باب القسامة
صورة القسامة أن يوجد قتيل وادعى وليه على رجل أو على جماعة وعليهم لوث ظاهر واللوث ما يغلب على القلب صدق المدعي بأن وجد فيما بين قوم أعداء لا يخالطهم غيرهم كقتيل خيبر وجد بينهم والعداوة بين الأنصار وبين أهل خيبر ظاهرة أو اجتمع جماعة في بيت أو صحراء وتفرقوا عن قتيل أو وجد في ناحية قتيل وثم رجل مختضب بدمه أو يشهد عدل واحد على أن فلانا قتله أو قاله جماعة من العبيد والنسوان جاؤا متفرقين بحيث يؤمن تواطؤهم ونحو ذلك من أنواع الموت فيبدأ بيمين المدعي فيحلف خمسين يمينا ويستحق دعواه فإن نكل المدعي عن اليمين ردت إلى المدعي عليه فيحلف خمسين يمينا على نفي القتل ويجب بها الدية المغلظة فإن لم يكن لوث فالقول قول المدعي عليه مع يمينه كما في سائر الدعاوي ثم يحلف يمينا واحدا أو خمسين يمينا قولان : أصحهما الأول فإن كان المدعون جماعة توزع الأيمان عليهم على قدر مواريثهم على أصح القولين ويجبر الكسر والقول الثاني كل واحد منهم خمسين يمينا وإن كان المدعى عليهم جماعة ووزع على عدد رؤسهم على أصح القولين إن كان الدعوى في الأطراف سواء كان اللوث أو لم يكن فالقول قول المدعي عليه مع يمينه هذا كله بيان مذهب الشافعي وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يبدأ بيمين المدعي بل يحلف المدعي عليه وقال إذا وجد قتيل في محلة يختار الإمام خمسين رجلا من صلحاء أهلها ويحلفهم على أنهم ما قتلوه ولا عرفوا له قاتلا ثم يأخذ الدية من أرباب الخطة فإن لم يعرفوا فمن سكانها
أقول : إعلم أن هذا الباب قد وقع فيه لكثير من أهل العلم مسائل عاطلة عن الدلائل ولم يثبت في حديث صحيح ولا حسن قط ما يقتضي الجمع بين الأيمان والدية بل بعض الأحاديث مصرح بوجوب الإيمان فقط وبعضها مصرح بوجوب الدية فقط
والحاصل : أنه قد كثر الخبط والخلط في هذا الباب إلى غاية ولم يتعبدنا الله بإثبات الأحكام العاطلة عن الدلائل ولا سيما إذا خالفت ما هو شرع ثابت وكانت تستلزم أخذ المال الذي هو معصوم إلا بحقه ولهذا ذهب جماعة من السلف منهم أبو قلابة وسالم بن عبد الله والحكم بن عتيبة وقتادة وسليمان بن يسار وإبراهيم بن علية ومسلم بن خالد وعمر بن عبد العزيز إلى أن القسامة غير ثابتة لمخالفتها لأصول الشريعة من وجوه قد ذكرها الماتن رحمه الله في شرح المنتقى وذكر ما أجيب به عنها من طريق الجمهور فليراجع
إذا كان القاتل من جماعة محصورين ثبتت وهي خمسون يمينا لقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم [ فتبرئكم اليهود بخمسين يمينا ] وهو في الصحيحين من حديث سهل بن أبي حثمة
يختارهم ولي القتيل والدية إن نكلوا عليهم وإن حلفوا سقطت لما أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن رجل من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم [ أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية ] وقد ثبت أنهم في الجاهلية كانوا يخيرون المدعى عليهم بين أن يحلفوا خمسين يمينا أو يسلموا الدية كما في القسامة التي كانت في بني هاشم كما أخرجه البخاري والنسائي من حديث ابن عباس وهي قصة طويلة وفيها [ أن القاتل كان معينا وأن أبا طالب قال له اختر منا إحدى ثلاث : إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل فإنك قتلت صاحبنا وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله فإن أبيت قتلناك به فأتى قومه فأخبرهم فقالوا : نحلف فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم كانت قد ولدت منه فقالت يا أبا طالب : أحب أن تجيز ابني هذا برجل من الخمسين ولا تصبر يمينه حيث تصبر الأيمان ففعل فأتاه رجل منهم فقال يا أبا طالب : أردت خمسين رجلا أن يحلفوا مكان الإبل فيصيب كل رجل منهم بعيران هذان البعيران فاقبلهما مني ولا تصبر يميني حيث تصبر الأيمان فقبلهما وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا قال ابن عباس : فوالذي نفسي بيده ما حال الحول ومن الثمانية والأربعين عين تطرف ]
وإن التبس الأمر كانت من بيت المال لحديث سهل بن أبي حثمة قال : [ انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر وهي يومئذ صلح فتفرقا فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلا فدفنه ثم قدم المدينة فانطلق عبدالرحمن بن سهل وحيصة وحويصة أبناء مسعود إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال كبر كبر وهو أحدث القوم فسكت فتكلما فقال : أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم فقالوا : كيف نحلف ولم نشهد ولم نر قال : فتبرئكم اليهود بخمسين يمينا فقالوا : كيف نأخذ أيمان قوم كفار فعقله النبي صلى الله وسلم عليه من عنده ] وهو في الصحيحين وغيرهما وفي لفظ [ فكره رسول الله صلى الله وسلم عليه أن يبطل دمه فوداه بمائة من إبل الصدقة ] وقد اختلف أهل العلم في كيفية القسامة اختلافا كثيرا وما ذكره الماتن هو أقرب إلى الحق وأوفق لقواعد الشريعة المطهرة وقد وقع في رواية من حديث سهل المذكور [ أن النبي صلى الله وسلم عليه قال : تقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته فقالوا : أمر لم نشهده كيف نحلف ] وقد أخرج أحمد والبيهقي عن أبي سعيد قال : [ وجد رسول الله صلى الله عليه و سلم قتيلا بين قريتين فأمر رسول الله صلى الله وسلم عليه فذرع ما بينهما فوجد أقرب إلى أحد الجانبين بشبر فألقى ديته عليهم ] قال البيهقي تفرد به أبو إسرائيل عن عطية ولا يحتج بهما وقال العقيلي هذا الحديث ليس له أصل وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي عن الشعبي [ أن قتيلا وجد بين وداعة وشاكر فأمرهم عمر بن الخطاب أن يقيسوا ما بينهما فوجدوه إلى وادعة أقرب فأحلفهم خمسين يمينا كل رجل ما قتلته ولا علمت قاتلا ثم أغرمهم الدية فقالوا : يا أمير المؤمنين لا إيماننا دفعت دفعت عن أموالنا ولا أموالنا دفعت عن أيماننا فقال عمر : كذلك الحق ] وأخرج نحوه الدارقطني والبيهقي عند سعيد بن المسيب وفيه [ أن عمر قال : إنما قضيت عليكم بقضاء نبيكم صلى الله عليه و سلم ] قال البيهقي : رفعه إلى النبي صلى الله وسلم عليه منكر وفيه عمر بن صبيح أجمعوا على تركه وقال الشافعي : ليس بثابت إنما رواه الشعبي عن الحرث الأعور وهذا لا تقوم به حجة لضعف إسناده على فرض رفعه وأما مع عدم الرفع فليس في ذلك حجة سواء ورد بإسناد صحيح أو غير صحيح والرجوع إلى قسامة الجاهلية التي قررها النبي صلى الله وسلم عليه هو الصواب وقد تقدم ذكرها وقد أخرج أبو داود من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن رجل من الأنصار [ أن النبي صلى الله وسلم عليه قال لليهود وبدأ بهم يحلف منكم خمسون رجلا فأبوا فقال للأنصار : استحقوا فقالوا : نحلف على الغيب يا رسول الله فجعلها رسول الله صلى الله وسلم عليه دية على اليهود لأنه وجد بين أظهرهم ] وهذا إذا صح لا يخالف ما ذكرناه من وجوب الدية على المتهمين إذا لم يحلفوا ولكنه مخالف لما ثبت في الصحيحين إن كانت هذه القصة هي تلك القصة وقد قال بعض أهل العلم أن هذا الحديث ضعيف لا يلتفت إليه * (2/312)
كتاب الوصية
تجب على من له ما يوصي فيه لحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما [ أن رسول الله صلى الله وسلم عليه قال : ما حق امريء مسلم يبيت ليلتين وله شئ يريد أن يوشي فيه إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه ] وقد ذهب إلى الوجوب عطاء والزهري وأبو مجاز وطلحة بن مصرف وآخرون وحكاه البيهقي عن الشافعي في القديم وبه قال اسحق وداود وأبو عوانة وابن جرير وذهب الجمهور إلى أن الوصية مندوبة وليست بواجبة ويجاب عنه بقوله تعالى : { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف } ونسخ وجوبها للوالدين والأقربين لا يستلزم نسخ وجوبها في غير ذلك ويجاب عنه أيضا بحديث الباب فإنه يفيد الوجوب قال في المسوى : وعليه أهل العلم قال محمد : وبهذا نأخذ هذا حسن جميل قال النووي : قال الشافعي معنى الحديث الجزم والاحتياط وإن المستحب تعجيل الوصية وأن يكتبها في صحته
ولا تصح ضرار لحديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله وسلم عليه قال : [ إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار ثم قرأ أبو هريرة { من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله } إلى قوله : { وذلك الفوز العظيم } ] أخرجه أبو داود والترمذي وأخرج أحمد وابن ماجة معناه وقالا : فيه [ سبعين سنة ] وقد حسنه الترمذي وفي إسناده شهر بن حوشب وفيه مقال وقد وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأخرج ابن منصور موقوفا بإسناد صحيح عن ابن عباس [ الأضرار في الوصية من الكبائر ] وأخرجه النسائي مرفوعا بإسناد رجاله ثقات والآية الكريمة مغنية عن غيرها ففيها تقييد الوصية المأذون بها بعدم الضرار وقد روى جماعة من الأئمة الإجماع على بطلان وصية الضرار والحاصل : أن وصية الضرار ممنوعة بالكتاب والسنة ومن جملة أنواع الضرار تفضيل بعض الورثة على بعض فإن النبي صلى الله عليه و سلم سمى ذلك جورا كما في حديث النعمان بن بشير الصحيح ومن جملتها أن تكون لإخراج المال مضارة للورثة فإن من أوصى بماله أو بجزء منه لقربة من القرب مريدا بذلك إحرام الورثة جميع ميراثهم أو بعضه فوصيته باطلة لأنه مضار وظاهر الأدلة أنه لا ينفذ من وصية الضرار شئ سواء كانت بالثلث أو بما دونه أو بما فوقه بل هي رد على فاعلها فتكون أحاديث الإذن بالثلث مقيدة بعد الضرار وقد جمع الماتن رحمه الله في هذا رسالة مختصرة
ولا تصح لوارث لحديث عمرو بن خارجة [ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : أن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ] أخرجه أحمد وابن ماجة والنسائي والترمذي والدارقطني والبيقهي وصححه الترمذي وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه من حديث أبي أمامة وفي إسناده إسمعيل بن عياش وهو قوي إذا روي عن الشاميين وهذا الحديث من روايته عنهم لأنه رواه عن شرحبيل بن مسلم وهو شامي ثقة وقد حسنه الحافظ أيضا وأخرجه أيضا الدارقطني من حديث ابن عباس قال ابن حجر : رجاله ثقات ولفظه [ لا تجوز وصية لوارث إلا أن تشاء الورثة ] وأخرج الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا وصية لوارث إلا أن تجيز الورثة ] قال في التلخيص : إسناده واه وفي الباب عن أنس عند ابن ماجة وعن جابر عند الدارقطني وعن علي عنده أيضا وقد قال الشافعي : أن هذا المتن متواتر فقال : وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه و سلم قال عام الفتح : [ لا وصية لوراث ] ويأثرونه عمن حفظوه عنه ممن لقوه من أهل العلم فكان نقل كافة عن كافة فهو أقوى من نقل واحد انتهى فيكون هذا الحديث مقيدا لقوله تعالى : { من بعد وصية يوصى بها } وقد ذهب إلى ذلك الجمهور قال مالك في الموطأ : السنة الثابتة عندنا التي لا اختلاف فيها أنه لا يجوز وصية لوارث إلا أن يجيز له ذلك ورثة الميت قلت : وعليه أهل العلم
ولا تصح في معصية لحديث أبي الدرداء عند أحمد والدارقطني عن النبي قال : [ إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم ليجعلها لكم زيادة في أعمالكم ] وأخرجه ابن ماجة والبزار والبيهقي من حديث أبي هريرة وفي إسناده ضعف وأخرجه أيضا الدارقطني والبيهقي من حديث أبي أمامة وإسناده ضعيف وأخرجه العقيلي في الضعفاء من حديث أبي بكر الصديق وفيه متروك وأخرج ابن السكن وابن قانع وأبو نعيم والطبراني من حديث خالد بن عبدالله السلمي وهو مختلف في صحبته وهي تنتهض بمجموعها وقد دلت على أن الإذن بالوصية بالثلث إنما هو لزيادة الحسنات والوصية في المعصية معصية قد نهى الله عباده عن معاصيه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه و سلم فلو لم يرد ما يدل على تقييد الوصية بغير المعصية لكانت الأدلة الدالة على المنع من معصية الله مفيدة للمنع من الوصية في المعصية
وهي في القرب من الثلث لحديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما قال : [ لو أن الناس غضوا من الثلث فإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : الثلث والثلث كثير ] ومثله حديث سعد بن أبي وقاص [ أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال له : الثلث والثلث كثير أو كبير لما قال : أتصدق بثلثي مالي قال : لا قال : فالشطر قال : لا قال : فالثلث قال : الثلث والثلث كثير أو كبير لما قال : أتصدق بثلثي مالي قال : لا قال : فالشطر قلا : لا : فالثلث قال : الثلث والثلث كثير أو كبير إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ] وهو في الصحيحين وغيرهما وقد ذهب الجمهور إلى المنع من الزيادة على الثلث ولو لم يكن للموصي وارث وجوز الزيادة مع عدم الوارث الحنفية واسحق وشريك وأحمد في رواية وهو قول علي وابن مسعود واحتجوا بأن الوصية مطلقة في الآية فقيدتها السنة بمن له وارث فبقي من لا وارث له على الاطلاق وقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي زيد الأنصاري [ أن رجلا أعتق ستة أعبد عند موته ليس له مال غيرهم فأقرع بينهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فأعتق اثنين وأرق أربعة ] وفي لفظ لأبي داود أنه قال صلى الله عليه و سلم [ لو شهدته قبل أن يدفن لم يدفن في مقابر المسلمين ] وقد أخرج الحديث مسلم وغيره من حديث عمران بن حصين وفي لفظ لأحمد [ أنه جاء ورثته من الأعراب فأخبروا رسول الله صلى اله عليه وسلم بما صنع فقال أو فعل ذلك ! لو علمنا إن شاء الله ما صلينا عليه ] اعلم أن الثلث المأذون به لكل واحد باعتبار ما يفعله الميت لنفسه من القرب المقربة التي لم تكن قد وجبت عليه بإيجاب الله تعالى فما كان من هذا القبيل فهو من الثلث المأذون به وأما ما كان قد تقدم له وجوب على الميت سواء كان حقا لله عز و جل كالزكارة والكفارات التي يعتقد الميت وجوبها والحج أو حق الآدمي كالديون فإنه يجب إخراجه من رأس المال قبل كل شئ ولا وجه للتفصيل الذي ذكروه بين ما يتعلق بالمال ابتداء وما يتعلق به انتهاء فإن ذلك لا تأثير له أصلا فالحاصل : أن الميت إذا مات وجب إخراج ما قد وجب عليه من حقوق الله وحقوق الآدميين من رأس تركته ثم ينظر فيما بقي فإن كان الميت قد أوصى بقرب لم يتقدم لها وجوب عليه بل أراد التقرب بها وجب إخراجها من ثلث الباقي لأن الله سبحانه قد أذن له أن يتصرف بثلث ماله كيف شاء بشرط عدم الضرار كتفضيل بعض الورثة على بعض أو إخراج المال عنه لا لمقصد ديني بل لمجرد إحرامهم ثم ينظر في تلك القرب التي جعلها الميت لنفسه عند الموت فإن استغرقت ثلث الباقي من دون زيادة ولا نقصان فإنفاذها واجب وإن زادت لم ينفذ الزائد إلا بإذن من الورثة فإذا أذنوا فقد رضوا على أنفسهم بخروج جزء مما يملكونه سواء كان قليلا أو كثيرا وإن نقصت عن استغراق الثلث كان الفاضل من الثلث للورثة فهذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه وأما جعل بعض حقوق الله الواجبة من الثلث وبعضها من رأس المال فلا أصل لذلك إلى مجرد خيالات مختلة ثم اعلم أن الظاهر عندي أنه لا فرق بين حقوق الله الواجبة وحقوق الآدميين في مخرجها من التركة وأنه لا يجب تقديم حقوق الآدمي على حقوق الله بل جميعها مستوية في ذلك لأنها قد اشتركت في وجوبها على الميت ولا فرق بين واجب وواجب ومن زعم أن بعضها أقدم من بعض فعليه الدليل على أنه لو قال قائل : إن حقوق الله أقدم من حقوق بني آدم مستدلا على ذلك بقوله صلى الله عليه و سلم [ فدين الله أحق أن يقضي ] لم يكن بعيدا من الصواب لولا أن المراد بقوله : [ يقضي ] أي يفعله الفاعل كالقريب يحج عن قريبه ويصوم عنه لا أن المراد أنه يدفع المال ليفعل ذلك فاعل آخر فإن ذلك يحتاج إلى دليل يدل على أنه يصح فضلا عن أنه يجب
ويجب تقدم قضاء الديون لحديث سعد الأطول عند أحمد وابن ماجه بإسناد رجاله ورجال الصحيح [ أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم وترك عيالا قال : فأردت أن أنفقها على عياله فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : إن أخاك محتبس بدينه فاقض عنه فقال : يا رسول الله قد أديت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة وليس لها بينة قال فاعطها فإنها محقة ] وليس في ذلك خلاف وقد دل عليه قوله تعالى : { من بعد وصية يوصي بها أو دين }
ومن لم يترك ما يقضي دينه قضاه السلطان من بيت المال لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما [ أنه صلى الله عليه و سلم قال في خطبته : من خلف مالا أو حقا فلورثته ومن خلف كلا أو دينا فكله إلي ودينه علي ] وأخرج نحوه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والدارقطني من حديث جابر وأخرجه أيضا البيهقي والدارقطني من حديث أبي سعيد وأخرجه أيضا الطبراني من حديث سليمان وأخرجه ابن حبان في ثقاته من حديث أبي أمامة * (2/316)
كتاب المواريث
هي مفضلة في الكتاب العزيز ومعلومة لأهل العلم والتمييز قال الماتن : لم نتعرض ههنا لذكرها واقتصرنا على ذكر ما ثبت في السنة أو الإجماع ولم نذكر ما كان لا مستند له إلا محض الرأي كما جرت به عادتنا في هذا الكتاب فليس مجرد الرأي مستحقا للتدوين فلكل عالم رأيه واجتهاده مع عدم الدليل ولا حجة في اجتهاد بعض أهل العلم على البعض الآخر وإذا عرفت هذا اجتمع له مما في الكتاب العزيز وما ذكرناه ههنا جميع علم الفرائض الثابت بالكتاب والسنة فإن عرض لك من المواريث ما لم يكن فيهما فاجتهد فيه برأيك عملا بحديث معاذ المشهور انتهى
ويجب الابتداء بذوي الفروض القدرة وما بقي فللعصبة لحديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي لأولى رجل ذكر ] والمراد بالفرائض هنا الأنصباء المقدرة وأهلها هم المستحقون لها بالنص وما بقي بعد إعطاء ذوي الفرائض فرائضهم فهو لأولى رجل ذكر
والأخوات مع البنات عصبة أي يأخذن ما بقي من غير تقدير كما يأخذه الرجل بعد فروض أهل الفروض لحديث ابن مسعود عند البخاري وغيره [ أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قضى في بنت وبنت ابن وأخت بأن للبنت النصف ولبنت الإبن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت ] وقد أفاد هذا أن لبنت الابن مع البنت السدس تكملة الثلثين
ولبنت الابن مع البنت السدس تكملة الثلثين وقد قيل : أن ذلك مجمع عليه
وكذا الأخت لأب مع الأخت لأبوين وللجدة أو الجدات السدس مع عدم الأم لحديث قبيصة بن ذؤيب عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي وصححه وابن حبان والحاكم قال : [ جاءت الجدة إلى أبي بكر فسألته ميراثها فقال : ما لك في كتاب الله شئ وما علمت لك في سنة رسول الله شيئا فارجعي حتى أسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة : حضرت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أعطاها السدس فقال : هل معك غيرك فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال : مثل ما قال المغيرة بن شعبة فأنفذه لها أبو بكر قال : ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر فسألته ميراثها فقال : مالك في كتاب الله شئ ولكن هو ذاك السدس فإن اجتمعتما فهو بينكما وأيكما خلت به فهو لها ] قال ابن حجر : وإسناده صحيح لثقة رجاله إلا أن صورته مرسل فإن قبيصة لا يصح سماعه من الصديق ولا يمكن شهوده القصة قاله ابن عبد البر وقد اختلف في مولده والصحيح أنه ولد عام الفتح فيبعد شهوده القصة وأخرج عبدالله بن أحمد في مسند أبيه وابن منده في مستخرجه والطبراني في الكبير من حديث عبادة بن الصامت [ أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قضى للجدتين من الميراث بالسدس بينهما ] وهو من رواية إسحق بن يحيى عن عبادة ولم يسمع منه وأخرج أبو داود والنسائي من حديث بريدة [ أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم جعل للجدة السدس إذا لم يكن دونها أم ] وصححه ابن السكن وابن خزيمة وابن الجارود وقواه ابن عدي وفي إسناده عبيد الله العتكي وهو مختلف فيه وأخرج الدارقطني عن عبد الرحمن ابن يزيد مرسلا قال : [ أعطى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثلاث جدات السدس ثنتين من قبل الأب وواحدة من قبل الأم ] وأخرجه أيضا أبو داود في المراسيل عن إبراهيم النخعي وأخرجه أيضا البيهقي من مرسل الحسن وأخرجه الدارقطني من طرق عن زيد بن ثابت وفي الباب آثار غير ما ذكر قال في البحر : مسألة فرضهن يعني الجدات السدس وأن كثرن إذا استوين وتستوي أم الأم وأم الأب لا فضل بينهما فإن اختلفن سقط الأبعد بالأقرب ولا يسقطهن إلا الأمهات والأب يسقط الجدات من جهة والأم من الطرفين
أقول : التفاصيل والتفاريع المذكورة في الكتب ينبغي إمعان النظر في مستنداتها ومجرد اجتهاد فرد من أفراد الصحابة ليس بحجة على أحد وكذلك اجتهاد جماعة منهم لم يبلغوا حد الإجماع
وهو للجد مع من لا يسقطه لحديث عمران بن حصين [ أن رجلا أتى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال : أن ابن ابني مات فما لي من ميراثه ؟ قال : لك السدس فلما أدبر دعاه قال : لك سدس آخر فلما أدبر دعاه فقال : إن السدس الآخر طعمة ] رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن الحسن [ أن عمر سأل عن فريضة رسول الله صلى الله عليه و سلم في الجد فقام معقل بن يسار المزني فقال : قضى فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ماذا قال السدس قال مع من قال لا أدري قال : لا دريت فما تغني إذن ] وهو منقطع لأن الحسن لم يسمع من عمر وقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما حديث الحسن عن معقل وقد اختلف الصحابة فمن بعدهم اختلافا كثيرا ورويت عنهم قضايا متعددة وقد دل الدليل على أنه يستحق السدس وأنه فرضه فإذا صار إليه زيادة فهو طعمة وذلك كما في حديث عمران وإنما قيدنا استحقاقه للسدس بعدم المسقط لأنه إذا كان معه من يسقطه كالأب فلا شئ له وهكذا إذا كان مع الجد من يسقطه الجد فله الميراث كله
أقول : ليس في الأحاديث المتقدمة ذكر من كان معه من الورثة ولم يبق بعد ذلك إلا مجرد روايات من علماء الصحابة ومن بعدهم وتمثيلات وتشبيهات ليست من الحجة في شئ ولا يبعد أن يقال : بأنه أحق بالميراث من الأخوة والأخوات مطلقا لأنه إن لم يكن والدا حقيقة فهو بمنزلة الوالد والأب يسقط الأخوة والأخوات مطلقا ومن زعم أنه وجد في الأب من المزايا ما لا يشاركه فيها الجد فعليه الدليل ومن قال أن ثم دليلا يقتضي أن الجد يقاسم الأخوة ويأخذ الباقي بعد الأخوات فعليه أيضا الدليل
ولا ميراث للإخوة والأخوات مطلقا الإبن أو ابن الإبن أو الأب ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم
وفي ميراثهم مع الجد خلاف لعدم ورود الدليل الذي تقوم به الحجة فذهب جماعة من الصحابة منهم أبو بكر وعمرإلى أن الجد أولى من الأخوة وذهب جماعة منهم علي وابن مسعود وزيد بن ثابت إلى أن الجد يقاسم الأخوة والخلاف في المسألة يطول فمن قال أنه يسقط الأخوه قال : إنه يصدق عليه إسم الأب وأجاب الآخرون بأنه مجاز لا تقوم به الحجة ووقع الخلاف في كيفية المقاسمة كما هو مبين في كتب الفرائض
ويرثون أي الأخوة مع البنات إلا الإخوة لأم لحديث جابر عند أحمد وأبي داود وابن ماجة والترمذي وحسنه والحاكم قال : [ جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بابنتيها من سعد فقالت يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في أحد شهيدا وأن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ولا تنكحان إلا بمال فقال : يقضي الله في ذلك فنزلت آية الميرات فأرسل رسول الله صلى الله وسلم عليه الى عمهما فقال : أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك ] فهذا دليل على ميراث الأخوة مع البنات وأما الأخوة لأم فلا يرثون مع البنت لقوله تعالى : { وإن كان رجل يورث كلالة } الآية هي في الأخوة لام كما في بعض القراآت
ويسقط الأخ لأب مع الأخ لأبوين لحديث علي قال : [ إنكم تقرؤن هذه الآية { من بعد وصية يوصى بها أو دين } وأن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى بالدين قبل الوصية وأن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه ] أخرجه أحمد وابن ماجة والترمذي والحاكم وفي إسناده الحرث الأعور ولكنه قد وقع الإجماع على ذلك والمراد بالأعيان الأخوة لأبوين والمراد ببني العلات الأخوة لأب ويقال للأخوة لأم الأخياف
وأولو الأرحام يتوارثون وهم أقدم من بيت المال لقوله تعالى : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } فإنها تفيد أنه إذا مات ميت ولا وارث له إلا من هو من ذوي أرحامه وهو من عدا العصبات وذوي السهام في مصطلح أهل الفرائض فإنه يرثه وقوله تعالى : { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } ولفظ الرجال والنساء والأقربين يشمل ذوي الأرحام ومما يؤيد ذلك حديث المقدام بن معد يكرب عند أحمد وأبي داود وابن ماجة والنسائي والحاكم وابن حبان وصححاه عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : [ من ترك مالا فلورثته وأنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرثه والخال وارث من لا وارث له يعقل عنه ويرثه ] وأخرج أحمد وابن ماجة والترمذي وحسنه من حديث عمر عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بلفظ [ والخال وارث من لا وارث له ] وأخرجه بهذا اللفظ من حديث عائشة الترمذي والنسائي والدارقطني وحسنه الترمذي وأعله الدارقطني بالاضطراب وأخرجه عبدالرزاق عن رجل من أهل المدينة وأخرجه العقيلي وابن عساكر عن أبي الدرداء وأخرجه ابن النجار عن أبي هريرة كلها مرفوعة وهو حديث له طرق أقل أحواله أن يكون حسنا لغيره ومن ذلك حديث [ أبن أخت القوم منهم ] وهو حديث صحيح ومن ذلك ما ثبت من جعله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ميراث ابن الملاعنة لورثة ابن الملاعنة لورثة أمه وهم لا يكونون إلا ذوي الأرحام والكلام على هذه الأحاديث مبسوط في شرح المنتقي ويمكن أن يقال أن حديث [ فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر ] يدل على أن الذكور من ذوي الأرحام أولى من الإناث فيكون حديث نفي ميراث العمة والخالة مفيدا لهذا المعنى ومقويا له مع حديث [ الخال وارث ] وبذلك يجمع بين الأحاديث وقد قال بمثل ذلك أبو حنيفة وقد اختلف في ذلك الصحابة فمن بعدهم وإلى توريث ذوي الأرحام ذهب الجمهور وهذه الأدلة كما تفيد إثبات التوارث بين ذوي الأرحام تفيد تقديمهم على بيت المال ومما يؤيد ذلك حديث عائشة عند أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي [ أن مولى للنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم خر من عذق نخلة فمات فأتى به النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال : هل له من نسب أو رحم قالوا : لا قال : أعطوا ميراثه بعض أهل قريته ] فقوله : أو رحم فيه دليل على تقديم ميراث ذوي الأرحام على الصرف إلى بيت مال المسلمين وأخرج أبو داود من حديث ابن عباس قال : [ كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسب فيرث أحدهما الآخر فنسخ ذلك آية الأنفال فقال : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } ] وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد وفيه مقال وأخرجه أيضا الدارقطني وأخرج نحوه ابن سعد عن أبي الزبير وفي ذلك دليل على أن الآية في توريث ذوي الأرحام محكمة وبها نسخ ما كان من الميراث بالمخالفة فإن تزاحمت الفرائض فالعول وذلك هو الحق الذي لا يمكن الوفاء بما أمر الله به إلا بالمصير وقد أوضح الماتن ذلك في رسالة مستقلة سماها إيضاح القول في إثبات مسألة العول ودفع جميع ما قاله النافون للعول وقد أوضحت المقام في دليل الطالب على أرجح المطالب فليراجع ولا يرث ولد الملاعنة والزانية إلى من أمه وقرابتها والعكس لحديث سهل بن سعد في الصحيحين وغيرهما في حديث الملاعنة [ أن ابنها كان ينسب إلى أمه فجرت السنة أنه يرثها وترث منه ما فرض الله لها ] وأخرج أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم [ أنه جعل ميراث ابن الملاعنة لأمة ولورثتها من بعدها ] وفي إسناده ابن لهيعة وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث وائلة بن الأسقع [ أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : إن المرأة تحوز ثلاثة مواريث : عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عنه ] قال الترمذي حسن غريب وفي إسناده عمر بن روبة التغلبي وفيه مقال وقد صحح هذا الحديث الحاكم : وأخرج أحمد وأبو داود من حديث ابن عباس قال : [ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : لا مساعاة في الإسلام من ساعى في الجاهلية فقد ألحقته بعصبته ومن ادعى ولدا من غير رشدة فلا يرث ولا يورث ] وأخرج الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : [ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : أيما رجل عاهر بحرة أو أمة فالولد ولد زنا لا يرث ولا يورث ] وفي إسناده أبو محمد عيسى بن موسى القرشي الدمشقي قال البيهقي : ليس بمشهور وأخرج أبو داود من حديث عمرو بن شعيب أيضا عن أبيه عن جده [ أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قضى أن كل مستلحق ولد وزنا لأهل أمه من كانوا حرة أو أمة وذلك فيما استلحق في أول الإسلام ] وفي إسناده محمد بن راشد المكحولي الشامي وفيه مقال وقد أجمع العلماء على أن ولد الملاعنة وولد الزنا لا يرثان من الأب ولا من قرابته ولا يرثونهما وأن ميراثهما يكون لأمهما ولقرابتهما وهما يرثان منهم
ولا يرث المولود إلا إذ استهل لحديث أبي هريرة عند أبي داود عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : [ إذا استهل المولود ورث ] وفي إسناده محمد بن إسحق وفيه مقال معروف وقد روي عن ابن حبان تصحيحه وأخرج أحمد في رواية ابنه عبدالله في المسند عن المسور بن مخرمة وجابر بن عبدالله قالا : [ قضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لا يرث الصبي حتى يستهل ] وأخرجه أيضا الترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي بلفظ [ إذا استهل السقط صلى عليه وورث ] وفي إسناده إسمعيل بن مسلم وهو ضعيف قال الترمذي : وروي مرفوعا والموقوف أصح وبه جزم النسائي وقال الدارقطني في العلل : لا يصح رفعه والمراد بالإستهلال صدور ما يدل على حياة المولود من صياح أو بكاء أو نحوهما ولا خلاف بين أهل العلم في اعتبار الإستهلال في الإرث وميراث العتيق لمعتقه ويسقط بالعصبات وله الباقي بعد ذوي السهام لحديث [ الولاء لمن أعتق ] وهو ثابت في الصحيح وأخرج أحمد عن قتادة عن سلمى بنت حمزة [ أن مولاها مات وترك ابنته فورث النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ابنته النصف وورث يعلى النصف وكان ابن سلمى ] ورجال أحمد رجال الصحيح ولكن قتادة لم يسمع من سلمى بنت حمزة وأخرجه أيضا الطبراني وأخرج الدارقطني من حديث ابن عباس [ أن مولى لحمزة توفي وترك ابنته وابنة حمزة فأعطى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ابنته النصف وابنة حمزة النصف ] وأخرج ابن ماجة ونحوه من حديث ابنة حمزة وكذلك أخرجه النسائي وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو ضعيف وقد وقع الإختلاف في اسم ابنة حمزة فقيل : سلمى وقيل : فاطمة وفي الحديثين دليل على أن لذوي سهام العتيق سهامهم والباقي للمعتق أو لعصبته وقد وقع الخلاف فيمن ترك ذوي أرحامه ومعتقه فروي عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس أن مولى العتاق لا يرث إلا بعد ذوي الأرحام وذهب غيرهم إلى أنه يقدم علي ذوي الأرحام ويأخذ الباقي بعض ذوي السهام ويسقط بالعصبات وقد روي أن المولى كان لحمزة واستدل به من قال : أنه يكون لذوي سهام المعتق الباقي بعد ذوي سهام العتيق والصحيح أنه مولى ابنة حمزة وقد أخرج ابن أبي شيبة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده [ أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : إن ميراث الولاء للأكبر من الذكور ولا ترث النساء من الولاء إلا ولاء من أعتقن أو أعتقه من أعتقن ؟ ] وأخرج البيهقي عن علي وعمر وزيد بن ثابت [ أنهم كانوا لا يورثون النساء من الولاء إلا ولاء من أعتقن ] وأخرج البرقاني على شرط الصحيح عن هذيل بن شرحبيل قال [ جاء رجل إلى عبد الله بن الزبير فقال : إني أعتقت عبدا لي وجعلته سائبة فمات وترك مالا ولم يدع وارثا فقال عبد الله : إن أهل الإسلام لا يسيبون وإنما كان أهل الجاهلية يسيبون وأنت ولي نعمته فلك ميراثه وإن تأثمت وتحرجت في شيء فنحن نقلبه ونجعله في بيت المال ]
ويحرم بيع الولاء وهبته لحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم [ أنه نهى عن بيع الولاء وهبته ] وفي الباب أحاديث قد تقدم بعضها منها حديث [ الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب ] وقد صححه ابن حبان والبيهقي من حديث ابن عمر أيضا وقد ذهب الجمهور إلى عدم جواز بيع الولاء وهبته وخالف في ذلك مالك وتقدمه بعض الصحابة ولا توارث بين أهل ملتين لما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والدارقطني وابن السكن من حديث عبد الله ابن عمرو [ أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : لا يتوارث أهل ملتين شتى ] وأخرج الترمذي من حديث جابر مثله بدون لفظ [ شتى ] وفي إسناده ابن أبي ليلى وأخرج البخاري وغيره من حديث أسامة عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : قال [ لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم ] وهو أيضا في مسلم وأخرج البخاري وغيره حديث [ وهل ترك لنا عقيل من رباع ] وكان عقيل وطالب كافرين وقد أجمع أهل العلم على أنه لا يرث المسلم من الكافر ولا الكافر من المسلم والخلاف في توارث الملل الكفرية المختلفة وعموم حديث عبد الله بن عمرو وجابر يقتضي عدم التوارث قال في المسوى : والكفر ملة واحدة يرث اليهودي من النصراني وبالعكس *
أقول : وأما المرتد فكافر ليس من أهل ملة الإسلام فقد شملته الأحاديث المتقدمة فمن زعم أنه يرث مال المرتد قرابته المسلمون فعليه الدليل الصالح للتخصيص
ولا يرث القاتل من المقتول لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : [ لا يرث القاتل شيئا ] وأخرجه أبو داود والنسائي وأعله الدارقطني وقواه ابن عبد البر وأخرج مالك في الموطأ وأحمد وابن ماجة والنسائي والشافعي وعبد الرزاق والبيهقي عن عمر بن الخطاب قال : [ سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول ليس لقاتل ميراث ] وفيه انقطاع وأخرج الدارقطني من حديث ابن عباس مرفوعا [ لا يرث القاتل شيئا ] وفي إسناده كثير بن سليم وهو ضعيف وأخرج البيهقي عنه حديثا آخر بلفظ [ من قتل قتيلا فإنه لا يرثه وإن لم يكن له وارث غيره ] وفي لفظ [ وإن كان والده أو ولده ] وفي إسناده عمرو بن برق وهو ضعيف وأخرج الترمذي وابن ماجة من حديث أبي هريرة بلفظ [ القاتل لا يرث ] وفي إسناده إسحق بن عبد الله بن أبي فروة وهو ضعيف وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا وهي تدل على أنه لا يرث القاتل من غير فرق بين العامد والخاطئ وبين الدية وغيرها من مال المقتول وإليه ذهب الشافعي وأبو حنيفة وأكثر أهل العلم وقال مالك والنخعي : أن قاتل الخطأ يرث من المال دون الدية وهو تخصيص بغير مخصص ويرده على الخصوص ما أخرجه الطبراني [ أن عمر بن شيبة قتل امرأته خطأ فقال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : إعقلها ولا ترثها ] وما أخرجه البيهقي [ أن عديا الجذامي كان له امرأتان اقتتلتا فرمى إحداهما فماتت فلما قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أتاه فذكر ذلك له فقال له اعقلها ولا ترثها ] وأخرج البيهقي أيضا [ أن رجلا رمى بحجر فأصاب أمه فطالب في ميراثها فقال له صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : حقك من ميراثها الحجر وأغرمه الدية ولم يعطه من ميراثها شيئا ] وفي الباب آثار عن جماعة من الصحابة مصرحة بذلك ساقها البيهقي وغيره قلت : وعليه عامة أهل العلم أن من قتل مورثه لا يرثه عمدا كان القتل أو خطأ : إلا أن أبا حنيفة قال : قتل الصبي لا يمنع الميراث كذا في المسوى وأما إرث المماليك من بعضهم البعض أو من مواليهم فقد قيل : أنه وقع الإجماع على أن الرق من موانع الإرث وفي دعوى الإجماع نظر فإن الخلاف في كون العبد يملك أو لا يملك معروف ومقتضى ذلك إثبات الميراث وليس في المقام ما يدل على عدم الإرث وقد ورد من حديث ابن عباس [ أن رجلا مات على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ولم يترك وارثا إلا عبدا فأعطاه ميراثه ] أخرجه أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي وقد قيل : إنه صرف إليه ذلك صرفا وهو خلاف الظاهر * (2/321)
كتاب الجهاد والسير
الجهاد قد ورد في فضله والترغيب فيه من الكتاب والسنة ما هو معروف وقد أفرد ذلك بالتأليف جماعة من أهل العلم وحررت فيه كتاب العبرة بما جاء في الغزو والشهادة والهجرة وهو أجمع ما جمع في ذلك في هذا القطر والعصر وقد أمر الله بالجهاد بالأنفس والأموال وأوجب على عباده أن ينفروا إليه وحرم عليهم التثاقل عنه وصح عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال : [ لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ] وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس وثبت عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الجنة تحت ظلال السيوف ] كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي موسى وابن أبي أوفى وثبت في صحيح البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من أغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار ] وثبت عنه صلى الله عليه و سلم قال : [ رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها ] كما في الصحيحين من حديث سهل بن سعد وأخرج أهل السنن وصححه الترمذي من حديث معاذ بن جبل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة ] فناهيك بعمل يوجب الله لصاحبه الجنة ويحرمه على النار ويكون مجرد الغدو إليه أو الرواح منه خيرا من الدنيا وما فيها
فرض كفاية لما أخرجه أبو داود عن ابن عباس قال : [ { إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما } و { ما كان لأهل المدينة } إلى قوله { يعملون } نسختها الآية التي تليها { وما كان المؤمنون } ] وقد حسنه ابن حجر قال الطبري يجوز أن يكون { إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما } خاصا والمراد به من استنفره النبي صلى الله عليه و سلم فامتنع قال ابن حجر : والذي يظهر لي أنها مخصوصة وليست بمنسوخة وقد وافق ابن عباس على دعوى النسخ عكرمة والحسن البصري كما روى ذلك الطبري عنهما ومن الأدلة الدالة على أنه فرض كفاية أنه كان صلى الله عليه و سلم يغزو تارة بنفسه وتارة يرسل غيره ويكتفي ببعض المسلمين وقد كانت سراياه وبعوثه متعاقبة والمسلمون بعضهم في الغزو وبعضهم في أهله وإلى كونه فرض كفاية ذهب الجمهور وقال الماوردي إنه كان فرض عين على المهاجرين دون غيرهم وقال السهيلي كان عينا على الأنصار وقال ابن المسيب : أنه فرض عين وقال قوم إنه كان فرض عين في زمن الصحابة
أقول : الأدلة الواردة في فرضية الجهاد كتابا وسنة أكثر من أن تكتب ههنا ولكن لا يجب ذلك إلا على الكفاية فإذا قام به البعض سقط عن الباقين وقبل أن يقوم به البعض هو فرض عين على كل مكلف وهكذا يجب على من استنفره الإمام أن ينفر ويتعين ذلك عليه ولهذا توعد الله سبحانه من لم ينفر مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ويدل على عدم وجوب الجهاد على الجميع قوله عز و جل : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } فتحمل هذه الآية على أنه قد قام بالجهاد من المسلمين من يكفي وأن الإمام لم يستنفر غير من قد خرج للجهاد وبهذا تعرف أن الجمع بين هذه الآيات ممكن فلا يصار إلى القول بالترجيح أو النسخ وأما غزو الكفار ومناجزة أهل الكفر وحملهم على الإسلام أو تسليم الجزية أو القتل فهو معلوم من الضرورة الدينية ولأجله بعث الله تعالى رسله وأنزل كتبه وما زال رسول الله صلى الله عليه و سلم منذ بعثه الله سبحانه إلى أن قبضه إليه جاعلا هذا الأمر من أعظم مقاصده ومن أهم شؤنه وأدلة الكتاب والسنة في هذا لا يتسع لها المقام ولا لبعضها وما ورد في موادعتهم أو في تركهم إذا تركوا المقاتلة فذلك منسوخ باتفاق المسلمين بما ورد من ايجاب المقاتلة لهم على كل حال مع ظهور القدرة عليهم والتمكن من حربهم وقصدهم إلى ديارهم وأما غزو البغاة إلى ديارهم فإن كان ضررهم يتعدى إلى أحد من أهل الإسلام إذا ترك المسلمون غزوهم إلى ديارهم فذلك واجب دفعا لضررهم وإن كان ضررهم لا يتعدى فقد أخلوا بواجب الطاعة للإمام والدخول فيما دخل فيه سائر المسلمين ولا شك أن لك معصية عظيمة لكن إذا كانوا مع هذا مسلمين للواجبات غير ممتنعين من تأدية ما يجب تأديته عليهم تركوا وشأنهم مع تكرير الموعظة لهم وإقامة الحجة عليهم وأما إذا امتنعوا من ذلك فقد تظاهروا بالبغي وجاهروا بالمعصية وقد قال الله عز و جل : { فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } وقد أجمع الصحابة على العزيمة التي عزمها أبو بكر الصديق رضي الله عنه من المقاتلة لمن فرق بين الصلاة والزكاة وسيأتي الكلام على صفة مقاتلة البغاة في الفصل الذي عقده الماتن لذلك
مع كل بر وفاجر لأن الأدلة الدالة على وجوب الجهاد من الكتاب والسنة وعلى فضيلته والترغيب فيه وردت غير مقيدة بكون السلطان أو أمير الجيش عادلا بل هذه فريضة من فرائض الدين أوجبها الله تعالى على عباده المسلمين من غير تقييد بزمن أو مكان أو شخص أو عدل أو جور فتخصيص وجوب الجهاد بكون السلطان عادلا ليس عليه أثارة من علم وقد يبلي الرجل الفاجر في الجهاد ما لا يبليه البار العادل وقد وجد بهذا الشرع كما هو معروف وأخرج أحمد في المسند من رواية ابنه عبد الله وأبو داود وسعيد بن منصور من حديث أنس قال : [ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ثلاث من أصل الإيمان : الكف عمن قال لا إله إلا الله لا تكفره بذنب ولا تخرجه عن الإسلام بعمل والجهاد ماض مذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل ] ولا يعتبر في الجهاد إلا أن يقصد المجاهد بجهاده أن تكون كلمة الله هي العليا كما ثبت في حديث أبي موسى في الصحيحين وغيرهما قال : [ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية يقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ]
إذا أذن الأبوان لحديث عبد الله بن عمرو قال : [ جاء رجل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فاستأذنه في الجهاد فقال : أحي والدك ؟ قال نعم قال : ففيهما فجاهد ] وفي رواية لأحمد وأبي داود وابن ماجة [ قال يا رسول الله إني جئت أريد الجهاد معك ولقد أتيت وإن والدي يبكيان قال : فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما ] وقد أخرج هذا الحديث مسلم من وجه آخر وأخرج أبو داود من حديث أبي سعيد [ أن رجلا هاجر إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من اليمن فقال : هل لك أحد باليمن ؟ فقال أبواي فقال : أذنا لك ؟ فقال : لا فقال : ارجع إليهما واستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما ] وصححه ابن حبان وأخرج أحمد والنسائي والبيهقي من حديث معاوية بن جاهمة السلمي [ أن جاهمة أتى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله أردت الغرو وجئتك أستشيرك فقال : هل لك من أم قال نعم فقال : الزمها فإن الجنة عند رجليها ] وقد اختلف في إسناده اختلافا كثيرا وقد ذهب الجمهور إلى أنه يجب استئذان الأبوين في الجهاد ويحرم إذا لم يأذنا أو أحدهما لأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية قالوا : وإذا تعين الجهاد فلا إذن ويدل على ذلك ما أخرجه ابن حبان من حديث عبد الله بن عمر قال : [ جاء رجل إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فسأله عن أفضل الأعمال قال الصلاة قال ثم مه قال الجهاد قال فإن لي والدين قال آمرك بوالديك خيرا فقال : والذي بعثك نبيا لأجاهدن ولأتركنهما قال : فأنت أعلم ] قالوا : وهو محمول على جهاد فرض العين أي حيث يتعين على من له أبوان أو إحداهما توفيقا بين الحديثين
وهو مع إخلاص النية يكفر الخطايا إلا الدين لحديث أبي قتادة عند مسلم وغيره [ أن رجلا قال : يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله يكفر عني خطاياي ؟ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين فإن جبرائيل عليه السلام قال لي ذلك ] وأخرج مثله أحمد والنسائي من حديث أبي هريرة وأخرج مسلم وغيره من حديث عبد الله بن عمر [ أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : يغفر الله للشهيد كل ذنب إلا الدين فإن جبرائيل عليه السلام قال لي ذلك ] وأخرج الترمذي وحسنه من حديث أنس نحوه
ويلحق به أي بالدين كل حقوق الآدميين من غير فرق بين دم أو عرض أو مال إذ لا فرق بينها
ولا يستعان فيه أي في الجهاد بالمشركين إلا لضرورة لقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لمن أراد الجهاد معه من المشركين [ إرجع فلن أستعين بمشرك فلما أسلم استعان به ] وهو في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة وأخرج أحمد والشافعي والبيهقي والطبراني نحوه من حديث حبيب بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده ورجال إسناده ثقات وأخرج أحمد والنسائي من حديث أنس قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تستضيئوا بنار المشركين ] وفي إسناده أزهر بن راشد وهو ضعيف وبقية إسناده ثقات وقد أخرج الشافعي من حديث ابن عباس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم استعان بناس من اليهود يوم خيبر ] وأخرجه أبو داود في مراسيله من حديث الزهري وأخرجه أيضا الترمذي مرسلا وقد أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجة من حديث ذي مخبر قال : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ستصالحون الروم صلحا وتغزون أنتم وهم عدوا من ورائكم ] وقد ذهب جماعة من العلماء إلى عدم جواز الإستعانة بالمشركين وذهب آخرون إلى جوازها وقد استعان النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالمنافقين في يوم أحد وانخزل عنه عبد الله بن أبي بأصحابه وكذلك استعان بجماعة منهم في يوم حنين وقد ثبت في السير أن رجلا يقال له قزمان خرج مع النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يوم أحد وهو مشرك فقتل ثلاثة من بني عبد الدار حملة لواء المشركين حتى قال صلى الله عليه و سلم : [ أن الله ليأزر هذا الدين بالرجل الفاجر ] وخرجت خزاعة مع النبي صلى الله عليه و سلم على قريش عام الفتح وهم مشركون فيجمع بين الأحاديث بأن الإستعانة بالمشركين لا تجوز إلا لضرورة لا إذا لم تكن ثم ضرورة
وتجب على الجيش طاعة أميرهم إلا في معصية الله لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني ] وعن ابن عباس في قوله تعالى : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } قال : [ نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بعثه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في سرية ] أخرجه أحمد وأبو داود وهو في الصحيحين وفيهما أيضا من حديث على قال : [ بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فعصوه في شئ فقال : اجمعوا لي حطبا فجمعوا ثم قال : أوقدوا نارا فأوقدوا ثم قال ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن تسمعوا وتطيعوا فقالوا : بلى قال : فادخلوها فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا : إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من النار فكانوا كذلك حتى سكن غضبه وطفئت النار فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : لو دخلوها لم يخرجوا منها أبدا وقال : لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف ] والأحاديث في هذا الباب كثيرة وفيها التصريح بأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وإنما تجب طاعة الأمراء ما لم يأمروا بمعصية الله
وعليه أي على الأمير مشاورتهم والرفق بهم وكفهم عن الحرام لدخول ذلك تحت قوله { وشاورهم في الأمر } وقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يشاور الغزاة معه في كل ما ينو به ووقع منه ذلك في غير موطن وأخرج مسلم وغيره من حديث أنس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم شاور أصحابه حين بلغه إقبال أبي سفيان ] والقصة مشهورة وأجاب عليه سعد بن عبادة بقوله : [ والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها ] وأخرج أحمد والشافعي من حديث أبي هريرة قال : [ ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه و سلم ] وأخرج مسلم وغيره من حديث عائشة قالت : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : اللهم من ولي من أمر أمتى شيئا فرفق بهم فارق به ] وأخرج مسلم أيضا من حديث معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجتهد لهم ولا ينصح لهم إلا لم يدخل الجنة ] وأخرج أبو داود من حديث جابر قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يتخلف في المسير فيرجي الضعيف ويردف ويدعو لهم ] وأخرج أحمد وأبو داود من حديث سهل بن معاذ عن أبيه قال [ غزونا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم غزوة كذا وكذا فضيق الناس الطريق فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم فنادى من ضيق منزلا أو قطع طريقا فلا جهاد له ] وفي إسناده إسمعيل بن عياش وسهل بن معاذ ضعيف وقد جاءت الأدلة المفيدة للقطع بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأحق الناس بذلك الأمير
ويشرع للإمام إذا أراد غزوا أن يوري بغير ما يريده لحديث كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم [ أنه كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها ] وهو في الصحيحين وغيرهما
و يشرع له أن يذكي العيون ويستطلع الأخبار لحديث جابر في الصحيحين وغيرهما [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال يوم الأحزاب : من يأتيني بخبر القوم قال الزبير أنا ] الحديث وثبت في صحيح مسلم وغيره [ أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث عينا ينظر عير أبي سفيان ] وثبت [ أنه بعث من يأتيه بمقدار جيش المشركين يوم بدر وغيره ] وكان يأمر من يستطلع أخبار العدو ويقف في المواضع التي بينه وبينهم وذلك مدون في الكتب الموضوعة في السيرة والغزوات
و يشرع له أن يرتب الجيوش ويتخذ الرايات والألوية وقد وقع منه صلى الله عليه و سلم من ترتيب جيوشه عند ملاقاته للعدو ما هو مشهور وكان يأمر بعضا يقف في هذا المكان وآخرين في المكان الآخر وقال للرماة يوم أحد أنهم يقفون حيث عينه لهم ولا يفارقوا ذلك المكان ولو تخطفه هو ومن معه الطير وقد كانت له رايات كما في حديث ابن عباس عند الترمذي وأبي داود قال : [ كانت راية رسول الله صلى الله عليه و سلم سوداء ولواؤه أبيض ] وأخرج أبو داود من حديث سماك بن حرب عن رجل من قومه عن آخر منهم قال : [ رأيت راية رسول الله صلى الله عليه و سلم صفراء ] وفي إسناده مجهول وأخرج أهل السنن والحاكم وابن حبان من حديث جابر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل مكة ولواؤه أبيض ] وفي حديث الحرث بن حسان [ أنه رأى في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم رايات سودا ] أخرجه الترمذي وابن ماجة ورجاله رجال الصحيح وفي الباب أحاديث
وتجب الدعوة قبل القتال إلى إحدى ثلاث خصال إما الإسلام أو الجزية أو السيف لحديث سليمان بن بريدة عن أبيه عند مسلم وغيره قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال : أغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله أغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم أدعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم الذي يجري على المسلمين ولا يكون لهم في الفئ والغنيمة شئ إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فاسألهم الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم وإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم ] الحديث وفي الباب أحاديث وقد ذهب الجمهور إلى وجوب الدعوة لمن لم تبغلهم الدعوة ولا تجب لمن قد بلغتهم وذهب قوم إلى الوجوب مطلقا وقوم إلى عدم الوجوب مطلقا
ويحرم قتل النساء والأطفال والشيوخ إلا أن يقاتلوا فيدفعوا بالقتل لضرورة لحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما قال : [ وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي صلى الله عليه و سلم فنهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قتل النساء والصبيان ] وأخرج أبو داود من حديث أنس [ أن رسول الله قال : لا تقتلوا شيخا فانيا ولا صغيرا ولا امرأة ] وفي إسناده خالد بن الفرز وفيه مقال وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث رباح بن ربيع أنه قال صلى الله عليه و سلم : [ لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا ] والعسيف الأجير وأخرج أحمد من حديث ابن عباس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع ] وفي إسناده إبراهيم بن إسمعيل بن أبي حبيبة وهو ضعيف وقد وثقه أحمد وأخرج أحمد أيضا والإسماعيلي في مستخرجه من حديث كعب بن مالك عن عمه [ أن النبي صلى الله عليه و سلم حين بعث إلى ابن أبي الحقيق بخيبر نهى عن قتل النساء والصبيان ] ورجاله رجال الصحيح وأخرج أحمد والترمذي وصححه من حديث سمرة مرفوعا بلفظ [ اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم ] وقد قيل : أنه وقع الإتفاق على المنع عن قتل النساء والصبيان إلا إذا كان ذلك لضرورة كأن يتترس بهم لمقاتلة أو يقاتلون وقد أخرج أبو داود في المراسيل عن عكرمة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم مر بامرأة مقتولة يوم حنين فقال من قتل هذه ؟ فقال رجل : أنا يا رسول الله غنمتها وإردفتها خلفي فلما رأت الهزيمة فينا أهوت إلى قائم سيفي لتقتلني فقتلتها فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم ] ووصله الطبراني في الكبير قلت : قال الشافعي : النهي عن قتل نسائهم وصبيانهم إنما هو في حال التميز والتفرد وأما البيات فيجوز وإن كان فيه إصابة ذراريهم ونسائهم
والمثلة لما تقدم قريبا في حديث سليمان بن بريدة عن أبيه عن جده وفيه [ ولا تمثلوا ] وأخرج نحو ذلك أحمد وابن ماجة من حديث صفوان بن عسال وأحاديث النهي عن المثلة كثيرة
والإحراق بالنار لحديث أبي هريرة عند البخاري وغيره قال : [ بعثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعث فقال : إن وجدتم فلانا وفلانا لرجلين فاحرقوهما بالنار ثم قال حين أردنا الخروج : إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا وإن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتوهما فاقتلوهما ] وأما تحريق الشجر والأصنام والمتاع فقد ثبت الإذن بذلك عن الشارع إذا كان فيه مصلحة
و يحرم الفرار من الزحف إلا إلى فئة وقد نطق بذلك القرآن الكريم قال الله تعالى : { ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله } وثبت في الصحيحين وغيرهما أن الفرار من الزحف هو من السبع الموبقات ولا خلاف في ذلك وفي الجملة وإن اختلفوا في مسوغات الفرار وقد جوز الله تعالى الفرار إلى الفئة وأما التحرف للقتال فهو وإن كان فيه تولية الدبر لكنه ليس بفرار على الحقيقة قال في المسوى : قوله { متحرفا لقتال } هو أن ينصرف من ضيق إلى سعة أو من سفل إلى علو أو من مكان منكشف إلى مستتر ونحو ذلك مما هو أمكن له في القتال قوله : { أو متحيزا } أي يصير إلى حيز فئة من المسلمين يستنجدهم ويقاتل معهم وبالجملة يجب ثبات المسلمين يوم الزحف في مقابلة زحفهم من الكفار والفرار حينئذ كبيرة
ويجوز تبييت الكفار لحديث الصعب ابن جثامة في الصحيحين وغيرهما [ أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سئل عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وذراريهم ثم قال : هم منهم ] وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث سلمة بن الأكوع قال : [ بيتنا هوازن مع أبي بكر الصديق وكان أمره علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ] والبيات هو الغارة بالليل قال الترمذي : وقد رخص قوم من أهل العلم في الغارة بالليل وأن يبيتوا وكرهه بعضهم قال أحمد وإسحق : لا بأس به أن يبيت العدو ليلا
والكذب في الحرب لما ثبت عند مسلم وغيره من حديث جابر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما بعث محمد بن مسلمة لقتل كعب بن الأشرف قال يا رسول الله : فأذن لي فأقول قال : قد فعلت ] يعني يأذن له بأن يخدعه بمقال ولو كان كذبا كما وقع منه في هذه القصة وهي أيضا في البخاري وأخرج مسلم من حديث أم كلثوم بنت عقبة قالت : [ لم أسمع النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يرخص في شيء من الكذب مما يقول الناس إلا في الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها ] وهذا الكذب المذكور هنا هو التعريض والتلويج بوجه من الوجوه ليخرج عن الكذب الصراح كما قاله جماعة من أهل العلم
والخداع في الحرب لما في الصحيحين من حديث جابر قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الحرب خدعة ] وفيهما من حديث [ أبي هريرة قال : سمي النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الحرب خدعة ] قال النووي : واتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب كيفما أمكن إلا أن يكون فيه نقض عهد * (2/330)
فصل
وما غنمه الجيش كان لهم أربعة أخماسه وخمسه يصرفه الإمام في مصارفه لقوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين } قلت : اتفق أهل العلم على أن الغنيمة تخمس فالخمس للأصناف التي ذكرت في القرآن وأربعة أخماسها للغانمين وقوله تعالى : { فأن لله خمسه } ذهب عامة أهل العلم إلى أن ذكر الله تعالى للتبرك به وإضافة هذا المال إليه لشرفه ثم بعد ما أضاف جميع الخمس إلى نفسه بين مصارفها واختلفوا في سهم ذوي القربى قال أبو حنيفة : إنما يعطون لفقرهم وقال الشافعي : لقرابتهم مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كالميراث غير أنه أعطى القريب والبعيد من ذوي القربى ولا يفضل عنده فقير على غني ويعطي الرجل سهمين والمرأة سهما ومن ذلك ما ورد في القرآن في الفئ والغنيمة وأخرج أبو داود والنسائي من حديث عمرو بن عبسة قال : [ صلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بعير من المغنم فلما سلم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال : ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس والخمس مردود فيكم ] وأخرج نحوه أحمد والنسائي وابن ماجه من حديث عبادة بن الصامت وحسنه ابن حجر وأخرج نحوه أيضا أحمد وأبو داود والنسائي ومالك والشافعي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وحسنه أيضا ابن حجر وروى نحو ذلك أيضا من حديث جبير بن مطعم والعرباض بن سارية
ويأخذ الفارس من الغنيمة ثلاثة أسهم والراجل سهما لما ورد في ذلك من الأحاديث منها حديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما وله ألفاظ فيها التصريح بأن النبي صلى الله عليه و سلم [ أسهم للفارس وفرسه ثلاثة أسهم وللراجل سهما ] وفيهما معنى ذلك من حديث أنس ومن حديث عروة البارقي ومنها حديث الزبير بنحو ذلك عند أحمد ورجاله رجال الصحيح وحديث أبي رهم عند الدارقطني وأبي يعلى والطبراني وحديث أبي هريرة عند الترمذي والنسائي وحديث جرير عند مسلم وغيره وحديث عتبة بن عبد عند أبي داود وحديث جابر وأسماء بنت يزيد عند أحمد وفي الباب أحاديث وقد ذهب إلى ذلك الجمهور وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الفارس يأخذ له ولفرسه سهمين والراجل سهما وتمسكوا بحديث مجمع بن جارية عند أحمد وأبي داود وقال : [ قسمت خيبر على أهل الحديبية فقسمها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على ثمانية عشر سهما وكان الجيش ألفا وخمسمائة فيهم ثلثمائة فارس فأعطى الفارس سهمين والراجل سهما ] وهذا الحديث في إسناده ضعف وقال أبو داود أن فيه وهما وأنه قال ثلثمائة فارس وأنهم كانوا مائتين
ويستوي في ذلك القوي والضعيف ومن قاتل ومن لم يقاتل لحديث ابن عباس عند أبي داود والحاكم وصححه أبو الفتح في الإقتراح على شرط البخاري [ أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قسم غنائم بدر بالسوي بعد وقوع الخصام بين من قاتل ومن لم يقاتل ] ونزول قوله تعالى : { يسألونك عن الأنفال } وأخرج نحوه أحمد برجال الصحيح من حديث عبادة بن الصامت وأخرج أحمد من حديث سعد بن مالك قال : [ قلت يا رسول الله : الرجل يكون حامية القوم ويكون سهمه وسهم غيره سواء قال ثكلتك أمك ابن أم سعد وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم ] وأخرجه البخاري أيضا والنسائي عن مصعب بن سعد قال : [ رأى سعد أن له فضلا على من دونه فقال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم ] وأخرج نحوه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه قال في الحجة البالغة : ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش كالبريد والطليعة والجاسوس يسهم له وإن لم يحضر الواقعة كما كان لعثمان يوم بدر
ويجوز تنفيل بعض الجيش لما اخرجه مسلم وغيره [ أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أعطى سلمة بن الأكوع سهم الفارس وسهم الراجل جمعهما له ] وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وعزاه المنذري في مختصر السنن إلى مسلم [ أن النبي صلى الله تعالى عليه آله وسلم نفل سعد بن أبي وقاص يوم بدر سيفا ] وقد ذهب إلى ذلك الجمهور وحكى بعض أهل العلم الإجماع عليه واختلف العلماء هل هو من أصل الغنيمة أو من الخمس وقد ورد في تنفيل السرية حديث حبيب بن مسلمة عند أحمد وأبي داود وابن ماجه وصححه ابن الجارود وابن حبان والحاكم [ أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم نفل الربع بعد الخمس في بدأته الثلث بعد الخمس في رجعته ] وأخرج نحوه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه ابن حبان من حديث عبادة بن الصامت وأخرج أحمد وأبو داود وصححه الطحاوي من حديث معن بن يزيد قال : [ سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول : لا نفل إلا بعد الخمس ] وفي الصحيحين من حديث ابن عمر [ أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصه سوى قسم عامة الجيش والخمس في ذلك كله ] وفيهما [ أنه نفل بعض السرايا بعيرا بعيرا ] وفي الباب أحاديث قال في الحجة البالغة : وعندي إن رأي الإمام أن يزيد لركبان الإبل أو للرماة شيئا أو يفضل العراب على البراذين لشئ دون السهم فله ذلك بعد أن يشاور أهل الرأي ويكون أمرا لا يختلف عليه لأجله وبه يجمع اختلاف سير النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأصحابه في الباب
وللإمام الصفي وسهمه كأحد الجيش لحديث يزيد بن عبد الله بن الشخير عند أبي داود والنسائي وسكت عنه أبو داود والمنذري قال : [ كنا بالمربد إذ دخل رجل معه قطعة أديم فقرأناها فإذا فيها من محمد رسول الله إلى بني زهير بن أقيش أنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأديتم الخمس من المغنم وسهم النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وسهم الصفي فأنتم آمنون بأمان لله ورسوله فقلنا : من كتب لك هذا ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ] قال المنذري : ورواه بعضهم عن يزيد بن عبد الله وسمي الرجل النمر بن تولب وأخرج أبو داود عن الشعبي مرسلا قال : [ كان للنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سهم يدعى الصفي إن شاء عبدا وإن شاء أمة وإن شاء فرسا يختاره قبل الخمس ] وأخرج أبو داود أيضا من حديث ابن عون مرسلا نحوه وأخرج أحمد والترمذي وحسنه من حديث ابن عباس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم تنفل سيفه ذا الفقار يوم بدر ] وأخرج أبو داود من حديث عائشة قالت : [ كانت صفية من الصفي ] وأخرج أبو داود أيضا من حديث أنس نحوه ويعارضه ما في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس أيضا قال : [ صارت صفية لدحية الكلبي ثم صارت لرسول الله صلى الله عليه و سلم ] وفي رواية أنه اشتراها منه بسبعة أروس
ويرضخ من الغنيمة لمن حضر لحديث ابن عباس عند مسلم وغيره [ أنه سأله سائل عن المرأة والعبد هل كان لهما سهم معلوم إذا حضر الناس فأجاب أنه لم يكن لهما سهم معلوم إلا أن يحذيا من غنائم القوم ] وفي لفظ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يغزو بالنساء فيدواين الجرحى ويحذين من الغنيمة وأما يسهم فلم يضرب لهن ] وأخرج أبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه من حديث عمير مولى أبي اللحم [ أنه شهد خيبر مع مواليه فأمر له صلى الله عليه و سلم بشئ من خرثي المتاع ] وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديث حشرج بن زياد عن جدته أم أبيه [ أنها خرجت مع النبي صلى الله عليه و سلم غزوة خيبر سادسة ست نسوه فبلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم فبعث إلينا فجئنا فرأينا فيه الغضب فقال : مع من خرجتن وبإذن من خرجتن فقلنا يا رسول الله : خرجنا نغزل الشعر ونعين في سبيل الله ومعنا دواء للجرحى ونناول السهم ونسقي السويق فقال قمن فانصرفن حتى إذا فتح الله عليه خيبر أسهم لنا كما أسهم للرجال قال : فقلت لها يا جدة وما كان ذلك ؟ قالت : تمرا ] وفي إسناده رجل مجهول وهو حشرج وقال الخطابي إسناده ضعيف لا تقوم به الحجة وأخرج الترمذي عن الأوزاعي مرسلا قال : [ أسهم النبي صلى الله عليه و سلم للصبيان بخيبر ] وحديث حشرج كما عرفت ضعيف وهذا مرسل فلا ينتهضان لمعارضة ما تقدم وحمل الإسهام على الرضخ جمعا بين الأحاديث وقد اختلف أهل العلم في ذلك فذهب الجمهور إلى أنه لا يسهم للنساء والصبيان بل يرضخ لهم فقط إن رأى الإمام ذلك
ويؤثر المؤلفين إن رأى في ذلك صلاحا لحديث أنس في البخاري وغيره [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قسم الغنائم في أشراف قريش تأليفا لهم وترك الأنصار والمهاجرين ] وهكذا ثبت في الصحيح من حديث ابن مسعود وغيره [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة مثل ذلك وأعطى أناسا من أشراف العرب ] والقصة مشهورة مذكورة في كتب السير بطولها والمراد بأشراف قريش أكابر مسلمة الفتح كأبي سفيان بن حرب وسهل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى وحكيم بن حزام وصفوان بن أمية
وإذا رجع ما أخذه الكفار من المسلمين كان لمالكه لحديث عمران بن حصين عند مسلم وغيره [ أن العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم أصيبت فركبتها امرأة من المسلمين ورجعت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وقد كانت نذرت أن تنحرها إن نجاها الله عليها فقال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك العبد ] وأخرج البخاري وغيره عن ابن عمر [ أنه ذهب فرس له فأخذه العدو فظهر عليهم المسلمون فرد عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبق عبد له فلحق بأرض الروم وظهر عليه المسلمون فرده عليه خالد بن الوليد بعد النبي صلى الله عليه و سلم ] وفي رواية لأبي داود [ أن غلاما لابن عمر أبق إلى العدو فظهر عليه المسلمون فرده رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى ابن عمر ولم يقسم ] وقد ذهب الشافعي وجماعة من أهل العلم إلى أن أهل الحرب لا يملكون بالغلبة شيئا من أموال المسلمين ولصاحبه أخذه قبل الغنيمة وبعدها وروي عن علي والزهري وعمرو بن دينار والحسن أنه لا يرد أصلا ويختص به أهل المغانم وروي عن عمر وسليمان بن ربيعة وعطاء والليث ومالك وأحمد وآخرين إن وجده صاحبه قبل القسمة فهو أحق به وإن وجده بعد القسمة فلا يأخذه إلا بالقيمة وقد روي عن ابن عباس الدارقطني مثل هذا التفصيل مرفوعا وإسناده ضعيف جدا وروي عن الفقهاء السبعة قال في المسوى : وعليه أكثر أهل العلم في الجملة ولهم في التفاصيل اختلاف
ويحرم الإنتفاع بشئ من الغنيمة قبل القسمة إلا الطعام والعلف لحديث رويفع ابن ثابت عند أحمد وأبي داود والدارمي والطحاوي وابن حبان [ أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتناول مغنما حتى يقسم ولا يلبس ثوبا من فئ المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه ولا أن يركب دابة من فئ المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه ] وفي إسناده محمد بن إسحق وفيه مقال معروف وقال ابن حجر : أن رجال إسناده ثقات وقال أيضا : أن إسناده حسن وأخرج البخاري من حديث ابن عمر قال : كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه [ زاد أبو داود ] فلم يؤخذ منهما الخمس [ وصحح هذه الزيادة ابن حبان وأخرج أبو داود والبيهقي وصححه من حديث ابن عمر أيضا ] أن جيشا غنموا في زمن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم طعاما وعسلا فلم يأخذوا منهم الخمس [ وأخرج مسلم وغيره من حديث عبد الله ابن مغفل قال : أصبت جرابا من شحم يوم خيبر فالتزمته فقلت : لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا فالتفت فإذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم متبسما ] وأخرج أبو داود والحاكم والبيهقي من حديث ابن أبي أوفى قال : [ أصبنا طعاما يوم خيبر وكان الرجل يجيء فيأخذ منه مقدار ما يكفيه ثم ينطلق ] وأخرج أبو داود من حديث القاسم مولى عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : [ كنا نأكل الجزر في الغزو ولا نقسمه حتى إن كنا لنرجع إلى رحالنا وأخرجتنا مملوءة منه ] وقد تكلم في القاسم غير واحد وقد ذهب إلى جواز الانتفاع بالطعام والعلف للدواب بغير قسمة الجمهور سواء أذن الإمام أو لم يأذن وقال الزهري : لا يأخذ شيئا من الطعام ولا غيره وقال سليمان بن موسى يأخذ إلا أن ينهى الإمام قال مالك في الموطأ : لا أرى بأسا أن يأكل المسلمون إذا دخلوا أرض العدو من طعامهم ما وجدوا من ذلك كله قبل أن تقع في المقاسم وقال أيضا : أنا أرى الإبل والبقر والغنم بمنزلة الطعام يأكل منه المسلمون إذا دخلوا أرض العدو كما يأكلون من الطعام وقال : ولو أن ذلك لا يؤكل حتى يحضر الناس المقاسم ويقسم بينهم أضر ذلك بالجيوش قال : فلا أرى بأسا بما أكل من ذلك كله على وجه المعروف والحاجة إليه ولا أرى أن يدخر ذلك شيئا يرجع به إلى أهله قلت : وعليه أهل العلم
ويحرم الغلول لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما في قصة العبد الذي أصابه سهم فقال الصحابة : [ هنيئا له الشهادة يا رسول الله فقال : كلا والذي نفس محمد بيده إن الشعلة لتلتهب عليه نارا أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم قال : ففزع الناس فجاء رجل بشراك أو شراكين فقال يا رسول الله : أصبت هذا يوم خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : شراك من نار أو شراكان من نار ] وأخرج مسلم من حديث عمر بن الخطاب قال : [ لما كان يوم خيبر قتل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقالوا : فلان شهيد وفلان شهيد وفلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا : فلان شهيد فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة ] وأخرج البخاري وغيره من حديث ابن عمر قال : [ كان على ثقل النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم رجل يقال له كركرة فمات فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هو في النار فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها ] وقد قال الله سبحانه { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } وثبت في البخاري وغيره من حديث أبي هريرة [ أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته فرس على رقبته شاة ] الحديث وقد نقل النووي الإجماع على أنه من الكبائر وقد ورد في تحريق متاع الغال ما أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده [ أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه ] وفي إسناده زهير بن محمد الخرساني وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم والبيقهي من حديث عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا وجدتم الغال قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه ] وفي إسناده صالح بن محمد بن زائدة تكلم فيه غير واحد
ومن جملة الغنيمة الأسرى ولا خلاف في ذلك
ويجوز القتل أو الفداء أو المن لقوله تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } وقوله تعالى : { فإما منا بعد وإما فداء } وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم القتل للأسرى وأخذ الفداء منهم والمن عليهم ثبوتا متواترا في وقائع ففي يوم بدر قتل بعضهم وأخذ الفداء من غالبهم وأخرج البخاري من حديث جبير بن مطعم [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في أسارى بدر : لو كان مطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له ] وفي مسلم من حديث أنس [ أنه صلى الله عليه و سلم أخذ الثمانين النفر الذي هبطوا عليه وأصحابه من جبال التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم ثم أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أعتقهم فأنزل الله عز و جل { وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة } الآية ] وقد ذهب الجمهور إلى أن الإمام يفعل ما هو الأحوط للإسلام والمسلمين في الأسارى فيقتل أو يأخذ الفداء أو يمن وقال الزهري ومجاهد وطائفة لا يجوز أخذ الفداء من أسرى الكفار أصلا وعن الحسن وعطاء لا يقتل الأسير بل يتخير بين المن والفداء وعن مالك لا يجوز المن بغير فداء وعن الحنفية لا يجوز المن أصلا لا بفداء ولا بغيره * (2/339)
فصل
ويجوز استرقاق العرب لأن الأدلة الصحيحة قد دلت على جواز استرقاق الكفار من غير فرق بين عربي وعجمي وذكر وأنثى ولم يقم دليل يصلح للتمسك قط في تخصيص أسر العرب بعدم جواز استرقاقهم بل الأدلة قائمة متكاثرة على أن حكمهم حكم سائر المشركين منها حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما [ أنها كانت عند عائشة سبية من بني تميم فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : أعتقيها فإنها من ولد إسمعيل ] وأخرج البخاري وغيره [ أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : حين جاء وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد عليهم أموالهم وسبيهم فقال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : أحب الحديث إلي أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال ] الحديث وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر [ أن جويرية بنت الحرث من سبي بني المصطلق كاتبت عن نفسها ثم تزوجها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على أن يقضي كتابتها فلما تزوجها قال الناس أصهار رسول الله صلى الله عليه و سلم فأرسلوا ما بأيديهم من السبي ] وأخرجه أحمد من حديث عائشة وقد ذهب إلى جواز استرقاق العرب الجمهور وحكي في البحر عن الحنفية أنه لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف واستدل بقوله تعالى : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } الآية ولا يخفى أنه لا دليل في الآية على المطلوب ولو سلم ذلك كان ما وقع منه صلى الله عليه و سلم مخصصا لذلك وقد صرح القرآن الكريم بالتخيير بين المن والفداء فقال : { فإما منا بعد وإما فداء } ولم يفرق بين عربي وعجمي واستدلوا أيضا بما أخرجه الشافعي والبيهقي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال يوم حنين لو كان الإسترقاق جائزا على العرب لكان اليوم إنما هو أسرى ] وفي إسناده الواقدي وهو ضعيف جدا ورواه الطبراني من طريق أخرى فيها يزيد بن عياض وهو أشد ضعفا من الواقدي وقد أخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الفدية من ذكور العرب في بدر وهو فرع الإسترقاق
أقول : قد سبى صلى الله عليه و سلم جماعة من بني تميم وأمر عائشة أن تعتق منهم كما تقدم وبالغ صلى الله عليه و سلم فقال : من فعل كذا فكأنما أعتق رقبة من ولد إسمعيل وقال لأهل مكة : [ اذهبوا فأنتم الطلقاء ]
والحاصل : أن الواجب الوقوف على ما دلت عليه الأدلة الكثيرة الصحيحة من التخيير في كل مشرك بين القتل والمن والفداء والاسترقاق فمن ادعى تخصيص نوع منهم أو فرد من أفرادهم فهو مطالب بالدليل وأما أسر نساء العرب فالأمر أظهر من أن يذكر والوقائع في ذلك ثابتة في كتب الحديث الصحيحين وغيرهما وفي كتب السير جميعها
وقتل الجاسوس لحديث سلمة بن الأكوع عند البخاري وغيره قال : [ أتى النبي صلى الله عليه و سلم عين وهو في سفر فجلس عند بعض أصحابه يتحدث ثم انسل فقال النبي صلى الله عليه و سلم : اطلبوه فاقتلوه فسبقتهم إليه فقتلته فنفلني سلبه ] وهو متفق على قتل الجاسوس الحربي وأما المعاهد والذمي فقال مالك والأوزاعي : ينتقض عهده بذلك وأخرج أحمد وأبو داود عن فرات بن حيان [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بقتله وكان عينا لأبي سفيان وحليفا لرجل من الأنصار فمر بحلقة من الأنصار فقال : إني مسلم فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله إنه يقول إنه مسلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن منكم رجالا نكلهم إلى إيمانهم منهم فرات بن حيان ] وفي إسناده أبو همام الدلال محمد بن محبب ولا يحتج بحديثه وهو يرويه عن سفيان ولكنه قد روى الحديث المذكور عن سفيان بشر بن السري البصري وهو ممن اتفق على الاحتجاج به البخاري ومسلم ورواه عن الثوري أيضا عباد بن موسى الأزرق العباداني وهو ثقة
وإذا أسلم الحربي قبل القدرة عليه أحرز أمواله لحديث صخر بن عيلة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا أسلم الرجل فهو أحق بأرضه وماله ] أخرجه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات وفي لفظ [ أن القوم إذا أسلموا أحرزوا أموالهم ودماءهم ] وأخرج أبو يعلى من حديث أبي هريرة مرفوعا [ من أسلم على شئ فهو له ] وضعفه ابن عدي بياسين الزيات الراوي له عن أبي هريرة قال البيهقي : وإنما يروى عن ابن أبي مليكة وعن عروة مرسلا وقد أخرجه عن عروة مرسلا سعيد بن منصور برجال ثقات [ أن النبي صلى الله عليه و سلم حاصر بني قريظة فأسلم ثعلبة وأسيد ابن سعية فأحرز لهما إسلامهما أموالهما وأولادهما الصغار ] ومما يدل على ذلك الحديث الصحيح الثابت من طرق أنه صلى الله عليه و سلم قال : [ فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ] وقد ذهب الجمهور إلى أن الحربي إذا أسلم طوعا كانت جميع أمواله في ملكه ولا فرق بين من أسلم في دار الحرب أو دار الإسلام
وإذا أسلم عبد الكافر صار حرا لحديث ابن عباس عند أحمد وابن أبي شيبة قال : [ أعتق رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الطائف من خرج إليه من عبيد المشركين ] وأخرجه أيضا سعيد بن منصور مرسلا قصة أبي بكرة في تدليه من حصن الطائف مذكورة في صحيح البخاري ورواها أبو داود عن الشعبي عن رجل من ثقيف قال : [ سألنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يرد إلينا أبا بكرة وكان مملوكنا فأسلم قبلنا فقال : لا هو طليق الله ثم طليق رسوله ] وأخرج أبو داود والترمذي وصححه من حديث علي قال : [ خرج عبدان إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يعني يوم الحديبية قبل الصلح فكتب إليه مواليهم فقالوا : ولله يا محمد ما خرجوا إليك رغبة في دينك وإنما خرجوا هربا من الرق فقال ناس : صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم فغضب رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال : ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا وأبى أن يردهم وقال : هم عتقاء الله عز و جل ] وأخرج أحمد عن أبي سعيد الأعشم قال : [ قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم في العبد إذا جاء فأسلم ثم جاء مولاه فأسلم أنه حر وإذا جاء المولى ثم جاء العبد بعد ما أسلم مولاه فهو أحق به ] وهو مرسل
والأرض المغنومة أمرها إلى الإمام فيفعل الأصلح من قسمتها أو تركها مشتركة بين الغانمين أو بين جميع المسلمين لأن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قسم أرض قريظة والنضير بين الغانمين وقسم نصف أرض خيبر بين المسلمين وجعل النصف الآخر لمن ينزل به من الوفود والأمور ونوائب الناس كما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث بشير ابن يسار عن رجال من الصحابة وأخرج نحوه أيضا أبو داود من حديث سهل بن أبي حثمة وقد ترك الصحابة ما غنموه من الأراضي مشتركة بين جميع المسلمين يقسمون خراجها بينهم وقد ذهب إلى ما ذكرناه جمهور الصحابة ومن بعدهم وعمل عليه الخلفاء الراشدون وأخرج مسلم وغيره من حديث أبي هريرة [ أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : أيما قرية أتيتموها فأقمتم فيها فسهمكم فيها وأيما قرية عصت الله ورسوله فإن خمسها لله ورسوله ثم هي لكم ]
أقول : قسمة الأموال المجتمعة للمسلمين من خراج ومعاملة وجزية وصلح وغير ذلك ينبغي تفويض قسمتها إلى الإمام العادل الذي يمحض النصح لرعيته ويبذل جهده في مصالحهم فيقسم بينهم ما يقوم بكفايتهم ويدخر لحوادثهم ما يقوم بدفعها ولا يلزمه في ذلك سلوك طريق معينة سلكها السلف الصالح فإن الأحوال تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة فإن رأى الصلاح في تقسيم ما حصل في بيت المال في كل عام فعل وإن رأى الصلاح في تقسيمه في الشهر أو الأسبوع أو اليوم فعل ثم إذا فاض من بيت مال المسلمين على ما يقوم بكفايتهم وما يدخر لدفع ما ينوبهم جعل ذلك في مناجزة الكفرة وفتح ديارهم وتكثير جهات المسلمين وفي تكثير الجيوش والخيل والسلاح فإن تقوية جيوش المسلمين هي الأصل الأصيل في دفع المفاسد والخيل والسلاح وجلب المصالح ومن أعظم موجبات تكثير بيت المال وتوسيع دائرته العدل في الرعية وعدم الجور عليهم والقبول من محسنهم والتجاوز عن مسيئهم هذا معلوم بالإستقراء في جميع دول الإسلام والكفر فما عدل ملك في رعيته إلا ونال بعدله أضعاف أضعاف ما يناله الجائر يحوره مع ما في العدل من السلامة من انتقام الرب عز و جل في هذه الدار أو في دار الآخرة فإنها جرت عادة الله سبحانه بمحق نظام الظلم وخراب بنيانه وهدم أساسه حتى صارت دول الظلمة من أعظم العبر للمعتبرين فإنه لا بد أن يحل بهم من نكال الله وسخطه ما يعرفه من له فطنة واعتبار وتفكر ومن نظر في تواريخ الدول رأى من هذا ما يقضي منه العجب
فالحاصل : أن الظالم ممن خسر الدنيا والآخرة أما خسران الآخرة فواضح معلوم من هذه الشريعة بالضرورة وأما خسران الدنيا فهو وإن تم له منها نصيب نزر فهو على كدر وتخوف ونغص وتحيل ووحشة من رعيته فلا يزال متوقعا لزوال ملكه في كل وقت بسبب ما قد فعله بهم وهم مع ذلك على بغضه وهو منطو على بغضهم وينضم إلى ذلك كله تناقص الأمر وخراب البلاد وهلاك الرعية وفقر أغنيائهم ففي كل عام هو في نقص مع ما جرت به عادة الله عز و جل من قصم الظلمة وهلاكهم في أيسر مدة فأقل الملوك مدة أشدهم بطشا وأكثرهم ظلما وهذا هو الغالب وما خالفه فنادر فأين حال هؤلاء الظلمة في الدين والدنيا من حال الملوك العادلين بالرعية المحبوبين عندهم الممتعين بلذة العدل مع لذة العيش الصافي عن كدر المخاوف التي لا يأمن الظلمة هجومها عليهم في كل وقت ولو لم يكن من ذلك كله إلا الأمن من عقاب الله وانتقامه بل الرجاء في ثوابه وجزيل إفضاله وما وعد به العادلين في الآخرة مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر لكان مغنيا
ومن أمنه أحد المسلمين صار آمنا لحديث علي عند أحمد وأبي داود والنسائي والحاكم عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : [ ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم ] وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا بلفظ [ يد المسلمين على من سواهم تتكافأ دماؤهم ويجير عليهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم ] وأخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر مطولا وأخرجه ابن ماجه من حديث معقل بن يسار مختصرا بلفظ [ المسلمون يد على من سواهم تتكافأ دماؤهم ] وأخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة مختصرا أيضا وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة أيضا بلفظ [ أن ذمة المسلمين واحدة فمن أحقر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ] وهو في الصحيحين من حديث علي وأخرجه البخاري من حديث أنس وفي الباب أحاديث وقد أجمع أهل العلم على أن من أمنه أحد المسلمين صار آمنا قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة انتهى وأما العبد فأجاز أمانه الجمهور وأما الصبي فقال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن أمان الصبي غير جائز انتهى وأما المجنون فلا يصح أمانه بلا خلاف قلت : إنما يصح الأمان من آحاد المسلمين إذا أمن واحد أو اثنين فأما عقد الأمان لأهل ناحية على العموم فلا يصح إلا من الإمام على سبيل الاجتهاد وتحري المصلحة كعقد الذمة ولو جعل ذلك آحاد الناس صار ذريعة إلى إبطال الجهاد
والرسول كالمؤمن لحديث ابن مسعود عند أحمد وأبي داود والنسائي والحاكم [ أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لرسولي مسلمة : لو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما ] وأخرج أحمد وأبو داود من حديث نعيم بن مسعود الأشجعي [ أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لهما : والله لو لا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما ] وقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان وصححه [ أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لأبي رافع لما بعثه قريش إليه فقال : يا رسول الله لا أرجع إليهم فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد ولكن ارجع إليهم فإن كان في قلبك الذي فيه الآن يعني الإسلام فارجع ]
وتجوز مهادنة الكفار وملوكهم وقبائلهم إذا اجتهد الإمام وذوو الرأي من المسلمين فعرفوا نفع المسلمين في ذلك ولم يخافوا من الكفار مكيدة
ولو بشرط وإلى أجل أكثره عشر سنين لحديث أنس عند مسلم وغيره [ أن قريشا صالحوا النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فاشترطوا عليه أن من جاء منكم لا نرده عليكم ومن جاء منا رددتموه علينا فقالوا يا رسول الله : أنكتب هذا ؟ قال : نعم أنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاء منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا ] وهو في البخاري وغيره من حديث المسور بن مخرمة ومروان مطولا وفيه أن مدة الصلح بينه صلى الله عليه و سلم وبين قريش عشر سنين وقد اختلف أهل العلم في جواز مصالحة الكفار على رد من جاء منهم مسلما وفعله صلى الله عليه و سلم قد دل على جواز ذلك ولم يثبت ما يقتضي نسخه وأما قدر مدة الصلح فذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز أن يكون أكثر من عشر سنين لأن الله سبحانه قد أمرنا بمقاتلة الكفار في كتابه العزيز فلا يجوز مصالحتهم بدون شئ من جزية أو نحوها ولكنه لما وقع ذلك من النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان دليلا على الجواز إلى المدة التي وقع الصلح عليها ولا تجوز الزيادة عليها رجوعا إلى الأصل وهو وجوب مقاتلة الكفار ومناجزتهم الحرب وقد قيل أنها لا تجوز مجاوزة أربع سنين وقيل ثلاث سنين وقيل لا تجوز مجاوزة سنتين
ويجوز تأييد المهادنة بالجزية لما تقدم من أمره صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بدعاء الكفار إلى إحدى ثلاث خصال منها الجزية وحديث عمرو بن عوف الأنصاري في الصحيحين وغيرهما [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم هو صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي ] وأخرج أبو عبيد عن الزهري مرسلا قال : [ قبل رسول الله صلى الله عليه و سلم الجزية من أهل البحرين وكانوا مجوسا ] وأخرج أبو داود من حديث أنس [ أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بعث خالدا إلى أكيد ردومة فأخذوه فأتوا به فحقن دمه وصالحه على الجزية ] وأخرج أبو عبيد في كتاب الأموال عن الزهري [ أن أول من أعطى الجزية أهل نجران وكانوا نصارى ] وقد جعل النبي صلى الله عليه و سلم على أهل اليمن على كل حالم دينارا كل سنة أو قيمته من المعافري يعني أهل الذمة منهم رواه الشافعي في مسنده عن عمر بن عبد العزيز وهو ثابت في حديث معاذ المشهور عند أبي داود وأخرج البخاري وغيره من حديث المغيرة بن شعبة [ أنه قال لعامل كسرى أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية ] وأخرج البخاري عن ابن أبي نجيح قال : قلت لمجاهد ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار ؟ قال جعل ذلك من قبيل اليسار وقد وقع الإتفاق على أنها تقبل الجزية من كفار العجم من اليهود والنصارى والمجوس قال مالك والأوزاعي وفقهاء الشام : إنها تقبل من جميع الكفار من العرب وغيرهم وقال الشافعي : إن الجزية تقبل من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما ويلحق بهم المجوس في ذلك وقد استدل من لم يجوز أخذها إلا من العجم فقط بما وقع في حديث ابن عباس عند أحمد والترمذي وحسنه [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لقريش : إنه يريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب ويؤدي إليهم بها العجم الجزية ] يعني كلمة الشهادة وليس هذا مما ينفي أخذ الجزية من العرب ولا سيما مع قوله صلى الله عليه و سلم في حديث سليمان بن بريدة المتقدم [ وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال ] وفيها الجزية قال في المسوى في باب أخذ الجزية من أهل الكتاب : قال تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } قلت : عليه أهل العلم في الجملة وقال الشافعي : الجزية على الأديان لا على الأنساب فتؤخذ من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما ولا تؤخذ من أهل الأوثان والمجوس لهم شبهة كتاب وقال أبو حنيفة : لا يقبل من العرب إلا الإسلام أو السيف وفي حديث ابن شهاب [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذ الجزية من مجوس البحرين وأن عمر بن الخطاب أخذها من البربر ] وفي حديث جعفر بن علي بن محمد بن أبيه [ أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال ما أدرى كيف أصنع في أمرهم ؟ فقال عبد الرحمن بن عوف : أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لهم : سنوا بهم سنة أهل الكتاب ] قلت : وعليه أهل العلم قال مالك : مضت السنة أن لا جزية على نساء أهل الكتاب ولا على صبيانهم وأن الجزية لا تؤخذ إلا من الرجال الذين قد بلغوا الحلم قلت وعليه أهل العلم وأما قدرها فضرب عمر بن الخطاب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق أربعين درهما مع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام قلت : قد صح من [ حديث معاذ بعثه النبي صلى الله عليه و سلم إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافريا ] فاختلفوا في الجمع بينه وبين حديث عمر فقال الشافعي : أقل الجزية دينار على كل بالغ في كل سنة ويستحب للإمام المماكسة ليزداد ولا يجوز أن ينقص من دينار وأن الدينار مقبول من الغني والمتوسط والفقير وتأول أبو حنيفة حديث عمر على الموسرين وحديث معاذ على الفقراء لأن أهل اليمن أكثرهم فقراء فقال : على موسر أربعة دنانير وعلى كل متوسط ديناران وعلى كل فقير دينار وعن عمر بن عبد العزيز من مر بك من أهل الذمة فخذ بما يديرون به من التجارات من كل عشرين دينارا فما نقص فبحساب ذلك حتى يبلغ عشرة دنانير فإن نقصت ثلث دينار فدعها ولا تأخذ منها شيئا واكتب لهم بما تأخذ منهم كتابا إلى مثله من الحول قلت : عليه أبو حنيفة وقال الشافعي : الذي يلزم اليهود والنصارى من العشور هو ما صولحوا وقت عقد الذمة وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله أن يضعوا الجزية عمن أسلم من أهل الجزية حين يسلمون قلت عليه أبو حنيفة وقال الشافعي : لا تسقط بالإسلام ولا بالموت لأنه دين حل عليه كسائر الديون انتهى
ويمنع المشركون وأهل الذمة من السكون من جزيرة العرب لحديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما [ أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أوصى عند موته بثلاث : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ونسيت الثالثة ] والشك من سليمان الأحول وأخرج مسلم وغيره من حديث عمر [ أنه سمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول : لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلما ] وأخرج أحمد من حديث عائشة [ أن آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن قال : لا يترك بجزيرة العرب دينان ] وهو من رواية ابن إسحق قال : حدثني صالح بن كيسان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عنها والأدلة هذه قد دلت على إخراج كل مشرك من جزيرة العرب سواء كان ذميا أو غير ذمي وقيل إنما يمنعون من الحجاز فقط استدلالا بما أخرجه أحمد والبيهقي من حديث أبي عبيدة بن الجراح قال : [ آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه و سلم أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب ] وهذا لا يصلح لتخصيص العام لما تقرر في الأصول من أن التخصيص بموافق العام لا يصح وقد حكى ابن حجر في فتح الباري عن الجمهور أن الذي تمنع منه المشركون من جزيرة العرب هو الحجاز خاصة قال : وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم الجزيرة وعن الحنفية يجوز مطلقا إلا المسجد الحرام وعن مالك يجوز دخولهم الحرم للتجارة وقال الشافعي : لا يدخلون الحرم أصلا إلا بإذن الإمام
أقول : الأحاديث مصرحة بإخراج اليهود من جزيرة العرب وذكر الحجاز هو من التنصيص على بعض أفراد العام لا من تخصيصه لأنه قد تقرر في الأصول أن مفاهيم اللقب لا يجوز العمل بها إجماعا إلا عند الدقاق ولفظ الحجاز يدل على أن غيره من موضع الجزيرة يخالفه بمفهوم لقبه هذا هو الصواب الذي ينبغي التعويل عليه وقد جمع المغربي مؤلف شرح بلوغ المرام رسالة رجح فيها التخصيص وقد دفعها الماتن رحمه الله بأبحاث ليس هذا موضع ذكرها قال في المسوى في باب لا يدخل المسجد الحرام كافر : قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله } قلت : قوله { فلا يقربوا المسجد الحرام } معناه المسجد الحرام وما حوله من الحرم يدل عليه قوله تعالى : { وإن خفتم عيلة } وعليه أهل العلم قالوا لا يجوز لكافر أن يدخل الحرم بحال سواء كان ذميا أو لم يكن وإذا جاء رسول من دار الكفر إلى الإمام وهو في الحرم فلا يأذن في دخوله بل يخرج الإمام إليه أو يبعث من يسمع رسالته قلت : قد صح في غير حديث أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أدخل الكفار في مسجده من ذلك ربط ثمامة بن أثال بسارية من سواري المسجد فقال الشافعي : لا يدخلون المسجد إلا بإذن مسلم وقال آخرون يجوز له الدخول ولو بغير إذن وتأويل الآية على قولهم إنهم أخيفوا بالجزية
أقول : لا ريب أن مواطن العبادة المعدة للمسلمين ينبغي تنزيهها من أدران المشركين فهم الذين لا يتطهرون من جنابة ولا يغتسلون من نجاسة فإن كان تلويثهم لمساجد المسلمين بالنجاسات أو استهزاؤهم بالعبادة مظنونا فذلك مفسدة وكل مفسدة ممنوعة ما لم يعارضها مظنة إسلام من دخل منهم المسجد لما يسمعه ويراه من المسلمين فإن تلك المفسدة مغتفرة بجنب هذه المصلحة التي لا يقادر قدرها وأما إذا كان تلويثهم المسجد غير مظنون فلا وجه للمنع ولا سيما قد تقرر أنه صلى الله عليه و سلم كان ينزل كثيرا من وفود المشركين مسجده الشريف وهو أفضل من غيره من المساجد غير المسجد الحرام ثم قال في المسوى : قال مالك قال ابن شهاب : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أجلى يهود خيبر ] قال مالك : وقد أجلى عمر بن الخطاب يهود نجران وفدك فأما يهود خيبر فخرجوا منها ليس لهم من الثمر ولا من الأرض شئ وأما يهود فدك فكان لهم نصف الثمر ونصف الأرض لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان صالحهم على نصف الثمر ونصف الأرض فأقام لهم عمر بن الخطاب نصف الثمر ونصف الأرض قيمته من ذهب وورق وإبل وحبال وأقتاب ثم أعطاهم القيمة وأجلاهم منها قلت : عليه أهل العلم قالوا الحجاز يجوز للكافر دخولها بالإذن ولا يقيم بها أكثر من مقام السفر فإن عمر رضي الله تعالى عنه لما أجلاهم أجل لمن يقدم منهم تاجرا ثلاثا انتهى * (2/345)
فصل
ويجب قتال البغاة حتى يرجعوا إلى الحق لقوله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } فأوجب الله سبحانه قتال الطائفة الباغية حتى ترجع إلى أمر الله ولا فرق بين أن يكون البغي من بعض المسلمين على إمامهم أو على طائفة منهم قال في المسوى : قال الواحدي والبغوي وغيرهما : نزلت هذه الآية في ضرب كان بينهم بالجريد والأيدي والنعال فأصلح النبي صلى الله عليه و سلم بينهم والظاهر أنها في قتال ومضاربة يكون في الغضب بين المسلمين حيث يكون حكم الله تعالى معلوما لقوله تعالى : { فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } وليست في البغاة وهم الذين لهم منعة وشبهة فنصبوا رئيسا وخرجوا على الإمام العدل إذ ليس هناك قاطع يطلب منهم الفيء إليه بل كل فرقة منهما تدعي أن ما ذهبت إليه هو الحق الموافق لكتاب الله وإنما يستفاد حكم البغاة من آثار علي رضي الله تعالى عنه حين قاتل أهل البصرة وأهل الشام وأهل النهروان وهذا أحسن ما فهمت في هذه الآية والعلم عند الله تعالى انتهى
أقول : اعلم أن هذا الفصل مستفاد من اجتهادات الصحابة رضي الله عنهم وأكثر من روي عنه في ذلك علي كرم الله وجهه ولم يثبت في ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم شئ إلا حديث ابن مسعود الآتي وقد ضعفه جماعة من المسلمين وقد أجمع المسلمون على بعض الأحكام كعدم جواز سبي البغاة
والحاصل : أن أصل دم المسلم وماله العصمة ولم يأذن الله عز و جل بسوى قتال الطائفة الباغية حتى تفيء فيجب الإقتصار على هذا ويكون الجائز قتال من لم يحصل منه الفيء وإن كان جريحا أو منهزما من غير فرق بين من له فئة ومن لا فئة له ما دام مصرا على بغيه وأما المال فلا يجوز أخذ شئ منه هذا ما عندي في ذلك فإن ثبت ما يخالفه فالثابت شرعا أولى بالاتباع
ولا يقتل أسيرهم ولا يتبع مدبرهم ولا يجاز على جريحهم ولا تغنم أموالهم لما أخرجه الحاكم والبيهقي عن ابن عمر [ أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لابن مسعود : يا ابن أم عبد ما حكم من بغى من أمتي قال : الله ورسوله أعلم فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : لا يتبع مدبرهم ولا يجهز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم ] وفي لفظ [ ولا يذفف على جريحهم ولا يغنم منهم ] سكت عنه الحاكم وقال ابن عدي : هذا الحديث غير محفوظ وقال البيهقي : ضعيف وقال صاحب بلوغ المرام أن الحاكم صححه فوهم لأن في إسناده كوثر بن حكيم وهو متروك وصح عن علي من طرق نحوه موقوفا والصحيح أنه نادى بذلك منادي على يوم صفين ولم يثبت الرفع وأخرج ابن أبي شيبة والحاكم والبيهقي من طريق عبد خير عن علي بلفظ [ نادى منادي على يوم الجمل ألا لا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم ] وأخرج سعيد بن منصور عن مروان بن الحكم قال : [ صرخ صارخ لعلي يوم الجمل لا يقتلن مدبر ولا يذفف على جريح ومن أغلق بابه فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن ] وأخرج أحمد في رواية الأثرم واحتج به عن الزهري قال : [ هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم متوافرون فأجمعوا أن لا يقاد أحد ولا يؤخذ مال على تأويل القرآن إلا ما وجد بعينه ] وأخرج البيهقي عن أبي أمامة قال : [ شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريح ولا يقتلون موليا ولا يسلبون قتيلا ] وأخرج البيهقي عن علي أنه قال يوم الجمل : [ إن ظفرتم على القوم فلا تطلبوا مدبرا ولا تجيزوا على جريح وانظروا إلى ما حضروا به الحرب من آلة فاقبضوه وما سوى ذلك فهو لورثتهم ] قال البيهقي : هذا منقطع والصحيح أنه لم يأخذ شيئا ولم يسلب قتيلا ويؤيد جميع هذه الآثار أن الأصل في دماء المسلمين وأموالهم الحرمة فلا يحل شئ منها إلا بدليل شرعي والمراد بالإجازة على الجريح والإجهاز والتذفيف أن يتمم قتله ويسرع فيه وما حكاه الزهري من الإجماع على عدم القود يدل على أنه لا قصاص في أيام الفتنة وقد أخرج هذا الأثر عن الزهري البيهقي بلفظ [ هاجت الفتنة الأولى فأدركت يعني الفتنة رجالا ذوي عدد من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ممن شهد معه بدرا وبلغنا أنهم يرون أن هذا أمر الفتنة لا يقام فيها على رجل قاتل في تأويل القرآن قصاص فيمن قتل ولا حد في سبي امرأة سبيت ولا يرى عليها حد ولا بينهما وبين زوجها ملاعنة ولا يرى أن يقذفها أحد إلا جلد الحد ويرى أن ترد إلى زوجها الأول بعد أن تعتد عدتها من زوجها الآخر ويرى أن يرثها زوجها الأول ] انتهى قال في البحر : ولا يجوز سبيهم ولا اغتنام ما لم يجلبوا به إجماعا لبقائهم على الملة وحكى عن النفس الزاكية والحنفية والشافعية أنه لا يغنم منهم شئ
أقول : وأما الكلام فيمن حارب عليا كرم الله وجهه فلا شك ولا شبهة أن الحق بيده في جميع مواطنه أما طلحة والزبير ومن معهم فلأنهم قد كانوا بايعوه فنكثوا بيعته بغيا عليه وخرجوا في جيوش من المسلمين فوجب عليه قتالهم وأما قتاله للخوراج فلا ريب في ذلك والأحاديث المتواترة قد دلت على أنه يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية وأما أهل صفين فبغيهم ظاهر لو لم يكن في ذلك إلا قوله صلى الله عليه و سلم لعمار : [ تقتلك الفئة الباغية ] لكان ذلك مفيدا للمطلوب ثم ليس معاوية ممن يصلح لمعارضة علي ولكنه أراد طلب الرياسة والدنيا بين قوم أغتام لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا فخادعهم بأنه طلب بدم عثمان فنفق ذلك عليهم وبذلوا بين يديه دمائهم وأموالهم ونصحوا له حتى كان يقول علي لأهل العراق أنه يود أن يصرف العشرة منهم بواحد من أهل الشام صرف الدراهم بالدينار وليس العجب من مثل عوام الشام إنما العجب ممن له بصيرة ودين كبعض الصحابة المائلين إليه وبعض فضلاء التابعين فليت شعري أي أمر اشتبه عليهم في ذلك الأمر حتى نصروا المبطلين وخذلوا المحقين وقد سمعوا قول الله تعالى : { فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } وسمعوا الأحاديث المتواترة في تحريم عصيان الأئمة ما لم يروا كفرا بواحا وسمعوا قول النبي صلى الله عليه و سلم لعمار : [ أنه تقتله الفئة الباغية ] ولو لا عظيم قدر الصحابة ورفيع فضل خير القرون لقلت : حب الشرف والمال قد فتن سلف هذه الأئمة كما فتن خلفها اللهم غفرا ثم اعلم أنه قد جاء القرآن والسنة بتسمية من قاتل المحقين باغيا كما في الآية المتقدمة وحديث عمار بن ياسر المتقدم فالباغي مؤمن يخرج عن طاعة الإمام التي أوجبها الله تعالى على عباده ويقدح عليه في القيام بمصالح المسلمين ودفع مفاسدهم من غير بصيرة ولا على وجه المناصحة فإن انضم إلى ذلك المحاربة وله القيام في وجهه فقد تم البغي وبلغ إلى غايته وصار كل فرد من أفراد المسلمين مطالبا بمقاتلته لقوله سبحانه وتعالى : { فإن بغت إحداهما } الآية وليس القعود عن نصرة الحق من الورع بعد قوله الله عز و جل : { فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي }
والحاصل : أنه إذا تبين الباغي ولم يلتبس ولا دخل في الصلح كان القعود عن مقاتلته خلاف ما أمر الله به وأما مع اللبس فلا وجوب حتى يتبين المحق من المبطل لكن يجب السعي في الصلح كما أمر الله به وليس من البغي إظهار كون الإمام سلك في اجتهاده في مسألة أو مسائل طريق مخالفة لما يقتضيه الدليل فإنه ما زال المجتهدون هكذا ولكنه ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام أن يناصحه ولا يظهر الشناعة عليه على رؤس الأشهاد بل كما ورد في الحديث أنه يأخذ بيده ويخلو به ويبذل له النصيحة ولا يذل سلطان الله ولا يجوز الخروج على الأئمة وإن بلغوا في الظلم أي مبلغ ما أقاموا الصلاة ولم يظهر منهم الكفر البواح والأحاديث الواردة بهذا المعنى متواترة ولكن على المأموم أن يطيع الإمام في طاعة الله ويعصيه في معصية الله فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقد ابتلي علي رضي الله عنه بقتال البغاة على اختلاف أنواعهم وإذا كانت الإمامة الإسلامية مختصة بواحد والأمور راجعة إليه مربوطة به كما كان في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم فحكم الشرع في الثاني الذي جاء بعد ثبوت ولاية الأول أن يقتل إذا لم يتب عن المنازعة وأما إذا بايع كل واحد منهما جماعة في وقت واحد فليس أحدهما أولى من الآخر بل يجب على أهل الحل والعقد أن يأخذوا على أيديهما حتى يجعل الأمر في أحدهما فإن استمرا على التخالف كان على أهل الحل والعقد أن يختاروا منهما من هو أصلح للمسلمين ولا تخفي وجوه الترجيح على المتأهلين لذلك وأما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه فمعلوم أنه قد صار في كل قطر أو أقطار الولاية إلى إمام أو سلطان وفي القطر الآخر أو الأقطار كذلك ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نهي في غير قطره أو أقطاره التي رجعت إلى ولايته فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين وتجب الطاعة لكن واحد منهم بعد البيعة على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه وكذلك صاحب القطر الآخر فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبت فيه ولايته وبايعه أهله كان الحكم فيه أن يقتل إذا لم يتب ولا يجب على أهل القطر الآخر طاعته ولا الدخول تحت ولايته لتباعد الأقطار فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها ولا يدري من قام منهم أو مات فالتكليف بالطاعة والحال هذه تكليف بما لا يطاق وهذا معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد فإن أهل الصين والهند لا يدرون بمن له الولاية في أرض المغرب فضلا عن أن يتمكنوا من طاعته وهكذا العكس وكذلك أهل ما وراء النهر لا يدرون بمن له الولاية في اليمن وهكذا العكس فاعرف هذا فإنه المناسب للقواعد الشرعية والمطابق لما يدل عليه الأدلة ودع عنك ما يقال في مخالفته فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار ومن أنكر هذا فهو مباهت لا يستحق أن يخاطب بالحجة لأنه لا يعقلها والله المستعان (2/355)
فصل
وطاعة الأئمة واجبة إلا في معصية الله باتفاق السلف الصالح لقوله تعالى : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } وللأحاديث المتواترة في وجوب طاعة الأئمة منها : ما أخرجه البخاري من حديث أنس مرفوعا [ اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله ] وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه و سلم [ من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني ] وفي الصحيحين أيضا من حديث ابن عمر عنه صلى الله عليه و سلم [ على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ] والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا
ولا يجوز الخروج بعد ما حصل الإتفاق
عليهم ما أقام الصلاة ولم يظهروا كفرا بواحا لحديث عوف بن مالك عند مسلم وغيره قال : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنوهم ويلعنونكم قال قلنا يا رسول الله : أفلا ننابذهم عند ذلك قال : لا ما أقاموا فيكم الصلاة إلا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية ولا ينزعن يدا عن طاعة ] وأخرج مسلم أيضا وغيره من حديث حذيفة بن اليمان [ أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنسان قال قلت : كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك قال : تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع ] وأخرج مسلم أيضا وغيرهم من حديث عرفجة الأشجعي قال : [ سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه ] وفي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت قال : [ بايعنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان ] والبواح بالموحدة والمهملة قال الخطابي : معنى قوله بواحا يريد ظاهرا وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه و سلم [ من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فميتته جاهلية ] وأخرج نحوه أيضا عن ابن عمر وفي الصحيحين من حديث ابن عمر [ من حمل علينا السلاح فليس منا ] وأخرجاه أيضا من حديث أبي موسى وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وسلمة بن الأكوع والأحاديث في هذا الباب لا يتسع المقام لبسطها وقد ذهب إلى ما ذكرناه جمهور أهل العلم وذهب بعض أهل العلم إلى جواز الخروج على الظلمة أو وجوبه تمسكا بأحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي أعم مطلقا من أحاديث الباب ولا تعارض بين عام وخاص ويحمل ما وقع من جماعة أفاضل السلف على اجتهاد منهم وهو أتقى لله وأطوع لسنة رسوله صلى الله عليه و سلم ممن جاء بعدهم من أهل العلم قال في الحجة البالغة : ثم إن استولى من لم يجمع الشروط لا ينبغي أن يبادر إلى المخالفة لأن خلعه لا يتصور غالبا إلا بحروب ومضايقات وفيها من المفسدة أشد مما يرجى من المصلحة وبالجملة فإذا كفر الخليفة بإنكار ضروري من ضروريات الدين حل قتاله بل وجب وإلا لا وذلك حينئذ فاتت مصلحة نصبه بل يخاف مفسدته على القوم فكان قتاله من الجهاد في سبيل الله انتهى
ويجب الصبر على جورهم لما تقدم من الأحاديث وفي الصحيحين من حديث ابن عباس قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية ] وفيها من حديث أبي هريرة مرفوعا [ أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم ] وأخرج أحمد من حديث أبي ذر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يا أبا ذر كيف بك عند ولاة يستأثرون عليكم بهذا الفيء قال والذي بعثك بالحق أضع سيفي على عاتقي وأضرب حتى ألحقك قال : أولا أدلك على ما هو خير لك من ذلك تصبر حتى تلحقني ] وفي الباب أحاديث كثيرة
وبذل النصحية لهم لما ثبت في الصحيح من أن [ الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين ] من حديث تميم الداري بهذا اللفظ والأحاديث الواردة في مطلق النصيحة متواترة وأحق الناس بها الا
وعليهم أي على الأئمة الذب عن المسلمين وكف يد الظالم وحفظ ثغورهم وتدبيرهم بالشرع في الأبدان والأديان والأموال وتفريق أموال الله في مصارفها وعدم الإستئثار بما فوق الكفاية بالمعروف والمبالغة في إصلاح السيرة والسريرة وذلك معلوم من أدلة الكتابة والسنة التي لا يتسع المقام لبسطها ولا خلاف في وجوبها جميعا على الإمام وهذه الأمور هي التي شرع الله تعالى نصب الأئمة لها فمن أخل من الأئمة والسلاطين بشئ منها فهو غير مجتهد لرعيته ولا ناصح لهم بل غاش خائن وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث معقل بن يسار قال : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلى حرم الله عليه الجنة ] وفي لفظ لمسلم [ ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجتهد لهم ولا ينصح لهم إلا لم يدخل الجنة ] وأخرج مسلم وغيره من حديث عائشة قالت : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به ] وبالجملة فعلى الإمام والسلطان أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه و سلم وبالخلفاء الراشدين في جميع ما يأتي ويذر فإنه إن فعل ذلك كان له ما لأئمة العدل من الترغيبات الثابتة في الكتاب والسنة وحاصلها الفوز بنعيم الدنيا والآخرة وآخر دعوانا أن الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات *
تم والحمد لله رب العالمين الجزء الثاني من الروضة الندية شرح الدرر البهية للصديق بن حسن بن علي الحسيني القنوجي البخاري ملك بهو بال وبه ينتهي الكتاب (2/359)