الروعة في كل مكان
هارون يحيى
ترجمة :
مصطفى الستيتي
استانبول - فبراير 2003
إلى القارئ
السبب وراء تخصيص فصل خاص لانهيار النظرية الداروينية هو أن هذه النظرية تشكل القاعدة التي يعتمد عليها كل الفلاسفة الملحدين. فمنذ أن أنكرت الداروينية حقيقة الخلق، وبالتالي حقيقة وجود الله، تخلى الكثيرون عن أديانهم أو وقعوا في التشكيك بوجود الخالق خلال المئة والأربعين سنة الأخيرة. لذلك يعتبر دحض هذه النظرية واجباً يحتمه علينا الدين، وتقع مسؤوليته على كل منا. قد لا تسنح الفرصة للقارئ أن يقرأ أكثر من كتاب من كتبنا، لذلك ارتأينا أن نخصص فصلاً نلخص فيه هذا الموضوع.
تم شرح جميع الموضوعات الإيمانية التي تناولتها كل هذه الكتب على ضوء الآيات القرآنية وهي تدعو الناس إلى كلام الله والعيش مع معانيه. شرحت كل الموضوعات التي تتعلق بالآيات القرآنية بطريقة لا تدع مكاناً للشك أو التساؤل في ذهن القارئ من خلال الأسلوب السلس والبسيط الذي اعتمده الكاتب في كتبه يمكن للقرّاء في جميع الطبقات الاجتماعية والمستويات التعليمية أن تستفيد منها وتفهمها. هذا الأسلوب الروائي البسيط يمكّن القارئ من قراءة الكتاب في جلسة واحدة، حتى أولئك الذين يرفضون الأمور الروحانية ولا يعتقدون بها، تأثروا بالحقائق التي احتوتها هذه الكتب ولم يتمكنوا من إخفاء اقتناعهم بها.
يمكن للقارئ أن يقرأ هذا الكتاب وغيره من كتب المؤلف بشكل منفرد أو يتناوله من خلال مناقشات جماعية. أما أولئك الذين يرغبون في الاستفادة منه فسيجدون المناقشة مفيدة جداً إذ إنهم سيتمكنون من الإدلاء بانطباعاتهم والتحدث عن تجاربهم إلى الآخرين.
إضافة إلى أن المساهمة في قراءة وعرض هذه الكتب التي كتبت لوجه الله يعتبر خدمة للدين . عرضت الحقائق في هذه الكتب بأسلوب غاية في الإقناع، لذلك نقول للذين يريدون نقل الدين إلى الآخرين: إن هذه الكتب تقدم لهم عوناً كبيراً.(1/1)
من المفيد للقارئ أن يطلع على نماذج من هذه الكتب الموجودة في نهاية الكتاب، ليرى التنوع الذي تعرضه هذه المصادر الغنية بالمواد الدينية الممتعة والمفيدة.
لن تجد في هذا الكتاب كما في غيره من الكتب، وجهات نظر شخصية للكاتب أو تعليقات تعتمد على كتب التشكيك، أو أسلوب غامض في عرض موضوعات مغرضة أو عروض يائسة تثير الشكوك وتؤدي إلى انحراف في التفكير.
حول المؤلف
ولد الكاتب الذي يكتب تحت الاسم المستعار هارون يحيى في أنقرة عام ،1956 بعد أن أنهى تعليمه الابتدائي والثانوي في أنقرة، درس الآداب في جامعة ميمار سنان في جامعة استنبول، وفي الثمانينيات بدأ بإصدار كتبه السياسية والدينية . هارون يحيى كاتب مشهور بكتاباته التي تدحض الداروينية وتعرض لعلاقاتها المباشرة مع الإيديولوجيات الدموية المدمرة.
يتكون الاسم القلمي أو المستعار، من اسمي ‘’هارون’’ و’’يحيى’’ في ذكرى موقرة للنبيَّين اللَّذَين حاربا الكفر والإلحاد، بينما يظهر الخاتم النبوي على الغلاف كرمز لارتباط المعاني التي تحتويها هذه الكتب بمضمون هذا الخاتم. يشير الخاتم النبوي إلى أن القرآن الكريم هو آخر الكتب السماوية، وأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين. وفي ضوء القرآن والسنة وضع الكاتب هدفه في نسف الأسس الإلحادية والشركية وإبطال كل المزاعم التي تقوم عليها الحركات المعادية للدين، لتكون له كلمة الحق الأخيرة، ويعتبرهذا الخاتم الذي مهر به كتبه بمثابة إعلان عن أهدافه هذه.
تدور جميع كتب المؤلف حول هدف واحد وهو نقل الرسالة القرآنية إلى الناس، وتشجيعهم على الإيمان بالله والتفكر بالموضوعات الإيمانية والوجود الإلهي واليوم الآخر.(1/2)
تتمتع كتب هارون يحيى بشعبية كبيرة لشريحة واسعة من القراء تمتد من الهند إلى أمريكا، ومن إنكلترا إلى أندونيسيا وبولندا والبوسنة والبرازيل وإسبانيا؛ وقد ترجمت بعض كتبه إلى الفرنسية والإنكليزية والألمانية والبرتغالية والأردية والعربية والألبانية والروسية والأندونيسية.
لقد أثبتت هذه الكتب فائدتها في دعوة غير المؤمنين إلى الإيمان بالله، وتقوية إيمان المؤمنين، فالأسلوب السهل والمقنع الذي تتمتع به هذه الكتب يحقق نتائجاً مضمونة في التأثير السريع والعميق على القارئ. من المستحيل على أي قارئ يقرأ هذه الكتب ويفكر بمحتواها بشكل جدي أن يبقى معتنقاً لأي نوع من أنواع الفلسفة المادية. ولو بقي أحد يحمل لواء الدفاع عنها، فسيكون ذلك من منطلق عاطفي بحت، لأن هذه الكتب تنسف تلك الفلسفات من أساسها. إن جميع الإيديولوجيات التي تقول بنكران وجود الله قد دُحضت اليوم والفضل يعود إلى كتب هارون يحيى.
لا شك أن هذه الخصائص مستمدة من حكمة القرآن ووضوحه؛ وهدف الكاتب من وراء نشر هذه الكتب هو خدمة أولئك الذين يبحثون عن الطريق الصحيح للوصول إلى الله، وليس تحقيق السمعة أو الشهرة، علاوة على أنه لا يوجد هدف مادي من وراء نشر كتبه هذه.
وعلى ضوء هذه الحقائق، فإن الذين يشجعون الآخرين على قراءة هذه الكتب، التي تفتح أعينهم وقلوبهم وترشدهم إلى طريق العبودية لله، يقدمون خدمة لا تقدر بثمن.
من جهة أخرى، يعتبر تناقل الكتب التي تخلق نوعاً من التشويش في ذهن القارئ وتقود الإنسان إلى فوضى إيديولوجية، ولا تؤثر في إزاحة الشكوك من قلوب الناس، مضيعة للوقت والجهد، أما هذه الكتب فمن الواضح أنها لم تكن لتترك هذا الأثر الكبير على القارئ لو كانت تركز على القوة الأدبية للكاتب أكثر من الهدف السامي الذي يسعى إليه، ومن يشك بذلك يمكنه أن يرى أن الهدف الوحيد لكتب هارون يحيى هو هزيمة الكفر وتكريس القيم الإنسانية.(1/3)
لا بد من الإشارة إلى أن الحالة السيئة والصراعات التي يعيشها العالم الإسلامي في يومنا هذا ليست إلا نتيجة الابتعاد عن دين الله الحنيف والتوجه نحو الإيديولوجيات الكافرة، وهذا لن ينتهي إلا بالعودة إلى منهج الإيمان والتخلي عن تلك المناهج المضللة، والتوجه إلى القيم والشرائع القرآنية التي عرضها لنا خالق الكون لتكون لنا دستوراً. وبالنظر إلى حالة العالم المتردية والتي تسير به نحو هاوية الفساد والدمار، هناك واجب لا بد من أدائه وإلا... قد لا نصل في الوقت المناسب.
لا نبالغ إذا قلنا: إن مجموعة هارون يحيى قد أخذت على عاتقها هذا الدور القائد، وبعون الله ستكون هذه الكتب الوسيلة التي ستحقق شعوب القرن العشرين من خلالها السلام والعدل والسعادة التي وعد بها القرآن الكريم.(1/4)
تتضمن أعمال الكاتب: النظام الماسوني الجديد، اليهودية والماسونية، الكوارث التي جرتها الداروينية على العالم، الشيوعية عند الأمبوش، الإيديولوجية الدموية للداروينية: الفاشية، الإسلام يرفض الإرهاب، اليد الخفية في البوسنة، وراء حوادث الإرهاب، وراء حوادث الهولوكوست، قيَم القرآن، الموضوعات 1-2-،3 سلاح الشيطان: الرومانسية حقائق 1-،2 الغرب يتجه إلى الله، خدعة التطور، أكاذيب التطور، ، الأمم البائدة، لأولي الألباب، انهيار نظرية التطور في عشرين سؤالاً، إجابات دقيقة على التطوريين، النبي موسى، النبي يوسف، العصر الذهبي، إعجاز الله في الألوان، العظمة في كل مكان، حقيقة حياة هذا العالم، القرآن طريق العلم، التصميم في الطبيعة، بذل النفس ونماذج رائعة من السلوك في عالم الحيوان، السرمدية قد بدأت فعلاً، ، خلق الكون، لا تتجاهل، الخلود وحقيقة القدر، معجزة الذرة، المعجزة في الخلية، معجزة الجهاز المناعي، المعجزة في العين، معجزة الخلق في النباتات، المعجزة في العنكبوت، المعجزة في البعوضة، المعجزة في نحل العسل، المعجزة في النملة، الأصل الحقيقي للحياة، الشعور في الخلية، سلسلة من المعجزات، بالعقل يُعرف الله، المعجزة الخضراء في التركيب الضوئي، المعجزة في البروتين، أسرار DNA .
وكتب الكاتب للأطفال: أيها الأطفال كذب داروين!، عالم الحيوان، عظمة السماوات، عالم أصدقائك الصغار، النمل، النحل يبني خليته بإتقان، بناة الجسر المهرة: القنادس.(1/5)
وتتضمن أعمال الكاتب الأخرى التي تتناول موضوعات قرآنية: المفاهيم الأساسية في القرآن، القِيَم الأخلاقية في القرآن، فهم سريع للإيمان 1-2-،3 هجر مجتمع الجاهلية، المأوى الحقيقي للمؤمنين: الجنة، القيم الروحانية في القرآن، علوم القرآن، الهجرة في سبيل الله، شخصية المنافقين في القرآن، أسرار المنافق، أسماء الله، تبليغ الرسالة والمجادلة في القرآن، المفاهيم الأساسية في القرآن، إجابات من القرآن، بعث النار، معركة الرسل، عدو الإنسان المُعلن: الشيطان، الوثنية، دين الجاهل، تكبر الشيطان، الصلاة في القرآن، أهمية الوعي في القرآن، يوم البعث، لا تنس أبداً، أحكام القرآن المنسية، شخصية الإنسان في مجتمع الجاهلية، أهمية الصبر في القرآن، معارف عامة من القرآن، حجج الكفر الواهية، الإيمان المتكامل، قبل أن تتوب، تقول رسلنا، رحمة المؤمنين، خشية الله، كابوس الكفر، النبي عيسى آتٍ، الجمال في الحياة في القرآن، مجموعة من جماليات الله 1-2-،3 مدرسة يوسف، الافتراءات التي تعرض لها الإسلام عبر التاريخ، أهمية اتباع كلام الله، لماذا تخدع نفسك، كيف يفسر الكون القرآن، بعض أسرار القرآن، الله يتجلى في كل مكان، الصبر والعدل في القرآن، أولئك الذين يستمعون إلى القرآن.
مدخل
عزيزي القارئ، فكر قليلاً فيما تفعله عندما تستيقظ من النوم صباح كل يوم، تفتح عينيك بعد نوم عميق وقد تأخذ نفساً أو تعدل وضعك في الفراش. وبعد برهة تنهض لتتمشّى وتتناول فطورك الصّباحي وتغير ثيابك، وقد تتحدث مع من معك في البيت مثل والديك أو إخوتك. ثم بعد ذلك قد تخرج من البيت أو تطل من النافذة إلى الخارج، وربّما شاهدت زرقة السماء، أو رأيت طيراً يمر من أمام النافذة فتسمع صوته، وقد ترى ورقة تسقط من شجرة فتلفت نظرك الثمار الناضجة في الأشجار، وقد تحسّ بحرارة الشّمس أو بسرعة الرّياح وهبوبها.(1/6)
قد ترى النّاس في الشوارع يسيرون كلّ إلى شأنه، أي إنّه يوم عادي في حياتك، وهذه الأمور التي نراها ونشاهدها يومياً لا تلفت انتباهك العميق لكونها وقائع يومية وعادية.
ولنفترض أنك موجود في غرفة، أي بين أربعة جدران منذ لحظة ولادتك، لتكن هذه الغرفة عديمة المنافذ وتحتوي على بعض قطع الأثاث الضرورية، وهناك نوع أو نوعان من الأغذية والمشروبات تكفي لاستمرار الحياة فقط. ولنفترض كذلك عدم وجود أيّ جهاز يمكن بواسطته معرفة ما يجري في العالم الخارجي مثل الهاتف أو المذياع أو التلفزيون، وبذلك تكون في شبه عزلة تامة عمّا يجري في الخارج.
ولنفترض أنك أخرجت من هذه الغرفة فجأة ورأيت العالم الخارجي، ترى عندئذ كيف سيكون استقبالك لهذا العالم الخارجي؟ فهذا العالم واسع مترامي الأطراف وأشعة الشمس تغمر وجهك، وترى زرقة السّماء الصافية أو تلألؤ النجوم إن كان الوقت ليلاً، أو بياض السّحب التي تلبّد السماء.
وقد ترى الجبال الشّاهقة الممتدة في عنان السّماء أو الشلالات التي تأسر عيون ناظريها، وكذلك البحيرات و البحار أو الأمطار التي تحمل بشارة الخير و بداية الحياة الخضراء، وتشاهد الأشجار الباسقة و الزهور الباهرة الألوان مثل البنفسج والأقحوان والقرنفل.
وتشعر بالنّشوة من رائحة الورود الزّكية مثل النيلج. وتشعر بالمذاق الطيب و النكهة الفائقة عندما تتناول فواكه كالبرتقال و البطيخ والإجّاص والفراولة (الشيليك) والموز والخوخ. وتخالجك مشاعر الرأفة و الشفقة عندما تشاهد قطة أو كلباً أو أرنباً أو حتى غزالاً، وتأسرك المناظر الأخاذة عندما ترى تناسق الألوان الجميلة في الفراش أو الطيور أو حتى في الحيوانات المائية.(1/7)
وعندما ترى كل هذا الجمال و التناسق و الروعة يثور في عقلك سؤال كبير، من الذي صنع هذه الفسيفساء الجميلة؟ ترى من الذي أضفى على الفواكه لونها و نكهتها الجذابة؟ عندما تتناول قطعة من الشمّام أو التفاح تشعر بالمذاق اللذيذ، ترى من أودع فيها هذا المذاق؟ كيف أصبح لبّ هذه الثمرة ذات القشور بهذه الحلاوة؟ وعندما ترى الترتيب المتقن للبذور داخل الثمار تسأل من الذي رتبها بهذا الإتقان الرائع ؟
وكل جديد تراه أو تتعلمه يزيد حدة الإثارة داخلك و يجعل الأسئلة تزدحم في مخك وتتردد على لسانك كلمات الاستفهام: كيف ولماذا؟
وتبدأ بجمع المعلومات التي تبيّن لك حاجة ثمرة مثل البطيخ إلى البذور للتكاثر، أو حاجة الطيور إلى الريش في أجسامها كي تطير، أو أهمية أشعة الشمس بالنسبة إلينا، وكذلك تكتشف الأهمية القصوى للأكسيجين والماء لحياة الكائنات الحية، وتكتشف أيضاً أهمية البحار والمحيطات، وكذلك النباتات في الحفاظ على التوازن البيئي.
وبعد تحصيل كم من المعلومات تجد أن البذور المختلفة والشبيهة بقطعة الخشب تستنسخ نباتات مختلفة لاختلاف الشِّفْرة الوراثية التي تحتوي عليها. وبعد أن تكتشف المزيد من المعلومات تقترب شيئاً فشيئاً من سر هذه الفسيفساء الرائعة.
وهذا الذي تتعلمه وتكتشفه في البداية يُعَدُّ قطرة في محيط واسع من الكائنات، و بعد أن تكتشف أن هذه الكائنات يرتبط وجودها بعضها مع بعض، و أن هناك الكثير الذي لم تكتشفه بعد أو لم تره، أو لم تسمع عنه من قبل، وأن الكون له مقاييس وأنظمة خارقة تنظم وجوده، عندئذ فقط لا تملك سوى الحيرة والدهشة و الإعجاب. وكلما خطوت خطوة في طريق المعرفة والاستزادة من العلم يتبادر إلى ذهنك السؤال التالي: ترى كيف ظهرت هذه الكائنات جميعها إلى الوجود؟ كيف ظهرت أنا إلى الوجود؟ مادام لكل شيء سبب، إذن لماذا أنا موجود؟(1/8)
عندما تخرج من غرفتك تلك التي مكثت فيها سنين عديدة ستصادفك الكائنات المختلفة، اختلاف في الأنواع، روعة في التصوير، وحينئذ تبدأ الأسئلة تدور في ذهنك باحثة عن أجوبة، وكل سؤال لا بد أن يحتوي على العبارة التالية: “من المؤكد أنّ هناك صانعاً لهذه الكائنات”.
وعندما تبدؤون بالتفكير متخلّين عن الكسل الذهني والنظرة الرتيبة إلى حولكم ستتوصلون حتماً إلى قناعة أكيدة بوجود خالق لهذه الكائنات. و هذا هو بالضبط ما يجب على كل إنسان أن يفعله، يجب على كل إنسان أن ينظر إلى الأشياء بنظرة مختلفة، نظرة فيها تفكر واعتبار.
ومثلما تفترض بأنّ
هناك صانعاً للجسر الذي تمر عليه كل يوم، فهناك صانع لعظام جسمك التي تقترب صلابتها من صلابة الفولاذ الذي صنع منه الجسر. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يقوم أحدهم بادعاء أن الحديد و الفحم قد اتحدا بالمصادفة لينتجا الفولاذ، وأنّ الفولاذ والإسمنت قد اتحدا مصادفة ليصنعا الجسر؛ لأن من يدعي هذا الادعاء لا بد أن يكون معتوهاً أو أن قواه العقلية مصابة بخلل.
على الرغم من هذه الحقيقة فإن هناك من يدعي أن الكائنات سواء أكانت في كوكبنا أم خارجه قد ظهرت بمحض المصادفة، وإنّ ضحالة هذا الادعاء واضحة لكل ذي عقل حصيف.
اللامنطقية في فكرة “المصادفة”
إنّ الذين ظهروا في الساحة بادعائهم لفكرة المصادفة هم الماديّون ودعاة نظرية التطور. ويدعي هؤلاء أن المادة والكون لا أول لهما ولا آخر وأن لا خالق لهما وأن هذه النجوم التي تعد بالمليارات والتي تشكل بمجموعها مليارات المجرات، بالإضافة إلى الأجرام السماوية والكواكب التي ينتظم وجودها ضمن أنظمة خارقة في عملها. كل هذه الكائنات وجدت وتعمل بمحض المصادفة. وتدعي نظرية التطور كذلك أن الكائنات الحية قد وجدت بمحض المصادفة على الرغم من هذا النظام الرائع و المعجز للوجود.(1/9)
وبعد هذا الاستعراض السّريع، يتضح لنا أن دعاة التطور يؤمنون بأنّ المصادفة خلقت الكون ولها قدرة على الخلق. إن الإيمان بهذا الشكل يُعَدُّ نوعاً من أنواع الوثنية، أي إنّ هؤلاء يعبدون صنماً اسمه “المصادفة”. ولو قرأتم الكتب ذات التوجهات الداروينية لوجدتم أنها تتحدث كثيراً عن هذا الصنم، و أن له قوة خارقة و قدرات عجيبة . وهؤلاء المؤمنون بنظريّة التطور يقدمون أمثلة عديدة لا يستطيعون عدها من الكائنات التي أوجدتها المصادفة. وعلى سبيل المثال يذكرون أن الخلية الأم التي يَعدُّونها مصدر الحياة الأولي قد خلقت من قبل هذا الصنم “المصادفة”، وعلى هذا تكون الذرات، حسب ادعائهم، قد اتحدت فيما بينها مصادفة وبتأثير عوامل طبيعية كالمطر والبرق لتكون أحماضاً أمينية، ومعلوم أنّ هذه الذرات غير حية. وفي خطوة لاحقة تكون هذه الاحماض الأمينية قد اتخذت قرارها بتكوين البروتينات التي تُعَدُّ عماد الخلية.
كل هذا يحدث بتأثير “الصنم المصادفة”. وبهذا الشكل تكون الخلية الكائن الحي الأولى قد ظهرت إلى الوجود بتأثير القوة التي يدعونها المصادفة، و لكن لم ينته الأمر عند هذا الحد، فحسب الهرطقات التي يرددها هؤلاء فإنّ “صنم المصادفة” قد كان له دور رئيس أو الدور الكامل في ظهور الملايين من أنواع الكائنات الحية على وجه البسيطة، فقد حدث الأمر كما يدعون بظهور السمك أو أنواع عديدة منه يربو عددها على مئات الآلاف؛ لأن الحدث لا يمكن أن يتم و يستمر بظهور نوع واحد فقط، ولم يكن الأمر كافياً أيضاً بظهور الأسماك لوحدها، وبالتالي ظهرت أنواع أخرى من الأحياء المائية، و هي تشكل هذا الوسط المائي الذي نراه وبالروعة التي نعرفها.
واستمر الأمر على هذا الشكل، أي إن المصادفة لا تكتفي بإيجاد الحياة في الماء فقط بل أوجدت هذه الحياة على اليابسة أيضاً، وبذلك كانت المصادفة العامل الرئيسي الذي ساعد سمكة ما في الخروج من الماء إلى اليابسة.(1/10)
وعن طريق المصادفة أيضاً تحولت زعانف السمكة إلى أطراف أو أقدام، حتى إن هذه المصادفة أيضاً أكسبت السمكة الرئات التي تستطيع بواسطتها أن تتنفس الهواء على اليابسة، ولكن هذه المرحلة لم تكن كافية لظهور أنواع من الأحياء البرية. واستمرت المصادفة في تأثيراتها.
وكما سوف يتضح من الفصول القادمة لهذا الكتاب فإنّ الكائنات الحية لا تستطيع العيش إلا عندما تحتوي أجسامها على أعضاء حياتية تؤدي عملها بصورة تامة، و إنّ فشل بعض هذه الأعضاء في أداء عملها يؤدي إلى عجز الكائن الحي عن الاستمرار في الحياة، ولن يكون بإمكانه الصمود سوى لبضع دقائق أو لبضعة أيام في أحسن الأحوال، إلاّ أن دعاة التطور يقولون: إنّ المصادفة كانت وحدها “المبدع” الذي فكر وصمم وأبدع هذه الكائنات الحية بكل تفاصيلها و بكل دقة وكمال وجمال.
ويتضح لنا من هذه الأمثلة أنّ المصادفة بالنسبة إلى هؤلاء صنم يستطيع أن يفعل ما يشاء، وأن يعطي الشكل لأي جسم كيفما يريد أو أن يحول حيواناً ما إلى حيوان آخر. و عندما ينفذ هذه الأمور أو عندما يحول المواد غير الحية إلى كائنات حية يحدد صفات مهمة مثل الرائحة والشكل والمذاق، ويكسب هذه الصفات المرونة المناسبة تجاه أي تحول.
وكذلك تستطيع المصادفة حسب ادّعاءاتكم أن توجد الفيتامينات داخل الفواكه ووفقاً للمواسم التي تثمر فيها، وأن تكسب هذه الفواكه المرونة أو الصّلابة، وأن تضفي عليها الرائحة والنكهة نفسها أينما وجدت هذه الفواكه، كما أنّ المصادفة حسب هؤلاء لها القدرة على أن تودع داخل البذرة أسرار الشِّفْرة الوراثية المميّزة لكل نبتة.
إن ما ذكرناه يمثّل الخطوط الرئيسة التي تميّز تفكير أصحاب النظرية المادية ودعاة نظرية التطور.(1/11)
والحقيقة التي تبرز أمامنا هي استحالة الاقتناع بهذه الأفكار من قبل كلّ ذي عقل منصف وتفكير موضوعي، كما أنه يستحيل قَبول الفكرة التي تقول بأنّ المصادفة وحدها سبب لإيجاد كل ما ذكرناه من قوانين في الطبيعة.
وتصور عزيزي القارئ: هل تستطيع المصادفات أن تنشئ طريقاً برياً سريعاً؟ أو هل تستطيع هذه المصادفات أن تنشئ شركات للنقل وتنظّم عملها بإتقان؟ والجواب مستحيل بالطبع. ومثلما كان من المستحيل أن تظهر شركة للنقل مصادفة فمن المستحيل أن يظهر جهاز الدوران في جسم الإنسان مصادفة. ومثلما كان هناك من قام بقطع الفولاذ قطعة فقطعة لتكون المواد اللازمة لإنشاء برج إيفل مثلاً فهناك من حدد لهذه القطع أطوالها، وهناك من صمم للبرج شكله، وثمّة من نفّذ هذا التصميم بتجميع هذه القطع ومن أكسب هذه القطع القوة و المتانة للحفاظ على بنية البرج سليمة.
فإذن: هناك من خلق عظام الإنسان بهذه الأطوال المختلفة ورتّبها في جسم الإنسان هذا التركيب المتناسق مع شكله، وبالتالي كان هذا ما نسميه الهيكل العظميّ. ولا بد أن الذي خلق العظام بهذا الشكل الرائع ذو قوة خارقة، ولا بد أن تكون هذه القوة أقوى من أية قوة معروفة في الطبيعة وهي بلا شكّ أكثر علماً ولا شبيه لها أبداً. إنّ الله عز و جل هو صاحب هذه القوة، وهو الذي خلق السموات و الأرض و ما بينهما.
إن المقارنة التي أجريناها إضافة إلى الأمثلة التي تضمّنها هذا الكتاب تعكس لنا شيئاً من قدرة الله تعالى على خلق الكائنات بهذه الأنواع المختلفة، وكلّ نوع من هذه الأنواع يحتوي على تفاصيل عميقة وكبيرة جداً.
وعلى سبيل المثال: فإنّ هذا الكتاب يحتوي على شرح متعلق ببعض الصفات العامة للفراشات، ولكن يوجد العديد من الكتب الأخرى تدور حول عين الفراشة بشكل خاص، إضافة إلى كون الفراشات توجد بأنواع مختلفة وكثيرة في الطبيعة، وكلّ نوع له مميزاته وخصائصه.(1/12)
وقد تناول هذا الكتاب أيضاً بعض الخصائص المتميزة لجسم الإنسان بصورة عامة، ولكن هناك العديد من الأبحاث التي أجريت على عظام جسم الإنسان وتمخّضت عنها مجلدات ضخمة. و هناك كتب موسوعية حول عصب ما من أعصاب عين الإنسان، وألفت كتب مستقلة عن أجنحة الفراشات، حتّى إنّ ثمة كتباً قد ألفت عن المادة التي تتكون منها أجنحة هذه الفراشات.
وكل هذه الأمور تعتبر آيات صريحة على قدرة الله تعالى. ونستطيع أن نرى قدرة الله في كل مكان، ويستطيع كل ذي عقل أن يرى العظمة الإلهية في كلّ آنٍ ولحظة، ويستطيع كلّ إنسان أن يستوعب هذه العظمة بمقدار مستواه العقلي والوجداني، وما على الإنسان الذي يرى هذه القدرة الإلهية اللامتناهية والمعجزة الإلهية في التصوير الخارق إلا أن يعود بسرعة إلى الله ويعمل لمرضاته سبحانه وتعالى :
{ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } الأنعام: 102 .
الانفجار العظيم: الوجود من العدم
هل تعلم أنّ كل شيء تراه وتحسّه، مثل بدنك أو البيت الذي تعيش فيه والمقعد الذي تجلس عليه الآن، وحتى أمك و أبيك والطيور والتراب والفواكه والنباتات، وبإيجاز: كل شيء حي وغير حي من المواد قد ظهر إلى الوجود بعد الانفجار العظيم. فبعد الانفجار العظيم ظهرت الذرات إلى الوجود واتحدت لتكون الأشياء، وبعد هذا الانفجار العظيم تشكلت الأنظمة الخارقة في الكون. و لكن ما هو هذا الانفجار العظيم؟(1/13)
لقد أثبتت الأبحاث خلال المئة سنة الأخيرة، وباستخدام التكنولوجيا المتقدمة والحسابات المختلفة بأن هناك تاريخاً لميلاد الكون. وقد أثبت العلماء من خلال هذه الأبحاث أن الكون في حالة تمدد و اتساع مستمرين. و بإجراء مراجعة منطقية لهذا التمدد توصلوا إلى أن الكون قد بدأ من نقطة و هي بداية لهذا الكون، فالعلم الحديث توصل إلى بداية الكون من هذا العدم”النقطة” بواسطة الانفجار، وقد سمي هذا الانفجار بـ “الانفجار العظيم” .(BIG BANG)
و بعد أن حظيت هذه النظرية بقَبول واسع في دنيا العلم، لم يكن عادياً إثبات أن جميع الأنظمة الخارقة التي تحكم الكون قد ظهرت إلى الوجود بفعل الانفجار العظيم؛ لأن آلاف الانفجارات تحدث في أي مكان من هذا الكوكب أو في أيّ مكان في الكون. فهناك انفجارات لقنابل نووية أو هيدروجينية أو انفجارات محورية “تحت سطح الأرض”، أو انفجارات بركانية، وحتى انفجارات تحدث نتيجة اشتعال الغاز الطبيعي، وتوجد كذلك انفجارات تحدث في الشمس.
وباختصار: فإنّ أي انفجار يحدث لا بد أن يتسم بطابع تدميري و تخريبي، ولا يوجد أي انفجار يعقبه أثر بنّاء وإيجابي. ولكن العلم الحديث أثبت بوسائله المتقدمة أنّ هذا الانفجار العظيم قد كان سبباً للانتقال من العدم إلى الوجود وبكل توازن ودقة وإتقان.
ولنتفحص معاً المثال الآتي: لنفترض أن انفجاراً قد وقع تحت سطح الأرض، وكان من نتيجته أن ظهر إلى الوجود قصر من أفخم ما يكون و بجميع غرفه وأثاثه و نوافذه و أبهته. هل يمكن لنا أن نقول بأن المصادفة كانت سبباً في ظهور هذا القصر؟ هل يمكن لهذا الحدث أن يقع من تلقاء نفسه؟ بالطبع لا.
أما ولادة الكون نتيجة الانفجار العظيم فلا يمكن مقارنته بالمثال السابق لكونه ظهوراً خارقاً و رائعاً بكل المقاييس. فالدقة المتناهية موجودة في كل صغيرة وكبيرة من هذا الكون، ويحكمه نظام خارق أيضاً.(1/14)
فإذن: إنّ التشبث بالادعاء القائل بأن “الكون ظهر من تلقاء نفسه” يُعَدُّ أمراً لا منطقياً، وإنّ هذا الحدث يثبت لنا وجود خالق للمادة من العدم، وإن هذا الخالق يسيطر على هذه المادة كل لحظة و يمنحها مميزاتها، وإنّ هذا الخالق لابد أن يكون ذا قوة وعلم لا حد لهما. إن هذا الخالق القويّ هو الله البارئ المصور جل جلاله.
مفهوم الاتساع في الفضاء
توجد أنظمة تتحكم في الكون لا يمكن عدها، ونحن في أدق تفاصيل حياتنا، عندما نقرأ كتاباً أو نمشي أو ننام، نكون تحت مراقبة الله عز وجل و دون أن نشعر بهذه المراقبة. ولقد خلق الله عز وجل الأنظمة التي تحكم الكون بهذه التفاصيل الرائعة كي يستطيع الإنسان من خلالها أن يستوعب عظمة قدرته. وكلام الله عز وجل في القرآن الكريم موجه لبني الإنسان مبيناً سبب خلق هذه الأنظمة الكونية، فقد ورد في سورة الطلاق ما يلي : { اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَ مِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً }الطلاق: ،12 و يحتوي الكون على أنظمة خارقة ورائعة وبديعة يعجز عقل الإنسان عن استيعابها.
وعلى سبيل المثال، كلنا يعلم مدى اتساع الكون وكبره، ولكن لو بدأنا بالتفكير حول حدود كبر الكون لبدت أمامنا مفاهيم لا يمكن أن نتخيلها، فقطر الشمس أكبر بـ 103 مرة من قطر الأرض، ولنبسّط هذا المثال بأن نفترض أن الأرض بحجم الدّعبل (الكرة الزجاجية الصغيرة التي يلعب بها الاطفال) عندئذ تكون الشمس بحجم كرة القدم.(1/15)
والمثير هنا هو المسافة الفاصلة بين الأرض والشمس، فلو رجعنا إلى المثال المبسط تكون الكرة الزّجاجية على بعد 280 متراً من كرة القدم اعتماداً على المقاييس الحقيقية ونسبة تصغيرها. أما الكواكب السّيارة الخارجية الموجودة في مجموعتنا الشمسية فتكون عندئذ على مسافة كيلومترات عديدة.
ومن خلال هذا المثال نستطيع أن نتخيل حجم مجموعتنا الشمسية الهائل. ولكن لو قارنا حجمها بحجم مجرة درب التبانة التي هي جزء منها، فالنتيجة تكون هائلة جداً؛ لأن هذه المجرة تحوي نجوماً غير شمسنا وأغلبها أكبر حجماً، ويربو عددها على 250 مليار نجمة.
و تستقر شمسنا على أحد أذرع مجرة درب التبانة ذات الشكل الحلزوني، والمحيّر هنا أنّ مجرتنا تغدو صغيرة جداً لو قارناها بالفضاء الشاسع المترامي الأطراف؛ لأن الفضاء يحتوي على مجرات أخرى يقدر العلماء عددها بـ 300 مليار مجرة.
إن هذه الأمثلة التي أوردناها عن حجم الأجرام السماوية وطريقة توزيعها في الكون والعظمة التي هي عليها تعكس لنا قدرة الله التي لا حد لها، وأنّه لا شريك له في هذه القدرة، وأنّ الله ذو القوة المتين سبحانه و تعالى.
ويدعونا القرآن الكريم إلى التفكّر و التأمل في ملكوت الله: { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقَاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ? رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} النازعات: 27 - .28
النظام المتقن في المجموعة الشمسية(1/16)
عندما تخرج من البيت أو من المكان الذي توجد فيه تجد أشعة الشمس تغمر المكان، ولكن دون أن تسبّب أيّ أذى، ونحن مدينون في هذا للنظام المتقن في المجموعة الشمسية. وفي الحقيقة إنّ هذه الشمس التي يصلنا منها ضوء ينير حياتنا و يدفئنا بلطف هي عبارة عن بئر سحيقة تملؤها سحب غازية حمراء االلون. وتتكون الشمس من ألسنة اللهب التي تكون على شكل خراطيم عملاقة قادمة من أعماق سحيقة مندفعة نحو الخارج بملايين الكيلومترات. لا شك في أن هذه الخراطيم النارية العملاقة خطيرة على حياة الإنسان، و لكن جميع أنواع الأشعة الخطيرة القادمة من الشمس يتم امتصاصها من قبل الغلاف الجوي للأرض ومجالها المغناطيسي قبل أن تصل إلينا، وهذا هو النظام المتقن لمجموعتنا الشمسية.
و لو تأمّلنا في بناء مجموعتنا الشمسية لوجدنا أن هناك توازناً دقيقاً و متقناً للغاية، فالذي يحفظ الكواكب من ابتعادها عن الشمس، وبالتالي اندفاعها نحو الفضاء الخارجي الذي يتميز بالبرد القارس، هو التوازن الموجود بين قوة جذب الشمس والقوة الطاردة المركزية للكواكب، فالشّمس تملك قوة جذب هائلة تجذب بواسطتها الكواكب نحوها، والكواكب تستطيع أن تقلل أو تتخلص إلى حد ما من هذه الجاذبية بواسطة قوتها الطاردة المركزية المتولدة عن حركتها المدارية، ولو كانت سرعة دوران الكواكب أقل مما هي عليه لانجذبت نحو الشمس لتبتلع من قبلها مصحوبة بانفجار كبير، ولو افترضنا العكس أي لو كانت أسرع دوراناً لما كانت قوة جذب الشمس كافية لإبقائها ضمن المجموعة، وبالتالي تندفع هذه الكواكب نحو الفضاء الخارجي. بيد أنّ أياً من الافتراضَين لن يحدث أبداً. والمجموعة الشمسية تستمر في الوجود بفضل هذا التوازن الدقيق جداً.(1/17)
إن هذه الظواهر تُعَدُّ دليلاً على وجود مثل هذا التوازن الخارق في المجموعة الشمسية، وهذه الظواهر تقود إلى حقيقة عظيمة؛ و هي أنّ هذا التوازن الذي يحفظ بنيان المجموعة الشمسية بشمسها و كواكبها، لم يتكوّن من تلقاء نفسه.
إن هذه حقيقة واضحة لكل ذي عقل وتفكير. فالواضح أمامنا أن هذا التوازن قد تم حسابه بدقة متناهية جداً، ويُعَدُّ هذا التوازن آية من آيات الله عز وجل وقدرته التي لا حدّ لها في الخلق و التصوير.
إن العلماء الفلكيين اكتشفوا هذا التوازن الدقيق في المجموعة الشمسية، و قد أوضح كبلر وغاليلو أن هذا التصميم المعجز والخارق ليس إلا دليلاً على قدرة الله تعالى في الخلق و تصرّفه في ملكوته كما يشاء، فهو الله الذي يخلق كلّ شيء بعلمه الذي وسع كل شيء، وهو القوي العزيز جلَّ جلاله.
الأرض: كوكب لا نظير له
فكر قليلاً عزيزي القارئ فيما هو ضروري و أساسي لحياة الإنسان، ويمكن أن نحصي العديد من هذه الضروريات كالأكسجين والماء والشّمس والغلاف الجوي والحيوانات ...، وضروريات أخرى قد لا تتذكرونها الآن ولكنها موجودة كلها بصورة طبيعية في هذا الكوكب. وهذه العوامل الضرورية تمر بأذهاننا في حالة ما إذا فكرنا تفكيراً سطحياً، و لكننا لو تعمقنا في التفكير لوجدنا أنّ هذه العوامل مرتبطة بعضها مع بعض ارتباطاً وثيقاً وفق موازين دقيقة. وإن هذه العوامل الحياتية الموجودة في هذا الكوكب كالكائنات الحيوانية والنباتات والسماء والبحار مخلوقة و مسخرة لحياة الإنسان على أحسن صورة.
إن كوكبنا كوكب الأرض جزء من المجموعة الشمسية، وإلى جانب كوكبنا توجد كواكب سيارة أخرى، ولكن كوكبنا يُعَدُّ الوحيد من بينها من ناحية ملاءمته للحياة، فهو يتميز بميزات معينة جعلته يقوم بهذه الوظيفة، مثل مقدار بعده عن الشمس وسرعة دورانه حول محوره، وميل هذا المحور، وتضاريسه الأرضية.(1/18)
إنّ هذه العوامل مستقلة بعضها عن بعض، ولكنها جميعاً تساهم في جعل درجة حرارته ملائمة لنشوء الحياة عليه، فضلاً عن أن هذه الحرارة تحافظ على توازن دائم. وبالإضافة إلى هذه العوامل هناك عامل تركيب الغلاف الجوي، وكتلة الأرض التي هي بالمقدار الملائم تماماً للحياة. فإذن: الضّوء القادم إلينا من الشّمس و الماء الذي نشربه والأطعمة التي نتناولها، كل هذه المقوّمات ملائمة تماماً لحياة الإنسان.
وبإيجاز: فإن جميع الأبحاث التي تجرى بشأن كوكب الأرض تثبت لنا أن هذا الكوكب قد صمم خصوصاً ليلائم حياة الإنسان. ويُعَدُّ كوكب المريخ من أكثر الكواكب شبهاً بالأرض، ولكنّه جافّ وميّت، ولا يمكن إجراء مقارنة بينه وبين الأرض.
ولمعرفة أهمية الظروف الموجودة في كوكبنا من ناحية ملاءمتها لعيش الإنسان يجب إلقاء نظرة ولو سريعة على خصائص باقي الكواكب السيارة في مجموعتنا الشمسية. ولنأخذ كمثال المريخ الذي تحدثت عنه كثيراً وسائل الإعلام وعن خصائصه الشبيهة بالأرض.
فالغلاف الجوي لهذا الكوكب خليط فيه نسبة عالية من غاز ثاني أكسيد الكربون السام، ولا يوجد على سطحه ماء إطلاقاً. ويرى في الصّورة الجانبية كوكب المريخ وقد ظهرت على سطحه الفوهات البركانية العملاقة التي تشكلت نتيجة اصطدام النيازك الكبيرة جداً.
ويتميز هذا الكوكب بهبوب رياح عاتية وعواصف رملية تستمر شهوراً عديدة. و درجة حرارة المريخ (53-) . وكوكب هذه ظروفه، لا يمكن أن يكون ملائماً لنشوء الحياة عليه. وبعد هذه المقارنة البسيطة تتضح لنا أهمية الظروف التي تميز الكوكب الذي نعيش عليه .(1/19)
إنّه الله الخلاق العليم الذي خلق الكون و النجوم و الكواكب و الجبال و البحار و كل شيء بهذا الإبداع المعجز، وهو الذي منح الحياة للكائنات، وخلق كل شيء من العدم لأنّه ذو القوة المتين. وهو الذي سخر الكائنات لخدمة الإنسان بعلمه و حكمته، فعلى الإنسان المدرك لهذه الحقائق أن يعمل على كسب مرضاة الله عز و جل، وتقدير نعمه حق قدرها، قال تعالى:
{ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } النحل: 17-18 .
التّصميم الخاص لبناء الغلاف الجوّي
ربما كان التنفس لبعض الناس هو أخذ الشهيق و إطلاق الزفير فحسب، ولكنّ الحقيقة أن هذه العملية مصممة حسب نظام خارق رائع جداً، فالتنفس لا يتطلب من الإنسان بذل أي جهد يذكر، وأغلب الناس بل ربما جميعهم لا يلقون بالاً لهذا الموضوع. فالإنسان يبدأ بالتنفس من لحظة ولادته حتى مماته؛ لأن الظروف الخارجية أو الداخلية (داخل جسم الإنسان) جعلت لكي يتنفس الإنسان بأسهل صورة ممكنة.
وقبل كل شيء نودّ أن نوضح أنّ الغلاف الجوي يحتوي على نسب معينة من الغازات متوازنة فيما بينها، ويجب أن يستمر هذا التوازن حتى تتم عملية التنفس لدى الإنسان بشكل طبيعي، وأيّ تغيير مهما كان طفيفاً في هذا التوازن يؤدّي إلى نتائج خطيرة على حياة الإنسان وربما أدى إلى الموت. ولكن هذه التغييرات لا تحدث في العادة؛ لأنّ الغلاف الجوي مصمّم وفق بناء خاص جداً وملائم للحياة، وهو خليط خارق يؤدّي مهمّته على أكمل وجه.(1/20)
فالغلاف الجوي للأرض يتألف من 77 % نيتروجين و 21 % أكسجين و 1 % ثاني أكسيد الكربون و غاز الأركون و غازات أخرى. ولنبدأ بالحديث عن أهم هذه الغازات وهو الأكسجين، فهذا الغاز مهم جداً؛ لأنّ الكائنات الحية تستخدمه في إنتاج الطاقة داخل أجسامها، ولهذا فهي في حاجة ماسّة إليه، و تتنفس للحصول عليه. أما نسبة الأكسجين الذي نتنفسه فهي ثابتة اعتماداً على موازين دقيقة للغاية.
ويتمّ تحقيق ثبات نسبة الأكسجين في الغلاف الجوي من خلال دورة كاملة في الطبيعة. فالإنسان والحيوانات في حالة استهلاك دائم لهذا الغاز، وفي حالة إنتاج دائم لغاز ثاني أكسيد الكربون الذي يُعَدُّ ساماً بالنسبة إليها.
أما النباتات فعلى العكس من ذلك، تقوم باستهلاك ثاني أكسيد الكربون، وبذلك تلعب دوراً خطيراً في استمرار الحياة. وتنتج النباتات مليارات الأطنان من غاز الأكسجين يومياً، ثم يطرح إلى الغلاف الجوي.
و لو كان الإنسان والنباتات والحيوانات يقومون بالفعاليات الحيوية نفسها لانعدمت الحياة على هذا الكوكب. ولنفترض أن النباتات والحيوانات تقوم بإنتاج الأكسجين، ففي هذه الحالة يكون الغلاف الجوي قابلاً للاشتعال في كل لحظة وبسرعة كبيرة، فشرارة صغيرة تكفي لاشتعال حرائق هائلة. و في النهاية سيتحول هذا الكوكب إلى شعلة من النار مصحوبة بانفجار هائل.
ولو افترضنا العكس، أي أن تنتج النباتات والحيوانات غاز ثاني أكسيد الكربون ففي تلك الحالة تقل نسبة الأكسجين في الغلاف الجوي بسرعة كبيرة، وتصاب جميع الكائنات بالاختناق لصعوبة التنفس و بالتالي ينتج عن ذلك الموت المحتم.
كل هذه الأدلة تشير إلى أنّ الغلاف الجوّي مخلوق من قبل الله سبحانه وتعالى وبصورة تجعله ملائماً لحياة الإنسان، أي إنّ الكون لم يوجد اعتباطاً، فكل شيء فيه خلق بإتقان و دقة بقدرة الله تعالى التي لا حد لها.
الجبال و دورها في توطيد القشرة الأرضية(1/21)
إنّ الأرض التي نمشي عليها أو التي نبني عليها مساكننا هي في الحقيقة طبقة رقيقة نسبياً من الأرض تدعى بـ”القشرة”، وهذه القشرة تسبح فوق طبقة أسمها ((الصهارة أو الماغما))ولو لم تكن هناك ضوابط مهمتها السّيطرة على جميع أنواع الحركة على هذه القشرة .
وتُعَدُّ الجبال من بين هذه الضّوابط، فلولا الجبال لحدثت هزات و زلازل بشكل دائم على الأرض، وبالتّالي تكون غير ملائمة أبداً للحياة. فالجبال و امتداداتها في عمق الأرض السحيق تمتصّ إلى حدّ كبير الاهتزازات الحاصلة على سطحها.
و نشأت الجبال بفعل تحرّك الطبقات الكبيرة المؤلفة لقشرة الأرض واصطدامها بعضها مع بعض، وإذا اصطدمت طبقتان من هذه الطبقات تكون الطبقة الأكثر متانة تحت الطبقة الأقل متانة، ويحدث في الطّبقة الفوقيّة تحدّب و بذلك تنشأ الجبال. أما الطبقة السفلية فتتوجه نحو عمق سحيق وتمتدّ استطالاتها نحو العمق، أي إن الجبال التي نراها شاهقة الارتفاع لها من الاستطالات الجذرية ما يعادل جزأها الظاهر فوق الأرض، وهذا يعني أن الجبال مغروزة غرزاً في قشرة الأرض وباتجاه العمق.
والجبال بهذه الخصائص تُعَدُّ مناطق التحام بين الطبقات السّطحية للأرض، وبهذا الشكل تكون الجبال عاملاً يشدّ من بنيان القشرة الأرضية ويمنعها من الانزلاق فوق طبقة الـ “الماغما”. و يمكن لنا أن نشبّه الجبال بالمسامير التي تربط قطع الخشب بعضها مع بعض. والجبال بهذه الخاصية، تستطيع أن تثبت حركة القشرة الأرضية و تمتص جميع الاهتزازات التي تحدث فيها.
وهذه الجبال التي تبدو لنا عملاقة في حجمها و شكلها لها أهمية كبيرة من ناحية الحفاظ على الموازين الأخرى في الطبيعة وخصوصاً في التوازن الحراري للأرض. فالحرارة تتوزع بصورة متوازنة نتيجة وجود الجبال كعامل مؤثر في هذا التوازن.(1/22)
هناك فارق حراري بين خط الاستواء و القطبين يصل مداه إلى 100 درجة مئوية، و لو وجد مثل هذا الفارق الحراري على سطح قليل الانحناءات لحدثت رياح رهيبة تصل سرعتها إلى 1000كم/سا و أحالت الدنيا إلى جحيم لا يطاق، ولكن هناك موانع انحنائية تهدئ من سرعة الرياح المتولدة من هذا الفارق الحراري.
إن هذه الموانع الانحنائية تتمثل في السّلاسل الجبلية التي تبدأ في الصين، وتدعى بسلسلة جبال الهمالايا، وتمتد إلى الأناضول و تدعى بسلسلة جبال طوروس، وتستمر إلى أوربا، وتدعى بسلسلة جبال الألب وحتى المحيط الأطلسي غرباً والمحيط الهادي شرقاً.
فالجبال تُعَدُّ آية من آيات الله الكثيرة الموجودة في كل مكان. فالأرض قد خلقها الله بهذه الآيات البينات كي تكون ملائمة لحياة الإنسان. وعلى الإنسان الذي يشاهد هذه الآيات كل يوم ويتأمل فيها أن يظهر العبودية والطاعة لله رب العالمين. فالإنسان محتاج إلى رحمة الله ونعمه في كل لحظة، أما الله سبحانه و تعالى فغني عن العالمين.
المحيطات و دورها في إحداث التوازن
إنّ الإنسان اعتاد على وجود الماء، واعتاد على أن يكون الماء هو الحياة بالنسبة إليه، فالأمطار والبحار والأنهار والشّلالات وحتّى الماء الذي نراه متدفقاً من الحنفيات والصّنابير المستخدمة في المنازل كلها شيء عادي بالنسبة إلى الإنسان، ولا يكلّف نفسه التفكير في أهميّة الماء الذي يشكل جزءاً كبيراً من كوكبنا. فالماء وخصوصاً ما يشرب منه له أهمية قصوى في حياتنا.(1/23)
إنّ الماء الذي يُعَدُّ أساساً للحياة ينعدم وجوده في ثلاثة وستّين جرماً سماوياً موجوداً في مجموعتنا الشمسية، أما الأرض فثلاثة أرباعها تتألف من الماء. فالأرض تحتوي على مسطحات مائية كبيرة جداً مثل المحيطات، إضافة إلى الأنهار والبحيرات باختلاف خصائصها. وهذه المياه الموجودة ليست كلها عذبة صالحة للشرب، وليست جميعها أيضاً مالحة لا تصلح للشّرب، ولكن ثمّة توازن مائي دقيق يمكّن الكائنات الحيّة جميعها من شرب الماء و المحافظة على حياتها ووجودها.
فالكائنات الحية بمختلف أنواعها التي يربو عددها على الملايين تتواصل في الحياة بفضل وجود الماء. والماء مهمّ أيضاً في استمرار التوازنات المختلفة في كوكبنا، وعلى سبيل المثال: تتشكل السّحب والغيوم نتيجة التبخّر الحاصل من المسطّحات المائية الكبيرة، ويمتاز الماء بحرارة نوعية عالية، أي: يستطيع أن يمتص كمية كبيرة من الحرارة و يحتفظ بها. وبهذا الشّكل تلعب المسطّحات المائية الكبيرة دوراً فعّالاً في الحفاظ على التّوازن الحراري للأرض، ولهذا السبب فإنّ المناطق الساحلية تمتاز بفارق حراري ضئيل بين الليل و النهار، وبذلك تصبح هذه المناطق ملائمة لحياة الإنسان.
إنّ هذه المحيطات التي صوّرت من فوق، وتبدو صورتها إلى أعلى اليمين لها أهمية كبيرة جداً في حياة الإنسان؛ لأنّ هذه المحيطات تعكس أشعة الشمس أقل مما تعكسها اليابسة، وهكذا تكتسب طاقة شمسية أكبر مما تكتسبه اليابسة. ولكنّ هذه الطاقة الحرارية تتميز بتوزعها بشكل متوازن أفضل من توزعها على اليابسة. وهذا التوازن الحراري للمحيطات يؤدي إلى الحد من الحرارة الشديدة في المناطق الاستوائية، والحد كذلك من البرودة الشديدة في المياه القطبية والحيلولة دون تجمدها بشكل كامل، إضافة إلى أن هذه المحيطات تعد بمثابة مخازن كيميائية ضخمة لغاز ثاني أكسيد الكربون.(1/24)
إن شفافية الماء تساعد الطحالب الموجودة في المحيطات على القيام بعملية التركيب الضوئي، كذلك يمتاز الماء بالتمدد عند التجمّد، وهو بذلك يُعَدُّ واحداً من المواد القليلة التي تسلك هذا السلوك الغريب. وبفضل هذه الخاصية تتجمّد المحيطات أو البحيرات “أو أي مسطح مائي آخر” من فوق إلى تحت.
وبعد هذا الاستعراض الموجز لبعض الصفات الكيميائية و الفيزيائية للماء، يتضح لنا أنّ الماء مخلوق، وبهذه الخصائص بالذّات كي يكون ملائماً لحياة الإنسان، وليس مصادفة أن يحتوي كوكبنا على الماء، وعلى هذه المسطحات المائية دون باقي الكواكب الأخرى. فكوكب الأرض الذي خلق بالخصائص التي تلائم نمط حياة الإنسان يحتوي على الماء الذي خلق بدوره أيضاً بالخصائص الملائمة لحياة هذا الإنسان. والله تعالى هو الذي خلق الماء كما خلق باقي نعمه التي أنعم بها على الإنسان، فتبارك الله أحسن الخالقين.
{ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُم مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} النحل: 10 .
الانسجام بين الماء و النباتات
إنّ النباتات جميعها سواء أكانت أعشاباً أم حشائش أم أشجاراً ضخمة أم أنواعاً أخرى تستطيع أن توصل الماء والمواد المعدنية التي تمتصها من التربة إلى أجزائها كافة من أغصان وأوراق و سيقان، إلاّ أنّ الماء لا يتم نقله إلى أجزاء النبتة جميعها بواسطة الأعضاء الناقلة فقط، بل يجب أن يكون الماء ذا خواص تتلاءم مع طبيعة هذه الأعضاء الناقلة.
فلنتفحص تركيب الماء كي نفهم طبيعة هذا التلاؤم.(1/25)
إن الماء مادة مخلوقة ومصمّمة خصوصاً كي تلبي احتياجات الكائنات الحية وتسمح لها بالاستمرار في الحياة. ومن الخصائص المهمة للماء هي خاصية الشد السطحي، وتتكون هذه الخاصية نتيجة تجاذب الجزيئات المؤلفة للسّائل، وبفضل هذه الخاصية نستطيع أن نلاحظ أنّ أيّ وعاء يمكن أن يسع كمية من الماء أكبر قليلاً من سعته الحقيقية، أو أن نرى إبرة معدنية تطفو على سطح الماء عند وضعها بتأن أفقياً على الماء.
إن خاصية الشدّ السطحي للماء أكبر من الشد السطحي لأغلب السوائل، ولهذه الميزة تأثيرات على الظواهر الحياتية، وفي مقدمتها تأتي التأثيرات التي تحدث في أجسام النباتات.
فالنباتات تستطيع بواسطة هذه الخاصية المتميزة للماء أن تقوم بضخه من أعمق نقطة تحت سطح التربة إلى أعلى نقطة فوقه و دون الحاجة إلى جهاز للضخ أو عضلات قوية. ومن جانب آخر نجد أنّ العمارات و الأبنية العالية تحتوي على نظام لضخ الماء إلى الطوابق العليا يتميز بدرجة كبيرة من التعقيد، ولكنّ النباتات لا تحتاج إلى مثل هذا النظام المعقد، فالماء يصل إلى أنحاء النبات كافة بواسطة خاصية الشدّ السطحي.
فالقنوات الناقلة الموجودة في جذر النبات وأوعيته الناقلة مصممة كي تستفيد من هذه الخاصية، فهي تزداد ضيقاً كلما اتجهت نحو الأعلى، وهذا الضيق المتدرج يساعد الماء على التسلق نحو الأعلى. ولو كان الشد السطحي للماء قليلاً كباقي أغلب السوائل لما استطاعت النباتات البرية العيش على الإطلاق، وهذا يعني تأثر شبكة الحياة تأثراً بالغاً. ولكنّ هذا التأثير لا وجود له بفضل الانسجام التام الموجود بين الماء والنباتات.(1/26)
إنّ هذا التلاؤم والانسجام البديع الموجود بين الشد السطحي للماء و تركيب النباتات يعكس بصورة واضحة الإعجاز الإلهي في الخلق. وكل هذه الدلائل تعكس لنا أنّ الطبيعة والكائنات الحية لا يمكن أن تكون قد ظهرت بمحض المصادفة، بل يتبين لنا أنها مخلوقة من قبل الله خالق السموات و الأرض و ما بينهما.
التصميم المعجز لبلورات الثلج
عندما يتفحص المرء بلورات الثلج يرى أشكالاً متعددة ومختلفة فيما بينها. ويعتقد الباحثون أنّ متراً مكعباً من الثلج يحتوي على 350 مليون بلورة، وهذه البلورات جميعها تتّخذ شكل مضلّع سداسي، بيد أنّ هذه المضلّعات السّداسية تختلف فيما بينها من ناحية الشكل الذي تتّخذه. ولكن كيف ظهرت هذه الأشكال؟ كيف اختلفت فيما بينها؟ كيف حدث هذا التناسق فيما بينها؟ ما زالت الأبحاث جارية من قبل العلماء للتوصل إلى أجوبة عن هذه الأسئلة.
وكل شيء جديد يكتشف يضاف إلى رصيد الإعجاز الموجود في تصميم هذه البلورات الثلجية. إن الشكل المضلع السداسي للبلورة الثلجية، والتي لها أنواع مختلفة من ناحية التناسق والتماثل فيما بينها، يُعَدُّ دليلاً على الإبداع الإلهي في الخلق، ولا شكّ فهو البديع (أي الخالق دون وجود أنموذج سابق لخلقه) جل جلاله، وهو الله الذي يخلق الأشياء في أحسن صورة. وعندما نتفحص البلورة الثلجية سنجد أمامنا جانباً آخر من الإعجاز الإلهي.(1/27)
إنّ هذه البلورات الثلجية التي تتجمع لتأخذ أشكالاً عديدة مثل الصّحون الصغيرة والكبيرة، أو الشكل النجمي أو حتى الشكل الدقيق جداً الذي يشبه رأس إبرة تحقق هذا الاختلاف في التشكل بوسيلة مثيرة للحيرة في العقول1 . ولا شك في أن هذا التركيب البلوري لحبات الثلج قد جلب انتباه الباحثين منذ سنوات عديدة. فقد أجريت الأبحاث ومازالت مستمرة منذ سنة 1945 لاكتشاف العوامل التي تشكل هذه البلورات بهذه الأشكال المختلفة. فحبّة الثلج تتألف من أكثر من مئتي بلورة ثلجية، والبلورات الثلجية هي عبارة عن مجموعة من جزيئات من الماء مرتبة ومنظمة بتناسق باهر فيما بينها. وتوصف هذه البلورات الثلجية بأنها بناء معماري بارع جداً، وهي تتشكل عندما يمر بخار الماء خلال السّحاب متعرضاً للبرودة، ويحدث هذا الأمر كالآتي:
يحتوي بخار الماء على جزيئات الماء التي تكون منتشرة بصورة عشوائية، وعندما تمر بين السحاب تتعرض للبرودة وبالتالي يقل نشاطها. وهذه الجزيئات التي أصبحت حركتها بطيئة تميل إلى التجمع فيما بينها ثمّ تتحول إلى جسم صلب. ولكن هذا التجمع لا يكون عشوائياً أبداً، بل على العكس إنه دائماً يكون باتحاد جزيئات الماء لتكوين مضلّعات سداسية مجهريّة منتظمة الشكل.
وكل قطعة ثلج تتكون في مرحلة أولى من مضلّع سداسي ويتبلور من جزيئات الماء، ومن ثمّ تأتي باقي المضلعات السداسية المتبلورة لتلتحم بالبلورة الأولى. والعامل الرئيسي في طريقة تشكيل هذه البلورة الثلجية- وكما شرح ذلك العلماء- هو الالتصاق المتسلسل لهذه المضلعات السداسية بعضها ببعض تماماً مثلما تتّحد حلقات السلسلة الواحدة.(1/28)
والمفترض في هذه البلّورات هو أن تتخذ الشكل نفسه مهما اختلفت الحرارة والرطوبة، ولكنّ الذي يحصل هو أن شكلها يختلف باختلافهما. لماذا توجد هذه البلورات المتناسقة ذات الشكل المضلع السداسي في كل قطعة ثلج؟ ولماذا تأخذ شكلاً مختلفاً إحداها عن الأخرى؟ لماذا تكون حوافّ هذه الأشكال ذات زوايا بدلاً من أن تكون مستقيمة؟ ولا زال العلماء مستمرين في أبحاثهم سعياً وراء العثور عن الأجوبة . 2
ولكن الحقيقة الواضحة أن الله فاطر السموات والأرض هو الذي خلق كل شيء و سَوَّاه. لا شريك له وهو الأحد الصمد.
التصميم الخارق في الفواكه والخضر
تتميز الخضر و الفواكه بالتنوع المذهل على الرغم من كونها تزرع في التربة نفسها وتسقى من ماء واحد. ولو فكرنا في الاختلاف الموجود في الخضر والفواكه من ناحية المذاق و اللون و الرائحة، لتبادر إلى أذهاننا السؤال التالي: كيف يحدث هذا التمايز المذهل بالصفات المذكورة؟ إنّ هذه الفواكه والخَضْراوات تمتص الماء و المواد المعدنية نفسها، وتزرع في التربة نفسها و مع ذلك فهي تحافظ على صفاتها التي وجدت بها أوّل مرة على وجه البسيطة. ولكنّ هذه النباتات مثل العنب والبطيخ والشمّام والكيوي والأناناس و غيرها لم تكتسب هذه الصفات بمحض إرادتها، و إنّما منحت هذه الصفات من قبل الله عز و جل الذي خلقها بقدرته وعلمه.(1/29)
إن النباتات تُعَدُّ مصدراً للطاقة والغذاء بالنسبة إلى الإنسان والحيوانات؛ لأنّ هذه النباتات تحتوي في تركيبها على مواد غذائية حيوية، أي إنّ هذه النباتات قد خلقت كي تعود بالفائدة على الكائنات الحية الأخرى، فهي إذن نعمة من النعم. وأكثر هذه النعم وجدت لكي يستفيد منها الإنسان بوجه خاص. ولنفكر قليلاً فيما نتناوله من مأكولات أو في البيئة التي نعيش فيها، ولنأخذ شجرة العنب مثالاً على ذلك. فهذه الشجرة عبارة عن ساق تبدو يابسة وخشنة، ولها جذر يبدو وكأنه يابس أيضاً، ولكنّ هذه الشجرة تدر على الإنسان كيلوغرامات عديدة من ثمر العنب الغضّ الطازج المليء بالعصارة اللذيذة والنكهة المميزة.
وكذلك البطيخ الذي يزرع في تربة يابسة، و لكنّه يدرّ ثمراً مليئاً بالماء في موسم الصّيف بالذات كي يلبي احتياجات الإنسان من السوائل، وشبيهه الشمام الذي ينشر رائحة جذابة تحرك حواس التذوق لدى الإنسان، و تظل هذه الرائحة لمدّة طويلة دون تغير.
إنّ الإنسان يعمل جاهداً لكي يصنع روائح في المعامل تستخدم في شتى المجالات، ولكنّ هذه الروائح الصناعية تحتاج إلى بحوث و إجراءات تقنية عديدة حتى تتمكن من البقاء زمناً أطول. أما الروائح الطبيعية الموجودة في الفواكه، فلا تحتاج إلى جهود وأبحاث، وإنما تنتج بصورة طبيعية، ويبقى تأثيرها لفترة طويلة. وهناك ميزة أخرى للفواكه تتمثل في مكوّناتها التي تتلاءم مع الموسم الذي تكثر فيه.
بعد هذا الاستعراض السّريع لمزايا الفواكه يتبين لنا أنّ النباتات مصممة بهذه الصفات كي تلبي احتياجات الإنسان والحيوانات، وهذا يعني أنها قد خلقت من لدن العليم الحكيم، إنّ الله رب العالمين هو الذي خلق هذه النباتات ومنحها الألوان والروائح والطعم المختلف حتّى تلبي حاجات الكائنات الحية، وهذا التنوع يعكس العظمة الإلهية في الخلق و الإبداع والتّصوير.(1/30)
{ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفَاً أَلْوَانُهُ إنَّ في ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} النحل: 13 .
التصميم المعجز للأوراق النباتية: المسامات (العديسات)
إنّ الورقة النباتية تبدو لأول وهلة قطعة خضراء ولا تحتوي على تفاصيل تلفت الانتباه، ولكن هذا الجسم الأخضر اللون يحتوي على تفاصيل مدهشة في كلّ مليمتر مربّع منه. وتُعَدُّ المسامات من أهم التفاصيل الموجودة في الورقة النباتية، وتُعَدُّ غاية في الأهمية بالنسبة إلى النّبات.
إن وظيفة هذه المسامات تتمثل في السّماح لبخار الماء بالخروج، وبالتّالي تنظيم درجة حرارة النبات، وكذلك السّماح بدخول ثاني أكسيد الكربون اللازم لإجراء عملية التركيب الضوئي. وتتميز هذه المسامات بكونها ذات قابلية للانفتاح والانغلاق حسب الحاجة.
ومن الخصائص المثيرة للمسامات أنها توجد أغلب الأحيان في السّطح السفلي للورقة النباتية، وهذه الميزة تقلل من تأثير أشعة الشمس السلبي على الورقة، إذ لو كانت هذه المسامات موجودة على السّطح العلوي للورقة النباتية وبقيت معرّضة لأشعة الشّمس المباشرة لفترة طويلة، فإنّ المسامات تعمل في هذه الحالة وبشكل مستمر على طرح الماء في بنيتها للحفاظ على النبتة من تأثير الشمس، ولكنّ هذا الطرح المستمر للماء يؤدي إلى هلاك النبتة نتيجة التيبس.
إنّ هذه الميزة الخارقة للمسامات قد وهبت من قبل الله الخالق القدير كي تحول دون تيبس النباتات وكي تنظم درجة حرارتها. إن المسامات توجد في طبقة البشرة للورقة النباتية. ووجودها يكون على شكل ثقوب مزدوجة تشبه في شكلها حبة الفاصوليا، أي إنّها تكون ذات شكل مقعّر نحو الدّاخل، وهذا الشّكل ينظّم عملية التبادل الغازي بين الورقة والمحيط الخارجي.(1/31)
إن فتحة المسامة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالظّروف الداخلية للنبات (كمية الماء الموجود) و الظروف الخارجية (درجة الحرارة، الرطوبة ، الضوء، نسبة ثاني أكسيد الكربون)، ومقدار توسع أو تقلص هذه الفتحة هو الذي ينظم عملية دخول الماء و الغازات وخروجهما. إن هذه المسامات ذات تراكيب خاصة جداً صممت كي تتلاءم مع ظروف النبات الخارجية. والمعلوم أنّ هذه الظروف الخارجية تتغير باستمرار، مثل الرّطوبة و درجة الحرارة و نسبة الغازات وحتى نسبة التلوث في الهواء، ولكنّ هذه المسامات تستطيع أن تتكيف مع كل هذه التغييرات مهما طالت مدّتها.
إنّ هذا النظام الخارق في الورقة النباتية لا يمكن أن يؤدي وظائفه بالشكل الصحيح إلا إذا كانت باقي أجهزة النبات تؤدي وظائفها بالشكل الصحيح و المتكامل. و بهذا نستنتج أنّ ظهور المسامات النباتية لا يمكن أن يكون بمحض المصادفة أبداً، ذلك أنّها ذات تراكيب دقيقة جداً ومصممة بالشّكل الذي يجعلها تؤدي وظائفها بأحسن صورة ممكنة، و هذا التصميم الخارق دليل على أنّها مخلوقة بقدرة الله تعالى التي لا حدود لها.
بذور نبات جوز الهند
تتميز بعض النباتات بكون بذورها تنتشر بواسطة الماء، وهذه البذور لها من الخصائص ما يميزها عن غيرها من البذور، وعلى سبيل المثال: فهذه البذور لها بنية خاصة تقلل من وزنها و تزيد من مساحتها السطحية كي تستطيع استخدام الماء كوسيلة للانتشار، بالإضافة إلى أنّ النسيج الخارجي للبذرة السابحة يتميز بأشكال متعددة كأن تكون خلاياه مليئة بالهواء و تتخذ شكلاً إسفنجياً، أو أن تنعدم المسافات البينية بين الخلايا، وبذلك يبقى الهواء محصوراً في الداخل، و تستطيع البذرة بهذا الشكل أن تظل سابحة في الماء، أو أن تكون خلايا النسيج الخارجي للبذرة ذات تركيب خاص يمنع دخول الماء. وهناك أيضاً طبقة داخلية في بذور هذه النباتات وظيفتها حماية الجنين الذي يحمل الصفات الوراثية للنبتة الأم .3(1/32)
تستطيع بعض البذور التي تنتشر بالماء أن تظل فيه ثمانين يوماً تقريباً، دون أن تصاب بالتعفن أو تعلو سطحها الطحالب الخضراء، وهذا يعود إلى تركيبها المقاوم إلى درجة كبيرة. ومن أشهر هذه البذور بذرة نبات جوز الهند. وتتميز هذه البذرة بقشرة صلبة تمنع الأخطار خلال فترة الانتشار، وتحتوي البذرة في داخلها على محلول من الماء والمواد المعدنية يكفي لتغذية الجنين طوال فترة الانتشار.
إن السطح الخارجي لهذه البذرة محاط بنسيج خشن جداً يمنع أي خطر يكون مصدره الماء، أما الميزة الملفتة للانتباه في هذه البذور فهي احتواؤها على فجوات هوائية تمكنها من أن تقطع مئات الكيلومترات عبر المحيطات و البحار سابحة فوق الأمواج، وعند بلوغها شاطئاً ما سرعان ما ينبت الجنين الذي بداخلها مكوناً فسيلاً لنخلة جوز الهند.4
إن الإنبات الذي يحدث لبذور جوز الهند حال وصولها إلى شاطئ معين أمر غريب و استثنائي في عالم النبات؛ لأن المعروف أن البذور النباتية تدخل مرحلة الإنبات حال تعرضها للماء، ولكن لو كانت بذور جوز الهند تدخل مرحلة الإنبات حال تعرضها للماء لما استطاعت التكاثر أبداً.
وبذور جوز الهند ذات تركيب خاص يمنع مثل هذا الإنبات، بل تحتوي على آليات خاصة للتكاثر تتناسب مع الظروف التي توضع فيها، وبهذه الوسيلة تستمر أشجار جوز الهند في التكاثر و الحفاظ على النسل ضمن شبكة الحياة.(1/33)
وبعد هذا المثال لا يمكن أن نقبل حدوث مثل هذا الوجود الخارق بفعل آليات المصادفة التي يرددها دعاة نظرية التطور. إن الخصائص التي ذكرناها سابقاً، من الغذاء المخزون داخل البذور إلى كمية الماء الموجود فيها و كذلك الوسائل المستخدمة للوصول إلى الشطآن والتوقيت المناسب لهذا الوصول، كل هذه المزايا والحسابات الدقيقة اللازمة لحدوثها وتفعيلها ما كان لها أن تتحقق وتظهر إلى الوجود لولا قدرة الله و قوته وعلمه الذي خلق الأشياء وأودع فيها مكوناتها الخارقة، فتبارك الله أحسن الخالقين.
الكائنات الحية خلقت ليكمل بعضها بعضاً
إن رحيق أزهار بعض النباتات يوجد في جوفها العميق، وقد يبدو لنا ظاهرياً أنّ هذه الميزة سلبية؛ لأنّ الحشرات والطّيور لا تستطيع الوصول إليه، وبالتالي يكون انتشاره في الطبيعة غير ممكن، و ينتج عن ذلك استحالة إخصاب الزهرة، ولكن هناك مخلوقات حية خلقها الله العليم الحكيم بصفات تستطيع بواسطتها أن تصل إلى هذا الرحيق القابع في جوف الأزهار. وعلى سبيل المثال: هناك تلاؤم مدهش بين شجرة الثريا وحشرة اليوقا، فشجرة الثريا يكون سطحها الخارجي مغطى بأوراق كبيرة تشبه الشارات المعلقة على الصدور، وفي مركز هذه البقعة الورقية توجد ساق رفيعة تحمل أزهاراً تشبه لون القشدة.
وتتميز شجرة الثريا بكون حبوب اللقاح فيها توجد في أجزاء منحنية، ولهذا السبب لايمكن لأية حشرة أن تجمع هذه الحبوب إلا إذا كانت ذات فم يستطيع الانحناء بسهولة مثل حشرة العثّ. وحشرة عث الثريا تقوم بتجميع هذه الحبوب و جعلها مكورة، ومن ثم تحملها إلى شجرة ثريا أخرى، و في مرحلة أولى تنزل هذه الحشرة إلى قاع الزهرة كي تضع بيضها، ثم تصعد إلى حافة الزهرة و تقوم بضرب ما جلبته من حبوب اللقاح المجمعة بشكل كرات على حافة الزهرة كي تتساقط حبوب اللقاح نحو الأسفل.(1/34)
وتُعَدُّ حبوب اللقاح المتساقطة مادة غذائية لازمة لليرقات التي ستخرج من البيض فيما بعد، ولكنّ هذه الحشرة تساعد على إخصاب الزهرة في الوقت الذي تقوم فيه بضرب الكرات التي جمعتها من زهرة إلى أخرى. و لا تستطيع أشجار الثريا أن تخصب أزهارها إلا بواسطة حشرات العث المذكورة.
وهكذا يتضح لنا أن ثمة ترابطاً عجيباً بين إخصاب زهرة الثريا وتغذية حشرة العث، وإنّ هذا الترابط الوثيق لم يحدث بإرادة الثريا و لا حشرة العث، ولا يمكن لنبتة أو حشرة أن تطور أسلوباً ما اعتماداً على احتياجات كائن آخر. ولا يمكن لهما أن يكونا على علم بهذه الاحتياجات؛ لأن هذه الكائنات الحية غير عاقلة و غير مدركة، ولا يمكن أن تنقل ما تتبعه من أسلوب حياتي إلى كائن حي آخر.
إن هذا الترابط الوثيق أو الانسجام الخارق الموجود بين الكائنات الحية مصدره العلم الإلهي و القدرة الإلهية اللامتناهية، وكلا المخلوقين اللذين ذكرناهما في المثال السابق يُعَدَّان معجزة من معجزات الله سبحانه و تعالى في خلقه. وهذه الكائنات الحية تخاطب بسلوكها ومن خلال الآيات التي تحملها الإنسان كي يستوعب و يدرك مدى عظمة الله وحكمته فيما يخلق.
{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاتَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} الإسراء: .44
أساليب الخداع لدى نبات أوركيدة الكوريانثيس
هل يمكن للزهرة أن تعرف ما تريد الحشرة أن تفعله؟ وهل يمكن لهذه الزهرة أن تخطط لإيقاع تلك الحشرة في حبائلها، وأن تقوم بتغييرات في بنيتها للوصول إلى ذلك الهدف؟ من المستحيل طبعاً أن تقوم زهرة ما أو حشرة ما بإدخال تغييرات على شكلها بمحض إرادتها. ولكن لو ألقينا نظرة على ما يحدث في الطبيعة لوجدنا أمثلة عديدة على هذه التغييرات أو بالأحرى على أساليب الخداع هذه.(1/35)
ومثال على ذلك: الأسلوب الذي تتبعه نبتة أوركيدة الكوريانثيس في جذب الحشرات كوسيلة للتكاثر، فتكاثر هذا النبات يعتمد على تحميل حبوب اللقاح على أجسام الحشرات، و أزهار هذا النبات تكون على شكل باقات متجمعة، وأمام كل زهرة توجد وريقتان على شكل جناح مقعر، وخلف كل وريقة توجد وريقة أخرى صغيرة مقعرة، وعند تفتح هذه الأزهار يسيل إفراز خاص نحو الحافة السفلى لهذه الوريقات. وبعد مدة تتخذ الزهرة لونا أخضر قاتماً، وتفوح منها كذلك رائحة جذابة تجلب إليها النحل. ومصدر هذه الرائحة هو السائل الذي تم إفرازه عند تفتح الزهرة.
وكما يشاهد في الصورة الجانبية، تبدأ ذكور النحل بالطيران حول الزهرة التي تفوح منها الرائحة الجذابة، ثم تحاول هذه الذكور التمسك بحواف الزهرة القائمة ثم تحطّ عليها، وتبدأ بالبحث عن مكان في الجزء الرابط بين الزهرة و جذع النبات كي تتمسك به بأرجلها الخلفية، ولكن هذا الجزء بالذات يمتاز بالانحناء والملمس الدّهني الأملس. ولذلك فإن الذكور التي تحوم حول الزهرة سرعان ما تسقط داخل تلك الوريقات المقعرة المليئة بالسائل الذي تم إفرازه حينما تحاول التمسك بالزهرة. 5
ثم إنّ النحل الذي يسقط داخل الزهرة لا مخرج له إلا الجدار الأمامي للزهرة وهو عبارة عن أنبوب ضيق يفتح إلى الخارج، و تكون حافة هذا الأنبوب بموازاة السائل الدهني الذي يغمر قاع الخلية، ويسبح النحل الذي يقع في السائل حتى يصل إلى الحافة أو المخرج، وأثناء سباحته يمر من تحت الأعضاء الذكرية للزهرة والتي تكون محمّلة بحبوب اللقاح.6
وخلال هذه السباحة تلتصق حويصلتان ذكريتان للزهرة بالجزء الخلفي من جسم الحشرة، و في النهاية تنجح الحشرة في الخروج من الزهرة. وعندما يحط النحل على زهرة أخرى تلتصق الحويصلتان الذكريتان بالجزء الأنثوي لهذه الزهرة الجديدة و بذلك يحدث الإخصاب.(1/36)
إن هذه العملية ليست مفيدة في إخصاب الزهرة فحسب، بل مفيدة للنحل أيضاً؛ لأنّ السائل الذي يسبح فيه النّحل مهم جداً بالنسبة إليه، فهذا السائل يكسب الذكر الرائحة المميزة و التي بواسطتها يستطيع جذب ود الأنثى أثناء فترة التكاثر.
وكما قلنا في البداية: إنّ من المستحيل للزهرة أن تطور أسلوباً ما لخداع حشرة ما أو جذبها بمحض إرادتها، و من المستحيل لحشرة ما أن تطور أسلوباً ما للحصول على مادة ضرورية لها من زهرة ما و بمحض إرادتها. إنّ هذا الانسجام بين هذين الكائنين لهو دليل كاف و باهر على كونهما مخلوقين من قبل خالق عليم.
مهارات النحل البنّاء
يُعَدُّ النحل البناء من أكثر أنواع النحل اهتماماً ببناء الخلايا، وتقوم الأنثى بالبحث عن المكان المناسب لبناء الخلية، وعندما تجده تشرع في تنظيفه مباشرة. ولبناء الخلية يحتاج هذا النوع من النحل إلى كمية من الطين، وعندما لا تجد الأنثى هذا الطين تلجأ إلى تراب ناعم وتخلطه بإفراز خاص لتحوله إلى طين ملائم لبناء الخلية.
وتبدأ الأنثى بالبناء بالتقاط كمية من الطين بواسطة فكها الذي تستخدمه كوسيلة للحفر في الطين، ومن ثمّ تحرك هذا الطين بأقدامها ليصبح على هيئة كرة، ومع إضافة جزء بعد آخر تبدو النّحلة وكأنها تعد قالباً للبناء، ثم تمسك الأنثى بهذه الكتلة الطينية بواسطة الفك السفلي لتعود بها إلى المكان المعد لبناء الخلية.
وعندما تعود الأنثى إلى المكان المعدّ لبناء الخلية لا تبدأ بالعمل بصورة عشوائية، بل تباشر العمل وفق خطة معينة مرسومة لبناء الخلية، وهي تقترب في شكلها من النّفق، ووفقاً لهذه الخطة، تستخدم الأنثى الكرة الطينية التي أعدتها مسبقاً لبناء الجزء الخلفي لأول غرفة في الخلية ذات الطرف المسدود، وتستمر شيئاً فشيئاً في تكملة بناء هذه الغرفة عن طريق جلب كميات أخرى من الطين.
والخطوة الأخرى في البناء تتمثل في جلب الغذاء إلى هذه الغرفة المكتملة البناء.(1/37)
فعند اكتمال البناء تبدأ الأنثى بجلب الغذاء لتخزينه في هذا الجزء من الخلية، وأوّل ما تقوم بتخزينه هو حبوب اللقاح التي جمعتها، و تخزنها في هذا الجزء الخلفي من الخلية. وبعد كلّ عملية تخزين تقوم الأنثى بإفراز العسل -الذي يكون على هيئة معجون -على كل طبقة من حبوب اللقاح التي جمعتها في رحلة سابقة، وبهذا الشّكل تكون قد أنهت تحضيراتها الأولية قبل وضع البيض.
بعد أن تنتهي الأنثى من تخزين حبوب اللقاح تبدأ على الفور بوضع البيض، وبعد الانتهاء من وضع البيض تعود إلى إكمال البناء انطلاقاً من الأماكن التي توقفت فيها ووضعت عليها إشارات معينة. وتستمر الأنثى في بناء الخلية جزءاً بعد جزء بعد أن تضع البيض في كل جزء يتم بناؤه، وبذلك تأخذ هذه الأقسام المبنية شكلاً متسلسلاً ومتعاقباً، ويصبح كل جزء في الخلية يحتوي على بيضة مع جزء من حبوب اللّقاح التي تم خزنها للغذاء. ويفصل كل جزء عن الآخر بجدار طيني.
وبعد أن تنتهي الأنثى من بناء آخر جزء في الخلية وغلقه تترك فراغاً محدداً وتسدّه بمسد محدد أيضاً. وهذا المسدّ يمنع الغرباء من بناء الأعشاش أمام الخلية، وبالتالي يكون بإمكان اليرقات الخروج إلى العالم الخارجي.7
و يتضح لنا من كلّ خطوة من الخطوات التي يقطعها النحل البناء لإنشاء خليته أن هناك سلوكاً عاقلاً ومدركاً لما يفعل، و يذكر الحق سبحانه و تعالى في كتابه الكريم أنّ النحل يسلك هذا السلوك بإلهام منه {وَأَوْحَى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِّلنَّاسِ إنَّ في ذَلِكَ لآيةً لِّقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ} النحل: 68 ـ .69(1/38)
و هذا الإلهام لا يكون للنّحل فحسب، فكل الكائنات الموجودة في الكون بأكمله تتحرك وفق الإلهام الإلهي، سبحانه هو القادر على كل شيء وهو العليم الحكيم.
ناطحات السّحاب التي ينشئها النمل الأبيض الأعمى
هل يمكن لعمال عميان أن ينشئوا ناطحات سحاب عملاقة مثل مبنى “إمباير ستايت”؟ إن هذا مستحيل بالنسبة إلى الإنسان، ولكنّ النّمل الأبيض الأعمى يستطيع أن يشيّد مثل هذه الأبنية طوال حياته. وهذه الأبنية تُعَدُّ “ناطحات للسّحاب” بالمقارنة مع حجم النمل الصّغير جداً.
وقبل أن نخوض في الحديث عن المقارنة بين أعشاش النمل الأبيض وناطحات السّحاب التي يبنيها الإنسان، يحسن بنا أن نتعرف أولاً ولو بصورة عامة على النمل الأبيض.
إنّ من أهم الخصائص المعروفة للنمل الأبيض هي مقدرته على بناء أعشاش قوية للغاية لا يستطيع حتى الإنسان أن يهدمها بسهولة. وكل نوع من أنواع النمل الأبيض يبني عشه بالشكل الذي يلبي احتياجاته. فهناك نوع يبني عشه بالشكل الذي يقيه من الحر القائظ، ونوع آخر يبني عشه كي يقيه من الأمطار الغزيرة، ومن الأعشاش ما يبنى في جوف الأشجار، ومنها ما يبنى تحت التربة و منها ما يبنى فوقها.
ومن يفتح عش النمل الأبيض سيرى لأوّل وهلة شكلاً شبيهاً بالإسفنج، ويتألف كل عشّ من أعداد هائلة من الغرف الصغيرة التي يكون طولها 2,5 سم تقريباً. وترتبط هذه الغرف فيما بينها بقنوات رابطة ضيقة، ولا يستطيع إلا النمل الأبيض المرور من خلالها.
أما المواد الخام التي يستخدمها النمل الأبيض في بناء هذه الأعشاش الخارقة فتتألف من التراب و إفرازاته الخاصة وفضلاته فقط، أي إنّ هذا النمل الأبيض يستطيع بناء هذه الأعشاش المتينة التي لا يمكن هدم بعضها إلا بالديناميت بواسطة مواد خام بسيطة للغاية. وهذه الأعشاش تحتوي على قنوات للتهوية وممرات خاصة و متاهات للتمويه.(1/39)
إن الخاصّية الإعجازية الملفتة للانتباه لدى النّمل الأبيض هي كونها عمياء تماماً، وعلى الرغم من هذا العمى تستطيع أن تبني هذه الأعشاش الشبيهة بالأبراج العالية، وهذا الأمر يثير الحيرة طبعاً. فالنّمل الأبيض لا يستطيع رؤية القنوات التي ينشئها و لا المواد الخام التي يستخدمها في البناء، ولا التراب الذي يُعَدُّ المادة الأساسية في البناء، ولا الغرف التي يشيدها على ارتفاع عال جداً.
ولو قارنا بين الأعشاش التي يشيدها النمل الأبيض والأبنية التي يشيدها الإنسان لكانت النتيجة محيرة للعقول إلى درجة كبيرة. ولاستيعاب نتيجة هذه المقارنة يمكن الرجوع إلى ناطحات السحاب “إمباير ستايت” الموجودة في أمريكا، فارتفاع العمارة الشاهقة يبلغ 443 متراً، أما طول النمل الأبيض فيبلغ 1-2 سم. وعلى الرغم من هذا القصر فإنه يستطيع بناء عشّ يبلغ ارتفاعه سبعة أمتار. ولو كان النمل الأبيض بطول الإنسان العادي لاستطاع بناء ناطحة سحاب ارتفاعها أربعة أمثال “إمباير ستايت”. وهذا العمل الذي يعجز عنه الإنسان يقوم بإنجازه النمل الأبيض الأعمى منذ أن وجد على وجه البسيطة منذ ملايين السنين. 8
فالنمل الأبيض خلق بهذه الخصائص الباهرة من قبل الله عز وجل، فهذه الأعشاش التي يبنيها تعكس لنا القدرة الإلهية في الخلق، وتكشف لنا آية أخرى من آياته العظيمة. { اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} الزمر: .62
فنون الغطس لدى العناكب الصفّاقة (ذات الأجراس)
تقضي العناكب المائية التي تعيش في المناطق الدافئة من أوربا و آسيا معظم حياتها تحت سطح الماء، فهذه الأنواع من العناكب تبني بيوتها في الماء.(1/40)
والخطوة الأولى التي يتبعها هذا النوع من العنكبوت في بناء بيته هي نسج خيوط لازمة للربط بين الأوراق النباتية لتحضير منصة عائمة، ثم يربط هذه المنصة بالأوراق أو السيقان النباتية الموجودة في الوسط بواسطة خيوط دقيقة جداً. إنّ هذه الخيوط لها ثلاث وظائف مهمة، أولها تثبيت المنصة العائمة، وثانيها إرشاد العنكبوت إلى بيته، وثالثها الإعلان عن قدوم الفريسة.
بعد بناء المنصّة العائمة يقوم العنكبوت بحمل الفقاعات الهوائية تحت هذه المنصة باستخدام جذعه وأطرافه، وهكذا تنتفخ المنصة إلى الأعلى، وبازدياد عدد الفقاعات الهوائية يتغير شكل المنصة حتى تصبح مثل الناقوس أو الجرس. وهذا الجرس يُعَدُّ الملاذ الآمن والمسكن الملائم، فالعنكبوت يقبع في بيته طيلة ساعات النهار، وعند مرور حشرة أو يرقة بالقرب من البيت سرعان ما ينطلق خارج البيت لاصطياد هذه الفريسة ويحملها إلى الداخل ليتناولها.
وعند وقوع أية حشرة في الماء يسبب سقوطها تموجات على سطح الماء. وعند إحساس العنكبوت بهذه التموجات يخرج فوق سطح الماء و يصطاد الحشرة القادمة و ينزل بها تحت سطح الماء. و يُعَدُّ سطح الماء بمثابة جرس الإنذار المبكر للعنكبوت. فالفريسة الواقعة على سطح الماء كالفريسة الواقعة في نسيج هذا العنكبوت. وعند اقتراب فصل الشتاء يجب على العنكبوت القيام ببعض الأعمال التي تقيه خطر التجمّد، فقبل دخول موسم الشتاء ينزل العنكبوت إلى العمق أكثر فأكثر، ويقوم بنسج ما يشبه الجرس و يملؤه بالفقاعات الهوائية.
وبعض العناكب يتخذ من هياكل الحلزون الفارغة الموجودة في القاع مسكناً له، ويظل مقيماً داخل هذا النسيج الجرسي الشكل طوال فصل الشتاء، ولا يستهلك سوى قليل من الطاقة؛ لأنّ استهلاكه للأكسجين يقل بشكل كبير.(1/41)
وبفضل هذا التوفير في الطاقة يستطيع العنكبوت أن يمكث في البيت طوال فصل الشتاء أو أربعة إلى خمسة أشهر، وذلك باستخدام الأكسجين الموجود في الفقاعات الهوائية التي خزنها سابقاً.
ويتبيّن لنا أن أسلوب العنكبوت في خزن الفقاعات الهوائية و صيد الفرائس ملائم جداً لطريقة عيشه، ومن المستحيل أن تكون المصادفة قد ساعدت كائناً حياً برياً على تطوير أسلوب للعيش في وسط مائي. ولو لم يكن هذا الحيوان ذا خصائص يستطيع بواسطتها العيش في هذا الوسط المائي لهلك منذ لحظات وجوده الأولى، ولما توفر له الوقت الكافي لكي يتعلم أو حتى يستغل أية مصادفة مفترضة، ولكنّ هذا الحيوان البري الذي يستطيع أن يتعايش مع ظروف الوسط المائي و بكل تلاؤم يحمل الخصائص التي تمكنه من هذا التعايش منذ أول لحظة وجد فيها، أي إنّ الكائن الحي قد وجد بهذه الخصائص منذ لحظاته الأولى، وعليها خلقه الله تعالى.
و ليس العنكبوت المائي سوى مثال بسيط جداً، وليس سوى آية من آيات الله التي لا تحصى والتي تكشف لنا حكمته وعلمه سبحانه عز وجل.
الكايتين :مادة تغطية مثالية
تُعَدُّ الحشرات من أكثر الكائنات الحية انتشاراً في الطبيعة، وسبب ذلك أنها ذات أجسام تقاوم مختلف الظّروف القاسية، ومن أهمّ العوامل التي أضفت هذه السمة على أجسام الحشرات إحاطتها بطبقة من الكايتين.
إنّ الكايتين مادة خفيفة و رقيقة بدرجة كبيرة جداً، ولهذا السّبب لا تشعر الحشرات بأية صعوبة في حمل هذه الطبقة. وعلى الرغم من أنّ هذه الطبقة تحيط بجسم الحشرة من الخارج فإنها قوية جداً، وهي تؤدي وظيفة الهيكل العظمي بالنّسبة إلى الحشرة، بالإضافة إلى أنها تمتاز بالمرونة، وتتحرّك هذه الطبقة إنقباضا وأنبساط العضلات التي ترتبط حوافها الممتدة من داخل الجسم و التي ترتبط بهذه الطبقة.(1/42)
إنّ هذه الخاصّية تكسب الحشرات القدرة على الحركة الفجائية، إضافة إلى امتصاص أثر الضربات الخارجية. وطبقة الكايتين مغلّفة بغلاف لا يسمح بنفاذ الماء من الخارج. كذلك لا تسمح بنفاذ سوائل الجسم إلى الخارج.9 وهذا هو سبب عدم تأثر الحشرات بأقسى الظروف مثل الحر القائظ بل حتى الإشعاع النووي.
والخاصية الأخرى لهذه المادة تلونها في الغالب بلون الوسط الذي توجد فيه الحشرة كما يرى ذلك في الصّور الجانبية. وبواسطة هذه الخاصية تستطيع الحشرة أن تخفي نفسها عن أعين الأعداء، و في بعض الأحيان تتلون هذه الطبقة بلون لمّاع إلى درجة تسبب الإزعاج لبعض الأعداء.
إذن: فهذه الطبقة الكايتينية التي تحيط بجسم أغلب الحشرات تُعَدُّ مثالية؛ لأنها عازلة و متينة ومرنة في آن واحد، وهذه الخواصّ الفريدة من نوعها تثير لدينا تساؤلات عديدة مثل: لو صنعت الطائرات أو السفن الفضائيةمن مادة تحمل نفس خصائص مادة الكايتين فأي شكل كانت ستتخذه هذه الطائرات والسفن؟ وبإيجاز: إنّ هذه المادة تداعب خيال كثير من مهندسي الطيران و الفضاء، إلاّ أن العلم الحديث لم يستطع بوسائله التكنولوجية المتقدمة أن يصنع مادة لها خصائص مادة الكايتين نفسها.
ولا تزال الجهود مبذولة وبأقصى جهد ممكن لاستنفار كافة وسائل القرن الحادي والعشرين لصنع مادة شبيهة بالكايتين، على الرغم من أنّ هذه المادة موجودة في أجسام الحشرات منذ وجدت على وجه الأرض. وكما أوضحنا سابقاً فإن مادة الكايتين هي المادة المثلى لتلبية احتياجات جسم الحشرة، ومن المستحيل أن تظهر مادة بهذه الخصائص الوقائية للحشرة بمحض المصادفة، ومن المستحيل أن تقوم أية حشرة بصنع مثل هذه المادة المثالية بمحض إرادتها. ولا يمكن أن يكون الكايتين قد صنع بقرار من عناصر الطبيعة كالحجر أو التراب. فإذن: هذه المادة التي لها خصائص فريدة وميزات إعجازية تلبي بها الحشرة احتياجاتها المختلفة هي من صنع الله جل وعلا.(1/43)
{وَ مِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَ الأَرْضِ وَ مَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَ هُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيِرٌ} الشورى: .29
فنادق النمل
لو أقدم كائن حي على مدّ يد العون لكائن حي آخر كأن يوفر له الوسط الملائم للعيش ويلبي احتياجاته المختلفة، فإن مثل هذا التعاون لا يمكن أبداً أن يكون نتيجة المصادفة. فالتّعايش الموجود بين الكائنات الحية المختلفة، والتعاون المتبادل فيما بينها يعكسان كونها وجدت بالخلق من قبل عقل مدبر. فهذه الكائنات الحية خلقها الله البارئ المصور ومنحها هذه الصفات التي بموجبها تتعاون وتتكافل بعضها مع بعض. ومن أبسط الأمثلة على هذا التكافل بين الأحياء هو التكافل الموجود بين النباتات و النمل.
تحتوي بعض النباتات على تجاويف خاصة تدعى علمياً بـ “ دوماتيا” (كما يرى في الصفحة المقابلة، الشكل الصغير)، والوظيفة الوحيدة لهذه التجاويف أنها تُعَدُّ مسكناً ملائماً لإنشاء مستعمرات النحل. وتحتوي هذه النباتات على فتحات أو أغشية رقيقة يستطيع من خلالها النمل أن يعبر إلى الشجرة أو يرجع منها. وتحتوي التجاويف بدورها على ما يجمعه النمل من المواد الغذائية التي تكونها النبتة نفسها لتتغذّى بها. وهذه المواد الغذائية تنتج خصوصاً لتغذية النمل، ولم يثبت إلى الآن أية فائدة للمواد الغذائية المذكورة بالنسبة إلى النبتة. 10
وباختصار: فإنّ هذه التجاويف “دوماتيا” مخلوقة خصوصاً كي تؤوي بداخلها النمل. ونسبة الرطوبة ودرجة الحرارة داخل هذه التجاويف توفر وسطاً ملائماً لمعيشة النمل. و يمكن تشبيه هذه التجاويف التي يجد فيها النمل كل وسائل الراحة بالفنادق من الدرجة الممتازة التي توفر كل وسائل الراحة للزبائن.(1/44)
وهناك مثال آخر على التكافل بين الأحياء وهو الموجود بين أحد أنواع النمل المدعو “فيليدريس” و النبات المدعو “ديشيديا ميجور”، فهذان الكائنان الحيان يشتركان طوال حياتهما في إنتاج مواد كيميائية مشتركة. وهذا النبات عديم الجذور، ولهذا السبب فإنه يتسلق و يلتف حول باقي النباتات وله أسلوب فريد من نوعه لتوفير أكبر كمية ممكنة من الكربون والنتروجين.
فالنمل المذكور له مخازن داخل هذا النبات يقوم باستخدامها لرعاية صغاره وخزن الفضلات العضوية (كالحشرات الميتة أو أجزاء الحشرات...). وتدعى هذه المخازن بـ “ورقة النمل”، ويقوم النبات باستخدام هذه الفضلات كمصدر للنتروجين.
من جهة أخرى تُعَدُّ التجاويف الداخلية لهذه الأوراق مصدراً لثاني أكسيد الكربون الذي يطلقه النمل، و بهذه الطريقة يتم التقليل من طرح الماء عبر المسامات الموجودة . 11
وعلى الرغم من وجود هذا النبات في مناطق استوائية إلا أنه لا يستطيع امتصاص الماء في التربة لانعدام جذوره، لذا فإن النّمل يوفر للنّبات عنصرين حياتيين مهمين مقابل أن يعيش بداخله.
ومن المستحيل أن تكون المصادفة كما في المثالين السابقين سبباً في اتخاذ النبات شكلاً معيناً ملائماً لمعيشة النمل أو إنتاجه مواد غذائية خاصة بتغذية النمل، وما هذا التكافل بين النمل والنبات سوى دليل على التوازنات الدقيقة التي تحكم الطبيعة والتي وضع قواعدها خالق واحد لهذا الوجود، وهو الله جل جلاله.
الروعة في الكائنات الحية المولدة للضّوء
من أشهر الحيوانات الضوئية المعروفة هي المسماة بـ” اليراع” أو “الحُباحب”، وكانت هذه الحشرات مصدر إلهام للعلماء في القيام بالأبحاث العلمية التي مكنتهم من التوصل إلى إنتاج كميات هائلة من الضوء، وسبب الاهتمام الكبير يرجع إلى الحشرات نفسها التي تستطيع توليد الضوء دون أي استهلاك يذكر من الطاقة.(1/45)
والمحير في الموضوع هو توليد الحشرة للضوء دون التأثر بالطاقة الحرارية لهذا الضوء، فالمعروف علمياً أن أي وسيلة لإنتاج الضوء لا بد أن تنتج حرارة مصاحبة له، وتكون هذه الحرارة مشعة إلى الخارج على شكل طاقة حرارية. والمفترض أن هذه الحشرات تتأثر سلبياً بالحرارة الناتجة من الضوء، ولكن الواقع غير ذلك تماماً؛ لأنها لا تتأثر أبداً بهذه الحرارة، وسبب ذلك يرجع إلى كمية الحرارة الضئيلة جداً المتولدة عن إنتاج الضوء. ويمكن لنا أن ندعو الضوء الذي تولده بـ”الضّوء البارد”. وأجهزة الجسم في هذه الحشرات مصممة لتتلاءم مع هذه الظاهرة.
إنّ “اليراع”حشرات تجري داخل أجسامها تفاعلات كيميائية ينتج عنها ضوء لونه أخضر مصفر، وتستخدم هذا الضّوء كوسيلة لتبادل الاتصال أو للتّكاثر، وتختلف الحشرات من ناحية مدة التّوهج الضّوئي. وهناك نوع آخر تقوم أنثاه بهذه الوظيفة التكاثرية، و ثمّة أنواع أخرى يكون فيها هذا التوهج الضوئي كوسيلة للدفاع عن النفس؛ لأنّ التوهج الضوئي يولّد حسّاً لدى العدو بأن طعم الحشرة الضوئية سيّئ للغاية.12
وإلى جانب “اليراع” هناك كائنات حية بحرية وحشرات أخرى لديها خاصية توليد الضوء، وتختلف فيما بينها من ناحية كيفية توليد هذا الضوء و الغرض منه و مدة التوهج الضوئي و نوع الضوء المتولّد.
ولا شكّ في أن هذه الحشرات أو الكائنات الحية لم تمتلك تلك الأجهزة الجسمية التي تمكنها من توليد الضوء متعدد الأغراض من تلقاء نفسها، ولا يمكن أن تكون قد اكتسبت هذه الصفة الدائمة فيها من تلقاء نفسها أيضاً، ومن المستحيل أن تكون المصادفة سبباً في قدرة هذه الأحياء على توليد الضّوء من دون أن يلحقها منه ضرر.
إنّ هذه الكائنات الحية دليل على قدرة الله تعالى في الخلق، فهو الله القوي العزيز الجبار الذي خلق الأشياء وأودع فيها آياته تخاطب عقول البشر المتفكرين.
الكائنات الحية البحرية المولدة للضّوء(1/46)
تمتلك أغلب الكائنات الحية البحرية نظاماً لتوليد الضوء يشبه مثيلاتها في حشرة “اليراع”، وهي عموماً تستخدم هذه الأجهزة لتوليد الضوء بغرض إرهاب العدوّ أو التمويه عليه. ومن هذه الأحياء مشط البحر الهيلامي (Comb Jelly)، وهذا الحيوان ـ مثله مثل قناديل البحر أو الحيوانات الهيلامية الأخرى ـ حيوان حساس جداً. وتعيش هذه الحيوانات على النباتات والكائنات البحرية دقيقة الحجم، فبعضها يستخدم أسلوب شبكة الصيد في اصطياد فرائسه من خلال لوامسه اللزجة، وبعض الأنواع الأخرى لها أفواه تتّسع كثيراً عند فتحها، وبواسطتها تستطيع ابتلاع الكثير من الكائنات البحرية من ضمنها مشط البحر الهيلامي.
يتميز جسم مشط البحر بامتلاكه لشعيرات دقيقة متسلسلة يستخدمها الحيوان في تحريك جذعه في الماء، وكذلك يحتوي في منطقة الظّهر على خلايا تكون على شكل شرائط تبدو كأنها مخيطة، وهذه الخلايا لها القدرة على توليد الضوء، وهذه الميزة موجودة في كل أنواع مشط البحر تقريباً. وكل نوع له ميزة خاصة به، ومثال على ذلك: مشط البحر الأحمر الذي يبدأ باللمعان حالما يتم لمس جسمه، وفي الوقت نفسه يطرح في الماء موجات مضيئة من جسمه، وهذا السلوك يمثّل أسلوباً للتمويه و التخفي عن أعين الأعداء.13
هنالك بعض الحيونات البحرية تدعى بـ “الشّوكيات” مثل نجوم البحر، كستناء البحر ونجوم البحر الشّعرية. وتوجد في جلود أغلب هذه الحيوانات أشواك حادة تستخدم للدفاع عن النفس. وهي تعيش بالقرب من الشواطئ و بين الشّعب المرجانية، وكذلك في الخلجان البحرية. وتقوم هذه الحيوانات بتوليد الضوء الخاص بها لإرهاب الأعداء، وتمتاز أطراف هذه الحيوانات وعمودها الفقري باللمعان، وهي تطلق موجات مضيئة من جسمها حالما تتعرض لهجوم خارجي.(1/47)
وهناك أحد أنواع النجم البحري يُعَدُّ مثالاً آخر للحيوانات التي تستخدم الضوء الذاتي للدفاع عن النفس، فهذا النّوع يعيش على عمق ألف متر تحت سطح البحر، وتشعّ من حواف أطرافه أضواء خضراء تميل إلى الزرقة، إنّ هذا التوهج الضوئي يجعل العدو المهاجم يشعر بطعم سيئ لهذا الحيوان.
و يوجد نوع آخر من نجم البحر يبدأ باللمعان حالما يشعر بهجوم العدو، ولا يكتفي بذلك بل يرمي العدو بأحد أذرعه. وهذا الأسلوب يُعَدُّ من الأساليب المهمة التي يستخدمها هذا الحيوان في الدفاع عن النفس، وذلك الذراع يستمر باللمعان لجلب انتباه العدوّ و إبعاده عن الحيوان، ويستغل الحيوان هذه اللحظات للهرب والابتعاد عن المكان الذي يوجد فيه العدوّ.14
إنّ آلية إنتاج الضّوء لدى الحيوانات تمثل دليلاً على عظمة الله سبحانه وتعالى وبديع صنعه ، فالله يخلق ويبدع، ولا شبيه لما يخلق و يبدع.
ئ؟التصميم المعجز للدلفين
من خصائص الدلفين أن عملية التنفس عنده إرادية على عكس باقي اللبائن حيث يتمّ التنفس بشكل تلقائي15 ، أي إنّه مثلما نمشي نحن بإرادتنا فإنّ الدلفين يتنفس بإرادته، وهذه الميزة تحول دون موت الحيوان اختناقاً عندما ينام وهو سابح في الماء. ويستخدم الدلفين عند نومه النّصف الأيسر والنصف الأيمن من مخه بالتناوب وتكون مدة النّوبة 15 دقيقة، فإن كان أحد النصفين نائماً يتدخل النصف المستيقظ ويدفع بالحيوان نحو السّطح للتّنفس.
والدّلفين لا يتنفس داخل الماء كباقي الأسماك، ولهذا السبب يجب عليه أن يصعد إلى السطح بصورة منتظمة للتنفس. وتوجد أعلى الرأس فتحة تتيح للحيوان التنفس من خلالها. ويتميز جسم الدلفين بخصائص فريدة، إذ تنسد الفتحة التنفسية تلقائياً حالما يغطس الحيوان في الماء بواسطة سدّاد معدّ لهذا الغرض، وهكذا يمنع الماء من الدخول إلى الجسم، وعند صعوده إلى السّطح تنفتح تلك الفتحة تلقائياً أيضاً.(1/48)
أما الاستطالة الموجودة في فم الدلفين والشبيهة بالمنقار فوظيفتها تسهيل حركته في الماء، فبواسطة هذه الاستطالة يستطيع الحيوان أن يشق الماء أثناء الحركة و السباحة بأقل طاقة ممكنة. ويوجد شبيه بهذه الاستطالة في مقدمة السفن الحديثة و تقوم بالوظيفة نفسها، وهذا تصميم هيدروديناميكي يساعد في تعجيل سرعة السفينة.
ويستطيع الدّلفين السباحة في الماء بسرعة كبيرة تحيّر العلماء، فالماء ينساب حول الدّلفين أثناء السباحة انسياباً يسيراً، ويرجع الفضل في ذلك إلى تكوين الجلد، فقد أثبتت الأبحاث العلمية التي أجريت على جلد الدّلفين أنه يتكون من ثلاث طبقات: الطبقة الخارجية التي تكون رقيقة ومرنة، والطبقة الداخلية وتتألف من قضبان ذات شكل يشبه الفرشاة البلاستيكية، وتتميز هذه الطبقة بالمرونة أيضاً، والطبقة الوسطى وتتألف من مادة ذات طبيعة إسفنجية.
فعند سباحة الدلفين بأقصى سرعة تتشكل دوامة مائية حول جسمه، والضّغط الهائل المتولد من هذه الدوامة يتم إيصاله إلى الطبقات الجلدية. فالطبقة الخارجية تنقل تأثير الضغط إلى الطبقات الداخلية التي سرعان ما تمتص تأثيره، وبهذه الطريقة تزول الدّوامة قبل أن تمتدّ وتتوسع. 16
وإنّ وجود مثل هذه التراكيب الجسمية لدى الدلافين فقط يمثل دليلاً على التّصميم المعجز، وهو يحمل رسالة لا تخفى معانيها، وهي أنّ الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الدّلفين ووهبه هذه الخصائص كي يستطيع العيش في الوسط الذي يوجد فيه!
النّودبرانش: حيوان غريب يعيش تحت سطح الماء(1/49)
يُعَدُّ النودبرانش أحد أنواع الحلزون عديم القشور، ولهذا الحيوان خصائص غريبة وألوان جميلة جداً. وهو يُعَدُّ من أغرب الحيوانات المائية ذات المناظر الجميلة الأخاذة. وألوان هذا الحيوان تبدو براقة و أخاذة جداً، وجسمه رخو إلى درجة كبيرة، ولا يحتوي على أية قشرة تقي جسمه من الأخطار الخارجية. وعلى الرغم من هذا المظهر الخارجي لجسم الحيوان والذي يغري به الأعداء، إلاّ أنه لا يمثل مادّة غذائية إلاّ للقليل من الحيوانات. ويكمن السر في ألوان جسم هذا الحيوان، فهذه الألوان تعلن للأعداء بأنها تحتوي على درجة عالية جداً من السّم.
إنّ هذه الميزة الخطيرة لهذا الحيوان ترجع إلى احتواء جسمه على العديد من الخلايا اللاسعة التي تحمل سمّاً زعافاً. وبواسطة هذه الخلايا يستطيع الحيوان أن يدافع عن نفسه بسهولة. والأغرب من ذلك أن هذه الخلايا اللاسعة لاتتكون في جسم هذا الحيوان، فهو يتغذى على نوع من الكائنات الحية تدعى “هايرويد”. و لكن النودبرانش لا يهضم حيوانات الهايرويد في معدته، وإنما يحيطها بطبقة مخاطية واقية داخل الجهاز الهضمي، وتقوم هذه الحيوانات بأداء وظيفة الخلايا اللاسعة في جسم الحيوان كوسيلة فعّالة للحماية من الأعداء.17
مما لا شك فيه أن النودبرانش لا يعلم أن الهايرويد يحتوي على مواد سامّة، ولا يعلم أيضاً أنّ هذا السّم الذي يحمله لا يمسه بسوء، بل يؤثر فقط في الأعداء المتربصين به. ومن غير الممكن أن يتعلم الحيوان هذه الحقيقة بالتجربة.(1/50)
وهنا تبرز أمامنا الحقيقة مرة أخرى متجلية في الكائنات الحية التي نراها ونتأمّلها، فالله عز وجل هو الذي ألهم النودبرانش لكي يتلوّن بهذه الألوان الزاهية التي تخفي تحتها سمّاً قاتلاً، وهو الذي خلق في جوف هذا الحيوان جهازاً هضمياً يزيل أثر السم بشكل كامل. فهو الله رب العالمين الذي خلق هذه الكائنات بألوانها المختلفة وخصائصها النادرة، وعلى الإنسان الذي يدرك حكمة الله من خلال هذه الآيات أن يسبح بحمده ويلتزم بنهج الطريق الذي ارتضاه له، فقد قال الحق عز و جل في كتابه المبين:
{ وَ مِنَ النَّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفورٌ} فاطر: .28
سمك الببغاء
يحيط سمك الببّغاء جسمه بطبقة جيلاتينية (هيلامية) يفرزها خصوصاً في الليل. ولنطلع معاً على كيفية إفراز هذه المادة الجيلاتينية و استخداماتها من قبل هذا السمك. يقوم سمك الببغاء بإفراز هذه المادة في الليل ليحافظ على نفسه من التأثيرات الخارجية. فهذه المادّة تحافظ على السّمك من الظروف الخارجية، إضافة إلى أنّها تخفي جسمه عن نظر الأعداء للتّمويه.
ويتمّ إفراز هذا الغلاف الجيلاتيني من قبل غدة خاصة تقع عند الحافة العليا للتجويف الغلصمي للسّمك، ومع كلّ عملية تنفس يفرز جزء من هذا الغلاف. وبعد فترة يحيط هذا الغلاف بجسم السّمكة، ومن أهم وظائف هذا الغلاف حماية السّمكة من خطر سمكة “المورن” التي تُعَدُّ من ألد أعدائها. فسمك المورن لها حاسة شم قوية جداً، وبواسطة هذه الحاسّة نستطيع العثور على فرائسها. ولكن هذا الغلاف الجيلاتيني يحول دون الإحساس برائحة سمكة الببغاء، إضافة إلى أن هذا الغلاف يخفيها عن نظر هذه السمكة العدوة، حتى إنّ سمكة المورن تصطدم بسمكة الببغاء أثناء مرورها من جانبها دون أن تشعر بوجودها.(1/51)
ولنفكر قليلاً في كيفية ابتكار سمكة الببغاء لهذا الغلاف الواقي ،فكيف اكتشفت هذه المادة الجيلاتينية التي تحول دون وصول رائحتها إلى سمك المورن، وبالتالي تستطيع أن تنعم بالهدوء طوال ساعات الليل؟
من المستحيل أن تكون السمكة قد قدرت وأنتجت هذه المادة الجيلاتينية ثم غلفت بها نفسها، ثم إنّ هذه الآلية في الدفاع عن النفس لا يمكن أن تتكون بمرور الزمن، أي إنّ سمكة الببغاء (التي ترى في الصورة) لا تستطيع أن تخطط و تدبر وتنتج مثل هذه المادة بمحض إرادتها مثلما لا تستطيع سمكة الببغاء التي عاشت قبل 1000 سنة أو 10000 سنة أن تفعل ذلك.
إنّ إحاطة جسم السمكة بطبقة جيلاتينية تُعَدُّ أسلوباً بارعاً في التمويه، والواضح أنّ مثل هذا الأسلوب لا يمكن أن يظهر إلا بفعل تخطيط و تصميم مدرك وواع. إنّ هذا التخطيط والتصميم الخارق له منفذ واحد، و هو الله الواحد الأحد خالق السموات و الأرض و ما بينهما.
أسلوب التمويه لدى سمك العقرب
لو نظرنا إلى الصورة التي تمثل سمك العقرب لوجدنا صعوبة كبيرة في تمييز هذه الأسماك عن الوسط الذي تعيش فيه.
يعيش هذا السمك في الخلجان البحرية الواقعة في المناطق الاستوائية والدافئة، ولا يخرج هذا السمك إلى البحار المفتوحة إطلاقاً، ويُعَدُّ من الأسماك الآكلة للحوم، فهو يتغذى على باقي الأسماك الصّغيرة. وتُعَدُّ الزعانف الموجودة في منطقة الصدر من جسم هذا الحيوان سلاحاً فعالاً ضد الأعداء، كما أنّ اللّون الأحمر والأبيض للخطوط الموجودة في جسمه تُعَدُّ وسيلة مثلى للتمويه خصوصاً عندما يوجد بين الشّعب المرجانية.
وسمك العقرب يمتاز بالألوان الزاهية، ومع ألوان الشّعب المرجانية التي يعيش ضمنها يستطيع أن يختفي بسهولة عن أنظار الأعداء، وبالتالي يقل احتمال وقوعه فريسة بيد هؤلاء الأعداء، و بواسطة هذا التمويه اللوني كذلك يستطيع أن يعثر على فريسته بسهولة. 18(1/52)
ولا يقتصر التمويه على سمك العقرب فحسب، بل يشمل معظم الكائنات الحية البحرية التي لا يمكن تمييزها عن الوسط الذي توجد فيه. و تمثل الألوان وسيلة مثلى لدى هذه الكائنات الحية البحرية للتكاثر و التّمويه وحتى تبادل الاتصال فيما بينها.
ولكن كيف تشكل مثل هذا الانسجام بين لون الحيوان البحري وبين لون الوسط الذي يعيش فيه؟ كيف أمكن للون جسم السمكة أن يتطابق مع لون الصخرة التي تعيش بالقرب منها؟ من الذي أكسب الروبيان القابلية على التشبه بالصّخرة التي يعيش ضمن نتوءاتها أو التشبه بالنباتات البحرية من ناحية اللون؟
من المستحيل أن تكون المصادفة أو أيّ تأثير خارجي آخر سبباً في حدوث التفاعلات الكيميائية التي أدّت إلى تلون الحيوان بلون الوسط الذي يوجد فيه، ومن المستحيل أيضاً أن تكون هناك معلومات عن الألوان لدى الروبيان أو السمك أو سرطان البحر(الجمبري)، ومن المستحيل أن تنشئ أجهزة جسمية للتمويه اللوني من تلقاء نفسها.
إنّ فكرة المصادفة لا يمكن لها في هذه الحالة أن تخطو خطوة نحو المنطق، إنها تمثل خيالاً محضاً، فإنّ صنع مثل هذه الأجهزة الجسمية ووضعها في مكانها الصحيح داخل أجسام الكائنات الحية و توارثها جيلاً بعد جيل، وكذلك استنساخ هذه الصفات الوراثية في جينات هذه الكائنات. كل هذه الأعمال لا تتحقق إلا بقدرة خارقة ذات علم لا حد له.
إنّ صاحب هذا السّلطان الخارق والعلم الواسع هو الله فاطر السموات و الأرض الذي أعطى كل شيء خَلْقَه ثم هدى.
{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَ إِلَيْهِ النُّشُور}الملك: 14-15 .
هجرة سرطان الإستاكوس صاحب الإبر(1/53)
هل فكرتم كيف تبدأ بعض الحيوانات بالهجرة من أماكن إلى أخرى تبعد آلاف بل عشرات الآلاف من الكيلومترات؟ أو هل فكرتم كيف يتمّ حساب أطوال المسافات التي ستقطعها؟ أو الطريقة التي تخزن بها الغذاء اعتماداً على هذه المسافات التي ستقطعها أثناء الهجرة؟ وهل فكرتم مرة كيف تهتدي إلى اتباع الطريق نفسها دون أي خطأ؟ أو من أين لها أن تعرف أحوال المناخ في الأماكن التي ستهاجر إليها ؟
في أغلب الأحيان تستطيع هذه الحيوانات أن تهتدي إلى طريقها دون أن يكون لها به معرفة سابقة؟ إنّ الإنسان الذي يبحث عن أجوبة لهذه الأسئلة لابد أن يواجه حقيقة واضحة، فمن المستحيل أن يكون لدى هذه الحيوانات أية معلومات عن المناطق التي ستهاجر إليها. ومن المستحيل أن تقوم بحسابات معينة حتى تبدأ بالهجرات بصورة جماعية.
إذن: فإنّ هذه الحيوانات قد ألهمت جميع تلك المعلومات من قبل مصدر ذي قوة خارقة، فهذه الحيوانات تهاجر بفعل الإلهام الإلهي، وهي تدّخر الغذاء و توفر الطاقة اللاّزمة للهجرة بفضل هذا الإلهام الإلهي.
ونذكر سرطان الإستاكوس كمثال على الحيوانات المهاجرة والتي تتّبع سلوكاً غريباً يصعب على العقل تخيّله.
يعيش هذا الحيوان في سواحل فلوريدا بالقرب من بهاما وسط الصّخور المرجانية، ومع تغيّر الأحوال الجوية يترك مسكنه في هذه الصّخور ويبدأ بالتوجه نحو أعماق المياه للتّجمع فيها، وهذا التّجمع يمثل المرحلة الأولى في الإعداد لرحلة باتجاه الأعماق الدافئة لوضع البيض. والسرطانات التي تتهيأ للرحيل تلتصق بعضها ببعض بواسطة لوامسها الأمامية اللّزجة، وكلّ سرطان يلتصق بالذي أمامه بواسطة هذه اللّوامس، وهكذا يتشكّل صفّ واحد من هذه السرطانات، وكل صف يحتوي على 50 سرطاناً.(1/54)
وهناك عدة أسباب مهمّة تجعل السّرطان ينتظم في هذا الصّف الواحد. فهذا الصف الواحد المتماسك يقلل من تأثير الماء الجارف، وبالتّالي يقلّ استهلاكها للطاقة و تزداد سرعتها في الحركة. بالإضافة إلى أن هذا الصف المتماسك يُعَدُّ وسيلة دفاع فعالة ضد الأعداء خصوصاً عند الحركة على طول الأراضي المنبسطة. وإذا هوجم هذا الصف من قبل الأعداء تعمد السرطانات إلى تفكيك هذا الصف وإعادة ترتيبه مرة أخرى، و تكون كمّاشات الحيوان إلى الخارج هذه المرة لكي تدافع عن نفسها. 19
وتقوم الحيوانات البالغة التي أتمت هجرتها بوضع البيض في أماكن قريبة من الساحل، وسرعان ما تحمل الأمواج البحرية اليرقات التي يفقس عنها البيض إلى الأعماق لتستقر فيها، وعندما تصل هذه تكبر هذه الصغار تبدأ العملية نفسها مرة آخرى وتتجمع في صفوف للتهيؤ للهجرة ووضع البيض . 20
الخصائص العجيبة لحصان البحر
إن حصان البحر يُعَدُّ حيواناً غريباً سواء أكان من ناحية شكله الخارجي أم من ناحية تركيبة جسمه. يتراوح طول هذا الحيوان بين 4 و30 سنتيمتراً، ويعيش بصورة عامة بين الطّحالب الموجودة على الشطآن و بين النباتات البحرية. ويحاط جسم حصان البحر بغلاف شبيه بالعظم يكون بمثابة درع واق لجسمه من الأخطار الخارجية. ويكون هذا الدرع الواقي قوياً و صلباً، ولا يمكن كسر جسد يابس ميّت لحصان البحر إلا بصعوبة بالغة .(1/55)
يتخذ رأس هذا الحيوان وضعاً عمودياً على باقي الجسم. ولا يوجد نظير لهذا الشكل في أجسام باقي أنواع الأسماك. ويسبح هذا الحيوان بجسمه في وضع قائم عمودي. ويستطيع أن يحرك رأسه إلى الأعلى و إلى الخلف، و لكنّه لا يستطيع تحريكه يميناً أو يساراً . و لو كانت هذه الميزة موجودة في باقي الحيوانات لتولدت لديها صعوبة بالغة في مسألة النظر. و لكن هذه الصعوبة لا يعيشها حصان البحر، و يرجع ذلك إلى أن عيني هذا الحيوان مستقلتان عن بعضهما، وتتحرك إحداهما مستقلة عن الأخرى وفي جميع الاتجاهات، وبذلك يستطيع حصان البحر أن يرى جميع ما حوله بسهولة حتى و إن لم يستطع تحريك رأسه نحو الجانبين.
وسباحة هذا الحيوان في الماء تتحقق بواسطة جهاز خاص موجود في جسمه، وهو عبارة عن أكياس خاصة موجودة في جسمه يملؤها الحيوان بنوع من الغازات، ومن خلال التّحكم في كمية الغاز في هذه الأكياس يستطيع الحيوان أن يتحرك صعوداً ونزولاً. و إذا حدث أن ثقبت هذه الأكياس، و لو بمقدار ضئيل جداً فإن حصان البحر يفقد كمية من الغاز وبالتالي يهبط إلى القاع.
إنّ هذا الوضع يعني تعرض الحيوان إلى الموت لا محالة. وهناك توازن دقيق جداً يتحكّم في كمية الغاز في هذه الأكياس. و أيّ خلل في هذا التوازن يؤدي إلى الموت المحتم. وهذا التوازن الحساس يرينا حقيقة مهمة وهي أن حياة حصان البحر متوقفة على هذا التوازن الدقيق. أي أن هذا الحيوان يستطيع أن يستمرّ في الحياة بوجود هذه الميزة التي وجدت فيه منذ ظهوره وخلقه ، وهذه الميزة تشير إلى حقيقة مؤكّدة وهي استحالة اكتساب حصان البحر لهذه الميزة بشكل تدريجي عبر الزمن. أي أن هذه الميزة لم تكن نتاجاً لعملية تطورية عاناها الحيوان كما يدعي دعاة نظرية التطور، ذلك أنّ حصان البحرمثله مثل باقي الكائنات في الكون مخلوق من قبل الله البارئ المصور جل جلاله.(1/56)
ومن أغرب مزايا حصان البحر تلك التي تتمثل في وضع البيض من قبل الذّكر. فالجزء السّفلي من جسم الذكر، وبالتّحديد منطقة البطن تتميز بأنها غير مغطاة بالدّرع الواقي المذكور. و تحتوي هذه المنطقة على كيس واسع له فوهة شبيهة بالثغرة. وتضع الأنثى بيضها مباشرة في هذا الكيس، أمّا الذكر فيقوم بإخصاب هذا البيض المتراكم في الكيس. ويتحول الجلد المبطّن لهذا الكيس بعد مدة إلى تركيب إسفنجي الشّكل، و يمتلئ بالأوعية الدموية التي تمد البيض بالمواد الغذائية اللازمة. و بعد شهر أو شهرين يخرج الصّغار من الكيس وهم نسخة طبق الأصل عن أبويهم.21
إن حصان البحر يُعَدُّ نوعاً واحداً من الأنواع الكثيرة جداً للكائنات البحرية. ويتميز بخصائص و مزايا غريبة جداً بالنّسبة إلى باقي الأنواع. وهذه الغرابة تعكس القدرة الإلهية في الخلق والتصوير.
{بَدِيعُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} البقرة: 117 .
المزايا الخفية لقناديل البحر
إن قناديل البحر معروفة بكونها كائنات حية غريبة جداً. ولكن هناك الكثير من مزاياها التي لا تزال مجهولة خصوصاً أن أجسامها تتألف من الماء بنسبة 95 %، ومن بين هذه المزايا الغريبة أنّ بعضاً من أنواعها ترمي الأعداء بأجسام مضيئة بهدف صرف الأنظار عنها. وهناك أنواع أخرى تنفث السّموم القاتلة في وجه الأعداء.
ويستطيع قنديل البحر أن يعيش في جميع الظروف المناخية تقريباً. وأغلب أنواعه سامة وخطيرة بالنسبة إلى باقي الكائنات الحية. ويتميّز جسم الحيوان بكونه شفافاً ولديه لوامس تمتد من الأقسام السفلى للجسم حتى الأجزاء العليا. وبعض أنواع قناديل البحر تتميّز بكون لوامسها تحتوي على سائل سام، ويستطيع قنديل البحر أن يقتل فريسته التي يصطادها رمياً بهذا السم. وبعض أنواع قناديل البحر تكون غير سامة بيد أنها لا تعدم وسيلة تجاه الأعداء.(1/57)
فبعض هذه الأنواع غير السامة تستخدم أجزاء مضيئة من جسمها كي ترمي بها الأعداء، وهي تتصرف بكل دقة و رويّة لمجابهة أعدائها مثل السّلاحف البحرية و الطيور البحريّة و الأسماك و حتى الحيتان. فعندما تهرب من هؤلاء الأعداء تشعّ أجسامها ضوءاً، و عندما يهم العدو بالانقضاض عليها سرعان ما يطفئ قنديل البحر غير السام الضّوء في الجزء المقعّر من جسمه الشبيه بالناقوس تاركاً بعض اللوامس مضيئة. ويقوم قنديل البحر برمي هذه اللوامس المضيئة في وجه العدو للفت انتباهه إليها، و يتحين الحيوان تلك الفرصة للفرار من ذلك المكان.
أما النوع المسمى بالفيزاليا (الصفحة المقابلة، الصّورة أسفل اليسار) فهو من القناديل البحرية العملاقة. ويعيش في جميع المياه الاستوائية والدافئة و من بينها البحر الأبيض المتوسط. ولهذا الحيوان أعضاء شبيهة بالأشرعة ذات لون مائل إلى الزرقة وترتفع فوق سطح الماء أحياناً مسافة 20 سنتيمتراً. إن هذه الأعضاء تستخدم للسباحة والحركة. أما لوامس هذا الحيوان الحلزونية الشكل فتحتوي على أكياس دقيقة مليئة بالسمّ التي يمكن أن تسبب الشلل الوقتي.
إن هذه المزايا و الخصائص التي استعرضناها غريبة جداً. و كيف يتسنى لهذا الحيوان- الذي لو ترك تحت الشمس وقتاً قصيراً لتقلص و مات بسرعة لكون جسمه كله من الماء تقريباً- أن يفرز مثل هذه المواد الكيمياوية السامة؟ أو كيف أمكن له أن يستخدم أساليب الخداع في مجابهة أعدائه؟(1/58)
ويفتقر هذا الحيوان إلى عين يرى بها و دماغ يفكر به لتمييز العدو أو الفريسة. ويُعَدُّ كتلة هلامية من الماء. وعلى الرغم من ذلك يستخدم أساليب متقدمة في خداع العدو أو صيد الفريسة. و الواضح أنّ الذي جعل هذا الحيوان يستخدم هذه السّلوكيات العاقلة لا يرجع إلى الحيوان نفسه. و هذا هو بالضبط ما يتوصل إليه الإنسان المدرك لنتائج البحث و التمحيص في خصائص الحيوانات و منها قنديل البحر. والإنسان المفكر والمتأمل يدرك حتماً أن هذا الحيوان بخصائصه الفريدة و مزاياه العجيبة لا يمكن أن يتصرف من تلقاء نفسه، بل لا بد أن تكون هناك قوة متحكمة لا نظير لها تتحكم في سلوك هذا الحيوان. وهذه القوة الفريدة هي قوة الله عز وجل، فهو الذي خلق الكائنات و منها الحيوانات نوعاً نوعاً، و ألهم كل نوع منها ما ألهم. و قنديل البحر ليس سوى مثال من هذه الأنواع.
عيون مشط البحر (أحد أنواع القشريات البحرية)
يرى في الصّورة الصّغيرة الجانبية حيوان يدعى مشط البحر، وهو أحد أنواع القشريات. تأمّلوا في الصّورة جيداً، هل لاحظتم أن هذا الحيوان القشري قد غلفت القشرة التي تحيط بجسمه بنقاط زرقاء برّاقة؟ وهل تصدقون لو قلنا: إنّ كل نقطة من هذه النقاط الزرقاء البراقة هي عين لديها وظيفة تقوم بها؟
إن هذا محير فعلاً، أن تكون كل نقطة من تلك النقاط المبينة في الصورة عيناً من مجموعة عيون عديدة، وكلّ عين يبلغ حجمها 1 مليمتر مكعب، و على الرغم من هذا الصغر فإنّ هذه العيون تلعب دوراً كبيراً في نجاة مشط البحر من أعدائه. 22(1/59)
و لكل عين من هذه العيون عدستها وشبكيتها الخاصة بها. وتقوم العدسة بتجميع الأشعّة الضوئية في نقطة معينة (البؤرة)، إلاّ أنه لا يوجد في مخ هذا الحيوان مركز لحاسّة البصر، أي إنّ الضوء الذي تجمعه العدسات لا يتم استقباله كصورة في مخ الحيوان. ويرى العلماء الذين أجروا أبحاثهم على هذه العيون أنها لا تقوم بتكوين صورة على أكثر احتمال. إذن فما وظيفة هذه العيون المثيرة للدهشة؟
إن مشط البحر يستخدم هذه العيون في تمييز الضّوء من الظلام، و هكذا يستطيع أن ينتقل من المناطق الرّملية إلى المناطق التي تنمو فيها الطحالب. ومن جانب آخر تساعد هذه العيون الصغيرة الحجم في معرفة الأصداف البحرية عند أية حركة تحدث في المكان الذي توجد فيه. وهكذا يستطيع مشط البحر أن يتجنب أعداءه ويفر منهم.
فهذه العيون مصممة كي تلبي احتياجات الحيوان في الوسط الذي يعيش فيه. وهذا التصميم الخارق هو الذي أكسب هذه العيون تلك المزايا الفريدة. و هذه العيون مرتبة بتسلسل على قشرة الحيوان كي يستطيع أن يميز ما يدور من حوله، أي إن هذه العيون قد منحت خصائص بالشكل الذي يحتاجه الحيوان لاستكشاف عالمه.
إن هذا التخطيط البارع و التصميم المدهش الخارق الذي تتسم به كل الكائنات الموجودة في الكون، سواء أكانت أشجاراً أم حيوانات أم كواكب أم نجوماً أم غيرها، لا بد أن يكون لها مصمّم ذا قدرة لا متناهية و قوة لا حد لها. أي إن هناك خالقاً، و هذا الخالق هو الله جل جلاله الذي خلق هذه الكائنات وجعلها آيات بينات تدعو البشر للتفكر و التدبر. و ما على البشر إلا أن يدركوا آياته الخارقة، سواء أكانت في الأرض أم في السماء والتسبيح بحمده و التقرب إليه بما يرضاه من أعمال.
{ وَ لا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } القصص: 88 .
البلانكتون: أحياء العالم المجهري(1/60)
يُعَدُّ البلانكتون أهم جزء في شبكة الحياة البحرية. وحلقاتها. يبلغ طول هذا الكائن الحي بضعة مايكرونات. وإذا علمنا أن المايكرون الواحد يعادل واحداً بالمليون من المتر، فأول ما يتبادر إلى ذهننا مدى صغر هذا الكائن الحي المجهري. و لكن ما ميزة هذا الكائن الحي التي تجعله أهم أجزاء شبكة الحياة البحرية على الرغم من حجمه المجهري؟
يُعَدُّ البلانكتون مادة غذائية لأغلب الكائنات البحرية، ويقسم إلى قسمين: البلانكتون الحيواني و البلانكتون النباتي. لذلك فأي نقص في وجود البلانكتون يؤدي إلى أخطار جسيمة في حياة أغلب الكائنات البحرية ابتداء من الحيتان حتى أصغر الحيوانات. ولا تقتصر أهمية هذه الكائنات الحية المجهرية على هذا الجانب فقط، بل يلعب البلانكتون النباتي دوراً كبيراً في التوازنات المختلفة و الموجودة في هذا الكوكب.
هناك بلانكتون يدعى بـ (فايتوبلانكتون) وهو بلانكتون نباتي يتألف من كائنات أحادية الخلية تتحرك بفعل تيارات الماء. و يُعَدُّ فايتوبلانكتون أول حلقة في سلسلة الغذاء البحرية، ويُعَدُّ أيضاً قادراً على إجراء عملية التركيب الضوئي باستخدام ضوء الشمس مثل النباتات البرية.
و بهذا الشكل تغدو هذه الكائنات الدقيقة المصدر الأساسي لتوفير الغذاء العضوي لاستهلاك الكائنات الحية البحرية الأخرى. و كذلك تلعب دوراً أساسياً في دورة الأكسجين في المسطحات المائية و الحفاظ على توازن النبات فيها.
وعند إجراء هذه الكائنات النباتية الدقيقة لعملية التركيب الضوئي فإنها تمتص ثاني أكسيد الكربون في الجو وتطلق بدلاً منه كميات كبيرة من الأكسجين. و هذه الكميات تشكل نسبة 70 % من الـ110 مليار طن من الأكسجين الذي تطلقه النباتات كل سنة في الأرض. 23(1/61)
ويمكن ذكر أمثلة عديدة على هذه الطّحالب البحرية مجهرية الحجم و التي تشكل بمجموعها الفايتوبلانكتون، كالدياتوميرات التي تمتاز بشكلها الهندسي، ويمكن التعرف عليها بسهولة لاحتواء أجسامها على كبسولات غدية سليكونية، وكذلك الداينوفلاغيلاتات التي لها سوطان تتحرك بواسطتهما.
أما البلانكتونات الحيوانية فتتألف من كائنات حية أحادية الخلية، ولكن منها ما هو متعدد الخلايا أيضاً. و أغلب الكائنات الحية البحرية تكون أحادية الخلية في فترة أو فترات من حياتها. فمثلاً الحيوانات اللافقرية تكون أحادية الخلية في حالة العذرية (حالة اليرقة). و حتى الأسماك تشكل قسماً من البلانكتونات الحيوانية في الأطوار الأولى من حياتها.وللبلانكتون أنواع عديدة جداً، فضلاً عن وجود سمات و خصائص مميزة لكل نوع من هذه الأنواع. و يتضح من خلال استعراض هذه الأمثلة ذات الحجم المجهري أن هناك تكاملاً تاماً سواء أكان من ناحية الشكل أم من ناحية التركيب العام للكائن الحي.
وهذه الكائنات الحية المجهرية تلعب دوراً فعالاً في الحفاظ على الكثير من التوازنات الموجودة في البيئة. إن الله لقوي قدير، يخلق ما يشاء كيفما يشاء، وهو القادر على كل شيء.
الملاجئ الآمنة تحت الماء: الشعب المَرجانية
يعيش المَرجان في المياه الضحلة الاستوائية. و تتشكل الشعب المَرجانية من تكلس أجساد الكائنات المَرجانية الميتة. وتُعَدُّ هذه الشّعاب المرجانية مأوى مثالياً للكثير من الأحياء البحرية. و تنتشر هذه الشعاب في مناطق كثيرة جداً. ويشبّه العلماء هذه الشعاب بالغابات الاستوائية من ناحية كثرة الأنواع الحية التي تؤويها؛ لأن هذه الشعاب تؤوي أكثر من 2000 نوع من الأسماك و 5000 نوع من الرخويات و 700 نوع من المرجان وأنواعاً لا تحصى من سرطان البحر. إضافة إلى كستناء البحرو نجم البحر و القواقع البحرية.(1/62)
وتعيش أنواع معينة من معوية الجوف Polyps ضمن الشعب المرجانية أيضاً. و هذه الكائنات الحية تعيش عيشة تكافلية مع الطّحالب الموجودة في السطح الداخلي لأنسجتها الجسمية. وهذه الطحالب تحتوي على الكلوروفيل، وبذلك تستطيع إجراء عملية التركيب الضوئي. و هي كذلك غنية من ناحية الأكسجين، ولكنها تحتاج إلى المواد المعدنية. ومثلها مثل النباتات الأخرى تحتاج إلى النترات و الفوسفات. وهنا تبرز أهمية التكافل بين هذين الكائنين الحيين ( Polyps و الطحالب)، و بهذا التكافل يستطيعان الاستمرار في الحياة؛ لأنهما لا يقويان على ذلك بمفردهما.
وهذا يعني أنّ الطحالب الموجودة في أجسام هذه الحيوانات المعوية الجوف توفر ما تحتاجه من مواد مثل النتروجين من مضيفاتها، وهي في الوقت نفسه تكون قد وجدت لنفسها ملجأ آمناً من الأعداء. و في مقابل هذا تأخذ الحيوانات المعوية الجوف جزءاً من الغذاء الذي تنتجه الطحالب بواسطة عملية التركيب الضوئي. و بهذه الطريقة تستطيع هذه الحيوانات أن تحصل على الطاقة اللازمة لبناء هياكلها الكلسية. 24
ومثل باقي الكائنات الحية التي تعيش عيشة تكافلية مشتركة، فإن معوية الجوف والطحالب تستطيع كل واحدة منها أن تحصل على ما هو ضروري لها من الأخرى. إن هذه الكائنات الحية قد خُلِقَتْ من قبل الله عز و جل وبهذه الصورة كي تعيش معيشة تكافلية فيما بينها.
إن هذه المزايا العجيبة والصفات الفريدة للكائنات الحية البحرية التي خلقها الله بقدرته وعلمه تعكس لنا صورة حية عن آياته الباهرة في خلقه، و تشهد على بديع صنعه و على علمه الواسع الذي لا حد له.(1/63)
{وَ مَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفَاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمَاً طَرِيَّاً وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَ تَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}النحل: 13-14 .
اللآلئ: المجوهرات البحرية ذوات المناظر الأخّاذة
أينما وجّه الإنسان نظره فثمة آية من آيات الله تنطق بقدرته و عظمته. و الأمثلة التي نذكرها في هذا الكتاب ليست سوى جزء ضئيل من بحر آيات الله الباهرة في خلقه. و قد خلق الله للإنسان كائنات نباتية و حيوانية كثيرة تتميز بالمنظر الرائع والشكل الجميل الأخاذ. وكل شيء في الطبيعة مخلوق بالشكل الذي يتلذذ بطعمه الإنسان وترتاح له عينه، إلى جانب ذلك هناك العديد من الأشياء المخلوقة في الطبيعة كي تستخدم للزينة. ويُعَدُّ اللؤلؤ أحد هذه الأشياء التي يتزيّن بها الإنسان. فإلى جانب منظره الرائع فإنّ له خصائص عجيبة أخرى.
إنّ المراحل التي يتم خلالها تشكل اللؤلؤ تُعَدُّ بدورها مثيرة للحيرة و الإعجاب. ويتشكل اللؤلؤ بصورة عامة داخل أجسام المحار الذي يُعَدُّ نوعاً من أنواع الصدفيات (الأصداف البحرية). وتمتاز قشور هذه الصدفيات بالمقاومة العالية، ومن الصعب أن تفتح هذه القشور لصلابتها لكونها تحتوي على كربونات الكالسيوم بنسبة عالية. ولهذه الصّلابة الفضل في ابتعاد الأعداء عن المحار. وتلعب مادة كربونات الكالسيوم دوراً كبيراً في تشكل اللؤلؤ داخل أجسام الصدفيات.(1/64)
عندما تدخل قطع من الحصباء أو الرمل أو حتى الكائنات الحية الطفيلية داخل أجسام الصدفيات تشعر بالانزعاج الشديد، وكوسيلة لمقاومة هذه الجسيمات الغريبة تقوم بعزلها عن طريق إفراز مادة الصّدف عليها. وهذه الخطوة تُعَدُّ الأولى في طريق تشكل اللؤلؤ. إن الجسيمات الغريبة الداخلة إلى جسم الصدفيات تُعَدُّ نواة لتشكل اللؤلؤ. وتستمرّ طبقات من كربونات الكالسيوم في التراكم فوق هذه النواة الأولية لسنوات عديدة.
ولكن كيف تتكون مادة الصدف داخل أجسام هذه الصدفيات؟ تتكون في الطبقات الداخلية لجلد المحار. فهناك مادتان أساسيتان تفرزان في تلك الطبقات وتُعَدَّان المواد الخام لللؤلؤ. المادة الأولى: تدعى “أراكونايت” وهي المادة الأساسية في تركيب اللؤلؤ، وتفرز من إحدى تلك الطبقات الجلدية. و تُعَدُّ هذه المادة غنية جداً بكربونات الكالسيوم. والمادة الثانية تدعى “كونشيولاين”: وهي مادة لزجة تقوم بمسك طبقات الأراكونايت بعضها مع بعض، وتفرز في طبقة أخرى من الطبقات الجلدية.
إن الأراكونايت مادة شفافة تكسب اللؤلؤ بريقاً ولمعاناً. والمحير هنا كيفية قيام حيوان عديم المخ مثل المحار بإنتاج هاتين المادتين، ومن ثم جمعهما مع بعضهما لإنتاج اللؤلؤ كوسيلة لعزل ذرة الغبار؟ هذا أمر محير طبعاً.
إن وسيلة الدفاع لدى المحار- أو بمعنى آخر لدى اللؤلؤ- هي في الوقت نفسه وسيلة من وسائل الزينة والتجميل بالنسبة إلى الإنسان.
و يقول الحق سبحانه و تعالى في كتابه الكريم:{ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجَانُ}الرحمن: .22
إنها تذكرة للإنسان كي يتمعّن في هذه الآيات البينات. إنّ اللّؤلؤ قد ذكر في القرآن أيضاً باعتباره أداة من أدوات الزينة المستخدمة في جنة الخلد.
التناظر الرائع في الكائنات الحية(1/65)
لو نظرت في المرآة لوجدت تناظرا رائعاً بين العناصر المكونة للوجه، ولو تصفحت أية مجلة ووجدت فيها صورة لإنسان، أو شاهدت طيراً من الطيور أو حتى زهرة أو فراشة لشاهدت التناظر نفسه.
إن التناظر هو العنصر الذي يفرض نفسه و بقوة في هذا الكون، والكائنات الحية جميعها تمتلك تركيباً .منتناظراً
انظر إلى الأحياء البحرية تجد التناظر الرائع نفسه، فالأسماك مثلاً والسرطانات البحرية وبراغيث البحر (الروبيان) و القشريات البحرية ...إلخ. وخذوا بأيديكم زوجاً من القشريات البحرية كتلك التي ترونها في الصّورة الجانبية، ومن ثم ضعوه في وضع متقابل و متناظر. ستجد أن ترتيب الخطوط الجسمية في كل الحيوانات متناظر من أكبرها إلى أصغرها و بشكل محير و أخاذ. ولو فحص أي حيوان أو كائن حي في الطبيعة لوجد أن هناك ترتيباً و تناظراً منظماً وتنويعاً في الألوان يبعث في النفوس الدهشة و الإعجاب.
ويعجز دعاة نظرية التطور الذين يتبنون فكرة المصادفة في وجود الكائنات عن إيجاد تفسير منطقي أمام هذا الترتيب والتناظر المنظم و التنوع المدهش للألوان، والواضح أنهم سوف يظلون عاجزين أمام هذه الظواهر الخارقة في إرجاع سبب وجودها إلى فكرة المصادفة السّمجة. وحتماً سيمكثون في عجزهم هذا مهما كانت ادعاءاتهم التي يحاولون بها تفسير هذا التنوع المدهش في الألوان و النقوش، وهذا التناظر و الترتيب الخارقين.
وهذه الحقيقة سيتوصل إليها كل ذي عقل مدرك. وحتى تشارلز داروين مؤسس نظرية التطور اضطر إلى الاعتراف بالعجز التام أمام هذه الحقيقة كما يلي:
“لا أعتقد أن الانتخاب الطبيعي كان الوسط الذي حدث داخله ظهور حوادث طبيعية مثل البريق اللوني أو حضانة ذكور الأسماك للبيض أو ظهور إناث الفراشات ذات اللمعان الأخاذ”.25(1/66)
و لا يستطيع أي إنسان عاقل مدرك أن يدعي أن المصادفة كانت سبباً في ظهور هذه المظاهر الجميلة الزاهية في الطبيعة، مثل الفراشات الملونة الجذابة والأزهار كالبنفسج و الورود المختلفة وثمار الفراولة وحبّات الكرز و طيور الببغاء وطيور الطاووس وحتى النّمور. فهذه الكائنات قد منحت هذه الصفات الجميلة من قبل الله الخالق الفاطر القادر على كل شيء. و هو الذي وسع علمه كل شيء، لا إله سواه.
{ اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيْطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } البقرة: 255 .
الفراشات و خصائصها العجيبة
عزيزي القارئ تفحص أجنحة الفراشة ( المبينة في الصورة الجانبية) وكأنك تشاهدها لأول مرة. ستجدها حتماً لوحة جمالية رائعة. و لن تجد أبداً أي خلل في الترتيب و التنسيق مهما كان صغيراً جداً. و سترى ألواناً مثيرة وجذابة ونقوشاً تبعث الحيرة و الإعجاب في نفوسنا.(1/67)
و لنفترض وجود قطع قماش ذات نقوش و زخارف كتلك الموجودة على أجنحة الفراشات، وعلى الدرجة نفسها من الجمال و الروعة. و لو كانت هذه القطعة موضوعة في إحدى الواجهات الزجاجية لأحد المحالّ، فماذا سيكون شعورك عزيزي القارئ عند رؤيتك إياها؟ قد تظنّ أن هذه النقوش قد اقتبسها الفنان الذي رسمها من تلك الموجودة على أجنحة الفراشات. ولا بد أن تُكبر ما خطّه من نقوش جميلة. إلا أن التثمين و الإكبار لا يكون للذي خط تلك النقوش على القماش بل للذي خطها على أجنحة الفراشات، وبذلك الشّكل الذي لا مثيل له من الروعة و الجمال، وهو الله جلّ جلاله بديع السماوات والأرض. ومثلما يستحيل ظهور النقوش و الزخارف على تلك القطعة من القماش بالمصادفة، فإن من المستحيل ظهور تلك النقوش البديعة على أجنحة الفراشة بالمصادفة أيضاً.
إنّ تلك الفراشات التي تظهر صورها إلى الجانب لا تكون مثيرة بألوان أجنحتها فحسب، بل لها خصائص أخرى عجيبة وغريبة و لافتة للانتباه، فأجسامها ذات تصميم خارق من كافة الوجوه. فهذه الفراشات تقتات على ما تمتصه من رحيق الأزهار، و كثيراً ما تقتات على الرحيق الموجود في أعماق الأزهار بواسطة أعضاء طويلة في أجسامها تدعى بـ” بروبوسيس “ .Proboscis
ويُعَدُّ البروبوسيس عضواً شبيهاً باللسان يستخدم لامتصاص الرحيق في الأزهار أو لشرب الماء. وعندما لا تكون الفراشات في حاجة إلى استعمال هذا اللسان تطويه إلى الداخل. وعند إطلاق هذا اللسان بطوله يصبح طول الفراشة ثلاثة أضعاف طولها الأصلي.(1/68)
والفراشة ككل الحشرات يحاط جسمها بطبقة هيكلية. وهذه الطبقة تتألف من طبقات متعددة صلبة ترتبط بالطبقات الرخوة التي تحتها، وبذلك تكون مثل درع واق للجسم. وتتألف هذه الطبقة الصلبة من مادة الكايتين. وتتشكل هذه الطبقة عبر مراحل مثيرة للانتباه، فيرقات الفراشة تمر بفترات تغيير عضوية شكلية وجذرية. فاليرقة تتحول إلى عذراء داخل شرنقة، ومن ثمّ تتحول هذه العذراء إلى حشرة كاملة النمو. وعبر هذه المراحل تمرّ أعضاء الحشرة، مثل المجسّات الرأسية والأطراف والأجنحة بتغييرات طفيفة. و تمرّ العضلات المستخدمة في الطيران كذلك ببعض التغييرات خلال مراحل النمو المختلفة، والأمر نفسه بالنّسبة إلى باقي الأعضاء الجسمية المختلفة كالجهاز الهضمي والدوران و التنفّس . 26
إنّ هذه التغييرات التي تمر بها الفراشات خلال فترة النمو تتميز بخصائص عجيبة مثلما تتميز بها أجنحتها، و هذا كله يرجع إلى قدرة الله الذي خلقها و أبدعها جل جلاله.
فإن الله منح لكل كائن حي ما يحتاج إليه و يناسبه من صفات ومزايا، فتبارك الله أحسن الخالقين.
الخصائص المثيرة لريش الطيور
لا بد أنّ كل واحد منا-على الأقل- قد تأمّل ريش طير التقطه من الأرض أو أخذه وهو يتطاير في الهواء. و لا بد أنه انتبه إلى التناسق الموجود بين أجزاء الريش، ورأى كذلك أنّ الرّيش النّابت في الأجزاء السفلية يكون أكثر نعومة. وقد يكون قد لاحظ تراكب خيوط الريش بعضها فوق بعض. و ربّما أصابته الحيرة و الدهشة من هذا التركيب الغريب للريشة. و ربّما ازدادت حيرته لو تفحص الريشة تحت المجهر و رأى التصميم المدهش لأجزائها.
كلنا يعرف أن الريشة تحتوي في وسطها على ما يشبه القضيب يدعى بالنّصل. وعلى جانبي هذا النصل تنمو المئات من خيوط الزّغب، وتختلف هذه الخيوط فيما بينها من ناحية الرخاوة و الطول، ولكنها جميعاً تجعل جسم الطير ملائماً للطيران وعلى أحسن ما يكون.(1/69)
ولو دققنا في التفاصيل أكثر لبرزت أمامنا تراكيب غريبة، ففوق كل خيط من هذه الخيوط الريشيّة توجد خيوط أدق و أصغر تدعى بـ “الرويشات” وهي صغيرة إلى درجة لا يمكن تمييزها بالعين المجردة إلا بصعوبة بالغة. وفوق كل رويشة توجد كلابات صغيرة تدعى الخطافات، وبواسطة هذه الخطافات تستطيع الرويشات أن تمسك بعضها ببعض مثل السّحّاب المستخدم في الملابس.
وريش طير مثل الغرنوق يتكون من نصل وعلى جانبه 650 ريشة ناعمة، وفي كل ريشة توجد 600 رويشة متقابلة، وفي كل رويشة يوجد 390 خطافاً، تربط الرويشات بعضها ببعضها الآخر، وهي تبدو مثل سحّاب الملابس في ارتباطها بعضها ببعض. وهذه الرويشات ترتبط بقوة و متانة إلى درجة أنّ الدّخان المنفوث لا يستطيع النفاد من خلالها. و إذا حدث وأن انفصلت الرويشات بعضها عن بعض، فإنّ الطّير ينقض عليها بمنقاره بسرعة و يعيدها إلى وضعها الطبيعي.
إنّ هذه الطريقة في تركيب ريش الطير مهمة جداً في عملية الطيران، فالذي يكسب الطير المقدرة على الطيران هو عدم نفاد الهواء من خلال الريش. ومن المزايا الأخرى لريش الطيور، و التي تخطف النظر أيضاً، تلوّنه بألوان مختلفة. ومصدر هذه الألوان هو بعض الصبغات الجلدية التي تتكون في جسم الطير في مراحل تكوّن الريش، إضافة إلى تأثر الجسم بألوان الوسط الذي يعيش فيه الطير.
إنّ ريش الطير يتألف من مادة الكاراتين، و هذه المادة معرضة للتلف تحت ظروف البيئة المختلفة، لذا فإن الريش يتم تجديده بين كل مدة و أخرى؛ إلا أنّه بعد كل مدة تجديد يكتسب الطير الألوان الزاهية في ريشه مرة أخرى لأنّ الريش يستمر في النّمو حسب نوع الطير و لون ريشه والنقوش الموجودة عليه حتى يكتمل هذا النمو. و إن هذا التلون في الريش و التصميم المدهش في تركيبه دليلان بارزان على بديع صنع الله وجميل خلقه و سعة علمه جل جلاله.
طيور (الماكاو): التّرياق المقاوم للسّموم(1/70)
لو تعرض شخص ما إلى تسمّم فهناك وسيلتان لإنقاذه: إمّا إزالة التأثير بواسطة علاج ما، أو إخراج ذلك السم من جسمه بالإسعاف الطبي، وإلا فمن غير الممكن للمرء أن يقوم بإسعاف حالة التّسمم دون علم كامل بالمواد المضادة للسموم أو النباتات المضادة المستخدمة في هذه الحالات.
ولكن توجد كائنات حية في الطبيعة لها علم كامل بالسّموم ودون الحصول على أية دورة تدريبية. وهذه الكائنات الحية عديمة العقل و الإدراك أو بالأحرى عديمة الذكاء، إلاّ أنّها تعالج نفسها في الكثير من حالات التسمم التي تعانيها. والذي يلفت الانتباه في عملية علاج هذه الأحياء لنفسها هو معرفتها معرفة كاملة بما تقوم به. فهي تعرف جيداً العلاج المناسب لكل مرض. ولكن هل أن هذه الوصفة الطبية هي من ابتكار تلك الكائنات الحية فعلاً؟ وكيف استطاعت أن تحصل على هذه المعلومات؟
يدعي دعاة نظرية التطور أنّ الغريزة هي السّر وراء جميع هذه السلوكيات لدى الحيوانات، و هم يعجزون بالطبع عن بيان كيفية تشكل هذه السلوكيات في البداية.
إنّ هذه الحيوانات عاجزة عن تعلم هذه السلوكيات بمرور الزمن، وعلى سبيل المثال: فعندما يتسمم الحيوان فإنه يموت لحظة التسمم، ولا سبيل أمامه حتى يتعلّم سبب التسمم وكيفية إزالته بالتجربة. ويجب ألاّ ننسى أنه لا قدرة للحيوان على التفكير و الإدراك بهذه الكيفية.
ولنطلع معاً على مثال يخص تلك السلوكيات الشعورية التي تنتجها الحيوانات في علاج نفسها بنفسها. ومثالنا هو طيور الببغاء المسماة (ماكاو) و التي تعيش في المناطق الاستوائية الأمريكية، وهي طيور مثيرة جداً بألوانها الزاهية، ولكنّ الأكثر إثارة أنها تقتات على البذور المسمومة ومنقارها ضخم كأنه خطاف كبير.(1/71)
ويستخدم الماكاو منقاره في كسر القشور الصلبة جداً، وهو خبير في البذور المسمومة. و هذه ميزة مثيرة جداً؛ لأن المفروض أن يتسمم حال تناوله لهذه البذور المسمومة، ولكنّ شيئاً من هذا لا يحدث أبداً، فبعد تناوله لهذه البذور يطير مباشرة إلى تلك الأماكن التي تكثر فيها الصخور الطينية ليتناول أجزاء منها ويبتلعها. وهذا السّلوك يرجع سببه إلى كون هذه القطع الصّخرية تحتوي على مواد تمتص تلك السموم الموجودة في البذور و تزيل تأثيرها نهائياً. وبهذه الطريقة يستطيع طائر الماكاو أن يهضم البذور دون أن يتأثّر بما فيها من سموم.27
إنه من المستحيل على طير الماكاو أن يعرف الطريقة التي تزيل تأثير سموم هذه النباتات من تلقاء نفسه؟
إن مثل هذه السلوكيات الشعورية لدى الحيوانات لا يمكن أن يكون الحيوان نفسه هو مصدرها. والواضح أنه من غير المحتمل أبداً أن تكون هناك قوة أخرى في الطبيعة أو عامل طبيعي يقود إلى هذه السلوكيات الشعورية. إذن: هناك قوة خفية تسيطر على سلوك الحيوانات، وبمعنى آخر: تلهمها سلوكها وتهديها إلى طريقها. وهذه القوة الخفية هي قوة العلي القدير، وهو البصير بعباده و اللطيف بأحوالهم.
الأساليب الذكية للطيور آكلة النَّحل
إن بعض الطيور تبدو وكأنها لا طاقة لها ولا حيلة، غير أنّ لها القدرة على نحت الأحجار برغم صلابتها. وهي في نحتها لتلك الأحجار لا تستخدم سوى آلة واحدة وهي المنقار. و يمكن أن نَعُدَّ صياد النحل من بين هذه الطيور.
ويبني هذا الطائر عشّه على سفوح الأحجار الرملية أو في المناطق الطينية الصلبة المطلة على الأنهار. ويستخدم منقاره فيضرب به على تلك الأحجار لوقت طويل حتى يتمكن من فتح ثقوب فيها، ويستمر في عمله بثبات حتى يفتح نفقاً ضيقاً يتراوح طوله ما بين 90 و 100سم.(1/72)
يستخدم هذا الطير منقاره كآلة لبناء العش و يستخدم كذلك مخالبه كوسيلة مساعدة لتوسيع فتحته، وتمتاز هذه المخالب بالقوة والقصر في آن واحد. و ينظف هذا الطائر عشه من الأتربة بواسطة هذه المخالب، ويعيش بعض صيادي النّحل على شكل مستعمرات يربو عددها على 1000 طائر. ويعجز العلماء عن معرفة كيفية اهتداء كل طير إلى عشه الخاص به من بين هذا العدد الهائل من الأعشاش.28
والميزة الأخرى التي تمتاز بها هذه الطيور هي قدرتها الفائقة على اصطياد الحشرات، فهذه الطائر تقتات على النحل. وهذه الميزة محيرة فعلاً، فأكل النحل هي عبارة عن عملية انتحار بالنسبة إلى باقي الطيور، إلا أنّ الطائر الصّياد للنحل لا يتأثر بسموم النحل الذي يأكله، و يرجع ذلك إلى الطريقة التي يصطاد بها هذه الحشرة، فهو يقوم أولاً بمسك النّحلة، ويضرب بطنها بشدة على غصن شجرة حتى تتآكل البطن وبذلك يتفرق السّم في الهواء. 29
أما المزايا الأخرى لهذا الطائر فهي قدرته على الإمساك بالنحل بسهولة وبسرعة كبيرة، فهذا الطائر يمتلك منقاراً يبلغ طوله 4^5 سم، إنّ هذا الطّول مهمّ جداً، فلو كان المنقار قصيراً لتعرض الطائر إلى لسعات النحل قبل أن ينقض عليها، بالإضافة إلى أنّ الحافة المدبّبة للمنقار تساعد الطائر على الإمساك بالحشرة من المنطقة الفاصلة بين الصدر والبطن، وهكذا يسهل على الطير إفراغ ما في جسم الحشرة من السّم.
إن معرفة الطائر بكيفية التخلص من تأثير سمّ النحل القاتل لا يمكن أن تكون بإرادة الطائر أو بعلمه الذاتي. ولا يمكن لأحد أن يدعي بأن الطائر قد اكتسب هذه الخبرة عن طريق التجربة التي تخطئ أحياناً وتصيب أحياناً أخرى.(1/73)
إنّ هذا السّلوك الفريد لهذا الطائر يبين أنّ له معرفة به منذ لحظة وجوده في الحياة، ثم إنّ تميز جسم الطائر بخصائص تساعده على عملية الصّيد دليل واضح على أن هذا الطائر مخلوق كي يصطاد هذا النحل بسهولة. وهذا الطائر مثله مثل باقي الكائنات الحية خلقه الله تعالى بقدرته على الشكل الذي هو عليه.
العقاب ذلك الصياد الماهر
لو تفحّصنا أجسام الطيور في كافة تفاصيلها لوجدناها قد صممت كي تستطيع الطيران بكل سهولة. فالعقاب مثلاً من الطيور التي تستطيع الطيران والتحليق في الجو بكفاءة عالية. وهذا الطير يحتاج إلى أن يكون خفيف الجسم حتى يتمكن من الطّيران والارتفاع من الأرض، ويحتاج في الآن نفسه أن يكون قوياً حتى يتمكن من رفع فريسته في الجو بعد اصطيادها.
ويوجد منه نوع يدعى بالنّسر الأصلع يحتوي جسمه على 7000 ريشة، ولكن لو نزع هذا الريش ووزن لما تجاوز وزنه الـ 500غرام.
وكذلك تمتاز عظام هذا الطير بكونها مجوّفة، ولا تحتوي في كثير من هذه التجاويف إلاّ على الهواء. ويزن الهيكل العظمي لطائر النّسر حوالي 272 غراماً أو أكثر بقليل. وبشكل عام فإنّ وزن جسم النسور ملائم تماماً لطيرانها و تحليقها في الجو.
وعندما يطير العقاب يحتاج إلى قوة دفع يستمدها من رفرفة جناحيه وخصوصاً عندما يتجه الجناحان نحو الأسفل. ولهذا السّبب فإن العضلات المحركة للأجنحة نحو الأسفل أكثر عدداً من العضلات المحركة للأجنحة نحو الأعلى، وهذه العضلات المستخدمة أثناء الطيران مهمة بالنسبة إلى العقاب. وعموماً فإنّ وزن هذه العضلات يعادل تقريباً نصف وزن جسم الطائر.
وتستطيع العقبان أن تغير من سرعة تحليقها في الجو بتغيير مواضع أجنحتها لزيادة السرعة أو تقليلها، فعندما تبدأ بزيادة سرعة طيرانها تقوم بتوجيه الحافات الأمامية لأجنحتها عكس اتجاه الريح، وبذلك تكون وكأنها قطعت الريح. وعندما تبدأ بالتخفيف من سرعتها توجّه الحافات الخلفية للأجنحة عكس اتجاه الريح.(1/74)
وعيون جميع العقبان تتميز بوجود جفن إضافي يدعى (نايكتايتانت)، ووظيفة هذا الجفن الإضافي وقاية العين و تنظيفها، فعلى سبيل المثال: تقوم بغلق جفونها عموماً عندما تقوم بإطعام صغارها. وهذا يمنع أي أذى محتمل يمكن أن يسببه الصغار خطأ وهم يمدّون مناقيرهم نحو الأبوين لتلقي الطعام.30
إن أجسام العقبان ليست مصممة حتى تكون لديه القدرة على الطيران السليم فحسب، وإنما صممت على هيئة تستطيع معها الهبوط بشكل سليم أيضاً. فعندما يهبط العقاب يفرك ريش ذيله نحو الأسفل في زاوية متناسبة مع وضع الجسم لتقليل السرعة، ويستخدم حافات أجنحته ليوجهها نحو الأسفل أيضاً لتصبح مثل الفرامل، إلاّ أنّ العقاب يواجه عند الهبوط خطر السّقوط بسبب تكون تيار هوائي فوق أجنحته، بيد أنه يتخلص من هذا الخطر برفع لفيف من الريش عند حافة الأجنحة يتراوح عدده من 3-4 ريشات، وهذه العملية تؤدي إلى انسياب الهواء فوق الأجنحة على شكل خط مستقيم، وبهذه الصورة ينهي عملية هبوطه إلى الأرض.31
وتتضح لنا الحقيقة الوحيدة من خلال سرد هذه الأمثلة. فحين نأخذ بعض التفاصيل و ليس كلها في تركيب جسم العقاب نجد تصميماً خارقاً ومدهشاً لا يمكن أن يظهر مصادفة. وهذا يثبت لنا أن العقبان مثلها مثل باقي الكائنات الحية مخلوقة بقدرة الله الخلاق العليم جل جلاله.
النسّاجون المهرة في الطبيعة
هل يمكن أن ندّعي أن المصادفة هي التي علمت كائناً حياً أن يقطع قطعاً على شكل شرائط طويلة من الأوراق الخضراء، ثم يبني بها أعشاشاً غاية في المتانة بين أغصان الأشجار المتشابكة، بعد أن يقوم بنسج القطع الورقية فيما بينها؟ وبالتأكيد فإنه أمام هذه المهارة الفائقة لا يمكن أن ندعي ذلك.
وكما سنرى في السطور القادمة فإن هناك الكثير من الخصائص لدى الحيوانات المختلفة مما يفنّد مزاعم دعاة نظرية التّطور، ويثبت أنها بعيدة كل البعد عن قواعد العلم والمنطق.(1/75)
يقوم الطائر النّساج بجمع المواد الأولية التي يستخدمها في النّسج، فإمّا أن يقتطع شرائط طويلة من الأوراق النباتية الخضراء، أو أن يقتطع عروقها الوسطى، وبالتأكيد ثمة سبب يجعله يختار تلك الأوراق الخضراء. فلو استخدم الأوراق اليابسة لما استطاع أن يهذب شكلها أو استخدامها في نسج العش. وفي المرحلة الأولى من نسج العش يبدأ الطائر النسَّاج باختيار غصن ذي شكل يشبه شوكة الطعام أو ذي فرعين، ومن ثم يبدأ بلف شريط طويل اقتطعه من ورقة نباتية حول هذا الغصن، ويمسك بإحدى ساقيه طرف هذا الشريط الورقي فوق الغصن ويمرّر الطرف الآخر من بين فرعي الغصن بمنقاره، ويصنع هذا الطائر عقداً كي يربط الشرائط بعضها ببعض حتى يمنع سقوطها.
وفي المرحلة الأولى يفرغ من تكوين حلقة واحدة من العش و يُعَدُّ بمثابة المدخل. و فيما بعد يستخدم منقاره كمكوك لكي يمرّر الشرائط الورقية من فوق الشرائط الأخرى تارة و من تحتها تارة أخرى. ويحسب الطائر بالضبط درجة الشدّ اللازمة لكل شريط من هذه الشرائط، فلو كان العش مرتخياً لانهار من فوره على الأرض. و يبدو أنّ الطائر يملك خيالاً واسعاً يعرف به أين يجب أن يتقوس جدار العش من المكان الذي يجب أن يكون فيه ناتئاً نحو الخارج.
وبعد أن ينهي نسج المدخل يبدأ بنسج الجدران. وفي هذه الحالة يعمل الطائر و هو متخذ وضعاً مقلوباً، ويستمر في العمل من داخل العش، فيمسك بمنقاره شريطاً ورقياً ليمرره من تحت شريط آخر، ومن ثم يمسك بالطرف الذي في الخارج وبعناية كي يسحبه بشدة. وبهذا الشكل يستطيع أن ينسج عشاً منتظم الشكل إلى درجة مذهلة.32(1/76)
و يتبين لنا مما تقدم أن هذا الطائر خلال بنائه لعشه يعمل ويحسب حساباً دقيقاً مراحل الخطوات القادمة و بدقة مذهلة، فيقوم بإعداد المواد الأولية اللازمة في مرحلة أولى، ولا يبدأ ببناء العش من نقطة عشوائية. وينسج المدخل أولاً ومنه يبدأ بنسج باقي الجدران. ومن المستحيل أن ندعي بأن هذه المهارات الفائقة للطيور النسَّاجة قد تشكلت لديها بفعل المصادفة. و من غير الممكن أن نقول بأن المصادفة هي التي جعلت هذه الطيور تنسج أعشاشاً بهذا التعقيد.
وهذه الطيور مثلها مثل باقي الكائنات الحية تتصرف وفق الإلهام الإلهي، وهذه الحقيقة يمكن لأي إنسان عاقل مدرك أن يتوصل إليها.
مهارات السنجاب الطائر
إن الله عز وجل يدل على قوته وآياته الباهرة بالكائنات الحية التي خلقها وأبدع صنعها، وكلّما استطاع الإنسان أن يكشف حقيقة جديدة في كائن حي ازداد حيرة وإعجاباً. وكل كشف جديد يُعَدُّ خطوة في طريق إزاحة الغفلة عن قلب الإنسان، وإنّ التفكير في هذه الحقائق العلمية المكتشفة يُعَدُّ خطوة نحو التعرف على الوجود الإلهي و القدرة الإلهية والمعجزات الإلهية.
وتُعَدُّ السناجب الطائرة أحد أنواع الكائنات الحية التي تعد بالملايين، وتُعَدُّ من بين الشواهد الكفيلة بإيقاظ عقل الإنسان من سبات الغفلة والكسل الفكري، وذلك لما تتميز به هذه الحيوانات من خصائص عجيبة وفريدة.
فطول السنجاب الطائر يتراوح ما بين 45و90سم، وتعيش هذه السناجب الطائرة في قارة أستراليا، وتستطيع الانتقال من شجرة إلى أخرى كما لو كانت طائرة شراعية، ولا عجب في ذلك فهي تعيش بجميع أنواعها في الأشجار. وتستخدم هذه السناجب الغشاء الموجود بين ذراعيها كوسيلة للطيران.(1/77)
و هناك نوع من السناجب الطائرة يتميز غشاؤه بالامتداد من الأطراف الأمامية حتى الأطراف الخلفية، وهو ضيق و مغطى بشعر طويل يشبه السنابل. وتوجد أنواع أخرى يكون فيها هذا الغلاف على شكل جلد مغطى بفروة، ويشبه المظلة. ويمتد هذا الغشاء حتى مرافق الأطراف الأمامية.
و ثمة نوع آخر يدعى بالكسكس الطائر يستطيع أن يستخدم غشاءه بشده شدّاً قوياً، وبذلك يستطيع أن يطير به مسافة تزيد عن الثلاثين متراً.
والسناجب بسلوكها هذا تشبه الطائرات الشّراعية. وشوهد بعض السناجب يقطع مسافة 530 متراً أثناء تحليقه بين الأشجار.33
وكما جاء في الأمثلة المذكورة في هذا الكتاب، فإن للسناجب الطائرة خصائصها المميزة، ويستطيع الإنسان أن يتوصل من خلال التّفكير العميق إلى عدة حقائق كبرى وجوهرية، خصوصاً إذا فكر في كيفية ظهور ملايين الأنواع من الكائنات الحية ذات الخصائص المختلفة بعضها عن بعض، فالحقائق التي يمكن له التوصل إليها هي استحالة ظهور ولو كائن حي واحد بخصائصه المتميزة ومن تلقاء نفسه، واستحالة اكتساب الكائن الحي لخصائصه المتميزة من تلقاء نفسه أو عن طريق المصادفة، فالحيوانات والنباتات والإنسان جميعهم قد خلقوا بقدرة الله تعالى التي لا حد لها، وهذه الحقيقة واضحة لكل ذي عقل وفكر.
إنّ استيعاب هذه الحقيقة والعيش بها هو بلا شك في صالح الإنسان، فمهمة الإنسان في هذه الدنيا هي التفكر في ملكوت الله و معرفته به، وشكره والثّناء عليه.
{ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} طه: 98 .
مظاهر الشّفقة التي يبديها طائر “الكيرَبة” تجاه فراخه
إنّ من المفترض من حيوان غير عاقل أن يترك صغاره عند خروجهم إلى هذه الحياة، ولكنّ الملاحظ أنّ الحيوانات عكس ذلك تماماً، فهي تتولى مسؤولية تنشئة صغارها بكل اهتمام، بل وتتخذ جميع الاحتياطات اللاّزمة لدرء الأخطار المتوقعة والتي قد تداهم حياة الصّغار.(1/78)
ومن أفضل الأمثلة على هذه الحيوانات طائر مائي يدعى الـ”كيربة”، وهذا الطائر يحمل صغاره على ظهره، وبهذا يُعَدُّ الأبوان بمثابة منزل عائم للصغار. فالصغار يمتطون ظهر الأبوين أو واحد منهما، ويمدّ الطائر جناحيه قليلاً ليمنع سقوط الصغار، ويميل برأسه إلى الخلف لإطعامهم بالطعام الذي يحمله في منقاره (الصورة إلى الأعلى).
وأول ما يطعم هذا الطائر صغاره قطعاً من الريش ينتفها من صدره أو يلتقطها من الريش الذي يطفو فوق الماء، وكل فرخ يتناول مقداراً لا بأس به من الريش. ولكن ياتُرى ما السّر في مأدبة الريش هذه؟
إنّ الريش الذي يتناوله الصغار لا يتم هضمه، و يتراكم في المعدة، و جزء منه يتكلس في الفتحة المؤدية إلى الأمعاء، وكذلك تتراكم عظام الأسماك والمواد الغذائية الأخرى غير المهضومة في هذه المنطقة. وهكذا يتم منع أي أذى يمكن أن يلحق بمقدمة الأمعاء الرقيقة عند مرور عظام الأسماك الحادة أو أجزاء صلبة من الحشرات.
وتستمر عادة تناول الريش لدى الطائر طوال حياته، و هي بمثابة أوّل وجبة يتم إطعامها للصغير كإجراء إحتياطي غاية في الأهمية .34
ويمكن مشاهدة سلوك مشابه لسلوك طائر كيربة لدى باقي الحيوانات تجاه صغارها، فكل كائن حي يتولى مسؤولية رعاية صغاره حتى يقوى عودهم، و يلبّي كافة احتياجاتهم المختلفة.
إنّ هذه السلوكيات الملاحظة لدى الكائنات الحية الموجودة في الطبيعة تُعَدُّ دليلاً قوياً على بطلان مزاعم دعاة التطور من أن الطبيعة حلبة للصراع، ولا يصمد فيها إلاّ الأناني والذي يهتم بمنافعه فقط. وأمّا مصدر هذه السلوكيات الحميدة لدى هذه الحيوانات فهو ليس من ابتكارها، فمن المستحيل أن يفكر حيوان مثل النمر أو غيره في تلبية احتياجات حيوان آخر واتباع سلوك محدّد وفق هذا التفكير.(1/79)
إنّ هذه الحيوانات تتصرف وفق الإلهام الإلهي، فإنّ الله سبحانه و تعالى يلهم كل كائن حي سلوكه في هذه الحياة، وبالتالي فهي تنفذ إرادة الله فيها، وكل نوع منها منقاد طائع لهذا الإلهام الإلهي، وكما ورد في كتابه الكريم:
{ وَ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} الروم: .26
اليعسوب: ماكينة الطيران
يمتلك اليعسوب خصائص عجيبة، فأثناء طيرانه يستطيع أن يتوقف فجأة ثم يتابع الطيران باتجاه معاكس مهما كان اتجاه طيرانه و مهما كانت سرعته، حتى إنه يستطيع أن يحلق واقفاً في مكانه حتى تحين الفرصة المناسبة للانقضاض على فريسته. ويستطيع كذلك أثناء انتظاره للفريسة أن ينقض عليها حتى إذا كانت في الاتجاه المعاكس.
إنّ هذه الخصائص المتميزة كانت مصدر إلهام للمهندسين في صناعة الطائرات العمودية (الهيلوكبتر) وفق التكنولوجيا الحديثة.
إنّ جسم اليعسوب يتألف من حلقات متتالية يبدو من خلالها كأنه مغطى بطبقة معدنية. وله أيضاً زوجان من الأجنحة؛ أحدهما في الأمام والآخر في الخلف، وتتلون هذه الأجنحة بألوان تتراوح بين زرقة الثلج والأحمر الرمادي. و يعمل هذا الزوجان من الأجنحة بالتناوب، أي عندما يكون الزوج الأمامي مفتوحاً فالخلفي يكون مطوياً إلى الأعلى، وهذه الحركة التناوبية ناتجة من تناوب الحركة بين العضلات المحركة لهذه الأجنحة، فعند تقلص مجموعة من العضلات تطوى الأجنحة المرتبطة بها إلى الأعلى، في الوقت نفسه الذي تنبسط فيه مجموعة العضلات المرتبطة بالأجنحة الأخرى، وهذا يعني فتحها إلى الجانبين. إن هذا الأسلوب في الطيران هو نفسه المتبع في طيران الهيلوكبتر عند الارتفاع و الانخفاض.(1/80)
إن المقدرة العجيبة على الطيران لدى اليعسوب تعتمد على حركة هذه الأجنحة الأربعة، وكيفية تحريكها للجسم إلى الأعلى. فبهذه الأجنحة الأربعة يستطيع اليعسوب أن يقوم بمناورات مفاجئة أو تغيير سرعة الطيران فجأة، حتى إنه يستطيع أن يطير بسرعة 10 متر في الثانية الواحدة .35
إنّ اليعسوب يمتلك حاسة بصر حادة للغاية، فعينه تُعَدُّ من أحسن العيون الحشرية حسب ما توصلت إليه الدراسات العلمية، و كل عين تتألف من 30,000 عدسة منفصلة. و كل عين تشبه نصف كرة تقريباً، وحجم كل واحدة منها بقدر نصف حجم الرأس. وتتيح هاتان العينان زاوية واسعة للنظر، حتى إن اليعسوب يستطيع أن يميز حتى ما يحدث خلفه .36
ويتضح مما تقدم أنّ اليعسوب عبارة عن مجموعة من الأجهزة خارقة التصميم و الأداء، و أي خلل يصيب جهازاً من هذه الأجهزة يمتد تأثيره إلى باقي الأجهزة. وهذه الأجهزة جميعاً مخلوقة بروعة وجمال خارقين. فبهذه الوسيلة يستطيع الكائن الحي أن يستمر في الحياة.
إنّ الذي صمم جسم اليعسوب هو قدرة الله عز و جل، فهو القادر على أن يخلق ويصوّر ويبدع، وهو البارئ المصور بديع السماوات و الأرض.
الحياة في الصحراء
الحر القائظ نهاراً، والبرد القارس ليلاً، والجفاف المستمر لأسابيع، بل لشهور عديدة وشحة الكلأ، كل هذه الخصائص تميّز الحياة في البيئة الصحراوية. ولا شك في أنّ الحياة في هذه الظروف تبدو صعبة للغاية، ولكن على الرغم من هذه الصعوبة هناك العديد من أنواع الكائنات الحية تستطيع أن تعيش في هذه البيئة القاحلة.(1/81)
فلو ألقينا نظرة على هذه الكائنات الحية لوجدناها قد خُلقت بخصائص جسمية وملهمة بسلوكيات معينة تستطيع من خلالها العيش في تلك البيئة الصّحراوية، فقد خلق الله عز وجل هذه الأحياء و منحها الصفات التي تجعلها قادرة على العيش في الصحراء، ولو تأملنا في هذه الخصائص لتوصلنا إلى أنّها لم توجد بمحض المصادفة وما ينبغي لها أن تكون كذلك، بل إنّ هناك قوة خارقة هي وحدها القادرة على منح جميع هذه الصفات لتلك الكائنات الحية.
ونجد كذلك الأفعى الصّحراوية المسماة CERATES VIPERAS وهي تعيش تحت الرمال، وتستطيع هذه الأفعى أن تدفن نفسها في الرمال بواسطة حركة تموجية جانبية، ويتحرك ذيلها بسرعة من اليسار إلى اليمين، وسرعان ما تشمل هذه الحركة جسم الأفعى كله حتى يدفن داخل الرمال وعلى شكل ثلاثة التواءات. وأحياناً تترك الأفعى عيناً واحدة أو كلتيهما خارج الرمال، و بهذه الطريقة يمكنها اصطياد فرائسها.
وقد يتبادر إلى الأذهان ما يمكن أن يلحق الأفعى من أذى جراء تركها لعيونها خارج الرمل، و خاصة بسبب هبوب العواصف الرملية، غير أن شيئاً من هذا لا يحدث أبداً، فعين الأفعى لها من المزايا الفريدة ما تحميها من أذى العواصف، فهي مغلفة بطبقة شفافة تقيها أثر هذه العواصف.
أما الثّعلب الصحراوي الذي يُعَدُّ من أصغر أنواع الثعالب فيمتاز باتساع أذنيه إلى درجة كبيرة و يدعى بـ”فنّاك” FENNEC . ويعيش هذا الثعلب في صحاري إفريقيا والجزيرة العربية. و الآذان الكبيرة لهذا الثعلب لا تفيد في تمييز أصوات الفرائس فحسب، بل لها وظيفة أخرى تتمثل في ضبط درجة حرارة الجسم في تلك البيئة القاحلة (الصورة الصغيرة في الوسط).(1/82)
وهناك حيوان آخر يعيش في الصحراء و يدعى (السّحلية ذات الأنف المجدافي)، فهذه السحلية تقوم بتحريك أقدامها و ذيلها على الرمال بحركة شبيهة بالرقص، والغرض منها تبريد أقدامها وذيلها. وبعد هذه الحركة تستند على ذيلها ثم ترفع طرفاً أمامياً وخلفياً من خلاف (الصورة إلى الأعلى)، و بعد لحظات يتم تغيير هذه الأطراف بالأطراف الباقية، وتستطيع هذه السحلية أن تتحرك بين الكثبان الرملية في حركة شبيهة بالسباحة بواسطة جسمها و أنفها الانسيابي الشكل. وتستطيع أيضاً الجري بسرعة بين الرّمال بواسطة أقدامها الكبيرة.37
و يمكن تشبيه الضفادع الصحراوية التي تعيش في أستراليا بمستودعات كبيرة للماء؛ لأنّ أجسامها تحتوي على أكياس كبيرة تملؤها بالماء عند تساقط الأمطار، ثمّ تدفن أنفسها في الرمال انتظاراً لتساقط الأمطار مرة أخرى، أما باقي الحيوانات الصحراوية فإنها عندما تشعر بالعطش تبحث عن هذه الضّفادع وتخرجها من الرمال و تشرب ما خزنته من الماء.38
التنوع في عيون الحيوانات
تمتلك الطيور المحلقة في السماء وكذلك الأسماك السابحة في الماء عيوناً ذات خصائص عجيبة، و بواسطة هذه الخصائص تستطيع الطيور أن تبصر وهي في جو السماء، وتستطيع الأسماك أن تبصر وهي في عرض الماء. وعندما يقوم المرء بتقليب هذه الحقيقة من جميع أوجهها فلا شك في أنه سيكتسب معلومات قيمة.
هل يمكن لعضو جسمي معقّد التّركيب مثل العين أن يكتسب مزايا متنوعة حسب تنوع الحيوان بمحض المصادفة؟ و كلّ إنسان عاقل ومنصف يبحث مليّاً في هذا الأمر يتوصل حتماً إلى الحقيقة التي تثبت أن جميع الكائنات الحية قد خُلقت بقدرة الله سبحانه وتعالى. والأمثلة التي سنذكرها في السطور القادمة يمكن أن تكون خطوات مهمة في هذا السبيل.(1/83)
تمتلك الطّيور حاسّة بصر أكثر حدّة من التي لدى الإنسان، وزاوية النظر لديها أوسع من تلك التي يرى خلالها الإنسان. إنّ الإنسان يرى الأشياء بزوايا و مربّعات مرئيّة معينة، إلا أنّ الطيور تستطيع أن ترى من نظرة واحدة ما يراه الإنسان مع تمييز كامل للأشياء دون أن تكون في حاجة إلى زوايا و مربعات مرئية، وهذه الميزة مهمة جداً في عملية الصيد. و بعض أنواع الطيور تستطيع أن تميز الأشياء من مسافة أبعد بستة أضعاف من تلك التي تميزها العين البشرية.
عندما يرمش الإنسان بعينه ولو للحظة فإن هناك انقطاعاً في تشكّل الصورة، ولكن هذا الانقطاع ليس مهماً بالنسبة إلى الإنسان، و لكنّه مهم جداً لطير يحلق على ارتفاع مئات الأمتار وبسرعة كبيرة، بل يُعَدُّ مشكلة كبيرة يجب التخلص منها. فالطيور عندما ترمش لا يكون هناك أي انقطاع في صورة الأشياء؛ لأن عيون الطيور تحتوي على جفن ثالث شفاف يدعى “الجفن الرّامش”، ويتحرك حركة جانبية، وهكذا تستطيع أن ترمش بعيونها دون أن تغلقها غلقاً كاملاً. أما الطيور الغطاسة فإنّ جفنها الرامش يقوم بوظيفة نظارات الغواصين؛ لأنه الواقي من أية أخطار محتملة عند الغوص في الماء.
ومثال آخر على مزايا العيون ما نجده في عين الجمل، فهي تحتوي على خصائص متناسبة تماماً مع البيئة التي يعيش فيها. و هذه الخصائص تكون وقائيّة للعين، فالعظام التي توجد حولها تكون صلبة كي تحمي العين من أية ضربات محتملة، و تحميها من أشعة الشمس القوية؛ لأنها موجودة حول العين بمقاييس غاية في الانسجام والتناسق، ولا تتأثر عين الجمل بأعتى العواصف الرملية التي قد تهبّ في الصحراء؛ لأنّ جفونها ذات تركيب تستطيع بواسطته أن تدخل بعضها في بعض وتنغلق تلقائياً عند وجود خطر داهم، وبهذا الشكل لا ينفذ الغبار إلى عين الجمل مهما كان دقيقاً.(1/84)
أما عين الأسماك فتطل على العالم الخارجي عبر غلاف شفاف، ويذكرنا هذا الغلاف بالنظارات التي يستخدمها الغواصون تحت سطح الماء. و عيون الأسماك مصمّمة بشكل كروي وصلب لكي تستطيع تمييز الأشياء عن قرب. و هذا الشكل الكروي لعين السمكة له سبب آخر يتمثل في انكسار الضوء خلال الماء، فالعين مليئة بسائل له كثافة مماثلة إلى حد كبير لكثافة الماء، ولهذا السبب فإنّ الضوء المنعكس من الأجسام لا ينكسر عند دخوله إلى العين، و في نهاية الأمر تقوم عدسة عين السمكة بإسقاط صورة الأجسام على الشبكية و تتكون صورة واضحة جداً للأجسام على عكس عين الإنسان التي لا تستطيع الرؤية بوضوح تحت سطح الماء.
نظام التبريد في أجسام الغزلان
لقد اكتشف الإنسان وسائل التبريد في الماضي القريب، واتخذت هذه الوسائل شكلها الحالي بتطور التقنيات الصناعية. والحقيقة أن الإنسان ليس هو الذي اكتشف هذه الوسائل. فهذه الوسائل أو الأجهزة الخاصة بالتبريد موجودة في أجسام كل الكائنات الحية ذوات الدم الحار. فهذه الكائنات خُلقت بأجسام تحتوي على مثل هذه الأجهزة.
ومثال على ذلك الغزال الإفريقي المعروف بسرعته الفائقة في العدو. وهذا الغزال يستخدم العدو السريع كوسيلة دفاع وحيدة للهرب من الأعداء. ولكن هذا العدو السريع يؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة جسم الغزال ارتفاعاً كبيراً، إلى جانب أهمية الحفاظ على درجة حرارة المخ ضمن الحدود الطبيعية كي يستطيع الغزال البقاء حياً.(1/85)
ويحتوي الجانب الأيمن من رأس الغزال على جهاز للتبريد، وهو جهاز خاص بالغزلان وببعض الحيوانات الشبيهة بها وظيفته الحفاظ على درجة حرارة المخ. فالأجزاء التنفسية العليا للغزلان وشبيهاتها من الحيوانات تحتوي في أجزائها الخلفية على تراكيب دموية كبيرة تتخللها شرايين صغيرة كثيرة العدد. والهواء الذي يتم استنشاقه يقوم بتبريد هذه التراكيب الدموية، وبالتالي يبرد الدم المار من هذه الأوعية الدموية. وتتجمع هذه الشرايين الصغيرة لتشكل شرياناً واحداً يحمل الدم إلى المخ، و هكذا لايتأثر الغزال بارتفاع درجة حرارة الجسم عند قيامه بالعدو السريع.
والمسألة المهمة هنا هي استحالة تكون هذا الجهاز العجيب للتبريد من تلقاء نفسه، كما أنه لا يمكن أن يتكون تدريجياً عبر الزمن، لأن عدم وجود مثل هذا الجهاز لتبريد المخ يؤدي حتماً إلى موت الغزال عند أول محاولة للعدو.39
وكما يتضح لنا من المثال السّابق فإنّ درجة التعقيد البالغة في جهاز التبريد لدى الغزلان يستحيل تفسيرها بالنظرية التي ساقها دعاة التّطور و المسماة بـ: “التطور التدريجي خطوة فخطوة”، أي إن من المستحيل أن تتكون الأجهزة الجسمية للكائنات الحية بالتغييرات الطفيفة الحاصلة بمرور الزمن. فأجسام هذه الكائنات مليئة بالأجهزة المعقدة على شاكلة جهاز التبريد لدى الغزلان. وأي نقص في هذه الأجهزة مهما كان ضئيلاً لابد أن يؤدي إلى فشلها في أداء وظائفها الحياتية.
وهذا يثبت استحالة ظهور الأحياء بالمصادفة وعبر مراحل زمنية مختلفة كما يدّعي أصحاب نظرية التطور، بل يثبت العكس، أي إنّ هذه الأحياء قد خُلقت وظهرت إلى الوجود بصورة فجائية وبأشكالها المتكاملة دون أي نقص. ولابد لكل ذي عقل منصف أن يتوصل إلى هذه الحقيقة بعد تفكير و تأمل و إدراك.
{هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُوني مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِه بَلِ الظَّالِمُونَ في ضَلالٍ مُّبِينٍ } لقمان: .11(1/86)
العظمة الإلهية تتجلى في خلق الإنسان
إن كل إنسان نراه من حولنا لا بد من أنه كان يوماً ما جنيناً في بطن أمه قبل أن يستوي شكله و تكتمل صورته، وكلّ إنسان أعدت له الأجهزة الجسمية المدهشة و هو لايزال في بطن أمّه، و ليس من أحد إلا مرّ بتلك المراحل.
أما ولادة الإنسان فمعجزة حقيقية بجميع المقاييس. فالإنسان يمكث في بطن أمّه داخل غرفة خاصة تحميه و لفترة معينة حتى يخرج منها إلى العالم الخارجي. وتفاصيل لحظة الولادة معجزة و محيّرة، ولو فكّر فيها الإنسان العاقل لتوصل إلى حقائق و نتائج مهمة جداً. و لنطلع معاً على أحد هذه التفاصيل وخصوصاً ما يتعلّق بنموّ الطفل داخل بطن أمه كي نتوصل معاً أيضاً إلى تلك النتائج المهمة.
يقوم جسم المرأة بتكوين نسيج لحمي يدعى بـ “البلاسنتا أي المشيمة” وبواسطته تلتصق البويضة المخصّبة بجدار الرحم، وتحتوي المشيمة على الأوعية الدموية للجنين. و يمكن تشبيه هذه الأوعية الدموية بفروع الشجرة وأغصانها. وتندمج البلاسنتا الرخوة بالأنسجة التي تحمل المواد الغذائية والمواد الضرورية للجنين كالفيتامينات و المواد المعدنية و الماء و الأكسجين و كل ما يأتي من أنسجة الأم .40
إن مهمة المشيمة هذه في غاية الأهمية، لذلك يجب أن يكون هذا النسيج ملبياً لكافة طلبات الجنين فضلاً عن كونه ذا مقدرة انتقائية أيضاً لحماية الجنين. وفي الحقيقة تُعَدُّ المشيمة بمثابة الرئة والمعدة والأمعاء والكبد والكلى للجنين. والذي يساعد البلاسنتا على القيام بهذه الوظائف كافة بنجاح هو وجود غشاء رقيق يدعى الـ “كوريون”، فهذا الغشاء الرقيق يمنع اختلاط دم الأم بدم الجنين، وعبر هذا الغشاء يستطيع الجنين أن يحصل على الأكسجين والمواد الغذائية.(1/87)
و يجب أن نشير إلى أنّ احتياجات الجنين من المواد الغذائية تختلف عن احتياجاته في الشهور الأخيرة (أي في الشهر الثامن و التاسع)، فيجب على المشيمة أن تضبط عملية انتقال المواد الغذائية إلى الجنين. وفعلاً تقوم بوظيفتها هذه على أكمل وجه؛ لأنها تستطيع تمييز نوع المادة و كميتها تمييزاً خارقاً، ولا شك في ذلك فهي ذات صفة انتقائية مدهشة.
إن هذه المزايا التي استعرضناها تُعَدُّ جزءاً من مزايا المشيمة العديدة. وهنا نثير بعض التساؤلات، ونودّ أن نعرض لبعض النقاط المهمة في آن واحد. أوَّلاً يجب أن نبين كيفية قيام االمشيمة بكل هذه الوظائف الخطيرة و هي لا تتعدى كونها مجموعة من الخلايا لا غير. و يجب أن نبين كذلك كيفية معرفة المشيمة لكافة احتياجات الجنين وبدقة متناهية.
والإنسان العاقل يدرك من الوهلة الأولى أن المشيمة التي هي قطعة من اللّحم ليس إلا، تعجز عن القيام بهذه الوظائف من تلقاء نفسها، ولا يمكن لها أن تكون قد اكتسبت هذه المزايا بالمصادفة. و هنا تنكشف أمامنا الحقيقة التي لا مراء فيها وهي أنّ المشيمة قد خلقها الله سبحانه وتعالى ومنحها المزايا التي تستطيع بواسطتها تلبية كافة احتياجات الجنين و هو في بطن أمّه. فالولادة تمثل إحدى الدلائل الدامغة على قدرة الله تعالى و بديع صنعه و جميل تصويره لعباده.
{يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ? في أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} الانفطار: 6-.8
الجلد: جهاز متطوّر للتكييف، جهاز ممتاز للتّحسّس(1/88)
أنت الآن تتصفح هذا الكتاب بكل سهولة ويسر؛ لأن يديك تستطيعان تمييز الورق و معرفة ماهيته دون أي عائق، و بالشكل نفسه تستطيع أن تحمل أو تتناول الأجسام ذات السطوح الملساء مثل الأقداح أو أن تحسّ بليونة الريش عند لمسك إياه مثلما تحس بصلابة الصخر. و هذا الإحساس نابع من خصائص الجلد الذي يحس الأشياء ويرسل إشارات عصبية إلى المخ لتتشكل بالتالي صورة الشيء الذي تلمسه.
إن الجلد مجهّز في طبقاته التحتية بأكمل شبكة من الأعصاب الحسية التي تستطيع الحسّ بأفضل صورة ممكنة، وأكثر مواقع الجسم احتواء على الأعصاب الحسية هي رؤوس الأصابع، وهذا يؤدي إلى تسهيل حركة المرء و عدم شعوره بأي انزعاج. وفي مقابل ذلك فإن منطقة مثل الظهر تحتوي على عدد قليل من هذه البدايات العصبية الحسية. ولنفترض عكس ما هو موجود، أي إنّ رؤوس الأصابع تحتوي على عدد قليل من الأعصاب الحسية و لا تشعر بما تلمسه و أن تكون منطقة الظهر مكتظة بهذه الأعصاب. إن مثل هذا الوضع يكون مزعجاً و مريعاً للغاية لأنّك لا تستطيع استخدام يدك بشكل منتظم، ومن جهة أخرى سوف تشعر بوخز أي شيء يمس ظهرك مهما كان صغيراً مثل وخز الملابس التي ترتديها.
إنّ جلد الإنسان عضو معقد التركيب يتألف من عدة طبقات، ويحتوي على الأعصاب والأوعية الدموية و أجهزة التهوية و التراكيب الحسية التي تحسّ الحرارة والرطوبة، فضلاً عن كونه واقياً من الأشعة الشّمسية. وبفضل هذه الخصائص الفريدة للجلد فإن أية إصابة تخريبية في أنسجته من المحتمل أن تضع المرء وجهاً لوجه مع الموت.
إن القسم السّفليللجلد -الذي يتألف من تراكيب مختلفة-يتكون من طبقة دهنيةو هذه الطبقة تؤدّي وظيفة العزل الحراري للجسم. و يوجد قسم آخر يقع فوق الطبقة الدهنية يكسب الجلد طبيعته المرنة، وهذا القسم يتألف في أغلبه من البروتينات.(1/89)
عندما نقوم بتشريح الجلد على عمق سنتمتر واحد نجد منظراً ليس بالجميل بل هو مرعب جداً؛ لأنه منظر يضم المواد الدهنية والبروتينات وأنواعا مختلفة من الأوعية الدموية. فالجلد يُعَدُّ الغطاء الذي يضفي على هذه المكونات مسحة جمالية، فضلاً عن قيامه بحماية الجسم من المؤثرات الخارجية.
إن استعراض خصائص الجلد ووظائفه الحياتية المهمة تجعلنا ندرك أهميته بالنسبة إلى الجسم.
إن جلد الإنسان يقوم أيضاً بمنع أي خلل يصيب التوازن المائي في الجسم، وهو عضو مرن و ذو متانة ويجدّد نفسه بنفسه، و كذلك يحمي الجسم من الإشعاعات الشمسية الضارة، إضافة إلى كونه الرابط بين الجسم والعالم الخارجي بمؤثراته، كما إنّه يحمي الجسم من البرودة القارسة والحر القائظ.
إنْ هو إلا نعمة من نعم الله سبحانه و تعالى التي أنعم بها على الإنسان، ذلك أنّه يوفر كثيراً من احتياجات الإنسان المختلفة يعمل كجهاز تكييف وحسّ، إضافة إلى أنه يضفي على الإنسان الشكل الجمالي الملائم ويحميه من المؤثرات الخارجية.
إن هذا الجلد الذي ألفت بشأنه و حول خصائصه الكتب الضخمة دليل آخر على عظمة الله تعالى و قدرته وعلمه الواسع.
متانة الهيكل العظمي
لقد خُلِقَت العظام و مُنِحَت صلابة وقوّة كي تؤدّي وظائفها في حماية الجسم و حمل أجزائه على أكمل وجه. ومثال على ذلك عظم الفخذ الذي يستطيع وهو في وضع القيام أن يتحمل طناً كاملا من الثقل . وفي الحقيقة، إنّ كل خطوة تخطوها تسبب حملاً على هذا العظم مقداره ثلاثة أضعاف وزن الإنسان. و الشيء نفسه يذكر عندما يقوم رياضي ما بالقفز بالزانة، فعند انتهائه من القفزة و اقتراب جسمه من الأرض فإن عظام الحوض تتحمل ثقلاً مقداره 1400كغ في كلّ سم.(1/90)
ولاستيعاب الصفات الخارقة للعظام يمكن أن نسوق التشبيه التالي: يُعَدُّ الفولاذ من أكثر المواد متانة واستخداماً من قبل الإنسان، و يرجع السبب في ذلك إلى كون الفولاذ قوياً ومرناً في آن واحد، إلا أن العظام أكثر متانة و أكثر مرونة بعشرة أضعاف من الفولاذ، والعظام أيضاً أفضل من الفولاذ من ناحية الثقل، فالهيكل الفولاذي المستخدم في الأبنية أثقل بثلاث مرات بالمقارنة مع الهيكل العظمي للإنسان.
إن هذه المقارنة بين العظام و الأبنية الحالية تساعدنا كثيراً على إدراك الصفات الخارقة للعظام، فإنشاء الأبنية الكبيرة والعالية كانت تشكل عملية صعبة بالنسبة إلى الإنسان، وتستغرق منه مدة طويلة وتكاليف باهضة، واستمر هذا الحال حتى أواسط القرن العشرين. و لكن التطور التقني قد أدى إلى استحداث أساليب جديدة في تشييد تلك الأبنية. و من أهم هذه الأساليب الحديثة الأسلوب المسمى بـ”الشبكة المعدنية”. ويتلخص هذا الأسلوب في تشييد البناء عن طريق استخدام أجزاء متعددة من القضبان الفولاذية التي تركب بعضها مع بعض لتشكل بمجموعها الهيكل الذي يقوم عليه البناء.
واستحدث هذا الأسلوب عوضاً عن الأسلوب القديم أو أسلوب البناء من قطعة واحدة. وتستخدم حالياً أجهزة الحاسوب في القيام بالحسابات اللازمة لتشييد الأبنية الصناعية والجسور بهذا الأسلوب الحديث. و بذلك تم التوصل إلى تشييد أبنية أكثر متانة و أقل من حيث التكاليف.
إن العظام في تركيبها الداخلي شبيهة أيضاً بتركيب الأبنية والجسور التي تشيد بالأسلوب الحديث. فلو تفحصنا مقطعاً عرضياً لعظم لوجدنا فيه تراكيب عجيبة، فنحن نجد الآلاف من القضبان الصغيرة المتداخلة بعضها مع بعض مشكلة نظاماً معقداً داخل العظم.(1/91)
إن هذا التركيب يمثل نظام الشبكة في بناء العظام، وبواسطة هذا النظام تتميز العظام بالقوة الكاملة والخفة المتناهية التي تمكن الإنسان من استخدامها بسهولة. و لو كان العكس، أي لو كانت العظام صلبة مثل سطحها الخارجي لأصبحت ثقيلة إلى درجة لا يستطيع الإنسان حملها، وكذلك فإنها بصلابتها تكون معرضة للكسر أثناء الصدمات والضربات التي تواجهها.
إن هذه الخصائص العجيبة للعظام والتي كانت مصدر إلهام للفنيين و المهندسين في استنباطهم لأساليب جديدة في البناء ليست سوى دليل آخر من الأدلة الكثيرة التي تثبت المقدرة الإلهية على الخلق و الإبداع و التصوير. و يجب على كل إنسان أن ينظر إلى جسمه أولاً و يتأمل في الآيات الباهرة فيه و التي تنطق جميعها بلسان واحد بأن الله عظيم في قدرته فريد في صنعته. و الحمد لله الذي خلقنا على أحسن تقويم.
جهاز الدوران: أكبر شبكة توزيع في العالم
لنتخيل وجود مدينة تحتوي على 100 تريليون بيت، هل يمكن أن تتصوّر أنّ هناك شركة تدير شبكة لإيصال كافة الاحتياجات لكل بيت؟ لا شك في أنّ أغلبنا سوف يردّ على هذا السؤال بأنّه “غير ممكن البتّة”. ولكن توجد مثل هذه الشبكة داخل جسم كل إنسان، إلا أنّ البيوت التي تخيلناها هي الخلايا الجسمية، والشركة التي تدير الشبكة تتمثل في جهاز الدوران الدّموي بأعضائه ذات العدد الجم الغفير.
إن أعضاء جهاز الدوران مسؤولة عن زيارة كل خلية من الـ100 تريليون خلية الموجودة في جسم الإنسان، وأهم عضو في هذا الجهاز هو القلب. والقلب ذو تصميم يعتمد على موازنات دقيقة، ويتألف من أربعة تجاويف، ويحتوي على صمامات الأمان التي تنظم عملية ضخه للدم المؤكسج وغير المؤكسج إلى كافة أنحاء الجسم.(1/92)
وعندما نتفحّص القلب نتوصل إلى أنه ليس مضخة للدم فقط، بل يُعَدُّ موجهاً للدم الذي يضخ عن طريق احتوائه على صمامات خاصة، و هذه الصمامات تقوم بتوجيه الدم الذي يضخ بواسطة عضلات القلب إلى الوجهة المعينة في الوقت المناسب تماماً.
ويرتبط القلب عن طريق الأوعية الدموية الكبيرة بالرئتين من جهة وبباقي أنحاء الجسم من جهة أخرى. فالوعاء الدموي المتجه من القلب إلى الجسم يتفرع إلى أوعية أصغر، وهذه بدورها تتفرع إلى أوعية أخرى أصغر، وهكذا يستمر التفرع حتى ينتهي بالأوعية الشعرية، والتي تمتد بدورها لتشكل أوعية أكبر فأكبر، حتى ينتهي الأمر بالوعاء الدموي الذي يرجع إلى القلب. و من القلب يتم ضخ الدم الحاوي على نسبة عالية من ثاني أكسيد الكربون إلى الرئتين لطرحه فيهما و أخذ الأكسجين بدلاً منه.
ولو فكرنا قليلاً في أعضاء جهاز الدوران جميعها؛ أي: القلب والأوعية الدموية بالإضافة إلى الرئتين، لوجدنا أمامنا شبكة معقدة للغاية.(و لو أضفنا إلى كل ذلك الكلى المسؤولة عن تنقية الدم، وغدّة البنكرياس المسؤولة عن ضبط نسبة السكر في الدم، والكبد المسؤول عن السيطرة الكيمياوية في الدم، والأجسام المضادة التي تُعَدُّ جزءاً من جهاز المناعة في الجسم، لبرز أمامنا بناء عظيم التصميم بديع الصنعة).
إن عناصر هذا الجهاز المعقد تعمل بتناسق و تكامل فيما بينها، ومرتبطة ببعضها ارتباطاً وثيقاً ومنتظماً. وكل هذه العناصر المترابطة تعمل لتحقيق هدف مشترك. ولو حدث خلل ما في تركيب هذا البناء المتكامل لبدأت النتائج السلبية لذلك تظهر على الفور، وربما أدت هذه المشاكل إلى تعرض صاحب هذا الجهاز إلى خطر الموت. ولا يستطيع أي قلب بمفرده أن يمد الجسم بالحياة أكثر من دقيقة واحدة إذا لم توجد رئة تنقي الدم الذي يضخه.(1/93)
وهذا يعني هذا أن جهاز الدوران ظهر إلى الوجود بجميع أعضائه وفي اللحظة نفسها. وهذا يعني أيضاً أن القلب وجهاز الدوران يمتلكان تصميماً خارقاً. و هذا بلا شك يكشف الإبداع الإلهي في الخلق و يصور لنا عظمته سبحانه لا شريك له.
التصميم المثير للرئتين
تمتاز الرئة بكونها تستطيع أن تتكيف مع حركة الجسم بصورة عامة، فإذا بدأ الإنسان بالجري تزداد وتيرة عمل الرئتين لتلبية الحاجيات الطارئة والمتزايدة للأكسجين. و بعد جلوسه أو خلوده للراحة تخفّف الرئتان من عملهما ولكنهما لا تتوقفان أبداً.
وتُعَدُّ الرئتان مضختين جيدتين للهواء تعملان طوال حياة الإنسان دون توقف على ضخ الهواء من الجسم و إليه. وتستمرّ الرئتان في عملهما بتكامل وتناسق مع باقي أعضاء جهاز التنفس، ذلك أنّ وجود الرئتين لوحدهما لا يكفي لإجراء عملية التنفس، فالرئتان بحاجة إلى قوى و عوامل أخرى لإنجاز عملهما، وهذه العوامل تتمثل في الحجاب الحاجز الموجود تحت القفص الصدري مباشرة، والعضلات التنفسية الموجودة بين أضلاع هذا القفص الصدري.
ودقق في شكل صدرك عند التنفس، سترى أن الأضلاع الصدرية تتحرك للخارج و للأعلى، وفي تلك الأثناء تكون العضلة المسؤولة عن تحريك الحجاب الحاجز مشدودة نحو الأسفل، وتقوم الرئتان بسحب الهواء الموجود في القصبة الهوائية، وعند الزفير ترجع الأضلاع الصدرية إلى الداخل وتتقلص عضلة الحجاب الحاجز نحو الأعلى، وعندئذ يضيق الحيّز الذي توجد فيه الرئتان، وبالتالي يجد الهواء الموجود في الحويصلات الهوائية طريقه إلى الخارج عن طريق القصبة الهوائية.
وعندما يضحك المرء أو يجري أو يمشي أو ينام ... لا يفكر في ما يجري داخل رئتيه من تجاوب تام مع هذه الأفعال، فالرئتان تلبيان الاحتياجات المختلفة للأكسجين نتيجة هذه الأفعال، عن طريق نظام خاص للسيطرة على آلية التنفس يعمل بصورة تلقائية للتجاوب مع هذه الأفعال.(1/94)
وأثناء حركة الجسم تزداد فعالية الخلايا وتستهلك طاقة أكثر، ولهذا السبب تحتاج الـ 100 تريليون خلية جسمية إلى كمية من الأكسجين أكثر من المعتاد. وإلى جانب الحاجة إلى الأكسجين، يجب طرح الكمية الزائدة من ثاني أكسيد الكربون التي تتراكم في الخلايا نتيجة استهلاكها للطاقة. وإذا لم تقم بتلبية الحاجة المتزايدة إلى الأكسجين فإن الخلايا تصاب بالضرر، ولهذا السبب تزداد سرعة التنفس، أي إنّ الرئتين تزداد سرعة عملهما بوتيرة أكبر.
إن هذا الوضع المعقد الذي يسمح باستمرار الحياة يتم تحقيقه عن طريق نظام مثير بل إعجازي، فهناك تراكيب جسمية خاصة موجودة في المنطقة التي تدعى بـ “سويق المخ” وظيفتها قياس نسبة ثاني أكسيد الكربون في الدم و بكفاءة عالية. وترتبط هذه التراكيب الحسية بمراكز أخرى تقوم بتقييم المعلومات الواردة إليها من هذه التراكيب الحسية لتنظم وتيرة عمل العضلات التنفسية عبر إصدار الأوامر المناسبة إليها.
وإضافة إلى التراكيب الحسية لـ”سويق المخ” هناك تراكيب حسية أخرى موجودة على السطح الخارجي للرئتين وظيفتها قياس الضغط، فعندما تتوسع الرئتان أكثر من المطلوب تقوم هذه التراكيب الحسية بإرسال معلوماتها إلى سويق المخ كي تصدر الأوامر العصبية بالحدّ من توسّع الرئتين. وهذه العمليات جميعها تجري باستمرار يومياً بل كل ثانية و كل لحظة دون توقف.
ولا يمكن أن ندعي بحال من الأحوال أن هذا الجهاز المتكامل والمتناسق قد ظهر عن طريق المصادفة العمياء، فالجهاز التنفسي الموجود في جسم الإنسان هو دليل من الأدلة التي لا حصر لها، و التي تشهد على عظمة الخالق سبحانه و تعالى.
المخ مركز القيادة(1/95)
إنّ مخّ الإنسان عضو يستطيع القيام بعدة وظائف في آن واحد، فعلى سبيل المثال: يستطيع المرء أن يركب سيارته وأن يفتح الراديو ويضبط مؤشره فيها ويتحكم في مقودها في آن واحد و بكل سهولة. وإضافة إلى هذه الأعمال الثلاثة فإنه يستطيع كذلك أن يقود السيارة وينتبه إلى وجود باقي السيارات دون الاصطدام بها، وفي تلك الأثناء يتحكم من خلال الضغط بقدمه على دواسات البنزين للتحكم في سرعة السيارة، كما أنه يمكن أن يفهم الأغاني التي يستمع إليها أثناء قيادته للسيارة. والأهم من ذلك هو قيامه بكل هذه الأعمال بسهولة و كفاءة في آن واحد.
وبإيجاز: يستطيع الإنسان أن ينجز عدة أعمال في آن واحد بفضل الإمكانيات المذهلة التي يتميز بها. أما الانسجام والتكامل بين هذه الأعمال جميعها فيتحقق نتيجة ارتباط الخلايا العصبية المخية بعضها ببعض. وإنّ مؤثرات العالم الخارجي جميعها التي تصل إلى المخ بشكل أو بآخر، والتي يقدر عددها بالملايين بل بالمليارات يتم تجميعها وتحليلها بتنسيق كامل مثير للدهشة، ومن ثم يتم تقييمها و إظهار رد الفعل المناسب تجاهها.
إن هذا العمل المتشابك و المتكامل و المتناسق يستمر طوال الحياة، و دون توقف ولو للحظة واحدة. ونحن بالتالي نتيجة هذا العمل المتواصل للمخ نستطيع أن نرى و نحس و نسمع، وبالتالي تستمر حياتنا.
إن النظام العجيب والمثير في المخ يتألف بصورة رئيسة من الخلايا العصبية التي يقدر عددها بـ 10 مليارات خلية عصبية، وتختلف الخلايا العصبية المخية عن باقي أنواع الخلايا؛ لأنّها تعمل بواسطة التيارات الكهربائية التي عن طريقها تتمكّن من تبادل الاتصال فيما بينها أو خزن المعلومات داخلها.(1/96)
إن هذا الارتباط بين الخلايا العصبية، وبالتالي الانسجام الموجود في المخ مرده إلى تركيب الخلايا العصبية نفسها، فالـ10 مليارات خلية عصبية في المخ تمتلك حوالي 120 تريليوناً من الروابط فيما بينها، وهذه 120 تريليون رابطة توجد جميعها في مكانها المحدد لها بالضبط، ولو كانت إحدى هذه الروابط في غير مكانها لظهرت نتائج سلبية للغاية، أو لاستحال على الإنسان أن يستمر في أداء وظائفه الحياتية بصورة صحيحة، إلاّ أنّ هذا لا يحدث (عدا الحالات المرضية)، و يستمر الإنسان مؤدياً وظائفه كافة و أعماله اليومية والحياتية التي تُعَدُّ طبيعية بالنسبة إليه، و لا يعرف أنها نتاج أعمال ووظائف تعدّ بالتريليونات.
إن هذا النظام الموجود في المخ والذي يعتمد على ارتباط الخلايا العصبية بعضها ببعض يُعَدُّ كباقي الأجهزة الجسمية، نظاماً متكاملاً مدهشاً بأجزائه كافة. وإنّ أداء المخ لهذه الملايين من الأعمال دون أي خطأ أو قصور يعود إلى كونه قد خلق بقدرة العزيز العلام الذي خلق كل شيء فأحسن تصويره.
النظام الهرموني: الناقل للأوامر في جسم الإنسان
عندما تقرأ هذه الصفحة تتحقق العديد من الوظائف في جسمك دون أن تحس بها، ودون أن يحدث أي خلط فيما بينها. وتحدث الفاعليات الحيوية في الجسم كعدد الضربات للقلب في الدقيقة الواحدة، أو مقدار الكالسيوم المترسب في العظام أو نسبة السكر في الدم، أو كمية الماء المرشّح في الكلى، وجميع هذه الفعاليات تحدث نتيجة الانسجام التام بين خلايا الجسم.
إنّ عدد الخلايا في الجسم ليس 100و لا 1000و لا مليار بل 100تريليون خلية. ولكن ماهو الشيء الذي يحقق هذا الانسجام التام بين هذا العدد الضخم من الخلايا؟ والجواب هو النظام الهرموني.(1/97)
إن الغدّة النخامية التي يبلغ حجمها بقدر حبة البازلياء تُعَدُّ المنظم والمدير لهذه الهرمونات. وتعمل الغدة النخامية تحت سيطرة جزء من المخ يدعى “ما تحت السرير البصري” أو الهيبوتالاموس. وتقوم هذه بعملها حسب الأوامر الصادرة إليها من “الهيبوتا’لاموس .
ومن الأعمال التي تقوم بها هذه الغدة ـ و التي لا تُعَدُّ أكثر من مضغة في جسم الإنسان ـ معرفة احتياجات الجسم وفي جميع الحالات، وكذلك تحديد العضو الجسمي الذي يجب عليه التدخل لتلبية هذه الاحتياجات، بل تحديد نوعية الخلايا التي يجب عليها التدخل في ذلك العضو. وأيضاً تعمل الغدة النخامية و كأنها تعرف مسار الفعاليات الكيمياوية داخل الخلايا و الخواص الفيزيائية لهذه الخلايا. وتحدد الغدة النخامية أيضاً نوعية المواد اللازم إنتاجها و كميتها و توقيت هذا الإنتاج، فضلاً عن إصدارها للأوامر اللازمة إلى الأماكن المعنية كي تبدأ بالتنفيذ. وتصل هذه الأوامر عن طريق شبكة خاصة للنقل تؤدي مهمتها دون كلل.
فعلى سبيل المثال: يستمر جسم الإنسان في النمو حتى نهاية فترة المراهقة، وتنقسم تريليونات الخلايا لإحداث هذا النمو، وهكذا يتحقق نمو الأنسجة و الأعضاء. وعندما يتم الوصول إلى مرحلة معينة من النمو تتوقف الخلايا عن الانقسام.
والغدة النخامية هي التي تحدد مقدار النمو، وهي التي توقفه عند بلوغ حد معين. وهذه الغدة مسؤولة أيضاً عن تنظيم الفعاليات الحيوية التي تجرى على الدهون و الكاربوهيدرات، وهي تقوم أيضاً بزيادة إنتاج البروتينات في الخلايا عند الضرورة.(1/98)
عندما تشعر بالدوار أو بوعكة خفيفة سرعان ما تخلد للراحة و ينتهي كل شيء. وإذا كان سبب هذا الدوار انخفاضاً في ضغط الدم فإنّ الغدة النخامية تتدخل على الفور وتقوم بإفراز جزيئات معينة تدفع العضلات المحيطة بالأوعية الدموية إلى التقلص، وتقلص ملايين العضلات يؤدي إلى تضييق الأوعية الدموية، و بالتالي زيادة ضغط الدم، و في النهاية تشعر بأن الدوار قد زال عنك وأنّك استرحت وأصبحت أفضل من قبل.
وتُعَدُّ الغدة النخامية واحدة من المواقع الجسمية التي يتم إفراز الهرمونات منها على شكل مجموعات، فهناك مثلاً الغدة الكظرية (فوق الكلوية) وغدة البنكرياس والغدد الجنسية والغدة الدرقية، وكل هذه الغدد تقوم بإفراز مواد تُعَدُّ في غاية الأهمية بالنسبة إلى حياة الإنسان، وأي خلل أو نقص في أداء إحدى هذه الغدد لوظائفها يجعل استمرار الحياة أمراً مستحيلاً.
والنظام الهرموني مثله مثل الانظمة الأجهزة الجسمية يعمل بتكامل وتنسيق بين أعضائه المكونة له، والذي جعل هذه الانظمة تعمل بهذا الأداء المتكامل الرائع هو الذي خلقها و منحها هذه الشبكة العجيبة للاتصال و تبادل المعلومات. إنّه هو الله رب العالمين الذي خلقها و أبدعها جل جلاله.
غشاء الخلية: المراقب الفطن(1/99)
تصوّر أن هناك مبنى تطبق فيه إجراءات دقيقة للأمن، و يمنع دخول أي شيء يسبب الأضرار، وتطبق إجراءات تفتيش مذهلة في مداخل هذا المبنى ومخارجه، ولتكن هذه الإجراءات الأمنية الدقيقة مطبقة من قبل المبنى نفسه، أي يسلك المبنى سلوك الكائن الحي دون أيّ تأثير أو تدخل خارجي، ففي هذه الحالة لا يستطيع المبنى أن يقوم بهذه الإجراءات إلا بمساعدة أجهزة الحاسوب الحديثة وأجهزة تدقيق الأمتعة والهويات المصنوعة وفق أحدث الأساليب التقنية. ولو قلنا: إنّ مثل هذه الأجهزة المتقدمة قد تم تصغيرها وحشرها في حيز حجمه يعادل واحداً بالمئة ألف من المليمتر الواحد فهل تصدقون ذلك؟ ولا يمكن تحقيق هذا الأمر بالتكنولوجيا المستخدمة حالياً، و لكن هذا لا يعني عدم وجود مثل النموذج المصغر في عالمنا.
إنّ هذا النموذج المصغر الذي يبدو مستحيلاً عند سماع اسمه لأوّل وهلة موجود في جسم الإنسان من أول لحظة ظهر فيها إلى الوجود، فمثل هذا النظام العجيب موجود في كل خلية جسمية للإنسان والتي يبلغ عددها 100 تريليون خلية، ويتمثل هذا النظام العجيب في غشاء الخلية، وهذا الغشاء يمتلك خصائص الإنسان العاقل كالتذكر واتخاذ القرار والتقييم، وهو المسؤول عن إقامة الاتصال بالخلايا المجاورة، وينظّم عملية الخروج و الدخول من الخلية وإليها. وعلى هذا النحو يُعَدُّ غشاء الخلية بمثابة المخ بالنسبة إليها.
ويعدّ الغشاء الذي نحن بصدد ذكر خصائصه رقيقاً إلى درجة لا يمكن رؤيته إلا باستخدام المجهر الإلكتروني. ويتألف هذا الغشاء من وجهين، و يشبه الجدار الذي نهاية له، وهذا الغشاء مجهز بمداخل ومجسات تتحسس القادم من الخارج و ما يدور في الخارج أيضاً. وهذه المداخل و المجسات هي التي تنظم عملية الخروج و الدخول من الخلية وإليها.(1/100)
والمهمة الأولى لغشاء الخلية تتمثل في إحاطته لعضيواتها وجمعها في حيز مشترك، إضافة إلى سماحه بدخول المواد من الوسط الخارجي إلى الخلية لتلبية احتياجات هذه العضيوات. وهذا السماح لا يكون عشوائياً، بل يتم السماح بدخول المواد الضرورية وحسب الحاجة فقط. ولا يسمح بتجاوز الحدّ المسموح به أبداً، وفي تلك الأثناء يشخص الغشاء الخلوي جميع الفضلات الموجودة في الوسط الداخلي للخلية و يتم طرحها خارجاً فوراً. ومهام الغشاء الخلوي خطيرة للغاية و لا تقبل الخطأ أبداً مهما كان صغيراً؛ لأن أي خطأ أو إهمال يعني موت الخلية حتماً.
وواضح أن أداء هذا الغشاء ـ المتألف من البروتين والدهون ـ لوظائفه بهذه الكيفية العاقلة و المدركة لا يمكن أن يكون قد تشكل من تلقاء نفسه، ولا يمكن لأي عاقل منصف أن يقبل فكرة ظهور مثل هذا الأداء الرائع لغشاء الخلية بمحض المصادفة، بل إنّ الخلية وغشاءها المحيط بها قد خلقا من قبل الله عز وجل الذي خلق كل شيء بقدرته و علمه. والخلية وغشاؤها عندما يؤديان وظائفهما فإنهما ينفذان ما حدد لهما من مهام من قبل العزيز العليم جل جلاله.
الحامض النووي DNA: بنك مصغر للمعلومات
يُعَدُّ الحامض النووي الـDNA (ثنائي أكسيد الرايبوز النووي) بنكاً للمعلومات المتعلقة بجسم الإنسان. جُل بنظرك فيما حولك من الناس و تأمّل في صفاتهم و شمائلهم وسماتهم، وفكّر قليلاً فإن كل ما تراه من صفات مثل لون العين و طول الجسم و نوع الشعر و لونه و الصوت ولون البشرة، وما شابه ذلك من صفات أخرى مسجلة جميعها في الحامض النووي المسمى DNA.(1/101)
إنّ هذا البنك يحتوي على المعلومات المتعلقة بالخلية التي هو موجود ضمنها، وكذلك المعلومات المتعلقة بالخلايا الجسمية الأخرى، و هذه المعلومات تحتوي على كل شيء كالتركيب والاحتياجات المختلفة. ولو شبّهنا جسم الإنسان بالبناء، فإن جميع المعلومات الدقيقة و الخرائط والمخططات المتعلقة بجسم الإنسان موجودة في الحامض النووي DNA لكل خلية. ويتم الحفاظ على هذا الحامض النووي الخطير داخل نواة الخلية الحية. ولو تذكرنا أن قطر الخلية التي يبلغ عددها في جسم الإنسان حوالي 100 تريليون خلية لا يتجاوز 1 % من المليمتر، عندئذ نستطيع أن نتصور مدى صغر الحيز الذي نتحدث عنه الآن. إنّ جزئية الـDNA العجيبة تُعَدُّ إحدى معجزات الله عز و جل في الخلق و دليلاً على عظمته و قدرته.
إن المعلومات الموجودة في هذا الحامض النووي لا تحتوي فقط على الصفات المظهرية، بل تسيطر أيضاً على نشاط الخلية وعلى الملايين من الفعاليات الحيوية الجارية داخل الجسم. و مثال على ذلك ضغط الدم الذي يتم رفعه أو خفضه اعتماداً على المعلومات الموجودة في الـ DNA .
ويقوم العلماء باستخدام مقاييس معينة للتعبير عن الصفات الوراثية للإنسان ومدى كثرتها وغرابة تركيبها. فالمعلومات التي يحتوي عليها الحامض النووي الـ DNA كثيرة جداً، إلى درجة لو أنها كتبت في كتب ورتبت هذه الكتب بعضها فوق بعض لأصبح ارتفاع هذه الكتب 70 متراً. وقد حسب العلماء أيضاً الفترة اللازمة لكتابة المعلومات المتعلقة بالصفات الوراثية للإنسان بواسطة الآلة الكاتبة، وكانت النتيجة 50 سنة على فرض أنّ الشخص الذي يضرب على الآلة الكاتبة يستطيع كتابة 60 كلمة في الدقيقة و يعمل 8 ساعات يومياً. إلى جانب ذلك فإن المعلومات الموجودة في هذا الحامض النووي تملأ 200 دليل للهاتف و كل دليل يتألف من 500 صفحة.(1/102)
إنّ هذا الترتيب المدهش للذرات التي لا ترى بالعين المجردة و يبلغ حجمها واحداً بالمليار من المليمتر، وهذا التناسق في السلاسل المتولدة عنها، والمعلومات المتمخّضة عنها والتي تنظم حياة الكائن الحي بكل تفاصيلها يعدُّ دليلاً واضحاً و قاطعاً على حدوث عملية الخلق.
والله عز و جل إن خلق هذا الحامض النووي وأودع فيه هذه المعلومات الوراثية فإنه سبحانه و تعالى يخاطب البشر بأنه الواحد الأحد الذي لا شريك له، وهو القهار العزيز الحكيم. و جاء في القرآن الكريم ما يلي: { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} الكهف: 109 .
الجزيئات: المصدر الخفي للطعم والرائحة
هناك بعض المواد في الطبيعة تحمل الأنواع نفسها من الذرات، وعلى الرغم من ذلك تبدو مختلفة فيما بينها من ناحية الشكل و الصفات الأخرى. ترى ما الذي يميز المواد الموجودة في الطبيعة بعضها عن بعض؟ ما هو الشيء الذي يكسب المواد روائحها وطعمها و لونها وصلابتها أو ليونتها؟
إن هذا التمايز يرجع بكامله إلى الأواصر التي تنشأ بين الذرات المختلفة أو المتشابهة لتشكيل الجزيئات، فالجزيئة تُعَدُّ الخطوة الثانية في تشكيل المادة بعد الخطوة الأولى التي تتمثل في وجود الذرات، وتعرّف الجزيئة: بأنها أصغر وحدة بنائية للمادة تحمل صفاتها الكيميائية. والجزيئة تتألف من ذرتين أو أكثر، و قد تتألف من آلاف الذرات أو بضع ذرات، وإنّ التعدد الحاصل في طريقة تشكل الجزيئات هو الذي يوجد هذا التنوع الحاصل في حياتنا و في البيئة التي نعيش فيها. و يمكن إيراد أمثلة عديدة على هذا التنوع و منها مثلاً الرائحة و الطعم.(1/103)
والحقيقة أنّ مفهومي “الطعم” و “الرائحة” لا يتعديان كونهما تعبيرين عن التأثير الذي تحدثه الجزيئات المختلفة في أعضاء أجسامنا المختلفة، أي إنّ روائح المأكولات والمشروبات و الفواكه و الأزهار هي جزيئات طيارة تنتشر في الجو. والصورة الجانبية الصغيرة تحتوي على أمثلة من هذه الجزيئات. وتقوم الذرات بتشكيل المادة الحية أو غير الحية من جانب، ومن جانب آخر تُكسب المادة المتكونة الطعم والمذاق المميز لتلك المادة. و لكن كيف يحدث هذا؟
إن الروائح مثل رائحة الفانيليا أو رائحة ورد الخزامى التي هي جزيئات متطايرة تصطدم بالشعيرات الدقيقة الموجودة في النسيج الطلائي للأنف، وهذه الشعيرات تتميز بأنها هزازة. وتهتز بتأثير هذه الجزيئات، وبالتالي فإنّ التّراكيب الحسّية المرتبطة بهذه الشعيرات تتأثر هي الأخرى. وهذه التأثيرات تتم ترجمتها في المخ على شكل روائح مشمومة. و يمكن أن نقول الشيء نفسه فيما يخص اللّسان، فاللسان يحتوي على أربع مناطق مختلفة من ناحية نوع التراكيب الحسية، وهذه التراكيب حساسة تجاه المواد الكيميائية، وتتأثر بأربعة أنواع من التأثيرات وهي الحلاوة والحموضة و الملوحة و المرارة، وجميع هذه التراكيب الحسية تتأثر بالجزيئات الكيميائية، وتنقل تأثرها إلى المخ الذي يترجمه على شكل تأثير كيميائي يأخذ أشكالاً متعددة تبعاً لنوع الجزيئة.
إن العلم الحديث قد شرح لنا كيفية تحسس الروائح والمذاقات المختلفة، ولكن العلماء مازالوا مختلفين فيما بينهم في إيجاد تفسير علمي معقول لاتصاف بعض المواد بالرائحة القوية و بعضها الآخر بالرائحة الخفيفة، وبعض منها بالطعم الرديء و الآخر بالطعم اللذيذ.
يعد الطعم والرائحة من الاحتياجات الأساسية للإنسان. و لكن هناك العديد من الروائح والمذاقات المختلفة التي تميز الفواكه والخضر المختلفة والتي تزرع في التربة ذات اللون البني و الرائحة المميزة.(1/104)
إن هذا التنوع في الروائح والمذاقات يضفي على عالمنا مسحة جمالية أخاذة تعكس فناً خارق المستوى و جمالاً بديعاً لا نظير له. وإن الطعم والرائحة يعدّان جزءاً من النعم التي لا تحصى، و التي أنعم الله عز و جل بها على الإنسان.
إن مجرد عدم وجود هاتين الميزتين في حياة الإنسان يجعلها حياة لا تطاق، وما على الإنسان وهو أمام هذه النعم الإلهية التي تحفه من كل جانب، إلاّ أن يظهر عبوديته وشكره وثناءه لله المنعم الوهاب.
القوة الخفية في بناء الذرة
إنّ كل شيء في عالمنا يتكون من الذّرات. فالهواء و الماء و الجبال و الحيوانات والنباتات وأجسامنا والكرسي الذي أنت جالس عليه الآن، فكل هذه الاشياء تتألف من الذرات. و يداك تتكونان من ذرات، والكتاب الذي تمسك به الآن يتألف من الذرات أيضاً. والذرات صغيرة إلى درجة مذهلة تستحيل رؤيتها حتى باستخدام أقوى المجاهر المعروفة، فقطر الذرة يبلغ واحداً بالمليون من المليمتر، ولا يمكن للإنسان أن يتصور مثل هذا الصغر المتناهي في خياله، ولهذا دعونا نتمعن في هذا التشبيه التالي: افترض أن لديك مفتاحاً ما، ولا شك في أن من المستحيل رؤية الذرات التي يتألف منها هذا المفتاح، وافترض أنك كبّرت هذا المفتاح ليصبح في حجم كوكب الأرض كي يتسنى لك رؤية الذرات، عندئذ تصبح الذرات التي تود رؤيتها بحجم حبة الكرز ويصبح من الممكن رؤيتها. 41
ولكن ما هي مكونات هذا الشيء المذهل الصغير؟ على الرغم من هذا الصغر المتناهي فإن الذرة تحتوي على نظام مدهش يمكن مقارنته بالنظام الذي يحكم الكون بأرجائه الواسعة. وتتألف كل ذرة من نواة مركزية وإلكترونات تدور حولها في مدارات معينة. أما النواة: فتتألف بدورها من جسيمات أخرى وهي البروتونات و النيوترونات.(1/105)
إن النواة تقع في مركز الذرة تماماً، ويختلف عدد البروتونات والنيوترونات التي تحتويها تبعاً لاختلاف نوع الذرة. ونصف قطر نواة الذرة أصغر بعشرة آلاف مرة من نصف قطر الذرة. ولنأخذ المثال السابق الذي افترضنا فيه مفتاحاً في حجم كوكب الأرض و الذرات في حجم حبة الكرز، ولنبحث عن النواة داخل هذه الذرات. إنّ هذا البحث سيكون عديم الفائدة؛ لأننا بهذا المقياس في التكبير لا نستطيع أن نرى النواة أبداً. و لرؤية النواة يجب أن نكبّر الذرة التي بحجم حبة الكرز لتصبح هذه المرة كرة هائلة الحجم ارتفاعها 200متر. وعلى الرغم من هذا التكبير المدهش فإن النواة لا تعدو هذه المرة إلا بحجم ذرة الغبار فقط .42
ولكن يبرز أمامنا أمر محير للغاية، فكتلة النواة تشكل 59,99 % من كتلة الذرة، على الرغم من أن حجمها يصغر عن حجم الذرة 10 مليارات مرة. و لكن كيف يحدث أن يحتوي شيء على معظم كتلة الجسم الذي يحتويه وألاّ يشغل إلا حيزاً ضئيلاً للغاية و بمثابة العدم ؟
إن سبب هذا الأمر يرجع إلى أنّ معظم كثافة الذرة مركّز في نواتها، والقوة التي تمسك النواة بهذه الكثافة اللامعقولة هي القوة المسماة: “القوة النووية”، وبوجود هذه القوة النووية الهائلة تبقى النواة متماسكة الأجزاء و مستمرة.
إن الذي ذكرناه لا يتعدى بعض التفاصيل المتعلقة بالنظام المدهش الذي يتحكم في الذرة. وفي الحقيقة إنّ الذرة ذات تركيب يحتاج إلى كتب عديدة جداً لشرح كنهه وماهيته.
إلاّ أنّ هذه التفاصيل القليلة تكفي دليلاً ساطعاً على كون الذرة مخلوقة بقدرة الله جل جلاله.
التوازن الموجود بين البروتونات والإلكترونات
بعد أن اطلعنا على موجز النظام المدهش الذي يحكم الذرة، لنتوسّع قليلاً في شرح هذا الأمر، فإن لهذا فائدة في فهم الموضوع فهماً جيداً.(1/106)
إنّ المعروف عن الإلكترونات أنها تدور حول النواة في مدارات معينة؛ لأنها تمتلك شحنة كهربائية سالبة، وجميع الإلكترونات مشحونة بشحنة كهربائية سالبة، أما البروتونات فشحنتها موجبة. والشحنة الموجبة في نواة الذرة تقوم بجذب الإلكترونات نحو النواة، ولهذا السبب تبقى الإلكترونات دائرة حول النواة على الرغم من القوة الطاردة المركزية المتولدة عن حركتها.
وعدد البروتونات الموجودة في نواة الذرة يساوي عدد الإلكترونات الدائرة في المدارات، ولهذا السبب فإن الذرة متعادلة الشحنة، إلا أنّ حجم البروتون و كتلته أكبر بكثير من حجم الإلكترون وكتلته، ولو أجرينا مقارنة بينهما لأصبح الأمر مثل المقارنة بين الإنسان و حبة البندق. و لكن كمية الشحنة الكهربائية في كليهما متساوية.
ولكن ماذا كان سيحدث لو لم يكن الإلكترون و البروتون متساويي الشحنة؟ في هذه الحالة ستصبح كل الذرات الموجودة في الكون موجبة الشحنة بسبب الكمية الزائدة من الشحنة الموجبة الموجودة في البروتونات، وفي هذه الحالة ستصبح الذرات في الكون متنافرة مع بعضها. وماذا سيحدث لو حصل هذا الأمر الآن؟ أي ماذا سيحدث لو تنافرت الذرات بعضها مع بعض في الكون ؟
إن الذي يحدث أمر غير طبيعي مطلقاً، ففي اللحظة التي يحدث فيها هذا الأمر تتمزق يدا الإنسان اللّتان تمسكان بهذا الكتاب، ولكنّ الذي يتمزق ليس اليدان فقط، بل كل شيء في الكون. أجسامنا بأجزائها كافة، والغرفة التي نحن فيها والعالم الخارجي الذي نراه الآن من النافذة، وكذلك البحار والمحيطات والجبال، والمجموعة الشمسية بكواكبها، وكل شيء يتمزق إرْباً إرْباً. ولن يتكون بعدها شيء ملموس يرى بالعين المجردة.(1/107)
بيد أنّ احتمالية حدوث هذا الأمر تعادل واحداً في المئة مليار، أي إن حدوث هذا الخلل في التوازن بين شحنات البروتونات والإلكترونات الموجودة في الكائنات الحية أمر بعيد للغاية. أما احتمال تمزق الكون بفعل اختلال هذا التوازن فيعادل واحداً في المليار مليار، ومعنى هذا أن وجود الكون و الأحياء تحكمه موازين دقيقة للغاية.(للمزيد من التفاصيل راجع كتاب “خلق الكون” لمؤلفه هارون يحيى منشورات دار وورال للنشر و التوزيع).
والحقيقة التي يكشفها لنا هذا التوازن الدقيق هو أن الكون لم يظهر للوجود بطريق العبث، بل هو منظم ومرتب ليخدم هدفاً معيناً. ويكشف كذلك أن الله عز و جل هو الذي خلق الكون من العدم، وجعل فيه هذه الموازين الدقيقة كيفما شاء. ولا عجب فهو الله رب العالمين ، وكما ذكر في القرآن الكريم:{ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا}النازعات: 27-.28
الخاتمة
بعد أن قرأنا الكتاب أصبحنا شهوداً على عظمة الله في خلقه الأشياء كافة، فقد اطلعنا معاً على أمثلة عديدة في الطبيعة، من حركة النجم في أعماق الفضاء السحيق، إلى المدارات الموجودة في الذرة، إلى التناسق اللّوني الموجود في أجنحة الفراشات، وكذلك العناية الفائقة التي تظهرها الطيور تجاه أفراخها، ورأينا أيضاً اللآلئ التي تصنعها كائنات بحرية تكاد أجسامها تتألف من قشور فقط، و جميعها أدلة دامغة على حدوث عملية الخلق.(1/108)
وهنا يجب ألاّ ننسى مسألة مهمة للغاية؛ وهي أنّنا مهما عددنا من الأمثلة الشاهدة على الخلق فإنها تظل غير كافية للتعبير عن القدرة الإلهية التي لا حد لها. فإن الله وحده صاحب الصفات العليا و له وحده الأسماء الحسنى، وهو وحده منبع القوة اللامتناهية، والأنظمة الموجودة في كل الكون جميعها سواء أكانت من التي نراها أم من التي لا نراها، تعمل وفق الأسس التي أودعها فيها الخلاق العليم جل جلاله. وإنّ الله سبحانه وتعالى يخلق الكائنات الحية وغير الحية ويتحكم فيها بقدرته وحكمته. أو كما جاء في القرآن الكريم:{ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} هود: .56
وكل ما يحدث في الكون فبعلمه و حكمته سبحانه، مثل حركة الأجرام السماوية التي تبعد عنا ملايين السنين الضوئية ،والانفجارات التي تحدث في شمسنا، وكذلك تبخر الماء في كوكبنا، والورق المتساقط من الأشجار. وإن الله ذا القوة المتين هو الذي يخلق الأشياء كيفما يشاء و يتحكم فيها كيفما يشاء، ولا حدّ لما يخلق و لا نهاية لذلك.
ولاستيعاب هذه الأمور فكروا في أنفسكم، فإنكم تملكون أيدياً وأذرعاً وعيوناً وآذاناً وسيقاناً مثل باقي المليارات من البشر، ولكن كل إنسان يختلف عن الآخرين. وفكروا أيضاً في الناس الذين عاشوا منذ وجد أول إنسان حتى هذه اللحظة، وربما عاش المليارات أو عشرات المليارات حتى هذه اللحظة، وكل واحد من أولئك كان يمتلك أيدياً وأذرعاً وعيوناً و آذاناً، ولكن لا أحد من هؤلاء كان يشبه الآخر.(1/109)
فإذن: لو شاء الله تعالى لخلق بعدد هؤلاء جميعاً أو أكثر فهو الفعال لما يريد. والله قادر على أن يخلق ما لا يستطيع الإنسان أن يعلمه أو يستوعبه بقواه العقلية. وهذه الحقائق يجب تأملها و إدراكها عند التفكير في قدرة الله تعالى على الخلق والتي لا مثيل لها. وإن الله قادر على أن يخلق ما لا يعد من الألوان، وما لا يعد من الموجودات و ما لا يعد من الأمكنة، وقادر على أن يجعلها بصفات مختلفة بعضها عن بعض.
وعلى الإنسان الذي يعلم هذه الحقائق أن يحيا الحياة التي يرضاها الله عز وجل، وينهج النهج الذي يقود إلى مرضاته. وإنّ كل إنسان يستطيع بشيء من الجدّ والهمّة والإرادة أن يزيل الموانع المعوقة للتفكير السليم، وأن يزيح العقبات المؤدية إلى الغفلة والنسيان.{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}يونس: .108
خديعة التطوّر
إنّ نظرية التّطور أو الداروينية: هي نظرية ظهرت لتناهض فكرة خلق الأحياء، ولكنها لم تتجاوز حد كونها سَفْسَطَة لا تمت إلى العلم بأية صلة، إضافة إلى كونها نظرية بعيدة عن أي نجاح وانتشار. وتدّعي هذه النظرية أن الحياة نشأت من مواد حية بفعل المصادفات، ولكنّ هذا الادّعاء سرعان ما تهاوى أمام ثبوت خلق الأحياء وغير الأحياء من قبل الله عز وجل. فالذي خلق الكون ووضع فيه الموازين الدقيقة هو بلا شك الخالق الفاطر سبحانه وتعالى. ونظرية التّطور لا يمكن لها أن تكون صائبة طالما تشبثت بفكرة رفض “ خلق الله للكائنات “ وتبني مفهوم “المصادفة “ بدلاً عنها .(1/110)
وبالفعل عندما نتفحص جوانب هذه النظرية من أبعادها كافة نجد أن الأدلة العلمية تفنّدها واحداً بعد الآخر، فالتصميم الخارق الموجود في الكائنات الحية أكثر تعقيداً منه في الكائنات غير الحية. ومثال على ذلك الذّرات فهي موجودة وفق موازين حساسة للغاية، ونستطيع أن نميز هذه الموازين بإجراء الأبحاث المختلفة عليها، إلاّ أنّ هذه الذّرات نفسها موجودة في العالم الحي وفق ترتيب آخر أكثر تعقيداً، فهي تعد مواد أساسية لتركيب البروتينات والأنزيمات والخلايا، وتعمل في وسط له آليات ومعايير حساسة إلى درجة مدهشة.
إنّ هذا التصميم الخارق كان سبباً رئيساً لتفنيد مزاعم هذه النظرية بحلول نهاية القرن العشرين .
المصاعب التي هدمت الداروينية
ظهرت هذه النّظرية بصورة محددة المعالم في القرن التاسع عشر مستندة إلى التراكمات الفكرية والتي تمتد جذورها إلى الحضارة الإغريقية، ولكنّ الحدث الذي بلور هذه النظرية وجعل لها موطئ قدم في دنيا العلم هو صدور كتاب “ أصل الأنواع “ لمؤلفه تشارلز داروين. ويعارض المؤلف في كتابه عملية خلق الكائنات الحية المختلفة من قبل الله سبحانه وتعالى، وبدلاً من ذلك يدعو إلى اعتقاده المبني على نشوء الكائنات الحية كافة من جد واحد، وبمرور الزمن ظهر الاختلاف بين الأحياء نتيجة حدوث التغييرات الطفيفة.
إنّ هذا الادعاء الدارويني لم يستند الى أي دليل علمي، ولم يتجاوز كونه “جدلاً منطقياً” ليس إلاّ باعترافه هو شخصياً، حتى إن الكتاب احتوى على باب باسم “مصاعب النظرية “ تناول بصورة مطولة اعترافات داروين نفسه بوجود العديد من الأسئلة التي لم تستطع النظرية أن تجد لها الردود المناسبة، لتشكل بذلك ثغرات فكرية في بنيان النظرية.(1/111)
وكان يتمنى أن يجد العلم بتطوره الردود المناسبة لهذه الأسئلة ليصبح التطور العلمي مفتاح قوة للنظرية بمرور الزمن. وهذا التمني طالما ذكره في كتابه، ولكن العلم الحديث خيب أمل داروين وفنَّد مزاعمه واحداً بعد الآخر .
ويمكن ذكر ثلاثة عوامل رئيسة أدت إلى انتهاء الداروينية كنظرية علمية وهي:
1) إنّ النظرية تفشل تماماً في إيجاد تفسير علمي عن كيفية ظهور الحياة لأول مرة.
2) عدم وجود أي دليل علمي يدعم فكرة وجود “آليات خاصة للتطور “ كوسيلة للتكيف بين الأحياء.
3) إنّ السّجلات لحفريات المتحجرات تبين لنا وجود مختلف الأحياء دفعة واحدة عكس ما تدعيه نظرية التطور .
وسنشرح بالتفصيل هذه العوامل الثلاثة:
أصل الحياة : الخطوة غير المسبوقة أبداً
تدّعي نظرية التّطور أنّ الحياة والكائنات الحية بأكملها نشأت من خلية وحيدة قبل 3,8مليار سنة. ولكن كيف يمكن لخلية حية واحدة أن تتحول إلى الملايين من أنواع الكائنات الحية المختلفة من حيث الشكل والتركيب، و إذا كان هذا التحول قد حدث فعلاً، فلماذا لم توجد أية متحجرات تثبت ذلك؟
إنّ هذا التساؤل لم تستطع النظرية الإجابة عنه، وقبل الخوض في هذه التفاصيل يجب التوقف عند الادعاء الأول والمتمثل في تلك “الخلية الأم”. ترى كيف ظهرت إلى الوجود؟ تدعي النظرية أن هذه الخلية ظهرت إلى الوجود نتيجة المصادفة وحدها وتحت ظل ظروف الطبيعة دون أن يكون هنالك أي تأثير خارجي أو غير طبيعي؛ أي إنها ترفض فكرة الخلق رفضاً قاطعاً، بمعنى آخر: تدعي النظرية أنّ مواداً غير حية حدثت لها بعض المصادفات أدت بالنتيجة إلى ظهور خلية حية، وهذا الادعاء يتنافى تماماً مع كافة القواعد العلمية المعروفة .
“الحياة تنشأ من الحياة”(1/112)
لم يتحدث تشارلز داروين أبداً عن أصل الحياة في كتابه المذكور، والسبب يتمثّل في طبيعة المفاهيم العلمية التي كانت سائدة في عصره، والتي لم تتجاوز فرضية تكون الأحياء من مواد بسيطة جداً. وكان العلم آنذاك ما يزال تحت تأثير نظرية “التولد التلقائي” التي كانت تفرض سيطرتها منذ القرون الوسطى، ومفادها أنّ موادَّ غير حية قد تجمعت بالمصادفة و أنتجت مواد حية.
وهناك بعض الحالات اليومية كانت تسوق بعض الناس إلى تبني هذا الاعتقاد مثل تكاثر الحشرات في فضلات الطّعام وتكاثر الفئران في صوامع الحبوب. ولإثبات هذه الادّعاءات الغريبة كانت تجري بعض التجارب مثل وضع حفنة من الحبوب على قطعة قماش بالٍ ، وعند الانتظار قليلاً تبدأ الفئران بالظهور حسب اعتقاد الناس في تلك الفترة .
وكانت هناك ظاهرة أخرى وهي تكاثر الدود في اللحم، فقد ساقت النّاس إلى هذا الاعتقاد الغريب واتخذت دليلاً له، ولكن تم إثبات شيء آخر فيما بعد؛ وهو أن الدود يتم جلبه بواسطة الذباب الحامل ليرقاته والذي يحط على اللحم. وفي الفترة التي ألف خلالها داروين كتابه “أصل الأنواع” كانت الفكرة السائدة عن البكتيريا أنها تنشأ من مواد غير حية، ولكن أثبتت التطورات العلمية بعد خمس سنوات فقط من تأليف الكتاب عدم صحة ما جاء فيه، وذلك عن طريق الأبحاث التي أجراها عالم الأحياء الفرنسي لويس باستور، ويلحض باستور نتائج أبحاثه كما يلي: “لقد أصبح الادعاء القائل بأن المواد غير الحية تستطيع أن تنشئ الحياة في مهب الريح”. 43
وظل المدافعون عن نظرية التطور يكافحون لمدة طويلة ضد الأدلة العلمية التي توصل إليها باستور، ولكن العلم بتطوره عبر الزمن أثبت التعقيد الذي يتصف به تركيب الخلية، وبالتالي استحالة ظهور مثل هذا التركيب المعقد من تلقاء نفسه .
المحاولات العقيمة في القرن العشرين(1/113)
لقد كان الاختصاصي الروسي في علم الأحياء ألكسندر أوبارين أول من تناول موضوع أصل الحياة في القرن العشرين، وأجرى أبحاثاً عديدة في ثلاثينيّات القرن العشرين لإثبات أن المواد غير الحية تستطيع إيجاد مواد حية عن طريق المصادفة، ولكن أبحاثه باءت بالفشل الذريع واضطر الى أن يعترف بمرارة قائلاً : “إنّ أصل الخلية يُعَدُّ نقطة سوداء تبتلع نظرية التطور برمتها “. 44
ولم ييأس باقي العلماء من دعاة التطور، واستمروا في الطريق نفسه الذي سلكه أوبارين وأجروا أبحاثهم للتوصل إلى أصل الحياة. وأشهر بحث أجري من قبل الكيميائي الأمريكي ستانلي ميللر سنة 1953 حيث افترض وجود مواد ذات غازات معينة في الغلاف الجوي في الماضي البعيد، ووضع هذه الغازات مجتمعة في مكان واحد وجهزها بالطاقة، واستطاع أن يحصل على بعض الاحماض الأمينية التي تدخل في تركيب البروتينات .
وعُدَّت هذه التجربة في تلك السّنوات خطوة مهمة إلى الأمام، ولكن سرعان ما ثبت فشلها؛ لأن المواد المستخدمة في التجربة لم تكن تمثل حقيقة المواد التي كانت موجودة في الماضي السحيق، وهذا الفشل ثبت بالتأكيد في السنوات اللاحقة.45
وبعد فترة صمت طويلة اضطر ميللر نفسه أن يعترف بأن المواد التي استخدمها في إجراء التجربة لم تكن تمثل حقيقة المواد التي كانت توجد في الغلاف الجوي في سالف الزمان. 46
وباءت بالفشل كل التجارب التي أجراها الداروينيون طوال القرن العشرين، وهذه الحقيقة تناولها جيفري بادا الاختصاصي في الكيمياء الجيولوجية في المعهد العالي في سان ديغو سيكربس ضمن مقال نشره سنة 1998 على صفحات مجلة “الأرض” ذات التوجه الدارويني ، وجاء في المقال ما يلي :
“ نحن نودع القرن العشرين و مازلنا كما كنا في بدايته نواجه معضلة لم نجد لها إجابة؛ وهي: كيف بدأت
الحياة ؟47
الطبيعة المعقدة للحياة(1/114)
السبب الرئيسي الذى جعل نظرية التطور تتورط في هذه المتاهات أن هذا الموضوع العميق لأصل الحياة معقد للغاية، حتى للكائنات الحية البسيطة بشكل لا يصدقه عقل.
إن خلية الكائن الحي أعقد بكثير من جميع منتجات التكنولوجيا التي صنعها الإنسان في وقتنا الحاضر ولا يمكن إنتاج خلية واحدة بتجميع مواد غير حية في أكبر المعامل المتطورة في العالم.
إن الشروط اللازمة لتكوين خلية حية كثيرة جداً، لدرجة أنه لا يمكن شرحها بالاستناد على المصادفات إطلاقاً، غير أن احتمال تكوين تصادفِي للبروتينيات التي هي حجر الأساس للخلية (على سبيل المثال: احتمالية تكوين بروتين متوسط له خمس مئة حمض أميني هي 10950 / 1 تعد مستحيلاً على أرض الواقع.
إنَّ الـ DNA الذي يحفظ المعلومات الجينية في نواة الخلية يعد بنكاً هائلا للمعلومات لا يمكن تصور ما فيه،فهذه المعلومات تمثل في تصورنا مكتبة تشتمل على تسع مئة مجلد، وكل مجلد عدد صفحاته خمس مئة صفحة.
وهناك أيضاً ازدواجية أخرى غريبة في هذه النقطة وهي أن الشريط الثاني لDNA لا يمكن تكونه إلا ببعض البروتينيات (الأنزيمات ) الخاصة، ولكن إنتاج هذه الأنزيمات يتم حسب المعلومات الموجودة في DNA ئ؟ فقط لارتباطهما الوثيق ببعضهما، فلا بد من وجودهما معاً في الوقت نفسه لكي تتم الازدواجية، فهو يؤدي إلى الوقوع في مأزق الفكرة التي تقول: إن الحياة قد وجدت من ذاتها، ويعترف بهذه الحقيقة الدارويني المعروف “ ليسلي أورجيل”. 48
إن البروتينات والحموض النووية و RNA DNA التي تمتلك مكونات غاية في التعقيد يتم تكوينهما في الوقت نفسه والمكان نفسه، واحتمال تكوينهما مصادفة مرفوضة تماماً، فلا يمكن إنتاج أحدهما دون أن يكون الآخر موجوداً، وكذلك يكون الإنسان مضطراً إلى الوصول الى نتيجة وهي استحالة ظهور الحياة بطرق كيميائية .(1/115)
إن كان ظهور الحياة بطريق المصادفة مستحيلاً فيجب أن نعترف بخلق الحياة بشكل خارق للطبيعة، هذه الحقيقة تبطل نظرية التطور التي بنت كل مقوماتها التنظيرية على أساس إنكار الخلق.
الآليات الخيالية لنظرية التطور
القضية الثانية التي كانت سبباً في نسف نظرية داروين كانت تدور حول “ آليات التطور “ فهذا الادعاء لم يثبت في أي مكان في دنيا العلم لعدم صحته علمياً ولعدم احتوائه على قابلية التطوير الحيوي. وحسب ادعاء داروين فإنّ التطور حدث نتيجة “الانتخاب الطبيعي” وأعطى أهمية استثنائية لهذا الادعاء، حتى إنّ هذا الاهتمام من قبله يتضح من اسم الكتاب الذي أسماه “أصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي “ .
إنّ مفهوم الانتخاب الطبيعي يستند إلى مبدأ بقاء الكائنات الحية التي تظهر قوة وملاءمة تجاه الظروف الطبيعية، فعلى سبيل المثال: لو هُدِّد قطيع من الايل من قبل الحيوانات المفترسة فإن الأيل الأسرع في العدو يستطيع البقاء على قيد الحياة، وهكذا يبقى القطيع متألفاً من أيايل أقوياء سريعين في العدو. ولكن هذه الآلية لا تكفي أن تطور الأيايل من شكل إلى آخر، كأن تحولها إلى خيول مثلاً. لهذا السّبب لا يمكن تبني “الانتخاب الطبيعي” كوسيلة للتطور، و حتى داروين نفسه كان يعلم ذلك وذكره به ضمن كتابه “ أصل الأنواع “ بما يلي: “طالما لم تظهر تغييرات إيجابية فإن الانتخاب الطبيعي لا يفي بالغرض المطلوب”.49
تأثير لامارك(1/116)
والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف كانت ستحدث هذه التغييرات الإيجابية ؟ وأجاب داروين عن هذا السؤال استناداً إلى أفكار من سبقوه من رجالات عصره مثل لامارك، و لامارك عالم أحياء فرنسي عاش ومات قبل داروين بسنوات كان يدعي أن الأحياء تكتسب تغييرات معينة تورثها إلى الأجيال اللاحقة، وكلما تراكمت هذه التغييرات جيلاً بعد جيل أدّت إلى ظهور أنواع جديدة، وحسب ادعائه فإنّ الزّرافات نشأت من الغزلان نتيجة محاولاتها للتغذي على أوراق الأشجار العالية عبر أحقاب طويلة. وأعطى داروين أمثلة مشابهة في كتابه “أصل الأنواع” فقد ادّعى أن الحيتان أصلها قادم من الدببة التي كانت تتغذى على الكائنات المائية وكانت مضطرة إلى النزول إلى الماء بين الحين والآخر.50 إلا أن قوانين الوراثة التي اكتشفها مندل والتطور الذي طرأ على علم الجينات في القرن العشرين أدّى إلى نهاية الأسطورة القائلة بانتقال الصفات المكتسبة من جيل إلى آخر، وهكذا ظلت “ آلية الانتخاب الطبيعي” آلية غير ذات فائدة أو تأثير من وجهة نظر العلم الحديث.
الداروينية الحديثة والطفرات الوراثية
قام الدّاروينيون بتجميع جهودهم أمام المعضلات الفكرية التي واجهوها خصوصاً في ثلاثينيات القرن العشرين وساقوا نظرية جديدة أسموها بـ”نظرية التكوّن الحديث” أو ما عرف بـ”الداروينية الحديثة “، وحسب هذه النظرية هناك عامل آخر له تأثير تطوري إلى جانب الانتخاب الطبيعي، وهذا العامل يتلخص في حصول طفرات وراثية أو جينية تكفي سبباً لحدوث تلك التغييرات الإيجابية المطلوبة، وهذه الطفرات تحدث إمّا بسبب التعرض للإشعاعات أو نتيجة خطأ في الاستنساخ الوراثي للجينات .(1/117)
وهذه النظرية مازالت تدافع عن التطور لدى الأحياء تحت اسم الداروينية الحديثة، وتدَّعي هذه النظرية أن الأعضاء والتراكيب الجسمية الموجودة لدى الأحياء والمعقدة التركيب كالعين والأذن أو الكبد والجناح ... إلخ لم تظهر أو تتشكل إلا بتأثير حدوث طفرات وراثية أو حدوث تغييرات في تركيب الجينات، ولكن هذا الادعاء يواجه مطبّاً علمياً حقيقياً؛ وهو أن الطفرات الوراثية دائماً تشكل عامل ضرر على الأحياء ولم تكن ذات فائدة في يوم من الأيام.
وسبب ذلك واضح جداً فإن جزيئة الـDNA معقدة التركيب للغاية، وأي تغيير جزيئي عشوائي مهما كان طفيفاً لابد من أن يكون له أثر سلبي، وهذه الحقيقة العلمية يعبر عنها ب.ج.رانكاناثان الأمريكي الاختصاصي في علم الجينات كما يلي: “إنّ الطفرات الوراثية تتسم بالصغر والعشوائية والضرر، ولا تحدث إلا نادراً وتكون غير ذات تأثير في أحسن الأحوال. إنّ هذه الخصائص العامة الثلاث توضح أنّ الطفرات لا يمكن أن تلعب دوراً في إحداث التطور، خصوصاً أنّ أيّ تغيير عشوائي في الجسم المعقد لابدّ له أن يكون إمّا ضاراً أو غير مؤثر، فمثلاً أيّ تغيير عشوائي في ساعة اليد لا يؤدي إلى تطويرها، فالاحتمال الأكبر أن يؤدي إلى إلحاق الضرر بها أو أن يصبح غير مؤثّر بالمرة “.51
وهذا ما حصل فعلاً؛ لأنّه لم يثبت إلى اليوم وجود طفرة وراثية تؤدّي إلى تحسين البنية الجينية للكائن الحي. والشواهد العلمية أثبتت ضرر جميع الطفرات الحاصلة، وهكذا يتضح أنّ هذه الطفرات التي جعلت سبباً لتطور الأحياء من قبل الداروينية الحديثة تمثل وسيلة تخريبية التأثير على الأحياء، بل تتركهم معاقين في أغلب الأحيان ( وأفضل مثال للطفرة الوراثية الحاصلة لجسم الإنسان هو الإصابة بمرض السرطان) ولا يمكن والحال كذلك أن تصبح الطفرات الوراثية ذات التأثير الضار آلية معتمدة علميا لتفسير عملية التّطور.(1/118)
أمّا آلية الانتخاب الطبيعي فهي بدورها لا يمكن أن تكون مؤثرة لوحدها فقط حسب اعترافات داروين نفسه، وبالتالي لا يمكن أن يوجد مفهوم يدعى بـ”التطور”، أي إنّ عملية التطور لدى الأحياء لم تحدث البتة.
سجلات المتحجرات :لا أثر للحلقات الوسطى
تُعَدُّ سجلات المتحجّرات أفضل دليل على عدم حدوث أي من السيناريوهات التي تدّعيها نظرية التطور، فهذه النظرية تدّعي أنّ الكائنات الحيّة مختلفة الأنواع نشأت بعضها من بعضها الآخر، فنوع معين من الكائن الحي من الممكن أن يتحول إلى نوع آخر بمرور الزمن، وبهذه الوسيلة ظهرت الأنواع المختلفة من الأحياء، وحسب النظرية فإنّ هذا التحول النوعي استغرق مئات الملايين من السنين. واستناداً الى هذا الادعاء يجب وجود حلقات وسطى (انتقالية ) طوال فترة حصول التحول النوعي في الأحياء .
على سبيل المثال: يجب وجود كائنات تحمل صفات مشتركة من الزواحف والأسماك؛ لأنها في البداية كانت مخلوقات مائية تعيش في الماء وتحولت بالتدريج إلى زواحف، أو يفترض وجود كائنات ذات صفات مشتركة من الطيور والزواحف؛ لأنها في البداية كانت زواحف ثم تحولت إلى طيور، ولكون هذه المخلوقات الافتراضية قد عاشت في فترة تحول فلابد أن تكون ذات قصور خلقي أو مصابة بإعاقة أو تشوّه ما، ويطلق دعاة التطور على هذه الكائنات الانتقالية اسم “الأشكال االانتقالية “.
ولو افترضنا أن هذه “الأشكال البينية “ قد عاشت فعلاً في الحقب التاريخية، فلا بد أنها وجدت بأعداد كبيرة وأنواع كثيرة تقدر بالملايين بل بالمليارات، وكان لابد أن تترك أثراً ضمن المتحجرات المكتشفة، ويعبر داروين عن هذه الحقيقة في كتابه: “إذا صحت نظريتي فلا بد أن تكون هذه الكائنات الحية العجيبة قد عاشت في مدة ما على سطح الأرض... وأحسن دليل على وجودها هو اكتشاف متحجرات ضمن الحفريات”.52
خيبة آمال داروين(1/119)
أجريت حفريات وتنقيبات كثيرة جداً منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى الآن، ولكن لم يعثر على أي أثر لهذه “ الأشكال الانتقالية “، وقد أثبتت المتحجرات التي تم الحصول عليها نتيجة الحفريات عكس ما كان يتوقعه الداروينيون؛ من أن جميع الأحياء بمختلف أنواعها قد ظهرت إلى الوجود فجأة وعلى أكمل صورة .
وقد اعترف بهذه الحقيقة أحد غلاة الداروينيّة وهو ديريك وايكر الاختصاصي البريطاني في علم المتحجرات قائلاً: “إنّ مشكلتنا الحقيقية هي حصولنا على كائنات حية كاملة، سواء أكانت على مستوى الأنواع أم الأصناف عند تفحصنا للمتحجرات المكتشفة، وهذه الحالة واجهتنا دوماً دون العثور على أيّ أثر لتلك المخلوقات المتطورة تدريجياً” .53 أي إن المتحجرات تثبت لنا ظهور الأحياء كافة فجأة دون أي وجود للأشكال الانتقالية نظرياً، وهذا طبعاً عكس ما ذهب إليه داروين، وهذا تعبير عن كون هذه الكائنات الحية مخلوقة؛ لأن التفسير الوحيد لظهور كائن حي فجأة دون أن يكون له جد معين هو أن يكون مخلوقاً، وهذه الحقيقة قد قبلها عالم أحياء مشهور مثل دوغلاس فوتويما:
“إنّ الخلق والتطور مفهومان أو تفسيران سائدان في دنيا العلم لتفسير وجود الأحياء، فالأحياء إمّا وجدت فجأة على وجه البسيطة على أكمل صورة أو لم تكن كذلك، أي أنها ظهرت نتيجة تطورها عن أنواع أو أجداد سبقتها في الوجود، وإن كانت قد ظهرت فجأة وبصورة كاملة الشكل والتكوين فلابد من قوة لاحد لها وعقل محيط بكل شيء توليا إيجاد مثل هذه الكائنات الحية”. 54
فالمتحجرات تثبت أن الكائنات الحية قد ظهرت فجأة على وجه الأرض وعلى أحسن شكل وتكوين، أي: إن أصل الأنواع هو الخلق وليس التطور كما كان يعتقد داروين .
أسطورة تطوّر الإنسان(1/120)
إنّ من أهم الموضوعات المطروحة للنقاش ضمن نظرية التطور هو بلاشك أصل الإنسان، وفي هذا الصدد تدعي الداروينية بأن الإنسان الحالي نشأ متطوراً من كائنات حية شبيهة بالقرد عاشت في الماضي السحيق، وفترة التطور بدأت قبل 4-5 ملايين سنة، وتدعي النظرية وجود بعض الأشكال الانتقالية خلال الفترة المذكورة، وحسب هذا الادعاء الخيالي هناك أربع مجموعات رئيسة ضمن عملية تطور الإنسان وهي :
1-أوسترالوبيثيكوس Australopithecus
2-هومو هابيليس Homo habilis
3-هومو إريكتوس Homo erectus
4-هومو سابينس Homo sapiens
يطلق دعاة التطور على الجد الأعلى للإنسان الحالي اسم “ أوسترالوبيثيكوس “ أو قرد الجنوب، ولكن هذه المخلوقات ليست سوى نوع منقرض من أنواع القرود المختلفة، وقد أثبتت الأبحاث التي أجراها كلّ من الأمريكي البروفيسور تشارلز أوكسنارد والبريطاني اللورد سوللي زاخرمان وكلاهما من أشهر علماء التشريح على قرد الجنوب أنّ هذا الكائن الحي ليس سوى نوع منقرض من القرود ولا علاقة له مطلقاً بالإنسان.55
والمرحلة التي تلي قرد الجنوب يطلق عليها من قبل الداروينيين اسم “هومو” أو الإنسان، وفي كافة مراحل ا
“هومو” أصبح الكائن الحي أكثر تطوراً من قرد الجنوب، ويتشبث الداروينيون بوضع المتحجرات الخاصة بهذه الأنواع المنقرضة كدليل على صحة نظريتهم وتأكيداً على وجود مثل هذا الجدول التطوري الخيالي، ونقول: خيالي؛ لأنه لم يثبت إلى الآن وجود أي رابط تطوري بين هذه الأنواع المختلفة. و هذه الخيالية في التفكير اعترف بها أحد دعاة نظرية التطور في القرن العشرين وهو آرنست ماير قائلاً: “إنّ السلسلة الممتدة إلى هومو سابينس منقطعة الحلقات بل مفقودة”. 56(1/121)
وهناك سلسلة يحاول الدراوينيون إثبات صحتها تتكون من قرد الجنوب (أوسترالوبيثيكوس) هومو هابيليس ـ هومو إريكتوس ـ هومو سابينس أي إن أقدمهم يعد جداً للّذي يليه، ولكن الاكتشافات التي وجدها علماء المتحجرات أثبتت أن قرد الجنوب و هومو هابيليس و هومو إريكتوس قد وجدوا في أماكن مختلفة وفي الفترة الزمنية نفسها.57 والأبعد من ذلك هو وجود أنواع من هومو إريكتوس قد عاشت حتى فترات حديثة نسبياً ووجدت جنباً إلى جنب مع هومو سابينس نياندرتالينس و هوموسابينس (الإنسان الحالي) .58
وهذه الاكتشافات أثبتت عدم صحة كون أحدهما جداً للآخر، و أمام هذه المعضلة الفكرية التي واجهتها نظرية داروين في التطور يقول أحد دعاتها وهو ستيفن جي كولد الاختصاصي في علم المتحجرات في جامعة هارفارد ما يلي :
“إذا كانت ثلاثة أنواع شبيهة بالإنسان قد عاشت في الحقبة الزمنية نفسها، إذن ماذا حصل لشجرة أصل الإنسان؟ الواضح أنه لا أحد من بينها يعد جداً للآخر، و الأدهى من ذلك عند إجراء مقارنة بين بعضها وبعض لا يتم التوصل من خلالها إلى أية علاقة تطورية فيما بينها”. 59
وبصريح العبارة: إن اختلاق قصة خيالية عن تطور الإنسان والتأكيد عليها إعلامياً وتعليمياً والترويج لنوع منقرض من الكائن الحي نصفه قرد ونصفه الآخر إنسان هو عمل لا يستند إلى أي دليل علمي.
وقد أجرى اللورد سوللي زاخرمان البريطاني أبحاثه على متحجرات قرد الجنوب لمدة 15 سنة متواصلة علماً أن له مركزه العلمي كاختصاصي في علم المتحجرات، وقد توصل إلى عدم وجود أية سلسلة متصلة بين الكائنات الشبيهة بالقرد وبين الإنسان واعترف بهذه النتيجة على الرغم من كونه دارويني التفكير .(1/122)
ولكنه من جهة أخرى قام بتأليف جدول خاص بالفروع العلمية التي يعترف بها وضمنه مواقع لأمور خارجة عن نطاق العلم، وحسب جدول زاخرمان تشمل الفروع العلمية والتي تستند الى أدلة مادية هي علوم الكيمياء والفيزياء ويليهما علم الأحياء فالعلوم الاجتماعية وأخيراً ـ أي في حافة الجدول ـ تأتي فروع المعرفة الخارجة عن نطاق العلم، ووضع في هذا الجزء من الجدول علم تبادل الخواطر، والحاسة السادسة، والشعور أو التحسس النائي، وأخيراً تطور الإنسان. ويضيف زاخرمان تعليقاً على هذه المادة الأخيرة في الجدول كما يلي:
“ عند انتقالنا من العلوم المادّية إلى الفروع التي تمت بصلة إلى علم الأحياء النائي أو الاستشعار عن بعد، وحتى استنباط تاريخ الإنسان بواسطة المتحجرات، نجد أنّ كل شيء جائز وممكن خصوصاً بالنسبة إلى المرء المؤمن بنظرية التطور، حتى إنه يضطر أن يتقبل الفرضيات المتضادة أو المتضاربة في آن واحد”. 60
إذن: إنّ القصة الملفقة لتطور الإنسان تمثل إيماناً أعمى من قبل بعض الناس بالتأويلات غير المنطقية لأصل بعض المتحجرات المكتشفة .
عقيدة مادية
لقد استعرضنا النظرية الخاصة بالتطور، ومدى تناقضها مع الأدلة والشواهد العلمية، ومدى تناقض فكرها المتعلق بأصل الحياة مع القواعد العلمية، واستعرضنا أيضاً كيفية انعدام التأثير التطوري لكافة آليات التطور التي تدعو إليها هذه النظرية، وانعدام وجود أية آثار لمتحجرات تثبت وجود أشكال أنتقالية للحياة عبر التاريخ، لهذا السبب نتوصل إلى ضرورة التخلي عن التشبث بالنظرية التي تعد متناقضة مع قواعد العلم والعقل، ولابد أن تنتهي كما انتهت نظريات أخرى عبر التاريخ والتي ادعت بعضها أن الأرض مركز الكون. ولكن هناك إصراراً عجيباً على بقاء هذه النظرية في واجهة الأحداث العلمية، وهناك بعضهم يتمادى في تزمته ويتهم أي نقد للنظرية بأنه هجوم على العلم والعلماء .(1/123)
والسبب يكمن في تبني بعض الجهات لهذه النظرية واستخدامها كوسيلة للتلقين الفكري، وهذه الجهات يتميز تفكيرها بأنه نابع من المدرسة المادية، بل هي متصلة بالفكر المادي اتصالاً أعمى وتعد الداروينية خير ملاذ فكري لها لترويج فكرها المادي البحت .
وأحياناً تعترف هذه الجهات بالحقيقة السّابقة، كما يقول ريتشارد ليونتن أشهر الباحثين في علم الجينات، والذي يعمل في جامعة هارفارد، و هو من المدافعين الشرسين عن نظرية التطور ويعد نفسه رجل علم مادي: “نحن نؤمن بالمادية، ونؤمن بأشياء مُسَلَّم بها سلفاً، وهذا الإيمان هو الذي يجعلنا نوجد تفسيرات مادية للظواهر الدنيوية وليس قواعد العلم ومبادئه، وإيماننا المطلق بالمادية هو سبب دعمنا اللامحدود لكل الأبحاث الجارية لإيجاد تفسيرات مادية للظواهر كافة التي توجد في عالمنا، ولكون المادية صحيحة إطلاقاً فلا يمكن أبداً أن نسمح للتفسيرات الإلهيّة أن تقفز إلى واجهة الأحداث”.61
إن هذه الكلمات تعكس مدى التلقينية التي تتسم بها الداروينية لمجرد كونها مترابطة ترابطاً فلسفياً بالنظرية المادية، ويعد غلاة أصحاب هذه النظرية أن لاشيء فوق المادة، ولهذا السبب يؤمنون بأن المواد غير الحية هي سبب وجود المواد الحية، أي إن الملايين من الأنواع المختلفة كالطيور والأسماء والزرافات والنمور والحشرات والأشجار والزهور والحيتان وحتى الإنسان ليست إلا نتاجاً للتحول الداخلي الذي طرأ على المادة كالمطر المنهمر والرعد والصواعق.
والواقع أن هذا الاعتقاد يتعارض تماماً مع قواعد العقل والعلم، إلا أنّ الداروينيّين مازالوا يدافعون عن آرائهم خدمة لأهدافهم “ لا يمكن أبداً أن نسمح للتفسيرات الإلهية أن تقفز إلى واجهة الأحداث “.(1/124)
و كلّ إنسان ينظر إلى قضية أصل الأحياء من وجهة نظر غير مادية لابد له أن يرى الحقيقة الساطعة كالشمس، إنّ كافة الكائنات الحية قد وُجِدَت بتأثير قوة لا متناهية وعقل لا حد له؛ أي: خُلِقَت من قبل خالق لها، وهذا الخالق هو الله العلي القدير الذي خلق كل شيء من العدم وقال له: كن فيكون .
قَالُو سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ
أَنتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ
البقرة:32
115
الهيبوتولاموس
“ما تحت السرير البصري”
الغدة النخامية
117
تفصيل غشاء الخلية
132
متحجرة روبيان عمرها 195 مليون سنة
الروبيان
متحجرة يعسوب عمرها 150 مليون سنة
اليعسوب
متحجرة نملة عمرها 100 مليون سنة
نملة
متحجرة سمك قرش عمرها 400مليون سنة
سمك القرش(1/125)