي لا يعرف السماء من الأرض ولا الطول من العرض ثم نقل عن القرافي أنه خالف في ذلك فنفى عنها الإسكار وأثبت لها الإفساد ثم رد عليه وأطال في تخطئته وتغليطه
____________________
(1/418)
وممن نص على إسكارها أيضا العلماء بالنبات من الأطباء وإليهم المرجع في ذلك وكذلك ابن تيمية وتبعه من جاء بعده من متأخري مذهبه
والحق في ذلك خلاف الإطلاقين إطلاق الإسكار وإطلاق الإفساد وذلك أن الإسكار يطلق ويراد به مطلق تغطية العقل وهذا إطلاق أعم ويطلق ويراد به تغطية العقل مع نشوة وطرب وهذا إطلاق أخص وهو المراد من الإسكار حيث أطلق
فعلى الإطلاق الأول بين المسكر والمخدر عموم مطلق إذ كل مخدر مسكر وليس كل مسكر مخدرا فإطلاق الإسكار على الحشيشة والجوزة ونحوهما المراد منه التحذير ومن نفاه عن ذلك أراد به معناه الأخص
وتحقيقه أن من شأن السكر بنحو الخمر أنه يتولد عنه النشوة والنشاط والطرب والعربدة والحمية ومن شأن السكر بنحو الحشيشة والجوزة أنه يتولد عنه أضداد ذلك من تخدير البدن وفتوره ومن طول السكوت والنوم وعدم الحمية وبقولي من شأنه فيهما يعلم رد ما أورده الزركشي على القرافي من أن بعض شربة الخمر يوجد فيه ما ذكر في نحو الحشيشة وبعض أكله نحو الحشيشة يوجد فيه ما ذكر في الخمر
ووجه الرد أن ما نيط بالمظنة لا يؤثر فيه خروج بعض الأفراد كما أن القصر في السفر لما نيط بمظنة المشقة جاز وإن لم توجد المشقة في كثير من جزئياته فاتضح بذلك أنه لا خلاف بين من عبر في نحو الحشيشة بالإسكار ومن عبر بالتخدير والإفساد والمراد به إفساد خاص هو ما سبق
فاندفع به قول الزركشي إن التعبير به يشمل الجنون والإغماء لأنهما مفسدان للعقل أيضا فظهر بما تقرر صحة قول الفقيه المذكور في السؤال إنها مخدرة وبطلان قول من نازعه في ذلك لكن إن كان لجهله عذر
وبعد أن يطلع على ما ذكرناه عن العلماء متى زعم حلها أو عدم تخديرها وإسكارها يعزر التعزير البليغ الزاجر له ولأمثاله بل قال ابن تيمية وأقره أهل مذهبه من زعم حل الحشيشة كفر
فليحذر الإنسان من الوقوع في هذه الورطة عند أئمة هذا المذهب المعظم
وعجيب ممن خاطر باستعمال الجوزة مع ما ذكرناه فيها من المفاسد والإثم لأغراضه الفاسدة على أن تلك الأغراض تحصل جميعها بغيرها
فقد صرح رئيس الأطباء ابن سينا في قانونه بأنه يقوم مقامها وزنها ونصف وزنها من السنبل فمن كان يستعمل منها قدرا ما ثم استعمل وزنه ونصف وزنه من السنبل حصلت له جميع أغراضه مع السلامة من الإثم والتعرض لعقاب الله سبحانه وتعالى على أن فيها بعض مضار بالرئة ذكرها بعض الأطباء وقد خلا السنبل عن تلك المضار فقد حصل به مقصودها وزاد عليه بالسلامة من مضارها الدنيوية والأخروية والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب انتهى جوابي في الجوزة وهو مشتمل على النفائس
وفي بعض شروح الحاوي الصغير أن الحشيشة نجسة إن ثبت أنها مسكرة وغلط
____________________
(1/419)
وفي كتاب السياسة لابن تيمية أن الحد واجب في الحشيشة كالخمر قال لكن لما كانت جمادا وليست شرابا تنازع الفقهاء في نجاستها على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره فقيل نجسة وهو الصحيح انتهى
ويحرم إطعام الحشيشة الحيوان أيضا لأن إسكاره حرام أيضا
قال ابن دقيق العيد ولا ضمان على متلفها كالخمر ونقل الإمام أبو بكر بن القطب العسقلاني أنها حارة في الدرجة الثانية يابسة في الأولى تصدع الرأس وتظلم البصر وتعقد البطن وتجفف المني
فيتعين على كل ذي عقل سليم وطبع مستقيم اجتنابها كغيرها مما سبق لما تشتمل عليه من المضار التي هي مبدأ مداعي الهلاك وربما نشأ من تجفيف المني وصداع الرأس وغيرهما أعظم المفاسد والمضار
ومن ثم قال ابن البيطار وإليه انتهت رئاسة زمنه في معرفة النبات والأعشاب في كتابه الجامع لقوي الأدوية والأغذية ومن القنب الهندي نوع ثالث يقال له القنب ولم أره بغير مصر ويزرع في البساتين ويسمى بالحشيشة أيضا وهو يسكر جدا إذا تناول منه الإنسان يسيرا قدر درهم أو درهمين حتى إن من أكثر منه أخرجه إلى حد الرعونة وقد استعمله قوم فاختلت عقولهم وأدى بهم الحال إلى الجنون وربما قتلت
قال القطب وقد نقل لنا أن البهائم لا تتناولها فما قدر مأكول تنفر البهائم عن تناوله وهي كغيرها مما سبق أيضا مما يحيل الأبدان ويمسخها ويحلل قواها ويحرق دماءها ويجفف رطوبتها ويصفر اللون
قال محمد بن زكريا إمام وقته في الطب وتولد أفكارا كثيرة رديئة وتجفف المني لقلة الرطوبة في الأعضاء الرئيسية أي وإذا قلت رطوبة تلك الأعضاء الرئيسية كانت سببا لحدوث أخطر الأمراض وأقبح العلل ومما أنشد فيها قل لمن يأكل الحشيشة جهلا يا خسيسا قد عشت شر معيشة دية العقل بدرة فلماذا يا سفيها قد بعته بحشيشه قال وقد بلغنا من جمع يفوق حد الحصر أن كثيرا ممن عاناها مات بها فجأة وآخرين اختلت عقولهم وابتلوا بأمراض متعددة من الدق والسل والاستسقاء وأنها تستر العقل وتغمره ومما أنشد فيها أيضا يا من غدا أكل الحشيش شعاره وغدا فلاح عواره وخماره أعرضت عن سنن الهدى بزخارف لما اعترضت لما أشيع ضراره العقل ينهى أن تميل إلى الهوى والشرع يأمر أن تبعد داره فمن ارتدى برداء زهرة شهوة فيها بدا للناظرين خساره اقصر وتب عن شربها متعوذا من شرها فهو الطويل عثاره
____________________
(1/420)
قال بعض العلماء وفي أكلها مائة وعشرون مضرة دينية ودنيوية منها أنها تورث الفكرة الرديئة وتجفف الرطوبات الغريزية وتعرض البدن لحدوث الأمراض وتورث النسيان وتصدع الرأس وتقطع النسل وتجفف المني وتورث موت الفجأة واختلال العقل وفساده والدق والسل والاستسقاء وفساد الفكر ونسيان الذكر وإفشاء السر وإنشاء الشر وذهاب الحياء وكثرة المراء وعدم المروءة ونقض المودة وكشف العورة وعدم الغيرة وإتلاف الكيس ومجالسة إبليس وترك الصلوات والوقوع في المحرمات والبرص والجذام وتوالي الأسقام والرعشة على الدوام وثقب الكبد واحتراق الدم والبخر ونتن الفم وفساد الأسنان وسقوط شعر الأجفان وصفرة الأسنان وعشاء العين والفشل وكثرة النوم والكسل وتجعل الأسد كالعجل وتعيد العزيز ذليلا والصحيح عليلا والشجاع جبانا والكريم مهانا إن أكل لا يشبع وإن أعطي لا يقنع وإن كلم لا يسمع تجعل الفصيح أبكم والذكي أبلم وتذهب الفطنة وتحدث البطنة وتورث العنة واللعنة والبعد عن الجنة
ومن قبائحها أنها تنسي الشهادتين عند الموت بل قيل إن هذا أدنى قبائحها
وهذه القبائح كلها موجودة في الأفيون وغيره مما سبق بل يزيد الأفيون ونحوه بأن فيه مسخا للخلقة كما يشاهد من أحوال آكليه وعجيب ثم عجيب ممن يشاهد من أحوال آكليه تلك القبائح التي هي مسخ البدن والعقل وصيرورتهم إلى أخس حالة وأرث هيئة وأقذر وصف
وأفظع مصاب لا يتأهلون لخطاب ولا يميلون قط إلى صواب ولا يهتدون إلا إلى خوارم المروآت وهو أذم الكمالات وفواحش الضلالات ثم مع هذه العظائم التي نشاهدها منهم يحب الجاهل أن يندرج في زمرتهم الخاسرة وفرقتهم الضالة الحائرة متعاميا عما على وجوههم من الغبرة وما يعتريها من القترة ذلك يخشى عليه أن يكون من الكفرة الفجرة فمن اتضحت له فيهم هذه المثالب وبان عنده ما اشتملوا عليه من كثير المعايب ثم نحا نحوهم وحذا حذوهم فهو المفتون المغبون الذي بلغ الشيطان فيه غاية أمله بعد أن كان يتربص به ريب المنون لأنه لعنه الله إذا أحل عبدا في هذه الورطة لعب به كما يلعب الصبي بالكرة إذ ما يريد منه حينئذ شيئا إلا وسابقه إلى فعله لأن العقل الذي هو آلة الكمال زال عن محله فصار كالأنعام بل هو أضل سبيلا ومن أهل النيران فبئس ما رضيه لنفسه مبيتا ومقيلا وأف لمن باع نعيم الدنيا والآخرة بتلك الصفقة الخاسرة وفقنا الله لطاعته وحمانا من مخالفته آمين
تنبيه عد ما ذكر من الكبائر ظاهر وبه صرح أبو زرعة وغيره كالخمر بل بالغ الذهبي فجعلها كالخمر في النجاسة والحد ومال في ذلك إلى ما قدمته عن الحنابلة
____________________
(1/421)
وغيرهم
قال وهي أخبث من جهة أنها تفسد العقل والمزاج حتى يصير في متعاطيها تخنيث أي ابنة ونحوها ودياثة وقوادة وفساد في المزاج والعقل وغير ذلك من الفساد والخمر أخبث من جهة أنها تفضي إلى المخاصمة والمقاتلة كلاهما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة
قال وتوقف بعض العلماء المتأخرين على الحد فيها ورأى أن فيها التعزير لأنها تغير العقل من غير طرب كالبنج وأنه لم يجد للعلماء المتقدمين فيها كلاما وليس كذلك بل آكلوها يحصل لهم نشوة واشتهاء كشرب الخمر وأكثر حتى إنهم لا يصبرون عنها وتصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة ولكونها جامدة مطعومة تنازع العلماء في نجاستها على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره
فقيل هي نجسة كالخمر المشروبة وهذا هو الاعتبار الصحيح وقيل لا لجمودها وقيل يفرق بين جامدها ومائعها وبكل حال فهي داخلة فيما حرم الله ورسوله من الخمر المسكر لفظا ومعنى وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يا رسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن البتع وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد والمزر وهو الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطي جوامع الكلم بخواتيمه فقال صلى الله عليه وسلم كل مسكر حرام
قال صلى الله عليه وسلم ما أسكر كثيره فقليله حرام ولم يفرق صلى الله عليه وسلم بين نوع ونوع ككونه مأكولا أو مشروبا على أن الخمر قد تؤكل بالخبز والحشيشة قد تذاب وتشرب وإنما لم يذكرها السلف لأنها لم تكن في زمنهم وقد قيل فيها فآكلها وزاعمها حلالا فتلك على الشقي مصيبتان فوالله ما فرح إبليس بمثل فرحه بالحشيشة لأنه زينها للأنفس الخسيسة فاستحلوها واسترخصوها وقالوا فيها قل لمن يأكل الحشيشة عشت في أكلها بأقبح عيشه قيمة العقل بدرة فلماذا يا أخا الجهل بعته بحشيشه هذا كلام الذهبي وما ذكره من النجاسة والحد ضعيف كما مر
____________________
(1/422)
الكبيرة الحادية والثانية والثالثة والسبعون بعد المائة المسفوح أو لحم الخنزير أو الميتة وما ألحق بها في غير مخمصة قال تعالى حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق وقال جل ذكره قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس قال المفسرون استثنى الله تعالى في الآية الأولى من الإباحة أحد عشر نوعا الميتة وتحريمها موافق للعقول لأن الدم جوهر لطيف جدا فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس دمه في عروقه وتعفن وفسد وحصل من أكله ما لا ينبغي ويستثنى منها السمك والجراد لحديثين صحيحين بهما وصح في الحديث أيضا إن ذكاة الجنين ذكاة أمه
فإذا خرج جنين مذكاة ميتا أو به حياة غير مستقرة حل تبعا لها وإن كبر وكان له شعر والمراد بها ما زالت حياته لا بذكاة شرعية فدخل فيها الأنواع الآتية وخرج منها الجنين المذكور والصيد إذا مات بالضغطة أو ثقل نحو الكلب وغيره ذلك من كل ما زالت حياته بذكاة شرعية وإن لم يكن فيه إنهار دم
والدم وسبب تحريمه نجاسته أيضا وكانوا يملئون المعى أو المباعر من الدم ويشوونه ويطعمونه الضيف فحرم الله عليهم ذلك واتفق العلماء على تحريمه ونجاسته نعم يعفى عما يبقى في العروق واللحم على أنه خرج بالمسفوح في الآية الأخرى المفيدة لإطلاقه في هذه الآية ويستثنى منه الكبد والطحال للحديث الصحيح بهما على أنهما خرجا بالمسفوح أيضا فلا استثناء ونقل بعضهم عن الجمهور أن الدم حرام ولو غير مسفوح
ورد قول أبي حنيفة بحل غير المسفوح وليس كما زعم
والخنزير وسبب تحريمه نجاسته أيضا
قال العلماء ولأن الغذاء يصير جوهرا من بدن المتغذي فلا بد وأن يحصل للمتغذي أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلا من الغذاء والخنزير مطبوع على أخلاق ذميمة جدا منها الحرص الفاحش والرغبة الشديدة في المنهيات وعدم الغيرة فحرم أكله على الإنسان لئلا يتكيف بتلك الكيفية
____________________
(1/423)
القبيحة ومن ثم لما واظب النصارى سيما الفرنج على أكله أورثهم حرصا عظيما ورغبة شديدة في المنهيات وعدم الغيرة فإنه يرى الذكر من جنسه ينزو على أنثاه ولا يتعرض له لعدم غيرته بخلاف الغنم ونحوها فإنها ذوات عارية عن جميع الأخلاق الذميمة فلذلك لا يحصل للإنسان بسبب أكلها كيفية خارجة عن أغراضه وأحواله وإنما خص لحمه بالذكر مع أن جميعه حرام لأن لحمه هو المقصود الذاتي منه
قال القرطبي ولا خلاف أن جملة الخنزير محرمة إلا شعره فيجوز الخرز به انتهى ومذهبنا جواز الخرز به خلافا لمن نقل عن الشافعي تحريمه وخنزير الماء مأكول عندنا
وما أهل لغير الله به أي ذبح على اسم الصنم إذ الإهلال رفع الصوت ومنه فلان أهل بالحج إذا لبى واستهل الصبي إذا صرخ حين ولادته والهلال لأنه يصرخ عند رؤيته وكانوا يقولون عند الذبح باسم اللات والعزى فحرم عليهم
فمعنى وما أهل لغير الله به وما ذبح للطواغيت والأصنام قاله جمع وقال آخرون يعني ما ذكر عليه غير اسم الله
قال الفخر الرازي وهذا القول أولى لأنه أشد مطابقة للفظ الآية
قال العلماء لو ذبح مسلم ذبيحة وقصد بذبحها التقرب بها إلى غير الله تعالى صار مرتدا وذبيحته ذبيحة مرتد نعم ذبائح أهل الكتاب تحل لقوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم نعم إن ذبحوها باسم المسيح لم تحل عند الأئمة الأربعة وغيرهم
وقال جمع تحل مطلقا
ورد بأن وما أهل لغير الله به خاص فيقدم على عموم وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ونقل ابن عطية عن بعضهم أنه استفتى في امرأة مترفة نحرت جزورا للعبها فأفتى بأنه لا يحل أكلها لأنها ذبحت لصنم
والمنخنقة وهي التي تموت خنقا بأن يحبس نفسها بفعل آدمي أو غيره إلى أن تموت وكانت الجاهلية يخنقون الحيوان فإذا مات أكلوه
والموقوذة من وقذه النعاس أي غلبه وكأن المادة دالة على سكون واسترخاء فالموقوذة هي التي وقذت أي ضربت حتى استرخت وماتت ومنها المقتولة بالبندق فهي في معنى الميتة
والمنخنقة لأنها ماتت ولم يسل دمها
والمتردية من تردى أي سقط من علو فإذا سقطت من علو كجبل أو شجرة على أرض أو في بئر فماتت حرمت وإن أصابها سهم لأنها في الأول لم تزل حياتها بمحدد يجرح ويسيل بسببه دمها وفي الثاني شارك المحدد غيره فآثر غيره الحرمة لأن شرط الحل كما مر إزالة الحياة بمحض محدد يجرح
والنطيحة التي نطحتها أخرى فهي ميتة لفقد سيلان الدم ودخلت الهاء في هذه
____________________
(1/424)
الكلمات لأنها أوصاف للشاة وخص بالذكر لأنها من أعم ما يؤكل والكلام قد يخرج على الأعم الأغلب والمراد به الكل
نعم كان من حق النطيحة أن لا تدخلها هاء لأن فعيلا يستوي فيه المذكر والمؤنث إلا أنها لما جرت مجرى الأسماء خرجت عن قياس فعيل
وما أكل السبع أي أكل بعضه وكان أهل الجاهلية إذا جرح السبع شيئا فقتله وأكل بعضه أكلوا ما بقي فحرمه الله تعالى
واستفيد من قوله تعالى إلا ما ذكيتم أن ما أدرك من المنخنقة وما بعدها وبه حياة مستقرة وذكي حل وإلا فلا
وما ذبح على النصب قيل هي الحجارة كانوا يذبحون عليها فعلى حينئذ واضحة وقيل هي الأصنام تنصب لتعبد فعلى بمعنى اللام أي لأجلها والتقدير وما ذبح على اعتقاد تعظيمها
قال مجاهد وقتادة وابن جريج كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون حجرا منصوبة يعبدها أهل الجاهلية ويعظمونها ويذبحون لها وليست بأصنام إنما الأصنام هي الصورة المنقوشة وكانوا يلطخونها بتلك الأدمية ويضعون اللحم عليها فقال المسلمون يا رسول الله كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم فنحن أحق أن نعظمه فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل قوله تعالى لن ينال الله لحومها ولا دماؤها
ومعنى قوله تعالى وأن تستقسموا بالأزلام النهي عما كان تفعله الجاهلية من أن من أراد منهم حاجة أي حاجة كانت جاء إلى سادن الكعبة وكان عنده سبعة أقداح مستوية من شوحط وسميت بالأزلام لأنها زلمت أي سويت وكان مكتوبا على واحد منها نعم وآخر لا وآخر منكم وآخر من غيركم أي التزوج وآخر ملصق أي النسب وآخر عقل أي دية وآخر لا شيء عليه فإذا أرادوا أمرا أو اختلفوا في نسب أو تحمل دية جاءوا إلى هبل أعظم أصنامهم بمائة درهم وجزور لصاحب القداح حتى يجيلها لهم ويقولون يا آلهتنا إنا أردنا كذا وكذا فما خرج فعلوا بقضيته فنهى الله عن ذلك وحرمه وقال ذلكم فسق ووجه ذكرها مع هذه المطاعم أنها كانت ترفع عند البيت معها
قال القرطبي وسمي ذلك استقساما لأنهم كانوا يستقسمون به الرزق وما يريدون ونظير هذا الذي حرمه الله قول المنجم لا تخرج من أجل نجم كذا
واخرج من أجل نجم كذا
وقال جماعة المراد بالآية القمار
وقال ابن جبير الأزلام حصا
____________________
(1/425)
بيض كانوا يضربون بها ومجاهد هي كعاب فارس والروم يتقامرون بها
والشعبي الأزلام للعرب والكعاب للعجم
تنبيه عد هذه الثلاثة هو ظاهر الآيتين الكريمتين لأن الله تعالى سماها فسقا إذ قوله تعالى ذلكم فسق يرجع للجميع كما صرح به غير واحد من أئمتنا
وأما قول بعض المفسرين إنه يرجع لما وليه فقط فليس في محله إذ القاعدة المقررة في الأصول قاضية برجوعه للكل فلا وجه للتخصيص بالبعض لكنهم لم يصرحوا بالدم وقد علمت قيام الدليل عليه وينبغي أن يلحق به أكل نجاسة غير معفو عنها تعديا ثم رأيت التصريح به الآتي قريبا
الكبيرة الرابعة والسبعون بعد المائة إحراق الحيوان بالنار للحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا بالنار وإن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما
قال ابن مسعود رضي الله عنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قرية نمل أي مكانه قد حرقناها فقال من حرق هذه قلنا نحن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا ربها
تنبيه عد هذا كبيرة على إطلاقه سواء كان مأكولا أو غيره صغيرا أو كبيرا هو ما في الروضة وأصلها عن صاحب العدة
وتوقف الرافعي في إطلاقه وتبعه الأذرعي فقال قول صاحب العدة وإحراق الحيوان في إطلاقه نظر فإن الحكم على من أحرق قملة أو برغوثا أو نحوهما بأنه يصير بذلك فاسقا فيه بعد ولا بد أن يكون المحرق عالما بالنهي عن ذلك وتحريمه انتهى وتبعه تلميذه في الخادم فتوقف في ذلك الإطلاق ثم قال نعم إن لم يمكن قتله إلا بها فذاك ا ه
وتعقب ذلك بعضهم فقال وفيما ذكره في الإحراق نظر والوجه الأخذ بالإطلاق ويوافقه جريان جماعة متأخرين على عد ذلك مع إطلاقه كبيرة ولم ينظروا إلى توقف الرافعي وغيره وقول الزركشي نعم إلخ صرح به
____________________
(1/426)
غيره أيضا وشرط فيه أنه لا يمكن دفعه عنه إلا بقتله وهو مراد الزركشي بقوله إن لم يمكن بقتله إلا بها
قال الجلال البلقيني ولم يعترض النووي الرافعي في توقفه السابق فكأنه ارتضاه ويظهر أن يقال الفواسق الخمس إذا تعين طريقا لإزالة ضررهن الإحراق بالنار لا يمنع من ذلك فأما غيرها من الآدمي والحيوان ولو غير مأكول فقد يجزم بكونه كبيرة لخبر مسلم أن ابن عمر مر بنفر نصبوا دجاجة يترامونها فلما رأوه تفرقوا عنها فقال من فعل هذا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من فعل هذا والتعذيب بالنار كالتعذيب باتخاذها غرضا أو أشد
وروى مسلم إن الله يعذب الذين يعذبون في الدنيا وفي رواية يعذبون الناس والأولى أعم قال ذلك لما رأى قوما يعذبون بالشمس فما الظن بالإحراق بالنار
الكبيرة الخامسة والسادسة والسابعة والسبعون بعد المائة تناول النجس والمستقذر والمضر وعد هذه الثلاثة هو ما صرح به بعض المتأخرين ويستدل في الأولى بأن ما ذكر فيها هو قياس ما مر في الميتة لأنها لم تحرم لضررها بل لنجاستها كما صرحوا به وإذا حرمت لنجاستها وقد سماها الله تعالى فسقا فيلحق بها في ذلك كل نجاسة غير معفو عنها فظهر وجه عد هذه كبيرة
وفي الثانية بأن المستقذر كالمخاط والمني يلحق بالنجاسة في تلطيخ نحو المصحف كما مر في الكبيرة الأولى أول الكتاب فلا بعد في إلحاقه بها هنا وأما الثالثة فالحكم فيها ظاهر لأن تناول المضر مفسد للبدن أو العقل وذلك عظيم الإثم والوزر وكما أن إضرار الغير الذي لا يحتمل كبيرة فكذا إضرار النفس بل هذا أولى لأن حفظ النفس أهم من حفظ الغير
فرع ذكر أصحابنا أنه يحرم أكل طاهر مضر بالبدن كالطين والسم كالأفيون إلا القليل من ذلك لحاجة التداوي مع غلبة السلامة أو بالعقل كنبات مسكر غير مطرب وله التداوي به وإن أسكر إن تعين بأن قال له طبيبان عدلان لا ينفع علتك غيره ولو شك في نبات هل هو سم أم غيره أو في نحو لبن هل هو مأكول أو غيره حرم عليه تناوله ولو وقع نحو ذباب في نحو طبيخ وتهرئ فيه حل أكله أو نحو طائر أو جزء آدمي لم يحل وإن تهرئ ولو وجد نجاسة في طعام طرأ عليه الجمود وشك هل وقعت فيه مائعا أو جامدا حل تناوله لأن الأصل طهارته مع أنه يحتمل أن وقوعها فيه جامدا
____________________
(1/427)
فينزعها وما حولها فقط وإن غلب على ظنه أنها وقعت فيه مائعا ويحرم الدرياق المخلوط بلحم الحيات إلا لضرورة تجوز أكل الميتة ولو عم الحرام أرضا ولم يبق بها حلال وتوقع معرفة أربابه جاز تناول قدر الحاجة منه دون التنعم ولا يتوقف على الضرورة
خاتمة الحيوان إما يضر ولا ينفع كحية وعقرب وفأرة وحدأة وكلب عقور وغراب غير زاغ وذئب وأسد ونمر وسائر السباع ودب ونسر وعقاب وبرغوث ونمل صغير ووزغ وسام أبرص وبق وزنبور فهذه كلها ونحوها يسن قتلها ولو لمحرم في الحرم
وأما ما ينفع ويضر كفهد وصقر وباز فلا يسن قتله لنفعه ولا يكره لضره
وأما ما لا ينفع ولا يضر كخنفساء وجعل وسرطان ورخمة فيكره قتله نعم الكلب الذي لا نفع فيه ولا ضرر وقع في حل قتله تناقض والمعتمد حرمته كما في المجموع عن الأصحاب ويفرق بينه وبين ما ذكر بأن تلك في حكم الحشرات فاغتفر فيها ما لا يغتفر في غيرها ويؤيده قولهم هنا يحرم قتل النمل الكبير مع أنه لا نفع فيه ولا ضرر
قالوا ويحرم أيضا قتل النحل والخطاف والصرد والضفدع وكلب نحو الصيد أو الحراسة ولو أسود
____________________
(1/428)
@ 429 الكبيرة الثامنة والسبعون بعد المائة بيع الحر أخرج البخاري وابن ماجه وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال الله تعالى ثلاث أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا ثم أكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره
تنبيه عد هذا كبيرة هو صريح ما في هذا الحديث من الوعيد الشديد وبه صرح بعض المتأخرين وهو ظاهر جلي
قال الطحاوي وكان الحر يباع في الدين الذي عليه أول الإسلام إذا لم يكن له مال يقضيه به حتى نسخ الله ذلك بقوله وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ولم يقل قوم بالنسخ بل قالوا إن ذلك باق إلى الآن لما رواه البزار والدارقطني عن بعض الصحابة قال كان لرجل علي مال أو قال دين فذهب بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصب لي مالا فباعني منه أو باعني له ولا حجة فيه لأنه ضعيف
الكبيرة التاسعة والسبعون والثمانون والحادية والثمانون والثانية والثالثة والرابعة والثمانون بعد المائة أكل الربا وإطعامه وكتابته وشهادته والسعي فيه والإعانة عليه قال الله تعالى الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم ثم قال يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم
____________________
(1/429)
لا تظلمون ولا تظلمون وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون واتقوا النار التي أعدت للكافرين فتأمل هذه الآيات وما اشتملت عليه من عقوبة أكل الربا وينكشف ذلك بالكلام على بعضها باختصار فالربا لغة الزيادة وشرعا عقد على عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد أو مع تأخير في البدلين أو أحدهما وهو ثلاثة أنواع ربا الفضل وهو البيع مع زيادة أحد العوضين المتفقي الجنس على الآخر
وربا اليد وهو البيع مع تأخير قبضهما أو قبض أحدهما عن التفرق من المجلس أو التخاير فيه بشرط اتحادهما علة بأن يكون كل منهما مطعوما أو كل منهما نقدا وإن اختلف الجنس
وربا النساء وهو البيع للمطعومين أو للنقدين المتفقي الجنس أو المختلفية لأجل ولو لحظة وإن استويا وتقابضا في المجلس
فالأول كبيع صاع بر بدون صاع بر أو بأكثر أو درهم فضة بدون درهم فضة أو بأكثر سواء أتقابضا أم لا وسواء أجلا أم لا
والثاني كبيع صاع بر بصاع بر أو درهم ذهب بدرهم ذهب أو صاع بر بصاع شعير أو أكثر أو درهم ذهب بدرهم فضة أو أكثر لكن تأخر قبض أحدهما عن المجلس أو التخاير
الثالث كبيع صاع بر بصاع بر أو درهم فضة بدرهم فضة لكن مع تأجيل أحدهما ولو إلى لحظة وإن تساويا وتقابضا في المجلس
والحاصل أنه متى أستوى العوضان جنسا وعلة كبر ببر أو ذهب بذهب اشترط ثلاثة شروط التساوي وعلمهما به يقينا عند العقد والحلول والتقابض قبل التفرق ومتى اختلفا جنسا واتحدا علة كبر بشعير أو ذهب بفضة اشترط شرطان الحلول والتقابض وجاز التفاضل ومتى اختلفا جنسا وعلة كبر بذهب أو ثوب لم يشترط شيء من هذه الثلاثة فالمراد بالعلة هنا إما الطعم بأن يقصد الشيء للاقتيات أو الأدم أو التفكه أو التداوي
وأما النقدية وهي منحصرة في الذهب والفضة مضروبة وغيرها فلا ربا في الفلوس
____________________
(1/430)
وإن راجت وزاد المتولي نوعا رابعا وهو ربا القرض لكنه في الحقيقة يرجع إلى ربا الفضل لأنه الذي فيه شرط يجر نفعا للمقرض فكأنه أقرضه هذا الشيء بمثله مع زيادة ذلك النفع الذي عاد إليه وكل من هذه الأنواع الأربعة حرام بالإجماع بنص الآيات المذكورة والأحاديث الآتية وكل ما جاء في الربا من الوعيد شامل للأنواع الأربعة نعم بعضها معقول المعنى وبعضها تعبدي وربا النسيئة هو الذي كان مشهورا في الجاهلية لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل على أن يأخذ منه كل شهر قدرا معينا ورأس المال باق بحاله فإذا حل طالبه برأس ماله فإن تعذر عليه الأداء زاد في الحق والأجل وتسمية هذا نسيئة مع أنه يصدق عليه ربا الفضل أيضا لأن النسيئة هي المقصودة فيه بالذات وهذا النوع مشهور الآن بين الناس وواقع كثيرا
وكان ابن عباس رضي الله عنهما لا يحرم إلا ربا النسيئة محتجا بأنه المتعارف بينهم فينصرف النص إليه لكن صحت الأحاديث بتحريم الأنواع الأربعة السابقة من غير مطعن ولا نزاع لأحد فيها ومن ثم أجمعوا على خلاف قول ابن عباس على أنه رجع عنه لما قال له أبي أشهدت ما لم نشهد أسمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع ثم روى له الحديث الصريح في تحريم الكل ثم قال له لا آواني وإياك ظل بيت ما دمت على هذا فحينئذ رجع ابن عباس
قال محمد بن سيرين كنا في بيت عكرمة
فقال له رجل أما تذكر ونحن ببيت فلان ومعنا ابن عباس فقال إنما كنت استحللت الصرف برأيي ثم بلغني أنه صلى الله عليه وسلم حرمه فاشهدوا أني حرمته وبرئت إلى الله منه
وأبدوا لتحريم الربا أمورا غير مطردة في كل أنواعه ومن ثم قلت فيما مر إن بعضه تعبدي منها أنه إذا باع درهما بدرهمين نقدا أو نسيئة أخذ في الأول زيادة من غير عوض وحرمة مال المسلم كحرمة دمه وكذا في الثاني لأن انتفاع الأخذ بالدرهم الزائد أمر موهوم فمقابلة هذا الانتفاع الموهوم بدرهم زائد فيه ضرر أي ضرر
ومنها أنه لو حل ربا الفضل لبطلت المكاسب والتجارات إذ من يحصل درهمين بدرهم كيف يتجشم مشقة كسب أو تجارة وببطلانهما تنقطع مصالح الخلق إذ مصالح العالم لا تنتظم إلا بالتجارات والعمارات والحرف والصناعات
ومنها أن الربا يفضي إلى انقطاع المعروف والإحسان الذي في القرض إذ لو حل درهم بدرهمين ما سمح أحد بإعطاء درهم بمثله
ومنها أن الغالب غنى المقرض وفقر المستقرض فلو مكن الغني من أخذ أكثر من
____________________
(1/431)
المثل أضر بالفقير ولم يلق برحمة الرحمن الرحيم
وقوله تعالى لا يقومون إلخ أي لا يقومون من قبورهم إلا كما يقوم أي مثل قيام الذي يتخبطه الشيطان أي يصرعه الشيطان من خبط البعير بأخفافه إذا ضرب الأرض بها من المس أي من أجل مسه له أو من جهة الجنون فإذا بعث الله الناس يوم القيامة خرجوا مسرعين من قبورهم إلا أكلة الربا فإنهم كلما قاموا سقطوا على وجوههم وجنوبهم وظهورهم كما أن المصروع يحصل له ذلك وسر ذلك أنهم لما أكلوا هذا الحرام السحت بوجه المكر والخداع ومحاربة الله ورسوله ربا في بطونهم وزاد حتى أثقلها فلذلك عجزوا عن النهوض مع الناس وصاروا كلما أرادوا الإسراع مع الناس ونهضوا سقطوا على ذلك الوجه القبيح وتخلفوا عنهم
ومعلوم أن النار التي تحشرهم إلى الموقف كلما سقطوا وتخلعوا أكلتهم وزاد عذابهم بها فجمع الله عليهم في الذهاب إلى الموقف عذابين عظيمين ذلك التخبط والسقوط في ذهابهم ولفح النار وأكلها لهم وسوقها إياهم بعنف حتى يصيروا إلى الموقف فيكونون فيه على ذلك التخبط ليمتازوا ويشتهروا بين أهل الموقف كما قال قتادة إن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا وذلك علم لأكلة الربا يعرفهم به أهل الموقف
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما أسري بي مررت بقوم بطونهم بين أيديهم كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم قد مالت بهم بطونهم منضدين على سابلة أي طريق آل فرعون وآل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا
قال فيقبلون مثل الإبل المنهزمة لا يسمعون ولا يعقلون فإذا حس بهم أصحاب تلك البطون قاموا فتميل بهم بطونهم فلا يستطيعون أن يبرحوا حتى يغشاهم آل فرعون فيؤذونهم مقبلين ومدبرين فذلك عذابهم في البرزخ بين الدنيا والآخرة
قال صلى الله عليه وسلم فقلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس
وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم لما عرج بي سمعت في السماء السابعة فوق رأسي رعدا وصواعق ورأيت رجالا بطونهم بين أيديهم كالبيوت فيها حيات وعقارب ترى من ظاهر بطونهم فقلت من هؤلاء يا جبريل فقال هؤلاء أكلة الربا
____________________
(1/432)
وسيأتي هذان في الأحاديث مع حديث إياك والذنوب التي لا تغفر الغلول فمن غل شيئا أتى به يوم القيامة وأكل الربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا ثم قرأ هذه الآية
وخبر يأتي آكل الربا يوم القيامة مخبلا يجر شقيه ثم قرأها أيضا
وصح في الحديث السابق بطوله أول كتاب الصلاة أن آكل الربا يعذب من حين يموت إلى يوم القيامة بالسباحة في نهر أحمر مثل الدم وأنه يلقم الحجارة كلما ألقمه حجرا سبح به ثم عاد فاغرا فاه فيلقم حجرا آخر وهكذا إلى البعث وتلك الحجارة هي نظير المال الحرام الذي جمعه في الدنيا فيلقم تلك الحجارة النارية ويعذب بها كما حاز ذلك المال الحرام وابتلعه وسيأتي في الأحاديث أنواع العذاب الأليم التي أعدت له
وقوله تعالى ذلك بأنهم إلخ أي أذاقهم الله ذلك العذاب الشديد بسبب قولهم الفاسد الذي حكموا فيه قياس عقولهم القاصرة حتى قدموه على النص إنما البيع مثل الربا جاعلين الربا هو الأصل المقيس عليه البيع مبالغة في حله ومحبته والاعتناء بشأنه
ووجه ذلك القياس الفاسد الذي تخيلوه أنه كما يجوز شراء شيء بعشرة ثم بيعه بأحد عشر حالا أو مؤجلا يجوز بيع عشرة بأحد عشر حالا أو مؤجلا إذ لا فرق عقلا بين هذه الصور مع حصول التراضي من الجانبين وغفلوا عن أن الله تعالى حد لنا حدودا ونهانا عن مجاوزتها فوجب علينا امتثال ذلك لأن حدود الله تعالى لا تقابل بقضية رأي ولا عقل بل يجب قبولها سواء أفهمنا لها معنى مناسبا أم لا
إذ هذا هو شأن التكليف والتعبد
والعبد الضعيف العاجز القاصر الفهم والعقل والرأي يتعين عليه الاستسلام لأوامر سيده القوي القادر العليم الحكيم الرحمن الرحيم المنتقم الجبار العزيز القهار ومتى حكم عقله وعارض به أمر سيده انتقم منه وأهلكه بعذابه الشديد إن بطش ربك لشديد إن ربك لبالمرصاد
وقوله تعالى فمن جاءه موعظة من ربه أي واصلة إليه منه أو من مواعظ ربه فانتهى أي رجع عما كان عليه من أخذ الربا فورا عقب الموعظة فله ما سلف أي
____________________
(1/433)
ما سبق مما أخذه بالربا قبل نزول آية تحريمه لأنه حينئذ لم يكن مكلفا به بخلافه بعد نزول آية تحريمه فإن من تاب منه يلزمه رد جميع ما أخذه بالربا وإن فرض أنه لم يعلم التحريم لبعده عن العلماء لأنه تعاطاه وقت التكليف به والجهل الذي يعذر به صاحبه إنما يؤثر في رفع الإثم دون الغرامات ونحوها من الأموال وأمره إلى الله أي أمر ما سلف أو المنتهي عن الربا أو الربا إلى الله في العفو وعدمه أو في استمرار تحريم الربا ثم في معنى ذلك وجوه للمفسرين
قال الفخر الرازي والذي أختاره أنها مختصة بمن ترك استحلال الربا من غير بيان أنه ترك أكله أم لا أي إلا باعتبار ما يأتي آخر الآية فإنه يدل على أنها مختصة بمن ترك استحلاله مع تعاطيه له ويدل على الاختصاص الأول قوله تعالى فانتهى أي عما دل عليه سابقه وهو قوله إنما البيع مثل الربا من تحليله
وقوله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون أي عاد إلى الكلام المتقدم وهو إنما البيع مثل الربا ثم إذا انتهى عن استحلاله فإما أنه انتهى عن أكله أيضا وليس مرادا لأنه لا يليق به وأمره إلى الله وإنما يليق به المدح أو لم ينته عن أكله مع اعتقاده لحرمته فهذا هو المراد لأنه هو الذي أمره إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء غفر له فهو كقوله ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء يمحق الله الربا أي معاملة لفاعليه بنقيض قصدهم فإنهم آثروه تحصيلا للزيادة غير ملتفتين إلى أن ذلك يغضب الله تعالى فمحق تلك الزيادة بل والمال من أصله حتى صير عاقبتهم إلى الفقر المدقع كما هو مشاهد من أكثر من يتعاطاه وبفرض أنه مات على غرة يمحقه الله من أيدي ورثته فلا يمر عليهم أدنى زمان إلا وقد صاروا بغاية الفقر والذل والهوان
قال صلى الله عليه وسلم الربا وإن كثر فإلى قل
ومن المحق أيضا ما ترتب عليه من الذم والبغض وسقوط العدالة وزوال الأمانة وحصول اسم الفسق والقسوة والغلظة
وأيضا فدعاء من ظلم بأخذ ماله عليه باللعنة وذلك سبب لزوال الخير والبركة عن نفسه وماله إذ دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب أي كناية عن قبولها
ولهذا ورد إن الله تعالى يقول للمظلوم إذا دعا على ظالمه لأنصرنك ولو بعد حين
وأيضا فمن اشتهر أنه جمع مالا من ربا تتوجه إليه المحن الكثيرة من الظلمة واللصوص وغيرهم زاعمين أن المال ليس له في الحقيقة
____________________
(1/434)
هذا كله محق الدنيا
وأما محق الآخرة
فقال ابن عباس رضي الله عنهما لا يقبل منه صدقة ولا جهاد ولا حج ولا صلة
وأيضا فإنه يموت ويترك ماله كله وعليه عقوبته وتبعته والعذاب الأليم بسببه
ومن ثم ورد مصيبتان لن يصاب أحد بمثلهما أن تترك مالك كله وتعاقب عليه كله
وأيضا صح أن الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام فإذا كان هذا في الأغنياء بالمال الحلال المحض فما ظنك بذي المال الحرام السحت فذلك كله هو المحق والنقصان والخسران المبين والذل والهوان ويربي الصدقات أي يزيدها في الدنيا بسؤال الملك له أن الله يعطيه خلفا كما جاء في الأحاديث الصحيحة إنه ما من يوم إلا وفيه ملك ينادي اللهم أعط منفقا خلفا وبأنه يزداد كل يوم جاهه وذكره الجميل وميل القلوب إليه والدعاء الخالص له من قلوب الفقراء وانقطاع الأطماع عنه فإنه متى اشتهر بإصلاح مهمات الفقراء أو الضعفاء فكل أحد يحترز عن أذيته والتعرض له وكل طماع وظالم يتخوف من التعرض إليه وفي الآخرة بتربيتها إلى أن تصير اللقمة كالجبل كما صح في الأحاديث السابقة أواخر الزكاة والله لا يحب كل كفار أثيم كلاهما صيغة مبالغة من الكفر والإثم لاستمرار مستحل الربا وآكله عليهما وتماديه في ذلك ثم يصح رجوعهما معا للمستحل ولا إشكال فيه أو الأول له والثاني لغيره ولا إشكال أيضا
ويصح أيضا رجوعهما معا إلى غير المستحل ويكون على حد من ترك الصلاة فقد كفر أو الحج فقد كفر ومن أتى امرأته وهي حائض فقد كفر ومن أتاها في دبرها فقد كفر أي قارب الكفر كما مر في الحج بمعنى أن تلك الأعمال الخبيثة إذا داوم عليها فاعلها أدت به إلى الكفر وسوء الخاتمة والعياذ بالله وفي هذا تحذير عظيم بالغ من الربا وأنه يؤدي بمتعاطيه إلى أن يوقعه في أقبح أنواع الكفر وأفظعها
قال تعالى يا أيها الذين آمنوا إلخ أردفه تعالى بما مر جريا على عادة القرآن من شفع الرهبة بالرغبة وعكسه تذكيرا بالعواقب وتمييزا لمقام المطيع من العاصي ومبالغة في الثناء على ذلك وفي الذم لهذا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا أي في ذمة المدين وبين تعالى بهذا مع قوله فله ما سلف أن نزول تحريم الربا لا يحرم ما سلف أخذه قبل التحريم بخلاف ما بقي بعد التحريم فإنه يحرمه فليس له إلا رأس ماله فقط لأنه لما كلف به قبل أخذه صار أخذه محرما عليه
وسبب نزول هذه الآية أن أهل مكة
____________________
(1/435)
أو بعضهم أو بعض أهل الطائف كانوا يرابون فلما أسلموا عند فتحها تخاصموا في الربا الذي لم يقبض فنزلت آمرة لهم بأخذ رءوس أموالهم فقط
وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته بعرفة في حجة الوداع ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ثم قال وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله
وقوله تعالى إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا أي بأن لم تنتهوا عن الربا فأذنوا بحرب من الله ورسوله أي ومن حاربه الله ورسوله لا يفلح أبدا
ثم المراد بذلك الحرب إما في الدنيا إذ يجب على حكام الشريعة أنهم إذا علموا من شخص تعاطي الربا عزروه عليه بالحبس وغيره إلى أن يتوب فإن كانت له شوكة ولم يقدروا عليه إلا بنصب حرب وقتال نصبوا له الحرب والقتال كما قاتل أبو بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة
وقال ابن عباس من عامل بالربا استتيب فإن تاب وإلا ضربت عنقه فيحتمل حمله على المستحل ويحتمل الإطلاق وهما قولان في الآية فقيل الإيذان بالحرب إنما هو للمستحل وقيل بل له ولغيره والأول أنسب بنظم الآية إذ قوله إن كنتم مؤمنين أي بتحريم الربا فإن لم تفعلوا أي فإن لم تؤمنوا بتحريمه فأذنوا إلخ وأما في الآخرة بأن يختم الله له بسوء ومن ثم كان اعتياد الربا والتورط فيه علامة على سوء الخاتمة إذ من حاربه الله ورسوله كيف يختم له مع ذلك بخير وهل محاربة الله ورسوله له إلا كناية عن إبعاده عن مواطن رحمته وإحلاله في دركات شقاوته وإن تبتم أي عن استحلاله على القول الأول أو عن معاملته على القول الثاني فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون أي الغريم بأخذ زيادة منه على رأس المال ولا تظلمون أي بنقصكم عن رءوس أموالكم
ولما نزلت هذه الآية قال المرابون بل نتوب إلى الله فإنه لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله فرضوا برأس المال فشكا المدينون الإعسار فأبوا الصبر عليهم فنزل وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة أي فيلزمكم أن تمهلوه إلى يساره وكذا يجب إنظار المعسر في كل دين أخذا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وأخذ جمع به هذا ما يتعلق ببعض هذه الآيات
وأما ما يتعلق بالآية الآخرة وهي قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا إلخ فسبب نزولها أن الرجل كان في الجاهلية إذا كان له على غيره مائة درهم مثلا إلى
____________________
(1/436)
أجل وأعسر المدين قال له زدني في المال حتى أزيد في الأجل فربما جعله مائتين فإذا حل الأجل الثاني فعل مثل ذلك وهكذا إلى آجال كثيرة فيأخذ في تلك المائة أضعافا فلذا قال الله تعالى أضعافا مضاعفة واتقوا الله أي بترك الربا لعلكم تفلحون أي تظفرون ببغيتكم وفيه إشارة إلى أن من لم يترك الربا لا يحصل له شيء من الفلاح وسببه ما مر في تلك الآية من أن الله حاربه هو ورسوله صلى الله عليه وسلم ومن حاربه الله ورسوله كيف يتصور له فلاح ففي هذه الآية أيضا إيماء إلى سوء خاتمته ودوام عقوبته
ومن ثم قال تعالى عقبها واتقوا النار التي أعدت للكافرين أي هيئت لهم بطريق الذات ولغيرهم بطريق التبع أو المراد أن أكثر دركاتها أعدت للكافرين فلا ينافي أن بعض عصاة المؤمنين يدخلونها ففيها إشارة إلى أن من بقي على الربا يكون مع الكفار في تلك النار التي أعدت لهم لما تقرر من تلك المحاربة التي حصلت له وأدت به إلى سوء الخاتمة
فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم
وتأمل وصف الله تعالى تلك النار بكونها أعدت للكافرين فإن فيه غاية الوعيد والزجر لأن المؤمنين المخاطبين باتقاء المعاصي إذا علموا بأنهم متى فارقوا التقوى دخلوا النار المعدة للكافرين وقد تقرر في عقولهم عظمة عقوبة الكافرين انزجروا عن المعاصي أتم الانزجار
فتأمل عفا الله عنا وعنك ما ذكره الله تعالى في هذه الآيات من وعيد آكل الربا يظهر لك إن كان لك أدنى بصيرة قبح هذه المعصية ومزيد فحشها وعظيم ما يترتب من العقوبات عليها سيما محاربة الله ورسوله اللذين لم يترتبا على شيء من المعاصي إلا معاداة أولياء الله تعالى المقاربة لفحش هذه الجناية وقبحها
وإذا ظهر لك ذلك رجعت وتبت إلى الله تعالى عن هذه الفاحشة المهلكة في الدنيا والآخرة وقد شرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ما طوى التصريح به في تلك الآيات من تلك العقوبات والقبائح الحاصلة لأهل الربا في أحاديث كثيرة صحيحة وغيرها أحببت هنا ذكر كثير منها ليتم لمن سمعها مع ما مر الانزجار عنها إن شاء الله تعالى
فمنها أخرج الشيخان وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اجتنبوا السبع الموبقات أي المهلكات قالوا يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات
____________________
(1/437)
والنسائي مختصرا ومر في باب الصلاة مطولا رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان
فقلت ما هذا الذي رأيته في النهر قال آكل الربا
ومسلم والنسائي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله
ورواه أبو داود والترمذي وصححه وابنا خزيمة وحبان في صحيحه كلهم من رواية عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه ولم يسمع منه وزادوا فيه وشاهديه وكاتبه
ومسلم وغيره لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء
والبزار من رواية عمرو بن أبي شيبة ولا بأس به في المتابعات الكبائر سبع أولهن الإشراك بالله وقتل النفس بغير حقها وأكل الربا وأكل مال اليتيم وفرار يوم الزحف وقذف المحصنات والانتقال إلى الأعراب بعد هجرته
والبخاري وأبو داود لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة وآكل الربا وموكله ونهى عن ثمن الكلب وكسب البغي ولعن المصورين
وأحمد وأبو يعلى وابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما من رواية الحارث وهو الأعور واختلف فيه كما مر عن ابن مسعود رضي الله عنه قال آكل الربا وموكله وشاهداه وكاتبه إذا علموا به والواشمة والمستوشمة للحسن ولاوي الصدقة والمرتد أعرابيا بعد الهجرة ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم
والحاكم وصححه
واعترض بأن فيه واهيا أربع حق على الله أن لا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها مدمن الخمر وآكل الربا وآكل مال اليتيم بغير حق
____________________
(1/438)
والعاق لوالديه
والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين والبيهقي من طريقه وقال هذا إسناد صحيح والمتن بهذا منكر الإسناد ولا أعلمه إلا وهما وكأنه دخل لبعض رواته إسناد إلى إسناد الربا ثلاث وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه
والبزار بسند رواته رواة الصحيح الربا بضع وسبعون بابا والشرك مثل ذلك
وروى ابن ماجه شطره الأول بسند صحيح والبيهقي الربا سبعون بابا أدناها الذي يقع على أمه رواه بإسناد لا بأس به ثم قال غريب بهذا الإسناد وإنما يعرف بعبد الله بن زياد عن عكرمة يعني ابن عمار قال وعبد الله بن زياد هذا منكر الحديث
والطبراني في الكبير عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله من ثلاث وثلاثين زنية يزنيها في الإسلام وفي سنده انقطاع
وروى ابن أبي الدنيا والبغوي وغيرهما موقوفا على عبد الله وهو الصحيح وهذا الموقوف في حكم المرفوع لأن كون الدرهم أعظم وزرا من هذا العدد المخصوص من الزنا لا يدرك إلا بوحي فكأنه سمعه منه صلى الله عليه وسلم ولفظ الموقوف في أحد طرقه
قال عبد الله الربا اثنان وسبعون حوبا أي بضم المهملة وبفتحها إثما أصغرها حوبا كمن أتى أمه في الإسلام ودرهم من الربا أشد من بضع وثلاثين زنية
قال ويأذن الله للبر والفاجر بالقيام يوم القيامة إلا آكل الربا فإنه لا يقوم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس
____________________
(1/439)
وأحمد بإسناد جيد عن كعب الأحبار قال لأن أزني ثلاثا وثلاثين زنية أحب إلي من أن آكل درهم ربا يعلم الله أني أكلته حين أكلته ربا
وأحمد بسند صحيح والطبراني أنه صلى الله عليه وسلم قال درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ستة وثلاثين زنية
وابن أبي الدنيا والبيهقي خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أمر الربا وعظم شأنه وقال إن الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ستة وثلاثين زنية يزنيها الرجل وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم
والطبراني في الصغير والأوسط من أعان ظالما بباطل ليدحض به حقا فقد برئ من ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم
ومن أكل درهما من ربا فهو مثل ثلاث وثلاثين زنية ومن نبت لحمه من سحت فالنار أولى به
والبيهقي إن الربا نيف وسبعون بابا أهونهن بابا مثل من أتى أمه في الإسلام ودرهم من ربا أشد من خمس وثلاثين زنية الحديث
والطبراني في الأوسط من رواية عمرو بن راشد وقد وثق الربا اثنان وسبعون بابا أدناها مثل إتيان الرجل أمه وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه
وابن ماجه والبيهقي عن أبي معشر وقد وثق عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الربا سبعون حوبا أيسرها أن ينكح الرجل أمه
____________________
(1/440)
والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تشترى الثمرة حتى تعظم
وقال إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله
وأبو يعلى بإسناد جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه ذكر حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه ما ظهر في قوم الزنا والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله
وأحمد بإسناد فيه نظر ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنة وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب والسنة العام المقحط نزل فيه غيث أم لا
وأحمد في حديث طويل وابن ماجه مختصرا والأصبهاني رأيت ليلة أسري بي لما انتهينا إلى السماء السابعة فنظرت فوقي فإذا أنا برعد وبروق وقواصف قال فأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم
قلت يا جبريل من هؤلاء قال هؤلاء أكلة الربا
والأصبهاني عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما عرج بي إلى السماء نظرت في سماء الدنيا فإذا رجال بطونهم كأمثال البيوت العظام قد مالت بطونهم وهم منضدون على سابلة آل فرعون موقوفون على النار كل غداة وعشي يقولون ربنا لا تقم الساعة أبدا قلت يا جبريل من هؤلاء قال هؤلاء أكلة الربا من أمتك لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس
قال الأصبهاني قوله منضدون أي مطروحون أي طرح بعضهم على بعض والسابلة المارة أي يطؤهم آل فرعون الذين يعرضون على النار كل غداة وعشي
والطبراني بسند صحيح بين يدي الساعة يظهر الزنا والربا والخمر
____________________
(1/441)
والطبراني بسند لا بأس به عن القاسم بن عبد الله الوراق قال رأيت عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه في سوق الصيارفة فقال يا معشر الصيارفة أبشروا قالوا بشرك الله بالجنة بم تبشرنا يا أبا محمد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للصيارفة أبشروا بالنار
والطبراني إياك والذنوب التي لا تغفر الغلول فمن غل شيئا أتى به يوم القيامة وأكل الربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط ثم قرأ صلى الله عليه وسلم الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس
والأصبهاني يأتي آكل الربا يوم القيامة مخبلا أي مجنونا يجر شقيه ثم قرأ لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس
وابن ماجه والحاكم وصححه ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة والحاكم وصححه أيضا الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قل
وأبو داود وابن ماجه كلاهما عن الحسن عن أبي هريرة واختلف في سماعه منه والجمهور على عدمه ليأتين على الناس زمان لا يبقى منهم أحد إلا أكل الربا فمن لم يأكله أصابه من غباره
وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند والذي نفسي بيده ليبيتن أناس من أمتي على أشر وبطر ولهو ولعب فيصبحوا قردة وخنازير باستحلالهم المحارم واتخاذهم القينات وشربهم الخمر وبأكلهم الربا ولبسهم الحرير
____________________
(1/442)
وأحمد مختصرا والبيهقي واللفظ له يبيت قوم من هذه الأمة على طعم وشرب ولهو ولعب فيصبحون قد مسخوا قردة وخنازير وليصيبنهم خسف وقذف حتى يصبح الناس فيقولون خسف الليلة ببيت فلان وخسف الليلة بدار فلان ولترسلن عليهم حجارة من السماء كما أرسلت على قوم لوط على قبائل منها وعلى دور بشربهم الخمر ولبسهم الحرير واتخاذهم القينات وأكلهم الربا وقطيعتهم الرحم وخصلة نسيها راويه
القينات جمع قينة وهي المغنية
تنبيه عد الربا كبيرة هو ما أطبقوا عليه اتباعا لما جاء في الأحاديث الصحيحة من تسميته كبيرة بل من أكبر الكبائر وأعظمها
وروى الشيخان وأبو داود والنسائي أنه صلى الله عليه وسلم قال اجتنبوا السبع الموبقات قيل يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم والربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات
وفي رواية للبيهقي الكبائر تسع أعظمهن إشراك بالله وقتل نفس مؤمن وأكل الربا الحديث
وفي رواية للبزار وفي سندها من ضعفه شعبة وغيره ووثقه ابن حبان وغيره الكبائر أولهن الإشراك بالله وقتل النفس بغير حقها وأكل الربا وأكل مال اليتيم الحديث
وفي أخرى للطبراني في سندها ابن لهيعة اجتنبوا الكبائر السبع الشرك بالله وقتل النفس والفرار من الزحف وأكل مال اليتيم وأكل الربا الحديث
وفي أخرى لابن مردويه في تفسيره في سندها ضعيف كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن كتابا فيه الفرائض والسنن والديات وبعث به عمرو بن حزم رضي الله عنه وكان في الكتاب إن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة إشراك بالله وقتل النفس المؤمنة بغير حق والفرار في سبيل الله يوم الزحف وعقوق الوالدين ورمي المحصنة وتعلم السحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم ويستفاد من الأحاديث السابقة أيضا أن آكل
____________________
(1/443)
الربا وموكله وكاتبه وشاهده والساعي فيه والمعين عليه كلهم فسقة وأن كل ماله دخل فيه كبيرة
وقد صرح ببعض ذلك بعض أئمتنا وهو ظاهر جلي فلذلك عدت تلك كلها كبائر
الكبيرة الخامسة والثمانون بعد المائة الحيل في الربا وغيره عند من قال بتحريمها قال بعضهم ورد أن أكلة الربا يحشرون في صورة الكلاب والخنازير من أجل حيلهم على أكل الربا كما مسخ أصحاب السبت حين تحيلوا على اصطياد الحيتان التي نهاهم الله عن اصطيادها يوم السبت فحفروا لها حياضا تقع فيها يوم السبت حتى يأخذوها يوم الأحد فلما فعلوا ذلك مسخهم الله قردة وخنازير وهكذا الذين يتحيلون على الربا بأنواع الحيل فإن الله تعالى لا يخفى عليه حيل المحتالين
قال أبو أيوب السختياني يخادعون الله كما يخادعون آدميا ولو أتوا الأمر عيانا كان أهون عليهم انتهى
تنبيه الحيلة في الربا وغيره قال بتحريمها الإمامان مالك وأحمد رضي الله عنهما وقياس الاستدلال لها بما ذكر أن يكون أخذ الربا بالحيلة كبيرة عند القائلين بتحريم الحيلة وإن وقع الخلاف في حله حينئذ وذهب الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما إلى جواز الحيلة في الربا وغيره واستدل أصحابنا لحلها بما صح أن عامل خيبر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر كثير جيد فقال له أكل تمر خيبر هكذا قال لا وإنما نرد الرديء ونأخذ بالصاعين منه صاعا جيدا فنهاه صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأعلمه أنه ربا ثم علمه الحيلة فيه وهي أنه يبيع الرديء بدراهم ويشتري بها الجيد
وهذه من الحيل التي وقع الخلاف فيها فإن من معه صاعان رديئان يريد أن يأخذ في مقابلتهما صاعا جيدا لا يمكنه ذلك من غير توسط عقد آخر لأنه ربا إجماعا فإذا باعه الرديئين بدرهم واشترى بالدرهم الذي في ذمته الجيد خرج عن الربا
إذ لم يقع العقد إلا على مطعوم ونقد دون مطعومين فاضمحلت صورة الربا فأي وجه للتحريم حينئذ فعلم مما تقرر أن هذه الحيلة التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعامل خيبر نص في جواز مطلق الحيلة في الربا وغيره إذ لا قائل بالفرق
وأما ما استدل به أولئك من قصة اليهود المذكورة فهو مبني على أن شرع من قبلنا شرع
____________________
(1/444)
لنا
والأصح المقرر في الأصول خلافه وعلى التنزل فمحله حيث لم يرد في شرعنا ما يخالفه وقد علمت مما تقرر عنه صلى الله عليه وسلم أنه ورد في شرعنا ما يخالفه وذيل الاستدلال في هذه المسألة وغيرها طويل ومحل بسطه كتب الفقه والخلاف
الكبيرة السادسة والثمانون بعد المائة منع الفحل عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين ومنع فضل الماء ومنع الفحل رواه البزار
تنبيه عد هذا كبيرة هو ما وقع في كلام الجلال البلقيني لكنه قال بعد ذلك إسناد حديثه ضعيف ولا يبلغ ضرره ضرر غيره من الكبائر وإنما ذكرناه لتقدم ذكره في الحديث انتهى
ويؤيده أن منع إعارة الفحل للضراب غاية أمره أنه مكروه وبتقدير صحته يمكن حمله على ما لو اضطر أهل ناحية إلى فحل لفقد غيره بناحيتهم فحينئذ لا يبعد القول بوجوب تمكينه من الضراب لأن في ولادة الإناث حياة للأرواح وللأبدان بالألبان وغيرها لكن لا يلزمه ذلك مجانا
فإن قلت كيف تتصور الإجارة هنا وقد صح نهيه صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل وهو بيع ضرابه أو مائه أو أجرة ضرابه قلت يمكن تصويرها بأن يستأجر صاحب الأنثى الفحل بمال معين زمنا معينا ولو ساعة لأن ينتفع به ما شاء فتصح هذه الإجارة كما هو قياس كلامهم في بابها ويستوفي منافعه ولو بأن يحمله على أنثاه لأن ما لا يجوز الاستئجار له قصدا يجوز له تبعا
____________________
(1/445)
@ 446 الكبيرة السابعة والثمانون بعد المائة أكل المال بالبيوعات الفاسدة وسائر وجوه الأكساب المحرمة قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل واختلفوا في المراد به فقيل الربا والقمار والغصب والسرقة والخيانة وشهادة الزور وأخذ المال باليمين الكاذبة وقال ابن عباس هو ما يؤخذ من الإنسان بغير عوض وعليه قيل لما نزلت الآية تحرجوا من أن يأكلوا عند أحد شيئا حتى نزلت آية النور ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم إلى آخرها وقيل هو العقود الفاسدة والوجه قول ابن مسعود إنها محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة ا ه وذلك لأن الأكل بالباطل يشمل كل مأخوذ بغير حق سواء كان على جهة الظلم كالغصب والخيانة والسرقة أو الهزؤ واللعب كالمأخوذة بالقمار والملاهي وسيأتي ذلك كله أو على جهة المكر والخديعة كالمأخوذة بعقد فاسد ويؤيد ما ذكرته قول بعضهم الآية تشمل أكل الإنسان مال نفسه بالباطل بأن يتفقه في محرم ومال غيره به كالأمثلة المذكورة
وقوله تعالى إلا أن تكون تجارة استثناء منقطع لأن التجارة ليست من جنس الباطل بأي معنى أريد به وتأويله بالسبب ليكون متصلا ليس في محله والتجارة وإن اختصت بعقود المعاوضات إلا أن نحو القرض والهبة ملحق بها بأدلة أخرى
وقوله تعالى عن تراض منكم أي طيب نفس على الوجه المشروع وتخصيص الأكل فيها بالذكر ليس للتقييد به بل لكونه أغلب وجوه الانتفاعات على حد إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وأدلة هذا المبحث والتغليظات الواردة فيه من السنة كثيرة فلنقتصر على بعضها
أخرج مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك
____________________
(1/446)
والطبراني بإسناد حسن طلب الحلال واجب على كل مسلم
والطبراني والبيهقي طلب الحلال فريضة بعد الفرائض
والترمذي وقال حسن صحيح غريب والحاكم وصححه من أكل طيبا وعمل في سنة وأمن الناس بوائقه دخل الجنة قالوا يا رسول الله إن هذا في أمتك اليوم كثير قال وسيكون في قرون بعدي
وأحمد وغيره بإسناد حسن أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا حفظ أمانة وصدق حديث وحسن خلق وعفة في طعمة
والطبراني طوبى لمن طاب كسبه وصلحت سريرته وكرمت علانيته وعزل عن الناس شره
طوبى لمن عمل بعلمه وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله
والطبراني يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة
والذي نفس محمد بيده إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه عمل أربعين يوما وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به
والبزار وفيه نكارة إنه لا دين لمن لا أمانة له ولا صلاة ولا زكاة إنه من أصاب مالا من حرام فلبس جلبابا يعني قميصا لم تقبل صلاته حتى ينحي ذلك الجلباب عنه إن الله تبارك وتعالى أكرم وأجل من أن يقبل عمل رجل أو صلاته وعليه جلباب من حرام
وأحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال من اشترى ثوبا بعشرة دراهم وفيه درهم
____________________
(1/447)
من حرام لم يقبل الله عز وجل له صلاة ما دام عليه ثم أدخل إصبعيه في أذنيه ثم قال صمتا إن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم سمعته يقوله
والبيهقي من اشترى سرقة وهو يعلم أنها سرقة فقد اشترك في عارها وإثمها
قال الحافظ المنذري في إسناده احتمال للتحسين ويشبه أن يكون موقوفا
وأحمد بسند جيد والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب به إلى الجبل فيحتطب ثم يأتي فيحمله على ظهره فيأكل خير له من أن يجعل في فيه ما حرم الله عليه
وابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما والحاكم من جمع مالا حراما ثم تصدق به لم يكن له فيه أجر وكان إصره عليه
والطبراني من كسب مالا حراما فأعتق منه ووصل منه رحمه كان ذلك إصرا عليه
وأحمد وغيره بسند حسنه بعضهم إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا لمن يحب ومن أعطاه الله الدين فقد أحبه والذي نفسي بيده لأسلم أو لا يسلم عبد حتى سلم أو يسلم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه قالوا وما بوائقه يا رسول الله قال غشه وظلمه ولا يكسب عبد مالا من حرام فيتصدق منه فيقبل منه ولا ينفق منه فيبارك له فيه ولا يتركه خلف ظفره إلا كان زاده إلى النار
إن الله تعالى لا يمحو السيئ بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن إن الخبيث لا يمحو الخبيث
____________________
(1/448)
والترمذي وقال حسن صحيح غريب سئل صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس النار قال الفم والفرج وسئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة قال تقوى الله وحسن الخلق
والترمذي وصححه ما تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن علمه ماذا عمل فيه
والبيهقي الدنيا خضرة حلوة من اكتسب فيها مالا من حله وأنفقه في حقه أثابه الله عليه وأورده جنته ومن اكتسب فيها مالا من غير حله وأنفقه في غير حقه أورده الله دار الهوان ورب متخوض في مال الله ورسوله له النار يوم القيامة يقول الله تعالى كلما خبت زدناهم سعيرا
وابن حبان في صحيحه لا يدخل الجنة لحم ودم نبتا من سحت والنار أولى به
والترمذي لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به والسحت بضم فسكون أو ضم الحرام وقيل الخبيث من المكاسب
وفي رواية بسند حسن لا يدخل الجنة جسد غذي بحرام
تنبيه عد هذا كبيرة هو صريح ما في هذه الأحاديث وهو ظاهر لأنه من أكل أموال الناس بالباطل
قال بعضهم قال العلماء رضي الله عنهم ويدخل في هذا الباب المكاس والخائن والسارق والبطاط وآكل الربا وموكله وآكل مال اليتيم وشاهد الزور ومن استعار شيئا فجحده وآكل الرشوة ومنتقص الكيل والوزن ومن باع شيئا فيه عيب فغطاه والمقامر والساحر والمنجم والمصور والزانية والنائحة والدلال إذا أخذ أجرته بغير إذن البائع ومخبر المشتري بالزائد ومن باع حرا فأكل ثمنه انتهى
____________________
(1/449)
وهذا يؤيد ما قدمته في تفسير الآية من أن الباطل فيها يعم هذه الأشياء كلها وما في معناها من كل شيء أخذ بغير وجهه الشرعي
ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال يؤتى يوم القيامة بأناس معهم من الحسنات كأمثال جبال تهامة حتى إذا جيء بهم جعلها الله هباء منثورا ثم يقذف بهم في النار
قيل يا رسول الله كيف ذلك قال كانوا يصلون ويصومون ويزكون ويحجون غير أنهم كانوا إذا عرض لهم شيء من الحرام أخذوه فأحبط الله أعمالهم
ورئي بعض الصالحين في النوم فقيل له ما فعل الله بك قال خيرا غير أني محبوس عن الجنة بإبرة استعرتها ولم أردها
وقال سفيان الثوري من أنفق الحرام في الطاعة فهو كمن طهر الثوب بالبول
وقال عمر رضي الله عنه كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة من الوقوع في الحرام
وقال بلتعة بن الورد لو قمت قيام السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل في بطنك
وروي في حديث إن ملكا على بيت المعذبين ينادي كل يوم أو كل ليلة من أكل حراما لم يقبل منه صرف ولا عدل
وقال ابن المبارك لأن أرد درهما من شبهة أحب إلي من أن أتصدق بمائة ألف ومائة ألف ومائة ألف
وفي حديث من حج بمال حرام فقال لبيك قال الله تعالى لا لبيك ولا سعديك وحجك مردود عليك
وقال ابن أسباط إذا تعبد الشاب قال الشيطان لأعوانه انظروا من أين مطعمه فإن كان مطعمه مطعم سوء يقول دعوه يتعب ويجتهد فقد كفاكم نفسه أي لأن اجتهاده مع أكله الحرام لا ينفعه
وقال إبراهيم بن أدهم أطب مطعمك وما عليك أن لا تقوم الليل ولا تصوم النهار
وصح لا يكون العبد من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به بأس
وصح فضل العلم خير من فضل العبادة وخير دينكم الورع
وصح أيضا دع ما يريبك إلى ما لا
____________________
(1/450)
يريبك البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في القلب وتردد الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك
وروى أبو داود والنسائي إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات وسأضرب لكم في ذلك مثلا إن لله تعالى حمى وإن حمى الله ما حرم وإن من يرتع حول الحمى يوشك أن يخالطه فإنه من يخالط الريبة يوشك أنه يجسر
والبخاري والنسائي الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك ومن اجترأ أي بالهمز أقدم على ما يشك فيه من الإثم أوشك أي بفتح أوله وثالثه كاد وأسرع أن يواقع ما استبان والمعاصي حمى الله ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه
الكبيرة الثامنة والثمانون بعد المائة الاحتكار أخرج مسلم وأبو داود أنه صلى الله عليه وسلم قال من احتكر طعاما فهو خاطئ
والترمذي وصححه وابن ماجه لا يحتكر إلا خاطئ
قال أهل اللغة الخاطئ بالهمزة العاصي الآثم
وأحمد وأبو يعلى والبزار والحاكم من احتكر طعاما أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه وأيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعا فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى
قال الحافظ المنذري وفي هذا المتن غرابة وبعض أسانيده جيدة
وقال صلى الله عليه وسلم الجالب مرزوق والمحتكر ملعون رواه ابن ماجه والحاكم كلاهما عن علي بن سالم عن ثوبان عن علي بن زيد بن جدعان
وقال البخاري والأزدي لا
____________________
(1/451)
يتابع علي بن سالم على حديثه وقال الحافظ المنذري لا أعلم لعلي بن سالم غير هذا الحديث وهو في عداد المجهولين انتهى لكن ذكره ابن حبان في الثقات وابن ماجه بسند جيد متصل من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس والأصبهاني إن طعاما ألقي على باب المسجد فخرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين فقال ما هذا الطعام فقالوا طعام جلب إلينا أو علينا فقال له بعض الذين معه يا أمير المؤمنين قد احتكر
قال ومن احتكره قالوا احتكره فروخ وفلان مولى عمر بن الخطاب فأرسل إليهما فأتياه فقال ما حملكما على احتكار طعام المسلمين فقالوا يا أمير المؤمنين نشتري بأموالنا ونبيع فقال عمر رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس فقال عند ذلك فروخ يا أمير المؤمنين فإني أعاهد الله وأعاهدك على أن لا أعود إلى احتكار طعام أبدا فتحول إلى بر مصر وأما مولى عمر فقال نشتري بأموالنا ونبيع فزعم أبو يحيى أحد رواته أنه رأى مولى عمر مجذوما مشدوخا
والطبراني بسند واه بئس العبد المحتكر إن أرخص الله الأسعار حزن وإن أغلاها فرح
وفي رواية إن سمع برخص ساءه وإن سمع بغلاء فرح وذكر رزين لهذا الحديث اعترض بأنه ليس في شيء من أصوله
وأخرج رزين أيضا وفيه الاعتراض المذكور أهل المدائن هم الحبساء في الله فلا تحتكروا عليهم الأقوات ولا تغلوا عليهم الأسعار فإن من احتكر عليهم طعاما أربعين يوما ثم تصدق به لم يكن له كفارة
وأخرج رزين أيضا يحشر الحاكرون وقتلة الأنفس في درجة ومن دخل في شيء من سعر المسلمين يغليه عليهم كان حقا على الله أن يعذبه في معظم النار يوم القيامة
____________________
(1/452)
قال الحافظ المنذري وفي هذا الحديث والحديثين قبله نكارة ظاهرة
وأحمد عن الحسن قال ثقل معقل بن يسار فأتاه عبيد الله بن زياد يعوده فقال هل تعلم يا معقل أني سفكت دما حراما قال لا أعلم
قال هل تعلم أني دخلت في شيء من أسعار المسلمين قال ما علمت
قال أجلسوني ثم قال اسمع يا عبيد الله حتى أحدثك شيئا ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة ولا مرتين سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقا على الله تبارك وتعالى أن يقعده بعظيم من النار يوم القيامة
قال أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم غير مرة ولا مرتين
وروى الطبراني في الكبير والأوسط إلا أنه قال كان حقا على الله تبارك وتعالى أن يقذفه في معظم من النار
ورواه الحاكم مختصرا ولفظه قال من دخل في شيء من أسعار المسلمين يغليه عليهم كان حقا على الله أن يقذفه في جهنم رأسه إلى أسفله
قال الحافظ المنذري رواة هذا الحديث كلهم ثقات معروفون إلا واحدا منهم لا أعرفه ومر خبر احتكار الطعام بمكة إلحاد
وروى الحاكم من رواية من فيه مقال من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين فهو خاطئ وقد برئت منه ذمة الله
تنبيه عد هذا كبيرة هو ظاهر ما في هذه الأحاديث الصحيح بعضها من الوعيد الشديد كاللعنة وبراءة الله ورسوله منه والضرب بالجذام والإفلاس وغيرها وبعض هذه دليل على الكبيرة فاتجه عد ذلك كبيرة لكن سيأتي قريبا عن الروضة أنه صغيرة بما فيه
ثم الاحتكار المحرم عندنا هو أن يمسك ما اشتراه في الغلاء لا الرخص من القوت حتى نحو التمر والزبيب بقصد أن يبيعه بأغلى مما اشتراه به عند اشتداد الحاجة إليه
وألحق الغزالي بالقوت كل ما يعين عليه كاللحم والفواكه ومتى اختل شرط مما ذكر فلا حرمة كأن اشتراه ولو زمن الغلاء لا ليبيعه بل ليمسكه لنفسه وعياله أو ليبيعه بمثل ما اشتراه به أو أقل أو لم يشتره كأن أمسك غلة ضيعته ولو ليبيعها بأغلى الأثمان نعم إذا اشتدت
____________________
(1/453)
ضرورة الناس لزمه البيع فإن أبى أجبره القاضي عليه وعند عدم الاشتداد الأولى له أن يبيع ما فوق كفاية سنة لنفسه وعياله ما لم يخف جائحة في زرع السنة الثانية وإلا فله إمساك كفايتها فلا كراهة ولا احتكار في غير القوت ونحوه مما مر نعم صرح القاضي بأنه يكره إمساك الثياب أي احتكارا
فإن قلت ينافي ما قررته أن سعيد بن المسيب راوي حديث لا يحتكر إلا خاطئ قيل له فإنك تحتكر قال إن معمرا الذي كان يحدث بهذا الحديث كان يحتكر
قلت قد تقرر أن من الأموال ما لا يحرم احتكاره كالثياب فيحمل ذلك من سعيد عليها أو نحوها وعلى التنزل فشرط تحريم احتكار القوت ما مر فمن أين لنا أنهما كانا يحتكران مع وجود تلك الشروط وعلى التنزل فسعيد ومعمر مجتهدان فلا يعترض عليهما ولا على غيرهما بهما ثم رأيت ابن عبد البر وجماعة آخرين غيره قالوا ما ذكره مسلم عن سعيد ومعمر أنهما كانا يحتكران لا ينافي ذلك لأنهما إنما كانا يحتكران الزيت والزيت ليس بقوت
قالوا وكذا حمله الشافعي وأبو حنيفة وآخرون وهو الصحيح وقال القرطبي إنه المشهور من مذهب مالك وجواب سعيد أن معمرا كان يحتكر محمول على أنه كان يحتكر ما لا يضر بالناس كالزيت والأدم والثياب ونحو ذلك
قال العلماء والحكمة في تحريم الاحتكار دفع الضرر عن عامة الناس كما أجمع العلماء على أنه لو كان عند إنسان طعام واضطر إليه الناس يجبر على بيعه دفعا للضرر عنهم
التفريق بين الوالدة وولدها الغير المميز بالبيع ونحوه لا بنحو العتق والوقف أخرج الترمذي وقال حديث حسن غريب والدارقطني والحاكم وصححه عن أبي أيوب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة
وابن ماجه والدارقطني لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرق بين الوالدة وولدها وبين الأخ وأخيه
____________________
(1/454)
وفي رواية للدارقطني ملعون من فرق وقال أبو بكر يعني ابن عياش هذا مبهم هو عندنا في السبي والوالد وفيه كالذي قبله انقطاع
تنبيه عد هذا كبيرة هو ظاهر ما في هذه الأحاديث وبفرض أنه لم يصح فيه إلا الأول ففيه الوعيد الشديد أيضا لأن التفريق بين الإنسان وأحبته ذلك اليوم أمر مشق على النفس جدا
قلت وكما أخذوا من هذا حرمة التفريق المذكور لأنهم فهموا منه الوعيد كذلك نأخذ منه كونه كبيرة لأنه حيث سلم أنه يفهم الوعيد فذلك الوعيد الذي دل عليها ظاهره وعيد شديد
فإن قلت ما وجه الوعيد فيه والله تعالى يقول يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه وجوه يومئذ مسفرة الآيات فظاهرها أن هذا أمر واقع لكل أحد فكيف يفهم منه الوعيد قلت سياق الحديث نص في أنه وعيد وحينئذ فهو على حد قوله صلى الله عليه وسلم من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة جزاء وفاقا
والمراد بيوم القيامة ما يشمل الجنة فما في الآية يكون في الموقف وما في الحديث يكون في الجنة وكما أخذوا من حديث الحرير أن لبسه كبيرة كما مر كذلك أخذنا من خبر التفريق أنه كبيرة بجامع أن في كل منهما الجزاء على العمل بنظيره وكما أن خبر الحرير مخصص لقوله تعالى ولباسهم فيها حرير كذلك خبر التفريق مخصص لقوله تعالى والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وشرط حرمة التفريق أن يكون بين أمة وولدها الغير المميز لصغر أو جنون بنحو بيع لغير من يعتق عليه أو قسمة أو فسخ وإن رضيت الأم لأن للولد حقا أيضا ويبطل ذلك التصرف والأب والجد والجدة للأب أو الأم وإن بعدا كالأم عند فقدها
ويجوز بيع الولد مع الأب أو الجد وكذا إن ميز بأن صار يأكل وحده ويشرب وحده ويستنجي وحده ولا يتقيد بسن فقد يحصل في نحو الخمس وقد يتأخر عن السبع ويكره التفريق ولو بعد البلوغ وكذا إن كان أحدهما حرا
____________________
(1/455)
ملاحظة أول كلمة وردت في هذه الصفحة من الكتاب هي يجوز وليس يحرم ويحرم التفريق بالسفر أيضا بين الأمة وولدها الغير المميز وبين الزوجة وولدها بخلاف المطلقة نحو بيع ولد البهيمة إن استغنى عن اللبن أو لم يستغن لكن اشتراه للذبح فإن لم يستغن ولا قصد الذبح حرم وبطل نحو البيع
الكبيرة التسعون والحادية والثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والتسعون بعد المائة نحو بيع العنب والزبيب ونحوهما ممن علم أنه يعصره خمرا والأمرد ممن علم أنه يفجر به والأمة ممن يحملها على البغاء والخشب ونحوه ممن يتخذه آلة لهو والسلاح للحربيين ليستعينوا به على قتالنا والخمر ممن يعلم أنه يشربها ونحو الحشيشة مما مر ممن يعلم أنه يستعملها وعد هذه السبع من الكبائر لم أره ولكنه غير بعيد لعظم ضررها مع قاعدة أن للوسائل حكم المقاصد والمقاصد في هذه كلها كبائر فلتكن وسائلها كذلك والأحاديث السابقة قبيل كتاب الطهارة فيمن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من يعمل بها إلى يوم القيامة شاهدة لذلك والظن في ذلك كالعلم لكن بالنسبة للتحريم
وأما للكبيرة فيتردد النظر فيه وكذلك يتردد النظر فيما لو باع أمته ممن يحملها على البغاء وفيما لو باع السلاح لبغاة ليستعينوا به على قتالنا وفي بيع الديك لمن يهارش به والثور لمن يناطح به فهذه كلها يتردد النظر في كونها كبائر وبعضها أقرب إلى الكبيرة من بعض ثم رأيت شيخ الإسلام العلائي قال نص الأصحاب على أن بيع الخمر كبيرة يفسق متعاطيه وكذا يكون حكم الشراء وأكل الثمن والحمل والسعي انتهى وسيأتي ذلك بزيادة في مبحث الخمر إن شاء الله تعالى
الكبيرة السابعة والثامنة والتاسعة والتسعون بعد المائة النجش والبيع على بيع الغير والشراء على شرائه وعد هذه الثلاثة كبائر محتمل لأن فيها إضرارا عظيما بالغير ولا شك أن إضرار الغير الذي لا يحتمل عادة يكون كبيرة كما مرت الإشارة إلى ذلك وأيضا فهذه من المكر والخداع وسيأتي أنه كبيرة لكن الذي في الروضة أن من الصغائر الاحتكار والبيع على بيع أخيه وكذا السوم والخطبة على خطبته وبيع الحاضر للبادي وتلقي الركبان والتصرية وبيع المعيب من غير بيانه واتخاذ الكلب الذي لا يباح اقتناؤه وإمساك الخمر غير
____________________
(1/456)
المحترمة وبيع العبد المسلم للكافر وكذا المصحف وسائر كتب العلم الشرعي انتهى وفي أكثره نظر وإنما يتأتى ذلك على تعريف الكبيرة بأنها الذي فيه الحد
أما على تعريفها بأنها ما فيه وعيد شديد فلا وسيأتي قريبا في الغش الوعيد الشديد وكذا في إيذاء المسلم الشديد ومر في الاحتكار ذلك أيضا فالأوفق للتعريف بأنها ما فيه وعيد شديد ما ذكرته
ثم رأيت الأذرعي أشار إلى ما صرحت به فقال وفي بعض ما أطلقه في الروضة من أن ذلك صغيرة نظر وكأن ما ذكرته وأشار إليه الأذرعي هو سبب حذف بعض مختصري الروضة لتلك الأمثلة المذكورة عنها
والنجش هو أن يزيد في الثمن لا لرغبة بل ليخدع غيره
والبيع على البيع هو أن يقول للمشتري زمن الخيار رد هذا وأنا أبيعك أحسن منه بمثل ذلك الثمن أو مثله بأنقص
والشراء على الشراء أن يقول للبائع زمن الخيار افسخ لأشتري منك هذا المبيع بأزيد
قال أئمتنا ويحرم السوم على سوم الغير بغير إذنه بأن يزيد في الثمن بعد أن يصرحا باستقراره أو يعرض على المشتري أرخص منه وتحريمه بعد البيع وقبل لزومه أشد وهو البيع على بيع غيره والشراء على شراء غيره
نعم إن رآه مغبونا جاز له ذلك عند ابن كج
والأوجه الموافق لإطلاقهم والحديث أنه لا فرق وبيع رجل قبل اللزوم من المشتري عينا كالتي اشتراها بأقل كالبيع على البيع وطلبها قبل اللزوم أيضا من المشتري بأكثر كالشراء على الشراء لأن ذلك أيضا يؤدي إلى الفسخ من الصورتين فيحصل الضرر
الكبيرة الموفية المائتين الغش في البيع وغيره كالتصرية وهي منع حلب ذات اللبن إيهاما لكثرته أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من حمل علينا السلاح فليس منا ومن غشنا فليس منا
ومسلم وابن ماجه والترمذي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصبعه بللا فقال ما هذا يا صاحب الطعام قال أصابته السماء أي المطر يا رسول الله قال أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس من غشنا فليس منا
والترمذي من غش فليس منا
____________________
(1/457)
وأبو داود أنه صلى الله عليه وسلم مر برجل يبيع طعاما فسأله كيف تبيع فأخبره فأوحى إليه أن أدخل يدك فيه فإذا هو مبلول فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس منا من غش
وأحمد والبزار والطبراني مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعام وقد حسنه صاحبه فأدخل يده فيه فإذا الطعام رديء فقال بع هذا على حدة وهذا على حدة فمن غشنا فليس منا
والطبراني في الأوسط بإسناد جيد خرج صلى الله عليه وسلم إلى السوق فرأى طعاما مصبرا فأدخل يده فيه فأخرج طعاما رطبا قد أصابته السماء
فقال لصاحبه ما حملك على هذا قال والذي بعثك بالحق إنه لطعام واحد قال أفلا عزلت الرطب على حدته واليابس على حدته فتتبايعون ما تعرفون من غشنا فليس منا
والطبراني في الكبير بسند رواته ثقات مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل يبيع طعاما فقال يا صاحب الطعام أسفل هذا مثل أعلاه قال نعم يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم من غش المسلمين فليس منهم
والبيهقي والأصبهاني بإسناد لا بأس به إلى أبي هريرة موقوفا عليه أنه مر بناحية الحرة فإذا إنسان يحمل لبنا يبيعه فنظر إليه أبو هريرة فإذا هو قد خلطه بالماء فقال له أبو هريرة كيف بك إذا قيل لك يوم القيامة خلص الماء من اللبن
والطبراني في الكبير والبيهقي قال الحافظ المنذري ولا أعلم في روايته مجروحا أن رجلا كان يبيع الخمر في سفينة له ومعه قرد في السفينة وكان يشوب أي يخلط الخمر بالماء فأخذ القرد الكيس فصعد الذروة وفتح الكيس فجعل يأخذ دينارا فيلقيه في السفينة ودينارا في البحر حتى جعله نصفين أي فعل ذلك عقابا لصاحبه لما خلط وغش
وفي رواية البيهقي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تشوبوا اللبن للبيع ثم ذكر حديث المحلفة ثم قال موصولا بالحديث ألا وإن رجلا ممن كان قبلكم جلب خمرا إلى قرية
____________________
(1/458)
فشابها بالماء فأضعفه أضعافا فاشترى قردا فركب البحر حتى إذا لج فيه ألهم الله القرد صرة الدنانير فأخذها وصعد الدقل ففتح الصرة وصاحبها ينظر إليه فأخذ دينارا فرمى به في البحر ودينارا في السفينة حتى قسمها نصفين
وفي رواية أخرى له قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن رجلا كان فيمن قبلكم حمل خمرا ثم جعل في كل رزق نصفه ماء ثم باعه فلما جمع الثمن جاء ثعلب فأخذ الكيس وصعد الدقل فجعل يأخذ دينارا ويرمي به في السفينة ويأخذ دينارا فيرمي به في الماء حتى فرغ ما في الكيس ولا تنافي بين هذه والتي قبلها لاحتمال تعدد القصة
والبزار بإسناد جيد من غشنا فليس منا وجاء هذا المتن من رواية بضعة عشر صحابيا
وعن أبي سباع قال اشتريت ناقة من دار واثلة بن الأسقع رضي الله عنه فلما خرجت بها أدركني يجر إزاره فقال اشتريت قلت نعم
قال أبين لك ما فيها قلت وما فيها إنها لسمينة ظاهرة الصحة قال أردت بها سفرا أو أردت لحما قلت أردت بها الحج قال ارتجعها فقال صاحبها ما أردت إلى هذا أصلحك الله تفسد علي قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يحل لأحد أن يبيع شيئا إلا بين ما فيه ولا يحل لمن علم ذلك إلا بينه
رواه الحاكم وصححه والبيهقي وكذا ابن ماجه باختصار القصة إلا أنه قال عن واثلة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من باع عيبا لم يبينه لم يزل في مقت الله أو لم تزل الملائكة تلعنه
وأحمد وابن ماجه والطبراني في الكبير والحاكم وقال صحيح على شرطهما المسلم أخو المسلم ولا يحل لمسلم إذا باع من أخيه بيعا فيه عيب أن لا يبينه
____________________
(1/459)
وأبو الشيخ ابن حبان المؤمنون بعضهم لبعض نصحة وادون وإن بعدت منازلهم وأبدانهم والفجرة بعضهم لبعض غششة متخاونون وإن اقتربت منازلهم وأبدانهم
ومسلم إن الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم
والنسائي بلفظ إنما الدين النصيحة الحديث
وأبو داود بلفظ إن الدين النصيحة إن الدين النصيحة إن الدين النصيحة الحديث
وكذا الترمذي وحسنه والطبراني بلفظ رأس الدين النصيحة قالوا لمن يا رسول الله قال لله عز وجل ولدينه ولأئمة المسلمين وعامتهم
والشيخان عن جرير أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت أبايعك على الإسلام فشرط علي النصح لكل مسلم فبايعته على هذا ورب هذا المسجد إني لكم لناصح
وأبو داود والنسائي عنه بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة وأن أنصح لكل مسلم وكان إذا باع الشيء أو اشتراه قال ما الذي أخذنا منك أحب إلينا مما أعطيناك فاختر
وأحمد قال صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل أحب ما تعبد لي به عبدي النصح لي
والطبراني من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ومن لم يصبح ويمسي ناصحا لله ولرسوله ولكتابه ولإمامه ولعامة المسلمين فليس منهم
____________________
(1/460)
والشيخان وغيرهما لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه
وفي رواية صحيحة لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه
تنبيه عد هذا كبيرة هو ظاهر بعض ما في هذه الأحاديث من نفي الإسلام عنه مع كونه لم يزل في مقت الله أو كون الملائكة تلعنه ثم رأيت بعضهم صرح بأنه كبيرة لكن الذي في الروضة كما مر أنه صغيرة وفيه نظر لما ذكر من الوعيد الشديد فيه
وضابط الغش المحرم أن يعلم ذو السلعة من نحو بائع أو مشتر فيها شيئا لو اطلع عليه مريد أخذها ما أخذها بذلك المقابل فيجب عليه أن يعلمه به ليدخل في أخذه على بصيرة ويؤخذ من حديث واثلة وغيره ما صرح به أصحابنا أنه يجب أيضا على أجنبي علم بالسلعة عيبا أن يخبر به مريد أخذها وإن لم يسأله عنها كما يجب عليه إذا رأى إنسانا يخطب امرأة ويعلم بها أو به عيبا أو رأى إنسانا يريد أن يخالط آخر لمعاملة أو صداقة أو قراءة نحو علم وعلم بأحدهما عيبا أن يخبر به وإن لم يستشر به كل ذلك أداء للنصيحة المتأكد وجوبها لخاصة المسلمين وعامتهم
هذا وقد سألنا عن سؤال طويل فيه ذكر أحكام كثيرة أحببت ذكره هنا لعموم ضرر ما فيه مما ألفه ويفعله من لا دين له لغفلته عن الله تعالى وأوامره وهو قد اعتيد الآن أن بعض التجار يشتري الفلفل في ظرف خفيف جدا كالخصف ثم يجعله في ظرف ثقيل نحو خمسة أضعاف الخصف لأنه غالبا ثلاثة أمنان وذلك الظرف الثقيل يجمع من خيش حتى يكون نحو عشرين منا ثم يباع ذلك الظرف وما فيه ويوزن جملة الكل ويكون الثمن مقابلا للظرف والمظروف فهل هذا الفعل جائز أو غش محرم يعزر فاعله بما يراه الإمام من ضرب وصفع وطواف به في الأسواق
وحبس وأخذ مال إن كان ذلك مذهب ذلك الحاكم وهل البيع صحيح أو باطل وإذا كان باطلا فهو من أكل أموال الناس بالباطل أو لا وهل يجب على ولي الأمر أن يزجر التجار ويمنعهم عن ذلك ويعزر من فعل منهم ذلك وهل يجب على المتقين من التجار إذا علموا من إنسان أنه يفعل ذلك أن يخبروا به حكام الشريعة أو السياسة حتى يمنعوه من ذلك المنع الأكيد ويعزروه عليه إن أبى التعزير الشديد وهل يجري ذلك في غير هذه الصورة من نظائرها كما يقع لبعض العطارين والتجار أنه يقرب بعض الأعيان إلى الماء فيكتسب منه مائية تزيد في وزنه نحو الثلث كالزعفران وبعضهم يصطنع حوائج تصير كصورة الزباد
____________________
(1/461)
فيبيعه على أنه زباد وبعض البزازين يرفأ الثياب رفئا خفيا ثم يبيعها من غير أن يبين لك وكذا يفعل ذلك في البسط وغيرها وبعضهم يلبس الثوب خاما إلى أن تذهب قوته جميعا ثم يقصره حينئذ ويجعل فيه نشا يوهم به أنه جديد ويبيعه على أنه جديد
وبعضهم يسعى في إظلام محله إظلاما كثيرا حتى يصير الغليظ يرى رقيقا والقبيح حسنا
وبعضهم يصقل بزه بشمع صقالا جيدا حتى لا تصير الرؤية محيطة به من كثرة ذلك الشمع وجودة ذلك الدق والصقال وبعض الصواغين يخلط بالنقد نحاسا ونحوه ثم يبيعه على أنه كله فضة أو ذهب
وبعضهم يأخذ ممن يستأجر على صياغة وزنا معلوما فينقص منه نقدا ويجعل بدله نحاسا أو نحوه وكثيرا من التجار وأهل البهار والحبابين وغيرهم يجعل أعلى البضاعة حسنا وأسفلها قبيحا أو يخلط بعض القبيح في الحسن حتى يروج ويندمج على المشتري فيأخذ القبيح من غير أن يشعر به ولو شعر به لم يأخذ شيئا منه وغير ذلك من صور الغش كثير وإنما ذكرنا لكم هذه الصور ليعلم حكمها ويقاس عليها ما لم نذكره ولو فتشت الصناعات والحرف والتجارات والبيوعات والعطارات والصياغات والمصارفات وغيرها لوجدت عندهم من صور الغش والتدليس والخيانة والمكر والتحيل بالحيل الكاذبة ما تنفر عنه الطباع وتمجه الأسماع لأننا نجدهم في معاملاتهم كرجلين معهما سيفان متقابلان فمتى قدر أحدهما على الآخر قتله لوقته كذلك التجار والمتبايعون الآن لا ينوي كل واحد منهما إلا أنه إن ظفر بصاحبه أخذ جميع ماله بحق وباطل وأهلكه وصيره فقيرا لوقته وإذا وقع لأحد منهم شيء من ذلك فرح به فرحا كثيرا وسولت له نفسه الخبيثة أنه غلبه وظفر به بما غشه واحتال عليه بالباطل إلى أن استأصل ماله وظفر به ككلب ظفر بجيفة وأكل منها حتى لم يبق منها شيئا
فهذا حاصل ما يقع هو وأكثر منه الآن
فتفضلوا على المسلمين ببيان أحكام ذلك حتى يعرفها الناس ليصير من خالفها قد حقت عليه كلمة العذاب وهلك عن بينة ومن وافقها قد أسعفته كلمة التوفيق وأحيا عن بينة وابسطوا الكلام على ذلك بسطا شافيا فإن الناس مضطرون إلى بيان أحكام ذلك كله وبعضهم إنما يفعل ذلك جهلا بحرمته أثابكم الله الجنة بمنه وكرمه آمين
هذا حاصل هذا السؤال
ولعمري إنه حقيق أن يفرد بالتأليف لسعة أحكامه وكثرة صوره واحتياج الناس بل اضطرارهم إلى بسط الكلام على كل صورة من تلك الصور وغيرها مما لم يذكر وهو كثير جدا لغلبة الغش والخيانة على الباعة حتى لا يسلم منهما إلا النادر الذي حفظه الله من هذه القاذورات ولو كان في الوقت سعة لأفردت ذلك بتأليف مستوعب جامع لكني أشير إن شاء الله تعالى إلى ما ينفع الموفق ويحذر العاصي ومن لم يرد الله هدايته فما له من هاد
____________________
(1/462)
فأقول أما مسألة بيع الظرف مع ما فيه فاتفق الشافعية على أنه متى جهل وزن الظرف على انفراده فبيع مع مظروفه كل رطل من الجملة بكذا كان البيع باطلا لأنه حينئذ من حيز الغرر
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر وكذا لو جهل وزن المظروف وحده أو لم يكن للظرف قيمة لاشتراط العقد على بذل مال في مقابلة ما ليس بمال
إذا تقرر ذلك علم منه أنهم متفقون فيما ذكر أول السؤال على بطلان البيع فيه لأن صورة المسألة كما ذكره السائل أن فسقة التجار يأخذون الفلفل مثلا ويجعلونه في خيش مرقع من داخله برقع كثيرة تثقل جرمه ثم يبيعون ذلك الفلفل أو نحوه مع ظرفه كل من بعشرة مثلا ثم يزنون الظرف مع مظروفه فإذا جاءت الجملة مائة من كانت بألف
ووجه البطلان في هذه أنهم جعلوا الظرف من جملة المبيع ووزنه مجهول بل فيه غش وتدليس منهم لأنهم يجعلونه من داخله المماس له الفلفل مثلا رقعا ونحوها مما يقتضي وزنه في الثقل ويتركون ظاهره على حاله الموهم للمشتري أنه خفيف الوزن بحيث إن رأيته تقطع عند نظره لظاهره بأنه لا يجاوز أربعة أمنان مثلا فإذا خبروه بعد تعريفه والنظر لباطنه رأوه نحو عشرين منا فلأجل ذلك بطل البيع في الكل لهذا الغرر العظيم وهذا الغش البليغ المشتمل على خيانة الله تعالى وخيانة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما أمرا به ونهيا عنه وكيف ساغ لمن يعلم أنه يقدم على الله سبحانه وتعالى ويترك ما جمعه من الحطام الفاني لورثته من غير علم منه أنهم ينتفعون به بل الغالب في أولاد التجار أنهم يضيعونه في المعاصي والقبائح التي لا تخفى على أحد فمن هو بهذا الوصف كيف يبلغ خداعه مع أخيه إلى أن يأخذ منه أربعة أخماس ماله بهذه الحيلة الباطلة الكاذبة وهذا يؤيد ما في السؤال لأن المتبايعين في هذه الأزمنة كل منهما تصير أحواله مع الآخر كمتقابلين بيدهما سيفان فمن قدر منهما على قتل صاحبه قتله
وهذا ليس بشأن المسلمين ولا بقانون المؤمنين لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا
وقوله المؤمن أخو المؤمن لا يظلمه ولا يشتمه ولا يبغي عليه
ونحن لا نحرم التجارة ولا البيع والشراء فقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتبايعون ويتجرون في البز وغيره من المتاجر وكذلك العلماء والصلحاء بعدهم ما زالوا يتجرون ولكن على القانون الشرعي والحال المرضي الذي أشار الله تعالى إليه بقوله عز قائلا يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض
____________________
(1/463)
منكم فبين الله أن التجارة لا تحمد ولا تحل إلا إن صدرت عن التراضي من الجانبين والتراضي إنما يحصل حيث لم يكن هناك غش ولا تدليس
وأما حيث كان هناك غش وتدليس بحيث أخذ أكثر مال الشخص وهو لا يشعر بفعل تلك الحيلة الباطلة معه المبنية على الغش ومخادعة الله ورسوله فذلك حرام شديد التحريم موجب لمقت الله ومقت رسوله وفاعله داخل تحت الأحاديث السابقة والآتية
فعلى من أراد رضا الله ورسوله وسلامة دينه ودنياه ومروءته وعرضه وأخراه أن يتحرى لدينه وأن لا يبيع شيئا من تلك البيوع المبنية على الغش والخديعة وأن يبين وزن ذلك الظرف للمشتري على التحرير والصدق ثم إذا بين له وزنه جاز له أن يبيعه الظرف والمظروف بثمن واحد حتى قال الفقهاء لو بين له ظرف المسك وزنته بأن قال هذا الظرف عشرة أمنان وهذا المسك عشرون منا وبعتك هذه الثلاثين منا بألف
فاشترى بعد الرؤية والتقليب جاز هذا البيع وكان بيعا مبرورا لسلامته من سائر وجوه الغش والخيانة والتدليس لأنه بعد أن يبين وزن الظرف ووزن المسك فلا حرج عليه أن يبيع المن من الجميع بألف أو مائة درهم وإنما النار الموقودة والقبيحة المهلكة في الدنيا والآخرة ما ذكره السائل عمن يدلس في الظرف فيجعله بصورة خفيف في الظاهر وهو ثقيل جدا في نفسه
ثم يبيع الكل بثمن وسعر واحد مع جهل المشتري بظنه وكون البائع تحيل عليه حتى ظن أن وزنه يسير والحال أنه كثير
هذا حاصل ما يتعلق بالمسألة الأولى أعني بيع الظرف والمظروف بثمن واحد
وأما ما ذكره السائل في صور الغش الكثيرة من تلك الأمور العجيبة التي لا يحكى نظيرها عن الكفار فضلا عن المؤمنين بل المحكي عن الكفار لعنهم الله أنهم يتجرون في بياعاتهم ولا يفعلون فيها ذلك الغش الكثير الظاهر المحكي في السؤال فذلك أعني ما حكي من صور ذلك الغش التي يفعلها التجار والعطارون والبزازون والصواغون والصيارفة والحياكون وسائر أرباب البضائع والمتاجر والحرف والصنائع كله حرام شديد التحريم موجب لصاحبه أنه فاسق غشاش خائن يأكل أموال الناس بالباطل ويخادع الله ورسوله وما يخادع إلا نفسه لأن عقاب ذلك ليس إلا عليه
وكثرة ذلك تدل على فساد الزمان وقرب الساعة وفساد الأموال والمعاملات ونزع البركات من المتاجر والبياعات والزراعات بل ومن الأراضي المزروعات وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم ليس القحط أن لا تمطروا وإنما القحط أن تمطروا ولا يبارك لكم فيه أي بواسطة تلك القبائح والعظيمات التي أنتم عليها في تجاراتكم ومعاملاتكم ولهذه القبائح التي ارتكبها التجار والمتسببون وأرباب الحرف والصنائع سلط الله عليهم الظلمة فأخذوا أموالهم وهتكوا
____________________
(1/464)
حريمهم بل وسلط عليهم الكفار فأسروهم واستعبدوهم وأذاقوهم العذاب والهوان ألوانا وكثرة تسلط الكفار على المسلمين بالأسر والنهب وأخذ الأموال والحريم إنما حدث في هذه الأزمنة المتأخرة لما أن أحدث التجار وغيرهم قبائح ذلك الغش الكثيرة المتنوعة وعظائم تلك الجنايات والمخادعات والتخيلات الباطلة على أخذ أموال الناس بأي طريق قدروا عليها لا يراقبون الله المطلع عليهم ولا يخشون سطوة عقابه ومقته مع أنه تعالى عليهم بالمرصاد يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور و يعلم السر وأخفى ألا يعلم من خلق
ولو تأمل الغشاش الخائن الآكل أموال الناس بالباطل ما جاء في إثم ذلك في القرآن والسنة لربما انزجر عن ذلك أو عن بعضه ولو لم يكن من عقابه إلا قوله صلى الله عليه وسلم إن العبد ليقذف اللقمة من حرام في جوفه ما يتقبل منه عمل أربعين يوما وأيما عبد نبت لحمه من حرام فالنار أولى به
وقوله صلى الله عليه وسلم إنه لا دين لمن لا أمانة له
وقوله إن الله أكرم وأجل من أن يقبل عمل رجل أو صلاته وعليه ثوب من حرام
وقوله من اشترى ثوبا بعشرة دراهم فيها درهم من حرام لم يقبل الله عز وجل له صلاة ما دام عليه
وقوله إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا من يحب ومن أعطاه الله الدين فقد أحبه ولا والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يأمن جاره بوائقه
قالوا وما بوائقه يا رسول الله قال غشه وظلمه
وقوله لا تزال قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن علمه ماذا عمل فيه
وقوله من اكتسب في الدنيا مالا من غير حله وأنفقه في غير حقه أورده دار الهوان ثم رب متخوض في مال الله ورسوله له النار يوم القيامة يقول الله كلما خبت زدناهم سعيرا
وقوله يؤتى يوم القيامة بأناس معهم من الحسنات كأمثال جبال تهامة حتى إذا جيء بهم جعلها الله هباء منثورا ثم يقذف بهم في النار قيل يا رسول الله كيف ذلك قال كانوا يصلون ويزكون ويصومون ويحجون غير أنهم كانوا إذا عرض لهم شيء من الحرام أخذوه فأحبط الله أعمالهم
____________________
(1/465)
فتأمل ذلك أيها الماكر المخادع الغشاش الآكل أموال الناس بتلك البيوعات الباطلة والتجارات الفاسدة تعلم أنه لا صلاة لك ولا زكاة ولا صوم ولا حج كما جاء عن الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى وليتأمل الغشاش بخصوصه قوله صلى الله عليه وسلم من غشنا فليس منا يعلم أن أمر الغش عظيم وأن عاقبته وخيمة جدا فإنه ربما أدت إلى الخروج عن الإسلام والعياذ بالله تعالى فإن الغالب أنه صلى الله عليه وسلم لا يقول ليس منا إلا في شيء قبيح جدا يؤدي بصاحبه إلى أمر خطير ويخشى منه الكفر فإن لمن يعرض دينه إلى زوال ويسمع قوله صلى الله عليه وسلم من غش فليس منا ولا ينتهي عن الغش إيثارا لمحبة الدنيا على الدين ورضا بسلوك سبيل الضالين
وليتأمل الغشاش أيضا لا سيما التجار والعطارون وغيرهم ممن يجعل في بضاعته غشا يخفى على المشتري حتى يقع فيه من غير أن يشعر ولو علم ذلك الغش فيه لما اشتراه بذلك الثمن أصلا
ما صح عنه صلى الله عليه وسلم كما مر أنه مر على رجل وبين يديه صبرة من حب فأوحى الله إليه أن أدخل يدك فيه ففعل فأحست يده الشريفة ببلل في باطن تلك الصبرة فأخرج منه وقال ما هذا يا صاحب الطعام قال يا رسول الله أصابه مطر قال أفلا جعلت المبتل فوق الطعام حتى يراه الناس من غش فليس منا
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم مر بطعام وقد حسنه صاحبه فأدخل يده فيه فإذا طعام رديء جعله أسفله فقال له صلى الله عليه وسلم بع هذا على حدة وهذا على حدة من غشنا فليس منا
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم لما أدخل يده في الحب وأخرج منه المبلول قال له ما حملك على هذا أي جعلك المبتل أسفل والجاف فوق قال يا رسول الله والذي بعثك بالحق إنه لطعام واحد قال أفلا عزلت الرطب على حدته واليابس على حدته فيتبايعون ما يعرفون من غشنا فليس منا
وفي رواية من غش المسلمين فليس منهم وسبقت رواية أنه يقال يوم القيامة لمن خلط اللبن بالماء ثم باعه خلص الماء من اللبن أي وليس يقدر على ذلك فهو كما يقال للمصورين يوم القيامة أحيوا ما صورتم أي انفخوا الروح في تلك الصور التي كنتم تصورونها في الدنيا تحقيرا لهم وإذلالا وبيانا لعجزهم وجرأتهم على الله تعالى فكذلك من خلط اللبن بالماء يقال له يوم القيامة خلص اللبن من الماء تحقيرا له وفضيحة له على رءوس الأشهاد في ذلك اليوم جزاء على غشه الذي كان يفعله في الدنيا وكذلك سائر الغشاشين يفضحهم الله تعالى على رءوس الأشهاد في مقابلة غشهم للمسلمين
____________________
(1/466)
وليتأمل الغشاشون أيضا قوله صلى الله عليه وسلم لا يحل لأحد يبيع شيئا إلا بين ما فيه ولا يحل لأحد يعلم ذلك إلا بينه وقوله من باع عيبا ولم يبينه لم يزل في مقت الله أو لم تزل الملائكة تلعنه
وقوله المؤمنون بعضهم لبعض نصحة وادون وإن بعدت منازلهم وأبدانهم والفجرة بعضهم لبعض غششة متخاونون وإن اقتربت منازلهم وأبدانهم
والأحاديث في الغش والتحذير منه كثيرة مر منها جملة فمن تأملها ووفقه الله لفهمها والعمل بها انكف عن الغش وعلم عظيم قبحه وخطره وأن الله لا بد وأن يمحق ما حصله الغاشون بغشهم كما سبق في قصة القرد والثعلب أن الله سلطهما على غشاشين فأذهبا جميع ما حصلاه بالغش برميه في البحر
ومن تأمل تلك الأحاديث علم أيضا أن أكثر ما حكي في السؤال من جملة الغش المحرم لما تقرر أنه صلى الله عليه وسلم لما أدخل يده الكريمة في الحب ورأى المبتل أسفله أنكر على فاعل ذلك وقال له هلا جعلت المبتل وحده وبعته وحده واليابس وحده وبعته وحده أو جعلت المبتل في ظاهر الحب حتى يعرفه الناس ويشتروه على بصيرة وعلم أيضا أن كل من علم بسلعته عيبا وجب عليه وجوبا متأكدا بيانه للمشتري وكذلك لو علم العيب غير البائع كجاره وصاحبه ورأى إنسانا يريد أن يشتري ولا يعرف ذلك العيب وجب عليه أن يبينه له كما قال صلى الله عليه وسلم لا يحل لأحد يبيع شيئا إلا بين ما فيه ولا يحل لأحد يعلم ذلك إلا بينه وكثير من الناس لا يهتدون لذلك أو لا يعلمون يمر الشخص منهم فيرى رجلا غرا يريد شراء شيء فيه عيب وهو لا يدريه فيسكتون عن نصحه حتى يغشه البائع ويأخذ ماله بالباطل وما درى الساكت على ذلك أنه شريك البائع في الإثم والحرمة والكبيرة والفسق المترتب عليه ذلك الوعيد الشديد وهو أن الغاش الذي لم يبن العيب للمشتري لا يزال في مقت الله أو لا تزال الملائكة تلعنه ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من يعمل بها إلى يوم القيامة
ولا شك أن الغاش سن تلك السنة السيئة وهو كتمه للعيب في ذلك المبيع فكل عمل كذلك في ذلك المبيع يكون إثمه عليه وسيأتي في بيان المكر والخديعة ما
____________________
(1/467)
يردع الغشاشين لأن الغش من حيز المكر والخديعة وقد قال تعالى ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله وقال صلى الله عليه وسلم من غشنا فليس منا والمكر والخديعة في النار أي صاحبهما في النار
وفي رواية المكر والخديعة والخيانة في النار وفي رواية لا يدخل الجنة خب أي ماكر
وفي أخرى أن من جملة أهل النار رجلا لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك في أهلك ومالك
هذا ما يتعلق بهذا الجواب
وإنما بسطنا الكلام عليه رجاء أن يسمعه من في قلبه إيمان ومن يخشى عقاب الله وسطوته ومن له دين ومروءة ومن يخشى على ذريته بعد موته فيتقي الله ويرجع عن سائر صور الغش المذكور في هذا السؤال وغيرها ويعلم أن الدنيا فانية وأن الحساب واقع على النقير والفتيل والقطمير وأن العمل الصالح ينفع الذرية فقد جاء في قوله تعالى وكان أبوهما صالحا أنه كان الجد السابع لأم فنفع الله به ذينك اليتيمين وأن العمل السيئ يؤثر في الذرية قال تعالى وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا فمن تأمل هذه الآية خشي على ذريته من أعماله السيئة وانكف عنها حتى لا يحصل لهم نظيرها والله الموفق للصواب وبه الحول والقوة وإليه المرجع والمآب
أخرج مسلم والأربعة عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم
قال فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات
قلت خابوا وخسروا من هم يا رسول الله قال المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب
وفي رواية المسبل إزاره والمنان عطاءه
والطبراني في الكبير ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة
أشيمط زان وعائل مستكبر ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه ورواه
____________________
(1/468)
في الصغير والأوسط بلفظ لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ورواته محتج بهم في الصحيح والأشيمط مصغر أشمط وهو من ابيض شعر رأسه كبرا واختلط بأسوده والعائل الفقير
والطبراني ثلاثة لا ينظر الله إليهم غدا شيخ زان ورجل اتخذ الأيمان بضاعته يحلف في كل حق وباطل وفقير مختال أي من هو متكبر معجب فخور
والشيخان وغيرهما ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل على فضل ماء بفلاة يمنعه ابن السبيل
وفي رواية يقول الله له اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك ورجل بايع رجلا سلعة بعد العصر فحلف بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه فأخذها وهو على غير ذلك ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه منها ما يريد وفى له وإن لم يعطه لم يف له
وفي رواية
ورجل حلف على سلعة لقد أعطي بها أكثر مما أعطي وهو كاذب ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال امرئ مسلم ورجل منع فضل ماء فيقول الله له يوم القيامة اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك
والنسائي وابن حبان في صحيحه أربعة يبغضهم الله البائع الحلاف والفقير المختال والشيخ الزاني والإمام الجائر
والحاكم وصححه على شرط مسلم والأربعة بنحوه إن الله يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة فذكر الحديث إلى أن قال قلت فمن الثلاثة الذين يبغضهم الله قال المختال الفخور وأنتم تجدونه في كتاب الله المنزل إن الله لا يحب كل مختال فخور والبخيل والمنان والتاجر أو البائع الحلاف
____________________
(1/469)
وابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد رضي الله عنه قال مر أعرابي بشاة فقلت تبيعها بثلاث دراهم قال لا والله ثم باعها فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال باع آخرته بدنياه
والطبراني بإسناد لا بأس به عن واثلة رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلينا وكنا تجارا وكان يقول يا معشر التجار إياكم والكذب
والشيخان الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب
وفي رواية لأبي داود ممحقة للبركة
ومسلم وغيره إياكم وكثرة الحلف في البيع فإنه ينفق ثم يمحق
والترمذي بسند حسن التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء
زاد ابن ماجه المسلم وقال مع الشهداء يوم القيامة
والأصبهاني وغيره التاجر الصدوق تحت ظل العرش يوم القيامة
والبيهقي وغيره إن أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا وإذا ائتمنوا لم يخونوا وإذا وعدوا لم يخلفوا وإذا اشتروا لم يذموا وإذا باعوا لم يمدحوا وإذا كان عليهم لم يمطلوا وإذا كان لهم لم يعسروا
والشيخان وغيرهما البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدق البيعان وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا فعسى أن يربحا ويمحقا بركة بيعهما
اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب
____________________
(1/470)
والترمذي وابن حبان والحاكم وصححوه خرج صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون فقال يا معشر التجار فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه فقال إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من اتقى وبر وصدق
وأحمد بإسناد جيد والحاكم وصححه إن التجار هم الفجار قالوا يا رسول الله أليس الله قد أحل البيع قال بلى ولكنهم يحلفون فيأثمون ويحدثون فيكذبون
تنبيه عد هذا كبيرة وإن لم يذكروه ظاهر جلي مما ذكر في الأحاديث الكثيرة المصرحة بشدة الوعيد في ذلك ثم رأيت بعضهم ذكره
قال تعالى ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ومر الكلام على المكر قبل كتاب الطهارة في بحث الأمن من مكر الله
وأخرج الطبراني في الكبير والصغير بإسناد جيد وابن حبان في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من غشنا فليس منا والمكر والخداع في النار
ورواه أبو داود عن الحسن مرسلا مختصرا قال المكر والخديعة والخيانة في النار
وفي حديث لا يدخل الجنة خب أي مكار ولا بخيل ولا منان
وفي آخر المؤمن غر كريم والفاسق خب لئيم
____________________
(1/471)
وقال تعالى عن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم أي مجازيهم بما يشبه الخداع على خداعهم له وذلك أنهم يعطون نورا كما يعطى المؤمنون فإذا مضوا على الصراط أطفئ نورهم وبقوا في الظلمة
وفي حديث أهل النار خمسة وذكر منهم رجلا لا يصبح ولا يمسي إلا وهو مخادعك عن أهلك ومالك
تنبيه عد هذا كبيرة صرح به بعضهم وهو ظاهر من أحاديث الغش السابقة ومن هذا الحديث إذ كون المكر والخديعة في النار ليس المراد بهما إلا أن صاحبهما فيها وهذا وعيد شديد
الكبيرة الثالثة بعد المائتين بخس نحو الكيل أو الوزن أو الذرع قال تعالى ويل للمطففين أي الذين يزيدون لأنفسهم من أموال الناس ببخس الكيل أو الوزن ولذا فسرهم بأنهم الذين إذا اكتالوا على الناس أي منهم لأنفسهم يستوفون حقوقهم منهم ولم يذكر الوزن هنا اكتفاء عنه بالكيل
إذ كل منهم يستعمل مكان الآخر غالبا
وإذا كالوهم أو وزنوهم أي إذا اكتالوهم أو وزنوا لهم من أموال أنفسهم يخسرون أي ينقصون ألا يظن أولئك الذين يفعلون ذلك أنهم مبعوثون ليوم عظيم أي هوله وعذابه يوم يقوم الناس لرب العالمين أي من قبورهم حفاة عراة غرلا ثم يحشرون فمنهم الراكب بجانب أسرع من البرق ومنهم الماشي على رجليه ومنهم المنكب والساقط على وجهه تارة يمشي وتارة يزحف وتارة يتخبط كالبعير الهائم ومنهم الذي يمشي على وجهه وكل ذلك بحسب الأعمال إلى أن يقفوا بين يدي ربهم ليحاسبهم على ما سلف من أعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر
قال السدي سبب نزول هذه الآية أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كان بها رجل يقال له أبو جهينة له مكيالان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فأنزل الله تعالى الآية وأخرج ابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما
____________________
(1/472)
قال لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله عز وجل ويل للمطففين فأحسنوا المكيال بعد ذلك
والترمذي عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكيل والوزن إنكم قد وليتم أمرا فيه هلكت الأمم السالفة قبلكم ورواه الحاكم وصححه
واعترض بأن فيه متروكا وبأن الصحيح وقفه على ابن عباس
وابن ماجه واللفظ له والبزار والبيهقي والحاكم بنحوه وقال صحيح على شرط مسلم
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا معشر المهاجرين خمس خصال إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن لم تظهر الفاحشة في قوم قط فيعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا ولم ينقصوا الكيل والميزان إلا أخذوا بالسنين أي جمع سنة وهي العام المقحط الذي لا تنبت الأرض فيه شيئا وقع مطر أو لا وشدة المؤنة وجور السلطان ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم
ومالك موقوفا على ابن عباس والطبراني وغيره مرفوعا ما ظهر الغلول في قوم إلا ألقى الله في قلوبهم الرعب ولا فشا الزنا في قوم إلا كثر فيهم الموت وما نقص قوم المكيال والميزان إلا نقص الله عنهم الرزق ولا حكم قوم بغير حق إلا فشا فيهم الدم ولا ختر أي بفتح المعجمة والفوقية والراء نقض وأخل قوم بالعهد إلا سلط الله عليهم العدو
والبيهقي موقوفا على ابن مسعود وهو أشبه وهو وغيره بمعناه مرفوعا القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة قال يؤتى بالعبد يوم القيامة وإن قتل في سبيل الله فيقال أد أمانتك فيقول أي رب كيف وقد ذهبت الدنيا قال فيقال انطلقوا به إلى
____________________
(1/473)
الهاوية فينطلقون به إلى الهاوية وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه فيراها فيعرفها فيهوي في أثرها حتى يدركها فيحملها على منكبه حتى إذا ظن أنه خارج زلت عن منكبه فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين ثم الصلاة أمانة والوضوء أمانة والوزن أمانة والكيل أمانة وأشياء عددها وأشد ذلك الودائع قال يعني زاذان فأتيت البراء بن عازب قلت ألا ترى إلى ما قال ابن مسعود قال كذا قال كذا قال صدق أما سمعت الله تعالى يقول إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها
تنبيه عد هذا كبيرة وهو ما صرحوا به وهو ظاهر لأنه من أكل أموال الناس بالباطل ولهذا اشتد الوعيد عليه كما علمته من الآية وهذه الأحاديث وأيضا فإنما سمي مطففا لأنه لا يكاد يأخذ إلا الشيء الطفيف وذلك ضرب من السرقة والخيانة مع ما فيه من الإنباء عن عدم الأنفة والمروءة بالكلية ومن ثم عوقب بالويل الذي هو شدة العذاب أو الوادي في جهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لذابت من شدة حره نعوذ بالله منه وأيضا فقد شدد الله تعالى عقوبة قوم شعيب صلى الله عليه وسلم على نبينا وعليه على بخسهم المكيال والميزان
فإن قلت سيأتي في الغصب أن غصب ما دون ربع دينار لا يكون كبيرة فقضيته أن يكون هذا كذلك
قلت ذلك مشكل فلا يقاس عليه بل حكي الإجماع على خلافه
وقال الأذرعي إنه تحديد لا مستند له انتهى
وعلى التنزل فقد يفرق بأن الغصب ليس مما يدعو قليله إلى كثيره لأنه إنما يؤخذ على سبيل القهر والغلبة فقليله لا يدعو لكثيره بخلاف هذا فإنه يؤخذ على سبيل المكر والخيانة والحيلة فكان قليله يدعو إلى كثيره فتعين التنفير عنه بأن كلا من قليله وكثيره كبيرة أخذا مما قالوه في شرب القطرة من الخمر فإنه كبيرة وإن لم توجد فيها مفسدة الخمر لما تقرر أن قليله يدعو إلى كثيره فلا يشكل على هذا الفرق إلحاق جماعة السرقة بالغصب كما يأتي فيها لأن السارق على غاية من الخوف فهو غير ممكن من مال غيره حتى يقال إن القليل يدعو إلى الكثير بخلاف المطفف فإنه ممكن من مال الغير فدعاية القليل فيه إلى الكثير أسهل وأظهر فتأمل ذلك فإني لم أر من نبه عليه ولا أشار إليه
ومما يؤيد الفرق أن جماعة شرطوا في الغصب ما مر ومع ذلك قالوا لا يشترط ذلك
____________________
(1/474)
في السرقة وكأنهم نظروا إلى ما ذكرته وبما قررته من الفرق الظاهر بين هذا والغصب يندفع جزم بعض المتأخرين بأن التطفيف بالشيء التافه صغيرة إلا أن يقال المنازعة في الغصب إنما هي في التحديد برفع دينار
وأما غصب الشيء التافه الذي يسامح به أكثر الناس فينبغي أن يكون صغيرة وكذلك التطفيف بالشيء التافه الذي يسامح به أكثر الناس ينبغي أن يكون صغيرة أيضا فهذا غير بعيد لكن ظاهر كلام الأكثرين أنه لا فرق
ومن ثم حكى ابن عبد السلام أن غصب الحبة وسرقتها كبيرة بالإجماع وكأنه أخذ ذلك من إطلاق الأكثرين الذي أشرت إليه ويأتي لذلك مزيد في الغصب فراجعه
قال مالك بن دينار رضي الله عنه دخلت على جار لي وقد نزل به الموت فجعل يقول جبلين من نار جبلين من نار
قال قلت له ما تقول قال يا أبا يحيى كان لي مكيالان كنت أكيل بأحدهما وأكتال بالآخر
قال مالك فقمت فجعلت أضرب أحدهما بالآخر
فقال يا أبا يحيى كلما ضربت أحدهما بالآخر ازداد الأمر عظما وشدة فمات في مرضه
وقال بعض السلف أشهد على كل كيال أو وزان بالنار لأنه لا يكاد يسلم إلا من عصم الله
وقال بعضهم دخلت على مريض قد نزل به الموت فجلعت ألقنه الشهادة ولسانه لا ينطق بها فلما أفاق قلت له يا أخي مالي ألقنك الشهادة ولسانك لا ينطق بها قال يا أخي لسان الميزان على لساني يمنعني من النطق بها فقلت له بالله أكنت تزن ناقصا فقال لا والله ولكني كنت أقف مدة لا أعتبر صنجة ميزاني فإذا كان هذا حال من لا يعتبر صنجة ميزانه فكيف حال من يزن ناقصا
وقال نافع كان ابن عمر رضي الله عنهما يمر بالبائع يقول اتق الله وأوف الكيل والوزن فإن المطففين يوقفون حتى إن العرق ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم
وكالكيالين والوزانين فيما مر التاجر إذا شد يده في الذراع وقت البيع وأرخاها وقت الشراء وهذا من تطفيف فسقة البزازين والتجار
وما أحسن قول من قال الويل ثم الويل لمن يبيع بحبة ينقصها جنة عرضها السموات والأرض ويشتري بحبة يزيدها واديا في جهنم يذيب جبال الدنيا وما فيها
____________________
(1/475)
الكبيرة الرابعة بعد المائتين القرض الذي يجر نفعا للمقرض وذكر هذه من الكبائر ظاهر لأن ذلك في الحقيقة ربا كما مر في بابه فجميع ما مر في الربا من الوعيد يشمل فاعل ذلك فاعلمه الكبيرة الخامسة والسادسة بعد المائتين الاستدانة مع نيته عدم الوفاء أو عدم رجائه بأن لم يضطر ولا كان له جهة ظاهرة يفي منها والدائن جاهل بحاله
أخرج البخاري وغيره من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله
والطبراني من ادان دينا وهو أن ينوي أن يؤديه أداه الله عنه يوم القيامة ومن استدان دينا وهو ينوي أن لا يؤديه فمات قال الله عز وجل له يوم القيامة ظننت أني لا آخذ لعبد بحقه فيؤخذ من حسناته فيجعل في حسنات الآخر فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات الآخر فيجعل عليه
وابن ماجه والبيهقي بإسناد متصل لا بأس به إلا أن البخاري قال في أحد رواته فيه نظر أيما رجل يدين دينا وهو مجمع أن لا يوفيه لقي الله سارقا
والطبراني بسند فيه متروك وأيما رجل تزوج امرأة فنوى أن لا يعطيها من صداقها شيئا مات يوم يموت وهو زان وأيما رجل اشترى من رجل بيعا ينوي أن لا يعطيه من ثمنه شيئا مات يوم يموت وهو خائن والخائن في النار
وابن ماجه بإسناد حسن من مات وعليه درهم أو دينار قضي من حسناته ليس ثم دينار ولا درهم
____________________
(1/476)
والطبراني الدين دينان فمن مات وهو ينوي قضاءه فأنا وليه ومن مات وهو لا ينوي قضاءه فذلك الذي يؤخذ من حسناته ليس يومئذ دينار ولا درهم
والطبراني في الصغير والأوسط بسند رواته ثقات أيما رجل تزوج امرأة على ما قل من المهر أو كثر ليس في نفسه أن يؤدي إليها حقها خدعها فمات ولم يؤد إليها حقها لقي الله يوم القيامة وهو زان وأيما رجل استدان دينا لا يريد أن يؤديه إلى صاحبه خدعه حتى أخذ ماله فمات ولم يؤد إليه دينه لقي الله وهو سارق
وأحمد والبزار والطبراني وأبو نعيم وإسناد أحدهم حسن يدعو الله بصاحب الدين يوم القيامة حتى يقف بين يديه فيقال يا ابن آدم فيم أخذت هذا الدين وفيم ضيعت حقوق الناس فيقول يا رب إنك تعلم أني أخذته فلم آكل ولم أشرب ولم ألبس ولم أضيع
ولكن إما حرق وإما سرق وإما وضيعة أي بيع بأقل مما اشترى به
فيقول الله صدق عبدي أنا أحق من قضى عنك فيدعو الله بشيء فيضعه في كفة ميزانه فترجح حسناته على سيئاته فيدخل الجنة بفضل رحمته
والنسائي والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أعوذ بالله من الكفر والدين فقال رجل يا رسول الله أتعدل الكفر بالدين قال نعم والطبراني صاحب الدين مأسور بدينه يشكو إلى الله الوحدة
وأبو داود والبيهقي إن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه بها عبد بعد الكبائر التي نهى الله عنها أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاء
____________________
(1/477)
وابن أبي الدنيا والطبراني بإسناد لين
الحديث الآتي بطوله في الغيبة إن شاء الله تعالى وفيه أربعة يؤذون أهل النار على ما بهم من الأذى يسعون ما بين الحميم والجحيم يدعون بالويل والثبور يقول بعض أهل النار لبعض ما بال هؤلاء قد آذونا على ما بنا من الأذى
قال فرجل معلق عليه تابوت من جمر ورجل يجر أمعاءه ورجل يسيل فوه قيحا ودما ورجل يأكل لحمه فيقال لصاحب التابوت ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى فيقول إن الأبعد قد مات وفي عنقه أموال الناس لا يجد لها قضاء أو وفاء
وأحمد بإسناد حسن والحاكم وصححه عن جابر قال توفي رجل فغسلناه وكفناه وحنطناه ثم أتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عليه فقلنا تصلي عليه فخطا خطوة ثم قال أعليه دين قلنا ديناران فانصرف فتحملهما أبو قتادة فأتيناه فقال أبو قتادة الديناران علي
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوفى الله حق الغريم وبرئ منهما الميت قال نعم فصلى عليه
ثم قال بعد ذلك بيوم ما فعل الديناران قلت إنما مات أمس قال فعاد إليه من الغد فقال قد قضيتهما
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الآن كما برئت جلدته
وكونه صلى الله عليه وسلم كان يصلي على المدين صحيح لكنه نسخ
فروى مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالميت عليه الدين فيسأل هل ترك لدينه قضاء فإن حدث أنه ترك وفاء يصلي عليه وإلا قال صلوا على صاحبكم فلما فتح الله عليه الفتوح قال أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه من ترك مالا فهو لورثته
وروى الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم سئل أن يصلي على مدين فقال ما ينفعكم أن أصلي على رجل روحه مرتهن في قبره لا تصعد روحه إلى السماء فلو ضمن رجل دينه قمت فصليت عليه فإن صلاتي تنفعه
____________________
(1/478)
وصح نفس المؤمن معلقة بدينه أي محبوسة عن مقامها الكريم حتى يقضى عنه دينه
وصح عند الحاكم إن صاحبكم حبس على باب الجنة بدين كان عليه فإن شئتم فافدوه وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله
وصح إن الله مع المدين حتى يقضي دينه ما لم يكن فيما يكرهه الله وإن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما كان يقول لخازنه اذهب فخذ لي بدين فإني أكره أن أبيت ليلة إلا والله معي إذ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم
وصح من حمل من أمتي دينا ثم جهد في قضائه ثم مات قبل أن يقضيه فأنا وليه
ما من أحد يدان دينا يعلم الله أنه يريد قضاءه إلا أداه الله عنه في الدنيا روته ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها لما ليمت على إكثارها من الدين ولما ليمت عائشة أيضا على الاستدانة
ولها عنها مندوحة روت ما من عبد كانت له نية في أداء دينه إلا كان له من الله عون
قالت فأنا ألتمس العون من الله تعالى رواه أحمد بإسناد صحيح إلا أن فيه انقطاعا
ووصله الطبراني بسند فيه نظر
وقال كان له من الله عون وسبب له رزقا
وصح أيضا من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره ومن مات وعليه دين فليس ثم دينار ولا درهم ولكنها الحسنات والسيئات
ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع ومن قال في مؤمن ما ليس فيه حبس في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج مما قال
____________________
(1/479)
وجاء عند البزار وابن ماجه إن ممن يقضي الله عنه دينه يوم القيامة من ضعفت قوته في سبيل الله فاستدان ليقوى به على عدو الله وعدوه
ومن مات عنده مسلم لا يجد ما يكفنه ويواريه بها إلا بدين ومن خاف العزوبة فنكح خشية على دينه
وصح والذي نفسي بيده لو قتل رجل في سبيل الله ثم عاش ثم قتل ثم عاش ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضي دينه
وصح لا تخيفوا أنفسكم بعد أمنها قالوا وما ذاك يا رسول الله قال الدين
وروى البيهقي أقل من الذنوب يهن عليك الموت وأقل من الدين تعش حرا
وصح عند الحاكم واعترض بأن فيه واهيا الدين راية الله في الأرض فإذا أراد أن يذل عبدا وضعه في عنقه
تنبيه عد ذينك كبيرتين هو وإن لم أر من صرح به صريح ما في هذه الأحاديث الصحيحة من أنه يلقى الله سارقا
والحديثان يشملان ذينك
أما الأول فواضح وأما الثاني فكذلك كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله خدعه حتى أخذ ماله ولا شك أن من أخذ دينا لا يرجو له وفاء من جهة ظاهره والدائن جاهل بحاله فقد خدع الآخذ منه حتى أعطاه ماله إذ لولا خديعته له لم يعطه له وجميع التغليظات في الدين المذكورة في هذه الأحاديث وغيرها ينبغي حملها على إحدى هاتين الصورتين اللتين ذكرتهما في الترجمة أو على ما لو استدانه ليصرفه في معصية وما جاء فيه من التخفيف كالإعانة والقضاء عنه وغيرهما ينبغي حمله على ما لو استدانه في طاعة ناويا أداءه وله وجهة
____________________
(1/480)
ظاهرة يؤدي منها أو والدائن عالم بحاله وبهذا الذي ذكرته وإن لم أره تجتمع الأحاديث ويزول ما يوهمه ظاهرها من التعارض عند من لم يتأمل فيها على نحو ما قررته فتأمل ذلك فإنه مهم
الكبيرة السابعة بعد المائتين مطل الغني بعد مطالبته من غير عذر
أخرج الشيخان والأربعة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مطل الغني ظلم وإذا أتبع أي بضم فسكون أحيل
قال الخطابي وتشديد المحدثين التاء خطأ أحدكم علي مليء فليتبع
وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه لي الواجد أي مطل القادر على وفاء دينه يحل عرضه وعقوبته أي يبيح أن يذكر بين الناس بالمطل وسوء المعاملة لا غيرهما إذ المظلوم لا يجوز له أن يذكر ظالمه إلا بالنوع الذي ظلمه به دون غيره ويبيح أيضا عقوبته بالحبس والضرب وغيرهما
والبزار والطبراني في الأوسط بسند فيه من وثق ولا بأس به في المتابعات إن الله يبغض الغني الظلوم والشيخ الجهول والعائل المختال أي الفقير المتكبر
ورواه بنحوه أبو داود وابن خزيمة في صحيحه وكذا النسائي وابن حبان في صحيحه والترمذي والحاكم وصححاه والطبراني في الكبير ما قدس الله أمة لا يأخذ ضعيفها الحق من قويها غير متعتع ثم قال من انصرف غريمه وهو عنه راض صلت عليه دواب الأرض ونون الماء أي حوته وليس من عبد يلوي غريمه وهو يجد إلا كتب عليه في كل يوم وليلة وجمعة وشهر ظلم
____________________
(1/481)
والطبراني بسند فيه من اختلف في توثيقه وأحمد بنحوه بسند قوي جيد عن خولة زوجة حمزة رضي الله عنهما أن رجلا كان له على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسق تمر فأمر أنصاريا أن يقضيه فقضاه دون تمره فأبى أن يقبضه فقال أترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم ومن أحق بالعدل من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتحلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدموعه ثم قال صدق ومن أحق بالعدل مني لا قدس الله أمة لا يأخذ ضعيفها حقه من شديدها ولا يتعتعه ثم قال يا خولة عديه واقضيه فإنه ليس من غريم يخرج من عنده غريمه راضيا إلا صلت عليه دواب الأرض ونون البحار وليس من عبد يلوي غريمه وهو يجد إلا كتب الله عليه في كل يوم وليلة إثما وتعتعه بفوقيتين ومهملتين أقلقه وأتعبه بكثرة تردده إليه ومطله إياه ويلوي يمطل ويسوف
وصح أيضا
لا قدست أمة لا يعطى الضعيف فيها حقه غير متعتع
ورواه ابن ماجه بقصة وهي أن أعرابيا كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين فتقاضاه إياه واشتد حتى قال أحرج عليك إلا قضيتني فانتهره أصحابه فقالوا ويحك تدري من تكلم قال إني أطلب حقي
فقال النبي صلى الله عليه وسلم هلا مع صاحب الحق كنتم ثم أرسل إلى خولة فقال لها إن كان عندك تمر فأقرضينا حتى يأتينا تمر فنقضيك فقالت نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله فأقرضته فقضى الأعرابي وأطعمه فقال أوفيت أوفى الله لك فقال أولئك خيار الناس إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع
تنبيه عد هذا كبيرة لم أره لكنه صريح الحديث الأول وما بعده إذ الظلم وحل العرض والعقوبة من أكبر الوعيد بل صرح جماعة من أئمتنا وزعموا فيه الاتفاق بأن من امتنع من قضاء دينه مع قدرته عليه بعد أمر الحاكم له به للحاكم أن يشدد عليه في العقوبة فينخسه بحديدة إلى أن يؤدي أو يموت كما قيل بنظره في تارك الصلاة على وجه
قال بعض الأئمة إنه مقيس على ما هنا فهو قياس ضعيف على ضعيف لأن القياس قد يكون على ضعيف كما صرح به الرافعي في بعض المواضع وبهذا يتبين الرد على أولئك الذين فهموا مما توهموه أن القياس لا يكون إلا على متفق عليه أن ما هنا معتمد حيث جعل أصلا مقيسا عليه
____________________
(1/482)
الكبيرة الثامنة بعد المائتين أكل مال اليتيم قال تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا قال قتادة نزلت في رجل من غطفان ولي مال ابن أخيه وهو صغير يتيم فأكله
وقوله ظلما أي لأجله أو حال كونهم ظالمين وخرج به أكلها بحق كأكل الوالي بشروطه المقررة في كتب الفقه
قال تعالى ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف أي بمقدار الحاجة فحسب أو بأن يأخذ قرضا أو بقدر أجرة عمله أو إن اضطر فإن أيسر قضاه وإلا فهو في حل أقوال أربعة الصحيح منها عندنا أن الولي إذا لم يتبرع بالنظر له فإن كان غنيا لم يأخذ منه شيئا وإن كان فقيرا فإن كان وصيا وشغله عن كسبه النظر في مال محجوره فله أن يأخذ منه ولو بلا قاض أقل الأمرين من أجرته بقدر عمله في ذلك ومن مؤنته اللائقة به عرفا ولا يجوز له أن يأخذ أكثر من الأقل
أما القاضي فلا يأخذ شيئا مطلقا
وأما الأب والجد والأم الوصية فلهم الكفاية إذ تجب نفقتهم في مال الولد ولو تضجر الأب أو الجد من النظر في مال ولده نصب له القاضي قيما أو نصبه القاضي وقدر له أجرة من مال الولد حيث لا متبرع وليس له مطالبة القاضي بتقدير أجرة له ولو فقيرا وللولي أن يخلط طعامه بطعام اليتيم وأن يضيف من المخلوط لكن يشترط أن يكون له في ذلك مصلحة كأن يكون أوفر عليه مما لو أكل وحده وأن تكون الضيافة مما زاد على قدر ما يخص اليتيم كما هو ظاهر و إنما إلخ خبر إن و في بطونهم متعلق بيأكلون خلافا لمن منعه أو حال من نار أي نارا كائنة في بطونهم وذكر تأكيدا أو مبالغة على حد يقولون بأفواههم ولا طائر يطير بجناحيه وأفاد كونه ظرفا ليأكلون أن بطونهم أوعية النار إما حقيقة بأن يخلق الله لهم نارا يأكلونها في بطونهم أو مجازا من إطلاق المسبب وإرادة السبب لكونه يفضي إليه ويستلزمه
والمراد سائر أنواع الإتلاف فإن ضرر اليتيم لا يختلف بكون إتلاف ماله بأكل أو غيره وخص الأكل بالذكر لأن عامة أموالهم في ذلك الوقت الأنعام وهي يؤكل لحمها ويشرب لبنها أو لكونه هو المقصود من التصرفات والسعير الجمر المتقد من سعرت النار أوقدتها ولشدة الوعيد الذي تضمنته هذه الآية قال ابن دقيق العيد أكل مال اليتيم مجرب لسوء الخاتمة والعياذ بالله
ومن ثم لما نزلت الآية تحرج الصحابة رضوان الله عليهم وامتنعوا من مخالطة اليتامى حتى نزل قوله تعالى وإن تخالطوهم فإخوانكم وزعم أن هذه
____________________
(1/483)
ناسخة لتلك وهم فاحش لأن تلك في منع أكلها ظلما وهذا لا ينسخ وإنما المراد أن مخالطتهم الممنوعة الشديدة الوعيد والعقاب والعلامة على سوء الخاتمة وتأبيد العذاب هي التي على وجه الظلم وإلا كانت من أعظم البر
فالآية الأولى في الشق الأول والثانية في الشق الثاني وهذا ظاهر جلي وقد جمع تعالى بينهما في قوله عز قائلا ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وقد نبه تعالى على تأكد حق الأيتام ومزيد الاعتناء به بقوله قبل هذه الآية وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا إذ المراد بشهادة السياق خلافا لمن حمل الآية على أنها في الوصية بأكثر من الثلث أو نحو ذلك الحمل لمن كان في حجره يتيم على أنه يحسن إليه حتى في الخطاب فلا يخاطبه إلا بنحو يا بني مما يخاطب به أولاده ويفعل معه من البر والمعروف والإحسان والقيام في ماله ما يجب أن يفعل بماله وبذريته من بعده فإن الجزاء من جنس العمل مالك يوم الدين أي الجزاء
كما تدين تدان أي كما تفعل يفعل معك
بينما الإنسان آمن متصرف في مال الغير وعلى أولاد غيره وإذا بالموت قد حل به فيجزيه الله تعالى في ماله وذريته وعياله وسائر تعلقاته بنظير ما فعله مع غيره إن خيرا فخير وإن شرا فشر
فليخش العاقل على أولاده وماله إن لم يكن له خشية على دينه ويتصرف على الأيتام الذين في حجره بما يجب أن يتصرف ولي أولاده لو كانوا أيتاما عليهم في ماله
وجاء إن الله تعالى أوحى إلى داود صلى الله على نبينا وعليه يا داود كن لليتيم كالأب الرحيم وكن للأرملة كالزوج الشفيق
واعلم أنك كما تزرع كذا تحصد أي كما تفعل يفعل معك إذ لا بد أن تموت ويبقى لك ولد يتيم وامرأة أرملة
وجاء في التشديد في أموال اليتامى والظلم فيها أحاديث كثيرة موافقة لما في الآية من ذلك الوعيد الشديد تحذيرا للناس عن هذه الفاحشة الوخيمة المهلكة
منها أخرج مسلم وغيره يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تلين مال يتيم
____________________
(1/484)
والشيخان وغيرهما اجتنبوا السبع الموبقات أي المهلكات
قالوا يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم الحديث
والبزار الكبائر سبع الإشراك بالله وقتل النفس بغير حق وأكل الربا وأكل مال اليتيم الحديث
والحاكم وصححه أربع حق على الله أن لا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها مدمن خمر وآكل الربا وآكل مال اليتيم بغير حق والعاق لوالديه
وابن حبان في صحيحه إن من جملة كتابه صلى الله عليه وسلم الذي أرسله مع عمرو بن حزم إلى أهل اليمن وإن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة الإشراك بالله وقتل النفس المؤمنة بغير حق والفرار في سبيل الله يوم الزحف وعقوق الوالدين ورمي المحصنة وتعلم السحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم
وأبو يعلى يبعث يوم القيامة قوم في قبورهم تأجج أفواههم نارا فقيل من هم يا رسول الله قال ألم تر أن الله يقول إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا
وفي حديث المعراج عند مسلم فإذا أنا برجال قد وكل بهم رجال يفكون لحاهم وآخرون يجيئون بالصخور من النار فيقذفونها في أفواههم فتخرج من أدبارهم
فقلت يا جبريل من هؤلاء قال الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا
وفي تفسير القرطبي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال رأيت ليلة أسري بي قوما لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكل بهم من يأخذ مشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار تخرج من أسافلهم
فقلت يا جبريل من هؤلاء قال هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما
____________________
(1/485)
تنبيه عد هذا كبيرة هو ما اتفقوا عليه لما ذكر وظاهر كلامهم أنه لا فرق بين أكل قليله وكثيره ولو حبة على ما مر في بخس الكيل والوزن ويفرق بينه وبين ما سيأتي عنهم في الغصب والسرقة بنظير ما فرقت به بين ذينك والتطفيف كما مر آنفا فيه من أنه متمكن من التصرف في مال اليتيم فلو لم يحكم في القليل بكونه كبيرة لجره ذلك إلى الكثير إذ لا مانع له لأنه مستول على الكل فتعين الحكم بالكبيرة على أخذ القليل والكثير بخلافه في ذينك فإنه لا يلزم عليهما ذلك كما بسطته في التنظيف قريبا فراجعه فإنه مهم وبه يندفع قول من زعم أن أخذ التافه من مال اليتيم صغيرة وسيأتي في الغصب ما له تعلق بذلك
خاتمة في كفالة اليتيم والشفقة عليه والسعي على الأرملة أخرج البخاري أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى وفرج بينهما
ومسلم كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة وأشار مالك بالسبابة والوسطى
والبزار من كفل يتيما له ذو قرابة أو لا قرابة له فأنا وهو في الجنة كهاتين وضم إصبعيه
ومن سعى على ثلاث بنات فهو في الجنة وكان له كأجر المجاهد في سبيل الله صائما قائما
وابن ماجه من عال ثلاثة من الأيتام كان كمن قام ليله وصام نهاره وغدا وراح شاهرا سيفه في سبيل الله وكنت أنا وهو في الجنة أخوان كما أن هاتين أختان وألصق إصبعيه السبابة والوسطى
والترمذي وصححه من قبض يتيما من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه أدخله الله الجنة ألبتة إلا أن يعمل ذنبا لا يغفر له
وفي رواية سندها حسن حتى يستغني عنه وجبت له الجنة ألبتة
____________________
(1/486)
وابن ماجه خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه
وأبو يعلى بسند حسن أنا أول من يفتح باب الجنة إلا أني أرى امرأة تبادرني فأقول ما لك ومن أنت تقول أنا امرأة قعدت على أيتام لي
والطبراني بسند رواته ثقات إلا واحدا ومع ذلك ليس بالمتروك والذي بعثني بالحق لا يعذب الله يوم القيامة من رحم اليتيم ولان له في الكلام ورحم يتمه وضعفه ولم يتطاول على جاره بفضل ما آتاه الله
وأحمد وغيره من مسح على رأس يتيم لم يمسحه إلا لله كانت له في كل شعرة مرت عليها يده حسنات
ومن أحسن إلى يتيم أو يتيمة عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين الحديث
وأخرج جماعة وصححه الحاكم على احتمال إن الله تعالى قال ليعقوب إن سبب ذهاب بصره وانحناء ظهره وفعل إخوة يوسف به ما فعلوا أنه أتاه يتيم مسكين صائم جائع وقد ذبح هو وأهله شاة فأكلوها ولم يطعموه ثم أعلمه الله تعالى بأنه لم يحب شيئا من خلقه حبه لليتامى والمساكين وأمره أن يصنع طعاما ويدعو المساكين ففعل
والشيخان عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله تعالى وأحسبه قال وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر
____________________
(1/487)
وابن ماجه الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله وكالذي يقوم الليل ويصوم النهار
قال بعض السلف كنت في بدء أمري سكيرا مكبا على المعاصي فرأيت يوما يتيما فأكرمته كما يكرم الولد بل أكثر ثم نمت فرأيت الزبانية أخذوني أخذا مزعجا إلى جهنم وإذا باليتيم قد اعترضني فقال دعوه حتى أراجع ربي فيه فأبوا
فإذا النداء خلوا عنه فقد وهبنا له ما كان منه بإحسانه إليه فاستيقظت وبالغت في إكرام اليتامى من يومئذ
وكان لبعض مياسير العلويين بنات من علوية فمات واشتد بهن الفقر إلى أن رحلن عن وطنهن خوف الشماتة فدخلن مسجد بلد مهجورا فتركتهن أمهن فيه وخرجت تحتال لهن في القوت فمرت بكبير البلد وهو مسلم فشرحت له حالها فلم يصدقها وقال لا بد أن تقيمي عندي البينة بذلك
فقالت أنا غريبة فأعرض عنها ثم مرت بمجوسي فشرحت له ذلك فصدق وأرسل بعض نسائه فأتت بها وببناتها إلى داره فبالغ في إكرامهن فلما مضى نصف الليل رأى ذلك المسلم القيامة قد قامت والنبي صلى الله عليه وسلم معقود على رأسه لواء الحمد وعنده قصر عظيم
فقال يا رسول الله لمن هذا القصر قال لرجل مسلم قال أنا مسلم موحد قال صلى الله عليه وسلم أقم عندي البينة بذلك فتحير فقص له صلى الله عليه وسلم خبر العلوية فانتبه الرجل في غاية الحزن والكآبة إذ ردها ثم بالغ في الفحص عنها حتى دل عليها بدار المجوسي فطلبها منه فأبى وقال قد لحقني من بركاتهن فقال خذ ألف دينار وسلمهن إلي فأبى فأراد أن يكرهه فقال الذي تريده أنا أحق به والقصر الذي رأيته في النوم خلق لي أتفخر علي بإسلامك فوالله ما نمت أنا وأهل داري حتى أسلمنا كلنا على يد العلوية ورأيت مثل منامك
وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم العلوية وبناتها عندك قلت نعم يا رسول الله
قال القصر لك ولأهل دارك فانصرف المسلم وبه من الكآبة والحزن ما لا يعلمه إلا الله تعالى
الكبيرة التاسعة بعد المائتين إنفاق مال ولو فلسا في محرم ولو صغيرة وعدي لهذه من الكبائر لم أره لكنه هو الذي يدل عليه كلامهم فإنهم عدوا ذلك سفها وتبذيرا موجبا للحجر وصرحوا مع ذلك بأن السفيه المحجور عليه لا تصح شهادته ولا يلي نحو نكاح ابنته ومنع الشهادة مع نحو الولاية ينبئ عن الفسق ومن
____________________
(1/488)
لازم كون ذلك فسقا أنه كبيرة فظهر ما ذكرته ويوجه من حيث المعنى بأنه لا أعز عند النفس من المال فإذا هان عليها صرفه في معصية دل على الانهماك التام في محبة المعاصي ولا شك أن هذا الانهماك ينشأ عنه مفاسد عظيمة جدا فاتجه أن ذلك كبيرة من حيث المعنى أيضا
الكبيرة العاشرة بعد المائتين إيذاء الجار ولو ذميا كأن يشرف على حرمه أو يبني ما يؤذيه مما لا يسوغ له شرعا أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت
ومسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره
وفي رواية سندها حسن فليكرم جاره
وأحمد بسند رواته ثقات والطبراني أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ما تقولون في الزنا قالوا حرام حرمه الله ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة
فقال صلى الله عليه وسلم لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره
قال فما تقولون في السرقة قالوا حرمها الله ورسوله فهي حرام إلى يوم القيامة
قال لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره
وأحمد والشيخان والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن قالوا من يا رسول الله قال الذي لا يأمن جاره بوائقه زاد أحمد قالوا يا رسول الله وما بوائقه قال شره
والشيخان والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن
قيل يا رسول الله لقد خاب وخسر من هذا قال من لا يأمن جاره بوائقه قالوا يا رسول الله وما بوائقه قال شره
____________________
(1/489)
وأبو يعلى ما هو بمؤمن من لا يأمن جاره بوائقه
والأصبهاني إن الرجل لا يكون مؤمنا حتى يأمن جاره بوائقه يبيت حين يبيت وهو آمن من شره وإن المؤمن الذي نفسه في عناء والناس منه في راحة
ومسلم والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره أو لأخيه ما يحب لنفسه
والطبراني أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله إني نزلت في محلة بني فلان وإن أشدهم لي أذى أقربهم لي جوارا فبعث صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليا يأتون المسجد فيقومون على بابه فيصيحون ألا إن أربعين دارا جار ولا يدخل الجنة من خاف جاره بوائقه
وأحمد وابن أبي الدنيا لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ولا يدخل الجنة حتى يأمن جاره بوائقه
وأحمد بسند جيد وأبو يعلى والبزار المؤمن من أمنه الناس والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده والمهاجر من هجر السوء والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة عبد لا يأمن جاره بوائقه
وأحمد وغيره إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم وإن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا من أحب فمن أعطاه الدين فقد أحبه والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه قلت وما بوائقه قال غشه وظلمه ولا يكسب مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدق به فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى
____________________
(1/490)
النار
إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن إن الخبيث لا يمحو الخبيث
وأبو الشيخ بن حبان من أذى جاره فقد أذاني ومن أذاني فقد أذى الله ومن حارب جاره فقد حاربني ومن حاربني فقد حارب الله عز وجل
والطبراني وفيه نكارة
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فقال لا يصحبنا اليوم من أذى جاره
فقال رجل من القوم أنا بلت في أصل حائط جاري فقال لا تصحبنا اليوم
والنسائي والحاكم وصححه على شرط مسلم وابن حبان في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة فإن جار البادية يتحول
وأحمد واللفظ له والطبراني بإسناد جيد أول خصمين يوم القيامة جاران
والطبراني جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو جاره فقال اطرح متاعك على الطريق فطرحه فجعل الناس يمرون عليه ويلعنونه فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما لقيت من الناس فقال وما لقيت منهم قال يلعنوني قال لقد لعنك الله قبل الناس قال إني لا أعود فجاء الذي شكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ارفع متاعك فقد كفيت
ورواه البزار بإسناد حسن بنحو إلا أنه قال ضع متاعك على الطريق أو على ظهر الطريق فوضعه فكان كل من مر به قال ما شأنك قال جاري يؤذيني فيدعو عليه فجاء
____________________
(1/491)
جاره فقال رد متاعك فلا أؤذيك أبدا
وأبو داود واللفظ له وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه على شرط مسلم جاء رجل يشكو جاره فقال له اذهب فاصبر فأتاه مرتين أو ثلاثا فقال اذهب فاطرح متاعك في الطريق ففعل فجعل الناس يمرون ويسألونه ويخبرهم خبر جاره فجعلوا يلعنونه فعل الله به وفعل وبعضهم يدعو عليه فجاء إليه جاره فقال ارجع فإنك لن ترى مني شيئا تكرهه
وأحمد والبزار وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه قال رجل يا رسول الله إن فلانة تذكر من كثرة صلاتها وصدقتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها قال هي في النار قال يا رسول الله فإن فلانة تذكر من قلة صلاتها وصيامها وإنها تصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها قال هي في الجنة
وفي رواية صحيحة أيضا فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها قال هي في النار
قالوا يا رسول الله فلانة تصلي المكتوبات وتصدق بالأثوار أي بالمثلثة جمع ثور وهو القطعة من الأقط ولا تؤذي جيرانها قال هي في الجنة
والطبراني عن معاوية بن حيدة قلت يا رسول الله ما حق الجار على جاره قال إن مرض عدته وإن مات شيعته وإن استقرضك أقرضته وإن أعور سترته
وفي رواية لأبي الشيخ وإن استعانك أعنته وإن احتاج أعطيته هل تفقهون ما أقول لكم لن يؤدي حق الجار إلا قليل ممن رحم الله
وفي رواية للخرائطي وإذا افتقر عدت عليه وإذا أصابه خير هنيته وإن أصابته مصيبة عزيته وإذا مات اتبعت جنازته ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه ولا تؤذه بفائح قدرك إلا أن تغرف له منها وإن اشتريت فاكهة فأهد له منها
____________________
(1/492)
فإن لم تفعل فأدخلها سرا ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده ورواه الأصبهاني بنحوه
قال الحافظ المنذري
ولا يخفى أن كثرة هذه الطرق تكسبه قوة
والطبراني بإسناد حسن ما آمن بي من بات شبعانا وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم
وفي رواية صحيحة ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع والطبراني جاء رجل فقال يا رسول الله اكسني فأعرض عنه فقال يا رسول الله اكسني فقال أما لك جار له فضل ثوبين قال بلى غير واحد قال فلا يجمع بينك وبينه في الجنة
والأصبهاني كم من جار متعلق بجاره يوم القيامة يقول يا رب سل هذا لم أغلق عني بابه ومنعني فضله
والترمذي وغيره موصولا ومقطوعا بضعف فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأخذ مني هذه الكلمات فيعمل بهن أو يعلم من يعمل بهن فقلت أنا يا رسول الله فأخذ بيدي فعد خمسا
فقال صلى الله عليه وسلم اتق المحارم تكن أعبد الناس وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب
والترمذي وقال حسن غريب وابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما والحاكم وصححه على شرط مسلم خير الأصحاب عند الله تعالى خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره
وفي حديث صحيح إن من جملة من يحبهم الله عز وجل رجل كان له جار سوء يؤذيه فصبر على أذاه حتى يكفيه الله إياه بحياة أو موت
____________________
(1/493)
والشيخان وغيرهما ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه
وأحمد بإسناد جيد ورواته رواة الصحيح عن رجل من الأنصار قال خرجت مع أهلي أريد النبي صلى الله عليه وسلم وإذا به قائم وإذا رجل مقبل عليه فظننت أن له حاجة فجلست فوالله لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جعلت أرثي له من طول القيام ثم انصرف فقمت إليه فقلت يا رسول الله لقد قام بك هذا الرجل حتى جعلت أرثي لك من طول القيام
قال أتدري من هذا قلت لا قال هذا جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه أما إنك لو سلمت عليه لرد عليك السلام
والطبراني بإسناد جيد عن أبي أمامة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته الجدعاء في حجة الوداع يقول أوصيكم بالجار حتى أكثر فقلت إنه يورثه
وأبو داود والترمذي وقال حسن غريب إن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ذبحت له شاة في أهله فلما جاء قال أهديتم لجارنا اليهودي قلنا لا
قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه
وطرق هذا المتن كثيرة عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين
وأحمد بسند رواته رواة الصحيح من سعادة المرء الجار الصالح والمركب الهنيء والمسكن الواسع
وابن حبان في صحيحه أربع من السعادة المرأة الصالحة والمسكن الواسع والجار الصالح والمركب الهنيء
وأربع من الشقاء الجار السوء والمرأة السوء والمركب السوء والمسكن الضيق
والطبراني في الكبير والأوسط إن الله عز وجل ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة
____________________
(1/494)
أهل بيت من جيرانه البلاء ثم قرأ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض
والبيهقي أن رجلا قال يا رسول الله دلني على عمل إذا عملت به دخلت الجنة فقال كن محسنا
فقال يا رسول الله كيف أعلم أني محسن قال سل جيرانك فإن قالوا إنك محسن فأنت محسن أو قالوا إنك مسيء فأنت مسيء
تنبيه عد هذا كبيرة هو صريح ما في الأحاديث الكثيرة الصحيحة وبه صرح بعضهم
فإن قلت إيذاء المسلم كبيرة مطلقا فما وجه تخصيص الجار قلت كأن وجه التخصيص أن إيذاء غير الجار لا بد فيه أن يكون له وقع بحيث لا يحتمل عادة بخلاف إيذاء الجار فإنه لا يشترط في كونه كبيرة أن يصدق عليه عرفا أنه إيذاء
ووجه الفرق بينهما ظاهر لما علم من هذه الأحاديث الصحيحة من تأكد حرمة الجار والمبالغة في رعاية حقوقه
واعلم أن الجيران ثلاثة قريب مسلم فله ثلاثة حقوق حق الجوار وحق الإسلام وحق القرابة
ومسلم فقط فله الحقان الأولان وذمي فله الحق الأول فيتعين صونه عن إيذائه وينبغي الإحسان إليه فإن ذلك ينتج خيرا كثيرا كما فعل سهل التستري بجاره المجوسي فإنه انفتح من خلائه محل لدار سهل يتساقط منه القذر فأقام سهل مدة ينحي ليلا مما يجتمع منه في بيته نهارا فلما مرض أحضر المجوسي وأخبره واعتذر بأنه خشي من ورثته أنهم لا يحتملون ذلك فيخاصمونه فعجب المجوسي من صبره على هذا الإيذاء العظيم قال له تعاملني بذلك منذ هذا الزمان الطويل وأنا مقيم على كفري مد يدك لأسلم فمد يده فأسلم ثم مات سهل رحمه الله
فتأمل نتيجة الصبر وعاقبته وفقنا الله لذلك وغيره آمين
الكبيرة الحادية عشرة بعد المائتين البناء فوق الحاجة للخيلاء أخرج ابن أبي الدنيا عن عمار بن ياسر قال إذا رفع الرجل بناء فوق سبعة أذرع نودي يا أفسق الفاسقين إلى أين وروي حديثا مرفوعا لكنه لم يصح
____________________
(1/495)
وأبو داود عن أنس رضي الله عنه قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن معه فرأى قبة مشرفة فقال ما هذه قال أصحابه هذه لفلان رجل من الأنصار فسكت وحملها في نفسه حتى إذا جاء صاحبها رسول الله صلى الله عليه وسلم سلم عليه في الناس فأعرض عنه صنع ذلك مرارا حتى عرف الرجل الغضب في وجهه والإعراض عنه فشكا ذلك إلى أصحابه فقال والله إني لأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا خرج فرأى قبتك فرجع الرجل إلى قبته فهدمها حتى سواها بالأرض فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فلم يرها قال ما فعلت القبة قالوا شكا إلينا صاحبها إعراضك عنه فأخبرناه فهدمها فقال أما إن كل بناء وبال على صاحبه إلا ما لا أي ما لا بد منه
وابن ماجه مر صلى الله عليه وسلم بقبة على باب رجل من الأنصار فقال ما هذه قالوا قبة بناها فلان
فقال صلى الله عليه وسلم كل ما كان هكذا فهو وبال على صاحبه يوم القيامة فبلغ الأنصاري ذلك فوضعها فمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد فلم يرها فسأل عنها فأخبر أنه وضعها لما بلغه عنه فقال يرحمه الله والطبراني بإسناد جيد أنه صلى الله عليه وسلم مر ببنية قبة لرجل من الأنصار فقال ما هذه قالوا قبة فقال صلى الله عليه وسلم كل بناء وأشار بيده الشريفة على رأسه أكثر من هذا فهو وبال على صاحبه يوم القيامة
والطبراني وله شواهد كل بنيان وبال على صاحبه إلا ما كان هكذا وأشار بكفه وكل علم وبال على صاحبه إلا من عمل به
والطبراني في الثلاثة بإسناد جيد إذا أراد الله بعبد شرا أحضر له اللبن والطين حتى يبني وفي الأوسط إذا أراد الله بعبد هوانا أنفق ماله في البنيان
وفي الكبير مرسلا بسند فيه انقطاع من بنى فوق ما يكفيه كلف أن يحمله يوم
____________________
(1/496)
القيامة
وفي الكبير مرسلا بسند جيد إن العباس رضي الله عنه بنى قبة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم اهدمها أو تصدق بثمنها فقال أهدمها
وصح على ما قاله الحاكم كل معروف صدقة وما أنفق الرجل على أهله كتب له صدقة وما أنفق المؤمن من نفقة فإن خلفها على الله والله ضامن إلا ما كان في بنيان أو معصية
وصح يؤجر المرء في نفقته كلها إلا التراب أو قال في البناء
وروى الترمذي النفقة كلها في سبيل الله إلا البناء فلا خير فيه
وأبو داود مرسلا إن شر ما ذهب فيه مال المرء المسلم البنيان
وفي حديث جبريل الصحيح المتفق عليه إن من أشراط الساعة تطاول رعاء الشاء في البنيان
وفي رواية الحفاة العراة العالة أي الفقراء رعاء الشاء
تنبيه عد هذا من الكبائر لم أره لكن صريح ما في الأثر الأول وما بعده وذلك لأن ذلك الأثر لا يقال من قبل الرأي وما جاء عن الصحابة من ذلك يكون في حكم المرفوع إذ لا مجال للاجتهاد فيه والأحاديث التي بعده منها ما هو صريح في الوعيد الشديد ومنها ما هو مشير إلى ذلك
إذ غضبه صلى الله عليه وسلم وعدم رده السلام وعدم رضاه إلا بالهدم صريح في أن ذلك كبيرة لكن ينبغي حمله على ما ذكرته في الترجمة من أن ذلك إن قصد به الخيلاء أو نحوه وكذا التعبير بالوبال والهوان والشر كله صريح أو كالصريح في الدلالة على الوعيد الشديد
____________________
(1/497)
تغيير منار الأرض أخرج أحمد ومسلم والنسائي عن علي كرم الله وجهه قال حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات قلت ما هن يا أمير المؤمنين قال لعن الله من ذبح لغير الله لعن الله من لعن والديه لعن الله من آوى محدثا لعن الله من غير منار الأرض والمراد به علامات حدودها كما صرح به الحديث الآتي في اللواط ولفظه ملعون من غير حدود الأرض
تنبيه عد هذا من الكبائر هو صريح هذا الحديث وبه صرح جماعة ووجهه أن فيه أكل أموال الناس بالباطل أو إيذاء المسلمين الإيذاء الشديد أو التسبب إلى أحد الأمرين وللوسائل حكم المقاصد فشمل ذلك من غيرها من أحد الشركاء أو الأجانب ومن تسبب إلى ذلك كأن اتخذ في أرض الغير ممشى يصير بسلوكه طريقا وإلا جاز حيث لا ضرر وقد وقع للقفال من أئمتنا أنه كان راكبا بجانب ملك وبالجانب الآخر إمام حنفي فضاقت الطريق فسلك القفال غيرها فقال الحنفي للملك سل الشيخ أيجوز سلوك أرض الغير فسأله الملك فقال نعم إذا لم تصر به طريقا أي ولم يكن فيها نحو زرع يضره السلوك كما هو ظاهر
إضلال الأعمى عن الطريق روى أصحاب السنن أنه صلى الله عليه وسلم لعن من أضل أعمى عن الطريق
تنبيه عد هذا كبيرة هو ما وقع في كلام بعضهم وكأنه أخذه مما ذكرته لما مر أن اللعن من علامات الكبيرة ووجهه ظاهر لأنه يدخل في إيذاء الناس الإيذاء البليغ الذي لا يحتمل عادة لأن من يضل الأعمى عن الطريق يتسبب إلى وقوعه في مضار ومخاوف كثيرة كما هو ظاهر فلم يبعد أن يكون السبب إلى ذلك كبيرة
____________________
(1/498)
الكبيرة الرابعة والخامسة والسادسة عشر بعد المائتين التصرف في الطريق الغير النافذ بغير إذن أهله والتصرف في الشارع بما يضر المارة إضرارا بليغا غير سائغ شرعا والتصرف في الجدار المشترك بغير إذن شريكه بما لا يحتمل عادة عند من قال بحرمة ذلك
وذكري لهذه الثلاثة معلوم من كلامهم وإن لم يصرحوا به لأن كل ذلك يرجع إلى أذية الناس الأذية البالغة والاستيلاء على حقوقهم تعديا وظلما ولا شك أن كلا من هذين الأمرين العامين أعني الأذية والاستيلاء المذكورين يشمل هذه الثلاثة وغيرها فذكرها إنما هو تصريح بما علم من كلامهم كما تقرر والأدلة الآتية في بحثي الغصب والظلم وغيرهما تشمل هذه الثلاثة فلا يغب عنك استحضارها هنا وسيأتي في الغصب خبر من أخذ من طريق الناس شبرا جاء به يوم القيامة يحمله من سبع أرضين
الكبيرة السابعة عشرة بعد المائتين امتناع الضامن ضمانا صحيحا في عقيدته من أداء ما ضمنه للمضمون له مع القدرة عليه سواء أضمن بإذن أم لا وذكري لهذه في الكبائر ظاهر لأن الضامن يثبت الدين في ذمته أيضا حقيقة فهو مدين ففيه جميع ما مر في مطل الغني لكن وجه تخصيص هذا بالذكر خفاؤه على أكثر الناس لظنهم أن تبرعه بالضمان لا يوقعه في هذه الورطة العظيمة وليس كما ظنوا لأنه وإن تبرع بالضمان يصير مديونا حقيقة حتى يطالب به في الآخرة أيضا كما اقتضاه إطلاق الأئمة
الكبيرة الثامنة والتاسعة عشرة بعد المائتين خيانة أحد الشريكين لشريكه أو الوكيل لموكله أخرج أبو يعلى والبيهقي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من خان شريكا فيما ائتمنه عليه واسترعاه له فأنا بريء منه وورد من خان من ائتمنه فأنا خصمه
____________________
(1/499)
وفي الحديث المتفق عليه أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا ائتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر
وروى أبو داود والحاكم وصححه يقول الله أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خان خرجت من بينهما
وزاد رزين وجاء الشيطان
والدارقطني يد الله على الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خان أحدهما صاحبه رفعها عنهما وهذا كالذي قبله كناية عن إنزال البركة والحفظ والنمو ما داما جاريين على قانون الصدق والأمانة وعن محق البركة وتسليط الآفات على المال إذا وقعت من أحدهما خيانة
والبزار والدارقطني بإسناد لا بأس به المؤمن إذا حدث صدق وإذا عاهد لم يغدر وإذا اؤتمن لم يخن
تنبيه عد هذين من الكبائر ظاهر من الأحاديث وإن لم يذكروه بخصوصه لأنهم ذكروا من الكبائر ما يشمله كما يعلم مما يأتي في مواضع
وسيأتي في الوديعة أحاديث أخر تتعلق بذلك
الكبيرة العشرون بعد المائتين الإقرار لأحد ورثته كذبا أو لأجنبي بدين أو عين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال الإضرار في الوصية من الكبائر
رواه الدارقطني
قال ابن أبي حاتم الصحيح وقفه
وروى أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الرجل ليعمل بعمل الخير سبعين سنة وإذا أوصى جار في وصيته فيختم له بشر عمله
____________________
(1/500)
فيدخل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة ثم يقول أبو هريرة اقرءوا إن شئتم تلك حدود الله إلى قوله عذاب مهين
وفي رواية لأبي داود والترمذي عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار ثم قرأ أبو هريرة رضي الله عنه من بعد وصية يوصي بها أو دين إلى قوله الفوز العظيم قال الترمذي حسن غريب
تنبيه عد الإضرار في الوصية كبيرة هو ما صرح به كثيرون ومنه ما ذكرته هنا وسيأتي تتميمه في باب الوصية مع الكلام على الآية التي أشار إليها أبو هريرة
ترك إقرار المريض بما عليه من الديون أو عنده من الأعيان إذا لم يعلم به من غير الورثة من يثبت بقوله وعدي لهذا كبيرة ظاهر وإن لم يذكروه لأن ترك الإقرار بما ذكر في هذه الحالة فيه تسبب ظاهر إلى ضياع حق الغير وضياع حق الغير كبيرة فكذا التسبب إليه لما مر أن للوسائل حكم المقاصد وسيأتي في عاصر الخمر ونحوه ما يصرح بذلك
الكبيرة الثانية والثالثة والعشرون بعد المائتين الإقرار بنسب كذبا أو جحده كذلك أخرج أحمد والطبراني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر من تبرأ من نسب وإن دق أو ادعى نسبا لا يعرف
وعمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص فيه كلام طويل والجمهور على توثيقه وعلى الاحتجاج بروايته عن أبيه عن جده
____________________
(1/501)
والطبراني في الأوسط من رواية الحجاج بن أرطاة وثقه كثيرون وبالغوا في الثناء عليه
عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وكرم الله وجهه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ادعى نسبا لا يعرف كفر بالله ومن انتفى من نسب وإن دق كفر بالله
وأحمد إن لله عبادا لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم قيل ومن أولئك يا رسول الله قال متبرئ من والديه راغب عنهما ومتبرئ من ولده ورجل أنعم عليه قوم فكفر نعمتهم وتبرأ منهم والمراد الإنعام بالعتق لخبر مسلم من تولى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة عدل ولا صرف
تنبيه ثبت بهذين الحديثين الصحيحين وما اشتمل عليه من هذا الوعيد الشديد جدا ما ذكرته وإن لم أر من صرح به من أن كلا من ذينك كبيرة وهو ظاهر لا مرية فيه لعظم ضرر كل منهما وما يترتب عليه من القبائح والمفاسد وتغيير ما شرعه الله لأن الولد إذا أنكر كذبا صار في حكم الأجنبي بالنسبة للأحكام الظاهرة والأجنبي إذا جعل ولدا يثبت له أحكام الولد ظاهرا وفي ذلك من المضار والمفاسد ما لا يخفى ثم رأيت الجلال البلقيني عد من الكبائر ادعاء الأب وهو يعلم أنه غير أبيه واستدل بخبر الصحيحين من ادعى أبا في الإسلام يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام
الكبيرة الرابعة والخامسة والسادسة والعشرون بعد المائتين استعمال العارية في غير المنفعة التي استعارها لها أو إعارتها من غير إذن مالكها أو عند من قال بمنعها أو استعمالها بعد المدة المؤقتة بها وتصريحي بأن هذه الثلاثة كبائر ظاهر من كلامهم لأنه يرجع إلى الغصب والظلم الآتيين وكل منهما كبيرة إجماعا إذ فيه ظلم للمالك واستيلاء على حقه وماله بغير حق فكل ما ورد فيهما من الوعيد الشديد في الأحاديث الآتية تشمل هذه الثلاثة ونحوها
____________________
(1/502)
@ 503 الكبيرة السابعة والعشرون بعد المائتين الغصب وهو الاستيلاء على مال الغير ظلما أخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من ظلم قيد شبر من أرض أي قدره طوقه من سبع أرضين
قيل أراد طوق التكليف لا طوق التقليد وهو أن يطوق حملها يوم القيامة
والأصح كما قاله البغوي أنه يخسف به الأرض فتصير البقعة في عنقه كالطوق
ومما يصرح به خبر الطبراني وأحمد وغيره الآتي قريبا وخبر البخاري وغيره من أخذ من الأرض شيئا بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين
ومسلم لا يأخذ أحد شبرا من الأرض بغير حقه إلا طوقه الله إلى سبع أرضين يوم القيامة
وأحمد بإسناد صحيح من أخذ من الأرض شبرا بغير حقه طوقه من سبع أرضين
وأحمد والطبراني وابن حبان في صحيحه أيما رجل ظلم شبرا من الأرض كلفه الله عز وجل أن يحفر له حتى يبلغ به سبع أرضين ثم يطوقه يوم القيامة حتى يقضى بين الناس
وأحمد والطبراني من أخذ أرضا بغير حقها كلف أن يحمل ترابها إلى المحشر
والطبراني في الكبير من ظلم من الأرض شبرا كلف أن يحفره حتى يبلغ الماء ثم يحمله إلى المحشر
____________________
(1/503)
وأحمد والطبراني من أخذ شيئا من الأرض بغير حقه طوقه من سبع أرضين لا يقبل منه صرف ولا عدل
وأحمد بسند حسن والطبراني في الكبير عن ابن مسعود قلت يا رسول الله أي ظلم أظلم فقال ذراع من الأرض ينتقصها المرء المسلم من حق أخيه فليس حصاة من الأرض يأخذها إلا طوقها يوم القيامة إلى قعر الأرض ولا يعلم قعرها إلا الله الذي خلقها
وأحمد بإسناد حسن أعظم الغلول عند الله ذراع في الأرض تجدون الرجلين جارين في الأرض أو في الدار فيقتطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعا إذا اقتطعه طوقه من سبع أرضين
والطبراني من غصب رجلا أرضا ظلما لقي الله وهو عليه غضبان
والطبراني في الكبير والصغير من أخذ من طريق المسلمين شبرا جاء به يوم القيامة يحمله من سبع أرضين
وابن حبان في صحيحه عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل لمسلم أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه
قال ذلك لشدة ما حرم الله من مال المسلم على المسلم
تنبيه اعتبر البغوي وغيره في كون الغصب كبيرة أن يكون المال المغصوب ربع دينار
وحكى القاضي الباقلاني أن بعض المعتزلة اشترط أن يبلغ مائتي درهم
وعن الجبائي أنه اشترط أن يبلغ عشرة دراهم
وعن الجبائي وغيره أنه اشترط بلوغه خمسة دراهم
وعن البصريين أنهم اشترطوا بلوغه درهما
____________________
(1/504)
وقال الحليمي إن كان شيئا تافها فصغيرة إلا أن يكون صاحبه لا غنى به عنه فكبيرة
قال الأذرعي واشتراط ربع دينار هو ما في إشراف الهروي وغيره ونسخ الرافعي الصحيحة ووقع في نسخ منه وفي الروضة أن يبلغ دينارا وهو تحريف من ناقله انتهى
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام كون شهادة الزور كبيرة كما في الخبر ظاهر إن وقعت في مال خطير فإن وقعت في مال يسير كزبيبة أو تمرة فيجوز أن يجعل من الكبائر فطما عن هذه المفاسد كما جعل شرب قطرة من الخمر كبيرة وإن لم يتحقق المفسدة ويجوز أن يضبط ذلك المال بنصاب السرقة
قال وكذلك القول في أكل مال اليتيم
قال في الخادم ويشهد للثاني ما سبق عن الهروي
وقال في التوسط وألحق شريح الروياني وغيره أن أكل أموال اليتامى وغيرهم بالباطل من الكبائر كأخذها رشوة ولم يفرقوا بين أن يبلغ ذلك ربع دينار أو لا وكذا أطلق صاحب العدة أكل مال اليتامى وأخذ الرشوة وجرى على إطلاقه فيها وفي الخيانة في كيل أو وزن الشيخان
وفي نص الشافعي ما يشهد له وذلك يورث ضعف التقييد في المغصوب بربع دينار انتهى
وقال أيضا وقول صاحب العدة ومنع الزكاة كبيرة قضيته أنه لا فرق بين منع القليل منها والكثير وهو الظاهر
وقياس اعتبار الهروي وغيره أن يكون المغصوب ربع دينار أن منع ما دون ذلك
ليس بكبيرة ولكنه تحديد لا مستند له انتهى
وقوله لا مستند له ظاهر
بل عن ابن عبد السلام أنهم أجمعوا على أن غصب الحبة وسرقتها كبيرة انتهى
ويوافقه قول القرطبي أجمع أهل السنة على أن من أكل مالا حراما ولو ما يصدق عليه اسم أكل فسق
وقال بشر بن المعتمر وطائفة من المعتزلة يفسق بمائتي درهم وابن الجبائي بدرهم فصاعدا انتهى
وكأن ابن عبد السلام لم يعتد بمقابلة البغوي والهروي وغيرهما السابقة لضعف مدركها ولأنه لا مستند لها كما تقرر
إذ الأحاديث الواردة في وعيد الغاصب وشاهد الزور وأكل مال اليتيم والرشوة والمطفف والسارق ومانع الزكاة مطلقة فتتناول قليل ذلك وكثيره فلا يجوز تخصيصها إلا بدليل سمعي إذ الحكم بالوعيد الشديد المقتضي للكبيرة على أحد التعاريف السابقة إنما يتلقى من الشارع فإذا صح وعيد شديد في شيء من غير تقييد
____________________
(1/505)
بقليل ولا كثير وجب إجراء ذلك على إطلاقه وعدم تقييده إلا بدليل صحيح سمعي أيضا وحيث لا دليل لذلك فلا مستند لذلك التحديد كما قاله الأذرعي فبان أن الوجه أن ذلك القيد في المسائل المذكورة كلها ضعيف وأن المعتمد أنه لا فرق في الحكم عليها بكونها كبائر وأن فاعلها يستحق ذلك الوعيد الشديد بين القليل منها والكثير
نعم الشيء التافه جدا الذي تقضي العادة بالمسامحة به كزبيبة أو عنبة يمكن أن يقال إن غصبه صغيرة لكن الإجماع السابق ذكره عن ابن عبد السلام الذي إن لم نحمله على حقيقته حملناه على إجماع الأكثرين من العلماء يرد ذلك ويصرح بأن ذلك كبيرة مطلقا لأن أموال الناس وحقوقهم وإن قلت لا يسامح فيها بشيء نعم غصب نحو كلب الغير لا يكون كبيرة كما جزم به بعضهم وهو محتمل
ولما ذكر الجلال البلقيني بعض الأحاديث السابقة في غصب الأرض قال هل يلحق بالأرض غيرها إذ لا قائل بالفرق في التحريم فكما استويا في التحريم استويا في الوعيد الشديد أو يفرق بأن الغصب في الأرض يعظم ضرره بخلاف غيرها هذا موضع نظر وقد يحتج لذلك بحديث ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة فإن من جملتها رجل استأجر أجيرا فاستوفى منه العمل ولم يوفه أجره فقد توعد بهذا الوعيد الشديد في غصب حقه من الأجرة انتهى
وهذا إنما ذكره نظرا للدليل وإلا فالأصحاب مصرحون بأنه لا فرق في كون الغصب كبيرة بين الأرض وغيرها من الأموال
على أن الظاهر أن الجلال لم ير الحديث الأخير الذي ذكرته قبيل التنبيه إذ هو مصرح في العصا بما يفيد الوعيد فإذا انضم إلى الحديث الذي ذكره في الأجرة أفاد أن الوعيد الشديد جاء في غير الأرض أيضا
الكبيرة الثامنة والعشرون بعد المائتين تأخير أجرة الأجير أو منعه منها بعد فراغ عمله أخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال الله تعالى ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل أستأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره
____________________
(1/506)
وابن ماجه بسند حسن عن ابن عمر رضي الله عنه والطبراني عن جابر وأبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنهم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه
تنبيه ما ذكر من كون هذا كبيرة هو ظاهر معلوم مما مر في الغصب ومطل الغني ولورود هذا الوعيد الشديد فيه بخصوصه أفردته بالذكر ثم رأيت بعضهم عده من الكبائر وأفرده بالذكر كما فعلت
مر أن من الكبائر منع فضل الماء كما صرح به الحديث الصحيح
البناء بعرفة أو مزدلفة أو منى عند من قال بتحريمه وذكر هذا من الكبائر بناء على القول بتحريمه ظاهر لأنه على هذا القول يكون من غصب الأرض وقد مر أنه كبيرة وما مر فيه من الوعيد الشديد فيأتي ذلك كله فيمن فعل هذا معتقدا لتحريمه
منع الناس من الأشياء المباحة لهم على العموم أو الخصوص كالأرض الميتة التي يجوز لكل أحد إحياؤها وكالشوارع والمساجد والربط والمعادن الباطنة أو الظاهرة فمنع واحد من هذه عن أن ينتفع به من الوجه الجائز ينبغي أن يكون كبيرة لأنه شبيه بالغصب فهو كما لو منع الإنسان من ملكه إذ استحقاقه للانتفاع بشيء من ذلك كاستحقاقه للانتفاع بملكه
فكما أن منع الملك كبيرة فكذا منع هذا
____________________
(1/507)
سقط الكبيرة الحادية والثلاثون بعد المائتين إكراء شيء من الشارع وأخذ أجرته وإن كان حريم ملكه أو دكانه وعد هذا كبيرة هو ما وقع في كلام غير واحد من أئمتنا في هذا الباب حيث قالوا إنه فسق وضلال ومن ثم قال الأذرعي فيما يفعله وكلاء بيت المال في الشوارع من نحو أخذ أجره من الجالسين فيها لا أدري بأي وجه يلقى الله من يفعل ذلك
الاستيلاء على ماء مباح ومنعه ابن السبيل أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل على فضل ماء بفلاة يمنعه ابن السبيل
الحديث وقد مر ويأتي
تنبيه هذا هو صريح هذا الحديث ولذا جزم كثيرون بعد ذلك كبيرة ولا بد من تقييد ذلك بمنع يؤدي إلى تضرر شديد وإلا فمجرد المنع والتضرر الخفيف لا يقتضي كون ذلك كبيرة
الكبيرة الثالثة والثلاثون بعد المائتين مخالفة شرط الواقف وذكري لهذا من الكبائر ظاهر وإن لم يصرحوا به لأن مخالفته يترتب عليها أكل أموال الناس بالباطل وهو كبيرة
الكبيرة الرابعة والخامسة والثلاثون بعد المائتين أن يتصرف في اللقطة قبل استيفاء شرائط تعريفها وتملكها وكتمها من ربها بعد علمه به وكون كل من هذين كبيرة هو ظاهر لأنه من أكل أموال الناس بالباطل
____________________
(1/508)
الكبيرة السادسة والثلاثون بعد المائتين ترك الإشهاد عند أخذ اللقيط وكون هذه كبيرة هو ما صرح به الزركشي وبه يعلم أن ما ذكرته في الباب الذي قبل هذا وما قبله من الكبائر ظاهر لأنها أولى بذلك من هذا لعظم مفاسدها وإن كان في هذه مفسدة أيضا وهي أن ترك الإشهاد ربما أداه إلى ادعاء رقه فإذا كان ما يؤدي إلى مفسدة هي ادعاء الرق كبيرة لكونه يؤدي إلى كبيرة وهي ادعاء رق الحر ولو بطريق الأصالة والدار كما في اللقيط فإن الحكم بحريته إنما هو كذلك وذلك لأن للوسائل حكم المقاصد فأولى ما ذكرته مما سبق فإنه بنفسه مفسدة أي مفسدة أو يؤدي إلى مفسدة أعظم أو أقرب وقوعا من هذه المفسدة
فبهذا يتضح لك عدي لكثير مما سبق من الكبائر وإن لم يذكروه أو ذكروا ما قد يوهم خلافه فتأمل ذلك فإنه مهم الكبيرة السابعة والثلاثون بعد المائتين الإضرار في الوصية قال تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله أي في شأن المواريث على ما قاله ابن عباس والأحسن بقاؤه على عمومه يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله أي فيما فرض الله من المواريث على ما قاله مجاهد وفيه ما مر يدخله نارا خالدا فيها أي أبدا إن استحل وإلا فالمراد بالخلود المدة الطويلة وله عذاب مهين أخذ ابن عباس من هذه الآية أن الإضرار في الوصية من الكبائر لأنه تعالى عقبه بهذا الوعيد الشديد كذا قيل وفيه قصور على أن ابن عباس روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد خرج النسائي عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم الإضرار في الوصية من الكبائر ثم تلا تلك حدود الله فقد
____________________
(1/509)
صرح صلى الله عليه وسلم بأن الإضرار في الوصية من الكبائر وسياق الآية شاهد لذلك ومن ثم صرح جمع من أئمتنا وغيرهم بأن ذلك من الكبائر
قال ابن عادل في تفسيره اعلم أن الإضرار في الوصية يقع على وجوه منها أن يوصي بأكثر من الثلث أو يقر بكل ماله أو بعضه لأجنبي أو يقر على نفسه بدين لا حقيقة له دفعا للميراث عن الورثة أو يقر بأن الدين الذي كان له على فلان استوفاه منه أو يبيع شيئا بثمن رخيص ويشتري شيئا بثمن غال كل ذلك لغرض أن لا يصل المال إلى الورثة أو يوصي بالثلث لا لوجه الله لكن لغرض تنقيص الورثة فهذا هو الإضرار في الوصية
وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أن الرجل يعمل عمل أهل الجنة سبعين سنة وحاف في وصيته ختم له بشر عمله فيدخل النار وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة
وقال عليه أفضل الصلاة والسلام من قطع ميراثا فرضه الله قطع الله ميراثه من الجنة
ويدل على ذلك قوله تعالى بعد هذه الآية تلك حدود الله قال ابن عباس في الوصية ومن يعص الله ورسوله
قال في الوصية وأيضا فمخالفة أمر الله عند القرب من الموت تدل على الخسارة الشديدة وذلك من أكبر الكبائر انتهى
وجرى على ذلك كله الزركشي فإن بعض المتأخرين قال رأيت بخط الزركشي ما لفظه وساق ما ذكرته عن ابن عادل جميعه إلا قليلا منه وهو عجيب من الزركشي فإن ما أطلقه في الوصية بأكثر من الثلث لا يأتي على قواعدنا لأن ذلك عندنا مكروه لا حرام فضلا عن كونه كبيرة
نعم الظاهر أنه يحرم عليه ذلك إن قصد حرمان ورثته وعلم أن من أوصى له يستولي على أكثر من الثلث ظلما وعدوانا وحينئذ فلا يبعد أن تعد وصيته حينئذ كبيرة لأن فيه أبلغ الإضرار بالورثة سيما في هذه الحالة التي يصدق فيها الكاذب ويتوب فيها الفاجر فإقدامه على ذلك دليل ظاهر على قسوة قلبه وفساد لبه وغاية جرأته فلذلك يختم له بشر عمله فيدخل النار كما مر في الحديث وما ذكره في مسائل الإقرار ظاهر وقد قدمت الكلام عليه في باب الإقرار وما ذكره في الوصية بالثلث
____________________
(1/510)
يقيده الذي ذكره
يأتي فيه ما قدمته في الوصية بأكثر من الثلث
ومن الإضرار في الوصية أن يوصي على نحو أطفاله من يعلم من حاله أنه يأكل مالهم أو يكون سببا لضياعه لكونه لا يحسن التصرف فيه أو نحو ذلك وما ذكرته من الحديثين فالأول رواه ابن ماجه بلفظ إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة فإذا أوصى خان في وصيته فيختم له بشر العمل فيدخل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة
والثاني رواه ابن ماجه أيضا بلفظ من فر بميراث وارثه قطع الله ميراثه من الجنة يوم القيامة ويؤيد الأول خبر أبي داود والترمذي وقال حديث حسن غريب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله عز وجل سبعين سنة ثم يحضرهما الموت فيضران في الوصية فتجب لهما النار ثم قرأ أبو هريرة رضي الله عنه من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار وصية من الله حتى بلغ وذلك الفوز العظيم
تتمة ينبغي الاعتناء بالوصية بالعدل
أما الثاني فلما ذكر وأما الأول فلخبر الشيخين وغيرهما ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين
وفي رواية ثلاث ليال إلا ووصيته مكتوبة عنده
قال ابن عمر رضي الله عنهما ما مضت علي ليلة منذ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وعندي وصية مكتوبة وابن ماجه من مات على وصية مات على سبيل وسنة ومات على تقى وشهادة ومات مغفورا له
وأبو يعلى بإسناد حسن المحروم من حرم وصيته
والطبراني ترك الوصية عار في الدنيا ونار وشنار في الآخرة ولو صح هذا الحديث لاستفيد منه أن ترك الوصية كبيرة
وحينئذ فيحمل على من علم أن ترك الوصية يكون سببا لاستيلاء الظلمة على ماله وأخذه من ورثته
وروى أبو داود وابن حبان في صحيحه لأن يتصدق الرجل في حياته وصحته بدرهم خير له من أن يتصدق عند موته بمائة
____________________
(1/511)
الكبيرة الأربعون بعد المائتين الخيانة في الأمانات كالوديعة والعين المرهونة أو المستأجرة وغير ذلك قال الله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها نزلت في عثمان بن طلحة الحجبي الداري كان سادن الكعبة يوم الفتح فلما دخلها صلى الله عليه وسلم حينئذ أغلق باب الكعبة وامتنع من إعطاء مفتاحها زاعما أنه لو علم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منعه فلوى علي رضي الله عنه يده وأخذه منه وفتح الباب ودخل صلى الله عليه وسلم وصلى فيها
فلما خرج سأله العباس رضي الله عنه أن يعطيه المفتاح ليجتمع له السدانة مع السقاية فأنزل الله الآية فأمر صلى الله عليه وسلم عليا أن يرده إلى عثمان ويعتذر إليه
فقال له أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق فقال له لقد أنزل الله في شأنك قرآنا وقرأ عليه الآية فأسلم وكان المفتاح معه فلما مات دفعه إلى أخيه شيبة فالسدانة في أولاده إلى يوم القيامة لقوله صلى الله عليه وسلم خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم وقيل المراد من الآية جميع الأمانات
قال الحافظ أبو نعيم في الحلية وممن قال إن الآية عامة في الجميع البراء بن عازب وابن مسعود وأبي بن كعب قالوا الأمانة في كل شيء في الوضوء والجنابة والصلاة والزكاة والصوم والكيل والوزن والودائع
قال ابن عباس لم يرخص الله لمعسر ولا لموسر أن يمسك الأمانة
وقال ابن عمر خلق الله تعالى فرج الإنسان وقال هذه أمانة خبأتها عندك فاحفظها إلا بحقها
وقال بعضهم معاملة الإنسان أمانة مع ربه بفعل المأمورات واجتناب المنهيات ولله تعالى في كل عضو من أعضاء الإنسان أمانة
فأمانة اللسان أن لا يستعمله في كذب وغيبة ولا نميمة ولا بدعة ولا فحش ولا نحوها
والعين أن لا ينظر بها إلى محرم
والأذن أن لا يصغي بها إلى سماع محرم وهكذا سائر الأعضاء
وأما مع الناس بنحو رد الودائع وترك التطفيف في كيل أو وزن أو ذرع وبعدل الأمراء في الرعية والعلماء في العامة بأن يحملوهم على الطاعة والأخلاق الحسنة والاعتقادات الصحيحة وينهوهم عن المعاصي وسائر القبائح كالتعصبات الباطلة والمرأة في حق زوجها بأن لا تخونه في فراشه أو ماله والقن في حق سيده بأن لا يقصر في خدمته ولا يخونه في ماله
وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته
____________________
(1/512)
وأما مع النفس بأن لا يختار لها إلا الأنفع والأصلح في الدين والدنيا وأن يجتهد في مخالفة شهواتها وإراداتها فإنها السم الناقع المهلك لمن أطاعها في الدنيا والآخرة
قال أنس قلما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له
وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون نزلت في أبي لبابة حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة لما حصرهم صلى الله عليه وسلم وكانوا يميلون إلى أبي لبابة لكون أهله وولده فيهم
فقالوا له هل ترى أن ننزل على حكم محمد فأشار بيده إلى حلقه أي إنه الذبح فلا تفعلوا فكانت تلك منه خيانة لله ولرسوله
قال فما زالت قدماي من مكانهما حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله ثم ذهب إلى المسجد وربط نفسه وحلف أن لا يحلها أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا زال كذلك حتى أنزل الله توبته فحله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة وقوله عز وجل وتخونوا أماناتكم عطف على النهي أي ولا تخونوا أماناتكم
قال ابن عباس الأمانات الأعمال التي ائتمن الله تعالى عليها العباد
وقال غيره أما خيانة الله ورسوله فمعصيتهما
وأما خيانة الأمانات فكل أحد مؤتمن على ما كلفه الله به فهو سبحانه موقفه بين يديه ليس بينه وبينه ترجمان وسائله عن ذلك هل حفظ أمانة الله فيه أو ضيعها فليستعد الإنسان بماذا يجب الله تعالى به إذا سأله عن ذلك فإنه لا مساغ للجحد ولا للإنكار في ذلك اليوم وليتأمل قوله تعالى وأن الله لا يهدي كيد الخائنين أي لا يرشد كيد من خان أمانته بل يحرمه هدايته في الدنيا ويفضحه على رءوس الأشهاد في العقبى فالخيانة قبيحة في كل شيء لكن بعضها أشد وأقبح من بعض إذ من خانك في فلس ليس كمن خانك في أهلك
وقد عظم الله سبحانه وتعالى أمر الأمانة تعظيما بليغا وأكده تأكيدا شديدا
فقال عز وجل إنا عرضنا الأمانة أي التكاليف التي كلف الله بها عباده من امتثال الأوامر واجتناب النواهي على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان أي آدم صلى الله على نبينا وعليه وسلم إنه كان ظلوما أي لنفسه بقبوله تلك التكليفات الشاقة جدا جهولا أي بمشقتها التي لا تتناهى
____________________
(1/513)
وروي أن الله تعالى خلق الدنيا كالبستان وزينها بخمسة أشياء بعلم العلماء وعدل الأمراء وعبادة الصالحين ونصيحة المستشار وأداء الأمانة
فقرن إبليس مع العلم الكتمان ومع العدل الجور ومع العبادة الرياء ومع النصيحة الغش ومع الأمانة الخيانة وفي الحديث يطبع المؤمن على كل خلق ليس الخيانة والكذب
وفيه أيضا أول ما يرفع من الناس الأمانة وآخر ما يبقى الصلاة ورب مصل ولا خير فيه وذكر صلى الله عليه وسلم أن من جملة أهل النار رجلا لازمه طمع وإن دق إلا خانه
وأخرج أبو يعلى والحاكم والبيهقي تقبلوا لي ستا أتقبل لكم الجنة إذا حدث أحدكم فلا يكذب وإذا وعد فلا يخلف وإذا اؤتمن فلا يخن
وأحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم والبيهقي اضمنوا لي ستا أضمن لكم الجنة اصدقوا إذا حدثتم وأوفوا إذا وعدتم وأدوا إذا اؤتمنتم الحديث
والطبراني لا بأس به اكفلوا لي ستا أكفل لكم الجنة الصلاة والزكاة والأمانة والفرج والبطن واللسان
ومسلم وغيره عن حذيفة رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال أي بفتح الجيم وسكون المعجمة أصلها ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها في قلبه مثل الوكت أي بفتح فسكون ففوقية الأثر اليسير ثم ينام الرجل النوم فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المجل أي بفتح فسكون للجيم تنفط اليد من العمل وغيره كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبزا أي بالزاي مرتفعا
____________________
(1/514)
والطبراني لا إيمان لمن لا أمانة له ولا صلاة لمن لا طهور له الحديث
والبزار عن علي كرم الله وجهه قال كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلع علينا رجل من أهل العالية فقال يا رسول الله أخبرني بأشد شيء في هذا الدين وألينه فقال ألينه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأشده يا أخا العالية الأمانة إنه لا دين لمن لا أمانة له ولا صلاة ولا زكاة الحديث
والشيخان وخيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون يخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن
والشيخان آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان زاد مسلم وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم
والشيخان أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر
وأبو داود والنسائي وابن ماجه كان صلى الله عليه وسلم يقول اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئس البطانة
وأحمد والبزار والطبراني في الأوسط عن أنس رضي الله عنه قال ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له
ورواه ابن حبان في صحيحه إلا أنه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في خطبته
فذكر الحديث
____________________
(1/515)
والترمذي إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة فقد حل بها البلاء
وقيل وما هي يا رسول الله قال إذا كان المغنم دولا والأمانة مغنما والزكاة مغرما وأطاع الرجل زوجته وعق أمه وبر صديقه وجفا أباه وارتفعت الأصوات في المساجد وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره وشربت الخمور وشهد بالزور ولبس الحرير واتخذت القينات والمعازف ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء أو خسفا أو مسخا
وفي رواية فليرتقبوا عند ذلك ريحا ومسخا وخسفا وقذفا وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع
والبزار ثلاث متعلقات بالعرش الرحم تقول اللهم إني بك فلا أقطع والأمانة تقول اللهم إني بك فلا أخان والنعمة تقول اللهم إني بك فلا أكفر
وصح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة قال يؤتى بالعبد يوم القيامة وإن قتل في سبيل الله فيقال له أد أمانتك فيقول أي رب كيف وقد ذهبت الدنيا فيقال انطلقوا به إلى الهاوية وتمثل له الأمانة كهيئتها يوم دفعت إليه فيراها فيعرفها فيهوي في أثرها حتى يدركها فيحملها على منكبه حتى إذا ظن أنه خارج زلت عن منكبه فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين ثم قال الصلاة أمانة والوضوء أمانة والوزن أمانة والكيل أمانة وأشياء عددها وأشد ذلك الودائع
قال زاذان فأتيت زيد بن عامر فقلت ألا ترى إلى ما قال ابن مسعود قال كذا وكذا
قال صدق
أما سمعت الله تعالى يقول إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها
تنبيه عد ما ذكر كبيرة هو ما صرح به غير واحد وهو ظاهر مما ذكر في الآيات والأحاديث
____________________
(1/516)
بسم الله الرحمن الرحيم قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قرآن كريم
كتاب النكاح الكبيرة الحادية والأربعون بعد المائتين التبتل أي ترك التزوج وعد هذا كبيرة هو صريح كلام بعض المتأخرين لأنهم ذكروا أن من إمارات الكبيرة اللعن وذكر هذا الإمام في باب عقده لمن لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله ولعن الله المتبتلين من الرجال الذين يقولون لا نتزوج والمتبتلات اللاتي يقلن ذلك ولكن هذا لا يأتي على قواعدنا إذ لا يتصور عندنا على الأصح وجوب النكاح إلا بالنذر وأما عند من قال بوجوبه في بعض الحالات كأن ظن من نفسه الوقوع في الزنا ونحوه إن لم يتزوج فلا يعد في عد التبتل له كبيرة على هذا بشرط أن يقدر على المهر والمؤن ويخشى بل يظن من نفسه الزنا أو نحوه إن لم يتزوج فترك التزوج حينئذ فيه مفاسد فلا يعد في كونه كبيرة
الكبيرة الثانية والأربعون والثالثة والأربعون والرابعة والأربعون بعد المائتين نظر الأجنبية بشهوة مع خوف فتنة ولمسها كذلك وكذا الخلوة بها بأن لم يكن معهما محرم لأحدهما يحتشمه ولو امرأة كذلك ولا زوج لتلك الأجنبية أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة العينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه
____________________
(2/533)
وفي رواية لمسلم واليدان تزنيان فزناهما البطش والرجلان تزنيان فزناهما المشي والفم يزني فزناه القبل
وفي رواية صحيحة العينان تزنيان والرجلان تزنيان والفرج يزني
والطبراني بسند صحيح لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط أي بنحو إبرة أو مسلة وهو بكسر أوله وفتح ثالثه من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له
والطبراني إياكم والخلوة بالنساء والذي نفسي بيده ما خلا رجل بامرأة إلا دخل الشيطان بينهما ولأن يزحم رجلا خنزير متلطخ بطين أو حمأة أي طين أسود منتن خير له من أن يزحم منكبه امرأة لا تحل له
والطبراني لتغضن أبصاركم ولتحفظن فروجكم أو ليكشفن الله وجوهكم
والترمذي وقال حسن غريب يا علي إن لك كنزا في الجنة وإنك ذو قرنيها أي مالك طرفيها السالك في جميع نواحيها تشبيها بذي القرنين فإنه قيل إنما سمي بذلك لقطعه الأرض وبلوغه قرني الشمس شرقا وغربا
فلا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة
والطبراني والحاكم وصححه واعترض بأن فيه واهيا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني عن ربه عز وجل النظرة سهم مسموم من سهام إبليس من تركها من مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه
____________________
(2/534)
وأحمد ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثم يغض بصره إلا أحدث الله له عبادة يجد حلاوتها في قلبه
قال البيهقي إنما أراد إن صح والله أعلم أن يقع بصره عليها من غير قصد فيصرف بصره عنها تورعا
والأصبهاني كل عين باكية يوم القيامة إلا عينا غضت عن محارم الله وعينا سهرت في سبيل الله وعينا خرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله
والطبراني بسند صحيح إلا أن فيه مجهولا ثلاثة لا ترى أعينهم النار عين حرست في سبيل الله وعين بكت من خشية الله وعين كفت عن محارم الله
وصح عند الحاكم واعترض بأن فيه انقطاعا اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة اصدقوا إذا حدثتم وأوفوا إذا وعدتم وأدوا إذا ائتمنتم واحفظوا فروجكم وغضوا أبصاركم وكفوا أيديكم
____________________
(2/535)
ومسلم وغيره عن جرير سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فقال اصرف بصرك
وصح ما من صباح إلا وملكان يناديان ويل للرجال من النساء وويل للنساء من الرجال
والطبراني من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس بينه وبينها محرم
والشيخان إياكم والدخول على النساء
فقال رجل من الأنصار يا رسول الله أفرأيت الحمو أي بواو وهمزة أو تركهما أبو الزوج أو الزوجة ومن أدلى به وقيل الأول فقط وهو المراد هنا وقيل الثاني فقط قال الحمو الموت
قال أبو عبيد يعني فليمت ولا يفعلن ذلك فإذا كان هذا دأبه في أبي الزوج وهو محرم فكيف بالغريب
تنبيه عد هذه الثلاثة من الكبائر هو ما جرى عليه غير واحد وكأنهم أخذوه من الحديث الأول وما بعده لكن الذي جرى عليه الشيخان وغيرهما أن مقدمات الزنا ليست كبائر ويمكن الجمع بحمل هذا على ما إذا انتفت الشهوة وخوف الفتنة والأول على ما إذا وجدتا فمن ثم قيدت بهما الأول حتى يكون له نوع اتجاه وأما إطلاق الكبيرة ولو مع انتفاء ذينك فبعيد جدا
الكبيرة الخامسة والسادسة والسابعة والأربعون بعد المائتين فعل هذه الثلاثة مع الأمرد الجميل مع الشهوة وخوف الفتنة وعد هذه الثلاثة من الكبائر بناء على طريقة العادين الثلاثة قبلها ظاهر لأن الفتنة بالأمرد أقرب وأقبح ويؤيده ما يأتي من عد الزنا واللواط كبيرتين مختلفتين فكذا
____________________
(2/536)
مقدماتهما
ثم رأيت الأذرعي قال أقر الشيخان صاحب العدة على أشياء عدها صغائر منها النظر إلى ما لا يجوز النظر إليه من أجنبية وأمرد فقد أطلق الماوردي وغيره أنه إن تعمده بشهوة لغير حاجة فسق وردت شهادته وكذا لو عاوده عبثا لا لشهوة فيه قال الأذرعي والمختار أنه لا يفسق بذلك بمجرده إذا غلبت طاعاته كما قررناه فلا يكون ذلك كبيرة تخرج من العدالة نعم لو ظن الفتنة ثم اقتحم النظر فيظهر كونه كبيرة
انتهى
وما ذكره آخرا موافق لما بحثته وجمعت به بين القول بأن ذلك كبيرة والقول بأنه غير كبيرة فتأمل ذلك فإنه مهم وإنما قيدت هنا وفيما مر بالشهوة وخوف الفتنة ليقرب عد تلك الستة من الكبائر كما مر لا لكون الحرمة مقيدة بذلك فإن الأصح حرمة هذه كلها مع المرأة والأمرد ولو بلا شهوة وإن أمن الفتنة حسما لمادة الفساد ما أمكن إذ لو جاز نحو النظر ولو مع الأمن لجر إلى الفاحشة وأدى إلى الفساد فكان اللائق بمحاسن الشريعة الإعراض عن تفاصيل الأحوال وسد باب الفتنة وما يؤدي إليها مطلقا ومن ثم حرم أئمتنا النظر لقلامة ظفر المرأة المنفصلة ولو مع يدها بناء على الأصح من حرمة نظر اليدين والوجه لأنهما عورة في النظر من المرأة ولو أمة على الأصح وإن كانا ليسا عورة من الحرة في الصلاة وكذلك يحرم سائر ما انفصل منها لأن رؤية البعض ربما جر إلى رؤية الكل فكان اللائق حرمة نظره مطلقا أيضا وكما يحرم ذلك على الرجل للمرأة كذلك يحرم عليها أن ترى شيئا منه ولو بلا شهوة ولا خوف فتنة نعم إن كان بينهما محرمية بنسب أو رضاع أو مصاهرة نظر كل إلى ما عدا ما بين سرة الآخر وركبته وحلت الخلوة لانتفاء مظنة الفساد حينئذ وكذا لو كان الذكر ممسوحا بأن لم يبق شيء من ذكره ولا بقيت فيه شهوة وميل للنساء وكذا لو كان عبدها وهي وهو ثقتان عدلان ولا يكفي كونهما عفيفين عن الزنا فقط بل لا بد من وجود صفة العدالة في كل منهما وليس الشيخ الفاني والمريض والعنين والخصي والمجبوب كذلك فيحرم على كل من هؤلاء نظرها وعليها نظره مطلقا كالفحل وعلى ولي المراهق والمراهقة منعهما مما يمنع منه البالغ والبالغة
وعلى النساء الاحتجاب منه كما يجب على المسلمة أن تحتجب من الذمية لئلا تصفها إلى فاسق أو كافر تفتتن به ومثلها في ذلك الفاسقة بزنا أو سحاق فيجب على العفيفة الاحتجاب منها لئلا تجرها إلى مثل قبائحها وإذا اضطرت المرأة إلى مداواة أو شهادة أو تعليم أو بيع أو نحو ذلك جاز نظرها بقدر الضرورة بتفاصيل ذلك المبسوطة في كتب الفقه وقد قدمت عن الأذرعي أنه نقل عن الماوردي ما يصرح بما ذكرته في تلك الست حيث قال أقر الشيخان صاحب العدة على عدة أشياء من الصغائر وفيها نظر
____________________
(2/537)
منها النظر إلى ما لا يجوز النظر إليه من أجنبية أو أمرد وفيه نظر فقد أطلق الماوردي وغيره أنه إن تعمد ذلك بشهوة لغير حاجة فسق وردت شهادته وكذا لو عاوده عبثا لا لشهوة فيه
قال الأذرعي والمختار أنه لا يفسق بذلك بمجرده إذا غلبت طاعاته فلا يكون ذلك كبيرة تخرج عن العدالة
نعم لو ظن الفتنة ثم اقتحم النظر فيظهر كونه كبيرة
انتهى
ورأيت بعض المتأخرين أشار لما ذكرته أيضا حيث قال والنظر بشهوة إلى المرأة والأمرد زنا لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال زنا العين النظر وزنا اللسان النطق وزنا اليد البطش وزنا الرجل الخطا والنفس تتمنى وتشتهي
ولأجل ذلك بالغ الصالحون في الإعراض عن المرد وعن النظر إليهم وعن مخالطتهم ومجالستهم
قال الحسن بن ذكوان لا تجالسوا أولاد الأغنياء فإن لهم صورا كصور العذارى وهم أشد فتنة من النساء وقال بعض التابعين ما أنا بأخوف على الشاب الناسك من سبع ضار من الغلام الأمرد يقعد إليه وكان يقول لا يبيتن رجل مع أمرد في مكان واحد وحرم بعض العلماء الخلوة مع الأمرد في بيت أو حانوت أو حمام قياسا على المرأة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما خلا رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان وفي المرد من يفوق النساء بحسنه فالفتنة به أعظم ولأنه يمكن في حقه من الشر ما لا يمكن في حق النساء ويسهل في حقه من طرق الريبة والشر ما لا يسهل في حق المرأة فهو بالتحريم أولى
وأقاويل السلف في التنفير منهم والتحذير من رؤيتهم أكثر من أن تحصر وسموهم الأنتان لأنهم مستقذرون شرعا وسواء في كل ما ذكرناه نظر المنسوب إلى الصلاح وغيره
ودخل سفيان الثوري الحمام فدخل عليه صبي حسن الوجه فقال أخرجوه عني فإني أرى مع كل امرأة شيطانا ومع كل أمرد سبعة عشر شيطانا
وجاء رجل إلى الإمام أحمد ومعه صبي حسن الوجه فقال له من هذا منك فقال ابن أختي
قال لا تجيء به إلينا مرة أخرى ولا تمش معه بطريق لئلا يظن بك من لا يعرفك ويعرفه سوءا
وروي لكن بسند ضعيف كما عبر به بعضهم بل واه كما عبر به شيخ الإسلام العسقلاني أن وفد عبد القيس لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم كان فيهم أمرد حسن فأجلسه صلى الله عليه وسلم خلف ظهره وقال إنما كانت فتنة داود من النظر
وكان يقال النظر بريد الزنا
ويؤيده الحديث السابق أنه سهم مسموم من سهام إبليس
____________________
(2/538)
الكبيرة الثامنة والتاسعة والأربعون بعد المائتين الغيبة والسكوت عليها رضا وتقريرا
قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم والسخرية النظر إلى المسخور منه بعين النقص أي لا تحتقر غيرك عسى أن يكون عند الله خيرا منك وأفضل وأقرب
رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له ولو أقسم على الله لأبره
وقد احتقر إبليس اللعين آدم صلى الله على نبينا وعليه فباء بالخسار الأبدي وفاز آدم بالعز الأبدي وشتان ما بينهما ويحتمل أن يكون المراد بعسى يصير أي لا تحتقر غيرك فإنه ربما صار عزيزا وصرت ذليلا فينتقم منك لا تهين الفقير علك أن تركع يوما والدهر قد رفعه ولا تلمزوا أنفسكم أي لا يعب بعضكم على بعض واللمز بالقول وغيره والهمز بالقول فقط
وروى البيهقي عن ابن جريج أن الهمز بالعين والشدق واليد واللمز باللسان
قال البيهقي وبلغني عن الليث أنه قال اللمزة الذي يعيبك في وجهك والهمزة الذي يعيبك بالغيب
وفي الإحياء قال مجاهد ويل لكل همزة لمزة الهمزة الطعان في الناس واللمزة الذي يأكل لحوم الناس والنبز الطرح
واللقب ما أشعر برفعة المسمى أو ضعته أي لا تتراموا بها وهو هنا أن يدعى الإنسان بغير ما سمي به أو بنحو يا منافق أو يا فاسق وقد تاب من فسقه أقوال أولها عليه الأكثرون
وقدمت السخرية لأنها أبلغ الثلاثة في الأذية لاستدعائها تنقيص المرء في حضرته
ثم اللمز لأنه العيب بما في الإنسان وهذا دون الأول ثم النبز وهذا نداؤه بلقبه وهو دون الثاني إذ لا يلزم مطابقة معناه للقبه فقد يلقب الحسن بالقبيح وعكسه فكأنه تعالى قال لا تتكبروا فتستحقروا إخوانكم بحيث لا تلتفتوا إليهم أصلا وأيضا فلا تعيبوهم طلبا لحط درجتهم وأيضا فلا تسموهم بما يكرهونه ونبه تعالى بقوله أنفسكم على دقيقة ينبغي التفطن لها وهي أن المؤمنين
____________________
(2/539)
كلهم بمنزلة البدن الواحد إذ اشتكى بعضه اشتكى كله
فمن عاب غيره ففي الحقيقة إنما عاب نفسه نظرا لذلك وأيضا فتعييبه للغير تسبب إلى تعييب الغير له فكأنه الذي عاب نفسه فهو على حد الخبر الآتي لا يسبن أحدكم أباه قالوا وكيف يسب الرجل أباه يا رسول الله قال يسب أبا الرجل فيسب أباه وعلى حد قوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم وغاير بين صيغتي تلمزوا وتنابزوا لأن الملموز قد لا يقدر في الحال على عيب يلمز به لامزه فيحتاج إلى تتبع أحواله حتى يظفر ببعض عيوبه بخلاف النبز فإن من لقب بما يكره قادر على تلقيب الآخر بنظير ذلك حالا فوقع التفاعل ومعنى بئس الاسم إلخ أن من فعل إحدى الثلاثة استحق اسم الفسق وهو غاية النقص بعد أن كان كاملا بالإيمان
وضم تعالى إلى هذا الوعيد الشديد قوله ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون للإشارة إلى عظمة إثم كل واحد من تلك الثلاثة ثم عقب تعالى بأمره باجتناب الظن وعلل ذلك بأن بعض الظن إثم وهو ما تخيلت وقوعه من غيرك من غير مستند يقيني لك عليه وقد صمم عليه قلبك أو تكلم به لسانك من غير مسوغ شرعي ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث
فالعاقل إذا وقف أمره على اليقين قلما يتيقن في أحد عيبا يلمزه به لأن الشيء قد يصح ظاهرا لا باطنا وعكسه فلا ينبغي حينئذ التعويل على الظن وبعض الظن ليس بإثم بل منه ما هو واجب كظنون المجتهدين في الفروع المترتبة على الأدلة الشرعية فيلزمهم الأخذ بها
ومنه ما هو مندوب ومنه قوله صلى الله عليه وسلم ظنوا بالمؤمن خيرا وما هو مباح وقد يكون هو الحزم والرأي وهو محمل خبر إن من الحزم سوء الظن أي بأن يقدر المتوهم واقعا كمطل معامله الذي يجهل حتى يسلم بسبب ذلك من أن يلحقه أذى من غيره أو خديعة فنتيجة هذا الظن ليس إلحاق النقص بالغير
____________________
(2/540)
بل المبالغة في حفظ النفس وآثارها على أن يلحقها سوء
والتجسس التتبع ومنه الجاسوس والمراد تتبع عيوب الناس والتحسس بالمهملة الإحساس والإدراك ومنه الحواس الظاهرة والباطنة وقرئ شاذا بالمهملة فقيل متحدان ومعناهما طلب معرفة الأخبار
وقيل مختلفان فالأول تتبع الظواهر والثاني تتبع البواطن
وقيل الأول الشر والثاني الخير وفيه نظر وبفرض صحته هو غير مراد هنا وقيل الأول أن تفحص عن الغير بغيرك
والثاني أن تفحص عنه بنفسك وعلى كل ففي الآية النهي الأكيد عن البحث عن أمور الناس المستورة وتتبع عوراتهم
قال صلى الله عليه وسلم لا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم
وقال صلى الله عليه وسلم يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإن من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله
وقيل لابن مسعود رضي الله عنه هل لك في الوليد بن عقبة ولحيته تقطر خمرا فقال إنما نهينا عن التجسس فإن يظهر لنا شيئا أخذناه به
وقوله ولا يغتب بعضكم بعضا أي لا يتكلم أحد منكم في حق أحد في غيبته بما هو فيه مما يكرهه وألحق به ما علم مما مر في الآية السابقة في التكلم في حضرته بذلك بل هو أبلغ في الأذية
قال صلى الله عليه وسلم أتدرون ما الغيبة قالوا الله ورسوله أعلم قال ذكرك أخاك بما يكره قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته
رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم وطرقه كثيرة عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وحكمة تحريمها مع أنها صدق المبالغة في حفظ عرض المؤمن والإشارة إلى عظيم تأكد حرمته وحقوقه وزاد تعالى ذلك تأكيدا وتحقيقا بتشبيه عرضه بلحمه ودمه مع المبالغة في ذلك أيضا بالتعبير فيه بالأخ فقال عز قائلا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ووجه التشبيه أن الإنسان يتألم قلبه من قرض عرضه كما يتألم بدنه من قطع لحمه لأكله بل أبلغ لأن عرض العاقل عنده أشرف من لحمه ودمه
وكما أنه
____________________
(2/541)
لا يحسن من العاقل أكل لحوم الناس لا يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى لأنه آلم ووجه الآكدية في لحم أخيه أن الأخ لا يمكنه مضغ لحم أخيه فضلا عن أكله بخلاف العدو فإنه يأكل لحم عدوه من غير توقف منه في ذلك واندفع بميتا الحال من لحم أو أخيه ما قد يقال إنما تحرم الغيبة في الوجه لأنها التي تؤلم حينئذ بخلافها في الغيبة فإنه لا اطلاع للمغتاب عليها ووجه اندفاع هذا أن أكل لحم الأخ وهو ميت لا يؤلم أيضا ومع ذلك هو في غاية القبح كما أنه لو فرض الاطلاع لتألم به فإن الميت لو أحس بأكل لحمه لآلمه فكذا الغيبة تحرم في الغيبة لأن المغتاب لو اطلع عليها لتألم وأيضا ففي العرض حق مؤكد لله تعالى
فلو فرض أن الغيبة وقعت بحيث لا يمكن المغتاب العلم بها حرمت أيضا رعاية لحق الله تعالى وفطما للناس عن الأعراض والخوض فيها بوجه من الوجوه اللهم إلا للأسباب الآتية لأنها محل ضرورة فتباح حينئذ لأجل الضرورة كما أشارت الآية إلى ذلك أيضا بذكر ميتا إذ لحم الميت إنما يحل للضرورة إلحاقه حتى لو وجد المضطر ميتة أخرى مع ميتة الآدمي لم تحل له ميتة الآدمي بخلاف ما لو لم يجد إلا ميتة الآدمي
وقوله تعالى فكرهتموه تقديره فقد كرهتم ذلك الأكل أو اللحم فلا تفعلوا ما هو شبيه به وإلى هذا يؤول قول مجاهد لما قيل لهم أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا قالوا لا قيل فكرهتموه أي فكما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء
لا يحب أحدكم أكل ذلك إذا همزه أيحب للإنكار فكرهتموه إذا فاكرهوا هذا كذلك وقيل المعطوف عليه فكرهتموه محذوف أي عرض عليكم ذلك فكرهتموه أي يعرض عليكم فتكرهونه ويصح أن يكون ضمير فكرهتموه للميت وكأنه صفة له فحينئذ يفيد زيادة مبالغة في التحذير أي أن الميتة وإن أكلت في الندرة لكنها إذا أنتنت كرهها كل أحد ويفر منها بحيث يبعد عن محلها ولا يستطيع دخوله فكيف يقربه بحيث يأكله
فكذا حال الغيبة ينبغي المباعدة عنها كنهي عن الميتة المتغيرة فتأمل ما أفادته هذه الآية والتي قبلها وأمعن فكرك فيه تغنم وتسلم والله تعالى بحقائق تنزيله أعلم وتأمل أيضا أنه تعالى ختم كلا من الآيتين بذكر التوبة رحمة بعباده وتعطفا عليهم لكن لما بدئت الأولى بالنهي ختمت بالنفي ومن لم يتب لتقاربهما ولما بدئت الثانية بالإثبات بالأمر في اجتنبوا ختمت به في إن الله إلخ وكأن حكمة ذلك التهديد الشديد في الأولى فقط بقوله تعالى ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون أن ما فيها أفحش لأنه إيذاء في الحضرة بالسخرية أو اللمز أو النبز بخلافه في الآية الثانية فإنه بأمر خفي إذ كل من الظن والتجسس والغيبة يقتضي الإخفاء وعدم العلم به غالبا
وإذا انتهى الكلام على بعض هاتين الآيتين المشتملتين على آداب وأحكام وحكم
____________________
(2/542)
وتشديدات وتهديدات لا يحصيها إلا منزلها فلنذكر بعض الأحاديث الواردة في الغيبة ومتعلقاتها
أخرج الشيخان عن أبي بكر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الوداع إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت
ومسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله
والبزار بسند قوي من أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه
وهو في بعض نسخ أبي داود إلا أنه قال إن من الكبائر استطالة الرجل في عرض رجل مسلم بغير حق الحديث
وابن أبي الدنيا الربا سبعون حوبا أي بضم المهملة إثما وأيسرها كنكاح الرجل أمه وأربى الربا عرض الرجل المسلم
وأبو يعلى بسند صحيح أتدرون أربى الربا عند الله قالوا الله ورسوله أعلم
قال فإن أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا
وأبو داود إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق
وابن أبي الدنيا عن أنس رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أمر الربا وعظم شأنه وقال إن الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ست وثلاثين زنية يزنيها الرجل وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم
____________________
(2/543)
والطبراني الربا اثنان وسبعون بابا أدناها مثل إتيان الرجل أمه وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه
وابن أبي الدنيا والطبراني والبيهقي إن الربا نيف وسبعون بابا أهونهن بابا من الربا مثل من أتى أمه في الإسلام ودرهم ربا أشد من خمس وثلاثين زنية وأشد الربا وأربى الربا وأخبث الربا انتهاك عرض المسلم وانتهاك حرمته
وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها قالت قلت للنبي صلى الله عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذا قال بعض الرواة تعني قصيرة فقال لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته أي لأنتنته وغيرت ريحه قالت وحكيت له إنسانا فقال ما أحب أني حكيت إنسانا وإن لي كذا وكذا
وأبو داود عن سمية عنها وسمية لم تنسب أنه اعتل بعير لصفية بنت حيي وعند زينب فضل ظهر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزينب أعطيها بعيرا
فقالت أنا أعطي تلك اليهودية فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهجرها ذا الحجة والمحرم وبعض صفر
وابن أبي الدنيا عنها قالت قلت لامرأة مرة وأنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إن هذه لطويلة الذيل فقال الفظي الفظي أي ارمي ما في فيك فلفظت بضعة أي قطعة من لحم
وأبو داود والطيالسي وابن أبي الدنيا والبيهقي عن أنس رضي الله عنه قال أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بصوم يوم وقال لا يفطرن أحد منكم حتى آذن له فصام الناس حتى إذا أمسوا فجعل الرجل يجيء فيقول يا رسول الله إني ظللت صائما فأذن لي فأفطر فيأذن
____________________
(2/544)
له والرجل حتى جاء رجل فقال يا رسول الله فتاتان من أهلك ظلتا صائمتين وإنهما يستحييان أن يأتياك فأذن لهما فليفطرا فأعرض عنه ثم عاوده فأعرض عنه ثم عاوده فأعرض عنه فقال إنهما لم يصوما وكيف صام من ظل هذا اليوم يأكل لحم الناس اذهب فمرهما إن كانتا صائمتين فلتتقيآ فرجع إليهما فأخبرهما فاستقاءتا فقاءت كل واحدة علقة من دم فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال والذي نفسي بيده لو بقيتا في بطونهما لأكلتهما النار
ورواه أحمد وابن أبي الدنيا والبيهقي أيضا من رواية رجل لم يسم عن عبيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه إلا أن أحمد قال فقال لإحداهما قيئي فقاءت قيحا ودما وصديدا ولحما حتى ملأت نصف القدح
ثم قال للأخرى قيئي فقاءت من قيح ودم وصديد ولحم عبيط وغيره حتى ملأت القدح
ثم قال إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما وأفطرتا على ما حرم الله عليهما جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان من لحوم الناس
وأبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل فقالوا يا رسول الله ما أعجز أو قالوا ما أضعف فلانا
فقال صلى الله عليه وسلم اغتبتم صاحبكم وأكلتم لحمه
والطبراني أن رجلا قام من عند النبي صلى الله عليه وسلم فرأوا في قيامه عجزا فقالوا ما أعجز فلانا فقال صلى الله عليه وسلم أكلتم أخاكم واغتبتموه
والأصبهاني بسند حسن ذكروا عند النبي صلى الله عليه وسلم رجلا فقالوا لا يأكل حتى يطعم ولا يرحل حتى يرحل له فقال النبي صلى الله عليه وسلم اغتبتموه قالوا يا رسول الله إنما حدثنا بما فيه
وابن أبي شيبة والطبراني واللفظ له ورواته رواة الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه
____________________
(2/545)
قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل فوقع فيه رجل من بعده فقال النبي صلى الله عليه وسلم تخلل
فقال ومم أتخلل ما أكلت لحما
قال إنك أكلت لحم أخيك
وابن أبي الدنيا والطبراني بإسنادين وأبو نعيم أربعة يؤذون أهل النار على ما بهم من الأذى يسعون ما بين الحميم والجحيم يدعون بالويل والثبور يقول بعض أهل النار لبعض ما بال هؤلاء قد آذونا على ما بنا من الأذى
قال فرجل مغلق عليه تابوت من جمر ورجل يجر أمعاءه ورجل يسيل فوه قيحا ودما ورجل يأكل لحمه
فيقال لصاحب التابوت ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى فيقول إن الأبعد قد مات وفي عنقه أموال الناس
ثم يقال للذي يجر أمعاءه ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى
فيقول إن الأبعد كان لا يبالي أين أصاب البول منه
ثم يقال للذي يسيل فوه قيحا ودما ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى فيقول إن الأبعد كان ينظر إلى كلمة فيستلذها كما يستلذ الرفث
ثم يقال للذي يأكل لحمه ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى
فيقول إن الأبعد كان يأكل لحوم الناس بالغيبة ويمشي بالنميمة
وأبو يعلى والطبراني وأبو الشيخ من أكل لحم أخيه في الدنيا قرب إليه يوم القيامة
فيقال له كله ميتا كما أكلته حيا
فيأكله ويكلح أي يعبس ويقبض وجهه من الكراهة ويضج أي بالمعجمة والجيم وفي رواية ويصيح وهما متقاربتان والأولى أبلغ لإشعارها بزيادة الفزع والقلق
وأبو الشيخ وغيره عن عمرو بن العاص رضي الله عنه موقوفا عليه أنه مر على بغل ميت فقال لبعض أصحابه لأن يأكل الرجل من هذا حتى يملأ بطنه خير له من أن يأكل لحم رجل مسلم
وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال جاء الأسلمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد على نفسه بالزنا أربع شهادات يقول أتيت امرأة حراما وفي كل ذلك يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث إلى أن قال فما تريد بهذا القول قال
____________________
(2/546)
أريد أن تطهرني فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجم فرجم فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من الأنصار يقول أحدهما لصاحبه
انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم يدع نفسه حتى رجم رجم الكلب قال فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سار ساعة فمر بجيفة حمار شائل برجليه فقال أين فلان وفلان فقالا نحن بالنقار يا رسول الله فقال لهما كلا من جيفة هذا الحمار فقالا يا رسول الله غفر الله لك من يأكل من هذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نلتما من عرض هذا الرجل آنفا أشد من أكل هذه الجيفة فوالذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها
وأحمد بسند صحيح إلا مختلفا فيه وثقه كثيرون عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ليلة أسري بنبي الله صلى الله عليه وسلم نظر في النار فإذا قوم يأكلون الجيف قال من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ورأى رجلا أحمر أزرق جدا قال من هذا يا جبريل قال هذا عاقر الناقة
وأبو داود لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم
والبيهقي موصولا ومرسلا لما عرج بي مررت برجال تقرض جلودهم بمقاريض من نار فقلت من هؤلاء يا جبريل قال الذين يتزينون للزينة قال ثم مررت بجب منتن الريح فسمعت فيه أصواتا شديدة فقلت من هؤلاء يا جبريل قال نساء كن يتزين للزينة ويفعلن ما لا يحل لهن
ثم مررت على نساء ورجال معلقين بثديهن فقلت من هؤلاء يا جبريل فقال هؤلاء الهمازون واللمازون وذلك قوله عز وجل ويل لكل همزة لمزة ومر آنفا معناهما
وأحمد بسند صحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/547)
فارتفعت ريح منتنة فقال صلى الله عليه وسلم أتدرون ما هذه الريح هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين
وابن أبي الدنيا والطبراني والبيهقي الغيبة أشد من الزنا قيل وكيف قال الرجل يزني ثم يتوب فيتوب الله عليه وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه
ورواه ابن عيينة غير مرفوع
قال المنذري وهو الأشبه
وأحمد وغيره بسند صحيح عن أبي بكرة رضي الله عنه قال بينما أنا أماشي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيدي ورجل على يساره فإذا نحن بقبرين أمامنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير وبكى فأيكم يأتيني بجريدة فاستبقنا فسبقته فأتيته بجريدة فكسرها نصفين فألقى على ذا القبر قطعة وعلى ذا القبر قطعة قال إنه يهون عليهما ما كانتا رطبتين وما يعذبان إلا في الغيبة والبول
وأحمد بسند رواته ثقات إلا عاصما أحد القراء السبعة قبله جماعة ورده آخرون وحديثه حسن أنه صلى الله عليه وسلم أتى على قبر يعذب صاحبه فقال إن هذا كان يأكل لحوم الناس ثم دعا بجريدة رطبة فوضعها على القبر وقال لعله أن يخفف عنه ما دامت هذه رطبة
وابن جرير عن أبي أمامة رضي الله عنه قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيع الغرقد فوقف على قبرين ثريين فقال أدفنتم فلانا وفلانة أو قال فلانا وفلانا قالوا نعم يا رسول الله قال لقد أقعد فلان الآن فضرب ثم قال والذي نفسي بيده لقد ضرب ضربة ما بقي منه عضو إلا انقطع ولقد تطاير قبره نارا ولقد صرخ صرخة سمعها الخلائق إلا الثقلين الإنس والجن ولولا تمريج في قلوبكم وتزيدكم في الحديث لسمعتم ما أسمع ثم قال الآن يضرب هذا قالوا يا رسول الله وما ذنبهما قال أما فلان فإنه كان لا يستبرئ من البول وأما فلان أو قال فلانة فإنه كان يأكل لحوم الناس
ورواه من طريق ابن جرير أحمد لكن بلفظ آخر يأتي في
____________________
(2/548)
النميمة وزاد فيه قالوا يا نبي الله حتى متى هما يعذبان قال غيب لا يعلمه إلا الله تعالى
وطرق هذا الحديث كثيرة مشهورة عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم في الصحاح وغيرها
وقدمت منها طرفا أوائل كتاب الطهارة وبتأملها يعلم أن القصة متعددة وبه يندفع ما يوهمه ظواهرها من التعارض
ثم رأيت الحافظ المنذري أشار لبعض ذلك فقال أكثر الطرق أنهما يعذبان في النميمة والبول
والظاهر أنه اتفق مروره صلى الله عليه وسلم مرة بقبرين يعذب أحدهما بالنميمة والآخر في البول ومرة أخرى بقبرين يعذب أحدهما في الغيبة والآخر في البول
والأصبهاني الغيبة والنميمة يحتان الإيمان كما يعضد الراعي الشجرة
ومسلم وغيره أتدرون من المفلس قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار
والأصبهاني إن الرجل ليؤتى كتابه منشورا فيقول يا رب فأين حسنات كذا وكذا عملتها ليست في صحيفتي فيقول له محيت باغتيابك الناس
والطبراني بإسناد جيد من ذكر امرأ بشيء ليس فيه ليعيبه به حبسه الله في نار جهنم حتى يأتي بنفاد ما قال فيه
وفي رواية أيما رجل أشاع على رجل مسلم
____________________
(2/549)
بكلمة وهو منها بريء يشينه بها في الدنيا كان حقا على الله أن يذيبه يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاد ما قال فيه
وأبو داود ومن قال في مسلم ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال زاد الطبراني
وليس بخارج وردغة الخبال براء مفتوحة فمعجمتين ساكنة فمفتوحة عصارة أهل النار كذا جاء مفسرا مرفوعا
وأحمد خمس ليس لهن كفارة الشرك بالله وقتل النفس بغير حق وبهت مؤمن والفرار من الزحف ويمين صابرة يقتطع بها مالا بغير حق
وأحمد بإسناد حسن وجماعة من ذب عن عرض أخيه بالغيبة كان حقا على الله أن يعتقه من النار
والترمذي وحسنه من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة
____________________
(2/550)
وأبو الشيخ من ذب عن عرض أخيه رد الله عنه عذاب النار يوم القيامة وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان حقا علينا نصر المؤمنين
وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حمى عن عرض أخيه في الدنيا بعث الله عز وجل ملكا يوم القيامة يحميه من النار
والأصبهاني من اغتيب عنده أخوه فاستطاع نصرته فنصره نصره الله في الدنيا والآخرة وإن لم ينصره أذله الله في الدنيا والآخرة
وأبو داود وابن أبي الدنيا وغيرهما ما من امرئ مسلم يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته وما من امرئ مسلم ينصر مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته
قال قتادة ذكر لنا أن عذاب القبر ثلاثة أثلاث ثلث من الغيبة وثلث من البول وثلث من النميمة
وقال الحسن والله للغيبة أسرع فسادا في دين المرء من الأكلة في الجسد وكان يقول ابن آدم إنك لن تبلغ حقيقة الإيمان حتى لا تعيب الناس بعيب هو فيك وحتى تبدأ بصلاح ذلك العيب فتصلحه من نفسك فإذا فعلت ذلك كان شغلك في خاصة نفسك
وأحب العباد إلى الله من كان هكذا
وقال بعضهم أدركنا السلف الصالح وهم لا يرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة ولكن في الكف عن أعراض الناس
وقال ابن عباس إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك
وقال
____________________
(2/551)
أبو هريرة يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه ولا يبصر الجذع في عين نفسه وسمع علي بن الحسين رضي الله عنهما رجلا يغتاب آخر فقال إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس
وقال عمر رضي الله عنه عليكم بذكر الله فإنه شفاء وإياكم وذكر الناس فإنه داء
تنبيهات منها عد الغيبة المحرمة كبيرة هو ما جرى عليه كثيرون ويلزم منه أن السكوت عليها رضا بها كبيرة أيضا على أنه يأتي أن ترك إنكار المنكر مع القدرة عليه من الكبائر والغيبة من عظائم المنكرات كما يأتي فظهر ما ذكرته في الترجمة ثم رأيت الأذرعي صرح به حيث قال وأما السكوت على الغيبة رضا بها مع القدرة على دفعها فيشبه أن يكون حكمه حكمها نعم لو لم يمكنه دفعها فيلزمه عند التمكن مفارقة المغتاب وتبعه الزركشي فقال والأشبه أن السكوت على الغيبة مع القدرة على دفعها كبيرة
انتهى
وأما تقرير الشيخين صاحب العدة على أن الغيبة صغيرة وكذا السكوت عليها فاعترضوه
قال الأذرعي إطلاق القول بأنها من الصغائر ضعيف أو باطل وقد نقل القرطبي المفسر وغيره الإجماع على أنها من الكبائر ويوافقه كلام جماعة من أصحابنا كما سبق في حد الكبيرة وقد غلظ أمرها في الكتاب والسنة ومن تتبع الأحاديث فيها علم أنهما من الكبائر ولم أر من صرح بأنها من الصغائر غير الغزالي وصاحب العدة والعجب أنه أطلق أن ترك النهي عن المنكر من الكبائر وقضيته أن يكون السكوت عن النهي عنها من الكبائر إذ هي من أقبح المنكرات لا سيما غيبة الأولياء وأهل الكرامات وأقل الدرجات أنه إن لم يثبت إجماع أن يفصل بين غيبة وغيبة فإن مراتبها ومفاسدها والتأذي بها يختلف اختلافا كثيرا بحسب خفتها وثقلها وإيذائها وقد قالوا إنها ذكر الإنسان بما فيه سواء كان في دينه أو دنياه أو نفسه أو خلقه أو ماله أو ولده أو زوجته أو خادمه أو مملوكه أو عمامته أو ثوبه أو مشيه أو حركته وبشاشته وخلاعته وعبوسته وطلاقته وغير ذلك مما يتعلق به
فأما البدن فكقوله أعمى أعرج أعمش أقرع قصير طويل أسود أصفر
وأما الدين فكقولك فاسق سارق خائن ظالم متهاون بالصلاة متساهل في النجاسات ليس بارا بوالديه وغير ذلك مما يطول ذكره ولا شك أن الإيذاء والتأذي يختلف اختلافا كثيرا باختلاف الغيبة بهذه الأمور فيقرب أن يقال ذكر الأعرج والأعمش والأصفر والأسود وعيب العمامة والملبوس والدابة ونحو ذلك من الصغائر لخفة التأذي بالوصف بها بخلاف الوصف بالفسق والفجور والظلم وعقوق الوالدين والتهاون بالصلاة وغير ذلك من عظائم المعاصي ويجوز أن لا يفصل سدا للباب كما في الخمر ويقال للغيبة حلاوة كحلاوة التمر وضراوة كضراوة الخمر عافانا
____________________
(2/552)
الله سبحانه وتعالى منها وقضى عنا حقوق أربابها فلا يحصيهم غيره سبحانه وتعالى ولا خفاء أن الكلام حيث لا سبب يبيحها أو يوجبها بل تفكها أو إيذاء بالمغتاب
انتهى كلام الأذرعي
وتبعه تلميذه في الخادم فقال الصواب أنها كبيرة وقد نص عليه الشافعي رضي الله عنه فيما نقله الكرابيسي في كتابه المعروف بأدب القضاء من القديم واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا وجزم به الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في عقيدته في الفصل المعقود للكبائر وكذا الجيلي في شرح التنبيه وغيره من الأصحاب وكذا الكواشي في تفسيره وهو معدود من الشافعية وقال إنها من أعظم الذنوب وقال بعضهم إنها صغيرة ولم يقف على هذا النص
والعجب ممن يعد أكل الميتة من الكبائر ولا يعد الغيبة كبيرة والله تعالى أنزلها منزلة أكل لحم الآدمي في حال كونه ميتا وقد جزم الرافعي قبل هذا بأن الوقيعة في أهل العلم وحملة القرآن من الكبائر وفسروا الوقيعة بالغيبة
والقرآن والأحاديث متظافرة على ذلك أي كونها كبيرة مطلقا وفي الصحيح سباب المسلم فسوق
وأخرج البيهقي بإسناد حسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن من أكبر الكبائر استطالة الرجل في عرض رجل مسلم بغير حق
وفي الصحيحين في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا
وقال ابن المنذر في كتابه المسمى بأدب العبادة قد حرم النبي صلى الله عليه وسلم الغيبة مودعا بذلك أمته وقرن تحريمها إلى تحريم الدماء والأموال ثم زاد تحريم ذلك تأكيدا بإعلامه بأن تحريم ذلك كحرمة البلد الحرام في الشهر الحرام
وقد حكى القرطبي في تفسيره الإجماع على أنها من الكبائر وأنه يجب التوبة منها إلى الله تعالى ولم أر من صرح بكونها صغيرة إلا صاحب العدة والغزالي والعجب من سكوت الرافعي عليه
وقد نقل قبل ذلك أن الوقيعة في أهل العلم من الكبائر وكذا قوله هنا إن السكوت عن الغيبة صغيرة وقد نقل فيما قبل أن السكوت على ترك المنكر كبيرة انتهى
____________________
(2/553)
ومال الجلال البلقيني إلى أنها صغيرة واستدل له بعد أن نقل بعض ما مر عن الأذرعي ورده وحاصل عبارته وأما الوقيعة في أهل العلم الشريف وحملة القرآن العظيم فقال بعضهم هذا مبني على أن الغيبة من الصغائر يعني إذا قلنا الغيبة من الكبائر فلا خصوصية لذلك وصاحب العدة يراها من الصغائر قال والقول بأنها من الصغائر ضعيف أو باطل وقد نقل القرطبي المفسر وغيره الإجماع على أنها من الكبائر ويوافقه كلام جماعة من الأصحاب وقد غلظ أمرها في الكتاب والسنة ومن تتبع الأحاديث فيها علم أنها من الكبائر قال ولم أر من صرح بأنها من الصغائر غير الغزالي وصاحب العدة
والعجب أنه أطلق أن ترك النهي عن المنكر من الكبائر وقضيته أن يكون السكوت عن النهي عنها من الكبائر إذ هي من أقبح المنكرات انتهى كلامه
والذي يظهر خلاف ما قاله فليست الوقيعة في أهل العلم وحملة القرآن من الغيبة بل هي داخلة في سب المسلم والاستطالة في عرض المسلم وقد تقدم الدليل على ذلك وقد يحتج لذلك بما رواه البخاري منفردا به عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى قال من آذى لي وليا فقد آذنته بالحرب
والغيبة هي أن تذكر الإنسان بما لا يرضى استماعه وإن كان فيه وإنما قلنا ذلك لأن الوقيعة لا بد أن تكون بنقص وذلك داخل في سب المسلم وقد روى مسلم أتدرون ما الغيبة قالوا الله ورسوله أعلم قال ذكرك أخاك بما يكره الحديث السابق
وجعل الغيبة من الكبائر فيه نظر فإن الله تعالى إنما شبهها بكراهية أكل لحم الميتة فقال أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا قال بعض العلماء قيل معناه أنهم لا بد أن يجيبوا بأن يقولوا لا أحد يحب ذلك فقال لهم الله تعالى فكرهتموه
وأما الأحاديث فلم أر فيها ذكرا للغيبة ولا وعيدا بعذاب وقد روى أحمد وأبو داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم انتهى
وهذا لا يدل على كونها كبيرة إنما يدل على تحريمها والتنفير عنها والزجر عليها
انتهى كلام الجلال وقد استروح فيه رحمه الله
____________________
(2/554)
أما قوله والذي يظهر خلاف ما قاله فليست الوقيعة إلخ فيرد بأنها إذا كانت داخلة في سب المسلم فلم أفردت بالذكر مع ذكر سب المسلم
فما أورده الأذرعي على من أفردها عن الغيبة فجعلها كبيرة والغيبة صغيرة يرد نظيره على ما قاله الجلال لأن الوقيعة إذا أريد بها السب فهي كبيرة ولو في غير العلماء وحملة القرآن فكيف يسوغ التخصيص بها فالحق أن إفراد الوقيعة بكونها كبيرة مشكل مطلقا
أما على من يقول إن الغيبة صغيرة ويريد بالوقيعة الغيبة فواضح إلا أن يقال إن شرف ذينك اقتضى التغليظ في أمرهما لينزجر الناس عنه
وأما على من يقول إن الغيبة كبيرة أو يفسر الوقيعة بالسب فلا فائدة لإفراد الوقيعة بالذكر إلا مجرد الاعتناء والتأكيد في تغليظها على أنه سبق عن الزركشي أنهم فسروا الوقيعة بالغيبة وبه يزيد إيضاح رد ما قاله الجلال
وأما تنظيره في كون الغيبة من الكبائر بما ذكره في معنى الآية فيرد بما قدمته في معناها المفيد لغاية الزجر والتغليظ في أمر الغيبة ولكونها كبيرة لأن أكل لحم الميتة كبيرة فكذا ما شبه به بل هو أبلغ في المفسدة منه ومن ثم قال الزركشي كما مر عنه والعجب ممن يعد أكل الميتة كبيرة ولا يعد الغيبة كبيرة والله تعالى أنزلها منزلة أكل لحم الآدمي إلى آخر ما مر عنه
وأما قوله أعني الجلال إنه لم يرد في الأحاديث وعيد على الغيبة بعذاب وأن الحديث الذي ذكره لا يدل على كونها كبيرة بل على تحريمها والزجر عنها فهو في غاية العجب
أما الثاني فواضح إذ لا يخفى أن هذا العذاب المذكور عذاب شديد وقد مر في تعريف الكبيرة أنها ما قرن به وعيد شديد وهذا وعيد شديد
وأما الأول فواضح أيضا إذ من تأمل الأحاديث التي قدمتها فيها علم أن فيها أعظم العذاب وأشد النكال فقد صح فيها أنها أربى الربا وأنها لو مزجت بماء البحر أنتنته وغيرت ريحه وأن أهلها يأكلون الجيف في النار وأن لهم رائحة منتنة فيها وأنهم يعذبون في قبورهم وبعض هذه كافية في الكبيرة فكيف إذا اجتمعت هذا ما في الأحاديث الصحيحة
وأما ما مر في غيرها فهو أعظم وأشد فظهر أن الذي دلت عليه الدلائل الكثيرة الصحيحة الظاهرة أنها كبيرة لكنها تختلف عظما وضده بحسب اختلاف مفسدتها كما مر في كلام الأذرعي وظهر أيضا أنها الداء العضال والسم الذي في الألسن أحلى من الزلال وقد جعلها من أوتي جوامع الكلم عديلة غصب المال وقتل النفس بقوله كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه
والغصب والقتل كبيرتان إجماعا فكذا ثلم العرض وفي الحديث السابق فإن أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم ثم تلا والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا وأخرج البيهقي والطبراني وغيرهما الغيبة أشد من الزنا
____________________
(2/555)
قال في الخادم وهل تعطى غيبة الصبي والمجنون حكم غيبة المكلف لم أر من تعرض لها إلا ابن القشيري في المرشد فقال وقد أوجب الاعتذار إلى من اغتابه وهذا الاعتذار إنما يجب إذا كان المساء إليه ممن يصح أن يعلم موضع الإساءة فأما الطفل والمجنون فلا يجب الاعتذار إليه وهذا محل التأمل والوجه أن يقال يبقى حق ذلك المساء إليه وحق المطالبة يوم القيامة وإن سقط حق الله تعالى لتحقق الندم
انتهى كلام الخادم
وما أشار إليه من أنه لا يلزم من عدم وجوب الاعتذار حل غيبتهما ظاهر جلي إذ لا وجه للتلازم فالوجه حرمة غيبتهما وأما التوبة منها فتتوقف على أركانها الآتية حتى الاعتذار لكنه إن فات بنحو موت ووجدت شروط التوبة الباقية سقط حق الله تعالى وبقي حق الآدمي كما يأتي ذلك مبسوطا في مبحث التوبة من باب الشهادة
ومنها الأصل في الغيبة الحرمة وقد تجب أو تباح لغرض صحيح شرعي لا يتوصل إليه إلا بها وتنحصر في صحته أبواب الأول المتظلم فلمن ظلم أن يشكو لمن يظن أن له قدرة على إزالة ظلمه أو تخفيفه
الثاني الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على إزالته بنحو فلان يعمل كذا فازجره عنه بقصد التوصل إلى إزالة المنكر وإلا كان غيبة محرمة ما لم يكن الفاعل مجاهرا لما يأتي
الثالث الاستفتاء بأن يقول لمفت ظلمني بكذا فلان فهل يجوز له وما طريقي في خلاصي منه أو تحصيل حقي أو نحو ذلك والأفضل أن يبهمه فيقول ما تقول في شخص أو زوج كان من أمره كذا لحصول الغرض به وإنما جاز التصريح باسمه مع ذلك لأن المفتي قد يدرك من تعيينه معنى لا يدركه مع إبهامه فكان في التعيين نوع مصلحة ولما يأتي في خبر هند زوج أبي سفيان رضي الله عنهما
الرابع تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم كجرح الرواة والشهود والمصنفين والمتصدين لإفتاء أو إقراء مع عدم أهلية أو مع نحو فسق أو بدعة وهم دعاة إليها ولو سرا فيجوز إجماعا بل يجب وكأن يشير وإن لم يستشر على مريد تزوج أو مخالطة لغيره في أمر ديني أو دنيوي وقد علم في ذلك الغير قبيحا منفرا كفسق أو بدعة أو طمع أو غير ذلك كفقر في الزوج لما يأتي في معاوية رضي الله عنه بترك تزويجه أو مخالطته ثم إن اكتفى بنحو لا يصلح لك لم يزد عليه وإن توقف على ذكر عيب ذكره ولا تجوز الزيادة عليه أو عيبين اقتصر عليهما وهكذا لأن ذلك كإباحة الميتة للمضطر فلا يجوز تناول شيء منها إلا بقدر الضرورة
نعم الشرط أن يقصد بذلك بذل النصيحة لوجه الله
____________________
(2/556)
تعالى دون حظ آخر وكثيرا ما يغفل الإنسان عن ذلك فيلبس عليه الشيطان ويحمله على التكلم به حينئذ لا نصحا ويزين له أنه نصح وخير
ومن هذا أن يعلم من ذي ولاية قادحا فيها كفسق أو تغفل فيجب ذكر ذلك لمن له قدرة على عزله وتولية غيره أو على نصحه وحثه على الاستقامة
الخامس أن يتجاهر بفسقه أو بدعته كالمكاسين وشربة الخمر ظاهرا وذوي الولايات الباطلة فيجوز ذكرهم بما تجاهروا به دون غيره فيحرم ذكرهم بعيب آخر إلا أن يكون له سبب آخر مما مر
قال الأذرعي وفي أذكار النووي مما يباح من الغيبة أن يكون مجاهرا بفسقه أو بدعته كالمجاهرة بشرب الخمر ومصادرة الناس وأخذ المكس وجباية الأموال ظلما فيجوز ذكره بما تجاهر به ويحرم ذكره بغيره من العيوب
انتهى
وهو متابع في ذلك للغزالي وفي الجواز لا لغرض شرعي وإطلاق كثيرين يأباه انتهى
وسيأتي كلام القفال في ذلك بما فيه
السادس التعريف بنحو لقب كالأعور والأعمش والأصم والأقرع فيجوز وإن أمكن تعريفه بغيره تعريفه به على جهة التعريف لا التنقيص والأولى بغيره إن سهل وأكثر هذه الأسباب الستة مجمع عليه ويدل لها من السنة أحاديث صحيحة مشهورة كالذي استأذن عليه صلى الله عليه وسلم فقال ائذنوا له بئس أخو العشيرة متفق عليه احتج به البخاري في جواز غيبة أهل الفساد وأهل الريب
وروى البخاري خبر ما أظن فلانا وفلانا يعرفان من ديننا شيئا قال الليث كانا منافقين هما مخرمة بن نوفل بن عبد مناف القرشي وعيينة بن حصن الفزاري
قالت فاطمة بنت قيس رضي الله عنها أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن أبا جهم ومعاوية خطباني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه متفق عليه
وفي رواية لمسلم وأما أبو الجهم فضراب للنساء وبه يرد تفسير الأول بأنه كناية عن كثرة أسفاره
ولما قال عبد الله بن أبي المنافق اللعين في سفر أصاب الناس فيه شدة لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا
وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل أتى زيد بن أرقم رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك فأرسل إلى ابن أبي فاجتهد في اليمين أنه ما فعل فقالوا
____________________
(2/557)
كذب زيد يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتد عليه حتى أنزل الله تعالى تصديقه في سورة المنافقين ثم دعاهم صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم فلووا رءوسهم متفق عليه
وقالت هند امرأة أبي سفيان رضي الله عنهما للنبي صلى الله عليه وسلم إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم قال خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف متفق عليه
ومنها علم من خبر مسلم السابق مع ما صرح به الأئمة أن الغيبة أن تذكر مسلما أو ذميا على ما يأتي معينا للسامع حيا أو ميتا بما يكره أن يذكر به مما هو فيه بحضرته أو غيبته والتعبير بالأخ في الخبر كالآية للعطف والتذكير بالسبب الباعث على أن الترك متأكد في حق المسلم أكثر لأنه أشرف وأعظم حرمة وسواء في ذلك مما يكرهه في بدنه كأحول أو قصير أو أسود أو ضدها أو في نسبه كأبوه هندي أو إسكاف أو نحوهما مما يكرهه كيف كان أو خلقه كسيء الخلق عاجز ضعيف
أو فعله الديني ككذاب أو متهاون بالصلاة أو لا يحسنها أو عاق لوالديه أو لا يعطي الزكاة أو لا يؤديها لمستحقيها
أو الدنيوي كقليل الأدب أو لا يرى لأحد حقا على نفسه أو كثير الأكل أو النوم
أو ثوبه كطويل الذيل قصيره وسخه
أو داره كقليلة المرافق أو دابته كجموح أو ولده كقليل التربية أو زوجته ككثيرة الخروج أو عجوز أو تحكم عليه أو قليلة النظافة أو خادمه كآبق
أو غير ذلك من كل ما يعلم أنه يكرهه لو بلغه
وقال قوم لا غيبة في الدين لأنه ذم من ذمه الله تعالى
ولأنه صلى الله عليه وسلم ذكر له كثرة عبادة امرأة وأنها تؤذي جيرانها فقال هي في النار وعن امرأة أنها بخيلة فقال فما خيرها إذا
قال الغزالي في الإحياء وهذا فاسد لأنهم كانوا يذكرون ذلك لحاجتهم إلى معرفة الأحكام بالسؤال ولم يكن غرضهم التنقيص ولا يحتاج إلى ذلك في غير محله صلى الله عليه وسلم والدليل عليه إجماع الأمة أن من ذكر غيره بما يكرهه فهو مغتاب لأنه داخل فيما ذكره صلى الله عليه وسلم في حد الغيبة ومر في الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لمن قال عن امرأة إنها قصيرة وعن رجل ما أعجزه إن ذلك غيبة قال الحسن وذكر الغير غيبة أو
____________________
(2/558)
بهتان أو إفك وكل ذلك في كتاب الله تعالى
فالغيبة أن تقول ما فيه والبهتان ما ليس فيه والإفك أن تقول ما بلغك
ومنها ما تقرر من أنه لا فرق في الغيبة بين أن تكون في غيبة المغتاب أو بحضرته هو المعتمد
وفي الخادم ومن المهم ضابط الغيبة هل هي ذكر المساوئ في الغيبة كما يقتضيه اسمها أو لا فرق بين الغيبة والحضور وقد دار هذا السؤال بين جماعة ثم رأيت أبا فورك ذكر في مشكل القرآن في تفسير الحجرات ضابطا حسنا فقال الغيبة ذكر الغير بظهر الغيب
وكذا قال سليم الرازي في تفسير الغيبة أن تذكر الإنسان من خلقه بسوء وإن كان فيه
انتهى
وفي المحكم لا تكون إلا من ورائه ووجدت بخط الإمام تقي الدين بن دقيق العيد أنه روى بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال ما كرهت أن تواجه به أخاك فهو غيبة وخصصها القفال في فتاويه بالصفات التي تذم شرعا بخلاف نحو الزنا فيجوز ذكره لقوله صلى الله عليه وسلم اذكروا الفاسق بما فيه يحذره الناس غير أن المستحب الستر حيث لا غرض وإلا كتجريحه أو إخبار مخالطه فيلزم بيانه
انتهى
وما ذكره من الجواز في الأول لا لغرض شرعي ضعيف لا يوافق عليه والحديث المذكور ضعيف وقال أحمد منكر
وقال البيهقي ليس بشيء فإن صح حمل على فاجر معلن بفجوره أو يأتي بشهادة أو لمن يعتمد عليه فيحتاج إلى بيان حاله لئلا يقع الاعتماد عليه انتهى
____________________
(2/559)
وهذا الذي حمله البيهقي عليه متعين ونقل عن شيخه الحاكم أنه غير صحيح
وأورده بلفظ ليس للفاسق غيبة ويقضي عليه عموم خبر مسلم فيه حد الغيبة بأنها ذكرك أخاك ما يكره وحدها في الإحياء بما مر عنه وقد أجمعت الأمة على أنها ذكره بما يكره وبه جاء الحديث وهذا كله يرد ما قاله القفال
ومما يبيح الغيبة أن يكون متجاهرا بالفسق بحيث لا يستنكف أن يذكر به كالمخنث والمكاس ومصادر الناس فلا إثم بذكر ما يتظاهر به للخبر بسند ضعيف من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له
قال ابن المنذر ويشبه أن يكون الإيماء إلى الإنسان بالتنقيص له يقوم مقام القول فيه ثم ذكر حديث عائشة لما أشارت إلى المرأة أنها قصيرة فقال صلى الله عليه وسلم قد اغتبتيها قومي فتحلليها انتهى كلام الخادم ملخصا
وأخذ ما يتعلق بما مر عن القفال من قول شيخه الأذرعي وما ذكره القفال لا لغرض شرعي ضعيف بمرة والحديث المذكور غير معروف ولو صح لتعين حمله على حالة الحاجة
وقال في التوسط والحديث المذكور أي في كلام القفال لا أصل له يرجع إليه
وسئل الغزالي في فتاويه عن غيبة الكافر
فقال هي في حق المسلم محذورة لثلاث علل الإيذاء وتنقيص خلق الله فإن الله خالق لأفعال العباد وتضييع الوقت بما لا يعني
قال والأولى تقتضي التحريم والثانية الكراهة والثالثة خلاف الأولى
وأما الذمي فكالمسلم فيما يرجع إلى المنع من الإيذاء لأن الشرع عصم عرضه ودمه وماله
قال في الخادم والأولى هي الصواب
وقد روى ابن حبان في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من سمع يهوديا أو نصرانيا فله النار ومعنى سمعه أسمعه
____________________
(2/560)
بما يؤذيه ولا كلام بعد هذا أي لظهور دلالته على الحرمة
قال الغزالي وأما الحربي فليس بمحرم على الأولى ويكره على الثانية والثالثة وأما المبتدع فإن كفر فكالحربي وإلا فكالمسلم وأما ذكره ببدعته فليس مكروها
وقال ابن المنذر في قوله صلى الله عليه وسلم ذكرك أخاك بما يكره فيه دليل على أن من ليس أخاك من اليهود والنصارى أو سائر أهل الملل أو من أخرجته بدعة ابتدعها إلى غير دين الإسلام لا غيبة له
انتهى
قال في الخادم وهذا قد ينازع فيه ما قالوه في السوم على سوم أخيه ونحوه
ا ه والمنازعة واضحة
فالوجه بل الصواب تحريم غيبة الذمي كما تقرر أولا
ومنها قد يتوهم من حدهم السابق للغيبة أنها تختص باللسان وليس كذلك لأن علة تحريمها الإيذاء بتفهيم الغير نقصان المغتاب وهذا موجود حيث أفهمت الغير ما يكرهه المغتاب ولو بالتعريض أو الفعل أو الإشارة أو الإيماء أو الغمز أو الرمز أو الكتابة
قال النووي بلا خوف وكذا سائر ما يتوصل به إلى فهم المقصود كأن يمشي مشيته فهو غيبة بل هو أعظم من الغيبة كما قال الغزالي لأنه أبلغ في التصوير والتفهيم وأنكى للقلب
وذكر المصنف شخصا معينا ورد كلامه غيبة إلا أن يقترن به أحد الأسباب الستة المبيحة لها وقد مرت وكذا منها قولك فعل كذا بعض من مر بنا اليوم إذا فهم منه المخاطب معينا ولو بقرينة خفية وإلا لم يحرم كما في الإحياء وغيره
فإن قلت ينافيه قولهم تحرم الغيبة بالقلب أيضا فلا عبرة بفهم المخاطب
قلت الغيبة بالقلب هي أن تظن به السوء وتصمم عليه بقلبك من غير أن يستند في ذلك إلى مسوغ شرعي فهذا هو الذي يتعين أن يكون مرادهم بالغيبة بالقلب وأما مجرد الحكاية من مبهم لمخاطبك ولكنه معين عندك فليس فيه ذلك الاعتقاد والتصميم فافترقا ثم رأيت ما سأذكره عن الإحياء الغيبة بالقلب وهو صريح فيما ذكرته وأنه يتعين حمل كلامهم عليه ومن أخبث أنواع الغيبة غيبة من يفهم المقصود بطريقة الصالحين إظهارا للتعفف عنها ولا يدري بجهله أنه جمع بين فاحشتي الرياء والغيبة كما يقع لبعض المرائين أنه يذكر عنده إنسان فيقول الحمد لله الذي ما ابتلانا بقلة الحياء أو بالدخول على السلاطين وليس قصده بدعائه إلا أن يفهم عيب الغير
وقد يزيد خبثه فيقدم مدحه حتى يظهر تنصله من الغيبة فيقول كان مجتهدا في العبادة أو العلم لكنه فتر وابتلي بما ابتلينا به كلنا وهو قلة الصبر فيذكر نفسه ومقصوده ذم غيره والتمدح بالتشبه بالصالحين في ذم نفوسهم فيجمع بين ثلاث فواحش الغيبة والرياء وتزكية النفس بل أربعة لأنه يظن بجهله أنه مع ذلك من الصالحين المتعففين عن الغيبة ومنشأ ذلك الجهل فإن من تعبد على جهل لعب به الشيطان وضحك عليه وسخر به فأحبط عمله وضيع تعبه وأرداه إلى درجات البوار والضلال ومن ذلك أن يقول ساءني ما وقع لصديقنا من
____________________
(2/561)
كذا فنسأل الله أن يثبته وهو كاذب في ذلك
وما درى الجاهل أن الله مطلع على خبث ضميره وأنه قد تعرض بذلك لمقت الله أعظم مما يتعرض الجهال إذا جاهروا ومن ذلك الإصغاء للمغتاب على جهة التعجب ليزداد نشاطه في الغيبة وما درى الجاهل أن التصديق بالغيبة غيبة بل الساكت عليها شريك المغتاب كما في خبر المستمع أحد المغتابين فلا يخرج عن الشركة إلا أن ينكر بلسانه ولو بأن يخوض في كلام آخر فإن عجز فبقلبه ويلزمه مفارقة المجلس إلا لضرورة ولا ينفعه أن يقول بلسانه اسكت وقلبه مشته لاستمراره ولا أن يشير بنحو يده ولو عظم الإنكار بلسانه لأفاد ومر في الحديث إن من اغتيب عنده أخوه المسلم فاستطاع نصره فنصره نصره الله في الدنيا والآخرة وإن لم ينصره أذله الله في الدنيا والآخرة ومرت أخبار أخر بنحو ذلك
وفي حديث من ذب عن عرض أخيه بالغيبة كان حقا على الله أن يعتقه من النار
ومنها البواعث على الغيبة كثيرة
إما تشفي الغيظ بذكر مساوئ من أغضبك وقد لا يشفيه ذلك فيحقن الغضب في باطنه ويصير حقدا ثابتا فيكون سببا دائما لذكر المساوئ والحقد والغضب من البواعث العظيمة على الغيبة
وإما موافقة الإخوان ومجاملتهم بالاسترسال معهم فيما هم فيه أو إبداء نظير ما أبدوه خشية أنه لو سكت أو أنكر استثقلوه ونفروا عنه ويظن بجهله أن هذا من المجاملة في الصحبة بل قد يغضب لغضبهم إظهارا للمساهمة في السراء والضراء فيخوض معهم في ذكر المساوئ والعيوب فيهلك
وإما أن يستشعر من غيره أنه يريد تنقيصه أو الشهادة عليه عند كبير فيسبقه بذكر مساوئه عند ذلك الكبير ليسقطه من عينه وربما روج كذبه بأن يبدأ بذكر الصدق من عيوبه ثم يتدرج للغير ليستشهد بصدقه في ذلك أنه صادق في الكل
وإما أن ينسب لقبيح فيتبرأ منه بأن فاعله هو فلان وكان من حقه التبرؤ منه بنفسه عن نفسه من غير ذكر فاعله وقد يمهد عذره بأن فلانا شريكه فيه وهو قبيح أيضا وإما التصنع وإرادة رفعة نفسه وخفض غيره كفلان جاهل أو فهمه ركيك تدريجا إلى إظهار فضل نفسه بسلامته عن تلك النقائص
وإما الحسد لثناء الناس عليه ومحبتهم له فيريد أن يثنيهم عنه بالقدح فيه حتى تزول عنه نعمة ثناء الناس ومحبتهم وإما اللعب والهزل فيذكر عن غيره ما يضحك الناس به
وإما السخرية والاستهزاء به في غيبته كهو في حضرته تحقيرا له هذه هي الأسباب العامة
وبقي أسباب خاصة هي أشر وأخبث كأن يتعجب ذو دين من منكر فيقول ما أعجب ما رأيت من فلان فهو وإن صدق في تعجبه من المنكر لكن كان حقه أن لا يعين فلانا بذكر اسمه لأنه صار به مغتابا آثما من حيث لا يدري ومن ذلك عجيب من فلان كيف يحب أمته وهي قبيحة وكيف يقرأ على فلان الجاهل وكأن يغتم مما ابتلي به فيقول مسكين فلان ساءني بلواه بكذا
فهو وإن
____________________
(2/562)
صدق في اغتمامه له لكن كان من حقه أن لا يذكر اسمه فغمه ورحمته خير ولكنه ساقه إلى شر من حيث لا يدري أن ذلك ممكن دون ذكر اسمه فهيجه الشيطان على ذكر اسمه ليبطل به ثواب اغتمامه وترحمه وكأن يغضب لله من أجل مقارفة غيره لمنكر فيظهر غضبه ويذكر اسمه وكان الواجب أن يظهر غضبه عليه بالأمر بالمعروف ولا يظهره على غيره أو يستر اسمه ولا يذكره بالسوء
فهذه الثلاثة مما يغمض دركها عن العلماء فضلا عن العوام لظنهم أن التعجب والرحمة والغضب إذا كان لله كان عذرا في ذكر الاسم وهو خطأ بل المرخص في الغيبة الأعذار السابقة فقط والفرض أنه لا شيء منها هنا
ومنها يتعين عليك معرفة علاج الغيبة وهو إما إجمالي بأن يعلم أنك قد تعرضت بها لسخط الله تعالى وعقوبته كما دلت عليه الآية والأخبار التي قدمناها وأيضا فهي تحبط حسناتك لما مر في خبر مسلم في المفلس من أنه تؤخذ حسناته إلى أن تفنى فإن بقي عليه شيء وضع عليه من سيئات خصمه
ومن المعلوم أن من زادت حسناته كان من أهل الجنة أو سيئاته كان من أهل النار فإن استويا فمن أهل الأعراف كما جاء في حديث فاحذر أن تكون الغيبة سببا لفناء حسناتك وزيادة سيئاتك فتكون من أهل النار على أنه روي أن الغيبة والنميمة تحتان الإيمان كما يعضد الراعي الشجرة
ومن ثم قال رجل للحسن بلغني أنك تغتابني
فقال ما بلغ قدرك عندي أني أحكمك في حسناتي
ومن آمن بتلك الأخبار فطم نفسه عن الغيبة فطما كليا خوفا من عقابها المرتب عليها في الأخبار
ومما ينفعك أيضا أنك تتدبر في عيوبك وتجتهد في الطهارة منها لتدخل تحت ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ويشهد أني رسول الله فليسعه بيته وليبك على خطيئته ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا ليغنم أو ليسكت عن شر فيسلم
وتستحيي من أن تذم غيرك بما أنت متلبس به أو بنظيره فإن كان أمرا خلقيا فالذم له ذم للخالق إذ من ذم صنعة ذم صانعها
قال رجل لحكيم يا قبيح الوجه
فقال ما كان خلق وجهي إلي فأحسنه فإن لم تجد لك عيبا وهو بعيد فاشكر الله إذ تفضل عليك بالنزاهة عن العيوب فلا تسم نفسك بتعظيمها
____________________
(2/563)
وينفعك أيضا أن تعلم أن تأذي غيرك بالغيبة كتأذيك بها فكيف ترضى لغيرك ما تتأذى به
وإما تفصيلي بأن تنظر في باعثها فتقطعه من أصله إذ علاج العلة إنما يكون بقطع سببها وإذا استحضرت البواعث عليها السابقة ظهر لك السعي في قطعها كأن تستحضر في الغضب أنك إن أمضيت غضبك فيه بغيبة أمضى الله غضبه فيك لاستخفافك بنهيه وجرأتك على وعيده
وفي حديث إن لجهنم بابا لا يدخله إلا من شفى غيظه بمعصية الله تعالى
وفي المرافقة إنك إذا أرضيت المخاليق بغضب الله عاجلك بعقوبته إذ لا أغير من الله تعالى
وفي الحسد أنك جمعت بين خسار الدنيا بحسدك له على نعمته وكونك معذبا بالحسد والآخرة لأنك نصرته بإهداء حسناتك إليه أو طرح سيئاته عليك فصرت صديقه وعدو نفسك فجمعت إلى خبث حسدك جهل حماقتك وربما كان ذلك منك سبب انتشار فضله كما قيل وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود
وفي قصد المباهاة وتزكية النفس أنك بما ذكرته فيه أبطلت فضلك عند الله وأنت لست على ثقة من اعتقاد الناس فيك بل ربما مقتوك إذا عرفوك بثلب الأعراض وقبح الأغراض فقد بعت ما عند الله يقينا بما عند المخلوق العاجز وهما وفي الاستهزاء أنك إذا أخزيت غيرك عند الناس فقد أخزيت نفسك عند الله وشتان ما بينهما وعلاج بقية البواعث ظاهر مما تقرر فلا حاجة للإطالة به
ومنها قد سبق أن الغيبة بالقلب حرام وبيان معناه ويوافقه قول الإحياء بيان تحريم الغيبة بالقلب
اعلم أن سوء الظن حرام مثل سوء القول ولست أعني به إلا عقد القلب وحكمه على غيره بالسوء فأما الخواطر وحديث النفس فهو معفو عنه بل الشك أيضا معفو عنه ولكن المنهي عنه أن تظن والظن عبارة عما تركن إليه النفس ويميل إليه القلب
قال الله تعالى اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم وسبب تحريمه أن أسباب القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب فليس لك أن تعقد في غيرك سوءا إلا إذا انكشف لك بعبارة لا تحتمل التأويل
فعند ذلك لا يمكنك ألا تعتقد ما
____________________
(2/564)
علمته وشاهدته وما لم تشاهده بعينك ولم تسمعه بأذنك ثم وقع في قلبك فإن الشيطان يلقيه إليك فينبغي أن تكذبه فإنه أفسق الفساق
وقد قال تعالى أول سورة تلك الآية إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا الآية
ولا تغتر بمخيلة فساد إذا احتمل خلافها لأن الفاسق يجوز أن يصدق في خبره لكن لا يجوز لك تصديقه ومن ثم لم تحد أئمتنا برائحة الخمر لإمكان أنها من غيرها
وتأمل خبر إن الله حرم من المسلم دمه وماله وأن تظن به السوء
فعلم منه أنه لا يسوغ لك ظن السوء به إلا ما يسوغ لك أخذ ماله من يقين مشاهدة أو بينة عادلة وإلا فبالغ في دفع الظن عنك ما أمكنك لاحتمال الخير والشر وأمارة سوء الظن المحققة له أن يتغير قلبك عليه عما كان فتنفر عنه وتستثقله وتفتر عن مراعاته
وفي الخبر ثلاث في المؤمن وله منهن مخرج فمخرجه من سوء الظن أن لا يحققه
أي لا يحقق مقتضاه في نفسه بعقد القلب بتغييره إلى النفرة والكراهة ولا بفعل الجوارح بإعمالها بموجبه والشيطان قد يقرر على القلب بأدنى مخيلة مساءة الناس ويلقي إليه أن هذا من مزيد فطنتك وسرعة تنبهك وأن المؤمن ينظر بنور الله وهو على التحقيق ناظر بنور الشيطان وظلمته وإذا أخبرك عدل فملت إلى تصديقه أو تكذيبه كنت جانيا على أحدهما باعتقاد السوء في المخبر عنه أو الكذب في المخبر
فعليك أن تبحث هل ثم تهمة في المخبر بنحو عداوة بينهما فإن وجدتها فتوقف وابق المخبر عنه على ما كان عندك من عدم ظن السوء ولا تصغ لمن دأبه الكلام في الناس مطلقا
وينبغي لك إذا ورد عليك خاطر سوء بمسلم أن تبادر بالدعاء له بالخير لتغيظ الشيطان وتقطع عنه إلقاءه إليك ذلك من دعائك له
وإذا عرفت هفوة مسلم أن تنصحه سرا قاصدا تخليصه من الإثم مظهرا لحزنك على ما أصابه كما تحزن لو أصابك لتجمع بين أجر الوعظ وأجر الهم والإعانة له على دينه
ومن ثمرات سوء الظن التجسس فإن القلب لا يقنع بالظن بل يطلب اليقين فيتجسس ومر النهي عن التجسس وهو أن لا يترك الخلق تحت سريرتهم فيتوصل إلى الاطلاع على ما لو دام ستره عنك كان أسلم لقلبك ودينك وجمع مع الغيبة سوء الظن في آية واحدة لما بينهما من التلازم غالبا
ومنها يجب على المغتاب أن يبادر إلى التوبة بشروطها فيقلع ويندم خوفا من الله سبحانه وتعالى ليخرج من حقه ثم يستحل المغتاب خوفا أيضا ليحله فيخرج عن مظلمته
____________________
(2/565)
وقال الحسن يكفيه الاستغفار عن الاستحلال واحتج بخبر كفارة من اغتبته أن تستغفر له
وقال الحسن كفارة ذلك أن تثني عليه وتدعو له بالخير
والأصح أنه لا بد من الاستحلال وزعم أن العرض لا عوض له فلا يجب الاستحلال منه بخلاف المال مردود بأنه وجب في العرض حد القذف
قيل بل في الأحاديث الصحيحة الأمر بالاستحلال من المظالم قبل يوم لا درهم فيه ولا دينار وإنما هي حسنات الظالم تؤخذ للمظلوم وسيئات المظلوم تطرح على الظالم فتعين الاستحلال نعم الغائب والميت ينبغي أن يكثر لهما من الاستغفار والدعاء
ويندب لمن سئل في التحلل وهو العفو أن يحلل ولا يلزمه لأن ذلك تبرع منه وفضل وكان جمع من السلف يمتنعون من التحليل ويؤيد الأول خبر أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته قال إني تصدقت بعرضي على الناس ومعناه لا أطلب مظلمة منه ولا أخاصمه في القيامة لأن الغيبة تصير حلالا لأن فيها حقا لله ولأنه عفو وإباحة للشيء قبل وجوده ومن ثم لم يسقط به الحق في الدنيا
وقد صرح الفقهاء بأن من أباح القذف لم يسقط حقه من حده ومظلمته لا في الدنيا ولا في الآخرة وسيأتي لهذا المبحث بسط في مبحث التوبة من كتاب الشهادات
الكبيرة الخمسون بعد المائتين التنابز بالألقاب المكروهة
قال تعالى ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون تنبيه عد هذا هو ما صرح به غير واحد مع عد الغيبة أيضا وفيه نظر لأنه من بعض أقسامها كما علم مما تقرر وكأنهم اقتدوا بأسلوب الآية الكريمة فإنه ذكر فيها كل من التنابز والغيبة فدلت على أن بينهما نوع تغاير إلا أن يجاب بأن سبب إفراد التنابز بالذكر وإن كان من أفراد الغيبة المذكورة أيضا فإنه من أفحش أنواعها فقصد بإفراده تقبيح شأنه مبالغة في الزجر عنه
وفي أذكار النووي اتفق العلماء على تحريم تلقيب الإنسان بما يكرهه سواء كان صفة له أو لأبيه أو لأمه أو غيرهما مما يكره
____________________
(2/566)
الكبيرة الحادية والخمسون بعد المائتين السخرية والاستهزاء بالمسلم
قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن وقد مر الكلام على تفسيرها قريبا وقد قام الإجماع على تحريم ذلك
وأخرج البيهقي إن المستهزئين بالناس يفتح لأحدهم في الآخرة باب من الجنة فيقال له هلم هلم فيجيء بكربه وغمه فإذا جاءه أغلق دونه ثم يفتح له باب آخر فيقال له هلم هلم فيجيء بكربه وغمه فإذا جاءه أغلق دونه فما يزال كذلك حتى يفتح له الباب من أبواب الجنة فيقال له هلم فما يأتيه من الإياس
وقال ابن عباس في قوله تعالى ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها الصغيرة التبسم والكبيرة الضحك بحالة الاستهزاء
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان من لقب أخاه وسخر به فهو فاسق
والسخرية الاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص يوم يضحك منه وقد يكون بالمحاكاة بالفعل أو القول أو الإشارة أو الإيماء أو الضحك على كلامه إذا تخبط فيه أو غلط أو على صنعته أو قبيح صورته
تنبيه عد هذا هو ما ذكره بعضهم مع ذكره للغيبة وفيه نظر لأنه من أفرادها كما علم مما مر فيها وكأنه إنما ذكره اقتداء بأسلوب القرآن الكريم فإنه بعد ذكره ذكر الغيبة وتنبيها على المبالغة في الزجر عنه نظير ما تقرر في الذي قبله
الكبيرة الثانية والخمسون بعد المائتين النميمة
قال تعالى هماز مشاء بنميم ثم قال بعد ذلك عتل بعد ذلك زنيم أي دعي واستنبط منه ابن المبارك أن ولد الزنا لا يكتم
____________________
(2/567)
الحديث فعدم كتمه المستلزم للمشي بالنميمة دليل على أن فاعل ذلك ولد زنا
وقال تعالى ويل لكل همزة لمزة قيل اللمزة النمام
وقال تعالى حمالة الحطب قيل كانت نمامة حمالة للحديث إفسادا بين الناس وسميت النميمة حطبا لأنها تنشر العداوة بين الناس كما أن الحطب ينشر النار
وقال تعالى فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا أي لأن امرأة نوح كانت تقول عنه مجنون وامرأة لوط كانت تخبر قومها بضيفانه حتى يقصدوهم لتلك الفاحشة القبيحة التي اخترعوها حتى أهلكتهم بذلك العذاب الفظيع
وأخرج الشيخان لا يدخل الجنة نمام
وفي رواية قتات وهو النمام
وقيل النمام الذي يكون مع جمع يتحدثون حديثا فينم عليهم
والقتات الذي يستمع عليهم وهم لا يعلمون ثم ينم
والشيخان والأربعة وغيرهم مر صلى الله عليه وسلم بقبرين يعذبان فقال إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير أي أمر شاق عليهما لو فعلاه بل إنه كبير أي من كبائر الذنوب أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستنزه من بوله
الحديث
وقد تقدمت طرقه في مواضع وأن ثلث عذاب القبر من الغيبة وثلثه من النميمة وثلثه من البول
وأحمد مر النبي صلى الله عليه وسلم في يوم شديد الحر نحو بقيع الغرقد فكان الناس يمشون خلفه فلما سمع صوت النعال وقر ذلك في نفسه فجلس حتى قدمهم أمامه لئلا يقع في نفسه شيء من الكبر فلما مر ببقيع الغرقد إذ بقبرين قد دفنوا فيهما رجلين فوقف صلى الله عليه وسلم فقال من دفنتم اليوم هاهنا قالوا فلان وفلان
قالوا يا نبي الله وما ذاك قال أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة وأخذ جريدة رطبة فشقها ثم جعلها على القبرين
قالوا يا نبي الله لم فعلت هذا قال ليخفف عنهما
قالوا يا نبي الله حتى متى يعذبان قال غيب لا يعلمه إلا الله ولولا تمزع قلوبكم وتزيدكم في الحديث لسمعتم ما أسمع
____________________
(2/568)
والطبراني النميمة والشتيمة والحمية في النار
وفي لفظ النميمة والحقد في النار لا يجتمعان في قلب مسلم
وأبو يعلى والطبراني وابن حبان في صحيحه والبيهقي بسند فيه متروكان متهمان بالوضع ألا أن الكذب يسود الوجه والنميمة من عذاب القبر
وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كنا نمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررنا بقبرين فقام فقمنا معه فجعل لونه يتغير حتى رعد كم قميصه فقلنا مالك يا رسول الله فقال أما تسمعون ما أسمع فقلنا وما ذاك يا رسول الله قال هذان رجلان يعذبان في قبورهما عذابا شديدا في ذنب هين أي في ظنهما لا في نفس الأمر للتصريح في الحديث السابق بأنه كبيرة وهو مجمع عليه قلنا فيم ذلك قال كان أحدهما لا يتنزه من البول وكان الآخر يؤذي الناس بلسانه ويمشي بينهم بالنميمة فدعا بجريدتين من جريد النخل فجعل في كل قبر واحدة قلنا وهل ينفعهم ذلك قال نعم يخفف عنهما ما دامتا رطبتين
والطبراني ليس مني ذو حسد ولا نميمة ولا كهانة ولا أنا منه ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا
____________________
(2/569)
وأحمد خيار عباد الله الذين إذا رءوا ذكر الله وشرار عباد الله المشاءون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون للبرآء العنت وفي رواية لابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا المفسدون بين الأحبة
وأبو الشيخ الهمازون واللمازون والمشاءون بالنميمة الباغون للبرآء العيب يحشرهم الله في وجوه الكلاب
وعن
جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا
الحديث رواه الترمذي
وفي رواية إن أحبكم إلي أحاسنكم أخلاقا الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون وإن أبغضكم إلى الله المشاءون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الملتمسون للبرآء العيب
وفي أخرى ألا أنبئكم بشراركم قالوا بلى إن شئت يا رسول الله قال شراركم الذي ينزل وحده ويجلد عبده ويمنع رفده أفلا أنبئكم بشر من ذلك قالوا بلى إن شئت يا رسول الله قال من يبغض الناس ويبغضونه
قال أفلا أنبئكم بشر من ذلك قالوا بلى إن شئت يا رسول الله قال الذين لا يقيلون عثرة ولا يقبلون معذرة ولا يغفرون ذنبا
قال أفلا أنبئكم بشر من ذلك قالوا بلى يا رسول الله قال من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره رواه الطبراني وغيره
____________________
(2/570)
وأبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا بلى قال إصلاح ذات البين فإن إفساد ذات البين هي الحالقة
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين
وفي خبر أيما رجل أشاع على رجل مسلم بكلمة وهو منها بريء يشينه بها في الدنيا كان حقا على الله أن يذيبه بها يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاذ ما قال
وروى كعب أنه أصاب بني إسرائيل قحط فاستسقى موسى صلى الله وسلم على نبينا وعليه مرات فما أجيب فأوحى الله تعالى إليه أني لا أستجيب لك ولا لمن معك وفيكم نمام قد أصر على النميمة
فقال موسى يا رب من هو حتى نخرجه من بيننا فقال يا موسى أنهاكم عن النميمة وأكون نماما فتابوا بأجمعهم فسقوا
وزار بعض السلف أخوه فنم له عن صديقه
فقال له يا أخي أطلت الغيبة وجئتني بثلاث جنايات بغضت إلي أخي وشغلت قلبي بسببه واتهمت نفسك الأمينة
وقيل من أخبرك بشتم غيرك لك فهو الشاتم لك وجاء رجل إلى علي بن الحسين رضي الله عنهما فنم له عن شخص فقال اذهب بنا إليه فذهب معه وهو يرى أنه ينتصر لنفسه فلما وصل إليه قال يا أخي إن كان ما قلت في حقا يغفر الله لي وإن كان ما قلت في باطلا يغفر الله لك
ويقال عمل النمام أضر من عمل الشيطان فإن عمل الشيطان بالوسوسة وعمل النمام بالمواجهة ونودي على عبد يراد بيعه ليس به عيب إلا أنه نمام فاشتراه من استخف بهذا العيب فلم يمكث عنده أياما حتى نم لزوجته أنه يريد التزوج أو التسري وأمرها أن تأخذ الموسى وتحلق بها شعرات من حلقه ليسحره لها فيهن فصدقته وعزمت على ذلك فجاء إليه ونم له عنها أنها اتخذت لها خدنا أحبته وتريد ذبحك الليلة فتناوم لترى ذلك فصدقه فتناوم فجاءت لتحلق فقال صدق الغلام فلما هوت إلى حلقه أخذ الموسى منها وذبحها به فجاء أهلها فرأوها مقتولة فقتلوه فوقع القتال بين الفريقين بشؤم ذلك النمام
____________________
(2/571)
ولقد أشار الله تعالى إلى قبح تصديق النمام وعظيم الشر المترتب على ذلك بقوله عز قائلا يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أو فتثبتوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين عافانا الله من ذلك بمنه وكرمه آمين
تنبيهات منها عد النميمة من الكبائر هو ما اتفقوا عليه وبه صرح الحديث الصحيح السابق بقوله بلى إنه كبير كما مر فيه
قال الحافظ المنذري أجمعت الأمة على تحريم النميمة وأنها من أعظم الذنوب عند الله عز وجل
انتهى
وخبر ما يعذبان في كبير أجابوا عنه بأجوبة منها في كبير تركه والاحتراز عنه أو ليس كبيرا في اعتقادكم كما قال تعالى وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم
أو المراد أنه ليس أكبر الكبائر ودل على ذلك قوله في خبر البخاري السابق بلى إنه كبير كما تقرر
ومنها عرفوا النميمة بأنها نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على وجه الإفساد بينهم
وقال في الإحياء هذا هو الأكثر ولا يختص بذلك بل هي كشف ما يكره كشفه سواء أكرهه المنقول عنه أو إليه أو ثالث وسواء كان كشفه بقول أو كتابة أو رمز أو إيماء وسواء في المنقول كونه فعلا أو قولا عيبا أو نقصا في المقول عنه أو غيره فحقيقة النميمة إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه وحينئذ ينبغي السكوت عن حكاية كل شيء شوهد من أحوال الناس إلا ما في حكايته نفع لمسلم أو دفع ضر كما لو رأى من يتناول مال غيره فعليه أن يشهد به بخلاف ما لو رأى من يخفي مال نفسه فذكره فهو نميمة وإفشاء للسر فإن كان ما ينم به نقصا أو عيبا في المحكي عنه فهو غيبة ونميمة انتهى
وما ذكره إن أراد بكونه نميمة أنه كبيرة في سائر الأحوال التي ذكرها ففيه بإطلاقه نظر ظاهر لأن ما فسروا به النميمة لا يخفى أن وجه كونه كبيرة ما فيه من الإفساد المترتب عليه من المضار والمفاسد ما لا يخفى
والحكم على ما هو كذلك بأنه كبيرة ظاهر جلي وليس في معناه بل ولا قريبا منه مجرد الإخبار بشيء عمن يكره كشفه من غير أن يترتب عليه ضرر ولا هو عيب ولا نقص فالذي يتجه في هذا أنه وإن سلم للغزالي تسميته نميمة لا يكون كبيرة ويؤيده أنه نفسه شرط في كونه غيبة كونه عيبا ونقصا حيث قال فإن كان ما ينم به نقصا إلخ فإذن لم توجد الغيبة إلا مع كونه نقصا فالنميمة الأقبح من الغيبة ينبغي ألا توجد بوصف كونها كبيرة إلا إذا كان فيما ينم به مفسدة تقارب مفسدة الإفساد التي صرحوا بها
فتأمل ذلك فإني لم أر من نبه عليه وإنما ينقلون كلام الغزالي ولا يتعرضون لما فيه مما نبهت عليه
نعم من قال بأن الغيبة كبيرة مطلقا ينبغي
____________________
(2/572)
أنه لا يشترط في النميمة إلا أن يكون فيها مفسدة كمفسدة الغيبة وإن لم تصل إلى مفسدة الإفساد بين الناس
ومنها الباعث على النميمة منه إرادة السوء بالمحكي عنه أو الحب للمحكي له أو الفرح بالخوض في الفضول وعلاجها بنحو ما مر في الغيبة ثم على من حملت إليه النميمة كفلان قال فيك أو عمل في حقك كذا ستة أمور أن لا يصدقه لأن النمام فاسق إجماعا
وقد قال تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ الآية
وأن ينهاه عن العود لمثل هذا القبيح دينا ودنيا وأن يبغضه في الله إن لم يظهر له التوبة وأن لا يظن بالمنقول عنه سوءا لأنه لم يتحقق أن ما نقل إليه عنه صدر منه وأن لا يحمله ما حكي له على التجسس والبحث حتى يتحقق لقوله تعالى اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا وأن لا يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه فلا يحكي نميمته فيقول قد حكى لي فلان كذا فإنه يكون به نماما ومغتابا وآتيا بما عنه نهى
وقد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لمن نم له شيئا إن شئت نظرنا في أمرك فإن كذبت فأنت من أهل هذه الآية إن جاءكم فاسق بنبأ وإن صدقت فمن أهل هذه الآية مشاء بنميم وإن شئت عفونا عنك
فقال العفو يا أمير المؤمنين لا أعود إليه أبدا
وعاتب سليمان بن عبد الملك من نم عليه بحضرة الزهري فأنكر الرجل فقال له من أخبرني صادق
فقال الزهري النمام لا يكون صادقا فقال سليمان صدقت اذهب أيها الرجل بسلام
وقال الحسن من نم لك نم عليك وهذا إشارة إلى أن النمام ينبغي أن يبغض ولا يؤتمن ولا يواثق بصداقته وكيف لا يبغض وهو لا ينفك عن الكذب والغيبة والقذف والخيانة والغل والحسد والإفساد بين الناس والخديعة وهو ممن سعى في قطع ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض
قال تعالى
إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم والنمام منهم
ومن النميمة السعاية وسيأتي بسط الكلام فيها
____________________
(2/573)
الكبيرة الثالثة والخمسون بعد المائتين كلام ذي اللسانين وهو ذو الوجهين الذي لا يكون عند الله وجيها
أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تجدون الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا وتجدون خيار الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهية وتجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه
وللبخاري عن محمد بن زيد أن ناسا قالوا لجده عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إنا لندخل على سلطاننا فنقول بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عنده فقال كنا نعد هذا نفاقا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
والطبراني في الأوسط ذو الوجهين في الدنيا يأتي يوم القيامة وله وجهان من نار
وأبو داود وابن حبان في صحيحه من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار
وابن أبي الدنيا والطبراني والأصبهاني وغيرهم من كان ذا لسانين جعل الله له يوم القيامة لسانين من نار
تنبيه عد ما ذكر هو صريح الحديثين الأولين الصحيحين وكأنهم إنما لم يفردوه بالذكر لأنهم رأوا أنه داخل في النميمة وفي إطلاقه نظر
فقد قال الغزالي ذو اللسانين من يتردد بين متعاديين ويكلم كلا بما يوافقه وقل من يتردد بين متعاديين إلا وهو بهذه الصفة وهذا عين النفاق
____________________
(2/574)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه خبر تجدون من شر عباد الله يوم القيامة ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بحديث هؤلاء وهؤلاء بحديث هؤلاء
وفي رواية يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه
وقال أبو هريرة رضي الله عنه لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أمينا عند الله تعالى
وقال ابن مسعود رضي الله عنه لا يكن أحدكم إمعة
قالوا وما الإمعة قال يجري مع كل ريح
قال أعني الغزالي واتفقوا على أن ملاقاة اثنين بوجهين نفاق وللنفاق علامات كثيرة وهذه من جملتها ثم قال فإن قلت في ماذا يصير ذا لسانين وما حد ذلك فأقول إذا دخل على متعاديين وجامل كل واحد منهما وكان صادقا فيه لم يكن منافقا ولا ذا لسانين فإن الواحد قد يصادق متعاديين ولكن صداقته ضعيفة لا تنتهي إلى حد الأخوة إذ لو تحققت الصداقة لاقتضت معاداة الأعداء
نعم لو نقل كلام كل واحد إلى الآخر فهو ذو لسانين وذلك شر من النميمة لأنه يصير نماما بمجرد نقله من أحد الجانبين فإذا نقل من كل منهما فقد زاد على النميمة وإن لم ينقل كلاما ولكن حسن لكل واحد منهما ما هو عليه من المعاداة مع صاحبه فهو ذو لسانين أيضا وكذا إذا وعد كلا منهما بأنه ينصره أو أثنى على كل في معادلة أو على أحدهما مع ذمه له إذا خرج من عنده فهو ذو لسانين في كل ذلك
وقد مر عن ابن عمر أن الثناء على الأمير في حضرته وذمه في غيبته نفاق ومحله إن استغنى عن الدخول على الأمير والثناء عليه ولا عبرة برجائه منه مالا أو جاها فإذا دخل لضرورة أحدهما وأثنى فهو منافق وهذا معنى حديث
حب الجاه والمال ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل أي لأنه يحوج إلى الدخول على الأمراء ومراعاتهم ومراءاتهم فإن اضطر للدخول لنحو تخليص ضعيف لا يرجى خلاصه بدون ذلك وخاف من عدم الثناء فهو معذور فإن اتقاء الشر جائز
قال أبو الدرداء إنا لنكشر أي نضحك في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم ومر خبر أنه صلى الله عليه وسلم قال لمستأذن عليه ائذنوا له بئس أخو العشيرة فسألته عائشة فقال إن شر الناس الذي يكرم اتقاء لشره ولكن هذا ورد في الإقبال ونحو التبسم
فأما
____________________
(2/575)
الثناء فهو كذب صريح فلا يجوز إلا لضرورة حاجة أو إكراه عليه بخصوصه
ومن النفاق أن تسمع باطلا فتقره بنحو تصديق أو تقرير كتحريك الرأس إظهارا لذلك بل يلزمه أن ينكر بيده ثم لسانه ثم قلبه
الكبيرة الرابعة والخمسون بعد المائتين البهت
لما في الحديث الصحيح السابق في الغيبة فإن لم يكن فيه فقد بهته بل هو أشد من الغيبة إذ هو كذب فيشق على كل أحد بخلاف الغيبة لا تشق على بعض العقلاء لأنها فيه
وأخرج أحمد خمس ليس لهن كفارة الشرك بالله وقتل النفس بغير حق وبهت مؤمن والفرار من الزحف ويمين صابرة يقتطع بها مالا بغير حق
والطبراني من ذكر امرأ بشيء ليس فيه ليعيبه به حبسه الله في نار جهنم حتى يأتي بنفاذ ما قال فيه تنبيه عد هذا هو ما صرح به بعضهم مع عده الكذب كبيرة أخرى وكأن وجهه أن هذا كذب خاص فيه هذا الوعيد الشديد فلذا أفرد بالذكر
الكبيرة الخامسة والخمسون بعد المائتين عضل الولي موليته عن النكاح
بأن دعته إلى أن يزوجها من كفء لها وهي بالغة عاقلة فامتنع
وكون هذا كبيرة هو ما صرح به النووي في فتاويه فقال أجمع المسلمون على أن العضل كبيرة لكن الذي قرره هو والأئمة في تصانيفهم أنه صغيرة وأن كونه كبيرة وجه ضعيف بل قال إمام الحرمين في النهاية لا يحرم العضل إذا كان ثم حاكم وقال غيره ينبغي ألا يحرم مطلقا إذا جوزنا التحكيم أي لأن الأمر حينئذ لم ينحصر في الولي
وإذا قلنا صغيرة فتكرر فظاهر كلام النووي والرافعي أنه يصير كبيرة حيث قال وليس العضل من الكبائر وإنما يفسق به إذا عضل مرات أقلها فيما حكي عن بعضهم ثلاث
انتهى
ورد عليهما بأن الذي ذكراه في كتاب الشهادات أن المنصوص وقول الجمهور أن الطاعات إذا
____________________
(2/576)
غلبت لا تضر المداومة على نوع واحد من الصغائر وفي وجه ضعيف أن المداومة على ذلك فسق وإن غلبت الطاعات
الكبيرة السادسة والخمسون بعد المائتين الخطبة على الخطبة الغير الجائزة الصريحة إذا أجيب إليها صريحا ممن تعتبر إجابته ولم يأذن ولا أعرض هو ولا هم ذكر هذا في الكبائر هو نظير ما مر في البيع من الشراء على شراء الغير فيأتي هنا جميع ما قدمته ثم
الكبيرة السابعة والثامنة والخمسون بعد المائتين تخبيب المرأة على زوجها أي إفسادها عليه والزوج على زوجته أخرج أحمد بسند صحيح واللفظ له والبزار وابن حبان في صحيحه عن بريدة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس منا من حلف بالأمانة ومن خبب على امرئ زوجته أو مملوكه فليس منا
وأبو داود والنسائي ليس منا من خبب امرأة على زوجها أو عبدا على سيده
وابن حبان في صحيحه من خبب عبدا على أهله فليس منا ومن أفسد امرأة على زوجها فليس منا
ورواه بنحوه جماعة آخرون منهم أبو يعلى بسند صحيح ومسلم وغيره إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم
____________________
(2/577)
فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئا ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته فيدنيه منه ويقول نعم أنت فيلتزمه
تنبيه عد الأولى كبيرة هو ما جرى عليه جمع ورووا فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من فعل ذلك ويؤيده الأحاديث التي ذكرتها والثانية كالأولى كما هو ظاهر وإن أمكن الفرق بأن الرجل يمكنه أن يجمع بين المفسد له وزوجته بخلاف المرأة لأن إفساد المرأة على زوجها والرجل على زوجته أعم من أن يكون من الرجل أو من المرأة مع إرادة تزويج أو تزوج أو لا مع إرادة شيء من ذلك
الكبيرة التاسعة والخمسون بعد الماءين عقد الرجل على محرمه بنسب أو رضاع أو مصاهرة وإن لم يطأ وعد هذا كبيرة هو ما وقع في كلام بعض المتأخرين لكنه لم يعمم المحرم ولا ذكر وإن لم يطأ وذلك مراده بلا شك ثم لما ذكره نوع اتجاه لأن إقدامه على عقد النكاح على محرمه مبني على خرقه سياج الشريعة الغراء من أصله وأنه لا مبالاة عنده بحدودها سيما ما اتفقت العقول الصحيحة على قبحه وأنه لا يصدر ممن له أدنى مسكة من مروءة فضلا عن دين
الكبيرة الستون والحادية والثانية والستون بعد المائتين رضا المطلق بالتحليل وطواعية المرأة المطلقة عليه ورضا الزوج المحلل له
أخرج أحمد والنسائي وغيرهما بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن المحلل والمحلل له
وابن ماجه بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ألا أخبركم بالتيس المستعار قالوا بلى يا رسول الله قال هو المحلل
لعن الله المحلل والمحلل له
قال
____________________
(2/578)
الترمذي والعمل على ذلك عند أهل العلم منهم عمر وابنه وعثمان رضي الله عنهم وهو قول الفقهاء من التابعين
وأبو إسحاق الجوزجاني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحلل فقال لا إلا نكاح رغبة لا نكاح دلسة ولا استهزاء بكتاب الله عز وجل ثم تذوق العسيلة
وروى ابن المنذر وابن أبي شيبة وعبد الرزاق والأثرم عن عمر رضي الله عنه أنه قال لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما فسئل ابنه عن ذلك فقال كلاهما زان
وسأل رجل ابن عمر فقال ما تقول في امرأة تزوجتها لأحلها لزوجها لم يأمرني ولم يعلم
فقال له ابن عمر لا إلا نكاح رغبة إن أعجبتك أمسكتها وإن كرهتها فارقتها وإنا كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسئل عن تحليل المرأة لزوجها فقال ذلك هو السفاح
وعن رجل طلق ابنة عمه ثم ندم ورغب فيها فأراد أن يتزوجها رجل ليحلها له فقال كلاهما زان وإن مكثا عشرين سنة أو نحوها إذا كان يعلم أنه يريد أن يحلها
وسئل ابن عباس رضي الله عنه عمن طلق امرأته ثلاثا ثم ندم فقال هو عصى الله فأندمه وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا
قيل له فكيف ترى في رجل يحلها فقال من يخادع الله يخدعه
تنبيه عد هذا كبيرة هو صريح ما في الحديثين الأولين من اللعن وهما محمولان عند الشافعي رضي الله عنه على ما إذا شرط في صلب نكاح المحلل أنه يطلق بعد أن يطأ أو نحو ذلك من الشروط المفسدة للنكاح وحينئذ التحلل كبيرة فيكون كل من المطلق والمحلل والمرأة فاسقا لإقدامهم على هذه الفاحشة وعلى ذلك يحمل إطلاق غير واحد من الشافعية أن التحليل كبيرة إذ هو بدون ذلك مكروه لا حرام فضلا عن كونه كبيرة ولا عبرة بما أضمروه ولا بالشروط السابقة على العقد وأخذ جماعة من الأئمة بإطلاق الحديثين فحرموا التحلل مطلقا منهم من ذكرناه من الصحابة والتابعين والحسن البصري فقال إذا هم أحد الثلاثة بالتحلل فقد أفسد العقد
والنخعي فقال إذا كانت نية أحد الثلاثة الزوج الأول أو الزوج الآخر أو المرأة التحليل فنكاح الآخر باطل ولا تحل للأول
وابن المسيب فقال من تزوج امرأة ليحلها لزوجها الأول لم تحل له وتبعهم مالك والليث وسفيان الثوري وأحمد
وقد سئل عمن تزوج امرأة وفي نفسه أن يحلها للأول ولم تعلم هي بذلك فقال هو محلل وإذا أراد بذلك التحليل فهو ملعون
____________________
(2/579)
الكبيرة الثالثة والرابعة والستون بعد المائتين إفشاء الرجل سر زوجته وهي سره بأن تذكر ما يقع بينهما من تفاصيل الجماع ونحوها مما يخفى
أخرج مسلم وأبو داود وغيرهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته أو تفضي إليه ثم ينشر أحدهما سر صاحبه
وفي رواية لهم من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها
وأحمد عن أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجال والنساء قعود عنده فقال لعل رجلا يقول ما فعل بأهله ولعل امرأة تخبر ما فعلت مع زوجها فأرم القوم أي بفتح الراء وتشديد الميم سكتوا وقيل سكتوا من خوف ونحوه فقلت إي والله يا رسول الله إنهم ليفعلون وإنهن ليفعلن قال لا تفعلوا فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة فغشيها والناس ينظرون
والبزار وله شواهد تقويه وأبو داود مطولا بنحوه بسند فيه من لم يسم ألا عسى أحدكم أن يخلو بأهله يغلق بابا ثم يرخي سترا ثم يقضي حاجته ثم إذا خرج حدث أصحابه بذلك ألا عسى إحداكن أن تغلق بابها وترخي سترها فإذا قضت حاجتها حدثت صواحبها فقالت امرأة سفعاء الخدين والله إنهن يا رسول الله ليفعلن وإنهم ليفعلون قال فلا تفعلوا فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة على قارعة الطريق فقضى حاجته منها ثم انصرف وتركها
____________________
(2/580)
وأحمد وأبو يعلى والبيهقي كلهم من طريق رواح عن أبي الهيثم وقد صححها غير واحد أنه صلى الله عليه وسلم قال السباع حرام قال ابن لهيعة يعني به الذي يفتخر بالجماع أي بما فيه هتك ستر لا مطلقا كما هو ظاهر وهو بالمهملة المكسورة فالموحدة وقيل بالمعجمة وأبو داود بسند فيه مجهول المجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس سفك دم حرام أو فرج حرام أو اقتطاع مال بغير حق
تنبيه عد هذين كبيرتين لم أره لكنه صريح ما في هذه الأحاديث الصحيحة وهو ظاهر لما فيه من إيذاء المحكي عنه وغيبته وهتك ما أجمعت العقلاء على تأكد ستره وقبح نشره وسيأتي لهذا المحل بسط في كتاب الشهادات وأن كلام النووي اختلف في كراهة ذلك وحرمته فإنه ذكر في كتاب النكاح أنه يكره وجزم في شرح مسلم بالتحريم مستدلا بخبر مسلم المذكور وأن محل الحرمة فيما إذا ذكر حليلته بما يخفى كالأحوال التي تقع بينهما عند الجماع والخلوة والكراهة فيما إذا ذكر ما لا يخفى مروءة
ومنه ذكر مجرد الجماع لغير فائدة ثم رأيت ذكر بعضهم ما يوافق ما ذكرته في الترجمة
الكبيرة الخامسة والستون بعد المائة إتيان الزوجة أو السرية في دبرها
أخرج الترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا ينظر الله عز وجل إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في دبرها
____________________
(2/581)
والطبراني في الأوسط بسند رجاله ثقات من أتى النساء في أعجازهن فقد كفر
وابن ماجه والبيهقي لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأة في دبرها
وأحمد وأبو داود ملعون من أتى امرأة في دبرها
وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه بسند فيه مجهول وانقطاع من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فصدقه كفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم
وكذا أبو داود إلا أنه قال فقد برئ مما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم
وأحمد والبزار ورجالهما رجال الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هي اللوطية الصغرى يعني الرجل يأتي امرأته في دبرها
وأبو يعلى بإسناد استحيوا فإن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن
وابن ماجه واللفظ له والنسائي بأسانيد أحدها صحيح عن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله لا يستحيي من الحق ثلاث مرات لا تأتوا النساء في أدبارهن
والطبراني في الأوسط بسند رجاله ثقات عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن محاش النساء
____________________
(2/582)
والدارقطني استحيوا من الله فإن الله لا يستحيي من الحق لا يحل مأتاك النساء في حشوشهن
والطبراني لعن الله الذين يأتون النساء في محاشهن وهي بميم مفتوحة فمهملة ثم معجمة مشددة جمع محشة بفتح أوله وكسره وهي الدبر
وأحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان في صحيحه لا تأتوا النساء في أستاههن فإن الله لا يستحيي من الحق
تنبيه عدا هذا هو ما صرح به غير واحد وهو ظاهر لما علمت من هذه الأحاديث الصحيحة أنه كفر وأن الله لا ينظر لفاعله وأنه اللواطية الصغرى وهذا من أقبح الوعيد وأشده
فقول الجلال البلقيني في عد ذلك كبيرة فيه نظر وقد صرح شيخ الإسلام العلائي بأن ذلك ينبغي أن يلحق باللواط لأنه ثبت في الحديث لعن فاعله
الكبيرة السادسة والستون بعد المائتين أن يجامع حليلته بحضرة امرأة أجنبية أو رجل أجنبي وعد هذا كبيرة واضح لدلالته على قلة اكتراث مرتكبه بالدين ورقة الديانة ولأنه يؤدي ظنا بل قطعا إلى إفساده بالأجنبية أو إفساد الأجنبي بحليلته ومن عد نحو النظر كبيرة كما مر بما فيه فالأولى أن يعد هذا لأنه أقبح وأعظم مفسدة
____________________
(2/583)
@ 584 باب الصداق الكبيرة السابعة والستون بعد المائتين أن يتزوج امرأة وفي عزمه ألا يوفيها صداقها لو طلبته
أخرج الطبراني بسند رواته ثقات أنه صلى الله عليه وسلم قال أيما رجل تزوج امرأة على ما قل من المهر أو كثر وليس في نفسه أن يؤدي إليها حقها خدعها فمات ولم يؤد إليها حقها لقي الله يوم القيامة وهو زان وأيما رجل استدان دينا وهو لا يريد أن يؤدي إلى صاحبه حقه خدعه حتى أخذ ماله لقي الله وهو سارق
والبيهقي من أصدق امرأة صداقا والله يعلم أنه لا يريد أداءه إليها فغرها بالله واستحل فرجها بالباطل لقي الله يوم القيامة وهو زان
وفي رواية أخرى له أيضا إن أعظم الذنوب عند الله عز وجل رجل تزوج امرأة فلما قضى حاجته منها طلقها وذهب بمهرها ورجل استعمل رجلا فذهب بأجرته وآخر يقتل دابة عبثا
والطبراني بسند فيه متروك أيما رجل تزوج امرأة ينوي أن لا يعطيها من صداقها شيئا مات يوم يموت وهو زان
تنبيه عد هذا هو صريح الحديث الأول الصحيح وما بعده وبه جزم بعضهم لكنه عبر بقوله أن يتزوج امرأة وليس في نفسه أن يوفيها الصداق وعدلت عنه في الترجمة إلى ما عبرت به لما هو واضح أن من ليس في نفسه أداء ولا منع لا حرمة عليه فضلا عن كون ذلك كبيرة الذي أفهمته هذه العبارة لكن قائلها اغتر بظاهر الحديث الأول ولم ينظر إلى آخره ولا إلى الرواية التي بعده وهي والله يعلم أنه لا يريد أداءه إليها ولو نظر لذلك لعبر بما عبرت به ووجه كون ذلك كبيرة تضمنه لثلاث كبائر الغدر
____________________
(2/584)
والظلم واستيفاء منافع الحر بعوض ثم منعه منه وإنما قيدت في الترجمة بقولي لو طلبته لاحترز به عما لو كان في عزمه أنه لا يؤديه إليها لغلبة المسامحة في الإبراء من المهر وعدم المطالبة به لأنه لم يقض ذلك إثمه فضلا عن فسقه
باب الوليمة الكبيرة الثامنة والستون بعد المائتين تصوير ذي روح على أي شيء كان من معظم أو ممتهن بأرض أو غيرها ولو صورة لا نظير لها كفرس لها أجنحة قال تعالى إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا قال عكرمة هم الذين يصنعون الصور
وأخرج الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم
ورويا عن عائشة قالت قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر وقد سترت سهوة لي بفتح المهملة قيل الطاق في الحائط يوضع فيه الشيء وقيل الصفة وقيل المخدع بين البيتين وقيل بيت صغير كالخزانة الصغيرة بقرام أي ستر وقافه مكسورة فيه تماثيل
فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم تلون وجهه وقال يا عائشة أشد الناس عذابا عند الله تعالى يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله تعالى قالت فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين
وفي رواية لهما دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت قرام فيه صور فتلون وجهه ثم تناول الستر فهتكه وقال من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يصورون هذه الصورة
وفي أخرى لهما أيضا أنها اشترت نمرقة أي مخدة وهو بضم أوله وثالثه وكسرهما وبضم ثم بفتح فيها تصاوير فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل فعرفت في وجهه الكراهة فقلت يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسوله ماذا أذنبت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بال هذه النمرقة فقلت اشتريتها لك لتقعد عليها
____________________
(2/585)
وتتوسدها فقال صلى الله عليه وسلم إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة فيقال لهم أحيوا ما خلقتم
وقال إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة
ورويا أيضا أن ابن عباس رضي الله عنهما جاءه رجل فقال إني رجل أصور هذه الصورة فأفتني فيها
فقال له ادن مني فدنا منه ثم قال أدن مني فدنا منه حتى وضع يده على رأسه
وقال أنبئك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفسا تعذبه في جهنم
قال ابن عباس فإن كنت لا بد فاعلا فاصنع الشجر وما لا نفس له
وفي رواية للبخاري أنه قال له إنما معيشتي من صنعة يدي وإني أصنع هذه التصاوير
فقال ابن عباس لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يقول من صور صورة فإن الله تعالى يعذبه حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ فيها أبدا فربا الرجل ربوة شديدة أي انتفخ غيظا أو كبرا فقال ويحك إن أبيت إلا أن تصنع فعليك بهذه الشجرة وكل شيء ليس فيه روح
ورويا أيضا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون
وروي أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله تعالى ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة
والترمذي وقال حسن صحيح غريب يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان يبصر بهما وأذنان تسمعان ولسان ينطق ويقول إني وكلت بثلاثة بمن جعل مع الله إلها آخر وبكل جبار عنيد وبالمصورين
ومسلم عن عمران بن حصين قال قال لي علي رضي الله عنه ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته
____________________
(2/586)
وأحمد بسند جيد عن علي كرم الله وجهه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فقال أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنا إلا كسره ولا قبرا إلا سواه ولا صورة إلا لطخها
فقال رجل أنا يا رسول الله قال فهاب أهل المدينة قال فانطلق ثم رجع فقال يا رسول الله لم أدع بها وثنا إلا كسرته ولا قبرا إلا سويته ولا صورة إلا لطختها ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من عاد إلى صنعة شيء من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم
والشيخان وغيرهما لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة
وفي رواية لمسلم بدل ولا صورة ولا تماثيل
ورويا واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل أن يأتيه فراث عليه أي بمثلثة غير مهموز أبطأ حتى اشتد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فلقيه جبريل عليه السلام فشكا إليه فقال إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة
وأبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه كلهم من رواية من نظر فيه البخاري لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا جنب ولا كلب
وأبو داود والترمذي وقال حسن صحيح والنسائي وابن حبان في صحيحيهما أتاني جبريل عليه السلام فقال لي أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل وكان في البيت كلب فمر برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة شجرة ومر بالستر فيقطع فيجعل وسادتين منبوذتين توطآن ومر بالكلب فيخرج
ولفظ الترمذي أتاني جبريل فقال إني كنت أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون
____________________
(2/587)
دخلت عليك البيت الذي كنت فيه إلا أنه كان في باب البيت تمثال لرجل وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل وكان في البيت كلب فمر برأس التمثال الذي في الباب فليقطع فيصير كهيئة الشجرة ومر بالستر فليقطع ويجعل منه وسادتان منبوذتان توطآن ومر بالكلب فيخرج ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان ذلك الكلب جروا للحسن أو للحسين بجنب نضد له أي بنون مفتوحة فمعجمة سرير فأمر به فأخرج
وأحمد بسند صحيح ورواه جماعة آخرون بألفاظ متقاربة عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه الكآبة فسألته فقال لم يأتني جبريل منذ ثلاث فإذا جرو كلب بين يديه فأمر به فقتل فبدا له جبريل عليه السلام فهش إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مالك لم تأتني فقال إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا تصاوير
ومسلم عن عائشة رضي الله عنهما قالت واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في ساعة أن يأتيه فجاءت تلك الساعة ولم يأته قالت وكان بيده عصا فطرحها وهو يقول ما يخلف الله وعده ولا رسله ثم التفت فإذا جرو كلب تحت سرير فقال متى دخل هذا الكلب فقلت والله ما دريت فأمر به فأخرج فجاءه جبريل عليه السلام فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدتني فجلست لك ولم تأتني
فقال منعني الكلب الذي كان في بيتك إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة
تنبيه عد ما ذكر كبيرة هو صريح هذه الأحاديث الصحيحة ومن ثم جزم به جماعة وهو ظاهر وجرى عليه في شرح مسلم وتعميمي في الترجمة الحرمة بل والكبيرة لتلك الأقسام التي أشرت إليها ظاهر أيضا فإن الملحظ في الكل واحد ولا ينافيه قول الفقهاء ويجوز ما على الأرض والبساط ونحوهما من كل ممتهن لأن المراد بذلك أنه يجوز بقاؤه ولا يجب إتلافه وإذا كان في محل وليمة لا يمنع وجوب الحضور فيه
وأما فعل التصوير لذي الروح فهو حرام مطلقا وإن أغفل من الصورة أعضاؤها الباطنة أو بعض الظاهرة مما توجد الحياة مع فقده ثم رأيت في شرح مسلم ما يصرح بما ذكرته حيث قال ما حاصله تصوير صورة الحيوان حرام من الكبائر للوعيد الشديد سواء صنعه لما يمتهن أو لغيره إذ فيه مضاهاة لخلق الله وسواء كان ببساط أو ثوب أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو مخدة أو نحوها
وأما تصوير صور الشجر ونحوها مما ليس بحيوان فليس بحرام
وأما المصور صورة الحيوان فإن كان معلقا على حائط أو ملبوسا كثوب أو
____________________
(2/588)
عمامة أو نحوها مما لا يعد ممتهنا فحرام أو ممتهنا كبساط يداس ومخدة ووسادة ونحوها فلا يحرم لكن هل يمنع دخول ملائكة الرحمة ذلك البيت الأظهر أنه عام في كل صورة لإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة ولا فرق بين ما له ظل وما لا ظل له هذا تلخيص مذهب جمهور علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم كالشافعي ومالك والثوري وأبي حنيفة وغيرهم وأجمعوا على وجوب تغيير ما له ظل
قال القاضي إلا ما ورد في لعب البنات الصغار من الرخصة ولكن كره مالك شراء الرجل ذلك لبنته وادعى بعضهم أن إباحة اللعب لهن بها منسوخ بما مر
فائدة قال الخطابي وغيره قوله صلى الله عليه وسلم لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة ولا جنب
المراد بالملائكة فيه ملائكة البركة والرحمة دون الحفظة فإنهم لا يمتنعون لأجل ذلك
قيل وليس المراد بالجنب من يؤخر الغسل إلى حضور الصلاة فيغتسل بل من يتهاون بالغسل ويتخذ ذلك عادة فإنه كان صلى الله عليه وسلم يطوف على نسائه بغسل واحد ففيه تأخير الاغتسال عن أول وقت وجوبه بل قالت عائشة رضي الله عنها كان صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب ولا يمس ماء والمراد بالصورة كل مصور من ذوات الأرواح سواء كانت أشخاصا منتصبة أو كانت منقوشة وفي سقف أو جدار أو منسوجة في ثوب أو غير ذلك والمراد بالكلب الذي لا تدخل الملائكة لأجله وينقص بسبب اقتنائه من عمل المقتني له كل يوم قيراطان كما في الأحاديث الصحيحة غير كلب الصيد والحراسة كذا قيل وهو قاصر فإن ذلك مصرح به في نفس تلك الأحاديث
أخرج الشيخان من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان
وفي رواية لهما من عمله
وفي أخرى لهما كل يوم قيراط إلا كلب حرس أو ماشية
ورواية القيراطين فيها زيادة علم فهي مقدمة
وفي أخرى لمسلم من اقتنى كلبا ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض فإنه ينقص من أجره قيراطان كل يوم
والترمذي وحسنه لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها كل أسود بهيم وما من أهل بيت يرتبطون كلبا إلا نقص من عملهم كل يوم قيراط إلا كلب صيد أو كلب حرس أو كلب غنم
____________________
(2/589)
الكبيرة التاسعة والستون والسبعون والحادية والثانية والسبعون بعد المائتين التطفل وهو الدخول على طعام الغير ليأكل منه من غير إذنه ولا رضاه وأكل الضيف زائدا على الشبع من غير أن يعلم رضا المضيف بذلك وإكثار الإنسان الأكل من مال نفسه بحيث يعلم أنه يضره ضررا بينا والتوسع في المآكل والمشارب شرها وبطرا
أخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل لمسلم أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه
قال ذلك لشدة ما حرم الله من مال المسلم على المسلم
والشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت
وأبو داود من دعي فلم يجب فقد عصى الله ورسوله
ومن دخل على غير دعوة دخل سارقا وخرج مغيرا
والشيخان وغيرهما المسلم يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء
ومسلم أضاف صلى الله عليه وسلم ضيفا كافرا فأمر صلى الله عليه وسلم له بشاة فحلبت فشرب حلابها ثم أخرى فشرب حلابها ثم أخرى فشرب حلابها حتى شرب حلاب سبع شياه ثم إنه أصبح فأسلم فأمر له صلى الله عليه وسلم بشاة فحلبت فشرب حلابها ثم أخرى فلم يستتمه
فقال صلى الله عليه وسلم إن المؤمن ليشرب في معى واحد وإن الكافر ليشرب في سبعة أمعاء
والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن حبان في صحيحه ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان لا محالة سقط فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه
____________________
(2/590)
وفي رواية ابن ماجه فإن غلبت الآدمي نفسه فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه
والبزار بإسنادين رواة أحدهما ثقات فإن أكثر الناس شبعا في الدنيا أكثرهم جوعا يوم القيامة قاله لأبي جحيفة لما تجشأ فما أكل أبو جحيفة ملء بطنه حتى فارق الدنيا كان إذا تغدى لا يتعشى وإذا تعشى لا يتغدى
والطبراني بسند حسن إن أهل الشبع في الدنيا هم أهل الجوع غدا في الآخرة
زاد البيهقي الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر
وابن أبي الدنيا والطبراني بإسناد جيد والحاكم والبيهقي أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا عظيم البطن فقال بأصبعه لو كان هذا في غير هذا لكان خيرا لك
والبيهقي واللفظ له والشيخان باختصار ليؤتين يوم القيامة بالعظيم الطويل الأكول الشروب فلا يزن عند الله جناح بعوضة اقرءوا إن شئتم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا
وابن أبي الدنيا أنه صلى الله عليه وسلم أصابه جوع يوما فعمد إلى حجر فوضعه على بطنه ثم قال ألا رب نفس طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة ألا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين ألا رب مهين لنفسه وهو لها مكرم
وصح خبر من الإسراف أن تأكل كل ما اشتهيت
____________________
(2/591)
والبيهقي بسند فيه ابن لهيعة عن عائشة رضي الله عنها رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أكلت في اليوم مرتين
فقال يا عائشة أما تحبين أن يكون لك شغل إلا جوفك الأكل في اليوم مرتين من الإسراف والله لا يحب المسرفين
وصح خبر كلوا واشربوا وتصدقوا ما لم يخالطه إسراف ولا مخيلة
والبزار بإسناد صحيح إلا مختلف فيه جمع وجماعة أجلاء يوثقونه إن شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم ونبتت عليه أجسامهم
وابن أبي الدنيا والطبراني في الكبير والأوسط سيكون رجال من أمتي يأكلون ألوان الطعام ويشربون ألوان الشراب ويلبسون ألوان الثياب ويتشدقون في الكلام فأولئك شرار أمتي
وصح بسند فيه مختلف فيه يا ضحاك ما طعامك قال يا رسول الله اللحم واللبن
قال ثم يصير إلى ماذا قال إلى ما علمت قال فإن الله تعالى ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدنيا
____________________
(2/592)
تنبيه عد الثلاثة الأول من الكبائر ظاهر أما الأولان فلأنهما من أكل أموال الناس بالباطل وخبر أبو داود السابق صريح في الأول للتعبير فيه بقوله دخل سارقا وخرج مغيرا ولم يضعفه أبو داود فهو صالح للاحتجاج به عنده لكن قال غيره إن فيه مجهولا ومختلفا في توثيقه والجمهور على تضعيفه وأما الثالث فلأنه من إضرار النفس وهو كبيرة كإضرار الغير وكذا عد الرابعة قياسا على ما مر في اللباس بما فيه من أن تطويل الإزار للخيلاء كبيرة بجامع أن كلا منهما ينبئ عن العجب والزهو والكبر وعلى هذا الشبع المضر أو من مال الغير يحمل ما في هذه الأحاديث من الوعيد ويؤيد ذلك قول الحليمي في قوله تعالى أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون الآية
هذا الوعيد من الله تعالى وإن كان للكفار الذين يقدمون على الطيبات المحظورة ولذلك قال تعالى فاليوم تجزون عذاب الهون فقد يخشى مثله على المنهمكين في الطيبات المباحة لأن من تعودها مالت نفسه إلى الدنيا فلم يأمن أن يرتكب في الشهوات والملاذ كلما أجاب نفسه إلى واحد منها دعته إلى غيره فيصير إلى أن لا يمكنه عصيان نفسه في هوى قط وينسد باب العبادة دونه فإذا آل الأمر إلى هذا لم يبعد أن يقال له أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون فلا ينبغي أن تعود النفس بما تميل به إلى الشره فيصعب تداركها ولترض من أول الأمر على السداد فإن ذلك أهون من أن تدب على الفساد ثم يجتهد في إعادتها إلى الصلاح والله أعلم
انتهى ثم رأيت في كلام الأذرعي والزركشي ما يؤيد ما ذكرته في التطفل وذلك أنه لما حكى قول الشافعي رضي الله عنه في الأم من يغشى الدعوة بغير دعاء من غير ضرورة ولا يستحل صاحب الطعام فتتابع ذلك منه ردت شهادته لأنه يأكل محرما إذا كانت الدعوة دعوة رجل بعينه فأما إذا كان طعام سلطان أو رجل يتشبه بسلطان فيدعو الناس فهذا طعام عامة ولا بأس به
انتهى بلفظه
قال وفي الروضة عن الشامل إنما اشترط تكرار ذلك منه لأنه قد يكون له شبهة حتى يمنعه صاحب الطعام فإذا تكرر صار دناءة وقلة مروءة انتهى
ثم قال ما نقله عن ابن الصباغ من أن الشافعي إنما اشترط التكرار في حضور الدعوة لأنه يصير دناءة وقلة مروءة بخلاف ما يقتضيه كلام الشافعي فإنه علل الرد بأنه يأكل محرما
وهذا يقتضي أن العلة في الرد من جهة إصراره على الصغيرة فإنها تصير في حكم الكبيرة لا من جهة ترك المروءة فإنها لا تقتضي التحريم ولا شك أنه مشتمل على الأمرين وهذا في الأكل المجرد أما لو انضم إلى ذلك انتهاب الطعام النفيس والحلو أو حمله كما يفعله السفلة ويشق ذلك على الحاضرين
____________________
(2/593)
ويغضون عنه حياء فهو خرق للمروءة وإلقاء لجلباب الحياء فيكفي في رد الشهادة به المرة الواحدة ولا يعتبر التكرار
انتهى
والظاهر أنه أخذ ذلك من قول شيخه الأذرعي في قوته بعد إيراده كلام ابن الصباغ وأشار غيره إلى أنه صغيرة فإذا تكرر صار في حكم الكبيرة
وقد تقدم اعتبار ربع دينار في جعل الغصب كبيرة والأكل مرة أو مرتين لا يبلغه غالبا لكنه ترك مروءة
نعم ما يفعله بعض السفلة من المتطفلين إذا حضر الدعوة الخاصة ينتهب منها شيئا كثيرا من الأطعمة النفيسة والحلوى ويحمله ويشق ذلك مشقة شديدة على صاحب الدعوة وإنما يسكت حياء من الناس ومروءة فهو خرق للمروءة ونزع لجلباب الحياء فيكفي في رد الشهادة المرة الواحدة
وفي الموقف للجيلي ولا تقبل شهادة الطفيلي الذي يأتي طعام الناس من غير دعوة وبه قال الشافعي رضي الله عنه ولا نعلم فيه مخالفا لما روي مرفوعا من أتى طعاما لم يدع إليه دخل سارقا وخرج مغيرا ولأنه يأكل محرما ويفعل ما فيه سفه ودناءة وذهاب مروءة فإن لم يتكرر منه لم ترد شهادته لأنه من الصغائر انتهى
قال الأذرعي وهذا في الأكل المجرد دون النهب كما بيناه انتهى
خاتمة روى الشيخان عن أبي هريرة موقوفا عليه شر الطعام طعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويترك المساكين ومن لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله
ورواه مسلم مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ شر الطعام طعام الوليمة يمنعها من يأتيها ويدعى إليها من يأباها ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله
والشيخان إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها
وفي رواية لمسلم إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرسا كان أو نحوه
وفي أخرى له إذا دعيتم إلى كراع أي وهو محل بقرب خليص فأجيبوا
وفي أخرى له إذ دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن شاء طعم وإن شاء ترك
____________________
(2/594)
وأبو داود نهى صلى الله عليه وسلم عن طعام المتبارين أي المتباهين أن يؤكل وأكثر الرواة على إرساله
والحاصل عندنا أن الإجابة لوليمة العرس واجبة بشروطها المقررة في محلها ولسائر الولائم غيرها مستحبة
وأخرج مسلم أنه صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع والصفحة وقال إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة
ومسلم إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها فليمط ما كان بها من أذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه البركة
ومسلم إن الشيطان ليحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه فإذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان فإذا فرغ فليلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه البركة وفي رواية لابن حبان فإن آخر الطعام البركة
ومسلم والترمذي إذا أكل أحدكم فليلعق أصابعه فإنه لا يدري في أيتهن البركة
والشيخان وأبو داود وابن ماجه إذا أكل أحدكم طعاما فلا يمسح أصابعه حتى يلعقها أو يلعقها
ومسلم والنسائي وأبو داود عن حذيفة كنا إذا حضرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما لم يضع أحدنا يده حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنا حضرنا معه طعاما فجاء أعرابي كأنما يدفع فذهب ليضع يده في الطعام فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثم جاءت جارية كأنها تدفع فذهبت لتضع يدها في الطعام فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها وقال إن الشيطان ليستحل الطعام الذي لم يذكر اسم الله عليه وإنه جاء بهذا الأعرابي يستحل به فأخذت بيده وجاء بهذه الجارية يستحل بها فأخذت بيدها فوالذي نفسي بيده إن يده لفي يدي مع أيديهما
____________________
(2/595)
وصح أن رجلا أكل والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليه فلم يسم حتى كان في آخر طعامه فقال بسم الله أوله وآخره فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما زال الشيطان يأكل معه حتى سمى فما بقي في بطنه شيء إلا قاءه
وروى الطبراني من سره أن لا يجد الشيطان عنده طعاما ولا مقيلا ولا مبيتا فليسلم إذا دخل بيته وليسم على طعامه
وأبو داود وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن غريب عن معاذ بن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أكل طعاما ثم قال الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه
وأبو داود والترمذي وضعفه عن سلمان قال قرأت في التوراة إن بركة الطعام الوضوء بعده فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته بما قرأت في التوراة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بركة الطعام الوضوء قبله أي غسل اليدين وابن ماجه والبيهقي من أحب أن يكثر الله خير بيته فليتوضأ إذا حضر غداؤه وإذا رفع وكرهه سفيان ومالك قبله
قال البيهقي وكذا صاحبنا الشافعي استحب تركه لخبر مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم أتي بالطعام فقيل له ألا تتوضأ فقال لم أصل فأتوضأ
وفي رواية لأبي داود والترمذي إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن حبان في صحيحه من نام وفي يده غمر أي بفتح المعجمة والميم بعدها راء ريح
____________________
(2/596)
اللحم وزهومته لم يغسله فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه واختلف في سنده
والحاصل أنه حديث بل روي شطره الثاني من طريق صحيح ومن طريق حسن إلا أن فيه فأصابه وضح أي برص فلا يلومن إلا نفسه وصح البركة تنزل وسط الطعام فكلوا من حافته ولا تأكلوا من وسطه
وصح أيضا إذا أكل أحدكم طعاما فلا يأكل من أعلى الصحفة ولكن ليأكل من أسفلها
وصح أيضا نعم الإدام الخل
وصحح الحاكم كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة
وفي رواية فإنه طيب مبارك وانهشوا اللحم نهشا فإنه أهنأ وأمرأ
وصح أنه صلى الله عليه وسلم احتز من كتف شاة فأكل ثم صلى
وأما خبر أبي داود وغيره عن أبي معشر لا تقطعوا اللحم بالسكين فإنه من صنيع الأعاجم وانهشوه نهشا فإنه أهنأ وأمرأ فأبو معشر وإن لم يترك لكن هذا الحديث مما أنكر عليه
وروى أبو يعلى والطبراني وأبو الشيخ إن أحب الطعام إلى الله ما كثرت عليه الأيدي
وأبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه قالوا يا رسول الله إنا نأكل ولا
____________________
(2/597)
نشبع قال تجتمعون على طعامكم أو تتفرقون قالوا نتفرق قال اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه
وصح ليأكل أحدكم بيمينه وليشرب بيمينه وليأخذ بيمينه وليعط بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ويعطي بشماله ويأخذ بشماله
وصح أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الشراب
فقال رجل القذاة أراها في الإناء فقال أهرقها قال فإني لا أروى من نفس واحد قال فأبن القدح إذا عن فيك
وروى أبو داود وابن حبان في صحيحه نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من ثلمة القدح وأن ينفخ في الشراب
والترمذي وحسنه نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتنفس في الإناء أو ينفخ فيه
وصح نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشرب الرجل من في السقاء وأن يتنفس في الإناء
وصح كان صلى الله عليه وسلم يتنفس ثلاثا
وفي رواية كان يتنفس في الإناء ثلاثا ويقول هو أمرأ وأروى
ومعناه أنه كان يبين القدح عن فيه ثم يتنفس للرواية السابقة فأبن القدح إذا عن فيك
وصح نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية يعني أن تكسر أفواهها فيشرب منها
____________________
(2/598)
وصح عن أبي هريرة رضي الله عنه نهى صلى الله عليه وسلم أن يشرب من في السقاء فأنبئت أن رجلا شرب من في السقاء فخرجت عليه حية
باب عشرة النساء الكبيرة الثالثة والسبعون بعد المائتين ترجيح إحدى الزوجات على الأخرى ظلما وعدوانا
أخرج الترمذي وتكلم فيه والحاكم وصححه على شرطهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من كانت عنده امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط
وأبو داود من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل
والنسائي من كانت له امرأتان يميل إلى إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل
وفي رواية لابن ماجه وابن حبان في صحيحيهما وأحد شقيه ساقط والمراد بقوله فمال وقوله يميل الميل بظاهره بأن يرجح إحداهما في الأمور الظاهرة التي حرم الشارع الترجيح فيها لا الميل القلبي لخبر أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها كان صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل ويقول اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يعني القلب
وقال الترمذي روي مرسلا وهو أصح
وروى مسلم وغيره إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا
____________________
(2/599)
تنبيه عد هذا هو قضية هذا الوعيد الذي في هذه الأحاديث وهو ظاهر وإن لم يذكروه لما فيه من الإيذاء العظيم الذي لا يحتمل
الكبيرة الرابعة والخامسة والسبعون بعد المائتين منع الزوج حقا من حقوق زوجته الواجبة لها عليه كالمهر والنفقة ومنعها حقا له عليها كذلك كالتمتع من غير عذر شرعي
قال تعالى ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ذكره تعالى عقب قوله وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا لأنه لما بين أن المقصود من المراجعة إصلاح حالها لا إيصال الضرر إليها بين تعالى أن لكل واحد من الزوجين حقا على الآخر
قال ابن عباس رضي الله عنهما إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي لهذه الآية
وقال بعضهم يجب عليه أن يقوم بحقها ومصالحها ويجب عليها الانقياد والطاعة له وقيل لهن على الزوج إرادة الإصلاح عند المراجعة وعليهن ترك الكتمان فيما خلق الله في أرحامهن
والأولى إبقاء الآية على العموم وإن كان صدرها يؤيد هذا القول ثم درجة الرجل عليها لكونه أكمل منها فضلا وعقلا ودية وميراثا وغنيمة وكونه يصلح للإمامة والقضاء والشهادة وكونه يتزوج عليها ويتسرى ويقدر على طلاقها ورجعتها وإن أبت ولا عكس وأيضا فهو أخص بأنواع من الرحمة والإصلاح كالتزام المهر والنفقة والذب عنها والقيام بمصالحها ومنعها من مواقع الآفات فكان قيامها بخدمته آكد لهذه الحقوق الزائدة كما قال تعالى الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم
ومن ثم قال المفسرون في تفسير هذه الآية تفضيل الرجال عليهن من وجوه كثيرة حقيقية وشرعية فمن الأول أن عقولهم وعلومهم أكثر وقلوبهم على الأعمال الشاقة أصبر وكذلك القوة والكتابة غالبا والفروسية والرمي وفيهم العلماء والإمامة الكبرى والصغرى والجهاد والأذان والخطبة والجمعة والاعتكاف والشهادة في الحدود والقصاص والأنكحة ونحوها وزيادة الميراث والتعصيب وتحمل الدية وولاية النكاح والطلاق والرجعة وعدد الأزواج وإليهم الانتساب ومن الثاني عطية المهر والنفقة ونحوهما وفي الحديث لو كنت آمرا أحدا أن
____________________
(2/600)
يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن لما جعل الله لهم عليهن من الحق فحينئذ المرأة كالأسير العاجز في يد الرجل ولهذا أمر صلى الله عليه وسلم بالوصية بهن خيرا فقال واستوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عوان عندكم
أي أسيرات
وقال اتقوا الله في الضعيفين المملوك والمرأة
وقال تعالى وعاشروهن بالمعروف قال الزجاج هو النصفة في النفقة والبيت والإجمال في القول وقيل هو أن يتصنع لها كما تتصنع له
ونقل القرطبي عن علمائهم أنهم استدلوا بهذا على أن المرأة إذا لم يكفها إلا أكثر من خادم وجب ثم غلط الشافعي أبا حنيفة رضي الله تعالى عنهما في قولهما لا يجب لها إلا خادم واحد إذ ما من امرأة في العالم إلا ويكفيها خادم واحد بأن بنات الملوك اللاتي لهن شأن كبير لا يكفي الواحدة منهن خادم واحد لطبخها وغسل ثيابها ويرد بأن تغليظ الأئمة بمجرد هذا الخيال هو عين الخبال لأن الكلام إنما هو فيما يجب على الزوج من حيث الزوجية
ومعلوم أن الواجب عليه من تلك الحيثية إنما هو ما تحتاجه المرأة في ذاتها وما يتعلق بها ولا شك أن هذا يكفي لتحصيله خادم واحد
وأما احتياجها للزيادة على ذلك فإن كان لأمور تتعلق بها خارجة عن الزوجية فكفايتها عليها أو تتعلق به كذلك فكفايتها عليه لا من حيث الزوجية فظهر صحة ما قاله الإمامان واتضح تغليط من غلطهما وعلى كل حال فالتأدب مع الأئمة هو الخير كله
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك أحاديث أخرج الطبراني في الصغير والأوسط بسند رواته ثقات أنه صلى الله عليه وسلم قال أيما رجل تزوج امرأة على ما قل من المهر أو كثر ليس في نفسه أن يؤدي إليها حقها خدعها فمات ولم يؤد إليها حقها لقي الله يوم القيامة وهو زان الحديث
والشيخان كلكم راع ومسئول عن رعيته الإمام راع ومسئول عن رعيته والمرأة
____________________
(2/601)
راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته وكلكم راع ومسئول عن رعيته
والترمذي وصححه
أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخياركم خياركم لنسائهم وصح أيضا إن من أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله
وصحح ابن حبان خيركم خيركم لأهله وفي رواية للنسائي وأنا خيركم لأهلي
وروى ابن حبان في صحيحه إن المرأة خلقت من ضلع أعوج فإن أقمتها كسرتها فدارها تعش بها
والشيخان وغيرهما استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج وإن أعوج ما في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء
ومسلم إن المرأة خلقت من ضلع أي بكسر وهو أفصح أو فتح فسكون لن تستقيم لك على طريقة فإن استمعت بها استمتعت بها وفيها عوج وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها
والعوج بكسر ففتح وقيل هذا في غير المنتصب كالدين والخلق والأرض وإلا كالعصا فهو بفتحهما
ومسلم لا يفرك أي بفتح فسكون ففتح وشذ الضم يبغض مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر أو كما قال غيره
وأبو داود وابن حبان في صحيحه يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه قال أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح أي لا تسمعها مكروها كقبحك الله ولا تهجر إلا في البيت
____________________
(2/602)
والترمذي وقال حسن صحيح غريب وابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه وذكر ووعظ ألا فاستوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ألا إن لكم على نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا فحقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون
ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن
وابن ماجه والترمذي وحسنه والحاكم وصححه أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة
وابن حبان في صحيحه إذا صلت المرأة خمسها وحصنت فرجها وأطاعت بعلها دخلت من أي أبواب الجنة شاءت
وأحمد بسند رواته رواة الصحيح إلا ابن لهيعة وحديثه حسن في المتابعات إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت
وصح أنه صلى الله عليه وسلم قال لمزوجة فأين أنت منه قالت ما آلوه أي ما أقصر في خدمته إلا ما عجزت عنه قال فكيف أنت له فإنه جنتك ونارك
والبزار بسند حسن عن عائشة قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أعظم حقا على المرأة قال زوجها قلت فأي الناس أعظم حقا على الرجل قال أمه
والبزار والطبراني أن امرأة قالت يا رسول الله أنا وافدة النساء إليك ثم ذكرت ما
____________________
(2/603)
للرجال في الجهاد من الأجر والغنيمة ثم قالت فما لنا من ذلك فقال صلى الله عليه وسلم أبلغي من لقيت من النساء أن طاعة الزوج واعترافا بحقه يعدل ذلك وقليل منكن من يفعله
والبزار بسند رواته ثقات مشهورون وابن حبان في صحيحه أتى رجل بابنته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن ابنتي هذه أبت أن تتزوج فقال لها صلى الله عليه وسلم أطيعي أباك فقالت والذي بعثك بالحق لا أتزوج حتى تخبرني ما حق الزوج على زوجته قال حق الزوج على زوجته لو كانت به قرحة فلحستها أو انتشر منخراه صديدا ودما ثم ابتلعته ما أدت حقه قالت والذي بعثك بالحق لا أتزوج أبدا فقال صلى الله عليه وسلم لا تنكحوهن إلا بإذنهن
والحاكم وصححه واعترض بأن فيه واهيا أن امرأة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم أنا فلانة بنت فلان قال قد عرفتك فما حاجتك قالت حاجتي إلى ابن عمي فلان العابد قال قد عرفته قال يخطبني فأخبرني ما حق الزوج على الزوجة فإن كان شيئا أطيقه تزوجته قال من حقه أن لو سال منخراه دما وقيحا فلحسته بلسانها ما أدت حقه
لو كان ينبغي لبشر أن يسجد لبشر لأمرت
____________________
(2/604)
المرأة أن تسجد لزوجها إذا دخل عليها لما فضله الله عليها قالت والذي بعثك بالحق لا أتزوج ما بقيت الدنيا
وأحمد بإسناد جيد ورواته ثقات مشهورون عن أنس رضي الله عنه قال كان أهل البيت من الأنصار لهم جمل يسنون عليه أي يسقون عليه الماء من البئر وأنه استصعب عليهم فمنعهم ظهره وأن الأنصار جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا إنه كان لنا جمل نسني عليه وإنه استصعب علينا ومنعنا ظهره وقد عطش الزرع والنخل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه قوموا فقاموا فدخلوا الحائط والجمل في ناحية فمشى النبي صلى الله عليه وسلم نحوه فقالت الأنصار يا رسول الله قد صار مثل الكلب ونخاف عليك صولته قال ليس علي منه بأس فلما نظر الجمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل نحوه حتى خر ساجدا بين يديه فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بناصيته أذل ما كانت قط حتى أدخله في العمل فقال له أصحابه يا رسول الله هذا بهيمة لا يعقل يسجد لك ونحن نعقل فنحن أحق أن نسجد لك قال لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تنبجس أي تتفجر بالقيح والصديد ثم استقبلته فلحسته ما أدت حقه
وأبو داود بسند صحيح لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن لما جعل الله لهم عليه من الحق
قاله لما قال قيس بن سعد رضي الله عنهما رأى أهل الحيرة يسجدون لمرزبان لهم فأنت أحق أن يسجد لك
وابن حبان في صحيحه عن ابن أبي أوفى رضي الله عنه قال لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم ما هذا قال يا رسول الله قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم فأردت أن أفعل ذلك بك قال فلا تفعل فإني لو أمرت شيئا أن يسجد لشيء لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها والذي نفسي بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها
والحاكم من حديث معاذ مرفوعا لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها ولا تجد امرأة حلاوة الإيمان حتى تؤدي حق زوجها ولو سألها نفسها وهي على ظهر قتب
والطبراني بسند صحيح إلا واحدا قال المنذري لم أقف فيه على جرح ولا تعديل ألا أخبركم بنسائكم في الجنة قلنا بلى يا رسول الله قال كل ودود ولود إذا غضبت أو أسيء إليها أو غضب زوجها قالت هذه يدي في يدك لا أكتحل بغمض حتى ترضى
والحاكم وصححه لا يحل لامرأة تؤمن بالله أن تأذن في بيت زوجها وهو كاره ولا تخرج وهو كاره ولا تطيع فيه أحدا ولا تعتزل فراشه ولا تضر به فإن كان هو أظلم
____________________
(2/605)
فلتأته حتى ترضيه فإن قبل منها فبها ونعمت وقبل الله عذرها وأفلج حجتها أي بالجيم أظهرها وقواها ولا إثم عليها وإن هو لم يرض فقد أبلغت عند الله عذرها
والطبراني إن حق الزوج على زوجته إن سألها نفسها وهي على ظهر قتب أن لا تمنعه نفسها ومن حق الزوج على الزوجة أن لا تصوم تطوعا إلا بإذنه فإن فعلت جاعت وعطشت ولا تقبل منها ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه فإن فعلت لعنتها ملائكة السماء وملائكة الأرض وملائكة الرحمة وملائكة العذاب حتى ترجع
والطبراني بسند جيد المرأة لا تؤدي حق الله عليها حتى تؤدي حق زوجها كله لو سألها وهي على ظهر قتب لم تمنعه نفسها
وصح لا ينظر الله تبارك وتعالى إلى امرأة لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه
والترمذي وحسنه لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين لا تؤذيه قاتلك الله فإنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا
وصح إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتأته وإن كانت على التنور
____________________
(2/606)
والشيخان إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح
ورويا والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء أي أمره وسلطانه ساخطا عليها حتى يرضى عنها أي زوجها
ورويا إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح
ومر في حديث صحيح ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رءوسهم شبرا وعد منهم امرأة باتت وزوجها عليها ساخط
وفي حديث صحيح ثلاثة لا تقبل لهم صلاة ولا يصعد لهم إلى السماء حسنة وعد منهم المرأة الساخط عليها زوجها حتى يرضى
وفي حديث سنده صحيح إلا أن فيه واحدا مختلفا فيه إن المرأة إذا خرجت من بيتها وزوجها كاره لعنها كل ملك في السماء وكل شيء مرت عليه غير الجن والإنس حتى ترجع
تنبيه عد هذين هو صريح ما في أول الأحاديث إذ فيه لقي الله يوم القيامة وهو زان وهذا غاية الوعيد وأشده وآخرها إذ فيها لعنتها من الله وملائكته وجميع خلقه غير الثقلين وهذا غاية في شدة الوعيد أيضا فاتضح بذلك كون هذين كبيرتين وإن لم يصرحوا بذلك على الوجه الذي ذكرته في الترجمة
____________________
(2/607)
الكبيرة السادسة والسابعة والثامنة والسبعون بعد المائتين التهاجر بأن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاثة أيام لغير غرض شرعي والتدابر وهو الإعراض عن المسلم بأن يلقاه فيعرض عنه بوجهه والتشاحن وهو تغير القلوب المؤدي إلى أحد ذينك
أخرج أحمد بسند صحيح وأبو يعلى والطبراني لا يحل لمسلم أن يهجر مسلما فوق ثلاث ليال فإنهما ناكبان عن الحق أي مائلان عنه ما داما على صرامهما وأولهما فيئا أي رجوعا إلى الصلح يكون سبقه بالفيء كفارة له وإن سلم عليه فلم يقبل ولم يرد عليه سلامه ردت عليه الملائكة ويرد على الآخر الشيطان فإن ماتا على صرامهما لم يدخلا الجنة جميعا أبدا
وفي رواية صحيحة لم يدخلا الجنة ولم يجتمعا في الجنة
وابن أبي شيبة لا يحل أن يصطرما فوق ثلاث فإن اصطرما فوق ثلاث لم يجتمعا في الجنة أبدا وأيهما بدأ صاحبه كفرت ذنوبه فإن هو سلم فلم يرد عليه ولم يقبل سلامه رد عليه الملائكة ورد على ذلك الشيطان
والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تحل الهجرة فوق ثلاثة أيام فإن التقيا فسلم أحدهما فرد الآخر اشتركا في الأجر وإن لم يرد برئ هذا من الإثم وباء به الآخر وأحسبه قال وإن ماتا وهما متهاجران لا يجتمعان في الجنة
والطبراني لا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا هجر المؤمنين ثلاث فإن تكلما وإلا أعرض الله عز وجل عنهما حتى يتكلما
____________________
(2/608)
والطبراني بسند صحيح من هجر أخاه فوق ثلاث فهو في النار إلا أن يتداركه الله برحمته
وأبو داود والبيهقي من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه
ومسلم إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم أي الإغراء وتغيير القلوب والتقاطع
والطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفا بسند جيد لا يتهاجر الرجلان قد دخلا في الإسلام إلا خرج أحدهما منه حتى يرجع إلى ما خرج منه ورجوعه أن يأتيه فيسلم عليه
والبزار بسند صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال لو أن رجلين دخلا في الإسلام فاهتجرا لكان أحدهما خارجا عن الإسلام حتى يرجع يعني الظالم منهما
والبخاري وغيره لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث
زاد الطبراني يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا والذي يبدأ بالسلام يسبق إلى الجنة
قال مالك ولا أحسب التدابر إلا الإعراض عن المسلم يدبر عنه بوجهه
والشيخان لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام
وأخذ منه العلماء أن السلام يرفع إثم الهجر
____________________
(2/609)
وأبو داود والنسائي بإسناد على شرط الشيخين لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار
وأبو داود لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمنا فوق ثلاث فإن مرت به ثلاث فليلقه فليسلم عليه فإن رد عليه السلام فقد اشتركا في الأجر وإن لم يرد فقد باء بالإثم وخرج المسلم من الهجر
ومسلم وغيره تعرض الأعمال في كل اثنين وخميس فيغفر الله عز وجل في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول اتركوا هذين حتى يصطلحا
وفي رواية لمسلم تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس فيغفر الله لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كان بينه وبين أخيه شحناء فيقال أنظروا هذين حتى يصطلحا أنظروا هذين حتى يصطلحا أنظروا هذين حتى يصطلحا
والطبراني تنسخ دواوين أهل الأرض في دواوين أهل السماء في كل اثنين وخميس فيغفر لكل مسلم لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا بينه وبين أخيه شحناء
والطبراني في الأوسط بسند رواته ثقات تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس فمن مستغفر فيغفر له ومن تائب فيتاب عليه ويرد أهل الضغائن لضغائنهم أي أحقادهم حتى يتوبوا
والطبراني وابن حبان في صحيحه والبيهقي يطلع الله إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن
والبزار والبيهقي بنحوه بإسناد لا بأس به
____________________
(2/610)
والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع عنه ثوبيه ثم لم يستتم أن قام فلبسهما فأخذتني غيرة شديدة ظننت أنه يأتي بعض صويحباتي فخرجت أتبعه فأدركته بالبقيع الغرقد يستغفر للمؤمنين والمؤمنات والشهداء فقلت بأبي أنت وأمي أنت في حاجة ربك وأنا في حاجة الدنيا فانصرف فدخلت حجرتي ولي نفس عال ولحقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما هذا النفس يا عائشة فقلت بأبي أنت وأمي أتيتني فوضعت عنك ثوبيك ثم لم تستتم أن قمت فلبستهما فأخذتني غيرة شديدة ظننت أنك تأتي بعض صويحباتي حتى رأيتك بالبقيع تصنع ما تصنع فقال يا عائشة إن كنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله أتاني جبريل عليه السلام فقال هذه ليلة النصف من شعبان ولله فيها عتقاء من النار بعدد شعور غنم كلب لا ينظر الله فيها إلى مشرك ولا إلى مشاحن ولا إلى قاطع رحم ولا إلى مسبل أي إزاره ولا إلى عاق لوالديه ولا إلى مدمن خمر قالت ثم وضع عنه ثوبيه فقال لي يا عائشة أتأذنين لي في قيام هذه الليلة قلت نعم بأبي أنت وأمي فقام فسجد طويلا حتى ظننت أنه قد قبض فقمت ألتمسه ووضعت يدي على باطن قدميه فتحرك ففرحت وسمعته يقول في سجوده أعوذ بعفوك من عقابك وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك جل وجهك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك فلما أصبح ذكرتهن له قال يا عائشة تعلميهن وعلميهن فإن جبريل عليه السلام علمنيهن وأمرني أن أرددهن في السجود
وأحمد بإسناد لين يطلع الله عز وجل إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا اثنين مشاحن وقاتل نفس
والبيهقي وقال مرسل جيد في ليلة النصف من شعبان يغفر الله عز وجل لأهل الأرض إلا لمشرك أو مشاحن
والطبراني والبيهقي عن مكحول عن أبي ثعلبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يطلع الله إلى عباده ليلة النصف من شعبان فيغفر للمؤمنين ويمهل الكافرين ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه
____________________
(2/611)
والطبراني في الكبير والأوسط من رواية ليث بن أبي سليم
واختلف في توثيقه ومع ذلك حدث عنه الناس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث من لم يكن فيه واحدة منهن فإن الله يغفر له ما سوى ذلك لمن يشاء من مات لا يشرك بالله شيئا ولم يكن ساحرا يتبع السحرة ولم يحقد على أخيه
والبيهقي وقال مرسل جيد عن عائشة رضي الله عنها قالت قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فصلى فأطال السجود حتى ظننت أنه قد قبض فلما رأيت ذلك قمت حتى حركت إبهامه فتحرك فرجعت فلما رفع رأسه من السجود وفرغ من صلاته قال يا عائشة أو يا حميراء ظننت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خاس أي بمعجمة ثم مهملة أي غدر بك فلم يوفك حقك قلت لا والله يا رسول الله ولكني ظننت أنك قد قبضت لطول سجودك فقال أتدرين أي ليلة هذه قلت الله ورسوله أعلم قال هذه ليلة النصف من شعبان إن الله عز وجل يطلع على عباده في ليلة النصف من شعبان فيغفر للمستغفرين ويرحم المسترحمين ويؤخر أهل الحقد كما هم
وابن ماجه ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رءوسهم شبرا رجل أم قوما وهم له كارهون وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط وأخوان متصارمان
وابن حبان في صحيحه ثلاثة لا تقبل لهم صلاة وذكر نحوه ومر في مبحث الحسد أول الكتاب حديث الأنصاري الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة فبات عنده عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لينظر عمله فلم ير له كبير عمل فقال له ما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه فقال عبد الله هذه التي بلغت بك وهي التي لا تطيق
تنبيه عد هذه الثلاثة هو صريح ما في هذه الأحاديث الصحيحة من الوعيد الشديد ألا ترى إلى قوله في أول الأحاديث وما بعده لم يدخلا الجنة جميعا أبدا وقوله فهو في النار وقوله كسفك دمه
وقوله خارجا من الإسلام حتى يرجع
وقوله فمات دخل النار وغير ذلك مما مر وأما قول صاحب العدة إن
____________________
(2/612)
هجر المسلم فوق ثلاث صغيرة فهو بعيد جدا وإن سكت عليه الشيخان ثم رأيت بعضهم جزم بأن الهجرة المذكورة كبيرة ولم يلتفت إلى مقالة صاحب العدة والزركشي وقال ما ذكره من كون هجر المسلم فوق ثلاثة أيام من الصغائر فيه نظر والأشبه أنه كبيرة لما فيه من التقاطع والإيذاء والفساد إلا أن يقال مجيء ذلك من الإصرار عليها
ا ه
وقوله إلا إلخ فيه نظر ولئن سلمناه فهو لا ينافي ما قلناه إذ غاية الأمر أن معنى كون ذلك كبيرة هل هو ما فيه مما ذكر أو الإصرار عليه في مدة الثلاثة أيام والوجه الأول
إذ الثلاثة قيد لأصل الحرمة لأن بمضيها يتحقق الإفساد والتقاطع بخلافه قبلها فلا إصرار هنا
ويستثنى من تحريم الهجر كما أشرت إليه في الترجمة مسائل ذكرها الأئمة وحاصلها أنه متى عاد إلى صلاح دين الهاجر والمهجور جاز وإلا فلا
الكبيرة التاسعة والسبعون بعد المائتين خروج المرأة من بيتها متعطرة متزينة ولو بإذن الزوج
أخرج أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال كل عين زانية والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا يعني زانية
والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية وكل عين زانية
ورواه الحاكم وصححه
وصح على كلام فيه لا يضر أن امرأة مرت بأبي هريرة رضي الله عنه وريحها يعصف فقال لها أين تريدين يا أمة الجبار قالت إلى المسجد قال وتطيبت له قالت نعم
قال فارجعي فاغتسلي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يقبل الله من امرأة خرجت إلى المسجد لصلاة وريحها يعصف حتى ترجع فتغتسل
واحتج به ابن خزيمة إن صح
وقد علمت أنه صح على إيجاب الغسل عليها ونفي قبول صلاتها إن صلت قبل أن تغتسل وليس المراد خصوص الغسل بل إذهاب رائحتها
____________________
(2/613)
وابن ماجه بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد دخلت امرأة من مزينة ترفل في زينة لها في المسجد فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أيها الناس انهوا نساءكم عن لبس الزينة والتبختر في المسجد فإن بني إسرائيل لم يلعنوا حتى لبس نساؤهم الزينة وتبخترن في المسجد
تنبيه عد هذا هو صريح هذه الأحاديث وينبغي حمله ليوافق قواعدنا على ما إذا تحققت الفتنة أما مع مجرد خشيتها فهو مكروه أو مع ظنها فهو حرام غير كبيرة كما هو ظاهر
الكبيرة الثمانون بعد المائتين نشوز المرأة بنحو خروجها من منزلها بغير إذن زوجها ورضاه لغير ضرورة شرعية كاستفتاء لم يكفها إياه أو خشية كأن خشيت فجرة أو نحو انهدام منزلها
قال الله تعالى الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا لما تكلم النساء في تفضيل الرجال عليهن في الميراث وغيره وأجبن بقوله تعالى ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض إلخ
بين الله تعالى في هذه الآية أنه إنما فضلهم عليهن في ذلك لأنهم قوامون عليهن فالجميع وإن اشتركوا في التمتع لكن الله تعالى أمر الرجال بالقيام على النساء بإصلاحهن وتأديبهن ودفع النفقة والمهر إليهن
إذ القوام الأبلغ من القيم هو القائم بأتم المصالح والتدبير والتأديب والاهتمام بالحفظ والتوقي من الآفات نزلت في سعد بن الربيع أحد نقباء الأنصار نشزت زوجته فلطمها فجاء بها أبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال افترشته كريمتي فلطمها وإن أثر اللطمة بوجهها فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم اقتصي منه ثم قال لها اصبري حتى انتظر فنزلت هذه الآية فقال صلى الله عليه وسلم أردنا أمرا وأراد الله تعالى أمرا والذي أراد الله خير فعلم أن في الآية دليلا على أن الرجل يؤدب زوجته
____________________
(2/614)
وأنه لا ينبغي أن يسيء عشرتها كما أفهم ذلك قوله تعالى قوامون
وفي قوله تعالى وبما أنفقوا من أموالهم دليل على انتفاء قواميته بانتفاء إنفاقه لإعساره وإذا انتفت قواميته عليها فلها فسخ العقد عند الشافعي وغيره إلا أبا حنيفة رضي الله عنهم لزوال المقصود الذي شرع له النكاح وقوله تعالى فنظرة إلى ميسرة عام مخصوص بذلك وغيره ولفظ القنوت يفيد الطاعة لله تعالى وللأزواج بطواعيتهم في حضورهم وحفظهم عند غيبتهم في مالهم ومنزلهم وأبضاعهن عن الزنا لئلا يلتحق به العار أو ولد غيره
قال صلى الله عليه وسلم ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرا له من زوجة صالحة إن أمرها أطاعته وإن نظر إليها سرته وإن أقسم عليها أبرته وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله وتلا هذه الآية
ثم لما ذكر الله تعالى الصالحات وبينهن بذكر وصفي القنوت والحفظ الشاملين لكل كمال يتعلق بالدين والدنيا بالنسبة إليها وإلى الزوج ذكر وصف غير الصالحات بقوله واللاتي تخافون نشوزهن والخوف حالة تحصل في القلب عند حدوث أمر مكروه في المستقبل
قال الشافعي رضي الله عنه دلالة تكون بالقول كأن كانت تلبيه إذا دعاها وتخضع له بالقول إذا خاطبها ثم تغيرت وبالفعل كأن كانت تقوم له إذا دخل إليها وتسارع إلى أمره وتبادر إلى فراشه باستبشار إذا لمسها ثم تغيرت فهذه مقدمات توجب خوف النشوز فأما حقيقة النشوز فهي معصية ومخالفة من نشز إذا ارتفع فكأنها به ترفعت عليه
وقال عطاء هو أن لا تتعطر له وتمنعه نفسها وتتغير عما كانت تفعله من الطواعية والوعظ التخويف بالعواقب كأن يقول لها اتقي الله في حقي الواجب عليك واخش سطوة انتقامه وله أن يهجرها في المضجع بأن يوليها ظهره في الفراش ولا يكلمها قاله ابن عباس أو يعتزل عنها في فراش آخر كما قاله غيره والكل صحيح والثاني أبلغ في الزجر وذلك لأنها إن أحبته شق عليها هجره فترجع عن النشوز أو كرهته فقد وافق غرضها فيتحقق نشوزها حينئذ
وقيل اهجروهن من الهجر بضم الهاء وهو القبيح من القول أي أغلظوا عليهن في القول وضاجروهن للجماع وغيره وقيل المراد به شدوهن وثاقا في بيوتهن من هجر البعير أي ربطه بالهجار وهو حبل يشد به البعير وهذا القول في غاية البعد والشذوذ وإن اختاره ابن جرير الطبري ومن ثم قال أبو بكر بن العربي
____________________
(2/615)
لها من هفوة عالم بالكتاب والسنة لكن الحامل له على هذا التأويل حديث غريب رواه ابن وهب عن مالك عن أسماء بنت أبي بكر الصديق امرأة الزبير بن العوام رضي الله عنهم
قال القرطبي وهذا الهجر غايته عند العلماء شهر كما فعله صلى الله عليه وسلم حين أسر إلى حفصة حديثا أي تحريم مارية أمته النازل فيها يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك فأفشته إلى عائشة رضي الله عنها
ا ه
وكأنه أراد علماء مذهبه
أما علماؤنا فعنده ما أنه لا غاية له لأنه لحاجة صلاحها فمتى لم تصلح تهجر وإن بلغ سنين ومتى صلحت فلا هجر كما قال تعالى فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا و في إما ظرف على بابه متعلق باهجروهن أي اتركوا مضاجعتهن أي النوم معهن أو للسببية أي اهجروهن من أجل تخلفهن عن المضاجعة معكم قيل وهذا متعين لأن في المضاجع ليس ظرفا للهجر وإنما هو سبب له
ا ه
وليس كذلك بل الظرفية هنا صحيحة والهجر واقع فيها وقيل هو متعلق بنشوزهن وليس بصحيح أيضا معنى لإيهامه قصر النشوز على العصيان في المضجع وليس كذلك كما مر ولا صناعة لأن فيه الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي وقيل يقدر محذوف بعد نشوزهن أي واللاتي تخافون نشوزهن ونشزن وإنما يفر لذلك من لا يجوز الإقدام على الوعظ والهجر بمجرد الخوف ومذهبنا خلافه على أنه قيل إن الخوف هنا بمعنى اليقين ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما وقيل غلبة الظن كافية في ذلك واضربوهن أي ضربا غير مبرح ولا شائن
قال ابن عباس رضي الله عنهما مثل اللكزة وقال عطاء ضرب بالسواك
وفي الحديث النهي عن ضرب الوجه ولا تضرب إلا في البيت
قال الشافعي يكون دون الأربعين لأنها أقل حدود الحر
وقال غيره دون العشرين لأنه حد كامل في حق القن ويفرقها على بدنها ولا يواليه في موضع لئلا يعظم ضرره ويتقي الوجه والمقاتل
قال بعض العلماء يكون بمنديل ملوي أو بيده لا بسوط ولا بعصا وكأن قائل ذلك أخذه مما مر عن عطاء
وبالجملة فالتخفيف يراعى في هذا الباب ومن ثم قال الشافعي رضي الله عنه ترك الضرب بالكلية أفضل
____________________
(2/616)
واختلفوا في هذه الثلاثة هل هي على الترتيب أم لا قال علي كرم الله وجهه يعظها بلسانه فإن أبت هجرها في المضجع فإن أبت ضربها فإن لم تتعظ بالضرب بعث الحكم
وقال آخرون هذا الترتيب مراعى عند خوف النشوز أما عند تحققه فلا بأس الجمع بين الكل ومعنى لا تبغوا أي لا تطلبوا عليهن سبيلا أي لا تكلفوهن محبتكم فإن القلب ليس بأيديهن قال ابن عيينة والأولى تفسيره بأعم من ذلك أي لا تطلبوا منهن ما لا يلزمهن شرعا بل اتركوهن إلى خيرتهن فإنهن جبلن طبعا على التبرع بكثير من الحقوق والخدمة التي لا تلزمهن وختم الآية بذينك الاسمين في تمام المناسبة لأن معناهما أنه تعالى مع علوه وكبريائه لم يكلف عباده ما لا يطيقونه إذ لا يؤاخذ العاصي إذا تاب فأنتم أولى أن لا تكلفوهن ما لا يطقن وأن تقبلوا توبتهن عن نشوزهن
وقيل إنهن إن ضعفن عن دفع ظلمكم فالله علي كبير قادر ينتصف لهن منكم
ومر آنفا في الأحاديث الصحيحة الوعيد الشديد على بعض صور النشوز ويقاس به باقيها فمن ذلك حديث الصحيحين إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح
وفي رواية لهما وللنسائي إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح
وفي رواية للبخاري ومسلم ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى إلا كان الذي في السماء أي أمره وسلطانه ساخطا عليها حتى يرضى عنها زوجها
ومرت الأحاديث في أن التي يسخط عليها زوجها لا تقبل صلاتها حتى يرضى عنها
وجاء عن الحسن أنه قال حدثني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول أول ما تسأل المرأة يوم القيامة عن صلاتها وعن بعلها
ومر في خبر للبخاري أنه لا يحل لها أن تصوم وزوجها حاضر إلا بإذنه ولا تأذن في بيته إلا بإذنه
ومحله في صوم تطوع أو فرض موسع فلا تصومه وهو حاضر بالبلدة وإن كان لها ضرة وهو عند ضرتها يومها كما شمله كلامهم لاحتمال أن تأذن له في المجيء إلى عندها للتمتع بها حتى يأذن لها أو تعلم رضاه لأنه قد يريد التمتع بها فيمتنع منه لأجل صومها ولا نظر إلى أنه يجوز له وطؤها وإفساده لأن الغالب أن الإنسان يهاب إفساد العبادة
ومر من الأحاديث المذكورة في وجوب طاعته أنه صلى الله عليه وسلم لو أمر أحدا بالسجود لأحد لأمر المرأة أن تسجد
____________________
(2/617)
لزوجها لعظم حقه عليها
وذكرت امرأة زوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أين أنت منه فإنه جنتك ونارك أخرجه النسائي
ومر خبر إن الله لا ينظر إلى امرأة لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه
وجاء في الحديث عن ابن عباس أن امرأة من خثعم أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله أخبرني ما حق الزوج على الزوجة فإني امرأة أيم فإن استطعت وإلا جلست أيما قال فإن حق الزوج على زوجته إن سألها نفسها وهي على ظهر قتب أن لا تمنعه نفسها ومن حق الزوج على الزوجة أن لا تصوم تطوعا إلا بإذنه فإن فعلت جاعت وعطشت ولا يقبل منها ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه فإن فعلت لعنتها ملائكة السماء وملائكة الأرض وملائكة الرحمة وملائكة العذاب حتى ترجع فعلم أنه يجب وجوبا متأكدا على المرأة أن تتحرى رضا زوجها وتجتنب سخطه ما أمكن
ومن ذلك أنها لا تمنعه من تمتع مباح بخلاف غير المباح كوطء حائض أو نفساء قبل الغسل ولو بعد انقطاع الدم عند الإمام الشافعي رحمه الله
وينبغي لها أن تعرف أنها كالمملوك للزوج فلا تتصرف في شيء من ماله إلا بإذنه بلى قال جماعة من العلماء إنها لا تتصرف أيضا في مالها إلا بإذنه كالمحجورة له ويلزمها أن تقدم حقوقه على حقوق أقاربها بل وعلى حقوق نفسها في بعض الصور وأن تكون مستعدة لتمتعه بها بما تقدر عليه من أسباب النظافة ولا تفتخر عليه بجمالها ولا تعيبه بقبيح فيه
قال الأصمعي دخلت البادية فإذا امرأة حسناء لها بعل قبيح فقلت لها كيف ترضين لنفسك أن تكوني تحت هذا قالت اسمع يا هذا لعله أحسن فيما بينه وبين خالقه فجعلني ثوابه ولعلي أسأت فجعله عقوبتي
وقالت عائشة رضي الله عنها يا معشر النساء لو تعلمن بحق أزواجكن عليكن لجعلت المرأة منكن تمسح الغبار عن قدمي زوجها بحر وجهها
وفي حديث ألا أخبركم بنسائكم في الجنة قلنا بلى يا رسول الله قال كل ودود ولود إذا أغضبت أو أسيء إليها أو غضب زوجها قالت هذه يدي في يدك لا أكتحل بغمض حتى ترضى
قال بعض العلماء ويجب على المرأة دوام الحياء من زوجها وغض طرفها قدامه
____________________
(2/618)
والطاعة لأمره والسكوت عند كلامه والقيام عند قدومه وعند خروجه وعرض نفسها عليه عند النوم وترك الخيانة له عند غيبته في فراشه أو ماله وطيب الرائحة له وتعاهد الفم بالسواك والطيب ودوام الزينة بحضرته وتركها في غيبته وإكرام أهله وأقاربه وترى القليل منه كثيرا
ا ه
قال وينبغي للمرأة الخائفة من الله تعالى أن تجتهد في طاعة الله وطاعة زوجها وتطلب رضاه جهدها فهو جنتها ونارها لقوله صلى الله عليه وسلم أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة
وفي الحديث أيضا إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت
قال وروي عنه صلى الله عليه وسلم في أنه قال يستغفر للمرأة المطيعة لزوجها الطير في الهواء والحيتان في الماء والملائكة في السماء والشمس والقمر ما دامت في رضا زوجها وأيما امرأة عصت زوجها فعليها لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وأيما امرأة كلحت في وجه زوجها فهي في سخط الله إلى أن تضاحكه وتسترضيه وأيما امرأة خرجت من دارها بغير إذن زوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع
وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا أنه قال أربعة من النساء في الجنة وأربعة في النار وذكر من الأربعة اللواتي في الجنة امرأة عفيفة طائعة لله ولزوجها ولودا صابرة قانعة باليسير مع زوجها ذات حياء إن غاب عنها زوجها حفظت نفسها وماله وإن حضر أمسكت لسانها عنه وامرأة مات عنها زوجها ولها أولاد صغار فحبست نفسها على أولادها وربتهم وأحسنت إليهم ولم تتزوج خشية أن يضيعوا
وأما الأربعة اللواتي في النار فامرأة بذيئة اللسان على زوجها إن غاب عنها لم تصن نفسها وإن حضر آذته بلسانها وامرأة تكلف زوجها ما لا يطيق وامرأة لا تستر نفسها من الرجال وتخرج من بيتها متبهرجة وامرأة ليس لها هم إلا الأكل والشرب والنوم وليس لها رغبة في صلاة ولا في طاعة الله ولا طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا في طاعة زوجها
فالمرأة إذا كانت بهذه الصفة كانت ملعونة من أهل النار إلا أن تتوب ولذلك قال صلى الله عليه وسلم اطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء وذلك بسبب قلة طاعتهن لله ولرسوله ولأزواجهن وكثرة تبهرجهن والتبهرج هو إذا أرادت الخروج من بيتها لبست أفخر ثيابها وتجملت وتحسنت وخرجت تفتن الناس بنفسها فإن سلمت في نفسها لم يسلم الناس منها
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم المرأة عورة فإذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان وأقرب ما تكون المرأة من الله تعالى إذا كانت في بيتها
وفي الحديث أيضا المرأة عورة
____________________
(2/619)
فاحبسوهن في البيوت فإن المرأة إذا خرجت للطريق قال لها أهلها أين تريدين قالت أعود مريضا أشيع جنازة فلا يزال بها الشيطان حتى تخرج ذراعها وما التمست المرأة وجه الله بمثل أن تقعد في بيتها وتعبد ربها وتطيع بعلها
وقال علي رضي الله عنه لزوجته فاطمة بنت سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها ما خير للمرأة قالت أن لا ترى الرجال ولا يروها
وكان علي رضي الله عنه يقول ألا تستحون ألا تغارون يترك أحدكم امرأته تخرج بين الرجال تنظر إليهم وينظرون إليها
وكانت عائشة وحفصة جالستين عند النبي صلى الله عليه وسلم فدخل ابن أم مكتوم الأعمى فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم بالاحتجاب منه فقالتا إنه أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا فقال صلى الله عليه وسلم أفعمياوان أنتما ألستما تبصران فكما يجب على الرجل أن يغض طرفه عن النساء كذلك يجب على المرأة أن تغض طرفها عن الرجال
وإذا اضطرت امرأة للخروج لزيارة والد أو حمام خرجت بإذن زوجها غير متبهرجة في ملحفة وثياب بذلة وتغض طرفها في مشيتها ولا تنظر يمينا ولا شمالا وإلا كانت عاصية
وماتت متبهرجة فرآها بعض أهلها في النوم وقد عرضت على الله في ثياب رقاق فهبت ريح فكشفتها فأعرض عنها وقال خذوا بها ذات الشمال إلى النار فإنها كانت من المتبهرجات في الدنيا
وقال علي كرم الله وجهه دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا وفاطمة رضي الله عنهما فوجدناه يبكي بكاء شديدا فقلت فداك أبي وأمي يا رسول الله ما الذي أبكاك قال يا علي ليلة أسري بي إلى السماء رأيت نساء من أمتي يعذبن بأنواع العذاب فبكيت لما رأيت من شدة عذابهن رأيت امرأة معلقة بشعرها يغلي دماغها ورأيت امرأة معلقة بلسانها والحميم يصب في حلقها ورأيت امرأة قد شد رجلاها إلى ثدييها ويداها إلى ناصيتها وقد سلط الله عليها الحيات والعقارب ورأيت امرأة معلقة بثدييها ورأيت امرأة رأسها برأس خنزير وبدنها بدن حمار وعليها ألف ألف لون من العذاب ورأيت امرأة على صورة الكلب والنار تدخل من فيها وتخرج من دبرها والملائكة يضربون رأسها بمقامع من نار فقامت فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها وقالت يا حبيبي وقرة عيني ما كان أعمال هؤلاء حتى وقع عليهن هذا العذاب فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا بنية أما المعلقة بشعرها فإنها كانت لا تغطي شعرها من الرجال وأما المعلقة بلسانها فإنها كانت
____________________
(2/620)
تؤذي زوجها وأما المعلقة بثدييها فإنها كانت تؤذي فراش زوجها وأما التي شد رجلاها إلى ثدييها ويداها إلى ناصيتها وقد سلط الله عليها الحيات والعقارب فإنها كانت لا تغتسل من الجنابة والحيض وتستهزئ بالصلاة وأما التي رأسها رأس خنزير وبدنها بدن حمار فإنها كانت نمامة كذابة وأما التي على صورة الكلب والنار تدخل من فيها وتخرج من دبرها فإنها كانت منانة حسادة
يا بنية الويل لامرأة تعصي زوجها
ا ه ما ذكره ذلك الإمام والعهدة عليه
وإذا أمرت الزوجة ببذل تمام الطاعة والاسترضاء لزوجها فهو مأمور أيضا بالإحسان إليها بإيصالها حقها نفقة ومؤنة وكسوة برضا وطيب نفس ولين قول وبالصبر على نحو سوء خلقها
ومر في الحديث الأمر بالوصية بهن وأنهن عوان أخذن بأمانة الله جمع عانية وهي الأسيرة شبه النبي صلى الله عليه وسلم المرأة في دخولها تحت حكم الرجل وقهره بالأسير
ومر في الحديث خيركم خيركم لأهله
وفي رواية ألطفكم بأهله
وكان صلى الله عليه وسلم شديد اللطف بالنساء قال ذلك الإمام بعد ذكره نحو ذلك
وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيما رجل صبر على سوء خلق امرأته أعطاه الله من الأجر من مثل ما أعطى أيوب عليه الصلاة والسلام على بلائه وأيما امرأة صبرت على سوء خلق زوجها أعطاها الله من الأجر ما أعطى آسية بنت مزاحم امرأة فرعون
وروي أن رجلا جاء إلى عمر رضي الله عنه ليشكو إليه خلق زوجته فوقف ببابه ينتظره فسمع امرأته تستطيل عليه بلسانها وهو ساكت لا يرد عليها فانصرف قائلا إذا كان هذا حال أمير المؤمنين فكيف حالي فخرج عمر فرآه موليا فناداه ما حاجتك فقال يا أمير المؤمنين جئت أشكو إليك خلق زوجتي واستطالتها علي فسمعت زوجتك كذلك فرجعت وقلت إذا كان هذا حال أمير المؤمنين مع زوجته فكيف حالي فقال له عمر يا أخي إني احتملتها لحقوق لها علي إنها طباخة لطعامي خبازة لخبزي غسالة لثيابي مرضعة لولدي وليس ذلك بواجب عليها ويسكن قلبي بها عن الحرام فأنا أحتملها لذلك فقال الرجل يا أمير المومنين وكذلك زوجتي قال فاحتملها يا أخي فإنما هي مدة يسيرة
وكان لبعض الصالحين أخ صالح يزوره كل سنة مرة فجاء مرة لزيارته فطرق بابه فقالت زوجته من فقال أخو زوجك في الله جاء لزيارته فقالت ذهب يحتطب لا رده الله وبالغت في شتمه وسبه فبينما هو كذلك وإذا بأخيه قد حمل الأسد حزمة
____________________
(2/621)
حطب وهو مقبل به فلما وصل سلم عليه ورحب به ثم أنزل الحطب عن ظهر الأسد وقال له اذهب بارك الله فيك ثم أدخل أخاه وهي تسبه فلا يجيبها فأطعمه ثم ودعه وانصرف على غاية التعجب من صبره عليها ثم جاء في العام الثاني فدق الباب فقالت امرأة من قال أخو زوجك جاء يزوره
قالت مرحبا وبالغت في الثناء عليهما وأمرته بانتظاره فجاء أخوه والحطب على ظهره فأدخله وأطعمه وهي تبالغ في الثناء عليهما فلما أراد مفارقته سأله عما رأى من تلك ومن هذه ومن حمل الأسد حطبه زمن تلك البذيئة اللسان القليلة الإحسان وحمله له على ظهره زمن هذه السهلة اللينة المثنية المؤمنة فما السبب قال يا أخي توفيت تلك الشرسة وكنت صابرا على شؤمها وتعبها فسخر الله تعالى لي الأسد الذي رأيته يحمل الحطب لصبري عليها ثم تزوجت هذه الصالحة وأنا في راحة معها فانقطع عني الأسد فاحتجت أن أحمل على ظهري لأجل راحتي مع هذه الصالحة
تنبيه عد النشوز كبيرة هو ما صرح به جمع ولم يرد الشيخان بقولهما امتناع المرأة من زوجها بلا سبب كبيرة خصوصة بل نبها به على سائر صور النشوز وقدمت ما يشمله لكن لما في هذا مما بسطته فيه أفردته بالذكر
ومر أن فيه وعيدا شديدا كلعن الملائكة لها إذا أبت من زوجها بلا عذر شرعي
قال الجلال البلقيني وكان شيخ الإسلام الوالد رحمه الله تعالى يحتج بحديث لعن الملائكة على جواز لعن العاصي المعين وبحثت معه في ذلك باحتمال أن يكون لعنهم لها ليس بالخصوص بل بالعموم بأن يقال لعن الله من باتت مهاجرة فراش زوجها
باب الطلاق الكبيرة الحادية والثمانون بعد المائتين سؤال المرأة زوجها الطلاق من غير بأس
أخرج أبو داود والترمذي وحسنه وابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة
____________________
(2/622)
والبيهقي في حديث قال وإن المختلعات هن المنافقات وما من امرأة تسأل زوجها الطلاق من غير بأس فتجد ريح الجنة أو قال رائحة الجنة
تنبيه عد هذا كبيرة هو صريح هذا الحديث الصحيح لما فيه من هذا الوعيد الشديد لكنه مشكل على قواعد مذهبنا المؤيدة بقوله تعالى فلا جناح عليهما فيما افتدت به والشرط قبله ليس للجواز بل لنفي كراهية الطلاق وبقوله صلى الله عليه وسلم خذ الحديقة وطلقها تطليقة وقد يجاب بحمل الحديث الدال على أن ذلك كبيرة على ما إذا ألجأته إلى الطلاق بأن تفعل معه ما يحمل عليه عرفا كأن ألحت عليه في طلبه مع علمها بتأذيه به تأذيا شديدا وليس لها عذر شرعي في طلبه
الكبيرة الثانية والثمانون والثالثة والثمانون بعد المائتين الدياثة والقيادة بين الرجال والنساء أو بينهم وبين المرد
عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والديوث والرجلة من النساء رواه الحاكم في مستدركه من طريقين إحداهما هذه والثانية عن ابن عمر وصحح الثانية قال والقلب إلى الأولى أميل وقال الذهبي إسناد الحديث صالح
وروى أحمد بسند فيه مجهول عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة حرم الله تعالى عليهم الجنة مدمن الخمر والعاق لوالديه والديوث الذي يقر الخبث في أهله
والنسائي عنه أيضا بسند متصل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه ومدمن الخمر والمنان عطاءه وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والديوث والرجلة من النساء
وأحمد واللفظ له والنسائي والبزار والحاكم وقال صحيح الإسناد ثلاثة قد حرم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة مدمن الخمر والعاق لوالديه والديوث الذي يقر في أهله الخبث
____________________
(2/623)
وأخرج أحمد ثلاثة لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال والديوث وثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه ومدمن الخمر والمنان بما أعطى
والطبراني بسند قال الحافظ المنذري لا أعلم فيه مجروحا وله شواهد كثيرة ثلاثة لا يدخلون الجنة أبدا الديوث والرجلة من النساء ومدمن الخمر قالوا يا رسول الله أما مدمن الخمر فقد عرفناه فما الديوث قال الذي لا يبالي من دخل على أهله قيل فما الرجلة من النساء قال التي تشبه بالرجال
تنبيه عد هذين هو ما جرى عليه الشيخان وغيرهما وقال العلماء الديوث الذي لا غيرة له على أهل بيته وفي الجواهر الدياثة هي الجمع بين الناس واستماع المكروه والباطل
قال الشافعي رضي الله عنه إذا كان شخص لا يعرف الغناء وإنما معه من يغني ثم يمضي به إلى الناس فهو فاسق وهذه دياثة
انتهى كلام الجواهر وحده للدياثة بما ذكر غير معروف وإنما المعروف ما مر عن العلماء الموافق للحديث الصحيح المذكور آنفا
وأما كلام الشافعي فهو محمول على أن هذه الحالة تلحق بالدياثة وفي لسان العرب والديوث القواد على أهله والذي لا يغار على أهله والتدثيث القيادة
وفي المحكم الديوث الذي يدخل الرجال على حرمه بحيث يراهم وقال ثعلب هو الذي يؤتى أهله وهو يعلم وأصل الحرف بالسريانية وعرب
انتهى
أي فعلى هذا هو سرياني معرب ثم على ما قاله صاحب لسان العرب ثانيا تشمل الدياثة القيادة وهي الجمع بين الرجال والنساء وأما ما قاله أولا فخص فيه الدياثة بالقيادة على الأهل والذي جرى عليه الرافعي وغيره المغايرة بينهما وتبعتهم في الترجمة
وعبارة أصل الروضة عن التتمة القواد من يحمل الرجال إلى أهله ويخلي بينهم وبين الأهل ثم قال ويشبه أن لا يخنس بالأهل بل هو الذي يجمع بين الرجال والنساء في الحرام ثم حكى عن التتمة أن الديوث من لا يمنع الناس الدخول على زوجته وعن إبراهيم العبادي أنه الذي يشتري جارية تغني للناس انتهت
وقضيتها أن يفرق بينهما فرق ما بين العام والخاص
وقال الزركشي الدياثة استحسان الرجل على أهله والقيادة استحسانه على أجنبية
انتهى
والحاصل أن الاسم إن شملهما لترادفهما فالأحاديث السابقة نص فيهما وإن لم يشملهما فالقيادة من خوارم المروءة لظهور قلة اكتراث متعاطيها بمروءته لأن حفظ
____________________
(2/624)
الأنساب مطلوب شرعا وفي الطباع البشرية ما يقتضيه ففاعل ذلك مخالف للشرع والطبع وفيها إعانة على الحرام
قال الجلال البلقيني بعد ذكره ذلك فهذه كبيرة بلا نزاع ومفسدتها عظيمة قال بعضهم ولا حاجة إلى التقييد بكونها بين الرجال والنساء بل هي بينهما وبين المرد أقبح
باب الرجعة الكبيرة الرابعة والثمانون بعد المائتين وطء الرجعية قبل ارتجاعها ممن يعتقد تحريمه
وعد هذا كبيرة إذا صدر من معتقد تحريمه غير بعيد وإن لم يجب فيه حد لأن عدم وجوبه لمعنى هو الشبهة وهي لكون الحدود مبنية على الدرء ما أمكن تسقط الحد ولا تقتضي خفة الحرمة ألا ترى أن وطء الأمة المشتركة كبيرة كما هو ظاهر ولا نظر لكون شبهة الملك الذي له فيها مسقطة للحد
فإن قلت جرى في وطء الرجعية خلاف في الحل فكيف يكون مع ذلك كبيرة
قلت ليس ذلك بغريب فإن النبيذ جرى فيما لا يسكر منه خلاف ومع ذلك هو كبيرة عندنا كما يأتي
باب الإيلاء الكبيرة الخامسة والثمانون بعد المائتين الإيلاء من الزوجة بأن يحلف ليمتنعن من وطئها أكثر من أربعة أشهر
وعدي لهذا كبيرة غير بعيد وإن لم أر من ذكره كالذي قبله لأن فيه مضارة عظيمة للزوجة لأن صبرها عن الرجل يفنى بعد الأربعة أشهر كما قالته حفصة أم المؤمنين لأبيها عمر رضي الله عنهما فأمر أن لا يغيب أحد عن زوجته ذلك ولعظيم هذه المضرة أباح الشارع للقاضي إذا لم يطأ الزوج بعد الأربعة أشهر أن يطلق عليه طلقة ولا ينافي ذلك قول أئمتنا لا يجب على الرجل وطء زوجته ولو مرة واحدة لأنهم اكتفوا في ذلك بداعية الطبع إذ المرأة ما دام لم يقع حلف هي تترجى الوطء فلا يحصل لها كبير ضرر بخلاف ما إذا أيست كما هنا وكما لو تحققت عنته فإن الشارع مكنها من الفسخ عليه بشرط ومكن القاضي هنا من الطلاق عليه بشرطه دفعا لذلك الضرر العظيم عنها فتأمل ذلك
____________________
(2/625)
@ 626 باب الظهار الكبيرة السادسة والثمانون بعد المائتين الظهار قال تعالى الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور
وحكمة منكم توبيخ العرب وتهجن عادتهم في الظهار لأنه كان من أيمان الجاهلية خاصة دون سائر الأمم ما هن أمهاتهم أي ما نساؤهم بأمهاتهم حتى يشبهونهن بهن إذ حقيقة الظهار أن يقول لزوجته أنت علي كظهر أمي أو نحوها
إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم أي ما أمهاتهم إلا والداتهم أو من في حكمهن كالمرضعة وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا أي شيء من القول منكرا وزورا أي بهتانا وكذبا إذ المنكر ما لا يعرف في الشرع
والزور الكذب وإن الله لعفو غفور إذ جعل الكفارة مخلصة لهم من هذا القول المنكر والزور
لا يقال المظاهر إنما شبه زوجته بنحو أمه فأي منكر وزور فيه لأنا نقول إن قصد به الإخبار فواضح أنه منكر وكذب أو الإنشاء فكذلك لأنه جعله سببا للتحريم والشرع لم يجعله كذلك وهذا غاية في قبح المخالفة وفحشها ومن ثم اتجه بذلك كون الظهار كبيرة لأن الله تعالى سماه زورا والزور كبيرة كما يأتي
ويوافق ذلك ما نقل عن ابن عباس من أن الظهار من الكبائر
باب اللعان الكبيرة السابعة والثامنة والثمانون بعد المائتين قذف المحصن أو المحصنة بزنا أو لواط والسكوت على ذلك
قال تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم
وقال تعالى إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين أجمع العلماء على أن المراد من الرمي في الآية الرمي بالزنا وهو يشمل الرمي باللواط كيا زانية أو بغية أو قحبة أو
____________________
(2/626)
لزوجها كيا زوج القحبة أو لولدها كيا ولد القحبة أو لبنتها كيا بنت الزنا فهذا كله قذف للأم أو لرجل يا زاني أو منكوح
قال بعضهم أو يقول له يا علق
انتهى
وكأنه أخذ ذلك من شهرة استعمال ذلك في القذف والشهرة توجب الصراحة على ما قاله جمع لكن المعتمد خلافه فالذي يتجه أن ذلك كناية
وقوله تعالى المحصنات أي الأنفس المحصنات فيعم الرجال والنساء أو التقدير والمحصنين للإجماع على استواء حكم النوعين في القذف والمراد بالإحصان هنا الحرية والإسلام والبلوغ والعقل والعفة عن وطء يحد به وعن وطء زوجة أو مملوكة في دبرها فمن فعل وطئا يحد به أو وطئ حليلته في دبرها لم يجب على راميه بالزنا حد القذف وإن تاب وصلح حاله لأن العرض إذا انخرم لا يلتئم خرقه أبدا نعم قذفه بالزنا أو نحوه كبيرة كما هو ظاهر يأتي في النسب
وعلم من قوله تعالى ثم لم يأتوا إلى آخره أن سبب الحد هنا إنما هو إظهار تكذيبه وافترائه فمن ثبت صدقه بأن أقام أربعة شهداء عدول
وقال أبو حنيفة يكفي هنا الفساق يشهدون بزنا المقذوف أو رجلين بإقراره أو ادعي أنه زان فوجهت إليه اليمين أنه لم يزن فردها على القاذف فحلف لا حد عليه وشرط الحرمة والحد أن يصدر القذف من بالغ عاقل ولا يتكرر الحد بتكرر القذف مرارا وإن اختلفت كزنيت بفلانة ثم قال زنيت بأخرى وهكذا نعم إن حد فقذفه بعد عزر وقيل يتعدد الحد بالتعدد مطلقا لأنه حق آدمي فلا يتداخل كالديون وإذا اختل شرط من شروط الإحصان السابقة وجب التعزير
وأما الكبيرة فهي باقية كما هو ظاهر نظير ما مر
ويشترط في شهود الزنا تعرضهم للزاني والمزني به إذ قد يرى على أمه ابنه فيظن أنه زنا وككون ذكره في فرجها ويندب
وقال جماعة يجب أن يقولوا رأينا ذكره يدخل في فرجها دخول الميل في المكحلة فلا يكفي قولهم زنى فقط بخلاف القاذف يحد بقوله لغيره زنيت ولا يستفسر ولو أقر على نفسه بالزنا فقيل يجب استفساره كالشهود وقيل لا يجب كما في القذف والأول هو الأصح عندنا وفارق القذف عملا بالاحتياط فيهما إذ هو في حد القذف عدم توقفه على استفسار مبالغة في الزجر عنه لكونه حق آدمي وفي الإقرار توقفه عليه مبالغة في ستر هذه الفاحشة التي هي حق الله تعالى ولا فرق عندنا بين شهادتهم مجتمعين أو متفرقين وكذا عند أكثر العلماء
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه إن تفرقوا لغت شهادتهم وحدوا حجة الأولين أن التفريق أبعد في التهمة وأبلغ في ظهور الصدق لانتفاء احتمال تلقف بعضهم من
____________________
(2/627)
بعض ومن ثم إذا ارتاب القاضي في شهود فرق بينهم وأيضا فالتفريق لا بد منه لأنهم وإن اجتمعوا عند القاضي أو نائبه تقدموا واحدا فواحدا لتعسر شهادتهم معا
وحجته أن من شهد أولا ثم ثانيا وهكذا يصدق على كل منهم أنه قذف ولم يأت بأربعة شهداء فيحد للآية ولا أثر لإتيانهم بلفظ الشهادة وإلا لاتخذ ذريعة إلى قذف المسلمين وأيضا فلأن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه شهد عليه بالزنا أربعة عند عمر رضي الله عنه أبو بكرة وشبل بن معبد ونافع ونفيع
لكن قال رابعهم رأيت استا ينبو ونفسا يعلو ورجلاها على عاتقيه كأذني حمار ولا أدري ما وراء ذلك فحد عمر الثلاثة ولم يسأل هل معهم شاهد رابع فلو قبل بعد ذلك شهادة غيرهم لتوقف أداء الحد عليه
وبما في هذه الواقعة يرد على من قال لا حد عليهم وإن لم يكمل النصاب لأنهم جاءوا مجيء الشهود ولأنهم لو حدوا لانسد باب الشهادة على الزنا لأن كل أحد لا يأمن أن لا يوافقه صاحبه فيلزمه الحد ويرد ما علل به بأن القصد ستر هذه الفاحشة ما أمكن ولذا تميزت عن سائر الأفعال والأقوال باشتراط أربعة يشهدون بها
وقوله تعالى فاجلدوهم المراد منه الإمام أو نائبه وكذا السيد في قنه
قال بعض المفسرين أو رجل صالح إذا فقد الإمام ومذهبنا لا يوافق ذلك
وقوله عز وجل ثمانين جلدة محله في كامل الحرية فغيره يجلد أربعين وفي غير الوالد وإن علا فلا يحد بقذف فرعه كما لا يقتل به بل يعزر وكذا السيد مع قنه
وأشد الحدود حد الزنا ثم القذف ثم الخمر وكأنهم لم يذكروا حد الكفر لأن الكلام في حدود المسلمين ولا حد على قاطع الطريق لأنه قود لا حد وإن وجب فيه التحتم الذي هو حق الله تعالى
ووجه أشدية الزنا أنه جناية على الأنساب التي هي شقائق النفوس ثم القذف أنه جناية على الأعراض العظيمة الرعاية عند ذوي المروآت مع تمحضها لحق الآدمي
وقوله تعالى وأولئك هم الفاسقون فيه أشد العقوبة وأبلغ الزجر وأكبر المقت للقاذفين
وقوله جل وعلا إلا الذين تابوا إلخ اختلفوا فيه
فقال أبو حنيفة رضي الله عنه وآخرون إنه خاص بالجملة الأخيرة وهي الحكم عليهم بالفسق فالقاذف فاسق إلا إن تاب وأما رد شهادته فهو معلق على حده فإن حد في القذف لم تقبل له بعد شهادة أبدا
وقال الشافعي وأكثر الصحابة والتابعين رضي الله عنهم الاستثناء راجع للجميع فمتى تاب القاذف توبة صحيحة زال فسقه وقبلت شهادته
فمعنى أبدا أي ما دام
____________________
(2/628)
قاذفا أي مصرا على قذفه وبالتوبة زال أثر القذف فزال ما ترتب عليه من رد الشهادة
وقول أبي حيان ليس ظاهر الآية يقتضي عود الاستثناء إلى الجمل الثلاثة بل الظاهر هو ما يعضده كلام العرب وهو الرجوع إلى الأخيرة ممنوع بإطلاقه بل قاعدة العرب المقررة عند الشافعي في باب الوقف وغيره أن الاستثناء والوصف ونحوهما من المتعلقات ترجع إلى جميع ما تقدمها بل وإلى جميع ما تأخر منها بل قال جمع من أئمتنا وغيرهم لو توسطت رجعت إلى الكل أيضا لأنها بالنسبة لما قبلها متأخرة ولما بعدها متقدمة فكان القياس في الآية عوده إلى الجمل الثلاثة
لكن منع من عوده إلى الأولى وهي فاجلدوهم مانع هو عدم سقوط حد القذف بالتوبة فبقي رجوع الاستثناء إلى الأخريين وهما رد الشهادة والفسق ومن ثم جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال في قصة المغيرة السابقة من أكذب نفسه قبلت شهادته فأكذب شبل ونافع أنفسهما فكان يقبل شهادتهما على أن الشعبي قال برجوعه إلى الأولى أيضا
فقال إذا تاب القاذف سقط الحد عنه
تنبيه من قذف آخر بين يدي حاكم لزمه أن يبعث إليه ويخبره به ليطالب به إن شاء كما لو ثبت عنده مال على آخر وهو لا يعلم يلزمه إعلامه به وليس للإمام ونائبه إذا رمي رجل بزنا أن يرسل يسأل عن ذلك
وقوله تعالى الغافلات أي عن الفاحشة بأن لا يقع مثلها منهن فهو كناية عن مزيد عفتهن وطهارتهن وهذه الآية عامة وإن نزلت في عائشة رضي الله تعالى عنها
قالت رميت وأنا غافلة وإنما بلغني بعد ذلك فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي إذ أوحي إليه فقال أبشري وقرأ هذه الآية وقيل هي خاصة بها وقيل بأمهات المؤمنين لأن توبة القاذف ذكرت في الآية الأولى دون هذه فلا توبة فيها لقوله تعالى لعنوا في الدنيا والآخرة وهذا إنما يكون لمنافق بل كافر لقوله تعالى ملعونين أينما ثقفوا وأيضا فشهادة الألسنة وغيرها تكون للمنافق والكافر لقوله تعالى ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون أي يجمعون حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم الآية
وأجاب الأولون القائلون بالعموم بأن هذا العقاب كله يمكن أن يكون لقاذف عائشة وغيرها من أمهات المؤمنين وغيرهن إلا أنه مشروط بعدم التوبة للعلم بذلك من القواعد المستقرة إذ الذنب كفرا كان أو فسقا يغفر بالتوبة
وقوله تعالى يوم تشهد عليهم ألسنتهم إلخ
هذا قبل أن يختم على أفواههم
____________________
(2/629)
المذكور في يس في قوله تعالى اليوم نختم على أفواههم يروى أنه يختم على الأفواه والأرجل فتتكلم الأيدي بما عملت في الدنيا
وقيل تشهد ألسنة بعضهم على بعض ومعنى دينهم الحق جزاؤهم الواجب وقيل حسابهم العدل ويعلمون أن الله هو الحق أي الموجود وجودا حقيقيا لا يقبل زوالا ولا انتقالا ولا ابتداء ولا انتهاء وعبادته هي الحق دون عبادة غيره المبين أي المبين والمظهر لهم ما كانوا عليه وما يترتب عليه ثوابا وعقابا وسيأتي في الكبيرة الآتية الأحاديث الشاملة لهذه الكبيرة أيضا
روى الشيخان من قذف مملوكه بالزنا يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال
والحاكم وقال صحيح الإسناد واعترض بأن فيه متروكا أيما عبد أو امرأة قال أو قالت لوليدتها يا زانية ولم تطلع منها على زنا جلدتها وليدتها يوم القيامة
لأنه لا حد لهن في الدنيا
والشيخان والترمذي وقال حسن صحيح واللفظ له من قذف مملوكه بالزنا يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال
قال بعضهم وما عمت به البلوى قول الإنسان لقنه يا مخنث أو يا قحبة وللصغير يا ابن القحبة يا ولد الزنا وكل ذلك من الكبائر الموجبة للعقوبة في الدنيا والآخرة وروى ابن مردويه في تفسيره بسند فيه ضعيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا فيه الفرائض والديات وبعث به عمرو بن حزم رضي الله تعالى عنه وكان في الكتاب وإن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة الإشراك بالله وقتل النفس المؤمنة بغير الحق والفرار في سبيل الله يوم الزحف وعقوق الوالدين ورمي المحصنة وتعلم السحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم
وجاء في أحاديث أخر عند الطبراني في الكبيرة وغيره من عدة طرق وأبي القاسم البغوي وعبد الرزاق فيها التصريح بأن قذف المحصنة من الكبائر
وروى الطبراني أن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم عدوا بحضرته صلى الله عليه وسلم قذف المحصنة من الكبائر وأقرهم على ذلك
وروى البزار بسند فيه من وثقه ابن حبان وغيره وإن ضعفه شعبة وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال
____________________
(2/630)
الكبائر أولهن الإشراك بالله وقتل النفس بغير حقها وأكل الربا وأكل مال اليتيم وفرار يوم الزحف ورمي المحصنات والانتقال إلى الأعراب بعد هجرته
وعن عبيد بن عمير الليثي عن أبيه أن رجلا قال يا رسول الله وكم الكبائر قال تسع أعظمهن الإشراك بالله وقتل المؤمن بغير حق والفرار من الزحف وقذف المحصنة والسحر وأكل مال اليتيم وأكل الربا الحديث
وروى البخاري ومسلم في عدة أماكن من صحيحهما وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اجتنبوا السبع الموبقات قيل يا رسول الله وما هن قال الإشراك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات
وروى ابن حبان في صحيحه إن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة الإشراك بالله وقتل النفس المؤمنة بغير الحق والفرار في سبيل الله يوم الزحف وعقوق الوالدين ورمي المحصنة وتعلم السحر الحديث
تنبيه عد القذف هو ما اتفقوا عليه لما علمت من النص في الآيتين الكريمتين المتقدمتين على ذلك صريحا في الأولى للنص فيها على أن ذلك فسق وضمنا في الثانية للنص فيها على أن ذلك يلعن الله فاعله في الدنيا والآخرة وهذا من أقبح الوعيد وأشده وعد السكوت عليه هو ما ذكره بعضهم وهو قياس ما مر في السكوت على الغيبة بل أولى وتقييدي في الترجمة بقولي بزنا أو لواط هو وإن ذكره أبو زرعة في شرحه لجمع الجوامع
وقال غيره إنه قيده بذلك مع ظهوره لكن الظاهر أنه ليس شرطا للكبيرة بل لمزيد قبحها وفحشها ومن ثم قال شريح الروياني من أصحابنا والقذف بالباطل ولم يخص بزنا ولا بلواط وقال هو وغيره في موضع آخر وقذف المحصنات وبعضهما يقول وقذف المحصن والكل صحيح لما مر أنهم أجمعوا على أنه لا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى
وفي قواعد ابن عبد السلام الظاهر أن من قذف محصنا في خلوته بحيث لا يسمعه
____________________
(2/631)
إلا الله والحفظة أن ذلك ليس بكبيرة موجبة للحد لانتفاء المفسدة ولا يعاقب عليها في الآخرة عقاب المجاهر بذلك في وجه المقذوف أو في ملإ من الناس بل يعاقب عقاب الكاذبين غير المفترين
قال الأذرعي في قوته وما قاله محتمل إذا كان صادقا فإن كان كاذبا ففيه نظر للجرأة على الله سبحانه وتعالى بالفجور
وقال في توسطه وقد يفهم من كلامه أنه لو كان صادقا في قذفه في الخلوة إنه لا يعاقب عليه لصدقه وهو بعيد ثم أورد على نفسه أنه لو لم يبلغ المقذوف القذف الذي جهر به لزمه الحد مع انتفاء مفسدة التأذي
وأجاب بأنه لو بلغه لكان أشد عليه من القذف في الخلوة ثم قال وأما قذفه في الخلوة فلا فرق بين إجرائه على لسانه وبين إجرائه على قلبه
ا ه
والمتجاوز عنه بنص السنة حديث النفس دون النطق باللسان وقدمت في الكلام على الآية أن قذف نحو الصغير والرقيق كبيرة فيما يظهر ثم رأيت الحليمي قال قذف المحصنة كبيرة فإن كانت أما أو بنتا أو امرأة أبيه كان فاحشة وقذف الصغيرة والمملوكة والحرة المتهتكة من الصغائر
ا ه
قال الجلال البلقيني واعترض عليه بأن قذف الصغيرة إنما يكون صغيرة إن لم تحتمل الجماع بحيث يقطع بكذب قاذفها وأما المملوكة ففي كون قذفها صغيرة مطلقا وقفة ولا سيما أمهات الأولاد لما فيه من إيذاء الأمة وسيدها وولدها وأهلها لا سيما إن كان سيدها أحد أصوله
ا ه
والمعترض الذي أبهمه الجلال هو الأذرعي قال وتخصيصه القذف بكونه من الكبائر بقذف المحصنات غير مسلم فقذف الرجال المحصنين أيضا كبيرة والحديث وإن كان فيه ذلك إلا أنه نبه على غيرهن إذ لا قائل بالفرق فهو كذكره العبد في السراية
ا ه
ومر أنه صلى الله عليه وسلم قال من قذف مملوكه بالزنا أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال وكثيرون من الجهال واقعون في هذا الكلام القبيح الموجب للعقوبة في الدنيا والآخرة ومن ثم جاء في حديث الصحيحين إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب وقال له معاذ يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به قال ثكلتك أمك وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم
وفي الحديث ألا أخبركم بأيسر العبادة وأهونها على البدن الصمت وحسن الخلق قال تعالى ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد وقال عقبة
____________________
(2/632)
بن عامر ما النجاة يا رسول الله قال أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك
وروى الترمذي والبيهقي وقال الترمذي حديث حسن غريب لا تكثر الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة القلب وإن أبعد الناس من الله تعالى القلب القاسي
وقال صلى الله عليه وسلم ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن وإن الله يبغض الفاحش البذاء بالذال المعجمة ممدودا هو المتكلم بالفحش ورديء الكلام
الكبيرة التاسعة والثمانون والتسعون والحادية والتسعون بعد المائتين سب المسلم والاستطالة في عرضه وتسبب الإنسان في لعن أو شتم والديه وإن لم يسبهما ولعنه مسلما
قال تعالى والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا
وأخرج الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سباب المسلم فسق وقتاله كفر
ومسلم وأبو داود والترمذي المتسابان ما قالا فعلى البادئ منهما حتى يتعدى المظلوم
والبزار بسند جيد سباب المسلم كالمشرف على الهلكة
وابن حبان في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قلت يا رسول
____________________
(2/633)
الله الرجل يشتمني وهو دوني أعلي منه بأس أن أنتصر منه قال المتسابان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان
وأبو داود واللفظ له والترمذي وقال حسن صحيح وابن حبان في صحيحه عن جابر بن سليم رضي الله تعالى عنه قال رأيت رجلا يصدر الناس عن رأيه لا يقول شيئا إلا صدروا عنه
قلت من هذا قالوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم
قلت عليك السلام يا رسول الله قال لا تقل عليك السلام عليك السلام تحية الموتى أو الميت قل السلام عليك قال قلت أنت رسول الله قال أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك وإذا أصابك عام سنة أي قحط فدعوته أنبتها لك وإذا كنت بأرض قفراء وفلاة فضلت راحلتك فدعوته ردها عليك قال قلت اعهد إلي قال لا تسبن أحدا فما سببت بعده حرا ولا عبدا ولا بعيرا ولا شاة قال ولا تحقرن شيئا من المعروف وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك إن ذلك من المعروف وارفع إزارك إلى نصف الساق فإن أبيت فإلى الكعبين وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة أي الكبر واحتقار الغير وإن الله لا يحب المخيلة وإن امرؤ شتمك أو عيرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه فإنما وبال ذلك عليه
وفي رواية لابن حبان نحوه وقال فيه وإن امرؤ عيرك بشيء يعلمه فيك فلا تعيره بشيء تعلمه فيه ودعه يكون وباله عليه وأجره لك فلا تسبن شيئا قال فما سببت بعده دابة ولا إنسانا
وأخرج البخاري وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قيل يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه قال يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه
وأخرج الشيخان وغيرهما عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبا متعمدا فهو كما قال ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة وليس على رجل نذر فيما لا يملك ولعن المؤمن كقتله
____________________
(2/634)
والطبراني بإسناد جيد عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال كنا إذا رأينا الرجل يلعن أخاه رأينا أن قد أتى بابا من الكبائر
وأبو داود إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها ثم تأخذ يمينا وشمالا فإن لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لعن فإن كان أهلا وإلا رجعت إلى قائلها
وأحمد بسند جيد إن اللعنة إذا وجهت إلى من وجهت إليه فإن أصابت عليه سبيلا أو وجدت فيه مسلكا وإلا قالت يا رب وجهت إلى فلان فلم أجد فيه مسلكا ولم أجد عليه سبيلا فيقال لها ارجعي من حيث جئت
وأبو داود والترمذي
وقال حسن صحيح
والحاكم وقال صحيح الإسناد لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضبه ولا بالنار
ومسلم لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة
والترمذي وقال حسن غريب لا يكون المؤمن لعانا وفي رواية له وقال حديث حسن ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش ولا بالبذي أي المتكلم بالفحش والكلام القبيح
والبيهقي عن عائشة مر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي بكر وهو يلعن بعض رقيقه فالتفت إليه وقال لعانين وصديقين كلا ورب الكعبة فعتق أبو بكر رضي الله عنه يومئذ بعض رقيقه ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لا أعود
ومسلم لا ينبغي لصديق أن يكون لعانا
والحاكم وصححه لا يجتمع أن تكونوا لعانين صديقين
____________________
(2/635)
ومسلم وغيره عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة فضجرت فلعنتها فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة قال عمران فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد
وأبو يعلى وغيره بسند جيد عن أنس رضي الله عنه قال سار رجل مع النبي صلى الله عليه وسلم فلعن بعيره فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تتبعنا أو قال يا عبد الله لا تسر معنا على بعير ملعون
وأحمد بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر يسير فلعن رجل ناقته فقال أين صاحب الناقة فقال الرجل أنا فقال أخرها فقد أجبت فيها
وأبو داود لا تسبوا الديك فإنه يدعو للصلاة وورد فإنه يوقظ للصلاة
والبزار بسند لا بأس به صرخ ديك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبه رجل فنهى عن سب الديك وفي رواية للطبراني لا تلعنه ولا تسبه فإنه يدعو للصلاة
والبزار بسند رواته رواة الصحيح إلا عباد بن منصور ضعفه كثيرون وحسن له الترمذي غير ما حديث أن ديكا صرخ قريبا من النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل اللهم العنه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مه كلا إنه يدعو إلى الصلاة
وأبو يعلى أن برغوثا لدغت رجلا فلعنها فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تلعنها فإنها نبهت نبيا من الأنبياء للصلاة
وفي رواية للبزار لا تسبه فإنه أيقظ نبيا من الأنبياء لصلاة الصبح
____________________
(2/636)
والطبراني عن علي كرم الله وجهه قال نزلنا منزلا فآذتنا البراغيث فسببناها فقال صلى الله عليه وسلم لا تسبوها فنعمت الدابة فإنها أيقظتكم لذكر الله تعالى
وصح أن رجلا لعن الريح عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا تلعن الريح فإنها مأمورة من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه
تنبيه عد هذه الثلاثة هو صريح هذه الأحاديث الصحيحة للحكم فيه على سباب المسلم بأنه فسق
وأنه يؤدي إلى الهلكة وأن فاعله شيطان وغير ذلك وعلى لعن الوالدين بأنه من أكبر الكبائر ولذا أفردته بالذكر وإن دخل في سباب المسلم أو لعنه وعلى أن لعن المؤمن كقتله وعلى أن من لعن أخاه أتى بابا من الكبائر وعلى أن اللعنة ترجع إلى قائلها بغير حق وعلى أن اللعان لا يكون شفيعا ولا شهيدا ولا صديقا وهذا كله غاية في الوعيد الشديد فظهر به ما ذكرته من عد هذه الثلاثة كذلك وبه في الأول صرح جماعة من أئمتنا لكن المعتمد عند أكثرهم خلافه
وحملوا حديث سباب المسلم فسوق على ما إذا تكرر منه بحيث يغلب طاعته وأما الثلاثة فهي ظاهر قول شرح مسلم لعن المسلم كقتله أي في الإثم واستفيد من الأحاديث المذكورة في لعن الدواب أنه حرام وبه صرح أئمتنا
والظاهر أنه صغيرة إذ ليس فيه مفسدة عظيمة ومعاتبته صلى الله عليه وسلم لمن لعنت ناقتها بتركها لها تعزيرا وتأديبا لا يدل على أن ذلك مجرد كبيرة سيما وقد علل الأمر بالترك في الحديث الآخر بأن دعوته باللعن على دابته أجيبت
قال النووي في رياضه بعد ذكره حديث خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة وحديث لا تصاحبنا ناقة عليها لعنة
قد يستشكل معناه ولا إشكال فيه بل المراد النهي لن تصاحبهم تلك الناقة وليس فيه نهي عن بيعها وذبحها وركوبها في غير صحبة النبي صلى الله عليه وسلم بل كل ذلك وما سواه من التصرفات جائز لا منع منه إلا من مصاحبته صلى الله عليه وسلم بها لأن هذه التصرفات كلها كانت جائزة فمنع بعض منها فبقي الباقي على ما كان
ا ه
ثم رأيت بعضهم صرح بأن لعن الدابة والذمي المعينين كبيرة وقيد حرمة لعن المسلم بغير سبب شرعي وفيما ذكره وقيد به نظر
أما الأول فالذي يتجه ما ذكرته من أن لعن
____________________
(2/637)
الدابة صغيرة لما ذكرته وأما لعن الذمي المعين فيحتمل أنه كبيرة لاستوائه مع المسلم في حرمة الإيذاء وأما تقييده فغير صحيح إذ ليس لنا غرض شرعي يجوز لعن المسلم أصلا ثم محل حرمة اللعن إن كان لمعين فالمعين لا يجوز لعنه وإن كان فاسقا كيزيد بن معاوية رضي الله عنه أو ذميا حيا أو ميتا ولم يعلم موته على الكفر لاحتمال أنه يختم له أو ختم له بالإسلام بخلاف من علم موته على الكفر كفرعون وأبي جهل وأبي لهب ونظرائهم وأما ما وقع لبعضهم من لعن يزيد فهو تهور بناء على القول بإسلامه وهو الظاهر ودعوى جمع أنه كافر لم يثبت ما يدل عليها بل أمره بقتل الحسين لم يثبت أيضا ولهذا أفتى الغزالي بحرمة لعنه أي وإن كان فاسقا سكيرا متهورا في الكبائر بل فواحشها
وأما احتجاج شيخ الإسلام السراج البلقيني على جواز لعن العاصي المعين بحديث الصحيحين إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته فبات غضبان عليهما لعنتها الملائكة حتى تصبح
وفي رواية لهما وللنسائي إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح ففيه نظر ظاهر ومن ثم قال ولده شيخ الإسلام الجلال البلقيني بحثت معه في ذلك باحتمال أن يكون لعن الملائكة لها ليس بالخصوص بل بالعموم بأن يقولوا لعن الله من باتت هاجرة فراش زوجها وأقول لو استدل لذلك بخبر مسلم أنه صلى الله عليه وسلم مر بحمار وسم في وجهه فقال لعن الله من فعل هذا لكان أظهر إذ الإشارة بقوله هذا صريحة في لعن معين إلا أن يؤول بأن المراد جنس فاعل ذلك لا هذا المعين وفيه ما فيه
أما لعن غير المعين بالشخص وإنما عين بالوصف بنحو لعن الله الكاذب فجائز إجماعا
قال تعالى ألا لعنة الله على الظالمين ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين وسيأتي عنه صلى الله عليه وسلم كثير من هذا النوع
فائدة لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة بالوصف من غير تعيين وجماعة بالتعيين والأول أكثر وقد ذكر غير واحد من أئمتنا منه جملة مستكثرة من غير سند فلا بأس بذكره كذلك لما فيه من الفوائد
فنقول لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه والمصورين ومن غير منار الأرض أي حدودها كالذي يأخذ قطعة من الشارع أو المسجد فيدخلها بيته أو يأخذ مكانا موقوفا فيعيده مملوكا ومن كمه أعمى عن الطريق أي دله على غيرها
____________________
(2/638)
وألحق به البصير الجاهل ومن وقع على بهيمة ومن عمل عمل قوم لوط ومن أتى كاهنا أو أتى امرأة في دبرها ومن أتى حائضا والنائحة ومن حولها ومن أم قوما وهم له كارهون وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط أو هاجرة فراشه ومن ذبح لغير الله والسارق ومن سب الصحابة رضي الله عنهم والمخنث من الرجال ورجلة النساء والمتشبهين من الرجال بالنساء ومن النساء بالرجال والمرأة تلبس لبسة الرجل والرجل يلبس لبسة المرأة ومن سل سخيمته أي تغوط على الطريق والمرأة السلتاء أي التي لا تخضب يدها والمرهاء أي التي لا تكتحل ومن خبب أي أفسد امرأة على زوجها أو مملوكا على سيده ومن أشار إلى أخيه بحديدة
ومانع الزكاة ومن انتسب إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه ومن وسم في الوجه والشافع والمشفع في حد من حدود الله تعالى إذا بلغ الحاكم والمرأة إذا خرجت من دارها بغير إذن زوجها ومن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا أمكنه والخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها والمشتراة له وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها والدال عليها والزاني بحليلة جاره والناكح يده وناكح الأم وبنتها والراشي والمرتشي في الحكم والرائش أي الساعي بينهما وكاتم العلم والمحتكر ومن حقر مسلما أي خذله ولم ينصره والوالي إذا لم يكن فيه رحمة والمتبتلين والمتبتلات أي تاركي النكاح وراكب الفلاة وحده ومن جعل ذات الروح غرضا يرمي إليه ومن أحدث في الدين حدثا أو آوى محدثا ومن أوقد سراجا على القبور ومن بنى مسجدا بالمقبرة وزائرات القبور والصالقة أي الرافعة لصوتها بالبكاء والحالقة لشعرها والشاقة لثوبها عند المصيبة والذين يثقفون الكلام تثقيف الشعر
ومن أفسد في الأرض والبلاد ومن انتفى من أبيه أو انتسب إلى غيره ومن قذف المحصنة ومن لعن أصحابه ومن قطع رحمه ومن كتم القرآن ومن لعن أبويه أو أحدهما ومن مكر بمسلم أو ضاره والمغنى له والشيخ الزاني ومن فرق بين الوالدة وولدها والمغني بين الأخ وأخيه ومن جلس وسط الحلقة ومن سمع حي على الصلاة ولم يجب
وقاطع السدر قال أبو الدرداء هذا في السدر الذي في الطرقات وفي البوادي يستظل بها المارة وقال إن السموات السبع والأرضين السبع والجبال ليلعن الشيخ الزاني
ولعن الله من يلعب بالشطرنج
ومن مشى بقميص رقيق بغير إزار بادي العورة لعنته الملائكة حتى يرجع إلى منزله أو يتوب
وإذا ظهرت البدع وسبت أصحابي فعلى العالم أن يظهر علمه فإن لم يفعل فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين
إن الله عز وجل اختارني واختار لي أصحابا فجعل منهم وزراء وأنصارا وأصهارا فمن سبهم فعليه لعنة
____________________
(2/639)
الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا
سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ويقول لهم ادخلوا النار مع الداخلين الفاعل والمفعول به وناكح يده وناكح البهيمة وناكح المرأة في دبرها وجامع بين المرأة وبنتها والزاني بحليلة جاره والمؤذي لجاره ومن ولي من أمر أمتي شيئا فلم يرحمهم فعليه بهلة الله قالوا وما بهلة الله قال لعنة الله
ومن أحدث في المدينة حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا
ومن تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين
والهاجرة لفراش زوجها تلعنها الملائكة حتى تصبح فإن حق الزوج على زوجته إن سألها وهي على ظهر قتب أن لا تمنعه نفسها
ومن حق الزوج على الزوجة أن لا تصوم تطوعا إلا بإذنه فإن فعلت جاعت وعطشت ولا يقبل منها ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه فإن فعلت لعنتها ملائكة الرحمة وملائكة العذاب حتى ترجع
من أشار إلى أخيه بحديدة ملعون وإن كان أخاه من أبيه وأمه
لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة
ستة لعنتهم وفي رواية لعنهم الله وكل نبي مجاب الدعوة المحرف لكتاب الله وفي رواية الزائد في كتاب الله والمكذب بقدر الله والمتسلط بالجبروت ليعز من أذل الله ويذل من أعز الله والمستحل حرمة الله والمستحل من عترتي والتارك لسنتي
وأما الذين لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعيانهم فهم ما تضمنه قوله عليه الصلاة والسلام اللهم العن رعلا وذكوان وعصية عصوا الله ورسوله فهذه ثلاث قبائل من قبائل العرب لكن يجوز أنه صلى الله عليه وسلم علم موتهم أو موت أكثرهم على الكفر فلم يلعن إلا من علم موته عليه قال بعضهم ويقرب من اللعن الدعاء على الإنسان بالشر حتى الدعاء على الظالم نحو لا أصح الله جسمه ولا سلمه الله ونحو ذلك وكذلك كل مذموم ولعن جميع الحيوانات والجمادات كله مذموم قال بعض العلماء من لعن ما لا يستحق اللعن فليبادر بقوله إلا أن يكون لا يستحق وللآمر بمعروف والناهي عن منكر وكل مؤدب أن يقول لمن يخاطبه في ذلك الأمر بقصد الزجر والتأديب ويلك أو يا ضعيف الحال يا قليل النظر لنفسه يا ظالم نفسه ونحو ذلك مما ليس فيه كذب ولا قذف صريح أو كناية أو تعريض ولو كان صادقا فيه
____________________
(2/640)
الكبيرة الثانية والثالثة والتسعون بعد المائتين تبرؤ الإنسان من نسبه أو من والده وانتسابه إلى غير أبيه مع علمه ببطلان ذلك
أخرج الشيخان وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام
وأبو داود والنسائي وابن حبان والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت آية الملاعنة أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها جنته وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله عنه وفضحه على رءوس الخلائق من الأولين والآخرين
والشيخان ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلم إلا كفر ومن ادعى من ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار ومن دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه بالمهملة أي رجع
والشيخان من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا
والبخاري لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فقد كفر
والطبراني في الصغير من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وحديثه حسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر من تبرأ أو كفر بالله من تبرأ من نسب أو رق أو ادعى نسبا لا يعرف
ورواه الطبراني في الأوسط من ادعى نسبا لا يعرف كفر بالله أو انتفى من نسب وإن دق كفر بالله
____________________
(2/641)
وأحمد من ادعى إلى غير أبيه لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من قدر سبعين عاما أو مسيرة سبعين عاما
وفي رواية لابن ماجه ورجالها رجال الصحيح ألا وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام
وكأنه يختلف باختلاف المدركين فمن الناس من يشمه من مسيرة خمسمائة عام ومنهم من يشمه من مسيرة سبعين سنة
وأبو داود من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة
تنبيه عد هذين هو صريح هذه الأحاديث الصحيحة وهو واضح جلي وإن لم أر من صرح به والكفر فيه بمعنى أن ذلك يؤدي إليه أو استحل أو كفر النعمة
الكبيرة الرابعة والتسعون بعد المائتين الطعن في النسب الثابت في ظاهر الشرع قال تعالى والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا
وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في الأنساب والنياحة على الميت
تنبيه عد هذا هو صريح هذا الحديث وهو ظاهر وإن لم أر من ذكره
الكبيرة الخامسة والتسعون بعد المائتين أن تدخل المرأة على قوم من ليس منهم بزنا أو وطء شبهة أخرج أبو داود والنسائي وابن حبان والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت آية الملاعنة أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها جنته وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله عنه وفضحه على رءوس الخلائق من الأولين والآخرين
____________________
(2/642)
@ 643 كتاب العدد
الكبيرة السادسة والتسعون بعد المائتين الخيانة في انقضاء العدة
وذكر هذا من الكبائر غير بعيد لما يترتب عليه من تسلط الأجنبي على بعضها بغير حق وفي ذلك من عظيم الضرر والمفاسد ما لا يحصى
الكبيرة السابعة والتسعون بعد المائتين خروج المعتدة من المسكن الذي يلزمها ملازمته إلى انقضاء العدة بغير عذر شرعي
وذكر هذا غير بعيد أيضا قياسا على خروجها من بيت زوجها بغير إذنه بل هذا أولى في المعتدة عن وفاة لأن في ملازمتها المسكن حقا مؤكدا لله تعالى من حفظ النسب وغيره
الكبيرة الثامنة والتسعون بعد المائتين عدم إحداد المتوفى عنها زوجها وذكر هذا غير بعيد لما يترتب عليه من المفاسد الكثيرة
الكبيرة التاسعة والتسعون بعد المائتين وطء الأمة قبل استبرائها وذكر هذا غير بعيد أيضا لما يترتب عليه من اختلاط المياه وضياع الأنساب وغير ذلك من المفاسد ثم رأيت خبر مسلم الصريح فيه إن كانت حاملا
وسببه أنه صلى الله عليه وسلم مر بامرأة حامل على باب فسطاط فسأل عنها فقالوا هذه أمة لفلان فقال ألم بها قالوا نعم
فقال صلى الله عليه وسلم لقد هممت أن ألعنه لعنا يدخل معه قبره كيف يورثه وهو لا يحل له كيف يستخدمه وهو لا يحل له أي لأن أمر الولد مشكل إذ يحتمل أنه منه أو من غيره فإن كان ولده لم يحل له نفيه واسترقاقه واستخدامه وإن كان ولد غيره لم يحل له استلحاقه وتوريثه
كتاب النفقات على الزوجات والأقارب والمماليك من الرقيق والدواب وما يتعلق بذلك
____________________
(2/643)
____________________
(2/644)
الكبيرة الثلاثمائة منع نفقة الزوجة أو كسوتها من غير مسوغ شرعي
وذكر هذا ظاهر نظير ما يأتي في الظلم لأن هذا من أقبحه ويأتي في التي بعد هذه ما له تعلق تام بها
الكبيرة الحادية بعد الثلاثمائة إضاعة عياله كأولاده الصغار أخرج أبو داود والنسائي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت
رواه الحاكم وصححه
إلا أنه قال من يعول
وابن حبان في صحيحه إن الله سائل كل راع عما استرعاه أحفظ أم ضيع حتى يسأل الرجل عن أهل بيته
والشيخان وغيرهما كلكم راع ومسئول عن رعيته الإمام راع ومسئول عن رعيته والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته وكلكم راع ومسئول عن رعيته
تنبيه ذكر هذا ظاهر كالذي قبله لأنه أيضا من أقبح الظلم وأفحشه
فائدة في ذكر ما ورد من الحث على الإحسان إلى الزوجة والعيال سيما البنات
أخرج مسلم دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك
____________________
(2/645)
ومسلم والترمذي أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله ودينار ينفقه على دابته في سبيل الله ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله
قال أبو قلابة بدأ بالعيال وأي رجل أعظم أجرا من رجل ينفق على عيال صغار يعفهم الله أو ينفعهم الله له ويغنيهم
وابن خزيمة في صحيحه وكذا الترمذي وابن حبان بنحوه عرض علي أول ثلاثة يدخلون الجنة وأول ثلاثة يدخلون النار
فأما أول ثلاثة يدخلون الجنة فالشهيد وعبد مملوك أحسن عبادة ربه ونصح لسيده وعفيف متعفف ذو عيال
وأما أول ثلاثة يدخلون النار فأمير مسلط وذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله من ماله وفقير فخور
والشيخان من جملة حديث طويل لسعد بن أبي وقاص وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في في امرأتك
وأحمد بإسناد جيد ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة أي إن كان ما لا بد منه بقصد التقوي به على الطاعة كما هو معلوم من القواعد الشرعية وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة وما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة
والطبراني بإسناد حسن من أنفق على نفسه نفقة يستعف بها فهي صدقة
من أنفق على امرأته وولده وأهل بيته فهي صدقة وهذا مفسر لما قبله
والطبراني بإسناد حسن والشيخان بنحوه اليد العليا أفضل من اليد السفلى وابدأ بمن تعول أمك وأباك وأختك وأخاك وأدناك فأدناك
وابن حبان في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قال يوما لأصحابه تصدقوا فقال رجل يا رسول الله عندي دينار قال أنفقه على نفسك قال إن عندي آخر قال أنفقه على زوجتك قال إن
____________________
(2/646)
عندي آخر قال أنفقه على ولدك قال إن عندي آخر قال أنفقه على خادمك قال إن عندي آخر قال أنت أبصر به
والطبراني بسند رجاله رجال الصحيح أن رجلا مر على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فرأوا من جلده ونشاطه فقالوا يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله فقال صلى الله عليه وسلم إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان
والدارقطني والحاكم وصحح إسناده كل معروف صدقة وما أنفق الرجل على أهله كتب له صدقة وما وقى به المرء عرضه كتب له به صدقة وما أنفق المؤمن من نفقة فإن خلفها على الله والله ضامن إلا ما كان في بنيان أو معصية وفسرت وقاية العرض بما يعطى للشاعر وذي اللسان المتقى
والبزار بسند رواته محتج بهم في الصحيح إلا واحدا منهم في كلام مريب
قال الحافظ المنذري بعد ذكره ذلك الحديث غريب إن المعونة تأتي من الله على قدر المؤنة وإن الصبر يأتي من الله على قدر البلاء
والطبراني في الأوسط أول ما يوضع في ميزان العبد نفقته على أهله
والطبراني بسند صحيح كل ما صنعت إلى أهلك فهو صدقة عليهم
والشيخان أن امرأة دخلت تسأل عائشة ومعها بنتاها فلم تجد إلا تمرة فأعطتها إياها
____________________
(2/647)
فقسمتها بين بنتيها ولم تأكل منها فذكرت عائشة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا أو حجابا من النار
ومسلم إن مسكينة جاءتها ببنتيها فأعطتها ثلاث تمرات فأعطت كل واحدة منهما تمرة ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما فأعجبها شأنها فذكرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن الله قد أوجب لها بها الجنة أو أعتقها بها من النار
ومسلم من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو وضم أصابعه
والترمذي ولفظه من عال جاريتين دخلت أنا وهو الجنة كهاتين وأشار بأصبعيه
وابن حبان في صحيحه ولفظه من عال ابنتين أو ثلاثا أو أختين أو ثلاثا حتى يبنين أو يموت عنهن كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وأشار بأصبعيه السبابة والتي تليها
وفي أخرى صححها جماعة ما من مسلم له ابنتان فيحسن إليهما ما صحبتاه أو صحبهما إلا أدخلتاه الجنة
وفي أخرى شواهدها كثيرة ما من مسلم له ثلاث بنات فينفق عليهن حتى يبنين أو يمتن إلا كن له حجابا من النار فقالت له امرأة أو بنتان فقال وبنتان
وفي أخرى للترمذي فأحسن صحبتهن واتقى الله فيهن فله الجنة
وفي أخرى لأبي داود فأدبهن وأحسن إليهن وزوجهن فله الجنة
____________________
(2/648)
وأبو داود والحاكم وصححه من كانت له أنثى فلم يئدها أي يدفنها حية على عادة الجاهلية ولم يهنها ولم يؤثر ولده يعني الذكر عليها أدخله الله الجنة
وأحمد والطبراني من أنفق على ابنتين أو أختين أو ذواتي قرابة يحتسب النفقة عليهما حتى يغنيهما من فضل الله أو يكفيهما كانتا له سترا من النار
وأحمد بإسناد جيد عن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كن له ثلاث بنات يؤويهن ويرحمهن ويكفلهن وجبت له الجنة ألبتة قيل يا رسول الله وإن كانتا اثنتين قال وإن كانتا اثنتين
قال فرأى بعض القوم أن لو قال واحدة لقال واحدة
ورواه البزار والطبراني وزاد ويزوجهن
والحاكم وصححه من كان له ثلاث بنات يصبر على لأوائهن وضرائهن وسرائهن أدخله الله الجنة برحمته إياهن
فقال رجل وابنتان يا رسول الله قال وابنتان قال رجل يا رسول الله وواحدة قال وواحدة
الكبيرة الثانية بعد الثلاثمائة عقوق الوالدين أو أحدهما وإن علا ولو مع وجود أقرب منه قال تعالى واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا قال ابن عباس يريد البر بهما مع اللطف ولين الجانب فلا يغلظ لهما في الجواب ولا يحد النظر إليهما ولا يرفع صوته عليهما بلى يكون بين يديهما مثل العبد بين يدي السيد تذللا لهما وقال تعالى وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا أمر الله تعالى بالإحسان إليهما وهو البر والشفقة والعطف والتودد وإيثار رضاهما
ونهى عن أن يقال لهما أف إذ هو كناية عن الإيذاء بأي نوع
____________________
(2/649)
كان حتى بأقل أنواعه ومن ثم ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال لو علم الله شيئا أدنى من أف لنهى عنه فليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة وليعمل البار ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار
ثم أمر بأن يقال لهما القول الكريم أي اللين اللطيف المشتمل على العطف والاستمالة وموافقة مرادهما وميلهما ومطلوبهما ما أمكن سيما عند الكبر فإن الكبير يصير كحال الطفل وأرذل لما يغلب عليه من الخرف وفساد التصور فيرى القبيح حسنا والحسن قبيحا فإذا طلبت رعايته وغاية التلطف به في هذه الحالة وأن يتقرب إليه بما يناسب عقله إلى أن يرضى ففي غير هذه الحالة أولى
ثم أمر تعالى بعد القول الكريم بأن يخفض لهما جناح الذل من القول بأن لا يكلمهما إلا مع الاستكانة والذل والخضوع وإظهار ذلك لهما واحتمال ما يصدر منهما ويريهما أنه في غاية التقصير في حقهما وبرهما وأنه من أجل ذلك ذليل حقير ولا يزال على نحو ذلك إلى أن يثلج خاطرهما ويبرد قلبهما عليه فينعطفا عليه بالرضا والدعاء ومن ثم طلب منه بعد ذلك أن يدعو لهما لأن ما سبق يقتضي دعاءهما له كما تقرر فليكافئهما إن فرضت مساواة وإلا فشتان ما بين المرتبتين وكيف تتوهم المساواة وقد كانا يحملان أذاك وكلك وعظيم المشقة في تربيتك وغاية الإحسان إليك راجين حياتك مؤملين سعادتك وأنت إن حملت شيئا من أذاهما رجوت موتهما وسئمت من مصاحبتهما ولكون الأم أحمل لذلك وأصبر عليه مع أن عناءها أكثر وشفقتها أعظم بما قاسته من حمل وطلق وولادة ورضاع وسهر ليل وتلطخ بالقذر والنجس وتجنب للنظافة والترفه حض صلى الله عليه وسلم على برها ثلاث مرات وعلى بر الأب مرة واحدة كما في الحديث الصحيح أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أبوك ثم الأقرب فالأقرب
وقد رأى ابن عمر رضي الله عنهما رجلا يطوف بالكعبة حاملا أمه على رقبته فقال يا ابن عمر أترى أني جزيتها قال لا ولا بطلقة واحدة ولكنك أحسنت والله يثيبك على القليل كثيرا
وجاء رجل إلى أبي الدرداء فقال يا أبا الدرداء إن لي امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الوالدة أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضع ذلك
____________________
(2/650)
@ 651 الباب أو احفظه
وقال تعالى أن اشكر لي ولوالديك فانظر وفقني الله وإياك كيف قرن شكرهما بشكره
وقال ابن عباس رضي الله عنهما ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث لم تقبل منها واحدة بغير قرينتها
إحداها قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فمن أطاع الله ولم يطع رسوله لم يقبل منه
والثانية قوله تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فمن صلى ولم يزك لم يقبل منه
الثالثة قوله تعالى أن اشكر لي ولوالديك فمن شكر الله ولم يشكر والديه لم يقبل منه ولذا قال صلى الله عليه وسلم رضا الله في رضا الوالدين وسخط الله في سخط الوالدين
وصح أن رجلا جاء يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد معه فقال أحي والداك قال نعم قال ففيهما فجاهد
فانظر كيف فضل بر الوالدين وخدمتهما على الجهاد معه وسيأتي في حديث الصحيحين ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين
فانظر كيف قرن الإساءة إليهما وعدم البر والإحسان إليهما بالإشراك بالله تعالى وأكد ذلك بأمره بمصاحبتهما بالمعروف وإن كانا يجاهدان الولد على أن يشرك بالله تعالى
قال تعالى وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي فإذا أمر الله تعالى بمصاحبة هذين بالمعروف مع هذا القبح العظيم الذي يأمران ولدهما به وهو الإشراك بالله تعالى فما الظن بالوالدين المسلمين سيما إن كانا صالحين تالله إن حقهما لمن أشد الحقوق وآكدها وإن القيام به على وجهه أصعب الأمور وأعظمها فالموفق من هدي إليها والمحروم كل المحروم من صرف عنها
وقد جاء في السنة من التأكيد في ذلك ما لا تحصى كثرته ولا تحد غايته فمن ذلك أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي بكر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا قلنا بلى يا رسول الله قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت
____________________
(2/651)
والبخاري الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس
والشيخان عن أنس قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر فقال الشرك بالله وعقوق الوالدين
وابن حبان في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم ذكر في كتابه الذي كتبه إلى أهل اليمن وبعث به عمرو بن حزم وإن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة الإشراك بالله وقتل النفس المؤمنة بغير حق والفرار في سبيل الله يوم الزحف وعقوق الوالدين ورمي المحصنة وتعلم السحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم الحديث
والشيخان إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قيل يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه قال يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه
وفي رواية لهما من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه قال نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه
والبخاري وغيره إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعا وهات وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال
والنسائي والبزار واللفظ له بإسنادين جيدين والحاكم وصححه ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه ومدمن الخمر والمنان عطاءه
وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والديوث والرجلة من النساء والرجلة بفتح فكسر المترجلة أي المتشبهة بالرجال
وأحمد واللفظ له والنسائي والبزار والحاكم وصححه ثلاثة حرم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة مدمن الخمر والعاق لوالديه والديوث الذي يقر الخبث في أهله أي الزنا مع علمه به
والطبراني في الصغير يراح ريح الجنة من مسيرة خمسمائة عام ولا يجد ريحه منان بعمله ولا عاق ولا مدمن خمر وابن أبي عاصم بإسناد حسن ثلاثة لا يقبل الله
____________________
(2/652)
عز وجل منهم صرفا ولا عدلا عاق ومنان ومكذب بقدر
والحاكم وصححه أربع حق على الله أن لا يدخلهم الجنة
____________________
(2/653)
ولا يذيقهم نعيمها مدمن الخمر وآكل الربا وآكل مال اليتيم بغير حق والعاق لوالديه
والطبراني في الكبير ثلاثة لا ينفع معهن عمل الشرك بالله وعقوق الوالدين والفرار من الزحف
وأحمد والطبراني بإسنادين أحدهما صحيح وابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما باختصار جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الخمس وأديت زكاة مالي وصمت رمضان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين يوم القيامة هكذا ونصب أصبعيه ما لم يعق والديه
وأحمد وغيره عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر كلمات قال لا تشرك بالله شيئا وإن قتلت وحرقت ولا تعقن والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك الحديث
ومر أوائل كتاب الصلاة
والطبراني في الأوسط عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن مجتمعون فقال يا معشر المسلمين اتقوا الله وصلوا أرحامكم فإنه ليس من ثواب أسرع من صلة الرحم وإياكم والبغي فإنه ليس من عقوبة أسرع من عقوبة بغي وإياكم وعقوق الوالدين فإن ريح الجنة يوجد من مسيرة ألف عام وإنه لا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا جار إزاره خيلاء إنما الكبرياء لله رب العالمين والكذب كله إثم إلا ما نفعت به مؤمنا ودفعت به عن دين وإن في الجنة لسوقا ما يباع فيها ولا يشترى ليس فيها إلا الصور فمن أحب صورة من رجل أو امرأة دخل فيها
والحاكم وصححه واعترض بأن فيه متروكا أربع حق على الله أن لا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها مدمن الخمر وآكل الربا وآكل مال اليتيم بغير حق والعاق لوالديه
وأحمد لا يلج حظيرة القدس مدمن خمر ولا العاق ولا المنان عطاءه
ورواه البزار إلا أنه قال لا يلج جنان الفردوس
والطبراني بسند رواته ثقات لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا عاق ولا منان
قال ابن عباس فشق ذلك علي لأن المؤمنين يصيبون ذنوبا حتى وجدت ذلك في كتاب الله عز وجل في العاق فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم الآية
وفي المنان لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى الآية
وفي الخمر إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان الآية
وسيأتي في مبحث الخمر
والطبراني والحاكم وصححه لعن الله سبعة من فوق سبع سمواته وردد اللعنة على واحد منهم ثلاثا ولعن كل واحد منهم لعنة تكفيه قال ملعون من عمل عمل قوم لوط
ملعون من عمل عمل قوم لوط ملعون من عمل عمل قوم لوط ملعون من ذبح لغير الله ملعون من عق والديه
وابن حبان في صحيحه لعن الله من ذبح لغير الله ولعن الله من غير تخوم الأرض ولعن الله من سب والديه الحديث
____________________
(2/654)
والحاكم وصححه الأصبهاني كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات
والبيهقي في الدلائل والطبراني في الأوسط والصغير بسند فيه من لا يعرف عن جابر جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن أبي أخذ مالي فقال النبي صلى الله عليه وسلم فاذهب فأتني بأبيك فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن الله عز وجل يقرئك السلام ويقول لك إذا جاءك الشيخ فسله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه فلما جاء الشيخ قال له النبي صلى الله عليه وسلم ما بال ابنك يشكوك تريد أن تأخذ ماله قال سله يا رسول الله هل أنفقته إلا على عماته وخالاته أو على نفسي
فقال النبي صلى الله عليه وسلم إيه دعنا من هذا أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك فقال الشيخ والله يا رسول الله ما يزال الله يزيدنا بك يقينا لقد قلت في نفسي شيئا ما سمعته أذناي فقال قل وأنا أسمع فقال قلت غذوتك مولودا ومنتك يافعا تغل بما أجني عليك وتنهل إذا ليلة ضاقتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهرا أتململ كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيني تهمل تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت وقت مؤجل فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيها أؤمل جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل تراه معدا للخلاف كأنه يرد على أهل الصواب موكل قال فحينئذ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بتلابيب ابنه وقال أنت ومالك لأبيك
وهو في سورة الإسراء من الكشاف بلفظ شكا رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أباه وأنه يأخذ ماله فدعا به فإذا هو شيخ يتوكأ على عصا فسأله فقال إنه كان ضعيفا وأنا قوي وفقيرا وأنا غني فكنت لا أمنعه شيئا من مالي واليوم أنا ضعيف وهو قوي وأنا فقير وهو
____________________
(2/655)
غني وهو يبخل علي بماله فبكى عليه الصلاة والسلام وقال ما من حجر ولا مدر يسمع هذا إلا بكى ثم قال للولد أنت ومالك لأبيك
قال مخرج أحاديثه لم أجده
وأخرج أبو يعلى عن ابن عمر قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستعدي على والده فقال إنه أخذ مني مالي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أما علمت أنك ومالك من كسب أبيك
وابن ماجه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أبي يجتاح مالي قال أنت ومالك لأبيك إن أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من أموالكم
والطبراني واللفظ له وأحمد مختصرا عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه آت فقال شاب يجود بنفسه قيل له قل لا إله إلا الله فلم يستطع فقال أكان يصلي فقال نعم فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهضنا معه فدخل على الشاب فقال له قل لا إله إلا الله فقال لا أستطيع قال لم قيل كان يعق والدته فقال النبي صلى الله عليه وسلم أحية والدته قالوا نعم قال ادعوها فدعوها فجاءت فقال هذا ابنك فقالت نعم فقال لها أرأيت لو أججت نارا ضخمة فقيل لك إن شفعت له خلينا عنه وإلا أحرقناه بهذه النار أكنت تشفعين له قالت يا رسول الله إذن أشفع قال فأشهدي الله وأشهديني أنك قد رضيت عنه قالت اللهم إني أشهدك وأشهد رسولك أني قد رضيت عن ابني فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يا غلام قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فقالها
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي أنقذه من النار
ورويت هذه القصة بأبسط من هذا وهي أن ذلك الشاب اسمه علقمة وأنه كان كثير الاجتهاد في الطاعة من الصلاة والصوم والصدقة فمرض واشتد مرضه فأرسلت امرأته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن زوجي علقمة في النزع فأردت أن أعلمك يا رسول الله بحاله فأرسل صلى الله عليه وسلم عمارا وبلالا وصهيبا وقال امضوا إليه ولقنوه الشهادة فجاءوا إليه فوجدوه في النزع فجعلوا يلقنونه لا إله إلا الله ولسانه لا ينطق بها فأرسلوا إلى رسول
____________________
(2/656)
الله صلى الله عليه وسلم بذلك
فقال هل من أبويه أحد حي قيل يا رسول الله له أم كبيرة السن فأرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها إن قدرت على المسير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا فانتظريه في المنزل حتى يأتيك فجاء إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرها بذلك فقالت نفسي لنفسه الفداء أنا أحق بإتيانه فتوكأت وقامت على عصا وأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلمت ورد عليها السلام وقال لها يا أم علقمة اصدقيني وإن كذبتني جاء الوحي من الله تعالى كيف كان حال ولدك علقمة قالت يا رسول الله كان كثير الصلاة كثير الصيام كثير الصدقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فما حالك قالت يا رسول الله أنا عليه ساخطة
قال ولم قالت يا رسول الله كان يؤثر زوجته ويعصيني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن سخط أم علقمة حجب لسان علقمة عن الشهادة ثم قال صلى الله عليه وسلم يا بلال انطلق واجمع لي حطبا كثيرا قالت وما تصنع به يا رسول الله قال أحرقه بالنار قالت يا رسول الله ولدي لا يحتمل قلبي أن تحرقه بالنار بين يدي قال يا أم علقمة فعذاب الله أشد وأبقى فإن سرك أن يغفر الله له فارضي عنه فوالذي نفسي بيده لا ينتفع علقمة بصلاته ولا بصيامه ولا بصدقته ما دمت عليه ساخطة فقالت يا رسول الله فإني أشهد الله تعالى وملائكته ومن حضرني من المسلمين أني قد رضيت عن ولدي علقمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إليه يا بلال فانظر هل يستطيع أن يقول لا إله إلا الله أم لا فلعل أم علقمة تكلمت بما ليس في قلبها حياء مني فانطلق بلال فسمع علقمة يقول من داخل الدار لا إله إلا الله فدخل بلال فقال يا هؤلاء إن سخط أم علقمة حجب لسانه عن الشهادة وإن رضاها أطلق لسانه ثم مات علقمة من يومه
فحضره النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بغسله وتكفينه ثم صلى عليه وحضر دفنه ثم قام على شفير قبره وقال يا معشر المهاجرين والأنصار من فضل زوجته على أمه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا إلا أن يتوب إلى الله عز وجل ويحسن إليها ويطلب رضاها فرضا الله عز وجل في رضاها وسخط الله جل جلاله في سخطها
وروى الأصبهاني وغيره وقد حدث به أبو العباس الأصم بمشهد من الحفاظ فلم ينكروه أن العوام بن حوشب قال نزلت مرة حيا وإلى جانب ذلك الحي مقبرة فلما كان بعد العصر انشق منها قبر فخرج رجل رأسه رأس حمار وجسده جسد إنسان فنهق ثلاث نهقات ثم انطبق عليه القبر فإذا عجوز تغزل شعرا أو صوفا فقالت امرأة تري تلك
____________________
(2/657)
العجوز قلت ما لها قالت تلك أم هذا قلت وما كان قضيته قالت كان يشرب الخمر فإذا راح تقول له أمه يا بني اتق الله إلى متى تشرب هذا الخمر فيقول لها إنما أنت تنهقين كما ينهق الحمار قالت فمات بعد العصر قالت فهو يشق عنه القبر بعد العصر كل يوم فينهق ثلاث نهقات ثم ينطبق عليه القبر
وقال صلى الله عليه وسلم ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن دعوة المظلوم ودعوة المسافر ودعوة الوالد على ولده
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ليلة أسري بي رأيت أقواما في النار معلقين في جذوع من نار فقلت من هؤلاء يا جبريل قال الذين يشتمون آباءهم وأمهاتهم في الدنيا
وروي أنه من شتم والديه ينزل عليه في قبره جمر من النار بعد كل قطر ينزل من السماء إلى الأرض
وروي أنه إذا دفن عاق والديه عصره القبر حتى تختلف أضلاعه
وقال كعب الأحبار إن الله ليعجل هلاك العبد إذا كان عاقا لوالديه ليعجل له العذاب وإن الله ليزيد في عمر العبد إذا كان بارا بوالديه ليزيده برا وخيرا
وسئل عن عقوق الوالدين ما هو قال إذا أقسم عليه أبوه أو أمه لم يبر قسمه وإذا أمره بأمر لم يطعه وإذا ائتمنه خانه
وعن وهب بن منبه قال أوحى الله تعالى إلى موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم يا موسى وقر والديك فإنه من وقر والديه مددت في عمره ووهبت له ولدا يبره ومن عق والديه قصرت عمره ووهبت له ولدا يعقه
وقال أبو بكر بن أبي مريم قرأت في التوراة أن من يضرب أباه يقتل
وقال وهب في التوراة على من صك والديه الرجم
وقال بشر أيما رجل يقرب من أمه بحيث يسمع كلامها أفضل من الذي يضرب بسيفه في سبيل الله والنظر إليها أفضل من كل شيء
وجاء رجل وامرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يختصمان في صبي لهما فقال الرجل ولدي خرج من صلبي وقالت المرأة يا رسول الله حمله خفا ووضعه شهوة وحملته كرها ووضعته كرها وأرضعته حولين فقضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم للأم وما أحسن قول بعضهم إغراء على البر وتحذيرا عن العقوق ووباله وإعلاما بما يدحض العاق إلى حضيض سفاله ويحطه عن كماله أيها المضيع لأوكد الحقوق المعتاض عن البر بالعقوق
____________________
(2/658)
الناسي لما يجب عليه الغافل عما بين يديه بر الوالدين عليك دين وأنت تتعاطاه باتباع الشين تطلب الجنة بزعمك وهي تحت أقدام أمك حملتك في بطنها تسعة أشهر كأنها تسع حجج وكابدت عند وضعك ما يذيب المهج وأرضعتك من ثديها لبنا وأطارت لأجلك وسنا وغسلت بيمينها عنك الأذى وآثرتك على نفسها بالغذاء وصيرت حجرها لك مهدا وأنالتك إحسانا ورفدا فإن أصابك مرض أو شكاية أظهرت من الأسف فوق النهاية وأطالت الحزن والنحيب وبذلت مالها للطبيب ولو خيرت بين حياتك وموتها لآثرت حياتك بأعلى صوتها هذا وكم عاملتها بسوء الخلق مرارا فدعت لك بالتوفيق سرا وجهارا فلما احتاجت عند الكبر إليك جعلتها من أهون الأشياء عليك فشبعت وهي جائعة ورويت وهي ضائعة وقدمت عليها أهلك وأولادك في الإحسان وقابلت أياديها بالنسيان وصعب لديك أمرها وهو يسير وطال عليك عمرها وهو قصير وهجرتها وما لها سواك نصير
هذا ومولاك قد نهاك عن التأفيف وعاتبك في حقها بعتاب لطيف ستعاقب في دنياك بعقوق البنين وفي أخراك بالبعد من رب العالمين يناديك بلسان التوبيخ والتهديد ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد
لأمك حق لو علمت كبير كثيرك يا هذا لديه يسير فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي لها من جواها أنة وزفير وفي الوضع لو تدري عليها مشقة فمن غصص منها الفؤاد يطير وكم غسلت عنك الأذى بيمينها وما حجرها إلا لديك سرير وتفديك مما تشتكيه بنفسها ومن ثديها شرب لديك نمير وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها حنوا وإشفاقا وأنت صغير فآها لذي عقل ويتبع الهوى وآها لأعمى القلب وهو بصير فدونك فارغب في عميم دعائها فأنت لما تدعو إليه فقير
تنبيه عد العقوق من الكبائر هو ما اتفقوا عليه وظاهر كلام أئمتنا بل صريحه أنه لا فرق بين الكافرين والمسلمين لا يقال يشكل عليه الحديث الحسن الآتي في مبحث الفرار من الزحف إذ فيه أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر فقال تسع أعظمهن الإشراك بالله وقتل المؤمن بغير حق والفرار من الزحف وقذف المحصنة والسحر وأكل مال اليتيم
____________________
(2/659)
وأكل الربا وعقوق الوالدين المسلمين الحديث
لأنا نقول التقييد بالمسلمين إما بأن عقوقهما أقبح والكلام هنا في ذكر الأعظم على أحد التقديرين في عطف وقتل المؤمن وما بعده وإما لأنهما ذكرا للغالب كما في نظائر أخر
وللحليمي هنا تفصيل مبني على رأي له ضعيف مر أول الكتاب وهو أن العقوق كبيرة فإن كان معه نحو سب ففاحشة وإن كان عقوقه هو استثقاله لأمرهما ونهيهما والعبوس في وجوههما والتبرم بهما مع بذل الطاعة ولزوم الصمت فصغيرة وإن كان ما يأتيه من ذلك يلجئهما إلى أن ينقبضا فيتركا أمره ونهيه ويلحقهما من ذلك ضرر فكبيرة
انتهى وفيه نظر
والوجه الذي دل عليه كلامهم أن ذلك كبيرة كما يعلم من ضابط العقوق الذي هو كبيرة وهو أن يحصل منه لهما أو لأحدهما إيذاء ليس بالهين أي عرفا ويحتمل أن العبرة بالمتأذي ولكن لو كان في غاية الحمق أو سفاهة العقل فأمر أو نهى ولده بما لا يعد مخالفته فيه في العرف عقوقا لا يفسق ولده بمخالفته حينئذ لعذره وعليه فلو كان متزوجا بمن يحبها فأمره بطلاقها ولو لعدم عفتها فلم يمتثل أمره لا إثم عليه كما سيأتي التصريح به عن أبي ذر رضي الله عنه لكنه أشار إلى أن الأفضل طلاقها امتثالا لأمر والده وعليه يحمل الحديث الذي بعده أن عمر أمر ابنه بطلاق زوجته فأبى فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بطلاقها
وكذا سائر أوامره التي لا حامل عليها إلا ضعف عقله وسفاهة رأيه ولو عرضت على أرباب العقول لعدوها أمورا متساهلا فيها ولرأوا أنه لا إيذاء لمخالفتها هذا هو الذي يتجه إليه في تقرير ذلك الحد
ثم رأيت شيخ الإسلام السراج البلقيني أطال في هذا المحل من فتاويه بما قد يخالف بعضه ما ذكرته وعبارته مسألة قد ابتلي الناس بها واحتيج إلى بسط الكلام عليها وإلى تفاريعها ليحصل المقصود في ضمن ذلك وهي السؤال عن ضابط الحد الذي يعرف به عقوق الوالدين
إذ الإحالة على العرف من غير مثال لا يحصل به المقصود إذ الناس أغراضهم تحملهم على أن يجعلوا ما ليس بعرف عرفا
لا سيما إن كان قصدهم تنقيص شخص أو أذاه فلا بد من مثال ينسج على منواله وهو أنه مثلا لو كان له على أبيه حق
____________________
(2/660)
شرعي فاختار أن يرفعه إلى الحاكم ليأخذ حقه منه فلو حبسه فهل يكون ذلك عقوقا أم لا أجاب هذا الموضع قال فيه بعض العلماء الأكابر إنه يعسر ضبطه
وقد فتح الله سبحانه وتعالى بضابط أرجو من فضل الفتاح العليم أن يكون حسنا
فأقول العقوق لأحد الوالدين هو أن يؤذي الولد أحد والديه بما لو فعله مع غير والديه كان محرما من جملة الصغائر فينتقل بالنسبة إلى أحد الوالدين إلى الكبائر أو يخالف أمره أو نهيه فيما يدخل فيه الخوف على الولد فوات نفسه أو عضو من أعضائه ما لم يتهم الولد في ذلك أو أن يخالفه في سفر يشق على الوالد وليس بفرض على الولد أو في غيبة طويلة فيما ليس بعلم نافع ولا كسب أو فيه وقيعة في العرض لها وقع
وبيان هذا الضابط أن قولنا أن يؤذي الولد أحد والديه بما لو فعله مع غير والديه كان محرما
مثاله لو شتم غير أحد والديه أو ضربه بحيث لا ينتهي الشتم أو الضرب إلى الكبيرة فإنه يكون المحرم المذكور إذا فعله الولد مع أحد والديه كبيرة وخرج بقولنا أن يؤذي ما لو أخذ فلسا أو شيئا يسيرا من مال والديه أنه لا يكون كبيرة وإن كان لو أخذه من مال غير والديه بغير طريق معتبر كان حراما لأن أحد الوالدين لا يتأذى بمثل ذلك لما عنده من الشفقة والحنو فإن أخذ مالا كثيرا بحيث يتأذى المأخوذ منه من غير الوالدين بذلك فإنه يكون كبيرة في حق الأجنبي فكذلك يكون كبيرة هنا وإنما الضابط فيما يكون حراما صغيرة بالنسبة إلى غير الوالدين وخرج بقولنا ما لو فعله مع غير والديه كان محرما ما إذا طالب الوالد بدين عليه فإذا طالبه به أو رفعه إلى الحاكم ليأخذ حقه منه فإنه لا يكون من العقوق فإنه ليس بحرام في حق الأجنبي وإنما يكون العقوق بما يؤذي أحد الوالدين بما لو فعله مع غير والديه كان محرما وهذا ليس بموجود هنا فافهم ذلك فإنه من النفائس
وأما الحبس فإن فرعنا على جواز حبس الوالد بدين الولد كما صححه جماعة فقد طلب ما هو جائز فلا عقوق وإن فرعنا على منع حبسه كما هو المصحح عند آخرين فإن الحاكم إذا كان معتقده ذلك لا يجيبه إليه ولا يكون الولد الذي يطلب ذلك عاقا إذا كان معتقده الوجه الأول فإن اعتقد المنع وأقدم عليه كان كما لو طلب حبس من لا يجوز حبسه من الأجانب لإعسار ونحوه فإذا حبسه الولد واعتقاده المنع كان عاقا لأنه لو فعله مع غير والديه حيث لا يجوز كان حراما
وأما مجرد الشكوى الجائزة والطلب الجائز فليس من العقوق في شيء وقد جاء ولد بعض الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو من والده في اجتياح ماله وحضر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من ذلك عقوقا ولا عنف الولد بسبب الشكوى المذكورة
____________________
(2/661)
وأما إذا نهر الولد أحد والديه فإنه إذا فعل ذلك مع غير والديه وكان محرما كان في حق أحد الوالدين كبيرة وإن لم يكن محرما وكذا أف فإن ذلك يكون صغيرة في حق أحد الوالدين ولا يلزم من النهي عنهما والحال ما ذكر أن يكونا من الكبائر وقولنا أن يخالف أمره أو نهيه فيما يدخل فيه الخوف على الولد إلخ
أردنا به السفر للجهاد ونحوه من الأسفار الخطرة لما يخاف من فوات نفس الولد أو عضو من أعضائه لشدة تفجع الوالدين على ذلك أو أحد الوالدين
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمر في الرجل الذي جاء يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أحي والداك قال نعم
قال ففيهما فجاهد
وفي رواية لمسلم أقبل رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله فقال فهل من والديك أحد حي قال نعم بل كلاهما حي قال فتبتغي الأجر من الله قال نعم قال فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما وفي رواية جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان فقال ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما
وفي إسناد عطاء بن السائب لكن من رواية سفيان عنه وروى أبو سعيد الخدري أن رجلا من أهل اليمن هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله قد هاجرت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لك أحد باليمن قال أبواي
قال أذنا لك قال لا قال فارجع إليهما فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما
ورواه أبو داود في إسناده دراج أبو السمح المصري عبد الله بن سمعان ضعفه أبو حاتم وغيره ووثقه يحيى
وقولنا ما لم يتهم الوالد في ذلك أخرجنا به ما لو كان الوالد كافرا فإنه لا يحتاج الولد إلى إذنه في الجهاد ونحوه وحيث اعتبرنا إذن الوالد فلا فرق بين أن يكون حرا أو عبدا
وقولنا أو أن يخالفه في سفر إلخ أردنا به السفر لحج التطوع حيث كان فيه مشقة وأخرجنا بذلك حج الفرض وإذا كان فيه ركوب بحر بحيث يجب ركوبه عند غلبة السلامة فظاهر الفقه يقتضي أنه لا يجب الاستئذان ولو قيل بوجوبه لما عند الوالد من الخوف في ركوب ولده البحر وإن غلبت السلامة لم يكن بعيدا
وأما سفره للعلم المتعين أو لفرض الكفاية فلا منع منه وإن كان يمكنه التعلم في
____________________
(2/662)
بلده خلافا لمن اشترط ذلك لأنه قد يتوقع في السفر فراغ القلب أو إرشاد أستاذ ونحو ذلك فإن لم يتوقع شيئا من ذلك احتاج إلى الاستئذان وحيث وجبت النفقة للوالد على الولد وكان في سفره تضييع للواجب فللوالد المنع كصاحب الدين الحال بالنسبة إلى يوم السفر وبالنسبة إلى غيره فيه تضييع ما تقوم به الكفاية ولا كذلك في الدين
وأما إذا كان الولد بسفره يحصل وقيعة في العرض لها وقع بأن يكون أمرد ويخاف من سفره تهمة فإنه يمنع من ذلك وذلك في الأنثى أولى
وأما مخالفة أمره أو نهيه فيما لا يدخل على الولد فيه ضرر بالكلية وإنما هو مجرد إرشاد للولد فإذا فعل ما يخالف ذلك لم يكن عقوقا وعدم مخالفة الوالد أولى
انتهت عبارة فتاوى البلقيني
وتخصيصه العقوق بفعله المحرم الصغيرة بالنسبة للغير فيه وقفة بل ينبغي أن المدار على ما قدمته من أنه لو فعل معه ما يتأذى به تأذيا ليس بالهين عرفا كان كبيرة وإن لم يكن محرما لو فعل مع الغير كأن يلقاه فيقطب في وجهه أو يقدم عليه في ملأ فلا يقوم له ولا يعبأ به ونحو ذلك مما يقضي أهل العقل والمروءة من أهل العرف بأنه مؤذ تأذيا عظيما وسيأتي في قطيعة الرحم ما يؤيد ذلك
وقوله أو أن يخالف أمره أو نهيه إلخ ظاهر لأنه صريح كلامهم في مواضع جمع ذلك منها وإنما الذي انفرد به ضبطه الأول بفعل المحرم وقد علمت ما فيه
فائدة في أحاديث أخر في فضل بر الوالدين وصلتهما وتأكيد طاعتهما والإحسان إليهما وبر أصدقائهما من بعدهما
أخرج الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله تعالى قال الصلاة لوقتها قلت ثم أي قال بر الوالدين قلت ثم أي قال الجهاد في سبيل الله
ومسلم وغيره لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه
ومسلم أقبل رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبايعك على الهجرة والجهاد ليبتغي الأجر من الله تعالى قال فهل من والديك أحد حي قال نعم بل كلاهما حي
قال فتبتغي الأجر من الله قال نعم
قال فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما
____________________
(2/663)
وأبو يعلى والطبراني بسند جيد أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه قال هل بقي من والديك أحد قال أمي
قال فاسأل الله في برها فإذا فعلت ذلك فأنت حاج معتمر ومجاهد
والطبراني يا رسول الله إني أريد الجهاد في سبيل الله
قال أمك حية قال نعم
قال صلى الله عليه وسلم الزم رجلها فثم الجنة
وابن ماجه يا رسول الله ما حق الوالدين على ولدهما قال هما جنتك ونارك
وابن ماجه والنسائي واللفظ له والحاكم وصححه يا رسول الله أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك فقال هل لك من أم قال نعم قال الزمها فإن الجنة عند رجليها
وفي رواية صحيحة ألك والدان قال نعم قال الزمهما فإن الجنة تحت أرجلهما
والترمذي وصححه عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رجلا أتاه فقال إن لي امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه
وقال الترمذي وربما قال سفيان إن أمي وربما قال إن أبي
وابن حبان في صحيحه أن رجلا أتى أبا الدرداء فقال إن أبي لم يزل بي حتى زوجني وإنه الآن يأمرني
____________________
(2/664)
بطلاقها
قال ما أنا بالذي آمرك أن تعق والديك ولا بالذي آمرك أن تطلق زوجتك غير أنك إن شئت حدثتك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يقول الوالد أوسط أبواب الجنة فحافظ على ذلك إن شئت أو دع قال وأحسب عطاء قال فطلقها
وأصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه
وقال الترمذي حديث حسن صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال كانت تحتي امرأة أحبها وكان عمر يكرهها فقال لي طلقها فأبيت فأتى عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له
فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم طلقها
وأحمد بسند صحيح من سره أن يمد له في عمره ويزاد في رزقه فليبر والديه وليصل رحمه
وأبو يعلى وغيره وصححه الحاكم من بر والديه طوبى له زاد الله في عمره
وابن ماجه وابن حبان في صحيحه واللفظ له والحاكم وصححه إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ولا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد العمر إلا البر وفي رواية للترمذي وقال حسن غريب لا يرد القضاء إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر
والحاكم وصححه عفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم ومن أتاه أخوه متنصلا فليقبل ذلك محقا كان أو مبطلا فإن لم يفعل لم يرد على الحوض
والطبراني بإسناد حسن بروا آباءكم تبركم أبناؤكم وعفوا تعف نساؤكم
____________________
(2/665)
ومسلم رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه أي لصق بالرغام وهو التراب من الذل قيل من يا رسول الله قال من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة أو لا يدخلانه الجنة
والطبراني بأسانيد أحدها حسن صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فقال آمين آمين آمين ثم قال أتاني جبريل عليه السلام فقال يا محمد من أدرك أحد أبويه ثم لم يبرهما فمات فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين فقال يا محمد من أدرك شهر رمضان فمات فلم يغفر له فأدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين قال ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين
ورواه ابن حبان في صحيحه إلا أنه قال فيه ومن أدرك أبويه أو أحدهما فلم يبرهما فمات فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين
ورواه الحاكم وغيره وقال في آخره فلما رقيت الثالثة قال بعد من أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قلت آمين
ورواه الطبراني وفيه من أدرك والديه أو أحدهما فلم يبرهما دخل النار فأبعده الله وأسحقه قلت آمين
وأحمد من طرق أحدها حسن من أعتق رقبة مسلمة فهي فداؤه من النار ومن أدرك أحد والديه ثم لم يغفر له فأبعده الله
زاد في رواية وأسحقه
والشيخان يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أبوك
والشيخان عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت قدمت علي أمي وهي راغبة أي عن الإسلام أو فيما عندي أفأصل أمي قال نعم صلي أمك
وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم رضا الله في رضا الوالد أو قال الوالدين وسخط الله في سخط الوالد أو قال الوالدين ورجح الترمذي وقفه
وفي رواية للطبراني طاعة الله في طاعة الوالد أو قال الوالدين ومعصيته في معصية الوالد
____________________
(2/666)
وفي أخرى للبزار رضا الرب تبارك وتعالى في رضا الوالدين وسخط الرب تبارك وتعالى في سخط الوالدين والترمذي واللفظ له وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرطهما أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال إني أذنبت ذنبا عظيما فهل لي من توبة قال هل لك من أم قال لا
قال فهل لك من خالة قال نعم قال فبرها
وأبو داود وابن ماجه يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما قال نعم الصلاة عليهما أي الدعاء لهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما
ورواه ابن حبان في صحيحه بزيادة قال الرجل ما أكثر هذا يا رسول الله وأطيبه قال فاعمل به
ومسلم أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لقيه رجل من الأعراب بطريق مكة فسلم عليه عبد الله بن عمر وحمله على حمار كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه
قال ابن دينار فقلنا أصلحك الله إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير
فقال عبد الله بن عمر إن أبا هذا كان ودودا لعمر بن الخطاب وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه
____________________
(2/667)
وابن حبان في صحيحه عن أبي بردة رضي الله عنه قال قدمت المدينة فأتاني عبد الله بن عمر فقال أتدري لم أتيتك قلت لا قال فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه بعده وإنه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاء وود فأحببت أن أصل ذلك
وفي حديث الصحيحين وغيرهما المشهور بروايات متعددة أن ثلاثة نفر ممن كان قبلنا خرجوا يتماشون ويرتادون لأهليهم فأخذهم المطر حتى أووا إلى غار في الجبل فانحدرت على فمه صخرة فسدته فقالوا إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا بصالح أعمالكم
وفي رواية فقال بعضهم لبعض انظروا أعمالا عملتموها لله عز وجل صالحة فادعوا الله بها لعله يفرجها
وفي أخرى فقال بعضهم لبعض عفا الأثر ووقع الحجر ولا يعلم بمكانكم إلا الله فادعوا الله بأوثق أعمالكم فقال أحدهم اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا فنأى بي طلب شجر يوما فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما
اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة ففرجت شيئا لا يستطيعون الخروج
وفي رواية ولي صبية صغار كنت أرعى فإذا رحت عليهم فحلبت بدأت بوالدي أسقيهما قبل ولدي وإنه نأى بي طلب شجرة يوما فما أتيت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب فقمت عند رءوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما والصبية يتضاغون عند قدمي فلم يزل ذلك دأبي ودأبهما حتى طلع الفجر فإن كنت تعلم أني قد فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء ففرج الله لهم حتى يرون منها السماء وذكر الآخر عفته عن الزنا بابنة عمه والآخر تنميته لمال أجيره فانفرجت عنهم كلها وخرجوا يتماشون
الكبيرة الثالثة بعد الثلاثمائة قطع الرحم قال تعالى واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام أي واتقوا
____________________
(2/668)
الأرحام أن تقطعوها وقال تعالى فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم
وقال تعالى الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون
وقال تعالى الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار
وأخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت بلى قال فذاك لك ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرءوا إن شئتم فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم
والترمذي وقال حديث حسن صحيح وابن ماجه والحاكم وقال صحيح الإسناد
عن أبي بكرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من ذنب أجدر أي أحق أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم
والشيخان لا يدخل الجنة قاطع
قال سفيان يعني قاطع رحم
وأحمد بسند رواته ثقات إن أعمال بني آدم تعرض كل خميس وليلة جمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم
والبيهقي إنه أتاني جبريل عليه السلام فقال هذه ليلة النصف من شعبان ولله فيها عتقاء من النار بعدد شعر غنم كلب لا ينظر الله فيها إلى مشرك ولا إلى مشاحن ولا إلى قاطع رحم ولا إلى مسبل أي إزاره خيلاء ولا إلى عاق لوالديه ولا إلى مدمن خمر الحديث
____________________
(2/669)
وابن حبان وغيره ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن الخمر وقاطع الرحم ومصدق بالسحر
وأحمد مختصرا وابن أبي الدنيا والبيهقي يبيت قوم من هذه الأمة على طعم وشرب ولهو ولعب فيصبحوا قد مسخوا قردة وخنازير وليصيبنهم خسف وقذف حتى يصبح الناس فيقولون خسف الليلة ببني فلان وخسف الليلة بدار فلان خواص ولترسلن عليهم حجارة من السماء كما أرسلت على قوم لوط على قبائل فيها وعلى دور ولترسلن عليهم الريح العقيم التي أهلكت عادا على قبائل فيها وعلى دور بشربهم الخمر ولبسهم الحرير واتخاذهم القينات وأكلهم الربا وقطيعتهم الرحم وخصلة نسيها جعفر
والطبراني في الأوسط عن جابر رضي الله عنه قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن مجتمعون فقال يا معشر المسلمين اتقوا الله وصلوا أرحامكم فإنه ليس من ثواب أسرع من صلة الرحم وإياكم والبغي فإنه ليس من عقوبة أسرع من عقوبة بغي وإياكم وعقوق الوالدين فإن ريح الجنة يوجد من مسيرة ألف عام والله لا يجدها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا جار إزاره خيلاء إنما الكبرياء لله رب العالمين
والأصبهاني كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا يجالسنا اليوم قاطع رحم فقام فتى من الحلقة فأتى خالة له قد كان بينهما بعض الشيء فاستغفر لها فاستغفرت له ثم عاد إلى المجلس فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم وهذا مؤيد لما روي أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحرج على كل قاطع رحم إلا قام من عندنا فقام شاب إلى عمة له قد صارمها منذ سنين فصالحها فسألته عن السبب فذكره لها فقالت ارجع واسأله لم ذاك فرجع فسأله فقال لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم
والطبراني إن الملائكة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم
والطبراني بسند صحيح عن الأعمش قال كان ابن مسعود رضي الله عنه جالسا بعد الصبح في حلقة
____________________
(2/670)
فقال أنشد الله قاطع رحم لما قام عنه فإنا نريد أن ندعو ربنا وإن أبواب السماء مرتجة أي بضم ففتح والجيم مخففة مغلقة دون قاطع رحم
والشيخان الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله
وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح واعترض تصحيحه بأنه منقطع ورواية وصله قال البخاري خطأ عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله عز وجل أنا الله وأنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته أو قال بتته أي قطعته
وأحمد بإسناد صحيح إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق وإن هذه الرحم شجنة من الرحمن عز وجل فمن قطعها حرم الله عليه الجنة
وأحمد بإسناد جيد قوي وابن حبان في صحيحه إن الرحم شجنة من الرحمن تقول يا رب إني قطعت يا رب إني أسيء إلي يا رب إني ظلمت يا رب يا رب فيجيبها ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك والشجنة بكسر أوله المعجم وضمه وإسكان الجيم القرابة المشتبكة كاشتباك العروق ومعنى من الرحمن أي مشتق لفظها من لفظ اسمه الرحمن كما يأتي في الحديث على الأثر
والبزار بإسناد حسن الرحم حجنة متمسكة بالعرش تتكلم بلسان ذلق اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني فيقول الله تبارك وتعالى أنا الرحمن الرحيم وإني شققت الرحم من اسمي فمن وصلها وصلته ومن بتكها بتكته الحجنة
____________________
(2/671)
بفتح الحاء المهملة والجيم وتخفيف النون صنارة المغزل أي الحديدة العقفاء التي يعلق بها الخيط ثم يفتل الغزل والبتك القطع
والبزار ثلاث متعلقات بالعرش الرحم تقول اللهم إني بك فلا أقطع والأمانة تقول اللهم إني بك فلا أخان والنعمة تقول اللهم إني بك فلا أكفر
والبزار واللفظ له والبيهقي الطابع معلق بقائمة العرش فإذا اشتكت الرحم وعمل بالمعاصي واجترئ على الله تعالى بعث الله الطابع فيطبع على قلبه فلا يعقل بعد ذلك شيئا
تنبيه عد هذا هو صريح هذه الأحاديث الكثيرة الصحيحة بل المتفق على صحة كثير منها وبهذا يرد توقف الرافعي في قول صاحب الشامل إنه من الكبائر وكذا تقرير النووي له على توقفه هذا فإنه اعترض توقفه في غيره ولم يعترض توقفه هذا وهو أجدر وأحق بالرد وكيف يتوقف في ذلك مع تصريح هذه الأحاديث ومع ما في الآية الثانية من لعن فاعله واستدلاله صلى الله عليه وسلم بها في أول الأحاديث المذكورة على قطيعة الله لقاطع الرحم وقوله إن القاطع لا يدخل الجنة وإنه ما من ذنب أجدر أن يعجل عقوبته من ذنبه وإنه لا يقبل عمله وغير ذلك مما مر فحينئذ لا مساغ للتوقف
ثم رأيت الجلال البلقيني قال ولا ينبغي التوقف في ذلك مع النص في القرآن على لعنة فاعله ثم روي عن الباقر أن أباه زين العابدين رضي الله عنهما قال لا تصاحب قاطع رحم فإني وجدته ملعونا في كتاب الله في ثلاثة مواضع وذكر الآيات الثلاث السابقة آية القتال واللعن فيها صريح والرعد واللعن فيها بطريق العموم لأن ما أمر الله به أن يوصل يشمل الأرحام وغيرها والبقرة واللعن فيها بطريق الاستلزام إذ هو من لوازم الخسران وقد نقل القرطبي في تفسيره اتفاق الأمة على وجوب صلة الرحم وحرمة قطعها
ثم المراد بقطيعة الرحم ماذا فيه اختلاف فقال أبو زرعة الولي بن العراقي ينبغي أن يختص بالإساءة
وقال غيره لا ينبغي اختصاصه بذلك بل ينبغي أن يتعدى إلى ترك
____________________
(2/672)
الإحسان لأن الأحاديث آمرة بالصلة ناهية عن القطيعة ولا واسطة بينهما والصلة إيصال نوع من أنواع الإحسان لما فسرها بذلك غير واحد فالقطيعة ضدها وهي ترك الإحسان
ا ه
ولك أن تقول في كل من هذين نظر أما الأول فلأنه إن أريد بالإساءة ما يشمل فعل المكروه والمحرم أو ما يختص بالمحرم ولو صغيرة نافى ما مر عن البلقيني وغيره في ضابط العقوق من أنه إن يفعل مع أحد والديه ما لو فعله مع أجنبي كان محرما صغيرة فينتقل بالنسبة إلى أحدهما كبيرة فإذا كان هذا هو ضابط العقوق
ومعلوم أن حق الوالدين آكد من حق بقية الأقارب وأن العقوق غير قطيعة الرحم كما يصرح به كلامهم ومنه توقف الرافعي في الثاني دون الأول وجب أن يكون المراد بقطع الرحم المحكوم عليه بأنه كبيرة ما هو أشد في الإيذاء من العقوق ليظهر مزية الوالدين وما قاله أبو زرعة يلزم عليه اتحادهما بل إن القطيعة يراعى فيها ما هو أدنى في الإيذاء من العقوق بناء على أن الإساءة في كلامه تشمل فعله فيتميز بقية الأقارب على الأبوين حيث جعل مطلق الإيذاء في حقهم كبيرة
والأبوان لم يجعل الإيذاء في حقهم كذلك وهذا مناف لصريح كلامهم فوجب رد كلام أبي زرعة لئلا يلزم عليه ما ذكر
وإذا علم أن كلامهم في العقوق يرد ما ذكره فما ذكره غيره من أن قطع الرحم عدم فعل الإحسان كلامهم يرده بالأولى وحينئذ فالذي يتجه ليوافق كلامهم وفرقهم بين العقوق وقطع الرحم أن المراد بالأول ما قدمته فيه دون ما مر عن البلقيني لما يلزم عليه أيضا من اتحادهما وبالثاني قطع ما ألف القريب منه من سابق الوصلة والإحسان لغير عذر شرعي لأن قطع ذلك يؤدي إلى إيحاش القلوب ونفرتها وتأذيها ويصدق عليه حينئذ أنه قطع وصلة رحمه وما ينبغي لها من عظيم الرعاية فلو فرض أن قريبه لم يصل إليه منه إحسان ولا إساءة قط لم يفسق بذلك لأن الأبوين إذا فرض ذلك في حقهما من غير أن يفعل معهما ما يقتضي التأذي العظيم لغناهما مثلا لم يكن كبيرة فأولى بقية الأقارب
ولو فرض أن الإنسان لم يقطع عن قريبه ما ألفه من الإحسان لكنه فعل معه محرما صغيرة أو قطب في وجهه أو لم يقم إليه في ملأ ولا عبأ به لم يكن ذلك فسقا بخلافه مع أحد الوالدين لأن تأكد حقهما اقتضى أن يتميزا على بقية الأقارب بما لا يوجد نظيره فيهم وعلى ضبط الثاني بما ذكرته فلا فرق بين أن يكون الإحسان الذي ألفه منه قريبه مالا أو مكاتبة أو مراسلة أو زيارة أو غير ذلك فقطع ذلك كله بعد فعله لغير عذر كبيرة
فإن قلت فما المراد بالعذر في المال وفي نحو الزيارة والمكاتبة
____________________
(2/673)
قلت ينبغي أن يراد بالعذر في المال فقد ما كان يصله به أو تجدد احتياجه إليه أو أن يندبه الشارع إلى تقديم غير القريب عليه لكون الأجنبي أحوج أو أصلح فعدم الإحسان إليه أو تقديم الأجنبي عليه لهذا العذر يرفع عنه الفسق وإن انقطع بسبب ذلك ما ألفه منه القريب لأنه إنما راعى أمر الشارع بتقديم الأجنبي على القريب
وواضح أن القريب لو ألف منه قدرا معينا من المال يعطيه إياه كل سنة مثلا فنقصه لا يفسق بذلك بخلاف ما لو قطعه من أصله لغير عذر
فإن قلت يلزم على ذلك امتناع القريب من الإحسان إلى قريبه أصلا خشية أنه إذا أحسن إليه يلزمه الاستمرار على ذلك خوفا من أن يفسق لو قطعه وهذا خلاف مراد الشارع من الحث على الإحسان إلى الأقارب
قلت لا يلزم ذلك لما تقرر أنه لا يلزمه أن يجري على تمام القدر الذي ألفه منه بل اللازم له أن لا يقطع ذلك من أصله وغالب الناس يحملهم شفقة القرابة ورعاية الرحم على وصلتها فليس في أمرهم بمداومتهم على أصل ما ألفوه منهم تنفير عن فعله بل حث على دوام أصله وإنما يلزم ذلك لو قلنا إنه إذا ألف منه شيئا بخصوصه يلزمه الجريان على ذلك الشيء المخصوص دائما ولو مع قيام العذر الشرعي ونحن لم نقل ذلك
وأما عذر الزيارة فينبغي ضبطه بعذر الجمعة بجامع أن كلا فرض عين وتركه كبيرة
وأما عذر ترك المكاتبة والمراسلة فهو أن لا يجد من يثق به في أداء ما يرسله معه والظاهر أنه إذا ترك الزيارة التي ألفت منه في وقت مخصوص لعذر لا يلزمه قضاؤها في غير ذلك الوقت فتأمل جميع ما قررته واستفده فإني لم أر من نبه على شيء منه مع عموم البلوى به وكثرة الاحتياج إلى ضبطه
وظاهر أن الأولاد والأعمام من الأرحام وكذا الخالة فيأتي فيهم وفيها ما تقرر من الفرق بين قطعهم وعقوق الوالدين
وأما قول الزركشي صح في الحديث أن الخالة بمنزلة الأم وأن عم الرجل صنو أبيه وقضيتهما أنهما مثل الأب والأم حتى في العقوق فبعيد جدا وليس قضيتهما ذلك إذ لا عموم فيهما ولا تعرض لخصوص العقوق فيكفي تشابههما في أمر ما كالحضانة تثبت للخالة كما تثبت للأم وكذا المحرمية وتأكد الرعاية وكالإكرام في العم والمحرمية وغيرهما مما ذكر
وأما إلحاقهما بهما في أن عقوقهما كعقوقهما فهو مع كونه غير مصرح به في الحديث مناف لكلام أئمتنا فلا معول عليه بل الذي دلت عليه الآيات والأحاديث أن الوالدين اختصا من الرعاية والاحترام والطواعية والإحسان بأمر عظيم جدا وغاية رفيعة لم يصل
____________________
(2/674)
إليها أحد من بقية الأقارب ويلزم من ذلك أنه يكتفى في عقوقهما وكونه فسقا بما لا يكتفى به في عقوق غيرهما
فإن قلت يؤيد التفسير السابق المقابل لكلام أبي زرعة قول بعضهم في قوله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة قاطع أي قاطع رحم فمن قطع أقاربه الضعفاء وهجرهم وتكبر عليهم ولم يصلهم ببره وإحسانه وكان غنيا وهم فقراء فهو داخل في هذا الوعيد محروم دخول الجنة إلا أن يتوب إلى الله عز وجل ويحسن إليهم
وقد روي في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من كان له أقارب ضعفاء ولم يحسن إليهم ويصرف صدقته إلى غيرهم لم يقبل الله صدقته ولا ينظر إليه يوم القيامة وإن كان فقيرا وصلهم بزيارتهم والتفقد لأحوالهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم صلوا أرحامكم ولو بالسلام
ا ه
قلت ما قاله هذا القائل من الهجر والتكبر عليهم واضح وأما قوله ولم يصلهم إلخ فهو بإطلاقه ممنوع أيضا وكفى في منعه ورده تصريح أئمتنا بأن الإنفاق إنما يجب للوالدين وإن علوا والأولاد وإن سفلوا دون بقية الأقارب وبأن الصدقة على الأقارب والأرحام سنة لا واجبة فلو كان ترك الإحسان إليهم بالمال كبيرة لم يسع إطلاق الأئمة ندب ذلك وأيضا فتعبيرهم بالقطع ظاهر في أنه كان ثم شيء فقطع وبه يتأيد ما قدمته وقررته في معنى قطع الرحم مخالفا فيه كلا من تفسير أبي زرعة ومقابله
وأما استدلاله بهذين الحديثين فيتوقف على صحة سندهما نعم ينبغي للموفق أن يراعي هذا القول وأن يبالغ فيما قدر عليه من الإحسان إلى أقاربه لما يأتي قريبا من الأحاديث الكثيرة المؤكدة في ذلك والدالة على عظيم فضله ورفعة محله
وقد حكي أن رجلا غنيا حج فأودع آخر موسوما بالأمانة والصلاح ألف دينار حتى يعود من عرفة فلما عاد وجده قد مات فسأل ذريته عن المال فلم يكن لهم به علم فسأل علماء مكة عن قضيته فقالوا له إذا كان نصف الليل فأت زمزم فانظر فيها وناد يا فلان باسمه فإذا كان من أهل الخير فيجيبك من أول مرة فذهب ونادى فيها فلم يجبه أحد فأخبرهم فقالوا له إنا لله وإنا إليه راجعون نخشى أن يكون صاحبك من أهل النار اذهب إلى أرض اليمن ففيها بئر تسمى بئر برهوت يقال إنه على فم جهنم فانظر فيه بالليل وناد يا فلان فيجيبك منها فمضى إلى اليمن وسأل عن البئر فدل عليها فذهب إليها ليلا ونادى فيها يا فلان فأجابه فقال أين ذهبي فقال دفنته في
____________________
(2/675)
الموضع الفلاني من داري ولم ائتمن عليه ولدي فأتهم واحفر هناك تجده فقال له ما الذي أنزلك هاهنا وقد كنت يظن بك الخير قال كان لي أخت فقيرة هجرتها وكنت لا أحنو عليها فعاقبني الله تعالى بسببها وأنزلني هذه المنزلة وتصديق ذلك الحديث الصحيح السابق لا يدخل الجنة قاطع أي قاطع رحمه وأقاربه
فائدة في ذكر أحاديث فيها الحث الأكيد والتأكيد الشديد على صلة الرحم أخرج الشيخان من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت
وأخرج أيضا من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ أي يؤخر وهو بضم أوله وتشديد ثالثه المهمل وبالهمز له في أثره أي أجله فليصل رحمه
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من سره أن يبسط له في رزقه أو ينسأ له في أثره فليصل رحمه رواه البخاري والترمذي ولفظه قال تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم فإن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر أي بها الزيادة في العمر
وعبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند والبزار بإسناد جيد والحاكم من سره أن يمد له في عمره ويوسع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه
والبزار بإسناد لا بأس به والحاكم وصححه أنه صلى الله عليه وسلم قال مكتوب في التوراة من أحب أن يزاد في عمره وفي رزقه فليصل رحمه
____________________
(2/676)
وأبو يعلى إن الصدقة وصلة الرحم يزيد الله بهما في العمر ويدفع بهما ميتة السوء ويدفع بهما المكروه والمحذور
وأبو يعلى بإسناد جيد عن رجل من خثعم قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في نفر من أصحابه فقلت أنت الذي تزعم أنك رسول الله قال نعم قلت يا رسول الله أي الأعمال أحب إلى الله قال الإيمان بالله قلت يا رسول الله ثم ماذا قال ثم صلة الرحم
قلت يا رسول الله أي الأعمال أبغض إلى الله قال الإشراك بالله قلت يا رسول الله ثم ماذا قال قطيعة الرحم قلت يا رسول الله ثم ماذا قال ثم الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف
والبخاري ومسلم واللفظ له عرض أعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في سفر فأخذ بخطام ناقته أو بزمامها ثم قال يا رسول الله أو يا محمد أخبرني بما يقربني من الجنة ويباعدني عن النار فكف النبي صلى الله عليه وسلم ثم نظر في أصحابه ثم قال لقد وفق هذا أو لقد هدي قال كيف قلت فأعادها فقال النبي صلى الله عليه وسلم تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم دع الناقة وفي رواية وتصل ذا رحمك فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن تمسك بما أمرته به دخل الجنة
والطبراني بإسناد حسن إن الله ليعمر بالقوم الديار وينمي لهم الأموال وما نظر إليهم منذ خلقهم بغضا لهم
قيل وكيف ذاك يا رسول الله قال بصلتهم أرحامهم
وأحمد بسند رواته ثقات إلا أن فيه انقطاعا إنه من أعطي الرفق فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة وصلة الرحم وحسن الجوار وحسن الخلق يعمرن الديار ويزدن في الأعمار
____________________
(2/677)
وأبو الشيخ وابن حبان والبيهقي يا رسول الله من خير الناس قال أتقاهم للرب وأوصلهم للرحم وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر
والطبراني وابن حبان في صحيحه واللفظ له عن أبي ذر رضي الله عنه قال أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بخصال من الخير أوصاني أن لا أنظر إلى من هو فوقي وأن أنظر إلى من هو دوني وأوصاني بحب المساكين والدنو منهم وأوصاني أن أصل رحمي وإن أدبرت وأوصاني أن لا أخاف في الله لومة لائم وأوصاني أن أقول الحق وإن كان مرا وأوصاني أن أكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة
والشيخان وغيرهما عن ميمونة رضي الله عنها أنها أعتقت وليدة لها ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي قال أوفعلت فقالت نعم قال أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك
وابن حبان والحاكم أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال إني أذنبت ذنبا عظيما فهل لي من توبة قال هل لك من أم قال لا قال وهل لك من خالة قال نعم قال فبرها
والبخاري وغيره ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها والترمذي وقال حسن لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا أن لا تظلموا
والإمعة بكسر ففتح وتشديد فمهملة هو الذي لا رأي له فهو يتبع كل واحد على رأيه
ومسلم يا رسول الله إن لي قرابة أصل ويقطعونني وأحسن إليهم ويسيئون إلي وأحلم عليهم ويجهلون علي فقال إن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل أي بفتح وتشديد الرماد الحار ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك
____________________
(2/678)
والطبراني وابن خزيمة في صحيحه والحاكم
وقال صحيح على شرط مسلم أفضل الصدقة صدقة على ذي الرحم الكاشح أي الذي يضمر عداوة في كشحه أي خصره كناية عن باطنه وهو في معنى قوله صلى الله عليه وسلم وتصل من قطعك
والبزار والطبراني والحاكم وصححه
واعترض بأن فيه واهيا ثلاث من كن فيه حاسبه الله حسابا يسيرا وأدخله الجنة برحمته قالوا وما هي يا رسول الله قال تعطي من حرمك وتصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك فإذا فعلت ذلك يدخلك الجنة
وأحمد بإسنادين أحدهما رواته ثقات
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بيده فقلت يا رسول الله أخبرني بفواضل الأعمال فقال يا عقبة صل من قطعك وأعط من حرمك واعف عمن ظلمك
زاد الحاكم ألا ومن أراد أن يمد في عمره ويبسط في رزقه فليصل رحمه
والطبراني بسند محتج به ألا أدلك على أكرم أخلاق الدنيا والآخرة أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وأن تعفو عمن ظلمك
والطبراني إن أفضل الفضائل أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتصفح عمن شتمك
والبزار ألا أدلكم على ما يرفع الله به الدرجات
____________________
(2/679)
وفي رواية الطبراني ألا أنبئكم بما يشرف الله به البنيان ويرفع به الدرجات قال قالوا نعم يا رسول الله تحلم على من جهل عليك وتعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك
وابن ماجه أسرع الخير ثوابا البر وصلة الرحم وأسرع الشر عقوبة البغي وقطيعة الرحم
والطبراني ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من قطيعة الرحم والخيانة والكذب وإن أعجل البر ثوابا لصلة الرحم حتى إن أهل البيت ليكونون فجرة فتنمو أموالهم ويكثر عددهم إذا تواصلوا
الكبيرة الرابعة بعد الثلاثمائة تولي الإنسان غير مواليه أخرج الشيخان من جملة حديث ومن ادعي إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا
وابن حبان في صحيحه من تولى إلى غير مواليه فليتبوأ مقعده من النار
وأبو داود من ادعي إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة
تنبيه عد هذا هو صريح هذه الأحاديث وهو ظاهر
____________________
(2/680)
الكبيرة الخامسة بعد الثلاثمائة إفساد القن على سيده أخرج أحمد بإسناد صحيح واللفظ له والبزار وابن حبان في صحيحه عن بريدة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خبب على امرئ زوجته أو مملوكه فليس منا وخبب بفتح المعجمة وتشديد الموحدة الأولى معناه أفسد وخدع
وأبو داود والنسائي ليس منا من خبب امرأة على زوجها أو عبدا على سيده
وأبو يعلى بسند رواته ثقات وابن حبان في صحيحه من خبب عبدا على أهله فليس منا ومن أفسد امرأة على زوجها فليس منا
تنبيه عد هذا هو قضية الأحاديث إذ نفي الإسلام وعيد شديد كما صرح به الأذرعي وغيره في نظير ذلك ثم رأيت بعضهم صرح بأن ذلك من الكبائر
الكبيرة السادسة بعد الثلاثمائة إباق العبد من سيده أخرج مسلم عن جرير رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما عبد أبق فقد برئت منه الذمة
وأخرج أيضا إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة وفي رواية له فقد كفر حتى يرجع إليهم
والطبراني بإسناد جيد والحاكم اثنان لا تجاوز صلاتهما رءوسهما عبد أبق من مواليه حتى يرجع وامرأة عصت زوجها حتى ترجع
والترمذي وقال حسن غريب ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم العبد الآبق حتى يرجع وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط وإمام قوم وهم له كارهون
والطبراني أيما عبد مات في إباقه دخل النار وإن قتل في سبيل الله
والطبراني وابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما ثلاثة لا يقبل الله لهم صلاة ولا يصعد لهم إلى السماء حسنة السكران حتى يصحو والمرأة الساخط عليها زوجها والعبد الآبق حتى يرجع فيضع يده في يد مواليه
وابن حبان في صحيحه ثلاثة لا تسأل عنهم رجل فارق الجماعة وعصى إمامه
____________________
(2/681)
وعبد أبق من سيده فمات مات عاصيا وامرأة غاب عنها زوجها وقد كفاها مؤن الدنيا فخانته بعده
وثلاثة لا تسأل عنهم رجل نازع الله رداءه فإن رداءه الكبر وإزاره العز ورجل في شك من أمر الله والقانط من رحمة الله
وروى الطبراني والحاكم شطره الأول
وعند الحاكم فتبرجت بعده بدل فخانته وقال في حديثه وأمة وعبد أبق من سيده وقال صحيح على شرطهما ولا أعلم له علة
تنبيه عد هذا هو صريح هذه الأحاديث الكثيرة الصحيحة وهو ظاهر
الكبيرة السابعة بعد الثلاثمائة استخدام الحر وجعله رقيقا أخرج أبو داود وابن ماجه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة من تقدم قوما وهم له كارهون ورجل أتى الصلاة دبارا والدبار أن يأتيها بعد أن تفوته ورجل اعتبد محررا
قال الخطابي اعتباد المحرر إما أن يعتقه ثم يكتم عتقه أو ينكره وهذا أشر مما بعده وإما أن يعتقله بعد العتق فيستخدمه كرها
انتهى
وبقي عليه أن يستخدم عتيق غيره أو يسترقه كرها
تنبيه عد هذا هو صريح هذا الحديث وهو ظاهر
الكبيرة الثامنة والتاسعة والعاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة بعد الثلاثمائة امتناع القن مما يلزمه من خدمة سيده وامتناع السيد مما يلزمه من مؤنة قنه وتكليفه إياه عملا لا يطيقه وضربه على الدوام وتعذيب القن بالخصاء ولو صغيرا أو بغيره أو الدابة وغيرهما بغير سبب شرعي والتحريش بين البهائم أخرج الطبراني في الأوسط والصغير
عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله اشتد غضبي على من ظلم من لا يجد له ناصرا غيري
____________________
(2/682)
وأبو الشيخ وابن حبان أمر بعبد من عباد الله يضرب في قبره مائة جلدة فلم يزل يسأل ويدعو حتى صارت جلدة واحدة فامتلأ قبره عليه نارا فلما ارتفع عنه وأفاق قال علام جلدتموني قالوا إنك صليت صلاة بغير طهور ومررت على مظلوم فلم تنصره ومسلم وغيره عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال كنت أضرب غلاما لي بالسوط فسمعت صوتا من خلفي اعلم أبا مسعود فلم أفهم الصوت من الغضب فلما دنا مني إذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم
فإذا هو يقول اعلم أبا مسعود أن الله تعالى أقدر عليك منك على هذا الغلام فقلت لا أضرب مملوكا بعده أبدا
وفي رواية فقلت يا رسول الله هو حر لوجه الله تعالى فقال أما لو لم تفعل للفحتك النار أو لمستك النار
وأبو داود عن زاذان وهو الكندي مولاهم الكوفي قال أتيت ابن عمر رضي الله عنهما وقد أعتق مملوكا له فأخذ من الأرض عودا أو شيئا فقال ما لي فيه من الأجر ما يسوى هذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من لطم مملوكا له أو ضربه فكفارته أن يعتقه
ومسلم من ضرب مملوكا له حدا لم يأته أو لطمه فإن كفارته أن يعتقه
والطبراني بسند رواته ثقات من ضرب مملوكه ظلما أقيد منه يوم القيامة
والشيخان والترمذي واللفظ له من قذف مملوكه بريئا مما قال أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال
وأحمد وابن ماجه عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة سيئ الملكة قالوا يا رسول الله أليس أخبرتنا أن هذه الأمة أكثر الأمم مملوكين ويتامى قال نعم فأكرموهم كرامة أولادكم وأطعموهم مما تأكلون قالوا فما
____________________
(2/683)
ينفعنا من الدنيا قال فرس ترتبطه تقاتل عليه في سبيل الله ومملوكك يكفيك فإذا صلى فهو أخوك رواه أحمد وابن ماجه والترمذي مقتصرا على قوله لا يدخل الجنة سيئ الملكة وقال حسن غريب
قال أهل اللغة سيئ الملكة هو الذي يسيء الصنيعة إلى مماليكه
وأبو داود أن أبا ذر ألبس غلامه مثله وأنه ذكر أن سبب ذلك أنه عير رجلا بأمه لكونها أعجمية أي وذلك الرجل بلال بن رباح مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية فقال إنهم إخوانكم فضلكم الله عليهم فمن لم يلائمكم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله
ورواه الشيخان والترمذي بمعناه إلا أنهم قالوا فيه هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا يكلفه من العمل ما يغلبه فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه
وفي رواية للترمذي إخوانكم جعلهم الله فتية تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه من طعامه وليلبسه من لباسه ولا يكلفه من العمل ما يغلبه فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه
وفي أخرى لأبي داود من لاءمكم من مماليككم فأطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون ومن لم يلائمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله
وأحمد والطبراني من رواية من صحح له الترمذي والحاكم أنه صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع أرقاؤكم أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون فإن جاء بذنب لا تريدوا أن تغفروه فبيعوا عباد الله ولا تعذبوهم
____________________
(2/684)
والترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال في العبيد إن أحسنوا فاقبلوا وإن أساءوا فاغفروا وإن غلبوكم فبيعوا
والأصبهاني الغنم بركة على أهلها والإبل عز لأهلها والخيل معقود في نواصيها الخير والعبد أخوك فأحسن إليه فإن رأيته مغلوبا فأعنه
وابن حبان في صحيحه ومسلم باختصار للمملوك طعامه وشرابه وكسوته ولا يكلف إلا ما يطيق فإن كلفتموهم فأعينوهم ولا تعذبوا عباد الله خلقا أمثالكم
وأبو يعلى وابن حبان في صحيحيهما ما خففت عن خادمك من عمله كان لك أجرا في موازينك
وأبو داود عن علي كرم الله وجهه قال كان آخر كلام النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة الصلاة اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم
ورواه ابن ماجه بلفظ الصلاة وما ملكت أيمانكم
وبلفظ كان يقول في مرضه الذي توفي فيه الصلاة وما ملكت أيمانكم فما زال يقولها حتى ما يفيض لسانه
ومسلم كفى بالمرء إثما أن تحبس عمن تملك قوتهم
والطبراني بسند لا بأس به أنه صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بخمس ليال قال لم يكن نبي إلا وله خليل من أمته وإن خليلي أبو بكر بن أبي قحافة وإن الله اتخذ صاحبكم خليلا ألا وإن الأمم قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد وإني أنهاكم عن ذلك
اللهم هل بلغت ثلاث مرات ثم قال اللهم اشهد ثلاث مرات
وأغمي عليه هنيهة ثم قال الله الله فيما ملكت أيمانكم أشبعوا بطونهم واكسوا ظهورهم وألينوا القول لهم
وأبو داود والترمذي وقال حسن غريب وفي بعض النسخ حسن صحيح يا رسول الله كم أعفو عن الخادم قال كل يوم سبعين مرة
____________________
(2/685)
وفي رواية سندها جيد إن خادمي يسيء ويظلم أفأضربه قال تعفو عنه كل يوم سبعين مرة
وأحمد بسند صحيح احتج برواته البخاري فقول الترمذي إنه غريب ممنوع
عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا قعد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأشتمهم وأضربهم فكيف أنا منهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم القيامة يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم فإن كان عقابك بقدر ذنوبهم كان كفافا لا لك ولا عليك وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل فتنحى الرجل وجعل يهتف ويبكي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أما تقرأ قول الله تبارك وتعالى ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين فقال الرجل يا رسول الله ما أجد لي ولهؤلاء خيرا من مفارقتهم أشهدك أنهم كلهم أحرار
والطبراني بسند حسن من ضرب سوطا ظلما اقتص منه يوم القيامة
وأبو يعلى بأسانيد أحدها جيد عن أم سلمة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وكان بيده سواك فدعا وصيفة له أو لها حتى استبان الغضب في وجهه وخرجت أم سلمة إلى الحجرات فوجدت الوصيفة وهي تلعب ببهيمة فقالت أراك تلعبين بهذه البهيمة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك فقالت لا والذي بعثك بالحق ما سمعتك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا خشية القود لأوجعتك بهذا السواك وفي رواية لضربتك بهذا السواك
والشيخان من لا يرحم لا يرحم
والبخاري وغيره دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض وفي رواية عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت لا هي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض
زاد
____________________
(2/686)
أحمد فوجبت لها النار بذلك
وخشاش الأرض بمعجمات حشراتها ونحو عصافيرها مثلثة الخاء
وابن حبان في صحيحه دخلت الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء ورأيت فيها ثلاثة يعذبون امرأة من حمير طوالة ربطت هرة لها لم تطعمها ولم تسقها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض فهي تنهش قبلها ودبرها ورأيت فيها أخا بني دعدع الذي كان يسرق الحاج بمحجنه فإذا فطن له قال إنما تعلق بمحجني والذي سرق بدنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية له ذكر فيها الكسوف قال وعرضت علي النار فلولا أني دفعتها عنكم لغشيتكم ورأيت فيها ثلاثة يعذبون امرأة حميرية سوداء طويلة تعذب في هرة لها أوثقتها فلم تدعها تأكل من خشاش الأرض ولم تطعمها حتى ماتت فهي إذا أقبلت نهشتها وإذا أدبرت نهشتها الحديث
المحجن بكسر الميم وسكون الحاء المهملة بعدهما جيم مفتوحة هي عصا محنية الرأس
والبخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الكسوف فقال دنت النار مني حتى قلت أي رب وأنا معهم فإذا امرأة حسبت أنه قال تخدشها هرة قال ما شأن هذه قالوا حبستها حتى ماتت جوعا
وأبو داود والترمذي متصلا ومرسلا عن مجاهد وقال في المرسل هو أصح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التحريش بين البهائم
تنبيه عد الأولى من هذه الخمس ظاهر لأنه ظلم للسيد بل أحاديث الإباق السابقة تشمله لأن الامتناع من خدمة السيد الواجبة والتقصير فيها كالإباق في المعنى وسيأتي في أحاديث الظلم ما يشمله وعد الأربعة الباقية هو صريح الأحاديث التي ذكرتها وهو ظاهر حتى في التحريش إذ هو جملة التعذيب
____________________
(2/687)
وقد قال الأذرعي ويشبه أن يكون قتل الهر الذي ليس بمؤذ عمدا من الكبائر لأن امرأة دخلت النار في هرة
الحديث ويلحق بها ما في معناها انتهى
والقتل ليس بشرط بل الإيذاء الشديد كالضرب المؤلم كذلك ثم رأيت بعضهم صرح بأن تعذيب الحيوان من غير موجب وخصاء العبد وتعذيبه ظلما أو بغيا من الكبائر ويقاس بالعبد غيره نعم الحيوان المذكور يجوز خصاء صغيره لمصلحة سمنه وطيب لحمه وبأن سوء الملكة للرقيق والبهائم من الكبائر أيضا
ولما فرغت من هذا المبحث رأيت بعضهم أطال فيه فأحببت تلخيص ما زاد به على ما قدمته وإن كان في خلاله شيء مما قدمته
قال الكبيرة الحادية والخمسون الاستطالة على الضعيف والمملوك والجارية والزوجة والدابة لأن الله تعالى قد أمر بالإحسان إليهم بقوله تعالى واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا فالإحسان للوالدين والأقارب بالبر وباليتامى بالرفق والتقريب ومسح الرأس وبالمساكين بإعطاء اليسير أو الرد الجميل والجار ذي القربى هو من بينك وبينه قرابة فله حقها وحق الجوار والإسلام والجار الجنب هو الأجنبي وله الحقان الأخيران والصاحب بالجنب
قال ابن عباس ومجاهد هو الرفيق في السفر فله حق الجوار وحق الصحبة وما ملكت أيمانكم يريد المملوك يحسن رزقه ويعفو عنه فيما يخطئ ومن ثم رفع أبو هريرة سوطا على أمة له زنجية ثم قال لولا القصاص لأغشيتكيه ولكن سأبيعك لمن يوفيني ثمنك اذهبي فأنت حرة لوجه الله
وجاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني قلت لأمتي يا زانية
قال وهل رأيت عليها ذلك قالت لا قال أما إنها ستقيد منك يوم القيامة فرجعت المرأة إلى جاريتها فأعطتها سوطا وقالت اجلديني فأبت الجارية فأعتقتها ثم رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بعتقها فقال عسى أي عسى أن يكفر عتقك إياها ما قذفتها به وكان صلى الله عليه وسلم يوصي بهم عند خروجه من الدنيا كما مرت أحاديثه ثم يقول ولا تعذبوا خلق الله فإن الله ملككم إياهم ولو شاء لملكهم إياكم
____________________
(2/688)
ودخل جماعة على سلمان الفارسي رضي الله عنه وهو أمير على المدائن فوجدوه يعجن عجين أهله فقالوا ألا تترك الجارية تعجن فقال رضي الله عنه إنا أرسلناها في عمل فكرهنا أن نجمع عليها عملا آخر
قال بعض السلف لا تضرب المملوك في كل ذنب ولكن احفظ له ذلك فإذا عصى الله تعالى فاضربه على معصية الله وذكره الذنوب التي بينك وبينه
ومن أعظم الإساءة على الجارية أو العبد أو الدابة أن تجوعه لقوله صلى الله عليه وسلم كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته
ومن ذلك أن يضرب الدابة ضربا وجيعا أو يحبسها أو لا يقوم بكفايتها أو يحملها فوق الطاقة
فقد روي في تفسير قوله تعالى وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون قيل أي بل ورد في السنة يؤتى بهم والناس وقوف يوم القيامة فيقضى بينهم حتى إنه يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء حتى يقاد من الذرة للذرة ثم يقال كونوا ترابا فهناك يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا فهذا من الدليل على القصاص بين البهائم وبينها وبين بني آدم حتى الإنسان لو ضرب دابة بغير حق أو جوعها أو عطشها أو كلفها فوق طاقتها فإنها تقتص منه يوم القيامة بنظير ما ظلمها أو جوعها ويدل لذلك حديث الهرة السابق بطرقه
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم رأى المرأة معلقة في النار والهرة تخدشها في وجهها وصدرها وتعذبها كما عذبتها في الدنيا بالحبس والجوع
وهذا عام في سائر الحيوانات وكذلك إذا حملها فوق طاقتها تقتص منه يوم القيامة لحديث الصحيحين بينما رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها فقالت إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث فهذه بقرة أنطقها الله في الدنيا تدافع عن نفسها بأنها لا تؤذى ولا تستعمل في غير ما خلقت له فمن كلفها فوق طاقتها أو ضربها بغير حق فيوم القيامة يقتص منه بقدر ضربه وتعذيبه
____________________
(2/689)