بسم الله الرحمن الرحيم
كتبه :د. طارق الطواري
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين …
تعريف الرضاع :
الرضاع في اللغة :جاء في المقاييس-الداء والضاد والعين أصل واحد، وهو شرب اللبن من الضرع أو الثدي تقول رضع المولود يرضع ويقال امرأة مرضع إذا كان لها ولد ترضعه، وفي كتب الفقه أن الرضاع لغة اسم لمص الثدي وشرب لبنه .
وفي الاصطلاح :وصول اللبن إلى الجوف سواء كان هذا عن طريق الفم ويسمى الوجور أو عن طريق الأنف ويسمى سعوط أو بالمص وذلك في الحولين .
وقد عرفه ابن حزم في المحلى : بأنه ما امتصه الراضع من ثدي المرضعة بفمه فقط، فأما من سقى لبن امرأة، فشربه في إناء ،أو حلب في فمه فبلعه أو أطعمه مع خبز وطعام أو صب في فمه أو في أنفه أو أذنه أو حقن به فكل ذلك لا يحرم شيئاً .
فهذا التعريف مردود لأن الأصل من الرضاع هو حصول الغذاء و إنبات اللحم وإنشاء العظم وتفتق الأمعاء ويكون ذلك كله بمجرد وصول اللبن إلى الجوف بأي طريقة كانت، فإذا حصل المراد والهدف من الإرضاع حصل التحريم وكل ذلك حاصل بمجرد وصول اللبن للجوف وليس شرط المص فقط .
حكم الإرضاع وعلى من يجب :
اتفق الفقهاء على وجوب إرضاع الطفل ما دام في حاجة إليه ،وفي سن الرضاع صيانة له من الضياع . واختلفوا فيمن يجب عليه الرضاع..
خلاصة رأي الفقهاء :
من المعروف أن حياة الطفل في مرحلة الرضاع الممتدة في سنتين تعتمد اعتماداً كلياً على لبن المرضع فهو قوام حياته ويعتبر إرضاع الطفل إنفاقاً عليه لأنه غذاؤه، والنفقة واجبة في مال الطفل إن كان له مال وإلا فعلى الأب نفقته وعلى ذلك ذهب جمهور الفقهاء على عدم إجبار الأم على الرضاع لقوله تعالى :(1/1)
{ وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } ، إلا إذا تعينت للإرضاع بأن لم يكن غيرها أو وجد من يرضعه ولكن لا يقبل الولد ثديها وسواء تعينت أو لم تتعين فقد أعطاها جمهور الفقهاء الحق في طلب أجره المثل على الوجه الذي سبق بيانه .
الرأي المختار :
والرأي الذي نرجحه ونميل إليه في مسألة إرضاع الأم ولدها،هو خضوعها للعرف والعادة، فإن كانت من قوم جرت عادة بإرضاع نسائهم أولادهم وجب عليها الإرضاع وإن كان الأولى هو الإرضاع لأنه في فتح باب إرضاع غير الأم من انتشار الحرمة بين العديد من الأطفال الذين اختلفوا على ثدي واحد ، ولا يخفى أن الجهل بهذه العلاقة مع مرور الزمن وتفرق الأسر بين البلاد ربما يؤدي إلى نكاح المحارم .
ويستند أيضاً في هذا الموضوع إلى ما ذهب إليه المالكية من أن المرأة إذا كانت شريفة لا تلزم بإرضاع ولدها وإن كانت دنيه ألزمت بالإرضاع ،وتستأنس لذلك أيضاً بعادة العرب وما هو معلوم من عصور الإسلام الأولى من أن الشرفاء كانوا يتخذون ولأولادهم المراضع والآظار من أهل البادية .
ومن المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم استرضع في بادية بني سعد وكانت مرضعته هي حليمة السعدية.
أما من حيث استحقاقها للأجرة فالرأي الذي نختاره وهو عدم استحقاقها إذا كانت في عصمة الأب وهذا أيضاً مذهب الحنفية لأنهم يرون وجوب الإرضاع ديانة على الأم .
وكما قلنا إذا كانت في عصمة الأب أو في عدة رجعية لا تستحق ، لأن اللبن الذي أجراه الله في ثديها إنما هو رزق ساقه الله تعالى لهذا الرضيع،كما أنه من غير المقبول أن تطلب الأم أجراً على الرضاع مع أنها مجبولة على الشفقة على وليدها، وما قد يؤديه طلب الأجرة من إيغار لصدر الزوج على زوجته ونظرته إليها نظرة غير كريمة وما ينتج عن ذلك من سوء للعشرة وتصدع الحياة الزوجية. وهذا إذا لم يلحق بالأم ضرر في صحتها نتيجة للإرضاع وإلا يستلزم زيادة نفقتها .(1/2)
أما الطلاق البائن فقد انفصمت عرى الزوجية بينها وبين زوجها وتقطعت الأسباب بينهما والإرضاع ضرب من النفقة عن حقها في هذه الحالة طلب الأجرة على الإرضاع.
أما الدليل الذي استند إليه الحنفية على عدم استحقاقها إذا كانت في عصمة الزوج وأنه واجب على الأم الإرضاع ديانة قوله تعالى : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } والآية تفيد وجوب الإرضاع على الأم ديانة، مع وجوب رزقها على الأب ،ما دامت في عصمته أو في عدته فهو قائم برزقها خلافاً للبائن .
سبب التحريم بالرضاع :
كان الرضاع سبباً للتحريم لأن جزء المرضعة وهو اللبن صار جزء اً للرضيع باغتذائه به فأشبه ابنها من النسب. والدليل على التحريم :
الكتاب : قوله تعالى : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وإخوانكم من الرضاعة } .
السنة : لقد روى الشيخان وغيرهما عن عمرة بنت عبد الرحمن :أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم كان عندها، وأنها سمعت صوت رجل يستأذن في بيت حفصة ،قالت عائشة :فقلت يا رسول الله ! أراه فلاناً لعم حفصة من الرضاعة ،فقالت عائشة :يا رسول الله هذا رجل يستأذن في بيتك، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"أراه فلاناً " لعم حفصة من الرضاعة ،فقالت عائشة :لو كان فلاناً حيا لعمها من الرضاعة دخل علي ؟ فقال رسول الله صلى الله :"نعم إن الرضاعة يحرم منها ما يحرم من الولادة ".
وفي رواية عن عبد الله بن عباس قال :قال النبي صلى الله عليه وسلم في بنت حمزة (عمارة) : "لا تحل لي، يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، هي ابنة أخي من الرضاعة" .
الإجماع : لقد انعقد الإجماع على التحريم بالرضاع .
شروط المرضع :
1.أن تكون آدمية :فلا تنتشر الحرمة بلبن البهيمة لأن ثبوت هذه الحرمة عن طريق الكرامة واتفق بعض السلف على أنه لو رضع اثنان من لبن بهيمة صارا أخوين. كما لا تنتشر الحرمة بلبن الرجل لأنه لا يحصل به غذاء ولا ينبت اللحم ولا ينشز العظم .(1/3)
2.أن تكون حية أو ميتة عند الحنفية والمالكية .فلو حلب لبن امرأة ميتة في قدح فأوجر به صبي فإنه يحرم واستدلوا بأن الرضاعة من المجاعة ،وذهب الشافعية بشرط أن تكون حية حياة مستقرة فلبن الميتة عندهم لا يحرم لأنه من لبن جثة منفكة عن الحل والحرمة كالبهيمة .
3.يستوي أن تكون المرأة متزوجة أو بكراً :فلبن البكر يتعلق به التحريم لإطلاق النص ولأنه سبب النشوء.(هذا عند الحنفية والمالكية والأصح عند الشافعية والأظهر عند الحنابلة) وذكر ابن تيمية أن ظاهر مذهب أحمد أن البكر لا تنشر الحرمة بلبنها إلا أنه واشترط الشافعية أن تكون بلغت تسع سنين .
الرأي المختار :
وهو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أنه يشترط في المرضع أن تكون أنثى آدمية لقوة ما أورده الفقهاء من الأدلة ولا عبرة بقول من قال إن لبن البهيمة والرجل يحرم لأن لبن المرأة ثبتت حرمته بطريق الكرامة ولبن الرجل نادر وإن حصل لا يحصل به غذاء كما إننا مع رأي الجمهور في انتشار الحرمة بلبن المرأة الحية والميتة على السواء لإطلاق النصوص أولاً في التحريم وثانياً لأن اللبن لا يموت ولا ينجس بالموت .
ولكن نخالف رأي الجمهور في أن لبن البكر يحرم ،فهم استدلوا بإطلاق النصوص وبأن ألبان النساء خلقت لغذاء الأطفال وأما نحن فنقول أن الله سبحانه وتعالى أجرى اللبن في ثدي المرأة بعد الولادة من أجل غذاء الطفل فهو رزق ساقه الله تعالى إليه عن طريق الثدي ومن الندرة أن يجري هذا اللبن في ثدي البكر ، لأنه لا حاجة إليه [ولا حكم للنادر] لذلك نرى أنه لا ينشر الحرمة إن وجد .ورد على دليلهم أن إطلاق النصوص دليل لنا حيث إنها لبيان الواقع والغالب .
شروط الرضيع :
خلاصة المذاهب:(1/4)
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الرضاع المحرم هو ما كان في حال الصغر، إذ هو الذي يرفع الجوع ،فأما جوع الكبير فلا يندفع بالرضاع، لأن إرضاعه لا ينبت اللحم ولا ينشز العظم ،ولا يفتق الأمعاء ،ورضاع الصغير هو الذي يفتق الأمعاء لا الكبير لأنها ضيقة، فلا يفتقها إلا اللبن ما لكونه ألطف الأغذية وأما الكبير فأمعاؤه متفتقة لا تحتاج للبن لفتقها .
والحد الفاصل بين الاثنين في حكم الرضاع المحرم هو مدة الرضاع ، ولقد اختلفت آراء الفقهاء ومذاهبهم في ذلك واتجاهاتهم على الوجه الآتي :
1)أصحاب القول الأول :
ذهبوا إلى أن مدة الرضاع المحرم حولان كاملان (وهذا قول أكثر العلماء) وكثير من الصحابة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم عدا عائشة رضي الله عنها واستدلوا بقوله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } فقد جعل الله تعالى مدة الرضاعة حولين كاملين وليس وراء التمام شيء .واستدلوا بقوله تعالى : { وفصاله في عامين } وقوله عز وجل: { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } فأقل مدة الحمل ستة أشهر ،فبقى مدة الفصال حولين .
2)أصحاب القول الثاني :
ذهب أبو حنيفة إلى أن مدة الرضاع المحرم ثلاثون شهراً، ولا يحرم بعد ذلك واستدلوا بقوله عز وجل:
{ وأمهاتهم اللاتي أرضعنكم وإخوانكم من الرضاعة } ، وجه الاستدلال :
أنه أثبت الحرمة بالرضاع مطلقاً دون التعرض لزمان الرضاع إلا أنه قام الدليل على أن الزمان ما بعد ثلاثين شهراً غير مراد ،فيعمل بإطلاقه فيما وراءه ،واستدلوا أيضاً بقوله تعالى : { فإن أراد فصالاً عن تراض منهما وتشاور } .
والاستدلال من وجهين :
أحدهما :أنه أثبت لهما الفصال بعد الحولين لأن الفاء للتعقيب فيقتضي بقاء الرضاع بعد الحولين ليتحقق الفصال بعدهما .(1/5)
والثاني :أنه أثبت لهما إرادة الفصال مطلقاً عن الوقت ،ولا يكون الفصال إلا عن الرضاع.فدل على بقاء حكم الرضاع موجب الحرمة لكونه منبتاً للحم ومنشزاً للعظم على ما نطق به الحديث فمن المحال أن بكون هذا حاله في الحولين ولا ينبت بعدهما بساعة لطيفة ،لأن الله تعالى ما أجرى العادة بتغير الغذاء إلا بعد مدة معتبرة ،والمرأة قد تلد في الحر الشديد أو في البرد الشديد، فإذا تم للصبي سنتان لا تؤمر المرأة بفطامه لأنه يخاف منه الهلاك على الولد إذ لم يعود بغيره من الطعام ،فلا بد أن تؤمر بالرضاع ،ومحال أن تؤمر بالرضاع وتحرم عليها الرضاع في وقت واحد ،فدل ذلك على أن الرضاع بعد الحولين يكون رضاعاً وقدر بستة أشهر لأن أقل مدة تغير الولد ،فإن الولد يبقى في بطن أمه ستة أشهر يتغذى بغذائها ثم ينفصل فيصير أصلاً في الغذاء .
3)أصحاب القول الثالث :
وهؤلاء ذهبوا إلى أن المدة المحرمة هي ثلاث سنين واستدلوا بما استدل به أبو حنيفة في امتداد الرضاع المحرم بعد الحولين إلا أن زمز اعتبر مدة إبقاء حكم الرضاع بعد الحولين سنة كاملة ،لأنه لما ثبت حكم الرضاع في امتداد السنة الثالثة فإنه يثبت في بقيتها كالسنة الأولى والثانية .وزيادة سنة بعد الحولين حسن للتحول من حال إلى حال .
4)أصحاب القول الرابع :
ذهبوا إلى أن مدة الرضاع المحرم هي ما كان قبل الفطام فإذا فطم لسنة أو ستة أشهر فما رضع بعده لا يكون رضاعاً ،ولو أرضع ثلاث سنوات لم يفطم كان رضاعاً وهو قول الأوزاعي .
5)القول الخامس :
أن مدة الرضاع المحرم سبع سنين قال الشوكاني روى ذلك عن عمر بن عبد العزيز .
6)القول السادس :
أن مدة الرضاع المحرم حولان واثنا عشر يوماً قال الشوكاني روى ذلك عن ربيعة .
7)القول السابع :
إن الرضاع يعتبر في الصغر، إلا فيما دعت إليه الحاجة كرضاع الكبير الذي لا يستغني عن دخوله على المرأة ويشق احتجابها منه وإليه ذهب ابن تيمية وهذا هو الراجح عندي .(1/6)
الحكم عند الفقهاء فيما إذا فطم الرضيع في المدة المحددة للرضاع ثم عاد إلى الرضاع
في نفس المدة فبيانه كالآتي :
*اعتبر الحنابلة والحنفية أن العبرة بمدة الرضاع ،سواء فطم أو لم يفطم ،فلو فطم قبل تمام المدة ثم عاد إلى الرضاع في نفس المدة ثبت التحريم ولو لم يفطم حتى تجاوز المدة ثم رضع بعدها قبل الفطام ولا يثبت التحريم .
*وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة أنه إن فطم في المدة ثم عاد فلا يعتبر رضاعاً وهو قول المالكية لكنهم قيدوه بطول المدة فقالوا :إن كان العود بعد مدة بعيدة فلا يعتبر رضاعاً وإن كان العود لمدة قريبة فقولان المشهور وهو مذهب المدونة أن الرضاع الذي حدث بعد هذه المدة القريبة لا تحرم .
*والقول الثاني لمطرف وابن الماجشون وأصبغ أن الرضاع يحرم إلى تمام الحولين ويلغى الاستفتاء فيها .
الرأي المختار (في جميع ما سبق ) :
والذي نرجحه ونميل إليه في مدة الرضاع هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء وأكثر أهل العلم من تحديده بحولين كاملين استناداً إلى الأدلة المذكورة عندهم .ولما يرويه الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها، وعندها رجل فكأنه تغير وجهه، كأنه كره ذلك ،فقالت :إنه أخي ،فقال:"انظرن ما إخوانكم ،فإنما الرضاعة من المجاعة". وعن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا رضاع إلا ما كان في الحولين" ،وأيضاً عند الدار قطني عن عمر:(لا رضاع إلا في الحولين في الصغر) قال ابن حجر ويحتج له بحديث فاطمة بنت المنذر ،عن أم سلمة قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي،وكان قبل الفطام" ،قال الترمذي حسن صحيح وأخرج الطبراني عن ابن عباس: أن الحولين لغاية الإرضاع،وأن لا رضاع بعدهما .(1/7)
أما الفطام في مدة الرضاع ثم العودة إليه ثانية في أثنائها فنرجح رأي المالكية القائل أنه إذا استغنى عن اللبن واكتفى بغيره من الأطعمة أثناء الحولين مدة طويلة ثم عاد للرضاع فلا عبرة ولا أثر له في التحريم لأن اللبن قبل الفطام هو قوام حياته والمؤثر الوحيد في تنشئته وتكوينه ومن ثم كان محرماً، فإذا استغنى عن اللبن بأطعمة أخرى لمدة طويلة فإن اللبن الذي يعود له يصبح هو وغيره من الأطعمة سواء في تغذيته ولا يكون هو المؤثر الوحيد في تكوينه فيصبح كالكبير الذي يشرب اللبن يتغذى به مع سائر الأطعمة الأخرى ،لذا فإنه لا أثر له في التحريم .
رضاع الكبير :
الحكم في رضاع الكبير: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الرضاع المحرم ما كان في حال الصغر وأن الرضاع في حال الكبير لا يحرم وقال بهذا جمع من الصحابة كعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس وأبو هريرة وسائر أمهات المؤمنين ،غير عائشة رضي الله عنها،وعنهم جميعاً . وجمهور من التابعين وفقهاء الأمصار .كالثوري ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم وإسحاق …إلخ .
وذهب جماعة إلى أن الرضاع يحرم أبداً في الصغر والكبر وكانت عائشة رضي الله عنها ترى رضاع الكبير تحرم وذلك للإطلاقات الدالة على التحريم كقوله تعالى : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وإخوانكم من الرضاعة } .(1/8)
وكانت عائشة رضي الله عنها إذا أرادت أن يدخل عليها أحد من الرجال أمرت أختها أم كلثوم بنت أبي بكر رضي الله عنهما، أو بعض بنات أختها أن ترضعنه خمساً. وقال ابن تيمية :ذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن إرضاع الكبير يحرم، واستدل القائلون بتحريم رضاع الكبير بما رواه مسلم وغيره عن حميد بن نافع عن زينب بنت أم سلمة قالت :قالت أم سلمة لعائشة: إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي،قال:فقالت عائشة:أما لك في رسول الله أسوة ؟ قالت: إن امرأة أبي حذيفة قالت :يا رسول الله ! إن سالم يدخل علي وهو رجل وفي نفس أبي حذيفة منه شيء ،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أرضعيه حتى يدخل عليك" .
وكانت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقول: أبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يُدخلن عليهن أحداً بتلك الرضاعة.وقلن لعائشة :والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لسالم خاصة.فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة،ولا رائينا .(1/9)
وفي رواية لمالك عن ابن شهاب ،أنه سئل عن رضاعة الكبير ؟ فقال أخبرني عروة بن الزبير ،أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد شهد بدراً ،وكان تبنى سالم الذي يقال له سالم مولى أبي حذيفة .كما تبنى النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ،وأنكح أبو حذيفة سالماً،وهو يرى أنه لبنه، أنكحه بنت أخيه فاطمة بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة وهي يومئذ من المهاجرات الأول .وهي من أفضل أيام قريش فلما أنزل الله تعالى في كتابه في زيد بن حارثة ما أنزل ، فقال: { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم } رد كل واحد من أولئك إلى أبيه ،فإن لم يعلم أبوه رد إلى مولاه ،فجاءت سهلة بنت سهيل وهي امرأة أبي حذيفة وهي من بني عامر بن لؤي ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت :يا رسول الله كنا نوى سالم ولداً، وكان يدخل علي وأنا فضل وليس لنا إلا بيت واحد فماذا ترى في شأنه ؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه سلم :"أرضعيه خمس رضعات" .
المراد بإرضاع الكبير :
استشكل أمره عليه الصلاة والسلام لزوجة أبى حذيفة بإرضاع سالم لما فيه من التقاء البشرتين وهو محرم قبل أن يستكمل الرضاع المعتبر، وتصير محرماً له.
قال عياض: ولعلها حلبته، ثم شر به من غير أن يمس ثديها ولا التقت بشرتهما.
قال النووي: وهذا الذي قاله القاضي حسن، ويحتمل أنه عفى عن مسه للحاجة، كما خص بالرضاعة مع الكبر.
وجعل أبو العباس القرطبي ذلك دليلاً على الاختصاص به، لأن القاعدة تحريم الاطلاع على العورة، ولا يختلف في أن ثدي المرأة عورة لا يجوز الإطلاع عليه،(1/10)
وعن ابن جريح، قال: سمعت عطاء يسأل: قال له رجل: سقتني امرأة من لبنها، بعدما كنت كبيراً، أفانكحها؟ قال: لا . قلت: وذلك رأيك. قال: نعم. قال عطاء: كانت عائشة تأمر به بنات أخيها وقال ابن عبدالبر: هكذا إرضاع الكبير، يحلب له اللبن ويسقاه، وأما أن تلقمه المرأة ثديها كما تصنع بالطفل فلا. لأن ذلك لا يحل عنه جماعة من المسلمين. (وقد أجمع فقهاء الأمصار على التحريم بما يشرب به الغلام الرضيع من لبن المرأة، وإن لم يمصه من ثديها).
أقوال الجمهور في حديث سالم
1 ) أنه منسوخ :
قرره بعضهم بأن قصة سالم كانت في أوائل الهجرة، والأحاديث الدالة على اعتبار الحولين من رواية أحداث الصحابة فدل على تأخيرها، أما ابن حجر فخالف وقال، إذ لا يلزم من تأخر إسلام الراوي ولا صغره أن لا يكون ما رواه متقدماً، وأيضاً في سياق القصة ما يشعر بسبق الحكم، باعتبار الحولين حيث قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أرضعيه قالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير؟ فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم: "قد علمت أنه رجل كبير". وفي رواية أنها قالت: إنه ذو لحية. فقال: أرضعيه (وهذا يشعر بأنها كانت تعرف أن الصغر معتبر في الرضاع المحرم).
نقول: صحيح أنه لا يلزم من هذا ذلك ولكنه قرينة ترجح قول الجمهور وأما قوله عن سياق القصة (باعتبار الحولين) حكم مسبوق. فلماذا لا يكون لأنه رجل لا يحل له أن ترضعه ولا أن يمس ثديها؟ لذلك يقال حلبته وشربه.
2 - دعوى الخصوصية بسالم وامرأة أبي حنيفة:(1/11)
الأصل فيها قول أم سلمة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم.. ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها النبي صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة. حيث أنه لما نزلت آية الاحتجاب ومنعوا التبني شق ذلك عليها فرفعت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. ولابن حجر نظر في ذلك حيث يرى أنها عامت وهو الحاق ما يساوي فعله من المشقة والاحتجاج بها فتنفي الخصوصية.. فنقول أنه كانت تلك خصوصية وواقعة عين فلا يلزم الحاق ما يساويها بها.
3 - قول سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم :
أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أبين أن يدخلن أحداً بتلك الرضاعة، وقلن لعائشة: والله. لا ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة. فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة. ولا دانياً. وعلى ذلك فهو مذهب عائشة رضي الله عنها وحدها.
الرأي الراجح (المختار)
ونرجح رأي الجمهور بأن الرضاع المحرم ما كان في الصغر لقوة أدلتهم، أما القائلون بتحريم رضاع الكبير فليس لهم دليل سوى حديث سالم مولى أبي حنيفة ونذكر قول الكاساني في ذلك حيث قال: أما حديث سالم فالجواب عن التعلق به.
أحدهما : -
يحتمل أنه كان مخصوصاً بذلك، يدل عليه ما روى عن سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني :
أن رضاع الكبير كان محرماً ثم صار منسوخاً، لما روينا من الأخبار وأما عمل عائشة رضي الله عنها، فقد روي عنها ما يدل على رجوعها حيث قالت: لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم والدم). على أن عملها معارض بعمل سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم والمعارض لا يكون حجة.(1/12)
ذكر ابن عبدالبر حديث عائشة في قصة سالم وعملها بهذا الحديث. أن القاسم بن محمد بن أبي بكر أخبر أن عائشة أخبرته أن سهلة بنت سهيل بن عمرو جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن سالماً معنا في بيتنا وقد بلغ مما بلغ الرجال، وعلم ما يعلم الرجال قال: "أرضعيه تحرمي عليه" قال: أمكثت سنة، أو قريباً منها لا أحدث به، وهبته (من الأجلال) ثم لقب القاسم فقلت له: لقد حدثتني حديثاً ما حدثته بعد قال، فما هو؟ فأخبره، قال محدثه عني أن عائشة أخبرتنيه.
وقال بن عبدالبر: هذا يدلك على أنه حديث ترك قديماً، ولم يعمل به، ولم يتلقه الجمهور بالقبول على عمومه بل على خصوصه. وهذا الحديث أخذت به عائشة رضي الله عنها مع أنها روت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الرضاعة من المجاعة" وابن تيمية مع الجمهور في أن الأصل عنده في انتشار الحرمة إنما هو بالرضاعة في الصغر لكنه يرى أن رضاع الكبير يحرم إذا كانت هناك حاجة إلى ذلك، ونحن لسنا مع ابن متيمية في ذلك. لأن هذا يفتح باب شعر أكثر مما قد يكون فيه من نفع، إذ قد يتخذه بعض الأشرار حيلة للدخول على الأجنبيات. ونحن نرى ما ذهب إليه الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء من أن الرضاع المحرم هو ما كان في الصغر وهو الأرجح لقوة أدلتهم. وأما ما ذهبت إليه عائشة برضاع الكبير فإن الحديث إما خاص بسالم أو منسوخ.
س 5 : اذكر المحرمات من الرضاع وبما يثبت الرضاع والنتائج والتعليمات والوصايا في الرضاع المحرمات بالرضاع.
أولاً : المحرمات بالنسبة للرضيع :
الأصل فيه أنه جاء في القرآن بعد ذكر المحرمات بالنسب قوله تعالى: "حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة".(1/13)
فقد ذكر الله سبحانه وتعالى المحرمات فذكر الأمهات والأخوات، أما سائر المحرمات فقد ثبت فيهن بالنسبة: عن عمرة بن عبدالرحمن أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرتها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عندها، وأنها سمعت صوت رجل يستأذن في بيت حفصة، فقالت عائشة: فقلت: يا رسول الله أراه فلاناً، لعم حفصة من الرضاعة، فقالت عائشة: يا رسول الله، هذا رجل يستأذن في بيتك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرى فلاناً" لعم حفصة من الرضاعة. فقالت عائشة لو كان فلاناً حياً لعمها من الرضاعة – دخل علي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نعم إن الرضاعة يحرم منها ما يحرم من الولادة".
وعن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في بنت حمزة: "لا تحل لي، يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، هي ابنة أخي من الرضاعة".
فكل امرأة حرمت من نسب حرمت من الرضاع وهن: الأمهات/البنات/الأخوات/العمات والخالات/ وبنات الأخ/ وبنات الأخت.
(فتحرم المرضعة على الرضيع لأنها أمه وآباؤها وأمهاتها في النسب أو الرضاع أجداده وجداته، فإذا كان أنثى حرم على الأجداد نكاحها أو ذكراً حرم عليه نكاح الجدات وفروعها كفروع النسب) فكل أقارب المرضعة أقارب للمرتضع من الرضاعة. (أولادها أخوته، وأولاد أولادها أولاد أخوته وأباؤها وأمهاتها أجداده وجداته وأخوتها وأخواتها، أخواله وخالاته. وكل هؤلاء حرام عليه سواء كن من صاحب اللبن، أو من غيره وسواء من تقدمت ولاته عدله تأخرت).
ولو أرضعت امرأة صغيرة من أولاد الأجانب صارا أخوين، فلا تجوز المناكحة بينهما والقاعدة تقول: (إن كل اثنين اجتمعا على ثدي واحد صارا أخوين أو أختين، أو أخاً وأختاً من الرضاعة فلا يجوز لأحدهما أن يتزوج بالآخر، ولا بولده كما في النسب).
ثانياً : المحرمات بالنسبة للمرضعة :(1/14)
يحرم على المرضعة الرضيع وأولاده بأن ******، سواء أكانوا من النسب أم من الرضاع لأنها أم الرضريع وجدة لأولاده ولا تحرم على أصوله وحواشيه فلا نية أو أخيه نكاح المرضعة وبناتها، فالرضيع لا ينشر الحرمة مع أصوله ولا حواشيه".
ثالثاً : المحرمات بالنسبة للفحل صاحب اللبن :
يتعلق تحريم النكاح بلبن الفحل، وهو اللبن الذي نزل من المرأة بسبب ولادتها من رجل - زوج أو سيد – هذا اللبن يتعلق به التحريم بين من أرضعته وبين ذلك الرجل بأن يكون أباً للرضيع من جانب الزوج للمرضعة التي نزل لها منه لبن ثابتة، عند عامة العلماء.
حرمت المصاهرة المتعلقة
بالرضاع (وهن أربعة)
1 - أم الزوجة فإن علت (وأمهات نسائكم).
2 - بنت الزوجة وإن سفلت، وهي الربيبة (وربائبكم اللاتي في جحوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن).
3 - زوجة الابن بأن سفلت (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم).
4 - زوجة الأب وإن علا (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف).
الرأي المختار
نرى ثبوت التحريم بابن الفحل لحديث عائشة قالت: أستأذن علي أفلح أخو بني القعيس بعدما أنزل الحجاب فقلت. لا آذن له، حتى استأذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أخاه أبا القعيس ليس هو أرضعني، ولكني أرضعتني امرأة أبي القعيس، فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: "يا رسول الله ! أن أفلح أخا بني القعيس أستأذنا فأبيت أن آذن له، حتى استأذنك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "وما منعك أن تأذنين؟ عمك" قلت: يا رسول الله إن الرجل ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني أم القعيس، فقال: "ائذني له، فإنه عمك، تربت يمينك".
بما يثبت به الرضاع بين الزوجين؟
الخلاصة(1/15)
اتفق الفقهاء على أنه لو تصادق الزوجان على حصول الرضاع بينهما ثبت التحريم وانفسح عقد النكاح ويفرق بينهما. كذلك إذا أقر الزوج بالرضاع بينه وبين زوجته فيفرق بينهما سواء صدقته الزوجة أم كذبته، لأنه أقر ببطلان ما يملك إبطاله للحال فيصدق فيها على نفسه أما إذا أقرت الزوجة على الرضاع وأنكر الزوج فلا نية في النكاح لاتهامها بالكذب تحيلاً علت فراقه. إلا أن الشافعية قالوا يصدق الزوج بيمينه فإذا حلف استمر الزوجين بينهما ظاهراً وعليها منع نفسها منه ما أمكنها إن كانت صادقة إن كانت زوجة برضاها، وإن كانت زوجة بغير رضاها فالأصح تصديقها بيمينها. هذا بالنسبة للإقرار، أما بالنسبة لثبوته بالشهادة فاتجاهات المذاهب فيه على النحو التالي:
1 - لا تقبل فيه شهادة النساء منفردات، وإنما يقبل فيه شهادة رجلين أو رجل وامرأتين قالوا: لأن هذا ما يطلق عليه الرجال وهو (ما ذهب إليه الحنفية) وإنه قالوا: لو شهدت امرأة على الرضاع فالأفضل للزوج فراقها.
2 - يقبل فيه شهادة رجلين أو رجل وامرأتين.
3 - تقبل شهادة الرجل والمرأة، أو المرأتان مع اشتراط فشو الرضاع بين الناس قبل العقد. (المالكية).
4 - يثبت بشهادة أربع نسوة (الشافعية).
5 - يثبت بشهادة امرأة واحدة (الحنابلة).
6 - يثبت بشهادة امرأتين (في رواية عند الحنابلة) ومع المالكية بشرط فشو الرضاع.
الخاتمة
1 - رد قول القائلين بإطلاق أن الرضاع في قوله تعالى: "وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم" وما بني على الإطلاق من القول بحرمة قليل الرضاع وكثيرة حتى أنه يثبت بالمصة الواحدة لأنه يعوزه الدليل.
2 - رد القول بحرمه رضاع الكبير وأن الحديث عن سالم أما منسوخ أو خاص به.
3 - القول الذي ترجحه وتختاره هو خمس رضعات.
4 - الرضاع الذي ثبت به الحرمة هو ما يتحقق وصول اللبن إلى الجوف سواء كان عن طريق الرضاع بواسطة التقام الثدي أو امتصاص اللبن أو بالوجور أو بالسقوط على التفصيل السابق.
النصائح(1/16)
أولاً : توعية العامة بأحكام الرضاع وما يترتب عليها من أحكام وهو واجب العلماء.
ثانياً : توعية الزوجات بعدم الإرضاع إلا لضرورة ملحة وهو واجب الأزواج.
ثالثاً : إشهار الرضاع وإعلامه وهو واجب الأسرتين تلافياً لزواج المحارم.
رابعاً : ندعو لتقارب المحدثين والتقائهم لأنهم أهل دراية ورواية وفي هذا مصلحة للعامة ودور الفقهاء وباستنباط الأحكام. فالمحدثين صيادلة وفقهاء، أطباء.(1/17)