اللواء الركن :
الدكتور محمّد ضاهر وتر
الرّيادة
في حروب وفتوحات أبي بكر الصّديق
- دراسة -
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
1999
البريد الالكتروني: E-mail : unecriv@net.sy
الانترنيت ... : Internet : : aru@net.sy
موقع اتحاد الكتاب العرب على شبكة الانترنت
www.awu-dam.com
((
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين. إيّاك نعبد وإياك نستعين. اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.(1)
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على ابراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. (2)
ربّ أتمم نعمتك علي، وارض عني، واشرح لي صدري، ويسّر لي أمري، واحلل عقدة من لساني، واجعل لي مخرجاً من كل ضيق، وفرجاً من كل كرب وشدة، وكفّر عني سيآتي، وأعظم لي أجراً، وارحمني، وعلمني، وزدني علماً.
ربّ اجعل هذا الكتاب سبيلاً إليك، ونفعاً لعبادك، والحمد لله رب العالمين.
اللواء الركن
الدكتور محمد ضاهر وتر
((
تمهيد
راد أبو بكر مجاهل العلم العسكري، فاستنبط مبادئه وأحكامه، بعد أن تتلمذ على صاحب الريادة الذي قال: "إن الرائد لا يكذب أهله"
لقد وعى هذه الطريق فمهدها، وشمّر عن ساعديه بعد مبايعته ليكون رائد هذه الأمة التي تفرقت واختلفت بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.(3)
__________
(1) سورة الفاتحة.
(2) البخاري ومسلم في (الدعوات)، وابن حنبل واللفظ له.
(3) البخاري- باب الأنبياء: 48، النسائي- باب الجهاد: 1، ابن واضح- تاريخ اليعقوبي 2/107.(1/1)
إن الاكتشاف من مرامي القيادة، فأبو بكر اكتشف قبل غيره ضرورة قتال من سولت له نفسه ترك الزكاة.(1) وإن الآية على الظاهر تدل على الباطن، فهو قد حمل جسماً رقيقاً في فؤاد كبير.(2) وإن الغدو والرواح يدلان على حركة الريادة ونشاطها، فهو الذي قاد بنفسه المعارك الأولى بكل حركة وفعالية.(3)وإن البصيرة من طبعها، فهو الذي أعلن عن موت الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن ذهل الناس والصحابة.(4) وعيّن عمر بن الخطاب ليكون من بعده أميراً،(5)وإن الحكمة من جوهرها، فهو الذي أبقى خالداً قائداً للجيوش العربية الإسلامية، ولم يسمع به لوشاية أحد قائلاً: "ياعمر ما كنت لأشيم سيفاً سله الله على الكافرين.
__________
(1) البلاذري- فتوح البلدان: 103، ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/110، البلخي- البدء والتاريخ: 5/153، ابن عساكر- تهذيب تاريخ دمشق الكبير: 1/119.
(2) ابن هشام- السيرة النبوية: 1/249، ابن سعد- الطبقات: 3/176، ابن الجوزي- تاريخ عمر بن الخطاب: 30، ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/973، النووي- تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 1/ 181، الخضري- تاريخ الأمم الاسلامية: 1/ 196 وما بعدها، العقاد- عبقرية الصديق : 204.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/ 478، 479، الذهبي- تاريخ الاسلام: 1/350، ابن خلدون- ديوان المبتدأ والخبر:2/2/66، غلوب-الفتوحات العربية الكبرى: 183.
(4) ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/104 وما بعدها، ابن الجوزي- تاريخ عمر بن الخطاب: 47، أبو الفداء- المختصر في أخبار البشر: 1/156، الراوي- تاريخ الدولة العربية: 5.
(5) الجاحظ- العثمانية: 86، الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/365، 448،الطبراني- المعجم الكبير: 1/13، ابن الجوزي- تاريخ عمر بن الخطاب: 50، 51، 56.(1/2)
"(1)وإن الجديد والابتكار من صفتها، فهو الذي سيّر الجيوش المتلاقية، جيشاً من أسفل العراق بقيادة خالد ابن الوليد، وجيشاً من أعالي العراق بقيادة عياض بن غنم ليلتقيا فيما بعد بالحيرة،(2)وسيّر كذلك جيوشاً متلاقية في حروب الردة،(3)وكذلك في فتوح الشام(4)وإن الخطوة اللاحقة في الريادة أغنى من الخطوة السابقة وإن كانت الخطوات كلها اكتشافاً، فهو الذي خطا بحروب المرتدين وأعقبها بالخطوة التالية في قتال الفرس، وأتمها في محاربة الروم.(5)وإن التوازن بين النقيضين يوصل إلى خير مستقر، فهو الذي وازن بين السلم والحرب، وبين العدل والظلم، وبين الحق والباطل، وبين الاستقامة والزيغ.(6)وبعد: أتتحقق الريادة(7)
__________
(1) البلاذري- فتوح البلدان: 136، البلخي- البدء والتاريخ: 5/160، الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/503
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/553، 554، 573، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/ 384، 358.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/ 529، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/ 143، ابن كثير- البداية والنهاية: 6/330.
(4) ابن خياط- تاريخ ابن خياط: 119، البلاذري- فتوح البلدان: 150، عبد الحميد- معارك العرب الحاسمة: 24،25.
(5) البلاذري- فتوح البلدان: 150، الطبري-تاريخ الأمم والملوك: 2/553، 554، الحموي- معجم البلدان: 3/24، ابن خلدون- ديوان المبتدأ والخبر: 2/2/66، وجدي- دائرة معارف القرن العشرين: 2/303
(6) انظر خطبة أبي بكر بعد استلامه الخلافة وفيها تحديد لكل هذه الأشياء: الواقدي- فتوح الشام: 1/4، ابن هشام- السيرية النبوية: 2/ 661، ابن سعد- الطبقات: 3/ 182، 183، ابن قتيبة- الإمامة والسياسة: 1/ 14، ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/ 106.
(7) مخطوط (95 صفحة) مستهلاً بالريادة ومعناها. كتبه لي الأستاذ الكبير محمد عنبر تعقيباً على كتاب: "الإدارة العسكرية في حروب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم"..(1/3)
دون أن يرافقها صعوبات!؟ كلا إنها الصعوبات التي لابد منها منذ علا أبو بكر سدة القيادة وحتى رحيله من الدنيا.(1)
لم تكن قيادته سوى سنتين ونيف،(2)ومع أنها فترة قليلة في عمر الزمن إلا أنها كانت مليئة بالانجازات على جميع الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، وعلى المستويين الداخلي والخارجي. ولعل أبرز هذه الانجازات والتي تهمنا في هذا المقام هي الناحية العسكريّة.
__________
(1) انظر إلى كلام عائشة بنت أبي بكر تصف هذه الصعوبات التي لا تحتملها الجبال، ومع ذلك فقد حملها أبوها، البلاذري- فتوح البلدان: 132، الأفغاني- عائشة والسياسة: 215-217.
(2) الواقدي- فتوح الشام: 1/ 37، الأزدي- فتوح الشام: 98، ابن خياط- تاريخ ابن خياط: 122(1/4)
لقد كان لماضيه العسكري مع الرسول صلى الله عليه وسلم أثر بارز في تنظيم وعمل وقيادة القوات المسلحة على المستويين التكتيكي والاستراتيجي(1)فهو الذي حرك أحد عشر تشكيلاً قتالياً إلى جبهات مختلفة من أراضي الجزيرة العربية،(2)وقاد هذا العدد من مركز القيادة من المدينة المنورة، وهو الذي وجّه تشكيلين كبيرين إلى العراق، وأعطاهما التعليمات القتالية التي تدل على براعة في القيادة، وعلى اتساع أفقه الاستراتيجي،(3)وهو الذي وجّه أربعة جيوش إلى الشام وأمرها بقتال الروم،(4)وحدد لها الاتجاهات والمهام التفصيلية، كما لو كانت هناك خريطة أمامه، ومجسّم تظهر عليه الهيئات الأرضية، كما لو كان في الوقت الحاضر قائد يشرح لمرؤوسيه الموقف القتالي على صندوق من الرمل.
__________
(1) ابن خياط- تاريخ ابن خياط: 101، 103، الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/ 478، المسعودي - مروج الذهب: 1/ 415، ابن خلدون- ديوان المبتدأ والخبر: 2/ 2/69 .
(2) ابن خلدون- ديوان المبتدأ والخبر: 2/2/ 69، 70، ابن الطقطقي- الفخري في الآداب السلطانية والدول الاسلامية: 64، وجدي- دائرة معارف القرن العشرين: 2/ 303.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/551 ومابعدها، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/ 143.
(4) ابن شهاب الزهري- المغازي النبوية: 151، ابن خياط- تاريخ ابن خياط: 119، البلاذري- فتوح البلدان: 150.(1/5)
إنه النظر الثاقب الذي أوتيه أبو بكر،(1)والتخطيط والتنظيم والعمل العسكري على المستوى الاستراتيجي،(2)والأهم من هذا هو التوافق بين التخطيط والتنفيذ. وهناك كثير من القادة العسكريين قصروا عن إدراك هذه الناحية المهمة، كما أن هناك عدداً منهم برز في التخطيط وقصّر بالتنفيذ وبالعكس؛ أما أبو بكر فقد أجاد بهذا وذاك، مدركاً ومتأكداً من تلازمهما.(3)
__________
(1) انظر حدة هذا النظر عند وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/ 443، وانظر عندما نظر إلى الزكاة واختلاف الصحابة بشأنها- ابن قتيبة-الإمامة والسياسة: 1/ 14، البلخي- البدء والتاريخ: 5/152، ناصف- التاج الجامع للأصول: 2/ 8.
(2) الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/ 478، المسعودي- مروج الذهب: 1/ 415، خطاب- قادة فتح العراق والجزيرة: 86.
(3) انظر كيف خطط لمحاربة المرتدين ونفذها في حروبة الأولى معهم. الذهبي- تاريخ الاسلام: 1/ 350، ابن خلدون- ديوان المبتدأ والخبر: 2/ 2/ 66، وانظر كيف خطط لحرب العراق ونفذها بقيادة خالد بن الوليد، الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/ 553، 554، ابن كثير- البداية والنهاية: 6/ 330.(1/6)
اعتمد في قتاله مع أعدائه على مبدأ الهجوم؛ إنه إن تحرك فإنما كان يتحرك لكي يهاجم المرتدين في عقر دارهم،(1)ويباغت الفرس في أرضهم وديارهم،(2)وينقض على الروم في معاقلهم وحصونهم،(3)مركزاً بذلك على الاتجاه الرئيسي الذي يتصف بالأهمية، وعلى النقاط الضعيفة منه، موزعاً قواته بشكل غير متساو، بغية الوصول إلى النقطة الحاسمة، أو الهدف الهام في كل اتجاه، مؤمناً بذلك التفوق في الزمان والمكان، ومحققاً الغلبة على القوات المعادية في أقصر وقت ممكن.
__________
(1) انظر معركة بزاخة عند البلاذري- فتوح البلدان: 107، الحموي- معجم البلدان: 1/ 408، وانظر معركة عقربا التي انتهت بالقضاء على المرتدين قضاءً مبرماً عند الطبري- تاريخ الأمم والملوك 2/ 513، الذهبي - تاريخ الإسلام: 1/ 385، غلوب- الفتوحات العربية الكبرى: 196، فارق- تاريخ الردة: 5 ومابعدها.
(2) انظر معركة كاظمة عند الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/ 556، ومعارك المذار، الولجة، الحيرة، أمغيشيا عند الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/557، 559، 560، 563.
(3) انظر التحرك المظفر عند البلاذري- فتوح البدان: 151-155، ومعركة أجنادين عند الواقدي- فتوح الشام: 1/ 37، ابن عساكر- تهذيب تاريخ دمشق الكبير: 1/ 145، حداد- فتح العرب للشام: 44، ومعركة مرج الصفر عند الواقدي- فتوح الشام: 1/ 19- 21؛ وفتح الشام عند غلوب- الفتوحات العربية الكبرى: 275.(1/7)
إن عامل الوقت مهم جداً في القتال التكتيكي والعملياتي والاستراتيجي، لذا فقد اختار أبو بكر الصديق لتحقيق هذا العامل قادة من أبرز القادة وفي طليعتهم خالد بن الوليد(1)الذي تميز بسرعة عملياته القتالية، ومناوراته البارعة. وإذا دققنا النظر في هذه الحروب فإن القائد العسكري ليعجب من هذه السرعة التي لو سارتها الجيوش دون معارك لما قطعت هذه المسافة، أو احتلت تلك المساحة في فترة خلافة أبي بكر الصديق، فقد خاضت الجيوش العربية أكثر من خمس وعشرين معركة،(2)وقطعت مسافة أكثر من عشرة آلاف كيلو متر، واستولت على مساحة من الأرض كبيرة، شملت أراضي الجزيرة العربية، وجزءاً من أرض العراق وبلاد الشام.
__________
(1) انظر ترجمته عند ابن سعد- الطبقات: 7/ 394، الزبيري، نسب قريش: 275، البلاذري - فتوح البلدان: 133، ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/ 108، ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/ 963، ابن حزم- جمهرة أنساب العرب: 1/ 135، ابن الأثير أسد الغابة في معرفة الصحابة: 2/ 102، أكرم - سيف الله: 15 وما بعدها.
(2) انظر حروب الردة عند الطبري - تاريخ الأمم و الملوك: 2/463-535، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/336-378، وفتوح العراق عند الدينوري - الأخبار الطوال: 111-112، وفتوح الشام عند الواقدي: 2 ومابعده، الأزدي، فتوح الشام: 1 وما بعدها.(1/8)
إن ما يميز القادة إنما هي الصفات الانسانية التي يتحلون بها، ورحمتهم لمرؤوسيهم، والعطف الأبوي الذي ينشرونه على الإخوة والأبناء وبني البشر. فقد كان أبو بكر رحيماً بمن يليهم من خدم وأسارى،(1)رقيق القلب بكّاءً،(2)متسامحاً يعفو عن المسيء،(3)فلا يغضب لنفسه،(4)ولا يحقد على عدو. ولاعلى مبغضيه. ولقد كانت تعليماته إلى القادة الذين أرسلهم في مهمات قتالية تتضمن الرفق بالجنود، والمعاملة الحسنة، والابتعاد عن قتل الولد والشيخ والمرأة، وعن عقر البهيمة، وعن هدم الصوامع وإيذاء الرهبان فيها، ومن أقواله: "إذا سرت فلا تضيق على نفسك، ولا على أصحابك في مسيرك، ولا تغضب على قومك ولا على أصحابك.. وإذا نصرتم على عدوكم فلا تقتلوا ولداً ولا شيخاً ولا امرأة ولا طفلاً، ولا تعقروا بهيمة إلا للمأكول، ولا تغدروا إذا عاهدتم، ولا تنقضوا إذا صالحتم، وستمرون على قوم في الصوامع رهباناً.. فدعوهم ولا تهدموا صوامعهم.."(5)
أما السبب في اختيار الباحث هذا الموضوع، فلأنه من الحقبة الزمنية التي تخصصّ بها، وهي: التاريخ في صدر الإسلام، ولأنه الحلقة المكملة والمتصلة بالحلقة التي سبقتها، ولأنه يعمّق ويؤصّل العقيدة القتالية التي أرسى قواعدها ومبادئها الرسول العربي محمد صلى الله عليه وسلم، ولأنه يظهر شخصية أبي بكر الصديق العسكرية، واستراتيجية حربه وفتوحاته.
__________
(1) ابن هشام- السيرة النبوية: 1/319، الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/169، البلخي - البدء والتاريخ: 4/ 192.
(2) ابن شهاب الزهري- المغازي النبوية: 97، الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/ 253.
(3) الجاحظ- العثمانية: 68، 69.
(4) الشيباني- شرح السير الكبير: 1/ 46، الواقدي- فتوح الشام: 1/ 2، 4، 7، الأزدي - فتوح الشام: 12 ومابعدها.
(5) الواقدي- فتوح الشام: 1/ 2، الأزدي- فتوح الشام: 12.(1/9)
أولاً ... : التاريخ في صدر الإسلام. لقد تغلب العرب في هذا الصدر على أعظم دولتين هما الفرس والروم؛ ومن بعدها، تفرقوا قليلاً قليلاً، وتباعدوا عن الانتصار والوحدة إلا ما خلا بعض فترات متقطعة من الحكم.
... ... لقد حمل العرب في هذه الفترة أصولاً ومبادئ جعلتهم يتصدرون منزلة عظيمة بين الأمم؛ ولعل أهم هذه الأصول وأجداها: المعرفة المباشرة دون وساطة بين العربي وخالقه.(1)وهذا مما جعله ينبذ تلك الأصنام، وأولئك الكهنة الذين يتدخلون حين لا يجدي التدخل، والإذعان لله وحده دون الرؤساء والزعماء(2)والسيادة على أساس من الحق والمساواة.(3)والأمر المشترك أي الحكم الجماعي والشورى.(4)والاحتكام إلى العقل.(5)والتبحر في العلم.(6)والجمع بين الدين والدنيا، فللدين خصائصه الذاتية والروحية، وللدنيا الملذات الجسدية.(7)والاستفادة من السنن والقوانين الثابتة.(8)واستكناه الطبيعة وسبر أغوارها والكشف عن مجاهلها.
__________
(1) سورة الأنعام- الآيتان: 40، 41، سورة الكهف- الآية: 110، سورة فاطر- الآية: 14، سورة الزمر- الآية: 3.
(2) سورة الروم- الآية: 13، سورة القصص- الآية: 64، سورة البقرة- الآيتان: 166، 167.
(3) انظر خطبة أبي بكر لما ولي الخلافة عند ابن هشام- السيرة النبوية: 2/ 661، ابن سعد- الطبقات: 3/ 182 ، ابن قتيبة- الإمامة والسياسة: 1/ 14، الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/ 450.
(4) سورة الشورى- الآية: 38، سورة آل عمران - الآية: 159.
(5) سورة يونس - الآية: 101، سورة العنكبوت - الآية: 20، سورة الجاثية- الآية: 5.
(6) سورة الزمر- الآية: 9، انظر فضل العلم عند البخاري- باب العلم: 1، 32 ، ابن ماجه- المقدمة: 17.
(7) سورة الأعراف- الآية: 32، سورة البقرة- الآية: 201.
(8) سورة الأحزاب- الآية: 62، سورة فاطر- الآية: 43، سورة الفتح، الآية: 23.(1/10)
(1)والاعتقاد بأن الحرب طبيعة في الإنسان اقتضتها ضرورة الدفاع ومسلمات السلام؛ ولهذا فلا يجوز إطلاقاً أن يفرض دين، أو تُرد ملّة، أو يساء إلى اعتقاد.(2)والنظر في التطوير وبما يرفع من شأن الإنسان وبما يزيد في علمه وبحثه، وهذا يتنافى مع الجمود أو الرجوع إلى الوراء أو الانحطاط. وصفوة القول: إن العقيدة الجديدة وما تحمله من أصول رفيعة، وأخلاق عظيمة، أثرت على عقلية العربي ونظرته الموضوعية للأشياء وسلوكه وأعماله، فنفت منها ما كان مخالفاً، وثبتت ماكان موافقاً.
__________
(1) سورة ق~ - الآية: 6، سورة الأنعام- الآية 99، سورة الأعراف- الآية: 101.
(2) انظر توجيهات أبي بكر إلى قادته الذين وجههم لقتال الروم عند الشيباني- شرح السير الكبير: 1/ 46، 47، الواقدي- فتوح الشام: 1/ 2-7، المسعودي - مروج الذهب: 1/ 415.(1/11)
ثانياً ... : الحلقة المكملة. كان الباحث قد أعدّ دراسة سابقة في موضوع "الإدارة العسكرية في حروب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم"، ولما لهذه صلة وثيقة بالدراسة التي تبعتها وهي : "الريادة في حروب وفتوحات أبي بكر الصديق رضى الله عنه" آثر أن يكون أبو بكر الذي أعقب الرسول صلى الله عليه وسلم في القيادة هو المعني بهذه الحلقة. لقد تابع أبو بكر الطريق التي رسمها الرسول صلى الله عليه وسلم، فما حاد عنها أبداً ممثلاً بقوله : "والله لو منعوني عَنَاقاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه، (1)وممثلاً بقوله لعمر بن الخطاب في صلح الحديبية: "فاستمسك بغرزه."(2)وأكمل فأرسل بعث أسامة بن زيد، بناءً على ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم قبل موته، وضم هذا البعث كبار قادة الجيش من الصحابة، وحاول بعضهم ثني أبي بكر عما عزم عليه من إرسال هذا البعث فقال: “والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته."(3)وهذا يدل دلالة قاطعة على أن الحلقة التالية هي تتمة للحلقة السابقة.
__________
(1) البخاري -باب الزكاة: 1، 40، باب الاعتصام: 2، باب المرتدين: 3، النسائي- باب الجهاد: 1، باب التحريم: 1 ، أبو يعلى- مسند أبي يعلى: 1/ 69، ناصف- التاج الجامع للأصول: 2/ 8.
(2) الغرز: هو ركاب الدابة الذي يوضع الراكب فيه رجله ليمسكها، وقوله: "فاستمسك بغرْزه" أي تمكن به وأمسكه واتبع قول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله ولا تخالفه أبداً. انظر ابن منظور- لسان العرب: 5/ 386، الزبيدي- تاج العروس: 4/ 63، وانظر نص الحديث عند البخاري- باب الشروط: 15، ابن حنبل- المسند: 4/ 325، 330، المقريزي- امتاع الأسماع: 1/292، 293.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/ 461، 462، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/ 334، الكاند هلوي- حياة الصحابة: 435 437.(1/12)
إن هذه كانت متكاملة الجوانب والأوصاف كسابقتها قولاً وعملاً في الأخلاق والشمائل والحكمة والعقل والرؤية البعيدة والتخطيط والتنظيم والقرارات الحاسمة والقيادة المرنة المستمرة وفي الاتجاه العام في الجوانب السياسية والإقتصادية والفكرية والعسكرية.
ثالثاً ... : العقيدة القتاليّة. إنها العقيدة التي جاء بها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وحياً من ربه إليه بلغة قومه قرآناً عربياً مبيناً، ومن السجايا العربية الفطرية. فلما جاء أبو بكر ساير هذه العقيدة، واستند في تأصيلها إلى قاعدتين أساسيتين أولاهما: الاتباع الصادق والأمين للرسول صلى الله عليه وسلم، وثانيتهما: التطوير المستند إلى العقل والتجربة، والبعد عن الجمود، والمتلائم مع ظروف الزمان والمكان. فهو الذي قاتلت قواته في أرض صحراوية وشبه صحراوية بحيث تبقى الأرض التي اعتادها المقاتل العربي كأساس للقتال عليها،(1)وهو الذي اتخذت قواته التشكيل القبلي في معاركها الحاسمة، وكانت تتصف بالمرونة وخفّة الحركة والمناورة السريعة،(2)كما شكلت "كراديس"(3)قتالية تتلاءم مع ظروف المعركة كما في معركة اليرموك،(4)
__________
(1) انظر قتال أبي بكر في الردة، وفي العراق الذي كان القتال على أطرافه الجنوبية، وفي الشام، وفي معركة اليرموك بالذات عند الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/ 463- 591، ابن الأثير الكامل في التاريخ: 2/ 336- 410، ابن كثير - البداية والنهاية: 6/ 305-352، 7/1602.
(2) انظر حركتي اليمامة واليرموك عند الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/ 508 وما بعدها، الذهبي- تاريخ الإسلام: 1/ 385، أكرم -سيف الله: 204 وما بعدها، غلوب- الفتوحات العربية الكبرى: 297 وما بعدها.
(3) ج كردوس ويعادل كتيبة، وتطلق عادة على كتيبة الخيل. انظر الفيروز آبادي- القاموس المحيط: 2/ 254، الزبيدي- تاج العروس: 4/ 231.
(4) الأزدي- فتوح الشام: 191، ابن عساكر- تاريخ مدينة دمشق: 1/ 537 وما بعدها..(1/13)
ومجموعات يتفاوت عددها حسب المهمة الصعبة وطبيعة العدو والأرض،(1)واستخدمت الخيل في مكانها الصحيح، وأغلب الأمرأنها كانت تقاتل مستقلة، ونفذت الهجمات المعاكسة بأسلوب حديث ومبتكر، ونجح الهجوم المعاكس والهجوم العام، واشتركت النساء مع الرجال في المعارك التي دارت خارج شبه الجزيرة ولا سيما في معركة اليرموك،(2)فكان لها دور في القتال وفي الحراسة، وفي تحضير وتقديم الطعام، وفي رفع المعنويات،(3) وقد طبقت القوات العربية مبادئ الحرب في حروبها مع الفرس والروم.
__________
(1) ابن عساكر - تاريخ مدينة دمشق: 1/ 536 وما بعدها.
(2) الواقدي - فتوح الشام، 1/ 118 وما بعدها: 192 وما بعدها، مخطوطه ابن حبيش- الغزوات الضامنة الكاملة والفتوح الجامعة الحافلة: 162 وما بعدها.
(3) الواقدي - فتوح الشام: 1/ 105، 121، 128، 138، الأزدي - فتوح الشام: 173، الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/597.(1/14)
... ... كان يهدف أبو بكر ويحاول دائماً رفع معنويات جيوشه، وإدخال النظم والأساليب القتالية الجديدة، ويثير فيهم روح الحماسة والشجاعة التي كانت في العرب فطرية، ويقوي فيهم روح الاحتمال، والصبر على المكاره؛(1)و إنه مما يثير الاهتمام والدراسة هو عبقرية القيادة عند أبي بكر وقادته الذين ولاهم قيادة الجيوش والتشكيلات.(2)وكذلك عبقرية التوحيد حيث استطاع الخليفة توحيد القبائل العربية كما كانت في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وسار بها ليفتح العالم في الشرق والغرب.(3)
__________
(1) الواقدي- فتوح الشام: 1/2، 127، 129، الأزدي- فتوح الشام: 2-52، الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/ 590 وما بعدها، ابن زيدان - التمدن الاسلامي 1/ 68.
(2) الواقدي- فتوح الشام: 1/ 118، 139، الأزدي- فتوح الشام: 131- 141، ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/ 112، ديورانت- قصّة الحضارة: 13/ 72.
(3) توحدت القبائل العربية في آخر معارك الردة، وبخاصة في معركة عقرباء، والقضاء على مسيلمة الكذاب، وتوجيه هذه القوة بعد ذلك لفتح العراق والشام. انظر الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/ 513، 556، 563، الذهبي - تاريخ الاسلام: 1/ 358، غلوب- الفتوحات العربية الكبرى: 193- 228.(1/15)
رابعاً ... : شخصية أبي بكر العسكريّة. ما إن استلم القيادة حتى تبين أنه رجل على قدر كبير من اتخاذ المواقف الحازمة؛ فقد اتخذ موقفاً صلباً ضد أولئك الذين تهاونوا أو ترددوا في بعث أسامة، وضد أولئك العرب المرتدين الذين فرقوا بين أركان الإسلام، وكذلك فإنه قرر فتح جبهة العراق ثم الشام، وخرج من حدود شبه جزيرة العرب ليسجل العرب أمجاداً وعزة وكرامة. وقد شكل قراره هذا منعطفاً تاريخياً في حياة العرب إلى يومنا هذا. أهذا الرجل الوديع اللطيف الذي حمل جسماً نحيفاً، تخرج منه هذه القرارات وهذه المواقف الحازمة!؟ إن أحداً لن يصدق بهذا سوى الذين عرفوه عن كثب، وخبروه عن تجربة.(1)ومما زاد في نجاح حزمه شجاعته التي كان يتصف بها؛ فقد قاد وحده معارك ذي القصة والربذة.(2)وقد شهد بهذه الشجاعة علي ابن أبي طالب.(3)وإذ قلنا بأنه صاحب العقل والحكمة؛ فإنما نعني من ذلك الرجل الذي أعلن عن موت الرسول صلى الله عليه وسلم حين وجل عمر والناس، وغابوا عن وعيهم(4)، وذلك الرجل الذي أعلن عن خلافة عمر من بعده.(5)
__________
(1) انظر قول ابن مسعود الذي يعترف فيه بفضل وحزم أبي بكر عند البلاذري - فتوح البلدان: 131، ابن قتيبة- الإمامة والسياسة: 1/ 15، وكذلك فقد أشارت عائشة ابنته إلى مثل هذا انظر ابن خياط- تاريخ ابن خياط: 102، السيوطي - تاريخ الخلفاء: 49.
(2) الحموي معجم البلدان : 3/ 24، 4/ 366، الذهبي - تاريخ الإسلام: 1/ 350، ابن خلدون - ديوان المبتدأ والخبر: 2/ 2/ 66، غلوب - الفتوحات العربية الكبرى: 183.
(3) السيوطي - تاريخ الخلفاء: 26، الحلبي - السيرة الحلبية: 2/ 166.
(4) الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/ 442، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/ 323، 324.
(5) ابن سعد- الطبقات: 3/ 200، الطبراني - المعجم الكبير: 1/ 13، ابن الجوزي- تاريخ عمر بن الخطاب: 50، 51.(1/16)
من أركان القيادة الأساسية، ومن مقوّمات الشخصية العسكرية العلم؛ فقد كان أبو بكر مثقفاً عالماً بذّ الصحابة، واعترفوا له بهذا الفضل، ورجعوا إليه في كل مسألة غامضة؛(1)كما كان على اطلاع واسع بالحروب، وبالخبرة القتالية، ويظهر ذلك من تعليماته القتالية لقادة جيوشه(2)ومن حسن تنفيذه وتوجيهه الجيوش وقيادتها على المستويين التكتيكي والاستراتيجي، والمناورة بها على جبهات واسعة وبعيدة، وتخطيطه لها في قتال التلاقي ولا سيما في العراق.(3)
كل ذلك، ولهذه الأسباب جميعاً، تحملني على أن أفرد بحثاً خاصاً بأبي بكر الصديق، الذي أعاد وحدتهم، وشق لهم طريق النصر والفتوحات، وعمّ في فتحه الرحمة والإنسانية، وأسس في حربه عقيدة قتالية متجددة ومتطورة، مصدرها الإيمان، وعنوانها السّلام.(4)
وإني وإن كنت مديناً، فإني مدين لرئيس قسم التاريخ في جامعة دمشق الذي أخذت الكثير من وقته وكتبه وتعليماته، والذي كان حريصاً على أن يكون هذا العمل رائداً ومكتملاً من كل الجوانب.
ولا يفوتني إلا أن أشكر كل الذين شاركوا، أو اطلعوا، أو قرأوا بحثي هذا، فإليهم جميعاً كل تحية وتقدير.
((
خطّة البحث
__________
(1) ابن سعد - الطبقات: 3/ 177، 178، ابن حزم - المفاضلة بين الصحابة: 234، 239، السيوطي - تاريخ الخلفاء: 30، ناصف- التاج الجامع للأصول: 3/ 400.
(2) الواقدي - فتح الشام: 1/ 4، 7، 8، البلاذري - فتوح البلدان: 155، غلوب- الفتوحات العربية الكبرى: 234.
(3) الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/ 553، ابن الأثير - الكامل في التاريخ: 2/ 147.
(4) الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/ 551، العقاد - عبقرية الصديق: 150.(1/17)
حاولت في هذه الدراسة أن أبرز الجوانب العسكريّة عند أبي بكر الصديق، مستنداً إلى ذلك على أهم المصادر والشخصيات التي كانت معاصرة لهذا البطل المتمكن من خطوته، وعلى بعض الكتّاب الأخصائيين الذين بحثوا ونقبوا؛ فتبيّن لي؛ أن أبا بكر لم يكن بالرجل العادي، وإنما كانت له خصائص عسكريّة، تفرد بها، كما تفوق على غيره في المسائل التخطيطية الاستراتيجية، وقيادة الجيوش.
لقد تضمنت هذه الخطة سبعة فصول، ومُدْخل تعريف تقويمي بأهم المصادر الذي أشير فيه إلى المصادر الرئيسية، وإلى أهم الأعلام الذين كان لهم باع كبير في الكتابة عن حروب الردة، وفتوحات العراق والشام.
الفصل الأوّل ... : تضمّن حروب أبي بكر الصديق في الفترة النبوية في المدينة، والتي أهلت أبا بكر للقيادة، وممارسة الأعمال القيادية بشكل ملموس وتجريبي، كما ساعدته فيما بعد على أن يكون قائداً استراتيجياً، وبطلاً نموذجياً، أعاد إلى العرب وحدتهم، وإلى القبائل العربية عزتها ومنعتها؛ فقد حمل اللواء، وكان نائباً للرسول صلى الله عليه وسلم في المعارك، وأمين سره، والمدافع عنه، وقاد سراياه، واستلم ميمنة الجيش في معركة حنين وبذل النفس والمال.(1/18)
الفصل الثّاني ... : مسارح العمليات. في شبه جزيرة العرب، وفي العراق ثم في الشام. ثلاثة مسارح. الأول صحراوي، ومتسع الجوانب ومكشوف الأجنحة. الماء فيه قليل، والطرقات تحددها المياه. وفيه بعض المدن والقرى المتباعدة عن بعضها، وتقل كثافة السكان في قلب الصحراء، وتزداد على الساحل، وفي الواحات؛ أما الثاني فقد كان على طول نهر الفرات من أسفله إلى وسطه، وفيه بعض المستنقعات والروافد، كما أن درجات الحرارة قد تكون أقل من الأول، وفي كل الأحوال فإن أطراف العراق هي امتداد للمسرح الأول، وعليه فإنه لن يكون متغيراً إلى درجة كبيرة يصعب فيه القتال، إذ حاول الجيش العربي الاسلامي أن يكون من طرف الصحراء ومن الجهة الجنوبية؛ أما المسرح الشامي وهو الثالث، فتكثر فيه الأنهار والأشجار، وتزداد فيه المواد التموينية، وتتوفر فيه المصادر المحلية.
... ... وهناك بعض المواقع التي تؤمن الشروط القتالية الملائمة لقتال هذا الجيش.
الفصل الثالث ... : حروب الردة. وما رافقتها من مصاعب في التحضير والإعداد، ومن خروج بعث أسامة في الوقت الذي ارتدت فيه أغلبية القبائل العربية. لقد خلت المدينة من مقاتليها، ولم يبق سوى عناصر القيادة، وبعض الرجال. ومع كل هذا، فقد أعلن أبو بكر القتال، وقاد بنفسه العمليات الحربيّة، والدفاع عن المدينة، ووصل في معاركه الأولى إلى ذي القصة والربذة، وقاتل المرتدين ودحرهم. ثم شكل أحد عشر لواءً حركهم إلى جهات مختلفة من شبه جزيرة العرب. وقاتل كل لواء إما لوحده، أو متعاوناً مع آخر. وكان السبق في هذه الأولوية لخالد بن الوليد الذي قاد لواءه، أو مجموعة الألوية التي كانت تُضم إليه، وقاتل في أعنف المعارك ضد مسيلمة الكذاب في اليمامة. وخلال سنة من حروب الردة قُضي على المناوئين، وعادت وحدة شبه جزيرة العرب كما كانت في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم.(1/19)
الفصل الرّابع ... : فتوح العراق. أعلن أبو بكر الحرب، وأرسل في المدائن، وفي القبائل يدعوهم إلى التطوع. وهرعت واستجابت اليمن، وقبائل الأزد، وغيرها، وأعطيت التوجيهات بالبدء من أسفل العراق بقيادة خالد بن الوليد، وعياض بن غَنم من أعالي العراق، واستولى جيش خالد على المدن النهرية: الأبلة وكاظمة والمذار والولجة والحيرة ووصل إلى الأنبار، وقاتل وساعد جيش عياض الذي توقف في دومة الجندل لكثرة المقاومات التي خرجت عليه والتي أوقفته وعوقته عن مهمته. ثم تضمن هذا الفصل تاريخ فتح العراق، وحجم الجيش، والاستطلاع، والتسليح، وفن الحرب عند العرب، وعند الفرس، وسير المعارك.
الفصل الخامس ... : فتوح الشام، تحركت الجيوش تتبع بعضها بعضاً وفي اتجاهات مختلفة، باتجاه الهدف الرئيسي وهو الشام. ثم أعطيت الأوامر إلى خالد أن يتحرك بجيشه من العراق إلى الشام أيضاً. ووقعت لهذه الجيوش جميعاً بعض المعارك الجانبية وهي في طريقها إلى أهدافها؛ جيش يزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص، وجيش أبي عبيدة بن الجراح، اجتمعت بقيادة خالد في عهد أبي بكر الصديق، وخاض بها معارك النصر والفخار، منها: أجنادين، مرج الصفر، حصار دمشق، ولما توفي أبو بكر قاد هذه الجيوش أبو عبيدة؛ ولكنه ظلت لخالد تلك المكانة الرفيعة عند أبي عبيدة، وتعاونا، وكانت ثمرة هذا التعاون الانتصار الساحق في معركة اليرموك.(1/20)
الفصل السادس ... : الريادة والقيادة. أبو بكر لما تميز به من صفات القيادة، فهو الحازم والشجاع في المعارك، وهو الذي جاد بماله كله، وصحب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كان واسع الثقافة والاطلاع، وصاحب الماضي المجيد، والموازن بين التخطيط والتنفيذ، وهو الذي حافظ على وحدة الفكر والعقيدة في الجيش، وأرسى دعائم الوحدة الوطنية والقومية، وتفرغ للقيادة، وأمدّ المقاتلين بأعداد متتالية، وأقر مبدأ التعاون، وأعطى التوجيهات العملياتية، واستخدم الاحتياط الاستراتيجي، وهو الذي طبّق مبدأ الهجوم على المستويين التكتيكي والاستراتيجي، وناور بالقوى والوسائط باتجاهات مختلفة، وحرك الجيوش المتلاقية، وفتت العدو نفسياً ومادياً، وقاد مركزياً الجيوش المختلفة من المدينة.
الفصل السابع ... : قادة الجبهات والتشكيلات. في مسرح عمليات شبه جزيرة العرب، كان من أبرزهم خالد بن الوليد، عمرو ابن العاص، وخالد بن سعيد بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل، وشرحبيل بن حسنة. وفي مسرح عمليات العراق وبالإضافة إلى خالد المثنى بن حارثة الشيباني، وعياض بن غنم، ومذعور بن عدي، وعدي بن حاتم. وفي مسرح عمليات الشام بالإضافة إلى خالد ابن الجراح، قادة الكراديس. ولقد أجريت دراسة تناولت شخصية هؤلاء القادة العسكرية والقيادية، ودور كل واحد منهم في المهمة الخاصة التي كلف بها، والمهمة العامة وهي تحقيق الهدف العام الاستراتيجي.
الخاتمة ... : برزت ملكات أبي بكر القيادية والعسكرية بعد أن تولى الخلافة، وشرع في تسيير وتحريك الجيوش، وقيادتها في مختلف الجبهات، وتمّ له الانتصار في جميع المعارك التي تصدى لها، وقد أثر على غيره من القادة بسلوكه الحازم والشجاع، وبالإيمان القوي بعقيدته، والجهاد في سبيل الله.(1/21)
إن انتصار الجيوش يعود إلى حسن التدريب، وتطبيق مبادئ القتال، وعبقرية القادة، والقوة المعنوية التي تحلى بها المقاتلون، والتعاون، والتنسيق بين القيادات والجيوش المختلفة.
توالت الفتوحات بعد وفاة أبي بكر الصديق، وكان الانتصار رائدها. وقد أكمل عمر بن الخطاب تلك الفتوحات مستنيراً بهدي المعلم الأول الرسول صلى الله عليه وسلم وخليفته من بعده.
مُدْخَل
تعريف تقويمي بأهم المصادر
ما أكثر ما كتب عن حروب الردة، وفتوح العراق، وفتوح الشام، وما أكثر ما اقترن اسم أبي بكر الصديق بهذه الحروب والفتوح. فهو في لسان وقلم القدماء، كما هو في لسان وقلم الحديثين، فقد أكثر هؤلاء وهؤلاء، وامتلأت المكتبات والخزائن بالمؤلفات القديمة والحديثة عن هذا القائد العظيم والمكين الأمكن. وما زال الباحثون يستزيدون وينقبون ويستنبطون إلى أن تطوى الأرض طي السجل للكتب، وينتهي هذ الكوكب ومن عليه.
نجد مواد هذا البحث مبثوثة في كتب السيرة والفتوح والمغازي والتاريخ والحديث والفقه والسنن والمعاجم والشمائل والتراجم والجغرافية التاريخية والخرائط الطبيعية والاقتصادية؛ كما نجد هذه المواد في الكتب الحديثة المختلفة من عربية وأجنبية ومعرّبة، وكلها تحكي سيرة أبي بكر وتتحدث عن حروبه وفتوحاته.
لعل أهم المصادر هي تلك الكتب القديمة التي كانت قريبة من الأحداث، والتي أسندت إلى أولئك الرجال الذين شاهدوا تلك المواقع والغزوات، وإلى أولئك الذين كانوا نقلة صدق، ونقلوا الحديث غضاً طريّاً. ولقد كانوا على درجات من الثقة، وأغلبهم كان من الثقاة، ومن المشهود لهم بالأمانة وحسن التعهد.(1/22)
إن القرآن الكريم ذكر أبا بكر تلميحاً في عدة مواضع منها: المصاحبة للرسول صلى الله عليه وسلم: "إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم".(1)ومنها الإنفاق والحث على الجود بالمال الذي هو جزء من إرادة القتال: "ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم".(2)كما ذكر الحديث أبا بكر تصريحاً في عدة مواضع منها: الاقتداء بأبي بكر(3)، والصلاة،(4)وردّ أمر المسلمين إليه في حال غياب الرسول صلى الله عليه وسلم(5)، وغيرها من الأمور الكثيرة التي تدل على منزلة ومكانة أبي بكر وفضله وقيادته.
__________
(1) سورة التوبة- الآية: 40، القرطبي - تفسير القرطبي: 4/ 2983 وما بعدها.
(2) سورة النور - الآية: 22، وجدي - المصحف المفسر: 460، الجاحظ- العثمانية: 55.
(3) الترمذي - باب المناقب: 16، 17، ابن ماجه -المقدمة: 11 ، الحميدي- السنن: 1/ 214.
(4) البخاري- باب الأذان: 106، الترمذي- باب المناقب: 16.
(5) ابن سعد- الطبقات: 3/ 178، ابن عبد البر - الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3/ 969.(1/23)
تحدثت كتب السّيَر النبوية عن حروب أبي بكر في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، وتناولت صفات أبي بكر الشخصيّة والعسكرية والإنسانية، وبينت مواقفه من كثير من الأحداث، وتصرفه لقاء المهمات المكلف بها، وأهم هذه السّير: المغازي النبوية لابن شهاب الزهري، السيرة النبوية لابن هشام، الاكتفاء للكلاعي، وعيون الأثر لابن سيد الناس، امتاع الأسماع للمقريزي، والسيرة الحلبية للحلبي، ويلاحظ على هذه السير أن أغلبها منقول عن ابن اسحاق والواقدي وغيرهما؛ إلا أن المتأخرين أكملوا ما كان ناقصاً في بعض السير، وشذّبوا تلك المعلومات، ونسقوها بإطار جديد كالذي نراه في عيون الأثر لابن سيد الناس، وإمتاع الأسماع للمقريزي.
وبشكل أدق، وبصورة أكثر تفصيلاً، تناولت كتب سيرة أبي بكر الصديق من لدن حياته إلى وفاته، وتعرضت لكثير من صفاته الحربية، ومضائه وشدته في حروب الردة، واستراتجيته في فتوح العراق والشام، وأهمها: تاريخ الخلفاء لابن ماجه، والعثماينة للجاحظ، والأوائل لأبي هلال العسكري، ورسالة في المفاضلة بين الصحابة لابن حزم الأندلسي، وخصائص العشرة الكرام البررة للزمخشري، وتاريخ الخلفاء للسيوطي، ويلاحظ مما تقدم أن ابن حزم كان أكثر جرأة في التكلم عن أبي بكر، وتفضيله على غيره من الخلفاء بأدلة مقنعة، وببراهين صادقة.(1/24)
فإذا ما انتقلنا إلى كتب التاريخ نرى صفحاتها قد ملئت بأخبار أبي بكر الصديق وفتوحاته؛ وإذا كان بعضها قد أطنب في الأخبار، وبعضها الآخر قد أسهب فيها وأهمها: تاريخ اليعقوبي لابن واضح، وتاريخ الأمم والملوك للطبري، والبدء والتاريخ للبلخي، والكامل في التاريخ لابن الأثير، وتاريخ الإسلام للذهبي،والفتوحات الإٍسلامية لدحلان. وإذا دققنا النظر في هذه الكتب نرى الطبري قد فصل في كتابه وأسهب، وأتى بروايات لم يأت بها أحد من قبل ومن بعد، فهو الذي ذكر قادة الكراديس، واعتنى كثيراً بالتشكيلات القتالية، والبنية التنظيمية للجيوش العربية. ولم ينس أبداً قادة الميمنة والميسرة والقلب والطليعة والساقة. وإن أهم شيء ذكره هو التشكيل القبلي في كل من معركتي اليمامة واليرموك.
وإذا ما تركنا هذه الكتب التاريخية العامة، وانتقلنا منها إلى الكتب الاختصاصية التي منها ما يختص بحروب الردة، ومنها ما هو بفتوح العراق، ومنها ما هو بفتوح الشام، ومنها ما جمعت كل هذا ؛ ويبدو أن هذه الكتب جميعاً فيها تفصيلات كثيرة، وأخبار دقيقة عن مجريات الأمور، وتحريك الجيوش، وإرسال الرسائل والكتب المتبادلة بين قادة المعارك وبين القائد الأعلى في المدينة؛ كما أن هذه الكتب هي أقدم الكتب التاريخية وأصدقها وأوثقها. وأهمها: فتوح الشام للواقدي، فتوح الشام للأزدي، فتوح البلدان للبلاذري، الفتوح لابن أعثم الكوفي، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر، الغزوات الضامنة الكاملة والفتوح الجامعة الحافلة لابن جبيش. وسوف نتطرق إلى شيء من التفصيل عن هؤلاء؛ كما نذكر أهمية مؤلفاتهم ودورها في موضوع هذا البحث فيما يأتي.(1/25)
ومما يلفت النظر كثرة كتب الحديث والفقة وأصول التشريع التي تتعرض لسيرة أبي بكر الصديق وحياته. نجدها متفرقة في جنبات هذه المؤلفات، وبخاصة في أبواب المناقب والفضائل والجهاد. منها: الموطأ لمالك، المسند لأبي حنيفة، المسند للحميدي، السنن للدارمي، الصحيح للبخاري، الصحيح لمسلم، السنن لأبي داود، السنن لابن ماجه، السنن للترمذي وغيرها. ولدى مطالعة هذه الكتب نجد لصحيح البخاري تلك المنزلة الكبيرة للمنهجية التي اتبعها، والتحري الذي سلكه، والعهد الذي أخلص له، والصدق الذي اتصف به ، والمعلومات التي جمعها.
إن لكتب الجغرافية والبلدان والخرائط الطبيعية دوراً كبيراً في مسارح العمليات الثلاثة في شبه جزيرة العرب والعراق وفي الشام؛ كما أن هذه المؤلفات تعطي الباحث ملامح إدارية عن الاحتياجات المادية، والوسائط المحلية، وعن محاور الطرق، وميول الأرض، والجداول، والأنهار، والعيون، وغير ذلك. من هذه الكتب: المسالك والممالك لابن خرداذبه، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم للمقدسي، معجم ما استعجم للبكري، آثار البلاد وأخبار العباد للقزويني، معجم البلدان لياقوت الحموي، الإشارة إلى معرفة الزيارة للهروي، ويبقى معجم البلدان هو أهم هذه المؤلفات، ذلك أنه تضمن كل مقومات المسرح العملياتي، وكان واضحاً في كل المعلومات التي أدلى بها، وبخاصة المحاور والمدن والأماكن التي كانت مسرحاً للعمليات العسكرية.(1/26)
ازدحمت كتب التراجم بمعلومات مفصله، وأخبار مطوله عن حياة القائد الأعلى وقادة الجبهات والتشكيلات الذين قاتلوا في الردة وفي الفتوحات في عهد أبي بكر الصديق، وتناولت هذه الكتب القادة من مختلف جوانبهم السياسية والعسكرية والشخصية، منوهة بالأعمال البطولية التي قاموا بها، والمعارك التي خاضوها، والمحاور التي سلكوها، وأهم التراجم: الطبقات الكبرى لابن سعد، نسب قريش للزبيري، المحبر لابن حبيب، الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر، أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير، سير أعلام النبلاء للذهبي، الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر. وتدل طبقات ابن سعد على غزارة المعلومات، وتسلسل الأحداث، وصدق الرواية، وحسن التصنيف، كما كان لكتاب نسب قريش للزبيري دور هام في الانتماء والتسلسل النّسبي، واختيار القادة، ووضعهم في المرتبة التي يستحقونها.
وكذلك فإن المراجع الكثيرة، قد انتشرت في المكتبات، وفي الأقطار العربية وغير العربية. وكلها تحكي سيرة أبي بكر الصديق ومناقبه وحروبه، وسيرة قادته الذين قاتلوا تحت إمرته وأبرزهم خالد بن الوليد وأبو عبيدة ابن الجراح والمثنى بن حارثة الشيباني وغيرهم. وقد اخترت من هذه الكتب العديدة: قادة فتح العراق والجزيرة، وقادة فتح الشام لخطاب، ومعارك خالد بن الوليد لسويد، وتاريخ الأمم الاسلامية، وإتمام الوفاء في سيرة الخلفاء للخضري، وتاريخ الرده لفارق، وعبقرية الصديق للعقاد، والصديق أبا بكر لهيكل، و "الشيخان" للدكتور طه حسين، والطريق إلى المدائن، والطريق إلى دمشق لكمال، وتاريخ آداب اللغة العربية لزيدان. وفي الحقيقة فإن الكتب الحديثة يقتصر التجديد فيها على الاستنباط، والمنهجية، والأداء، والتوضيح، والتعليق. وكلها تستند إلى المصادر القديمة، والكتب التي ألفها الأولون؛ كما أنها تسلط الأضواء على بعض الأحداث، أو بعض الشخصيات من القادة. الذين كان لهم دور كبير في معارك الفتوح.(1/27)
وإنْ أنس لا أنس تلك الكتب المعربة وأهميتها العسكرية، ودورها الكبير في إكمال جوانب هذا البحث ألا وهي: سيف الله خالد بن الوليد للجنرال أكرم، والفتوحات العربية الكبرى لغلوب. وقد أتى المرجع الأول ففصل في معارك خالد وشخصيته العسكرية والقيادية، وحلل دروس المواقع العسكرية، وحجم الجيوش المتقاتلة، والقوى والوسائط، كما أتى المرجع الثاني على أهم المعارك التي خاضتها القوات العربية الإسلامية، وأضاف شيئاً جديداً ألا وهو التحقيق والمناقشة في كل مسألة عسكرية، وبخاصة في محاور القتال، وفي التحرك ، وأمكنة التمركز والأسلحة والوسائط.
بعد إلقاء نظرة سريعة على أهم المصادر والمراجع، وبعد تقويمها، يجدر بنا ألا نغمط حق أولئك الكتاب والمؤلفين الذين تصدروا ذلك الجمع، والذين برزوا في الكتابة. فهم النبع الذي تفجر وسقى كل الأراضي التي كانت في طريقه. وهم أول من كتب في الردة، وفي الفتوح. وهم الذين أعطوا وبذلوا من أموالهم وأنفسهم لإتمام تلك المؤلفات القيمة والكتب النادرة. وأهم هؤلاء الأعلام:
محمّد بن اسحاق بن يسار المطلبي
(151/ 768)(1/28)
مؤرخ قديم. كتب في السيرة النبويّة، وفي الخلفاء.(1)روى عن عدد كبير من العلماء والصحابة الذين شاهدهم، أمثال سعيد بن كعب بن مالك، ومحمّد بن جعفر ابن الزبير، والزهري، وابراهيم بن عبد الرحمن بن عوف وغيرهم.(2)وقد شهد بثقته كثير من المعاصرين والناقدين.(3)كان ابن اسحاق متخصصاً في المغازي وفي سيرة الخلفاء. ومما أعانه على ذلك حافظته، واستيعابه للأحداث، واهتمامه بها حتى قال عنه ابن شهاب الزهري: "هذا أعلم الناس بها."(4)أي بالمغازي. والترجيح في أقوال العلماء أنه كان ثقة وعالماً بهذا الفن، وأنه كان يتحرى الصدق والصحة فيما يرويه، فلا يجاريه أحد في سياق الأخبار وفي جمعها.(5)ولا بالتفاصيل الدقيقة، فهو بحق يعتبر رائداً، وكل من أتى بعده فهو مدين إليه، آخذ عنه. وإن أول من كتبوا عنه أو أخذوا من سيره ابن هشام الذي اعترف بذلك، بيد أنه ترك أموراً كثيرة،(6)ولذلك فقد جاءت سيرة ابن هشام تهذيباً لما فصل فيه ابن اسحاق.
لقد أدرك ابن اسحاق بعض صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم فرأى أنس بن مالك وغيره، وسمع القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وأبان بن عثمان بن عفان، ومحمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وابن شهاب الزهري.(7)
__________
(1) الزركلي- الأعلام: 6/28.
(2) ابن حجر-تهذيب التهذيب: 9/38، 39.
(3) ابن حجر- تهذيب التهذيب: 9/39، 40.
(4) ابن حجر- تهذيب التهذيب 9/39 وما بعدها.
(5) ابن حجر- تهذييب التهذيب: 9/44 وما بعدها.
(6) ابن هشام- السيرة النوية: 1/7.
(7) الخطيب- تاريخ بغداد: 1/214، 217، 218، ابن سيد الناس - عيون الأثر: 1/8، الذهبي- تذكرة الحفاظ: 1/ 163، الذهبي- ميزان الاعتدال: 3/ 21.(1/29)
ويقول ابن اسحاق: "رأيت أنس بن مالك عليه عمامة سوداء والصبيان يشتدون ويقولون هذا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يلقي الدجال" وقال: "أدركت سعيد بن المسيب وأنا غلام."(1)ومن كان في منزلة السمع والبصر من هؤلاء، فقد أخذ منهم الكثير، وبخاصة فيما يتعلق بالمغازي. ولهذا فإنه قد جمع المعلومات كبيرة حول الرعيل الأول وأخبارهم، ثم أفرغها في مؤلفات عديدة. ولا نشك فيما كتب، إذ استطاع أن يستعين في كتابته من مصادر ممن حضروا تلك المواقع، أو سمعوا بها، أو نقلوها عن آبائهم وأقربائهم. وقد أجمع المحدثون الذين أتوا من بعده، ونقلوا عنه على أنه كان من أصحاب السيرة، وقد اعترفوا بفضله وسعة اطلاعه بهذا العلم(2)تردد ابن اسحاق على الزهري، وسمح له بمراجعته في أي وقت يشاء. وقد أثنى عليه بقوله: " لايزال في المدينة علم جم ما كان فيهم ابن اسحاق." وقال: " لا يزال بالمدينة علم ما بقي ابن اسحاق." وسئل ابن شهاب عن المغازي فقال: "هذا أعلم الناس بها" ويقول الشافعي: "من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على ابن اسحاق."(3)ويستدل من هذه الأقوال أن ابن اسحاق كان عالماً بالمغازي خبيراً بها، واسع الاطلاع على دقائقها، يتحراها من صدور الرجال الذين شاهدوها، أو نقلوا عن مشاهديها، وإنه في هذا يعتبر رأس المؤلفين الذين كتبوا في السيرة والمغازي.
__________
(1) الخطيب - تاريخ بغداد: 1/ 215، 216، الذهبي - تذكرة الحفاظ: 1/ 164.
(2) الخطيب - تاريخ بغداد: 1/ 214، 217، الذهبي- ميزان الاعتدال: 3/ 21.
(3) الخطيب - تاريخ بغداد: 1/ 219، ابن سيد الناس - عيون الأثر: 1/ 8، 9، الذهبي - ميزان الاعتدال: 3/ 23.(1/30)
لابن اسحاق ذاكرة قوية، ساعدته على حفظ الأخبار والأحاديث، فكان الرجل يستودع ابن اسحاق في أحاديث سمعها. وكانوا يقولون: "كأن ابن اسحاق أحفظ الناس." ولعل هذه الميزة جعلته يتفوق على كثير من أقرانه من الذين كتبوا في هذا العلم.
إنه صاحب اختصاص. فكأنه تفرغ لهذا العلم وتخصص به، حتى كدته يدرك دقائق الأمور وشواردها، ويأتي على التفاصيل والحوادث الصغيرة التي ضاعت على أمثاله. وكان تلامذته يقولون: "كنا إذا جلسنا إلى محمد بن اسحاق فأخذ في فن من العلم، قضى مجلسه في ذلك الفن."(1)
صنف ابن اسحاق كتاب السيرة بناءً على طلب الخليفة المنصور، وقد أطال، فطلب إليه اقتصاره، ثم أودع لسلمة، وهكذا منه إلينا وصلت أخبار الغزوات والسير ممثلة في سيرة ابن هشام.(2)وقد روى سلمة عنه كما روى آخرون أمثال محمّد بن سليمان الحراني، ويونس بن بكير ويزيد بن هارون وغيرهم.(3)
يرى ابن سيد الناس في ابن اسحاق أنه رجل أوتي علماً غزيراً، لاسيما فيما يتعلق بالمغازي والأخبار، وهو وإن طعن فيه الطاعنون، فهو يرقى بعلمه الذي اختص به، وبالأقوال التي قيلت بحقه من قبل الزهري ومالك والبخاري وغيرهم الذين أثنوا عليه وباركوا عمله وكتابته. وقد فنّد ابن سيد الناس مزاعم الذين قالوا شراً في ابن اسحاق.(4) ووجد له من الأعذار ما يشجع على الأخذ منه، والثقة بكتاباته. ولا ننسى فإن ابن سيد الناس قد أخذ من كتاب "عيون الأثر" الكثير من المعلومات عن ابن اسحاق.(5)
__________
(1) الخطيب - تاريخ بغداد: 1/ 220، ابن سيد الناس - عيون الأثر: 1/9، الذهبي- ميزان الاعتدال: 3/ 23.
(2) الخطيب - تاريخ بغداد: 1/ 221، زيدان- تاريخ آداب اللغة العربية: 2/ 175.
(3) الذهبي - تذكرة الحفاظ: 1/ 163، الذهبي- ميزان الاعتدال: 3/ 21.
(4) ابن حجر - طبقات المدلسين: 18، ألفية العراقي: 26 وما بعدها.
(5) ابن سيد الناس- عيون الأثر: 1/ 8- 17.(1/31)
إن الذي يلفت النظر أن جميع المؤلفين الذين أتوا بعد ابن اسحاق كانوا يأخذون منه بأغلب معلوماتهم التاريخية. تلك التي تتعلق بالمغازي، أو الردة، أو حروب العراق، أو فتوح الشام. فإن ابن خياط في تاريخه قد أخذ منه الكثير، وكذلك الطبري في كتابه تاريخ الأمم والملوك، وكذلك ابن عساكر في كتابه تاريخ مدينة دمشق، وابن كثير في كتابه البداية والنهاية. وهكذا فما رأيت مؤلفاً قديماً أو حديثاً إلا كان ابن اسحاق في تلك المؤلفات، فهو الذي أعطى لهذا العلم حقه ومستحقه، ولا نزال حتى الآن نرجع إليه في كل ما كتبنا عن الردة والفتوح والمغازي، وتتميز كتابته بأنها كانت مفصلة وطويلة وكاملة.(1)
أبو العبّاس الوليد بن مسلم
(195/ 810)
مولى لقريش، عالم الشام، ويطلق عليه "الحافظ الأموي" كتب في المغازي، وفي التاريخ، وفي السنن، وله كتب في ذلك أشهرها: "المغازي" ، "السنن"(2)وقد اعتبر من الثقاة فيما يرويه عن جندب البجلي وحمران بن أبان وطلحه بن نافع وغيرهم.(3) لا يسبقه إلى الملاجم أحد، ولا يدانيه في الكتابة أولئك الذين كتبوا عن المغازي، فهو يحفظ الأبواب، ويصنف الحوادث، ويضعها في مكانها، ويحدد لها ترتيبها.(4)
__________
(1) ابن حجر - تهذيب التهذيب: 9/ 46، ابن العماد الحنبلي - شذرات الذهب: 1/ 230.
(2) ابن النديم - الفهرست: 1/ 165، 332، البغدادي - هدية العارفين: 2/ 500، الزركلي - الأعلام: 8/ 122.
(3) ابن حجر- تهذيب التهذيب: 11/ 151.
(4) الذهبي- ميزان الاعتدال: 3/ 275.(1/32)
هو من القراء المعدودين، ومن أهل دمشق المعروفين، وقد شهد بعلمه وسعة اطلاعه علماء كثيرون وقالوا عنه بأنه صنف سبعين كتاباً(1)أخذ عنه كثيرون أمثال ثور بن يزيد، وهشام بن حسان، والأوزاعي؛ كما تحدث عنه أحمد بن حنبل، وأبو خيثمة، وموسى بن عامر وغيرهم. وهؤلاء جميعاً كانوا يعتبرونه ثقة فيما يقول، وإنه عندهم لصادق(2). وقال ابن المديني الذي أخذ عنه: "كان الوليد بارعاً في حفظ المغازي."(3)وقال أحمد بن حنبل: "مارأيت في الشاميين أعقل منه."(4)
لقد اعتبر الوليد من الموصوفين بالتدليس(5) الشديد مع الصدق، ومن الطبقة الرابعة،(6)إذ أخذ عن محدثين كذابين كإبن السفر، ونافع وغيرهما؛ ولذلك اتهم بالتدليس.(7) ومهما قيل في الوليد بن مسلم فإنه يبقى شيخ المحدثين في المغازي، وله باع طويل في هذا العلم. وقد أثبت بعض العلماء في عصره تلك البراعة والقدرة على التأليف والتصنيف في هذا العلم، واعتبروه أهلاً له، وصاحب المصنفات العديدة.(8)
__________
(1) الذهبي - تذكرة الحفاظ: 1/ 279، ابن الجزري- غاية النهاية في طبقات القراء. 2/ 360.
(2) الذهبي - تذكرة الحفاظ: 1/ 278.
(3) الذهبي - تذكرة الحفاظ: 1/ 279.
(4) الذهبي - تذكرة الحفاظ: 1/ 279، الذهبي - ميزان الاعتدال: 3/ 275.
(5) التدليس يكون إما في الإسناد، وإما في الشيوخ، وإما في المتن، انظر المعنى مفصلاً عند ابن حجر - طبقات المدلسين: 2،3، وانظر ألفية العراق: 26، وانظر دائرة المعارف الاسلامية: 5/ 2/ 10 وما بعدها.
(6) ابن ججر- طبقات المدلسين: 18، ألفية العراقي: 26، 27، الذهبي ميزان الاعتدال: 3/ 275.
(7) الذهبي- ميزان الاعتدال: 3/ 275، ابن العماد الحنبلي شذرات الذهب: 1/ 344.
(8) ابن العماد الحنبلي- شذرات الذهب: 1/ 344.(1/33)
روى عنه البلاذري فيقول: "حدثنا الوليد بن مسلم" في كتابه "فتوح البلدان"(1)؛ إلا أنه لم يعتمد عليه كلياً، بل اعتمد على غيره من المحدثين أمثال أبي رباح اليمامي، والقاسم بن سلام، وبكر بن الهيثم وغيرهم، وكذلك روى عنه ابن عساكر في كتابه "تاريخ مدينة دمشق".
سيف بن عمر الأسدي التّميمي
(200/ 815)
كتب عن الفتوح والردة. وله كتابان في هذا: "الفتوح الكبير"، "الردة" وكتابٌ آخر "الجمل"(2)روى عن عدد من المهتمين بالفتوح والمغازي أمثال موسى بن عقبة، ومحمد بن اسحاق، ومحمد بن السائب الكلبي وغيرهم ممن سبقوه، وكان لهم باع طويل في هذا العلم(3)؛ إلا أن بعض الناقدين شكوا في روايته، وقوة حديثة كالواقدي في ترك الحديث وضعفه، وتحتاج إلى إثبات وصدق.(4)
__________
(1) الذهبي - ميزان الاعتدال: 3/ 275.
(2) ابن حجر - تهذيب التهذيب: 4/ 295، البغدادي- هدية العارفين: 1/ 413، الزركلي - الأعلام: 3/ 150.
(3) ابن حجر- تهذيب التهذيب: 4/ 295.
(4) ابن حجر - تهذيب التهذيب: 4/ 295، 296، ألفية العراقي: 29.(1/34)
روى عنه الطبري في تاريخه فيقول: "أخبرنا سيف بن عمر"(1). وسيف بهذا يروي حديث الردة منذ أن قام أسامة بن زيد فقاد الجيش الذي كلفه به الرسول صلى الله عليه وسلم، ومما رواه سيف قائلاً: "لما بويع أبو بكر رضي الله عنه وجمع الأنصار في الأمر الذي افترقوا فيه قال: ليتم بعث أسامة وقد ارتدت عنه العرب إما عامة وإما خاصة في كل قبيلة. ونجم النفاق، واشرأبت اليهود والنصارى والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم وقلتهم وكثرة عدوهم. فقال له الناس إن هؤلاء جلّ المسلمين والعرب على ما ترى قد انتقضت بك فليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين، فقال أبو بكر: والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته.”(2)هذا القول إذا قارناه مع غيره من الرواة ومن المحدثين الصادقين لرأينا سيف بن عمر يشابههم ويطابقهم في أقوالهم. وإذا استعرضنا ما كتبه عن الردة لوجدناه:
1- أنه قد أتى بجميع ما قيل عن الردة بأحاديث مسندة صادقة يقصد بها الإحاطة بهذا الموضوع.
2- وقد سرد جميع الأخبار بتسلسل تاريخي، غير متأثر بالأهواء السياسية أو العصبية.
3- وقد أتى بتفاصيل دقيقة عن تحرك الجيوش، وعن منطقة التحشد، والقبائل التي ارتدت، وعن الزعماء الذين ضلوا وأضلوا أمثال الأسود العنسي وطليحة ومسيلمة(3).
4- ثم لا ينسى أن يذكر الأماكن والمدن والقرى التي اتخذت مسرحاً للعمليات كالربذة والأبرق وغيرهما.(4)
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/ 429، 430.
(2) الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/ 461.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/ 471 وما بعدها.
(4) الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/ 279.(1/35)
5- وكذلك فإنه يتطرق لذكر التشكيلات وطرق تحركها من المدينة، والتعليمات التي تلقتها من القائد الأعلى أبي بكر الصديق.(1)
6- ثم يأتي على ذكر التحذيرات التي أدلى بها أبو بكر للمرتدين، والتوجيهات لقادته.(2)
7- لقد أبرز سيف دور خالد بن الوليد في حروب الردة، عندما كلف من قبل القائد الأعلى . فهو الذي فصل بين الحق والباطل، وهو الذي أذهب عبيّة الجاهلية، وأعاد المرتدين، وشردهم، وقضى على زعمائهم.(3)ثم يفصل سيف في الأعمال الوقائية التي نفذها خالد في المرتدين فأحرق، ورضخ بالحجارة، ورماهم من الجبال، ونكسهم في الآبار.(4)
8- وفيما ينتهي سيف من الردة ينتقل إلى فتوح الأيام في العراق فيفصلها، ويسهب في وصف المعارك وسيرها، وفي الكتب المتبادلة بين خالد وهرمز، والجيوش التي تحركت للقتال في العراق.(5)
9- نحا المنحي نفسه في فتوح الشام. فذكر الجيوش التي أرسلها أبو بكر. هذا وإني لم ألحظ عند أحد من المؤلفين الذين سبقوا سيف بن عمر، ولا من الذين أتوا بعده يعرج على ذكر تلك الكراديس وقادتها تلك التي اشتركت في معركة اليرموك. إن سيف قد فصل فيها وقسمها قبائل تتناسب مع التشكيلة الجديدة.(6)
وعلى هذا فإن سيف بن عمر الأسدي قد أغنى موضوع البحث بمعلوماته الواسعة، وزودنا بأخبار جديدة لم تكن عند الرواة السابقين واللاحقين.
أبو عبد اللّه محمّد بن عمر الواقدي
( 207/ 823)
__________
(1) الطبري - تاريخ الأمم والملوك 2/ 480.
(2) الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/ 480 وما بعدها
(3) الطبري تاريخ الأمم والملوك 2/ 483.
(4) الطبري تاريخ الأمم والملوك 2/ 490.
(5) الطبري - تاريخ الأمم والموك 2/ 551.
(6) الطبري - تاريخ الأمم والملوك 2/ 592 وما بعدها.(1/36)
لاجدال في أن الواقدي قد بذّ أقرانه في الكتابة عن المغازي والفتوح، وإنه تصدر جميع الكتاب في عصره(1). وإن بعض معاصريه يعيبون عليه روايته، وقد يصمونه بالكذب، ذلك أنه لم يكن مختصاً بالحديث، أو ما أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان قاضياً إذ كان اهتمامه بالحديث اهتماماً عادياً.(2)
"وقد خلف الواقدي ستمائة قمطر كتباً كل قمطر حمل رجلين."(3)وكان يكتب الليل والنهار، وله غلامان يكتبان له(4). وبرز من كتابه محمد بن سعد الذي نقل عنه "الطبقات" وله آثار كبيرة، ومؤلفات عديدة أغلبها يبحث في الفتوح والمغازي منها: "فتوح الشام"، " فتوح العراق"، "مقتل الحسين" و "السيرة" ، "الردة"، "حرب الأوس والخزرج"، "صفين"، سيرة أبي بكر"(5)....
لقد كان موسوعة عصره، إذ أنه استطاع أن يجمع الأحداث كلها بتفاصيلها من مبعث الإسلام حتى وفاته وكان يقول: "حفظي أكثر من كتبي."(6)
سمع الواقدي عن علماء كثيرين منهم: معمر بن راشد، ومالك بن أنس؛ ومحمد بن عجلان وغيرهم؛ كما روى عنه كاتبه محمد بن سعد وأبو حسان الزيادي والصاغاني والبرجلاني وغيرهم.(7)
__________
(1) ابن حجر - تهذيب التهذيب: 9/ 365.
(2) ابن حجر - تهذيب التهذيب: 9/ 364، 366.
(3) ابن النديم - الفهرست: 1/ 150، ابن سيد الناس - عيون الأثر: 1/ 18.
(4) ابن النديم - الفهرست: 1/ 150.
(5) ابن النديم - الفهرست: 1/ 150، 151، ياقوت- معجم الأدباء: 8/ 281، ابن خلكان - وفيات الأعيان: 4/ 348.
(6) ابن العماد الحنبلي- شذرات الذهب: 2/ 18.
(7) السمعاني - الأنساب: 577، الخطيب - تاريخ بغداد: 3/ 3، ابن خلكان- وفيات الأعيان: 1/ 506، ابن سيد الناس: عيون الأثر: 1/ 17.(1/37)
لقد طاف الواقدي وبحث ونقب وسأل وتأكد، وخرج إلى الأرض يستطلعها، وإلى الطريق يتبعها. وكان يقول: "ما أدركت رجلاً من أبناء الصحابة وأبناء الشهداء، ولا مولى لهم إلا سألته: هل سمعت أحداً من أهلك يخبرك من مشهده وأين قتل؟ فإذا أعلمني مضيت إلى الموضع فأعاينه، ولقد مضيت إلى المريسيع فنظرت إليها. وما علمت غزاة إلا مضيت إلى الموضع حتى أعاينه." وقال ابن منيع: "سمعت هراون الفروي يقول: رأيت الواقدي بمكة ومعه ركوة فقلت: أين تريد قال: أريد أن أمضي إلى حُنَيْنٍ حتى أرى الموضع والوقيعة."(1)وبعد أن يتبين له كل ذلك يقوم بكتابة ما شاهده وما سمعه. ولقد شوهد في المسجد جالساً إلى أسطوانة المسجد يكتب ويدرس، وعندما سئل عما يعمل قال: "أدرس حزبي من المغازي".(2)
له آثار كثيرة؛ وتتميز هذه الآثار بأنها مفصلة تفصيلاً، وموسعة بحيث تغني القارئ والباحث. فلقد كتب عن غزوة واحدة عشرين مجلداً وأكثر(3)وكان حجة، وإليه يرجع الناس، وإليه تسير الركبان.
ولّي الواقدي القضاء في زمن المأمون في شرقي بغداد في معسكر المهدي. وما اضطره إلى الوظيفة إلا حاجته المادية حيث كان يتقرب إلى الملوك لكي يعطوه مالاً يصرفه على نفسه وعياله. وكان أقرب الملوك إليه رعاية المأمون. وكان الواقدي جواداً، ويبلغ به الجود أحياناً حد التبذير(4)
__________
(1) ابن سيد الناس - عيون الأثر: 1/ 18.
(2) الخطيب- تاريخ بغداد: 3/ 7، ابن سيد الناس - عيون الأثر: 1/ 18.
(3) ابن سيد الناس- عيون الأثر: 1/ 19.
(4) السمعاني- الأنساب: 577، الخطيب - تاريخ بغداد: 3/ 3/، 4، ابن خلكان وفيات الأعيان: 1/ 506، ابن العماد الحنبلي وشذرات الذهب: 2/ 18، زيدان- تاريخ آداب اللغة العربية: 2/ 170.(1/38)
إن الذي يهمنا في هذا المقام هو كتاب "فتوح الشام" فقد فصّل فيه تفصيلاً، وأتى على ذكر دقائق الأعمال والأقوال، وأنشأه على الحقيقة والاسترسال(1)فهو الذي احتوى الآثار الطبيعية لأرض المعارك مع هيئاتها المختلفة، كما وصف الأرض كما يصف الجغرافيون فذكر تلالها ووديانها ومدنها وقراها. وهو لم يكتف بذلك بل تطرق إلى حالة الطقس وما فيه من رياح وغبار ورذاذ ومطر، فكأنه راصد جوي، أو عالم فلكي. فهو لم ينس أبداً مواقع القتال، وأمكنة تمركز الجيشين المتقابلين؛ كما ألمح إلى فن الحرب عند العرب وعند الروم، وميزة وخصائص كل جيش على حدة، وقارن بين حجم هؤلاء وهؤلاء؛ والقَوام القتالي؛ كا نبه إلى ضرورة الاستطلاع الذي أجري قبل المعارك وأثناءها، وأفاض في أنواع الأسلحة المستخدمة من كلا الطرفين مع ذكر أسمائها وأنواعها الهجومية والدفاعية.(2)وأشار إلى شعار كل معركة بل إلى كل قبيلة مشتركة في القتال(3)، وإلى اللواء (الراية) الذي يحمله أشجع المقاتلين، ويكون ذا ألوان وأشكال مختلفة(4)، وإلى إشارة بدء القتال وشروط إعطائها والالتزام بها(5)، وإلى المبارزة والطعان فيها، والأبطال الذين يركبونها، وتوقيت بدئها وانتهائها، وهزيمة أو قتل أحد المتبارزين(6)، وإلى الأعمال التضليلية والخدعة التي يقوم بها الجانبان المتقاتلان أو أحدهما وكيفية إجرائها والطرق التي تؤمنها والأشخاص الذين يقومون بها(7)،
__________
(1) الخطيب - تاريخ بغداد: 3/6.
(2) الواقدي- فتوح الشام: 1/100، 105، 113، 120، 131.
(3) الواقدي - فتوح الشام: 1/129، 131، 133.
(4) المصدر نفسه: 1/118، 124، 125، 126، 130، 133، 135، 139.
(5) المصدر نفسه: 1/125
(6) المصدر نفسه: 1/101، 105، 115، 120، 127، 129، 131، 134، 140.
(7) المصدر نفسه: 1/110،111..(1/39)
وإلى الهجوم المعاكس وتخطيطة وزمن القيام به، والقوات التي تنفذه، والمكان الذي يبدأ به، والقوى والوسائط المرافقة(1)، وإلى قتال الخيل وكيفية قتالها، مستقلة، أو مع المشاة، وتعاون الصنفين أثناء المعارك، والفرسان الذين يتولون قيادتها(2)وإلى المطاردة التي تكون بعد هجوم ناجح، والصفات والطرق التي يسلكها المطاردون(3). ومما يستحق الذكر والإشارة إليه هو أن الواقدي فصل في الشؤون الإدارية التي نسيها الآخرون من الذين سبقوه أو تبعوه. فهو بحق الذي حدد معالم هذا الاختصاص، ووضع لبنته الأولى إذ ذكر إعداد وتنظيم الشؤون الإدارية دون أن يتصور أو يدرك أنه يكتب عنها؛ لكن التفاصيل الجزئية التي كان يبحث عنها، ويبالغ في التنقيب عن محتوياتها هي التي أوصلته إلى أن يكتب في العلم الإداري العسكري. فقد ساق الواقدي معلومات وافرة عن الساقة، وعن محاور الإمداد والإخلاء، وعن التأمين المادي بالطعام واللباس والسلاح والأعتدة القتالية والإدارية، وعن التأمين الطبي بالمعالجة والإخلاء، وعن دور المرأة الإداري في القتال برفع المعنويات والتمريض وإعداد الطعام والشراب(4)وأخيراً فإن الواقدي لن ينسى أبداً تقرير نهاية يوم المعركة. فهو الذي يسجل الرسائل المتبادلة بين قيادة المعركة والقيادة العليا في المدينة(5)وصفوة القول أن الواقدي:
1- كان جهازاً سينمائياً متحركاً ناطقاً، يصور كل شيء عن المعركة بتفاصيلها ودقائقها، فكأن المعركة أمام الباحث يسمعها ويراها ويتحسسها ويتفاعل معها.
__________
(1) المصدر نفسه: 1/118، 125، 128، 131، 139.
(2) المصدر نفسه: 1/118، 125.
(3) المصدر نفسه: 1/139، 141.
(4) المصدر نفسه: 1/99، 105، 114، 117، 121، 128، 138، 173، 174.
(5) الواقدي- فتوح الشام: 1/ 107، 109.(1/40)
2- لا يترك للباحث أوالسائل أو القارئ أية مسألة إلا أجاب عنها من خلال كتاباته، وسرده لفتوح بلاد الشام؛ كما أنه يعطيه محطات يستريح بها لكي يستأنف نشاطه بعد الاستراحة، وبخاصة عند انتهاء معركة وابتداء أخرى.
3- حقاً إنه كان مدرسة، استوعبت المنهجية، وأصول الكتابة، والبحث التاريخي..
4- إنه اهتم بصورة خاصة بالأزمنة والأمكنة، وبذلك حدد للمعارك مكانها وزمانها. وهذا ما يعول عليه الباحث العسكري عند دراسة
معركة ما.(1)
علي بن محمّد بن عبد الله المدائني
(225/ 839)
مولى شمس بن عبد مناف. كان عالماً متكلماً. له مؤلفات عديدة، يبحث في أغلبها عن أمهات وصفة عهود الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن المستهزئين والذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وكذلك فإنه تناول في كتاباته رسائل وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك، وآياته التي جاء بها، وصلحه، وخطبه، وغير ذلك.
حتى عُدّ مختصاً بما أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وللمدائني كتاب "المغازي" الذي توسع في أخباره، وهو يقع في ثمانية أجزاء مخطوطة(2).
روى عنه الزبير بن بكار، وأحمد بن حيثمة، والحارث بن أبي أسامة، وغيرهم. وقد كان ثقة الناس والعلماء، إذ كان صادقاً فيما يروي، أميناً فيما ينقل أو يقول، دقيقاً فيما يخطه(3).
اختص المدائني بأخبار العرب وأنسابهم، وفصّل في أخبار العرب المسلمين. وكان عالماً كبيراً بالفتوح والمغازي ورواية الشعر. ولقد أثر عنه مصنفات وكتب كثيرة في هذا العلم منها: "فتوح العراق"(4)
__________
(1) ابن سعد - الطبقات: 5/ 315، المستشرق مارغوليوت- دراسات عن المؤرخين العرب: 18.
(2) الفهرست - ابن النديم: 1/ 153، 154.
(3) الخطيب- تاريخ بغداد: 12/ 55، الحميدي- جذوة المقتبس: 290.
(4) الخطيب - تاريخ بغداد: 12/ 55، الحميدي- جذوة المقتبس: 290.(1/41)
ولسعة اطلاعه، والثقة به فإن الباحث يركن إليه. وهو من القلائل الذين أجادوا الرواية، وكتبوا عن أبي بكر وغيره في مؤلفاته العديدة، كما أن المشتغلين بهذه العلوم من بعده قد أخذوا منه، ورووا عنه(1).
لم يصلنا من آثار المدائني إلا ما نجده مبثوثاً في أمهات كتب التاريخ قبل: "فتوح البلدان: للبلاذري، "تاريخ الأمم والملوك" للطبري، "العقد الفريد" لابن عبد ربه، "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، وغيرهم.
أبو اسماعيل محمّد بن عبد الله الأزدي البصري
( 231/ 845)
كان الأزدي ثقة، صادقاً، عالماً بأخبار الحروب والفتوح، مسنداً أقواله، مستشهداً بالرواة الثقاة الذين شاهدوا، أو سمعوا، حتى لم يكن ليدون خبراً إلا إذا تأكد منه، فقد روى عن الخزاعي الصحابي الذي شهد الحديبية وتوفي سنة 80/699 وعن أنس بن مالك مولى الرسول صلى الله عليه وسلم الذي توفي سنة 93/ 711 وعن سهل ابن سعد الخزرجي الأنصاري الذي توفي سنة 91/ 709 وعن سعيد بن العاص الأموي القرشي الذي توفي سنة 59/ 678 وعن سفيان بن عوف الأزدي الذي رافق فتوح الشام، وكان بطلاً من أبطالها، والذي توفي سنة 52/ 672 وعن هاشم بن عتبة ابن أبي وقاص الخطيب الفارس الذي اشترك في فتح الشام، وأصيبت عينه في اليرموك، وشهد القادسية، والذي توفي سنة 37/ 657 وعن عمرو بن شعيب بن محمد السهمي القرشي من رواة الحديث، والذي توفي سنة 118/ 736 وعن قيس بن أبي حازم البجلي التابعي الذي رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه فقبض وهو في الطريق سنة 84/ 703 وعن معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي، والذي نفر مع أبي عبيدة في فتوح الشام، ومات في طاعون عمواس سنة 18/ 639 وغيرهم(2).
يلاحظ من الرواة جميعاً مايلي:
__________
(1) الخطيب - تاريخ بغداد: 12/ 54 وما بعدها.
(2) الأزدي- فتوح الشام: 1/ 9، 14، 16، 33، 51، 81، 90 وما بعدها.(1/42)
1- أن الأغلبية كانوا من الصحابة، من الذين تمتعوا بمشاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم، وصاحبوه، وحضروا معه المشاهد كلها أو بعضها.
2- أن الأغلبية كانوا من الذين شاركوا في فتوح الشام، وحضروا معاركها، وأبلوا فيها بلاءً حسناً.
3- هم من رواة الحديث، ومن الصادقين، والمشهود لهم بصدق الرواية والقول.
4- أن الجميع كانوا من المعاصرين لحروب وفتوح أبي بكر الصديق، وأنهم توفوا جميعاً بعد أن توفي أبي بكر، ولهذا فهم على يقين مما كان يجري من الأحداث التاريخية، والمواقع القتالية.
لقد وصلت إلى الأزدي هذه المعلومات مسندة متواترة عن طريق الوليد بن حماد والحسين بن زياد اللذين نقلا إليه فتوح الشام مباشرة(1). وهما من رجال الحديث ومصنفيه ومن جلساء البخاري(2).
إن التراث الوحيد الذي وصلنا من الأزدي هو: "فتوح الشام" وهو يشبه إلى حد بعيد "فتوح الشام" للواقدي، مع بعض الاختلافات.
1- الأزدي أتى بشيء مختصر عما للواقدي، وإن كان في بعض الأحيان يتلاقى معه؛ ويفصل في المعارك، وبخاصة في التقرير الحربي في الرسائل والكتب المتبادلة بين القادة في جبهة الشام، وبين القائد الأعلى في المدينة(3).
__________
(1) الأزدي - فتوح الشام: 1، 9، 14، 16، 33، 51، 81، 90 وما بعدها.
(2) الأزدي- فتوح الشام: مقدمة: ك.
(3) المصدر نفسه: 67 وما بعدها.(1/43)
2- جاء الأزدي بتفاصيل وبمعلومات عن القادة الذين اشتركوا في معارك الشام مثل ميسرة بن مسروق العبسي، والأشتر النخعي، وسالم بن نوفل العدوي(1)، وعن التشكيلات القتالية كتشكيل سعيد بن عامر الذي التحق بجيش اليرموك بعد بدء المعركة(2)وكذلك فقد فصّل في القبائل المشتركة وأولى لها أهمية خاصة(3)وقد أشاد بقبيلة أزد واعتبرها الأغلبية التي قاتلت في المعارك، ونسب إليها الشجاعة والإقدام(4). ومع الأزدي الحق في ذلك فقد شهد الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه القبيلة بالشجاعة والإقدام فقال: "الأزد أسد الله في الأرض."(5)
3- اقتصر في بعض المعلومات الجغرافية، والتحركات، ومواقع القتال، والاستطلاع(6)، لكن هذا الاقتصار لم يغير من قيمة هذه المعلومات، وإنما كانت كافية لمثل هذه المعارك.
4- لم يرد في فتوح الشام عند الأزدي المعلومات العسكرية التي يعتمد عليها الباحث من مثل المبارزة والتعزيز أثناء القتال والإمداد بالرجال أثناء سير المعارك والهجوم المعاكس الذي قام به الجيش العربي أثناء هجوم الجيش الرومي في الأيام الأولى في معركة أجنادين وفي المعارك التي تلتها كمعركة اليرموك الفاصلة.
يختلف عن الواقدي في أن رواياته خالية من الحشو والزيادة والاسهاب، فالرواية على قدر ما رواها أولئك السند الذين نقل عنهم. ويحس الباحث أنه يطمئن إلى صدق ما يرويه الأزدي؛ فهو قمة في الصدق والثقة.
__________
(1) المصدر نفسه: 112، 155.
(2) المصدر نفسه: 184
(3) المصدر نفسه: 218.
(4) المصدر نفسه: 189، 191، 192.
(5) ناصف - التاج الجامع للأصول: 3/ 422.
(6) الأزدي - فتوح الشام: 192، 198، 210، 211، 217.(1/44)
أبو يزيد وثيمة(1)بن موسى بن الفرات الفارسي الفسوي
( 237/ 851)(2)
نشأ في بلاد فارس كان تاجراً، وصل الأندلس ضارباً في الأرض من البصرة، ثم إلى مصر فمات فيها، وكانت أغلب تجارته بالوشي.(3)
يؤثر عن وثيمة أنه صنف كتاباً قيماً في الردة سماه "أخبار الردة" ولم يعرف له سوى هذا الكتاب(4)، الذي تضمن القبائل العربية التي ارتدت بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمكنة تمركزها، والتشكيلات التي أرسلها أبو بكر لمحاربة المرتدين، ثم يذكر المعارك التي خاضتها تلك التشكيلات، وطرق تحركها، وأسلوب التعاون والتنسيق فيما بينها، ويسهب في مانعي الزكاة، ومن عاد منهم إلى الاسلام فاستقام. ويبرز دور خالد بن الوليد في حروب الردة وقتاله مع مالك بن نويره بشيء من التفصيل والحوار والشعر الذي قال متمم في أخيه مالك.(5)
ترك وثيمة ولداً له يدعى رفاعة، ألف كتاباً تاريخياً جعله على السنين تحدث عن أبيه وغيره من الرجال، وتوفي بمصر سنة 289/ 901(6)
__________
(1) الوثيمة: الحجر المكسور. وقيل حجر القداحة. وقيل الصخر. والوثيمة الجماعة من الحشيش أو الطعام. وقيل : والذي أخرج الثمر من الجريمة والنار من الوثيمة. انظر الزبيدي - تاج العروس: 9/ 89.
(2) ابن الفرضي -تاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس: 2/ 165.
(3) ابن الفرضي - تاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس: 2/ 165، الحميدي - جذوة المقتبس:
340، 341.
(4) الحميدي - جذوة المقبس: 341، الزركلي- الأعلام: 8/ 110.
(5) ابن خلكان- وفيات الأعيان 21/ 171، 172.
(6) ابن خلكان - وفيات الأعيان: 2/ 171.(1/45)
حدث وثيمة عن سلمة بن الفضل(1)، وما أكثر ما تحدث سلمة عن ابن إسحاق، وكأن ما كتب وثيمة هو سلمة ذلك أنه كان يروي عنه ويأخذ حديثه، وليس وثيمة وحده هو الذي أخذ عن سلمة؛ بل إن أكثر المؤلفين الذين أتوا من بعده قد أخذوا عنه، ولا سيما الطبري في كتابه تاريخ الأمم والملوك.
أحمد بن يحيى البلاذري
( 279/ 892)
كان كاتباً وشاعراً. ألف كتباً عديدة منها: البلدان الصغير"، "البلدان الكبير"، "الأخبار والأنساب" الذي لم يتمه. وكان يجيد الفارسية ويترجم منها إلى العربية. وقد جُنّ في آخر حياته، ومات وهو في مصح للأمراض النفسية في بغداد(2).
إن الأثر الذي وقع بين أيدينا "فتوح البلدان" وهو مختصر عن كتاب "البلدان الكبير". وقد ضمنه البلاذري أخبار الفتوح الاسلامية من أيام النبي صلى الله عليه وسلم إلى أيام عمر بن الخطاب، ووشّاه بمعلومات قيمة عن الوضع الاجتماعي والعمراني والاقتصادي(3).
عاش البلاذري نديماً للمتوكل، ومات في أيام المعتضد. وقد روى عنه يحيى بن النديم، أبو يوسف وغيرهما، وكان بالإضافة إلى ذلك متقناً للغة العربية(4)ولعل تمكنه من اللغة هو الذي ساعده على تأليف كتبه، ومنها: "فتوح البلدان" الذي نحن بصدده والذي كانت لديه معلومات قيمة عن حروب وفتوحات أبي بكر الصديق؛ ومع هذه المنزلة فقد كان البلاذري سليط اللسان فاحشاً في كلامه، يتسقط زلات الناس، ويمسهم في أعراضهم ويهجوهم(5). فقد هجا شعراً صاعداً وزير المعتمد وعبد الله بن يحيى الذي كان قاضياً.
__________
(1) الزبيدي - تاج العروس: 9/ 89.
(2) زيدان - تاريخ آداب اللغة العربية: 2/ 224.
(3) ابن شاكر الكتبي فوات الوفيات: 1/ 157، زيدان - تاريخ آداب اللغة العربية: 2/ 224.
(4) ياقوت - معجم الأدباء: 5/91 ، 92، سركيس معجم المطبوعات العربية والمصرية: 585.
(5) ياقوت- معجم الأدباء: 5/ 92؛ ابن شاكر الكتبي- فوات الوفيات: 1/ 155.(1/46)
لقد أثنى على هذا الكتاب عدة علماء ومحققين، واعترفوا بكثرة فوائده، وصحة المعلومات التي تضمنها أمثال صاحب كشف الظنون، ابن العديم(1)؛ وإن احتواء هذا الكتاب على الخراج والعطاء والنقود والعمران، فإنه قد تفرد بمعلومات قيمة من حيث اختصاص الشؤون الإدارية والعسكرية كالاحتياجات المادية والرواتب والمصادر الغلالية المتوفرة آنذاك(2)وبهذا يكون المصدر الوحيد من بين المصادر كلها الذي تعرض وفصل في التأمين الإداري، فكان بذلك متمماً عما جاء به الواقدي في كتابه فتوح الشام.
اعتمد البلاذري في رواياته على الواقدي، فنقل عنه الكثير؛ كما نقل عن الوليد بن مسلم؛ كما كان في كثير من الأحيان لا يسند قوله، ويبدأ بكلمة: قالوا، ثم يتابع سرد معلوماته مباشرة. وهذا لا يصح إن لم نقل بأنه ثغرة في باب التوثيق والإسناد. سمع بدمشق هشام بن عمار، وبحمص محمد بن مصفى، وبالعراق عفان بن مسلم، وغيرهم.(3)
ابن عساكر علي بن الحسين بن وهبة اللّه
(571/ 1176)
كان محدثاً، فقيهاً، عالماً بالتاريخ وبخاصة بتاريخ مدينة دمشق الذي يقع في ثمانين مجلداً، ومن كتبه أيضاً "الموافقات" في اثنين وسبعين جزءاً، "الأطراف للسنن الأربعة" في ثمانية وأربعين جزءاً، "معجم شيوخه" في اثني عشر جزءاً" "مناقب الشبان" في خمسة عشر جزءاً، "فضل أصحاب الحديث" في أحد عشر جزءاً، "تبيين كذب المفتري على الشيخ أبي الحسن الأشعري" في مجلده(4).
__________
(1) سركيس - معجم المطبوعات العربية والمصرية: 585.
(2) سركيس - معجم المطبوعات العربية والمصرية: 585.
(3) ابن شاكر الكتبي - فوات الوفيات: 1/ 155.
(4) ابن العماد الحنبلي- شذرات الذهب: 4/ 239.(1/47)
لقد تطرق ابن عساكر(1)في كتابه "تاريخ مدينة دمشق" إلى الردة وإلى فتوح الشام من ص 423 إلى ص 620. وقد تميزت كتابته بأنها مسندة، يقلب الخبر إلى عدة وجوه مروية، حتى لتحس أنك أمام بحر من المعلومات التي تصطفي منها وتختار؛ إلا أن ابن عساكر مع هذه الروايات الكثيرة والشاملة لا يضع رأيه أو يشير إلى ناحية الصواب أو الخطأ إذ يترك للقارئ أن يستمتع بما يقرأ، وأن يأخذ ما يشاء؛ إلا في بعض مواضع قليلة عندما يقول: "ويدل عليه أيضاً أن إجماع أهل التواريخ على أن فتح دمشق كان سنة أربع عشرة، وبلا خلاف أن أبا بكر توفي في سنة ثلاث عشرة في جمادى الآخرة."(2) ثم إنه يورد الرسائل والكتب المتبادلة بين القائد الأعلى في المدينة وبين قادة الجبهات والتشكيلات كما جاءت. وهو بهذا يتحف الباحث بمعلومات ضرورية عن فكرة (لمعركة من خلال هذه الرسائل، كما يضعه في صورة الموقف الحقيقي(3)، كما كان يتحرى تواريخ المعارك ويأتي بالأسانيد المختلفة(4)، غير أنه لا يأتي بتفاصيل عن سير المعركة؛ وإنما يورد أخباراً متقطعة من هنا وهناك يحس الباحث بصدقها وحسن روايتها(5).
__________
(1) اشتهر بابن عساكر، وليس من جدوده من سمي أو لقب بهذا اللقب. انظر السبكي- طبقات الشافعية: 4/ 273، طاش كبرى زاده - مفتاح السعادة: 2/ 211.
(2) ابن عساكر - تاريخ مدينة دمشق: 1/ 521.
(3) انظر إلى نماذج من هذه الرسائل عند ابن عساكر- تاريخ مدينة دمشق: 1/ 448 وما بعدها.
(4) ابن عساكر - تاريخ مدينة دمشق: 1/ 478.
(5) ابن عساكر- تاريخ مدينة دمشق: 1/ 493، طاش كبرى زاده - مفتاح السعادة: 1/ 216.(1/48)
طاف البلاد في سبيل الحصول على العلم، وقد جمع ما يقدر بأكثر من عمره، ووضع مالا يتسع لمؤلف أن يضعه خلال حياته(1).لقد زار بلاداً كثيرة، فقصد بغداد، وارتحل إلى خرسان ونيسابور وأصبهان ومرو وتبريز وبيهق وخسرو، ووصل إلى الأنبار والرافعه والرحبة وماردين، وزار مكة والمدينة وغيرها واستقر في دمشق ودفن فيها بمقبرة باب الصغير(2).
__________
(1) طاش كبرى زاده- مفتاح السعادة: 1/ 216، 217.
(2) ابن خلكان- وفيات الأعيان: 1/335، ابن الوردي- تاريخه: 2/87، طاش كبرى زاده- مفتاح السعادة: 1/216(1/49)
أمضى أغلب أيامه مرتحلاً قاصداً العلم والعلماء في سبيل الحصول على العلم، متجهماً مصاعب السفر، قاطعاً هذه المسافات الشاسعة على مطية لا يظلله غطاء، ولا يصحبه رجال، وليس معه من زاد إلا ما يقوي به ويسد صلبه، وغير إداوة يضع فيها الماء(1). أهو رحالة؟ بل زاد، أهو مكتشف؟ بل زاد فلقد كان واهباً نفسه للعلم فأدركه، وكان حجة وذا علم واسع، ساعده على ذلك تعرفه الحقيقي على الجغرافية الطبيعية، وعلى أحوال البلدان والمدن والأراضي التي زارها. فإذا كتب عن الردة أو عن فتوح الشام فإنما يكتب عن بلاد وأراض سار عليها واستراح فيها وأمعن النظر في سهولها وجبالها ووديانها أي أنه درس مسارح العمليات على الواقع والطبيعة؛ كما ساعده على ذلك أيضاً كثرة أساتذته ومشايخه الذين قرأ عليهم وأخذ منهم حتى بلغوا حوالي ألف وثلاثمائة من الرجال، ومن النساء بضع وثمانون امرأة(2)، يضاف إلى ذلك أنه لم يترك منذ حداثة سنه العلم والتعليم إذا انتسب إلى مدارس دمشق والعراق كالمدرسة النظامية في بغداد، وأعجب به العراقيون ومن فهمه وكذلك في خراسان والبلاد التي حل بها(3). وقد شهد بمقدرته العلمية العلماء والمشايخ الذين عاصروه، وأساتذته الذين درسوه وعلموه(4). وكان يسمى ببغداد "شعلة نار" ويقول عنه محيي الدين النووي: "حافظ الدنيا" وكانوا يعتبرون ابن عساكر أحد أربعة من الأرض: ابن عساكر بالشام والسلفي بالإسكندرية وابن ناصر ببغداد وأبو العلاء بهمذان(5)ومن هنا ومن خلال ثقافته وأثره الكبير "تاريخ مدينة دمشق نخلص إلى القول: (6)
__________
(1) السبكي - طبقات الشافعية: 4/ 273.
(2) السبكي - طبقات الشافعية: 4/ 273،
(3) السبكي- طبقات الشافعية: 4/ 273، ابن العماد الحنبلبي - شذرات الذهب: 4/ 239.
(4) السبكي - طبقات الشافعية: 4/ 274. ابن العماد الحنبلي- شذرات الذهب: 4/ 239.
(5) السبكي - طبقات الشافعية.
(6) السبكي- طبقات الشافعية 4/276.(1/50)
1- إن ابن عساكر كان ثقة واسع الاطلاع والمعارف، جاب البلاد وبهذا فإن كل ما ذكره في كتابه هذا يتجه إلى الصحة، وإن المنهجية التي سلكها كانت سلمية وأمينة، ذلك أنه أعرض عن الدنيا وزينتها، ورفض الإمامة والخطابة(1)
2- أغنى موضوع الردة وفتوح الشام بما فيه الكفاية، بل زاد على غيره أنه فصّل في بعض المواقع والمعلومات العسكرية كمحاور القتال والاستطلاع وحجم وتشكيلة الجيوش المشتركة.
3- إنه كان اختصاصياً في تاريخ دمشق لم يسبقه إلى هذا العلم أحد بتفاصيله وسنده ودقته..
ابن حُبيش عبد الرّحمن بن محمّد بن عبد الله الأنصاري الأندلسي
( 584/ 1188)
أندلسي، عالم، فقيه، حافظ، ولي القضاء(2). حبيش خاله نسب إليه(3)من شارقة التابعة بلنسية. أقام بقرطبة ثلاثة أعوام يتلقى العلم ثم عاد إلى وطنه، وخرج منه سنة 542/ 1147 إلى مرسية فولي فيها الخطبة ثم القضاء(4). ثم إلى جزيرة شقرا فو لي فيها الصلاة والخطبة وبقي فيها نحواً من اثنتي عشرة سنة، ثم عاد إلى مرسية، وتوفي عن ثمانين عاماً(5)وشيعه أناس كثيرون.
لقد برع في القراءات والحديث والأدب واللغة العربية. وكان ثقة وصدقاً. وبالرغم من علو بابه في هذه العلوم، فهو لم يؤلف بها كتباً. ويعتبر إمام الحديث بالأندلس، وهو الذي تفرغ لغريبه ولغته وما آل إليه من علوم(6).
__________
(1) طاش كبرى زاده - مفتاح السعادة: 2/ 211.
(2) ابن الجزري- غاية النهاية في طبقات القراء: 1/ 378، السيوطي- بغية الوعاة:301، الزركلي الأعلام: 3/ 328.
(3) ابن الأبار- التكملة: 2/ 573، ابن الجزري - غاية النهاية في طبقات القراء: 1/ 378.
(4) ابن الأبار - التكملة: 2/ 573، 574، ابن العماد الحنبلي - شذرات الذهب: 4/ 280.
(5) ابن الآبار- التكملة - 2/ 573، ابن الجزري - غابة النهاية في طبقات القراء: 1/ 378.
(6) السيوطي- بغية الوعاة: 301.(1/51)
لابن حبيش كتاب في المغازي سماه: "الغزوات الضامنة الكاملة والفتوح الجامعة الحافلة الكائنة في أيام الخلفاء الأول الثلاثة.." عنوان مطول لمعلومات مطولة ومفصلة؛ اطلعت عليه كمخوط يقع في عدة مجلدات.
وقد اعتمد المؤلف في كتابه الغزوات على الروايات عن أحمد بن عبد الرحمن القصبي وأبي القاسم وابن اليسع، وروى عنه أيضاً أبو الخطاب بن دحيه وعلي ابن أبي العافية(1).
إن كتاب الغزوات قمة في التأليف، وروعة في المنهجية، وكنز في المعلومات. فهو الذي فصل في حروب الردة أيام أبي بكر الصديق، ثم الفتوحات ومنها فتوح الشام. وكان في أسلوبه الرصين القوي يورد السند، ويتتبع الحوادث الزمنية، والشواهد الحيّة، فكأنك إذا قرأت كتابه هذا أغناك عن كل مصدر، فهو قد جمع به كل ما قيل بشأنه إلى عصره الذي مات فيه. ولئن شبهته بعيون الأثر لابن سيد الناس، الذي جمع فيه ونسقه؛ فكذلك قام ابن حبيش مرتباً منسقاً مسنداً جامعاً المعلومات التي قيلت من قبل وأفرغها بكتاب واحد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــ
ـــــــ
الفصل الأوّل
حروب أبي بكر الصّديق رضي الله عنه في الفترة النبويّة
__________
(1) ابن الجزري- غاية النهاية في طبقات القراء: 1/ 378.(1/52)
استجاب أبو بكر لنداء الإسلام فما تردد(1)ومن هنا بدأت حروبه، وبدأ الناس يسددون سهامهم؛ وبخاصة أولئك الذين يعتبرون كل داخل في الاسلام صائباً. وقد تعرض أبو بكر لقاء هذا الانتساب إلى الأذى والضر فصبر(2)ونزلت آية القتال: "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز"(3)وأعقبها إذن من الرسول صلى الله عليه وسلم بهجرة كل من أسلم من مكة إلى المدينة، وأبقى أبا بكر فلم يأذن له، لعله يكون صاحبه في السفر(4). وفهم هذه الإشارة من الرسول صلى الله عليه وسلم فأخذ يجهز نفسه ليوم الهجرة الموعود، فابتاع راحلتين وأعدهما، فلما كان الموعد بكى أبو بكر فرحاً، فخرجا معاً، فدخلا غار ثور، وبقيا ثلاث ليال سوياً(5)ثم تابعا سيرهما باتجاه المدينة. ولما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إليها، بدأت التحضيرات لحرب حقيقية؛ وبعد ثمانية أشهر ندبت أول سرية لقتال قريش.(6)وقد حضر أبو بكر المعارك كلها مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يتخلف عن معركة واحدة(7).
أبو بكر نائب القائد الأعلى
__________
(1) السهيلي- الروض الأنف: 1/288.
(2) السهيلي - الروض الأنف: 2/127.
(3) سورة الحج- الآيتان: 39، 40.
(4) السهيلي- الروض الأنف: 2/221.
(5) السهيلي- الروض الأنف: 2/224.
(6) ابن سعد- الطبقات: 2/7.
(7) البلخي- البدء والتاريخ: 4/180، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 3/213، النووي- تهذيب الأسماء واللغات: 2/1/184، وجدي- دائرة معارف القرن العشرين: 2/ 301.(1/53)
إن أول معركة مسلحة هي وقعة بدر الكبرى. خرج فيها أبو بكر مع القوم. وكان بجانب القائد الأعلى محمد صلى الله عليه وسلم. وعددهم يومئذ ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، وعدد قريش ألف مقاتل.
في الطريق إلى أرض المعركة كان أبو بكر برفقة الرسول صلى الله عليه وسلم "هو ورجل من أصحابه" وقد قال ابن هشام في السيرة النبوية أن الرجل هو أبو بكر الصديق(1).
تحرك جيش المدينة باتجاه بدر فنزل وادياً يقال له "ذفران" وهنا اجتمع المجلس الاستشاري العسكري، فكان أول المتكلمين أبو بكر الصديق فعبر عن رأيه، ثم توالى أعضاء المجلس فأدلوا بآرائهم(2). وعادة ما يتكلم في هذه المجالس بعد القائد نائبه، ولا تزال هذه الطريقة متبعة حتى الآن، إذ يسمح لنائب القائد في التكلم، ثم لرؤساء الفروع التي تليه، ولبقية أركان التشكيل.
بني مقر القيادة في هذه المعركة على مكان مرتفع يشرف على أرض المعركة. ويقود منه الرسول صلى الله عليه وسلم وحدات جيشه. وكان قوام هذا المقر من القائد الأعلى ونائبه أبي بكر حيث دخلا فيه معاً(3)وبعض الحرس من الأنصار.(4)
القائد يناشد ربه، ويدعوه أن ينجز له وعده، ويلح في الدعاء والتضرع حتى سقط رداؤه، فأخذه النائب فوضعه وأصلحه والتزمه من ورائه وهو يقول: "كفاك يا نبي الله بأبي أنت وأمي مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك(5)
__________
(1) الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/141، السهيلي- الروض الأنف: 3/43.
(2) ابن شهاب- المغازي النبوية: 63، الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/140.
(3) ابن هشام - السيرة النبوية: 1/627، السهيلي- الروض الأنف: 3/36، 38، المقريزي- امتاع الأسماع: 1/79، الحلبي - السيرة الحلبية: 2/166، 171.
(4) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/151، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/ 122، 125.
(5) الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2: 149.(1/54)
ذلك القائد الذي يبشر نائبه بالنصر فيقول: "يا أبا بكر أتاك نصر الله"(1)
فيتهلل وجهه فرحاً، ويتبدد الخوف، ذلك أنه يعلم أن هذه البشرى حق، وأن القائد صادق في قوله. ولهذا فإنه لما التحمت الفئتان وتبين نصر المسلمين فقتل من قتل من صناديد قريش وعظمائها كان القائد ونائبه يرقبان هذه الأعمال من العريش وسعد بن معاذ قائم يحرس مع ثلة من قومه(2)هذا المقر.
ويأخذ القائد برأي نائبه بشأن الأسارى الذي رأى أن تؤخذ منهم الفدية لتكون للمسلمين قوة، وليكون الأسرى في حال دخولهم في الاسلام عضداً ومعيناً. ويترك الرسول صلى الله عليه وسلم آراء الآخرين " وهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قال عمر..."(3)
استطلع القائد ونائبه في هذه المعركة طرق التحرك ومواقع القتال، وكان يسأل الناس الاستطلاع ومعه أبو بكر. ولقد عرجا على شيخ من العرب، فأخذا منه المعلومات اللازمة عن العدو وأمكنته وعدده وتجميعه(4) وكان أبو بكر يلازم الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المعركة ويؤازره عند الحرب، وأينما حل وارتحل(5)، يعاونه في المهام.
__________
(1) الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/ 150، ابن الأثير - الكامل في التاريخ: 2/ 125، الكلاعي- الاكتفاء: 2/ 29.
(2) الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/151ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/ 126.
(3) الواقدي - مغازي رسول الله: 80، البلخي- البدء والتاريخ: 41/ 92، الحلبي - السيرة الحلبية: 2/ 201.
(4) ابن سيد الناس- عيون الأثر: 1/ 248.
(5) ابن سعد - الطبقات: 2/ 15، ابن عبد البر - الدرر: 114، الكلاعي - الاكتفاء: 2/28-29، الحلبي - السيرة الحلبية: 2/ 177.(1/55)
انتصر المسلمون في هذه المعركة، وقتل من قتل من قريش، وفروا على أعقابهم، وهنا انقسم جيش المدينة إلى ثلاثة أقسام، قسم يطارد المنهزمين، وقسم يجمع الغنائم، وثالث بقي حول مقر القيادة وحول الرسول صلى الله عليه وسلم ونائبه(1).
في معركة أحد؛ وعندما انتكس المسلمون، أقبل أبو سفيان قائد جيش قريش، يسأل عن محمد، ثم يسأل عن أبي بكر، ذلك أن قريشاً تعلم منزلة أبي بكر الصديق عند الرسول صلى الله عليه وسلم وتعلم أنه يأتي الرجل الثاني ولذلك قام أبو سفيان فقال: "أفي القوم محمد.. ثم قال بعدها أفي القوم ابن أبي قحافة.."(2)ولم يترك النائب القائد في هذه المعركة بل صاحبه في كل مراحلها، وثبت معه في أشدها، وعندما زلزل المقاتلون، وفر بعضهم عن القائد؛ أما أبو بكر فقد بقي ملازماً مؤازراً مدافعاً.(3)
وفي غزوة بني النضير انطلق القائد ونائبه ومعهما بعض الصحابة إلى بني النضير يستعينهم في دية القتيلين من بني عامر، وبعد أن أظهر بني النضير العون، انقلبوا يكيدون له، وهمّوا بقتله وذلك بإلقاء صخرة عليه وهو جالس فيهم، فانتبه إلى هذه المكيدة(4)فقام من مجلسه واتجه باتجاه المدينة، وأوكل أمر القيادة إلى أبي بكر الصديق، الذي حاصر يهود بني النضير حتى عاد القائد من مهمته(5).
__________
(1) المقريزي- امتاع الأسماع: 1/ 92.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/ 205.
(3) ابن سعد - الطبقات: 2/ 42، النووي- تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 1/ 184.
(4) الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/223، 224.
(5) المقريزي- امتاع الأسماع: 1/179، 180، 449.(1/56)
وفي غزوة بني المُصطَلق (المُرَيْسيع) في السنة السادسة من الهجرة، خرج القائد مع نائبه لملاقاة بني المصطلق الذين يحضرون ويجتمعون لقتال الجيش العربي الاسلامي في المدينة، وقد نال منهم، وانتصر عليهم(1). ثم قفل راجعاً إلى المدينة، وقبل أن يتحرك الجيش طلب المقاتلون من أبي بكر الصديق على اعتباره نائب القائد لبدء المسير من هذا المكان الذي طال مكوثهم فيه لفقدان عقد لعائشة ابنته.(2)
وفي فتح مكة، جهز القائد، وأمر بالتحضيرات السرية في السنة الثامنة من الهجرة، وعمَّى على قريش حتى لا تعرف الوجهة التي يتجه إليها الجيش العربي الاسلامي وعمى على غير قريش من الأعداء، فمنهم من يقول يريد قريشاً، ومنهم من يقول يريد غيرها(3). ودخل القائد مكة بفرقة فيها أبو بكر من أعالي المدينة، وقسم الفرق الأخرى فدخلت مكة من جهاتها الثلاث.(4)
وفي آخر غزوة غزاها القائد وهي تبوك وذلك في السنة التاسعة من الهجرة، وكان الحر شديداً، والفقر مدقعاً، والناس في ضيق وعسرة. تحرك الرسول صلى الله عليه وسلم بجيشه من المدينة حتى وصل تبوك، وعاد بعد أن مكث هناك بضع عشرة ليلة، وحقق أهدافه الاستراتيجية(5). وفي هذه أشار القائد الأعلى إلى نائبه أبي بكر الصديق أن يؤم العسكر في الصلاة.(6)
__________
(1) الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/260
(2) ابن سعد- الطبقات: 2/65.
(3) الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/ 330.
(4) ابن سعد - الطبقات: 2/135، الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/ 334.
(5) ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/ 267 وما بعدها
(6) ابن سعد - الطبقات: 2/ 165.(1/57)
مما تقدم؛ فقد كان أبو بكر ملازماً لقائده، مرافقاً له، ومصاحباً، وقريباً منه في جميع مراحل القيادة؛ له التقدم في التكلم في شؤون الحرب والقتال؛ وقد ساعد القائد الأعلى من مقر القيادة، كما هوّن عليه وبشره بانجاز ما وعده ربّه به، ونفس عن كربه، وتبادل معه الحديث والبشرى، ومال إلى رأيه بشأن أسارى بدر، واستطلعا معاً ما يجب استطلاعه؛ وقاد أبو بكرالجيش وأمّه في غياب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وعرف العدوُّ والصديقُ منزلة أبي بكر بأنه النائب للقائد الأعلى لا ينافسه في ذلك أحد من الصحابة.
حامل الرّاية (اللواء)
بعد الانتكاسة التي مني بها الجيش العربي الإسلامي في معركة أحد، وعاد إلى المدينة، استنفر القائد الأعلى الجيش في تلك الليلة التي وصل فيها، واستجاب المقاتلون على ما فيهم من جراح وتعب. في هذه الشدة وفي هذه المحنة أودع الرسول صلى الله عليه وسلم الراية أبا بكر الصديق(1). فأخذها وانطلق أمام الجيش مسرعاً للقاء العدو حتى يظن أن هذا الجيش لايزال على قوته، وأن ما أصابه لم يفت في عزمه، وتجمعت الكتائب تترى متتابعة بعضها إثر بعض حتى وصلت حمراء الأسد(2)، ونال الجيش من عدوه دون قتال، وأرعب العدو فانسحب إلى مكة وعاد القائد بجيشه إلى المدينة(3).
وفي غزوة المريسيع حمل أبو بكر الراية عن المهاجرين. (4). وفي غزوة تبوك حمل اللواء الأعظم وكان لونه أسود.(5)
__________
(1) ابن سعد - الطبقات: 2/ 94، المقريزي- امتاع الأسماع: 1/ 167.
(2) حمراء الأسد مكان على ثمانية أميال من المدينة:الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/ 212. الحموي - معجم البلدان: 2/ 301.
(3) الحميدي - المسند: 1/ 128، الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/ 211، ناصف - التاج الجامع للأصول: 4/ 88.
(4) ابن سعد - الطبقات: 2/ 64.
(5) النووي - تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 184، المقريزي- اتباع الأسماع: 1/ 195، وجدي - دائرة معارف القرن العشرين: 2/ 301.(1/58)
لا يحمل الراية (اللواء) إلا أقوى القوم وأشجعهم. وإن حمل اللواء يدل على الثقة الكاملة بحامله من القائد الأعلى، ويشعره على أنه أهل للقيادة ورمز لها. وهكذا فإن أبا بكر كما يلاحظ ندب لهذا العمل في أصعب المعارك وأقساها، فغزوة حمراء الأسد كانت بعد انتكاسة والمقاتلون في نصب وجراح، وغزوة تبوك كانت في ضائقة مادية صعبة، وفي حر شديد، ومسافة بعيدة، وخطوط إمداد طويلة.
أبو بكر أمين سر القائد الأعلى(1/59)
كان القائد يكتم الأسرار، أو بعضها عن مجلسه أو أصحابه؛ لكن أبا بكر كان يعلم ما لا يعلمه غيره، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يخفي التحضيرات ليباغت القوم، وليأخذهم على حين غرة(1). ففي غزوة الفتح أخفى القائد الأعلى كل تحضيراته حتى على أقرب الناس إليه حتى على زوجه عائشة؛ ولما سأله أبو بكر: "فأين تريد يا رسول الله؟" قال: "قريشاً وأخفِ ذلك يا أبا بكر.. واطوِ ما ذكرت لك."(2) وفي حصار الطائف وبعد التجاء المنهزمين من ثقيف وغيرها بعد وقعة حنين إلى الطائف، وبعد اتخاذ جميع الإجراءات الدفاعية والتحصينية، حاصرهم القائد الأعلى، ونصب عليهم المنجنيق، وقطع عنهم الإمدادات والمياه، لكنهم لم يستسلموا، وظلوا يقاومون ويدافعون عن مدينتهم فيقتلون ويقتلون، ولم يلبث الرسول صلى الله عليه وسلم أن فك الحصار عن الطائف وأذن بالرحيل(3). وأسرّ القائد إلى نائبه أمين سره وحده دون غيره أنه لم يؤذن له في فتح الطائف، فكتمها أبو بكر؛ ولما كثر الجدال في هذه المسألة بين عمر بن الخطاب وبين أبي محجن، نهى أبو بكر عمر عن هذا الجدال وقال: "لم يؤذن للرسول صلى الله عليه وسلم في فتح الطائف. فسأل عمر الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: "نعم لم يؤذن لي."(4)وكذلك في قصة خطبة حفصة بنت عمر يوم عرضها على أبي بكر فأبى فقال بعد أن خطبها الرسول صلى الله عليه وسلم : "فلم أكن لأفشي سرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو تركها قبلتها " (5)
المستشار العسكري الأوّل
__________
(1) الواقدي- المغازي: 1/ 13، 203، ابن هشام - السيرة النبوية: 4/ 15، 39.
(2) المقريزي- امتاع الأسماع: 1/ 362.
(3) ابن الأثير - الكامل في التاريخ: 2/ 266 وما بعدها.
(4) الجاحظ- العثمانية: 85.
(5) البخاري - باب المناقب: 25، باب النكاح: 33، مسلم - باب فضائل الصحابة: 98، 99، النسائي- باب النكاح: 24، ابن ماجه- باب الجنائز: 64، أبو يعلي - المسند: 1/ 18، 29.(1/60)
لقد كان المجلس العسكري الاستشاري يضم نخبة من الصحابة. وفي بعض الأحيان وفي مناقشة بعض الأمور الهامة كشؤون الحرب، واعلان التعبئة، فإن هذا المجلس يكون وقتئذ موسعاً بحيث يشمل المستشار الأول والصحابة الآخرين وزعماء القبائل وقادة التشكيلات، والذين لهم علم وخبرة في الأعمال القتاليّة؛ كما حدث عندما انعقد هذا المجلس قبيل معركة أحد(1). وسواء أكان المجلس موسعاً أم مقتصراً على فئة خاصة لبحث موضوع قتالي أو حربي، فإن أبا بكر يكون فيه أول المتكلمين، فهو أول من تكلم في معركة بدر بعد أن نجت عير قريش، فقام فقال وأحسن ثم تبعه عمر والمقداد، ثم الأنصار ممثلون بسعد بن معاذ(2). وفي غزوة حمراء الأسد استشاره الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً في طلب العدو، فأشار عليه في ذلك، فأمر القائد الأعلى بلالاً فنادى: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم بطلب عدوكم."(3)وفي غزوة بدر الموعد (بدر الثانية) التي سميت أيضاً (غزوة السويق) التي خرج فيها الرسول صلى الله عليه وسلم لملاقاة أبي سفيان(4). فأشار أبو بكر بالملاقاة والتعرض فقال: "يارسول الله إن الله مظهر دينه، ومعز نبيه، وقد وعدنا القوم موعداً، ولا نحب أن نتخلف فيرون أن هذا جبن فسر لموعدهم، فوالله إن في ذلك لخيرة.(5)
قائد ميمنة الجيش
يتم تنظيم الجيش العربي الاسلامي من المقدمة، والميمنة، والميسرة، والقلب، والساقة.
__________
(1) الواقدي- المغازي: 1/ 209، ابن هشام - السيرة النبوية: 3/ 67، ابن سعد - الطبقات: 2/ 26، الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/ 503.
(2) ابن شهاب الزهري - المغازي النبوية: 63، الكلاعي - الاكتفاء: 2/ 19،ا لمقريزي- امتاع الأسماع: 1/ 73، 74، الحلبي - السيرة الحلبية: 2/ 159، 160، الكاند هلوي - حياة الصحابة: 1/ 422.
(3) المقريزي- امتاع الأسماع: 1/ 167.
(4) ابن الأثير - الكامل في التاريخ: 2/ 175، 167.
(5) المقريزي- امتاع الأسماع: 1/ 184.(1/61)
في أول معركة في بدر عين أبو بكر قائد ميمنة الجيش(1)، وقاد ميمنة الجيش أيضاً في معركة حنين(2). "ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين. ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين(3)" خرجت هوازن وثقيف وعسكرتّا في حنين(4). وقد ساقوا معهما النساء والصبيان، واستعدوا لقتال وملاقاة الجيش العربي الإسلامي، واصطفت الفئتان، فهاجم مقاتلو هوازن وثقيف على طول جبهة القتال وضغطوا في الهجوم، فتصدع بنيان الصفوف الإسلامية وتفرق قسم منهم، لا يلوون على أحد(5)فثبت أبو بكر الصديق قائد الميمنة.(6)ودعا القائد الأعلى المنهزمين فعطفوا عليه، فأعاد تنظيمهم، وقام بهجوم معاكس أدى إلى خرق صفوف العدو وبعثرة قواته، وهزيمتها.(7)ورد أبو بكر المشركين من جانبه، وعاد تماسك الجناحين والقلب، وأعيد تنظيم الجيش حين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم العباس أن ينادي ويصرخ بالمقاتلين لكي يرجعوا فيباشروا القتال من جديد(8). وكان لأبي بكر دوره في إحراز النصر، وإعادة الجيش(9).
أوّل شاهد على صلح الحديبية
__________
(1) المقريزي- امتاع الأسماع: 1/ 80.
(2) الجاحظ - العثمانية: 66.
(3) سورة التوبة - الآيتان: 25، 26.
(4) حنين هو واد قريب من مكة يبعد عنها ثلاث ليال. انظر الحموي - معجم البلدان: 2/ 313.
(5) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/ 347.
(6) ابن الأثير - الكامل في التاريخ: 2/ 263.
(7) ابن الأثير - الكامل في التاريخ: 2/363.
(8) الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/ 347، 348.
(9) ابن سعد - الطبقات: 2/ 151.(1/62)
أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم العمرة في السنة السادسة من الهجرة، وخرج معه أبو بكر الصديق، واجتمع إليه العرب والأعراب، وكان عددهم أربعمائة وألف معتمر.(1)وسار بهم حتى انتهى إلى ذي الحليفة فوقفت قريش في طريقه فمنعته من دخول مكة، فاتجه إلى مِنى، ثم اتبع طريقاً مخفياً عن أنظار أهل مكة فوصل الحديبية فنزل بها، وأرسل إلى قريش يخبرهم أنه جاء معتمراً لا مقاتلاً، واختلفت آراء زعماء قريش، وتعددت رسلهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقام أحدهم عروة بن مسعود، فأراد أن يستفز الصحابة فقال أبو بكر: "اِمصص بظر اللات،(2)أنحن نفر وندعه" فعاد يحمل ما رأى وما سمع وأخيراً أرسلت قريش سهيل بن عمرو مع اثنين ليقوموا بأمر الصلح، وكتبت وثيقة الصلح التي اعترض عليها عمر بن الخطاب، ورأى أن فيها إجحافاً بحق المسلمين، لكن أبا بكر هدَّأ من غضب عمر وأمره بالالتزام والطاعة، كما أقنع الآخرين بأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المؤتمن علينا، وإنه لن يضيعه الله أبداً. فسكن القوم وكأنما أنزلت عليه السكينة والراحة النفسية. في هذا الجو كتبت وثيقة صلح الحديبية وكان أهم ما فيها: وضع الحرب عشر سنين، وأنه من أتى رسول الله من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع رسول الله لم ترده عليه، وأنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه..(3)
__________
(1) الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/ 271.
(2) بظر اللات: اللات طاغية ثقيف كانوا يعبدون من دون الله، والبظر مابين الإسْكُتَيْن من المرأة. والعرب تطلق هذا اللفظ على الذم فيقولون: يا ابن مقطعة البظور. انظر الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/ 275، ابن منظور - لسان العرب: 4/ 70.
(3) ابن سعد - الطبقات: 2/ 97، الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/ 280، 281..(1/63)
وبعد أن انتهى علي بن أبي طالب من كتابة هذه الوثيقة التي كان يمليها عليه الرسول صلى الله عليه وسلم دعي أبو بكر ليكون أول شاهد عليها.(1)فوقعها، ممتثلاً ومؤتمراً وملتزماً بإرادة الرسول صلى الله عليه وسلم ورغبته في ذلك، وهو مطمئن إلى سلامة نتائجها، وأثرها في انتشار الإسلام وتعميمه فقال: "ماكان فتح أعظم في الإسلام من فتح الحديبية."(2)لقد قصر نظر المبصرين في هذا الصلح، وضجّ أكثر المقاتلين، وحتى الذين لهم حظ كبير في فهم وإدراك الأمور فاحتج أكثرهم على صلح الحديبية واعتبروه إهانة وذلاً، واعتبره أبو بكر عزاً ورفعة وفتحاً كبيراً(3).
أبو بكر قائد سرية قتاليّة
__________
(1) الجاحظ- العثمانية: 70، 71.
(2) المقريزي- امتاع الأسماع: 1/ 296.
(3) المقريزي: امتاع الأسماع: 1/ 297 وما بعدها.(1/64)
بالإضافة إلى تعدد المهام التي كلف بها أبو بكر من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه كلف في السنة السابعة من الهجرة بقيادة سرية(1)تنطلق من المدينة. وتتحرك إلى بني كلاب(2)بنجد(3). اتبع أبو بكر في قيادة هذه السرية جميع الأعمال القتالية التي تسهل عليه الجاهزية القتالية وتحققها وتحضير وتدريب الجنود وإعطاء التعليمات الأولية والتأمين القتالي والمفاجأة في الزمان والمكان بعد الصبح وعلى ورود الماء(4)، والأعمال السرية إذ وضع كلمة السر التي كانت أمت أمت(5)وتمركز أبو بكر مع سريته في الأرض المناسبة ونفذ الإخفاء والتمويه.. بهذا كله استطاع أن ينتصر على بني الكلاب وأن يوقع فيهم القتل والسبي ويعود منتصراً(6).
وكذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ندب أبا بكر إلى كثير من المواقف العسكرية، والمهمات القتالية، فنفذها بكل جدارة(7).
قائد سرية ذات مهام خاصّة
__________
(1) ابن سعد - الطبقات: 2/117، 118، المقريزي- امتاع الأسماع: 1/ 334.
(2) بنو كلاب فخذ من هوزان. يسكنون بنجد ووادي القرى. انظر كحالة- معجم قبائل العرب: 3/918، 990، وتر - الإدارة العسكرية في حروب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: 234.
(3) نجد: كل ما ارتفع من تهامة فهو نجد. وهذا المكان غير متفق عليه، وإذا كان بنو هوازن يسكنون نجد فإنهم يسكنون المنطقة التي تلي اليمن. ومن أوديتهم وادي حنين الذي جرت فيه معركة حنين انظر الحموي - معجم البلدان: 5/ 261، كحالة - معجم قبائل العرب: 3/ 1231، وتر - الإدارة العسكرية في حروب الرسول صلى الله عليه وسلم: 234.
(4) ابن سعد - الطبقات: 2/ 118، الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/ 288.
(5) ابن سعد - الطبقات: 2/ 118.
(6) ابن سعد- الطبقات: 2/ 118، الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/ 288.
(7) ابن حزم- المفاضلة بين الصحابة: 233.(1/65)
في السنة السادسة من الهجرة، تحرك القائد الأعلى بجيشه من المدينة باتجاه بني لحيان(1)الذين غدروا بأصحاب الرجيع، فأخفى جميع التحضيرات، وسلك محوراً قل سالكوه(2)فصعد جبلاً بالقرب من المدينة على طريق الشام، ثم أتى إلى مخيض، فالبتراء، فصخيرات اليمام، فالمحجة من طريق مكة، ثم نزل عُران(3)قريباً من بني لحيان. علموا بالتحرك فهربوا(4)؛ ولما انتهى الرسول صلى الله عليه وسلم منهم شكل سرية من الجيش ذات مهام خاصة عددها عشرة فوارس بقيادة أبي بكر الصديق مهمتها: ادخال الرعب والخوف في نفس قريش وإرباكها، وجعلها في قلق وحيرة ولتعلم أن هذا الجيش قادر على أن يجوس خلال الديار، وأن يتعرض لها، وأن يصلها وهي في عقر دارها. سار أبو بكر بهذه السرية من عسفان إلى الغميم(5)، دون أن يلقى عدواً، وقد نفذ مهمته على أكمل وجه. وهذا يدل على أن أبا بكر كان فارساً يحسن ركوب الخيل، ويجيد الوقت نفسه قيادة الفرسان.
الفارس ذو الحركة العالية في الميدان
( قائد الطليعة)
__________
(1) بنو لحيان من هذيل. انظر كحالة- معجم قبائل العرب: 3/ 190.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/ 254.
(3) غران: واد بين أمج وعسفان، أو بين ساية ومكة، انظر ابن هشام - السيرة النبوية: 3/ 292.
(4) ابن سعد - الطبقات: 2/ 78، 79.
(5) ابن سعد - الطبقات: 2/ 79.(1/66)
لما انتهت معركة أحد، ورجع المقاتلون إلى المدينة على ما بهم من جراح ونصب وحزن وثقل، أعلن القائد الأعلى في اليوم الثاني من أحد استنفار من كان معه بالأمس وأذن مؤذن بالدعوة إلى القتال(1)فانتدب أول ما انتدب أبا بكر والزبير بن العوام في سبعين، وأوكل إلى أبي بكر قيادة الطليعة، فنظمها وأعطى التعليمات القتالية، وأسند المهام، وحدد الاتجاه والهدف، وانطلق في أثر العدو، واستجاب للنداء قال الله تعالى: الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم.(2)، فخرج على قرحه وتعبه فبلغ حمراء الأسد(3)وأرعب العدو من هذه الاستجابة السريعة، فعاد من حيث أتى، ولم يحصل قتال(4). ومن هذه الغزوة يستدل على أن أبا بكر أول من استجاب لدعوة القتال، وأول من لحق بالعدو بكتيبة الطليعة، وبالعدد الذي كان جاهزاً آنذاك، ثم تبعته بقية الكتائب إلى أن بلغ عدد المستنفرين حوالي مائتين من المقاتلين(5)، ويستدل كذلك على أنه كان سريع الحركة، قادراً على إعادة وتحضير وتنظيم هذه الكتيبة التي قادها بعد تبعثرها وتعبها وجراحها، وعلى السيطرة عليها وقيادتها في الظروف الحرجة.
أبو بكر القائد الانضباطي
__________
(1) ابن كثير- البداية والنهاية: 4/ 49.
(2) سورة آل عمران- الآية: 172.
(3) الحميدي- المسند: 1/ 128، ناصف- التاج الجامع للأصول: 4/ 88.
(4) البلخي- البدء والتاريخ: 4/ 205، القرطبي- تفسير القرطبي: 2/ 1519.
(5) القرطبي - تفسير القرطبي : 2/ 519.(1/67)
دلت تلك الفترة التي قضاها أبو بكر مع الرسول صلى الله عليه وسلم في حروبه على أنه قائد انضباطي، ومقاتل طائع، وجندي ملتزم. ينفذ أمر القائد الأعلى بكل طواعية واختيار، وبكل إصرار وتصميم(1)؛ فهو لثقته وإيمانه بالرسول صلى الله عليه وسلم كان يصدق بكل شيء يصدر عنه من قول أو فعل. ففي غزوة الحديبية أقرّ واعتراف بالمعاهدة مع ما فيها من غبن(2)، وفي بعث أسامة أكد جاهداً على إرساله ذلك البعث لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر به(3). فقد أطاعه إلى الأبد حياً وميتاً، لا يناقشة في الأمر، ولا يعترض عليه؛ بل يقوم بتنفيذه، وكما تدل الأنظمة الانضباطية في الجيوش الحديثة اليوم على أن الأمر أمر القائد يجب أن ينفذ دون تذمر أو تلكؤ حتى غدا القول شائعاً في صفوف العسكريين نفذ ثم اعترض، فالتنفيذ أولاً وقبل كل شيء. ولما صلّى أبو بكر بالناس في غياب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما حضر تأخر أبو بكر فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم "ما منعك أن تثبت حين أمرتك؟" فقال: "ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله" (4)وكان جندياً ملتزماً في معركة ذات السلاسل تحت إمرة عمرو بن العاص(5). ولم يثبت طوال الفترة النبوية أن اعترض، أو تلكأ، أو توانى، فإنه كان يسارع في إطاعة الأوامر، ويلتزم بها.
القائد العقائدي
آمن أبو بكر بالمبدأ ودافع عنه، وظل ملتزماً به، وقاتل دونه وخاض معارك كثيرة في سبيل هذه العقيدة. ذلك الرجل العقائدي الذي قاتل أقرب المقربين إليه، فقد انبرى في معركة أحد إلى ابنه عبد الرحمن ليبارزه مرتجزاً
لم يبق إلا حسبي وديني ... وصارم تقضي به يميني
__________
(1) حسين- الشيخان: 6.
(2) الجاحظ- العثمانية: 62، ابن الأثير - الكامل في التاريخ : 2/ 156، المقريزي، امتاع الأسماع: 1/ 144.
(3) الشيباني - شرح السير الكبير: 1/ 54.
(4) ابن حزم - المفاضلة بين الصحابة: 242.
(5) الكلاعي - الاكتفاء: 2/ 422.(1/68)
لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: "شم سيفك وارجع إلى مكانك ومتعنا بنفسك"(1). ولما أسلم عبد الرحمن قال لأبيه: "لقد أهدفت لي يوم بدر فانصرفت عنك ولم أقتلك." فقال أبو بكر: "لكنك لو أهدفت لي لم أنصرف عنك(2)”؛ كما أنه لم يستعمل أقاربه، ولا حتى ولده عبد الرحمن الذي كانت له فضائل عظيمة وبخاصة في المعارك والحروب، وفي معركة اليرموك نفسها؛ ومع ذلك كله فلم يخصه بشيء، وكان لذلك يخشى أن يصيبه بعض الهوى والميل إلى هؤلاء الأقارب فتفسد العقيدة، ويضيع العدل والحكم(3).
من ملامح العقائدية عند أبي بكر أنه كان متمسكاً بخطا من سبقه خطوة بخطوة، وشبراً بشبر، ومقتدياً بكل الأفعال والأقوال، ومتبعاً سنة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ليشعر المرء أن الحب متأصل فيه إلى درجة الافتداء، وإلى تقديم كل ما عنده، فهو الذي أرسل جيش أسامة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر به، برغم المعارضة الشديدة من قبل الصحابة، والخطورة الكبيرة من المرتدين قائلاً لعمر بن الخطاب: "ثكلتك أمك وعدمتك يا بن الخطاب استعمله رسول الله وتأمرني أن أنزعه."(4)
القائد ذو المعنويّات العالية
__________
(1) المقريزي- امتاع الأسماع: 1/ 144.
(2) السيوطي- تاريخ الخلفاء: 25، الحلبي - السيرة الحلبية: 2/ 179.
(3) ابن حزم المفاضلة بين الصحابة: 245.
(4) الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/ 462، ابن الأثير - الكامل في التاريخ: 2/ 335.(1/69)
يحمل أبو بكر معنويات مصدرها الثقة بالنصر، وإن النصر آت لا محالة والثقة بالقائد الأعلى وإن ما يقوله صدق وعدل لا شك فيه أبداً. ومن هنا فإنه كان يحمل قومه على الثبات ويرفع معنوياتهم في وقت الشدة، ويحافظ عليها في المواقف الحرجة. كان رمزاً لمعنويات المقاتلين. فإذا قاتل في مجموعة كانت القوة المعنوية عالية، ومما يزيد من هذه المعنويات أنه كان يقول الشعر في المواقف الحاسمة وفي الرد على الأعداء، وعلى قريش الذين يعيبون ما حلله الإسلام. ومن عيبهم أنهم ينكرون القتال في الشهر الحرام فنزلت آية التجليل: "يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.(1)"
__________
(1) سورة البقرة- الآية: 217.(1/70)
كما بدد أبو بكر الشك والريب من نفوس المقاتلين في كثير من المواقف الصعبة التي كادت تعصف بمعنوياتهم، كموقفه يوم صلح الحديبية، حتى إن عمر بن الخطاب ساوره الشك يومئذ فالتجأ إلى أبي بكر فقال: "يا أبا بكر! أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطى الدنية في ديننا إذاً؟ قال: أيها الرجل، إنه رسول الله، وليس يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه حتى تموت، فواللّه إنه لعلى الحق، قلت: أوليس كان يحدثنا أننا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: فأخبرك أنه سيأتيه العام ويطوف به. قلت: لا . قال: فإنك آيته ومطوف به(1). وموقفه يوم سئل عن إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: "لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين..(2)" وموقفه يوم ماج الناس بموت الرسول صلى الله عليه وسلم واضطربوا فهدأهم وردهم إلى معنوياتهم(3).
القائد باذل إرادة القتال
تتألف إرادة القتال من عنصرين هامين أولهما، بذل المال، وثانيهما بذل النفس، فمن بذل واحدة فقد أدى شطر الإرادة، ومن قدمهما معاً فقد أدى الإرادة القتالية كاملة.
__________
(1) ابن شهاب الزهري- المغازي النبوية: 55، 56، الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/280، 281،المقريزي- امتاع الأسماع: 1/ 292، السيوطي- تاريخ الخلفاء: 28.
(2) سورة الفتح- الآية: 27.
(3) ابن شهاب الزهري - المغازي النبوية : 134، 135، الجاحظ - العثمانية: 80، السيوطي، تاريخ الخلفاء: 19.(1/71)
لقد قدم أبو بكر ماله وكان ذا يسار، فابتاع راحلتين عند الهجرة فقدم واحدة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقدم كل عون ممكن وحمل معه بعض أمواله المنقولة فصرفها في سبيل الله وفي غزوة تبوك قدم المقاتلون جزءاً من أموالهم، وقدم هو كل ماله فلم يبق منه شيئاً، وعندما سأله الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما أبقيت لأهلك؟" قال: "أبقيت لهم الله ورسوله."(1)لقد كان سباقاً في بذل المال، ولم يسبقه أحد، ولم يصل إلى هذا المستوى من العطاء من كان من الصحابة والمقربين(2). لقد أنفق ماله كله. فما ملك إلا عباءة كانت لفرشه وغطائه في حين أن غيره اقتنى من الحرث والأموال والدور والضياع؛ ولما ولي الخلافة لم يتسع في مال ولم يتخذ جارية ولا خادماً.(3)
هذا ولا يخفى أن أبا بكر قدم نفسه رخيصه، فحضر المشاهد(4)كلها مع الرسول صلى الله عليه وسلم وذاق الذل والهوان، وكان يقحم نفسه على المهالك قبل الهجرة وبعدها،، ولازم الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يتركه لوحده يوم الشدائد(5).
__________
(1) الدارمي- سنن الدارمي: 1/ 391، الترمذي - سنن الترمذي: 9/ 277، اليافعي- الجنان: 1/ 101.
(2) الزمخشري- خصائص العشرة الكرام البررة: 35.
(3) ابن حزم - ا لمفاصلة بين الصحابة: 243، 244.
(4) البلخي: البدء والتاريخ: 4/ 180، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة:3/213، وجدي - دائرة معارف القرن العشرين: 2/ 301، الراوي - تاريخ الدولة العربية : 4.
(5) ابنن سعد- الطبقات: 2/ 42، ابن عبد البر- الدرر: 158، النووي - تهذيب الأسماء واللغات: 2/1/184.(1/72)
حقاً إنه باذل المال والنفس، وإنه أعطى المال كله، وقدم النفس فلم يبخل بشيء، وكان في ذلك قدوة ومثلاً. ألم تر كيف صمد مع ستة من المقاتلين أمام الأعداء في معركة أحد يدافع عن القائد الأعلى ويذب عنه، فلا ترهبه سهامهم ولا تثنيه شدتهم وبطشهم(1). وكيف ثبت مع القلة الذين ثبتوا في حنين حين انهزم الناس لا يلوون على أحد(2).
أبو بكر القائد الإداري
لقد أدرك أبو بكر أهمية وسائط النقل، وكانت أهم الوسائط آنذاك الجمال، فهي التي يحمل عليها المقاتل زاده ومتاعه، ويركبها في طريقه إلى ساحات القتال، فإن وصلها ركب الخيل لكي يقاتل عليها.
فلقد هاجر من مكة إلى المدينة على جمل، كما حضر أول معركة، فانتقل من المدينة إلى بدر على بعير في مجموعة من ثلاثة يتعاقبون بعيراً واحداً لقلة وسائط النقل وكان هو وعمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف(3).
وعلم ما للماء من أهمية، فأوصى وأشار بالتحرك إلى محاور القتال التي يتوفر فيها الماء، كما أوصى في معركة تبوك بالنزول في مكان يتوفر فيه المرعى والماء، ولكن بعض أعضاء المجلس الاستشاري أبوا هذا الرأي فنزلوا بفلاة لا ماء فيها، وكادت تقطع أعناق الرجال من العطش، وكذلك فإن الخيل والإبل ضاقت ذرعاً من شدة العطش فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أما إنهم لو أطاعوا أبا بكر وعمر رشدوا، وذلك أنهما أرادا أن ينزل بالجيش على الماء فأبوا ذلك عليهما، فنزلوا على غير ماء بفلاة من الأرض.(4)".
__________
(1) ابن سعد- الطبقات: 2/ 46، الجاحظ-العثمانية: 63.
(2) الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/ 347، النووي - تهذيب الأسماء واللغات: 2/1/ 184، المقريزي- إمتاع الأسماع: 1/ 407.
(3) ابن سيد الناس - عيون الأثر: 1/ 246.
(4) المقريزي- إمتاع الأسماع: 1/ 476.(1/73)
وقدّم الإسعافات الأولية للمقاتلين، وبخاصة في معركة أحد حيث نظر إلى زملائه المقاتلين، فلقي الجرحى في ميدان المعركة من يمينه وشماله، فقدم لهم ما يستطيع تقديمه من إسعافات أولية، وأسرع إلى ابن عمه طلحة ابن عبيد الله فقدم له الإسعافات، ونضح في وجهه الماء، فأفاق من غشيته، فإذا هو ينظر إليه شاكراً له هذه المساعدة، مستفسراً عن صحته وسلامة القائد الأعلى، فيقال له بخير، فيطمئن(1). ويمضي متنقلاً بين جريح وآخر.
القائد الإنساني
__________
(1) الواقدي- مغازي رسول الله: 199.(1/74)
لقد كان أبو بكر رحيماً بالأسارى، إذ كان يترفق بهم. ففي معركة بدر أُسر سبعون رجلاً(1)من قريش، ومنهم الكثير من عشيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وقرابته. والأسير إما أن يقتل، أو يُمن عليه؛ أو يُفتدى، ولما كانت الفكرة آنئذ متجهة إلى قتلهم، فكان أبو بكر يقول: "أهلك وعشيرتك وبنو أبيك أبق عليهم واستأن بهم."(2)" كان يحمل قلباً رحيماً وفؤاداً مفتوحاً، وحناناً إلى كل الناس، فكيف بالأهل والأقارب، حيث كان بهم واصلاً ومشفقاً ومدافعاً. إنه يحمل الصفة الإنسانية التي تميزه عن غيره حتى في حروبه، وفي وصاياه وتعليماته لقادة تشكيلاته. وفي توجيهاته لخالد بن الولد حين وجهه لقتال الردة: "وارفق بالمسلمين في سيرهم ومنازلهم وتفقدهم، ولا تعجل ببعض الناس عن بعض في المسير، ولا في الارتحال من مكان، واستوص بمن معك من الأنصار خيراً من حسن صحبتهم، ولين القول لهم..(3)" فلقد كان العفو من شيمته، هيناً، ليناً(4).ولما قدم أبو سفيان إلى المدينة طالباً زيادة المدة في صلح الحديبية، لم يظهر الرحمة والإنسانية من بين الصحابة الذين كلمهم أبو سفيان سوى أبي بكر الذي قال: "جواري في جواري رسول الله(5). ولما مات سعد بن معاذ بكاه أبو بكر، وكان يسمع بكاؤه إلى حجرة عائشة ابنته.(6)وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر..
__________
(1) الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/ 169، الحلبي - السيرة الحلبية: 2/204.
(2) الطبري - تاريخ الأمم واملوك: 2/ 170، البلخي، البدء والتاريخ: 4/ 192، المقريزي- امتاع الأسماع: 1/ 97، الحلبي - السيرة الحلبية: 2/ 201.
(3) فارق- تاريخ الردة: 26.
(4) الجاحظ- العثمانية: 68، 69، العقاد- عبقرية الصديق: 43 وما بعدها.
(5) الجاحظ- العثمانية: 72.
(6) الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/ 253.(1/75)
"(1)" وهو الذي يصفه ابن الدُّغنة(2)قائلاً: "إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق."(3)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــ
الفصل الثاني
مسارح العمليَّات
__________
(1) الترمذي- باب المناقب: 32، ابن ماجه- مقدمة: 11، السيوطي - تاريخ الخلفاء: 32، الحلبي- السيرة الحلبية: 2/ 201.
(2) ابن شهاب الزهري - المغازي النبوية: 97 (خرج أبو بكر مهاجراً إلى أرض الحبشة، لقيه ابن الدغنة. وهو عند ابن اسحاق رجل من بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة. وكان سيد الأحابيش)
(3) ابن شهاب الزهري - المغازي النبوية: 97.(1/76)
لم يشهد التاريخ مسرحاً أكبر جبهة وعمقاً ومساحة من المسارح التي خاضها أبو بكر الصديق، وخاضتها جيوشه. فقد وطئت سنابك الخيل أراضي شبه جزيرة العرب، ثم انتقلت إلى العراق فبلاد الشام. ومن الطبيعي أن الأرض بهيئاتها الطبيعية تختلف من مكان إلى آخر. فالعربي قد تعود أرض الجزيرة العربية ورمالها وجفافها وقلة المياه فيها، وارتفاع درجة الحرارة صيفاً، واختلافها في الليل والنهار، وانبساط مسرحها العملياتي وانكشافه، وتوفر ساحات القتال التي تصلح لقتال الخيل والمشاة، وعندما انتقل المقاتل من هذه الأرض، وجد مسرحاً يختلف عن الأول، فالمستنقعات، وزيادة البرودة، وكثافة المدن، وتمركز الحاميات حولها فرض على العرب أن يقاتلوا على مسرح فيه بعض التبديل والتغيير مما اضطرهم إلى أن يختاروا الأرض المناسبة التي قد توفر لهم بعض الشروط التي اعتادوها من قبل. ومن هذا المسرح إلى أرض الشام التي كانت مكسوة بخضرة نضرة، وأشجار ذات ثمار مختلفة، وأنهار متدفقة، وجبال فيها من برد، وسهول فيها من عشب، وطرق فيها من سهولة مما أتاح للجيوش العربية أن تمون قاعدتها المادية، وأن تجد المحاور التي يمكن أن تتحرك عليها، وتبقى مشكلة المنطقة التي تؤمن لهم شروط القتال، والمناورة بالقوى والوسائط وحلت هذه المشكلة بانتقاء المسرح والأرض والموقع المناسب، أي أن العرب اختاروا الأرض وفرضوا على عدوهم أن يقاتل فيها، وهم لا يزالون متأثرين بمسرح شبه جزيرة العرب.
صفات مسارح العمليات(1/77)
اتسع مسرح العمليات تدريجياً إذ بدأ بمعارك متفرقة حول المدينة، ثم امتد خالد بن الوليد بعملياته نحو الشمال، ثم إلى الشرق من المدينة. ثم شمل أراضي شبه جزيرة العرب، وبضم هذه الأراضي الجديدة تطلّب من الخليفة أبي بكر الصديق أن يحرك أحد عشر تشكيلاً، وأن يوسع عملياته القتالية في كل الاتجاهات، لكن هذا الاتساع أضاف إليه أعباءً كبيرة من حيث السيطرة إذ لا يكفي أبداً أن نحتل الأراضي، بل الأهم من ذلك أن نحافظ على هذا الاحتلال، وأن نتمكن من قيادة وإدارة هذا المسرح بكل كفاءة. وإذا اتسع المسرح العملياتي فإنه يؤدي إلى التخطيط المركزي والتنفيذ غير المركزي بمعنى أن القائد الأعلى في المدينة يقود استراتيجياً ويخطط على المستوى الاستراتيجي، ويكون التنفيذ عملياتياً وتكتيكياً عن طريق الجيوش، المنتشرة في كل الجهات. كما أن الاتساع يضعف القيادة فيما إذا حاولت أن تقود كل الجيوش وأن تتدخل في تحركاتها ومناوراتها، ويُقويها فيما إذا خططت مركزياً وتركت بعض الحريات لقادة الجيوش في التنفيذ. وهذا ما حصل فعلاً إذ أقدم أبو بكر على اعتماد الأسلوب المركزي في التخطيط، وقاد الجيوش معتمداً على رجال أكفاء، وقدرة على المناورة والحركة ضمن هذه الأراضي الواسعة.(1/78)
امتدت خطوط الإمداد والإخلاء، وأصبحت بعيدة عن مركز المدينة القاعدة المادية الكبيرة في المؤن والرجال. وبهذا الامتداد فإن على الخليفة أن يفكر في قواعد متقدمة تتوفر فيها الأعتدة والوسائط المادية اللازمة لضمان استمرار التقدم، وزيادة وتيرة الهجوم. كما أن عليه أن يفكر في صيانة وحفظ هذه المحاور. وبما أن مسرح عمليات شبه جزيرة العرب كان صحراوياً، فإن المحاور قد تتوفر فيه، وبالتالي فإن الجمال والخيل تستطيع أن تسلكه ولو كان صعب المسلك، أما الخطورة في هذه فإنها تكمن في ضياع معالم الطرق، والوصول إلى أمكنة لا ماء فيها ولا مرعى، وحينئذ يكون المخرج من هذا المأزق في الاعتماد على أدلاء يخرجون بهذا الجيش إلى النجاه والسلامة كما حدث لخالد بن الوليد عندما انتقل من مسرح العراق إلى مسرح الشام، إذ اجتاز طريقاً صعبة كادت تقضي على الجيش لولا حكمة القائد وخبرته القتالية وإجراءاته الإدارية.(1/79)
تطلّب الاتساع إلى توزيع بعض القوات لحماية الأراضي والمدن والحاميات التي تمت السيطرة عليها، كما تطلب تعيين القيادات والولاة والحكام العسكريين، وتنظيم الإدارة المدنية كما حدث لخالد بن الوليد عندما اجتاز أراضي العراق، وتحرك نحو الشمال، واحتل مدناً كثيرة أهمها الكاظمة والمذار وأليس والجزء الجنوبي من نهر الفرات (أسفل العراق) إذ اضطر أن يعين بعض الحراسات التي كان من مهمتها المحافظة على الأمن وترسيخ الحكم الجديد، ودرء المخاطر التي قد تنجم عن مهاجمة الجيش العربي من الخلف، واضطر إلى سحبها أو جزء منها عندما توغل في الشمال ووصل الحيرة. وهذا مما دعا بعض القيادات الفاتحة إلى الاستعانة بالسكان المحليين للدفاع عن هذه الأراضي، أو دفع الجزية. وفي بعض الأحيان كان المقاتلون الذين احتلت بلادهم من أهل فارس يشاركون العرب المسلمين في قتالهم كما حدث لرئيس وفد فارس قبل فتح (تستر) أن عرض على أبي موسى الأشعري أن يشترك في القتال معه، وقبل عمر بن الخطاب بذلك(1)، وكما حدث لسويد بن مقرن المزين عندما فتح بسطام، وصالح أهلها بموجب وثيقة تضمنت مساعدة العرب المسلمين في حروبهم، وتسقط الجزية عنه عند ذلك.(2)
__________
(1) الطبري -تاريخ الأمم والملوك 3/186
(2) الطبري -تاريخ الأمم والملوك 3/223(1/80)
اختلفت طبيعة الأرض التي يقاتل عليها العربي، إذ كان يقاتل على أرض صحراوية اعتاد عليها، وتواءم مع متغيراتها المناخية، وجفافها، وقلة مياهها، وانكشافها، ورمالها المتموجة، ووجود بعض الواحات القليلة، مع انعدام الأنهار، إلا من بعض الينابيع والعيون التي كان يجري القتال حولها، وقلة الطرق وتبدلها وطمس آثارها، إلا من بعض الطرق الدولية التي تصل أرض الجزيرة بالدول المجاورة، أما الآن فأصبح المقاتل العربي على أرض سهلية وجبلية ترتفع فيها درجة الحرارة وتتساقط الثلوج عليها في أيام الشتاء، فيها الأنهار والعيون والجداول، وفيها الأشجار والنباتات والمرعى والمروج. ولهذا فإن المقاتل العربي عليه أن يستعد للأمور الآتية:
1-التلاؤم السريع بين المنطقة التي كان يعيش فيها، وبين المنطقة الجديدة التي يقيم فيها ويقاتل على أراضيها.
2-أن يتدرب على قتال الجبال والمناطق الصعبة، وأن تكون وسائط القتال وهي الخيل متدربة على هذه الأراضي والسير فيها. وأن تجهز هذه الوسائط بحدوات تمنع تآكل الحافر، وبملابس تقيها البرد والسير في الأدغال والغابات.
3-التدريب على اجتياز الموانع المائية، والمستنقعات، والتزود بوسائط عبور خاصة عند الضرورة. فالمذار في أرض العراق وفي الجنوب منها توجد مستنقعات كبيرة اجتازها خالد بن الوليد بصعوبة(1). وأجنادين في بلاد الشام التي جرت فيها المعركة التي سميت باسمها، هناك فجرّ الروم سدود نهر الأردن فطافت مياهه، وكان على القوات العربية في هذا الموقف أن تجتاز النهر، وأن تقطع هذه المستنقعات لكي تحقق التلاقي مع القوات الرومية(2).
__________
(1) الحموي -معجم البلدان: 5/88 أكرم- سيف الله: 250-263
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 3/101 وما بعدها، بروكلمان- تاريخ الشعوب الإسلامية 94(1/81)
4-كان الجيش العربي في كل الأحوال مهاجماً، وكانت القوات والجيوش الفارسية والرومية مدافعة، وطالما أنه وجد في الأراضي الجديدة وديان عميقة، وجبال ذات مغاور وكهوف، فإن المدافع يمكن أن يفاجئ المهاجم وذلك باختبائه خلف سترة أو في مخبأ بين الجبال. وعلى هذا فإن القيادة العربية عليها أن تشكل لقاء ذلك مفارز متقدمة، وحراسات على الأجناب وفي المقدمة، أي عليها أن تغير من أسلوب قتالها فالأرض المكشوفة في الصحراء، هي غير الأرض المستورة في الجبال والتلال.
إن الأرض المجهولة التي كان لا يعرف عنها العربي إلا المعلومات القليلة جداً، ولا تكفي بأي حال من الأحوال أن يتقدم في تلك الأراضي بصورة يطمئن فيها على جنوده، ولهذا فإن الاستطلاع في هذه الحالة له أهمية كبرى، وإن القادة الفاتحين كانوا يستخدمون الاستخبارات والاستطلاع بصورة دائمة، ولا يقدمون على الحرب في أرض ما إلا بعد دراسة الأرض والسكان وإرسال الدوريات المتتالية، ومتى تأكد لهم سلامة الموقف كانوا يتقدمون ويقاتلون.. كالنعمان بن مقرن المزني الذي أرسل دوريات استطلاع عند فتحه وسيره في أراضي "نهاوند".
كانت أراضي شبه جزيرة العرب مقسمة ما بين فارس والروم منتشرين فيها على أطرافها على شكل حاميات ونقاط حراسة ومخافر قتالية، يتراوح عدد الحامية من جماعة إلى سرية أو أكثر. وإن كل منطقة من الأرض كانت تشكل قطاعاً كبيراً محمياً وموزعاً على عدد من النقاط. وفيها من الأسلحة والأعتدة القتالية ما يكفي للدفاع عن هذه الأراضي. وإن الجيوش العربية التي انطلقت من شبه الجزيرة كانت تقضي على هذه الحاميات، وأكثر ما اصطدمت في أرض العراق.(1/82)
تعددت المصادر المحلية وكثرت في المسرح العملياتي العراقي وفي المسرح العملياتي الشامي. لقد كان التمر المادة الأساسية للمقاتل العربي، ولا يحصل عليها إلا بصعوبة، فأصبحت متوفرة وبكثرة في مسرح العراق كما تعرف المقاتلون العرب على الرقاق، والمأكولات المختلفة والفواكه المتنوعة في بلاد الشام، وأصبح الجندي لا يخشى من قلة الطعام والمواد اللازمة والعتاد القتالي. وبهذا التنوع والكثرة تكونت نواة للقاعدة المادية الكبيرة، إلا أن هذا الجيش ظل يعتمد على المادة التي تعود عليها من قبل وهي التمر. (1)
كثرت المدن المفتوحة في المسارح الجديدة، واقتربت من بعضها، فمنها ما يشكل حامية كبيرة كالحيرة في بلاد العراق، وبصرى في بلاد الشام، ومنها ما تكون ميناءً كبيراً مطلاً على البحار كالأبله في أسفل العراق المطلة على الخليج العربي والمتصلة ببحر العرب والبحر الأحمر، وغزه وعكا وصيدا المطلة على البحر الشامي. إن هذه المدن الكثيرة التي تم فتحها وبخاصة في مسرح عمليات العراق يتطلب قتالها أساليب قتالية جديدة تتمشى مع نظام القتال في المدن والشوارع، إذ إن هذا النوع يحتاج إلى مجالدة وصبر وتحمل وقطع إمداد وحصار وتطويق ومهاجمة المدن من الثغرات والأسوار والنقاط الضعيفة واستدراج المدافعين لكي يخرجوا من حصونهم واستخدام الحيلة في إغرائهم لكي يخرجوا من مخابئهم، كما حدث للنعمان بن مقرن المزني عندما حاصر نهاوند(2)، وإنها تحتاج إلى أسلحة ثقيلة تدك هذه الحصون والأبراج.
وبهذا فإن قتال المدن فرض على المقاتلين الفاتحين التدريب على هذا النظام، وتوفير الأسلحة وتطويرها لتتناسب مع فتح المدن كالمجانيق والأسلحة الثقيلة.
مسرح عمليّات شبه جزيرة العرب
__________
(1) البلاذري- فتوح البلدان: 302
(2) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 3/217، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 3/4(1/83)
إن حدود شبه جزيرة العرب آنئذ تمتد من مصب ماء دجلة والفرات في الخليج إلى البحرين إلى عمان، ثم تميل نحو الغرب مارةً بمهرة وحضرموت وعدن. حتى تصل إلى ساحل اليمن على البحر الأحمر (القلزم)، ثم إلى جدة ومَدْين حتى تنتهي إلى العقبة ومنها إلى مدائن قوم لوط فالبحر الميت فالشراة والبلقاء ثم تميل نحو الشمال الشرقي ماراً بأذرعات وحوران وغوطة دمشق حتى تصل إلى بعلبك. هذه الدائرة بدأناها من الغرب ومررنا بها من الجنوب فالغرب فالشمال(1)، إذاً يحدها من الشرق الخليج العربي وبحر عمان، ومن الجنوب بحر العرب، ومن الغرب البحر الأحمر، ومن الشمال بادية الشام.(2).
يغلب على أرض شبه جزيرة العرب الرمال التي لا تثبت تحت أقدام الرجال وسنابك الخيل. وهذا ما يفسر انتقاء أرض المعركة من كلا الطرفين المتقاتلين، متضمنة وجود الينابيع أو الآبار بجانبها، وأن يكون قاعها ثابتاً متماسكاً، وتتوفر فيها بعض المراعي والمروج لإطعام الخيل ووسائط النقل الأخرى. وفي أراضي الجزيرة أيضاً بعض التلال، أو الأجزاء المرتفعة فيها، تمكن القائد من الإشراف على ساحة المعركة، يستطيع السيطرة على جنوده ومرؤوسيه، وليكون خلف المقاتلين جبل يستر تحركهم ويحمي ظهورهم، وفيها الاتساع بحيث تؤمن انتشار المقاتلين بالتشكيلات القتالية المختلفة والمناورة بالقوى والوسائط. معركة بزاخة كانت تتوفر فيها بعض الشروط كوجود الجبلين والمراعي والثبات والاتساع، أما معركة عقربا فكانت تحتوي كل الشروط المناسبة للقتال. وتمت جميع العمليات القتالية في حروب الردة على مسرح عمليات يؤمن جزءاً أو كلاً من الشروط(3).
__________
(1) ابن حوقل -صورة الأرض: 1/18،19 أبو خليل -أطلس التاريخ العربي: 33
(2) أمين -فجر الإسلام 2وما بعدها، غلوب -الفتوحات العربية الكبرى: 31-32
(3) غلوب -الفتوحات العربية الكبرى - 67(1/84)
يغلب على مناخ الجزيرة الحر الشديد والجفاف والرياح الشرقية (الصبا)، والرياح الغربية (رياح السموم) والشمس الساطعة الملتهبة. إن هذا المناخ يؤثر على المقاتل من حيث تحركه من مكان إلى آخر، وطمس معالم الطرق، والغشاوة التي تؤثر على الأبصار، ودخول الرمال في العتاد القتالي، وضربها وجه المقاتل فتدخل عينيه وأذنيه وأنفه، وجموح الحصان وحرنه. هذا كله يحد من المناورة والحركة السريعة في الميدان. فلقد كانت معارك أكثر القادة الذين حاربوا المرتدين تعترضهم مثل هذه الصعوبات، ونرى هذه الصعوبات تزداد في أماكن قضاعه ووديعة في الشمال عندما تحرك إليهما عمرو بن العاص، وكذلك في أماكن تمركز بني سليم في جنوبي المدينة عندما تحرك إليها طريفة بن حاجز، كما وأن صحارى الجنوب يغلب عليها التموج في الرمال وإثارة الحصباء، وغياب أقدام الرجال والفرسان المقاتلين. ولقد قاتل في هذه المنطقة العلاء ابن الحضرمي وشرحبيل بن حسنة وحذيفة بن محصن الغلفاني.(1/85)
أهم مناطق الجزيرة مكة. وبها المسجد الحرام، وفي وسطه الكعبة، وبها ماء زمزم، والصفا والمروة والحجر الأسود ومقام إبراهيم وغيره من الآثار(1)، ليس فيها مياه جارية، إنما فيها بعض (العيون المجرورة في أقنية، وأكثر مائها من السماء، وليس فيها شجر مثمر إلا بعض نخيلات، وفيها جبل ثبير يشرف على منى ومزدلفة. فتحها الرسول صلى الله عليه وسلم عام 8 من الهجرة فكسر الأصنام، ومكّن فيها للصبغة الإسلامية(2). فيها ولد رسول الله وأبو بكر وغيرهما من الصحابة وفيها دور لهم، وفيها المساجد والمقابر(3). وبين مكة والمدينة قبر القاسم بن محمد ابن أبي بكر الصديق وخيمة أم معبد وغديرخم وبدر وحنين وجبل الملائكة وجبل ريحانة وبئر علي بن أبي طالب القريب من المدينة(4)هاجر منها الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق والأصحاب. ومنها وإليها طرق عديدة من العراق وشبه الجزيرة والشام(5).
__________
(1) ابن حوقل -صورة الأرمن -1/29، ابن عبد الحق -مراصد الاطلاع: 3/1303
(2) الهروي -الإشارات إلى معرفة الزيارات: 85
(3) الهروي- الإشارات إلى معرفة الزيارات 87-89
(4) الهروي -الإشارات إلى معرفة الزيارات 89-90
(5) الحموي -معجم البلدان: 5/187-188، القزويني- آثار البلاد وأخبار العباد 112 وما بعدها(1/86)
وأما المدينة فهي تقع في حرة، وبها مياه ونخيل وزروع وآبار، وبها جبل أحد في شمالي المدينة، وبها وادي العقيق إلى الجنوب منها في طريق مكة. هواؤها ومناخها أثرا على صحة المهاجرين من مكة. تدخل وتخرج منها طرق عديدة تنتهي إلى مكة والكوفة والبصرة والبحرين والرقة ودمشق والعراق وفلسطين ومصر(1). بها مشاهد كثيرة، وآثار قديمة مثل البقيع ومسجد قباء، وآثار معركة أحد وغيرها(2). وقد اتخذها الرسول صلى الله عليه وسلم مقراً ومستقراً، وهي التي انطلقت منها جيوش الفتح، واستخلف بعد ذلك أبو بكر فاتخذ منها قاعدة حربية، وسير منها الجيوش العديدة إلى أنحاء مختلفة من أرض الجزيرة، فبدأ بالقريب منها ثم بالأبعد فالأبعد حتى جاس خلال الديار وقاتل المرتدين مبتدئاً بذي القصة والأبرق.
وأما الطائف فكان اسمها "وج" وهي لثقيف(3). تقع إلى الجنوب الشرقي من مكة، وهي على طرف واد، ومسيرة يوم للطالع من مكة، وتقع على ظهر جبل غزوان. فيها مياه عذبة جارية وعيون ونخل وأعناب، ومشهورة بزبيبها. حاصرها الرسول صلى الله عليه وسلم سنة 8 من الهجرة بعد أن فرغ من حنين، ونصب عليها منجنيقاً(4) تتميز بطيب هوائها ومناخها المعتدل(5).
__________
(1) الحموي -معجم البلدان: 2/87- وما بعدها، القزويني -آثار البلاد وأخبار العباد 107
(2) الهروي- الإشارات إلى معرفة الزيارات: 92 وما بعدها
(3) البكري -معجم ما استجم: 3/886
(4) الحموي -معجم البلدان: 4/8 وما بعدها
(5) القزويني -آثار البلاد وأخبار العباد 97-98(1/87)
وأما البحرين فهي في ناحية نجد. وأشهر مدنها هجر. وقد اشتهرت بالتمور(1) قاتل في أراضيها ومدنها العلاء بن الحضرمي، فالطريق إليها صعب من المدينة، والتحرك إليها يتطلب جهداً كبيراً من المقاتلين. والبحرين قريبة من بلاد فارس، وقد تتأثر بها بحكم الجوار، لذلك كان لا بد من القضاء على الفتنة التي حدثت فيها، وعلى المرتدين الذين امتنعوا عن دفع الزكاة(2).
__________
(1) ابن حوقل- صورة الأرض 1/37
(2) ابن عبد البر -الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3/1086(1/88)
وأما اليمن ففيها تهامة وهي جبال تشرف على البحر الأحمر من الغرب. ويحد اليمن من الغرب صعده ونجران، ومن الشمال حدود مكة، ومن الجنوب صنعاء(1) وهذا هو المثلث الذي يمتد ضلعه الأول بخط وهمي من عمان وبحر عمان إلى جيزان على البحر الأحمر وأهم مدن اليمن صنعاء وعدن وحضرموت والشحر والمكلا ومخا والحديدة وغيرها. وأهم أشجارها النخيل والأعناب، وفيها زروع كثيرة، ومروج خضراء حتى أطلق عليها "اليمن الخضراء"(2) وفيها الجبال الكثيرة التي من أهمها الشب وشبام وكوكبان. وفيها صناعة السيوف اليمانية المشهورة(3) وفي اليمن مدينة صنعاء وهي طيبة الهواء وفيها تل يعرف بـ "غمدان" وجبال أهمها المذيخرة صعب المرتقى، وفيه زروع ومياه ونبات. "ونفوسة" وهو جبل تكثر فيه أيضاً المياه والمزروعات. و"شبام" وهو جبل منيع من جبال اليمن عرف بعقيقه وبحجارته الملونة. وأما عدن فهي مدينة مطلة على البحر، وتكثر فيها المزارع والبساتين(4) وأما عُمان فهي بلاد غنية بثمارها من الموز والرمان، وعاصمتها صُحار المشهورة بتجارتها وكثرة أموالها وغنى أهلها، لكن جوها حار، ومناخها، رطب(5) وحرارتها مرتفعة، وجبالها الغربية مرتفعة تبلغ 3170م تسكن في بعض سفوحه من الجهة الشمالية بعض قبائل الأزد. وقد فتحت صحار في عهد أبي بكر الصديق(6) لها محاور ساحلية إلى الشمال وإلى الجنوب. ففي الشمال تتصل بـ دبا، وفي الجنوب بمسقط(7)، وتتصل أيضاً عن طرق بحرية.
__________
(1) ابن حوقل- صورة الأرض 1/36
(2) الحموي -معجم البلدان : 5/447، القزويني -آثار البلاد وأخبار العباد: 65
(3) القزويني -آثار البلاد وأخبار العباد: 68-69
(4) ابن حوقل -صورة الأرض - 1/38
(5) ابن حوقل -صورة الأرض: 1/38
(6) الحموي -معجم البلدان: 3/393- 394
(7) أبو خليل -أطلس التاريخ العربي: 28- مادون الخريطة التاريخية: 1(1/89)
وأما حضرموت فهي تقع في شرقي عدن، ذات رمال كثيرة تعرف بالأحقاف وهي على ساحل بحر العرب. ومن أهم مدنها المكلا والشحر، وفيها إلى الشمال الغربي قبرهود، ومفازه، وثمود. وبالقرب منها كنده التي ضمها إليه زياد بن لبيد الذي أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم ليكون على أهلها. وفيها واد يجتاز قبر هود من الغرب، ثم ينحدر نحو البحر لينتهي إليه. وارتدت حضرموت مع من ارتد من العرب بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم، فلقيهم أبو بكر وأرسل إليهم المهاجر بن أمية ليكون عوناً لزياد بن لبيد البياضي. واستطاع المسلمون التغلب على المرتدين، فعادت هذه المنطقة إلى الإسلام مرة ثانية(1).
وأما اليمامة فهي تقع في الجزء الشرقي من شبه جزيرة العرب، قريبة من الخليج العربي. تدخلها وتخرج منها عدة طرق. فمن اليمامة إلى الطائف ومكة، ومنها إلى البحرين إلى دبا، ومنها باتجاه الشمال إلى كاظمة في العراق إلى البصرة، ومنها باتجاه الشمال الغربي إلى نباج إلى المدينة المنورة(2). وكانت ذات خير كثير، وذات شجر ملتف، ويوجد في بعض أجزائها وكأنها غوطة خضراء أهلها من أصحاب الوبر(3) وفي اليمامة جرت أكبر المعارك في عهد أبي بكر الصديق إذ جيّش إليها جيوشاً بقيادة خالد بن الوليد ضد مسيلمة الكذاب الذي أوى إلى تلك المنطقة. التقى الجيشان شمالي اليمامة، وكان النصر لخالد(4). وبعد هذا الانتصار الساحق، وبعد القضاء على حروب الردة في هذا المكان، انتقلت الجيوش العربية الإسلامية من اليمامة إلى العراق(5).
__________
(1) الحموي -معجم البلدان - 2/269 وما بعدها
(2) مادون -الخريطة التاريخية 1
(3) الحموي -معجم البلدان -2/442، القزويني -آثار البلاد وأخبار العباد: 131
(4) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/513، الذهبي- تاريخ الإسلام: 1/358، غلوب- الفتوحات العربية الكبرى 294
(5) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/553-554(1/90)
وأما البطاح فهي منطقة وبلد صحراوية، وتقع في الجزء الغربي من نجد. وفيها وقعت معركة بين خالد ومالك بن نويرة في حروب الردة في زمن أبي بكر(1) والبطاح ماء لبني أسد وبقربه حدثت معركة البطاح(2).
وأما النباج مكان يقع شرقي المدينة في منتصف المسافة بين الخليج العربي من الشرق والبحر الأحمر من الغرب. ومن هذه المنطقة تتفرع ثلاث طرق. طريق تتجه إلى الغرب نحو المدينة المنورة، وثانية تتجه نحو الشرق إلى دارين وثالثة تمر من البصرة إلى فيد باتجاه مكة(3). وهي لبني سليم ومزينة، وهي التي كانت مسرحاً لجيوش أبي بكر الصديق لمحاربة المرتدين.
وأما ذو القصة فهو مكان يقع شمال المدينة على بعد أربعة وعشرين ميلاً، وإلى هذا الموضع بعث الرسول صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة إلى بني ثعلبة، وإليه أيضاً خرج أبو بكر بنفسه فحشد الجيوش هناك لقتال المرتدين(4) واتخذ اجراءات وفاعلية ووقائية ضد المهاجمين، أو الذين سولت لهم أنفسهم مهاجمة المدينة.
وأما الربذة فهي قرية من قرى المدينة، في غربها جبل رحرحان على بعد ما يقرب من بريدين، وبالقرب منه ماء الكديد والوج وغيرهما من القلب والآبار(5) نفر إلى هذا المكان أبو بكر لقتال المرتدين(6) وهو المكان نفسه الذي يدعى "أبرق الربذة"(7).
__________
(1) ابن الأثير -الكامل في التاريخ: 2/358- ابن خلدون -ديوان المتبدأ والخبر: 2/2/74
(2) الحموي -معجم البلدان: 1/445
(3) الحموي -معجم البلدان: 5/256
(4) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/479- البكري -معجم ما استعجم: 3/1076-1077 الحموي - معجم البلدان: 4/366
(5) البكري -معجم ما استعجم: 2/633-634
(6) ابن خلدون -ديوان المبتدأ والخبر 2/2/66، غلوب الفتوحات العربية الكبرى 184
(7) الحموي -معجم البلدان 1/68(1/91)
وأما دارين فهي بلدة تقع على ساحل الخليج العربي (فرج الهند) من الجهة الغربية باتجاه البادية، وتبعد عن الساحل مسيرة يوم بحري، وتتصل بمحور من الساحل إلى المدينة المنورة، وطرق تتجه نحو الشرق إلى دارين وهي لبني سليم ومزينة(1)ومنها إلى كاظمة والأبله عن طريق ساحلي، كما تتصل بطريق إلى الجنوب إلى اليمامة ونجران واليمن. وتم فتح هذه البلاد سنة 12 من الهجرة في زمن أبي بكر الصديق على يد القائد العلاء بن الحضرمي. وهذه البلدة دارين مشهورة بتجارة المسك الذي يجلب من الهند(2).
وأما دبا فهي تقع في خليج بحر عُمان، وهي سوق يجتمع فيها العرب في تجارتهم(3). وفيها قبائل الأزد التي أسلمت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم ارتدت بعد موته. وكان معهم عامل الصدقات حذيفة بن محصن الذي أسمعوه شتماً، فأرسل أبو بكر مدداً إلى حذيفة، وحوصروا مدة طويلة إلى أن نزلوا على حكمه، وعاد مرة ثانية هذا البلد إلى الحكم الإسلامي(4) تتصل مع الساحل بمحور شمالي يمر بدارين وكاظمة، وبمحور جنوبي يمر بصحار ومهره وحضرموت وعدن على ساحل بحر العرب جنوبي اليمن، وبمحور غربي يقطع الجزيرة ماراً باليمامة حتى يصل إلى الطائف فمكة فالقضيمة(5).
وأما حصن الينجر فهو في حضرموت، التجأ إليه المرتدون، فحاصرهم المهاجر بن أبي أمية(6). الذي أرسل من قبل أبي بكر(7).
__________
(1) مادون -الخريطة التاريخية 1
(2) الحموي -معجم البلدان: 2/132 ما دون -الخريطة التاريخية: 1
(3) البكري - معجم ما استعجم: 2/539
(4) الحموي -معجم البلدان: 435-436
(5) أبو خليل -أطلس التاريخ العربي: 28، مادون -الخريطة التاريخية 1
(6) ابن حجر -الإصابة في تمييز الصحابة 6/144
(7) الحموي -معجم البلدان 2/271(1/92)
وأما أجأ وسلمى فهما جبلان يقعان في الشمال الشرقي للمدينة. فيهما مياه وشجر، تسكن قريباً منهما قبائل طيء وبنو أسد وغطفان. جبل أجأ في الشمال الغربي وجبل سلمى في الجنوب الشرقي يقابلان بعضهما، وبالقرب منهما بزاخة وفيد وقد جرت معركة بزاخة بين الجبلين وهي بين خالد بن الوليد ومالك بن نويره. المسافة بين الجبلين يوم واحد، وبين الجبلين وفدك ليلة واحدة، وبينهما وبين خيبر خمس ليال(1) تخترقهما عدة محاور، واحد آت من المدينة يمر بينهما، وبعد أن يقطعهما ينحرف نحو الغرب ليمر بتيماء، وثان يمر تحت جبل سلمى آت من المدينة من الجهة الغربية فيخترق فيد ويمر بأجفر حتى يصل إلى القادسية شمالاً، وثالث يأتي من دارين من الساحل متجهاً نحو الغرب فيمر بـ فيد ثم يتفرع إلى فرعين أحدهما يتجه فيمر فوق جبل أحا، والآخر يتجه فيمر تحت جبل سلمى.
__________
(1) الحموي -معجم البلدان: 1/94 وما بعدها، القزويني -آثار البلاد وأخبار العباد 74(1/93)
كما يلاحظ أن شبه جزيرة العرب محاطة بالبحار من جوانبها الثلاثة، وأكثر السكان يتمركزون وينتشرون على طول السواحل البحرية، أو بالقرب منها. وقد اشتهرت مدن منها ينبع ورابغ وجدة والحديدة ومخا على ساحل البحر الأحمر، وعدن والمكلا والشجر على ساحل بحر العرب، وصحار ودبا على ساحل بحر عمان، والقصير ودارين على ساحل الخليج العربي (فرج الهند). وأهم المدن القريبة من الساحل مكة المكرمة والمدينة المنورة والطائف وصنعاء وتعز. وأهم الجبال فيها جبال عمان، وجبال اليمن، وجبلا أجأ وسلمى، وأما في وسط هذه الجزيرة فإنها خالية من السكان إلا قليلاً، تتوزع منها القبائل العربية للمرعى وطلب الماء. وأهم المدن اليمامة ونباج وفيد، لكن الغالب في وسط هذه الجزيرة الجفاف ووجود الرمال والمفازات والصحارى التي من أهمها صحراء الأحقاف والربع الخالي والدهناء ونجد والبطايح والنفود. يقطع هذه الجزيرة بعض الطرقات التي تتمركز وتكثر في منطقة نجد، ومع ذلك فإن القسم الجنوبي منها يكاد يكون خالياً، وبخاصة في الربع الخالي وصحراء الأحقاف. فيها بعض الينابيع والآبار التي تتجمع حولهما القبائل، ويجري الاقتتال عليهما وعلى المرعى. وفيها أيضاً بعض الوديان التي تجري أثناء الشتاء، وتنقطع أثناء الصيف، وأهم الوديان متمركزة حول المدينة المنورة، وحول صنعاء، وكلها تنتهي في البحر. يسكن هذه الجزيرة الحضر الذين يتواجدون في المدن الكبيرة، وبخاصة الساحلية منها والقريبة، والبدو الذين ينتشرون في كل أرجاء هذه المنطقة وأهمهم طيء في أجأ وسلمى، وعبس وغطفان في تيماء، وبنو قضاعة في تبوك، وجهينة في غربي خيبر، والأوس والخزرج في المدينة، وبنو أسد في جنوبي بزاخة، وتميم في البطايح، والرباب وبنو سليم في شمالي النباج، ومزينة وهوازن في الجنوب منها، وبنو عبد القيس وبنو ربيعة في البحرين، والأزد في عُمان، وكندة في حضر موت، وبجيلة وحمير وقسم من الأزد في اليمن.(1/94)
وهكذا نرى أن هذه القبائل تنتشر في كل مكان من أرض الجزيرة العربية عدا الأراضي التي لا يوجد فيها مياه، ولا يمكن للإنسان أن يعيش فيها كالربع الخالي والدهناء والأحقاف.
يشتد القتال ويكثر في المناطق التي تتمركز فيها القبائل، وأغلب الأراضي مفتوحة صالحة للميدان. وعادة ما تجري المعارك بالقرب من مصدر مائي. تتدرج ميول هذه الأرض من الشمال إلى الجنوب، ومن الغرب إلى الشرق. ويبلغ أعلى ارتفاع لها في جبال الطائف واليمن القريبة من الساحل، وجبال عمان.
مسرح عمليّات العراق
مسرح طولاني، يمتد من الغرب إلى الشرق على طول نهر الفرات. يحده من الشرق الخليج العربي وبلاد فارس، ومن الغرب بلاد الشام، ومن الشمال نهر دجلة وأراض بين النهرين وجزء من بلاد فارس، ومن الجنوب شبه جزيرة العرب. هذا المسرح لا يمثل العراق بكامله، وإنما يمثل الجزء الذي عملت فيه الجيوش العربية الإسلامية في زمن أبي بكر الصديق حيث لم يتعمق في أراضي العراق، وإنما ابتدأ بها من البصرة (الأبلة) واتجه باتجاه معاكس لنهر الفرات حتى وصل الكوفة وعانة، والقراض. وهنا توقفت عملياته، وأصر بنقل القتال والجيوش إلى أرض الشام. وهناك يبدأ مسرح عمليات جديد. ويمكن إيجاز الخصائص:
1-لم تختلف الهيئات الأرضية، عن الهيئات التي تركها الجيش العربي في شبه جزيرة العرب، ذلك لأن هذه الأراضي كانت امتداداً للأرض التي قاتل عليها الجيش من قبل، فهي أرض صحراوية، فيها بعض التلال والمرتفعات المسيطرة والحاكمة، وفيها بعض الوديان والينابيع والمياه. وقد تمكن الجيش العربي من جر الجيش الفارسي إلى مناطق عمليات تشبه تماماً مناطق العمليات التي قاتل عليها من قبل، ولذلك فهو ذو خبرة بمعالمها وخصائصها وطبيعتها الجغرافية.(1/95)
2-فيها المستنقعات والمياه التي لم يعتد المقاتل العربي أن يقاتل فيها، فهي تحتاج في بعض الأحيان إلى وسائط عبور كما حدث للجيش العربي أن استخدم السفن التي استولى عليها من أمغيشيا(1)وكما عبر النهر إلى الأنبار(2) وقاتل على الضفة المقابلة لنهر الفرات(3)وكما التف حول المستنقعات في أسفل مجرى النهر بعد معركة المذار(4).
3-توفر المصادر المحلية في هذا المسرح، فالعراق بلد التمور والحبوب والبقول والفواكه والخضروات.
4-يمكن أن يكون هذا المسرح موبوءاً، ويؤثر على قدرة الجندي وإمكانياته القتالية، وبخاصة في الجزء الأسفل من نهر الفرات، ولكنه لم تحدث مثل هذه الأوبئة على المستوى الجماعي، كما حدث في مسرح عمليات الشام، ومات العديد بالطاعون.
5-كثافة المدن النهرية، أو القريبة من النهر، وهذا ما يفسر حدوث المعارك العديدة حول هذه المدن، واضطرار هذا الجيش إلى فرض الحصار، والتعود على القتال ضمن المدن، أو حصارها، وقطع خطوط الإمداد والمواد التموينية عن أهلها لإجبارهم على الاستسلام.
6-وجود عدد من القبائل العربية التي تحالفت مع الفرس وتعايشت معهم، وقبلت أن تقاتل مع الفرس ضد الجيش العربي الإسلامي. وكانت أغلبية هذه القبائل منتشرة على أطراف وحدود الجزيرة العربية(5)
إذا دققنا هذا المسرح، نجد أن المعارك حدثت في أغلبها في أطراف الجزيرة، وعلى طول الشريط النهري. لهذا نرى لزاماً علينا أن نبدأ بالبصرة كما أمر أبو بكر خالد بن الوليد أن يبدأ بها.
__________
(1) ابن الأثير -الكامل في التاريخ 21/389
(2) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/575 وما بعدها.
(3) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/575 وما بعدها
(4) الطبري -تاريخ الأمم والملوك 2/559- وما بعدها
(5) الطبري -تاريخ الأمم الملوك: 2/551 وما بعدها وأغلبها من قبائل تغلب(1/96)
البصرة: يدخلها نهر دجلة، ويعبر من جانبها نهر الأبله، وهي تقع على الضفة الغربية للنهر، وهي إلى شمال من الخليج العربي. فيها مياه صالحة لجريان المراكب(1). وفي الشمال من المدينة توجد مستنقعات يشكلها نهرا دجلة والفرات، ويصعب القتال أو التحرك في تلك المنطقة إلا على مراكب في بعض أجزاء منها. وقد اتخذ المثنى مدينة البصرة هدفاً لغاراته المتكررة من الناحية الجنوبية منها ومن ناحية الحيرة(2)وفيها ميناء له أهميته الاقتصادية والحربية لدى القيادة الفارسية، كما أنها ملتقى الطرق القادمة من الخليج العربي، أو من الصحراء، أو من شمالي العراق، وهي قاعدة بحرية للامبراطورية الفارسية المطلة على العرب(3) وفيها الموارد التي يحتاجها الجيش كالتمر والأرز والخبز والمرعى وأنواع الطعام والشراب(4)يجتمع دجلة والفرات فيها. فهي بلد الخيرات والمياه الكثيرة، فلا ينتابها محل، ولا يجتاحها نقص(5)كانت تتبع لولاية "واست ميزان" الفارسية (التي عليها هرمز، وهي محصنة ومزودة بالسفن والأسلحة(6) وهي مفتاح العراق الذي أمر أبو بكر خالداً أن يبدأ منها في فتحه للعراق (7) وقد اعتبرها بعض المؤرخين من بلاد الشام(8). وفيها مشاهد وآثار العرب الذين فتحوها فيها قبر الزبير بن العوام، ودار أبي بكر الصديق، ومشهد علي بن أبي طالب وغيرهم(9).
__________
(1) ابن حوقل -صورة الأرض: 1/238
(2) الحموي -معجم البلدان 1/430
(3) الحموي -معجم البلدان 1/430 أكرم- سيف الله 249
(4) الحموي -معجم البلدان: 1/431-432
(5) الحموي -معجم البلدان 1/439
(6) الحموي -معجم البلدان 1/431
(7) الطبري -تاريخ الأمم والملوك 2/553
(8) الحموي -معجم البلدان 1/292
(9) الهروي- الإشارات إلى معرفة الزيارات 81 وما بعدها(1/97)
الخفّان: مكان يقع على بعد عشرين ميلاً إلى الجنوب من الحيرة. كان المثنى يرابط فيه عندما صدرت الأوامر إلى خالد بتولي العمليات الحربية في أرض العراق. وكانت تسكن تلك الديار قبائل تغلب(1).
المذار: بلد يقع إلى الشمال من أبله (البصرة) بحوالي 100 كم على الضفة الغربية لنهر دجلة، تكثر في أرضها المستنقعات، وبخاصة في القسم الذي يقع بين دجلة والفرات(2) وهي غير صحيّة، لفساد تربتها ورائحتها(3). ولهذا فإنها لا تصلح لتمركز الجيش والمكوث فيها طويلاً.
كتسفون: تقع هذه البلدة على الضفة الشرقية لنهر دجلة جنوبي بغداد بحوالي 40كم، وشمالي المذار بحوالي 400 كم وهي التي انطلق منها جيش "قارن" القائد الفارسي الذي أرسله الامبراطور "أردشير" تعزيزاً لقوات "هرمز"، كما كانت قاعدة عسكرية كبيرة تنطلق منها الجيوش الفارسية بعد تحضيرها وإعدادها(4)
ولَجَة: تقع قريبة من الضفة الغربية لنهر الفرات، وهي أول بلده للمتجه من الجنوب إلى الشمال، وهي جنوبي الحيرة بحوالي 80 كم. وفي الولجة جرت معركة كبيرة بين الفرس بقيادة "الأندرزعز" وبين العرب بقيادة خالد بن الوليد(5).
أليس: تقع بالقرب من مجرى نهر الفرات، وهي على الضفة الغربية له، وهي بلدة بالجزيرة(6) ولا تبعد عن الولجة سوى حوالي 40كم وفيها جرت معركة بين الفرس بقيادة "جابان" وبين العرب بقيادة خالد، وقد جرى الدم نهراً لكثرة القتلى من الفرس(7).
__________
(1) البكري -معجم ما استعجم: 2/505، أكرم- سيف الله 247
(2) الحموي -معجم البلدان: 5/88 أكرم -سيف الله: 250-263
(3) البكري -معجم ما استعجم 4/1203
(4) أكرم- سيف الله: 250-263-270
(5) الحموي -معجم البلدان 5/383 أكرم -سيف الله- 269 وما بعدها
(6) البكري -معجم ما استعجم 1/189
(7) ابن عبد الحق البغدادي- مراصد الاطلاع: 1/113، أكرم- سيف الله: 286 وما بعدها(1/98)
أمغيشيا: مدينة كبيرة، استولى عليها خالد بن الوليد من غير قتال بعد أن هجرها أهلها خوفاً، فأصاب الجيش العربي منها الغنائم الكبيرة، ثم أمر بهدمها(1).
الحيرة: وهي بالعراق (2) مدينة لها أهميتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، عاصمة العراق يحكمها مرزبان فارسي "آزاذ به" وفيها زعماء من العرب يقتصر حكمهم على الشؤون القبلية والثانوية من الأعمال. وكانت أهميتها الاقتصادية آتية من أنها على الضفة الغربية لنهر الفرات، وملتقى القادمين من الصحراء، أو من أواسط العراق، وهي غنية بمواردها المحلية، وأما من الناحية العسكرية فتعتبر حامية متقدمة للفرس، وفيها جيش خليط من الفرس والعرب للدفاع عنها. وقد جرت فيها مناوشة بين الفرس والعرب، وانتهت بتسليم المدينة، وإلزام أهلها على دفع الجزية. وفي الحيرة الخورنق على نحو ميل نحو الشرق(3).
__________
(1) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/563، الحموي معجم البلدان: 1/254 ابن عبد الحق البغدادي مراصد الإطلاع 1/119
(2) البكري -معجم ما استعجم 2/478
(3) ابن عبد الحق البغدادي - مراصد الإطلاع: 1/441، القزويني- آثار البلاد وأخبار العباد: 186(1/99)
الأنبار: تسميها الفرس "فيروز سابور"(1) وهي تقع على الضفة الشرقية لنهر الفرات وهي حدود فارس(2) وهي تبعد من الحيرة إلى الشمال بحوالي 200 كم، وتبعد عن كتسفون ما بين دجلة والفرات مسافة حوالي 100 كم(3)وهي غنية ببساتينها وأعنابها ومياهها ونشاطها الاقتصادي وتجارتها ما بين بلاد الشام وفارس.. وهي تعتبر قاعدة اقتصادية، ومخزناً كبيراً للحبوب والغلال كالحنطة والشعير(4). يحكم هذه المدينة حاكم فارسي، وفيها، حامية عسكرية من الفرس والعرب، وهي محصنة، يحيط بها خندق يُغمر بالماء أثناء تهديدها، ومن خلفه سور يتحصن به المدافعون لتسديد سهامهم على المهاجمين. وقد تم فتح المدينة من قبل الجيش العربي الإسلامي في زمن أبي بكر الصديق وفي خلافته سنة 12/634 فصالح أهلها على دفع الجزية(5)
عين التمر: مدينة كبيرة في وسط المسافة بين الحيرة والأنبار غربي الكوفة، إلا أنها بعيدة عن نهر الفرات إلى الغرب حوالي 50 كم. وهي على طرف البرية ومشهورة بكثرة تمورها وقسبها اللذين يصدران إلى جميع البلاد العراقية والشامية(6) فيها حامية عسكرية من الفرس والعرب، وقد تصدى العرب الموالون للفرس للقوات العربية الزاحفة نحو هذه المدينة، وتم فتحها عنوة(7).
__________
(1) الحموي -معجم البلدان - 1/257، ابن عبد الحق البغدادي- مراصد الإطلاع: 1/120
(2) البكري -معجم ما استعجم 1/197
(3) اكرم سيف الله: 242
(4) الحموي -معجم البلدان 1/257
(5) الطبري -تاريخ الأمم والملوك 2/582، الحموي معجم البلدان 1/258
(6) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/576، الحموي معجم البلدان: 4/176 ابن عبد الحق البغدادي، مراصد الإطلاع 1 2/977
(7) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/577، الحموي معجم البلدان: 4/176 أكرم سيف الله: 306 وما بعدها(1/100)
دومة الجندل: وهي تقع ما بين برك الغماد ومكة، أو بين الحجاز والشام وهي على عشر مراحل من المدينة، وعشر من الكوفة، وثمان من دمشق، واثنتي عشرة من مصر(1).
تعتبر هذه المدينة من المدن الشامية، تسكنها قبائل عربية أغلبها من غسان وكلب، وهي ملتقى ونقطة اتصال بين العراق والشام والجزيرة العربية، ولها أهميتها الاقتصادية والتجارية يحكمها زعماء من القبيلتين هما أكيدر بن عبد الملك والجودي بن ربيعة اللذان استعدا لقتال قوات أبي بكر الصديق والتصدي لها. فتحت هذه المدينة سنة 9/630. ثم نقض أكيدر العهد. وها هو عياض بن غنم يكلف بمهمة لإعادتها سنة 12/634 ثم تمتنع عنه، فيأتيه خالد فيفتحها(2).
المصيخ: تقع هذه المدينة في الشمال من عين التمر، وإلى الغرب من نهر الفرات بحوالي 25كم في زمن أبي بكر كانت تتجمع فيها بعض القبائل العربية المتنصرة، وبعض الجنود من الفرس، كما تحشدت فيها القوات الفارسية لقتال خالد، وشكل الفرس والعرب اتحاداً ضد قوات أبي بكر الصديق التي انتصرت على الجميع(3).
الثني: تقع جنوب شرق المصيخ بحوالي 40 كم وهي بين المصيخ والزميل. وفيها بنو تغلب وبنو بجير الذين وقفوا ضد خالد فأوقع بهم، وساهم سوء العذاب وانتصر عليهم(4).
(الزميل: تقع جنوبي شرقي الثني بحوالي 35كم، وإلى الغرب من خنافس بحوالي 25كم. وفيها بنو تغلب وهم غير الذين غلبوا على يد قوات أبي بكر الصديق وهزموا شر هزيمة (5).
__________
(1) البكري -معجم ما استعجم 2/565
(2) الحموي -معجم البلدان: 2/487-488، ابن عبد الحق البغدادي- مراصد الإطلاع 2/542
(3) الحموي -معجم البلدان 5/144
(4) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/582، الحموي معجم البلدان: 2/86ـ أكرم سيف الله 318
(5) الطبري -تاريخ الأمم والملوك 2/582، أكرم -سيف الله: 319(1/101)
الخنافس: تقع غربي الأنبار بحوالي 50 كم، وتبعد عن الحصيد نحو الشمال الغربي بحوالي 20كم تقام فيها سوق للعرب، وهي في طرف العراق. وقد جرت معارك بالقرب منها في أيام أبي بكر، وانتصرت القوات العربية على الفارسية(1).
الحصيد، تقع إلى الطرف الشرقي من خنافس بحوالي 25كم. وهي قريبة من الأنبار، ومن مجرى نهر الفرات، وهي من الجهة الجنوبية من العراق. وقد تجمع فيها من الفرس وقبائل تغلب وربيعة لمجابهة الجيش العربي الإسلامي في عهد أبي بكر. وقد تمكن القعقاع بن عمرو قائد الحملة من إيقاع الهزيمة في الحلفاء، وقتل القائد الفارسي "روزبه"(2).
الفراض: قرب "أبو كمال" تقع في تخوم العراق من الناحية الشمالية، قريبة من بلاد الشام، متصلة بالجزيرة(3) وقد تجمعت في هذه البلدة بعض القبائل العربية مثل تغلب وإياد والنمر، وبعض الحاميات الفارسية والرومية(4)، كما ويجري نهر الفرات من شمالها، وتقع على الناحية اليمينية من مجراه. حدثت فيها معركة بين الجيش العربي بقيادة خالد بن الوليد والقوات المتحالفة من الفرس والعرب والروم. وهي آخر معارك العراق في زمن أبي بكر الصديق(5).
نهرا دجلة والفرات.
__________
(1) الطبري -تاريخ الأمم والملوك 2/580، الحموي معجم البلدان 2/391، أكرم -سيف الله: 321
(2) الطبري -تاريخ الأمم والملوك 2/580، ابن عبد الحق البغدادي- مراصد الإطلاع 1/408
(3) الطبري -تاريخ الأمم والملوك 2/582/ الحموي معجم البلدان 4/244
(4) الطبري -تاريخ الأمم والملوك 2/582
(5) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/583- ابن عبد الحق البغدادي -مراصد الإطلاع: 3/1022(1/102)
هما نهران كبيران يمران من قلب العراق، ليرويا أرضه، ويجعلاه في ظلال وعيون، وفواكه مما يشتهون، وبساتين تجري من تحتها الأنهار. وكانت أغلب المدن تنشأ على ضفافهما، أو قريبة منهما وكانت أكبر مدنهما "كتسفون" على نهر دجلة، والحيرة على نهر الفرات. وكان (الحاكم الفارسي يقيم في الأولى، وزعماء القبائل العربية يقيمون في الثانية. ومن الواضح أن جميع الأنهار الكبيرة تغير مجراها. فإذا قمنا برصد حركة النهرين في زمن أبي بكر الصديق، وفي زمن الفرس، لرأينا اختلافاً كبيراً عن اليوم. يلتقيان بعد طول مسير في الأبله (البصرة) ويشكلان في هذه المنطقة مستنقعات يصعب على الفارس أو الراجل اجتيازها، كما أن هناك بعض الأنهار الصغيرة التي تتفرع عنها ثم لا تلبث أن تصب فيهما ثانية، كما أن هناك تحويلات نهرية فرعية تجف في أيام الصيف، ويتخذ منها سدوداً للزراعة، أو للأمور الدفاعية إذا اقتضى الأمر كما في الحيرة وفي أليس. ثم يتابعان سيرهما ويصبان في الخليج، كما يرفد النهرين جداول وأنهار صغيرة وكبيرة من جوانبهما، يصلحان لجري السفن(1).
نهر مكيل. من روافد دجلة، وينبع من الجهة الشمالية الغربية، ويأتي من تلك المستنقعات المتجمعة من الشمال تحت سرير نهر الفرات. وفي غربي نهر مكيل جرت معركة كبيرة من القوات العربية والفارسية التي هزمت وتفرق شملها على يد خالد بن الوليد(2).
__________
(1) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/560-568، الحموي معجم البلدان: 2/440 وما بعدها، 4/241
(2) أكرم -سيف الله: 250-263(1/103)
يلاحظ على مسرح عمليات العراق وجود النهرين الكبيرين دجلة والفرات، ووجود أنهار ووديان كثيرة ترفد النهرين تشكل مستنقعات يصعب القتال فيها، وتفرض على المقاتلين أو على الجيشين الالتفاف حولها، أو الوقوع فيها، كما نقطع مسرح العمليات بقطوع عرضانية من الغرب إلى الشرق، متصلة بنهر الفرات مثل الوديان الأبيض والعذف وحوران من الغرب، وبنهر دجلة من الشرق مثل قاوون والمذار ومكيل.
لقد تركزت عمليات الجيش العربي على جزء من نهر دجلة من المذار، وبجزء أكبر من نهر الفرات من الأبله وحتى الفراض. وقد خاض هذا الجيش أغلب عملياته على طول نهر الفرات حتى حوضه الأسفل والأوسط، وكان على القوات العربية أن تناور من أجل قطع النهر إلى ضفته الشرقية، وإن كانت أغلب المعارك حدثت في ضفته الغربية وفي الأراضي القريبة منها كالمصيخ والزميل وعين التمر.
تتدرج ميول مسرح العمليات من الشمال إلى الجنوب، وباتجاه مجرى نهر الفرات، ومن الغرب إلى الشرق باتجاه سرير النهر. وطالما أن الوديان والميول تتجهان من الغرب إلى الشرق، فإن ميدان المعارك لكلا الجيشين يساير هذا الاتجاه، كل واحد يقابل الآخر. ولا يخفى أن العرب أقدر من غيرهم في القتال في الأراضي الصحراوية.(1/104)
لقد بدأت العمليات الحربية من أسفل المسرح وباتجاه البصرة لقد حدثت أول معركة (الكاظمة) وهي بلدة مطلة على (الخليج العربي، وتقع جنوبي البصرة، وهي من مدن البحرين(1). تخترق هذه المنطقة عدة محاور منها باتجاه مكة، فالصمان، فالدهناء(2)، ومن كاظمة إلى اليمامة ومنها إلى البصرة ومنها إلى النباج، أبله، على الطريق الغربي لبلدة كاظمة اصطف الفرس لمواجهة العرب القادمين من الصحراء بقيادة خالد(3). أمام البلدة سهل من الناحية الشرقية وبعده تمتد بعض التلال قليلة الارتفاع. هذا الجزء من المسرح تتكرر صورته في كل ما تبقى من المسرح، فالسهول التي تجري فيها المعارك، والمحاور التي تتحرك عليها الجيوش، والتلال التي تستند إليها ظهور المقاتلين من الجيش العربي، وساحة المعارك التي تصلح لتمركز ومناورة الجيش كما حدث للقوات العربية عندما ناورت من الكاظمة إلى الحفير وهو مكان على مشارف أبله من الجهة الجنوبية الغربية من الجهة الصحراوية(4) ومناخ المسرح الذي يتفاوت تفاوتاً بسيطاً من مكان لآخر، فهو في الجنوب يشبه مناخ الساحل المتصل بالصحراء، وهو في الجهة الغربية وإلى الأعلى مناخ حار رطب وهو في الجنوب يميل إلى الجو الصحراوي. وفي كل الأحوال فإن هذا المناخ لم يتغير كثيراً عما ألفه العرب في حياتهم وفي باديتهم.
مسرح عمليات الشام
__________
(1) الحموي -نجم البلدان: 4/431
(2) البكري -معجم ما استعجم: 4/1109
(3) أكرم -سيف الله: 254 وما بعدها
(4) البكري - معجم ما استعجم: 2/459، الحموي -معجم البلدان: 2/277(1/105)
الشام المعبر إلى آسية الصغرى، إلى مصر، إلى الجزيرة الفراتية فأرمينية. هذا المسرح يختلف من مكان لآخر، فهناك الجبال المرتفعة، والسهول المنبسطة، والغابات الكثيفة، والأنهار الكثيرة والأشجار المثمرة، والغلال الوفيرة، والطرقات الممتدة إلى كل الجهات والمدن المرتبطة بشبكة مواصلات، غير أن العرب ظلوا على أطراف جزيرتهم، وبقوا على التخوم القريبة من بلادهم، ولم يتوغلوا عميقاً في زمن أبي بكر الصديق، وحدثت أغلب المعارك في أجواء تشبه الأجواء التي اعتادها المقاتل العربي من قبل.
تقع بلاد الشام في الشمال الغربي من بلاد العرب. يحدها من الغرب البحر الأبيض المتوسط (بحر الروم) ومن الشرق بادية الشام، ومن الشمال العواصم وجبال طوروس، ومن الجنوب شبه جزيرة العرب.
إن أهم السهول في بلاد الشام سهل البقاع، الذي ينتج أكثر المزروعات وبخاصة القمح(1) والغور الذي اشتهر آنذاك بزراعة قصب السكر والرز، وغوطة دمشق (الغربية والشرقية) التي يرويها نهر بردى ونهر الأعوج، وتشتهر بزراعة الأعناب والمشمش وجميع الأشجار المثمرة، والسهول الساحلية التي تمتد على الساحل والتي تشكل بساتين ذات مساحات صغيرة طولانية مع الشريط الساحلي، وعرضانية ضيقة تصطدم بالجبال الشاهقة المرتفعة.
إن أهم الجبال هي سلسلة لبنان الغربية والشرقية، وهي تشكل حاجزاً كبيراً على البحر الأبيض المتوسط، وتبلغ ارتفاعات هذه الجبال فوق 2500 م عن سطح البحر، فيها الأخشاب المتنوعة الصالحة لصناعة السفن، وتتفاوت درجات الحرارة ما بين قمم الجبال وما بين السهول الساحلية.
هناك الخلجان والموانئ الصغيرة على الساحل، يستخدمها الروم والفرس على السواء لنقل المواد والأخشاب، أو للتبادل التجاري، وأحياناً تستخدم هذه الموانئ كقواعد حربية وحاميات رومية وفارسية(2).
__________
(1) لومبارد- الجغرافية التاريخية: 44
(2) لومبارد -الجغرافية التاريخية: 44(1/106)
يبقى الاتصال ممكناً ما بين شبه جزيرة العرب، وبلاد الشام، أو ما بين العراق وبلاد الشام التي تعتبر عقدة طرق يمر بها المتجه نحو الساحل، أو إلى الجبال الساحلية أو إلى السهول الداخلية. وهناك عقدة طرق بحرية أيضاً تتصل بالمدن الساحلية أو مع موانئ المحيط الهندي والخليج العربي.
إن المياه متوفرة في هذا المسرح، ولا يلقى الجيش أية صعوبة في التزود بالماء أو نقله، وكلما اقترب من حدود الجزيرة نحو الجنوب كلما قلت المياه وضعُف المسطح المائي الذي يتميز به مسرح عمليات الشام.
لا شك أن سكان بلاد الشام هم امتداد لسكان شبه جزيرة العرب، فالغساسنة كانوا يشكلون القسم الأكبر من السكان، وجبلة بن الأيهم قاتل مع الروم في معارك عديدة ضد العرب وبخاصة في معركة اليرموك(1)واستطاع العرب المتدفقون نحو بلاد الشام أن يؤثروا في السكان المحليين وذلك بفضل اللغة العربية الواحدة، والمبادئ الإنسانية التي يحملونها معهم، إذ اتصلوا مع بني جنسهم ومع غيرهم.
بلاد الشام واسعة، كثيرة المدن والبلدان. وإذا ذكرنا فلا نذكر منها في هذا المقام سوى التي كانت مسرحاً للعمليات، أو ممراً للجيش، أو علامة مميزة بجانب معركة من المعارك التي حدثت في عهد أبي بكر الصديق.
__________
(1) البكري -معجم ما استعجم: 2/459، الحموي -معجم البلدان 2/277(1/107)
دمشق: هي أم الشام وريحانتها، وقد وصفها الأقدمون بما تستحق، فسطروا عنها الصفحات، وكتبوا عنها من الناحية التاريخية والآثارية والجغرافية والسكانية والسياسية والعسكرية والدينية(1) يسقيها نهر بردى والجداول الأخرى، وتحيط بها الجبال إلا من جهة البادية فتحت دمشق وحوصرت في أيام أبي بكر، وتم الاستيلاء على ما فيها(2) وبعد فتحها اتجه الجيش العربي إلى الجهة الجنوبية لملاقاة الروم في منطقة الجابية واليرموك. ودمشق بلد قديم، فيه الربوة والنيرب والمزة وداريا ومشهد الأقدام وميدان الحصى، وفيها جوامع وزوايا ومشاهد كثيرة وآثار عظيمة، وغوطة ومروح خضراء(3).
حمص: فيها مشاهد كثيرة، وآثار مزروعة هنا وهناك، منها قبر خالد بن الوليد بطل الجزيرة العربية والعراق والشام وابنه عبد الرحمن وغيره(4) وإلى هذه المدينة اتجه أبو عبيدة بن الجراح عندما سيره الخليفة أبو بكر إلى بلاد الشام(5)صحية الهواء والتربة، وكثيرة المياه والأشجار(6).
__________
(1) ابن عساكر -تاريخ مدينة دمشق: 1/54 وما بعدها، الحموي- معجم البلدان: 2/463، القزويني- آثار البلاد وأخبار العباد 189 حداد - فتح العرب الشام 55-56
(2) غلوب- الفتوحات العربية الكبرى: 275
(3) الهروي -الإشارات إلى معرفة الزيارات -10 وما بعدها، حداد فتح العرب للشام: 56-61
(4) الهروي -الإشارات إلى معرفة الزيارات: 928 ابن عبد الحق البغدادي - مراصد الإطلاع 1/425
(5) الواقدي -فتوح الشام 1/8
(6) القزويني -آثار البلاد وأخبار العباد 184(1/108)
تبوك: تقع على طريق الشام من المدينة، وهي غرب دومة الجندل. ويقال للطريق "الطريق التبوكي" والطريق الساحلي الذي يوازيه على مجر القلزم (الأحمر) "الطريق المعرقة". وهي بين جبل حسمى في الغرب وجبل شروري في الشرق. وفيها عين ماء ونخل وأشجار. وتتصل بالمدينة المنورة بطريق إلى الجنوب، وتتصل بأرض الشام بطريق يمر من معان إلى بصرى، وتتصل بدومة الجندل بطريق يصل إلى الفرات(1).
أيله (العقبة): بلدة تقع على ساحل بحر القلزم (البحر الأحمر)(2). وهي على رأس لسانه اليميني. وتعتبر أول بلاد الشام من الجهة الجنوبية(3) يتفرع منها عدة محاور واحد يتجه إلى الجنوب على الساحل ويتصل بالمدن الساحلية أو القريبة مثل الحديدة، عدن، المكلا، صحار حيث يمر في سواحل البحار الثلاثة القلزم، العرب، بحر عمان، وآخر يتجه إلى الشمال حيث يمر بالبلاد الشامية معان، بصرى، دمشق، وثالث يتجه نحو الشمال الغربي حيث يمر بالفسطاط فالأراضي المصرية.
غزة. هي من بلاد فلسطين من الشام، والمطلة على ساحل بحر الروم (الأبيض المتوسط) وهي أقرب ما يكون إلى مصر. وفيها آثار قديمة مثل قبر هاشم بن عبد مناف وفيها زروع وفاكهة ونخل(4). تتصل بمحور إلى الشمال بالمدن الساحلية عسقلان، وقيسارية، وحيفا. وبمصر من الجنوب بمحور يمر من العريش إلى الاسكندرية وغيرها يشرب أهلها من الآبار(5) وهي محطة للجيوش الإسلامية(6).
__________
(1) الحموي -معجم البلدان: 2/14، مادون- الخريطة التاريخية: 1
(2) البكري -معجم ما استعجم 1/216
(3) الحموي -معجم البلدان: 1/292، القزويني- آثار البلاد وأخبار العباد: 153
(4) المقدسي -أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم: 174- الحموي- معجم البلدان: 4/202-203- القزويني- آثار البلاد وأخبار العباد: 227
(5) القلقشندي -صبح الأعشى. 4/98
(6) شيخ الربوة- نخبة الدهر في عجائب البر والبحر 263(1/109)
دائن: هي ناحية بالقرب من غزة. بها مرت جيوش الفتح العربي إلى الشام، وقاتلت (الروم بعد الانتهاء من حروب الردة)(1).
عربة: موضع من بلاد فلسطين. أنزل أبو أمامة الباهلي الذي كان في جيش يزيد ابن أبي سفيان بالروم هزيمة منكرة فيها(2).
سوى: ماء لبهراء في أرض السماوة. مرّ به خالد بن الوليد بعد تلقيه أمراً بالتحرك من العراق إلى الشام.(3).
أرك (أراك): وهي واقعة على طريق مسير خالد من العراق إلى الشام وهي قبل تدمر(4).
القريتين: تقع شرقي دمشق، بعد جيرود والناصرية إلى الشرق. بينها وبين تدمر مرحلتان(5)
حوران: كورة شامية من أعمال دمشق(6) فيها قرى كثيرة، وحرار منتشرة، ومزارع خضرة، وتربة طيبة. يزرع فيها القمح والحبوب والبقول. وقد فتحت حوران قبل دمشق(7).
فحل: من قرى الشام(8). تقع شرقي نهر الأردن قريبة منه، وهي إلى الجنوب الغربي من الجزيرة، وغربي بصرى وهي من أرض فلسطين. وفيها حدثت معركة كبيرة بين الجيش العربي بقيادة خالد، وبين الجيش الرومي. وفي هذه المعركة انتصر العرب على الروم(9)
مرج راهط: موضع في غوطة دمشق الشرقية، بعد مرج عذراء وأنت متجه إلى حمص إلى اليمين(10).
__________
(1) الحموي -معجم البلدان -2/417
(2) البلاذري -فتوح البلدان: 151
(3) الشيباني -شرح السير الكبير - 1/48 ابن عساكر- تهذيب تاريخ دمشق الكبير: 1/138
(4) أبو خليل -أطلس التاريخ العربي 34
(5) الحموي -معجم البلدان: 4/335
(6) البكري -معجم ما استعجم - 2/474، القزويني -آثار البلاد وأخبار العباد: 185
(7) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/603 وما بعدها، ابن الأثير -الكامل في التاريخ: 2/409
(8) البكري - معجم ما استعجم 3/1014
(9) الطبري -تاريخ الأمم والملوك 2/628 ابن عساكر- تهذيب تاريخ دمشق الكبير: 1/145
(10) الحموي -معجم البلدان 3/21(1/110)
مرج الصفر: يقع في جنوبي دمشق بجانب الكسوة. وقد تكلم الشعراء بهذا المرج(1) وقد اصطدمت القوات العربية المتجهة إلى معركة اليرموك بقوات الروم في هذا المكان واستطاع الجيش العربي في أيام أبي بكر الصديق انتزاع النصر(2).
بُصرى: من أعمال دمشق، ومن قصبة حوران. وهي مشهورة بتجارتها، واجتماع العرب التجار فيها، وعقدة طرقها، ومكانتها الدينية، وبآثارها التاريخية تطرق إليها الشعراء(3) سار إليها خالد بن الوليد عند ما انتهى من مسرح عمليات العراق، وأنزل أهلها على الصلح(4).
أجنادين: تقع جنوب غربي القدس، قريبة من ساحل البحر الشامي (بحر الروم) وهي من أرض فلسطين(5) وصلت إليها القوات العربية عن طريق الجنوب، وكان تشكيل عمرو بن العاص متجهاً إليها(6)وقد حدثت فيها معركة كبيرة بين الجيشين العربي والرومي(7).
ظهرة العقاب (ثنية دمشق) إلى الشرق من دمشق. وهي فرجة إلى الجبل تطل على دمشق وعلى عذراء، وهي طريق القوافل الآتية من القريتين وتدمر، أو الآتية من حمص(8).
القدس: تقع على جبل مستدير، وعرة المسالك، بناؤها من الحجر الأسود والكلس. يشرب أهلها من عين تجري إليها، ومن عين سلوان، ومن الآبار فيها فواكه كثيرة وخيرات جما(9) فيها المسجد الأقصى، وقبة المعراج، ومربط البراق، ومحراب زكريا، وفيها آثار كثيرة(10).
__________
(1) الحموي -معجم البلدان: 5/101
(2) الواقدي -فتوح الشام 1/19 وما بعدها
(3) الحموي -معجم البلدان: 1/441
(4) البلاذري -فتوح البلدان 155
(5) البكري -معجم ما استعجم 1/114
(6) الواقدي -فتوح الشام: 1/7 وما بعدها
(7) الواقدي -فتوح الشام: 1/30 وما بعدها، ابن عساكر- التاريخ الكبير: 1/144
(8) الحموي- معجم البلدان: 4/133
(9) المقدسي -أحسن التقاسم في معرفة الأقاليم: 165، القلقشندي- صبح الأعشى 4/100، طوطح- جغرافية فلسطين 106
(10) القزويني -آثار البلاد وأخبار العباد: 159 وما بعدها(1/111)
بيسان: هي على الجانب الغربي من الغور. خصبة، كثيرة الأشجار فيها مياه كثيرة، وفيها النخيل. ويقال بأن طالوت قتل جالوت في تلك البقعة(1)وأهمية هذه المدينة من الوجهة الحربية بأنها تقع على طريق يصل فلسطين بدمشق وحوران والبلاد الشامية، وتقع أيضاً على طريق يصل بين المدن الساحلية مثل عكا، حيفا، يافا ومن مساوئها أنها كثيرة الرطوبة، كثيرة المستنقعات، مما يسبب بعض الأمراض والحميات. وقد تحصن الروم بها بعد معركة اليرموك وبعد انهزامهم أمام العرب، وقد أرادوا وقف الهجوم ففتحوا المياه في الأراضي أمام الزحف العربي.(2).
الواقوصة: واد في أرض حوران، تهاوى فيه الروم، وخسروا معظم قواتهم في هذا الوادي(3) يحده من الجهة الشرقية وادي اليرموك، ويتصل من جهة الغرب بسهول فيق، ومن الشمال بسهول حوران، هذه الساحة وهذا الميدان أمام الواقوصة يصلح لقتال جميع الأسلحة.
تل الجابية: وهو موضع بالشام(4) وهو من التلال المحيطة بأرض معركة اليرموك، والذي اجتمعت فيه هيئة أركان الجيش العربي قبل بدء هذه المعركة، واتفقوا على المبادئ التي سيقاتلون بها الجيش الرومي. والجابية قرية بالقرب من التل ومن مرج الصفر ونوى والصنمين.(5)
__________
(1) القلقشندي- صبح الأعشى 4/104
(2) المقدسي: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم: 30، الحموي معجم البلدان 1/527، طوطح جغرافية فلسطين 155
(3) الواقدي- فتوح الشام: 1/138.
(4) البكري -معجم ما استعجم 2/355
(5) الحموي -معجم البلدان: 2/91(1/112)
نهر الأردن: ويسمى الشريعة أيضاً. وهو من عدة ينابيع تنحدر من جبل الشيخ (الثلج) منها الحاصباني وبانياس والدان، وتتجمع تلك الينابيع في شمالي بحيرة الحولة، ثم يصب فيها، ويواصل جريانه فيصب في بحيرة طبرية. ويلتقي بنهر اليرموك بعد أن يخرج من البحيرة، ويتابع في وسط الغور جنوباً حتى يجاوز بيسان، فيصل إلى بحيرة زغر (بحيرة لوط)(1).
يلاحظ على المسرح العملياتي الشامي كثرة المدن وقربها من بعضها، وكثافة السكان، وكثرة المحاور التي تخترقه من كل الجهات، مما يسهل عبور الجيوش الآتية من الجنوب، أو من الشرق، وبوفرة مياهه وأنهاره وينابيعه، ووجود الجبال المرتفعة، كما أن هذا المسرح تنتشر فيه المروج والسهول الصالحة لقتال الفرسان والمشاة على السواء كمرج راهط ومرج الصفر وسهل اليرموك التي كثيراً ما تشابه مسرح عمليات الجزيرة مع فارق الأرض المتماسكة. إن الخضرة تملأ تلك البطاح وإن المرعى متوفر لعلف الخيول والإبل، كما أن الوسائط المادية التي يحتاجها المقاتل كالطعام والشراب واللباس وبعض الأعتدة القتالية متوفرة أيضاً.
إن ميول هذا المسرح تتجه من الشمال إلى الجنوب، وهي ليست حادة، ويرسم ذلك الميل اتجاه دجلة والفرات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــ
ــــــ
الفصل الثالث
حُروب الرّدّة
معالم الارتداد وطريقة مكافحته في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) شيخ الربوة -نخبة الدهر في عجائب البر والبحر: 107، القلقشندي -صبح الأعشى: 4/91(1/113)
أولاً: معنى الارتداد أو الرّدة. أكد معنى هذه الكلمة القرآن: "إن الذين ارتدوا على أدبارهم".. (1) والردة الرجوع في الطريق الذي جاء منه، والرجوع إلى الكفر(2) ثم استعملت هذه الكلمة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت تعني ترك المسلم لدينه وارتداده إلى الكفر أو الشرك أو اتباع دين آخر غير الإسلام أي تبديل الدين وكان هذا الفعل يعتبر من أشنع الأفعال وأقبحها، بل من الأعمال التي توجب القتل. وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل المرتد صراحة، كما دلت أحاديثه الكثيرة على ذلك(3) وقتل يهودياً أسلم ثم ارتد(4) وأمر بقتل عبد الله بن سعد بن أبي سرح الذي ارتد ولحق بقرشي في مكة، لكن عثمان بن عفان استجار له فأجاره الرسول صلى الله عليه وسلم(5).
... ... هناك ردة فردية قام بها أشخاص دخلوا الإسلام ثم خرجوا منه كما دخلوه، ثم هم أشد عناداً وحرباً على الله ورسوله. وقد حذر الله هؤلاء وتوعدهم شراً بخسارة الدنيا والآخرة وبسوء العاقبة وبالعذاب الشديد، وبالبعد عن المغفرة وبالخسران المبين(6).
... ... ثم قامت ردة قادها بعض أولئك الذين آمنوا بالرسول وصدقوه، وذلك لما أسري به، إذ لم يصدقوا هذه الحادثة، أو يؤمنوا بها واعتبروها كذباً ونسيج خيال(7).
__________
(1) سورة محمد -الآية: 25
(2) الكفوي -الكليات 2/387
(3) ابن ماجه -الحدود: 1/ الترمذي، باب الفتن: 21، النسائي -باب التحريم 14
(4) النسائي -سنن النسائي: 7/105
(5) النسائي -سنن النسائي: 7/107
(6) سورة البقرة -الآيات: 108-109-161 سورة آل عمران- الآية: 177
سورة التوبة- الآية: 75، سورة النساء- الآية 137
(7) ابن الأثير -أسد الغابة في معرفة الصحابة: 3/206(1/114)
... ... وهناك ردة جماعية سلمية ارتد أصحابها سنة 2/623، وبعد ستة عشر شهراً من الهجرة بسبب تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، وأبى المنافقون والذين في قلوبهم مرض إلا أن ينقلبوا على أعقابهم(1) وفي سنة 3/624 وبعد معركة أحد ارتدنا ناس عندما أشيع مقتل الرسول صلى الله عليه وسلم(2) وفي سنة 4/625 وفي معركة الخندق(3) ارتد بعض المسلمين، وشجع ذلك الارتداد بعض القادة المنافقين في الجيش لا مقام لكم فارجعوا..(4)وفي السنة التي قبض فيها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كانت الردة مسلحة والعصيان معلناً. وهنا تصدى أبو بكر لهذه الفتنة الكبيرة، وأعلن عن الآية التي تشير إلى موت الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وذكر فيها وأنذر الذين ينقلبون على أعقابهم(5) هذه الردة انتشرت في العرب في كل قبيلة جزءاً أو كلاً إلا بعض القبائل القليلة التي منها قريش وثقيف(6).
__________
(1) سورة البقرة -الآية: 143، القرطبي- تغير القرطبي: 1/540، البيضاوي - تفسير القرآن الكريم: 1/38
(2) سورة آل عمران- الآيات: 121-128-152-171 البيضاوي- تفسير القرآن الكريم: 1/77.
(3) سورة الأحزاب -الآيات 9-27
(4) سورة الأحزاب -الآية 13 البيضاوي -تفسير القرآن الكريم: 2/128، ابن كثير- تفسير القرآن العظيم: 3/473- ابن جزي - تفسير ابن جزي: 554-558
(5) سورة آل عمران -الآية: 144- القرطبي - تفسير القرطبي: 2/1464 وما بعدها.
(6) ابن الأثير -الكامل في التاريخ: 2/130(1/115)
ثانياً: الأسود العنسي عبهلة بن كعب. تزعم الأسود الردة في اليمن في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت أول ردة ظهر أمرها وانتشر خطرها(1) ادعى النبوة وعرض نفسه على بني مذحج فأجابوه، وزحف نحو نجران فطرد عامل الرسول صلى الله عليه وسلم خالد بن سعيد بن العاص، ثم جهز جيشاً قوامه سبعمائه فارس وتوجه نحو صنعاء وكان عاملاً فيها شهر بن باذان فتصدى له، ولم يثبت أمامه فهزمه وقتله(2) ثم ضم إليه حضرموت والبحرين، وتوسع ملكه، وطرد كل المناهضين، وولى الناس المقربين إليه(3).
... ... ولما استفحل خطر هذا المتنبيء الذي سمى نفسه "رحمن اليمن"(4) أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الفدائيين لقتلة، لكن الأسود كان محاطاً بحراسة منيعة وبحصن لا ينفذ إليه إلا الرجال الذين من حوله. وبمحاولة من فيروز وبمساعدة زوجة الأسود (آزاد) تمكن هذا البطل من ولوج غرفة العنسي وقتله. وزف الخبر إلى المدينة، فلم يصل إلا بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم وفي زمن أبي بكر الصديق(5)
__________
(1) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/430
(2) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/430، الذهبي- تارييخ الإسلام: 1/342 ابن كثير- البداية والنهاية: 6/307 ابن خلدون -ديوان المبتدأ أو الخبر 2/2/60
(3) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/430- ابن كثير -البداية والنهاية 6/307، ابن خلدون -ديوان المبتدأ والخبر: 2/2/60
(4) البلاذري -فتوح البلدان: 113
(5) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/470، ابن كثير -البداية والنهاية: 6/310، وجدي -دائرة معارف القرن العشرين 2/308(1/116)
... ... ارتد أهل اليمن ثانية بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم بقيادة قيس بن عبد يغوث، وطردوا فيروز فهرب فتبعه عدد من المسلمين وانضموا إليه. فأعاد تنظيمهم في تشكيل قتالي لكي، يحارب به قيساً ومن معه، وتقابلا في معركة، وانسحبت فلول المرتدين إلى "أَبْيَن" واختلفوا فيما بينهم، ثم استسلموا وعادوا إلى الحظيرة العربية الإسلامية(1).
__________
(1) ...........(1/117)
ثالثاً: مسيلمة بن ثمامة بن كثير بن حبيب الحنفي الوائلي. ويطلق عليه "مسيلمة الكذاب"(1) ويقال: "أكذب من مسيلمة"(2) كان فقيراً، هزيل الجسم، أصفر اللون(3) ولد في القرية المسماة اليوم "الجبيلة"(4) باليمامة في وادي حنيفة. وفي السنة العاشرة من الهجرة وفد بنو حنيفة مع مسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجرأ مسيلمة فقال: "إن شئت خلينا لك الأمر وبايعناك"(5) فرد عليه الرسول صلى الله عليه وسلام بكلام لاذع وبشره بالقتل. ولما عاد الوفد ادعى مسيلمة النبوة، وشهد له الرجال بن عنقوة أن الرسول صلى الله عليه وسلم شاركه في الأمر فاتبعه بنو حنيفة وغيرهم في اليمامة. وكتب إلى الرسول العربي محمد صلى الله عليه وسلم رسالة هذا نصها: "من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد فإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشاً لا ينصفون، والسلام عليك"(6) ورد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم برسالة جوابية هذا نصها: "بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد النبي إلى مسيلمة الكذاب، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، والسلام على من اتبع الهدى"(7) ودفعها إلى رسولي، مسيلمة وقال لهما: "لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما"(8) ولقد أكثر من السجع مضاهاة للقرآن، واستخف قومه بأقواله المعسولة المزينة، وبأنه شريك النبي صلى الله عليه وسلم، وتشابه واختلط القول عليهم.
__________
(1) البلاذري -فتوح البلدان: 98- ابن كثير - الكامل في التاريخ: 2/299
(2) الزركلي -الأعلام 7/226
(3) البلاذري -فتوح البلدان: 100
(4) الزركلي -الأعلام: 7/226
(5) البلاذري -فتوح البلدان: 97
(6) البلاذري -فتوح البلدان: 97- ابن الأثير -الكامل في التاريخ: 2/300
(7) البلاذري -فتوح البلدان: 98- ابن الأثير - الكامل في التاريخ: 2/300
(8) ابن الأُثير - الكامل في التاريخ: 2/299(1/118)
ومن أقواله: "لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى"(1) وقد أحل لهم ما حرم الله، وحرم لهم ما أحل الله، وسرى أمره في اليمامه، واجتمع حوله المؤمنون به، يقاتلون عنه، ويذبون عنه كل سوء، وازداد خطره بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن تولى أبو بكر الخلافة، فسيّر إليه الجيوش وقتله(2).
__________
(1) الطبري -تاريخ الأمم والملوك 2/394
(2) ابن خياط -تاريخ ابن خياط: 107، ابن واضح -تاريخ اليعقوبي: 1-109* التنجي- البدو والتاريخ: 5/162(1/119)
رابعاً: طليحة بن خويلد الأسدي. ظهر بسميراء(1) في منازل بني أسد. قدم على النبي صلى الله عليه وسلم عام 9 من الهجرة مع بني قومه، ولما رجع إلى دياره ارتد وادعى النبوة، واتبعه العوام من طيء وغسان وأسد. وبعث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بابن أخيه يخبره بنبوة طليحة، وأنه يأتيه ذو النون، فأنكر الرسول صلى الله عليه وسلم أعماله وأباطيله وادعاءاته، وقال لابن أخيه لما تطاول في كلامه: "قتلك الله وحرمك الشهادة"(2) ثم وجه إليه ضرار بن الأزور ليغتاله، وبمحاولة من ضرار سدد إليه ضربة بالسيف فنبا عن طليحة، فشاع بين الناس، أن السلاح لا يؤثر فيه، فازدادوا به يقيناً وإيماناً بنبوته(3) وكان من الشجعان، ويعد بألف فارس(4). كما كان يتلو على الناس أسجاعاً، ويدعي أنه يأتيه جبريل بالوحي(5) ولما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم كثر أتباعه ونظمهم، وهاجم المدينة، وردّ على أعقابه، فأرسل إليه أبو بكر بجيش جعله يفقد صوابه، ويتخلى عن المعركة ويركب حصانه ويردف خلفه امرأته ويفر كما تفر الأنعام(6) والتجأ إلى بني حنيفة حتى توفي أبو بكر الصديق، فقدم على عمر بن الخطاب وأسلم وحسن سلامه، واشترك في القادسية(7) وفي فتوح العراق، واستشهد بنهاوند(8).
__________
(1) وكان بين توز والحاجز بطريق مكة. انظر الحموي -معجم البلدان 3/255
(2) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/431
(3) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/486
(4) ابن الأثير -أسد الغابة في معرفة الصحابة: 3/65، الزركلي الأعلام: 3/230
(5) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/485
(6) الطبري -تاريخ لأمم والملوك: 2/485
(7) ابن الأثير - أسد الغابة في معرفة الصحابة: 3/66
(8) البلاذري - فتوح البلدان- 300- الزركلي -الأعلام: 3/230(1/120)
خامساً: الطرق التي كافح بها الرسول صلى الله عليه وسلم الارتداد: مال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطريقة السلمية، فدعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة، ولم يشأ أن يجابه أولئك المرتدين بقوة السلاح، فبعث إليهم رسلاً مبشرين ومنذرين، بالتوعية والإرشاد، عسى لهؤلاء المرتدين أن يتوبوا، وأعطى صلاحية للرسل أن يستنجدوا برجال من العرب وخاصة من تميم وقيس إذا اقتضى الأمر ذلك(1)، وأن يحاولوا جاهدين دون اللجوء إلى القوة أن يستميلوا قلوب الناس المغرّر بهم، وأن يحبّبوا لهم دينهم الذي ارتضى لهم.
__________
(1) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/431(1/121)
كما أرسل رسلاً آخرين إلى زعماء القبائل الذين ثبتوا على الإسلام من تلك القبائل التي ارتدت لإيجاد التوازن بين أولئك الزعماء المدّعيّ النبوة، والذين أثروا بصورة فعلية على العامة. فأرسل وبر بن يُحنّس إلى فيروز وإلى حشيش الديلمي وإلى داذويه الأصطحزي، وجرير بن عبد الله إلى ذي الكلاع وإلى ذي ظليم، والأقرع بن عبد الحميري إلى ذي زود وإلى ذي مرّان، وفرات بن حيان العجلي إلى ثمامة بن أثال، وزياد بن حنظله التميمي إلى قيس بن عاصم وإلى الزبرقان بن بدر، وصلصل بن شرحبيل إلى سيرة العنبري، ووكيع الدارمي إلى عمرو بن المحجوب العامري وإلى عمرو ابن الخفاجي من بني عامر، وضرار بن الأزور الأسدي إلى عوف الزرقاني وغيرهم(1). وفي اعتقادي أن هذا الأسلوب كان كافياً لتوبة ورجوع البدو السذج عن طريق زعمائهم المؤهلين والمكلفين من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الدين وإلى الوحدة العربية، بيد أن مرض القائد الأعلى ووفاته أخرت تلك الطريقة وأوقفتها برهة من الزمن حتى جاء أبو بكر الصديق فاستمر على تحقيق هذا الهدف، إلا أنه كان بأسلوب حربي وبقوة مسلحة إذ لما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم ازداد ارتداد العرب، وسرى في كل قبيلة جزءاً أو كلاً، واستشرى النفاق، وابتعد بعض العرب عن أبي بكر، معلنين الزعامة والأحقية، فشعر عندئذ أن القوة هي السبيل الوحيد لمحاربة هؤلاء المرتدين، وأقسم على المضي بما عهد عنده الرسول صلى الله عليه وسلم ولو كلفه ذلك ما كلفه(2).
__________
(1) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/432
(2) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/461(1/122)
انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم من الطريقة السلمية إلى الطريقة الحربية ذات الرقعة الضيقة، فهو لم يشأ أن يعلنها تعبئة عامة قتالية، بل أعلن الاستنفار العام والتعبئة العامة وحشد كل الطاقات فيما يختص بالتوعية والتأثير النفسي، ثم حصر الأمور القتالية وضيقها، معلناً فقط قتل واغتيال أولئك الزعماء الذين ادعوا النبوة، وفرقوا الجمع، وفتنوا الناس والعامة كالأسود العنسي(1)
حروب الرّدة والتصدي للمرتدين
استلم أبو بكر الصديق الخلافة، وانتشر مع هذا الاستلام الارتداد في شبه جزيرة العرب، ولم يسلم من هذه الفتنة سوى مكة والمدينة والطائف(2) وقد أصاب الارتداد أكثر ما أصاب تلك البقاع التي كانت بعيدة عن جو المدينة والحضارة والعلم.
أسباب الرّدة. الأسباب القريبة هي عدم دفع الزكاة، وبهذا انقسم المرتدون إلى ثلاثة أقسام، قسم امتنع عن دفع الزكاة مع الإصرار والعزم على القتال إن أجبر على دفعها(3) والثاني أعلن الردة الكاملة كالمتبنئين أمثال طليحة بن خويلد الأسدي في بزاخة، والأسود العنسي في صنعاء، ومسيلمة الكذاب في اليمامة، وسجاح التي كانت تقيم في شمالي اليمامة(4). والقسم الثالث أعلن الانفصال الكامل عن جسم الدولة أمثال لقيط بن مالك بعُمان، والنعمان بن المنذر بن ساوى التميمي بالبحرين(5) وهناك فئة انتظرت إلى ما ستؤدي إليه الأقسام الثلاثة، فإن ظفروا كانت معهم، وإن ظفر أبو بكر كانت من عامة المسلمين(6).
__________
(1) ابن كثير -البداية والنهاية : 6/310، أبو الفداء- المختصر في تاريخ البشر: 1/155، وجدي- دائرة معارف القرن العشرين: 2/308.
(2) HAMIDULLAH DOCUMENTS SUR LA DIPLONATIE:2
ابن الوردي -تاريخه: 1/137
(3) ابن حزم - المحلى: 11/193
(4) ابن حجر -فتح الباري بشرح البخاري: 5/303، ابن حزم -المحلى: 11/193
(5) ابن واضح - تاريخ اليعقوبي: 2/110
(6) ابن حجر -فتح الباري لشرح البخاري: 5/303(1/123)
أما الأسباب البعيدة يمكن إجمالها بالتالي:
1-العصبية والقبلية اللتان لا تزالان متأصلتين في نفوس القبائل، ويمثلها قول طليحة النمري حين يقول لمسيلمة الكذاب: "أشهد أنك كذاب، وأن محمداً صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلي من صادق مضر"(1).
2-التنافس على الزعامة. ما المتنبئون في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم إلا دليل على وجود زعامات دينية، تريد أن تبني لنفسها مجداً كما بناه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن تتخذ من التنبؤ وسيلة للوصول إلى هذه الزعامة(2).
3-الانتماء. كانت ترتبط بعض القبائل بالرسول صلى الله عليه وسلم، ارتباطاً قبلياً، وتنتمي إليه انتماءً شخصياً، فما أن توفي النبيّ حتى رجع كل واحد إلى ارتباطاته القديمة، وإلى انتمائه لشيخ العشيرة ولزعيم القبيلة، واستغل بعضهم هذه الناحية فأعلن زعامته وقيادته، واتبعه الكثيرون، وهكذا فقد عادت الفوضى، واضطربت الأرض العربية، وتمزقت كما كانت في الماضي، ويمثل هذا الانتماء قول أحدهم:
أطعنا رسول الله ما كان بيننا ... فيالَ عبادِ الله ما لأبي بكر
أيورثنا بكراً إذا مات بعده ... وتلك لعَمْرُ الله قاصمةُ الظهر(3)
فهلاّ رددتم وفْدَنا بزمانه ... وهلا خشيتم حَسّ راعية البَكر.
... ... وقالوا: "قد كنا ندفع أموالنا إلى محمد فما بال ابن أبي قحافة يسألنا أموالنا"(4)
__________
(1) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/508
(2) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/463-482-504
(3) الطبري -تاريخ الأمم والملوك- 2/477
(4) الدواداري -الدر الثمين: 3/157- الراوي- تاريخ الدولة العربية: 10(1/124)
4-إن التحرر من العادات الجاهلية كان أمراً صعباً على الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم، فمنهم الذين تعودوا الربا والزنى وشرب الخمر ولعب الميسر وعبادة الأصنام وضرب الأقداح والنظر إلى الغزو والأخذ بالثأر وغيره. فهم إن غادروا تلك العادات وتركوها فذلك تأسياً بزعامتهم، وخوفاً من البطش والقوة. فهم قد دخلوا في الإسلام وهم في شوق، وهم في نفسهم مما تركوه حاجة(1).
5-القيود الثقيلة التي حملها الأعراب حين أتى الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوته حيث نهاهم عن الجاهلية والعصبية وما يقرب منهما من قول أو عمل(2) وقد هاجم الرسول صلى الله عليه وسلم بعض هذه الصفات في حجة الوداع فقال: "ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع"(3) وحيث حملهم الصلاة والزكاة والصوم وغيرها من التكاليف التي ناء بحملها أولئك الذين كانوا على ضعف في عقيدتهم وعلى حداثة فيما حملوه(4).
__________
(1) فارق -تاريخ الردة: 13- الرادي: تاريخ الدولة العربية: 17-20
(2) أبو داود -باب الأدب: 112- ابن ماجة- باب الفتن: 7- مسلم -باب الإمارة: 57، النسائي- باب التحريم: 28
(3) أبو داود -باب المناسك: 56-ابن ماجه -باب المناسك: 76- الدارمي- باب المناسك 34
(4) فارق -تاريخ الردة: 13- الراوي -تاريخ الدولة العربية: 20(1/125)
6-شيوع الأرض وجعلها عامة ينتفع منها كل الناس، فالأرض لله يورثها من يشاء. هذا هو القانون الذي ساد بعد أن توحدت الجزيرة العربية في ظل الدين الجديد، فالبدوي من قبل يقاتل من أجل الأرض، ولا سيّما أنها طيبة بمائها ومرعاها، فالغزو والسلب من أجل الاستيلاء على ما في الأرض والاستئثار بها. فالقبيلة القوية تدفع الضعيفة وتطردها عن الأرض، والحلف الكبير يهاجم الحلف الصغير ويستولي على أرضه. وهذا مما يفسر حرص مسيلمة الكذاب على الأرض في رسالته التي أرسلها إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ".. إن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض.."(1).
كل هذه الأسباب مردها إلى الإيمان المتردد، الذي لا يتجاوز اللسان، ولا يدخل القلب، فالناس القريبون من الرسول صلى الله عليه وسلم قد اهتدوا وزادهم بما تلقوه عن معلم الإيمان والعقيدة، وأما البعيدون فقد ظلوا يفدون إلى المدينة في المناسبات. وللرسول رسل وعمّال عند بعضهم، يوجهون ويعلمون تلك القبائل أشهرهم: معاذ بن جبل، وأبو موسى الأشعري، وزياد بن لبيد البياضي(2).
المعارك الأولى بقيادة أبي بكر الصديق شخصياً: استغل المرتدون فرصة إرسال جيش أسامة بن زيد إلى البلقاء، وطمعوا في الاستيلاء على المدينة، والقضاء على حكومة أبي بكر، وما حمله من معتقدات هي استمرار لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم تجمعت القبائل وخاصة عبس وذبيان وغطفان وفزارة وأجمعوا على محاربة ومهاجمة المدينة، فأرسلوا وافدهم يفاوض بشأن ترك الزكاة، ولما رجع خاسئاً ذليلاً، عادوا فنظموا صفوفهم، وقسموا قبائلهم، وقرروا الهجوم المسلح على العاصمة وتقويض الحكم فيها(3).
__________
(1) البلاذري -فتوح البلدان: 97
(2) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/464
(3) HAMIDULLAH DOCUMENTS SUR LA DIPLOMATIE MUSUL MANE:2(1/126)
أبو بكر وحده مع مجموعة من المقاتلين بقوا في المدينة. وكخطة دفاعية أمر أن يُستنفر الناس، وتحرس الأماكن الهامة، وتغطى الشوارع بالدوريات الثابتة والمتحركة، وتعير الانتباه إلى المسجد، وإلى مقر القائد الأعلى أبي بكر الذي كان يسكن بالسنح(1).
تقرب المرتدون، ولكن الحرس تنبه لهذا التقرب، فأعلم أبو بكر، وكان مستعداً ومستنفراً قواته، فرد فوراً على القوات الغازية، وقاد جيشاً في آخر الليل جعل على ميمنته النعمان بن مقرن المزني، وأخاه عبد الله على الميسرة، وأخاه سويد على الساقة(2)وهو في القلب، فصبحهم عند شروق الشمس، ففاجأهم فهربوا فتبعهم حتى وصل إلى "ذي القصة"(3)
__________
(1) السنح على بعد ميل من المدينة، إذ لم يغير أبو بكر مكان إقامته منذ أن هاجر إلى المدينة مع الرسول صلى الله عليه وسلم. انظر ابن هشام- السيرة النبوية- 1/493- ابن حزم -جمهرة أنساب العرب: 2/361- الحموي -معجم البلدان: 30/265- ابن خلدون -ديوان المبتدأ والخبر: 2/2/63
(2) الذهبي- تاريخ الإسلام: 1/350- ابن خلدون- ديوان المبتدأ أو الخبر: 2/2/66
(3) ابن خلدون -ديوان المبتدأ والخبر: 2/2/66- العجلاني -عبقرية الإسلام: 242- غلوب الفتوحات العربية الكبرى: 184.
SHOUFANY -AL- RIDDAH: 15-112(1/127)
وفي هذه المعركة استخدم القائد الأعلى نوعاً من القتال هو القتال الليلي إذ يحتاج هذا النوع إلى المهارة في استخدام القوى والوسائط، ومن التدريب لكيلا يضل أو يضيع المقاتل، وعلى كل حال فإن جميع المقاتلين الذين اشتركوا في هذه المعركة كانوا على علم بهذه الأرض، ويعرفونها جيداً، وقد حقق هذا الجيش هدفه دون أن تمر به صعوبات التوجه أو استخدام الأعتدة والأسلحة. ومن المعلوم أن الليل يحقق المفاجأة التي تمت بزمانها ومكانها، وتفرق المرتدون في كل مكان. فوضع أبو بكر في ذي القصة بعد أن احتلها حرس إنذار، مهمته كشف العدو، واتجاه تقدمه، وإنذار القوات في المدينة، والدفاع عن هذا الخط حتى تصل القوات الرئيسة. ثم عين لهذا الحرس قائداً هو النعمان بن مقرن المزني، ثم عاد إلى المدنية(1).
__________
(1) ابن خياط -تاريخ ابن خياط: 101-103 الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/478
ابن الأثير -الكامل في التاريخ 2/345(1/128)
هدأت العاصمة بعد دحر هؤلاء المرتدين، واتخذت الإجراءات الدفاعية، ولما عاد أسامة من مهمته، وتهيأت الظروف المواتية، شكل القائد الأعلى جيشاً وهاجم المرتدين ثانية قبائل عبس وذبيان ومن معهم في منطقة "الربذة" بالأبرق. خرج كما خرج في الأول وبعدد قليل، ذلك لأنه أمر جيش أسامة أن يريحوا مع وسائط نقلهم، وحاول المحاولون من المسلمين ألا يفعل ذلك، وخاصة وقد حضر أسامة وجنده فقالوا: "ننشدك الله يا خليفة رسول الله.(1/129)
إن تعرض نفسك، فإنك إن تصب لم يكن للناس نظام، ومقامك أشد على العدو، فابعث رجلاً فإن أصيب أمرت آخر"(1) فأبى ونهض بجنده فشكل منهم جيشاً على النظام الذي اتبعه عندما قصد "ذا القصة" وتحرك من المدينة إلى ذي حسى، ومرّ بذي القصة حتى انتهى إلى الربذة وهنا توقف قليلاً وأعاد تنظيم الجيش بما يتوافق مع المجابهة مع المرتدين اللذين كانوا بانتظاره، فقسم الجيش إلى مقدمة، وجناح يميني ويساري وساقة وقلب، وعين القادة الذين عينهم في المعركة الأولى، وأمر النعمان قائد الميمنة أن يلتف خلف جموع المرتدين الذي كان يقودهم الحارث وعوف زعيماً بني عبس وذبيان، فهاجم النعمان، وتحرك الجيش صفاً واحداً بكل أجنحته وتشكيلاته فتأخر المرتدون، فتبعهم أبو بكر بجنوده، وضغط عليهم فهربوا فطاردهم، واستولى على ديارهم وأراضيهم، وجعلها فيما بعد حمى لخيل الجيش العربي الإسلامي، ومنع بني ذبيان ومن شاركهم منها، ولم يعدها لهم رغم مطالبتهم بها(2) لقد استخدم أبو بكر في هذه المعركة التحرك المستور حيث سلك محوراً بعيداً عن أعين الناس، كما استخدم الحرب الوقائية حيث قام بمجابهة المرتدين قبل أن يهاجموه في المدينة، وكذلك فإنه ناور بجيشه ونظمه طبقاً للقواعد والمبادئ المتبعة في التعبئة والتنظيم، ومما يلفت النظر أنه طبق مبدأ الالتفاف ومبدأ الزحف والمواجهة على طول الجبهة مع العدو. وعلى المستوى السياسي فقد حقق أبو بكر بهاتين المعركتين ادخال الرعب في نفوس المرتدين، وأفهمهم أن الجيش العربي الإسلامي لا يزال قوياً يرد الصاع صاعين، ويحقق الانتصار كما كان يحققه من قبل، كما رفع معنويات جيشه وشعبه وأن الدولة لا تزال منيعة الجانب، قوية التأثير.
__________
(1) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/478-479
(2) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/479(1/130)
وعلى المستوى القيادي أشار إلى الذين تأخروا في بيعته، أو شكوا في قيادته وإمكانياته أنه قادر على القيادة في الظروف الصعبة، وفي الأحوال غير العادية، وبإمكانه تحقيق النصر على الأعداء بفئة قليلة ضد جموع كبيرة، وخرج بنفسه في المعركتين، وأراح الجيش الذي كان الناس ينتظرون قيامه لزجه في معارك الردة(1).
__________
(1) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/478 وما بعدها.(1/131)
المعارك التالية بقيادة قادة الجبهات والتشكيلات: لقد عهد أبو بكر إلي أحدَ عشرَ تشكيلاً لقتال المرتدين(1) وحدد لهم الأمكنة والعدو والاتجاه، والمهام العاجلة والآجلة، والأفضليات، وخط البدء، ونظام التعاون مع التشكيلات والألوية المشتركة، وخط النهاية، والأهداف المراد تحقيقها على التتابع، ونظام الأولويات فيها، وأحقية القيادة فيها إذا اجتمع بقيادة واحدة أكثر من قائد، والمهل والأزمنة للالتحاق أو لتنفيذ المهام أو التعاون إذ حدد لكل قائد الزمن من حين انطلاقه حتى تحقيق هدفه، والاحتمالات وطرق التصرف عند كل احتمال، وأسلوب الدعوة إلى القتال والكشف عنها وتوضيحها حتى لا يدع قائد التشكيل أي لبس أو غموض فيما يدعو إليه، والتشديد على من رفض الدعوة وأبى السلم والسلام أن يحرق في النار، ويقتل شر قتلة، وتسبى النساء والذراري بالتحري والكشف عن نية العدو فإن تبيّن بكل طرق البيان أنه مسلم غير مرتد فله الرحمة والكف عن إيذائه أو مسه بضر(2) وقد استمع كل قائد تشكيل إلى هذه التوجيهات التي كانت واحدة لجميع القادة نقتطف منها: "بسم الله الرحمن الرحيم. من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بلغه كتابي هذا من عامة وخاصة أقام على إسلامه أو رجع عنه. سلام على من اتبع الهدى، ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والعمى، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله.. وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام وعمل به اغتراراً بالله وجهالة بأمره..
__________
(1) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/480، الروحي- بلغة الظرفاء: 9
(2) ابن خلدون -ديوان المبتدأ والخبر: 2/2/70، ابن الطقطقي -الفخري في الاداب السلطانية: 64 وجدي -دائرة معارف القرن العشرين: 2/38(1/132)
وإني بعثت إليكم فلاناً في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، وأمرته أن لا يقاتل أحداً، ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله، فمن استجاب له وأقر وكف وعمل صالحاً قبل منه وأعانه عليه، ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك، ثم لا يبقي على أحد منهم قدر عليه، وأن يحرقهم بالنار، ويقتلهم كل قتلة، وأن يسبي النساء والذراري.."(1).
انطلقت التشكيلات وتحركت من منطقة التحشد من ذي القصة حاملة التوجيهات والإنذار الذي كان شديداً على المرتدين، رحيماً بالمسلمين.
1-تشكيل خالد بن الوليد. مهمته الانطلاق والتحرك باتجاه الشمال، والوصول إلى بزاخة، وتدمير قوات طليحة بن خويلد الأسدي، ثم الانعطاف نحو الجنوب والوصول إلى البطاح وتدمير قوات مالك بن نويره هناك، ثم الانعطاف نحو الغرب والوصول إلى مكان تمركز قوات سجاح والقضاء عليها، ثم التوجه نحو الجنوب والوصول إلى اليمامة وتدمير قوات مسيلمة الكذاب، يسبقه ويعاونه إلى ذلك المكان عكرمة بن أبي جهل.
2-تشكيل عمرو بن العاص. مهمته التحرك باتجاه الشمال الغربي، والوصول إلى قبائل قضاعة ووديعة والحارث، وإخضاعها لحكم المدينة.
3-تشكيل خالد بن سعيد بن العاص.. مهمته التحرك باتجاه الشمال الغربي وبمحاذاة وموازاة تشكيل عمرو بن العاص من جهة الغرب، والوصول إلى الحمقتين وإلى بلاد الشام، قاطعاً تبوك.
__________
(1) ابن خلدون -ديوان المبتدأ والخبر: 2/2/70-فارق -تاريخ الردة: 27
HAMIDULLAH -DOCU MENTS SUR LA DIPLOMATIE MUSULMANE:207-209(1/133)
4-تشكيل عكرمة بن أبي جهل. مهمته التحرك باتجاه الشرق، والوصول إلى اليمامة، والقضاء على قوات مسيلمة الكذاب، ومتابعة التقدم نحو خليج عُمان، ثم الالتفاف بمجاورة ساحل بحر العرب، والوصول إلى حضرموت، وتنظيف ومقاتلة القبائل المرتدة في هذه الطريق الطويلة، لكن هذا التشكيل لم يستطع تنفيذ المهمة(1) وكلف بمهام جديدة من قبل القائد الأعلى على ضوء توقفه والمواقف المستجدة.
5-تشكيل العلاء بن الحضرمي. التحرك باتجاه الشرق، والوصول إلى البحرين، وإلى دارين، والقضاء على المرتدين هناك، ثم الاتجاه نحو الشمال.
6-تشكيل شرحبيل بن حسنة. مهمته التحرك باتجاه الشرق والوصول إلى اليمامة، ومساعدة ومعاونة القبائل العربية الموجودة في تلك المنطقة، ومتابعة التقدم بصورة متوازية مع لواء عكرمة من الجهة الداخلية أي أن عكرمة من الجهة الساحلية، وشرحبيل من الجهة الداخلية، الوصول إلى كندة.
7-تشكيل حذيفة بن محصن الغلفاني، مهمته التحرك باتجاه الشرق والوصول إلى هوازن وإخضاعها، ومتابعة المسير في عرض الصحراء، والوصول إلى دبا. وبعد النجاح التوجه إلى صُحار على ساحل خليج عُمان، ثم التقدم بمحاذاة الساحل، حتى يكون أقرب الألوية إلى البحر، والوصول إلى مهرة.
8-تشكيل طريفة بن حاجز. مهمته التحرك باتجاه الجنوب الشرقي، والوصول إلى بني سليم وإخضاعهم.
9-تشكيل عرفجة بن هرثمة البارقي. مهمته التحرك باتجاه الجنوب، ماراً من شرقي الطائف، ثم الانعطاف بربع دائرة نحو الشرق، والوصول قريباً من عمان، ثم الانعطاف نحو الغرب والوصول إلى اليمن، وعليه أن يجتمع مع حذيفة بغية التنسيق والتعاون.
10- تشكيل المهاجر بن أبي أميّة مهمته التحرك باتجاه الجنوب، والمرور بالطائف وصنعاء ثم الانعطاف مع ساحل اليمن باتجاه الشرق، والوصول إلى مكان قريب من مهرة.
__________
(1) PERCEVAL ESSAE SURL , HISTOIRE DES ARABES 3/364(1/134)
11-تشكيل سويد بن مقرن المزني. مهمته التحرك باتجاه الجنوب وبمحاذاة ساحل البحر ماراً بمكة وتهامه وبعض مدن اليمن، والوصول إلى عدن، يوازيه من جهة الشرق لواء المهاجر بن أبي أمية.
بإلقاء نظرة على شبه جزيرة العرب، نرى أن هذه الألوية قد أطبقت على هذه الأرض، ما تركت من أرضها مكاناً إلا وصلته، وما تركت من قبائلها مرتدة إلا قاتلتها، جبهة واسعة، وميدان فسيح، ودقة في التوجه والتحرك، وإحاطة تامة بمعلومات عن التحرك والتمركز والمحاور والأرض من قبل القائد الأعلى. ولو أن قائداً قاد عمليات الجزيرة في الوقت الحاضر، لما وسعه إلا أن يستعين بكل الخرائط والمخططات، ولو أن قائداً أسند المهام لمرؤوسيه في الوقت الحاضر على هذا النحو من الدقة، لما وسعه إلا أن يستعين بالأركانات ذات الاختصاصات المختلفة، ولو أن قائداً دار وسيطر على هذه التشكيلات العديدة لما وسعه إلا أن يستعين بالحواسب والآلات الالكترونية المعقدة. وحسب هذه القيادة أن ألحت وأحاطت بكل ظروف المعارك تخطيطاً وتنظيماً وتنفيذاً بكل كفاءة وبكل حزم ومرونة واستمرار. كان القتال بالتوازي والتلاقي والتعاون بعض هذه الألوية اتجه نحو الشمال، وبعضها نحو الجنوب، وبعضها نحو الشرق، حتى إن اللواء الواحد من هذه الألوية كان يناور وينعطف ويقاتل في كل الجوانب، لكل لواء مهمة واضحة محددة، ولكل واحد منها مهمات قتالية متتالية كما في يومنا هذا. وإني لأقف أمام هذه القيادة معجباً محييّاً ومُكرماً على ما جددت من فنون الحرب، وعلى ما جمعت من خبرة قتالية على المستويات التكتيكية والعملياتية والاستراتيجية، وعلى ما حللت من الوقائع والظروف الراهنة آنذاك تحليلاً علمياً مبنياً على الفهم الصحيح والإدراك السليم.(1/135)
معركة بزاخة. تقع في الشمال من المدينة المنورة، وهي بين جبلي أجأ في الشمال الغربي وسلمى في الجنوب الشرقي، وفي الشمال والغرب توجد بعض. التلال قليلة الارتفاع على سهل بين هذه المعالم. وبزاخة(1) ماء لبني أسد.
قائد الجيش العربي الإسلامي خالد بن الوليد، وقائد العرب المرتدين طليحة بن خويلد الأسدي مع قبائل بني أسد وغطفان وقوة صغيرة من قبيلة طيء، يساعده في ذلك كتائب لـ عيينة بن حصن من بني فزارة.(2).
إن القوى والوسائط لكلا الطرفين، فالجيش العربي الإسلامي في أربعة آلاف مقاتل(3)، أما الجيش العربي المرتد فيقدر في سبعة آلاف مقاتل. سبعمائة مع عيينة من قبيلة فزارة، (4) وثلاثة آلاف وخمسمائة من قبيلة بني أسد، وثلاثة آلاف من قبيلة غطفان والقبائل الأخرى.
تحرك خالد بجيشه من ذي القصة باتجاه الشمال حيث تسكن قبائل طيء، وقبل الاقتراب منها أرسل عدي بن حاتم الذي أسلم وثبت على إسلامه، وكان زعيماً في قومه، فلما دنا منهم خاطبهم بالرجوع إلى الإسلام، والانفصال عن قوات طليحة، فأصاخوا إليه، وأرسلوا إلى مكان التجمع في بزاخة بحيلة لاستقدام المقاتلين من أهل طيء، ونجحت الحيلة، وانفصلت طيء عن الاشتراك في القتال إلا قليلاً منهم(5).
__________
(1) الحموي -معجم البلدان: 1/408، أكرم -سيف الله: 174
(2) الذهبي -تاريخ الإسلام 1/352
(3) انضم إلى الجيش العربي الإسلامي فيما بعد من قبيلة جديله ألف فارس، كما انضم إليه من القبائل الأخرى فئات لم يذكر المؤرخون عددها. انظر الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/483 وما بعدها.
(4) ابن خلدون -ديوان المبتدأ والخبر: 2/2/71
(5) فارق -تاريخ الردة: 31 وما بعدها، وجدي - دائرة معارف القرن العشرين: 2/305،
SHOUFANY -AL- RIDDAH: 119(1/136)
وتقدم خالد باتجاه بزاخة، لكنه قبل وصوله إلى منطقة تحشد قوات طليحة، أراد أن يخرج قبيلة جديلة من المعركة التي كانت حليفة قبيلة طيء. واستطاع عدي هذا الشيخ المؤمن بعقيدته وإسلامه أن يتدخل فيقنع خالد بن الوليد أن يفصلها بسلم لا بحرب، وفعل فعلته، وتقدم فشرح لهم الموقف العام والخاص فبايعوه على الإسلام(1) وبقي أمام خالد ذلك التحالف الكبير من القبائل، فأرسل دورية استطلاع، لكي تأتي بالمعلومات، وتقدمت هذه الدورية باتجاه معسكر طليحة، لكنها اصطدمت بدورية استطلاع معادية فقتلت واحداً منها هو حبال أخو طلحة الذي ثارت ثائرته لمقتل أخيه، فأرسل على الفور قوة مسلحة قضت على دورية خالد، واقتربت طلائع الجيش العربي من المهاجرين والأنصار(2)ووصلت القوات ساحة المعركة في بزاخة.
__________
(1) PERCEVAL -FSSAI SURL, HISTOIRE DES ARABES 3/360
(2) كمال - الطريق إلى المدائن: 168(1/137)
اصطف هذا الجيش بترتيب القتال في هذا السهل في الجزء الجنوبي منه وظهره إلى المدينة المنورة، وسلم خالد اللواء إلى زيد بن الخطاب، وعقد لباقي القبائل راياتهم(1) ووزع قادته، فكان على الميمنة عدي بن حاتم الطائي، وعلى الميسرة زيد الخيل، وعلى الجناح الزبرقان بن بدر التميمي(2). كما اصطف بالمقابل قوات طليحة في الجهة الشمالية وأصبح الجيشان من بعضهما قاب قوسين أو أدنى، وظهر عيينة بن حصن في بني فزاره، وكان هو قائد المعركة المباشر، وطليحة كان مع شيطانه يتنبأ عن مستقبل المعركة. بدأت المعركة شديدة إذا قام الجيش العربي الإسلامي بهجوم عام صاعق شمل الأجنحة والقلب على طول خط المواجهة، مما جعل الجيش العربي المرتد يتراجع إلى الوراء، وثبت عيينة في بادئ الأمر، وشجع على الثبات، لكن ضغط قوات خالد التي تقدمت بسرعة وفوتت الفرصة الكبيرة والوحيدة على القوات المرتدة التي لم تستطيع استعادة مواقعها، فخسرت جزءاً كبيراً من الأرض، وارتدت على أعقابها، فشعر طليحة بالهزيمة فركب فرسه وأردف خلفه امرأته وفرّ هارباً(3)
__________
(1) فارق -تاريخ الردة: 33 وما بعدها.
(2) ابن أعتم -الفتوح: 1/13
(3) فارق- تاريخ الردة : 36- الروحي- بلغة الظرفاء: 9
PERCEVAL- ESSAI SUR L,HISTOERE DES ARABES 3/360(1/138)
وبهروبه تفككت صفوف القوات المرتدة، وضعفت معنوياتها فاستغل خالد هذه الفرصة ودخل في القوات المعادية، فلاذت بالفرار، فأسر وغنم الكثير(1) وكان من بين الأسرى عيينة الذي أرسله خالد إلى القائد الأعلى في المدينة(2) كما بث جنوده في مجموعات مطاردة وتنظيف، فاستولى على غمرة وأخضع أهلها، وعلى النقرة من بقايا بني فزارة وبني سليم. وانتشر خبر انتصار الجيش العربي الإسلامي بين القبائل في الشمال والشمال الشرقي فجاءت مذعنة تعلن ولاءها، وتعلن توبتها(3) وقالت: "ندخل فيما خرجنا منه، ونؤمن بالله ورسوله ونسلم لحكمه في أموالنا وأنفسنا"(4).
قضى خالد على الجيوب المرتدة، وكان منها جيب كبير يقع في "ظفر" في الجهة الغربية لجبال سلمى إذ اجتمعت القبائل المنهزمة، وعدد من القبائل الأخرى من هوازن وسليم، والتجأت إلى هذه المنطقة. كانت تقود تلك القبائل امرأة سميت سلمى ابنة مالك، جدّها حذيفة، وأمها أم قرفة المشهوران بعدائهما للإسلام. استطاعت سلمى أن تجمع من حولها أولئك الأوباش، وتقودهم في معركة الجيش العربي الإسلامي. هاجم خالد تلك القوة التي تجمعت في ظفر من الحركة دون أن يتخذ مواقع هجومية، أو يتقيد بنظام الصفوف، فخرقت قواته ذلك الجمع من الجانبين، وتعمقت في خرقها، والتفت من الخلف، لكن القوة ظلت صامدة، ومن عادة خالد في مثل هذه الحالات، وعندما يثبت عدوه يلجأ إلى قتل القائد. فشكل مجموعة قتالية انقضاضيّه، بقيادته هاجمت مقر قيادة سلمى، وبسرعة التف قائد المجموعة وانقض عليها فقضى عليها. وبقتلها لاذ المرتدون بالفرار، فتعقبهم الجيش العربي الإسلامي، فانتصر وغنم وأسر العدد الكبير(5).
__________
(1) ابن أعثم- الفتوح: 1/15
(2) ابن أعثم -الفتوح: 1/16
(3) فارق -تاريخ الردة: 42- SHOUFANY- AL- RIDDAH: 119
(4) البلاذري -فتوح البلدان: 107
(5) الذهبي -تاريخ الإسلام: 1/352- كمال -الطريق إلى المدائن: 168(1/139)
يعود انتصار هذا الجيش في معركة بزاخة إلى التصميم على القتال، وإلى حب الثأر لدورية الاستطلاع التي قتلها طليحة، وإلى الأسلوب الابتكاري الذي اتبعه قائد هذا الجيش بنشر قواته على طول مواجهة القوات المحتشدة في منطقة القتال، والهجوم من الحركة باتجاه منطقة ظفر، وخرق صفوف العدو من اتجاهين، والالتفاف والتطويق، وإلى الشدة والحزم في القتال، وإلى الضغط الكبير والمتتالي على الجيش المعادي، دون أن يترك له فرصة إعادة تنظيم قواته، أو إمدادها، أو المناورة بها، وإلى مهاجمة مراكز القيادة التي بسقوطها يمكن أن يضعف المعنويات، ويترك المقاتلون أمكنتهم طلباً للنجاة، وبتجزئ القوات المعادية وخاصة عندما فصل وجزأ قبيلتي طيء وجديلة عن قوات طليحة، وكذلك جزأ القوات المجتمعة في بزاخة، وقضى عليها قسماً بعد قسم، وذلك لتحقيق التفوق، ولتدمير العدو بسهولة، وباستخدام الحيلة والخدعة عندما كلف عدي بن حاتم ليفرق بين الحلفاء، وليزرع بذور الخلاف والشقاق بين المتحالفين المرتدين.
معركة البطاح. وهي تقع إلى الشرق من المدينة، والجنوب الشرقي من جبلي أجأ وسلمى، وهي منزل لبني يربوع من بني تميم، وفي هذه المنطقة ماء، وهي قريبة من بلاد فارس. وقد تأثر بنو يربوع من جيرانهم في العادات، وفي اعتناق الديانتين الزرداشية والنصرانية(1) إلى أن جاء الإسلام فاعتنقته تلك القبائل إلا القليل منها. وقد أكثر الشعراء من ذكر تلك المعركة منهم متمم بن نويرة، ووكيع بن مالك(2).
__________
(1) ابن حوقل -صورة الأرض: 1-19
(2) الحموي- معجم البلدان: 1/445- الذهبي -تاريخ الإسلام: 1/354- أكرم - سيف الله: 185- فارق -تاريخ الردة: 51 وما بعدها.(1/140)
قائد الجيش العربي الإسلامي خالد بن الوليد، وقائد العرب المرتدين مالك بن نويرة في قبيلة بني يربوع، وبعض القبائل الأخرى المجاورة كبني حنظلة وبني تغلب(1).
تحرك خالد بجيشه من منطقة نقرة باتجاه البطاح، وعلى ما يظهر فإن مالك بن نويرة لم يكن في نيته القتال، وإنما كان يريد أن يعبر عن رأيه أنه لا يريد دفع الزكاة، لكن هذا الأمر وهذا الزعم مرفوض من قبل خالد، فهاجمه دون أن يكون الطرف الثاني مستعداً لهذه المعركة، واستطاع خالد أن يقضي على مالك وعلى أتباعه ويقتلهم(2). كانت هذه المعركة من أبسط المعارك وأسهلها، ويعتبر دخول خالد إلى منطقة البطاح دخولاً لا مقاومة فيه ولا حرب تذكر سوى بعض المناوشات التي سرعان ما قضي عليها.
معركة عقرباء. تقع في شمالي اليمامة، وتقع اليمامة في الجهة الشرقية من المدينة المنورة، وهي قريبة من حدود فارس، وفي الطرف الشمالي من الجزيرة العربية، وهي في طريق النباج، وهي إلى الشمال الشرقي من البطاح حيث يتمركز الجيش العربي الإسلامي هناك بعد أن استولى على البطاح.
سهل عقرباء يقع شماليّ وادي حنيفة، وخلف قرية جبيلة إلى الشمال. ووادي حنيفة يقطع هذا السهل من الشرق إلى الغرب، وعلى ضفتيه ارتفاعات يرى الناظر منها أمامه إلى الشمال وإلى الجنوب، وفي جنوب وادي حنيفة يقع تل صغير يشرف على سهل عقرباء. وفي هذا السهل أيضاً في الطرف الشمالي الشرقي منه تقع "حديقة الموت" وفيها الأشجار المثمرة، محاطة بسور منيع(3).
__________
(1) ابن أعثم- الفتوح: 1/21- ابن الأثير -الكامل في التاريخ: 2/357-358، ابن خلدون- ديوان المبتدأ والخبر: 2/2/73
(2) ابن أعثم -الفتوح: 1/22- ابن الأثير -الكامل في التاريخ: 2/358- ابن خلدون- ديوان المبتدأ والخبر: 2/2/74- اليافعي -مرآة الجنان: 1/95 كمال -الطريق إلى المدائن: 171.
(3) الطبري تاريخ الأمم والملوك: 2/508- الحموي -معجم البلدان: 4/135- أكرم- سيف الله: 204-206(1/141)
خالد الآن في منطقة البطاح ينتظر أوامر القائد الأعلى، بعد أن نفذ مهمته بكل كفاءة، جاءته الأوامر بالتحرك من هذه المنطقة باتجاه اليمامة لقتال مسيلمة(1) على شكل توجيهات عملياتية، متضمنة ككل التوجيهات المكان ووجهة المسير، والأهداف، والقيادة، ومعاملة الجند، والتصرف حيال العدو المرتقب وغير ذلك(2)..
شكل خالد جيشاً كبيراً وكان يتألف من لواء (تشكيل) خالد بن الوليد، وقوات الأنصار والمهاجرين التي تخلفت قليلاً لظنها أن خالداً تجاوز حدود الأوامر المعطاة له من قبل الخليفة، وتشكيل شرحبيل بن حسنة. ثم أعطى التعليمات القتالية وأسند المهام إلى الوحدات مستنداً إلى توجيهات القائد الأعلى وإلى الظروف الراهنة، وقوة العدو وإمكانياته.
__________
(1) البلاذري -فتوح البلدان: 98-100، ابن الأثير- الكامل في التاريخ 2/299-300
(2) انظر هذه التوجيهات عند ابن الأعثم - الفتوح: 1/26-27(1/142)
تحرك هذا الجيش من منطقة البطاح(1) باتجاه وادي حنيفة من الجهة الجنوبية، حتى إذا وصل إلى ضفة الوادي فتح على صفوف منسقة في العمق مقابل القوات المعادية. وكان على الميمنة زيد بن الخطاب، وعلى الميسرة أسامة بن زيد، وعلى الجناح البراء بن مالك، وعلى القلب قائد الجيش بالذات(2) وكان شعار الجيش: يا أصحاب سورة البقرة(3)، وعدده حوالي عشرة آلاف مقاتل(4). وتحركت قوات المرتدين من اليمامة باتجاه الشمال الشرقي وعسكرت في سهل عقرباء(5) على الضفة الشمالية لوادي حنيفة، ومقابل قوات خالد وكان على الميمنة المحكم، وعلى المسيرة الرجّال بن عنقوة وعلى القلب مسيلمة(6).
وكان عدد هذا الجيش حوالي أربعين ألف مقاتل(7).
أصبح الجيشان مستعدين للقتال صباح الأول من شوال العشرين من كانون الأول سنة 11/632 حرض قائدا هذين الجيشين، مقاتليهما، مذكرين بما يستحث الهمم، ويقوي العنويات(8).
__________
(1) فارق -تاريخ الردة 71
(2) الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/508، كما -الطريق إلى المدائن: 172
(3) البلاذري -فتوح البلدان: 99
(4) أربعة آلاف مع تشكيل خالد، وثلاثة آلاف مع تشكيل شرجيل وألف من جديلة، وألفان من بقية القبائل. انظر ابن كثير -ملحق الجزء التاسع: 12، أما الجنرال أكرم فقد قال: ثلاثة عشر ألف مقاتل. انظر أكرم -سيف الله: 208
(5) ابن أعثم- الفتوح: 1/31- فارق -تاريخ الردة: 75
(6) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/508
(7) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/505- وجدي -دائرة معارف القرن العشرين 2/307
(8) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/509- وما بعدها(1/143)
قام الجيش العربي الإسلامي بهجوم على طول الجبهة المعادية ضد الجيش العربي المرتد، وحاول هذا الجيش أن يخترق الصفوف، لكن صمود الجبهة أوقف كل تقدم، استغل مسيلمة فشل هذا الهجوم، فقام بهجوم معاكس نجح فيه إلى حد بعيد، حيث استطاع أن يزيح عدوه، وأن يحتل جزءاً من الأرض. وبدا على الجيش العربي الإسلامي التقهقر والفوضى، حتى وصل خلف مواضعه القتالية التي احتلها من قبل أثناء تمركزه، وتبعه الجيش العربي المرتد حتى وصل إلى مقر القيادة(1). في هذه المرحلة من القتال كان النجاح بجانب الجيش العربي المرتد، الذي مالبث أن غرته مظاهر هذا النجاح، فباشر بالنهب والسلب، وترك مواقع القتال. وهذه فرصة أتاحت لخالد بن الوليد أن يعيد تنظيم قواته من جديد حسب التشكيل القبلي، الذي حركه في نفوس زعماء هذه القبائل، فأثار فيهم روح الحمية والأثرة(2).
__________
(1) ابن أعثم- الفتوح: 1/34- الراوي- تاريخ الدولة العربية: 15- كمال- الطريق إلى المدائن: 73
(2) الطبري -تاريخ الأمم والملوك 2/513- هيكل -الصديق: 171- سويد -معارك خالد بن الوليد 160-161(1/144)
وبعد الانتهاء قام فوراً بهجوم التثبيت والحركة إذ ثبت قائد القلب الكتلة الرئيسية من جيش مسيلمة، وقام قائد الجناح الأيمن زيد بن الخطاب فخرق الجناح الأيسر من ميسره الرجّال حتى وصل إلى مقر قيادته فقتله(1) وحاول قائد هذا الجناح أن يتقدم ويخرق الصفوف لكنه لم يستطع، وكثرت عليه الضربات من كل صوب حتى سقطت الراية من يده، لقد ناضل من أجل الحفاظ عليها حتى قتل، فأخذ الراية سالم مولى أبي حذيفة وحماها، وتقدم المقاتلون(2) وثبت هذا الجيش أمام الضربات المتتالية، وكثرت الخسائر من القتلى والجرحى من كلا الطرفين(3)، حتى جرى الدم في خندق سمي فيما بعد "خندق الدم" .
هدأ القتال فترة، ثم استؤنف بالمبارزة، فخرج خالد ينادي للمبارزة(4) فخرج إليه أبطال من الجانب المعادي، فدفف عليهم جميعاً، وكان بوده أن يصل إلى مسيلمة الذي ظل حذراً دون أن يقترب من ابن الوليد، وبحركة سريعة أراد أن يقضي عليه فهرب من أمامه، وبهذا الهرب صاح قائد الجيش الله أكبر، فتبعه المسلمون وهم يرددون هذا الشعار، فتراجع المرتدون أمام ضغط وهجوم المسلمين، ثم انقلب هذا التراجع إلى انسحاب، ثم إلى هرب. وهنا استغل الجيش العربي الإسلامي هذه اللحظات، فبقي على تماس مباشر مع الهاربين، وتبعهم حتى ألجأهم إلى حديقة كانت في سهل عقرباء إلى الشرق منها، فدخلوها وأغلقوا بابها علها تحميهم من سيوف ورماح المسلمين(5). وقتل في هذه المطاردة العدد الكبير من المرتدين كما قتل قائد الميمنة "المحكم" وبهذا فقد بقي جيش مسيلمة دون قائدي جناحين، وتفككت عرى القيادة والانضباط(6)، وسادت الفوضى.
__________
(1) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/511، ابن أعثم -الفتوح: 1/35
(2) فارق- تاريخ الردة: 76- الكاندهلوي - حياة الصحابة: 1/551
(3) ابن أعثم- الفتوح: 1/40-44
(4) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/513
(5) ابن أعثم -الفتوح: 1/36-37
(6) الذهبي -تاريخ الإسلام 1/358(1/145)
حاصر الجيش العربي الإسلامي جيش المرتدين ضمن الحديقة،(1) ومنع عنهم كل مؤونة، أو عتاد، أو سلاح، وحاول اقتحام الحديقة التي كانت مسوّرة، وبابها موصد يحرسه عدة مقاتلين(2) إن الحصار في هذه الحالة يتنافى مع سرعة الانتصار، ذلك أن الحصار يتطلب مدة طويلة، حتى يستسلم العدو، لكن السرعة مطلوبة قبل أن يأتي التعزيز من بعض القبائل، وقبل أن يعيد المرتدون تنظيم صفوفهم، سيما الذين لم يدخلوا الحديقة. ورأى قادة الجيش العربي الإسلامي ضمن هذه الاعتبارات اقتحام الحديقة والهجوم جبهياً من الباب الموصد(3) وقاد البراء بن مالك(4) مجموعة الاقتحام، وعلا السور، وقفز إلى داخل الحديقة، فقتل بعض الحراس، وفتح الباب(5). فتدفقت جموع المقاتلين المسلمين، وخرقوا صفوف المرتدين، فتجزأت قواتهم، وسهل في هذه الحالة القضاء على البقية الباقية في هذه الحديقة(6).
__________
(1) ابن أعثم -الفتوح: 1/37- فارق -تاريخ الردة: 80
(2) سويد -معارك خالد بن الوليد 162
(3) ابن أعثم -الفتوح 1/38
(4) البراء بن مالك أخو أنس بن مالك. وقد كان جريئاً، لا يهاب الموت، ولا يحسب للشدة، ولا للخوف حساباً، وهو الذي أبلى وقتل من الأعداء في هذه المعركة عدداً كبيراً. انظر الشيباني -شرح السير الكبير: 1/62-100
(5) PERCEVAL- ESSAI SUR L, HISTOIRE DES ARABES 3/373.
(6) غلوب -الفتوحات العربية الكبرى: 192(1/146)
أصر مسيلمة قائد جيش المرتدين على متابعة القتال، وثبت أمام جيشه، وحث رجاله على التصدي، والدفاع عن الأحساب(1) لا تزال المعركة قائمة، فالجثث مرمية هنا وهناك، والدماء تغير لون الأرض، والجرحى يتألمون ويئنون، والأبطال من كلا الجيشين قد أنهكهم التعب، وسرى بهم الوصب، وأعلنت الشمس على الأصيل، والمقاتل لا يزال مواصلاً ومتابعاً، في هذه اللحظة تسلل وحشي من بين جنود المسلمين. واقترب رويداً رويداً من مقر قيادة مسيلمة، حتى إذا أيقن أنه أصبح في المدى المجدي من رمية حربته، هزّها، وصوّبها باتجاه الكذاب، ورماها فأصابت صدره، فوقع على الأرض ينازع سكرات الموت(2) فأقبل أو دجانه فدفف عليه، وفصل رأسه عن جسده(3).
انتشر مقتل مسيلمة في جموع المقاتلين المرتدين انتشار النار في الهشيم، وقوّى المسلمون هذا النبأ، وساعدوا على تعميمه، وما من لحظات حتى انهارت قوى هذا الجيش، وتحطمت معنوياته بمقتل قائده ونبيّه، وانكفأ يقاتل عن ضعف. وفي هذا الوقت انقض المسلمون على من تبقى من المرتدين فأبادوهم، وكانت مذبحة كبيرة. ومقتلة عظيمة، ومعركة قاصمة، أعادت إلى الجزيرة العربية وحدتها وقوتها(4) واستشهد كثير من الصحابة وحملة القرآن(5).
__________
(1) ابن أعثم -الفتوح: 1/38
(2) ابن أعثم -الفتوح: 1/38 الروحي -بلغة الظرفاء: 9- اليافعي -مرآة الجنان: 1/96- هيكل -الصديق 175
(3) الذهبي - تاريخ الإسلام - 1/358- غلوب الفتوحات العربي الكبرى: 194- فارق -تاريخ الردة: 80
(4) ابن أعثم- الفتوح- 1/39 غلوب- الفتوحات العربية الكبرى: 196
(5) اليافعي- مرآة الجنان: 1/96(1/147)
لم يشعر الجيشان بنقص في التموين، ذلك أن الوسائط المحلية كانت كافية لإطعام المقاتلين، فقد كانت تلك المنطقة غنية بالطعام، وتتوفر فيها المياه الكافية، ولقد استفاد الجيش العربي الإسلامي من الغنائم التي حصل عليها في المعارك السابقة قبل دخوله معركة عقرباء، ثم لما استولى على تلك المنطقة وأباد جيش المرتدين حصل أيضاً بالإضافة إلى المواد التموينية على السيوف والدروع والخيل.
صالح خالد قائد الجيش العربي الإسلامي مجاعة الأسير الذي خدع خالداً بهذه المعاهدة التي تبقي السبي في الحصن فقط، وتأخذ ما عداه من الأعتدة القتالية، ورضي قائد هذا الجيش. ولو حق بنو حنيفة في الأرض أينما ذهبوا، وتعرضوا للسبي والقتل، وضربت عليهم الذلة والمسكنة(1).
اشتركت المرأة العربية في هذا القتال من كلا الجيشين، وكانت أم عمارة المرأة البارزة في هذه المعركة، التي حاولت التقرب من مسيلمة وقتله، لكن صاحب الحربة سبقها إلى ذلك، كما اشترك من الجانب الآخر النسوة اللاتي اعتصمن في حصون الحديقة(2).
__________
(1) ابن أعثم: 1/41- ERCEVAL -FSSAI SUR L, HISTOIRE DES ARABES 3/377
(2) ابن أعثم -الفتوح: 1/40(1/148)
يعود انتصار الجيش العربي الإسلامي في هذه المعركة إلى العقيدة التي يحملها، وإلى القيادة التي اتصفت بالمرونة والحزم والاستمرار، وإلى اتباع أساليب جديدة مبتكرة في القتال، وإلى تغيير وتطوير وتبديل هذه الأساليب كلما دعت ضرورة القتال إلى ذلك، فالانتقال من الهجوم المباغت السريع في أول القتال إلى صد العدو إلى الهجوم المعاكس إلى المبارزة إلى استخدام الخدعة إلى تبديل تشكيلات القتال... كلها أساليب أتت في زمنها المحدد من المعركة، وهي تتبدل حسب ظروفها المستجدة، وإلى سرعة التحرك والمرونة والخفة في ميدان المعركة، سيما عند الانقضاض والمطاردة، وإلى التصميم الأكيد على حسم المعركة، وخاصة عند اقتحام الحديقة، وإلى الشدة والعنف في القتال إذ يستميت المقاتل فلا يرحم عدوه، ويفصل الرأس عن الجسد، ويجعل الدماء تسيل كالجداول في "خندق الدم"، وإلى تجزئ القوات المعادية بحيث يمكن التفوق على هذا الجزء وبالتالي فإنه يبدأ بقضمة تتبعها قضمة حتى ينتهي من تدمير الجيش وتمزيق قواته، ويولي جيش المرتدين منهزماً تائهاً في الأراضي، فما نجا منهم إلا القليل، وإلى عدم إتاحة الفرصة لجيش مسيلمة بإعادة تنظيمه، أو استعادة أنفاسه خاصة في اللحظة التي انكفأ فيها مرتداً قبل أن يدخل الحديقة إذ تابع جيش خالد الهجوم والضغط دون أن يترك فاصلاً زمنياً للراحة لجنوده، ودون أن يترك لأعدائه فرصة العودة والقتال من جديد.(1/149)
معركة قضاعة ووديعة. تسكن هاتان القبيلتان في الشمال من المدينة في منطقتي تبوك ودومة الجندل، وقد ارتدتا، كما ارتد غيرهما من القبائل، تحرك عمرو بن العاص بتشكيله من المدينة وتصدى لهؤلاء المرتدين، وكان القتال غير نظامي، إنما يشبه قتال العصابات، لذلك كان الانتصار عليهم بسهولة سيما عندما انضم إلى هذا التشكيل شرحبيل بن حسنة الذي انتهى من توه في معركة اليمامة، وتحرك باتجاه الشمال الغربي بأمر من القائد الأعلى ليقاتلا معاً عدواً مشتركاً، وخلال أسابيع قضي على المناوئين، وعادت القبائل إلى دينها(1) معركة دبا. تقع دبا في الجهة الشرقية من المدينة المنورة، على ساحل خليج عمان(2) وتعتبر عاصمة لُعمان، تسكنها قبيلة أزد بقيادة لقيط بن مالك الأزدي،(3) الذي أعلن نفسه ملكاً متوجاً عليها بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فارتد هو وقبيلته. تحرك حذيفة ابن محصن الغلفاني من المدينة، والتقى مع لقيط في دبا، ودارت معركة لم تكن فاصلة، فانسحب إلى صُحار، وهي إلى الجنوب من دبا على ساحل الخليج(4) ساعد حذيفة في مهمته عكرمة الذي تصدى لقتال المرتدين في المناطق المجاورة، واستطاعا أن يعيدا الاستقرار والإسلام إلى تلك الديار(5).
__________
(1) فارق -تاريخ الردة: 148- وما بعدها
(2) الحموي -معجم البلدان: 2/435-436.
(3) الحموي -معجم البلدان - 2/436
(4) ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/110- البلاذري -فتوح البلدان: 104- الحموي -معجم البلدان: 3/393
(5) ابن أعثم -الفتوح: 1/73-74، ابن كثير -البداية والنهاية: 6/330- فارق -تاريخ الردة: 147 وما بعدها.(1/150)
معركة مهرة. تسكن قبيلة مهرة في الجهة الجنوبية من الجزيرة العربية على ساحل العرب، إلى الشرق من حضرموت، قريباً من قبيلة كندة، مطلة على خليج القمر. ارتدت كما ارتد غيرها. فتوجه إليها عرفجة بن هرثمة البارقي، فقاتلها وأخضعها بمساعدة عكرمة الذي تحرك إليها بتشكيله بعد الانتهاء من دبا(1).
معارك البحرين. تقع البحرين في الجهة الشرقية من الجزيرة العربية على ساحل الخليج العربي إلى الشرق من المدينة(2) سار إليها العلاء بن الحضرمي قائد أحد التشكيلات ليقاتل المرتدين لوحده في أماكن مختلفة من البلاد، وشعر السكان المحليون بهذا التحرك، فتحصنوا بحصن "جواثا"(3) فحوصروا عدة أيام، لم يتمكن خلالها هذا القائد من مهاجمة الحصن أو اضطراره للتسليم، حتى إذا سكر أهل الحصن فاجأهم واستولى على الحصن، وقتل العديد منهم، وتابع تحركه في البلاد، وإلى الشمال حتى وصل إلى "دارين" فأخضع جميع المرتدين، وعادوا إلى الإسلام.(4).
__________
(1) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/528 وما بعدها، فارق -تاريخ الردة: 155 وما بعدها،
perceval- Essaisur L,histoire Des Arabes 3/387
(2) الحموي - معجم البلدان: 1/346 وما بعدها
(3) ابن أعثم - الفتوح: 1/47-51- كمال- الطريق إلى المدائن: 176
(4) ابن أعثم -الفتوح - 1/48- وما بعدها، فارق -تاريخ الردة: 136- وما بعدها، كمال - الطريق إلى المدائن: 175- الخضري -اتمام الوفاء: 36-
perceval- Essai Sur L,histozre DES arabes 3/365-386(1/151)
معركة كندة. كندة قبيلة تسكن في الجزء الجنوبي من الجزيرة العربية جنوبي اليمن، وتنتشر في اليمن وحضرموت ونجران(1). وكان الحاكم على هذا الجزء زياد بن لبيد البياضي الذي اتخذ مقره في "ظفر" عاصمة حضرموت. كانت كندة تتحين الفرص للإفلات من دفع الزكاة، وتحاول أن تجد طريقاً أو سبباً للخلاص من هذا القيد الذي لم يألفوه من قبل، وشجع ذلك زعماء القبائل الذين كانوا يتشوقون للعودة إلى الحياة القبلية، والزعامة العشائرية، فخرجوا عن سلطة المدينة وأعلنوا ارتدادهم، وتجمعوا في نقاط عسكرية متعددة بغية مهاجمة الحاكم الإسلامي، لكن زياد هاجم الرياض وهي أكبر معقل لهم، فقتل وأسر العديد منهم، وتفرق الباقون(2).
تأثر الأشعث بن قيس الذي لا يزال على إسلامه حتى ساعة هجوم قائد التشكيل على معاقل المرتدين، فعارض السلطة، ونصب نفسه محامياً ومدافعاً عن المرتدين إذ أخذته حمية الجاهلية والقبلية، فجمع جموعه، وفك الأسرى المعتقلين بالقوة، وبدأ يحضر لشن هجوم ضد ابن لبيد(3).
شعرت القيادة العامة في المدينة أن هناك خطراً على تلك المنطقة وقائدها، فيما لو أتم الأشعث استقطاب جميع المرتدين في قبيلة كندة والسكان المحليين، وأن الكفة ستكون راجحة لصالح الأشعث، فأرسل القائد الأعلى تعزيزات، وأصدر أوامره على الفور إلى المهاجر بن أبي أمية أن يتحرك وينضم إلى القوات العربية الإسلامية في ظفر، وكذلك إلى عكرمة بن أبي جهل الذي لا يزال في "أبين" قريباً من منطقة الصراع(4).
__________
(1) فارق -تاريخ الرده: 159
(2) ابن أعثم - الفتوح: 1-55- وما بعدها، فارق تاريخ الردة: 159- وما بعدها
(3) ابن أعثم- الفتوح: 1/55-59-60
(4) ابن أعثم -الفتوح: 1/70-71(1/152)
التحقت التعزيزات جميعها في الوقت المحدد، وتحشدت هذه القوات في ظفر بقيادة المهاجر، وأخذت تستعد لقتال المرتدين بقيادة الأشعث، وأدركت قيمة السرعة في الهجوم قبل أن يكتمل استعداد وتحضير الأشعث قائد القوات المرتدة، فأمر المهاجر بالهجوم العام على طول الجبهة، وفي النقاط التي يتجمع فيها المرتدون، فتأخر الأشعث وانسحب إلى حصن "النيجر"(1) فتبعته القوات الإسلامية، وضربت حصاراً على الحصن إذ سدت الطرق الثلاثة المؤدية إلى المدينة، ومنعت عنها كل الإمدادات، وحاول المحاصرون فك الحصار بإجراء عدة هجمات محدودة غير مؤثرة، وبقي الحصار مطبقاً بصرامة حتى نفذت التموينات، ونفذ صبر الأشعث ومن معه، فأرسل إلى قادة أحد التشكيلات عكرمة يستشيره في وضع حد لهذا الحصار، فوافق المهاجر وعكرمة على أن يستسلم الحصن، مقابل أن يصان دم الأشعث وعشرة ممن معه من قبيلته(2) وفتح باب الحصن، وخان جيشه، وتدفقت جموع المسلمين إلى داخل الحصن، وحدثت مقتلة كبيرة، ذبح فيها الكثير من الرجال، وجمعت الغنائم، وقيدت الأسرى، وسبيت النساء، وأعلم القائد الأعلى بهذا الانتصار.(3)
من مجمل حروب الردة، ومن خلال القيادة الاستراتيجية في المدينة، ومن القيادة التكتيكية في الجهات والأماكن التي ارتدت فيها معظم القبائل، يلاحظ على هذه الحروب ما يلي:
__________
(1) ابن أعثم - الفتوح: 1/75
(2) الطبري -تاريخ لأمم والملوك: 2/547 ابن أعثم -الفتوح: 1/84 غلوب - الفتوحات العربية الكبرى - 206
(3) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/548- ابن أعثم -الفتوح: 1/82- وما بعدها/ الخضري -اتمام الوفاء - 41-42(1/153)
1-أن القبائل المرتدة كانت تحارب مفككة ومجزأة(1) إلا في معركة عقرباء- دون قائد، مما سهل لقادة التشكيلات الانتصار عليها، بفضل التنظيم العسكري للمقاتلين بتشكيلات قتالية. إن الذين ارتدوا كان أكثرهم من أهل البادية وبعيدين عن المدينة، وعن المركز الثقافي والعقائدي، وكانوا أقل من غيرهم شدة وبأساً في القتال، فإنهم إن تضايقوا تركوا المعركة، وإن ثبتوا فإن ثباتهم يكون قليلاً، فقتالهم غير متماسك، أسلوبهم الكر والفر، وغايتهم المال والغنيمة، لم يدخل الإيمان في قلوبهم، وأعلنوا من قبل الإسلام بألسنتهم.
2-أن جميع المرتدين عادوا بعد القتال إلى الإسلام، ورأوا أن لا مناص من الرجوع، فعادوا من حيث قد خرجوا، وهم إما أن يكون رجوعهم خوفاً أو إيماناً. والمهم أنهم لم يثبتوا على ما هم عليه.
3-أن زعماء المرتدين كانوا يقاتلون لمنصب، وأنهم استغلوا بساطة وسذاجة البدوي الذي عاش مع الطبيعة القاسية، ومع القبيلة التي لم يكد يتركها في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى عاد إليها في زمن الردة مثل الأسود العنسي في اليمن وصنعاء، ومسيلمة في اليمامة اللذين استطاعا أن يستوليا على قلوب الكثير من القبائل التي ينتمون إليها أو إلى غيرها، في حين أن قادة الجبهات والتشكيلات كانوا يقاتلون عن عقيدة ودفاع عن الإسلام.
4-أن أكبر معركة كانت في اليمامة ضد مسيلمة الكذاب الذي حشد فيها آلاف المقاتلين. وبانهيار الردة في هذه المنطقة تداعت باقي الثورات واستسلمت دون مقاومة تذكر(2).
5-أن التعاون كان جلياً بين قادة التشكيلات التي كانت تتحرك باتجاه الخطر، كما فعل عكرمة في عُمان ومهرة، وكما حدث بين عرفجة وحذيفة في معركتي دبا ومهرة.
__________
(1) العقاد -عبقرية الصديق - 140
(2) الطبري - تاريخ الأمم والملوك - 2/619(1/154)
6-أن القيادة العليا كانت قيادة حكيمة تدير عمليات الجبهات المختلفة بآن واحد، وهي التي كانت تحرك التشكيلات إلى مواقع الخطر كلاً أو جزءاً، شرقاً أو غرباً، شمالاً أو جنوباً كمعركة كندة، وتعزيز زياد بتشكيلين كبيرين، وبقائدين مجربين هما المهاجر وعكرمة.
7-كفاءة قادة التشكيلات على المستوى التكتيكي، وفي مسرح عمليات المعركة، حيث كانوا يظهرون الخفة والمرونة وقوة الاحتمال، والاستمرار في القتال، والسيطرة على المقاتلين، وتوجيههم إلى الاتجاهات الهامة والرئيسة كما حدث في معركة عقرباء، وإعادة تنظيم القوات بما يتلاءم مع الواقع، ومع جو المعركة كما فعل خالد بن الوليد حين نظم جيشه تنظيماً قبلياً ضمن مجموعات قتالية في معركة ضد مسيلمة.
8-تطبيق الحصار بشروطه وكيفيته على الحصون إذ كان القادة يقطعون الطرق المؤدية إلى الجهة المحاصرة، كما حدث عند تطويق حديقة الموت وحصن النيجر. وكانت عمليات الحصار ناجحة حيث كانت تنتهي باستسلام الحصن، أو فتحه ومهاجمته من الداخل، والقضاء على من فيه من المدافعين.(1/155)
9-من الناحية التموينية، فإن مواد التموين كانت متوفرة وخاصة من المصادر المحلية والغنائم التي حصل عليها القادة العسكريون، وأولهم أسامة بن زيد الذي عاد من حربه، وهو يحمل معه الأموال والغنائم، وخالد بن الوليد الذي جمع من الغنائم الكثيرة في حربه مع طليحة بن خويلد الأسدي، ومع مسيلمة، فكانوا جميعاً يطبقون آية التخميس، أربعة أخماس الغنيمة تذهب إلى الجند، ويرسل بالخمس إلى أبي بكر الصديق، وكان القائد الأعلى يقسم ما وصل إليه بين المسلمين لا يفرق بين الرجل والمرأة، والحر والعبد، فهم في القسمة سواء(1) وكذلك فإن الأموال كانت تأتي عن طريق الأسرى الذين يفتدون بمبلغ يفرض عليهم، كما حدد أبو بكر الفدية عن كل أسير من أسرى النيجر بأربعمائة درهم(2)، وكذلك من الزكاة التي جمعت من أفراد القبائل بعد أن عادت إلى الإسلام. ولقد شاركت المرأة في النواحي الإدارية، وفي رفع المعنويات، ولكنها كانت تشكل عاراً وشناراً عند هزيمة جيشها حيث تؤخذ سبية، كما حدث في حصن النيجر(3).
10-أن حروب الردة ثبّتت دعائم الحكم الإسلامي، وقوّت مركز أبي بكر الصديق، وزادت ثقة الجيش والمواطن به، ودلّت على حسن رأيه، ونفاذ بصيرته، وأعادت للعرب وحدتهم وقوتهم، كما مهدت الطريق أمام فتح العراق والشام.
نتائج حروب الرّدة. يمكن إجمالها بما يلي:
1-إعادة وحدة القبائل العربية، ووحدة القوة المقاتلة.
2-امتداد الفتح إلى بلاد فارس، وإلى بلاد الروم.
3-كانت حرباً أهلية ضمن الجزيرة، فلم يسلم بيت أو قبيلة إلا قتل منها أو فقد أو أسر، فما كان من أبي بكر إلا أن وجه تلك القبائل في مجموعها إلى حروب وفتوح لكي تلتئم تلك الجروح، وتنسى تلك الأحقاد(4).
__________
(1) ابن الأثير - الكامل في التاريخ: 2/373- حسين - الشيخان: 100
(2) البلاذري -فتوح البلدان: 1/145
(3) الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/619
(4) كمال - الطريق إلى المدائن - 182(1/156)
4-دخل المقاتل في حروب الردة قتالاً يمكن أن نطلق عليه: قتال التشكيلات الكبيرة والمعارك المنظمة. ولا سيما ما حدث في معارك بزاخة والبطاح وعقرباء مما أهله فيما بعد أن يدخل في تنظيمات عسكرية مع أكبر دولتين آنذاك هما الفرس والروم.
5-لا شك في أن حروب الردة صقلت أبا بكر الصديق ليكون قائداً استراتيجياً كبيراً، يقود العمليات الحربية على جميع الجبهات، وهي نفسها التي جعلت خالد بن الوليد قائداً كبيراً، يتولى قيادة الجيش بصورة مباشرة، وينتقل من نصر إلى نصر، ومن معركة إلى معركة، وهي كذلك جعلت قادة الكراديس في معركة اليرموك يقاتلون عن علم وخبرة وعن تصميم ووثوق بالنصر.
6-إن أكبر ما قدمته حروب الردة هو ذلك الشعور عند المقاتلين بأن الله على نصرهم لقدير، وأن الجيوش الجرارة لن ترهبهم، وأن تقنية سلاح عدوهم لن تثنيهم عن عزيمتهم، فكانوا فيما بعد يقاتلون جيوشاً متفوقة عليهم في العدة والعدد، وفي الأمور الفنية والتقنية التي كانت لدى الفرس والروم.
7-وهناك عامل السرعة الذي كان نتيجة لحروب الردة، إذ لا يعقل ولا يصدق أن ينتصر جيش قليل بهذا الزمن القصير، وأن يستولي على أرضين واسعة ومدن كثيرة وأن يدك عروشاً، وينزل تيجاناً، وحتى إذا ما قيس بالعمليات الحربية الحديثة فإن الاستيلاء على تلك الأراضي يلزمها وقت كبير، ومع ذلك فقد استطاعت القوات العربية أن تنتقل من حدود الجزيرة، وتجوس ديار العراق على طول امتداد نهر الفرات من أسفله إلى أوسطه، وتدق ديار الشام، وتصل إلى بلاد الجنوب من سورية إلى أرض حوران واليرموك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــ
ــــــ
الفَصل الرّابع
فتوح العراق(1/157)
كان يحكم العراق قبل أن تطأها سنابك خيل المسلمين الفرس، وكان بينهم وبين الروم عداوة لاختلافهم على زعامة العالم آنذاك، وتنازع الفرس فيما بينهم، وضعفت دولتهم بموت كسرى أبرويز، ثم أعقبه عدة ملوك ساد في زمنهم الفوضى والخلل في الحكم.
أدرك القادة العرب وفي مقدمتهم أبو بكر الصديق أنه آن الأوان لفتح العراق وبلاد فارس، ولا سيما أنه يعلم ضعف هذه الدولة وما وصلت إليه من الفوضى والاضطراب والاختلاف الكبير بينها وبين دولة الروم اللتين كانتا على الأقل- فيما إذا حدث هجوم من قبل العرب المسلمين - لن تقوم الواحدة بمساعدة الأخرى. وضمن هذا التفكير، وضمن هذا التصور الاستراتيجي أصدر أبو بكر أوامره بعد انتهاء الردة إلى خالد بن الوليد أن يطأ أرض فارس فقال: "سر إلى العراق حتى تدخلها وابدأ بفرج الهند (وهي الأبلة) وتألف أهل فارس ومن كان في ملكهم من الأمم"(1).
__________
(1) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/551
HAMIDULLAH- DOCUMENTS SUR LADIPLOMATIE MUSULMANE 2/7
F- GOBRIELI - MUHAMMAD AND THE CANQUESTS OF ISLAM PP 91-94
THE ENCYCLOPEDIO OF MILITARY HISTORY PP: 230(1/158)
لقد ركز أبو بكر على هذه الجبهة لأنها تشكل الجناح اليميني للجزيرة، وبنفس الوقت فإنها مجاورة للعرب، وفيها الفرس الذين يمكن تألفهم وضمهم إلى القوة العربية الإسلامية. وقبل أن يكتمل فتح العراق أمر الجيوش بالزحف إلى بلاد الشام لأهميتها وخطورتها، ولكنه لا يزال في نفسه إيثار جبهة العراق على غيرها، أو على الأقل مساوية للجبهة الشامية لما لها من أهمية استراتيجية، وهذا ما صرح به قبيل وفاته فقال "وددت أني وجهت خالد بن الوليد إلى الشام، ووجهت عمر إلى العراق فأكون قد بسطت يديّ يميني وشمالي في سبيل الله عز وجل"(1) أي أنه كان بوده أن يحارب على جبهتين شرقية وغربية، عمر بن الخطاب للأولى، وخالد بن الوليد للثانية.
قرار الفتح
ما هو الذي حدا بأبي بكر الصديق بأن يفكر في فتح العراق، ويوجه جيشه إلى هذا البلد؟ أهو قرار صادر عن نزوة، أم عن تفكير عميق، ودراسة دقيقة؟ أبو بكر الرجل الاستراتيجي فكر ثم قدر ثم عبر بتنفيذ ما كان قدره وخططه. ويمكن إجمال أهم الأسباب التي جعلت القائد الأعلى يتخذ هذا القرار فيما يلي:
1-ضعف الامبراطورية الفارسية - وبخاصة من الوجهة السياسية.
2-وفيها من العرب الذين يمكن تألفهم وجمعهم تحت الراية العربية الواحدة
3-توسيع رقعة الأرض العربية، وضم بلاد إليها ليتسع الحكم الإسلامي، ويدخل الناس فيه أفواجاً.
4-نشر الدين الإسلامي في جميع البلاد المفتوحة.
5-التفرغ لهذه الحرب بعد أن قضى نهائياً على القبائل المرتدة في الجزيرة العربية
6-وجود قادة قادرين على الحرب في أرض العراق، وهم اهل لها كخالد بن الوليد والمثنى بن حارثة الشيباني والقعقاع بن عمرو ومذعور بن عدي وغيرهم.
7-اشغال القبائل بالحروب العادلة، وتحقيق الأعمال التي اعتادت عليها وذلك بتصعيدها وتوجيهها نحو الجهاد.
__________
(1) المسعودي -مروج الذهب: 1/415- الطبري - المعجم الكبير 1/16- البكري -معجم ما استعجم: 3/1077(1/159)
حدد القائد الأعلى لخالد بن الوليد مهمة الفتح، وأمره أن يبدأ من الجنوب من أسفل العراق باتجاه الحيرة، متخذاً محور التحرك اليمامة، النباج، الحفير، الأبلة (1) كما أعطى الصلاحية من قبل للمثنى أن يغير بقبيلته بني بكر على الجزء الشمالي الشرقي من شبه الجزيرة العربية(2). ثم حدد أبو بكر حجم الجيش الذي سيقاتل في أرض العراق، وأوصى أن يكون كله من المتطوعين الذين نذروا أنفسهم واستبعد الذين ارتدوا من قبل(3).
هذا وقد أرسل القائد الأعلى أيضاً جيشاً آخر بقيادة عياض بن غنم، وأعطاه نفس المهمة باختلاف خط البدء ومحور التحرك إذ عين لهذا القائد أن يدخل العراق من أعلاه، وأن يكون محور التحرك من المدينة إلى دومة الجندل باتجاه الحيرة التي ستكون ملتقى الجيشين(4) حيث ستوحد القيادة وتكون جميع القوات آنئذ بإمرة الذي يحتل الحيرة، ويسبق في الوصول إليها.
وفي حال نجاح هذين الجيشين ووصولهما إلى الهدف المحدد فإن على أحد الجيشين أن يمكث ويقيم في الحيرة، وأن يتقدم الآخر لإتمام الفتح. وبهذا فقد حدد أبو بكر في قراره أيضاً بعد انتهاء المرحلة الأولى من القتال (المهمة المباشرة) المرحلة الثانية (المهمة التالية) ألا وهي التوغل في بلاد فارس والوصول إلى كتسفون (المدائن) عاصمة الفرس آنذاك في أرض العراق، وفي هذه المرحلة على أحد الجيشين أن يبقى في الحيرة كحماية لظهر الجيش الذي يتقدم باتجاه أرض فارس بغية توطيد الحكم، وتطهير الجيوب الخلفية من بقايا الفرس والعرب(5).
__________
(1) الطبري - تاريخ الأمم والملوك - 2/553-554
(2) الطبري -تاريخ الأمم والملوك - 2/552
(3) الطبري -تاريخ الأمم والملوك - 2/553-554
(4) الطبري -تاريخ الأمم والملوك - 2/554
(5) الطبري - تاريخ الأمم والملوك- 2/554- الخضري -اتمام الوفاد- 43-44(1/160)
تلقى خالد قرار القائد الأعلى، فتفهم المهمة، وأعطى تعليماته الأولية، وحسب الزمن، وخطط للمعارك القادمة، ووزع المهام على قادته المرؤوسين، وأرسل إنذاراً إلى حاكم العراق هرمز(1) كما تلقى عياض بن غنم مهمة قتالية مشابهة.
خاض الجيش العربي في جبهة العراق عدة معارك أهمها: كاظمة (ذات السلاسل)، نهر مكيل، الولجة، أليس، الحيرة، الأنبار، عين التمر، دومة الجندل، الحصيد، الخنافس، المصيخ، المثنى، الزميل، الفراض(2).
تاريخ فتح العراق
__________
(1) الطبري -تاريخ الأمم والملوك - 2/554
(2) ابن الأثير - الكامل في التاريخ: 384-399(1/161)
انتهت حروب الردة في سنة 11/632، وأقبلت السنة الجديدة، فقرر أبو بكر فتح العراق، وتحركت القوات العربية لهذه المهمة في يوم الخميس الأول من المحرم 18 آذار سنة 12/633(1) وحدثت أول معركة مع الفرس في نفس هذا الشهر، ثم المذار في الأسبوع الأول من صفر(2) وفي يوم السبت في الأول من صفر 17 نيسان حدثت معركة الولجة ثم أليس في نفس الشهر(3) وفي يوم الأحد من ربيع الأول 16أيار تم فتح الحيرة فالأنبار فعين التمر. ثم تحرك خالد في آخر الشهر إلى دومة الجندل(4) وفي يوم الجمعة 15 ذي القعدة الموافق 21 كانون الثاني 13/634 حدثت معركة الفراض وهي آخر سلسلة المعارك التي خاضتها القوات المسلحة العربية في العراق(5) وقد تم فتح هذه البلاد العديدة، والأراضي الواسعة، وخاض فيها الجيش أكثر من ثلاث عشرة معركة متنقلاً من مكان إلى آخر في غضون عشرة أشهر وثلاثة أيام. ولو كلف جيش ميكانيكي، أو دبابات في الوقت الحاضر ما كان ينبغي له أن يتم تلك الفتوحات خلال هذه المدة القصيرة، وبهذه الانتصارات الرائعة.
حجم الجيش
__________
(1) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/551- ابن الأثير - الكامل في التاريخ: 2/384- مختار باشا التواريخ الهجرية: 1/44
(2) الطبري -تاريخ الأمم والملوك - 2/557- مختار باشا -التواريخ الهجرية: 1/44
(3) الطبري -تاريخ الأمم والملوك- 2/558- مختار باشا -التواريخ الهجرية: 1/44
(4) الطبري - تاريخ الأمم والملوك - 2/563- مختار باشا التواريخ الهجرية: 1/44
(5) الطبري -تاريخ الأمم والملوك - 2/583- مختار باشا -التواريخ الهجرية - 1/44(1/162)
كان عدد الجيش بقيادة خالد ثمانية عشر ألف مقاتلٍ. دخل العراق في عشرة آلاف، وانضم إليه بعد الدخول قادة التشكيلات العراقية وكانوا أربعة، مع كل واحد ألفا مقاتل، وهم المثني بن حارثة الشيباني، ومذعور بن عدي، وحرمله بن مريطة التميمي وسلمى بن سلمى القين التميمي(1) أما عدد الجيش بقيادة عياض بن غنم، فلم تذكر المصادر حجم هذا الجيش، وإنما يفهم من التكليف الذي أمر به أبو بكر الصديق إلى هذين الجيشين أن جيش عياض يقل عدداً عن جيش خالد(2).
وكذلك فإن الجيش الفارسي، لم تتعرض المصادر إلى حجمه أيضاً، وإنما يمكن الاستدلال على الحجم من الخسائر إذ خسر هذا الجيش في معركة المذار ثلاثين ألفاً، وفي أليس سبعين ألفاً(3) وكذلك فإن لكل معركة وقعت في أرض العراق عدداً من الجنود يختلف عن المعركة الأخرى، وبالإضافة إلى ذلك فإن عدد الجيش الذي يقوده أحد قادة الفرس إنما يبلغ عشرة آلاف. فإذا كانت هذه الدلائل كافية فإن الجيش الفارسي كان في كل معركة يتفوق بعدده على الجيش العربي. وإذا جمع عدد الذين اشتركوا في القتال في أراضي العراق من الفرس والعرب في الجيش الفارسي لشكلوا رقماً بالتأكيد أعلى من رقم الجيش العربي.
الاستطلاع
الاستطلاع من الأمور الهامة التي استندت القيادة العربية عليه، فكانت تعلم كل شيء عن تحرك الفرس، وما يدور داخل معسكرهم، وحتى ضمن قياداتهم، وذلك بفضل التنظيم الدقيق لوسائط الاستطلاع، وبخاصة السكان المحليين إذ كانت شبكة من العيون مبثوثة في كل الأراضي والمعسكرات والمدن الفارسية.
__________
(1) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/554
(2) الطبري -تاريخ الأمم والملوك 2/553- وما بعدها
(3) الطبري - تاريخ الأمم والملوك - 2/558-562(1/163)
ومن مصادر الاستطلاع الطليعة التي كانت تتقدم الجيش بقيادة المثنى، حيث كان عالماً بالأراضي وبالسكان، وله خبرة طويلة، وكان قد مارس الغارات المتتالية عليهم، فقد كان يمثل دور رئيس الاستخبارات بالإضافة إلى عمله الرئيسي في القوات العربية كقائد طليعة. وللأدلاء دور كبير أيضاً في جمع المعلومات عن الأراضي وعن السكان وعن المصادر المحلية وعن العدو، فكان دليل المثنى ظفر ودليل عدي بن حاتم مالك بن عياد ودليل عاصم بن عمرو وسالم بن نصر، والفرقة الثالثة التي كانت بقيادة خالد، وكان دليله رافع(1).
وكما قدمنا فإن المثنى كان اختصاصياً، وبحكم موقعه فإنه كان على تماس مباشر بالعدو، ينقل عنه الأخبار تباعاً بذلك التنصت وبث العيون والرصد. ففي معركة المذار وصلت المعلومات إلى قائد الجبهة بوقتها وبصورة صحيحة، ولذلك كان قراره صحيحاً حيث تحرك نحو المذار(2).
إن الأسرى كانوا بأعداد كبيرة من الجيش الفارسي حيث كانوا يدلون بمعلومات عن قادتهم وتشكيلاتهم، وقد أسر كثير من الرجال في معركتي المذار وأليس وأدلوا بمعلومات قيمة، استفادت منها القيادة العربية في فتح أليس والحيرة(3).
كذلك فإن الكمائن كانت تقوم بدور الاستطلاع القسري، حيث كانت تغير على الفرس، أو تكمن لهم فتأخذ كل من يقع في يدها، وترسله إلى القيادة العامة التي تقوم بدورها باستجوابهم، والحصول على المعلومات اللازمة(4).
__________
(1) الطبري - تاريخ الأمم والتاريخ: 2/554
(2) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/557
(3) الطبري -تاريخ الأمم والملوك 2/558-561
(4) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/559(1/164)
وهناك السكان المحليون الذين أعجبوا بمعاملة الحكم العربي بالمقارنة مع ظلم الحكم الفارسي. وفي الحقيقة فإن العرب من سكان البلاد المحليين هم الذين كانوا ينقلون الأخبار عن تحرك الجيش الفارسي وقوّته وسلاحه ونيته. وقد ظهر ذلك واضحاً عندما تحرك "الأندرزعز" القائد الفارسي من المدائن (كتسفون) فمر بكسكر ووصل الولجة وقبل وصوله علمت القيادة العربية بكل هذه التحركات وبجميع المعلومات، فأعدت وحضرت كل قواتها، وتمركزت في موقع مناسب يؤمن لها الشروط المناسبة لقتال الفرس(1).
التسليح
__________
(1) الطبري -تاريخ الأمم والملوك 2/559(1/165)
كان الجيش الفارسي مسلحاً بأحدث الأسلحة. فمنها للرأس كالبيضة والمغفر، وللجسم كالتجفاف(1). والدرع والجوشن والساعدين والساقين والترس التي تعتبر جميعها أسلحة دفاعية، وأما الأسلحة الهجومية فأهمها الرمح والطبر(2) والعمود(3) والقوس والسيف.
__________
(1) التجفاف ج تجافيف. هي آلة الحرب من حديد، يلبس للفرس، وقد يلبسه الإنسان أيضاً، وهو في الأصل ما جلل به الفرس. وقيل: هو الدرع الذي يصنع للدابة من اللباس أو القماس المبطن. انظر الزبيدي- تاج العروس: 6/59- زكي- السلاح في الإسلام: 24
(2) الطبر لغة فارسية ويعني الفاس. يضعها الفارس في حلقة في سرج فرسه، وكان يطلق على من يحمله "الطبردار" والطبر يصنع من الحديد على شكل هلال نصف دائرة، وله مقبض من خشب أو حديد على شكل عصا. انظر القلقشندي -صبح الأعشى: 2/135- زكي - السلاح في الإسلام: 39
(3) العمود. يصنع من الحديد، ويستخدم لضرب الرأس والأنف، أو العضد والركبة، ويمكن أن يكسر به الرمح أو السيف: له أنواع منها اللتوت التي لها رؤوس مستطيلة ومضرسة، ومنها الدبوس التي لها رؤوس مدورة. يعلق العمود في كلاب من سرج الفرس عند ركبة الفارس اليسرى. انظر مخطوطة ابن هذيل- في الخيل والسلاح وما يتعلق بهما: 68-69- ماجد- الحضارة الإسلامية: 65(1/166)
وهناك جعبة فيها قوسان بوترهما وثلاثون نشابة ووتران آخران كاحتياط يضعهما، الفارس ويعلقهما في مغفره وراء ظهره(1) وقد ظهر سلاح أثناء حصار القصر الأبيض من قبل ضرار بن الأزور أطلق عليه "الخزاريف" وهي المداحي من الخزف، كانوا يرمون بها المسلمين رجال من متعلقي المخالي(2) أما الجيش العربي فكان تسليحه عادياً، كذلك فإن بعض الأسلحة غير متوفرة كالدروع والخوذ(3) أما السيوف فكانت متوفرة، وعلى عادة العربي فإنه يصطحب معه عدة أسياف إن توفر له ذلك، وقد عرف عن خالد بن الوليد أنه كان يصطحب معه ثلاثة أسياف أو أكثر المِرْسَبْ والأَدْلَق والقُرطبى(4).
فن الحرب عند العرب وعند الفرس
إذا استعرضنا فن الحرب عند العرب، فإننا نستعرض ما تم في فتح العراق، وبدءاً من صدور قرار القائد الأعلى في المدينة، وحتى صدور القرار بالتوجه نحو الشام للانضمام إلى الجبهة الشامية لمحاربة الروم.
__________
(1) الدينوري -الأخبار الطوال: 72-73
(2) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/565
(3) ابن عبد ربه -العقد الفريد: 1/179- الطرسوسي -تبصرة أرباب الألباب: 6 وما بعدها، خماش- الشام في صدر الإسلام: 318
(4) ابن المحبر - المنمق: 523-524(1/167)
1-التحرك على محاور متلاقية، وعلى اتجاهات متلاقية: أصدر القائد الأعلى أبو بكر الصديق أوامر إلى خالد ابن الوليد أن يتجه نحو العراق بادئاً من أسفله من أبله، وإلى عياض بن غنم أن يبدأ من أعلاه من الشمال من المصيخ، وأن يلتقيا فيما بعد في الحيرة(1) وهذا النوع من التحرك يعطي حرية المناورة للقادة، كما يحدد لهم الاتجاه، ويمنح لهم الاستقلالية والتصرف حسب مقتضى الحال. وفعلاً فقد سار الجيشان طبقاً للخطة وللأوامر الصادرة بهذا الشأن. فتقدم خالد بسرعة فأنهى مهمته، وتأخر عياض في دومة الجندل لوجود بعض المقاومات، فعاونه خالد، والتقى الجيشان في الحيرة وكما فعل القائد الأعلى كذلك فعل خالد بن الوليد، ففرق جيشه إلى ثلاثة تشكيلات تحركت على محاور متلاقية لتلتقي في الحفير، ثم لتبدأ جميعها معركة الكاظمة ذات السلاسل ضد الفرس(2) وكذلك في عين التمر إذ قسم خالد جيشه إلى ثلاثة تشكيلات أحدهما بقيادة القعقاع وتوجه إلى الحصيد، والثاني بقيادة أبي ليلى وتوجه إلى الخنافس، والثالث بقيادة خالد بقي كاحتياط بيد قائد الجيش(3).
2-خفة الحركة. يتميز الجندي العربي بأنه كان خفيفاً في حركته، رشيقاً في جسمه، لا تثقله الأعتدة والأسلحة الثقيلة، قد عود نفسه على أنواع التدريبات المختلفة التي تجعله يتحرك على المحاور، وعلى الأجناب، وعلى المؤخرات بسرعة كبيرة، وخفة تدعو للتقدير والإعجاب، وتجلى ذلك بوضوح في المعارك التي خاضها ضد الجيش الفارسي، وبخاصة في المعارك كاظمة، عين التمر، المصيخ(4).
__________
(1) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/553-554-573- ابن الأثير -الكامل في التاريخ: 2/384-185
(2) الطبري -تاريخ الأمم والملوك 2/554
(3) الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/576- وما بعدها، 580 أكرم -سيف الله: 320-322
(4) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/557-576-580 ابن الأثير -الكامل في التاريخ: 2/395(1/168)
3-القتال بأساليب مختلفة ومتطورة تبعاً لطبيعة العدو والأرض وظروف المعركة المتبدلة من وقت لآخر. فقد حارب الجيش العربي الإسلامي في العراق الجيش الفارسي في معركة الكاظمة بنظام التحرك على المجنبات والمؤخرة، يرافق هذا التحرك ضغط كبير، وهجوم مستمر بحيث لا يترك للعدو فرصة لإعادة تنظيمه، أو استعادة قوته(1) وبالكتلة الواحدة - وهي استثنائية- وهي تتلخص بقتال الجيش لعدوه بقوة مجتمعة حيث لا يستطيع في هذه الحالة التحرك على المجنبات، إنما يقاتل وجهاً لوجه، وكتلة لكتلة، وجيشاً لجيش كما في معركة المذار التي كان فيها اليمين والشمال مغلقين(2) وبحصار الحصون والقلاع الذي اتصف بالهجوم المباشر والقضاء على سدنة المنجنيق، واقتحام الحصن والدخول إليه واستسلام أهله والإذعان إلى شروط الجيش العربي(3) وفي مدينة الأنبار فرض الحصار عليها كما فرض على قلاع وقصور الحيرة، إلا أن هذه المدينة قد أحيطت بخندق مملوء بالمياه، فابتعد الجيش العربي عن مرمى أسلحة هذه المدينة، وتمركز بعيداً وأخذ يرمي بسهامه ذات الرمي البعيد تجاه مقاتلي الفرس الذين اعتصموا بالسور، وكان الرماة المسلمون شديدي الإصابة حيث كانت السهام تصيب العيون(4) وبعدها هاجم المدينة بعد أن وضع جسراً من الإبل المنحورة ليتجاوز الخندق، وفتحت المدينة ودخلها العرب(5).
__________
(1) الطبري -تاريخ الأمم والملوك : 2/555-556
(2) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/557- أكرم - سيف الله: 265
(3) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/569- ابن الأثير -الكامل في التاريخ 2/390
(4) الطبري -تاريخ الأمم والملوك- 2/575- وما بعدها، ابن الأثير الكامل في التاريخ: 2/394
(5) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/575(1/169)
وكذلك فإن الجيش العربي في هذه المعارك قاتل بأسلوب تجزئ القوات الفارسية، وقتاله جيشاً بعد جيش إذ تعرض الجيش العربي لجيش "الأندرزعز" قبل أن يصل جيش "بهْمن"، وقضي عليه نهائياً ودمره في معركة الولجة(1)، وأوقع فيه خسائر كبيرة وهرب الباقون بما فيهم قائد الجيش "الاندرزعز" باتجاه الصحراء ومات جوعاً وعطشاً، أما "بهْمن" فقد توقف في مكانه عند سماعه أنباء معركة الولجة، وحاق به الخوف فأرسل نائبه "جابان" والتقى به الجيش العربي في أليس(2)، وحلت بالجيش الفارسي أيضاً الهزيمة والقتل والتشريد، وحارب القوات الفارسية في الحصيد وخنافس قبل أن يلتقيا مع بعضهما، كما حارب القبائل المتحالفة في الثني والزميل، قبل أن يلتقيا مع القوات الفارسية(3).
4-قتال الخيل. قاتلت بصورة مستقلة، وخرج الفرسان في معركة الولجة من خلف التلال، وانقضوا على أجناب ومؤخرة جيش "الاندرزعز" وتم تطويقه كاملاً(4) وكذلك فإن الخيالة انقسمت إلى مفارز قد تبلغ أكثر من مجموعتين وذلك حسب واقع وظروف المعركة، وعند المطاردة في معركة أليس انقسمت الخيالة إلى عدة مفارز لتعقب الهاربين والتمكن منهم وسوقهم إلى مذبحة النهر(5).
__________
(1) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/558- وما بعدها، ابن الأثير -الكامل في التاريخ: 2/387- أكرم -سيف الله: 273
(2) الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/560-561 ابن الأثير- الكامل في التاريخ 2/388
(3) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/580- أكرم -سيف الله: 320
(4) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/560- أكرم -سيف الله: 276
(5) الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/516(1/170)
5-القتال بشدة وغلظة دون هوادة. فالمقاتل يقتل، والأرض تدمر، والمدن تهدم كما حدث بأمغيشيا(1) والأسرى تضرب أعناقهم، والدم يجري كالنهر، والرجال الفارون من جحيم القتال يتعقبهم الفرسان فيقضون عليهم أينما حلوا وأينما ذهبوا، لا ينجي من القتل معذرة أو هرب أو وقوع في أيدي المسلمين. إن الشدة في قتال الجيش العربي لا تبقى ولا تذر(2).
6-الحرب النفسية. وجه خالد إلى هرمز إنذاراً يحذره فيه من مغبة القتال مع العرب، ويذكره بشدة الرجال العرب المسلمين وقوتهم وأنهم يحبون الموت(3). فلا يسمع العدو تلك المقالة حتى تنهار معنوياته، وترتعد فرائصه، وتضمحل قواه، فقد فر "الآزاذبه" قائد الجيش الفارسي، وقطع الفرات هارباً دون قتال(4). وطلب الصلح عمرو بن عبد المسيح بن قيس خوفاً ورعباً(5). وكذلك طلب الصلح أهل الحيرة، ورضوا أن يكونوا تحت حكم العرب المسلمين(6) وكتب خالد إلى ملوك فارس كتباً عديدة فيها تهديد ووعيد وتخويف ورعب ومنها: "بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس. أما بعد. فالحمد لله الذي حل نظامكم، ووهن كيدكم، وفرق كلمتكم، ولو لم يفعل ذلك بكم كان شراً لكم، فادخلوا في أمرنا ندعكم وأرضكم، ونجوزكم إلى غيركم، وإلا كان ذلك وأنتم كارهون على غلب على أيدي قوم يحبون الموت كما تحبون الحياة"(7)
__________
(1) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/563
(2) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/561-562، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/389
(3) الأزدي -فتوح الشام: 66- الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/554
(4) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/564- ابن الأثير - الكامل في التاريخ 2/390
(5) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/565
(6) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/570-571 ابن الأثير -الكامل في التاريخ: 2/392
(7) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/572
hamidullah -Documents Sur La Diplomatie nusulname:222(1/171)
وقتل عقة بن أبي عقة وهزم جيشه دون قتال(1) بهذه الحرب التي كان يشنها الجيش العربي، كان يضعف من معنويات الفرس، ويشل قواهم الجسدية والفكرية، ويجعلهم في خوف دائم يؤدي في النهاية إلى الاستسلام.
7-القتال الصحراوي: إن العرب قد اختصوا بهذا النوع من القتال، فالمثنى كان يغير على أطراف الامبراطورية الفارسية، ثم يعود إلى الصحراء،(2) وكذلك فإن الجيش العربي الذي كلف بفتح العراق كان يقاتل وظهره إلى دياره، فهي مصدر الأمان، ومعقد الرجاء، وقواعد الإمداد، ففي معركة كاظمة كان العرب يقاتلون وظهورهم إلى الصحراء(3). وكذلك في معركة المذار(4)، وكذلك فإن جميع المعارك التي كان يخوضها الجيش العربي مع الفرس كان ظهره دائماً إلى الصحراء التي تؤمن له حرية المناورة في كل الاتجاهات، وتؤمن له على الأقل ما كان قد اعتاد عليه من قبل.
__________
(1) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/577- ابن الأثير -الكامل في التاريخ: 2/395
(2) الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/552
(3) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/556- أكرم -سيف الله: 257
(4) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/557- أكرم -سيف الله: 265(1/172)
8- اعتماد مبدأ الهجوم في كل المعارك. ما إن يتقابل الفريقان، ويتبارز الأبطال، وتسفر النتيجة حتى ترى الجيش العربي ينطلق مهاجماً دون إتاحة الفرصة للجيش الفارسي بأن يقوم بمثل هذا الهجوم(1) وحتى المناطق المحصنة فإنه لا يجري حصارها مدة طويلة، بل تقتحم بمهاجمة جبهية معتمدين في ذلك على التسلل وفتح باب الحصن وقتل حراس الأبواب، واعتلاء السور، والدخول من كل مكان كما حدث في فتح الحيرة وفي حصار دومة الجندل(2) وانطلاق الجيش العربي من قواعده في شبه جزيرة العرب واتجاهه نحو بلاد فارس ما هو إلا هجوم يقصد به محاربة الجيش الفارسي في عقر داره.
__________
(1) الطبري - تاريخ الأمم والملوك: 2/541-551-557-558-560-576
(2) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/564-578-579، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/390-396(1/173)
9- تأمين التماس المباشر مع العدو: يحاول الجيش العربي بكل الوسائل الممكنة تحقيق هذا المبدأ لأنه يؤمن ويوفر المعلومات الصحيحة عن الجيش الفارسي، وعن مواقعه، والتعرف على نيته، ووجهة تحركه، وبالتالي فإنه يظل تحت المراقبة والترصد، ولا يتيح المجال له لكي يعيد تجمعه أو أن يقوم بهجوم معاكس. قبل المعركة ترسل مجموعات استطلاعية، أو الطليعة لتظل على مقربة من الجيش الفارسي كما فعل المثنى(1). وكذلك فإنه أثناء التحرك إذ يرسل جيش (تشكيل) ليقوم بتلمس العدو والاقتراب منه كما فعلت التشكيلات التي حركها خالد بن الوليد تباعاً، يتبع بعضها بعضاً، وأمر أحد قادتها بتحقيق التماس المباشر مع العدو(2). وأثناء المعركة كان يجري الالتحام، ويتعرف الجيشان على بعضهما، وتجري المنازلة. وهذا يعتبر تحضيراً مادياً ونفسياً للمعركة وتماساً، حتى إذا انتهت المعركة لصالح الجيش العربي، وتفرق وهرب الجيش الفارسي، لوحق وظل التماس معه حاصلاً. وقد ظهر ذلك في كل المعارك، وبخاصة بعد معركة الكاظمة إذ هرب الجيش الفارسي إلى الشمال، والتجأ إلى الأبلة ثم المذار، ولا يزال الجيش العربي في أعقابه حتى حدثت معركة المذار(3) وكان التعقب لا ينقطع أبداً حتى انتهت معارك العراق التي كلفت بها تشكيلات الجيوش العربية أثناء خلافة أبي بكر الصديق.
أما فن الحرب عند الجيش الفارسي، فإنه يتلخص فيما يلي:
__________
(1) الطبري -تاريخ الأمم والملوك2/552- ابن الأثير - الكامل في التاريخ: 2/384-385
(2) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/554
(3) الطبري -0تاريخ الأمم والملوك: 2/556-557- ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/386(1/174)
1-التحرك من كتسفون (المدائن) باتجاه واحد هو الاتجاه الخطر أو الأكثر خطورة إذ تحرك جيش هرمز باتجاه الحفير وهو لا يدري هل هذا الاتجاه حقاً هو الأجدى، أم اتجاه كاظمة!؟ وضاع عليه تحديد الاتجاه(1)، ذلك لأن الجيوش الفارسية كان ينقصها تحقق الاستطلاع، وتأكيد التماس المباشر، لاعتقادها أنها تتحرك في أرض موالٍ سكانها للفرس، وأنها ليست بحاجة إلى إجراءات أمن التحرك أو سواها من التأمينات.
2-بطء الحركة. كان الجيش الفارسي إذا تحرك فإنه يتحرك بثقل، وإذا قاتل فإنه يقاتل وكأنه مقيد من كثرة أحماله، وبالإضافة إلى ذلك فإنه يربط بالسلاسل ويقيد بها(2).
3- القتال بأساليب روتينية بعيدة عن الإبداع والابتكار. وقد دلت معارك العراق على أن جميعها كانت تجري بأسلوب واحد هو القتال بكتلة واحدة. وقد درج قادة هذه المعارك على أنهم يتبعون بعضهم بعضاً، ولم يحدث أن قائداً واحداً استطاع أن يطور ذلك الأسلوب، وكما نلاحظ فإنه في أول معركة الكاظمة دخلها الجيش الفارسي بنظام الكتلة الواحدة(3)، وكذلك بقية المعارك منتهياً بالثني والرميل والفراض(4).
__________
(1) الطبري -تاريخ الأمم والملوك 2/555- ابن الأثير -الكامل في التاريخ 2/385 أكرم -سيف الله 253
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/ 555، 556، 3/ 206، إن الأثير- الكامل في التاريخ: 2،385.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/ 555، أكرم- سيف الله: 255.
(4) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/582، إبن الأثير- الكامل في التاريخ: 2، 398، 399.(1/175)
4- قتال الخيل: تقاتل حسب الفن الحربي الفارسي مع المشاة، وهي لا تنفصل عنهم، وقد استغل الجيش العربي هذه الصفة، فكان يفصل الخيل عن المشاة، وبمجرد فصلهما يصبح المشاة غير قادرين على متابعة الحرب لوحدهم. وقد تجلى ذلك في أغلب المعارك في أسفل العراق وفي وسطه، في بدء المعارك وفي نهايتها، وبخاصة في معركتي الولجة وعين التمر(1).
5- القتال البحري: أو القتال وظهر الجيش إلى الغرب. من الطبيعي أن تكون حرية المناورة في هذه الحالة مقيدة، فالبحر أو النهر بعيد الالتفاف أو التحرك على المجنبات، وهذا ما يفسر دخول الجيش الفارسي واعتماده على نظام الكتلة الواحدة. وقد حصر نفسه في معركة الكاظمة في البحر، وفي معركة المذار بالنهر، وهو في كل معاركه كان يقاتل وظهره إلى النهر، وما اجتاز الجيش النهر إلا في لحظات، أو في مواقع قليلة(2).
6- اعتماد مبدأ الدفاع. وذلك أن الفرس كانوا يخشون التوغل في الصحراء، فهي أمنع عليهم من الجبال، ولذلك فإنهم ينتظرون وصول الجيش العربي إليهم، ويأخذون الاستعدادات اللازمة للقائه في أرض بعيدة عن الغرب والجنوب، وقريبة من الشمال والشرق. وإذا لاحظنا أن المعارك جميعها جرت على شط الفرات أو قريبة منه. فالأبله والولجة وأليس والحيرة والأنبار كلها كانت على النهر الذي جرى من دمائهم عبيطاً ، وإن القائد بهّمن الذي كلف بدعم"الأندرزعز" دفع نائبه وتخلف بعد أن أعطاه تعليمات الدفاع قائلاً له: "كفكف نفسك وجندك من قتال القوم إلا أن يعجلوك."(3).
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/ 558، 576، أبد الأثير- الكامل في التاريخ: 2/387، 394.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/555، 557، 560.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/ 560.(1/176)
7- القتال من وراء الحصون والأسوار: فالمقاتل الفارسي لا يثبت مواجهة، وإذا ثبت فإنما يثبت لمدة قليلة، حتى إذا تضايق التجأ إلى حصن يحميه، أو سور يرد عنه السهام، كما أنه لا يستطيع أن يقاتل في أرض مكشوفة، فهو يخاف إن قاتل في هذه الأرض أن يضيع في مجاهل الصحراء، وأن يموت جوعاً وعطشاً(1)، لذلك فهو يتحاشى ذلك القتال في تلك الأرض، ويفضل أن يقاتل دائماً في أرض محددة الجوانب والعوالم؛ أما العربي فقد كان يفضل أن يقاتل في الأرض المكشوفة، وعلى هذا فإنه يجر عدوه إلى المواقع والأماكن المفتوحة، كما لا يخشى بنفس الوقت- بعد أن تبين له النصر على عدوه- أن يقتحم المدن ويقاتل فيها، وأن يفتح الحصون ويقاتل من داخلها(2).
المبارزة
__________
(1) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/560
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/ 546، 578، خماش- الشام في صدر الإسلام: 323 وما بعدها.(1/177)
جرت العادة في الجيش العربي والفارسي على المبارزة قبل الدخول في القتال، وقبل الالتحام. وقد تكون شخصاً لشخص، أو اثنين لاثنين أو أكثر، ولكن الأغلب تكون مقاتلاً ضد مقاتل من الجيش الآخر، وعادة ما يكون هذا المقاتل من الأبطال الأشداء، وأصحاب البأس والقوة، وفي بعض الأحيان يبرز قائد الجيش لقائد الجيش الآخر، أو يخرج أحد المقاتلين فيتحدى الآخر باسمه. ويخرج المتبارزان من بين الصفوف أمام مشهد جمع غفير من العسكريين من كلا الطرفين الذين يرقبون النتائج. في معركة الكاظمة نزل هرمز قائد الجيش الفارسي، وتحدى خالداً قائد الجيش العربي، وتقابل القائدان وجهاً لوجه، وبدأت بينهما مباراة حامية، نزل هرمز عن فرسه، وطلب من خصمه أن يفعل مثله، واحتدم القتال، واختلفا بضربتين، وما نال واحد من الآخر، وطلب القائد الفارسي المصارعة فالتحما، وضم خالد خصمه بين يديه حتى كاد أن يخنقه ويكسر أضلاع صدره. وهنا وفي هذه اللحظة كان رجال يختبئون خلف سائر كان قد أعدهم هرمز الذي اشتهر بمكره وخداعه حتى قالوا: "أخبث من هرمز وأكفر من هرمز."(1) فأومأ إليهم فأسرعوا لينفذوا جريمتهم، ويوقعوا في خالد؛ لكن القعقاع بن عمرو كان أسرع منهم حيث وقف في وجههم فقاتلهم فقتلهم، وقضى خالد على خصمه. وبهَذا قتل قائد الفرس وحاميته الذين كادوا أن يقضوا على خالد؛ فارتفعت معنويات الجيش العربي، وانخفضت معنويات الجيش الفارسي، ثم أمر خالد بالهجوم الصاعق والسريع(2). وفي معركة المذار خرج أيضاً"قارن" قائد الجيش الفارسي وطلب المبارزة فخرج إليه خالد؛ لكن فارساً من فرسان الجيش العربي سبق خالداً وهو معقل بن الأعشى بن النباش واقتتل مع قارن فقتله.
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/555.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/556، ابد الأثير- الكامل في التاريخ: 2، 386.(1/178)
فثارت حمية"قباذ" و"أنوشجان" قائدي جناحي الجيش الفارسي، وتقدما للمبارزة فبرز إليهما قائدا جناحي الجيش العربي عاصم بن عمرو التميمي وعدي بن حاتم، فقتل عاصم أنوشجان، وقتل عدي قباذ(1). وفي معركة الولجة بارز خالد أيضاً رجلاً من الفرس يعد بألف رجل فقتله. وفي معركة أليس جرت مبارزة أيضاً بين خالد ومالك بن قيس الذي ما تحرك من ضربة أصيب بها (2). وربح الجيش العربي جميع المباريات في فتوح العراق، ولم يصب ولو بواحدة، وظل يزحف نحو الشمال حتى وصل إلى الفراض(3).
هذا وإنه وإن وقعت بعض المعارك وسبقتها أو توسطتها بعض المبارزات فإن بعضها الآخر حدثت مباشرة وبدونها كمعارك الأنبار وعين التمر والحصيد والخنافس والثني والزميل(4).
المفاجأة
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/557، ابد الأثير- الكامل في التاريخ: 2،386.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/560، 561، ابد الأثير- الكامل في التاريخ: 2/389.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/582.
(4) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/574، 576، 580، 582، ابد الأثير- الكامل في التاريخ: 2/394، 397،368.(1/179)
أجاد الجيش العربي في تخطيط المفاجأة وتنفيذها، وطبقها بأوجه مختلفة، فلقد كانت باتباع الأساليب المختلفة في القتال. فالتحرك إلى أرض العراق لم يكن على محور واحد؛ وإنما كان على عدة محاور(1). ليفاجئ العدو بظهوره من محور لم يكن العدو يتوقعه، وليزرع فيه الشك، وليوزع قواه على جميع المحاور بدلاً من أن يجمعها، وبذلك تكون المفاجأة قد نجحت؛ وكذلك فإن هذا الجيش قاتل في بادئ الأمر وفي أول معركة على المجنبات والمؤخرة بالالتفاف(2)، فظن العدو أن هذا هو الأسلوب القتالي الذي سيقاتل فيه الجيش العربي في المعارك القادمة؛ ولكنه فوجئ في معركة المذار أن هذا الجيش يقاتل بالكتلة الواحدة(3). وفي المكان فاجأ هذا الجيش في معركة عين التمر قوات عقه بن أبي عقة قبل أن تقوم من مقامها وهي لا تزال في وضعية التحضير والاستعداد، ولا تزال في أماكن تحشدها، تقيم صفوفها، وتعبئهم تعبئة تواجه بها الجيش العربي(4). وفي الزمان وفي معركة المصيخ تقدم هذا الجيش في خفية، وتحرك دون ضجيج أو إعلام على طريق: العين، الجناب، البروان، الحنى. وفي الحنى كمن الجيش، حتى إذا جن الليل قام فأغار على بني الهذيل في المصيخ وهم نائمون فقتلوهم شر قتلة(5) وكذلك حدثت هذه المفاجأة في معركة الزميل(6).
سير المعارك
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/554، ابد الأثير- الكامل في التاريخ: 2/385.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/555 ومابعدها، ابد الأثير- الكامل في التاريخ: 2/386
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/557.
(4) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/557، ابد الأثير- الكامل في التاريخ: 2/395.
(5) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/581، ابد الأثير- الكامل في التاريخ: 2/397.
(6) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/582، ابد الأثير- الكامل في التاريخ: 2/399.(1/180)
تحرك الجيش العربي من اليمامة باتجاه الشمال بقيادة خالد بن الوليد، وعمل عدة مناورات أثناء التحرك ليخفي نيته، وليلبس على العدو الهدف المقصود، فوصل الحفير، ثم عاد إلى كاظمة. وتحرك الجيش الفارسي من الأبله باتجاه الجنوب بقيادة هرمز، وتوقع أن يلتقي بقائد الجيش العربي في كاظمة. وتحرك فوصلها، فلم ير أثراً لخالد، ولما علم أنه تحرك باتجاه الحفير تبعه، فعاد الجيش العربي إلى كاظمة. وهذه هي المناورة التي نفذها هذا الجيش ليشل قدرة العدو المادية والنفسية.
التقى الجيشان في سهل كاظمة، وهو يقع أمام البلدة. وهو سهل مرجي مستطيل إلى الشمال والجنوب، وأمامه إلى الشرق بعض التلال قليلة الارتفاع، وفي الشمال الطريق الموصل إلى أبلة، وفي الجنوب الطريق الموصل إلى اليمامة. فتح الجيش الفارسي بالتشكيلة الخماسية وظهره إلى البحر، وفتح الجيش العربي بالتشكيلة ذاتها وظهره إلى الصحراء وخلفه التلال.
بدأت المعركة بالمبارزة بين قائدي الجيشين المتقاتلين، وما لبث خالد أن قضى على خصمه، فاتبعه مباشرة بهجوم صاعق وسريع أدى إلى ارتداد الفرس إلى الخلف، واستمر الضغط، وخرقت جبهتهم، فلم يستطيعوا القيام بالهجوم المعاكس، واحتل جناحا الفرس، وانسحبا وتراجعا، وجرت مذبحة كبيرة وخاصة لأولئك الذين ربطوا بالسلاسل. وانتهت المعركة بانتصار الجيش العربي على الجيش الفارسي(1).
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/556، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/385، 386، كمال، االطريق إلى المداائن(1/181)
انسحبت العناصر المهزومة نحو الأبلة، الذين التقوا بجيش"قارن" الذي كان يتحرك من كتسفون(المدائن) مَدَداً لجيش هرمز، وما إن وصلته أخبار الهزيمة حتى توقفت بالمذار، ونشر قواته مستعداً للدفاع والأخذ بالثأر، وتحرك الجيش العربي بعد أن أعيد تنظيمه، فالتقى بالجيش الفارسي بالمذار.. وتقابل الجيشان مرة ثانية، وبدأت المعركة بالمبارزة، فقتل قارن وقائدا جناحيه، وسرعان ما أمر خالد بالهجوم كعادته، وأصيب الفرس ثانية بهزيمة منكرة(1).
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/ 557، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/386، كمال- الطريق إلى المدائن: 222 وما بعدها.(1/182)
وصلت أخبار الهزيمة"أردشير، فأمر بتعبئة وتحضير جيشين أحدهما بقيادة"الأندرزعز" والثاني بقيادة"بَهْمَن جاذويه". تحرك الأول من كتسفون(المدائن) إلى كسكر إلى الولجة التي تمركز فيها، وضم بعض العرب الموالين، ومن بقي سالماً من المعركة السابقة. وتحرك الثاني يتبع الأول بعد أن استكمل وأصبح جاهزاً؛ أما الجيش العربي فقد تحرك من المذار باتجاه الجنوب ثم انعطف نحو الشمال ليلتقي مع الجيش الأول بقيادة"الاندرزعز" قبل أن يصل الجيش الثاني، وفعلاً فقد وصل وتمركز في سهل الولجة، وأعطى التعليمات القتالية، وفتح للمعركة المترقبة، وأخفى الفرسان خلف أكمة. وبدأت كالعادة المبارزة، فقتل خالد منافسه، ثم أمر بالهجوم، وكان في هذه المعركة في بادئ الأمر المشاة فقط. وثبت الجيشان ولم يستطع الجيش العربي إلا أن يهاجم في هذه الحالة على مبدأ الكتلة الواحدة، والتحرك السريع ضمن هذه الكتلة، واستطاع أن يحدث بعض الخروق في صفوف الجيش الفارسي؛ إلا أن هذا الجيش- بعد أن شعر بتقدم ونجاح الجيش العربي قام بهجوم معاكس أدى فيه وأحررز بعض النجاحات، وفي هذه اللحظة أعطى خاالد إشارة... ثم يتابع خالد إشارة هجوم سلاح الفرسان، فانقض على مجنبتي الجيش الفارسي وعلى مؤخرته، وطوّقه تطويقاً كاملاً، وهنا دب الذعر، وانتشرت الفوضى، وبدأ الفرس يهربون، وحدثت مذبحة كبيرة، وانتصر كذلك العرب على الفرس(1).
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/559، 560 ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/387، أكرم- سيف الله: 272-276، كمال، الطلريق إلى المدائن 228 وما بعدها.(1/183)
صدرت الأوامر إلى"بهمن" من الإمبراطور الفارسي أن يتقدم باتجاه تحرك الجيش العربي، وأن يوقفه قبل أن يصل إلى الحيرة، ولأمر ما، تأخر"بهمن" وأرسل رئيس أركانه"جابان" بجيش مختلط من الفرس والعرب المتحالفين من بني عجل، وتيم اللات، وضبيعة، وعرب الضاحية من أهل الحيرة(1) فوصل"أليس". وتحرك الجيش العربي من الولجة على أمل أن يقضي على العرب المتحالفين- الذين تجمعوا لقتال هذا الجيش- قبل أن تصل القوات الفارسية، ولم يتمكن من ذلك، فأعاد خالد تنظيم الجيش، وفتح للمعركة، ورأى الفرصة سانحة لمهاجمتهم من الحركة، وهم يتناولون طعام الغداء. وتقابل الجيشان في الجنوب الشرقي من أليس، وضغط الجيش العربي على الجيش الفارسي بهجوم سريع وبالتفاف من المجنبتين، ولم يلبث قليلاً حتي تداعت صفوف الفرس، وتراجعوا إلى الخلف وباتجاه النهر، وحرص خالد في هذه المعركة على تدمير القوات الفارسية ومن معها من العرب تدميراً كاملاً لئلا يشكلون في المستقبل قوة تنضم إلى غيرها أثناء متابعة الفتح. وفعلاً فقد طوق الجيش الفارسي تطويقاً كاملاً، ثم شكل مجموعات خيّالة، عليها أن تطارد الفلول المهزومة، فلا تدع لها مجالاً للهرب؛ بل تقتل كل من تصادفه. وجرى النهر، وامتزج بدماء الكثير من القتلى(2). وتقدم الجيش العربي باتجاه أمغيشيا فوجدها خالية فاستولى عليها دون حرب(3).
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/560، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/388..
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/561، 562، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/389، كمال- الطريق إلى المدائن: 232 وما بعدها.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/563، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/389.(1/184)
وتابع تحركه باتجاه الحيرة، وكان حاكمها قد تهيأ فأعلن التعبئة، وخرج من المدينة لملاقاة الجيش العربي الزاحف: "آزاذبه" قرر الدفاع عن المدينة بمساعدة ملك الحيرة إياس بن قبيصة الذي كان اسماً فقط؛ إنما الحاكم الفعلي هو الفارسي"آزاذبه". وكان الأمراء العرب الذين في هذه المدينة كإياس في التصرف. حاول الحاكم الفارسي منع القوات العربية من التقدم، فأرسل طليعة بقيادة ابنه، وسد مجرى النهر خشية أن يفكر خالد باستخدام السفن التي استولى عليها من أمغيشيا في النقل والعبور؛ لكن الجيش العربي لم يتوقف فقضى على الطليعة، وفجر النهر، وجرت المياه. ولما علم بذلك هذا الحاكم هرب وترك المدينة، ودخل الجيش ظافراً منتصراً، وبقيت بعض القصور التي يسكنها الأمراء العرب الذين تحصنوا بداخلها، فحوصروا وقوتلوا قتالاً شديداً(1).
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/563، 564، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/39، كمال- الطريق إلى المدائن: 238، الخضري- اتمام الوفاء: 46، 47.(1/185)
بعد أن استتب الأمن في الحيرة وما حولها، وبعد فرض الجزية(1)، اتجه الجيش العربي نحو الشمال باتجاه الأنبار ليحقق الاستيلاء على العراق الشمالي، تنفيذاً لقرار القائد الأعلى أبي بكر الصديق الذي أمر عياض أن يبدأ من الشمال؛ لكن ظروف القتال وتأخيره في دومة الجندل حالت دون ذلك. وصل خالد الأنبار بعد أن جاوز النهر إلى الضفة المقابلة التي تقع فيها المدينة، فضرب عليها الحصار، وتقدمت النبالة فرشقوا من كان داخل الحصن، وأمروا أن يرموا العيون، ولا يتوخوا، غيرها، وأن يكون التسديد دقيقاً والإصابة محققة(2). وفقئت عيون المدافعين عن الأنبار وسميت تلك المعركة. "وقعة ذات العيون"(3)، وأصاب المدينة هلع كبير. في هذا الجو من الرعب أمر خالد اقتحام المدينة؛ إلا أن المدينة يحيط بها خندق مملوء ماءاً، وكذلك فإن الأسوار الشاهقة تحول دون تسلقها. ومن أجل حل صعوبة الخندق نُحرت الإبل الضعيفة ووضعت في الأمكنة الضيقة من الخندق واجتاز الجيش العربي هذا المانع المائي. ومن أجل حل الصعوبة المكانية فقد تسلق الشجعان على أبواب الحصن وفتحوها. وبذلك أتيح للجيش العربي أن يفتح المدينة ويشتبك مع أهلها في قتال دام، أدى في النهاية إلى استسلام حاكمها الفارسي"شيرزاذ" الذي سُمح له بمغادرة المدينة إلى كتسفون، ودانت مدينة الأنبار إلى الحكم العربي(4).
__________
(1) ابن الوردي - تاريخه 1/143.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/575، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/394، كمال- الطريق إلى المدائن: 282 وما بعدها.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/575، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/394.
(4) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/576، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/ 394.(1/186)
ما إن فرغ الجيش العربي من الأنبار حتى توجه إلى عين التمر مجتازاً النهر- الذي كان قد قطعه قبل معركة الأنبار- ومنعطفاً نحو الجنوب العربي وكان يحكم المدينة"مهران بن بهرام جوبين" ومعه من العرب عقه بن أبي عقه مع جمع غفير من أهالي عين التمر، وبني تغلب، وإياد وغيرهم. أخذ عقه التزاماً أمام الحاكم الفارسي محاربة الجيش العربي، وتصدى لقتال خالد وعبأ جيشاً قسمه إلى جناحين وقلب؛ وبينما هو منهمك في تنظيم جيشه، فاجأه خالد بحملة قوية من القلب بانقضاض سريع حتى وصل إليه، فأخذه أسيراً(1).
وسبى كثيراً من النساء منهن لبابة بنت أبي لبابة الأنصارية(2). وانهزم جيش عقه، وتفرق كالأنعام السائبة، فقتلوا وأسروا، وضربت عنق عقه ومن معه من زعماء العرب، واستولى على المدينة وما فيها(3).
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/577، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/395، كمال- الطريق إلى المدائن: 287 وما بعدها.
(2) ابن حبيب- المنمّق: 37.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/577، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/395.(1/187)
ثم فتح عين التمر(1)، وكان في نية الجيش العربي أن يتم فتوحاته ويستولي على الشمال العراقي لولا أن جاءه خبر من عياض بن غَنْم قائد الجيش الثاني المكلف بدخول العراق من الشمال طالباً المدد والمساعدة من خالد بن الوليد قائد الجيش الأول وفاتح العراق، والمنجز لهمته(2). فما كان من خالد حتى توجه فوراً مع جزء من جيشه إلى دومة الجندل التي توقف فيها الجيش الثاني للمقاومات الكبيرة، ولأن هذه المدينة محصنة وقوية، يقودها ويدافع عنها أكيدر بن عبد الملك والجودي بن ربيعة في جمع غفير من قبائل بهراء وكلب وغسان وتنوخ والضجاعم(3). تنبه المدافعون عن المدينة لتحرك خالد، فأصابهم الخوف، ونصحهم أكيدر بالصلح، لكنهم لم يسمعوا لكلامه. وما إن وصل قائد الجيش الأول حتى ضم الجيش الثاني إليه وأعاد تشكيله بما يتلاءم مع الوضع القتالي الجديد، فأمر عياض أن يكون من الجزء الجنوبي، وأن يقطع طرق الجزيرة العربية، وأن يسد المنافذ من كل الاتجاهات، وأن يكون الحصار كاملا. ونفذت القوات العربية الإسلامية الحصار، وابتعدت عن مرمى أسلحة المدافعين عن المدينة، وطال الحصار فنفذت التموينات، ورأى الجودي أن لا مناص من هذا الحصار إلا بالخروج من الحصون، ومهاجمة القوات المحاصرة من الشمال والجنوب، وهذا ما كانت تريده القيادة المهاجمة، فما أن خرج الجودي من المدينة وابتعد عنها، حتى أمر خالد بالهجوم السريع والعنيف، وما إن مضت لحظات معدودات حتى كان الجودي والقبائل الموالية تفر كقطيع الأغنام. وأُسر الجودي ومن معه من الزعماء وضربت أعناقهم أمام المقاتلين الذين لا يزالون داخل الحصن يدافعون عن المدينة.
__________
(1) اليافعي - الجنان: 1/98.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/578، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/395.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/578.(1/188)
وهنا خارت عزيمتهم، وظل خالد ضاغطاً ومهاجماً حتى فتح المدينة(1). ثم عاد خالد بصحبة عياض إلى الحيرة(2).
استغلت القيادة الفارسية هذا الظرف العارض الذي ابتعد به خالد بن الوليد لينقذ عياضاً في دومة الجندل، وأخذت تعد العدة، وتؤلب القبائل العربية التي فجعت بقتلاها وأسراها، وتكوَّن بذلك جيشٌ كبير بقيادة"بهمن" الذي قسمه إلى قسمين أحدهما بقيادة"روزبه" الذي تحرك من كتسفون إلى الحصيد والثاني بقيادة"زرمهر" الذي تحرك أيضاً من العاصمة إلى خنافس، وكان على هذه القوات أن تجمع القبائل بمجرد الوصول إلى منطقة القبائل؛ لكن هذه القبائل كانت متباعدة عن بعضها، فمنها ما هو بالمصيخ، ومنها ما هو بالثني والزميل.
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/579، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/396.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/579.(1/189)
ترك خالد الحيرة بعد أن عين لها عياضاً، وتقدم نحو عين التمر التي غادرها منذ مدة إلى دومة الجندل، فنظم الجيش، وقسمه إلى ثلاثة تشكيلات أحدهم بقيادة القعقاع بن عمرو، والثاني بقيادة أبي ليلى بن فدكي، والثالث بقيادة خالد بن الوليد(1). وحددت المهام. فالأول عليه أن يتصدى لـ"روزبه" ويحتل الحصيد، والثاني أن يتصدى لـ"زرمهر" ويحتل الخنافس. نجح الأول في تدمير عدوه، وأبطأ الثاني في تحركه وملاقاة عدوه، فانسحب إلى مصيخ، وكذلك تجمعت كل القوات الفارسية والعربية المتحالفة في هذا المكان. وهنا أيضاً أعيد تشكيل الجيش العربي الإسلامي على أساس جيش واحد مجمع تجميع عملياتي) ليقابل ذلك التجمع الكبير، وليتمكن من التفوق. وسارت التشكيلات من مكانها التي وصلت إليه في القتال، لتلتقي جميعها بالمصيخ(2). وفي نقطة الالتقاء هاجم الجيش العربي الإسلامي المقاتلين من الفرس والعرب، وأصاب منهم مقتلاً، وركز خالد الفتك بالعرب المتحالفة فنال من هذيل، وقتل منهم مقتلة عظيمة(3).
اتجهت القوات المهزومة من العرب والفرس، وتجمعت في الثني والزميل، وكان من خطة خالد ألا يترك لهم مجالاً للراحة، ولا لإعادة وتنظيم قوتهم فأتبعهم بجيش قسمه إلى ثلاثة تشكيلات. تشكيل في الوسط، ومجنبتان على اليمين والشمال، وسار بسرعة، وما إن وصل الثني حتى أمر بمهاجمة التجمع المختلط، فقضى عليه. ثم تابع تحركه وضغطه من الزميل إلى الثني، فأتم تدميره للقوات الفارسية، والقبائل العربية المتحالفة(4).
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/580.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/581، ابن الأثير الكامل في التاريخ: 2/397.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/581، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/397.
(4) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/582، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/398، 399.(1/190)
تحركت القوات العربية بعد نجاحها إلى الفراض، وتحشدت على الضفة الغربية لنهر الفرات؛ أما القوات المتحالفة من الفرس والروم والعرب. فكانت على الضفة الشرقية. دعا كل فريق الآخر إلى عبور النهر، وأخيراً عبرت القوات المتحالفة، وكان الجيش العربي ناشراً قواته، وما إن عبرت تلك القوة حتى هاجمها بسرعة وعنف، ثم جزأهم، وفصل كل مجموعة عن الأخرى، وابتلعها واحدة بعد أخرى، وقضى عليها نهائياً(1). ثم انسحب وعاد إلى الحيرة.
الشؤون الإداريّة
لم يكن قادة الجيش العربي يهتمون بالمؤخرة كاهتمام قادة الجيش الفارسي.
إن الصحراء ومحاورها مؤمنة. وهو لا يحتاج أثناء القتال إلى نقل الإمدادات، وإنما يكتفي بما تزود به هذا الجيش من التمر. وبالمقابل فإن محاور كتسفون بالنسبة للجيش الفارسي مفتوحة، ويجري عليها الإمداد إلى مناطق القتال.
وفي كل الأحوال فإن الفرس كانوا في أرض فيها حامياتهم ومناطقهم العسكرية، وقواعدهم الإمدادية.
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/583، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/399.(1/191)
إن تأمين الطعام كان يأتي من المقاتل الذي زود به نفسه حين خرج من بلاده من الجزيرة العربية، ومن المصادر المحلية التي كانت موفورة في أرض العراق، فهي جنات من أعناب ونخيل وحنطة وزروع(1). وقد أشار خالد بن الوليد إلى هذه المصادر وأهميتها بعد معركة الولجة، فسمح للفلاحين أن يشتغلوا في الأرض، ولم يتعرض لهم بسوء(2). وكذلك فإن جميع البلدان والمدن التي تم فتحها كانت غنية بمواسمها وطعامها مثل عين التمر التي كانت تشتهر بمنتوجاتها من التمر(3)، والذي يعتبر وجبة رئيسية في طعام المقاتل العربي. وقد تعرف الجيش العربي على أطعمة لم يكن قد شاهدها و تذوقها من قبل كالرقاق البيض الذي كانت العرب تسميه القرى(4). وكالجوز الذي ظنوه حجارة، والسمك الصغير المقدد الذي تعجبوا من ادخاره، والخبز الذي كانوا يأكلونه فيحسبون أنهم قد سمنوا، والأرز الذي ظنوه سماً(5).
في حين أن الطعام كان مؤمناً للمقاتل الفارسي، وهو لا يجد صعوبة في الحصول عليه، ففي معركة أليس وقبيل بدئها، فرش الفرس البسط، ووضعوا عليها الأطعمة المختلفة، وكانوا يأكلون وكأنهم في نزهة لا في قتال(6).
__________
(1) الحموي- معجم البلدان: 4/93 وما بعدها.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/559، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/378.
(3) الحموي- معجم البلدان: 4/176.
(4) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/562.
(5) أبو هلال العسكري- الأوائل: 2/12.
(6) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/561، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/388.(1/192)
إن نظام الطعام في الجيش العربي وجبة في المساء، وبضع تمرات قبل القتال؛ أما في الجيش الفارسي فكان يتناول طعامه كاملاً قبل الدخول في المعركة، وهذا ما حدث قبل معركة أليس حيث أقدم هذا الجيش على تناول طعامه، وفوجئ بالهجوم من قبل الجيش العربي وهو منهمك في الأكل والشرب(1) واللهو.
لا يتقيد الجيش العربي باللباس، ولا بالشارات؛ أما الجيش الفارسي فكان يلبس لباساً موحداً، وللقادة شارات يُعرفون بها وبخاصة لباس القلنسوة الذي كان يقدر بمائة ألف. وقد كان هرمز من بين القادة الذين حصلوا على هذه القلنسوة(2)، كما أن"الآزاذبه" مرزبان الحيرة كانت قيمة القلنسوة بخمسين ألفاً،(3) وكذلك كانت السراويل التي ألفها، المقاتل العربي فلم يلبسها بعد أن آلت إليه في حربه مع الفرس(4).
كان يجري القتال على الماء، ويحاول كلا الطرفين المتخاصمين أن يستولي على المنطقة التي تتوفر فيها المياه. وقد سبق الجيش الفارسي الجيش العربي في التمركز وأخذ المواقع الملائمة والتي تؤمن المياه وتمنعه عن الطرف الآخر في معركة الكاظمة(ذات السلاسل)(5)؛ لكن خالداً قائد الجيش أمر جنده بالصبر والتصميم فقال: "ليصيرن الماء لأصبر الفريقين وأكرم الجندين"(6).
إن نقل الجند والأعتدة والمواد التموينية كان يجري بواسطة العربات والفيلة من قبل الجيش الفارسي؛ أما الجيش العربي فكانت وسائط نقله هي الجمال(7).
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/561، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/388.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/556.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/563.
(4) أبو هلال العسكري- الأوائل: 2/12.
(5) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/555.
(6) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/555، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/385.
(7) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/556.(1/193)
شكلت الغنائم جزءاً كبيراً من موارد الدولة، وقد غنم الجيش العربي في هذه الفتوح ما مكنّه من سد جزء كبير من احتياجاته المادية، بما فيها الأسلحة والعتاد القتالي، كما ظهر على أفراد القوات المسلحة الغنى من جراء حروبهم في العراق. ومن الغنائم قلنسوة هرمز الثمينة وبعض الفيلة والأموال، وأصاب الفارس من وقعتي الكاظمة والثني ألف درهم والراجل ثلث المبلغ(1)، والطعام الذي لا يمكن خزنه نفله قائد الجيش إلى جنوده بعد معركة أليس(2)، وفي معركة أمغيشيا كان نصيب الفرد ألفاً وخمسمائة درهم، وكذلك فإن الجيش العربي استولى على السفن النهرية، والأسلحة والأعتدة القتالية(3).
بلغ عدد الأسرى رقماً كبيراً، وفي نهاية كل معركة يجمع الأسرى ويقتلون، ولاسيّما الذين كانوا يقاتلون مع الجيش الفارسي. ففي معركة أليس جرى النهر ممتزجاً بدماء هؤلاء(4). وفي معركة عين ا لتمر ضربت أعناق عقه ومن معه من بني قومه أيضاً(5)، كما قتل الأساري في دومة الجندل منهم الجودي ومن معه(6).
وكان السبي من الولدان والنساء يقتسم بين المقاتلين كما جرى ذلك بعد معركتي المذار وعين التمر، وكان من بين السبي يومئذ أبو الحسن البصري ونصير أبو موسى بن نصير(7).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/556، 557، 562.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/562، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/389.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/562.
(4) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/561، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/389.
(5) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/577، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/395.
(6) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/579، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/396.
(7) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/558، 577، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/395.(1/194)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــ
الفصل الخامس
فتوح الشّام
جاء فتح الشام بعد فتح العراق في زمن أبي بكر الصديق، وقد كان أبو بكر يتوق إلى فتح الشام، ويحدث به نفسه(1)، ولما تولى الخلافة أراد أن يحقق تلك الرغبة، وذلك الحديث النفسي؛ إلا أنه فوجئ بالمثنى قادماً عليه يستحثه على الحرب في العراق، ويزين له احتلال الأراضي العراقية والقضاء على فارس(2)، ولهذا لما فرغ من العراق وجه جيوشه إلى بلاد الشام مباشرة(3).
خطّة فتح الشّام
يقصد بالخطة تلك الإجراءات والأعمال التي خطط لها أبو بكر من الناحية العسكرية، وقد تميزت هذه الخطة برؤىً واضحةٍ، وأهدافٍ محددة، وأطر استراتيجية، وتعبئة عامة للقوى والوسائط المتوفرة، وأسس سليمة مبنية على القواعد العلمية الصحيحة.
أهداف خطّة الفتح
لو لم تكن الشام مهمة، لما ترك أبو بكر العراق-دون أن يكمل فتحها بالكامل- وتوجه قِبَل الشام؛ لكنه اكتفى بالبلاد والأراضي العراقية المجاورة لشبه جزيرة العرب. وأهم هذه الأهداف:
1- تحقيق رغبات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحث العرب المسلمين على إعطاء أولوية لفتح الشام، والاهتمام بها أكثر من غيرها من الأقطار. ومن أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنكم ستجدون أجناداً. جند بالشام، وجند بالعراق، وجند باليمن. قلت يا رسول الله خِر لي. قال: عليكم بالشام فمن أبى فليلحق بيمنه، وليستق من غُدره، فإن الله تكفل لي بالشام وأهله."(4) وفي ابن عساكر أكثر من أربعين حديثاً بروايات مختلفة كلها تحث على الالتزام بالشام.
__________
(1) الدواداري- الدر الثمين: 3/161.
(2) الأزدي- فتوح الشام: 53 وما بعدها، البلاذري- فتوح البلدان: 242.
(3) البلاذري- فتوح البلدان: 150، الخضري، إتمام الوفاء: 54 وما بعدها.
(4) ابن حنبل- المسند: 2/99، 119، ابن عساكر- تاريخ مدينة دمشق: 1/49.(1/195)
2- طرد الروم من الأرض العربية التي عاثوا فيها فساداً، وسلبوا خيراتها، وأذاقوا أهلها العذاب.
3- إحلال السلام والإسلام في بلاد العرب المغتصبة.
4- الاستفادة من المصادر المحلية المختلفة. وفي هذه الأرض جنات وأعناب وزرع ونخيل وأخشاب وأعتدة قتالية وإداريّة. ومن هذا يمكن أن يكون للجيش العربي قاعدة مادية كبيرة يستعين بها في فتوحاته وفي حروبه المستقبلية.
5- وضع الأماكن المقدسة تحت الحكم العربي.. وقيل:"الشام مباركة، وفلسطين مقدسة، وبيت المقدس قدس القدس."(1).
6- تكثير الجيش وزيادة قوته، وذلك بانضمام أعداد كبيرة من عرب الأرض المحتلة، ومن غير العرب الذين دخلوا في دين الله أفواجاً، وأعجبهم حكم العرب وعدالتهم، فقالوا: "يا معشر المسلمين أنتم أحب إلينا من الروم وإن كانوا على ديننا، أنتم أوفى لنا وأرأف بنا، وأكف عن ظلمنا، وأحسن ولاية علينا، ولكنهم غلبونا على أمرنا وعلى منازلنا."(2).
7- تدريب أفراد الجيش العربي على الحرب، وتطبيق مبدأ"التدريب على الحرب بالحرب" وتأهيلهم ليكونوا قادرين في المستقبل على التوغل في البلاد غير العربية لينشروا السلام، وليعلموا الناس الدين الجديد.
__________
(1) ابن عساكر- تاريخ مدينة دمشق: 1/134.
(2) الأزدي- فتوح الشام: 111.(1/196)
8- قتال العدو الأقرب فالأقرب. إن الروم كانوا قريبين من أرض العرب، وحسب خطة الفتح فإن العرب سوف يقاتلون الروم في أول الأمم الذين سيتصدون لهم، وبذلك يكونون قد حددوا هدف الفتح وحددوا العدو. وهذا ما صرح به معاذ بن جبل لقيادات الروم قائلاً لهم: "ما بدأنا بقتالكم إلا أنكم أقرب إلينا منهم، وإنكم عندنا لسواء، وما جاءنا كتابنا بالكف عنهم، ولكن الله أنزل في كتابه على نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلطة واعلموا أن الله مع المتقين(1) وكنتم أقرب إلينا منهم فبدأنا بكم لذلك."(2).
قيادة الفتح
عين أبو بكر قادة من كبار الصحابة الذين يشهد لهم بالكفاءة وحسن القيادة والتصرف وهم:
1-أبو عبيدة بن الجراح باتجاه حمص.
2-يزيد بن أبي سفيان باتجاه دمشق سالكاً محور تبوك.
3-شرحبيل بن حسنة باتجاه الأردن سالكاً محور تبوك.
4-عمرو بن العاص باتجاه فلسطين سالكاً طريق أيلة(العقبة)
وهي في الوقت الحاضر في الأراضي الأردنية(3).
أثناء التجميع القتالي، وتوحيد هذه الجيوش، يكون أبو عبيدة هو القائد العام لهذه الجيوش، وإن اجتمع شرحبيل وعمرو بن العاص ويزيد ابن أبي سفيان، فالقائد لهذه المجموعة هو يزيد. وإن اجتمع جيشان من هذه الجيوش في منطقة عمل، فإن القيادة تكون لمن كان في نطاق عمله القتال(4). وإن اجتمع خالد فيما بعد فالقيادة لخالد ابن الوليد(5).
__________
(1) سورة التوبة- الآية: 123.
(2) الأززدي- فتوح الشام: 119.
(3) أبو يوسف- الخراج: 22، ابن خياط- تاريخ ابن خياط: 119، البلاذري- فتوح البلدان: 150، كمال- الطريق إلى دمشق: 159، عبد الحميد- معارك العرب الحاسمة: 24، 25.
(4) البلاذري- فتوح البلدان:116- 117، طبعة دار الكتب العلمية ببيروت 1983.
(5) الواقدي- فتوح الشام: 1/13، الأزدي- فتوح الشام: 68، كمال- الطريق إلى دمشق: 239.(1/197)
لقد استبعد من القيادة كل من شُكّ في تصرفه، أو في ولائه إلى القائد الأعلى إذ استبعد خالد بن سعيد بن العاصي، وعزل بعد أن ولي القيادة وعُقد له لواؤها قبل تحركه إلى بلاد الشام، وذلك عندما ثبت أنه تربص ببيعته إلى أبي بكر مدة شهرين، وتفوه بكلمات تمس شخص أبي بكر فقال: "يا بني عبد مناف لقد طبتم نفساً عن أمركم يليه غيركم."(1).
خطّة الفتح الاستراتيجية والتعبئة
ما إن استقر رأي القائد الأعلى على فتح الشام حتى بادر إلى وضع خطة استراتيجية، يضمن بها النجاح والسيطرة على القوات، وضمان الانتصار على العدو. وكان أهم ما تضمنته هذه الخطة:
1- إعلان التعبئة العامة في كل البلاد، وفي أرجاء شبه الجزيرة العربية، وبخاصة في المدن الهامة في مكة والمدينة والطائف واليمن، وفي مناطق نجد والحجاز، فسارع المتطوعون متحشدين في المدينة المنورة(2). ومن دعوة أبي بكر إلى الاستنفار العام قوله إلى أهل اليمن: "فإن الله كتب على المؤمنين الجهاد، وأمرهم أن ينفروا خفافاً وثقالاً. وقد استنفزنا من قبلنا من المسلمين إلى جهاد الروم بالشام وقد سارعوا إلى ذلك.. فسارعوا عباد الله إلى فريضة ربكم."(3) فلبى العرب النداء، ولبى أهل اليمن هذه الدعوة فأتوا مسرعين، وتقدمت الوفود تتبعها الوفود(4).
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/ 586.
(2) البلاذري- فتوح البلدان: 150.
(3) الأزدي- فتوح الشام: 8 .
(4) الأزدي- فتوح الشام:9-16-39 وما بعدها.(1/198)
2- تنظيم الأفراد المتطوعين والذين وصلوا إلى المدينة بجيوش نظامية تعتمد على التنظيم العشري، وعلى القيادة القبلية(1). فانظر إلى الوفود التي جاءت متتالية. كانت القبيلة مع زعيمها، فلقد أقبل حمزة بن مالك الهمذاني في بني همذان في أكثر من ألفي مقاتل، فولاه أبو بكر عليهم، وأرسله إلى جبهة القتال(2)؛ كما أمر قادة الجيوش أن يعقدوا لكل قبيلة لواءاً يُعرفون به(3).
3- التحرك باتجاهات مختلفة وعلى محاور متباعدة، فقد سار قائد كل جيش على محور يختلف عن القائد الآخر، ولقد كان وجهة كل جيش إلى مكان يختلف عن وجهة الجيش الآخر(4)، وذلك لضمان سلامة التحرك، والسرعة في المسير.
__________
(1) البلاذري- فتوح البلدان 115.
(2) الأزدي- فتوح الشام: 39 وما بعدها.
(3) البلاذري- فتوح البلدان: 117.
(4) البلاذري- فتوح البلدان: 150، الخضري- إتمام الوفاء: 54 وما بعدها.(1/199)
4- الدعاية الإعلامية الكبيرة الداخلية، التي هيأت النفوس، وقوت المعنويات، ووضعت كل مقاتل أمام مسؤولياته. فلقد كانت دعوة أبي بكر إلى الناس كافة، ومن بلغ هذه الدعوة عليه أن يستجيب لنداء القتال. وهكذا فقد اجتمع الآلاف المؤلفة من المقاتلين في المدينة من كل أرجاء الجزيرة العربية. وكلهم يتوق التوجه إلى جبهة القتال. وقد قام بهذه الدعاية القائد الأعلى والقيادة المركزية في المدينة. ومن خطب أبي بكر الإعلامية: "أيها الناس إن الله قد أنعم عليكم بالإسلام، وأعزكم بالجهاد، وفضلكم بهذا الدين على أهل كل دين، فتجهزوا عباد الله إلى غزو الروم بالشام، فإني مؤمر عليكم أمراء، وعاقد لهم عليكم، فأطيعوا ربكم، ولا تخالفوا أمراءكم، ولتحسن نيتكم وسيرتكم وطعمتكم، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون."(1) كما كتب إلى عمال الصدقات يستحثهم ويدعوهم إلى القتال ويأمرهم بالتحضير والإعداد، ومنهم عمرو بن العاص فقال له: "إني كنت قد رددتك على العمل الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاكه مرة، وسماه لك أخرى مبعثك إلى عمان إنجازاً لمواعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد وليتَه ثم وليته. وقد أحببت أبا عبد الله أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك منه إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك"(2). وكتب إلى الوليد بن عقبة وغيره، وكلهم أحابوه بالطاعة والاستعداد وحب الجهاد وتفضيله على أعمال الصدقات(3).
__________
(1) الأزدي- فتوح الشام: 4، 5.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/587، 588.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/588.(1/200)
5- توحيد الجيوش وتوحيد القيادة. وكان من خطة أبي بكر قتال الروم بجيش موحد، وذلك بأن تجتمع كل الجيوش(المتجهة نحو الشام) بجيش يضم أبا عبيدة وعمرو وشرحبيل ويزيد تحت قيادة خالد بن الوليد. ومما جاء في كتاب أبي بكر لأبي عبيدة بن الجراح: "بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فإني قد وليت خالداً قتال الروم بالشام، فلا تخالفه، واسمع له، وأطع أمره، فإني وليته عليك، وأنا أعلم أنك خير منه، ولكن ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك، أراد الله بنا وبك سبل الرشاد، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته."(1).
6- الاحتفاظ باحتياطي كبير في المدينة. كان أبو بكر يدفع هذا الاحتياطي تباعاً إلى جهة القتال، تبعاً لأهمية هذه الجبهة، وإمكانية العدو القتالية، وحجم القوى التي يقاتل بها(2). وقد قيل: "مازال أبو بكر رضي الله عنه يبعث بالأمراء إلى الشام، أميراً، أميراً، ويبعث بالقبائل، قبيلة، حتى ظن أنهم قد اكتفوا، وأنهم لا يبالون ألا يزدادوا رجلاً.."(3).
__________
(1) الأزدي- فتوح الشام: 86.
(2) الأزدي- فتوح الشام: 39، 41.
(3) الأزدي- فتوح الشام: 52.(1/201)
7- تركيز الجهود الرئيسة باتجاه دمشق، وذلك عندما تجتمع جيوش الروم، والقتال على جبهة عريضة، وبنقاط استناذ متصلة فيما بينها وبذلك عندما لا يكون للروم جمع. وتنفيذاً لهذا البند من الخطة فقد أصدر أبو بكر إلى جميع الجيوش أمراً بتركيز جهودها نحو دمشق وباتجاه فلسطين؛ وأما القتال على جبهة عريضة فقد تحرك كل جيش وتمركز بدءاً من الشمال، من حمص وحتى جنوبي الأردن بأربعة جيوش متصلة مع بعضها بعضاً(1). ومن الطبيعي أن تبدأ القوات العربية مطبقة الانتشار ومتخذة مراكز انطلاق إلى الأراضي التي يحتلها الروم. تجمع هذا الجيش في معركة اليرموك الفاصلة واستطاع بهذا التمركز والتركيز أن يحقق نصراً ساحقاً(2).
8- المسير مع توقع المعركة التصادمية. تلقى قادة الجيوش عند تحركهم من المدينة مهمة القتال في طريقهم مع توقع حدوث مصادمات مع العدو. فالطريق التي سيسلكونها ليست خالية من الروم، وعلى الجيوش المتحركة أن تكون يقظة حذرة، وأن تقاتل كل من يعترض طريقها حتى تصل إلى المكان الذي أرسلت إليه. وفعلاً فقد سار كل جيش واصطدم مع قوات من الروم. فهذا جيش يزيد بن أبي سفيان اشتبك مع الروم في قتال في عربة وفي دائن(3) وهذا مسير جيش أبي عبيدة الذي اصطدم أيضاً في طرقه مع الروم في مؤاب بعمان(4). وهذا خالد بن الوليد الذي اقتحم عدة بلدان، وخاض عدة معارك في طريقه إلى بلاد الشام(5). وهكذا ترى معي أن هذه المسيرات اصطدمت مع الروم في مناوشات لم تكن فاصلة، إلا أنها كانت تعيق سير تلك الجيوش حتى تصل إلى أمكنتها المحددة.
التحضير والإعداد لفتح الشام
__________
(1) البلاذري- فتوح البلدان: 150، كمال- الطريق إلى دمشق: 159.
(2) الأزدي- فتوح الشام: 217.
(3) الأزدي- فتوح الشام: 52، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/405، الحموي- معجم البلدان: 2/417، 4/96.
(4) الأزدي- فتوح الشام: 29.
(5) الأزدي- فتوح الشام: 63 وما بعدها.(1/202)
لابد لكل جيش قبل أن يدخل المعارك، أو أن يبدأ في القتال من أن يعد إعداداً كاملاً، يستطيع من خلاله أن يكون قادراً، أو على الأقل مطمئناً لإحراز النصر.
1- الإعداد المعنوي. جمع أبو بكر المجلس العسكري، وذكرهم بفضل الجهاد، وطرح موضوع فتح الشام، فلم يتردد واحد منهم، بل أقر الجميع هذه الفكرة(1)، ثم طرحها على مستوى القاعدة من الشعب في المدينة في شبه استفتاء فأوكلوا له الأمر، وفوضوا إليه أن يسيرّهم إلى حيث أراد(2). وإن القائد الأعلى بهذا التصرف جمع القلوب ووحد الصفوف وقوى المعنويات، وزاد في إيمانهم وثقتهم بالقتال والجهاد في سبيل الله. ومما شجع المقاتلين، وجعلهم يتمتعون بمعنويات عالية هو الثقة المطلقة بالقائد، وفرضية الجهاد، والإيمان باللّه وبرسوله، وصدق الدعوة، واليقين بالنصر من عند الله، والانتصار الكبير الذي تحقق في قتال الردة، وفتح العراق، لأن الفتح يدفع بالناس إلى التطوع حباً في المشاركة، والأجر والثواب، أو طلباً للغنيمة والمال. منهم من يريد الدنيا، ومنهم من يريد الآخرة، لكنهم يلتقون بهدف واحد مشترك وهو القتال، وإن كان الأول أعف وأفضل، ولا أدل على ذلك من إقبّال الناس من مكة والمدينة والحجاز واليمن وغيرها على التطوع وخاصة بعد نجاح القوات العربية بأجنادين، وانتصارها على القوات الرومية(3)وكذلك حين قدم قادة اليمن بقبائلهم ومقاتليهم ونسائهم وأولادهم ملبين بذلك نداء القتال ودعوة الداعي، مستعدين للبذل والعطاء، معلنين الشهادة أو النصر(4).
__________
(1) الدواداري- الدر الثمين: 3/162.
(2) الواقدي- فتوح الشام:1/2، الدوادري- الدر الثمين: 3/165.
(3) الواقدي- فتوح الشام: 1/37.
(4) الواقدي- فتوح الشام: 1/3.(1/203)
2- الإعداد المادي. لقد جاء المقاتلون بأموالهم يحملونها وبأسلحتهم يتقلدونها، وبخيولهم يمتطونها، وبزادهم وطعامهم يتزودون به. فلم ينقصهم أي شيء، جاؤوا جاهزين للقتال، على درجة كاملة من الاستعداد، وقد أعلنوا عن جاهزيتهم عندما وصلوا إلى المدينة أمام القائد الأعلى. وقد تأكد بنفسه عندما تفقدهم وبارك لهم وأعطاهم من حبه، وأثنى عليهم. وما عليه الآن إلا أن يأمرهم بالمسير والتوجه نحو بلاد الشام(1). لم يقتصر هذا الإعداد على مستوى أهل اليمن فحسب بل شمل الأقطار العربية كلها، وبخاصة المدينة التي كانت مقراً ومستقراً للقيادة العليا في البلاد. لقد حث القائد الأعلى المواطنين والمقاتلين على بذل المال والنفس فقدموا كل ما عندهم(2). ولئن شمل الإعداد المادي أول من شمل جيش يزيد بن أبي سفيان، إلا أن الجيوش التي تلت قد شملها الإعداد المادي أيضاً، فكان كل جيش بعد أن يحضر ويستكمل احتياجاته المادية يتوجه الوجهة التي أُمر بها(3).
3- الإعداد البشري. لبى الناس نداء القتال، فأتت الوفود من كل حدب وصوب من اليمن ومن مكة وسائر بلاد العرب والمسلمين(4). وأول عمل قام به القائد الأعلى في هذا المجال هو تنظيم هؤلاء الوفود، وقلبهم إلى تنظيم عسكري يتمشى مع فكرة القتال، ومع إمكانيات العدو، والأوضاع القبلية، والصفات القيادية التي كانت لكل قبيلة أميرها، قبيلة حمير يقودها أميرها ذو الكلاع الحميري، وقبائل طيء الحارث بن سعد الطائي، والأزد جندب بن عمرو الدوسي وغيرها(5).
__________
(1) الواقدي- فتوح اللشام: 1/3.
(2) الواقدي- فتوح الشام: 1/ 2-4.
(3) الواقدي- فتوح الشام: 1/7 وما بعدها، البلاذري- فتوح البلان: 150.
(4) الواقدي- فتوح الشام: 1/3-6.
(5) الواقدي- فتوح الشام: 1/3-4.(1/204)
... ... تبع نفس التنظيم الذي كان متبعاً من قبل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم(1). وكان أكبر تنظيم هو الألف وأقله هو العشرة، وكان يزيد أول قائد يتوجه بألف إلى بلاد الشام(2).
4- الإعداد التدريبي. لاشك أن هذا النوع من التدريب يكتسب أهمية كبرى في تقرير مصير المعارك المقبلة بدءاً من أصغر وحدة وحتى أكبر تشكيل. فلقد كان المقاتل العربي المرشح للاشتراك في فتوح الشام مؤهلاً بكل هذه الصفات حيث كان خفيف الحركة، ذا لياقة بدنية عالية، متمرساً على الطعان والمبارزة والمطاردة، مجيداً لركوب الخيل واستخدام السيف(3)، مدرباً على الحرب بالحرب، فهو الذي خاض معارك الدعوة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، واستمر في قتال أهل الردة، وكذلك في الجبهة العراقية، فكان هذا التدريب جامعاً لكل ما تقدم. ولهذا فإنه لا يحتاج إلا إلى التعرف والتدريب على ظروف المعركة وطبيعتها التي سيقاتل عليها في بلاد الروم، وكذلك التعرف على طبيعة المقاتلين الذين سيلقاهم عند المواجهة. وبهذا فإن أبا بكر كان يرسل الجيش تلو الآخر بمجرد اكتماله من الناحية التنظيمية لاعتقاده في أن هذا الجيش مدرب على كل أنواع القتال، وعنده القدرة على الصمود والاقتحام، وعنده اللياقة القتالية والمعرفة التامة بفنون الحرب المختلفة. إن القائد الأعلى مقتنع بالمستوى التدريبي الذي وصلت إليه القوات العربية، ولهذا فإنه كان لا يشير إلى هذه الناحية في توجيهاته. وتعليماته إلى المقاتلين؛ إنما كان يشير إلى النواحي المعنوية والإنسانية والحربية(4).
معارك الفتح
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/8.
(2) الواقدي- فتوح الشام: 1/4.
(3) الجاحظ- البيان والتبيين: 3/7، 10، 12.
(4) انظر إلى توجيهات القائد الأعلى إلى يزيد بن أبي سفيان عندما أمره بالتحرك لمحاربة الروم عند الواقدي- فتوج الشام: 1/4.(1/205)
لقد خاضت القوات العربية أثناء تقدمها لبلاد الشام معارك عديدة مهدت للفتح، كما مهدت لمعركة اليرموك. ولعل أهم هذه المعارك: معركة عربة. لما صدرت الأوامر إلى يزيد بن أبي سفيان أن يتحرك بجيشه من المدينة لملاقاة الروم في أرض الشام، وكان هذا القائد قد أمر أبا أمامة الباهلي أن يكون طليعة لهذا الجيش. فسار بطليعته حتى وصل موضعاً يقال له"عربة"(1)، وفيه تحشد الروم، وكان في نيتهم وقف تحرك هذا الجيش أو تأخيره، أو إعاقة وصوله إلى بلاد الشام. وتقول بعض الروايات: إن الروم كانوا يتحشدون في تلك المنطقة بست تشكيلات يبلغ عدد كلّ تشكيل خمسمائة مقاتل أي بمجموع ثلاثة آلاف(2). اشتبك أبو أمامة مع هذا الجمع، وقُتل أحد قادة التشكيلات.
__________
(1) عربة، موضع بأرض فلسطين. ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/405، الحموي- معجم البلدان: 4/96، ابن كثير- البداية والنهاية: 7/4.
(2) ابن الأثير -الكاامل في التاريخ: 2/406، االواقدي - فتوح الشام: 1/36(1/206)
لما رأى يزيد قائد الجيش العربي أن طليعة أبي أمامة الباهلي لم تكن متكافئة مع قوة الروم المتحشدة بتشكيلاتها الستة، أمر بتعزيز هذه الطليعة بخمسمائة مقاتل(1)، وأصبح ميزان القوى 1 إلى 3، وبهذا التعزيز تمكن أبو أمامة أن يهاجم القوات الرومية بهذه النسبة، وهي نسبة المهاجم إلى المدافع التي لا تزال حتى الآن تؤخذ بعين الاعتبار أثناء الهجوم. كما أن ما تبقى من الجيش العربي مع يزيد خلف هذه الطليعة جاهزة للتدخل، مما يطمئن قائد الطليعة ويشجعه ويرفع من معنوياته ومعنويات جنوده. ترى لماذا لم يدخل يزيد بكامل جيشه ضد القوات الرومية المتحشدة وهي تتفوق على الطليعة؟ ذلك لأن يزيد وهو قائد مجرب لم يشأ أن يزج جميع قواته، بل طبّق مبدأً حربياً هو مبدأ الاقتصاد في القوى، وأدخل العدد الضروري والمناسب، ووقف يترقب الموقف، وينتظر النتائج، وظهر نصر أبي أمامة، وهرب الروم، وبدأت المطاردة، والتجأ الجيش المهزوم إلى مكان يقال له"دائن"(2)فتبعهم يزيد بجيشه ولم ينفصل عن القوات الرومية وظل على تماس مباشر معهم. وهنا في هذا المكان أعاد الجيش الرومي تنظيمه، وانضمت إليه بعض الحاميات الرومية، إلا أن ضيق الوقت، والقوات العربية في ظهورهم لم تسمح لهم بإعادة التنظيم، أو حشد القوى، فهاجمهم يزيد بكتلة واحدة بكامل جيشه فقضى عليهم(3).
تعتبر هذه المعركة أول المعارك التي حصلت بين العرب والروم، بل أول اصطدام. وهنا حرص يزيد على كسر شوكة الروم من أول معركة، وفعلاً فإن هذا الاصطدام أوقع الرعب في قلوب الروم، وجرّأ العرب على اقتحام المواقع الرومية، وظلوا بعدها ينتقلون من نصر إلى نصر.
__________
(1) ابن الأثير -الكامل في التاريخ: 404-406- االواقدي -فتوح الشام:1/37
(2) دائن. قرية من قرى فلسطين قريبة من غزة انظر الحموي- معجم البلدان: 2/417.
(3) الأزدي- فتوح الشام:52.(1/207)
معركة أجنادين. لقد بشر بهذه المعركة أبو بكر الصديق قبيل وفاته(1). هناك اختلاف بين المؤرخين في تاريخ حدوث هذه المعركة. فالطبري وابن كثير يقولان إنما حدثت في سنة 15/636(2)؛ أما البلاذري واليعقوبي وغيرهما مثل بروكلمان والجنرال أكرم فيقولون إنها حدثت في تموز سنة 13/634(3).
إننا بتحديد التاريخ سوف نحدد حدوثها قبل أو بعد وفاة أبي بكر الصديق. فإذا كانت في سنة 15/363، فهي معركة خارجة عن بحثنا، وإن كانت في سنة 13/634 فهي جديرة بالدراسة من الناحية العسكرية لأنها حدثت في زمن أبي بكر وفي السنة التي توفي بها(4).
__________
(1) ابن عساكر- تاريخ مدينة دمشق: 1/483.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 3/101، ابن كثير- البداية والنهاية: 7/51،54.
(3) الواقدي- فتوح الشام: 1/37، البلاذري فتوح البلدان: 157، ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/113، ابن عساكر- تهذيب تاريخ دمشق الكبير: 1/145، حداد- فتح العرب للشام44: أكرم- سيف الله: 363. بروكلمان - تاريخ الشعوب الإسلامية: 94، غلوب -الفتوحات العربية الكبرى: 261
(4) الواقدي- فتوح الشام: 1/37، البلاذري- فتوح البلدان: 157، ابن عساكر- تاريخ مدينة دمشق: 1/521.(1/208)
سار الجيش من بصرى ليعبر الأراضي الفلسطينية من الجهة الشرقية، ويعبر نهر الأردن الذي فجرت سدوده لتمنع اجتياز الجيش العربي إلى الضفة المقابلة، ولإعاقته عن التقدم، وتأخير وصوله إلى سهل أجنادين؛ لكن خالد بن الوليد لم تعجزه تلك العملية من العبور(1)، لكي يلتقي بجيش عمرو بن العاص في هذا السهل إما قبل وصوله، أو أن يصلا بوقت واحد، وذلك لكي لا يتاح للقوات الرومية أن تنفرد بجيش عمرو وحده إذ لا يستطيع مجابهتها؛ أما إذا وصلت الكتلة الرئيسة بقيادة خالد المؤلفة من ثلاثة جيوش يمكنها أن تصمد أمام القوات الرومية حتى يصل جيش عمرو في حال تأخره. وعلى هذا فإن خالد كان يسرع في تحركه، واجتاز النهر بسرعة، وأعاقته بعض الوقت المياه المتفجرة التي كانت تشكل صعوبة أثناء التقدم لوجود الطمي والمستنقعات. كان على عمرو بن العاص ألا يتعرض إلى الجيوب والحاميات الرومية التي كانت منتشرة في الرملة والقدس وقيساريه وأجنادين(2)، لكي يصل في الوقت المحدد. وفعلاً فقد استطاع عمرو أن يتجنب كل هذا، ويصل أرض المعركة من الجهة الجنوبية من وادي عربة.
وصلت قوات خالد قبل وصول عمرو واتخذت تراتيب القتال في مقابل تراتيب العدو(3).
بلغ عدد الجيش العربي اثنين وثلاثين ألف مقاتل بقيادة خالد بن الوليد، فيما بلغ الجيش الرومي تسعين ألف مقاتل بقيادة وردان(4).
بعد أن تقابل الجيشان، جرى تفقدهما واستعراضهما من قبل قياداتهما، وجرى تحريض كبير للرجال، وحث على القتال، والمصابرة والمجالدة(5).
__________
(1) بروكلمان- تاريخ الشعوب الإسلامية: 94.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 3/101، 102، العسلي فن الححرب: 107، كمال -الطريق إلى دمشق: 277 وما بعدها.
(3) ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/112، الديار بكري- تاريخ الخميس: 2/234..
(4) دحلان- الفتوحات الإسلامية: 1/32.
(5) الواقدي- فتوح الشام: 1/30، 31، ابن عساكر- التاريخ الكبير: 1/144.(1/209)
عين خالد القادة طبقاً للبنية العملياتية، فقد جعل على الميمنة عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وعلى الميسرة سعيد بن عامر، وعلى القلب معاذ بن جبل، وعلى الجناح الأيسر شرحبيل بن حسنة، وعلى الساقة يزيد بن أبي سفيان، وترك في يده الاحتياط المتحرك المؤلف من أربعة آلاف فارس، وأوكل الجناح اليميني إلى يزيد بالإضافة إلى مهمته(1).
قوات الروم
تصوير ص 145
القوات العربية
كانت النسوة في هذه المعركة يشكلن الساقة، وقد تلقين مهمة من القائد العام(2)- بعد أن بث فيهن روح العقيدة والإيمان، وأثار في نفوسهن الشجاعة والإقدام- الدفاع عن الساقة، فلا يدعن للروم فرصة في المهاجمة، ولهذا فإن على كل واحدة أن تقوم بأخذ الاستعدادات اللازمة للقتال، ورد الهاربين من الجيش، فأخذن عهداً على تنفيذ هاتين المهمتين، ومضين يقاتلن ويرددن المتخاذلين(3).
تعطى إشارة بدء القتال من القائد العام، ويحظر على كل قائد من القادة في الميمنة أو الميسرة أو أي مقاتل أن يحمل على العدو إلا بإيعاز من خالد بن الوليد(4)، وكذلك فإنه أوعز بأخذ الاستعدادات النهائية للقتال، وأن يتهيأ المقاتلون، ويجردوا السيوف، ويوتروا القسي، ويفوقوا السهام(5).
كان القائد العام يعطي التعليمات من مقر قيادته التي كانت في القلب، وكان الأركان معه في هذا المقر منهم عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر وقيس بن هبيرة ورافع بن عميرة وغيرهم(6)، وكانت مهمتهم مساعدة القائد في اتخاذ القرار، وذلك بإعطاء المعلومات الصحيحة عن العدو، وإبداء المشورة، وقيادة التشكيلات المقاتلة.
__________
(1) الواقدي- فتوح الشام: 1/31، ابن أعثم- الفتوح: 1/145.
(2) ابن أععثم- الفتوح: 1/145.
(3) الواقدي- فتوح الشام: 1/31، الأزدي- فتوح: 90.
(4) الواقدي- فتوح الشام: 1/31.
(5) الواقدي- فتوح الشام: 1/31.
(6) الواقدي- فتوح الشام: 1/31.(1/210)
جرت مفاوضات مطولة قبل بدء القتال؛ لكن القائد العام أصر على القتال إن لم تحقق أحد المطالب الثلاثة الإسلام، أو الجزية، أو القتال، فأبى الروم وآثروا القتال(1).
تقدم نبالة العدو، وبدأوا يمطرون المسلمين بوابل من سهامهم، فقتل وجرح عدد منهم، وسارت الأمور لصالح الجيش الرومي(2).. لكن المبارزة حولت الأمور لصالح الجيش العربي إذا انطلق ضرار بن الأزور فبارز بعض القادة من الروم، ثم شق صفوفهم فقتل منهم عدداً كبيراً(3). وكذلك فإن ضرار أرسل بمهمة استطلاعية قبل أن يقوم بالمبارزة، فذهب عاري الصدر فوصل إلى معسكر يشرف على معسكر الروم، فأحسوا به، فأرسلوا في طلبه، فاستدرج الجنود بعيداً عن الثكنة، واشتبك معهم، فقتل منهم، وفر الباقون، ورجع من مهمته وقدم تقريراً شفهياً بذلك(4).
طالما أن العدو متفوق في العدد، فإن خالد بن الوليد وسع جبهة جيشه ليمنع الجيش الرومي من الالتفاف، كما شكل مجموعات قتالية على الجناحين لتزيد من طول الجبهة، وشكل القلب والمجنبتين والاحتياط، وعين القيادات المختلفة.(5)
بعد منتصف النهار أمر القائد العام بالهجوم العام، وهنا دارت المعركة بالسيف، وكان الموقف حسناً لصالح المسلمين، وانقضى النهار، وانفصل الجيشان عن بعضهما(6).
__________
(1) الواقدي- فتوح الشام: 1/31، 32، 36.
(2) الأزدي- فتوح الشام: 91، ابن أعثم- الفتوح: 1/147.
(3) الواقدي- فتوح الشام: 1/32.
(4) الواقدي- فتوح الشام: 1/35، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/234.
(5) الديار بكري- تاريخ الخميس: 2/234.
(6) الديار بكري- تاريخ الخميس: 2/234.(1/211)
استؤنف القتال في اليوم التالي على أشلاء القتلى والجرحى الكثيرين الذين كانوا من الجانب الرومي، وذهل العدو من هذه الخسائر، فأراد قائد الجيش الرومي أن يدبر خطة لقتل خالد بن الوليد وهي أن يطلب الصلح ويرسل شخصاً لهذه الغاية، وبنفس الوقت يكمن عدة جنود عندما يبدأ التفاوض على الصلح، ثم ينقضوا خلال هذه الفترة، انقضاض رجل واحد على قائد الجيش العربي؛ لكن الخطة فشلت عندما نقل هذه المعلومات مقاتل من الجيش الرومي إلى خالد بن الوليد الذي أرسل مباشرة فور تلقيه هذا النبأ ضرار بن الأزور في عشرة من المقاتلين، وقضوا على الكمين. وحين حان وقت المفاوضة للسلام الخادع تقدم وردان قائد الجيش الرومي لينفذ المؤامرة، وهو لا يعلم مصير مجموعة الكمين التي أبيدت، وفوجئ بضرار وعشرة مقاتلين معه فارتعدت فرائصه ووقع في الفخ، وأومأ خالد إلى ضرار بقتل وردان فقتله(1). والتحم الجيشان ودارت معركة حامية بذل الفريقان أقصى ما يستطيعان من جهد، ولما رأى خالد هذا الوضع زج الاحتياطي المؤلف من أربعة آلاف فارس، واستطاع أن يخترق صفوف العدو في عدة أماكن(2)، كما أمر مجموعة فدائية أن تصل إلى القيادة الرومية وتقتل قائدها"القبقلار" الذي استلم القيادة بعد مقتل"وردان"، وتمكنت هذه المجموعة من أن تصل إلى القلب وتقتل القائد العام، فلما قتل قائدهم مالت الكفة لصالح المسلمين، وانهزم الروم في ثلاثة اتجاهات إلى غزة، وإلى يافا، والقوة الرئيسة اتجهت إلى القدس. وهنا بدأت مطاردة الجيش المنهزم وقتل منه العدد الكبير(3).
__________
(1) الواقدي- فتوح الشام: 1/35، 36، الأزدي- فتوح الشام: 91.
(2) الواقدي- فتوح الشام: 1/37، الأزدي- فتوح الشام: 91.
(3) الواقدي- فتوح الشام: 1/36، 37.(1/212)
كان بإمكان الجيش الرومي أن يقوم بحركة التفاف على مجنبات الجيش العربي لأنه كان متفوقاً بالعدد وبكثرة الخيل؛ لكنه لم يستطع لأن خالد بن الوليد قوى المجنبتين وعززهما، ومنع كل التفاف قد يحدث، كما قابل العدد الكبير على طول المواجهة بامتداد الجبهة كلها، وكذلك كان بإمكان الجيش الرومي أن يستخدم السلاح الطويل(النبال) الذي كان يتفوق به على الجيش العربي؛ لكن خالداً قلب هذا التفوق لصالحه إذ استخدم المبارزة ليقطع وليبطل مفعول السلاح الطويل. وبمجرد التفوق بالمبارزة، انقلبت المعركة لصالحه وحولها إلى تماس مباشر مع العدو بالأسلحة القريبة كالسيف والترس.
من عادة خالد بن الوليد أن يستخدم المجابهة عندما يتأكد من نجاحها؛ وأن يستخدم التطويق عندما يكون ناجحاً. ففي هذه المعركة استخدم المجابهة بالاعتماد على خفة الحركة في جنوده، وحسن استخدامهم للسيف وللأسلحة القريبة.
إن الاحتياط ضروري للقائد يستخدمه عند الضرورة. وهذا المبدأ لا يزال ذا أهمية حتى في الوقت الحاضر، فقد حرص خالد أن يستخدمه لاستثمار النصر في الوقت المحدد وفي المكان المحدد.
لقد كان القائد العام للجيش العربي الإسلامي في هذه المعركة حريصاً كل الحرص على أن يوقت مراحل المعركة المتتالية، فهو لم يأذن بمهاجمة الروم بالرغم من تفوقهم بادئ الأمر بالنبال، وإنما أخّر الهجوم إلى ما بعد منتصف النهار، وأمر قائد القلب معاذ-الذي هم بالهجوم- ألا يهاجم، كذلك فقد أرجأ الهجوم العام إلى ما بعد نجاح الخطة التكتيكية التي قتل فيها وردان قائد الجيش الرومي.(1/213)
من المعروف في القتال القديم والحديث أن المطاردة تبدأ عندما ينتصر جيش على آخر بعد معركة ناجحة. ومن شروط المطاردة أن تكون القوات المطاردة على تماس مع القوات المنهزمة، وأن تتعقبها فلا تترك لها مجالاً لإعادة تنظيمها، أو الانضمام إلى قطعة أخرى. فقد كان خالد بن الوليد من أمهر القادة في تنفيذ هذا النوع من القتال، وبالإضافة إلى ذلك فقد استطاع تجزئة الفلول المنهزمة ليسهل عليه تدميرها وقتلها، حيث قسمها إلى ثلاثة أجزاء فرت إلى جهات مختلفة(1).
إن العنف من صفات هذا القائد العربي إذ اشتّهر في حروبه بهذه الميزة. فقد كان حازماً في إعطاء الأوامر، ساهراً على تنفيذها، عنيفاً في مهاجمة العدو إذ لم يترك له وقتاً ليلم شعثه، أو يجمع قتلاه من أرض المعركة. وكان قاسياً عندما أمر أن تفتح السهام بوقت واحد. على طول جبهة القتال فقال: "لتكن السهام إذا خرجت من أكباد القسي كأنها قوس واحدة فإذا تلاصقت السهام رشقاً كالجراد لم يخل أن يكون فيها سهم صائب"(2).
كانت الشؤون الإدارية في هذه المعركة كالعادة مؤلفة من النساء والأولاد والمؤن والحراسات، والاحتياجات التي لا تتطلب قوافل إمدادية، أو تعيق في التقدم، أو تحد من حركة القوات المقاتلة. وكان يرأس المؤخرة في هذه المعركة يزيد بن أبي سفيان الذي نظم الحراسة والوقاية والدفاع عن الساقة من النساء اللواتي كلفن بهجمات قتالية وإدارية(3).
كانت الخسائر البشرية في الجانب الرومي خمسين ألفاً، فيما كان من الجانب العربي أربعمائة وخمسين قتيلاً(4).
__________
(1) الواقدي- فتوح الشام: 1/36، 37.
(2) الواقدي- فتوح الشام: 1/31.
(3) الواقدي- فتوح الشام: 1/31.
(4) الواقدي- فتوح الشام: 1/37.(1/214)
لقد مهدت هذه المعركة الطريق إلى الفتوحات البعيدة في بلاد الشام، وحدثت معارك بعدها أهمها معركة اليرموك التي كانت من المعارك الفاصلة في التاريخ، وانحسر الروم عن الأرض العربية، وحاولوا عبثاً الصمود أمام الجيوش الفاتحة، لكنهم لم يستطيعوا الوقوف أمام السيل المندفع(1).
معركة فحل. بعد أجنادين، توجه الجيش العربي إلى فحل. وقد حدثت معركة في تلك المنطقة بين العرب والروم سنة 13/634(2). وكان يوم فحل يسمى"يوم الردغة" أو"يوم بيسان"(3). لأن المقتلة الكبيرة للروم كانت في الرداع، قتل منهم يومئذ ثمانون ألف قتيل(4).
سارت الجيوش إلى فحل(5)، وفُجرت المياه، وامتلأ سهل بيسان، وحوصرت المدينة، وهوجمت من أطرافها، فوقع أكثر الروم في الوحل وقضي عليهم(6). وبعد هذا النجاح تحركت القوات إلى مرج الصفر، بعد أن تركت القيادة العامة قوة عسكرية لهذه المدينة مهمتها منع القوات الرومية من التحرك نحو دمشق، وضع التعزيزات من الوصول إلى المدينة.
__________
(1) الواقدي- فتوح الشام: 1/37 وما بعدها.
(2) الذهبي- تاريخ الإسلام: 1/337، ابن عساكر- تهذيب تأريخ دمشق الكبير: 1/144، 145.
(3) الحموي- معجم البلدان: 4/237، ابن عساكر- تهذيب تاريخ دمشق الكبير: 1/145.
(4) الحموي- معجم البلدان: 4/237، ابن عساكر- تهذيب تاريخ دمشق الكبير: 1/145.
(5) ابن أعثم- الفتوح: 1/189 وما بعدها.
(6) الطبري تاريخ الأمم والملوك: 2/628، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/165.(1/215)
معركة مرج الصفر. حدثت هذه المعركة في سنة 13/634(1). واختلف في هذا التاريخ، كما اختلف في تواريخ المعارك السابقة لها واللاحقة. سارت القوات العربية من فحل باتجاه دمشق، واتبعت في تحركها الطريق الموصل إلى الكسوة، دمشق. وفي منطقة الكسوة يمتد مرج الصفر الذي يمر من أسفله نهر الأعوج فيسقي البساتين التي من حوله. اصطدمت طلائع الجيش العربي الإسلامي بقوة كبيرة من الروم في هذا المرج تبلغ اثني عشر ألف جندي بقيادة"كولوس" مهمتها إنذار قيادة مدينة دمشق بالخطر، وتأخير القوات العربية ريثما تستعد المدينة للدفاع عن نفسها، وحتى يمكن تحصينها، وإغلاق الأبواب، واتخاذ إجراءات الدفاع(2).
انتشرت وفتحت القوات العربية الإسلامية من الجهة الجنوبية والشرقية، وامتدت القوات الرومية من الجهة الشمالية والغربية وبدأت المبارزة التي نجحت فيها القوات الجنوبية، وانبرى بعض القادة لخصومهم ونظرائهم، ونزل خالد بن الوليد لمبارزة"كولوس" القائد الرومي فأسر، وتقدم النائب الأول لهذا القائد المأسور وهو"أدادير" وجرت عدة محاولات أسر في نهايتها أيضاً(3).
بعد المبارزة انهارت معنويات المقاتلين الروم، واستغل الجيش العربي الإسلامي هذه البادرة فهاجم خصمه من الأجنحة والقلب، واستطاع أن يتفوق عليه، ويضطره إلى ترك أمكنته والانسحاب نحو دمشق. وزحف الجيش العربي نحو دمشق، وفرض عليها الحصار.
__________
(1) ابن خياط- تاريخ ابن خياط: 120، ابن عساكر- تاريخ مدينة دمشق: 1/481، كمال- الطريق إلى دمشق: 229.
(2) ابن أعثم- الفتوح: 1/150.
(3) الواقدي- فتوح الشام: 1/19- 21، كمال- الطريق إلى دمشق: 291 وما بعدها.(1/216)
حصار وفتح دمشق. اختلف المؤرخون كعادتهم في حصار وفتح دمشق. فقد ذكر الواقدي والطبري أنها فتحت في سنة 13/634(1)؛ أما الأزدي فقد قال إنها فتحت في سنة 14/635، وقد حدد يوم الأحد لثلاثة عشر شهراً من إمارة عمر بن الخطاب، فإذا كان عمر تولى الإمارة في مساء يوم 21 جمادى الثاني، فإن الفتح يكون قد تم في جمادى الأولى الأحد الموافق في 25 حزيران(2)؛ أما البلاذري والأوزاعي واليعقوبي وابن الجوزي ودحلان وابن عساكر وهرتمن وهيار ولا منس وبكر فقد اتفقوا على أن دمشق فتحت في سنة 14/635(3) في شهر رجب(آب- أيلول). وفي تاريخ الأزدي وابن خياط وهؤلاء جميعاً شبه إجماع. وإذا عدنا إلى مدة الحصار فإن بعض المؤرخين كاليعقوبي قد ذكر أن مدة الحصار كانت سنة كاملة(4)؛ أما ابن خلدون فقد ذكر أن مدة الحصار ستة أشهر(5)؛ وأما البلاذري فقد اعتبر مدة الحصار أربعة أشهر(6)؛ وأما ابن الأثير فقد ذكر مدة الحصار سبعين ليلة(7). ولعل بعض المؤرخين يرجحون أن تكون مدة الحصار ستة أشهر منهم أبو معشر وابن الكلبي وهرتمن ودي غوبي. ومعنى ذلك أن الحصار كان في شهر المحرم سنة 14 وانتهى بسقوط دمشق في شهر رجب في السنة نفسها(8).
__________
(1) الواقدي- فتوح الشام: 1/59، 79، 85، الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/589.
(2) الأزدي- فتوح الشام: 106، مختار باشا- التواريخ الهجرية: 1/45.
(3) حداد- فتح العرب للشام: 93.
(4) ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/140 إصدار دار صادر بيروت بدون تاريخ..
(5) حداد- فتح العرب للشام: 95.
(6) البلاذري- فتوح البلدان: 130.
(7) ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/428.
(8) حداد- فتح العرب للشام: 95، 96.(1/217)
وإذا اعتُمد قول الأزدي أنها فتحت يوم الأحد في 21 جمادى الثاني، وقد سبق ذلك حصار دام ستة أشهر فمعنى ذلك أن الحصار وقع في سنة 13/634، وأن الفتح وقع في سنة 14/635، أي أن الحصار أو جزءاً منه تم في عهد أبي بكر الصديق، وأن الفتح قد تم في عهد عمر بن الخطاب. وهذا ما تؤكده رسالة العزل التي بعث بها عمر الأمير إلى أبي عبيدة القائد العام للجيش، بعزل خالد عن القيادة العامة وتولية أبي عبيدة، فوصلت والعرب محاصرون لدمشق(1). وكذلك قول اليعقوبي في أن المدينة قد حوصرت قبل موت أبي بكر(2).
دمشق قبل الفتح كانت محددة من الشرق بباب شرقي ومن الغرب بباب الجابية، ومن الشمال بباب توما ومن الجنوب بباب الصغير. فهي مَدْحِيّة كالبيضة لا يكاد بعدها من الرأس إلى العقب يتجاوز(1500)م وبعدها من البطنين لا يتجاوز(1000)م، يحيط بالمدينة سور من الحجارة الكبيرة المربعة، يبلغ ارتفاع هذا السور عشرين قدماً وسمكه خمسة عشر، وكل خمسين خطوة توجد أبراج وشرفات وفتحات لرمي السهام والأحجار ضد المهاجمين أو المقتحمين. وأمام السور خندق مملوء بمياه نهر بردى يتراوح عرضه من 10-15 قدم. إذاً أمام الجيش العربي عدة موانع المياه والسور القوي، والرجال المدافعون من داخل الحصن، والأبواب الحديدية الضخمة المصفحة والتي إذا ما أغلقت صعب على الفاتحين أن يفتحوها أو يخرقوها وهذه الأبواب محيطة بالمدينة من جميع جهاتها: باب شرقي، باب توما، باب الفراديس، باب الجابية، باب الصغير، باب كيسان(3).
__________
(1) الأزدي- فتوح الشام: 102 وما بعدها.
(2) ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/139 إصدار دار صادر بيروت، بدون تاريخ
(3) حداد- فتح العرب للشام: 57-61، أبو خليل- أطلس التاريخ العربي: 36.(1/218)
هذه الأنواع من الموانع تحتاج إلى تجهيزات خاصة، ترى هل كان الجيش العربي يملك مثل هذه التجهيزات وأهمها السلالم والمنجنيقات على اختلافها والدبابات على اختلافها؟ لقد ثبت أن هذا الجيش لا يملك وقتئذ مثل هذه الأعتدة والأسلحة، وإإنما كان يملك بعض الحبال... والقرب التي لا تؤدي بالغرض المطلوب(1)، صحيح أن العرب كانوا غير مجهزين بأعتدة وأسلحة ضد الحصون والقلاع إلا أنهم يجيدون فن الحصار، وأهمها الابتعاد عن مرمى الأسلحة المعادية، وقطع التموين والمياه عن المدينة، ومسك الطرق المؤدبة إلى دمشق فلقد كان أبو الدرداء ومعه مجموعة من الجند يرابطون على طريق برزة في الجهة الشمالية من المدينة(2)، وكان ذو الكلاع الحميري مع مجموعه أيضاً ترابط على طريق دمشق حمص الجهة الشرقية من المدينة(3)، وكان علقمة بن حكيم ومسروق العبسي مع مجموعة ترابط على طريق دمشق فلسطين(4) باتجاه الجنوب. إذاً الجهات الثلاث والطرق المؤدية إلى دمشق أمسكها الجيش العربي ليمنع كل الإمدادات بالرجال أو بالعتاد من وصولها إلى دمشق، وليحمي ظهور المقاتلين العرب. هذا هو فن الحصار الذي أجاده العرب وجربوا به في حصار بني قينقاع وبني النضير وقريظة وخيبر والطائف قبل أن يحاصروا هذه المدينة، ثم إن خالد بن الوليد وعياض بن غنم اللذين فتحا حصون العراق وجنودهما كانوا على علم تام بهذا الفن، ومن الفن أيضاً الذي طبق وجرب ذلك الهجوم الجبهي في حال الظفر بالعدو، أو إطالة مدة الحصار. ففي هذه المدينة طبق الجيش العربي هذا وذاك كما سنرى فيما بعد.
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/626، 627.
(2) البلاذري- فتوح البلدان: 121.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/626.
(4) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/626.(1/219)
أمرت القيادة العامة للجيش العربي الإسلامي بحصار مدينة دمشق بقوة تقدر باثنين وعشرين ألف مقاتل، يقابله عدد مماثل من المدافعين الروم عن المدينة. حوصرت المدينة من كل اتجاهاتها، واستولي على ضواحي هذه المدينة، ورابطت القوى على كل مداخلها من المحاور الخارجية، ووزعت قطاعات وأبواب المدينة: باب الجابية لأبي عبيدة بن الجراح، باب شرقي لخالد ابن الوليد، باب الفراديس لعمرو بن العاص، الباب الصغير ليزيد بن أبي سفيان، باب توما لشرحبيل بن حسنة(1).
أعطى القائد العام المهام لقادة القطاعات، ووزع القوى والوسائط، وأمرهم بتطبيق شروط الحصار وفنه الذي أسلفنا فيه التكلم. ثم حدد لهم نقطة الإزدلاف بعد الفتح، كما وضعت الحراسات المتحركة والثابتة والمراقبين والأرصاد للإعلام عن كل ظاهرة، أو تحرك مريب.
__________
(1) الأزدي- فتوح الشام: 94، ابن واضح تاريخ اليعقوبي: 2/140، ابن أعثم الفتوح: 1/194.(1/220)
اشتد الحصار على المدينة، وطال أمده، ونفذ صبر المدافعين، فأرسلوا يطلبون النجدة والاستغاثة بهرقل ملك الروم، وعلى الفور شكل جيشاً من الشمال وأمره بمتابعة المسير باتجاه دمشق لإنقاذها. ووصلت معلومات عن هذا الزحف الذي يبلغ اثني عشر ألفاً مقبلين من الشمال، ومارين بحمص. وعلى الفور أصدر القائد العام أمراً إلى ضرار بن الأزور أن يتحرك فوراً، ويرابط على الطريق الشمالية في"بيت لاهية" بالقرب من ثنية العقاب، وأن يتصدى لكل النجدات التي تأتي من هذا الاتجاه، وأن ينظم الكمائن، ويهاجم القوات المتقدمة، ويوقف زحفها. واشتبك ضرار مع هذه القوة التي تتفوق عليه في العدة والعدد، ولم يستطع أن يوقف تقدمها إلا قليلاً، وأسر ضرار، وكادت المعركة تنتهي بانتصار الروم لولا أن خالد بن الوليد القائد العام- لما علم بنتائج الاصطدام- اتخذ عدة إجراءات منها التعديل في قوام القوة المحاصرة، ثم أسند قيادة القوات في المدينة إلى أبي عبيدة، واتجه شمالاً مع أربعة آلاف خيال لإنقاذ الموقف. ومن الحركة دخل المعركة بالتعاون مع رافع الذي استلم القيادة بدلاً من ضرار الذي أسر. وفي اليوم التالي أعاد تجميع قواته وتنظيمها التي بلغت حوالي عشرة آلاف مقاتل، التي تكافأت مع قوة الروم، واستطاع خالد أن يتغلب على أعدائه، فانسحبوا مذعورين وعادوا من حيث أتوا، وبقي عليه تخليص ضرار من الأسر، فأرسل رافع في مجموعة كمنوا أمام المنسحبين في طريق حمص، فأتوا بضرار، وعادت المجموعة وأخذت مهمتها التي كانت من قبل، وعاد خالد لتوه لمعاودة الحصار على دمشق.(1/221)
ابتدأت مرحلة جديدة من الحصار، وخاب أمل توماس الرومي قائد مدينة دمشق بوصول النجدات، وبالمقابل فإن معنويات الجيش العربي الإسلامي ارتفعت، بعد أن زفت لهم البشرى بالانتصار، وحاول توماس جاهداً للتخلص من هذا الحصار إما بالهجوم، أو التأثير على قوات العرب المسلمين؛ لكن جميع محاولاته باءت بالفشل الذريع بالرغم من حدوث خسائر في قطاع باب توما وبعض القطاعات الأخرى(1).. ولما وصل إلى هذا الحد مال إلى المصالحة.
__________
(1) الأزدي- فتوح الشام: 96 وما بعدها، غلوب- الفتوحات العربية الكبرى: 275.(1/222)
الموقف بين الطرفين قبيل الهجوم على المدينة واقتحامها: فالقوات العربية تملك من وسائل عبور الخندق القِرَبَ(1)التي ينفخها المقاتل ثم يسبح بها ليصل السور كما يملك الحبال(2) التي تساعده على تسلق السور. معنويات المقاتل العربي مرتفعة، وتصميمه على القتال كان ظاهرة مميزة(3)، وإيمانه بالنصر كان له حافزاً على تخطي جميع العقبات والصعاب، كما أن القوات العربية كانت تجيد تطبيق فن الحصار على دمشق حيث قطعت المؤن، ورابطت في كل اتجاه، ومنعت النجدات، وقطعت كل أمل للمدافعين إلا أن يستسلموا؛ أما القوات الرومية فقد أصابها الانهيار من طول الحصار، وقطع المواد التموينية، وشعر المدافعون بنقص بالاحتياجات المادية، وبدا على قادتهم اليأس والملل من الحصار، وضعفت مقاومتهم عندما شعروا بأن النجدة التي أرسل بها هرقل لم تستطع الوصول إلى دمشق. في هذا الموقف، وفي هذا الوقت بالذات، شعرت القيادة، العربية أنه قد حان الأوان لمهاجمة المدينة، وشعر خالد بالذات بهذا الموقف الملائم فأمر بعبور الخندق المملوء بالمياه، فعبرت هذه القوة من باب شرقي، ثم أمر باعتلاء السور بواسطة الحبال والاعتماد على الذات وعلى الإخوة المقاتلين، وتقدم الأبطال الشجعان مثل القعقاع ومذعور بن عدي وغيرهما ممن استطاعوا أن يفتحوا باب شرقي، وأن يندفعوا نحو وسط المدينة(4). لكن توماس أسرع باتجاه باب الجابية لكي يستقبل أبا عبيدة ويقبل شروط التسليم، ودخل أبو عبيدة بسلام، ودخل خالد بحرب، ودخلت القوات، وفتحت الأبواب جميعها، وتم الاتفاق على بنود السلام، وعلى أن يُدفع عن كل رأس دينار واحد، وعلى أن يخرج المقاتلون ومن معهم بكل ما يريدون من أمتعة(5).
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/626 وما بعدها
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/626، 627.
(3) حداد- فتح العرب للشام: 98.
(4) الأزدي- فتوح الشام: 104.
(5) حداد- فتح العرب للشام: 88 وما بعدها، 92..(1/223)
لكن خالد بن الوليد رأى أن تعاد هذه المواد فتبعهم بخيالته وأدركهم"بمرج الديباق"(1) واستطاع الانتصار عليهم، وإعادة الغنائم والسبايا ثم عاد إلى دمشق مقر قيادته(2).
مخطط حصار دمشق وفتحها
1- الحصار
تصوير ص 155
مخطط حصار دمشق وفتحها
2- الفتح
تصوير ص 156
مسير الجيوش والمعارك التّصادميّة
بعد أن أعلنت التعبئة، وأعدت وأحضرت الجيوش، وجهزت بالأعتدة والأسلحة، أمر القائد العام بإرسال الجيوش، وتحركها باتجاه الشام، بعد أن تلقى كل جيش مهمته التي كلف بها.
جيش يزيد بن أبي سفيان. تحرك أول جيش من المدينة بتاريخ الأول من صفر الموافق الأول من نيسان سنة 13/634 باتجاه دمشق. فسلك المحور: المدينة، وادي القرى، تبوك، الجابية، دمشق(3).
إن هذا التحرك سيكون محفوفاً بالمخاطر، وسيلاقي هذا الجيش بعض الجيوب من الروم المبثوثة هنا وهناك، والقوى المعادية التي جمعت نفسها وأسرعت لتحول دون هذا التحرك أو التقدم، وسينتبه الروم إلى خطورة العرب الزاحفين من الجزيرة إلى بلاد الشام، ولذا فإنهم سيعدون العدة، ويجمعون الجموع، ويحاولون جهدهم لمنع هذا الجيش من التوغل في أراضيهم، أو احتلال جزء منها(4).
كان على يزيد إزاء هذه التوقعات والاحتمالات أن يرسل أمامه دوريات الاستطلاع والطلائع، وأن يبث العيون على طول الطريق لكشف قوة العدو، وتحديد أماكن دفاعه الرئيسة والثانوية، ونوع أسلحته ومراكز إمداده(5).
__________
(1) مرج الديباق. ويقال له أيضاً"مرج الديباج" وهو واد يقع بين الجبال، بينه وبين المصيصة عشرة أميال. والمصيصة قرية من قرى دمشق قريبة من بيت لهيه. انظر الحموي- معجم البلدان: 5/101، 144.
(2) الواقدي- فتوح الشام: 73 وما بعدها، حداد- فتح العرب للشام: 90.
(3) الواقدي- فتوح الشام: 1/4، عبد الحميد- معارك العرب الحاسمة: 25.
(4) الواقدي- فتوح الشام: 1/4.
(5) الواقدي- فتوح الشام: 1/4.(1/224)
استنفرت القوات الرومية ورفعت جاهزيتها القتالية عندما علمت بتحرك العرب على هذا المحور، فاجتمع جيش مؤلف من ثمانية آلاف فارس ومقسم إلى خمسة ألوية على رأس كل لواء أحد البطارقة، وتوجهوا جميعاً بقيادة البطاريق شطر تبوك، جاعلين من أدلائهم وعيونهم العرب الذين كانوا يقيمون في المدينة وعلى الطريق إلى دمشق(1).
تنبه قادة الجيش العربي إلى هذه التحركات المريبة، فأسرع جيش يزيد في السير لكي يسبق الجيش الرومي إلى تبوك، وليختار أمكنة التمركز، وبذلك يستطيع أن يحسن أمكنة القوات، وأن يستعد لملاقاة العدو، فوصل قبل ثلاثة أيام(2)، وفتح بتشكيلة القتال بقوة ألف مقاتل أي بنسبة 1 إلى 8، وخطب في المقاتلين، وحرضهم على القتال، وقوى من معنوياتهم، كما أرسل بالكمائن أمام الجيش بقيادة ربيعة بن عامر(3).
تلاقت الفئتان، واصطف الجيشان، وبدأ القتال على أشده، لكن يزيد أمر الكمين أن يجذب قسماً من القوات الرومية، وأن يعميه عن الاتجاه الرئيسي، وبذلك أتاح لقوات القلب والمجنبتين أن تتحرك بسرعة محدثة خرقاً كبيراً في صفوف الجيش الرومي. حاول هذا الجيش أن يعيد تنظيمه لكنه لم يستطع بسبب عدم تدريب هذه القوات على القتال المشترك مع جميع الألوية الداخلة في قوام هذا الجيش، واستطاع الجيش العربي استغلال هذه الناحية فانفرد بكل جزء على حدة، وضاعت فرص التعاون بين ألوية الجيش الرومي؛ أما الجيش العربي فقد كان يقاتل كتلة واحدة، وبشجاعة نادرة.
وانهارت قوى الجيش الرومي عندما قتل القائد العام لهذا الجيش، ولما علم قادة الألوية بمقتله فروا هاربين طالبين النجاة، فتبعهم الجيش العربي قتلاً وأسراً. وقد بلغ مجموع القتلى ألفاً ومائتين، ومن جيش زيد مائة وعشرين(4).
__________
(1) الواقدي- فتوح الشام: 1/4، العسلي- فن الحرب: 96، 97.
(2) الواقدي- فتوح الشام: 1/4.
(3) الواقدي- فتوح الشام: 1/5.
(4) الواقدي- فتوح الشام: 1/5.(1/225)
إن اختلاف الروايات في مسير هذا الجيش، واصطدامه بعدد من جيوب المقاومة الرومانية، تجعلنا نشعر بضرورة التحري عن الحقيقة، متبعين في ذلك أسس وقواعد القتال التي كان يقاتل بها الجيش العربي. إن الصحيح عندنا هو أن هذا الجيش خرج من المدينة، فاصطدم في طريقه بعدد من حاميات الروم التي جمعت نفسها، فأرسل يزيد طليعة بقيادة أبي أمامة الباهلي، والتقت هذه الطليعة بـ"عربة" و"دائن" بجيش من الروم يتفوق بالعدة والعدد، فقاتل أبو أمامة، وطلب بنفس الوقت تعزيز قواته، فأمده يزيد بقوة تساوي القوة التي يقاتل بها أبو أمامة وبقي يزيد في الأنساق الثانية يرقب الموقف، ويترصد سير القتال، حتى إذا تبين فوز أبي أمامة على أعدائه، لم يشأ يزيد أن يُقحم أو يزج القوات الباقية أو النسق الثاني الذي كان محتفظاً به، ولو رأى إن الروم كادوا ينتصرون لزج هذه القوة التي كانت بيده، ولما تأخر لحظة واحدة.
وهكذا فإن يزيد استطاع أن يقضي على الجيوب المعادية في طريقه ويصل إلى هدفه المحدد له من قبل القائد الأعلى.(1/226)
جيش شرحبيل بن حسنة. أراد الروم بعد هذه المعركة التصادمية مع يزيد أن يستدرجوا العرب حيلة ودهاءً وإغراءً؛ لكن العرب عرفوا واكتشفوا هذه الطرق، وأعلنوها صريحة إما السيف، أو أداء الجزية أو الإسلام(1). فلم يرضوا بذلك واختاروا القتال. تواصلت المعركة وشد كل جيش ضد الآخر، وأنقذ الموقف جيش شرحبيل الذي وصل لتوه إلى تبوك والذي أنفذه أبو بكر(2). واحتدم القتال، وهنا زج يزيد النسق الثاني الاحتياط الذي كان بيده، والتف جيش شرحبيل حول مجنبة العدو. فكان جيش يزيد يثبت العدو من الأمام، ويقوم جيش شرحبيل بالالتفاف حتى وصل مؤخرة الجيش الرومي وطوّقه حتى لم يفلت منهم أحد، وتبعثرت قواته المتبقية والناجية من القتل، واستخدمت القوات العربية بعد هذا الانتصار المطاردة حتى قضي على أكثر القوات الرومية الثمانية آلاف.(3)
غنم الجيش العربي الأموال الكثيرة، والأعتدة والأسلحة، فأرسل بالأموال إلى المدينة، وأبقى الأعتدة والأسلحة(4)، احتياطي لاستخدامها إذا لزم الأمر، وأرسل مع الغنائم شداد بن أوس إلى القائد الأعلى أبي بكر(5).
__________
(1) الواقدي- فتوح الشام: 1/5.
(2) البلاذري- فتوح البلدان: 115، الطبري- تاريخ الأمم ولملوك: 2/589، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/155.
(3) الواقدي- فتوح الشام: 1/6.
(4) الواقدي- فتوح الشام: 1/6.
(5) الواقدي- فتوح الشام: 1/6.(1/227)
واصل جيش شرحبيل تقدمه بعد هذه المعركة المشتركة مع جيش يزيد، وتوجه بأمر من أبي عبيدة إلى بصرى في أربعة آلاف فارس(1), وبصرى بلد له أهميته الدينية والتجارية عند الروم، ويحكمه بطريق له شهرته ومكانته يدعى"روماس". وجه شرحبيل إنذاراً لهذا البطريق: الإسلام أو الجزية، أو السيف(2). وبعد مشاورات ومفاوضات قرر هذا البطريق الدخول في الحرب في اثني عشر ألف فارس(3). صف شرحبيل جيشه بتشكيلة القتال، وحرضه، وقوى معنوياته، وذكره بالجهاد والجنة(4)، وكذلك فإن الجيش الرومي أخذ مكانه بصفوف بعضها خلف بعض، وابتدأ القتال بين الجيشين في أول النهار، وأشرقت الشمس على الهاجرة، ولا يزال القتال ضارياً ومستمراً، وكاد الجيش الرومي يتغلب على الجيش العربي، لولا أن خالد ابن الوليد الذي نفذ بجيشه الذي خرج به من العراق، ودخل المعركة من الحركة فثبّت جبهة القتال إلى آخر اليوم، وفي اليوم الثاني أعاد تنظيم الجيش وانتصر على الروم(5).
__________
(1) الواقدي- فتوح الشام: 1/14.
(2) الواقدي- فتوح الشام: 1/15.
(3) الواقدي- فتوح الشام: 1/15.
(4) الواقدي- فتوح الشام: 1/15.
(5) الواقدي- فتوح الشام: 1/15-16.(1/228)
جيش عمرو بن العاص. استنفر المقاتلون من أهل مكة والطائف، وتدافعوا عن حب وطواعية، وأقبلوا للانضمام إلى الجيش الذي سيتجه إلى الشام. أصدر القائد الأعلى أمراً بتعيين عمرو بن العاص على هذا الجيش، كما وجه إليه التوجيهات العملياتية التي ركزت على التعاون مع أبي عبيدة بن الجراح(1)، وعلى كثير من الأمور السياسية والعسكرية والإدارية والإنسانية(2). تحرك قائد هذا الجيش- بعد أن تلقى المهمة وتفهمها- على محور: إيليا متجهاً إلى أرض فلسطين. وقد نظم قواته حسب قواعد المسير، حيث أرسل الطلائع أمامه، والحراسات الجانبية والأمامية، وفي الخلف الساقة والشؤون الإدارية، وسار بحيطة وحذر في تسعة آلاف مقاتل (3).
علم الروم بتحرك هذا الجيش، فحشدوا جيوشهم، وأمر هرقل القائد الأعلى أن تكون هذه الجيوش مستعدة لملاقاة الجيش العربي الذي وصل إلى أرض فلسطين. وعين"روبيس" قائداً عاماً للجيوش الرومية التي بلغت مائة ألف فارس(4). وأرسل الطلائع والعيون لاستطلاع الأخبار.
__________
(1) الواقدي- فتوح الشام: 1/7، الأزدي- فتوح الشام: 48، 49.
(2) الواقدي- فتوح الشام: 1/7،8، ابن عساكر- تهذيب تاريخ دمشق الكبير: 1/130.
(3) الواقدي- فتوح الشام: 1/7،8.
(4) الواقدي- فتوح الشام: 1/9.(1/229)
علم عمرو بن العاص بواسطة استخباراته تحرك الروم نحوه، فعقد على الفور مجلس الحرب الذي خرج بمقررات منها: المجابهة والقتال ضد الروم على كثرتهم، وأن لا تهاون ولا تخاذل ولا تراجع أما مهم، ونظم جيشه استناداً لمهمة القتال المقبلة، وأرسل طليعة قوامها ألف فارس بقيادة عبد الله بن عمرو بن الخطاب. وبعد مسيرة يوم اصطدمت بطليعة الجيش الرومي التي كانت مؤلفة من عشرة آلاف فارس(1). نشر عبد الله ابن عمر فرسانه بتشكيلة القتال، وأمرهم بالهجوم من الحركة، دون أن يترك لعدوه فرصة الاستعداد، أو فتح القوات إلى وحدات قتالية، ثم هاجمها بمجموعات قتالية من المجنبات، واستخدم الرمح والسيف والقتال القريب، وقاد بنفسه مجموعة باتجاه قائد طليعة الجيش الرومي، فوصل إليه، وأهوى عليه السيف فقتله، وبقتله ضعفت معنويات الجيش الرومي، وانهارت قواه، وداخله الرعب، فهرب من هرب، وقتل العديد، وأسر ستمائة قتلوا بعد ذلك حين رفضوا الدخول في الإسلام، وجمعت الغنائم من الخيل والأعتدة والأسلحة(2).
__________
(1) الواقدي- فتوح الشام: 1/9.
(2) الواقدي- فتوح الشام: 1/10، العسلي- فن الحرب: 98.(1/230)
إن هذا النجاح الذي أحرزه عبد الله بطليعته أتاح للقوة الرئيسة للجيش العربي بقيادة عمرو بن العاص أن يعد العدة، وأن يتهيأ للقتال، وأن ينشر قواته، ويفتح وحداته القتالية، ويعين القادة والأجنحة والكتائب والسرايا والمؤخرة. فكان على الميمنة الضحاك، وعلى الميسرة سعيد بن خالد، وعلى القلب عمرو بن العاص، وعلى الساقة أبو الدرداء(1)؛ أما الجيش الرومي فقد كان في مائة ألف مقسماً إلى عشر فرق، في كل فرقة عشرة آلاف فارس(2). ومن الحركة قام الجيش العربي بالهجوم السريع، وتقدمت الميسرة بقيادة سعيد بن خالد بسرعة كبيرة نحو مجنبة الجيش الرومي حيث استطاعت أن تخرق تلك الصفوف المتعددة، استطاع الجيش الرومي أن يسد على سعيد طريق العودة، وأن يقتل قائد الميسرة مع عدد من رجاله؛ إلا أن القلب في هذه اللحظة ضغط وتقدم باتجاه الصفوف؛ كما أن الميمنة بقيادة الضحاك استطاعت أن تخرق جزءاً بسيطاً من القوات الرومية، وأبطأ الجيش العربي في تقدمه لوجود المقاومات العديدة، ولصمود القوات الرومية. وفي آخر النهار ضعفت مقاومة الجيش الرومي، وبقي الجيش العربي ضاغطاً، حتى انهزم الجيش الرومي، وفر هارباً من أرض المعركة في الاتجاهات المختلفة. وقد قتل في هذه المعركة التصادمية من الروم أكثر من خمسة عشر ألف فارس، وقتل من العرب مائة وثلاثون(3). ويرجع انتصار العرب على الروم إلى المعنويات العالية، وإلى الخفة والسرعة في ميدان المعركة، وإلى الوسائط القتالية التي كانت فيها خيل الجيش العربي أسرع وأقوى على التحمل من خيل الجيش الرومي(4)، وفي الإيمان والعقيدة التي ظهرت حين بدء القتال بصيحات"الله أكبر"، وفي التصميم على النصر(5).
__________
(1) الواقدي- فتوح الشام: 1/10.
(2) الواقدي- فتوح الشام: 1/10.
(3) الواقدي- فتوح الشام: 1/11.
(4) الواقدي- فتوح الشام: 1/11.
(5) حداد- فتح العرب للشام: 68.(1/231)
وبعد الانتصار اجتمع المقاتلون فأقاموا الصلاة، وجمعوا الغنائم فخمسوها(1).
أعاد عمرو بن العاص تنظيم جيشه بعد هذه المعركة، وأرسل يستطلع خبر الروم، وفي نيته أن يتحرك لإكمال فتح فلسطين، فتطوع للاستطلاع خالد بن سعيد والد سعيد الذي قتل في هذه المعركة ليثأر لابنه، فقاد مجموعة من ثلاثمائة فارس(2)، وتحرك بعيداً عن تمركز الجيش، فاصطدم بقوم من الأنباط فقتل منهم ثلاثين وأسر أربعة(3)، فدلوه على أماكن تمركز الروم، وعلى المستودعات المملوءة بالاحتياجات المادية، فلما وصل تلك المنطقة درس أرضها وعدد الحرس الذين كانوا يقومون بحراسة الوسائط المادية وهم ستمائة. فباغتهم، وقصد رئيسهم فقتله واستولى على الغنائم، وعاد بها إلى مقر قيادة الجيش إلى عمرو بن العاص، فقدم له تقريراً عن مهمته، وسلمه الغنائم، وأعلمه أن الروم تحشدوا بأجنادين(4).
جيش أبي عبيدة الجراح. بعد يوم واحد من مسير جيش عمرو ابن العاص، أمر القائد الأعلى هذا القائد أن يتحرك على محور الجابية باتجاه الشام إلى حمص(5)، وأعطاه نفس التوجيهات التي أعطاها لعمرو بن العاص(6). وكان عدد جيشه سبعة آلاف وخمسمائة(7).
__________
(1) الواقدي- فتوح الشام: 1/11.
(2) الواقدي- فتوح الشام: 1/12.
(3) الواقدي- فتوح الشام: 1/12.
(4) الواقدي- فتوح الشام: 1/12.
(5) الواقدي- فتوح الشام: 1/8، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/155، عبد الحميد- مارك العرب الحاسمة: 26.
(6) الواقدي- فتوح الشام: 1/8.
(7) البلاذري- فتوح البلدان: 116، البلخي- البدء والتاريخ: 5/166.(1/232)
سار أبو عبيدة كما سار غيره من الجيوش التي سبقته، وبنفس شروط المسير، مع أخذ الحيطة والحذر، ولم يلق أثناء تحركه مقاومة تذكر؛ لكنه توقف على مشارف للشام لوصول معلومات مؤكدة أن العدو حشد قوات كبيرة في أجنادين، وإن هرقل أرسل بجيوشه للتصدي للقوات العربية(1). إن أبا عبيدة كان يحرص كل الحرص على جنوده، فلا يزجهم في مواقف صعبة،وإنه ليحزنه أن يرى جنوده يقتلون دون مبرر.. ولقد أشار خالد بن الوليد إلى بعض هذه الصفات حين قال: "أما أبو عبيدة فإنه رجل خالص النية، وليس عنده غائلة الحرب، ولا يعلم بمواقعها(2)".
لما علم أبو بكر توقف أبي عبيدة، أراد أن يدعم الموقف، ويضفي عليه الحيوية والنشاط، فعين خالد بن الوليد ليكون القائد العام للجبهة الشامية(3).
جيش خالد بن الوليد. بعد أن أرسل أبو بكر الجيوش الأربعة إلى بلاد الشام، عاد فأرسل خالداً إلى العراق، وإلى بلاد فارس. وكالعادة فإن القائد الأعلى حدد لخالد المهمة والهدف، وأصدر إليه التوجيهات، وحدد له القوى والوسائط(جيش الزحف ومقاتلي لخم وجذام)(4).
نجحت الجبهة العراقية، وتوقفت جيوش الجبهة الشامية لوجود عدو قوي. وكان أبو بكر يهمه كاستراتيجي أن تنجح جبهة الشام كما نجحت جبهة العراق، وعلى اعتبار أن خالد بن الوليد قد نجح في قيادته، فأراد القائد الأعلى أن يكلفه بهذه المهمة، فأصدر إليه أمراً أن يتحرك من بلاد فارس إلى بلاد الروم".. وإني قد وليتك على جيوش المسلمين، وأمرتك بقتال الروم.."(5).
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 3/590، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/155.
(2) الواقدي- فتوح الشام: 1/15.
(3) الواقدي- فتوح الشام: 1/13.
(4) الواقدي- فتوح الشام: 1/8.
(5) الواقدي- فتوح الشام: 1/13، الأزذي- فتوح الشام: 68، ابن أعثم- الفتوح: 1/133، 135، كمال- الطريق إلى دمشق: 239.(1/233)
تحرك خالد من أرض العراق متبعاً الطريق القصيرة التي تسهل له الوصول بسرعة إلى بلاد الشام، لتعزيز هذه الجبهة، وقبل أن يكتمل تجمع العدو، ويتأهب للقتال. انطلق خالد بجيشه في ربيع الثاني في حزيران 13/634، فسلك المحور الشمالي المحفوف بالمخاطر(1) بجيش بلغ تسعة آلاف مقاتل أو أكثر(2).
__________
(1) الشيباني- شرح السبر الكبير:1/48، ابن سعد- الطبقات: 7/396، الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/603، ابن عساكر- تهذيب تاريخ دمشق الكبير: 1/138، أكرم- سيف الله: 336، 337.
(2) ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/407، ابن الطقطقي- الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية: 65.(1/234)
لاقى خالد وهو في طريقه إلى الشام كثيراً من المقاومات الرومية أو العربية غير الموالية، وكانت أول مقاومة اصطدم بها عندما وصل إلى"سوى" فقضى عليها(1)، وواصل تقدمه فمر بـ"أرك" فصالح أهلها على دفع الجزية وسلم قائد هذه الحامية الرومي كل ما يريده الجيش العربي(2)، وكذلك في"تدمر" حيث صالح أهلها كما صالح أهل"أرك"، وفي"القريتين" قام أهلها ووقفوا في وجه هذا الجيش المتقدم، لكنهم هُزموا، وخَضعوا(3)، وفي مرج"راهط" اصطدمت قوات المسلمين بالغساسنة الذين أبدوا مقاومة فقضى عليهم، وأرسل خالد سرية إلى الغوطة الشرقية فأغارت على بعض النقاط المعادية(4)، واستولت عليها. وكان قائد الجيش في تحركه يرسل الطلائع والدوريات والسرايا والعيون(5) كما كان يستفيد من المصادر المحلية المتوفرة كالماشية والمياه والغنائم المستولى عليها، وكان لا يذر أية مقاومة صغيرة كانت أم كبيرة إلا قضى عليها، وذلك كله لتأمين تحرك الجيش.
وصلت طلائع هذا الجيش إلى بصرى، واشتركت فوراً بالقتال مع جيش شرحبيل بن حسنة الذي كان مشتبكاً مع الروم، وكذلك اشتركت القوة الرئيسة عند وصولها وفتحت تشكيلاتها بوحدات قتالية، ومضى اليوم دون أن تظهر النتائج(6).
__________
(1) ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/409.
(2) ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/409، كمال - الطريق إلى دمشق: 244.
(3) ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/409.
(4) ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/409، ابن عساكر- تهذيب تاريخ دمشق الكبير: 1/135.
(5) الشيباني- شرح السير الكبير: 1/49.
(6) البلاذري- فتوح البلدان: 155.(1/235)
في اليوم التالي عاود القتال، ونظم خالد جيشه فجعل على الميمنة رافع بن عمير الطائي، وعلى الميسرة ضرار بن الأزور، وفي القلب خالد بن الوليد القائد العام، وفي الساقة عبد الرحمن بن أبي بكر، وقسم جيش الزحف إلى قسمين، وجعل على كل قسم قائداً قادراً على الحركة بسرعة(1).
إن حجم القوى والوسائط في كلا الجيشين أصبحت متقاربة، ففي الجيش العربي تسعة آلاف، مضافاً إليها أربعة آلاف أما الجيش الرومي فكان اثني عشر ألف فارس(2).
__________
(1) الأزدي- فتوح الشام: 81.
(2) الواقدي- فتوح الشام: 1/15.(1/236)
بدأت المعركة بالمبارزة إذ خرج من الجيش الرومي"الدير جان" قائد الجيش، وخرج من الجيش العربي خالد ابن الوليد قائد الجيش، لكن عبد الرحمن بن أبي بكر استأذن من خالد ليبارزه فخرج، وطالت المبارزة، حتى إذا تضايق"الديرجان" فر هارباً. وهنا أمر خالد بالهجوم العام لاستغلال هذه الفرصة التي انهزم فيها قائد الجيش الرومي، وتراجع الجيش الرومي، وأزيح عن مواقعه، وانسحب ودخل المدينة وتحصن بها، وحوصرت بصرى من قبل الجيوش مجتمعة، وفرض عليها الحصار الكامل(1). وبمساعدة العملاء من جيش الروم علم خالد مقر القيادة والتحشدات، فشكل مجموعة فدائية بقيادة عبد الرحمن بن أبي بكر قصدت قائد الروم، واستطاعت أن تصل إلى مقره وتقتله(2). وأسلم"روماس" الروماني، ودخل في دين الله بعد أن أسهم بانتصار المسلمين، وبخاصة عندما دلّ خالد بن الوليد على عورات الجيش الرومي، وعلى مقر قيادته، وأعطى الكثير من المعلومات التي ساعدت في فتح المدينة، والانتصار على الجيش الرومي(3). وفتحت بصرى، ودفع أهلها الجزية(4). ثم أعلم خالد أبا بكر وأبا عبيدة بهذا الفتح والانتصار(5)، ثم انضم أبو عبيدة إلى خالد(6).
__________
(1) الواقدي- فتوح الشام: 1/16، الأزدي- فتوح الشام: 82.
(2) الواقدي- فتوح الشام: 1/17.
(3) الواقدي- فتوح الشام: 1/17.
(4) ابن خياط- تاريخ ابن خياط: 119، البلاذري- فتوح البلدان: 155، البلخي- البدء والتاريخ: 5/166، ابن عساكر- تهذيب تاريخ دمشق الكبير: 1/139.
(5) الواقدي- فتوح الشام: 1/17 وما بعدها.
(6) البلخي- البدء والتاريخ: 5/166.(1/237)
كانت حروب الشام حتى الآن تمهيداً لفتوحات أكبر، ولم تقع معركة حاسمة، وقد استفاد الجيش العربي الخبرة في القتال، والخصائص التي يتميز بها الروم عن الفرس وعن غيرهم، كما استطاع أن يغنم غنائم كثيرة ساعدته فيما بعد على إكمال احتياجاته ووسائطه المادية، وأضيف لهذا الجيش أعداد كبيرة من الذين تطوعوا من الأراضي التي دخلت تحت الحكم العربي.
لم يكن الروم يتوقعون نجاح الجيش العربي بهذه المعارك، وإنما كان في تصورهم أن هذا الجيش لا يملك العدة والعدد لمقاتلة الجيش الرومي، ولذا كان الاهتمام بالتحضير لحرب العرب لا يأخذ تلك الأهمية، ولما أحس قادة الروم بالخطر، كان الجيش العربي، قد دخل معارك متعددة ونجح فيها، ولما اجتمع الجيش الرومي في اليرموك، ورأوا أن الفرصة سانحة للقضاء على هذا الجيش، لم يستطيعوا وباؤوا بالفشل الذريع وخسروا المعركة وانهزموا شر هزيمة، وآن للعرب آنئذ أن ينطلقوا نحو الفتوحات الكبرى في زمن عمر بن الخطاب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــ
الفصل السادس
الرّيادة والقيادة(1/238)
كان أبو بكر أول رائد دخل الإسلام، وأول من صلى(1). فهو في القتال قدوة، وفي بذل النفس، وفي الإنفاق، وفي الطاعة والصدق، وفعل الخير(2). فقد قال عمر بن الخطاب: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، ووافق ذلك مالاً عندي فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته قال فجئت بنصف مالي. فقال: ما أبقيت لأهلك قلت: مثله. وجاء أبو بكر بكل ما عنده فقال: يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك. قال: أبقيت لهم الله ورسوله. قلت: لا أسبقه إلى شيء أبداً."(3) فإذا قام في الناس قام في أولهم قولاً وفعلاً(4)، فانفرد بكثير من المواقف منها قتال المرتدين، وخرج من هذا الموقف رائداً معلناً الجهاد على مانعي الزكاة(5). واعترف له علي بن أبي طالب بهذه الريادة، وهذا السبق(6).
الماضي المشرق
__________
(1) ابن سعد- الطبقات: 3/171، ابن عبد البر، الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/964، 965. السيوطي- تاريخ الخلفاء: 23، 24.
(2) ابن الأثير أسد الغابة في معرفة الصحابة: 3/219.
(3) ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 3/218.
(4) الزمخشري- خصائص العشرة الكرام البررة: 26، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة:
4/ 59.
(5) ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4/68.
(6) ابن قتيبة- الإمامة والسياسة: 1/13، ابن الجوزي- تاريخ عمر بن الخطاب: 31، 32، ابن الأثير. أسد الغابة في مععرفة الصحابة: 4/68.(1/239)
ينسب أبو بكر إلى قريش من بني تيم(1). وقريش معروفة في ماضيها بين القبائل وهي من أشهرها نسباً، وأكرمها فضلاً. في غمرة الوثنية، وازدحام العقائد الصَّنَميّة، وقف أبو بكر رائداً يبحث عن الحقيقة، ويفتش عنها، ويصيخ بأذنيه إلى صوت الحق إلى صوت أولئك الذين نادوا إلى الوحدانية ودعوا إلى اتباع العقل، والبعد عن الهوى أمثال قس بن ساعدة، وورقة بن نوفل. يريد أن يطمئن إلى ملاذ، ويسكن إلى ركن، ويقتدي برجل يدله على الله(2). لم يتردد في الدخول إلى الإيمان بالله وبرسوله حيث كان مهيأً من قبل، مألوفاً ومؤتلفاً(3). وكان من حامل الديانات(4). ومن وسط قومه، محبوباً عندهم، صادقاً فيهم(5). وكان ذا جاه في قومه ومن سادات قريش، ومن أهل الرأي والمشورة، فقد عف عن شرب الخمر لأنه كان يعتبره إساءة إلى العرض، وبعيداً عن حفظ المروءة(6). يقدره قومه، ويحترمونه ويهابونه. يطلب إليهم فلا يترددون، ويتكلم فيهم فيسمعون، ويقسم بينهم فيرضون، ويحل الخلاف والشجار فيسلّمون، حقاً إنه صاحب الجاه الكبير والمنزلة الكبيرة في قومه(7).
__________
(1) الزبيري- نسب قريش: 275، يلتقي أبو بكر مع الرسول صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب: انظر النووي تهذيب الأسماء واللغات: 2/181.
(2) العقاد- عبقرية الصديق: 109 وما بعدها، خالد- خلفاء الرسول: 26، 37، 46. وما بعدها.
(3) البلخي- البدء والتاريخ: 5/77، خالد- خلفاء الرسول: 64 وما بعدها.
(4) الجاحظ0 العثمانية: 25.
(5) ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 3/206.
(6) السيوطي- تاريخ الخلفاء: 22.
(7) الجاحظ- العثمانية: 25، المسعودي- مروج الذهب: 1/413، وجدي- دائرة معارف القرن العشرين: 2/300.(1/240)
وكان من أثر هذا الماضي أن أبا بكر تبعه كثير من الرجال، وكانوا من وجهاء قريش وصناديدهم(1)، هو الذي لبى دعوته المسلمية أكثر الناس. وهذه ابنته أسماء تقول: ".. لقد رجع إلينا يوم أسلم فدعانا إلى الإسلام فما رمنا حتى أسلمنا وأسلم أكثر جلسائه."(2).
إنه الرجل الذي يقدره الرجال، وهو المعطاء الذي أعطى الناس، وهو المحسن الذي كثرت أياديه(3). ففي المحنة يعرف صاحب الماضي العريق وفي اللحظة الحرجة يرد الجميل في وقته؛ هكذا أقبل بديل بن ورقاء الخزاعي وعروة ابن مسعود للتفاوض في غزوة الحديبية فأسمعهما أبو بكر وأغلظ لهما بالكلام.
فلم يردا عليه تقديراً لماضيه فقالا: "أما والله لولا يد لك عندي لأجبتك.."(4)
العلم والثقافة
كان أبو بكر عالماً مثقفاً، فهو النسابة، والعالم بالصلاة وأركان الإسلام، والمتعمق بالفتيا، وبعلوم القرآن. وكان الصحابة يشهدون بعلم أبي بكر وسعة اطلاعه، فلا ينكر عليه أحد، وكانوا يقولون: "وكان أبو بكر أعلمنا"(5)، وكذلك كان عليماً وخبيراً بالعلوم العسكرية.
__________
(1) الجاححظ- العثمانية: 31، ابن هشام- السيرة النبوية: 1/250 وما بعدها، ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/966.
(2) الجاحظ- العثمانية: 31.
(3) ابن هشام- السيرة النبوية: 1/250.
(4) ابن شهاب الزهري.. المغازي البنوية: 53، الجاحظ- العثمانية: 64، 65، الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/275.
(5) البخاري- باب الصلاة: 8، باب فضائل الصحابة: 3، باب مناقب الأنصار: 45، ابن حنبل- المسند: 3/18.(1/241)
كان متبحراً في علم النسب، فإنه كان مرجعاً لكل سائل، وموئلاً لكل مستزيد، فإنه إن نسب لم يخطئ، وإن عدّد بيّن وفصّل في الأصول والفروع، وبخاصة في نسب قريش(1)، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوصي بالرجوع إليه في هذا العلم، ولما أراد حسان بن ثابت أن يهجوَ قريشاً، واستأذن الرسول في ذلك قال له: "لا تعجل فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وإن لي فيهم نسباً حتى يلخص لك نسبي" فأتاه حسان ثم رجع فقال: "يا رسول الله قد لخص لي نسبك والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس لا يزال يؤيدك مانافحت عن الله ورسوله."(2) وهذا العلم ساعد أبا بكر فيما بعد أثناء حروب الردة والفتوح أن يختار القادة الأكفاء من قريش، كما أنه استطاع بهذا أن يفرز القوم فرزاً علمياً صحيحاً، وأن يجعل من الجيش وحدة متوافقة بالأفكار والأهداف، وأن يشكل ويرسل بالجيوش إلى كل ناحية وإلى كل اتجاه، بعد تزويدها بالتوجيهات التي تتطلبها المهمة استناداً إلى معرفته بعدوه وصديقه معرفة تامة، وخاصة في نفسياتهم وعاداتهم وتقاليدهم.
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/60، العقاد- عبقرية الصديق: 188.
(2) مسلم- باب الفضائل: 157، أبو داود- باب الأدب: 87، النجاري- باب المغازي: 34، ناصف- التاج الجامع للأصول: 3/400، 401.(1/242)
أبو بكر العالم بأركان الإسلام، فهو الذي أسندت إليه مهمة الإمامة، وقد أمّ المسلمين في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم(1) بالصلاة عدة مرات، وهذا دليل لا شك فيه أن أبا بكر هو أعلم الصحابة بالصلاة، وكذلك كان أعلمهم بالزكاة، فقد اختلفوا جميعاً بشأنها، أما هو فقد استمسك بعروتها الصحيحة، وثبت صحة رأيه في الزكاة وما نعيها، وتصدى وحده لكل الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة(2). وكذلك فإنه قد حج بالناس في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع، فوعظ المسلمين وعلمهم أمور حجهم(3). وفي هذا دليل أيضاً على أنه أعلم الناس بأمور الحج.
__________
(1) ابن سعد- الطبقات: 215، ابن قتيبة- الإمامة والسياسة: 1/3.
(2) البخاري- باب الاعتصام: 3.
(3) ابن سعد- الطبقات: 2/168، 3/177، أبو يعلى- مسند أبي يعلى: 1/77.(1/243)
وكان يفتي الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أعلم الصحابة بالمسألة التي تحتاج إلى عمق في التفكير، وأصالة في الرأي، وفهم محيط بالموضوع المطروح، فقد أوكل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته أمور القضاء والفتيا بين الناس؛ فهذه المرأة التي جاءت إلى الرسول صلى الله ثم أرجأ لها، ثم يتابع، فتساءلت: إن لم أجدك فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لم تجديني فأتي أبا بكر."(1) وكذلك الأعرابي الذي أجله أيضاً فقال: إن جئت فلم أجدك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقضيك أبو بكر(2)". وكان عليماً بالقرآن فلا يؤم الأمة إلاّ أقرؤهم، وبالسنة. فهو يحفظها ويعيها ويستحضرها، ويلفت النظر إليها، فيذكر الناسي، ويبلغ الذي يسمع، فقد اختلف المهاجرون والأنصار وبنو هاشم في مكان دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن قائل يقول: في البقيع، وآخر يقول: في مصلاه، وآخرون يقولون: بجانب المنبر؛ ولكن أبا بكر قال لهم جميعاً: سمعت رسول الله
__________
(1) مسلم- باب فضائل الصحابة: 10، الترمذي- سنن الترمذي: 6/277، ابن سعد- الطبقات: 3/178، ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/969.
(2) ناصف- التاج الجامع للأصول: 3/56.(1/244)
صلى الله عليه وسلم يقول: " ما مات نبيّ قط إلا دفن حيث يقبض"(1) ويكفيه فخراً أنه أمر بجمع القرآن وحفظه(2)، وذلك عندما شعر أن حامليه سيتعرضون لمهالك الحروب والأسفار، وكذلك فإن معركة اليمامة غيبت كثيراً ممن كانوا يحفظون القرآن في صدورهم، وهكذا فقط حفظ هذا المصحف عند أبي بكر، ثم من بعده عند عمر إلى أن نسخ في زمن عثمان(3). فكان التمحيص من طبعه، والاستشارة من طويته، فإن علم علم اليقين قضى به، وإلا رجع إلى أهل المعرفة والخبرة، يُبعد عنه الظن باليقين، ويدفع الشبهات بالمحكم(4). وكان عالماً بتأويل الرؤيا، حيث كان يعبر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال محمد بن سيرين: "إن أبا بكر كان أعبر هذه الأمة بعد النبي"(5).
__________
(1) ابن ماجه- باب الجنائز: 65، الترمذي- باب الجنائز: 33، أبو يعلى- مسند أبي يعلى: 1/31/32/38، الجاحظ- العثمانية: 84، ابن خلدون- ديوان المبتدأ والخبر: 2/2/63.
(2) الدواداري- ا لدر الثمين: 3/157، السيوطي- الوسائل إلى مسامرة الأوائل: 911، الروحي- بلغة الظرفاء:10، ناصف- التاج الجامع للأصول: 4/32.
(3) ابن الوردي- تاريخه: 1/143.
(4) ابن حزم- المفاضلة بين الصحابة: 234، 235، 239، النووي- تهذيب الأسماء واللغات: 2/1/190، السيوطي- تاريخ الخلفاء: 28، 29.
(5) السيوطي- تاريخ الخلفاء: 30.(1/245)
وإذا سألت عن أبي بكر في النثر، فهو الذي يأتي بغريبه، وإذا سألت عن أبي بكر في الخطابة، فقل إنه العليم بالخطابة، وإليه يرجع الفصل فيها، والحكم عليها(1). وهو الذي تكلم فجمع، وهو القائل في ذم الملوك: ".. وإنكم اليوم على خلافة النبوة، ومفرق المحجة، وسترون بعدي ملكاً عضوضاً، ومِلكاً عنوداً، وأمة شعاعاً، ودماً مفاحاً.."(2). وإذا سألت عن الشعر فهو يحفظ الكثير منه، ويبتعد عن نظمهن ويرويه، ويستشهد به وقد نسب إليه قصيدة مطلعها:
أمن طيف سلمى بالبطاح الدُّمائث ... أَرِقْت وأمر في العشيرة حادث
قالها في غزوة عبيدة بين الحارث؛ إلا أن ابن هشام ينكرها(3)
__________
(1) السيوطي- تاريخ الخلفاء: 30.
(2) الجاحظ- البيان والتبيين: 2/21.
(3) ابن هشام- السيرة النبوية: 1/592، العقاد- عبقرية الصديق: 186، وينسب إليه قصيدة أيضاً في سرية عبد الله بن جحش مطلعها.
تعدّون قتلاً في الحرام عظيمة ... وأعظم منه لو يرى الرشد أرشد
... انظر الكلاعي- الاكتفاء: 2/12.(1/246)
وكان مناظراً كبيراً بالحجة والدليل، وذلك عندما حاجّ الصحابة في قتال أهل الردة، فانشرحت صدورهم بهذه المناظرة، ومالوا إلى جانبه ورأيه(1). وكان يعقد الندوات العلمية والثقافية، فيكون فيهم علماً، ويأتي بحسن الكلام، وطيب القول، وتطول ساعات المناقشة، وكلهم يرجع إليه، ويأنس بحديثه، ويودون طول الاجتماع(2). وكان له كتاب يكتبون عنه ما يقول، ويدونون. له ما يشاء من أحاديث واجتماعات علمية وثقافية(3). ومن بلاغته وحكمته حين وجه خالد بن الوليد قوله: "احرص على الموت توهب لك الحياة"(4). وهو اعرف الناس وأعلمهم بمناقب العرب ومثالبها وخيرها وشرها(5). فهو عالم تاريخي، وباحث اجتماعي، وذاكر إحصائي، ومثقف دانت له الثقافة، ومعلم دانت له علوم العرب، فكان أبو بكر على درجة من الثقافة يأتي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، إليه يسند الأمر إذا غاب عن الناس، وإليه ترجع المسألة إن لم يعلمها الصحابة.
__________
(1) النووي- تهذيب الأسماء واللغات: 2/1/182.
(2) الجهشياري- الوزراء والكتاب: 15، 16
(3) الجهشياري- الوزراء والكتاب: 15.
(4) الجاحظ- البيان والتبيين: 3/15.
(5) السيوطي- تاريخ الخلفاء: 30.(1/247)
وفي العلم والثقافة العسكرية، فإنه حدد لأسامة بن زيد منطقة التحشد وهي الجرف، والجهة التي سيدخلها على الروم وهي باتجاه فلسطين(1)، قاصداً بذلك تنفيذ أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنع بذلك الكثير من الذين تحدثهم أنفسهم بالارتداد أن يرتدوا فقالوا: "لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم."(2). وفي حروب الردة عقد أبو بكر لأحد عشر لواءً، ووجهه كل واحد منهم إلى هدف معين محدداً لهم المهام، كما لو كان القائد في هذا العصر(3) مؤكداً على ألا يأتوا بالعجلة والفساد، وأن يرسلوا الطلائع(4)، منبهاً خالد بن الوليد أن يبدأ بطيء ثم البزاخة فالبطاح(5)، وأن يلتزم بتنفيذ القواعد العسكرية في القتال كالاستعانة بالادلاء، والقيام بالاستطلاع، وإعادة تعبئة وتنظيم الجيش بما يتلاءم مع المواقف القتالية، واستبعاد وإخلاء الجرحى لأن بعضه ليس منه، وتشكيل الحراسات المختلفة، وبخاصة في الليل وعند المبيت، والحذر من العدو، وبخاصة من أهل اليمامة، والتأكد من العدو الذي تقاتله فإن كان مرتداً فقاتله، وإلا فلا آذن لك أن تغشاهم(6)، ولذلك فإن توجيه أبي بكر إلى خالد بن الوليد وعياض بن غنم يدل على أنه ذو ثقافة عسكرية واسعة في ميادين العلوم الاستراتيجية(7).
__________
(1) ابن عساكر- تاريخ مدينة دمشق: 1/433، 438.
(2) ابن عساكر- تاريخ مدينة دمشق: 1/440.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/480، 481.
(4) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/483.
(5) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/483.
(6) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/503.
(7) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/554.(1/248)
وفي جيوش الشام ظهر على أبي بكر دقة المعلومات العسكرية التي أعطاها لمرؤوسيه من القادة الذين وجههم إلى قتال الروم إذ أمر عمرو بن العاص أن يسلك أيله إلى فلسطين، وأن يندب القبائل في طريقه، وأن يكون معهم حاملاً ومزوداً، وأن يتعاهد مع زملائه، ومع خالد بن الوليد بصورة خاصة، الذي أمر أن ينسق ويتعاون مع عمرو بن العاص(1)، وأمر البقية أن تتجه باتجاهات مختلفة(2).
وصفوة القول: إن وصايا أبي بكر لقادته تدل على سعة اطلاع أبي بكر في المعارف العسكرية والمعلومات التي يحتاج إليها القائد الكبير والصغير، وإنها كانت على جميع المستويات القتالية التكتيكية والعملياتية والاستراتيجية، وكانت تهتم بالاستطلاع والحراسة وبالأسلوب القتالي لكل فئة من الفئات، الثلاث، ومما يشار إليه في الأهمية أن كل قائد كان يتلقى تعليمات تتناسب مع مهمته وطبيعة الأرض التي يقاتل عليها، ونوعية طبيعة العدو(3).
الصحبة والملازمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) ابن عساكر- تاريخ مدينة دمشق: 1/446- 447- 448.
(2) ابن عساكر- تاريخ مدينة دمشق: 1/450.
(3) ابن عساكر- تاريخ مدينة دمشق: 1/455 وما بعدها.(1/249)
تعرف أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول يوم، فهو الذي آمن به وأسلم؛ ولزمه، وحضر وعظه ودعوته إلى الله، وجهر بهذا الإسلام والإيمان بالرغم من الخطورة والأذى من قومه، وقد هم بالهجرة إلى بلاد الحبشة تجنباً لهذا الأذى، لولا ابن الدغنة الذي رده وأجاره(1). وقد قدم أبو بكر لهذه الصحبة النفس والمال والولد(2). وكان الصحابة يغارون من هذه الصحبة المتينة فيرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: "دعوا لي صاحبي فإنكم قلتم لي: كذبت وقال لي صدقت"(3) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير دائماً إلى هذه الصحبة القوية(4).
لقد ذاق أبو بكر في سبيل هذه الصحبة العذاب الأليم من المشركين(5)، فلقد قلعت غدائره من العذاب، فما ذل وما استكان(6)، وذكر يوم جاء أبو بكر يقول: "ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم"(7)، ودفع عقبة بن أبي معيط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن لوى ثوبه في عنقه فخنقه وشدد، وقد جاهر أبو بكر بهذا االعمل وهو يعلم سوء عاقبته... وهو يعلم سوء عاقبته، وأن قريشاً سوف تنتقم منه، وسوف تحول بينه وبين صاحبه، وستضع العقبات خشية إظهار هذا الدين أو البوح به في وقت كانت سلطة قريش قوية في مكة.
__________
(1) ابن عبد البر- الدرر: 60.
(2) ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/968.
(3) البخاري- تفسير سورة رقم 7: 2، ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/166.
(4) ابن خلدون- ديوان المبتدأ والخبر: 2/2/62.
(5) الجاحظ- العثمانية: 28، 29.
(6) أبو يلعى- مسند أبي يعلى: 1/52.
(7) سورة غافر- الآية: 28، الحميدي- المسند: 1/155، ابن عبد البر- الدرر: 45، ناصف- التاج الجامع للأصول: 4/225.(1/250)
لقد صحبه في هجرته، وقدم له المال والراحلة، وتعرضا للمخاطر"ثاني اثنين"(1)، وقد استنفرت قريش، ووضعت كل العراقيل، وحاولت قتلهما فما استطاعت، وبذلت المال وأعطت لمن دلها مكافأة مجزية، وخاف أبو بكر، وقوى له صاحبه من معنوياته(2).
إن أبا بكر وثق برسول الله صلى الله عليه وسلم وثوقه بالله، وآمن به وصدقه في كل قول وفعل حتى سمي"الصديق"(3). وكانت الشروط قاسية على المسلمين في صلح الحديبية، فأبى اكثر الناس إلا أن يعترضوا على هذا الصلح ومنهم عمر بن الخطاب الذي قال قولاً يدل على غيرته، وعلى أن الحق كل الحق مع الجانب الإسلامي، فلما سمع أبو بكر ما قاله عمر نهض واقفاً وقال: "إلزم غرزه فإنه رسول الله حقاً حقا"(4)، فلما سمع عمر مقالة أبي بكر التزم الصمت(5)، إنها الثقة المطلقة التي التزم بها أبو بكر، وآمن بصاحبه وصدقه، وما أحوج المرؤوسين إلى هذه الثقة.
لقد كانت هذه الصحبة نموذجاً على مر الدهر، وعنواناً للصدق والوفاء والبذل والعطاء، وقد أكثر حسان بن ثابت في شعره من ذكر هذه الصحبة وفضائلها ومزاياها والإيثار والحب(6). وقد صحب الرسول صلى الله عليه وسلم صغيراً، ولازمه في كهولته وفي الشدة، ودفن بجانبه، ليكون صاحبه في الحياة وفي الممات(7).
المنزلة الرفيعة لأبي بكر
عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سورة التوبة- الآية: 40، ابن قتيبة- الإمامة والسياسية: 1/5، 7.
(2) ابن هشام- السيرة النبوية: 1/484- 488، ابن الاثير- أسد الابة: 3/209، القرطبي- تفسير القرطبي: 4/2983- 2985.
(3) ابن سعد- الطبقات: 3/170، السيوطي- تاريخ الخلفاء: 21.
(4) الزبيري- نسب قريش: 419.
(5) مسلم- صحيح مسلم: 3/1412.
(6) الزمخشري- خصائص العشرة الكرام البررة: 37، 38.
(7) الزمخشري- خصائص العشرة الكرام البررة:41، اليافعي- الجنان: 1/99.(1/251)
كانت لأبي بكر حظوة كبيرة عند الرسول صلى الله عليه وسلم القائد الأعلى، لم تكن لغيره أبداً(1)، فهو يقول: "ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً.."(2).
ومن كانت لديه هذه الدرجة، فهو في درجة عالية عند المؤمنين. وكان من أحب الناس إليه ومن المقربين(3). وروي عن عمرو بن العاص أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل فأتبعته فقلت: أي الناس أحب إليك قال: "عائشة قلت من الرجال قال أبوها.."(4) وسئلت عائشة عن أحب الرجال إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأشارت إلى أبيها(5). وهذه المنزلة أعانت أبا بكر فيما بعد أن يكون الخليفة، كما قوت فيه الثقة، وتبعة العرب، وقادهم إلى الانتصار، ويتمثل هذا المعنى قول عمرو بن العاص عندما دعاه أبو بكر للتوجه لفتوح الشام: "إني سهم من سهام الإسلام، وأنت بعد الله الرامي بها والجامع لها فانظر أشدها وأخشاها وأفضلها فارم به شيئاً إن جاءك من ناحية من النواحي."(6) وهذا ما سهل لأبي بكر قيادة الأمة وقيادة الجيوش.
الخلافة
تعني الخلافة النيابة عن الغير لأسباب منها: لغيبة المنوب عنه، وإما لموته، وإما لعجزه، وإما لتشريف المستخلف(7).
__________
(1) البخاري- باب فضائل الصحابة: 3-5، ابن ماجه- المقدمة: 11، ابن سعد- الطبقات: 3/176، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 3/212، ناصف الجامع للأصول: 1/144.
(2) الحميدي- المسند: 1/62.
(3) ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/967، الذهبي- تاريخ الإسلام: 1/283.
(4) مسلم- باب فضائل الصحابة: 8.
(5) الترمذي- سنن الترمذي: 9/266، الذهبي- تاريخ الإسلام: 1/383، 384، اليافعي- الجنان: 1/100.
(6) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/588.
(7) الكفوي- الكليات: 2/299، العجلاني- عبقرية الإسلام: 80، 81، 82، 124.(1/252)
تمّت الخلافة لأبي بكر بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق البيعة الشفهية والمصافحة، فقد قال عمر لأبي بكر: "ابسط يدك أبايعك."(1).
والبيعة طاعة وعهد، وبعد عن النكوث، ووفاء والتزام بما عوهد عليه.
وعلى الخليفة بعد البيعة أن يكون مقوياً من منعة للمقاتلين، مجاهداً مقدراً للعطاء، مباشراً عمله بنفسه(2).
خلف من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم أبو بكر في ربيع الأول سنة 11/632(3)، الذي أطلق عليه"خليفة رسول الله."(4) وقد دلت أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعماله أن الذي سيخلفه من بعده أبو بكر الذي كان يفخر ويصرح بذلك(5). وقد كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى هذا.
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/458، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/327.
(2) العجلاني- عبقرية الإسلام: 129، 130، خماش- الشام في صدر الإسلام: 174، الخضري، إتمام الوفاء: 10، 15.
(3) ابن يزيد- تاريخ الخلفاء: 22.
(4) ابن سعد- الطبقات: 3/183، ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/115، ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/971.
(5) البخاري- باب مناقب الأنصار: 37، النسائي-باب الزكاة: 3، مسلم- باب فضائل الصحابة: 9.(1/253)
الخلف في أحاديثه المختلفة التي تشير إلى خلافة أبو بكر(1) وقد كان الصحابة أيضاً يعلمون بذلك، وبخاصة المقربين منهم(2). وكان أول المبايعين بالخلافة عمر بن الخطاب(3)، وإذا كان عدد قليل قد تخلف أو تأخر في البيعة في بادئ الأمر، وكادت تحدث فتنة ولولا أن حصرها أولو الرأي والعزيمة(4)، فإن الجميع قد بايعوه فيما بعد. والخلافة وظيفة تولاها أبو بكر عن جدارة، واستحقها عن كفاءة، إذ كان مؤمناً حقاً، ومسلماً أولاً، ومحباً لله ولرسوله لا يسبقه إلى ذلك أحد، ومصدقاً بكل ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وباذلاً في إرادة القتال المال والنفس، ومقتدياً حق الاقتداء، ومتصفاً بصفات الخلافة المثلى التي من أبرزها الرأفة والرحمة، والعطف والحنان(5).
فقد قيل : "ولينا أبو بكر فخير خليفة أرحمه بنا، وأحناه علينا."(6) فلقد كانت الصفات الإنسانية غالبة عليه، ظاهرة في أقواله وأفعاله، شاملة الإنسان والحيوان والأشياء، ولهذا فإنه كان قريباً من قلوب الناس يحبهم ويحبونه، قادراً على معالجة المشكلات المختلفة والتصدي لها(7).
__________
(1) الشيباني- شرح السير الكبير: 1/158.
(2) ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/969-672.
(3) ابن الجوزي- تاريخ عمر بن الخطاب: 47.
(4) ابن واضح- تاريخ: 2/104، 105، أبو الفداء- المختصر في تاريخ البشر: 1/156، العقاد عبقرية الصديق: 35 وما بعدها.
(5) الخضري- تاريخ الأمم الإسلامية: 1/172.
(6) ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/972.
(7) ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/974، 975.(1/254)
وحتى تكون الخلافة استمراراً لما كان عليه أبو بكر، استخلف قبيل موته عمر ابن الخطاب، لما رأى فيه من الصفات التي تؤهله لهذا المنصب: "إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا."(1) وكان بذلك أول خليفة يستخلف بعده بعد استشارة الصحابة(2)، الذين اجتمعوا على هذا الاستخلاف، ورضخوا بعد ذلك لما رأوا تصميم الخليفة الراحل(3)، وبتسليم عمر إمرة المسلمين انقلبت الخلافة إلى إمارة فأصبح عمر ينادي"أمير المؤمنين"(4). وكان من قبل وزير أبي بكر، يسند إليه المهام الصعبة، ويستشيره في الأمور المعقدة، وحين أرسل بعث أسامة طلب أبو بكر منه أن يترك عمر عنده"إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل."(5) كما أشار عليه في عزل خالد بن سعيد بن العاص ففعل(6)، ولما مرض أمر عمر بن الخطاب أن يصلي بالناس(7).
__________
(1) ابن سعد- الطبقات: 3/200، ابن قتيبة- الإمامة والسياسة: 1/16، ابن الجوزي- تاريخ عمر بن الخطاب: 50، 51.
(2) أبو هلال العسكري- الأوائل: 219.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/448، ابن أعثم- الفتوح: 1/152، البلخي- البدء والتاريخ: 5/167.
(4) البلخي- البدء والتاريخ: 5/168، ابن الجوزي- تاريخ عمر بن الخطاب: 56، السيوطي- الوسائل إلى مسامرة الأوائل: 77.
(5) ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/335، أبو الفداء- المختصر في أخبار البشر: 1/157.
(6) ابن الأثير -الكامل في التاريخ: 2/402.
(7) ابن الأثير- الكامل في التاريخ:2/419، أبو الفداء- المختصر في أخبار البشر: 1/156.(1/255)
ولئن اختلفت الناس في خلافة أبي بكر، فإن هناك دلالات كثيرة على أنه الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم منها: إعلان الرسول صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر وزيره الأول" .. وأما وزيراي من أهل الأرض أبو بكر وعمر.."(1) ثم أثنى عليهما، وأعلن للملأ أنهما أهل للخلافة والقيادة، وأنهما المرشحان الوحيدان بعده(2)، وهو الأول في ذاكرة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذكر الصحابة(3)، وقد أمر بالاقتداء بهما فقال: "اقتدوا بالذي من بعدي أبي بكر وعمر"(4)، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم خليفة من بين الخلفاء الاثني عشر فقال: "يكون بعدي اثنا عشر خليفة أبو بكر الصديق لا يلبث بعدي إلا قليلاً.."(5)، وأحال موضوع المرأة إلى أبي بكر فهو الذي يفتي ويقضي من بعدي، وكذلك الأعرابي الذي أحاله أيضاً إلى أبي بكر(6)، ولقد هم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستخلف أبا بكر عند مرضه وجيء بعبد الرحمن بن أبي بكر أن يكتب هذه الوصية، ولكنه تركها بعد ذلك لعلمه أن المؤمنين لن يختلفوا على أبي بكر(7). وفي معركة ذات السلاسل وبعد الانتهاء منها شكا أبو بكر وعمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص فقال: "لا يتأمر عليكما أحد بعدي"(8)
__________
(1) ابن الجوزي- تاريخ عمر بن الخطاب: 27-28، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 3/214.
(2) ابن الجوزي- تاريخ عمر بن الخطاب: 27 وما بعدها.
(3) الجاحظ- العثمانية: 70-71، ابن قتيبة- الإمامة والسياسة: 1/1.
(4) الترمذي- سنن الترمذي: 9/270، الحميدي- المسند: 1/214، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 3/220.
(5) الطبراني- المعجم الكبير: 1/7.
(6) مسلم- باب فضائل الصحابة: 10، الترمذي- سنن الترمذي: 9/277، ناصف- التاج الجامع للأصول: 3/56.
(7) مسلم- باب فضائل الصحابة: 11، ابن سعد- الطبقات: 3/180.
(8) ابن حبيب- المحبر: 122..(1/256)
وقد كان أبو بكر سمع الرسول وعمر بصره(1)، واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر في الصلاة في حياته قبل مماته، ولما مرض قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس"(2) فصلى أبو بكر في الناس في صحة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي مرضه ثلاث مرات(3). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره"(4). وفي هذا دليل قاطع على خلافة وقيادة أبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم(5)، فإذا اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة ولأمر الدين، فمن الأولى أن تكون الموافقة من المسلمين على اختياره لأمر الدنيا خليفة(6). وهكذا فإن الصحابة كانوا يشهدون ويقرون بهذه الحقائق(7)، فانظر إلى شهادة عمر بن الخطاب الذي كان يقول: "أبو بكر سيدنا"(8). وانظر إلى خطبة علي ابن أبي طالب في تأبين أبي بكر"إن أبا بكر سار سيرة رسول الله حتى قبض" وقوله: "فوالذي خلق الحبة وبرأ النسمة لا يحبهما إلا مؤمن تقي ولا يبغضهما إلا فاجر ردي"(9).
__________
(1) الترمذي- باب المناقب: 16، ابن الجوزي- تاريخ عمر بن الخطاب: 29.
(2) البخاري- باب الأنبياء: 19، الدارمي- المقدمة: 14، ابن سعد- الطبقات: 3/177. 178، ناصف- التاج الجامع للأصول: 1/270-271.
(3) ابن سعد- الطبقات: 2/215، وما بعدها، 3/180، الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/439.
(4) النجاري- باب الأذان: 106، الترمذي- باب المناقب: 16، ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/970، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 3/220.
(5) الحميدي- المسند: 2/413-414-501، الخطابي- معالم السنن: 5/547.
(6) الشيباني- شرح السير الكبير: 1/61.
(7) السيوطي- تاريخ الخلفاء: 31.
(8) السيوطي- تاريخ الخلفاء: 31، ناصف- التاج الجامع للأصول: 3/364
(9) مجلة المجمع العلمي العربي: 16/ 279.(1/257)
وقد ذكر أبو بكر الأمة بصفاته التي تؤهله لاستلام القيادة- بعد أن أبطأ بعض الناس- مشيراً إلى أعمال وأقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تدل على صدق بيعته(1)، وانظر إلى صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وهجرته، ونزول الإذن بالقتال(2).
الالتزام الشّديد بالأوامر النبويّة
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيل موته أن تطهر جزيرة العرب من الدخلاء، وأوصى عند موته بثلاث: إخراج يهود، وإجازة الوفد، وبعث أسامة(3) وكان قد بقي عدد قليل من يهود بعد أن هجّر الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه بني قينقاع وقريظة والنضير. ومرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "انطلقوا إلى يهود فخرجنا حتى جئنا بيت المدارس فقال: أسلموا تسلموا واعلموا أن الأرض لله ورسوله، وإني أريد أن أجليكم عن هذه الأرض، فمن يجد منكم بماله شيئاً فليبعه، وإلا فاعلموا أن الأرض لله ورسوله."(4).
لما تسلم أبو بكر الصديق الخلافة نفذ وصايا وأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجاز الوفد، وأرسل جيش أسامة؛ لكنه لم يستطع أو لم يتح له إجلاء يهود من جزيرة العرب، وذلك لانشغاله بحروب الردة، ولم يكن الوقت متسعاً له، حتى قيض الله عمر بن الخطاب فأخرجهم جميعاً.
__________
(1) الترمذي- سنن الترمذي: 9/272، ابن سعد- الطبقات: 3/182، ابن الجوزي- تاريخ عمر بن الخطاب: 27 وما بعدها.
(2) F, Gabrieli. Muhammad and the canquests of Islam pp: 92-95.
(3) البخاري- باب الجزية: 6، مسلم- باب الوصية: 20، الدرامي- باب السير: 54.
(4) البخااري- باب الاعتصام: 18، مسلم- باب الجهاد: 61، أبو داود- باب الإمارة: 22.(1/258)
وكان أبو بكر يعلم أن في هذا الالتزام محافظة على النهج العام والخط المبدئي، كما كان يدرك تماماً أن أي خرق في هذه الأوامر ستؤدي فيما بعد إلى إتباع كل ذي هوى هواه، ولذلك بادر فوراً إلى سد جميع المنافذ على الذين تسول لهم أنفسهم أن يخالفوا أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى تطبيق قوله تعالى: [وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً.](1).
الصّفات الجسديّة
__________
(1) سورة الأحزاب- الآية: 36.(1/259)
كان أبو بكر" رجلاً نحيفاً أبيض، خفيف العارضين(1)، أجنأ(2)، لا تستمسك أُزْرته(3)، تسترخي من حِقويه(4)، معروق الوجه، غائر العينين، ناتئ الجبهة، عاري الأشاجع(5)" صحيح أن الإزار الذي يلبسه كان يسترخي لنحافته، وقد قال ذلك عن نفسه: "يا رسول الله إن أحد شَقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه.."(6) وكان أبو بكر وسيماً، منير الوجه جميله، لهذا دعي"عتيقاً"(7)ويوصف أيضاً بأنه كان رجلاً أسيف دقيقاً(8)، وكذلك بأنه كان محموص الفخذين(9)، يخضب بالحناء والكتم(10).
__________
(1) خفيف العارضين. أي خفيف صفحتي الخدين من الوجه. انظر فيروز آبادي- المحيط: 2/346.
(2) أجنأ. له ميل في الظهر، وليس بالأحدب، إنما هو في كاهله انحناء على صدره: انظر ابن منظور- لسان العرب: 1/50، 51.
(3) الأُزره. اللباس الذي يلبسه الإنسان، ومنه الحديث: أزرة المؤمن إلى نصف الساق ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين. انظر الزبيدي- تاج العروس: 3/11.
(4) حِقو. هو معقد الإزار عند الخصر، ومن شدة نحفه يسترخي الإزار من حقويه. انظر ابن منظور- لسان العرب: 14/189.
(5) الأشاجع واحدها أشجع، وهي مفاصل الأصابع: أي كان اللحم عليها قليلاً حتى بدت وظهرت العروق عليها. انظر ابن منظور لسان العرب: 8/174، ابن سعد الطبقات: 3/188، ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/116، البلخي- البدء والتاريخ: 5/76، 77، ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/973.
(6) ناصف- التاج الجامع للأصول: 3/163
(7) الطبراني- المعجم الكبير: 1/5، ابن هشام- السيرة النبوية: 1/249، النووي- تهذيب الأسماء واللغات: 2/1/181.
(8) ابن ماجه- باب الإقامة: 142.
(9) محموص الفخذين. نحيفهما. انظر فيروز آبادي- المحيط: 2/310.
(10) الزمخشري- خصائص العشرة الكرام البررة: 47.(1/260)
فهل تدل هذه الصفات في علم الفراسة على القوة والشدة؟ لا بل إن هذه الصفات تدل على التواضع والأناة والحكمة، وعلى الذكاء والفطنة، وعلى العقل الراجح، والتفكير العميق، والتبصر بالأمور ووضعها في نصابها، ووضوح الرؤية، واتباع الحق، والعطف والحنان، والرأفة والتأوه، والإنابة وسلامة القلب(1)، والدأب على حفظ حقوق الضعفاء والمساكين، والميل إلى مساعدتهم والأخذ بيدهم، والتقوى والإيمان اللذين رسخا في قلبه، فازداد منهما قوة وشجاعة وإرادة قوية هزت إرادة الأقوياء، ونفذت إلى أفئدة الأبطال والشجعان. فهو ضعيف بمظهره، قوي في باطنه، نحيف في جسده، رجل في شدته وبأسه في الحروب، ثابت ثبوت الرواسي، لا تزعزعه الرياح، ولا تؤثر به الأحداث، يتصدى للمعضلات والمشكلات الكبيرة، فيخرج منها منتصراً(2). ذلكم أبو بكر الذي أظهر الشدة مع اللين، والحزم مع المرونة في قيادته وخاصة في حروب الردة(3) التي تصدى لها بكل قوة وثبات، وسدد الضربات الشديدة لكل من تسول له نفسه بالخروج عن الدين، أو الارتداد عن العقيدة، وقد فوجئ الكثيرون من هذه الشدة ومن هذه القوة، وتفرق الزعماء المُرتدون، وهرب بعضهم منادياً: "ويل للعرب من ابن أبي قحافة."(4)
الصفات الخلقية
__________
(1) ابن سعد- الطبقات: 3/171.
(2) الرازي- كتاب الفراسة: 8 وما بعدها، أبو طالب الأنصاري- السياسة في علم الفراسة: 20/41 الحكيم- الفراسة: 16، أبو بكر الرازي- أحكام الفراسة: 2/32.
(3) ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/977.
(4) البلاذري- فتوح البلدان: 104.(1/261)
من خلقه الحلم والصبر على أذى الناس، لما غضب على الرجل الذي أغلظ وسب، استأذنه أبو برزه في ضرب عنق هذا الرجل، فأبى أبو بكر وقال: "ما هي لأحد بعد رسول الله."(1)، وكذلك فإنه عندما انتشر حديث الإفك على ابنته، قطع النفقة التي كان يصرفها على مِسْطح لقرابة به، ولما نزل القرآن ببراءة عائشة، ونزلت الآية: (ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة..) إلى قوله(ألا تحبون أن يغفر الله لكم)(2). عاد أبو بكر فأعاد النفقة إلى مسطح كما كانت، وما انتقم لابنته بعد ما أصابها من ضر(3)؛ ولكنه كان يثور أحياناً، وينتصر لنفسه، إن تلقى كلمات مقذعة شديدة أو إهانة مست كرامته. ولقد جاء رجل بحضرة رسول الله صلى الله عله وسلم وأصحابه فسب أبا بكر فسكت، ثم سب الثانية فسكت، ثم سب الثالثة فرد عليه. ولم يشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد أبو بكر على هذا الرجل بل كان عليه أن يصبر أكثر من ذلك، وأن يكل الأمر إلى الله(4). وكان يقول".. ولا خير فيمن يغلب جهله حلمه"(5).
كان أحسن الناس أخلاقاً، وأصدقهم حديثاً، وأثبتهم حياءً(6). ولكثرة زهده في الدنيا، وحرصه على أموال وأرواح رعيته لم يدخر شيئاً، ولم يترك إلاّ لقحة وجفنة إلى من ولي بعده، فقال عمر: "يا أبا بكر لقد أتعبت من جاء بعدك."(7).
__________
(1) أبو يعلى- مسند أبي يعلى: 1/82، 84.
(2) سورة النور- الآية: 22.
(3) إن شهاب الزهري- المغازي البنيوية: 122، شلبي- اشتراكية أبي بكر: 75.
(4) في حديث رواه أبو داود. انظر ناصف- التاج الجامع للأصول: 4/51.
(5) الطبراني- المعجم الكبير: 1/14، وجدي- دائرة معارف القر ن العشرين: 3/746.
(6) الطبراني- المعجم الكبير: 1/8، شلبي- اشتراكية أبي بكر: 14.
(7) الطبراني- المعجم الكبير: 1/13، الدواداري- الدر الثمين: 3/168.(1/262)
وهو الصادق الذي لا يكذب(1). وقد عرف بالصدق بين قومه وبين الصحابة، فقد روي عن علي بن أبي طالب أنه كان يستحلف من روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أبا بكر، فكان يقول: "فحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر"(2). وجاءت
امرأة أبي لهب وهي عدوة للرسول صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر فشهدت بصدق أبي بكر(3). ولقد وصفت عائشة خلق أبيها فأحسنت الوصف، وعلت به حتى جعلت منه سيد قريش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبطلاً من أبطالها، وسيداً فيه كل معاني الأخلاق، فهو يرأب الصدع، ويلم الشعث، ويجمع الشمل، وينشر الدين، ويقيم العدل(4)، وهو الذي كان التواضع من طلبه، واللين من سماته، الألفة من سلوكه، والتودد من شمائله(5).
الصّفات الإنسانية
__________
(1) الزمخشري- خصائص العشرة الكرام البررة: 25. النووي- تهذيب الأسماء واللغات: 2/1/181.
(2) أبو يعلى- مسند أبي يعلى: 1/25.
(3) أبو يعلى- مسند أبي يعلى: 1/34.
(4) الدواداري- الدر الثمني: 3/168، 169، الأفغاني -عائشة والسياسة: 215-217.
(5) العقاد- عبقرية الصديق: 43 ومابعدها.(1/263)
إن دليل القيادة وقياسها هو الصفات الإنسانية، وعلى رأس هذه الصفات الرحمة. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر(1)". وقد شبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بميكائيل الذي ينزل بالرحمة، وبإبراهيم عليه السلام الذي أوتي قلباً سليماً، وعفواً ومغفرة للناس(2)، كما كان محافظاً على حقوق الإنسان، واعياً لها، يتفقد الرعية ليلاً، ويواسي المساكين، ويغار على الأمة(3)، ويعتق العبيد رجالاً ونساءً(4)، ويفتديهم بماله وجاهه(5)، وعيّره أبوه بمساعدة هؤلاء الضعفاء، وتمنى عليه أن يساعد الأقوياء ليمنعوه من الأعداء، فرد عليه وقال: "يا أبت، إني أريد ماأريد لله عز وجل(6)"، ومنعه أبو جهل وأنّبه على عمله الإنساني، وهاجمه في القول، وتوعده بتكسيد تجارته، وكذلك عاب عليه بعض قومه معاملة المستضعفين؛ ولكنه ظل مصراً على مساعدتهم وتقديم مايمكن تقديمه(7).
الصّفات العسكريّة
هي مجموعة الصفات التي جعلت من أبي بكر رجلاً عسكرياً، وقائداً استراتيجياً، ورائداً في فن الحرب، ومعلماً في أساليب القتال.
1- أهداف القتال. لقد كان الهدف من القتال عند أبي بكر هو المحافظة على المكاسب الإسلامية التي أرسى قواعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والالتزام بما جاء به نصاً وروحاً، والمثابرة على تحقيق الأهداف المحددة والمرسومة، والتقيد بأصول الدين وقيمه ومثله العليا. وهو بهذا حدد أهدافه بما يلي:
__________
(1) ابن سعد- الطبقات: 3/176.
(2) ابن الجوزي- تاريخ عمر بن الخطاب: 30.
(3) ابن سعد- الطبقات: 3/176.
(4) ابن عبد البر- الدرر: 47، 48، الزمخشري- خصائص العشرة الكرام البررة: 26، شلبي- اشتراكية أبي بكر: 26 ومابعدها.
(5) ابن هشام -السيرة النبوية: 1/319، الراوي- تاريخ الدولة العربية: 4.
(6) ابن هشام- السيرة النبوية: 1/319.
(7) ابن هشام -السيرة النبوية: 1/319. 320.(1/264)
أ- محاربة المرتدين واستتابتهم، أو قتلهم، لاهوادة في هذا أبداً، وانبرى أبو بكر بكل عزم وتصميم لتحقيق هذا الهدف بنفسه.
ب- نشر العقيدة الإسلامية في كل الأرض، بادئاً من الأقرب فالأبعد، ومن العرب إلى العجم، ومن الجزيرة العربية إلى بلاد فارس والروم، مستخدماً بذلك كل الطرق السليمة، فإن أبوا الجزية، فإن أبوا فالحرب.
جـ- مواصلة اندفاع الثورة الإسلامية بنفس القوة والوتيرة التي كانت عليها في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذه هي الأهداف الثلاثة التي جعلت أبا بكر يجتهد في بلوغها، ويحارب في ثلاث جبهات: الجنوبية في الجزيرة العربية، والشرقية في العراق، والشمالية والغربية في الشام.
2-الاستقامة دستور القائد الجديد. أعلن أبو بكر منذ أن تسلم القيادة الالتزام بالاستقامة(1)، والسير في الطريق الذي سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل "فاستقم كما أمرت(هود، 112)." والاستقامة مبدأ بل دستور صعب التطبيق، يحتاج إلى جهد ومعاناة إلا على الذين آمنوا بالله ورسوله، وأيقنوا بصدق هذا المبدأ أو صلاحيته للقيادة. وطلب أبو بكر من الشعب أن يعينه إن استقام، وأن يقوّمه إذا زاغ(2). ومن الطبيعي أن يتبع الاستقامة في كل أموره لأنه نشأ عليها، وتربى في مدرسة تمجد هذا الدستور وتطبقه. وكان يوصي قادته العسكريين بالعدل والاستقامة والابتعاد عن الظلم، وكان يقول: "واستعمل العدل، وباعد عنك الظلم والجور، فإنه لا أفلح قوم ظلموا، ولا نصروا على عدوهم(3)"
__________
(1) ابن سعد- الطبقات: 3/182، 183، ابن قتيبة- الإمامة والسياسة: 1/14، ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/106.
(2) ابن هشام- السيرة الذاتية: 2/661، الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/450.
(3) الواقدي- فتوح الشام: 1/4.(1/265)
لأول مرة في تاريخ العرب، يضع أبو بكر أسس الديموقراطية الشعبية، ويجعل للشعب سلطة الرقابة، فإذا زاغ قوّموه، وإذا استقام أعانوه؛ لكنه لم يشكل المؤسسات الشعبية لتتولى مراقبة الأعمال، فحصرها فقط في الشعب، وجعل نفسه قواماً وحيداً، ليس له مايقيده(1).
3-وضوح الهدف. مع تحديد الهدف كان أبو بكر واضح الهدف. وكانت الأهداف الاستراتيجية ماثلة أمامه واضحة، لايميل عنها ولايحيد، ولا يرده الرجال ولو اجتمعوا، ولا تقف أمامه العوائق على شدتها وصعوبتها. فهو الذي وضع هدفاً استراتيجياً وهو محاربة المرتدين، لم يأبه بالأقوال التي قيلت، ولم يسمع للمقربين من أصحابه، ومضى يقاتل في سبيل هذا الهدف، فسير الجيوش، وعين القادة، ورمى بكل ثقله، لا تهزه الأحداث، ولا يؤثر به مؤثر، باذلاً بكل مايستطيع من جهد وعناء، مصمماً على البلوغ: "والله لو منعوني عقالاً لجاهدتهم عليه(2)" وكذلك كان أبو بكر واضحاً في فتوح العراق متمثلاً بقوله لخالد بن الوليد: "سر إلى العراق حتى تدخلها..(3)" وفي فتوح الشام متمثلاً بقوله: "... فتجهزوا عباد الله إلى غزو الروم بالشام...(4)".
__________
(1) وجدي-دائرة معارف القرن العشرين: 2/323.
(2) البخاري- باب الاعتصام: 3، مسلم-باب الإيمان: 32، البلاذري- فتوح البلدان: 103، ابن واضح - تاريخ اليعقوبي: 2/110.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/551.
(4) الأزدي- فتوح الشام: 4 ومابعدها.(1/266)
4- الجود بالمال. إن بذل المال جزء من إرادة القتال، فلقد أنفق أبو بكر ماله قبل الهجرة وبعدها، وقبل الفتح وبعده(1). وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أحد أمنّ علينا بصحبته وماله من أبي بكر(2)". وقال: "مانفعنا مال قط مانفعنا مال أبي بكر(3)، وجاء بكل ماله في حين جاء الآخرون بجزء من مالهم(4). وليس المهم بذل المال، إنما الأهم بذله في وقته وفي طرقه المشروعة، وهكذا كان يضع أبو بكر المال بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوقات الشدّة والحاجة، وقد فتحت له أبواب المال بعد أن تسلم الخلافة عن طريق الغنائم وفتحه للأمصار الكثيرة، لكن جميعها كان ينفقها في وجوهها المختلفة، ومات وهو لايملك من المال شيئاً(5)
5-الحزم في القيادة. تلكم صفات القيادة: الحزم والمرونة والاستمرار، فلقد تحلى أبو بكر بهذه الصفات، وأظهر حزمه وقوته وشدته على قتال من يغير أو يبدل(6) بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأظهر مرونة في معاملته لقادته العسكريين كخالد بن الوليد متمثلاً بقوله، ومعلناً للصحابة: "... ماكنت لأشيم سيفاً... (7)،واستمر في قتاله منذ أن بدأها في حروب الردة وحتى مؤته بعد معركة أجنادين(8)، وبعد إجراء سلسلة من المعارك في بلاد الشام.
__________
(1) الجاحظ- العثمانية: 38، 39.
(2) البخاري -باب مناقب الأنصار: 45، الترمذي- باب المناقب: 15، الجاحظ- العثمانية: 51.
(3) الجميدي- المسند: 1/121.
(4) الترمذي- سنن الترمذي: 9/277، الدرامي سنن الدرامي: 1/391، البلخي- البدء والتاريخ: 5/177.
(5) البخاري- باب فضائل أصحاب النبي: 3، الترمذي- باب المناقب: 15، الجاحظ -العثمانية: 97، 99.
(6) ابن قتيبة- الإمامة والسياسة: 1/27، ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/110.
(7) البلاذري- فتوج البلدان: 136، ابن خلكان- وفيات الأعيان: 2/172.
(8) البلاذري- فتوج البلدان: 157، ابن عساكر- تاريخ مدينة دمشق: 1/521.(1/267)
إني لأرى في حزم وشدة أبي بكر مالا أراه في غيره من القادة حتى الذين وصفوا بحزم كخالد. فلقد كتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يستخدم الشدة في قتاله وتدميره كل مايقع عليه(1)، ومن وصاياه: ".. وإن لم يفعلوا فلا شيء إلا الغارة: ثم تقتلوا كل قتلة الحرق فما سواه..(2)" وطلب من خالد أن لايستبقي رجلاً أنبت.
6- الشجاعة والجرأة. كان أبو بكر شجاعاً وجريئاً في قول الحق والجهر به، إذ لما أسلم دعا إلى الله ورسوله، وقالها معلناً وصريحاً، وماخاف من بطش قومه الذين تخلفوا عن الدخول في الإسلام، وثار عليه المشركون فتحداهم ومكث في مكة يعبد الله حتى ضج الناس منه، وقد دافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم(3)، ودفع عقبة بن معيط عنه(4).
وكان شجاعاً في ضرب السيف، وفي المواقف الصعبة التي تحتاج إلى إقدام وتضحية، فقد وقف بباب العريش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة بدر يدافع عنه، فمن كان يقترب من مقر القيادة، فهو يقترب من بطش وجرأة أبي بكر، وهو الذي صمد في معركة أحد بعد أن فر من المعركة أكثر المقاتلين(5)، وهو الذي حزم أمره وتصدى للأعداء يوم حنين(6).
__________
(1) الطبري- تاريخ الأم والملوك: 2/489 ومابعدها، 518.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/502، ابن خياط- تاريخ ابن خياط: 100.
(3) السيوطي- تاريخ الخلفاء: 26.
(4) ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 3/212، السيوطي -تاريخ الخلفاء: 26، شلبي- اشتراكية أبي بكر: 54.
(5) ابن سعد- الطبقات: 2/42، ابن عبد البر- الدرر: 158، النووي- تهذيب الأسماء واللغات: 2/1/184.
(6) ابن سعد الطبقات: 2/151.(1/268)
وكان بطلاً مقداماً عندما أسندت إليه مهمة الخلافة، وقام المرتدون فقاتلهم بشجاعة، وحث مجلس الدفاع، وقادة الجيوش على محاربتهم، وكان مستعداً أن يدخلها حرباً لاهوادة فيها وحده، غير مبال ولامكترث بعواقبها(1)، وتصدى للفرس والروم بآن واحد، وجرّأ العرب على قتال هاتين الفئتين الكبيرتين، وسئل علي بن أبي طالب عن أشجع الناس فقال: "أبو بكر"(2) وقال ابن مسعود: "لقد قمنا بعد رسول صلى الله عليه وسلم مقاماً كدنا نهلك فيه، لولا أن منّ الله علينا بأبي بكر، اجتمع رأينا جميعاً على أن لانقاتل.."(3) وقد أشارت عائشة بنت أبي بكر إلى هذا المعنى أيضاً(4).
__________
(1) البلخي- البدء والتاريخ: 2/153، القرطبي- تفسير القرطبي: 2/464.
(2) السيوطي- تاريخ الخلفاء: 26، الحلبي- السيرة الحلبية، 2/166 الكاند هلوي- حياة الصحابة: 1/557.
(3) ابن قتيبة- الإمامة والسياسة: 1/15، البلاذري- فتوح البلدان: 131.
(4) ابن خياط -تاريخ ابن خياط: 102، ابن كثير- البداية والنهاية: 6/305.(1/269)
7- الفراسة. لأبي بكر أقوال تدل على الفراسة، وأمثال تدل على الحكمة والتروي والرؤية الحقة. ومن أقواله: "فمن أراد أن يتزوج امرأة فلينظر إلى أبيها أو أخيها فإنها تأتيه بأحدهما."(1)وهو الذي كلف سهيل بن عمرو حين ارتدت العرب- حين هاج أهل مكة وكادوا يفتنون- أن يخطب فيهم لعلمه ببلاغته وفصاحته، فقام فيهم خطيباً وأقنعهم(2). وتعتبر تولية خالد بن الوليد للقيادة فراسة هاجم به المرتدين والفرس والروم، ويعتبر اختيار عمر بن الخطاب لتولي قيادة المؤمنين من بعده فراسة أكملت الفتح، وامتدت إلى أقاصي الدنيا(3). وفي هذا يقول ابن مسعود: "أفرس الناس ثلاثة: المرأة التي جاءت على استحياء حين قالت لأبيها في موسى يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين، وامرأة العزيز، وأبو بكر في عمر."(4)وقال آخرون بهذا المعنى(5)، وكذلك لما وفدت ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّر عليهم عثمان بن أبي العاص وكان من أحدثهم سناً، فقال أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم متفرساً في هذا الغلام: (6)"إني قد رأيت هذا الغلام فيهم من أحرصهم توليه الخلافة وإصراره على أن يكون الخليفة رجلاً من قريش، لأنه كان يعلم يقيناً أنه لو استلمت الأنصار هذه المهمة فسوف يختلف الأوس مع الخزرج وتعود العداوة والشحناء بين هاتين الفئتين، لذلك بادر إلى ترشيح نفسه بعد أن كان محجماً عن تولي هذه المهمة(7).
__________
(1) الزبيري- نسب قريش: 239.
(2) الزبيري-نسب قريش: 418.
(3) الجاحظ- العثمانية: 86، 94، النووي- تهذيب الأسماء واللغات: 2/1/182.
(4) الجاحظ- العثمانية: 86.
(5) ابن الجوزي- تاريخ عمر بن الخطاب: 52، الدواداري- الدرّ الثمين: 3/170.
(6) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/365.
(7) الخضري- تاريخ الأمم الإسلامية: 1/159.(1/270)
لقد رافق فراسة أبي بكر حدة ذكائه، وتوقد فهمه، وبريق فطنته، فأصبح يلمح الأمور، ويستشف خفاياها، ويحلل موادها، ويسبر أسرارها، فهو إن اطلع على شيء فهمه، وإن عرضت عليه مسألة أفتى بها وأوضحها، كما رافق هذه الفراسة نشاط فطرته الدينية التي كشفت له الحقيقة عن الله والنبوة، فوعاهما، واستمدّ منهما كل مايوصله إلى الفراسة، وأخيراً فقد رافق فراسة أبي بكر قلب كبير مفتحة له أبواب السماء، مضاءة له أعين المبصرين، نظيف من شوائب الجاهلية ونزعاتها الخرافية.
8-النظر الثاقب. بصيرة متفتحة، وبصر حديد أوتيه أبو بكر الصديق، فما كان يعرض عليه من أمر إلا تكلم به بصدق قول، وعمل به بيقين فعل. فها هو يعلن موت رسول الله صلى الله عليه وسلم دون تردد(1)، ويعلن القتال دون تردد على الذين فرّقوا بين الصلاة والزكاة، ويرد على أصحابه الذين اعترضوا على القتال بشدة لأنه رأى مالايرون، وبصر بما لم يبصروا. إن النظر الثاقب رافقه تأكيد وتصميم واستعداد ووضوح بحيث أثر على مرؤوسيه فجرهم إلى مايراه ومايقرره، فهو يحلف بالله ليقاتل كل من كان متنكباً عن الطريق المستقيم بمنع الزكاة، أو عدم القيام بواجبه(2). إنه نظر فرأى أن يحارب الفرس والروم، فلقن هؤلاء درساً قاسياً، وكانت نظرته في محلها، كما أدب القبائل العربية اللخمية المتحالفة مع العدو(3).
وبذلك أثبتت الوقائع كلها، والأمور جميعها، صدق نظره، وصحة عمله، وصواب قراره، وحدة بصيرته.
__________
(1) الطري- تاريخ الأمم والملوك: 2/443، اليافعي- الجنان: 1/97.
(2) أبو يعلى- مسند أبي يعلى: 1/69، ابن قتيبة- الإمامة والسياسة: 1/14، البلخي -البدء والتاريخ: 5/152.
(3) هاري وهازارد- أطلس التاريخ الإسلامي: 6.(1/271)
9- القرار السريع الصحيح. مع سرعة القرار، كان القرار صحيحاً، ذلك أن أبا بكر استند على المعلومات الصحيحة، وعلى الرؤية الواضحة، وعلى الإرادة القوية. وعندما هوجمت المدينة خرج بسرعة إلى القبائل وردها على أعقابها، بعد أن أمر بقية الصحابة أن يبقوا في مكانهم بقوله: "الزموا أماكنكم."(1)
وهل للقرار الاستراتيجي في فتح العراق دور كبير في الانتصار؟ نقول: نعم لأنه كان في وقته وفي ظروفه المحيطة به، وكذلك قرار فتح الشام، فهو قرار سريع صحيح أدى إلى تجميع الجيوش، وإلى توحيدها تحت قيادة واحدة.
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/477، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/131.(1/272)
10- المبادأة. كان أبو بكر يبادئ قبل أن يبدأ العدو، ويباغت قبل أن يباغته، ويفاجئ قبل أن يُفاجأ، ويدرك العدو قبل أن يدركه، ومافاته خصمه في شيء، بل كان يفوت عليه، ويحبط عمله وهجومه. ولقد دلت حروبه على أنه رجل قادر على المبادأة، وهاهم المرتدون الذين هموا بالهجوم على المدينة، واجتمعت قبائل من بني عبس وبني بكر وذبيان من الجهة الشمالية الشرقية للمدينة، لكن أبا بكر استنفر قوات المدينة بشكل سري، ونظم جيشاً، وجعل ميمنة وميسرة وساقة وفاجأ المرتدين الذين لم يكونوا يتوقعون هذا الهجوم المباغت، فشتتهم وفرق جمعهم، وعاد إلى المدينة(1). هذه المبادأة مهدت الطريق للجيوش وللقيادة العسكرية التي أرسلها أبو بكر فيما بعد، ثم وضعت في فكر القياديين أن لامناص من التصدي لهذه الفئة ومحاربتها حتى ترجع إلى دينها أو تقتل. وكذلك المبادأة التي قام بها حين أعلن الحرب على فارس، ولم تكن قيادة فارس تتوقع مثل هذا الهجوم، وكذلك الروم فقد غرتهم كثرتهم وتقنية عتادهم وأسلحتهم، وظنوا أن العرب ولن يفكروا لن ويجرأوا على مهاجمة الروم، أو التحرش بهم، وفاجأهم أبو بكر بتوجيه الجيوش العربية إلى ديارهم، واشتبك معهم في عدة معارك.
__________
(1) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/479، ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/107.(1/273)
11- العقل. إذا اختلف الصحابة في أمر رجعوا إليه، وإن أبدى رأيه غابت الآراء كلها، وإن استشير فأشار لم يظهر فوق استشارته عاقل أو مفكر، وإن بدت له فكرة محّصها ثم صمم على التمسك بها . لقد دلت سيرته على أنه صاحب عقل وروية، ورأي سديد، وقول صادق لا ريب فيه ولا شكوك. وكان في هذا من الثقات الذين اتُّبِعوا في قولهم وأعمالهم، فإذا تكلم بشيء تبعه الناس مطمئنين، وإذا سلك سلوكاً اقتفوا أثره فهو: "أسد الصحابة رأياً وأكملهم عقلاً."(1) وهو "صاحب الرأي والمشورة."(2) وقد رافق هذا العقل تلك الحكمة التي ردت الأمور إلى نصابها، ومكّنت أبا بكر من أن يضع الأمر في موضعه، وقد وصف بأنه حكيم(3)، وكان "أرجح الناس إيماناً، وأثقلهم ميزاناً."(4).
__________
(1) السيوطي- تاريخ الخلفاء: 30.
(2) ابن حزم- المفاضلة بين الصحابة: 231.
(3) الزمخشري- خصائص العشرة الكرام البررة: 39.
(4) الزمخشري- خصائص العشرة الكرام البررة: 40.(1/274)
12- التفرغ للقيادة. إن مبدأ التفرغ سارت عليه الأمم القديمة والحديثة، فلا يستطيع قائد مهما أوتي من النشاط والحيوية أن يستلم أمر الرعية، وأن يمارس معه عملاً تجارياً أو زراعياً أو صناعياً. فمن أجل نجاح القيادة لابد من التفرغ لها، والانشغال بها وحدها دون غيرها، وقد ثبت فشل القيادة حين يكون القائد مشغولاً بغيرها من أعمال. إن أبا بكر لما ولي أمر المسلمين، ودانت له القيادة، كان تاجراً(1) يبيع الأثواب والملابس للناس، وكانت له قطعة غنم يرعاها ويحلبها، كذلك يحلب للناس أغنامهم، وكان تاجراً موسراً(2)، فأشار عليه مجلس القيادة بترك هذا العمل والتفرغ لأعمال القيادة فقال: "من أين أطعم عيالي؟"(3) فحُدّد له راتب من الخزينة يكفيه ويكفي عياله، وهكذا انقطع القائد عن التجارة، وتفرغ للقيادة، فيصرف كل أوقاته، ويجعل كل تفكيره في أمر الناس والمرؤوسين، فكان لايأخذ إلاّ كفايته، واحترف للناس، وترك حرفته وقال: "لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤونة أهلي، وشغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال وأحترف للمسلمين فيه."(4) فكان أول خليفة يتفرغ لشؤون الدولة(5). وظل طوال السنتين ونيف على أحسن مايكون القائد، فقد قاتل أهل الردة، وحارب الفرس والروم وانتصر في كل معركة، ذلك لأنه كما قال: "لا والله ما يصلح أمر الناس التجارة، وما يصلح لهم إلا التفرغ والنظر في شأنهم."(6)
__________
(1) الجاحظ- العثمانية: 25.
(2) السيوطي- تاريخ الخلفاء: 21، حسين -الشيخان: 98، 99.
(3) ابن سعد- الطبقات: 3/184، الذهبي- تاريخ الإسلام: 1/386.
(4) البخاري- باب البيوع: 15، ناصف- التاج الجامع للأصول: 2/94، شلبي- اشتراكية أبي بكر: 13ـ هيكل- الصديق: 32.
(5) أبو هلال العسكري- الأوائل: 1/211، 215، السيوطي -الوسائل إلى مسامرة الأوائل: 97.
(6) ابن سعد- الطبقات: 3/186..(1/275)
فقد كان يقف بعدها على كل صغيرة وكبيرة، يجلس في الناس فينظر في ظلامتهم، ويحضر الجيوش، ويجهز التشكيلات القتالية، ويطوف بالأمة، ينظر مايحسن شأنها، ويرفع عزتها وكرامتها. فلقد كان يشعر بعظم المسؤولية، وبكبر الأمر الملقى على عاتقه قائلاً: "طُوّقت عظيماً من الأمر"(1). ولما حضرته الوفاة لم يوجد عنده شيء من المال غير لقحة ومحلب وغلام دفعهم إلى عمر بن الخطاب(2)، بدليل أن المال الذي فرض له يكاد لايكفيه إلا كفافاً، وفوق كل ذلك فقد أوصى أن يرد ماتبقى من هذا المال إلى القائد الذي تسلم بعده والذي أعجب بهذا الالتزام فأثنى عليه وقال خيراً(3)، وبهذا الالتزام فقد ألزم من بعده، التقيد بما كان عليه، والتفرغ للقيادة كما تفرغ.
وبهذا فلا ينبغي لمقاتل أن يشتغل بعمل يشغله عن القتال، إذ يحظر على المجاهد أن يشتغل في التجارة أو الزراعة أو في غير ذلك. وقد حذر القائد الأعلى ومجلس القيادة من مغبة هذا الأمر حتى عدّوه من الارتداد(4). وبذلك أصبح هذا الجيش محترفاً مفرّغاً لمهمة القتال، وهذا هو سر قوته، وانتصاراته.
__________
(1) ابن سعد- الطبقات: 3/187.
(2) ابن سعد- الطبقات: 3/192.
(3) ابن سعد- الطبقات: 3/192 ومابعدها.
(4) الكاند هلوي- حياة الصحابة: 1/483.(1/276)
13- القيادة المركزيّة. شكلت القيادة المركزية للجيوش العربيّة في المدينة المنورة من أبي بكر القائد الأعلى رئيساً وعضوية كل من عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله(1) وغيرهم. مهمة القيادة هذه وضع الخطط الحربية وإعلان الحرب وانتقاء القادة، وقيادة الجيوش. وكانت آراء واقتراحات الأعضاء غير ملزمة للقائد الأعلى إذ كانت تعتبر من قبل الاستشارة واستنارة الأمور أمام أبي بكر الصديق، الذي كان يستمد من هذه القيادة كل فكرة أو اقتراح مبتكر. بهذا استطاع أن يدير الجيوش بعقول نيرة وبقيادة قادرة للتصدي لأية معضلة صغرت أم كبرت، ولإصدار قرارات صحيحة مستنيرة بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، ولتقديم الخبرة التي اكتسبتها في المعارك من قبل والتجارب التي مرت عليها في الفترتين الجاهلية والإسلام. كان كل عضو يدلي برأيه بكل صراحة ووضوح، ثم يناقش رأيه، ويعرض على القيادة مجتمعه، كما عرض الزبير بن العوام فكرة غزو الشام. وقد تضطر هذه القيادة تعيين أحد أعضائها ليكون قائداً لأحد التشكيلات أو الجبهات كتعيين الزبير للقتال في أرض الشام(2)ومعاوية بن أبي سفيان(3).
__________
(1) ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/107، ابن دحلان- الفتوحات الإسلامية: 1/35.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/594، ابن عساكر تهذيب تاريخ دمشق الكبير: 5/355.
(3) البلاذري- فتوج البلدان: 116، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/155.(1/277)
اتخذ أبو بكر جميع التدابير لجعل القيادة مركزية في المدينة، فهو الذي سيّر ألوية الردة، وأمر قادتها أن يرجعوا إليه في كل أمر يتطلب قراراً، وأن يستأذنوه إذا فرغوا من مهمتهم التي يمكن أن نطلق عليها في الوقت الحاضر مهمة مباشرة ومهمة تالية. وعند الانتقال من مرحلة إلى مرحلة، أو من مهمة إلى أخرى، أو استئناف القتال فيما إذا فرغوا من مهماتهم (المباشرة، اللاحقة، التالية..) عليهم أن يعودوا إليه لتلقي مهمات جديدة، وهذا ما يحدث في وقتنا الحاضر، بهذا يستطيع القائد الأعلى أن يكون بصورة الموقف تماماً ويسند المهام في وقتها، ويوجه القادة طبقاً للمعطيات الجديدة كأن يجمع جيشين أو أكثر بجيش واحد، أو يطلب من الأول تغيير جهده الرئيسي أو اتجاهه، أو تبديل أو تعديل مهامه.
14- التجميع والتفوق الاستراتيجيين. التجميع هو حشد جميع الجيوش أو جزء منها و جعلها تحت قيادة واحدة. والتجميع ليس تشكيلاً نظامياً؛ إنما هو مجموعة جيوش (تشكيل) تشكل بمجوعها قوة كبيرة ضاربة، وليس لها حجم معين؛ إنما هي تهدف إلى التفوق على العدو في اتجاه معين.(1/278)
ففي حروب الردة أمر أبو بكر بجمع جيشين فأكثر إذ أصدر أوامره أن يلحق شرحبيل بعكرمة ويقاتلا بني حنيفة(1)، كما أمر شرحبيل أن يكون مع عمرو بن العاص لقتال قضاعة(2)، كما أمر المثنى بن حارثة الشيباني وحرملة بن مريطه ومذعور بن عدي وسُلمى بن القين التميمي أن ينضموا إلى خالد(3). وفي حروب الجبهة الشمالية أمر أن تجمع الجيوش المرسلة إلى الشام تحت قيادة واحدة، وبقوة مطرقة كبيرة حيث عزز الجيوش بقوى ووسائط، كما عين لها القيادات المختلفة، وعين بنفس الوقت قائداً عاماً(4) فدفع يزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاص وأبا عبدة بن الجراح(5)، وأخيراً جيش خالد الذي أمره أن يسير من العراق ويلتحق بسرعة وقال لهم: "اجتمعوا فتكونوا عسكراً واحداً"(6) وأمّر عليهم قائداً واحداً هو خالد بن الوليد(7). وما كادت هذه الجيوش تتجمع في منطقة اليرموك حتى حشدت القوات الرومية حشودها، وبدا عليها التفوق بالقوى والوسائط، ولكن الجيش العربي الإسلامي كان متفوقاً بالروح المعنوية العالية، وبالقيادة المبدعة، وبالتنسيق والتعاون، والخفة والحركة السريعة في الميدان، والمطاردة، وابتكار أساليب جديدة في القتال (نظام الكراديس) في معركة اليرموك، وتجزئة القوات المعادية إلى أجزاء أقل بحيث يحصل التفوق عليها كما في معركة أجنادين.
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/480، ابن الأثير- الكامل في التاريخ : 2/137.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/504، 505.
(3) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 3/93.
(4) الواقدي- فتوح الشام: 1/133-140، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/156.
(5) البلاذري- فتوح البلدان: 150.
(6) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/590.
(7) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/602، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/407.(1/279)
قد يكون التجمع على اتجاه واحد، أو على عدة اتجاهات، وذلك حسب قوة العدو وإمكانات الصديق، فقد أرسل أبو بكر إلى جبهة العراق خالد بن الوليد وعياض بن غنم، كما أرسل إلى جبهة الشام أبا عبيدة بن الجراح، ولمّا علم أن الروم يشكلون خطراً كبيراً على الجبهة الشمالية استدعى فوراً جيوش الجبهة الشرقية لتجتمع كلها في اليرموك.(1/280)
15-المحافظة على وحدة الفكر والعقيدة في الجيش. منذ استلام أبي بكر القيادة العليا في الجيش، أمر أن يكون أفراد الجيش جميعاً من عقيدة واحدة وفكر موحد، فلا يوجد في الجيش عابد وثن، أو منافق أو مرتد. وقد شدد على المرتدين فلا يدخلوا الجيش أو يشاركوا في القتال(1)، حتى ولو كان ذلك بعد عودتهم وبعد إيمانهم لأنهم قوم مشكوك في عقيدتهم، وحتى يرد إليهم اعتبارهم فلابد من اختبارهم ولو لفترة من الزمن، يُقررَّ في نهايتها- على ضوء هذا الاختبار تكليفهم بمهام قتالية، وقبولهم في صفوف الجيش، أو رفضهم جملة وتفصيلاً؛ ولاسيّما أن أبا بكر كان يعلم أن الأعراب وقبائل البادية ستتظاهر في الرجوع إن رأت قوة، وستتفلت إن رأت ضعفاً، وسيظهر الإسلام على لسانها فقط دون أن يدخل في قلبها الإيمان كقبيلة بني أسد التي فضحها القرآن وأظهر بواطنها: "قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم.."(2) ومن توجيهات القائد الأعلى إلى قائدي الجبهة العراقية خالد بن الوليد وعياض بن غنم: "أن استنفروا من قاتل أهل الردة ومن ثبت على الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يغزونّ معكم أحد ارتد حتى أرى رأيي."(3) وبقي المرتدون بعيدين عن الدخول في القوات المسلحة والمشاركة في القتال طوال خلافة أبي بكر الصديق وبعد موته، وبعد إلحاح من المثنى الذي كان يتعاطف مع الذين تابوا واتبعوا سبيل الحق واختبروا سمح عمر بن الخطاب لهذا القائد أن يستعين بهم في قتال فارس(4).
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/554، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/147.
(2) سورة الحجرات- الآيات: 14-17، وجدي- المصحف المفسر: 687.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/554.
(4) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/605، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/166.(1/281)
هذا على مستوى الجنود وقادة الوحدات الصغرى؛ أما على مستوى قادة الجبهات والتشكيلات، فإن أبا بكر لم يعين سوى الذين ثبتت هجرتهم وقدمهم في الإسلام فقد أرسل أحد عشر تشكيلاً إلى جهات مختلفة، كلهم من الذين تميزوا بوحدة الفكر والعقيدة وكلهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الأمر في قادة جبهتي العراق والشام.
16- الاصطفاء. أو الاختيار مبدأ اتبعه أبو بكر في قيادته، فهو يصطفي من القادة خيارهم، ومن الجند والمقاتلين أكثرهم إيماناً وعقيدة، فهو بذلك يشرك في القتال أولئك الذين ليس عليهم شائبة من دين، أو مس في كرامة، أوهفوة في مسيرتهم.
اشترط في القادة أن يكونوا من الذين لهم سابقة في الإسلام، ومن المهاجرين الأولين، ومن أصحاب الخبرة في الحروب والشدة في القتال، ومن الذين ولاهم الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل وظائف قيادية أو إدارية، كما اشترط في المرؤوسين ألا يكونوا من المرتدين، أو المنافقين، أو من الفرس، أو من الروم الذين احتلت أراضيهم ودخلوا تحت الحكم الإسلامي وحمايته، وأن يكونوا من الذين يحملون إرادة القتال، ويبذلون المال والنفس، ويجاهدون في الله حق جهاده، وأن يكونوا من الثابتين على الإسلام وإن تعرضوا للمحن والابتلاء.(1/282)
إذا استعرضنا قادة الردة والفتوح الذين قاتلوا المرتدين في الجزيرة العربية، وفتحوا بلاد فارس والشام نرى أنهم قد اتصفوا بالصفات التي تؤهلهم للقيادة التي اشترطها أبو بكر، فعكرمة بن أبي جهل من المهاجرين وإن كانت هجرته جاءت متأخرة، وهو الذي ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على جمع صدقات هوازن(1)، وعمرو بن العاص من المهاجرين الأولين ومن قريش، وله ماض مجيد، وعراقة كبيرة في الجهاد والقيادة(2)، وخالد بن سعيد بن العاص أموي قرشي(3)، وخالد بن الوليد المخزومي القرشي الذي حاز على جميع الصفات وغيرهم من القادة. وكان أبو بكر يفضل القرشي من القياديين إذا وجد على غيره من القبائل أو الأنصار في المدينة(4).
يستبعد من الاصطفاء كل المرتدين، وكل من لم يكن مسلماً وثابتاً على دينه، وجميع الذميين الذي يدفعون الجزية لقاء الدفاع عنهم وحمايتهم، وإذا انتفت صفة الدفاع هذه فلاجزية عليهم، ورد المسلمون لأهل حمص ماكانوا قد أخذوه من الخراج عندما توجهوا لقتال الروم في اليرموك(5).
__________
(1) ابن سعد- الطبقات: 7/404، البلاذري- فتوج البلدان: 105، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4/4.
(2) ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 30/1188، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 5/2 ومابعدها، ابن الأثير -أسد الغابة في معرفة الصحابة: 2/420 ومابعدها.
(3) ابن سعد- الطبقات: 4/94، ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/111، ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 2/420.
(4) الطبري- تاريخ الأمم والملوك:4/84؛ ابن عساكر- تهذيب دمشق الكبير: 1/132.
(5) البلاذري- فتوح البلدان: 187.(1/283)
17-التوازن في التخطيط والتنفيذ. كان لدى أبي بكر على مستوى القيادة العامة قادة عرفوا بالعقل والتدبر، والتخطيط والتنظيم أمثال عمر بن الخطاب وعثمان وعلي وسعد بن أبي وقاص وطلحة وغيرهم(1)، وقادة عرفوا بالتنفيذ المبدع والهجوم السريع وتطبيق مبادئ الحزب ببديهة وحسن تصرف أمثال أبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاص(2). لقد توحد مفهوم القتال عند الطرفين، وبدا بينهما التعاون والتنسيق لصالح تحقيق الهدف العام، كلاهما يعمل في سبيل الله طبقاً للمبادئ والتعليمات والتوجيهات التي يصدرها القائد الأعلى الذي تخرج هو وأعضاء قيادته المخططين والمنفذين من مدرسة واحدة. وبهذا قل الخلاف بل انعدم. بين القائد من جهة والقيادة من جهة أخرى، وكذلك بين المخططين والمنفذين، وسارت الأمور وكأنها بميزان وتوازن، مما ساعد في إرساء دعائم هذه الدولة وعزز مكانتها. وحافظ على مسيرتها وتطورها في خلافة أبي بكر الصديق.
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 3/113، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/214، ابن دحلان- الفتوحات الإسلامية: 1/35.
(2) البلاذري- فتوح البلدان: 150.(1/284)
18- التخطيط والتنظيم الاستراتيجيين. عندما تسلم أبو بكر القيادة، وظهرت الردة وضع خطة كبيرة لقتال المرتدين على مسرح الجزيرة العربية كلها. ثم استند إلى هذه الخطة، ونظم القوات المسلحة، والقيادة العامة، وقيادة التشكيلات، وأمر بتنظيم أحد عشر تشكيلاً، وعين لكل تشكيل قائداً(1)، ثم أوكل المهمات لكل قائد، وحدد لهم الأهداف والأرض والمحور وفكرة مبسطة عن العدو وإمكاناته، ثم أمرهم ببدء الأعمال القتالية في أزمنة مختلفة، وسيّر هذه التشكيلات بعد أن مهد لها بدعاية قوية وحرب نفسية أثرت على المرتدين وعزيمتهم، وعاد منهم إلى الإسلام دون قتال مثل طيئ(2). إن التخطيط الاستراتيجي قاد إلى التخطيط التكتيكي وذلك عندما طلب القائد الأعلى من خالد أن يتوقف عند كل مرحلة، فلا يبدأ بالثانية إلا بعد إذن مسبق منه(3)، ليتمكن من تحليل الموقف ومراجعة ومقاطعة المعلومات الجديدة، وعلى أساسها يمكن أن تبدأ المرحلة الثانية بعد إقرارها كما هي، أو تعديلها، أو تبديلها.
__________
(1) خطاب: قادة فتح العراق والجزيرة: 86.
(2) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/483، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/132.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/480.(1/285)
19- التضليل الاستراتيجي. أرسل أبو بكر خالداً لقتال المرتدين، وبنفس الوقت تظاهر بأنه خرج بجيش تجاه خيبر، مضللاً بذلك طيء التي توجه إليها خالد لقتالها، فاحتارت في أمرها أهي تنتظر لتقابل جيش أبي بكر، أو تتحرك لتقابل جيش خالد ممّا دعاها لأن تتخلى عن فكرتها العدوانية، وأن تستجيب لنداء خالد الذي دعاها إلى الإسلام، وأن تتخلى عن حليفها طليحة بن خويلد الأسدي(1)، وكذلك التضليل الاستراتيجي الكبير الذي قام به عندما أوهم الفرس أن القتال سيكون على جبهة الشام، وأوهم الروم أن القتال سيكون على جبهة الفرس، بالإضافة إلى إظهاره لهاتين القوتين على أنه غير قادر على الأقل أن يقوم بهجوم وذلك لقلة عدد جنوده إذا ماقيس بعدد الفرس أو بعدد الروم، ولذلك ظلوا قابعين في ديارهم، مهملين لواجباتهم، متقاعسين عن تحضير جيوشهم، مما سمح لأبي بكر من خلال هذا التضليل أن يعد العدة، ويجهز الجيوش ويغزو فارس والروم.
__________
(1) ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 3/296، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 3/65.(1/286)
20- تحديد الأفضليات في القتال. استلم أبو بكر وقام مع هذا الاستلام كثير من المعارضين، منهم بعض الصحابة المقربين(1)، وكذلك قام المتنبئون وأصحاب التيجان، والمرتدون. كلهم يريدون أن ينالوا من الحكم الجديد، وأن يستقلوا، وأن يكون لهم دولة وسلطان(2). ماذا فعل أبو بكر لقاء هذه الأحداث الكبيرة التي تهدد الوحدة، وتقوض دعائم الدين؟ حدد الأفضليات فبدأ أولاً بإصلاح ذات البين فقرب وجهات النظر بين المعارضين، وطلب من عمر بن الخطاب وغيره أن يكونوا خير المصلحين(3). وبعد أن أنهى هذا الخصام، وقوى الجهة الداخلية، وقارب وجهات النظر بين المعارضين، تصدى كأفضلية ثانية إلى المتنبئين الذين ادعوا النبوة فقاتلهم وأرسل الجيوش في طلبهم(4)، ثم كأفضلية ثالثة جمع جمعه ودفع بقوات كبيرة إلى فارس فقاتلت وانتصرت(5)، وكأفضلية رابعة أمر الجيوش أن تلتقي لحرب الروم في الجبهة الشامية، ووصلت القوات واجتمعت في معركة اليرموك(6). وكذلك فإن أبا بكر حدد لخالد بعد الانتصار في أجنادين أفضليات الفتوح فقال: "وأخبرك أن تنزل إلى دمشق إلى أن يأذن الله بفتحها على يدك، فإذا تم ذلك فسر إلى حمص وأنطاكية(7)، وعندما وجه قواته إلى الشام حدد أفضلية القتال في هذه الحرب على سائر الجهات فقال: "فوالله لقرية من قرى الشام أحب إليّ من رستاق عظيم في العراق(8)".
__________
(1) ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/102-105.
(2) ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/107.
(3) ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/103-105.
(4) ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/108-110.
(5) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/557 ومابعدها، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/148.
(6) ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/111،112.
(7) الواقدي- فتوح الشام: 1/38.
(8) الشيباني- شرح السيد الكبير: 1/47.(1/287)
وكذلك فإنه حدد في جبهة العراق نفسها أفضليات فقال لخالد وأمره أن يبدأ من أسفل العراق(1) ويجعلها كأفضلية أولى، أي أن أبا بكر كان يحدد أفضليات على المستوى الاستراتيجي، ويحدد الأفضليات على المستوى التكتيكي والعملياتي ضمن الجبهة الواحدة، أو ضمن المهمة الكبيرة الاستراتيجية.
21- الإمداد القتالي المتتالي. يأتي عادة هذا الإمداد من احتياج القوات المسلحة إلى الرجال والعتاد سداً للاستهلاك، ولإكمال الملاكات، أو لتعزيز القوات المقاتلة. كانت خطة الإمداد عند أبي بكر تهدف إلى إرسال الجيوش خلف بعضها، يتخللها زمن قصير أو طويل تبعاً للإمكانية في تحضير الرجال والعتاد. ففي حروب الردة أمد أبو بكر خالد بن الوليد. وأمد المثنى، وأمد زياد بن لبيد القاضي بالمهاجر بن أبي أميّة(2)، ولما طلب أبو عبيدة من الجراح المدد في الجبهة الشامية أرسل إليه جيشاً بعد جيش، فكلما اكتمل تشكيل وانتظم أرسله خلف تشكيل وعلى محاور مختلفة(3)، وكانت الجيوش التي أرسلها إلى جبهة الشام لا يتجاوز عدد كل واحد منها على ثلاثة آلاف مقاتل، فلم يزل أبو بكر يمدها حتى بلغ عدد كل جيش سبعة آلاف وخمسمائة مقاتل(4)، فقد أرسل أولاً جيش يزيد مع مقاتلي اليمن، ثم أتبعه بجيش شرحبيل بن حسنة، ثم استنفر أهل مكة والطائف وأمر عليهم عمرو بن العاص(5).
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/551، 553، 554.
(2) الزبيري- نسب قريش: 316، ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/111، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/361، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 2/361.
(3) ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/112.
(4) البلاذري- فتوح البلدان: 150.
(5) الواقدي- فتوح الشام: 1/4، 7.(1/288)
22- التعاون. التعاون عند أبي بكر هو قانون القتال إذ كان يحرص أن تتعاون الجيوش مع بعضها، وما إرساله الجيوش لفتح الشام بصورة متعاقبة وقتالية إلا لتتعاون، وكان هناك تعاون وثيق ومثالي بين جيش يزيد وجيش شرحبيل للقضاء على قوات الروم في تبوك(1)، وكذلك بين الجيوش الأربعة في معركة اليرموك. ومفهوم التعاون عند القائد الأعلى أن يعرف كل قائد حدود التعاون، والأعمال التي سيقوم بها أثناء إسناد المهام، والتكامل بين الجيوش المتعاونة فلا يعمل أحدهما عمل الآخر، أو عملاً غير صائب أو مُجدٍ، وعلى هذا فإن المقاتل بجانب زميله المقاتل يعاونه، والجماعة بجانب الجماعة تقاتل معها، والفصيلة مع الفصيلة، والسرية مع السرية، والكتيبة مع الكتيبة، واللواء مع اللواء، والفرقة مع الفرقة، والجحفل مع الجحفل، والجار مع الجار، والقائد مع المرؤوسين، واسمع وصية القائد الأعلى لعمرو بن العاص: "وكاتب أبا عبيدة وأنجده إذا أرادك، ولا تقطع أمراً إلا بمشورته.."(2) ولقي هذا التعاون كل إيجابية وذلك عندما اصطدم عمرو بن العاص بجيشه في فلسطين مع الروم وانتصر عليهم، ثم كتب إلى أبي عبيدة قائلاً له: "بسم الله الرحمن الرحيم. من عمرو بن العاص إلى أمين الأمة. قد وصلت أرض فلسطين ولقينا عساكر الروم مع بطريق يقال له "روبيس" في مائة ألف فارس، فمنّ الله علينا بالنصر، وقتل من الروم خمسة عشر ألف فارس، وفتح الله على يدي فلسطين بعد أن قتل من المسلمين مائة وثلاثون رجلاً فإن احتجت لي سرت إليك والسلام عليك ورحمة الله وبركاته."(3)ذلك هو مدى التعاون بين القائدين وبين الجيشين اللذين سارا كل واحد منهما باتجاه.
__________
(1) الواقدي- فتوح الشام: 1/6.
(2) الواقدي- فتوح الشام: 1/7.
(3) الواقدي- فتوح الشام: 1/11.(1/289)
وعلى اعتبار أن جيش أبي عبيدة لم يلاق صعوبات، فقد كتب إلى عمرو بن العاص بالاستمرار في مهمته التي أولاها إياه القائد الأعلى، وطلب إليه أن ينفذ أوامر أبي بكر وتوجيهاته(1)، وأوصى أبو بكر كلاً من خالد بن الوليد وعياض بن غنم على التعاون في فتح فارس والحيرة فقال: "ليكن أحدكما ردءاً للمسلمين ولصاحبه بالحيرة، وليقتحم الآخر على عدو الله وعدوكم من أهل فارس.."(2)وهذا هو تعاون الجار من الخلف الذي من مهمته منع وصول العدو من الخلف، وإنذار الجيش الذي يقاتل في الأمام، والمساعدة في الالتفاف، أو التطويق، أو ضربه من المجنبات والخلف، وجعله بين فكي الكماشة بين الجيش الذي يقاتل في الأمام وبين الجيش الذي يقاتل في الخلف "فليقم أحدكم وليقتحم الآخر على القوم.."(3).
__________
(1) الواقدي- فتوح الشام: 1/11.
(2) الطبري- تاريح الأمم والملوك: 2/573، 574.
(3) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/573.(1/290)
23- نظام القتال. كان أبو بكر موسوعة في نظم القتال، يعطي لكل حالة قتالية جوابها وحلها، فهو يبين كيفية الهجوم والدفاع والمطاردة، كما يوضح شروط الاستطلاع، وتسيير الدوريات وقتال الجيوش ومهامها ونظام التعاون فيها، والمعنويات ومعاملة الجنود، والقتال الليلي وشروطه ومن قوله في نظام قتال الجيوش في التعاون وأحقية القيادة: "إذا كان بكم قتال فأميركم الذي تكونون في عمله."(1)ثم لما اجتمعت الجيوش في بصرى كانت القيادة ليزيد لأن بصرى من دمشق تطبيقاً لهذا النظام وتنفيذ أحكامه(2). ومن قوله في الثبات والصمود: "وإذا لقيتم القوم فلا تولوهم الأدبار.."(3)وفي الاستطلاع كان يقول لعمر بن العاص عندما وجهه لقتال الروم في الشام: "وابعث عيونك يأتوك بأخبار أبي عبيدة.."(4) وفي خبرته في القيادة وأسس نظامها، فإنه كان يولي الجيوش لقادة عرفوا بالشجاعة والجرأة والخبرة، ويولي أمر الطليعة لقادة اختصوا بها وعرفوها فقال لعمرو: ".. وقدّم سهل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل والحدث بن هشام وسعيد بن خالد.."(5)ثم قال: ".. وقدم قبلك طلائعك فيكونوا أمامك.."(6)وخلاصة القول: إن أبا بكر يعلم نظام قتال الجيش العربي، فإذا ما قمنا بجمع ماقيل في القتال وفي مجال الحروب والعمليات لتكون لدينا كتاب كبير يحوي بين دفتيه نظاماً كاملاً في القتال.
__________
(1) البلاذري -فتوح البلدان: 150، غلوب -الفتوحات العربية الكبرى: 234.
(2) البلاذري- فتوح البلدان: 155.
(3) الواقدي- فتوح الشام: 1/4.
(4) الواقدي -فتوح الشام: 1/7.
(5) الواقدي- فتوح الشام: 1/7.
(6) الواقدي- فتوح الشام: 1/8.(1/291)
24-التوَّجهات العملياتيّة. هي التوجهات التي كان أبو بكر يمليها على قادته شفهية أو كتابية، حضوراً أو غياباً. وأهم هذه التوجيهات تلك التي أعطاها لأبي عبيدة ابن الجراح، وخالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص وغيرهم، وأهم ما تتضمنه هذه التوجيهات: الهدف والأعمال الواجب تنفيذها أثناء القتال والمكان المقصود والطرق أو المحاور المؤدية إلى الهدف والاتجاهات، وتحديد أمكنة الجيش وتمركزه والحراسة والطلائع والأشخاص الذين يقومون بهذه المهمة، وتعيين القادة للقلب والأجنحة والساقة، والحالات الخاصة التي تتعلق بالقائد أو بالمقاتلين، والتأمينات الاستطلاعية والإدارية، ورفع المعنويات، والحث على الصبر والثبات، وبذل المال والنفس، والاستنصار بالله، والصلاة، ورفع شعار المشورة والتعاون، أي أن هذه التوجيهات تحتوي كل المعلومات القتالية والفنية والإدارية والإنسانية(1). ومن أشمل توجيهاته تلك التي وجهها إلى عمرو بن العاص التي قال فيها: "اتق الله في سرك وعلانيتك، واستحيه في خلواتك فإنه يراك في عملك... وكن والداً لمن معك، وارفق بهم في السير... واعلم يا عمرو أن معك المهاجرين والأنصار من أهل بدر فأكرمهم واعرف حقهم، ولا تتطاول عليهم بسلطانك.. وأصلح نفسك تصلح لك رعيتك... وإني قد وليتك على من قد مررت من العرب، فاجعل كل قبيلة على حميتها.. وإذ رأيت عدوك فاصبر.."(2) كما أن توجيهاته إلى يزيد بن أبي سفيان كانت عميقة، فيها من المبادئ القتالية والأمور التنظيمية والمفاجأة وكتمان السر ومجابهة العدو(3).
__________
(1) الشيباني- شرح السيد الكبير: 1/46، 47، الواقدي -فتوح الشام: 1/2، 4، 7، وتر- الإرادة العسكرية حروب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: 159-162.
(2) الواقدي- فتوح الشام: 1/7/8.
(3) المسعودي- مروج الذهب: 1/415.(1/292)
25- الاحتياط الاستراتيجي. كان أبو بكر يهتم كثيراً بهذا الاحتياط، ويوليه أهمية كبرى، لأنه يساعد على مجابهة المواقف المفاجئة وغير المتوقعة، وعلى إمداد القوات التي يتطلب موقفهما القتالي مزيداً من الرجال والعتاد، وعلى سد الخسائر التي تحصل في الجيوش المقاتلة، وعلى تشكيل قيادات أو جيوش جديدة لأحد جبهات القتال. مايكون هذا الاحتياطي بيد القائد الأعلى الذي يتصرف به طبقاً لما يمليه الموقف والظروف المتبدلة في الحرب. وقد يكون حجم الاحتياطي كبيراً أو صغيراً بحسب ظروف البلد الاقتصادية والمادية البشرية والخبرة القتالية ومعنويات المقاتلين وإمكانياتهم التدريبية. فعندما أرسلت القوات العربية مع أسامة بن زيد طمع الطامعون من المرتدين في الهجوم على المدينة وعلى القيادة العامة فشكلوا قوة مؤلفة من عدد من القبائل، وأرادوا بها النيل من الحكم الجديد، لكن أبا بكر جمع القوة الاحتياطية التي استبقاها بيده وهاجم بها هؤلاء الأخلاط من المرتدين(1)، وكذلك فإنه أمدّ خالد بن الوليد بالاحتياط عندما حارب المرتدين(2)، وبخاصة قبل معركة اليمامة، وأمده في جبهة الشام، كما أمدّ به الجيوش التي توجهت لقتال الروم، كما عزز أبا عبيدة بن الجراح(3)، وكان يكمل النقص أثناء المعارك كما جرى بعد معركة اليمامة(4)، وشكل القيادات التي أرسلها لفتوح الشام وأكملها(5).
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/478 ومابعدها، ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/107.
(2) ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/111، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 361، 385.
(3) ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/112.
(4) ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/112، ابن الأثير- الكامل في التاريح: 2/366.
(5) البلاذري- فتوح البلدان: 150، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/402 ومابعدها.(1/293)
26- الخنق الاستراتيجي. هو عزل منطقة القتال عن كل إمداد، وقطع طرق المواصلات جميعها عن العدو بغية استنزاف قوته القتالية، ووسائطه المادية، وإضعاف معنوياته ليسهل التغلب والانتصار عليه(1) بأقل الخسائر البشرية والمادية.
__________
(1) جمهرة من المؤلفين العسكريين المختصين- الموسوعة العسكرية: 2/185.(1/294)
عندما أرسل أبو بكر العلاء بن الحضرمي ليقاتل المرتدين في البحرين(1)، وكان قبل أن يلتحق هذا القائد في تلك المنطقة المثنى بن حارثة الشيباني الذي تجرأ على الفرس وهاجمهم في عقر دارهم(2). كانت تعليمات القائد الأعلى أن يكون القائد العام في مسرح العمليات العلاء، وأن يساعده في ذلك المثنى الذي عهد إليه أن يحتل النقاط الاستراتيجية من أراضي البحرين أهمها القطيف، وأن يمنع الفرس من التحرك أو الاتصال مع المرتدين، وبهذا العمل فقد أتاح للعلاء بن الحضرمي أن يستنزف قوة المرتدين ويضعف معنوياتهم، ويشتت شملهم، فهربوا فاقتفى أثرهم، وقضى على أكثرهم(3)، كما أرسل أبو بكر إلى خالدٍ بسليط الذي كان من مهمته قطع خطوط المواصلات المؤدية إلى اليمامة، وأن يكون ردءاً لظهر قوات خالد، وأن يمنع القبائل التي يمكن أن تهاجم الجيش من الخلف(4)، وبهذا العمل استطاع خالد أن يتفرد بمسيلمة، وأن يستنزف قوته، وكما تم ذلك عند محاصرة دمشق، فقد قطعت الطرق المؤدية إلى دمشق طريق برزة وطريق حمص- دمشق، وطريق دمشق -الكسوة، من جهات ثلاث(5)، ولما طال الحصار ورأى الروم أن لاأمل من النجدات بعد أن قطعت محاور الطرق فضعفت معنوياتهم وانهارت قواهم، مما عجل باستسلام المدينة وفتحها(6).
__________
(1) ابن سعد- الطبقات: 4/361 ومابعدها، ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/1086، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 4/259.
(2) ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4/299.
(3) ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/110.
(4) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/505.
(5) البلاذري- فتوح البلدان: 121، الطري- تاريخ الأمم والملوك: 2/626.
(6) راجع الفصل الخامس- حصار وفتح دمشق .(1/295)
27-الهجوم على المستويين التكتيكي والاستراتيجي. بدأ أبو بكر حروبه بهجوم تكتيكي، وتلاه بهجوم استراتيجي وهي القاعدة الصحيحة المتبعة في الحروب. وما من نصر استراتيجي إلا ويسبقه نجاح تكتيكي، ففي حروبه مع المرتدين هاجمهم قبل أن يهاجموا المدينة، فقد شكل قوة من بقية المقاتلين- بعد خروج أغلب المقاتلين مع أسامة بن زيد إلى شمالي البلاد على حدود الروم، وخرج بها إلى ذي القصة فقاتل المرتدين وانتصر عليهم، وعاد إلى المدينة بعد أن ترك قوة عسكرية في تلك المنطقة. وفي نظري أن هذا الانتصار- الذي يعتبر على المستوى التكتيكي أهم انتصار في حروب أبي بكر الصديق لأنه مهّد لهجوم استراتيجي شمل ثلاثة مسارح عمليات كبيرة في شبه جزيرة العرب، وفي العراق، وفي بلاد الشام، وأضعف من معنويات أعدائه فأصبحوا يخشون بطش أبي بكر وانتقامه، ويقولون: لولا أنه يملك من القوة ماتجرأ على الخروج من المدينة، ولما أرسل أسامة، وأيقنوا أن القوة لاتزال في زخمها، حتى ولو مات محمد، وخرج أسامة، مما حدا ببعض القبائل أن تعود إلى حظيرة الوحدة، وحدا ببعضها الآخر أن تكف وتمتنع عن المجابهة أو الخروج من الدين. وكرر أبو بكر هجومه التكتيكي ثانية- وذلك عندما وصل جيش أسامة من مهمته الذي نفذها بنجاح- فخرج من المدينة باتجاه الأبرق التي تبعد حوالي 100كم شمال شرقي المدينة، ففتح قواته وهاجمهم، واستطاع أن يهزمهم ويطاردهم . ومن هنا وبعد أن حقق نجاحاً تكتيكياً أمر بتشكيل أحد عشر تشكيلاً رسم لهم خطته الاستراتيجية في اكتساح شبه جزيرة العرب، والقضاء على المرتدين.(1/296)
بدأ الهجوم الاستراتيجي منذ هذه اللحظة، فخرج خالد بن الوليد إلى بزاخة ثم إلى البطاح، وعكرمة بن أبي جهل إلى اليمامة، وعمرو بن العاص إلى تبوك ودومة الجندل، وشرحبيل بن حسنة يتحرك خلف جيش عكرمة، وخالد بن سعيد بن العاص إلى مشارف الشام، وطريفة بن حاجز إلى شرقي المدينة ومكة، والعلاء بن الحضرمي إلى البحرين، وحذيفة بن محصن الغلفاني إلى عُمان، وعرفجة بن هرثمة البارقي إلى مهرة، والمهاجر بن أبي أمية إلى حضرموت، وسويد بن مقرن المزني إلى تهامة وعدن.
من الملاحظ أن هذا الهجوم قد اتصف بصفات جعلت الباحثين العسكريين يؤمنون بريادة وعبقرية أبي بكر الاستراتيجية في الهجوم، فهو قد غطى أرض الجزيرة العربية كلها جنوبها وشمالها، شرقها وغربها، وعين لها القادة الاستراتيجيين الذين لهم خبرة وماض مجيد في الحروب والمعارك، وحدد الاتجاهات الرئيسية والثانوية، فالرئيسية أرسل إليها خالد بن الوليد، والثانوية أرسل إليها القادة الذين تناسب أوضاعهم وإمكانياتهم القتال في هذه الاتجاهات، كما عزز الاتجاهات الرئيسية. بتشكيلات من نفس هذه التشكيلات المشكلة بالأوامر والتعليمات عند بدء الهجوم وقيد العدو وحدّ من حركته الاستراتيجية، فهو الذي أرسل عكرمة بن أبي جهل وشرحبيل ليقيدا حركة مسيلمة الكذاب وليمنعاه من التحرك نحو المدينة، وليظل متربصاً بقواته في منطقة اليمامة. ومن هذا التثبيت والتقيد يمكن لأبي بكر أن يتفرغ لغيره من المرتدين في أنحاء الجزيرة، وبالتالي يمكن للتشكيلات التي انتهت من مهمتها أن تتحرك لقتال مسيلمة، وبذلك يحصل التفوق، وتتحقق النسبة للقيام بالهجوم الاستراتيجي الذي سوف يحقق نصراً لامحالة طالما أن شروط هذا الهجوم قد تحققت.(1/297)
لقد نجح هجوم هذا القائد على المستوى الاستراتيجي أيضاً في جبهة العراق عندما تفرغ لها بعد أن انتهى من حروب الردة، ووجه إليها قائدين من أكفأ قواته هما خالد بن الوليد وعياض بن غنم، وأمرهما أن يدخل أحدهما من أسفل العراق والآخر من أعلاه، ليلتقيا بعد نجاحهما بالحيرة، وخطط لكل واحد منهما نقطة البدء وخط الهجوم، وعين لهما المحاور والمناطق الاستراتيجية والأفضليات كما نجح أيضاً في هجومه الاستراتيجي على الجبهة الشامية، إذ أرسل الجيوش التي أحاطت بقوات الروم من جميع جوانبها الثلاثة، وأمرها بالانتشار على جبهة واسعة عند الدفاع، وجبهة ضيقة عند الهجوم، وتجميع القوات عند اقتحام قوة الروم الكبيرة، والتقت بعد ذلك الجيوش جميعها في هذه الجبهة لتقاتل عدواً مشتركاً هو الجيش الرومي الذي كان يتفوق عدة وعدداً. فانظر إلى فعالية هذا الهجوم وأهميته وكيف بدأ بتشكيلات متعددة في القتال مع المرتدين، وانتهى بتوحيد جيش قوى ضارب استراتيجي خاض غمار الحروب السابقة، والتقى في أرض بقيادة قائد واحد انتصر على الروم وخاض معهم معركة فاصلة انتهت برحيلهم من غير رجعة عن هذه الأرض.
على الرغم من نجاح قادة أبي بكر في جميع الجبهات، فإنه لم يعهد للقيادة الاستراتيجية لأحد من هؤلاء حتى على مستوى الجبهة الواحدة، وبقيت الإدارة الاستراتيجية بيده، يحرك الجيوش المختلفة من المدينة، وهو على علمه بقيادة خالد الذي برز في كل الجبهات، ومع ذلك فلم يسلمه قيادة استراتيجية، بل بقي قائد جيش شأنه في ذلك شأن عياض بن غنم في العراق، وقادة التشكيلات في حروب الردة. وعلى مايبدو فإن أبا بكر ترك لمرؤوسيه من القياديين التخصص بالأمور التكتيكية، واحتفظ لنفسه بالأمور الاستراتيجية؛ هذا ليس معناه انتقاصاً لقادته، وإنما ليفهم أن كل مرؤوس عليه أن يجتهد لكي ينجح في المهام والمعارك التي كلف بخوضها.(1/298)
28- المناورة الواسعة بالقوى والوسائط. لقد تميز أبو بكر بمناورته الاستراتيجية، فقد شكل في حروب الردة أحد عشر تشكيلاً دفعة واحدة، وبثها في طول شبه الجزيرة وعرضها على مساحات واسعة، بحيث غطى الأماكن جميعها التي ذرّ فيها قرن العداء والردة. وبفضل نشاطه في المناورة، فقط تمكن أن يحرك تشكيلات من اتجاه إلى آخر بغية تعزيز الاتجاه الأكثر خطورة إذ أوعز إلى عكرمة وشرحبيل أن يلتحقا بتشكيل خالد الذي كلف فيما بعد بقتال مسيلمة، وحشد كل الإمكانيات والوسائط لتعزيز هذا الاتجاه لأنه يعلم أنه أخطرها وأهمها، وإذا ما نجح هذا الاتجاه فإنه سيكون سبباً لنجاح الاتجاهات الأخرى. وكذلك فإنه عزز وأمر بتحريك تشكيل المهاجر بن أبي أمية وعكرمة إلى حضرموت لدعم ومساندة تشكيل زياد بن لبيد، وبهذا فقد تمكن من الانتصار على خصمه الأشعث بن قيس، واستطاع أن يدحره ويشتت شمل المرتدين في ذلك الاتجاه. هذا كله مع السرعة في المناورة، والتحرك ضمن المساحة الواسعة، وضمن الزمن المقدر تكتيكياً ضمن المعركة والاستراتيجي الذي استغرق زمناً قياسياً أقل من سنة.
أما حروب العراق فقد كانت المناورة الاستراتيجية على أراضي هذا البلد من الشمال والجنوب من أعلى العراق ومن أسفله، ثم قام. إكمالاً للمناورة- بتعزيز الجيشين الداخلين بتشكيلات بقيادة أربعة قادة(1)أمرهم أبو بكر بالانضمام إلى جيش خالد بن الوليد وبهذا التعزيز أصبح الجيش الذي سيدخل من أسفل العراق قادراً على خوض المعارك بكل حرية واطمئنان، ونفذ مهمته، وأنقذ جيش عياض الذي توقف في دومة الجندل، وبفضل مناورة جيش خالد التكتيكية، استطاع أبو بكر توجيه هذا الجيش باتجاه الأهداف ذات الأهمية الاستراتيجية.
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/554.(1/299)
أما حروب الشام فقد أرسل أبو بكر الجيوش المتتابعة من اتجاهات مختلفة وأسند لكل جيش مهمة في المناورة ضمن اتجاهه، وهل كانت مناورة أوسع من المناورة التي امتدت من حمص حتى جنوبي دمشق باتجاه الأردن حتى الواقوصة؟ ومع هذه المناورة الواسعة، فقد استطاعت هذه الجيوش أن تجتمع عند الشعور بالخطر إذ نقلت قواها ووسائطها بسرعة إلى الاتجاه الخطر بل الأخطر من كل الاتجاهات. وبمناورة القادة التكتيكية السريعة، اجتمعت التشكيلات والتعزيزات في منطقة حساسة اختارتها القيادة العربية، وتوفي أبو بكر وأتم هذه المناورة المخططة عمر بن الخطاب الذي أرسل بتعزيزات كبيرة إلى منطقة القتال بقيادة سعيد بن عامر(1)، وأمر فيما بعد اليرموك أن توجه الجيوش لإكمال الفتح.
__________
(1) الواقدي-فتوح الشام: 1/110.(1/300)
لقد تميزت مناورة أبي بكر الواسعة بالسرعة، وبتحرك الجيوش على محاور مختلفة، وبتحديد نقطة الوصول، وبحرية العمل للقادة المرؤوسين، وبالتعاون أثناء التحرك، وكيفية التعامل مع العدو، ويعتبر تحرك خالد بن الوليد من العراق إلى الشام نموذجاً للمناورة الواسعة التي أمره بها أبو بكر الصديق، كما يعتبر تحرك جيش يزيد من المدينة، وبقية الجيوش لتلتقي بوقت واحد تجاه الجيش الرومي الذي حشد كل إمكاناته القتالية. وظهرت براعة القائد الأعلى في المناورة عندما حدد لهذه الجيوش جميعها منطقة الأعمال القتالية المقبلة التي غطت مع بعضها جبهة عريضة من الشمال من حمص وحتى الجنوب من غزة، بحيث تمكنت هذه الجيوش أن تشكل سداً منيعاً أمام القوات الرومية؛ ومن ميزة هذه المناورة أيضاً أنها بهذا الامتداد تستطيع -في حال الهجوم- أن تلتف من الشمال والجنوب، فأبو عبيدة بن الجراح من الجناح اليميني في حمص، وعمرو بن العاص من الجناح اليساري في فلسطين، يعاونهما الجار اليساري لأبي عبيدة وهو يزيد والجار اليميني لعمرو وهو شرحبيل، وكان خالد بن الوليد الذي سيصل ويحتل القلب في الجنوب من نهر اليرموك حيث وقعت هناك المعركة الفاصلة، وكذلك فإن هذه المناورة أعطت للقائد العام لجبهة الشام إمكانية جمع الجيوش في نقطة واحدة بعد انتشارها العريض، وهكذا دل أبو بكر بهذه المناورة على أنه قائد استراتيجي استطاع أن يحرك الجيوش، وينقل القوى إلى الاتجاهات الخطرة، ويسيطر سيطرة تامة على التجميع والانتشار، وأن يوجه الجيوش الكبيرة والمتعددة إلى حيث يريد.(1/301)
29-قتال الاتجاهات. أو الجبهات أو النطاقات أو القطاعات. اتسم قتال أبي بكر الاستراتيجي على أنه كان يقاتل عدوه بالاتجاهات، وذلك بأن يوجه كل جيش إلى نطاق (قطاع) معين من الأرض، ويسند إليه مهمة محددة، كما يأمر تلك الجيوش أن تتعاون لتحقيق الهدف العام، آخذاً بعين الاعتبار قوة العدو، وطبيعة الأرض، ولهذا فإنه يمكن أن يوجه جيشاً كبيراً أو صغيراً إلى اتجاه ما، ثم يوجه تشكيلاً أقل إلى اتجاه آخر، وقد يعين لهذه الاتجاهات من لهم علم بالأرض أو العدو الذي يقاتله، ومن لهم خبرة وتجارب سابقة، وحازوا على ثقة القيادة العليا. ففي حروب الردة أرسل أحد عشر تشكيلاً إلى جهات مختلفة، وقطاعات متباينة، وقبائل مختلفة. وفي فتوح العراق أرسل جيشين أحدهما من اتجاه الجنوب والآخر من اتجاه الشمال. وفي فتوح الشام أرسل أربعة جيوش أحدها باتجاه حمص، والثاني باتجاه دمشق، والثالث باتجاه الأردن، والرابع باتجاه فلسطين. إن هذه الاتجاهات كانت تقاد من قبل القائد الأعلى مباشرة في كل ما يتعلق بأمور الحرب، ومنه تصدر الأوامر إلى كل قائد اتجاه بما يتناسب مع المهمة الملقاة على عاتقه؛ أما قادة الاتجاهات فلهم أن يتصرفوا في حدود الأوامر الصادرة إليهم، ولهم الحرية على المستوى التكتيكي. ومن حقهم إعطاء الأوامر التي يرونها ضرورية إلى قادة التشكيلات (القطاعات) لديهم متقيدين بفكرة القائد الأعلى، والوضع الراهن المتشكل. وإذا اجتمع عدة جيوش فإنهم يشكلون جبهة. في هذه الحالة يكون قائد الجبهة تابعاً تبعية مباشرة للقائد الأعلى كما كان خالد بن الوليد قائد جبهة الجزيرة في حروب المرتدين، وكما كان قائد جبهة العراق في حروب الفرس، وأبو عبيدة بن الجراح قائد جبهة الشام.(1/302)
وإذا كان العدو قوياً فإن أبا بكر كان يجمع جميع الجبهات بقيادة أحد القادة منهم، وتكون هذه الجبهة مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالقائد الأعلى كما حدث أن اجتمعت جبهتا العراق والشام لقتال الروم في معركة اليرموك. وهنا في هذه الحالة، تركّز الجهود الرئيسية للدولة على هذا الاتجاه، وتدار العمليات على المستوى التكتيكي بإمرة القائد العام للجبهات، وعلى المستوى الاستراتيجي بإمرة القائد الأعلى. وإذا دعت الحاجة لتعزيز تلك الاتجاهات، فإن القائد الأعلى كان يجمع المقاتلين الاحتياطيين المتوفرين في المدينة وماحولها، ثم يرسل هذا التشكيل مدداً، كما أمدّ أبو بكر سليط بن قيس الأنصاري لخالد بن الوليد في حروبه باليمامة(1)، أو أن يأمر القائد الأعلى أحد الاتجاهات بالانضمام إلى اتجاه آخر لمعاونته، كما قام جيش خالد في العراق فأنقذ جيش عياض، وكما قامت كل الاتجاهات لمعاونة اتجاه جيش شرحبيل في الأردن.
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/505، ابن الأثير-الكامل في التاريخ: 2/138.(1/303)
إن قتال الاتجاهات كان يقصد منه أبو بكر تضليل العدو عن الجهد الرئيسي، وتوجيه القوات المعادية إلى اتجاه مميت، أو قليل الأهمية، والتعاون الوثيق بين الجيوش (التشكيلات)، وإمداد الجيش الذي تباطأ، أوتوقف بسبب قوة العدو وشدة المقاومة، والتطويق الذي يقوم به التشكيل الذي نجح في مهمته، إذ يعمل على الالتفاف على مجنبة ومؤخرة العدو الذي كان يقاتل تشكيلاً آخر، كما لايسمح بنفس الوقت بإجراء عملية التطويق لقواته وقوات الاتجاه الآخر يمنع العدو من أن يلتف أو يصل إلى مجنبات الصديق، كما أن قتال الاتجاهات كان يعطي استقلالاً في القيادة، والحرية في المناورة، والسرعة في التقدم، وفي خرق القوات المعادية كما في قتال خالد بن الوليد على الجبهة العراقية عندما ابتدأ من الجنوب متجهاً نحو الشمال، ليلتقي بقوات عياض بن غنم، وأخيراً فإن هذا النوع من القتال ينظف مسرح العمليات من العدو إذ يقضي حتى على البؤر الصغيرة، فلا يترك وراءه سوى الموالين وبعض القوات الصديقة لتثبت الاحتلال، ونشر العقيدة الجديدة.
30-قتال الجيوش المتلاقية، أو قتال التلاقي. هي الجيوش التي تسير على محاور مختلفة، وتنطلق من مكان واحد أو عدة أمكنة، لتلتقي بعد ذلك في نقطة واحدة وهدف واحد. ويحدد لكل جيش في هذه الحالة مهمة قتالية عليه أن ينفذها قبل أن يتلاقى مع غيره. وهذه الطريقة تعطي ميزات قتالية من أهمها سرعة المسير على المحور المحدد، وسرية التنقل، والتقليل من الضوضاء مما يتيح الإخفاء والتمويه، وزيادة التكتم، وتضليل العدو حيث يظن أن هذا الجيش المتقدم هو وحده، كما أنه يمكن جذب العدو وجعله يقدر تقديراً خاطئاً القوة الحقيقية، والكتلة الرئيسة.(1/304)
يمكن اتباع هذه الطريقة في حال وجود الخصم منتشراً في أمكنة متفرقة، وفي حال ضعف الخصم، وعدم قدرته على الوقوف أمام الرتل المتقدم، كما يعطي هذا النوع من القتال حرية الاختيار للقائد الأعلى الذي يمكنه أن يعين القائد الذي يريد، والاتجاه حسب حجم التشكيل، والهدف التام الذي سيحققه هذا التشكيل، والمراحل القتالية أي المهام القتالية كما يسمونها (مهمة مباشرة، وتالية، واتجاه هجوم).
كما يعطي هذا النوع من القتال لقائد التشكيل استقلالاً في القيادة، وحرصاً شديداً على تنفيذ المهمة المعطاة له مهما اعترضه من صعوبات وعقبات، وتنافساً شريفاً بين الجيوش المتلاقية باذلين في ذلك أغلى ماعندهم، ومقدمين التضحيات عن رغبة واندفاع، ومعنويات قوية إذ أن العرب تقاتل في القبائل التي تحافظ على شرفها وعزتها، وتحاول ما أمكنها ألا يؤتى الخذلان من قبلها، وعار الهزيمة من جانبها، فهي بذلك تكون أشد مراساً، وأثبت قتالاً، وأقوى شكيمة، وأمضى عزيمة وعناداً كقبيلة جديلة التي قاتلت كتلة واحدة مع قائدها جرير تحت قيادة المثنى في معركة البويب وغيرها من المعارك(1)، كما يحقق ويعطي هذا النوع من القتال تعاوناً وثيقاً بين هذه الجيوش، حتى إذا تأخر الواحد لوجود بعض الصعوبات ساعده الجيش الآخر، كما حدث لعياض ومساعدة خالد له(2).
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/652، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/179.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/578، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/152.(1/305)
لقد أدرك أبو بكر الصديق أهمية هذا الأسلوب القتالي، وطبقه أحسن تطبيق، فقد أرسل في حروب الردة جيش عمرو بن العاص ليلتقي بجيش شرحبيل بن حسنة في معركة قضاعة ووديعة، وكذلك في معركة دبا إذا التقى حذيفة مع عكرمة(1)، وفي معركة مهرة التقى عرفجة بن هرثمة مع عكرمة، والتقت الجيوش كلها في معركة اليمامة(2)، وفي فتوح العراق التقى خالد مع عياض(3)، وكذلك فإن خالداً عندما استلم مهمته في العراق حرك جيشه وقسمه إلى ثلاثة أرتال لتلتقي فيما بعد في الكاظمة(4) وفي فتوح الشام تحركت الجيوش الأربعة من المدينة، وجيش العراق من الفراض لكي تلتقي جميعها في اليرموك(5).
إن قتال التلاقي يشبه قتال الاتجاهات، إلا أن الأول يكون على مستوى ضيق تكتيكي وعملياتي وأحياناً استراتيجي، أما قتال الاتجاهات فهو ذو مستوى استراتيجي، وكذلك فإن في الأول جيوشاً أقل عدداً من الثاني أي يمكن أن نعتبر قتال التلاقي على مستوى فيالق، وقتال الاتجاهات على مستوى جيوش أو جبهات، والأول يقوده قائد عام من بين الجيوش المتلاقية، أما الثاني فيقوده القائد الأعلى في المدينة، وتكون القيادة إليه مباشرة كما حدث في حروب الردة، وكما حدث في معركة اليرموك.
31- التفتيت. هو التأثير على العدو نفسياً ومادياً، بحيث يجعله غير قادر على المقاومة، مصاباً بالشلل في أجهزة القيادة، فاقداً إرادة القتال، مستسلماً بدون معركة(6).
__________
(1) ابن كثير- البداية والنهاية: 6/330.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/504 ومابعدها.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/554.
(4) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/554.
(5) الواقدي- فتوح الشام: 1/128ومابعدها، أكرم- سيف الله: 476.
(6) مجموعة من المؤلفين العسكريين المختصين - الموسوعة العسكرية: 1/287.(1/306)
لقد اختار أبو بكر لهذا التفتيت خالد بن الوليد، كما كان على معرفة تامة بإمكانيات العدو، ونقاط ضعف، وخاصة عندما اتخذ قراراً هاماً وهو فتح العراق بعد الانتهاء مباشرة من حروب الردة(1)، وقدّر العدو الصديق في جميع حروبه بحيث خرج من هذا التقدير أنه يتفوق بقواه المعنوية والمادية على خصمه، كما فعل تماماً في حروب الردة، ثم درس ردود الفعل المتوقعة من قبل الفرس، وكذلك من قبل الروم فيما لو قام بحرب ضد هاتين الفئتين، أيقوم الروم بمساعدة الفرس؟ كلا؟ لأن بينهما عداوة، ويحبون أن يروا الانتقام من بعضهما البعض، وكذلك فإن الفرس دولة ضعيفة، جيشها قوي، لكن قيادته ضعيفة، والجو السياسي. ملائم لشن مثل هذه الحروب، وأما على مستوى التأثير المادي فإن أبا بكر وكز الامبراطورية الفارسية بخصرها بواسطة المثنى بن حارثة الشيباني الذي تجرأ أن يقوم بعدة غارات على أطراف الامبراطورية فيصيب منها، دون أن تحرك ساكناً، أو تدفع عنها مهاجماً، لهذا فقد قام القائد الأعلى بالمبادأة فوراً، وأعلن الحرب على فارس، وأرسل إليها أكفأ قادته يكيل لها الضربات المتتالية، موجهاً الضربات الحاسمة، بادئاً من أسفل العراق، وقام بعدة مناورات أدت إلى تحطيم قوة العدو نفسياً ومادياً، وبذلك استطاع أن يقوم أبو بكر بتفتيت مادي ومعنوي لهذه الامبراطورية ولجيوشها(2)، وحين أدرك أنه قد حقق مهمته في هذا الاتجاه ركز على اتجاه الشام، وفتت أيضاً بنفس الأسلوب قوى العدو الرومي مادياً ومعنوياً، بل استطاع أن يخرج من المعارك جميعها منتصراً، متوجاً تلك الانتصارات بمعركة اليرموك التي قضت نهائياً على الامبراطورية الرومية(3).
__________
(1) الطري- تاريخ الأمم والملوك: 2/553 ومابعدها.
(2) ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/384 ومابعدها.
(3) ابن عساكر- تاريخ مدينة دمشق: 1/443 ومابعدها.(1/307)
32-الإنذار القتالي: قبل أن يوجه أبو بكر الجيوش لحروب المرتدين، كتب إلى القبائل العربية المرتدة إنذاراً، يتضمن تذكيراً بعهد الله، والوفاء لرسوله، والإذعان لما جاء به، ثم دخل وانتقل بعد ذلك إلى التهديد إن لم ينصاعوا إلى الأوامر، وإن هم أبدوا تمردهم وارتدادهم، فمصيرهم القتل والحرق والسبي(1).
لقد حمل هذا الإنذار قائد التشكيل المرسل إلى العرب المرتدة ليقرأه عليهم ولينذرهم، فإن استجابوا نجوا، وإن امتنعوا قُتّلوا تقتيلاً(2)، "فمن استجاب له وأقر وكف وعمل صالحاً قبل منه وأعانه عليه، ومن أبى أمرتُ أن يقاتله على ذلك، ثم لايبقى على أحد منهم قدر عليه، وأن يحرقهم بالنار، ويقتلهم كل قتلة، وأن يسبي النساء والذراري...(3)ولما توجه خالد بن الوليد تلقاء فارس -بعد أن تلقى أمراً من القائد الأعلى- سار بجيشه حتى وصل تخوم الأراضي. وهنا وجه خالد إنذاراً -عندما وصل إلى الحيرة وقبلها إلى الكاظمة- إلى كسرى وإلى قبيصة بن أياس الطائي وكيل كسرى في تلك الديار، وقد تضمن هذا الإنذار معلومات تشبه معلومات الإنذار الذي وجهه أبو بكر إلى المرتدين(4)، كما كان ينذر كل قائد حامية قبل الهجوم عليها.
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/489، 502، 518.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/480-482، الخضري- تاريخ الأمم الإسلامية: 1/475.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/481، 484.
(4) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/551، 552.(1/308)
33- الإدارة. عني أبو بكر بإدارة البلاد، فقسم الجزيرة إلى ولايات، وجعل على كل ولاية أميراً، يتولى شؤونها، ويتصرف بها في حدود الشرع، وكذلك فإن خالد بن الوليد كان يولي بعض القادة على المدن التي يتم فتحها في العراق. فالوالي من الوجهة العسكرية مسؤول عن تأمين الدفاع عن ولايته، وحراسة الثغور والمنافذ، وقطع الطرق على العدو إن أراد كيداً بالجيش العربي، وفي حال الضرورة دعم هذا الجيش الذي تقدم لاحتلال أرض جديدة، كما كان القعقاع بن عمرو في الحيرة عندما تحركت الجيوش العربية باتجاه الشمال، أو باتجاه دومة الجندل(1)، وكذلك فإن خالد بعد معركة الولجة ترك قسماً من قواته في الجنوب وفي الأراضي والمدن التي احتلها لتكون له ردءاً، وحماية لظهره، وبعد أن احتاج إلى هذه القوات قبل معركة أليس سحبها وضمها إلى وحداته المقاتلة(2).
الولايات والأمراء على البلاد في زمن أبي بكر كما يلي:
1- مكة ... ... عتاب بن أسيد.
2-الطائف ... ... عثمان بن أبي العاص.
3- صنعاء ... ... المهاجر بن أبي أمية.
4- زبيد ورمع ... أبو موسى الأشعري.
5-الجند ... ... معاذ بن جبل.
6-البحرين ... ... العلاء بن الحضرمي.
7-نجران ... ... جرير بن عبد الله.
8-جرش ... ... عبد الله بن ثور.
9-دومة الجندل ... عياض بن غنم(3)
كما وعين خالد بن الوليد في أرض العراق عند حربه للفرس في تلك المنطقة:
1-الحيرة ... ... القعقاع بن عمرو
2-الأنبار ... ... الزبرقان بن بدر
3-عين التمر ... عُوَيم بن الكاهل الأسلمي(4).
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/574.
(2) أكرم- سيف الله: 382.
(3) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/617، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/420، الخضري -تاريخ الأم الإسلامية: 1/195.
(4) الطبري- تاريخ المم والملوك: 2/574،576،578.(1/309)
34-الشورى. اعتمد أبو بكر الشورى في شؤون القتال، فهو الذي شكل مجلساً من كبار القادة ومن أصحاب الرأي يستشيره في شؤون الحرب ومشكلاتها(1). هذا على مستوى مجموع القوات المسلحة؛ وأما على مستوى كل جيش أو مجموعة جيوش، فإنه كان يوصي أيضاً بالشورى(2)، وفي معركة اليرموك اجتمع مجلس حرب جيش الشام فأدلى كل واحد برأيه(3).
ولقد كانت دعوة أبي بكر إلى هذا المبدأ صريحة واضحة، إذ أعلنها من أول يوم استلم فيه القيادة، فلقد استشار مجلسه في أمر المرتدين وحربهم(4)، وكذلك استشاره في فتح العراق، وفي فتح الشام(5).
لكل عضو في المجلس ملء الحرية بالإدلاء برأيه، ويطرح للمناقشة، ويخرج الجميع بتصور عام، واستقراء لكل المسائل المطروحة، والنظرة المستقبلية.
ليست آراء المجلس ملزمة لرئيس المجلس، وإنما يستطيع القائد الأعلى أن يقرر بعد أن يستمع إلى آراء الجميع، ثم يمضي قدماً لما يقرره ويراه صواباً(6).
__________
(1) ابن واضح- تاريخ العيقوبي: 2/107، ابن دحلان- الفتوحات الإسلامية: 1/135
(2) الواقدي- فتوح الشام: 1/4،8,
(3) الشيباني -شرح السير الكبير: 1/49، 50.
(4) ابن قتيبة- الإمامة والسياسة: 1/14، البلاذري- فتوح البلدان: 103
(5) الكاند هلوي- حياة الصحابة: 448 ومابعدها.
(6) انظر النقاش بين أعضاء المجلس عند الكاند هلوي- حياة الصحابة: 448-451.(1/310)
35-الرواتب. حُدد للخليفة القائد الأعلى للجيش ستة آلاف درهم سنوياً يتقاضاها من الخزينة(1)، كما حدد للمقاتل- أن يأخذ- أربعة أخماس الغنيمة كلما حصل عليها، وينفّلها له قائد الجيش، ثم يرسل بالخمس إلى الخليفة في المدينة. وهذه الغنائم مرتبطة بالانتصار على العدو، واحتلال مدنه وأراضيه وأمتعته، وعلى هذا فإن الغنيمة ليست دراهم، أو أعتدة، أو ملابس، وإنما تكون من كل ماحصل عليه الجيش واستولى عليه. وكان يصيب الفرد في معركة واحدة أكثر من ألف وخمسمائة درهم(2)، بالإضافة إلى الأسلحة والأعتدة، أي أن راتب الجندي كان يعادل أضعاف راتب الخليفة السنوي. وكانت موارد الخزينة من خمس الغنائم، والزكاة، والجزية. كلها موضوعة تحت تصرف أبي بكر ينفقها ويعطي منها رواتب للموظفين، وعمال الزكاة، ووجوه الانفاق الأخرى(3).
36-قواعد الإمداد. هناك قاعدة رئيسية هي المدينة المنورة، وقاعدتان تحتل الدرجة الثانية هما مكة والطائف، وقواعد متقدمة كالبحرين وعُمان. مهمة هذه القواعد جميعاً الإمداد بالرجال والعتاد والوسائط المادية المختلفة التي يحتاجها الجيش في حروبه وفتوحاته، في كل قاعدة رئيس لها مهمته تحضير وإعداد هذه الأعتدة والمواد، وتأمين وسائط النقل الكافية التي كانت تقع في الأغلب على عاتق المقاتل نفسه. وقد لعبت القواعد المتقدمة دوراً كبيراً في إمداد الجبهات، وبخاصة بالوسائط المادية، أما القاعدة الرئيسية فكانت تهتم أكثر بإمداد الرجال والقادة، وكثيراً ماكانت القواعد المستولى عليها من العدو يتوفر فيها جميع ما يحتاجه الجيش، وبخاصة من مواد الطعام.
__________
(1) ابن سعد- الطبقات: 3/184، 186، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/424.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/556، 557، 562 ، خماش- الشام في صدر الإسلام 334 ومابعدها.
(3) الخضري- تاريخ الأمم الإسلامية: 1/196.(1/311)
37-المهمة الصعبة. لقد استلم أبو بكر المهمة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الردة قد انتشرت ولم يؤمن بعض الصحابة في قتال المرتدين كما تخلف قسم منهم عن المبايعة، واستشرى النفاق، وتطاول المتنبئون، وأعلنوا نبوتهم، وادعى أصحاب التيجان الملك، واضطربت المدينة، وأصبح الناس سكارى وماهم بسكارى، يحتاجون إلى من يقودهم وينظمهم ويعيد تعبئتهم على أسس جديدة، والفتن في أرجاء الجزيرة كقطع الليل المظلم، أفاق أهلها على النور وهم حديثو عهد بالكفر، فافتتنوا عند موت رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان على أبي بكر أن يتصدى لهذه المهمة بكل عزيمة وقوة، فيكون له قلب كبير يتحمل ويحتوي هؤلاء الأصحاب، وأن تكون له عزيمة وشدة يتلقى بها كيد الذين ارتدوا، وأن يُسكت الذين أعلنوا النبوة والملك، وأن يداري في حكمه تلك الفئة التي ضلت وأضلت، وأن يعيد تنظيم الجيش، ويعده الإعداد القتالي السريع، لكي يأخذ على عاتقه مهمة قتال المرتدين، وقتال الفرس والروم. وقالت عائشة: "توفي رسول الله فنزل بأبي مالو نزل بالجبال لهاضها."(1)
لقد كان أبو بكر لها، فبدأ أول مابدأ بإعلان الحرب التي لاتبقي ولا تذر على كل من تسول له نفسه النيل من الحكم الجديد، فوجه الجيوش إلى كل حدب وصوب، واعتمد على القوة العسكرية، واتخذ مقر قيادة ميدانية بالقصبة، وأخذ يصدر الأوامر تباعاً، ويعين القادة، وينظم التعبئة، حتى آن له أن ينهض بهذه المهمة الصعبة(2).
__________
(1) البلاذري- فتوح البلدان: 132.
(2) البلاذري- فتوح البلدان: 132.(1/312)
هل كان رجل غير أبي بكر قادراً على تلقي هذه المهمة؟ كلا إنه الوحيد الذي عجم عودها، واستعد لها، حتى إن عمر بن الخطاب لم يكن مستعداً إذ فاته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، وذهل من هول هذه المصيبة التي ألمت بالمسلمين(1)، وكذلك فإنه لم يقنع بادئ الأمر بقتال المرتدين. وهكذا فإن الصحابة لم يكونوا مهيئين لاستلام هذه المهمة، وكان أبو بكر هو المهيأ الوحيد لاستلامها.
هذه مجمل ريادة وقيادة أبي بكر على مدى زمن قصير، فلقد كان ماضيه مشرفاً، وثقافته متلألئة، ومنزلة عالية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستقامته دستوراً، وجوده نافعاً، ولحزمه شديداً، وشجاعته منقذة، وفراسته حكمة ورؤية ونوراً، ونظره ثاقباً بصيراً، وقراره سريعاً وصحيحاً، ومبادأته ناجحة، وعقله راجحاً، وقيادته مركزية مبتكرة، واستراتيجيته متفوقة بعيدة المرمى، متوازنة التخطيط والتنفيذ، وتعاونه مثمراً، استخدم الاحتياط الاستراتيجي في زمانه ومكانه، وكذلك الخنق الاستراتيجي، والهجوم، وناور باتساع بالقوى والوسائط، وأدرك أهمية السرعة، وخفة الحركة في ميادين القتال، وابتكر وطور قتال الجيوش المتلاقية، ونظام التفتيت القتالي، وفوق كل هذا فقد كان إدارياً منظماً لإدارة البلاد ولإدارة الحرب بآن واحد. حقاً إنه صاحب الريادة الذي اكتشف بها ماكنا نجهله، وعلّمنا العلم العسكري الرائد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــ
ــــــــــ
الفَصل السّابع
قادة الجبَهات
والجيوش والتشكيلات
__________
(1) الذهبي- تاريخ الإسلام: 1/336 ومابعدها.(1/313)
تشكل الجبهة عادة -في المفهوم العسكري الحديث- من عدة جيوش، ويشكل الجيش من عدة تشكيلات من عدة جحافل (فيالق) أو فرق، أو ألوية، ويشكل التشكيل -حسب المستوى- من عدة فرق، أو ألوية أو كتائب، فإن كان المستوى جحفلاً (فيلق) تشكل من عدة فرق، وإن كان المستوى فرقة تشكلت من عدة ألوية، وإن كان (لواء) تشكل من عدة كتائب أو أفواج.
لقد كان في زمن أبي بكر ثلاث جبهات هي شبه جزيرة العرب، العراق، الشام. فلم يعين القائد الأعلى قادة جبهات؛ إنما كان يدير الجيوش والتشكيلات في هذه الجبهة بصورة مباشرة أي أن قائد الجيش أو التشكيل يتبع القائد الأعلى؛ إلا أنه في جبهة الشام تجمعت الجيوش كلها في جيش واحد كبير، وأصبح هذا الجيش يتبع مباشرة إلى أبي بكر الصديق، وقاد هذا الجيش الكبير خالد بن الوليد؛ أما قادة الجيوش فقد كانوا يشكلون في كل جبهة عدداً كبيراً؛ أما قادة التشكيلات فقد ظهروا بصورة واضحة في معركة اليرموك عندما تشكل هذه الجيش من عدة (كراديس) وكل عدة كراديس يشكلون فرقة (فيلق) ولكل فرقة قائد، ولكل كردوس قائد.
أولاً: القادة في جبهة شبه جزيرة العرب
ظهر أول ماظهر في هذه الجبهة القائد الأعلى أبو بكر الصديق الذي قاد المعارك الأولى ضد المرتدين ومعه الإخوة الثلاثة النعمان بن مقرن المزني قائد الميمنة، وأخوه أبو عبد الله قائد الميسرة، وأخوه سويد قائد الساقة(1)، وظهر كذلك أسامة بن زيد الذي نفر بالجيش الكبير(2) تنفيذاً لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه كبار قادة الجيش.
__________
(1) الذهبي- تاريخ الإسلام: 1/30، ابن خلدون- ديوان المبتدأ والخبر: 2/2/66.
(2) ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 1/75، ابن عساكر- تهذيب تاريخ دمشق الكبير: 1/117.(1/314)
لما رجع أسامة من مهمته أعيد تنظيم الجيش، وعين القادة طبقاً لهذا التنظيم، فقد شكل أبو بكر أحد عشر تشكيلاً وعهد بقيادتهم إلى خالد بن الوليد، عمرو بن العاص، خالد بن سعيد بن العاص، شرحبيل بن حسنة، عكرمة بن أبي جهل، سويد بن مقرن المزني، العلاء بن الحضرمي، طريفة بن حاجز، المهاجر بن أبي أمية، حذيفة بن محصن الغلفاني، عرفجة بن هرثمة البارقي.
1- أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي ت54/674
ورث عن أبيه الصفات العسكرية التي تؤهله لمركز قيادي مرموق فقد كان جديراً بالقيادة لما تحلى به من جرأة وشجاعة وإقدام وحسن تصرف وقرار صحيح، ولما يتميز به من حزم ومرونة(1).
تأثر بالقائد العظيم والرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم حيث نشأ في رعايته، وحاز على ثقته ومحبته وصحبته، وكان يردفه خلفه، ويأخذه مع الحسن بن علي(2).
عرض نفسه كجندي في معركة أحد، ورُدّ لصغره، ثم أجيز في السنة التالية وفي معركة الخندق، وشهد المعارك التي تلت.. وفي غزوة حنين صمد حين هرب المقاتلون، وقاتل حين تراجع الأبطال من بني قومه. وقد شهد غزوة مؤتة. فقاتل تحت قيادة أبيه في هذه الغزوة، وقتل أبوه في هذه المعركة، وهو يحمل حب الثأر والانتقام من قاتلي أبيه(3)، ثم رُقي إلى مرتبة القيادة فقاد السرايا التي تندب لقتال الأعداء، وأظهر حنكة في قيادته، وطبق مبادئ القتال المعروفة، وأكثر ما كان يطبق المفاجأة والسرعة في الأعمال القتالية، ووضوح الهدف والرؤية، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيادته: "إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل وأيمْ الله إن كان لخليقاً لللإمارة..."(4).
__________
(1) خطاب -قادة فتح الشام ومصر: 35-38.
(2) ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 1/65.
(3) ابن سعد- الطبقات: 2/128، 129.
(4) ابن سعد- الطبقات: 4/65،66، البخاري- باب المغازي: 42، 87، مسلم -باب الفضائل: 63، 64، الترمذي- باب المناقب: 39.(1/315)
فيما يروى أنه كان أسود اللون، في وجهه آثار الجدري، ممتلئ الجسم، أفطس(1). وكان يرى فيه النشاط والحيوية والقوة(2).
معرفته بأبي بكر معرفة العقيدة، والاحترام، ومجاورة بيت النبوة، وفي المعارك حيث كان يقاتل جنباً إلى جنب مع أبي بكر في حروب وغزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، وثبت في المعارك كما ثبت أبو بكر تماماً، وبخاصة في غزوة حنين(3)، ولطالما أن أبا بكر قد عرفه من قبل، وعلم من بأسه وقوته في الحروب، وشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبو بكر لن يتوانى أبداً أن يسلمه الجيش الذي سيصل إلى حدود بلاد الروم.
__________
(1) ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 1/75، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 1/66، ابن كثير- البداية والنهاية: 6/304، 305.
(2) ابن سعد- الطبقات: 4/65 ومابعدها.
(3) ابن سعد- الطبقات: 2/151.(1/316)
كلف أسامة بقيادة الجيش وفيه كبار القادة(1)، وهو صغير السن لا يتجاوز الثامنة عشرة من عمره(2)، وأسندت إليه مهمة الوصول إلى حدود البلقاء والداروم، واستنفرت القوات المسلحة، وجهزت بالأسلحة والذخائر والمؤن وحشدت بالجرف(3)، وماعليها إلا أن تتلقى الأوامر للتوجه إلى مهمتها وهدفها، في هذه الأثناء انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وتوقف الجيش هنيهة لتلقي أوامر جديدة من الذي سيخلف الرسول صلى الله عليه وسلم. وبويع أبو بكر الصديق، وأوكل إليه أمر هذا الجيش إما ببعثه أوباستبقائه، وهو لايزال على أهبة الاستعداد(4). أسامة يتحرج في قيادة هذا الجيش، وذلك لذر قرن الردة في القبائل، ولوجود من هو أكبر منه سناً، وأعلى منه منزلة، ولوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان يرى فيه الود والألفة والرحمة والعطف الأبوي؛ لكنه عاد فتجاوز كل هذا عندما أكد القائد الأعلى الجديد على تأكيد قيادته وتثبيتها، وأمره بتنفيذ أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم(5)،
__________
(1) ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 1/29، ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب 1/75، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 1/64، 66.
(2) الذهبي- سير أعلام النبلاء: 2/355.
(3) ابن عساكر- تهذيب تاريخ دمشق الكبير: 1/117، ابن كثير- البداية والنهاية: 6/35.
(4) ابن سعد- الطبقات: 2/191، ابن واضح -تاريخ اليعقوبي: 2/106.
(5) ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/106/ ، البلخي- البدء والتاريخ: 5/152، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 1/29..(1/317)
وعلى هذا فإن أسامة قد تقلد هذه الدرجة، وهو لايزال في ريعان شبابه، مما لم يحصل عليها غيره من الذين بلغوا من العمر الكهولة، ولهذا فهو مؤهل لأن يستلم هذه القيادة التي أسندها إليه القائد الأعلى السابق واللاحق،(1) وقد اعترف له الجميع، وها هو عمر بن الخطاب يقول: "ما كنت لأحيي أحداً بالإمارة غير أسامة.."(2)
لما عاد من مهمته منتصراً، اشترك في حروب الردة مع خالد بن الوليد، وقاتل قتالاً شديداً في اليمامة(3)، وكان كعادته ثابتاً، شجاعاً، مرناً مندفعاً، حازماً، يتصرف في مناورته كأنه سهم حارق، وفي حركته كأنه سيل جارف.
كان لأسامة دور كبير في محاربة المرتدين، فهو منذ خروجه من المدينة نحو الشمال اصطدم بقبائل قضاعة التي ارتدت عن الإسلام، وأظهرت عداوتها للخليفة وقادته، ولم تستطع هذه القبائل الصمود أمام جيش أسامة الذي كان يتميز بالاندفاع والحركية العالية وحب الثأر والانتقام من هؤلاء ومن أعداء أبيه، فعاد قسم كبير منهم إلى الإسلام ودفعوا الزكاة، وبقي قسم منهم غير قليل من الذين بقوا على إسلامهم، حتى كادت بعض القبائل تقتتل فيما بينها، وحدثت مذابح كثيرة فردية وجماعية.
لقد تدرج أسامة في القيادة، فكان مقاتلاً عادياً تدرب على فنون القتال، ثم ارتقى فكان قائد سرية (كتيبة)، ثم ارتقى فكان قائد جيش ضم كبار الصحابة والقادة، ولذا فإنه يعتبر من قادة الجيوش الكبار، وهو لايزال صغير السن.
__________
(1) ابن سعد- االطبقات: 2/190، ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الاصحاب: 1/76، ابن عساكر- تهذيب تاريخ دمشق الكبير: 1/117.
(2) ابن سعد- الطبقات: 4/67.
(3) البلخي- البدء والتاريخ: 5/152.(1/318)
لقد أسندت إليه مهمة سياسية وإدارية بعد حروب الردة حيث تولى البصرة عندما اشتدت الفتنة في عهد عثمان(1)، وقد أظهر من حنكة السياسة، وحسن التصرف مايليق به أن يكون زعيماً سياسياً ووالياً يتولى شؤون الناس، ويتصرف في أمورهم.
حقاً إنه جندي وقائد عقائدي، حمل لواء العقيدة وآمن بها إيماناً راسخاً لا يتزعزع(2)، وجعل عنوان هذه العقيدة: "لا إله إلا الله..."(3)في كل حروبه، وكان يأبى أن يقاتل من يقولها. وهذا مايفسر اعتزاله القيادة والسياسة في أيام الفتن والإضراب، وبخاصة في أيام عثمان بن عفان. وكان يتميز بحس قتالي، وبإمكانية كبيرة على وضع الاحتمالات والتنبؤات العسكرية، وهو يتأتى من عقلية راجحة متزنة على تمييز الأمور ووضعها في نصابها.
إن جيش أسامة بعث في المسلمين قوة معنوية كبيرة، وثبط بالمقابل عزيمة أعدائهم من الفرس والروم، وأسكت القبائل المرتدة، وأوقف سيل الردة لباقي العرب الذين حدثوا أنفسهم بقولهم: "لو لم يكن المسلمون على قوة لما خرج من عندهم هؤلاء" وجرأت العرب على أن يقتحموا حدود فارس والروم.
2-خالد بن الوليد 21/641
__________
(1) ابن كثير- الكامل في التاريخ: 3/59.
(2) خطاب- قادة فتح الشام ومصر: 48.
(3) ابن سعد- الطبقات: 4/69، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 1/65.(1/319)
خالد في كل قلم ولسان، وفي كل فكر وبيان، في العرب والعجم، وفي الشرق والغرب. كتبَ عنه الباحثون، وتناوله المؤرخون، وتحدث عنه العسكريون، وإنه لفي زبر الأولين والآخرين؛ وإنه لقائد عظيم، وعسكري عبقري، وملهمة في التاريخ، وعنوان للقادة المبدعين. ماذا أكتب عنه وقد كتب من المؤلفات الكثيرة التي تناولت كل جوانب حياته العسكرية وغير العسكرية، فإني أكتب عن فترته الذهبية في خلافة أبي بكر الصديق، وحروبه، وفتوحاته التي خاضها في تلك الفترة الزمنية القصيرة، دالاً على موهبته الفذة، وعبقريته اللامعة، وقيادته المتميزة، وعنفوانه المتوثب، وألمعيته القادرة على تحسّس الأعمال القتالية، فكأنها رادار تلتقط الصور الصادقة والحقيقية عن جو المعارك، وشاشة ترتسم فيها نقاط العدو وتحركاته بكل جلاء ووضوح.(1/320)
أبو بكر وخالد من قريش يجمعهما نسب بني مرة، وهما من عشرة أبطن، أبو بكر من بطن من بني تميم(1)، خالد من بطن مخزوم(2). بنو مخزوم كانت لهم القبة والأعنة(3)، وخالد فتح عينيه على الأمور العسكرية والتدريب والقيادة، ولم يكن بحاجة إلى الكسب لأن أباه الوليد كان من أغنى أغنياء قريش، مما أتاح له التفرغ لهذه المهمة تفرغاً كاملاً، فهو يقضي نهاره في التدريب بجميع أنواعه، وفي الفروسية، وركوب الخيل، وضروب القتال في أثناء السلم(4)، حتى إذا أزفت الحرب استقبلها في جاهزية قتالية كاملة، واستعداد تام من جميع وجوهه. فقد جمعت له كل الفرص المواتية ليكون قائداً يشار إليه، وفارساً كبيراً من فرسان قريش(5).
__________
(1) الزبيري- نسب قريش: 275، ابن حبيب- المحبر: 12، ابن حزم -جمهرة أنساب العرب: 1/135.
(2) ابن حزم- جمهرة أنساب العرب: 1/141، ومابعدها، ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/963، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 2/102، 3/307.
(3) ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأًصحاب: 2/427، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 2/101.
(4) ابن سعد- الطبقات: 7/394، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 2/102.
(5) ابن حبيب- المنمق: 528، كمال -الطريق إلى المدائن: 188 ومابعدها.(1/321)
اجتمع أبو بكر وخالد في مكة، ويعرف كل منهما الآخر حق المعرفة وبما يتميز به ويوصف، ثم ا فترقا فترة قصيرة عندما هاجر أبو بكر الصديق إلى المدينة، وترك خالداً في مكة إذ لحقه بعد ثماني سنوات، اجتمعا بعد ذلك معاً في الغزوات تحت قيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واطلع أبو بكر من خلال هذه الغزوات على كفاءة خالدٍ العسكرية وإمكانياته القتالية، حتى إذا تسلم أبو بكر القيادة العليا، قرب خالداً واصطفاه للقتال في الأمور العسكرية، فكان نائبه وعصاه الطويلة والغليظة التي أدب بها المرتدين والفرس والروم، وكان ظله الذي رافقه ولازمه في كل مهمة صعبة وفي كل بأساء اشتد وانتشر خطرها.
لقد كان خالد قائداً في الجاهلية والإسلام. ففي معركة أُحد كان قائد الميمنة في جيش قريش، وفي غزوة الخندق كان قائد كتيبة هاجمت دفاعات الجيش الإسلامي في الخنادق، كما حاول في كوكبة من الفرسان اقتحام الثغر ومواضع الفصل من الخندق في الليل. وفي غزوة الحديبية كان قائد الخيل وقائد الطليعة. وفي الوجه المقابل وبعد إسلامه وفي غزوة مؤته استلم القيادة قيادة الجيش العربي الإسلامي بعد موت قائد الغزوة ونائبيه، وقاد الجيش إلى التملص والانسحاب اللذين يدلان على كفاءة عالية. وفي فتح مكة كان قائد الفرقة التي دخلت من أسفل مكة. وفي حنين كان قائد الخيل في الطليعة. وفي غزوة الطائف كان قائد المقدمة. وفي غزوة تبوك أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبة من الفرسان إلى أكيدر السكوني، كما أرسله إلى بني الحارث في كتيبة أيضاً، وكان في قيادته قائداً مظفراً منتصراً، سلمه الرسول صلى الله عليه وسلم أعنة الخيل وسماه "سيف الله"(1).
__________
(1) الزبيري- نسب قريش: 320، الذهبي -سير أعلام النبلاء: 1/264، 267، 268.(1/322)
جاء أبو بكر الصديق إلى الحكم وتزامنت مع مجيئه حروب الردة، فانبرى لها خالد بن الوليد(1)، وكان له الدور الكبير في قتال المرتدين إذ أُرسل أول ما أرسل إلى "بزاخة" لقتال طليحة بن خويلد الأسدي ومن حالفه من زعماء القبائل فقضى عليهم جميعاً وشتتهم في مجاهل الصحراء، فمنهم من قاتل فهُزم، ومنهم من أحجم عن القتال لما رأوا ماحل بغيرهم(2). وبعد انتهائه من حرب هذه الفئة وإخضاعها توجه إلى "البطاح" لقتال مالك ابن نويرة ومن معه الذين خادعوا في تصرفاتهم، فإن رأوا تهاوناً خرجوا عن الدين، وإن رأوا شدة بقوا محافظين على مكانتهم التي كانوا عليها من قبل الارتداد؛ لكن خالداً لم يدع للذين في قلوبهم مرض أن يخادعوا، ولا للمرتابين أن يداهنوا، ولا للمنافقين أن يتظاهروا بعكس ما يبطنون. وتم القضاء على مالك بن نويرة بين جدال المدافعين عن خالد وبين الملقين باللائمة عليه(3). ومهما يكن من أمر فإن أبا بكر سكت عن أعمال خالد التي ظُن أنها خارجة عن الأحكام والأصول، وعاد يمارس أعماله القتالية التي عهد إليه بها(4)إن الأمر لايحتمل التريث، ولاسيّما أن الأمور تسير بسرعة في ساحات القتال، ولابد للأمور الثانوية التي تعترض مسيرة القتال أن تقطع وبسرعة، وهكذا أقبل خالد على بترها كما يقتضي الحال في مثل هذه الظروف، وقتل ابن نويرة، ودفف على غيره من المناهضين للمد الإسلامي(5).
__________
(1) ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 2/429.
(2) البلاذري- فتوح البلدان: 133، ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/108، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/123، فارق- تاريخ الردة: 24 ومابعدها.
(3) الزبيري- نسب قريش: 321.
(4) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/502 ومابعدها، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/35.
(5) البلاذري- فتوح البلدان: 136، الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/502، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/136.(1/323)
بعد أن نفذ خالد مهمته في تلك المنطقة انتقل منها إلى اليمامة التي فيها بنو حنيفة وزعيمهم مسيلمة بن حبيب الكذاب(1). وهنا خاض خالد معارك كبيرة حامية منها معركة "عقربا" وحصار "حديقة الموت" اللتان قتل فيهما عدد كبير من الطرفين المتحاربين، واندحرت قوات مسيلمة وحوصرت وطوردت، وفرت على أعقابها تريد الخلاص(2).
__________
(1) الزبيري- نسب قريش: 321.
(2) البلاذري- فتوح البلدان: 121، ابن الأثير -أسد الغابة في معرفة الصحابة: 2/103.(1/324)
كان خالد يحرص في حروب الردة الاستمرار في القتال دون أن يترك لأعدائه فرصة الانتظار والتحضير، وكان يسعى دائماً إلى الضغط المستمر على خصمه وعدم إتاحة أي وقت حتى مجرد التفكير في الرد أو التصدي، والرد على العدو بحزم وشدة بحيث يذيقه أشد الضر، ويسيمه سوء العذاب(1)، والحماية لمؤخرة الجيش لأن القبائل التي كان يقاتلها خالد بن الوليد اعتادت حرب العصابات ولاتزال تمارس هذا النوع من القتال، فكانت مجموعات الحماية من مهمتها: درء الأعراب المرتدّة، ووقاية مؤخرة الجيش الإسلامي والأنساق الأخيرة، وبالإضافة إلى ذلك فقد عززت قوات خالد بتشكيل أرسله القائد الأعلى من المدينة لتقوم بهذه المهمة عندما فشلت القبائل الحليفة بمهمات مجموعات الحماية(2)، والانقضاض العنيف نحو مركز القيادة وقتل القائد، وبقتله يضطرب الجيش، وينهزم العدو كما حصل تماماً عندما حمل خالد على مسيلمة بهجوم عاصف فأدبر هارباً فتبعه حتى قتله(3)، والحذر الشديد أثناء التقريب وعند الوصول إلى أمكنة تمركز وتجمع القبائل المعادية، فكان لا يتقدم إلا بالاستطلاع وبث العيون وإرسال الدوريات والطلائع. كل ذلك حتى يأمن من المفاجأة ومن الكمائن المنصوبة ومن الغارات المفاجئة، والمطاردة العنيفة المتوازية والمتلاقية حتى لم يفلت شريد، ولم ينج طريد، كما حدث مع قوات مالك بن نويرة(4)،
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/501، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/123.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/505، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/138.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/505، ابن حزم- جوامع السيرة: 341، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/139.
(4) البلاذري- فتوح البلدان: 107..(1/325)
وكما حدث لقوات مسيلمة حين التجأت إلى حديقة الموت، فلم يغن عنها هذا الالتجاء شيئاً، ولم يشفع لها هربها من ساحة القتال(1).
يعود نجاح خالد في حروب الردة إلى أبي بكر الذي اتخذه قائداً عاماً لمحاربة المرتدين، والذي عرف فيه تلك الكفاءة القتالية، والضراوة في الحرب، وعرف فيه قائداً ألمعياً، وجندياً باسلاً. أبو بكر كان المخطط والعقل المبدع لعمليات خالد. فهو الذي حدد له المراحل القتالية، ونقاط البدء والنهاية، والمراكز والقبائل، كما شرح له بتوجيهاته العملياتية أن يبدأ بطيء ويثني ببني أسد وحلفائها، ويثلث ببني تميم وحلفائها، ويرابع في بني حنيفة وحلفائها(2)، كما حدد له قادة هذه القبائل موضحاً له نفسيات هؤلاء القادة وإمكانياتهم، وحتّم عليه أن يعيد تنظيم الجيش وإعادة تعبئته، وإسناد المهام إليه من جديد في كل مرحلة، وأن لايبدأ بالمرحلة أو المهمة التي تلي إلا بعد الرجوع إلى القائد الأعلى لأخذ المزيد من التوجهات التي قد تعدل أو تغير من التوجيهات الأولى بناءً على المعلومات والمعطيات الجديدة(3)، مما أتاح لخالد أن يتصرف في حدود هذه التوجيهات، وأن يسترشدها، ويجعلها نظاماً لقتاله في حروب الردة. وعندما انتهى خالد من قتال طليحة تابع قتاله دون أن يتوقف أو يراجع مهماته القتالية كما أمره أبو بكر في ذلك، وتوجه تلقاء البطاح ومالك بن نويرة(4)
__________
(1) البلاذري- فتوح البلدان: 121، الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/514، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/139.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/480، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/132.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/480.
(4) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/502، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/135..(1/326)
مباشرة بدليل اعتراض الأنصار الذين كانوا معه على هذا التصرف لافتين انتباهه إلى التقيد بتوجيهات القائد الأعلى بهذا الشأن(1)، ولكنه أصر على المضي والمتابعة دون توقف مشيراً إلى أن القائد الأعلى هو الذي أمره بذلك، ومعنى هذا أن أبا بكر أعطاه حرية التصرف، فإن استطاع أن يتوقف بعد المرحلة فعل، وإن لم يستطع تابع مهمته القتالية(2) وهنا رضخ الأنصار لطلبه واستجابوا لندائه وانضموا إلى جيشه(3).
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/501، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/136.
(2) البلاذري- فتوح البلدان: 122.
(3) البلاذري- فتوح البلدان: 122(1/327)
إن الثقة التي أعطاها أبو بكر لخالد كانت دافعاً له لأن يدخل معاركه وهو على يقين بالنصر، وكانت تقوية لمعنوياته، وأملاً لأحلامه في القضاء على الفتنة وفي تنفيذ المهمة التي أسندت إليه. اعترض المعترضون على قتال وقتل مالك بن نويرة، ومنهم عمر بن الخطاب؛ لكن أبا بكر أسكت كل الألسن التي تمس ذلك القائد الموثوق، وقال لعمر: "ارفع لسانك عن خالد"(1). كان أبو بكر يعلم أن خالداً له هذه الموهبة، وقد قارن بين أن يقيل خالداً من منصبه وبين أن يبقيه على رأس الجيش، فإن أقاله، فلا أحد يمكن أن يحل محله في تلك الحرب الأهلية التي خاض غمارها، وعجم عودها، وبذلك يمكن أن تلحق النكسة بجيش المسلمين، ويتأخر عن تنفيذ مهماته، لهذا فضّل القائد الأعلى أن يتجاوز عن سيئات خالد -التي ظهرت في حروبه والتي منها قتل ابن نويرة، وصلح أهل اليمامة- ونكاح ابنة مجاعة بن مرارة(2)، والتي شابها بعض التشويه- وأن يسرحه في مهمته لقتال المرتدين: "ياعمر ماكنت لأشيم سيفاً سله الله على الكافرين(3)، وبالدفاع عن خالد والتجاوز عن سيئاته أكسبه رغبة في القتال، وتمسكاً بخططه الحربية، وسيفاً مسلولاً على رقاب أعدائه، ومهابة في قلوب خصومه، حتى إن الذي كان يتكلم بحق خالد أمسك إكراماً لأبي بكر الصديق، وامتثالاً لأوامره، وإفساحاً لحريته في أن يتصرف مايشاء تجاه خالد وحروب الردة.
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/502، البلخي- البدء والتاريخ: 5/160، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/137.
(2) الزبيري- نسب قريش: 321.
(3) البلاذري- فتوح البلدان: 136، الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/503، البلخي: البدء والتاريخ: 5/160، ابن خلكان- وفيات لأعيان: 2/172.(1/328)
القائد الأعلى كان يعطي الخطوط العريضة، والتوجيهات العملياتية على المستوى الاستراتيجي، والأمور الهامة، والنقاط البارزة في القتال، والقائد العام كان يتصرف في حدود هذا كله، ولا يخرج خالد عن الإطار العام. وروح هذه التعليمات، ويتصرف حسبما تمليه عليه الظروف التكتيكية، والواقع الراهن المتشكل. وهذا برأيي هو التصرف السليم والصحيح، لأن هذا المبدأ يعطي للقائد العام حرية في أن يدرس الموقف دراسة دقيقة بناءً على المعلومات الجديدة والأرض والعدو والإمكانيات، ثم يقوم بتنفيذ مهامه، وهذا ماكان يفعله خالد ابن الوليد الذي تلقى المهمة القتالية والكبرى، والفكرة من أبي بكر، ثم يمضي قدماً مراعياً في ذلك كل أسباب النصر، والمبادئ الأساسية، والتعاليم الواسعة، كما أن هذا التصرف من جانب القائد الأعلى يعطي للقائد العام لأن يسرع في عملياته القتالية وأن يستمر بها، فلو رجع خالد في كل مرة أو كل مرحلة إلى أبي بكر لتوقف القتال مدة قد تؤخره لتنفيذ مهامه القتالية المكلف بها وكذلك فإن خطوط المواصلات والاتصال الشخصي مع القائد الأعلى في كل مرة يقتضي سفراً طويلاً من أرض نجد أو اليمامة، وانقطاعاً عن ممارسة القيادة قد يؤثر على مجرى القتال ووتيرته العالية التي كان فيها، ولهذا فإن القائد العام لم يحضر إلى المدينة إلا أثناء استدعائه بشأن مالك بن نويرة، وأثناء إسناد المهمة القتالية الجديدة بعد انتهاء الردة وتكليفه بحرب الفرس في العراق(1).
__________
(1) أبو يوسف- الخراج: 169، البلاذري- فتوح البلدان: 243.(1/329)
إن أبا بكر كان يعلم أن خالداً شديد في قتاله، غليظ في معاملته لأعدائه، وأن سيفه يقطر دماً، وأن رمحه يسدد دائماً إلى صدور خصومه، تراه دائماً في لباس القتال، وفي جاهزية قتالية دائمة. إنه المناسب أكثر من غيره لقتال المرتدين. وبشدته هذه منع بعض القبائل من الدخول في الحرب، وجعلهم يعلنون دخولهم فيما خرجوا به مسلمين طائعين، وبذلك تفرد بالقبائل التي نشزت، وبالعدو الذي أعلن العصيان المسلح على الدولة فأذاقهم أشد العذاب، فحرقهم، ومثل بهم، وزاد في الاقتصاص منهم(1). ولولا أسلوب خالد هذا في القتال لانتشرت الردة أكثر مما انتشرت، ولطال أمد القتال، ولصعب القضاء عليها، ولكلفت من الخسائر الشيء الكثير، ولعادت التفرقة والتجزئة التي كانت عليها الجزيرة العربية قبل الإسلام، ولما استطاع العرب المسلمون فيما بعد أن يفتحوا بلاد فارس والروم.
رافق شدة أبي بكر مضاء خالد في مهمته. لقد استخدم القائد الأعلى الشدة في قتال المرتدين، حيث وافق خالداً في تصرفاته الشديدة، وفي بعض الأحيان فإنه كان يظهر العنف والقوة أكثر من خالد، وذلك عندما أرسل إليه كتاباً يطلب منه "أن يقتل كل محتلم" من جماعة مسيلمة الكذاب الذين نجوا بعد المعارك المتتالية، والذين عقد خالد معهم الصلح ووفى لهم(2)، وطلب أيضاً أن يقتل وينهب ويهدم ويحرق، فلا تأخذه بهم شفقة ولا رحمة.
__________
(1) ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/123.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/516.(1/330)
استخدم خالد المحاور القتالية التي تؤدي إلى المناطق المتجه إليها. فقد سار من المدينة على طيء مستخدماً الطريق المتجهة نحو الشمال الشرقي حتى وصل إلى "بزاخة" عبر الطريق، ومنها إلى البطاح عبر الطريق الممتد جنوب شرق بزاخة ومنها إلى اليمامة، ومنها إلى المدينة، ثم العراق. هل حدد أبو بكر لخالد محاور القتال والتحرك؟ إنه لم يحدد، بل ترك له الحرية، معتمداً في ذلك على حسن تصرفه واجتيازه المحور المناسب، بحيث يؤمن له الوصول السريع. وكان خالد في هذا يختار أقصر الطرق وأسهلها، والإخفاء والتمويه عن أنظار العدو، والظهور فجأة أمام القبائل المرتدة في زمن ومكان لاتتوقعها، وكان في سلوكه تلك المحاور يتبع الأصول في المسير، وفي ترتيب التحرك، وأمان المسير بالدوريات والاستطلاع والاقتراب والحذر، والابتعاد عن الضوضاء.
أعطيت الأوامر لخالد بن الوليد أن يتوجه إلى العراق. فانسحب من عقرباء باتجاه الشمال الغربي حتى وصل بالقرب من فيد... وهنا عسكر الجيش بانتظار تلقي مهمات جديدة، أو أن الجيش بقي بالانتظار في منطقة اليمامة، وسافر خالد إلى المدينة من عقرباء عبر الطريق الصحراوية التي تمر بنجد فقابل القائد الأعلى ثم عاد فتحرك من شمال فيد باتجاه الشمال الشرقي، ثم انعطف نحو الشمال الغربي ماراً بالحفير قاطعاً وادي البطن ثم عاد إلى الكاظمة، ومنها انطلق في فتوحاته على طول الشريط النهري للفرات حتى وصل إلى الفراض.(1)
__________
(1) أبويوسف- الخراج: 169، البلاذري- فتوح البلدان: 242ن 243.(1/331)
لقد كان خالد في فتح العراق مبارزاً كبيراً ماهراً، سرعان مايقضي على خصمه، وبالقضاء على خصمه، تنهار معنويات عدوه، ويفر طالباً النجاة، كان حدث أن تبارز مع "هرمز" فقتله(1)، ومع "قارن" الذي خرج إليه معقل بن الأعشى البنّاش فقتله(2). وكذلك فإن خالداً استخدم التطويق من المجنبات والخلف والأمام فلم يترك للجيش الفارسي أن يتملص، أو أن ينسحب كما حدث في معركة "الولجة"(3)، وحصار الحصون فلم يزل على الحصار حتى يستسلم قائد الحصن ومن معه كما فعل بحصون الحيرة(4)، وكان هادفاً في إعادة تنظيم جيشه كلما دعت الحاجة إلى ذلك بشكل يتناسب مع المهمة القتالية وقوة العدو، وطبيعة الأرض كما فعل عندما تقدم إلى "الأنبار"(5) وقد أجاد خالد قتال التلاقي فهاجم المصيخ(6) من ثلاثة اتجاهات، وكذلك عند أول دخوله العراق قسم جيشه إلى ثلاثة تشكيلات(7)، وهذا النوع من القتال كان يعطي خالداً حرية في القيادة، وسرعة في المناورة، والتعاون إذ يستطيع التشكيل الذي تقدم ونجح في مهمته أن يساعد التشكيل الآخر الذي اصطدم بمقاومات عنيفة حالت دون تقدمه، وتضليل العدو عن الاتجاه الرئيسي، وتحقيق المفاجأة، والتطويق. وطبق خالد في قتاله مع الفرس أيضاً تجزيء القوات المعادية، فكان يحارب كل جزء لوحده ويتغلب عليه.
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/557، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/148.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/558، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/148.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/559، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/148، 149.
(4) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/568، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/151.
(5) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/574 ومابعدها.
(6) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/580، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/152.
(7) خطاب- قادة فتح العراق والجزيرة: 105.(1/332)
ومن إيجابيات هذا المبدأ أنه حقق لخالد مبدأ التفوق على هذا الجزء سيما وأن القوات الفارسية مجتمعة كانت أضعاف القوات الإسلامية، وحقق للأمراء الهدف العام وهو تدمير هذه القوة وإبادتها والوصول إلى النصر وقد استخدم هذا المبدأ في معركة "ألّيْس" عندما فصل القائد العام نصارى العرب عن فارس وقاتلهم لوحدهم، وفي معركة الحيرة عندما قتل ابن صاحب الحيرة مع مجموعة القتال وأمر قادته بمحاصرة كل حصن لوحده(1)، وفي معركة عين التمر حين فصل تشكيل عقبة بن أبي عقة من العرب وأسره، ولما رأى الفرس ماحل بعقه انهزموا فطاردهم، وقتل منهم الكثير(2). وبالمطاردة كان خالد يهدف إلى إبادة الفرس، إذ كان بعد نجاح اقتحام الحصون، أو بعد المعارك كان قادة الفرس ومقاتلوهم يفرون من المعركة لكن فرارهم لاينجيهم من مطاردة خالد لهم وقتلهم. ففي معركة "أليس" طارد الفرس، وأقسم على نفسه ألا يستبقي منهم أحداً، ومضى في مطاردتهم حتى كانت الدماء كالأنهار(3).
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/565.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/576، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/151.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/560، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/149.(1/333)
لايغريه مال من غنيمة، ولايرده عن هدفه مكسب من عرض، ولا يسف إن جمع السلاح والأعتدة والأنعام، ولا يزهو بنفسه إن انتصر، ويصبر إن أصابته البأساء والضراء في الحرب. فغنم ماغنم من حصن العذيب وفي معركة عين التمر وبعد أن استولى على حصون الفرس، وغنم مغانم كثيرة، ظن العدو أنه متى ظفر بهذه الغنائم فإنه سوف يتلهى أو يتوقف عن القتال؛ لكن خالداً ظل محافظاً على هدفه، وأكمل فتح الحصون(1)، وفي منطقة البصرة بالكاظمة نزل وتمركز اضطرارياً بعيداً عن الماء فأوصى جنده بالصبر والاحتمال(2)، وفي معركة الولجة- التي تبعتها انتصارات كثيرة في المذار وفي منطقة البصرة- أمر المقاتلين أن يدعو الغرور جانباً، وألا تأخذهم لذة النجاح والغلبة، وأن يكونوا على يقظة وحذر، وجاهزية قتالية كاملة، وفي معركة أليس استنصر بالله وجاء ربه بقلب ملؤه الثقة والتواضع.
إن السمعة الحربية لخالد بن الوليد أتاحت له أن ينتصر على عدوه بسهولة، وأن يدب الرعب في خصومه، وأن ينهاروا عند سماعهم بمقدمه. فهو قائد لم يهزم، حتى في معركة واحدة بالرغم من تفوق عدوه عدة وعدداً، ولهذا فإن بعض المدن التي فتحها كانت صلحاً كالحيرة التي عقد مع أهلها معاهدة صلح(3)، وكذلك صالح القرى التي حول الأنبار(4)، وكذلك فإن بعض الأقوام كانت تفر منه بمجرد الاتجاه إليهم كما حدث عندما هاجم الرضاب.
__________
(1) الدينوري- الأخبار الطوال: 112، الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/576، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/151.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/555، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/148.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/563، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/149.
(4) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/574، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/151.(1/334)
كان خالد يعلم أن القوة في الرمي، ولهذا فإنه كان يشدد على دقة الرمي، ويقوم بتدريب الرماة بشكل جيد، ففي معركة الأنبار ظهر دور هؤلاء الرماة، فكانوا يسددون على العيون فيصيبونها(1)، وتدل هذه المعركة على دقة الرمي والتدريب، وعلى المستوى الرفيع الذي وصل إليه هؤلاء المقاتلون في التصويب والتسديد.
لقد كانت مهنة الجهاد عند خالد محببة إليه، فهو يؤثرها على كل الأعمال ويجعلها في مقدمة اهتماماته. وكان يقول: "لقد شغلني الجهاد عن تعليم كثير من القرآن"(2) وقد عبّر عن حبه لهذه المهنة بقوله: "ما من ليلة يهدى إلي فيها عروس أنا لها محب أحب إلي من ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد، في سرية أُصبِّح فيها العدو."(3)
كان يحب أن يُترك له حرية التصرف على المستوى التكتيكي، وألا يقيّده القائد الأعلى بأمور هو ألصق بها، وأقرب إليها، ولما أراد أبو بكر أن يتدخل في الشؤون التكتيكية، وأن يفسد عليه خططه وتحركاته قال لأبي بكر: "إما أن تدعني وعملي، وإلا فشأنك بعملك."(4) حقاً إنه القائد الذي تصرف بحكمة وشجاعة ومرونة وحركة عالية على مستوى المعارك التكتيكي.
__________
(1) ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 2/98، 99.
(2) ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 2/99.
(3) الذهبي- سير أعلام النبلاء: 1/269،270
(4) ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 2/99.(1/335)
أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على خالد بن الوليد فقال: "نعم عبد الله سيف من سيوف الله."(1)، وهاقد أتاه ثناء القائد الأعلى أبي بكر الصديق على الانتصارات العديدة التي حققها في بلاد فارس، فقتل منهم الكثير، وشردهم، وأعمى أبصارهم، وتركهم يتجهون في الأرض، لايدرون ماذا يفعلون، وفتح البلاد الكثيرة، ودخل المعارك البرية والنهرية، واستخدم الهجوم، وكذلك الدفاع المتحرك والنشيط، وطارد فلول المنهزمين، وأبادهم، مستخدماً الشدة والعنف في قتالهم، واستولى على الشريط النهري من الخليج ومن مصب الفرات وحتى "عنه" و "الفراض" قاطعاً في ذلك مئات الأميال. كان يقاتل في كل ميل، وفي كل أرض ومدينة يمر عليها. هذا هو القتال الزاحف الذي لايبقى ولا يذر أمامه من آثار العدو شيئاً. لهذه الأعمال صدر الثناء: "عجزت النساء أن يلدن مثل خالد"(2)
__________
(1) البخاري- باب فضائل أصحاب النبي: 25، باب المغازي: 44، مسلم -باب الزكاة: 145، الترمذي- باب المناقب: 49، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 2/102.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/563، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/149.(1/336)
يعود انتصار خالد في فتوحه العراق، وقتاله الفرس إلى الدعم الذي لقيه من أبي بكر الصديق، وإلى التخطيط الجيد من قبل القيادة العليا في المدينة، وإلى متابعة القتال، وإعطاء التعليمات أولاً بأول، وإلى الإمداد المتواصل بالرجال والعتاد والأسلحة، وإلى التعاون الوثيق فيما بين جيش خالد وبقية الجيوش التي كانت تقاتل في تلك الجبهة كجيش عياض بن غنم، وإلى انضمام بعض التشكيلات الكبيرة كتشكيل المثنى بن حارثة الشيباني، وإلى تقسيم وتوزيع قطاعات القتال على القادة، بما يتناسب مع حجم الوحدات التي تهاجم تلك القطاعات "النطاقات" ومع المهمة ومع قوة العدو، وإلى السرعة العجيبة التي كان يتنقل بها القائد العام من اتجاه إلى آخر، أو من منطقة إلى أخرى، أفلا تُعد سرعة كبيرة عندما تحرك خالد من حدود العراق إلى دومة الجندل، لإنقاذ جيش عياض بن غنم، وإلى المناورة السريعة التي كان يجريها على جبهة القتال بالقوة والوسائط المتوفرة لديه، وإلى ابتكار الأساليب القتالية الجديدة كالتسديد على العيون في معركة الأنبار، وقتال التلاقي في منطقة البصرة وفي المصبخ(1)، وإلى المفاجأة التي استخدمها في معركة أليس وغيرها، وإلى السمعة الحربية، وإلى امتهان الجهاد ورغبته الأكيدة في القتال، وإلى الأسباب الأخرى البدنية والعقلية والمعنوية.
من حرب الفرس إلى حرب الروم، ومن أرض العراق إلى أرض الشام. معركة كبيرة خاضها خالد قبل أن يتوجه إلى الشام حيث قاتل في الفراض الاتحاد المختلط من الجنسيات العربية والفارسية والرومية فقضى عليهم جميعاً، ومكث في الفراض عشرة أيام ثم عاد إلى الحيرة بانتظار الأوامر الجديدة من القائد الأعلى ومن مركز القيادة العامة في المدينة.
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/580.(1/337)
صدرت إليه الأوامر أن ينضم إلى جبهة الشام، بغية تركيز الجهود الرئيسية لقتال الروم، بعد أن كادت هذه الجبهة تتوقف عن التقدم، وبعد أن وجدت صعوبات كبيرة في القضاء على الروم. تحرك خالد من الحيرة إلى عين التمر باتجاه الشمال الغربي ماراً بوادي السرحان إلى قراقر، ثم إلى سوى حتى وصل القريتين، ومنها إلى نحو الجنوب الغربي ماراً بشرقي دمشق حتى وصل إلى اليرموك(1)، ومن المؤرخين من يعتقدون أن خالداً سار من الحيرة إلى عين التمر، والفراض، ثم انعطف نحو الغرب ماراً بـ سوى، أراك، تدمر، القريتين، أذرعات، بصرى، اليرموك(2). ومن المرجح أن يكون هذا القائد قد سلك هذه الطريق وذلك لقصرها، بغية الاتصال بقوات أبي عبيدة بسرعة، ولأن خالداً يهوى مثل هذه المغامرات التي تحقق له الفوز بمهمته، ولأنه قائد اعتاد ركوب المشقة والصعاب، ويندر على قائد غيره أن يسير بجيشه كما سار خالد.
وصل خالد إلى اليرموك بعد نصب وسغب، وعقدت القيادة اجتماعاً خرجت على أثره بإقرار تولية خالد القيادة العامة- كما أمر القائد الأعلى بذلك- للجيوش المشتركة في القتال، فقسم جيشه إلى ميمنة وميسرة وقلب واحتياط بيد القائد، وعين القادة وأسند المهام، وجدد الموجهين والقضاة والقارئين، ثم بدأ يعد التحضيرات للدخول مع الروم في معركة فاصلة، ودخل عدة معارك قبل معركة اليرموك، ولم يلبث أن جاءه خبر موت أبي بكر وتولية عمر بن الخطاب الذي قام بعزل خالد كقائد عام، وإسناد هذه المهمة إلى أبي عبيدة بن الجراح الذي كتم هذا الأمر مدة. تابع خالد معاركه تحت قيادة أبي عبيدة في فتح الشام وبخاصة في فتح دمشق، وفي فحل، ومرج الروم، وفي حمص وفي قنسرين ومرعش. وكان مثالاً للجندي، وقدوة للقادة على مر الأجيال.
__________
(1) خطاب- قادة فتح العراق والجزيرة: 125.
(2) أبو خليل- أطلس التاريخ العربي: 235، مادون- الخريطة التاريخية: 1(1/338)
رأى أبو بكر وهو القائد الأعلى أنه لايتم النصر على الروم إلا بخالد الذي خاض معارك الردة والعراق فلم يهزم، والذي كان للمهام الصعبة، فأرسل إليه يستحثه السير بسرعة إلى جبهة الروم، ونفذ هذه المهمة الشاقة في المسير، وابتكر نظام الكراديس في معركة اليرموك، وأعاد تنظيم الجيش بشكل ابتكاري وإبداعي، وكان هدفه من ذلك إظهار أن الجيش العربي كثير في عدده، وتأميناً للمرونة في القيادة، والسرعة في القتال والمناورة، وتوفيراً للاحتياط لدى القائد.
إن عامل الزمن عامل مهم في القتال، فإذا رماك خصمك بأقل مما رميته به بأقل من الثانية بسلاح واحد ذي ميزات متشابهة فقد انتصر عليك، فكيف إذا كانت بالساعات والأيام؟ فإنها ستكون حتماً للذي سبق وحضّر وأعد العدة. ولهذا فإن خالداً كان يدرك قيمة العامل الزمني إذ لما قطع الطريق من الحيرة إلى اليرموك كان يرمي إلى ذلك العامل إلى اقتصار الزمن، حتى ولو كان محفوفاً بالمخاطر كالعطش أو التيه في الأرض. وهذه السرعة اتبعها أيضاً في حرب العراق وذلك عندما تحرك من الحيرة إلى دومة الجندل لمساعدة عياض، حيث قطع المسافة بسرعة كبيرة وزمن قصير.
لم يتم خالد مابدأه مع الروم إذ جاءته الأوامر أن يتنحى عن قيادة الجيش ويتولاها أبو عبيدة بن الجراح، وظل يقاتل كنائب، وله مكانته وتقديره، واشترك في الفتوحات وكان له دور كبير فيها، إلى أن توفي بحمص. وله ضريح حتى الآن يحج إليه الزوار، ويتبركون به.(1/339)
إن خالد بن الوليد اقترن بأبي بكر الصديق الذي كان معجباً بقيادته وبخبرته القتالية، وبانضباطه العالي، وخاصة عندما أتاه نبأ العزل فاستقبله بكل طواعية، وبعقله الراجح الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أرى لك عقلاً رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير(1)". وبجوده وكرمه(2)، وبحبه للعسكرية التي كان يعتبرها أولى الأعمال وأجدرها بالعناية والحب(3)، وبشجاعته التي تعتمد على الإقدام دون التهور(4)، وبتدريبه المتواصل الطويل الذي بدأه منذ أن كان يافعاً واستمر به حتى آخر حياته(5)، وبمعنوياته العالية التي كان يتمتع بها حتى في أعقد الظروف وأصعب المهام(6)، وبشدته في القتال(7)، وبحسه الحربي الذي لايخطئ وبأناته ووثوبه(8)، وبحمله للنصب والسغب، وتصرفه في حدود الفكرة العامة للقائد(9)، وبقراره الصحيح النابع من معطيات صحيحة وتقدير صحيح(10)، وبعقيدته النابعة من إيمان بالنصر من عند الله(11)،
__________
(1) ابن سعد -الطبقات: 4/252، 7/394.
(2) ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/207.
(3) ابن حزم- المفاضلة بين الصحابة: 297، الذهبي -سير أعلام النبلاء: 1/269، 270، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 2/98.
(4) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/560، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 2/95.
(5) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2 /561، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 2/101.
(6) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/578، 594.
(7) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/560
(8) ابن وضاح- تاريخ اليعقوبي: 2/108.
(9) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/501، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/136.
(10) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/626، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/164.
(11) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/567، 579، 603 ابن الأثير-الكامل في التاريخ: 2/155، 156..(1/340)
وبجاهزيته القتالية الكاملة في كل زمان ومكان أينما حل بجيشه، وفي أي وقت ارتحل(1). وبعد فإنه "لم ينبغ في العرب ولا غيرهم أبرع منه في قيادة الجيوش ولا أشجع ولا أحذق."(2).
3- عمرو بن العاص
بن وائل السهمي: 43/664
له ماض عريق في الزعامة والقيادة، وورث عن آبائه وأجداده القيادة وفصل الخصومات والجود والشجاعة والضرب في الأرض والفروسية. وكان يعتبر من دهاة العرب(3)، وأصحاب الرأي، والعقل الراجح، والفصاحة والبيان. وهو وجيه قومه بني سهم، وأحد زعماء قريش(4). وقال عمرو: "ماعدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخالد منذ أسلمنا أحداً من أصحابه في حربه."(5)
تولى قيادة التشكيلات بعد إسلامه بقليل، بدليل أنه أهل لها، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندبه في سرية فيها أبو بكر إلى بني قضاعة في غزوة ذات السلاسل، ثم أمدّه بجند بقيادة أبي عبيدة بن الجراح، وتولى هو القيادة العامة(6)، وانتصر على أعدائه، وبارك له رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعل، وفيما تصرف في حروبه(7).
__________
(1) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/626.
(2) ابن حزم- الفاضلة بن الصحابة: 298.
(3) ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/1188، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4/117، الذهبي- سير أعلام النبلاء: 2/37، 39.
(4) الذهبي- سير أعلام النبلاء: 2/40، خطاب- قادة فتح الشام ومصر: 123- 126.
(5) الذهبي- سير أعلام النبلاء: 3/44.
(6) ابن حزم- المفاضلة بين الصحابة: 328، ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/1186، الذهبي- سير أعلام النبلاء: 2/40، 44.
(7) السيوطي- تاريخ الخلفاء: 72، الحلبي- السيرة الحلبية: 3/213.(1/341)
أبو بكر وعمرو على تعارف تام فيما بينهما، وقد قاد عمرو أبو بكر في غزوة ذات السلاسل(1)، ثم أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عُمان(2)، فبقي هناك حتى إذا انتشرت الردة استدعاه أبو بكر، وعهد إليه بقيادة تشكيل من بين التشكيلات، وأسند إليه مهمة محاربة بني قضاعة الذين ارتدوا عن الإسلام، وهم القوم الذين حاربهم في معركة ذات السلاسل، فسلك المحور الذي سلكه من قبل وقاتل المرتدين وانتصر عليهم.
أعاد أبو بكر عَمْراً إلى سابق وظيفته في عُمان بعد الانتصار على بني قضاعة، ولكنه عاد فاستدعاه ليشترك في فتوح الشام(3)، وهي مهمة قد أحبها منذ صغره، فلبى النداء بكليته، وسار من المدينة على طريق أيلة باتجاه فلسطين.
ما من أحد طلب القيادة إلا عمرو بن العاص. فهو إن اجتمع مع القادة طلب إليهم أن يقودهم، ليس الحب للقيادة، وليس للظهور على غيره، لكنه يعلم أنه قادر على مقارعة الأعداء، وإنزال البلاء فيهم، وإنه بفضل دهائه وحنكته في القيادة يستطيع أن ينتزع النصر انتزاعاً، كما انتزعه من أرطبون قائد الجيش الرومي. فهو لما كلف بقيادة تشكيل إلى فلسطين واجتمعت الجيوش في اليرموك، كان يحب في قرارة نفسه أن يكون قائداً عاماً فوق أبي عبيدة وخالد وغيرهما من القادة المشهورين، وهو قد صرح بهذا عندما تولى عمر بن الخطاب القيادة العليا، فطلب من أمير المؤمنين أن يكون قائداً عاماً، لكن عمراً أبى(4)، وبقي قائد جيش (تشكيل).
__________
(1) ابن سعد- الطبقات: 7/493، الذهبي -تاريخ الإسلام: 1/236، ابن حجر -الإصابة في تمييز الصحابة: 5/2.
(2) ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4/117، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 5/2.
(3) ابن سعد- الطبقات: 7/463، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4/117.
(4) الواقدي- فتوح الشام: 1/7، ابن أعثم- الفتوح: 1/122.(1/342)
عمرو بن العاص صاحب رأي وعقل. فهو الذي أشار باجتماع الجيوش لتقاتل كلها كتلة واحدة في اليرموك، ووافقه بالرأي القائد الأعلى أبو بكر الذي أمر بالاجتماع وتوحيد الجيوش(1).
ماكان عمرو القائد العادي؛ إنما كان عبقرياً في قيادته، حازماً في أمره، شديداً على عدوه، ثابتاً لايتزحزح قيد أنملة عن هدفه، عنيداً في تسربه وخرقه لصفوف أعدائه(2). فقد تولى قيادة فرقة اليرموك واستطاع الالتفاف على الجناح الأيسر للعدو، والوصول إلى مؤخرته، فما كان العدو يحس بهذا الالتفاف البعيد، بالاشتراك مع خيالة خالد بن الوليد، حتى دب الرعب، وسيطر الخوف على الروم، وتفرقوا، واختلفت صفوفهم.
تلك هي الفترة القصيرة التي قاتل فيها عمرو بن العاص في زمن أبي بكر الصديق، ثم اشترك فيما بعد بفتوح دمشق وفحل وبيسان وطبرية وإيليا وأجنادين وغزة ونابلس واللد وعمواس ويافا ورفح وقيسارية، ثم نفذ إلى مصر(3)، وتولى قيادة هذه الجبهة، وفتح مدن الاسكندرية وليبيا والنوبة. ودلت معاركه على أنه رجل قيادة وحرب، مجيداً لفنونه، متمرساً في القتال، شهد له القادة بذلك(4). وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بإيمانه فقال: "أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص"(5):
4-خالد بن سعيد بن العاص 14/635
__________
(1) الطبري -تاريخ الأمم والملوك: 2/590.
(2) الطبري- المعجم الكبير: 1/17، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4/117.
(3) ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4/117، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 5/3.
(4) الذهبي- سير أعلام النبلاء: 3/44.
(5) ابن حنبل- المسند: 4/155، الترمذي- باب المناقب: 48.(1/343)
أموي قرشي، من السابقين الأولين في الإسلام(1)، تربطه مع أبي بكر قدم الهجرة، والدخول المبكر في العقيدة(2)، وكان عاملاً على اليمن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى صدقات مذ حج(3)، وجاء أبو بكر فاستبقاه على ماكان عليه من قبل(4)،وهو من قادة الردة.
انتدبه أبو بكر لقتال المرتدين(5)، توجه من المدينة في تشكيل تلقاء بلاد الشام، فتحرك بمحاذاة البحر الأحمر متجهاً نحو الشمال ماراً بتبوك حتى وصل حدود البلقاء(6)، اشترك في فتوح الشام، وفي معركة اليرموك(7)، واختار أن يكون مع شرحبيل بن حسنة عندما عزله أبو بكر وولى مكانه يزيد بن أبي سفيان(8). وقد دلت قيادته في حروب الردة، وفي فتوح الشام، على أنه قائد مرن، عنيد في طبعه، مصمم على بلوغ هدفه، انضباطي إذ تم عزله من قيادة الجيش فلم يتأثر بها، وانضم إلى القوات المتجهة إلى الشام كجندي عادي، لكنه أثبت كفاءته وقدرته في فتوح الشام، حتى إذا وقعت معركة مرج الصفر قُتل فيها(9).
5- شرحبيل بن حَسَنة بن
عبد الله الكندي: 18/639
__________
(1) ابن سعد- الطبقات: 4/94، 95، 96، الزبيري- نسب قريش: 174.
(2) ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 2/420-423، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 2/90، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 2/91.
(3) ابن سعد- الطبقات: 4/96، البلاذري- فتوح البلدان: 93، ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/111.
(4) ابن سعد- الطبقات: 4/96، ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 2/421.
(5) ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 2/91.
(6) أبو خليل- أطلس التاريخ العربي: 34.
(7) ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 2/92.
(8) ابن سعد- الطبقات: 4/98.
(9) الزبيري- نسب قريش: 174.(1/344)
شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة غزوات(1)، وكلفه أبو بكر لقتال الردة(2)، كما ندبه للجبهة الشامية كقائد جيش، كما عينه والياً على الأردن(3)، واشترك مع خالد بن الوليد في فتوح العراق(4).
استعجل شرحبيل في قتال قضاعة، كما استعجل عكرمة في قتال بني حنيفة، فلم يدرس الموقف، كما لم يتقيد بتعليمات القتال التي أرسلها القائد الأعلى بألا يقاتل عدوه، حتى يلتقي مع عمرو بن العاص(5)، وفشل في مهمته كما فشل عكرمة، وكان له في ذلك درس قاس، استطاع فيما بعد أن يتجنب هذه الأخطاء، وينتصر على عدوه.
استفاد شرحبيل من خالد بن الوليد في ملازمته إياه في حروب الردة وفي فتوح العراق. فقد أخذ عنه الحنكة، وفنون الحرب، وأسلوب القتال، والسرعة في الأعمال القتالية، والخدعة، والمناورة، مما مكنه فيما بعد أن يكون قائد فتح من الطراز الأول. فلقد تولى قيادة تشكيل في جيش خالد في قتال بني حنيفة، وكان له دور كبير في معركة عقرباء التي طبق فيها شرحبيل كل دروس الماضي، ومما تعلمه من قائده، كما كان له دور كبير في فتوح العراق.
لم ينقص شرحبيل الشجاعة والقوة والاحتمال؛ لكن كان ينقصه التروي، ودراسة الأوضاع السياسية، وتقدير العدو الصديق والأرض تقديراً صحيحاً.
__________
(1) ابن سعد- الطبقات: 4/128، 7/393.
(2) ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 2/391، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 3/199.
(3) البلاذري- فتوح البلدان: 116.
(4) البلاذري- فتوح البلدان: 115، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 2/155
(5) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/505، 508.(1/345)
عندما قضى على بني حنيفة، وشارك خالداً في فتوحه للعراق، أصبح قائداً كبيراً، يوثق به، وبالإمكان إسناد أية مهمة قتالية إليه؛ عندها استدعاه أبو بكر وعهد إليه بقيادة جيش يتحرك به من المدينة إلى أرض الشام، فسلك طريق تبوك، والتحق بالجيوش التي كانت مجتمعة للدخول في معركة اليرموك(1).
دخل هذه المعركة، وكان على الجناح اليميني لمجموعة الجيوش بقيادة خالد بن الوليد وقد آن لشرحبيل في اليرموك أن يقاتل بكل كفاءة وجدارة، وأن يحمي الجار القلب اليساري أبا عبيدة بن الجراح، وأن يهيئ الظروف المناسبة للجار اليميني عمرو بن العاص بأن يتحرك ويلتف على أقصى اليسار لجيش العدو الذي كان يقوده، "غريغوري" باذلاً في ذلك أقصى درجات التعاون والتنسيق مع القادة الآخرين. وكان سر نجاحه في هذه المعركة أنه اعتاد القتال مع خالد بن الوليد، وفهم فكرته القتالية، وأسلوبه مما مكنه من تنفيذ مهماته المسندة إليه بنجاح، إذا كانت احتمالات القتال والمراحل ماثلة أمامه، كما لو كان يقود بأجهزة قتالية تلفازية حديثة.
أكمل شرحبيل فتوحاته بعد موت أبي بكر الصديق- مع أبي عبيدة بن الجراح، فدخل معارك فحل وبسان وطبرية، وأكمل فتوح الضفة الغربية لنهر الأردن(2).
لقد دلت حروبه فيما بعد أنه كان في جاهزية قتالية كاملة، لديه الاستعداد التام في كل وقت للدخول في المعركة. ومن الطبيعي أن الجاهزية تحتاج إلى حذر واستطلاع وتدريب ويقظة واستعداد لمواجهة العدو. هكذا كان جيش شرحبيل فيما بعد من أحسن الجيوش الإسلامية انضباطاً وتطبيقاً للفن العسكري. ومات بالطاعون كما مات غيره من القادة(3).
6- عكرمة بن أبي جهل
13/634 أو 15/636 وهو الأرجح
__________
(1) ابن سعد- الطبقات: 7/393، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 3/199.
(2) البلاذري- فتوح البلدان: 123.
(3) ابن سعد- الطبقات: 7/394، ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 2/699.(1/346)
فارس صحابي قرشي مخزومي(1). دخل في الإسلام متأخراً(2)، ولكن دخوله كان صادقاً ثابتاً. أراد أن يكفر عما مضى، وكان يحس دائماً بشيء يدفعه إلى أن يقدم المال والنفس، وأن يجاهد جهاداً كبيراً. واستغفر عكرمة واستغفر له الرسول صلى الله عليه وسلم فتاب توبة نصوحاً. وولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وظيفة مالية وهي جمع صدقات هوازن، فكان أميناً مخلصاً(3).
اشترك في حروب الردة(4). وكان قائد تشكيل، عهد إليه أبو بكر قتال قوم مسيلمة الكذاب من بني حنيفة(5). فسار إليهم، لكنه لم ينجح في مهمته، مما أغضب الخليفة، فأرسل إليه كلمة تأنيب(6)، وأمره بمتابعة القتال باتجاه أهل عُمان ومهرة بالتعاون مع حذيفة بن محصن، وعرفجة البارقي اللذين عهد إليهما بمقاتلة المرتدين في تلك المنطقة(7). واستطاع أن يقضي على المرتدين، ثم تابع إلى اليمن، ثم حضرموت، ثم كندة، ونجح في جميع معاركه(8). وكانت له هذه النكسة -في أول الأمر- درساً قاسياً تعلمه واستفاد من خبرته وتجاربه.
__________
(1) البخاري- التاريخ الكبير: 4/8، ابن حبيب- المنمّق: 528.
(2) ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4/4، 5، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 4/258.
(3) ابن سعد- الطبقات: 1/404، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4/4، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 4/258.
(4) ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 4/258.
(5) ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/1083، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4/6.
(6) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/504، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/137.
(7) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/504، ومابعدها.
(8) البلاذري- فتوح البلدان: 104، 105، ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/1082.(1/347)
لم يلبث عكرمة بعد أن انتهى من قتال المرتدين، حتى أسند إليه مهمة الفتوح في جبهة الشام، فتوجه واشترك مع خالد بن سعيد في معركة مرج الصفر، وثبت في هذه المعركة، واستطاع أن يوقف هجوم العدو، وأن يقطع عليه اندفاعه(1) وفي معركة اليرموك ثبت مع من ثبتوا، وكان قائد كردوس، هاجم به الروم فخرق صفوفهم، وقاتل قتالاً شديداً حتى قتل(2).
وثق به أبو بكر، ولم يعزله أو ينحيه عن القيادة بالرغم من الانتكاسة التي لحقت به في حروبه مع بني حنيفة، وطلب إليه المتابعة، وثبتت كفاءته فيما بعد، ونجح في قتال المرتدين، كما نجح في فتوحات الشام، مما يدل على أنه قائد لديه الخبرة في القتال والقيادة، وأنه اتصف بالتصميم على بلوغ الهدف مهما كانت التضحيات. وهل أعظم من التضحية بالنفس إذ قدمها -غير مبال- في معركة اليرموك(3)، وصدق حين أخذ عهداً على نفسه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسلم أن يبذل إرادة القتال المال والنفس(4)، ولذلك فإنه اتصف بالإيثار حين دفع الماء وهو في سكرات الموت إلى غيره في المعركة(5)، وهو بحاجة إليه.
7- النعمان بن مقرن المزني 21/642
__________
(1) ابن حجر-الإصابة في تمييز الصحابة: 4/158.
(2) ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 31/1083، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4/26، الذهبي- تاريخ الإسلام: 1/381.
(3) ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/1083، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4/6.
(4) ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/1083.
(5) ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/1083،.(1/348)
قرشي، صحابي، مهاجر(1)، ليس من قادة التشكيلات الأحد عشر، إنما هو من الجيش الذي خرج به أبو بكر من المدينة لقتال المرتدين، وبهذا فإن له شرف الاشتراك مع القائد الأعلى، ويعتبر أول القادة الذين لبوا الدعوة ونداء القتال ضد المتمردين، والخارجين عن الحدود. أسند إليه مهمة قائد الميمنة في جيش أبي بكر الصديق، وأسند إلى أخيه عبد الله قائد الميسرة، كما أسند إلى أخيه سويد قائد الساقة، واجتمعت عائلة ابن مقرن المزني لتحارب مع أبي بكر ضد المرتدين. ولا يستلم الميمنة في الجيش إلا من كان أفضل من غيره من القادة في القتال، فكل القادة كانوا مع أسامة، ولم يبق في المدينة سوى بعضهم، فكان النعمان أبرز القادة آنذاك الذي التف بميمنته على جناح المرتدين، وأثبت كفاءة قتالية، وبعد الانتصار ووصول الجيش إلى "ذي القصة" أمره أبو بكر أن يبقى بقسم الجيش في هذه المنطقة لحماية وإنذار المدينة من خطر المرتدين، إن هم أرادوا مهاجمة المدينة.
__________
(1) البخاري- التاريخ الكبير: 4/2/75، ابن حزم- جمهرة أنساب العرب: 1/202، الذهبي- سير أعلام النبلاء: 2/256.(1/349)
لقد دلت حروب النعمان، واشتراكه كقائد ميمنة الجيش البكري أنه قائد أبدى من ضروب الشجاعة، وفنون الحرب، والسيطرة الكاملة على مرؤوسيه، لقد حمى الجناح اليميني، وقاده إلى النصر، مظهراً حسن التعاون مع التشكيلات الأخرى، مبدياً حرصه الشديد على توجيه ضربة قوية إلى أعدائه. وكان بالمطاردة متصلاً غير منقطع، ومتابعاً غير منفصل. وقد أجاد النعمان الدفاع عن المدينة، مطبقاً في ذلك شروط الدفاع والهجوم، وكاسراً طوق العدو الذي ضربه على المدينة. ولذلك فإن النعمان اشترك ثانية في قتال عبس وبني بكر وذبيان في منطقة "الربذة" وكان على الميمنة أيضاً فقاتل وانتصر(1). ثم اشترك فيما بعد في زمن عمر بن الخطاب في فتح الأهواز ونهاوند، وقاد جيشاً كبيراً، وأثبت جدارته ومكانته القيادية(2).
لم يكن أخوه عبد الله الذي اشترك أيضاً، كما اشترك أخوه في حروب الردة، ولم يكن عبد الله أيضاً من التشكيلات التي بثها أبو بكر لمحاربة المرتدين بعد مقدم جيش أسامة. وما يمكن أن نقوله عن النعمان، نقوله عن أخيه عبد الله الذي اشترك في المرة الأولى في ذي القصة، وفي المرة الثانية في "الربذة"، وكان كأخيه النعمان في الشجاعة والإقدام والقيادة الفعالة والنشيطة.
8- سويد بن مقرن المزني:
عاشر عشرة إخوة، وهو أخو النعمان، وأخو عبد الله، قاتل كما قاتل أخوته، وتبوأ مكانة عالية في القتال، فقاتل في الساقة عندما نفر أبو بكر من المدينة لقتال المرتدين(3) من عبس وذبيان ومن حالفهم. وكان في الساقة أيضاً عندما خرج أبو بكر ثانية للقتال.
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/479.
(2) ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 5/31، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 6/246.
(3) خطاب- قادة فتح بلاد فارس: 196.(1/350)
بعد اشتراك سويد مع أبي بكر في المعارك الأولى حول المدينة، انتدبه القائد الأعلى ليكون قائد تشكيل مع القادة الذين أرسلوا لقتال المرتدين في شبه جزيرة العرب، فخرج من المدينة إلى الجنوب بمحاذاة البحر الأحمر على الساحل حتى وصل إلى القرب من عدن، فأخضع القبائل المرتدة، واشترك فيما بعد مع خالد بن الوليد في فتوح العراق(1)والشام. وفي إمارة عمر بن الخطاب فتح بلاداً عديدة منها بسطام وطبرستان.
لقد حاز على ثقة أبي بكر وعمر، وكان في حروبه وفتوحاته مثال القائد النشيط الذي يندفع بكليته إلى ساحات القتال، ويؤثر دائماً ويجنح إلى السلم، ولا يميل إلى البطش والقوة، فهو في هذه الحالة يشبه أبا عبيدة بن الجراح، ومعاهدة ملك جرجان(2)، تدل على حكمته الإدارية، وتفهمه للمسائل الحيوية في إدارة البلاد المفتوحة، وقتاله في العراق يدل على أنه فارس يجيد ركوب الخيل والقتال به، فقد كان في معركة الثني قائد الخيل(3)، وقد كان في غيرها من المعارك مثل الولجة وأليس وأمغيشيا بطلاً مقداماً له دوره وأهميته وخصائصه القتالية.
9- العلاء بن الحضرمي 21/641
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/558 ومابعدها، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/387.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 3/223 ومابعدها.
(3) ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/387.(1/351)
عينه الرسول صلى الله عليه وسلم والياً على البحرين(1). ثم جاء أبو بكر الصديق فأقر تلك الولاية(2). ارتد أهل البحرين فيمن ارتد من العرب، وكان على العلاء أن يستعد لقتال المرتدين(3). استدعاه أبو بكر وأسند إليه هذه المهمة الخطيرة -وكان هذا القائد قد أرسل في سنة 8هـ إلى البحرين(4)- فاتجه بجيش عبر صحراء الدهناء التي لايوجد فيها كلأ ولاماء(5)، وتحرك بقطع هذه الأراضي بمشقة وصعوبة، وكاد يهلك لولا أن قوة الاحتمال والصبر والتدريب أعادت إلى المقاتلين ومعنوياتهم حتى وصل إلى "زراره"(6) من أرض البحرين(7). دفع العلاء دليلاً أمام التشكيل المتحرك، ونفر من المدينة في ستةَ عشرَ فارساً، ثم ازداد هذا العدد بانضمام الرجال الذين كان يمر عليهم في طريقه، واتجه نحو الشرق فمر بحصن "جواثا"(8)
__________
(1) الجهشياري- الوزراء والكتاب: 25، النووي- تهذيب الأسماء واللغات: 1/1/341.
(2) البلاذري- فتوح البلدان: 111، الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/519،الجهشياري- الوزراء والكتاب: 25، ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/1086، الذهبي- سير أعلام النبلاء: 1/191.
(3) ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/1086، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4/7.
(4) البحرين. كانت جزءاً من بلاد فارس، وفيها من العرب والفرس. انظر البلاذري- فتوح البلدان: 106.
(5) ابن سعد- الطبقات: 4/363، الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/519.
(6) مكان قريب من الكوفة، وقد سمي بزرارة بن يزيد بن عمرو بن عُدَس من بني البكار. وقد اشتهر أهل ذلك المكان بشرب الخمر وأكل اللحوم، وقد أحرقه علي بن أبي طالب. انظر الحموي معجم البلدان: 3/135.
(7) ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/113.
(8) حصن لعبد القيس بالبحرين، كانوا يلتجئون إليه عند الفزع، انظر الحموي -معجم البلدان: 2/174..(1/352)
فقاتله، وظل متابعاً تحركه، فمر با"لقطيف" فقاتلهم، واستمر فوصل "الخط"(1) على ساحل البحر الأحمر فقاتلهم أيضاً، ثم اتجه إلى الشمال فوصل "دارين"(2). فتحصن المرتدون في هذه البلدة التي تقع قريباً من ساحل الخليج العربي؛ لكن العلاء حاصرهم، وانتهز من قبل زمن سكرهم فقتل منهم عدداً كبيراً وفر الباقون هرباً إلى هذه البلدة، فقضى عليهم(3).
حقاً إنه القائد الذي لقي المرتدين، وتصدى لهم بكل شجاعة وجرأة، مطبقاً في ذلك مبادئ الحرب وأساليب القتال المتبعة في المواجهة، والهجوم ، والالتفاف، وحفر الخنادق، والحرب الطويلة، والمطاردة، وقتال المدن، والحصار، وقطع خطوط الإمداد عن "دارين"، والتماس المباشر معهم أثناء انسحابهم، والضغط والاستمرار في ملاحقتهم، وكذلك استخدام الأدلاء والطلائع والاستطلاع(4). لقد ثبتت قيادته للجيش، كما ثبتت إدارته للبحرين، فهو القائد الإداري الذي جمع بين القيادة والسياسة(5).
إن نجاحه في قتال المرتدين شجعه أن يأتي بشيء عظيم، فركب البحر في أهل البحرين لقتال فارس، دون الرجوع إلى أوامر من القائد الأعلى آنذاك عمر بن الخطاب، وكاد يهلك هو جيشه لولا أن الخليفة أنقذه من هذه المحنة، وذلك بإرسال قوة كبيرة منعت عنه السوء والخذلان.
10- طريفة بن حاجز السلمي
__________
(1) الخط مكان قريب من القطيف وقَطَر. وإلى هذا المكان تنسب الرماح الخطية التي كانت تجلب من الهند وتباع للعرب. انظر الحموي- معجم البلدان: 2/378.
(2) ابن سعد- الطبقات: 4/361، 362، البلخي- البدء والتاريخ: 5/165، الذهبي - سير أعلام النبلاء: 1/192.
(3) ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/110.
(4) ابن سعد- الطبقات: 4/361.
(5) البلخي- البدء والتاريخ: 5/102.(1/353)
من قادة التشكيلات الأحد عشر، ومن قادة الردة الذين اختارهم أبو بكر الصديق لمحاربة المرتدين(1). وقد توجه من المدينة نحو الجنوب الشرقي قاصداً بني سليم(2)، فقاتلهم، وقبض على الفجاءة السلمي وأرسله إلى أبي بكر(3). وقاتل مع خالد بن الوليد(4).
لقد كان طريفة مؤمناً صادقاً، يحمل عقيدة حارب بها قومه، وأخضعهم وردهم إلى الإسلام، وفي القتال كان يتميز بالإغارة فينجح بها، وبالانقضاض فيفرق صفوف العدو. وقد نجح كغيره من القادة الذين قاتلوا المرتدين.
11- المهاجر بن أبي أميّة
__________
(1) ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 3/285.
(2) ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 3/285، أبو خليل- أطلس التاريخ العربي: 34.
(3) البلاذري- فتوح البلدان: 136، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 3/51، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 3/285.
(4) ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 3/285.(1/354)
قرشي مخزومي، ينتسب إلى أبي حذيفة، وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً وكان اسمه الوليد(1)، صحابي كبير، شهد المعارك، وقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم(2). قتل أخوه في معركة بدر(3). قائد من القادة الذين أرسلهم أبو بكر لقتال المرتدين(4). توجه من المدينة بتشكيل كبير نحو الجنوب، فمر بالطائف، مستخدماً الطريق الساحلية، ثم صنعاء، ثم كهف جنان، ومنه انحرف إلى الشرق حتى وصل قبيلة كندة، فقاتلها، فالتجأت إلى حصن "النيجر" بحضرموت، فحاصره جبهياً بالتعاون مع زياد بن لبيد البياضي(5)، وقطع عنه الإمدادات، واقتحمه، وفتحه(6)، وقبض على الأشعث بن قيس أسيراً فأرسله إلى أبي بكر(7).
كان حريصاً على معنويات جنوده، وكان شعره(8)يساعده في حماس المقاتلين، ويدفعهم إلى البذل والعطاء، كما أن خدمته في صنعاء والياً عليها(9) جعلته خبيراً بمسرح العمليات، وبالأرض التي يقاتل عليها، وبنفسية وميول السكان المحليين.
12- حذيفة بن محصن الغَلْفاني
__________
(1) ابن حزم- جمهرة أنساب العرب: 1/146.
(2) ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4/422، 423.
(3) ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 6/144
(4) ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 6/144.
(5) الزبيري- نسب قريش: 316.
(6) ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4/423، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 6/144، أبو خليل- أطلس التاريخ العربي: 34.
(7) ابن الأثير- أسد الغابة في تمييز الصحابة: 4/423.
(8) ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 6/144.
(9) البلاذري- فتوح البلدان: 93.(1/355)
أزدي، من قادة الردة(1). تحرك من المدينة متوجهاً تلقاء عُمان(2)إلى الشرق، ماراً بشمال الربع الخالي، ومن جنوب اليمامة، فوصل "دبا" على خليج عمان. وهنا هاجم الأزد بالتعاون مع عكرمة بن أبي جهل، وقضى عليهم، وقتل رئيس المرتدين لقيط(3). ثم مال نحو الجنوب باتجاه الطريق الساحلي فمر بـ "صُحار"، ثم وصل عمان فالتقى بعرفجة بن هرثمة العارقي الذي كان على لقاء معه بأمر من القائد الأعلى، وقاد المعركة كقائد عام لكلا الجيشين، وانتصر على المرتدين، كما انتصر عليهم في مهرة أيضاً(4)، وبعد انتهاء حروب الردة وبخاصة فيها ولاه أبو بكر على عُمان(5)، وبقي فيها، ثم ولاه عمر اليمامة(6).
لقد كان حذيفة قائداً تعرضياً، يتقن فن القيادة، ويعرف كيف يقاتل عدوه، ويجيد ركوب الخيل، ويعرف الأثر ومعالم مسرح العمليات الذي يقاتل عليه، وهو إن التقى بقائد أو أكثر فهو القائد العام. وبالإضافة إلى ذلك فقد كان بطلاً عقائدياً حارب قومه من بني أزد وانتصر عليهم، وساق رئيسهم وقتله.
13- عَرفجة بن هَرثمة البارقي
قرشي، ينتسب إلى بني عبد العزى بن زهير(7). صحابي جليل. لم يشهد المواقف والمعارك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إنما كان له شرف الاشتراك في حروب الردة إذ عقد له أبو بكر لواءاً، وكلفه بمقاتلة المرتدين قبيلة "مهرة" في اليمن.
__________
(1) ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة:1/332
(2) عُمان. يسكنها كثير من القبائل العربية وبخاصة الأزد. انظر البلاذري-فتوح البلدان: 103.
(3) البلاذري- فتوح البلدان: 104.
(4) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/529، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/143، أبو خليل- أطلس التاريخ العربي: 34
(5) ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 1/336.
(6) ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 1/391، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 1/332.
(7) ابن جزم- جمهرة أنساب العرب: 2/367.(1/356)
تحرك بجنوده من المدينة متجهاً نحو الجنوب الشرقي ماراً بمحاذاة الطائف من الناحية الشرقية، حتى إذا وصل نجران اتجه نحو الشمال الشرقي باتجاه عمان مشكلاً بذلك نصف دائرة مفتوحة نحو الشمال باتجاه الربع الخالي، ثم مالبث أن ولى وجهه شطر اليمن باتجاه الجنوب الغربي ماراً من شمالي مهرة وشمالي حضرموت(1).
التقى عرفجة مع حذيفة بن محصن الغلفاني في عمان. وانضمت إليهما هناك بعض القوات التي ثبتت على دينها من تلك المنطقة، كما انضمت قوات عكرمة بن أبي جهل الذي فشل في مهمته في اليمامة. أصبح هذا الجيش يضم عدداً كبيراً من المقاتلين من السهل التغلب بهذه الكثرة على جموع المرتدين. قاد معركة القتال في هذه المنطقة كقائد عام حذيفة بن محصن الغلفاني، ولكن عرفجة عاد فاستلم قيادة هذا الجيش في مهرة، وانتصر على المرتدين(2)، ثم عاد إلى المدينة. ومن هنا أيضاً أرسل لمساعدة العلاء بن الحضرمي في البحرين، وانضم إليه، ثم أرسل بمهمة إلى شواطئ فارس، وكان القائد الأول الذي جاس مياه بحر فارس، واستولى على جزيرة بحرية، وأعلن الشعائر الدينية فيها، وأقام مسجداً(3). ثم حارب فيما بعد في جبهة العراق بخاصة في معركة البويب(4).
قاتل فيما بعد في زمن عمر بن الخطاب في العراق مع المثنى، ومع سعد بن أبي وقاص في القادسة، واشترك في فتح تكريت، وفي فتح بعض المدن الفارسية مثل "رامهرمز" و "تستر" وقاتل في زمن عثمان في بلاد فارس، ثم استقر والياً في الموصل.
__________
(1) أبو خليل- أطلس التاريخ العربي: 34.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/529، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/143.
(3) ابن سعد- الطبقات: 4/362، البلاذري- فتوح البلدان: 387.
(4) الطبري- في الأمم والملوك: 2/651 ومابعدها.(1/357)
كما يلاحظ، فإن هذا القائد قاتل في أراض مختلفة لجنسيات متعددة، لجيوش متنوعة. فقد كان في أراضي الجزيرة العربية عالماً بمسالكها، وبطبيعتها الجغرافية، فهو إن تحرك، تحرك بأمان واطمئنان، وإن تمركز بتشكيله فإنه يعسكر في أراض تتوفر فيها جميع شروط التمركز. وكان في أرض العراق حذراً، يعتمد على الاستطلاع والدوريات والطلائع، وكان أول قائد استطاع أن يخوض غمار البحر ويستولي على جزيرة فارسية.
إن الصفة البارزة لعرفجة هو قتاله في خلافة أبي بكر الصديق للمرتدين. وقد أظهر في قيادته الحزم والمرونة والسيطرة على القوات أثناء التحرك والتقدم والقتال، وتصدى للمرتدين بكل شجاعة دون أن تأخذه الشفقة على بني قومه الفاسقين، إنما كان عقائدياً مؤمناً، آثر على أن يكون مقاتلاً بدلاً من أن يكون والياً. وأثرته هذه جعلته قائداً متحملاً للمسؤولية، ذا قرار صحيح، واثقاً بجنوده، مطبقاً لمبادئ القتال، وبخاصة في الحشد والمفاجأة.
14- القادة الاحتياطيون:
الذين ساعدوا قادة حروب الردة. هؤلاء لم يكونوا من جند التشكيلات الذين أرسلهم أبو بكر من المدينة، أي لم يكونوا من الأحد عشر تشكيلاً، إنما أسندت إليهم بعض المهام، وكان لهم دور بارز في مساعدة التشكيلات المكلفة بحروب المرتدين وأهمهم:
زياد بن لبيد البياضي.(1/358)
أنصاري، شهد المواقع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله قدم في الإسلام(1). وكان والياً على حضرموت حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم(2). أرسله أبو بكر في تشكيل لقتال المرتدين في اليمن، فوافى كندة، فأغار عليهم وهم في غفلة، ففاجأهم فأصاب منهم، وكانت المفاجأة بالزمان إذ أغار عليهم ليلاً، وظل ضاغطاً عليهم، وشدد في حصارهم، لولا أن الأشعث قام بمساعدتهم ففك الحصار عنهم. ثم عاد ثانية بعد أن وجه أبو بكر عكرمة لمواجهتهم، وتعزيز قوات زياد. وتعاون زياد أيضاً مع المهاجر بن أبي أمية لقتال ملوك كندة(3)، واستطاعا أن يتغلبا على خصومهم، وأن يغنموا غنائمَ كثيرة... ولما رأى الأشعث أن القتال لغير صالحه مال إلى الصلح، وطلب الأمان، فقُبضَ عليه، وأرسل إلى أبي بكر في المدينة(4). لكن أبا بكر خلى عنه، وتأسف حين موته لو ضرب عنقه، فقال: "... ثلاث تركتهن و وددتُ أني فعلتهن... فوددتُ أني يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيراً كنتُ ضربتُ عنقهُ فإنه تخيل إليّ أنّه لا يرى شراً إلاّ أعانَ عليه..."(5).
لقد كان هذا القائدُ سريعاً في تحركهُ، مطبقاً المفاجأة، متعاوناً مع جيرانه ومع قوات التعزيز التي جاءت مع عكرمة، شديداً في قتالهِ، انضباطياً، قاسياً على المرتدين(6)، مجيداً للحصار، مطبقاً للانقضاض.
يعلى بن مُنْية المضري:
__________
(1) ابن سعد- الطبقات: 3/598
(2) ابن سعد- الطبقات: 3/598
(3) الزبيري- نسب قريش: 316.
(4) ابن سعد- الطبقات: 3/598، 6/22، ابن واضح - تاريخ اليعقوبي: 2/111.
(5) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/619.
(6) البلاذري- فتوح البلدان: 139.(1/359)
صحابي من بني تميم(1). شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً والطائف وتبوك، وروى عن الرسول صلى الله ثمانية وعشرين حديثاً(2). وجهه أبو بكر إلى خولان باليمن، وكان والياً عليها(3)، وكانوا قد ارتدوا عن الإسلام، فتحرك إليهم، فتابوا دون أن يلقى منهم مقاومة(4). فكانت اليمن بيد ثلاثة من القادة يعلى على خولان وزياد بن لبيد على كندة، والمهاجر بن أبي أمية على صنعاء(5).
لقد دلت معاركه على شجاعته، وخفة حركته، وقد حاز على ثقة أبي بكر وعمر وعثمان(6).
ضرار بن الخطّاب
بن مرداس بن فهر القرشي 13/634
أخذ عن أبيهِ الفروسية والشجاعة(7). قاتل مع المشركين حين أسلم يوم فتح مكة. وكان قائد وحدة صغرى، في جيش خالد باليمامة، فقاتل المرتدين، وتعقب فلولهم(8)، ثم حارب مع خالد أيضاً في فتح العراق، ثم في فتح الشام، ثم في معركة اليرموك. ثم اشترك فيما بعد، وبعد موت أبي بكر في الفتوحات، وشهد القادسية والمعارك الأخرى(9).
مما تقدم، فإن ضرار بطل مجرب، له خبرة سابقة في الحروب، ولديه الشجاعة والإقدام(10)، والقدرة على رفع معنويات جنوده بشعره الحماسي، وكان يتميز بسرعة وخفة وبمناورته الخاطفة في الميدان.
أبوموسى الأشعري
(عبد الله بن قيس بن سليم العامري) 52/672.
__________
(1) ابن حبيب- المحبر: 67- ابن حزم - جمهرة أنساب العرب: 1/213.
(2) النووي- تهذيب الأسماء واللغات- 2/1/165.
(3) ابن حزم- جمهرة أنساب العرب: 1/213.
(4) البلاذري- فتوح البلدان: 139.
(5) البلاذري- فتوح البلدان: 143.
(6) النووي- تهذيب الأسماء واللغات: 2/1/165.
(7) ابن سعد- الطبقات: 5/454، ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 2/748.
(8) ابن سعد- الطبقات: 5/454،
(9) ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب:4/1056،خطاب-قادة فتح بلاد فارس: 91-92.
(10) ابن سعد- الطبقات: 7/407، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 3/270.(1/360)
بشهادة أشجع الشجعان محمد صلى الله عليه وسلم يقول: "سيد الفوارس أبو موسى"(1)لقد اكتسب هذا اللقب عن جدارة إذ قتل في معركة واحدة حين لحق بهوازن بعد حنين تسعة من مقاتلي هوازن(2). فقد تولى القيادة والإدارة، وجمع بين الشؤون السياسية والعسكرية(3).
حارب المرتدين مرتين إحداهما في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ادعى النبوة الأسود العنسي، فقضى عليه وعلى الفتنة(4) في اليمن، وأعاد هذا البلد إلى الإسلام، والثانية في خلافة أبي بكر الصديق عندما ارتد أهل هذا البلد ثانية.
هو البطل الذي يحب أن يقاتل في سبيل الله، وهو الفارس الذي لا يزال مقاتلاً أبداً. التحق بجبهة الشام فقاتل فيها، وكان له نصيب كبير في فتح الأهواز وأصبهان والدينور وغيرها(5). حاز على ثقة أبي بكر وعمر وعثمان، وتولى اليمن والبصرة والكوفة(6).
ومما ساعده على قيادته خبرته الطويلة بالفروسية، وتدريبه المتواصل، وثقافته الواسعة، وفطنته وتدبره للأمور، والنظر في عواقبها، وكان يحمل إرادة قوية، ويتحلى بانضباط، وحاز على ثقة ومحبة رؤسائه ومرؤوسيه، وطبق مبادئ الحرب في كل معاركه، واشتهر بالضغط والاستمرارية.
هؤلاء هم القادة جميعاً، تلك النماذج من الأبطال والشجعان، آثروا الشهادة، وأحبوا الموت، كما أحب أعداؤهم الحياة، كانوا في المقدمة، وضُرب المثل بهم، فكانوا قدوة حسنة، ونبراساً يهتدى بهم. تصدوا للردة بكلِّ عزم وتصميم، فكان لهم ما أرادوا، وحسموا الحرب في مدة قصيرة، وأعادوا للعرب وحدتهم وقوتهم، ومهدوا للفتوحات في الشرق والغرب، وحاربوا أكبر دولتين آنذاك، وانتصروا على أعدائهم.
__________
(1) ابن سعد- الطبقات: 4/107.
(2) ابن حجر- جوامع السيرة: 241.
(3) ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 4/119، 120.
(4) خطاب- قادة فتح بلاد فارس: 180.
(5) ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 4/120.
(6) ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 4/119.(1/361)
ثانياً: القادّة في جبهة العراق
برز في هذه الجبهة قادة، عرفوا بالشجاعة والإقدام، واجتاحوا الأراضي العراقية وقاتلوا الفرس، في كل جبهة يتصدر القادة خالد بن الوليد، وكالعادة فإن القيادة كانت مركزية في المدينة، وقادة الجيوش كانوا تابعين مباشرة إلى القائد الأعلى أبي بكر (الصديق)، ولم يكن هناك قائد جبهة تتبع له هذه الجيوش، يتساوى الجميعُ في القيادة لجيوشهم، ولا يحق لأحد أن يكون تبعاً لقائد جيش آخر في تلك الجبهة؛ إنّما كانوا إذا اجتمعوا في قتال فالقيادة لمن سبق واستولى على الحيرة في أرض العراق، كما أن من واجب كل قائد جيش أن يعاون قائد الجيش الآخر الذي يقاتل في جبهته قريباً منه، وعليه إنقاذه من المحنة التي يمكن أن يقع فيها.
جبهة العراق كما قدمنا، ليست أراضي العراق كما نراها اليوم، ولا أراضي فارس كما كانت في عهد أبي بكر الصديق؛ إنّما كانت الشريط النهري الذي يمتدُّ من شط العرب وحتى المجرى الأوسط لنهر الفرات.
بالإضافة إلى خالد فإن هناك عدداً من القادة، كان لهم دور بارز في المعارك، وسبب في الانتصار وأهمهم: المثنى بن حارثة الشيباني، عياض بن غَنْم، عدي بن حاتم، مذعور بن عدي العجلي، حرملة بن مريطة التميمي، سُلْمى بن سلمى بن القَيْن التيميمي، القعقاع بن عمرو التميمي، عاصم بن عمرو التميمي.
1- المثنى بن حارثة الشيباني
ت 14/635:(1/362)
قائد الجبهة العراقية عندما كان قائداً دون تكليف من القيادة العامة، وهازم الفرس، ومؤدب المرتدين، وقدوة الشجعان الميامين، ومثل الصادقين أولي الألباب والمفكرين، وصاحب النسب الكريم، وحامل الذكر الأريج(1). علا قومه في الجاهلية والإسلام، وعلا غيرهُ بما حمله من حسن الصفات، وأسلم وهو صاحب العقل، وقاتل وهو مشرع الراية، ودلت مواهبه القيادية على أنّه قائد لا يقل مستواه عن مستوى خالد بن الوليد، قاتل مع خالد كنائب له في خلافة أبي بكر(2)، وقاتل مع أبي عبيد الثقفي كنائب له أيضاً، وساعد العلاء بن الحضرمي في قتال المرتدين، وتزعم جبهة النضال ضد الفرس. مسرح عملياته أرض العراق وفارس، فهو الخبير بها وبمعالمها، وهو الذي جاور الفرس فعرف من طباعهم وطريقة قتالهم، وكان يساعده في ذلك سويد بن قطبه العجلي، فيغيران على الفرس من ناحيتي الحيرة والأبله(3).
__________
(1) ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4/299، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 6/41.
(2) الدينوري - الأخبار الطوال: 111.
(3) الدينوري - الأخبار الطوال: 111.(1/363)
إذا أردنا أن نتكلم عن المثنى، فهو القائد الذي اختص بقتال الفرس(1)، وما مساعدته للعلاء في القضاء على المرتدين، إلاّ لأنّه يريد قطع الصلة التي كانت قائمة بين القبائل المرتدة وبين الفرس، إذ منع هؤلاء من قيامهم بالدس وتشجيع الردة، مما أتاح للعلاء أن يتفرغ لعدو واحد، مما سهل عليه تنفيذ مهمته التي كلفه بها أبو بكر الصديق. فكان عمل المثنى ودوره في حروب الردة أن جمع قومه على الإسلام، وقاتل بهم من ارتد من القبائل الأخرى، وقدم المعونة المادية والمعونة للعلاء الذي كلف بقتال المرتدين، وقضى على الفرس الذين حاولوا وشجعوا تلك الفئة الضعيفة بإيمانها، المترددة في إسلامها، وبذلك حال بينهم وبين ما يشتهون. ولم تكن للمثنى جولات حربية ومعارك قتالية مع المرتدين إنما كانت هذه مع الفرس الذين قاتلهم أولاً في البحرين، وبهذا جذب أكبر قوة إليه، لكي يمكّن العلاء من تركيز جهده القتالي في محاربة المرتدين، وبلغت قواته القطيف وهجر ومجمع دجلة والفرات ومعظم أراضي البحرين.
__________
(1) الدينوري - الأخبار الطوال: 111. ابن الأثير- أسد الغابه في معرفة الصحابة: 4/299، ابن حجر الإصابة في تمييز الصحابة: 6/41.(1/364)
لفت هذا العمل أنظار الخليفة والناس، متسائلين عن هذا القائد الذي تجرأ على الفرس ودخل بلادهم، وجاس خلال الديار(1). ولا يُستبعد أبداً أن يكون المثنى هو الذي زيّن لفتح العراق في نفس القائد الأعلى، وجعله يتخذ قراراً بتوجيه الجيش العربي الإسلامي باتجاه العراق(2)، وأراد أبو بكر أن يستثمر جهود واندفاع هذا القائد فاستدعاه وأسند إليه مهمة قتال الفرس(3)، وقاتل علىهذه الجبهة لوحده إلى أن طلب مدداً، فأمدّه أبو بكر بخالد بن الوليد، وولاه القيادة العامة، فأذعن المثنى، وقاتل مع خالد في معاركه الكثيرة والمتتالية: الحفير، المذار، الحيرة، الأنبار... ثم غادر خالد بناءً على أمر القائد الأعلى أرض العراق متجهاً إلى الشام بنصف القوات، وتسلم المثنى ثانية قائداً عاماً للجبهة العراقية. لقد برزت إمكانياته القتالية، ودخل معارك عديدة مع الفرس منها "بابل" الذي انتصر فيها، وبلغت أخبار هذا الانتصار أبا بكر، وأراد أن يتابع فتح العراق، فذهب إلى مقر القيادة ليستأذن القائد الأعلى بإكمال مهمته، وليعزز له قواته المكلفة بذلك إما من المرتدين الذين تابوا وأصلحوا، أو من القوات الأخرى؛ لكن القوات المسلحة كلها مشغولة بالفتوح، فهناك قوات في الجبهة الشامية، وهناك قوات في الجبهة العراقية، كلتاهما - من الناحية الاستراتيجية- لها أهمية كبرى. أراد أبو بكر أن يعزز الجبهة العراقية، لكن المنية وافته قبل أن يحقق هذه الأمنية، فأوصى عمر بن الخطاب من بعده بذلك.
__________
(1) الدينوري - الأخبار الطوال: 111. ابن الأثير- أسد الغابه في معرفة الصحابة: 4/299، كال الطريق إلى المدائن: 202، ومابعدها.
(2) الطبري-تاريخ الأمم والملوك: 2/255، أكرم- سيف الله: 244.
(3) الأزدي- فتوح الشام: 53، ومابعدها، ابن أعثم- الفتوح: 1/89.(1/365)
استُنفر المقاتلون من المدينة فما وجد فيها غير ألف عُيّن عليهم أبو عبيدة الثقفي بن مسعود، وعهد إليه أيضاً بالقيادة العامة، وعاد المثنى نائباً لأبي عبيدة، تجمع المرتدون التائبون، ونظم هذا الجيش، وقاتل المثنى مع القائد العام الجديد في معارك عديدة منها "السقاطة"، "الجالينوس" الذي استشهد فيها قائد هذه الجبهة، وتولى المثنى ثالثة القيادة العامة، واستطاع الانسحاب من هذه المعركة دون وقوع خسائر كبيرة، وعبر الجيش الجسر، وأصيب المثنى بجرح، "البويب" ووصل بغداد وتكريت وعسكر "بذي قار". وهنا توفي متأثراً بجراحه.(1/366)
شارك هذا القائد في حروب الردة، دون اصطدام مسلح. ترى ألأنه لا يريد أن يحارب العرب كعرب، أم أنّه غير مقتنع بالتصدي الدموي لهم؟ لعله كان لا يرغب في حربهم بصورة مباشرة، لذلك اتجه بكليته إلى حرب الفرس، وأقنع غيره بمحاربة هذا العدو(1). ويبقى تساؤل آخر لِمَ لَمْ يستلم المثنى القيادة العامة لجبهة العراق الذي كان يستلمها لفترات قصيرة وفي غياب قائد الجبهة الأصيل؟ السبب في ذلك أن أبا بكر لم يكن ليولي قيادة جيش أو جبهة إلاّ لقرشي. تركزت حروب المثنى غير المباشرة ضد المرتدّين، وذلك بمنع الفرس من الالتقاء بهؤلاء، واحتلال النقاط الاستراتيجية من أراضي البحرين مثل "القطيف"، وبهذا الاحتلال فإنّه يكف بها وصول النجدات الفارسية إلى المرتدين، وبالتالي فإنه يعزلهم، ويتيح للقادة مثل العلاء أن يتفرد بالمرتدين. وما إن انتهت حروب الردة، حتى بادر المثنى إلى الاستئذان بمشاركتهم القتال ضد العدو الفارسي. فأذن له، فاستنفرهم(2)، فقاتلوا معه قتالاً عن رغبة وحب لأنه لم يقاتلهم، ولم يحمل عليهم سلاحاً من قبل، ودخلوا معه معارك "السقاطية" و"الجسر" و"البويب"(3) وكان يقول: "إني لأرجو ألا يؤتى العرب من قبلكم..."لم يؤمر المثنى من قبل القيادة العليا بمقاتلة المرتدين، وإنمّا طلب منه العلاء-الذي كلف بهذه المهمة- المساعدة، فلبى النداء(4). وكان له دور كبير في نجاح العلاء بمهمته.
__________
(1) البلاذري - فتوح البلدان: 242، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4/299، كمال الطريق إلى المدائن: 25 ومابعدها.
(2) ابن الأثير: الكامل في التاريخ: 2/166.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/648، ابن الأثير- الكامل في التاريخ 1-2/442...
(4) البلاذري- فتوح البلدان: 242، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4/299.(1/367)
قاتل المثنى كقائد عام للجبهة العراقية، وكنائب لقائد الجبهة، وإن كان يغلب عليه استلام القيادة العامة لهذه المنطقة، فهو بلا منازع نجح في هذه وفي تلك. ففي الأولى أثنى عليه أبو بكر، وفي الثانية أثنى عليه خالد بن الوليد حين تركه متجهاً إلى جبهة الشام(1)، واعتمد عليه عمر بن الخطاب -حين قتل أبو عبيد قائد الجبهة الأصيل- كقائد عام لجبهة العراق بعد معركة الجسر(2).
__________
(1) البلاذري- فتوح البلدان: 250، خطاب- قادة فتح العراق والجزيرة: 29.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/ 639، ومابعدها.(1/368)
إن مسرح العمليات كان يتميز بوجود الأنهار والوديان والمرتفعات والجبال وطول خطوط الإمداد والإخلاء، بما لم يألفه المثنى من قبل، الأمر الذي سبب له بعض المصاعب القتالية، وزاد في عدد الخسائر، وأبطأ في وتيرة الهجوم. ففي معركة الجسر تعرض الجيش العربي إلى الخسائر الكبيرة، وإلى الفوضى، وإلى تعرض القائد العام للجبهة إلى جرح كان سبباً في موته فيما بعد(1). وإذ تأخر الإمداد بسبب طول الخطوط- على كثرة الإمدادات المتتالية التي كان يدفعها عمر بن الخطاب- كان الجيش يتوقف عن متابعة أعماله القتالية، كما حدث عندما وصل أبواب المدائن وتوقف هناك بانتظار الإمداد من المدينة(2)، ولما لم يصل في الوقت المحدد ذهب المثنى بنفسه إلى القائد الأعلى يستعجله في إرسال قوة كبيرة(3)، وكذلك بعد معركة البويب وانتصار العرب فيها، باشر الفرس بحشد قوات كبيرة، فتراجع الجيش العربي وتمركز بـ "ذي قار" بالقرب من السياخ بين القادسية وخفّان، وتوقف هناك بانتظار وصول القوات من المدينة(4).
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/642، خطاب- قادة فتح العراق والجزيرة: 36-38.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/605، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/432.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/607، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/432.
(4) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/644، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/441.(1/369)
اصطدم المثنى مع الفرس في عدة معارك نهرية أو جبلية أو سهلية، انتصر في أغلبها، ففي المعارك النهرية كان يعبر في مقدمة الجيش نحو العدو، وفي الانسحاب وقطع الجسر كان يعبر آخر جندي لكي يحمي ظهورهم ويقاتل دونهم(1). وفي المعارك الجبلية مثل "بابل" تمكن هذا القائد من أن يصيب الفيل الكبير- الذي كان الفرس يجعلونه في مقدمة الصفوف... في مقتل، واستطاع أن يثبت جبهة القتال، وأن يلتف من المجنبتين، مما أدخل الرعب في صفوف أعدائه فتركوا أمكنتهم وهربوا(2). وفي المعارك السهلية مثل "الحميز"، "المذار" فقد برع المثنى في قتاله لأنها أرض تشبه الصحراء التي تعود القتال فيها، فكان يهاجم عدوه من الجبهة (جبهياً) ويفاجئهم في الزمان والمكان حتى تمكن من فتح كثير من المدن الفارسية الهامة مثل بغداد والحيرة وخفان والسقاطية...
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/642.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/556، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/385.(1/370)
لقد أجاد هذا القائد في جميع أنواع المعارك الهجومية والدفاعية والمطاردة والانسحاب. ففي معركة "الحفير" الهجومية كانت بقيادة خالد بن الوليد، أما المطاردة بعد نجاح هذه المعركة كانت بقيادة المثنى الذي تعقب الفلول المنهزمة، وقتل منهم العدد الكبير، وفي معركة "بابل" الدفاعية كانت قوات المثنى متمركزة في المرتفعات، وفي النقاط الاستراتيجية، حتى إذا هاجمت القوات الفارسية صمدت لها القوات العربية، وكبدتها خسائر كبيرة، وبعد تثبيتها، قام الجناحان اليميني والشمالي بالالتفاف، فولت القوات الفارسية الأدبار، ثم أمر القائد العام بالمطاردة، حتى وصلت القوات العربية قريباً من المدائن... وفي معركة الجسر طبق الانسحاب بشروطه ومبادئه، فكانت كل مجموعة تحمي انسحاب الأخرى، حتى انسحب الجيش بأقل الخسائر(1).
من هذا يتبين لنا شخصية هذا القائد العسكرية، وروحه الوثابة، وإيمانه القوي. بطل علمته التجارب والخبرات قبل أن يدخل معارك المرتدين ومعارك الفتوح. له من نسبه مايعلو به في أهل القتال، فأهله بنو شيبان، كانوا من الأبطال، واستمر بهم الحال إلى أن دخلوا في الإسلام، فبرز منهم المثنى، وقدم للأجيال العربية والإسلامية، تراثاً كبيراً، وسجلاً طويلاً حافلاً بالأمجاد والبطولات. فلقد اختص بقتال الفرس، فدرس طبيعة قتالهم، وتعرف على مواطن الضعف والقوة، وقاتلهم بالأسلوب الذي يؤثر على معنوياتهم، ويهز عروشهم،ويدك حصونهم. فإذا ذكرنا المثنى فإنما نذكر معاركه المظفرة مع الفرس، ونذكر اندفاعه الشديد في أراضيهم وفتح مدائنهم.
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/ 640-642، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/438، غلوب- الفتوحات العربية الكبرى: 258-259.(1/371)
شجاعة نادرة، أليس من الشجاعة أن يقتحم هذا القائد صفوف الفرس في معركة "بابل" في مجموعة انتحارية، ويقتل الفيل، ويتقدم مندفعاً مطارداً أعداءه حتى أوصلهم إلى الأراضي المطلة على المدائن(1)!؟ أو ليس من الشجاعة أيضاً أن يتيح لجنده عبور الجسر في معركة الجسر، ويحمي عبورهم حتى آخر فرد منهم، وظل ثابتاً رغم إصابته بجرح بليغ(2)!؟ أوليس من الشجاعة أن يتخوف القادة والصحابة من دخول الحرب في الجبهة العراقية، فيدخلها دون خوف أو وجل(3)!؟ ثم قام فشجع الحاضرين على قتال الفرس، وقال: "يا أيها الناس لا يَعْظُمَن عليكم هذا الوجه فإنا قد تبجحنا ريف فارس وغلبناهم على خير شقي السواد، وشاطرناهم، ونلنا منهم، واجترأ من قبلنا عليهم."(4) وقال: "قد قاتلتُ العرب والعجم في الجاهلية والإسلام، والله لمائة من العجم في الجاهلية كانوا أشد علي من ألف من العرب، ولمائة اليوم من العرب أشدُّ علي من ألف من العجم. إن الله أذهب مصدوقتهم، ووهن كيدهم، فلا يرد عنكم زُهاء ترونه ولا سَواد، ولا قِسِي فُجُّ، ولا نبال طوال، فإنهم إذاً أعجلوا عنها أو فقدوها كالبهائم أينما وجهتموها اتجهت(5)". وقد بلغت جرأته منتهاها عندما اخترق صفوف العدو في معركة "البويب" قاصداً قائد الفرس(6). وبهذا الاختراق تزعزعت الصفوف، وبهذه الجرأة ذعر الفرس بعد وصول الخطر إلى قائدهم.
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/644، ابن الأثير - الكامل في التاريخ: 2/440.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/640، ومابعدها، ابن الأثير - الكامل في التاريخ: 2/439،440.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/631، ومابعدها.
(4) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/630.
(5) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/651.
(6) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/644، ابن الأثير - الكامل في التاريخ: 2/441.(1/372)
إنّه النفسية التي لا تتبدل في الانتصار، فقد ربح معارك عديدة(1)؛ لكنه ظل طبيعياً، فلم تأخذه نشوة الظفر، أو الزهو في الفتوحات الكبيرة التي نجح فيها، وكذلك فإن نفسيته لم تتبدل إزاء الأحداث الكبيرة، أو الانتكاسات الكبيرة، إذ تعرض جيشه أثناء قطع الجسر إلى الخسائر الكبيرة، ومع ذلك فإنّه لم يجزع، وقد قُتِلَ أخوه مسعود فلم يخف، بل حث الناس على متابعة القتال(2).
إنه صاحب العقل المخطط، والفكر المنظم؛ فهو الذي تصور طبيعة الحرب مع الفرس، وأعد لهذا التصور عدته. وكان يتصل اتصالاً مباشراً بالقائد الأعلى وبقادته المباشرين ليتفهم فكرة قائده عن تصوره- الذي لم يخطئ في حروبه- عن جميع المراحل المستقبلية. استأذن أبا بكر عند إسناد المهمّة له لأول مرة، وقابله بعد ذلك قبل موته بقليل(3)، وكان دائم الاحتكاك مع خالد بن الوليد، ومع العلاء بن الحضرمي، ومع أبي عبيد الثقفي(4). لذلك فإنّ المثنى كان كالمهندس يصمم خططه، ويقوم بجمع مواده الأولية، ثم يقوم بالتنفيذ.
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/630، وما بعدها، ابن الأثير - الكامل في التاريخ: 2/432. ومابعدها.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/639، ابن الأثير - الكامل في التاريخ: 2/438.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/552،630.
(4) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/630، وما بعدها،(1/373)
يتحمل المسؤولية ويحس بها؛ فهو الذي أمّر نفسه متحملاً بذلك تبعة ماقد يترتب على هذا الأمر من لقاء الفرس والتصدي لهم: "يا خليفة رسول الله: استعملني عن قومي..."(1) وهو الذي قال عنه عمر بن الخطاب: "مؤمر نفسه"(2). وهو الذي ثبت أنّه قاد الجبهة العراقية في أول الأمر، دون أن تسند إليه هذه المهمة، حتى إذا شعر القائد الأعلى، تساءل عن هذا الذي تأتي أخباره قبل معرفته(3)، وهو الذي تحمل مسؤولية قطع الجسر وما جر هذا القطع من خسارة كبيرة في الأفراد منوهاً بأنّه ارتكب خطأً، معترفاً بالحق فقال: "لقد عجزت عجزة وقى الله شرها بمسابقتي إياهم إلى الجسر وقطعه حتى أحرجتهم فإني غير عائد فلا تعودوا، ولا تقتدوا بي أيها الناس، فإنّها كانت مني زلة، لا ينبغي إحراج أحد إلا من يقوى على امتناع.(4)". وهذا في رأيي منتهى تحمل المسؤولية، فالحق أحق أن يتبع.
له من ثقافته العسكرية، وثقافته العامة ما مكناه من تثبيت قيادته، ومن ثقته بنفسه، ومن إقدامه على تنفيذ أعماله القتالية بكل كفاءة وجدارة.
فقد كان خبيراً بأمور الحرب منذ نعومة أظفاره، وهو الذي تدرب على الأمور العسكرية، فلقد مرّ بمراحلها النظرية والعملية؛ كما كان شاعراً مطلعاً يصف المعارك التي خاضها، والآمال التي يعقدها، والصور التي يتمناها.
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/552، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 6/41، 4/299.
(2) ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4/99.
(3) ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 6/41.
(4) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/651.(1/374)
الثقة والحب المتبادلان؛ فقد كان قدوة لجنوده، يتقدمهم إلى المخاطر والموت، ويدفع عنهم غائلة القتل، ويؤثرهم على نفسه، ولا يرغب بنفسه عن أنفسهم. فقد كان في معركة الجسر مثالاً للإيثار(1). وقد أعطى للعرب المرتدين التائبين كل الثقة فبادلوه الثقة والاحترام، وحاربوا معه، باذلين إرادة القتال بكل طواعية واختيار.
لقد أظهر المثنى من الانضباط مايعجز عنه قائد؛ فهو القائد في عرينه وفي جبهته يقاتل في قومه ويقودهم من نصر إلى نصر. هاهو العلاء بن الحضرمي يطلب إليه المساعدة في قتال المرتدين فيستجيب(2). وهاهو خالد بن الوليد يتولى القيادة العامة في تلك الجبهة فيأتيه مذعناً طائعاً(3). وهاهو أبو عبيد الثقفي في خلافة عمر بن الخطاب يتولى القيادة العامة والمثنى تحته فيتلقاها بكل رضاء وحب، ويتعاون مع أبي عبيد خيرتعاون، ويبذل قصارى جهده لنجاح المعارك التي يخوضها(4). في هذه التغييرات المتعاقبة، مرة يكون فيها قائداً، ومرة أخرى يكون فيها نائباً؛ كل ذلك لم يغير من انضباطه شيئاً، ولم يغير من اندفاعه ونشاطه القتالي، ويلاحظ عليه أنّه عندما يكون نائباً يبذل كل مافي وسعه، وينصاع للأوامر التي تصدر عن القائد الذي حل محله.
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/642.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/526.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/552.
(4) البلاذري - فتوح البلدان: 251، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 4/299.(1/375)
طبق مبادئ الحرب في أعماله القتالية، وأبرز ماكان يطبق منها السرعة والحسمية؛ ففي معركة الحفير أظهر المثنى سرعة في القتال، وكأنّه يريد أن يحتوي الأرض التي يقاتل عليها العدو، وظل على استمرار بهذه السرعة حتى انهزموا فتابع مطاردتهم. إن السرعة مع الضغط تجعل العدو مرتبكاً مشلولاً، لا يستطيع أن يقوم بهجمات معاكسة إذا أراد القيام بها؛ ومن المبادئ اقتصاد القوى؛ فقد كان المثنى يقاتل عدوه بالقوى والوسائط الكافية لدحره والانتصار عليه، فلا يزيد هذه القوى والوسائط أو ينقص... وفي كثير من المعارك كان يعف عن القتال بانتظار القوى والوسائط التي ستأتيه من المدينة؛ وفي كثير من الأحيان، كان يذهب بمهمة إلى القائد الأعلى في المدينة لكي يوفر له العدد المناسب للقتال كما في معركتي بابل والبويب، ومنها الحشد والتفوق على الاتجاهات الهامة والرئيسة، كما في معركة المذار التي كانت فيها جموع الفرس كبيرة، إذ استطاع أن يحشد مع خالد قواتهما في الجزء المهم ليحصل التفوق، وبذلك تم لهما الانتصار في هذه المعركة؛ ومنها بعث المعنويات في جنوده، فكان قبل القتال يحرضهم ويطوف بين الصفوف يشجعهم، ويهون عليهم أمر عدوهم(1).وفي أثناء المعركة يتقدمهم ويحمي انسحابهم معرضاً نفسه للمخاطر، قائلاً لهم: "أنا دونكم فاعبروا على هينتكم..."(2) وفي نهاية المعركة كان يؤبن الشهداء، ويطيب خاطر من ثكل أو مات له قريب، ومات أخوه وهو يقول: "لا يرعكم مصرع أخي...."(3).
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/648، ابن الأثير - الكامل في التاريخ: 2/166، 170.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/642.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/651.(1/376)
حقاً إنّه القائد الذي درس الحرب، وعجّم عودها، وعرف نفسه كما عرف العدو، وقاتل تحت إمرة غيره، كما قاتل لوحده باذلاً في الحالتين كل مايستطيع؛ فكان بحق قائد الجبهة العراقية الذي هزم فارس، وأرسى قواعد الحكم الإسلامي فيها.
2 - عياض بن غَنْم 20/640.
فهري قرشي، صحابي جليل(1)، قائد كبير من قادة فتح العراق. ولاه أبو بكر قيادة جيش، وأمره بالمسير باتجاه دومة الجندل، وأن يأتي العراق من أعلاه، وأن يتعاون مع خالد بن الوليد الذي أمر أن يأتي العراق من أسفله، وأن يتلاقيا في الحيرة(2).
تحرك عياض من المدينة، باتجاه الشمال الشرقي ماراً بالقرب من خيبر ثمّ العلا، إلى الشرق من تيماء، فدومة الجندل، وبعد أن توقف هنا لوجود بعض المقاومات، حاول القضاء على هذه القوة التي أوقفته وأعاقته عن متابعة تحركه، لكنه لم يستطع، حتى طلب المساعدة من خالد الذي حقق هدفه ووصل أسفل العراق كما أمره القائد الأعلى، فتوجّه فوراً لإنقاذه، متخذاً أقصر الطرق من عين التمر إلى وادي الأبيض إلى دومة الجندل، فهاجمها من الناحية الشمالية الشرقية؛ كما حاصرها عياض من الناحية الجنوبية الشرقية، فكانت دومة الجندل بين تشكيلين كبيرين حاصراها واقتحماها وفتحا الحصن، وقتلا وأسرا من فيه. تابع عياض -بعد هذا النجاح- تحركه برفقة خالد متجهاً نحو الشرق حتى وصلا إلى الحيرة، فتمركز عياض هناك(3)، وأكمل خالد فتوحاته، وعاد عياض فتحرك مع خالد وقاتل معه إلى أن صدرت الأوامر لخالد بالتحرك إلى الشام(4).
__________
(1) النجاري- التاريخ الكبير: 4/18، النووي- تهذيب الأسماء واللهات: 2/1/43.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/553، 554.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/580.
(4) الواقدي، فتوح الشام: 1/13، الأزدي- فتوح الشام: 68.(1/377)
كان عياض نائب القائد العام في العراق، وقد اشترك مع خالد في عدة معارك في دومة الجندل، سوى، ديار بني تغلب، قرقيسيا، بني غسان في مرج راهط، وفتح مدينة الرها وصالح أهلها بعد حصار طويل، وكذلك فعل في حران(1). ذلك كله قد أكسب هذا القائد خبرة في القتال، وتمرساً في القيادة، وتعلماً وكسباً من خالد ابن الوليد. وفي معركة اليرموك تولىعياض قيادة أحد الكراديس(2). ثم اشترك بعد موت أبي بكر في فتح الشام والجزيرة(3)، وفتح أرْزَن التي كانت على تل مرتفع، في أعلاهلا قمة مدورة تحيط بها أبراج، وفتح ماردين المسورة والمحاطة بخندق(4).
__________
(1) أبو يوسف- الخراج: 23، الطبري- تاريخ الأمم والملوك، 2/604، ومابعدها، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/65.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/593، ابن عبد البر- الاتسعاب في معرفة الأصحاب: 3/235.
(3) البلاذري- فتوح البلدان: 179، ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/1243. ابن شداد- الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة: 3/1/281.
(4) ابن شداد- الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة:3/2/536.(1/378)
إنّه قائد وفارس أجاد ركوب الخيل وقيادتها، وكان مقدمة للجيش المتحرك، وإدارياً ألمّ بالإدارة والسياسة. له طبع الهدوء والعمق، لا يسارع إلى شيء إلا بعد أن يمحصه، ولا يعطي قراراً إلا بعد تمهل وروية، علمته تجارب الحروب، ومرافقة الأبطال، وكان موضع ثقة أبي بكر الصديق وأبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد، وكذلك الأمير عمر بن الخطاب الذي ولاه ووثق به(1). وصف بالسخاء والكرم(2)،ونسب إليه الثقافة والشعر(3). نجح كنائب قائد، أو قائد تشكيل ضمن جيش، ولم ينجح كقائد مستقل؛ لكنه بعد فتوحات العراق والشام، وبعد الخبرة والتجربة اللتين مر بهما نجح في المهام التي كلف بها، وانقلب من بطل دفاعي إلى مقاتل هجومي.
3 - عدي بن حاتم
بن عبد الله الطائي 68/687.
هو ابن حاتم الطائي الذي يضرب بجوده المثل، كان عدي وجيهاً في قومه بني طيء في الجاهلية والإسلام(4)، وكان نصرانياً فأسلم(5)،وفد على الرسول صلى الله عليه وسلم سنة 7 هـ، وهو كأبيه رجل كرم وشجاعة، نشأ مترفعاً عن الرذائل، متقرباً من الفضائل، شاعراً ومما قاله:
فإني قد كبرت ودق عظمي ... وقلّ اللحم من بعد النقاء(6).
__________
(1) ابن سعد - الطبقات: 7/398.
(2) ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4/165، ابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة: 5/51.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 3/157.
(4) النووي- تهذيب الأسماء واللغات: 1/1/327.
(5) جابي زاده- حسن الصحابة: 1/38-40.
(6) جابي زاده- حسن الصحابة: 1/41.(1/379)
وهو من الصحابة، ومن رواة الحديث: روى عنه المحدثون في ستة وستين حديثاً (1) وهو من الذين كان يوسع لهم النبي صلى الله عليه وسلم، ويكرمه، ويجلسه بجانبه إذا دخل عليه(2)، وقد أخبر من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الفتح الكبير، وأنه سيكون له شأن في فتح الحيرة، وفي الاستيلاء على غنائم وكنوز كسرى(3) فكانت له بشرى سبقته، ورفعت من معنوياته، وزادت في يقينه بالنصر.
قدم عدي على أبي بكر، وكان يجمع الصدقات في عهده، وقدم على عمر بن الخطاب، فقال له: "إن أول صدقة بيضت وجه رسول الله ووجوه أصحابه صدقة طيء التي جئت بها إلى رسول الله..."(4).وقال عمر أيضاً: "أسلمتَ إذ كفروا وأقبلتَ إذ أدبروا ووفيتَ إذ غدروا وعرفتَ إذ أنكروا"(5).
هو رجل طويل القامة، كبير الجثة، إذا ركب الفرس كادت رجلاه تصل إلى الأرض(6).
__________
(1) النووي- تهذيب الأسماء واللغات: 1/1/327. الزركلي- الأعلام: 4/220.
(2) ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/1058، النووي- تهذيب الأسماء واللغات: 1/1/328، البغدادي، خزانة الأدب: 1/261، جابي زاده- حسن الصحابة: 1/40.
(3) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ياعدي هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها... قال: ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى. قلت: كسرى بن هرمز. قال: نعم". انظر الحديث مطولاً في صحيح البخاري- باب المناقب: 25، ناصف- التاج الجامع للأصول: 3/419.
(4) مسلم- باب فضائل الصحابة: 196، ابن حنبل- المسند: 1/45، ناصف- التاج الجامع للأصول: 3/419.
(5) البخاري- باب المغازي: 76، ناصف- التاج الجامع للأصول: 3/419.
(6) . النووي- تهذيب الأسماء واللغات: 1/1/327.(1/380)
كان قائد أحد الجناحين في معركة المذار، وقد تصدى للمبارزة لقائد الجناح الفارسي "قباذ" فقتله(1). وكان له دور كبير في فتوح العراق(2)، إذ انطلق من اليمامة وهو قائد تشكيل من جيش خالد في العراق، متحركاً قبل يوم من زميله عاصم بن عمرو، وبعد المثنى بيومين، وتواعدوا جميعاً على الالتقاء ببلدة الحفير لملاقاة الجيش الفارسي(3).
لقد اشترك عدي من قبل فتوح العراق في حروب الردة، وكان له دور كبير في منع قومه من الانتكاس والوقوع في الردة، كما وقع غيرهم، وثبت على الإسلام فثبتوا جميعاً(4)، وقاتل مع بني قومه، وشهد معركة اليمامة.
شهد معركة القادسية، وأبلى فيها بلاءً حسناً، وكلف مع مجموعة من القادة للتفاوض مع رستم(5)، وقد نجح بهذه المهمة، فكان دفاعه بالسيف والقلم.
__________
(1) . الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/557، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/386، ابن كثير- البداية والنهاية: 6/345.
(2) . المرصفي- رغبة الأمل من كتاب الكامل: 6/135.
(3) . الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/554، 555.
(4) . ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/1057، النووي- تهذيب الأسماء واللغات: 1/1/327.
(5) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/33، ومابعدها.(1/381)
لقد دلت حروبه في الردة، وفي العراق مع خالد، وفي معاركه اللاحقة فيما بعد كالجمل وصفين والنهروان أنّه يمتاز بالروية والمكوث، فهو قبل أن يصدر قرار يمحص ويجمع المعلومات، ويتروى، حتى إذا نضج كل شيء في ذهنه أصدر قراره، فكان على المستوى الفردي مدرباً يحسن المبارزة والقتال الفردي، سرعان ما قتل خصمه في معركة المذار أثناء المبارزة(1). هوفارس يجيد ركوب الخيل، يتقن لعب الخيل والتدريب عليها، ففي قيادته لأحد الجناحين في معركة المذار كان خفيف الحركة، يتنقل في ساحة الميدان من مكان إلى آخر بسرعة، عالماً بفنون القتال والضرب والسيف والطعن بالرمح وفي قيادته كان حازماً مرناً ضاغطاً على الأعداء بصورة مستمرة، لايتراجع ولا يتخاذل، وقد وصل آنئذٍ بجناحه إلى مؤخرة العدو الفارسي، ولحق العدو مع زميله وانتصر(2).وكان يتصف بمقومات القيادة التي منها الشخصية العسكرية، وقوة الخطابة والفصاحة، والسيطرة على مرؤوسيه، وفرض الانضباط الطوعي، والمحبة الصادقة بين الرئيس والمرؤوس، وكان من العقائديين المخلصين، ومن المؤمنين الصادقين، ومن الأوفياء الذين عاهدوا الله ورسوله، ووفوا إلى أبي بكر، وكان كما شهد به عمر بن الخطاب وفياً معترفاً(3).وقد ثبت من أمانته أنه صحب الغنائم بعد النجاحات في العراق، إذ أرسله خالد بن الوليد ليوصل الأموال والعتاد إلى المدينة ليسلمه للقائد الأعلى أبي بكر الصديق(4).
4 - مذعور بن عدي العجلي:
__________
(1) ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/386، ابن كثير- البداية والنهاية: 6/345.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/557.
(3) النووي- تهذيب الأسماء واللغات: 1/1/329، البغدادي- خزانة الأدب: 1/262.
(4) النووي- تهذيب الأسماء واللغات: 1/1/328.(1/382)
من بني عجل، وكان منهم النصارى، ومنهم المسلمون، وكان مذعور شديداً على بني قومه من النصارى في فتح العراق(1).كتب أبو بكر أثناء فتح العراق إلى مذعور أن يلتحق بجيش خالد، وأن يلتقي به بالحفير، وكان تحت إمرته ألفان من المقاتلين(2).وكان فارساً يجيد ركوب الخيل، وقد درب تدريباً متواصلاً، وهو مشهور بالإغارة على عدوه في الصباح... وكان الرجل من بني قومه من بني عجل يعد بمائة فارس، وكان مذعور عليماً بالأرض ومداخلها ومخارجها، وله خبرة بالاستطلاع ومعرفة الطرق والمحاور والبلدان ومناطق العراق ومياهه ووديانه أي أنّه كان على علم تام بمسرح العمليات وبما يحتويه هذا المسرح. ولقد وصف نفسه وقومه بالكتاب الذي أرسله إلى أبي بكر الصديق، فقال: "أما بعد؛ فإني امرؤ من بني عجل، أحلاس الخيل (أي يلزمون ظهورها) وفرسان الصباح (أي يغيرون صباحاً)، ومعي رجال من عشيرتي، الرجل منهم خير من مائة رجل، ولي علم بالبلد، وجرأة على الحرب، وبصر بالأرض، فولني أمر السواد أكفكه إن شاء الله، والسلام عليك."(3).
5 - حرملة بن مريطة التميمي:
__________
(1) ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/388.
(2) الأزدي- فتوح الشام: 63، الطبري- تاريخ الأمم والملّوك: 2/554.
(3) الأزدي- فتوح الشام:62.(1/383)
من بني العدوية من بني حنظلة من بني تميم(1). كان له هجرة وصحبة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو من قادة العراق الذين انضموا إلى خالد بن الوليد أثناء تحركه من اليمامة إلى العراق، بعد تلقيه الأمر، وقد كتب أبو بكر إلى حرملة أن يلتحق بقوات الجيش العربي بقيادة خالد، فانضم إليه ومعه ألفان من المقاتلين من بني تميم(2). ثم أتم فتوح العراق، وشهد تلك المعارك جميعها. وفي سنة 17/638، كلف بفتح ميسان، فأتاها فتصالح مع بني عمه الذين كانوا ينزلون في حدود أرض ميسان(3).
يظهر من معاركه التي خاضها أنه على علم بالأرض ومحاورها، وعلى حنكة إدارية إذ استطاع أن يضم إليه العرب من بني قومه دون حرب، كما كان على علاقة طيبة بزميله سُلمى بن سلمى القين اللذين استطاعا التأثير على كثير من رجالات العرب في العراق، وقد شكلا تعزيزاً للقوات العربية المتحركة من اليمامة ومن المدينة.
6 - سُلمى بن سلمى
بن القَيْن التميمي:
من بني العدوية من بني حنظلة من بني تميم، له صحبة، وهو من المهاجرين الذين هاجروا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو عراقي قاتل أهل فارس من قبل، واشترك مع جيش خالد بن الوليد في فتح العراق، وانضم إليه في ألفين من المقاتلين من بني تميم ومن الرّباب(4). وقد كلف مع حرملة من قبل عتبة بن غزوان أن يأتي ميسان، فتقدما إليها، وتصالحا مع بني عمهما(5).
وما ينطبق على حرملة ينطبق على سلمى، فهوصاحب له، وظروفهما متشابهة وأسلوبهما يكاد يكون واحداً في القتال.
7 - القعقاع بن عمرو 40/660.
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 3/171.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك:2/554.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك:3/171.
(4) الطبري- تاريخ الأمم والملوك:2/554.
(5) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/171.(1/384)
من بني تميم. لم يعرف إلا في خلافة أبي بكر الصديق الذي عهد إليه بقيادة تشكيل وكلفه بمحاربة بني كلب وعلى رأسهم علقمة بن علاثة، فسار إليه فقاتله، وفر علقمة تاركاً وراءه أهله وماله، ثم رجع القعقاع إلى المدينة.
أرسله القائد الأعلى مدداً إلى خالد بن الوليد في الجبهة العراقية(1)، فدخل معركة "كاظمة" وأنقذ خالداً عندما نزل إلى المبارزة مع هرمز قائد الفرس، وغدر هرمز خالداً ومكر به، وفي الوقت الذي كان سينفذ به هرمز مكره، ويكاد ينقض على خالد، وإذا بالقعقاع يصل لتوه، فدخل المعركة لفوره، ومنع قائد الفرس من تنفيذ مؤامرته، وأنقذ خالداً في اللحظة الحرجة، وفي الوقت المناسب حيث هاجم المجموعة التي كانت تكمن لقتل خالد فهاجمها وفرق جمعها(2). وقد كلف هذا القائد من قبل القائد العام خالد بن الوليد بمهمات قتالية عديدة، فنفذها جميعاً بنجاح، واستُخلف على الحيرة، وعندما تمّ فتحها، فدافع عنها وصمد أمام هجمات الفرس، وقتل الكثير منهم، كما قتل قائدهم(3)، كما اشترك فيما بعد وفي زمن عمر بن الخطاب في فتح الشام، والقادسية، والمدائن وفي معركتي "جلولاء" و"نهاوند"(4) توجه مع خالد إلى الجبهة الشامية، فكان الفدائي، وكان قائد كردوس(5)، فقد تقدم قواته، وقاتل الروم عن ثقة وتصميم، وشهد على المعاهدة التي عقدها خالد مع زعماء الفرس(6)،
__________
(1) ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 5/245.
(2) الطبري: تاريخ الأمم والملوك: 2/551، 556، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/148.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/574، 580.
(4) ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/1284، ابن الأثير: أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4/702، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 5/245.
(5) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/592- ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/158.
(6) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/571، 572..(1/385)
وتولى قيادة أحد الأجنحة في حروب العراق، وقاد تشكيلاً فتح به الحصيد(1).
من هذه المعارك تبين أن القعقاع بطل لم يهزم في معركة، ولم يقصر في مهمة، ولم يتوان في واجب، فهو القائد الشجاع(2) الذي قال فيه أبو بكر "لا يهزم جيش فيهم مثل هذا"(3). وقال: "لصوت القعقاع خير من ألف رجل"(4) وهو صاحب المبادأة في شده على الكمين -الذي تربص بخالد- فطارده ونال منه، ودفع الأذى عن القائد العام(5)، وهو المتصرف في الأمور الإدارية وإدارة البلاد المحتلة بشكل يدعو إلى الإعجاب، وذلك عند قيادته للحيرة(6)، وهو قائد مستقل، يتحسس المسؤولية ويشعر بها دون مراقبة، بل هي مراقبة الضمير والوجدان، وهو الذي اقترن اسمه باسم خالد إذ كان يثق به ويعتمد عليه في جميع المعارك، وهو الشاعر الذي كان يبث الحماس ويقوي المعنويات في نفوس جنوده، ومرؤوسيه، وقد قال في الحيرة أبياتاً منها:
سقى الله قتلى بالفرات مقيمة ... وأخرى بأتباج النجاف الكوانف
فنحن وطئنا بالكواظم هرمزاً ... وبالثني قَرْنَيْ قارن بالجوارف
ويوم أحطنا بالقصور تتابعت ... على الحيرة الروحاء إحدى المصارف..(7)
8 - عاصم بن عمرو التميمي 19/640.
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك:2/579، 580.
(2) ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 5/244.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/553، 554.
(4) ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4/702، ابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة: 5/44.
(5) ابن الأثير- 2/148.
(6) الطبري- تاريخ الأمم والملوك:2/574.
(7) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/568.(1/386)
من قادة التشكيلات (الجيوش) والطلائع. قاتل مع خالد بن الوليد في الردة(1)وكان له دور بارز، واسم كبير من بين القادة الذين أسهموا مساهمة فعالة في حروب الردة، أما في الفتوح فقد اشترك أيضاً مع خالد في فتح العراق، وعهد إليه بقيادة الطليعة، ونجح بها، وبرز كبطل في معركة "المذار" التي كانت بين المسلمين والفرس، والتي قَتَل فيها عاصم أحد قادة الفرس، وكان ثالث ثلاثة من قادة الجيوش الذين انطلقوا من اليمامة بإمرة خالد بن الوليد، واشترك فيما بعد في المعارك. "الأنبار"، و"عين التمر" و"دومة الجندل"؛ وفي فتح الشام ساهم عاصم أيضاً وكانت رغبته في أن يكون من القادة المرؤوسين لخالد؛ لكن القائد الأعلى أبا بكر الصديق رأى أن يترك هذا القائد مع المثنى بن حارثة الشيباني في العراق، توجه خالد وترك عاصم ليقوم بدوركبير في حروبه مع المثنى، فدخل معركة "كسكر" و"نهر جرجور" ومعركة "الجسر" التي استشهد فيها رجال كثيرون، والتي نفذ فيها عاصم الانسحاب المنظم، فأنقذ كثيراً من المقاتلين، ومعركة "البويب" التي كان فيها قائداً لخيل الطليعة، وقام بمطاردة الفرس حين ولوا الأدبار.
__________
(1) خطاب- قادة فتح بلاد فارس: 79.(1/387)
لقد دلت معاركه المختلفة في حروب الردة وفتح العراق وقتال الفرس على أنّه رجل فارس، خفيف الحركة، سريع المناورة، يفاجئ عدوه، يقود الطليعة، يهتم بالاستطلاع، يجلب المعلومات الدقيقة عن العدو، يفصل في قتاله بين خيالة العدو ومشاته أي أنّه يعمل على تجزيء عدوه، ويحاول أن ينفذ إلى مؤخرته بخرق صفوفه الأولى، وبهذا ولهذا استطاع أن يصل إلى أحد قادة الفرس ويقتله، لقد استفاد وتعلم من خالد بن الوليد مبادئ الحرب بدقة، ونفذ التعاون والاستطلاع، بشكل يدعو للإعجاب والتقدير. حاصر حصن دومة الجندل طبقاً لشروط الحصار مع قطع الإمداد، واستدراج المدافعين عن الحصين؛ والابتعاد عن مرمى أسلحتهم، وانسحب من معركة الجسر بصورة منظمة، فكانت كل مجموعة تحمي انسحاب مجموعة أخرى، حتى تسنى له نصب الجسر والعبور منه بعدد من المقاتلين، وقاد الخيل في معركة البويب، ودلت قيادته هذه على معرفة في ركوب الخيل وقيادتها في الميدان، كما قام بالمطاردة بعد ذلك مطبقاً في ذلك شروط المطاردة التي منها التماس المباشر مع المهزومين، كما اهتم عاصم بالشؤون الإدارية في معركة القادسية: إذ أرسل بمهمة تموينية، كما ثبتت جدارته في المفاوضة، وفي لباقة الحديث، وفي التصرف بالكلام والمقاتلة مع قائد الفرس، حتى تيقن الأخير أن العرب أعقل الناس وأحسنهم جواباً(1)، كما كان يحرص أشد الحرص على رفع معنويات جنوده في كل المعارك وبخاصة في معركة القادسية(2).
لقد خاض عاصم معارك مختلفة منها المعارك النهرية، والحصون، والمدن، والمعارك البرية، ومنها في المقدمة والساقة، وفي الخيل، فشهدت له كلها بخبرته وحنكته وعزمه وقيادته الحكيمة.
ثالثاً: القادة في جبهة الشّام
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 3/19.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك:2/44، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 4/6.(1/388)
ركز القائد الأعلى على جبهة الشام، وحشد لها كل الطاقات والإمكانات وعين لها قادة أكفاء، عرفوا بخبرتهم الحربية وقيادتهم للتشكيلات الكبيرة، وللجيوش المتحركة، وحرك الجيوش من المدينة، وقاد بنفسه تلك الجبهة ليس على المستوى التكتيكي بل على المستوى الاستراتيجي، وكان من أبرز القادة في هذه الجبهة خالد بن الوليد، أبو عبيدة بن الجراح، يزيد بن أبي سفيان، عكرمة بن أبي جهل، شرحبيل بن حسنة، أبو أمامة الباهلي، قادة الأجنحة والكراديس في معركة اليرموك.
1 - عامر بن عبد اللّه بن الجرّاح
(أبو عبيدة) 18/639.
اشترك أبو عبيدة مع أبي بكر الصديق في جميع المعارك والغزوات في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم(1). وكان كل منهما يعرف الآخر، وكان أبو بكر يثق بأبي عبيدة، ومن شدة وثوقه به أن رشحه للخلافة يوم السقيفة(2). ولما تولي أبو بكر الخلافة أسند إليه منصب قائد جبهة الشام، وكان لهذا المنصب القوي الأمين(3)، كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماه الصحابة. ولقد كان أبو عبيدة ثالث ثلاثة في المحبّة والقرب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يسبقه في ذلك أبو بكر وعمر(4).
لما أراد أبو بكر أن يضرب الروم، وينسيهم وساوس الشيطان، أرسل إليهم خالد بن الوليد، ليكون قائداً للقوات العربية على تلك الجبهة(5)، وتسلم خالد القيادة وأبو عبيدة نائباً أو رئيس أركان، ثم عاد وتسلم أبو عبيدة قائداً عاماً لهذه الجبهة عندما تولى عمر بن الخطاب الإمارة.
__________
(1) ابن سعد- الطبقات: 3/410، ابن حزم - المفاضلة بين الصحابة: 323، الذهبي - سير أعلام النبلاء: 1/13.
(2) الذهبي- سير أعلام النبلاء: 1/3،5.
(3) ابن عبد البر، الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 2/793، الزمخشري- خصائص العشرة الكرام البررة: 158.
(4) الذهبي- سير أعلام النبلاء: 1/80، ابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة: 4/12.
(5) الأزدي- فتوح الشام: 86.(1/389)
فتح بلاداً كثيرة في هذه الجبهة، وشهد معارك عديدة منها: الصفر، وفحل، ودمشق، والمرج، وصيدا، وبيروت، وحمص، وبعلبك، وحماه، ومعرة النعمان، واللاذقية، وقنسرين، وحلب، وأنطاكية، ومنبج، ومرعش، وبيت المقدس، وغيرها(1).
زهد في الدنيا، ورغب عنها، وأنفق المال، ولم يحتفظ لنفسه غير قوت يومه ولّيَ أمر المال في خلافة أبي بكر، فكان حريصاً عليه، ينفقه في وجوهه، ويخشى الإسراف والتبذير، حياه الصحابة والخلفاء على هذه المزية(2). كريم، مضياف، مطعم للطعام(3)، أحبه رؤساؤه ومرؤوسوه، وأعطاهم من قلبه وصدق محبته، فبايعوه على حب وبحق يمكن القول: إن الانضباط الطوعي كان يتمثل في القوات التي يقودها، والجيش الذي يسير أمامه، وكان من أمنيته أن يكون بين جنوده غير بعيد عنهم(4). فلا يؤثر نفسه على أنفسهم، ولا يترفع عنهم، ولا يستهتر بشؤونهم، فهو يأكل دون أكلهم ويلبس دون لباسهم؛ لكنه يقودهم، ويبذل الجهد فوق جهدهم، ويزج نفسه في الخطورة دون أن يعرض أحداً للخطورة، ويحرص على ألا يقتل جندي في جيشه، ويرى في النصر المحافظة على أفراد الجيش دون دفعهم إلى غمرات الموت وأتون المعركة، هو الرحيم بهم، يقبل منهم عذرهم، ويعفو عن مسيئهم، ولذلك فهو إذا قاتل فيهم قاتلوا بكل ما عندهم وبذلوا كل طاقاتهم، وهو المحبوب والذي يتبادل الحب مع مرؤوسيه(5)، حمل ثقافة عالية على المستويين العسكري والمدني، وقد كلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل بمهمات علمية، منها إلى اليمن(6).
__________
(1) خطاب- قادة فتح الشام ومصر: 60-68.
(2) الذهبي - سير أعلام النبلاء: 1/9، 10، ابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة: 4/12.
(3) الزبيري- نسب قريش: 223.
(4) ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/216، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 4/12.
(5) ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 4/11.
(6) ابن سعد- الطبقات: 3/411، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 4/11.(1/390)
سل عمر بن الخطاب حين يؤدي شهادته في أبي عبيدة، فيقول: "لو أدركت أبا عبيدة بن الجراح لاستخلفته وما شاورت. فإن سئلت عنه قلت: استخلفت أمين الله وأمين رسوله.(1)". وكان رجلاً عقائدياً قتل أباه يوم بدر(2).
بجانب رحمته كان شجاعاً لا يخشى الموت، ولا يقيم له وزناً، ثبت حين فرّ الشجعان من أُحد(3)، واقتحم المصاعب في المعارك التي خاضها قبل خلافة أبي بكر وبعدها(4). وهو على جانب كبير من الانضباط، وقد ثبت ذلك حين ولي خالد قيادة جيوش اليرموك، بعد أن كان قائدها، وقد تلقى الأمر بكل سعة ويسر، وحارب وبذل جهداً، كما لو كان قائداً عاماً(5). هو صاحب القرار المدروس إذ كان يقلبه ويحمله الاحتمالات المتعددة، حتى إذا فرغ من ذلك أصدر قراره، وعلى الأغلب فإنّه يكون صحيحاً وصائباً، ولكن الحرب لا يصلحها إلى المكيث."(6).
وإذا أردنا أن نقيّم تلك الفترة القصيرة التي قضاها أبو عبيدة بن الجراح في خلافة أبي بكر الصديق، فإنّه قد تسلم إدارة المال وكان عضواً في المجلس العسكري، وقائداً لجبهة الشام فإنه يتبين مايلي:
__________
(1) ابن سعد- الطبقات: 3/413، ابن قتيبة- الإمامة والسياسة: 1/123، الذهبي- سير أعلام النبلاء: 1/6.
(2) الزمخشري- خصائص العشرة الكرام البررة، 159.
(3) ابن سعد- الطبقات: 3/410، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 4/11.
(4) ابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة: 3/11.
(5) ابن سعد- الطبقات: 3/411، ومابعدها.
(6) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/632.(1/391)
1 - إن أبا عبيدة رجل مؤتمن قد أمنه الناس على أموالهم وأرواحهم، وهو "أمين هذه الأمة"(1) كما سماه الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، فلا عجب إذاً أن يستلم الشؤون المالية ليكون عليها أميناً صادقاً وفياً. فهو الذي نظمها وأخرجها بحقها، وحدد وجوه صرفها دون إفراط أو تفريط، فبدأ بالخليفة فحدد له راتباً يكفيه.
2 - أقر مبدأ "التفرغ" في جميع الأعمال المدنية والعسكرية. وكان من رأيه أن يتفرغ العسكريون من مختلف الرتب للقتال، فلا تشغلهم مهنة، أو تحيد بهم وظيفة. فالعسكري مقاتل ينبغي أن يتعلم فنون وضروب التدريب على الأسلحة المختلفة: ولا أدل على ذلك من طلبه من القائد الأعلى أن يتفرغ لعمله الإداري والعسكري، وأن يترك التجارة وسوا ها من الأعمال(2).
3- تحلى أبو عبيدة بصفات جسدية أهلته لأن يكون قوياً. يتحمل مشقة السفر، وضغوط الحرب وأهوالها، فهو طويل القامة، صبيح الوجه، قوي البنية، خفيف اللحية(3).
__________
(1) ابن سعد- الطبقات: 3/412، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 3/85، الذهبي- سير أعلام النبلاء: 1/3، ابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة: 4/11.
(2) ابن سعد- الطبقات: 3/184.
(3) ابن سعد- الطبقات: 3/414، الذهبي- سير أعلام النبلاء: 1/4، الزمخشري- خصائص العشرة الكرام البررة: 157، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 4/12.(1/392)
4- بجانب القوة الجسدية، هناك قوة العقيدة والمعنويات. فقد قتل أباه في معركة بدر غير مبال(1)، وقاتل في كل المعارك بكل إيمان وتسليم(2)، وهو من العشرة المبشرين بالجنة(3)، ومن العشرة السابقين في الإسلام(4)، وهو الذي لم يفر من الطاعون(5) لقوة عقيدته وإيمانه ورسوخ مبادئه.
__________
(1) ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 3/85، الذهبي- سير أعلام النبلاء: 1/4، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 4/11.
(2) ابن سعد- الطبقات: 3/410.
(3) الزمخشري- خصائص العشرة الكرام البررة: 157.
(4) الذهبي- سير أعلام النبلاء: 1/3، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 4/11.
(5) ابن سعد- الطبقات: 7/385.(1/393)
5 - كان أبو عبيدة هو القائد العام للجيش أينما وجد ومهما تعددت القيادات والقادة، وقد أولاه أبو بكر وأمّره القيادة فقال: "إذا اجتمعتم على قتال فأميركم أبو عبيدة"(1).وهذه إشارة صريحة على قيادته العامة للجيوش العربية. حتى إذا أزفت معركة اليرموك اجتمع أبو عبيدة وخالد بن الوليد على صعيد واحد، إذ لا يزال أبو عبيدة هو القائد العام؛ لكن أبا عبيدة تنازل عن هذا الحق لخالد بن الوليد لثقته فيه، ولتحقيق رغباته في القيادة؛ فأبو عبيدة تطاوع مع خالد كما تطاوع من قبل مع عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل فقال له: "وإن عصيتني أطعتك."(2). فخاف أبو عبيدة- إن تمسك بالقيادة- أن تختل من جانب آخر، فآثر أن يكون خالد بن الوليد هو القائد العام في هذه المعركة تفويضاً شخصياً منه(3)؛ إنما هو القائد العام بأمر من القائد الأعلى عمر بن الخطاب وارتضى لنفسه أن يكون بمرتبة نائب القائد العام، وأن يتولى الناحية الحساسة في الجيش والكتلة الرئيسية وهو القلب(4).
6 - إن ما أظهره أبو عبيدة من الانضباط في جميع المعارك وبخاصة في معركة اليرموك يدل على صدق التزامه بالهدف، وحبه للتعاون، ونقاء سريرته، وحرصه الكبير على نجاح هذه المعركة وكل المعارك.
__________
(1) البلاذري- فتوح البلدان: 150، ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/112، الدواداري- الدرّ الثمين : 3/166
(2) الذهبي- سير أعلام النبلاء: 1/5، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 4/12.
(3) البلاذري- فتوح البلدان: 151.
(4) ابن سعد- الطبقات: 7/384، غلوب- الفتوحات العربية الكبرى: 252.(1/394)
7 - إن الشجاعة التي أبداها، والثبات الذي كان كالرواسي، وبخاصة في معركة اليرموك فاقا كل وصف، إذ ثبت أمام هجمات الروم المتتالية، ولما استطاع الروم خرق المجنبة، قام أبو عبيدة بدور كبير في سد هذا الخرق بسرعة، بفضل تحركه ومناورته السريعة مع الأجنحة التي كانت تقوم بعمليات الهجمات المعاكسة، كما استطاع أبو عبيدة في اليوم السادس أن يتصدى للتحدي الذي فرضه قائد الجيش الرومي على أبي عبيدة بالنزول للمبارزة، فخرج إليه، ومالبث أن قضى علىخصمه بضربة قاضية(1) قوت من معنويات الجيش العربي الذي قام بهجوم عام بعد مقتل جرجس أحد قادة الجيش الرومي، وبهذا الهجوم طوقت قوات الروم، وأصبحت بين فكي كماشة، ودبت الفوضى بين الصفوف، وفصلت الأسلحة عن بعضها، وفسح المجال للأجنحة أن تتحرك وتنقذ الموقف، وتقرب النصر(2).
8 - ما رأيتُ قائداً مثل أبي عبيدة في تطبيقه لمبدأ التعاون الذي يعتبر قانوناً حربياً مهماً، ولشد ماكان إعجابي عندما تعاون مع شرحبيل بن حسنة من اليمين، ومع يزيد بن أبي سفيان من اليسار، ومع عمرو بن العاص الذي كان يقود الخيالة من الجهة اليمينية، ومع قائد المشاة هاشم بن عتبة، ومع خالد بن الوليد قائد الخيالة... فكأني بأبي عبيدة القائد الذي نظم التعاون، وأفسح المجال لكل الصنوف بأن تتحرك في الوقت المناسب، وأن يوحي إليها، بالعمل الذي يراه ضرورياً، إنّه صمد وترك الأجنحة تتحرك وإنه ثبت وترك الخيالة تتحرك وتلتف من اليمين، إنّه تعاون رائع ضرب به أبو عبيدة المثل الأعلى والقدوة الحسنة.
__________
(1) الواقدي- فتوح الشام: 1/139، أكرم - سيف الله: 491.
(2) الواقدي- فتوح الشام: 1/139،141، ابن عساكر- تاريخ مدينة دمشق: 1/544.(1/395)
9 - إن أبا عبيدة منظم من الطراز الأول، وقادر على تعبئة الجيوش الكبيرة وقيادتها ففي معركة اليرموك، استطاع في برهة وجيزة أن ينظم صفوف القوات المقاتلة، وأن يعلن الاستعداد الكامل والجاهزية الكاملة عندما أحس أن الروم أوشكوا على الاقتراب لمهاجمة الجيش العربي، إذ انطلق خالد بمجموعة من الخيالة يترصد ويستطلع، وبقي هو في الجيش ينظمه ويهيئه للقتال المرتقب(1).
10 - لقد دلت فتوحاته بعد اليرموك على أنّه قائد استراتيجي استخدم مبدأ تجزيء القوات المعادية، كما طبق مبدأ الحشد على الاتجاهات الهامة ليحقق التفوق، وكان له طريقة في القتال خاصة حيث كان يستطلع القوات المعادية، ثم يقوم بقوى الكتلة الرئيسة من الجيش بمهاجمة العدو. حقاً إنه القائد القوي الذي استحق بجدارة لقب أمين الأمة.
2 - يزيد بن أبي سفيان 18/639.
قرشي، أموي. كان له شرف الاشتراك في الفتوحات، إذ أسند إليه أبو بكر قيادة تشكيل كبير (جيش) وأمره بالتوجه إلى الشام(2)، كما سماه نائب القائد العام بعد أبي عبيدة في حال تشكيل جبهة قتالية مؤلفة من مجموعة جيوش فقال أبو بكر:"إن اجتمعتم في كيد فيزيد على الناس، وإن تفرقتم فمن كانت الوقعة مما يلي عسكره فهو على أصحابه"(3).
__________
(1) الواقدي- فتوح الشام: 1/133.
(2) ابن سعد- الطبقات: 7/406، ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 4/1575.
(3) ابن سعد- الطبقات: 7/406.(1/396)
تحرّك يزيد بجيشه طبقاً لقواعد التحرك(1)، فسلك الطريق(2)، وأجاد التحرك مطبقاً تأمين التحرك، إذ الحراسات الجانبية والأمامية والخلفية متوفرة،وأرسل أبا أمامة الباهلي في طليعة(3)، وكان حذراً في كل خطوة يخطوها، وفي كل تقدم يتقدمه.
كان يزيد على الجناح اليساري في معركة اليرموك الذي ثبت أمام ضغط الروم، وقاتل قتالاً مستميتاً، وقد تميز بخفة الحركة، والمناورة السريعة في أرض الميدان. وكان مستعداً لتنفيذ الالتفاف بكتيبة الخيالة التي كانت تحت تصرفه فيما لو نجحت الهجمات المعاكسة، وفعلاً فقد استطاع أن ينفذ هذه المهمة بجدارة، كما استطاع تثبيت القلب عند خرقه، وكان له دور كبير بسد هذا الخرق بالتعاون مع أبي عبيدة بن الجراح.
لقد شارك في الفتوحات بعد موت أبي بكر وفي زمن عمر بن الخطاب. ومات بالطاعون كما مات أبو عبيدة وبنفس السنة(4). لم يلاحظ عليه أنه اشترك اشتراكاً قيادياً في حروب الردة، إلاّ أنّه كان له الدور البارز في فتوح الشام وبصرى وصيدا وبيروت وعرقه وغيرها(5).
__________
(1) الواقدي- المغازي: 1/220، 2/642، ابن هشام- السيرة النبوية: 2/357، 3/323، الحموي- معجم البلدان: 3/214، 380.
(2) البلاذري: فتوح البلدان: 116، الطبري: تاريخ الأمم والملوك: 2/589.
(3) البلاذري- فتوح البلدان: 151.
(4) ابن سعد- الطبقات:: 7/406 ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 4/1576، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 6/341.
(5) خطاب- قادة فتح الشام ومصر: 106.(1/397)
ثبت نجاح هذا القائد في التحرك على طريق تبوك، وفي الاستطلاع والتعرض عندما أرسل طليعة لقتال الروم في عربة(1)، وفي الثبات عندما صمد أمام العدو المتفوق(2)، وفي التعاون مع القادة الآخرين أثناء المعركة، وفي القيام بالهجمات المعاكسة، وفي الالتفاف والتطويق، وأخيراً بالمطاردة، كما نجح أيضاً فيما بعد في الدفاع عن المدن مثل مدينة دمشق، إذ صد جيش الروم الذي كان ينوي استعادتها(3) بالتعاون مع خالد بن الوليد.
3 - صدي بن عجلان
(أبو أمامة الباهلي): 86/705.
لم يكن أبو أمامة على مستوى القادة الكبار، وإنما كان أنموذجاً للقادة الذين كلفوا بمهمات خاصة في فتوح الشام.
كان قائد تشكيل (قطعة) في جيش يزيد بن أبي سفيان الذي أمره أبو بكر أن يتوجه إلى الشام. وفي الطريق- ندب يزيد أبا أمامة لقتال الروم الذين كانوا يتحشدون في "عربة"(4).فتقرب هذا القائد من هذه المنطقة مطبقاً شروط التقرب، وأرسل الدوريات، وقام بالاستطلاع، حتى وصل إليهم فاجأهم بهجوم مباغت، فقتل منهم من قتل، وفر الباقون، فتبعهم وطاردهم وتغلب عليهم، ثم عاد فالتحق بالجيش اليزيدي، وتابعوا المسير إلى حيث أمرهم القائد الأعلى.
يعتبر الباهلي من قادة الوحدات الصغرى التي طبقت شروط القتال والتقرب، والمفاجأة، والمطاردة.
لقد كان انضباطياً، إذ استجاب بسرعة إلى أوامر قائده يزيد، وكان محافظاً على الهدف، صادقاً في أقواله وأفعاله، يقود بعقله، ويقاتل بسيفه، ويؤمن بعقيدته(5).
4 - قادة الأجنحة والكراديس:
__________
(1) البلاذري- فتوح البلدان: 151، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/405، ابن كثير- البداية والنهاية: 7/4.
(2) الواقدي- فتوح الشام: 1/128، الأزدي- فتوح الشام: 223.
(3) ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/190.
(4) البلاذري- فتوح البلدان: 151، الحموي- معجم البلدان: 4/96.
(5) ابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة: 3/241.(1/398)
تشكل أثناء المعركة تشكيلة حماسية، وكان قادة الأجنحة على اليمين والشمال؛ فإما أن يُشكل للميمنة جناحان أو جناح لكل منهم قائد. وأكثر ماكانت هذه الأجنحة واضحة في معركة اليرموك(1)، وأهم هؤلاء القادةعمرو ابن العاص، يزيد بن أبي سفيان، قباث بن أشيم وغيرهم، وأما قادة الكراديس فكانوا ستة وثلاثين(2)، منهم مذعور بن عدي، عياض بن غنم، هاشم بن عتبة، الزبير بن العوام، وغيرهم... ولطالما أن معركة اليرموك حدثت بعد وفاة أبي بكر، فإننا فقط نجتزئ منها نماذج من القادة، ونترك التفاصيل إلى الباحثين في ريادة عمر ابن الخطاب، لأن موضوع بحثنا يقتصر فقط على فترة أبي بكر الصديق.
أ - الزبير بن العوام بن خويلد القرشي الأسدي 36/656.
له مكانة عالية، بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم قرابة(3)، وهو من عائلة فيها الشجاعة والإقدام(4)، ومن السابقين في الإسلام(5)، ومن الذين شهروا سيوفهم أمام الباطل(6)، وقد اختص بالاستطلاع والاستخبارات، وقاتل في جميع الغزوات، وكان سنداً للرسول صلى الله عليه وسلم، قوياً، مهاجماً في جميع حروبه(7).
أسلم بعد أبي بكر الصديق، وقاتل كما قاتل، وحضر جميع المعارك السابقة برفقة أبي كبر، ولما استلم الخلافة كلف الزبير بقيادة أحد التشكيلات، وكان قائداً لأحد الكراديس في معركة اليرموك.
__________
(1) الأزدي- فتوح الشام: 189-217-218.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/593.
(3) الزبيري- نسب قريش: 236.. وما بعدها.
(4) خطاب- قادة فتح الشام ومصر: 226-227.
(5) ابن سعد- الطبقات: 3/102.
(6) ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 2/510، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 2/197، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 3-5-6.
(7) ابن سعد- الطبقات: 3/102-104-105، ابن عبد البر- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 2/510، ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 2/197، 198.(1/399)
لقد تبين من خلال المعارك السابقة واللاحقة لخلافة أبي بكر شجاعته وجرأته،(1) فكان لا يخاف من العدو أبداً، فيهاجمه بأشد ماعنده، وكان له قوة بدنية تساعده على اقتحام المصاعب، وتحمل مشاق الحرب(2)، وكان في معركة اليرموك في مقدمة المهاجمين، إذ استطاع خرق صفوف العدو بجنوده، والالتفاف على مؤخرته. فهو القائد صاحب الإرادة القوية، والتفكير السليم، والإيمان الذي لا يتزحزح، وهو الجندي المسلول سيفه دائماً في وجه الأعداء، فالقتال عنده أولاً وآخراً، وقد اشترك فيما بعد بالفتوحات مع عمرو بن العاص في مصر.
ب- هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص 37/657.
هو من بني زهرة، وابن أخ سعد بن أبي وقاص. هو قائد المشاة، وقائد أحد التشكيلات في معركة اليرموك، وقائد أحد الكراديس في هذه المعركة(3)، اشترك من قبل في حروب الردة كمقاتل برزت مواهبة الحربية وشجاعته الفائقة، مما دعا القائد العام خالد بن الوليد أن يصحبه معه في حروبه في جبهة العراق، كما اختاره أيضاً ليكون من القادة في فتح الشام. وفي اليرموك ظهر اسمه كفدائي استطاع مع مائة من أمثاله أن يخترقوا دفاعات الروم(4)، وأن يصلوا إلى مؤخرته، مما أثر بصورة مباشرة على معنويات العدو وعلى تقدمه.
ولما انتهت معارك الروم، رجع إلى العراق، وشارك كقائد فرقة أي بتشكيل أكبر من التشكيل الذي اشترك فيه من قبل، وقاتل مع عمه سعد في معركة القادسية، وأبلى فيها بلاءً حسناً(5).
__________
(1) ابن واضح- تاريخ اليعقوبي: 2/107، ابن عساكر، تهذيب ابن عساكر: 5/362.
(2) ابن سعد- الطبقات: 3/107- ابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة: 3/6.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/593.
(4) الواقدي- فتوح الشام: 1/120.
(5) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/593، ابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة: 6/275.(1/400)
لقد دلت معاركه على أنّه كان انضباطياً، متقيداً بالأوامر، شجاعاً مقداماً لا يهاب الموت، حكيماً في قيادته، مرناً، سريعاً في حركته، وكان يلقب "بالمرقال"(1)دلالة على سرعته وصفاته الحركية في ميدان الحرب، دقيقاً في رميه، وقد كان دائماً في مقدمة جنوده، يغشى الأخطار، ويقتحم الصفوف(2)، رافعاً لمعنويات جنوده قبل وأثناء وبعد المعركة.
هذه هي النماذج المختلفة من قادة الجهات والجيوش والتشكيلات وقادة الأجنحة والكراديس، إنها مثال الشجاعة والإقدام، والقدوة الحسنة لمن كان يأمل أن يتعلم سير هؤلاء الأبطال، ويتبّع أثرهم في كل ما عملوه، وفي كل ما ابتكروه من فنون الحرب وضروب القتال.
الخاتمة
توفي أبو بكر الصديق في جمادى الآخرة سنة 13/634،(3) ولم يبق في الحكم سوى سنتين وثلاثة أشهر واثني عشر يوماً(4). كانت هذه الفترة مليئة بالمآثر والإنجازات الكبيرة.
__________
(1) ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 5/49، ابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة: 6/275.
(2) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 3/59، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/185، ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة: 6/275.
(3) ابن ماجه- تاريخ الخلفاء: 22، الروحي- بلغة الظرفاء: 8.
(4) ابن خياط- تاريخ خليفة بن الخياط: 22، ابن ماجه- تاريخ الخلفاء: 22.(1/401)
لقد كان أبو بكر في الفترة النبويّة ظلاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحباً له في حله وترحاله(1)،ملازماً له في كل الحروب والمشاهد(2)، نائباً للقائد الأعلى عسكرياً وسياسياً؛ ففي الوظيفة العسكرية كان يمارس الصلاحيات الممنوحة له كما في معركة بدر(3)، وكما في حصار بني النضير عندما استلم قيادة الجيش في غياب الرسول صلى الله عليه وسلم(4)، وفي الوظيفة السياسية كان ينوب عن الرسول صلى الله عليه وسلم في إمامة الأمة بالصلاة(5)، وفي القضاء والفتيا بين الناس(6)، حاملاً اللواء الأعظم في كثير من الغزوات(7)، قائداً لسرايا القتال ومجموعات الاستطلاع وطلائع الجيش إلى بني كلاب والغميم وحمراء الأسد(8)،
__________
(1) سورة التوبة- الآية: 40، الجاحظ - العثمانية: 44، ابن قتيبة: الإمامة والسياسة: 1/5/7.
(2) البلخي- البدء والتاريخ: 4/180، ابن الأثير: أسد الغابة في معرفة الصحابة: 3/213.
(3) ابن هشام- السيرة النبوية: 1/627، الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/149، المقريزي- امتاع الأسماع: 1/79.
(4) المقريزي- امتاع الأسماع: 1/179، 449.
(5) البخاري- باب الأذان: 106، الترمذي- باب المناقب 16، ابن سعد- الطبقات: 2/215، 3/180، ابن قتيبة - الإمامة والسياسة: 1/3.
(6) مسلم - باب فضائل الصحابة: 10، سنن الترمذي: 9/277، السيوطي- تاريخ الخلفاء: 28-29، ناصف- التاج الجامع للأصول: 3/56.
(7) الواقدي- المغازي: 1/12، ابن هشام- السيرة النبوية: 2/151، ابن سعد- الطبقات: 2/64، النووي- تهذيب الأسماء واللغات: 2/1/184.
(8) الحميدي- المسند 11/128، ابن سعد- الطبقات: 2/79، 117، المقريزي- امتاع الأسماع: 1/334، القرطبي- تفسير القرطبي: 2/1519..(1/402)
ثابتاً في المعارك وفي احتدام القتال، لم يتزحزح من مكانه حين زُلزل المقاتلون وأزيحوا عن مواقعهم في معركتي بدر وحنين(1)، مستلماً ميمنة الجيش بكل كفاءة وتصويب في معركة حنين(2)،شاهداً على المعاهدات موقعاً على صلح الحديبية(3)، أميناً لسرّ القائد الأعلى وكاتماً للمعلومات(4)، عقائدياً يقاتل أقاربه وابنه من أجل العقيدة(5)، مستشاراً أميناً وصادقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أول المستشارين كلاماً وأحسنهم رأياً(6)، رحيماً بالمساكين والضعفاء من الاسرى والولدان والنساء والشيوخ(7).
__________
(1) ابن سعد- الطبقات: 2/42، 151، النووي- تهذيب الأسماء واللغات: 2/1/184.
(2) الجاحظ- العثمانية 66.
(3) ابن سعد- الطبقات: 2/97، الجاحظ- العثمانية: 70-71.
(4) ابن سعد- الطبقات: 2/56، الجاحظ- العثمانية: 85، المقريزي- امتاع الأسماع: 1/362.
(5) ابن شهاب الزهري- المغازي النبوية: 150، الجاحظ- العثمانية: 62، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/156.
(6) ابن شهاب الزهري- المغازي النبوية: 63، المقريزي- امتاع الأسماع: 73، 167، 184.
(7) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/170، 463، السيوطي- تاريخ الخلفاء: 32، العقاد، عبقرية الصديق: 43.(1/403)
ظهرت وبرزت وتكاملت شخصية أبي بكر العسكرية في تلك الفترة، وأصبح مستعداً لتخطيط وتنظيم وقيادة الجيوش العربية الإسلامية، وبناء الدولة الحديثة؛ ولذلك عندما استلم الخلافة كان يتميز بسعة الاطلاع والتجربة العميقة والخبرة الميدانية، يظهر ذلك من توجيهاته التي كان يعطيها لقادة جيوشه(1)؛ ومن الحزم الذي تجلى بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما قطع على المنافقين سبل تراجعهم وخذلانهم، وأرسل جيش أسامة رغم معارضة المعارضين، وتصدى للمرتدين(2)، وبوضوح الهدف الذي ارتسم بنشر الدين الإسلامي، وبإعلان الحرب وبمواصلة الفتوحات والوصول إلى بلاد العراق والشام(3)؛ وبالتخطيط والتنفيذ والتوازن فيما بينها حيث حمل عبء التخطيط أبو بكر ومجلسه العسكري. وحمل عبء التنفيذ خالد بن الوليد وقادة الجبهات والجيوش والتشكيلات القتالية، فكان التخطيط متكافئاً مع التنفيذ، والتنفيذ مطابقاً للتخطيط، فانتظمت الحملات والفتوحات وسارت بشكلها المرسوم، وكأنّها بيانات أعدت للمشاهدين، ومشاريع حُضّرت للمقاتلين من أبناء هذه الأمة.
__________
(1) الطبري: تاريخ الأمم والملوك: 2/480، 503، 554، ابن عساكر- تاريخ مدينة دمشق- 1/433-438-440-450-455.
(2) ابن خياط- تاريخه: 102، 110، ابن قتيبة- الإمامة والسياسة، 1/15، الأزدي- فتوح البلدان: 131، ابن كثير- البداية والنهاية: 6/403.
(3) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/551، المسعودي- مروج الذهب: 1/415، الطبراني: المعجم الكبير: 1/15.(1/404)
حارب أبو بكر المتنبئين، وقاد المعارك الأولى بنفسه، وعرّض نفسه لمخاطر القتال، ونفر بجنده يقدمهم، فانتصر على المرتدين، وردهم على أعقابهم(1). وبعد ذلك سيّر الألوية وبثها في أراضي شبه جزيرة العرب للقضاء ولتدمير القوى التي ارتدت وحملت السلاح في وجه الخليفة(2). وقد خاضت تلك الألوية عدة معارك أهمها: بزاخه التي برهنت على حسن التدريب، والتصميم على القتال وعبقرية القيادة (3)، والبطاح التي قتل فيها مالك بن نويرة وأتباعه(4)، وعقرباء التي قتل فيها مسيلمة الكذاب، وهي المعركة الفاصلة في حروب الردة، والتي أسفرت عن انتصار قوات خالد بن الوليد انتصاراً ساحقاً، فلم تقم للقوات المرتدة بعد لك قائمة(5)، وهناك معارك فرعية في جهات مختلفة في أماكن تمركز قبيلتي قضاعة ووديعة، ومعارك في دبا ومهرة والبحرين وكندة، انتهت جميعها بانتصار قادة الألوية(6)، وهكذا فإن حروب الردة مهدت للفتوح فيما بعد، ورفعت من معنويات المقاتلين، وأعطت لهم زخماً لكي ينطلقوا خارج شبه جزيرة العرب، كما وضعت في نفوسهم بأنه لا نصر بدون وحدة كاملة.
__________
(1) ابن خلدون- ديوان المبتدأ والخبر: 2/2/66، غلوب- الفتوحات العربية الكبرى: 183، العجلاني- عبقرية الإسلام: 242.
(2) ابن خلدون- ديوان المبتدأ والخبر: 2/2/69. وجدي- دائرة معارف القرن العشرين: 2/203، فارق - تاريخ الردة: 27.
(3) البلاذري- فتوح البلدان: 107، ابن أعثم- الفتوح: 1/15/16، فارق- تاريخ الردة: 42.
(4) ابن أعثم- الفتوح: 1/21، ومابعدها، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 2/357، ومابعدها، كمال- الطريق إلى المدائن: 171.
(5) الطبري- تاريخ الأمم والملوك، 2/508، 511، 513، ابن أعثم- الفتوح: 1/34، 38، 40، الذهبي- تاريخ الإسلام، 1/358.
(6) ابن أعثم- الفتوح: 1/47، ومابعدها، غلوب- الفتوحات العربية الكبرى: 206، فارق- تاريخ الردة: 136.(1/405)
وجه أبو بكر جيوشه بعد حروب الردة إلى العراق، وأتاه من أسفله ومن أعلاه لكي يقوم بتطويق بعيد للقوات الفارسية، وتقدمت تشكيلات أسفل العراق، وسبقت تشكيلات أعلاه، واصطدمت بقوات فارسية تفوقها في العدة والعدد؛ لكنها استطاعت بفضل الخفة والحركة والمناورة السريعة والمعنويات المرتفعة أن تنتصر عليها، وأن تدخل معها في معارك عديدة انتصرت في جميعها(1).
__________
(1) الطبري- تاريخ الأمم والملوك: 2/557- 583، ابن الأثير - الكامل في التاريخ: 2/386، 400، شلبي، اشتراكية أبي بكر: 199 ومابعدها.(1/406)
بعدالانتهاء من العراق وتحقيق المهمة في تلك الأراضي، وظهور أفضليات في جبهات القتال، أمر أبو بكر الصديق خالد بن الوليد أن يتوجه إلى بلاد الشام، فسار إليها على سرعة(1)؛ كما أمر بقية الجيوش أن تتحرك من المدينة(2). وقد خاضت هذه الجيوش معارك كثيرة فكان كل جيش يقضي - وهو سائر إلى بلادالشام- على القوات الرومية التي كانت تعترض تقدمه وتحركه؛ وتوحدت الجيوش بعد وصولها إلى بلاد الشام ودخلت معارك مشتركة بقيادة موحدة أهمها معركة أجنادين(3)، وفحل، ومرج الصفر(4)، وحصار وفتح دمشق(5). أثناء الحصار وبعد معركة أجنادين توفي أبو بكر، وانتقلت القيادة العليا إلى عمر بن الخطاب(6). وفي حصار دمشق عزل خالد بن الوليد وتولى القيادة العامة للقوات العربية أبو عبيدة.(7).
وإذا كان أبو بكر قد توفي قبل أن يرى نتائج معركة اليرموك الفاصلة؛ فإنّه قد خطط لها، وجمع الجيوش في قيادة واحدة، وقاد المعارك التمهيدية وهو في المدينة يرقب كل تحركات جيوشه، ويوجهها الوجهة الصحيحة.
__________
(1) الواقدي- فتوح الشام: 1/13، ابن أعثم- الفتوح: 1/133، كمال- الطريق إلى دمشق: 239.
(2) البلاذري- فتوح البلدان: 150، الدواداري- الدار الثمين: 3/161.
(3) البلاذري- فتوح البلدان: 116، البلخي- البدء والتاريخ: 5/166، ابن الأثير- الكامل في التاريخ: 3/155.
(4) الواقدي- فتوح الشام: 1/19-21، ابن أعثم- الفتوح: 1/189، ابن عساكر- تهذيب تاريخ دمشق الكبير: 1/144، ومابعدها.
(5) الواقدي- فتوح الشام: 1/19، ومابعدها، الأزدي- فتوح الشام: 104، 106، ومابعدها، حداد- فتح العرب للشام: 88-93.
(6) الواقدي- فتوح الشام: 1/17، البلاذري- فتوح البلدان: 157.
(7) اليافعي: الجنان: 1/102.(1/407)
لقد خلف من بعد أبي بكر عمر الذي أكمل الفتوحات في الشرق والغرب(1)، ودانت له بلاد الشام والعراق، وبذلك أتم وأكمل ما بدأه أبو بكر، فكانت سلسلة متتابعة، وكان أبو بكر وعمر يسقيان، من ماء واحد هو ماء الرسالة، ويغذيان من مصدر واحد، عَيْنُ النبوة الصافية.وقد أوضح عمر بن الخطاب هذا الكلام في خطبته عند ولايته فقال: "أيها الناس إني قد علمت أنكم تؤانسون مني شدة وغلظة، وذلك أني كنتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنت عبده وخادمه وجلوازه (شرطيه)... وكنت بين يديه كالسيف المسلول، ثم قمت ذلك المقام مع أبي بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. بعد رسول الله، فكنت خادمه وجلوازه، وكنت كالسيف المسلول بين يديه... ثم صار أمركم اليوم إلي...".(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــ
المخطوطات، المصادر، المراجع،
المراجع المعرّبة، المراجع الأجنبيّة
((
1 - المخطوطات
ابن حبيش (584-1188) ، عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن يوسف بن حبيش، الغزوات الضامنة الكاملة والفتوح الجامعة الحافلة الكائنة في أيام الخلفاء الأول الثلاثة...، مخطوط بخط الدكتور سهيل زكّار.
2 - المصادر:
1 - ابن الأبّار ... : محمد بن عبد الله بن أبي بكر القضاعي البلنسي المعروف بابن الأبّار؛ التكملة لكتّاب الصلة؛ مطبعة روجس، بمدينة نجريط، 1887.
2 - ابن الأثير (630/1232) ... : علي بن محمد بن عبد الكريم الجزري المعروف بابن الأثير؛ 1 - أسد الغابة في معرفة الصحابة؛ دار الكتب الظاهريّة؛ و-10017.
2 - الكامل في التاريخ ... : دار صادر- بيروت، 1399/1979.
__________
(1) الزمخشري- خصائص العشرة الكرام البررة: 52.
(2) وجدي- دائرة معارف القرن العشرين: 6/732.(1/408)
3 - ابن أعثم (314/926) ... : أبو محمد محمد بن أعتم الكوفي؛ كتاب الفتوح؛ مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية مجيد آباد الدكن- الهند؛ الطبعة الأولى 1388/1968؟
4 - ابن الجزري (833/1429) ... : محمد بن محمد بن علي بن يوسف الشهير بابن الجزري؛ غاية النهاية في طبقات القراء؛ مطبعة السعادة بمصر؛ 1933.
5 - ابن جُزَي (721/1356) ... : محمد بن أحمد بن جزي الكلبي؛ تفسير ابن جُزَي؛ دار الكاتب العربي- بيروت؛ 1403/1983.
6 - ابن الجوزي (597/1201) ... : عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي؛ تاريخ عمر بن الخطاب أول حاكم ديموقراطي في الإسلام؛ مطبعة التوفيق الأدبية بمصر؛ بدون تاريخ.
7 - ابن حبّان (354/965) ... : محمد بن حبّان بن أحمد بن حبان التميمي؛ صحيح ابن حبّان؛ تحقيق أحمد محمد شاكر؛ دار المعارف بمصر؛ 1371/1952.
8 - ابن حبيب (245/859) ... : محمد بن حبيب بن أمية بن عمرو الهاشمي؛
1 - المُحبّر؛ مطبعة دائرة المعارف العثمانية، بحيدر آباد الدكن؛ 1361/1942.
2 - المُنَمّق في أخبار قريش؛ تصحيح وتعليق خورشيد أحمد فارق؛ مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن- الهند؛ الطبعة الأولى 1384/1964.
9 - ابن حجر (852/1448) ... : أحمد بن علي بن محمد العسقلاني المعروف بابن حجر؛
1 - الإصابة في تمييز الصحابة؛ هذه النسخة مطبوعة سنة 1853، في كلكتا وقد أخذ عنها طبق الأصل في شركة طبع الكتب العلمية بمصر؛ 1323/1904.
2 - طبقات المدلسين المسمى تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس؛ المطبعة الحسينية بمصر؛ الطبعة الأولى 1322.
3- تهذيب التهذيب؛ مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية بالهند بحيدر آباد- الدكن؛ الطبعة الأولى 1325.
4 - فتح الباري بشرح البخاري؛ شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر؛ 1378/1959.
10- ابن حزم (456/1063) ... : علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي؛(1/409)
1 - رسالة في المفاضلة بين الصحابة؛ تقديم سعيد الأفغاني- المطبعة الهاشمية بدمشق؛ 1359/1940.
2 - المحلي؛ المطبعة المنيرية بمصر؛ الطبعة الأولى-1952.
3 - جوامع السيرة؛ تحقيق إحسان عباس وزميله؛ دار المعارف بمصر؛ بدون تاريخ.
4 - جمهرة أنساب العرب؛ دار المعارف بمصر: 1382/1962.
11 - ابن حوقل (380/990) ... : محمد بن حوقل النصيبي؛ صورة الأرض؛ مطبعة بريل بليدن؛ 1938.
12- ابن خرداذبه (300/912) ... : أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله؛ المسالك والممالك؛ مطبعة بريل بليدن؛ 1306.
13- ابن خلدون (808/1405) ... : عبد الرحمن بن محمد بن خلدون؛ ديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر؛ المطبعة الكبرى بمصر؛ 1284.
14- ابن خلكان(681/1282) ... : أحمد بن محمد بن أبي بكر الشهير بابن خلكان؛ وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان؛ المكتبة الظاهرية بدمشق رقم ك 1305؛ بدون تاريخ.
15- ابن خياط (240/854) ... : خليفة بن خياط؛ تاريخ خليفة بن خياط؛ تحقيق الدكتور ضياء العمري؛ مطبعة دار القلم ومؤسسة الرسالة ببيروت، الطبعة الثانية 1397/1977.
16- ابن الساعي (674/1275) ... : أبو طالب علي بن أنجب تاج الدين المعروف بابن الساعي الخازن؛ الجامع المختصر في عنوان التواريخ وعيون السير؛ المطبعة السريانية الكاثوليكية ببغداد؛ 1353/1934.
17- ابن سعد (230/844) ... : محمد بن سعد بن منيع البصري الزهري؛ الطبقات الكبرى؛ دار بيروت ودار صادر للطباعة والنشر ببيروت؛ 1376/1957.
18 - ابن سيده (458/1065) ... : أبو الحسن بن اسماعيل الأندلسي؛ المخصص، المطبعة الأموية الكبرى بمصر؛ 1381.
19- ابن سيد الناس(734/1333): أبو فتح الدين محمد بن محمد بن سيد الناس اليعمري الأندلسي الإشبيلي؛ عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير؛ دار المعرفة للطباعة والنشر ببيروت؛ بدون تاريخ.(1/410)
20 - ابن شاكر الكتبي (764/1362): محمد بن شاكر؛ فوات الوفيات والذيل عليها؛ تحقيق إحسان عباس، مطابع دار صادر، ببيروت؛ 1974.
21- ابن شداد (684/1285) ... : عز الدين بن محمد بن علي بن إبراهيم؛ الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة؛ تحقيق يحيى عباره؛ منشورات ومطبعة وزارة الثقافة والإرشاد القومي بدمشق؛ 1987.
22- ابن شهاب الزهري (124/741): محمد بن مسلم بن عبدالله بن شهاب الزهري؛ المغازي النبوية؛ تحقيق الدكتور سهيل زكار؛ دار الفكر بدمشق؛ الطبعة الأولى 1400/1980.
23- ابن الطقطقي (709/1309): محمد بن علي طباطبا المعروف بابن الطقطقي؛ الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلاميّة؛ راجعه ونقحه ..عوض إبراهيم وعلي الجارم؛ مطبعة المعارف ومكتبتها بمصر؛ الطبعة الثانية 1938.
24 - ابن عبد البر (463/1070): يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري؛
1 - الدرر في اختصار المغازي والسير؛ تحقيق شوقي ضيف؛ مؤسسة دار التحرير للطبع والنشر، تابع دار الإعلانات الشرقية بالقاهرة؛ 1386/1966.
2 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب؛ مطبعة نهضة مصر بمصر؛ دار الكتب الظاهرية؛ و 10533.
25 - ابن عبد الحق البغدادي (739/1338): عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي؛ مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع؛ تحقيق محمد علي البجاوي؛ دار إحياء الكتب العربية بمصر؛ الطبعة الأولى 1373/1954).
26- ابن عبد ربه (328/939) ... : أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي؛ العقد الفريد؛ مطبعة لجنة التأليف والنشر بمصر؛ الطبعة الثالثة 1384/1965).
27 - ابن عساكر (571/1175): ثقة الدين أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن الحسين بن عساكر؛
1 - التاريخ الكبير؛ مطبعة روضة الشام؛ بدون تاريخ.
2 - تهذيب تاريخ دمشق الكبير؛ دار المسيرة ببيروت، الطبعة الثانية 1399/1979.(1/411)
28 - ابن العماد الحنبلي (1089/1678): أبو الفلاح عبد الحي؛ شذرات الذهب في أخبار من ذهب؛ تحقيق لجنة إحياء التراث العربي؛ منشورات دار الآفاق الجديدة ببيروت بدون تاريخ.
29 - ابن الفرضي (403/1012): أبو الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف الأزدي المعروف بابن الفرضي؛ تاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس؛ تحقيق عزت العطار الحسيني؛ مكتبة المثنى ببغداد ومكتبة الخانجي بالقاهرة؛ 1373/1954).
30 - ابن قتيبة (276/889) ... : عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري؛
1 - عيون الأخبار؛ مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة؛ 1343/1925.
2 - الإمامة والسياسة؛ مطبعة القاهرة؛ بدون تاريخ.
31- ابن كثير (774/1372) ... : اسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي؛
1 - تفسير القرآن العظيم: دار إحياء التراث العربي ببيروت؛ 1388/1984.
2 - البداية والنهاية؛ مكتبة المعارف ببيروت؛ الطبعة الخامسة، 1404/1984.
32 - ابن ماجه (275/888 ... : محمّد يزيد بن ماجه القزويني؛
1 - سنّن ابن ماجه؛ المطبعة العلمية؛ الطبعة الأولى 1313/1895.
2 - تاريخ الخلفاء؛ رواية أبي بكر السدوسي؛ تحقيق محمد مطيع الحافظ؛ مؤسسة الرسالة بدمشق؛ الطبعة الأولى 1399/1979.
33 - ابن منظور (711/1311): محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري؛ لسان العرب؛ دار صادر ببيروت؛ بدون تاريخ.
34- ابن النديم (385/995) ... : محمد بن اسحاق النديم؛ الفهرست؛ مطبعة الاستقامة بالقاهرة؛ بدون تاريخ.
35- ابن هشام (218/833) ... : عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري؛ السيرة النبوية؛ تحقيق مصطفى السقا وزميليه؛ مكتبة ومطبعة مصطفى الباي الحلبي بمصر؛ الطبعة الثانية، 1375/1955.
36- ابن واضح (292/904) ... : أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب المعروف بابن واضح، تاريخ اليعقوبي؛ مطبعة الغرى بالنجف؛ 1358/........(1/412)
37- أبو داود(275/888) ... : سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي؛ سنن أبي داود، مطبعة دار الحديث للطباعة والنشر والتوزيع بحمص بسوريا؛ الطبعة الأولى- 1394/1974.
38- أبو الفداء (732/1331) ... : اسماعيل بن أبي الفداء نور الدين بن محمود شاهان شاه الأيوبي صاحب حماه؛ المختصر في أخبار البشر؛ المطبعة الحسينية المصرية بمصر؛ الطبعة الأولى 1325/1907.
39- أبو هلال العسكري (395/1004): الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعد بن يحيى بن مهران أبو هلال العسكري الأوائل؛ تحقيق محمد المصري؛ وليد قصاب؛ منشورات وزارة الثقاقة والإرشاد القومي بدمشق؛ 1975.
40- أبو يعلى (307/919) ... : أحمد بن علي بن المثنى التميمي؛ مسند أبي يعلى الموصلي؛ تحقيق حسين سليم أسد؛ دار المأمون للتراث بدمشق وبيروت؛ الطبعة الأولى 1404/1984.
41- أبو يوسف (182/798) ... : يعقوب بن إبراهيم؛ الخراج؛ المطبعة الميرية ببولاق بمصر؛ الطبعة الأولى 1302/1884.
42- الأزدي (231/845) ... : محمد بن عبد الله، تاريخ فتوح الشام؛ تحقيق عبد المنعم عبد الله عامر؛ الناشر سجل العرب بمصر؛ 1970.
43- الأصفهاني (360/970) ... : حمزة بن الحسن؛ تاريخ سني ملوك الأرض والأنبياء؛ مطابع دار مكتبة الحياة ببيروت؛ الطبعة الثالثة 1961.
44- البخاري (256/869) ... : محمد بن اسماعيل بن إبراهيم البخاري الجعفي؛
1 - صحيح البخاري؛ المطبعة الخيرية بمصر؛ الطبعة الأولى 1330/....
2 - التاريخ الكبير؛ مطبعةجمعية دائرة المعارف العثمانية؛ حيدر آباد الدكن؛ الطبعة الأولى 1361/1942.
45-البغدادي (1339/1920) ... : اسماعيل باشا؛ هدية العارفين (أسماء المؤلفين وآثار المصنفين): وكالة المعارف الجليلة باستانبول 1951.
46-البغدادي (1093/1682) ... : عبد القادر بن عمر البغدادي؛ خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب؛ المطبعة السلفية بالقاهرة؛ 1347/1928.(1/413)
47- البكري (187/1094) ... : أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز البكري الأندلسي؛ معجم من أسماء البلاد والمواضع؛ تحقيق مصطفى السقا؛ مطبعة لجنة التأليف والنشر بالقاهرة؛ الطبعة الأولى 1364/1945.
48- البلاذري (279/892) ... : أحمد بن يحيى بن جابر؛ فتوح البلدان؛ دار النشر للجامعيين. ببيروت، 1377/1957.
49- البلخي (322/933) ... : أحمد بن سهل؛ البدء والتاريخ؛ أرنست لرو بمدينة باريس 1903.
50- البيضاوي (791/1388): عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي؛ تفسير القرآن الكريم؛ مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر؛ الطبعة الثانية 1375/1955.
51- البيهقي (458/1065) ... : أحمد بن الحسين بن علي؛ السّنن الكبرى؛ مطبعة مجلس دائرة المعارف النظاميّة بالهند حيدر آباد الدكن؛ الطبعة الأولى 1344/1925.
52- الترمذي(279/892) ... : محمد بن عيسى بن سوْرَة الترمذي؛ سنن الترمذي؛ المطبعة الوطنية بحمص سوريا؛ الطبعة الأولى 1387/1967.
53- الجاحظ (255/868) ... : عمرو بن بحر الجاحظ؛
1 - البيان والتبيين؛ مطبعة الفتوح الأدبية بمصر؛ 1332/1913.
2 - العثمانية؛ مطابع دار الكتاب العربي بمصر؛ 1374/1955.
54-الجهشياري (331/942) ... : محمذد بن عبدوس الجهشياري؛ الوزراء والكتاب؛ مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بالقاهرة؛ 1357/1938.
55-الحموي (626/1228) ... : ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي؛ معجم البلدان؛ دار صادر ودار بيروت للطباعة والنشر ببيروت؛ 1404/1984.
56-الحلبي (1044/1634) ... : أبو الفرج علي بن برهان بن إبراهيم بن أحمد؛ إنسان العيون في سيرة الأمين والمأمون المعروفة بالسيرة الحلبية؛ مطبعة الاستقامة بالقاهرة 1382/1962.
57- الحمَيدي (219/834) ... : عببيد الله بن الزبير؛ المسند؛ تحقيق حبيب عبد الرحمن الأعظمي؛ المجلس العلمي بالباكستان؛ الطبعة الأولى 1382/1963.(1/414)
58- الحُميدي (488/1091) ... : محمد بن فتوح بن عبد الله الحُميدي؛ جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس وأسماء رواة الحديث وأهل الفقه والأدب وذوي النباهة والشعر؛ تحقيق محمد بن تاويت الطنجي؛ مكتب نشر الثقافة الإسلامية بالقاهرة؛ 1372/1953.
59- الخازن (678/1341) ... : علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي المعروف بالخازن؛ لباب التأويل في معاني التنزيل؛ دار المعرفة للطباعة والنشر ببيروت؛ بدون تاريخ.
60- الخطَابي (388/998) ... : حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب؛ معالم السنن؛ مطبعة دار الحديث للطباعة والنشر والتوزيع بحمص سوريا؛ الطبعة الأولى 1394/1974.
61- الخطيب (463/1070) ... : أحمد بن علي الخطيب البغدادي؛ تاريخ بغداد أو مدينة السلام؛ مطبعة السعادة بمصر؛ 1349/1931.
62- الدارمي (255/868) ... : عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل الدارمي؛ سنن الدارمي؛ دار الكتب العلمية؛ بدون تاريخ.
63- دحلان (1304/1886) ... : أحمد بن السيد زيني دحلان؛ الفتوحات الإسلامية المطبعة الحسينية بمصر؛ بدون تاريخ.
64-الداواداري (736/1335) ... : أبو بكر عبد الله بن أيبك؛ كنز الدرر وجامع الغرر؛ الكنز الثمين في أخبار سيد المرسلين والخلفاء الراشدين؛ تحقيق محمد السعيد جمال الدين؛ مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه بالقاهرة؛ 1402/181.
65- الديار بكري (966/1558): الشيخ حسين بن محمد بن الحسن الديار بكري؛ تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس؛ المطبعة الوهبية بمصر؛ 1283/1830.
66-الدينوري (281/894) ... : أحمد بن داود؛ الأخبار الطوال؛ مطبعة السعادة بمصرِ؛ الطبعة الأولى 1330/1911.
67- الذّهبي (748/1347) ... : محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي؛
1 - تاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والأعلام؛ مكتبة القدس بالقاهرة؛ 1367/1947.
2 - سير أعلام النبلاء؛ تحقيق الدكتور أسعد طلس والدكتور صلاح الدين المنجد وإبراهيم الأبياري؛ دار المعارف بمصر؛ 1962.(1/415)
3 - تذكرة الحفاظ؛ مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية بالهند حيدر آباد الدكن؛ الطبعة الثانية 1333/1914.
4 - ميزان الاعتدال في نقد الرجال؛ مطبعة السعادة بمصر؛ الطبعة الأولى 1325/1907.
68- الرازي (311/923) ... : أبو بكر؛ جمل أحكام الفراسة؛ المطبعة العلمية بحلب؛ 1347/1929.
69- الزبيدي (1205/1790) ... : محمد مرتضى الحسيني الواسطي؛ تاج العروس؛ المطبعة الخيرية بمصر؛ 1306/1888.
70- الزبيري (236/850) ... : المصعب بن عبد الله بن المصعب؛ نسب قريش؛ نشره لأول مرة إ... ليفي بروفينسال باريس؛ دار المعارف للطباعة والنشر بالقاهرة؛ 1951.
71- الزمخشري (538/1144) ... : جاد الله أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي الزمخشري خصائص العشرة الكرام البررة؛ تحقيق بهيجة باقر الحسيني؛ المؤسسة العامة للصحافة والطباعة- دار الجمهورية ببغداد 138/168.
72- السبكي (727/1370) ... : تاج الدين أبو النصر عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي؛ طبقات الشافعية الكبرى؛ المطبعة الحسينية؛ الطبعة الأولى؛ بدون تاريخ.
73- السهيلي (581/1185) ... : عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد؛ الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد؛ بيروت؛ 1389/1978.
74- السيوطي (911/1505) ... : جلال الدين عبد الرحمن؛
1 - بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة؛ مطبعة السعادة بمصر؛ الطبعة الأولى 1326/1908.
2 - تاريخ الخلفاء أمراء المؤمنين القائمين بأمر الأمة؛ إدارة الطباعة المنيرية بمصر؛ 1351/1932.
3- الوسائل إلى مسامرة الأوائل؛ تحقيق الدكتور أسعد طلس؛ مطبعة النجاح ببغداد؛ 1369/1950.
75- الشيباني (179/795) ... : محمد بن الحسن؛ شرح كتاب السير الكبير؛ إملاء محمد بن أحمد السرخسي؛ تحقيق صلاح الدين المنجد؛ معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية؛ مطبعة مصر؛ 1957.(1/416)
76- شيخ الربوة (727/1326): شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي طالب الأنصاري؛ نخبة الدهر في عجائب البر والبحر؛ مطبعة الأكاديمية الامبراطورية بمدينة بطربورغ؛ 1281/1865.
77- طاش كبرى زاده (962/1554): أحمد بن مصطفى المعروف بطاش كبرى زاده؛ مفتاح السعادة، آباد الدكن الهند؛ الطبعة الأولى 1329/1911.
78- الطبراني (360/970) ... : سليمان بن أحمد؛ المعجم الكبير؛ تحقيق حمدي بن عبد الحميد السلفي؛ الدار العربية للطباعة ببغداد؛ الطبعة الأولى 1397/1880.
79- الطبري (310/923) ... : محمد بن جرير؛ تاريخ الأمم والملوك؛ راجعه وصححه وضبطه نخبة من العلماء على النسخة المطبوعة بمطبعة بريل بمدينة ليدن سنة 1879؛ منشورات مؤسسة الأعلمي ببيروت ومؤسسة جوهر للطباعة والتصوير؛ الطبعة الرابعة؛ 1403/1983.
80- الطرسوسي (589/1193) ... : مرضي بن علي مرضي؛ تبصرة أرباب الألباب في كيفية النجاة في الحروب؛ تحقيق كلود كاهين؛ بدون تاريخ.
81 - الفيروز آبادي (817/1414): محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم؛ القاموس المحيط؛ دار مكتبة التربية للطباعة والنشر ببيروت؛ بدون تاريخ.
82- العراقي (805/1402) ... : أبو الفضل عبد الرحمن زين الدين بن الحسين بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن إبراهيم العراقي؛ ألفية علم الحديث المسماة ألفيةالعراقي، مطبعة الفاروق بدهلي؛ المكتبة الظاهرية ع 368؛ بدون تاريخ.
83- القرطبي (671/1272) ... : محمد بن أحمد الأنصاري؛ تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن)، دار الشعب بالقاهرة، بدون تاريخ.
84- القزويني (682/1283) ... : زكريا بن محمد بن محمود؛ آثار البلاد وأخبار العباد؛ دار صادر ودار بيروت للطباعة والنشر ببيروت 1380/1960.
85- القلقشندي (821/1418) ... : أبو العباس أحمد؛ صبح الأعشى؛ المطبعة الأميرية؛ بالقاهرة؛ 1331/1913.(1/417)
86- الكفوي (1094/1683) ... : أيوب بن موسى الحسيني الكفوي؛ الكليات؛ تحقيق عدنان درويش ومحمد المصري؛ منشورات مطبعة وزارة الثقافة والإرشاد القومي بدمشق 1987.
87 - الكلاعي (634/1236) ... : سليمان بن موسى بن سالم الحميدي الكلاعي البلنسي؛ الاكتفاء في مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء؛ تحقيق مصطفى عبد الواحد؛ مطبعة السنة المحمدية؛ 1387/1968.
88- مالك (179/795) ... : مالك بن أنس بن مالك الأصنجي؛ الموطأ؛ مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر؛ 1339/1920.
89- المرزباني (384/994) ... : محمد بن عمران بن موسى؛ معجم الشعراء؛ تحقيق عبد الستار أحمد فراج؛ دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه؛ 1379/1960.
90- المسعودي (346/957) ... : علي بن الحسين بن علي المسعودي؛ مروج الذهب ومعادن الجوهر؛ المطبعة البهية المصرية بمصر؛ 1346/1927).
91- مسلم (261/874) ... : مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، صحيح مسلم؛ دار إحياء التراث العربي بمصر؛ 1374/1954.
92 -المقدسي (380/990) ... : شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر البناء البشاري؛ أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم؛ مطبعة بريل بـ "لَيْدَنْ" الطبعة الثانية 1906.
93- المقريزي (845/1441) ... : أحمد بن علي بن عبد القادر بن محمد؛ إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنْباء والأموال والحفدة والمتاع؛ تحقيق محمود محمد ...... مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة؛ 1941.
94- النسائي (303/915) ... : أحمد بن شعيب بن علي النسائي؛ سنن النسائي؛ شرح جلال الدين السيوطي؛ المطبعة المصرية بالأزهر؛ الطبعة الأولى 1348/1930.
95- النسفي (701/1301) ... : عبد الله بن أحمد بن محمود؛ مدارك التنزيل وحقائق التأويل؛ دارالمعرفة للطباعة والنشر ببيروت؛ بدون تاريخ.
96- النووي (767/1277) ... : محيي الدين بن شرف؛تهذيب الأسماء واللغات؛ إدارة الطباعة المنيرية بمصر؛ بدون تاريخ.(1/418)
97- النويري (732/1331) ... : شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب؛ نهاية الأرب في فنون الأدب؛ مطبعة دار الكتب المصرية بمصر؛ 1342/1923.
98- الهروي (611/1214) ... : علي بن أبي بكر؛ الإشارات إلى معرفة الزيارات؛ تحقيق جانين سورديل- طومين؛ المعهد الفرنسي بدمشق للدراسات العربية؛ 1953.
99- الواقدي (207/822) ... : محمد بن عمر؛
1 - فتوح الشام؛ المطبعة الميمنية بمصر؛ 1309/1891.
2 - مغازي رسول الله؛ مطبعة السعادة بمحافظة مصر؛ 1367/1948.
100- اليافعي (768/1366) ... : عفيف الدين عبد الله بن أسعد اليافعي اليمني؛ مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان؛ تحقيق عبد الله الجبوري؛ مؤسسة الرسالة ببيروت؛ الطبعة الأولى 1405/1984.
101 - ياقوت (622/1225) ... : ياقوت بن عبدالله الرومي أبو الدر غلب عليه ياقوت؛ معجم الأدباء؛ راجعته وزارةالمعارف العمومية بمصر؛ مكتبة عيسى البابي الحلبي وشركاه بمصر؛ بدون تاريخ.
(((
( المراجع:
1- أبو خليل ... : شوقي، أطلس التاريخ العربي؛ دار الفكر بدمشق؛ الطبعة الأولى ......./.......
2- الأفغاني ... : سعيد؛ عائشة والسياسة؛ مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر؛ 1947.
3- الألوسي ... : محمود شكري؛ بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب؛ المطبعة الرحمانية بمصر؛ الطبعة الثانية 1343/1924.
4- أمين ... : أحمد؛ فجر الإسلام؛ مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة؛ الطبعة التاسعة 1964.
5- الأنصاري ... : محمّد بن أبي طالب؛ السياسة في علم الفراسة؛ مطبعة الوطن؛ الطبعة الأولى 1882.
6- بركات ... : محمد فارس؛ المرشد إلى آيات القرآن الكريم وكلماته؛ المطبعة الهاشمية بدمشق؛ 1377/1957.
7- جابي زاده ... ؛ علي بن شاكر الموستاري المعروف بجابي زاده؛ حسن الصحابة في شرح أشعار الصحابة؛ دار سعادة روشن سي؛ 1324.
8- جمهرة ... من المؤلفين العسكريين المختصين: الموسوعة العسكرية؛ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت؛ الطبعة الأولى 1979.(1/419)
9- حتي ... : فيليب: تاريخ العرب؛ دار غندور للطباعة والنشر والتوزيع؛ الطبعة الخامسة 1974.
10- حدّاد ... : جورج مرعي؛ فتح العرب للشام (بحث تاريخي انتقادي تحليلي)؛ المنشورات الجامعة بطرابلس لبنان؛ 1984.
11- حسين ... : طه؛ الشيخان؛ مطابع دار المعارف بمصر؛ 1969.
12- الحكيم ... : فيلمون؛ الفراسة؛ المطبعة العلمية بحلب؛ 1347/1929.
13- خالد ... : خالد محمد؛ خلفاء الرسول؛ دار الكتاب العربي ببيروت؛ الطبعة الثانية 1394/1974.
14- الخضري ... : محمد؛
1 - تاريخ الأمم الإسلامية؛ المكتبة التجارية الكبرى بمصر؛ الطبعة الثانية 382.
2 - إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء؛ المطبعة العربية بمصر؛ بدون تاريخ.
15- خطّاب ... : محمود شيت؛
1 - قادة فتح الشام ومصر؛ دار الفتح ببيروّت، الطبعة الأولى 1385/1965.
2 - قادة فتح بلاد فارس (إيران)؛ دار الفتح ببيروت؛ الطبعة الأولى 385/196..
3 - قادة فتح العراق والجزيرة؛ دار القلم بالقاهرة؛ بدون تاريخ.
16- خمّاش ... : نجدة؛ الشام في صدر الإسلام من الفتح حتى سقوط خلافة بني أمية؛ دراسة للأوضاع الاجتماعية والإدارية؛ رسالة قدمت لنيل درجة الدكتوراة من جامعة دمشق؛ بدون تاريخ.
17- الرّاوي ... : ثابت اسماعيل؛ تاريخ الدولة العربية (خلافة الراشدين والأمويين)؛ مطبعة الإرشاد ببغداد 1970.
18- الروحي ... : علي بن عبد الله بن أبي السرور بن عبد الرحمن الروحي؛ بلغة الظرفاء في ذكرى تواريخ الخلفاء؛ مطبعة النجاح بمصر؛ الطبعة الأولى 1327/1909.
19- الزركلي ... : خير الدين؛ الإعلام قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين؛ دار العلم للملايين ببيروت؛ الطبعة السادسة تشرين الثاني 1984.
20- زكي ... : عبد الرحمن زكي؛ السلاح في الإسلام؛ دار المعارف بمصر؛ 1951.
21- زيدان ... : جرجي؛
1 - التمدن الإسلامي؛ دار مكتبة الحياة للطباعة والنشر ببيروت؛ بدون تاريخ.(1/420)
2 - تاريخ آداب اللغةالعربية؛ راجعه وعلق عليه شوقي ضيف؛ دار الهلال؛ بدون تاريخ.
22- سركيس ... : يوسف اليان؛ معجم المطبوعات العربية والمعربة؛ مطبعة سركيس بمصر؛ 1346/1928.
23- سعيد ... : أمين؛ حروب الإسلام والامبراطورية الرومية فتح الشام، مصر؛ أفريقية الشمالية؛ مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه بمصر؛ 1935.
24- سويد ... : ياسين؛ معارك خالد بن الوليد؛ المؤسسة العربية للدراسات والنشر؛ الطبعة الثالثة 1981.
25- شلبي ... : محمود؛ اشتراكية أبي بكر؛ دار الجيل ببيروت؛ الطبعة الثانية 1974.
26- طوطح ... : خليل، جغرافية فلسطين؛ مطبعة بيت المقدس بالقدس؛ 1923.
27- عبد الحميد ... : صبحي؛ معارك العرب الحاسمة؛ مؤسسة الأبحاث العربية ببيروت؛ الطبعة الثانية 1980.
28- العسلي ... : بسّام؛ فن الحرب في عهود الخلفاء الراشدين والأمويين؛ دار الفكر ببيروت، الطبعة الأولى 1394/1974.
29- العقّاد ... : عباس محمود: عبقرية الصديق، كتاب الهلال؛ سلسلة شهرية تصدر عن دار الهلال بالقاهرة؛ العدد 54، 1375/1955.
30- غوانمة ... : يوسف؛ معركة اليرموك؛ دار هشام للنشر والتوزيع بأربد الأردن؛ 1985.
31- فارق ... : خورشيد أحمد؛ تاريخ الردة؛ مقتبس من الاكتفاء للكلاعي البلنسي؛ معهد الدراسات الإسلامية؛ دهلي الجديدة؛ 1961.
32- الكاندهلوي ... : محمّد يوسف؛حياة الصحابة؛ دار النصر للطباعة بمصر؛ 1389/1969.
33- كحالة ... : عمر رضا؛ معجم قبائل العرب القديمة والحديثة؛ مؤسسة الرسالة ببيروت؛ الطبعة الخامسة 1405/1985.
34- كمال ... : أحمد عادل؛
1 - الطريق إلى دمشق (فتح بلاد الشام)؛ دار النفائس ببيروت؛ الطبعة الأولى 1400/1980.
2 - الطريق إلى المدائن؛ دار النفائس ببيروت؛ الطبعة الأولى 1392/1972.
35- ماجد ... : عبد المنعم؛ تاريخ الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى؛ مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة؛ 1963.(1/421)
36- مادون ... : محمد علي؛ الخريطة التاريخية للعراق والمشرق والجزيرة العربية وبلاد الشام ومصر؛ مطبعة الساحة العسكرية السورية بدمشق؛ 1400/1979.
37- المجمع العربي ... : مجلة المجمع العلمي العربي؛ المجلد السادس عشر؛ مطبعة الترقي بدمشق؛ كانون ثاني وشباط 1360/1941.
38- المرصفي ... : سيد بن علي المرصفي؛ رغبة الأمل من كتاب الكامل؛ مكتبة الأسدي بطهران؛ 1970.
39- ناصف ... ؛ منصور علي؛ التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول؛ دار إحياء الكتب العربية؛ الطبعة الثالثة 1981/1961.
40- هيكل ... : محمد حسين؛ الصديق أبو بكر؛ مطبعة مصر؛ الطبعة الثانية 1362.
41- وجدي ... : محمد فريد؛
1 - دائرة معارف القرن العشرين؛ دار المعرفة ببيروت؛ الطبعة الثالثة 1971.
2 - المصحف المفسر؛ مطابع الشعب بمصر؛ بدون تاريخ.
42- وتر ... : محمد بن ضاهر؛
1 - الإدارة العسكرية في حروب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم؛ مطبعة الرشيد بحلب؛ الطبعة الأولى 1406/1986.
2 - مكانة المرأة في الشؤون الإدارية والبطولات القتالية؛ مؤسسة الرسالة ببيروت؛ 1399/1979.
4 - المراجع المعرّبة:
42-أكرم: الجنرال. ... أ.أكرم؛ سيف الله خالد بن الوليد؛ ترجمة العميد الركن صبحي الجابي؛ مؤسسة الرسالة ببيروت؛ الطبعة الرّابعة 1402/1982.
43- وِل؛ ... قصة الحضارّة؛ ترجمة محمد بدران؛ الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية؛ بدون تاريخ.
44- غلوب ... : جون باجوت؛ الفتوحات العربية الكبرى؛ تعريب وتعليق خيري حماد؛ منشورات مكتبة المثنى ببغداد؛ 1963.
45- لومبارد ... : موريس؛ الجغرافيا التاريخية للعالم الإسلامي خلال القرون الأربعةالأولى؛ ترجمة الدكتور عبد الرحمن حميده؛ دار الفكر بدمشق؛ بدون تاريخ.
46- هاري.و. هازارد: أطلس التاريخ الإسلامي؛ تحقيق إبراهيم زكي خورشيد؛ مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة؛ عن جامعة برنستون؛ 1954.
5 - المراجع الأجنبية:(1/422)
1 - Saufany (E)- Al Riddah And The Muslim Conquest of Arabia- University of toronto Press, the arab institute for research and Publiching. )1972).
2 - Gabrieli (Francesco) - Muhammad and conquest of Islam. London (1968).
3- The Encyclopedio of Military History . R. Erest. Dupuy and Trevor - N. Dupuy- Jane’s Publishing Company London -Sydney (1977).
4 - Hamidullah (M) - Documents Sw La Diplomatie Musulmane, a` I’ E` poque du prophe`te et des Khatifes orthodones, lesaire, Assotiation, De composition , de trduction et de publication, sha`ria al - Kirda`ssi- Addin (1941).
5 - Pereceval (A. P) - Essai surl Histoire des arabes , Limprime Autrich, premiere Eclition (1847).
(((
المحتوى
تمهيد ...
خطّة البحث ...
مُدْخَل ...
تعريف تقويمي بأهم المصادر ...
محمّد بن اسحاق بن يسار المطلبي (151/ 768) ...
أبو العبّاس الوليد بن مسلم (195/ 810) ...
سيف بن عمر الأسدي التّميمي (200/ 815) ...
أبو عبد اللّه محمّد بن عمر الواقدي ( 207/ 823) ...
علي بن محمّد بن عبد الله المدائني (225/ 839) ...
أبو اسماعيل محمّد بن عبد الله الأزدي البصري ( 231/ 845) ...
أبو يزيد وثيمة()بن موسى بن الفرات الفارسي الفسوي ( 237/ 851)() ...
أحمد بن يحيى البلاذري ( 279/ 892) ...
ابن عساكر علي بن الحسين بن وهبة اللّه (571/ 1176) ...
ابن حُبيش عبد الرّحمن بن محمّد بن عبد الله الأنصاري الأندلسي
( 584/ 1188) ...
الفصل الأوّل:حروب أبي بكر الصّديق رضي الله عنه في الفترة النبويّة ...
أبو بكر نائب القائد الأعلى ...
حامل الرّاية (اللواء) ...
أبو بكر أمين سر القائد الأعلى ...
المستشار العسكري الأوّل ...
قائد ميمنة الجيش ...
أوّل شاهد على صلح الحديبية ...
أبو بكر قائد سرية قتاليّة ...
قائد سرية ذات مهام خاصّة ...
الفارس ذو الحركة العالية في الميدان ( قائد الطليعة) ...
أبو بكر القائد الانضباطي ...(1/423)
القائد العقائدي ...
القائد ذو المعنويّات العالية ...
القائد باذل إرادة القتال ...
أبو بكر القائد الإداري ...
القائد الإنساني ...
الفصل الثاني: مسارح العمليَّات ...
صفات مسارح العمليات ...
مسرح عمليّات شبه جزيرة العرب ...
مسرح عمليّات العراق ...
مسرح عمليات الشام ...
الفصل الثالث: حُروب الرّدّة ...
حروب الرّدة والتصدي للمرتدين ...
الفَصل الرّابع: فتوح العراق ...
قرار الفتح ...
تاريخ فتح العراق ...
حجم الجيش ...
الاستطلاع ...
التسليح ...
فن الحرب عند العرب وعند الفرس ...
المبارزة ...
المفاجأة ...
سير المعارك ...
الشؤون الإداريّة ...
الفصل الخامس: فتوح الشّام ...
خطّة فتح الشّام ...
أهداف خطّة الفتح ...
قيادة الفتح ...
خطّة الفتح الاستراتيجية والتعبئة ...
التحضير والإعداد لفتح الشام ...
معارك الفتح ...
قوات الروم ...
مخطط حصار دمشق وفتحها 1- الحصار ...
مخطط حصار دمشق وفتحها 2- الفتح ...
مسير الجيوش والمعارك التّصادميّة ...
الفصل السادس: الرّيادة والقيادة ...
الماضي المشرق ...
العلم والثقافة ...
الصحبة والملازمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ...
المنزلة الرفيعة لأبي بكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ...
الخلافة ...
الالتزام الشّديد بالأوامر النبويّة ...
الصّفات الجسديّة ...
الصفات الخلقية ...
الصّفات الإنسانية ...
الصّفات العسكريّة ...
الفَصل السّابع: قادة الجبَهات والجيوش والتشكيلات ...
أولاً: القادة في جبهة شبه جزيرة العرب ...
1- أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي ت54/674 ...
2-خالد بن الوليد 21/641 ...
3- عمرو بن العاص بن وائل السهمي: 43/664 ...
4-خالد بن سعيد بن العاص 14/635 ...
5- شرحبيل بن حَسَنة بن عبد الله الكندي: 18/639 ...
6- عكرمة بن أبي جهل 13/634 أو 15/636 وهو الأرجح ...
7- النعمان بن مقرن المزني 21/642 ...
8- سويد بن مقرن المزني: ...
9- العلاء بن الحضرمي 21/641 ...
10- طريفة بن حاجز السلمي ...
11- المهاجر بن أبي أميّة ...
12- حذيفة بن محصن الغَلْفاني ...
13- عَرفجة بن هَرثمة البارقي ...
14- القادة الاحتياطيون: ...
زياد بن لبيد البياضي. ...(1/424)
يعلى بن مُنْية المضري: ...
أبوموسى الأشعري (عبد الله بن قيس بن سليم العامري) 52/672. ...
ثانياً: القادّة في جبهة العراق ...
1- المثنى بن حارثة الشيباني ت 14/635: ...
2 - عياض بن غَنْم 20/640. ...
3 - عدي بن حاتم بن عبد الله الطائي 68/687. ...
4 - مذعور بن عدي العجلي: ...
5 - حرملة بن مريطة التميمي: ...
6 - سُلمى بن سلمى بن القَيْن التميمي: ...
7 - القعقاع بن عمرو 40/660. ...
8 - عاصم بن عمرو التميمي 19/640. ...
ثالثاً: القادة في جبهة الشّام ...
1 - عامر بن عبد اللّه بن الجرّاح (أبو عبيدة) 18/639. ...
2 - يزيد بن أبي سفيان 18/639. ...
3 - صدي بن عجلان (أبو أمامة الباهلي): 86/705. ...
4 - قادة الأجنحة والكراديس: ...
أ - الزبير بن العوام بن خويلد القرشي الأسدي 36/656. ...
ب- هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص 37/657. ...
الخاتمة ...
المخطوطات، المصادر، المراجع، ...
المراجع المعرّبة، المراجع الأجنبيّة ...
1 - المخطوطات ...
2 - المصادر: ...
( المراجع: ...
4 - المراجع المعرّبة: ...
5 - المراجع الأجنبية: ...
(((
صدر للمؤلف
- الاستراتيجية الإدارية
- مكانة المرأة في الشؤون الإدارية والبطولات القتالية
- دور الزمن في الإدارة
- الإدارة العسكرية في حروب الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)
-الحداثة في مؤخرة الفيلق
-معركة عين جالوت (دراسة في الجيشين المملوكي والمغولي)
- الريادة في حروب وفتوحات أبي بكر الصديق (رضي الله عنه).
سيصدر قريباً
- السبيل في المعارك النبوية والخصائص القتالية
- استراتيجية الحرب والفتوحات من الردة حتى اليرموك
- استراتيجية الحرب والفتوحات في عهد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه).
- المؤتلف والمختلف
- الصحة والمعافاة في المنزلات والمرسلات
((
رقم الايداع في مكتبة الأسد - الوطنية
الريادة في حروب وفتوحات أبي بكر الصديق :.دراسة/ محمد ضاهر وتر- دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 1999- 313ص؛ 25 سم .
1- 923.1: أبو بكر الصديق ... ... 2-956.03 و ت ر ر
3 - العنوان ... ... ... ... 4- وتر(1/425)
ع -1817/10/1999 ... ... ... ... مكتبة الأسد
(
رقم الايداع في مكتبة الأسد - الوطنية
أوراق في الاقتصاد السياسي للأزمة الاقتصادية الراهنة:.دراسة/
منير الحمش - دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 1999- 349؛ 25 سم .
1- 330.9 ح م ش أ ... ... 2-337 ح م ش أ
3 - العنوان ... ... ... 4- الحمش
ع -1920/10/1999 ... ... ... ... مكتبة الأسد
(
هذا الكتاب
دراسة هامة عن أهم مرحلة من مراحل الدعوة الإسلامية من خلال الحروب والفتوح في عهد خلافة أبي بكر الصديق والدراسة تسلط الضوء على الحياة العسكرية والحربية للخليفة أبي بكر الصديق.
حيث تكشف عن عبقرية الإسلام في إدارة الحرب وعن عظمة الفكر العربي الإسلامي في التخطيط للمعارك وعن أهم القادة المسلمين في القتال.
((((1/426)