الزمن القادم
المجموعة الأولى
د. عبد الملك القاسم
(1) الرحيل
سألتُ الدارَ تُخبرني ... عن الأحباب ما فعلوا
فقالت لي: أناخ القوم ... أياماً وقد رحلوا
فقللتُ فأين أطلُبهم ... وأيُ منازلٍ نزلوا
فقالت بالقبور وقد ... لقو والله ما فعلوا
--------------
بدت أختي شاحبة الوجه نحيلة الجسم... ولكنها كعادتها تقرأ القرآن الكريم...
تبحث عنها تجدها في مصلاها.. راكعة ساجدة رافعة يديها إلى السماء.. هكذا في الصباح وفي المساء وفي جوف الليل لا تفتر ولا تمل...
كنت أحرص على قراءة المجلات الفنية والكتب ذات الطابع القصصي.. أشاهد الفيديو بكثرة لدرجة أنني عُرفتُ به.. ومن أكثر من شيء عُرفَ به.. لا أؤدّي واجباتي كاملة ولست منضبطة في صلواتي..
بعد أن أغلقت جهاز الفيديو وقد شاهدت أفلاماً متنوعةً لمدة ثلاث ساعات متواصلة.. ها هو الأذان يرتفع من المسجد المجاور..
? عدت إلى فراشي..
تناديني من مصلاها.. نعم ماذا تريدين يا نورة؟
قالت لي بنبرة حادة: لا تنامي قبل أن تُصلي الفجر..
أوه.. بقى ساعة على صلاة الفجر وما سمعتيه كان الأذان الأول...
بنبرتها الحنونة –هكذا حي حتى قبل أن يصيبها المرض الخبيث وتسقط طريحة الفراش... نادتني.. تعالي أي هناء بجانبي.. لا أستطيع إطلاقاً رد طلبها.. تشعر بصفائها وصدقها.. لا شك طائعاً ستلبي..
ماذا تريدين...
اجلسي..
ها قد جلست ماذا لديك..
بصوت عذب رخيم: (كل نفسٍ ذائقةُ الموتِ وإنما توفون أجوركم يوم القيامة)..
سكتت برهة.. ثم سألتني..
ألم تؤمني بالموت؟
بلى مؤمنة..
ألم تؤمني بأنك ستحاسبين على كل صغيرة وكبيرة..
بلى.. ولكن الله غفور رحيم.. والعمر طويل..
يا أختي.. ألا تخافين من الموت وبغتته..
انظري هند أصغر منك وتوفيت في حادث سيارة.. وفلانة.. وفلانة.
الموت لا يعرف العمر.. وليس مقياساً له..
أجبتها بصوت الخائف حيث مصلاها المُظلم..(1/1)
إنني أخاف من الظلام وأخفتيني من الموت.. كيف أنام الآن.. كنت أظن أنك وافقت للسفر معنا هذه الإجازة..
فجأةً... تحشرج صوتها واهتز قلبي..
لعلي هذه السنة أسافر سفراً بعيداً.. إلى مكان آخر.. ربما يا هناء.. الأعمار بيد الله.. وانفجرت بالبكاء..
تفكرت في مرضها الخبيث وأن الأطباء أخبروا أبي سراً أن المرض ربما لن يمهلها طويلاً.. ولكن من أخبرها بذلك.. أم أنها تتوقع هذا الشيء..
ما لك تفكرين؟ جاءني صوتها القوي هذه المرة..؟
هل تعتقدين أني أقول هذا لأنني مريضة؟
كلا.. ربما أكون أطول عمراً من الأصحاء..
وأنت إلى متى ستعيشين.. ربما عشرون سنة.. ربما أربعون.. ثم ماذا.. لمعت يدها في الظلام وهزتها بقوة..
لا فرق بيننا كلنا سنرحل وسنغادر هذه الدنيا أما إلى جنة أو إلى نار.. ألم تسمعي قوله الله: (فمن زُحزِحَ عن النار وأدخل الجنة فقد فاز)؟
تصبحين على خبر..
هرولتُ مسرعةً وصوتها يطرق أذني.. هداك الله.. لا تنسي الصلاة..
الثامنة صباحاً..
أسمعُ طرقاً على الباب.. هذا ليس موعد استيقاظي.. بكاء.. وأصوات.. يا إلهي ماذا جرى..؟
لقد تردت حالة نورة.. وذهب بها أبي إلى المستشفى.. إنا لله وإنا إليه راجعون..
لا سفر هذه السنة.. مكتوب عليّ إلقاء هذه السنة في بيتنا بعد انتظار طويل..
عند الساعة الواحدة ظهراً.. هاتفنا أبي من المستشفى.. تستطيعون زيارتها الآن هيا بسرعة..
أخبرتني أمي أن حديث أبي غير مطمئن وأن صوته متغير.. عباءتي في يدي..
أين السائق.. ركبنا على عجل.. أين الطريق الذي كنت أذهب لأتمشى مع السائق فيه يبدو قصيراً.. ماله اليوم طويل.. وطويل جداً..
أين ذلك الزحام المحبب إلى نفسي كي التفت يمنة ويسرةً.. زحام أصبح قاتلاً ومملاً..
أمي بجواري تدعو لها.ز أنها بنت صالحة ومطيعة.. لم أرها تضيع وقتها أبداً..
دلفنا من الباب الخارجي للمستشفى..(1/2)
هذا مريض يتأوه.. وهذا مصاب بحادث سيارة. وثالث عيناه غائرتان.. لا تدري هل هو من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة..
منظر عجيب لم أره من قبل...
صعدنا درجات السلم بسرعة..
إنها في غرفة العناية المركزة.. وسآخذكم إليها.. ثم واصلتِ الممرضة إنها بنت طيبة وطمأنت أمي أنها في تحسن بعد الغيبوبة التي حصلت لها..
ممنوع الدخول لأكثر من شخص واحد..
هذه هي غرفة العناية المركزة..
وسط زحام الأطباء وعبر النافذة الصغيرة التي في باب الغرفة أرى عيني أختي نورة تنظر إلي وأمي واقفة بجوارها.. بعد دقيقتين خرجتْ أمي التي لم تستطع إخفاء دموعها..
سمحوا لي بالدخول والسلام عليها بشرط أن لا أتحدث معها كثيراً.. دقيقتين كافية لك..
كيف حالك يا نورة..؟
لقد كنت بخير مساء البارحة.. ماذا جرى لك..
أجابتني بعد أن ضغطت على يدي: وأنا الآن ولله الحمد بخير.. الحمد لله ولكن يدك بادرة..
كنت جالسة على حافة السرير ولامست ساقها.. أبعدته عني.. آسفة إذا ضايقتك.. كلا ولكني تفكرت في قول الله تعالى: (والتفتِ الساقُ بالساق إلى ربك يومئذ المساق) عليك يا هناء بالدعاء لي فربما استقبل عن قريب أول أيام الآخرة..
سفري بعيد وزادي قليل.
سقطت دمعة من عيني بعد أن سمعت ما قالت وبكيت.. لم استمرت عيناي في البكاء.. أصبح أبي خائفاً عليّ أكثر من نورة.. لم يتعودوا هذا البكاء والانطواء في غرفتي..
? مع غروب شمس ذلك اليوم الحزين..
ساد صمت طويل في بيتنا..
دخلت عليّ ابنة خالتي.. ابنة عمتي..
أحداث سريعة..
كثر القادمون.. اختلطت الأصوات.. شيء واحد عرفته.. نورة ماتت.
لم أعد أميز من جاء.. ولا أعرف ماذا قالوا..(1/3)
يا الله.. أين أنا وماذا يجري.. عجزت حتى عن البكاء.. فيما بعد أخبروني أن أبي أخذ بيدي لوداع أختي الوداع الأخير.. وأني قبلتها.ز لم أعد أتذكر إلا شيئاً واحداً.. حين نظرت إليها مسجاه.. على فراش الموت.. تذكرت قولها: والتفتِ الساق بالساق) عرفت حقيقة أن (إلى ربك يومئذ المساق).
لم أعرف أنني عدت إلى مصلاها إلا تلك الليلة..
وحينها تذكرت من قاسمتني رحم أمي فنحن توأمين.. تذكرت من شاركتني همومي.. تذكرت من نفّست عني كربتي.. من دعت لي بالهداية.. من ذرفت دموعه ليالي طويلة وهي تحدثني عن الموت والحساب.. الله المستعان..
هذه أول ليلة لها في قبرها.. اللهم ارجمها ونوّر لها قبرها.. هذا هو مصحفها.. وهذه سجادتها.. وهذا.. وهذا.. بل هذا هو الفستان الوردي الذي قالت لي سأخبئه لزواجي..
تذكرتها وبكيت على أيامي الضائعة.. بكيت بكاء متواصلاً.. ودعوت الله أن يرحمني ويتوب عليّ ويعفو عني.. دعوت الله أن يثبتها في قبرها كما كانت تحب أن تدعو..
? فجأة سألت نفسي ماذا لو كانت الميتة أنا؟ ما مصيري؟
لم أبحث عن الإجابة من الخوف الذي أصابني.. بكيت بجرقة..
الله أكبر.. الله أكبر.. ها هو أذان الفجر قد ارتفع.. ولكن ما أعذبه هذه المرة..
أحسست بطمأنينة وراحة وأنا أرددّ ما يقوله المؤذن.. لفلفت ردائي وقمت واقفة أصلي صلاة الفجر .. صليت صلاة مودع.. كما صلتها أختي من قبل وكانت آخر صلاة لها..
إذا أصبحت لا أنتظرُ المساء..
وإذا أمسيتُ لا أنتظرُ الصباح..
(2) الغفلة
شيع الحسن جنازة فجلس على شفير القبر فقال: إن أمراً هذا آخره لحقيق أن يُزهد في أوله (1) وإن أمراً هذا أوله لحقيقٌ أن يُخاف آخره..(2)
---------------
اللهم ارحمنا إذا درس قبرنا.. ونُسي اسمنا.. وانقطع ذكرنا.. فلم يذكرنا ذاكر.
ولم يزرنا زائر..
اللهم ارحمنا إذا أهلونا.. اللهم ارحمنا إذا كفنونا.. اللهم ارحمنا إذا على أكتافهم حملونا...
__________
(1) يعني الدنيا.
(2) يعني القبر.(1/4)
? كان الشريط يسير بسرعة.. وكنت أتابع دعاء الإمام بتركيز ولهفة. أعدت هذا الدعاء.. مرة.. وأخرى.. كلما قاله ودعا به حق.. ستنقطع بنا الحياة..
وسنُغسل.. ونكفن.. ثم نوضع في لحد تحت الأرض.. ويُنسى اسمنا.....
ولكن ذاك الصوت المقترن بالخشوع.. جعلني أتوقف برهة.. وأعيد الشريط مرة ثالثة..
لقد كانت أختي.. مثال الأخت الداعية.. المجتهدة.. لقد حاولت أن أكون محافظاً على الصلاة.. وعلى الطاعات.. حاولت بكل ما تستطيع... بالكلمة.. وبالشريط.. والكتاب..
? وفي أحد الأيام.. عندما ركبت معي في السيارة.. أخذ بنا الحديث.. وعندما هممنا بالنزول.. وضعت هذا الشريط في جهاز خرجت من العد.. بحركة عفوية.. لا شعورية.. ضغطت على الشريط.. وأنا لا أذكر ما فيه.. ولكني كالعادة أتوقع.. كلمة مغناة.. من التي أحبها.. ولكن شاء الله أن يكون هذا الشريط..
سمعته في صباح ذاك اليوم.. وأعدته في المساء.. وبعد العشاء..
سألتها ما هذا الشريط الذي وضعتيه..؟
قالت.. هل أعجبك!!
قلت لها.. لا شك..
ولم تكن العادة إجابتي بهذا الترحيب..
فرِحَتْ.. وكان بيدها كتاب فوضعته جانباً.. أعادت سؤالها..
هل أعجبك صوت الإمام وقراءته..؟
قلت لها.. نعم..
كانت هذه الإجابة مقدمة لحوار طويل.. ولقد كان مثل هذا الحوار متكرراً.. ولكنه هذه المرة اختلف كثيراً.. في النهاية.. قالت لي.. سأقرأ عليك ما قرأته قبل قليل..
(مرّ الحسن البصري بشاب مستغرق في ضحكه وهو جالس مع قوم في مجلس.. فقال له الحسن..يا فتى.. هل مررت على الصراط؟
قال.. لا.. قال.. فهل تدري إلى الجنة تصير أم إلى النار..؟ قال.. لا..
قال: فما هذا الضحك.. صمتنا برهة.. ثم التفتتْ إلىّ..
إلى متى هذه الغفلة...؟
(3) الهدية
قال عمرو بن قيس: إذا بلغك شيء من الخير فاعمل به ولو مرة تكن من أهله..
---------------
أنهيتُ دراستي في المعهد الصحي بعد مشقة.. فلم أكن منضبطاً في دراستي.. ولكن الله سبحانه يسر لي التخرج..(1/5)
وعينتُ في أحد المستشفيات القريبة من مدينتي.. الحمد لله أموري متيسرة.. وأعيش بين والديّ.
قررت أن أجمع مهراً لزوجتي.. وهو ما تحثني عليه والدتي كل يوم.. كان العمل يسير بشكل جدّي ومرتب.. خاصة أن عملي في مستشفى عسكري..
كنت أحب الحركة لذلك نجحت في عملي نجاحاً طيباً.. مقارنة بدراستي النظرية المملّة..
المستشفى يضم موظفين من مختلف الجنسيات تقريباً.. وكانت علاقتي بهم علاقة عمل.. كنا أنهم كانوا يستفيدون من وجودي معهم كابن للبلد.. فأنا دليلهم للمناطق الأثرية.. والأسواق.. كما أنني كنت أذهب ببعضهم إلى مزرعتنا.. وكانت علاقتي بهم قوية. وكالعادة.. عند نهاية عقد أحد الموظفين.. كنا نقوم بعمل حفلة توديع..
وفي أحد الأيام قرر أحد الأطباء البريطانيين السفر إلى بلاده لانتهاء مدة عمله معنا..
تشاورنا في إقامة حفل وداع له.. وكان المكان المحدد هو مزرعتنا... تم الترتيب بشكل عام.. ولكن كان يأخذ جل تفكيري.. ما هي الهدية التي سأقدمها له.. وبخاصة أنني عملت ملازماً له لفترة طويلة..
وجدت الهدية القيمة والمناسبة في نفس الوقت.. هذا الطبيب يهوي جمع القطع التراثية.. وبدون تعب ولا مشقة..
والدي لديه الكثير من هذه المقطع .. فكان أن سألته.. وأخذت منه قطعة تراثية من صنع المنطقة قديماً.. وكان ابن عم لي حاضراً لحوار مع والدي..
وأضاف لماذا لا تأخذ له هدية على شكل كتاب عن الإسلام.. أخذت القطعة التراثية.. ولم آخذ كلام ابن عمي على محمل الجد.. إلا أن الله يسر لي الأمر بدون بذل جهد.. ذهبت من الغد لشراء الصحف والمجلات من المكتبة.. فوجدت كتاباً عن الإسلام باللغة الإنجليزية.
عادت كلمات ابن عمي ترن في أذني.. راودتني فكرة شرائه خاصةً أن سعره زهيد جداً.. أخذت الكتاب.. ويوم الاحتفال بتوديع زميلينا.. وضعت الكتاب وسط القطعة التراثية وكأني أخبئه.. قدّمت هديتي.. وكان وداعاً مؤثراً.. فهذا الطبيب محبوب من جميع العاملين..(1/6)
سافر صاحبنا.. مرت الأيام والشهور سريعة.. تزوجت ورزقت طفلا..
? ذات يوم وصلتني رسالة من بريطانيا.. قرأتها بتمهل فقد كانت باللغة الإنجليزية.. مبدئياً فهمت بعض محتوياتها.. والبعض لم أفهمه.. عرفت أنها من صديق قديم طالما عمل معنا ولكنني رجعت إلى ذاكرتي.. اسمه أول مرة أسمعه.. بل وغريب على سمعي (ديف الله) هذا هو اسمه..
أغلقت الرسالة أحاول أن أتذكر صديقاً اسمه (ديف الله) ولكنني عجزت عن تذكر شخص بهذا الاسم.. فتحت الرسالة قرأتها مرة أخرى.. بهدوء انسابت الحروف ببساطة وسهولة.. هذا جزء من رسالته..
الأخ الكريم ضيف الله..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. لقد يسر الله لي الإسلام وهداني على يديك.. فلن أنسى صداقتك معي.. وسأدعو لك.. أتذكر الكتاب الذي أهديتني إياه عند سفري.. لقد قرأته ذات يوم وزادت لهفتي لمعرفة الكثير عن الإسلام.. ومن توفيق الله لي أنني وجدت على غلافه عنوان ناشر الكتاب. فأرسلت إليهم أطلب المزيد.. فأرسلوا لي ما طلبت.. والحمد لله شع نور الإسلام في قلبي.. وذهبت للمركز الإسلامي وأعلنت إسلامي.. وغيرت اسمي من جون إلى (ضيف الله) أي إلى اسمك.. لأنك صاحب الفضل بعد لله.. كما أنني أرفق لك صورة من شهادة إشهار إسلامي.. وسأحاول القدوم إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج..
أخوك في الإسلام.. ضيف الله.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أغلقت الرسالة.. بسرعة أعد فتحها.. بدأت أقرأها من جديد..
هزتني الرسالة بقوة.. لنني أشعر بالصدق في كل حرف من حروفها.. بكيت كثيرا.. كيف أن الله هدى رجلاً إلى الإسلام على يدي وأنا مقصر في حقه.. كتاب لا يساوي خمسة ريال يهدي به الله رجلاً..
أصابني حزن.. وفرح.
فرحت أن الله هداه للإسلام بدون جهد مني.. وحزنت كثيراً.. لنني سألت نفسي أين أنا الفترة الماضية عن العاملين معي.. لم أدعهم للإسلام.. لم أعرّفهم بهذا الدين..
ولا كلمة عن الإسلام تشهد لي يوم القيامة..(1/7)
لقد حادثتهم كثيرا.. مازحتهم كثيراً.. ولكنني لم أحدثهم عن الإسلام لا قليلاً ولا كثيراً.
هدى الله ضيف الله للإسلام.. وهداني إلى محاسبة نفسي وتقصيري في طاعته.. لن أحقر من المعروف شيئاً ول وكتاب بريال واحد فقط..
فكرت قليلاً لو أن كل مسلم أهدى من هم حوله كتاباً واحداً فقط.. ماذا يكون..
لكنني صدمت مرة أخرى.. من هول ما قرأت..
? بعض الحقائق عن أفريقيا تقول:
- تم جمع مبلغ 139 ألف مليون دولار أمريكي في أمريكا لأغراض الكنيسة.
- تم تجنيد 3968200 مبشر نصراني خلال نفس السنة..
- وُزّع من الإنجيل 112564400 نسخة..
- بلغ عدد محطات الإذاعة والتلفزيون النصرانية 1620 محطة.
هذه الإحصائية مأخوذة من المجلة الدولية لأبحاث التنصير الأمريكية.. العدد 1 مجلد 11 – 1987م.
تساءلت.. أين نحن.. على أقل الأحوال..
- كم سائق لدينا غير مسلم.. وكم خادمة لدينا غير مسلمة..
- كم .. وكم.. ألمٌ تسبقه دمعة.. ولكن يبقى السؤال.. أين العمل .. أين العمل..
(4) القوت الضائع
قال الحسن البصري: أدركت أقواماً كان أحدهم أشحُ على عُمرةٍ منه على دِرهمة.
-----------
طفلي الصغير منذ مساء أمس وصحته ليست على ما يرام.. عندما عدت مساء هذا اليوم من عملي قررت الذهاب به إلى المستشفى.. رغم التعب والإرهاق إلا أن التعب لأجله راحة.
حملته وذهبت.. لقد كان المنظرون كثير.. الصمت يخيم على الجميع.. يوجد عدد من الكتيبات الصغيرة استأثر بها بعض الاخوة..
أجلت طرفي في الحاضرين.. البعض مغمض العينين لا تعرف فيم يفكر.. آخر بتابع نظرات الجميع.. آخرون تحس على وجوههم القلق والملل من الانتظار.
يقطع السكون الطويل..صوت المنادي..برقم كذا.. الفرحة على وجه المُنادي.. يسير بخطوات سريعة.. ثم يرجع الصمت للجميع..(1/8)
? لفت نظري شاب في مقتبل العمر.. لا يعنيه أي شيء حوله.. لقد كان معه مصحف جيب صغير.. يقرأ فيه.. لا يرفع طرفه نظرت إليه ولم أفكر في حاله كثيراً لكنني عندما طال انتظاري عن ساعة كاملة تحول مجرد نظري إليه إلى تفكير عميق في أسلوب حياته ومحافظته على الوقت.
ساعة كاملة من عمري ماذا استفدت منها وأنا فارغ بلا عمل ولا شغل. بل انتظار ممل.
أذّن المؤذن لصلاة المغرب.. ذهبنا للصلاة.
في مصلى المستشفى.. حاولت أن أكون بجوار صاحب المصحف بعد أن أتمنا الصلاة سرت معه وأخبرته مباشرةً إطلاقاً وهي أيام وليالي تنقضي من أعمارنا دون أن نحس أن نندم..
قال.. إنه أخذ مصحف الجيب هذا منذ سنة واحدة فقط عندما حثه صديق له بالمحافظة على الوقت.
وأخبرني.. أنه يقرأ في الأوقات التي لا يستفاد منها كثيراً أضعاف ما يقرأ في المسجد أو في المنزل بل إن قراءته في المصحف زيادة على الأجر والمثوبة إن شاء الله تقطع عليه الملل والتوتر.. وأضاف محدّثي قائلاً إنه الآن في مكان الانتظار منذ ما يزيد على والنصف..
وسألني..
متى ستجد ساعة ونصف لتقرأ فيها القرآن..
تأملت.. كم من الأوقات تذهب سدى.. كم لحظة في حياتك تمر ولا تحسب لها حساب..
? بل كم من شهر يمر عليك ولا تقرأ القرآن..
أجلت ناظري.ز وجدت أني محاسب والزمن ليس بيدي. فماذا أنتظر؟
قطع تفكيري صوت المنادي.. ذهبت إلى الطبيب.
أريد أن أحقق شيئاً الآن..
بعد أن خرجت من المستشفى.. أسرعت إلى المكتبة.. اشتريت مصحفاً صغيرا..
قررت أن أحافظ على وقت. فكرت وأنا أضع المصحف في جيبي..
كم من شخص سيفعل ذلك..
وكم من الأجر العظيم يكون للدال على ذلك..
(5) السعادة
أحسنت زنك بالأيام إذ حَسنُت ... ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فأغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر
--------
بعد أن أكملت دراستي الثانوية.. تقدمت بأوراقي للالتحاق بالجامعة.
ولكن كان هناك أمر جديد.(1/9)
فقد تقدم لخطبتي شاب يدرس في أمريكا.. وتمت الموافقة.
? لابدّ من السفر إلى بلاد الغربة.. فرحت بذلك فرحاً عظيماً. سأعيش في أمريكا.
جل ما يؤرقني.. كيف بهذه السرعة تنازل عني أهلي بل كيف وافقوا على الغربة الطويلة خاصةً أنهم لا يعرفون الرجل من قبل.. وأنا لا أزال في هذا السن..
تمتعت بشهر العسل كما يقولون.. واستقريت في منزلنا الجميل في أمريكا.
مرت الأيام حلوة وجميلة.. شاهدت معظم المناطق في أمريكا.. كان زوجي يحرص على أن أشاهد كل شيء..
وحتى يكون لدي ثقافة عن كل شيء..
لكن أيام الصفاء لم تدُم طويلاً.. كنا حسب تصوري الآن.. في مرحلة مراهقة عقلية.. فقد بدأت حركة المد والجزر في حياتنا.
كنا مهملين في كل شيء حتى في أداء الصلاة.. الشيء الوحيد الذي كنا نحرص عليه.ز أن يكون لدينا ثقافة عن كل شيء..
وامتداداً خلافنا.. يقضي معظم وقته خارج المنزل.. خاصةً في الليل..
لم نرزق خلال تلك السنوات الثلاث بمولود.. لعل هذا ساعد على اتساع حدة الخلاف بيننا أصبحنا نصل أحياناً إلى حافة النهاية.. نهاية حياتنا الزوجية..
استمرت هذه الحالة..
عندما عدنا لزيارة الوطن. لحظ أهلي الضعف والإرهاق علي. قررت أن أصارح والدتي بكل شيء..
بدورها نقلت الصورة كاملة إلى والدي.
أخذني أبي جانباً.. سألني أسئلة كثيرة ودقيقة كلها تدور حول زوجي ومعاملته لي..
وأخيراً مدى استقامته.
بعد مهلة منحنى إياها والدي للتفكير.. طلبت الطلاق.. كنت أتوقع أن يكون الأمر سهلاً.. خاصةً إننا اتفقنا على الطلاق مرات عديدة في أمريكا ولكن زوجي رفض الطلاق إلا بشروط كثيرة.
من أبسطها.. رد المهر كاملاً.. وبعد أخذ ورد.. انتهت الأيام المزعجة.. ومما زاد كراهيتي له.. طلباته عند الطلاق.. على الرغم من أنني ساندته في دراسته.. ودفعت له من مبالغ كانت معي.. بل إن مرتبي كاملاً ثلاث سنوات كان بيده..
على أية حال دُفع له ما أراد.. ودُفع لي ما أردت..(1/10)
عدت لحياتي القديمة.. تقدمت إلى الجامعة.. وأبديت رغبة في الانضمام إلى قسم اللغة الإنجليزية.. وذلك لإجادتي لها من خلال السنوات التي عشتها في الغربة..
ولكن شاء الله أن أقابل إحدى زميلاتي في المرحلة الثانوية.. بعد السلام الحار.. والسؤال الطويل.. أخبرتها أنني أحمل أوراقي للانضمام إلى قسم اللغة الإنجليزية.
زميلتي لم يبق على تخرجها سمى عام دراسي واحد.. وتدرس في قسم الدراسات الإسلامية.
من خلال وقفتنا البسيطة استطاعت أن تقنعي بالانضمام إلى قسم الدراسات الإسلامية.
فهناك.. كما ذكرت لي المعلومات التي ستستفيدين منها.. كما أنك ستتعرفين على جميع طالبات القسم بحكم معرفتي لهن.. وهناك ما يرضيك من النشاطات اللامنهجية.. من محاضرات وندوات.
وهذا الجانب اللامنهجي.. أعادني إلى مرحلة الطفولة حيث كنت أحب تلك النشاطات.
واتكلت على الله كما قالت لي.. لا تترددي.
بسرعة كبيرة لم أكن أوقعها.. أصبحت عضوة نشطة في هذا القسم.. أصبحت أشارك في إعداد الندوات وفي ترتيبها.. كما أن المجموعة التي كنت معها يطغى عليها جانب المرح.. وهذا ما فقدته منذ ثلاث سنوات.
رجعت لي صحتي.. وعادت الحياة تدب في عيني.. كما يحلو لأمي أن تقوله لي.
? لا وقت فراغ لدي كما يقال.
فأنا أعد بحثاً.. أو أراجع مقرراتي الدراسية.. وأحياناً أقوم بالتحضير لإلقاء محاضرة على زميلاتي لمدة عشر دقائق..
أصبحت لدي همة كبيرة وعزيمة صادقة.. المجتمع الذي أعيش فيه جعلني لا أنسى الفريضة.. بل تعداه إلى التطوع في النوافل من صلاة وصيام.. حمدت الله أي سير لي الدخول إلى هذا القسم.. حيث الرفقة الصالحة.
قررت مع مجموعة من زميلاتي.. أن نحفظ القرآن..(1/11)
كان قراراً بالنسبة لي.. يعني أنني مقبلة على مرحلة جديدة.. بدأنا في حفظ القرآن.. كنت متخوفة في البداية أنني لن أستمر.. ولكن الله يسر لي الاستمرار وأعانني على الحفظ بدون مشقة.. كما أنني بدأت استدرك ما فاتني فقررت التركيز على كتب العقيدة والفق..
سبحان الله عندما سافرت لأمريكا كنت أعتقد أنني في قمة السعادة.. ولكنني عرفت أن البعد عن الله ليس فيه سعادة مطلقة.. وإن كان شكل السعادة يلوح.
? امتد نشاطي إلى بيتنا.. بدأت أختي تحفظ القرآن معي.. خصصت جزءاً من وقتي.. لكي أقرأ على والدتي ما يفيدها.. خاصةً الأحكام المتعلقة بالنساء.. الحمد لله كثرت وتنوعت الأشرطة الإسلامية في بيتنا.. لا أذهب لزيارة أحد إلا ومعي مجموعة منها على شكل هدية. لم أضع مناسبة دون فائدة.
تغيرت حياتي تماماً.. انظر إلى الدنيا بمنظار جديد.. وأنها دار ممر.. وليست دار مقر.
لم يكدر صفو حياتي.. سوى أن زوجي السابق عاد من أمريكا بعد أن أنهى دراسته.
وزارتنا والدته تطلب الصفح ونسيان الماضي والعودة إلى زوجي السابق.. قبلت رأسها وقلت لها إنني نسيت الماضي كله.. وعفوت رجاء أن يعفو الله عنه.
رفضت طلبها ولكنني ودعتها ولم أنس أن أرسل له هدية.. عبارة عن مجموعة من الأشرطة.ز تحث على التوبة ومحاسبة النفس.. غير ما ذكرت لا وقت لدي سوى التفرغ الكامل لدراستي..
نسيت أن أذكر لكم أنه تقدم لخطبتي الكثير.. كان أهمهم بالنسبة لي أخ لإحدى زميلاتي..
رفضت وأخبرتها إنني عاهدت الله أن لا أتزوج حتى أحفظ القرآن كاملا.. وحاولت أن تقنعي.. لكن أخبرتها أن هذه هي آخر سنة دراسية لنا في الجامعة.. وكذلك آخر سنة لأكمل حفظ القرآن.
سكتت ولم ترد عليّ..
بعد عام دراسي كامل.. أنهيت دراستي الجامعية.ز كنت أطمح لأن أعمل معيدة في الجامعة.. ولكن شاء الله.. غير ذلك..(1/12)
عُينتُ في مدرسة قريبة من منزلنا.. واستمرت نشاطي اللامنهجي.. فوضعت جدولاً للمحاضرات تعده الطالبات.. كما أنني جعلت هناك نشاطاً لحفظ القرآن.
سارت الأمور في المدرسة بشكل مفرح.. كأننا أسرة واحدة..
? وفي مساء ذلك اليوم..
زارتني زميلتي وأخبرتني.. أنني وعدتها بالزواج بعد حفظ القرآن..
والآن لا عذر لديك..
وافقت.. وتم كل شيء حسب السنة.. لا إسراف.. ولا تبذير.. ولا حفلات..
نِعمَ الرجل.. خُلق.. ودين.. وقيام ليل..
لا تسألوني كيف عشت معه.. كأننا ننتظر بعضنا.. طوال هذه السنين..
قال لي إن الذي جعله يصر على خطبتي.. هو حرصي على حفظ القرآن..
الحمد لله مغير الأحوال.. من أمريكا.. وثقافة كل شيء.. إلى حفظ القرآن..
الحمد لله الذي أدركتني رحمته قبل الفوات...
(6) إنذار
تُروعُنا الجنائزُ مقبلات ... ونلهو حين تذهب مدبرات
كروعة ثلةٍ لمغار ذئبٍ ... فلما غاب عادت رائعات
-----
عشت مرحلتي الدراسية الأولى مع والدي..
في بيئة صالحة اسمع دعاء أمي وأنا عائد من سهري آخر الليل..
أسمع صوت أبي في صلاته الطويلة.. طالما كنت أقف متعجباً من طولها.. خاصةّ عندما يحلو النوم أيام الشتاء البارد..
أتعجب في نفسي وأقول.. ما أصبره.. كل يوم هكذا.. شيء عجيب.
لم أكن أعرف أن هذه هي راحة المؤمن وأن هذه هي صلاة الأخيار.. يهبُون من فرشهم لمناجاة الله..
بعد المرحلة التي قطعتها في دراستي العسكرية.. ها قد كبرت وكبر معي بعدي عن الله..
على الرغم من النصائح التي أسمعها وتطرقُ مسامعي بين الحين والآخر..
عُينت بعد تخرجي في مدينة غير مدينتي وتبعد عنها مسافة بعيدة.. ولكن معرفتي الأولى بزملائي في العمل خففت ألم الغربة على نفسي..
انقطع عن مسامعي صوت القرآن.. انقطع صوت أمي التي توقظني للصلاة وتحثني عليها.. أصبحت أعيش وحيداً.. بعيداً عن الجو الأسري الذي عشته من قبل..(1/13)
تم توجيهي للعمل في مراقبة الطرق السريعة.. وأطراف المدينة للمحافظة على الأمن ومراقبة الطرق ومساعدة المحتاجين.. كان عملي متجدداً وعشت مرتاحاً.. أؤدي عملي بجد وإخلاص.. ولكني عشت مرحلة متلاطمة الأمواج..
تتقاذفني الحيرة في كل اتجاه.. كثرة فراغي.. وقلة معارفي.. وبدأت أشعر بالملل.. لم أجد من يعينني على ديني.. بل العكس هو الصحيح..
من المشاهد المتكررة في حياتي العملية الحوادث والمصابين.. ولكن كان يوماً مميزاً..
في أثناء عملنا توقفت أنا وزميلي على جانب الطريق.. نتجاذب أطراف الحديث.
فجأةً سمعنا صوت ارتطام قوي..
أدرنا أبصارنا.. فإذا بها سيارة مرتطمة بسيارة أخرى كانت قادمة من الاتجاه المقابل.. هبينا مسرعين لمكان الحادث لإنقاذ المصابين..
حادث لا يكاد يوصف..شخصان في السيارة في حالة خطيرة.. أخرجناهما من السيارة.. ووضعناهما ممدين..
أسرعنا لإخراج صاحب السيارة الثانية.. الذي وجدناه فارق الحياة.. عدنا للشخصين فإذا هما في حال الاحتضار..
هب زميلي يلقنهما الشهادة..
قولوا: لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله..
لكن ألسنتهما ارتفعت بالغناء.. أرهبني بالموقف.. وكان زميلي على عكسي يعرف أحوال الموت.. أخذ يعيد عليهما الشهادة..
وقفت منصتاً.. لم أحرك ساكناً شاخص العينين أنظر.. لم أر في حياتي موقفاً كهذا.. بل قل لم أر الموت من قبل وبهذه الصورة.. أخذ زميلي يردد عليهما كلمة الشهادة.. وهما مستمران في الغناء..
لا فائدة..
بدأ صوت الغناء يخفت.. شيئاً فشيئاً.. سكت الأول وتبعه الثاني.. لا حراك..
فارقا الدنيا..
حملناهما إلى السيارة.ز وزميلي مطرق لا ينبس ببنت شفه.. سرنا مسافة قطعها الصمت المطبق..(1/14)
قطع هذا الصمت صوت زميلي فذكر لي حال الموت وسوء الخاتمة.. وإن الإنسان يختم له إما بخير أو شر.. وهذا الختام دلالة لما كان يعمله الإنسان في الدنيا غالباً.. وذكر لي القصص الكثيرة التي رويت في الكتب الإسلامية.. وكيف يختم للمرء على ما كان عليه بحسب ظاهره وباطنه..
قطعنا الطريق إلى المستشفى في الحديث عن الموت والأموات.. وتكتمل الصورة عندما أتذكر أننا نحمل أمواتاً بجوارنا..
خفت من الموت واتعظت من الحادثة.. وصليت ذلك اليوم صلاة خاشعة..
ولكن نسيت هذا الموقف بالتدريج..
بدأت أعود إلى ما كنت عليه.. وكأني لم أشاهد الرجلين وما كان مهما.. ولكن للحقيقة أصبحت لا أحب الأغاني.. ولا أتلهف عليها كسابق عهدي.. ولعل ذلك مرتبط بسماعي لغناء الرجلين حال احتضارهما..
? من عجائب الأيام..
بعد مدة تزيد على ستة أشهر.. حصل حادث عجيب.. شخص يسر بسيارته سيراً عادياً.. وتعطلت سيارته.. في أحد الأنفاق المؤدية إلى المدينة..
ترجل من سيارته.. لإصلاح العطل في أحد العجلات.. عندما وقف خلف سيارته.. لكي ينزل العجلة السليمة..
جاءت سيارة مسرعة.. وارتطمت به من الخلف.. سقط مصاباً إصابات بالغة..
حضرت أنا وزميل آخر غير الأول.. وحملناه معنا في السيارة وقمنا بالاتصال بالمستشفى لاستقباله..
شاب في مقتبل العمر.. متدين يبدو ذلك من مظهره.. عندما حملناه سمعناه يهمهم.. ولعجلتنا في سرعة حمله لم نميز ما يقول.
ولكن عندما وضعناه في السيارة وسرنا..
سمعنا صوتاً مميزاً..
إنه يقرأ القرآن.. وبصوت ندي.. سبحان الله لا تقول هذا مصاب..
الدم قد غطى ثيابه.. وتكسرت عظامه.. بل هو على ما يبدو على مشارف الموت.
? استمر يقرأ بصوت جميل.. يرتل القرآن..
لم أسمع في حياتي مثل تلك القراءة.. كنت أحدث نفسي وأقول سألقنه الشهادة مثل ما فعل زميلي الأول.. خاصةً وأن لي سابق خبرة كما أدعي..
أنصتُ أنا وزميلي لسماع ذلك الصوت الرخيم..(1/15)
أحسست أن رعشة سرت في جسدي.. وبين أضلعي.. فجأة.. سكت ذلك الصوت.. التفت إلى الخلف.. فإذا به رافع إصبع السبابة يتشهد..
ثم انحنى رأسه..
قفزت إلى الخلف..
لمست يده..
قلبه.
أنفاسه..
لا شيء..
فارق الحياة..
نظرت إليه طويلاً.. سقطت دمعة من عيني.. أخفيتها عن زميلي.. ألتفت إليه وأخبرته أن الرجل قد مات.. انطلق زميلي في البكاء.ز أما أنا فقد شهقت شهقة وأصبحت دموعي لا تقف.. أصبح منظرنا داخل السيارة مؤثراً.
وصلنا المستشفى..
أخبرنا كل ما قابلنا عن قصة الرجل.. الكثير تأثروا من حادثة وقبل جبينه..
الجميع أصروا على عدم الذهاب حتى يعرفوا متى يُصلى عليه ليتمكنوا من الصلاة عليه.
اتصل أحد الموظفين في المستشفى بمنزل المتوفى.. كان المتحدث أخوه.. قال عنه.. أنه يذهب كل اثنين لزيارة جدته الوحيدة في القرية.. كان يتفقد الأرامل والأيتام.. والمساكين.. كانت تلك القرية تعرفه فهو يحضر لهم الكتب والأشرطة الدينية.. وكان يذهب وسيارته مملوءة بالأرز والسكر لتوزيعها على المحتاجين.. وحتى حلوى الأطفال لا ينساها ليفرحهم بها.. وكان يرد على يثنيه عن السفر ويذكره له طول الطريق.. إنني استفيد من طول الطريق بحفظ القرآن ومراجعته.. وسماع الأشرطة والمحاضرات الدينية.. وأنني أحتسب إلى الله كل خطوة أخطوها..
من الغد.. غص المسجد بالمصلين.. صليت عليه مع جموع المسلمين الكثيرة.. وبعد أن انتهينا من الصلاة حملناه إلى المقبرة.
أدخلناه في تلك الحفرة الضيقة..
? وجهوا وجهه للقبلة..
عسى الله أن يعفو عما سلف وأن يثبتني على طاعته وأن يختم لي بخير.. وأن يجعل قبري وقبر كل مسلم روضة من رياض الجنة..
(7) العودة
إن تَبق تُفجع بالأحبة كلهم ... وفناء نفسِك لا أبالك أفجع
------
سقطت على الأرض مغشياً عليها..
ليست المرة الأولى.. فهي تعاني من إرهاق نفسي متواصل منذ أن تزوجت قبل سنتين..
لقد أخبروها أنه رجل طيب.. وفيه خير..(1/16)
تستطيعين التأثير عليه لكي يتدارك أمور دينه.. ويحافظ على الصلاة مع الجماعة..
وأنت يا بنيتي.. قد تزوجت أختك الصغرى قبلك.. وأعتقد أن هذا هو الأصلح لك..
وأصرت أمي على هذا الخاطب.. فهو ميسور الحال.. ومن عائلة معروفة.. ومركزه الوظيفي جيد..
مظاهر براقة لا تهمني..
فقد سألت عن الدين.. هذا ما يهمني.. أريد رجلاً صالحاً يعينني على الخير وعلى الطاعة.. إن أحبني أكرمني وإن كرهني سرحني سراحاً جميلاً. فما أكثر ما نسمع من تلك القصص المبكية من ظلم الأزواج ومشاكلهم مع زوجاتهم لقلة الخلق والدين.
كنت أحلم بمن يوقظني للصلاة في جوف الليل..
كنت أدعو الله في ظلام الليل ودموعي تتساقط أن يرزقني الرجل الذي يعينني على الطاعة وأعيش معه على مرضاة الله.. نسير سوياً متجهين إلى الله.. نقتفي أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الطيبين..
كنت أحلم بالرجل الذي يربي أبنائي تربية إسلامية صحيحة..
كأنني أقف بالباب أرمقه هو وابني وهما ذاهبان إلى المسجد.. دعوت الله أن يتردد على مسامعي.. قول زوجي..
كم حفظت اليوم من القرآن..
وكم جزءٍ قرأت.. أحلم أنني أقف بطفلي أمام الكعبة وأدعو له.. سأنجب أكب عدد من الأبناء طالما أن في ذلك..
وأنني سأخرج للدنيا من يوحد الله.. طالما حلمت الأحكام الكثيرة ولطالما متعت نفسي بتلك الأحلام.. الحمد لله على كل حال.. احتسبتُ الأجر وصبرت على زوجي.. في البداية كان ينهض للصلاة.ز مع مرور الأيام بدأ يتثاقل..
ماذا تريدين.. الله غفور رحيم..
سأصلي..
الوقت مبكر..
هذا هو الرد السريع عندما أحثه على صلاة الجماعة حتى لا تفوته.. أحس أنه يتغير مع إلحاحي إلى الأفضل.. على الأقل هذه ما أتفاءل به..
كنت أخشى رفقاء السوء فقد حدثني عن بعضهم.. أصبحت أخشى عليه من تأثيرهم.. فكرت في طريقة قد تكون مجدية أكثر من نصحي له.
لماذا لا أعرفه على الشباب الصالح فقد يتأثر بهم..(1/17)
زوج صديقتي شاب طبيب وملتزم وصالح إن شاء الله.ز أسرعت للهاتف.. رحبت صديقتي بالفكرة وشجعت زوجها.. أخبرته أن صديقتي ستأتي ومعها زوجها.. زارتني صديقتي هي وزوجها..
قلبي يرجف من الفرح.. عس الله أن يلقي في قلبه حبه. كلما طال وقت الزيارة كلما زادت دقات قلبي..
? ودعت زميلتي عند الباب..
رجعت إليه بسرعة..
جلست أضغط على أصابعي بقوة.. انتظره يقول شيئاً.. نظرت في عينيه.
فقال.. لقد كان لطيفاً وذو خلق عالٍ.. ولكنه لم يبد حماساً للقائهم وللذهاب لهم كما وعدهم برد الزيارة.. حاولت بشتى الوسائل والسبل.. أن أعينه على المحافظة على الصلاة في المسجد.
الآن إلحاحي زاد بعد أن أنجبت منه ابناً.. أسهر الليالي الطويلة لوحدي..
هو يقهقه مع زملائه وأنا أبكي مع طفلي..
أكثرت من الدعاء له بالهداية..
قررت أن أصلي صلاة الليل في غرفتنا بجواره عسى أن يستيقظ قلبه.. أحياناً يستيقظ ويراني أصلي.. وفي النهار ألاحظ عليه أنه يتأثر من صلاتي وطولها..
مساء ذلك اليوم أخبرني أن أجهز له ثيابه.. سيسافر.. إلى المدينة الفلانية في رحلة عمل.. لا أعرف صدقه من غيره.. غالباً يسافر ولا يتصل بنا.. أحياناً أخرى يتصل ويترك رقم غرفته وهاتفه.. إذا تصل عرفت أين هو.. لكن أحياناً كثيرة لا أعلم أين يذهب.. ولكني أحسن الظن بالمسلم إن شاء الله.
في مدة سفرته سأخصه بالدعاء.. في اليوم التالي لسفره.. اتصل بنا.. هذا رقم هاتفي.. الحمد لله.. اطمأننت أنه في المملكة..
انقطع صوته ثلاثة أيام.ز وفي اليوم الرابع..
أتى صوته.. لم أكد أعرفه،، صوت حزين.. ما بك.. سأعود الليلة إن شاء الله..
في تلك الليلة لم أنم من كثرة بكاءه.. ماذا جرى لك.. أخذ في البكاء كالطفل.. ثم تبعته في البكاء وأنا لا أعلم ماذا به.. وبعد فترة سادها الصمت الطويل.. أخذ ينظر إليّ.. والدموع تتساقط من عينيه..
مسح آخر دمعة ثم قال: سبحان الله زميلي في العمل..(1/18)
? سافرنا سوياً لإنجاز بعض الأعمال.. ننام في غرفتين متجاورتين لا يفصلنا سوى جدار واحد.. تعشينا ذلك المساء.. وعلى المائدة.. تجاذبنا أطراف الحديث.. ضحكنا كثيراً.. لم يكن بنا حاجة للنوم.. تمشينا في أسواق المدينة.. لمدة ساعتين أرجلنا لم تقف عن المشي.. وأعيننا لم نغضها عن المحرمات.
ثم عدنا وافترقنا على أمل العودة في الصباح للعمل لإنهائه.
نمت نوماً جيداً.. صليت الفجر عند الساعة السابعة والنصف..
اتصلتُ عليه بالهاتف لأوقظه.. لا يدر.. كررت المحاولة.. لعله في دورة المياه.. شربت كوباً من الحليب كان قد وصل في الحال.. اتصلت مرة أخرى.. لا مجيب..
الساعة الآن الثامنة وقد تأخرنا عن موعد الدوام.. طرقت الباب.. لا مجيب.. اتصلت باستعلامات الفندق لعله خرج.. ولكنهم أجابوا أنه موجود في غرفته..
لابدّ أن نفتح لنرى..
أصبح الموقف يدعو للخوف.. احضروا مفتاحاً احتياطياً للغرفة.. دلفنا الغرفة..
أنه نائم..
يا صالح..
ناديته مرة أخرى..
رفعت صوتي أكثر وأنا اقترب منه..
نائم ولكنه عاض لسانه..
ومتغير اللون..
ناديته..
اقتربت أكثر..
لا حراك..
التقرير الطبي يقول: أنه مات منذ البارحة بسكتة قلبية مفاجئة.. أين الصحة.. والعافية.. والشباب.. البارحة كنا نسير سوياً.. لم يشتكِ من شيء.. ليس به مرض ولم يشتك من مرض أبداً..
أعدت حساباتي..
هذا موت الفجاءة لا نعرف متى سيأتي.. بل بدون مقدمات..
سألت نفسي لماذا لا أكون أنا صالح.. ماذا سأواجه الله به.. أين عملي.. ماذا قدمت.. لا شيء مطلقاً..
عرفت أنني مقصر في حق الله..
سكت زوجي.. بكى وأبكاني.. وبكينا سوياً..
حمدت الله على هذه الهداية.. عشنا بعدها كما كنت أحلم أو أكثر..
في الأسبوع التالي..
شكر لي جهدي معه وحرصي على هدايته.. وأخبرني أننا سوف نذهب لأداء العمرة والمكوث في مكة نهاية الأسبوع.. لنبدأ صفحة جديدة مع الاستقامة..
أكاد أطير من الفرح.. فأنا لم أذهب إلى مكة منذ أن تزوجت..(1/19)
? ضُحى ذلك اليوم ذهبت إلى الحرم.. الإعداد قليلة.. فترة صيف وليس هناك زحام..
حقق الله ما كنت أحلم به..
وقفت بابني أمام الكعبة.. لكني لم أستطع الدعاء له لأنني بكيت وبكيت.. حتى تقطع قلبي..
في الغد.. إن شاء الله اليوم سنطوف طواف الوداع وسنغادر هذه الأرض الطاهرة..
بعد طواف الوداع.. عدنا من الحرم لنستعد للسفر ما هذا الذي معك.. هذا كتاب ابن رجب جامع العلوم والحكم.. هذا كتاب ابن القيم زاد المعاد في هدي خير العباد.. هذا كتاب الوابل الصيب لابن القيم.. هذا كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي.. وهذا القرآن الكريم بحجم صغير.. لن يفارق جيبي..
? أيتها الحبيبة..
هذه معالم في طريقنا إلى الدار الآخرة..
ثم أخذ يردد وهو يحمل الحقائب.
(ربي اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء.. ربي اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب).
(8) دعاء
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويودي المالُ والولد
--------
تزوجت منذ ما يزيد على سبع سنين..
الحمد لله كل ما أنشده – من وجهة نظري – وجدته.. فأنا مستقر في عملي.. مستقر في زواجي..
لا أشكو إلا الملل.. فأنا وزوجتي لم نرزق أطفالا.. وبدأ الملل..
وكثرت زيارات الأطباء..
كل جهد أتقد أنني بذلته..
سافرت للداخل والخارج..
عندما أسمع عن طبيب قادم متخصص في العقم.. أحجز لديه موعداً..
التحاليل كثيرة والأدوية أكثر..
? ولكن لا فائدة..
أصبح أكثر حديثنا أنا وزوجتي في الطبيب الفلاني
وماذا قال.. وماذا سنتوقع..
التوقعات تستمر لمدة سنة أو سنتين.. فمرحلة العلاج طويلة..
منهم من أخبرني أن العقم مني..
فأمسكت بيده..
وعبرت به الجزء الأول من الطريق.. ووقفنا في المنتصف.. ننتظر خلو الشارع في الجهة الأخرى من السيارات..
ووجدها فرصة ليسألني..
بعد أن دعا لي بالتوفيق والصحة..
هل أنت متزوج؟
فأجبته بنعم..
فأردف قائلا..
ألك أبناء..
فقلت له لم يقدر الله ذلك..(1/20)
منذ سبع سنين ونحن ننتظر الفرج..
عبرنا الطريق.
ولما أردت أن أودعه قال لي.
يا بني لقد جرى لي ما جرى لك وأخذت أدعو في كل صلاة.. (رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين)
والحمد لله لي من الولد سبعة فضغط علي يدي وقال: لا تنس الدعاء..
ولك أكن أحتاج إلى توصية..
فقد وجدت مفقوداً لي..
أخبرت زوجتي بما حدث لي..
وتجاذبنا الحديث..
أين نحن عن الدعاء كل شيء بحثنا عنه وجربناه..
ولك طبيب نسمع به طرقنا بابه..
? فلماذا لا نطرق باب الله؟
وهو أوسع الأبواب وأقربها..
تذكرت زوجتي أن امرأة مسنة قد قالت لها منذ سنتين..
عليك بالدعاء..
ولكن كما قالت زوجتي..
كان في ذلك الوقت لدينا مواعيد لا حد لها مع الأطباء..
أصبحت مراجعاتنا للأطباء مراجعة عادية.
بدون تلهف وبدون قلق..
مراجعات عادية..
نبحث عن علاج محدد فقط..
يكون سبباً من الأسباب..
وتوجهنا إلى الله بقلوبنا..
في الصلوات المكتوبة وفي جوف الليل..
تحرينا أوقات الإجابة..
ولم يخب الظن..
ولم نُرد.
بل فتح الله باب الإجابة..
وحملت زوجتي..
ووضعت طفلة..
تبارك الله أحسن الخالقين..
لن نخف الفرح ولا السرور..
ولكننا الآن نردد.. (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً).
(9) لمن كان له قلب
مازال يلهَجُ بالرحيل وذكره ... حتى أناخ ببابه الجَمال
فأصابه متيقضاً متشمراً ... ذا أهبهٍ لم تلهه الآمال
------
لازلت أتذكر وأنا طفل صغير..
أنني أدخُلت المستشفى لمدة أسبوع من جراء برد أصابني.. وعند خروجي سمعت الطبي يخبر والدي بأن صحتي الآن جيدة ولكن قد يكون لهذا المرض تأثير في المستقبل.
مضت سنين طويلة..
أصبحت شاباً ثم أباً..
أحياناً أشعر بالتعب والإرهاق من أقل مجهود أبذله..
ذهبت إلى المستشفى لإجراء فحوصات كاملة..
تبين أن لدي ضعف في صمامات القلب..
وإن هذا الضعف من جراء برد أصابني في فترات سابقة أدى إلى روماتيزم في القلب..(1/21)
حاولت أن أقنع الطبيب بعلاج أو راحة.. تغني عن العملية.. ولكن أ×رني..
? أن حاجتك إلى العملية ستكون بعد عدة شهور..
وستتأكد من ذلك بنفسك..
وفعلاً بعد عدة شهور.
بدأ الضعف ينتابني والإرهاق يبدو عليّ..
وقررت الرضى بقضاء الله وقدره وأن أسلم أمري إلى الله.. بعد إجراء فحص شامل وما يتبعه من إجراءات..
ثم أخذ موعد لكي أحضر للمستشفى للإقامة وذلك قبل موعد إجراء العملية بيوم..
وكان ذلك..
بدأت زيارة الأقارب في اليوم الأول..
كنت مرتاح البال مطمئن الخاطر..
جلست مدة تزيد على ساعة مع الطبي الجراح الذي سيقوم بإجراء العلمية.
في الليلة التي سبقت موعد العملية.
نمت نوماً هادئاً.
لم أفكر في شيء مطلقاً..
ومع آذان الفجر استيقظت..
سمعت الأذان..
وتردد صداه في داخلي..
نز كياني..
طرقني هاجس..
تغير هدوئي..
لا أعرف ماذا جرى لي..
العملية صعبة..
ربما أن هذا آخر أيامك في هذه الحياة..
ربما هذا آخر أذان تسمعه في حياتك..
وأخذت تتجاذبني الهواجس من كل جانب..
أين كنت فيما مضى..
سؤال جعل الدمع ينهمر من عيني..
مرت حياتي الماضية كحلم..
أين أنا عن الآخرة..
ها هو الموت قد اقترب..
وحين رفعت بصري..
فإذا بالممرض يقف على رأسي..
ما بك..
لم أجبه..
ليس لدي جواب..
لكنه لاحظ اضطرابي وقلقي.. وربما أنه يتوقع ذلك فقد كان يحمل بيده إبرة منومة..
سلمت يدي..
وأنا أعلم أنني سألم قلبي للجراح..
وقبل ذلك كله..
سيُفتح صدري..
وسيتوقف قلبي عن النبض طوال مدة العملية..
وعند الانتهاء من العملية..
سترسل شجنة كهربائية لتنشيط القلب وإعادته مرة أخرى للنبض..
وفي حالة عدم الاستجابة..
ستكرر الصدمة الكهربائية مرة ثانية..
بعدها سأحمل على الأعناق..
معرفتي بكل التفاصيل هي التي جعلتني أرى الحياة هينة ورخيصة..
كيف أنني فرطت في عمري..
غفوت بعد ذلك لحظات من أخذ الإبرة..
علمت فيما بعد..
أن الجراح عمل في قلبي لمدة ثمان ساعات متواصلة..(1/22)
حمدت الله أن قلبي استجاب للصدمة الكهربائية الأولى..
? بعد خروجي من المستشفى..
كل يوم آخذ في مراجعة أيامي..
أتذكر تلك اللحظة التي انهمر الدمع فيها وأنا على سرير الموت..
كيف سأواجه الله..
وبماذا..
وكلما تذكرت تلك اللحظة..
ازددت طاعةً وقرباً من الله..
وكلما جذبتني نفسي للتقصير والكسل..
تذكرت ذلك الموقف..
حمدت الله أنني عدت للحياة من جديد..
(10) الباب المفتوح
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلتُ رجائي نحو بابك سُلما
-------
على الرغم من أنني كنت مشتغلاً بدراستي الجامعية إلا أن لدي بعض الوقت أقضيه في مزاولة هوايتي المفضلة – كما يقال – وهي المراسلة..
فقد اشتركت في مجلة دولية للمراسلة.. وكانت لي علاقات مع أصدقاء كثيرين في أنحاء العالم فقد كنا نتبادل الصور والطوابع.
وفي نهاية السنة الثالثة الجامعية وقبل اقتراب العطلة الصيفية.. فكرت في أن أسافر لعدة دول..
أولا: أترف على تلك الدول..
ثانياً: أتعرف على الأصدقاء الذي لي علاقة ببعضهم منذ سنتين أو أكثر..
من الناحية الاقتصادية..
الموضوع بالنسبة لي سهل حيث أنني لن أصرف مبالغ كثيرة.. سأحل ضيفاً على الأصدقاء لمدة يومين أو ثلاثة.. إلى أسبوع..
ومن جهة أخرى سيقوم الأصدقاء بتعريفي على الأماكن الأثرية والمواقع السياحية.. فسأكون محفولاً مكفولا..
نظمت خط سير رحلتي من المملكة فقررت أن أزور فرنسا أولا بعد ذلك أغادر إلى أسبانيا ثم إلى المغرب ثم إلى مصر وأخيراً أعود إلى بلادي..
وخط سيري هذا رتبته مع العديد من الأصدقاء الذين في هذه الدول ورحبوا بزيارتي.. كما أنني لم أرتبط بحجز للسفر.. بل تركت الأمور حسب ارتياحي في كل دولة..
? أنهيت العام الدراسي.. ونجحت والله الحمد بتفوق.. أخبرت أهلي بسفري.. لم يكن لديهم ممانعة في ذلك.. أحضرت آلة تصوير وبعض الأوراق الضرورية..(1/23)
كما أنني لم أنس عناوين وهواتف الأصدقاء أقنعت نفسي أنني سأسافر للسياحة.. لا للمظاهر والبهرجة.. لذا اشتريت من الملابس أبسطها.. وحملت من المال ما يكفيني..
لغتي الإنجليزية لم تساعدني في محطتي الأولى حيث يتكلم الشعب الفرنسي اللغة الفرنسية ولكن عندما استقلت سيارة أجرة من المطار إلى مدينة باريس..
عرف أن اللغة الإنجليزية يتحدثها أصحاب الفنادق والمحلات الكبرى..
نزلت في فندق متواضع وكان الجو بارداً.. وملابسي يبدو أنها لن تقوم بالواجب.. فجسمي بدأ يرتعش من البرد.. الليلة الأولى مضت.
وسرني أنني عندما اتصلت على صديقي وكان في مدينة بعيدة عن باريس وأخبرته بقدومي.. أطهر لي السرور وأخبرني أنه سينتظرني غداً عند محطة القطار في مدينته..
في الغد حملت حقيبتي.. وركبت القطار..
ولا شك أنني عاتبت نفسي لكثرة التقاطي للصور.. خوفاً من نفاد الأفلام التي معي..
ولكن المناظر الطبيعية.. تأسرك بجمالها..
قبل وصول القطار بفترة..
أخرجت صورة صديقي الفرنسي أتفحصها.. لكي أتعرف عليه.. فأنا لم أره ولم يرني من قبل..
لم أجد صعوبة عند توقف القطار ونزولنا في التعرف على صديقي..
سار بنا إلى منزله.. وكان يتلكم الإنجليزية.. لغة المراسلة بيننا..
قضيت أياماً جميلة عندهم.. امتدت لخمسة أيام.. ثم بعد أن شاهدت مدينته وزرت مناطق السياحة فيها..
سافرنا سوياً إلى مدينة أخرى مكثنا فيها يومين ثم عدنا إلى باريس معاً وأمضينا فيها ثلاثة أيام عند أحد أصدقائه..
? بعدها غادرت إلى ألمانيا..
نفس مشكلة اللغة من جديد فالألمان لا يتكلمون إلا اللغة الألمانية.
في ألمانيا ارتحت أكثر لأن صديقي يملك سيارة.. وهذا ساعدنا على حرية الحركة وإن كان أفقدنا بعض المتعة من السفر في القطار والرحلات الجماعية..(1/24)
على أية حال.. مكثت في ألمانيا لمدة أسبوع وكان صديقي يمضي إجازة مثلي.. فلم نُقم في منزلهم سوى يوم واحد.. ومن ثم أخذنا في التجوال في ألمانيا.. بل إننا قطعنا مسافة تزيد على خمسة آلاف كيلو متراً من الطرق.. وهذا كلفنا ثمن شراء وقود السيارة.. وكان هذا الثمن مناصفة بيننا..
رأيت ألمانيا أكثر من فرنسا.. كما أن صديقي الألماني وضعه المادي جيد.. وله أقارب في مناطق متفرقة من ألمانيا.. وإن كان أقاربه لم يقدموا لنا شيئاً يذكر..
? غادرت ألمانيا إلى أسبانيا وقد خططت لتكون الإقامة أطول فيها..
دمعتك في أسبانيا تسبق نظرك..
ماذا ترى بالأندلس.. ألم تسمع قصيدة الرثاء في سقوط الأندلس..
لكل شيء إذا ما تم نُقصان ... فلا يُغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دولً ... من سره زمُن ساءته أزمان
يعتصر قلبك ويعجز لسانك.
اتصف الآثار.. عظمة في الدولة.. وعظمة في البناء.. هذا مآله..
كلما دخلتُ مسجداً اهتز قلبي..
كم من الركع ذهبوا.. كم من العباد دلفوا..
والناس مشغولة..
هذا الفسيفساء.. وهذا عقد.. وهذا.. كأن الإسلام مباني..
على الرغم من أنني أزور المسجد المجاور لنا إلا قليلاً.. لكن مساجد الأندلس تختلف..
بل كم مرة دخلت مسجد الحي ولم يهتز في جفن.. وأنا داخل للصلاة..
والآن تهتز جوانحي وأنا سائح.. لا مصل ولا عابد...
حدثني صديقي الأسباني عن عدل المسلمين عندما كانوا هنا.. وحدثني عن معلومات تاريخية..
لا أعرف صحتها من خطئها.. كلما هنالك أنني أحرك رأسي عند نهاية كلامة.. لا أجد جواباً..
ولكن قلبي يهتز..
يتحدثون عن التاريخ الإسلامي.. تاريخ آبائي وأجدادي.. ولا أعرف عنه شيئا.. بل إنني أفكر.. هل أنا من أحفاد من فتح الدنيا..؟ غادرت الأندلس وأنا حيران بكل ما تدل عليه هذه الكلمة من معنى..
وصلت بطريق البحر إلى المغرب..(1/25)
ثم سافرت بالحافلة إلى قرية صديقي المغربي وكانت بالقرب من الحدود الجزائرية.. أقبلنا على القرية.. قرية وادعة في وسط الصحراء.. تذكرني بقريتي.. لم نحتج للعنوان..
أين بيت جابر.. الكل يعرفه.. وجه غريب.. الكل ينظر إليّ.. أخذني أحدهم عندما عرف أنني قادم من أرض الحرمين.. حمل حقيبتي بإصرار عجيب..
طرقنا الباب.. هذا والد جابر.. لم أعط فرصة لأن أعرف نفسي..
هذا قادم من مكة..
احتضنني.. تفضل.. حفاوة بالغة.. أخجلتني.. لقد كانوا ينتظرون قدومي بشوق منذ أسبوع. أعدوا لي الحفلات كما ذكروا..
بعد شرب الشاي.. وضعوا لي غرفة مرتبة..
? في المساء..
قالوا إن أهل القرية يريدون أن يروك.. (ماذا...)
يرونني.. وضُعتُ على المنصة في الحفلة.. وتكلم مسئول الحفل.. فرحب بي ترحيباً حاراً.. وكان الحفل يضم أغلب أهل القرية إن لم يكن كلهم.. رجالاً.. ونساءً وأطفالاً..
بعدها تحدث إمام المسجد عن فضل مكة المكرمة والمدينة المنورة.. ورحب بي..
? وكانت المفاجأة الصاعقة لي..
يتحدث إليكم القادم من أرض الوحي من مهبط القرآن الكريم من أرض مكة والمدينة.. كنت قبل ابتسم عندما تحدثوا.. ولكن عندما طلبوا مني الحديث..
تغير وني.. ارتعدت فرائصي.. أتعقد لساني..
لم أتعود أن أتحدث في جمع كهذا.. ثم ماذا أقول.. وأنا طالب الاقتصاد.ز لا معلومات شرعية أو ثقافية لدي..
ولكن الله يسر.. فقد تحدثت إليهم عن الحرم والكعبة.. والحج.. وتكلمت كثير عن الحج فهو موضوع بسيط درسته منذ القدم ولدي معلومات سنوية متجددة من خلال الإعلام خلال موسم الحج..
ودعوت الله يحجوا إلى مكة..
فكان أن تعالت الأصوات والبكاء.. والتأمين..
يعلم الله أنني خفت من الموقف خوفاً من الله.. بدأت أتحدث بشكل منفعل وكأنني أخاطب نفسي بالتوبة.. خنقتني العبرة وأنا أتحدث..
فبكيت.. سكت الجميع برهة.. وأنا أصابني ذهول من نفسي.. كأني في حلم عجيب..(1/26)
قام الجميع يسلمون عليّ ويتحدثون بكلام لا أفهمه.. نصفه بكاء ونصفه الآخر بلهجة محلية..
بعد هذا المشهد وكأنني أشاهد تمثيلية وأنا بطلها.. دُعينا إلى العشاء.. وكان عشاء يكفي لجميع الحاضرين.. لكنني لم أكن أتلذذ بالأكل..
في داخلي شيء لا أعرفه..
ذهبت إلى غرفتي وأغلقت الباب على نفسي..
وبكيت..
بل إنني وضعت وجهي على وسادتي.. حتى ابتلت من الدموع حاولت أن أخفض صوتي حتى لا يسمعني أهل البيت..
لا أعلم متى توقفت عن البكاء.. ولكن النوم غلبني وأنا أبكي.. ولعل عناء السفر ساعدني على النوم.
طُرق الباب علي..
صلاة الفجر..
خرجت إلى المسجد.. وصليت بخشوع قلب.. وبكيت في الصلاة.
أصبحت شارد الذهن.. لا أعلم ما أصابني.. لا أعلم كيف قضيت أيامي.. لكن ليالي كانت بكاء وكان الشرود بادياً علي في النهار..
قررت أن أعود إلى بلادي..
رغم إصرارهم على المكوث.. ولكنني عزمت على العودة.. وكان خط سيري إلى جدة.. انتقلت من جدة إلى مكة.. ومكثت أسبوعاً في الحرم.. لا أخرج إلا لحاجة ضرورية..
بدأت أقرأ القرآن بتمعن.. أصلي بخشوع.. أطوف بطمأنينة..
? أين أنا عن كل هذا.. أين السنين الماضية..
لم أستطع أن أراجع حساباتي.. لأنه يغلبني البكاء.. والندم الشديد.. كنت إذا تفكرت في الماضي..
أفتح المصحف وأقرأ.. دموعي لا تفارقني.. أين هذه الدموع السنين الماضية..
لا أعلم..
هدأ روعي تلك الدروس التي تقام في الحرم..
اشتريت كتاباً بعنوان: (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) وآخر عنوانه: واحات الإيمان لعبد الحميد البلالي.
وقبل هذا وذاك..
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب..
(11) حامل المسك
قيل لعبد الله بن عمر: توفى فلان الأنصاري قال: رحمه الله، قالوا ترك مائة ألف. قال: لكن هي لم تتركه.
--------
أصابته ضائقة مالية شديدة تردد أوضاعه.. وقل ما في يده.. وتفرق أصحابه..(1/27)
يتذكر أنه منذ عشر سنوات قدم استقالته من وظيفته.. تحول إلى الأعمال الحر.. تغيرت أحواله بعد الاستقالة.. كثرت أمواله.. انتقل إلى فلة كبيرة.. تزوج المرأة الثانية.. أسفاره لا تعد.. أنغمس في الملذات والمحرمات بدون حد.. يسمع الأذان.. ولا يبعد المسجد من مكتبه سوى أمتار محدودة ولا يذهب للصلاة.. بل إن له فترة طويلة ما سجد لله سجدة.. مشغول لا وقت لديه..
في بيته كالحيوان.. يأكل ويشرب وينام.. حتى تربيته لأولاده.. لم يسألهم يوماً هل يعرفون الصلاة أم لا.. في أمواله يتساوى لديه الحلال والحرام. لا يهمه الوسيلة.. المهم النتيجة.. فهذه قاعدته التجارية..
? ولكن.. خلال السنتين الماضيتين.. تردت الأمور التجارية.. بدأ يحاول المستحيل حتى يحافظ على أعماله وأرباحه السابقة.. ولذلك بدأت أعماله تأخذ طابع الفوضى.. كالغريق يريد النجاة..
بدأ أصحاب الربح السريع يزينون له هذا المشروع.. وذاك المشروع.. هذا المشروع فشل ولم ينجح.. وهذا يساوي نصف ما دفع فيه.. خلال السنتين كثر الدائنون.. وكثرت مشاكله.. تذكر كيف كان قبل الاستقالة من الوظيفة.. الآن مصروفاته باهظة ودخله قل.. بدأ يأخذ القروض من البنوك..
خلال سنة واحدة تراكمت عليه الديون وعجز عن السداد.. انتقل إلى مرحلة جديدة في حياته.. مرحلة المطالبات في المحاكم ولدى الحقوق والشرطة.. أصبح عمله فقط محالة إرجاء حقوق الدائنين إلى وقت آخر.. مرت الشهور.. وحلت الديون.. وبدأت ملمح الشجون.. تارة بالتهديد والوعيد.. وتارةً بتقديم الشكاوي.. هذا ما فعله الدائنون..
باع جميع ما يملك.. فتله.. سياراته.. أراضيه.. أملاكه التجارية.. سدد الجزء الأكبر..
? تبقى جزء من الديون أمهله أصحابها رأفةً به.. انتقل إلى بيت صغير جمع فيه زوجته وأبناءه العشر.. السائق والخادمة لا وجود لهما عنده.. الليل يقضيه في هموم وغموم..(1/28)
في وسط هذه المشاكل خطرت في باله زيارة صديقه محمد.. سوف يساعده بمبلغ من المال.. فهو صديق طفولته.. ورفيقه في الوظيفة..
هل يذهب إليه.. أم لا.. على الرغم من أن محمد عندما زاره قبل سنتين تضايق من المظاهر البراقة.. ومن أصوات الموسيقى والصخب في بيته.. ولكنها الحاجة..
صمم واختار وقتاً مناسباً.. أنه وقت العصر من نهار الغد.. في منتصف العصر لبس ثوبه..
جرس الباب يطرق.. من.. (قولوا غير موجود) أنه صاحب البيت يريد الإيجار.. أين أبوكم.. غير موجود.. اضطر أن يتأخر نصف ساعة حتى يبتعد صاحب البيت عن الباب..
خرج على عجل وركب سيارته.. اتجه إلى منزل محمد.. نفس البيت القديم إذ لم يغيره.. وصل إلى بيت محمد بعد آذان المغرب مباشرةً.. من بالباب.. أنا صالح.. أين محمد.. لقد ذهب إلى المسجد وسيعود بعد الصلاة.. ركب سيارته.. اطرق برأسه.. من العيب أن ينتظر في السيارة والناس يمرون بجواره ذاهبين للمسجد.. ثم ماذا لو خرج محمد ووجده لم يصل مع الجماعة.. ثم أين يذهب..
لست على وضوء.. سأهذب للصلاة ها هو المسجد..
توضأ ثم ذهب للمسجد.. أدرك الركعة الثانية من صلاة المغرب.. بعد الصلاة قام أحد المشائخ وأمسك بمكبر الصوت..
بعد أن أثنى على الله وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، .. فق أريد من وقتكم خمس دقائق.. بدأ يتحدث عن الطاعة.. وإنها سبب الحياة السعيدة ألم تسمعون قول الله تعالى: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً) وتطرق لاستقامة الإنسان في الحياة.. وعدد بعض الفوائد الاتجاه إلى الله.. وذكر الرزق.. رفعت رأي لأنظر إليه فهذا ما يهمنى.. تابع تفسير قول الله تعالى: ومن يتق اللهَ يجعل له مخرجاً ويرقه من حيث لا يحتسب) فذكر أن الزرق يأتيك من أبواب لا تطرقها ولا تتوقع أن يأتيك منها.. اكمل الخمس دقائق ووفى بوعده..(1/29)
وقلت في نفسي ليته أخلف بوعده فحديثه دخل قلبي.. أين أنا من هذه الآيات والأحاديث.. لقد كنت تائهاً لم أعرف الله إلا في هذه الشدة.. الحمد لله أنني عرفته..
آثار في نفسي شجوناً كثيرةً.. فأنا منكسر النفس من الناحية المادية.. وأثارني لقوله أن هذه أسباب المعاصي.. فتذكرت غفلتي..
دمعت عيني.. وتنهدت.. خرجت من المسجد.. ها هو محمد.. دخلنا إلى منزله الله أكبر صديق عمر.. بمعنى هذه الكلمة.. هش لي ورحب بي في وقت هرب فيه كل من حولي.. كيف أولادك.. كيف صحتك.. ما هي أخبارك..
? يا محمد لا تستعجل.. سأخبرك بكل شيء.. طال حديثي وفصلت له كل شيء.. بعد أن انتهيت.. أجابني جواباً أسمعه لأول مرة في حياتي.. هذه رحمة من الله لك..
لقد أكلت من الحرام أكثر من الحلال. وتركت واجباتك الدينية.. وابتعدت عن الله.. لعل في هذا أيقاظ لقلبك.. لتعرف أن المادة لا تعني شيئاً.. بل سيحاسبك الله كما في الحديث يسأل المرء عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل به..
ولكن الحمد لله على كل حال.. كم تبقى من ديونك.. سأكفلك في جميع ما تبقى.. وهذا المنزل المجاور لي اشتريته منذ خمس سنين ولقد خرج المستأجر منذ شهرين.. وحلف عليّ أن أسكن به حتى يسر الله أمري.. احتضنته وأنا أودعه..
رجل صالح بمعنى الكلمة.. على خلق ودين..
بعد أسبوع سكنا بجوار محمد.. له مجلس كل يوم اثنين مع بعض الاخوة يقرؤون في بعض الكتب الدينية.. بدأ أبنائي يحفظون القرآن في المسجد مع أولاده.. بدأت أشعر بطعم الحياة.. بدأت أموري تتحسن.. والأهم من ذلك ديني.. وبيتي.. بعد صلاة الفجر أجلس في المسجد حتى تشرق الشمس..
لقد أشرقت شمس الإيمان في داخلي..
(12) الزمن القادم
هذا توفى النفوسُ ما كسبت ... ويحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم ... وإن أساءوا فبئس ما صنعوا
-------
اشتعل الرأس شيباً..
ها قد شارفت على الخميس..(1/30)
على الرغم من عشقي للقراءة..
إلا أن الوقت أخذ يضيق بي..
أصبحت مباهج الدنيا تأخذ متعة القراءة مني..
هذا ابن قادم وذاك حفيد لا تمل رؤيته..
حياة تسير على ما أتمناه.
لا يكدر صفوها شيء..
نهاية يوم الخميس حانت..
بعد يوم طويل.. حافل بالزيارات والمرح..
ودعتُ أبنائي وبناتي وأحفادي..
صرخ هاجس في داخلي..
هذه الدنيا عجب..
اجتماع وفرقته..
سيرحل الجميع..
وسيودعون ويودعون..
ستبقى وحيداً..
ما هذه الأفكار..
بسرعة.. تلفت يمنةً ويسرةً..
مجموعة من الكتيبات ذات الحجم الصغير دائماً تقع تحت نظري..
لا شك أن ابنتي الصغرى هي التي وضعتها..
فهي تهديها إلي بين حين وآخر وتُحثّني على قراءتها..
كتاب أذكار الصباح والمساء..
كتاب زاد المسلم اليومي..
ماذا بعد..
هنا كتيب صغير..
لا يتجاوز أربع صفحات..
لا يحتاج إلا لأربع دقائق قراءة..
تناولته.. بسرعة استكملت قراءته..
أصابني الدوار..
هممت بصوت خافت..
لا أغسل..
ولا أكفن..
ولا يُصلى علي..
ولا أدفن مع المسلمين..
ماذا بعد..؟
أنا ابن الخمسين..
هكذا ستكون نهايتي..
لا..
بل هناك المزيد سأعيد لكم القراءة مرة أخرى..
ولكن بالتفصيل..
الكتاب بعنوان:
حكم تارك الصلاة (1)..
خلاصته..
أن تارك الصلاة كافر..؟
أبعد هذا العمر.. أوصف بذلك..
صوت بعيد..
ولَم لا؟؟
ألست تارك الصلاة من أحكام.
أولاً: أنه لا يصح أن يزوج، فإن عقد له وهو يصلي، فالنكاح باطل، ولا تحل له الزوجة.
ثانياً: أنه إذا ترك الصلاة بعد أن عقد له فإن نكاحه ينفسخ ولا تحل له الزوجة.
ثالثاً: أن هذا الرجل لا يصلي إذا ذبح لا تؤكل ذبيحته، لماذا؟
لأنها حرام ولو ذبح يهودي أو نصراني فذبيحته يحل لنا أن نأكلها.
رابعاً: أنه لا يحل له أن يدخل مكة أو حدود حرمها.
خامساً: أنه لو مات أحد من أقاربه فلا حق له في الميراث.
__________
(1) لفضيلة الشيخ محمد بن عثمين(1/31)
سادساً: أنه إذا مات لا يُغسل ولا يكُفن ولا يُصلى عليه، ولا يدفن مع المسلمين إذًا ماذا يصنع به؟
? يخرج به إلى الصحراء ويحفر له ويدفن بثيابه لأنه لا حرمة له. وعلى هذا فلا يحل لأحد مات عنده ميت وهو يعلم أنه لا يصلي ن يقدمه للمسلمين يصلون عليه.
عشت حلم الواقع..
وضعت الكتاب جانباً..
رفعت يدي إلى رأسي.. ضغطت عليه بقوة..
سقطت شيبة..
نظرات إليها.. أبعد هذا الشيب؟ لا أغسل ولا أكفن.. ولا يُصلى عليّ..
هذه نهايتي..
هذا ما جمعته في الدنيا..
الله..
كلمة خرجت بقوة من أعماق قلبي..
أهذه نهايتي..
أين نحن غافلون.. فلا شك أني مقصر.. بل ومفرط.. ولكن خمسون سنة.. ولا أجد ناصحاً.. يقول لي ذلك.. كيف..
? مسئولية من هذه..؟
غسلت الزمن الرديء بدموع التوبة..
عاهدت نفسي أن أكون ناصحاً لكل مخطئ..
نهضت قائماً..
سيصلى عليّ..
وسأدفن إن شاء الله مع المسلمين..
(12) الخاتمة
فلو أنا إذا مُتنا تُركنا ... لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا مُتنا بُعثنا ... فنسأل بعده عن كل شيء
------
كانت معرفتي به بسيطة.. أحياناً متفرقة، أراه في المسجد وأياماً كثيرة لا أراه.. كنت أسلم عليه بحرارة وكنت في شوق إلى معرفته والتحدث إليه..
عندما انصرفنا من صلاة العصر.. وقفت أنا وزميل لي خارج المسجد نتحدث.. فإذا به قادم.. وسلم على زميلي ثم سلم عليّ.. وبدأ أنهما على معرفة سابقة.. فقد كانا زميلي دراسة..
تجاذبنا أطراف الحديث وطلبت منهما موعداً لزيارتي في منزلي.. فوافقا واتفقنا على الاجتماع بعد صلاة العصر عداً..
سألت زميلي عنه فحدثني بأنه إنسان فيه خير كثير.. فاستفسرت عن سبب غيابه عن المسجد أياماً طويلة خاصةً وأنه جار للمسجد.. فأخبرني أن صديقه هذا له رفقاء سوء في العمل فإذا اتصل بهم تراه يتغيب عن المسجد ولا يحضر للصلاة وتكثير أسفاره..(1/32)
وتحدثنا طويلاً عن أفضل الطرق لإبعاده عن رفقاء السوء.. طمأنت زميلي وقلت سأحاول إبعاده عنهم قدر المستطاع.. ادع الله أن يعنني على ذلك وسأحتسب الأجر عند الله..
كان الاستعداد للموعد العصر وفرحت به كثيراً لعل الله أن يهديه على يديّ..
أخبرت بعض الأصدقاء وقلت لهم نريد أن تبعده عن رفقاء السوء وهذا لا يتم إلا بالتعاون بيننا جميعاً وكسب مودته وحبه لعل الله أن يهديه..
تمت الزيارة في موعدها وحصل ما كنت أريد، فالرجل محب للخير.. قريب للنفس..
تشعب بنا الحديث وكان بعض حديثنا عن الجو الممطر هذه الأيام وأن في منطقة كذا ربيع وأرض خضراء..
شاركنا في الحوار فإذا به صاحب معرفة بالمناطق الخضراء ذات المناظر الخلابة.. فأشار بأن المنطقة الفلانية أفضل من جميع المناطق وذلك لأنها أرض رملية مغطاة بعشب أخضر وبين تلك الكثبان الرملية غدير ماء.. فاتفقنا على الخروج نهاية الأسبوع لهذا الموقع الجميل..
وصمم أن نكون ضيوفه ولكننا رفضنا...
قلنا له نكفي منك الفكرة ومعرفة الطريق.. وبعد مشاورات أصبحت الرحلة مشاركة من الجميع في كل شيء ما عدا الفكرة فهو صاحبها..
جو ربيعي جميل ومنتزه تحفه الرمال من جميع الجوانب..
وهذه الروضة وسط الرمال.. من أجمل المناطق.. فعلاً.
? أصبح الرجل يودنا ويحبنا ونشأ بيننا الكثير من المحبة والألفة.. خاصةً أن الرحلات للمناطق البعيدة تعني التقارب بين الجميع.. استمرت صداقتنا مع بعض مدة طويلة وأصبح الخروج إلى البر يتم بدون مقدمات لأننا اتفقنا على الخروج نهاية كل أسبوع..
وأصبح هناك ترتيب لجدولنا اليومي في الرحلة واستفادة من الوقت سواء من ممارسة الرياضة أو من استقطاع وقت للراحة.. وكان هناك درس بعد صلاة الفجر يعقبه آخر بعد صلاة العصر مدته قصيرة.. وعانيت من ذلك معاناة شديدة بسبب هذا الارتباط الأسبوعي للخروج خارج البيت..(1/33)
فقد كان هذا الوقت بالنسبة لي بمثابة تفرغ كامل للقراءة والكتابة.. إضافةً إلى أنني ألغيت الكثير من ارتباطاتي العائلية.. أصبح صاحبنا محافظاً على الصلاة ودوام على صلاة الجماعة في المسجد بما في ذلك صلاة الفجر وظهرت عليه سيما الصلاح والاستقامة.
وقد كان لارتباطي الخاص به فرصة لقربه مني فقد باح لي بالكثير مما يعانيه من قبل.. ومراحل ضياعه..
حيث كان يتيماً وتربى في بيت جده..
استمرت علاقتنا هذه لمدة شهرين كاملين.. بعدها قدر الله لي أن انتقل من بيتي إلى مكان آخر في أطراف المدينة لقربه من مكان عملي وانقطعت تلك الأيام والرحلات وحتى الاتصال الهاتفي.. لعدم وجود هاتف لديّ..
وقد غبت بسبب ذلك فترة ليست طويلة عن هذا الشخص وحتى عندما اتصل عليه في بيته يقولون غير موجود..
? وسبحان مغير الأحوال فقد أخبرني بعض الزملاء ممن كان يذهب معنا أنه عاد لرفقاء السوء وعاد لبعده عن الله جل وعلا.. وأخذت الأسفار جل وقته..
فقد أهمل عائلته ورجع إلى سالف عهده فترك صلاة الجماعة وبدأ يتراجع إلى الخلف..
بدأ يسمع الأغاني.. ترك حفظ القرآن.. ترك السباب الصالحين.. ترك الكتب القيمة..
تحسرت على ذلك ودعوت الله لي وله.. وحثثت بعض الاخوة على معاودة تلك الرحلات..
بعد مدة هاتفني أحد الزملاء وكان صوته متغيراً.. وأخبرني أن فلاناً توفي..
إنا لله وإنا إليه راجعون..
ماذا جرى له فمنذ مدة لم أره ولم أجده في بيته فقد اتصلتُ عليه كثيراً.. قال لي أنه سافر إلى شرق آسيا مع رفقاء السوء وتناول جرعة كبيرة..
تناول جرعة كبيرة من مادة مخدرة..
مات هناك وحُمل في تابوت على متن الطائرة العائدة ومعه تقرير يثبت أن وفاته كان سببها تناول المخدرات.
وجلت إيما وجل من سوء خاتمته وأيقنت أن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبهما كيف يشاء..
فهو لم يستمر في توبته..
بل رجع إلى ما كان عليه..
إنا لله وإنا إليه راجعون..
تقلب في حياته من الشر إلى الخير..(1/34)
ثم عاد إلى طريق الشر وختم له بنهاية سيئة..
قال أهله..
ليته مات بأي شيء إلا هذه الموتة وهذا التقرير..
رفعت يدي إلى السماء ودعوت من كل قلبي..
(يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك).(1/35)
بسم الله الرحمن الرحيم
الزمن القادم
المجموعة الثانية
تأليف: د. عبد الملك القاسم
(1) فقط ابدئي
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له ... من الله في دار المُقامِ نصيب
فإن تُعجب الدنيا رجالاً فإنه ... متاعٌ قليلٌ والزوال قريب
--------------
صوت زوجتي بجواري..
خطواتك سريعة كأنك تبحث عن شيء..؟
وهل الدنيا إلا خطوات.. مضى أكثرها..
أمسكت كتاباً.. وبدأت أقرأ.. لكن هناك ما يشغل بالي سألتها..
كم من وقتكِ يذهب بدون فائدة..؟
قالت.. بالعكس فأنا مشغولة.. ولا وقت لدي..
لكنها.. لا تستطيع الهروب من تتابع الأسئلة..
كم ساعة تقضينها في المطبخ..؟
ماذا تستفيدين خلال تلك الساعات الطوال..؟
لو وضعتَ شريطاً لمحاضرة تسمعينها.. معنى ذلك..
تسمعين محاضرةً كاملةً كل يوم..
.. وأكملتُ
مسئوليتي أن أحضر لكِ هذه الأشرطة
تستطيعين لو وضعتِ جدولاً لسماع القرآن الكريم..
عشر دقائق فقط كل يوم.. لربما حفظتِ القرآن..
هذا من وقتكِ.. ووقتك لو تعرفين ثمين..
رمضان شهر عبادة.. وقراءة قرآن..
تُقيمين في المطبخ منذ الصباح.. من سأكل ما تطبخين..؟!
لا أريد إلا نوعاً واحداً.. أو اثنين من الطعام
وتتفرغين للقراءة والعبادة..
? وصلنا بيت القصيد.. أشرتُ بيدي..
اجلسي
سؤال يمر بذهني كلما اجتمعتِ مع الجيران..
ماذا في هذه الاجتماعات الأسبوعية.. وربما اليومية
ألم تسمعي قول الله تعالى: (ما يلْفِظُ مِنْ قَولٍ إلا لديْهِ رَقِيْبٌ عتيدٌ)
كل شيء مكتوب حتى التبسم.. كما قال الإمام أحمد
يُسأل الإنسان فيم تبسمت يوم كذا..
تعلمين.. إذا طال المجلس كان للشيطان فيه نصيب..
بإمكانك أن تكوني داعية الحي..
فقط ابدئي..
ولا تنسي.. ما يناسب أعمارهم ويصحح أخطاءهم..
استعيني بالله.. وسترين مالا تتوقعين من الخير على يديك
فقط.. ابدئي..
رفعت رأسها.. وقالت
أنا امرأةٌ مسالمة.. لو تعلم أنني في مجتمعات النساء لا أغتاب أبداً..
لصدّقت قولي..
صحيحٌ ما تقولين.. ولكن سماع الغيبة قبول(2/1)
والقبول إجازة وموافقة.. بل وإعانة..
أعدت عليها تكرار المحاولة السابقة..
ماذا تقولين يا داعية الحي..
أنت متفائل جداً.. تُهون الأمور وتُبسطها.. لا تعرف مجتمع النساء الأمر ليس بهذه السهولة..
كيف أعد محاضرة.. ولست مؤهلة لذلك..
ثم إنني أخجل ولا أستطيع التحدث أمام جمع من النساء..
ولربما.. وضعت نفسي في موقف محرج..
توكلي على الله.. واحتسبي الأجر..
لا عُذر يبرر ترك الدعوة..
الكتب متوفرة.. والأشرطة الإسلامية موجودة..
اقرئي عليهم موضوعاً محدداً..
ولكِ أن أعد المحاضرة الأولى إذا أحببت.. عليكِ فقط قراءتها..
ألا تستطيعين..؟!
? في يوم زيارتنا.. شد نساء الحي الرحال..
كالعادة تسبقهن فاكهة النساء..
فكرتُ كثيراً.. ودعوت الله أن يعينني
خطرت في بالي فكرةٌ جديدة.. سأنفذها حال اكتمال الجميع..
بدأت أنظر في عيونهن.. أقرأ ما يخبئن
تمهلتُ.. وأرجأت تنفيذ الفكرة حتى نهاية الزيارة..
سأراعي كل شيء.. رغبة في كسب ودهن.. ومحبتهن
وحتى لا أدع مجالاً لتعليقاتهن..
بل إنني أقنعت نفسي منذ مساء البارحة.. هذا عمل لوجه الله ثم نظرت.. أكرم الخلق عليه الصلاة والسلام..
كيف بلّغ الدعوة..؟ ماذا تحمل في سبيل ذلك..؟
حوصر في شعب عامر ثلاثة أعوام
رُجم وطُرد من الطائف..
هاجر من أحب البقاع إليه
كُسِرت رباعيته وشُجت جبهته الشريفة يوم أحد..
تعرض للقتل مراتٍ عديدة..
صبرٌ عظيم.. وجهادٌ متصلٌ
لم يتوقف أمام العقبات.. ولم تُثنه الصعوبات
وأنا.. ماذا سأواجه..؟ ربما كلمة.. أو ضحكة.. أو ..!! عاتبت نفسي.. ماذا سأواجه..؟
في نهاية الزيارة..
استجمعت قواي.. دخلت عليهن..
واثقة من نفسي.. أحمل ورقة في يدي
هذه ورقة وزعت في المسجد عن فضل الأيام المقبلة
فضل أيام عشر ذي الحج.. وما يستحب من العمل فيها..
لشدة دهشتي.. لم يكن هناك شيء مما توقعته
بل أنصت الجميع.. بلهفةٍ وشوق
كان في نيتي.. أن أقرأ على عَجل..(2/2)
ولكن لما رأيت من التجاوب الطيب.. تمهلت في القراءة.. حتى قرأتها كاملة..
قالت إحداهن بتعجب..
كل هذا في فضل عشر ذي الحجة..؟
كنت أظن أنه موسم للحج فقط..!
ترددت الدعوات منهن لي.. احتفالاً ببداية موفقة..
معلنةُ نجاح الخطوة الأولى..
حمدت الله كثيراً.. وتأكدت أ، زوجي قال الحقيقة.
وأنه كان واقعياً أكثر مني..
عندما أخبرتها.. نظر إليّ بفرح..
هذا ما كنت آمله فيك.. يا داعية الحي..
? قبل موعد الزيارة الثانية..
الكتب كثيرةٌ.ز ولكن نجاح الخطوة الأولى يلاحقني..
احترت.. ماذا سأختار..؟ قررت أن أبدأ بالتوحيد..
قرأت عليهن أربع صفحات عن الكهانة والسحر..
وعندما وصلت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (من أتى كاهناً فصدّقه بما يقول فقد كفر بما اُنزل على محمد).
لَمحتُ بعض العيون تتحرك.. لم تكن تعلم أن المر هكذا..
القبول والتشجيع.. جعل الأمور تستمر..
في الزيارة التالية قرأت لهن عن الصلاة..
وفي زيارة أخرى قرأت لهن أحكام الطهارة..
الكثير منهن يجهلن أمور العقيدة ويتهاونَّ فيها..
أما أحكام الصلاة والطهارة..
فالجهل ضاربٌ أطنابه في حينا..
? في إحدى الزيارات.. كنت أكثر جرأة..
قرأت لهن كتاباً عن الاحتضار..
شدته.. وغصّته..
وما يعانيه المحتضر عند موته..
تحاملت على نفسي..
تمالكت أعصابي..
وحبست دموعي..
ولكنني في النهاية.. لم أستطع..
بعد شهور عديدة
لم يعد للغيبة في مجلسنا مكان.. أصبح الذكر والتسبيح ملازماً لنا.
كل امرأة أصبحت داعية داخل بيتها ومجتمعها.
قررنا أن تعم الفائدة..
ويكون هناك درس أسبوعي بعد المغرب لمن لم يحضرن معنا..
التغير الكبير والسريع.. جعلني أطرح سؤالاً على زوجي
في مدةٍ وجيزة يكون هذا الخير الكثير
قال.. أو تعجبين..!! الناس على الفطرة
يبحثون عمن يساعدهم ويعينهم..
ولكن دعيني أسألكِ
هل تبرأ ذمتكِ.. لو لم تفعلي ذلك..؟
ناديت بصوتي..
? بقيت ذمم الأخريات..
لو أن كل متعلمة أصبحت داعية الحي..(2/3)
واستجابت لدعوتي..
فقط ابدئي..
فقط ابدئي..
(2) غربة وموقف..
قال إبراهيم التميمي..
إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يديك منه
--------------
للغربة في دارنا سكن..
أهربُ كثيراً.. أحاول أن أنسى
في حديقة المجتمع الخلفية.. سألتني جارتنا.. قلت لها.. مسلمون قلتها على عجل.. خجلاً من نفسي.. وخوفاً من أسئلة أخرى نحن هنا أناس معزولون.. لا نعرف أحداً.. ولا نرى أحداً.. نسمع أن هنا مسجداً.. ونرى منارته حين مرورنا .. ولا ندخله.. حتى في الأعياد لا نأتي إليه..
أيامنا تحولت مع أيامهم وأعيادنا أعيادهم
باختصار.. يطلق علينا مسلمون.. تجاوزاً..
لا صلاة.. ولا عبادة.. لا شيء يوحي بالإسلام في منزلنا سوى سجادة صلاة معلقة في المجلس..
ومع مرور الأيام بدأ لزوجي أن يغيرها..
كيف نعيش.. زوجي رجلٌ عملي.. ومنظم
يجب عمله.. يتفانى في دارسته..
يطغى الجو الرسمي على المنزل وعلى تعاملنا..
يريد كل شيء في وقته.. حتى لا تضيع دقيقة..
أما ابني (....) فليس له من اسمه نصيب
لا يعرف عن الإسلام شيئاً.. ولا يعرف حتى الشهادتين
من ربك..؟ ما دينك..؟ من نبيك..؟..
لم تردد في منزلنا أبداً.. أدخلناه مدرسة مع أطفال الجيران.. وتركنا مدرسةً لأطفال المسلمين.. ما تبقى من وقته
حرصنا فيه على تعلمه للغة الإنجليزية.. رغم صغر سنه..
مشاهدة التلفاز والفيديو.. خروجه مع أطفالهم..
هذا جهدنا نحوه
صلتنا بالطلبة هنا منقطعة.. واتصالنا ببلادنا متقطع
ربما طرقنا هاتف يخبرنا بموت فلان.. أو بزواج قريب.. في غربتنا تحملت مسئولية كل شيء..
شراء ما نحتاجه وحتى تسديد الفواتير..
يُهوّن حياة الغربة.. طفلي.. وشيءٌ من فرحة العودة..
رغبتي في زيارة الأهل لا حد لها.. ولكن..؟!
? مكالمة طويلة من والد زوجي أتت..
وأصر على أن نزورهم هذا الصيف..
ولكما طالت المكالمة فرحت بذلك.. لعلمي إلحاح والده..
بعد أعذار واهية..
سيأتون بدوني.. لديّ ما يشغلني..(2/4)
وضع سماعة الهاتف.. انتظرته يقول شيئاً.. ولكنه كان متوتراً.. بعد تململٍ قال..
أصر والدي.. وأنا لا أستطيع الذهاب.. وقتنا ضائع بين ذهابٍ وعودةٍ.. قلت له.. لنا سنتين لم نذهب.. اذهبوا أنتم رتبت حجزي.. حزمت حقائبي..
سأغادر مدينتي إلى العاصمة..
أمكث فيها ثلاثة أيام.. أحتاج إلى كثير من الهدايا..
في الطريق فرح ابني..
سنذهب إلى فلان.. وفلان.ز وعدّد الكثير من الأسماء.. لم تغب عن ذاكرته
وعندما دخلنا المدينة سأل عنهم..
قلت.. ليس الآن..
بعد ثلاثة أيام..
في هذه المدينة تتذكر الوطن.. السواح في كل مكان..
السُمرة تعلو الوجوه.. وتُرى العباءة في الأسواق..
فرحت بهذا القرب من الوطن
بدأنا نقترب..
يومٌ أو يومين ونحن هناك
في اليوم الأخير لنا هنا.. بعد أن انتهيت من شراء ما أحتاجه.. ذهبت بابني إلى الحديقة
البط قريبٌ جدّاً.. والحمام يلامس يدك..
الناس في كل مكان.. والأطفال.. يمرحون
بدأ ابني يرمي ببقايا الأكل إلى البط حتى اقتربن
على كرسي جلست وحيدة.. وكان بجوار ابني طفل يحادثه..
ما أسرع المعرفة.. إنه صفاء القلوب..
ناديت ابني ساسمه..
وأتت بدلاً عنه أم الطفل الذي بجواره..
سلّمت وهشت ورحبت..
سائحةٌ مثلي..
قلت بفرح.. لا بل مغادرة..
كالطفلة أحتاج إلى من يحادثني..
امتدحت المكان وفرحة الصغار..
دعتني لشرب الشاي معهم..
وسط أرض خضراء.. يتوسطها الشاي والقهوة..
عَرّفتني.. هذه والدتي.. وهذه أختي.. وهذه زوجة أخي.. ما شاء الله.. عائلة كاملة..
أنست بالحديث معهن..
قادمٌ من بعيد. ينظرون إليه.. ويمازحون..
أقبل.ز نسبقه عصا في يده.. هذا والدنا..
سلّم.. ولم يجلس.. ولكنه رفع صوته..
لا نسمع أذاناً ولا إقامةً..
دعا لبلاد المسلمين دار خير وصلاة..
نادوا فلاناً وذهبت إحداهن تبحث عن الطفلين..
أسرع ابني وجلس بجانبي.. أما الطفل الآخر.. فلعله اعتاد الأمر وضع سجادة.. ووقف بجواره.. وكبّر للصلاة..
مشدودةً عينا ابني.. وهو يرى ذلك(2/5)
وما إن ركع.. ورفع من السجود..
حتى وقف.. وقال بصوتٍ عالٍ.. فَرِحاً..
يصلي.. مثل بابا عبد العزيز
سألتني والدتهم. ما شاء الله..
أبوه اسمه عبد العزيز..؟
أشحتُ بوجهي عنها.. وأنا أخفي عينيّ..
أسندت رأس ابني إلى صدري..
ما أكبر الجريمة في حقك..
أشرت برأسي أن.. نعم.. عندما أعادت السؤال..
? ماذا أصابني..؟
إعصارٌ هزّ أعماق قلبي..
لم ير والده يصلي. قط..
عبد العزيز.. جده..
لم تدعني دمعتي أكمل ..
قالت بتنهدٍ
إنا لله وإنا إليه راجعون..
قرّبت ابني.. مسحت على رأسه..
وقالت..
(العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)
هذا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم..
هل تقبلين أن تكوني كافرة..؟
هل تقبلين أن تتزوجي كافر..؟
هل تقبلين..!!
(3) دمعة في فرح
قال أحمد بن حرب..
إن أحدنا يؤثر الظل على الشمس ثم لا يؤثر الجنة على النار
--------------
امتلأت الغرفة بالمهنئات..
أنظر إلى زميلاتي وقريباتي.. الكل يُسلم.. ويبارك..
بارك الله لكما وبارك عليكما.. وجمع بينكما في خير..
ويدعو بالتوفيق والذرية الصالحة
بعد دقائق..
جلست وحيدة أترقب القادم.. سقطت من عيني دمعة عندما تذكرتُ أمي وهي تدعو لي بالزوج الصالح
كأنني في حلم.. رجعت بالذاكرة سنين طويلة..
صبحا ذاك اليوم..
أين أمي..؟ أين ذهبت..؟
ارتفع صوتي أطول من هامتي.. فأنا ابنة خمس سنين
أعدتُّ السؤال.. أين أمي..؟
كانت الدموع.. الجواب
هناك من أضاف.. بصوتٍ ضعيفٍ.. قطعة البكاء ذهبت إلى الجنة إن شاء الله..
لا أعرف في ذلك اليوم.. من أبكى الآخرة..؟
أهي أنا وأخي صاحب الثلاث سنوات.. أم بكاء من حولنا..؟ أمسكت بيد أخي نبحث عن أمنا
تعبت أقدامنا من الجري هنا.. وهناك..
صعدنا إلى الدور العلوي..
طرقنا أبواب الغرف جميعاً.. ذهبنا إلى المطبخ..
ورغم التعب.. لن نجدها..
عندها.. تأكدتُّ أن أمي ليست في المنزل
ضممتُ أخي إليّ.. وبكيت
من التعب والإرهاق غفونا..(2/6)
بعد ساعة أو ساعتين.. أمسكتُ بيد أخي.. لنعيد البحث.. لم نجدها في المنزل.. رغم كثرة النساء
لقد كانت ملء السمع والبصر.. ولكن أين اختفت..؟
بعد صمت طويل.. ووقوفٍ مستمر.. تذكرتُ بفرح..
? هناك مكان لم نبحث عنها فيه.. إنه ظل الشجرة..
كانت تُحب ذلك المكان.. بسرعة أجري
تعبنا من نزول الدرج.. وسقط أخي من شدة جذبي له.. ولكننا في النهاية.. لم نر سوى الشجرة..
نظرت أعلى الشجرة.. تحتها.. كل مكان وقع عليه بصري.. ليس هنا سوى الشجرة.. وبقايا زرعٍ كانت تُحبه
ولكن أين أمي..؟
فجأةً..
تعالت الأصوات.. رأيت الرجال وقد تنادوا
أطرقت سمعي.. وأشخصت بصري..
لحظات من الحركة السريعة..
مروا من أمامنا يحملون شيئاً على أكتافهم
قلت لأخي حين سألني.. ما هذا..؟
قلت له ببراءة الأطفال..
هذا شيء ثقيل.. فالكل يشارك في حمله..
لم أكن أعرف أن تلك المحمولة.. هي.. أمي..
وإلا لأمسكت بها.. ولم أدعها تذهب..
اختفى الرجال..
هدأت الأصوات.. وساد الصمت..
جلسنا نلعب في التراب بطمأنينة..
في ظل الشجرة.. كعادتنا عندما تكون أمي بجوارنا..
هذا أول يوم نخرج فيه إلى الحديقة بدون حذاء..
نعطش.. فلا نجد الماء..
أقبلت إحدى قريباتي وأخذتنا معها إلى الداخل..
? في صباح الغد..
بدأنا مشوار البحث في كل مكان..
استجمعت قواي.. قلت لأخي وهو يبكي حولي..
سترجع أمي.. وستعود.. وستعود..
هبت جدتي مسرعة عندما ارتفعت أصواتنا بالبكاء..
ضمتنا إلى صدرها..
لازلت أتحسس دمعتها التي سقطت على رأسي..
? كلما شاهدت أمّاً قبلتها.. فيها رائحة أمي..
تذكرت يوماً.. أنها قالت لي عندما أغضبتها
سأذهب.. وأترككم..
لازلتُ أتذكر حين أتينا لزيارتها في المستشفى..
بجوار سريرها.. حملني أبي.. وقال لها.. هذه أروى..
ضمتني وقبلتني.. ثم قبلت أخي..
تساقطت دموعها وهي تضغط على يدي الصغيرة.. وتقبلها بقوة كل يوم يطرق سمعي.. آخر صوتٍ سمعته منها..
أستودعكما الله الذي لا تضيع ودائعه..(2/7)
ثم أجهشت بالبكاء.. وعطت وجهها..
أخرجونا من غرفتها.. ونحن بكاءٌ.. ودموع..
بدأنا.. رحلة التنقل
رحَلتُ.. من دارٍ كان لي فيها أبٌ وأمٌ.. وأخ..
رحَلَتْ ونحن رحلنا..
بعد خمس سنوات..
رجعتُ إلى دار أبي.. قادمة من بيت جدتي..
أنا.. وأخي..
... وغائب الموتِ لا ترجون رجعته *** إذا ذوو غيبةٍ من سفرةٍ رجعوا
امرأةٌ في بيت أبي..
هذه أسماء.. سلّموا عليها..
ليست أمي.. لكنها نِعْم الزوجة لأبي..
اهتمت بتربيتنا تربيةً صالحةً.. حرصت علي متابعة دراستي..
بدأت تحثني على حفظ القرآن.. اختارت لي الرفقة الصالحة.. هيأت لي ولأخي.. ما نريد.. بل أكثر من ذلك..
أحياناً كثيرةً نُغضبها.. لكن رغم ذلك..
كانت المرأة الصبورة.. العاقلة..
لم تُضع دقيقة من عمرها بدون فائدة..
لسانها رطبٌ من ذكر الله.. جمعت بين الخُلق والدين
ملأت فراغاً كبيراً في حياتنا..
هذا هو تفسيرها للمعاملة الطيبة.. عندما سألتها فيما بعد..
? قلت لها.. أنتِ تختلفين عن زوجات الآباء
فأني الظلم.. وأين المعاملة السيئة..
قالت.. أخاف الله.. وأحتسب الأجر في كل عملٍ أقوم به.. أنتم أمانة عندي.. لا تعجبي..
حتى في ترتيب شعرك أحتسب الأجر..
ثم يا أروى.. كم تحفظين من القرآن..؟
أليس لي أجرٌ إن شاء الله في ذلك..
ألي لي أجرٌ في تربيتك التربية الصالحة..
كل ما عملتُه.. ابتغاء مرضاة الله.. وأضافت..
كما أن الإنسان يطلب الأجر والمثوبة في العبادات كالصوم والصلاة فأنه يطلبها في المعاملة..
المسلم يا بنيتي مطالبٌ بالمعاملة الحسنة..
? قاطعتها.
ولكننا نتعبك.. وقد نضايقك..
يا أروى.. في كل عمل تعبٌ ونصبٌ.. الجنة لها ثمن..
تعلمين أن في الصيام تعب وفي الحج مشقة..
والله سبحانه وتعالى يقول (فمن يعمل مثقالَ درّةٍ خيراً يّره، ومَن يّعملْ مثقالَ ذرّةٍ شراً يَّره)
ما ترينه حولك من ظلم زوجات الآباء لن يمر دون حساب.. بل حسابٌ عسير..
ما ذنبُ يتيم يُظلم.. وصغيرٍ يُقهر
الظلم ظلماتٌ يوم القيامة(2/8)
قلت لها.. والعبرات تخنقني..
هذه دعوة أمي رأيتها في حُسن معاملتك لنا..
فالله لا تضيع ودائعه..
? فجأةً..
طرق الباب..
دخلت زوجة أبي.. سلّمت.. وباركت
قبلتُ رأسها.. ولها عندي أكثر
مثال المرأة المسلمة
قالت.ز ودمعةٌ منها تُودّع..
لا تنسي أن تحتسبي عند الله كل عمل تقومين به..
ثم أضافت على عجلٍ لا تفارقه الابتسامة..
لقد حفظتِ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها.. ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت)
والآن.. جاء دور التطبيق..
قلت في نفسي..
ما أخطأ أبي حين تزوج امرأة صالحة..
ما أخطأ أبي حين تزوج امرأة تخاف الله...
(4) إيقاظ قلب..
قيل للحسن: يا أبا سعيد.. كيف نصنع، نُجالس أقواماً يخوفونا حتى تطير قلوبنا..
فقال: والله إنك إن تخالط أقواماً يخوفونك حتى يدركك أمن، خيرٌ لك من أن تصحب أقواماً يؤمنونك حتى يدركك خوف..
--------------
تتحدث.. وحديث الموت على لسانها..
فلانٌ كذا.. ومات.. وفلانٌ.. ومات..
في لحظة صفاء.. سألتها..
أما تعبتِ من ترديد حديث الموت
قالت بلطف.. كفى بالموت واعظاً..
? هاتفتها يوماً.. سنزورك نهاية الأسبوع ولكن بشرط.. أن لا تتعبي نفسك
قاطعتني.. التعب لأجلك راحة.. لك مَحبةٌ في القلب.. أكملتُ شرطي الآخر..
قلت.. ولا تتحدثين عن..
سبقتني وقالت.. الموت
وافقت بعد حديث متبادل يتخلله الفرح
وأكملتُ..
إن متُّ فلا تروي قصتي.. كان جوابها
... قد قلت إذ مدحوا الحياة فأكثروا
... ... ... ... ... في الموت ألف فضيلة لا تُعرف
أخبرت زوجتي بموعد الزيارة..
فرحت وأنا أخبرها
ابتسمتُ وقلتُ.. اشترطت عليها أن لا تتحدث عن الموت والمؤمنون عند شروطهم..
قالت بحماس واضح.. الشرط لك.. أما أنا.. فلا كلما زُرتُها شعرت أنني أستعيد نشاطي في العبادة..
لعل الله يوقظ قلبك..
ننسى.. وننسى.. حتى تُذكّرنا..
انظر إلى عملها.. لتعرف فائدة تذكر الموت(2/9)
في لحظات السكوت البسيط.. تُسبح وتستغفر
تصلي قيام الليل أكثر من صلاتي وصلاتك وهي مرهقة مريضة لا تغتاب أحداً.. ولا تبتسم إلا في حق..
إذا رأت غير ذلك ردت ردّاً جميلاً أو خفضت رأسها..
تعمل في صمتٍ.ز ولا تتحدث..
لم تقل يوماً.. إنني فعلت.. وفعلت..
تواضع عجيب وإخفاءٌ للعمل..
أينما كان الخير بحثت عنه.. ودلّت عليه
في زيارتنا..
النظرات تُذكّر بالشرط.. ووَفّت وإن كنت مازحا..
أكرمتنا أكرمها الله..
ورفعت منزلتنا أنزلها الله مع النبيين والصديقين والشهداء..
قالت عن زوجها
إذا نسي قلّما قد أتى به من المكتب.. أو استعارة من زميل له.. كتب ذلك في ورقةٍ صغيرةٍ ووضعها في صالة المنزل..
تبرئة لذمته.. وردّا لحق
عرفتُ أن ذلك استعداداً لطارق يطرق فجأةً.. ويأخذ بغتة..
كان ذكر الموت بعيداً يلوح.. رغم شرطي..
تعجبت!! في قلمٍ واحد يكتب ذلك !!.. أين أنا منه..؟
لو روى لي هذا الأمر غيرها.. لم أصدق بسهولة..
أو حسبت أنه ورعٌ يروى من القرون الأولى..
سألتها يوماً مازحاً..
كم تصلين من ساعةٍ قيام الليل..
قالت.. أنت تعرف أن الوتر سنة مؤكدةٌ لا ينبغي لأحدٍ تركه.. ومن أصر على تركه رُدتْ شهادته..
تبسمت.. وأضاقت.. أنت تستكثر كل شيء..
كان أحدهم إذا بلغ الأربعين طوى فراشه..
هذا مع صلاحهم فيما مضى من أعمارهم..
أين أنت...؟
(5) الثبات..
صبراً جميلاً ما أسرع الفرجا ... من صدق الله في الأمور نجا
من خشي الله لم ينله أذى ... ومن رجا الله كان حيثُ رجا
--------------
منذ ستة أشهر بدأت أستعد لزواجي..
خطوةُ أولى..
بثت عن ذات الدين.. لم أجد صعوبة في ذلك..
أثني على المرأة خيراً.. وذُكرت عندي بذكرٍ حسن..
تقدمت لوالدها.. شيخٌ وقور جاوز الستين من عمره..
لم أتعجب من طريقته في الحديث وتبسطه معي..
ولكني تعجبت عندما سألني.. من إمام مسجدكم..؟
لعله بدأ السؤال عن معرفتي من هناك(2/10)
استخرت الله في أمر هذا الزواج.. صليت صلاة الاستخارة.. وجدت الارتياح التام
? وعندما استقرت الأمور.. وعلمت بالموافقة
بقي هناك أمر.. قدمت خطوة.. وأخرت أخرى
كيف سأفاتح الشيخ في ذلك..
لم أخش من عدم الموافقة.. لكن جهل البعض بالحكم الشرعي في ذلك ربما يُحرجُك..
عقب الشيخ على طلبي..
هذا أمرٌ أمرَ به الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)
وخبر للجميع اختصار الطريق..
من الآن ينتهي كل شيء.. خير من أن يكون هناك شيء غداً.. لم يقف الأمر هنا.. بل بدأ شهر العمل.. خطوات متلاحقة.. شهر التأثيث وما يتبعه من تجهيز..
لا أعرف الأسواق.. ولا إلى أين أذهب..
ولكني اختصاراً لوقتي.. فضلت الشراء من أماكن القريبة.. وإن كان الثمن أغلى.. فوقتي أثمن عندي من زيادة في المال
كلما تعبتُ من البحث والشراء.. تذكرت أن ذات الدين ستسكنه.. فرحت وهان التعب..
يوماً.. ركبت عائداً محملاً.. تعلو محياي الابتسامة..
تزول سريعاً.. فتحت المذياع..
ماذا تسمع.. جراحٌ للمسلمين في كل مكان..
أخبار القتل والتعذيب تُفزعك.. تطفي ريق ابتسامتك
تتقطع أنياط قلبك.. وأنت تسمع.. إنهم يذبحون كالخراف رحم الله زماناً مضى..
عاتبت نفسي.ز كيف نهنأ لك الابتسامة..
وأنت تسمع.. وترى..
... ... أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد
... ... ... ... ... ... تجده كالطير مقصوصاً جناحاه
اختفت الابتسامة سريعاً كما أتت.. وحُقّ لها ذلك..
فكرت كثيرا.. تأملت واقعي..
فأنا داعية.. جُل وقتي خارج عملي الرسمي وهبته للدعوة..
وما بين الوقتين وهو قليل.ز جعلته للقراءة..
أحياناً أحتاج لساعات أطول من ساعات النهار لأنجز عملي سؤال عريض.. كيف سأوفق بين ذا.. وتلك..؟
ولكني كلما تذكرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نبي هذه الأمة ومعلمها وقائدها..
استطاع رغم أعباء الرسالة أن يعطي كل ذي حق حقه..
فهو النبي القائد.. والمربي الموجه.. والقاضي الحاكم..\
أعمالٌ لا نهاية لها(2/11)
ورغم ذلك.. كان نعم الزوج.. ونعم الأب..
كان صلى الله عليه وسلم في خدمن أهله وكان يمزح مع زوجاته بما يدخل السرور إلى قلوبهن.
ويقص لهن القصص.. ويستمع إلى قصصهن.
بل سباق صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها..
سبقته مرة.. وسبقها أخرى..
تضاءلتُ عند نفسي..
تذكرتُ من يهمل في حقوقه الزوجية.. ويبرر ذلك بضيق الوقت.. وكثرة المشاغل.
تذكرتُ من إذا دخل بيته كأنه أسدٌ يزمجر وسيف مصلت.. لا يهنأ أهل بعيش حتى يغادر المنزل..
هواجس خطرت.. سرعان ما تبددت..
? مع اقتراب الموعد.. رُتّب جدل لليلة الزواج..
محاضرة بسيطة..
مسابقات ثقافية للصغار
دفٌ ونشيدٌ للنساء..
ووزع إهداءٌ لكل من شاركنا الفرحة
كتابٌ.. وشريط..
نعم المرأة.. أدبٌ وخلقٌ.. وعفاف
لا تسمع صوتها إلا همساً.. ولا فراغها إلا تسبيحاً
ما أبديتُ أمراً.. إلا قدّمت رغبتي ورضاي..
ما سألتها عن شأنٍ.. إلا قالت..
ما ألسُّنة في ذلك..
لم يخطر ببالي أن هذه المرأة الوادعة.. الهادئة
ستكون غير تلك
ذات يوم.. أُرهقت أعصابي.. وكُدِّرَ خاطري..
وأحببت أن أسمع رأيها.. فهي زوجتي.. وأم أبنائي..
أصواتٌ هادئة.ز ذلك هو حديثنا..
وواصلتُ.. بعد مقدمة طويلة
تعرفين أن باب الدعوة طريقٌ طويلٌ.. وشاق.. محفوف بالمكاره.. ربما آخذ من وقتك.. وأقصّر في حقّكِ..
بل ربما.. وربما..
لم تدعني أتم حديثي..
كالجبل الواقف قوةً وثباتاً.. تحدثت..
وقتي.. إن كان للدعوة فقد وهبتك إياه..
وهل رأيت دعوة دون مكاره.. ومشاق..
أين قراءتك لكتب التاريخ والسير..
من الذي يُطعمنا.. ويكسونا.. أهو أنت..؟
(وما مِن دابةٍ في الأرضِ إلا على الله رزقها..)
كالسهام أصابت مقتل
طفلٌ وأنا أسمع نثر الدّرر
تأملت ريق عينيها.. وهي تدعو لي بالتوفيق
عند آخر كلمةٍ طرقت أذني
أسمعتها صوتي بقوة..
أنتِ امرأةٌ.. بألف امرأة..
(6) سؤال حائر
... رضيتُ بالله في عسري وفي يسري
... ... ... ... ... فلستُ أسلكُ إلا أوضح الطُرق
--------------(2/12)
الفرحةُ في منزلنا.. ولكن الحيرة تأخذني
أين أتجه.. وإلى أين أذهب..؟
على مفترق الطرق أقف..
أنهيت دراستي الثانوية بتفوق..
أي طريق أسلك.. ولأي كلية أتجه؟
فكرتُ.. معي والدي.. ووالدتي
كان عمي.. أن أخدم الإسلام في أي مجال..
ترددتُ كثيراً..
فكرة قديمة تجول في خاطري
كلية الطب.. ولكن!!؟
هناك عقبات ومحاذير.. كيف إذاً..؟
استخرت الله.. رددت الأمر إلى أهله..
نحن في نعمة.. جواهرٌ بين أيدينا.. وأقمارٌ تسري في ليالينا أمسكتُ بالهاتف..
سمعت صوت الشيخ المميز..
سألت.. وأجاب
إذا كان لديك المقدرة فلا تترددي.. واشترط المحافظة على الحجاب وفضلتُ أن أتخصص في طب النساء والولادة كما أشار بذلك
عورات المسلمين يجب حفظها
توكلت على الله..
بدأت السنة الأولى بفرح لا يسعه المكان
كان همي.. همٌ الطبيبة المسلمة..
لم أكن الوحيدة.. هناك الكثيرات..
حفظ القرآن.. جزءٌ من نشاطنا..
الدروس والمحاضرات متكررةٌ
محافظةٌ تامةٌ على الحجاب.. واعتزاز واضح بالدين
سنواتٌ تحصيل مرت.. سبع سنوات سريعة..
كسبت فيها صحبةٌ طيبةً.. ورفقةً صالحةً..
كان يوماً مهمّاً في حياتي..
هذا المساء.. سأكون مسئولة عن قسم الولادة..
ما إن أقبلت تتألم.ز تمشي الهوينا..
احتسبي الأجر.. ولكِ دعوةٌ لا تُرد..
قلقٌ في العيون.. ولحظات انتظار طويلة
صرخ الطفل.. وأنا منهكةٌ.. مرهقة..
ولم يغب عني ما كنا نحرص عليه..
بسم الله عليكَ.. وتابعتُ وأمهُ تنظر..
اللهم اجعله من حفظة كتابك.. وحملة سنة نبيك..
فرحتُ بمسلم يوحد الله في الأرض..
الأم.. لا تسل عن الأم..
قالت بعد يومين..
تمنيت أن ابنتي طبيبة..
وأخبرتني أن زوجها قال..
فرحتي بالطبيبة تقف عندك وأنتِ في تلك الحال..
أكبر من فرحتي بطفلي..
دعا لك..
ستر الله وجهها عن النار وأكثر من أمثالها..
الحمد لله.. ما ضاع جهدي
تركت منزلي في مساء متأخرة.. وفي أوقات مختلفة
تحملت الكثير.. ستراً العورات المسلمين(2/13)
تعودت على حياة المستشفى رغم التعب.. ورغم كل شيء..أستبشرُ خيراُ بما أقوم به.. ودعاءً بظهر الغيب أرجو
? يوماً خرجت من المستشفى
أخبرتني أختي أن زواج فلانة ليلة الخميس القادم
دعوت لها بالتوفيق والذرية الصالحة..
وقلت لأختي مازحة..
إن شاء الله.. بعد عام تأتي إليّ..
رتبُ أموري.. لعلي أحضر الزواج..
مناسبات عديدة لم أتمكن من حضورها
كالعادة..وبكل بساطة
سَلّمَت.. أنتِ فلانة..؟
وسط زحام النساء.. ربما أخطأت
قلت لها.. لا.. أنا فلانة
ولمحتها من بعيد تسأل إحدى الحاضرات وتشير إليّ
حدثني قلبي..
الموضوع.. رما زواج
فرحٌ جديد في قلبي لم يطرقه منذ سنتين أو أكثر..
لم أخفِ ابتسامتي وأخبرت زميلتي..
قالت.. أعرفهم..
وزاد فرحي.. واطمأننت..
بعد أسبوع حافلٍ بالسرور.. والأماني
ترجع بسرعة..
وأد الفرحة مبكراً.. وقتل الابتسامة في مهدها
فأنا طبيبة..
لعل في الأمر خيراً.. والخير فيما اختاره الله
ولكن نفسي.. تقول..
هل أخطأت عندما حفظت الوصية.. وأطعتُ الأمر..
وقفت صامدة أما كل شيء لا حفظ ديني..
اخترت أصعب الطرق
تخطيت العقبات.. صابرةُ ثابتة..
أطعت الله ورسوله..
خاطبته بقوة.. ودمعةٌ لا تسقط
غداً أنت تفرح بوجودي عندما تأتي بزوجتك
واليوم لا تضحي بالقليل معي حفظاً لنساء المسلمين..
أين التعاون على البر والتقوى..؟
اجبني.. نساء المسلمين..
نتركهن لمن..؟
غالبتني دمعتي..
وسقطت..
ورغم ذلك.. عهدٌ عليّ أن أخدم الإسلام
يخترق الحواجز..
سؤالٌ حائر!!
نتركهن لمن..؟
(7) نحن وأنت
قال أوس بن عبد الله:
نقل الحجارة أهون على المنافق من قراءة القرآن
--------------
ودعتُ أهلي.. حزناُ لفراقهم
فرحاً بقدمي إلى هذه الأرض..
لأول مرة أدخل المطار.. ولأول مرة سأركب الطائرة
ستصعد بنا إلى أعلى.. وأكون معلقاً بين السماء والأرض مشاعر متلاحقة.. وعواطف متقلبة..
زحف الخوف على قلبي..
لم يكن هناك متسع للتفكير في عملي..
أين هو..؟ وكيف..؟(2/14)
ألمح خيالاً يلوح بناظري.. وأنا مرتدٍ ملابس الإحرام
هذه أمنيتي..
تحملت من أجلها الغربة والصعاب..
يُهدّئ ذكرها رجف الخوف في قلبي
تجاذبتني الخواطر.. وسرتُ مع دروب كثيرة
قطع تفكيري موظف الجوازات.. ناولته جواز سفري
? ما هي مهنتك.. راعي غنم..؟!!
أجبته.. نعم..
بعد خروجي من صالة المطار
استقبلني صاحب العمل.. فرِحاً.. متبسماً..
استبشرت خيراً..
لم ألمح سوى أنوار المدينة من بعيد.. ثم اختفى كل شيء.. الأسئلة تتوالى.. كم سنة رعيت الغنم..؟
تعرف أمراضها وأسقامها..؟
وما أن فرغ من الأسئلة الطويلة والنوم يغالبني..
حتى توالت النصائح..
لا تُفرط.. ولا تُهمل.. عليك بالجد والاجتهاد
أقبلنا على خيمةً صغيرةٍ.. بعدما اجتزنا طُرقاً وعرة..
هذا مسكنك.. فَرحتُ سعة المكان.. وبالهدوء الجميل..
خيمتي في مكان مرتفع..
ويسكن معي فيها أكوام من العلاف والشعير..
لم تترك لي سوى ركن صغير..
ما تبقى من الخيمة كان مطبخي..
استيقظت لصلاة الفجر.. بعد نومٍ مريح..
? بدأت أول يومٍ من أيام عملي..
نظرت إلى غنمي.. واحدة واحدة..
انطلقن أمامي.. وانطلقت أحمل طعامي
استويت على ظهر دابتي..
(سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون)
ارتفعت الأتربة على أثر سير الغنم
ونحن نسير الهوينا.. بدأت الخيمة تختفي..
التفت إليها مودعاً
موعد الإياب غروب الشمس
بعد مسير طويل.. حططنا رحالنا..
تفقدت المكان.. وأطعمت الصغار
أذنتُ لصلاة الظهر
تردد صدى صوتي في الأماكن القريب..
اطمأننتُ أن الغنم حولي.. أقمت الصلاة.. وصليت
رحلتُ بعيداً حيث مسجدنا هناك..
تذكرت بداية حفظي للقرآن
عاد صوت والدي إلى مسامعي.. وهو يوصني بحفظ القرآن
فرصةٌ لا تعرض.. وغنيمةٌ باردة..
ليس لدي ما يشغلني.. ومَن هنا يُحادثني..؟!
من شدة الحر.. لم أزد على ثلاث لقيماتٍ أكلتها..
وعندما حانت العودة..
كنت قد اتخذت القرار المهم.. سأحفظ القرآن إن شاء الله
نعم وأنا راعي الغنم(2/15)
شكرت الله على هذا التوفيق
وأن عملي خارج المدينة. هنا رغم شدة العيش وقسوة الحياة لا غيبةٌ.. ولا نميمةٌ.. ولا فتن.. صفاءٌ في كل شيء..
ما إن تراءت الخيمة.. حتى أسرعت الخراف والنعاج
سريعاً وصلن إلى حيث الماء..
توضأت وأذنت لصلاة المغرب
هذا كان أول يومٍ لي هُنا.. وأيامي هكذا..
يوم الجمعة أسير على قدميّ لأشهد الصلاة
أخبرت صاحب العمل
أني ما جئت إلى هنا إلا رغبة في أداء مناسك الحج..
ولكنه أجاب ببرود واضح.. بقي شهور.. ولم أر ذلك الحماس تسألني..؟ هذا هو قدومي..
ولكنك تعجب كيف حفظت القرآن؟؟.
? في الصباح وأنا ذاهبٌ بغنمي.. أراجع ما حفظته أمس.. وعندما يستقر بي المقام.. أبدأ بالحفظ
وإذا قفلتُ عائداً راجعت ما حفظته في يومي.. وأكرر المراجعة صباح الغد..
يومي الخميس والجمعة.. مراجعةٌ لكامل حفظي..
سأله رفيقي متعجباً..
ليس لديك مذياع.. ولا تلفاز..؟ ... ولا تقرأ الصحف..؟
كيف تعرف أحداث العالم..؟... وماذا يجري..؟
معزول عن العالم أنت.. هذا واقعك..
تطوعت للإجابة.. ماذا استفدنا..؟ وماذا استفاد..؟
اعتدل الراعي في جلسته.. همومي قليلة.. وفي وقتي متسع يُشغلني مرض غنيمة من الغنيمات.. أو تمزّق في ثوبي..
هذه الأحداث الكبرى عندي..
أما ولادة نعجة من النعاج فهذه الحدث العالمي..
قلت لرفيقي.. كيف ترانا على هذه الدنيا.. نجري.. ونجري ولا نقرأ القرآن شهراً أو شهرين..
قلنا له..
حياتك خير من حياتنا.. أنت وغنيماتك خيرٌ من دنيانا..
وما أن ركبنا عائدين..
حتى وضع رفيقي يده المذياع
وقال..
حديث الناس هذه الأيام
تمزّق في طبقة الجو العليا..!!
(8) لغة الأرقام
قال أبو إسحاق الطبري:
كان النّجاد يصوم الدهر ويفطر على رغيف ويترك منه لقمة، فإذا كان ليلة الجمعة أكل تلك اللقم التي استطعها وتصدق بالرغيف...
--------------
مًحدثي لا يعرف سوى لغة الأرقام.
تسأله سؤالاً.. تجد الجمع والطرح أولا.. ثم يأتيك الجواب..(2/16)
في ليلة سفر باردة.. ساد فيها الصمت والإرهاق
قال لي.. كم تتصدق كل سنة من مالك..؟
عجبتُ من السؤال بعد طول سكوت
ولكنه أصر على السؤال مرة أخرى.. وقبل أن أجيب.. سألته.. لماذا..؟ وأنت تعلم أن إخفاء الصدقة خيرٌ من إعلانها كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم (سبعةٌ يظلهم الله بظله، يوم لا ظل إلا ظله) وذكر منهم (رجلاً تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه..).
ولكنه شدد في السؤال.. واحترت في الجواب
فكرت.. كم أتصدق في سنة كاملة..؟
سؤال يمر عبر السنة.. أيام وشهور مضت
بعد أن لاحظ طول تفكيري.. دعني اُقرِّبُ لك السؤال
نحن الآن في منتصف الشهر..
مضى نحو أسبوعين من بداية هلال هذا الشهر
كم أنفقت في أوجه الخير والبر..؟
أجبته بسرعة وبدون تردد.. لم أنفق شيئا إطلاقاً..
هز رأسه.. وأصاب بغيته.. وعاد للغة الأرقام وقرر بعد برهة أنت لا تتصدق في اليوم ولا بشق تمرة.. أرأيت كيف..؟
تعجبت من حسابه.. ولكنه أضاف..
أنت لا تتصدق إلا إذا وجدت فقيرا.. أليس كذلك..؟
قلت له.. نعم.. هز رأسه..
متى تجد ذلك الفقير المحتاج.. أو متى بحثت عن فقير..؟
ولا أقول فقيراً فقط.. بل من أقاربك أو جيرانك..؟
كان جوابي داخل نفسي.. لم أبحث.. لا عن جارٍ ولا قريب..
لو فرضنا أنك تتصدق كل يومٍ بريال.. لأصبح مجموع ما تنفق في عام كامل ثلاثمائة وستون ريالاً..
مبلغٌ زهيد.. انتظر الجواب
قلت له موافقاً.. نعم هذا صحيح..
ولكني أعلم أنني لا أتصدق بهذا المبلغ في عام كامل.. رغم قلته واصل حديثه.. بعد أن أكملت جوابي
باب الصدقة باب كبير من أبواب العبادة فيه سدٌ لحاجة فقير.. وكسوةٌ لعارٍ.. ولقمةٌ لجائع.. وإغاثةٌ لملهوف.. وتعليمٌ لجاهل.. لقد وهبك الله هذا المال.. ومرتبك يزيد على ثلاثة آلاف ريال ماذا قدمت للإسلام والمسلمين..؟
هل اشتريت كتاباً لإخوانك وجيرانك..؟
هل شاركت في بناء مسجدٍ ولو بالقليل..؟(2/17)
كم شريطاً إسلامياً أهديت..؟ كم فقيراً واسيت..؟
مجالات الخير كثيرة.. ومتعددة..
ولكن.. أرأيت كيف نحن محرومون من هذا الأجر!!
لماذا لا تخصص مبلغاً ثابتاً كل شهر..
مما زاد عن حاجتك ينفق في أبواب الخير..
? ثم هناك الكثير تستطيع أن تقدمه.. خذ مثلاً.. وعليك الجمع.. لو استغنيت عن كأس من اللبن تشربه في اليوم لوفّرت ريالاً كاملاً.. يكفي.. شراء وجبة كاملة لعائلة مسلمة..
لم تر الطعام من يوم أو يومين
لو تركت شراء ثوبٍ واحد مما زاد عن حاجتك كل عام.. لأنفقت مبلغ مائة وخمسين ريالاً تكفي لشراء كتب في العقيدة توزع على مدارس المسلمين.
زوجتك.. لو رغبت فيما عند الله..
وتبرعت بثمن شراء فستان واحد فقط كل عام.. مائة وخمسون ريالاً تكفي لتكلفة برنامج إذاعي إسلامي لمدة عشرين دقيقة..
في بلادٍ، الحربُ لا هوادة فيها بين المسلمين والمنصرين
أرأيت كيف فَعلتْ؟
ألبسها الله لباس الأمن يوم الخوف.. وكساها لباس التقوى..
وجعل ما تركته في الدنيا ستراً لها عن النار يوم القيامة..
أخي.. منزلك الذي تزينه بأنواع الزينة والكماليات..
ألا تستغني ولو مرة واحدة عن شيء من ذلك؟
إذا لوفرت مبلغاً يزيد على خمسمائة ريال..
يكفي لكفالة ثلاثة طلاب يحفظون القرآن الكريم لمدة عام كامل
الله أكبر.. أرأيت كيف؟
نعمةٌ جعلها الله في يدك.. فلا تمنعها عن طريق الخير..
أخلف الله عليك ما أنفقت.. ورزقك دعوة صالحة..
ترتفع إلى السماء من قلب طفلٍ مسلمٍ يحفظ القرآن.. أنت ترعاه..
ابنك.. لماذا لا يكون له مشاركةٌ في الخير..
لو أخبرته يوماً أنك ستتبرع بقيمة هذه اللعبة..
لدعم المسلمين وإعانتهم
لرأيت الفرح على وجهه.. فهو ابن الإسلام..
بمبلغ خمسة وثلاثين ريالاً تبرعاً منه..
تقيم صلب مجلة شهرية إسلامية لمدة عام كامل.. ترفع لواء التوحيد..
وتحارب البدع والشركيات..
تكون أنت مشتركاً فيها بالدعم البسيط.. وبالإطلاع والفائدة..(2/18)
رفع الله ابنك في عليين.. يوم أن رفع لواء التوحيد
التفت إلىّ.. وقال..
أرأيت كيف.ز ولا يتأثر ملبسك.. ولا مأكلك.. ولا مسكنك أمضى خنجراً في قلبي.. عن لقمة طعام واحدة..
ما زاد عن حاجتكم في وجبة طعام.. يكفي عائلة كاملة لمدة أسبوع .
... العين تكبي من مُصَابَكِ أُمّتي
... ... ... ... ... فإلى متى يا أمّتي ننعاك
سكتنا برهةً..
وأنا أغالب دمعة حائرة في مهجتي.. تبحث عن مخرج..
أضاف بصوتٍ غلبه التأثير..
كم فقير ستُطعم.. وكم من مُستحقٍّ ستُعطي..
كم من باب خير ستطرق.. وكم من الأجر ستجمع
هذا بابٌ من أبواب.ز لو نظرت جانباً آخر.. لرأيت العجب لو ترك السائح المسلم سفر هذا العام وتبرع بتكاليف سفره.. لأطعم وكسا قرية مسلمة.. بل وربما قريتين لمدة عام كامل.. هزّ يده.. هناك الكثير.. تركني أسترجع لغة الأرقام مرة أخرى وأنين أطفال المسلمين يطرق أذنيّ
أين أنتم عنا يا مسلمون..؟
(9) الفرار
واتق الله فتقوى الله ما ... جاورت قلب امرئٍ إلا وصل
ليس من يَقطُع طُرقاً بطلا ... إنما من يتق الله البطل
--------------
كلما تجلّت ذاكرتي ورأيتُ خيال عبد الله..
رأيتُ هامة تطاول السحاب
مَن قدّم حياته ونفسه فداءُ للإسلام..
في زمنٍ.. بخل البعض عن تقديم ريال..
تكبُر في هذا الرجل كل شيء.. همته.. عزمه.. إصراره.. في زمن الخور والضعف فيه همةُ الرجال
في زمن الانحراف تجد الاستقامة..
في وجوه الناس عبوسٌ وخبث.. على محياه البشاشة والخير
في زمن الهروب.. أحب الإقدام
كثرت الملهيات وتعددت ولكنه.. بقي الشاب الملتزم الثابت
تلمح في عينيه هم الإسلام..
لم يلتفت يمنة ولا يسرة للدنيا.ز كان هاجسه رفعة الإسلام..
أجازته لا يقضيها إلا في خدمة المسلمين..
في زمن الشباب.. أجاب..
سألتني في حمانا ظبية ... أتحب الشوق في عين صبية
قلت لا أعشق حُسناً ظاهراً ... أو أرى الحب عيوناً نرجسية
إنما أعشق صدراً عامراً ... يحمل الموت ويزهو بالمنية
أدركت سري وقالت ظبيتي ... أنت لا تعشق غير البندقية(2/19)
ولأنه لم يضع بندقيته إلا منذ ليلتين قادماً من أرض الجهاد
فرحتُ بمقدمه.. وسررت برؤيته.. أجاب بحزن لفرحي..
لم يكرمني الله بالشهادة حتى الآن.. وهل الشهادة لكل من أراد..؟
مع أنني هذه المرة لم أحمل بندقيتي..
حملت كتباً لتوزيعها هناك.. كتب التوحيد والعقيدة والفقه..
إنهم في أمس الحاجة إلى المدرسين والدعاة..
لم أجد صعوبة في توزيع الكتب..
بل الصعوبة في أن تجد من يُدرسها..
في أعلى قمة جبلية في المنطقة..
انتهينا من توزيع الكتب على غرفة.. تسمى مدرسة..
أخبرونا أن الطائرات تقصف المكان
أسلحتنا.. لا ترد هذا الحديد الطائر
أما أسلحة الأهالي فبعضها يعود للحرب العالمية الثانية.. وربما الأولى..
في وسط هدوء تُسمعُ فيه الهمسة.. بدأ أزيز الطائرات يقترب أسرعنا إلى مخبأ في أحد الكهوف
وهنحن نردد الشهادة ونتلو القرآن
رفيقي.. إذا أراد شيئاً جذبني..
لم نعد نسمع بعضنا من شدة الأصوات
نُطل على قرى صغيرة متناثرة أسفل الجبل
بعضها به عشرة بيوت.. وبعضها أكثر.. يصل إلى الخمسين بيوت صغيرة بسيطة.. مبنية من الحجر.. لونها لون الطبيعة..
يُرى واضحاً القصف على تلك الدور الصغيرة.. التي لا تحتاج إلى كل هذا.. فهي على وشك السقوط..
شعرنا أننا في مأمن..
وإن الأمر موجه إلى قرى معينة أسفل الوادي..
أمسكت بمنظار كان معي..
بدأت أجيله بني تلك المساكن.. وحول الصخور الكبيرة
وربما امتد بعيداً لأرى النهر..
يهتز وتتغير الصورة.. مع اهتزاز الأرض من حولنا..
موقفٌ تعجز عن وصفه..
شدةٌ.. وضيق..
تذكرت قول النبي صلى الله عندما سُئل.. ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد قال: (كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة)
لحظاتٌ قاسيةٌ وزمنٌ عصيب..
الأرض ترجف.. والسماء تقذف..
ونحن بينهن.. فتنةٌ وأي فتنة..
يمر بالبعض.. الدعة والراحة والأمن في بلده..
منهم من يرى ابنه أو ابنته الصغيرة.. تدعوه.. ليعود(2/20)
فتنة الدنيا.. وفتنة الموت.. لكن المؤمن يرد بثباتٍ وقوة..
(إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة)
في هذا المكان..
الأحداث سريعة..سباقٌ مع الموت..
نُكبر.. ونتشهد.. بسرعةٍ لا يقف لسانك معها..
نفسك تحدثك بأن هذه آخر تكبيرة في حياتك
وآخر تشهد.. لا إله إلا الله.. أجلت طرفي..
فإذا البلدةُ القريبة بدأت تُقصف
ارتفعت أعمدة الدخان مختلطة بالأتربة..
? في الطرف الشرقي من البلدة..
منزلٌ وحيدٌ.. غرفة أو غرفتنا صغيرتان..
يبعد عن بيوت القرية خمسين متراً إلى الجبل
ما إن بدأت البلدةُ تهتز.. والمنازل تسقط
حتى خرجت من هذا المسكن
امرأةٌ.. وأي امرأة
عارية.. لا غطاء
حافية.. لا حذاء
تجري بقوة.. لا تعرف أين تتجه وإلى أين تذهب
الخوف أخذ منها كل مأخذ
بدون وعي..
اتجهت يساراً خطوات سريعة.. ثم عادت تجري يميناً..
بعد لحظات..
لحقتها ابتنها التي لم تتجاوز الخمس سنوات
هروبٌ.. فرار..
الأمر.. حياةٌ وموت.. نفسي نفسي..
سارت الصغيرة يساراً وهي تجري بسرعة
حتى اصطدمت بحجر كبيرة.. وسقطت..
بعد دقائق.
انجلى الغبار.. وهدأت الأصوات.. بدأنا النزول من الكهف.. وأنا أتفكر في هول ذلك اليوم..
(يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرىء منهم يومئذ شأنٌ يغنيه)..
(10) رحِمهُ الله
حُكم المنية في البرية جاري ... ما هذه الدنيا بدار قرار
بينا يرى الإنسانُ فيها مخبراً ... حتى يُرى خبراً من الأخبار
--------------
للحياة تجديد.. وللاخوة لقاء..
زيارة الأصدقاء..
فرحٌ في القلب.. وراحة للنفس
تباعدت بنا الأيام..
الأوقاتُ تمر سريعة..
شهرٌ أو يزيد لم أر عبد الله..
تذكرت عتابي له.. ولومي لتأخره في الزيارة..
لا نراك إلا كل شهر..
هذا حق الأصدقاء عندك..
هذه المرة سيكون العتاب أكثر..
نحن في نهاية شهر رمضان ولا نراه..
هاتفني مرةُ واحدةُ على عجل..
الحياةُ أخذت كل شيء..
لا وقت حتى نستأنس بالجلوس معه..(2/21)
وقفت مشاغله حائلاً دون الزيارة..
عبته محبة.. ولومه اخوة..
هذه الأيام.ز لا وقت لدي أنا أيضاً..
فأنا إمام المسجد
ولكن لعلي أراه ولو لبعض الوقت..
? هاتفني..
سأزور بدون موعد
رمضان قد رتب وقتك..
فأنت بين مراجعة حفظك. وبين الراحلة بعد صلاة التراويح..
وما بقي من الوقت استعدادٌ لصلاة القيام..
رغم كل الظروف.. لابدّ أن نراك..
بعد يومين..
قدومُ مبارك.ز ولكنه قدومٌ متأخر..
ذاهبٌ إلى صلاة القيام..لا تختار إلا هذا الوقت..
أحببت أن أراه بعد الصلاة..
اعتذر بكثرة المشاغل..
ووجد لي عذراً.. فأنت تحتاج إلى الراحة..
ولدي عمل يجب أن أنجزه الآن قبل الغد..
استدركت نسيانه..
صلاة القيام..
تمهلَ في الإجابة.. ولاحظتُ ذلك
الليلة نختم القرآن
لابدّ أن تصلي معنا..
وأكملت مازحاً.. عندما لاحظت سكوته..
لا تُضيعها..
قد تكون آخر ختمةٍ في حياتك..
وكانت كذلك..
بينما الفتى مرح الخطا فرح بما ... فقوّم النفس بالأخلاق تستقم
إذ قيل: بات ليلةً ما نامها ... إذ قيل: أصبح مثخناً ما يٌرتجى
إذ قيل: أصبح شاخصًا وموجهاً ... ومعللاً إذ قيل: أصبح قد مضى
... ... ...
آنس الله وحشتك
رحم الله وحدتك
أنت في صحبة البلى
أحسن صحبتك..
وكان رحمه الله...
(11) أم الأبناء
صلاحُ أمرِكَ للأخلاق مرجعه ... فقوّم النفس بالأخلاق تستقمِ
والنفسُ من خيرها في خير عافية ... والنفسُ من شرها في مرتع وخِم
--------------
هاتفني ظُهراً على غير عادة
أخبرني بأنه سيأتي حالاً..
إنا لله وإنا إليه راجعون.. نبرات صوته متغيرة..
ربما أن في الأمر شيئاً..
شابٌ في مقتبل العمر
يحمل هموم الدنيا فوق رأسه
هذا ما يدعيه..
منحك الله الصحة.. والزوجة.. والأبناء
ولكنك توحي لنفسك بهذه الهموم
لقد شاب شعركَ وأنت شاب..
رفع رأسه.. وقال.. كلا فأنا أحمل هموم الدنيا..
يكفيك من هموم الدنيا زوجة تنكد عليك حياتك
وتكدر صفاء أيامك
لا تقل هذا.. يا أخي..
هدىء من غضبك.. وزن الأمور
زوجتك تقدرك.. وتحترمك(2/22)
ما علمت شيئاً فيها راحتك إلا أتته
يكفيك منها.. أنها أم لأبنائك
ترعاهم.. وتُعلمهم.. وتتفقد أمورهم
كيف تقبل الآن.. أن تتحدث عنها هكذا
تجعل الغضب يُنسيك كل شيء
تمحو الزلة كل خير..
إن كان هذا صحيحاً..
أين الصبر والحلم
حسن الخلق معها.. ليس كف الأذى عنها فقط..
لا..
بل احتمال الأذى منها.. والحلم عند غضبها..
هدأ بعض من غضبه.. ولكنه أتم حديثه..
لم يمر بنا أسبوع واحد دون مشكلة.. أو مشاكل..
هذا يكفي لأن تعذرني..
ولا تعجب من ثورتي وغضبي..
قلت له.. من سبب هذه المشاكل..
بسرعةٍ.. أجاب.. هي طبعاً..
وأنت..
هل يعقل أنها سببٌ لكل هذه المشاكل..
وأنت بريء...؟!
لكأني أرى الكثيرات يتحملن سيئ أخلاق أزواجهن..
يصبرن حسن غضبه..
يأمر.ز ويهني.. يُهين.. ويُزبد..
وأكثر..
وهو.. بريء..!!
? أضفتُ
دعني أسألك.. أكثر من سؤال.ز
هر يده.. وقال..
سأجيب وبصدق.ز أريد حلاً لمشاكلي..
تعبت مما أنا فيه..
التفتُ إليه..
لا تسمعني جوابك الآن.. أجب بينك وبين نفسك..
سأجعلك الحكم..
ففيك الخصامُ.ز وأنت الخصم.. والحكم..
متأكد.. أنه لا توجد أمور أساسية تجعلك تكره زوجتك..
فيما مضى..
تُثنى على دينها وخلقها.. وحسن تدبيرها..
وفي لحظةٍ يُنسى كل شيء..
زيادةٌ في ملح.. أو نقص في التوابل والبهارات..
يسقُط كل شيء..
أما فقد أزرار.. وعدم كي الثوب جيداً
فهي إلى دار الأهل سريعاً..
الطامة الكبرى..
إن نسيت أو.. أخطأت..
تهديدٌ.. ووعيد..
وربما نفذ..
كم من البيوت هُدمت.. وكم من الأطفال ضُيعوا..
ثم بعد سنوات.. يأتيك الندم..
لو رويتُ لك قصة غضبك ومجيئتك إلىّ ظهراً على لسان رجل آخر.. لأستغربت.. ولرما أخذتك النخوة..
ألا يصبر على زوجته..
الأمر لا يستدعي كل هذا.. كل بيتٍ فيه مشاكل..
سألته..
? أليس هذا هو صحيح..؟
لماذا إذا تجاوزت كل هذا..؟!
ثم إذا كانت هي صاحبة المشاكل لكها..
أليس لك نصيب.. أم أنت كامل..
دعني أتجاوز حدي.. وأقول(2/23)
لعلك السبب الرئيسي في كل هذا.. ولك نصيب الأسد..
تمهلت قليلاً بعد أن رأيت قسمات وجهه وقد تغيرت..
يا أخي..
أولى الناس بالبشاشة وحسن الخلق أهلك..
أحق الناس بالكرم والجود بيتك..
أنت كرجل..
لك أختُ اليوم.. ولك بنتٌ غداً
هل ترضى بمعاملتك لزوجتك أن تكون معاملة زوجٍ لابنتك..؟
إذا كان الجواب
نعم.. فنعمت المعاملة..
وأنت نعم الرجل.. وأبشر بالخير في الدنيا والآخرة..
فهن لا يكرمهن إلا كريم.. ولا يُهينهن إلا لئيم
وإن كان غير ذلك..
فإني أذكرك الله.. والدار الآخرة..
واعلم أن أول رابحٍ من حسن الخلق.. أنت
تهدَأ أعصابك.. وتستقر أمورك.. ويُحبك أهل بيتك
بحركة عفوية.. تحركت يدي
? هون الأمور.. تَهُنْ.
هذه أم أبنائك
تخدمك فلا تشتكي.. تُضحي لك بصحتها وشبابها ولا تستكثر..
وفي كل يومٍ تناديك.. ...
فليتك تحلو والحياةُ مريرة ... وليتك ترضى والأنامُ غضابُ
إذا صحح منك الود فالكل هين ... وكل الذي فوق التراب تراب
لو خدمك رجلٌ وأكرمك.. يوماً أو يومين
لبالغت في الثناء على كرمه وخلقه وأدبه
زوجتكم تخدمك السنين الطوال
فلا تُشكر..
هذه أم أبنائك تحمّل هفوتها.. وتجاوز عن زلتها
احفظ لها معروفها.. واشكرها عليه
تكسب ودها.. وصادق محبتها
وقبل ذلك..
تُؤجر
? تابعت حديثي..
متأكد أن ما أساؤك.. قليلٌ جدّاً عمّا بذلته من غضبٍ وتوتر أعصاب..
ما أنفقته من صحتك.. ووقتك وراحتك.. وفقد المحبة بينكما أغلى وأثمن.. من الأمر الذي غضبت لأجله..
أليس كذلك..
وأحببتُ أن أطمئنه.ز هذه أمور عارضة.. تمر بكل البشر
على ألا تتجاوز حدودها وتترك سلبياتها..
أخي..
ألسنا في هذه الدنيا للعبادة
ألا تعرف أن من أنواع العبادة.. حسن الخلق
تؤجر.. على رفع اللقمة إلى فم زوجتك
إنفاقك على بيتك.. خير أنواع الصدقة
في جهادٍ.. وأنت تبحث لهم عن الرزق الحلال
ليست الحياة أوامر.. ونواهٍ
في الإسلام
ما بين الزوجين أكبر من ذلك..
ثم...
دعني أسألك..
أين ذهبت مروءات الرجال..؟!
((2/24)
12) العاصفة
كأن المنايا قد قصد إليكَ ... يردنك فانظر ما لهن لديكَ
سيأتيك يومٌ لست فيه بمكرمٍ ... بأكثر من حثو التراب عليكَ
--------------
أسرع مما توقعت.. بدأ العد التنازلي لموعد زواجي..
كلما قرب الموعد.. كبرت المسئولية وتضاعف الجهد
الهواجس والأفكار.. لا تفارقني..
كان ترتيبي.. أن ما بقي الآن شهر أو يزيد
سأنتهي من كل شيء..
الأمر بسيط.. ولا يحتاج إلى وقتٍ طويل
اكتشفت متأخراً..
إنني أضعتُ أسبوعاً كاملاً في اختيار المفروشات
وآخر في تجهيز.. المطبخ..
الآن.. هناك متسع.. بقي أسبوع.. تنفست الصعداء..
الأحلام الوردية تطاردين.. والفرحة تلاحقني
تركت خيالي يسري.. ولا ينام
بدأت التردد بكثرة على منزلي..
أستمتع بالجلسة.. وبهدوء المكان أقرب الشاي.. أمد قدمي استرخاء تام.. وحلمٌ مبكر.. أتصفح الجرائد وأقرأ المجلات كل موضوع له علاقة بالزواج والأبناء دخل ضمن اهتماماتي
عنوان جذاب.. اقرأ قبل أن تتزوج
قلت بهدوء..
كلٌ يخاطبني هذا الأسبوع.. ابتداءً من الأطفال حتى الصحف والمجلات
استرسلت في القراءة.. نصائح كثيرة.. ومتتالية
الفحص الطبي قبل الزواج.. أعدت القراءة مرة أخرى
فوائده.. وأخيراً ضرورته..
لازمتني الفكرة خلال يومين.. سيطرت على ذهني ورأيت أن أفعل
? الخطوة الأولى.. إجراء فحص أولي.. ثم بدأت إعطاء التحاليل للمختبر..
مراجعة الطبيب بعد ثلاثة أيام..
رحلت مع أحلامي..
وعندما جاء الموعد.. تثاقلت..
ما الفائدة من الفحص.. الجميع زوجوا بدون ذلك
وعندما تذكرت أنني قد دفعت لهم كامل المبلغ
نهضت.. ورغم ذلك وصلتُ متأخراً..
انتظرت مدة تزيد على نصف ساعة..
وعندما حان دخولي على الطبيب.. مشيتُ بخطواتٍ بطيئة..
أخرج أوراق التحاليل.. وبدأ يقرأ..
قلب الأوراق مرة أخرى.. استرق النظر إلىّ أكثر من مرة..
وعندها سألته.. ها هناك شيء..؟
وضع الأوراق على طاولته.. بدون مقدمات..
يوجد اشتباه بسرطان في الدم(2/25)
لم أصدق ما سمعت.. هول الصدمة جعلني لا أنطق..
وأنا أنظر إليه.. تحدثت العيون وسألت
كيف..؟
لا تخف مجرد اشتباه.. دعني أفحصك مرة أخرى
لم أستطع أن أتحرك من مكاني.. شعر أنه أخطأ في مواجهتي..
مد يده.. وساعدني.. ألقيت بنفسي..
بدأت أتنفس بقوة لأتأكد من أنني على قيد الحياة
فتح عيني.. وأطال النظر.. سمع دقات قلبي..
الأمر هين وبسيط.. نعيد التحاليل..!!
أتيت بآمالٍ وأحلام.. وخرجت بهمومٍ وأحزان
كل ذلك في لحظات..
? هِمتُ على حالي.. أوقفت سيارتي جانباً..
أغمضت عينيّ..
في ماذا.ز وأنا أنتظر الموت أفكر..
فكرت.. وفكرت.. نفسي.. أهلي.. وأخيراً.. هي..
خل أخبرها..؟ ماذا أقول..؟
لو أكدت التحاليل وجود المرض.. أسكت أم أخبرها
لا وقت.. أيام فقط.. زواج أم ..لا..
لم أعرف النوم تلك الليلة
في الصباح تركت عملي واتجهت إلى المختبر
والدم يؤخذ مني.. قلت له.. خذ أكثر.. حتى نتأكد..
ولعله أخذ ما يرضيني.. وأكثر
لم يبق في عروقي دم.. بقي همٌّ.. وغم
لم أتوقف عن التفكير.. لعل الأمر خطأ..
ولكن شيء في داخلي يقول.. إن الأمر حقيقة
تركت منزلي..
إبريق الشاي منذ مساء البارحة تركته على أمل العودة كطائر أغلق عليه قفصٌ من حديد..
يطير.. ويطير.. يبحث عن مخرج..
يصطدم بكل جهة يتجه إليها.. ولا يبالي.. لكن بدون نتيجة
? كل من قابلني
وجهك متغير.. هذا وجه من يرد الزواج
كل هذا فرحٌ بالزواج..؟
بدأت تخاف من الآن..؟
حديثهم.. في وادْ.. وأنا في وادٍ آخر..
ثلاثة أيام.. انتظارٌ طويلٌ..طويل
قطعاً لحالة الشك.. ذهبت إلى عيادة أخرى
وفي نفس اليوم.. اتصلت بالعيادة الأولى
لم يأت شيء.. لا.. بعد غدٍ
ما أطول غدٍ وبعد غدٍ.. أنتظر الموت أو ..أمل الحياة
ألغيتُ زيارتي ومواعيدي..
حتى شراء ما بقي من الكماليات لمنزلي تركته
لا أريد أن أرى أحداً.. أنظر إلى الدنيا نظرة مُودّع
اُخبّأ وجهي عن أمي..
أستقبل الأيام وأرى دمعتها عندما أنعى إليها
أما أبي.. فحزنٌ يقطع الكبد(2/26)
يمازحني في أمر الزواج.. وأقول بصمت.. غداً..
? في اليوم الثالث هدأتُ..
فكرت إن كان الأمر حقيقةً لن أتزوج
ولكن حب الحياة ينازعني
الكثير.. عاشوا بأمراضٍ مثل هذا وأكثر
الأعمار بيد الله. إذا أخبرها..
في الساعة الرابعة والنصف.. وقفت أمام العيادة مهموماً..
لعل الطبيب يحضر مبكراً.. وجاء الطبيب.. ولم يأت التقرير
انتظرت ساعتين.. أطول عندي من سنتين
وعندما أخبرني الطبيب بوصول النتيجة
وقفت بسرعة.. فتح التقرير..
بدأت أرتجف.. كأنني في شتاء بارد..
أما قلبي..نبضات سريعة.. وضرباتٌ قرية
ركبتيّ.. لا أعرف لماذا لم تستطيعا حملي..
ورغم العرق الشديد والنفسُ المتلاحق..
بشرني.. الحمد لله..
ولم أدعه يكمل.. رميت بنفسي عليه..
تراجعت.. اقرأ مرةً أخرى.. تأكد من كامل الأوراق..
خرجتُ لا تعني الفرحة.. أسلم على من أرى
ذهبت مسرعاً إلى منزلي..
لا يزال الشتاء في داخلي.. والعرق على جبيني
استرخيت.. ولكن لم أستطع البقاء
ركبت سيارتي..
سلمت على والدتي..
لاحظت أنني مجهد.. والفرحة تعلوني.. وأي فرحة..
ما بك..؟!
مظروفٌ في يدي يحكي كل شيء..
عقب أخي.. بعتاب.. ولا تُخبرنا بذلك..
ابن آدم ضعيف.. ولكنه جبارٌ مستكبر
يُسقطه رغم غروره وكبريائه..
فيروسٌ صغير.. جرثومةٌ لا تُرى
يخاف الموت.. لا يعمل له
يفرح بالصحة.. والعافية.. ولا يستفيد منهما
تمر الأحداث.. وتنزل النوازل..
وهو.. في أمرْ آخر..
أما أنت
فقد بُعثت من جديد..
ولكن..
فهن المنايا أي وادٍ حللته ... عليها القدوم أو عليك سَتقدِمُ
هناك متسعٌ الآن..
أعد حساباتك..
(13) أيام لا تعود
يا من يُعد غداً لتوبته ... أعلى يقينٍ من بلوغ غدٍ
المرء في زلل على أمل ... ومنية الإنسان بالرصدِ
أيامُ عُمرك كلها عدد ... ولعل يومك آخر العدد
--------------
حركتُ رأسي.. وأنا أنتزع ورقة التقويم
هذه آخر ورقة في تقويم هذا العام
انتهت سنة كاملة من عمري.. دون أن أشعر
وهل عمري إلا عددٌ من السنوات(2/27)
كلما طويت واحدة أدنتني من القبر
وقفت أتأمل غروب شمس عام كامل.. لن يعود
طُويت صحائفه وحُفظت..
ماذا فيها..؟
لكل بداية نهاية.. ولكل سبيل غاية
الحمد لله الذي مدّ في عُمري
كم من حبيب فقدنا.. وكم من ميتٍ دفنّا
الحمد لله على طول الأعمار
تعالي يا زوجتي العزيزة
أعرف أنكِ تفرحين بهذا النداء..
أكيد..
ولكن الأمر أكبر من ذلك
هذه ورقة تحكي لكِ قصة عامٍ كاملٍ انتهى
تُقدمُ لكِ العزاء..
في عام تصرمت حباله.. وتقطعت أيامه
تعالي نستجمع قوانا..
علنا نستعيد دقيقة واحدة من عمرنا..
هل نستطيع..؟!
ساعاتٌ طوال أضعناها دون فائدة..
مواسم خيرٍ مرت دون عمل..
عام مضى.. ولمن نستطيع إرجاع لحظة واحدة منه..
لن نقدر على أن نزيد في زمنٍ مضى
تسبيحةً واحدة.. أو تحميدة واحدة..
لو تأملتِ..
كم من الوقت مر دون فائدة.. لوجدت الكثير
لنتوقف قليلاً..
كل شيء عسى أن نسترجعه إلا الوقت
دعينا نُحاسب أنفسنا..
بعد طول استماع..
قالت..
أنت لا تحاسب نفسك إلا كل سنة
أما تجارتك.. وعملك.. فكل يوم
ألم تفكر في آخرتك..؟
أين أنا بعد مائة عام..؟
أطرقتُ أفكر..
ثم ما إن أقبلت حتى تردد صوتها
أين ذهبتَ...؟
قلت لها.. أين أنا بعد مائة عام..؟؟
أنت تعرف أن القبر مسكنك..
عُمرك رأس مالك
ولسوف تسأل عن إنفاقك منه وتصرفك فيه
أنتم معشر الشباب..
الكسل رفيقكم.. والهمة الضعيفة أنيستكم
كل من صلى وصام.. حسب أنه بلغ المنتهى
لا شك في وجوبها.. ولكن
أليس للإسلام نصيبٌ غير ذلك في قلبك
كلُ منكم يستطيع أن يقدم الكثير
أما لله والإسلام حقٌ ... يدافع عنه شبانٌ وشيب
عاد سؤالها يهز قلبي..
ماذا ستقدم في هذا العام..؟!
(14) قطار.. ونحن المسافرون
أتيتُ القبور فناديتُها ... فأين المُعظَّم والمُحتقر
وأين المُدلُّ بسلطانه ... وأين العظيم إذا ما افتخر
تنادوا جميعاً فلا مخبر ... وماتوا جميعاً وأضحوا عِبر
--------------
أصبحتُ وأنا أشعر بالكآبة.. وسِمةُ الحزن ترتسم على محياي(2/28)
لا أعرف سبباً مباشراً لذلك..
ولكن.. لعله بعد حديث المساء..
فقد اجتمعنا زملاء الدراسة وأصدقاء الطفولة
تحدثنا عن حياتنا.. عن أعمالنا
خرجت بانطباع عام
الغالبية لديهم المال..
ينفقون كما يحلو لهم.. وكما يشاءون
فلانٌ مثله.. أو يزد
وأنا.. أقل الجميع
لعلي شعرت بالحزن.. وأصبحت الكآبة رفيقتي..
? موعدي بعد صلاة العصر مع عبد الرحمن
شابٌ في مقتبل العمر دمث الأخلاق.. حلو المعشر
حاضر النكتة.. من خيرة الشباب
لعل في زيارته تخفيفاً لما أشعرُ به
وكما توقعت..
ما إن أحس أن هناك شيئاً في داخلي
حتى تلاحقت أسئلته
ما بك..؟
ه هناك ما يكدر صفو أيامك..؟
احمد الله على ما أنت فيه من نعمة
ثم أضاف بنبرة فيها عتاب
والله إنك في نعم لا تُحصى ولا تعُد
وألوها.. نعمة الإسلام..
تمهّل في الحديث.. وأكمل
أنت حالك كحال رجل جاء إلى أحد الصالحين..
فشكا إليه ضيقاً في حاله ومعاشه واغتماماً بذلك
فقال: أيسرك ببصرك مائة ألف..؟
قال: لا..
قال.. فبسمعك..؟
قال: لا..
قال له: أرى لك مئين ألوفاً وأنت تشكو الحاجة..
سكت برهة.. ثم أجبته بصوت ضعيف..
الحمد الله..
جاءت كلماته الصادقة.. وهو نعم الصديق..
هل بقي شيءٌ من الدر وضيق الصدر..؟
تذكّر أمراً.. عندما رفع صوته وسألني بحدة..
كيف جعلت للضيق في صدرك مكاناً..؟
يومٌ كامل يصول ويجول الكدر والهم في قلبك..؟
أين أنت عن الصلاة وقراءة القرآن؟
كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمرٌ فرِع إلى الصلاة..
كل يومٍ لا تفوتك فيه قراءة الصحف والمجلات..
أين قراءة صحف ربك..؟
أين أنت من القرآن..؟
على أي حال تريد أن تُزيل كل شيء في خاطرك.. وتستعيد صفاءك
رفعت رأسي.. وأجبت..
نعم قال.. هيا..
إلى أين..؟
لا تسأل أين..
بعد أن أغلقت باب السيارة..
من النعم وسائل النقل المريحة..
تذهب متى تشاء براحة وطمأنينة
هل حمدت الله أنك تعيش في دار الإسلام وبين المسلمين
تسمع النداء كل يوم خمس مرات(2/29)
تُربي أبنائك على التوحيد الخالص..
? في الشارع العام..
هدأ من سرعة السيارة
ثم سار في اتجاه اليمين
إلى أين يا عبد الرحمن..؟
هذه المقبرة..!!
أعرف أن هذا طريق المقبرة..
وأن هذه التي أمامنا مقبرة..
تمهل ولا تستعجل الأمور..
لماذا تخاف..؟
دعنا ندخلها بأقدامنا.. قبل أن يُدخَلَ بنا محمولين..
هذه دارنا الثانية.. دعنا نزورها..
السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم اللاحقون، يرحم الله المتقدمين منكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية.. اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم..
واغفر لنا ولهم..
بعد السلام على أهل القبور
تركت عينيّ تتجول في مساحة المقبرة
أرضٌ جرداء..
سكونٌ مخيف..
صمتٌ متواصل..
لا تسمع حديثاً رغم كثرة الساكنين
قبورٌ متراصة.. وجيرةٌ متباعدون.. لا يعرف بعضهم بعضاً
تضُم الطفل الرضيع
والأمير والوضيع
الشيخ الكبير هنا قبره
والعروس التي وسدت الثرى ليلة زفافها هنا مرقدها
هنا من كان منعماً في الدور والقصور
أما هناك..
قبر الشاب المكتمل الصحة.. والقوة..
من سقط فجأة.. ودفن فجأة..
وهذه القبور المحفورة تنتظر الساكن الجديد
تنتظر الجنازة القادمة..
ربما أنا..؟!
وربما أنت..؟!
قطع تفكيري..
ما رأيك في هذا القبر..
وهذا اللحد..
ماذا تقول فيه..؟ هذا صندوق العمل
هذه دارك الثانية..
يا عبد الله..
انزل في هذا القبر..
أجبته بسرعة.. وبصدق.. لا أستطيع
ومع إجابتي تراجعت قليلاً وابتعدت عن حافة القبر.. خَوف أن أسقط..
أما عبد الرحمن فقد تقدم.. ونزل في القبر..
بسم الله.. ووضع جنبه في اللحد..
ما أحقر الدنيا.. هذه داري بعد الموت.. اللهم اجعل قبري روضة من رياض الجنة
بعد برهةٍ.. قفز من القبر.. وأسمعني صوته..
(أفحسبْتُمْ أنما خلقناكمْ عبثاً وأنكم إلينا لا تُرجَعون..)
بل سنُرجع.. بلى.. سنُرجع
التفت إليّ وهو يزيل التراب.. انزل يا عبد الله لتزول همومك(2/30)
أصابتني قشعريرة.. تمالكت نفسي.. ولما رأيت إصراره.. نزلت ما أضيف القبر ولحده.. موحشٌ ومظلم..
حتى الحركة لا تستطيع
أن تتحرك
يا عبد الله.. صوتٌ من أعلى يناديني..
قدّر لنفسك أنك مت.. ودُفنت
ما العمل الصالح الذي قدمت..؟
أجلت طرفي يمنة ويسرة داخل القبر
تفكرت في أمرين
هوان الدنيا.. وطول الأمل..
سنرحل جميعاً ونترك كل شيء..
إلا العمل الصالح..(2/31)
الزمن القادم
المجموعة الثالثة
د. عبد الملك القاسم
بسم الله الرحمن الرحيم
الوداع
(1)
قال الحسن: إني لأستحي من ربي عزّ وجلّ أن ألقاه ولم أمشِ إلى بيته.. فمشى عشرين مرة من المدينة على رجليه.
-----------------
لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك..
هرول ملبياً النداء..
قال وهو يستحثني لأداء فريضة الحج
ماذا تنتظرين!؟ وإلى متى تؤجلين!؟
إنها فرصة واحدة كل عام.. وهذا ركنٌ من أركان الإسلام.. ما عذركِ في التأخير..
الآن السبل مُيسرة والمواصلات سهلة.. والأمن متوفرة..
تباطأت أبحث عن عذر..
قال.. أما سمعتي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (.. الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) إنه أجرٌ وثوابٌ يملأ القلب همةً ونشاطاً.. وسروراً وحبوراً..
أقبلت الأعمال كالجبال.. وسارت نحوي الأعذار..
عاد صوته مرة أخرى وبحماس أكثر وهو يقول..
فرصةٌ لا تعوض.. لا تترددي..
قلت له.ز هذا قرار سريع.. انتظر.. دعني أفكر.. ثم مع من نذهب؟! وكيف نذهب؟! وأين نسكن؟!
وانطلقت الأسئلة كسيل جارف.. ماذا نفعل.. هناك زحام.. وهذا العام الحر شديد.. والحجاج كثير؟!
فاجأني بصوته الهادئ.. الأمر مُيسر.. يُسهل الله كل عسي.
? سهل الله الأمر..
الأعمال التي كانت أمام عيني كالجبال تلاشت.. والأعذار المتلاطمة كالأمواج اختفت.. قررت مرافقته في رحلة الحج..
وهل هناك أجمل من رفقة زوج في سفر طاعة..
مضت ثلاث سنوات على زواجي.. ثلاث سنوات كان عوناً لي وكنت عوناً له على الطاعة. إذا نسي ذكرته وإذا قصرت نبهني.. لازلت أتذكر الأيام الأولى لزواجي.. وأصابع يده تلتقط مقصاً صغيراً.. سألته.. لماذا هذا المقص؟!
قال وهو يخفي ابتسامته.. بعض زوائد لحيت أقصها!!
سألته باستغراب.. لماذا هذا تقصها؟! قال.. أتجمل لكِ!!
تتجمل لي بمعصية الله؟
نِعمَ الرجل.. امتثال سريع وتوبة من قريب..(3/1)
أعادت يده المقص إلى مكانه ولم تعد له مرة ثانية منذ ذلك اليوم..
في أيام منى.. كطفلة صغيرة تُمسك بأبيها خائفة مذعورة لم تترك يدي معصمه ولا كفه..
أستمد حناناً لم أره في حياتي.. ويؤنسني صوته وهو يذكر الله.. المخيم يعج بالحجاج نساءً ورجالاً..
سبل الراحة متوفرة.. وكل يوم بعد صلاة المغرب محاضرة.. ثلاثة أيام مرت مليئة بالدعاء والاستغفار..
هنا لا فرق بين الليل والنهار.. لا تسمع إلا أصوات الحجيج وجبال مكة وأديتها تردد صدى تلك التكبيرات والتلبيات..
? في منتصف الليل.. الأصوات تتعالى.. والتكبيرات تتوالى قال لي.. سنطوف ونسعى هذه الليلة..
أظهر حرصه الشديد عليّ عند الطواف.. فأنا حامل
تعالِ من هنا.. لا تتعبي نفسك.. لا تجهدي جسمك دعوت الله وأنا أطوف بالكعبة أن يرزقني طفلاً صالحاً..
سرت مع الزمن.. ربما يكون معنا العام القادم هنا!!
في آخر ليلة لنا في مكة.. ذهبنا لطواف الوداع
اللهم لا تجعل هذا آخر العهد ببيتك العظيم
وأرسلت الدمع منحدرا..
وحينما تذكرت حديث الشيخ مساء البارحة في المخيم عن فضل الحج وهو يذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.. (من حجّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) كبّرت.. الله أكبر.. ما مر بك من ذنوب تغفر.. وما أصابك من زلات تستر.
حمدت الله على هذا الخير العظيم.. ودعوت الله بذلة وانكسار أن أكون من المقبولين..
وأنا أكحل عيني برؤية البيت العتيق.. سقطت دمعة وداع.. وبثثت حديث النفس هل يا ترى سأعود؟! وأكحل عيني مرة أخرى.. هل سأسعى بين الصفا والمروة.. وأروي ظمأي من ماء زمزم سكبت الدموع والعبرات.. وأنا أغادر مكة مودعة.. وأي وداع وأنت تودع الحرم والمقام..
? اتجهنا إلى مطار جدة.. الزحام شديد والأصوات مرتفعة والإعلان عن الرحلات يتم بشكل متتابع..
إنصات عجيب.. لا ترى غلا تذكرة وحقيبة مع كل مسافر.. وترقب يعلو الوجوه.. ولهفة في العيون.. وآذانٌ تستمع.. متى موعد الإقلاع؟!(3/2)
ولأننا في حملة كبيرة فقد تخلف البعض عن الرحلة لعدم وجود مقاعد.. وكان من المتأخرين.. زوجي..
وصلنا إلى مطار الرياض وأخذنا جانباً من الصالة ونحن ننتظر مع الحجاج بقية أقاربنا
طال انتظارنا.. وعندما أعلن عن وصول الرحلة القادمة.. حمدت الله وتدافعنا ننظر في وجوه القادمين..
وصل الجميع إلا زوجي..
أحد الحجاج ممن كان معنا.. أتى وهو متردد في الكلام.. بطيء الحديث وأخبرنا.. أن زوجي سيتأخر لرحلة قادمة.. وأشار علينا أن نذهب بدلاً من الانتظار..
تساءلت في نفسي.. ولماذا هو الوحيد الذي لم يعد!؟
? عندما وصلت فإذا بالهاتف يخبرنا أن زوجي أصابه إرهاق وتعب.. وقالوا.. هذا أمرٌ طبيعيٌ بعد الحج.. وقد ذهب به أحد الاخوة ممن كان معنا في المخيم إلى المستشفى..
انقطعت الأخبار إلا عن طريق الهاتف.. وأخبار تأتي مجملة.. ومتفرقة.. ومتأخرة!!
تسارعت الأحداث وشعرت أن الأمر كبير..
بدأت وفود الأقارب وحديثهم يذكرني بالموت ووجوب الصبر.. وكأن الأمر كذلك؟!
في مغرب ذلك اليوم.. وقد اعتلى الحزن هامتي.. وطرق الخوف قلبي.. أقبل رجلٌ وقور جاوز السبعين.. يلتحف عباءة ويمسك بيده عصا.. سلم عليّ وقبل رأسي.. وسألني عن حالي..
ثم دوى صوته الهامس في أذني..
احمدي الله.. لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بمقدار..
قولي.. اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها..
خفض صوته.. واغرورقت عيناه بالدموع وقال.. مات عبد الله.. وضعت رأسي على صدري.. وكتمت صوتي.. وأرسلت دمعي لا تزال بقايا رائحته في يدي.. بل وحتى قلمه وبعض أوراقه في حقيبتي.. بل ولباس إحرامه
أرى ثيابه في مكانها.. وحذاءه.. بل وكلماته الطيبة تعاودني في كل حين..
هناك سجادته التي يقوم فيها مصلياً لله في السحر.. هنا أوراق التقويم التي يمزقها كل يوم بيده وهو يردد.. هذه أعمارنا..
في كل مكان له أثر.. وفي كل أمر له خبر..
في تلك الأيام سقطت دمعتي.. وسقط جنيني..(3/3)
يجدد الحظن ويرسل الدمع.. ما أتذكره من دعائه قبل الفجر..
رحمه الله على ما صام تلك الهواجر.. وغفر له على ما قام تلك الليالي.. وتجاوز عن سيئاته مثل ما تجاوز عن تقصيري وزلاتي.ز
ثلاث سنوات عشتها معه هانئة شاكرة..
أجدد التوبة فيها كل يوم.. وبفراقه جددت التوبة وأنا أرى بعيني نهاية الدنيا.. وفجأة الموت..
يتجدد أملي.ز تعتادني فرحتي.. وأنا أرفع يدي بالدعاء.. أن يكون الملتقى جنات عدن.. هناك.. حياة لا موت فيها
ونعيم لا شقاء بعده
حمدت الله على خاتمته الطيبة.. فقد كان في عبادة ملبياً مكبراً.. وعندما ترددت أصوات التكبير داخل الحرم تصلي عليه.. وهو مسجى أمام الكعبة.. حمدت الله على هذا الفضل العظيم..
تقبل الله حجه وسعيه.. وغفر زلته.. ورفع درجته.
حمدت الله بقي لي في الحياة متسع..
لا تجزعي
(2)
قال أحمد بن عاصم:هذه غنيمةٌ باردة، أصلح ما بقي من عمرك يُغفر لك ما مضى.
-----------------
في زمن الجهل.. أو زن الغفلة.. سمّه ما شئت
عشت في سباتٍ عميق.. ونومٍ متصل..
ليلٌ لا فجر له.. وظلامٌ ل إشراق فيه..
الواجبات لا تعني شيئاً.. والأوامر والنواهي ليست في حياتي. الحياة متعةٌ.. ولذة..
الحياة.. هي كل شيء.. غردت لها.. وشدوت لها.. الضحكة تسبقني.. والأغنية على لساني.. انطلاق بلا حدود.. وحياة بلا قيود..
عشرون سنة مرت.. كل ما أريده بين يديّ..
وعند العشرين.. أصبحت وردة تستحق القطاف..
من هو الفارس القادم؟ مواصفات.. وشروط..!!
أقبل.. تلُفه سحابة دخان.. ويسابقه.. صوت الموسيقى..
من نفس المجتمع.. ومن النائمين مثلي..
من توسد الذنب.. والتحف المعصية..
الطيور على أشكالها تقع.. طار بي في سماء سوداء.. معاصي.. ذنوب.. غردنا.. شدونا.. أخذنا الحياة طولاً وعرضاً.. لا نعرف لطولها نهاية.. ولا لعرضها حدّا.. اهتماماتنا واحدة.. وطبائعنا مشتركة.. نبحث عن الأغنية الجديدة.. ونتجادل في مشاهدة المباريات..
هكذا.. عشر سنوات مضت منذ زواجي(3/4)
كهبات النسيم تلفح وجهي المتعب.. سعادةٌ زائفة!!
في هذا العام يكتمل من عمري ثلاثون خريفاً.. كلها مضت.. وأنا أسير في نفق مظلم..
كضوء الشمس عندما يغزو ظلام الليل ويبدده..
كمطر الصيف.ز صوت رعد.. وأضواء برق.. يتبعه.. انهمار المطر..
كان الحُلم يرسم القطرات.. والفرح.. قوس قزح..
? شريط قّدِّم لي من أعز قريباتي..
وعند الإهداء قالت.. إنه عن تربية الأبناء.
تذكرت أنني قد تحدثت معها عن تربية الأبناء منذ شهور مضت.. وربما أنها اهتمت بالأمر..
شريط الأبناء.. سمعته.. رغم أنه اليتيم بن الأشرطة الأخرى التي لدي.ز سمعته مرة.. وثانية..
لم أعجب به فحسب.. بل من شدة حرصي.. سجلت نقاطاً منه على ورقة.. لا أعرف ماذا حدث لي.. إعصار قوي.. زحزح جذور الغفلة من مكانها وأيقظ النائم من سباته.. لم أوقع هذا القبول من نفسي.. بل وهذا التغير السريع.. لم يكن لي أن أستبدل شريط الغناء بشريط كهذا!!
طلبت أشرطة أخرى.. بدأت أصحو.. وأستيقظ..
أُفسّر كل أمر.. إلا الهداية..
من الله.. وكفى..
? هذه صحوتي.. وتلك كبوتي..
هذه انتباهتي.. وتلك غفوتي
ولكن ما يؤلمني.. أن بينهن.. ثلاثين عاماً من عمري مضت.. وأنّى لي بعمرٍ كهذا للطاعة؟
دقات قلبي تغيرت.. ونبضات حياتي اختلفت.. أصبحت في يقظة.. ومن أولى مني بذلك.. كل ما في حياتي من بقايا السبات أزحته عن طريقي.. كل ما يحويه منزلي قذفت به.. كل ما علق بقلبي أزلته..
قال زوجي.. وقد هاله الأمر..
أنت مندفعة.. ولا تُقدرين الأمور!! من أدخل برأسك أن هذا حرام.. وهذا حرام.. بعد عشر سنوات تقولين هذا..؟! متى نزل التحريم..؟
قلت له.. هذا أمر الله وحُكمه..
نحن يا زوجي في نفق مظلم.. ونسير في منحدر خطير.. من اليوم.. بل من الآن يجب أن تحافظ على الصلاة.ز نطق الشيطان على لسانه.. هكذا مرة واحدة؟
قلت له بحزم.. نعم
ولكن سباته عميق.. وغفلته طويلة
لم يتغير.. حاولت.. جاهدت..
شرحت له الأمر.. دَعَوتُ له..(3/5)
ربما.. لعل وعسى.. خوفته بالله.. والنار.. والحساب والعقاب.. بحفرة مظلمة.. وأهوال مقبلة
ولكن له قلبٌ كالصخر.. لا يلين!!
? في وسط حزنٍ يلفني.. وخوف من الأيام لا يفارقني
عنيٌ علي أبنائي.. وعين تلمح السراب.. مع زوج لا يصلي وهناك بين آيات القرآن.. نارٌ تؤرقني..
(ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين)
حدثته مرات ومرات.. وأريته فتوى العلماء.. قديماً وحديثاً من لا يصلي يجب أن تفارقه زوجته لأنه كافر
ولن أقيم مع كافر..
التفت بكل ببرود وسخرية وهو يلامس جُرحاً ينزف
قلب.. (اللهُ خير حافظاً وهو أرحم الراحمين)
? كحبات سبحة.. انفرط عقدها.. بدأت تتتابع المصائب.. السخرية.. ولإهانة.. التهديد.. والوعيد لن ترينهم أبداً.. أبداً
أمور كثيرة.. بدأت أعاني منها..وأكبر منها.. أنه لا يُصلي!!
وماذا يُرجى من شخص لا يُصلى؟
عشت في دوامة لا نهاية لها.ز تقض مضجعي.. وفي قلق يسرق لذة نومي.. هاتفتُ بعض العلماء..
ليست المشكلة بذاتي.. بل بفؤادي.. أبنائي..
وعندما علمت خطورة الأمر.. ووجوب طاعة الله ورسوله..
اخترت الدار الآخرة.. وجنة عرضها السماوات والأرض على دنيا زائفة.. وحياة فانية.. وطلبت الطلاق..
كلمة مريرة على كل امرأة.. تُصيب مقتلاً.. وترمي بسهم.. ولكن انشراح لها قلبي.. وبرأ بها جُرحي.. وهدأت معها نفسي.. طاعة لله وقُربةً.. أمسح بها ذنوب سنوات مضت.. وأغسل بها أرداناً سلفت
ابتُليتُ في نفسي.. وفي أبنائي..
أحاول أن أنساهم لبعض الوقت ولكن.. تذكرني دمعتي بهم قال لي أحد أقربائي.. إذا لم يأت بهم قريباً..
فالولاية شرعاً لك.. لنه لا ولاية لكافر على مسلم.. وهو كافر.. وأبناؤكِ مسلمون..
تسليت بقصة يوسف وقلت.. ودمعة لا تفارق عيني.. ومن لي بصبر أبيه..
? في صباح بدد الحزن ضوءه.. طال ليله.. ونزف جُرحه لابدّ أن أزور ابنتي في مدرستها(3/6)
لم أعد أحتمل فراقها.. جذوة في قلبي تُحرقه.. لابدّ أن أراها.. خشيت أن يذهب عقلي من شدة لهفي عليها..
عاهدت نفسي أن لا أظهر عواطفي.. ولا أُبيّينُ مشاعري.. بل سأكون صامدة.. ولكن أين الصمود.. وأنا أ؛مل الحلوى في حقيبتي!!
جاوزت باب المدرسة متجهة إلى الداخل.. لم يهدأ قلبي من الخفقان.. ولم تستقر عيني في مكان.. يمنةً ويسرةً أبحث عن ابنتي.. وعندما هويت على كرسي بجوار المديرة..
استعدت قوتي.. مسحت عرقاً يسيل على وجنتي.. ارتعاشٌ بأطراف أصابعي لا يُقاوم.. أخفيته خلف حقيبتي.. أنفاسي تعلو وتنخفض.. لساني التصق بفمي.. وشعرت بعطش شديد..
في جو أترقب فيه رؤية من أحب.. تحدثت المديرة.. بسعة صدر.. وراحة بال..
أثنت على ابنتي.. وحفظها للقرآن.. طال الحديث.. وأنا مستمعة!!
وقفتُ في وجه المديرة.. وهي تتحدث.. أريد أن أرى ابنتي..
فأنا مكلومة الفؤاد.. مجروحة القلب..
? فُتح الباب..
وأقبلت.. كإطلالة فمر يتعثر في سُحب السماء..
غُشي علي عيني.. وأرسلت دمعي..
ظهر ضعفي أما المديرة.. حتى ارتفع صوتي..
ولكني سمعت صوتاً حبيباً.. كل ليلةٍ يوآنسني.. وفي كل شدة يثبتني..
اصبري.. لا تجزعي.. هذا ابتلاء من الله ليرى صدق توبتك لي يضيعكِ الله أبداً.. من ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه أخيتي.. الفتنة.. هي الفتنة في الدين
كففت دمعي.. واريت جُرحي.. بثثت حزني إلى الله..
خرجت.. وأنا ألوم نفسي.. لماذا أتيت..؟!
? والأيام تمر بطيئة.. والساعات بالحظن مليئة
أتحسس أخبارهم.. أسأل عن أحوالهم؟!
ستة أشهر مضت.. قاسيت فيها ألم الفراق وذقت حلاوة الصبر الباب يُطرق..
ومن يطرق الباب في عصر هذا اليوم.. إنهم فلذات كبدي لقد أتى الله بهم.. تزوج وأراد الخلاص
مرت ليلتان.ز عيني لم تشبع من رؤيتهم.. أذني لم تسمع أعذب من أصواتهم..
تتابعت قبلاتي لهم تتابع حبات المطر تلامس أرض الروض
علمت أن الله استجاب دعوتي.. وردهم إليّ
ولكن بقي أمر أكبر.. إنه تربيتهم(3/7)
عُدت أتذكر يوم صحوتي.. وأبحث عن ذاك الشريط.. حمدت الله على التوبة..
تجاوزت النفق المظلم.. صبرت على الابتلاء
وأسأل الله.. الثبات
الثبات..
السيف
(3)
قال سلمة بن دينار لجلسائه: لوددتُ أن أحدكم يُبقي على دينه كما يبقي على نعله.
رمقتُ سقف الغرفة.. وأنا أنظر بعينين زائغتين
--------------------
انقطعتُ عن الدنيا.. وغبت عن الحياة..
منذ أن تركت المدرسة.. لا أرى زميلة من زميلاتي..
سمى مُدرستي (...) كل شهر أو شهرين تزورني..
بعد غد موعد زيارتها..
أعد الدقائق واللحظات.. وأستعجل الليل والنهار
أحتاج إلى من يزورني.. ويخفف همي ووحدتي..
ولكن.. يتربع سؤال على لساني.. أين المحبة.. وأين الوفاء؟
من كن يسمعن ضحكاتي في المدرسة اختفين..
من سعدن بقربي في الصف الدراسي سنوات ذهبن..
وحيدةٌ أعيش.. الأنين رفيقي.. والألم سميري.. والهم والغم أنيسي.. تتجاذبني الأهواء.. شاردة ساهية.. حتى والدتي تعبت من الجلوس معي.. منذ زمن لم أر حفلاً.. ولا دُعيت لمناسبة.. ولو دعيت.. كيف أذهب؟! وأنا لا أتحرك بسهولة.. خاصة في مكان يحتاج إلى حركة ونشاط.. يحتاج إلى فرح وسرور.. وأنا لست كذلك
كلما فقدت الأمل.. وطوقني اليأس..
تأتي.. مما يُرش الماء على هشيم النار.. ويأتي عذب حديثها..
اصبري واحتسبي.. أمر المؤمن كله له خير..
عليك بذكر الله.. وقراءة القرآن..
لا تضيعي دقيقة واحدة من وقتك في الهواجس والخواطر
? زيارة مُدرستي قصيرة.. ولكن حديثها.ز طويلُ.. طويل يصل إلى أعماق القلب.. ويحيي الأمل في النفس..
عطر الكلمات يبقى وهي تودعني.. وتبقى هدية كلما أتت.. مجموعة من الكتب والأشرطة..
مرت سنة كاملة وهي لم تتركني.. تتعاهدني بالزيارة بين حين وآخر.. أخبرتني أنها ستتزوج.. فرحت بذلك.. ولكن بدأت تنقطع زيارتها.. تُباعدها الأيام.. رغم أني تحدثت عن حاجتي لرؤيتها ورأت دمعتي وأنا ألح عليها بزيارتي..
مع انقطاع أسعد اللحظات معها..(3/8)
عشت في صراع رهيب.. الكلمات التي تأتي كالبلسم اختفت.. حديث القلب انقطع.. والابتسامة المشرقة غابت فترةٌ من الزمن مضت.. ثم اتصلت بي هاتفياً..
شهقتُ بفرح.. هل مازلت تتذكرينني؟!
قالت: أنت أمام ناظري.ز أُفكر فيك في كل وقت وأدعو لك في صلاتي.ز ولكن انتقل عمل زوجي..
ولا أخفيك.. لقد حاولت أن تزوركِ أختي.. وربما نسيت أو انشغلت..
عاد الصمت..
انقطعت بنا الأيام من جديد.. وتباعدت الزيارات..
? في ليل طويل.. تطاول من الألم..
وأسود من ظلمة الدنيا في عيني
تناولت سماعة الهاتف.. سأتصل بابنة عمي..
كيف حالك.. لم تزوريني منذ زمن.. أين أنت..؟
أنا مشغولة بدراستي.. ولكن أخبيء لك مفاجأة.. وأي مفاجأة!! قلت ما هي..؟
في زمن المرض والكآبة.. هل هناك مفاجآت!!
وأصررت أن تُخبرني..
أحسست أن سكون حياتي سيتحرك وركود أيامي سيجري.. هناك مفاجآت في حياتي.
ولكنها أعادتني كسيرة الفؤاد.. غداً أخبرك.. لن أخبرك اليوم..
انتهت المكالمة.. نامت قريرة العين.. أما أنا..!!
ربما غفوت مرة أو مرتين..
وهندما غالبتُ نفسي.. لابدّ أن أنام حتى أكون مستعدة للمفاجأة.ز صرخ هاتف المرض بداخلي
أنت نائمة منذ سنتين أو أكثر!!
? في صباح الغد..
أتابع أشعة الشمس ترسل خيوطها في غرفتي
سألت نفسي.. ما هي المفاجأة؟
زيارة.. هدين.. كل شيء خطر على بالي توقعته
مرت ساعات طويلة تعودت على مرورها.. ولكن ساعات اليوم توقفت.. فالساعة لا تدق.. والشمس لا تجري..
بعد صلاة العصر
انتظرت وصولها ساعة كاملة.. ولم تأت.. اتصلتُ بالهاتف..
قالوا.. نائمة.. اتصلت بعد ساعة.. فإذا بها لا تزال نائمة.. بعد صلاة المغرب.. وقد نفد صبري.. ولم يعد للمفاجأة أهمية في حياتي.. قلت لها حين أقبلت..
لم يبق لديّ لهفةٌ وشوق لأسمع المفاجأة.. لقد تبلدت أحاسيسي..
قالت: هوني عليك..الأمر يعني لك كل شيء..
مفاجأة.. لن تتكرر.. فرصة عُمر..
إنها فرصة تُنهي المرض.. وتنهضين من فراشك(3/9)
فتحت فمي مدهوشة.. وقلبي يوشك أن يقفز من صدري.. ورعشةٌ بين أضلعي!!
? قالت: اسمعي.. حدثتني زميلتي عن شخص صالح يعرف ماذا بكِ من الأمراض.. وبعد أن يراك يعطيكِ أدوية وأعشاباً تشفيكِ بإذن الله مما أنت فيه.. كثيرات ذهبت إليه..
فلانة ذهبت له.. وقد طرقت أبواب المستشفيات.. ولم تُنجب.. أُبشركِ.. حامل وهي الآن في الشهر الثالث.. وفلانة.. تعرفين مشاكلها مع زوجها.. كان يكرهها ولا يطيقها.. بل هددها بالطلاق..
ذهبت إليه.. أتعرفين!؟.. الآن لا يستطيع أن يفارقها.. قاطعتها..إنه.
قالت وصوتها يهز المكان..
أنتِ مسكينة.. ظَلِّي مريضة طول عمرك
أتقبلين أن تعيشي هكذا..؟ ألا تريدين العافية..؟
ألا تبحثين عن الزوج وتكوين أسرة..؟
ألا ترغبين في إنجاب طفل يملأ عليك حياتك؟
أحلامٌ تلاحقت أمامي.. وسمعتُ صراخ طفلي.. وبسمة الحياة طولي.. لم أفكر في مقاطعتها
استمرت في حديث الحُلم.. دغدغ مشاعري.. وأعمى بصري..
لو كتب الله لكِ العافية.. لعدتِ إلى حياتك.. ولتزوجتِ وأنجبتِ وأنجبت...
? بقية إيمان في قلبي صرخت تقول بصوت ضعيف
إنه ساحر.. كاهن..
قالت.. هذا رجل صالح.. كثيرون ذهبوا له.. وعافاهم الله.. الله الشافي.. وهو سببٌ من الأسباب يداوي بالأعشاب والقراءة..
لحظات الضعف توالت.. خبت جذوة الإيمان في قلبي وسَمِعتْ صوتي وقد هزه الضعف.. وأنهكه المرض
متى نذهب..؟
انتفضت واقفةً بفرح.. تلوّح بعباءتها.. الآن..
سأتصل بالهاتف قبل أن نذهب.. ثوان.. دقائق..
وإذا بي على مقعد بجوارها.. والسيارة تنهب الأرض.. قالت.. لا تتكلمي.. سأتولى كل شيء..ثم أتبعتها بضحكةٍ قوية.. إذا تزوجت غداً تنسين معروفي معك..!!
? في ليل مظلمة.. غاب قمره.. وبقلب علاه رانٌ لم يسطع إيمانه.. طُرقٌ مظلمة.. وشوارع ضيقة..
توقفت السيارة.. التفتت يمنة ويسرةً.. ثم سألت السائق ألا يوجد أحد عند الباب؟ قال.. لا..
قالت.. اطرق الباب بهدوء.(3/10)
انتابني الخوف من تصرفاتها.. وكثرة التفاتها.. كأننا لصوص!!
صرير الباب يُسمع في هدوء الليل
في رعبٍ شديد.. دلفنا مع الباب.. المكان موحش.. لا أثر للإضاءة في مدخله.. مظاهر الفقر والفوضى.. تطغى عليه..
أقبل علينا.. رجلٌ في منصف الأربعين من عمره
جسمٌ هزيل.. وعينان غائرتان.. وأطراف مرتعشة..
تمنيت أن الأرض انشقت بي ولم آت إلى هنا..
نظراته.. كالسهام.. تصوب نحوي.. وبدأت يده تُمسك بي.. لا أستطيع الحركة.. وخشيت أن أصرخ..
عقد الخوف لساني.. وجمدت أطرافي
رحم الله المرض.. لم أعاني في سنوات مضت ما أعانيه الآن.. قالت له.. وأنا ممسكة بيدها..
هذه ابنة عمي.. ونريدك أن تهتم بها.. ونعطيك ما تريد قال بصوت أجش.. مزق سكون الظلام..
أنا.. لا تهمني المادة.. المهم عافيتها.. والشفاء من الله.. سعل بقوة شديدة ثم قرأ (وإذا مرضتُّ فهو يشفين)
وأردف بضحكة أخرجت أنياباً في فمه..
بعد شهر لا تستطيع اللحاق بها من سرعة الجري!!
ما اسمها ما شاء الله..؟ قالت.. فلانة..
واسم والدتها..؟ قالت..فلانة..
وسيل من الأسئلة اندفع..
ثم سكت برهة ووجه الحديث نحوي
سأخبرك بأمور إذا كانت صحيحة قولي نعم.. وإذا كانت غير ذلك قولي.. لا
كُنتِ بنتاً نشيطةً وفتاةُ محبوبة؟
قلت.. ورأسي يخط على رقبتي..نعم
قال.ز الكثيرات يغرن منكِ ويحسدنكِ؟
قلت.. نعم
قال.. ذهبت إلى أطباء كثيرين ولكن دون فائدة..؟
قلت.. نعم..
قال.. كنتِ متفوقة في دراستك..؟
قلت.. نعم..
أخذ يسألني أسئلة.. إجابتها.. نعم..
ثم قال.. انتظري..
تحرك كأنه جبل.. انزاح عن قلبي
التفتت إليّ ابنة عمي.. بصوت هامس.. وحماس واضح..
أرأيتِ..كل أسئلته صحيحة.. هذا خبير يعرف كل شيء..!! بعد دقائق من حديثٍ متقطع.. أقبل علينا..
وحدثنا وكأنه يأمرنا بالخروج.. بعد يومين تأتين وحدك.. وأشار بيد مرتعشة إلى ابنة عمي..
? خرجنا..
قلت.. الحمد لله الذي أخرجني من الظلمات إلى النور بجواري ابنة عمي.. فرِحةً مسرورة..(3/11)
ولكني.. ازددت ألماً على ألمي.. وحزناً على حزني.. شعور بداخلي يرتفع.. ويصرخ في أذني.. تقدمت خطوة إلى النار.. لم انم تلك الليلة.. خواطر تعاقبت.. وألمٌ يغرس سيفه في قلبي.. أين ذهبت في تلك الأزقة؟ والطرق المظلمة؟ كلما تذكرت مظهره.. انتابني الخوف.. ولكما تحسست موضوع يده.. اقشعر جلدي..
عاتبت نفسي.. حتى بكيت بحرقة.. ولكن لحظاتٌ تمر.. ولا يزال الأمل بالعافية يدغدغ مشاعر.. وخطرات في عقل.. ألم تسمعيه وهو يقرأ القرآن.. وهو يردد العافية من الله؟
رجل صالح.. رجل ساحر..
لا بل صالح.ز بل ساحر!!
اختلطت الأمور.. وأظلمت السماء.. ورداء الخوف يُلفني
? بعد يومين..
أقبلت ابنة عمي تنادي بصوت مرتفع..
احفظي.. لا بل أين القلم؟!
اكتبي.. هذه تُشرب في الصباح.. وهذه المساء تؤكل..
وهذا تتبخرين به في الليل.. وهذا.. قائمة طويلة.. تعجبت.. كل هذا..؟
قالت.. يا وفاء العافية تُشترى..
وأردفت بحرص.. لا تهملي في العلاج.. فهو علاج دقيق.. لاحظت عدم مبالاتي.. بصوت مرتفع كعادتها..
لقد دفعتُ مبلغ ( ... ... )
صُعِقتُ من المبلغ وكثرته.. وتساءلت.. صحيح..؟
قالت.. نعم.. وعافيتكِ لو أبيع ما أملك لأشتريتها لكِ..
ابدئي الآن!!
? شربتُ.. وأكلتُ.. وتبخرت..
ولم أر حلماً جميلاً كما قال لي.. بل رأيت أحلاماً مزعجة حياة.. عقارب.. أفاعي.. كوابيس مزعجة.. ونومٌ متقطع!!
وفي اليوم الثاني.. حسب ما قال لي..
(ستشعرين بكذا وكذا في الليلة الثانية)
لم أشعر بشيء مطلقاً.. ولم تتحرك شعرة في رأسي..
بعد شهر من لأدوية والعلاج.. بدأ الحماس يفتر والفرح يخبو..
? في مساء يوم جميل .. دَلفت مع الباب.. إنها مُدرستي اختلفت كثيراً..
بهاء السعادة يُطل من عينيها.. وفرح عريض على شفتيها.. زادت أناقتها مع بساطة واضحة.. بشوشة كما هي لم تتغير.. قبلتني بين عيني.. سألتني عن كل فرد في المنزل
وعن والدتي.. ووالدي
ما أحسن خلقها.. وما أصدق ابتسامتها..(3/12)
في حديث لتهوّن عليّ ما أنا فيه..
روت لي قصة شاب مقعد.. مشلول
طريح الفراش.. ثم تابعت..
احمدي الله.. أنت تتكلمين وتشعرين.. غيرك لا يشعر بما حوله..
هوّنت الأمر عليّ..
واستمر الحديث.. وصدري يغلي بما فيه.. أريد أن أتحدث عن كل شيء..
كلما لمستُ صدق محبتها ولطفها شعرت أنني في حاجة إلى مصارحتها.. سأخبرها بالأمر..
تحرك لساني ببطء.. استعدت الذاكرة.. وأحداثٌ لا تُنسى.. عاد الرعب لقلبي.. والرعشة لأطرافي..
بدأت في الحديث.. إنصات عجيب.. وحضورٌ متوقد.. صوتي يروح ويغدو في المكان..
وعندما توقفت عند آخر كلمة.. (لم أجد شفاءً)..
ألقيت إليها بمهمة الكلام..
قالت لي مخاطبة.. إنا لله وإنا إليه راجعون.. كيف وافقت على الذهاب؟ بل كيف تطرقين هذا الباب؟ تبحثين عن العافية بمعصية الله؟! أما سمعت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)
سكتت برهة.. قلت بهدوء.. اعلم أن ما تقولين صحيح ولكن ضَعفَ إيماني.. في لحظات.. سقط كل شيء.. وذَهبْت.. وبكيتُ بحرقة بعد أن رجعت..
? لإزالة ما بقي من هواجس وخواطر..
عدتُ لأقول.. وأدافع عن نفسي.. فأنا صريعة الأمواج.. لا مقر.. ولا مفر..
لقد قرأ آيات من القرآن
وسمعته يقول أن الله هو الشافي المعافي ليس أنا.. لا تهمه المادة.. و....
قالت لي...
هل يدل مظهره على أنه من أهل الصلاح والتقوى؟
قالت.. لا
قالت.. الأوراق التي قال تبخري بها.. هل قرأتيها..؟
قلت.. لا تقرأ.. طلاسم.. رموز.. أرقام..
سئَلَتْ وأسىً ألمحه على وجهها
ألم يقل ما اسم أمكِ..؟ ما فائدة الاسم في العلاج؟.. خيم علينا سكون يسبق العاصفة
قلت لها مدافعةً وأنا أعلم خطئ.. أخبرني بأشياء صحيحة في واقع حياتي..
قالت.. وقد هزت يدها.. كل ما قاله ينطبق على أغلب الناس.. أعيدي الأسئلة عليّ أنا.. لترين..
لا تنخدعي.. بهذا الأسلوب الماكر.. يُثبت لك لأسئلة عامّة أنه يعرف كل شيء..(3/13)
تحول الحديث إلى نقاش طويل..
سألتني.. ألم يقل لك اذبحي ديكاً أو كبشاً.؟
قلت لها.. لم يُلزمني بذلك. قال: إن فعلتِ فهذا أفضل.. يطرد الشياطين.. ويحميكِ من الشرور..
قالت.. والله ضاع التوحيد.. كنت تقفين على بعد خطوات من النار.. اسمعي.. وأنصتي.. قصة تؤدي نهايتها إلى طريقين.. إما إلى جنة.. وإما إلى نار
قال صلى الله عليه وسلم: (دخل الجنة رجلٌ في ذباب، ودخل النار رجلٌ في ذباب)
قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟
قال: مرّ رجلان على قوم لهم صنم لا يجاوزه أحد حتى يُقرّب له شيئاً
قالوا لأحدهما: قرّب..
قال: ليس عندي شيءٌ أُقرّب
قالوا: قرّب، ولو ذباباً..
فقرب ذبابا فخلوا سبيله.. فدخل النار..
وقالوا للآخرة: قرّب
قال ما كنت لأقرّب لأحدٍ شيئا دون الله عز وجلّ.
فضربوا عنقه.. فدخل الجنة).
تأملي الحديث.. وتأملي عِظَم الأمر..
لا يغلبنك الشيطان.. ولا يُضعفك المرض
عليك بالرقية القرآن.. سواءً قرأت لنفسك وهذا أكثر إخلاصاً.. أو قرأ ونفث عليك شخص معروف بالصلاح والتقى..
تسمعين قراءته للقرآن.. لا طلاسم.. لا همهمة.. لا رموز تعتقدين أن الرقية لا تؤثر بذاتها.. بل بتقدير الله عز وجل قالت بصوت فيه مرارة الألم..
لو مِتُّ على التوحيد وأنت مريضة.. خير لك من أن تحيي مشركة.ز اسألي الله العافية.. وعليك بالرقية الشرعية..
تأملي حاله.ز لو كان يقدر على خير لقدمه لنفسه.. ألم ترى بؤسه وفقره؟ قلت.. بلى..
قالت: من أحب إليه.. أنت أم نفسه؟.. لماذا لم ينفع نفسه؟ هذه أبواب تؤدي إلى النار.. في سبيل دنيا عمرها قصير.. تهوين في نار جنهم..
(إنه من يشركْ بالله فقد حرّم الله عليه الجنةَ ومأواه النار وما للظالمين من أنصار).
? صرختُ منتفضة.. والإيمان يعمر قلبي.. ودمعة تسقط من عيني..
والحل..؟
قال: عليكِ بالتوبة فبابها مفتوح..
واحرصي على ابنة عمك.. لا تذهب مرة أخرى..
ثم حتى تبرأ ذمتكِ..(3/14)
يجب أن تخبري عنه.. لكي يُمنع شره.. ويأخذ جزاءه.. ولخطورة عمله..
فالساحر.. لا يُستتاب.. مثل تارك الصلاة مثلا..
بل يُمر السيف على رقبته..
دمعة الفراق
(4)
تَبَلَّغ من الدنيا بأيسر زاد ... فإنك عنها راحل لمعاد
وغُضَّ عن الدنيا وزخرف أهلها ... جفونك واكحلها بطيب سُهاد
وجاهد عن اللذات نفسك جاهداً ... فإن جهاد النفس خيرُ جهاد
ما هي إلا دار لهو وفتنة ... وإن قُصارى أهلها لنفاد
في مساء ذلك اليوم.. سمعهم يتحدثون.. العيد ربما يكون غداً..
ولمشاركة في الحديث وإنصاته لهم.. ألقوا إليه حملاً ثقيلاً.. عندما طلبوا منه وهو طفل صغير.ز أن يسمع أصوات المدافع مشيرة إلى أن الشهر لم يكتمل وأن عداً هو يوم العيد..
تولى المهمة.. بهمة عالية.. ورجولة مبكرة.. ترك ما حوله من الألعاب.. ونسي أقرانه من الأطفال.. أصغى بسمعه.. وأرهف جوارحه.. وكأن العيد أصبح مسئوليته!!
صعد إلى أعلى المنزل.. وخرج إلى الساحة.. وأخيراً.. اختار أهدأ النوافذ وأبعدها عن الضجيج..
مرت ساعات طويلة من الانتظار.. ذرع خلالها المنزل ذهاباً وعودةً.. بعدها اهتزت أذنه فرحاً.. عندما سمع أصوات المدافع.. وبدت واضحة أكثر عندما توقف إمام المسجد عن أداء صلاة التراويح.. بدا له أنه انتزع العيد انتزاعاً من تلك الليلة المظلمة.. وأتى بهلال شهر شوال..
هرول مسرعاً إلى جدته ليزف لها البشرى التي ينتظرها الجميع.. والتي أداها على خير وجه.. وكان صوته يسبقه مجلجلاً في أرجاء المنزل يعلن قدوم العيد.. لشدة هوله.. توقف..!! لمح جدته في مصلاها وعيناها تدمعان.. اقترب منها ورفع صوته معلناً قدومه.. وقدوم العيد.. وعيناه تتابعان سقوط تلك الدموع على مصلاها.. انتهت لاقترابه ورفعت رأسها.. أخفتِ الدموع بيدها.. قبلت جبينه.. وأعلنت فرحها لفرحه بالعيد..(3/15)
? سنين طويلة.. مرت من عمره.. علم فيها أن تلك الدمعة تعبير صادق عن فقدان شهر عزيز.. وأيام كريمة.. شهر رمضان.. هذا حُزن من يفرح بقدوم مواسم الخيرات ثم انقضائها.. تَبقي في نفسه لوعةٌ لفراق هذا الشهر.. شهر الخيرات والعطاء.. تجعله يتمنى أن السنة كلها رمضان..
? بعد أن كبر الطفل وأصبح رجلاً.. رأى الموازين انقلبت.. والأمور تغيرت.. والأحوال تبدلت.. رأى بأُم عينه التي رأت تلك الدمعة.. من يفرح بإعلان العيد هرباً من رمضان.. رأى من يترك كل عبادة وطاعة يؤديها مع إعلان العيد.. وكأن فجر العيد إعلان بترك الطاعات والواجبات.. وإيذان بموسم المعاصي والمحرمات..
تأكد من ذلك عندما سمع الإمام يرفع صوته من على المنبر في صلاة الجمعة التي تلي شهر رمضان.. وقد خلا المسجد من المصلين إلا قليلاً.. وهو يتساءل.. أين من كان يصلي معنا في رمضان؟ لقد امتلأ بهم المسجد على سعته.. لقد حافظوا على الصلاة في شهر رمضان.. ثم أردف بحرقة وألم.. أين هم الآن؟ ثم كرر السؤال.. هل قدموا من كوكب آخر؟
ولكن صوت الإمام يضيع في تلك الصفوف الخالية.. ولا مجيب!! تساءل.. والدمعة يراها في عين جدته.. ومرارة الفراق على قسمات وجهها.. أهكذا يودع رمضان بهذا الجفوة وهذا الإصرار؟.. ألا يُعرف المسجد.. ولا يقرأ القرآن إلا في رمضان؟ شهر رمضان مدرسة لتربية النفوس لتستمر طوال العام بنفس الهمة والنشاط دون كلل ولا ملل ولا فتور.. ولكن.. ما نراه اليوم منذ أن يودِّع رمضان تُودّع المساجد إلى العام القادم؟! يطرى المصحف إلى رمضان القادم؟!.. تترك الطاعات والقرابات إلى العام القادم؟!.. يُغفل عن النوافل.. وتترك الواجبات.. والله سبحانه وتعالى قد حدد وقت نهاية الأعمال بقوله تعالى: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين).
واليقين هو الموت.. لا مدفع العيد..!!
الهاوية
(5)(3/16)
قال بلال بن سعد: ربَّ مسرور مغبون يأكل ويشرب ويضحك، وقد حُقَّ له في كتاب الله عز وجلً أنه من وقود النار.
--------------------
وأنا أحمل إبريق الشاي.. بدا لي أن كل شيء يتحرك من مكانه الأكواب تقدمت إلى الأمام.. وإبريق الشاي رجع إلى الخلف ولكني أمسكت بقوة على صينية الشاي حتى وضعتها..
ناداني أخي.. تعالي هنا
تحركت ببطء يلفه الخجل.. وبخجل يحركه الارتباك
ولما جلست.. فإذا عينيَّ بعينه..!!
بدأت أضغط على يدي وأحرك أصابعي بقوة..
لم أشعر بالألم ولا بشيء حولي
غشاوةٌ على عيني.. ودقات قلبي تُسمع من بعيد..
وقطرات الماء من جبيني.. سالت أودية وأنهاراً
كان حديث أخي والخاطب.. عن الجو هذا الأيام
والمطر.. وكثرة الخير
سألني.. كيف حالك؟
سمعت السؤال.. ولكني فقدت الجواب
لساني استعصى عليّ.. وتحولت حركته إلى جمود..
انتزعته انتزاعاً من فمي
وقلت بصوت لا يُسمع.. الحمد لله
فكرتُ أن أهرب..
ولكن قدميّ تقول.. لا.. لن تتحركي!!
لاحظ سكوتي وارتباكي.. ووجه الحديث إلى أخي..
وجدتها فرصةُ لا تُعوض.. اهربي
بعد لحظات كنت أتنفس الصعداء.. شربت كوباً من الماء.. وأتبعته بثان..
عندما هدأت أعصابي قليلاً.. سألتني أختي..
كل هذا حياء؟!
قلت لها.. ما هو شعورك.. ترين رجلاً لأول مرة.. ليس مَحرماً لك؟
? بعد أسبوع.. إذا بالرجل يطرق الباب
جلس مع أبي.. وتحدث إليه.. ثم قدم له المهر..
كان أبي حازماً ملأته السنين حكمة وتجارباً
قال له: ما هذا يا بنيّ؟
قال: هذا مهرُ لعفاف..
وفاجأه أبي.. كل هذا مهر.. ماذا تفعل به ابنتي؟
ارتبك الشباب.. وأجاب
تشتري به ملابس.. وحُلي..
أجاب أبي بلطف..
هذا المهر.. وأخذ مبلغاً يسيراً وناوله ما تبقى..
وهو يحدثه..
الذهب.. ابنتي لا تعرف شراء الذهب.. اشتره أنت.. أما الملابس.. فسنجهزها بما تيسر.. ثم عليك كسوتها.
يا بُنيّ: أكثر النساء بركة أيسرهن مؤنة..(3/17)
ونحن اشتريناك من بين تقدم.. وفضلناك على كل من أتي.. لا تُخيب أملنا قيل.. لم نزوجها إياك إلا لتُكرمها.. وتُعينه على الطاعة والخير
تمت الأمور.. فرح الجميع.. بما فيهم أنا..
رجلٌ كما ذكر أخي.. لا تفارقه الابتسامة.. على محياه الخير لا يترك صلاة الجماعة.. بارٌّ بوالديه.. جمع بين الخُلق والدين..
صفات كافية لأعلن فرحي به
حمدت الله.. حدثت نفسي.. بقي الكثير.. بدأت رحلة العذاب.. وأي عذاب
إنها رحلة الأسواق..
في ما مضى لا نذهب للسوق إلا نادراً
الآن تغير الأمر.. لابدّ أن نذهب كل أسبوع..
شحذ للهمم.. وترتيب للوقت.. وحساب للمصاريف.. (نُجهز عروساً)
فكرت.. لماذا لا نتجهز للقبر هكذا؟!
استعداد.. وهمة.. واستقطاع من وقت أبي وأخي.. وسؤال عن ذا وذاك.. أين نجده وكم ثمنه؟!
مع أبواب الأسواق.. ندلف إلى فتن.. ومزاحمةٌ للرجال.. هذا أمرٌ لا يُطاق.. ألقيت بحمل ثقيل على أخي..
شراء بعض ما أريد..
تحدثت مع أختي.. يجب أن ننظم أنفسنا ونرتب أوقاتنا.. كتبت ورقة فيها ما أحتاجه.. ثم وزفتها على حسب الأمكنة والأيام..
وبهذا حددت أين أذهب وماذا أشتري..
لن أبدأ حياتي الزوجية بذنوب ومعاصٍ.. أبحث عن التوفيق.. وهو لا شك في طاعة الله وامتثال أوامره..
ذهبت مرة للسوق.. ولعلي اشتريت الكثير مما أريد
فأنا أعرف أين أذهب وماذا أشتري.. فالقائمة بيد..
? مرة أخرى.
ذهبت.. وعندما دخلت إلى محل أخذت منه بعض ما أريد.. ولكن كان هناك زحام شديد.. نساء في كل زاوية.. وأمام كل بائع.. الجميع يشتركن في أنهن بنات الإسلام..
ولكن البون شاسع.. والفرق واضح
إحداهن مُظهرة لشعرها.. وأخرى كاشفةٌ عن وجهها.. وثالثة تسمع صوتها يجلجل في المكان..
فكرت أن أتحدث مع كاشفة الوجه.. من أبانت عن زينتها.. ألا تخافين من العقاب؟
وجهك الجميل.. كيف يصبر على النار؟
تذكري.. إذا وسدت في القبر..!!
تذكري يوم العرض على الله!!
ماذا تقولين يوم الحساب؟(3/18)
واستجمعتُ كلمات.. ولكن المكان مليء ومكتظ بالمتسوقين.. وفضلت أن أُبعد صوتي عن مسامع الرجال.. أبحث عن هدوء.. عن مكان أنصحها فيه.. وأنا أفكر في اختيار الوقت المناسب.. إذا بشاب عليه ملامح الخير.. ومعه امرأة.. ربما زوجته أو أخته..
? هاتَفها..
يا أختي.. عليك بالستر.. لو غطيت وجهك لكان خيراً لك رأيت الحياء سقط من النساء.. عندما رفعت صوته.. ما شأنك أنت؟
سكتَ قليلاً.. والأنظار متجهة إليه ثم قال.. يا أُختي.. كلامك خطير.. ويخشى عليك الكفر.. لا تأخذك العزة بالإثم.. توبي إلى الله..
ثم خفض صوته.. وهو يدعو.. هداك الله.. وخرج.. توقعت أن الأمر انتهى بخروجه..
ولكن لاحقته النبال والسهام..
فضولي.. ما شأنه.. الكل يريد أن يأمر وينهي..
أما أنا فقد شغل ذهني قوله.. يُخشى عليك الكفر.. كيف يقول هذا؟
سألت أخي.. ووعدني خيراً.. سأبحث لك الأمر.. ولكن مضى أسبوع بدون أن أسمع الجواب؟
قلت في نفسي.. هل الرجل قال هذا الكلام جُزافاً.. وهل يقبلُ مسلمٌ ناصح أن يقول على الله ما لا يعلم؟
وعزمت.. إن شاء الله بهمتي سأبحث عن ذلك.. سألت.. وسألت.. ولكن بدون أن أجد جواباً شافياً.. في زحمة انشغلي.. نسيت الأمر بل وتوقفت عن السؤال..
وبعد شهور.. من زواجي عادت الكلمات إلى أذني..
سألت زوجي
قال: كلامه صحيح وقد سمعت به ولكن أين؟ لا أذكر..
ومضت الأيام.. حتى قرأت قدراً ما بحثت عنه مرات عديدة.. وصدمت من هول المفاجأة..
في حاشية ابن عابدين أن من قال (فضولي) لمن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر فهو مرتد.. وقرأت أيضاً.. فالقائل لمن يأمر بالمعروف أنت فضولي يخشى عليه الكفر..
أعدت القراءة مرة أخرى.. وسألت نفسي.ز
هل بلغ الجهل بالناس إلى هذا الحد.. محاربة الله ورسوله.. والارتداد عن الإسلام..
بُدور
(6)
وحدثتك الليالي أن شيمتها ... تفريق ما جَمعته فاسمع الخبرا
وكن على حذرٍ منها فقد نصحتْ ... وانظر إليها ترى الآيات والعبرا(3/19)
فهل رأيت جديداً لم يعد خَلِقاً ... وهل سمعت بصفوٍ لم يعد كدراً
أقبلت ابنتي بدور.ز يسبها صوت كتغريد الطيور.. وما أن التفتُّ إليها فإذا بها تجري نحوي بسرعة رافعة يديها..
ضممتها بقوة.. وتحسست أطراف أصابتها تخترق جسمي.. أغمضت عينيّ.. حمدت الله.. نعمٌ كثيرةٌ..
زوج وطفلة.. وسعادة ورافة الظلال..
تذكرت تلك الأيام الأولى.. وأنا لازلت في المرحلة الثانوية.. ولكن بحكم القرابة وافق الأهل.. سنوات مضت من تلك اللحظة التي علمت بأن عادل تقدم لخطبتي
كانت قلوب الكثيرات تتمناه.. جمع بين حُسن الخلق والدين..
? بعد انتظار طويل تمّ عقد الزواج بعد أن نلت شهادتي الجامعية.. بدأنا نفكر في المستقبل..
ونحن في بداية الطريق.. والآمال كبيرة.. والطموحات كثيرة.. تم التعاقد معه للعمل في المملكة..
سافر وحده.. وبقي في غربته.. وأنا وحيدةٌ في غربتي.. بعد عام ونصف من بعد المسافات ومن الشوق والحنين
قدمت إليه وكلي خوفٌ من الغربة الجديدة.. وخوف من الوحدة.. كيف سأعيش بعيدة عن أهلي وأقاربي..
ولكن تذكرت أن هنا زوجاً ينتظرني.. ذا خلقٍ ودين ما حلمت به في منامي ويقظتي من صفات وجدتها فيه.. حُسن المعاشرة.. لينُ الجانب.. بشاشة الوجه.. صفاءُ النفس.. صدق الحديث.. منحني من الحنان أوفره ومن العطف أكثر جمعت بيننا الغربة.. ونمتْ في قلوبنا المودة
أشياؤه البسيطة.. أحببتها..
أحياناً يطلب كأساً من الماء أو الشاي.. يُتبعه الثناء والشكر عجبتُ من أدبه وحسن تعامله..
قلت له: لا تشكرني على خدمتك.. هذا واجبي نحوك.. ولكنه كان يغمرني بطيب أخلاقه..
حمدت الله وشكرته.. أن زوقني بزوج مسحَ دموع الغربة وعوضني فقد من أحب..
كان لي نعم الزوج والأب والأهل..
? وأنا في الشهور الأخيرة من حملي..
لم يرهقني بطلب.. ولم يأمرني بما لا أستطيع
بل كان يقدم لي سؤالاً قبل طلبه
هل أنت مرهقة..؟ هل أنت متعبة؟(3/20)
كان يشاركني فَرحَه.. وحُلمه.. ويقول إن رزقنا الله طفلاً.. سنسميه بلالاً.. كان يحب بلالاً مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
? تمر الأيام الأخيرة للحمل.. وأضع طفلة كالبدر.. أسميناها بدور.. سألته يوماً وهو يداعبها..
هل أنت حزين لأنها أتت بدور ولم يأت بلال..؟
قال لي.ز إن هذا رزق الله (يهب لمن يشاءُ إناثاً ويهب لمن يشاءٌ الذكور) ومن رزقنا بدوراً.. يرزقنا بلالاً.. إن شاء الله
الحمد لله.. ظِلُّ السعادة يزيد.. وشجرة المحبة تكبر وتنمر.. ومن نِعم الله علينا.. قدومنا إلى هذه البلاد..
حيث دروس العلماء.. والمحاضرات والندوات.. وحتى مجتمع المدرسة مجتمع تناصح وخير.. أهدتني زميلة لي في المدرسة .. شريط.." أيتها المرأة الحجاب أو النار " لأحد العلماء...
بمجرد سماعي لهذا الشريط . هداني الله لغطاء وجهي .. كان زوجي يفرح بسماع أذان الفجر .. يهب من فراشه مسرعاً .. يوقظني .. ويخرج للصلاة .. وكانت وصيته لي وأنا ذاهبة للمدرسة أنت مربية الأجيال.. عليك بإخلاص..
وحذري الغيبة والنميمة .. إن كان في حديثك خيرٌ فتحدثي لا خير في حديث تندمين عليه يوم القيامة..
في ذهابنا وعودتنا.. غالباً نسمع شريطاً لأحد العلماء.. مرت الأيام حلوة جميلة.. كهبات نسيم معطرة..
? وفي يوم .. مثل بقية الأيام ..
ذهبت للمدرسة .. وعندما خرجت بعد صلاة الظهر من المدرسة .. رأيته على غير عادته .. لاحظت تعبه وإرهاقه .. قلت ماذا بك ..؟؟
قال .. مرهق وأحس بدوار في رأسي وعندما وصلنا إلى المنزل.. جهزت له طعام الغداء..
لم يستطع أن يتحرك من سريره.. أطعمته بيدي كررت عليه السؤال.. ما بك؟!
قال.. مرهق وأريد أن أرتاح..
تركته نائماً حتى موعد صلاة العصر.. أيقظته.. لم يستطع أن يستيقظ.. اتصلت بالجيران.. ذهبت معهم إلى المستشفى..
? وهناك.. كانت بداية النهاية..
أتى الطبيب بخطوات سريعة .. وقال لي .. حالة زوجك حرجة وهناك اشتباه في وجود التهاب على قشرة المخ..(3/21)
ثم فصل الأمر ..
هناك نوعان .. نوع بسيط ونوع خطير
تقبلت الخبر بثبات .. وما كنت أظن أني كذلك ..
حتى الساعة الواحدة والنصف ليلاً وأنا أصلي وأدعو الله أن يشفيه.. ظل في غيبوبة ثلاثة أيام متواصلة من ظهر يوم الأربعاء... ومروراً بيومي الخميس والجمعة..
وفي صباح يوم السبت.. تحسنت حالته وأفاق من غيبوبته وبدأ يعرف الزائرين شكلاً.. وعندما اقتربت منه..
قلت له.. هل عرفتني يا عادل ؟
قال.. لا...
قلت له أتعرف بدور ؟
قال هي ابنتي..
أردفت بسرعة ..أنا أم بدور..
تبسم ضاحكاً وقال.. أنت زوجتي !!
بكيت بكاءً مراًّ ..
قبل ثلاثة أيام .. كيف كان حاله .. ذاكرته .. عقله .. سؤاله عني ..واليوم تبدلت الأحوال.. لا يعرف حتى أحب الناس إليه.. لا يعرف زوجته وابنته..!!!
طال بي التفكير.. ولم أنس ذكر الله .. وتنبهت على صوت الإمام يقرأ في الصلاة..وكأنه يخاطبني.. { يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين } ..
وأنا أتابع الآيات تتابعت دموعي.. وعلمت أنني من أصحاب هذه الآية..
{ ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون } ..
نحن هنا في غربة.. وبفقد الزوج.. في مصيبة.. من يذهب بي إليه في المستشفى.. من يأتي معي.. إنها غربة وأشد أنواعالغربة.. خاصة إذا كانت إمرأة ضعيفة مثلي.. وحيدة في بيتها.. لا أخ ولا أب.. ولا زوج..
في يوم الأحد كتمت حزني.. ذهبت مع أحد أصدقائه وزوجته.. اليوم سعادتي لا توصف.. وفرحي لا نهاية له..
عرفني زوجي.. وعرف كل من ذهب إليه
شد انتباه من حوله.. أن كل زائر ملتحٍ يبتسم له ويعرفه.. ولكنه لا يستطيع تذكر الأسماء.. أما أنا زوجته وأم أبنائه.. عرفني منذ أن رآني.. وناداني باسمي.. وابتسم في وجهي..
كأني لم أذق طعم السعادة إلا اليوم.. وكأني لم أسمع اسمي على لسانه إلا هذه المرة..(3/22)
طلب مني أن يتوضأ للصلاة ويصلي ما فاته من الصلوات في الأيام الماضية.. هاجسه الأذان.. وحديثه الصلاة..
? في أحداث سريعة..
يوم الاثنين.. نقلوه إلى غرفة بمفرده لأن الفيروس انتشر في جسمه وزادت حرارته.. كان هذا اليوم.. يوماً مشهود في حياته..
كل يوم أزوره من الساعة الثالثة حتى الساعة الخامسة.. ومن الساعة السابعة وحتى التاسعة.. وأراد الله هذا اليوم أن أبقى معه من الثالثة وحتى التاسعة..
وأنا أضع له الكمادات على وجهه ويديه ورجليه.. ولكن حرارته في ازدياد..
بدأت أقرأ القرآن بصوت يسمعه..
وعندما توقفت برهة عن القراءة لكي أضع الكمادات على قدميه..
قال لي.. افتحي جهاز التسجيل..
فرحت وقلت له.. تريد أن تسمع القرآن يا عادل..
قال.. طبعاً..
أكملت له التلاوة إلى أن أتى موعد الزيارة الثانية وحضر بعض زملائه وأصدقائه.. ومنهم صديق له ملتزم يحبه ويوده..
تبسم زوجي عندما شاهده.. ومد يده نحوه ليسلم عليه..
ولكن كانت فرحتي أكبر فمددت يدي بسرعة.. وصافحت زوجي.. وكان آخر سلام ومصافحة له..
ذهبت إلى منزلي فارغة القلب.. مهمومة النفس
أغالب الحزن.. وأسأل الله الثبات
مع تباشير فجر يوم الثلاثاء.. والمؤذن يرفع صوته بالآذان.. الله أكبر.. الله أكبر..
فتح عادل عينيه وجلس نصف جلسة على سريره.. ونظر بعينيه إلى السماء..
ثم رجع إلى الخلف وأغمض عينيه.. وصعدت روحه إلى بارئها..
كل إنسان له نهاية.. وقد حانت نهايته.. في هذا اليوم.. أصبح من أهل الدنيا وأمسى من أهل الآخرة
? في الصباح.. بحثت عمن يذهب بي إلى المستشفى وتطوع احد الجيران مع زوجته
شعرت أن زوجي ربما قد حدث له شيء من أثر الحرارة المستمرة..
ونحن بجوار المستشفى قال لي جارنا.. انتظري سأذهب وأسأل عن حالته ثم أعود..
رفعت طرفي إلى مكان غرفته.. أقلب الطرف.. ويعود كسيراً..
طالت غيبة جارنا.. أو حسبت أن الأمر كذلك..(3/23)
لم أستطع الصبر.. وعندما هممت بدخول المستشفى.. فإذا به قادم مطأطئ الرأس..
قال بصوت خافت.. رحمه الله.. اصبري..
قلت له.. هل ذهبوا به من هنا..؟
قال.. لا..
قلت .. لابد أن أراه.. ,أصررت على ذلك ذهبنا نحن الثلاثة.. وأنا أردد { إنا لله وإنا إليه راجعون }
أسابق اللحظات.. واستحث الخطى.. دلفت إلى غرفته.. فإذا به ممدداً على السرير.. ومغطى برداء.. كشفت الغطاء..
فإذا بوجهه تعلوه السكينة والبشر.. لم أشعر إلا وأنا أقبله على جبينه..إلى جنة الخلد.. إلى الحور العين..
أخرجوني ولساني يردد { إنا لله وإنا إليه راجعون }
اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها...
الصدمة قوية.. والفجيعة كبيرة..
ولكني أحتسب مصيبتي..
دفناه هنا حيث الأرض التي أحب..
فرح حولي من المعزيات.. فالجميع يعدد محاسنه.. ومحافظته على الصلاة..
حمدت الله على هذه الخاتمة الطيبة
تفكرت في حال الدنيا.. إن أعطت أخذت.. وإن أفرحت أبكت.. وإن أسرت أحزنت..
ساعات قليلة.. بين فرحي وحزني.. بين ابتسامتي ودمعتي
? اليوم..
انقلبت إليَّ غربتي.. وعادت إليَّ وحدتي..
فقدت عادل.. ولكن بقي رب عادل..
لن يضيعني أنا.. وبدور..
وهو أرحم الراحمين..
العيد
(7)
بينما الفتى مرح الخطأ فرح بما *** يسعى له إذ قيل: قد مرض الفتى
إذ قيل: بات ليلة ما نامها *** إذ قيل أصبح مثخناً ما يُرتجى
إذ قيل: أصبح شاخصاً وموجهاً *** ومعللاً إذ قيل: أصبح قد مضى
--------------------
أيام العشر الأواخر من رمضان بدأت تنقضي.. والعيد قاب قوسين أو أدنى.
لا أعرف أين سنذهب وأنا انتظر صديق الطفولة.. ولكن كالعادة الجزء الأكبر من وقتنا ليلاً نقضيه في جولات بين الأسواق والتجمعات والشوارع..
وحين استقريت على مقعد السيارة بجوار عبد الرحمن سألني.. هل جهزت ثوباً جديداً ؟! .. لقد أقبل العيد!!..
قلت له.. لا..!! قال: ما رأيك نذهب للخياط الآن..(3/24)
وأنا أهز رأسي متعجباً سألته.. بقي ثلاثة أيام أو أربعة على العيد.. أين نجد الخياط الذي يسابق العيد ويختصر الأيام ؟؟!
لم يعجبه حديثي واستغرابي..
سابق الزمن بسيارته حتى توقفت أمام الخياط بصوت قوي يوحي بالعجلة والتسرع!!..
فاجأني صاحبي بالسلام الحار على الخياط فهو يعرفه منذ زمن وقال له نريد أن نفرح بالعيد.. ونلبس الجديد!!
ضحك الرجل وأجاب وهو يربت على كتفه !! كم بقي على العيد.. لماذا لم تأت منكراً؟!
أجاب عبد الرحمن وهو يهز يده بحركة لها معنى.. سنزيد لك في الأجرة.. المهم أن ينتهي بعد غد!!
وأعاد الموعد مرة أخرى.. بعد غد..!!
وأنا أراقب المفاوضات الشاقة إذا بصاحبي يدفع جزء من الثمن وهو يردد.. ويؤكد.. بعد غد..!! لا تنسى الموعد..
? حتى قبيل الفجر.. ونحن لا هون.. ساهون.. غافلون..مضت الليلة كاملة لم نذكر الله - جل جلاله - فيها ولا مرة واحدة.. ربما أنها ليلة القدر..
حياة لا طعم فيها.. وسعادة لا مذاق لها..
ولجنا من المعاصي كل باب.. وهتكنا منها كل حجاب... وحسينا الأمر دون حساب.. إظهار للسرور والسعادة.. وضحكات تملأ المكان.. ولكن في القلب هم وغم.. والنفس تلحق بها حسرات ويحيطها نكد..
افترقنا قبيل الفجر.. يجمعنا الليل والسهر والعبث.. نلتقي على المعاصي وتجمعنا الذنوب.. نوم طويل.. يمتد من الفجر حتى العصر.. صيام بلا صلاة.. وصلاة بلا قلب..
ساعة الصيام التي استيقظ فيها قبل المغرب كأنها أيام.. أقطعها بالمكالمات الهاتفية العابثة.. وبقراءة الصحف والمجلات..
وأنا أنتظر موعد أذان المغرب حادثني بالهاتف أحد الأصدقاء.. وصوته متغير وقال: أما علمت أن عبد الرحمن مريض..
قلت.... لا.. مساء البارحة كان بصحة وعافية..
قال.. إنه مريض..
انتهت المكالمة.. والأمر لا يعني لي شيئاً.. سوى معلومة غير صحيحة.. والمؤذن يرفع أذان العشاء.. فإذا بالهاتف يناديني.. إنه الشقيق الأكبر لعبد الرحمن...(3/25)
قلت في نفسي ماذا يريد؟. هل سيؤنبني على ما أفعله أنا وعبد الرحمن؟؟!!
أو أن أحداً أخبره بزلة من زلاتنا أو سقطة من سقطاتنا!!..
ولكن أتى صوته منهكاً مجهداً.. وعبراته تقطع الحديث... وأخبرني بالخبر.. مات عبد الرحمن..
بُهِتُّ ولم أصدق.. لا أزال أراه أمامي.. وصوته يرن في أذني كيف مات؟؟!!
وهو عائد إلى المنزل ارتطم بسيارة أخرى قادمة ثم حمل إلى المستشفى.. ولكنه فارق الحياة ظهر هذا اليوم..
أذني لا تصدق ما تسمع.. لا أزال أراه أمامي..نعم أمامي بل اليوم موعدنا إلى السوق الفلاني.. بل وغداً موعد ثياب العيد..
ولكنه أيقظني من غفوتي وهز جوانحي وأزال غشاوة على عيني عندما قال: سنصلي عليه الظهر غداً.. أخبر زملائك!! انتهى الحديث..
تأكدت أن الأمر جدُّ لا هزل فيه.. وأن أيام عبد الرحمن انقضت آمنت بأن الأمر حق.. وأن الموت حق.. وأن غداً موعدنا هناك في المقبرة لا عند الخياط!! لقد ألبس الكفن وترك ثوب العيد.. تسمرت في مكاني.. وأُصبت بتشتت في ذهني.. وبدوار في رأسي.. قررت أن أذهب إلى منزل عبد الرحمن لأستطلع الأمر.. وأستوضح الفاجعة..
وعندما ركبت سيارتي فإذا شريط غناء في جهاز التسجيل.. أخرجته.. فانبعث صوت إمام الحرم من المذياع يعطر المكان بخشوعه وحلاوته.. أنصت بكل جوارحي.. وأرهفت سمعي كأن الدنيا انقلبت.. والقيامة قامت.. والناس تغيرت.. أوقفت سيارتي جانباً أستمع.. وأستمع.. وكأني أول مرة أسمع القرآن..
وعندما بدأ دعاء القنوت.. كانت دمعتي أسرع من صوت الإمام.. رفعت يدي تستقبل تلك الدموع.. وقلبي يردد صدى تلك العبرات.. وبارقة أمل أقبلت خلف تلك الدموع..
أعلنت توبة صادقة.. بدأتها بصحبة طيبة ورفقة صالحة..
من كرهتهم.. هم أحب الناس إليَّ.. من تطاولت عليهم.. هم أرفع الناس في عيني.. من استهزأت بهم.. هم أكرم الناس عندي... كنت على شفا جرف هار.. ولكن الله رحمني..(3/26)
بعد فترة من الزمن.. هدأت نفسي.. أطلت سعادة لا أعرفها.. انشراح في القلب..
وعلى عيني سكينة ووقار..
? فاجأت الخياط وسألته عن ثوبي.. سأل عن عبد الرحمن.. قلت له مات..
أعاد الاسم مرة أخرى.. قلت له.. مات.. بدأ يصف لي الرجل وسيارته وحديثه.. قلت نعم هو.. لقد مات وعندما أراني ثوبه بدأت أسترجع الذاكرة.. هل حقاً مات؟؟!!
ثوبي بجوار ثوبه.. ومقعدي في السيارة بجوار مقعده.. ولكن بقي لي أجل وعمر.. لعلي استدرك ما فات..
حمدت الله على التوبة والرجوع والأوبة ولكن.. بقي أخ لي هناك.. لا يزال على عينيه غشاوة ويعلو قلبه ران المعصية.. هل أتركه؟!.. شمرت عن ساعدي.. لن أتركه..
أمامه نارٌ وعذاب.. وأهوال وصعاب.. لن أتركه.. وقد هداني الله..
هنا كتاب.. وهناك شريط..
وبيني وبينه نصيحة صادقة .
إلا باب السماء
(8)
قال بعض السلف: من الذنوب ذنوبٌ لا يُكفرها إلا الغم بالعيال.
------------------------
قال محدثي يؤكد ذلك:
إنها من صميم الواقع.. ليست من نسج الخيال.. ولا أسطورة من الأساطير.. أنا الأب.. وطفلي محور الحديث بعد انقضاء شهر رمضان ومع إطلالة العيد.ز لاحظت أن ابني عبد الله صاحب السنتين والنصف متعب ودرجة حرارته مرتفعة.. اختفت الابتسامة.. وذبلت النضارة.. ولم يعد صاحب الحركة والشقاوة.. أصبه الضعف فجأة.. نظراته زائغة.. وحديثه متقطع.. يبحث عن مكان ينزوي فيه..
فزعنا إلى الكمادات والمهدئات ريثما نبحث عن طبيب.. لكن الحرارة عادت مرة أخرى في الارتفاع.. ليس هناك خيار.. ولا وقت للتشاور..
تبادر إلى ذهني جميع المستشفيات.. ولكن نحن في إجازة.. قررت الذهاب به للطوارئ.. قلت لوالدته وأنا أحمله بي يدي.. لا تخافي.. كل الأطفال هكذا.. وتابعت حديثي لأطمئنها قبل أن أغلق الباب الطفل سريع المرض.. سريع الشفاء.. هدأي من روعك.. واتكلي على الله..
? بعد سير متقطع من شدة الزحام
تبهرك الأنوار في الخارج(3/27)
ثم تدلف إلى عالم آخر وأنت تصعد عتبات المستشفى..
والتسلط فيه.. الإنسان هنا ضعيفٌ.ز ضعيف.. هذا منكس الرأس.. وذاك ممسك بكلتا يديه على بطنه.. وصمت أنين تسمعه يقطع الصمت ولا ترى صاحبه
أما الجرحى ونزف الدماء.. تراه بين حين وآخر يسبقه صوت سيارة الإسعاف في الخارج.. ثم لحظات وتقع عينك عليه..
لا تتذكر أن هناك شيئاً اسمه الصحة والعافية إلا إذا أتيت هنا..
في زاوية بعيدة.. صاحب الثمانين عاماً.. رجل مكتمل العمر تراه فقد كل شيء!!
النظرات.. زائغة.. يمنة ويسرة.. تبحث عن طبيب.. عن دواء.. لا تُحس نعمة العافية إلا عندما ترى وتُشاهد.. ربما تجد صحيحاً معافى يسير ببط وكأنه يقفز ويجتاز البحار في عيون المرضى..
هانت حالة ابني عندما رأيت الأم يعتصر الجميع..
صُرف لنا أشكال وألوان من الأدوية.. تحسست طعم العافية وأنا أخرج من المستشفى..
? في اليوم الأول تحسنت صحته قليلاً..
ولكن بعد نفاد الدواء عادت الحرارة.. عُدنا إلى الطبيب.. لمح في عينيّ وأنا أشرح حالة ابني الاضطراب والقلق.. طمأنني.. لا تخف.. وصرف لنا نفس الأدوية السابق!!
نفرح بالدواء عندما يُصرف.. ولكن الحالة تعاوده..
تكررت المراجعة خمسة أسابيع متتالية ولكن بدون نتيجة..
ساورني الخوف.. ووالدته أكثر مني.. أصبح حديثنا هو.. بدأ الطفل يضعف وتقل شهيته للأكل.. يمشي ببطء ويحس بوجع في عظامه ولاحظت والدته اصفراراً في لونه..
ذهبت به إلى مستشفى خاص وفحصه استشاري.. سأل أسئلة كثيرة.. وقال بعد محاورة طويلة:
هذه الحالة لا تحتاج لمجرد صرف الأدوية والفحص السريع.. لابدّ من تنويم وتحليل شامل.. أدركت أن في الأمر شيئاً وأن هناك أياماً طويلاً تنتظرنا.ز قَبلتُ جبينه وحملته إلى قسم التنويم.. بدأت تنهال عليه الحقن بأشكال وألوان مختلفة وهو يستنجد بي.. لا أملك إلا أن أُمسكه بقوة وأسلمه لتلك الحقن..
علا صوته.. وارتفع أنينه.. وسالت دموعه بعضها يسقط على يدي وأنا ممسك به..(3/28)
تخاطبني تلك الدموع.. ما هذه القسوة يا أبي..؟
شيء في صدري يضطرم.. وبين أحشائي قلب يذوب..
دموعك يا بني.. ليست إلا نقطة في بحر آلامي..
يا بني.. أنا لست تمثالاً ولا قلبي حجر..
? مرت بضعة أيام ونحن في ترقب.. كلما دخل علينا طبيب تلهفنا سماع جواب منه.. ننتظر كلمة تُحيي الأمل.. وتداوي الجُرح ولكن التحاليل على كثرتها لم تعط نتيجة واضحة!!
الرد الوحيد.. المرض في الدم
زاد تدهور صحة طفلي حتى لم يعد يقدر على الجلوس فضلاً عن الوقوف.. ونظرات شاردة تطاردني كلما أقبلت
وسؤال في عينيه.. متى أخرج من هنا..؟!
بارقة الأمل في علاجه تخبو وأنا أسمع الطبيب يحادث زميله:
(رغم ضعفه الشديد لا نستطيع نقل الدم إليه لأن ذلك يؤثر على نتيجة التحاليل).
? ونحن في تلك الحال.. والأيام تسير ببطء وطفلي بدأ يفقد الحياة..
طلب منا الطبيب إجراء فحص لنخاع العظم.. فهو مصنع الدم في الإنسان
وافقت بدون تردد وقلبي يعتصر ألماً وأنا أنظر إلى رأسه.. وجمجمته الصغيرة.. تلمست استدارتها بيدي.. وكأني أتلمس العافية..
تم تخدير الطفل وأخذت عينة من نخاع العظم.. وطُلب مني أن أجري هذا التحليل في مستشفى خاص.. سرت وأنا أحمل العينة.. عينيّ شاخصة.. وقلبي معلق برب السماء.. لا أذوق للحياة طعماً ولا للنوم لذة..
سلمت العينة للمختبر ومعها خطاب يحدد نوع التحليل المطلوب فرحت.. ربما أن نتيجة هذا التحليل تُنهي ألمه ومرضه..
في اليوم الثاني.. واللحظات تمر بطيئة ودقات قلبي تسابق عقارب الساعة.. عجزت عن التفكير في كل شيء..
تناولت سماعة الهاتف.. ربما أن التقرير وصل.. تحاملت على نفسي وسألت عن النتيجة.. أترقب العافية والشفاء لطفلي..
عادت أذني تطرب لضحكاته.. تذكرت جريه ليستقبلني.. جلوسه على ظهري.. قُبلتُه على جبيني..(3/29)
في نشوة الفرح.. أجاب بكلمة مروعة.. شتت آمالي.. وبعثرت أحلامي.. فجرت الدم في عروقي.. وتركت صداها في أُذني.. نزف لها قلبي ودمعت عيني.. ورفعت إصبعي.. الحمد لله قال (إن مرض ابنك هو سرطان في الدم).
لحظات طويلة قاسيت فيها الهموم.. اضمحلت الدنيا في عيني.. ولم تستطع قدماي السير.. سُدت الطرف أمامي.. وأُغلقت الأبواب في وجهي.. ولكن تذكرت..
هناك باب واحد لا يُغلق.. باب السماء.
فرحت بهذا الثبات..
الحمد لله.. وأكملت.. إنا لله وإنا إليه راجعون
تداركت نفسي.. تحركت خطوات ثقيلة..
دارت في ذهني أسئلة لها أول ولا أعرف لها آخر.. سأودع ابني قريباً كيف سأخبر والدته وأخوته؟ بل كيف سأنظر إليه؟ أي نظرة وداع.. أم نظرة رجاء..؟! أسرعت أسئلة متلاحقة تطرق قلبي ثم قفز سؤال شدني من مكاني.. قفز بقوة أجري هل سألحق به في المستشفى..؟ أم أنه توفي..؟
مشاعر متقلبة.. وأسئلة مضطربة.. حملت قدماي أسير في طرقات المستشفى أجمع أطراف الكلام..
? والدته بجواره.. بفرح.. بشر ما هي النتيجة؟
ماذا أجيب.. حيرتي أكبر من حيرتها.ز وحاجتي للسكوت أكبر من حاجتها للجواب.. ذبول وشحوب يخيم على سرير ابني.. أستعجل اللحظات والدقائق.. ربما ينقل إلى الرياض.. لحظاتٌ بسنوات.. ودقائق بأعوام.. تمر ببطيئة ثقيلة..
ثم نقله بعد جهد وعناء..
? في مساءٍ طويلٍ.. والحديث طويل..
الحزن يلف رداءه حولنا.. والألم ناصبٌ رايته في قبلوبنا
غداً عيد الأضحى..
زمانٌ بين عيدين.. عيدٌ بأي حال عدت يا عيد
اصبر واحتسب.. ما قدر الله كان.. مسحت الحزن على قلبي ودعوت الله دعوة موقنٍ بالإجابة
في ثاني أيام العيد..
صرخات الأطفال تصل إلى مسامعي.. وأصوات الحديث تعلن الفرح بالعيد.. والتهنئة على كل لسان
الأمر لعبد الله مختلف.. يتلوى على فراشه من الألم(3/30)
نظرتُ إليه وهو على سرير المرض.. يتقلب.. لا يستطيع الحركة.. فتح عينه بصعوبة ليتأكد من وجودي.. نظرات غير مفهومة.. مسحت دمعة في عيني لِما أرى.. تحكي حالي وألمي..
ابني الصبر آيات أراها وإنني ... أرى كل حبل بعد حبلك أقطعا
وإنّي متى ما أدع باسمك لا تُجب ... وكنت جديراً أن تُجيب وتسمعا
اليوم يبدأ علاج ابني بالعلاج الكيميائي.. وما أدراك ما العلاج الكيميائي؟!
حُقن تُعطى مع المغذي في الدم لتُمر الخلايا الخبيثة ومعها الخلايا الطيبة.. العلاج طويل ومركز يستمر ثلاث سنوات..
? في الشهر الأول من العلاج..
نوّم طفلي شهراً كاملاً ليصارع المرض ويحتسي ألم الدواء الكيميائي بعد ثلاث أسابيع.. هناك تحسن بسيط بدأ يمشي مشية بطيئة مهزوزة.. وأشار علينا الطبيب بإمكان علاجه في مدينتنا..بعد أن رأى المشقة التي أعانيها من مكوثي وحيداً مع ابني.. وأمه وأخوته هناك.. حملت طفلي مغادراً المستشفى..
حملني همّ وغمّ.. طفل يصارع الموت.. وأم تصارع الأحزان.. وأب يصارع الحياة.. وسؤال في عين طفلي..
أين تذهب بي يا أبي.. أما تعبت من حملي..؟ المستشفى آخر أم إلى بيتنا..؟ أريد أن أرى أمي..
? أقمنا مدة واضطررنا إلى العودة بعد شهرين وفي الأسبوع الأول من إقامتنا أجري تحليلاً آخر..
الفرح يُعطر المكان.. والسعادة تحوم حولنا.. ولكن المفاجأة.. أتت بصوت قوي
انتكست حالة الطفل.. مرحلة انحدار خطرة..
أصابني إعصار الفوضى.. ماذا أفعل.ز كيف أتصرف؟
لقد بدأت الخلايا السرطانية تعاود نشاطها من جديد.. لابدّ من إعادة برنامج العلاج من جديد.. وبتركيز أشد..
تأثر الطبيب وهو يقرأ التقرير ثم أردف وكأنه ينعى إليّ ابني.. إن شئت نبدأ بالعلاج من جديد هنا.. أو تعود إلى جدة.. قلت له بل هناك في جدة
أمسكت تقرير ابني في يدي.. وخرجت بطفلي من المستشفى وصوت الطبيب يُلاحقني..
عليك بسرعة العلاج وعدم الإهمال.. حالة الطفل خطيرة..
? طرقت أبواب المستشفيات..(3/31)
تحمل ابني من الإبر ما لا يتحمله رجل كبير.. لم يبق موضع لإبرة جديدة.. يحتار الطبيب أين يضع إبرته.. قاسي من الآلام.. ومن البعد عن والدته وأخوته الكثير.. تعرف على وجوه الأطباء وعلى أنواع الأدوية..
أما أنا.ز فقد حفظت كل شيء في المستشفيات.. أصبحت يستنجد بي من شدة الألم ولكن ليس الأمر بيدي يا بُني..
كل الأبواب طُرقت إلا باب الله.. وكل الأبواب أُغلقت إلا باب الله..
(أمَن يّجيبُ المضطر إذا دعاه ويكشف السوء)
? سمعت في تلك الفترة عن شيخ يرقي بالقرآن
وأشار علي بعض الاخوة بذلك.. الحمد لله.. والقرآن فيه شفاء..
تنازعتني الأهواء.. كثر الحديث.. تشتت ذهني..
كيف سأترك الطب الحديث.. ربما.. وربما؟!
استخرت الله قبل أن أذهب..
? نمت تلك الليلة فرأيت في المنام أني أقف على شاطئ البحر وكانت المياه على الشاطئ ضحلة.. وفي جزء معين كانت الأرض ظاهرة للعيان قد انحسر عنها ماء البحر، وفجأة تظهر حفرة في طين البحر.. يخرج منها ما يسمى سرطان البحر ويذهب بعيداً.. استيقظت وكانت نفسي منقبضة تلك الليلة من خبر انتكاس المرض.. حدثت بتلك الرؤيا من أثق به..
قال.. أبشر لعله خير إن شاء الله.. فالطين هو ابن آدم والسرطان يخرج منه إن شاء الله
استشرت خيراً وقررت الذهاب إلى الشيخ ليرقي ابني بالقرآن..
في زحام المرضى.. هناك راحة نفسية تشعر بها.. وقصص العافية تزين المكان..
بارقة أمل أطلت عليّ.. سحابة خير أظلتني..
تمت الرقية على ابني.. وطلب مني المراجعة ثلاث مرات كل أسبوع.. وأوصاني أن أقرأ بنفسي عليه آيات من القرآن
قررت إيقاف العلاج بالمستشفى.. لعدم تمكني من إخراجه عندما يبدأ علاجه بالكيميائي
? مرت ثلاثة أسابيع.. تحسنت فيها حالة ابني..
في كل موعد أسافر من جدة إلى الرياض ثم أعود..
عانيت من التعب والمشقة الكثير..
وعندما انقضت مدة الرقية وهي ثلاثة أسابيع..
قررت العودة للمستشفى.ز ولكن لابدّ من الانتظار لحين فراغ سرير..(3/32)
سجلت رقم هاتفي لدي المستشفى وأعطيت أولوية الدخول نظراً لتأخري في العلاج.ز ووضع الطفل كما ذكروا لا يسمح بإضاعة دقيقة واحدة..
? أيام معدودة..
فإذا بالهاتف ينادي..
عليك الحضور سنأخذ عينة لنخاع العظم على أن يكون الطفل صائماً.. أخذت ابني.. وأخذتني الحيرة.. وتبعتها آلام الصغير وصراخه..
أقبلت على المستشفى..
وأنا أدعو الله أن لا يعيدنا إليه مرة أخرى
أخذت العينة.. وعدت للمنزل..
حدثنا.. بين التحليل والنتيجة؟! أسبوع كامل..
تركنا الأمر للتفسير.. ماذا؟ وأين؟ في موعد التحليل أسرعت بي أقدامي.. أحسست أن هناك خيراً ينتظرني..
? جلست مع الطبيب لأسأله..
فكان جوابه الذي هزّ أعماق قلبي..
تأكدت أنني أعي ما يقول..
أرهفت سمعي.. وأسكنت جوارحي..
في زمن لم يعد للفرحة في قلبي مكان
بحثت عن ابني يمنة ويسرة.. لأقبله..
لأنظر في عينيه.. لأمسح دمعته..
التفت إلى مكان لأسجد سجدة الشكر لله.. ومن أحق منه بذلك
(بعد أن كانت عند الانتكاسة بليونين من الخلايا على أقل تقدير لا أثر الآن للخلايا السرطانية)
واستطرد الطبيب
يسمى هذا بوضع الكمون..
أي عدم ظهور أي خلايا في التحليل.. ويجب وضعه تحت الملاحظة تحسباً لأي أعراض.. أسرعت خارجاً..
التفت أبحث عن هاتف لأخبر زوجتي.. ولكن خطواتي أسرع من نظري..
حمدت الله على نعمة الإسلام.. ونعمة إنزال القرآن..
سقطت دموعي حُزن أياماً طويلة..
أما الآن..
ليست دموع فرح فحسب..
بل فرح وشكر
استرجعت الذاكرة
(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أو لم يكفِ بربك أنه على كل شيء قديد)
رأيت هذه الآية في نفسي..
هنا بين أكوام التقارير والأرقام والتحاليل..
بين بكاء الطفل وحزن الأم.. وهم الأب..
صدق الله إذ يقول:
(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين).
طريق الدعوة
(9)
بغض الحياة وخوف الله أخرجني *** وبيع نفسي بما ليست له ثمنا(3/33)
إني وزنت الذي يبقى ليعدله *** ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
-----------------
الحمد لله الذي جمعنا في هذا المكان.. لا نعبد صنماً ولا نطوف بقبر ولا نقدس شجرة.. الحمد لله الذي جمعنا على التوحيد نعبد واحداً أحداً.. فرداً صمداً.. لا ند له ولا شريك
هناك أيها الأحبة..
ُيعبد الحجر من دون الله.. يُطاف على القبور.. ويتوسل بالأموات.. هناك.. الجهل ضاربٌ أطنابه.. تعشعش الخرافة.. وتنتشر البدعة.. ويخيم الشرك..
أين أنتم يا أهل الإسلام من تبليغ الدعوة..؟
ما لكم تأخرتم عن الركب..؟
من يحمل هم الدعوة سواكم وأمثالكم..؟
إنصات.. ترقب.. والشيخ واقف كالرمح بعد صلاة التراويح يتحدث.. كلماته تعطر المكان.. تلامس القلوب.. تحرك المشاعر وتشحذ النفوس..
تحسست محفظتي.. إنها دعوة للتبرع..
ولكنه توقف قليلاً.. يسترجع الأحزان من تقصير شباب الأمة وكأنه يحدثني..
لم آت هنا لجمع الأموال..
أتيت لأستحث الهمم وأذكركم بواجب الدعوة إلى الله..
كان سلفنا الصالح يقطعون الفيافي والقفار لتبليغ الدعوة.. وتصحيح المعتقد..
الآن.. وكل وسائل الدعوة ميسرة.. ماذا قدمنا..؟؟
لا أدعوك أخي لتبذل كل وقتك..
لا.. بل فضل وقتك.. ما زاد من وقتك اجعله للدعوة.. كانوا رحمهم الله يهبون كل أوقاتهم للدعوة.. وما فضل منها للدنيا..
? رغم كثرة عدد المصلين.. وإنصات الجميع..
أحسست أنه يحدثني وحدي.. ويستحث خطاي..
تركت محفظتي.. أخرجت يدي من جيبي..
وأنا أردد.. هذه دعوة التوحيد.. تحتاج إلى رجال..
حال المسلمين يرثى له...؟
خرجت من المسجد وعيني تبحث عن ذلك الشيخ..
وعندما صافحته.. كانت الكلمات تسبقني..
أين الطريق... سأذهب للدعوة.... فأنا طبيب...
قررت وبدون تردد... السير في طريق الدعوة إلى الله...
تركت رحلتي إلى كندا حيث رسالتي للدكتوراه..
قررت أن أؤجلها ستة أشهر..
? جريت في الدعوة... صعدت الجبال... وزرت السهول...(3/34)
رأيت عبادة القبور... والطواف بها... والذبح على عتباتها .... رأيت البدع والخرافات...
ورأيت شباب النصارى تحت الشمس المحرقة... والأوبئة المنتشرة... يبذلون كل شيء في سبيل التنصير..!!!
مرت الأيام سريعة وأنا حركة لا تهدأ.. ونشاط لا يفتر...
ثم بعد نهاية المدة..
استخرت الله... أين أتجه؟ وأين أسير..؟؟
جلسة هادئة... وتفكير عميق...
وماذا بعد... لو أنهيت دراستي وأنا على حالي السابقة... وحصلت على شهادة الدكتوراه... ثم ماذا؟؟
تذكرت دعوة الله .. { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض } ..
سارعت إلى جنة عرضها السموات والأرض
في كل يوم دعوة ترتفع إلى عنان السماء..
حيث يزرع الإيمان في القلوب... وتنار الطرق والدروب..
إنها رحلة الدعوة.. إنه سباق إلى الخير..
حيث تبليغ الرسالة والسير على منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم -
تألمت وشباب الإسلام أيامه تضيع.... وأوقاته تهدر
والمسلمون في أشد الحاجة إلى من يعلمهم ويفقههم
إنها دعوة للسير في طريق الدعوة
يُعلم الجاهل... وينبه الغافل....ويُعبد الله بما شرع
في صدر هذه الأمة سباق إلى الخير...
أين نحن منه؟؟(3/35)