الروضة الشريفة
دراسة تاريخية توثيقية
( القسم الأول )
أ. أحمد محمد شعبان ... ... ... ... أ. إبراهيم محمد الجهني
باحث في مركز بحوث ودراسات المدينة ... ... مساعد باحث بمركز بحوث ودراسات المدينة
مقدمة
لما أشرقت شمس الإسلام على يثرب ، وشرفت بهجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليها؛ ظهرت لها فضائل جليلة، خلعت اسمها القديم "يثرب" ، واكتست باسمها القرآني "المدينة"، وتحلت بعض معالمها بصفات إيمانية جعلتها حبيبة إلى قلوب المؤمنين: كجبل أحد ، ووادي العقيق، وبقيع الغرقد.
ومن أعظم تلك المعالم فضلاً قطعة من أرض المربد الذي سارت إليه ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المأمورة بأمر الله ، وبركت في ناحية منه ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشرائه، وخطه مسجداً نبوياً جامعاً، صار مقصد المسلمين إلى يوم الدين، وصارت تلك القطعة جزءاً متميزاً من المسجد، بُني على حدها الشرقي بيت ضم الرسول - صلى الله عليه وسلم - حياً وميتاً، ووُضع على حدها الغربي المنبر النبوي الشريف، وأخبرنا - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق الذي لا ينطق عن الهوى-أنها روضة من رياض الجنة.
الروضة في اللغة هي: الأرض ذات الخضرة، أو البستان الحسن(1).
ويراد بها في الاصطلاح الشرعي(2): المكان الواقع بين بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنبره الشريف.
وهذا مأخوذ من الحديث المشهور الذي رواه عبد الله بن زيد المازني - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» متفق عليه(3).
__________
(1) اللسان مادة (روض) وذكر لها معان أخرى ليس هذا البحث محلها.
(2) هذا على قول جمهور العلماء، وسيأتي اختلافهم في حدودها قريباً.
(3) البخاري 1/399، رقم: 1137، ومسلم 2/1010، رقم: 1390.(1/1)
وقد اتفق العلماء على أن لفظ الروضة: «معقول المعنى مفهوم الحكمة»، لكنهم اختلفوا في الدلالة الدقيقة: فذهب بعضهم إلى أن هذا من باب التشبيه الذي حذفت منه الأداة(1) مبالغة، أي: إن ذلك المكان روضة من رياض الجنة في نزول الرحمة وحصول السعادة بما يحصل فيها من ملازمة حِلَق الذِّكر(2)، لاسيما في عهده - صلى الله عليه وسلم - .
وذهب الخطابي وابن حزم(3) وابن عبد البر(4) وغيرهم إلى أنه مجاز باعتبار المآل، أي أن من لزم طاعة الله تعالى في هذه البقعة – كما قال الخطابي(5) – آلت به الحال إلى روضة من رياض الجنةـ
وقال ابن حزم: (6) جَعْلُها من الجنة إنما هو على سبيل المجاز، إذ لو كانت حقيقة لكانت كما وصف الله الجنة: ژ ژ ژ ڑ ڑ ک ک ژ (طه: 118). قال: وإنما المراد أن الصلاة فيها تؤدي إلى الجنة، كما يقال في اليوم الطيب: هذا يومٌ من أيام الجنة.
ورد السمهودي اعتراض ابن حزم بقوله(7): "لا يلزم من ثبوت عدم الجوع والعُري لمن حلَّ في الجنة ثبوته لمن حلَّ في شيء أخرج منها، إذ يلزمه أن ينفي بذلك عن حجر المقام كونه من الجنة حقيقة، ولا قائل به".
__________
(1) فتح الباري 4/100.
(2) فيه إشارة إلى حديث: «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حِلَق الذِّكْرِ». سنن الترمذي 5/532، ومسند أحمد 3/150، من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - . قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
(3) المحلّى 283 – 284.
(4) التمهيد 2/287.
(5) أعلام الحديث 1/649.
(6) المحلّى لابن حزم 7/283، ونقله عنه السمهودي في وفاء الوفا 2/165.
(7) السمهودي 2/165. بتصرف واختصار.(1/2)
وقال ابن عبد البر: (1) «لما كان - صلى الله عليه وسلم - يجلس في ذلك الموضع ويجلس الناس إليه للتعلم؛ شبهه بالروضة لكريم ما يجتنى فيه، وأضافها إلى الجنة؛ لأنها تؤول إلى الجنة كقوله: ((الجنة تحت ظلال السيوف))(2) أي إنه عمل يدخل الجنة» ا.هـ
ورجح جمهور العلماء منهم الإمام مالك(3) وابن حجر(4) والسمهودي(5) والصالحي الشامي(6) ونقله الخطيب ابن جملة عن الدراوردي(7) ورجحه ابن الحاج في مدخله(8): أن المعنى محمول على الحقيقة، أي: إن تلك البقعة المشار إليها في الحديث الشريف مقتطعة من الجنة كما هو الحال في الحجر الأسود والنيل والفرات، أو على أنها لا تفنى كباقي الأرض وإنما سوف تنقل يوم القيامة
إلى الجنة وتكون روضة من رياضها كالجذع الذي حن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقالوا: إن القدرة الإلهية لا يعجزها مثل هذا الأمر، والروايات كلها جاءت من غير أداة التشبيه، لذلك فإن حمل اللفظ على الظاهر أولى من حمله على المجاز دون قرينة؛ خاصة وأن حمله على المجاز لا يبقي لهذه البقعة مزية على غيرها، والنص جاء ليثبت تلك المزية(9).
__________
(1) التمهيد لابن عبد البر 2/287.
(2) صحيح البخاري 3/1037، وصحيح مسلم 3/1362.
(3) ذكره السمهودي في وفاء الوفا 2/162.
(4) فتح الباري 11/475.
(5) وفاء الوفا 2/163.
(6) سبل الهدى والرشاد 12/349.
(7) ذكره السمهودي في وفاء الوفا 2/162.
(8) المدخل لابن الحاج 1/391.
(9) سبل الهدى والرشاد 12/349، وانظر فتح الباري 11/475.(1/3)
وذهب الجمال الريمي(1) إلى ترجيح قول الخطابي ومن معه(2)، وقال: إن النظائر تؤيده.
وأجاب على اعتراض الجمهور عليه "بأن المزية ظاهرة: وهو أن العمل في النظائر المتقدمة يؤدي إلى رياض الجنة، والعمل في هذا المحل يؤدي إلى روضة أعلى من تلك الرياض"(3). ثم اعترض على قول الجمهور بأنه يحتاج إلى توقيف، كما جاء في الركن والمقام، والقول به يؤدي إلى إنكار المحسوسات أو الضروريات.(4)
وقد تكفل السمهودي بالرد على اعتراضاته فقال:(5) قوله: «إن ذلك طريقه التوقيف، كما جاء في الركن». فنقول: أيّ توقيف أعظم من إخبار الصادق المصدوق بذلك؟ وهو المخبِر بأمر الركن والمقام، والأصل في الإطلاق الحقيقة، فكيف سلَّمه في الركن والمقام ولم يسلِّمه هنا؟ والذي فهمه العلماء من الحديث أن هذا الموضع روضة، سواء كان به ذاكرون ومصلُّون أم لم يكن، بخلاف حِلَق الذِّكر مثلاً، فإن ذلك يزول عنها بقيامهم، فالروضة ما هم فيه بخلاف هذه، ولهذا فسَّر الرَّتع هناك بالذِّكر. والمراد في حديث: «الجنة تحت أقدام الأمهات»(6) أن لزوم خدمتهن تؤدي إليها.
__________
(1) هو: محمد بن عبد الله بن أبي بكر الريمي اليمني الشافعي. توفي سنة 791 هـ، وله عدد من المؤلفات منها: بغية الناسك في المناسك، والتفقيه في شرح التنبيه. كشف الظنون 1/490، ومعجم المؤلفين 10/203.
(2) قال الإمام السمهودي: إنما حَمَلَه على هذا ذهابُه إلى أن اسم الروضة يعمُّ جميع مسجده - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه إذا ثبت لما زِيدَ فيه حكم المضاعفة تعدَّى ذلك إليه، فاختار كون التسمية بذلك مجازية. وفاء الوفا 2/165.
(3) وفاء الوفا 2/165.
(4) وفاء الوفا 2/ 165، بتصرف واختصار.
(5) المرجع السابق 2/166.
(6) مسند الشهاب 1/102.(1/4)
وقوله: "إن القول بذلك يؤدي إلى إنكار المحسوسات": عجيب، وقد قدمنا السبب المانع من شهود ذلك على حقيقته، وأيُّ حُسنٍ أحسَنُ من القول بأن ذلك روضة من الجنة أكرم الله به نبيَّه؟ ويؤيده أحاديث المنبر المتقدمة وما سيأتي في أُحُدٍ وعَيْرٍ، إذ لم يقل أحد إن المراد أن المتعبد عند أحدٍ يُفضي به ذلك إلى الجنة، والمتعبد عند عيرٍ يُفضي به ذلك إلى النار.
وأما قوله في بيان المزية: «إن العمل في ذلك المحل يؤدي إلى روضة أعلى» فليس في الحديث وصفه بأنه أعلى الرياض، بل أطلق ذلك، فإذا ثبت ذلك لغيره فلا خصوصية، بل قد يقول الذاهب إلى تفضيل مكة: إن العمل فيها يؤدي إلى روضة أعلى وأفضل، ولظهور مزية تلك البقعة على غيرها". ا.هـ(1/5)
وقد أحسن ابن أبي جمرة في الجمع بين القولين الأخيرين(1) فقال:(2) الأظهر – والله أعلم-الجمع بين الوجهين، لأن لكل منها دليلاً يعضده، أما الدليل على أن العمل فيها يوجب الجنة فلما جاء في فضل مسجدها من المضاعفة، ولهذه البقعة زيادة على باقي بقعه. وأما الدليل على كونها بعينها في الجنة فلإخباره - صلى الله عليه وسلم - بأن المنبر على الحوض، ولم يختلف أحد من العلماء(3) أنه على ظاهره، وأنه حق محسوس موجود على حوضه، قال: تقرر من قواعد الشرع أن البقع المباركة ما فائدة بركتها والإخبار بذلك إلا تعميرها بالطاعات. قال: ويحتمل وجهاً ثالثاً؛ وهو أن البقعة نفسها روضة من رياض الجنة كما أن الحجر الأسود من الجنة، فيكون الموضع المذكور روضة من رياض الجنة الآن، ويعود روضة في الجنة كما كان، ويكون للعامل بالعمل فيه روضة في الجنة. قال: وهو الأظهر لعلو مكانته عليه السلام، وليكون بينه وبين الأبوة الإبراهيمية في هذا شبه، وهو أنه لما خص الخليل بالحجر في الجنة، خُصَّ الحبيب بالروضة منها". ا.هـ
قال السمهودي(4) في تعقيبه على قول ابن أبي جمرة: "وهو من النفاسة بمكان، وفيه حمل اللفظ على ظاهره إذ لا مقتضى لصرفه عنه، ولا يقدح في ذلك كونها تشاهد على نسبة أراضي الدنيا، فإنه ما دام الإنسان في هذا العالم لا ينكشف له حقائق ذلك العالم لوجود الحجب الكثيفة والله أعلم".
__________
(1) أي: القول بأن العبادة فيها تؤدي إلى الجنة، والقول بأنها روضة حقيقية تنقل إلى الجنة.
(2) ذكره السمهودي في وفاء الوفا 2/163.
(3) هناك خلاف بين العلماء في هذه المسألة. فانظره في فقرة المنبر من هذا البحث.
(4) وفاء الوفا 2/163، ونقله في سبل الهدى بنصه 12/349-350.(1/6)
الأصل في تحديد الروضة حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((مابين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)).(1) وهو أصح حديث في الباب، رواه البخاري ومسلم(2) وغيرهما عن عدد من الصحابة - رضي الله عنه - عنهم، لذلك اتفق العلماء على أن ما بين بيته ومنبره - صلى الله عليه وسلم - داخل في حدود الروضة، لكنهم اختلفوا في تحديد المكان على الأرض، وفي شمول الروضة لما وراء ذلك بناء على بعض الأحاديث الواردة.
1-ذهب بعضهم إلى أن الروضة هي المكان الواقع داخل الخط الذي يسامت المنبر والحجرة فقط، أي: على شكل مثلث ينطبق ضلعاه على قدر امتداد المنبر الشريف، فتتسع من جهة الحجرة، وتضيق من جهة المنبر، وتكون منحرفة الأضلاع لتقدم المنبر في جهة القبلة وتأخر الحجرة في جهة الشام(3).
وتمسك هؤلاء بظاهر لفظ البينية الحقيقية من قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((ما بين بيتي ومنبري)) وفسروا البيت بحجرة عائشة رضي الله عنها؛ مستدلين بحديث: ((ما بين قبري ومنبري))(4) أي: ما بين بيتي الذي أقبر فيه، إذ التخصيص بعرض القبر الشريف بعيد، كما استدلوا بحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - وفيه: ((وما بين المنبر وبيت عائشة روضة من رياض الجنة))(5).
__________
(1) انظر تخريج الحديث في باب: الأحاديث الواردة في الروضة في القسم الثاني من هذا البحث.
(2) تقدّم تخريجه.
(3) السمهودي 2/168.
(4) انظر تخريج الحديث في باب: الأحاديث الواردة في الروضة في القسم الثاني من هذا البحث.
(5) قال في مجمع الزوائد 4/9 :"رواه الطبراني في الأوسط وهو حديث حسن إن شاء الله".(1/7)
قال السمهودي(1): "ويضعف هذا القول أن مقدم المصلى النبوي الشريف يلزم خروجه من الروضة؛ لخروجه عن موازاة طرف المنبر والحجرة، مع أن الظاهر أن معظم السبب في كون ذلك روضة تشرفه بجبهته الشريفة" ا.هـ
2-ذهب جمهور العلماء إلى أن الروضة هي المكان الواقع داخل الخط الذي يسامت كلاًّ من طرفي المنبر وحجرة عائشة رضي الله عنها، فتشمل ما سامت المنبر من مقدم المسجد في جهة القبلة وإن لم يسامت الحجرة، وما سامت الحجرة من جهة الشمال وإن لم يسامت المنبر، فتكون مستطيلة(2) ضلعها من الشرق من ابتداء الحجرة إلى أسطوانة الوفود، وما يوازيها من جهة الغرب، أي إلى نصف المكبرية الآن، وتشتمل على ثلاثة أروقة، كسيت أسطواناتها بالرخام الأبيض.
ودليل هذا القول حمل البيت على حجرة عائشة رضي الله عنها كما تقدم، وجعل ما تقدم في أمر خروج مقدَّم المصلى الشريف دليلاً على أن المراد من البينية ما حاذى واحداً من الطرفين.
قال السمهودي:(3) "وهذا ظاهر ما عليه غالب العلماء وعامة الناس".
3-وذهب السمعاني والزين المراغي إلى أن الروضة تعم جميع المسجد الموجود في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) وفاء الوفا 2/171. بتصرف. وقال : «على أني لم أر هذا القول لأحد، وإنما أخذته من تردد الخطيب ابن جملة».
(2) قال السمهودي 2/168 عند ذكره لهذا القول:"فتكون مربعة، وهي الأروقة الثلاثة: رواق المصلى الشريف والرواقان بعده، وذلك هو مسقف مقدم المسجد في زمنه - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه قد تحرر لنا في هذه العمارة التي أدركناها أن صف أسطوان الوفود....واقع خلف الحجرة سواء". ثم ذكر في 2/172 أن ذرعها ما بين المنبر والحجرة على الصحيح 53 ذراعاً، وذكر خلاف العلماء في عرضها ، ورجح أنها إلى أسطوانة الوفود ، لكنه لم يحددها بالأذرع.
(3) السمهودي 2/171.(1/8)
قال السمعاني في أماليه: (1) «لما فضَّل الله مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشرَّفه وبارك في العمل فيه وضعفه؛ سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - روضة من رياض الجنة».
وقال الزين المراغي: (2) "ينبغي اعتقاد كون الروضة لا تختص بما هو معروف الآن، بل تتسع إلى حدّ بيوته - صلى الله عليه وسلم - من ناحية الشام، وهو آخر المسجد في زمنه - صلى الله عليه وسلم - ، فيكون كله روضة إذا فرَّعْنا على أن المفرد المضاف للعموم".
قال السمهودي: واستدل الريمي -لهذا القول-بأشياء غالبها ضعيف مبناه على أن إطلاق الروضة من قبيل المجاز لما في ذلك من المضاعفة ونحوه.
وأقوى الأدلة التي اعتمد عليها هؤلاء قولهم: إن لفظ: «بيتي» الوارد في الحديث الصحيح مفرد مضاف، والمفرد المضاف يفيد العموم(3)، فيكون المراد سائر بيوته - صلى الله عليه وسلم - بما فيها بيت السيدة عائشة رضي الله عنها، قالوا: وقد كانت بيوته مُطْبقة بالمسجد من الجهة الجنوبية والشرقية والشمالية، ووجود المنبر – الذي هو على ترعة من ترع الجنة – في الجهة الغربية؛ حدّد الروضة بحدود المسجد كلها، قالوا: وقد كان المنبر في آخر المسجد بينه وبين الجدار يسير؛ لأن آخره من تلك الجهة الأسطوانة التي تلي المنبر(4).
__________
(1) نقله السمهودي في وفاء الوفا 2/167.
(2) تحقيق النصرة ص 37 – 39.
(3) اختلف علماء الأصول واللغة في المفرد المضاف هل يفيد العموم أم يبقى على اختصاصه. انظر البحر المحيط للزركشي 3/389، وغمز عيون البصائر 7/264.
(4) وقد رجح السمهودي أن حدّ المسجد من جهة الغرب ليس عند الأسطوانة الأولى – كما ذهب إليه ابن النجار– بل عند الأسطوانة الخامسة. انظر: وفاء الوفا 2/169.(1/9)
قال السمهودي: والعجب أن هؤلاء لم يستشهدوا لهذا القول بحديث عبد الله بن زيد المازني - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما بين هذه البيوت -يعني بيوته - صلى الله عليه وسلم - إلى منبري روضة من رياض الجنة...)) الحديث.
قال: " مع أن فيه غنية عن التمسك بكون المفرد المضاف يفيد العموم".
والحديث رواه الإمام أحمد(1) من طريق يونس بن محمد المؤدب، قال: حدثنا فليح عن عبد الله بن أبي بكر عن عباد بن تميم به، وفليح هو ابن سليمان، أبو يحيى المدني «صدوق كثير الخطأ»(2)، وقد خالفه الإمام مالك(3) وسفيان الثوري فروياه عن عبد الله بن أبي بكر بلفظ: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة»، فيكون حديث فليح منكراً بهذا اللفظ لا يجوز الاحتجاج به.(4)
4-وذهب الجمال محمد الراساني الريمي إلى أنها تعم جميع المسجد في زمنه - صلى الله عليه وسلم - وبعده. قال الإمام السمهودي(5): إنما حمله على هذا ذهابه إلى أن اسم الروضة يعم جميع مسجده - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه إذا ثبت لما زيد فيه حكم المضاعفة تعدى ذلك إليه، فاختار كون التسمية مجازية، ووضع في ذلك كتاباً سماه «دلالات المسترشد على أن الروضة هي المسجد»(6)، وقد صنف الشيخ صفي الدين الكازروني المدني مصنفاً في الرد عليه، وقد لخصتها مع سلوك طريق الإنصاف في كتابي الموسوم بـ: «دفع التعرض والإنكار لبسط روضة المختار».(7)
__________
(1) مسند أحمد 4/40.
(2) التقريب رقم: 5443.
(3) الموطأ 1/197.
(4) انظر الأحاديث الواردة في فضائل المدينة للرفاعي ص 461- 462.
(5) وفاء الوفا 2/165- 166.
(6) لم أقف عليه
(7) لم أقف عليه(1/10)
5-وذهب جماعة من العلماء إلى أن الروضة تشمل المكان الممتد من حجرته - صلى الله عليه وسلم - إلى مصلى العيد (مسجد الغمامة)، مستدلين بحديث: ((ما بين بيتي ومصلاي روضة من رياض الجنة)) رواه ابن أبي خيثمة والطبراني وأبو نعيم في المعرفة من طريق علي بن عبد العزيز البغوي عن إسحاق بن محمد حدثتني عبيدة بنت نابل عن عائشة بنت سعد عن أبيها سعد بن أبي وقاص به.
ورواه البخاري في تاريخه(1) من طريق إسماعيل بن أبي إدريس.
وقد ورد الحديث بألفاظ مختلفة ومن طرق متعددة ضعيفة كلها(2).
وقد حاول السيد جعفر البرزنجي الجمع بين الأقوال المتقدمة فقال(3): «قد يجمع بين الروايات بأن الروضة تطلق على أماكن متفاوتة في الفضل، فأفضلها ما بين القبر والمنبر، ثم ما بين بيته والمنبر، ثم ما بين بيوته كلها والمنبر، ثم بقية المسجد في زمنه - صلى الله عليه وسلم - ، ثم ما زيد عليه بعده، ثم ما كان خارجاً إلى المصلى».
وقال الدكتور خليل ملا خاطر: (4) «وهذا فضل من الله تعالى أن وسع روضتها حتى شملت مكاناً واسعاً من بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهن شرقاً إلى مصلى العيد، ومسجد الغمامة غرباً، وهذا كله فضل من الله ونعمة".
والذي يظهر لي أن الراجح من هذه الأقوال -والعلم عند الله – هو ماذهب إليه أصحاب القول الثاني الذين ذهبوا إلى أنها المكان الواقع داخل الخط الذي يسامت كلاًّ من طرفي المنبر وحجرة عائشة رضي الله عنها؛ لوضوح أدلتهم وصحتها، وأما بقية الأقوال فغالب ما اعتمدوا عليه من الأدلة ضعيف أو منكر، "وهو ظاهر ما عليه غالب العلماء وعامة الناس". كما قال الإمام السمهودي –رحمه الله تعالى.(5)
__________
(1) التاريخ الكبير 2/245.
(2) فضائل المدينة للرفاعي ص 475.
(3) نزهة الناظرين ص 54.
(4) فضائل المدينة ص 273.
(5) وفاء الوفا 2/171(1/11)
والروضة بناء على هذا القول الذي رجحناه مستطيلة طولها من المنبر إلى الحجرة الشريفة ثلاثة وخمسون ذراعاً، كما أكد ذلك السمهودي(1) – رحمه الله – أي ما يعادل 26.5م، وقد حجب الشبك المحيط بالحجرة جزءاً منها، حيث نقص منها الرواق الواقع بين الأسطوانات اللاصقة بالشبك وجدار الحجرة الشريفة، وأصبح طولها 22م.
وأما عرضها فقد اختلف فيه العلماء لخفاء امتداد الحجرة عنهم من الجهة الشمالية، حتى إن الفيروز آبادي قال: (2) " ثم يأتي -يعني الزائر-إلى الروضة المقدسة، وهي ما بين القبر والمنبر طولاً، ولم أر من تعرض له عرضاً، والذي عليه غلبة الظنون أنه من المحراب إلى الأسطوانة التي تجاهه، وأنا لا أوافق على ذلك، وقد بينته في موضعه من هذا الكتاب، وذكرت أن الظاهر من لفظ الحديث يقتضي أن يكون أكثر من ذلك؛ لأن بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بجميع مرافق الدار كان أكثر من هذا المقدار".
وقال ابن جماعة: (3) "قد تحرر لي طول الروضة ولم يتحرر لي عرضها".
وقال الجمال الريمي: (4) "لا ندري الحجرة في وسط البناء المحيط بها أم لا؟ ولا ندري إلى أين ينتهي امتدادها؟ وغالب الناس يعتقدون أن نهايتها في محاذاة أسطوان علي - رضي الله عنه - ، ولهذا جعلوا الدرابزين الذي بين الأساطين ينتهي إلى صفها، واتخذوا الفرش لذلك فقط".
قال السمهودي(5): "قد تحرر لنا في هذه العمارة التي أدركناها أن صف أسطوان الوفود واقع خلف الحجرة سواء، فقد انجلى الأمر ولله الحمد". وعليه يكون عرض الروضة من ابتداء الحجرة إلى أسطوانة الوفود، ثلاثة أروقة، وما يوازيها من جهة الغرب، أي إلى منتصف منصة المؤذنين الآن. أي: ما يعادل 15م.
وتبلغ المساحة الإجمالية للروضة بناء على ما تقدم 397.5م2. والله أعلم.
__________
(1) وفاء الوفا 2/172.
(2) المغانم المطابة 1/188.
(3) وفاء الوفا 2/172
(4) المرجع السابق 2/173.
(5) وفاء الوفا 2/168، 173 باختصار.(1/12)
يوجد في الروضة عدد من المعالم الجليلة هي: المنبر ، والمحراب النبوي، والأسطوانات.
أولاً: المنبر النبوي الشريف
المنبر في اللغة: الشيء المرتفع، وبه سُمِّي المكان الذي يرتقيه الخطيب في المسجد(1).
وتفيد الروايات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائماً، وكان إذا أطال القيام استند على إحدى سواري المسجد قريبة منه، وكانت من جذوع النخل،(2) ثم صنع له المنبر، ووضع في الجانب الغربي من مصلاَّه.
تاريخ
صنع المنبر
ذهب ابن إسحاق(3) وجمع من المؤرخين إلى أنه صنع في السنة السادسة من الهجرة، وقال ابن سعد في الطبقات: (4) في السنة السابعة، ونقل ابن النجار(5) عن الواقدي أنه صنع في السنة الثامنة.
ويُشكِل على هذه الأقوال جميعها ما ورد في الصحيحين(6) في حديث الإفك عن عائشة رضي الله عنها قالت: «فثار الحيان، الأوس والخزرج، حتى كادوا أن يقتتلوا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر...» الحديث.
وحادثة الإفك كانت في السنة الخامسة عند عامة المؤرخين، وأصحاب السير.(7)
ومن هنا قال الحافظ ابن حجر(8) -رحمه الله-: "فإن حُمل -أي حديث عائشة -على التجوّز في ذكر المنبر وإلا فهو أصح مما مضى". ا.هـ
__________
(1) النهاية لابن الأثير 5/7، واللسان مادة (ن ب ر ).
(2) ذهب جمهور العلماء إلى أن الجذع الذي كان يستند إليه النبي - رضي الله عنه - كان من جذوع النخل، وروى ابن سعد في الطبقات 1/250 – 251: أنها كانت خشبة ذات فُرضتين من شجر الدوم. وفي مسند الروياني 3/235 أنها من الأثل. وانظر تفصيل ذلك في الحوادث التي وقعت في الروضة عند الحديث على حنين الجذع.
(3) نقله الحافظ في فتح الباري 2/399.
(4) نقله عنه السمهودي في وفاء الوفا 2/119، ولم أقف عليه في الطبقات.
(5) الدرة الثمينة ص 130.
(6) البخاري 2/944، ومسلم 4/2134.
(7) انظر: الفتح 2/399.
(8) فتح الباري 2/399.(1/13)
ولدى التأمل في الروايات الواردة في المنبر وأقوال العلماء فيها ترجح لدي أن يكون حديث عائشة رضي الله عنها على الحقيقة لا على المجاز؛ لأنها الأصل في الكلام، ويكون اختلاف العلماء في تاريخ صنع المنبر منصب على المنبر المشهور الذي صنع للنبي - صلى الله عليه وسلم - من الخشب، واستمر بعده حتى احتراقه عام 654هـ بينما حديث عائشة رضي الله عنها في منبر آخر صنعه الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك من طين. فقد ذكرت بعض كتب السِّير أن الصحابة بنوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - منبراً من طين في بادئ الأمر.
قال في المذاهب اللدنية(1): «وجزم ابن سعد بأن عمل المنبر كان في السنة السابعة، وقال: وعن بعض أهل السير أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب على منبر من طين قبل أن يتخذ المنبر الذي من خشب».
وقد عارض الحافظ ابن حجر هذه الرواية فقال(2): «ويعكر عليه ماتقدَّم في الأحاديث الصحيحة من أنه كان يستند إلى الجذع إذا خطب».
وكأن السمهودي لم يرض بهذا الاعتراض، فراح يلتمس التوفيق بين الروايات فقال(3): «يحتمل أن المنبر المتخذ من الطين كان إلى جنب الجذع وكأنه كان بناءً مرتفعاً فقط، وليس له درج ومقعدة بحيث يكمل الارتفاق به، فلا ينافي ما تقدَّم في سبب اتخاذ المنبر من خشب».
واستدل على ذلك بحادثة الإفك وقال(4): «وهذه القصة متقدِّمة على اتخاذ المنبر من الخشب».
وهذا الجمع بين الروايات في غاية الإحكام، ويؤيده ما ورد في بعض طرق حديث سؤال جبريل عن الإسلام والإيمان: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلس بين أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو، فطلبنا إليه أن نجعل له مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا له دكاناً من طين كان يجلس عليه...» الحديث(5).
__________
(1) 1/71.
(2) فتح الباري 2/399.
(3) وفاء الوفا 2/118.
(4) المصدر السابق.
(5) سنن أبي داود 4/225، السنن الكبرى للنسائي 3/442.(1/14)
ولم أر من تعرَّض لتاريخ صنع هذا المنبر الطيني، إلا أن حادثة الإفك توضِّح أنه كان مبنيّاً قبل وقوعها في السنة الخامسة، كما لم أر من تعرّض لاسم صانعه ، ولعلّ سهولة بنائه، ومعرفة عددٍ من الصحابة بذلك، ومشاركتهم في البناء سبب في عدم نسبة صنعه لواحد بعينه. والله أعلم.
وبما أن هذا المنبر لم يعد بعد فترة يؤدي الغرض منه بسبب المشقة التي يعانيها النبي - صلى الله عليه وسلم - من كثرة قيامه خطيباً عليه، وخاصة بعد تقدمه في السن؛ فقد صُنِع له المنبر الخشبي الذي يستطيع التحدّث عليه جالساً كما سيأتي في وصفه.
تفيد بعض الروايات أن السبب في صنع المنبر يعود إلى دخول كثير من الناس في الإسلام، ووفودهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، وحاجته - صلى الله عليه وسلم - إلى الوقوف في مكان يشخص عليه؛ حتى يراه الناس فيتعلموا منه أمور دينهم، فقد روى ابن سعد في الطبقات(1) بسند صحيح عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - فذكر الحديث وفيه: ((... فقال له أصحابه: يا رسول الله: إن الناس قد كثروا فلو اتخذت شيئاً تقوم عليه إذا خطبت يراك الناس، فقال: ماشئتم...)) الحديث.
تصور تقريبي للمنبر النبوي كما وردت أوصافه في المصادر المعتمدة
وممّا يقوِّي هذا ما رواه الإمام البخاري(2) بسنده عن سهل بن سعد فذكر الحديث وفيه: «وقام عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين عُمِل ووُضِع فاستقبل القِبلة كبَّر وقام الناس خلفه، فقرأ وركع، وركع الناس خلفه، ثمّ رفع رأسه، ثم رجع القهقرى فسجد على الأرض، ثم عاد إلى المنبر، ثم ركع، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقرى حتى سجد بالأرض فهذا شأنه».
__________
(1) الطبقات الكبرى 1/250 – 251. وانظر: المعجم الأوسط 11/447.
(2) صحيح البخاري 1/148.(1/15)
وتفيد روايات أخرى أن السبب في صنع المنبر يعود إلى كِبَر سنِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - والمشقة التي يعانيها بسبب كثرة قيامه خطيباً أو معلماً، فقد روى البيهقي(1) من طريق أبي عاصم عن عبد العزيز بن أبي رَوَّاد عن نافع عن ابن عمر أن تميماً الداري قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أسنَّ وثقل: ((ألا نتخذ لك منبراً يحمل عظامك، قال: بلى...)) الحديث.
قال الحافظ ابن حجر(2): وإسناده جيد، ورواه أبو داود(3) مختصراً، وفيه «لما بَدَّن»(4).
ولا يبعد كون المنبر قد صنع لأجل السببين معاً ويكون كلّ صحابي قد عبَّر بما رآه.
بل لا يَبعُد أن يكون السبب الأول خاصاً في صنع المنبر الطيني؛ لأنه صنع في السنوات الأولى حيث كان الناس بحاجة إلى أن يروا النبي - صلى الله عليه وسلم - بشكل واضح حتى يتعلموا منه أمور دينهم، والسبب الثاني خاصاً في صنع المنبر الخشبي؛ لأنه صنع في السنوات الأخيرة من حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لما ثقل عليه كثرة القيام، وإليه الإشارة بقوله في حديث ابن عمر المتقدم:" لما أسنَّ وثقل". والله أعلم.
تبين لنا فيما سبق أن المصادر التاريخية لم تفصل القول في المنبر الطيني الذي صنعه الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في بادئ الأمر؛ لسهولة صنعه وبساطته، ولكونه لا يعدوا أن يكون مجرد دَكّة مرتفعة بنيت بالطين واللبن.
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي 3/195 – 196.
(2) فتح الباري 2/398.
(3) سنن أبي داود 1/284.
(4) أي: كثر لحمه. وقال أبو عبيد: بدن الرجل –بفتح الدال المشددة – تبديناً إذا أسنَّ، ومن رواه بدُن – بضم الدال المخففة – فليس له معنىً هنا لأن معناه كثر لحمه. انظر شرح صحيح مسلم للنووي 1/268، وفتح الباري 2/398.(1/16)
أما المنبر الخشبي فقد اعتنت المصادر الحديثية والتاريخية بذكر أدق التفاصيل عنه، ولعل هذا يعود إلى طرافة الفكرة، ودقة الصنع، وقلة النجارين في المدينة، حتى إن بعض الروايات يشير إلى أنه لم يكن في المدينة إلا نجار واحد. كما أن لشهرة هذا المنبر واستمراره بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - سنين كثيرة سبب في هذا الاعتناء.
وقد أبهمت كثير من الروايات(1) الإشارة إلى صاحب فكرة صنع هذا المنبر ، بينما صرح بعضها بأنه تميم الداري(2) - رضي الله عنه - فقد روى أبو داود في سننه(3) أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا بَدَّنَ قَالَ لَهُ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ: أَلا أَتَّخِذُ لَكَ مِنْبَرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ يَجْمَعُ أَوْ يَحْمِلُ عِظَامَكَ؟ قَالَ: بَلَى. فَاتَّخَذَ لَهُ مِنْبَرًا مِرْقَاتَيْنِ. وروى نحوه البيهقي(4) في سننه(5) من طريق أبي عاصم عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر، وابن سعد(6) في طبقاته.
__________
(1) انظر على سبيل المثال: الطبقات الكبرى 1/250-251، المعجم الأوسط 11/447.
(2) هو: تميم بن أوس بن خارجة الداري أبو رقية صحابي مشهور سكن بيت المقدس بعد مقتل عثمان. قيل: مات سنة أربعين. تقريب التهذيب: رقم الترجمة 801.
(3) سنن أبي داود 1/284، باب في اتخاذ المنبر.
(4) قال ابن حجر: وإسناده جيد.
(5) السنن الكبرى 3/195 باب مقام الإمام في الخطبة.
(6) الطبقات الكبرى 1/249- 250.(1/17)
ولا يشكل عليه ما رواه الإمام البخاري(1) بسنده عن سهل بن سعد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى امرأة من الأنصار -وكان لها غلام نجار -قال لها: مري عبدك فليعمل لنا أعواد المنبر. وما رواه أيضاً بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فذكر الحديث وفيه:"فقالت امرأة من الأنصار أو رجل: يا رسول الله ألا نجعل لك منبراً"(2)؛ لجواز أن يكون الرجل أو المرأة الأنصارية حاضرة حين إشارة تميم الداري - رضي الله عنه - على النبي - صلى الله عليه وسلم - بصنع المنبر، فطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - من المرأة أو الرجل الأنصاري أن يصنع غلامه المنبر كما في الرواية الأولى، أو يكون هو الذي طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك كما في الرواية الثانية.
كما لا يشكل عليه ما رواه الترمذي(3) وابن خزيمة(4) وصححاه من طريق عكرمة بن عمار عن إسحاق بن أبي طلحة عن أنس[ كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوم يوم الجمعة فيسند ظهره إلى جذع منصوب في المسجد يخطب فجاء إليه رومي فقال: ألا أصنع لك منبراً؟ ] الحديث. لجواز أن يكون الرومي هو تميم الداري -كما قال الحافظ(5)-لأنه كان كثير السفر إلى أرض الروم. والله أعلم.
وأما صانع المنبر فقد اختلف في اسمه العلماء على أقوال:
__________
(1) صحيح البخاري 2/908 باب من استوهب من أصحابه شيئاً. بلفظ: «امرأة من المهاجرين» وانظر كلام ابن حجر على هذه الرواية في فتح الباري 5/200.
(2) صحيح البخاري 3/1314، باب علامات النبوة في الإسلام.
(3) سنن الترمذي 5/594، باب في آيات إثبات النبوة.
(4) صحيح ابن خزيمة 3/140.
(5) فتح الباري2/399.(1/18)
الأول: أنه ميمون، أخرجه قاسم بن أصبغ وأبو سَعْد في " شَرَف المُصْطفى " جميعًا من طرِيق يَحْيَى بْن بُ كَيْر عن ابنِ لهِيعَة حدَّثَنِي عُمَارَة بْن غَزِيَّة عن عَبَّاسٍ بن سَهْل عن أبِيه(1) ولفظه «كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُب إِلى خَشَبَة، فَلَمَّا كَثُرَ النَّاس قِيلَ لَهُ: لَوْ كُنْت جَعَلْت مِنْبَرًا. قَالَ وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ نَجَّار وَاحِد يُقَال لَهُ مَيْمُون " فذكر الحديث، وأخرجه ابن سعد(2) من رِواية سعيد بن سعد الأنصارِيّ عن ابنِ عَبَّاسٍ نحو هذا السِّيَاق ولكن لم يسمه.
الثاني: إِبراهيم، أخرجه الطَّبَرَانِيُّ في الأوسط(3) من طرِيق أبِي نضرة عن جابِر. وفي إِسناده العلاء بن مسلمة الرَّوَّاس وهو متروك. (4)
الثالث: بَاقُول -بِمُوَحَّدَةٍ وَقَاف مَضْمُومَة -رواه عبد الرَّزَّاق(5) بِإِسْنَادٍ ضعيف منقطع، ووصله أبو نُعَيْمٍ في المعرِفة(6) لكن قال بَاقُوم آخِره مِيم وإسناده ضعيف أيضًا. (7)
الرابع: صُبَاح(8) -بِضَمِّ الْمُهْمَلَة بَعْدهَا مُوَحَّدَة خفيفة وَآخره مهملة أيضاً -ذَكَرَهُ اِبْن بَشْكُوَال بِإِسنادٍ شديد الانقطاع (9).
الخامس: قبِيصة أو قصيبة(10) الْمَخْزُومِيّ مولاهم، ذكره عمر بن شَبَّة فِي «الصَّحَابَة» بِإِسنادٍ مرسل(11).
__________
(1) رواه من هذه الطريق ابن بشران في أماليه 1/446، والروياني في مسنده 3/235.
(2) الطبقات الكبرى لابن سعد 1/250-251.
(3) المعجم الأوسط للطبراني 11/447.
(4) فتح الباري2/326.
(5) مصنف عبد الرزاق 3/182-183.
(6) معرفة الصحابة 4/136.
(7) فتح الباري2/326.
(8) ذكره ابن النجار في الدرة الثمينة ص 130، والسخاوي في التحفة اللطيفة 1/305.
(9) فتح الباري2/326.
(10) جاء في فتح الباري 2/398: قبيصة والمثبت هو الصواب، كما في الإصابة 2/452.
(11) نقله عن عمر بن شبة في الإصابة 2/452.(1/19)
السادس: كِلاب مَوْلَى الْعَبَّاس رواه ابن سعد في الطبقات(1) عن أبي هريرة.
السابع: مِينَاء(2): ذكره ابن بَشْكُوَال عن الزُّبَيْر بْن بَكَّار: حدَّثَنِي إِسْمَاعِيل -هُوَ اِبْن أَبِي أُوَيْس -عن أبِيه قال: عمل المنبر غلام لامرأة من الأنصار من بني سَلِمَة -أو من بني سَاعِدَة أو اِمْرَأَة لرجل منهم -يقال له مِينَاء " اِنْتَهَى.
قال الحافظ(3): وليس في جميع هذه الرِوايات التي سُمِّيَ فيها النَّجَّار شيء قوِيُّ السند إِلاَّ حديث ابن عمر، وليس فيه التَّصْرِيح بِأن الَّذِي اِتَّخَذَ المنبر تَمِيم الدَّارِيّ، بل قد تبين من رِواية ابن سعد أن تميمًا لم يعمله.
وأشبه الأقوال بِالصواب قول من قال: هو مَيْمُون لكونِ الإِسناد من طرِيق سَهْل بْن سَعْد أيضًا، وأما الأقوال الأخرى فلا اِعْتِدَاد بها لوهائِها، ويبعد جدًّا أن يجمع بينها بِأن النَّجَّار كانت له أسماء متعددة. وأما اِحْتِمَال كون الجميع اشتركوا في عمله فيمنَع منه قوله في كثير من الرِّوَايَات السابِقة «لم يكن بِالمدينة إِلاَّ نجار واحد» إِلاَّ إِن كان يحمل على أن المراد بِالواحد الماهر في صناعته والبقية أعوانه فيمكن واللَّهُ أعلم.
وترجيح الحافظ في غاية الإحكام.
تفيد الروايات الصحيحة أن المنبر صنع من خشب شجرة الطرفاء أو الأثل أتى بها النجار، وسهل بن سعد من منطقة الغابة(4) القريبة من المدينة المنورة.
__________
(1) الطبقات الكبرى 1/249-250.
(2) ذكره ابن زبالة في أخبار المدينة 1/88.
(3) فتح الباري 2/399.
(4) الغابة هي: اسم موضع قرب المدينة على نحو بريد، وقيل ثمانية أميال من المدينة من ناحية الشام فيه أموال لأهل المدينة. المغانم المطابة 3/979.(1/20)
فقد روى البخاري(1) بسنده عن أبي حازم بن دينار: أن رجالاً أتوا سهل ابن سعد الساعدي وقد امتروا في المنبرِ مِمَّ عُودُهُ؟ فسألوه عن ذلك فقال: وَاللَّهِ إني لأعرِف مما هو، ولقد رأيته أول يوم وضع وأول يوم جلس عليه رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، أرْسل رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلى فلانة امرأة مِن الأنصارِ -قد سماها سَهْلٌ -مرِي غلامك النجّار أن يعمل لي أعوادًا أجلس عليهِنَّ إِذا كلمت الناس، فأمرته فعملها من طرفاء الغابة.....» الحديث.
وجاء في رواية أخرى عند البخاري أيضاً(2): «وهو من أثل الغابة عمله فلان مولى فلانة».
ولا تعارض بين الروايتين – كما قال الحافظ(3) وغيره – فإن الأثل هو الطرفاء، أو خشب يشبهه أعظم منه. وقيل: الطرفاء أربعة أصناف منها الأثل.
وتكاد الروايات تتفق على أن المنبر صنع من درجتين غير المجلس، فقد روى أبو داود(4) بإسناد جيد «أن تميماً الداري اتخذ له منبراً من مرقاتين...». قال السمهودي(5): أي غير المقعدة.
__________
(1) صحيح البخاري 1/310، باب الخطبة على المنبر. وكذا في صحيح مسلم 1/386، باب جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة.
(2) صحيح البخاري 1/148، رقم: 370، كتاب الصلاة/ باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب.
(3) انظر: الفتح 2/399.
(4) السنن، باب في اتخاذ المنبر 1/284.
(5) وفاء الوفا 2/123.(1/21)
وكذا روى ابن سعد في الطبقات(1) بسنده عن أبي هريرة فذكر الحديث، وفيه:" فأرسله إلى أثلةٍ بالغابة فقطعها، ثم عمل منها درجتين ومقعداً...». وروى مسلم في صحيحه(2) عن سهل بن سعد أنه قال: «والله إني لأعرف من أي عود هو...» فساق الحديث وفيه: «فعمل هذه الثلاث درجات...» وهذا لا إشكال فيه إذ يكون الراوي قد عدّ المجلس درجة، لكن المشكل ما في رواية الدارمي(3) التي جاء فيها: «هذه المراقي الثلاث أو الأربع» على الشك، وهذا لا يقوى على معارضة بقية الروايات التي أثبتت أن المنبر من درجتين ومقعد.
ومن هنا فإن ما قاله الكمال الدميري في شرح المنهاج: (4) من أن منبره - صلى الله عليه وسلم - كان ثلاث درجات غير الدرجة التي تسمى المستراح بناء على هذه الرواية غير صحيح.
ولا يعكر عليه أيضاً ما رواه الحاكم(5) وغيره عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((احضروا المنبر. فحضرنا. فلما ارتقى درجة قال: آمين. فلما ارتقى الدرجة الثانية قال: آمين. فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: آمين...)) الحديث. لجواز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ارتقى في الثالثة على المجلس وهي الدرجة الثالثة كما قال السمهودي(6) وغيره. والله أعلم.
__________
(1) الطبقات الكبرى 1/249-250.
(2) باب في جواز الخطوة والخطويتين في الصلاة 1/386 رقم 544.
(3) مسند الدارمي 1/16.
(4) شرح المنهاج 2/478.
(5) المستدرك على الصحيحين 4/170.
(6) وفاء الوفا 2/123، وفضائل المدينة د. خليل 2/281.(1/22)
وأقدم من فصل القول في وصف المنبر الذي صنع للنبي - صلى الله عليه وسلم - من المؤرخين-فيما وقفت عليه -ابن زبالة المتوفَّى في حدود سنة 200هـ، حيث قال: وطول منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة ذراعان في السماء، وعرضه ذراع في ذراع، وتربيعه سواء، وفيه مما كان يلي ظهره إذا قعد ثلاثة أعواد تدور...» ثم قال: «وطول المجلس -أي مجلسه - صلى الله عليه وسلم - شبران وأربع أصابع في مثل ذلك مربع، وما بين أسفل قوائم منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - الأول إلى رمانته خمسة أشبار وشيء، وعرض درجه شبران، وطولها شبر، وطوله من ورائه – يعني: محل الاستناد – شبران وشيء». ا.هـ
قال السمهودي(1): «فيؤخذ من ذلك أن امتداد المنبر النبوي -من أوله -وهو مما يلي القبلة إلى ما يلي آخره في الشام أربعة أشبار وشيء، لقوله: «وعرض درجه شبران، وأن المجلس شبران وأربع أصابع".
وقوله: «وما بين أسفل قوائم منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ... إلخ» معناه: أن من طرف المنبر النبوي الذي يلي الأرض إلى طرف رمانته التي يضع عليها يده الكريمة خمسة أشبار وشيء، وذلك نحو ذراعين ونصف، قال(2): وقد تقدم أن ارتفاع المنبر النبوي خاصة ذراعان، فيكون ارتفاع الرمانة نحو نصف ذراع". ا.هـ
وقال ابن زبالة (3): -في الكلام على فضل ما بين القبر والمنبر -مانصه: «وفي المنبر من أسفله إلى أعلاه سبع كُوىً مستطيرة من جوانبه الثلاثة...». ثم قال: "وفي منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة أعواد من جوانبه الثلاثة فذهب بعضها".
__________
(1) 2/124.
(2) المرجع السابق.
(3) أخبار المدينة ص 90 – 91.(1/23)
ويصف ابن النجار في كتابه الدرة الثمينة(1) الذي ألفه سنة 593هـ، منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول: «وطول منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذراعان وشبر وثلاث أصابع، وعرضه ذراع راجح، وطول صدره وهو مستند النبي - صلى الله عليه وسلم - ذراع، وطول رمانتي المنبر اللتين كان يمسكهما بيديه الكريمتين إذا جلس شبر وإصبعان».
ولا تخفى أوجه الاختلاف بين وصف ابن النجار ووَصْف ابن زبالة، غير أن وصف ابن زبالة أرجح؛ لقرب العهد به أولاً، ولتشكيك السمهودي وغيره في بقاء منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - على حاله إلى عهد ابن النجار كما سيأتي.
ظل المنبر النبوي في المسجد على حاله بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - إذا خطب يقوم على الدرجة الثانية ويضع رجليه على الدرجة السفلى، فلمّا ولي عمر - رضي الله عنه - قام على الدرجة السفلى ووضع رجليه على الأرض إذا قعد، فلمّا ولي عثمان فعل ذلك ست سنين من خلافته ثم علا إلى موضع النبي - صلى الله عليه وسلم - (2).
وفي خلافة معاوية - رضي الله عنه - زاده مروان بن الحكم ست درجات من أسفله(3)، فصار تسع درجات بالمجلس، يقف الخلفاء على الدرجة السابعة وهي الأولى من المنبر الشريف.
__________
(1) ص 133.
(2) الدرة الثمينة ص 132، وتحقيق النصرة ص 65، وفاء الوفا 2/119.
(3) الفتح 2/399.(1/24)
قال الحافظ ابن حجر(1): وكان سبب ذلك -أي زيادة مروان -ماحكاه الزبير بن بكار في أخبار المدينة بإسناده إلى حميد بنِ عبد الرحمن بن عوف قال «بعث معاوِية إِلى مروان -وهو عامله على المدينة -أن يحمل إِليه المنبر، فأمر به فقلع، فأظلمت المدينة، فخرج مروان فخطب وقال: إنما أمرني أمير المؤمنين أن أرفعه، فدعا نجارًا، وكان ثلاث درجات فزاد فيه الزِّيَادة التي هي عليها اليوم»، ورواه من وجه آخر قال: «فكسفت الشمس حتى رأينا النُّجُوم وقال: فزاد فيه ست درجات وقال: إِنَّما زِدت فيه حين كثر النَّاس».
ويصف لنا ابن زبالة شكل المنبر بعد الزيادة التي أضافها مروان بن الحكم فيقول(2): «وذرع طول المنبر اليوم أربع أذرع، وعرضه ذراع وشيء يسير، وما بين الرمانة المؤخرة والرمانة التي كانت في منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القديم ذراع وشيء، وما بين رمانة منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الرمانة المحدثة في مقدم المنبر ذراعان وعظم الذراع، وما بين الرمانة والأرض ثلاث أذرع وشيء، وطول المنبر اليوم من أسفل عتبته إلى مؤخره سبع أذرع وشبر، وطوله في الأرض إلى مؤخره ست أذرع» ا.هـ.
وأفاد ابن زبالة(3) أن مروان بن الحكم عمل في جنب المنبر الشرقي ثماني عشرة كُوَّة مستديرة شبه مربعة، وفي جنبه الغربي مثل ذلك. كما عمل في حائط المنبر الخشب عشرة أعواد ثابتة.
والمنبر -فيما أفاد ابن زبالة أيضاً -مبني فوق دَكّة من المرمر مرتفعة قدر ذراع(4).
__________
(1) الفتح 2/399.
(2) السمهودي 2/125.
(3) المرجع السابق 2/125.
(4) المرجع السابق 2/54. وسماها ابن جبير ص170 حوضاً وقال: إن ارتفاعه شبر ونصف، وطوله أربع عشرة خطوة، وعرضه ست خطاً. وكذا قال ابن النجار: إن طوله –يعني في الارتفاع-شبر وعقد.
قال السمهودي: فكأن الكبس قد علا فإنها كانت ذراعاً في زمن ابن زبالة، وفي زمن ابن النجار شبراً وعقداً، ثم علا الكبس فلم يوجد اليوم. 2/55-56.(1/25)
قال السمهودي(1):.ويتعين حمل كلامه على أن امتداد المنبر في الأرض من أسفل عتبة الرخام التي أمامه إلى مؤخر المنبر سبعة أذرع وشبر، وطول امتداده وهو في الأرض إلى مؤخره مع إسقاط العتبة ستة أذرع حتى يلتئم كلامه".
قال(2): وقول ابن زبالة أولاً: «وذرع طول المنبر اليوم أربعة أذرع» مراده ارتفاعه في الهواء مع الدُّرَج الستّ التي زادها مروان، فيكون طول الدُّرج الستّ ذراعين، فتكون كل درجة ثلث ذراع، فيقرب مما قدَّمه ابن زبالة في طول درج منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي تقتضيه المناسبة. ا.هـ
واستمر المنبر على ذلك مدّة طويلة، ولما قدم المهديُّ العباسي المدينةَ سنة إحدى وستين ومائة، أراد أن يعيد المنبر إلى سابق عهده، فقَالَ لَهُ الإمام مالك: إنما هو من طرفاءِ الغابة، وقد سمر إلى هذه العيدان وشُدَّ، فمتى نزعناه خِفْت أن يتهافت ويهلك، فلا أرى أن تغيره. فتركه على حاله(3). وفي عام 593هـ وصف ابن النجار المنبر فقال(4): وطول المنبر اليوم ثلاث أذرع وشبر وثلاثة أصابع، والدكَّة التي عليها من رخام طولها -أي في الارتفاع كما تقدم -شبر وعقد، ومن رأسه -أي المنبر -دون دكَّته إلى عتبته خمسة أذرع وشبر وأربعة أصابع، وقد زِيدَ فيه اليوم عتبتان وجعل عليه باب يفتح يوم الجمعة. ا.هـ.
وهذا وصف قريب من وصف ابن زبالة من حيث طول المنبر وامتداده في الأرض، وموافق لما ذكره ابن جبير في رحلته من حيث القدر فإنه قال(5): رأيت منبر المدينة الشريف في عام ثمان وسبعين وخمسمائة وارتفاعه من الأرض نحو القامة أو أزيد وسعته خمسة أشبار، وطوله خمس خطوات، وأدراجه ثمانية، وله باب على هيئة الشباك يفتح يوم الجمعة، وطوله -أي الباب -أربعة أشبار ونصف شبر». ا.هـ
__________
(1) 2/126.
(2) 2/127.
(3) الدرة الثمينة ص 132- 133.
(4) الدرة الثمينة ص 133.
(5) رحلة ابن جبير ص 70.(1/26)
وزاد ابن جبير على ابن النجار في وصف المنبر فقال: وهو مغشى بعود الأبنوس، ومقعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أعلاه ظاهر قد طبق عليه لوح من الأبنوس غير متصل به يصونه من القعود عليه، فيدخل الناس أيديهم إليه ويمسحونه بها تبركاً بلمس ذلك المقعد الكريم، وعلى رأس المنبر الأيمن -حيث يضع الخطيب يده إذا خطب -حلقة فضة مجوَّفة مستطيلة تشبه حلقة الخياط التي يضعها في إصبعه إلا أنها أكبر منها، وهي لاعبة تستدير في موضعها. ا.هـ
ولم يحدِّد لنا ابن جبير مَن ومتى أجريت عليه هذه التعديلات، إلا أن المطري نقل عن أحد أولاد المجاورين في المدينة واسمه يعقوب بن أبي بكر أن المنبر النبوي مع الزيادة التي زادها مروان عليه قد تهافت على طول الزمان، وأن بعض خلفاء بني العباس جدّده، واتخذ من بقايا أعواد منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمشاطاً للتبرك، وعمل المنبر الذي ذكره ابن النجار فيما تقدّم.
وفي عام 654هـ شب حريق هائل في المسجد النبوي الشريف فاحترق المنبر الشريف، واحترق باحتراقه بقايا منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفات الزائرين -كما قال ابن عساكر(1) -لمس رمانة المنبر التي كان - صلى الله عليه وسلم - يضع يده المقدَّسة المكرمة عليها عند جلوسه عليه، ولمس موضع جلوسه منه بين الخطبتين وقبلها، ولمس موضع قدميه الشريفتين بركة عامة ونفع عائد، وفيه - صلى الله عليه وسلم - عوض من كل ذاهب، ودرك من كل غائب.
وقد وُضعَت بقايا المنبر المحترق في الدكة أو الحوض المرمري الذي كان أسفل المنبر، وبني فوقها بالآجر بحيث سد جوف ذلك الحوض كله فصار دكة مستوية.
__________
(1) إتحاف الزائر ص 87، ونقله عنه السمهودي في وفاء الوفا 2/129.(1/27)
قال السمهودي(1): وقد شاهدت آثار قائمتي المنبر الشريف اللتين كان بأعلاهما رمانتاه قد نحت لهما في الحجر المحيط بالحوض المذكور نحو ذراع وثلث من طرف باطن الحوض المذكور مما يلي القبلة، وسعة الحوض المذكور خمسة أشبار، وعرض جدار الحوض المذكور خلف المنبر نحو نصف ذراع، وقد حرصت على وضع ما وُجد من تلك الأخشاب في محلها، فوضع ما بقي منها في محله من الحوض المذكور وبنوا عليه ". ا.هـ
وفي عام 656هـ أرسل المظفر ملك اليمن منبراً جديداً من الصندل، له رمانتان، فنصب في موضع المنبر النبوي الشريف (2).
وفي سنة 666هـ أرسل السلطان الظاهر بيبرس البندقداري منبراً جديداً طوله أربع أذرع في السماء ، ومن رأسه إلى عتبته سبع أذرع يزيد قليلاً، وله سبع درجات(3)، وباب بمصراعين، في كل مصراع رمانة من فضة، كتب على الجانب الأيمن منه تاريخ صنعه، وعلى الجانب الأيسر اسم صانعه:"أبو بكر بن يوسف النجار"،(4) فنصب موضع المنبر السابق، وخطب عليه حتى عام 797هـ (5).
وفي العام المذكور ظهرت في المنبر آثار الأرضة، فأرسل الملك الظاهر برقوق منبراً جديداً استمر حتى عام 820هـ (6).
__________
(1) وفاء الوفا 2/130.
(2) نصيحة المشاور ص194، تحقيق النصرة ص38، تحفة الراكع والساجد ص142.
(3) في وفاء الوفا 2/130 وبعض المراجع الأخرى "تسع درجات"، والصواب ما أثبته ، انظر التعريف ص29، تحقيق النصرة ص39، المغانم المطابة 2/495.
(4) ترجمه في المغانم 3/1165 وقال: "كان في العمارة من الصلحاء المتورعين، وفي النجارة من الكبراء المتقدمين، وهو الذي قدم بالمنبر إلى المدينة ، فوضعه في موضعه فأحسن وضعه، وأتقن نجارته وصنعه، ثم انقطع في المدينة". ا.هـ باختصار وتصرف.
(5) المراجع المتقدمة
(6) تحقيق النصرة ص39، فتح الباري 2/399، وفاء الوفا 2/131.(1/28)
ثم أرسل السلطان المؤيد شيخ منبراً آخر، فحل محله،(1) ووصفه السمهودي فقال(2):"وطول هذا المنبر في السماء، سوى قبته وقوائمها، بل من الأرض إلى محل الجلوس؛ ستة أذرع وثلث، وارتفاع الحافتين اللتين يمين المجلس وشماله ذراع وثلث، وامتداد المنبر في الأرض من جهة بابه إلى مؤخره ثمانية أذرع ونصف راجحة، وعدد درجه ثمانية، وبعدها مجلس ارتفاعه نحو ذراع ونصف، وقبته مرتفعة، ولها هلال قائم عليها مرتفع أيضاً، وما أظن منبراً وضع قبله في موضعه أرفع منه، وله باب بصرعتين" ا.هـ
وفي عام 886هـ احترق المسجد النبوي الشريف، واحترق معه المنبر، فبنى أهل المدينة منبراً من الآجر، طلوه بالنَّورة.
وفي عام 888هـ أرسل السلطان الأشرف قايتباي منبراً من الرخام الأبيض، لوضعه مكان المنبر الذي بناه أهل المدينة، وحرص السمهودي -الذي كان حاضراً وقتئذ-أن يضعه داخل الحوض(3) الذي بناه السلف لتحديد موضع منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بدقة، فلم يوافق متولي العمارة على ذلك، فوضع موضع المنبر المحترق،(4) مقدماً إلى القبلة عشرين قيراطاً، أي ما يقرب من ذراع، ومنحرفاً إلى الروضة ثلاثة قراريط (خمسة أصابع) (5).
__________
(1) جعل الحافظ ابن حجر في الفتح 2/399 منبر المؤيد بدلاً من منبر الظاهر بيبرس. قال السمهودي:"لم يطلع ابن حجر على ما ذكره المراغي من منبر الظاهر برقوق، وكلام المراغي أولى بالاعتماد فإنه كان بالمدينة حينئذ" ا.هـ
(2) وفاء الوفا 2/134.
(3) كان الحوض مائلاً إلى اليمين قليلاً لا يخرج صدر المستقبل عن القبلة. وفاء الوفا 2/135-136.
(4) وكان قد خفي على واضعه ما في جوف الحوض، ولم يكن معه أحد من مؤرخي المدينة. المرجع السابق.
(5) انظر المرجع السابق، نزهة الناظرين ص 154 .(1/29)
وفي عام 998هـ(1) أرسل السلطان مراد العثماني منبراً جديداً وضع موضع منبر قايتباي، و نقل منبر قايتباي إلى مسجد قباء، وبقي فيه حتى عام 1408هـ حيث التوسعة الكبرى لمسجد قباء، فاحتفظ به في مكتبة الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة. (2)
أما منبر السلطان مراد فقد صنع من المرمر النقي، وهو غاية في الجمال ودقة الصناعة، يتكون من اثنتي عشرة درجة، ثلاث خارج الباب، وتسع داخله، تعلوه قبة هرمية لطيفة، محمولة على أربعة أعمدة مضلعة رشيقة من المرمر، وبابه من الخشب القرو يتكون من مصراعين مزخرفين بزخارف هندسية إسلامية، مدهون باللون اللوزي الجميل، كتب فوقه الأبيات التالية:
أرسل السلطان مراد بن سليم مستزيداً خير زاد للمعاد
دام في أوج العلا سلطانه ... آمناً في ظله خير البلاد
نحو روض المصطفى صلى عليه ربنا الهادي به كل العباد
منبراً قد أسست أركانه ... بالهدى واليمن من صدق الفؤاد
منبراً يُعْلِي الهدى إعلاؤه ... دام منصوباً لأعلام الرشاد
قال سعد ملهما تاريخه ... منبراً عمر سلطان مراد
وفوقه شرفات هن آية في الروعة، كتب في وسطها (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
وقد اهتمت حكومة المملكة العربية السعودية بهذا المنبر، وشملته بالرعاية والعناية المستمرة، و تقوم بطلائه بماء الذهب كلما دعت الحاجة إلى ذلك، ووضعت عليه ورقاً شفافاً لحمايته من اللمس حفاظاً عليه، وليبقى شاهداً على دقة الفن الإسلامي وأحد أعاجيبه الباقية (3).
__________
(1) انظر نزهة الناظرين ص 154، الرحلة الحجازية ص239، آثار المدينة ص90. و في عمدة الأخبار ص136 سنة 999هـ.
(2) الحجرات الطاهرات للخولي ص35
(3) الرحلة الحجازية ص239، الحجرات الطاهرات للخولي ص35(1/30)
ورد في فضل المنبر النبوي الشريف عدد من الأحاديث الصحيحة، فقد روى الإمام أحمد(1) وغيره بسند صحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((منبري على ترعة من ترع الجنة)).
ورواه عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - بلفظ(2): ((إن منبري هذا على ترعة من ترع الجنة)).
والترعة: الروضة على المكان المرتفع خاصة، فإذا كانت في المطمئن فهي روضة. وقال أبو عمرو الشيباني(3): الترعة: الدرجة. وفسرها سهل بن سعد رضي الله عنه في حديث أحمد(4) بالباب. قال أبو عبيد(5): وهذا هو الوجه عندنا. فالمعنى: إن منبري على باب من أبواب الجنة.
وروى الإمام أحمد(6) والنسائي(7) واللفظ له عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن قوائم منبري هذا رواتب في الجنة)). وإسناده صحيح.
ومعنى رواتب: دائمة ثابتة(8).
وروى البخاري(9) ومسلم(10) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي».
وروى ابن سعد في الطبقات(11) وابن أبي شيبة(12) وغيرهما عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: بينما نحن جلوس في المسجد، إذ خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المرض الذي توفي فيه عاصباً رأسه بخرقة، فخرج يمشي حتى قام على المنبر، فلما استوى عليه قال: ((والذي نفسي بيده إني لقائم على الحوض الساعة...)) الحديث. وإسناده حسن.
__________
(1) المسند (2/360، 450).
(2) المسند 5/339.
(3) غريب الحديث لأبي عبيد ص5.
(4) المسند 5/419 رقم 22836.
(5) غريب الحديث ص6.
(6) المسند 6/292، 318.
(7) سنن النسائي 2/36.
(8) القاموس مادة (ر ت ب ).
(9) تقدّم تخريجه.
(10) تقدّم تخريجه.
(11) الطبقات الكبرى 2/230.
(12) المصنف 6/306.(1/31)
وقد اختلف العلماء في معنى كون المنبر على الحوض، فذهب ابن النجار(1) وابن عساكر(2) وجمهور العلماء إلى أن المنبر النبوي الشريف بعينه يعيده الله سبحانه يوم القيامة كما يعيد سائر الخلائق، ويوضع على حوضه في ذلك اليوم؟. قال القاضي عياض:(3) وهو الأظهر. وذهب البعض(4) إلى أن الله سبحانه يخلق له منبراً -أيَّ منبر -فيجعله على الحوض تكريماً له وتشريفاً. وذهب الخطابي والباجي(5) إلى أن في الكلام مجاز، ومعناه أن الحضور عند المنبر الشريف، وملازمة الأعمال الصالحة بالقرب منه؛ يورد الحوض ويوجب الشرب منه.
قال السمهودي(6): "ويظهر لي معنى رابع وهو أن البقعة التي عليها المنبر تعاد بعينها في الجنة، ويعاد منبره ذلك على هيئة تناسب ما في الجنة فيُجعل المنبر عليها عند عُقْر الحوض، وهو مؤخره، وعن ذلك عبر بـ"ترعة من ترع الجنة"، وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لأمته؛ للترغيب في العمل في هذا المحل الشريف ليفضي بصاحبه إلى ذلك". وهو جمع حسن بين الأقوال المتقدمة.
ولِعَظيم فضل هذا المنبر وشرفه اشتدّ النكير على من حلف عنده بيمينٍ آثمة، فقد روى الإمام مالك(7) بسند صحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من حلف على منبري آثماً تبوَّأ مقعده من النار)).
ورواه ابن أبي شيبة(8) وأبو داود(9) بلفظ: ((لا يحلف أحدٌ عند منبري هذا على يمين آثمة ولو على سواك أخضر إلا تبوَّأ مقعده من النار)) أو ((وجبت له النار)).
__________
(1) الدرة الثمينة ص 131.
(2) إتحاف الزائر ص 84، ونقله عنه السمهودي في وفاء الوفا 2/161.
(3) الشفا 2/92.
(4) وفاء الوفا 2/161.
(5) وفاء الوفا 2/160.
(6) وفاء الوفا للسمهودي 2/161.
(7) الموطأ 2/727.
(8) المصنف 7/ 2 – 3 رقم: 2185.
(9) السنن 3/221، باب ما جاء في تعظيم اليمين عند منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - .(1/32)
وعَدَّ بعض العلماء من فضائل المنبر الشريف ارتجافه خشيةً مما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قدرة الخالق سبحانه وجبروته، فقد روى الإمام مسلم(1) بسنده إلى عبيد الله بن مقسم أنه سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر وهو يقول: ((يأخذ الجبار سماواته وأرضه بيديه)). وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده وجعل يقبضها ويبسطها، ثم قال: ((فيقول: أنا الرحمن أنا الملك. أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)) وتمايل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن يمينه وعن شماله حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى أقول: أساقط هو برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟. قال الإمام النووي(2) -رحمه الله-: "يحتمل أن تحركه بحركة النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الإشارة. قال القاضي: ويحتمل أن يكون بنفسه هيبة لسمعه كما حَنَّ الجذع". والله أعلم.
مصادر ومراجع البحث
1. إتحاف الزائر وإطراف المقيم للسائرين، لأبي اليمن عبد الصمد بن عبد الوهاب بن عساكر، مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة، الطبعة الأولى: 1426هـ، تحقيق: د. مصطفى عمار منلا.
2. الأحاديث الواردة في فضائل المدينة، د. صالح بن حامد الرفاعي، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، الطبعة الثانية: 1415هـ.
3. أخبار المدينة، لمحمد بن الحسن بن زبالة، مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة، الطبعة الأولى: 1424هـ، جمع وتوثيق ودراسة: صلاح عبد العزيز بن سلامة.
4. التاريخ الكبير، لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، دار الفكر، تحقيق: السيد هاشم الندوي.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب صفات المنافقين، صفة القيامة والجنة والنار رقم 26، والمعجم الكبير 12 / 355.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم 17/133.(1/33)
5. التمهيد، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر، وزارة عموم الأوقاف بالمغرب، 1387هـ، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي – ومحمد ابن عبد الكبير البكري.
6. الدرة الثمينة في أخبار المدينة، لأبي عبد الله محمد بن محمود بن النجار البغدادي، دار المدينة المنورة، الطبعة الأولى: 1417هـ، تحقيق: حسين شكري.
7. سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، لمحمد بن يوسف الصالحي الشامي، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى: 1414هـ، تحقيق: عادل أحمد وعلي محمد معوض.
8. سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني، دار الفكر، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد.
9. سنن الترمذي، محمد بن عيسى الترمذي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، تحقيق: أحمد شاكر.
10. السنن الكبرى للبيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، مكتبة دار الباز – مكة المكرمة، 1414هـ، تحقيق: محمد عبد القادر عطا.
11. السنن الكبرى، لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى: 1411هـ، تحقيق: عبد الغفار سليمان البنداري.
12. صحيح البخاري، لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، دار ابن كثير -بيروت، الطبعة الثانية: 1407هـ، تحقيق: د. مصطفى ديب البغا.
13. صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج النيسابوري، دار إحياء التراث العربي – بيروت، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي.
14. الطبقات الكبرى لابن سعد، أبو عبد الله محمد بن سعد البصري، دار صادر – بيروت.
15. فتح الباري شرح صحيح البخاري، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار المعرفة -بيروت، 1379هـ، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي.
16. فضائل المدينة المنورة، د. خليل إبراهيم ملا خاطر، دار القبلة للثقافة الإسلامية (جدة)- مكتبة دار التراث (المدينة المنورة) – مؤسسة علوم القرآن (دمشق – بيروت)، الطبعة الأولى: 1413هـ.
17. كشف الظنون، مصطفى بن عبد الله الرومي الحنفي، دار الكتب العلمية – بيروت، 1413هـ.(1/34)
18. المحلّى، لأبي محمد علي بن أحمد بن حزم، دار الآفاق الجديدة – بيروت، تحقيق: لجنة إحياء التراث الإسلامي.
19. المستدرك على الصحيحين، لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى: 1411هـ، تحقيق: مصطفى عطا.
20. مسند الإمام أحمد، لأبي عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني، مؤسسة قرطبة – مصر.
21. مسند الشهاب، لأبي عبد الله محمد بن سلامة القضاعي، مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة الثانية: 1407هـ، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي.
22. مصنف ابن أبي شيبة، أبو بكر بن أبي شيبة، مكتبة الرشد – الرياض، الطبعة الأولى: 1409هـ، تحقيق: كمال يوسف الحوت.
23. مصنف عبد الرزاق، أبو بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني، المكتب الإسلامي – بيروت، الطبعة الثانية: 1403هـ، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي.
24. المغانم المطابة في معالم طابة، لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة، الطبعة الأولى: 1423هـ.
25. موطأ الإمام مالك، لأبي عبد الله مالك بن أنس الأصبحي، دار إحياء التراث العربي – مصر، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي.
26. النجم الوهاج في شرح المنهاج، لكمال الدين أبي البقاء محمد بن موسى الدَّميري، دار المنهاج، الطبعة الأولى: 1425هـ.
27. وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى، لنور الدين علي بن عبد الله السمهودي، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، الطبعة الأولى: 1422هـ، تحقيق: قاسم السامرائي.
-(1/35)
الروضة الشريفة
دراسة تاريخية توثيقية
(القسم الثاني)
أ. أحمد محمد شعبان ... ... ... أ. إبراهيم محمد الجهني
باحث في مركز بحوث ودراسات المدينة ... مساعد باحث في مركز بحوث ودراسات المدينة
تحدثنا في القسم الأول من هذا البحث – الذي نشر في العدد العشرين من هذه المجلة -عن الروضة الشريفة، ومعنى كونها من رياض الجنة، وبيَّنا حدودها، وأقوال العلماء في ذلك كله، ثم شرعنا في الحديث عن المعالم الموجودة داخل الروضة الشريفة، وختمنا الحديث عن المَعْلَم الأول منها وهو المنبر النبوي الشريف، ونتابع في هذا القسم الحديث عن بقية معالم الروضة الشريفة، ومن أهمها:
والمحراب في اللغة: صدر المجلس، والمكان الرفيع من الدار(1)، ومنه أُخِذ المعنى الاصطلاحي، حيث صار يطلق على المكان المخصَّص لوقوف الإمام في صلاة الجماعة في المسجد.
ولم يكن للمحراب في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - بناء يميّزه عن سائر أجزاء المسجد؛ بل كل مكان داوم النبي - صلى الله عليه وسلم - القيام فيه لإمامة المسلمين في الصلاة؛ يصح أن يُسَمَّى محراباً وأن ينسب إليه، فيقال فيه: هذا محراب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو المحراب النبوي الشريف(2).
وعليه فقد كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد النبوي الشريف ثلاثة محاريب:
__________
(1) لسان العرب مادة (حرب).
(2) وبناء على ذلك فإن ما ذكره السمهودي وغيره من أنه لم يكن للمسجد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا في عهد خلفائه محراب؛ إنما يقصدون بذلك البناء المجوّف الذي أحدثه عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - في المسجد النبوي في توسعة الوليد، والذي صار منذ ذلك الحين هو المراد بـ«المحراب» كما سيأتي.(1/1)
الأول: المحراب الذي كان يؤم المسلمين فيه حين كانت القِبْلَة إلى بيت المقدس، ففي الصحيح(1) عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - : (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّ أن يُوجَّه إلى الكعبة، فأنزل الله: ژ ? ? ں ں ? ? ژ (البقرة: 144) فتوجَّه نحو الكعبة...) الحديث.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه 1/155، رقم: 390، باب التوجه نحو القِبْلَة حيث كان، ومسلم 1/374 رقم: 525، باب تحويل القِبْلَة من القدس إلى الكعبة. بالشك بين ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وفي رواية لمسلم 1/374 نفس الباب السابق، ولابن خزيمة 1/226 ستة عشر شهراً من غير شك، وكذا لأحمد 1/250 رقم: 2252 عن ابن عباس بسند صحيح، وللبزار 8/324 رقم: 3399، والطبراني في المعجم الكبير 17/18 من حديث عمرو بن عوف: «سبعة عشر شهراً» وكذا للطبراني 11/67، 285 عن ابن عباس، من غير شك، وجُمع بين هذه الأقوال بأن من جزم بستة عشر لفق من شهر القدوم وشهر التحويل شهراً، وألغى الأيام الزائدة، ومن جزم بسبعة عشر عدهما معاً، ومن شك تردد في ذلك، إذ القدوم في ربيع الأول بلا خلاف، والتحويل في نصف رجب من الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور، ورواه الحاكم 2/226 – 227 بسند صحيح عن ابن عباس. وقال ابن حبان في صحيحه 4/618: سبعة عشر شهراً وثلاثة أيام بناء على أن القدوم في ثاني عشر ربيع الأول. أفاده الحافظ في الفتح 1/96، ونقله السمهودي في الخلاصة ص 27 – 28 بنصه. وانظر وفاء الوفا 2/81.(1/2)
ولم يَهْتَم المسلمون بموضع هذا المحراب اهتمامهم بموضع المحراب الذي استقر عليه الأمر أخيراً، ولم يجعلوا له علامة تدل عليه، وأقصى ما يمكن أن نستدل به على موضعه ما رواه ابن زبالة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (كانت قِبْلَة النبي - صلى الله عليه وسلم - الشام، وكان مصلاَّه الذي يصلِّي فيه بالناس إلى الشام في مسجده؛ أن تضع موضع الأسطوان المخلَّق اليوم خلف ظهرك، ثم تمشي إلى الشام، حتى إذا كنت يمنى باب آل عثمان كانت قِبْلَته ذلك الموضع) (1).
وعبَّر عنه المطري بقوله(2): «حتى إذا كنت محاذياً باب عثمان المعروف بباب جبريل عليه السلام والباب عن منكبك الأيمن وأنت في صحن المسجد كانت قِبْلَته ذلك الموضع». وهذا التحديد تقريبي كما هو واضح.
__________
(1) أخبار المدينة لابن زبالة ص 86، وفاء الوفا 2/85.
(2) التعريف بما أَنْسَت الهجرة ص 30.(1/3)
وقد جزم المطري(1) أن المراد بالأسطوان المخلَّق في رواية أبي هريرة المتقدمة؛ هو أسطوانة السيدة عائشة رضي الله عنها، واعتبر السمهودي قول ابن زبالة(2): «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى إليها المكتوبة بضعة عشر يوماً بعد أن حُوِّلَت القِبْلَة، ثم تقدَّم إلى مصلاَّه الذي وجاه المحراب»؛ قرينة لما ذهب إليه المطري في تنزيل الوصف بالمخلَّقة في رواية أبي هريرة – المتقدمة – عليها، لكنه عاد فنقل عن العلماء ما يؤكِّد أن المراد بالأسطوان المخلَّق عند الإطلاق هو الذي بقرب المحراب الذي استقرَّ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أخيراً، وصار علماً على المصلَّى الشريف، أما أسطوانة السيدة عائشة فإنها وإن كان يطلق عليها اسم المخلَّقة؛ إلا أن ذلك ليس عند الإطلاق، وقال السمهودي(3): «لم أر ما سبق عن المطري من وصف أسطوانة عائشة بالمخلَّقة لغيره، وتبعه عليه مَنْ بَعْدَه حتى صار هو المشهور، والظاهر أن المخَلَّقة حيث أُطلِقت فإنما يراد بها التي هي عَلَمٌ على المصلَّى الشريف، فقد قال مالك: «أحب مواضع التنفل في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصلاه؛ حيث العمود المخلق».
إلا أن كثيراً من الباحثين والمؤرخين(4) حملوا الأسطوان المُخَلَّق في الرواية التي نقلها ابن زبالة عن أبي هريرة على أسطوانة السيدة عائشة؛ فجاء تحديدهم للمحراب الذي كان يصلِّي فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس مخالفاً لما ذهب إليه السمهودي، وسوف يتضح عند الحديث على الأسطوانات أن ما ذهب إليه السمهودي(5) – رحمه الله– فيه نظر والله أعلم.
__________
(1) التعريف بما أَنْسَت الهجرة ص 88.
(2) أخبار المدينة ص 86.
(3) الخلاصة 2/35 – 36.
(4) منهم المطري في التعريف ص 88، والمراغي في تحقيق النصرة 91 – 92.
(5) وتبعه في ذلك البرزنجي في نزهة الناظرين ص 143، والشنقيطي في الدر الثمين ص 22.(1/4)
والمراد بباب عثمان هو باب جبريل كما أوضح ذلك المطري(1)، وهو مواز لباب جبريل المعروف اليوم، فقد ذكر المراغي(2) أنه نُقِل عند بناء الحائط الشرقي للمسجد النبوي قبالة الباب الأول ولم يتغير عن جهة موضعه، قال الذهبي(3): «فلمَّا حُوِّلت القِبْلة بَقِي حائط القِبْلَة الأوّل مكان أهل الصُّفة».
وتحَوَّل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الأسطوانة التي عرفت بأسطوانة عائشة رضي الله عنها فاتخذها مصلّى له بضعة عشر يوماً(4). وهذا هو المحراب الثاني من محاريب النبي - صلى الله عليه وسلم - .
والصحيح من صلاته - صلى الله عليه وسلم - عندها هو جَعْلُها أمامه سترة له، لا خلفه كما يفهم من كلام ابن النجار حيث قال: «وكان يجعلها خلف ظهره»(5)، لأن المراد كما قال السمهودي: «إنه كان يستند إليها إذا جلس هناك، لا جَعْلُها كذلك في الصلاة إليها»(6).
وهذا المحراب أيضاً لم يكن له بناء يخصُّه أو إشارة تدلّ عليه، سوى أسطوانة عائشة رضي الله عنها، وهذه الأسطوانة تقع الآن في وسط الروضة الشريفة، وهي الثالثة من المنبر، والثالثة من القبر الشريف، والثالثة من القِبْلَة، مكتوب عليها: «هذه أسطوانة السيدة عائشة».
__________
(1) التعريف بما أنست الهجرة ص 104.
(2) تحقيق النصرة ص 118.
(3) نقله عنه السمهودي في وفاء الوفا 2/85.
(4) أخبار المدينة لابن زبالة ص 86.
(5) الدرة الثمينة ص 169.
(6) الخلاصة 2/60.(1/5)
وبعد أن صلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أسطوانة عائشة رضي الله عنها بضعة عشر يوماً، تقدَّم إلى مصلاَّه الأخير الذي استقرَّ عليه، والذي يقع بالقرب من الأسطوانة المعروفة بالمخلّقة، بينه وبين المنبر الشريف أربعة عشر ذراعاً وشبراً(1)، وبينه وبين جدار الحجرة الشريفة ثمانية وثلاثين ذراعاً(2)، وبينه وبين جدار القِبْلَة ممر الشاة(3). وهذا هو المحراب الثالث من محاريب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ولم يكن لهذا المحراب في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بناء يُميِّزه عن سائر أجزاء المسجد، وإنّما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يداوم الوقوف في هذا المكان يؤمُّ المسلمين حتى وفاته، ويجعل جدار المسجد النبوي سترة له(4).
__________
(1) أخبار المدينة لابن زبالة ص 83، وفاء الوفا 2/93.
(2) وفاء الوفا 2/94.
(3) وفاء الوفا 2/99.
(4) اختلفوا في مقدار المسافة التي كانت بين مقامه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة وبين الجدار، فقد روى البخاري في صحيحه1/188 عن سهل بن سعد قال: (كان بين مصلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين الجدار ممرّ الشاة). قال ابن بطال: «هذا أقلّ ما يكون بين المصلِّي وسترته»، وقيل: أقلُّ ذلك ثلاثة أذرع لحديث بلال في الصحيح: (أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى في الكعبة وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع)، وجمع الداوودي: بأن أقلّه ممر الشاة، وأكثره ثلاثة أذرع، وجمع بعضهم: بأن الأول في حال القيام والقعود، والثاني في حال الركوع والسجود، قاله الحافظ ابن حجر في فتح الباري 1/575. قال السمهودي: «ويلزمه التأخر عن موقفه الأول عندهما – كما قدمناه – وهو متعيّن؛ إذ لا يتأتى السجود في أقلّ من ثلاثة أذرع، ولهذا كان حريم المصلي الذي يكون بينه وبين سترته ثلاثة أذرع عندنا». وفاء الوفا 2/100.(1/6)
واستمرَّ الأمر على ذلك مدّة حياته - صلى الله عليه وسلم - وحياة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ، وفي عهد الفاروق عمر - رضي الله عنه - وُسِّع المسجد النَّبوي الشريف من الجهات الغربية والشمالية والجنوبية، فهُدِمَ جدار المسجد الجنوبي ووُسِّع إلى جهة القِبْلَة بزيادة حوالي عشرة أذرع أي بمقدار رواق واحد(1).
وأصبح الإمام يصلي في الرواق الجديد، متقدماً على المحراب النبوي الشريف إلى الأمام جهة القِبْلَة، ولما وُسِّع المسجد في عهد ذي النورين عثمان - رضي الله عنه - إلى جهة القِبْلَة أصبحت المسافة بين مقام الإمام بعد التوسعة وبين مقامه الشريف ثمانية عشر ذراعاً (تسعة أمتار تقريباً)(2).
وظلَّ المنبر النبوي الشريف طوال تلك المدة في مكانه لم يتغيَّر بإجماع المسلمين.
__________
(1) وفاء الوفا 2/239، وذهب مصطفى لمعي – وهو من المعاصرين – إلى أن الزيادة في جهة القبلة حوالي عشرة أذرع (4.48م). المدينة المنورة تطورها العمراني ص 62.
(2) المدينة المنورة تطورها العمراني ص 65.(1/7)
وفي عهد الوليد بن عبد الملك وُسِّع المسجد النبوي الشريف من ثلاث جهات الشرقية والغربية والشمالية، وظلّ محراب عثمان - رضي الله عنه - في الجهة الجنوبية في مكانه، إلا أنه ولأول مرّة كما يذكر المؤرخون(1) أُحدِث في هذه التوسعة المحراب المجوّف، فقد جمع عمر بن عبد العزيز أعيان المدينة وقال لهم: «تعالوا احضروا بنيان قِبْلَتكم، لا تقولوا غيَّر عمر قِبْلَتنا، فجعل لا ينزع حجراً إلا وضع مكانه حجراً»(2) إلى أن اكتمل البناء. ومنذ ذلك الحين أصبح المحراب علماً على المكان المجوف(3) الذي يقف فيه الإمام للصلاة، حتى نسي المعنى الأول أو كاد(4).
__________
(1) وفاء الوفا 2/277.
(2) أخبار المدينة لابن زبالة ص 120، وفاء الوفا 2/271.
(3) قام بعض المؤرخين بدراسة فكرة المحراب الذي أحدثه عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - في المسجد النبوي، وتبين له أن المحراب المجوَّف وُجِد قبل المسيحية والإسلام، وأن أول محراب مجوّف في المسجد كان في عمارة الوليد بن عبد الملك للمسجد النبوي. انظر المدينة المنورة تطورها العمراني ص 73 – 75. وللسيوطي رسالة صغيرة بعنوان:"إعلام الأديب بحدوث بدعة المحاريب" بيَّن فيها أن المحراب من سنن النصارى، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها. لكن أقول: إجماع الأمة عليها من زمن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز وإلى يومنا هذا كاف في إثبات جوازها والله أعلم.
(4) ومن هنا أصبح المؤرخون يطلقون على محراب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأول مقاماً أو مصلى كما سيظهر في عباراتهم من خلال البحث.(1/8)
وقد ظنّ عدد من المؤرخين أن المحراب المجوَّف الذي أحدثه عمر بن عبد العزيز في هذه التوسعة إنما أحدثه في مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد ذكر ذلك كلٌّ من البرزنجي(1) وإبراهيم باشا(2) وأيوب باشا(3) ومحمد إلياس(4)، وغيرهم، والصحيح أن عمر بن عبد العزيز إنما أحدث المحراب المجوّف في مكان مصلّى عثمان - رضي الله عنه - لا في مصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وما ذهب إليه أولئك عار عن الصِّحة لأمور:
الأول: أن كلّ من حدّد مكان مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مصلاه من العلماء إنما حدّده بحساب المسافة بينه وبين المنبر من جهة، وبينه وبين الحجرة الشريفة من جهة أخرى، وبعلامة الأسطوانة المخلّقة والصندوق(5) حيناً، وبرمانة المنبر النبوي الشريف والمحراب العثماني حيناً آخر.
قال ابن زبالة(6): «إن ذرع ما بين المنبر ومقام النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يصلِّي فيه حتى توفي - صلى الله عليه وسلم - أربعة عشر ذراعاً وشبراً».
وقال أيضاً(7): «إذا عدلت عنها – الأسطوانة التي بجانبها الصندوق – قليلاً وجعلت الجزعة التي في المقام(8) بين عينيك والرمانة التي في المنبر إلى شحمة أذنك قمت في مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ».
__________
(1) نزهة الناظرين ص 51
(2) إلا أنه شكَّك في إحداث المحراب المجوّف في عهد الوليد بن عبد الملك. مرآة الحرمين الشريفين ص 468.
(3) موسوعة مرآة الحرمين 3/199.
(4) تاريخ المسجد النبوي ص 104.
(5) المراد بالصندوق: هو الصندوق الخشبي الذي وضع فيه الحجاج بن يوسف الثقفي أحد المصاحف وأرسله إلى المدينة، فوضع أمام المصلى النبوي الشريف. انظر أخبار المدينة لابن زبالة ص 124.
(6) أخبار المدينة ص 84.
(7) أخبار المدينة 83، وفاء الوفا 2/91.
(8) يقصد في مقام الإمام في المحراب العثماني الذي وضع أمام مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بدقة.(1/9)
وقال أيضاً(1): «إن ذرع ما بين مصلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - من مسجده الأول وبين أسطوانة التوبة سبع عشرة ذراعاً».
فلو كان المحراب الذي أنشأه عمر بن عبد العزيز في المكان الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤم المسلمين فيه لما احتاج الأمر أن يحددوا مكانه بهذه الطريقة، أو لأشاروا إلى وجود هذا المحراب على أقل تقدير.
الثاني: أن الإمام الغزالي وغيره من العلماء لما حقَّقوا مكان مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: «ويجعل عمود المنبر حذاء منكبه الأيمن، ويستقبل السارية التي إلى جانبها الصندوق، وتكون الدائرة(2) التي في قِبْلة المسجد بين عينيه، فذلك موقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يُغيَّر المسجد»(3).
قال السمهودي: أما الجزعة فذكر المطري أنها كانت في المحراب القِبْلي المقابل للمصلَّى الشريف، وأنها أزيلت منه سنة 701هـ(4).
والسؤال هنا: كيف يكون لمقام النبي - صلى الله عليه وسلم - محراب مبني ثم يجتهدون في تحديده؟ وكيف يكون مبنياً والواقف فيه ينبغي أن يكون في مقابل الجزعة التي في قِبْلَة المحراب العثماني ينظر إليها حتى يكون وقوفه صحيحاً في المحراب النبوي؟ ومن هنا قال المطري(5): وما حققه الغزالي عند ذكر المصلَّى الشريف إنما كان قبل حريق المسجد، وقبل أن يجعل هذا اللوح القائم في قِبْلَة مصلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قال السمهودي(6) معلقاً على قول المطري: أي فإنه صار يحجب عن مشاهدة ما في المحراب القِبْلي.
قال(7): وإنما جُعِل بعد حريق المسجد.
__________
(1) أخبار المدينة ص 84، وفاء الوفا 2/93.
(2) هذه الدائرة عبّر عنها ابن زبالة بالجزعة.
(3) إحياء علوم الدين 1/259.
(4) وفاء الوفا 2/91، 92.
(5) التعريف ص 94.
(6) وفاء الوفا 2/92.
(7) التعريف ص 94.(1/10)
وبهذا وغيره أؤكِّد أن المحراب المجوّف الذي بناه عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - في عمارة الوليد؛ إنما بناه في المقام الذي كان الإمام يقف فيه في ذلك الوقت، والذي هو مقام ذي النورين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ، وأما مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فظلّ على حاله إلى عهد ابن النجار، فقد ذكر أنه غيِّرت هيئته بجعل المصلَّى شبه حفير أو حوض صغير منخفض عن موقف المأمومين نحو ذراع بسبب ترخيمه وتكاثر الرَّمل المفروش به الروضة(1).
فكأنهم لما فرشوا الروضة بالرِّمال أرادوا أن يحافظوا على المستوى الذي كان عليه المصلَّى في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فرخموه فظلّ مكانه أخفض من بقية الروضة، ويرجح السمهودي أن حدوث انخفاض المصلَّى الشريف بما حوله تجدَّد بعد الحريق الأول(2)، وهذا ما يفهم من كلام ابن النجار كما تقدَّم(3).
واستمرّت هذه الحفرة أو الحوض التي هي علامة على محراب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى زمن السمهودي رحمه الله، إلا أن نسبة انخفاضها عما حولها من الروضة ازدادت فقد قال السمهودي: «وهو الآن شبه حوض مربَّع ينزل إليه بدرجة، طوله ذراعان ونصف وثمن، وعرضه ذراعان ونصف ونصف ثمن، لكن زادوا في طوله في العمارة الحادثة بعد الحريق أرجح من نصف ثمن ذراع ونحوه في العرض(4).
__________
(1) نقله عن ابن النجار الفيروزابادي في المغانم المطابة في معالم طابة 2/496، والسمهودي في وفاء الوفا 2/94.
(2) وفاء الوفا 2/96.
(3) وبهذا يعلم أن ما قاله الشهري من أنهم كانوا يكتفون للدلالة على موضع المصلَّى الشريف بالمحافظة على المستوى الذي كان عليه المصلَّى في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تشكّل من ذلك شبه حوض مربَّع مرخَّم... غير دقيق والله أعلم. انظر: عمارة المسجد النبوي للشهري ص 227.
(4) وفاء الوفا 2/94.(1/11)
ومن خلال الذرع الذي ذكره ابن زبالة لتحديد محراب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما بينه وبين المنبر، أو بينه وبين أسطوانة السيدة عائشة، أو بينه وبين أسطوانة التوبة كما تقدَّم ذكره؛ تبيَّن للسمهودي أن المحافظ عليه في حدّ المصلَّى الشريف هو طرف الحفرة الغربي، فقد قام بذرع ما بين المنبر والحفرة، وما بين الحجرة والحفرة فتبيّن له أن الموافق لما ذكره ابن زبالة وغيره في مكان المصلَّى الشريف هو الطرف الغربي لهذه الحفرة (1).
وقد اتضح للعلامة السمهودي أن الحفرة أو الحوض الذي في مكان مصلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمسلمين مرتفع عن موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - في زمنه بسبب علو الأرض، إلا أن ذلك كان قريباً في زمن إنشائه، والله أعلم(2).
وكان العلماء يتحرجون من إمامة المسلمين في هذا المكان – كما قال البدر ابن فرحون(3) – للكراهة التي نص الفقهاء عليها بسبب عدم تساوي الموقف بين الإمام والمأمومين.
قال ابن فرحون: «... وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يكن موقفه من المأموم أخفض ولا أعلى، بل كان هو وأصحابه في الموقف سواء، فمن خالف سنته بالهوى فقد غوى»(4).
__________
(1) وفاء الوفا 2/94.
(2) وفاء الوفا 2/96.وقد كتب السمهودي في ذلك كتاباً سمَّاه: «كشف الجلباب والحجاب عن القدوة في الشباك والرحاب». لم أقف عليه.
(3) نصيحة المشاور ص 28.
(4) نصيحة المشاور ص 29، ونقله عنه السمهودي في وفاء الوفا 2/95 باختصار.(1/12)
وبعد الحريق الأول الذي شب بالمسجد النبوي في رمضان من عام 654هـ اعتنى الظاهر بيبرس بالمسجد النبوي اعتناءاً كبيراً، واهتمّ بشكل خاص بمصلّى النبي - صلى الله عليه وسلم - فعمل له محراباً خشبياً وصفه السمهودي فقال(1): «وكان في قِبْلَة المصلَّى الشريف صندوق خشب بديع الصنعة، يعلوه محراب قد أنتج الصّناع فيه نتائج مبدعة من صنعة النجارة، والمحراب المذكور شبه باب مقنطر لموضع لطيف على ظهر الصندوق المذكور، مكتوب في داخله أمام مستقبله بعد البسملة آية الكرسي، وعلى ظاهر الباب المقنطر بعد البسملة ژ ? ? ں ں ? ?? ? ? ? ژ (البقرة: 144).
ويبدو أن هذا المحراب هو الذي أشار إليه المطري باللوح المتقدِّم ذكره، وقد احترق هذا المحراب الخشبي في الحريق الثاني الذي شبَّ في المسجد النبوي عام 886 هـ في عهد السلطان المملوكي قايتباي.
ولما شرعوا في تجديد عمارة المسجد النبوي سنة 888هـ؛ "اقتضى رأي متولي العمارة أن يخفض أرض المسجد حتى تكون مساوية للمصلى الشريف، فقطع من الأرض نحو ذراع، فكانوا يجدون طبقة من التراب وتليها طبقة من الرمل، حتى وصلوا إلى الأرض المساوية للمصلى الشريف، وحصل بذلك إزالة هذه البدعة ولله الحمد والمنة" (2).
وبنوا مكان المحراب الذي احترق محراباً مرخَّماً بالرخام الملون ترخيماً بديعاً، فيه صبغ من ذهب وغيره، وهو أبهى منظراً من الأول.
قال السمهودي(3): «وجعلوا أرض المحراب المذكور مرتفعة قليلاً على المصلَّى الشريف، لأنه إنما جعل في محل الصندوق الذي كان أمام المصلَّى، فليتنبّه لذلك والله أعلم».
وكُتِب تاريخ العمارة في لوح رخامي بظهر المحراب النبوي، منقوش فيه بخط بارز في خمسة أسطر ما يلي:
بسم الله الرحمن الرحيم ... وصلَّى الله على سيدنا محمد
__________
(1) وفاء الوفا 2/96 – 97. وانظر: المغانم الطابة 2/476 – 477.
(2) وفاء الوفا 2/96.
(3) وفاء الوفا 2/98.(1/13)
أمر بعمارة هذا المحراب النبوي الشريف العبد الفقير المعترف
بالتقصير مولانا السلطان الملك الأشرف
أبو النصر قايتباي خلد الله ملكه بتاريخ
شهر ذي الحجة الحرام سنة ثمان وثمانين وثمانمائة من الهجرة النبوية(1).
وكتب على مفتاح عقد المحراب: هذا محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكتبت آيات قرآنية حول عقد المحراب: بسملة، ژ ? ? ں ں ? ?? ? ? ?ہ ہ ہ ہ ھ ھھ ھ ے ے ? ? ? ژ . صدق الله. ژ ? ? ? ? ? ?? ? چ چ چ چ ? ? ژ. اللهم صل على سيدنا محمد وآله وصحبه.
وكتبت آيات قرآنية في وسط المحراب تحت رجل العقد: ژ ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ?? ? ? ژ (التوبة: 112).
وكتب نص على الكتف اليمين للمحراب أسفل رجل العقد: هذا مصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ونص على الكتف الشمالي للمحراب أسفل رجل العقد: قال النبي عليه السلام: (الصلاة عماد الدين)(2).
ولا يزال هذا المحراب قائماً حتى اليوم، وقد جرت عليه خلال العصور المتلاحقة إصلاحات كثيرة، ففي عهد السلطان عبد المجيد 1266هـ جُدِّدت فيه أعمال الزخرفة والتذهيب، وتوج أعلاه بمخروطين من الخشب، ووضع على جانبيه سلالم برونزية لإيقاد الشمع الكبير(3)، وفي عام 1336هـ جُدِّد المحراب النبوي على يد فخري باشا محافظ المدينة المنورة(4)، وفي عام 1392هـ قامت الحكومة السعودية بترميمه وتزيينه، وفي عام 1404هـ جرت فيه إصلاحات كبيرة من أهمها:
__________
(1) عمارة المسجد النبوي للشهري ص 342 – 343، المدينة المنورة تطورها العمراني ص120.
(2) المدينة المنورة تطورها العمراني ص 119 – 120.
(3) نزهة الناظرين ص 131، المسجد النبوي الشريف في العصر العثماني للشهري ص 131.
(4) المدينة المنورة تطورها العمراني ص 99.(1/14)
تدعيمه من الداخل بشبكة من الخرسانة المسلّحة، وتجليده من الخارج بالرخام وفقاً للرسومات القديمة وبدون أي تغيير فيها، واستبدل العمودان بواجهة المحراب بعمودين من الرخام الاينوكس الباكستاني، وجُدِّدت اللوحة الموجودة خلف المحراب النبوي مع إضافة تاريخ التجديد(1).
اهتم الدارسون في تاريخ وعمارة المسجد النبوي قديماً وحديثاً بتحديد مكان وقوف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في موقع المحراب النبوي، وتحرى بعضهم مكان سجوده وموضع أقدامه الشريفة، وقال السمهودي في الخلاصة: «فمن تحرّى في القيام محاذاة هذا المحراب كان المصلَّى الشريف عن يمينه، فينبغي تحرّي طرف الحوض المذكور الذي يلي المنبر» ا.هـ(2).
وقد فهم كثير من الباحثين والمؤرخين من عبارة السمهودي هذه أنه ينبغي عند تحرِّي الوقوف في مكان مصلَّى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن تخرج عن محيط المحراب بالكلية وتقف على اليمين عند العبارة التي كتب عليها: «هذا مصلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ».
قال: البرزنجي في نزهة الناظرين(3):"فليتحر الواقف الطرف الغربي من ذلك المحل المجوّف بحيث يصير التجويف عن يساره، فذلك هو محل موقفه الشريف - صلى الله عليه وسلم - ".
وقال: محمد إلياس عبد الغني في تاريخ المسجد النبوي(4):"فمن تحرى في القيام محاذاة هذا المحراب كان المصلى الشريف عن يمينه، فينبغي تحري الطرف الغربي من ذلك المحل المجوّف بحيث يصير التجويف عن يساره، فذلك هو محل موقفه - صلى الله عليه وسلم - للصلاة".
__________
(1) تاريخ المسجد النبوي لمحمد إلياس ص 105.
(2) الخلاصة 2/39.
(3) نزهة الناظرين: ص 140.
(4) تاريخ المسجد النبوي لمحمد إلياس ص 104.(1/15)
وبما أن المكان الذي فهم هؤلاء أنه مكان وقوف النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بني عليه طرف المحراب الأيمن فلا يتأتى أن يقف المصلي في المكان نفسه الذي كان يقف فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ قالوا: إن المصلي في محراب النبي - صلى الله عليه وسلم - اليوم يضع جبهته مكان قدمي النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قال محمد إلياس(1): وبسبب وضع المحراب صار الذي يسجد في ذلك الموضع يكون وضع جبهته في محل قدميه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة.
بيد أننا إذا ما تأملنا جيداً كلام السمهودي، لتبيّن لنا أنه –رحمه الله– لم يرد ما فهمه هؤلاء، وليس في كلامه ما يؤيد العبارة التي أضافوها في كتبهم وهي قولهم:"بحيث يصير التجويف عن يساره".
كيف يعقل أن يحافظ المسلمون على مكان مصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قروناً طويلة ثم يتبين لأحدهم أنه ليس هو المكان المراد؟ أم كيف يعقل أن يضعوا أمامه محراباً للدلالة عليه ثم يتبيّن أنه وضع في غير مكانه؟ هل كان يتولى عمارة وتجديد المسجد من هب ودب؟ ألم يكن هناك علماء يُرْجَع إليهم عند بناء هذه الأماكن الهامة؟ ألم يكن السمهودي نفسه موجوداً عند بناء هذا المحراب؟ ألم يحك ابن النجار الإجماع على أن المصلى الشريف لم يغير بتقديم ولا تأخير؟ ونقله عنه الفيروزابادي في المغانم(2) ووافقه عليه السمهودي نفسه؟(3) كيف تجمع الأمة على أمر ثم نخالف الإجماع لفهم فهمناه من عبارة أحد العلماء لا ندري أمصيبون نحن في هذا الفهم أم لا؟
__________
(1) تاريخ المسجد النبوي لمحمد إلياس ص 104.
(2) المغانم الطابة 2/496.
(3) وفاء الوفا 2/94.(1/16)
كل هذه التساؤلات وغيرها ترشد إلى أن المراد بكلام السمهودي غير ما فهمه هؤلاء من كون المحراب في مكان ومصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكان آخر. ومما يدل على خطأ هذا الفهم أن الواقف في المكان الذي زعم هؤلاء أنه مكان مصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون واقفاً في موازاة الأسطوانة المخلقة، ومن المعلوم أن هذه الأسطوانة كانت على يمين الواقف في المحراب النبوي لا في موازاته كما حقق ذلك السمهودي نفسه(1)، وكما سيأتي عند الحديث على الأسطوانات.
وكيف يكون ما ادعاه هؤلاء صحيحاً والسمهودي نفسه يقول في الخلاصة(2): "صلى إليها – أي إلى أسطوانة السيدة عائشة – النبي - صلى الله عليه وسلم - المكتوبة بعد تحويل القبلة بضع عشر يوماً ثم تقدّم إلى مصلاه الذي وجاه المحراب في الصف الأول".
__________
(1) وفاء الوفا 2/91
(2) 2/59.(1/17)
كل ما أراد السمهودي أن ينبه عليه هو أن الحوض الذي كان دلالة على مصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ــ والذي تقدم الحديث عنه ــ قد زادوا بعد الحريق الأول في طوله نصف ثمن ذراع، أي ما يعادل 6سم تقريباً، وفي عرضه كذلك(1)، ثم إن السمهودي أعاد قياس المسافة التي حددها العلماء بين المحراب النبوي وبين أسطوانة التوبة فتبين له أن الزيادة التي أحدثت في عرض الحوض إنما أحدثت في الجهة الشرقية منه، وأن الجهة الغربية قد حوفظ على مكانها بدقة، فأحب السمهودي أن ينبه المصلي إذا أراد الوقوف في المكان الذي كان يقف فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بدقة أن يأخذ جهة اليمين قليلاً، وعبارته:"فعلمنا بذلك أن المصلى الشريف في جانب الحفرة الغربي، وأن ما يلي المشرق منها ليس منه" ا.هـ(2)، ثم لما بنوا المحراب الموجود الآن أمامه بنوه على كامل عرض الحوض، أي أن يقف على يمين المحراب لكن داخل الحوض وليس خارجه، وبهذا ظهر خطأ ما فهمه بعضهم من كلام السمهودي، كما ظهر خطأ ما بنوه على ذلك الفهم من أن الذي يسجد في ذلك المكان إنما يضع جبهته في مكان قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - (3).
__________
(1) وفاء الوفا 2/94.
(2) وفاء الوفا 2/93.
(3) ومن هنا ندرك أن ما ذكره البرزنجي -رحمه الله-ص52 من أسباب لعدم جعل تجويف المحراب في محل مصلاه - صلى الله عليه وسلم - بعيد والله أعلم.
وفاء الوفا 2/93.(1/18)
الأسطوانات أو الأساطين: جمع أسطوانة بالتأنيث، ويقال: أسطوان بالتذكير، ويراد بها: السارية أو العمود التي يرتكز عليها السقف، إلا أن الغالب على الأسطوانة أن تكون بناء، وعلى العمود أن يكون من حجر (1). وتسمى اللائطة للزوقها في الأرض، ومنه حديث معاوية بن قرة: «ما يسرني أني طلبت المال خلف هذه اللائطة وأن لي الدنيا»(2).
وقد كان في المسجد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لجهة القِبْلة 27 أسطوانة، كلها من جذوع النخل، وبقيت على ذلك إلى توسعة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - حيث أبدلها بالحجارة المنقوشة. فقد روى البخاري عن نافع أن ابن عمر أخبره أن المسجد كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ وَسَقْفُهُ الْجَرِيدُ وَعُمُدهُ خَشَبُ النَّخْلِ فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ شَيْئًا وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ وَبَنَاهُ عَلَى بُنْيَانِهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بِاللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ وَأَعَادَ عُمُدهُ خَشَبًا ثُمَّ غَيَّرَهُ عُثْمَانُ فَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرَةً وَبَنَى جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَالْقَصَّةِ وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ وَسَقَفَهُ بِالسَّاجِ)(3).
__________
(1) الصحاح للجوهري مادة (سرى)، لسان العرب مادة (سطن) ومادة (عمد)، تاج العروس مادة (عمد).
(2) ذكره في النهاية في غريب الحديث 4/286، ولسان العرب مادة (ليط). ولم أقف عليه.
(3) صحيح البخاري 1/171، رقم: 435، باب بنيان المسجد.(1/19)
وقد حافظت أسطوانات المسجد النبوي على أماكنها خلال توسعات المسجد المتلاحقة منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وحتى عصرنا الحاضر، حيث تحرى ذلك كل من زاد أو جدد في المسجد النبوي الشريف، وخاصة الأسطوانات المشهورة الواقعة في الروضة الشريفة، والتي ارتبط اسمها بمآثر مدونة في كتب الحديث والتاريخ. ومن أشهر هذه الأسطوانات:
تقع هذه الأسطوانة (1)في قبلة المحراب النبوي، ملاصقة لتجويف المحراب من الجهة اليمنى.
ويذكر السمهودي أن موقعها الأصلي على يمين المحراب النبوي الشريف، في موضع كرسي الشمعة الذي عن يمين الإمام الواقف في المصلى الشريف(2)، وأنها قدمت في إحدى عمارات المسجد النبوي عن موضعها إلى جهة القبلة مقدار ذراعين، لكنه لم يُبيِّن متى حدث ذلك.
وينقل عن ابن النجار أن هذه الأسطوانة أقيمت في مكان الجذع الذي حَنَّ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . ولكنه لم يذكر متى أقيمت.
والذي يظهر لنا – والعلم عند الله – أن هذه الأسطوانة لم تكن موجودة في العهد النبوي الشريف، لا عند البناء الأول للمسجد حين كانت القبلة إلى بيت المقدس، ولا عند تحويل القبلة، ولا حتى عند توسعة النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسجد في السنة السابعة للهجرة؛ لأن موضعها كان آنذاك جدار المسجد الجنوبي كما يظهر من الشكل (1) ومن المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوسع المسجد من جهة القبلة، وليس من طرق البناء لا في ذلك العهد ولا في العهود اللاحقة ـ فيما أعتقد ـ أن تقام أسطوانة أو عمود في الجدار؛ إذ لا فائدة منه.
وربما يفترض بعضهم أنها أقيمت للدلالة على مكان الجذع الذي حنَّ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ذكر ابن النجار.
__________
(1) بتشديد اللام وفتحها، أي: الملطخة بالخلوق وهو الطيب.
(2) ولا عبرة بالروايات التي تشير إلى أنها كانت على يسار المحراب، لأنها شاذة أو مؤولة كما ذكر السمهودي في الخلاصة 2/49.(1/20)
أقول: لم أقف على دليل واحد يؤيد ما ذكره ابن النجار، لا في الأخبار الصحيحة ولا حتى في أقوال العلماء قبله، ومثل هذا الأمر لو حدث أعني: لو قام الصحابة ببناء أسطوانة مكان الجذع الذي حنَّ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - للدلالة عليه؛ لاشتهرت بين المختصين في هذا الجانب على أقل تقدير، أو لسميت هذه الأسطوانة بـ «أسطوانة الجذع»، أو عرفت بأنها عَلمٌ عليه . ومن هنا فإن المطري لم يرتض كون هذه الأسطوانة أقيمت في مكان الجذع، وقال(1): "والأسطوانة التي قبلي الكرسي متقدمة عن موضع الجذع، فلا يعتمد على قول من جعلها في موضع الجذع".
يشير بهذا إلى ما نقله ابن زبالة عن عبد العزيز بن محمد في تحديد مكان الجذع:"أن الأسطوان الملطخ بالخلوق ثلثاها أو نحو ذلك محرابها موضع الجذع الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب إليه".
وهذا ما يفسر لنا سر إهمال معظم المؤرخين – قبل السمهودي– لذكرها ضمن الأساطين المشهورة في الروضة(2).
والظاهر أن هذه الأسطوانة بنيت مع توسعة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للمسجد حين هدم جدار المسجد الجنوبي الأول وقدمه بمقدار خمسة أمتار، وبنى رواقاً واحداً، فكانت هذه الأسطوانة ضمن أعمدة الرواق الذي زاده الفاروق، وهي في صف بقية أسطوانات الرواق كما يظهر في الشكل (1).
__________
(1) التعريف بما أنست الهجرة ص 93 – 94. قلت: وكذا قال المراغي في تحقيق النصرة ص 97، وانظر الخلاصة 2/48.
(2) انظر على سبيل المثال لا الحصر الدرة الثمينة لابن النجار ص 144 فما بعدها، التعريف بما أنست الهجرة ص 91-92، تحقيق النصرة ص 91. المغانم المطابة 1/400 فما بعدها.(1/21)
وبناء على ما تقدم فإن ما ذكره الإمام السمهودي من كونها قدمت عن موقعها بمقدار ذراعين؛ لم أقف له على مستند، ولعله اجتهاد منه للتوفيق بين ما ذكره ابن النجار من كونها أقيمت مقام الجذع وبين رد المطري لذلك. وهذا التوفيق لا داعي له ما دام أننا لا نملك نصوصاً صريحة بأن هذه الأسطوانة أقيمت مقام الجذع، وفي المكان نفسه الذي كان فيه.
ولما كانت أقرب الأسطوانات إلى المصلى الشريف؛ جعلت علماً عليه، ولما كان المصحف الذي أرسله الحجاج بن يوسف قد وضع بالقرب منها سميت أسطوانة المصحف(1). كما قال الإمام مالك(2):"أرسل الحجاج بن يوسف إلى
الشكل رقم (1)
أمهات القرى بمصاحف، فأرسل إلى المدينة بمصحف منها كبير وكان في صندوق عن يمين الأسطوانة التي عملت علماً لمقام النبي - صلى الله عليه وسلم - ".
وتعرف هذه الأسطوانة اليوم بالمخلقة؛ لأنها كانت تلطخ بالخلوق، وهو الطيب. وقد كتب عليها في أعلاها "هذه أسطوانة المخلقة"، وهذا الوصف
لا يقتصر عليها وحدها بل على أسطوانة السيدة عائشة (المهاجرين) وأسطوانة التوبة(3).
ولم نقف على نص صريح يذكر بداية تخليقها، بل لم نقف على من وصفها بالمخلقة غير السمهودي ومن نقل عنه ممن جاء بعده، وكل الآثار التي وقفنا عليها في تخليق المسجد النبوي الشريف، أو جزء منه، في العهد النبوي والراشدي والأموي لم تشر إلى هذه الأسطوانة بما يخصها من تخليق أو عدمه، بل نقل ابن زبالة عن ابن عجلان: أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله على المدينة أن لا يخلق إلا القبلة، وأن يغسل الأساطين.
__________
(1) إتحاف الزائر ص130
(2) الدرة الثمينة لابن النجار ص329
(3) تحقيق النصرة للمراغي ص93.(1/22)
وأقدم النصوص التي وقفنا عليها، فيما يخص تخليق هذه الأسطوانة ما نقله ابن زبالة في الخبر السابق: أن الخيزران أم موسى(1) قدمت المدينة سنة 170هـ فأمرت بالمسجد فخلق، وولي ذلك من تخليقه مؤنسة جاريتها، فقام إليها إبراهيم بن الفضل بن عبيد الله، مولى هشام بن إسماعيل، فقال: هل لكم أن تسبقوا من بعدكم وأن تفعلوا ما لم يفعل من كان قبلكم؟ قالت مؤنسة: وما ذاك؟ قال: تخلقون القبر كله، ففعلوا؛ وإنما كان يخلق منه ثلثاه أو أقل،(2) وأشار عليهم فزادوا في خلوق أسطوان التوبة والأسطوان التي هي عند مصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فخلقوهما حتى بلغوا بهما أسفلهما، وزادوا في الخلوق في أعلاهما(3).
__________
(1) أم موسى الهادي وهارون الرشيد.
(2) لعل المراد بتخليق القبر هو تخليق الجدار المقام على القبور الشريفة، إذ تخليق القبر الشريف نفسه فيه بعد لوجود جدار الحائز المخمس الذي بناه عمر بن عبد العزيز رحمه الله. والله أعلم
(3) وفاء الوفا 2/88، 350، 449.(1/23)
وهذا النص رغم استدلال السمهودي به على تخليق هذه الأسطوانة؛ إلا أنه يحتمل أن يكون المراد بها أسطوانة السيدة عائشة رضي الله عنها إذ هي أيضاً واقعة عند المصلى الشريف الأول كما تقدم في المحاريب. وقد ترجم لها ابن عساكر في إتحاف الزائر(1):"الأسطوان التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي إليها"، وهي معروفة بالمخلقة أيضاً، ولعل شهرتها بالمخلقة أوسع من هذه، خاصة قبل عهد السمهودي، وقد اقتصر المطري(2) في وصف المخلقة عليها ولم يتطرق لغيرها، فقال: "ذكر الأسطوانات المشهورة في الروضة الشريفة: منها: الأسطوانة المخلقة، وهي التي صلى إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المكتوبة بعد تحويل القبلة بضعة عشر يوماً ثم تقدم إلى مصلاه". وكذا فعل المراغي (ت 816 هـ) في تحقيق النصرة(3) فقال: "الرابع: نذكر الأساطين بالروضة الشريفة والجذع والمنبر: فمنها: الأسطوانة المخلقة وهي التي صلى إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المكتوبة بعد تحويل القبلة بضعة عشر يوماً ثم تقدم إلى مصلاه اليوم".
وقال الفيروزابادي في المغانم(4): قلت: وهذه الأسطوانة تسمى أسطوانة عائشة رضي الله عنها....، وهي المعروفة بالأسطوانة المخلقة...". (5).
__________
(1) ص 126.
(2) التعريف ص91.
(3) ص 91.
(4) المغانم المطابة 1/400.
(5) وكلام ابن عساكر غير واضح، فقد أورد حديث سلمة بن الأكوع تحت أسطوانة المصحف، إلا أنه لم يحدِّد مكانها على عادته في تحديد أماكن الأسطوانات الأخرى التي ذكرها قبل ذلك، وعند حديثه عن موضع الجذع قال: «وكان الجذع في موضع الأسطوانة المخلقة التي عن يمين موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة عند الصندوق»إتحاف الزائر ص 115 وص 130.(1/24)
يتضح لنا مما رجحناه من كون هذه الأسطوانة لم تكن موجودة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ أنه لا يوجد أثر في فضل هذه الأسطوانة بخصوصها، بل من حيث العموم، فقد روى البخاري(1) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «لقد رأيت كبار أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يبتدرون السواري عند المغرب».
قال ابن النجار: "فعلى هذا جميع سواري مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - يستحب الصلاة عندها؛ لأنها لا تخلو من أن كبار الصحابة صلوا إليها".
وليس المراد بقول ابن النجار: "مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - " المسجد الذي بني في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ بل ينطبق الوصف على ما زاده الخلفاء الراشدون فيه لتوافر الصحابة في عهدهم رضي الله عنهم أجمعين.
إلا أن العلماء قد اختلفوا في المراد من أسطوانة المصحف الواردة في حديث يزيد بن أبي عبيد الذي رواه البخاري في صحيحه(2) قال: (كنت آتي سلمة بن الأكوع فيصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف، فقلت: يا أبا مسلم! أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة؟ قال: فإني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحرى الصلاة عندها).
فذهب البيهقي في سننه، والفيروزابادي في المغانم، والعباسي في عمدة الأخبار إلى أن المراد بها أسطوانة التوبة، وهذا ظاهر من إيراد البيهقي لحديث سلمة تحت باب سماه: باب في أسطوانة التوبة(3). ومن إيراد الفيروزابادي والعباسي له أيضاً في سياق الحديث عن أسطوانة التوبة كذلك(4).
__________
(1) صحيح البخاري 1/189، رقم 481، باب الصلاة إلى الأسطوانة.
(2) صحيح البخاري 1/189، رقم: 480، باب الصلاة إلى الأسطوانة، ورواه مسلم في صحيحه 1/364، رقم: 509، باب دنو المصلِّي من السترة.
(3) سنن البيهقي، جماع أبواب الهدي، باب في أسطوانة التوبة 5/247.
(4) المغانم المطابة 1/401، عمدة الأخبار ص 98 – 99.(1/25)
وذهب ابن حجر والعيني إلى أن المراد بها أسطوانة السيدة عائشة رضي الله عنها، قال في الفتح(1): "هذا دال على أنه كان للمصحف موضع خاص به، ووقع عند مسلم بلفظ: "يصلي وراء الصندوق"(2) وكأنه كان للمصحف صندوق يوضع فيه، والأسطوانة المذكورة حقق لنا بعض مشايخنا أنها المتوسطة في الروضة المكرمة، وأنها تعرف بأسطوانة المهاجرين، قال: وروي عن عائشة أنها كانت تقول: لو عرفها الناس لاضطربوا عليها بالسهام، وإنها أسرتها إلى ابن الزبير فكان يكثر الصلاة عندها. ثم وجدت ذلك في تاريخ المدينة لابن النجار، وزاد: "إن المهاجرين من قريش كانوا يجتمعون عندها"، وذكره قبله محمد بن الحسن في أخبار المدينة". انتهى كلام الحافظ.
واستظهر ابن رجب أن الأسطوانة التي كان يتحرى سلمة بن الأكوع الصلاة إليها هي من أسطوانات الروضة فقال(3): «وهذه الأسطوانة الظاهر أنها من أسطوان المسجد القديم الَّذِي يسمى الروضة، وفي الروضة أسطوانتان، كل منهما يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي إليها: الأسطوانة المخلقة، وتعرف بأسطوانة المهاجرين؛ لأن أكابرهم كانوا يجلسون إليها ويصلون عندها، وتسمى: أسطوان عائشة... وأسطوانة التوبة، وهي التي ربط فيها أبو لبابة نفسه حتى تاب الله عليه».
__________
(1) 1/577.
(2) لم أقف عليه في صحيح مسلم ولا في غيره من كتب السنة المشهورة، ولعل هذا اللفظ ورد في نسخة من نسخ صحيح مسلم التي وقف عليها الحافظ ابن حجر، وقد رواه بهذا اللفظ ابن بطة في الإبانة الكبرى.
(3) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن رجب(1/26)
وقد تعقب السمهودي ما ذهب إليه العيني وابن حجر فقال: وقد توهم جماعة أن المراد من كلام ابن القاسم(1)، وما نقل عن مالك؛(2) الأسطوانة المعروفة اليوم بالمخلقة، وهي التي بأوسط الروضة، وهو مردود؛ لأن الأسطوانة المذكورة ليست علماً على مصلَّى الرسول عليه السلام اتفاقاً، ومنشأ الوهم ظنهم اختصاصها بوصف المخلّقة»(3)، قال: "وممن اعتقد ذلك الحافظ ابن حجر". ثم ساق كلام الحافظ بنصه.
يشير السمهودي بقوله هذا إلى ما روي عن الإمام مالك وغيره من أن المصحف الذي أرسله الحجاج كان في صندوق عند الأسطوانة التي جعلت علماً على المصلى الشريف، و ما دام أن أسطوانة السيدة عائشة ليست علماً على المصلى الشريف باتفاق فإن ما ذهب إليه الحافظان وغيرهما وَهْم.
ثم قرر السمهودي أن المراد بها الأسطوانة الملتصقة بتجويف المحراب النبوي في جهة القبلة إلى الغرب قليلاً، وأن موضعها الأول على يمين المحراب عند كرسي الشمعة، وأنها قُدِّمت إلى مكانها اليوم، وحجته الوحيدة فيما ذهب إليه كون المصحف المشار إليه في حديث سلمة - رضي الله عنه - واقع عند هذه الأسطوانة التي هي عَلَمٌ على مصلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما نُقل ذلك عن الإمام مالك وغيره.
__________
(1) يشير بهذا إلى ما نقله عن ابن القاسم قال: "أحب مواضع الصلاة في مسجده - صلى الله عليه وسلم - في النفل العمود المخلق، وفي الفرض في الصف الأول". وفاء الوفا 2/87.
(2) يشير بهذا إلى ما رواه ابن وهب عن الإمام مالك أنه سئل عن مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقيل له:"أي المواضع أحب إليك فيه؟ قال: أما النافلة فموضع مصلاه، وأما المكتوبة فأول الصفوف". المرجع السابق.
(3) وفاء الوفا 2/88.(1/27)
لكن لدى التأمل يظهر لنا بُعد ما ذهب إليه السمهودي رحمه الله، فهذه الأسطوانة على ما اتضح لنا سابقاً لم تكن في العهد النبوي حتى يتحرى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة إليها، وعلى فرض وجودها يبعد أن يتحرى - صلى الله عليه وسلم - الصلاة إليها وهي ملاصقة لمحرابه الشريف، ثم من أين للسمهودي الاتفاق على كون أسطوانة السيدة عائشة ليست علماً على المصلى الشريف؟ أليست هي إحدى الأسطوانات التي اتخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - مصلى له عندما حولت القبلة؟ فهي إذاً علم على المصلى الأول للنبي - صلى الله عليه وسلم - . وما ذهب إليه الحافظان ابن حجر والعيني وغيرهما دليل على نقض هذا الاتفاق، إن لم نقل ترجيح لكون أسطوانة عائشة هي عَلَمٌ أيضاً على المصلى الشريف وهي المرادة في هذا الحديث؟
وما نقله السمهودي رحمه الله من الاتفاق على كون الصندوق المذكور في حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - هو الواقع قرب الأسطوانة التي جعلت علماً على المصلى الشريف غير مسلَّم، إذ التسليم له بذلك تجهيل لكل العلماء الذين خالفوا السمهودي في هذه المسألة، وفيهم أعلام المؤرخين والمحدثين. ثم لا نجد من نقل هذا الاتفاق قبل السمهودي، معظم المصادر التاريخية والحديثية قبل السمهودي التي أوردت حديث سلمة - رضي الله عنه - لم تذهب إلى ما ذهب إليه، وعلى فرض أن الاتفاق حاصل؛ فلا يسلَّم له أن المراد بالأسطوانة المذكورة في الحديث هي الأسطوانة المخلقة التي أشار إليها؛ لأن ألفاظ حديث سلمة ليست نصاً في المراد، ففي البخاري(1) ومسلم(2) والبيهقي(3) (...فيصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف...)، وفي رواية لمسلم(4) (...أنه كان يتحرى موضع مكان المصحف يسبح فيه...).
__________
(1) 1/189، باب الصلاة إلى الأسطوانة.
(2) 1/364، باب دنو المصلي من السترة.
(3) 2/271، باب الصلاة إلى الأسطوانة/ 5/247، باب في أسطوانة التوبة.
(4) 1/364، الباب السابق.(1/28)
وعند ابن ماجه(1) وابن حبان(2) (...فيعمد إلى الأسطوانة دون المصحف فيصلي قريبا منها...). فهذه الألفاظ المختلفة تحتمل عدة أسطوانات، ومن هنا نأى ابن النجار بنفسه عن هذا الخلاف وذكر الحديث تحت باب ذكر فضيلة الصلاة إلى أساطين المسجد، ثم ساق حديث سلمة ولم يُبيِّن موقع الأسطوانة المذكورة.
بقي علينا أن نعلم الأسطوانة المقصودة من حديث سلمة، ونرجح أن المراد بها أسطوانة التوبة للأسباب التالية:
1– ما ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي النفل إليها، فقد روى ابن زبالة عن عمر بن عبد الله بن المهاجر عن محمد بن كعب (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي نوافله إلى أسطوانة التوبة) (3).
2-وفي رواية لابن زبالة عن عمر بن عبد الله، (ولم يذكر فيها ابن كعب)، أنه قال في أسطوانة التوبة: (كان أكثر نافلة النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها، وكان إذا صلى الصبح انصرف إليها، وقد سبق إليها الضعفاء والمساكين وأهل الضر وضيفان النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤلفة قلوبهم ومن لا مبيت له إلا في المسجد، قال: وقد تحلَّقوا حولها حِلَقاً بعضها دون بعض، فينصرف إليهم من مصلاَّه...) الحديث(4).
وهذه الروايات وإن كانت ضعيفة إلا أنها تقوي هذا القول، خاصة وأن من أوردها هم أهل الاختصاص بتاريخ المدينة المنورة والله أعلم.
__________
(1) 1/459، باب ما جاء في توطين المكان في المسجد.
(2) 5/59.
(3) أخبار المدينة لابن زبالة ص 101، الدرة الثمينة ص 168. هذا الأثر ضعيف، لأن فيه ابن زبالة، وعمر بن عبدالله بن المهاجر لم أقف على ترجمته، ومحمد بن كعب تابعي ثقة فيكون حديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا. تهذيب التهذيب 9/373.
(4) سيأتي تخريجه.(1/29)
وتعرف أيضاً بأسطوانة القُرعة، وأسطوانة المهاجرين، والأسطوانة المخلَّقة(1). وسبب تسميتها بهذه الأسماء يتضح من خلال الآثار الواردة في فضلها كما سيأتي.
تقع هذه الأسطوانة في وسط الرَّوضة الشريفة، وهي الثالثة من المنبر، والثالثة من القبر الشريف، والثالثة من القِبْلَة(2)، انظر الشكل(2)، كتب في أعلاها من الجهة الشمالية بخط بارز: «هذه أسطوانة السيدة عائشة».
وقد مرَّ معنا عند الحديث على المحراب النبوي أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى إليها بعد تحويل القبلة بضع عشرة ليلة ثم تحوَّل إلى مصلاَّه المعروف اليوم.
تقدم معنا عند الحديث على الأسطوانة المخلقة، خلاف العلماء في حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - ، وأن بعض العلماء ومنهم الحافظان ابن حجر والعيني ذهبا إلى أن المراد بها أسطوانة السيدة عائشة رضي الله عنها.
__________
(1) التعريف ص 91، المغانم المطابة 1/400، وفاء الوفا 2/175، موسوعة مرآة الحرمين الشريفين 3/231، عمارة المسجد النبوي للشهري ص65.
(2) أخبار المدينة لابن زبالة ص 100، وفاء الوفا 2/177، موسوعة مرآة الحرمين الشريفين 3/231، تاريخ المسجد النبوي الشريف ص125.(1/30)
وروى الطبراني في الأوسط من طريق أحمد بن يحيى الحلواني قال: حدثنا عتيق بن يعقوب، قال: حدثنا ابنا المنذر عبد الله ومحمد عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن في المسجد لبقعة قِبَل هذه الأسطوانة لو يعلم النَّاس ما صلَّوا فيها إلا أن يطير لهم فيها قُرْعة) وعندها جماعة من أصحابه(1)، وأبناء المهاجرين، فقالوا: يا أم المؤمنين، وأين هي؟ فاستعجمت عليهم، فمكثوا عندها ساعة، ثم خرجوا، وثبت عبد الله بن الزبير، فقالوا: إنها ستخبره بذلك المكان، فأرمقوه في المسجد حتى ينظروا حيث يصلي، فخرج بعد ساعة، فصلَّى عند الأسطوانة التي صلَّى إليها ابنه عامر بن عبد الله بن الزبير، وقيل لها: أسطوانة القرعة(2).
وقال السمهودي: روينا في كتاب ابن زبالة عن إسماعيل بن عبد الله عن أبيه: «أن عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم وثالثاً كان معهما دخلوا على عائشة رضي الله عنها فتذاكروا المسجد، فقالت عائشة: "إني لأعلم سارية من سواري المسجد لو يعلم النَّاس ما في الصلاة إليها لاضطربوا عليها بالسهمان"، فخرج الرَّجُلان وبقي ابن الزبير عند عائشة، فقال الرَّجلان: ما تخلَّف إلاّ ليسألها عن السّارية، ولئن سألها لتُخبرنَّه، ولئن أخبرته لا يُعلِمُنا، وإن أخبرته عَمَد لها إذا خرج فصلَّى إليها، فاجلس بنا مكاناً نراه ولا يرانا، ففعلا، فلم ينشب أن خرج مسرعاً فقام إلى هذه السَّارية فصلَّى إليها متيامناً إلى الشق الأيمن منها، فعلم أنها هي، وسمِّيت أسطوان عائشة بذلك، وبلغنا أن الدعاء عندها مستجاب»(3).
__________
(1) هكذا عند الطبراني، وفي بعض المصادر «من أبناء الصحابة». انظر: فضائل المدينة للرفاعي ص 486.
(2) رواه الطبراني في المعجم الأوسط 1/264، رقم: 862.
(3) رواه ابن زبالة في أخبار المدينة ص 100، وابن زبالة كذبوه.(1/31)
وقال ابن زبالة: حدّثني غير واحد من أهل العلم منهم الزبير بن حبيب: «... أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى إليها بضع عشرة المكتوبة ثمّ تقدَّم إلى مصلاّه الذي وجاه المحراب في الصف الأوسط، أي: الرواق الأوسط، وأن أبا بكر وعمر والزبير بن العوام وعامر بن عبد الله كانوا يصلُّون إليها، وأن المهاجرين من قريش كانوا يجتمعون عندها، وكان يقال لذلك المجلس مجلس المهاجرين»(1).
وتسمى أسطوانة أبي لبابة، نسبة إلى الصحابي الجليل أبي لبابة بَشِير بن عبد المنذر(2) الأنصاري - رضي الله عنه - ، وسبب تسميتها بهذه الأسماء يتضح من خلال الآثار الواردة في فضلها كما سيأتي.
تقع هذه الأسطوانة وسط الرَّوضة الشريفة، شرقي أسطوانة السيدة عائشة، مجاورة لها، وهي الرابعة من المنبر، والثانية من القبر الشريف، والثالثة من القِبْلَة(3)، انظر الشكل (3)، بينها وبين القبر الشريف عشرون ذراعاً، وبينها وبين مصلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - سبع عشرة ذراعاً(4)، كتب في أعلاها من الجهة الشمالية بخط بارز: «هذه أسطوانة التوبة».
__________
(1) رواه ابن زبالة في أخبار المدينة ص 101، وذكره ابن النجار في الدرة الثمينة ص 169.
(2) هو بَشِير بن عبد المنذر الأنصاري المدني أحد النقباء، مشهور بكنيته أبي لبابة، يقال: شهد بدرا، وشهد العقبة، توفي في خلافة علي - رضي الله عنه - ، وقيل: بعد الخمسين. تهذيب التهذيب 12/192.
(3) أخبار المدينة لابن زبالة ص 100، وفاء الوفا 2/177، موسوعة مرآة الحرمين الشريفين 3/231.
(4) أخبار المدينة لابن زبالة ص 84، 102، وفاء الوفا 2/93، 182.(1/32)
وقد فهم ابن فرحون من قول ابن زبالة فيما رواه عن ابن عمر: "أنها الثانية من القبر" أنها اللاصقة بالشباك، فاعتبر الأسطوانة اللاصقة بجدار القبر والتي زادها عمر بن عبد العزيز عند بنائه للحجرة الشريفة هي الأولى، وهذا غير صحيح، لأن ابن عمر لم يدرك ذلك، وقد علم من كلامهم في أسطوان السيدة عائشة أنهم لا يعدّون اللاّصقة بجدار القبر لما تقدّم من قولهم فيها: إنها الثالثة من المنبر والثالثة من القبر، ولو عدّوا اللاصقة بجدار القبر لكانت الرابعة من القبر(1).
قال السمهودي: «وفيها اليوم هيئة محراب من الجص تتميّز به عن سائر الأساطين، لكنه أزيل في الحريق الثاني»(2).
تقدم معنا عند الحديث على الأسطوانة المخلقة، خلاف العلماء في حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - ، وأن بعض العلماء ومنهم البيهقي والفيروزابادي قد ذهبا إلى أن المراد بها أسطوانة التوبة، وتبيّن لنا أسباب ترجيحنا لهذا القول.
وعن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (أَنَّهُ كَانَ إِذَا اعْتَكَفَ طُرِحَ لَهُ فِرَاشُهُ أَوْ يُوضَعُ لَهُ سَرِيرُهُ وَرَاءَ أُسْطُوَانَةِ التَّوْبَةِ) (3).
__________
(1) انظر: وفاء الوفا 2/181 – 182.
(2) وفاء الوفا 2/181.
(3) رواه ابن ماجة 1/564، رقم: 1774، باب في المعتكف يلزم مكاناً في المسجد، والبيهقي 5/247، رقم: 10064، باب في أسطوانة التوبة، والطبراني في المعجم الكبير 12/385، رقم: 13424، والحديث ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري موقوفاً على ابن عمر وسكت عنه، وقال الشوكاني في نيل الأوطار 4/356: «الْحَدِيثُ رِجَالُ إسْنَادِهِ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ ثِقَاتٌ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا اعْتَكَفَ...إلخ. وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ».(1/33)
وفي رواية: (مما يلي القبلة يستند إليها) (1).
وعند مسلم قال نافع: وقد أراني عبد الله بن عمر المكان الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف فيه من المسجد(2).
وروى ابن زبالة عن عمر بن عبد الله بن المهاجر عن محمد بن كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان يصلي نوافله إلى أسطوان التوبة) (3).
وفي رواية لابن زبالة عن عمر بن عبد الله، (لم يذكر فيها ابن كعب)، أنه قال في أسطوان التوبة: «كان أكثر نافلة النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها، وكان إذا صلى الصبح انصرف إليها، وقد سبق إليها الضعفاء والمساكين وأهل الضر وضيفان النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤلفة قلوبهم ومن لا مبيت له إلا في المسجد، قال: وقد تحلَّقوا حولها حِلَقاً بعضها دون بعض، فينصرف إليهم من مصلاَّه من الصّبح، فيتلو عليهم ما أنزل الله عليه من ليلته، ويحدثهم ويحدثونه، حتى إذا طلعت الشَّمس جاء أهل الطَّوْل والشَّرف والغنى فلم يجدوا إليه مجلساً، فتاقت أنفسهم إليه وتاقت نفسه إليهم، فأنزل الله تعالى: ژ ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ژ (الكهف: 28) إلى منتهى الآيتين، فلما نزل ذلك فيهم قالوا: يا رسول الله اطردهم عنّا، ونكون نحن جلساؤك وإخوانك ولا نفارقك، فأنزل الله عزوجل ژ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ (الأنعام: 52) إلى منتهى الآيتين(4).
__________
(1) البيهقي 5/247، الباب السابق، والطبراني في المعجم الكبير 12/385.
(2) صحيح مسلم، كتاب الاعتكاف، باب اعتكاف العشر الأواخر من رمضان. 2/803.
(3) أخبار المدينة لابن زبالة ص 101، الدرة الثمينة ص 168.
(4) أخبار المدينة لابن زبالة ص 101-102، وتقدّم الكلام على السند في الأثر السابق.(1/34)
تقع هذه الأسطوانة داخل المقصورة لاصقة بشباك الحجرة، شرقي أسطوانة التوبة، وسُمِّيت بذلك لأن سرير النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوضع في هذا المحلّ أثناء اعتكافه في المسجد(1).
وهي غير الأسطوانة البارزة في جدار المقصورة والمكتوب عليها (هذه أسطوانة السرير) فهذه نصف أسطوانة أُحدِثت في المسجد زمن الأشرف قايتباي عند بناء القبة الكبيرة على الحجرة الشريفة وإنما كتب عليها ذلك لكونها مقرونة إليها(2).
أسند ابن زبالة ويحيى عن محمد بن أيوب (أنه كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - سرير من جريد فيه سَعَفه يوضع بين الأسطوان التي تُجاه القبر وبين القناديل، كان يضطجع عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) (3).
وقال البدر ابن فرحون: روينا بالسند الصحيح إلى ابن عمر رضي الله عنهما (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اعتكف يطرح له وسادة، ويوضع له سرير من جريد فيه سَعَفه، يوضع له فيما بين الأسطوان التي وُجاه القبر الشريف وبين القناديل، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضطجع عليه) (4).
__________
(1) وفاء الوفا 2/184. وسيأتي تخريج الحديث.
(2) نزهة الناظرين ص 61. وانظر وفاء الوفا 2/392.
(3) أخبار المدينة لابن زبالة ص 103، وفاء الوفا للسمهودي 2/183. ومحمد بن أيوب لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - فيكون الأثر مرسلاً.
(4) نصيحة المشاور ص 16، ونقله عنه السمهودي في وفاء الوفا 2/184.(1/35)
وتقدّم أن سرير النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوضع وراء أسطوانة التوبة، ويمكن أن يُحمل ذلك على أنه كان يوضع تارة عند أسطوانة التوبة، وتارة عند أسطوانة السرير(1)، أو أن السرير كان يوضع عند أسطوانة التوبة قبل توسيع المسجد، ولما زيد في مسجده - صلى الله عليه وسلم - نقل إلى هذا المحل(2)، أو يقال: إن السرير كان يوضع بين الأسطوانتين، فمن قال كان يوضع عند أسطوانة السرير فقد صدق، ومن قال كان يوضع عند أسطوانة التوبة فقد صدق(3).
وتعرف كذلك بأسطوانة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (4).
وتقع خلف أسطوانة التوبة من جهة الشمال،(5) وكانت مقابل الخوخة التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج منها إذا كان في بيت عائشة رضي الله عنها إلى الرَّوضة للصلاة(6).
وسمِّيت بذلك لما روى يحيى قال: حدثنا موسى بن سلمة قال: سألت جعفر بن عبيد الله بن الحسين عن أسطوان علي بن أبي طالب فقال: إن
هذه المحرس، كان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يجلس في صفحتها التي تلي القبر مما يلي باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحرس النبي - صلى الله عليه وسلم - (7).
تقع هذه الأسطوانة خلف أسطوانة الحرس من جهة الشّمال، وهي آخر أسطوانات الرَّوضة الشريفة مما يلي الصَّحن، مكتوب عليها «هذه أسطوانة الوفود»(8).
__________
(1) وفاء الوفا 2/184.
(2) خلاصة الوفا ص 65، نزهة الناظرين ص 61.
(3) المسجد النبوي عبر التاريخ لمحمد السيد الوكيل ص 54.
(4) الدرة الثمينة ص 170، وفاء الوفا 2/184.
(5) المغانم المطابة 1/402، وفاء الوفا 2/185، نزهة الناظرين ص 61.
(6) التعريف ص 92، المغانم المطابة 1/402، وفاء الوفا 2/185.
(7) المغانم المطابة 1/402، وفاء الوفا 2/184
(8) وفاء الوفا 2/449، تاريخ المسجد النبوي ص131-132، عمارة المسجد النبوي للشهري ص 63.(1/36)
وسمِّيت بذلك لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجلس إليها لوفود العرب إذا جاءته(1).
وتعرف كذلك بمجلس القلادة، لأنه كان يجلس إليها سروات الصحابة وأفاضلهم رضي الله عنهم(2).
وبناء على ما تقدم يتضح لنا أن أسطوانة المحرس تقع خلف أسطوانة التوبة مباشرة من الجهة الشمالية، وخلفها أيضاً أسطوانة الوفود؛ بينما نجد أن اسمي هاتين الأسطوانتين قد كتبا على الأسطوانتين الموازيتين لهما من الشرق وقد أوضح البرزنجي في نزهة الناظرين،(3) أن ذلك جاء عن طريق الخطأ، ويرجح أن هذا الخطأ حدثت في المائة العاشرة أيام السلطان سليم حين أمر بترخيم أساطين المسجد الشريف، ولعلّ الغلط – كما يقول البرزنجي-نشأ عن ما ذهب إليه ابن فرحون من أن أسطوانة التوبة هي اللاصقة بالشباك، ومن المعلوم أن أسطوانة المحرس والوفود تقعان خلف أسطوانة التوبة من جهة الشمال، فكتبوا على الأسطوانتين اللاصقتين بالشباك خلفها ما ذكر ظناً منهم صحة ما قاله ابن فرحون، وقد حاول البرزنجي في العمارة المجيدية التي حدثت سنة 1277هـ إقناع المسئولين تحديد الموقع الصحيح لهما، إلاّ أن رأيه المدَّعم بالأدلّة والبراهين لم يجد قبولاً لدى المسئولين عن عمارة الحرم رغم اقتناع الكثيرين من أهل المدينة آنذاك بصحة رأيه(4).
وتعرف أيضاً بأسطوانة مقام جبريل عليه السلام(5).
وتقع في حائز عمر بن عبد العزيز عند منحرف الصفحة الغربية منه إلى جهة الشّمال في صفّ أسطوانة الوفود، بينهما الأسطوانة اللاَّصقة بالشباك داخل المقصورة التي شرقي أسطوانة الوفود(6).
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) المصادر السابقة.
(3) انظر: نزهة الناظرين 162-164، وقد نقله عنه أيوب صبري باشا في كتابه موسوعة مرآة الحرمين الشريفين 3/237-238.
(4) عمارة المسجد النبوي للشهري ص 63 – 64.
(5) وفاء الوفا 2/186.
(6) وفاء الوفا 2/186.(1/37)
وهذه الأسطوانة حجبها المشبك الخارجي الذي أحيط بالحجرة الشريفة في عهد قايتباي سنة 887هـ(1).
أسند ابن زبالة ويحيى عن سليمان بن سالم عن مسلم بن أبي مريم وغيره: كان باب بيت فاطمة بنت رسول - صلى الله عليه وسلم - في المربَّعة التي في القبر، قال سليمان: قال لي مسلم: لا تنس حظَّك من الصَّلاة إليها؛ فإنها باب فاطمة رضي الله عنها الذي كان علي - رضي الله عنه - يدخل عليها منه(2).
وأسند يحيى عن أبي الحمراء - رضي الله عنه - قال: (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأْتِي بَابَ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَيَقُولُ ژ ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ژ (الأحزاب: 33).
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَمُرُّ بِبَابِ فَاطِمَةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ إِذَا خَرَجَ إِلَى صَلاةِ الْفَجْرِ يَقُولُ الصَّلاةَ يَا أَهْلَ الْبَيْتِ ژ ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ژ (3).
-
__________
(1) وفاء الوفا 2/178، عمارة المسجد النبوي للشهري ص 66.
(2) أخبار المدينة لابن زبالة ص 103، وفاء الوفا 2/186.
(3) رواه الترمذي 5/352، رقم: 3206، وقال: حسن غريب من هذا الوجه/ باب ومن سورة الأحزاب، وأحمد في المسند 3/285، رقم: 14072، وابن أبي شيبة في المصنف 6/388، رقم: 32272، والطبراني في المعجم الكبير 3/56، رقم: 2671.(1/38)