الرسالة الأولى: شمول الاجتهاد في الدين.
الرسالة الثانية: شمول العقيدة.
الرسالة الثالثة: شمول العبادة.
الرسالة الرابعة: شمول معالم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة.
الرسالة الخامسة: شمول السلفية.
الرسالة السادسة: شمول الإسلام للأديان السماوية.(1/1)
شمول الاجتهاد في الدين
فإن من أعظم الأمور التي فرقت المسلمين إلى شيع وأحزاب اختلاف بعض أهل العلم في أمور العقيدة، ثم ما ترتب على ذلك من انتقادات واتهامات وبراءة أحيانًا!! فقد حكم بعض العلماء على مخالفيهم بالابتداع والضلال والفسق وأحيانًا بالكفر، وامتُحن بعضهم فحصل له شيء من الأذى.
وهذه الأحكام التي ترتبت على الخلاف العقدي كانت من أبرز الأسباب التي حالت دون اجتماع جماعة المسلمين؛ وذلك لأن عامة المسلمين وطلاب العلم وأساتذته بمختلف أنواعه تبع لعلماء الدين، فإذا كان علماء الدين يطعن بعضهم ببعض في العقيدة؛ فكيف يجتمعون؟! وإذا لم يجتمعوا فكيف يجتمع سائر المسلمين؟!
أما الخلاف ذاته بين العلماء فقد وجد بين الصحابة ن في الأمور العلمية كالعقائد، والأمور العملية كالفقه، وإن كان قليلاً في أمور العقيدة؛ كخلافهم في رؤية رسول الله ج ربه في الدنيا، وهل يعذَّب الميت ببكاء أهله عليه أم لا؟ ولكن لم يكن له أثر في إضعافهم وتفريق كلمتهم ؛ وذلك لأنه لم يترتب على ذلك حكمهم على بعض بالبدعة والضلال والفسوق والكفر.
ولقد دفعني ذلك إلى نشر هذه الرسالة؛ لعل ذلك يخفف من المعركة المحتدمة بين طلاب العلم، وخاصة الدعاة إلى الله تعالى الذين تنتظر الأمة خلاصها على أيديهم من هذا الوضع المتردي الذي نعيش فيه، بل لعل ما تحتوي عليه هذه الرسالة من محاولة الإصلاح يكون سببًا في تآلف القلوب وجمع الشمل، وتوحيد الصف نحو جهاد الأعداء.
المؤلف
شمول العقيدة
إن مما جرى التعارف عليه في الأوساط العلمية الدينية حصر مفهوم لفظ (العقيدة) بمضامين محددة تدور عليها المباحث الاعتقادية، مع الاهتمام والتوسع في الأمور الخلافية في هذه المباحث.
ولما كان لفظ (العقيدة) يشمل كل ما يتعلق باعتقاد القلب من أمور الدين وإن كان ظاهره ليس من أمور العقيدة كان من المهم بيان شمول العقيدة لكل متعلقاتها.(2/1)
وقد قمت في هذه الرسالة بالإسهام في بيان هذا الموضوع حسب اجتهادي في فهم النصوص الشرعية، وما هذا الذي قمت به إلا فتح باب في هذا الموضوع المهم الذي يحتاج من العلماء إلى مزيد من الاهتمام والبحث.
المؤلف
شمول العبادة
إن موضوع شمول العبادة لجميع أمور الدين من القضايا التي بينها الله سبحانه وتعالى بقوله ? - الله ? الله ? ? - صدق الله العظيم ? - ? الله أكبر الله - الله الله ?- جل جلاله - - - ? - - ? } ? - - تمهيد ? - - الله ? - بسم الله الرحمن الرحيم - درهم تمهيد - - - جل جلاله -?? - - - - الله أكبر صدق الله العظيم ? الله - - جل جلاله -? } - تمهيد { } فإن هذه الآية تبين أن الهدف والغاية من خلق الجن والإنس أن يقوموا بعبادة الله تعالى وحده، وإذا كان الأمر كذلك؛ فإنه يلزم عليه أن تكون العبادة شاملة للدين كله، لأن تفسير العبادة ببعض تكاليف هذا الدين يجعل الغاية من خلق الثقلين منوطة بها دون التكاليف الأخرى، وقد يترتب على هذا الخطأ في الفهم تعطيل لبعض أمور الدين.
فمن أجل إزالة هذا الخطأ في الفهم ومن أجل بسط مدلول الآية حاولت في هذا البحث الموجز أن أشارك في توضيح المعنى الشامل للعبادة وإزالة الشبهة الناتجة من حصر معنى العبادة في مفاهيم محددة.
ومع تطاول الزمن وتقلص وجود العلماء الربانيين سادت في المجتمع الإسلامي مفاهيم غريبة تقصر الإسلام على بعض تكاليفه وتشريعاته، وتَوارَث المسلمون هذا القصور في الفهم، ولقد ورث أبناء الجيل المعاصر هذه المناهج المنحرفة فأصبح شباب الصحوة الإسلامية يجدون عنتاً شديداً في شرح بعض مفاهيم الإسلام التي غابت عن بعض المسلمين ويُواجَهون بانتقادات عنيفة ممن يعيشون معهم من أسرهم والمحيطين بهم من الذين يفهمون الدين فهماً قاصراً.
وهذا الفهم القاصر من الأسباب التي أدت إلى الأخذ بنوع من العلمانية وذلك بفهم الإسلام على أنه نسك وعبادة فقط لا على أنه شامل لنظام الحياة.
المؤلف(2/2)
شمول معالم الفرقة الناجية
إن أفراد أمة الإجابة إلى الدين الإسلامي يتفاوتون في درجة الالتزام بهذا الدين والاستقامة عليه، وقد يبلغ هذا التفاوت درجة المخالفات التي تؤثر على مستقبلهم في الحياة الآخرة حيث يتعرضون للعذاب في النار؛ لإصرارهم على المعاصي، وقد لا تكون درجة المخالفات مؤثرة إلى ذلك الحد بسبب محوها بالتوبة النصوح أو بالأعمال الصالحة.
وهذه الرسالة تشتمل على بيان صفات من تأهلوا للنجاة من النار يوم القيامة برحمة من الله تعالى وفضل، ثم بسبب صلاحهم في معتقداتهم القلبية وأعمالهم البدنية.
ولقد كان المنهج السائد عند بعض أهل العلم قصر هذه الصفات على معتقدات القلوب، ولما كانت أمور الدين شاملة للإيمان والعمل الصالح فإنه من المهم بيان شمول صفات الفرقة الناجية والطائفة المنصورة لجميع جوانب العلم والعمل.
وقد قمت في هذه الرسالة بالإسهام في بيان هذا الموضوع مستنيراً في ذلك باجتهادات بعض العلماء الذين عارضوا حصر صفات الفرقة الناجية ببعض جوانب العلم.
المؤلف
شمول السلفية
إن كلمة (السلفية) قد انتشرت في هذا العصر وصارت علَماً على طائفة معينة، وأصبحت تعني الالتزام بمنهج معين في فهم الكتاب والسنة، وذلك فيما يتعلق بالعقائد.
وإذا نحن فهمنا أن السلف الذين أمرنا رسول الله ج بالاقتداء بهم هم الصحابة ن فإن السلفية تكون بالاقتداء الكامل بهم في مجالي العلم والعمل، وإذا علمنا ذلك فإن السلفية لا تكون كاملة إلا بشمولها للمجالين المذكورين.
وهذه الرسالة تعدّ تصحيحاً لمفهوم السلفية، وذلك ببيان عدم حصرها في جزء من العلم النافع وهو أمور العقيدة، كما أن هذه الرسالة تبين السلبيات المترتبة على إطلاق السلفية على طائفة من المسلمين، كما بينتْ هذه الرسالة أن الانتساب إلى السلف أمر نسبي، فعلى قدر حظ المسلم من الاهتداء بهدي رسوله ج وأصحابه يكون حظه من السلفية.
شمول الإسلام(2/3)
فقد انتشر في العصر الحديث دعوة خبيثة أراد منها أعداء الإسلام مسخ هذا الدين، وإزالة ما يتميز به المسلمون من الاستقامة والعزة، ولقد حاول أعداء الإسلام إضعافه والقضاء عليه منذ ظهور دعوته بشتى الوسائل، وكان من أبرز تلك الوسائل الدعوة إلى التقريب بين الأديان السماوية أو ما يسمى بتوحيد الأديان الثلاثة: الإسلام واليهودية والنصرانية.
وقد اتخذت الدعوة إلى ذلك صوراً متعددة، فأحياناً يعبرون عن ذلك بالدعوة إلى (التقارب بين الأديان)، وأحياناً إلى (التوحيد بين الموسوية، والعيسوية والمحمدية)، وأحياناً باسم (الإخاء الديني)،وقد فُتِح مركز في مصر بهذا الاسم، وأحياناً باسم (مجمع الأديان) وقد فتح له أيضاً مركز في مصر بهذا الاسم.
كما برز شعار آخر باسم (وحدة الكتب السماوية) ثم امتد هذا الشعار إلى فكرة طبع القرآن الكريم والتوراة والإنجيل في غلاف واحد.
ثم دخلت هذه الدعوة في (الحياة التعبدية العملية) حيث دعا (البابا) إلى إقامة صلاة مشتركة بين ممثلي الأديان الثلاثة، وذلك في قرية (أَسِيس) في إيطاليا، فأقيمت فيها بتاريخ 27/10/1986م.
ثم تكرر هذا الحدث مرات أخرى باسم (صلاة روح القدس) ففي اليابان على قمة جبل (كبتو) أقيمت هذه الصلاة المشتركة.
ومن آثار هذه الدعوة أن البابا قدم نفسه إلى العالم بأنه القائد الروحي للأديان، وأنه حامل رسالة (السلام العالمي) للبشرية.
ومن آثارها أن البابا جعل يوم 27/أكتوبر عام 1986م عيداً لكل الأديان، وأول شهر يناير هو (يوم التآخي).
ومن آثارها القيام بتأليف الجماعات الداعية لوحدة الأديان، وعقد المؤتمرات لهذه النظرية، ومن ذلك:
1- في تاريخ 12-15فبراير 1987م عقد (المؤتمر الإبراهيمي) في قرطبة بمشاركة عدد من اليهود والنصارى ومن المنتسبين للإسلام من القاديانيين والإسماعيليين.
2- في تاريخ 21/مارس 1987م أسست الجماعة العالمية للمؤمنين بالله باسم (المؤمنون متحدون).(2/4)
3- تكرر عقد المؤتمرات للحوار بين الأديان، ومن ذلك،
(مؤتمر الإسلام والحوار الحضاري بين الأديان) المنعقد في القاهرة في شهر ربيع الأول عام 1417هـ، وفي مجلة الإصلاح الإماراتية في العدد 351 في 1/4/1417هـ تقرير عنه وكشف حقائق مزعجة على لسان بعض المشاركين من المسلمين(1).
وبهذا يتبين لنا أهمية الكتابة حول هذا الموضوع لرد تلك الفرية الأثيمة بدعوى التقريب بين الأديان وتوحيد الأديان السماوية الثلاثة.
هذه الفرية التي راجت في أذهان بعض المسلمين لأسباب من أهمها تسلح القائمين عليها بدعوى اتحاد أهل الأديان السماوية لصد تيار الشيوعية والإلحاد في العالم .. هذه الفرية ما كانت لتروج في أذهان الناس إذا علموا أن الدين الإلهي واحد هو الإسلام منذ أن أنزل الله جل وعلا آدم عليه الصلاة والسلام إلى هذه الأرض حتى تقوم الساعة، وإنما كان بعض أتباع الأنبياء يحرفون هذا الدين فيرسل الله جل وعلا للناس من يصحح مفاهيمهم الخاطئة ويردهم إلى الحق والصواب.
وإذا نحن نظرنا إلى أتباع الأنبياء السابقين عليهم الصلاة والسلام نجد أنهم قد حرفوا ما دعا إليه أنبياؤهم من الدين الإسلامي بينما نجد المسلمين من أتباع خاتم المرسلين ج لم يحرفوا دينهم، فمحاولة التقريب بين دين محرف ودين صحيح محاولة للتقريب بين الحق والباطل، فإن الدين الإسلامي قائم على توحيد الله جل وعلا بالعبادة، أما الأديان التي وضعها البشر فإنها تقوم على الشرك والكفر سواء كانت من وضع البشر أصلاً أو بعد التحريف.
لهذا كانت الكتابة في هذا الموضوع لها أهميتها الآن حتى يشتد تمسك المسلمين بدينهم ولا ينخدعوا بالدعاوى الكاذبة التي لا يُقصد منها ظاهرها وإنما يقصد منها إبعاد المسلمين عن حقيقة دينهم.
__________
(1) ... هذه المعلومات عن كتاب (الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان) لفضيلة الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد.(2/5)
هذا وقد تجددت الحاجة إلى طرح هذا الموضوع الآن بعد ظهور النداء من الدول المهيمنة على الإعلام العالمي إلى ما يسمى (العولمة)، حيث إن من الأمور المهمة التي تشتمل عليها هذه الفكرة الدعوة إلى التقارب بين الأديان.(2/6)
الرسالة الأولى
شمول الاجتهاد في الدين
W
سلسلة الرسائل الشمولية
الرسالة الأولى
...
شمول الاجتهاد في الدين
إعداد الدكتور
عبد العزيز بن عبد الله الحميدي
الأستاذ بكلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى
المشرف على الإدارة العامة للدعوة في رابطة العالم الإسلامي
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
1424هـ – 2003م(3/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العلي القدير، السميع البصير، الفعال لما يريد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، سيد الأولين والآخرين وإمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: فهذه رسائل علمية في مجال العقيدة، أقدمها بين يدي إخواني القراء الكرام، لعلها تسهم في شيء من إصلاح المجتمع الإسلامي، وتحقيق الوضع الأمثل له في حاضره ومستقبله.
وإن مما دفعني إلى تأليف هذه الرسائل ما رأيته من واقع بعض المسلمين السيء، حيث تفرقوا شيعاً وأحزاباً، وتنافرت قلوبهم، وتشتت شملهم.
وكان من أهم الأسباب في ذلك ما جرى من الشقاق بين بعض أهل العلم منهم، وإشغال أنفسهم في الردود بعضهم على بعض واتهام بعضهم بعضاً في دينهم.
لقد كان الصحابة ن مُتَّفقِي الكلمة، تجمعهم جماعة واحدة، ويحترم علماؤهم بعضهم بعضاً، ويثني بعضهم على بعض وإن اختلفوا في الاجتهاد في بعض المسائل الشرعية، إلى أن حصل التفرق في المسلمين من بعض التابعين الذين لم يلتزموا بمنهج الصحابة ، فشنوا حملاتهم المغرضة على أمير المؤمنين عثمان ط إلى أن استشهد فتفرق المسلمون من بعده، وقد صاحب تفرقَهم في الآراء تفرق في الدين، ومن أبرز ما حدث آنذاك ظهور الخوارج والرافضة بمختلف طوائفهم، ثم محاولة غزو الإسلام من داخله، وذلك بنشر المذاهب العقدية المنحرفة التي تعتمد على العقل ولا تُحكِّم شريعة الإسلام، وتعتمد على الهوى المنحرف.(4/1)
وفي سبيل مكافحة ذلك الخطر الداهم والغزو الفكري المنظم قام مجموعة من العلماء أصحاب الغيرة والتقوى بالرد على أولئك المنحرفين الضالين عن سبيل الهدى، ولو أن أولئك العلماء جميعاً استقاموا على منهج واحد سليم على مر القرون الإسلامية لنجحوا سريعاً في صد الباطل وجمع كلمة أهل العلم الديني، ومن ورائهم أفراد المسلمين الذين يرون العلماء قادة وموجهين لهم، ولكنهم اختلفوا في بعض تفاصيل المنهج فضعفت كلمتهم وصار بأسهم بينهم أحياناً، وكان ذلك سبباً في استفحال الشر وقوة أهله وامتداد زمن الصراع الفكري بين دعاة الحق ودعاة الباطل.
وهذه الرسائل من مهماتها تقريب وجهات النظر بين المختلفين من أهل العلم والتقوى ليُلقوا أسلحتهم الموجهة إلى نحورهم، وليتفرغوا لأعدائهم الحقيقيين، ولتجتمع من ورائهم الأمة الإسلامية.
ولقد جرت محاولات جادة لجمع علماء المسلمين تحت لواء واحد، خصوصاً في هذا العصر على إثر انتشار الصحوة الدينية وتعدد الجماعات الإسلامية، ولكنْ حال دون النجاح في ذلك اختلاف بعض أهل العلم الذي تولد عنه اختلاف القلوب، وكانت العقبة الكبرى التي تحول دون اجتماعهم هي الخلافات العقدية التي انبنى عليها حكم بعضهم على بعض بالضلال والابتداع، وإذا كان أهل العلم يضلل بعضهم بعضاً ويبدع بعضهم بعضاً فإن اجتماعهم على عمل واحد يكون بعيد المنال، فكان من أهداف هذه الرسائل رفع معالم واضحة لعلماء الأمة كي يلتقوا عليها وإن لم يتفقوا على رأي واحد، تمهيداً لجمعهم تحت رابطة واحدة ولواء واحد.(4/2)
ومن مقاصد هذه الرسائل أنها تعالج أنواعاً من القصور في فهم بعض أمور الدين، وهذا القصور ناتج من عوامل متعددة، منها الميل من بعض الدعاة إلى التميز عن سائر المسلمين، وعدم مراعاة المحافظة على جماعة المسلمين العامة، وعدم الاهتمام الكافي بجمع كلمة المسلمين، وعدم وجود الفزع والإشفاق من تفرقهم وضعف قوتهم، كما أن من أسباب ذلك تركيز الأفكار على قضايا محدودة من الدين وضعف الاهتمام بقضايا الدين الأخرى.
كما أن من محتويات هذه الرسائل محاولة صد هجوم مكثف
من أعداء الإسلام بقصد تذويب المسلمين ودمجهم في أصحاب الديانات الأخرى.
وهذا تعريف موجز بهذه الرسائل :
الأولى: (شمول الاجتهاد في الدين)، وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن الاجتهاد في الدين يشمل العقائد كما يشمل الأحكام الفقهية، اقتداء بالصحابة رضي الله عنهم، واسترشاداً بأقوال العلماء الربانيين المحققين، وتلمساً للسبل التي تخلص الأمة الإسلامية من الشقاق والنزاع والعداوة والبغضاء.
الثانية: (شمول العقيدة) وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن العقيدة تشمل كل عمل يتعلق باعتقاد القلب وإن كان ظاهره ليس من أمور العقيدة، ومن أبرز ذلك تحكيم الإسلام في جميع شئون الحياة ورفض الحكم بغير ما أنزل الله تعالى.
الثالثة: (شمول العبادة) وهذه الرسالة تهدف إلى بيان
أن العبادة تطلق على كل عمل مشروع أريد به وجه الله
تعالى، مع بيان الإيجابيات لهذا الفهم الشامل والسلبيات
للفهم القاصر.
الرابعة: (شمول معالم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة)،
وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن صفات الفرقة الناجية والطائفة المنصورة تجمع بين العلم النافع والعمل الصالح، وما يترتب على ذلك من النتائج البناءة في قيام جماعة المسلمين وحمايتها
من التصدع والانهيار.(4/3)
الخامسة: (شمول السلفية)، وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن السلفية لا تختص بالعقائد، بل تشمل كل ما جاء به الدين من العلم النافع والعمل الصالح، ولذلك فهي تشمل قطاعاً كبيراً من المسلمين ولا تختص بطائفة معينة، مع بيان السلبيات المترتبة على حصر السلفية في طائفة محدودة، أو في جانب معين من الدين.
السادسة: (شمول الإسلام للرسالات السماوية)، وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن أصل الدين الذي هو التوحيد شامل لكل الرسالات السماوية، وأن الإسلام العام يطلق على كل هذه الرسالات، وفي هذا رد على فرية التقريب بين الأديان السماوية.
وقد سمَّيتُ هذه الرسائل (الرسائل الشمولية) لأنها كلها تشتمل على تصحيح بعض المفاهيم القاصرة، وتدعو إلى شمولية الفهم لمحتويات هذه الرسائل.
هذا وقد كنت كتبت هذه الرسائل ما بين عامي أربعة وأربعمائة وألف وأربعة عشر وأربعمائة وألف، وذلك حينما كنت أدرِّس مادة العقيدة في المعهد العالي لإعداد الأئمة والدعاة التابع لرابطة العالم الإسلامي، وقد درَّست أغلب مادة هذه الرسائل لطلاب ذلك المعهد، كما نقلها عدد منهم إلى البلاد التي ذهبوا للعمل فيها ودرَّسوها لطلابهم كما أفادوني بذلك، ولقد كان بعض الطلاب يلحون عليَّ كثيراً في طباعة هذه الرسائل، ولكني تأخرت في ذلك أولاً لانشغالي بإعداد كتاب (التاريخ الإسلامي/ مواقف وعبر) الذي بلغ عشرة مجلدات، وثانياً لأنني كنت أحاول أن أجد الوقت لإعادة النظر فيها وتنقيحها.
والآن فإنني أقدمها للأمة الإسلامية محاولاً بذلك الإسهام في الإصلاح ما استطعت، وقد بذلت جهدي في إعدادها، والتزمت أن لا أستشهد بحديث إلا إذا كان مقبولاً عند أهل الحديث، فإن يكن فيها صواب فمن توفيق الله تعالى، وإن يكن فيها خطأ فمن نفسي القاصرة.
وأسأل الله تعالى التوفيق والسداد لي ولجميع إخواني المسلمين.(4/4)
الرسائل الشمولية ( 1 ) ...
الرسالة الأولى
شمول الاجتهاد في الدين(5/1)
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإن من أعظم الأمور التي فرقت المسلمين إلى شيع وأحزاب اختلاف بعض أهل العلم في أمور العقيدة، ثم ما ترتب على ذلك من انتقادات واتهامات وبراءة أحيانًا!! فقد حكم بعض العلماء على مخالفيهم بالابتداع والضلال والفسق وأحيانًا بالكفر، وامتُحن بعضهم فحصل له شيء من الأذى.
وهذه الأحكام التي ترتبت على الخلاف العقدي كانت من أبرز الأسباب التي حالت دون اجتماع جماعة المسلمين؛ وذلك لأن عامة المسلمين وطلاب العلم وأساتذته بمختلف أنواعه تبع لعلماء الدين، فإذا كان علماء الدين يطعن بعضهم ببعض في العقيدة؛ فكيف يجتمعون؟! وإذا لم يجتمعوا فكيف يجتمع سائر المسلمين؟!
أما الخلاف ذاته بين العلماء فقد وجد بين الصحابة رضي الله عنهم في الأمور العلمية كالعقائد، والأمور العملية كالفقه، وإن كان قليلاً في أمور العقيدة؛ كخلافهم في رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه في الدنيا، وهل يعذَّب الميت ببكاء أهله عليه أم لا؟ ولكن لم يكن له أثر في إضعاف جماعتهم، كما أن الخلاف في الأمور العملية التي أصبح العلماء يطلقون عليها "الفقه" قد وجد بعد الصحابة رضي الله عنهم ولم يكن له أثر في إضعاف الجماعة إلا قليلاً، وذلك لأنه لم يترتب عليه أحكام بالبدعة والضلال والفسوق والكفر.
ولقد حصل في هذا العصر من بعض طلاب العلم أنواع من السلوك الشاذ؛ مثل عدم السلام على المخالف، وعدم الصلاة خلفه، بسبب الخلافات العقدية!!
ولقد أبلغني بعض طلابي من المعهد العالي لإعداد الأئمة والدعاة في عدة دورات ما يجري في البلاد الإسلامية من تطاحن بين بعض أفراد الجماعات الإسلامية وتبادل الاتهامات، وأن أكثر ذلك راجع إلى الخلاف في أمور العقيدة، وخاصة ما يتعلق بالأسماء والصفات.(6/1)
كما أنني علمت عن ظاهرة انتشار الغلو في بعض المجتمعات فيما يتعلق بالحكم على علماء الدين، حيث بدأت تظهر من بعض طلاب العلم اتهامات لبعض أكابر العلماء بالابتداع والضلال، حتى إن بعض طلاب العلم قاموا بإحراق بعض الكتب المهمة مثل "فتح الباري" للحافظ ابن حجر العسقلاني؛ لما تحتوي عليه تلك الكتب
في -نظرهم- من الضلال والبدع.
ولقد كان ذلك وما سيأتي ذكره مما دفعني إلى نشر هذه الرسالة؛ لعل ذلك يخفف من المعركة المحتدمة بين طلاب العلم، وخاصة الدعاة إلى الله تعالى الذين تنتظر الأمة خلاصها على أيديهم من هذا الوضع المتردي الذي نعيش فيه.
بل لعل ما تحتوي عليه هذه الرسالة من محاولة الإصلاح يكون سببًا في تآلف القلوب وجمع الشمل، وتوحيد الصف نحو جهاد الأعداء.
هذا؛ وإنني لم أكتب هذه الرسالة للترجيح بين أقوال العلماء المختلفين، ولا لبيان الصواب منها من الخطأ، فإن هذا قد يتعارض مع الأهداف من تحرير هذه الرسالة؛ التي قصدت منها تقريب وجهات النظر بين أهل العلم الديني، وأن ينظر بعضهم إلى بعض نظرة محبة وتقدير، وأن يعذر بعضهم بعضًا فيما اختلفوا فيه مما يسوغ فيه الاختلاف، وأن يحكموا على مخالفيهم بأنهم قد اجتهدوا فأخطؤوا إذا كانوا من أهل الاجتهاد.
وإنما أردت أن أحدد أبرز القضايا التي يدور حولها هذا البحث، وأن أبين أن الاجتهاد سائغ في أمور الدين كلها بالنسبة لأهل السنة والجماعة، الذين يجعلون الكتاب والسنة هما مصدر العلم الديني، ويجعلون أصولهم منبثقة منهما؛ ويحتكمون إليهما عند الاختلاف، ويعتقدون بعدالة الصحابة رضي الله عنهم، ويقدمون أقوالهم على آراء العلماء الذين جاؤوا من بعدهم.(6/2)
أما الذين يجهلون السنة النبوية ويطعنون ببعض الصحابة؛ كالخوارج والرافضة، والذين يعتبرون مرجعهم الأساسي هو العقل، فيردون إليه نصوص الكتاب والسنة ويحتكمون إليه عند التنازع؛ كالمعتزلة والجهمية وأتباع الفلاسفة.. أما هؤلاء فلا عبرة بأقوالهم وآرائهم؛ لأنهم ليسوا من أهل الاجتهاد المعتدِّ به لمخالفتهم أهل السنة في أصول الدين .
هذا وقد أضفت إلى هذه الطبعة موضوعين:
الأول: بيان ما جرى بين العلامة الشيخ عز الدين بن عبد السلام وبعض علماء الحنابلة المعاصرين له، حيث وصفهم بأوصاف شنيعة؛ وذلك كمثَلٍ للآثار السيئة التي ترتبت على الانحراف في الحكم على المخالفين، وعلى أهمية دعوة أهل العلم إلى الأخذ بمنهج الاعتدال في ذلك .
والموضوع الثاني: بيان علاقة هذا الموضوع بظهور الإمام المهدي، وقد كنت كتبت هذا الموضوع في الطبعة الأولى لهذه الرسالة، ثم إني حذفته في المرحلة الأخيرة قبل النشر؛ خشية أن يثير بعض التساؤلات، ولكني رأيت بعد ذلك أن إضافته أمر مهم، خصوصًا وأن الأمة الإسلامية قد تكون مقبلة على فتن كبيرة، فيكون هذا الموضوع مما يكشف بعض الضوء في ذلك.
- - - - -
نماذج من اجتهاد الصحابة
ومما يدل على أن من اجتهد في الدين فأخطأ أنه لا إثم عليه؛ ما أخرجه الشيخان من حديث عبد الله بن عمر م قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "لا يصلينَّ أحدٌ العصرَ إلا في بني قريظة"، فأدرك بعضهم العصر في الطريق؛ فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيهم، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يُرِد منا ذلك، فَذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنِّف واحدًا منهم(1).
وفي هذا الحديث يقول الحافظ ابن حجر: وقد استدل به الجمهور على عدم تأثيم من اجتهد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعنف أحدًا من الطائفتين، فلو كان هناك إثم لعنف من أثم(2).
__________
(1) البخاري (4119) في المغازي، مسلم (1770) في الجهاد.
(2) فتح الباري (7/ 410).(6/3)
وهذا في مجال الأحكام العملية، ولا فرق في الدين بين الأحكام العملية والعقائد العلمية كما سيأتي.
وفي هذا الحديث يتبين لنا أن الصحابة رضي الله عنهم لم يتناقشوا بينهم.. من هو المصيب ومن هو المخطئ؟ هل هم الذين أخذوا الأمر النبوي على ظاهره؟ أم الذين أخذوا بمقاصد الشريعة؟ فأوَّلوا الأمر بأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد حثَّهم على الإسراع بالوصول إلى ذلك الموقع، وهذا مثَل
مما رباهم الرسول صلى الله عليه وسلم عليه من البعد عن الجدل والاختلاف، فالشيء الذي كانوا يهتمون به هو الحرص على بلوغ رضوان الله تعالى
ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أجل ذلك اجتهدوا في فهم الأمر النبوي.
وعلى هذا فإنه لا لوم على العلماء الذين أخذوا النصوص الشرعية على ظاهرها، ولا على الذين أولوها بما يتفق -في نظرهم- مع المقاصد الشرعية، ولا يجوز لكل فريق أن يحكم على الفريق الآخر بالحكم الذي يخرجه من دائرة أهل السنة والجماعة.
وقد ذكر الإمام ابن تيمية أمثلة من اختلاف الصحابة في بعض أمور العقيدة؛ ومن ذلك قوله: فعائشة أم المؤمنين ك قد خالفت ابن عباس وغيره من الصحابة في أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه، وقالت: "من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله تعالى الفرية"! وجمهور الأمة على قول ابن عباس، مع أنهم لا يبدِّعون المانعين الذين وافقوا أم المؤمنين ك، وكذلك أنكرت أن يكون الأموات يسمعون دعاء الحي لماَّ قيل لها: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم"، فقالت: إنما قال: إنهم ليعلمون الآن أن ما قلت لهم حق، ومع هذا فلا ريب أن الموتى يسمعون خفق النعال، كما ثبت عن رسول(6/4)
الله ج: "وما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه، إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام"، صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من الأحاديث، وأم المؤمنين تأولت، والله يرضى عنها، وكذلك معاوية نُقل عنه في أمر المعراج أنه قال: إنما كان بروحه، والناس على خلاف معاوية ط، ومثل ذلك كثير.
وأما الاختلاف في "الأحكام" فأكثر من أن ينضبط، ولو كان كلَّما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة، ولقد كان أبو بكر وعمر م سيدا المسلمين يتنازعان في أشياء
لا يقصدان إلا الخير، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم بني قريظة:
"لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"، فأدركتهم العصر في الطريق، فقال قوم: لا نصلي إلا في بني قريظة، وفاتهم العصر، وقال قوم: لم يرد منا تأخير الصلاة، فصلوا في الطريق، فلم يعب واحدًا من الطائفتين، أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن عمر، وهذا وإن كان في الأحكام فما لم يكن من الأصول المهمة
فهو ملحق بالأحكام"(1).
ويقصد بغير الأمور المهمة جزئيات العقيدة؛ لأنه إنما ساق هذا الدليل بعد ذكر خلاف الصحابة رضي الله عنهم في بعض أمور العقيدة.
وهذه الأمثلة التي ذكرها ابن تيمية من أوضح الأدلة على أن الاجتهاد في أمور العقيدة كان معروفًا عند الصحابة ط، وأنه لم يكن يترتب على الخلاف في ذلك تبديع ولا تضليل.
- - - - -
اقتباسات من كلام الإمام ابن تيمية
__________
(1) مجموع الفتاوى (24/172، 173).(6/5)
إننا حينما نستعرض كلام العلماء الكبار في هذا الشأن نجد لهم نظرات معتدلة في الحكم على المخالفين في كل أمور الدين، وسيكون التركيز في هذه الرسالة على بيان شيء من أقوال عالم من أعظم علماء المسلمين، كان له صولات وجولات في جميع علوم الدين، وجاهد طوال حياته بلسانه وقلمه لحماية دين الإسلام، وتنقيته مما شابه من أغاليط المغالطين ودسائس الماكرين وأوهام المخطئين.. ذلكم هو الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية، الذي جمع الله تعالى له علوم من تقدمه فعرضها بعدالة، واعتدل في حكمه على المخالفين.
وأبدأ بنقل بيانه عن مصطلحات يتكرر ذكرها في هذا المجال بينما يقلُّ استعمالها في التعريف بالعلوم؛ حيث يقول: أما العلم بالدين وكشفه فالدين نوعان؛ أمور خبرية اعتقادية، وأمور طلبية عملية.
فالأول: كالعلم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويدخل في ذلك أخبار الأنبياء وأممهم ومراتبهم في الفضائل، وأحوال الملائكة وصفاتهم وأعمالهم، ويدخل في ذلك صفة الجنة والنار، وما في الأعمال من الثواب والعقاب، وأحوال الأولياء والصحابة وفضائلهم ومراتبهم وغير ذلك.
وقد يسمى هذا النوع أصول دين، ويسمى العقد الأكبر، ويسمى الجدال فيه بالعقل كلامًا، ويسمى عقائد واعتقادات، ويسمى المسائل العلمية والمسائل الخبرية، ويسمى علم المكاشفة.(6/6)
والثاني: الأمور العملية الطلبية من أعمال الجوارح والقلب؛ كالواجبات والمحرمات والمستحبات والمكروهات والمباحات، فإن الأمر والنهي قد يكون بالعلم والاعتقاد، فهو من جهة كونه علمًا واعتقادًا أو خبرًا صادقًا أو كاذبًا يدخل في القسم الأول، ومن جهة كونه مأمورًا به أو منهيًّا عنه يدخل في القسم الثاني، مثل: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فهذه الشهادة من جهة كونها صادقة مطابقة لِمَخبرها فهي من القسم الأول، ومن جهة أنها فرض واجب وأن صاحبها بها يصير مؤمنًا يستحق الثواب، وبعدمها يصير كافرًا يحل دمه وماله.. فهي من القسم الثاني(1).
- - - - -
أصول الدين وفروعه
وفي بيان أصول الدين وفروعه وأن المجتهد إذا أخطأ لا يأثم؛ يذكر ابن تيمية طوائف المسلمين الذين اختلفوا في باب الأسماء والصفات، ثم يذكر أن بعض السلف لا يرى الانتساب في أصول الدين إلى عالم معين، وإنما يرى الانتساب إلى الكتاب والسنة، ثم قال: وهذه طريقة جيدة، ولكن هذا مما يسُوغ فيه الاجتهاد؛ فإن مسائل الدِّقِّ في الأصول لا يكاد يتفق عليها طائفة؛ إذ لو كان كذلك لما تنازع في بعضها السلف من الصحابة والتابعين، وقد يُنكَر الشيء في حال دون حال، وعلى شخص دون شخص.
وأصل هذا ما قد ذكرته في غير هذا الموضع: أن المسائل الخبرية قد تكون بمنزلة المسائل العملية؛ وإن سمِّيتْ تلك "مسائل أصول" وهذه "مسائل فروع" فإن هذه التسمية محدثة، قسَّمها طائفة من الفقهاء والمتكلمين؛ وهو على المتكلمين والأصوليين أغلب؛ لا سيَّما إذا تكلموا في مسائل التصويب والتخطئة.
__________
(1) المرجع السابق (11/ 336).(6/7)
وأما جمهور الفقهاء المحققين والصوفية فعندهم أن الأعمال أهم وآكد من مسائل الأقوال المتنازع فيها؛ فإن الفقهاء كلامهم إنما هو فيها، وكثيرًا ما يكرهون الكلام في كل مسألة ليس فيها عمل، كما يقوله مالك وغيره من أهل المدينة، بل الحق أن الجلي من كل واحد من الصنفين "مسائل أصول" والدقيق "مسائل فروع".
فالعلم بوجوب الواجبات كمباني الإسلام الخمس، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة؛ كالعلم بأن الله على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وأنه سميع بصير، وأن القرآن كلام الله، ونحو ذلك من القضايا الظاهرة المتواترة؛ ولهذا من جحد تلك الأحكام العملية المجمع عليها كفر، كما أن من جحد هذه كفر.
وقد يكون الإقرار بالأحكام العملية أوجب من الإقرار بالقضايا القولية؛ بل هذا هو الغالب، فإن القضايا القولية يكفي فيها الإقرار بالجُمَلِ؛ وهو الإيمان بالله وملائكته، وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره.
وأما الأعمال الواجبة فلا بد من معرفتها على التفصيل؛ لأن العمل بها لا يمكن إلا بعد معرفتها مفصلة؛ ولهذا تقر الأمة من يفصلها على الإطلاق، وهم الفقهاء؛ وإن كان قد يُنكر على من يتكلم في تفصيل الجمل القولية؛ للحاجة الداعية إلى تفصيل الأعمال الواجبة، وعدم الحاجة إلى تفصيل الجمل التي وجب الإيمان بها مجملة.
وقولنا: "إنها قد تكون بمنزلتها"؛ يتضمن أشياء:
منها: أنها تنقسم إلى قطعي وظني.
ومنها: أن المصيب وإن كان واحدًا فالمخطئ قد يكون معفوًّا عنه وقد يكون مذنبًا، وقد يكون فاسقًا، وقد يكون كالمخطئ في الأحكام العملية سواء؛ لكن تلك لكثرة فروعها، والحاجة إلى تفريعها اطمأنت القلوب بوقوع التنازع فيها والاختلاف، بخلاف هذه؛ لأن الاختلاف هو مفسدة لا يُحتمل إلا لدرء ما هو أشد منه.(6/8)
فلما دعت الحاجة إلى تفريع الأعمال وكثرة فروعها، وذلك مستلزم لوقوع النزاع.. اطمأنت القلوب فيها إلى النزاع؛ بخلاف الأمور الخبرية؛ فإن الاتفاق قد وقع فيها على الجُمل؛ فإذا فُصلت بلا نزاع فحسن؛ وإن وقع التنازع في تفصيلها فهو مفسدة من غير حاجة داعية إلى ذلك.
إلى أن قال رحمه الله:
ومما يتصل بذلك: أن المسائل الخبرية العلمية قد تكون واجبة الاعتقاد، وقد تجب في حال دون حال، وعلى قوم دون قوم؛
وقد تكون مستحبة غير واجبة، وقد تستحب لطائفة أو في حال كالأعمال سواء.
وقد تكون معرفتها مضرة لبعض الناس فلا يجوز تعريفهم بها، كما قال علي ط:"حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون؛ أتحبون أن يكذَّب الله ورسوله؟!"، وقال ابن مسعود ط: "ما من رجل يحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم".(6/9)
وكذلك قال ابن عباس ط لمن سأله عن قوله تعالى: { - ? - - - - ?- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - الله ? - ? الله - الله ? صدق الله العظيم - الله ? - - - الله ? - الله أكبر الله ? الله ? الله ?- جل جلاله -? الله ? - ? صدق الله العظيم } - - - - ? - - الله الله ? - ? الله الله أكبر ? - - - جل جلاله -? - ? بسم الله الرحمن الرحيم - { الله ? الله - الله الله أكبر ? - - صدق الله العظيم ? - - - - ? - - الله الله ? - ? الله ? الله أكبر صدق الله العظيم - الله أكبر الله - المحتويات - - ? الله أكبر - ? الله الله أكبر ? صدق الله العظيم ? الله - - جل جلاله -? الله الله ? - - - - ? الله - - - - عليه السلام -? - ? الله ? الله - ? - ? - ? { ? الله ? - - ?- جل جلاله - - الله الله أكبر ? الله الله ? - - - الله ? - ? الله - - - صدق الله العظيم - الله الله أكبر ? - ? - الله - - - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? الله أكبر ?- جل جلاله - - { ?? الله ? - - الله أكبر الله ? - ?- جل جلاله -? } [الطلاق: 12]، فقال: ما يؤمنك أني لو أخبرتك بتفسيرها لكفرت؟ وكفرك تكذيبك بها، وقال لمن سأله عن قوله تعالى: { - - - - صدق الله العظيم ? الله الله أكبر - - ? الله - تمهيد - ? - - الله أكبر الله أكبر - ? الله ? - ? - - - - ? الله - - ? - - الله ? - جل جلاله -? صدق الله العظيم - - ? تمهيد - - ? - - صدق الله العظيم ? الله الله أكبر ? الله ? - - ? - سبحانه وتعالى - - ? - } - الله - { الله أكبر ?- جل جلاله -? الله ? - - جل جلاله - { صدق الله العظيم الله أكبر ??- صلى الله عليه وسلم - ?? - ? - - - - ? الله ? الله أكبر الله أكبر الله ? } [المعارج:4]، هو يوم أخبر الله به؛ الله أعلم به.
ومثل هذا كثير عن السلف.(6/10)
فإذا كان العلم "بهذه المسائل" قد يكون نافعًا، وقد يكون ضارًّا لبعض الناس، تبين لك أن القول قد ينكر في حال دون حال، ومع شخص دون شخص؛ وأن العالم قد يقول القولين الصوابين، كل قول مع قوم؛ لأن ذلك هو الذي ينفعهم؛ مع أن القولين صحيحان لا منافاة بينهما؛ لكن قد يكون قولهما جميعًا فيه ضرر على الطائفتين؛ فلا يجمعهما إلا لمن لا يضره الجمع.
وإذا كانت قد تكون قطعية، وقد تكون اجتهادية.. سوَّغ اجتهاديتها ما سوغ في المسائل العملية، وكثير من تفسير القرآن، أو أكثره من هذا الباب؛ فإن الاختلاف في كثير من التفسير هو من باب المسائل العلمية الخبرية، لا من باب العملية؛ لكن قد تقع الأهواء في المسائل الكبار، كما قد تقع في مسائل العمل(1).
ويقول في موضع آخر: وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها؛ قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهدًا في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائنًا ما كان، سواء كان في المسائل النظرية، أو العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة الإسلام، وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يُكفَّر بإنكارها، ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها.
__________
(1) المرجع السابق (6/ 56- 60).(6/11)
فأما التفريق بين نوع وتسميته "مسائل الأصول" وبين نوع آخر وتسميته "مسائل الفروع".. فهذا الفرق ليس له أصل؛ لا عن الصحابة، ولا عن التابعين لهم بإحسان، ولا أئمة الإسلام، وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع، وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم، وهو تفريق متناقض، فإنه يقال لمن فرق بين النوعين: ما حدُّ مسائل الأصول التي يكفَّر المخطئ فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟ فإن قال: مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد، ومسائل الفروع هي مسائل العمل؛ قيل له: فتنازع الناس في محمد صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه أم لا؟ وفي أن عثمان أفضل من علي، أم علي أفضل؟ وفي كثير من معاني القرآن، وتصحيح بعض الأحاديث.. هي من المسائل الاعتقادية العلمية، ولا كفر فيها بالاتفاق، ووجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحريم الفواحش والخمر هي مسائل عملية، والمنكِر لها يكفُر بالاتفاق.
وإن قال: الأصول هي المسائل القطعية، قيل له: كثير من مسائل العمل قطعية، وكثير من مسائل العلم ليست قطعية، وكون المسألة قطعية أو ظنية هو من الأمور الإضافية، وقد تكون المسألة عند رجل قطعية؛ لظهور الدليل القاطع له، كمن سمع النص من الرسول صلى الله عليه وسلم، وتيقن مراده منه، وعند رجل لا تكون ظنية، فضلاً عن أن تكون قطعية؛ لعدم بلوغ النص إياه، أو لعدم ثبوته عنده،
أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته.(6/12)
وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الذي قال لأهله: "إذا أنا متُّ فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذُرُّوني في اليم، فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني الله عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين! فأمر الله البَرَّ بردِّ ما أخذ منه، والبحر برد ما أخذ منه، وقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتُك يا رب؛ فغفر الله له"، فهذا شكَّ في قدرة الله وفي المعاد، بل ظن أنه لا يعود، وأنه لا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، وغفر الله له، وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع(1).
وذكر ابن تيمية قاعدة مهمة في الحكم على المجتهدين في مسائل الأصول والفروع، فقال -رحمه الله- بعد كلامٍ له: ونحن نذكر "قاعدة جامعة" في هذا الباب لسائر الأمة؛ فنقول: لا بدَّ أن يكون مع الإنسان أصول كلية تُردُّ إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات؛ فيتولد فساد عظيم.
فنقول: إن الناس قد تكلموا في تصويب المجتهدين وتخطئتهم وتأثيمهم وعدم تأثيمهم في مسائل الفروع والأصول، ونحن نذكر أصولاً جامعة نافعة:
الأصل الأول: أنه هل يمكن كل واحد أن يعرف باجتهاده الحق
في كل مسألة فيها نزاع؟ وإذا لم يمكنه فاجتهد واستفرغ وسعه
فلم يصل إلى الحق؛ بل قال ما اعتقَد أنه هو الحق في نفس الأمر؛ ولم يكن هو الحق في نفس الأمر: هل يستحق أن يعاقب أم لا؟
هذا أصل المسألة.
__________
(1) المرجع السابق (23/ 346، 347).(6/13)
ثم ذكر أقوال بعض الطوائف في تأثيم المجتهدين المخطئين، إلى أن قال: وأما غير هؤلاء فيقول: هذا قول السلف وأئمة الفتوى؛ كأبي حنيفة والشافعي والثوري وداود بن علي؛ وغيرهم لا يُؤثِّمون مجتهدًا مخطئًا في المسائل الأصولية ولا في الفروعية، كما ذكر ذلك عنهم ابن حزم وغيره؛ ولهذا كان أبو حنيفة والشافعي وغيرهما يقبلون شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية، ويصححون الصلاة خلفهم، والكافر لا تقبل شهادته على المسلمين ولا يصلَّى خلفه، وقالوا: هذا هو القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين، أنهم لا يكفِّرون ولا يفسِّقون ولا يؤثِّمون أحدًا من المجتهدين المخطئين، لا في مسألة عملية ولا علمية.
قالوا: والفرق بين مسائل الفروع والأصول إنما هو من أقوال أهل البدع من أهل الكلام والمعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم، وانتقل هذا القول إلى أقوام تكلموا بذلك في أصول الفقه، ولم يعرفوا حقيقة هذا القول ولا غوره.
قالوا: والفرق بين ذلك في مسائل الأصول والفروع، كما أنها محدثة في الإسلام لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا إجماع، بل ولا قالها أحد من السلف والأئمة.. فهي باطلة عقلاً؛ فإن المفرقين بين ما جعلوه مسائل أصول ومسائل فروع لم يفرقوا بينهما بفرق صحيح يميز بين النوعين، بل ذكروا ثلاثة فروق أو أربعة كلها باطلة؛ فمنهم من قال: مسائل الأصول هي العلمية الاعتقادية التي يطلب فيها العلم والاعتقاد فقط، ومسائل الفروع هي العملية التي يطلب فيها العمل، قالوا: وهذا فرق باطل؛ فإن المسائل العملية فيها ما يكفر جاحده، مثل: وجوب الصلوات الخمس والزكاة وصوم شهر رمضان وتحريم الزنى والربا والظلم والفواحش، وفي المسائل العلمية ما لا يأثم المتنازعون فيه؛ كتنازع الصحابة؛ هل رأى محمد ربه؟ وكتنازعهم في بعض النصوص؛ هل قاله النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ وما أراد بمعناه؟ وكتنازعهم في بعض الكلمات؛ هل هي من القرآن(6/14)
أم لا؟ وكتنازعهم في بعض معاني القرآن والسنة؛ هل أراد الله ورسوله كذا وكذا؟ وكتنازع الناس في دقيق الكلام؛ كمسألة الجوهر الفرد وتماثل الأجسام وبقاء الأعراض ونحو ذلك، فليس
في هذا تكفير ولا تفسيق.
قالوا: والمسائل العملية فيها عمل وعلم فإذا كان الخطأ مغفورًا فيها؛ فالتي فيها علم بلا عمل أولى أن يكون الخطأ فيها مغفورًا، ومنهم من قال: المسائل الأصولية هي ما كان عليها دليل قطعي، والفرعية ما ليس عليها دليل قطعي، قال أولئك: وهذا الفرق خطأ أيضًا؛ فإن كثيرًا من المسائل العملية عليها أدلة قطعية عند من عرفها وغيرهم لم يعرفها، وفيها ما هو قطعي بالإجماع؛ كتحريم المحرمات ووجوب الواجبات الظاهرة، ثم لو أنكرها الرجل بجهل وتأويل لم يكفر حتى تقام عليه الحجة، كما أن جماعة استحلوا شرب الخمر على عهد عمر منهم قدامة(1)، ورأوا أنها حلال لهم؛ ولم تكفِّرهم الصحابة حتى بينوا لهم خطأهم فتابوا ورجعوا.
وقد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفة أكلوا بعد طلوع الفجر حتى تبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود؛ ولم يُؤثِّمهم
النبي صلى الله عليه وسلم فضلاً عن تكفيرهم، وخطؤهم قطعي، وكذلك أسامة
بن زيد قد قتل الرجل المسلم! وكان خطؤه قطعيًّا، وكذلك الذين وجدوا رجلاً في غنم له فقال: إني مسلم؛ فقتلوه وأخذوا ماله! كان خطؤهم قطعيًّا، وكذلك خالد بن الوليد قتل بني جذيمة وأخذ أموالهم! كان مخطئًا قطعًا.
وكذلك الذين تيمموا إلى الآباط، وعمار الذي تمعك في التراب للجنابة كما تمعك الدابة، بل والذين أصابتهم جنابة فلم يتيمموا ولم يصلُّوا.. كانوا مخطئين قطعًا، وفي زماننا لو أسلم قوم في بعض الأطراف ولم يعلموا بوجوب الحج أو لم يعلموا تحريم الخمر لم يُحَدُّوا على ذلك، وكذلك لو نشؤوا بمكان جهل.
__________
(1) يعني قدامة بن مظعون.(6/15)
وقد زنت على عهد عمر امرأة، فلما أقرت به قال عثمان: إنها لتستهل به استهلال من لا يعلم أنه حرام، فلما تبين للصحابة أنها لا تعرف التحريم لم يحدُّوها! واستحلال الزنى خطأ قطعًا.
والرجل إذا حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين
بخلافه فهو مخطئ قطعاً، ولا إثم عليه باتفاق، وكذلك لا كفارة
عليه عند الأكثرين.
ومن اعتقد بقاء الفجر فأكل؛ هو مخطئ قطعًا، إذا تبين له الأكل بعد الفجر؛ ولا إثم عليه، وفي القضاء نزاع، وكذلك من اعتقد غروب الشمس فتبين بخلافه، ومثل هذا كثير.
وقول الله تعالى في القرآن: { - الله الله أكبر ? الله الله الله أكبر - الله } - الله درهم - - الله الله أكبر ? صدق الله العظيم - - جل جلاله - - - الله ? - الله أكبر - ? تمهيد - - - - الله ? - - جل جلاله - { بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? صدق الله العظيم ? - - - - - الله الله أكبر ? - - - - ? صدق الله العظيم - - - - } [البقرة:286]، قال الله تعالى: "قد فعلت"، ولم يفرق بين الخطأ القطعي في مسألة قطعية أو ظنية، والظني ما لا يجزم بأنه خطأ إلا إذا كان أخطأ قطعًا، قالوا: فمن قال: إن المخطئ في مسألة قطعية أو ظنية يأثم؛ فقد خالف الكتاب والسنة والإجماع القديم.
قالوا: وأيضًا فكون المسألة قطعية أو ظنية هو أمر إضافي بحسب حال المعتقدين، ليس هو وصفًا للقول في نفسه ؛ فإن الإنسان قد يقطع بأشياء عَلِمَ -بالضرورة أو بالنقل المعلوم- صدقها عنده، وغيره لا يعرف ذلك لا قطعًا ولا ظنًّا، وقد يكون الإنسان ذكيًّا قوي الذهن سريع الإدراك؛ فيعرف من الحق ويقطع به ما لا يتصوره غيره ولا يعرفه لا علمًا ولا ظنًّا.(6/16)
فالقطع والظن يكون بحسب ما وصل إلى الإنسان من الأدلة، وبحسب قدرته على الاستدلال، والناس يختلفون في هذا وهذا، فكون المسألة قطعية أو ظنية ليس هو صفة ملازمة للقول المتنازع فيه حتى يقال: كل من خالفه قد خالف القطعي، بل هو صفة لحال الناظر المستدل المعتقد، وهذا مما يختلف فيه الناس، فعُلِم أن هذا الفرق لا يطَّرد ولا ينعكس.
ومنهم من فرق بفرق ثالث وقال: المسائل الأصولية هي
المعلومة بالعقل، فكل مسألة علمية استقل العقل بدركها فهي من مسائل الأصول التي يكفر أو يفسق مخالفها، والمسائل الفروعية هي المعلومة بالشرع، قالوا: فالأول كمسائل الصفات والقدر؛ والثاني كمسائل الشفاعة وخروج أهل الكبائر من النار.
فيقال لهم: ما ذكرتموه بالضد أولى؛ فإن الكفر والفسق أحكام شرعية، ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل.
إلى أن قال: وحينئذ؛ فإن كان الخطأ في المسائل العقلية التي يقال: إنها أصول الدين.. كفراً، فهؤلاء السالكون هذه الطرق الباطلة في العقل المبتدعة في الشرع هم الكفار لا من خالفهم، وإن لم يكن الخطأ فيها كفراً فلا يكفَّر من خالفهم فيها، فثبت أنه ليس كافراً في حكم الله ورسوله على التقديرين، ولكن من شأن أهل البدع أنهم يبتدعون أقوالاً يجعلونها واجبة في الدين، بل يجعلونها من الإيمان الذي لا بد منه، ويكفِّرون من خالفهم فيها ويستحلون دمه؛ كفعل الخوارج والجهمية والرافضة والمعتزلة وغيرهم.
وأهل السنة لا يبتدعون قولاً ولا يكفِّرون من اجتهد فأخطأ، وإن كان مخالفًا لهم مستحلاًّ لدمائهم، كما لم تكفِّر الصحابة الخوارج مع تكفيرهم لعثمان وعلي ومن والاهما، واستحلالهم لدماء المسلمين المخالفين لهم(1)!!
__________
(1) المرجع السابق (19/ 203- 212)، وانظر: منهاج السنة (5/ 85- 95).(6/17)
وبهذا تبين بطلان هذه الأقوال في بيان أصول الدين وفروعه فيبقى القول الذي ذكره الإمام ابن تيمية قبل ذلك هو القول الصحيح؛ وهو أن المسائل الكبيرة في الدين هي أصول الدين، وأن المسائل الصغيرة هي فروع الدين؛ سواء في القضايا العلمية التي على رأسها أمور العقيدة، أو في القضايا العملية التي يراد بها ما يحتويه علم الفقه.
وبهذا يتبين خطأ العلماء الذين أخرجوا الصلاة من أصول الدين وهي عمود الإسلام كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يكون عمود الشيء الذي لا يقوم إلا عليه فرعًا من ذلك الشيء؟!
وقال -رحمه الله تعالى- في بيان هذا الموضوع: وأيضًا فإن الله تعالى قد أخبر في غير موضع أنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها؛ كقوله:
{ - الله درهم ?? بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله -? - ? - الله أكبر ? - ? - - - - - } { { الله أكبر ? الله الله أكبر ? - بسم الله الرحمن الرحيم - درهم تمهيد - - - - الله ? الله ??? - ? } [البقرة:286]، وقوله: { - ? الله أكبر ?- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - الله ? المحتويات - ? - الله أكبر ? الله ? - - ? المحتويات - ? - الله أكبر ?- جل جلاله -? الله ? الله ? - - - الله أكبر الله - - جل جلاله -? - الله أكبر - ??? - - - الله درهم ?? بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله -? الله أكبر - ? - الله أكبر ? - } { { الله أكبر ? الله الله أكبر ? - بسم الله الرحمن الرحيم - درهم تمهيد - - - - الله أكبر الله ? الله ? صدق الله العظيم ? - ? } [الأعراف:42]، وقوله: { - الله درهم ?? بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله -? الله أكبر - ? - الله أكبر ? - } { { الله أكبر ? الله الله أكبر ? - بسم الله الرحمن الرحيم - درهم تمهيد - - - - الله ? الله ? صدق الله العظيم ? - ? } [الأنعام:152]، وقوله:(6/18)
{ - الله درهم ?? بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله -? - ? - الله أكبر ? - ? - - - - - } { - ? الله الله أكبر ? - بسم الله الرحمن الرحيم - درهم تمهيد - - - - الله ? - - الله ? - ? الله الله أكبر - - - ? } [الطلاق: 7].
وأمر بتقواه بقدر الاستطاعة فقال: { المحتويات - ? - ? بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر - - - الله الله أكبر ? - ? الله - - - - الله ? صدق الله العظيم ? - الله أكبر - صدق الله العظيم ? - ? الله - { الله أكبر ? - - }
[التغابن: 16]، وقد دعاه المؤمنون بقولهم: { - الله الله أكبر ? الله الله الله أكبر - الله } - الله درهم الله ? صدق الله العظيم ?- جل جلاله -? صدق الله العظيم - الله الله أكبر - - - الله ? الله أكبر صدق الله العظيم - - ? الله ? - - - { ? تمهيد - - - الله ? - ? - سبحانه وتعالى - - ? الله - - ? الله ? الله - ? - ? الله ? - ? الله أكبر ?- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - ?- جل جلاله -? - - الله ?- جل جلاله -? صدق الله العظيم - الله الله أكبر ? - الله الله أكبر ? الله الله الله أكبر - الله } - الله درهم الله ? - الله الله أكبر ? - ?- جل جلاله - الله ? الله - - الله أكبر - - الله ? - الله درهم الله ? الله الله أكبر ? - ?? - الله الله أكبر ? - ? - - - جل جلاله -?- جل جلاله - - } [البقرة: 286]، فقال: "قد فعلت".
فدلت هذه النصوص على أنه لا يكلف نفسًا ما تعجز عنه، خلافًا للجهمية المجبرة، ودلت على أنه لا يؤاخذ المخطئ والناسي، خلافًا للقدرية والمعتزلة.(6/19)
وهذا فصل الخطاب في هذا الباب؛ فالمجتهد المستدل من إمام وحاكم وعالم وناظر ومُفتٍ وغير ذلك.. إذا اجتهد واستدل فاتقى الله ما استطاع؛ كان هذا هو الذي كلفه الله إياه، وهو مطيع لله مستحق للثواب إذا اتقاه ما استطاع، ولا يعاقبه الله البتة خلافًا للجهمية المجبرة، وهو مصيب، بمعنى: أنه مطيع لله، لكن قد يعلم الحق في نفس الأمر وقد لا يعلمه، خلافًا للقدرية والمعتزلة في قولهم: كل من استفرغ وسعه علم الحق، فإن هذا باطل كما تقدم، بل كل من استفرغ وسعه استحق الثواب(1).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر في حواره مع المخالفين في باب أسماء الله تعالى وصفاته: ثم قلت لهم : وليس
كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكًا، فإن المنازع قد يكون مجتهدًا مخطئًا يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغه
في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته، وإذا كانت ألفاظ الوعيد المتناولة له لا يجب
أن يدخل فيها المتأول والقانت وذو الحسنات الماحية والمغفور له وغير ذلك.. فهذا أولى(2).
__________
(1) مجموع الفتاوى (19/ 216، 217).
(2) المرجع السابق (3/ 179).(6/20)
وفي موضع آخر يؤكد ابن تيمية -رحمه الله- عدم المؤاخذة في الخطأ في أمور الاعتقاد، حيث يقول: ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة، وإن كان ذلك في المسائل العلمية، ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة، وإذا كان الله يغفر لمن جهل تحريم الخمر لكونه نشأ بأرض جهل مع كونه لم يطلب العلم؛ فالفاضل المجتهد في طلب العلم بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه، إذا كان مقصوده متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم بحسب إمكانه.. هو أحق بأن يتقبل الله حسناته ويثيبه على اجتهاده، ولا يؤاخذه بما أخطأ؛ تحقيقًا لقوله: { - الله الله أكبر ? الله الله الله أكبر - الله } - الله درهم - - الله الله أكبر ? صدق الله العظيم - - جل جلاله - - - الله ? - الله أكبر - ? تمهيد - - - - الله ? - - جل جلاله - { بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ?
صدق الله العظيم ? - - - - - الله الله أكبر ? - - - - ? صدق الله العظيم - - - - } [البقرة: 286]، وأهل السنة جزموا بالنجاة لكل من اتقى الله تعالى، كما نطق به القرآن، وإنما توقفوا في شخص معين لعدم العلم بدخوله في المتقين(1).
ويذكر -رحمه الله- اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في بعض المسائل العلمية الاعتقادية، ويبين مذهب أهل السنة في عذر المجتهد إذا أخطأ فيقول: وتنازعوا في مسائل علمية اعتقادية؛ كسماع الميت صوت الحي، وتعذيب الميت ببكاء أهله، ورؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه قبل الموت.. مع بقاء الجماعة والألفة.
وهذه المسائل منها ما أَحدُ القولين خطأٌ قطعًا، ومنها ما المصيب في نفس الأمر واحد عند الجمهور أتباع السلف، والآخر مُؤَدٍّ لما وجب عليه بحسب قوة إدراكه؛ وهل يقال له: مصيب أو مخطئ؟ فيه نزاع، ومن الناس من يجعل الجميع مصيبين ولا حكم في نفس الأمر.
ومذهب أهل السنة والجماعة أنه لا إثم على من اجتهد
وإن أخطأ(2).
__________
(1) المرجع السابق (20/ 165، 166).
(2) المرجع السابق (19/ 123).(6/21)
ويذكر -رحمه الله- أن العالم إذا أخطأ يُترك خطؤه، ولكنه
لا يكفَّر ولا يفسَّق ولا يؤثَّم، وذلك في جوابه على سؤال حول موضوع عصمة الأنبياء عليهم السلام؛ حيث يقول: وقد اتفق
أهل السنة والجماعة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض، بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس كل من يترك بعض كلامه لخطأ أخطأه يكفر ولا يفسق،
بل ولا يأثم؛ فإن الله تعالى قال في دعاء المؤمنين: { - الله الله أكبر ? الله الله الله أكبر - الله } - الله درهم - - الله الله أكبر ? صدق الله العظيم - - جل جلاله - - - الله ? - الله أكبر - ? تمهيد - - - - الله ? - - جل جلاله - { بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? صدق الله العظيم ? - - - - - الله الله أكبر ? - - - - ? صدق الله العظيم - - - - } ، وفي الصحيح عن النبي ج: "أن الله تعالى قال: قد فعلت"(1).
وبيَّن في موضع آخر أن المجتهدين من العلماء في أمور الدين إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطؤوا فلهم أجر على اجتهادهم والله يغفر لهم خطأهم؛ حيث يقول: ولكن الأنبياء -صلوات الله عليهم- هم الذين قال العلماء: إنهم معصومون من الإصرار على الذنوب، فأما الصديقون والشهداء والصالحون فليسوا بمعصومين، وهذا في الذنوب المحققة، وأما ما اجتهدوا فيه؛ فتارة يصيبون وتارة يخطئون، فإذا اجتهدوا وأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا وأخطؤوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤهم مغفور لهم، وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين، فتارة يغْلُون فيهم ويقولون: إنهم معصومون، وتارة يجفون عنهم ويقولون: إنهم باغون بالخطأ، وأهل العلم والإيمان لا يعصمون ولا يُؤثِّمون(2).
ويبين -رحمه الله- الفرق بين المجتهد الذي يريد الوصول إلى معرفة الحق، وبين المفرِّط الذي يتبع هواه فيقول:
__________
(1) المرجع السابق (35/ 100).
(2) المرجع السابق (35/ 69).(6/22)
فمن كان خطؤه لتفريطه فيما يجب عليه من اتباع القرآن والإيمان مثلاً، أو لتعديه حدود الله بسلوك السبل التي نهى عنها، أو لاتباع هواه بغير هدى من الله.. فهو ظالم لنفسه، وهو من أهل الوعيد، بخلاف المجتهد في طاعة الله ورسوله باطنًا وظاهرًا، الذي يطلب الحق باجتهاده كما أمر الله ورسوله؛فهذا مغفور له خطؤه كما قال تعالى: { الله ? الله ? - - ? - ?? - ? الله الله - ? - - - - الله ?- جل جلاله - - الله ? - { ? - الله أكبر - - جل جلاله -? صدق الله العظيم - - ? تمهيد - - ?- جل جلاله -? - - جل جلاله -?- جل جلاله - الله الله أكبر - الله الله } - الله ?? - ?- جل جلاله -? صدق الله العظيم ? - ? - ? - - الله ? الله - ? الله أكبر ? الله ? الله ? - - ? - جل جلاله - - ? - - - - جل جلاله - - - - جل جلاله -?- جل جلاله - - الله - - تمهيد ? - - الله أكبر - الله أكبر ? الله ? الله ? - - جل جلاله -?- جل جلاله - - - - ? } الله ? - - جل جلاله -?- جل جلاله -? - ? - } الله ? - الله درهم ?? الله - - الله ? - الله أكبر ? - ? صدق الله العظيم - الله الله أكبر - - - الله - - - - ?- جل جلاله - الله ? - - - جل جلاله -?- جل جلاله -? - ? الله - } المحتويات - ? الله أكبر ? - الله الله أكبر ? الله ? - الله ? الله أكبر صدق الله العظيم ?- جل جلاله -? الله ? - - الله الله أكبر ? صدق الله العظيم ??? - - - الله ? ?? الله الله أكبر ? - الله - { الله أكبر ? الله أكبر - ?? - الله الله أكبر ? الله الله الله أكبر - الله } ?? صدق الله العظيم - - ? تمهيد - - الله ? - } - - جل جلاله -? الله ? - ? - - * - الله درهم ?? بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله -? - ? - الله أكبر ? - ? - - - - - } { { الله أكبر ? الله الله أكبر ? - بسم الله الرحمن الرحيم - درهم تمهيد - - - - الله ? الله ??? - ? - الله ? - ? - الله ? { - الله - الله { - ? -(6/23)
الله ? صدق الله العظيم - - ? الله ? الله ? - الله ? - { - الله - الله { الله الله أكبر - صدق الله العظيم الله أكبر } - - - الله الله أكبر ? الله الله الله أكبر - الله } - الله درهم - - الله الله أكبر ? صدق الله العظيم - - جل جلاله - - - الله ? - الله أكبر - ? تمهيد - - - - الله ? - - جل جلاله - { بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? صدق الله العظيم ? - - - - - الله الله أكبر ? - - - - ? صدق الله العظيم - - - - - الله الله أكبر ? الله الله الله أكبر - الله } - الله درهم الله ? صدق الله العظيم ?- جل جلاله -? صدق الله العظيم - الله الله أكبر - - - الله ? الله أكبر صدق الله العظيم - - ? الله ? - - - { ? تمهيد - - - الله ? - ? - سبحانه وتعالى - - ? الله - - ? الله ? الله - ? - ? الله ? - ? الله أكبر ?- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - ?- جل جلاله -? - - الله ?- جل جلاله -? صدق الله العظيم - الله الله أكبر ? - الله الله أكبر ? الله الله الله أكبر - الله } - الله درهم الله ? - الله الله أكبر ? - ?- جل جلاله - الله ? الله - - الله أكبر - - الله ? - الله درهم الله ? الله الله أكبر ? - ?? - الله الله أكبر ? - ? - - - جل جلاله -?- جل جلاله - - ?? صدق الله العظيم ? - - الله ? - بسم الله الرحمن الرحيم - ? الله ? ? - الله أكبر - جل جلاله -? { الله أكبر ?? - - الله ? - الله الله أكبر ? - ? - - - الله ? الله أكبر صدق الله العظيم ? الله - صدق الله العظيم } - - الله ? ? - ? - - - - الله ? الله أكبر - ? الله أكبر - ??? الله أكبر الله ? - الله الله أكبر ?? - ??? - - الله الله أكبر ? ? - ? الله ? - جل جلاله - - ?? الله ? - ? - - - ? الله أكبر ? - - - جل جلاله -? - الله أكبر الله - - ? - - } [البقرة:285، 286]، وقد ثبت في صحيح مسلم أن الله قال: "قد فعلت"، وكذلك ثبت فيه من حديث ابن(6/24)
عباس
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ بحرف من هاتين الآيتين ومن سورة الفاتحة إلا أعطي ذلك(1)، فهذا يبين استجابة هذا الدعاء للنبي والمؤمنين، وأن الله لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطؤوا(2).
ويذكر -رحمه الله- في موضع آخر أن تأثيم المجتهدين هو مذهب الخوارج؛ حيث يقول عنهم: وكان سبب خروجهم ما فعله أمير المؤمنين عثمان وعلي ومن معهما من الأنواع التي فيها تأويل، فلم يحتملوا ذلك، وجعلوا موارد الاجتهاد -بل الحسنات- ذنوبًا! وجعلوا الذنوب كفرًا(3)!!
ثم ذكر ابن تيمية -رحمه الله- أن رفع الإثم عن المخطئين في اجتهادهم مشروط بلزومهم جماعة المسلمين، وعدم مفارقتهم إياهم، وعدم براءتهم من المسلمين المخالفين لهم؛ حيث يقول:
ومما ينبغي أيضًا أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات، منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون قد خالف السنة في أمور دقيقة، ومنهم من يكون قد رد على غيره من الطوائف الذين هم أبعد عن السنة منه، فيكون محمودًا فيما رده من الباطل وقاله من الحق؛ لكن يكون قد جاوز العدل في رده بحيث جحد بعض الحق وقال بعض الباطل، فيكون قد رد بدعة كبيرة ببدعة أخف منها؛ ورد بالباطل باطلاً أخف منه، وهذه حال أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى السنة والجماعة.
__________
(1) يريد ما أخرجه الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عباس م، وفيه الخبر عن نزول ملك من السماء وقوله: "أبشر بنورين أوتيتهما، لم يُؤْتَهما نبي قبلك؛ فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أُعطيتَه"، مسلم (806)، في صلاة المسافرين.
(2) مجموع الفتاوى (3/ 317، 318).
(3) المرجع السابق (28/ 489).(6/25)
ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولاً يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه ويعادون كان من نوع الخطأ، والله -سبحانه وتعالى- يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك؛ ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتها، لهم مقالات قالوها باجتهاد، وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنة؛ بخلاف من والى مُوافِقَه وعادى مُخالِفَه وفرق بين جماعة المسلمين، وكفَّر وفسَّق مخالِفَه دون موافِقِه في مسائل الآراء والاجتهادات؛ واستحل قتال مخالِفِه دون موافِقِه.. فهؤلاء أهل التفرق والاختلافات(1).
وفي موضع آخر يبين المؤلف عذر المجتهد إذا أخطأ؛ سواء في الأصول أو الفروع، ويبين أن تقسيم الدين إلى أصول وفروع ليس من منهج السلف، ولكنه ظهر من جهة المعتزلة ثم انتقل إلى أهل السنة، وذلك بعد أن ذكر منهج السلف في الترجيح بين الأدلة التي يسميها بعض المتكلمين "أمارات"؛ حيث يقول:
وأما السلف والأئمة الأربعة والجمهور فيقولون: بل الأمارات بعضها أقوى من بعض في نفس الأمر، وعلى الإنسان أن يجتهد ويطلب الأقوى؛ فإذا رأى دليلاً أقوى من غيره ولم ير ما يعارضه عمل به، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وإذا كان في الباطن ما هو أرجح منه كان مخطئًا معذورًا، وله أجر على اجتهاده وعمله بما تبين له رجحانه، وخطؤه مغفور له، وذلك الباطن هو الحكم، لكن بشرط القدرة على معرفته، فمن عجز عن معرفته لم يؤاخذ بتركه.
فإذا أريد بالخطأ الإثم؛ فليس المجتهد بمخطئ، بل كل مجتهد مصيب مطيع لله فاعل ما أمره الله به، وإذا أريد به عدم العلم بالحق في نفس الأمر؛ فالمصيب واحد وله أجران.
__________
(1) المرجع السابق (3/ 348، 349).(6/26)
إلى أن قال: وهذه حال أهل الاجتهاد والنظر والاستدلال في الأصول والفروع، ولم يفرق أحد من السلف والأئمة بين أصول وفروع، بل جَعْلُ الدين قسمين؛ أصولاً وفروعًا.. لم يكن معروفًا في الصحابة والتابعين، ولم يقل أحد من السلف والصحابة والتابعين: إن المجتهد الذي استفرغ وسعه في طلب الحق يأثم، لا في الأصول
ولا في الفروع، ولكن هذا التفريق ظهر من جهة المعتزلة، وأدخله في أصول الفقه من نقل ذلك عنهم، وحكوا عن عبيد الله بن الحسن العنبري أنه قال: كل مجتهد مصيب، ومراده أنه لا يأثم، وهذا قول عامة الأئمة؛ كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما.
والذين فرقوا بين الأصول الفروع لم يذكروا ضابطًا يميز بين النوعين،بل تارة يقولون: هذا قطعي، وهذا ظني، وكثير من مسائل الأحكام قطعي، وكثير من مسائل الأصول ظني عند بعض الناس، فإن كون الشيء قطعيًّا وظنيًّا أمر إضافي، وتارة يقولون: الأصول هي العلميات الخبريات والفروع العمليات، وكثير من العمليات من جحدها كفر؛كوجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، وتارة يقولون: هذه عقليات وهذه سمعيات، وإذا كانت عقليات لم يلزم تكفير المخطئ؛ فإن الكفر حكم شرعي يتعلق بالشرع، وقد بُسِط هذا في غير هذا الموضع(1).
ويبين -رحمه الله- أن المجتهدين المتأولين في أحكام الدين غايةُ الحكم عليهم أنهم مخطئون؛ حيث يقول:
__________
(1) المرجع السابق (13/ 123- 126).(6/27)
وكل من كان باغيًا أو ظالمًا أو معتديًا أو مرتكبًا ما هو ذنب فهو قسمان؛ متأول، وغير متأول، فالمتأول المجتهد كأهل العلم والدين الذين اجتهدوا واعتقد بعضهم حِلَّ أمور، واعتقد الآخر تحريمها؛ كما استحل بعضهم بعض أنواع الأشربة، وبعضهم بعض المعاملات الربوية، وبعضهم بعض عقود التحليل والمتعة.. وأمثال ذلك، فقد جرى ذلك وأمثاله من خيار السلف، فهؤلاء المتأولون المجتهدون غايتهم أنهم مخطئون، وقد قال الله تعالى: { - الله الله أكبر ? الله الله الله أكبر - الله } - الله درهم - - الله الله أكبر ? صدق الله العظيم - - جل جلاله - - - الله ? - الله أكبر - ? تمهيد - - - - الله ? - - جل جلاله - { بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? صدق الله العظيم ? - - - - - الله الله أكبر ? - - - - ? صدق الله العظيم - - - - } ، وقد ثبت في الصحيح أن الله استجاب هذا الدعاء(1).
وإذا كان هذا في الباغي الذي يخرج على الإمام ونحوه إذا كان متأولاً، فكيف بمن اجتهد في أمر من أمور الدين فقال فيه باجتهاده، فهو وإن أخطأ لا إثم عليه كما تقدم؛ سواء كان ذلك في الأحكام
أو في العقائد.
وينتقد -رحمه الله- العلماء الذين يضللون مخالفيهم أو يكفِّرونهم ويستعْدُون عليهم السلطان، حيث يقول:
وكان ابن فورك في مخاطبة السلطان قصد إظهار مخالفة الكرامية، كما قصد بنيسابور القيام على المعتزلة في استتابتهم، وكما كفَّرهم عند السلطان، ولم يعدل في خصومه ومنازعيه ويعذرهم بالخطأ في الاجتهاد، بل ابتدع بدعة وعادى من خالفه فيها أو كفَّره، فإنه هو ظلم نفسه!
__________
(1) المرجع السابق (35/ 75).(6/28)
وأهل السنة والعلم والإيمان يعلمون الحق، ويرحمون الخلق، ويتبعون الرسول؛ فلا يبتدعون، ومن اجتهد فأخطأ خطأ يعذره فيه الرسول عذروه، وأهل البدع مثل الخوارج يبتدعون بدعة ويكفِّرون من خالفهم ويستحلون دمه، وهؤلاء كلٌّ منهم يرد بدعة الآخرين، ولكن هو أيضًا مبتدع فيرد بدعة ببدعة وباطلاً بباطل(1)!!
وفي موضع آخر يبين -رحمه الله- أن الذي يدافع عن العلماء ويدفع عنهم تكفير الغلاة فهو محسن، وإن اعتقد وقوع أولئك العلماء المحكوم عليهم بالكفر غير المتعمد، فإن مجرد حمايتهم ونصرهم غرض شرعي حسن، فيقول: ومن المعلوم أن المنع من تكفير علماء المسلمين الذين تكلموا في هذا الباب، بل دفع التكفير عن علماء المسلمين وإن أخطؤوا هو من أحق الأغراض الشرعية، حتى لو فرض أنَّ دافع التكفير عن القائل يعتقد أنه ليس بكافر؛ حماية له ونصرًا لأخيه المسلم، لكان هذا غرضًا شرعيًا حسنًا، وهو إذا اجتهد في ذلك فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فيه فأخطأ فله أجر واحد(2).
ويقول -رحمه الله- في كتابه "درء تعارض العقل والنقل"، بعد أن ناقش عددًا من كبار العلماء المنتسبين إلى مذهب أبي الحسن الأشعري رحمه الله:
ثم إنه ما من هؤلاء إلا مَنْ له في الإسلام مساع مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين.. ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء عن المعتزلة، وهم فضلاء عقلاء.. احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكرها جمهور المسلمين من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك منهم من يعظمهم؛ لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم؛ لما وقع في كلامهم من البدع والباطل، وخيار الأمور أوساطها.
__________
(1) المرجع السابق (16/ 95، 96).
(2) المرجع السابق (35/ 103).(6/29)
وهذا ليس مخصوصًا بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف
من أهل العلم والدين، والله تعالى يتقبل من جميع عباده
المؤمنين الحسنات؛ ويتجاوز لهم عن السيئات { - الله الله أكبر ? الله الله الله أكبر - الله } ? - الله أكبر - جل جلاله -? - ?? - - - - الله أكبر الله أكبر الله أكبر ? - ? - الله ?- جل جلاله - الله أكبر ? الله - ? صدق الله العظيم الله أكبر - - تمهيد - - درهم الله ? - ? الله أكبر ?- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - - الله الله أكبر ?? - ? الله - الله ? - ? - الله أكبر الله ?? - - تمهيد ? - - - جل جلاله - - - الله درهم الله ? صدق الله العظيم ? الله ? صدق الله العظيم ?? مقدمة - ? - الله ?- جل جلاله - الله أكبر - ? - الله أكبر ? - الله أكبر ? - فهرس - - جل جلاله -?? الله ??- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله -? المحتويات - ? - ? الله ? - - ? - - الله ? الله الله الله أكبر - الله } ?? بسم الله الرحمن الرحيم - ? تمهيد - - - ?? - ? الله } - صلى الله عليه وسلم -? - - جل جلاله - - الله الله } } [الحشر: 10].
ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة
الرسول صلى الله عليه وسلم وأخطأ في بعض ذلك؛ فالله يغفر له خطأه، تحقيقًا للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا: { - الله الله أكبر ? الله الله الله أكبر - الله } - الله درهم - - الله الله أكبر ? صدق الله العظيم - - جل جلاله - - - الله ? - الله أكبر - ? تمهيد - - - - الله ? - - جل جلاله - { بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? صدق الله العظيم ? - - - - - الله الله أكبر ? - - - - ? صدق الله العظيم - - - - } [البقرة: 286].(6/30)
ومن اتبع ظنه وهواه فأخذ يشنِّع على مَنْ خالفه بما وقع فيه من خطأ ظنه صوابًا بعد اجتهاده، وهو من البدع المخالفة للسنة.. فإنه يلزمه نظير ذلك أو أعظم أو أصغر فيمن يعظِّمه هو من أصحابه، فقلَّ من يَسْلم من مثل ذلك في المتأخرين؛ لكثرة الاشتباه والاضطراب، وبُعْد الناس عن نور النبوة وشمس الرسالة الذي به يحصل الهدى والصواب، ويزول به عن القلوب الشك والارتياب(1).
ويقول أيضًا في هذا الكتاب: ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة وإن كان ذلك في المسائل العلمية(2)، ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة، وإذا كان الله تعالى يغفر لمن جهل وجوب الصلاة وتحريم الخمر لكونه نشأ بأرض جهل، مع كونه لم يطلب العلم.. فالفاضل المجتهد في طلب العلم بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه إذا كان مقصوده متابعة الرسول بحسب إمكانه هو أحق بأن يتقبل الله حسناته، ويثيبه على اجتهاداته، ولا يؤاخذه بما أخطأه، تحقيقًا لقوله تعالى: { - الله الله أكبر ? الله الله الله أكبر - الله } - الله درهم - - الله الله أكبر ? صدق الله العظيم - - جل جلاله - - - الله ? - الله أكبر - ? تمهيد - - - - الله ? - - جل جلاله - { بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? صدق الله العظيم ? - - - - - الله الله أكبر ? - - - - ? صدق الله العظيم - - - - } (3).
ويقول -رحمه الله- في بيان هذا الموضوع: والخطأ المغفور في الاجتهاد هو في نوعي المسائل الخبرية والعملية(4)، كما قد بُسط
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل (2/ 102، 103).
(2) يعني في المسائل العقدية كما تقدم.
(3) درء تعارض العقل والنقل (2/ 315).
(4) جاء في الفتاوى: " والعلمية "، وهو خطأ؛ لأن الخبرية هي العلمية وإنما أراد المؤلف العملية؛ لأنه يعبر في مواضع كثيرة عن مسائل العقيدة بالعلمية أو الخبرية، ويعبر عن الأحكام الفقهية بالعملية.(6/31)
في غير موضع، ثم ذكر أمثلة على ذلك؛ منها مَن اعتقد أن الله تعالى لا يُرى في الآخرة؛ لقوله { - بسم الله الرحمن الرحيم - درهم - ? - } - } صدق الله العظيم - الله أكبر - الله أكبر - - - - الله أكبر الله أكبر - الله أكبر ? صدق الله العظيم الله أكبر - - - - ? - - } [الأنعام: 103]، ولقوله: { - الله ? الله ? الله ? - - ? - - الله ? الله - - جل جلاله -? ? - - - - ? الله ? بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله -? الله أكبر - ? - الله أكبر ? - ? - - - - - بسم الله الرحمن الرحيم - درهم تمهيد - - - } الله أكبر الله أكبر - صدق الله العظيم - الله ? صدق الله العظيم ? - - - ?- جل جلاله -? - ?? - - الله } الله ?
{ - - الله - - جل جلاله - - } [الشورى: 51]، ومنها اعتقاد أن الله تعالى لا يَعجب كما اعتقد ذلك القاضي شريح؛ لاعتقاده أن العجب إنما يكون مِن جَهل السبب والله منزه عن الجهل(1)، ومنها اعتقاد أن الميت لا يسمع خطاب الحي لاعتقاده أن قوله تعالى: { ?? بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? تمهيد - - - الله درهم - ? الله أكبر - جل جلاله -? { الله أكبر { - الله أكبر - - عليه السلام -? الله الله أكبر - صدق الله العظيم ? الله ? - ? - - } [ النمل:80 ]
يدل على ذلك(2).
__________
(1) وذلك بمناسبة قول الله تعالى: { صدق الله العظيم ? الله الله أكبر - ? - صدق الله العظيم - - جل جلاله - - الله ? الله ?? - - الله - الله أكبر صدق الله العظيم { الله الله أكبر ? الله ? } [الصافات: 12]، وذلك على
قراءة ضم التاء في { ? - صدق الله العظيم - - جل جلاله - - الله ? } ؛ وهي قراءة حمزة والكسائي في آخرين، انظر: زاد المسير لابن الجوزي (7/ 50).
(2) مجموع الفتاوى (20/ 33- 36).(6/32)
ومن أقواله في هذا الأمر: هذا مع أني دائمًا، ومن جالسني يعلم ذلك مني.. أني من أعظم الناس نهيًا عن أن ينسب معيَّن إلى تكفير، وتفسيق، ومعصية؛ إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرًا تارة، وفاسقًا أخرى، وعاصيًا أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية(1).
ويقول في الرد على من حكموا على المخالفين المخطئين بالكفر: إن المتأول الذي قصْده متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكفر، بل ولا يفسق، إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفَّر المخطئين فيها، وهذا القول لا يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع، الذين يبتدعون بدعة ويكفِّرون من خالفهم؛ كالخوارج والمعتزلة والجهمية، ووقع ذلك في كثير من أتباع الأئمة؛ كبعض أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم.
وقد يسلكون في التكفير ذلك؛ فمنهم من يكفِّر أهل البدع مطلقًا، ثم يجعل كل من خرج عمَّا هو عليه من أهل البدع! وهذا بعينه قول الخوارج والمعتزلة والجهمية.
وهذا القول أيضًا يوجد في طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة، وليس هو قول الأئمة الأربعة ولا غيرهم، وليس فيهم من كفَّر كل مبتدع، بل المنقولات الصريحة عنهم تناقض ذلك، ولكن قد يُنقل عن أحدهم أنه كفَّر من قال بعض الأقوال ويكون مقصوده أن هذا القول كفر ليُحذر، ولا يلزم إذا كان القول كفرًا أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل؛ فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعيَّن؛ كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه، وذلك له شروط وموانع، كما بسطناه في موضعه.
__________
(1) المرجع السابق (3/ 229).(6/33)
وإذا لم يكونوا في نفس الأمر كفارًا لم يكونوا منافقين، فيكونون من المؤمنين، فيُستغفر لهم ويُترحم عليهم، وإذا قال المؤمن: { - - الله الله أكبر ? الله الله الله أكبر - الله } ? - الله أكبر - جل جلاله -? - ?? - - - - الله أكبر الله أكبر الله أكبر ? - ? - الله ?- جل جلاله - الله أكبر ? الله - ? صدق الله العظيم الله أكبر - - تمهيد - - درهم الله ? - ? الله أكبر ?- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - - الله الله أكبر ?? - ? الله - الله ? ? - الله أكبر الله ?? - - تمهيد ? - - - جل جلاله - - } [الحشر: 10]، يقصد كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان، وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوله؛ فخالف السنة أو أذنب ذنبًا.. فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان؛ فيدخل في العموم(1).
وفي كتاب "الاستقامة" عقد -رحمه الله- فصلاً فيما اختلف فيه المؤمنون من الأقوال والأفعال في الأصول والفروع، ثم قال: ومن هذا الباب ما هو من باب التأويل والاجتهاد الذي يكون الإنسان مستفرغًا فيه وسعه؛ علمًا وعملاً.
قال: ثم إن الإنسان قد يبلغ ذلك ولا يعرف الحق في المسائل الخبرية الاعتقادية، وفي المسائل العملية الاقتصادية، والله سبحانه قد تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان بقوله تعالى: { - الله الله أكبر ? الله الله الله أكبر - الله } - الله درهم - - الله الله أكبر ? صدق الله العظيم - - جل جلاله - - - الله ? - الله أكبر - ? تمهيد - - - - الله ? - - جل جلاله - { بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? صدق الله العظيم ? - - - - - الله الله أكبر ? - - - - ? صدق الله العظيم - - - - } [البقرة:286]، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس ومن حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله استجاب لهم هذا الدعاء، وقال: "قد فعلت"(2).
__________
(1) منهاج السنة النبوية (5/ 239- 241).
(2) الاستقامة (1/ 24- 26).(6/34)
وأفاد في موضع آخر من هذا الكتاب بأن الاجتهاد يكون مذمومًا إذا صاحبه البغي؛ حيث يقول: ولكن الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع البغي، لا لمجرد الاجتهاد، واستشهد بآيات؛ منها قول الله تعالى: { - الله ? الله ? ?? - ? الله - الله أكبر صدق الله العظيم - - - - ? الله أكبر ?- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - المحتويات - ? - - ? الله أكبر - - ? درهم - الله أكبر الله الله أكبر - - جل جلاله -? - ? - - - بسم الله الرحمن الرحيم - درهم تمهيد - - - ?- جل جلاله -? - جل جلاله - - صدق الله العظيم ? الله الله أكبر - - الله ? - ? - ? - ? - - الله - ?- رضي الله عنهم - - ?- جل جلاله -? - ? - - - - الله أكبر الله - { الله أكبر ?? الله الله أكبر - - صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - - ? الله الله أكبر ? صدق الله العظيم - الله الله أكبر - } [آل عمران: 19]، ثم قال: فلا يكون فتنة وفرقة مع وجود الاجتهاد السائغ، بل مع نوع بغي(1).
ويقول الإمام ابن تيمية أيضًا في التحذير من تفرق الأمة بسبب تفرق علمائها: "وهم مأمورون بأن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه كما أُمِرت الرسل بذلك، ومأمورون بألا يفرقوا بين الأمة، بل هي أمة واحدة كما أُمِرت الرسل بذلك، وهؤلاء آكد، فإن هؤلاء تجمعهم الشريعة الواحدة والكتاب الواحد، وأما القدر الذي تنازعوا فيه فلا يقال: إن الله أمر كلاًّ منهم باطنًا وظاهرًا بالتمسك بما هو عليه كما أمر بذلك الأنبياء، وإن كان هذا قول طائفة من أهل الكلام، فإنما يقال: إن الله أمر كلاًّ منهم أن يطلب الحق بقدر وسعه وإمكانه، فإن أصابه وإلا فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وقد قال المؤمنون:
__________
(1) المرجع السابق (1/ 31).(6/35)
{ - الله الله أكبر ? الله الله الله أكبر - الله } - الله درهم - - الله الله أكبر ? صدق الله العظيم - - جل جلاله - - - الله ? - الله أكبر - ? تمهيد - - - - الله ? - - جل جلاله - { بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? صدق الله العظيم ? - - - - - الله الله أكبر ? - - - - ? صدق الله العظيم - - - - } [البقرة: 286]، وقال الله: قد فعلت، وقال تعالى: { ? } صدق الله العظيم - الله أكبر - ? الله ? ?? - - صدق الله العظيم - - ? الله ? - - - الله الله أكبر ? - - - - الله ? - - جل جلاله -? - رضي الله عنهم - - الله أكبر - - - - الله أكبر - ? { الله أكبر الله أكبر - - - - - - جل جلاله -?- جل جلاله - - } [الأحزاب: 5]، فمن ذمهم ولامهم على ما لم يؤاخذهم الله عليه فقد اعتدى، ومن أراد أن يجعل أقوالهم وأفعالهم بمنزلة قول المعصوم وفعله وينتصر لها بغير هدى من الله؛ فقد اعتدى واتبع هواه بغير هدى من الله، ومن فعل ما أُمِر به بحسب حاله؛ من اجتهاد يقدر عليه، أو تقليد إذا لم يقدر على الاجتهاد، وسلك في تقليده مسلك العدل فهو مقتصد؛ إذ الأمر مشروط بالقدرة { - الله درهم ?? بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله -? - ? - الله أكبر ? - ? - - - - - } { { الله أكبر ? الله الله أكبر ? - بسم الله الرحمن الرحيم - درهم تمهيد - - - - الله ? الله ??? - ? } [البقرة:286]، فعلى المسلم في كل موطن أن يسلم وجهه لله وهو محسن، ويدوم على هذا الإسلام، فإسلام وجهه إخلاصه لله، وإحسان فعله الحسن، فتدبَّرْ هذا فإنه أصل جامع نافع عظيم"(1).
__________
(1) مجموعة الرسائل المنيرية (3/ 141)، رسالة " قاعدة في توحد الملة وتعدد الشرائع"، وهي الرسالة الثامنة.(6/36)
وبهذا نعلم أن شيخ الإسلام ابن تيمية حينما دعا إلى تعميم الاجتهاد في كل أمور الدين، وحَمَلَ كلام المخالفين من العلماء على الخطأ، وبيَّن أن المخطئ مغفور له خطؤه ولا إثم عليه.. نعلم بذلك أن ابن تيمية من أعظم الدعاة إلى بيان المنهج الإسلامي في معرفة الحق والحكم على المخالفين، وإلى قيام جماعة المسلمين وتماسكها، وهو يدرك بأن قيامها واستمرار وجودها القوي غير ممكن ما دام علماء الدين -الذين يضع المسلمون ثقتهم بهم- يتبادلون التهم، ويحكم بعضهم على بعض بالفسق والابتداع؛ إن لم يحكموا عليهم بالكفر! فلذلك كرر بيان هذا الموضوع في كثير من فتاواه كما تبين لنا، وهو يدعو إلى ما يترتب على ذلك من عمران المحبة بين العلماء وتوافر الولاء القلبي بينهم، وإن ظل بعضهم على قناعتهم بما توصلوا إليه في اجتهادهم.
وهكذا رأينا أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان عادلاً في حكمه على المخالفين من أهل السنة، محافظًا على منزلة علماء الدين.
أما ما نراه من شدة ابن تيمية على مخالفيه في مواضع أخرى، فهو محمول على الرغبة القوية في بيان ما يراه من الحق؛ حتى لا يضيع في خضم الخلاف الذي قد يُعرض أحيانًا بأسلوب مؤثر.
وابن تيمية -رحمه الله تعالى- حينما يرد بشدة على المخالفين ويحكم عليهم بأحكام شديدة؛ إنما يريد المتشددين في مذهبهم، الذين يحكمون على أهل الإثبات الكامل بأنهم مُجسِّمة وحَشْوية، فهؤلاء ظالمون في حكمهم فاستحقوا منه الأحكام الشديدة، أما العلماء المعتدلون من الأشاعرة والماتريدية وغيرهم؛ الذين يحكمون على مخالفيهم ممن هم أهل للاجتهاد بالخطأ.. فإنهم في نظر ابن تيمية مجتهدون مخطئون، وإن لم يكن هؤلاء وأمثالهم من العلماء المجتهدين هم المقصودين بالحكم عليهم بالخطأ في كلام ابن تيمية، فمن هم العلماء الذين عناهم في كتاباته الكثيرة حينما حكم عليهم بأنهم مجتهدون مخطئون؟!(6/37)
إنه ينبغي لنا ألا نأخذ مذهب العالم من نمط واحد من كتاباته، وإنما نأخذ نماذج من أنماط متعددة لنصل إلى تقرير مذهبه، وإننا حينما نقارن بين النصوص التي يحمل فيها ابن تيمية على مخالفيه فيصفهم بالضلال، وبين النصوص التي حكم عليهم فيها بأنهم مجتهدون مخطئون ويلتمس لهم الأعذار.. ندرك أنه لا يقصد الحكم على طائفة بعينها مرة بالضلال ومرة بالخطأ، وإنما يحكم بالضلال على من اجتهد في أمر من أمور الدين وهو ليس أهلاً للاجتهاد، أو تعمد مخالفة الحق تعصبًا للرأي أو للمذهب، أو جار في حكمه على مخالفيه، بينما يحكم بالخطأ على من خالف الصواب وهو من أهل الاجتهاد وقد بذل وسعه لمعرفة الحق.
وإن من إنصاف ابن تيمية وإنصاف الحق أن نأخذ كلامه كاملاً في بيان أخطاء الآخرين والرد عليهم، وفي بيان فضائلهم وفي الاعتذار لهم، الأمرَ الذي له أهميته في قصر الخلاف على بيان الحق عند كل عالم، من غير أن يتجاوز ذلك إلى البراءة من المخالفين أو الحكم عليهم بالأحكام الجائرة.
لقد استفاد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- كثيرًا في كتبه من منهج الكتاب والسنة، فنجده مثلاً حينما يتحدث عن المخالفين في أمور العقيدة يتشدد، ويأتي بأساليب الكلام المنوعة في الرد عليهم والتنفير من مذاهبهم، وهذا يشبه آيات الوعيد وأحاديثه؛ حيث إن من أعظم مقاصدها التنفيرَ من الأعمال السيئة التي حذرت منها تلك الآيات والأحاديث، ثم نجده في مواضع أخرى يعتذر لبعض أولئك المخالفين؛ وهم الذين لم تصل مخالفتهم إلى حد رَدِّ الكتاب والسنة والاستقلال بأصول تخالفهما، أو الدخول في هذا العلم من غير أهلية له، ومع اعتذاره لهم يفتح لهم باب الرجاء فيعتبرهم من جملة علماء هذه الأمة المرحومة، المثاب مجتهدها، المغفور لمخطئها، وذلك يشبه آيات الوعد وأحاديثه الوعد التي من أهم مقاصدها فتح باب الأمل والرجاء لمن قد يصابون باليأس من رحمة الله تعالى.(6/38)
ولكن طائفة من العلماء تمسكوا بكتابات ابن تيمية التي يرد بها على المخالفين بما فيها من شدة وغلظة، وربما فاقه بعضهم في هذا المجال، بينما مروا مر الكرام على كتاباته التي يعتذر فيها لبعض المخالفين، ويحنو عليهم، ويخاطبهم فيها خطاب العالم لإخوانه الذين يسير هو وإياهم لبلوغ هدف واحد، وإن اختلف طريقه قليلاً عن طريقهم.
وكان ينبغي الجمع بين هذه الكتابات وتلك لنخرج منها بصياغة معتدلة لآراء ابن تيمية الاجتهادية، وهي التي فيها الخير الكثير، والحل لكثير من مشكلات تفرق العلماء وتفرق الأمة من خلفهم.
إنني حينما كتبت هذه الرسالة وجمعت هذه الدرر من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية إنما أهدف إلى رفع الملام عن أئمة الإسلام؛ كالنووي والعز بن عبد السلام وابن حجر العسقلاني، حيث وصفهم بعض طلاب العلم في هذا العصر بالابتداع والضلال!!
كما أهدف في مقابل ذلك إلى رفع الملام عن أئمة الإسلام الذين أخذوا بظاهر الآيات ولم يؤولوها؛ كابن تيمية وابن القيم والذهبي، ومن قبلهم ابن قتيبة وابن خزيمة وغيرهم؛ حيث إن هؤلاء العلماء وُصفوا من مخالفيهم بأوصاف شنيعة، فقد قيل عنهم إنهم حشوية ومجسمة، وحُكِم عليهم بالبدعة والضلال، بل بالكفر أحيانًا من بعض العلماء السابقين ومن بعض أهل العلم في هذا العصر.
ومن ذلك قول أحد علماء هذا العصر: "لقد ضل ابن تيمية حينما قال بفناء النار"، وكان الأولى أن يقول: لقد أخطأ ابن تيمية؛ لأنه إنما قال هذا القول -على فرض أنه قاله- عن اجتهاد منه، وهو من أبرز أهل الاجتهاد، فغاية ما يحكم عليه به المخالف أن يصفه بالخطأ، والخطأ لا يترتب عليه بغض ولا براءة، بل يظل العلماء وإن اختلف اجتهادهم على حب وولاء.(6/39)
كما أهدف من ذلك إلى رفع الحرج عن علماء هذا العصر؛ الذين اتُّهموا في عقائدهم لأنهم ذهبوا إلى بعض ما قرره بعض علماء السنة القدامى من تأويل بعض الآيات على غير ظاهرها؛ حيث اتُّهموا بالتعطيل، ونُسبوا إلى بعض فرق الغلاة؛ كالمعتزلة والجهمية، وإلى رفع الحرج عن العلماء الذين أخذوا بقول بعض علماء السنة الذين فسروا تلك الآيات على ظاهرها، حيث وصفوهم بالتجسيم والتشبيه ونحو ذلك، وكل فريق من هؤلاء العلماء المعاصرين إنما ساروا على ما سار عليه علماء كبار من أهل السنة والجماعة، فهل نصف أولئك العلماء بهذه الصفات الشنيعة؟!
وإذا تبين لنا أن المنهج الصحيح هو الحكم على العلماء المخالفين بالخطأ إذا كانوا من أهل الاجتهاد، وعدم جواز تضليلهم
أو تبديعهم، فضلاً عن تفسيقهم أو تكفيرهم.. فإن هذا الحكم
يسري على كل من اقتدى بهم وأخذ باجتهادهم من أهل العلم وعامة المسلمين.
لكن المشاهد في هذا العصر أن بعض العلماء يتورعون عن الحكم على كبار العلماء السابقين بالضلال والابتداع ويحكمون عليهم بالخطأ، بينما ينبري بعض تلامذتهم للحكم على بعض علماء هذا العصر بالضلال والابتداع، وهؤلاء العلماء المحكوم عليهم هم على منهج أولئك العلماء الكبار، ومع ذلك فإن كثيرًا من العلماء المعاصرين لا ينكرون هذا التناقض في الحكم.
ونظرًا لظهور هذا التناقض فإن بعض المتشددين في هذا العصر حكموا على بعض كبار العلماء السابقين بالضلال والابتداع وحرموا قراءة كتبهم، ولو أن العلماء الذين تورعوا عن الحكم على كبار العلماء بالضلال والابتداع عمموا هذا الحكم على كل من أخذ باجتهادهم؛ لما حصل هذا الغلو الذي باعد بين أهل العلم الديني من المسلمين، وأوجد بينهم شيئًا من العداوة والبغضاء، وعامة المسلمين تبع لأهل العلم منهم، فإذا تفرق أهل العلم وتباعدوا تبعهم في ذلك عامة المسلمين.(6/40)
إن الذي ينظر إلى النزاع بين طلاب العلم على مر الزمن بسبب الخلاف الدائر بين العلماء المتبوعين في أمور العقيدة.. يشفق على أوضاع هذه الأمة التي تتطاحن وتتناحر بسبب الخلاف بين أهل العلم الديني!
ولو أن علماء الدين ربَّوا تلامذتهم على المنهج المعتدل، القائم على تخطئة المخالفين لهم حينما يتبين لهم خطؤهم، لا على تجريحهم وتبديعهم وتضليلهم.. لأصبح الجو العلمي الديني هادئًا، ولسادت بين طلاب العلم روح المودة والأخوة القائمة على عذر المخالفين، وعدم معاملتهم معاملة الفساق والكفار في البغض والبراءة، مع اعتصام كل فريق بما يراه هو الحق، ومع قيام المناظرات والردود فيما بينهم على منهج متزن معتدل، لا يفسد المودة ولا يجرح الأخوة الإيمانية بينهم، وبالتالي فإنه لا يترتب على خلافهم تحزبات
ولا انقسامات تصل إلى مستوى العامة والمثقفين من غير المتخصصين في الدراسات الإسلامية.
- - - - -
من أقوال الإمام الذهبي
من العلماء الذين رأيت لهم أقوالاً معتدلة في الحكم على العلماء الإمام شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، ومن ذلك أنه ذكر في ترجمة محمد بن نصر المروزي بعض أقواله في العقيدة، وأنه هجره على ذلك علماء وقته، وخالفه أئمة خراسان والعراق، ثم قال الذهبي: ولو أنَّا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورًا له قمنا عليه وبدَّعناه وهجرناه؛ لما سلم لنا لا ابن نصر ولا ابن مَنْدَه ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفضاضة(1).
__________
(1) سير أعلام النبلاء (14/ 39، 40).(6/41)
وقال في ترجمة محمد بن إسحاق ابن خزيمة: وكتابه في التوحيد مجلد كبير، وقد تأول في ذلك حديث الصورة؛ فَلْيعذر من تأول بعض الصفات، وأما السلف فما خاضوا في التأويل، بل آمنوا وكفُّوا وفوضوا علم ذلك إلى الله ورسوله، ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده -مع صحة إيمانه وتوخِّيه لاتِّباع الحق- أهدرناه وبدَّعناه.. لَقَلَّ من يَسلَم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنِّه وكرمه(1).
وحديث الصورة المذكور هو ما أخرجه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة ط قال: قال رسول الله ج: "خلق الله آدم على صورته وطوله ستون ذراعًا.."، الحديث، قال أبو بكر ابن خزيمة: فصورة
آدم -وهي ستون ذراعًا- التي خبَّر النبي صلى الله عليه وسلم أن آدم خُلق عليها،
لا على ما توهم بعض من لم يتحرَّ العلم فظن أن قوله على صورته صورة الرحمن(2).
وذكر في ترجمة الشيخ أبي اليُمن زيد بن الحسن الكندي انتقاد القفطي له، ثم قال: قلت: ما علمنا عنه إلا خيرًا، وكان يحب الله ورسوله وأهل الخير، وشاهدت له فتيا في القرآن تدل على خير وتقرير جيد، لكنها تخالف طريقة أبي الحسن (يعني الأشعري)، فلعل القفطي قصد أنه حنبلي العقد، وهذا شيء قد سمج القول فيه، فكل من قصد الحق من هذه الأمة فالله يغفر له، أعاذنا الله من الهوى والنفس(3).
وقال في ترجمة الإمام أبي الحسن الأشعري رأيت للأشعري كلمة أعجبتني وهي ثابتة، رواها البيهقي: سمعت أبا حازم العبدري: سمعت زاهر بن أحمد السرخسي يقول: لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري في داري ببغداد دعاني فأتيته فقال: اشهد عليَّ أني لا أُكفِّر أحدًا من أهل القبلة، لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات.
__________
(1) المرجع السابق (14/ 374- 376).
(2) كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - عز وجل -: 41.
(3) سير أعلام النبلاء (22/ 38، 39).(6/42)
قال الذهبي: قلت: وبنحو هذا أدين، وكذا كان شيخنا ابن تيمية فيأواخر أيامه يقول: أنا لا أكفِّر أحداً من الأمة، ويقول: قال النبي ج: "لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن"(1)، فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم(2).
وقال في ترجمة شيخ الإسلام موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة: وقال أبو شامة: كان إمامًا علَمًا في العلم والعمل، صنف كتبًا كثيرة، لكن كلامه في العقائد على الطريقة المشهورة عن أهل مذهبه، فسبحان من لم يوضح له الأمر فيها على جلالته في العلم ومعرفته بمعاني الأخبار!
قال الذهبي: قلت: وهو وأمثاله متعجب منكم مع علمكم وذكائكم كيف قلتم! وكذا كل فرقة تتعجب من الأخرى، ولا عجب في ذلك، ونرجو لكل من بذل جهده في تطلُّب الحق أن يُغفَر له من هذه الأمة المرحومة(3).
فهذه بعض أقوال الإمام الذهبي في الحكم على العلماء، وهو من تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد استفاد منه في تسامحه وعدله في الحكم على المخالفين له من العلماء.
- - - - -
من أقوال بعض العلماء المعاصرين
يقول سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين في شرح "لمعة الاعتقاد" لموفق الدين ابن قدامة: وحكم التأويل على ثلاثة أقسام:
الأول: أن يكون صادرًا عن اجتهاد وحسن نية؛ بحيث إذا تبين له الحق رجع عن تأويله؛ فهذا معفو عنه لأن هذا منتهى وسعه، وقد قال الله تعالى: { - الله درهم ?? بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله -? - ? - الله أكبر ? - ? - - - - - } { { الله أكبر ? الله الله أكبر ? - بسم الله الرحمن الرحيم - درهم تمهيد - - - - الله ? الله ??? - ? } [البقرة: 286].
الثاني: أن يكون صادرًا عن هوى وتعصب، وله وجه في اللغة العربية؛ فهو فسق وليس بكفر، إلا أن يتضمن نقصًا أو عيبًا في حق الله؛ فيكون كفرًا.
__________
(1) جزء من حديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5/ 276- 282) ، والدارمي في سننه (1/ 168).
(2) سير أعلام النبلاء (14/ 88).
(3) المرجع السابق (22/ 171، 172).(6/43)
الثالث: أن يكون صادرًا عن هوى وتعصب، وليس له وجه في اللغة العربية؛ فهذا كفر؛ لأن حقيقته التكذيب حيث لا وجه له(1).
وقد أجرى الأخ خالد الحسينان في مجلة "المسلمون" حوارًا مع الشيخ محمد العثيمين، وفي ذلك يقول: ماذا تقولون لمن يتتبعون أخطاء العلماء وسيئاتهم، ثم يُبرزونها ويسكتون عن حسناتهم بدعوى أن هذه الأخطاء في باب العقيدة؟
فأجاب فضيلة الشيخ: هذا خطأ؛ فالعقيدة كغيرها من حيث إنه قد يقع فيها الخطأ، أفلم يعلم هؤلاء أن العلماء قد اختلفوا في أبدية النار؛ هل هي مؤبدة أو غير مؤبدة؟! وهؤلاء من السلف والخلف، وقد اختلفوا في شيء من العقيدة، فهل نُظهر سيئاتهم؟ الصراطُ الذي يوضع على جهنم؛ هل هو طريق كغيره من الطرق، أو هو أدق من الشعرة وأحدُّ من السيف؟! الذي يوزن يوم القيامة؛ هل هو الأعمال أم صاحب العمل أم صحائف الأعمال؟ هل رأى الرسول ربه أم لم يره؟ هل تُعاد الروح إلى البدن فيكون العذاب على البدن والروح أو على الروح وحدها في القبر بعد الدفن؟! كل هذه مسائل في العقيدة واختلف فيها العلماء، فهل نُظهر سيئاتهم أو نرفضهم؟!
وفي سؤال آخر عمن أراد أن يقيِّم شخصًا فيذكر مساوئه فقط
__________
(1) شرح لمعة الاعتقاد (19)، ط الأولى، مكتبة الرشد.(6/44)
ولا يذكر ما لديه من خير؛ قال من ضمن جوابه: فالواجب على من أراد أن يقيِّم شخصًا تقييمًا كاملاً إذا دعت الحاجة أن يذكر مساوئه ومحاسنه، وإذا كان ممن عُرف بالنصح للمسلمين أن يعتذر عما صدر منه من المساوئ؛ فمثلاً نحن نرى من العلماء كابن حجر والنووي وغيرهما من لهم أخطاء في العقيدة، لكنها أخطاء نعلم علم اليقين فيما نعرف من أحوالهم أنها صدرت عن اجتهاد؛ فمثلاً نجدهم يؤولون قوله تعالى: { - ? - - الله - الله ? الله ? الله - الله أكبر - ? } } [الفجر: 22] وجاء أمر ربك؛ لماذا؟! فالله يقول: جاء ربك، وهم يقولون: جاء أمره؛ فهذا خطأ، فإنه لا بدَّ علينا أن نؤمن بأن الله يجيء كيف شاء، لكن نلتمس لهم العذر،
ولا نجعل من هذا الخطأ -الذي نعلم أنه صادر عن اجتهاد- لا نجعل منه بابًا للسب والقدح فيهم(1).
وكذلك حينما حقق سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- الأجزاء الثلاثة الأولى من "فتح الباري"، خطَّأَ الشارح الحافظ ابن حجر العسقلاني في مواضع من العقيدة، ولم يحكم عليه بالضلال ولا بالابتداع(1).
وهذا الذي سار عليه هذان العالمان الجليلان هو المنهج الصحيح في الحكم على المخالفين.
__________
(1) صحيفة "المسلمون"، العدد (437)، في 28/ 12/ 1413هـ.(6/45)
ومن ذلك ما جاء في فتوى صادرة من اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية، وقد جاء فيها "موقفنا من أبي بكر الباقلاني والبيهقي وأبي الفرج ابن الجوزي وأبي زكريا النووي وابن حجر وأمثالهم؛ ممن تأول بعض صفات الله تعالى أو فوضوا في أصل معناها.. أنهم في نظرنا من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم، فرحمهم الله رحمة واسعة، وجزاهم عنا خير الجزاء، وأنهم من أهل السنة فيما وافقوا فيه الصحابة رضي الله عنهم وأئمة السلف في القرون الثلاثة التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالخير، وأنهم أخطؤوا فيما تأولوه من نصوص الصفات، وخالفوا فيه سلف الأمة وأئمة السنة رحمهم الله، سواء تأولوا الصفات الذاتية وصفات الأفعال أم بعض ذلك"(1).
فهذه الاقتباسات من كلام هؤلاء الأعلام السابقين والمعاصرين يستأنس بها في بيان شرعية الاجتهاد في أمور العقيدة كغيرها من أمور الدين؛ لأن الحكم بالخطأ على المخالف وعدم الحكم عليه بالضلال والابتداع بيان لشرعية الاجتهاد في هذه القضايا الخلافية.
والذين يقولون بعدم شرعية الاجتهاد في مسائل العقيدة يقال لهم: إنكم قد اجتهدتم في تفسير نصوص العقيدة؛ حيث إنكم لم تعتمدوا في تفسير كثير منها على نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما بينتم معانيها بناء على دلالات اللغة العربية، سواء حملها هؤلاء المفسرون على ظاهرها، أم أولوها بمعانٍ أخرى، وقد اتفق أهل السنة بمختلف طوائفهم على تفسير نصوص معية الله تعالى بالعلم وبالنصر والتأييد.
بل إن هناك نوعًا من التناقض بين بيان معاني نصوص الأسماء والصفات والقول بعدم شرعية الاجتهاد في ذلك؛ لأن بيان معناها يعني أنها من المحكم، أما عدم شرعية الاجتهاد فيها فهو يعني أنها من المتشابه، والقائلون بمنع الاجتهاد فيها يرون أنها من المحكم وليست من المتشابه.
__________
(1) فتاوى اللجنة الدائمة (3/ 173).(6/46)
إنه ينبغي أن تُعرض موضوعات العقيدة بالأسلوب الذي تعرض فيه أبواب الأحكام، وذلك بجمع أطراف الموضوع والنظر فيما عند المخالفين من الأدلة والاجتهادات، ثم ترجيح القول الراجح بالبراهين المقنعة بهدوء وروية، ومن غير هجوم على المخالفين ولا اتهام لهم في معتقداتهم؛ وذلك لأن عرض الموضوعات بشيء من العنف والاعتزاز بالرأي والتهوين مما عند الآخرين يورث في الطلاب الناشئين نوعًا من الشدة في التمسك بالمذهب العقدي الذي نشؤوا عليه؛ لشعورهم المهيمن بأنه الحق الذي لا يقبل النظر، وأن الذي مع الآخرين هو الباطل الذي لا يقبل النظر!
- - - - -
الحق ليس بالكثرة ولا بالقلة
وبعض أهل العلم ينظرون إلى الحق من منظار القلة أو الكثرة، فمنهم من يرى أن الحق مع القلة، ويستدلون على ذلك بحديث الفِرَق(1)، ويقولون: إننسبة أهل الحق إلى أهل الباطل كنسبة واحد إلى ثلاثة وسبعين، وهذا لا دليل فيه على أن أهل الحق عددهم قليل؛ لأنه ليس في الحديث ما يفيد تساوي عدد أهل هذه الفرق، بل إن في إحدى روايات هذا الحديث: فقلنا: انعتهم لنا، فقال: "السواد الأعظم"، ذكره الحافظ الهيثمي من رواية الحافظ الطبراني، وقال: رجاله ثقات، وهذا يفيد بأن أصحاب الفرق الضالة يشذون عن أهل الحق الذين هم جمهور المسلمين.
وكذلك يستدلون بحديث الطائفة المنصورة(2)، وليس فيه دليل على ما ذهبوا إليه؛ لأن الصفات البارزة التي تميز الطائفة المنصورة هي الصفات الجهادية كما سيأتي في الكلام على هذه الطائفة، فالمعالم المميزة لها صفات عملية، وليست مجرد صفات علمية، والموضوع الذي نحن بصدده يرتكز على الجانب العلمي.
__________
(1) ينظر هذا الحديث برواياته في رسالة "شمول معالم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة".
(2) ينظر هذا الحديث في الرسالة المذكورة.(6/47)
وربما استدلوا بقول الله تعالى: { ? تمهيد - - الله ? ?? الله أكبر - جل جلاله -? - الله أكبر - الله - الله - الله أكبر صدق الله العظيم } - - - ? الله ? ? - ? صدق الله العظيم } - - - - ? - - ??? بسم الله الرحمن الرحيم الله أكبر ? - ? - الله أكبر ? ? الله ? - ? - - جل جلاله - - - الله أكبر الله أكبر الله أكبر ? - - ?- جل جلاله - - - - } [الأنعام:116]، وهذا الاستدلال بعيد
عن الصواب؛ لأن هذه الآية نزلت في الكفار، وهم أكثر أهل الأرض في وقت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تنطبق هذه الآية على العلماء المجتهدين من المسلمين.
وبعض أهل العلم يرون أن الحق مع الكثرة؛ لأنهم هم الجمهور، وقد اعتبر العلماء قول الجمهور في الترجيح.
والصواب -والله أعلم- أن ينظر إلى الحق من خلال الأدلة الشرعية، وأن ينظر في تفسيرها دلالات اللغة العربية، مع مراعاة حمل المطلق على المقيد والعام على الخاص والمجمل على المبين، وحمل الكلام على الحقيقة إلا إذا دلت القرائن على لزوم حمله على المجاز.. ونحو ذلك.
- - - - -
لمحة تاريخية عن الموضوع(6/48)
لقد دخل أهل السنة والجماعة في صراع جدلي عنيف في القرنين الثاني والثالث مع المخالفين الذين شذوا عن منهج الحق، وخاصة مع الجهمية والمعتزلة، وبلغ الصراع ذروته حينما تمكن المعتزلة من قلب أمير المؤمنين المأمون؛ فأقنعوه بأفكارهم الشاذة التي من أهمها القول بخلق القرآن الكريم! وتحوَّل الصراع الجدلي إلى فتنة مرَّ بها علماء السنة كما هو معروف، وذلك فيما بين عامي ثمانية عشر ومائتين وأربعة وثلاثين ومائتين، وكان ذلك التمكين سببًا في انتشار مذهب المعتزلة، إلى أن خُضدت شوكتهم في عهد أمير المؤمنين المتوكل الذي كان مقتنعًا بمنهج أهل السنة، فصار الصراع بينهم وبين أهل السنة فكريًّا خاليًا من الضغوط السلطانية، فألَّف عدد من علماء السنة كتبًا في الرد على الجهمية والمعتزلة، ومن هؤلاء العلماء أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وعبد الله بن مسلم بن قتيبة، وعثمان بن سعيد الدارمي، وعبد الرحمن بن أبي حاتم.
وقد اشتهر أهل السنة آنذاك بالانتساب إلى الحديث النبوي، فكانوا يسمَّون "أهل الحديث"، ولما برز الإمام أحمد بن حنبل في الدفاع عن السنة نُسب أهل السنة إليه فكانوا يسمَّون "الحنابلة".
وقد ظلت المعارك الجدلية قائمة بين علماء السنة ومخالفيهم من المعتزلة والجهمية، إلى أن برز في الميدان أحد أقطاب المعتزلة؛ وهو الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، حيث رفض مذهب المعتزلة، وأعلن على المنبر توبته، وذلك في عام ثلاثمائة، وقام بمناظرة علماء الاعتزال حتى أفحمهم وحصرهم، وقد ساعده على ذلك حدة ذكائه وقوة فهمه، ومعرفته الدقيقة بمذهب المعتزلة؛ حيث بقي معهم أربعين سنة، وقد بدأ آنذاك نجمهم بالأفول وتقوقعوا في دوائر ضيقة.
وفي ذلك يقول الفقيه أبو بكر الصيرفي: كانت المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى نشأ الأشعري فحجرهم في أقماع السمسم(1)!
__________
(1) سير أعلام النبلاء (14/ 86).(6/49)
وقد أعلن أبو الحسن الأشعري عند رجوعه إلى مذهب أهل السنة أنه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وفي ذلك يقول: "قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها؛ التمسك بكتاب ربنا - عز وجل - وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وما رُوي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل -نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته- قائلون، ولما خالف
قوله مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل، الذي أبان
الله به الحق ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج وقمع به بدع
المبتدعين وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام
مقدم وجليل معظم مفخم"(1).
وقد كان من أسباب شهرته وانتشار مذهبه أنه حاول التوفيق بين الاتجاهات العقدية السائدة في عصره، حيث اعتمد في مذهبه على الكتاب والسنة، ثم أثبت بعض الصفات على ظاهرها، وأوَّل بعضها الآخر، فكان دفاعه عن الكتاب والسنة وردُّه القوي على المعتزلة والجهمية قد جعل له حظوة كبيرة عند أهل الحديث، وتأويله لبعض الصفات قد جذب إليه قطاعًا من العلماء لا يرون الأخذ بالظاهر في بعض نصوص الصفات.
وقد سُمِّي أتباع هذا المذهب "الأشاعرة"، وظل الوئام بين أهل الحديث وبين الأشاعرة، وأصبحوا جميعًا ضد المعتزلة ونحوهم، وفي ذلك يقول الإمام ابن تيمية: "والأشعرية فيما يثبتونه من السنة فرع على الحنبلية، كما أن متكلمة الحنبلية فيما يحتجون به من القياس العقلي فرع عليهم، وإنما وقعت الفُرقة بسبب فتنة القشيري"(2).
__________
(1) الإبانة عن أصول الديانة (8)، وقد كانت وفاة أبي الحسن الأشعري عام أربعة وعشرين وثلاثمائة، رحمه الله تعالى، سير أعلام النبلاء (15/ 86).
(2) مجموع الفتاوى (6/ 53)، والقشيري هو أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري.(6/50)
ويذكر ابن تيمية عن أبي القاسم بن عساكر أنه قال: "ما زالت الحنابلة الأشاعرة في قديم الدهر متفقين غير مفترقين، حتى حدثت
فتنة ابن القشيري"(1).
ويقول أبو القاسم علي بن الحسن بن عساكر في هذا المعنى: "ولم تزل الحنابلة ببغداد في قديم الدهر على مَرِّ الأوقات تعتضد بالأشعرية على أصحاب البدع؛ لأنهم المتكلمون من أهل الإثبات، فمن تكلم منهم في الرد على مبتدع فبلسان الأشعرية يتكلم، ومن حقق منهم في الأصول في مسألة فمنهم يتعلم، فلم يزالوا كذلك حتى حدث الاختلاف في زمن أبي نصر القشيري"(2).
ويلخص الحافظ ابن رجب هذه الفتنة بعد أن ذكر ما قام به الحنابلة من إنكار المنكرات عام أربعة وستين وأربعمائة؛ بقوله: ومضمون ذلك أن أبا نصر القشيري ورد بغداد سنة تسع وستين وأربعمائة، وجلس في النظامية، وأخذ يذم الحنابلة وينسبهم إلى التجسيم، وكان المتعصب له أبو سعد الصوفي، ومال إلى نصره أبو إسحاق الشيرازي، وكتب
إلى نظام الملك الوزير يشكو الحنابلة ويسأله المعونة، فاتفق جماعة من أتباعه على الهجوم على الشريف أبي جعفر في مسجده والإيقاع به! فرتب الشريف جماعة أعدهم لرد خصومة إن وقعت، فلما وصل أولئك إلى باب المسجد رماهم هؤلاء بالآجر، فوقعت الفتنة، وقُتل من أولئك رجل من العامة وجرح آخرون وأُخِذت ثياب!!
وأغلق أتباع ابن القشيري أبواب سوق مدرسة النظام، وصاحوا: المستنصر بالله، يا منصور؛ يعنون العبيدي صاحب مصر، وقصدوا بذلك التشنيع على الخليفة العباسي، وأنه ممالئ للحنابلة، لا سيَّما والشريف أبو جعفر ابن عمه... إلخ(3).
ولأبي الحسن الأشعري كتب صرح فيها بإثبات الصفات وعدم التأويل؛ مثل كتاب "الإبانة عن أصول الديانة"، ولكن منهجه الذي اشتهر عنه والذي عليه من انتسب إليه؛ هو إثبات بعض الصفات وتأويل بعضها.
__________
(1) المرجع السابق (4/ 17).
(2) تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام الأشعري (163).
(3) ذيل طبقات الحنابلة (1/ 19- 21).(6/51)
وهذا الأمر لا يهمنا في هذه الرسالة؛ لأنه ليس الغرض هو التحقيق في مذهب أبي الحسن الأشعري، وإنما المقصود هو المذهب المشهور الذي يُنسب إليه ويأخذ به طوائف من العلماء، ولا يزال يتبعه عدد كبير من العلماء وعامة المسلمين.
وفي الوقت الذي ظهر فيه أبو الحسن الأشعري في العراق تقريبًا ظهر أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي في بلاد ما وراء النهر، وقد التقَتْ أفكارهما على اعتماد الكتاب والسنة في الاستدلال، مع إثبات الأسماء وبعض الصفات، وتأويل بعض الصفات، على خلافٍ بينهما في ذلك، والرد على المعتزلة والجهمية في هذا الباب.
ونستفيد من هذا البيان أن أهل السنة كانوا في القرون الثلاثة الأولى لا يتعرضون لتأويل شيء من نصوص الأسماء والصفات على خلاف ظاهره، إلا بشكل نادر؛ كألفاظ المعية، ثم حدث الصراع الفكري بينهم وبين المعتزلة الذين نفوا جميع الصفات.
وقد كانت ردود أهل السنة تعتمد في ذلك العهد على الاستدلال بالكتاب والسنة، واستبعاد التوغل في المباحث العقلية.
وبعد ظهور أبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي في بداية القرن الرابع صار أهل السنة على اتجاهين:
الأول: التمسك بظاهر النصوص الشرعية؛ وذلك في إثبات معاني الصفات مع تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين، وقد سُمِّي هؤلاء أهل الحديث ثم غلب عليهم التسمية بالحنابلة.
والثاني: التمسك بظاهر النصوص في بعض الصفات، مع تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين، وتأويل بعضها الآخر؛ لأنه في نظرهم يوهم التشبيه، وقد اشتهر بهذا المذهب الأشاعرة والماتريدية.(6/52)
وكان هؤلاء مقبولين عند أهل الحديث من بداية القرن الرابع إلى ما بعد منتصف القرن الخامس؛ لدفاعهم عن السنة ووقوفهم القوي ضد الجهمية والمعتزلة، ولم يتجاوز الخلاف بينهم حدود الحوار العلمي، مع التورع عن الاتهام في العقيدة والحكم بالضلال أو البدعة، وإنما كانوا يعتمدون على مبدأ الحكم بالخطأ على المخالف إذا كان من أهل الاجتهاد، إلى أن ظهر ابن القشيري الذي سبق ذكره، وكان متعصبًا لمذهبه إلى حد الغلو والتشدد، فحوَّل الخلاف الدائر بين طائفتي أهل السنة إلى شقاق ونزاع، ومن ذلك الوقت كان الصراع العنيف يظهر على فترات من التاريخ، وأصبح الحكم على المخالفين يتسم بالاتهام بالضلال والبدعة وبالكفر أحيانًا! كما سيتبين من عرض نماذج من ذلك.
وفي العصر الحديث بلغ الصراع العقدي أشده بين بعض علماء الطرفين، وتبادل بعضهم الاتهامات بالضلال والبدعة، خصوصًا من طلاب العلم.
والمنهج الحق أن تتسع صدور الفريقين للنقد الهادف، وأن يكون هناك حوارات علمية تقوم على اعتبار قواعد الأخوة الإسلامية والأدب العلمي، مع استبعاد قضية البراءة من المخالفين ووصفهم بالابتداع والضلال، فضلاً عن الفسق والكفر.
إن هذا الصراع الفكري بين علماء المسلمين قد شغلهم عن ميادين المعركة الحقيقية مع المخالفين من الأعداء أو المنتسبين للإسلام، وإن من أهم علامات نجاح الداعية أن يدرس واقع الجاهلية المعاصرة له بتمعن وتعمق، مع فهم واقع المسلمين الفكري والسلوكي، ثم يركز دعوته على محاربة المخالفات السائدة في عصره، فهذا يجاهد في ميدانه الحقيقي الحيوي.(6/53)
هذا؛ وإن من أبرز الأمثلة على النجاح في هذا المجال دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإنه قد نجح نجاحًا باهرًا، حيث قام بتشخيص المخالفات المعاصرة له، فقام بالرد على المخالفين بعلم راسخ وهدوء وروية أحيانًا، وبعنف أحيانًا أخرى حينما يقتضي المقام ذلك، فاستطاع أن يشد طلاب العلم إلى الكتاب والسنة، وأن يقلص من الآثار الفكرية البعيدة عن هذا المنهج، ولكن ليس من الحكمة
ولا من فقه الدعوة أن نعيد المعارك العلمية التي خاضها ابن تيمية
في هذا العصر؛ لأن لكل عصر مخالفات متميزة وصورًا للجاهلية تختص بكل عصر.
كذلك فإن من أبرز أمثلة هذا النجاح دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب فإنه قد نجح في دعوته نجاحًا كبيرًا، فهو قد قرأ كتب ابن تيمية واستفاد منها، ولكنه لم يسر على منهاجه في الدعوة، وإنما قام بتشخيص المخالفات المعاصرة له، ثم قام بتركيز دعوته على تصحيح المفاهيم الإسلامية حول تلك المظاهر، فنجده مثلاً في كتابه المتميز الذي يعتبر أهم كتبه؛ وهو كتاب "التوحيد الذي هو حق الله على العبيد".. يركز في جُلِّ أبوابه على تصحيح المفاهيم حول توحيد الألوهية، وذلك بعد دراسة المخالفات في ذلك في عصره وعلاجها على ضوء الكتاب والسنة، بينما لم يعقد للحكم بما أنزل الله تعالى إلا بابًا واحدًا؛ وذلك لأن المحيط الذي يعيش فيه لا يحتاج إلى ذلك، حيث إن الأحكام تقوم على المحاكم الشرعية، كما أننا نجده لم يعقد للأسماء والصفات إلا بابًا واحدًا؛ لأن المخالفات السائدة في محيطه ليست في هذا المجال، فكان ذلك من أسباب نجاحه في تصحيح المفاهيم السائدة في مجتمعه وإقامة دولة إسلامية كبيرة.
ولو أنه طبق منهج ابن تيمية بالكامل؛ فشغل نفسه بالردود على المخالفين من أصحاب المناهج العقلية والباطنية وغلاة الصوفية ونحوهم.. لوافاه الأجل ولم يصنع شيئًا سوى إضافة كتب حول هذه الموضوعات إلى المكتبة الإسلامية!!(6/54)
وقد تغيرت الأوضاع في عصرنا الحاضر، فظهرت صور للجاهلية لم توجد من قبل؛ كالمذاهب الفكرية المنبثقة من الشيوعية والحضارة الغربية، وتضخم وجود بعض الصور التي كانت ضئيلة في الماضي؛ كالحكم بغير ما أنزل الله تعالى، وتوجيه السياسة على غير منهج الإسلام، وحصر مفاهيم الإسلام في نطاق ضيق، وتضاءلت في بعض البلاد صور كانت كبيرة في العصور الماضية؛ كعبادة الأموات والأشجار والأحجار.
فليس المطلوب من الدعاة أن يركزوا على دراسة صور من الجاهليات القديمة، ولا أن يعيدوا دراسة المباحث الكلامية في مجالات النقد والردود على المخالفين بالمنهج نفسه الذي سار عليه المصلحون السابقون، وإنما لكل عصر دولة ورجال، والبراعة كل البراعة في دراسة الأوضاع المعاصرة دراسة دقيقة عميقة، ثم تسليط الأضواء عليها من خلال الكتاب والسنة، مع الاستفادة من اجتهادات أعلام الدعوة السابقين في دراستهم أوضاع مجتمعاتهم، والقيام بالدعوة في تصحيح المفاهيم الخاطئة وتوجيه الأمة على هدى الإسلام الحنيف.
ولقد كان للسلف من علماء الأمة الربانيين اهتمام كبير بهذا الجانب، ومن هؤلاء العلماء الإمام سفيان بن سعيد الثوري رحمه الله، ومن الوصايا الحكيمة والتوجيهات السديدة التي جاءت عنه في ذلك؛ ما رواه عطاء بن مسلم قال: قال لي الثوري: إذا كنت بالشام فاذكر مناقب علي، وإذا كنت بالكوفة فاذكر مناقب أبي بكر وعمر(1)!
فهذا التوجيه يُعدُّ مثالاً للحكمة في الدعوة؛ حيث يكون وراء
__________
(1) سير أعلام النبلاء (7/ 260).(6/55)
إيراد النصوص غرض تربوي، يُقصَد منه التخفيف من مغالاة المتجهين نحوالغلو في قضية معينة، فأهل الشام لما كان بعضهم يتجاهلون مناقب علي بنأبي طالب أو يستخْفُون بذكرها؛ كان من الحكمة الجهر ببيانها، ولما كان بعض أهل الكوفة يتَّجهون نحو الغلو في علي بن أبي طالب وبنيه، ويغضُّون الطرف عن بيان فضائل أبي بكر وعمر؛ كان من الحكمة بيان فضائلهما، وكذلك فضائل عثمان رضي الله عن الجميع؛ وذلك ليحصل الاتزان عند جميع تلك الطوائف.
وهذا يُعدُّ نموذجًا من نماذج الدعوة الناجحة؛ حيث إنَّ مِنْ أهم عوامل نجاح الدعوة أن يتصدَّى الداعية لبيان الأمور التي تجاهلها الناس، أو وقعوا فيها بما يخالف الإسلام، فيكون بذلك قد شخَّص أدواء الأمة وأرشد إلى دواء تلك الأدواء، أما أن يأتي إلى الأمور التي قد طبقها الناس وأَلِفُوها فيتحدث عنها فإنه لن يأتي بجديد، ولن يكون له عمل فعال في الإصلاح والتجديد، وإنما قد يؤكد أمورًا قد عرفها الناس وألفوها.
- - - - -
بين قضايا الفقه وقضايا العقيدة
إننا حينما ننظر إلى قضايا العقيدة وقضايا الفقه؛ نعجب كيف اتسعت دائرة أفهام العلماء وتصوراتهم للخلاف في الأمور الفقهية، وإن كانت كبيرة تمس أصول هذا العلم وكلياته، بينما لم تتسع للخلاف في أمور العقيدة حتى في الجزئيات والفرعيات! مع أن قضايا العقيدة والفقه كلها داخلة في أمور الدين، وكلها أمور تؤخذ من نصوص الكتاب والسنة، فنجد العلماء مثلاً يختلفون في الحكم على تارك الصلاة تكاسلاً هل يكفر أولا يكفر؟ فلا يُحكَم على المختلفين ببدعة ولا بضلال، مع أن الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وهي عمود الإسلام الذي يقوم عليه بناؤه، بينما يُحكم على من اجتهد في تأويل آية أو حديث مما يتعلق بالعقيدة بالابتداع والضلال إذا خالف ما عليه من حكم بذلك!!(6/56)
وتجد المقتنعين بهذا التفريق يسوغون رأيهم بأن ترك الصلاة تكاسلاً كفر عملي، ولا أدري كيف ساغ لهم أن يفرقوا بين الكفرين العملي والاعتقادي! فكلاهما كفر إما أصغر أو أكبر، وترك الصلاة تكاسلاً على رأي هؤلاء كفر مخرج من الملة، بينما هم لا يقولون بأن تأويل آية أو حديث في الصفات على خلاف ظاهره كفر مخرج من الملة، فكيف ساغ الخلاف في قضية تُخرج من الملة أو يبقى معها المسلم على إسلامه، ولم يسغ في قضية قد اتفق جميع أهل السنة على أن إثباتها على ظاهرها أو تأويلها لا يخرج من الملة؟!
وإذا كانت قضايا العقيدة من الأمور الثوابت؛ التي لا يتغير فيها الاجتهاد بتغير الزمان، فكذلك أمور العبادات في الفقه، ومع ذلك اختلف العلماء في بعض أحكامها ولم يترتب على ذلك ما ترتب على الخلاف في أمور العقيدة.
ولا يعني القول بجواز الاجتهاد في أمور العقيدة أن يُفتح الباب على مصراعيه لكل من هبَّ ودبَّ، بل إنه ينطبق عليه ما ينطبق على الاجتهاد في أمور الفقه المماثلة من الشروط والاعتبارات، فما يشترط للاجتهاد في العبادات يشترط توافره في العقائد.
وإن أول أسباب انقسام الأمة وظهور الفرق كان بسبب الاجتهاد في أمور الدين ممن ليسوا أهلاً للاجتهاد؛ حيث اجتهد الخوارج
في فهم أمور الدين ولم يكونوا من أهل العلم فضَلُّوا وأضلوا
من تأثر بهم، وعانت منهم الأمة الإسلامية ألوانًا من البلاء،
وما يزال يخرج من ضئضئهم من هم على شاكلتهم في قلة الفهم وادعاء الاجتهاد، والخروج على المسلمين بأفهام غريبة تشبه أفهام أسلافهم من الخوارج.(6/57)
وكما أن الخوارج قد حكم عليهم العلماء بالشذوذ؛ لحكمهم -مثلاً- على أصحاب الكبائر بالكفر والخلود في النار.. فإن الذين يخالفون في حكم الأمور الشركية الواضحة؛ كدعاء غير الله تعالى والاستغاثة به فيما لا يقدر عليه إلا هو جل وعلا، يعدُّون شاذين عن اعتقاد أهل السنة؛ لأنهم ليسوا من العلماء المتأهلين للاجتهاد؛ حيث فقدوا شرطًا مهمًّا من شروط صحة الاجتهاد وهو العلم بالكتاب والسنة، فلا عبرة بقول من أجاز ذلك، بل يُحكم عليه بالضلال لمخالفته الصريحة الواضحة للكتاب والسنة.
- - - - -
نماذج من الخلاف العقدي بين العلماء
إلى جانب ما سبق ذكره من الخلاف بين العلماء في موضوع صفات الله جل وعلا؛ فقد اختلف بعضهم في فهم بعض النصوص الشرعية، واختلف بسبب ذلك اجتهادهم وحكمهم في تلك المسائل التي اختلفوا فيها؛ وذلك كاختلافهم في مسألة شدِّ الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فمنع من ذلك بعضهم بناء على فهمهم لعموم المستثنى منه في قول رسول الله ج: "لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى"، أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري م(1)؛ فجعلوا شد الرحال لهدف ديني لا يجوز إلا إلى المساجد الثلاثة، وأجاز بعضهم ذلك باعتبار أن الحديث خاص في المساجد، وأن المستثنى منه عموم المساجد للعبادة فيه إلا للمساجد الثلاثة(2).
كما اختلفوا في جواز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، فأجازه بعضهم مستدلاً بحديث الأعمى، وهو ما أخرجه الإمام أحمد والترمذي -رحمهما الله- من حديث عثمان بن حنيف ط: أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: "إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك"، قال: فادعُهْ، قال:
__________
(1) البخاري (1189)، في فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، مسلم (827)، في الحج.
(2) انظر في هذا الموضوع: فتح الباري (3/ 63).(6/58)
فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك
إلى ربي لتُقضى حاجتي، اللهم فشفعه في"، قال: ففعل الرجل؛ فبرأ، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح(1)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله(2)، ومنعه بعضهم استدلالاً بعدم توسل
الصحابة رضي الله عنهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، كما أخرج أبو عبد الله البخاري
-رحمه الله- من حديث أنس بن مالك ط: أن عمر بن الخطاب ط كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب ط، فقال: اللهم إن كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعمِّ نبينا فاسقنا، قال: فيُسقون(3).
وليس من مقاصد هذه الرسالة بيان الراجح من أقوال العلماء، وإنما المقصود الإشارة إلى عدم جواز الحكم على المخالفين من أهل الاجتهاد والتقوى بالابتداع والضلال، وإنما إذا كان المخالف يعتقد خطأهم يبين أنهم أخطؤوا في اجتهادهم، ويوضح ما يراه الصواب في ذلك.
- - - - -
أثر الخلاف في تفريق جماعة المسلمين
إن جماعة المسلمين تقوم على علماء الدين؛ لأن المسلمين تبع لعلمائهم، فإذا اتفق علماء المسلمين على أمر وسط لا يفرقهم ولا يفسد ذات بينهم؛ فإن جماعة المسلمين تقوم بهم، سواء اتفقوا على رأي واحد أو تمسك كل فريق منهم باجتهاده؛ لأنهم حينما يأخذون جميعًا بمنهج تخطئة المخالف المجتهد وعدم الحكم عليه بضلال أو ابتداع؛ فإن وحدة القلوب تظل قائمة، وبإمكانهم بما بينهم من مودة وتآلف أن يتفاهموا على الأمور العملية التي لا بدَّ فيها من وحدة الكلمة، وإذا تم ذلك بين العلماء فإن هذه الروح الأخوية والمودة الإيمانية تسري إلى كل طبقات الأمة.
__________
(1) مسند أحمد (4/ 138)، سنن الترمذي (3578)، في الدعوات.
(2) صحيح الجامع الصغير (1290).
(3) البخاري (1010)، في الاستسقاء.(6/59)
إن الذين يضعون في حسابهم أهمية قيام جماعة المسلمين وتوحيدهم على هدف واحد؛ تكون دعوتهم أعظم تحصينًا من حدوث الفرقة في الدين؛ ذلك لأنهم يأوون في دعوتهم إلى ركن شديد؛ وهو الدعوة إلى اجتماع كلمة المسلمين، فأي خلاف يجري بين من يؤمنون بأهمية هذا المطلب العظيم، فإنه يعالج سريعًا إذا علموا بأنه سيكون له أثر في تحطيم هذا الأصل أو إضعافه.
ومن الأدلة الواضحة على أهمية لزوم الجماعة واجتناب
الفرقة؛ ما جاء في قول الله تعالى حكاية عن هارون عليه الصلاة والسلام: { ?- جل جلاله - بسم الله الرحمن الرحيم الله أكبر ? تمهيد - - ? - - - جل جلاله -? الله - ? - - - الله ?? - ? الله الله أكبر - ? - - ? الله الله - الله الله أكبر ? الله ? صدق الله العظيم - الله أكبر الله الله أكبر - ??- جل جلاله -? الله الله أكبر - الله ??- جل جلاله -? - - الله - { الله أكبر ? تمهيد - - ?? - ? الله ? { درهم - الله أكبر ?? - الله أكبر الله الله أكبر - ?- جل جلاله - الله أكبر ??? الله أكبر الله الله أكبر ? } [طه:94]، فهذه الآية تدل على أن من الأمور المهمة التي
اتفق عليها موسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام- وجوب
الحفاظ على جماعة بني إسرائيل، واجتناب كل الأمور التي تفرق وحدتهم، حتى أصبحت خشية الفرقة مانعًا لهارون من الإنكار الشديد على قومه حينما عبدوا العجل، مع أنهم قد وقعوا في أمر
من الشرك الأكبر.(6/60)
فكان عمل هارون الاكتفاء بالنصح والوعظ وبيان حقيقة التوحيد والشرك، ولو أنه انتقل إلى مرحلة الإنكار بالقوة فقام بتحطيم العجل فإن بني إسرائيل سينقسمون إلى فرقتين؛ فرقة تؤيده، وفرقة تخالفه، وحيث إن الذين عبدوا العجل لم يصروا على الشرك وهم يعلمون أنه شرك، وأنهم قد دخلوا في شبهة لبَّسها عليهم السامري، وأنهم أظهروا الإصرار على ما هم عليه حتى يرجع إليهم موسى؛ فإن هارون غلَّب جانب الإبقاء على جماعتهم، وهو يعلم أن مخالفتهم تلك ستنتهي حال عودة موسى.
فإذا كان هارون قد تركهم على شركهم ذلك حفاظًا على جماعتهم؛ فإن مما ينبغي ويتأكد الحذر من التفرق بين المسلمين من أجل الخلاف على قضايا جزئية؛ سواء كانت في مجال العقيدة
أو في مجال العمل.
ونجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحرص على تآلف مجتمع الصحابة ط، والابتعاد بهم عن جميع الأسباب التي تؤدي إلى حدوث النزاع والفرقة بينهم، فمن ذلك ما جاء في حديث أخرجه الحافظ أبو عبد الله البخاري من رواية أبي هريرة ط قال: سمعت رجلاً قرأ آية، وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فجئت به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: "كلاكما محسن،
ولا تختلفوا؛ فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا"(1).
فعلى الرغم من كون كل واحد منهما محسن وعلى الصواب لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءتين، فإنه كره ما جرى من هذين الصحابيين
مما يشعر بالتنازع، ونهى الصحابة عن الاختلاف، وبين أنه
يؤدي إلى الهلاك.
ومن ذلك عفوه صلى الله عليه وسلم المتكرر عن زعيم المنافقين عبد الله بن أُبَيِّ
بن سلول، على الرغم من تفوهه بكلمات الكفر والإيذاء لرسول
__________
(1) البخاري (3476)، في أحاديث الأنبياء.(6/61)
الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما جرى منه في غزوة المريسيع، وقد أخرج خبره في ذلك الإمام البخاري من حديث جابر بن عبد الله م قال: كنَّا في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار (أي ضربه برجله من الخلف)! فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما بال دعوى جاهلية؟!"، قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: "دعوها؛ فإنها منتنة"، فسمع بذلك عبد الله بن أُبَيٍّ فقال: أَوَ قد فعلوها؟! أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل!! فبلَغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي ج: "دعه، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه"(1).
وأخرجه محمد بن إسحاق مطولاً، وفيه قال: فحدثني عاصم
بن عمر بن قتادة: أن عبد الله -يعني ابن عبد الله بن أُبَيٍّ- أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت لا بدَّ فاعلاً فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه! فوالله لقد علمَت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله؛ فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس، فأقتلَه، فأقتل رجلاً مؤمنًا بكافر؛ فأدخل النار، فقال رسول الله ج: "بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا"!!
__________
(1) البخاري (4905)، في التفسير.(6/62)
وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر حين بلغه ذلك من شأنهم: "كيف ترى يا عمر؟! أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله؛ لأرعدت له آنُفٌ(1) لو أمرتها اليوم بقتله لقتلتْه"! قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري(2).
وهكذا نجد الصحابة رضي الله عنهم يهتمون بجمع كلمة المسلمين، والقضاء على كل سبب يؤدي إلى فرقتهم، ومن ذلك اهتمام أمير المؤمنين عثمان ط بجمع المسلمين على مصحف واحد، وإحراق بقية المصاحف التي تحتوي على أحرف أخرى، مع ثبوتها عن رسول
الله ج؛ وذلك حينما شعر بأنها أصبحت سبباً في وقوع الخلاف
بين المسلمين، ووافقه على ذلك الصحابة ن.
غير أنه لا يجوز في سبيل الوصول إلى هذا الهدف أن يتهاون الدعاة في تصحيح مفاهيم المسلمين عن الإسلام، ومعالجة الانحرافات الفردية والجماعية، بل يجب عليهم الاهتمام بذلك، مع مراعاة عدم تأثير هذه الدعوة على إضعاف الهدف الكبير؛ وهو جمع كلمة المسلمين.
وهذا هو المنهج الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ن؛ وهو الجمع بين الأمرين، مع إعطاء الأهمية لتحقيق الهدف الكبير؛ وهو قيام جماعة المسلمين وحمايتها من الضعف والانهيار.
إن التفرق في الدين أقوى الوسائل التي تضعف جماعة المسلمين وتفرق شملهم؛ لأن التفرق في هذه الحال يكون بين طوائف مختلفة، كل واحدة ترى أن الحق معها فهي تدافع عما تراه هو الحق بحماسة شديدة، وهذا بتأثيره يؤدي إلى حدوث النزاع والخلاف بين هذه الطوائف، وإن أي نزاع وخلاف يكون بين طوائف المسلمين فهو خدمة تُقدَّم لأعداء الإسلام، فيستفيدون منها في محاولتهم القضاء على الإسلام والمسلمين.
فقد جاء –مثلاً- في كتاب (ريتشارد. ب. ميتشل) إلى رئيس هيئة
__________
(1) جمع أنف، وذلك كناية عن الغضب الشديد.
(2) سيرة ابن هشام (3/ 375).(6/63)
الخدمة السرية بالمخابرات المركزية الأمريكية، ضمن التوصيات التي قدمها لغزو المسلمين فكريًّا: "تعميق الخلافات المذهبية والفرعية وتضخيمها في أذهانهم"(1).
وما جاء في هذه التوصية مطبَّق تمامًا في المجتمع الإسلامي المعاصر؛ فهل هو ناتج عن سعيهم الحثيث في إيقاع الفرقة والخلاف بين المسلمين؟ أم أنَّ المسلمين قدَّموا لهم هذه الخدمة من غير أن يبذلوا فيها جهدًا؟! أم أن واقع المسلمين جامع بين المصيبتين؟!
وهكذا تبين لنا أن بعض المختلفين في بعض أمور العقيدة يرتبون المحبة والبغض على الوفاق أو الخلاف في أمور العقيدة، وإن كان المخالف مجتهدًا وهو من أهل الاجتهاد أو كان تابعًا لمن كان كذلك، وهذا خطأ كبير وخطر عظيم، فالمحبة والبغض يترتبان على مقدار ما عند المسلم من التقوى أو ظلم النفس، فنحب المتقين لتقواهم، وإن خالفونا في باب العلم في بعض مسائل الدين إذا كان خلافهم على الوضع المذكور؛ لأنهم لم يتعمدوا مخالفة شريعة الله تعالى، ونكره الظالمي أنفسهم؛ وهم المقصرون في جانب الواجبات أو المرتكبو بعض المعاصي، بقدر ما فيهم من المخالفة؛ لأنهم تعمدوا مخالفة شريعة الله -جل وعلا- في ذلك، وإن وافقونا في باب العلم، ونحبهم بقدر استقامتهم، فنحن نحبهم لما هم فيه من الهداية في مجالي العلم والعمل، ونبغضهم لما هم فيه من المخالفة المتعمدة.
__________
(1) مجلة المجتمع، عدد (790).(6/64)
ولا أنسى حوارًا دار بين أستاذين؛ أحدهما يحكم على الناس بمقياس التقوى؛ أخْذًا من قول الله تعالى: { } تمت ( { ( - ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - - جل جلاله -(( ( - - - ( المحتويات ( - - - { ( - - صلى الله عليه وسلم - - } [الحجرات:13]، والآخر يحكم على الناس بمقياس الاتجاه العقدي في الأمور الخلافية، فأثنى الأول على زميل لهما باتصافه بالورع والتقوى، وهو ممن ينتقده الثاني في بعض مسائل العقيدة، فقال: ليته لم يكن كذلك، فهو يرى أن كونه متوسطًا في جانب التقوى مع ما هو فيه من خلل عقائدي أخف ضررًا، ويريد منه أن يكون معه في كل المفاهيم العقدية وإن كان ضعيفًا في التزامه واستقامته!! وهذا نوع من الخلل في موازين الحكم على المسلمين.
ومن مظاهر هذا الخلل أنك تجد بعض أفراد الفريقين المختلفين في بعض أمور العقيدة ينظر كل واحد منهما لأفراد الفريق الآخر نظرة بغض ونفور، وإذا كان بعض هؤلاء مسؤولين فإنه يكفي في حرمان أفراد الفريق الآخر من المصالح والمناصب الدينية كونه من أفراد الفريق الآخر، ويجعلون أمر التقوى والكفاءة العلمية أمرًا ثانويًّا بعد الموافقة الكاملة في المنهج العقدي!!
وربما كان هذا السلوك -إضافة إلى ذلك- محكومًا بإرادة الانتقام من أفراد الفريق الآخر إذا سبقت منهم معاملة بهذا السلوك، فتتحول العملية إلى صراع وتنافس ذميم بين إخوة يجمعهم هدف واحد؛ هو ابتغاء رضوان الله تعالى والدار الآخرة، ويسيرون على شريعة واحدة وإن اختلفت أفهامهم في بعض تفاصيلها.(6/65)
إن الربط بين الخلاف في أمور الدين وبين البغض والبراءة يفرق جماعة المسلمين، وإن الذين يستفيدون من ذلك هم أعداء المسلمين، وهذا الاعتقاد القلبي في بغض المخالفين والبراءة منهم قد لا يتجاوز في البداية حدود النقد، وربما تجاوز ذلك إلى عدم السلام على المخالفين وعدم الصلاة خلفهم وعدم مجالستهم! ولكنه قد يتطور بعد ذلك إلى منابذة وتناحر!! ولا يمكن لهؤلاء المتناحرين أن يواجهوا أعداءهم بقوة؛ لأن أغلب طاقتهم مصروف للتناحر فيما بينهم.
- - - - -
مثل من آثار الاعتدال
في الحكم على المخالفين
لقد جرَتْ لي في تطبيق هذا المنهج قصة أذكرها وإن كانت من باب الحديث عن النفس؛ لما فيها من العبر النافعة.
هذه القصة تتلخص في أنني كنت مدرسًا في معهد الحرم المكي ما بين عامي سبعة وثمانين وثلاثمائة وألف وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة، وكان من بين طلاب ذلك المعهد طالب من اليمن نبيهٌ، قوي الشخصية، متصلب في التمسك بما يعتقده، وقد كنت أدرِّس طلاب المعهد في السنة الرابعة منه في مادة التوحيد رسالة "الواسطية" للإمام ابن تيمية رحمه الله، فاعترض ذلك الطالب بشدة على موضوع إثبات جميع الصفات، وظل يناقش في كثير من الدروس ذلك العام، وكنت ألاطفه وأفتح له صدري على الرغم من انفعاله الشديد في أثناء المناقشات، وكنت أُقدِّر فيه اتصافه بالتقوى والحماسة الدينية والدفاع بقوة عما يراه هو الحق، ولما حضر الاختبار كتب ما كنت قررته في الدروس، ثم كتب: هذا ما قرره الشيخ، والذي أعتقده هو كذا كذا، وكتب معتقده في ذلك، وقد قدرت له هذه الصراحة فأعطيته الدرجة الكاملة في المادة!!
وفي السنة الخامسة للمعهد درَّست الطلاب رسالة "الفتوى الحموية" للإمام ابن تيمية، وسار معي ذلك الطالب مثل سيره في العام الماضي، وعاملته بالمعاملة نفسها، وكتب في الاختبار مثل ما كتبه في العام الماضي، وأعطيته الدرجة الكاملة!(6/66)
وفي السنة السادسة درَّست الطلاب رسالة "التدمرية" للإمام ابن تيمية، وفي أثناء الشرح والتقرير قال ذلك الطالب: أما الآن؛ فإن الشيخ -يعني ابن تيمية- لم يترك مجالاً للمعارضين، ثم سار معي في الدراسة من غير مناقشة، وظهر منه الاقتناع بما قرره الإمام ابن تيمية في توحيد الأسماء والصفات.
ثم انتقلت أنا إلى الدراسات العليا في جامعة أم القرى، وأكمل ذلك الطالب المعهد والتحق بالجامعة الإسلامية في المدينة النبوية، وتخرج منها وعاد إلى بلاده، وكوَّن له حلقة دراسية كبرت فيما بعد وزاد عدد أفرادها، وصارت له شهرة كبيرة!!
وكنت أقول في نفسي في أثناء تلك المناقشات: هذا الطالب وأمثاله نشؤوا في مجتمع علمي يرى تأويل بعض الصفات، ويرى علماؤه وطلاب العلم فيه أنهم على الحق، بينما أنا وأمثالي نشأنا في مجتمع علمي يرى عدم تأويل شيء من نصوص الصفات على خلاف ظاهره، ويرى علماؤه وطلاب العلم فيه أنهم على الحق، ولو أني نشأت في مثل المجتمع العلمي الذي نشأ فيه ذلك الطالب لكنت مثله في الغالب، فلماذا أعتقد فيه الضلال والابتداع في اعتقاد لولا فارِق المنشأ العلمي لكنت مثله فيه، أليس الأرفق بي وبه والذي هو من مقتضيات الأخوة الإسلامية أن أحكم عليه بالخطأ وأن يحكم علي هو بذلك، ثم إنْ أقنعته بما أنا عليه رجع إلى الصواب، وإن أقنعني بما هو عليه رجعت إلى الصواب، من غير أن يحصل بيننا تضليل ولا تبديع ولا بغض ولا براءة؟! وإن ظل كل واحد منا على قناعته فلن يؤثر ذلك على ما بيننا من أخوة ومحبة، ما دام الحكم بيننا لا يتجاوز مرحلة التخطئة.(6/67)
وإن العبرة التي نخرج بها من هذه القصة أنه ينبغي للعالم المربي تطبيق أسلوب اللين والتفاهم مع المخالفين في العقائد وغيرها من العلم، على اعتبار أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه، ما داموا مجتهدين أو تابعين لعلماء مجتهدين، وعدم تبديعهم أو تضليلهم، والإبقاءُ على محبتهم القلبية وأخوتهم الدينية وعدمُ البراءة منهم، ولقد طبقت هذا المنهج مع ذلك الطالب النجيب لمدة سنتين ونصف؛ حتى اقتنع بما كنت أقرره آنذاك من غير ضغط ولا إكراه.
وربما لو كنت عاملته بالشدة وعددته مبتدعًا ضالاًّ لزاد تمسكه بمعتقده، خصوصًا فيما لو طُبِّق عليه ما هو معروف غالبًا من فصل الطالب من الدراسة إذا هو جاهر بمعتقده، الذي يراه بعض المسؤولين بدعة وضلالة.
إنك حينما تجادل إنسانًا من أهل العلم في أمر ترى أنك فيه على الحق ويرى هو أنه على الحق، فتقول له: أنت ضال مبتدع، فإنه سيقول لك في الوقت نفسه: بل أنت الضال المبتدع! وإن لم يستطع أن يقولها بلسانه فإنه يعتقدها بقلبه، وهل يرجو الإنسان الداعية من إنسان آخر يضلله ويبدعه أن يسمع لقوله وأن يقتنع برأيه؟!
إن الذي يُلوِّح بالهجوم المضاد على الآخرين ويتهمهم في عقائدهم يكون قد أقام بينهم وبينه سدًّا منيعًا يصعب اختراقه، وبالتالي فإنه يبعد من هذا المهاجم أن يصل إلى قلوب من يريد دعوتهم مهما أوتي من حجة وبلاغة.
- - - - -
من نتائج الحيدة عن هذا المنهج
هذا المنهج الذي تم بيانه؛ وهو الحكم على المخالفين من أهل الاجتهاد بالخطأ وعدم الحكم عليهم بالابتداع والضلال.. هو المنهج المعتدل الذي يضمن -بإذن الله تعالى- بقاء المودة والتفاهم بين علماء المسلمين مع اختلافهم في الاجتهاد.
ولقد ظهرت نتائج سيئة للحيدة عن هذا المنهج على مدار التاريخ الإسلامي، فمن هذه النتائج ظهور الفتن والخلافات الحادة بين علماء المسلمين، وسأكتفي بذكر ثلاثة من العلماء الذين حصل لهم أذى واضطهاد بسبب اعتقادهم:(6/68)
محنة الإمام أحمد بن حنبل:
فالعالم الأول هو الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، وقد كان امتحانه بالقول بخلق القرآن، وقد بدأت هذه المحنة في أواخر عهد أمير المؤمنين المأمون، وذلك في سنة ثمان عشرة ومائتين، بعد أن أقنعه دعاة المعتزلة بهذه العقيدة؛ وهي أن القرآن مخلوق، فاعتنق ذلك، ثم أقنعوه بضرورة حمل العلماء على القول بهذه العقيدة بالقوة، فكتب المأمون من مَقَرِّ غَزْوه في بلاد الروم إلى نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم في امتحان العلماء في ذلك.
وقد وصف المأمون علماء السنة في كتابه بقوله: ثم هم الذين
جادلوا بالباطل فدعوا إلى قولهم، ونسبوا أنفسهم إلى السنة، وفي كل فصل من كتاب الله قصص مِنْ تلاوته مُبطل قولَهم ومكذِّب دعواهم، يرد عليهم قولهم ونحلتهم.
إلى أن قال: فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة ورؤوس الضلالة، المنقوصون من التوحيد حظًّا، والمخسوسون من الإيمان نصيبًا، وأوعية الجهالة، وأعلام الكذب، ولسان إبليس الناطق في أوليائه... إلخ!!
ويقول في كتاب آخر: وقد عظَّم هؤلاء الجهلة بقولهم في القرآن الثَّلم في دينهم، والحرج في أمانتهم، وسهلوا السبيل لعدو الإسلام، واعترفوا بالتبديل والإلحاد على قلوبهم!!
وقد جاء في كتبه الحكم على علماء المسلمين من أهل السنة بالكفر والشرك، مثل قوله في مناقشة جواب بشر بن الوليد: إذ كانت تلك المقالة الكفر الصراح والشرك المحض عند أمير المؤمنين(1).
وقد اضطر أكثر علماء السنة إلى موافقة المعتزلة في عقيدتهم ظاهرًا؛ ليسلموا من القتل، حيث كان المأمون ونائبه في بغداد وأعوانهم يهددونهم بالقتل إن لم يقولوا بخلق القرآن، لكن الإمام أحمد أبى أن يقول بخلق القرآن، وقال: القرآن كلام الله تعالى، منزل غير مخلوق، فأرسله إسحاق بن إبراهيم إلى المأمون ومعه محمد بن نوح؛ حيث ثبت، ولم يقل بخلق القرآن.
__________
(1) تاريخ الطبري (8/ 631- 641).(6/69)
وقد دعا الإمام أحمد ربه -جل وعلا- ألا يرى المأمون، فمات المأمون قبل أن يصل إليه! فرُدَّ بقيوده إلى بغداد، ومات صاحبه محمد بن نوح في الطريق رحمه الله تعالى.
وقد أُدخِل الإمام أحمد السجن وبقي فيه نحوًا من ثلاثين شهرًا، ثم حُمِل بأمر المعتصم إلى إسحاق بن إبراهيم، فلما دخل عليه قال: يا أحمد، إنها والله نفسك، إنه -يعني المعتصم- لا يقتلك بالسيف، لقد آلى إن لم تجبه أن يضربك ضربًا بعد ضرب، وأن يقتلك في موضع لا يُرَى فيه شمس ولا قمر!!
وأُحضِر الإمام أحمد أمام المعتصم وحوله زعيم المعتزلة أحمد بن أبي دؤاد وبعض علماء المعتزلة، وبدؤوا في مناظرته، فكانوا كلما انقطع واحد أتى آخر، وابن أبي دؤاد يقول: يا أمير المؤمنين، هو والله ضال مضل مبتدع!!
فإذا انقطع مناظروه قال المعتصم: ويحك يا أحمد ما تقول؟! فيقول: أعطوني شيئًا من كتاب الله تعالى أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول أحمد بن أبي دؤاد: أنت لا تقول إلا ما في الكتاب والسنة؟! فيقول له: تأولتَ تأويلات، فأنت أعلم بها، وما تأولتُ ما يُحبس عليه ولا ما يُقيَّد عليه.
وجعل ابن أبي دؤاد يقول: يا أمير المؤمنين، والله لئن أجابك لهو أحب إليَّ من مائة ألف دينار ومائة ألف دينار، فيَعُدُّ من ذلك ما شاء الله أن يَعُدَّ، فقال: لئن أجابني لأطلقنَّ عنه بيدي، ولأركبن إليه بجندي، ولأطأنَّ عقبه.
ثم قال المعتصم: يا أحمد، إني عليك لشفيق، وإني لأشفق عليك كشفقتي على ابني هارون! ما تقول؟ فيقول: أعطوني شيئًا من كتاب الله تعالى أو من سنة رسوله ج!(6/70)
ثم ما زالوا يناظرونه وهو يحاول حصرهم في الكتاب والسنة، وهم لا يريدون ذلك؛ لجهلهم بالسنة، ولعدم مقدرتهم على تأويل جميع آيات القرآن، فلما يئسوا من إجابته إياهم يما يريدون دعا المعتصم بالعُقابَين؛ وهما خشبتان تُمدُّ عليهم يدا المعذَّب، وبدؤوا بضربه بالسياط، فضربوه ضربًا مبرِّحًا لم يُرَ مثله!! فكان المعتصم يأمر الجلاد بأن يضربه سوطين بكل قوته، ويقول له: شدَّ قطع الله يدك، ثم يأمر آخر، فلما ضُرب سبعة عشر سوطًا قام إليه المعتصم، وقال: يا أحمد، علام تقتل نفسك؟! إني والله عليك لشفيق!! فلما أصر على عدم إجابتهم أمر بضربه، وجعل المعتصم يحاول معه ليجيب وكذلك من حوله، وما زالوا يضربونه حتى فقد وعيه، فلما أفاق قال المعتصم لابن أبي دؤاد: لقد ارتكبتُ إثمًا في أمر هذا الرجل، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه والله كافر مشرك، قد أشرك من غير وجه!! فلا يزال به حتى يصرفه عما يريد، وقد كان أراد تخلية الإمام أحمد من غير ضرب.
ثم خلَّوا عنه بعد ذلك؛ لما رأوا إنكار الناس وتجمعهم حول المكان؛ من بعض العلماء وطلاب العلم والعامة.
ولقد ذُكِر من شجاعته وقوة احتماله وصبره على الجوع والعطش أمثلة رائعة؛ تدل على قوة إيمانه بالله تعالى واستحضاره عظمته(1).
وهكذا كانت هذه المحنة الكبيرة التي شملت أكثر علماء أهل السنة؛ بسبب تعصب المعتزلة الذين رأوا مذهبهم الفاسد هو الإسلام الحق والتوحيد الخالص، وأنَّ مَنْ لم يقل مثلهم بخلق القرآن فهو كافر مشرك حلال الدم!! ولذلك امتحنوا العلماء وعرضوهم على السيف إن لم يستجيبوا لهم.
ولو أنهم عدُّوا علماء السنة مجتهدين وحكموا عليهم بالخطأ؛ لما وُجدت تلك المحنة، ولكان لهم مِنْ دَعْم السلطان الذي يرى مذهبهم ما يكفي لنشر مذهبهم.
إن الإنسان ليعجب مما جرى من المحنة أيام أحمد بن حنبل، فقد بلغت من القسوة والفظاعة حدًّا يفوق التصور!
__________
(1) سير أعلام النبلاء، باختصار، (11/ 241- 254).(6/71)
لقد كان يكفي المعتزلة -وقد استطاعوا أن يستحوذوا على فكر أمير المؤمنين المأمون وأن يحولوه إلى مذهبهم- أن يسخِّروه لنصرة مذهبهم بمختلف الوسائل، التي لا تصل إلى حد امتحان علماء المسلمين بالعرض على السيف، وتكفيرهم إن لم يقولوا بخلق القرآن!!
لقد كان يكفي في انتصارهم أن يستولوا على القضاء، وأن يجعلوا أمراء الدولة وعمالها منهم، وأن يحرموا أهل السنة من جميع وظائف الدولة، بل لو أنهم زادوا على ذلك فمنعوا علماء أهل السنة من التدريس في المساجد والإفتاء؛ لكان أمرًا يدخل في تصور العقل.
فما الذي دفعهم حينما ملكوا القدرة أن يفعلوا بأهل السنة
ما فعلوا؟!
الواقع أن الذي دفعهم إلى هذه المعاملة القاسية هو حكمهم على مخالفيهم من أهل السنة بالتكفير، وحكم المرتد عن الإسلام
أن تُعرض عليه التوبة والرجوع عن كفره وإلا طُبِّق عليه حدُّ الردة وهو القتل، ولو أنهم عدُّوا مخالفيهم مجتهدين وحكموا عليهم
بالخطأ لما وُجدت تلك المحنة، ولتحوَّل الخلاف إلى مناقشات ومناظرات بين علماء الفريقين، وسيظهر الحق من الباطل ويكون البقاء للحق والصواب.
محنة الإمام أبي عبد الله البخاري:(6/72)
أما العالم الثاني فهو الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى، فقد جرت له محنة على يد بعض أهل السنة في قضية اللفظ بالقرآن، فأهل السنة في ذلك الزمن متفقون على أن القرآن كلام الله تعالى لفظه ومعناه، وإنما اختلفوا في قول الإنسان لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق، فأنكر الإمام أحمد ذلك؛ لأن اللفظ يحتمل أمرين: أحدهما الملفوظ وهو كلام الله جل وعلا فهذا غير مخلوق، والثاني التلفظ به وهو فعل العبد، والعبد مخلوق هو وأفعاله، فإذا قيل: لفظي بالقرآن مخلوق فقد يوهم المعنى الأول، وهو غير صحيح ولا يجوز القول به؛ لأن القرآن كلام الله تعالى منزل غير مخلوق، وإذا قيل: لفظي بالقرآن غير مخلوق فقد يوهم المعنى الثاني فيكون نفيًا لخلق أفعال العباد، وهذا غير صحيح؛ فلهذا منع الإمام أحمد ذلك اللفظ واعتبره بدعة، وسار على ذلك بعض أهل السنة ومنهم الحافظ محمد بن يحيى الذهلي.
وكان الإمام البخاري يتحاشى هذا اللفظ ولا يقول به، ولكنه إذا سئل يقول: القرآن كلام الله تعالى، وأفعال العباد مخلوقة، وألفاظهم من أفعالهم، فلما سافر إلى نيسابور جرت له فيها محنة بسبب ذلك.
وقد ذكر الحافظ الذهبي في ذلك روايات؛ خلاصتها أن الإمام البخاري لما وصل إلى نيسابور قال عالمها الحافظ محمد بن يحيى الذهلي: اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح فاسمعوا منه، فذهب الناس إليه.
فقال محمد بن يحيى لأصحاب الحديث بعد ذلك: ألا من يختلف إلى مجلسه فلا يختلف إلينا، فإنهم كتبوا إلينا من بغداد أنه تكلم في اللفظ ونهيناه فلم ينته، فلا تقربوه، ومن يقربه فلا يقربنا.(6/73)
وقال لأصحاب الحديث أيضًا: إن محمد بن إسماعيل يقول: اللفظ بالقرآن مخلوق فامتحِنُوه في المجلس، فلما حضر الناس مجلس البخاري قام إليه رجل فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول في اللفظ بالقرآن؛ مخلوق هو أم غير مخلوق؟ فأعرض عنه البخاري ولم يجبه، فقال الرجل: يا أبا عبد الله، فأعاد عليه القول، فأعرض عنه، ثم قال في الثالثة: فالتفت إليه البخاري وقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، والامتحان بدعة، فشغب الرجل، وشغب الناس، وتفرقوا عنه، وقعد البخاري في منزله!
وقال محمد بن يحيى الذهلي أيضًا: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن زعم: لفظي بالقرآن مخلوق.. فهو مبتدع، ولا يجالس ولا يكلم، ومن ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل فاتهموه، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مذهبه.
ولقد رحل أبو عبد الله البخاري إلى بخارى، فلما قدمها نصب أهلها له القباب على فرسخ من البلد، واستقبله كثير من أهلها، ونثروا عليه الدنانير والدراهم والسكر الكثير، فبقي أيامًا، ثم إن محمد بن يحيى الذهلي كتب إلى أمير بخارى خالد بن أحمد الذهلي يقول: إن هذا الرجل قد أظهر خلاف السنة، فقرأ كتابه على أهل بخارى، فقالوا: لا نفارقه، فأمره الأمير بالخروج، فخرج.
وكان في أثناء إقامته ببخارى يأتي إليه بعض أهل العلم، فيُظهرون شعار أهل الحديث من إفراد الإقامة ورفع الأيدي في الصلاة وغير ذلك، فقال حريث بن أبي الورقاء وغيره: هذا رجل مُشغِب، وهو يفسد علينا هذه المدينة، وقد أخرجه محمد بن يحيى من نيسابور وهو إمام أهل الحديث، فاحتجوا عليه بابن يحيى واستعانوا عليه بالسلطان في نفيه من البلد، فأُخرج، وكان محمد بن إسماعيل ورعًا يتجنب السلاطين ولا يدخل عليهم.(6/74)
ولما قدم أبو عبد الله البخاري "مرو" استقبله أحمد بن سيار فيمن استقبله، فقال له أحمد: يا أبا عبد الله، نحن لا نخالفك فيما تقول، ولكنَّ العامة لا تحمل ذا عنك، فقال البخاري: إني أخشى النار؛ أُسألُ عن شيء أعلمه حقًّا أن أقول غيره، فانصرف عنه أحمد بن سيار.
وأخيرًا هوى العملاق بعد ما طُعن من الأقربين؛ من أهل الحديث الذين هم خاصته وزملاؤه! فأُخرج من بخارى، بلده التي ولد فيها ونشأ بين ربوعها، وكان لقرية "خَرْتَنْك" القريبة من سمرقند شرف كبير؛ أن ثوى بها ذلك الإمام الكبير، حيث مرض وتوفي بها ودفن في أحضانها!!
وفي ذكر وفاته يقول الحافظ الذهبي: قال ابن عدي: سمعت عبد القدوس بن عبد الجبار السمرقندي يقول: جاء محمد بن إسماعيل إلى "خرتنك" قريةٍ على فرسخين من سمرقند، وكان له بها أقرباء، فنزل عندهم، فسمعته ليلة يدعو وقد فرغ من صلاة الليل: اللهم إنه قد ضاقت عليَّ الأرض بما رحبت فاقبضني إليك، فما تم الشهر حتى مات!! وقبره بـ "خرتنك".
وذكر الذهبي عن ابن عدي قال: سمعت الحسن بن الحسين البزاز البخاري يقول: توفي البخاري ليلة السبت ليلة الفطر عند صلاة العشاء، ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر سنة ست وخمسين ومائتين، وعاش اثنتين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يومًا(1).
وهكذا ابتُلي هذا الإمام الجليل الذي اتفق أهل زمانه ومن جاء بعدهم على إمامته في الحديث، مع اجتنابه للفظ الذي يحتمل أمرين، وتعبيره باللفظ الواضح الذي لا يحتمل إلا المعنى الصحيح.
والذين جابهوه وتخلوا عن درسه لمجرد هذا القول قد أوغلوا في الغلو والتنطع، وقد أساؤوا حينما ربَّوا طلاب العلم على الغلو، فأصبح الرجوع عن خط الغلو إلى الاعتدال مُؤْذِنًا بقيام فتنة وبلاء مستطير.
__________
(1) المرجع السابق (12/ 453- 468)، وانظر: مقدمة فتح الباري (490- 493).(6/75)
ولقد أصبح هذا الإمام الكبير طريدًا في بلاده، وفي كل بلد يذهب إليه من بلاد خراسان وما وراء النهر تثار ضده تلك الفتنة.
إن الخلاف الحقيقي يحتمله الاجتهاد إذا صدر من علماء مجتهدين ويُعذر فيه المخطئ، فكيف بهذا الخلاف الوهمي الذي أُلزم فيه هذا العالم الجليل بلازم قوله مما لم يقصده ولم ينطق به، بل تبرأ منه.
إن مصدر تلك الفتنة وأمثالها هو الغلو في ردِّ البدع الشائعة؛ حيث يتحول المدافعون عن السنة إلى الغلو والإفراط في سدِّ كل الذرائع الموصلة إلى تلك البدع، وفي سبيل ذلك يحرِّمون ما لم يحرمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويبتدعون بدعًا مُقابِلة في الغلو، ويحاسبون المسلمين على الإخلال بها أشد من محاسبتهم على الإخلال بالواجبات الشرعية أحيانًا، فإذا ظهر علماء يدعون إلى الاعتدال في تلك القضايا وُصفوا بالأوصاف الشنيعة، وشُنَّت عليهم الحملات الفظيعة حتى يسكتوا ويسلِّموا لأولئك الغلاة بدعهم التي دعوا المسلمين إليها!!
والنفوس -عادة- ميالة إلى الغلو والنقد في الغالب، فإذا برز عالم أو علماء يدعون إلى مثل هذا المنهج سارع إلى الاستجابة كل إنسان يميل مع عاطفته ولا يحكِّم عقله، وأكثر أتباع هؤلاء ممن لم يتعمقوا في العلم ولم يتلقوا تربية كافية في الأدب العلمي، كما هو الحال في أولئك الطلاب الذين ملؤوا الدار وما حولها لأخذ العلم عن الإمام البخاري، فلما سئل ذلك السؤال وأجاب بجوابه المعتدل وحَمَله دعاة الفتنة على غير محمله انصرفوا عنه جميعًا، وكأنَّ العلم كله قد تجمع في تلك القضية التي قد وُضع في تصورهم أنها من أهم القضايا، وأنها مَحَكُّ الحكم على أهل العلم، ومعقد الولاء لهم أو البراءة منهم.
فما أبعد هؤلاء عن منهج السلف الصالح الذي يدَّعون أنهم ثابتون عليه وأنهم حماته ورواده!!(6/76)
لقد اتهم أولئك الغلاة الإمام البخاري بالابتداع في الدين، وذلك حينما فصَّل الكلام في مسألة اللفظ والملفوظ، والحقيقة أنهم هم المبتدعة؛ لأنهم يمتحنون الناس في عقائدهم، وامتحان أهل العلم في عقيدتهم بدعة لم تكن موجودة على عهد الصحابة رضي الله عنهم كما سبق عن الإمام البخاري.
محنة الإمام ابن تيمية:
قبل أن أذكر ما جرى للإمام ابن تيمية أذكر نبذة عما كان يجري بين العلماء الذين يفسرون جميع نصوص الصفات على ظاهرها، والذين يؤولون بعضها على خلاف ظاهرها، ومن الأمثلة البارزة على ذلك ما جرى بين العلامة عز الدين بن عبد السلام وبعض علماء الحنابلة المعاصرين له ، وفي ذلك يقول الحافظ تاج الدين عبد الوهاب السبكي في بيان ما جرى بين العز بن عبد السلام والسلطان الأشرف موسى الأيوبي: وكانت طائفة من مبتدعة الحنابلة؛ القائلين بالحرف والصوت (يعني في كلام الله تعالى)، ممن صحبهم السلطان في صغره.. يكرهون الشيخ عز الدين ويطعنون فيه ، وقرروا في ذهن السلطان الأشرف أن الذي هم عليه اعتقاد السلف، وأنه اعتقاد أحمد بن حنبل ط وفضلاء أصحابه، واختلط هذا بلحم السلطان ودمه! وصار يعتقد أن مخالف ذلك كافر حلال الدم، فلما أخذ السلطان في الميل إلى الشيخ عز الدين وشت هذه الطائفة به، وقالوا: إنه أشعري العقيدة، يخطِّئ من يعتقد الحرف والصوت ويبدعه.
وذكر أنه لما استعظم السلطان ذلك ونسبهم إلى التعصب عليه كتبوا فُتيا في مسألة الكلام وأوصلوها إليه، وقد ذكر جوابه على هذه الفتيا كاملاً، وسأكتفي بذكر أحكامه التي حكم بها على مخالفيه.
فمن ذلك قوله: والحشوية المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه ضربان: أحدهما لا يتحاشى من إظهار الحشو ويحسبون أنهم
على شيء، ألا إنهم هم الكاذبون، والآخر يستتر بمذهب السلف لسحت يأكله أو حطام يأخذه... إلى أن قال: ومذهب السلف
إنما هو التوحيد والتنزيه دون التجسيم والتشبيه... إلى أن قال :(6/77)
فما الفرق بين مجادلة الحشوية وغيرهم من أهل البدع، لولا خبث
في الضمائر وسوء اعتقاد في السرائر، يستخفون من الناس
ولا يستخفون من الله، وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول، وإذا سئل أحدهم عن مسألة من مسائل الحشو أمر بالسكوت
عن ذلك ، وإذا سئل عن غير الحشو من البدع أجاب فيه بالحق، ولولا ما انطوى عليه باطنه من التجسيم والتشبيه لأجاب في مسائل الحشو بالتوحيد والتنزيه... إلى أن قال: وما زال المنزهون والموحدون يفتون بذلك على رؤوس الأشهاد في المحافل والمشاهد، ويجهرون به في المدارس والمساجد، وبدعة الحشوية كامنة خفية، لا يتمكنون
من المجاهرة بها، بل يدسونها إلى جهلة العوام.
وقد ذكر السبكي أن هذا الكتاب وصل إلى السلطان الأشرف، فاستشاط غضبًا وقال : صح عندي ما قالوه عنه، وهذا رجل كنا نعتقد أنه متوحد في زمانه في العلم والدين، فظهر بعد الاختبار أنه من الفجار، لا بل من الكفار!!
وذكر السُّبكي أن العلامة جمال الدين ابن الحاجب المالكي جمع العلماء والقضاة، وأخذ توقيعاتهم بما ذكره العز بن عبد السلام، وأن العز رفع إلى السلطان طلبًا بجمع علماء المذاهب الأربعة وأخذ رأيهم في هذا الموضوع، وذكر في هذا الطلب أن السلطان هو أولى الناس بموافقة والده السلطان العادل؛ فإنه عزَّر جماعة من أعيان الحنابلة المبتدعة تعزيرًا بليغًا رادعًا وبدَّع بهم وأهانهم.
ثم ذكر أن السلطان كتب إلى العز بن عبد السلام كتابا شديد اللهجة، وأن ابن عبد السلام أجابه بجواب شديد، ومما قال فيه : والفتيا التي وقعت في هذه القضية يوافق عليها علماء المسلمين من الشافعية والمالكية والفضلاء من الحنابلة، وما يخالف في ذلك إلا رعاعٌ لا يعبأ الله بهم.(6/78)
ثم ذكر السبكي أن الشيخ جمال الدين الخضيري شيخ الحنفية في زمانه ركب إلى السلطان الأشرف، وسأل عما جرى بينه وبين العز بن عبد السلام، فأحضر السلطان خطابيْ ابن عبد السلام الأول والثاني، وأن الشيخ الخضيري قرأهما وقال : هذا اعتقاد المسلمين وشعار الصالحين ويقين المؤمنين، وكل ما فيهما صحيح، ومن خالف ما فيهما وذهب إلى ما قاله الخصم من إثبات الحرف والصوت فهو حمار!! فقال السلطان: نحن نستغفر الله مما جرى، ونستدرك الفارط في حقه، وأرسل إلى الشيخ واسترضاه وطلب محاللته.
ثم ذكر أن السلطان أمر بالإمساك عن الكلام في ذلك الموضوع، إلى أن اتفق وصول السلطان الكامل من الديار المصرية، وأنه كان اعتقاده صحيحًا على مذهب الأشعري رحمه الله في الاعتقاد، وأنه بحث الموضوع مع السلطان الأشرف وأنكر عليه إسكاته أهل الحق، وأنه كان عليه أن يُمكِّن أهل السنة من أن يلحنوا بحججهم وأن يُظهروا دين الله، وأن يشنق من أولئك المبتدعة عشرين نفسًا ليرتدع غيرهم"(1).
فهذه مقتطفات مما دار حول هذا الموضوع، وكان الدافع لهذا التصلب وإصدار الأحكام القاسية على المخالفين -التي وصلت إلى حد التكفير- هو اعتقاد أولئك العلماء من الطرفين بأن موضوعات العقيدة لا تدخل في مجال الاجتهاد، وأن المخالف فيها يُحكم عليه بأنه مبتدع ضال، وربما حكموا عليه بالكفر، ولو أنهم نظروا إلى مسائل الاعتقاد بمثل نظرتهم إلى مسائل الفقه؛ لكان كل فريق يحكم على الفريق الآخر بأنهم مخطئون في اجتهادهم، ولم يقع ما وقع من الحكم بالابتداع والضلال والكفر.
__________
(1) طبقات الشافعية الكبرى (5/ 85- 97).(6/79)
ومن هذا الخبر يتبين لنا أن بعض الحكام قد وقعوا ضحية لذلك التشدد في الأحكام على المخالفين، وأنهم بحكم سلطتهم يحاولون ممارسة الضغوط على من يخالف معتقدهم، وكان من نتائج الانحراف في الحكم على المخالفين من أهل الاجتهاد أن الذين يثبتون مدلولات جميع نصوص الصفات على ظاهرها، وهم الذين أطلق عليهم الحنابلة.. لم يكونوا يستطيعون المجاهرة بمذهبهم بوضوح وقوة من القرن الرابع الهجري تقريبًا إلى نهاية القرن السادس تقريبًا؛ لأن السيادة في ذلك التاريخ للذين يؤوِّلون بعض تلك النصوص على خلاف ظاهرها؛ وهم الأشاعرة والماتريدية، وفي أواخر القرن السادس برز شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية رحمه الله تعالى، فشرح مذهب أهل الإثبات الكامل لظاهر النصوص بوضوح وإسهاب، ودافع عنه بقوة وصراحة، وقد جرت بينه وبين بعض المخالفين له من علماء عصره مناظرات علمية، وقد كانت بعض هذه المناظرات تتسم بشيء من الشدة والتحدي، وقد كان ابن تيمية متفوقًا في هذا المجال لحدة ذكائه وقوة ذاكرته وسعة علمه.
وقد ذكر الحافظ ابن رجب شيئًا من هذه المناظرات وما نتج عنها من ظهور ابن تيمية على مخالفيه، إلى أن ذكر أن بعض علماء مصر وقضاتها أرادوا أن يحكموا عليه من غير إجراء مناظرة بينه وبين مخالفيه، وكانت الشام تابعة لمصر آنذاك في الحكم، فطلبه العلماء بواسطة السلطان، فسافر من دمشق إلى القاهرة، وعقدوا له مجلسًا وادَّعوا عليه عند ابن مخلوف قاضي المالكية بأنه يقول: إن الله تعالى تكلم بالقرآن بحرف وصوت، وأنه على العرش بذاته، وأنه يشار إليه بالإشارة الحسية.(6/80)
وقال المدَّعِي: أطلب تعزيره على ذلك التعزير البليغ، يشير إلى القتل على مذهب مالك، فقال القاضي لابن تيمية: ما تقول يا فقيه؟ فحمد الله وأثنى عليه، فقيل له: أسرع ما جئت لتخطب، فقال: أَأُمنع من الثناء على الله تعالى؟! فقال القاضي: أجب فقد حمدت الله تعالى، فسكت الشيخ، فقال: أجب، فقال الشيخ له: من هو الحاكم فيَّ؟ فأشاروا: القاضي هو الحاكم، فقال الشيخ لابن مخلوف: أنت خصمي، كيف تحكم فيَّ؟! وغضب، ومراده: إني وإياك متنازعان في هذه المسائل فكيف يحكم أحد الخصمين على الآخر فيها؟! فأُقيم الشيخ ومعه أخواه شرف الدين عبد الله وزين الدين عبد الرحمن، ثم رُدَّ الشيخ وقال: رضيت بأن تحكم فيَّ، فلم يُمَكَّن من الجلوس.
ويقال: إن أخاه شرف الدين ابتهل ودعا الله عليهم في حال خروجهم، فمنعه الشيخ وقال له : بل قل: اللهم هب لهم نورًا يهتدون به إلى الحق!!
ثم حبسوهم أيامًا، وبعثوا بكتاب سلطاني إلى الشام بالحطِّ على الشيخ، وإلزام الناس -خصوصًا أهل مذهبه- بالرجوع عن عقيدته، والتهديد بالعزل والحبس، ونودي بذلك في الجامع والأسواق، ثم قرئ الكتاب بُسدَّة الجامع بعد الجمعة، وحصل أذى كثير للحنابلة بالقاهرة، وحُبس بعضهم، وأُخذت الإقرارات على بعضهم بالرجوع.
وقد بقي ابن تيمية في السجن في القاهرة، ثم نقل إلى سجن في الاسكندرية، وبقي فيه إلى أن انتهى حكم المظفر بيبرس الجاشنكير، وكان هذا الحاكم مائلاً مع أولئك العلماء الذين حكموا على ابن تيمية، وذلك ما بين سنة خمس وسبع وسبعمائة.(6/81)
فلما عاد الحكم إلى السلطان الناصر محمد بن قلاوون أَخرج ابن تيمية من السجن وأكرمه، واستشاره في قتل القضاة الذين حكموا عليه بالقتل، فغضب ابن تيمية وأنكر عليه ذلك! وفي ذلك يقول قاضي المالكية ابن مخلوف: ما رأينا أفتى من ابن تيمية(1)، سَعَينا في دمه، فلما قدر علينا عفا عنا(2)!!
وقد مُنع بعد ذلك عدة مرات من الفتوى وسُجن؛ بسبب اجتهاده في بعض المسائل الشرعية، إلى أن سجن في المرة الأخيرة سنتين وأشهرًا ومات في السجن رحمه الله تعالى؛ بسبب فتواه بمنع السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين، وقد انقسم العلماء في الحكم على ابن تيمية بسبب هذه الفتوى؛ فمنهم من عدَّ ذلك تنقيصًا في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وذلك كفر، وهم ثمانية عشر على رأسهم القاضي الأخنائي المالكي، وأفتى قضاة مصر الأربعة بحبسه، ومنهم من حكم عليه بأنه مجتهد مخطئ فهو مغفور له، وهم جماعة من العلماء، ومنهم جماعة من العلماء وافقوه في فتواه(3).
ومِن عرض هذه المحن التي تعرض لها ابن تيمية -رحمه الله- يتبين لنا الخطأ الفادح الذي سار عليه جمع من العلماء في ذلك العصر، حيث حكم بعضهم على ابن تيمية بالكفر واستحلوا دمه، وحكم عليه آخرون بالابتداع والضلال، وحاولوا منعه ومنع العلماء الموافقين له من التدريس والإفتاء، ولو أنهم أخذوا بالمنهج الصحيح فحكموا عليه بأنه مجتهد مخطئ من وجهة نظرهم؛ لما حدثت تلك المحن الكبيرة التي تأذى بها عدد من العلماء، وفرقت صف المسلمين، ولا يمكن لأحد أن يدعي بأن ابن تيمية ليس من أهل الاجتهاد،
فإن ذلك لا يكون مقبولاً في أوساط العلماء؛ لما اشتهر بأنه
__________
(1) قوله: "أفتى"، من الفتوة؛ وهي منزلة عالية في السلوك عند الصوفية، ومن مقاصدها إكرام المؤذي والتماس الأعذار للجاني، مدارج السالكين (2/ 340).
(2) ذيل طبقات الحنابلة (4/ 396- 400)، وانظر: البداية والنهاية (14/ 39، 40).
(3) ذيل طبقات الحنابلة (4/ 401).(6/82)
من أئمة المجتهدين.
- - - - -
بين يدي الإمام المهدي
والآن بعد أن طوفنا في جنبات هذا الموضوع، وأخذنا عنه لمحة موجزة؛ يَرِدُ على الذهن تساؤل مهم؛ وهو أن يقال: في أي اتجاه من هذه الاتجاهات سيكون الإمام محمد بن عبد الله المهدي؟ وكيف ستكون معاملته مع المخالفين؟ وهل سيجتمع عليه المسلمون وهم يضلل بعضهم بعضًا؟
والجواب على هذا التساؤل يمكن أن يقدم في نقاط :
1- أن الإمام محمد بن عبد الله المهدي قادم قطعًا؛ لثبوت ظهوره وإقامته دولة الإسلام الكبرى في أحاديث صحيحة؛ منها ما أخرجه أبو داود في سننه من حديث أبي سعيد الخدري ط قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "المهدي مني؛ أجلى الجبهة، أقنى الأنف،
يملأ الأرض قسطًا وعدلاً كما مُلئت ظلمًا وجورًا، ويملك
سبع سنين"(1).
وأخرجه الحاكم من حديث أبي سعيد ط وذكره نحوه(2).
ومن ذلك ما أخرجه أبو داود من حديث أم سلمة ك
قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "المهدي من عنزتي من
ولد فاطمة"(3).
ومن ذلك ما أخرجه الحاكم من حديث أبي سعيد الخدري ط، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج في آخر أمتي المهدي، يسقيه الله الغيث، وتُخرج الأرض نباتها، ويُعطي المال صَحاحًا(4)، وتكثر الماشية، وتعظم الأمة، يعيش سبعًا أو ثمانيًا"؛ يعني حِجَجًا(5).
ومن ذلك ما أخرجه الحارث بن أبي أسامة التميمي من حديث جابر ط، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم المهدي: تعال صلِّ بنا، فيقول: لا، إن بعضهم أمير بعض، تكرمة الله لهذه الأمة".
__________
(1) سنن أبي داود (4285)، كتاب المهدي (4/ 474).
(2) المستدرك (4/ 557).
(3) سنن أبي داود (4284)، المهدي (4/ 474) .
(4) أن يعطي النقد صحيحًا غير معيب .
(5) المستدرك (4/ 557، 558)، وصححه الحاكم وأقره الذهبي، والحِجَج: السنوات.(6/83)
ذكره الدكتور عبد العليم عبد العظيم البستوي، وحكم عليه بالصحة، ونقل عن الإمام ابن القيم أنه قال: "هذا إسناد جيد"(1).
ومن ذلك ما أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن مسعود ط، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطوَّل الله ذلك اليوم؛ حتى يبعث فيه رجلاً من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، واسم
أبيه اسم أبي"(2).
2- أن الأمة الإسلامية تبعًا لعلمائها تنقسم إلى طائفتين كبيرتين:
أولاهما: الذين أشهروا أنفسهم بالانتماء لمذهب السلف الصالح، وأهل السنة والجماعة، وهم الذين يطلق عليهم سابقًا أهل الحديث باعتبار أن أغلب أهل الحديث منهم، ويطلق عليهم أيضًا الحنابلة؛ باعتبار أنهم يأخذون بمذهب الإمام أحمد بن حنبل الاجتهادي في أمور الدين في الغالب، وهؤلاء من مذهبهم في أمور العقيدة إثبات جميع صفات الله تعالى، مع بيان معانيها من غير تكييف ولا تمثيل ، واعتقاد عدم جواز التوسل والتبرك بذوات الصالحين حتى الأنبياء -عليهم السلام- بعد موتهم .
والطائفة الثانية: هم الذين خالفوا الطائفة الأولى؛ فذهبوا إلى تفويض معاني بعض الصفات إلى الله تعالى، أو تأويلها على غير ظاهرها؛ تنزيها له جل وعلا عن مشابهة المخلوقين، وبعضهم ذهبوا إلى جواز التوسل بذوات الصالحين، وبعض هؤلاء يطلقون على أنفسهم "الأشاعرة" نسبة إلى الإمام أبي الحسن الأشعري، وبعضهم يطلقون على أنفسهم "الماتريديه" نسبة إلى الإمام أبي منصور الماتريدي، وأصحاب هذه الطائفة أيضًا ينسبون أنفسهم لاتباع منهج السلف الصالح والانتماء لأهل السنة والجماعة، وقد اشتهر كثير من علماء الطائفتين الأولى والثانية بتضليل أو تبديع مخالفيهم من الطائفة الأخرى.
__________
(1) المهدي المنتظر (180- 182).
(2) سنن أبي داود رقم 4281، المهدي (4/ 472، 473).(6/84)
3- أن المهدي إذا كان من أهل الطائفة الأولى فسيضلله أهل الطائفة الثانية؛ وهذا يعني أنهم لن يتبعوه، وإذا كان من أهل الطائفة الثانية فسيضلله أهل الطائفة الأولى؛ وهذا يعني أيضًا أنهم لن يتبعوه.
4- هذه الرسالة تفترض وجود طائفة ثالثة؛ وهم أهل الوسط والاعتدال، وتقوم عقيدتهم على الحكم على المخالفين بالخطأ في الاجتهاد، بشرط أن يكون العلماء الذين بحثوا في هذا الموضوع من أهل الاجتهاد، مع ترك الحكم على مصيرهم في الآخرة إلى الله تعالى، والحكم بالخطأ لا يترتب عليه بغض ولا براء، وإنما يظل المختلفون على المحبة والولاء، وإن تمسك كل فريق منهم برأيه، وبالتالي فإن أفراد الطائفتين المذكورتين جميعًا إذا سلكوا هذا المنهج الوسط سيوالون المهدي ويتبعونه.
5- على هذا فإن هذه الرسالة تُعدُّ تمهيدًا لوحدة صف المسلمين قبل ظهور المهدي، فلا يكون هناك بين المسلمين تباعد مبني على اختلافهم في الأمور العقدية.
6- من المعلوم البدهي أن المهدي سيكون على الحق؛ لأن الله تعالى سيمكنه في الأرض، ولن يمكنه -جل وعلا- وهو على الباطل، وإن من أهم الأمور التي تساعد على ظهور الحق ألا يحكم هو ولا أصحابه على المخالفين بالضلال أو الابتداع، فضلاً عن الحكم عليهم بالشرك أو الكفر، كما أن الصحابة رضي الله عنهم قد اختلفوا في بعض أمور الدين، ولم يحكم أحد منهم على الآخرين ببدعة ولا ضلالة، ولم يحصل بينهم براء ولا مقاطعة .
هذا؛ وقد جاء في أحاديث المهدي أن الله تعالى يصلحه في ليلة، كما جاء في قول رسول الله ج: "المهدي منَّا أهل البيت، يصلحه الله في ليلة"، أخرجه الإمام أحمد وغيره، وصححه الشيخ أحمد شاكر والشيخ الألباني، رحمهما الله تعالى(1).
__________
(1) مسند الإمام أحمد بتحقيق أحمد شاكر (2/ 58) (645)، صحيح الجامع الصغير (6/ 22) (6611).(6/85)
والذي يظهر لي أن المهدي لم يكن فاسدًا في أول عمره ولا منحرفًا، لا من ناحية الشبهات ولا من ناحية الشهوات؛ لأنه يبعد أن يكون الرجل المختار من الله تعالى لإصلاح الأمة الإسلامية وقيادتها في آخر الزمان قد نشأ على تلك الحال، فالذي يظهر لي -والله أعلم- أنه رجل صالح منذ صغره، ولكنه نشأ في المنهج العقدي على ما تعلَّمه من علماء بلده، فأصبح من إحدى الطائفتين السابقتين، وبالتالي فإنه سيحكم على مخالفيه بالبدعة والضلال والشذوذ والانحراف، وفي الوقت المناسب لظهوره يهديه الله إلى منهج الاعتدال في الحكم على المخالفين، فيكون ولاؤه للمسلمين المتقين جميعًا، ويكون المتقون جميعًا من أنصاره، وهذا هو إصلاح الله تعالى إياه في ليلة، كما جاء في الحديث المذكور.
وعلى هذا؛ فإنه ليس من صفات المهدي قبل ظهوره أنه منحرف عن الاستقامة، بل إنه يكون متصفًا بالتشدد في الحكم على المخالفين، وكون المسلم يحكم على إخوانه المسلمين بالابتداع والضلال والشذوذ والانحراف وهم ليسوا كذلك.. ظلمٌ لهم، والظلم فساد وإفساد في الأرض.
- - - - -
الخاتمة
قد يتساءل الإخوة الذين يعرفونني جيدًا: كيف انتهجت هذا المنهج الوسط في الحكم على المخالفين في العقيدة؛ مع أنني قد نشأت في وسط علمي لا يعتمد هذا المنهج، ويعمم وصف التعطيل على كل من أوَّل شيئًا من الصفات؛ سواء كان قليلاً أو كثيرًا؟!
والحقيقة أنني كنت في مراحل دراستي الأولى -بما في ذلك المرحلة الجامعية- على هذا المنهج، ثم إنني وجدت علماء كبارًا من فضلاء الأمة ساروا على التأويل في بعض آيات الصفات؛ كالنووي وابن حجر العسقلاني وابن الجوزي وابن عقيل والعز بن عبد السلام، فرأيت أن وصف هؤلاء وأمثالهم بالضلال والتعطيل غير سائغ شرعًا، كما أن وصف الأئمة الذين أجْرَوا جميع نصوص الصفات على ظاهرها -كابن قدامة وابن تيمية وابن القيم- بالضلال والتشبيه والتجسيم؛ غير سائغ شرعًا.(6/86)
ثم إنني؛ بحكم تخصصي في التفسير والحديث، قد اطلعت في أثناء تحضير رسالَتيْ الماجستير والدكتوراه على كتب التفسير المطبوعة التي توافرت لدي، ومما لفت نظري أن جميع المفسرين -حسب اطلاعي- أوَّلوا بعض آيات الصفات، إنْ قليلاً وإن كثيرًا، حتى الذين اشتهر عنهم أنهم من أئمة علماء السنة؛ مثل ابن جرير الطبري وابن كثير والشوكاني، ما عدا مفسرَين معاصرين؛ هما فضيلة الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي في كتابه "تيسير الكريم الرحمن"، وفضيلة الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي في كتابه "أضواء البيان"، وقد أكَّد لي هذا الحكم ما توصل إليه الشيخ محمد بن عبد الرحمن المغراوي في استقصائه الذي قام به في كتابه: "المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات"؛ حيث أثبت أن جميع المفسرين أتوا بشيء من التأويل في آيات الصفات، وتعقَّبهم في ذلك، ما عدا الشيخين المذكورين.
وحينما درَّست مادة العقيدة في المعهد العالي لإعداد الدعاة، قمت بقراءة "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية وبعض كتبه الأخرى، فأذهلني ما قرأت من كثرة النصوص التي ظهر فيها هذا الإمام بالسماحة والرحمة والعدل وسعة الأفق، وذلك في حكمه على المخالفين في أمور العقيدة من العلماء المجتهدين، حيث اقتصر حكمه عليهم بالخطأ، ولم يضللهم ولم يبدعهم.
ثم توج هذه الرؤى الحميدة ما قمت به من قراءة كتاب "سير أعلام النبلاء" للحافظ الذهبي، حيث يوافق شيخ الإسلام ابن تيمية في السماحة والعدل في الحكم، فأصبحَتْ لديَّ قناعة تامة بهذا المنهج الوسط الذي سطرت من أجله هذه الرسالة.
وكان لزامًا عليَّ أن أنشر ما هداني الله جل وعلا إليه من هذا العلم؛ ليقيني بالوعيد الشديد على كتمان العلم، كما جاء في قول رسول(6/87)
الله ج: "ما من رجل يحفظ علمًا فيكتمه؛ إلا أتي به يوم القيامة ملجمًا بلجام من النار"، أخرجه الحافظان ابن ماجه، والترمذي وحسنه، من حديث أبي هريرة ط(1).
- - - - -
__________
(1) سنن ابن ماجه (261)، في المقدمة (1/ 96)، سنن الترمذي (2649)، في العلم
(5/ 29).(6/88)
- فهرس الموضوعات -
الموضوع ... رقم الصفحة
مقدمة الرسائل........................................................ ... 5
الرسالة الأولى: شمول الاجتهاد في الدين.................. ... 11
المقدمة.................................................................... ... 13
نماذج من اجتهاد الصحابة......................................... ... 19
اقتباسات من كلام الإمام ابن تيمية............................ ... 23
أصول الدين وفروعه............................................... ... 25
من أقوال الإمام الذهبي............................................ ... 65
من أقوال بعض العلماء المعاصرين............................. ... 69
الحقُّ ليس بالكثرة ولا بالقلة...................................... ... 75
لمحة تاريخية عن الموضوع........................................... ... 77
بين قضايا الفقه وقضايا العقيدة................................. ... 89
نماذج من الخلاف العقدي بين العلماء......................... ... 93
أثر الخلاف في تفريق جماعة المسلمين......................... ... 97
مثل من آثار الاعتدال في الحكم على المخالفين............ ... 107
من نتائج الحيدة عن هذا المنهج.................................. ... 111
محنة الإمام أحمد بن حنبل........................................ ... 111
محنة الإمام أبي عبدالله البخاري.................................
. ... 117
محنة الإمام ابن تيمية................................................. ... 123
بين يدي الإمام المهدي..............................................
3 ... 133
الخاتمة..................................................................... ... 139
فهرس الموضوعات.................................................. ... 143
- - - - -(7/1)
الرسالة الثانية
شمول العقيدة
W
سلسلة الرسائل الشمولية
الرسالة الثانية
...
شمول العقيدة
إعداد الدكتور
عبد العزيز بن عبد الله الحميدي
الأستاذ بكلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى
المشرف على الإدارة العامة للدعوة في رابطة العالم الإسلامي
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
1424هـ – 2003م(8/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العلي القدير، السميع البصير، الفعال لما يريد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، سيد الأولين والآخرين وإمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: فهذه رسائل علمية في مجال العقيدة، أقدمها بين يدي إخواني القراء الكرام، لعلها تسهم في شيء من إصلاح المجتمع الإسلامي، وتحقيق الوضع الأمثل له في حاضره ومستقبله.
وإن مما دفعني إلى تأليف هذه الرسائل ما رأيته من واقع بعض المسلمين السيء، حيث تفرقوا شيعاً وأحزاباً، وتنافرت قلوبهم، وتشتت شملهم.
وكان من أهم الأسباب في ذلك ما جرى من الشقاق بين بعض أهل العلم منهم، وإشغال أنفسهم في الردود بعضهم على بعض واتهام بعضهم بعضاً في دينهم.
لقد كان الصحابة ن مُتَّفقِي الكلمة، تجمعهم جماعة واحدة، ويحترم علماؤهم بعضهم بعضاً، ويثني بعضهم على بعض وإن اختلفوا في الاجتهاد في بعض المسائل الشرعية، إلى أن حصل التفرق في المسلمين من بعض التابعين الذين لم يلتزموا بمنهج الصحابة ، فشنوا حملاتهم المغرضة على أمير المؤمنين عثمان ط إلى أن استشهد فتفرق المسلمون من بعده، وقد صاحب تفرقَهم في الآراء تفرق في الدين، ومن أبرز ما حدث آنذاك ظهور الخوارج والرافضة بمختلف طوائفهم، ثم محاولة غزو الإسلام من داخله، وذلك بنشر المذاهب العقدية المنحرفة التي تعتمد على العقل ولا تُحكِّم شريعة الإسلام، وتعتمد على الهوى المنحرف.(9/1)
وفي سبيل مكافحة ذلك الخطر الداهم والغزو الفكري المنظم قام مجموعة من العلماء أصحاب الغيرة والتقوى بالرد على أولئك المنحرفين الضالين عن سبيل الهدى، ولو أن أولئك العلماء جميعاً استقاموا على منهج واحد سليم على مر القرون الإسلامية لنجحوا سريعاً في صد الباطل وجمع كلمة أهل العلم الديني، ومن ورائهم أفراد المسلمين الذين يرون العلماء قادة وموجهين لهم، ولكنهم اختلفوا في بعض تفاصيل المنهج فضعفت كلمتهم وصار بأسهم بينهم أحياناً، وكان ذلك سبباً في استفحال الشر وقوة أهله وامتداد زمن الصراع الفكري بين دعاة الحق ودعاة الباطل.
وهذه الرسائل من مهماتها تقريب وجهات النظر بين المختلفين من أهل العلم والتقوى ليُلقوا أسلحتهم الموجهة إلى نحورهم، وليتفرغوا لأعدائهم الحقيقيين، ولتجتمع من ورائهم الأمة الإسلامية.
ولقد جرت محاولات جادة لجمع علماء المسلمين تحت لواء واحد، خصوصاً في هذا العصر على إثر انتشار الصحوة الدينية وتعدد الجماعات الإسلامية، ولكنْ حال دون النجاح في ذلك اختلاف بعض أهل العلم الذي تولد عنه اختلاف القلوب، وكانت العقبة الكبرى التي تحول دون اجتماعهم هي الخلافات العقدية التي انبنى عليها حكم بعضهم على بعض بالضلال والابتداع، وإذا كان أهل العلم يضلل بعضهم بعضاً ويبدع بعضهم بعضاً فإن اجتماعهم على عمل واحد يكون بعيد المنال، فكان من أهداف هذه الرسائل رفع معالم واضحة لعلماء الأمة كي يلتقوا عليها وإن لم يتفقوا على رأي واحد، تمهيداً لجمعهم تحت رابطة واحدة ولواء واحد.(9/2)
ومن مقاصد هذه الرسائل أنها تعالج أنواعاً من القصور في فهم بعض أمور الدين، وهذا القصور ناتج من عوامل متعددة، منها الميل من بعض الدعاة إلى التميز عن سائر المسلمين، وعدم مراعاة المحافظة على جماعة المسلمين العامة، وعدم الاهتمام الكافي بجمع كلمة المسلمين، وعدم وجود الفزع والإشفاق من تفرقهم وضعف قوتهم، كما أن من أسباب ذلك تركيز الأفكار على قضايا محدودة من الدين وضعف الاهتمام بقضايا الدين الأخرى.
كما أن من محتويات هذه الرسائل محاولة صد هجوم مكثف
من أعداء الإسلام بقصد تذويب المسلمين ودمجهم في أصحاب الديانات الأخرى.
وهذا تعريف موجز بهذه الرسائل :
الأولى: (شمول الاجتهاد في الدين)، وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن الاجتهاد في الدين يشمل العقائد كما يشمل الأحكام الفقهية، اقتداء بالصحابة رضي الله عنهم، واسترشاداً بأقوال العلماء الربانيين المحققين، وتلمساً للسبل التي تخلص الأمة الإسلامية من الشقاق والنزاع والعداوة والبغضاء.
الثانية: (شمول العقيدة) وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن العقيدة تشمل كل عمل يتعلق باعتقاد القلب وإن كان ظاهره ليس من أمور العقيدة، ومن أبرز ذلك تحكيم الإسلام في جميع شئون الحياة ورفض الحكم بغير ما أنزل الله تعالى.
الثالثة: (شمول العبادة) وهذه الرسالة تهدف إلى بيان
أن العبادة تطلق على كل عمل مشروع أريد به وجه الله
تعالى، مع بيان الإيجابيات لهذا الفهم الشامل والسلبيات
للفهم القاصر.
الرابعة: (شمول معالم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة)،
وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن صفات الفرقة الناجية والطائفة المنصورة تجمع بين العلم النافع والعمل الصالح، وما يترتب على ذلك من النتائج البناءة في قيام جماعة المسلمين وحمايتها
من التصدع والانهيار.(9/3)
الخامسة: (شمول السلفية)، وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن السلفية لا تختص بالعقائد، بل تشمل كل ما جاء به الدين من العلم النافع والعمل الصالح، ولذلك فهي تشمل قطاعاً كبيراً من المسلمين ولا تختص بطائفة معينة، مع بيان السلبيات المترتبة على حصر السلفية في طائفة محدودة، أو في جانب معين من الدين.
السادسة: (شمول الإسلام للرسالات السماوية)، وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن أصل الدين الذي هو التوحيد شامل لكل الرسالات السماوية، وأن الإسلام العام يطلق على كل هذه الرسالات، وفي هذا رد على فرية التقريب بين الأديان السماوية.
وقد سمَّيتُ هذه الرسائل (الرسائل الشمولية) لأنها كلها تشتمل على تصحيح بعض المفاهيم القاصرة، وتدعو إلى شمولية الفهم لمحتويات هذه الرسائل.
هذا وقد كنت كتبت هذه الرسائل ما بين عامي أربعة وأربعمائة وألف وأربعة عشر وأربعمائة وألف، وذلك حينما كنت أدرِّس مادة العقيدة في المعهد العالي لإعداد الأئمة والدعاة التابع لرابطة العالم الإسلامي، وقد درَّست أغلب مادة هذه الرسائل لطلاب ذلك المعهد، كما نقلها عدد منهم إلى البلاد التي ذهبوا للعمل فيها ودرَّسوها لطلابهم كما أفادوني بذلك، ولقد كان بعض الطلاب يلحون عليَّ كثيراً في طباعة هذه الرسائل، ولكني تأخرت في ذلك أولاً لانشغالي بإعداد كتاب (التاريخ الإسلامي/ مواقف وعبر) الذي بلغ عشرة مجلدات، وثانياً لأنني كنت أحاول أن أجد الوقت لإعادة النظر فيها وتنقيحها.
والآن فإنني أقدمها للأمة الإسلامية محاولاً بذلك الإسهام في الإصلاح ما استطعت، وقد بذلت جهدي في إعدادها، والتزمت أن لا أستشهد بحديث إلا إذا كان مقبولاً عند أهل الحديث، فإن يكن فيها صواب فمن توفيق الله تعالى، وإن يكن فيها خطأ فمن نفسي القاصرة.
وأسأل الله تعالى التوفيق والسداد لي ولجميع إخواني المسلمين.(9/4)
الرسائل الشمولية ( 2 ) ...
الرسالة الثانية
شمول العقيدة(10/1)
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإن مما جرى التعارف عليه في الأوساط العلمية الدينية حصر مفهوم لفظ (العقيدة) بمضامين محددة تدور عليها المباحث الاعتقادية، مع الاهتمام والتوسع في الأمور الخلافية في هذه المباحث.
ولما كان لفظ (العقيدة) يشمل كل ما يتعلق باعتقاد القلب من أمور الدين وإن كان ظاهره ليس من أمور العقيدة كان من المهم بيان شمول العقيدة لكل متعلقاتها.
وقد قمت في هذه الرسالة بالإسهام في بيان هذا الموضوع حسب اجتهادي في فهم النصوص الشرعية، وما هذا الذي قمت به إلا فتح باب في هذا الموضوع المهم الذي يحتاج من العلماء إلى مزيد من الاهتمام والبحث.
- - - - -
نشأة العلوم الإسلامية
قبل الحديث عن شمول العقيدة ينبغي عرض فكرة موجزة عن نشأة العلوم الإسلامية المعروفة.
ففي عهد الصحابة ن لم تكن تجزئة العلم إلى العلوم المعروفة الآن، وهي التفسير والحديث والعقيدة والفقة، وإنما كانوا يعلِّمون الناس الكتاب والسنة كما تعلموهما من رسول الله ج، وهما مشتملان على هذه العلوم وغيرها.
وإن الذي يدرس تاريخ الصحابة ن وتراجم علمائهم بالذات الذين جلسوا لتعليم الناس كأبي هريرة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر وعبدالله بن عمرو ن .. إن الذي يدرس الحياة العلمية لعلماء الصحابة عموماً يتبين له ارتباط العلم كله بالكتاب والسنة، وأنهم كانوا يعتمدون في تعليمهم على بيان نصوص الكتاب والسنة ثم يفرعون عنها المسائل، ولا يتوسعون في بيان المسائل التي لا نص فيها إلا أن تلجئهم حاجة الفتوى إلى الاجتهاد في القضايا الواقعة في المجتمع.
وبعد انقضاء عصر الصحابة ن بدأت اهتمامات بعض العلماء تتركز في جانب أو جوانب من العلم.(11/1)
وكان من أسباب ظهور التخصصات العلمية بشكل بارز في عهد التابعين ومن بعدهم انتشار السنة النبوية وكثرة مرويات الصحابة منها، فأصبح من لوازم التفوق العلمي حصر أكبر الاهتمام من قِبل العالم الديني بجانب من جوانب العلم والاهتمام به من أجل تلبية حاجة الناس في الإجابة على استفتائهم وحل مشكلاتهم، وكان ذلك من أهم الأسباب الدافعة إلى اهتمام العلماء بدراسة الأحكام التكليفية فيما يتعلق بالشعائر التعبدية والمعاملات، لحاجة المسلمين إلى بيان هذه الأحكام ليعبدوا الله على بصيرة، ويتعاملوا مع الناس على هدى، وقد أطلق العلماء على هذا الجانب (علم الفقه) يعني فقه الكتاب والسنة.
ومما ساعد على ظهور التخصصات العلمية في حياة التابعين ما كان من تميز بعض علماء الصحابة الكبار بنوع من أنواع العلم.
فقد تميز عبدالله بن عباس مثلاً بتفسير القرآن فاصطبغت مدرسته بهذه الصبغة حيث نبغ عدد من تلامذته في التفسير.
وتميز عبدالله بن مسعود مثلاً بمعرفة الأحكام واستنباطها من الأدلة الشرعية فاصطبغت مدرسته بهذه الصبغة ونبغ من تلامذته علماء في الفقه.
وتميز أبو هريرة مثلاً برواية الحديث النبوي فتخرج به تلامذة كثيرون في علم الحديث.
وليس معنى هذا أن هؤلاء الصحابة وأمثالهم قد تخصصوا بهذه العلوم بل كانوا علماء بالدين كله، ولذلك تخرج بعبدالله بن عباس مثلاً فقهاء ومحدثون، وتخرج بعبدالله بن مسعود مفسرون ومحدثون، وتخرج بأبي هريرة فقهاء ومفسرون، وكذلك غيرهم من علماء الصحابة، ولكن مع هذا ظهر لعدد منهم تميز في بعض العلوم فاشتهر بها.(11/2)
وفي أواخر عصر الصحابة ن ظهرت بعض البدع في أمور الإيمان، كبدعة إنكار قدر الله تعالى، والحكم على فاعل الكبيرة بالخلود في النار والخروج من الإسلام، فتصدى لهذه البدع علماء الصحابة وعلماء التابعين ومَن بعدهم من العلماء، وكثر الجدل حول هذه المباحث، وطال الكلام فيها خاصة ما يتعلق بأسماء الله وصفاته، حتى أطلق العلماء على هذه المباحث "علم الكلام".
ولقد اهتم النبي ج ببيان العقائد والأحكام مقرونة بالمواعظ والزواجر، وسار على منهجه الصحابة ن وأكثر علماء القرون المفضلة، حيث كانوا يقرنون فتاويهم بكلام الله تعالى وكلام
رسوله ج المشتمل على الوعظ والتذكير والتبشير والإنذار، فكان ذلك دافعاً للمسلمين إلى الالتزام الصحيح بأحكام الدين، لما يشتمل عليه هذا المنهج القويم من تنمية الورع والتقوى في النفوس.
ولقد تعرضت علوم الدين بعد ذلك للجفاف حينما استُخلِصت من الكتاب والسنة وطرأ عليها الاختصار، فَجُرِّد بعضها من الأدلة، واختلط في بعضها ما ليس منها.
ومن ذلك مباحث العقيدة حيث تعرضت للمباحث العقلية وقلَّ فيها الاستشهاد بالكتاب والسنة في بعض الكتب فلم يكن لها تأثير في تنمية الورع وتقوية الإيمان.
كما تعرضت لموارد لا تَمُتُّ إلى الإسلام بصلة، وذلك من آثار اختلاط المسلمين بغيرهم بعد الفتح الإسلامي والاتصال الفكري مع الأمم الأخرى حيث انتقلت بعض علومهم إلى المسلمين فأحدثت انحرافات في بعض مفاهيم العقيدة.(11/3)
وفي القضايا العملية تم تجريد الفقه أيضاً من الكتاب والسنة في كثير من المسائل، وكثرت المختصرات التي تُبَيَّن فيها الأحكام على شكل مسائل مجردة من الأدلة، وكان غرض الفقهاء من ذلك تقريب الفقه لطلاب العلم، ولكن نتج عن ذلك ضعف في الالتزام بالدين لأن قول الفقيه: هذا حلال، وهذا حرام، وهذا واجب، وهذا مكروه، وهذا مستحب، لا يصل إلى مستوى عرض نصوص الكتاب والسنة في تنمية الوازع الديني وتقوية الإيمان، فحصل بسبب هذا التجريد نوع من قساوة القلوب وقلة الورع.
كما أن بعض العلماء الذين استدلوا بآيات الأحكام يذكرون صدر الآية المشتمل على بيان الحكم ويتركون آخرها الذي يحتوي على التبشير والإنذار، والوعد والوعيد، وذكر صفات الله تعالى، مما يدل على إغفال الناحية التربوية لدى هؤلاء العلماء وغلبة الناحية الفقهية على أذهانهم، وقد كان الصحابة ن وتلاميذهم يُربُّون الناس على الورع والتقوى قبل أن يعلموهم الأحكام، فلما ضعفت نظرة بعض العلماء إلى هذه المعاني السامية نتج عن ذلك انخفاض في مستوى الاستقامة والوازع الديني.
ومن سلبيات هذا المنهج فهم الإسلام من خلال اجتهادات العلماء لا من خلال النصوص الشرعية، كما أن من سلبياته ضعف الاجتهاد وغلبة التقليد بسبب البعد عن فهم النصوص.
لقد تضاءل خطاب الوجدان والضمير ونما خطاب الفكر، وأصبح هناك فصام خطير بين الناحية العلمية والناحية التربوية، حيث عمرت دروس بعض العلماء بالمسائل العلمية الفكرية وخلت أو كادت تخلو من خطاب الوجدان وترقيق القلوب، حيث قام بهذا الجانب أنصاف المتعلمين الذين كان يطلق عليهم القُصَّاص، ولكن تغطية هؤلاء لهذا الجانب لا تعدّ شيئاً يذكر أمام تغطية أولئك العلماء للجانب العلمي الفكري، لأن الناس ينظرون إلى الوعاظ من غير العلماء المشهورين نظرةً أقل.
ومن العلماء الذين لاحظوا هذا الخلل في الدروس العلمية
أبو شريح المعافري، فقد روى محمد بن عبادة المعافري قال: كنا(11/4)
عند أبي شريح – رحمه الله – فكثرت المسائل فقال: قد دَرِنَتْ قلوبكم فقوموا إلى خالد بن حميد المهري، استقلُّوا قلوبكم(1) وتعلموا هذه الرغائب والرقائق، فإنها تجدد العبادة، وتورث الزهادة، وتجر الصداقة، وأقلوا المسائل فإنها في غير ما نزل تقسي القلب وتورث العداوة(2).
فهذا توجيه سديد من هذا العالم الجليل، وكلمات مضيئة تدل على اهتمامه البالغ بالمجال التربوي، وحرصه على التوازن بينه وبين المجال العلمي، فقد شعر هذا العالم بأن التوجيه العلمي قد طغى على ناحية السلوك والالتزام لدى تلامذته، فوجههم إلى مجالس الواعظ خالد بن حميد المهري ليسمعوا أحاديث الرقائق والترغيب والترهيب، فيتقوى إيمانهم ويرتفع لديهم مستوى الوازع الديني.
وما يزال هذا الفصام قائماً حيث أصبح الناس يفرقون بين العلماء والدعاة لتميز العلماء بالخطاب الفكري وتميز الدعاة بالخطاب الوجداني، إلا في أفراد قلائل من العلماء جمعوا بين الناحيتين العلمية والتربوية، وهذا وضع غير سليم، لأن الدعوة إلى الله تعالى من أخص خصائص العلماء.
وحينما كان الانسجام الكامل بين التعليم والدعوة في حياة الصحابة ن وفي حياة من اقتدى بهم من العلماء الربانيين كان العلماء هم قادة الأمة الإسلامية وقدوتها، والعلماء الذين قضوا في العلم تعلماً وتعليماً سنوات كثيرة يتصفون غالباً بعمق التفكير وبُعد النظر والحكمة في دراسة القضايا والحكم عليها في واقعها وعواقبها.
__________
(1) أي احملوها على التذكر.
(2) سير أعلام النبلاء (7/183).(11/5)
ولكن حينما تخلى بعض العلماء عن الدعوة قام بذلك من هم أقل منهم علماً وتجربة وأضعف منهم وزناً وقيمة لدى كبراء الأمة، فأصبحت القيادة الدينية في كثير من أوساط المجتمعات لهؤلاء الدعاة، وظلت القيادة الدينية للعلماء القائمين بالتعليم والإفتاء في أوساط طلاب العلم الديني، فصار الفصام العريض بين التعليم والتربية، وأصبحت الجهود الإصلاحية ضعيفة سواء تقدم بها قادة الدعوة أو البارزون من العلماء، لأن شهرة الدعاة وإن كانت كبيرة فإنها لا تتجاوز أوساط الناس غالباً، بينما تقتصر شهرة العلماء على بعض طلاب العلم وبعض الكبراء في المجتمع، وبهذا ضاع كثير من أصوات المتقين من مُحبِّي الإصلاح بين قادة الدعوة وقادة العلماء، فضعفت كلمتهم وتبددت جهودهم وأصبحوا بتفرقهم مطمعاً لأعدائهم فاغتنموا فرصة تباعدهم وحاولوا توسيع الفجوة بينهم، وغزوهم من داخل كياناتهم بألوان من المكر والتخطيط الدقيق، حتى أصبحت سهام المصلحين في الغالب طائشة وجهودهم مبعثرة، فلم ينجحوا نجاحاً كاملاً في محاولة الإصلاح على مر العصور إلا بشكل نادر حينما يبرز عالم كبير يجمع بين التعليم والتربية وتكون له جهود متواصلة في استقطاب أهل الإصلاح من أصحاب العلم والدعوة.
وحينما غلبت المباحث العقلية على عقول بعض العلماء فأصبحوا يجعلونها محكَّمة في قضايا أصول الدين، واستشرى أمر المعتزلة ومن نحا نحوهم في تعظيم العقل البشري وصياغة العلوم الإسلامية صياغة عقلية مجردة أحيانا من الاستهداء بالوحي الإلهي.
وحينما بالغ بعض الفقهاء بالأخذ بالرأي والاجتهاد ولم يبدوا عناية بتتبع السنة النبوية وفتاوى الصحابة ن.
وحينما قام بعضهم بتجريد بعض مباحث الفقه من الأدلة الشرعية.(11/6)
حينما حصل ذلك قام بعض العلماء ممن لهم عناية فائقة بالسنة ينادون بالرجوع إلى الكتاب والسنة سواء في مجال العقيدة أو الفقه، ولقد نجح هؤلاء العلماء نجاحاً كبيراً في نشر السنة النبوية حتى أصبحت محط أنظار العلماء وطلاب العلم، وانكمشت الفرق المخالفة لأهل السنة في أمور العقيدة وأصبحت محدودة الانتشار، حتى قام الخليفة المأمون بنصر آراء المعتزلة وامتحان علماء أهل السنة، وكانت فتنة في الدين ضعف فيها صوت أهل السنة وعلا فيها صوت مخالفيهم، إلى أن قيض الله لأهل السنة إماماً جليلاً ثبت للمحنة واستعصى على الاستجابة للفتنة، وأصَرَّ إصراراً متواصلاً على عدم المناظرة مع المعتزلة إلا في حدود الكتاب والسنة، فاستحق الإمام أحمد بن حنبل بهذا الموقف الجليل أن يكون إمام أهل السنة.
وكلما أوغل بعض العلماء في تقديس العقل وإقحامه فيما
لم يؤهل له قيض الله سبحانه لهذه الأمة علماء يعيدون
الأمور إلى نصابها، ويخلِّصون علوم الدين مما شابها من نتاج
العقل البشري المحدود.
...
- - - - -
أصول العقيدة
والأصل في العقيدة هو الكتاب والسنة، وهما أصل الدين كله، كما جاء في قول النبي ج $تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يرِدا عليَّ الحوض#.
ذكره السيوطي في الجامع الصغير من رواية الحاكم من حديث أبي هريرة ط، وسكت عنه السيوطي والمناوي، وصححه الألباني رحمهم الله تعالى(1).
ولهذا فإنه يجب أخذ أمور العقيدة كلها من الكتاب والسنة.
ولا يعني هذا عدم الاستفادة من كتب العلماء التي أُلِّفَتْ في العقيدة، بل يستفاد من الكتب التي التزم أصحابها بالمنهج العلمي الإسلامي على أنها بيان لما جاء في الكتاب والسنة.
__________
(1) ... صحيح الجامع رقم 2934 (3/39).(11/7)
ومما يلاحظ أن أغلب كتب العقيدة قد أُلِّفت في الرد على المخالفين، ولذلك فإنها قد لا تخلو من أخطاء مبعثها إما الاجتهاد في فهم النصوص أو اللغو والخروج عن حدود الاعتدال،أو التأثر بالعلوم العقلية سواء في ذلك ما كان من إنتاج مفكري المسلمين،
أو مما ترجموه من غيرهم، لذلك كان من الواجب التركيز على الكتاب والسنة وأقوال الصحابة ن حيث لم يكن في عهدهم أصل يرجعون إليه في علوم الدين غير الكتاب والسنة.
والتسمية الواردة في الكتاب والسنة لما يتعلق بمباحث الاعتقاد هي الإيمان، ومن ذلك ما جاء في حديث سؤال جبريل عليه السلام المشهور، حيث سأل النبيَّ ج عن الإيمان فأجابه ببيان أركانه، فورد لفظ الإيمان في السؤال والجواب، ولم يرد فيهما لفظ العقيدة.
وقد بقي ذلك حتى عصر تدوين السنة، حيث نجد أن أصحاب الحديث يُصدِّرون كتبهم في السنة بأبواب الإيمان، ومنهم من خصص بعض مباحث العقيدة باسم التوحيد، كالإمام البخاري حيث ركز في كتاب التوحيد من صحيحه على مباحث أسماء الله تعالى وصفاته، ومنهم من ألف في ذلك كتاباً مستقلاً كابن خزيمة رحمهم الله جميعاً.
ثم أصبح اسم التوحيد يشمل كل مباحث الاعتقاد.
أما كلمة (العقيدة) فقد عُرفت بعد القرون المفضلة، وأول عالم أطلقها على مباحث الإيمان - فيما علمت - الإمام أبو عثمان إسماعيل الصابوني، المتوفى سنة تسع وأربعين وأربعمائة، وذلك في كتابه (عقيدة السلف وأصحاب الحديث) المطبوع ضمن (الرسائل المنيرية)(1).
وتسمية هذه المباحث باسم العقيدة اصطلاح علمي قُصد به تقريب العلم إلى الأذهان، كما سُمِّيت بعض تكاليف الدين باسم الفقه.
ولكن تحويل هذه المباحث من اسم الإيمان إلى اسم العقيدة جَرَّأ بعض واضعي المناهج على إدخال الفلسفة وغيرها إلى أقسام العقيدة، حتى أصبحت تلك الأقسام مختلطة بين مباحث الإيمان ومباحث العلوم الوضعية.
__________
(1) ... الرسائل المنيرية (1/105).(11/8)
كما أن مصطلح العقيدة الآن يحتوي على حشو ضخم من نتاج الفكر البشري المتراكم على مر السنين والأجيال، والذي كان سببه الأول الجدل الكلامي بين الطوائف المختلفة، بينما مصطلح الإيمان لا يقبل هذا الحشو المتراكم، لأنه لفظ وارد في الكتاب والسنة ومعناه بيِّنٌ، ومحتواه واضح.
فإن قيل: إن الإيمان يشمل الدين كله من قول وعمل واعتقاد، على القول المشهور لأهل السنة فكيف يكون الإيمان مرادفاً للاعتقاد والاعتقاد جزء منه؟!
فإنه يقال: إن الاعتقاد يعدّ جزءاً من الإيمان إذا ذُكر الإيمان وحده كما في حديث (الإيمان بضع وسبعون – أو بضع وستون – شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) أخرجه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة ط(1) فأما إذا ذُكر مقترناً بالإسلام فإن الإيمان يكون خاصاً باعتقاد القلب، كما في قول الله تعالى: ? - - - ? - الله الله أكبر ? ? - - الله - صدق الله العظيم ? - - - - ? - - - - الله الله الله أكبر ? الله ? - - ? ? - الله أكبر ? صدق الله العظيم ? - بسم الله الرحمن الرحيم ? المحتويات - ? - ?- جل جلاله -? صدق الله العظيم ? - الله أكبر - ?- جل جلاله -? - الله أكبر - ? الله ? المحتويات - - ? الله أكبر ?? - الله أكبر ? - الله الله أكبر ? صدق الله العظيم ? - ? صدق الله العظيم ? - - - - الله الله ? - ? الله ? - ? - - صدق الله العظيم - الله الله أكبر ? ?? - الله أكبر الله ?? - - تمهيد ? - - ? - صدق الله العظيم ? الله أكبر ?- جل جلاله - الله أكبر - ? - الله أكبر ? - الله أكبر ? ? [الحجرات:14].
وكحديث سؤال جبريل عليه السلام رسولَ الله ج عن الإيمان، حيث كان جوابه ببيان أركان الإيمان.
__________
(1) ... صحيح مسلم، كتاب الإيمان رقم 58.(11/9)
هذا على أحد قولي أهل السنة من أن الإيمان إذا أطلق وحده دخل فيه العمل مع الاعتقاد، أما على القول الآخر لأهل السنة بأن الإيمان هو اعتقاد القلب، ومن لوازمه العمل فإن الأمر واضح في كون الإيمان مرادفاً للاعتقاد، والخلاف بين القولين لفظي لا يترتب عليه فساد في الاعتقاد كما ذكر شارح الطحاوية رحمه الله تعالى(1).
وهكذا تبين لنا أن الإيمان عند أهل السنة يطلق على الاعتقاد، لكن حينما استُعمل مصطلح العقيدة أصبح الإيمان جزءاً من العقيدة، حيث أصبحت مباحث الإيمان فصولاً في كتب العقيدة، مثل بيان شمول الإيمان للعمل مع الاعتقاد.
- - - - -
شمول العقيدة لتكاليف الدين
حينما نفهم العقيدة على أنها مجموعة المباحث العقدية المستنبطة من الكتاب والسنة في كل مراحلها، من اعتقاد القلب إلى ما يترتب عليه من قول أو عمل، فإن ذلك اصطلاح علمي كسائر المصطلحات العلمية، ولكن حينما نبحث عن اعتقاد القلب بغضِّ النظر عما يترتب عليه من قول أو عمل فإن التأمل في ذلك يدلنا على شمول اعتقاد القلب لجميع تكاليف الدين.
وإن النظر في الأمور التالية ليدلنا دلالة واضحة على شمول العقيدة لتكاليف الدين:
الأول: أنه قد جاءت الأوامر والنواهي في الكتاب والسنة مرتبطة بالوعد والوعيد والأمر بالتقوى، وختمت بعض آيات الأحكام بذكر صفات الله جل وعلا المناسبة للمقام، وافتتح بعضها بنداء الإيمان، وذلك لربط هذه الأحكام باعتقاد القلب، وتنمية الإيمان بالله تعالى، الذي يدفع المسلم إلى مزيد من الاستقامة والعمل بطاعته جل وعلا.
ولنتأمل مقطعاً واحداً من آيات الأحكام في القرآن الكريم ليتبين
لنا مدى ارتباط الأحكام بالعقيدة، فلننظر مثلاً إلى آيتي القصاص
__________
(1) ... شرح الطحاوية /374.(11/10)
? - الله ? الله - الله أكبر ? - - - - - الله أكبر الله أكبر الله ? الله ??- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - المحتويات - ? - ? الله أكبر الله ? - - ? ? درهم - جل جلاله - - الله أكبر ? - ? الله أكبر ? صدق الله العظيم - - ? الله ? ?? - - ?- جل جلاله -? - ? - - ? ? - الله الله أكبر ? الله أكبر صدق الله العظيم - الله أكبر الله ? - ? - - الله - - - - - ? - - بسم الله الرحمن الرحيم - - - - - ? - - - جل جلاله - - - - صدق الله العظيم - الله ? - ? - - الله ? - جل جلاله - - صدق الله العظيم - الله ? - ? - - - جل جلاله - - - عليه السلام -? الله - ? - - الله أكبر - ? - - الله ? - - عليه السلام -? الله - ? - - الله أكبر - ? - - - جل جلاله - - ?? الله ? الله الله أكبر ? الله ?- جل جلاله -? - ? - سبحانه وتعالى - - ? الله أكبر - ? ??- جل جلاله -? - جل جلاله -? - - جل جلاله - - - - - - ? { ? الله ? - - ? - الله الله أكبر - بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله - الله أكبر - - - الله الله أكبر ? - ?? - - صدق الله العظيم ? الله ? - ? - - - جل جلاله - - - صلى الله عليه وسلم -? - - الله - - - - الله ? - جل جلاله -? صدق الله العظيم - - ? تمهيد - - - صدق الله العظيم ? - الله أكبر الله { صدق الله العظيم - تمهيد - - - جل جلاله - الله أكبر - ??- جل جلاله -? - - - - رضي الله عنه -? - - جل جلاله -?? مقدمة ? صدق الله العظيم - ?- جل جلاله - الله ? ?? الله أكبر ? الله - جل جلاله - الله أكبر - الله الله } - تمت ? الله ? الله أكبر صدق الله العظيم - الله } الله ? - ? الله ? الله الله أكبر ? - عليه السلام -? الله - الله - الله أكبر صدق الله العظيم ? - - الله - صدق الله العظيم ? الله الله أكبر - ??- جل جلاله -? - - - - سبحانه وتعالى - - ? - ? الله الله أكبر ? { - - الله - الله ? - - رضي الله عنهم - - -(11/11)
جل جلاله -? - - - } - - - { ?? الله أكبر ? - ? الله ? ? - ? - - ?- جل جلاله -? - ? - - تمت ? - ? الله الله أكبر - الله - ?- جل جلاله -? بسم الله الرحمن الرحيم ? - الله أكبر - - - الله أكبر الله أكبر الله الله أكبر ? - درهم - الله أكبر الله - - ? - - - - ? - - ?? - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? الله ? - ? الله ?? - ? بسم الله الرحمن الرحيم - - ??? الله أكبر الله أكبر - } - - - { ? [ البقرة:178-179 ] .
فقد ختم الله سبحانه الآية الأولى بالوعيد بالعذاب الأليم لمن اعتدى بعد أخذ حقه، ثم بين أن مِن حِكَم مشروعية القصاص أن يصل المسلمون إلى مرتبة التقوى.(11/12)
وانظر إلى آيات الوصية ? ? درهم - جل جلاله - - الله أكبر ? ?? الله أكبر ? صدق الله العظيم - - ? الله ? - - - - تمهيد - الله - الله ? الله - - ?? } الله - الله - - - - ? - ?? الله أكبر الله ? - ? - - ? تمهيد - - ?? الله - الله الله أكبر - - } } صدق الله العظيم - الله أكبر الله - - ? الله الله - - ? الله ? - ? - - - ? صدق الله العظيم الله أكبر ? الله - - جل جلاله -? - الله ? - ?- جل جلاله -? الله ? - - جل جلاله - الله أكبر - الله - - ? - - - - ? - - الله ? - - جل جلاله -?? - - صدق الله العظيم ? الله ? - ? - - - جل جلاله - - - - الله الله أكبر ? الله - ? - ? الله ? الله ? - - جل جلاله -? بسم الله الرحمن الرحيم - - - ? - ? - - } - - - { - ? الله ? الله الله أكبر ? - سبحانه وتعالى - - ? - ? - ? - الله الله أكبر - الله - صدق الله العظيم ? الله الله أكبر - - الله ? - سبحانه وتعالى - - ? الله ?- جل جلاله -? الله ? - - الله ? بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? - تمهيد - الله الله أكبر ? - سبحانه وتعالى - - ? - ? - - تمهيد - - ? - ? الله ? الله ??- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - - - سبحانه وتعالى - - - ? الله الله أكبر ?? الله أكبر ? بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله - - الله - - الله أكبر ? الله الله ? تمهيد - - - ? الله - - - - صلى الله عليه وسلم -? - - جل جلاله -? الله ? - ? - - جل جلاله -? الله ? } - - - { ?? الله ? الله الله أكبر ? ?? - الله - ?- جل جلاله -? صدق الله العظيم ?? الله - ? - } الله أكبر ? الله ? الله - صدق الله العظيم ? - - - - - الله أكبر ? - - تمهيد - - الله - - ? { ? - - - الله الله أكبر ? ?? - ? الله الله أكبر ? صدق الله العظيم - الله - - ? - الله الله أكبر ? ?- رضي الله عنهم - - - تمهيد - - - - جل جلاله -? صدق الله العظيم - - ? الله ? الله الله ?(11/13)
تمهيد - - - ? الله - - - - } ? - ? الله الله أكبر ?? - - رضي الله عنهم - - - جل جلاله - - الله الله } } - - - { ? [ البقرة:180-182 ] فقد ختم الله سبحانه الآية الأولى بالتذكير بتقوى الله التي هي مطمع آمال المؤمنين، وختم الآية الثانية المشتملة على بيان عقوبة تبديل الوصية بذكر صفتي السمع والعلم لله تعالى المتضمنتين للوعيد والإنذار، وختم الآية الثالثة المشتملة على رفع الإثم عن المصلحين بذكر صفتي المغفرة والرحمة المتضمنتين للوعد والتبشير، وذلك لدفع المؤمنين إلى مراعاة حق الوصية وحفظها من التغيير والتبديل.
وانظر إلى أول آيات الصيام ? - الله ? الله - الله أكبر ? - - - - - الله أكبر الله أكبر الله ? الله ??- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - المحتويات - ? - ? الله ? - - ? ? درهم - جل جلاله - - الله أكبر ? - ? - - صدق الله العظيم - - ? الله ? - ? - الله - - - ?? - - - الله ? - ? ? درهم - جل جلاله - - الله أكبر ? ? - ? الله ? - ? الله أكبر ?- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - ?- جل جلاله -? ?? - - - جل جلاله -? صدق الله العظيم - الله أكبر الله الله أكبر ? ?? الله أكبر ? بسم الله الرحمن الرحيم - ? الله ? - ? الله ?? - ? بسم الله الرحمن الرحيم - - الله الله أكبر - } - - - { ? [البقرة:183] فقد ختمها الله تعالى بالتذكير بالتقوى وعلل بها فرضية الصيام ليكون ذلك أبلغ في المسارعة إلى الامتثال حينما يشعر المكلف بأنه بالصيام يصل إلى هذه الدرجة العالية.(11/14)
وانظر إلى آيات الحج ? المحتويات - ? الله - ?- جل جلاله - - - - - الله ? الله الله - الله - - ? - - الله ? الله - صدق الله العظيم ? - ? - ? - - الله ? - - جل جلاله -? بسم الله الرحمن الرحيم - ?- جل جلاله -? ...? [البقرة:196-203] فقد ختم الله تعالى الآية الأولى بالأمر بالتقوى والتذكير بعذابه الشديد ? المحتويات - ? - ? بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر - - - الله ? - ? الله - - - - المحتويات - ? الله أكبر - ? - ? صدق الله العظيم ? - - الله ? الله الله ? - - - - ? الله - - - - - ?- جل جلاله - - - الله أكبر الله أكبر الله أكبر ? - - - الله ?- جل جلاله -? - ? - - } - - تمهيد { ?[البقرة:196] وختم الثانية ببيان شمول علم الله تعالى والأمر بالتقوى ( ((((( ((((((((((( (((( (((((( (((((((((( (((( ( ((((S(((((((( (((((( (((((( (S(((((( ((((((((((( ( ((((((((((( ((((((((((( ((((((((((( ( [ البقرة:197 ].
وهكذا نجد سائر آيات الأحكام في القرآن الكريم لا تخلو من وعظ وتذكير ووعد ووعيد.
كذلك نجد أن النبي ج قد اهتم ببيان الأحكام التكليفية مقرونة بالمواعظ والزواجر، فلا يكاد يخلو أمر من أوامر النبي ج ولا نهي من نواهيه من الترغيب والترهيب.(11/15)
الثاني: أن الإيمان إذا أُطلق في الكتاب والسنة لا يقتصر على اعتقاد القلب، بل يشمل القول والعمل، وقد دل على ذلك أدلة كثيرة، منها قول الله تعالى ? - الله ? الله ? الله ? - - ? - ? - - - - الله ? - - جل جلاله -? - - - جل جلاله -? ? - ? الله أكبر ? الله ? - الله أكبر الله ?? - تمهيد - ? [ البقرة:143] يعني ثواب صلاتكم التي كنتم تتوجهون بها إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة، كما أخرج أبو داود الطيالسي والنسائي من حديث البراء بن عازب م قال: فأنزل الله ? - الله ? الله ? الله ? - - ? - ? - - - - الله ? - - جل جلاله -? - - - جل جلاله -? ? - ? الله أكبر ? الله ? - الله أكبر الله ?? - تمهيد - ? صلاتكم إلى بيت المقدس(1).
ومن ذلك ما أخرجه مسلم بن الحجاج من حديث أبي هريرة ط قال: قال رسول الله ج:$الإيمان بضع وسبعون – أ و بضع
وستون – شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى
عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان#(2).
فتبين من الآية والحديث أن القول والعمل من الإيمان.
الثالث: أن المخالفات التي يرتكبها المسلم سواء كانت من باب ترك الواجبات أو فعل المحظورات كلها داخلة في الشرك بالله تعالى.
فإن كانت هذه المخالفات تصل إلى حد الخروج من الملة كانت من الشرك الأكبر وإلا كانت من الشرك الأصغر.
والحكم على هذه المخالفات بأنها من الشرك ليس حكماً عليها بحد ذاتها دائماً، فقد تكون من الشرك الأكبر كدعاء غير الله تعالى فيما لا يقدر عليه غيره، أو من الشرك الأصغر كالحلف بغير الله جل وعلا، وقد تكون من المعاصي التي لا يطلق عليها الشرك كالربا والسرقة وشهادة الزور، ولكنها تعدّ شركاً بالنظر للدافع إليها وهو اتباع الهوى والشيطان وحب الدنيا والخضوع لرغبات الناس المخالفة للدين.
__________
(1) ... فتح الباري (1/96).
(2) ... صحيح مسلم، كتاب الإيمان، رقم (58).(11/16)
وهذا عام في جميع المعاصي التي يكون الدافع إليها الشهوات أو الشبهات، فأما الشهوات فأمرها ظاهر لأنها اتباع للهوى والشيطان، وأما الشبهات فإنها تعمي القلب إذا اجتمع عليه ضعف الإيمان وغزو الشياطين من الإنس والجن، فإذا وقع العبد في المعصية نتيجة لشبهة عرضت له فإنه يكون قد خضع لوساوس الشياطين من الإنس والجن، فالقدْر الذي استقر في قلبه من الشرك ليس في مزاولة المعصية نفسها، فإن فاعلها وهو يزاولها يرى أنه يُنفِّذ الحق ولا يتبع هواه، ولكنه ما استقر في قلبه من الاستجابة لوساوس الشياطين وضعف استسلامه لله عز وجل.
وهذا من الشرك الخفي الذي ذكره النبي ج بقوله: $الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، فقال أبو بكر ط: يا رسول الله كيف ننجو منه وهو أخفى من دبيب النمل؟ فقال: ألا أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت منه من دِقِّه وجِلِّه؟ قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم#.
ذكره الإمام ابن تيمية ونسبه إلى صحيح أبي حاتم(1).
فالأمر الذي يتعلق بالشرك بالنسبة للمعاصي هو ميل القلب إلى غير الله تعالى، حيث يتسرب إلى قلب المسلم اعتبار غير الله تعالى في طلب الرضا واجتناب السخط فيزاحم ذلك وجود الإيمان بالله تعالى في قلب المسلم فيقع في الشرك بسبب ذلك.
ولعل هذا هو المناسب في بيان حديث معاذ بن جبل ط الذي أخرجه الشيخان رحمهما الله وفيه فقال – يعني رسول الله ج:
$يا معاذ هل تدري ما حق الله على عباده وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد
أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب
من لا يشرك به شيئا، فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال:
لا تبشرهم فيتكلوا#(2).
__________
(1) ... مجموع الفتاوى (7/524).
(2) ... صحيح البخاري، رقم 2856، الجهاد (6/58)،صحيح مسلم، رقم 48/30، الإيمان (ص 58).(11/17)
فقوله $أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا# يقتضي نفي العذاب بالكلية عن الموحدين، وهذا ينطبق على المسلمين الذين سلموا من المخالفات سواء فيما ظاهره شرك أو في المعاصي.
أما ما جاء في آخر الحديث من قوله $لا تبشرهم فيتكلوا# فالظاهر أنه محمول على ما عدا ذلك وهي النوافل، فيكون المعنى: لا تبشر الناس الذين أكملوا توحيدهم باجتناب الشرك بجميع أنواعه واجتناب المعاصي التي هي في حقيقتها مترتبة على الشرك.. لا تبشرهم بالنجاة من النار فيتكلوا على ذلك ويتركوا أداء النوافل فإنها تُكسبُ رضوان الله عز وجل ومحبته، وترفع من درجات فاعليها في الجنة، وتجبر ما عساه أن يكون نَقَصَ من أداء الواجبات، وهي المجال الرحب لتنافس أولياء الله تعالى السابقين بالخيرات، الذين تجاوزوا مرحلة المقتصدين المذكورة في قوله الله سبحانه ? صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - - ? { ?- جل جلاله -? الله الله أكبر ? - - رضي الله عنهم -- جل جلاله -? - - ?? - - جل جلاله -?- جل جلاله - { { الله أكبر ? الله الله أكبر ?- جل جلاله - بسم الله الرحمن الرحيم ? ? - ? صدق الله العظيم ?- جل جلاله -? الله ? تمت - - جل جلاله -? الله الله أكبر { - ? الله - ? ?? - ? صدق الله العظيم ?- جل جلاله -? الله ? - - ?- جل جلاله - - - الله ? - - - الله } صدق الله العظيم - الله - - ? - - - جل جلاله - الله أكبر - - جل جلاله -? - - - تمهيد - الله أكبر - جل جلاله - - - - ?- جل جلاله - - - - ? [ فاطر:32 ].
وعلى هذا المعنى يمكن أن تحمل جميع أحاديث الوعد التي جاءت على نحو ما جاء في حديث معاذ ط.(11/18)
فأما قول الله تعالى ? الله الله ? تمهيد - - - ? الله - - - - الله درهم - - - جل جلاله -? { الله أكبر ?? الله ? ? - - - ?? الله - { الله أكبر ? - ? - - جل جلاله -?- جل جلاله - - - - - جل جلاله -? { الله أكبر الله أكبر ?? الله ? الله ? - الله ? الله ?? - - ??- جل جلاله -? - - - ? الله ?- جل جلاله -? - - ? - - الله ? الله ? ?[النساء:48] فإن المراد بالشرك هنا الشرك الأكبر الذي لا يبقى معه إسلام، وما دون ذلك من الذنوب إذا لم يتب فاعلها فإنه تحت مشيئة الله وإرادته إن شاء عفا عن فاعلها وإن شاء عذبه على قدر ذنوبه، سواء كانت هذه الذنوب شركا في الظاهر والباطن كالعمل الذي يخالطه الرياء والحلف بغير الله تعالى، أو كانت شركا في الباطن كسائر المعاصي التي لا تعتبر في ظاهرها من الشرك، ولكن ينطبق عليها أنها في الباطن شرك بالنظر إلى الانحراف القلبي نحو غير الله تعالى، كاتباع الهوى والاستجابة لوساوس الشيطان.
ومما يدل على أن المعاصي تسمى كبائر أو صغائر من وجه، وتعدّ شركاً من وجه آخر ما جاء في قول الرسول الله ج $تعس عبدالدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض#(1).
فإن أكل الربا مثلا من الكبائر وهو داخل في معنى هذا الحديث إن كان آكله يعلم تحريمه لأنه يصدق عليه أنه من عبيد الدنيا، فهو بالنظر إلى خضوعه في سلوكه للدنيا يعدّ عبداً لها، وإن كان هذا لا يصل إلى حد الشرك الأكبر.
وواضح من النصوص الشرعية أن المسلم لا تُكتب عليه نية القلب حتى يقول أو يعمل، كما جاء في قول رسول الله ج $قال الله عز وجل: إذا همَّ عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة، فإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة#(2).
__________
(1) ... صحيح البخاري، 6435، كتاب الرقاق (11/253).
(2) ... صحيح مسلم، رقم 204/128، الإيمان (ص 117).(11/19)
أما إذا طرد وساوس الشيطان ونفسه الأمارة بالسوء فإن ذلك يُكتب له عملاً صالحاً، لكن لو ارتكب المخالفة فإنه يكون قد وقع في المعصية الظاهرة، إلى جانب الوقوع في الشرك الخفي بميل قلبه عن الله تعالى إلى هوى النفس.
وإضافة إلى الارتباط الوثيق بين العمل الصالح والإيمان القلبي، فإن الإيمان هو الذي يدفع المسلم إلى العمل، كما أن العمل ينمي هذا الإيمان شيئاً فشيئاً حتى يقوى.
وعلى هذا فإن الدعوة إلى الاستقامة على جميع تكاليف الإسلام تعدّ دعوة إلى ترسيخ العقيدة، وجميعُ الدعاة إلى الله تعالى يشاركون في تثبيت العقيدة الإسلامية وإن لم يصرحوا بالدعوة إلى ذلك.
ولكن خدمة العقيدة في هذا المجال لا تتم إلا بتذكر أن تكاليف الدين التي يدعو إليها الداعية مرتكزة أساساً على العقيدة، فيكون قد جمع بين الدعوة إلى الاستقامة على أوامر الله تعالى واجتناب نواهيه وبين محاولة تقوية إيمان المسلمين وربطهم بعقيدتهم.
وبهذا الشعور بالتلازم بين العمل الصالح والعقيدة يطْمئن المهتمون بأمور العقيدة، ليقينهم بأن روافد تثبيت الإيمان ليست مقتصرة على الأبواب التي جمعها العلماء تحت إطار العقيدة، بل هي شاملة لكل تكاليف الإسلام.
وهذا لا يعني التهوين من شأن أمور الاعتقاد التي اصطلح العلماء على تسميتها بذلك، وإنما يعني أن كل من دعا إلى أي حكم إسلامي فإن له نصيباً من الدعوة إلى العقيدة، وهذا إضافة إلى أنه يدفع الدعاة إلى الحماسة في دعوتهم فإنه يدفع المهتمين بأمور العقيدة إلى توسيع دائرة دعوتهم لتشمل الدين كله.(11/20)
هذا وقد جاءت آيات كثيرة فيها ذكر الإيمان مع العمل الصالح(1)، وهي ليست دليلاً على عدم شمول الإيمان للعمل، بل إن تلك النصوص تُفسَّر بما فَسَّر به العلماء الإسلام والإيمان، وذلك بقولهم: $إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا# فإذا اجتمعا يُفسَّر الإيمان باعتقاد القلب، ويبقى العمل على ظاهره، وإذا افترقا فذُكر الإيمان وحده فإنه يُفسَّر بأنه قول وعمل واعتقاد، كما فسره بذلك جمهور أهل السنة.
- - - - -
الحكم بما أنزل الله من أصول العقيدة
الحكم بما أنزل الله تعالى من أصول توحيد الألوهية، وقد رتب الله تعالى على وجوده الإيمان، ورتب على فقده الكفر، قال سبحانه ( (((( ((((((((( (( s(((((((((( (((((( (((((((((((( (((S(( (((((( (((((((((( (((( (( ((((((((( (((( ((((((((((( ((((((( (((((( (((S(((( (((((((((((((( (((S(((((( ( [النساء:65].
__________
(1) ... ينظر مثلا: سورة البقرة/ 25، آل عمران/ 57، النساء/57، الأعراف/42، الكهف/30، مريم/96، الحج/14.(11/21)
وجمع الله جل وعلا لمن لم يحكم بما أنزل الله بين الكفر والفسوق والظلم فقال ? ? الله ? الله ? صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - رضي الله عنهم - الله أكبر ? مقدمة ? صدق الله العظيم مقدمة ? - - - الله ?- جل جلاله - الله أكبر - الله ? الله { ? - - - - ? - - - - ?? الله أكبر تمهيد - ? الله أكبر - - الله أكبر ? الله أكبر ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - الله أكبر - الله الله أكبر ? - ? - ? الله ?? - - - جل جلاله -? - الله أكبر - ? الله أكبر - ? - - } - - { ? [ المائدة:44 ] وقال سبحانه ? ? الله ? الله ? صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - بسم الله الرحمن الرحيم - ? ? - - صدق الله العظيم - الله الله أكبر ? - - الله ?- جل جلاله - الله أكبر - الله ? الله { ? - - - - ? - - - - ?? الله أكبر تمهيد - ? الله أكبر - - الله أكبر ? الله أكبر ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - الله أكبر - الله الله أكبر ? - ? - ? الله ?? - ?- جل جلاله -? - الله أكبر - ???? - - } - - { ? [ المائدة:45 ] ( ((((( (((( ((((((( (((((( ((((((( (((( (((((((((((((( (((( s((((((((((((( ( [ المائدة:47 ].
وهذه الآيات وإن نزلت في أهل الكتاب فإن حكمها عام لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما قال العلماء.
وقد قال حذيفة ط في الرد على من فهم اختصاص هذه الآيات ببني إسرائيل $نِعمَ الإخوة لكم بنو إسرائيل إن كانت لهم كل مُرَّة ولكم كل حلوة، كلا والله لتسلكن طريقهم قدر الشراك#(1).
وإنما كان الحكم بغير ما أنزل الله كفراً لأن فيه جحوداً لحقِّ الله تعالى ورفضاً لحكمه.
وكان ظلماً لأن فيه وضعاً للأمر في غير موضعه الصحيح حيث إن حق التشريع لله وحده جل وعلا.
__________
(1) ... تفسير الطبري (6/253).(11/22)
وكان فسقاً لأن فيه خروجاً عن دائرة العبودية لله تعالى إلى ادعاء حق الألوهية بالنسبة للمشرعين، وخروجاً عن دائرة العبودية لله تعالى وحده إلى دائرة العبودية لغيره بالنسبة للمنفذين.
فالحاكم بغير ما أنزل الله كافر، إما كفر اعتقاد وإما كفر عمل.
فإذا جحد الحاكم ما أنزل الله، أو اعتقد بأن حكم غير الله أفضل، أو أنه مثله، أو اعتقد جواز الحكم بغير ما أنزل الله فهذا كفر اعتقاد، ويعدّ كفراً أكبر مخرجاً من الملة.
أما إذا كان الحاكم راضياً بالحكم بما أنزل الله ولا يعتقد الاعتقادات السابقة، وإنما حكم بالقوانين التي وضعها البشر مع اعتقاده عدم جواز الحكم بها والرغبة الصادقة في الحكم بما أنزل الله لو تمكن من ذلك، فهذا لا ينطبق عليه الحكم بالكفر المخرج من الملة لكونه لم يؤثِّر على اعتقاده بأن حكم الله هو الحكم الشرعي الوحيد، وإنما يبقى هذا النوع من كفر العمل .
فهذا النوع يعدّ من الكفر الأصغر ولو حكم صاحبه بالحق لصاحب الحق فإن حكم بالباطل فقد أضاف معصية أخرى في ظلم صاحب الحق.
هذا هو الأصل في الحكم، ولكن إذا لم يكن في البلاد حكم إلا بالقوانين الوضعية فهل يُحكَم على القضاة المسلمين إذا كانوا من النوع الأخير بالكفر العملي؟
الظاهر أن ذلك يخضع لمصلحة المسلمين العامة، فإن كانت تقتضي ضرورة مشاركة قضاة من المسلمين حتى لا تضيع حقوقهم ولا يضعف وجودهم فإن ذلك داخل في باب الضرورات، فلا يُحكَم على هؤلاء القضاة بأي نوع من أنواع الكفر، أما إذا شارك القضاة المسلمون من أجل الوظيفة والسمعة فإنه ينطبق عليهم وصف الكفر العملي.
وللسيد محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى فتوى جيدة حول
هذا الموضوع.
فتوى السيد محمد رشيد رضا:(11/23)
قال رحمه الله تعالى: ولكن متى وجد النص القطعي الثبوت والدلالة لا يجوز العدول عنه إلى غيره إلا إذا عارضه نص آخر اقتضى ترجيحه عليه، كنص رفع الحرج في باب الضرورات، وقد كان مولوي نور الدين مفتي بنجاب من الهند(1) سأل شيخنا الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى(2) عن أسئلة منها مسألة الحكم بالقوانين الإنكليزية فحوَّلها إليَّ الأستاذ لأجيب عنها كما كان يفعل في أمثالها أحياناً، وهذا نص جوابي عن مسألة الحكم بالقوانين الإنكليزية في الهند، وهو الفتوى 77 من فتاوى المجلد السابع من المنار.
الحكم بالقوانين الإنكليزية في الهند:
سؤال 77 ومنه: أيجوز للمسلم المستخدم عند الإنكليز الحكم بالقوانين الإنكليزية وفيها الحكم بغير ما أنزل الله؟
__________
(1) ... يعني قبل فصل باكستان عن الهند.
(2) ... يعني الإمام محمد عبده رحمه الله تعالى.(11/24)
فقال – عد أن ذكر بعض أقوال المفسرين في قول الله تعالى ? ? الله ? الله ? صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - رضي الله عنهم - الله أكبر ? مقدمة ? صدق الله العظيم مقدمة ? - - - الله ?- جل جلاله - الله أكبر - الله ? الله { ? - - - - ? - - - - ?? الله أكبر تمهيد - ? الله أكبر - - الله أكبر ? الله أكبر ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - الله أكبر - الله الله أكبر ? - ? - ? الله ?? - - - جل جلاله -? - الله أكبر - ? الله أكبر - ? - - } - - { ? [ المائدة:44 ] – : $إذا غلب العدو على بعض بلاد المسلمين وامتنعت عليهم الهجرة فهل الصواب أن يتركوا له جميع الأحكام ولا يتولوا له عملاً أم لا؟ يظن بعض الناس أن العمل للكافر لا يحل بحال، والظاهر لنا أن المسلم الذي يعتقد أنه لا ينبغي أن يحكم المسلمَ إلا المسلمُ، وأن جميع الأحكام يجب أن تكون موافقة لشريعته وقائمة على أصولها العادلة ينبغي له أن يسعى في كل مكان بإقامة ما يستطيع إقامته من هذه الأحكام، وأن يحول دون تحكُّم غير المسلمين بالمسلمين بقدر الإمكان، وبهذا القصد يجوز له أو يجب عليه أن يقبل العمل في دار الحرب إلا إذا علم أن عمله يضر المسلمين ولا ينفعهم، بل يكون نفعه محصوراً في غيرهم ومعيناً للمتغلب على الإجهاز عليهم...#.(11/25)
إلى أن قال: $فمن كان أهلاً للقضاء في الإسلام وتولى القضاء في الهند بصحة قصد وحسن نية يتيسر له أن يخدم المسلمين خدمة جليلة، وظاهرٌ أن ترك أمثاله من أهل العلم والغيرة للقضاء وغيره من أعمال الحكومة تأثماً من العمل بقوانينها يُضيِّع على المسلمين معظم مصالحهم في دينهم ودنياهم، وما نُكب المسلمون في الهند ونحوها وتأخروا عن الوثنيين إلا بسبب الحرمان من أعمال الحكومة، ولنا العبرة في ذلك بما يجري عليه الأوربيون في بلاد المسلمين، إذ يتوسلون بكل وسيلة إلى تقلُّد الأحكام، ومتى تقلدوها حافظوا على مصالح أبناء ملتهم وجنسهم، حتى كان من أمرهم في بعض البلاد أن صاروا أصحاب السيادة الحقيقية فيها، وصار حكامها الأولون آلات في أيديهم.
والظاهر مع هذا كله أن قبول المسلم للعمل في الحكومة الإنكليزية في الهند (ومثلها ما هو في معناها) وحكمه بقانونها هو رخصة تدخل في قاعدة ارتكاب أخف الضررين، إن لم يكن عزيمة يُقصد بها تأييد الإسلام وحفظ مصلحة المسلمين، ذلك أنْ تَعُدَّهُ من باب الضرورة التي نفذ بها حكم الإمام الذي فقد أكثر شروطه، والقاضي الذي فقد أهم شروط القضاء ونحو ذلك#(1).
- - - - -
...
المشاركة في الأعمال السياسية
هذا بالنسبة للعمل مع الحاكمين بغير ما أنزل الله تعالى في مجال القضاء، أما في مجال السياسة فإن الأمر فيه أخف من ذلك، وذلك كالمشاركة في عضوية $البرلمان# وأمثال ذلك من المناصب السياسية، فإن مصلحة المسلمين المتقين تقتضي المشاركة في المجال السياسي، حتى يكون لهم وجود مؤثر في التوجيه نحو الأصلح، وحماية حقوق المسلمين العامة، ودرء بعض الشرور عنهم، وإظهار الوجود الإسلامي.
وقد يصل المتقون عن طريق المشاركة في الانتخابات السياسية إلى فرض وجودهم والتمكن من إدارة الأمور في بلادهم حينما يكون لهم ثقل كبير.
__________
(1) ... تفسير المنار (6/406-409).(11/26)
وهذا لا يعني إقرار تلك الأنظمة السياسية الجاهلية وإنما يعني الأخذ بقاعدة ارتكاب أخف الضررين، فإن ترك الأمور السياسية بيد غير المتقين يعني تقليص الوجود الإسلامي، وتضييع مصالح المسلمين المتقين، فتلك المشاركة من باب الضرورات التي تُقدَّر بقدرها، ولذلك فإنه لا يجوز الاستمرار في تلك الأنظمة الجاهلية بعد التمكن، بل يجب إقرار النظام الإسلامي في الحكم.
وهذا يشبه عمل يوسف عليه الصلاة والسلام حينما عمل مع فرعون مصر ? الله ? - الله الله أكبر ? ?- جل جلاله -? - ? الله ? صدق الله العظيم - - - - عليه السلام -? - ? الله ? - ? تمهيد - ? - - الله { الله - - - ? صدق الله العظيم } - - - - ? - - ?- جل جلاله - بسم الله الرحمن الرحيم الله أكبر ? تمهيد - - - ?? - - جل جلاله -? الله - - - رضي الله عنهم - - - جل جلاله -? الله الله أكبر ? } - - { ? [يوسف:55]، فقد أصبح وزيراً لحاكم مصر في أهم أمور الدولة
وهو الزراعة والتموين، ومن خلال ذلك المنصب نشر دعوة التوحيد في مصر، لأنه كان يقوم بذلك وهو سجين ( (((((((((((( ((((((((((
((((((((((( s((((((((((((( (((((( (((( (((( ((((((((((( ((((((((((( (((( ((( ((((((((((( ((( ((((((((S (((( (((((((((( ((((((((((S(((( ((((((( (((((((((((((( (((( ((((((( (((( ((((( ((( ((((((((( ( (((( (((((((((( (((( (( ( (((((( (((( (((((((((((( (((( ((((((( ( ((((((( ((((((((( ((((((((((( ((((((((( (((((((( (((((((( (( s(((((((((( ( [يوسف:39-40]، فلا يمكن أن يتخلى عن دعوته بعد
أن أصبح متمكناً في الحكم.(11/27)
وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن، فإن قومه لا يقرونه على ذلك، وكثيراً ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضياً، بل وإماماً وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وعمر بن عبدالعزيز عودي وأوذي على بعض ما أقامه من العدل، وقيل إنه سم على ذلك، فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها(1).
ويقول الشيخ العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي في تفسير آيات قصة شعيب عليه السلام من سورة هود : ومنها – أي الفوائد – أن الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة قد يعلمون بعضها وقد
لا يعلمون شيئاً منها، وربما دفع عنهم بسبب قبيلتهم وأهل وطنهم الكفار كما دفع الله عن شعيب رجم قومه بسبب رهطه، وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين لا بأس بالسعي فيها، بل ربما تعين ذلك، لأن الإصلاح مطلوب على حسب القدرة والإمكان، فعلى هذا لو ساعد المسلمون الذين تحت ولاية الكفار وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية لكان أولى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية وتحرص على إبادتها وجعلهم عَمَلة وخدماً لهم، نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين وهم الحكام فهو المتعين، ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة، والله أعلم(2).
__________
(1) ... مجموع الفتاوى (19/218-219).
(2) ... تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 3/215.(11/28)
وقد يُمثَّل للعمل في جو قد اختلط فيه الحق بالباطل بصلاة الجماعة في المسجد، فإن المسجد يضم أنواعاً من المصلين، فمنهم أقوياء الإيمان، ومنهم ضعفاء الإيمان، ومنهم منافقون، ومع ذلك فإن المسلم مأمور بأن يصلي مع الجماعة من غير أن يبحث عن عقائد المصلين، وإنما هو مسئول عن نيته هل هي خالصة أم مشبوهة؟.
وبعض الناس يستدلون على عدم مشروعية المشاركة في الانتخابات السياسية بالإخفاقات التي تحصل للمشاركين فيها من ممثلي المتقين، وهذا استدلال غير صحيح، لأن النجاح في أرض الواقع ليس دليلاً على المشروعية، وكذلك الإخفاق ليس دليلاً على عدم المشروعية، وإنما يلزم لذلك النوايا الصادقة في الإصلاح، واعتبار الأخذ بالضرورات كمسوغ لمشروعية هذا الأمر، وذلك للحفاظ على مصلحة الإسلام والمسلمين، وإذا كان الفرد المسلم يجوز له التفوُّه بالكفر عند الإكراه ? ? الله ? الله - الله ? الله } - جل جلاله - - ? - - - - جل جلاله - - - ?- جل جلاله -? - جل جلاله - - صدق الله العظيم ? الله الله أكبر - - - - جل جلاله -?- جل جلاله -? - الله أكبر الله ?? - تمهيد - - بسم الله الرحمن الرحيم - درهم تمهيد - - ?? الله ? الله ? - - صدق الله العظيم } الله أكبر - - - سبحانه وتعالى - - ? - - الله أكبر - ? الله الله أكبر ? الله ? - الله - ? تمهيد - ? الله ? { ? - ? - ? - الله أكبر الله ?? - - تمهيد ? - - - جل جلاله - - ? [النحل:106] لا لشيء إلا للإبقاء على نفسه والخلاص من أذى الأعداء أفلا يجوز لممثلي المتقين من الأمة أن يقعوا في تلك المخالفة الشرعية من أجل أن يُبقوا على وجود الإسلام في بلادهم وأن يحفظوا مصالح المسلمين من الاجتياح على يد أعداء الإسلام؟!.
- - - - -
التحاكم إلى الطاغوت
التحاكم إلى محاكم القانون الوضعي يعدّ من التحاكم إلى الطاغوت.(11/29)
والذين يتحاكمون إلى الطاغوت إن اعتقدوا جواز ذلك ورضوا به فإن ذلك من الكفر باللّه تعالى والإيمان بالطاغوت، فضلاً عن اعتقاد أن شرع البشر مماثل لشرع اللّه سبحانه أو أحسن منه أو جحد ما أنزل اللّه جل وعلا.
وهذا كله داخل في قول اللّه تعالى ? صدق الله العظيم ? - ? - - - الله - الله الله أكبر - ? - ? - تمهيد - الله ??- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - الله ?? - ? - ? صدق الله العظيم { الله ? صدق الله العظيم ? - ? بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? - - - المحتويات - ? - ? الله ? - - ? - - الله ?- جل جلاله - - الله ? - { ? - الله أكبر - ?? صدق الله العظيم - - ? تمهيد - - - - الله ? الله ? الله ? - { ? - الله أكبر - ?- جل جلاله -? ??- جل جلاله -? صدق الله العظيم - الله الله أكبر ? الله ?? - - ? - - - ? ? - - - المحتويات - - ? - ? - ? - الله - الله الله أكبر - الله ?
? - ? - تمهيد - - - ? - ?? - الله أكبر - ??? - - صدق الله العظيم - الله الله أكبر ? الله ? المحتويات - - ? - - - جل جلاله -? الله أكبر - - ? - - - المحتويات - ? - - - ? - ? الله ? - - جل جلاله -?- جل جلاله - - - - ? - - - ? الله ? - ? - الله أكبر ?? صدق الله العظيم - الله أكبر بسم الله الرحمن الرحيم - ?? - - ? - - - صدق الله العظيم ? - ? بسم الله الرحمن الرحيم - ?- جل جلاله -? - ?
الله - - - الله أكبر - ??? - - - - - جل جلاله -? الله - } تمهيد - { ? [النساء:60].
أما إذا تحاكم المسلم إلى المحاكم غير الشرعية وهو يكره حكمها ويعتقد أن وجودها مخالف للإسلام فإن كان غير مضطر إلى ذلك فإن هذا من المعاصي ولا يصل إلى الكفر، وإن كان مضطراً إلى التحاكم إليها لاستخلاص حقه أو الدفاع عن نفسه فهذا يعدّ من الضرورات الشرعية ولا يكون فاعل ذلك آثماً.
- - - - -
المشرعون من دون الله تعالى
من أبزر الطواغيت(11/30)
فالحكم بالطاغوتية ينطبق على المشرعين من دون الله تعالى بطريق الأولى، لأنهم قد تجاوزوا حدودهم البشرية وادَّعَوا لأنفسهم الألوهية استلزاماً وإن لم يتفوهوا بذلك.
وفي بيان نكارة عمل هؤلاء المشرعين ومناقضته للإسلام يقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى: وذهب بعضهم إلى أن الكفر مشروط بشرط معروف من القواعد العامة وهو أن من لم يحكم بما أنزل الله منكراً له أو راغباً عنه لاعتقاده بأنه ظلم مع علمه بأنه حكم الله أو نحو ذلك مما لا يجامع الإيمان والإذعان، ولعمري إن الشبهة في الأمراء الواضعين للقوانين أشد والجواب عنهم أعسر، وهذا التأويل في حقهم لا يظهر، وإن العقل ليعسر عليه أن يتصور مؤمناً مذعناً لدين الله يعتمد أن كتابه يفرض عليه حكماً ثم هو يغيره باختياره ويستبدل به حكما آخر بإرادته إعراضاً عنه وتفضيلاً
لغيره ويعتد مع ذلك بإيمانه وإسلامه، والظاهر أن الواجب
على المسلمين في مثل هذه الحال مع مثل هذا الحاكم أن يلزموه بإبطال ما وضعه مخالفاً لحكم الله ولا يكتفوا بعدم مساعدته
عليه ومشايعته فيه، فإن لم يقدروا فالدار لا تعتبر دار إسلام
فيما يظهر، وللأحكام فيها حكم آخر(1).
والذين يحكمون بين الناس بغير ما أنزل الله قد آمنوا بالطاغوت وعبدوه من دون الله تعالى إذا اعتقدوا أحقية ذلك.
فالحكم بغير ما أنزل الله من أبرز أنواع الطغيان، وهو من أهم الدعائم التي يصل بها الجبابرة إلى تأليه أنفسهم لأنهم يُخضعون القوانين البشرية لأهوائهم.
- - - - -
مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام
لقد كانت مهمة الرسل عليهم السلام هي تخليص الأمم من عبادة الطواغيت إلى عبادة الله تعالى وحده، وإن اختلفت الأساليب التي انتهجوها في دعوتهم حسب توجيه الله تعالى لهم.
__________
(1) ... تفسير المنار (6/407). ...(11/31)
فلو نظرنا إلى رسالة موسى عليه السلام نجد أن الله تعالى وجهه من بداية دعوته إلى تحطيم الطغيان المتمثل في فرعون نفسه ? { درهم الله ? - - - - - عليه السلام -? - ? - تمهيد - الله ? صدق الله العظيم ? الله ?? - - جل جلاله -? - سبحانه وتعالى - - ? بسم الله الرحمن الرحيم - ? تمهيد - - - عليه السلام -? الله ?? - ? } - - { ?[النازعات:17] ، حيث كان الطغيان في عهد فرعون مُمثَّلاً في شخصه، إذ هو الحاكم الفرد الآمر الناهي المشرع للناس حسب هواه، فكان لابد من تحطيم معنوية هذا الطاغوت وإزالة هيبته من القلوب حتى تنقشع عنها الغشاوة فتستطيع أن تبصر الحق وتتفهم دعوته، لأنها مادامت مملوءة بهيبة هذا الطاغوت والإعجاب بقوته وجبروته فإنها لن تجد منفذاً للتفكير في غيره إلا بنسبة قليلة.
ومن أجل ذلك – والله أعلم – كان تكليف موسى عليه السلام بدعوة فرعون أوَّلاً قبل دعوة الناس من حوله لعدم الجدوى من هذه الدعوة ما دام المعْلَم الأكبر للوثنية ماثلاً في قلوب الأتباع.
وحينما عجز فرعون بسحرته وجنوده عن أن ينتصر على موسى عليه السلام الذي انقلبت عصاه بأمر الله تعالى حية تسعى تَحطَّم هذا الوثن الكبير معنويّاً، وإن لم يتحطم بعدُ مادياً حيث لا يزال آنذاك يملك السلطة المادية، لكنْ تحطَّم وجوده الذي كان يشغل حيزاً كبيراً في قلوب الناس، ويهيمن على سلوكهم في هذه الحياة، فأصبحت القلوب بعد ذلك مهيأة لتقَبُّل دعوة التوحيد بعد تجريدها من الشرك المتمثل في تقديس فرعون.
لقد كانت مظاهر الطاغوتية في عهد موسى عليه السلام كلها متركزة في عبادة فرعون، حيث إنه قد ادعى الألوهية وأجبر الناس على عبادته وطاعته، فاجتمع فيه شرك العبادة وشرك الطاعة.
ولقد كان موسى مكلفاً بدعوة فرعون إلى التخلي عن ادعاء الألوهية والتحلي بالعبودية لله تعالى وحده، ودعوة قومه إلى التحول من عبادة فرعون إلى عبادة الله تعالى وحده.(11/32)
ولكن لما كان موسى عليه السلام في الميدان وحيداً ليس معه
بعد الله تعالى إلا أخوه هارون عليه السلام.. ولما كان فرعون قد بلغ من الطغيان حدّاً حوَّل فيه الناس من حوله إلى عبيد لا يفكرون
إلا بما يريده فرعون، ولا يخْطُون في حياتهم خطوة إلا بما يأمر به ويرضاه.. لما كان كذلك فإن أي دعوة إصلاح محكوم عليها بالفشل من بدايتها، لأن من سيجرؤ على مخاطبة الناس بهذه المعاني السامية سيعد محالاً... لما كان الأمر كذلك وأعظم مما ذكر وأشد هولاً فإن الله سبحانه زود موسى عليه السلام بسلاح لا يستطيع فرعون أن يقضي عليه.
فلما رأى العصا انقلبت إلى حية تسعى خاف خوفاً عظيماً وطلب من موسى عليه الصلاة والسلام أن يصدها عنه، وأدرك أنه قد جاء بشيء لا طاقة له به ولكن بطانته الذين يرسخون دائماً عظمته وجبروته في نفوس الناس أشاروا عليه بجمع السحرة من أنحاء مصر لمقاومة سلاحه بسلاح أعظم منه في تصورهم.
وجرت خطوب وأهوال وآيات..
ولما رأى سحرة فرعون أن سحرهم الكاذب قد بطل أمام معجزة موسى عليه السلام الحقيقية زال من قلوبهم كل ما كان فيها من تعظيم فرعون وتضخيمه، وأدركوا أن الهالات الضخمة التي تنسج حوله ما هي إلا أوهام في الخيال فرفضوا عبادته، وحل في قلوبهم تعظيم الله جل وعلا وإكباره فخضعوا لعبادته.
وكانوا أول المستنقذين على يد موسى عليه السلام، والصفوة الأولى التي آمنت به عن علم ويقين.
وبدا نجاح موسى ظاهراً من أول الطريق في مجال تجريد القلوب من الباطل وتحليتها بالحق.
إنه حينما يكون القلب مستعبَداً للطغاة المتجبرين تكون أفكار هذا المستعبَد منصرفة إلى تصور مجالات عظمة من استعبده، وتصور ما لديه من وسائل التنكيل والتعذيب، أو الإنعام والتفضل، وقد
لا يكون هذا الطاغية معظماً في نفوس بعض الناس، لكن تكون قلوبهم قد ملئَتْ بالخوف منه.(11/33)
وإن ما قام به أولئك المؤمنون من تحدي فرعون والمقارنة بين عذابه في الدنيا وعذاب الله يوم القيامة ثم ثباتهم على الحق لما تصوروا وأيقنوا أن عذاب فرعون لا يقاس أبداً بعذاب الله تعالى..إن ما قام به هؤلاء المؤمنون يعدّ خطوة كبيرة نحو تحرير تلك الأمة من طغيان فرعون.
وقد تمثل هذا النوع من محاربة الطغيان في دعوة رسول الله ج
في إنكار هيمنة البشر على حق التشريع من دون الله تعالى،
وهو شرك الطاعة.
ولقد نزل في توجيه النبي ج إلى تحطيم الطغيان البشري آيات كثيرة، منها:-
قوله تعالى ( (((( ((((((((((( ((((( (((( (((((((( (((((( (((( (((((((( ((((((((( (((((((( ( (((((( s(((((((O(((( (((((((((( (((((( (((((((((((((((( (((((((((((((((( ( (((((( ((((((((((((((( (((((((( ((((((((((((( ((((( ((((((( ((((( ((((S(( ((((((((S(((((( ((((((((((( ((((( (((((( ((((((( ((((( ((( (((((((( ((((( ((((((((( ((( (((((((((((( (((S(( ((((((((( (((((((( ( ((((((((( ((((((( (((((((((((((( ((( (((((((( s(((((((((( ( [الأنعام:121-122].(11/34)
وقوله تعالى ? ? - ? صدق الله العظيم ?- جل جلاله -? الله ? ? الله الله ? الله ?? - ?- جل جلاله -? الله الله أكبر - ? { الله الله أكبر ? - ?? صدق الله العظيم - - ? تمهيد - - ? - ? - - - الله الله أكبر ? - - - - ?- جل جلاله -?? { - الله أكبر - الله الله ? - ??? - - ?? - الله أكبر ? الله ? المحتويات - ? - الله أكبر ? - - ? - الله درهم الله ?? - الله أكبر ?- جل جلاله -? صدق الله العظيم ? الله الله أكبر ? } - - { ? - ? صدق الله العظيم ?- جل جلاله -? الله ? ? الله الله ? - - ???? الله الله أكبر ? - ?? صدق الله العظيم - - ? تمهيد - - ? - ? - - - الله الله أكبر ? - - - ?- جل جلاله - - صدق الله العظيم ? الله الله أكبر - - ? صدق الله العظيم ? - ? - ? - - ?? - الله أكبر ? الله ? المحتويات - ? - الله أكبر ? - - ? - الله درهم الله ?? - - - جل جلاله -?? الله أكبر - - الله أكبر ? } - - { ? [يونس:42-43].
وقوله تعالى ( (((( (((((((( (((((((((( (((((((((((( ( (((( (((((((( ((((((( ((((((((((( ((((( ((( s((((((((( ( [الأنبياء:45].(11/35)
وقوله تعالى ( ( المحتويات ( تمهيد ( الله أكبر ( { - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - صلى الله عليه وسلم -( - ( - (( - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( - - صلى الله عليه وسلم -( - ( - - - ( - - ( - مقدمة - بسم الله الرحمن الرحيم } - جل جلاله -- رضي الله عنهم - - - رضي الله عنهم - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنهم - - - - - - - صلى الله عليه وسلم -( - ( - } - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (((( ( قرآن كريم - - - - - - - ((- سبحانه وتعالى - صدق الله العظيم ( - ((- رضي الله عنهم - - - { - رضي الله عنهم - - ( - - - عليه السلام -( - } تم بحمد الله - - رضي الله عنهم - - - صلى الله عليه وسلم -( - - عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - { - - (( - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - (- رضي الله عنهم - - (((( ( المحتويات ( - - - - - رضي الله عنهم - - - (( ( - - ((- رضي الله عنهم - - ( المحتويات ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - - (( - صدق الله العظيم - - قرآن كريم ((- رضي الله عنهم - - ( - - - ([الأنبياء:98-100].
وقوله تعالى ? صدق الله العظيم ? - الله أكبر ? الله } صدق الله العظيم - الله أكبر الله ?? الله الله أكبر ? - - - - ?- جل جلاله - - - - - ? بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله - الله أكبر - ?? - - - ? - - - الله الله أكبر - - - - - صدق الله العظيم الله أكبر ? - - - - الله ? الله - الله أكبر ? - - - الله ?? - الله أكبر ? - ? - الله أكبر الله - - ? - - } تمهيد - { ? .
[الزمر:64].(11/36)
وقوله تعالى ? تمت ? صدق الله العظيم الله أكبر ? الله ? الله - ? الله أكبر ?- جل جلاله - بسم الله الرحمن الرحيم ? { ? - بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? - - - - - رضي الله عنهم - - - جل جلاله - - - - - } - { - ? الله ? صدق الله العظيم { الله ? - - - الله أكبر الله الله أكبر ? - - ? - ?- جل جلاله - - - - - عليه السلام -? - ? الله أكبر صدق الله العظيم الله أكبر - - الله أكبر - - جل جلاله -? صدق الله العظيم - الله أكبر - ? الله ? الله الله ? الله أكبر - الله - - - جل جلاله -? - ? - - - - جل جلاله - - صدق الله العظيم - الله الله أكبر - الله أكبر صدق الله العظيم { - ? ? - - - الله أكبر - ? صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - الله ? صدق الله العظيم ? الله ? صدق الله العظيم { الله ? - ?? - الله أكبر بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله -? الله - الله الله أكبر ? { - - الله - الله الله أكبر ?- جل جلاله - - صدق الله العظيم ? - - جل جلاله -? - - - } - { - - - - تمهيد - الله ? الله ?- جل جلاله -? الله ? ??- جل جلاله -? - الله ?- جل جلاله - - - الله أكبر الله الله أكبر ? - - ? - - - الله أكبر الله أكبر الله أكبر صدق الله العظيم - الله أكبر الله الله أكبر ? - الله ? الله - الله - بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر - - - - - } ? - { - ? ?? تمهيد - ? - - الله أكبر الله أكبر - ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - الله أكبر - ?? - ? - ? - رضي الله عنه - - - الله - الله ? تمت ? - - ? الله - ? } - { ?- جل جلاله - الله ? ?? - ? تمهيد - ? - - الله } الله ? - - ? بسم الله الرحمن الرحيم - ? الله أكبر الله ? الله - - الله درهم الله ? ?- جل جلاله -? { الله أكبر ?? الله أكبر - ? ? - ? صدق الله العظيم ? الله أكبر الله ? - الله الله ? المحتويات - ? - - الله أكبر الله { - ? - - -(11/37)
الله أكبر الله أكبر صدق الله العظيم - الله أكبر الله ? - الله درهم الله ? - الله ? المحتويات - ? - - الله - بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر - - - ?- جل جلاله -? - ?? - - - ?- جل جلاله - - - - - ? - - - الله الله أكبر - - جل جلاله -? صدق الله العظيم ? - - - ?? - ? - ? الله ? { - - الله - الله ? - صلى الله عليه وسلم -? - - جل جلاله -?? الله ? } - - { ? [الجاثية:7-10].
ولقد كان النبي ج يجهر بتلاوة هذه الآيات وأمثالها ولا يداري المشركين بالإسرار بها، وكان من الأهداف الكبيرة والحِكَم البالغة من نزول هذه الآيات الشديدة على المشركين أن يتحطم الطغيان الذي عشش في أفكار زعماء الكفار وسادتهم، وأن يتلاشى شيئاً فشيئاً ما وقر في نفوس الأتباع من تعظيمهم والرهبة منهم.
ولقد اجتمع على سيادة مكة آنذاك عدد من أشراف قريش منهم أبو جهل عمرو بن هشام وأمية وأُبَيّ ابنا خلف والوليد بن المغيرة وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب والعاص بن وائل، وكانوا جميعاً يعادون الإسلام ويحكمون أهل مكة بالقوانين التي تعارفوا عليها، وكان من الصعب على أفراد الناس أن يخالفوهم في شيء من ذلك، بل إن قوانينهم تلك اكتسبت القداسة الدينية لكونها مما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم، فلما قام النبي ج بمخالفتهم في ذلك والإنكار عليهم وتسفيه آرائهم وعيب ما ورثوه عن أسلافهم أنكروا ذلك منه وناصبوه العداء، وساءهم أن بعض أشرافهم قاموا بحمايته وأبرزهم عمه أبو طالب.(11/38)
وكان لزعماء مكة المذكورين شأن كبير في نفوس أكثر أهل مكة، بل في نفوس قبائل العرب، وقد بلغ تعظيم أتباعهم لهم في مكة حدَّ العبادة حيث خضعوا لهم في القوانين التي كانوا يؤمنون بها ويحمونها وينفذونها، فكان من أعظم مهام النبي ج في دعوته أن يزيل من النفوس ما وقر فيها من تعظيم هؤلاء الطغاة، وأن يمحو من القلوب أي حب أو تقدير لهم، لأن تمكن محبتهم وتعظيمهم في القلوب يزاحم وجود الإيمان بالله تعالى وتعظيمه، وبالتالي يتشكل سلوك الناس في الحياة وتصوراتهم على ما يرسخ في القلب من المعتقدات.
لقد كان من أول ما يتخلى عنه المؤمنون بالإسلام آنذاك أن ينفضوا من قلوبهم أي غبار علق بها من الولاء للأصنام أو للطغاة الذين يحاولون أن يتحكموا في مصائر الناس وأن يحددوا لهم المعتقدات التي يؤمنون بها والسلوك الذي يسيرون عليه في الحياة.
ولقد كان من مظاهر ولاء الكفار لطغاتهم أنهم كانوا يكثرون من الثناء عليهم وذكر محاسنهم ويغضون الطرف عن مساوئهم، بل كانوا يسوغون مساوئهم ويحولونها إلى محاسن ومحامد.
لقد كان أولئك الطغاة يقودون قومهم إلى الضلال في الدنيا والنار في الآخرة رغم وضوح الحق لهم واعتراف بعضهم بذلك، ومع ذلك يتبعهم عامة الناس إلى هذه الحياة المظلمة والمصير المهلك، وقد ألغوا عقولهم وحصروا تفكيرهم في محاولة كسب رضا أولئك الطغاة والحصول على شيء مما يجري على أيديهم من متاع الدنيا الزائل، أو كسب الجاه الوهمي الذي يحاول الطغاة رفعهم إليه.
ولقد كان يحصل من أولئك الطغاة غالباً تمجيد لأولئك الأتباع الذين يسيرون في ركابهم، وثناء عليهم بذكر فضائلهم، وما ذاك إلا لأن الطغاة لا يقوم وجودهم إلا على أتباعهم من عموم الناس، فإذا فقدوا هذه القاعدة سقطوا، فوجود كل من الطائفتين مرتبط بوجود الطائفة الأخرى.(11/39)
وكما أن العامة محتاجون إلى الطغاة في بعض أمور معاشهم وتبوء المكانة الاجتماعية التي يطمحون إليها فإن الطغاة محتاجون إليهم لأنهم الركيزة التي يقوم عليها مجدهم، بل إن حاجة هؤلاء إلى العامة أعظم وأهم، لأن وجود مجدهم يقوم على أولئك العامة بينما يستطيع العامة لو عقلوا وتفكروا أن يتخلوا عنهم وأن يبحثوا عن ما يحقق مصالحهم في الدنيا والآخرة.
وهكذا فعل المؤمنون في مكة حيث حرروا أنفسهم من أوهام الجاهلية ومن ربقة تبعية أولئك الطغاة، فأصبحوا ينظرون إليهم بازدراء واحتقار، ويعدُّونهم من معالم الوثنية التي جاء الإسلام للقضاء عليها وتحرير عقول الناس منها.
إن ما قام به رسول الله ج من تحرير عقول الناس من تبعية طغاة البشر قد أتاح لهم فرصة عظيمة من التفكير والإبداع في هذه الحياة، فليس أمام المؤمنين من يطلبون رضاه ويجتنبون سخطه إلا الله تعالى، ثم هم بعد ذلك يتحركون غير مقيدين بالخضوع لبشر مثلهم، وإن كان الإسلام قد أوجب عليهم طاعة ولاتهم فإن ذلك من طاعة الله جل وعلا، ما دام الجميع خاضعين لذلك المبدأ العظيم وهو طلب رضوان الله تعالى واجتناب سخطه.
لقد كان رسول الله ج مكلفاً بالقيام بشد الناس إلى العروة الوثقى التي تتمثل في دعوتهم إلى الإيمان بالله تعالى والكفر بالطاغوت? ? الله ? الله الله أكبر ? ? - الله أكبر - ? - ? الله الله أكبر ? - - ? - الله أكبر ?? - الله أكبر - ??? - - - جل جلاله - - - ?- جل جلاله -? صدق الله العظيم ? - الله أكبر ? الله ? - جل جلاله -? بسم الله الرحمن الرحيم - ?? - - - جل جلاله - - - جل جلاله - - الله ? الله الله أكبر ? ?? الله { صدق الله العظيم ? الله - الله أكبر ?? - - - جل جلاله -? الله ?? - الله أكبر - ? - ? - - - جل جلاله - - - عليه السلام -? الله ? - - - ? - ? - - - الله درهم الله ? - - ?- جل جلاله -?? - - - - الله ? - ? ? [البقرة:256].(11/40)
ولقد كانت الطاغوتية في عهده تتمثل في وجود الأصنام التي تعبد من دون الله جل وعلا، ووجود الطغاة الذين يطاعون من دون الله تعالى، فلذلك كانت دعوته إلى تحطيم الأصنام والطغاة، وإلى تقليص مكانة هذه الأوثان في نفوس عبادها.
وإننا حينما نعقد مقارنة بين دعوة رسول الله ج ودعوة موسى عليه الصلاة والسلام نجد أنهما قد توجها إلى هدف واحد وهو تحرير العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، غير أنه لما كانت مظاهر الطغيان منشطرة في عهد النبي ج بين تعظيم الأصنام والطغاة كان توجهه إلى تحطيم هذا الطغيان من هذين الوجهين، ولكن جهاده يظهر بصورة أكثر في هجومه على الأصنام ومحاولة نزع مهابتها وتعظيمها من النفوس لأن عبادة الأصنام هي التي كانت تهيمن على نفوس العرب بشكل أعمق وأشمل، حيث إنهم أَلِفُوا الحرية فلم يكونوا يعترفون بأن بعضهم يعبد بعضاً وإن كانت بعض مظاهر هذه العبادة قد وجدت في طاعتهم العمياء لسادتهم.
- - - - -
أهمية الدعوة إلى الحكم بما أنزل الله
لقد ذهب بعض الدعاة إلى التقليل من شأن الدعوة إلى إقامة الحكم بما أنزل الله بحجة أن النبي ج دعا وهو في مكة إلى التوحيد ولم يدع إلى إقامة الحكم بما أنزل الله، وهؤلاء مخطئون في هذا الرأي من وجوه:
أولاً: أنهم لم يفهموا شمول التوحيد حيث إن الحكم بما أنزل الله من أصول التوحيد، والحكم بغير ما أنزل الله من الشرك، فالدعوة إلى الحكم بما أنزل الله دعوة إلى التوحيد.
ثانياً: لو لم يكن الحكم بغير ما أنزل الله من الشرك فإنه أمر منكر بلا شك، ومن واجب المسلمين إزالة جميع المنكرات التي طرأت على مجتمعهم.(11/41)
وليست إزالة المنكر خاضعة للتدرج الذي يقتضي حسب مفهوم هؤلاء أن ندعو إلى التوحيد أولاً، حتى إذا زال وجود الشرك من المجتمع بدأنا بإنكار المنكرات الأخرى، ومن هنا نعلم أن الفرق واضح بين مجتمعنا الذي هو إسلامي طرأت عليه المنكرات وبين مجتمع مكة في عهد النبي ج الذي كان يدعو إلى دين جديد.
فالقضية ليست قضية دعوة إلى الإسلام فقط حتى نجتهد في التدرج فيها، وإنما هي أيضاً إنكار للمنكرات السائدة في مجتمع المسلمين.
وكلما كان المنكر متعدياً تترتب عليه منكرات أخرى فإن الاهتمام به يكون أعظم وإنكاره ألزم.
والحكم بغير ما أنزل الله من المنكرات الكبيرة المتعدية، لأنه يترتب عليه تعطيل الكثير من أحكام الإسلام وسيادة مفاهيم الجاهلية، وأي جهود تبذل في سبيل القضاء على الجاهلية وتثبيت أحكام الإسلام فإنها تكون قليلة الجدوى لأن الحكومات الكافرة تحمي الجاهلية وتحارب الإسلام.
وهكذا فهم الخليفة أبو بكر الصديق ط حينما ارتد بعض العرب وتمرد بعضهم على دولة الإسلام، حيث كان يعدّ أن هذا أعظم منكر حدث في ذلك العهد، فبذل كل طاقته وطاقة أصحابه في مقاومة هذا المنكر، حتى أقام دولة الإسلام كما كانت عليه في عهد النبي ج.
وإنه يجب علينا أن نعدّ ما جرى في العصر الحديث من التنكر لحكم الإسلام ورفض قيام الدولة على الحكم الإسلامي مشابهاً لما جرى على الأمة الإسلامية في عهد أبي بكر الصديق.
ولقد مال بعض الصحابة في ذلك العهد إلى مثل ما يثار في العصر الحاضر من الدعوة إلى الإسلام عن طريق تصحيح العقيدة وترك الجهاد لإقامة دولة الإسلام، لا عن قناعة منهم بهذا الرأي، بل عن شعور منهم بعجز المؤمنين في المدينة عن حرب أكثر القبائل العربية، فأبى ذلك الصديق ط إباء تاماً، وأصر على الجهاد حتى وقر في نفوس جميع الصحابة ن أنه على الحق فأطاعوه ونفذوا رأيه.(11/42)
ولقد رأى بعض الصحابة رأيهم ذلك هلاكاً أنقذهم الله تعالى منه برأي أبي بكر الذي صمم عليه، وفي ذلك يقول عبدالله بن مسعود ط $لقد قمنا بعد رسول الله ج مقاماً كِدْنا نهلك فيه لولا أن مَنَّ الله علينا بأبي بكر، اجتمع رأينا جميعاً على أن لا نقاتل..... (1) ونعبد الله حتى يأتينا اليقين(2) وعزم الله لأبي بكر ط على قتالهم(3).
وإذا كان أبو بكر الصديق ط قد رأى أن من الحكمة رفع راية الجهاد لإزالة ذلك المنكر فإنه يجب على العلماء أن يسعوا لإزالة المنكرات بما تقتضيه الحكمة في عصرهم.
ثالثاً: أن دعوة النبي ج إلى نبذ عبادة الأصنام تعدّ دعوة إلى نبذ السلطة المتحكمة في مكة، حيث إنها مرتبطة ببقاء هذه الأصنام فهي دعوة إلى إقامة حكم الله تعالى في الأرض في مضمونها.
ولقد توجه موسى عليه السلام إلى فرعون بأمر الله تعالى للدعوة إلى عبادة الله وحده، وهذا يتضمن إلزامه بالتخلي عن السلطة التشريعية لتكون لله تعالى وحده، ويكون هو مسئولاً عن تنفيذها فقط.
__________
(1) ... يعني أن لا نقاتل المرتدين والمتمردين على دولة الإسلام.
(2) ... يعني الموت، من قوله تعالى: ? صدق الله العظيم - الله أكبر - الله أكبر - صدق الله العظيم ? - - الله ? ?? بسم الله الرحمن الرحيم - - الله } - عليه السلام -? بسم الله الرحمن الرحيم - - الله - ?? الله - - جل جلاله - الله أكبر - - - - الله ? ?? - - جل جلاله -? الله الله أكبر - - ? - - } - - { ? [ الحجر:99 ].
(3) ... فتوح البلدان / 131.(11/43)
ولعل الفارق بين دعوة موسى عليه الصلاة والسلام التي توجهت إلى الحاكم أولاً وإلى تحرير الناس من عبادته، وبين دعوة محمد ج التي توجهت أولاً إلى تحرير الناس من عبادة الأصنام هو أن سلطة فرعون كانت هي المهيمنة على مشاعر الناس وسلوكهم، بينما كانت سلطة الأصنام هي المهيمنة على مشاعر الناس وسلوكهم في عهد النبي ج، ولم يكن لزعماء قريش من السلطة إلا ما يلبِّسون به على الناس من خلال هذه الأصنام حيث إن العرب كانوا يأنفون من سلطة غيرهم من البشر عليهم.
ولقد قص الله سبحانه قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون وقومه وقصص غيره من المرسلين عليهم الصلاة والسلام لنأخذ منها العبرة فيما لو كانت أوضاع الأمة الإسلامية في زمن من الأزمان تشابه بعض الأوضاع التي بعث فيها الرسل عليهم الصلاة والسلام.
وحيث إن أحوال هذه الأمة في هذا الزمن تشبه إلى حد كبير أحوال أمة موسى عليه الصلاة والسلام فإن من المناسب دراسة هذه القصة بتمعن وتدبر، ولعل ذلك من حِكَم تكرار هذه القصة بشكل ظاهر لاحتياج أمة الإسلام إلى أخذ العبر منها.
فإذا تجبر الحاكم وطغى وحكم بغير ما أنزل الله تعالى فإن الدعاة بحاجة إلى أن يحاولوا إزالة آثار طغيانه من قلوب الناس بالتي
هي أحسن أوَّلاً، ثم بالطرق التي يرونها موصلة إلى إقرار توحيد الله تعالى في الأرض.
هذا وإن للدعاة إلى الله تعالى لأسوة حسنة برسول الله ج، وذلك في العمل على إزالة الطغيان المهيمن على العقول.
إن المجال الحقيقي للدعاة هو أن يتصدوا للباطل المهيمن على نفوس المسلمين، فيحاولوا القيام بتخلية قلوبهم من هذا الباطل وملئها بتصور الحق واعتقاده ثم العمل به بعد ذلك.
إن هذا هو الميدان الذي يَشرُف به الدعاة، والسلاح المعنوي القوي الذي يقاومون به أسلحة الباطل المعنوية والمادية.(11/44)
أما الذين يحومون حول المجال ولا يخوضون فيه فإنهم مهما بلغوا من بذل الجهد وكثرة الأتباع وقوة الكلمة لن يصنعوا شيئاً حقيقيّاً في الدعوة، وإنما يصنعون لأنفسهم أمجاداً وهمية في هذه الحياة الدنيا، وسيُسألون يوم القيامة عن تفريطهم وتمكينهم الطغاة من السيادة في الأرض ومحاربة دين الله جل وعلا.
والطغاة يلجؤون غالباً إلى إرهاب الناس وتخويفهم وتسخير عقول بعض مستعبَديهم لابتكار الألوان المتعددة من وسائل
التخويف والتعذيب.(11/45)
وهكذا لجأ فرعون إلى هذا الأسلوب الخسيس في إرهاب من آمن بموسى عليه الصلاة والسلام، حيث قال للسحرة الذين رفضوا عبادته وأعلنوا عبادة الله تعالى وحده ? الله ? - الله الله أكبر ? ?? - - الله أكبر الله أكبر ? الله ? - - ? - سبحانه وتعالى - - ? الله أكبر - ? الله ? صدق الله العظيم - الله أكبر الله الله أكبر ? ?? - - - الله ? الله - - - ? ?? الله أكبر ? - ? - سبحانه وتعالى - - ? بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? تمهيد - - - ? - } - } - - جل جلاله - - - ? - ? ?- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - - ? - - الله ? بسم الله الرحمن الرحيم - ? الله ? الله - - الله أكبر صدق الله العظيم - الله - جل جلاله - { ? - - - عز وجل - - ? الله ? بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله -? الله الله أكبر ? الله أكبر ? - - الله الله أكبر ? ?? الله أكبر ? الله الله أكبر ?- جل جلاله - - صدق الله العظيم الله أكبر ? - - - ? - - - ? - - صدق الله العظيم } - - - الله ? ??- جل جلاله - الله ? - ? - الله أكبر - ?- جل جلاله - - ?? الله أكبر ? الله أكبر بسم الله الرحمن الرحيم - ? الله الله أكبر - بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله -? الله ? الله أكبر - - الله درهم الله ? ? - ?? - - - - - ? { - بسم الله الرحمن الرحيم - ?? - - الله الله ? - ? - ? صدق الله العظيم ? الله - - ? الله ? - - الله الله أكبر ? الله - الله أكبر ? - - - - ? - الله أكبر الله ? - - - - - الله أكبر - - الله - الله ? - عليه السلام -? الله ? صدق الله العظيم الله أكبر - - - - الله ? } - - { ?[طه:71].
وكذلك يفعل جميع الطغاة وإن اختلفت الوسائل.(11/46)
فإذا كان الداعية يشعر بالخوف من هؤلاء الطغاة إلى الحد الذي يمنعه من قول كلمة الحق، ويتصور كلما أراد الإقدام على قول الحق ما لديهم من وسائل التعذيب والتنكيل فإن ذلك يتنافى مع كمال التوحيد وإن كرههم في قرارة نفسه وتمنى زوالهم.
وإذا كان هؤلاء الدعاة يتصورون أنهم في سكوتهم على الباطل وكتمان دعوة الحق قد خرجوا من المسئولية لعجزهم عن المقاومة فليتذكروا وقوفهم بين يدي الله تعالى يوم القيامة ومساءلته إياهم كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري ط قال قال رسول الله ج:
$لا يحقر أحدكم نفسه، قالوا: يا رسول الله كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: يرى أمراً لِله عليه فيه مقال ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل له يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس، فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى#(1).
وليتذكروا موقف سحرة فرعون بعد إيمانهم ? المحتويات - ? - الله أكبر ? - الله الله أكبر ? ? - ? ?? الله - - جل جلاله - الله أكبر - صدق الله العظيم ? بسم الله الرحمن الرحيم الله أكبر الله أكبر ? - عليه السلام -? - ? الله ? - الله ? - الله الله أكبر ? - ? - - الله - - ?- جل جلاله -? - - - الله أكبر الله الله أكبر ? الله - - الله أكبر الله أكبر الله - - ? - - ?- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - الله ? - - الله الله أكبر ? الله - - ? الله الله أكبر ? - ? - ? - - الله الله أكبر ? - - الله ? ? - ? - - - - - ? - الله الله أكبر ? - الله ? بسم الله الرحمن الرحيم - ? - تمهيد - ?- جل جلاله -? { الله أكبر ? الله الله أكبر - - جل جلاله -?- جل جلاله - - - الله أكبر الله ? الله ? - ? الله - الله - - ? - - - - الله الله أكبر { - ? - ? - ? - - } - - { ? [طه:72].
__________
(1) ... سنن ابن ماجه رقم 4008، الفتن (ص 1328) وقال البوصيري: إسناده صحيح رجاله ثقات، وأخرجه الإمام أحمد مختصرا – المسند (3/30).(11/47)
إنه لا بد أن يشعر قادة الدعوة بمسئوليتهم عن الجماهير الذين أعطوهم الطاعة والولاء، وأنهم إن لم يوجهوهم نحو تحرير قلوبهم من عبادة العباد إلى إخلاص العبادة لله تعالى وحده فإنهم قد غشوهم وخدعوهم وسيوافون حسابهم أمام ربهم جل وعلا يوم القيامة، وكلما كان الأتباع أكثر كان الحساب أعظم وأطول.
وحينما يعلم القادة أن الدعوة الحقيقية لابد أن تقوم على هذا الأصل العظيم الذي بينه الصحابة ن لزعماء الكفار حينما قالوا: $إن الله ابتعثنا والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله#(1).
حينما يعلم القادة أن دعوتهم لا تكون شيئاً يذكر حتى يفقهوا هذا الأصل العظيم ويدعوا الناس إلى التوحيد الخالص...
وحينما يعلمون أن دعوة الناس إلى ما هو دون ذلك والاقتصار عليه خداع للناس وتغرير بهم وتخدير لطاقاتهم التي وهبهم الله إياها.
حينما يعلمون ذلك وهم على جانب من التقوى والورع فإنهم سيصارحون الجماهير التي تتبعهم بذلك، وسيجدون أول الأمر ترحيباً بدعوتهم وارتياحاً لمطلبهم، فإن أي مسلم يقال له: إن دعوتنا تقوم على تحرير العبادة لله وحده ورفض عبادة غيره سيقول: مرحباً بدعوة التوحيد وكلنا من جنود التوحيد.
ولكن حينما يعلمون حقيقة هذه الدعوة وتفاصيلها وما تتطلب من بذل للمال وتضحية بالنفوس فإن كثيراً منهم سينسحبون من طاعة أولئك القادة الذين كلفوهم بهذه التكاليف الشاقة على نفوسهم.
__________
(1) ... تاريخ الطبري (3/518-521).(11/48)
حينما يعلمون أن حقيقة التوحيد أن ينتزعوا من قلوبهم تعظيم الطغاة ومخافتهم، وأن يقْدموا على قول كلمة الحق من غير أن يخشوا لومة لائم ولا بطش سلطان ظالم، وأن يرغموا المستكبرين المتجبرين على السير في الطريق المستقيم الذي يجعلهم عبيداً لله تعالى، وينفِّذوا شريعته من غير تردد ولا خضوع لأهوائهم أو أهواء بشر مثلهم، أو أن يتخلوا عن السلطة لتكون بيد عباد الله المتقين الذي وهبوا أنفسهم لربهم وخدمة دينهم..حينما يعلمون ذلك وغيره من تكاليف التوحيد الحق فإن كثيراً منهم سيتخلون عن ميدان الدعوة الذي سيعرضهم للبلاء، ولن يُبقِي لهم منافعهم الدنيوية التي من أجلها رضوا بتلك الدعوات الناقصة.
والقلة التي ستبقى مع الدعاة المخلصين على هذا المبدأ الواضح هم الصفوة الذين يقر الله تعالى بهم دينه ويفتح بهم القلوب والممالك.
وعلى هذا النحو البين كان الصحابة ن، وقد تم على أيديهم من الفتوح وهداية الناس ما يشبه الخوارق مع قلة عددهم وكثرة أعدائهم.(11/49)
رابعاً: أن الوحي في العهد المكي لم يكن قد اكتمل، وإنما كان ينزل شيئاً فشيئاً، فيطبق رسول الله ج ما نزل منه، ولم تنزل النصوص الخاصة بالحدود والجنايات ونحو ذلك إلا في العهد المدني، حتى اكتمل التشريع بنزول قول الله تعالى ? الله ??? الله - - ? - - ? - - ? الله ? صدق الله العظيم } - - - ?? الله أكبر ? - ? ?? الله أكبر ? الله ??- جل جلاله - - ? - صدق الله العظيم ? الله ? صدق الله العظيم الله أكبر - - - - الله ? ?? الله أكبر ? صدق الله العظيم - - ? الله ? ?- جل جلاله - - الله ? صدق الله العظيم ?- جل جلاله - الله أكبر ? ? - - - جل جلاله -? الله } الله ? - ? الله أكبر ? - ? الله ? - الله أكبر الله أكبر - ? الله أكبر ?? - - تمهيد ? - - - - - الله أكبر ??- جل جلاله - - ? [المائدة:3] ، فوجب بعد ذلك تطبيق الإسلام كاملاً، والدعوة إلى تطبيقه كاملاً، وأي خلل في تطبيق جزء منه يعدّ أمراً منكراً، على الأمة أن تسعى إلى تغييره بالطرق التي ترى أنها توصل إلى سيادة الإسلام في الأرض.
أما القول بالتدرج في الدعوة فإنه يترتب عليه تأجيل العمل ببعض القرآن، وهو ما يتعلق بموضوع الحكم من آيات العهد المدني، مع أن المسلمين مخاطبون بالعمل بالقرآن كله.
وهل يقال: إن الأحكام التي نزلت في المدينة ليس من المشروع دعوة الناس إليها الآن إلا على سبيل التدرج كتحريم الخمر؟!
خامساً: أن النبي ج لما حاوره قومه أمام عمه أبي طالب وطلبوا من عمه أن يوقفه عن دعوته إلى التوحيد ونبذ الشرك قال: $يا عم أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية#، فلما علموا أن هذه الكلمة هي لا إله إلا الله تنكَّروا له وكفروا(1)
__________
(1) ... انظر مسند الإمام أحمد بتحقيق أحمد شاكر (3/314) رقم 2008 وقد صحح إسناده،
وسنن الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح، كتاب التفسير (8/99)، والمستدرك (2/432) وقد صححه الحاكم وأقره الذهبي.(11/50)
...
فكون النبي ج يدعوهم إلى كلمة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية دليل على أنه كان في شرعه ومنهجه الدعَويّ إقامة دولة الإسلام العظمى التي تشمل العرب والعجم، وإنما لم يَدْعُ إلى إقامتها آنذاك لأنه كان غير قادر على هذا الأمر لقلة أتباعه وعدم وجود من يناصره من قبائل العرب، ولذلك ما إن هاجر ووطئَتْ قدماه المدينة حتى أقام دولة الإسلام لمقدرته على تنفيذ هذا التكليف الشرعي.
سادساً: أن النبي ج لما كان في مكة كان هو قائد المؤمنين بها ورائدهم وإن لم يعلن قيام دولة، فلم يكن الصحابة ن آنذاك يرجعون إلى غيره في سياسة أمورهم، وكانوا يعدّونه زعيماً لهم.
ولم ينجح الدعاة إلى الله تعالى نجاحا ظاهراً شاملاً إلا بالسعي في إقامة دول كبيرة قوية تحمي دعوتهم، وتزيل معالم الشرك الظاهرة بقوة السلطان.
ويكفي أن أمثل على ذلك بمثال واحد يبين أثر القوة في نجاح دعوة الحق، وذلك في دعوة شيخ الإسلام المجدد محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى، فإنه قد رسم الخطوط العريضة لقيام دولة إسلامية من أول بدئه بالدعوة بعد أن قام بتجربة لم تنجح في الدعوة المجردة من السلطان، فلقد رأى أنواعاً من الضلال في بلاده النجدية ورأى مثل ذلك في الحجاز والعراق، ثم بدأ بالدعوة لإزالة هذا الضلال بالإنكار على أصحاب تلك المعتقدات الضالة، وذلك في بلدة (حريملاء)(1) ولكن لكونه مجرد داعية ولم يكن صاحب دولة وسلطان فإن المخالفين استهانوا به وسفهوا رأيه ودبروا خطة للهجوم عليه وقتله، فنجاه الله منهم وارتحل إلى بلدة (العيينة)(2).
__________
(1) ... هي بلدة تقع شمال غرب الرياض.
(2) ... هي بلدة تقع قرب الرياض.(11/51)
ولقد أدرك بإلهام الله إياه ثم بثاقب بصره ودقة إدراكه أن إنكار هذه المنكرات بغير قوة وسلطان لا جدوى منه ولا تأثير له إلا بنسبة ضئيلة جدّاً، فعمل اتصالاته مع ابن مُعمَّر حاكم (العيينة) حتى أقنعه بدعوة التوحيد التي يدعو إليها، ولما أصبح الشيخ يملك السلطان الذي به يستطيع أن يزيل معالم الجاهلية خرج على رأس قوة من جيش ذلك الحاكم وهدم القباب التي على القبور وقطع الأشجار التي يتبرك الناس بها.
ثم لما ضعف عن نصرته وحمايته ذلك الأمير بحث عن حاكم آخر يقيم معه إمارة أقوى من تلك الإمارة، فكان هذا الحاكم هو الأمير محمد بن سعود رحمه الله أمير بلدة (الدرعية)(1) فتمت البيعة بينهما على إقامة دولة إسلامية وإزالة معالم الجاهلية بالقوة، وما زالت تلك الإمارة تنمو وتتسع حتى أصبحت دولة قوية وزالت من تحت سلطانها كل معالم الجاهلية القائمة في بلادها.
فكان ما وصل إليه الإمام محمد بن عبدالوهاب من نشر دعوة التوحيد في نطاق تلك الدولة القوية يعدّ نجاحاً كبيراً في تحقيق الأهداف وإقرار المعتقدات الإسلامية وإزالة الضلالات الشركية والبدعية.
ولو أن الشيخ محمد بن عبدالوهاب ظل عمره المديد يدعو
إلى إزالة تلك الضلالات عن طريق الدروس والخطب والمواعظ
لما استطاع أن يؤثر إلا على عدد محدود من الناس، ولكان
مجرد واعظ قد يُذكر في كتب التراجم وقد لا يذكر، لكنه
باهتمامه المبكر بإقامة دولة إسلامية قوية استطاع أن يزيل معالم الجاهلية التي يعتقد الناس بها فزالت على الفور تلك المعتقدات من أفئدة الألوف من المسلمين.
هذا وإن إثارة هذا الموضوع ودعوى أن الدعاة مأمورون في هذا العصر بأن يدعوا الناس إلى العقيدة وأن يتركوا الدعوة لإقامة دولة الإسلام حتى يتحقق فيهم التمسك بالعقيدة مما يعدّ مستمسكاً للعلمانيين الذين يقاومون إقامة دولة تقوم على الإسلام ويقولون: لا سياسة في الدين.
__________
(1) ... هي بلدة تقع قرب الرياض.(11/52)
وهكذا تبين لنا أن من الخطأ قصر مفهوم العقيدة على بعض مضامينها وإغفال المضامين الأخرى، فمن الخطأ الشائع نظر بعض طلاب العلم إلى أن الذي يدعو إلى تحرير التوحيد من عبادة الأموات مثلاً يكون من الدعاة إلى تصحيح العقيدة، أما الذي يدعو إلى تحرير التوحيد من عبادة الأحياء الذين يحكمون بغير ما أنزل الله فإنه لا يكون في نظر هؤلاء ممن يدعون إلى تصحيح العقيدة، والحقيقة أن هؤلاء وهؤلاء يدعون إلى تحرير جوانب من توحيد الألوهية، ومن واجبهم أن يدعوا إلى تحرير التوحيد من جميع أنواع الشرك، وأن لا يقصروا العقيدة على بعض مفاهيمها.
وقد يقال: إنك أسهبت في ذكر موضوع الحكم بغير ما أنزل الله ولم تذكر موضوعات العقيدة الأخرى، فيقال: إن هذه الرسالة ليست مُعدَّة لاستيعاب موضوعات العقيدة، وإنما هي مما يدخل تحت دائرة تصحيح المفاهيم، حيث لم يكن واضحاً عند بعض الناس شمول العقيدة لهذا الموضوع، فليس من المنهجية المقبولة الحديث عن الموضوعات التي اشتهر واستفاض أنها من موضوعات العقيدة.
- - - - -
الجهاد والعقيدة
مما يتعلق بهذا الموضوع زعم بعضهم بأنه يشترط فيمن يخرج للجهاد أن يكون قد صحح اعتقاده تماماً من الخلل والمفاهيم الخاطئة، ومما يَرِدُ على هذا خروج النبي ج بمُسلِمة الفتح إلى غزوة حنين
مع أنهم حديثو عهد بالإسلام، فالجهاد عمل صالح يثاب عليه فاعله وإن قصر في بعض أمور الدين الأخرى، بل الجهاد مدرسة تربوية تعليمية يتعلم فيه المجاهدون كثيراً من العقائد والأحكام والآداب،وذلك لما يتضمنه من السفر وكثرة اللقاءات التي يحصل فيها تجاذب الأحاديث وتلاقح الأفكار.
ولقد حدث من بعض مسلمة الفتح هؤلاء أمر يُخلُّ بالعقيدة
في توحيد الألوهية، وذلك كما أخرج الإمام أحمد من حديث
أبي واقد الليثي ط قال: خرجنا مع رسول الله ج قِبَل حنين(11/53)
فمررنا بسدرة فقلت: يا نبي الله اجعل هذه ذات أنواط(1) كما للكفار ذات أنواط، وكان الكفار ينوطون بسلاحهم بسدرة ويعكفون حولها، فقال النبي ج: $الله أكبر، هذا كما قالت
بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، إنكم تركبون
سنن الذين من قبلكم#(2).
وأخرجه الترمذي من حديث أبي واقد الليثي ط وحسنه
وذكر نحوه(3).
وهذا يدل على أن هؤلاء المسلمين الذين قالوا هذا الكلام لم يكونوا يفرقون بين التوحيد والشرك في بعض الصور، ومع ذلك لم يؤخر النبي ج مشاركتهم في الجهاد حتى يتعلموا أمور العقيدة، بل كان خروجهم للجهاد سبباً في حدوث هذه المناسبة التي تعلموا منها أصلاً من أصول العقيدة.
- - - - -
...
التركيز على موضوعات الخلاف
من المفاهيم القاصرة التركيز على مسائل الخلاف في العقيدة، بحيث تُبنى عليها الأحكام على الناس.
ومن الأمثلة الواضحة على هذا المفهوم القاصر قول بعضهم وهو يترجم لعالم من العلماء على سبيل المثال: إنه شافعي المذهب أشعري العقيدة، فإن المفهوم من هذه الكلمة أن هذا العالم يقلد الإمام الشافعي في أمور الفقه ولكنه يخالفه في جميع أمور العقيدة ويقلد فيها أبا الحسن الأشعري، مع أننا لو بحثنا بتأمل لوجدنا أن هذا العالم يوافق الشافعي في أكثر أمور العقيدة، كما يوافقه في ذلك علماء السنة، ولكنه يخالفه في بعض مسائل الاعتقاد التي خالفه فيها
أبو الحسن الأشعري.
__________
(1) ... أي ذات تعاليق.
(2) ... مسند أحمد (5/218).
(3) ... سنن الترمذي، رقم 2180، كتاب الفتن (2/475).(11/54)
فالذي سطر هذه العبارة وأمثالها تصور أن العقيدة محصورة بمسائل الخلاف التي دارت بين العلماء، فأصبح حكمه على الناس منطلقاً من حجم الموافقة والمخالفة في هذه المسائل مع علماء السنة، ولو تأمل وتدبر لكان التعبير الصحيح أن يقول عن المترجم له: إنه شافعي المذهب ولكنه خالف الإمام الشافعي في بعض مسائل الاعتقاد وأخذ فيها بقول أبي الحسن الأشعري رحمهم الله جميعاً.
ومن مساوئ هذا التعبير أنه يوحي للقارئ بأن علماء السنة المتبوعين في مسائل الفقه لا علاقة لهم علميّاً بأمور العقيدة، وأن هذه الأمور من تخصص علماء آخرين، والحقيقة أن أولئك العلماء المتبوعين قد أعطوا أمور الإيمان ما يكفيها من الاهتمام، ولكن نظراً لأنهم لم يُعرفوا بمخالفة معينة في هذا الباب ولم يشتهروا كلهم بالرد على المخالفين وإنما اشتهر بذلك بعضهم فإن الأضواء قد سُلِّطت على الذين عُرفوا ببحث قضايا الخلاف في العقيدة، وأصبحت موافقة السلف في كل أمور الاعتقاد تنسب إلى العلماء الذين دافعوا عن مذهب السلف في أمور الخلاف.
وكذلك قولهم عن الذين قد أخطؤوا في بعض أمور العقيدة إنهم خرافيون، مع أن إطلاق هذا اللفظ على هذا المعنى خطأ لأن الخرافة معناها: الحديث المستملح من الكذب كما ذكر صاحب اللسان، وعلى فرض صحة هذا الإطلاق فإنه حكم على هؤلاء المسلمين وإن كانوا من أهل العلم بأن جميع معتقداتهم من نوع الخرافة.
فهل كان إيمانهم بأركان الإسلام والإيمان خرافة؟!
وهل تطبيقهم أحكام الإسلام من الصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها خرافة؟!
إن الذين يتهمون المسلمين بذلك لا يقولون بهذا ولكن الذي حملهم على ذلك هو المنهج الذي نشؤوا عليه والذي يتسم بالغلو في الحكم على المخالفين.(11/55)
وبهذا البيان يظهر لنا أن الذين يقولون: $العقيدة أوَّلاً# ويفرقون بين فرائض الإسلام وواجباته من حيث الأهمية والأولوية لم يفهموا شمول العقيدة لجميع أمور الدين، ولو فهموا ذلك لعلموا أن قولهم العقيدة أوَّلاً هو بمعنى أن يقال: الإسلام أوَّلاً، وإنما حملهم على هذا القول أنهم خصوا العقيدة ببعض مضامينها فركزوا اهتمامهم على هذه الجوانب التي جعلوها هي العقيدة بكل مدلولاتها، وبدؤوا يحكمون على أقوال الناس وأعمالهم من خلال هذا المفهوم القاصر.
ومن السلبيات التي ترتبت على هذا المفهوم القاصر الاتجاه نحو الغلو في التركيز على موضوعات العقيدة الاصطلاحية والاستهانة بعلوم الدين الأخرى،
ومن ذلك أن بعض المسؤولين عن الدعوة في بعض البلاد يبدون اهتماماً بالغاً بتدريس العقيدة ولا يهتمون بتدريس مادة الفقه ، ويقولون : نحنن لسنا بحاجة إلى دروس الفقه ، نحن نحتاج إلى دروس العقيدة فقط .
وهذا القول قول جاهل بأمور الدين ، وفيه إزراء بعلماء
الصحابة ن وعلماء القرون المفضلة ومن بعدهم ، الذين عمروا المساجد بدروس الحلال والحرام ، وإزراء بأئمة الفقه الذين دونوا الكتب النافعة في هذا العلم ، كما أنه جهل بواقع الأمة التي لا تزال حاجتها تتجدد إلى الفقهاء الذين يفتون الناس ويبينون لهم الحلال والحرام .
ولعل قائل هذه المقالة من الذين قصر نظرهم وغَلَوا في بعض العلم فأصبحوا لا يرون كتب الفقه ولا الفقهاء شيئاً ينبغي الاهتمام به، وأن الأولى في نظرهم أن يستفيد الناس مباشرة من الكتاب والسنة، وهذا موضوع تطول مناقشته فله مكان آخر.(11/56)
ومع أهمية علم الفقه بحدِّ ذاته وكونه من العلوم التي أمرنا الله عز وجل بمعرفتها وبيانها فإن الفهم الواسع لشمول العقيدة يقتضي أن كل من بين أمراً من أمور الدين فإن له نصيباً من خدمة العقيدة، لكون أحكام الدين ترتكز أساساً على الإيمان، ولكن انحصار فكر هذا المعترض حول قضايا محددة من العقيدة جعله يرى أن تلك القضايا هي الدين الذي يجب بيانه والاشتغال به.
ويشبه موقف هذا الأخ موقف أخ آخر، فقد كنت يوماً ألقي محاضرة بعنوان $الاعتصام بالسنة# وبينت فيها قول رسول الله ج: $عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين...# الحديث، ومع أن هذا الموضوع من صميم العقيدة فإن أحد طلاب العلم بعد الانتهاء من المحاضرة قال لي: لماذا لا تهتمون بإلقاء محاضرات في العقيدة؟ فقلت له: وهذه المحاضرة أليست في العقيدة؟ فأجاب بأن المطلوب هو الرد على المخالفين وخاصة أصحاب الطرق الصوفية، فهذا وأمثاله قد وقع في تصورهم أن العقيدة محصورة في الأمور الخلافية.
ولقد تزامَنَ الاهتمام بمسائل الخلاف في العقيدة مع الاهتمام بعلم الجرح والتعديل من علوم الحديث، فأصبح التوجه قائماً نحو هذين الفرعين من العلم، ومع أن علم الجرح والتعديل من شأن العلماء الكبار الذين بلغوا مستوى عالياً من الإحاطة بالسنة النبوية ودراستها فإن بعض الموجهين من الدعاة يوجهون طلاب العلم الصغار نحو هذا العلم فيخبطون فيه خبط عشواء ويقعون في أعراض علماء كبار لو أفنى هؤلاء المتخبطون أعمارهم في البحث لم يصلوا إلا إلى القليل مما وصل إليه أولئك العلماء.(11/57)
ولقد أصبح الذي يُعدُّ – في نظر هؤلاء – عالماً في الحديث ويحوز على إعجابهم وثنائهم هو الذي يحفظ مجموعة من أسماء رجال الحديث ويحفظ الحكم عليهم، ولو لم يحفظ شيئاً من متون الأحاديث، بينما الذي يحفظ ألوف الأحاديث ولا يتكلم في الرجال لا يعدُّ من أهل العلم بالسنة عند هؤلاء، وهذا مقبول لو أن دراسة السنة تتم حسب المعهود عند السلف، حيث كان طلاب العلم يبدؤون بحفظ المتون والأسانيد، حتى إذا استوعبوا أكبر قدر ممكن من حفظ السنة ترقَّوا إلى بحث الأسانيد والكلام على الرجال، لا على أن ذلك غاية في نفسه ولكن على أنه وسيلة للحكم على الأحاديث بعد استكمال الشروط التي تؤهل المحدث للحكم على الأحاديث.
ومن أمثلة التأثر بهذا التوجه نحو علم الجرح والتعديل من أول مراحل العلم أن بعض أهل هذا العلم يحفظ أسماء رجال صحيح البخاري مع أن ذلك لا يفيد شيئاً في مجال الحكم على الأحاديث، لأن هذا الكتاب قد جاوز القنطرة وليست أحاديثه بحاجة إلى أن يحكم عليها، وهذا يعني أن الذي توجه هذا التوجه قد نظر إلى علم الرجال على أنه مقصد لذاته، لا على أنه وسيلة للحكم على الأحاديث، وعلى هذا فإنه قد أضاع طاقة كبيرة من فكره وحافظته بغير عائدة تذكر في خدمة السنة النبوية، وتجد طلاب العلم يحضرون عنده من أجل أن يعرفوا تكملة أسماء رجال البخاري، ويحصل من طلاب العلم على ثناء كبير لمقدرته في الحفظ في هذا المجال، وذلك يشجع الطلاب على أن ينتهجوا نهجه، ولو قام أحدهم ليتحدث في أي مجال من مجالات السنة فإنه لن يصنع شيئاً لأن حفظه لأسماء الرجال لن يسعفه في هذا المجال، بينما لو كان التوجه لحفظ متون السنة التي حازت درجة القبول لكان لدى طلاب العلم ثروة كبيرة في موضوعات كثيرة.(11/58)
ويحضرني في هذه المناسبة خبر الحافظ أبي العباس أحمد بن عقدة الكوفي رحمه الله تعالى الذي أخرجه الحافظ الخطيب البغدادي من خبر أبي الحسن محمد بن عمر العلوي قال: كانت الرئاسة بالكوفة في بني الفدان قبلنا، ثم فشت رئاسة بني عبيدالله، فعزم أبي على قتالهم وجمع الجموع، فدخل إليه أبو العباس ابن عقدة وقد جمع جزءاً فيه ست وثلاثون ورقة فيها حديث كثير لا أحفظ قدره في صلة الرحم عن النبي ج وعن أهل البيت وعن أصحاب الحديث، فاستعظم أبي ذلك واستنكره، فقال له: يا أبا العباس بلغني من حفظك للحديث ما استنكرته فكم تحفظ؟ فقال له: أنا أحفظ منسَّقا من الحديث بالأسانيد والمتون خمسين ومائتي ألف حديث، وأذاكر بالأسانيد وبعض المتون والمراسيل والمقاطيع ستمائة ألف حديث(1).
وهكذا استطاع هذا العالم الحافظ أن يُحضر في تلك المناسبة عدداً كثيراً من الأحاديث في موضوع واحد، ولو أنه اقتصر على حفظ أسماء الرجال والحكم عليهم لم يكن قادراً على ذلك ولم يكن له أثر في إصلاح المجتمع.
وإننا حينما ننظر في أوجه التشابه بين موضوع مسائل الخلاف في العقيدة وموضوع علم الجرح والتعديل نجد أن المتوجه نحو
أي من هذين الفرعين يشعر في نفسه من بداية الطريق بأنه سيتأهل للحكم على الناس وسيكون مخوَّلاً بإصدار أحكام بالتضليل والتبديع بالنسبة لأمور الخلاف العقدي، وإصدار أحكام بالترك والتضعيف بالنسبة لعلم الجرح والتعديل، حتى لو كان مَن نُصِبَ للمحاكمة عالماً كبيراً له وزنه في الأوساط العلمية على مر العصور.
ونظراً لهذا الاهتمام الموجَّه فقد طغى الاهتمام بمسائل الخلاف في العقيدة على بقية مسائل العقيدة وعلى علوم الدين الأخرى، وطغى الاهتمام بعلم الجرح والتعديل والحكم على الأحاديث على بقية علوم الحديث.
__________
(1) ... تاريخ بغداد (5/17).(11/59)
وأذكر أنني ألقيت محاضرة في موضوع من موضوعات الكتاب والسنة فانبرى لي شاب بعد المحاضرة فقال بحماسة واندفاع: نريد معرفة الحكم على الأحاديث والرجال، وكأن لسان حاله يقول إن الاشتغال بالتفسير وشروح السنة لا قيمة له لأن ذلك لا يغذي ما في نفسه من الشوق إلى النقد وإصدار الأحكام على الآخرين، ولم يكن في ميسوري أن أبين له أنه غير مؤهل لهذا المقصد العالي وأنه مازال صغيراً جداً عن ولوج هذا الباب لأنه من مَهامِّ كبار العلماء..لم يكن من السهل إقناعه بذلك لأنه قد وقر في ذهنه بتوجيه الموجهين ومنافسة بعض الزملاء أن العلم الذي يستحق أن يُدرس وأن يبذل فيه الوقت هو علم الجرح والتعديل والحكم على الأحاديث.
- - - - -
وضوح العقيدة
إن أمور العقيدة في الكتاب والسنة واضحة لا تحتاج إلى اجتهاد ولا إلى إعمال فكر، والصحابة ن جميعاً يفهمون الأمور الاعتقادية بدرجة تكاد تكون متساوية، ولذلك لم يحصل بينهم خلاف يُذكر في أمور العقيدة، بينما اختلفوا في بعض مسائل الفرائض والحلال والحرام وغير ذلك.
وكان فيهم من يتميز في معرفة هذه العلوم على غيره، كما جاء في قول رسول الله ج: $أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله تعالى أُبيّ بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح# أخرجه الترمذي وصححه، والحاكم وصححه وأقره الذهبي(1).
فقد ذكر النبي ج من تميز من الصحابة ن بالقراءة والفرائض والحلال والحرام، ولم يذكر من تميز منهم في العقيدة لأن أمور العقيدة يجب أن تكون معلومة لدى الجميع، حيث إن أعمال الإسلام التكليفية ترتكز على العقيدة.
__________
(1) ... سنن الترمذي، رقم 3791 كتاب المناقب (5/665)، المستدرك (3/422).(11/60)
وتفاضل الصحابة ن في العلم لا يعني الأفضلية المطلقة، فمن المتفق عليه بين الصحابة أن أبا بكر الصديق هو أفضلهم، ثم
عمر م، وإن كان بعض الصحابة قد تميزوا عليهما ببعض أنواع العلم الديني كالقراءة والحلال والحرام والفرائض.
وبناء على ذلك فإن أمور العقيدة من الضروري أن تكون واضحة حتى يفهمها جميع المكلفين، وهكذا جاءت في الكتاب والسنة، وفهمها الصحابة ن، ولكن بعض العلماء الذين ألَّفوا في العقيدة نقلوها من الوضوح إلى الإشكال، ومن البساطة إلى التعقيد، وكان من أهم الأسباب في ذلك ما كان من هجوم الأعداء ومَن تتلمذ على أيديهم على العقيدة الإسلامية، وتصدِّي علماء الإسلام للرد عليهم، فدخلت فيها المباحث العقلية، وأصبحت عسيرة الفهم، وزلَّت فيها أقدام وتاهت فيها عقول، وأصبح علماء المسلمين أشدَّ اختلافاً فيها من الأحكام الفقهية، حيث ترتب على اختلافهم في أمور العقيدة ضعف الأخوة الإيمانية وتمزق الجماعة الإسلامية، بينما كانت أمور العقيدة محل اتفاق بين الصحابة ن.
وليس هناك من حلّ لمحو هذا التعقيد وإزالة هذا الإشكال إلا بالرجوع إلى الكتاب والسنة، والاستعانة بفهم الصحابة ن، والتأسي بهم في العمل والتطبيق، والابتعاد عن الكتب التي كثر فيها الجدل، أو التي تكاد تخلو من الكتاب والسنة، والاقتصار في دارسة الكتب التي أُلِّفت في الرد على المخالفين على فئة من العلماء المتخصصين في هذا المجال ممن سبقت لهم دراسة عميقة لمباحث العقيدة في الكتاب والسنة، لأن هذه الكتب وإن كانت من تأليف علماء أهل السنة فقد لا تخلو من مبالغات وشطحات يكون مبعثها شدة تأثر كاتبها من تجاوزات المخالفين، وقد يكون فيها شيء من التناقض والاختلاف، لأنها أساساً تعتمد على اجتهاد هؤلاء العلماء في فهم النصوص وفي فهم مذاهب المخالفين، ولأنها أحياناً تُكتب في أزمان مختلفة، وقد يتغير الفهم، ويتبدل تبعاً له الاجتهاد.
- - - - -
موقف العلماء في هذا العصر(11/61)
تشهد الأمة الإسلامية نشاطاً ملحوظاً في هذا العصر في سبيل الدعوة إلى تأصيل العلوم الإسلامية من الكتاب والسنة، وتلقى دعوتهم قبولاً كبيراً لدى المهتمين بتصحيح أوضاع المسلمين، والعناية بمستقبل الدعوة الإسلامية.
وهذه الدعوة تشمل تصحيح المفاهيم السائدة سواء في مجال أصول الدين أو فروعه.
وإن محاولة التصحيح هذه يلزم لها توافر الأمور التالية:
1- القيام بدراسة واسعة للكتاب والسنة، وقد تيسرت أمور البحث والاطلاع، وتوافرت المراجع العلمية لدى الباحثين على نطاق واسع، حيث أصبح بالإمكان جمع السنة النبوية وتمييز المقبول منها من المردود.
2- القيام بدراسة حياة الصحابة العلمية لمعرفة فهمهم للنصوص وبيان منهجهم وتحديد مذهبهم، لأنهم هم الذين أمرنا النبي ج بالاقتداء بهم.
3- القيام بدراسة لكتب العلماء، والاستفادة من استنتاجاتهم العلمية مع ملاحظة تقييد ذلك بموافقة الكتاب والسنة وفهم الصحابة ن.
وبالنسبة لكتب العقيدة فإنها تحتاج إلى تنقية مما داخلها من إنتاج الفكر البشري المحدود البعيد عن الاهتداء بالوحي الإلهي.
ومما يلاحظ أن كتب السلف في هذا المجال قد حفلت بالردود الكثيرة على المخالفين، وخاصة فيما يتعلق بأسماء الله تعالى وصفاته، نظراً لحجم المشكلة الفكرية التي أثارها المعتزلة والجهمية وغيرهم من الطوائف المنحرفة، فلما اطلع العلماء في هذا العصر على هذه المكتبة الزاخرة خلد في أذهان بعضهم أن هذه المباحث هي مفهوم السلف عن العقيدة فركزوا اهتمامهم على هذه المباحث التي أشبعها العلماء السابقون بحثاً، واقتبسوا منها مناهج للدراسة، وقصَّروا في بحث جوانب مهمة من العقيدة لم يركز عليها الأقدمون مثل بيان معنى كلمة التوحيد الشامل، ونواقض الإيمان، ومفهوم العبادة الواسع، والحكم بما أنزل الله.(11/62)
والمنهج القويم في مجال التصحيح أن ينظر العالم المصلح إلى الجوانب التي طغت فيها أمور الجاهلية في عصره على معالم الإسلام فيحاول إبرازها ويركز عليها من ناحية كشف عوارها، ومن ناحية تقديم البديل الصالح، من تجلية منهج الإسلام وتوجيهاته السامية في هذا المجال.
وإن التركيز على بيان المخالفات المعاصرة لصاحب الدعوة هو المنهج السليم والمجدي في القيام بعملية الإصلاح وإعادة المسلمين إلى تطبيق الكتاب والسنة.
ولقد كان الشيخ المجدد الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله - على سبيل المثال - موفقاً وبارعاً حينما ركز في مدى سنوات طويلة على محاربة أنواع الجاهلية المعاصرة له وتصحيح مفاهيم المسلمين عن الإسلام فيما يتعلق بأنواع المخالفات السائدة في عصره، وكانت أجوبته على الأسئلة التي توجه إليه تتسم بدراسة عميقة لواقع عصره، وتركز على تحديد أنواع الانحرافات والمحاولة الجادة في علاجها، حتى إنه لما سئل من أهل بلدة يعظمون السادة من دون الله تعالى عن معنى كلمة التوحيد أجابهم بأن معناها: لا سيد إلا الله، مع أنه يعلم أن معناها أعم وأشمل من ذلك، ولكن ركز في جوابه على محاربة المخالفات السائدة في ذلك البلد.
ولو أن عالماً سئل عن معنى كلمة التوحيد من أهل بلد
لا يرون أن في الحكم بغير ما أنزل الله إخلالاً بأصل التوحيد
أو يتهاونون بإنكار هذا المنكر الكبير.. لو أنه سئل عن ذلك فأجاب
بأن معنى كلمة التوحيد: لا حاكم إلا الله تعالى، لكان جوابه
مسدداً ولكان موفقاً في معالجة الانحرافات القائمة في أذهان السائلين، ولكن جوابه هذا سيواجه بالإنكار والاستغراب من عدد ليس
بالقليل من العلماء.(11/63)
إن من أسباب نجاح الشيخ محمد بن عبدالوهاب في دعوته أنه لم يشغل نفسه بترديد تراث الأقدمين الذي دُوِّن في معالجة أنواع من الجاهلية كانت سائدة في عصورهم، ولم يفتح على نفسه جبهات من الجدل العلمي الذي ملئت به بعض الكتب القديمة، بل جعل دعوته تدور في ميدان التطبيق العملي، وركز على النقاط القائمة من الانحرافات في مجتمعه فاستطاع أن يستوعبها بالتركيز المستمر، وبالأساليب المنوعة، واستطاع تلامذته أن يستوعبوها دراسة وتطبيقاً وتبليغاً، وحمى دعوته من الصراعات الفكرية التي لا تنتج في النهاية غالباً إلا اعتصام كل فريق برأيه في أمور لا تمتُّ إلى الواقع الاجتماعي بصلة مؤثرة، والتي قد تكون مورد إشكال ومثار فتنة للعامة ولطلاب العلم من غير المتخصصين في الدراسات الشرعية.
إن من علامات نجاح الداعية المهمة أن يكون مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالواقع الذي يعيش فيه، وأن يكلف نفسه الغوص في غمار المجتمع ليتعرف على ألوان الجاهلية التي تُطوِّق أفراد المجتمع
وتكتسح الرأي العام فتهيمن عليه، ثم يحاول بالحكمة والموعظة الحسنة أن يغير المفاهيم، وأن يصحح الأوضاع الاجتماعية
على ضوء الإسلام.
فالمطلوب من العالم أن يقوم بدراسة كافية لأنماط الجاهلية المعاصرة له ثم يبذل جهده في معالجتها، لأن هذا هو المطلب الشرعي المكلف به من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أما أن يقوم العالم بالتنقيب في بطون الكتب فيردد ما قاله الأقدمون في معالجة أنواع من المخالفات قد لا تكون موجودة في مجتمعه أصلاً، وقد يكون وجودها ضئيلاً لا يؤثر في تغيير المفاهيم الإسلامية فإن هذا العالم يحارب في غير ميدانه، ويضع نفسه في غير موضعه المناسب له، ويترك مخالب الجاهلية تهيمن على مجتمعه وهو يحارب في ميدان آخر لا يفكر به أفراد مجتمعه.(11/64)
وتكون المصيبة أكبر حينما تُوجَّه المناهج الدراسية وجهة علمية مجردة عن مراعاة الواقع الاجتماعي المعاصر، فتكون الدراسة بذلك غير مجدية في تصحيح المفاهيم الخاطئة، ولا يجد الطلاب إقبالاً على دراسة هذه المناهج لأنها لا تعالج الواقع الذي يعيشون فيه، بل يدرسونها ملزمين ليحصلوا على الشهادة ثم لا يكون لها أثر في حياتهم العملية.
- - - - -
... ...(11/65)
- فهرس الموضوعات -
الموضوع ... رقم الصفحة
مقدمة الرسائل........................................................ ... 5
الرسالة الثانية: شمول العقيدة.................................. ... 11
المقدمة.................................................................... ... 13
نشأة العلوم الإسلامية.............................................. ... 15
أصول العقيدة......................................................... ... 25
شمول العقيدة لتكاليف الدين................................... ... 31
الحكم بما أنزل الله من أصول العقيدة.......................... ... 43
- فتوى السيد محمد رشيد رضا.......................... ... 45
- الحكم بالقوانين الإنكليزية في الهند.................. ... 46
المشاركة في الأعمال السياسية.................................... ... 49
التحاكم إلى الطاغوت.............................................. ... 55
المشرعون من دون الله تعالى من أبرز الطواغيت.......... ... 57
مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام.......................... ... 59
أهمية الدعوة إلى الحكم بما أنزل الله........................... ... 69
الجهاد والعقيدة........................................................ ... 85
التركيز على موضوعات الخلاف............................... ... 87
وضوح العقيدة........................................................
. ... 97
موقف العلماء في هذا العصر..................................... ... 101
فهرس الموضوعات.................................................. ... 107
- - - - -(12/1)
الرسالة الثالثة
شمول العبادة
W
سلسلة الرسائل الشمولية
الرسالة الثالثة
...
شمول العبادة
إعداد الدكتور
عبد العزيز بن عبد الله الحميدي
الأستاذ بكلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى
المشرف على الإدارة العامة للدعوة في رابطة العالم الإسلامي
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
1424هـ – 2003م(13/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العلي القدير، السميع البصير، الفعال لما يريد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، سيد الأولين والآخرين وإمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: فهذه رسائل علمية في مجال العقيدة، أقدمها بين يدي إخواني القراء الكرام، لعلها تسهم في شيء من إصلاح المجتمع الإسلامي، وتحقيق الوضع الأمثل له في حاضره ومستقبله.
وإن مما دفعني إلى تأليف هذه الرسائل ما رأيته من واقع بعض المسلمين السيء، حيث تفرقوا شيعاً وأحزاباً، وتنافرت قلوبهم، وتشتت شملهم.
وكان من أهم الأسباب في ذلك ما جرى من الشقاق بين بعض أهل العلم منهم، وإشغال أنفسهم في الردود بعضهم على بعض واتهام بعضهم بعضاً في دينهم.
لقد كان الصحابة ن مُتَّفقِي الكلمة، تجمعهم جماعة واحدة، ويحترم علماؤهم بعضهم بعضاً، ويثني بعضهم على بعض وإن اختلفوا في الاجتهاد في بعض المسائل الشرعية، إلى أن حصل التفرق في المسلمين من بعض التابعين الذين لم يلتزموا بمنهج الصحابة ، فشنوا حملاتهم المغرضة على أمير المؤمنين عثمان ط إلى أن استشهد فتفرق المسلمون من بعده، وقد صاحب تفرقَهم في الآراء تفرق في الدين، ومن أبرز ما حدث آنذاك ظهور الخوارج والرافضة بمختلف طوائفهم، ثم محاولة غزو الإسلام من داخله، وذلك بنشر المذاهب العقدية المنحرفة التي تعتمد على العقل ولا تُحكِّم شريعة الإسلام، وتعتمد على الهوى المنحرف.(14/1)
وفي سبيل مكافحة ذلك الخطر الداهم والغزو الفكري المنظم قام مجموعة من العلماء أصحاب الغيرة والتقوى بالرد على أولئك المنحرفين الضالين عن سبيل الهدى، ولو أن أولئك العلماء جميعاً استقاموا على منهج واحد سليم على مر القرون الإسلامية لنجحوا سريعاً في صد الباطل وجمع كلمة أهل العلم الديني، ومن ورائهم أفراد المسلمين الذين يرون العلماء قادة وموجهين لهم، ولكنهم اختلفوا في بعض تفاصيل المنهج فضعفت كلمتهم وصار بأسهم بينهم أحياناً، وكان ذلك سبباً في استفحال الشر وقوة أهله وامتداد زمن الصراع الفكري بين دعاة الحق ودعاة الباطل.
وهذه الرسائل من مهماتها تقريب وجهات النظر بين المختلفين من أهل العلم والتقوى ليُلقوا أسلحتهم الموجهة إلى نحورهم، وليتفرغوا لأعدائهم الحقيقيين، ولتجتمع من ورائهم الأمة الإسلامية.
ولقد جرت محاولات جادة لجمع علماء المسلمين تحت لواء واحد، خصوصاً في هذا العصر على إثر انتشار الصحوة الدينية وتعدد الجماعات الإسلامية، ولكنْ حال دون النجاح في ذلك اختلاف بعض أهل العلم الذي تولد عنه اختلاف القلوب، وكانت العقبة الكبرى التي تحول دون اجتماعهم هي الخلافات العقدية التي انبنى عليها حكم بعضهم على بعض بالضلال والابتداع، وإذا كان أهل العلم يضلل بعضهم بعضاً ويبدع بعضهم بعضاً فإن اجتماعهم على عمل واحد يكون بعيد المنال، فكان من أهداف هذه الرسائل رفع معالم واضحة لعلماء الأمة كي يلتقوا عليها وإن لم يتفقوا على رأي واحد، تمهيداً لجمعهم تحت رابطة واحدة ولواء واحد.(14/2)
ومن مقاصد هذه الرسائل أنها تعالج أنواعاً من القصور في فهم بعض أمور الدين، وهذا القصور ناتج من عوامل متعددة، منها الميل من بعض الدعاة إلى التميز عن سائر المسلمين، وعدم مراعاة المحافظة على جماعة المسلمين العامة، وعدم الاهتمام الكافي بجمع كلمة المسلمين، وعدم وجود الفزع والإشفاق من تفرقهم وضعف قوتهم، كما أن من أسباب ذلك تركيز الأفكار على قضايا محدودة من الدين وضعف الاهتمام بقضايا الدين الأخرى.
كما أن من محتويات هذه الرسائل محاولة صد هجوم مكثف
من أعداء الإسلام بقصد تذويب المسلمين ودمجهم في أصحاب الديانات الأخرى.
وهذا تعريف موجز بهذه الرسائل :
الأولى: (شمول الاجتهاد في الدين)، وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن الاجتهاد في الدين يشمل العقائد كما يشمل الأحكام الفقهية، اقتداء بالصحابة رضي الله عنهم، واسترشاداً بأقوال العلماء الربانيين المحققين، وتلمساً للسبل التي تخلص الأمة الإسلامية من الشقاق والنزاع والعداوة والبغضاء.
الثانية: (شمول العقيدة) وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن العقيدة تشمل كل عمل يتعلق باعتقاد القلب وإن كان ظاهره ليس من أمور العقيدة، ومن أبرز ذلك تحكيم الإسلام في جميع شئون الحياة ورفض الحكم بغير ما أنزل الله تعالى.
الثالثة: (شمول العبادة) وهذه الرسالة تهدف إلى بيان
أن العبادة تطلق على كل عمل مشروع أريد به وجه الله
تعالى، مع بيان الإيجابيات لهذا الفهم الشامل والسلبيات
للفهم القاصر.
الرابعة: (شمول معالم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة)،
وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن صفات الفرقة الناجية والطائفة المنصورة تجمع بين العلم النافع والعمل الصالح، وما يترتب على ذلك من النتائج البناءة في قيام جماعة المسلمين وحمايتها
من التصدع والانهيار.(14/3)
الخامسة: (شمول السلفية)، وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن السلفية لا تختص بالعقائد، بل تشمل كل ما جاء به الدين من العلم النافع والعمل الصالح، ولذلك فهي تشمل قطاعاً كبيراً من المسلمين ولا تختص بطائفة معينة، مع بيان السلبيات المترتبة على حصر السلفية في طائفة محدودة، أو في جانب معين من الدين.
السادسة: (شمول الإسلام للرسالات السماوية)، وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن أصل الدين الذي هو التوحيد شامل لكل الرسالات السماوية، وأن الإسلام العام يطلق على كل هذه الرسالات، وفي هذا رد على فرية التقريب بين الأديان السماوية.
وقد سمَّيتُ هذه الرسائل (الرسائل الشمولية) لأنها كلها تشتمل على تصحيح بعض المفاهيم القاصرة، وتدعو إلى شمولية الفهم لمحتويات هذه الرسائل.
هذا وقد كنت كتبت هذه الرسائل ما بين عامي أربعة وأربعمائة وألف وأربعة عشر وأربعمائة وألف، وذلك حينما كنت أدرِّس مادة العقيدة في المعهد العالي لإعداد الأئمة والدعاة التابع لرابطة العالم الإسلامي، وقد درَّست أغلب مادة هذه الرسائل لطلاب ذلك المعهد، كما نقلها عدد منهم إلى البلاد التي ذهبوا للعمل فيها ودرَّسوها لطلابهم كما أفادوني بذلك، ولقد كان بعض الطلاب يلحون عليَّ كثيراً في طباعة هذه الرسائل، ولكني تأخرت في ذلك أولاً لانشغالي بإعداد كتاب (التاريخ الإسلامي/ مواقف وعبر) الذي بلغ عشرة مجلدات، وثانياً لأنني كنت أحاول أن أجد الوقت لإعادة النظر فيها وتنقيحها.
والآن فإنني أقدمها للأمة الإسلامية محاولاً بذلك الإسهام في الإصلاح ما استطعت، وقد بذلت جهدي في إعدادها، والتزمت أن لا أستشهد بحديث إلا إذا كان مقبولاً عند أهل الحديث، فإن يكن فيها صواب فمن توفيق الله تعالى، وإن يكن فيها خطأ فمن نفسي القاصرة.
وأسأل الله تعالى التوفيق والسداد لي ولجميع إخواني المسلمين.(14/4)
الرسائل الشمولية ( 3 ) ...
الرسالة الثالثة
شمول العبادة(15/1)
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
وبعد: فإن موضوع شمول العبادة لجميع أمور الدين من القضايا التي تحتاج إلى بيان وقد بينها الله سبحانه وتعالى بقوله ? - الله ? الله ? ? - صدق الله العظيم ? - ? الله أكبر الله - الله الله ?- جل جلاله - - - ? - - ? } ? - - تمهيد ? - - الله ? - بسم الله الرحمن الرحيم - درهم تمهيد - - - جل جلاله -?? - - - - الله أكبر صدق الله العظيم ? الله - - جل جلاله -? } - تمهيد { } [الذاريات:56] فإن هذه الآية تبين أن الهدف والغاية من خلق الجن والإنس أن يقوموا بعبادة الله تعالى وحده، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يلزم عليه أن تكون العبادة شاملة للدين كله، لأن تفسير العبادة ببعض تكاليف هذا الدين يجعل الغاية من خلق الثقلين منوطة بها دون التكاليف الأخرى، وقد يترتب على هذا الخطأ في الفهم تعطيل بعض أمور الدين.
فمن أجل إزالة هذا الخطأ في الفهم ومن أجل بسط مدلول الآية حاولت في هذا البحث الموجز أن أشارك في توضيح المعنى الشامل للعبادة وإزالة الشبهة الناتجة من حصر معنى العبادة في مفاهيم محددة.
ولقد حدث التقصير في مفهوم العبادة منذ عهد التابعين كما سيتبين لنا، ولكن العلماء الربانيين كانوا يقاومون ذلك بمناهجهم العلمية التربوية التي كانوا يشرحون بها الإسلام كاملاً كما جاء من عند الله تعالى، ويقومون هم وتلاميذهم ومن تأسى بهم بتطبيق الإسلام في حياتهم ابتداء بالصلاة التي هي عمود الإسلام وانتهاء بالجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة سنام الإسلام.(16/1)
ولكن مع تطاول الزمن وتقلص وجود العلماء الربانيين سادت في المجتمع الإسلامي مفاهيم غريبة عنه تقصر الإسلام على بعض تكاليفه وتشريعاته، وتَوارَث المسلمون هذا القصور في الفهم على الرغم من وجود علماء ورثوا المنهج الصحيح ودعوا الناس إليه، ولكن لم يكن وجودهم بالدرجة التي تكفي لصد تيارات المناهج المنحرفة التي يتولى شرحها وتطبيقها علماء آخرون.
ولقد ورث أبناء الجيل المعاصر هذه المناهج المنحرفة فأصبح شباب الصحوة الإسلامية يجدون عنتاً شديداً في شرح بعض مفاهيم الإسلام التي غابت عن بعض المسلمين ويُواجَهون بانتقادات عنيفة ممن يعيشون معهم من أسرهم والمحيطين بهم من الذين يفهمون الدين فهماً قاصراً.
وهذا الفهم القاصر من الأسباب التي أدت إلى الأخذ بنوع من العلمانية وذلك بفهم الإسلام على أنه نسك وعبادة فقط لا على أنه شامل لنظام الحياة.
... ... - - - - -
معنى العبادة
العبادة في اللغة: التذلل والخضوع، يقال: طريق معبَّد أي مذلل ميسر، وتطلق على الطاعة المشتملة على الخضوع(1).
والعبادة في الشرع تعبير عن التوجه نحو الله جل وعلا بتنفيذ شرعه مع كمال الذل والخضوع والطاعة والمحبة.
ومن أجمع تعاريف العبادة ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: (العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة، والصيام والحج، وصدق الحديث وأداء الأمانة، وبر الوالدين وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة).
قال: (وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له، والشكر لنعمه والرضا بقضائه، والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة).
__________
(1) لسان العرب، مادة عبد.(16/2)
قال: (وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له والمرضية له، التي خلق الخلق لها)، كما قال تعالى { - الله ? الله ? ? - صدق الله العظيم ? - ? الله أكبر الله - الله الله ?- جل جلاله - - - ? - - ? } ? - - تمهيد ? - - الله ?
- بسم الله الرحمن الرحيم - درهم تمهيد - - - جل جلاله -?? - - - - الله أكبر صدق الله العظيم ? الله - - جل جلاله -? } - تمهيد { } [الذاريات:56] (1).
ويشترط شيخ الإسلام لكون العبادة معتدّاً بها أن تتضمن غاية الذل لله تعالى مع غاية المحبة(2).
هذا من أهم الفوارق بين عبادة العباد لربهم جل وعلا وعبادة
العبيد للطغاة من البشر أو للشيطان، فإن طاعة البشر بعضهم لبعض
أو طاعتهم للشيطان مع الخضوع لمن أطاعوه تعدّ عبادة لاشتمالها على الطاعة مع الخضوع وإن لم تشتمل على المحبة كما جاء في قول الله تعالى حكاية عن موسى عليه الصلاة و السلام وهو يخاطب فرعون { ?? - ?- جل جلاله - الله أكبر - الله ? تمت ? الله ? صدق الله العظيم ?- جل جلاله -? - الله ? بسم الله الرحمن الرحيم الله أكبر ? الله أكبر - ? الله الله أكبر - - ?? - ? الله ? ?? - - - - ? - - الله الله - الله أكبر الله ? ??- جل جلاله -? الله الله أكبر - الله ??- جل جلاله -? - - الله - { الله أكبر ? تمهيد - - } - - { } [الشعراء:22] يعني هل تمن عليَّ أن عشتُ في بيتك سنين من عمري منذ كنت وليداً وأنت الذي اتخذت بني إسرائيل عبيداً لك؟
__________
(1) مجموع الفتاوى (10/149-150).
(2) المرجع السابق (10/153).(16/3)
وكما جاء في قوله تعالى حكاية عن فرعون وقومه { المحتويات - - ? الله أكبر ? - الله ? الله الله أكبر ? - ?- جل جلاله -? صدق الله العظيم ? - الله أكبر ? - - - - ? صدق الله العظيم الله أكبر ? الله - الله ? الله - - جل جلاله -? - الله الله أكبر ?- جل جلاله -? { الله أكبر الله أكبر - - جل جلاله -? - الله ? - ? - ??? الله أكبر الله الله أكبر ? الله ? - الله الله أكبر ? - ? الله ?? - - - جل جلاله - - - الله أكبر الله أكبر الله ? } - - { } [المؤمنون:47] يعني خاضعون مطيعون قال الإمام الطبري: يعنون أنهم لهم مطيعون متذللون يأتمرون بأمرهم ويدينون لهم، والعرب تسمي كل من دان لملك عابداً له(1).
وكما في قوله تعالى ( ( بسم الله الرحمن الرحيم - - - صلى الله عليه وسلم - - ( - - رضي الله عنهم - - ((- صلى الله عليه وسلم - - ( المحتويات ( - ( - - - ( { ((( - - رضي الله عنه - تمهيد (- رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم - رضي الله عنهم - - - - عليه السلام -( - - صلى الله عليه وسلم - - - صدق الله العظيم } - - صلى الله عليه وسلم -( - ( - (( - - - صدق الله العظيم ( - (( - } ( - - - } (( مقدمة ( الله أكبر ( { ( المحتويات ( - - - - - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه -( (((( - - تم بحمد الله ([يس:60] وقوله عن إبراهيم
__________
(1) تفسير الطبري/ المؤمنون آية 47.(16/4)
عليه السلام { - - الله الله أكبر - - - - - - الله أكبر الله أكبر الله الله أكبر ? - الله درهم - جل جلاله - - - - الله أكبر صدق الله العظيم ? الله الله أكبر - الله - ? الله أكبر ? - الله أكبر ? صدق الله العظيم - - ? الله أكبر ?? - - الله الله ? تمهيد - - الله ? الله أكبر ? - الله أكبر ? صدق الله العظيم - - ? الله أكبر ?? - - الله ? - - ? - ? - الله أكبر الله ? صدق الله العظيم - الله الله - ?- جل جلاله -? - - الله الله أكبر - - جل جلاله -? الله ? } - - { } [مريم:44] ومعلوم أن الإنسان لا يحب الشيطان وإنما
يطيعه ويخضع له.
...
- - - - -
أنواع العبادة
والعبادة على هذا أنواع:
النوع الأول: أعمال القلوب، وذلك كالتوكل والرجاء والخوف والإنابة والصبر، وقد تترتب عليها أعمال الجوارح، وقد تكون جامعة بين الأمرين كالدعاء والاستغاثة والذبح.
ومما جاء في هذا المعنى قول رسول الله ج $حُسن الظن من حسن العبادة# أخرجه الإمام أحمد وأبو داود بإسناد حسن(1) .
__________
(1) مسند أحمد (2/297) سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب 35 رقم 4993.(16/5)
وقوله ج $الدعاء هو العبادة ثم قرأ { الله ? - الله الله أكبر ? الله ? - ? - - الله - الله أكبر - الله } ??- جل جلاله - الله أكبر ?? - ? صدق الله العظيم - - - { درهم - جل جلاله - - الله الله أكبر - صدق الله العظيم ? - - - { - - رضي الله عنهم - الله أكبر ? - ? الله الله ? تمهيد - - - ? الله أكبر ?- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - الله ?? - } - جل جلاله - } - ? الله - { الله أكبر { الله الله أكبر ? ?? الله ? ?- جل جلاله - الله أكبر - الله - - الله - - جل جلاله -? الله ?? - الله أكبر ? - - صدق الله العظيم - الله - الله ? الله ? بسم الله الرحمن الرحيم - ? الله ? الله - الله ?? - - - جل جلاله - - - الله - } تمهيد - { } [غافر:60] # أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن صحيح(1) .
وقوله ج $وأفضل العبادة انتظار الفرج# أخرجه الإمام الترمذي(2) .
النوع الثاني: الشعائر التعبدية، وهي إما عبادات بدنية كالصلاة والصيام، أو مالية كالزكاة، أو بدنية مالية كالحج.
وقد شُرعت لحِكَم جليلة، منها إقامة ذكر الله تعالى، وتزكية النفوس، ورفع الدرجات، وتقوية الإيمان.
وقد اصطلح العلماء على تسميتها عبادات، لا لأن العبادات منحصرة فيها، وإنما لأن الأصل فيها أنها من أعمال الآخرة ولا تخرج عن ذلك إلا إذا أريد بها الدنيا.
النوع الثالث: كل ما ترتب الثواب على فعله أو تركه من الأعمال الأخرى، وذلك في فعل الواجبات و المستحبات و المباحات مع نية التقرب إلى الله تعالى، واجتناب المحرمات والمكروهات.
__________
(1) مسند أحمد (4/267،271،226)سنن الترمذي كتاب التفسير، سورة البقرة، رقم (4049) سنن ابن ماجه كتاب الدعاء، الباب الأول، رقم 3828
(2) سنن الترمذي، رقم 3571، الدعوات (5/565).(16/6)
وقد جاء في الأحاديث النبوية إطلاق لفظ العبادة على ذلك، مثل قول رسول الله ج: $يا أبا هريرة كن ورعاً تكن أعبد الناس# أخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة ط، وقال البوصيري: إسناده حسن(1).
والورع هو ترك المحرمات والمكروهات والمشتبهات، وقد فضَّل رسول الله ج الورع على نوافل الشعائر التعبدية كما جاء في حديث أخرجه أبو عيسى الترمذي من حديث جابر بن عبدالله م قال: ذُكر رجل عند النبي ج بعبادة واجتهاد، وذُكر عنده آخر بِرِعَة(2)، فقال النبي ج: $لا تعدِل بالرِّعة# وحسنه الترمذي(3) .
ومما جاء فيه إطلاق لفظ العبادة على اجتناب المحرمات قول رسول الله ج: $ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة أولَ مرة ثم يغضُّ بصره إلا أحدث الله له عبادة يجد حلاوتها# أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي أمامة ط(4).
وجاء إطلاق العبادة على الدين كله كما جاء في قول رسول
الله ج: $قال الله عز وجل : أَحَب ما تعبَّدني به عبدي إليَّ النصح لي# أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي أمامة ط(5).
فالمسلم لا يكون ناصحاً لله تعالى حتى يطبق جميع ما أمره الله جل وعلا به ويجتنب جميع ما نهاه عنه.
وهذا من العبادات القلبية التي يترتب عليها عبادات بدنية من فعل مأمور وترك محظور.
ومن الأدلة على شمول العبادة لأمور الدين كلها قول الله تعالى
__________
(1) سنن ابن ماجه، رقم 4217، كتاب الزهد، باب 24 (2/1410).
(2) الرعة مصدر ورع بكسر الراء.
(3) سنن الترمذي، رقم 2519، كتاب صفة القيامة، باب 60 (4/669).
(4) مسند أحمد (5/264).
(5) مسند أحمد (5/254).(16/7)
{ - الله ? الله ? ? - صدق الله العظيم ? - ? الله أكبر الله - الله الله ?- جل جلاله - - - ? - - ? } ? - - تمهيد ? - - الله ? - بسم الله الرحمن الرحيم - درهم تمهيد - - - جل جلاله -?? - - - - الله أكبر صدق الله العظيم ? الله - - جل جلاله -? } - تمهيد { } [ الذاريات:56 ] حيث تبين هذه الآية أن الغاية من خلق الجن والإنس أن يستسلموا لله جل وعلا استسلاماً كاملاً عن قناعة ومحبة، وأن يُخضعوا جميع تصرفاتهم في هذه الحياة الدنيا لأوامره ونواهيه، وهذا هو المعنى الشامل للعبادة الذي يدور حوله الكلام في هذه الرسالة.
وبمعرفة شمول العبادة لجميع أمور الدين فلا حجة لمن احتج بهذه الآية على الاقتصار على أداء الشعائر التعبدية وترْك العمل بتكاليف الإسلام الأخرى كالجهاد في سبيل الله تعالى، وإقامة الدولة الإسلامية، وإصلاح المجتمع وعمران الأرض بما يكفل قوة المسلمين وعلوهم وقيام دولتهم القوية، فإن هذه الأعمال كلها من عبادة الله تعالى التي أمر بها وخلق الثقلين من أجلها.
وليس المقصود من الآية أن يتوجه العباد إلى الله تعالى
بالشعائر التعبدية التي شرعها لهم، ثم يسيروا بعد ذلك على مقتضى ما تمليه عليهم أهواؤهم وأهواء بشر مخلوقين مثلهم، فإن جميع
أوامر الدين ونواهيه تمنع الاتجاه نحو فهم تكاليف الدين بهذا
المفهوم القاصر.
وإذا علمنا أن الله سبحانه جعل الغاية من خلق الثقلين هي عبادته وحده تبين لنا شمول العبادة لجميع تكاليف الإسلام.(16/8)
ومن الأدلة الظاهرة على شمول العبادة قول الله تعالى { الله - الله ? الله ? - ? - - - - الله ??- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - المحتويات - ? - ? الله ? - - ? صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - الله أكبر ??- جل جلاله -? المحتويات - ? - الله أكبر ?- جل جلاله -? الله ? الله ? - جل جلاله - - - الله أكبر الله - - جل جلاله -? - الله أكبر - ??? - - صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - - ? بسم الله الرحمن الرحيم - ? الله ?- جل جلاله -? صدق الله العظيم - الله الله أكبر - صدق الله العظيم { الله - - ? ? - ? صدق الله العظيم } - - - - ? - - - الله ? الله } ?? - ? صدق الله العظيم - الله الله أكبر - صدق الله العظيم ? - - - ? الله أكبر ?- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - ?- جل جلاله -? ?? - ?- جل جلاله -? صدق الله العظيم - - ? الله الله ? الله الله أكبر ? بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله -? الله ? - - - ? الله ? ?? - ? - ? - ? - ? الله ??- جل جلاله - - ?- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - - عليه السلام -? الله ? الله الله أكبر - صدق الله العظيم } - - ?? - ? - ? ? - ? بسم الله الرحمن الرحيم - ? - ? بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله - - الله - - - - ? الله ? - ?- جل جلاله - الله ? - جل جلاله - - صدق الله العظيم ? الله الله أكبر - ?? - ?- جل جلاله -? صدق الله العظيم ? الله - - - - الله أكبر ? صدق الله العظيم ? - - - ?- جل جلاله -? الله ?? - - - - صدق الله العظيم ? الله الله أكبر ? - الله درهم الله ?? الله أكبر ? - - { ? - الله أكبر ? ?- جل جلاله - - - - - - الله أكبر الله أكبر صدق الله العظيم - الله ? ? الله ? الله ? الله - الله ? الله } الله - صدق الله العظيم ? الله الله أكبر - ??- جل جلاله -? - - - ?? الله أكبر تمهيد - ? الله أكبر - - الله أكبر ? الله أكبر ?(16/9)
بسم الله الرحمن الرحيم ? - الله أكبر - الله الله أكبر ? - ? - ? الله ?? - ?- جل جلاله - { - الله أكبر - ? - ? - - } - - { } [النور:55] فقد
وعد الله سبحانه الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأن يستخلفهم
في الأرض، وذلك بأن يمكنهم من الهيمنة عليها ليعمروها
على قواعد شريعة الله تعالى.
وقد جعل الله سبحانه المؤهل لهذا الاستخلاف هو عبادة الله تعالى وحده، فهل المراد بالعبادة إقامة الشعائر التعبدية ثم الانطلاق بعد ذلك في عمران الأرض على حسب أهواء البشر؟!
إنه لو كان الأمر كذلك لتم التمكين للرهبان من النصارى فإنهم قد قاموا بالشعائر التعبدية بصورة يقل وجود مثيل لها، ولكنهم ظلوا في صوامعهم وبِيَعهم يتعبدون، وأصبح عمران الأرض بيد أهل الدنيا الذين لا يخضعون لشرائع الله جل وعلا.
فهذا بيان واضح على شمول العبادة لكل نواحي الحياة، فيكون معنى قول الله تعالى { ?- جل جلاله -? الله ?? - - - - صدق الله العظيم ? الله الله أكبر ? ? يسيرون في جميع أفكارهم وأعمالهم على مقتضى ما شرعته لهم { - الله درهم الله ?? الله أكبر ? - - { ? - الله أكبر ? ?- جل جلاله - - - - - - الله أكبر الله أكبر صدق الله العظيم - الله ? ? لا في الشعائر التعبدية ولا في طاعة غير الله في معصية الله تعالى.
فالعبادة على هذا تشمل كل عمل مشروع أريد به وجه الله سواء كان من أعمال القلوب أو من أعمال الجوارح.
وكما أن العبادة تشمل الأقوال والأفعال المذكورة فإنها أيضاً تشمل ما تُرك من أجل الله تعالى كما جاء في الحديث السابق $كن ورعاً تكن أعبد الناس#.
ويمكن على هذا أن يكون تعريف العبادة: فعل ما أمر الله به أو أذن به واجتناب ما نهى عنه من أجله تعالى.
فالذي أمر الله به هو الواجب والمستحب، والذي أذن به هو المباح، والذي نهى عنه هو المحرم والمكروه.(16/10)
والتقييد بكونه من أجل الله تعالى مهم لأن النية الخالصة هي التي تحوِّل العمل إلى عبادة إذا كان مما أمر الله أو أذن به، كما تحوِّل الترك إلى عبادة إذا كان المتروك مما نهى الله عنه.
ذكر العبادة مع بعض أفرادها:
جاء ذكر العبادة في بعض النصوص الشرعية وعُطف عليها بعض أفرادها كقول الله تعالى ( - - - { - ( { ( - ( - ((- رضي الله عنه - الله أكبر - - - { - ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (((((- رضي الله عنه - - ( - فهرس - ( [الفاتحة:5] وقوله { - ? الله الله أكبر - - ? الله - - - صدق الله العظيم - - - الله أكبر صدق الله العظيم ? - - الله الله أكبر ? ? - } الله ? - ?- جل جلاله - الله ? الله ?? - - - جل جلاله - - - الله أكبر بسم الله الرحمن الرحيم - ?? - - } تمهيد تمهيد { } [الزمر:66] وقوله { ?- جل جلاله -? صدق الله العظيم - - - الله أكبر صدق الله العظيم ? - - الله الله أكبر ? - - رضي الله عنهم -- جل جلاله -- جل جلاله -? - - - الله ? الله ? - ? - ? - ??? - - - ? - - صدق الله العظيم } - جل جلاله - - - جل جلاله -? } - - { } [طه:14] وقوله { - ? صدق الله العظيم - - الله أكبر - صدق الله العظيم ? - - الله الله أكبر ? صدق الله العظيم ? بسم الله الرحمن الرحيم - } الله ? الله الله أكبر - الله ? - - جل جلاله -? صدق الله العظيم - الله أكبر - ? الله ? } [هود:123]. وقد يقول قائل:
إذا كانت العبادة تشمل أمور الدين فلماذا عطف عليها بعض التكاليف الشرعية؟!
والجواب أن هذا ليس من باب عطف الشيء على غيره، وإنما هو من باب عطف الخاص على العام للاهتمام بالخاص، ولذلك نظائر في النصوص الشرعية الأخرى، فمن ذلك قول الله تعالى(16/11)
( - - ( { فهرس - - قرآن كريم فهرس - - ( - - - - - - - ( - - - ((- رضي الله عنه -( (( - - - رضي الله عنه -(( - - (( - - - ( - - - - ( - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ([العنكبوت:45] والفحشاء من المنكر، وقوله ( - رضي الله عنه -((( - { - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - قرآن كريم ( - ( تمت - - رضي الله عنهم - - ( - ( - (- رضي الله عنه - - ( - ( - - - ( - } - قرآن كريم ( تم بحمد الله - - - - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - فهرس - - قرآن كريم فهرس - - ( - - - - ( الله أكبر ( {
- صدق الله العظيم (( - ((( الله أكبر - عليه السلام - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه -((((( - ((( الله أكبر ( الله - - ( [الأعراف:170] وإقامة الصلاة من أعظم التمسك بالكتاب(1) .
- - - - -
القرون المفضلة وفهم العبادة
فهم الصحابة لشمول العبادة:
كان الصحابة ن يفهمون شمول العبادة، ومما رُوي عنهم من الآثار في ذلك ما أخرجه الإمام الطبري من خبر بكر بن عبدالله المزني قال: جاء عمر بن الخطاب إلى باب عبدالرحمن بن عوف فضربه فجاءت المرأة ففتحتْه… إلى أن قال: وعبدالرحمن بن عوف قائم يصلي، فقال له - يعني عمر- : تجوَّز أيها الرجل(2)، فسلَّم عبدالرحمن حينئذ، ثم أقبل عليه فقال: ما جاء بك هذه الساعة يا أمير المؤمنين؟ فقال: رُفْقةٌ نزلتْ في ناحية السوق خشيتُ عليهم سرَّاق المدينة، فانطلقْ نحرسهم…إلخ(3) .
وإننا لنجد في هذا الخبر فهمَ عمر العميقَ لمجالات العبادة
وتقديم الأهم على المهم. فحينما كان بعض المسلمين بحاجة
__________
(1) انظر مجموع فتاوى ابن تيمية (10/174).
(2) يعني خفف صلاتك.
(3) تاريخ الطبري (4/205).(16/12)
إلى عمر وعبدِالرحمن بن عوف كان أمر احتياجهم مقدَّماً على صلاة النفل، فالصلاة عبادة، وخدمة المسلمين أيضاً عبادة، وما دامت الصلاة نفلاً فإن ما نزل من حاجة المسلمين مقدم على ذلك،
لأن الصلاة عبادة يقتصر نفعها على صاحبها، وخدمة المسلمين عبادة يتعدى نفعها للمسلمين.
ولقد كان هذا الأمر واضحاً لدى الصحابة ن ولذلك لم ينكر عبدالرحمن على عمر أنْ أمره بتخفيف الصلاة وإنهائها من أجل المشاركة في خدمة المسلمين، ولم ير أن غيرهما من صغار المسلمين أولى بالقيام بهذه المهمة لأنهم كانوا ينظرون إلى هذا الأمر من خلال كونه عبادةً وعملاً صالحاً، فهو أمر يتنافسون عليه، ولا يَكِلُونه إلى غيرهم.
ومن ذلك ما رواه أبو وائل عن عبدالله بن مسعود ط قال: ارْضَ بما قسم الله تكن من أغنى الناس، واجتنب المحارم تكن أورع الناس، وأَدِّ ما افتُرِض عليك تكن من أعبد الناس(1).
فالتورع عن المحارم والشبهات يعدّ عبادة لله تعالى إذا كان ذلك من أجل التقرب إليه جل وعلا، وفي قول ابن مسعود $وأدِّ ما افتُرض عليك تكن من أعبد الناس# دلالة على شمول العبادة لكل فرائض الدين.
وأخرج الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى من خبر الأسود بن يزيد رحمه الله عن عائشة ك قالت: إنكم تفعلون أفضل العبادة: التواضع(2).
كما أخرج عن عون بن عبدالله رحمه الله تعالى قال: كنا نجلس إلى أم الدرداء ك، فنذكر الله عز وجل عندها، فقالوا: لعلنا قد أمللناك، قالت تزعمون أنكم قد أمللتموني، فقد طلبتُ العبادة في كل شيء فما وجدت شيئاً أشفى لصدري ولا أحرى أن أصيب به الدين من مجالس الذكر(3).
__________
(1) سير أعلام النبلاء (1/497).
(2) الزهد/ 164-165.
(3) الزهد/ 165. ...(16/13)
وذكر الإمام البغوي عن الشعبي قال: خرج ناس من أهل الكوفة إلى الجَبَّانة(1) يتعبدون واتخذوا مسجداً وبنوا بنياناً، فأتاهم عبدالله بن مسعود ط فقالوا: مرحباً بك يا أبا عبدالرحمن لقد سرَّنا أن تزورنا، قال: ما أتيتُكُم زائراً، ولست بالذي أترك حتى يُهدم مسجد الجبَّان، إنكم لأهدى من أصحاب رسول الله ج؟! أرأيتم لو أن الناس صنعوا كما صنعتم من كان يُجاهدُ العدوَّ، ومن كان يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ومن كان يُقيم الحدودَ؟ ارجعوا فتعلموا ممن هو أعلم منكم، وعلِّموا من أنتم أعلم منهم. قال: واسترجع فما بَرِحَ حتى قلع أبنيتهم وردهم(2).
وقال عبدالله بن مسعود ط: $ما دمتَ تذكر الله فأنت في صلاة وإن كنت في السوق#.
وقال معاذ بن جبل ط: $مدارسة العلم تسبيح#(3).
فهم التابعين وأتباعهم لشمول العبادة:
لقد كان شمول العبادة معروفاً عند التابعين وأتباعهم، ومن الآثار المروية عنهم في ذلك ما رُوي عن الإمام الزهري أنه قال: العبادة هي الورع والزهد(4).
ومن ذلك ما ذكره الحافظ ابن عبدالبر في التمهيد قال: هذا كتبته من حفظي وغاب عني أصلي: أن عبدالله العمري العابد كتب إلى مالك يحضُّه على الانفراد والعمل(5)، فكتب إليه مالك: إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فَرُبَّ رجل فُتِح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فَنَشْر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فُتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر(6).
__________
(1) أي إلى الصحراء.
(2) شرح السنة (10/54-55).
(3) اقتضاء الصراط المستقيم/ 20.
(4) البداية والنهاية (9/362).
(5) يعني على العزلة والتعبد.
(6) سير أعلام النبلاء (8/102).(16/14)
وهكذا أبان الإمام مالك فضل العلم، وبين لذلك العابد شمول العبادة، حيث ذكر له أن نشر العلم من أفضل الأعمال الصالحة، وأن العالم الذي ينشر علمه ليس بأقل عملاً ممن قَصَر عملَه على أداء الشعائر التعبدية.
وهذه نظرة مهمة في بيان شمول العبادة حيث تشمل كل عمل مشروع أراد به فاعله وجه الله تعالى، وإن من أفضل الأعمال التي تدخل في ذلك نشر العلم، بل إنه أفضل من الاقتصار على أداء الشعائر التعبدية من النوافل، لأن هذه نفعها قاصر على فاعلها، ونشر العلم يصل نفعه إلى من قام به ومن استفاد من ناشره.
ومما رُوي في الحث على فهم شمول العبادة وتطبيق ذلك ما ذكره الإمام الذهبي من خبر محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال: أملى عليّ ابن المبارك سنة سبع وسبعين ومائة وأنفذها معي إلى الفضيل بن عياض من طرسوس:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا
من كان يخضب جيده بدموعه
أو كان يُتعب خيله في باطل
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا
ولقد أتانا من مقال نبينا
لا يستوي وغبار خيل الله في
هذا كتاب الله ينطق بيننا ... لعلمت أنك بالعبادة تلعب
فنحورنا بدمائنا تتخضب
فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
رَهَج السنابك والغبار الأطيب(1)
قول صحيح صادق لا يكذب
أنف امرئ ودخان نار تلهب(2)
__________
(1) الرهج الغبار، والسنابك جمع سنبك وهو طرف حافر الخيل وجانباه من الأمام.
(2) يعني قول رسول الله ج: $لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبداً# - مسند أحمد (2/256،342،441)، سنن النسائي (6/12،13،14).(16/15)
ليس الشهيد بميت لا يكذب(1)
قال: فلقيت الفضيل بكتابه في الحرم، فقرأه وبكى، ثم قال: صدق أبو عبدالرحمن ونصح(2).
ففي هذه الأبيات الشعرية الرائعة يبين الإمام عبدالله بن المبارك جانباً من الفهم الصحيح للعبادة، فليست العبادة محصورة في الشعائر التعبدية كالصلاة والصيام، ولكن العبادة الحقة تكون أولاً بأداء الفرائض واجتناب المحرمات كما جاء في قول رسول الله ج فيما يرويه عن ربه $وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه#(3)، ثم تكون بأداء فروض الكفاية كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حال كونها فروض كفاية، فإن أداء فروض الكفاية أفضل من أداء النوافل، لأن فروض الكفاية تدخل في باب الفروض ولكن كونها غير متعينة على إنسان بعينه يجعل تاركها غير ملوم بتركها إذا قام بها من يكفي.
__________
(1) يعني قول الله تعالى { - الله درهم الله ? الله الله ? الله } الله { ? مقدمة ? صدق الله العظيم - الله ??- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - المحتويات - ? - الله أكبر ?- جل جلاله - - - الله أكبر ? ? - ? - - جل جلاله - - - الله أكبر الله أكبر ? - ?- جل جلاله - - - - - - - الله أكبر الله الله أكبر - - الله ? صدق الله العظيم ? - - - } [ آل عمران:169 ].
(2) سير أعلام النبلاء (8/364).
(3) أخرجه البخاري في صحيحه، رقم 6502، الرقاق (11/340).(16/16)
ثم تأتي بعد ذلك النوافل على درجاتها المعروفة، فعبدالله بن المبارك والفضيل بن عياض قد قاما -كما هو معروف من سيرتهما -بأداء فروض الأعيان، وافترقا في أن ابن المبارك قام بعد ذلك بالإسهام في أداء فروض الكفاية في باب الجهاد، إلى جانب ما عرف عنه من اجتهاده في النوافل، أما الفضيل بن عياض فإنه قد اجتهد في النوافل وبالغ في ذلك، وعوض بذلك ما فاته من الجهاد. وإن ابن المبارك في هذه الرسالة الشعرية يلوم الفضيل بن عياض على تقصيره في المشاركة في الجهاد ويبين له أنه قد اكتفى بالأقل حيث اشتغل بالنوافل وترك الجهاد الذي هو أعلى لأنه فرض كفاية.
ولئن كان ابن المبارك قد جازف قليلاً في التعبير بقوله:
لعلمت أنك بالعبادة تلعب
فإنه لم يقصد وصف الشعائر التعبدية بأنها لعب، وهو الذي اشتهر بكثرة الصلاة والصوم، وإنما أراد أن يقول بأن ترك الأعلى إلى ما هو أدنى يعدّ تقصيراً في العمل، وإن كان قد أخطأ في هذا التجاوز في التعبير، ولكن ذلك يسيرٌ إلى جانب فضائله الكثيرة.
ولقد أدرك الفضيل خطأه وتقصيره في ترك الجهاد والاكتفاء عن ذلك بكثرة الصلاة والصيام فبكى حينما سمع هذه الرسالة وقال: صدق أبو عبدالرحمن ونصح، ولعل ابن المبارك حينما شدد في لوم الفضيل بن عياض قد فهم أن الأمر بالنسبة للعلماء الذين يُقتدى بهم لا يقتصر على كون الجهاد فرض كفاية لأن العلماء إذا قعدوا تأسى بهم الناس، فيكون الخروج للجهاد في حقهم فرض عين إذا ترتب على قعودهم تعطيل للجهاد أو إضعاف له.
وقد خرج للجهاد محمد بن المنكدر رحمه الله وقد نيف على الثمانين سنة، فقيل له: إن الله قد أعذر إليك، فقال: أعلم ذلك ولكن خشية أن يراني جاهل فيقتدي بي. ... ...
- - - - -
العبادة والعمل الصالح(16/17)
أما الآيات والأحاديث التي ذكر فيها ترتب الأجر على العمل الصالح فهي كثيرة، لأن أغلب الأحكام الشرعية ذُكرت في الكتاب والسنة مقرونة بذكر الثواب للممتثل والعقاب للمخالف، مثل قول الله تعالى ( ( - - الله } تم بحمد الله - رضي الله عنه -((( - { - - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( { (( - ( - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - - } - عليه السلام - قرآن كريم ( تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - - (( ( - - ( تمهيد - رضي الله عنهم - - ( - - - ( - - - - رضي الله عنهم - - - - - { ( تمهيد - مقدمة ( تمهيد - رضي الله عنه - - - عليه السلام - - - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم -(( - - رضي الله عنهم - - - - ( - - - عليه السلام - - - رضي الله عنهم - - - (( (- صلى الله عليه وسلم - - ( - - - - - ( - - - جل جلاله -( - ( { - - } - ( } تم بحمد الله - { ( تمهيد - مقدمة - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ((( - (( - صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - - ( - (( - - - رضي الله عنه -( - - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ((( - } - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( بسم الله الرحمن الرحيم - ( - - رضي الله عنه -( ((((( - رضي الله عنه -((( - { - - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( { (( - ( - ( المحتويات ( - - - } - عليه السلام - قرآن كريم ( تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - - (( ( - - ( تمهيد - رضي الله عنهم - - ( - - - { المحتويات ( بسم الله الرحمن الرحيم - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ((( - ( - ( - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله } - قرآن كريم ( { - ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - - - جل جلاله -- رضي الله عنه - تم بحمد الله - سبحانه وتعالى - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - { - - صلى الله عليه وسلم(16/18)
- - - ( المحتويات ( - ( - ( المحتويات ( - ( - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - - جل جلاله -(( ( المحتويات ( - ( فهرس - - عليه السلام - - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( قرآن كريم - رضي الله عنهم - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - - - قرآن كريم ( الله أكبر - عليه السلام - - ( - - رضي الله عنه - - ( [البقرة:261-262] ومثل قول رسول ج $نفقة الرجل على أهله يحتسبها صدقة#(1) وقوله لسعد بن أبي وقاص لما مرض بمكة وعاده: $إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة، حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك#(2).
حتى الأمور المباحة فإنها تتحول مع الاحتساب إلى عمل صالح
يثاب عليه فاعله كما جاء في قول معاذ بن جبل لأبي موسى
الأشعري م: $أما أنا فأنام وأقوم وأرجو في نومتي ما أرجو
في قومتي#(3).
وليس الأمر قاصراً على التكاليف التي لا تنسجم مع هوى النفس بل إن الإنسان يكون عابداً لله تعالى حتى وهو يأتي شهوته التي أباحها الله له إذا فعل ذلك ابتغاء رضوان الله تعالى، وفي ذلك يقول رسول الله ج: $وفي بُضْع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ قالوا: نعم. قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر# أخرجه الأئمة مسلم وأحمد وأبو داود(4).
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم 55، الإيمان.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم 56، الإيمان، ومسلم في صحيحه كتاب الوصية رقم 5 .
(3) أخرجه البخاري في صحيحه، رقم 6923، كتاب استتابة المرتدين (12/268)، ومسلم في صحيحه رقم 165، الإمارة/15(ص1456).
(4) صحيح مسلم، كتاب الزكاة رقم 53، مسند أحمد (5/167)، سنن أبي داود كتاب التطوع، باب 12.(16/19)
وكذلك ما ورد في ترتب الثواب على اجتناب السيئات، وقد جاء في ذلك آيات وأحاديث كثيرة، منها قول الله جل وعلا ( ( - - - رضي الله عنه - - ((- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( صدق الله العظيم (- عليه السلام - - ( قرآن كريم { - - - - - ((( - { - - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ((( - - رضي الله عنه - - - فهرس - - رضي الله عنه -( ((( - - } - - - - الله أكبر ( قرآن كريم - رضي الله عنهم - - - - - ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - - رضي الله عنه - تمهيد - ( - - } - - قرآن كريم ( - ( - (- رضي الله عنهم - - ( - - - } - قرآن كريم ( - - - - - - - ( فهرس - - رضي الله عنهم - - (
[الفرقان:63] إلى قوله ( - رضي الله عنهم - - (((( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - - - (- صلى الله عليه وسلم -- عليه السلام - - ( - ( - - { - (( - ((( - - - - - رضي الله عنهم - - ( - } - - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنهم - - - ( - - ( قرآن كريم } { فهرس - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - - (( - { } - (- رضي الله عنه -- صلى الله عليه وسلم - تم بحمد الله - ( - ( فهرس - - رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ([الفرقان:75] وقد جمعتْ هذه الآيات بين اكتساب الحسنات بالأعمال الصالحة كالصلاة والنفقة، وبين اجتناب السيئات بترك الأعمال الطالحة كقتل النفس المحرمة والزنى وشهادة الزور.
ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك ط قال: كنا جلوساً مع رسول الله ج فقال: $يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وَضوئه، قد تعلَّق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغد قال النبي ج مثل ذلك فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال(16/20)
النبي ج مثل مقالته أيضاً فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النبي ج تبعه عبدالله بن عمرو بن العاص#(1) فقال: إني لاحيت أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت، قال: نعم.
قال أنس: وكان عبدالله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئاً، غير أنه إذا تعارَّ(2) وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبدالله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبدالله إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر ثَمَّ ولكن سمعت رسول الله ج يقول لك ثلاث مرار: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث مرار، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله ج؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت، قال: فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه، فقال عبدالله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق(3).
وكذلك ما رواه أحمد والبزار رحمهما الله تعالى من حديث أبي هريرة ط قال: قال رجل: يا رسول الله إن فلانة، فذكر من كثرة صلاتها وصدقتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: هي في النار، قال: يا رسول الله فإن فلانة فذكر من قلة صيامها وصلاتها وأنها تصدق بالأثوار من الأقط(4) لا تؤذي بلسانها جيرانها، قال: هي في الجنة.
ذكره الحافظ الهيثمي وقال: ورجاله ثقات(5).
- - - - -
عمران الأرض من عبادة الله تعالى
__________
(1) يعني تبع ذلك الرجل.
(2) أي هب من نومه واستيقظ كما جاء في النهاية (1/190).
(3) مسند أحمد (3/166).
(4) الأثوار القطع الكبيرة من الأقط.
(5) مجمع الزوائد (8/169).(16/21)
وبناء على ما سبق بيانه من شمول العبادة لكل عمل مشروع أريد به وجه الله تعالى فإن إسهام المسلم في عمارة الأرض بأي نوع من أنواع العمارة..من تجارة أو زراعة أو صناعة ونحو ذلك يعدّ من عبادة الله تعالى إذا التزم فاعل ذلك بشريعة الله جل وعلا وأراد بعمله وجهه والدار الآخرة.
وقد أمر الله سبحانه بعمارة الأرض وذلك في قوله { - - عليه السلام -? - ? تمهيد - - الله ? الله - ? - ? - الله أكبر - ?? - ? - الله - - - - - - - - - جل جلاله -? الله أكبر - الله أكبر الله ? الله ? - الله الله أكبر ? - جل جلاله - - ?? الله أكبر الله ? - الله أكبر الله الله أكبر ? المحتويات - ? - - - - الله أكبر صدق الله العظيم ? - - - ? الله - - - - الله ? - رضي الله عنهم - الله أكبر ? - ? ??- جل جلاله - الله ? { ? - الله أكبر - ? - تمهيد - - سبحانه وتعالى - - - ? - } صدق الله العظيم - الله أكبر الله الله أكبر ?? الله ? - ? ? - } - - - الله ?? - - - الله ? الله - جل جلاله -? - ? صدق الله العظيم } - - - - ? - - صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - - } الله - الله ? صدق الله العظيم ? الله - { الله أكبر ? - - الله ? - الله الله أكبر ? - - جل جلاله -? - ?? - - - جل جلاله -? { الله أكبر ?? الله - { الله أكبر ? - - الله الله أكبر ? - ?- رضي الله عنهم - الله أكبر الله أكبر - المحتويات - - ? الله أكبر - - ? - الله أكبر - - - جل جلاله -? صدق الله العظيم - الله أكبر - ? تمهيد - - الله الله ? تمهيد - - ? الله - جل جلاله - الله أكبر - الله } - رضي الله عنه - درهم ? - - الله الله أكبر ? - رضي الله عنه - درهم - - جل جلاله - - الله - ? } تمهيد - { } [هود:61] فقوله { الله ? - ? ? - } - - - الله ?? - - - الله ? الله - جل جلاله -? - ? صدق الله العظيم } - - - - ? - - ? يعني ابتدأ خلقكم منها حيث خلق منها أباكم آدم عليه الصلاة والسلام {(16/22)
صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - - } الله - الله ? صدق الله العظيم ? الله - { الله أكبر ? - - الله ? - الله الله أكبر ? - - جل جلاله -? } أي جعلكم عماراً تعمرونها وتستغلونها(1)، فقد جعل الله تعالى إنعامه بهذه الأرض علينا وتسخيرها لنا لنعمرها دافعاً إلى عبادته وحده والاعتراف بالتقصير والخطأ فيما يتعلق بأمره ونهيه وذلك باستغفاره والتوبة إليه.
وفي هذا المعنى قول الله تعالى { الله ? - ? ?- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - الله ? الله ? الله - - ? الله أكبر ? - ? ?? صدق الله العظيم } - - - - ? - - - - درهم ? - الله أكبر ? - - المحتويات - ? - ? صدق الله العظيم ? - - الله الله أكبر ? ? - الله ? - - - جل جلاله -- جل جلاله -? - الله الله أكبر ? الله ? المحتويات - ? - الله أكبر ? - } الله ? ?- جل جلاله -? - - - جل جلاله -?- جل جلاله - { ? } الله - } - جل جلاله -? الله أكبر صدق الله العظيم - - ? تمهيد - - الله ? - } ? - - ? بسم الله الرحمن الرحيم الله أكبر ?? - - } - - { } [الملك:15] أي إن الله تعالى هو هو الذي يسر لنا الأرض وسهلها لنسير في نواحيها ونعمرها على مقتضى شريعته مع اعتقادنا بأن كل ما فيها من رزق الله جل وعلا، فنشكره على نعمه وننتظر جزاءه بعد البعث في الحياة الآخرة.
وإذا كان في عمل المسلم عزة للإسلام ودفاع عنه كمن يعمل
في صناعة الأسلحة وجميع وسائل القتال فإن ثوابه يكون أعظم
إذا كان بنية خالصة فإن قول الله تعالى { المحتويات - ? الله - - الله أكبر الله أكبر - جل جلاله -? - - - الله ? ? - ? - ? - الله الله ? - رضي الله عنهم - - - الله أكبر صدق الله العظيم ? - ? الله الله أكبر - صدق الله العظيم ? - -
__________
(1) تفسير ابن كثير (2/483).(16/23)
?- جل جلاله - الله ? صدق الله العظيم ? الله الله ? - الله أكبر ? } [الأنفال:60] يشمل جميع المراحل التي تسبق إعداد السلاح من تعلم وتعليم وعمل، وذلك داخل ضمن القاعدة الفقهية المعروفة وهي $ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب#، فإن حماية دار الإسلام من الأعداء أمر واجب على الأمة، والجهاد في هذه الحال فرض عين على كل قادر، ويكون فرض كفاية إذا كان الجهاد خارج دار الإسلام لحماية الدعوة الإسلامية.
وهذا الواجب لا يتم إلا بإعداد السلاح الكافي، وذلك يتطلب إنشاء المصانع الحربية واستخراج المعادن وما يسبق ذلك من إنشاء المؤسسات العلمية لهذا الغرض، كما يتطلب الأمر تدريب العاملين في إعداد السلاح، وتدريب المقاتلين على استعماله، وغير ذلك مما لا يتم الجهاد إلا به، فكل ذلك واجب على الأمة أن تقوم به، ويتأكد الوجوب بالدرجة الأولى على من تحملوا مسئولية قيادة الأمة على مختلف درجاتهم في المسئولية.
والإنسان من حيث حاجتُه مدفوع إلى عمارة الأرض والتسابق في ذلك لأسباب قد تكون مادية…من حب الحصول على الضرورات للمعيشة أو الكماليات للتمتع، أو معنوية من حب العلو في الأرض والسيطرة على الآخرين.
ولكن المسلم مدفوع إلى عمارة الأرض بسبب هو أعلى من ذلك وأسمى حيث إنه يُنفذ بذلك أمر الله جل وعلا، وهذا وحده يكفي لجعل المسلم أعلى إنسان في هذه الأرض وأمة الإسلام أقوى أمة.
فإذا أضيف إلى ذلك أن غير المسلمين ينظرون في إقدامهم على عمارة الأرض إلى مجرد الربح الذي يحصلون عليه في هذه الحياة وأن المسلمين يُقدمون على ذلك وإن لم يضمنوا الربح في الدنيا لضمانهم الربح الأكبر في الآخرة، عرفنا كيف أن أمة الإسلام لو طبقت الإسلام لم تتمكن أمة أخرى من السيادة على العالم مع وجودها.
فإذا قام المسلم بعمارة الأرض بأي عمل من الأعمال المشروعة مريداً بذلك وجه الله تعالى كان بذلك عابداً لله عز وجل.(16/24)
فغير المسلم يعمل في الحياة الدنيا ليستفيد مما يعمل في هذه الحياة نفسها وما دام لا يستفيد فإنه لا يعمل، أما المسلم فإنه يعمل ليفيد نفسه وإخوانه المسلمين في الحياة الدنيا ولينال المثوبة في الآخرة فهو دائب العمل حتى لو لم يكن له أي مصلحة ذاتية دنيوية لأنه سيحصل على المنفعة الأخروية، ويبين هذا المعنى قول رسول الله ج: $إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليفعل# أخرجه الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك ط(1).
فهو قطعاً لن يستفيد منها لأنه سيموت قبل أوان نضجها، لكنه يستفيد في الآخرة من مجرد بدئه بالعمل إذا أراد به وجه الله تعالى.
ومما جاء في هذا المعنى ما أخرجه أبو عبدالله البخاري من حديث حنش ابن الحارث عن أبيه قال: كان الرجل منا تُنْتَج فرسه فينحرها، فيقول: أنا أعيش حتى أركب هذا؟ فجاءنا كتاب عمر: أن أصلحوا ما رزقكم الله فإن في الأمر تنفساً(2).
وكذلك ما رواه ابن جرير من حديث عمارة بن خزيمة بن ثابت قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي: ما يمنعك أن تغرس أرضك؟ فقال له أبي: أنا شيخ كبير أموت غداً، فقال له عمر: أَعزم عليك لتغرسنَّها، فلقد رأيت عمر بن الخطاب يغرسها بيده مع أبي(3).
فهذان الخبران فيهما اهتمام كبير من أمير المؤمنين عمر ط بعمارة الأرض، لما يترتب على ذلك من نفع المسلمين، وذلك بتوافر الزراعة والمواشي.
__________
(1) مسند أحمد (3/191)، وانظر الأدب المفرد للبخاري رقم (479).
(2) الأدب المفرد/ 168 رقم 478.
(3) سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/12) للشيخ الألباني رحمه الله.(16/25)
ولقد كان مما هو معروف عند الصحابة ن أن الرجل يؤجر على عمله في زراعته ونحو ذلك، كما أخرج أبو عبدالله البخاري من خبر نافع بن عاصم: أنه سمع عبدالله بن عمرو بن العاص م قال لابن أخ له خرج من الوهَط(1): أيعمل عمالك؟ قال: لا أدري، قال: أما لو كنت ثقفياً لعلمت ما يعمل عمالك، ثم التفت إلينا فقال: إن الرجل إذا عمل مع عماله في داره [ أو قال في ماله ] كان عاملاً من عمال الله عز وجل(2).
ولم يذكر عبدالله بن عمرو إرادة وجه الله تعالى لأن هذا
الأمر كان معروفاً عند الصحابة والتابعين لقول رسول الله ج $إنما الأعمال بالنيات#(3).
حتى ما يستفيد منه الآخرون من غير إرادة الإنسان فيه أجر إذا أراد الثواب من الله جل وعلا، وفي هذا المعنى يقول رسول الله ج: $ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سُرق منه له صدقة، وما أكل السبع منه له صدقة، وما أكلَتْ الطير فهو له صدقة# متفق عليه واللفظ لمسلم(4).
فالمسلم لا ينظر في عمارة الأرض لمجرد المكاسب التجارية، وإنما ينظر إلى العمل من حيث إن فيه خيراً لمجتمعه الإسلامي، فإذا كان أمام التاجر المسلم مشروعان أحدهما أكثر كسباً وأقل نفعاً للمسلمين، والآخر أقل كسباً ولكنه أكثر نفعاً للمسلمين فإنه يقدِّم الأكثر نفعاً للمسلمين وإن كان أقل كسباً، حيث إنه سيحصل على الأجر الكبير عند الله تعالى في الجنة، أما غير المسلم فإنه ينظر إلى مجرد الربح والخسارة في الحياة الدنيا لأنه ليس له في الآخرة نصيب.
__________
(1) الوهط بستان كبير قرب وادي وَجّ في الطائف لعمرو بن العاص رضي الله عنه وقد ورثه منه أبناؤه.
(2) الأدب المفرد/ 160رقم 448.
(3) صحيح البخاري رقم1، كتاب بدء الوحي (1/8).
(4) صحيح البخاري، رقم 6012، كتاب الأدب، باب 27 (10/438) صحيح مسلم رقم 1552، كتاب المساقاة، رقم 9 (ص1188).(16/26)
ولهذا فإن طاقة المسلم الإنتاجية أعلى بكثير من طاقة غيره، ولكن واقع المسلمين في هذا يختلف عن ذلك كثيراً، حيث نرى أن طاقة الكفار في بعض الدول أعلى من طاقة المسلمين إجمالاً، وهذا راجع إما إلى عدم فهم المسلمين لدينهم في شموله لجميع نواحي الحياة أو لضعف إيمانهم بإسلامهم إضافة إلى عدم اهتمامهم بدنياهم، فأصبحوا بذلك أقل جهداً من كثير من الأمم في عمارة الأرض.
إن مظاهر التخلف الاقتصادي لدى أي أمة من الأمم تعود بالدرجة الأولى إلى رغبة أفرادها في الراحة، وإصابتهم بالكسل وتعطيل بعض الطاقة التي وهبهم الله إياها، ولكن مظاهر التخلف الاقتصادي لدى المسلمين تعود بالدرجة الأولى إلى عدم اهتمامهم بتطبيق توجيهات دينهم نحو الإسراع في عمارة الأرض والإسهام الفعال في تقوية دولتهم وأمتهم.
فإذا أضيف إلى ذلك إصابتهم بمظاهر التخلف التي يتعرض لها عموم البشر فإنهم يكونون قد جمعوا بين المظاهر الذاتية التي لو توافر فيهم ضدها لبلغوا مستوى جيداً من الإنتاج وبين المظاهر المؤثرة من إهمالهم توجيهات دينهم التي تدفعهم إلى أعلى مستوى من الإنتاج يمكن أن يتصوره البشر.
إن بعض بلاد المسلمين يعتمد أهلها على مصدر واحد من مصادر الرزق فإذا انقطع هذا المصدر أو ضعف ركعوا خاضعين أمام من يمد يده لإنقاذهم وإن كان المنقذ من الكفار الذين يساومونهم في دينهم مقابل لقمة العيش، وكان بإمكانهم في حال الرخاء أن ينوعوا مصادر الرزق على نية تقوية شأن المسلمين وحمايتهم من الاحتياج لغيرهم. وكان بإمكانهم لو بذلوا طاقتهم في هذا المجال أن يصلوا من الغنى
إلى الحد الذي يجعلهم يتألفون بأموالهم غير المسلمين إلى الإسلام.
وكان بإمكانهم وهم في حال قوتهم أن يحفروا الآبار وأن يُحيوا الأرض بالزراعة ليتوسعوا بها في الرخاء وينفقوا منها في سبيل الله وتبقى لهم في حال الشدائد.(16/27)
وما أخبار المسلمين في أفريقيا الذين ضرب بلادهم الجفاف ببعيدة عن الأذهان، فقد مات الكثير من مواشيهم التي كانت مصدر غذائهم ومات على إثر ذلك عدد غير قليل منهم من الجوع واغتنم الأعداء فرصة حاجتهم الضرورية إلى الغذاء ليصرفوهم عن دينهم الحق.
وهذه النظرة في عمارة الأرض إنما تنبثق من الفهم الشامل لمقاصد الإسلام.
أما الذين يجعلون الإسلام عِضِين فيجزئونه حسب أهوائهم أو حسب علمهم القاصر الذي ورثوه فإنهم لا يستطيعون القيام بعمارة الأرض وليسوا أهلاً لها.
وإن أعداء الإسلام ليفهمون مقدرة المسلمين الخارقة على عمارة الأرض إذا فهموا إسلامهم وطبقوه كاملاً ولذلك فإنهم يقفون بالمرصاد لأي دعوة واعية تبرز في مجتمع إسلامي تدعو إلى عمارة الأرض انطلاقاً من فهمها الشامل للإسلام.
وإن أعداء الإسلام يجدون في أغلب العصور وفي هذا العصر بالذات من يقف معهم من غير قصد في تحجيم الدعوة الإسلامية وتقليص مفهومها، وذلك من الذين يجهلون شمول الإسلام لنواحي الحياة وإن كانوا من الذين يتصدرون للدعوة إليه.
إن الإسراع في عمارة الأرض وإعمال الفكر في البحث عن الطرق المؤدية إلى ذلك يكفل للمسلمين أن يتبوؤوا مكاناً عالياً في علوم الزراعة والصناعة والاختراع مما تقوم به الحضارة المادية، وهذا بالتالي يكفل للمسلمين أن يكونوا أقوى أمة في الأرض.(16/28)
وإذا امتلك المسلمون القوة المادية وأصبحوا محط أنظار العالم في علوم الحياة الدنيا فإنهم يستطيعون عرض ما يدعون إليه من الحق وهم في مقام القوة ولن يحتاجوا إلى جهود كبيرة في الدعوة إلى الإسلام لأنه سينتشر بطريقة الاقتداء وتقليد المغلوب للغالب في بداية الأمر ثم يتحول الإسلام في النفوس إلى إيمان عن قناعة كما حدث في عصور الإسلام الأولى. إنه يمكن عرض الحق والدعوة إليه في مختلف الظروف، ولكن حينما يكون أصحاب الحق ضعفاء من الناحية المادية فإنهم لن يمتلكوا من الوسائل إلا أقلها، ويحتاجون مع ذلك إلى جهد مضاعف من أجل إيصال كلمة الحق لأن أغلب الناس ينظرون دائماً إلى الأقوى.
وحينما يكون الأقوى هو صاحب دعوة الباطل فإنه يصدِّر باطله مع كل سلعة ينتجها إلى أقطار العالم من غير أن يقوم بجهد يُذكر في سبيل الدعوة إلى باطله، فكيف إذا أُضيف إلى ذلك أن أساطين الباطل يقومون بجهود مكثفة من أجل الدعوة إلى باطلهم؟.
إن الحق يبقى مكبلاً بالحواجز والقيود ما لم تصاحبه القوة التي تزيح عن طريقه هذه الحواجز، وما لم يتدرع المسلمون بالقوة فإن دعوتهم ستظل محدودة ووجودهم سيظل ضعيفاً وإن كثر عددهم، فما أبلغ الحق متدرعاً بالقوة، وما أقبح القوة متجردة عن الحق.
إن الحق إذا تجرد عن القوة صار صوته ضعيفاً، وانغمر تحت ظلال كثيفة من الشبهات والدعايات المضللة، وإن القوة إذا تجردت من الحق تحولت إلى حماقة وتهور شنيع، وأصبح أربابها يوجهون طاقتهم إلى إشباع غريزة حب السيطرة والهيمنة في الأرض، وسخروا عقولهم وأجسامهم للإفساد والتدمير.
ومن هنا نعلم أن من أهم ما يجب على الدعاة إلى الله الاهتمام به أن ينبهوا المسلمين إلى وجوب الأخذ بأسباب القوة وتعمير الأرض كلٌّ حسب طاقته وإمكانه، وأن يعدُّوا ذلك من أبرز الأمور التي تدخل تحت دائرة العبادة التي أمرنا الله جل وعلا بها.(16/29)
هذا وإن المسئولية الكبرى في هذا التخلف تقع على عاتق المسئولين عن الأمة، إذ إن من واجبهم رعاية الأمة وتوجيهها نحو ما يحقق لها القوة والعزة في هذه الحياة، فإذا أهملوا أداء هذا الواجب والتفتوا إلى مصالحهم الذاتية ومصالح عشائرهم أو أحزابهم فإن الأمة تسير نحو الضياع والانحدار.
وأشد من ذلك وأبلغ في النكاية بالأمة إذا كانوا يحولون بين المصلحين ومحاولة النهوض بمستوى الأمة الاقتصادي فيعملون على تعطيل المشروعات التي يراد لها أن تتقدم بالأمة نحو القوة والعزة، أو يحولون بين أفراد الأمة وما يريدون من تطوير وضعهم الاقتصادي وأوضاع من يعملون معهم.
إن كل أعمال الإصلاح تظل ضعيفة الجدوى أو تفقد مفعوليتها إذا لم يشجعها المسئولون عن الأمة أو وقفوا ضدها حتى تصاب بالفشل والشلل، بينما تنتعش مشروعات الإصلاح والعمران بمجرد إطلاق الحرية للعاملين المنتجين فضلاً عن التشجيع والدعم المادي والمعنوي.
... ... - - - - -
التعبد المقيد والتعبد المطلق
يختلف فهم المسلمين للعبادة من حيث الشمول لجميع أنواعها أو حصرها في بعض الأنواع.
فمنهم من يرى التعمق في تطبيق بعض التكاليف الشرعية والمبالغة فيها مع إهمال التكاليف الأخرى أو التقصير فيها وهذا هو التعبد المقيد.(16/30)
وقد وجد هذا الاتجاه في عهد رسول الله ج حيث رأى نفر من الصحابة ن أن يتجهوا إلى بعض الشعائر التعبدية ويشغلوا وقتهم كله بها، وقد أخرج الشيخان خبر هؤلاء من حديث أنس بن مالك ط قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت النبي ج يسألون عن عبادة النبي ج، فلما أُخبروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من رسول الله ج قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً فجاء رسول الله ج فقال: $أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني#(1) .
وبهذا الجواب الحازم الحاسم قرر النبي ج سنة الإسلام في العبادة، وقطع هذا الاتجاه الذي خطر على بال بعض الصحابة ورأوا أنهم به يصلون إلى درجة عالية من رضوان الله تعالى.
وعلى الرغم من أن هؤلاء ما أرادوا باتجاههم هذا إلا المزيد من الخير فإن النبي ج واجههم بغضب وختم كلامه بالبراءة ممن خالف سنته فاستمر على هذا الاتجاه، مما يدل على خطورة هذا الأمر وأثره في الحد من تطبيق الإسلام كاملاً كما جاء من عند الله تعالى.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب النكاح، رقم 5063، باب 1(9/104) صحيح مسلم، كتاب النكاح، رقم 1401، باب 1(ص1020).(16/31)
ولقد أنكر النبي ج عليهم هذا الإنكار الشديد مع صلاح نيتهم وصدقهم لكونهم رأوا أن الدين محصور بهذه الشعائر، فلما رأوا عمل النبي ج فيما يخص هذه الشعائر وجدوا أنهم قد زادوا عليه فيها فخطر على بالهم ما يسوغ نقص عبادة النبي ج في ذلك عنهم وهو كونه مغفوراً له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولما كان هذا التسويغ يقلل من نسبة التقوى والخشية لله تعالى أنكر عليهم النبي ج وتبرأ من طريقتهم وإن كان من المقطوع به أنهم لم يريدوا التقليل من اتصاف النبي ج بالخشية، لكن ذِكْر لازم ما ذهبوا إليه أبلغ في تنفيرهم من هذا العمل الذي أقدموا عليه.(16/32)
ولقد سار على هذا الاتجاه أيضاً عدد من الصحابة من غير أن يقرنوا عبادتهم بعبادة النبي ج ومنهم عبدالله بن عمرو بن العاص، وقد أخرج خبره الإمامان البخاري ومسلم وغيرهما من الأئمة ومن ذلك ما أخرجه الإمام البخاري من طريق مجاهد عن عبدالله بن عمرو قال أنكحني أبي امرأة ذات حسب، وكان يتعاهد كَنَّتَه(1)، فيسألها عن بعلها فتقول له: نِعْم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشاً، ولم يُفَتِّش لنا كَنَفاً مذ أتيناه، فلما طال ذلك عليه، ذكر ذلك للنبي ج فقال: $الْقَنِي به#. فلقيته بعد، فقال $كيف تصوم؟# قلت: كل يوم. قال: $وكيف تختم؟# قلت كل ليلة فقال: $صم كل شهر ثلاثة أيام، واقرأ القرآن في كل شهر#. قال: قلت: فإني أطيق أكثر من ذلك، قال: $صم ثلاثة أيام في الجمعة#. قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال: $أفطر يومين وصم يوماً# قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال: $صم أفضل الصوم، صوم داود: صيام يوم، وإفطار يوم، واقرأ في كل سبع ليال مرة#، قال فليتني قبلت رخصة رسول الله ج وذلك أني كبرت وضعفت، وكان يقرأ على بعض أهله السُّبُع من القرآن بالنهار، والذي يقرؤه يعرضه من الليل، ليكون أخف عليه بالليل، وإذا أراد أن يتقوى أفطر أياماً وأحصى وصام مثلهن، كراهية أن يترك شيئاً فارق عليه النبي ج وفي رواية أخرى قال: قال لي رسول الله ج: $ألم أُخبَر أنك تصوم النهار، وتقوم الليل؟# قال: قلت: بلى يا رسول الله. قال: $فلا تفعل، صم وأفطر، ونم وقم، فإن لجسدك عليك حقّاً وإن لعينك عليك حقّاً وإن لزوجك عليك حقّاً، وإن لزورك(2) عليك حقّاً، وإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها، فإذا ذلك صيام الدهر#، فشددت فشدد عليَّ، قلت: يا رسول الله: إني أجد قوة قال:
$صم صيام نبي الله داود عليه السلام لا تزد عليه#. وفي أخرى:
__________
(1) أي زوجة ابنه.
(2) أي إخوانك الذين يزورونك.(16/33)
قال النبي ج $إنك لتصوم النهار وتقوم الليل؟#. قلت: نعم، قال: $إذا فعلت ذلك هجمت له العين ونفهت له النفس، لا صام
من صام الأبد، صوم ثلاثة أيام صوم الدهر كله#. قلت: فإني
أطيق أكثر من ذلك قال: $فصم صوم داود، كان يصوم يوماً
ويفطر يوماً، ولا يفرُّ إذا لاقى#(1).
وقوله $هجَمت له العين# يعني غارت ودخلت في موضعها، وقوله $ونَفِهَت له النفس# يعني أعيت وكلَّت.
قال الإمام الذهبي: وصح أن رسول الله ج نازله إلى ثلاث ليال، ونهاه أن يقرأه في أقل من ثلاث، وهذا كان في الذي نزل من القرآن، ثم بعد هذا القول نزل ما بقي من القرآن. فأقل مراتب النهي أن تُكره تلاوة القرآن كله في أقل من ثلاث، فما فقه ولا تدبر من تلا في أقل من ذلك، ولو تلا ورتل في أسبوع ولازم ذلك لكان عملاً فاضلاً، فالدين يسر، فوالله إن ترتيل سُبُع القرآن في تهجد قيام الليل مع المحافظة على النوافل الراتبة والضحى، وتحية المسجد، مع الأذكار المأثورة الثابتة، والقول عند النوم واليقظة، ودبر المكتوبة والسحر، مع النظر في العلم النافع والاشتغال به مخلصاً لله مع الأمر بالمعروف، وإرشاد الجاهل وتفهيمه، وزجر الفاسق، ونحو ذلك، مع أداء الواجب، واجتناب الكبائر وكثرة الدعاء والاستغفار، والصدقة وصلة الرحم والتواضع، والإخلاص في جميع ذلك لَشُغلٌ عظيم جسيم، ولمقام أصحاب اليمين وأولياء الله المتقين، فإن سائر ذلك مطلوب، فمتى تشاغل العابد بختمة في كل يوم، فقد خالف الحنيفية السمحة، ولم ينهض بأكثر ما ذكرناه ولا تدبر ما يتلوه.
__________
(1) صحيح البخاري رقم 1975و5052، كتاب الصوم، وكتاب فضائل القرآن.صحيح مسلم رقم 1159كتاب الصوم، باب صوم الدهر.سنن أبي داود، كتاب الصوم، باب صوم الدهر.سنن النسائي، كتاب الصوم، باب صوم يوم وإفطار يوم.سنن الترمذي، كتاب الصوم، باب ما جاء في سرد الصوم، رقم 770.(16/34)
هذا السيد العابد الصاحب كان يقول لما شاخ: ليتني قبلت رخصة رسول الله ج وكذلك قال له عليه السلام في الصوم، وما زال يناقصه حتى قال له: $صم يوماً وأفطر يوماً، صوم أخي داود عليه السلام#. وثبت أنه قال: $أفضل الصيام صيام داود# ونهى عليه السلام عن صيام الدهر وأمر عليه السلام بنوم قسط من الليل، وقال: $لكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني#.
وكل من لم يَزُمّ نفسه في تعبده وأوراده بالسنة النبوية يندم ويترهب ويسوء مزاجه ويفوته خير كثير من متابعة سنة نبيه الرؤوف الرحيم بالمؤمنين، الحريص على نفعهم، وما زال ج، معلماً للأمة أفضل الأعمال، وآمراً بهجر التبتل والرهبانية التي لم يُبعث بها، فنهى عن سرد الصوم، ونهى عن الوصال، وعن قيام أكثر الليل إلا في العَشْر الأخيرة ونهى عن العزبة للمستطيع ونهى عن ترك اللحم إلى غير ذلك من الأوامر والنواهي، فالعابد بلا معرفة لكثير من ذلك معذور مأجور والعابد العالم بالآثار المحمدية المتجاوز لها مفضول مغرور، وأحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قلَّ، ألهمنا الله وإياكم حسن المتابعة وجنبنا الهوى والمخالفة(1).
هذا وإن في نص رسول الله ج على حق الأخوة الزائرين في قوله $وإن لزورك عليك حقّاً# دليلاً على أهمية التزاور في الله تعالى بين المؤمنين حيث جعل ذلك عملاً من الأعمال الصالحة التي يجب أن تأخذ حيزها في حياة المسلم.
وفي قوله عن داود عليه الصلاة والسلام $ولا يفر إذا لاقى# بيان أن منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عدم الاقتصار على الشعائر التعبدية وإنما كانوا يجمعون بين أنواع العبادة من الصلاة والصيام والجهاد وغير ذلك.
__________
(1) سير أعلام النبلاء (3/84).(16/35)
وممن سار على هذا الاتجاه خطأً ووجههم النبي ج نحو الخط المستقيم في الالتزام بشمول العبادة أبو الدرداء ط وقد أخرج خبره مع سلمان ط الإمام البخاري من حديث أبي جُحيفة ط قال: $آخى النبي ج بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى
أم الدرداء مبتذلة فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً فقال له:
كل، قال: فإني صائم قال: ما أنا بآكل حتى تأكل قال: فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام. ثم ذهب يقوم، فقال نم. فلما كان آخر الليل قال سلمان قم الآن فصلَّيا. فقال له سلمان: إن لربك عليك حقّاً، ولنفسك عليك حقّاً، ولأهلك عليك حقّاً، فأعط كل ذي حق حقه. فأتى النبيَّ ج فذكر ذلك له فقال له النبي ج : صدق سلمان#(1).
ومما جاء عن النبي ج في الأمر بالتوسط والاعتدال في أمور الدين قوله $إن الدين يسر ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة# أخرجه الإمام البخاري من حديث أبي هريرة ط(2).
وقوله $إن الدين يُسر# يعني في حدود استطاعة البشر وليس في تكاليفه ما يشق عليهم { - الله درهم ?? بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله -? - ? - الله أكبر ? - ? - - - - - } { { الله أكبر ? الله الله أكبر ? - بسم الله الرحمن الرحيم - درهم تمهيد - - - - الله ? الله ??? - ? } [ البقرة:286 ].
__________
(1) صحيح البخاري رقم 1968، كتاب الصوم، باب50(4/208).
(2) صحيح البخاري كتاب الإيمان، رقم 39، باب 29 (1/93).(16/36)
وقوله (ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه) قال الحافظ ابن حجر: والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب، قال ابن المنَيّر: في هذا الحديث علم من أعلام النبوة فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع، وليس المراد طلب منع الأكمل في العبادة فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته، كمن بات يصلي الليل كله، ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة أو إلى أن خرج الوقت المختار أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقت الفريضة، وفي حديث محجن بن الأدرع عند أحمد (إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة وخير دينكم اليسرة) وقد يستفاد من هذا الإشارة إلى الأخذ بالرخصة الشرعية، فإن الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصة تنطع، كمن يترك التيمم عند العجز عن استعمال الماء فيفضي به استعماله إلى حصول الضرر.
قوله $فسددوا# أي الزموا السداد وهو الصواب من غير إفراط ولا تفريط، قال أهل اللغة: السداد التوسط في العمل.
قوله $وقاربوا# أي إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه.
قوله $وأبشروا# أي بالثواب على العمل الدائم وإن قلّ والمراد تبشير من عجز عن العمل بالأكمل بأن العجز إذا لم يكن من صنيعه لا يستلزم نقص أجره، وأبهم المبشر به تعظيماً له وتفخيماً.
قوله $واستعينوا بالغدوة# أي استعينوا على مداومة العبادة بإيقاعها في الأوقات المنشطة، والغدوة بالفتح سير أول النهار، وقال الجوهري: ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، والروحة بالفتح السير بعد الزوال، والدُّلجة بضم أوله وفتحه وإسكان اللام سير آخر الليل، وقيل سير الليل كله، ولهذا عبر فيه بالتبعيض ولأن عمل الليل أشق من عمل النهار. أ هـ(1).
__________
(1) فتح الباري (1/94).(16/37)
ومن هذا الحديث الشريف تبين لنا المنهج الوسط بين الإفراط والتفريط في العمل، وأن الإفراط يؤدي في النهاية إلى التفريط في ذلك العمل أو في الأعمال الأخرى.
ولقد تأسى الصحابة ن بالنبي ج في توجيههم التابعين نحو شمول العبادة وعدم التعمق في أنواع محددة منها، ومن ذلك ما جرى من توجيه سلمان ط لطارق بن شهاب، وذلك فيما أخرجه عبدالرزاق الصنعاني قال: أخبرنا الثوري عن أبيه عن المغيرة بن شبيل عن طارق بن شهاب أنه بات عند سلمان ينظر اجتهاده قال: فقام فصلى من آخر الليل، فكأنه لم ير الذي كان يظن، فذكر ذلك له، فقال سلمان: حافظوا على هذه الصلوات الخمس فإنهن كفارات لهذه الجراحات ما لم تُصَب المَقْتَلة، فإذا أمسى الناس كانوا على ثلاث منازل فمنهم من له ولا عليه، ومنهم من عليه ولا له، ومنهم من لا له ولا عليه، فرجل اغتنم ظلمة الليل وغفلة الناس فقام
يصلي حتى أصبح فذلك له ولا عليه، ورجل اغتنم غفلة الناس وظلمة الليل فركب رأسه في المعاصي فذلك عليه ولا له ورجل
صلى العشاء ثم نام فذلك لا له ولا عليه فإياك والحَقْحَقَة
وعليك بالقصد والدوام(1).
وقوله $حافظوا على هذه الصلوات الخمس فإنهن كفارات لهذه الجراحات# يعني للسيئات، وقوله $ما لم تُصَب المَقْتلة# يعني ما لم يرتكب الإنسان شيئاً من كبائر الذنوب، وهذا مقتبس من قول رسول الله ج $الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفراتٌ ما بينهن إذا اجتنب الكبائر# أخرجه مسلم رحمه الله من حديث أبي هريرة ط(2).
وقوله $فإياك والحقحقة# يعني المبالغة في أداء النوافل، وأصل الحقحقة المُتعِب من السير، وقيل هو أن تحمل الدابة على ما لا تطيقه، ذكره ابن الأثير في النهاية.
__________
(1) مصنف عبدالرزاق رقم 148و 4737، وذكر الهيثمي أن الطبراني أخرجه وقال: رجاله موثقون - مجمع الزوائد (1/300)، وحسن المنذري إسناده- الترغيب (1/437).
(2) صحيح مسلم رقم (233/16)، الطهارة باب5 (ص 209).(16/38)
وقال: ومنه حديث مُطرِّف أنه قال لولده $شر السير الحقحقة# وهو إشارة إلى الرفق في العبادة(1).
وقوله $وعليك بالقصد والدوام# يعني الاعتدال في أداء العبادات بحيث لا يطغى جانب على الجوانب الأخرى ثم الاستمرار على ذلك، أما التعمق والمبالغة في بعض النوافل فإنه قد يؤدي إلى تركها بعد ذلك بالكلية.
وفي هذا الخبر بيانٌ لما كان يلاحظه الصحابة ن على بعض شباب التابعين من عدم الاتزان في تطبيق العبادات الإسلامية الناتج من الخطأ في فهم مقاصد الشريعة ولكن خَفَّف كثيراً من هذا الانحراف وجود الصحابة ن واهتمامهم البالغ بتربية التابعين واستجابة هؤلاء لهم لمكانتهم العالية في النفوس.
وكذلك ما جرى من أُبيّ بن كعب ط من الإنكار على من حقَّر الدنيا وزهَّد فيها من غير تفصيل يبين حقيقة الزهد فيها، وذلك فيما أخرجه أبو عبدالله البخاري رحمه الله من حديث أبي نضرة قال: قال رجل منا يقال له جابر أو جويبر: طلبت حاجة إلى عمر في خلافته، فانتهيت إلى المدينة ليلاً، فغدوت عليه وقد أُعطيت فطنة ولساناً
-أو قال منطقاً- فأخذت في الدنيا فصغرتها فتركتها لا تسوى شيئاً، وإلى جنبه رجل أبيض الشعر أبيض الثياب، فقال لما فرغت: كل قولك كان مقارباً إلا وقوعك في الدنيا، وهل تدري ما الدنيا؟ إن الدنيا فيها بلاغنا -أو قال زادنا- إلى الآخرة، وفيها أعمالنا التي يُجزى بها في الآخرة، قال: فأخذ في الدنيا رجل هو أعلم بها مني، فقلت: يا أمير المؤمنين من هذا الرجل إلى جنبك؟ قال: سيد المسلمين أُبيّ بن كعب(2).
هذا وإن هذه التشديدات في توجيه من انحرف قليلاً في التصور الذي نتج عنه عدم الاتزان الكامل في العمل قد تمَّتْ من النبي ج ثم من الصحابة ن، مع ملاحظة أن الانحراف عن الخط المستقيم قد اتجه إلى عمل صالح لكنه ليس على الهدْي النبوي الكامل، فكيف
__________
(1) النهاية في غريب الحديث (1/413).
(2) الأدب المفرد / 168 رقم 476.(16/39)
لو كان هذا الانحراف إلى عمل فاسد أو إلى عمل دنيوي لا يستفيد
منه المسلم في آخرته؟!
ورأت عائشة ك شباباً يمشون ويتماوتون في مشيتهم فقالت لأصحابها: من هؤلاء؟ فقالوا: نساك، فقالت: كان عمر بن الخطاب إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع، وإذا أطعم أشبع، وكان هو الناسك حقّاً(1).
وهكذا رأينا من خلال هذه الأمثلة أن الصحابة ن كانوا جادين في توجيه التابعين وتربيتهم على الاستقامة على المنهج الصحيح الذي يعرض الإسلام ديناً متكاملاً كما جاء من عند الله تعالى من غير تعمق في جانب على حساب الجوانب الأخرى.
ولقد أسهم في هذا التوجيه نحو شمول العبادة بعض علماء التابعين ممن اقتبسوا منهجهم من الصحابة ن ومنهم سعيد بن المسيِّب كما جاء في الخبر الذي رواه مطرِّف بن عبدالله قال حدثنا مالك قال: قال بُردٌ مولى ابن المسيب لسعيد بن المسيب: ما رأيت أحسن مما يصنع هؤلاء قال سعيد: وما يصنعون؟ قال: يصلي أحدهم ثم لا يزال صافّاً رجليه حتى يصلي العصر، فقال: ويحك يا برد أما والله ما هي بالعبادة، إنما العبادة التفكر في أمر الله والكف عن محارم الله(2).
وهذا يشير إلى أمرين:
أحدهما حضور القلب مع الله تعالى وتعظيمه والخشوع له وهذا يرفع العبد إلى درجة المحسنين.
والثاني تقويم السلوك المبني على الورع والوازع الديني الذي يمنع العبد من ارتكاب المخالفات، وهذا مما يستفيده المسلم من الصلاة ذات الخشوع، فكأن سعيد بن المسيب رحمه الله يشير إلى أن صلاة أولئك الشباب لم تكن مشتملة على الخشوع الذي يؤدي إلى هذه النتائج.
ونجد أبا العالية رحمه الله يركز على السلوك وهو يقارن بين عبادة التابعين وعبادة الصحابة ن حيث يقول للتابعين: أنتم أكثر صلاة وصياماً ممن كان قبلكم ولكن الكذب قد جرى على ألسنتكم.
__________
(1) مدارج السالكين (1/521).
(2) سير أعلام النبلاء (4/241).(16/40)
ذكره الإمام الذهبي من رواية معمر عن عاصم عنه(1).
وهذا يفيد بأن الذين كان يخاطبهم أبو العالية كانوا يتنافسون في الإكثار من الشعائر التعبدية من غير أن يكون لها أثر كبير في السلوك مما يدل على أن تعبدهم لم يكن يشتمل بدرجة كافية على الخشوع وحضور القلب مع الله تعالى، أما تعبد الصحابة بالصلاة والصيام فإنه وإن كان أقل مما يفعله بعض التابعين فإن له أثراً بالغاً في تزكية نفوسهم وتقويم سلوكهم، وهذا يعني أنهم كانوا يهتمون بالخشوع وحضور القلب مع الله تعالى، إلى جانب تفوقهم في جانب العبادات الأخرى كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وخدمة المسلمين.
هذا ومن الفوائد الجيدة حول هذا الموضوع ما كتبه الإمام الذهبي تعليقاً على خبر حوار جرى بين العالم العابد أحمد بن أبي الحواري وراهب من النصارى، وقد أخرج ذلك الخبر الحافظ أبو نعيم الأصبهاني من حديث أحمد ابن أبي الحواري قال: قلت لراهب في دير حرملة وأشرف عليَّ من صومعته فقلت: يا راهب اسمك؟ قال: جريج، قلت ما يحبسك في هذه الصومعة؟ قال: حبست فيها [ نفسي ] عن شهوات الدنيا، قلت: أما كان يستقيم أن تذهب معنا ههنا في الأرض وتجئ وتمنع نفسك الشهوات؟ قال: هيهات، هذا الذي تصف أنت في قوة وأنا في ضعف، فحُلْتُ بين نفسي وبينها، قلت: ولمَ تفعل ذلك؟ قال: نجد في كتبنا أن بدن ابن آدم خُلق من الأرض وروحه خلق من ملكوت السماء، فإذا أجاع بدنه وأعراه وأسهره نازع الروح إلى الموضع الذي خرج منه، وإذا أطعمه وسقاه ونوَّمه وأراحه أخلد البدن إلى الموضع الذي خرج منه، فلم يكن شيء أحب إليه من الدنيا، قلت له: فإذا فعل هذا يعجَّل له في الدنيا الثواب؟
قال: نعم، نور يواريه.
قال أحمد: فحدثت به أبا سليمان [ يعني الداراني ] فقال: قاتله الله ما أعجبه! إنهم ليصِفُون(2). [أي يُبَيِّنون أسباب تزكية الروح].
__________
(1) سير أعلام النبلاء (4/210).
(2) حلية الأولياء (10/5).(16/41)
وقد ذكر الحافظ الذهبي هذه الرواية ثم قال: قلت: الطريقة المثلى هي المحمدية، وهي الأخذ من الطيبات، وتناول الشهوات المباحة من غير إسراف كما قال تعالى { - الله ? الله - الله أكبر ? - - - - - الله أكبر الله أكبر الله ? ?? - ? الله - - ? - - المحتويات - ? - الله أكبر ? الله أكبر ? الله ?- جل جلاله -? - - - الله أكبر الله الله أكبر - - الله - الله أكبر - ??? - - المحتويات - ? - الله أكبر ? الله ? صدق الله العظيم ? - - الله ? - - } - - جل جلاله -? - الله أكبر الله ? } [المؤمنون:51] وقد قال النبي ج: $لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآتي النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني# فلم يَشرع لنا الرهبانية، ولا التَّمزُّقَ ولا الوصالَ بل ولا صومَ الدهرِ، ودينُ الإسلام يُسْرٌ وحنيفيَّةٌ سَمْحَة، فليأكل المسلم من الطيب إذا أمكنه، كما قال تعالى { { ?- جل جلاله -?? - - - جل جلاله -? ? - - - ? الله ? الله ? ?- جل جلاله - الله ? - - - جل جلاله -?- جل جلاله - - الله أكبر الله ? الله ? } [الطلاق:7] وقد كان النساءُ أحبَّ شيءٍ إلى نبينا ج(1)، وكذلك اللحمُ والحلواء والعسلُ والشرابُ الحلو البارد والمِسْكُ، وهو أفضل الخلق وأحبُّهم إلى الله تعالى. ثم العابدُ العريُّ من العلم، متى زهد وتبتل وجاع، وخلا بنفسه، وترك اللحم والثمار، واقتصر على الدُّقَّة والكِسْرة، صَفَت حواسُّه ولطُفَت، ولازمته خطرات النفس، وسمع خطاباً يتولد من الجوع والسهر، لا وجود لذلك الخطاب -والله- في الخارج، وولج الشيطان في باطنه وخرج، فيعتقد أنه قد وصل، وخوطب وارتقى، فيتمكن منه
__________
(1) يريد قول رسول الله ج "حُبِّبَ إليَّ من الدنيا النِّساءُ والطِّيبُ، وجُعِلَتْ قُرَّةُ عيني في الصلاة". أخرجه الأئمة أحمد (2/128)، والنسائي (7/61) من حديث أنس ابن مالك رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/160) وأقره الذهبي، كما ذكر محقق سير أعلام النبلاء.(16/42)
الشيطان، ويوسوس له، فينظر إلى المؤمنين بعين الازدراء، ويتذكر ذنوبهم، وينظر إلى نفسه بعين الكمال، وربما آل به الأمر إلى أن يعتقد أنه ولي، صاحبُ كراماتٍ وتمكن، وربما حصل له شك، وتزلزل إيمانُه فالخَلوةُ والجوع أبو جاد الترهب(1)، وليس ذلك من شريعتنا في شيء. بلى، السلوك الكامل هو الورع في القُوتِ، والورع في المنطق، وحفظ اللسان، وملازمة الذكر، وترك مخالطة العامة، والبكاء على الخطيئة، والتلاوة بالترتيل والتدبر، ومقت النفس وذمها في ذات الله، والإكثار من الصوم المشروع، ودوام التهجد، والتواضع للمسلمين، وصلة الرحم، والسماحة وكثرة البشر، والإنفاق مع الخصاصة، وقول الحق المر برفق وتؤدة، والأمر بالعرف، والأخذ بالعفو، والإعراض عن الجاهلين، والرباط بالثغر، وجهاد العدو، وحج البيت، وتناوُل الطيبات في الأحايين، وكثرةُ الاستغفار في السَّحَرِ. فهذه شمائل الأولياء، وصفاتُ المحمديين. أماتنا الله على محبتهم(2).
أما أصحاب التعبد المطلق فهم المتَقَيِّدُون برسول الله ج في أقواله وتقريراته وأفعاله في حله وترحاله، الذين لا تستهويهم بعض التكاليف الشرعية فيتعمقون فيها ويهملون التكاليف الأخرى أو يقصرون في أدائها بل يتنقلون بين أنواع العبادة حسب أوامر الشريعة سواء وافق ذلك هوى نفوسهم أو خالفها.
وقد استقر أمر جميع الصحابة ن على هذا المنهج في حياة النبي ج وبعد وفاته، ولكن حصل الانحراف في عصر التابعين من بعض المتعبدين فتعمقوا في بعض أنواع العبادة على حساب الأنواع الأخرى.
وإنا لنجد أبا بكر ط الذي كان مضرب المثل في البكاء من خشية الله تعالى والإكثار من أداء النوافل نجده وهو يحس بدنو أجله يُشَمِّر عن ساعد الجد في القيام بأمر الجهاد وتقوية الدولة الإسلامية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك حينما قص عليه شرحبيل
__________
(1) أي أساس الرهبانية وأول مراحلها.
(2) سير أعلام النبلاء (12/89-91).(16/43)
بن حسنة رؤيا رآها في فتح الشام وفيها أن هاتفاً هتف به يبشره
بالفتح وتلا عليه قول الله تعالى ( - - - ( { - عليه السلام -( - - - رضي الله عنهم - - ( - ((- رضي الله عنه - الله أكبر ( - - - ( - ( - - (( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ((( - تمهيد ( - - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - { } - } - جل جلاله - - - - - - قرآن كريم ( - ( - ( - - رضي الله عنه - - - (( ( صدق الله العظيم - ( - ( - - - - } صدق الله العظيم - - عليه السلام - قرآن كريم ((- صلى الله عليه وسلم - - ((( ( - ( مقدمة - - - - ( ( - ( - - عليه السلام -- رضي الله عنه -( - - رضي الله عنهم - - ( فهرس - - عليه السلام - - ( فهرس ( - ((((- رضي الله عنه - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - (( مقدمة ( الله أكبر ( { - رضي الله عنه - تمت - - - - - - - { قرآن كريم - - ( [النصر:1-3] ففهم منها أبو بكر أن نفسه قد نُعيت إليه فسالت عيناه وقال: لآمرن بالمعروف ولأنهين عن المنكر، ولأجتهدن فيمن ترك أمر الله، ولأجهِّزَنَّ الجنود إلى العادلين بالله -يعني المشركين- في مشارق الأرض ومغاربها حتى يقولوا: الله أحد
لا شريك له، أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، هذا أمر الله وسنة رسوله ج، فإذا توفاني الله عز وجل لا يجدني الله عاجزاً ولا وانياً ولا في ثواب المجاهدين زاهداً.
- أخرجه ابن عساكر بإسناده عن محمد بن إسحاق(1).
- وأخرجه الأزدي مسنداً إلى أنس بن مالك ط(2).
وهكذا رأينا أن الصحابة ن كما نُصروا بالرعب فقد نصروا بالمبشرات وهي الرؤيا الصالحة كما قال ج.
__________
(1) تاريخ دمشق (1/141).
(2) فتوح الشام للأزدي /14.(16/44)
وفي تفسير أبي بكر لهذه الرؤيا الصالحة نجده وقد أحس بدنو أجله ينهض مشمِّراً للقيام بأمر هذا الدين ونجده ينص على أعمال الخير التي يتعدى نفعها للمسلمين، فيذكر عزمه على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاجتهاد في ردع من ترك أمر الله والجهاد في سبيل الله تعالى حتى تعلو راية التوحيد، ويذلَّ أهل الشرك في مشارق الأرض ومغاربها.
إنه لم يعتزل في بيته ومسجده ليقضي بقية عمره القصير في الشعائر التعبدية التي يقتصر نفعها على فاعلها كالصلاة والصيام مع إدراكه لعظمة هذه الشعائر وأثرها البالغ في حياة المؤمن لأنه يدرك أن أعمال الخير المتعدية أبعد أثراً وأضخم في ميزان الله تعالى، مع إمكان الجمع بينها وبين الشعائر التعبدية من غير إفراط فيها يحمل فاعلها على العزلة واجتناب ما يربطه بالناس، وهذا هو الاعتدال المطلوب من المسلم، وهو الذي وجه إليه النبي ج أصحابه وحذر من الانقطاع للشعائر التعبدية وحدها، وأنكر على من اتجه هذا الاتجاه كما تقدم.
أي أنواع التعبد أفضل؟
بعد أن تبين لنا شمول العبادة لكل عمل مشروع أريد به وجه الله جل وعلا فأي أنواع التعبد أفضل؟
يجيب على ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى بقوله:
ثم أهل مقام (إياك نعبد) لهم في أفضل العبادة وأنفعها وأحقها بالإيثار والتخصيص أربع طرق. فهم في ذلك أربعة أصناف:
الصنف الأول: عندهم أنفع العبادات وأفضلها: أشقها على النفوس وأصعبها.
قالوا: لأنه أبعد الأشياء عن هواها، وهو حقيقة التعبد.
قالوا: والأجر على قدر المشقة. ورووا حديثاً لا أصل له (أفضل الأعمال أحمزها) أي أصعبها وأشقها.
وهؤلاء: هم أهل المجاهدات والجور على النفوس.
قالوا: وإنما تستقيم النفوس بذلك. إذ طبعها الكسل والمهانة، والإخلاد إلى الأرض. فلا تستقيم إلا بركوب الأهوال وتحمل المشاق.(16/45)
الصنف الثاني، قالوا: أفضل العبادات التجرد، والزهد في الدنيا، والتقلل منها غاية الإمكان، واطّراح الاهتمام بها، وعدم الاكتراث بكل ما هو منها.
إلى أن قال الصنف الثالث: رأوا أن أنفع العبادات وأفضلها:
ما كان فيه نفع متعدٍّ، فرأوه أفضل من ذي النفع القاصر. فرأوا خدمة الفقراء، والاشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم، ومساعدتهم بالمال والجاه والنفع أفضل. فتصدوا له وعملوا عليه واحتجوا بقول النبي ج $الخَلْق كلهم عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله# رواه أبو يعلى.
واحتجوا بأن عمل العابد قاصر على نفسه، وعمل النفّاع متعد إلى الغير وأين أحدهما من الآخر؟.
قالوا: ولهذا كان فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب.
قالوا: وقد قال رسول الله ج لعلي بن أبي طالب ط $لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمر النَّعم# وهذا التفضيل إنما هو للنفع المتعدي، واحتجوا بقوله ج $من دعا إلى هُدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء# واحتجوا بقوله ج $إن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير# وبقوله ج $إن العالم ليستغفر له من في السموات ومن
في الأرض، حتى الحيتان في البحر، والنملة في جحرها#.
واحتجوا بأن صاحب العبادة إذا مات انقطع عمله، وصاحب النفع لا ينقطع عمله، ما دام نفعه الذي نسب إليه.
واحتجوا بأن الأنبياء إنما بعثوا بالإحسان إلى الخلق وهدايتهم، ونفعهم في معاشهم ومعادهم لم يبعثوا بالخلوات والانقطاع عن الناس والترهب. ولهذا أنكر النبي ج على أولئك النفر الذين هموا بالانقطاع للتعبد، وترك مخالطة الناس. ورأى هؤلاء التفرق في أمر الله، ونفع عباده، والإحسان إليهم، أفضل من الجمعية عليه بدون ذلك.(16/46)
الصنف الرابع، قالوا: إن أفضل العبادة: العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته. فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد، من صلاة الليل وصيام النهار. بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض،
كما في حالة الأمن.
والأفضل في وقت حضور الضيف مثلاً: القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب. وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل.
والأفضل في أوقات السحر: الاشتغال بالصلاة والقرآن، والدعاء والذكر والاستغفار.
والأفضل في وقت استرشاد الطالب، وتعليم الجاهل: الإقبال على تعليمه والاشتغال به.
والأفضل في أوقات الأذان: ترك ما هو فيه من ورده، والاشتغال بإجابة المؤذن والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرة إليها في أول الوقت، والخروج إلى الجامع. وإن بَعُد كان أفضل.
والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه، أو البدن، أو المال: الاشتغال بمساعدته، وإغاثة لهفته، وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك.
والأفضل في وقت قراءة القرآن: جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه، حتى كأن الله تعالى يخاطبك به. فتجمع قلبك على فهمه وتدبره، والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك.
والأفضل في وقت الوقوف بعرفة: الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك.
والأفضل في أيام عشر ذي الحجة: الإكثار من التعبد، لا سيما التكبير والتهليل والتحميد. فهو أفضل من الجهاد غير المتعين.
والأفضل في العشر الأخير من رمضان: لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم، وإقرائهم القرآن، عند كثير من العلماء.
والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته: عيادته، وحضور جنازته وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك.(16/47)
والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك: أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم، دون الهرب منهم. فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه.
والأفضل خلطتهم في الخير. فهي خير من اعتزالهم فيه، واعتزالهم في الشر، فهو أفضل من خلطتهم فيه. فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قَلَّله فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم.
فالأفضل في كل وقت وحال: إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال. والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه.(16/48)
وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق. والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد. فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص وترك عبادته. فهو يعبد الله على وجه واحد. وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت. فمدار تعبده عليها. فهو لا يزال متنقلاً في منازل العبودية، كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها، واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى. فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره. فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العباد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم، وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله رأيته معهم. فهذا هو العبد المطلق، الذي لم تملكه الرسوم، ولم تقيده القيود، ولم يكن عمله على مراد نفسه، وما فيه لذتها وراحتها من العبادات. بل هو على مراد ربه، ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه فهذا هو المتحقق: $إياك نعبد وإياك نستعين# حقّاً، القائم بهما صدقاً. مَلْبَسه ما تهيأ ومأكله ما تيسر. واشتغاله بما أمر الله به في كل وقت بوقته. ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده خالياً. لا تملكه إشارة. ولا يتعبده قيد. ولا يستولي عليه رسم. حر مجرد. دائر مع الأمر حيث دار، يدين بدين الآمر أنى توجهت ركائبه. ويدور معه حيث استقلت مضاربه. يأنس به كل محق. ويستوحش منه كل مبطل، كالغيث حيث وقع نفع. وكالنخلة لا يسقط ورقها. وكلها منفعة حتى شوكها. وهو موضع الغلظة منه علىالمخالفين لأمر الله، والغضب إذا انتهكت محارم الله(1).
هذا وينبغي أن يعلم أن هذا التفاضل الذي ذكره الإمام ابن القيم إنما هو في النوافل، أما الواجبات فإنه لا بد من أدائها جميعها.
... ... - - - - -
أنواع العبادة من حيث آثارها في المجتمع
__________
(1) مدارج السالكين (1/85-90).(16/49)
وتنقسم العبادة من حيث آثارها في المجتمع إلى قسمين:
عبادات خاصة وعبادات متعدية فأما العبادات الخاصة فهي التي يقتصر نفعها المباشر على فاعلها وإن كان يترتب على انتفاعه بها صلاح المجتمع عموماً وذلك كالصلاة والصيام والذكر.
وأما العبادات المتعدية فهي التي يتعدى نفعها المباشر إلى الآخرين كالصدقة والجهاد والإحسان إلى المسلمين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والانحراف الذي يقع غالباً لدى المسلمين في فهم العبادة يكون بالاتجاه نحو العبادة الخاصة والاكتفاء بها عن العبادات المتعدية، وذلك لأسباب منها:
أولاً: أن أداء هذه العبادات أيسر على النفوس حيث لا يسبقها مراحل من العمل بل يباشرها فاعلها من غير مقدمات بخلاف العبادة المتعدية فالصدقة مثلاً يسبقها العمل المتواصل لجمع المال، والجهاد يسبقه التدريب الطويل على الأسلحة وتحمل الصعاب.
ثانياً: أن مقاومة المثبطات فيها أسهل من مقاومة المثبطات في العبادة المتعدية، فالذي يثبط عن الصلاة والصيام مثلاً هو الكسل وحب الراحة وهذا أمر يسهل التغلب عليه لمن رغب في التوجه نحو العبادة، أما الصدقة مثلاً فإن المثبط عن أدائها هو حب المال، والذي يثبط عن الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الخوف من الناس، وهذان أمران يصعب الخلاص منهما إلا لأقوياء الإيمان.
ثالثاً: أن إطلاق لفظ العبادة غلب على العبادات الخاصة فأصبح إطلاق لفظ العُبَّاد منصرفاً إلى المكثرين من الصلاة والصيام، بينما لا يطلق هذا اللفظ غالباً على المكثرين من الصدقة أو الجهاد أو خدمة المسلمين وإصلاح المجتمع.(16/50)
ولقد كان الرسول ج وأصحابه يجمعون بين النوعين من العبادة، فكانوا يكثرون من الصلاة والصيام إلى جانب ملازمتهم للجهاد والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل ربما ترك أحدهم مواصلة عبادته الخاصة ليقوم بخدمة المسلمين كما فعل عبدالله بن عباس م حين خرج من المسجد وهو معتكف ليشفع لرجل عند الخليفة، وهو في هذه الحال يحصل على أجر العبادتين لأنه خرج من عبادة إلى عبادة.
ومن الآثار السيئة لهذا الفهم القاصر وجود طائفة من المنتسبين للإسلام يلتزمون بالعبادات الخاصة، ويسيرون في سائر سلوكهم وتفكيرهم على مقتضى الأعراف الاجتماعية السائدة والمصالح الخاصة والتقليد أحياناً لأعداء الإسلام، فتجدهم من المواظبين على الصلاة والصيام مثلاً بينما تجدهم يوالون أعداء الإسلام ويعظمون علماءهم ومفكريهم ويطلبون الهداية في علوم النفس والاجتماع والتربية مثلاً من علماء الكفار، ويدافعون عن مناهجهم التي تلقَّوها عنهم بحرارة وحماسة، فهؤلاء يعدُّون جاهلين بمقاصد الإسلام، ونتيجة لهذا الجهل طبقوا بعض تكاليف الإسلام وأهملوا بقية هذه التكاليف، وربما عادَوا من يدعوهم إلى شمول الإسلام، ويغضبون حين يصفهم الدعاة بأنهم مقصرون في فهم الإسلام وتطبيقه لأنهم يرون أن ما هم ملتزمون به هو الإسلام وأن الدعاة إلى فهم حقيقة الإسلام الشاملة متشددون في دعوتهم.
وهؤلاء إن كانوا يظنون أن هذا هو الإسلام فهم مخطئون في فهم مقاصد هذا الدين، وإن كانوا يعلمون مقاصد الإسلام ولكنهم يتخيرون منه ما يوافق أهواءهم مما لا يعرضهم لمقارعة شهواتهم ومخالفة الآخرين فهم مقصرون ومفرطون في تطبيق الإسلام.
... ... - - - - -
نتائج الفهم الشامل والناقص
في الحكم على المسلمين(16/51)
من آثار الجهل بشمول العبادة لكل التكاليف الشرعية والأمور المباحة التي يراد بها وجه الله تعالى أن بعض المسلمين يقعون في شيء من عدم الاتزان في الحكم على الناس سواء في ذلك الثناء أو الذم، فالذين يرون أن العبادة مقصورة على الشعائر التعبدية تكون نظرتهم في الحكم على الناس مترتبة على مدى تعمقهم في هذه العبادات أو تقصيرهم فيها.
ومن السمات البارزة في حياة الصحابة ن الاهتمام الكبير بالشعائر التعبدية مع عدم إهمال تكاليف الإسلام الأخرى.
وكان المكثرون من أداء هذه الشعائر موضع التقدير والإجلال في المجتمع، وقد اتجه بعض الصحابة إلى المغالاة في التعبد الجزئي كما تقدم وأخطؤوا الفهم الشامل للعبادة فوجههم النبي ج إلى القصد والاعتدال فيما توجهوا إليه من أنواع العبادة لينطلقوا إلى إكمال الأنواع الأخرى.
وقد خلص مجتمع الصحابة تماماً من هذا الخلل وأصبح عامراً بالفهم الصحيح لشمول العبادة.
وورث التابعون هذا الفهم الصحيح من الصحابة فكان علماؤهم في الغالب يجمعون بين الاهتمام الكبير بالشعائر التعبدية وسائر تكاليف الإسلام الأخرى.
ولكن على أثر التوسع في الفتوحات الإسلامية وانفتاح الدنيا على المسلمين بدأت النظرة المادية تطغى على المجتمع فكانت المواجهة من قبل الدعاة والمخلصين تقوم في الغالب على التزهيد في الدنيا والحث على الإكثار من أداء الشعائر التعبدية، وكانت هناك غفلة عن شمول العبادة من بعض الدعاة الذين لم يصلوا إلى مرتبة عالية من العلم وهم الذين كانوا يُسمَّون القُصَّاص.
وكانت هذه النظرة القاصرة بداية للانحراف في العبادة لدى بعض الجهال حيث تعمقوا في التعبد الجزئي وأهملوا جوانب الإسلام الأخرى.(16/52)
إن المنهج الإسلامي يحدث توازناً قويماً بين العمل للدنيا والآخرة، وحينما تربى الصحابة ن على هذا المنهج كانت أعمالهم متزنة مستقيمة بحيث لا يطغى في حياتهم الاهتمام بجانب من الدين على حساب الجوانب الأخرى، ولما وقع الخلل بعد ذلك من بعض المسلمين في فهم الإسلام وتطبيقه أصبح هناك نوع من الغلو أو الجفاء في نظر بعض المسلمين إلى المكثرين من أنواع معينة من العبادات حيث أصبحوا موضع التقدير والإجلال من البعض وإن كانوا لا يُبدون اهتماماً بأنواع العبادات الأخرى كالجهاد في سبيل الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإحسان إلى المسلمين بينما أصبحوا يواجهون بشيء من الجفاء الذي قد يصل إلى حد الازدراء من بعض المسلمين الذين وقعوا تحت سيطرة النظرة المادية حيث أصبح علماء الدين يرتفع ذكرهم لدى هؤلاء إذا كانوا من المشتغلين بالدنيا أو ممن لهم جاه ومنزلة عند الولاة.
والحق أن الذين يستحقون كل محبة وتقدير هم أصحاب التعبد المطلق الذين سبق بيان حالهم في كلام الإمام ابن القيِّم -رحمه الله- وهم المقتدون برسول الله ج وصحابته الكرام ن الذين رباهم بنفسه ورعاهم حتى اكتملت تربيتهم.
... ... - - - - -
الفهم القاصر للعبادات الاصطلاحية
على أن هذا الفهم القاصر لمفهوم العبادة بقصرها على ذكر الله تعالى والشعائر التعبدية يتبين منه عدم فهم حِكَم هذه العبادات العظيمة ومقاصدها السامية من قِبَل هؤلاء المقتصرين على هذه العبادات.
وسأكتفي بالكلام على شيء من الخطأ في فهم مقاصد ذكر الله تعالى والصلاة التي هي أعظم الشعائر التعبدية، وسيتبين لنا بعد ذلك أن هذه الحِكَم والمقاصد تدفع مَن فهمها إلى فهم شمول العبادة.
المقاصد السامية من ذكر الله تعالى:(16/53)
إن الذكر لا يكون حقيقياَّ ولا مؤثراً إلا إذا صدر من القلب سواء وافقه اللسان وهو الأكمل أو اقتصر على القلب، وإن أعظم مقاصد الذكر أن تستقر عظمة الله تعالى في قلب الذاكر، وذلك لأن القلب هو مستقر حقائق الإيمان، فإذا كان القلب الذاكر قد امتلأ بالإيمان بالله جل وعلا وأُفعِم بحبه وإجلاله والخوف منه والرجاء لما عنده فإنه غير قابل للمزاحمة بتأثير القوى الأخرى، ويكون محصَّنا من أن يتسرب إليه تعظيم غير الله تعالى أو الخوف منه أو رجاؤه، وبالتالي فإنه ينطلق في أُفُقه الرحيب، حيث يلبي نداء الفكر الصافي والعقل السليم، فيتحدد سلوك صاحبه في هذه الحياة وفق ميزان واحد لا يتبدل ولا يتغير، وهو إخضاع الفكر والسلوك لما يرضي الله سبحانه وإن سخط جميع البشر، واجتناب ما يسخطه جل وعلا وإن رضي جميع البشر، فتكون أعمال هذا الذاكر منسجمة مع شريعة الله تعالى.
وإننا حينما ننظر إلى جهاد موسى عليه الصلاة و السلام في تحطيم طغيان فرعون ثم نقارن بينه وبين العمل الذي عزم على القيام به بقوله { { ? - ? ?? الله - الله - جل جلاله - - الله أكبر الله { - الله أكبر ? - - } - - جل جلاله - - - ? } - - { ?? الله - - } - - الله الله أكبر ? الله ? - } } - - جل جلاله - - الله أكبر الله } } - - { } [طه:33-34] وذلك حينما دعا ربه جل وعلا بأن يعينه بأخيه هارون عليه الصلاة والسلام… حينما نقارن بين ذلك نجد الفهم الدقيق والإدراك العميق لحقيقة ذكر الله تعالى.(16/54)
فهل بقي موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام يذكران الله تعالى في صومعة حتى أدركتهما الوفاة؟! الواقع أنهما قاما على الفور بالجهاد لاستخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فكان المقصد الأعلى من ذكر الله تعالى هو أن ينتزعا من عقول الناس طغيان فرعون وهيمنته على النفوس ليحل محلها تعظيم الله جل وعلا، فإنه ما دام يُخيِّم على العقول تعظيم القوى البشرية فلن يصل ذكر الله تعالى إلى شغاف القلوب وإن تردد على الألسنة.
وقد قرن الله جل وعلا بين أمر موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام بذكره تعالى وقيامهما بدعوة فرعون، حيث يقول سبحانه
{ { درهم الله ? - - - - ? - ? - - - ??? - - - - - الله ? ?- جل جلاله - - - الله أكبر الله الله أكبر ? - - الله الله أكبر الله أكبر - - الله درهم الله ? - الله - - جل جلاله -? الله الله أكبر - ? ? - - - ?- جل جلاله - - } - - { - - الله - الله أكبر الله ? - - - - - عليه السلام -? - ? - تمهيد - الله ? صدق الله العظيم ? الله ?? - الله أكبر - جل جلاله -? - سبحانه وتعالى - - ? بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? تمهيد - - - عليه السلام -? الله ?? - ? } - - { } [طه:42-43]. قال الحافظ ابن كثير: وقوله { { درهم الله ? - - - - ? - ? - - - ??? - - - - - الله ? ?- جل جلاله - - - الله أكبر الله الله أكبر ? - - الله الله أكبر الله أكبر - } أي بحججي وبراهيني { - الله درهم الله ? - الله - - جل جلاله -? الله الله أكبر - ? ? - - - ?- جل جلاله - - } قال علي بن طلحة عن ابن عباس: لا تبطئا، وقال مجاهد عن ابن عباس:
لا تضعفا، والمراد أنهما لا يفتران في ذكر الله، بل يذكران الله في حال مواجهة فرعون ليكون ذكر الله عوناً لهما عليه وقوة لهما، وسلطاناً كاسراً له، كما جاء في الحديث $إن عبدي كلَّ عبدي الذي يذكرني وهو مناجزٌ قِرنه#(1).
__________
(1) تفسير ابن كثير (3/166).(16/55)
ولقد كان رسول الله ج أعظم الذاكرين الله تعالى، ومع ذلك كان أعظم المصلحين والمجاهدين، ولقد كان من نتائج ذكره العميق قيامه بمحاربة الطغيان في عهده، المتمثل في إنكار هيمنة البشر على حق التشريع من دون الله تعالى(1).
- - - - -
الصلاة الكاملة وأثرها في الدنيا والآخرة
الصلاة الكاملة مظهر ومخبر، فمظهرها أداؤها كاملة بشروطها وأركانها وواجباتها وسننها.
ومخبر الصلاة الخشوع وهو سكون القلب الذي يترتب عليه سكون الجوارح، وهو مبني على حضور القلب مع الله تعالى ومع الصلاة، وحيث إن هذا الموضوع يحتاج فيه المسلمون إلى بيان وتذكير لعدم الاهتمام به في مناهج الفقه الدراسية ولأهميته البالغة في كمال هذه العبادة العظيمة فإنني أرى من المهم الإشارة إليه بشيء من التفصيل.
فالخشوع هو روح الصلاة وجوهرها، ولذلك جعله الله تعالى أول صفات المؤمنين الذين حكم لهم بالفلاح في قوله تعالى { صدق الله العظيم - الله أكبر الله ? الله - - الله أكبر { ? الله أكبر ? - - - الله ?? - ?- جل جلاله -? صدق الله العظيم ? - ? - ? - - } - { الله ??- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - ?? - ? ? ?? - ?- جل جلاله - - ? - الله ? الله ?? - ?- جل جلاله -? - الله أكبر الله الله أكبر - } - { } [المؤمنون:1-2].
وهو سكون القلب وخضوعه وتَذَلُّله لله عز وجل، كما أخرج أبو جعفر ابن جرير الطبري عن ابن عباس م أنه قال في قوله تعالى: { الله ??- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - ?? - ? ? ?? - ?- جل جلاله - - ? - الله ? الله ?? - ?- جل جلاله -? - الله أكبر الله الله أكبر - } خائفون ساكنون.
وذكر عن علي بن أبي طالب ط أنه قال: الخشوع في القلب، وأن تُلين للمرء المسلم كنفك ولا تلتفت.
وعن الحسن البصري قال: كان خشوعهم في قلوبهم، فغضوا بذلك البصر، وخفضوا الجناح.
__________
(1) تنظر رسالة شمول العقيدة.(16/56)
وقال ابن جرير في معنى الآية: والذين هم في صلاتهم متذللون لله بإدامة ما ألزمهم من فرضه وعبادته، وإذا تذلل لله فيها العبد رؤيت ذلة خضوعه في سكون أطرافه وشغله بفرضه، وتركه
ما أُمر بتركه فيها(1).
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي: وأصل الخشوع هو لين القلب ورقته وسكونه وخضوعه وانكساره وحرقته، فإذا خشع القلب
تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء لأنها تابعة له، كما قال
رسول الله ج: $ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب#(2).
فإذا خشع القلب خشع السمع والبصر والرأس والوجه وسائر الأعضاء وما ينشأ منها حتى الكلام، لهذا كان النبي ج يقول في ركوعه في الصلاة: $خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي#(3).
ورأى بعض السلف رجلاً يعبث بيده في الصلاة فقال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه.
ورُوي ذلك عن حذيفة ط وعن سعيد بن المسيب، ويروى مرفوعاً لكن بإسناد لا يصح(4).
آثار الخشوع في الصلاة:
من الآثار المترتبة على الصلاة الكاملة المشتملة على الخشوع
ما يلي:
1- تحقق إقامة ذكر الله تعالى في الأرض:
__________
(1) تفسير الطبري (18/2-3).
(2) أخرجه الإمام البخاري، كتاب الإيمان رقم 39.
(3) أخرجه الأئمة مسلم رقم 771، وأبو داود، كتاب صلاة المسافر/ 119، والترمذي، كتاب الدعوات 22، وأحمد 1/94،102،119.
(4) الخشوع في الصلاة /26-27.(16/57)
وهذه هي أبرز الحِكَم من شرعية الصلاة، قال الله تعالى: ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - فهرس - - قرآن كريم فهرس - - ( - - - } - - ( { فهرس - - قرآن كريم فهرس - - ( - - - - - - - ( - - - ((- رضي الله عنه -( (( - - - رضي الله عنه -(( - - (( - - - ( - - - - ( - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ( - ( - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - - ( - - رضي الله عنهم - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( بسم الله الرحمن الرحيم فهرس - ((- رضي الله عنه - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم (( - - جل جلاله -(( - - ([العنكبوت:45] فإقامة ذكر الله تعالى في الأرض أعظم مقاصد الصلاة.
2- خشية الله تعالى:
من الآثار الإيمانية التي يولدها الخشوع في الصلاة القائم على حضور القلب مع الله تعالى إحياء معاني الخوف من الله عز وجل لأن شعور المصلي بأنه واقف بين يدي الله سبحانه مع تذكر عظمته وهيمنته الكاملة على خلقه يزيد من إحساسه بخشية الله سبحانه، كما رُوي عن علي بن الحسين زين العابدين رحمه الله أنه كان إذا توضأ اصفر وجهه وارتجفت أطرافه، فقيل له في ذلك فقال: ويْحَكم أتدرون بين يدي من سأقف!!
3- فاعلية الصلاة في محو الخطايا:
وقد جاء في ذلك أدلة كثيرة منها ما أخرجه الإمام مسلم من حديث عثمان ط أن النبي ج قال: $ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يُؤْتِ كبيرة(1) وذلك الدهر كله#(2).
فهذا الحديث الشريف يبين لنا آثار الصلاة الكاملة في محو الخطايا وفيه إشارة إلى مَخْبر الصلاة ومظهرها فمن الإشارة
__________
(1) أي ما لم يعمل معصية كبيرة.
(2) صحيح مسلم، رقم 228، كتاب الطهارة (ص 206).(16/58)
إلى مخبر الصلاة ذكر الخشوع، ومن الإشارة إلى مظهر الصلاة
ذكر الوضوء الذي يعبر عن شروط الصلاة، وذكر الركوع الذي يعبر عن أركان الصلاة.
وقوله $ما لم يُؤْتِ كبيرة# يبين أن الصلاة وسائر الأعمال الصالحة يكفِّر الله تعالى بها الذنوب الصغيرة، وعلى ذلك يحمل قول الله تعالى
{ الله الله ? تمهيد - - - - - الله أكبر الله الله أكبر ? الله { الله - - ? - - الله ? صدق الله العظيم } - جل جلاله -? - - - الله أكبر ? - - - - الله - الله أكبر الله أكبر الله - - الله أكبر - عز وجل - - الله أكبر { ? - - ??- جل جلاله -? - الله - - عليه السلام -? الله - - ?- جل جلاله - - - ? الله أكبر ? - - - جل جلاله -? - بسم الله الرحمن الرحيم - - ?- جل جلاله -? } [هود:114] ويدل على ذلك أيضاً قول الله تعالى : { ? تمهيد - - المحتويات - ? - - - جل جلاله -? الله أكبر الله أكبر الله الله أكبر - ? مقدمة صدق الله العظيم ? - الله - تمهيد - ? - - الله - الله } - الله ? الله ? صدق الله العظيم ? الله ? صدق الله العظيم الله أكبر ? - الله أكبر - - ? الله أكبر الله أكبر صدق الله العظيم ? الله ? ? - بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله -? - ? - الله أكبر ? صدق الله العظيم ? الله أكبر ?? الله ? صدق الله العظيم ? الله أكبر ?- جل جلاله - - - - الله الله أكبر الله أكبر الله - جل جلاله - - الله ? } [النساء:31] وقول رسول الله ج $الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفراتٌ ما بينهن إذا اجتنب الكبائر# أخرجه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة ط(1).
أما الكبائر فإنه لا يكفرها إلا التوبة النصوح أو رحمة الله تعالى.
__________
(1) صحيح مسلم، رقم 233/16، الطهارة (ص209).(16/59)
ومما يدل أيضاً على أن الخشوع في الصلاة له أثر في مغفرة الذنوب ما أخرجه الإمام أبو داود من حديث عبادة بن الصامت ط قال: سمعت رسول الله ج يقول $خمس صلوات افترضهن الله تعالى، من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه#(1).
وهذا الحديث والحديث الأول يبينان لنا أهمية الخشوع في الصلاة، حيث جاء ذكره بين شروط الصلاة وأركانها، فالوضوء والوقت من شروط الصلاة، والركوع من أركانها.
وكذلك مما يدل على أثر الخشوع في الصلاة في مغفرة الذنوب
ما أخرجه الشيخان من حديث حُمران مولى عثمان أن عثمان
بن عفان ط دعا بوضوء فتوضأ -فذكر كيفية وُضوئه إلى أن قال: رأيت رسول الله ج توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال رسول الله ج $من توضأ نحو وضوئي هذا ثم قام فركع ركعتين لا يُحدِّث بهما نفسه غُفِر له ما تقدم من ذنبه#(2).
ومن ذلك ما أخرجه مسلم بن الحجاج رحمه الله من حديث عمرو بن عبْسه السُّلَمي ط في خبر إسلامه، وقد جاء فيه بعد ذكر الوضوء $فإنْ هو قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجَّده بالذي هُوَ له أهل وفرَّغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه#(3).
فقد جعل النبي ج تفريغ القلب لله تعالى في أثناء الصلاة وعدم تحديث النفس بأمور الدنيا شرطاً في كون الصلاة مكفِّرة للذنوب.
4- قبولها عند الله تعالى وأثرها في رفع الدرجات في الجنة:
فأما قبولها فقد اتفق العلماء على أن الصلاة لا يثاب عليها فاعلها إلا بمقدار ما يحضر قلبه فيها، وإنما اختلفوا في إجزائها وحكم إعادتها لمن لم يحضر قلبه مع الصلاة.
يقول الإمام ابن القيم في ذلك:
__________
(1) سنن أبي داود، رقم 425، الصلاة، (1/295).
(2) صحيح مسلم، رقم 226، الطهارة (ص 204).صحيح البخاري، رقم 159،
الوضوء (1/259).
(3) صحيح مسلم، رقم 832، صلاة المسافرين (ص569).(16/60)
وقد اختلف الفقهاء في حكم إعادة الصلاة لمن غلب عليه الوسواس فلم يحضر قلبه مع الصلاة فأوجبها ابن حامد من الحنابلة وأبو حامد الغزالي كما ذكر ذلك في الإحياء، ولم يوجبها أكثر الفقهاء واحتجوا بأن النبي ج أمر من سها في صلاته بسجدتي السهو ولم يأمره بالإعادة مع قوله $إن الشيطان يأتي أحدكم في صلاته فيقول: اذكر كذا اذكر كذا -لما لم يكن يذكر- حتى يضلَّ أن يدري كم صلى#، ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله ثم قال: ولكن لا نزاع أن هذه الصلاة لا يثاب على شيء منها إلا بقدر حضور قلبه وخضوعه، كما قال النبي ج: $إن العبد لينصرف من الصلاة ولم يكتب له إلا نصفها ثلثها ربعها - حتى بلغ عشرها#(1) وقال ابن عباس م $ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها#.
فليست صحيحة باعتبار ترتب كمال مقصودها وإن سمِّيتْ صحيحة باعتبار أنا لا نأمره بالإعادة، ولا ينبغي أن يعلَّق لفظ الصحة عليها فيقال: (صلاة صحيحة) مع أنه لا يثاب عليها فاعلها (2).
__________
(1) أخرجه أبو داود من حديث عمار بن ياسر م قال: سمعت رسول الله ج يقول: $إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها# سنن أبي داود، رقم 796، الصلاة (1/503)، وأخرجه أيضاً الإمام أحمد- المسند (4/319)، ومحمد بن نصر - تعظيم الصلاة رقم 152.
(2) مدارج السالكين (1/112).(16/61)
وبهذا يتبين لنا أن الخشوع في الصلاة لازم لقبولها، ولكن الله جل وعلا يجبر العمل الناقص في الواجبات بما يقدمه العامل من الحسنات، فلعل الله تعالى أن يغفر لمن غلبه شرود الذهن بإكثاره من النوافل، غير أن الخشوع في الصلاة بشكل كامل أو قريب من الكمال يبقى علامة تمييز للمقربين السابقين بالخيرات، وعلى رأسهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فليعترف بالتقصير كل من انتابه شرود الذهن في الصلاة، وليعلم أن عباداً لله تعالى قد تفوقوا عليه كثيراً حينما استطاعوا أن يرفضوا الدنيا من تفكيرهم حين شروعهم في الصلاة.
وقول عبدالله بن عباس م الذي نقله الإمام ابن القيم يشبه قول عمار بن ياسر م $لا يكتب للرجل من صلاته ما سها عنه#(1).
فالأمر واضح في عدم ترتب الثواب على الصلاة التي يحدِّث الإنسان بها نفسه بأمور دنيوية، كما أنه واضح في إجزاء تلك الصلاة وعدم وجوب إعادتها لظهور الدليل في الأمرين، ولكن هل يأثم من حدَّث نفسه في صلاته بأمور دنيوية؟
الواقع أن من غلب عليه حديث النفس ذلك ولم يتعمده فإنه يكون داخلاً في النسيان، وبالتالي يكون معفواً عنه لقول رسول
الله ج $إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه# أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس م(2) وذكره الحافظ ابن حجر وقال: ورجاله ثقات(3).
لكن من تذكَّر ذلك واستمر في حديث النفس عمداً فإن هذا معرَّض للإثم لأن هذا العمل فيه استهانة بالصلاة.
والمقصود بانصراف الفكر الذي يؤثر في قبول الصلاة أن ينصرف
الفكر إلى الأمور الدنيوية، أما انصرافه إلى أمور الآخرة فالظاهر أنه انتقال من عبادة إلى عبادة، فلا يؤثر ذلك في ترتب الثواب على فعل الصلاة، لكن لا يجوز تعمد ذلك.
__________
(1) المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الآثار للحافظ
العراقي (1/166).
(2) سنن ابن ماجة رقم 2045، الطلاق (1/659).
(3) فتح الباري (5/161).(16/62)
ومما يدل على عدم تأثير ذلك على الصلاة ما أخرجه الإمام البخاري من حديث عقبة ط قال: صليت مع النبي ج العصر، فلما سلم قام سريعاً، دخل على بعض نسائه، ثم خرج ورأى
في وجه القوم تعجبهم لسرعته فقال: $ذكرت - وأنا في الصلاة- تِبْراً عندنا فكرهت أن يمسي - أو يبيت - عندنا فأمرت بقسمته#(1).
وهذا ليس المقصود منه الاستغراق في التفكير، وإنما هو مجرد خاطر خطر على قلب النبي ج .
ولكن ورد ما يدل على شيء من الاستغراق في التفكير في أمور الدين من عمر ط كما جاء في قول الإمام البخاري: وقال عمر إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة.
قال الحافظ ابن حجر: وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن أبي عثمان النهدي عنه بهذا سواء.
قال: وروى صالح بن أحمد بن حنبل في كتاب (المسائل) عن أبيه من طريق همام بن الحارث أن عمر صلى المغرب فلم يقرأ، فلما انصرف قالوا: يا أمير المؤمنين إنك لم تقرأ، فقال: إني حدثت نفسي وأنا في الصلاة بِعِيرٍ جهزتها من المدينة حتى دخلَت الشام، ثم أعاد القراءة، قال: ومن طريق عياض الأشعري قال: صلى عمر المغرب فلم يقرأ فلما انصرف قالوا: يا أمير المؤمنين إنك لم تقرأ فأقبل على عبدالرحمن بن عوف فقال: صدق، فأعاد، فلما فرغ قال: لا صلاة ليست فيها قراءة، إنما شغلني عير جهزتها إلى الشام فجعلت أتفكر فيها قال: وهذا يدل على أنه إنما أعاد لترك القراءة لا لكونه كان مستغرقاً في الفكرة(2).
وأما أثر الصلاة في رفع الدرجات في الجنة فمن أدلة ذلك ما أخرجه الإمام مسلم من حديث معدان بن أبي طلحة اليعمري قال: "لقيت ثوبان مولى رسول الله ج فقلت: أخبرني بعمل يدخلني الله به الجنة - أو قال قلت: بأحب الأعمال إلى الله - فسكت، ثم سألته فسكت، ثم سألته الثالثة فقال: سألت عن ذلك رسول الله ج فقال: $عليك بكثرة السجود فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب العمل في الصلاة رقم 1221، والتِّبر الذهب.
(2) فتح الباري (3/90).(16/63)
بها درجة وحط عنك بها خطيئة#.
قال معدان: ثم لقيت أبا الدرداء فسألته فقال لي مثل
ما قال ثوبان(1).
وكذلك ما أخرجه الإمام مسلم أيضاً من حديث ربيعة
بن كعب الأسلمي قال: $كنت أبيت مع رسول الله ج فأتيته بوَضوئه وحاجته فقال لي: سَلْ، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال:
أوَ غير ذلك؟ قلت: هو ذاك، قال: فأعنِّي على نفسك
بكثرة السجود#(2).
وإذا كان كثرة السجود يُبلغ صاحبه مرافقة رسول الله ج في الجنة فإن ذلك دليل على أن الصلاة ترفع صاحبها في درجات الجنة لأن النبي ج في الدرجات العليا من الجنة.
ومعلوم أن المقصود بهذه الصلاة الصلاة الكاملة التي تشتمل على الخشوع، لأنها هي الصلاة المقبولة عند الله تعالى.
ومما جاء فيه التصريح بذكر الخشوع وأثر ذلك في الحصول على الثواب في الجنة ما أخرجه الإمامان أبو داود والنسائي من حديث عقبة بن عامر الجهني ط أن رسول الله ج قال: $ما من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلي ركعتين يُقبل بقلبه ووجهه عليهما
إلا وجبت له الجنة#(3).
5- تحقق أثرها في تهذيب السلوك في هذه الحياة:
فأما تقويم سلوك الإنسان فبينه الله تعالى بقوله ( - - ( { فهرس - - قرآن كريم فهرس - - ( - - - - - - - ( - - - ((- رضي الله عنه -( (( - - - رضي الله عنه -(( - - (( - - - ( - - - - ( - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ([العنكبوت:45] ومفهوم الآية أنها تأمر بالمعروف والإحسان. فالصلاة التي يُحضر فيها المصلي قلبه مع الله تعالى خمس مرات في اليوم والليلة على الأقل كفيلة بأن ترفعه إلى الاستقامة على أوامر الله تعالى وأن تردعه عن ارتكاب ما نهى عنه.
__________
(1) صحيح مسلم رقم 488، كتاب الصلاة (ص353).
(2) صحيح مسلم رقم 489، كتاب الصلاة (ص353).
(3) سنن أبي داود، رقم 906، الصلاة (1/557)، سنن النسائي، الوضوء (1/95).(16/64)
إن عبداً قد انقطع إلى معبوده يناجيه بلسانه وقلبه ويستلهم منه الهداية والقوة يبعد منه أن يميل بعد لحظات إلى معصيته، وإن استطاع شياطين الجن والإنس أن يؤثروا عليه فيزينوا له الشهوات المحرمة
فإن له في لقائه الآخر القريب مع الله تعالى ما يطرد عنه
هذه الوساوس والأوهام.
ولعل ذلك من حكمة تكرار الصلوات المفروضة خمس مرات في اليوم والليلة إلى جانب الصلوات التي شرعت بينها، خاصة في الأوقات الطويلة نسبيّاً كصلاة الليل وصلاة الضحى.
أما ما نراه في المجتمع الإسلامي من كثرة المصلين وهم مع ذلك يرتكبون الفواحش والمنكرات فَمَرَدُّ ذلك إلى أنهم لم يقيموا صلواتهم على منهج الله تعالى ومراده لأن صلاتهم تفقد أهم مكوناتها الأساسية ألا وهو حضور القلب مع الصلاة الذي يترتب عليه الخشوع، وبالتالي فإن صلاتهم لا تؤثر في سلوكهم لأن ذلك واضح من تصرفاتهم في حياتهم ولا تقربهم من الله تعالى لأن قلوبهم ليست معه جل وعلا.
ولهذا إذا رأينا مسلماً يرتكب المنكرات فمما يجدي معه أن نقول له: ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - فهرس - - قرآن كريم فهرس - - ( - - - } - - ( { فهرس - - قرآن كريم فهرس - - ( - - - - - - - ( - - - ((- رضي الله عنه -( (( - - - رضي الله عنه -(( - - (( - - - ( - - - - ( - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( وأن نبين له صفة الصلاة الكاملة المؤثرة، فإذا ضمنا منه أداء الصلاة كاملة كما شرعها الله تعالى فإنه حَريٌّ به أن يُقلع عن ارتكاب الفواحش والمنكرات كما ذكر الله سبحانه.(16/65)
ولهذا يجب أن نربي أبناءنا على أداء هذه الصلاة المشتملة على الخشوع حتى نهيئهم بعون الله وتوفيقه لحياة صالحة سعيدة، ولن نحتاج بعد ذلك إلى جهد كبير في تربيتهم على الفضيلة وتحذيرهم من الرذيلة، لأنه يكفي مع إقامة الصلاة على وجهها أن يعرفوا الفضائل فيستقيموا عليها وأن يعرفوا الرذائل فيجتنبوها على الفور.
فالصلاة الكاملة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر لأنها تقوي الإيمان بالله تعالى وتعمق في نفس المصلي تعظيمه سبحانه والخوف من عذابه ورجاء ثوابه، وإذا تعمق هذا الشعور الإيماني في قلب المسلم فإنه يتكوَّن لديه الوازع الديني الذي يدفعه إلى الفضائل ويردعه عن الرذائل، وبالتالي يكون حَكَماً على تصرفاته وسلوكه في هذه الحياة.
ولقد فهم الكفار من قوم شعيب عليه الصلاة والسلام دعوته إلى هذه المزية من مزايا الصلاة فذكروا ذلك له بأسلوب من السخرية والإنكار وذلك فيما حكاه الله سبحانه عنهم بقوله { المحتويات - ? - الله أكبر ? - الله الله أكبر ? ? درهم صدق الله العظيم - الله أكبر الله ? - ? - الله أكبر الله الله أكبر ? ?? - الله أكبر - - ? - الله أكبر ? الله ? - - - ?? - - - ? - - - الله الله أكبر - ? - - - ?? - - صدق الله العظيم الله أكبر - بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? - الله ? - - - - الله أكبر صدق الله العظيم ? الله الله أكبر ? - - الله الله أكبر ? - ? - - الله أكبر الله الله أكبر - - - ? صدق الله العظيم ? - - - ? - - - الله ? الله ? { الله أكبر ? الله أكبر بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? ??- جل جلاله -? - الله الله أكبر ?- جل جلاله -? - الله ? صدق الله العظيم ? - - -(16/66)
- الله ? - المحتويات - - - - ? - - الله أكبر الله أكبر الله ? الله الله أكبر ? ?? بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? تمهيد - - ? - ? - ? - - درهم ?- رضي الله عنهم - - - جل جلاله -? الله - - ? - - - - - - جل جلاله -? الله الله - ? - - } - - { } [هود:87] .
فقوم شعيب عليه الصلاة والسلام ينكرون عليه أن أمرهم بالصلاة لله تعالى التي تمنعهم من السجود للأوثان ومن التصرف في أموالهم بما لا يُرضي الله تعالى وقد كانوا يطففون في المكاييل والموازين ويبخسون الناس أشياءهم.
ألا وإن صلاته عليه الصلاة والسلام لتأمره بجميع الفضائل وتنهاه عن جميع الرذائل رغم أنوف الحيارى الحاقدين الذين قصرت أفهامهم عن إدراك المقاصد العالية للتكاليف الشرعية. وقد قرن الله تعالى بين إضاعة الصلاة واتباع الشهوات حيث يقول سبحانه
( - ?? الله الله أكبر ? الله - الله الله أكبر ? - ?- جل جلاله -? ??- جل جلاله -?- جل جلاله - - صدق الله العظيم ? الله الله أكبر - - صلى الله عليه وسلم -? - ? الله - المحتويات - ? - ? - الله ? - - - الله ? - ? الله الله أكبر ? - ??? - - المحتويات - ? - ? الله - الله أكبر بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر - - - الله ? - - - - الله ? الله ? - ? الله أكبر ? - ? - - ???? الله { الله الله أكبر ? الله ??? الله ? - ? الله الله أكبر ? - - الله الله أكبر - الله الله أكبر ?? } - - { ( [مريم:59]، مما يدل على أهمية الصلاة وأثرها في حجر صاحبها عن الركون إلى الشهوات، وقوله ( - - الله الله أكبر - الله الله أكبر ?? ( أي خسراناً،كما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس م(1).
6- تحقق أثرها في الصبر على الشدائد:
__________
(1) تفسير ابن كثير (3/137).(16/67)
أمر الله تعالى نبيه ج بقيام الليل: ( - الله ? الله - الله أكبر ? - - - - - الله أكبر الله أكبر الله الله أكبر ? - ? الله - جل جلاله -? الله الله { - ? - ? - - } - { - جل جلاله -- رضي الله عنهم - - الله أكبر ? الله ? الله أكبر صدق الله العظيم - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - - بسم الله الرحمن الرحيم - درهم تمهيد - - ? - - - جل جلاله -? الله الله أكبر ? } - { ( ثم أتبع ذلك بقوله ( - بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? - تمهيد - ?- جل جلاله -? - ? - ? الله ? ?? صدق الله العظيم - - ? الله ? ? - درهم ?? الله الله أكبر ? ? - - - جل جلاله -? - - } - { ( [المزمل: 1-5] مما يدل على مكانة الصلاة في الإعانة على تحمل الشدائد ومواجهة الصعاب.
لقد كان رسول الله ج يواجه عنتاً وشدة من الكفار، ولقد كان في أمره بقيام الليل وما يتزود به في مناجاة الله تعالى من زاد روحي كبير أكبر العون على مواجهة متاعب الحياة وقسوة المخالفين.
ولقد قرن الله تعالى الأمر بالصلاة بالأمر بالصبر في مواجهة الشدائد وتحمل الصعاب حيث يقول جل وعلا ( المحتويات - ? - ? - - جل جلاله -? الله - الله أكبر صدق الله العظيم ? - - الله ?(16/68)
- } صدق الله العظيم } - ??? - - - جل جلاله - - - - جل جلاله -? - ? - ? - ??? - - الله ? - الله ? بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? تمهيد - - الله ? - ? - الله - - جل جلاله - - - ? - ? - بسم الله الرحمن الرحيم - درهم تمهيد - - ? - ? الله ? الله ? - - جل جلاله -?- جل جلاله -? - الله أكبر الله - - ? - - } - - { الله ??- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - الله ?? الله - الله أكبر ? - الله أكبر ?? الله الله أكبر ? ? - ? بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? - - - المحتويات - ? - الله أكبر ? - الله أكبر - ? الله - ? ?? - ?- جل جلاله - الله الله أكبر - الله } ?? - ? بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? - - - الله ? - جل جلاله -? صدق الله العظيم - الله أكبر - ? تمهيد - - الله ?? - ?- جل جلاله - - - الله } } - تمهيد { ( [البقرة:45-46]،
ويقول ( - الله ? الله - الله أكبر ? - - - - - الله أكبر الله أكبر الله الله أكبر ? الله ??- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - المحتويات - ? - ? الله أكبر الله ? - - ? المحتويات - ? - ? - - جل جلاله -? الله - الله أكبر ?? - - - } صدق الله العظيم } - ??? - - - جل جلاله - - - - جل جلاله -? - ?? - ??? - - الله ? الله الله ? تمهيد - - - ? الله - - -
الله ? الله ? الله ?? - } - جل جلاله - } - الله أكبر - ??? - - } - - - { ( [البقرة:153] وقوله ( - الله ? بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? تمهيد - - الله ? - ? - الله - - جل جلاله - - - ? - ? ( يعني الصلاة، أو الوصية المفهومة من الآية بالجمع بين الصبر والصلاة. ولقد كان الأنبياء عليهم السلام يفزعون إلى الصلاة عند الشدائد كما جاء(16/69)
في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد من حديث صهيب ط قال: $كان رسول الله ج إذا صلى همس شيئاً لا نفهمه ولا يحدثنا به قال: فقال رسول الله ج، فطنتم لي؟ قال قائل: نعم، قال: فإني قد ذكرت نبيّاً من الأنبياء أُعطِيَ جنوداً من قومه فقال: من يكافئ هؤلاء! فأوحى الله إليه: اختر لقومك بين إحدى ثلاث، إما أن أسلط عليهم عدوّاً من غيرهم أو الجوع أو الموت، قال: فاستشار قومه في ذلك، فقالوا: أنت نبي الله نَكِلُ ذلك إليك فَخِرْ لنا، قال: فقام إلى صلاته، وكانوا يفزعون إذا فزعوا إلى الصلاة، قال: فصلى، قال: أما عدوٌّ من غيرهم فلا، أو الجوع فلا، ولكن الموت، قال: فسلط عليهم الموت ثلاثة أيام فمات منهم سبعون ألفاً فَهمسي الذي ترون أني أقول: اللهم يا ربِّ بك أقاتل وبك أصاول ولا حول ولا قوة إلا بالله# وفي رواية أن ذلك كان في أيام حنين(1).
هذا ومن أمثلة ما جرى من الصحابة ن من تطبيق ما جاء
في الآيتين الكريمتين ما أخرجه محمد بن نصر من طريق زيد بن علي بن الحسين عن أبيه قال: نُعِيَ إلى ابن عباس ابن له وهو في سفر فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون ثم نزل فصلى ركعتين، ثم قال: فعلنا ما أمر الله به وتلا هذه الآية: ( المحتويات - ? - ? - - جل جلاله -? الله - الله أكبر ?? - - - } صدق الله العظيم } - ??? - - - جل جلاله - - - - جل جلاله -? - ?? - ??? - - الله ? (.
وما أخرجه أيضاً من حديث إبراهيم بن عبدالرحمن بن
عوف ط قال: غُشي على عبدالرحمن بن عوف غشية ظنوا أنه
قد فاض فيها، حتى قاموا من عنده وجللوه ثوباً، وخرجت
أم كلثوم بنت عقبة [ يعني زوجته ] إلى المسجد تستعين بما أُمرتْ به
من الصبر والصلاة(2).
ولقد كان الصحابة ن يبيتون في ليالي الجهاد سُجَّداً وقياماً تأسياً برسول الله ج، ثم يقاتلون أعداءهم في النهار بقوة ومعنوية عالية.
__________
(1) مسند أحمد (4/333). وأخرجه محمد بن نصر في كتاب تعظيم الصلاة رقم 209.
(2) تعظيم الصلاة رقم 201،202.(16/70)
ومما يذكر لصلاح الدين الأيوبي الذي هزم الله على يده الصليبيين أنه كان ليلة معركة حِطِّين الفاصلة يتفقد خيام
الجند فوجدهم ما بين قائم وساجد ما عدا خيمة واحدة وجد أهلها نياماً، فقال: إن أُتينا فإنما سنؤتَى من هذه، فسرَّح أهلها إلى دمشق.
7- تحقق أثرها في الطمأنينة وراحة النفس:
الصلاة في الإسلام واحة روحية يلجأ إليها المسلم ليتفيأ
ظلالها الوارف فيجد فيها علاجاً لمشكلاته النفسية ويتخلى بها
عن هموم الحياة.
وقد كان النبي ج يعدّ الصلاة راحة للنفس وقُرَّة للعين، كما أخرج الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك ط أن النبي ج قال: $حُبِّب إليَّ من الدنيا النساء والطيب وجُعل قرة عيني في الصلاة#(1).
وكان يعدّ الصلاة راحة للنفس كما أخرج الإمام أحمد من حديث سالم بن أبي الجعد عن رجل من أسلم أن النبي ج قال:
$يا بلال أرحنا بالصلاة#(2).
الأسباب الجالبة للخشوع:
من الأسباب الجالبة للخشوع وحضور القلب مع الله تعالى شعور العبد بأنه يناجي ربه جل وعلا، ومن التوجيهات النبوية في ذلك ما أخرجه الإمام محمد بن نصر بإسناده عن أبي حازم من هذيل قال: جاورت في مسجد المدينة مع رجل من أصحاب النبي ج من بني بياضة فبينما نحن في المسجد ورسول الله ج في قبة له، فأشار إلى من في المسجد: أن اجتمعوا فاجتمعنا فوعظنا موعظة لم أسمع بمثلها، فقال: $إن أحدكم إذا قام يصلي فإنه مناجٍ ربه فلينظر بم يناجيه# وأخرجه الإمام أحمد بنحوه(3).
ومن أسباب الخشوع إخلاص النية في التقرب إلى الله تعالى بالعبادة فيجدد المسلم نية التقرب إليه سبحانه في كل صلاة ليكون قلبه حاضراً معه وليثاب على هذه النية الخالصة.
__________
(1) المسند (3/128). وأخرجه الإمام محمد بن نصر في كتابه تعظيم الصلاة - رقم 322.
(2) المسند (5/364).
(3) تعظيم الصلاة رقم 132، مسند أحمد (2/36).(16/71)
إن الإنسان إذا خرج إلى أي عمل من الأعمال وقد استحضر له نية فإنه يُعمل فكره في ذلك العمل حتى يكون مستعدّاً لإتقانه ولدرء العوارض التي تحول دون نجاحه، فليستحضر المصلي أنه ذاهب لمناجاة الله تعالى وليعمل فكره في محاولة إنجاح هذا اللقاء العظيم.
ومن أسبابه تدبر معاني الآيات والأذكار الواردة في الصلاة، فإذا أراد الشروع في الصلاة بالتكبير فليفهم معنى ما يقول، فإذا كان الله جل وعلا أكبر من كل شيء فلا يلتفت العبد إلى غيره، ولعل هذا من حكمة تكرر هذه الصيغة في الانتقال بين أركان الصلاة، فإذا كبر المصلي بلسانه فيكبر أيضاً بقلبه، وذلك بحضور القلب وتذكر معنى هذه الصيغة، وإذا استعاذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم فليتذكر عظمة الله جل وعلا في مقابل ضعف الشيطان وحقارته، وإذا قال سبحان ربي العظيم، فليتذكر أنه يعظم الله عز وجل بقوله وفعله حيث إن الركوع هيئة تعظيم، فلا يقتصر في التعظيم على القول والفعل دون اعتقاد القلب، وإذا سجد فليتذكر وهو في أخفض حال علوَّ الله سبحانه على كل شيء فيكون قد جمع في الإقرار بعلو الله تعالى بين القول والعمل والاعتقاد، وهكذا في بقية أذكار الصلاة، وليتذكر معاني الآيات التي يتلوها ويشتغل بتدبرها، وبهذا يكون قلبه ولسانه وجوارحه متجهة نحو الله تعالى في كل الصلاة حيث إن الصلاة ليس فيها فراغ للتفكير في الدنيا وما فيها.
يقول الحسن البصري رحمه الله: إذا قمت إلى الصلاة فقم قانتاً كما أمرك الله، وإياك والسهو والالتفات أن ينظر الله إليك وتنظر إلى غيره، تسأل الله الجنة وتعوذ به من النار وقلبك ساهٍ ولا تدري ما تقول بلسانك(1).
__________
(1) كتاب تعظيم الصلاة رقم 140.(16/72)
ومن أسباب الخشوع تحريك الشفتين بالتلاوة والذكر، حيث تشتغل حاسة السمع مع اللسان فيكون ذلك أعون على طرد الشيطان ووساوس النفس، وذلك من غير رفع الصوت بالنسبة للمأموم لأن ذلك يشغل من بجواره ويؤثر على خشوعه، وذلك يتنافى مع قول رسول الله ج $ولا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة في الصلاة#(1).
أما تحريك الشفتين فمن أدلة ذلك ما أخرجه الإمام البخاري من حديث أبي معمر عبدالله بن سخبرة قال: $سألنا خبَّاباً أكان النبي ج يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: نعم، قلنا: بأي شيء كنتم تعرفون؟ قال: باضطراب لحيته#(2).
ومن أسباب الخشوع الزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة، وذلك أن الانصراف للدنيا على أنها غاية يعمل الإنسان لها يحتم عليه أن يصرف فكره واجتهاده لهذا الغرض، فإذا أيقظه ضميره بدافع
من وازعه الإيماني وأراد أن يحضر قلبه في الصلاة فإن خواطر الدنيا التي تعلَّق قلبه بها تهجم وتسيطر على تفكيره فيخرج من الصلاة بأقوال وأفعال لا علاقة لها بقلبه، إلا بمقدار ما يغلب على قلبه
من وازعه الإيماني.
أما إذا كان مقبلاً على الآخرة، ومقدراً للدنيا بقدرها كظرف للعمل الصالح وجواز مرور إلى الآخرة فإن ذلك يدفعه إلى الخشوع وحضور القلب مع الله تعالى، ويحمله على الشغف بالعبادة باعتبار أنها وسيلة للتقرب إلى الله عز وجل والظفر برضوانه ونعيمه.
وبيان ذلك أن من غلب على تفكيره أمر الآخرة فإن هذا التفكير هو الذي يمكن أن يطرأ عليه في الصلاة وذلك منسجم مع مقاصدها، أما الذي يغلب على تفكيره أمر الدنيا فإن هذا التفكير هو الذي يطرأ عليه في صلاته وهذا مناقض لمقاصد الصلاة.
ومن أسباب الخشوع: الصلاة في المسجد جماعة لأن جو المسجد الروحاني وما فيه من الهدوء والسكينة لا يمكن أن يتوافر غالباً
__________
(1) مسند أحمد (2/36)، سنن أبي داود، رقم 1332، الصلاة (2/83).
(2) صحيح البخاري، رقم 760، الأذان (2/244).(16/73)
في البيوت لكثرة ما فيها من الملهيات والمشغلات، وإن كان
ينبغي للمسلم أن يهيئ بيته أو جزءاً منه للصلاة لأن أغلب النوافل تكون في البيوت.
ومن أسباب الخشوع أن لا يكون أمام المصلي أو عليه ما يشغله
من ألوان وخطوط وكتابات ونحو ذلك، ومن أدلة كراهة ذلك ما أخرجه الشيخان من حديث عائشة ك: $أن النبي ج صلى في خميصة لها أعلام فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال: اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي#(1).
ومن أسباب الخشوع تذكر الموت عند الصلاة، وفي ذلك يقول رسول الله ج $اذكر الموت في صلاتك فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته لَحَريّ أن يحسن صلاته، وصلِّ صلاة رجل لا يظن أنه يصلي غيرها، وإياك وكل أمر يُعتذر منه#(2).
وكذلك ما جاء في حديث أبي أيوب الأنصاري ط أن النبي ج قال له: $إذا قمت في صلاتك فصلِّ صلاة مودِّع# أخرجه
الإمام أحمد(3).
__________
(1) صحيح البخاري، رقم 373، الصلاة (1/482)، صحيح مسلم، رقم 556، المساجد (ص391).والخميصة نوع من الثياب له أعلام، والأنبجانية نوع آخر له خمل وليس له أعلام.
(2) السلسلة الصحيحة للألباني 1421، (3/408).
(3) مسند أحمد (5/412).(16/74)
ومن أسبابه الطمأنينة، والطمأنينة ركن من أركان الصلاة، ومن أدلة ذلك حديث المسيء صلاته، وهو ما أخرجه أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى من حديث أبي هريرة ط: $أن رسول الله ج دخل المسجد فدخل رجل فصلى، ثم جاء فسلم على رسول الله ج فرد رسول الله ج وقال: ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ، فرجع الرجل فصلى كما كان صلى، ثم جاء إلى النبي ج فسلم عليه، فقال له رسول الله ج : وعليك السلام، ثم قال: ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ، حتى فعل ذلك ثلاث مرار، فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا فعلمني، قال: إذا قمت إلى الصلاة فكبِّر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن(1)، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم اجلس حتى تطمئن جالساً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها#(2).
ومن أسباب الخشوع النظر إلى موضع السجود، وهذا من سنن الصلاة الظاهرة، وهو من أبلغ الأمور التي تساعد على حصر فكر المصلي في صلاته، لأن رفع البصر أو الالتفات به يميناً وشمالاً يشغل المصلي بما يراه أمامه أو عن يمينه وشماله.
__________
(1) قال الخطابي رحمه الله تعالى: قوله: ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن" ظاهره الإطلاق والتخيير، والمراد منه فاتحة الكتاب لمن أحسنها لا يجزيه غيرها بدليل قوله ج "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وهذا الإطلاق كقوله تعالى ( ? الله ? الله الله أكبر ? الله ? بسم الله الرحمن الرحيم - - الله ? الله الله أكبر - - جل جلاله -? الله - صدق الله العظيم ? - ? - ? - - - جل جلاله - - ? - ? - تمهيد - - الله - الله - - ? - - - الله ? الله الله أكبر ? الله - الله { صدق الله العظيم - الله أكبر الله - الله أكبر ?? - - الله ?- جل جلاله -? - - ? صدق الله العظيم - الله ? - ? - - ([ البقرة:196 ] ثم كان أقل ما يجزئ من الهدي معيناً معلوم المقدار ببيان السنة وهو الشاة - معالم السنن (1/405) -
(2) سنن أبي داود، رقم 856، الصلاة (1/534).(16/75)
ومن أسباب الخشوع أن لا يصلي المسلم وهو بحضرة طعام يشتهيه، ولا وهو يدافع قضاء حاجته، ومما جاء في النهي عن ذلك ما أخرجه
أبو عبدالله البخاري رحمه الله من حديث عائشة ك أن النبي ج قال: $إذا وُضع العَشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعَشاء#.
وفي رواية له من حديث أنس بن مالك ط أن رسول الله ج قال: $إذا قُدِّم العَشاء فابدؤوا به قبل أن تصلوا المغرب ولا تعجلوا عن عشائكم#(1).
وكذلك ما أخرجه أبو داود السجستاني رحمه الله من حديث عائشة ك قالت: سمعت رسول الله ج يقول: $لا يصلَّى بحضرة الطعام ولا وهو يدافع الأخبثين#(2).
ومعلوم أن الإنسان يستطيع أن يؤدي أفعال الصلاة وأقوالها وهو كذلك، ولكنه سينشغل فكره بإشباع شهوته إلى الطعام أو إزالة الأذى عنه، وذلك يؤثر على خشوعه في الصلاة.
ومن ذلك وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى في القيام، كما قال الحافظ ابن رجب: ومما يظهر فيه الخشوع والذل والانكسار من أفعال الصلاة وضع اليدين إحداهما على الأخرى في حال القيام، قال: وقد رُوي عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه سئل عن المراد بذلك فقال: هو ذُلٌّ بين يدي عزيز. قال: قال علي بن محمد المصري الواعظ رحمه الله: ما سمعت في العلم بأحسن من هذا.
قال: ورُوي عن بشر الحافي رحمه الله تعالى قال: أشتهي منذ أربعين سنة أن أضع يداً على يد في الصلاة ما يمنعني إلا أن يكون قد أظهرت من الخشوع ما ليس في القلب مثله(3) أهـ.
__________
(1) صحيح البخاري، رقم 671و672، كتاب الأذان (2/159).
(2) سنن أبي داود، رقم 89، كتاب الطهارة، باب 43(1/69)، والأخبثان البول والغائط.
(3) الخشوع في الصلاة / 36.(16/76)
وما ذكره عن الإمام أحمد وعن بشر الحافي دليل على فقههما وعدم اقتصارهما على الأحكام الظاهرة التي اشتغل بها كثير من الفقهاء ولم يلتفتوا إلى أسرار العبادات وحِكَمها، غير أنه يلاحظ على كلام بشر الحافي غلبة النظر إلى أعمال القلوب على النظر إلى الأحكام الظاهرة حيث لم يعمل بسنة وضع اليدين إحداهما على الأخرى خشية أن لا يكون وصل في الخشوع إلى ما يعادل هذا الحكم الظاهر، والحقيقة أن المصلي مأمور بالأمرين: أن يخشع بقلبه، وأن يعمل بهذه السنة الظاهرة، فإذا جمع بينهما فهذا هو الكمال، أما إذا شعر الإنسان بتقصيره في الخشوع فلا يعني ذلك أن يعطل السنة الظاهرة، بل المطلوب منه أن يعمل بها وأن يجعل من مواظبته عليها مُذكِّراً له ودافعاً إلى العمل بمقتضاها وهو خشوع القلب.
اهتمام الصحابة بالخشوع في الصلاة:
مما يدل على اهتمام الصحابة ن بحضور القلب مع الله
تعالى في الصلاة ما أخرجه الإمام أحمد من حديث عمر بن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام عن أبيه أن عماراً صلى ركعتين، فقال له عبدالرحمن بن الحارث: يا أبا اليقظان لا أراك إلا قد خففتهما، قال: هل نقصت من حدودها شيئاً؟ قال: لا ولكن خففتهما، قال: إني أبادر بهما السهو، إني سمعت رسول الله ج يقول: $إن الرجل ليصلي ولعله أن لا يكون له من صلاته إلا عشرها أو تسعها أو ثمنها أو سبعها# حتى انتهى إلى آخر العد(1).
فأبو اليقظان عمار بن ياسر ط يهتم بالخشوع واجتناب السهو بالفكر خارج الصلاة أكثر من اهتمامه بإطالة الصلاة وإكمال مظهرها، وذلك لأنه لا فائدة من كمال المظهر إذا وقع الخلل في المخبر.
ومن اهتمام الصحابة ن بعدم إشغال الفكر بغير الصلاة
ما أخرجه الإمام مالك بن أنس من حديث عبدالله بن أبي بكر:
__________
(1) مسند أحمد (4/319). وأخرجه الإمام محمد بن نصر في كتابه تعظيم الصلاة رقم 152.(16/77)
أن أبا طلحة الأنصاري ط كان يصلي في حائطه(1) فطار دِبسي(2) فطفق يتردد يلتمس مخرجاً، فأعجبه ذلك فجعل يُتبعه بصره ساعة ثم رجع إلى صلاته فإذا هو لا يدري كم صلى فقال: لقد أصابتني في مالي هذا فتنة، فجاء إلى رسول الله ج فذكر له الذي أصابه في حائطه من الفتنة وقال: يا رسول الله هو صدقة لله فضعه حيث شئت(3).
وكذلك ما أخرجه من حديث عبدالله بن أبي بكر أن رجلاً من الأنصار كان يصلي في حائط له بالقفّ -وادٍ من أودية المدينة- في زمن الثمر، والنخل قد ذُلِّلَت(4) فهي مطوَّقة بثمرها، فأعجبه ما رأى من ثمرها، ثم رجع إلى صلاته فإذا هو لا يدري كم صلى! فقال: لقد أصابتني في مالي هذا فتنة فجاء عثمان ابن عفان وهو يومئذ خليفة، فذكر ذلك وقال: هو صدقة فاجعله في سُبل الخير، فباعه عثمان بخمسين ألفاً، فسُمِّي ذلك المال الخمسين(5).
وفي هذين الخبرين عبرة عظيمة في تضحية الصحابة ن بأموالهم في سبيل المحافظة على دينهم، فليس من اليسير على الإنسان أن يتصدق ببستان كامل دفعة واحدة، وفي مقابل ماذا؟ في مقابل أنه انشغل به عن صلاة واحدة!!
فما أعظم قدر الصلاة في نظر الصحابة ن!
وما أعمق نظرتهم إلى الحياة الآخرة!
وما أهون الدنيا في قلوبهم!
__________
(1) أي بستانه.
(2) هو طائر يشبه اليمامة.
(3) الموطأ، الصلاة، رقم 69(1/98).
(4) أي قد نضج تمرها ومالت عراجينها من الثقل.
(5) الموطأ، الصلاة، رقم 70(1/99).(16/78)
ومن أخبار الصحابة ن في اهتمامهم بالصلاة ما أخرجه محمد بن إسحاق بإسناده عن جابر بن عبدالله م قال: خرجنا مع رسول الله ج في غزوة ذات الرقاع من نخل، فأصاب رجل امرأة رجل من المشركين -يعني أخذها سبيَّة- فلما انصرف رسول الله ج قافلاً، أتى زوجها وكان غائباً، فلما أخبر الخبر حلف لا ينتهي حتى يهريق في أصحاب محمد ج دماً، فخرج يتبع أثر رسول الله ج، فنزل رسول الله ج منزلاً، فقال: من رجل يكلؤنا ليلتنا هذه؟ قال: فانتدب رجل من المهاجرين ورجل آخر من الأنصار فقالا: نحن يا رسول الله، قال: فكونا بفم الشعب، قال: وكان رسول الله ج وأصحابه قد نزلوا إلى شعب من الوادي، وهما عمار ابن ياسر وعباد بن بشر فيما قال ابن هشام.
قال ابن إسحاق: فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب قال الأنصاري للمهاجري: أيّ الليل تحب أن أكفيكه أوَّله أو آخره؟ قال بل اكفني أوَّله. قال: فاضطجع المهاجريّ فنام، وقام الأنصاري يصلي، قال: وأتى الرجل، فلما رأى شخص الرجل عرف أنه ربيئة القوم -يعني طليعة القوم- فرمى بسهم فوضعه فيه، قال: فنزعه ووضعه وثبت قائماً، ثم رماه بسهم آخر فوضعه فيه، قال: فنزعه فوضعه وثبت قائماً، ثم عاد له بالثالث فوضعه فيه، قال: فنزعه فوضعه، ثم ركع وسجد ثم أهبَّ صاحبه –يعني أيقظه من نومه- فقال: اجلس فقد أُثبتُّ- يعني أثبتتني الجراحة- قال: فوثب فلما رآهما الرجل عرف أنهما قد نذرا به فهرب، قال: ولما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء قال: سبحان الله، أفلا أهببتني أوَّل ما رماك؟ قال: كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها، فلما تابع عليّ الرمي ركعت فآذنتك، وايم الله لولا أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله ج لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفْذَها(1).
__________
(1) سيرة ابن هشام (3/245).
وقال الحافظ ابن حجر: وأخرجه أحمد وأبو داود والدارقطني وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم- فتح الباري (1/281).(16/79)
ففي هذا الخبر مثل واضح على قوة الصبر واحتمال الأذى
في سبيل الله تعالى لدى الصحابة ن، كما أنه يدل على عنايتهم بالصلاة وأنها أغلى عندهم من أنفسهم وأموالهم، وهذه الصلاة التي عُمرت بالخشوع وتُوِّجت بحضور القلب مع الله تعالى هي الصلاة المؤثرة، التي أنجبت أبطالاً عظماء كهؤلاء الصحابة الكرام، فعلى قدر ما يعطونه ربهم جل جلاله في الليل من الخضوع والتذلل وتجريد القلب لعبادته يعطيهم بالنهار من القوة على مكابدة الأعداء ومواجهة الشدائد، ولذلك لا نجد في الأمر غرابة إذا وجدناهم ينامون قليلاً من الليل ويواجهون عدوهم مع انبلاج الفجر بعزائم قوية وهمم عالية تفوق طاقة الكفار بأضعاف، مع أن أعداءهم قد أخذوا قسطاً أكبر بكثير من النوم والراحة، فهؤلاء الصحابة ن كما جاء في وصفهم $عُبَّاد في الليل فرسان في النهار#.
ونلاحظ في هذا الخبر أن عَبَّاد بن بشر قد أغفل من حساب فكره النظر إلى مستقبل أولاده وأهله وأمواله فيما إذا أصيب واستشهد، وإنما كان يوازن النظر حينما رماه ذلك الرجل بين أمرين: أن يكمل السورة التي بدأها أو أن يقطعها ليوقظ أخاه عماراً حتى لا يضيِّع المهمة الكبيرة التي أناطها به رسول الله ج، وكلا الأمرين من أمور الآخرة، وبهذا نعلم أن الصحابة ن لم يكونوا يحسبون للدنيا حساباً في تفكيرهم وإنما كان تفكيرهم منحصراً في أعمال الآخرة.
ولقد كانت صلاة الصحابة ن الكاملة في مظهرها ومخبرها سبباً مهمّاً من أسباب انتصارهم على أعدائهم، وذلك لأن الأعداء
إذا رأوا المسلمين وهم يؤدون الصلاة بخشوع وانتظام يَكْبُرون
في أعينهم ويداخلهم الرعب منهم فَيَنهزمون معنويّاً قبل الدخول
في قتال مع المسلمين.(16/80)
ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما كان من المقوقس حاكم مصر، وقد أرسل رسلاً إلى المسلمين القادمين لفتح مصر بقيادة عمرو بن العاص ط ولما رجع الرسل إلى المقوقس سألهم عن المسلمين فقال: كيف رأيتموهم؟ قالوا: رأينا قوماً الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة
ولا نهمة، وإنما جلوسهم على التراب وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يُعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم واحد، يغسلون أطرافهم بالماء، ويخشعون في صلاتهم، فقال عند ذلك المقوقس:
والذي يُحلف به لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها وما يقوى
على قتال هؤلاء أحد(1).
ونرى بهذا أن هؤلاء الرسل قد أثنوا على حياة الصحابة الاجتماعية والأخلاقية من الزهد في الدنيا والتواضع والمساواة بينهم في مظاهر الحياة.
كما أبدوا إعجابهم بانتظام المسلمين جميعاً في الصلاة حيث
لا يتخلف منهم أحد، وهو مظهر مهم من مظاهر الانضباط عند المسلمين، كما أبدوا إعجابهم بما يقومون به بين يدي الصلاة
من الوضوء، ثم في مظهر السكينة والخشوع الذي يعلو وجوه المؤمنين ويحكم جوارحهم وهم يؤدون الصلاة.
ومما يذكر من تأثير الصلاة على غير المسلمين ما كان من خبر البوذيين في فتوح السند حيث أسلم طائفة كبيرة منهم على يد محمد بن القاسم الثقفي، وكانوا قد أرسلوا مندوباً لهم لمعرفة خبر المسلمين فوافاهم وهم يصلون جماعة في خشوع مهيب فاندهش لمنظرهم وأخبر قومه بذلك فقالوا: إذا كان العرب يعبدون
الرب ويطيعونه ولا يتركون صلاتهم حتى في أخطر المواقف
وهم بهذا الشكل من الاجتماع فلا يمكن لنا مقاومتهم وهذا
دليل على صحة دينهم.
وقد أرسلوا وفداً من زعمائهم فأعلنوا إسلامهم، وأسلم
__________
(1) النجوم الزاهرة للمؤرخ يوسف بن تَغْري بردي (1/10).(16/81)
قومهم جميعاً(1).
ولا شك أن صورة المؤمنين وهم يستعدون للصلاة بالوضوء الذي هو مظهر من مظاهر الطهارة والنظافة التي يتفق العقلاء على أهميتها في حياة الإنسان، ثم انضباطهم جميعاً وراء إمام واحد، وخشوعهم جميعاً بحيث لا يلتفتون ولا يرفعون أبصارهم… لا شك أن هذه الصورة تأسر أنظار الناس الذين يشاهدونها لأول مرة، وتخلب ألبابهم، ويدركون من خلال هذه الصورة الأخاذة أن هؤلاء المصلين وهم في هذا السكون الرهيب والخشوع المهيب، قد خرجوا عن التفكير في هذه الحياة التي يشترك في جواذبها عموم البشر إلى التفكير فيما وراء الحياة، فيدفع هؤلاء المتأملين ذلك إلى التساؤل عن الأمر المهم الذي شغل هؤلاء العظماء عن التفكير في أمور الدنيا، وعندها يدركون أن هذا الأمر المهم هو الخضوع لعظمة الله عز وجل ولذة مناجاته والشوقُ إلى لقائه والظفر بنعيمه في دار الخلود.
ومن هنا نعلم أن هذه الصلاة الجماعية بذلك المظهر الأخاذ من الخشوع والسكينة تعدّ أعلى مظهر من مظاهر الدعوة إلى الإسلام.
ولقد أثرت هذه المظاهر الأخلاقية على المقوقس فقال ما قال من الثناء على المسلمين والاعتراف بأنهم لو استقبلوا الجبال لأزالوها، وإنما قال ذلك بناء على تجاربه الحربية، وإدراكه بأن التفوق الأخلاقي يترتب عليه التفوق الحربي.
وقد يقال إن الأعداء الآن يسمعون أذان المسلمين ويشاهدون صلاتهم فلم لم تؤثر هذه المشاهد عليهم؟
__________
(1) موسوعة التاريخ الإسلامي لبلاد السند والبنجاب للدكتور عبدالله الطرازي (1/174-176).(16/82)
فيقال: إن السلاح مهما كان قويّاً ماضياً فإن مفعوله يضيع إذا كان بأيدي الضعفاء والجبناء، وقد كان أسلافنا المجاهدون من الصحابة والتابعين قاموا بعمل جهادي ضخم لفت الأنظار وأسر الأفكار، فأصبح عقلاء العالم آنذاك يتفحصون حياة أولئك المجاهدين ويبحثون عن أسرار عظمتهم وقوتهم، أما العالم الإسلامي اليوم فقد أصبح ذيولاً ذليلة للأعداء فأي قوة لهم تلفت الأنظار وأي تفوق لهم يأسر الأفكار؟!!
ولكن هل عدم تأثر الكفار بصلاة المسلمين بشكل نهائي؟
الواقع أنه ما يزال موجوداً ولكن بشكل فردي ونادر، ومن هذه الأمثلة النادرة ما نشرته مجلة الأسرة في عددها رقم 86 في شهر رجب 1420هـ بعنوان (مشهد فجر إسلامي) وذلك من مقالة للشاعرة والأديبة اليابانية (سوى آدرا) التي أصبح اسمها بعد أن أسلمت (مريم)، حيث تقول (عندما اقتربت من المجتمع الإسلامي أثار دهشتي العديد من الأشياء، منها عندما يرتفع صوت الأذان يذهب الرجال إلى المساجد مهما كانت الظروف، ويصطف الجميع في صف واحد، حيث تلتقي الأرجل بالأرجل والأكتاف بالأكتاف، ولا أحد يعترض على من يقف بجواره سواء كان هذا الشخص عظيماً أم فقيراً، فالكل سواء، والناس يذهبون إلى الصلاة دون إجبار من أحد أو طمع في الحصول على مال أو منصب، وحين عرفت ذلك لم أجد صعوبة في إشهار إسلامي الذي كان حيّاً في داخلي طوال حياتي أعيش به دون أن أعرف).
والخشوع من صفات المؤمنين الخلَّص، وقد كان الصحابة ن يتصفون به لقوة إيمانهم.(16/83)
وحينما يضعف إيمان الأمة يرفع منهم الخشوع كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد بإسناده عن عوف بن مالك ط قال: $بينما نحن جلوس عند رسول الله ج ذات يوم فنظر في السماء ثم قال: هذا أوان العلم أن يرفع، فقال له رجل من الأنصار يقال له زياد بن لبيد أيرفع العلم يا رسول الله وفينا كتاب الله تعالى وقد علَّمناه أبناءنا ونساءنا؟ فقال رسول الله ج: إن كنت لأظنك من أفقه أهل المدينة، ثم ذكر ضلالة أهل الكتابين وعندهما ما عندهما من كتاب الله عز وجل#.
قال: فلقي جبير بن نفير شداد بن أوس فحدثه بهذا الحديث عن
عوف بن مالك، فقال: صدق عوف، ثم قال: وهل تدري ما رفع العلم؟ قال: قلت: لا أدري، قال: ذهاب أوعيته، قال: وهل تدري أي العلم أولَ يرفع؟ قال: قلت لا أدري، قال الخشوع حتى
لا تكاد ترى خاشعاً(1).
ونظراً لكون الصحابة ن يصلون بقلوبهم قبل أبدانهم فإن الصلاة كان لها منزلة عظيمة في قلوبهم، ومن الأخبار الرائعة في ذلك ما أخرجه الحافظ الطبراني رحمه الله من حديث المسور ابن مخرمة ط قال: دخلت على عمر بن الخطاب وهو مُسجَّى(2)، فقلت : كيف ترونه؟ قالوا: كما ترى، قلت: أيقظوه بالصلاة فإنكم لن توقظوه
[ بشيء ] أفزع له من الصلاة، فقالوا: الصلاة يا أمير المؤمنين، فقال: ها الله إذاً ولا حقَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة، فصلى وإن جرحه ليثعب دماً.
ذكره الحافظ الهيثمي رحمه الله وقال: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح(3).
__________
(1) المسند (6/26)، وأخرجه الإمام الترمذي من حديث جبير بن نفير عن أبي الدرداء رضي الله عنه وفيه: وأخبرته بالذي قال فقال: صدق أبو الدرداء إن شئت لأحدثنك بأول علم يرفع من الناس: الخشوع، يوشك أن تدخل المسجد الجامع فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً، سنن الترمذي، رقم 2653، كتاب العلم، باب 5 (5/31).
(2) يعني بعدما طعنه أبو لؤلؤة المجوسي.
(3) مجمع الزوائد (1/295).(16/84)
وإذا كانت الحُقن الطبية لها أثر في تنبيه العقل وإزالة الغشاوة عنه فإن الصلاة لها أثر خاص في إزالة الغشاوة عن عقول المؤمنين السابقين بالخيرات.
- - - - -
... ...(16/85)
- فهرس الموضوعات -
الموضوع ... رقم الصفحة
مقدمة الرسائل........................................................ ... 5
الرسالة الثالثة: العبادة.............................................. ... 11
المقدمة.................................................................... ... 13
معنى العبادة............................................................ ... 15
أنواع العبادة............................................................ ... 19
القرون المفضلة وفهم العبادة..................................... ... 27
العبادة والعمل الصالح.............................................. ... 35
عمران الأرض من عبادة الله تعالى............................. ... 39
التعبد المقيد والتعبد المطلق........................................ ... 51
أنواع العبادة من حيث آثارها في المجتمع...................... ... 79
نتائج الفهم الشامل والناقص في الحكم على المسلمين.. ... 83
الفهم القاصر للعبادات الاصطلاحية.................... ... 87
الصلاة الكاملة وأثرها في الدنيا والآخرة..................... ... 91
- آثار الخشوع في الصلاة....................................... ... 93
1- تحقق إقامة ذكر الله تعالى في الأرض. ... 93
2- خشية الله تعالى. ... 93
3- فاعلية الصلاة في محو الخطايا ... 94
4- قبولها عند الله تعالى وأثرها في رفع الدرجات في الجنة. ... 97
5- تحقق أثرها في تهذيب السلوك في هذه الحياة. ... 103
6- تحقق أثرها في الصبر على الشدائد. ... 106
7- تحقق أثرها في الطمأنينة وراحة النفس. ... 109
- الأسباب الجالبة للخشوع.................................... ... 109
- اهتمام الصحابة بالخشوع في الصلاة.................... ... 118
فهرس الموضوعات.................................................. ... 131
- - - - -(17/1)
الرسالة الرابعة
شمول معالم الفرقة الناجية
والطائفة المنصورة
W
سلسلة الرسائل الشمولية
الرسالة الرابعة
...
شمول معالم الفرقة الناجية
والطائفة المنصورة
إعداد الدكتور
عبد العزيز بن عبد الله الحميدي
المشرف على الإدارة العامة للدعوة في رابطة العالم الإسلامي
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
1425هـ – 2004م(18/1)
- فهرس الموضوعات -
الموضوع ... رقم الصفحة
مقدمة الرسائل........................................................ ... 5
الرسالة الرابع: شمول معالم الفرقة الناجية
والطائفة المنصورة.................................................... ... 11
المقدمة.................................................................... ... 13
شمول معالم الفرقة الناجية....................................... ... 15
هل الفرقة الناجية هم المتقون؟.................................. ... 35
أنواع التقوى............................................................ ... 47
- علاقة التقوى بالنجاة من النار........................ ... 49
- متى تكون المخالفات مانعة من التقوى............. ... 51
المصلحون هم أبرز المتقين........................................ ... 55
- الجهاد في سبيل الله من الإصلاح..................... ... 62
شمول معالم الطائفة المنصورة................................... ... 65
الفرق بين الفرقة الناجية والطائفة المنصورة................. ... 71
- حصر الفرقة الناجية والطائفة المنصورة
بأهل الحديث................................................ ... 73
توجيهات للدعاة..................................................... ... 77
1- إخلاص العمل لله تعالى: ... 77
2- تعظيم حق الله تعالى ودينه ورسوله ج: ... 89
3- الالتزام بالمنهج الإسلامي: ... 91
4- توحيد الهدف والمنهج والاجتماع عليهما: ... 92
5- الاهتمام بأصول الدين وكلياته: ... 97
6- الاهتمام بما اتفق عليه المسلمون: ... 101
7- إحسان الظن بالمسلمين: ... 103
8- الإسرار بالنصيحة: ... 116
9- الحذر من الفتنة في الدين: ... 121
10- عدم التعصب للجماعة: ... 131
11- النور خير وإن كان فيه ظلمة: ... 132
12- المرحلة الضرورية للاجتماع: ... 135(19/1)
13- عدم النزاع على الولايات: ... 137
14- الصراحة والوضوح: ... 138
أقسام الفرق الهالكة........................................... ... 143
فهرس الموضوعات.................................................. ... 147
- - - - -(19/2)
المقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله
وبعد: فإن أفراد أمة الإجابة إلى الدين الإسلامي يتفاوتون في درجة الالتزام بهذا الدين والاستقامة عليه، وقد يبلغ هذا التفاوت درجة المخالفات التي تؤثر على مستقبلهم في الحياة الآخرة حيث يتعرضون للعذاب في النار؛ لإصرارهم على المعاصي، وقد لا تكون درجة المخالفات مؤثرة إلى ذلك الحد بسبب محوها بالتوبة النصوح أو بالأعمال الصالحة.
وهذه الرسالة تشتمل على بيان صفات من تأهلوا للنجاة من النار يوم القيامة برحمة من الله تعالى وفضل، ثم بسبب صلاحهم في معتقداتهم القلبية وأعمالهم البدنية.
ولقد كان المنهج السائد عند بعض أهل العلم قصر هذه الصفات على معتقدات القلوب، ولما كانت أمور الدين شاملة للإيمان والعمل الصالح فإنه من المهم بيان شمول صفات الفرقة الناجية والطائفة المنصورة لجميع جوانب العلم والعمل.
وقد قمت في هذه الرسالة بالإسهام في بيان هذا الموضوع مستنيراً في ذلك باجتهادات بعض العلماء الذين عارضوا حصر صفات الفرقة الناجية ببعض جوانب العلم.
- - - - -
شمول معالم الفرقة الناجية
قد ورد عن رسول الله ج تسمية الناجين من عذاب الله تعالى يوم القيامة بالفرقة الناجية، وذلك فيما أخرجه الإمام الترمذي من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص م قال: قال رسول الله ج: $ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إنْ كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي#.
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب مفسَّر(1).
وأخرجه الإمام أبو داود بزيادة $وواحدة في الجنة وهي الجماعة#(2).
__________
(1) ... سنن الترمذي، كتاب الإيمان باب 18 (7/399).
(2) ... سنن أبي داود، كتاب السنة، باب 1، رقم 4597 (5/5).(20/1)
وأخرجه الحاكم وذكر مثله وقال: هذه أسانيد تقام بها الحجة في تصحيح هذا الحديث، وأقره الذهبي(1).
وأخرجه الأئمة أحمد والدارمي وابن ماجه(2).
وصححه الأئمة ابن تيمية وابن القيم والشاطبي(3).
وجاء في رواية الإمام الطبراني $فقلنا: انعتهم لنا، فقال: السواد الأعظم#.
ذكره الحافظ الهيثمي وقال: رجاله ثقات(4).
ومما جاء في رواية الترمذي والحاكم المفسرة يتبين لنا أن أبرز الصفات التي تنطبق على الفرقة الناجية أنهم المقتدون برسول الله ج وأصحابه، لقوله ج في وصف هذه الفرقة $ما أنا عليه وأصحابي#، وقد حسَّن الإمام الترمذي هذه الرواية، وكذلك حسَّنها
الشيخ الألباني(5).
وإذا نحن نظرنا إلى حياة النبي ج وأصحابه نجد أنها تجمع بين العلم النافع والعمل الصالح.
وقد ذهب جمهور من ذكر هذا الحديث من العلماء إلى أن الفِرَق المذكورة فيه في باب الاعتقاد وحده، وعدَّ بعضهم الفرق الهالكة بأسمائها.
ومن هؤلاء العلماء على سبيل المثال عبدالقاهر بن طاهر البغدادي التميمي رحمه الله، وذلك في كتابه (الفَرْق بين الفِرَق)(6).
ومنهم أبو الفتح محمد بن عبدالكريم الشهرستاني رحمه الله، وذلك في كتابه (الملل والنحل)(7).
ومنهم محمد بن أحمد السفاريني رحمه الله، وذلك في كتابه (لوامع الأنوار البهية)(8).
__________
(1) ... المستدرك (1/128-129).
(2) ... مسند أحمد (4/102)، سنن الدارمي، رقم 2518، الجهاد، باب 75 (2/314)، سنن ابن ماجه، رقم 2992، كتاب 36 باب 17 (2/1322).
(3) ... مجموع الفتاوى (3/345)، مختصر الصواعق المرسلة (2/410)، الاعتصام (2/163).
(4) ... مجمح الزوائد (6/234).
(5) ... صحيح الجامع الصغير رقم 5219.
(6) ... الفرق بين الفرق ص 14 فما بعدها.
(7) ... الملل والنحل ج 1 ص 11 فما بعدها.
(8) ... لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية ج1 ص 76 فما بعدها.(20/2)
وهكذا سار جمهور العلماء الذين بحثوا في هذا الموضوع على قصر صفات الفرقة الناجية على جزء من العلم النافع، وهو مسائل الاعتقاد، واقتصر كلام هؤلاء غالباً على مسائل الخلاف العقائدية، وهذا الفهم قائم على التأثر بالردود على الفرق الإسلامية التي شغلت نفسها ببعض مسائل العقيدة، وقصَّرت في جوانب العلم الأخرى فضلاً عن تقصيرها في بيان جوانب العمل الصالح.
ومعالم الفرقة الناجية ليست خاصة بالأمور الخلافية في العقيدة بل هي شاملة للإسلام كله فهماً وتطبيقاً.
وتخصيص هذه المعالم بأمور العقيدة من خطأ التصور المتوارث من المعارك الكلامية التي دارت قديماً بين الفرق الإسلامية، حيث أصبح الاهتمام الأكبر منصبّاً على الأمور الخلافية في العقيدة وإن كانت من الجزئيات بينما حصل التقصير في بيان أمور الإسلام الأخرى وإن كانت من الأمور الكلية.
وهذا التفسير يتنافى مع مفهوم قول الرسول ج $ما أنا عليه وأصحابي#.
ومما ينبغي ملاحظته أن النصوص يجب أن تفسر بمقتضى الدلالات الشرعية واللغوية، ثم يعالج بها الواقع المنحرف، لا أن تفسر بمقتضى الواقع.
وممن تنبه إلى هذا الخطأ في الفهم الإمام الشاطبي رحمه الله
حيث قال بعد أن ذكر أقوال العلماء في المراد بالفرقة الناجية: إن
هذه الأقوال المذكورة آنفاً مبنية على أن الفِرَق المذكورة في الحديث
هي المبتدِعة في قواعد العقائد على الخصوص، كالجبرية والقدرية
والمرجئة، وغيرها وهو مما يُنظر فيه. فإن إشارة القرآن والحديث
تدل على عدم الخصوص، وهو رأي الطرطوشي، أفلا ترى إلى(20/3)
قوله تعالى : ? - الله الله ? - - - الله الله أكبر ? الله ??- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - ? صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - - ?- جل جلاله - - ? - الله أكبر ? - الله أكبر ? تمت ?? صدق الله العظيم الله أكبر ? الله } الله ?? - ?- جل جلاله - - الله الله - الله - الله الله أكبر ? - الله ? الله ? الله - - الله أكبر الله ? الله الله أكبر - - ? صدق الله العظيم ?- جل جلاله -?
- ? - - الله أكبر الله ??- جل جلاله - - صدق الله العظيم الله أكبر - - - - جل جلاله -? الله الله أكبر ? صدق الله العظيم - - جل جلاله -? - ? - - - ? - - الله ??- جل جلاله - - صدق الله العظيم الله أكبر - - - الله ? - - - جل جلاله -?- جل جلاله -??- جل جلاله -? - - - الله الله أكبر - - الله ? الله ? - ? الله الله أكبر ? صدق الله العظيم ? الله الله أكبر ? - - سبحانه وتعالى - - ? الله الله أكبر ??- جل جلاله -? - - - الله الله أكبر - - بسم الله الرحمن الرحيم - درهم تمهيد - - - - ? - - - - الله ?? - - - جل جلاله -? - الله الله - ? - - الله ?
? - - رضي الله عنهم - - ?- جل جلاله -? - ? - - الله ?? الله أكبر ?? - ? الله الله أكبر ? - بسم الله الرحمن الرحيم - ? الله ? - - ? - - جل جلاله -?- جل جلاله - - الله تمت ? الله أكبر ? ??- جل جلاله - الله ? - جل جلاله - - ?- جل جلاله -? - - الله الله أكبر ? الله - جل جلاله - الله أكبر - الله } - الله ? الله ? - - بسم الله الرحمن الرحيم - } بسم الله الرحمن الرحيم - - الله الله أكبر ? - - بسم الله الرحمن الرحيم - درهم تمهيد - - المحتويات - ? الله أكبر ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - الله أكبر -(20/4)
- درهم - الله أكبر الله - - ? - - - - ? - - } - { ? [ آل عمران:7 ] وما في قوله تعالى ? - الله ? الله ? الله - - الله أكبر الله ? الله الله أكبر - ? لا تعطي خصوصاً في اتباع المتشابه لا في قواعد العقائد ولا في غيرها بل الصيغة تشمل ذلك كله، فالتخصيص تحكُّم.
وكذلك قال تعالى : ? الله الله ? تمهيد - - الله ??- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - المحتويات - ? - الله أكبر ? الله الله - الله الله أكبر ? ?? - ? الله ??- جل جلاله - - المحتويات - ? - ? - الله } الله ?(20/5)
- - ? الله - الله أكبر - جل جلاله -? ? - صدق الله العظيم { - بسم الله الرحمن الرحيم ? ?? - ? صدق الله العظيم ?- جل جلاله -? ? - صدق الله العظيم ? { ? الله أكبر الله ? - - الله ? بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? - تمهيد - ?? - ? - - صدق الله العظيم ? - - - ? - ? - تمهيد - - ?- جل جلاله - - - - الله الله ? الله أكبر الله أكبر - ? - ? - - ? الله أكبر الله - جل جلاله - - الله الله أكبر ? - الله أكبر ? - الله ?- جل جلاله - - المحتويات - ? - الله أكبر ? - - ? الله ?? - الله أكبر ? الله ? { الله أكبر ? الله الله أكبر ? } - - - { ? [ الأنعام:159 ] فجعل ذلك التفريق في الدين، ولفظ الدين يشمل العقائد وغيرها، وقوله تعالى: ? الله الله ? - - - الله ? - الله - - الله أكبر الله ? ?- جل جلاله -? - الله - - ? - - ? - - جل جلاله -? الله الله أكبر - صدق الله العظيم { - الله ? - - ?? - ?- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر - - - الله أكبر الله الله أكبر ? - الله درهم الله ? المحتويات - ? - ?- جل جلاله - - الله الله - الله الله أكبر - الله ? - - الله أكبر الله أكبر - ? { ? - - ?? الله الله - الله ? الله - الله الله أكبر ? ?? الله أكبر ?- جل جلاله - - ? الله ? - - - جل جلاله -?- جل جلاله -? - - جل جلاله - - - الله أكبر الله أكبر ? ?? الله أكبر ?- جل جلاله -? - - - ? الله أكبر ? - ? - ?? الله ? - - جل جلاله -?- جل جلاله - - ?? - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? الله ? - ? الله ?? - ? بسم الله الرحمن الرحيم - - ??? الله أكبر - } - - - { ?[الأنعام:153] فالصراط المستقيم هو الشريعة على العموم وشبه ما تقدم في السورة من تحريم الذبح لغير الله وتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وغيره، وإيجاب الذكاة، كل ذلك على أبدع نظم وأحسن سياق، ثم قال تعالى ( - ( - ( - } - ( قرآن كريم - - - - رضي الله عنهم(20/6)
-( - - ( - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم { - - مقدمة ( المحتويات ( تمهيد - - - عليه السلام - - ( المحتويات ( تمهيد ( - فهرس - - رضي الله عنه -( } - صدق الله العظيم - صلى الله عليه وسلم - - } - قرآن كريم ( - ( - ((( - (( مقدمة ( - - - (( - - { } ((((- رضي الله عنه - - ( - } - عليه السلام - قرآن كريم ( - - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - جل جلاله - - ( - - ( مقدمة ( { } - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ( قرآن كريم ( - ( - ( { - - المحتويات ( - - رضي الله عنهم - - ( - - (- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - ((( } تم بحمد الله - - ( فهرس - ( تم بحمد الله ( { } ( صدق الله العظيم ( - ( الله أكبر ( المحتويات ( تمهيد ( - ( - ( - - رضي الله عنه - الله أكبر ( المحتويات ( - - { - ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ( - - عليه السلام - - ( { - - - (( مقدمة } - عليه السلام - قرآن كريم - (( - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام - - - رضي الله عنهم - - - ( - - رضي الله عنهم - - (- جل جلاله -( تم بحمد الله - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ( - (- رضي الله عنه - - } - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ( - ( - ( { - - { { (( } - - - - (( - { - - - - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم { - - مقدمة ( - - - - صدق الله العظيم ( { ( - - - رضي الله عنهم - - ( - - - ( - - ( - ( - ( - } - - المحتويات ( - - - (- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( مقدمة ( - ( - ( - ( - - رضي الله عنهم -( - - - رضي الله عنه - تمت(20/7)
قرآن كريم ( - ( { (( - - ((((( - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ( - - عليه السلام - - ( { - - - رضي الله عنه - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( بسم الله الرحمن الرحيم - ( - - عليه السلام - - ( - - - - صدق الله العظيم ( { (( - { - - - ( - { - ( - ( صدق الله العظيم - - ( مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - - (( - - مقدمة - (( - ( - - رضي الله عنه - - (( فهرس - - ( { - صلى الله عليه وسلم - - } } - قرآن كريم (((- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - ( - - تمهيد ( - - - - رضي الله عنه - تمت - - عليه السلام - - - ( - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ((( - ( { ( - - - ( - } - صدق الله العظيم ( - ( - - - - ( الله أكبر - ( - ((- رضي الله عنه - الله أكبر - صدق الله العظيم ( { - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنهم -(( - (- صلى الله عليه وسلم - } - - - ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - ( - } - قرآن كريم ( - ( - (( - - - ( ( قرآن كريم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت - - - - - - - - فهرس - ( - ( - } ( - ( - - رضي الله عنهم -(( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - - } - قرآن كريم (((- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - ( المحتويات ( تمهيد ( - } - - المحتويات ( - - - (- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( مقدمة ( - ( - ( - ( - - رضي الله عنهم -( - - - - - صلى الله عليه وسلم -( - ( - - - - - ([الأنعام:151-152] فذكر أشياء من القواعد(1) وغيرها، فابتدأ بالنهي عن الإشراك، ثم الأمر ببر الوالدين، ثم النهي عن قتل الأولاد، ثم عن الفواحش
__________
(1) ... يعني قواعد العقائد.(20/8)
ما ظهر منها وما بطن، ثم عن قتل النفس بإطلاق، ثم عن أكل
مال اليتيم، ثم الأمر بتوفية الكيل والوزن، ثم العدل في القول،
ثم الوفاء بالعهد، ثم ختم بقوله ? الله الله ? - - - الله ? - الله - - الله أكبر الله ? ?- جل جلاله -? - الله - - ? - - ? - - جل جلاله -? الله الله أكبر - صدق الله العظيم { - الله ? - - ?? - ?- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر - - - الله أكبر الله الله أكبر ? - الله درهم الله ? المحتويات - ? - ?- جل جلاله - - الله الله - الله الله أكبر - الله ? - - الله أكبر الله أكبر - ? { ? - - ?? الله الله - الله ? الله - الله الله أكبر ? ?? الله أكبر ?- جل جلاله - - ? الله ? - - - جل جلاله -?- جل جلاله -? - - جل جلاله - - - الله أكبر الله أكبر ? ?? الله أكبر ?- جل جلاله -? - - - ? الله أكبر ? - ? - ?? الله ? - - جل جلاله -?- جل جلاله - - ?? - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? الله ? - ? الله ?? - ? بسم الله الرحمن الرحيم - - ??? الله أكبر - } - - - { ? [ الأنعام:153 ] فأشار إلى ما تقدم ذكره من أصول الشريعة وقواعدها الضرورية، ولم يخص ذلك بالعقائد، فدل على أن إشارة الحديث لا تختص بها دون غيرها.
وفي حديث الخوارج ما يدل عليه أيضاً فإنه ذمهم بعد
أن ذكر أعمالهم وقال في جملة ما ذمهم به $يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم# فذمهم بترك التدبر والأخذ بظواهر المتشابهات،
كما قالوا: حكَّم الرجال في دين الله - والله يقول ? - ? تمهيد - - - ? - ? - - - ? - -(20/9)
- بسم الله الرحمن الرحيم - درهم تمهيد - - - - جل جلاله -? بسم الله الرحمن الرحيم - ?- جل جلاله -? ? [يوسف:40] وقال أيضاً $يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان# فذمهم بعكس ما عليه الشرع؛ لأن الشريعة جاءت بقتل الكفار والكف عن المسلمين، وكلا الأمرين غير مخصوص بالعقائد، فدل على أن الأمر على العموم لا على الخصوص فيما رواه نعيم بن حماد في هذا الحديث $أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال# وهذا نص في أن ذلك العدد
لا يختص بما قالوا من العقائد(1).
هذا وقد تبين لنا من كلام الإمام الشاطبي أن تخصيص منهج الفرقة الناجية بالمسائل الاعتقادية تحكُّم لا دليل عليه بل الأدلة التي ذكرها تدل على أن هذا المنهج يشمل الدين كله، وأن المخالفات التي تُخرج المسلم من الانتساب للفرقة الناجية لا تختص بمسائل العقيدة بل تشمل المخالفات في تكاليف الإسلام الأخرى كما تقدم في رسالة (شمول الاجتهاد) قول الإمام ابن تيمية في أن المسائل الخبرية التي منها مسائل الاعتقاد هي بمنزلة المسائل العملية في الدين، وأن التحقيق في وصف هذه المسائل أن القضايا الكلية في كل واحد منهما تعدّ مسائل أصول، وأن القضايا الجزئية في كل واحد منهما تعدّ مسائل فروع.
وعلى هذا فإن المخالفة في مسائل الأصول هي التي تُخرج المخالف من الانتماء إلى الفرقة الناجية سواء في قضايا العقيدة أو غيرها من قضايا الدين، والمخالفة في المسائل الجزئية لا تخرج من ذلك، لوضوح الأمر في القضايا الكلية وعدم وضوحه أحياناً في القضايا الجزئية.
__________
(1) ... الاعتصام (2/170-171).(20/10)
وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي: وذلك أن هذه الفرق إنما تصير فرقاً بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلِّي في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة لا في جزئي من الجزئيات، إذ الجزئي والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعاً، وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية(1).
هذا وإنِّ قَصْر معالم الجماعة التي هي الفرقة الناجية على الجانب العلمي يجعل محور النقاش فيمن يدخل ضمن هذه الفرقة ومن لا يدخل يدور على أصحاب العلم علماء وطلابا، أما عموم المسلمين من العامة والمتخصصين في علوم الحياة الدنيا فإنهم لا يدخلون في هذا البحث أصلاً لأنهم لم يتعلموا هذه القضايا التي يدور حولها الجدل وليست من القضايا العملية التي يشعرون بأنهم مكلفون بها حتى يسألوا العلماء عن كيفية تنفيذها.
وهذا يحتم علينا أن نعدّ الجانب العملي جزءاً مما يتضمن منهج الفرقة الناجية، قد يكون واجباً على جميع المسلمين كالأحكام التي تترتب عليها التكاليف العملية، وقد يكون متعيناً على بعضهم وهم علماء الدين، بينما يكون مشروعاً لغيرهم، وقد يكون ممنوعاً إذا كان يسبب لهم فتنة في دينهم كما في قول علي ط $حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله# كما سيأتي.
ومما يؤكد كون منهج الفرقة الناجية يشمل الجوانب العلمية والجوانب العملية من الدين ما جاء في رواية الترمذي السابقة من قول رسول الله ج $حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك# بل إن هذا صريح في المخالفات العملية.
__________
(1) ... الاعتصام (2/172).(20/11)
ومما يؤيد ذلك ما رواه الإمام المروزي من حديث أبي الصهباء البكري أن علي بن أبي طالب ط $دعا رأس الجالوت (يعني زعيم اليهود الديني) وأسقف النصارى (يعني زعيمهم الديني) فقال: إني سائلكما عن أمر وأنا أعلم به منكما فلا تكتماني، يا رأس الجالوت أنشدك الله الذي أنزل التوارة على موسى وأطعمكم المنَّ والسلوى، وضرب لكم في البحر طريقاً وأخرج لكم من الحجر اثنتي عشرة عيناً لكل سبط من بني إسرائيل عين إلا ما أخبرتني على كم افترقت بنو إسرائيل من بعد موسى، فقال له: ولا فرقة واحدة، فقال له علي - ثلاث مرار - : كذبت والله الذي لا إله إلا هو، لقد افترقت على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة.
ثم دعا الأسقف فقال: أنشدك الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى وجعل على رحله البركة، وأراكم العبرة، فأبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى، وصنع لكم من الطين طيوراً، وأنبأكم
بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم فقال: دون هذا أصدقك
يا أمير المؤمنين، فقال له : على كم افترقت النصارى بعد عيسى
بن مريم من فرقة؟ قال: لا والله ولا فرقة، فقال - ثلاث مرار - كذبت والله الذي لا إله إلا هو لقد افترقت على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة.(20/12)
قال: فأما أنت يا يهودي فإن الله يقول ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( الله ( قرآن كريم - - - (- رضي الله عنهم - - قرآن كريم ( تم بحمد الله ( { } تم بحمد الله ( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - ( - - عليه السلام - - ( - - - عليه السلام -- رضي الله عنه -( - - - ( - (( مقدمة ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - ( - ((- رضي الله عنه - - ([الأعراف:159] ، فهي التي تنجو، وأما أنت يا نصراني فإن الله يقول ? ?? - ? صدق الله العظيم ? الله أكبر الله - جل جلاله -? تمت ? الله أكبر الله أكبر الله الله ? الله أكبر - - - تمت ? الله - - جل جلاله -? الله - { الله أكبر ? الله أكبر الله - ? - } - - جل جلاله - - الله } الله ? ?? - ? صدق الله العظيم ? الله أكبر الله - جل جلاله -? - ? - - الله ? - الله ? الله ?? - الله أكبر ? الله ? صدق الله العظيم ? الله الله أكبر ? } تمهيد تمهيد { ? [المائدة:66] فهي التي تنجو، وأما نحن فيقول
( ( صدق الله العظيم - - ( تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - - جل جلاله -( { فهرس - - رضي الله عنهم - - ( { } تم بحمد الله ( - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - - عليه السلام - - ( - - - رضي الله عنهم - - ( - - - ( - (( مقدمة ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - قرآن كريم ( - ( - ((- رضي الله عنه - - ( [الأعراف:181] وهي التي تنجو من هذه الأمة#(1).
وذكر الإمام الشاطبي مثله من حديث ابن وهب رحمه الله(2).
وقال الإمام ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية: يقول
الله تعالى ذِكْرُه: ومن الخلق الذين خلقنا (أمة) يعني جماعة
(يهدون) يقول: يهتدون بالحق (وبه يعدلون) يقول: وبالحق
__________
(1) ... السنة للمروزي 18-19 .
(2) ... الاعتصام للشاطبي (2/209-210).(20/13)
يقضون وينصفون الناس.
ثم ذكر قول ابن جريج: ذُكر لنا أن نبي الله ج قال: هذه أمتي، قال: بالحق يأخذون ويعملون ويقضون، ثم ذكر قول قتادة:
بلغنا أن نبي الله ج كان يقول إذا قرأها: هذه لكم وقد أُعطِي
القوم بين أيديكم مثلها ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( الله ( قرآن كريم - - - (- رضي الله عنهم - - قرآن كريم ( تم بحمد الله ( { } تم بحمد الله ( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - ( - - عليه السلام - - ( - - - عليه السلام -- رضي الله عنه -( - - - ( - (( مقدمة ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - ( - ((- رضي الله عنه - - ( [ الأعراف:159 ](1).
وتفسير (يهدون) بيهتدون سائغ في اللغة لأن هدى تأتي بمعنى اهتدى(2) فهذه الأمة هي الجماعة التي أخذت على نفسها العمل بالحق الذي شرعه الله تعالى والعدل به في الحكم للناس أو عليهم.
فهذه الأمة هي الجماعة التي تراقب الله تعالى وتتقيه في سلوكها وسيرها في هذه الحياة وفي حكمها على الآخرين أَوْ لهم.
والاهتداء بالحق يشمل تطبيق الإسلام عن علم وبصيرة
فهو شامل للعلم النافع والعمل الصالح لأن العمل الصالح ينبني
على العلم النافع، ولا يكون العلم نافعاً إلا إذا كان على منهج رسول الله ج وأصحابه.
والعدل بالحق داخل في الاهتداء به فهو من أزكى الأعمال الصالحة، ولكنه خُصص بالذكر لأهميته في تشخيص صفات هذه الجماعة المختارة.
فالعدل بالحق يقتضي من المسلم أن يتصف بالاقتصاد والاتزان في مدح الناس وذمهم، فلا يحمله المدح على رفعهم فوق منزلتهم التي يستحقونها وإيقاعهم والآخرين معهم في الفتنة بسبب ذلك،
ولا يحمله ذمهم على الجور عليهم والحَطِّ من مكانتهم، وأن يكون الدافع للثناء والإطراء هو في مبلغ تمثُّل هؤلاء الممدوحين
__________
(1) ... تفسير الطبري (13/285-286).
(2) ... لسان العرب/ مادة هدى.(20/14)
بالحق وحمايتهم له ودفاعهم عنه وأن يكون ذمهم في مدى بعدهم عن الحق وعدائهم له.
والعدل بالحق يقتضي من عموم المسلمين أن يكونوا يداً واحدة على الظالمين حتى يُقلعوا عن الظلم، وأن يكونوا يداً واحدة مع المظلومين حتى يتم إنصافهم وترجع إليهم حقوقهم في المجالات المعنوية والمادية كافة.
والعدل بالحق يقتضي من عموم المسلمين أن يكون الحق رائدهم في كل قضايا الحياة وأن يتحاكموا إليه عند الاختلاف.
فليس من العدل بالحق التعصب للدول والقبائل والجماعات واتباع الهوى في الحكم على الناس أوْ لهم.
فالذين يدافعون عن المسئولين في حكوماتهم على مختلف طبقاتهم سواء أصاب هؤلاء المسئولون أم أخطأوا..
والذين يسوغون أعمال المسئولين ويحاولون أن يظهروها بمظهر القبول مع تغطية ما فيها من مناكر ومفاسد..
والذين يرون أن الحق مع ما قررته حكوماتهم وإن كان باطلاً في شريعة الله تعالى … هؤلاء كلهم لم يعدلوا بالحق.
والذين يتعصبون لزعماء قبائلهم ووجهاء قومهم مع علمهم بأنهم ليسوا على الحق ولا يتقيدون بشريعة الله تعالى لم يعدلوا بالحق.
وإن من أسوأ مظاهر مجانبة العدل بالحق ما يقوم به بعض أتباع الجماعات الإسلامية من التعصب واتباع الهوى في الحكم لصالح جماعاتهم ضد الجماعات الأخرى.
إن الدعاة إلى الله تعالى الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر صفوة الأمة وخلاصتها وأفضل طبقاتها فإذا لم يتخلق هؤلاء بخلق العدل بالحق فمن الذي ينتظر منه أن يتخلق بذلك؟
فمدار البحث النافع أن ندور حول معرفة صفات الفرقة الناجية بتفصيل ما أجمله النبي ج بقوله: $ما أنا عليه وأصحابي# حتى تُرفع المعالم للأمة لينطلقوا نحو اللحاق بهذه الجماعة والاعتصام بها.(20/15)
وليس العلم النافع أن نحاول معرفة الفرق المنحرفة التي حكم عليها النبي ج بأنها من أهل النار، لأنه قد سكت عنها ولم يحددها بأعيانها، وما سكت عنه الرسول ج لا ينبغي البحث عنه لأنه من التقول بلا علم، ومن المجازفة بإصدار الحكم على المسلمين من غير بينة واضحة، وذلك باستثناء من نص عليهم النبي ج كالخوارج والقدرية.
نعم قد بين النبي ج صفة عامة لهذه الفرق في هذا الحديث وهي مخالفة ما عليه هو وأصحابه، والتركيز على هذه النقطة يوضح لنا صفات الفرقة الناجية والفِرَق الهالكة من غير أن نُعَيِّنها بأسمائها.
وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: $وشعار هذه الفرق مفارقة الكتاب والسنة والإجماع، فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة الجماعة.
وأما تعيين هذه الفرق فقد صنف الناس فيهم مصنفات، وذكروهم في كتب المقالات، لكن الجزم بأن هذه الفرق الموصوفة هي إحدى الثنتين والسبعين لا بدَّ له من دليل فإن الله حرم القول بلا علم عموماً، وحرم القول عليه بلا علم خصوصاً فقال تعالى ? صدق الله العظيم ? - الله أكبر ? - الله ? بسم الله الرحمن الرحيم - ? - تمهيد - الله ? الله الله - الله - - ? الله - جل جلاله - الله أكبر - الله } ??- جل جلاله - - - الله ? الله ? - ? - - - الله ? الله - الله أكبر الله أكبر الله ? - ?? - الله ? صدق الله العظيم ?- جل جلاله -? - الله ? الله ? الله ??? الله - الله ? - - - - تمهيد ? - - الله ? - ? { الله أكبر الله أكبر ?? الله - - ? - - الله ? - } صدق الله العظيم - الله أكبر الله ??- جل جلاله - - الله - ? الله - - ? - -(20/16)
? - - - الله ? المحتويات - ? الله أكبر ? - - { الله أكبر ? - الله أكبر - - جل جلاله - - ? - - - - جل جلاله - - - الله ? صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - - ? صدق الله العظيم ? الله - { الله ? - الله أكبر ? - - جل جلاله -?- جل جلاله - - - - الله أكبر ? - الله أكبر ?? - ? - ? ? - - - الله ? المحتويات - ? - الله أكبر ?? - ? الله الله أكبر - ? - ? الله ? - ?- جل جلاله - - - - - الله ? - الله درهم الله ?? - ? - ? الله أكبر صدق الله العظيم ? الله الله أكبر - } - - { ?[الأعراف:33] وقال تعالى ? - الله ? الله - الله أكبر ? - - - - - الله أكبر الله أكبر الله الله أكبر ? ? { - بسم الله الرحمن الرحيم - ?? - - المحتويات - ? - الله أكبر ? الله أكبر ? - الله الله ?- جل جلاله -? ? - ? صدق الله العظيم } - - - - ? - - ? - - الله أكبر - ? الله - - - الله أكبر - الله - - ?? - الله درهم الله ? المحتويات - ? - ?- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - - الله الله أكبر - - - - الله ??? - - - - ? - الله أكبر ?? صدق الله العظيم - - ? الله أكبر ?? - - - سبحانه وتعالى - - ? بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? تمهيد - - ?? الله أكبر ? - ? الله تمت ? - - الله ? - ? - - جل جلاله - - الله - ? } - تمهيد - { - الله ? بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? - تمهيد - ?? } - - - ? - - - الله الله أكبر ? - جل جلاله -? - ? الله - { ? - - - جل جلاله - - - جل جلاله -? - - الله ? { الله أكبر - الله ? - ? - - الله ? ? - - - الله ? المحتويات - ? - الله أكبر ?? - ? الله الله أكبر - ? - ? الله ? - ?- جل جلاله - - - - - الله ? - الله درهم الله ?? - ? - ? صدق الله العظيم ? الله الله أكبر - } - تمهيد - { ? [البقرة:168-169] وقال تعالى ? - الله درهم الله ? ?? { الله أكبر ? الله - - الله ? ? } صدق الله العظيم - - ? ?? - ? -(20/17)
- جل جلاله -?- جل جلاله - - { - - رضي الله عنهم - - ?- جل جلاله -? الله الله ? تمهيد - - الله ? صدق الله العظيم ? الله الله { ? - - الله - الله ? الله - - ? - - الله ? الله - - الله ? - ? - ? - - الله ? الله - ? الله أكبر ? ?? تمهيد - ? - - الله أكبر الله أكبر - ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - الله أكبر - الله ? - - ? - ? الله أكبر صدق الله العظيم ? الله أكبر الله ? - - درهم ? - - الله أكبر الله أكبر { الله أكبر { الله ? } - تمهيد { ? [الإسراء:36](1).
ومن العلماء الذين تكلموا في هذا المعنى الإمام الشاطبي رحمه الله حيث ذكر أن تعيين الفرق الهالكة ليس عليه دليل ولا يقتضيه العقل، ثم ذكر أنه لو سلمنا أن الدليل قام على ذلك فلا ينبغي التعيين لأمرين:
أولهما: أننا قد فهمنا من الشريعة أنها تشير إلى أصنافهم من غير تصريح ليُحذر منها ويبقى الأمر في تعيين الداخلين في مقتضى الحديث غير مبين.
وثانيهما: أن عدم التعيين هو الذي ينبغي أن يُلتزم ليكون ستراً على الأمة كما سُترت عليهم قبائحهم فلم يفضحوا في الدنيا في الغالب، وقد أُمِرنا بالستر على المؤمنين ما لم تَبْدُ لنا صفحة الخلاف.
أيضاً فللستر حكمة أخرى وهي أنها لو أُظهِرت مع أن أصحابها من الأمة لكان في ذلك داع إلى الفرقة وعدم الألفة التي أمر
الله ورسوله بها حيث قال تعالى ? المحتويات - ? - ?- جل جلاله -? الله الله أكبر - صدق الله العظيم ? - - الله ? - ? الله أكبر الله أكبر صدق الله العظيم - مقدمة ? الله - - - ?- جل جلاله - - - - - - الله أكبر ? - - جل جلاله -? الله -
__________
(1) ... مجموع الفتاوى (3/346).(20/18)
- الله درهم الله ? - المحتويات - ? - الله أكبر ? الله الله - الله ? الله الله أكبر - ? [آل عمران:103] وقال تعالى ? المحتويات - ? - ? بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر - - - الله الله أكبر ? - ? الله - - - المحتويات - ? - - - جل جلاله -? { ? - - - الله ? ? - - - - - صدق الله العظيم ? - - - جل جلاله -? صدق الله العظيم - الله أكبر الله - ? [الأنفال:1] وقال تعالى ? - الله درهم الله ? المحتويات - ? - الله أكبر ?? الله أكبر ? الله الله أكبر - الله ??- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - الله أكبر - ? المحتويات - ? - الله أكبر ? الله الله - الله ? الله الله أكبر - المحتويات - ? - ? - ? الله الله أكبر { - - - - الله ? - ?- جل جلاله -? - جل جلاله - - صدق الله العظيم ? الله الله أكبر - - الله ? - ? - ? - ? - - الله - - ? - - الله أكبر الله الله أكبر ? الله - جل جلاله - الله أكبر - الله - - ? - - ?? تمهيد - ? - - الله أكبر الله أكبر - ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - الله أكبر - الله ? ?? - ? - ? { - - الله - الله ? - - رضي الله عنهم - - - جل جلاله -?? الله ? } - - - { ? [ آل عمران:105] وفي الحديث $لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخواناً# فإذا كان في مقتضى العادة أن التعريف بهم على التعيين يورث العداوة بينهم والفرقة لزم من ذلك أن يكون منهيّاً عنه إلا أن تكون البدعة فاحشة جدّاً كبدعة الخوارج وذكرهم بعلامتهم حتى يعرفوا، ويلحق بذلك ما هو مثله في الشناعة أو قريب منه بحسب نظر المجتهد، وما عدا ذلك فالسكوت عنه أولى، اهـ باختصار(1).
__________
(1) ... الاعتصام (2/192-194).(20/19)
يضاف إلى ذلك أيضاً أن تعيين تلك الفرق يحصرها في فرق معينة فيما استطاع من عَيَّنَها أن يقوم بحصرها في عصره وما سبقه، وقد لا يستوعب ذلك كله، وقد تحْدث بعده فرق جديدة كما ظهر في هذا العصر من أمثال القاديانية والبهائية، فإذا تم تعيين الفرق كان ذلك مسوِّغاً لعدم شمول الحديث لما جدَّ بعد ذلك.
كما أن ترك التعيين أدْعَى لحصول المقصود من التنفير عن مخالفة سنة رسول الله ج وأصحابه، حيث يتوقع كل من حاول الاجتهاد بغير مسوِّغ احتمال دخوله تحت مظلة الفرق الهالكة.
ويضاف إلى ذلك أيضاً الخشية من وقوع بعض من أخرجوا من سلك الفرق الهالكة بالغرور والاتكالية حيث قد ضمنوا كونهم من الفرقة الناجية، فلا يبالون بعد ذلك بتقصير في عمل أو وقوع في معصية.
إننا حينما نقصر الفرقة الناجية على من اتبعوا منهجاً معيناً في مسائل الخلاف في العقيدة أو الفقه فإننا نسعى إلى تفريق جماعة المسلمين لأن كل فريق سيتمسك بما يراه هو الحق وسيَدّعي بأن طائفته هي الفرقة الناجية.
وكما هو الحال في الفرق والمذاهب القديمة فإن الأمر ينطبق على جماعات الدعوة المعاصرة فيما إذا ادَّعت كل جماعة أنها الفرقة الناجية وأن ما عداها هي من الفرق الهالكة، فإنها بذلك تفرق جماعة المسلمين، وتفرض على الجماعات الأخرى وعلى عامة المسلمين عداوتها.
وهكذا تبين لنا شمول معالم الفرقة الناجية لمجالي العلم النافع والعمل الصالح ، وهذا هو ما يدل عليه وصف النبي ج للفرقة الناجية بأنها التي تلتزم بما كان عليه هو وأصحابه، وأخبر بأنها الجماعة المعتمدة في الإسلام، كما جاء عنه في رواية أخرى أنها السواد الأعظم كما سبق، وهذه الصفة تبين أن الفرقة الناجية تمثل القطاع الأكبر من الأمة، وأن الفرق الهالكة تشذ عن ذلك القطاع بأنواع من الشذوذ.(20/20)
وإن أشمل صفة يمكن أن تعم هذا القطاع هي التقوى لأن التقوى تشمل الالتزام العلمي والعملي بالإسلام، ويشذ عن أهل التقوى من خالفوا في العلم أو في العمل أو فيهما معاً.
وهذه الجماعة مستخلصة من الأمة حيث سلمت من المخالفات التي مصيرها في الآخرة عذاب النار.
فهذه الجماعة جديرة بأن تُبيَّن وأن تُحدد معالمها بوضوح، وتحديد معالمها ينطلق من قول رسول الله ج في بيانها $ما أنا عليه وأصحابي#.
ومن أهم الأمور اللازمة لمعرفة هذه الجماعة دراسة سيرة رسول الله ج وسيرة أصحابه لمعرفة أمرين مهمين هما فهم الإسلام وتطبيقه.
فالصحابة ن كانوا كلهم من المتقين حيث طبقوا الإسلام تطبيقاً شاملاً بعدما فهموه فهماً سليماً من رسول الله ج مريدين بذلك رضوان الله تعالى والجنة والوقاية من النار، ولا يعني ذلك كل من أظهر الإسلام فقد كان في مجتمع الصحابة منافقون ولكنهم كانوا معروفين بصفاتهم ولا يعدُّون من الصحابة، لكن المؤمنون حقاًّ الذين رباهم الرسول ج كانوا كلهم متصفين بقوة الإيمان والتقوى، وإن كانوا يتفاضلون في ذلك، بينما وُجد في العصور التي تلت عصر الصحابة طبقة بين المؤمنين المتقين والمنافقين وهم ضعفاء الإيمان الذين ظلموا أنفسهم بالتقصير في الواجبات وارتكاب المحظورات ولم يتوبوا من تلك المخالفات.
ومن أبرز معالم الفرقة الناجية التي تعدّ تطبيقاً لقول رسول
الله ج: $ما أنا عليه وأصحابي# ما يأتي:
1- سلامة المنهج العلمي وذلك بأن يفهم المسلم دينه كما جاء من عند الله تعالى دون زيادة أو نقصان، وأن يكون مصدره في فهم الإسلام الكتاب والسنة مستعيناً بعد الله تعالى بفهم علماء الإسلام المتقين.
2- أن يطبق المسلم ما فهمه من الإسلام هذا الفهم الصحيح على نفسه وأسرته، وأن يسهم في الدعوة إليه والدفاع عنه وإصلاح مجتمعه الإسلامي.
3- أن يكون في تطبيقه المذكور مخلصاً لله تعالى، هدفه ابتغاء رضوانه والسعادة الأخروية.
- - - - -(20/21)
هل الفرقة الناجية هم المتقون؟
من بيان رسول الله ج السابق تبين لنا أن الفرقة الناجية هم الذين التزموا بما كان عليه رسول الله ج وأصحابه وذلك بفهم الإسلام كما جاء من عند الله تعالى وتطبيقه كاملاً، وهذه هي التقوى لأن اتقاء عذاب الله تعالى لا يكون إلا بتطبيق الإسلام الشامل المبني على الفهم الصحيح.
ولقد جاءت النصوص الشرعية الكثيرة بالثناء على المتقين ورفع منزلتهم في الدنيا والآخرة.
ومن المعلوم الظاهر أن أفضل هذه الأمة أقواها تمسكاً بالإسلام لأن إيمانها بهذا الدين هو سر عظمتها وخلودها وفلاحها في الدنيا والآخرة.
ومن المعلوم أيضاً أن الطبقة العليا في المجتمع الإسلامي هم المتقون كما جاء في قول الله تعالى ? الله الله ? تمهيد - - صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - الله أكبر ? الله ? الله - صدق الله العظيم } - - - الله - ?- جل جلاله -? - ?- جل جلاله - - - - - صدق الله العظيم ? الله أكبر ? - ? الله ? { الله أكبر الله أكبر - - - - ? [الحجرات:13].
والمتقون هم الذين يتقون عذاب الله تعالى بفعل أوامره
واجتناب نواهيه.
ونظراً لأهمية التقوى فقد تكرر ذكرها في القرآن الكريم بصيغ متعددة أكثر من مائتي مرة.(20/22)
ولقد أثنى الله سبحانه على المؤمنين بأبرز صفاتهم العملية وهي التقوى، وذلك في مثل قوله تعالى ? الله ?- جل جلاله - الله الله أكبر الله أكبر ? - } الله ??- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ?- جل جلاله -? المحتويات - ? - - الله ? - ? - ? - ? الله - الله - - ? - - - الله الله أكبر { - ? - ? - ? - - الله ?? - - الله - ? { الله الله أكبر ? الله ? الله ?- جل جلاله -? الله ??- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - - المحتويات - ? - ? الله ? - - ? الله ??- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - الله ? المحتويات - ?? الله ? بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر - - - صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - - ? الله الله أكبر ??? الله أكبر الله الله أكبر ? الله ??? الله الله أكبر ? - - جل جلاله -? الله ? - الله أكبر الله - - جل جلاله -? - ? - - ? [البقرة:212].
وحينما أنكر سبحانه على الكفار ادعاء التساوي مع المسلمين ذَكَرهم بهذه الصفة بعد ذكرهم بوصف الإيمان والعمل الصالح حيث يقول تعالى ? ? - - - - - ? الله ? صدق الله العظيم - الله ? الله ??- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - المحتويات - ? - ? الله أكبر الله ? - - ? المحتويات - ? - الله أكبر ?- جل جلاله -? الله ? الله ? - - - الله أكبر الله - - جل جلاله -? - الله أكبر - ??? - - الله ??- جل جلاله - - - جل جلاله - { { الله أكبر ? الله أكبر - ? - ? - - الله } ? - ? صدق الله العظيم } - - - - ? - - ? - - - - - ? الله ? صدق الله العظيم - الله الله أكبر ? الله ? - - جل جلاله -? بسم الله الرحمن الرحيم - - الله أكبر - ? - ? - - - جل جلاله - } - الله الله - - ? - ? - - الله } } - - { ? [ص:28].(20/23)
وحينما ذكر الله سبحانه جدارة المسلمين بولاية المسجد الحرام ذكرهم بهذه الصفة العظيمة حيث يقول تعالى عن المشركين ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - - - صدق الله العظيم - صلى الله عليه وسلم - - ( المحتويات ( - - عليه السلام - - ( - - - رضي الله عنهم -(( - ( - - - ( المحتويات ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - صلى الله عليه وسلم - - - ((- رضي الله عنه - - ( صدق الله العظيم - رضي الله عنه -( ( - ( - ( - - رضي الله عنهم - - ( - - - ( الله - - عليه السلام - - - رضي الله عنهم - - ( - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ( قرآن كريم ( الله أكبر - - - ((( فهرس - عليه السلام -( - - - عليه السلام - - ( - (- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - ( تمت ( { ((( فهرس (- رضي الله عنه - - - - عليه السلام - - ( - (- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - صدق الله العظيم ( { - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( { ( - ( - ( - - - - صدق الله العظيم ( - ( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - - عليه السلام - - فهرس - جل جلاله -( - - صلى الله عليه وسلم - - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - فهرس - ((- رضي الله عنه - - ([الأنفال:34].
وحينما ذكر الله سبحانه بقاء الأخوة بين المسلمين في الآخرة ذكرهم بهذا الوصف( (( - - ( - - } - - } - ((- رضي الله عنه - تم بحمد الله ( قرآن كريم - رضي الله عنه - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ((((- رضي الله عنه - - - (((- رضي الله عنه - - ( - - - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه -( - صدق الله العظيم ( { - ((( { ( - ( - ( - - - ([الزخرف:67].(20/24)
ولقد ذكر الله سبحانه محبته لعباده المؤمنين بهذه الصفة ? - عليه السلام -? - ? الله الله أكبر - ?? الله ? - عليه السلام -? الله الله أكبر ? صدق الله العظيم ? - - - - - جل جلاله -?- جل جلاله - - صدق الله العظيم ? الله ?- جل جلاله - - - عليه السلام -? الله ? الله أكبر بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر - - - الله ? الله الله ? - تمهيد - الله الله أكبر ? - ? الله - - - - ? درهم - جل جلاله - - - الله أكبر ? الله ? - - جل جلاله -? بسم الله الرحمن الرحيم - - - ? - ? - - } - تمهيد { ? [آل عمران:76].
بل إننا نجد دلالة واضحة على أن الأمر في هذه الحياة الدنيا
يجب أن يكون بيد المتقين وذلك في قوله تعالى ( - رضي الله عنه - - - - - - (- رضي الله عنهم - - قرآن كريم ( تم بحمد الله ( مقدمة ( تم بحمد الله ( قرآن كريم - { ( - } - قرآن كريم (- جل جلاله - - ((- رضي الله عنه - - ( - - - ( - - - ( - } - (- صلى الله عليه وسلم -( - ( - (( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - - ( { - عليه السلام -(( - - } - - ( - - - رضي الله عنهم - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - قرآن كريم ( - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله (( - - - رضي الله عنه -( - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله (( فهرس ( - - - رضي الله عنه - تمهيد (( } ( { - رضي الله عنه - - ( { (- رضي الله عنهم -(( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ((( { ( - ( - ( - ( - ([الأعراف:128].
قال الحافظ ابن كثير: $ووعدهم بالعاقبة وأن الدار ستصير لهم#
وذكر الآية(1).
وواضح من سياق الآية أن المقصود العاقبة في الدنيا
لأنهم لم يختلفوا على العاقبة في الآخرة وإنما كانوا يتشككون
في انتصارهم على فرعون، ولِما جاء بعد هذه الآية من قوله
__________
(1) ... تفسير ابن كثير (2/257).(20/25)
تعالى ? المحتويات - - ? الله أكبر ? - الله الله أكبر ? - الله ??- جل جلاله - - ? - الله أكبر - ?- جل جلاله -? - ? صدق الله العظيم - الله الله أكبر ? ? - - - - الله ? الله الله أكبر - - جل جلاله - - - - - الله الله أكبر - - ?- جل جلاله -? الله ? - جل جلاله - - صدق الله العظيم ? الله الله أكبر - - الله ? - - الله ? الله الله أكبر - صدق الله العظيم - ?- جل جلاله - - الله ? - الله الله أكبر ? - عليه السلام -? الله { الله ?
صدق الله العظيم ? الله أكبر ? الله - - ? } ? - - - ??- جل جلاله -? صدق الله العظيم ? - الله أكبر ? صدق الله العظيم ? - } بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - الله ? صدق الله العظيم ? - - الله ?- جل جلاله -? صدق الله العظيم - الله - { { الله الله أكبر ? الله ? ? - ? صدق الله العظيم } - - - - ? - - الله - ???? الله - الله الله أكبر ? ?? صدق الله العظيم - الله } الله ?? - الله أكبر ? الله ? صدق الله العظيم ? الله الله أكبر - } - - - { ? [الأعراف:129].
وهكذا وعد موسى عليه السلام قومه بأن العاقبة في الهيمنة على البلاد تكون للمتقين، فإن بلغ قومه درجة التقوى كان الأمر لهم، وكذا الحال في أمة محمد ج، فحينما كان المتقون هم الجماعة بقيادة رسول الله ج ثم بقيادة خلفائه من بعده كانت الدولة لهم وامتدت دولة الإسلام بقيادتهم حتى بلغت مشارق الأرض ومغاربها.
إلى آخر الآيات التي جاء فيها الإشادة بالتقوى والمتقين.
وإذا كانت العاقبة ليست للمسلمين اليوم فلأن التقوى ليست متحققة كما يجب لتكون مقبولة عند الله عز وجل، ويؤكد هذا قوله تعالى ? الله ? - الله } الله ? - - - الله أكبر ? الله - - الله ? الله أكبر صدق الله العظيم - - ? الله ? - - { ? الله الله أكبر ? الله ? - - جل جلاله -?- جل جلاله - الله أكبر ? صدق الله العظيم ? - ? - ? - - } - - { ? [الروم: 47].(20/26)
أما السنة ففيها أحاديث كثيرة رفعت من شان المتقين وأظهرت مكانتهم، فمن ذلك قول رسول الله ج: $ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا أحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى# أخرجه الإمام أحمد(1).
وقوله ج لأبي ذر ط: $انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى# أخرجه الإمام أحمد(2).
ونجد رسول الله ج ينهى المسلم عن مصاحبة غير الأتقياء حيث يقول $لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي# أخرجه الإمام أبو داود من حديث أبي سعيد ط وسكت عنه، وأخرجه الإمام الترمذي وقال: هذا حديث حسن إنما نعرفه من هذا الوجه، وأخرجه أيضاً الإمام أحمد والدارمي(3).
ومعلوم أنه ليس المراد مجرد الأكل وإنما المراد ما يترتب على مجالسة أهل المعاصي في التأثير في مستوى الإيمان، وكذلك يقول الإمام الخطابي في بيان معنى الحديث: $لا تؤالف من ليس من أهل التقوى والورع ولا تتخذه جليساً تطاعمه وتنادمه#(4).
ومن ذلك أن النبي ج جعل شعار الإسلام الإيمان والتقوى حيث يقول $إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء: مؤمن تقي وفاجر شقي# أخرجه الإمام أبو داود وسكت عنه، والترمذي وحسنه.
قال الخطابي: العبية الكِبْر والنخوة، وأصله من العِبْء وهو الثقل(5).
__________
(1) ... مسند الإمام أحمد (5/411).
(2) ... مسند الإمام أحمد (5/158).
(3) ... سنن أبي داود، كتاب الأدب، ب 19 من يؤمر أن يجالس، سنن الترمذي كتاب الزهد، باب صحبة المؤمن رقم 2397، مسند أحمد (3/28)، سنن الدارمي كتاب الأطعمة باب 23.
(4) ... معالم السنن (7/186).
(5) ... سنن أبي داود مع معالم السنن كتاب الأدب (8/15)، باب التفاخر بالأحساب رقم 4953، سنن الترمذي، رقم 3955، كتاب المناقب، باب 75 (5/734).(20/27)
ويبرز من المتقين السابقون، كما جاء في قول الله تعالى ? الله الله ? الله أكبر - - الله الله أكبر ? - - الله } صدق الله العظيم ? - - - ? درهم - الله أكبر الله الله أكبر - - جل جلاله -? - ? - - الله ??- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - - الله الله أكبر ? صدق الله العظيم - الله أكبر الله ??? صدق الله العظيم ? - - ??- جل جلاله -? - - الله الله أكبر ?- جل جلاله - - - الله - - جل جلاله -? صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - - ? { ?- جل جلاله -? الله الله أكبر ? - - رضي الله عنهم -- جل جلاله -? - - ?? - - جل جلاله -?- جل جلاله - { { الله أكبر ? الله الله أكبر ?- جل جلاله - بسم الله الرحمن الرحيم ? ? - ? صدق الله العظيم ?- جل جلاله -? الله ? تمت - - جل جلاله -? الله الله أكبر { - ? الله - ? ?? - ? صدق الله العظيم ?- جل جلاله -? الله ? - - ?- جل جلاله - - - الله ? - - - الله } صدق الله العظيم - الله - - ? - - - جل جلاله - الله أكبر - - جل جلاله -? - - - تمهيد - الله أكبر - جل جلاله - - - - ?- جل جلاله - - - - ??- جل جلاله -? - - - الله ? - ? - ? الله أكبر الله أكبر { ? الله ? - ? - - - } - - جل جلاله - - الله - - ? - - } - - { ?[فاطر:32].(20/28)
فقوله تعالى ? الله ??- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - - الله الله أكبر ? صدق الله العظيم - الله أكبر الله ??? صدق الله العظيم ? - - ? يعني المسلمين، لأن الله تعالى اختارهم من عموم البشر الذين ظلوا على كفرهم، أما المتقون فهم أصحاب المنزلة الثانية وهي التي بينها الله تعالى بقوله ? ? - ? صدق الله العظيم ?- جل جلاله -? الله ? تمت - - جل جلاله -? الله الله أكبر { - ? الله - ? ? والثالثة وهي التي ذكرها الله جل وعلا بقوله ? ?? - ? صدق الله العظيم ?- جل جلاله -? الله ? - - ?- جل جلاله - - - الله ? - - - الله } صدق الله العظيم - الله - - ? - - - جل جلاله - الله أكبر - ?، فمنهم مقتصدون يقتصرون على أداء الواجبات واجتناب المحرمات، ومنهم سابقون بالخيرات يضيفون إلى ذلك فعل المستحبات
وترك المكروهات.
وغير المتقين هم الذين ظلموا أنفسهم وهم الذين يرتكبون بعض المحرمات أو يخلُّون ببعض الواجبات ولا يتوبون من ذلك توبة نصوحاً، وظلم النفس قد يكون مترتباً على الاستجابة للشبهات فيتولد عن ذلك انحراف فكري قد يترتب عليه عمل المفاسد، وقد يقتصر على مرحلة الانحراف الفكري، وقد يكون ظلم النفس مترتباً على الاستجابة للشهوات فيتولد عن ذلك انحراف سلوكي.
وقد جاء إطلاق الفسق والعصيان على مرتكبي المخالفات سواء في ذلك مرتكبو المحظورات أو تاركو الواجبات إذا لم يتوبوا من ذلك.
وإنما كان المقصِّر ظالماً لنفسه لأنه لم يُلزمها السير في الطريق المستقيم، ولم ينظر لها ما يحقق لها السعادة في مستقبلها الأخروي الخالد، بل نظر لها في مستقبلها الدنيوي الفاني، فكان ظالماً لها حيث بخسها حقها.
ولو كان الإنسان العاقل موكلاً على رعي غنم فأوقفها في مكان قريب فيه مراعي قليلة الفائدة، ولم يصل بها إلى المراعي الجيدة لكان ظالماً لها، فكيف بإيقافه نفسه وتجميدها على متاع الدنيا الزائل؟
ألا يكون ظالماً؟(20/29)
بلى والله، إن هذا لمن أبلغ الظلم وآكده!!!
ومن الآثار المروية في بيان منزلة المتقين بالنسبة للتقدم في هذه الحياة قول عبدالله بن مسعود ط $المتقون سادة والفقهاء قادة#(1).
فمن هذا التقسيم يتبين أن المسلمين ثلاث طوائف:
الأولى: من لم يصل إلى درجة المتقين من المسلمين وهم الذين تهاونوا ببعض الواجبات أو فعلوا بعض المحرمات.
الطائفة الثانية: المتقون وهم الذين ارتفعوا بإيمانهم عن الإخلال بالواجبات وارتكاب المحظورات، والتبادل بين الطائفتين قائم من ناحية الارتفاع والهبوط، فقد يرتفع بالتوبة النصوح والعمل الصالح من ظلم نفسه، وقد يهبط المتقي بظلم نفسه.
فقد وصف ابن مسعود المتقين بالسَّادة، والسيادة تعني التقدم على الناس والبروز بخصال حميدة يعترف الناس بها للسيد فيسودونه عليهم ويتولى زعامتهم، وقد كان العرب في الجاهلية يسوِّدون الرجال من قبائلهم بمعاني من المكارم اتفقوا عليها كالشجاعة والكرم وشرف النسب وكثرة الولد.
وقد جاء الإسلام فرفع من فكر العرب وعدَّل مفاهيمهم ليصبح هدفهم الأعلى هو رضوان الله تعالى والظفر بالسعادة الأخروية بدلاً من إرضاء الهوى والنظر إلى الدنيا، فأصبح سادة المسلمين هم المتقين لأنهم سائرون نحو الكمال في خصال الخير التي شرعها الإسلام، وكلما كان المسلم أعظم في تمثُّل هذه الخصال كان أبلغ في السيادة.
__________
(1) ... سير أعلام النبلاء (1/497).(20/30)
أما الطائفة الثالثة: فهم الفقهاء في الإسلام، يعني العلماء الربانيين، فهؤلاء قادة السادة، فهم أصحاب القيادة العليا لأنهم أهل البصيرة في الدين، والمهمة الأولى في هذه الحياة للمسلمين هي تطبيق هذا الدين في الأرض، والمتقون لم يكونوا كذلك إلا لأنهم يقومون بهذه المهمة، والفقهاء في الدين هم الذين يتمكنون من الإشراف على تطبيق الإسلام في الأرض، فالفقهاء صنف مميز من المتقين لعلمهم ولما يرتفع لهم من عمل صالح عظيم بتعليم المسلمين وإفتائهم والإشراف على تطبيق الإسلام فإنهم يدخلون دخولاً أولياً في السابقين بالخيرات.
ومما يلفت النظر أن كلمة (شيخ) تطلق في اللغة العربية على سيد القبيلة، فهي تعادل كلمة (الأمير)، ولذلك يقول العرب: شيخ قبيلة كذا وكذا.
وحينما جاء الإسلام تغيرت مفاهيم السيادة، فلم تعُدْ قائمة على شرف النسب أو التفوق في بعض صفات الرجولة، وإنما أصبحت السيادة بالتقوى.
ونظراً إلى أن العلماء هم الذين يرجع المسلمون إليهم في فهم الدين والفتوى فيه … ونظراً إلى أن أهم ما يُطلب من المسلمين في هذه الحياة هو أن يطبقوا أحكام الإسلام وآدابه على الوجه الأكمل أفراداً وجماعات فإن علماء الدين أصبحوا هم أبرز سادة الأمة، فلذلك أطلق عليهم المسلمون (المشيخة)، وكأنهم أرادوا بذلك أنهم حلُّوا محل سادة القبائل الذين كان الناس يرجعون إليهم في حل مشكلاتهم وتنظيم أمور حياتهم.
ولقد كان هذا الإطلاق وجيهاً لأن أحق أفراد الأمة بالسيادة والتقدم هم علماء الدين، وتأتي مسوِّغات تسويدهم وتقديمهم من كونهم هم الوحيدين الذين يستطيعون تطبيق الإسلام بعلم على أمور الحياة، وهذا هو المطلب الأعلى والأهم عند كل مسلم.(20/31)
وإن إطلاق ألفاظ السيادة والزعامة على علماء الدين دليل على ارتفاع مستوى الوعي الديني لدى المسلمين، وأنهم يعدّون قضية تطبيق الإسلام هي أهم القضايا، وأنهم ينظرون إلى القضايا الدنيوية نظرة ثانوية مترتبة على قضية تطبيق الإسلام.
وكلما كان المجتمع يسوِّد علماءه ويقدمهم في إدارة شؤون الحياة فإن هذا دليل على قوة التزام أفراده بهذا الدين واستقامتهم عليه.
فالتقسيم الموجود في الآية السابقة ينطبق عليه تقسيم عبدالله بن مسعود حيث ذكر المتقين وحكم عليهم بأنهم سادة المسلمين ولم يذكر القسم الأول وهم غير المتقين وهو معلوم من ذكر المتقين.
وغير المتقين يراد بهم ما جاء في قوله تعالى ? صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - - ? { ?- جل جلاله -? الله الله أكبر ? - - رضي الله عنهم -- جل جلاله -? - - ?? - - جل جلاله -?- جل جلاله - { { الله أكبر ? الله الله أكبر ?- جل جلاله - بسم الله الرحمن الرحيم ? ?.
والفقهاء يراد بهم تمييز طائفة ممن جاءوا في قوله تعالى ? ?? - ? صدق الله العظيم ?- جل جلاله -? الله ? - - ?- جل جلاله - - - الله ? - - - الله } صدق الله العظيم - الله - - ? - - - جل جلاله - الله أكبر - - جل جلاله -? - - - تمهيد - الله أكبر - جل جلاله - - - - ?- جل جلاله - - - - ?.
إن التقوى درجة إذا وصلها المسلم وصل إلى باب النجاة لأنه بها يخرج من مرحلة ظلم النفس (التقصير).
فالتقوى هي بداية تميز المسلمين ثم يتفاضلون بعد ذلك في التقوى إلى أن يصلوا إلى مرحلة السابقين التي يتفاضل فيها المؤمنون أيضاً بإيمانهم وعملهم الصالح.
وقد يعمل المسلم أعمالاً هي من أعمال السابقين بالخيرات وهي النوافل وترك المكروهات ولكنه يكون مقصراً في بعض الواجبات فتكون هذه الأعمال الخيرية عوامل جبر لهذا النقص، فقد يتوهم الإنسان أنه قد وصل إلى مرحلة السابقين ولكنه ليس كذلك لوجود أنواع من الخلل في أداء الواجبات.(20/32)
وقول ابن مسعود $المتقون سادة# دليل على أنه كان في مفهوم الصحابة ومعلومهم أن المجتمع الإسلامي يجب عليه أن يسوِّد المتقين وأن يقدمهم لقيادته في هذه الحياة.
أما من الناحية التطبيقية فقد كان المتقون هم المقربين وأصحاب المشورة في عهد رسول الله ج والخلفاء الراشدين ن.
ولما أراد أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تجديد أمور الدين في عهده قرَّب المتقين فكانوا هم أصحاب مشورته(1).
وإن من فضل الله تعالى أن التقوى ليست حكراً على أحد، فبإمكان كل مسلم أن يكون من المتقين، وإذا ظهرت منه التقوى كان جديراً بأن يكون فرداً من أفراد الجماعة الخاصة التي يجب أن تتولى أمور المسلمين، فليست التقوى مبنية على شرف النسب ولا على تميز اللون والوطن ولا على كثرة المال والعشيرة، وإنما هي مبنية على أمر معنوي سام، بإمكان كل مسلم بلوغه، ألا وهو التفوق في تطبيق الإسلام والتقيد بأوامره ونواهيه.
ومما ينبغي أن يشار إليه أن التقوى لا تعني العصمة من المعاصي وإنما تعني تصحيح الفكر من الانحرافات والحرص على أداء الواجبات واجتناب المحرمات، فإذا وقع المسلم في شيء من المخالفة في ذلك نزل عن درجة التقوى إلى درجة ظلم النفس، فإذا تاب توبة نصوحاً تاب الله عليه وارتفع إلى درجة التقوى، فالذي يوقف المخالف عن بلوغ درجة المتقين هو إصراره على المخالفات.
- - - - -
أنواع التقوى
التقوى نوعان: تقوى العلم وتقوى العمل.
فتقوى العلم أن يتقي المسلم ربه في فكره، فلا يفكر إلا فيما يرضي الله تعالى وعلى المنهج العلمي السليم الذي سنَّه رسول الله ج.
فالذي يتعلق بالشبهات ويتبع هواه في الانحراف نحو المعتقدات الباطلة فإنه ليس ممن يتقي الله بفكره.
__________
(1) ... سيرة عمر بن عبدالعزيز لابن الجوزي 51،52،60.(20/33)
والذين انحرفوا نحو مذاهب الضلال في العقيدة اتباعاً للهوى أو تعصباً لأئمة المذاهب أو تأثراً بالمذاهب السائدة في المجتمع، أو تقوُّلاً على الله تعالى بغير علم.. هؤلاء من الظالمي أنفسهم لأنهم لم يتقوا الله تعالى بتفكيرهم، بل اتقوا مخالفة الناس الذين لا يحبون مخالفتهم أو اتقوا مخالفة أهوائهم.
أما تقوى العمل فأمرها واضح لشهرة التعبير بها عن فعل الأوامر واجتناب النواهي.
وفي نوعي التقوى جاء قول رسول الله ج $من استحيى من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى، وليذكر
الموت والبِلَى# أخرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث عبدالله بن مسعود ط(1).
ولهذا فإن التزكية بالتقوى من أعلى أنواع التزكية لأنها شاملة للعلم النافع والعمل الصالح، والاعتقاد جزء من العلم النافع.
أما الاكتفاء في التزكية بالجانب العلمي وحده أو الجانب
العملي وحده فإنه لا يكفي لوصف المُزَكَّى بالعدالة والأمانة، فقد يكون في المجال العلمي سليم المعتقد مثلاً لكونه نشأ في مجتمع يخلو
من الغبش والمخالفات في العقيدة، ولكنه في الجانب العملي قد يكون فاسقاً يرتكب بعض كبائر الذنوب ويُصرُّ عليها، فهذا ليس
من المتقين، ووصفه بسلامة العقيدة لا يعطي تصوراً كاملاً
عن أمانته وعدالته.
وكذلك في المجال العملي قد يكون ذا صلاح ظاهر في أعماله وبعده عن المنكرات، ولكنه يعتقد أموراً تخالف الإسلام ويصر عليها اتباعاً لهواه أو تقليداً لغيره، فهذا لا يستحق التزكية لمخالفته
منهج أهل التقوى.
علاقة التقوى بالنجاة من النار :
لو بحثنا عن سبب تسمية الفرقة الناجية نجد أنها سميت بذلك لأنها نجت من عذاب النار.
__________
(1) ... مسند أحمد (1/387) سنن الترمذي كتاب القيامة رقم 2575، باب رقم 14 (تحفة الأحوذي (7/154).(20/34)
ولو بحثنا في الأحكام التي استقرت عند أهل السنة باستقراء الأدلة الشرعية نجد أن الذين يخلَّدون في النار هم الكفار بما في ذلك المنافقون، أما المسلمون فإنهم إذا ارتكبوا المعاصي ولم يتوبوا منها فإنهم تحت مشيئة الله تعالى وإرادته إن شاء غفر لهم وإن شاء عذبهم بقدر ذنوبهم ولا يخلَّدون في النار ، ومن أدلة ذلك قول الله تعالى ? الله الله ? تمهيد - - - ? الله - - - - الله درهم - - - جل جلاله -? { الله أكبر ?? الله ? ? - - - ?? الله - { الله أكبر ? - ? - - جل جلاله -?- جل جلاله - - - - - جل جلاله -? { الله أكبر الله أكبر ?? الله ? الله ? - الله ? الله ?? - - ??- جل جلاله -? - - - ? الله ?- جل جلاله -? - - ? - - الله ? الله ? ? [ النساء:48 ].
والبحث الآن في المسلمين الذين منهم الفرقة الناجية فيكون المراد بهذه الفرقة على هذا المسلمين الذين سلموا من الإصرار على المعاصي، وذلك بفعل الواجبات واجتناب المحرمات، وهؤلاء هم المتقون، ويدخل فيهم الذين ارتكبوا بعض المحرمات فتابوا منها توبة نصوحاً، وهذا هو مدلول قول رسول الله ج عن الفرقة الناجية $ما أنا عليه وأصحابي# لأن الصحابة كلهم من المتقين.
ومما جاء في القرآن من ذلك قول الله تعالى ? - الله ? - - الله أكبر بسم الله الرحمن الرحيم - ? الله - - - الله ? الله ?
? الله ? صدق الله العظيم الله أكبر - - - - ? - - } - - { ? [الليل:17] وقوله تعالى ( { المحتويات ( بسم الله الرحمن الرحيم (( - - - عليه السلام - - ( الله أكبر - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم - { } - - - ( - - - - رضي الله عنه - الله أكبر } - صلى الله عليه وسلم - - ((( - ( - ( { ( - - - - { - - (( - صدق الله العظيم - ( الله ( - ([مريم:72].(20/35)
وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : وأهل السنة جزموا بالنجاة لكل من اتقى الله تعالى كما نطق به القرآن، وإنما توقفوا في شخص معين لعدم العلم بدخوله في المتقين(1).
وليس معنى هذا أنَّ من ارتكب المخالفات ثم لم يتب منها
يدخل النار قطعاً، بل هو تحت رحمة الله تعالى ومشيئته، فإن
شاء غفر له فلم يدخل النار، وإنما المقصود الفِرقة التي تنجو من النار بسبب تقواها.
ولكن لو نظرنا إلى تقسيم النبي ج هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة نجد أن الناحية العلمية تبرز في هذا التقسيم، لأن الأمة غالباً لا تختلف على العمل وإنما تختلف في باب العلم ثم يترتب عليه العمل.
ومن هذا المنطلق كان اهتمام أهل السنة والجماعة بتوضيح منهجهم في باب العلم، وخاصة أمور العقيدة، وكذلك اهتمامهم ببيان مخالفة المخالفين في هذا الباب.
ولكن يجب أن لا يفهم من اهتمامهم هذا أنهم قصَروا صفات الفرقة الناجية على باب العلم وحده، فإن المنحرف في سلوكه يكون مخالفاً لما عليه رسول الله ج وأصحابه، كما أن المنحرف في فكره يعدّ مخالفاً لهم.
متى تكون المخالفات مانعة من التقوى؟
عرفنا أن المخالفات التي تمنع بعض المسلمين من اللحاق بركب الفرقة الناجية منها ما يكون في الجانب العلمي ومنها ما يكون في الجانب العملي.
ولكن متى تكون هذه المخالفات مانعة من النجاة؟
إن النجاة من عذاب الله تعالى والظفر برضوانه ونعيمه يلزم
لهما أمران:
أولهما: سلامة الهدف، وذلك بأن يكون هدف العبد من تطبيق هذا الدين هو ابتغاء مرضاة الله تعالى والسعادة الأخروية بالظفر بالجنة والنجاة من النار.
ثانيهما: سلامة المنهج الموصل إلى هذا الهدف، وذلك
بالالتزام بالكتاب والسنة، كما قال رسول الله ج $تركت فيكم
شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي# أخرجه الحاكم من
حديث أبي هريرة ط(2).
__________
(1) ... مجموع الفتاوى (20/166).
(2) ... صحيح الجامع الصغير (2/39) رقم 2934.(20/36)
فأما الأمر الأول وهو سلامة الهدف فلا جدال فيه لأن المرجع فيه هو نية القلب، وكل المختلفين من المسلمين يقولون إنهم يريدون بعلمهم وعملهم وجه الله تعالى والسعادة الأخروية، ولا يمكن للمخالف غالباً أن يقدح في صحة نيتهم إلا أن يكونوا من المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر.
لكن الكلام ينحصر في الأمر الثاني وهو سلامة المنهج، فإن المختلفين أيضاً سيقول كل واحد منهم إنه ملتزم بالكتاب والسنة، فهل يُسلَّم لهم ذلك؟
الحقيقة أن ذلك لا يسلم لكل من ادعاه، بل يسلَّم ذلك للعالم الذي اشتهر بغزارة العلم وشهد له أهل العدالة والعلم بأنه من أهل الاجتهاد، لأن نصوص الكتاب والسنة ليست مجرد نصوص يأخذها كل من طلب العلم فيفسرها على المعنى الذي يتبادر إلى ذهنه، أو المعنى الذي يخدم معتقده، بل الأمر يحتاج إلى معاناة طويلة في طلب العلم ومعرفة أصوله.
ومن هذا المنطلق لا يُحكم مثلاً للخوارج بأنهم من الفرقة الناجية مع أن هدفهم سليم حيث كانوا يريدون وجه الله تعالى والسعادة الأخروية، لأنهم ليسوا من العلماء فضلاً عن أن يكونوا من أهل الاجتهاد فلذلك فسروا القرآن بجهل فضلوا وأضلوا، وقد رجع أكثرهم حينما ناظرهم عبدالله بن عباس م، فبين لهم المعاني الصحيحة للآيات التي أوردوها، وأجاب عن الشبهات التي احتجوا بها.
وكذلك لا يُحكم للمعتزلة والجهمية مثلاً بأنهم من الفرقة الناجية وإن ادعوا سلامة الهدف وكان فيهم علماء يدعون الاجتهاد لأنهم لم يجعلوا الكتاب والسنة مرجعاً أساسيّاً في مباحث الاعتقاد، بل جعلوا العقل هو المحكَّم في تلك المسائل.(20/37)
وكذلك الرافضة لا يحكم لهم بأنهم من الفرقة الناجية بل هم من أبعد الفرق عن النجاة لأنهم لا يعترفون بعدالة الصحابة، بل يفسِّقون أكثرهم، ويعدُّونهم منافقين وبالتالي فإنهم لا يعترفون بالسنة التي وردت عن طريقهم، وهي التي دوَّنها علماء السنة في كتب الحديث، كما أن غلاتهم لا يعترفون بأن القرآن الموجود في المصاحف هو الذي نزل من عند الله كاملاً، بل يتهمون الصحابة بأنهم أخفوا بعضه، إلى غير ذلك من مخالفاتهم التي يخالفون بها أهل السنة في أصولهم.
فإذا اختلف اجتهاد العلماء الذين يُعدُّون من أهل الاجتهاد في قضية دينية وكان هدفهم سليماً فإنهم يكونون جميعاً من المتقين أهل الفرقة الناجية وإن اختلفوا، وقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم في كثير من المسائل الفقهية واختلفوا في قليل من المسائل العقدية(1)، ولم يحكم بعضهم على بعض بالهلاك، وكان علماء الصحابة الذين اختلفوا جميعاً من المتقين بإجماع الأمة.
- - - - -
المصلحون هم أبرز المتقين
قد جاء ذكر المصلحين وبيان ما لهم من عاقبة حسنى في الآخرة في قوله تعالى ( - رضي الله عنه -((( - { - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - قرآن كريم ( - ( تمت - - رضي الله عنهم - - ( - ( - (- رضي الله عنه - - ( - ( - - - ( - } - قرآن كريم ( تم بحمد الله - - - - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - فهرس - - قرآن كريم فهرس - - ( - - - - ( الله أكبر ( { - صدق الله العظيم (( - ((( الله أكبر - عليه السلام - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه -((((( - ((( الله أكبر ( الله - - ( [الأعراف:170].
__________
(1) ... انظر رسالة شمول الاجتهاد.(20/38)
فالمصلحون صالحون وزيادة ، فإنهم قد قاموا أولا بإصلاح أنفسهم حتى أصبحوا صالحين ، ثم قاموا بإصلاح غيرهم ، فالله سبحانه ذكر في هذه الآية من مؤهلات ارتقاء المسلم إلى الإصلاح أن يكون على الصراط المستقيم ، وهو بالنسبة لأهل الكتاب السابقين التمسك بالتوراة والإنجيل وبالنسبة لجميع المسلمين التمسك بالقرآن الكريم ، وهذا يشتمل على وضوح الهدف وهو ابتغاء رضوان الله تعالى والجنة ، ووضوح المنهج وهو التمسك بكتاب الله تعالى وسنة رسوله ج التي هي تابعة للقرآن ومبينة له .
ثم ذكر تعالى أهم عمل يقوم به المسلم في حياته وهو إقامة الصلاة وقد سبق بيان أهمية إقامة الصلاة في المجال التربوي .
وقد ذكر الله سبحانه أبرز صفات المصلحين بقوله تعالى ( ( المحتويات ( - - ( - - عليه السلام - - ( - - رضي الله عنهم - - - { } تم بحمد الله ( - ( تمهيد - رضي الله عنهم - - ( - ( - ( - ( } - } - جل جلاله - - ( - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - ( - - - ( - - صلى الله عليه وسلم -( - ((- رضي الله عنهم - - ( - - - ( - - - ( قرآن كريم - رضي الله عنهم - - (- جل جلاله - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( صدق الله العظيم - رضي الله عنه -( ( - - تمهيد - ( - ( - - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - ( تم بحمد الله ( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - - ( - ([آل عمران:110].
في هذه الآية الكريمة يبين الله تعالى أبرز صفات هذه الأمة التي حازت على هذا الشرف العظيم، فكانت خير أمة أخرجت للناس.
وقد ذكر الله سبحانه في هذه الآية صفتين لخيرية هذه الأمة:
صفة لا يبلغها إلا المصلحون وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصفة عامة يتصف بها أفراد الأمة وهي الإيمان بالله تعالى.
وبهذا نعلم أن الإصلاح هو أحد عنصري خيرية هذه الأمة.(20/39)
وإنَّ ذكر الخاص مع العام دليل على الاهتمام به والتنويه بشأنه، فالآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر هم من جملة المؤمنين بالله تعالى، ولكنهم ذُكروا بخصوصهم لما لهم من المكانة والأهمية في قيادة الأمة وتوجيهها وحمايتها بإذن الله من الضعف والانهيار.
والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر هم أبرز المتقين،
وإنما ذُكروا بأبرز صفة من صفاتهم، لأن الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يكون من المتقين غالباً، لأنه لا يتصف بتطبيق ذلك
إلا أقوياء الإيمان، وإن من يجابه الناس بما يكرهون ويتعرض للأذى في نفسه وأسرته وماله من أجل الله تعالى فإنه حريٌّ به أن يكون
قد طبق ما دون ذلك.
وذلك أن درجات تطبيق الإسلام أربع :
الأولى: الالتزام الشخصي الذاتي، وذلك بأن يلتزم المسلم بخاصة نفسه فيطبق أحكام الإسلام على نفسه من غير دعوة غيره.
الثانية: الالتزام الأسَري وذلك بأن يهتم المسلم بتربية أسرته على الالتزام بالدين بعد أن يلتزم بنفسه.
الثالثة: الدعوة إلى الإسلام وذلك بنشر الدين خارج محيط الأسرة بعد أن يلتزم هو وأسرته، وذلك في مجال الخطابة والكتابة والتعليم وغير ذلك من جوانب الدعوة.
الرابعة: إنكار المنكر، وذلك بالمشاركة في حمل المسلمين على الالتزام وإصلاح فساد المجتمع ومجابهة المخالفين من أهل الإسلام ويدخل في ذلك الجهاد في سبيل الله تعالى لأنه من إنكار المنكر سواء كان جهاداً دفاعيّاً وهو ما إذا كان داخل بلاد الإسلام لإزالة البغي والطغيان أو كان دعويّاً وذلك فيما إذا كان خارج بلاد الإسلام لإزالة العوائق التي تحول دون بلوغ الدعوة.(20/40)
وقد ذكر الله سبحانه الدرجة الثالثة والرابعة وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يذكر الأولى والثانية اكتفاء بذكر الأعلى عن الأدنى لأن الذي يتوجه لدعوة الناس والإنكار عليهم لا بد أن يكون قد بذل جهده مع نفسه وأسرته أولاً، وإلا فإن أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر لا يكون عن إخلاص غالباً، فالآية شملت تطبيق الإسلام شاملاً كما جاء من عند الله تعالى إلا أنها نوهت بذكر الجانب الأعلى من التطبيق الذي يتفاضل المؤمنون به ويتميز به أهل التقوى والإصلاح.
فالدرجة الأولى واجبة على كل مسلم بعينه، والدرجة الثانية واجبة على كل من له أسرة يعولها لقول رسول الله ج $كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته#(1).
أما الدرجة الثالثة والرابعة فهما واجبتان على الكفاية إذا قام بهما من يكفي سقط الوجوب عن بقية الأمة لقول الله تعالى ( صدق الله العظيم ( - - رضي الله عنه - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - - جل جلاله -( } تم بحمد الله ( { } تم بحمد الله ( - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ((( - - رضي الله عنه - - - فهرس - ( { ( - ( - - - ( - - - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( تم بحمد الله ( - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - صلى الله عليه وسلم -( - (( { الله أكبر ( الله - - ( - - رضي الله عنه - تمت ( قرآن كريم - رضي الله عنهم - - ( - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( صدق الله العظيم - رضي الله عنه -( ( - - - - جل جلاله -( - ( - - - - - رضي الله عنهم - - (((( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - - - قرآن كريم ( - ( - ((( - ( - - - ([آل عمران:104].
__________
(1) ... صحيح البخاري، رقم 593، كتاب الجمعة باب 11 (2/380) صحيح مسلم، رقم 1829، الإمارة باب 5 (ص 1459).(20/41)
وإذا لم يقم بها من يكفي وقع الإثم على كل أفراد الأمة الإسلامية، ذلك لأن فروض الكفاية واجبة على جميع الأمة، فأما المتأهلون للقيام بها فهي واجبة عليهم مباشرة وجوباً كفائيّاً، وأما غير المتأهلين لذلك فإنها تجب عليهم من ناحية دفع القادرين على القيام بها بالوسائل التي يحصل بها المقصود من ذلك(1).
وقد يكون النهي عن المنكر واجباً عينياًّ على من اطلع عليه لأن غيره من المسلمين لا يعلمون عنه، وكذلك في المنكرات الكبيرة.
وكذلك الجهاد قد يكون فرض عين وذلك فيما إذا دخل العدو دار الإسلام، وعند استنفار الإمام، وعند التقاء الصفين.
ومن هذه الخاصية نعرف المزيَّة الكبرى للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والمجاهدين في سبيل الله تعالى لما قاموا به من النيابة عن هذه الأمة في هذا التكليف الكبير وإسقاط الفرضية عن جميع أفراد الأمة، ومن هذا وغيره استحقوا أن يكونوا أعلى طبقات الأمة وأحقها بالسيادة والقيادة.
ونحن إذا رأينا انتشار المنكرات الكبرى في هذا العصر، التي من أبرزها الحكم بغير ما أنزل الله نعلم أن إنكار المنكر قد تحول إلى واجب عيني على جميع المسلمين لعدم وجود من يقوم به على الكفاية.
إن هذه الآية الكريمة من أوضح الأدلة على أن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هم أفضل الأمة، وأفضل الأمة هم أبرز الذين يشكلون عناصر الجماعة الخاصة التي بيدها مسئولية الأمة،
وفيها أهل الحل والعقد، لأن الآية لم تذكر طائفة بخصوصها
إلا هذه الطائفة، فهي الطائفة المميزة عن سائر أفراد الأمة حيث يجتمع الجميع تحت دائرة الإيمان بالله تعالى، ويشكِّلون جماعة المسلمين العامة، ويسمو بطائفة منهم إيمانهم القوي ليكونوا هم المصلحين الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر فيكونوا بذلك أبرز أفراد الجماعة الخاصة. "جماعة المتقين".
__________
(1) ... انظر (الموافقات) للإمام الشاطبي (1/119-121).(20/42)
وهذه الطائفة هي الأمة المتميزة التي حكم الله لها بالفلاح في قوله ( صدق الله العظيم ( - - رضي الله عنه - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - - جل جلاله -( } تم بحمد الله ( { } تم بحمد الله ( - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ((( - - رضي الله عنه - - - فهرس - ( { ( - ( - - - ( - - - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( تم بحمد الله ( - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - صلى الله عليه وسلم -( - (( { الله أكبر ( الله - - ( - - رضي الله عنه - تمت ( قرآن كريم - رضي الله عنهم - - ( - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( صدق الله العظيم - رضي الله عنه -( ( - - - - جل جلاله -( - ( - - - - - رضي الله عنهم - - (((( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - - - قرآن كريم ( - ( - ((( - ( - - - ([آل عمران:104]، وإن أي مسلم يؤمن بهذا الجزاء ويكون حاضراً في تفكيره فإنه لا بد أن يسارع إلى اللحاق بهذه الطائفة ليكون من المفلحين في الدنيا والآخرة إن كان ذا عقل سليم وتفكير صائب.
فهذه الطائفة إذاً هم أهل الإصلاح الذين يدعون إلى الله على بصيرة حيث لم يكتفوا بمجرد الوعظ والتذكير وإنما قاموا بإصلاح المجتمع وتطهيره من المنكرات ومقاومة أهل الباطل حتى يخضعوا لدعوة الحق.
وإن من المشروع لكل المسلمين أن يكونوا دعاة إلى الله تعالى آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر كما كان الصحابة ن جميعاً كذلك، وإن كانت الأمة كلها مطبقة لعنصري الخيرية المذكورين في الآية السابقة فإنها بكل أفرادها تشكِّل الجماعة التي من حقها أن تختار أهل الحل و العقد.(20/43)
ولنتذكر أن اليهود كلهم تقريباً دعاة إلى دينهم المحرف وقضيتهم الباطلة الجائرة، فإنهم يلقِّنون أبناءهم وبناتهم منذ الطفولة دعوتهم، ويُفهمونهم قضيتهم التي يدافعون عنها، فلذلك نجحوا على الرغم من قلة عددهم في السيطرة على دول كبرى، ومصالح عالمية، وسخروا أفراد أمم أخرى لخدمتهم، لكونهم سخَّروا أموالهم الطائلة لخدمة عقيدتهم.
فإذا كان اليهود قد تحولوا إلى دعاة نشطين مع بطلان دعواهم أفليس الأولى بالمسلمين أن يتحولوا إلى دعاة مخلصين لتفهيم العالم ما يحملون من الحق وحمايته ونصره؟
هذا ونظراً لكون جانب الظهور بالأعمال الصالحة ومجابهة أهل الباطل أمراً منظوراً إليه في هذا المجال فإن الدرجة الثالثة من درجات إنكار المنكر لا تفيد شيئاً في التعريف بأهل الإصلاح لأن الإنكار بالقلب أمر خفي، وموضوع إبراز الجماعة الخاصة أمر معلن فلا يكفي في بروزهم مجرد الإنكار بالقلب.
هذا إضافة إلى أن النبي ج حكم على هذه المرحلة بأنها أضعف الإيمان، والصفة البارزة في جماعة المصلحين أنهم أقوياء الإيمان.
الجهاد في سبيل الله تعالى من الإصلاح:
إننا حينما نتأمل حديث رسول الله ج المشهور $من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان#(1) يتبين لنا أن الجهاد يعدّ من محتويات أحد أقسام إنكار المنكر الثلاثة، حيث إنه يكون نوعاً من الإنكار باليد، خصوصاً ما إذا كان المجاهدون يقاومون من تسلطوا على بلاد المسلمين فحكموها بغير ما أنزل الله تعالى.
وحيث إن الجهاد جزء من إنكار المنكر، ونظراً لأن العمل الذي يبقى على الدوام هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سواء
وجد الجهاد أو لم يوجد فإن الله سبحانه جعل هذا الباب
__________
(1) ... صحيح مسلم، رقم 49، كتاب الإيمان باب 20(69)، سنن أبي داود، رقم 1140، كتاب الصلاة باب 248، (1/677).(20/44)
أحد عنصري خيرية هذه الأمة كماتبين لنا في قول الله تعالى ( ( المحتويات ( - - ( - - عليه السلام - - ( - - رضي الله عنهم - - - { } تم بحمد الله ( - ( تمهيد - رضي الله عنهم - - ( - ( - ( - ( } - } - جل جلاله - - ( - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - ( - - - ( - - صلى الله عليه وسلم -( - ((- رضي الله عنهم - - ( - - - ( - - - ( قرآن كريم - رضي الله عنهم - - (- جل جلاله - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( صدق الله العظيم - رضي الله عنه -( ( - - تمهيد - ( - ( - - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - ( تم بحمد الله ( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - - ( - ( [آل عمران:110].
- - - - -
شمول معالم الطائفة المنصورة
أهل الإصلاح هم الطائفة المنصورة:
فالمصلحون هم الطائفة المنصورة المذكورة في قول رسول الله ج $لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك# أخرجه الشيخان واللفظ لمسلم
وفي رواية لمسلم $لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة#.
وفي رواية لمسلم أيضاً أن النبي ج قال $لن يبرح هذا الدين قائماً يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة#.
وفي حديث آخر لمسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص م أن المراد بهذه الساعة ساعة المؤمنين وهي الريح التي يقبض الله بها أرواحهم حيث يقول $ثم يبعث الله ريحاً كريح المسك مسها مس الحرير فلا تترك نفساً في قلبه مثقال حبة من الإيمان إلا قبضته ثم يبقى شرار الناس عليهم تقوم الساعة#(1).
وعلى هذا فالمراد بيوم القيامة في رواية مسلم الثانية قيامة المؤمنين وهي هذه الريح.
__________
(1) ... صحيح مسلم، رقم 1920و1922و1924، كتاب الإمارة باب 53 (ص1523)، ورقم 156، كتاب الإيمان، باب 71 (ص 137)، صحيح البخاري، رقم 7311، كتاب الاعتصام، باب 10 (13/293).(20/45)
وأخرج الحافظ النسائي رحمه الله من حديث سلمة بن نفيل الكندي ط قال: $كنت جالساً عند رسول الله ج فقال رجل: يا رسول الله أذال الناس الخيل ووضعوا السلاح وقالوا: لا جهاد قد وضعت الحرب أوزارها، فأقبل رسول الله ج بوجهه وقال: كذبوا(1)، الآن جاء القتال، ولا يزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق ويزيغ الله لهم قلوب أقوام ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة وحتى يأتي وعد الله، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة# الحديث(2).
وقوله $حتى تقوم الساعة# و $إلى يوم القيامة# المقصود قيامة المؤمنين وهي الريح التي تقبض أرواحهم كما في رواية مسلم.
وفي هذه الأحاديث دلالة واضحة على أن أبرز صفة لهذه الجماعة أنهم مجاهدون في سبيل الله تعالى.وقد نص الحديث على القتال بالنفس الذي هو أعلى أنواع الجهاد، والغالب أن من يبذل نفسه في سبيل الله تعالى سيكون قبل ذلك بذل ماله ولسانه وقلمه في إصلاح أمته وإقامة دولة الإسلام، فالجود بالنفس أقصى غاية الجود. فالخاصية الأولى والأهم لأفراد هذه الطائفة أن الأعمال الصالحة التي يُقْدمون عليها ويتفوقون على غيرهم فيها هي التي تتسم بمجابهة الناس وتلقِّي خصومتهم ومكابدة إصلاحهم والصبر على أذاهم.
فهم الدعاة إلى الالتزام بالإسلام الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر المجاهدون في سبيل الله تعالى، وهذه الأعمال الصالحة كلها في الأصل تدخل تحت فروض الكفاية، ولكنها تتعين على بعض المسلمين في بعض صورها كما تقدم.
فهؤلاء المصلحون المجاهدون الذين قاموا بأداء هذه الفروض الشاقة على النفوس هم أفضل الأمة إجمالاً لأنهم سارعوا إلى أمر تكاسل عنه الآخرون، وأسقطوا الإثم عن عموم الأمة بقيامهم بفروض الكفاية التي لو لم يقوموا بها لأثم جميع أفراد الأمة.
__________
(1) الكذب هنا بمعنى الخطأ.
(2) ... سنن النسائي (6/215) كتاب الخيل، باب (1).(20/46)
وبهذا تبين لنا أن معالم الطائفة المنصورة تتحدد بالقيام بفروض الكفاية التي تقتضي المجابهة والتضحية وهي الجهاد في سبيل الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فهذه الطائفة قد حصلت على النجاة من النار بإذن الله تعالى بما قامت به قبل ذلك من أداء الواجبات واجتناب المحرمات على مقتضى العلم الشرعي، وفازت فوق ذلك بالأجر العظيم مقابل قيامها بأداء فروض الكفاية وإسقاطها الإثم عمن يلزمه ذلك من الأمة.
فالإمام أحمد رحمه الله مثلاً يعدّ هو والنفر الذين ثبتوا معه في محنة القول بخلق القرآن من الطائفة المنصورة، وهؤلاء الذين ثبتوا من العلماء هم قبل ذلك من الفرقة الناجية، أما الذين لم يثبتوا وهم أكثر العلماء فإنهم يعدّون من الفرقة الناجية إذا كانوا من المتقين ولا يعدّون هالكين لأنهم كانوا في حال ضرورة، وهؤلاء كثير منهم من علماء الحديث المشهورين ولكنهم لم يصلوا إلى مستوى الطائفة المنصورة لأنهم لم يجابهوا الباطل وفضَّلوا السلامة.
ولو أننا ذهبنا إلى أن الفرقة الناجية والطائفة المنصورة شيء واحد لما كان هناك فرق بين الذين ثبتوا وعلى رأسهم الإمام أحمد والذين لم يثبتوا في تلك المحنة.
وإذا قيل إنهم طائفة واحدة ولكنهم يتفاضلون بالأعمال الصالحة نقول: نعم، ولكن هذا فيما يدل الدليل على تمييزه من الأعمال، فهم يتفاضلون في سائر الأعمال الصالحة مع بقائهم جميعاً في الفرقة الناجية، ويتميز منهم من ميزهم الرسول ج بهذا الاسم الخاص وهم الطائفة المنصورة، وإنما يُمَيَّزُون بمجابهة الباطل الذي يترتب عليه نصر الله تعالى إياهم، أما من لم يجابه الباطل بلسانه أو بقلمه أو بنفسه فكيف يُتصور أن يُحظَى بالنصر على أعدائه.(20/47)
ومع ذلك فإن الذين قعدوا عن المجابهة لا يعدّون من الهالكين ولا يترتب على قعودهم شيء من الإثم إلا إذا تعين الإنكار والجهاد عليهم فحينئذ يتحول الأمر من كونه فرض كفاية إلى كونه فرض عين، ويأثمون بتركه كما يأثمون بترك أيِّ فرض من فروض الدين.
والإمام ابن تيمية مثلاً يعتبر من الطائفة المنصورة لأنه قام في حياته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحمل لواء الجهاد ضد الأعداء وكان ذلك من أهم أسباب شهرته ومحبة الناس له، بينما قعد عن ذلك كثير من علماء عصره، فإذا كان ذلك متعيناً عليهم فإنهم قد هبطوا بأنفسهم عن مستوى الفرقة الناجية وأصبحوا من الظالمي أنفسهم، وإن لم يكن متعيناً عليهم فإنهم يظلون في ركب الفرقة الناجية إذا كانوا من المتقين ولكنهم لم يرتفعوا إلى مستوى الطائفة المنصورة، وكذلك جميع أئمة الإسلام الذين شاركوا في الجهاد وكانت لهم جهود معروفة في إنكار المنكرات وإصلاح المجتمع، كأبي مسلم الخولاني، وسعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، والثوري، وابن المبارك، والأوزاعي، ومالك، والعز بن عبدالسلام.
أما الصحابة ن فإنهم جميعاً من الطائفة المنصورة لقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى.
وبعض الكتاب من الدعاة يتصورون أن النصر المذكور في الطائفة المنصورة المراد به الانتصار على من خالف منهجهم من الدعاة الآخرين، وبهذا فإن الطائفة المنصورة في نظرهم هي الفرقة الناجية وإن لم تقم بمجابهة أهل الباطل من أعداء الدين سواء في ذلك الكفار أو المنافقون أو من سار في ركبهم من ضعفاء الإيمان، وعلى هذا فإن وصف النصر متحقق فيهم بما يقومون به من مجابهة مخالفيهم وإن كانوا من أهل التقوى والصلاح.
وهؤلاء كمن يحمل الرمح ليطعن نفسه ويتصور مع ذلك أنه مجاهد.(20/48)
والحقيقة أن هذا التفسير يعدّ انحرافاً في فهم النصوص الشرعية، فالخلاف مع الدعاة المجتهدين لا يعدّ دخولاً في الجهاد وإن كان هؤلاء الدعاة مخطئين لأن الجميع يجمعهم هدف واحد هو ابتغاء رضوان الله تعالى والجنة ومنهج واحد هو الالتزام بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله ج ولكنهم اختلفوا قليلاً في تفسير هذا المنهج.
- - - - -
الفرق بين الفرقة الناجية
والطائفة المنصورة
ذكر بعض العلماء أن الطائفة المنصورة هي الفرقة الناجية، والذي يظهر أن الفرقة الناجية أشمل وأعم وأن الطائفة المنصورة جزء منها لأن أبرز صفات الطائفة المنصورة قيامها بإصلاح الأمة والجهاد في سبيل الله تعالى لإقامة دولة الإسلام، وهذا العمل الصالح ليس من فروض الأعيان وإنما هو من فروض الكفاية إلا على من تعين عليه كما تقدم، فإذا جعلنا الطائفتين بمعنى واحد كان عدم قيام بعض المسلمين بهذا العمل مانعاً لهم من النجاة، بينما هو على الحقيقة لا يمنعهم من النجاة ولا يخرجهم من جماعة المتقين إذا لم يتعين عليهم.
هذا وإن طائفة المصلحين قد يدخل فيها أهل الأهواء والنفعيون لما يُنتظر أن تصل إليه هذه الطائفة من حكم البلاد التي قامت فيها.
ونظراً لتشعب هذه الطائفة غالباً إلى عدة جماعات وأحزاب فإن كل جماعة ينضم إليها أتباع ومناصرون، وبحكم عوامل متعددة من التأثر بالقادة والعوامل التربوية إضافة إلى ما قد يكون من الانتماء للقبيلة أو الوطن واللغة المشتركة فإن بعض الأتباع والأنصار يتعصبون لقادة الجماعة التي ينتمون إليها بغضِّ النظر عن كون ما يدعون إليه حقاًّ أو باطلاً، وحينما يقع الخلاف بين هذه الجماعة والجماعات الأخرى فإن الذي يبرز في أذهان الأتباع والمناصرين هو الانتصار
لقادة جماعتهم والدفاع عنهم من غير بحث ولا نظر، بينما
الواجب الشرعي يقتضي النظر إلى الهدف الأساسي الواحد(20/49)
وهو ابتغاء رضوان الله تعالى والجنة كما قال الله تعالى عن الصحابة ن ? الله ?? - ?? الله الله أكبر - صدق الله العظيم - الله الله أكبر ? ? - { ? الله الله أكبر ? الله ?- جل جلاله - الله ? - ?- جل جلاله - - - - - - - الله أكبر الله أكبر ? - الله ? { ? - } الله ? ? [الفتح:29، الحشر:8] ثم النظر
إلى الحق الموصل إلى هذا الهدف من غير التفات إلى كون هذا الحق تمثله هذه الجماعة أو تلك.
وقد أرشدنا الله سبحانه وتعالى إلى هذا الأمر بالثناء على هذه الأمة التي تهدي بالحق وتعدل به بين الناس بقوله ( ( صدق الله العظيم - - ( تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - - جل جلاله -( { فهرس - - رضي الله عنهم - - ( { } تم بحمد الله ( - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - - عليه السلام - - ( - - - رضي الله عنهم - - ( - - - ( - (( مقدمة ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - قرآن كريم ( - ( - ((- رضي الله عنه - - ([الأعراف:181] وهذه هي أبرز صفات الفرقة الناجية كما تقدم.
فالذي ينتصر لجماعته ويدافع عنها من غير نظر إلى الاهتداء بالحق والعدل به بين جماعته والجماعات الأخرى فإنه متعصب ومتبع للهوى، ولا يكون بهذه الصفة من الفرقة الناجية، فضلاً عن أن يكون من الطائفة المنصورة، بل إن هذا التعصب قد يوصل إلى الإفساد في الأرض حينما تقوم مواجهات كلامية أو قتالية بين الجماعات الإسلامية حيث لا يستفيد من ذلك إلا أعداء الإسلام.
حصر الفرقة الناجية والطائفة المنصورة بأهل الحديث:
ذكر بعض الباحثين المعاصرين أن الفرقة الناجية والطائفة المنصورة هم أهل الحديث، واستدلوا على ذلك ببعض أقوال أهل العلم.(20/50)
وأقول: إن بيان بعض العلماء لأحاديث الفرقة الناجية والطائفة المنصورة بأنهم أهل الحديث ليس أدلة شرعية، ولا حجة بأقوال هؤلاء العلماء، وإنما الحجة بالكتاب والسنة وتفسيرات الصحابة ن، ولم يرد شيء من ذلك في تخصيص أهل الحديث بذلك، وجعْل أقوال العلماء أدلة ملزمة انحراف في المنهج العلمي.
ولقد وُجدت هذه التسمية قديماً فيما يقابل أهل الرأي، حيث أُطلق هذا اللفظ على الفقهاء الذين توسعوا في باب الاجتهاد ووضعوا القواعد والمسائل الفقهية، وهم الإمام أبو حنيفة وتلامذته ومن اقتدى بهم، وأُطلق لفظ أهل الحديث على العلماء المشتغلين برواية السنة النبوية ووضع القواعد والأصول اللازمة لحمايتها من الكذب والضعف في التحمل والأداء، وعلى رأس هؤلاء الإمام أحمد بن حنبل وأئمة الحديث الستة.
فجعْل الفرقة الناجية هم أهل الحديث يقتضي إخراج أهل الرأي منها والحكم عليهم بالهلاك، وهذا لا يقول به عالم يتقي الله تعالى ويخشاه، ولو سئل الذين جعلوا الفرقة الناجية هم أهل الحديث عن ذلك لما حكموا بالهلاك على من أطلقوا عليهم أهل الرأي، وهذا دليل على أن الذين عرَّفوا الفرقة الناجية بهذا التعريف لم يريدوا الحصر، وإنما أرادوا بيان أبرز من تشملهم هذه الفرقة.(20/51)
على أن هؤلاء الباحثين لو قرؤوا تراجم أهل الحديث على مر العصور الإسلامية لوجدوا عدداً كثيراً منهم لهم آراء في مسائل الخلاف في العقيدة تخالف ما عليه هؤلاء الباحثون، وبعضهم لهم ردود في العقيدة على مخالفيهم، وهم علماء بالحديث ولبعضهم مؤلفات فيه، فإن قال هؤلاء الباحثون إنما أردنا فئة من أهل الحديث وهم الذين يتفقون معهم في مسائل الخلاف في العقيدة فقد بطلت هذه التسمية لأنها تحتاج إلى تخصيص، ولا يستطيعون أن يعمموا هذا الانتساب على جميع علماء الحديث لأن ذلك يتنافى مع معتقدهم، ولا يستطيعون كذلك أن يُخرجوا من خالفهم في المعتقد من علم الحديث لأن ذلك مخالف للواقع، فتبين بهذا أن مجرد الانتساب إلى علم الحديث ليس مؤهلاً للحكم على صاحبه بأنه من الفرقة الناجية أو الطائفة المنصورة.
ويقال أيضاً: حينما حدثَت الفتنة بين الحافظين أبي عبدالله البخاري ومحمد بن يحيى الذهلي كما سبق ذكره في رسالة شمول الاجتهاد، فهلْ أهل الحديث المعتدُّ بهم الذين هم أهل الفرقة الناجية هم البخاري ومسلم ومن وقف معهما أم محمد الذهلي ومن وقف معه؟
فتلك قضية عقدية اختلف فيها أعلام الحديث في ذلك العصر، ومع ذلك فإنهم جميعاً جزء من الفرقة الناجية وليسوا هم الممثلين لها وحدهم فضلاً عن أن يكون فريق من الفريقين المختلفين من أهل الحديث هو الذي يمثل الفرقة الناجية.
- - - - -
توجيهات للدعاة
والآن وبعد أن عرفنا أن أهل الإصلاح الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر هم الذين تتكون منهم الطائفة المنصورة فإني أحب أن ألقي الضوء على بعض التوجيهات التي يجب أن يتصف بها هؤلاء الدعاة المصلحون، ليصلوا بإذن الله تعالى إلى درجة من الكمال تؤهلهم لقيادة الأمة الإسلامية.
1- إخلاص العمل لله تعالى:
إن أهم عوامل النجاح في الدعوة الإخلاص التام لله تعالى وحده في كل عمل يقوم به المسلم، والتجرد التام من إرادة حظ النفس أو العمل للآخرين من دون الله تعالى.(20/52)
والنصوص التي تأمر بالإخلاص لله تعالى وتنهى عن الشرك كثيرة معروفة في الكتاب والسنة.
والإخلاص لله سبحانه لازم في العمل كله وخصوصاً في مجال الدعوة إلى الله تعالى التي تُعدُّ المهمة الأولى لعلماء الدين الذين يشكِّلون قمة جماعة المسلمين، فإن الداعية يحمل مسئولية الأمة التي يروم هدايتها إلى الطريق المستقيم، وهو محط أنظار المدعوين في كل صغيرة وكبيرة، فإذا لاحظوا منه عملاً لِحَظِّ النفس، أو تعصباً لجماعة بغير حق فإنه يسقط من أعينهم، فيكون ذلك سبباً في فشله في الدعوة فضلاً عن إخفاقه في الظفر بالأجر الأخروي.
ثم إنه قد يتعرض بعضهم للفتنة فيما إذا قَرنوا بين الدعوة والداعية حيث قد يُحمِّلون الدعوة أخطاء الداعية التي تترتب على عدم الإخلاص، فيتكوَّن لديهم نفور من الالتزام بالدين، أو يتابعون الداعية على خطئه لفرط إعجابهم به فيكونون قد وقعوا في الخطأ نفسه.
وإذا كان صاحب الدعوة مسئولاً في جماعة أو قائداً في معركة فإن الخطب يكون أعظم وأبلغ أثراً فيما إذا لم يتجرد من حظ النفس ولم يخلص النية لله تعالى.
أما مظاهر الإخلاص فإنها كثيرة نذكر منها على سبيل المثال:
أ- الوقوف عند نصوص الكتاب والسنة، وعدم اللجوء إلى تأويلها إذا خالفت ما عليه الداعية أو التباطؤ في تنفيذها، فإن الوقوف عندها وتنفيذها على الفور واضح الدلالة على الإخلاص لله تعالى وتعظيمه والبراءة من حظ النفس.
وقد كانت هذه من الصفات البارزة عند الصحابة ن اقتداء بالنبي ج كما أخرج الإمام البخاري بإسناده عن ابن عباس م قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على ابن أخيه الحُرِّ ابن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ط ومشاورته كهولاً كانوا أو شباباً، فقال عيينة لابن أخيه:(20/53)
يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن الحرُّ بن قيس لعيينة، فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هِيْ(1) يا ابن الخطاب فوالله
ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى همّ به فقال له الحرّ: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه ج ( ( - ( } - عليه السلام - قرآن كريم ((- رضي الله عنهم -(( - - - ( - ( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( - ((( - - - ( - ((( - ((- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( صدق الله العظيم - رضي الله عنه -( - ((( - ( - ( { - ( - - - ( [الأعراف:199] وإن هذا من الجاهلين، قال: والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه وكان وقافاً عند كتاب الله تعالى(2).
وكذلك ما حدث في سقيفة بني ساعدة حينما اجتمع الصحابة ن لاختيار خليفةٍ بعد رسول الله ج، وكان الأنصار قد اجتمعوا وأرادوا بيعة زعيم الخزرج سعد بن عبادة ط، وجرى بينهم وبين أبي بكر وعمر م مناقشة، ثم استسلم الأنصار جميعاً حينما قال أبو بكر: ولقد علمتَ يا سعد أن رسول الله ج قال وأنت قاعد: قريش ولاة هذا الأمر فبَرُّ الناس تبع لبَرِّهم، وفاجر الناس تبع لفاجرهم، قال فقال له سعد: صدقت، نحن الوزراء وأنتم الأمراء.
أخرجه الإمام أحمد من حديث حميد بن عبدالرحمن الحميري رحمه الله(3).
وذكره الإمام ابن تيمية وقال: فهذا مرسل حسن، ولعل حميداً أخذه عن بعض الصحابة الذين شهدوا ذلك، قال: وفيه فائدة جليلة جدّاً وهي أن سعد بن عبادة نزل عن مقامه الأول في دعوى الإمارة وأذعن للصديق بالإمارة، فرضي الله عنهم أجمعين(4).
__________
(1) ... أي تنبَّه.
(2) ... صحيح البخاري، كتاب التفسير حديث رقم 4642 (8/304).
(3) ... مسند أحمد (1/5).
(4) ... منهاج السنة النبوية (1/536).(20/54)
فكان وقوف الصحابة ن عند سنة رسول الله ج وخضوعهم لها سبباً في جمع شملهم وحمايتهم من الخلاف والفرقة.
ومن ذلك إصرار أبي بكر ط على بعث جيش أسامة بن زيد م، على الرغم من حاجة المسلمين إليه حينما ارتدت أو تمردت أكثر قبائل العرب على دولة الإسلام، وذلك تنفيذاً لأمر رسول الله ج حتى قال أبو بكر لما راجعه الصحابة في ذلك: والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننت أن السباع تذخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله ج(1).
وكذلك إصراره على جهاد جميع قبائل العرب التي ارتدت أو تمردت، وعدم قبوله مراجعة الصحابة في شأن مانعي الزكاة، كما أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة ط أنه قال: $لما توفي رسول الله ج واستُخلف أبو بكر وكفر من كفر من العرب قال عمر: يا أبا بكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله ج: أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه
إلا بحقه وحسابه على الله، قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عَناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله ج لقاتلتهم على منعها، قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أنْ قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق#(2).
ولقد كان لتنفيذ أمر النبي ج الذي ألهم الله تعالى أبا بكر لفهمه الأثر العظيم في عودة دولة الإسلام في جزيرة العرب في عدة شهور.
ب- أن تكون تصرفات المسلم في هذه الحياة الدنيا منبثقة
من شعوره برقابة الله عز وجل عليه وحده، وذلك بأن يكون سلوكه منسجماً مع التكاليف الشرعية، وهذا دليل على تجريد القلب
من الخضوع لأي قوة من قوى الأرض، وإخلاص هذا الخضوع
__________
(1) ... تاريخ الطبري (3/225).
(2) ... صحيح البخاري، رقم 6924،6925، كتاب استتابة المرتدين (12/275)، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، رقم 20 ص 51.(20/55)
لله تعالى وحده، فإذا تنازع قلبَه الخضوعُ لله تعالى في بعض السلوك والخضوع لقوى الأرض في أنواع أخرى من السلوك فإن هذا دليل على عدم إخلاصه لله تعالى، وبالتالي فإن الثقة تضعف بمثل
هذا لتذبذبه بين الصعود إلى الأعلى حيث مراقبة الله عز وجل والعمل للآخرة وبين الهبوط إلى الأسفل حيث مراقبة قوى الأرض والعمل للدنيا.
ج- العزوف عن حب الرئاسة وعدم الإقدام على طلبها لما في ذلك من التعرض لمواقع الفتنة، ولذلك نهى رسول الله ج عن سؤال الإمارة كما جاء في صحيح الإمام البخاري من حديث عبدالرحمن بن سمرة ط قال: قال لي النبي ج: $يا عبدالرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أُعطيتها عن مسألة وُكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أُعنت عليها#(1).
ذلك لأن من استشرف للإمارة من أجل حب الظهور والرئاسة فإنه في الواقع لم يتجرد بعدُ من حظ النفس وستكون بعض تصرفاته منطلقة من ابتغاء هذا الهدف فَيَضل ويَضلَّ بسببه غيره سواء من موافقيه الذين يحملهم الإعجاب به على عدم رؤية الحق أو من مخالفيه الذين يشغلهم انتقاده عن الإسهام في بناء الدعوة الإسلامية.
ولقد بين النبي ج مغبة الحرص على الإمارة وما ينطوي عليه ذلك من تلبية لبعض متطلبات النفس التي يعقبها سوء الخاتمة، وذلك بقوله ج $إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة# أخرجه الإمام البخاري من حديث
أبي هريرة ط(2).
__________
(1) ... صحيح البخاري كتاب الأحكام حديث رقم 7146، باب 5 (13/123).
(2) ... صحيح البخاري، كتاب الأحكام، حديث رقم 7148، باب 7 (13/125).(20/56)
ولكن قد يكون طلب الولاية ضرورة، وذلك حينما يشعر الإنسان من نفسه بالكفاءة لعمل ولا يرى ممن حوله من يستطيع أن يؤدي العمل بنفس بالكفاءة، وذلك كما جاء في طلب يوسف عليه السلام للولاية حينما قال لعزيز مصر ? ?- جل جلاله -? - ? الله ? صدق الله العظيم - - - - عليه السلام -? - ? الله ? - ? تمهيد - ? - - الله { الله - - - ? صدق الله العظيم } - - - - ? - - ?- جل جلاله - بسم الله الرحمن الرحيم الله أكبر ? تمهيد - - - ?? - - جل جلاله -? الله - - - رضي الله عنهم - - - جل جلاله -? الله الله أكبر ? } - - { ? [يوسف:55]، ومثله استشراف بعض أهل الشورى للخلافة بعد عمر ط فإنما كان قصدهم الإصلاح والتنافس على عمل صالح يوصل مع العدل إلى قمة من يظلهم الله تعالى تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
د- إبداء النصح لإخوانه: وذلك بأن ينظر إلى مصلحة الدعوة فيجعلها فوق كل شيء، فيبدي النصح لإخوانه الذين يعملون معه والذين يخلفونه في العمل بما يحقق مصلحة الدعوة، فإن النظر إلى المصلحة العامة للمسلمين دليل على التحلي بخلق الإيثار، والتحلي بهذا الخلق العالي دليل على التجرد من النظر إلى حظ النفس إذا كان يتعارض مع مصلحة الجماعة، وكون هذا الإيثار ناتجاً عن ابتغاء رضوان الله تعالى دليل على كمال الإخلاص.
ولقد جعل النبي ج النصح هو الدين، وذلك فيما أخرجه الإمام مسلم من حديث تميم الداري أن النبي ج قال: $الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم#(1).
__________
(1) ... صحيح مسلم، كتاب الإيمان، حديث رقم 95/55، باب 23 (ص 74).(20/57)
وإنما جعل النبي ج النصح هو الدين لأنه لازم لجميع الأعمال ولذلك كان النبي ج يبايع أصحابه على النصح للمسلمين كما أخرج الإمام البخاري من حديث جرير ط قال: بايعت رسول الله ج على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم(1).
هـ- الرغبة في نصرة الحق لذات الحق: فالإخلاص لله تعالى والنظر في ابتغاء مرضاته دائماً وإلغاء أيّ سلوك يتنافى مع ذلك يقتضي من المسلم أن يسعى لنصرة الحق أيّاً كان من يمثله وأن يخضع للحق ولو كان من دعاه إليه رجلاً يكره أن يكون تابعاً له ومؤيداً لرأيه.
بل الإخلاص يقتضي أعظم من ذلك وهو أن يكون انتصاره للحق من أجل أنه حق في ذاته لا لأنه مقتنع بأنه يمثله وأن الحق
موافق لرأيه.
ومما يميز التحلي بهذا الخلق الرفيع أن يتمنى في قرارة نفسه وهو يدخل في مناقشات مع إخوانه أن يظهر الحق سواء كان إلى جانب اجتهاده أو إلى جانب من يخالفه الرأي.
بل أعلى من ذلك أن يحب ظهور الحق مع مخالفيه، ثم يرجع إلى رأيهم فيكون بذلك قد ضرب أروع الأمثال في التجرد من حظ النفس، والاندماج الكلي في تقرير مصلحة الأمة عن طريق إقرار الحق وانتزاع الأثرة من النفوس.
ولقد روى لنا التاريخ أمثلة عالية في مجال المناظرة بين العلماء، من ذلك ما رُوي عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال: $ما ناظرت أحداً إلا أحببت أن تكون الحجة معه#.
وقال حاتم الأصم: $أفرح إذا أصاب من ناظرني وأحزن
إذا أخطأ#(2).
__________
(1) ... صحيح البخاري، مواقيت الصلاة، رقم 524، باب 3 (2/7).
(2) ... سير أعلام النبلاء (11/487).(20/58)
وبهذا يتبين لنا أن من آداب المناظرة بين علماء الدين أن لا يعتقد كل فريق أن الحق معه وحده وأن مناظره لا يحتمل أبداً أن يكون الحق معه، بل عليه أن يعتقد احتمال كون الحق مع مناظره مع اعتقاده بأنه هو على الحق، وبالتالي تكون المناظرة قائمة لإثبات الحق سواء كان معه أو مع مناظره، وأن يحمل في شعوره الاستعداد الكامل لترك ما يراه واتباع ما عليه مُناظره، أما إذا حمل في شعوره أن مُناظره لا يحتمل أبداً أن يكون الحق معه فإنه يكون قد سد المنافذ على نفسه للتأكد من صواب ما ذهب إليه، والنقاش معه لا يجدي لأن الشيء الوحيد الذي يفكر به هو أن يفرض ما يرى أنه الحق ولو بالوسائل التي لا يقبلها العقل.
أما إذا كان النقاش بين علماء المسلمين وعلماء الكفار فلا بد
أن يشعر المسلم دائماً بأنه على الحق وأن الكفار على باطل،
وأن مناظرته للكفار إنما هي لتبصيرهم بالحق الذي معه وإقامة
الحجة عليهم.
ومما يدخل في ذلك الرجوع إلى الحق بعدما يتبين، ومن الأمثلة العالية في ذلك ما روي عن أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز أنه قال: ما من كتاب أهون عليَّ ردّاً من كتاب قضيت به ثم أبصرت أن الحق في غيره(1).
__________
(1) ... سيرة عمر بن عبدالعزيز لابن الجوزي /61.(20/59)
أما الشهادة للمخالفين بما يؤيد موقفهم فإنها من كمال التجرد والنظر إلى الحق لذاته، ومن الأمثلة الرائعة في ذلك ما ذكره الحافظ ابن كثير في سياق معركة الجمل من أن علي بن أبي طالب ط قام في الناس خطيباً فقام إليه الأعور بن نيار المنقري فسأله عن إقدامه على أهل البصرة فقال: الإصلاح وإطفاء الثائرة ليجتمع الناس على الخير ويلتئم شمل هذه الأمة قال: فإن لم يجيبونا؟ قال تركناهم ما تركونا، قال: فإن لم يتركونا؟ قال: دفعناهم عن أنفسنا، قال: فهل لهم في هذا الأمر مثل الذي لنا؟ قال: نعم، وقام إليه أبو سلام الدالاني فقال: هل لهؤلاء القوم حجة فيما طلبوا من هذا الدم -يعني دم عثمان ط- إن كانوا أرادوا الله في ذلك؟ قال: نعم، قال: فهل لك من حجة في تأخيرك ذلك؟ قال: نعم، قال: فما حالنا وحالهم إن ابتلينا غداً؟ قال: إني لأرجو أن لا يقتل منا ومنهم أحد نقيٌّ قلبه لله إلا أدخله الله الجنة(1).
وفي هذا النص بيان ما كان عليه الصحابة ن من الإخلاص والتجرد من الهوى حيث يقولون الحق ولو كان لصالح من نهض لخصومتهم.
وفيه بيان الحكم على من اجتهد في طلب الحق وهو مخلص النية لله تعالى بأنه معذور ويُرجى له دخول الجنة وإن أدَّى اجتهاده إلى ما ظاهره معصية من المعاصي الكبيرة كالقتال بين المؤمنين فكيف بما هو دون ذلك؟!
__________
(1) ... البداية والنهاية (7/250).(20/60)
و- التضحية وبذل الطاقة في سبيل الله تعالى: إن المسلم يحمل طاقة عشرة من الرجال كما جاء في قول الله جل وعلا ( تمت ( { صدق الله العظيم ( - - رضي الله عنه - - ( المحتويات ( - - ( } تم بحمد الله - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - (((( - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - ( - ( } - قرآن كريم ( - ( - ((- رضي الله عنه - - ((((- رضي الله عنه - - - - } - ( تم بحمد الله - تمت ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - صدق الله العظيم ( - - رضي الله عنه - - المحتويات ( تمهيد - ( } تم بحمد الله ( { - - } - ( } تم بحمد الله } - ( قرآن كريم ( - ( - ((- رضي الله عنه - - - - (( - - صلى الله عليه وسلم - - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله - ((( - { - - - } - - صلى الله عليه وسلم -( - - ( - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ( - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( قرآن كريم - - - صدق الله العظيم - - قرآن كريم ( - - { ((- رضي الله عنه - - ([ الأنفال:65 ].
وهذه الآية وإن كان ظاهرها أن قوة المسلم في القتال تعادل قوة عشرة فإنها ليست خاصة في القتال، بل تشمل كل أنواع الجهاد، ومنها الدعوة إلى الله تعالى والإصلاح، ذلك لأن المسلم حينما يعمل لا يعمل لأن الناس يرونه أو لأنه ينتظر منهم الثناء أو المكافآت، فإن الذي يعمل لذلك تكون جهوده محدودة في بلوغ هذه الغايات القريبة، ولكنه حينما يعمل يريد وجه الله تعالى والسعادة الأخروية، وهذا الهدف العالي لا يحدُّه مكان ولا زمان، وبالتالي فإن الطاقة الإنتاجية لهذا العامل تكون كبيرة وعالية بقدر سمو الهدف الذي كان وراء إنتاجها.
فإذا كان الدعاة إلى الله تعالى يضحُّون بأنفسهم ويبذلون من أموالهم في سبيل إعزاز الإسلام وإقامة دولته والرفع من شأن المسلمين فإن هذا دليل على إخلاصهم لله تعالى.(20/61)
2- تعظيم حق الله تعالى ودينه ورسوله:
ينبغي لقادة الدعوة أن يربوا أتباعهم على تعظيم الله تعالى وتقديره حق قدره والإكثار من ذكره مع استحضار عظمته ورقابته جل وعلا، وأن تكون طاعته مقدمة على طاعة أي مخلوق.
كما ينبغي لهم أن يرسخوا في قلوب أتباعهم محبة النبي ج وتقديره وإجلاله وطاعته، وتَذَكُّر إمامته العظمى لجميع المسلمين، وأنه قدوتهم في كل شؤون حياتهم، وأن يربوهم على تعظيم الإسلام وجعله قضيتهم الكبرى في هذه الحياة، وأن يرسخوا في اعتقادهم أنه النظام الوحيد الذي يحكم حياتهم وأن عليهم أن يرجعوا لهديه في كل صغيرة وكبيرة من أمور حياتهم، ولا يكفي في ذلك الوعظ البسيط المتقطع، بل لا بد من تكرار هذه المعالم بمختلف الأساليب والمناسبات حتى ترسخ في نفوسهم وتصبح مبدأ ثابتاً لهم في الحياة.
أما قادة الدعوة فإنه ينبغي أن يأخذوا حجمهم المناسب في القدوة والمحبة والاهتمام وأن لا يطغى حقهم على حق الله تعالى ورسوله ج.
إن الداعية المؤثر حينما يهدي الله تعالى على يديه من يشاء من الحيارى والتائهين فإنهم يشعرون على الفور بأن يداً حانية حازمة امتدت إليهم فأنقذتهم من الهلاك.
إن الحائر التائه يشبه الذي أشفى على الغرق، فإذا بيد منقذة قد امتدت إليه وانتشلته من لجة الماء، فماذا يكون شكره لمنقذه؟.
ألا وإن الذي ينقذ الحيارى والتائهين من الهلاك الذي أشفوا عليه أعظم معروفاً وأحق بالشكر من منقذ الغرقى، ولذلك فإن
من الطبيعي أن يتجه هذا المهتدي على الفور إلى تعظيم منقذه وهاديه، وأن يكون أطوع له من بنانه، فليتَّق الله هؤلاء الهداة، وليوجهوا المهتدين على أيديهم إلى تعظيم الله تعالى وتقديره(20/62)
حق قدره والاستسلام له في كل الأمور وأن يجعلوا قدوتهم الأولى والعظمى هو رسول الله ج وأن يبينوا لأتباعهم أن دور القادة الهداة هو دور من اكتشف طريق السعادة فدل الناس عليه، فله حقه المناسب من الاحترام والطاعة، ثم هو بدوره وبمقتضى ما يرشده إليه إيمانه يربِّي أتباعه على شكر المنعم جل وعلا على هذه الهداية وعلى سائر النعم، وشكر من جرى على يديه تبليغ هذه الهداية لهذه الأمة كافة ج.
وإننا حينما نتذكر سيرة رسول لله ج نجد أنه -وهو رسول الله الذي له من الحق ما ليس لأي داعية - قد ربَّى صحابته على أبلغ ما يمكن تصوره من تعظيم الله وشكره، ولذلك استقام أمرهم بعده، ورجعوا بعد هول الصدمة بتلقِّي نبأ وفاته على أعلى مستوى من القوة والسداد والحزم، وواجهوا أعظم هول مرَّ على الأمة حين ارتدت أو تمردت معظم قبائل العرب على دولة الإسلام، إلى جانب ما كان ينتظرهم من تربص دولة الروم بهم.
3- الالتزام بالمنهج الإسلامي:
يجب على الأتباع على مختلف مستوياتهم أن يجعلوا التعليمات والوصايا التي وصلت إليهم من مؤسس جماعتهم مجرد توجيهات قابلة للخطأ والصواب، وأن يعرضوها على شريعة الله تعالى فما وافقها أخذوا به وما خالفها تركوه، كما يجب عليهم ألاَّ يجمدوا على نظام الدعوة الذي وضعه مؤسس دعوتهم بحيث لا يزيدون عليه ولا يغيرون فيه شيئاً، فهو عالم مجتهد وحينما يضع العالم الداعية نظاماً لدعوته فهو إنما يلاحظ ظروف المجتمع الذي يعيش فيه، وهذه الظروف تكون محكومة بالسياسة المعاصرة والعرف الاجتماعي العام والعرف الخاص في مجتمع العلماء وغير ذلك.
وقد جرت العادة أن الظروف الاجتماعية والسياسية وغيرها تتغير من زمن إلى زمن فلا يجوز للموجهين من الأتباع أن يجمدوا على وصايا وتعليمات الداعية الأول، بل لابد من النظر والاجتهاد المتجدد حسب تغير أعراف العصر ومفاهيمه وذلك كله محكوم بتوجيهات الشريعة الإسلامية السمحة.(20/63)
إن الجمود على تعليمات مؤسس الدعوة أو غيره من مجدديها يعني أن الأتباع يضفون على قادة الدعوة نوعاً من التقديس الذي لا يستحقونه لأن العالم الداعية مهما كان علمه وأثره في الدعوة ليس له حق التشريع من دون الله تعالى وإنما هو مجتهد في فهم شريعة الله جل وعلا وتطبيقها على واقع الناس، إن بلغ درجة الاجتهاد.
4- توحيد الهدف والمنهج والاجتماع عليهما:
فالهدف السامي الذي يجب أن يعرفه المسلمون جميعاً ويسْعَوا جاهدين لبلوغه هو ابتغاء رضوان الله تعالى والجنة، قال تعالى ممتدحاً صحابة رسوله ج ? الله ?? - ?? الله الله أكبر - صدق الله العظيم - الله الله أكبر ? ? - { ? الله الله أكبر ? الله ?- جل جلاله - الله ? - ?- جل جلاله - - - - - - - الله أكبر الله أكبر ? - الله ? { ? - } الله ? ? [الفتح:29 ، الحشر:8]، ففضل الله هو الجنة ورضوان الله أكبر من ذلك.
فالذين يُظهرون الإسلام وهم في قرارة نفوسهم لا يريدون الوصول إلى هذا الهدف ليسوا مسلمين حقّاً، وإنما هم منافقون، فهؤلاء خارجون عن نطاق الأخوة الإسلامية، وليسوا من جماعة المسلمين، سواء ظهر منهم دعوة إلى مذهب من مذاهب الكفر، أو كانوا نفعيين يريدون بإظهار الإسلام تأمين مصالحهم في الحياة الدنيا.
والذين يعرفون هذا الهدف ويسعون لبلوغه يجب أن يتحدوا جميعاً في المنهج الموصل لهذا الهدف، وذلك بأن يلتزموا بالكتاب والسنة على مثل ما كان عليه رسول الله ج وأصحابه، فإن هذا هو المصدر الوحيد لتلقِّي هذا الدين الموصل إلى الهدف السامي.
فمن ادعى بأنه يستطيع الوصول إلى الهدف السامي المذكور عن غير الطريق الذي سار عليه رسول الله ج وأصحابه فلا يكون من جماعة المسلمين، ولا تنطبق عليه الأخوة الإسلامية، لأنه قد ادعى باطلاً وهو في الآخرة من الخاسرين.(20/64)
أما من كان حريصاً على بلوغ الهدف السامي المذكور وكان ملتزماً بالمنهج الإسلامي فإنه يكون عضواً في جماعة المسلمين، تنطبق عليه الأخوة الإسلامية بكل ما فيها من مزايا والتزامات سواءً أصاب في كل تفاصيل هذا المنهج أو أخطأ في بعض تفاصيله من غير أن يتعمد مخالفة ما جاء عن الله تعالى ورسوله ج.
ومن هنا نعرف أن الأخوة الإسلامية تنطبق على المسلمين جميعاً ما داموا مسلمين ولم يصدر منهم ما يخرجهم من الإسلام.
وعلى هذا فإن المسلمين إذا اختلفوا في أمر لا يُخرج من الإسلام فإن أخوَّتهم الإسلامية تبقى حتى مع اختلافهم، ويجب عليهم أن لا يرتكبوا أمراً من الأمور التي تؤدي إلى إضعاف الانتماء للأخوة الإسلامية من التباغض والتقاطع والتهاجر والبراء ونحو ذلك.(20/65)
ومما يدل على بقاء الأخوة الإسلامية بين المسلمين حتى مع ارتكاب كبائر الذنوب قول الله تعالى ? ? تمهيد - - الله ? - ? - الله - الله ? تمهيد - ? - - ?? الله ?- جل جلاله -? الله ? - - جل جلاله -?- جل جلاله -? صدق الله العظيم ? - ? - ? - - المحتويات - ? - الله أكبر ? الله - الله أكبر الله أكبر الله - - ? - - المحتويات - ? - - - جل جلاله -? صدق الله العظيم ? - - - الله الله أكبر ? - - الله ? - ? الله الله أكبر ? صدق الله العظيم - الله الله أكبر - ? [الحجرات:9] فوصفهما الله سبحانه بالإيمان مع ارتكابهما لهذا الذنب الكبير، ثم يقول تعالى بعد ذلك ? - الله ? بسم الله الرحمن الرحيم - ? - تمهيد - الله ?? - ?- جل جلاله -? صدق الله العظيم ? - ? - ? - - تمت ? الله ? { الله أكبر الله أكبر - تمهيد - - المحتويات - ? - - - جل جلاله -? صدق الله العظيم ? - - - الله الله أكبر ? الله ? صدق الله العظيم - الله أكبر الله الله أكبر - - صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - الله أكبر ? صدق الله العظيم الله أكبر ? الله ? الله - - - - ? [الحجرات:10] فجعل الطائفتين المتقاتلتين إخواناً للمؤمنين.
وبهذا نعلم أن الله تعالى لم يضيق دائرة الأخوة الإيمانية فلم يقصرها على كاملي الإيمان، بل أدخل في ساحتها الرحيبة من هبطت به طبيعته البشرية عن آفاق السمو نحو الالتزام الكامل فاقترف بعض الآثام التي لا تصل إلى حد الكفر.
وإذا كان المؤمنون إخوة فإنه لا يجوز لهم إضمار البغض والكراهية لإخوانهم وإن اختلفوا معهم في بعض الأحكام الدينية ما دامت الأخوة الإيمانية باقية بينهم.
وإنما الواجب في حال وقوع الخلاف في الدين بين المؤمنين
أن يجتمعوا ويبحثوا القضايا المختلف فيها ويردوا ذلك(20/66)
إلى الكتاب والسنة، فإن أصرَّ المخالف على اتباع الباطل وهو يعلم أنه باطل وإنما يتبع هواه فيجب على المؤمنين أن يظهروا عداوته وبغضه حتى يرجع عن غيه ويسلك طريق المؤمنين، أما إن أصر
على موقفه وهو يعلم أنه الحق ولم يظهر منه ما يدل على أنه ممن يتبع هواه بغير حق فلا يجوز أن نتَّخذ منه موقفاً معادياً ولا أن نضمر
بغضه ما دام مسلماً.
ومن هذا العرض يتبين لنا الأثر الواضح لوحدة الهدف والمنهج في تقوية الأخوَّة الإسلامية وتثبيتها فإن اتحاد الهدف يشد المسلمين جميعاً من أجل الوصول إليه وإذا عرفنا أن سبيل الوصول إليه يفرض على الساعين لبلوغه أن يتآخوا فيما بينهم وأنَّ أي اختلاف بينهم أو تقاطع يؤثر على سرعة وصولهم إليه فإننا نعرف بالتالي أثر وضوح هذا الهدف والإخلاص له في تثبيت الأخوَّة الإسلامية.
وإذا عرفنا أيضاً أن لهذا الهدف منهجاً واحداً يوصِل إليه لا أكثر فإننا نعرف ضرورة التزام المسلمين جميعاً بهذا المنهج القويم.
وبضد ذلك الأهداف الأخرى الدنيوية فإن الوصول إليها يفرض التنافس والتحدي بين العاملين لها لأنها تكون لمن ظفر بها قبل غيره، ولذلك فإن الوصول إليها يفرض الاختلاف والعداوة والتخلق بالأخلاق السيئة.
ومن هذا يتبين لنا أن كثيراً من المسلمين لا يعملون مخلصين للهدف السامي المذكور وإنما يعملون غالباً لأهداف دنيوية قريبة، ولذلك يكثر بينهم الشقاق والتناحر، ويظهر التنافس البغيض
حتى بين العاملين في حقل الدعوة الإسلامية لأن الأهداف الذاتية
قد تغلب أحياناً على الهدف السامي فتكون تصرفات الدعاة
منبثقة من إرادة المصالح الذاتية، سواء في ذلك المصالح الشخصية
أو مراعاة سمعة الجماعة التي ينتمي إليها الداعية، وهذا يؤثر
كثيراً على سير الدعوة الإسلامية ولا بد من الإلحاح على تحرير الهدف السامي من مخالطة الأهداف الأخرى حتى يتم التوفيق
بين المسلمين جميعاً، وخصوصاً بين العاملين في الدعوة
إلى الله تعالى.(20/67)
5- الاهتمام بأصول الدين وكلياته:
من حكمة الله تعالى أن جعل تكاليف هذا الدين على درجات، فجعل للدين أصولاً يُبنى عليها، وهي الأركان، وشرع أموراً لا بد منها للاستفادة من هذا البناء، وهي الواجبات، وشرع أموراً تحسينية يكمل بها البناء، ويجبر ما عسى أن يكون فيه من نقص، وهي المستحبات، وحرم على المسلم ما يضر بهذا البناء ويعيبه وهي المحرمات، ونهاه عما يؤثر على كماله، وهي المكروهات.
وجعل لكل درجة من هذه الدرجات منزلة من الدين بحيث توضع في مكانها من الأهمية، وقد يترتب عليها أحكام أخرى.
ولقد كان النبي ج في دعوته إلى هذا الدين يدعو أولاً إلى إحكام أصوله وأركانه حتى ينمو بناء الإيمان لدى المسلم، ويتكّون لديه الوازع الديني، فإذا قام البناء قوياًّ بأركانه سهل بعد ذلك إكماله.
ومن الأدلة على أن النبي ج بدأ دعوته بالدعوة إلى أركان الإسلام ما أخرجه الشيخان من حديث عبدالله بن عباس م قال: قال رسول ج لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: $إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإنْ هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب#(1).
وإن من واجب الدعاة أن يتأسوا برسول الله ج في دعوته بحيث يدعون المسلمين إلى أداء أركان الإسلام أداء متقناً، حيث إن هذه الأركان تؤدَّى غالباً بشكل ناقص وغير حيوي ولا مؤثر في توجيه السلوك نحو الالتزام بمكارم الأخلاق.
__________
(1) ... صحيح البخاري، رقم 1496، الزكاة باب 63 (3/357)، صحيح مسلم، رقم 29/19، الإيمان باب 7 (ص 50).(20/68)
ثم تكون الدعوة إلى الواجبات بنسب متكافئة بحيث لا يكون التركيز على الواجبات الظاهرة مثلاً كصلاة الجماعة وإعفاء اللحى وتقصير الثياب فوق الكعبين، بحيث تُهمل الواجبات الأخرى كبرِّ الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الجيران وإتقان العمل الذي يكون الإنسان مسئولاً عنه.
إن التكاليف الشرعية لَبنات متعددة يقوم بها البناء، فإذا كان التركيز على لَبنات معينة فإن جزءاً من البناء يكون قوياًّ متماسكاً، وأجزاء منه تكون ضعيفة متهافتة.
لقد جرى عرف بعض الدعاة على تخصيص بعض الواجبات والسنن الظاهرة بالاهتمام، والحكم على من طبقها بأنه ملتزم وإن أهمل الواجبات الشرعية الأخرى أو بعضها والحكم على من لم يطبقها بأنه غير ملتزم وإن طبق الواجبات الأخرى، وهذا يجعل الصغار المبتدئين في الالتزام يهتمون بهذه الواجبات والسنن أكثر من اهتمامهم بالواجبات الأخرى بل ربما أكثر من اهتمامهم بالأركان.
وحينما تكون هذه الواجبات والسنن الظاهرة التي يدعو إلى تطبيقها بعض الدعاة غير مطبقة في المجتمع بشكل بارز فإن الذين يطبقونها يَظهرون بمظهر التميز عن مجتمعهم ويتعرضون للتساؤل والإنكار من أفراد مجتمعهم، وهذا لا غبار عليه لدى الكبار الذين أحيوا هذه الواجبات والسنن مع أدائهم للفرائض والواجبات الأخرى حيث تكوَّن لديهم الإيمان القوي الذي لا يتأثر بموافقة المجتمع أو بمخالفته، بل إن إحياء هذه الواجبات والسنن الظاهرة مطلوب من هؤلاء لأنهم موضع القدوة.
أما الصغار فإنهم لن يواجهوا بمجرد الإنكار بل ربما يواجهون بالازدراء والسخرية نظراً لصغر سنهم، وبعضهم يكونون تجاه ذلك بين فريقين، فريق يستجيب لضغط المجتمع من حوله فيترك الالتزام بهذه الواجبات والسنن، وحيث إن التدين عنده قد اقترن أساساً بتلك التكاليف الظاهرة، فإنه ربما ترك الالتزام بالدين فكانت دعوته إلى الالتزام بتلك التكاليف قبل محاولة تقوية إيمانه فتنة له عن الدين.(20/69)
وفريق يستمر على التزامه بها وتحديه للمجتمع، وهؤلاء نظراً لصغر سنهم قد يصابون بالكبر والغرور حينما يرون أنهم بالتزامهم بهذه الواجبات والسنن الظاهرة قد أصبحوا أفضل ممن حولهم من الكبار وإن كان لهؤلاء الكبار من أعمال الخير والبر ما لا يستطيع هؤلاء الصغار أن يصلوا إليه إلا بعد سنوات.
وحين يصابون بذلك تقسو قلوبهم شيئاً فشيئاً بحيث لا يتأثرون كثيراً بالمواعظ، وتسوء معاملتهم للناس فيعاملونهم بعنف،
لأنهم يرون أنهم أعلى منهم في الدين وإن كان من يتناقشون معه
من العلماء أحياناً.
وفي مقابل هؤلاء الذين يركزون على هذه الواجبات والسنن الظاهرة نجد فريقاً من المفرِّطين الذين يسخرون من أولئك الملتزمين ويهزؤون بهم، فأحياناً يسمونهم بأسماء مبتذلة يُفهم منها تحقيرهم والتهوين من شأنهم، وأحياناً يشبهونهم ببعض الكفار فيشبهون من يلتزمون بإعفاء اللحى بفئات من الكفار قد التزموا بإعفاء اللحية، ويشبهون من يقصرون ثيابهم بفئات من الكفار يفعلون ذلك مع اختلاف المقاصد.
وهذا العمل السيء الذي يقوم به هؤلاء في غاية الخطورة على دينهم لأن المؤمنين الذين التزموا بتكاليف الإسلام الظاهرة إنما التزموا بها وقاوموا مجتمعهم ابتغاء وجه الله تعالى حيث اقتنعوا بأنها تكاليف إسلامية، وأن من واجبهم أن يحيوها، فالذي يسخر منهم من أجل التزامهم بهذه التكاليف إنما يكون قد سخر من الإسلام نفسه.
6- الاهتمام بما اتفق عليه المسلمون:
إن مما يلاحظ أن بعض الدعاة يهتمون بمسائل الخلاف ويكثرون من الجدل حولها، بينما يغضون أبصارهم عن مسائل الاتفاق، فإن علماء المسلمين منذ عهد الصحابة ن اتفقوا على أغلب قضايا الدين إجمالاً واختلفوا في بعضها، واختلافهم يقل ويكثر باختلاف العصور.(20/70)
وإن هذه النظرة لدليل واضح على ميل هؤلاء إلى التميز وبُعدهم عن تصور روح الجماعة والاتفاق، وإن الأولَى بهم أن يجعلوا من مواضع الاتفاق التي هي الأكثر سبباً لتوثيق أواصر المودة والولاء بينهم، ثم يتفاهموا بعد ذلك بهدوء وحكمة وتجرد من الهوى في مواضع الخلاف مع رد ما اختلفوا فيه إلى الكتاب والسنة.
وقد نبه إلى هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد
ما ذكر خلاف أهل السنة في مسمى الإيمان والإسلام حيث يقول: "فمن اتبع علمه حتى عرف مواقع الاستعمال عامة وعلم
مأخذ الشُّبَه أعطى كل ذي حق حقه، وعلم أن خير الكلام كلام الله، وأنه لا بيان أتم من بيانه وأن ما أجمع عليه المسلمون من دينهم الذي يحتاجون إليه أضعاف أضعاف ما تنازعوا فيه، فالمسلمون: سُنِّيُّهم وبِدْعيُّهم متفقون على وجوب الإيمان بالله وملائكته
وكتبه ورسله واليوم الآخر، ومتفقون على وجوب الصلاة
والزكاة والصيام والحج ومتفقون على أن من أطاع الله ورسوله فإنه يدخل الجنة ولا يعذَّب، وعلى أن من لم يؤمن بأن محمداً رسول
الله ج إليه فهو كافر، وأمثال هذه الأمور التي هي أصول الدين وقواعد الإيمان التي اتفق عليها المنتسبون إلى الإسلام والإيمان، فتنازعهم بعد هذا في بعض أحكام الوعيد أو بعض معاني بعض الأسماء أمر خفيف بالنسبة إلى ما اتفقوا عليه، مع أن المخالفين للحق البين من الكتاب والسنة هم عند جمهور الأمة معروفون بالبدعة، مشهود عليهم بالضلالة؛ ليس لهم في الأمة لسان صدق ولا قبول عام، كالخوارج والروافض والقدرية ونحوهم، وإنما تنازع أهل العلم والسنة في أمور دقيقة تخفى على أكثر الناس ولكن يجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله(1).
7- إحسان الظن بالمسلمين:
__________
(1) ... مجموع الفتاوى (7/356).(20/71)
إن إحسان الظن بالمسلمين يعدّ من أهم الصفات التي يجب على الداعية أن يتحلى بها، لأن إحسان الظن يفتح الطريق أمامه ليدخل إلى قلوب الناس فيؤثر عليهم، فالذي يحسن الظن بالمسلمين يرى الجوانب الحسنة فيهم فيقبل على دعوتهم وهو باشُّ الوجه منطلق الأسارير، لأن نواحي الخير لدى هؤلاء المدعوّين تغطي على نواحي الشر، وتخفف من حدة الغضب الذي لا بد أن يعتري المؤمن عند رؤية ما لا يُرضي الله تعالى، فيتصرف الداعية عندئذ تصرفاً حكيماً حيث تتجاذبه ناحية الإعجاب بصفات الخير لدى الناس، والتضجر من صفات الشر عندهم، فلا يحمله الإعجاب بما لديهم من خير على السكوت عنهم سكوت الرضا بالباطل، ولا يحمله التضجر مما عندهم من الشر على الخصومة والعنف في الإنكار، بل يثني عليهم بما لديهم من الخير وينبههم على ما وقعوا فيه من الشر.
ولقد كان الدعاة الصالحون يوصون بحسن الظن بالمسلمين، ومن ذلك ما جاء في قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ط: ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير مدخلاً، وضَعْ أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك(1).
وكذا ما جاء في قول أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز رحمه الله لابنه عبدالعزيز: يا بني إذا سمعت كلمة من امرئ مسلم فلا تحملها على شيء من الشر ما وجدت لها محملاً في الخير(2).
وما رُوي عنه أنه قال: $أحسن بصاحبك -يعني الظن-
ما لم يَغْلبك#(3).
وذلك أن إحسان الظن بالمسلمين يقي صاحبه من الإرهاق الفكري الذي يدور في خياله في محاولة تحليل تصرفات الناس نحوه، وإذا تطور هذا الفكر لديه فإنه قد يصل به إلى مرحلة الحقد والضغينة على أخيه، ثم قد يتطور ذلك إلى محاولة الانتقام منه، مع أن تلك الأفكار قد تكون بُنيت على أوهام لا حقيقة لها.
__________
(1) ... تاريخ دمشق لابن عساكر (44/359).
(2) ... سيرة عمر بن عبدالعزيز لابن الجوزي/235.
(3) ... المرجع السابق/ 52.(20/72)
ومما يقع فيه بعض الدعاة إلى الله تعالى من الأخطاء أنهم ينظرون إلى الناس من زاوية واحدة، وهي ما وقعوا فيه من الشر والمخالفة لدين الله تعالى، فيحكمون على من رأوه يرتكب بعض هذه المخالفات الظاهرة بأنه لا خير فيه، ويُغفلون جوانب الخير الأخرى فيه التي قد يتفوّق في بعضها على من تقدم لدعوته.
والطريق الصحيح في الدعوة أن نركز على جوانب الخير لدى من أردنا دعوته لنتوصل بذلك إلى نهيه عن جوانب الشر، فنبحث عن جوانب الخير كالمحافظة على الصلوات وعفة اللسان والمسارعة في نجدة المسلمين فنبرزها ونشيد بفاعلها، ثم نذكر بعد ذلك ما رأيناه من جوانب النقص.
إنك حينما توجه النقد مباشرة بدون أن يسبقه ثناء على فعل الخير تغطي على جوانب الخير لدى من انتقدته فيتصور أنك تسيء الظن به وأنك ترى بُعده عن الخير و أهله، بينما هو يرى لنفسه من وجوه الخير الشيء الكثير، فتحُول بذلك بينه وبين سماع موعظتك لأن بروز حظ النفس الذي لم يأخذ مكانه من الحوار يغطي على إمكان سماع التوجيه والتأثر به.
وقد كان ثناء النبي ج على خالد بن الوليد أمام أخيه سبباً في دخوله في الإسلام وقد كتب إليه أخوه الوليد كتاباً جاء فيه: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام وعقْلُك عقْلُك(1) ومِثلُ الإسلام جهله أحد؟ وقد سألني رسول الله ج عنك وقال: أين خالد؟ فقلت يأتي به الله، فقال $مثله جهل الإسلام؟ ولو كان جعل نكايته وحدَّه مع المسلمين كان خيراً ولقدَّمناه على غيره# فاستدرك يا أخي ما قد فاتك من مواطن صالحة(2).
__________
(1) ... يعني وعقلك هو الذي عهدته فيك عقلاً كبيراً.
(2) ... البداية والنهاية (4/238).(20/73)
وإن هذه الكلمات البليغة من رسول الله ج في الإشادة بخالد بن الوليد كان لها أبلغ الأثر في تحوُّل قلبه وتوجهه إلى الإسلام، ولقد كان رسول الله ج موفقاً كل التوفيق في فهم توَجُّهات النفوس ومواطن قيادها، فلقد أدرك حب خالد للزعامة والقيادة فوعد بتمكينه من ذلك وتقديمه على غيره في هذا المجال إلى جانب الإشادة بفكره وعقله، والتعجب من إبطائه عن الدخول في الإسلام مع ما لَه من عقل وفكر.
ومن الأمثلة الجيدة في هذا المجال ما كان من شأن الأنصار حينما أرادوا دعوة أحد سادتهم إلى الإسلام وشهود بيعة العقبة معهم وهو عبدالله بن حرام حيث قالوا له: يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطباً للنار غداً، ثم دعوه إلى الإسلام، فأسلم وشهد معهم بيعة العقبة(1).
فهذا أُسْلُوب بارع وحكيم في الدعوة إلى الله تعالى نتج عنه قوة في التأثر وسرعة في الاستجابة، فهؤلاء الصحابة ن بَدَأوا أولاً دعوة صاحبهم عبدالله بن حرام ط بالثناء عليه بما هو أهله، فنادوه بكنيته، والنداء بالكنية تكريم للرجل عند العرب، ثم أثنوا عليه بأنه سيد من ساداتهم وشريف من أشرافهم، فلما دعوه إلى الإسلام بعد ذلك أسلم على الفور.
إن الثناء على الرجل الكريم يقلِّص من نفسه الأنانية والتعصب للذات، ويفتح فكره لتقبُّل الأمور العالية وإن خالفت هوى النفس في بداية الأمر، لأن الثناء على الكريم يُشبع رغبته في النظر إلى حظ النفس من غير طغيان نحو الكبرياء ولا جنوح نحو الغضِّ من شأن الآخرين، فتكون مكافأته نحو من أسْدَى إليه هذا الجميل أن يلين في يده ويسمع قوله لأن كرمه يمنعه من أن يردَّ من تواضع له وأثنى عليه من غير أن يحقق له ما يريد أو بعض ما يريد.
__________
(1) ... سيرة ابن هشام (2/58).(20/74)
وإذا كان هذا المنهج قد طبقه رسول الله ج وأصحابه في معاملتهم مع الكفار ودعوتهم فإنه من باب أولى أن يطبقه الدعاة إلى الله تعالى في دعوة من انحرف من المسلمين عن الطريق المستقيم.
ومما كان يهتم به رسول الله ج مما يتعلق بهذا الموضوع إبراز جوانب الخير لدى الإنسان ومحاولة الاستفادة منها لخدمة الإسلام مع الغضِّ عن جوانب النقص التي لا تؤثر تأثيراً كبيراً، ومحاولة تلافيها بالتوجيه والتربية، ومن ذلك نظره لجانب الشجاعة والمقدرة الفائقة على القيادة لدى خالد بن الوليد ط مع غضِّ النظر عن تسرعه في القتل، وتوجيهه في ذلك نحو الطريق السليم، وذلك حينما أرسله إلى بني جذيمة بعد فتح مكة داعياً فقتل منهم فأرسل النبي ج علي بن أبي طالب ط فَوَدَى قتلاهم، وعوضهم عما فقدوا من أموالهم، وقال ج: $اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، ثلاث مرات#(1).
ومع هذا الخطأ الواضح من خالد ط فإن النبي ج عاد إلى توليته القيادة كما في غزوة تبوك حيث بعثه في سرية إلى أكيدر حاكم دومة الجندل، وكما بعثه إلى بني الحارث بن كعب فأسلموا على يده(2).
وقد لاحظ هذا الجانب من النقص عمر ط فقال لأبي بكر ط: إن في سيف خالد رهقاً، ولكن أبا بكر كان يُغلِّب جانب الاستفادة من طاقات الخير لدى خالد، فقال: لم أكن لأشيمَ سيفاً سله الله
على المشركين(3).
__________
(1) ... سيرة ابن هشام (4/66).
(2) ... المرجع السابق (4/215،335).
(3) ... تاريخ الطبري (3/278-279).(20/75)
ولقد كان النبي ج يعامل المتقين بالعفو عن أخطائهم والتجاوز عن زلاتهم، فمن ذلك ما وقع من سعد بن عبادة ط في حادث الإفك كما جاء في حديث عائشة ك قالت - بعد أن ذكرت حديث الإفك - : فقام رسول الله ج فاستعذر يومئذ من عبدالله بن أُبي ابن سلول، فقال رسول الله ج وهو على المنبر: يا معشر المسلمين من يُعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً وما كان يدخل على أهلي إلا معي(1) فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله أنا أُعذرك منه، إن كان من الأوس ضربتُ عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، قالت: فقام سعد بن عبادة
- وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية – فقال سعد: كذبت لعمرو الله لا تقتله ولا تقدر على قتله(2).
فهذا القول صدر من سعد بن عبادة ط وهو في حال غضب شديد، وهو مخالفة كبيرة لأنه غلَّب جانب العصبية القبلية على جانب الدين، حيث إن عبدالله بن أُبي زعيم المنافقين من قبيلة الخزرج، بينما سعد بن معاذ سيد قبيلة الأوس وقد كان بين القبيلتين عداء وحروب في الجاهلية، ومع ذلك فإن النبي ج لم يَلُم سعد بن عبادة ولم يعاتبه فضلاً عن أن يحكم عليه بمخالفة أمرٍ مهم من أمور العقيدة، لأن هذا الخطأ يعدُّ يسيراً في جانب رصيده الكبير من الدعوة إلى الإسلام والجهاد في سبيله ومعاداة أعدائه.
ولما ذكر الله تعالى بعض أعمال المحسنين قال في بيان جزائهم
__________
(1) ... يعني صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه الذي اتُّهم في حادث الإفك.
(2) ... صحيح البخاري، كتاب التفسير، رقم 4750 (الفتح 8/452).
... صحيح مسلم، كتاب التوبة، رقم 2770 (ص2129).(20/76)
? ?? تمهيد - ? - - الله أكبر الله أكبر - ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - الله أكبر - ???- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - - ? الله الله الله أكبر - الله ? الله - الله الله أكبر ? { ? - ? صدق الله العظيم ? الله ? ?? الله { صدق الله العظيم - - - - - الله ? المحتويات - ? - الله أكبر ?- جل جلاله -? الله ? - } الله ? - الله - الله - الله الله أكبر ? الله ? ? الله ? ?? - ?- جل جلاله - - - - الله الله أكبر الله أكبر - جل جلاله - الله - الله أكبر الله ? ??- جل جلاله -? - درهم - الله أكبر الله - { ? - - - - - جل جلاله -? بسم الله الرحمن الرحيم - ? الله - - ? - - الله - صدق الله العظيم ? الله ? - ? صدق الله العظيم - - - جل جلاله -?? - - ?- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - المحتويات - ? - الله أكبر ? - - ? الله ?? - - الله ?? - الله أكبر ? } - تمهيد { ? [الأحقاف:16] .
وإذا كان الله سبحانه قد تجاوز عن سيئات المحسنين فلماذا يركز بعض الناقدين على ذكر المساوئ ويتجاوزون عن ذكر الحسنات؟!(20/77)
بل إن النبي ج تجاوز عن أحد الصحابة ن في مخالفةٍ ظاهرها أنها خيانة للإسلام نظراً لرصيده العالي من الأعمال الصالحة، وذلك فيما أخرجه أبو عبدالله البخاري رحمه الله تعالى من حديث علي بن أبي طالب ط قال: $بعثني رسول الله ج وأبا مرثد والزبير - وكلنا فارس- فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين، فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله ج، فقلنا: الكتاب، فقالت: ما معنا كتاب، فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتاباً، فقلنا: ما كذب رسول الله ج، لتُخرجِنَّ الكتاب أو لنجردنَّك، فلما رأت الجد أهوَتْ إلى حُجزتها -وهي محتجزة بكساء- فأخرجتْه، فانطلقنا به إلى رسول الله ج، فقال عمر: يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه، فقال النبي ج:
ما حملك على ما صنعت؟ قال حاطب: والله ما بي أن لا أكون مؤمناً بالله ورسوله ج، أردتُ أن تكون لي عند القوم يَدٌ يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله، فقال النبي ج: صدق ولا تقولوا له إلا خيراً، فقال عمر: إنه قد خان الله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه، فقال: أليس من أهل بدر؟ فقال: لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبتْ لكم الجنة - أو قال: فقد غفرت لكم- فدمعت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم#(1).
ففي هذا الخبر مثل عظيم في التسامح مع أهل الفضل والتقدم في الإسلام، والغضِّ عن سيئاتهم وإن كانت كبيرة.
__________
(1) ... صحيح البخاري، رقم 3983، كتاب المغازي، باب 9، (7/304).(20/78)
فعمر بن الخطاب ط من شدة حماسه الديني وغيرته على الإسلام وحياطته لدولته بادر إلى الإنكار الشديد على حاطب بن أبي بلتعة ط، ووصفه بالخيانة، وطلب من رسول الله ج أن يأذن له بقتله، ولكن النبي ج المربي الكبير، الرحيم بالمؤمنين لم ينظر إلى حاطب من زاوية مخالفته تلك فحسب وإن كانت كبيرة، وإنما راجع رصيده الماضي في الجهاد في سبيل الله تعالى وإعزاز الإسلام، فوجد أنه قد شهد معركة بدر، ولم يشهد بدراً إلا مؤمن صادق قوي الإيمان، لأن الإقدام على معركة بدر كان إقداماً على الموت المرجح، ولا يصل إلى الجود بالأنفس إلا من ارتفع رصيده الإيماني إلى الحد الذي يجسِّم أمام ناظريه الهدف الأعلى للمسلم، ألا وهو بلوغ رضوان الله تعالى والجنة، وإن كان في ذلك ذهاب النفوس والأموال.
وفي هذا توجيه للمسلمين إلى أن ينظروا إلى أصحاب
الأخطاء نظرة متكاملة، وذلك بأن ينظروا فيما قدموه لأمتهم
من أعمال صالحة في مجالات التعليم والإفتاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى، فإن الذي يُسهم في إسقاط فروض الكفاية عن الأمة يستحق التقدير والاحترام، وإن بدرت
منه بعض الأخطاء.
هذا فيما إذا كان ما صدر من هؤلاء خطأ محضاً وزلة قدم، فكيف إذا كان ما صدر منهم رأياً علمياً ناتجاً عن الاجتهاد وهم من أهل ذلك؟!.
وإن بعض طلاب العلم في عصرنا هذا يتعجلون في نقد العلماء والدعاة لمجرد وقوعهم في آراء اجتهادية يرى بعض العلماء أنهم أخطؤوا فيها، وقد يصل النقد إلى حد السخرية وانتهاك الأعراض، مُغْفِلين تماماً رصيدهم الماضي في الدعوة والجهاد وإنكار المنكر وتعليم العلم، وترى هؤلاء الطلاب يُجَسِّمون أخطاء هؤلاء الكبار ويبرزونها بشكل يوحي للسامعين والقراء أن أولئك الذين تعرَّض إنتاجهم للنقد ليس لهم أي رصيد في خدمة الإسلام والمسلمين.(20/79)
والمفترض في هذا المجال أن تُذكر حسنات هؤلاء أولاً ويعرَّف المسلمون بجهادهم وبلائهم في الإسلام وجهودهم في مجالي العلم والدعوة، ثم تُذكر الأمور التي يراها المنتقدون أخطاء وما يرونه من الصواب في ذلك مع لزوم الأدب في النقد العلمي، والبعد عن أسلوب السخرية والتنقيص.
هذا شيء مما يبينه لنا سلوك النبي ج في مواجهة هذا الخطأ الكبير الذي ارتكبه حاطب بن أبي بلتعة ط.
إن رصيد حاطب الكبير في الجهاد في سبيل الله كان حائلاً
دون إدانته وإجراء العقوبة عليه، بل كان حامياً له مما هو دون ذلك حيث لم يُسمع من مسلم كلمة واحدة في نقده والإساءة إليه بعد قول النبي ج: $ولا تقولوا له إلا خيراً#.
ولقد كان العلماء الربانيون يحسنون الظن بإخوانهم من العلماء ويلتمسون لهم العذر فيما إذا كان ظاهر كلامهم يحتمل الصواب والخطأ، ومن ذلك ما ذكره الإمام ابن تيمية في التعليق على خبر ذكره أبو القاسم عبدالكريم بن هوازن القشيري في (الرسالة القشيرية) قال القشيري: (وقيل قال الشبلي بين يدي الجنيد: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال الجنيد: قولك ذا ضيق صدر، وضيق الصدر لترك الرضا بالقضاء).
قال ابن تيمية: فإن هذا من أحسن الكلام، وكان الجنيد ط سيد الطائفة، ومن أحسنهم تعليماً وتأديباً وتقويماً، وذلك أن هذه الكلمة هي كلمة استعانة، لا كلمة استرجاع، وكثير من الناس يقولها عند المصائب بمنزلة الاسترجاع، ويقولها جزعاً لا صبراً، فالجنيد أنكر على الشبلي حاله في سبب قوله لها، إذ كانت حالاً ينافي الرضا، ولو قالها على الوجه المشروع لم ينكر عليه(1).
ومن النصوص الجيدة في بيان الميزان الذي تضبط به الأحكام على الناس ما رواه عبدان بن عثمان عن الإمام عبدالله بن المبارك أنه قال: إذا غلبت محاسن الرجل على مساوئه لم تُذكر المساوئ، وإذا غلبت المساوئ على المحاسن لم تُذكر المحاسن(2).
__________
(1) ... الاستقامة (2/81-82).
(2) ... سير أعلام النبلاء (8/352).(20/80)
وهكذا أهل السنة لا يركزون على بيان المساوئ ويلغون المحاسن، وإنما ينظرون إلى الغالب على الإنسان من الحسنات أو السيئات، فإذا كان يغلب عليه الخير والأعمال الصالحة وسلامة الاتجاه فإنهم يُبرزون حسناته، ويغضُّون الطرف عن هفواته، ويلتمسون له العذر فيما أخطأ فيه، وإن كان الغالب عليه السيئات -سواء في مجال الشبهات أو في مجال الشهوات- فإن المصلحة تقتضي عدم إبراز حسناته والتنبيه على سيئاته حتى لا يكون وجوده ضرراً على المجتمع، سواء في مجال العلم أو في مجال العمل، وخاصة إذا كان مجاهراً بالمعاصي أو داعياً إلى ضلاله الذي آمن به.
ولقد خالف هذا المنهجَ أقوامٌ غلب عليهم التشدد في مجال النقد، فصاروا يغضُّون الطرف عن محاسن أهل الصلاح والخير، ويُبرزون ما لهم من أخطاء قد تكون حقيقية، وقد تكون أوهاماً في أذهان هؤلاء المنتقدين ولا حقيقة لها في الواقع.
كما خالف المنهج القويم المذكور أقوام تعصبوا لأهل الضلال
والانحراف في مجال الشبهات، أو في مجال الشهوات، فأبرزوا محاسنهم
وغضوا الطرف عن سيئاتهم التي كان لها أثر في ضلال بعض أفراد
المجتمع الإسلامي وغوايتهم.
8- الإسرار بالنصيحة:
مما يوصى به الدعاة إلى الله تعالى أن تكون نصائحهم لإخوانهم وانتقاداتهم عليهم سرّاً فيما بينهم، وأن يجتنبوا الانتقادات العلنية.
إن من أبرز الأسباب التي تؤدي إلى الفرقة في الدين الانتقاد العلني، وإذا كان كبار الدعاة يلاحظون خطر الفرقة في الدين فلا يُظهرون انتقاداتهم علناً تفادياً للفتن المترتبة على ذلك فإن صغار الدعاة قد لا يدركون هذا الخطر بل يسارعون إلى النقد الذي يترتب عليه من الضرر أكثر مما يحصل به من النفع، ويتحمسون للجدل الذي يجري بين بعض الدعاة من غير نظر لعواقبه السيئة على مستقبل الدعوة الإسلامية.
إن براعة الداعية تظهر في مقدرته على الحفاظ على روح الجماعة وتفادي النزاع والخلاف مع أدائه ما يريد من توجيهات نحو بناء(20/81)
المجتمع الإسلامي.
إن انتقاد الآخرين من الأمور المحببة للنفوس سواء كان النقد بحق أو بغير حق، وإن كثيراً من الناس ميالون بطبعهم إلى تتبع أعمال الآخرين وإظهار النقد لهم، وفي سبيل إشباع هذه الرغبة تتضاعف لديهم ملاحظة عيوب الآخرين وتتضاءل في مقابل ذلك لديهم ملاحظة وجوه الخير عندهم.
وتظهر مقدرة الداعية في محاولة اجتذاب الناس للهداية مع حمايتهم من الاستجابة لإشباع رغبات النفوس في النقد والانتصار للرأي، والاقتصار في ذلك على حدود الاعتدال الذي به تستقيم الأمور ولا يكون عاملاً من عوامل الهدم والتفرق في الدين.(20/82)
أما حينما يركز الداعية على تغذية هذا الجانب وذلك بالإكثار من نقد العاملين في الدعوة أمام المبتدئين في هذا المجال فإنه سيكون له تأثير سريع في اجتذاب الشباب، لأنه -والحالة هذه- يسير مع تيار النفوس المحبب لها ولا يقاوم رغباتها، ولكنه يسيء في ذلك إساءة بالغة إلى الدعوة أمام أناس لا يفرقون بين النقد الهادف وبين مجرد النقد الذي يتجاوب مع رغبات النفوس، وفي الوقت نفسه يسيء إلى هؤلاء الذين استطاع أن يؤثر عليهم حيث نقلهم على الفور إلى المرحلة العليا من الدعوة والتي هي من اختصاص كبار الدعاة الذين مروا بمراحل التربية المختلفة، وتوسعت معارفهم وأدركوا منافع النقد ومضاره، وبالتالي فإن هؤلاء الشباب الذين رَسَخ في أذهانهم أن الدعوة تعني تقويم أعمال الآخرين لن يبذلوا جهوداً مذكورة في الدعوة الإسلامية وإنما بضد ذلك سيعملون على تشويه سمعة العاملين من حولهم، وربما عادوا بالنقد واللوم على من وجههم إلى هذا المنهج لأن النفوس إذا ألِفَتْ هذا الأسلوب فليس لها حد معين تنتهي إليه، حيث إن أصحابها من كثرة التفكير في سُمُوّ العمل وكماله سيضعون حدوداً معينة للكمال المنشود حسبما تصل إليه اجتهاداتهم الفردية، وسينظرون إلى الدعاة العاملين في مجال الدعوة من منظار بلوغهم الكمال الذي حددوه أو نقصهم عنه، وستكون معايير النقد لديهم منبثقة من هذا الجانب، مع أنهم لو مارسوا الدعوة فعلاً سيجدون أنفسهم عاجزين عن بلوغ ما حددوه للآخرين من مظاهر الكمال في الدعوة.
ولقد كان العلماء المربون يمقتون اشتغال الشباب بنقد العلماء، ومما أثر عنهم في ذلك ما روي عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى حيث يقول: (كنا إذا رأينا الشاب يتكلم مع المشايخ -أي يجادلهم- في المسجد أيسنا من كل خير عنده)(1).
__________
(1) ... الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع (1/201).(20/83)
إن البراعة في الدعوة كل البراعة أن يتجه دعاة التوحيد إلى فضح الجاهلية المعاصرة بمختلف صورها، وهذا هو المنهج السليم الذي كان عليه رسول الله ج، فلقد كان يأمر شعراء المسلمين أن يبادروا إلى هجاء المشركين وفضحهم.
لقد كان الصف الإسلامي في عهد النبوة واحداً، ولم يكن هناك مناوشات كلامية تفرق صفهم، وكانت تربية النبي ج إياهم عالية في إحسان الظن، وعدم التسرع في نشر المخالفات التي تؤثر على كيان المجتمع الإسلامي، وفي ذلك يقول رسول الله ج: $لا يُبلِغْني أحد من أصحابي عن أحد شيئاً فإني أحب أن أخرج إليهم وأنا سليم الصدر# أخرجه الإمام أبو داود من حديث عبدالله بن مسعود ط، ولم يحكم عليه بضعف(1).
والنصيحة قد تتحول إلى فضيحة إذا كانت معلنة وفي وسط فتنة يحاول فيها أعداء الإسلام أن ينالوا من أعلام الدعاة إلى الله تعالى بأيديهم أو بأيدي غيرهم، ولذلك لما قام رجل ينصح علي بن أبي طالب ط وهو على المنبر قال له: $لقد فضحتني ولم تنصحني# لأن عهده كان عهد فتنة، فهناك السبئيون المنافقون، والخوارج الضالون، وكلهم كانوا يلتمسون له العيوب، بينما كان عمر ط يتقبل النصح العلني لأن مجتمعه يخلو من الفتنة.
إن الذي يوجه النقد العلني في الكتب أو على صفحات الصحف للعلماء البارزين الذين لهم باع طويل في محاربة الجاهلية المعاصرة إنما يُقَدِّم خدمة كبيرة لأعداء الإسلام، لأنه يوهن من موقف هؤلاء الدعاة الكبار، الذين رسخ في أذهان الناس قوتهم في التصدي للباطل.
وإذا كانت المخالفة التي جرت من هؤلاء العلماء معلنة في الكتب
__________
(1) ... سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب 33، رقم 4860، وقد قال أبو داود في سننه: وما سكتُّ عنه فهو صالح.(20/84)
أو الصحف، ورأى الغيور على دينه ضرورة تنبيه المسلمين إلى هذه المخالفة فلابد أن يمهد لنقده بمقدمات كافية يبين فيها فضائل هذا العالم مع الالتزام بقواعد الأدب العلمي المعروفة، وتحاشي توهين قدر هؤلاء العلماء أمام أعداء الإسلام.
إن الذي يهاجم هؤلاء العلماء أو ينتقدهم بعنف وبدون مقدمات، ويستخدم في ذلك وسائل النشر المعلنة مثله كمثل من أدرك فئة من المسلمين يُعدُّون العدة لقتال أعدائهم والأعداء يستعدون لهم، فقام يهاجمهم بنقده المعلن أمام الأعداء والأصدقاء، فشغلهم بنفسه عن أعدائهم، ووهَّن موقفهم أمام أعدائهم.
ولقد وقع في هذا الخطأ رجل من كبار الصحابة كان مع خالد بن الوليد في قتال أهل الردة، فانتقد عليه هو وغيره أنه تسرع في قتل مالك بن نويرة، وأنه تزوج بامرأته من بعده(1)، ووجْه الخطأ في هذا النقد أن هذا الصحابي الجليل قاطع الجيش الإسلامي وذهب إلى المدينة يشكو خالداً إلى أبي بكر، فما كان من أبي بكر وهو الرجل السياسي المحنك والقائد الحربي البارع إلا أن رده إلى قائده خالد وأشعره بخطئه في مهاجرته، وأن عليه أن يستمر في مشاركته في حروبه حتى تنقضي حروب الردة ثم يرفع إليه شكايته في ذلك الأمر.
9- الحذر من الفتنة في الدين:
إن من الأمور المهمة التي يجب على كل مسلم أن يراعيها وخاصة من وفقه الله إلى الدعوة أن يحافظ على تثبيت إيمان المسلمين وتقويته وأن يجتنب الأمور التي تؤدي إلى فتنتهم وإضعاف إيمانهم ولو كانت هذه الأعمال من أعمال الخير.
__________
(1) ... تاريخ الطبري (3/278).(20/85)
وحينما فات معاذ بن جبل ط ملاحظة ذلك فأطال الصلاة سبب فتنة لبعض المسلمين فلامه النبي ج لوماً شديداً، وقد أخرج خبره الشيخان رحمهما الله من حديث جابر بن عبدالله م $أن معاذ بن جبل ط كان يصلي مع النبي ج ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاة(1)، فقرأ بهم البقرة، قال: فتجوَّز رجل فصلى صلاة خفيفة، فبلغ ذلك معاذاً فقال: إنه منافق، فبلغ ذلك الرجل فأتى النبي ج فقال: يا رسول الله إنا قوم نعمل بأيدينا ونسقي بنواضحنا(2)، وإن معاذاً صلى بنا البارحة فقرأ البقرة فتجوَّزتُ، فزعم أني منافق، فقال النبي ج: يا معاذ أفتَّان أنت؟ ثلاثاً، اقرأ والشمس وضحاها، وسبح اسم ربك الأعلى ونحوهما#(3).
وكذلك أخرج أبو عبدالله البخاري رحمه الله من حديث أبي مسعود ط قال: قال رجل: $يا رسول الله إني لأتأخر عن صلاة الفجر مما يطيل بنا فلان فيها، فغضب رسول الله ج، ما رأيته غضب في موضع كان أشد غضباً منه يومئذ، ثم قال: يا أيها الناس إن منكم منفِّرين، فمن أم الناس فليتجوَّز فإن خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة#(4).
وليس المقصود بالتخفيف بالصلاة الإخلال بالطمأنينة، ولا تقليل القراءة المخل بكمال الصلاة، وإنما المطلوب الوسط في ذلك وهو الإيجاز مع الإكمال، كما أخرج أبو عبدالله البخاري رحمه الله في بيان صفة صلاة النبي ج من حديث أنس بن مالك ط قال: $كان النبي ج يوجز الصلاة ويكملها#(5).
__________
(1) ... يعني صلاة العشاء كما جاء في رواية للبخاري "قرأ معاذ في العشاء بالبقرة" – صحيح البخاري، رقم 705، كتاب الأذان، باب 63 (2/200).
(2) ... النواضح الإبل، أي يرفعون الماء من الآبار بالدلاء التي تجرها الإبل.
(3) ... صحيح البخاري، رقم 6106، كتاب الأدب، باب 64 (10/515).
صحيح مسلم، رقم 465، كتاب الصلاة، باب 36 (ص339).
(4) ... صحيح البخاري، رقم 704، كتاب الأذان، باب رقم 63 (2/200).
(5) ... صحيح البخاري، رقم 706، كتاب الأذان، باب رقم 64 (2/201).(20/86)
فالنبي ج أنكر على معاذ والإمام الآخر إطالة القراءة في الصلاة مع أنهما قد أرادا بذلك الخير، لما يترتب على ذلك من الفتنة لبعض المسلمين، فقدَّم الحذر من الفتنة على التوسع في أعمال الخير.
ولذلك فإن على الداعية أن يهتم بأمر جذب الناس إلى الإسلام وتحبيبه إليهم والبعد عن الدعوة إلى الأمور التي تسبب نفرتهم منه.
وإن مما تجدر الإشارة إليه في هذا المجال أن يلاحظ علماء الدين وطلاب العلم ما استقر عليه أمر المسلمين في مختلف بلادهم من السنن الظاهرة، فبعض أهل البلاد الإسلامية مثلاً يجهرون بالبسملة في الصلاة الجهرية وبعضهم يسرون بها، وبعضهم يجهرون بكلمة (آمين) وبعضهم يسرون بها، إلى غير ذلك من الأمور التي يختلفون فيها، فينبغي مراعاة ما سار عليه الناس حفاظاً على الجماعة وتجنباً للفرقة، فإذا انتقل العالم إلى بلد يسرون بها فينبغي له أن يسر بها، وكذلك الحال في الجهر بالتأمين والإسرار به وغير ذلك، إلا إذا كان المأمومون من طلاب العلم الذين يؤمن عليهم من الفتنة.
ومما يستدل به لهذا الأمر ما جاء في قول النبي ج لعائشة ك $لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أُخرج منه وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين باباً شرقياًّ وباباً غربياًّ فبلغتُ به أساس إبراهيم# أخرجه الشيخان من حديث عائشة ك(1).
فحيث كان أمر الكعبة ليس من أصول الإسلام ولا يترتب على تغييره إقرار دعوة التوحيد لم يُحدث فيه النبي ج شيئاً، خصوصاً وأن أمر التغيير قد يحدث بسببه فتنة عن الدين كما جاء في الحديث.
__________
(1) ... صحيح البخاري كتاب الحج، باب 42، رقم 1586، صحيح مسلم، رقم 1333/402، كتاب الحج، باب 69 (ص970).(20/87)
ولقد رُوي عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه كان إذا قدم إلى العراق يأخذ بمذهب أبي حنيفة رحمه الله في السنن مراعاة للشعور الديني لعامة المسلمين، ومن ذلك أنه صلى قريباً من مقبرة الإمام أبي حنيفة فلم يقنت –والقنوت عنده سنة مؤكدة- فقيل له في ذلك، فقال: أخالفه وأنا في حضرته، وقال أيضاً: ربما انحدرنا إلى مذهب أهل العراق(1)، وهذا يعدّ داخلاً في هذا الأمر ويُستأنس بصدوره من عالم كبير يُقتدى به.
ولكن حينما يكون الأمر متعلقاً بالفرائض والواجبات فإن العالِم مسئول عن تطبيق ذلك مع بيان حكم الشريعة من الكتاب والسنة واجتهاد العلماء في فهمها والالتزام بالحكمة والرفق بمشاعر المسلمين، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بأصول الدين فإن النبي ج يوم فتح مكة قضى على جميع معالم الوثنية من الأصنام داخل مكة وخارجها، ولم يراع بإبقائها مشاعر أحد من الناس لأن إزالتها تعني وجود الإسلام وبقاءها يعني وجود الجاهلية.
هذا وقد وَجدتُ رسالة للإمام ابن تيمية بعنوان (خلاف الأمة في العبادات ومذهب أهل السنة والجماعة) فيها بيان لهذا الموضوع، وسأقتبس منها قبسات يسيرة تبين ضرورة الحفاظ على جماعة المسلمين ووحدتهم وإن أدى ذلك إلى ترك بعض السنن الظاهرة، وفي ذلك يقول رحمه الله تعالى: (قاعدة) في صفات العبادات الظاهرة التي حصل فيها تنازع بين الأمة في الرواية والرأي، مِثل الأذان والجهر بالبسملة والقنوت في الفجر والتسليم في الصلاة ورفع الأيدي فيها ووضع الأكف فوق الأكف، ومثل التمتع والإفراد والقران في الحج ونحو ذلك، فإن التنازع في هذه العبادات الظاهرة والشعائر أوجب أنواعاً من الفساد الذي يكرهه الله ورسوله وعباده المؤمنون.
ثم ذكر أن أحد هذه الأنواع جهل كثير من الناس بالأمر المشروع المسنون.
__________
(1) ... أدب الاختلاف للدكتور طه العلواني/ 117، عن كتاب حجة الله البالغة/ 335.(20/88)
والثاني: ظلم كثير من الأمة أو أكثرهم بعضهم لبعض وبغيهم عليهم، تارة بنهيهم عما لم ينه الله عنه، وبغضهم على ما لم يبغضهم الله عليه ، وتارة بترك ما أوجب الله من حقوقهم وصلتهم، لعدم موافقتهم لهم على الوجه الذي يؤْثرونه.
والثالث: اتباع الظن وما تهوى الأنفس حتى يصير كثير منهم متديناً باتباع الأهواء في هذه الأمور المشروعة.
والرابع: التفرق والاختلاف المخالف للاجتماع والائتلاف، حتى يصير بعضهم يبغض بعضاً ويعاديه، ويحب بعضاً ويواليه على غير ذات الله، وحتى يفضي الأمر ببعضهم إلى الاقتتال بالأيدي والسلاح، وبعضهم إلى المهاجرة والمقاطعة، حتى لا يصلي بعضهم خلف بعض، وهذا(1) كله من أعظم الأمور التي أوجبها الله تعالى ورسوله ج .
ثم استشهد بآيات تحث على الاعتصام بالجماعة وتنهى عن
التفرق والاختلاف إلى أن قال: فنقول: عامة هذه التنازعات إنما هي في أمور مستحبات ومكروهات لا في واجبات ومحرمات، فإن الرجل إذا حج متمتعاً أو مفرداً أو قارناً كان حجه مجزئاً عند عامة علماء المسلمين، وإن تنازعوا في الأفضل من ذلك، ولكن بعض الخارجين عن الجماعة يوجب أو يمنع ذلك، فمن الشيعة من يوجب المتعة ويحرم ما عداها، ومن الناصبة من يحرم المتعة ولا يبيحها بحال.
وكذلك الأذان سواء رجَّع فيه أو لم يرجِّع فإنه أذان صحيح عند جميع سلف الأمة وعامة خلفها(2)، وسواء ربَّع التكبير في أوله أو ثنَّاه، وإنما يخالف في ذلك بعض شواذ المتفقهة، كما خالف فيه بعض الشيعة فأوجب له الحيعلة بحيَّ على خير العمل، وكذلك الإقامة يصح فيها الإفراد والتثنية، بأيَّتها أقام صحت إقامته عند عامة علماء الإسلام إلا ما تنازع فيه شذوذ الناس.
__________
(1) ... يعني الاجتماع والائتلاف.
(2) ... الترجيع بالأذان ترديد الصوت فيه، ويطلق على تكرار الشهادتين.(20/89)
وكذلك الجهر بالبسملة والمخافتة كلاهما جائز لا يبطل الصلاة وإن كان من العلماء من يستحب أحدهما أو يكره الآخر أو يختار أن لا يقرأ بها، فالمنازعة بينهم في المستحب وإلا فالصلاة بأحدهما جائزة عند عامة العلماء، إلى أن قال: فلا نزاع أنه كان من الصحابة من يجهر بالبسملة كابن الزبير ونحوه، ومنهم من لم يكن يجهر بها كابن مسعود وغيره، وتكلم الصحابة في ذلك ولم يُبطل أحد منهم صلاة أحد في ذلك، وهذا لم أعلم فيه نزاعاً وإن تنازعوا في وجوب قراءتها فتلك مسألة أخرى.
وكذلك القنوت في الفجر إنما النزاع بينهم في استحبابه أو كراهيته وسجود السهو لتركه أو فعله، وإلا فعامتهم متفقون على صحة صلاة من ترك القنوت وأنه ليس بواجب، وكذلك من فعله، إذ هو تطويل يسير للاعتدال ودعاء الله في هذا الموضع، ولو فَعل ذلك في غير الفجر لم تبطل صلاته باتفاق العلماء فيما أعلم.
إلى أن قال: وإذا كان النزاع إنما هو في الاستحباب عُلم الاجتماع على جواز ذلك وإجزائه، ويكون ذلك بمنزلة القراءات في القرآن فإن جميعها جائز وإن كان من الناس من يختار بعض القراءات على بعض، وبهذا يزول الفساد المتقدم، فإنه إذا علم أن ذلك جميعه جائز مجزئ في العبادة لم يكن النزاع في الاختيار ضارّاً، بل قد يكون النوعان سواء وإن رجح بعض الناس بعضها، ولو كان أحدهما أفضل لم يجُزْ أن يُظلم من يختار المفضول ولا يُذم
ولا يعاب بإجماع المسلمين، بل المجتهد المخطئ لا يجوز ذمه بإجماع المسلمين، ولا يجوز التفرق بذلك بين الأمة، ولا أن يُعطَى المستحب فوق حقه فإنه قد يكون من أتى بغير ذلك المستحب من أمور أخرى واجبة ومستحبة أفضل بكثير، ولا يجوز أن تُجعل المستحبات بمنزلة الواجبات، بحيث يمتنع الرجل من تركها ويرى أنه قد خرج من دينه أو عصى الله ورسوله، بل قد يكون ترك المستحبات لمعارض(20/90)
راجح أفضل من فعلها، بل الواجبات كذلك، ومعلوم أن ائتلاف قلوب الأمة أعظم في الدين من بعض المستحبات، فلو تركها المرء لائتلاف القلوب كان ذلك حسناً، وذلك أفضل إذا كان مصلحة ائتلاف القلوب دون مصلحة ذلك المستحب، وقد أخرجا
في الصحيحين عن عائشة أن النبي ج قال لها: $لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة ولألصقتها بالأرض ولجعلت لها باباً يدخل منه الناس وباباً يخرجون منه#(1) وقد احتج بهذا الحديث البخاري وغيره على أن الإمام قد يترك بعض الأمور المختارة
لأجل تأليف القلوب ودفعاً لنفرتها(2).
وبهذه المناسبة أذكر أنني كنت مسئولاً عن عدد من الدورات التي أقيمت في وسط آسيا وبلاد القوقاز في عام 1413هـ وكانت تابعة لهيئة الإغاثة الإسلامية العالمية، وقبل السفر اجتمع الإخوة المكلفون بهذه الدورات من مديرين وأساتذة في مقر هيئة الإغاثة في مدينة جدة، فوفقني الله إلى توجيههم بكلمات أشرت عليهم فيها بعدم إثارة موضوعات الخلاف في أمور العقيدة، والسير في أمور السنن الظاهرة في الصلاة ونحوها على مذهب أهل تلك البلاد، وضربت لهم مثلاً بالجهر بالبسملة في البلاد التي يطبق أهلها المذهب الشافعي، وعدم الجهر بآمين في البلاد التي يطبق أهلها المذهب الحنفي، وقد طبق أكثر الإخوة المبعوثين ذلك، فكان سبباً في نجاح تلك الدورات، وأذكر على سبيل المثال أن بعض أولياء الأمور في داغستان رفضوا إلحاق أبنائهم في الدورة خوفاً من اختلاف المذهب، فلما رأوا مدير الدورة يجهر بالبسملة سارعوا إلى إلحاق أبنائهم، وقد صلى بهم ذلك المدير صلاة الجمعة فلم يتحرجوا من الصلاة خلفه، وقد علمت بعد ذلك أن دورات وقع الخلل فيها بسبب مجابهة بعض القائمين بها أهل تلك البلاد في مسائل الخلاف.
__________
(1) ... سبق ذكر هذا الحديث.
(2) ... رسالة (خلاف الأمة في العبادات ومذهب أهل السنة والجماعة) مجموعة الرسائل
المنيرية (3/115).(20/91)
وحينما سافرت إلى أندونيسيا في عام 1411هـ قدمني المرافقون
لصلاة الجمعة في مدينة باندونج فقال لي الأخ المترجم: تكون مشكلة لو لم تجهر بالبسملة، فأخبرته بأنني عازم على الجهر بها، وذلك لأنني خشيت إن لم أفعل أن يزول تأثر بعضهم بالخطبة التي سمعوها، فكان تأثر المصلين بذلك كبيراً.
10- عدم التعصب للجماعة:
إن من أقوى الأسباب التي تفرق بين الجماعات وتباعد من سبل التفاهم بينها أن يتعصب أفراد كل جماعة لجماعتهم بغير حق وأن يقوموا بالاستهانة بموجهي الجماعات الأخرى.
وإن من أفضل العوامل التي تحول دون هذا التعصب المذموم أن يجعل قادة الجماعات الدعوية أنفسهم بمنزلة علماء الصحابة الذين تصدروا لتعليم الناس ودعوتهم كعبدالله بن مسعود وعبدالله بن عباس وأبي هريرة ن، حيث إن لكل عالم من هؤلاء وأمثالهم أتباعاً وهم تلامذتهم وتلامذة تلامذتهم ومن تأثر بهم، فأهل الكوفة أو أغلبهم يتبعون ابن مسعود، وأهل مكة أو أغلبهم يتبعون ابن عباس، وطائفة من أهل المدينة يتبعون أبا هريرة.
وسار على شاكلتهم علماء التابعين وأتباع التابعين، فكل واحد من مشاهير العلماء له أتباع ولكنهم لم يكونوا يغضون من شأن العلماء الآخرين وإن اختلفوا معهم في الرأي والاجتهاد، بل كان بعضهم يثني على بعض، وإذا انتُقِد عالم أمامهم بشيء من التجريح أنكروا ذلك، وطلابهم لم يكن من شأنهم أن يُعلُوا مِن شأن عالمهم سواء بحق أو بباطل، ولم يكن من شأنهم أن يخفضوا من شأن العلماء الآخرين من غير نظر في كونهم على حق أو باطل.
ولم يكن من شأن طلاب العلم آنذاك أن ينظروا إلى الحق من منظار التبعية لشيوخهم، وإنما كانوا ينظرون إلى الحق لذاته، كما اشتهر عنهم أنهم كانوا يعرفون الرجال بالحق ولم يكونوا يعرفون الحق بالرجال.(20/92)
ولا ينبغي أن يُنظر إلى تعدد جماعات الدعوة على أنه حالة سيئة بل ينبغي أن نشبه ذلك بتعدد العلماء المتبوعين، ولكن بشرط الالتزام بالأدب العلمي، والنظر إلى الهدف الأعلى للدعوة، وهو النظر في تكوين جيل من الشباب الواعي بغض النظر عن تبعيتهم لجماعة معينة.
11- النور خير وإن كان فيه ظلمة:
لقد قرأت للإمام ابن تيمية كلمات نيرة ينكر فيها على من يرى أنه إما أن تكون الدعوة إلى الإسلام الكامل أو لا خير في الدعوة ونشر العلم، وفي ذلك يقول: فإنه ينبني على الأصل الذي قدمناه من أنه قد يقترن بالحسنات سيئات إما مغفورة أو غير مغفورة،
وقد يتعذر أو يتعسر على السالك سلوك الطريق المشروعة علماً وعملاً، فإذا لم يحصل النور الصافي، بأن لم يوجد إلا النور الذي ليس بصاف وإلا بقي الإنسان في الظلمة فلا ينبغي أن يعيب الرجل وينهى عن نور فيه ظلمة إلا إذا حصل نور لا ظلمة فيه، وإلا فكم ممن عدل عن ذلك يخرج من النور بالكلية إذا خرج غيره عن ذلك،
لما رآه في طرق الناس من الظلمة.
ثم قال بعد كلام له وهذا أصل عظيم وهو: أن تُعرف الحسنة في نفسها علماً وعملاً سواء كانت واجبة أو مستحبة. وتعرف السيئة في نفسها علماً وقولاً وعملاً، محظورة كانت أو غير محظورة - إن سميت غير المحظورة سيئة- وأن الدين تحصيل الحسنات والمصالح، وتعطيل السيئات والمفاسد.
وإنه كثيراً ما يجتمع في الفعل الواحد أو في الشخص الواحد الأمران، فالذم والنهي والعقاب قد يتوجه إلى ما تضمنه أحدهما، فلا يُغفل عما فيه من النوع الآخر، كما يتوجه المدح والأمر والثواب إلى ما تضمنه أحدهما فلا يُغفل عما فيه من النوع الآخر،
وقد يُمدح الرجل بترك بعض السيئات البدعية والفجورية،
لكن قد يسلب مع ذلك ما حُمد به غيره على فعل بعض الحسنات السنية البِرِّيَّة.
فهذا طريق الموازنة والمعادلة، ومن سلكه كان قائماً بالقسط الذي أنزل الله له الكتاب والميزان(1).
__________
(1) ... مجموع الفتاوى (10/364-366).(20/93)
وإن هذه المقالة تذكرني بخبر سمعته من أحد الدعاة بأن جماعة من جماعات الدعوة كان لها نشاط في دعوة الوثنيين في بلادهم إلى الإسلام عن طريق الإحسان إليهم برفع المستوى المعيشي لأسرهم، فكان أن دخل عدد منهم في الإسلام عن طريق أفراد تلك الجماعة، فغاظ ذلك أفراداً من جماعة أخرى فأخذوا يشوهون صورة أولئك الذين اجتذبوهم للإسلام بذكر مثالب جماعتهم حسب تصورهم، فلنفرض جدلاً أن تلك الجماعة التي نجح بعض أفرادها في هداية بعض الكفار عندهم بعض الأخطاء في فهم الإسلام أو القصور في التطبيق، وأنهم سينقلون الوثنيين إلى إسلام فيه نقص فهل هذا خير لهؤلاء المهتدين أم بقاؤهم على الوثنية؟!
12- المرحلة الضرورية للاجتماع:
لا شك أن اجتماع الجماعات الإسلامية تحت قيادة واحدة هو العمل الكامل، ولكن حينما يتولد عن الدعوة إلى الاجتماع شيء من الإباء والنفرة فإنه لا ينبغي الإلحاح على توحيد الجماعات ما داموا في مرحلة الدعوة والتعليم والتربية، وإنما ينبغي دعوة الجميع إلى تعليم الإسلام والدعوة إليه كاملاً من غير تخيُّر لبعض تكاليفه دون بعض، فإن بعض الدعاة يكتفون بالدعوة إلى جانب أو جوانب من الإسلام ويهملون الجوانب الأخرى، إما لكون شيخ الدعوة الأول قد اقتصر على تلك الجوانب أو لكون الجوانب التي أهملوها تكلفهم مواجهة أصحاب السلطة أو مواجهة الجماهير أو لغير ذلك من الأسباب.(20/94)
نعم قد يكون من الحكمة عدم الدعوة إلى تطبيق حكم معين من أحكام الإسلام ، كالدعوة إلى إقامة الحكم الإسلامي أو الجهاد في سبيل الله تعالى لما يترتب على ذلك من الضرر بالمسلمين كما هو الحال في بلاد الأقليات الإسلامية ، ولكن يجب على الدعاة أن يفرقوا بين المبدأ والتطبيق ، فمن حيث المبدأ يجب على الدعاة أن يدعوا إلى الإسلام كاملاً كما جاء من عند الله عز وجل وأن لا يقيموا دعوتهم على بعض الإسلام دون بعض ، أما من حيث التطبيق فإنه يجب على الدعاة أن يدعوا إلى الالتزام بما استطاعوا من الإسلام وعلى حسب ما تقتضيه الحكمة ، كما قال رسول الله ج : $إذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم# أخرجه الشيخان(1) .وفي حال الاستطاعة على الإصلاح وتغيير المنكر واقتضاء الحكمة لذلك وهي مرحلة العمل ،فإنه يجب على جميع الدعاة أن يكونوا صفّاً واحداً ويداً واحدة على أهل الباطل، وذلك في حال القناعة بأن ما توجهوا لمحاربته باطل يخالف الإسلام، وأن الحكمة تقتضي مواجهة ذلك الباطل، ولا يجوز التخلف عن إنكار المنكر لمجرد كون من تنبه لهذا الأمر ودعا إلى الإنكار جماعة أخرى، أو لتغليب جانب السلامة والقعود عن المواجهة اتباعاً للهوى، وهكذا كان علماء القرون المفضلة وأتباعهم، لم تكن طائفة منهم تتجه لإنكار المنكر وطائفة تقف موقف المتفرج أو الذي لا يعنيه أمر إصلاح الأمة.
إن مهمة الداعية ليست محاولة إقناع أتباع الجماعة الأخرى ليكونوا تابعين لجماعته، وإنما من مهماته الأساسية أن يحاول إصلاح جماعته والجماعات الأخرى وذلك ببيان سبيل الهدى بالرفق والحكمة، ولا يضر بقاء هؤلاء المدعوين في جماعات أخرى ما داموا جميعاً سيتحدون في مرحلة العمل والمواجهة.
__________
(1) ... صحيح البخاري ، رقم 7288، كتاب الاعتصام (13/251) ، صحيح مسلم ، رقم 1337، كتاب الحج (ص975) .(20/95)
إن هذه الجماعات تشبه جيوشاً صغيرة تواجه عدواً قويّاً مجتمعاً أمره أو عِدَّةَ أعداء، فلكل جيش أن يقوم بشؤونه الإدارية الخاصة ما داموا في حالة سلم، ولكن حينما يهجم العدو أو يريد الهجوم على هذه الجيوش فيجب عليهم أن يجتمعوا وأن تكون قيادتهم واحدة حتى يظفروا بالنصر على الأعداء.
ولا شك أن اتحاد جماعات الدعوة في المراحل الأولى يعدّ هو الكمال، ولكن لا ينبغي أن يُتخذ عدم تمام ذلك سبباً للعداء والخلاف والتنافس المذموم، فإن من المشاهد أن الصراعات تقوم بين الجماعات حول الانتماء والمفاضلة بينها وهي لا تزال في مرحلة الدعوة والتربية، ثم تكون هذه الصراعات مانعاً من الاتحاد عند اللزوم وذلك في مرحلة المواجهة.
13- عدم النزاع على الولايات:
إن حدوث النزاع على الولاية والحكم أمر طبيعي وشائع في كل بلاد العالم، ولكن حدوثه في بلاد المسلمين إلى حد القتال أمر مستنكر، ويزيد نكارة حين يتم بين العاملين في الدعوة إلى الله تعالى، وذلك أنَّ المظنون في الدعاة أن يقفوا صفّاً واحداً ضد أعدائهم، وإن حدث بينهم خلاف فيجب ألاّ يترتب عليه بغض قلبي ولا عداء، فضلاً عن أن يترتب عليه مواجهات ميدانية.
وقد يخطر ببال هؤلاء الدعاة المتنازعين أن يسوغوا نزاعهم ومواجهاتهم بما حدث بين الصحابة ن، زاعمين أن القتال جرى بين الصحابة وهم بلا شك أفضل فكيف يُنكَر حدوثه بين من هم دونهم؟(20/96)
ويجب أن يعلم هؤلاء المتنازعون أن ما جرى بين الصحابة كان قطعاً ناتجاً عن اجتهاد في الدفاع عن الحق بحيث لو تبين لفريق منهم أن الحق مع الآخر لسلَّم له حالاً، وقد حصل فعلاً من طلحة بن عبيدالله والزبير بن العوام م أنْ تركا ساحة المعركة وهمَّا بالرجوع إلى المدينة ليرجع برجوعهما طوائف من الناس ثم ينتهي النزاع، بل إن الزبير ط رجع فعلاً فقُتل غدراً في وادي السباع، ولكن كما هو معروف في التاريخ قام السبئيون بإثارة الحرب ليلاً بين الفريقين فكانت معركة الجمل التي كرهها الطرفان من الصحابة وتمنوا أنهم ماتوا قبل ذلك.
14- الصراحة والوضوح:
مما يوصَى به الدعاة إلى الله تعالى التخلق بخلق الصراحة والوضوح مع إخوانهم حتى تسلم معاملاتهم من الغموض والخداع، وذلك يضمن لهم سمعة عالية، إلى جانب كونهم قد قدموا عملاً صالحاً يثابون عليه.
وقد كان النبي ج يربي أصحابه على هذا الخلق حتى أصبح شائعاً في معاملاتهم.
ومن ذلك ما أخرجه الشيخان رحمهما الله من حديث
عائشة ك أن رجلاً(1) استأذن على النبي ج، فلما رآه قال: $بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة، فلما جلس تطلَّق النبي ج في وجهه وانبسط له، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا، ثم تطلَّقت في وجهه وانبسطت إليه! فقال رسول الله ج: يا عائشة متى عهدتني فاحشاً؟ إن شر الناس منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره#(2).
فقد انطلقت عائشة ك في مخاطبتها للنبي ج من منطلق الصراحة التي تربَّت عليها.
__________
(1) ... قال الحافظ ابن حجر: قال إبن بطال: هو عيينة بن حصن الفزاري، - فتح الباري (10/453).
(2) ... صحيح البخاري، رقم 3132، كتاب الأدب، باب لم يكن النبي ج فاحشاً (فتح الباري 10/452)، صحيح مسلم، رقم 2591، كتاب البر، باب 22 (ص2002).(20/97)
وفي خبر مراجعة الأنصار ن لرسول الله ج حينما أعطى المؤلفة قلوبهم من غنائم حنين ولم يعط الأنصار شيئاً يقول سعد بن عبادة: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، لِمَا صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء، قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله ما أنا إلا من قومي، إلخ الحديث(1).
فهذا يدل على اتصاف سعد بخلق الصراحة والوضوح فهو لم يبرئ نفسه من مشاركة قومه في موقفهم من القسمة مع علمه بأن النبي ج يكره ذلك ما دام أنه قد أضمر في نفسه هذا الأمر.
وهكذا كانت أخلاق الصحابة ن على الصدق والصراحة والوضوح، بينما نجد أبناء الدنيا يشاركون في الإنكار على المسئول، ثم إذا جاء التحقيق في الموضوع برَّأوا أنفسهم قبل أن يكون تحقيق، بل لمجرد علمهم بأن الموضوع أثار نقمة المسئول وتساؤله.
ومن أمثله الصراحة والوضوح ما جرى بين أمير المؤمنين عمر
وعمار بن ياسر ن من الحوار حول الولاية، وقد كان عمر ولاه على الكوفة ثم عزله عنها حينما اشتكاه أهلها، فقال له عمر: أساءك حين عزلتك؟ فقال: والله ما فرحت به حين بعثتني ولقد ساءني حين عزلتني، قال: لقد علمتُ ما أنت بصاحب عمل ولكني تأولت
__________
(1) ... سيرة ابن هشام (4/175-178).(20/98)
( ( - - ( - ( الله أكبر - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - تمت - صلى الله عليه وسلم - - - صدق الله العظيم ( - ( الله أكبر - فهرس - - رضي الله عنه -( - ((( - { - - - } - قرآن كريم ((((((( - ( - - - - (( ((( - - } - - ( المحتويات ( - فهرس - - رضي الله عنهم -(( - صدق الله العظيم - عز وجل -- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - { - - ((- صلى الله عليه وسلم - - ( المحتويات ( - فهرس - - رضي الله عنهم -(( - - رضي الله عنه - الله أكبر - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ((( بسم الله الرحمن الرحيم ( - } - عليه السلام - قرآن كريم ( - - - ( [القصص:5](1).
فهذا مثل في الصدق والصراحة والوضوح من أمير المؤمنين عمر وعمار م(2).
- - - - -
أقسام الفرق الهالكة
أما الفرق الهالكة إن لم تتداركها رحمة الله تعالى، فيمكن أن نقسمهم إلى أقسام:
1- المنحرفون في باب العلم مما يترتب عليه انحراف في العمل وذلك كالذين يبيحون بعض أنواع الشرك ولا يرونها شركاً كالذبح لغير الله تعالى والطواف حول القبور، وكالذين يبيحون الربا أو الخمر ويسمونها بغير اسمها.
2- المنحرفون في باب العلم مما لا يترتب عليه انحراف في العمل، وذلك كالانحراف عن المنهج الصحيح في باب أسماء الله تعالى وصفاته.
__________
(1) ... تاريخ الطبري (4/164).
(2) ... وهذه التوجيهات قد ألقيتها في الملتقى الدعوي الذي أقامته رابطة العالم الإسلامي في عام 1408هـ بصورة مختصرة، وكان مدير تلك الندوة أخاً نيجيرياً على مستوى رفيع في الفهم فقال: هذه التوجيهات لو ترجمت وأرسلت إلى نيجيريا لحلت بعض المشكلات القائمة هناك.وإن كلام هذا الأخ يجعلني ملوماً في تأخير نشرها حتى الآن.(20/99)
3- المنحرفون في باب العمل اتباعاً لأهوائهم المنحرفة، وهؤلاء وإن كان انحرافهم في أمور عملية إلا أنها مترتبة على اعتقاد القلب، فلو كان القلب خاضعاً لله تعالى وحده مستسلماً له لما وقع ذلك الانحراف، فهو انحراف عملي مترتب على خلل في الاعتقاد.
ورؤوس الفرق الضالة التي ذكرها العلماء تدخل في هذا التقسيم، فالجهمية من أبرز ما اشتهروا به نفي أسماء الله تعالى وصفاته فهم داخلون في القسم الثاني.
والمعتزلة كذلك لأن من أبرز ما اشتهروا به نفي صفات الله تعالى.
والجبرية اشتهروا بإقصاء العمل عن الإيمان ويترتب على ذلك عدم الالتزام بالعمل فهم داخلون في القسم الأول.
والقدرية اشتهروا بنفي تقدير الله تعالى لأفعال العباد فهم داخلون في القسم الثاني.
والخوارج من أبرز ما اشْتُهروا به الحكم على فاعل الكبيرة بالكفر والخلود في النار فهم داخلون في القسم الثاني.
والرافضة من أبرز ما اشتهروا به تضليل الصحابة وإنكار عدالتهم وردُّ السنة النبوية إلا ما كان من طريق أئمتهم وادعاء عصمة أئمتهم فهم داخلون في القسم الثاني.
ولهذه الفرق وما تفرع عنها مخالفات تُلحقها بالقسم الأول أو الثاني أما القسم الثالث فإنه شامل لعموم الفساق الذين يصرون على المعاصي ولا يتوبون منها، ويدخل في المعاصي ترك الواجبات.
والمشهور عند كثير من العلماء الذين بينوا معنى حديث الفرق أن القسم الثالث لا يدخل في الفرق الهالكة إذا كان أفراده في باب العلم على منهج السلف الصالح، ولا أدري كيف حكموا للفساق بالنجاة مع أن منهج أهل السنة والجماعة أن عصاة الموحدين تحت مشيئة الله وإرادته إن شاء غفر لهم وإن شاء عذبهم بقدر ذنوبهم.
فإذا اقتضت مشيئة الله تعالى تعذيبهم فكيف يكونون من
الفرقة الناجية؟(20/100)
ولا يمكن القول بأن المراد النجاة من الخلود في النار لأن هذا المعنى يجعل جميع المسلمين الموحدين من الفرقة الناجية، ويجعل جميع الفرق الأخرى في الملل الكافرة، وهذا لا يقول به أهل السنة.
- - - - -(20/101)
الرسائل الشمولية ( 4 ) ...
الرسالة الرابعة
شمول معالم الفرقة الناجية
والطائفة المنصورة(21/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العلي القدير، السميع البصير، الفعال لما يريد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، سيد الأولين والآخرين وإمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: فهذه رسائل علمية في مجال العقيدة، أقدمها بين يدي إخواني القراء الكرام، لعلها تسهم في شيء من إصلاح المجتمع الإسلامي، وتحقيق الوضع الأمثل له في حاضره ومستقبله.
وإن مما دفعني إلى تأليف هذه الرسائل ما رأيته من واقع بعض المسلمين السيء، حيث تفرقوا شيعاً وأحزاباً، وتنافرت قلوبهم، وتشتت شملهم.
وكان من أهم الأسباب في ذلك ما جرى من الشقاق بين بعض أهل العلم منهم، وإشغال أنفسهم في الردود بعضهم على بعض واتهام بعضهم بعضاً في دينهم.
لقد كان الصحابة ن مُتَّفقِي الكلمة، تجمعهم جماعة واحدة، ويحترم علماؤهم بعضهم بعضاً، ويثني بعضهم على بعض وإن اختلفوا في الاجتهاد في بعض المسائل الشرعية، إلى أن حصل التفرق في المسلمين من بعض التابعين الذين لم يلتزموا بمنهج الصحابة ، فشنوا حملاتهم المغرضة على أمير المؤمنين عثمان ط إلى أن استشهد فتفرق المسلمون من بعده، وقد صاحب تفرقَهم في الآراء تفرق في الدين، ومن أبرز ما حدث آنذاك ظهور الخوارج والرافضة بمختلف طوائفهم، ثم محاولة غزو الإسلام من داخله، وذلك بنشر المذاهب العقدية المنحرفة التي تعتمد على العقل ولا تُحكِّم شريعة الإسلام، وتعتمد على الهوى المنحرف.(22/1)
وفي سبيل مكافحة ذلك الخطر الداهم والغزو الفكري المنظم قام مجموعة من العلماء أصحاب الغيرة والتقوى بالرد على أولئك المنحرفين الضالين عن سبيل الهدى، ولو أن أولئك العلماء جميعاً استقاموا على منهج واحد سليم على مر القرون الإسلامية لنجحوا سريعاً في صد الباطل وجمع كلمة أهل العلم الديني، ومن ورائهم أفراد المسلمين الذين يرون العلماء قادة وموجهين لهم، ولكنهم اختلفوا في بعض تفاصيل المنهج فضعفت كلمتهم وصار بأسهم بينهم أحياناً، وكان ذلك سبباً في استفحال الشر وقوة أهله وامتداد زمن الصراع الفكري بين دعاة الحق ودعاة الباطل.
وهذه الرسائل من مهماتها تقريب وجهات النظر بين المختلفين من أهل العلم والتقوى ليُلقوا أسلحتهم الموجهة إلى نحورهم، وليتفرغوا لأعدائهم الحقيقيين، ولتجتمع من ورائهم الأمة الإسلامية.
ولقد جرت محاولات جادة لجمع علماء المسلمين تحت لواء واحد، خصوصاً في هذا العصر على إثر انتشار الصحوة الدينية وتعدد الجماعات الإسلامية، ولكنْ حال دون النجاح في ذلك اختلاف بعض أهل العلم الذي تولد عنه اختلاف القلوب، وكانت العقبة الكبرى التي تحول دون اجتماعهم هي الخلافات العقدية التي انبنى عليها حكم بعضهم على بعض بالضلال والابتداع، وإذا كان أهل العلم يضلل بعضهم بعضاً ويبدع بعضهم بعضاً فإن اجتماعهم على عمل واحد يكون بعيد المنال، فكان من أهداف هذه الرسائل رفع معالم واضحة لعلماء الأمة كي يلتقوا عليها وإن لم يتفقوا على رأي واحد، تمهيداً لجمعهم تحت رابطة واحدة ولواء واحد.(22/2)
ومن مقاصد هذه الرسائل أنها تعالج أنواعاً من القصور في فهم بعض أمور الدين، وهذا القصور ناتج من عوامل متعددة، منها الميل من بعض الدعاة إلى التميز عن سائر المسلمين، وعدم مراعاة المحافظة على جماعة المسلمين العامة، وعدم الاهتمام الكافي بجمع كلمة المسلمين، وعدم وجود الفزع والإشفاق من تفرقهم وضعف قوتهم، كما أن من أسباب ذلك تركيز الأفكار على قضايا محدودة من الدين وضعف الاهتمام بقضايا الدين الأخرى.
كما أن من محتويات هذه الرسائل محاولة صد هجوم مكثف
من أعداء الإسلام بقصد تذويب المسلمين ودمجهم في أصحاب الديانات الأخرى.
وهذا تعريف موجز بهذه الرسائل :
الأولى: (شمول الاجتهاد في الدين)، وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن الاجتهاد في الدين يشمل العقائد كما يشمل الأحكام الفقهية، اقتداء بالصحابة رضي الله عنهم، واسترشاداً بأقوال العلماء الربانيين المحققين، وتلمساً للسبل التي تخلص الأمة الإسلامية من الشقاق والنزاع والعداوة والبغضاء.
الثانية: (شمول العقيدة) وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن العقيدة تشمل كل عمل يتعلق باعتقاد القلب وإن كان ظاهره ليس من أمور العقيدة، ومن أبرز ذلك تحكيم الإسلام في جميع شئون الحياة ورفض الحكم بغير ما أنزل الله تعالى.
الثالثة: (شمول العبادة) وهذه الرسالة تهدف إلى بيان
أن العبادة تطلق على كل عمل مشروع أريد به وجه الله
تعالى، مع بيان الإيجابيات لهذا الفهم الشامل والسلبيات
للفهم القاصر.
الرابعة: (شمول معالم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة)،
وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن صفات الفرقة الناجية والطائفة المنصورة تجمع بين العلم النافع والعمل الصالح، وما يترتب على ذلك من النتائج البناءة في قيام جماعة المسلمين وحمايتها
من التصدع والانهيار.(22/3)
الخامسة: (شمول السلفية)، وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن السلفية لا تختص بالعقائد، بل تشمل كل ما جاء به الدين من العلم النافع والعمل الصالح، ولذلك فهي تشمل قطاعاً كبيراً من المسلمين ولا تختص بطائفة معينة، مع بيان السلبيات المترتبة على حصر السلفية في طائفة محدودة، أو في جانب معين من الدين.
السادسة: (شمول الإسلام للرسالات السماوية)، وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن أصل الدين الذي هو التوحيد شامل لكل الرسالات السماوية، وأن الإسلام العام يطلق على كل هذه الرسالات، وفي هذا رد على فرية التقريب بين الأديان السماوية.
وقد سمَّيتُ هذه الرسائل (الرسائل الشمولية) لأنها كلها تشتمل على تصحيح بعض المفاهيم القاصرة، وتدعو إلى شمولية الفهم لمحتويات هذه الرسائل.
هذا وقد كنت كتبت هذه الرسائل ما بين عامي أربعة وأربعمائة وألف وأربعة عشر وأربعمائة وألف، وذلك حينما كنت أدرِّس مادة العقيدة في المعهد العالي لإعداد الأئمة والدعاة التابع لرابطة العالم الإسلامي، وقد درَّست أغلب مادة هذه الرسائل لطلاب ذلك المعهد، كما نقلها عدد منهم إلى البلاد التي ذهبوا للعمل فيها ودرَّسوها لطلابهم كما أفادوني بذلك، ولقد كان بعض الطلاب يلحون عليَّ كثيراً في طباعة هذه الرسائل، ولكني تأخرت في ذلك أولاً لانشغالي بإعداد كتاب (التاريخ الإسلامي/ مواقف وعبر) الذي بلغ عشرة مجلدات، وثانياً لأنني كنت أحاول أن أجد الوقت لإعادة النظر فيها وتنقيحها.
والآن فإنني أقدمها للأمة الإسلامية محاولاً بذلك الإسهام في الإصلاح ما استطعت، وقد بذلت جهدي في إعدادها، والتزمت أن لا أستشهد بحديث إلا إذا كان مقبولاً عند أهل الحديث، فإن يكن فيها صواب فمن توفيق الله تعالى، وإن يكن فيها خطأ فمن نفسي القاصرة.
وأسأل الله تعالى التوفيق والسداد لي ولجميع إخواني المسلمين.(22/4)
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
وبعد: فإن كلمة (السلفية) قد انتشرت في هذا العصر وصارت علَماً على طائفة معينة، وأصبحت تعني الالتزام بمنهج معين في فهم الكتاب والسنة، وذلك فيما يتعلق بالعقائد.
وإذا نحن فهمنا أن السلف الذين أمرنا رسول الله ج بالاقتداء بهم هم الصحابة ن فإن السلفية تكون بالاقتداء الكامل بهم في مجالي العلم والعمل، وإذا علمنا ذلك فإن السلفية لا تكون كاملة إلا بشمولها للمجالين المذكورين.
وهذه الرسالة تعدّ تصحيحاً لمفهوم السلفية، وذلك ببيان عدم حصرها في جزء من العلم النافع وهو أمور العقيدة، كما أن هذه الرسالة تبين السلبيات المترتبة على إطلاق السلفية على طائفة من المسلمين، كما بينتْ هذه الرسالة أن الانتساب إلى السلف أمر نسبي، فعلى قدر حظ المسلم من الاهتداء بهدي رسوله ج وأصحابه يكون حظه من السلفية.
- - - - -
السلفية في اللغة والاصطلاح
السلفية من ناحية التصريف اللغوي من سلف بمعنى تقدم، وهذه الكلمة الظاهر أنها صفة لمقدر تقديره الطريقة ونحو ذلك، أي الطريقة السلفية، فهي كالحنيفية صفة للملة، أي الملة الحنيفية، بمعنى المائلة عن الكفر إلى الإسلام والياء ياء النسبة.
وقد جاء التعبير بمثل هذه الصيغة في كلام المتقدمين، ومن ذلك كلمة (المأخوذية) وهي مرادفة لكلمة المسؤولية التي اشتهر التعبير بها في هذا العصر، وقد جاءت في كلام الإمام الشافعي وذلك في قوله: $الوجه الثاني الذي يسقط فيه العقل [ أي الدية ] أن يأمر والد الصبي أو سيد المملوك الحجام أن يختنه فيموت من شيء في هذا ولم يتعد المأمور ما أمره به فلا عقل ولا مأخوذية إن حسنت نيته إن شاء الله تعالى#(1).
فالسلف الجيل المتقدم على من بعده، والخلف هم الجيل المتأخر، وكل جيل متقدم يكون سلفاً للذي يأتي بعده.
أما السلفية بالمعنى الاصطلاحي فإنها تعني الاقتداء بمنهج السلف الصالح.
__________
(1) ... الأم للشافعي (6/244).(23/1)
ولكن من هم السلف الذين يُعدّ الاقتداء بهم من الأمور الشرعية؟
وما هي الأمور التي لا بد من تكاملها ليكون الاقتداء بالسلف الصالح كاملاً؟
وهل يختص وصف السلفية بالاقتداء بالسلف الصالح في بعض أمور الدين؟
هذه تساؤلات ستتم الإجابة عنها في الفصول التالية إن شاء
الله تعالى.
- - - - -
السلف المعتدُّ بهم
فمن هم السلف المعتدُّ بهم الذين هم موضع القدوة؟
ومن الذي يحدد هؤلاء السلف؟
الحقيقة أن ذلك ليس من اختصاص الناس، وإنما الذي
يحدد هذا الأمر هو رسول الله ج هادي البشرية، وقد صدر
الأمر منه بالاقتداء به وبصحابته ن، وذلك في أحاديث منها
ما أخرجه أبو عبدالله أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى من حديث العرباض بن سارية ط أن النبي ج قال: $أوصيكم بتقوى
الله والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشيّاً، فإنه من يعش
منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة
الخلفاء الراشدين المهديين، فتمسكوا بها وعضوا عليها
بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة
وكل بدعة ضلالة#(1).
وأخرجه أبو داود وسكت عنه والترمذي وقال: حسن صحيح
وابن ماجه والدارمي(2) وصححه الشيخ الألباني رحمهم
الله جميعاً(3).
وقوله $عليكم بسنتي# السنة في اللغة الطريقة والسيرة، قال ابن منظور: وقد تكرر في الحديث ذكر السنة وما تصرف منها، والأصل فيه الطريقة والسيرة(4).
والمراد بالسنة في هذا الحديث طريقة رسول الله ج وخلفائه الراشدين في فهم الإسلام وتطبيقه.
__________
(1) ... مسند أحمد (4/126).
(2) ... سنن أبي داود، رقم 2607، كتاب السنة، باب لزوم السنة، سنن الترمذي، أبواب العلم، باب رقم 16، ...
سنن ابن ماجه، حديث رقم 42، المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين، سنن الدارمي، رقم 95، المقدمة، باب 16.
(3) ... صحيح الجامع الصغير رقم 2546.
(4) ... لسان العرب.(23/2)
والخلفاء الراشدون هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ن لقول رسول الله ج $خلافة النبوة ثلاثون عاماً، ثم يؤتي الله الملك من يشاء# أخرجه الإمام أبو داود والترمذي وحسنه(1).
وذكره الحافظ ابن رجب وذكر أن الإمام أحمد صححه واحتج به على إمامة الأئمة الأربعة(2).
وليس المقصود بسنة الخلفاء الراشدين اجتهاداتهم وحدهم، بل المقصود مجموع السنن التي أُقرت في عهدهم مما تمت فيه المشورة مع أصحاب العلم والرأي من الصحابة، ومن المعلوم أن الخلفاء الراشدين لم يكونوا ينفردون بالرأي في القضايا التي تجدُّ في عصرهم، بل كانوا يستشيرون أهل الحل والعقد.
فالمقصود إذاً بسنة الخلفاء الراشدين ما تم النظر فيه وإقراره من الأمور الاجتهادية من قِبَل علماء الصحابة ن.
الصحابة هم موضع القدوة:
من هذا الحديث يتبين لنا أن الصحابة ن هم السلف الذين أمرنا رسول الله ج بالتأسي بهم في أمور الدين فهماً وتطبيقاً بعد الأخذ بسنته، لأنهم هم أدق الناس فهماً وأغزرهم علماً، وأصدقهم إيماناً، وأحسنهم عملاً، كيف لا وقد تربوا على يدي النبي ج ونهلوا من معين علمه الصافي، وشاهدوا التنزيل وعاصروا تطبيق الإسلام بقيادة رسول الله ج وتوجيهه.
وهم القدوة بعد رسول الله ج للفِرقة الناجية كما جاء في حديث الفِرق المشهور، ومن رواياته التي جاء التصريح فيها بذلك ما أخرجه أبو عيسى الترمذي رحمه الله تعالى من حديث عبدالله
بن عمر م قال قال رسول الله ج: $ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت
على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة
كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال:
ما أنا عليه وأصحابي#.
__________
(1) ... سنن أبي داود، رقم 4646كتاب السنة، باب 8 (5/36). ...
سنن الترمذي، رقم 2226 كتاب الفتن، باب 48 (4/503).
(2) ... جامع العلوم والحكم /231.(23/3)
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب مفسَّر لا نعرف مثل هذا إلا من هذا الوجه(1).
وقوله $مفسر# يعني فيه من البيان ما ليس في الروايات الأخرى.
وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية بثلاث روايات وصححه(2).
فالصحابة ن قد برئوا تماماً من الانحراف في العقيدة، وهم الجيل الوحيد الذين حكم العلماء بعدالتهم ولم يحتاجوا إلى البحث عن أحوالهم في مجالي الجرح والتعديل، لقوة إيمانهم الذي لا يُتصور معه تجرؤهم على الكذب في الدين.
ومن المؤهلات لكون الصحابة هم السلف الذين يشرع الاقتداء بهم أنهم كانوا من العرب الفصحاء والقرآن الكريم نزل بلغتهم، والرسول ج يخاطبهم بلغتهم، فهم يفهمون النصوص الشرعية على الوجه الصحيح، وليسوا بحاجة إلى من يفسرها لهم، وبالتالي فإنهم مأمونو الجانب في بيان الشريعة.
وليس المقصود عصر الصحابة وإنما المقصود الصحابة فقط، لأنه قد ظهر في عصر الصحابة فرق ضالة كالخوارج والرافضة ومنكري القدر.
وقصْر السلف الذين هم موضع القدوة على الصحابة لا يعني الغض من شأن التابعين وأتباع التابعين، فإن منهم من أهل
العلم والفضل من يعدُّون مثلاً عالياً في حسن الاقتداء والرسوخ
في الدين، وقد فضلهم النبي ج على من بعدهم بقوله $خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم#، أخرجه الشيخان
من حديث عبدالله بن مسعود ط(3).
لكن هذه الخيرية لا تحمل معنى الأمر بالتأسي والاقتداء بعلماء هذه القرون كلها، وإنما تفيد أن هذه القرون بمجموعها أفضل من مجموع القرون التي تليها، فهي من نسبة الكل إلى الكل، وليست للثناء على جميع أفرادها.
__________
(1) ... سنن الترمذي رقم 2641 كتاب الإيمان، باب 18(5/26).
(2) ... مجموع الفتاوى (4/345).
(3) ... صحيح البخاري، رقم 3650، فضائل الصحابة (7/3). ...
صحيح مسلم، رقم 2533، فضائل الصحابة (ص1962).(23/4)
وقد اجتهد الصحابة ن في تفهيم الإسلام كما فهموه من رسول الله ج وتربية التابعين على تطبيقه كاملاً كما كانوا يطبقونه في العهد النبوي، ولكن مع اجتهادهم الكامل في تسليم الإرث النبوي كما استلموه فإنه قد وُجدت في أواخر عصرهم وفيما بعدهم طوائف ابتدعوا في الدين ما لم يشرعه الله تعالى كالخوارج والرافضة والقدرية والجهمية والمعتزلة والمرجئة، وهذه أسباب انحرافها إما من اتِّباع الهوى أو من نتائج الغزو الفكري الموجَّه بدقة وقوة من قِبَل أعداء الإسلام الذين عجزوا عن مقاومة المسلمين بالقوة القتالية فحاولوا المكر بهم عن طريق إثارة الشبهات حول دينهم مستظلين بمظلة النفاق الواقية لهم حتى لا ينكشف أمرهم، وقد نجحوا في إضلال عدد كبير من المسلمين، وتكونت لهم مذاهب فكرية يدعون إليها ويدافعون عنها.
وإلى جانب هذا الخلل العقدي الممثل في هذه المذاهب الضالة فقد وُجد في عهد التابعين وأتباعهم مظاهر خطيرة من القصور في التطبيق العملي للإسلام، بعضها ناتج من الخطأ في فهم الدين، وبعضها ناتج من اتِّباع الهوى، فمن أمثلة القصور الناتج عن الخطأ في الفهم اقتصار بعضهم على الشعائر التعبدية كالصلاة والصيام والذكر، وذلك على حساب الإخلال بتكاليف الإسلام الأخرى كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى.
ومن أمثلة القصور الناتج عن اتباع الهوى انحراف بعض الولاة عن المنهج الإسلامي في الحكم وتأييد بعض العلماء لهم في الظاهر.
فمن أجل هذه الألوان من الانحراف وأمثالها كان الاحتياط قصر السلف الذين هم محل القدوة على الصحابة ن، إلى جانب أنهم هم الذين أمرنا رسول الله ج بالاقتداء بهم، ولقد ميزهم رسول الله ج بعدد من الفضائل، فمن ذلك ما جاء في قوله $وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون# أخرجه مسلم رحمه الله من حديث عبدالله بن مسعود ط(1).
__________
(1) ... صحيح مسلم، رقم 2531، فضائل الصحابة (ص1961).(23/5)
فقد ميز النبي ج صحابته ن عن بقية أمته بما في ذلك التابعون وأتباعهم.
ومن كان من التابعين وأتباعهم على منهج الصحابة الكامل فإنهم من المتبعين الأوائل لمنهج السلف ن، فيُقتبس من علم علمائهم ويستفاد من اجتهادهم في فهم الإسلام، لكن لا يُحتج بهم ولا بالعلماء الذين جاؤوا من بعدهم على المخالفين لأن النبي ج لم يأمرنا بالاقتداء بهم، ولم تتفق الأمة على عدالتهم كما اتفقت على عدالة الصحابة.
ومما يوهن الاحتجاج بهم أن المخالفين سيحتجون بأقوال علماء معاصرين لهم يعدُّونهم من أئمة السلف الصالح بينما يعدُّهم أهل السنة من أئمة المبتدعين، وقد يختلف بعض أهل السنة في الحكم على بعض علماء ذلك العصر من حيث العلم والعدالة.
أما الذين يطعنون في عدالة الصحابة فهؤلاء خارجون من الاعتبار، ومحكوم عليهم بالشذوذ والانحراف من قِبَل جميع علماء المسلمين فلا عبرة باعتراضهم.
وينبغي أن يُعلم أنه ليس المقصود بسنة الخلفاء الراشدين ما تم الإجماع عليه في عهدهم حسب المعنى الاصطلاحي للإجماع عند الفقهاء فإن اعتبار ذلك ماض إلى يوم القيامة فيما إذا أجمع علماء الأمة على حكم من الأحكام، وإنما المقصود ما سنُّوه للمسلمين
في القضايا التي جدَّت في عصرهم وإن لم يحصل الإجماع عليها
من علماء الصحابة.
نماذج من صفات الصحابة ن:
ما دام أن الصحابة ن هم الذين أمرنا رسول الله ج بالاقتداء بهم فإن مما يحقق هذا الاقتداء أن نتعرف على صفاتهم وأن نتحلى بتلك الصفات كما تحلَّوا بها.(23/6)
ومما جاء في بيان صفاتهم قول الله تبارك وتعالى ? تمت - الله الله ? الله الله أكبر - - الله ? - ?? - ? الله الله } - - جل جلاله - - ? - - - الله ??- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - الله ? - - سبحانه وتعالى - - ? الله ? الله ? - ? - - - ? - - جل جلاله -? - - - ? - ? الله ? - جل جلاله - } - بسم الله الرحمن الرحيم - ? الله أكبر ? - ? - - - ? - - الله ? الله - - } ? - ? - ? الله الله أكبر ? صدق الله العظيم - الله الله أكبر - ?? - ? - الله أكبر ? الله - الله الله أكبر - - - ? بسم الله الرحمن الرحيم - } - } - - - - ? الله أكبر - - ? الله ?? - ?? الله الله أكبر - صدق الله العظيم - الله الله أكبر ? ? - { ? الله الله أكبر ? الله ?- جل جلاله - الله ? - ?- جل جلاله - - - - - - - الله أكبر الله أكبر ? - الله ? { ? - } الله ? ?? - ? - الله ? - - جل جلاله -? ?- جل جلاله -? - رضي الله عنهم - - ?- جل جلاله -?? - - - ? ?? الله - جل جلاله -? - - الله الله أكبر - - - - - جل جلاله - - - ? - - - ? { ? - - ??- جل جلاله -? - - - ?? - ? الله أكبر ? الله - الله ? ? - جل جلاله - - ? - الله أكبر ? الله } صدق الله العظيم ? بسم الله الرحمن الرحيم - - ? - - صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - - ? - الله أكبر ? الله الله أكبر - الله ? الله ? ? - ? - - جل جلاله - - ? - - تمهيد ? - - صدق الله العظيم ? صدق الله العظيم } الله { - ? الله - الله - صدق الله العظيم - - - - - سبحانه وتعالى - - ? - الله الله أكبر الله أكبر { ? الله ? - سبحانه وتعالى - - ? الله } الله } - - الله الله أكبر الله أكبر الله الله أكبر ? ??? - ? { الله أكبر الله أكبر ?? الله - صدق الله العظيم ? - - الله الله أكبر ? - عليه السلام -? الله ? الله - الله أكبر صدق الله العظيم ? - - الله الله أكبر ? - عليه السلام -? - ? الله ? - - جل(23/7)
جلاله -?- جل جلاله - الله أكبر ?? - ? ? درهم - جل جلاله - - صدق الله العظيم ? - الله أكبر ? الله ? - الله الله } الله - { - ? - - ??? - - جل جلاله -?? الله - - جل جلاله -? - ? - ?- جل جلاله - - الله } - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - - ? - - الله - الله ? الله ? - ? - - - - الله ??- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - المحتويات - ? - ? الله ? - - ? المحتويات - ? - الله أكبر ?- جل جلاله -? الله ? الله ? - - - الله أكبر الله - - جل جلاله -? - الله أكبر - ??? - - ? - ? صدق الله العظيم ?- جل جلاله -? - ? الله - - جل جلاله -? { الله أكبر الله أكبر ?? الله الله ? - } - صدق الله العظيم - - - - الله ? - - الله أكبر الله ? - - جل جلاله -?? الله ? } - - { ? [الفتح:29].
فالصحابة ن هم المثل الأعلى للمؤمنين، فهم ? - ? - - - ? - - جل جلاله -? - - - ? - ? الله ? - جل جلاله - } - بسم الله الرحمن الرحيم - ? الله أكبر ? - ? - - ? وإن كانوا من أقاربهم، فليس بين المؤمنين والكافرين أنساب ولا روابط، بل قد الْتقى الصحابة آباءهم وإخوانهم وأبناءهم في ساحة القتال، فلم تلِنْ لهم قناة، ولم تَهُن لهم عزيمة، فشخصيتهم في إظهار الحق والدفاع عنه عالية، فلا يهونون أمام الباطل
ولا يداهنون أهله.
? - ? - - الله ? الله - - } ? - ? - ? الله الله أكبر ? صدق الله العظيم - الله الله أكبر - ? فقلوبهم رقيقة للمؤمنين، يلينون لهم ويعطفون عليهم، ويؤْثر بعضهم بعضاً بخير الدنيا طلباً لخير الآخرة، قد تناسوا ذواتهم في سبيل مصلحة الجماعة.
فالمؤمنون حقّاً أشداء على الكفار الذين يحاربون المسلمين ويكيدون لهم في العلانية والخفاء، وإن كانوا يعاملون الكفار غير الحربيين باللطف واللين تأليفاً لقلوبهم وإظهاراً لسماحة الإسلام.(23/8)
وقد ذكر الله جل وعلا نوعي المعاملة مع الكفار الجائزة والممنوعة بقوله ? - بسم الله الرحمن الرحيم - درهم ?- رضي الله عنهم - الله أكبر ? - ? الله ? صدق الله العظيم ? الله الله أكبر ? - ? - - - - - ? الله ? ?? الله أكبر ?- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - ?? - ? ?? الله أكبر ?? الله أكبر ?- جل جلاله - - - الله أكبر الله ? - الله أكبر ? ? - ?? بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله - - ? - - صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - - ? الله ? - رضي الله عنهم - الله أكبر ?? - - - - صدق الله العظيم مقدمة ? مقدمة ? - ? الله أكبر بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله -? ?? الله أكبر ? - - - الله أكبر الله أكبر الله ?- جل جلاله - - ? - - - صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - - ?? الله - } الله } الله أكبر الله الله أكبر - المحتويات - - ? الله أكبر ?- جل جلاله - { { الله أكبر ? - الله أكبر - الله ? ? - ? - ? صدق الله العظيم - - ? - تمهيد - الله الله ? تمهيد - - - ? الله - - - - ? درهم - جل جلاله - مقدمة ? مقدمة ? - الله ? - - جل جلاله -?- جل جلاله - { { الله أكبر ? - ? - ? - - } - { - الله ? بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? - تمهيد - - ? الله أكبر ? - ? الله ? صدق الله العظيم ? الله الله أكبر ? - ? - - - - - ? الله ? ???- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - ?? - ?? - الله أكبر ? الله - - الله أكبر الله الله أكبر ? ? - ?? بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله - - ? - - - رضي الله عنهم - - } ? - - الله - { الله أكبر الله أكبر - - - - الله ? ?- جل جلاله - الله ? ?? الله أكبر ? - - - الله أكبر الله أكبر الله ?- جل جلاله - - المحتويات - ? - - الله ? - الله أكبر - ?? الله ? - عليه السلام - - ? - ? الله ? ?? الله أكبر ?- جل جلاله - - - الله - { الله أكبر الله أكبر - - تمهيد - ? - - - - ??(23/9)
- ? صدق الله العظيم ? بسم الله الرحمن الرحيم - ? الله ? الله الله أكبر - ? الله ? الله ? ?? - ? بسم الله الرحمن الرحيم - ? الله ? الله - الله الله أكبر ? ?? الله أكبر تمهيد - ? الله أكبر - - الله أكبر ? الله أكبر ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - الله أكبر - الله الله أكبر ? - ? - ? الله ?? - ?- جل جلاله -? - الله أكبر - ???? - - } - { ? [الممتحنة:8-9].
فالذين يلينون بأيدي الكفار الحربيين ويداهنونهم ويناصرونهم، ويرونهم أصدقاء ليسوا من المؤمنين حقّاً.
وفي مقابل شدة المؤمنين على الكفار فإنهم رحماء بينهم، يتواضعون لإخوانهم، ويحبون لهم ما يحبون لأنفسهم، فهم كما وصف الله سبحانه من اختارهم للجهاد في سبيله وإعلاء كلمته بقوله ? { ? الله أكبر بسم الله الرحمن الرحيم - ?- جل جلاله - - - - - ? - ? الله ? الله ? - - جل جلاله -?- جل جلاله -? صدق الله العظيم ? - ? - ? - - - ? بسم الله الرحمن الرحيم - { - جل جلاله -? - - - ? - ? الله ? الله ?? - - - جل جلاله -? - الله أكبر - ? - ? - - ? [المائدة:54].
فإذا انقلبت الصورة فأصبح المسلمون أعزة على إخوانهم المسلمين، يسومونهم الذل والهوان، متواضعين للكفار، يتقربون إليهم بمعسول الكلام، ويمكِّنونهم من مصالح المسلمين ويُعلُون من شأنهم فإن هؤلاء المسلمين أبعد ما يكون عن التأسي بالصحابة ن، وبالتالي فإنهم أبعد ما يكون عن الالتزام بالمنهج السلفي.
? ?? - ? - الله أكبر ? الله - الله الله أكبر - - - ? بسم الله الرحمن الرحيم - } - } - - - - ? الله أكبر - - ? ? أي كأنهم من كثرة صلاتهم لا يفترون عن الركوع والسجود، فأصبحت الصلاة صفة ملازمة لهم، وما أعظمها من صفة تقلب موازين الحياة، وتبني المجتمعات الفاضلة.(23/10)
? الله ?? - ?? الله الله أكبر - صدق الله العظيم - الله الله أكبر ? ? - { ? الله الله أكبر ? الله ?- جل جلاله - الله ? - ?- جل جلاله - - - - - - - الله أكبر الله أكبر ? - الله ? { ? - } الله ? ? وهذا هو الهدف الدائم لهم والذي على ضوئه الساطع يسيرون في حياتهم، وعلى ميزانه القويم يُقوِّمون سائر أعمالهم، فما كان منها مُوصلاً لفضل الله الذي هو الجنة ورضوانه الذي هو أكبر من ذلك فعلُوه وتسابقوا فيه، وما كان بضد ذلك أحجموا عنه واحتقروه.
? ?? - ? - الله ? - - جل جلاله -? ?- جل جلاله -? - رضي الله عنهم - - ?- جل جلاله -?? - - - ? ?? الله - جل جلاله -? - - الله الله أكبر - - - - - جل جلاله - - - ? - - - ? { ? - - ? أي أن أثر الصلاة ذات الخشوع ظاهر في وجوههم من الصفاء والإشراق والسمت الحسن الذي يملأ قسمات وجوههم فيحيلها إلى أضواء مشرقة بالفضيلة والطهر.
قال عبدالله بن عباس م: ? ?? - ? - الله ? - - جل جلاله -? ?- جل جلاله -? - رضي الله عنهم - - ?- جل جلاله -?? - - - ? ? يعني السمت الحسن.
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده عن منصور بن المعتمر السلمي عن مجاهد قال: ? ?? - ? - الله ? - - جل جلاله -? ?- جل جلاله -? - رضي الله عنهم - - ?- جل جلاله -?? - - - ? ?? الله - جل جلاله -? - - الله الله أكبر - - - - - جل جلاله - - - ? - - - ? { ? - - ? قال: الخشوع، قلت: ما كنت أُراه إلا هذا الأثر في الوجه، فقال: ربما كان بين عيني من هو أقسى قلباً من فرعون.
وأخرج ابن ماجه في سننه بسنده عن جابر ط قال قال رسول الله ج: $من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار#.
قال ابن كثير: والصحيح أنه موقوف.
ذكر هذه الآثار الحافظ ابن كثير في تفسيره(1).
__________
(1) ... تفسير ابن كثير (4/218).(23/11)
? ??- جل جلاله -? - - - ?? - ? الله أكبر ? الله - الله ? ? - جل جلاله - - ? - الله أكبر ? الله } صدق الله العظيم ? بسم الله الرحمن الرحيم - - ? - - ? فالثناء عليهم من ربهم جل وعلا قديم، وسمعتهم في الكتب السماوية عالية، لأنهم نموذج فريد في التاريخ.
? صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - - ? - الله أكبر ? الله الله أكبر - الله ? الله ? ? - ? - - جل جلاله - - ? - - تمهيد ? - - صدق الله العظيم ? صدق الله العظيم } الله { - ? الله - الله - صدق الله العظيم - - - - - سبحانه وتعالى - - ? - الله الله أكبر الله أكبر { ? الله ? ? يعني فراخه
? - سبحانه وتعالى - - ? الله } الله } - - الله الله أكبر الله أكبر الله الله أكبر ? ? أي شَدَّه وقواه شطؤه ? ??? - ? { الله أكبر الله أكبر ?? الله - صدق الله العظيم ? - - الله الله أكبر ? - عليه السلام -? يعني شب وطال
? - عليه السلام -? الله ? الله - الله أكبر صدق الله العظيم ? - - الله الله أكبر ? - عليه السلام -? - ? الله ? - - جل جلاله -?- جل جلاله - الله أكبر ?? - ? ? استقام على أصوله ? ? درهم - جل جلاله - - صدق الله العظيم ? - الله أكبر ? الله ? - الله الله } الله - { - ? - - ? لقوته وحسن شبابه، فقد ضرب الله سبحانه ذلك مثلاً لمؤازرة الصحابة للنبي ج حتى قوي أمر الإسلام، فأصبح كالزرع المتين القوي البهيج المنظر.
? ??? - - جل جلاله -?? الله - - جل جلاله -? - ? - ?- جل جلاله - - الله } - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - - ? - - ? أي ليملأ قلوب الكفار غيظاً وكمداً وحسرة من الصحابة لقوتهم في دين الله تعالى، وعدم مداهنتهم أهل الباطل، وقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
وقد أغاظ الله بهم يهود المدينة فقُتل منهم من قتل وأُجلي عن المدينة منهم من أجلي.(23/12)
وأغاظ بهم المنافقين فعاشوا في كمد وآلام نفسيه تزداد كلما انتصر المسلمون على أعدائهم.
ثم أغاظ الله جل وعلا بهم العرب الذين ارتدوا عن الإسلام أو تمردوا على دولته حتى رجعوا صاغرين واستسلموا لحكم الإسلام.
ثم أغاظ بهم ممالك الأرض العظيمة، وعلى رأسها دولتا الأكاسرة والقياصرة، فهدموا عروشهم وفلُّوا قوتهم.
ولا يزال أهل التوحيد المستمسكون بعرى الإيمان يغيظون أعداء الإسلام في كل مكان من الكفار والمنافقين.
إن أعداء الإسلام يغيظهم وجود المسلمين وتكاثرهم، ولكن يشتد غيظهم حينما يرون المسلمين المتمسكين بإسلامهم، الذين يدعون إلى الله تعالى ويجاهدون في سبيله ويضحُّون بأنفسهم وأموالهم في سبيل إسلامهم.
فهؤلاء المتمسكون بإسلامهم بقوة وصلابة هم الذين يغيظون الكفار، فيصفونهم بالأصوليين والمتعصبين والمتطرفين والمتشددين، ومن أجل هؤلاء المؤمنين حقّاً يعقد الكفار المؤتمرات ويتبادلون المشورات من أجل إرهابهم وتفريق جمعهم والقضاء عليهم.
فإغاظة الكفار مطلب شرعي جعله الله جل وعلا غاية لتخلُّق المؤمنين بتلك الصفات العالية من الشدة على الكفار والرحمة بالمؤمنين، والتمسك القوي بتعاليم الإسلام، التي توصلهم إلى رضوان الله تعالى والجنة.
فإذا كان وجود المسلمين لا يغيظ الكفار ولا يثير حنقهم، ولا يدفع بهم إلى التحدي بالعداء والتصدي لهذا الوجود الإسلامي فإن هؤلاء المسلمين ضعفاء الإيمان، وهم أبعد ما يكون عن الاستقامة على المنهج السلفي الذي كان عليه الصحابة ن.
إن أعداء الإسلام اليوم يحسبون ألف حساب للمسلمين المتمسكين بإسلامهم بقوة، وكلما انتشر الوعي الإسلامي وقوي شأن دعاة الإسلام وعلت أصوات المجاهدين في سبيل الله تعالى ماتوا كمداً وحسرة على الرغم من ضآلة إمكانات المسلمين المادية.(23/13)
وإن مَثَل هؤلاء المؤمنين المتقين مع أعدائهم كمثل أسد عظيم الجسم مهيب المنظر، ولكنه مقيد بالسلاسل ولا يستطيع أن يتحرك إلا في مجال ضيق، ولا يعبِّر عن غضبه إلا بالزئير المرعب، وحوله كلاب وذئاب مرسلة تحتوشه من كل جانب، لكنها شديدة الحذر منه، يؤرقها ويعكِّر عليها نشوةَ الانتصار على ذلك العملاق الضخم خشيةُ تكاثف قوته وضعف قيوده، فينطلق بقوة عالية فيحطم تلك القيود ويفلت من ذلك الإسار، فيقضي على من حوله ويهدد مَنْ بعُد عنه.
- - - - -
معالم الاقتداء بالسلف الصالح
تبين لنا أن الصحابة ن هم سلفنا الصالح الذين أمرنا رسول الله ج بالاقتداء بسنتهم بعد الاقتداء بسنته، فما هي معالم هذا الاقتداء؟
أو بعبارة أخرى: ما هي السلفية الكاملة؟
إن السلفية الكاملة تعني الاقتداء بالسلف الصالح في جميع أمور الدين العلمية والعملية.
وقد بين النبي ج أمور الدين في حديث سؤال جبريل عليه السلام الذي أخرجه الإمام مسلم من حديث أمير المؤمنين عمر
بن الخطاب ط قال: بينما نحن عند رسول الله ج ذات يوم،
إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي ج فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله ج $الإسلام أن تشهد أن لا إله
إلا الله وأن محمداً رسول الله ج وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة
وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً# قال: صدقت، قال: فعجبنا له، يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني(23/14)
عن الإيمان؟ قال $أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره# قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال $أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك#. قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال $ما المسئول عنها بأعلم من السائل# قال: فأخبرني عن أمارتها؟ قال: $أن تلد الأمة ربَّتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رِعاء الشاء يتطاولون
في البنيان، قال: ثم انطلق فلبثت مليّا، ثم قال لي: يا عمر
أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم#(1).
__________
(1) ... صحيح مسلم، كتاب الإيمان رقم 8 (ص36).(23/15)
وأخرجه الإمام البخاري وذكر نحوه من حديث أبي هريرة ط وفيه $ولكن سأحدثك عن أشراطها: إذا ولدت المرأة ربتها فذاك من أشراطها، وإذا كان الحفاة العراة رؤوس الناس فذاك من أشراطها، في خمسٍ لا يعلمهن إلا الله ? الله الله ? تمهيد - - الله - ? - - - - سبحانه وتعالى - - ? الله - ?- جل جلاله -? - ? - ?- جل جلاله -? - جل جلاله -? الله ? - - ? { ? - - - ? الله - { الله ? الله أكبر - الله أكبر ? الله ? ? - صدق الله العظيم - الله أكبر الله ?? - ? - - ?- رضي الله عنهم - - ? الله أكبر صدق الله العظيم ? الله الله أكبر ? الله ? - الله ? ? - جل جلاله - - - - الله - صدق الله العظيم } - - - ? - - - الله ? الله ? ?- جل جلاله - } صدق الله العظيم - الله الله أكبر - - } { الله أكبر ? الله أكبر الله ? - - - - الله الله ? ? درهم - جل جلاله - { - ? الله الله أكبر - - - - - الله ?? - الله ? الله ? ?- جل جلاله - } صدق الله العظيم - الله الله أكبر - - - } { الله أكبر ? الله الله أكبر ? - - ? - - - - جل جلاله - - صدق الله العظيم ? صدق الله العظيم } - - - - ? - ? - ? الله الله أكبر - الله الله ? تمهيد - - الله - ? - - - { - رضي الله عنهم - - - جل جلاله -? الله ? - - } - - جل جلاله - - الله - } - - { ?(1)[ لقمان:34 ]#.
فأمور الدين إذاً هي هذه الثلاثة:
الأول: الإسلام، وقد بين النبي ج في هذا الحديث أصول الإسلام، ويندرج تحتها فروع بيَّنها العلماء في كتب التوحيد والفقه.
الثاني: الإيمان الذي أصبح فيما بعد يسمى بالتوحيد ثم بالعقيدة، وقد ذكر النبي ج في هذا الحديث أصول الإيمان، ويندرج تحت هذه الأصول فروع بيَّنها العلماء في كتب التوحيد.
الثالث: الإحسان، وقد بين النبي ج الأصل العام للإحسان، ويندرج تحته فروع بينها العلماء في كتب الدعوة والتربية.
__________
(1) ... صحيح البخاري، كتاب الإيمان رقم 50 (1/114) و4777 (8/513).(23/16)
الأمر الأول: الإسلام:
وهو يتضمن أركان الإسلام الخمسة التي يقوم عليها بناؤه
كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان من حديث عبدالله
بن عمر م: أن النبي ج قال: $بُني الإسلام على خمس: شهادة
أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان#(1).
فهذا الحديث يبين لنا أن هذه الأركان الخمسة هي الأساس الذي قام عليه بناء الإسلام، ولكونها الأساس يجب أن تأخذ قدراً من الاهتمام أكبر مما بني عليها من أحكام وتكاليف.
ونجد من اهتمام النبي ج بهذه الأركان أنه كان يجيب بها السائلين عن الإسلام أو عن العمل الصالح الذي يؤهل لدخول الجنة والنجاة من النار، سواء كان السائل من المبتدئين في فهم الإسلام كالأعراب الوافدين إلى المدينة أو من علماء الصحابة.
فمن ذلك ما أخرجه الشيخان من حديث طلحة بن عبيدالله ط قال: $جاء رجل من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دويَّ صوته ولا نفقه ما يقول حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله ج: خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل عليَّ غيرهن؟ قال: لا، إلا أن تطوَّع، قال: وصيام شهر رمضان، قال: هل عليَّ غيره؟ قال: لا، إلا أن تطوَّع، قال وذَكر له رسول الله ج الزكاة فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوَّع، قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فقال رسول الله ج: أفلح الرجل إن صدق#(2).
وظاهرٌ من سياق الخبر أن السائل كان مسلماً، ولذلك لم يذكر له رسول الله ج الشهادتين، أما عدم ذكر الركن الخامس وهو الحج فذلك لكونه لم يكن مفروضاً آنذاك كما ذكره أهل العلم(3).
__________
(1) ... صحيح البخاري، رقم 8، كتاب الإيمان (1/49). ...
صحيح مسلم، رقم 16/21، كتاب الإيمان (ص 45).
(2) ... صحيح البخاري، رقم 46، كتاب الإيمان (1/106). ...
صحيح مسلم، رقم 11/8، كتاب الإيمان ( ص 40).
(3) ... فتح الباري (1/107).(23/17)
وفي حكم رسول الله ج لهذا الرجل، بالفلاح إذا هو أقام أركان الإسلام دليل عل أهمية هذه الأركان وأنها سبب للفوز برضوان الله تعالى والجنة إذا أقيمت على وجهها المشروع.
وكما أن النبي ج أجاب بهذا الجواب رجلاً مبتدئاً في فهم الإسلام فإنه قد أجاب بمثل ذلك رجلاً معدوداً من أعلم الصحابة بالإسلام وهو معاذ بن جبل ط وعن الصحابة أجمعين، وذلك حينما قال: $يا رسول الله أخبرني عن عمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، قال: لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت# الحديث، أخرجه أبو عبدالله أحمد بن حنبل وأبو عيسى الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح(1) .
فقد أجاب النبي ج بذكر ما يشمل شرائع الإسلام واجتناب ما ينقض ذلك بقوله $تعبد الله ولا تشرك به شيئاً#، ثم خص بالذكر أركان الإسلام العملية مما يدل على أنها أهم من غيرها.
لقد كان النبي ج في تربيته وتوجيهه لأصحابه يعطي هذه الأركان القسط الأكبر من الأهمية لكونها الأساس الذي تقوم عليه كل التكاليف الأخرى، ولكونها الشريعة الثابتة والمطلوبة من المسلمين في كل زمان ومكان، بينما كان يعطي تكاليف الإسلام الأخرى حجمها من الأهمية، وذلك كأمور المعاملات بين المسلمين وشؤون السياسة والجهاد ونقد الجاهلية.
فلم يكن رسول الله ج يجعل دعوة الإسلام ردود فعل لهجمات الأعداء، ولم يكن يشغل أذهان المسلمين في أكثر أوقاتهم بنقد الجاهلية وتتبع حركات أهلها، وإن كان قد اهتم بهذا الجانب ولم يُغفله، ولكنه أعطاه حجمه المناسب من الأهمية، ولم يجعله الأساس الذي يقوم عليه الدين.
لقد قامت تربية النبي ج على التوازن الدقيق المحكم بين تكاليف الإسلام حسب ما لكل واحد منها من الأهمية، فبينما نجد
__________
(1) ... مسند أحمد (5/231)، سنن الترمذي، رقم (2616) كتاب الإيمان باب 8.(23/18)
الصحابة ن مشمِّرين عن ساعد الجد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى وإقامة حكم الإسلام في كل شؤون الحياة نجدهم متفوقين غاية التفوق في جانب الشعائر التعبدية، من الصلاة والزكاة والصيام والحج، فالناظر إليهم في الباب الأول يظن أن الدين عندهم هو الانطلاق في عمارة الأرض على قواعد الإسلام، من إصلاح المجتمع وإقامة دولة الإسلام والقضاء على دول الكفر، بينما إذا رجع إلى حياتهم في الباب الثاني يجد أنهم من كثرة أدائهم للشعائر التعبدية كأنهم قد تفرغوا لهذه العبادات، ولكنه يلاحظ من اهتمامهم الدائم بهذه الشعائر أن الاهتمام بتطبيق أركان الإسلام على الوجه الأكمل يأخذ القسط الأكبر من اهتمامهم الدائم.
بينما نجد بعض أهل الصلاح والإصلاح في العصور التي تلت عصر الصحابة يفقدون بعض التوازن في توجههم نحو الاستقامة والأعمال الصالحة.
فأحياناً يبالغون في التركيز على بعض الشعائر التعبدية في مجال النوافل كالصلاة والصيام، فيصلون الليل كله ويصومون الدهر،
وهذا ــ مع مخالفته للسنة النبوية حيث نهى رسول الله ج عن قيام الليل كله وعن صيام الدهر ـــ فإنه يخل بالتوازن في تطبيق الإسلام، حيث يحمل على التفريط في تكاليف أخرى من الإسلام كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله تعالى، والسعي لإقامة دولة الإسلام وحمايتها، وما يعدُّ من مكملات ذلك كدراسة واقع المسلمين وواقع الجاهلية المعاصرة.(23/19)
وأحياناً يكون الاهتمام منصرفاً إلى تصحيح المنهج العلمي أكثر مما هو منصرف إلى التطبيق العملي، وكان مبعث ذلك غالباً الرد على انحرافات بعض المسلمين الذين خالفوا المنهج الإسلامي في بعض الأمور العلمية وخاصة في قضايا العقيدة، فأصبحت هذه القضايا هي الأمور المهمة في حياة كثير من العلماء وطلاب العلم، وأثَّر ذلك تأثيراً بالغاً على الجانب التربوي الذي من أهم دعائمه تقرير أركان الإسلام ودراستها دراسة واعية وتربية أبناء الأمة الإسلامية بها.
وما تزال هذه النظرة قائمة في أذهان بعض طلاب العلم حتى في عصرنا الحاضر على الرغم من أن كثيراً من تلك المذاهب المنحرفة قد اندرست مع الزمن ولم يعُدْ لها وجود بارز في هذا العصر.
ونظراً لما حدث في العصر الحاضر من هجوم أعداء الإسلام على ديار المسلمين وقيامهم باستعباد أكثر الشعوب الإسلامية وإحلال القوانين الكفرية التي وضعها البشر محل النظام الإسلامي الذي كانت بلاد الإسلام تحكم به…نظراً لذلك فقد هب الدعاة إلى الله تعالى لإيقاظ الأمة الإسلامية وتبصيرها بحقيقة أعدائها ورصد الانحرافات العلمية والعملية التي وقع فيها المسلمون، ومن أبرز ذلك الحكم بغير ما أنزل الله تعالى، وعدم وضوح عقيدة الولاء والبراء، كما قاموا بفضح الحضارة الغربية التي قام عليها أولئك الأعداء.
وقد أثمرت جهود هؤلاء الدعاة المخلصين في توعية أفراد الأمة الإسلامية وإنقاذها من مخطط كفري أثيم كان يحاك ضدها حيث انتشر الوعي الإسلامي في كل بلاد الإسلام، وأصبح المسلمون في غالب شعوبهم ينظرون إلى أولئك الأعداء نظرة الاحتقار والكراهية.(23/20)
ولكن في خضم هذا الموج المندفع والتيار القوي المتحمس نحو الدعوة إلى سيادة المسلمين وقيام دولة الإسلام حصل من بعض المتأثرين بهذه الدعوة نوع من الإهمال للجانب التربوي الذي يقوم أساساً على فهم أركان الإسلام والاهتمام البالغ بتطبيقها وما يترتب عليها من تكاليف، فصار بعض الدعاة ينظر إلى هذه الأركان وسائر الشعائر التعبدية نظرة ثانوية من ناحية الأهمية وإن كانوا لا يصرحون بذلك، ولكن المتأمل في دعوتهم واهتمامهم يشعر بأنهم يعرضون قضايا الإسلام الأخرى مثل المطالبة بقيام دولة الإسلام ونقد الجاهلية المعاصرة على أنها هي القضايا الأساسية للدعوة الإسلامية، والاهتمام بهذه القضايا مطلوب شرعاً، بل إن إقامة دولة الإسلام من أصول توحيد الألوهية، والدعوة إلى هذه القضايا هو عين الحكمة في الدعوة، لأن الدعاة - والحال هذه- يعالجون قضايا واقعة من الانحراف عن المنهج السليم ويصلحون فساداً قائماً، بخلاف من يشغلون أنفسهم بمقاومة انحرافات لا توجد غالباً إلا في الكتب المتوارثة، أو توجد في المجتمع ولكن بشكل لا يؤثر إلا على فئة محدودة، فالذين يقاومون الجاهلية المعاصرة ويصلحون الفساد القائم الذي يعمل بحيوية وقوة ويؤثر على مجرى حياة المجتمع الإسلامي هم الذين وفقوا إلى المنهج الصحيح، إلا أن المطلوب منهم أن لا يُغرِقوا في معالجة هذه الجوانب على حساب أساسيات الإسلام، فإن المبالغة في الجوانب الفكرية تكون دائماً على حساب النواحي التربوية، فينتج عن ذلك تطور في الفكر وتأخر في السلوك وضعف في الوازع الديني، والتوازن المطلوب في ذلك لا يتم إلا عن طريق الاهتمام الكامل بالشعائر التعبدية التي إذا تم القيام بها على الوجه الأكمل فإنها تقوي الإيمان وتعمق الصلة بالله عز وجل.(23/21)
وليس موضوع هذه الرسالة مما يحتمل الكلام بالتفصيل على أركان الإسلام، وقد بين العلماء رحمهم الله تعالى ما يتعلق بهذه الأركان بياناً كافياً في كتب التوحيد والفقه، غير أن لي مشاركة بسيطة حول كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) حيث إن كثيراً من المسلمين ينطقون بها في عباداتهم وأذكارهم، وقد لا يستفيدون منها الفائدة الكاملة.
فلا بد لمن نطق بهذه الكلمة من ثلاثة أمور:
الأول - فهم معناها: فلا بد أن يفهم من شهد أن لا إله إلا الله أن هذه الشهادة تنفي شرعية عبادة غير الله تعالى بأي نوع من أنواع ، وتثبت العبادة لله سبحانه وحده على المنهج الذي بينه رسول الله ج.
الثاني - العمل بمقتضاها: وهو الالتزام الكامل بالتكاليف الشرعية والاستقامة على ذلك، وبهذا نعلم أن هذه الكلمة
تتضمن الدين كله، ولذلك جاءت الأحاديث عن رسول الله ج بوعد من قالها مخلصاً بدخول الجنة والنجاة من النار مثل قوله $لن
يوافي عبد يوم القيامة يقول لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله إلا حرم الله عليه النار#(1).
الثالث - اجتناب ما يناقضها : وذلك باجتناب الوقوع في الشرك، سواء في ذلك الشرك الأكبر أو الأصغر، الخفي أو الظاهر، وكذلك المعاصي كبيرها وصغيرها.
وقد تكون هذه المخالفات مناقضة لأصل كلمة التوحيد، وذلك بالوقوع في الشرك الأكبر المخرج من الملة، وقد تكون مناقضة لكمال التوحيد الواجب وذلك بارتكاب ما دون الشرك الأكبر.
وبهذا نعلم أن مجرد النطق بهذه الكلمة لا ينفع إلا إذا قارنه فهم معناها والعمل بمقتضاها واجتناب ما يناقضها، وعلى قدر تطبيق المسلم لهذه الأمور تكون استفادته من النطق بها.
__________
(1) ... صحيح البخاري، رقم 6423، كتاب الرقاق (11/241).(23/22)
إن الاستفادة من النطق بهذه الكلمة أو عدم الاستفادة أشبه شيء باستفادة المريض من الطبيب المعالج أو عدم استفادته منه، فإذا أعطاه الطبيب تعليمات يسير عليها في أخذ العلاج وحذره من المحاذير التي تناقض هذا العلاج فإنْ هو أخذ بذلك استفاد من الدواء، وإن قصر في أخذ هذه التعليمات أو وقع في المحاذير التي حذره الطبيب منها فقد لا يستفيد من العلاج أصلاً، وقد لا يستفيد الفائدة الكاملة، وقد يلحقه ضرر حسب مخالفته التي وقع فيها.
فكذلك من ينطق بكلمة التوحيد ولا يعمل بمقتضاها أو يرتكب ما يناقضها فإنه لا يستفيد من النطق بها أصلاً أو لا يستفيد الفائدة الكاملة على قدر مخالفته.
وكذلك شهادة أن محمداً رسول الله، فلابد من فهم معناها، بأن يفهم المسلم أن محمداً ج رسول مبلغ عن الله تعالى وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، وأن يعمل بمقتضاها، وذلك بأن يجعل رسول الله ج إماماً له وأن يطيعه في جميع أوامره وينتهي عن جميع نواهيه، وأن يقتدي به في جميع أفعاله، وأن يحبه أعظم من محبته لكل أحد كما جاء في قوله ج $لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين# أخرجه الشيخان من حديث أنس بن مالك ط(1)، وكما جاء في الحديث الذي أخرجه أبو عبدالله البخاري من حديث عبدالله بن هشام ط قال: $كنا مع النبي ج وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي، فقال النبي ج: $لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي ج: الآن يا عمر#(2).
ففي هذين الحديثين بيان أن محبة رسول الله ج يجب أن تكون أعلى من محبة جميع الناس حتى النفس والوالد والولد.
__________
(1) ... صحيح البخاري، رقم 15 ، الإيمان (1/58). ...
صحيح مسلم، رقم 44/70، الإيمان (ص67).
(2) ... صحيح البخاري، رقم 6632، كتاب الأيمان والنذور، باب 3 (11/523).(23/23)
وقول عمر ط $لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي# ليس على ظاهره، فليس المراد أنه كان يحب نفسه أكثر من حبه رسول الله ج، فهو الذي يفديه بنفسه وما ملكت يداه، أوَ ليس هو الذي قد جعل نفسه كالسياف بين يدي رسول الله ج يحميه ويدفع عنه أذى المتطاولين؟! وهو بهذا يُعرِّض نفسه للقتل، وهذا أوضح الأدلة على أنه كان يقدمه على نفسه، وإنما قال ذلك عمر – والله أعلم – لإفادة الأمة بأمر لم يذكره رسول الله ج، وخشي أن يكون مجهولاً عند بعض المسلمين فاستفسر عنه من باب المعرفة والعلم، وليكون التطبيق أداء لواجب معلوم، فكم هي الأيادي البيضاء التي قدمها عمر ط لهذه الأمة في مجالات العلم والإيمان والعمل الصالح!!
كما أنه لا بد أن يجتنب ما يناقض هذه الشهادة، وذلك مثل أن يأخذ الإنسان الهدى من غير رسول الله ج، كما أخذَتْ بعض الفرق الضالة بأقوال فلاسفة اليونان في بعض أمور العقيدة.
فإذا آمن المسلم بالشهادتين بهذا المستوى الرفيع من الفهم والتطبيق فإنه يكون قوي الإيمان صحيح الفكر مستقيم السلوك، وبالتالي فإنه يكون جندياً عاملاً في عمارة الأرض بطاعة الله تعالى
في حال السلم، مجاهداً قويّاً في حال الحرب، ومثل هذا المسلم
لا تزعزعه الشدائد، ولا تؤثر فيه الشبهات والفتن، لأنه يكون مستسلماً لله جل وعلا، بحيث لا يكون في قلبه غير إيمانه به تعالى، يلتمس رضوانه ولو سخط الناس عليه، من كانوا وأينما كانوا، ويجتنب سخطه ولو رضي الناس عنه من كانوا وأينما كانوا، فإذا تجرد قلبه لذلك أصبح خالياً من الشوائب، وتوحَّد المصدر الدافع للحركة والعمل، وبالتالي يقوم المسلم بالأعاجيب من العمل والبذل في سبيل الإسلام، عندما يصفو تفكيره وتتوحد مشاعره.
وإذا لم يتوافر هذا الإيمان القوي فإن المسلمين سيفقدون
أفراداً وجماعات لمجرد فتنة عرضت سواء في ذلك فتنة التخويف
أو فتنة التأليف.(23/24)
ومن هذا كان الموحدون هم أخطر الناس على أهل الباطل، لأنهم لا يتنازلون عن عقيدتهم، فإذا حاول المبطلون إغراءهم فإن الدنيا بأسرها لا تعدل في نظرهم لحظة من نعيم الآخرة، وإن حاولوا تخويفهم فإنهم يوقنون بأن عذاب الله تعالى أشد وأبقى فهم لن يفضلوا الأدنى على الأعلى، ولن ينقذوا أنفسهم من بأس خفيف ليوقعوها في بأس أشد وأنكى.
وهذه العقيدة القوية الصلبة هي التي تضمن المستقبل القوي لسيادة الإسلام.
والإسلام يشمل الدين كله، كما جاء في حديث أبي موسى الأشعري رضي عنه قال: $قالوا: يا رسول الله أي الإسلام أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده#(1) وكما جاء في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص م $أن رجلاً سأل النبي ج:
أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف#(2).
ولكن النبي ج قد اقتصر في حديث سؤال جبريل عليه السلام على بيان أركان الإسلام لبيان أهميتها في الدين.
الأمر الثاني الإيمان:
الإيمان هو التصديق المقرون بالثقة واليقين، وقد فسر النبي ج الإيمان في هذا الحديث باعتقاد القلب وذكر أركان الإيمان الستة.
والإيمان شامل للقول والعمل، وإنما لم يذكر ذلك النبي ج لأنه ذكره في بيان الإسلام.
ومن هذا الحديث وأمثاله استنتج العلماء أن الإسلام والإيمان إذا ذُكرا معاً ينصرف الإسلام إلى الأقوال والأفعال الظاهرة وينصرف الإيمان إلى اعتقاد القلب.
__________
(1) ... صحيح البخاري، رقم 11 ، الإيمان (1/54).
(2) ... المرجع السابق رقم 12 ، الإيمان (1/55).(23/25)
وعلى هذا يُحمل التفريق بينهما في قول الله تعالى ? - - - - ? - الله الله أكبر ? ? - - الله - صدق الله العظيم ? - - - - ? - - - - الله الله الله أكبر ? الله ? - - ? ? - الله أكبر ? صدق الله العظيم ? - بسم الله الرحمن الرحيم ? المحتويات - ? - ?- جل جلاله -? صدق الله العظيم ? - الله أكبر - ?- جل جلاله -? - الله أكبر - ? الله ? المحتويات - - ? الله أكبر ?? - الله أكبر ? - الله الله أكبر ? صدق الله العظيم ? - ? صدق الله العظيم ? - - - - الله الله ? - ? الله ? - ? - - صدق الله العظيم - الله الله أكبر ? ?? - الله أكبر الله ?? - - تمهيد ? - - ? - صدق الله العظيم ? الله أكبر ?- جل جلاله - الله أكبر - ? - الله أكبر ? - الله أكبر ? ? [الحجرات:14].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: يقول الله تعالى منكراً على الأعراب الذين أوَّل ما دخلوا في الإسلام ادَّعوا لأنفسهم مقام الإيمان، ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم بعدُ، قال: وقد استفيد من هذه الآية الكريمة أن الإيمان أخص من الإسلام، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، ويدل عليه حديث جبريل عليه الصلاة والسلام، حين سأل عن الإسلام ثم الإيمان ثم الإحسان، فترقى من الأعم إلى الأخص ثم للأخص منه.
إلى أن قال: فدل هذا على أن هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الآية ليسوا منافقين، وإنما هم مسلمون لم يستحكم الإيمان في قلوبهم، فادَّعوا لأنفسهم مقاماً أعلى مما وصلوا إليه فأُدِّبوا في ذلك، وهذا معنى قول ابن عباس م وإبراهيم النخعي وقتادة واختاره ابن جرير(1).
أما حينما يُذكر الإسلام وحده فإنه يدخل فيه الإيمان ضمناً، لأن العمل بدون اعتقاد صحيح لا يكون مقبولاً وصاحبه يكون من المنافقين الذين يظهرون الإسلام بالأفعال الظاهرة ويبطنون الكفر.
__________
(1) ... تفسير ابن كثير (4/234).(23/26)
ومما يدل على ذلك ما أخرجه الإمام أحمد بن حنبل من حديث عمرو بن عبسة ط قال قال رجل: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: أن يُسلم قلبك لله عز وجل وأن يَسلم المسلمون من لسانك ويدك، قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان، قال: وما الإيمان؟ قال: تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت … الحديث(1).
فجعل النبي ج الإيمان أفضل الإسلام.
وإذا ذكر الإيمان وحده دخل فيه الإسلام، لأن العمل بالتكاليف الشرعية هو المظهر الذي يدل عل صحة الإيمان، حيث إنها من أوامر الله تعالى ونواهيه، فمن لم يستقم على ذلك لم يكن مؤمناً حقّاً.
__________
(1) ... مسند أحمد (4/114)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رجاله ثقات (1/59).(23/27)
ومما يدل على ذلك قول الله تعالى ( - - رضي الله عنهم - - ( الله أكبر ( { - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - ( تم بحمد الله ( - ( - ( - - - - رضي الله عنه -((( - { - - - - - - ( { - عليه السلام - - ( - ( - ( - - - ( تمهيد فهرس - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - ( - قرآن كريم ( - ( - - - - ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( تمهيد - عليه السلام - - ( - ( - ( المحتويات ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( (( مقدمة ( - (- رضي الله عنه - - - - عليه السلام -( ( المحتويات ( - ( الله - رضي الله عنهم - - - - رضي الله عنهم - - - - جل جلاله - - (- رضي الله عنهم - - - ( { - - فهرس - - رضي الله عنه -(- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( فهرس - - عليه السلام - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - ( - - عليه السلام - قرآن كريم - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - ((( - رضي الله عنه -((( - { - - - - - قرآن كريم ( - - ( { ( - فهرس - - قرآن كريم فهرس - - ( - - - - - - ( تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - (- عليه السلام - - ( - - رضي الله عنهم - - - عليه السلام - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( { (( - ( - ?([الأنفال:2-3].
وكذلك ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة ط قال: قال رسول الله ج: $الإيمان بضع وسبعون- أو بضع وستون- شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان#(1).
وقد اقتصر النبي ج في حديث جبريل عليه السلام في بيان الإيمان على هذه الأركان الستة، وهذا يدل على أهميتها في أمور الدين.
__________
(1) ... صحيح مسلم (35/58)، الإيمان (ص63) صحيح البخاري، رقم 9، الإيمان (1/51).(23/28)
فالإيمان بالله تعالى أساس في الإيمان كالشهادتين بالنسبة للإسلام، فلا يكون الإنسان داخلاً في هذا الدين إلا إذا آمن بالله تعالى، ولا بد أن يصاحبه هذا الإيمان حتى تُختم حياته عليه.
وللإيمان بالله تعالى آثار تربوية عالية، يمكن التمثيل لها بما يأتي:
1- سعة الأفق وبعد النظر، فالمؤمن بالله جل وعلا يستمد أفقه الواسع ونظراته البعيدة من سعة ملك الله سبحانه وهيمنته على الكون كله، والإنسان مفطور على الشعور بالنقص أمام من هو أقوى منه أو ما يستفيد منه في حياته، وقديماً عبد بعض الناس الشمس وبعض الكواكب لشعورهم بضخامتها واستفادتهم منها.
وفي هذا العصر الذي ارتقى فيه العقل البشري أصبح الناس لا يفكرون بتقديس المخلوقات غير العاقلة، ولكن قد ينحرف بهم الفكر إلى تقديس بعض البشر ممن يرون أن لهم فضلاً في العلم أو القوة المادية فيعظمونهم أكثر مما يعظمون الله الذي خلقهم، ويتلقون منهم المبادئ والمناهج أكثر مما يتلقون من الوحي الإلهي، وبهذا يتحول الشرك من عبادة الجمادات إلى عبادة أشخاص ومبادئ، وهذا كله نقص في العقل وانحطاط في التفكير، لأن المخلوق مهما بلغ من العلم والإبداع لا يعدو أن يكون مخلوقاً لله تعالى، فهو بهذا لا يستحق العبادة، وما دام الإنسان قد خلق محتاجاً إلى قوة هي أعلى من قوته فمن كمال العقل والحكمة أن لا يعبد إلا الله وحده، وأن لا يخضع لقوة مخلوقة مثله.
2- معرفة الغاية وتحديد الهدف، فالمؤمن بالله جل وعلا يعرف جيداً أن غاية وجوده في هذه الحياة الدنيا هي عبادة الله سبحانه وعمارة الأرض بطاعته، كما يعلم مصيره بعد الموت، فلا يتحير
ولا يتخبط في ظلمات الجهل.(23/29)
أما الكافر فإنه لا يعرف الهدف الذي من أجله وجد في هذه الحياة الدنيا، ولا المصير الذي سيكون عليه بعد الموت، فالكافر يقتصر نظره على الإيمان بالحياة الدنيا فيعمل لها من غير شعور بحساب ولا جزاء، أما المؤمن فإنه يؤمن بالحياة الآخرة فيعمل لها وهو موقن بالحساب والجزاء.
3- التواضع للمؤمنين والعزة على الكافرين، وقد تبين لنا المراد من ذلك في عرض بعض صفات الصحابة ن من خلال قول الله تبارك وتعالى ? - ? - - - ? - - جل جلاله -? - - - ? - ? الله ? - جل جلاله - } - بسم الله الرحمن الرحيم - ? الله أكبر ? - ? - - - ? - - الله ? الله - - } ? - ? - ? الله الله أكبر ? صدق الله العظيم - الله الله أكبر - ? .
4- الجرأة والإقدام وقوة القلب، فالمؤمن بالله جل وعلا لا يخشى إلا الله سبحانه، ولا ترهبه كبرياء المخلوقين، ولايطأطئ رأسه أمام أحد منهم، وإن كانوا في مركز القوة، لأنه يستند إلى قوة الله العلي القدير الذي خلقه وخلق من يحاول إرهابه وإذلاله، وإذا خاض معركة فإنه لا يجبن ولا يفر، لأنه يعلم أن الآجال بيد الله جل وعلا وأن الدنيا ليست دار خلود، فمن الخير له أن يموت شهيداً في سبيل الله تعالى.
5- استشعار رقابة الله تعالى في جميع الأحوال، وهذا له أثره البالغ في تقويم سلوك الإنسان، حيث يشعر المؤمن أن الله جل وعلا معه يطلع عليه في سره وعلنه.
أما بقية أركان الإيمان فإنها مكملة لهذا الأساس، غير أني أحب أن أسهم في بيان الركن السادس، فالإيمان بالقدر هو أن يؤمن المسلم بأن الله جل وعلا قدَّر الأشياء كلها قبل وقوعها، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، كما يؤمن بأن للعبد مشيئة وإرادة فيما يقوم به من أعمال ولكنها مترتبة على مشيئة الله جل وعلا كما قال تعالى:(23/30)
( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -(( - - - رضي الله عنه -( فهرس - - صدق الله العظيم ( { تمت - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -( - - - رضي الله عنه -( - - ( - - - - - - عليه السلام - - - ((( - فهرس - (- رضي الله عنهم -(( - - - ([التكوير:29].
والعبد حينما يختار طريق السعادة أو طريق الشقاوة فإنما يختار أحد الطريقين بمحض اختياره وإرادته ولا علم له بما كتب الله عليه في الأزل فإن ذلك من علم الغيب، والذي يختار طريق الشقاوة ثم يحتج بالقدر فيقول إن الله قدَّر عليّ الشقاء هو جاهل بقيمته كعبد مخلوق، حيث أدخل فكره في البحث في أمر من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله عز وجل، ثم يقال لهذا الذي يحتج بالقدر: لماذا لم تختر طريق السعادة؟ أليس باستطاعتك أن تسلكه كما سلكه المؤمنون؟ فسيقول: بلى، باستطاعتي ذلك، لأنه ليس هناك قوة تحول بينه وبين سلوك طريق السعادة، فيقال له: لماذا إذاً لم تسلك هذا الطريق؟ فسيقول: إن الله كتب علي سلوك طريق الشقاء وما دام الله قد كتب على بعض الناس الشقاء وعلى بعضهم السعادة وأنا ممن سلك طريق الشقاء فإن الله قدره علي، فيقال له: وما علمك بأن الله قد قدّر عليك سلوك هذا الطريق؟
ولماذا لم تسلك طريق السعادة وتقول إن الله قد قدَّر علي سلوك هذا الطريق؟
فالقضية إذاً ليست قضية القدر الذي كتبه الله عز وجل، وإنما هي قضية الإرادة والاختيار والميول الذاتية للإنسان.(23/31)
فالواجب على المؤمن أن لا ينظر إلى القدر فيما يريد أن يفعله في المستقبل، فلا يقول مثلاً: أخشى أن يكون الله قد كتب علي الإخفاق في هذا الموضوع فلا أريد أن أُقْدم عليه، لا يجوز ذلك لأن قدر الله جل وعلا من علم الغيب الذي اختص به جل شأنه، وإنما عليه أن ينظر إلى أوامر الله تعالى ونواهيه، فينفذ أوامره ويجتنب نواهيه، والله سبحانه يهديه إلى الخير ويبعده عن كل شر، ويحميه من كل عدو إذا هو استقام على طاعته واجتناب معصيته.(23/32)
أما بالنسبة للأمور التي وقعت فعلاً فعلى العبد أن يؤمن بأن كل ما أصابه من خير أو شر هو بقدر الله تعالى، فإذا أصيب بمصيبة فليقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، قدَرُ الله وما شاء فعل، كما قال تعالى ? الله ??- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - - - الله - - تمهيد - ? - ? صدق الله العظيم - الله أكبر الله - - الله أكبر الله ? - - - تمت ? الله أكبر الله - - - ? - الله ? - المحتويات - ? الله أكبر ? - الله الله أكبر ? - بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? - تمهيد - - جل جلاله -? بسم الله الرحمن الرحيم - ?- جل جلاله -? - - الله أكبر بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? تمهيد - - الله ? - جل جلاله -? صدق الله العظيم - - ? تمهيد - - الله ?? - ?- جل جلاله - - - الله } } - - تمهيد { ?? تمهيد - ? - - الله أكبر الله أكبر - ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - الله أكبر - ?? - ? صدق الله العظيم - - ? الله ? - رضي الله عنه - - - الله ? - ? الله ? ?- جل جلاله - الله ? ?? - ? الله - جل جلاله - الله أكبر الله أكبر - الله الله } تمت - ? الله ? الله أكبر صدق الله العظيم - الله } الله ? ?? تمهيد - ? - - الله أكبر الله أكبر - ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - الله أكبر - الله ? - ? - ? الله ?? - - الله - { الله أكبر ? - ? - ? - - } - - - { ?[البقرة:156-157] وكما قال رسول الله ج: $احرص على ما ينفعك، واستعن بالله
ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قَدَرُ الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان# أخرجه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة ط(1).
فالإيمان بأن المصائب من قدر الله تعالى وأنها لابد أن تصيب
من قدرها الله عليه يخفف على المصاب وقع المصيبة ويبعد عنه وساوس الشيطان وتوهيمه إياه بأنه لو فعل كذا وكذا لما حصل له
__________
(1) ... صحيح مسلم، رقم 2664، القدر، باب 8 (ص2052).(23/33)
ما أصابه من المصيبة.
الأمر الثالث الإحسان:
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح هذا الحديث: قوله $الإحسان# هو مصدر، تقول أحسن يحسن إحساناً، ويتعدى بنفسه وبغيره، تقول أحسنت كذا إذا أتقنته، وأحسنت إلى فلان إذا أوصلت إليه النفع، والأول هو المراد لأن المقصود إتقان العبادة، وقد يُلحظ الثاني بأن المخلص مثلاً محسن بإخلاصه إلى نفسه، وإحسان العبادة الإخلاص فيها والخشوع وفراغ البال حال التلبس بها ومراقبة المعبود.
قال: وأشار - يعني رسول الله ج- في الجواب إلى حالتين: أرفعهما أن يغلب عليه مشاهدة الحق بقلبه حتى كأنه يراه بعينه وهو قوله $كأنك تراه# أي وهو يراك، والثانية أن يستحضر أن الحق مطلع عليه يرى كل ما يعمل، وهو قوله $فإنه يراك# وهاتان الحالتان يثمرهما معرفة الله وخشيته(1).
وإنه ليحسن بنا التركيز على الحالة الثانية من الحالتين اللتين ذكرهما الحافظ ابن حجر للإحسان، وهي مراقبة الله عز وجل كمال المراقبة وذلك بإحضار القلب معه في جميع الأعمال والأقوال، مع مصاحبة تعظيمه ورجاء ثوابه والخشية من عقابه..يحسن بنا التركيز على هذه الحالة لأنها هي الوسيلة إلى بلوغ الحالة الأولى وهي مشاهدة العبد ربه جل وعلا بقلبه حتى كأنه يراه بعينه، التي هي منزلة أهل الكمال في الإحسان.
إن مراقبة الله عز وجل في السر والعلن يتكون منها اتصاف العبد بالوازع الديني الذي يجعله يتخلق بمكارم الأخلاق كالصبر والسماحة والعدل، ويتطهر من مساوئها وخاصة الأخلاق التي تغلب على كثير من الناس كالأنانية والحسد والظلم والخداع.
فالإحسان هو جوهر الدين وروحه، وبدونه لا تؤدِّي العبادات مقاصدها في تزكية النفوس وتربيتها.
إن من ثمرات الإحسان أن يكون صاحبه زاكياً صالحاً يفعل الخير ويحث عليه، ويجتنب الشر ويحذر منه.
__________
(1) ... فتح الباري (1/120).(23/34)
وإن ذكر الإحسان عقب ذكر الإسلام والإيمان يعني أنه لا بُدَّ من توافره ليكون الإيمان بأركانه العقدية والإسلام بأركانه العملية على جانب كبير من الحيوية والتأثير على جميع سلوك المسلم في هذه الحياة.
فالإيمان الذي لا يَردع صاحبه عن فعل الكبائر لا يكون إيماناً حيويّاً ولا مؤثراً على السلوك، ولذلك نفى رسول الله ج الإيمان
عن أصحاب الكبائر كما جاء في قوله $لا يزني الزاني حين يزني
وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه أبصارهم فيها حين ينتهبها وهو مؤمن# أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة ط(1).
وهذا لا يعني نفي الإيمان عنه بالكلية على مذهب أهل السنة والجماعة، وإنما يعني نفي الإيمان الحيوي المؤثر في السلوك، وهذا يفيد بأن أصحاب هذه الكبائر قد فقدوا الإحسان حيث لم يُحضروا قلوبهم مع الله تعالى ولم يشعروا برقابته عليهم ولم يتذكروا عظمته، ففقدوا بذلك الوازع الديني الذي يدفعهم إلى المحاسن ويردعهم عن المساوئ.
ولقد كان الصحابة ن شديدي الإحساس في هذا الجانب، فحينما قارن حنظلة الأُسيِّدي ط بين حاله عند النبي ج وهو يذكِّرهم بالآخرة وحاله حينما يرجع إلى بيته أنكر الاختلاف بين الحالين فاتهم نفسه بالنفاق.
__________
(1) ... صحيح البخاري، رقم 5578، الأشربة (10/30) ...
صحيح مسلم، رقم 57، الإيمان ( ص 76).(23/35)
وقد أخرج خبره هذا الإمام مسلم من حديث أبي عثمان النهدي عن حنظلة الأُسَيِّدي ط(1) قال: $لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال قلت: نافق حنظلة، قال سبحان الله ما تقول؟ قال قلت: نكون عند رسول الله ج يُذكِّرنا بالنار والجنة حتى كأنَّا رأيُ عين(2) فإذا خرجنا من عند رسول الله ج عافسنا الأزواج والأولاد والضَّيعات(3) فنسينا كثيراً، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله ج، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله ج: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله نكون عندك تُذكِّرنا بالنار والجنة حتى كأنَّا رأيُ عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيراً، فقال رسول الله ج: والذي نفسي بيده إنْ لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتْكم الملائكة على فرشكم وفي طُرُقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة# ثلاث مرات(4).
والمراد بهذا النفاق الذي خافه حنظلة على نفسه النفاق الأصغر العملي، وليس النفاق الأكبر الاعتقادي المخرج من الملة، وإنما خاف أن يكون ذلك نفاقاً لاختلاف حاله وهو عند رسول الله ج عن حاله وهو عند أهله وأولاده.
وقد أجابه النبي ج ببيان حالين لحضور القلب مع الله تعالى:
الأولى: الاستمرار في ذكر الله تعالى واليوم الآخر حتى في حال التمتع بطيبات الحياة الدنيا، وهذه الحال تجعل المسلم كالملائكة
عليهم السلام،لأنهم متصفون بدوام الذكر والمراقبة، ولذلك
قال رسول الله ج $لصافحتكم الملائكة# وقد لا يصل إلى هذه الحال إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنهم معصومون.
__________
(1) ... قال أبو عثمان النهدي: وكان من كُتَّاب رسول الله ج.
(2) ... أي كأنَّا بحال من يراها بعينه.
(3) ... أي انشغلنا بشؤون الدنيا من الأزواج والأولاد والأموال.
(4) ... صحيح مسلم، رقم 2750، كتاب التوبة، باب3 (ص 2106).(23/36)
الثانية: الغفلة عن الذكر أحياناً ثم المسارعة إلى ذلك عند تذكر رقابة الله عز وجل والدار الآخرة، وهذا الذي يحصل لسائر المؤمنين، وإنما يتفاوتون بكثرة الذكر وقلته وسرعة التذكر وبطئه.
ولقد كانت معاني الإحسان وما يترتب عليها من مقاصد سامية تعمر مجالس الصحابة ن، وكانت دروسهم ومواعظهم تنطلق من إحياء هذه المعاني، وعلى يدهم تربى جيل التابعين أسمى تربية يمكن أن تتم على يد أتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وبهؤلاء المحسنين وأمثالهم تقوم المجتمعات الفاضلة، ويعيش المسلمون بسعادة وأمان.
وحينما يؤدي المسلم الشعائر التعبدية بدون حضور قلب مع الله تعالى فإنه يكون قد فقد الإحسان، وبالتالي يكون عمله جسماً
بلا روح، ولا يستفيد من عمله في تهذيب السلوك ولا في تنمية الوازع الديني.
وحينما يقدِّم الإنسان أعمالاً جليلة في فروض الكفاية،
من التعليم والدعوة وإنكار المنكر والجهاد وهو يريد الذكر الدنيوي ولا يريد وجه الله تعالى فإنه يكون قد فقد الإحسان، ولن يكون لعمله أي بركة، ولن يترتب عليه أي نفع للمسلمين وقد خالطه عصيان الله جل وعلا.
وحينما يقوم بإجراء المعاملات التجارية ونحوها بينه وبين الآخرين وقلبه بعيد عن الله تعالى وتذكُّر رقابته والاستعانة به فإنه لم يطبق الإحسان، وبالتالي فإن معاملاته لا تكون إسلامية في الغالب، لأنه يبرز من خلال معاملته حب الذات والأنانية، فيرتكب أنواعاً من المظالم، ولو فرضنا أنه عدل في معاملته فإن ذلك عدل تجاري يقصد به فاعله كسب ثقة الآخرين، ثم إنه يطبقه عند احتياجه إليه لا خوفاً من الله عز وجل ولا رجاء لما عنده(1).
علامات الساعة:
__________
(1) ... أبلغ مثال للإحسان الخشوع في الصلاة وقد تقدم الكلام على الخشوع في رسالة
شمول العبادة.(23/37)
في هذا الحديث سأل جبريل عليه السلام عن الساعة مع سؤاله عن أمور الدين الكبرى، ففي هذا إشارة إلى أهمية معرفة علامات الساعة، فإنَّ معرفتها تُنبِّه المسلمين إلى قرب زوال الدنيا، وذلك مما يحضهم على الاهتمام بأعمال الآخرة.
ولقد كان جواب النبي ج ببيان علامتين من علامات الساعة الصغرى، فلماذا ذكر النبي ج علامتين من علامات الساعة الصغرى ولم يذكر شيئاً من العلامات الكبرى؟!
الظاهر – والله أعلم – أن علامات الساعة الكبرى تأتي متتابعة متقاربة في الزمن بحيث لا يستفيد من عِبَرها إلا جيل محدود بوقت قصير، أما علامات الساعة الصغرى فإنها تظهر من وقت مبكر وتمتد في زمان طويل يشمل عدداً من الأجيال فتكون العبرة بها أشمل وأكثر.
وهاتان العلامتان اللتان ذكرهما رسول الله ج هما:
الأولى: (أن تلد الأمة ربَّتها)، وقد ذكر العلماء أقوالاً عديدة في
المراد بهذه العلامة، ولكني سأقتصر على ذكر القول الذي رجحه الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى، وفي ذلك يقول: أن يكثر العقوق في الأولاد فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الإهانة بالسب والضرب والاستخدام، فأطلق عليها ربَّها مجازاً لذلك، أو المراد بالرب المربي فيكون حقيقة، وهذا أوجه الأوجه عندي لعمومه، ولأن المقام يدل على أن المراد حالة تكون مع كونها تدل على فساد الأحوال مستغربة، ومُحصَّله الإشارة إلى أن الساعة يقرب قيامها عند انعكاس الأمور بحيث يصير المربَّى مربِّيا، والسافل عالياً، وهو مناسب لقوله في العلامة الأخرى: أن تصير الحفاة ملوك الأرض(1).
فهذه العلامة تشير إلى تغيرٍ ظاهر في أنماط المجتمع الإسلامي، تنقلب فيه الموازين، وتتبدل فيه القيم.
__________
(1) ... فتح الباري (1/122-123).(23/38)
فالمعروف في المجتمعات السوية أن السيادة في الأُسَر تكون للأب والأم وأن الأولاد من بنين وبنات ينشأون على محبة الوالدين واحترامهما وطاعتهما، ولكن حينما تتبدل الأحوال وتنقلب المفاهيم فإن الأولاد تكون لهم السيادة والطاعة على الوالدين.
ومن أسباب ذلك التغيرات التي تطرأ على المجتمع فترفع الجيل الناشئ على الجيل الراشد، وهذه التغيرات من عواملها الأساسية انتشار التعليم في الجيل الناشئ وربط المناصب الدنيوية بذلك التعليم، بحيث تكون الموارد المالية بيد البنين والبنات، ويصبح آباؤهم وأمهاتهم عالة عليهم في النفقة وتأمين مطالب الحياة.
وهذه الحالة واضحة في الأمهات مع أبنائهن وبناتهن، لأن الأمهات في المجتمع غير المتفتح نحو التعليم والعمل يكنَّ من ربات البيوت،
ولا يكون بأيديهن شيء من المال، بخلاف الآباء فإنهم قد يستغنون
عن أولادهم، ولهذا ذُكرت المرأة في الحديث في الرواية المشهورة.
ففي مثل هذا المجتمع تعيش الأمهات في شيء من الذلة والاستصغار لأولادهن، ويعيش الأولاد من بنين وبنات في شيء
من الترفع والسيادة على أمهاتهم، لأنهم يرون أن لهم فضلاً عليهن بما يبذلونه لهن من أموالهم، وقد نسي هؤلاء الأولاد ما قدمت لهم أمهاتهم من تربية وعناء منذ ولادتهم حتى أصبحوا في غناء عن أمهاتهم، ونسوا أن المهمة الكبرى للمرأة هي تنشئة الأجيال الصالحة.
ولا شك أن أصحاب العقول الراجحة من الأبناء والبنات يدركون عظمة هذه المهمة فيُوْلون أمهاتهم كل احترام وعناية، ولكن وجود هؤلاء لا يؤثر على شهرة تلك الظاهرة من عقوق الأولاد لأمهاتهم.
العلامة الثانية: (أن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان) ففي هذا وصف لأهل البادية بخشونة العيش والفقر، وأنهم قرب قيام الساعة يتحولون من البادية إلى الحاضرة، ويتنافسون في بناء البيوت.(23/39)
وفي العصر الحاضر حدث هذا الأمر في الوقت نفسه الذي جرت فيه الظاهرة السابقة للعلامة الأولى، فقد تحول أكثر أهل البادية إلى القرى والمدن، وتنافسوا في بناء البيوت، وتحقيق أنماط الحياة التي توجد عند أهل الحضارة.
ولكن هذا التحول ليس جديداً في حياة المسلمين، فقد تحول الأعراب في عهد الخلفاء الراشدين إلى المدن أيام الفتوح، واتخذوا بيوت الطين بدلاً من بيوت الشعر، والظاهرة التي تعدُّ علامة للساعة لابد أن تكون جديدة مستغربة، وقد جاء في رواية أبي عبدالله البخاري $وإذا كان الحفاة العراة رؤوس الناس فذاك من أشراطها# وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: زاد الإسماعيلي في روايته $الصم البكم# قال: وقيل لهم ذلك مبالغة في وصفهم بالجهل، أي لم يستعملوا أسماعهم ولا أبصارهم في الشيء من أمر دينهم، وإن كانت حواسهم سليمة(1).
ولقد ذكر رسول الله ج أن من علامات الساعة إسناد الأمر إلى غير أهله وتَولِّي غير الأكفاء أمور الأمة.
ومن ذلك قوله ج $إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة#(2).
وقوله $لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا
لُكَع بن لكع#(3).
وقوله $بين يدي الساعة سنون خداعة، يُتَّهم فيها الأمين ويؤتمن
فيها المتهم، ويَنطق فيها الرويبضة، قالوا: وما الرويبضة؟ قال: السفيه ينطق في أمر العامة#(4).
وقوله $إن من أشراط الساعة أن يوضع الأخيار ويُرفع الأشرار#(5).
__________
(1) ... فتح الباري (1/123).
(2) ... رواه البخاري رقم 59 و 6496 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) ... رواه أحمد في المسند (5/389)، والترمذي في سننه رقم 2209وحسنه، وابن حبان في صحيحه، رقم 6721.
(4) ... رواه أحمد في مسنده (3/220)، وجوَّد إسناده الحافظ ابن حجر في فتح الباري (13/84).
(5) ... المستدرك (4/554-555) وصححه الحاكم وأقره الذهبي.
ورواه الطبراني، ذكره الهيثمي وقال: ورجاله رجال الصحيح - مجمع الزوائد (7/326).(23/40)
وإن من مقاصد هذه الأحاديث أن الناس الذين لا يُؤبَه لهم وليس لهم في المجتمع مكانة ولا شهرة يرتفعون فجأة ليكونوا سادة الأمة والمتحكمين في حاضرها ومستقبلها.
والمعروف في المجتمعات السوية أن السيادة في المجتمع تتكوَّن ببطء وتؤدة، وأن لها مقومات أخلاقية لابد أن تتوافر في الأفراد والأسر التي تتطلع للسيادة، وذلك كالكرم والشهامة والوفاء والأمانة وبذل المعروف، فيصبح الناس ينظرون إلى أولئك البارزين بالمقوِّمات الأخلاقية على أنهم يتفوقون عليهم بأمور لا يستطيعون بلوغها، فيعترفون لهم بالسيادة عن اختيار وطواعية، ويستشيرونهم في أمورهم المهمة، ويرجعون إلى معونتهم ورِفدهم عند الشدائد.
وهذه المقومات الأخلاقية قد تكون متوارثة في الأسر الكريمة نظراً لأن الأولاد ينشأون على أخلاق آبائهم وأمهاتهم، وقد تتوافر في الأفراد الطموحين نحو المعالي وإن لم يكونوا من أبناء الأسر المشهورة بالمكارم.
فإذا كان ولاة الأمور من هؤلاء الذين يتمتعون بقدر عالٍ من هذه المقومات الأخلاقية فإن أحوال الأمة - غالباً - تسير باعتدال وأمن وسلامة، نظراً إلى أن القائمين على الأمور لهم من رصيدهم الأخلاقي ما يمنحهم الشهرة العالية وإن لم يصلوا إلى الولاية، ولذلك فإن أقوالهم وأفعالهم تتسم بالحكمة والرزانة والعدالة.
ومن المعلوم أن تلك المقومات الأخلاقية إنما تقوم بالدرجة الأولى على الوازع الديني المبني على قوة الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر.
فأما حينما يصل إلى الولاية من عاشوا على الحرمان والشح والحقد والتربية الهابطة فإن أعمالهم تكون صورة لماضيهم السقيم، ويقلبون موازين المجتمع، حيث يبعدون أصحاب المكارم الذين يقدرهم الناس، ويقربون أمثالهم من الهابطين، فتسود مساوئ الأخلاق، من الشح والجشع والخيانة والرشوة، ويضطر بعض الناس إلى احترام هؤلاء والتقرب إليهم وإن كانوا يمثلون أسوأ الأخلاق لكون الدنيا بيدهم.
شمول حديث سؤال جبريل للسلفية:(23/41)
إن هذا الحديث العظيم شامل لأمور الدين كما جاء فيه من قول رسول الله ج: $فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم#، ولذلك تم اختياره في هذه الرسالة لبيان أن من حقق أمور الدين المذكورة وما يتبعها من فروع فهو جدير باتباع منهج السلف ن.
وفي هذا الحديث يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: فمن تأمل ما أشرنا إليه مما دل عليه هذا الحديث العظيم علم أن جميع العلوم والمعارف ترجع إلى هذا الحديث وتدخل تحته، وأن جميع العلماء منْ فِرق هذه الأمة لا تخرج علومهم التي يتكلمون فيها عن هذا الحديث وما دل عليه مجملاً ومفصلاً، فإن الفقهاء إنما يتكلمون في العبادات التي هي من جملة خصال الإسلام، ويضيفون إلى ذلك الكلام في أحكام الأموال والأبضاع والدماء، وكل ذلك من علم الإسلام كما سبق التنبيه عليه، ويبقى كثير من علم الإسلام من الآداب والأخلاق وغير ذلك لا يتكلم عليه إلا القليل منهم، ولا يتكلمون على معنى الشهادتين، وهما أصل الإسلام كله.
والذين يتكلمون في أصول الديانات يتكلمون على الشهادتين، وعلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر.
والذين يتكلمون على علم المعارف والمعاملات يتكلمون على مقام الإحسان، وعلى الأعمال الباطنة التي تدخل في الإيمان أيضاً، كالخشية والمحبة والتوكل والرضا والصبر ونحو ذلك، فانحصرت العلوم الشرعية التي يتكلم عليها فِرَقُ المسلمين في هذا الحديث، ورجعت كلها إليه، ففي هذا الحديث وحده كفاية ولله الحمد والمنة(1).
- - - - -
شمول السلفية لمجالي العلم والعمل
من حديث سؤال جبريل عليه السلام السابق تبين لنا أن أمور الدين تشمل العلم النافع والعمل الصالح، فالعلم النافع يشمل أمور الاعتقاد بأصوله وفروعه، والعمل الصالح يشمل سلوك المسلم كله بقسميه الإسلام والإحسان في الأصول والفروع.
__________
(1) ... جامع العلوم الحكم (1/134-135).(23/42)
ومما يبين شمول أمور الدين لجانبي العلم والعمل أن الله تعالى رتب على تحقيق هذين الجانبين الظفر بنعمته جل وعلا وصلاح الأحوال المعيشية وذلك في قوله سبحانه ? صدق الله العظيم ? - ? الله ? الله الله ? - - - الله ? الله أكبر الله أكبر صدق الله العظيم ? - - - - - عليه السلام -? الله - - ? - ? - - المحتويات - ? - الله أكبر ? الله ? - - ? المحتويات - ?? الله أكبر الله ? بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر - - - الله ? - الله ? { - الله - الله ? - ? ? - ? صدق الله العظيم - - ? الله ? - - - الله أكبر الله أكبر الله } الله - الله أكبر الله - الله ?- جل جلاله - الله ? - جل جلاله -? - - الله ?- عز وجل - - الله أكبر الله أكبر { ? - - - ? صدق الله العظيم } - - - - ? - - الله ? ?- جل جلاله -? - الله أكبر - ? الله ? المحتويات - ? - الله أكبر - بسم الله الرحمن الرحيم - - - ? ? - ? - الله أكبر الله الله أكبر ? { - الله - - - - الله الله أكبر ? - الله ?- جل جلاله - - المحتويات - ? - الله أكبر ? - الله } الله ?? - - - جل جلاله - { - ? الله الله أكبر ? } - تمهيد { ?[الأعراف:96].
فقد ذكر سبحانه أبرز محتويات العلم وهو الإيمان، وذكر التقوى التي تعني تطبيق تكاليف الإسلام تطبيقاً كاملاً، بحيث يكون فاعل ذلك قد وقى نفسه من عذاب الله تعالى.
وقد جمع الله سبحانه بين الإيمان والعمل الصالح في آيات كثيرة(1)
__________
(1) ... انظر على سبيل المثال الآيات التالية: البقرة/25،62،82- آل عمران/57- =
= النساء/57،122،173- المائدة/69 -الأعراف/42- يونس/ 4،9- الرعد/ 29- إبراهيم/23 -الكهف/30،88،107- مريم/96- الحج/14،50،56- النور/55 -العنكبوت/7، فصلت/8 - الشورى/22 -الجاثية/30- محمد/ 12- الفتح/ 29 - البينة/7.(23/43)
مع أن العمل على قول جمهور أهل السنة داخل في الإيمان، وذلك دليل على أن المنهج السلفي لابد أن يكون جامعاً بين الإيمان الصادق والعمل الصالح.
فالاقتداء بمنهج السلف ن يكون بأخذ سنتهم في مجالي العلم والعمل، أو بعبارة أخرى: يكون بفهم الإسلام كما جاء من عند الله تعالى وتطبيقه كما أمر سبحانه.
منهج السلف في المجال العلمي:
فالركن الأول من هذا الاقتداء هو الالتزام بالمنهج العلمي الصحيح، وذلك بفهم الإسلام من النصوص الشرعية كما فهمه الصحابة ن، وذلك بالرجوع إلى الكتاب والسنة واستخراج العقائد والأحكام والآداب منهما، والأخذ بإجماع العلماء، أو الاجتهاد بالقياس على النصوص الشرعية عند عدم وجودها في بعض القضايا الجزئية، كما بين ذلك الأصوليون في كتب أصول الفقه مفصلاً.
وقد كان الصحابة ن غير محتاجين إلى دراسة اللغة العربية لأنها لغتهم، فهم يفهمون منها حال سماعها المعاني الظاهرة والمقاصد والدلالات، أما العلماء من بعدهم فإنهم بحاجة إلى التعمق في معرفة اللغة ودلالاتها، من الخبر والإنشاء، والحقيقة والمجاز، والمجمل والمبين، والمحكم والمتشابه، وغير ذلك من دلالات اللغة، مما هو مفصل في كتب اللغة وأصول الفقه وعلوم القرآن.
ونظراً إلى أن المنهج العلمي هو الأساس الذي يفهم به المسلم ما جاء عن الله تعالى، وعليه يقوم البناء الصحيح للإسلام فإني سأذكر بإيجاز نماذج تبين لنا الجهود الكبيرة التي بذلها رسول الله ج وأصحابه في سلامة هذا المنهج، فمن ذلك:
1- توحيد مصدر التلقي:
لقد كان الرسول الله ج حريصاً على توحيد مصدر التلقي وتنقيته من أن تختلط به معلومات تُستقى من مصادر أخرى فلم يكن بين يدي الصحابة ن إلا كتاب الله تعالى يتلونه آناء الليل والنهار، ويتدبرون معانيه ويعملون بما فيه من أحكام ويتعظون بما فيه من مواعظ، وسنة رسول الله ج يهتدون بها.
ومما يدل على حرص النبي ج على توحيد مصدر التلقي(23/44)
ما أخرجه الإمام أحمد وابن أبي شيبة والبزار من حديث جابر ط: $أن عمر ط أتى النبي ج بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه فغضب وقال: لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيّاً ما وسعه إلا أن يتبعني#.
ذكره الحافظ ابن حجر وقال: ورجاله موثوقون إلا أن في مجالد ضعفاً وأورد له شاهداً من رواية البزار، وفيه جابر الجعفي وهو ضعيف.
ذكر ذلك الحافظ في شرح ترجمة باب قول النبي ج: $لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء# ثم قال: واستعمله يعني هذا الحديث
في الترجمة لورود ما يشهد بصحته من الحديث الصحيح(1).
ولقد تأسى الصحابة برسول الله ج في هذا المجال فكانوا حريصين كل الحرص على بقاء موارد الإسلام صافية وحمايتها من تسرب الفكر البشري إليها، ومن أمثلة ذلك ما أخرجه الإمام مسلم من حديث عمران بن حصين ط أن النبي ج قال: $الحياء لا يأتي إلا بخير# فقال بشير بن كعب: $إنا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة أن منه سكينة ووقاراً ومنه ضعف، فغضب عمران حتى احمرتا عيناه وقال: أنا أحدثك عن رسول الله ج وتعارض فيه#(2).
وهكذا نرى علماء الصحابة يحرصون على تجريد مصدر التلقي
وتنقيته بتوجيه المعلمين والمتعلمين إلى الاقتصار على الكتاب والسنة في فهم الدين وتوجيه المسلمين، فهذا معاذ بن جبل ط يوصي
__________
(1) ... فتح الباري (13/334).
(2) ... صحيح مسلم كتاب الإيمان، باب12، رقم61(ص64). وقوله $حتى احمرتا عيناه# هكذا جاء بإثبات الظاهر مع الضمير على لغة أزدشنوءة.(23/45)
تلامذته بالاعتصام بالقرآن الكريم وعدم الزيغ عنه، كما أخرج الإمام أبو داود من حديث ابن شهاب الزهري: $أن أبا إدريس الخولاني عائذ الله أخبره أن يزيد بن عميرة - وكان من أصحاب معاذ بن جبل - أخبره، قال: كان لا يجلس مجلساً للذكر حين يجلس إلا قال: الله حكم قسط، هلك المرتابون، فقال معاذ بن جبل يوماً: إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال، ويُفتح فيها القرآن حتى
يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير، والعبد والحر، فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن؟ ما هم بمتبعيَّ حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع فإن
ما ابتدع ضلالة#(1).
وكذلك نجد عبدالله بن عمر م يأمر بلزوم الكتاب والسنة ويحذر من الإفتاء بالرأي المجرد، كما أخرج الإمام الدارمي من حديث جابر بن زيد أن ابن عمر م لقيه في الطواف فقال له: يا أبا الشعثاء إنك من فقهاء البصرة فلا تفت إلا بقرآن ناطق أو سنة ماضية فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت(2).
وهذا لا يعني الأمر بالكف عن الاستفادة من فهم العلماء واستنباطاتهم فإن فقه العلماء الربانيين الذي يدور حول الكتاب والسنة ويلتزم بهما علم نستفيد منه في تقريب الدين إلى الأفهام وتطبيقه في واقع الناس.
وإلى جانب الحث على لزوم الكتاب والسنة نجد عمر بن الخطابط يبين لنا التكامل والترابط بين هذين المصدرين الكريمين، وذلك فيما أخرجه الإمام الدارمي من حديث عمرو بن الأشجع أن عمر بن الخطاب قال: إنه سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله تعالى(3).
__________
(1) ... سنن أبي داود كتاب السنة باب في لزوم السنة رقم 4611.
(2) ... سنن الدارمي، المقدمة باب رقم 20 حديث164.
(3) ... سنن الدارمي، المقدمة باب رقم 17 حديث 121.(23/46)
وهذا يعني أن المشتغلين بدراسة السنن النبوية يكونون أعلم بتفسير القرآن من غيرهم نظراً لأن السنة مبينة لما أُبهم في القرآن ومفصلة لما أجمل منه.
أثر هذا المنهج في حل المشكلات:
حينما ينحرف المسلمون عن دينهم ويضعف إيمانهم تكثر المشكلات في المجتمع الإسلامي نظراً لضغط مفاهيم الجاهلية، وتتعدد أنواع هذه المشكلات بحيث يصعب على الفقيه أن يجد لكل مشكلة حلاًّ ولكل سؤال جواباً، نظراً لأن هذه المشكلات لم تحدث في مجتمع سار في الجملة على الصراط المستقيم وشذ عنه بعض أفراده الذين يأتون ما أتوا من المخالفات على استحياء واستخفاء، فإذا حدثت المشكلات من شواذ المجتمع وكان المجتمع تسوده مفاهيم الإسلام كان حلها ميسراً على الفقيه لوضوح الأحكام الشرعية التي شرعت لرفع هذه الفئة كي تلحق بركب المجتمع السليم، ولكن حينما تنبع المشكلات من مفاهيم الجاهلية التي لا تعترف بسيادة الإسلام فقد يكون من الصعب على الفقيه أن يجد حلاًّ لكل مشكلة بعينها وإنما يكون المطلوب منه أولاً أن يحاول تقوية الوازع الديني في نفس صاحب المشكلة، وأن يرسخ في ذهنه مفاهيم الإسلام، وأن يجلو عن نفسه مفاهيم الجاهلية وعندئذ ستزول كثير من المشكلات المعقدة من فكره ويكون بعد ذلك هو العامل الأول في حل مشكلاته الأخرى.
ولعل هذا المعنى هو الذي أشار إليه عبدالله بن مسعود ط وذلك فيما أخرجه الإمام الدارمي بإسناده أن ابن مسعود وحذيفة كانا جالسين فجاء رجل فسألهما عن شيء، فقال ابن مسعود لحذيفة: لأي شيء ترى يسألوني عن هذا؟ قال: يعلمون ثم يتركونه، فأقبل إليه ابن مسعود فقال: ما سألتمونا عن شيء من كتاب الله تعالى نعلمه أخبرناكم به أو سنة من نبي الله ج أخبرناكم به ولا طاقة لنا بما أحدثتم(1).
__________
(1) ... سنن الدارمي، المقدمة باب رقم 17 حديث 101(1/59).(23/47)
فقوله $ولا طاقة لنا بما أحدثتم# يعني والله أعلم من الأمور المبتدعة من أعمال الجاهلية التي كان بعض المنافقين وضعفاء الإيمان يقلدون بها الأمم المجاورة لدولة الإسلام، ثم يحاولون أن يجدوا لها مدخلاً في الإسلام.
وقد وجه ابن مسعود ط السائل في هذا الأثر إلى أن يركز في بحثه واستفساره على الكتاب والسنة ففيهما الغناء لمن اطَّرح الجاهلية وأقبل عليهما بصدق وعزيمة.
ومما يشار إليه في هذا المجال ما قام به الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مناظراته مع المعتزلة، حيث امتنع تماماً من الدخول معهم في مباحثهم العقلية وأصر على الالتزام بالكتاب والسنة، حيث كان يقول في كل مرة: أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله ج.
وهذا لا يعني أن يعتذر الفقيه عن حل مشكلات الأمة، فإن مهمة الفقيه الأولى بعد أن يتفقه في علوم الشريعة جيداً أن يدرس واقع المجتمع الذي يعيش فيه، ثم يجتهد في تطبيق الشريعة على الواقع، وذلك من عوامل تحقيق صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان.
ولذلك كان الأولى والأحوط أن يفتي في قضايا كل بلد علماؤها لجمعهم بين فهم الشريعة وفهم واقع المجتمع الذي جرت فيه القضية.
فالفقيه مسؤول إذاً عن الإفتاء في قضايا الأمة على هذا النحو، وإنما المقصود بما نبه إليه ابن مسعود ط تنزيه الإسلام من أن تنسب إليه مخالفات الجاهلية بمحاولة مرتكبيها حمل العلماء على تسويغ أفعالهم وإيجاد المخرج لهم ليستمروا على ارتكابها مع إشعار الناس بإقرارها من قِبَل العلماء.
2- المحافظة على الفقه المتوارث:
لقد اجتهد علماء الإسلام في محاولة فهم نصوص الكتاب والسنة فجمعوا بين المتعارضات في الظاهر وحملوا المطلق على المقيد والعام على الخاص والمجمل على المبين وكشفوا الناسخ والمنسوخ واستقصوا ما كان عليه العمل في عهد الصحابة ن حتى استقرت الأحكام مفصلة مبوبة حسب احتياج الناس.(23/48)
ولقد سار أكابر العلماء على احترام ما توصل إليه جهابذة العلماء من الاجتهادات التي دونوها أو دونها تلامذتهم بعد تأمل طويل ومناقشات جادة.
ولقد مضت سنة الله تعالى أنه يبرز في كل عصر عدد من المفكرين الحكماء وقد تخطر على أذهان بعضهم تأملات جديدة في نصوص الكتاب والسنة فيسارعون إلى نشر اجتهاداتهم وإفتاء الناس بها دون التعمق في بحث ما وصلت إليه اجتهادات العلماء السابقين واستقر عليه عمل المسلمين غالباً، وهذا نوع من التسرع في تغيير المفاهيم الثابتة التي توافر لدراستها جهابذة العلماء على مر العصور، والنظر الصحيح في هذا أن يتَّهم العالم اجتهاده المخالف لما ورثَتْه الأمة حتى يتبين له بعد دراسة طويلة متأنية أن ما مال إليه اجتهاده هو الصواب ولا يستعجله إلى الإدلاء باجتهاده أنه رأى أن الحق معه وأنه لا يجوز له أن يترك الناس على غير الحق فإن ما عليه الناس صادر عن اجتهاد أجيال من العلماء يرتفع بما اتفقوا عليه الشعور بالإثم أو مجانبة الحق، ولعله بعد التريث في نشر اجتهاده يتبين له أن الحق مع من خالفهم في الاجتهاد فيلزمه من غير أن يُحدث لدى الناس حيرة واضطراباً في نقلهم من فتوى إلى فتوى أخرى تخالفها ثم الرجوع إلى الفتوى الأولى، فإذا تبين له بعد التحري الطويل والدراسة الدقيقة أن اجتهاده هو الصواب فليعرضه برفق وتؤدة مع الثناء على العلماء الذين خالفهم في الرأي، وليكن عرضه لاجتهاده على أنه الحكم الذي فهمه من نصوص الكتاب والسنة وأن العلماء فهموا غير ذلك ثم يسوغ فهمه بما يراه من حجج، أما أن يعرض آراء العلماء وكأنها مجردة من الالتزام بالكتاب والسنة ثم يعرض ما جاء في الكتاب والسنة على أنه الحكم الذي يتبناه ويعارض به أقوال العلماء فهذا من الحيف الظاهر وعدم تقدير أهل الفضل والتقدم.(23/49)
وإن أي مسلم غيور على دينه تُعرض عليه أقوال العلماء ثم تُعرض عليه نصوص الكتاب والسنة على أنها قسيم معارض فإنه سيُقبل من فوره على نصوص الكتاب والسنة ويَخْلُد في ذهنه نفور من العلماء وازدراء لأقوالهم.
ولقد تنبه معاذ بن جبل ط إلى خطورة الاجتهادات المخالفة لما عليه أمر الأمة فحذر من الآراء التي تلفت الأنظار ويتساءل الناس عنها وذلك في وصيته لتلاميذه بقوله: $وأحذركم زيغة الحكيم فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم وقد يقول المنافق كلمة الحق، قال - يعني يزيد بن عميرة الراوي عن معاذ - قلت لمعاذ: ما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال: بلى، اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال لها ما هذه، ولا يثنينَّك ذلك عنه فإنه لعله أن يُراجِع، وتلقَّ الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً#(1).
وإن المتأمل لهذه المقالة يعجب كثيراً من صدورها في عصر الصحابة، وكبارُ علمائهم لا زالوا على قيد الحياة حيث إن من يتصف بهذه الصفة من العلماء لا يكاد يوجد في ذلك الزمن، فهل هذا إلهام من الله تعالى لإمام العلماء معاذ بن جبل أم أنه مما استفاده من توجيهات النبي ج؟
في الحقيقة أن هذا تحليل يصدقه واقع بعض العلماء في عصور الإسلام المختلفة.
__________
(1) ... سنن أبي داود، كتاب السنة، باب في لزوم السنة رقم 4611، سير أعلام النبلاء (1/532).(23/50)
وفي قوله في آخر كلامه $ولا يثنينَّك ذلك عنه فإنه لعله أن يُراجِع، وتلقَّ الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً#. توجيه لنقطة أخرى مهمة في المنهج العلمي وهي أن العالم إذا أخطأ فإن هذا لا يعني أن العلماء وطلاب العلم يجتنبونه ويرفضون الاستفادة منه بل يؤخذ عنه ما وافق فيه الحق ويرفض منه ما خالفه فيه، وعلى هذا المنهج سار كبار العلماء مما كان سبباً في حفظ ثروة علمية كبيرة لعلماء هذه الأمة، ولو كان من أخطأ منهم في الاجتهاد يرفض تماماً من الساحة العلمية لضاعت على الأمة ثروة كبيرة من التراث العلمي.
3- اجتناب الحديث عن المتشابهات:
ومن مقتضيات المنهج العلمي السليم اجتناب الاختلاف في فهم القرآن الذي يؤدي إلى التفرق في الدين، فلقد أمرنا النبي ج بالاجتماع على قراءة القرآن وتدبر معانيه مادامت قلوبنا مؤتلفة، وأمرنا بالإمساك عن ذلك في حالة الاختلاف حيث يقول: $اقرأوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه# أخرجه الإمام البخاري من حديث جابر ط(1).
__________
(1) ... صحيح البخاري، رقم 736، كتاب الاعتصام، باب 26(13/335) ...
صحيح مسلم، رقم 2667، كتاب العلم، باب 1(ص2053).(23/51)
وحذرنا رسول الله ج من الذين يتبعون متشابه القرآن ليضلوا الناس، وذلك فيما أخرجه الإمام مسلم من حديث عائشة ك قالت: تلا رسول ج ? الله ? - ? - ?- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - الله ? الله { ? - - - ?? صدق الله العظيم - - ? الله ? ? درهم - الله أكبر الله الله أكبر - - جل جلاله -? - ? - - - ? صدق الله العظيم ?- جل جلاله -? - رضي الله عنه - - - الله أكبر الله الله أكبر ? - - ? { - - الله أكبر الله الله أكبر ? - ? - صدق الله العظيم - ? - الله الله ? - ? الله - ? - الله أكبر - - درهم - الله أكبر الله الله أكبر - - جل جلاله -? - ? - - - - الله - الله أكبر - - الله ? - - رضي الله عنه - - - الله أكبر الله الله أكبر ?- جل جلاله - - - الله أكبر الله أكبر الله ? الله الله أكبر - - ? - الله الله ? - - - الله الله أكبر ? الله ??- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - ? صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - - ?- جل جلاله - - ? - الله أكبر ? - الله أكبر ? تمت ?? صدق الله العظيم الله أكبر ? الله } الله ?? - ?- جل جلاله - - الله الله - الله - الله الله أكبر ? - الله ? الله ? الله - - الله أكبر الله ? الله الله أكبر - - ? صدق الله العظيم ?- جل جلاله -? - ? - - الله أكبر الله ??- جل جلاله - - صدق الله العظيم الله أكبر - - - - جل جلاله -? الله الله أكبر ? صدق الله العظيم - - جل جلاله -? - ? - - - ? - - الله ??- جل جلاله - - صدق الله العظيم الله أكبر - - - الله ? - - - جل جلاله -?- جل جلاله -??- جل جلاله -? - - - الله الله أكبر - - الله ? الله ? - ? الله الله أكبر ? صدق الله العظيم ? الله الله أكبر ? - - سبحانه وتعالى - - ? الله الله أكبر ??- جل جلاله -? - - - الله الله أكبر - - بسم الله الرحمن الرحيم - درهم تمهيد - - - - ? - - - - الله ?? - - - جل جلاله -? - الله الله - ? - - الله(23/52)
? ? - - رضي الله عنهم - - ?- جل جلاله -? - ? - - الله ?? الله أكبر ?? - ? الله الله أكبر ? - بسم الله الرحمن الرحيم - ? الله ? - - ? - - جل جلاله -?- جل جلاله - - الله تمت ? الله أكبر ? ??- جل جلاله - الله ? - جل جلاله - - ?- جل جلاله -? - - الله الله أكبر ? الله - جل جلاله - الله أكبر - الله } - الله ? الله ? - - بسم الله الرحمن الرحيم - } بسم الله الرحمن الرحيم - - الله الله أكبر ? - - بسم الله الرحمن الرحيم - درهم تمهيد - - المحتويات - ? الله أكبر ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - الله أكبر - - درهم - الله أكبر الله - - ? - - - - ? - - } - { ?[آل عمران:7] قالت: قال رسول الله ج: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم(1).
ولقد حرص الصحابة ن على إبعاد المجتمع الإسلامي آنذاك عن الجدل والبحث في المتشابهات، وكان عمر ط يعاقب من عُرف عنه ذلك كما أخرج الدارمي بإسناده من حديث سليمان بن يسار أن رجلاً يقال له صُبَيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر وقد أعدّ له عراجين النخل فقال: من أنت؟ قال: أنا عبدالله صبيغ فأخذ عمر عرجوناً من تلك العراجين فضربه وقال: أنا عبدالله عمر، فجعل له ضرباً حتى دمي رأسه فقال: يا أمير المؤمنين حسبك قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي(2).
__________
(1) ... صحيح مسلم رقم 2665، كتاب العلم، باب 1( ص2053).
(2) ... سنن الدارمي/ المقدمة باب 19 حديث 144.(23/53)
وعلاج أمير المؤمنين عمر ط لهذه القضية سائغ في عصره وأمثاله من العصور التي تكون فيها دولة الإسلام قوية وجماعة المسلمين متماسكة، حيث يؤمَن على من وقع في شيء من الجدل من أن يقع في فتنة أكبر، أما إذا كان حسم القضية بالتأديب يؤدي إلى استفحال الأمر أو لجوء صاحب القضية إلى مجتمع يشجعه على الاستمرار في انحرافه أو يؤدي إلى إضعاف كلمة أهل الحق فإن العلاج يكون بالحكمة التي نضمن بها عدم حدوث ضرر أكبر.
4- اجتناب التحديث بما يجر إلى الفتن:
ومن مقتضيات المنهج العلمي السليم اجتناب ذكر النصوص التي قد تثير شبهات لدى بعض الناس أو تجرهم إلى الوقوع في فتنة، وذلك في الحديث بها على ملأ من الناس تختلف مداركهم أو أمام أقوام لا يستطيعون استيعاب مقاصدها والاقتصار في بيان هذه النصوص على طلاب العلم الذين هم أهل لإدراكها ولا يخشى عليهم من التعرض للفتنة بسببها.
ومما جاء في هذا المعنى نهي علي ط طلاب العلم أن يحدِّثوا الناس بما لا تدركه عقولهم، وقد عقد الإمام البخاري باباً في كتاب العلم من صحيحه لهذا المعنى عَنْونَه بقوله: باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا قال: وقال عليّ: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذّب الله ورسوله؟(1).
ومن ذلك ما أخرجه الإمام مسلم من حديث عبدالله بن
مسعود ط أنه قال: $ما أنت محدِّثاً قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم
إلا كان لبعضهم فتنة#(2).
__________
(1) ... صحيح البخاري، كتاب العلم، باب 49 (1/225).
(2) ... صحيح مسلم، المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع، رقم 5.(23/54)
وقال الحافظ ابن حجر في شرح أثر علي ط: وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجُرابين، وأن المراد ما يقع من الفتن، ونحوه عن حذيفة، وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحَجَّاج بقصة العُرَنيين لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي، وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة وظاهره في الأصل غير مراد فالإمساك عنه عند من يُخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب، والله أعلم(1).
وقوله $كما تقدم عنه في الجُرابين# يعني قوله $حفظت من رسول الله ج وِعَاءَين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم#(2).
قال الحافظ ابن حجر: وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم، وقد كان أبو هريرة يكنِّي عن بعضه ولا يصرح به خوفاً على نفسه منهم، كقوله أعوذ بالله من رأس السِّتيِّن وإمارة الصبيان يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية وكانت سنة ستين من الهجرة واستجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة.
قال: وإنما أراد أبو هريرة بقوله $قُطع# أي قَطع أهل الجور رأسه إذا سمعوا عيبه لفعلهم وتضليله لسعيهم، ويؤيد ذلك أن الأحاديث المكتومة لو كانت من الأحكام الشرعية ما وسعه كتمانها لما ذكره في الحديث الأول من الآية الدالة على ذم من كتم العلم(3).
وعلى هذا فإن ما كتمه أبو هريرة ط ليس مما يتضمن بيان حكم شرعي وإنما هو من الإخبار عما سيجري في المستقبل، وقد اقتضت الحكمة عدم الإخبار به آنذاك لأن الإخبار به يجر إلى فتنة.
__________
(1) ... فتح الباري (1/225).
(2) ... صحيح البخاري رقم 120، كتاب العلم باب 42(1/216).
(3) ... فتح الباري (1/216).(23/55)
ومما جاء في هذا المعنى مما يكون السكوت عنه أولى لدرء الفتنة ولا يترتب على السكوت عنه تعطيل حكم شرعي ما أخرجه الإمام أبو داود من حديث عمرو بن أبي قرة قال: كان حذيفة بالمدائن، فكان يذكر أشياء قالها رسول الله ج لأناس من أصحابه في الغضب، فينطلق ناس ممن سمع ذلك من حذيفة فيأتون سلمان فيذكرون له قول حذيفة فيقول سلمان: حذيفة أعلم بما يقول، فيرجعون إلى حذيفة فيقولون له: قد ذكرنا قولك لسلمان فما صدقك ولا كذبك فأتى حذيفة سلمان وهو في مَبقَلة(1) فقال: يا سلمان ما يمنعك أن تصدقني بما سمعت من رسول الله ج فقال سلمان: إن رسول الله ج كان يغضب فيقول في الغضب لِناس من أصحابه، ويرضى فيقول في الرضا لناس من أصحابه، أمَا تنتهي حتى تورِّث رجالاً حب رجال ورجالاً بغض رجال، وحتى توقع اختلافاً وفرقة؟ ولقد علمتَ أن رسول الله ج خطب فقال: $أيما رجل من أمتي سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون، وإنما بعثتَني رحمة للعالمين فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة، والله لتنتهيَنَّ
أو لأكتبن إلى عمر#(2).
ونص كلام النبي ج أخرجه الإمام مسلم من عدة طرق عن أبي هريرة ط قال: سمعت رسول الله ج يقول: $اللهم إنما أنا بشر يغضب كما يغضب البشر، وإني قد اتخذت عندك عهداً لن تُخلفنيه، فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها له كفارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة#(3).
وأخرجه الإمام البخاري مختصراً من حديث أبي هريرة ط(4).
__________
(1) ... المبقلة: مزرعة البقل.
(2) ... سنن أبي داود، كتاب السنة، باب الخلفاء رقم 4494.
(3) ... صحيح مسلم، كتاب البر والصلة، رقم 2601.
(4) ... صحيح البخاري، كتاب الدعوات، رقم 6361.(23/56)
ومن هذا الأثر يتبين لنا فقه سلمان ط حيث لاحظ احتمال ترتب وقوع الفتنة على التحديث بأحاديث المدح والذم المتعلقة بالناس فنهى حذيفة ط عن إعلانها وحذيفة كان يحدث بها من باب أداء الأمانة والحذر من كتمان العلم.
وإنا لنلحظ في هذا النص مثلاً عالياً للأدب العلمي عند الاختلاف فسلمان حينما أنكر ما يحدث به حذيفة م لم ينتقده أمام طلاب العلم على الرغم من أن هؤلاء الطلاب كانوا يأتون إليه ويسألونه عما يحدث به حذيفة ولم يزد على أن يقول لهم: $حذيفة أعلم بما يقول# حتى إذا جاء إليه حذيفة وحده أظهر له انتقاده بشدة حتى هدده بالشكوى إلى أمير المؤمنين عمر ط، وإن هذا السلوك العالي يعدُّ أثراً ظاهراً من آثار قوة الإيمان، بينما يعدُّ من ضعف الإيمان أن ينتقد المسلم أخاه أمام الملأ ثم إذا قابله ابتسم له وكأن شيئاً لم يكن، ولقد طهر الله تعالى مجتمع الصحابة ن من هذا السلوك المنحرف.
منهج السلف في المجال العملي:
أما الركن الثاني من أركان الاقتداء بالسلف الصالح ن وهو مجال العمل فيكون بالالتزام بمنهجهم في العمل الصالح الذي هو تطبيق الإسلام كما جاء من عند الله تعالى، ويكون ذلك بإقامة أركان الإسلام، ثم بأداء الواجبات العينية التي تجب على كل فرد بعينه، سواء في ذلك الواجبات الفعلية وهي الطاعات أو الواجبات التَّركية وهي اجتناب المعاصي، ثم في أداء الواجبات الكفائية التي إذا قام بها بعض المسلمين سقطت عن بقيتهم، ثم في أداء النوافل.
وقد كنا أخذنا نبذة عن أهمية أركان الإسلام، أما الواجبات العينية فإنها مفصلة تفصيلاً كاملاً في الكتب الفقهية.(23/57)
وأما الواجبات الكفائية فمنها ما هو من قبيل العبادات الخاصة التي يختص نفعها بفاعلها كصلاة العيدين، وهذه العبادات قد ذكر الفقهاء أحكامها بالتفصيل، ومنها ما هو من قبيل العبادات المتعدية التي يتعدى نفعها للآخرين، وذلك كالدعوة إلى الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله تعالى، وإقامة دولة الإسلام، وهذه قد كتب العلماء عما يتعلق بأحكامها في كتب الفقه، كما كتب فيها الدعاة إما في كتب منفردة أو ضمن كتب عامة.
وبهذا تبين لنا شمول السلفية للمجال العملي في الإسلام، وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان أهمية الأحكام التكليفية التي هي مدار بحث الفقهاء والتي سماها المسائل العملية، بينما سمى مسائل العقيدة المسائل الخبرية:
وأصل هذا ما قد ذكرته في غير هذا الموضع: أن المسائل الخبرية قد تكون بمنزلة المسائل العملية، وإن سمِّيتْ تلك (مسائل أصول) وهذه (مسائل فروع) فإن هذه تسمية محدثة، قسمها طائفة من الفقهاء والمتكلمين، وهو على المتكلمين والأصوليين أغلب، لا سيما إذا تكلموا في مسائل التصويب والتخطئة.
وأما جمهور الفقهاء المحققين والصوفية فعندهم أن الأعمال أهم وآكد من مسائل الأقوال المتنازع فيها، فإن الفقهاء كلامهم إنما هو فيها، وكثيراً ما يكرهون الكلام في كل مسألة ليس فيها عمل، كما يقوله مالك وغيره من أهل المدينة، بل الحق أن الجليل من كل واحد من الصنفين (مسائل أصول)، والدقيق (مسائل فروع).
فالعلم بوجوب الواجبات كمباني الإسلام الخمس، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة، كالعلم بأن الله على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وأنه سميع بصير وأن القرآن كلام الله، ونحو ذلك من القضايا الظاهرة المتواترة، ولهذا من جحد تلك الأحكام العملية المجمع عليها كفر، كما أن من جحد هذه كفر.
وقد يكون الإقرار بالأحكام العملية أوجب من الإقرار بالقضايا(23/58)
القولية، بل هذا هو الغالب، فإن القضايا القولية يكفي فيها الإقرار بالجُمَلِ، وهو الإيمان بالله وملائكته، وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره.
وأما الأعمال الواجبة فلا بد من معرفتها على التفصيل لأن العمل بها لا يمكن إلا بعد معرفتها مفصلة، ولهذا تقر الأمة من يفصلها على الإطلاق، وهم الفقهاء، وإن كان قد ينكر على من يتكلم في تفصيل الجمل القولية، للحاجة الداعية إلى تفصيل الأعمال الواجبة، وعدم الحاجة إلى تفصيل الجمل التي وجب الإيمان بها مجملة(1).
- - - - -
من سلبيات المفهوم القاصر للسلفية
هذا وإن من السلبيات المترتبة على قصر مفهوم السلفية على جانب من جوانب الدين أن الذي يحقق هذا الجانب يعدُّ ممثلاً للسلفية وإن كان مهملاً للجوانب الأخرى، فالذي يحقق المنهج السلفي في قضايا الخلاف في العقيدة يكون سلفيّاً وإن كان من الفساق الذين يرتكبون الكبائر، وهذا مخالف لمنهج السلف ن الذين كانوا يأخذون بالدين كله على أنه وحي من الله جل وعلا ويحكمون على الناس من خلال تحقيقهم أمور الدين كلها.
ومن السلبيات أيضاً أن كلمة (السلفية) حلت عند بعض الطوائف محل الإسلام، فأصبح الاعتزاز بها أكثر من الاعتزاز بالإسلام، ذلك لأنها تعطي مجالاً للتميز عن سائر المسلمين، وهذا التميز يصادم الأخوة الإسلامية ويضعفها، حيث يَشعر من يحمل شعار السلفية بأن إخوانه في الدين حقّاً هم من يشاركونه في ذلك المنهج، بينما يشعر من يحمل شعار الإسلام بأن جميع المسلمين إخوة له في الدين.
__________
(1) ... مجموع الفتاوى (6/56).(23/59)
وذلك أيضاً يتنافي مع قول الله جل وعلا: ? ?? الله ? الله ? - ? الله { صدق الله العظيم - - - - ? - درهم ?? الله الله أكبر ? ? الله الله ?- جل جلاله - الله ? - - الله ? الله - ? - ? - تمهيد - - ?- جل جلاله - - - - الله ?- جل جلاله -? الله ? الله ? - - - - جل جلاله -? - الله أكبر الله أكبر الله ? الله ? - الله الله أكبر ? الله ? ?- جل جلاله -? بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? - تمهيد - الله ?- جل جلاله -? الله ? - - جل جلاله -?- جل جلاله -? { الله أكبر { - ? - ? - - ?[فصلت:33] فقد بين تعالى أن من أحسن القول الاعتزاز بالاتنماء إلى الإسلام، ولم يذكر أي شعار آخر غير شعار الإسلام.
وأذكر أنني تعرفت على شاب من إحدى الدول العربية، فقال لي في التعريف بنفسه: أنا من السلفيين، وقد قالها بفخر واعتزاز، ولما ذكر أعداء هذه الدعوة لم يذكر إلا طائفة أخرى من دعاة الإسلام النشطين، وسماهم (الطابور الخامس)، فأسفت لهذا التفكير الضيق، والتعصب الحزبي الممقوت، وقد كان هذا الأخ بكلامه ذلك صورة من النشاط الموجه داخل طائفته، وكان ينبغي أن يكون نشاطه موجهاً ضد أعداء الإسلام من خارج المجتمع الإسلامي ومن داخله من المنتسبين إليه في الظاهر، وأن تكون نظرته إلى إخوانه في الدعوة من الجماعات الأخرى نظرة رحمة ومحبة وأخوة، وأن يكون بيان أخطاء الجماعات الإسلامية موجهاً إلى قادتها لإصلاحها من الداخل، بدلاً من التشهير بها والبراءة منها.
فالسلفية ليست حزباً معيناً، والدفاع عنها ليس دفاعاً عن حزب معين يدور أتباعه حول مبادئه التي رسمها له مؤسسوه، وإنما هي محاولة للرجوع بالمسلمين جميعاً إلى فهم الإسلام وتطبيقه كما أراد الله تبارك وتعالى.(23/60)
وما قلته في الإنكار على من اتخذ السلفية حزباً ينتمي إليه وتعصب له وتهجم على الجماعات الأخرى ينطبق على كل الجماعات الإسلامية، وإنما كان ذكر السلفيين الحزبيين لأن مجال الحديث في هذا الباب عن سلبيات حصر السلفية في مفهوم ضيق، واتخاذها حزباً يوالى عليه ويعادَى من أجله.
ومن سلبيات التميز بهذا الشعار الخاص أنه يحمل أصحابه على التشدد في التمسك بما يرونه هو الحق، وهذا يبعث على حصر الأفكار في مفاهيم محددة وعدم النظر فيما عند المخالفين وإغلاق باب الحوار والمناقشة، من باب سد الذرائع حتى لا يدخل أصحاب هذا الاعتقاد فيما يرونه شبهات ويراه الآخرون هو الحق، ومن باب الشعور بأن على الآخرين أن يقبلوا الحق دون نقاش ولا جدل، كما أنه يفتح باب النقد المبني على التجريح والطعن في عقائد المخالفين.
وهذا الأسلوب يجب أن يكون قاصراً على معاملة المعاندين الذين يعرفون الحق ومع ذلك يهجرونه ويدعون إلى الباطل كالملحدين والعلمانيين وذلك لأن المسلم الداعية حينما يخاطب هؤلاء لا يخاطب إخوانه، وإنما يخاطب أعداءه، وخطاب الأعداء يُنظر فيه الحكمة ومصلحة الدعوة، فإذا كانت الحكمة تقتضي العنف فإنه يكون أبلغ وأولى من اللين، وإذا كانت تقتضي السماحة واللين
فإن العنف لا يجوز لأنه ينفِّر من سماع دعوة الحق، ولنا في ذلك
أسوة حسنة برسول الله ج في دعوته الكفار كما هو واضح
من سيرته الشريفة(1).
أما إذا كان المسلم الداعية يخاطب مسلمين انحرفوا في نظره عن الصواب فإنه لا يجوز له أن يعنفهم لأنهم إخوانه في الدين، فالأخوة الإسلامية باقية ما بقي الدين، فكيف يستبيح لنفسه أن يعنف إخوانه؟!
__________
(1) ... ينظر التاريخ الإسلامي، مواقف وعبر - للمؤلف، ج1و2و3.(23/61)
ومن السلبيات أيضاً أن الذين يشعرون بأن مِن مَهامِّهم الأساسية القيام بتصحيح عقائد المسلمين قد يصاب المبتدئون منهم بالغرور، وتسوء أخلاقهم في معاملتهم مع المخالفين وإن كانوا في حياتهم العامة يتعاملون مع الناس بالتواضع، ويزيد الأمر سوءاً حينما يعاملهم الآخرون بالمداراة وعدم الدعوة إلى فتح باب الحوار ومحاولة الوصول إلى الحق الذي تتوحد به الأفكار وتجتمع عليه القلوب.
وإذا تذكرنا أن النبي ج كان يسارع إلى الحوار مع الكفار رجاء أن يتبين لهم الحق(1) فكيف لا يسارع علماء الإسلام إلى الحوار مع المخالفين ليتوصلوا إلى حلٍّ يؤلف بين قلوبهم ويجمع شملهم ويرفع الحرج عن أتباعهم؟!
ومن السلبيات أن أكثر السلفيين المعاصرين قد شَغلوا أنفسهم بقضايا محددة كقضية تأويل النصوص الشرعية على خلاف ظاهرها والبدع التي تُعمل حول القبور والتوسل بالصالحين ونحو ذلك مما لا يكلفهم مجابهة مع الآخرين، وتركوا الأمور التي فيها مجابهة كالحكم بغير ما أنزل الله تعالى والسياسات الجاهلية، وأشعروا أتباعهم بأن الأمور التي يدعون إليها هي الأمور المهمة وحدها، فاكتفى الأتباع بتلك الدعوة وفهموا أنهم غير مسؤولين عن تقويم الحكم والسياسة على ضوء الإسلام ونقد الجاهليات المعاصرة، مع أن هذه الأمور من أهم التكاليف التي قام بها رسول الله ج وأصحابه.
ومن السلبيات أيضاً أن بعض السلفيين في بعض بلاد الإسلام قد جعلوا السلفية مرادفة للحديث ومضادة للفقه، وباعتبار أن المذهب الفقهي السائد في تلك البلاد هو مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى فإن بعض السلفيين إذا أرادوا أن يتعرفوا على اتجاه إنسان يقولون له: أنت سلفي أم حنفي؟!
__________
(1) ... ينظر كتاب (التاريخ الإسلامي، مواقف وعبر) ج1.(23/62)
ولا أدري ما أصل ذلك! فإن أبا حنيفة من أتباع التابعين وقيل إنه من التابعين بينما الذين اشتهروا من العلماء بأنهم أصحاب الحديث قد جاؤوا بعد ذلك، فكيف أخرجوا أبا حنيفة من السلف وهو سابق لأكثر أئمة الحديث؟!
وإذا سرنا على اعتبار أن السلف الذين أمرنا رسول الله ج باتباعهم هم الصحابة ن كما تقرر سابقاً فإن الصحابة كانوا يعتنون بالفقه الذي اعتنى به أبو حنيفة، وهو قد تأسى بفقهاء الصحابة الذين كانوا بالعراق كعبدالله بن مسعود ط حيث انتشر مذهبه في العراق وأخذه التلاميذ عن الشيوخ.
ويجب أن نفرق بين أصول المذاهب القائمة على الاجتهاد والاستنباط من الكتاب والسنة وبين بعض العلماء المتأخرين من المقلدين الذين يردون السنة وإن صح سندها تقليداً لمن سبقهم من الفقهاء.
ومن السلبيات أن بعض دعاة السلفية يرون أفراد الجماعات الدعوية الأخرى ضالين عن الطريق المستقيم، ولذلك فهم يشتغلون بدعوة من ينتمون إلى تلك الجماعات من الصغار وكأنهم يقومون بدعوة العلمانيين أو البعيدين عن المجال الدعوي، وإن دعوة خالي الذهن من الانتماء الدعوي أسهل بكثير، حيث يسارع الشباب من هذا النوع إلى الاستجابة، لشعورهم بالفراغ الفكري والوجداني وعثورهم على من يملأ ذلك فيهم، أما دعوة المنتمين ولو بصورة مبدئية إلى جماعة معينة فإن ذلك في غاية الصعوبة، لأن الذين سبقوا واجتذبوا أولئك الشباب من الفراغ الدعوي يكونون قد ملؤوا فراغهم، فالذين يوجهون دعوتهم إلى هؤلاء ليحوِّلوا اتجاههم يضيِّعون أوقاتاً طويلة بدون أي فائدة، لأن من سيحاولون تغيير انتمائهم قد سلكوا طريق الهداية، وهذا هو المهم من غير نظر إلى نوعية الانتماء.
وربما ينتج عن محاولاتهم هذه وقوع بعض الشباب في التذبذب والحيرة لدخولهم في مجال الحرج في محاولة إرضاء دعاة الطائفتين، فينتج عن ذلك رفض الطائفتين معاً والبعد عن المجال الدعوي.(23/63)
ولو أن هؤلاء الإخوة المنتمين للسلفية فهموا شمول السلفية ولم يحكموا على إخوانهم الآخرين بالضلال والانحراف، وسلكوا طريق العدالة في الحكم على المخالفين فحكموا عليهم بالخطأ على ما تقدم في رسالة (شمول الاجتهاد).. لو أنهم فعلوا ذلك لعدُّوا أفراد الجماعات الأخرى زملاء لهم في الدعوة، ولكان مما يسرهم تقدم أولئك الزملاء في المجال الدعوي، لأن الذي ينبغي أن يهتم له الدعاة هو ارتفاع مستوى الرصيد الشامل من الدعاة وليس عدد أفراد الجماعة التي ينتمي إليها الداعية.
ولو أنهم فعلوا ذلك لوجهوا جهودهم بالكامل إلى القطاع الكبير من شباب المسلمين الذين لا يزالون يعيشون في الفراغ الفكري والوجداني، لأن البراعة حقّاً هي في اجتذاب هؤلاء إلى أي اتجاه في الهداية، ليس في اجتذاب المهتدين من جماعة أخرى إلى جماعة هؤلاء الدعاة.
وما ذكرته في هؤلاء المتجاوزين من دعاة السلفية يقال في أفراد الجماعات الأخرى إذا تخلوا عن ميدانهم الحقيقي واشتغلوا بدعوة أفراد الجماعات الأخرى.
إن ذلك الصراع الدائر بين أفراد الجماعات الدعوية - وهم ما زالوا في المراحل الأولى - في التنافس على من سلكوا طريق الهداية يدل على تحوُّل خطير في الهدف الأساسي في الدعوة، حيث يتحول الهدف من محاولة اجتذاب الحيارى والتائهين إلى طريق الهداية إلى محاولة زيادة عدد المنتمين إلى الجماعة ولو على حساب منافسة الجماعات الأخرى في اجتذاب أفرادها، فالهدف الصحيح هو محاولة زيادة عدد السالكين في طريق الهداية بغَضِّ النظر عن انتماءاتهم الدعوية.
وبهذا يتبين لنا أن القصور في فهم شمول السلفية والخطأ في فهم شمول الاجتهاد في الدين يحوِّل الصراع بين دعاة الإسلام وأعدائه إلى صراع داخلي فيما بينهم، كما أنه يُضْعِف كثيراً من مجال الدعوة الحقيقي، حيث تُوجَّه الجهود إلى تحويل الاتجاهات في قطاع المهتدين بدلاً من أن توجه إلى دعوة الحيارى والضالين.
- - - - -
أقسام دعاة السلفية(23/64)
الذين يدعون إلى الاقتداء بالسلف الصالح ن أقسام:
قسم منهم يدعون إلى الاقتداء الكامل بهم في جميع أمور الدين
في المجالين العلمي والعملي، وهؤلاء هم أغلب علماء الأمة الإسلامية على مر العصور.
وقسم منهم يدعون إلى الاقتداء بالسلف الصالح في بعض محتوى المجال العلمي، وهو أمور الاعتقاد، وهؤلاء غالباً يركزون في دعوتهم على مسائل الخلاف التي جرى فيها النقاش والرد على المخالفين.
وقسم منهم يدعون إلى الاقتداء بالسلف الصالح في بعض محتوى المجال العملي، وذلك في المسائل الفقهية، وتتلخص دعوتهم في ترك اجتهادات العلماء والرجوع في كل مسألة إلى الكتاب والسنة، وقد يجمع أصحاب القسم الثاني بين الدعوة الثانية والثالثة.
ولا شك أن أصحاب القسم الأول هم دعاة السلفية الكاملة لأنهم يدعون إلى شمول السلفية لكل أمور الدين.
أما أصحاب القسم الثاني والثالث فإن لديهم قصوراً في فهم السلفية، فلذلك قصروا دعوتهم على بعض محتوياتها، بغَضِّ النظر عن كونهم أصابوا أو أخطؤوا فيما دعوا إليه.
شمول السلفية لعموم المسلمين:
مما سبق ذكره تبين لنا أن السلفية ليست مذهباً معيناً لطائفة من المسلمين، وإنما هي وصف عام يتصف به جميع المسلمين، لأن السلفية تعني الاقتداء بالسلف الصالح في فهم الإسلام وتطبيقه، وقد تقدم لنا أن السلف الصالح الذين أمرنا رسول الله ج بالاقتداء بهم هم الصحابة ن.
والانتساب إلى السلف الصالح أمر نسبي، فعلى قدر حظ المسلم من الاهتداء بهدي رسول الله ج وأصحابه يكون حظه من السلفية، ويكون سلفيّاً كاملاً إذا كان اقتداؤه بالسلف الصالح كاملاً في أمور الدين العلمية والعملية.
وعلى هذا فلا يجوز إخراج المسلم المهتدي بهدي رسول الله ج وأصحابه من السلفية وإن كانت له مخالفات، لأنه مهما بلغت مخالفته في مجالي العلم والعمل فإن له حظّاً من الاقتداء بالسلف الصالح، بل يقال عن المخالف في أمور علمية أو عملية: إنه غير سلفي في أمر كذا وكذا.(23/65)
- - - - -(23/66)
الرسالة الخامسة
شمول السلفية
W
سلسلة الرسائل الشمولية
الرسالة الخامسة
...
شمول السلفية
إعداد الدكتور
عبد العزيز بن عبد الله الحميدي
المشرف على الإدارة العامة للدعوة في رابطة العالم الإسلامي
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
1424هـ – 2003م(24/1)
- فهرس الموضوعات -
الموضوع ... رقم الصفحة
مقدمة الرسائل........................................................ ... 5
الرسالة الخامسة: شمول السلفية............................... ... 11
المقدمة.................................................................... ... 13
السلفية في اللغة والاصطلاح..................................... ... 15
السلف المعتدُّ بهم..................................................... ... 17
- الصحابة هم موضع القدوة............................ ... 19
- نماذج من صفات الصحابة ن........................ ... 25
معالم الاقتداء بالسلف الصالح.................................. ... 33
الأمر الأول: الإسلام......................................... ... 35
الأمر الثاني: الإيمان............................................ ... 48
الأمر الأول: الإحسان........................................ ... 56
- علامات الساعة............................................ ... 62
- شمول حديث سؤال جبريل للسلفية................ ... 69
شمول السلفية لمجالي العلم والعمل........................... ... 71
- منهج السلفي في المجال العلمي........................ ... 72
1- توحيد مصدر التلقي................................... ... 73
- أثر هذا المنهج في حل المشكلات...................... ... 77
2- المحافظة على الفقه المتوارث.......................... ... 79
3- اجتناب الحديث عن المتشابهات.................... ... 83
3- اجتناب التحديث بما يجر إلى الفتن................. ... 85
- منهج السلفي في المجال العملي........................ ... 90
من سلبيات المفهوم القاصر على السلفية....................
. ... 93
أقسام دعاة السلفية.................................................. ... 103(25/1)
- شمول السلفية لعموم المسلمين....................... ... 104
فهرس الموضوعات.................................................. ... 105
- - - - -(25/2)
الرسائل الشمولية ( 5 ) ...
الرسالة الخامسة
شمول السلفية(26/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العلي القدير، السميع البصير، الفعال لما يريد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، سيد الأولين والآخرين وإمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: فهذه رسائل علمية في مجال العقيدة، أقدمها بين يدي إخواني القراء الكرام، لعلها تسهم في شيء من إصلاح المجتمع الإسلامي، وتحقيق الوضع الأمثل له في حاضره ومستقبله.
وإن مما دفعني إلى تأليف هذه الرسائل ما رأيته من واقع بعض المسلمين السيء، حيث تفرقوا شيعاً وأحزاباً، وتنافرت قلوبهم، وتشتت شملهم.
وكان من أهم الأسباب في ذلك ما جرى من الشقاق بين بعض أهل العلم منهم، وإشغال أنفسهم في الردود بعضهم على بعض واتهام بعضهم بعضاً في دينهم.
لقد كان الصحابة ن مُتَّفقِي الكلمة، تجمعهم جماعة واحدة، ويحترم علماؤهم بعضهم بعضاً، ويثني بعضهم على بعض وإن اختلفوا في الاجتهاد في بعض المسائل الشرعية، إلى أن حصل التفرق في المسلمين من بعض التابعين الذين لم يلتزموا بمنهج الصحابة ، فشنوا حملاتهم المغرضة على أمير المؤمنين عثمان ط إلى أن استشهد فتفرق المسلمون من بعده، وقد صاحب تفرقَهم في الآراء تفرق في الدين، ومن أبرز ما حدث آنذاك ظهور الخوارج والرافضة بمختلف طوائفهم، ثم محاولة غزو الإسلام من داخله، وذلك بنشر المذاهب العقدية المنحرفة التي تعتمد على العقل ولا تُحكِّم شريعة الإسلام، وتعتمد على الهوى المنحرف.(27/1)
وفي سبيل مكافحة ذلك الخطر الداهم والغزو الفكري المنظم قام مجموعة من العلماء أصحاب الغيرة والتقوى بالرد على أولئك المنحرفين الضالين عن سبيل الهدى، ولو أن أولئك العلماء جميعاً استقاموا على منهج واحد سليم على مر القرون الإسلامية لنجحوا سريعاً في صد الباطل وجمع كلمة أهل العلم الديني، ومن ورائهم أفراد المسلمين الذين يرون العلماء قادة وموجهين لهم، ولكنهم اختلفوا في بعض تفاصيل المنهج فضعفت كلمتهم وصار بأسهم بينهم أحياناً، وكان ذلك سبباً في استفحال الشر وقوة أهله وامتداد زمن الصراع الفكري بين دعاة الحق ودعاة الباطل.
وهذه الرسائل من مهماتها تقريب وجهات النظر بين المختلفين من أهل العلم والتقوى ليُلقوا أسلحتهم الموجهة إلى نحورهم، وليتفرغوا لأعدائهم الحقيقيين، ولتجتمع من ورائهم الأمة الإسلامية.
ولقد جرت محاولات جادة لجمع علماء المسلمين تحت لواء واحد، خصوصاً في هذا العصر على إثر انتشار الصحوة الدينية وتعدد الجماعات الإسلامية، ولكنْ حال دون النجاح في ذلك اختلاف بعض أهل العلم الذي تولد عنه اختلاف القلوب، وكانت العقبة الكبرى التي تحول دون اجتماعهم هي الخلافات العقدية التي انبنى عليها حكم بعضهم على بعض بالضلال والابتداع، وإذا كان أهل العلم يضلل بعضهم بعضاً ويبدع بعضهم بعضاً فإن اجتماعهم على عمل واحد يكون بعيد المنال، فكان من أهداف هذه الرسائل رفع معالم واضحة لعلماء الأمة كي يلتقوا عليها وإن لم يتفقوا على رأي واحد، تمهيداً لجمعهم تحت رابطة واحدة ولواء واحد.(27/2)
ومن مقاصد هذه الرسائل أنها تعالج أنواعاً من القصور في فهم بعض أمور الدين، وهذا القصور ناتج من عوامل متعددة، منها الميل من بعض الدعاة إلى التميز عن سائر المسلمين، وعدم مراعاة المحافظة على جماعة المسلمين العامة، وعدم الاهتمام الكافي بجمع كلمة المسلمين، وعدم وجود الفزع والإشفاق من تفرقهم وضعف قوتهم، كما أن من أسباب ذلك تركيز الأفكار على قضايا محدودة من الدين وضعف الاهتمام بقضايا الدين الأخرى.
كما أن من محتويات هذه الرسائل محاولة صد هجوم مكثف
من أعداء الإسلام بقصد تذويب المسلمين ودمجهم في أصحاب الديانات الأخرى.
وهذا تعريف موجز بهذه الرسائل :
الأولى: (شمول الاجتهاد في الدين)، وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن الاجتهاد في الدين يشمل العقائد كما يشمل الأحكام الفقهية، اقتداء بالصحابة رضي الله عنهم، واسترشاداً بأقوال العلماء الربانيين المحققين، وتلمساً للسبل التي تخلص الأمة الإسلامية من الشقاق والنزاع والعداوة والبغضاء.
الثانية: (شمول العقيدة) وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن العقيدة تشمل كل عمل يتعلق باعتقاد القلب وإن كان ظاهره ليس من أمور العقيدة، ومن أبرز ذلك تحكيم الإسلام في جميع شئون الحياة ورفض الحكم بغير ما أنزل الله تعالى.
الثالثة: (شمول العبادة) وهذه الرسالة تهدف إلى بيان
أن العبادة تطلق على كل عمل مشروع أريد به وجه الله
تعالى، مع بيان الإيجابيات لهذا الفهم الشامل والسلبيات
للفهم القاصر.
الرابعة: (شمول معالم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة)،
وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن صفات الفرقة الناجية والطائفة المنصورة تجمع بين العلم النافع والعمل الصالح، وما يترتب على ذلك من النتائج البناءة في قيام جماعة المسلمين وحمايتها
من التصدع والانهيار.(27/3)
الخامسة: (شمول السلفية)، وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن السلفية لا تختص بالعقائد، بل تشمل كل ما جاء به الدين من العلم النافع والعمل الصالح، ولذلك فهي تشمل قطاعاً كبيراً من المسلمين ولا تختص بطائفة معينة، مع بيان السلبيات المترتبة على حصر السلفية في طائفة محدودة، أو في جانب معين من الدين.
السادسة: (شمول الإسلام للرسالات السماوية)، وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن أصل الدين الذي هو التوحيد شامل لكل الرسالات السماوية، وأن الإسلام العام يطلق على كل هذه الرسالات، وفي هذا رد على فرية التقريب بين الأديان السماوية.
وقد سمَّيتُ هذه الرسائل (الرسائل الشمولية) لأنها كلها تشتمل على تصحيح بعض المفاهيم القاصرة، وتدعو إلى شمولية الفهم لمحتويات هذه الرسائل.
هذا وقد كنت كتبت هذه الرسائل ما بين عامي أربعة وأربعمائة وألف وأربعة عشر وأربعمائة وألف، وذلك حينما كنت أدرِّس مادة العقيدة في المعهد العالي لإعداد الأئمة والدعاة التابع لرابطة العالم الإسلامي، وقد درَّست أغلب مادة هذه الرسائل لطلاب ذلك المعهد، كما نقلها عدد منهم إلى البلاد التي ذهبوا للعمل فيها ودرَّسوها لطلابهم كما أفادوني بذلك، ولقد كان بعض الطلاب يلحون عليَّ كثيراً في طباعة هذه الرسائل، ولكني تأخرت في ذلك أولاً لانشغالي بإعداد كتاب (التاريخ الإسلامي/ مواقف وعبر) الذي بلغ عشرة مجلدات، وثانياً لأنني كنت أحاول أن أجد الوقت لإعادة النظر فيها وتنقيحها.
والآن فإنني أقدمها للأمة الإسلامية محاولاً بذلك الإسهام في الإصلاح ما استطعت، وقد بذلت جهدي في إعدادها، والتزمت أن لا أستشهد بحديث إلا إذا كان مقبولاً عند أهل الحديث، فإن يكن فيها صواب فمن توفيق الله تعالى، وإن يكن فيها خطأ فمن نفسي القاصرة.
وأسأل الله تعالى التوفيق والسداد لي ولجميع إخواني المسلمين.(27/4)
المقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله
وبعد: فقد انتشر في العصر الحديث دعوة خبيثة أراد منها أعداء الإسلام مسخ هذا الدين، وإزالة ما يتميز به المسلمون من الاستقامة والعزة، ولقد حاول أعداء الإسلام إضعافه والقضاء عليه منذ ظهور دعوته بشتى الوسائل، وكان من أبرز تلك الوسائل الدعوة إلى التقريب بين الأديان السماوية أو ما يسمى بتوحيد الأديان الثلاثة: الإسلام واليهودية والنصرانية.
وقد اتخذت الدعوة إلى ذلك صوراً متعددة، فأحياناً يعبرون عن ذلك بالدعوة إلى (التقارب بين الأديان)، وأحياناً إلى (التوحيد بين الموسوية، والعيسوية والمحمدية)، وأحياناً باسم (الإخاء الديني)،وقد فُتِح مركز في مصر بهذا الاسم، وأحياناً باسم (مجمع الأديان) وقد فتح له أيضاً مركز في مصر بهذا الاسم.
كما برز شعار آخر باسم (وحدة الكتب السماوية) ثم امتد هذا الشعار إلى فكرة طبع القرآن الكريم والتوراة والإنجيل في غلاف واحد.
ثم دخلت هذه الدعوة في (الحياة التعبدية العملية) حيث دعا (البابا) إلى إقامة صلاة مشتركة بين ممثلي الأديان الثلاثة، وذلك في قرية (أَسِيس) في إيطاليا، فأقيمت فيها بتاريخ 27/10/1986م.
ثم تكرر هذا الحدث مرات أخرى باسم (صلاة روح القدس) ففي اليابان على قمة جبل (كبتو) أقيمت هذه الصلاة المشتركة.
ومن آثار هذه الدعوة أن البابا قدم نفسه إلى العالم بأنه القائد الروحي للأديان، وأنه حامل رسالة (السلام العالمي) للبشرية.
ومن آثارها أن البابا جعل يوم 27/أكتوبر عام 1986م عيداً لكل الأديان، وأول شهر يناير هو (يوم التآخي).
ومن آثارها القيام بتأليف الجماعات الداعية لوحدة الأديان، وعقد المؤتمرات لهذه النظرية، ومن ذلك:
1- في تاريخ 12-15فبراير 1987م عقد (المؤتمر الإبراهيمي) في قرطبة بمشاركة عدد من اليهود والنصارى ومن المنتسبين للإسلام من القاديانيين والإسماعيليين.(28/1)
2- في تاريخ 21/مارس 1987م أسست الجماعة العالمية للمؤمنين بالله باسم (المؤمنون متحدون).
3- تكرر عقد المؤتمرات للحوار بين الأديان، ومن ذلك،
(مؤتمر الإسلام والحوار الحضاري بين الأديان) المنعقد في القاهرة في شهر ربيع الأول عام 1417هـ، وفي مجلة الإصلاح الإماراتية في العدد 351 في 1/4/1417هـ تقرير عنه وكشف حقائق مزعجة على لسان بعض المشاركين من المسلمين(1).
وبهذا يتبين لنا أهمية الكتابة حول هذا الموضوع لرد تلك الفرية الأثيمة بدعوى التقريب بين الأديان وتوحيد الأديان السماوية الثلاثة.
هذه الفرية التي راجت في أذهان بعض المسلمين لأسباب من أهمها تسلح القائمين عليها بدعوى اتحاد أهل الأديان السماوية لصد تيار الشيوعية والإلحاد في العالم .. هذه الفرية ما كانت لتروج في أذهان الناس إذا علموا أن الدين الإلهي واحد هو الإسلام منذ أن أنزل الله جل وعلا آدم عليه الصلاة والسلام إلى هذه الأرض حتى تقوم الساعة، وإنما كان بعض أتباع الأنبياء يحرفون هذا الدين فيرسل الله جل وعلا للناس من يصحح مفاهيمهم الخاطئة ويردهم إلى الحق والصواب.
وإذا نحن نظرنا إلى أتباع الأنبياء السابقين عليهم الصلاة والسلام نجد أنهم قد حرفوا ما دعا إليه أنبياؤهم من الدين الإسلامي بينما نجد المسلمين من أتباع خاتم المرسلين ج لم يحرفوا دينهم، فمحاولة التقريب بين دين محرف ودين صحيح محاولة للتقريب بين الحق والباطل، فإن الدين الإسلامي قائم على توحيد الله جل وعلا بالعبادة، أما الأديان التي وضعها البشر فإنها تقوم على الشرك والكفر سواء كانت من وضع البشر أصلاً أو بعد التحريف.
__________
(1) ... هذه المعلومات عن كتاب (الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان) لفضيلة الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد.(28/2)
لهذا كانت الكتابة في هذا الموضوع لها أهميتها الآن حتى يشتد تمسك المسلمين بدينهم ولا ينخدعوا بالدعاوى الكاذبة التي لا يُقصد منها ظاهرها وإنما يقصد منها إبعاد المسلمين عن حقيقة دينهم.
هذا وقد تجددت الحاجة إلى طرح هذا الموضوع الآن بعد ظهور النداء من الدول المهيمنة على الإعلام العالمي إلى ما يسمى (العولمة)، حيث إن من الأمور المهمة التي تشتمل عليها هذه الفكرة الدعوة إلى التقارب بين الأديان.
والله أسأل أن يهدينا سواء السبيل وأن يجنبنا السبل المنحرفة والأهواء المضللة(1).
...
- - - - -
إن الدين عند الله الإسلام
حينما نقرأ هذه الآية نفهم منها أن الدين المشروع عند الله تعالى هو الإسلام وأن ما سواه من الأديان غير معتدٍّ به ولا صحيح، وهذا أمر لا شك فيه ولا غموض حيث إن ما سوى الإسلام من الأديان إنما هو من صنع البشر أصلاً كالوثنية بمختلف صورها أو بعد التحريف كاليهودية والنصرانية.
أما الدين الذي أرسل الله جل وعلا به جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام فهو الإسلام الذي هو عبادة الله وحده، كما قال تعالى في بيان دعوة الرسل: ? - ? - - - المحتويات - ? - - - الله أكبر - صدق الله العظيم ? - - - ? الله - - - - الله ? - رضي الله عنهم - الله أكبر ? - ? ??- جل جلاله - الله ? { ? - الله أكبر - ? - تمهيد - - - سبحانه وتعالى - - - ? - } صدق الله العظيم - الله أكبر الله ?? ?[المؤمنون:32].
__________
(1) ... هذه الرسالة طبعت بشكل مختصر في عام 1406هـ. بعنوان (الدين السماوي هو الإسلام).(28/3)
وقال تعالى ?? - - الله ? الله ? - الله الله أكبر ? - ? الله ? صدق الله العظيم } - - - ?- جل جلاله -? ??- جل جلاله -? صدق الله العظيم - الله الله أكبر ? ?- جل جلاله -? { ?? - ? الله الله } - بسم الله الرحمن الرحيم - درهم تمهيد - - - ?- جل جلاله - - ? - الله أكبر ? - جل جلاله -? صدق الله العظيم - - ? تمهيد - - - سبحانه وتعالى - - ? الله الله الله أكبر الله أكبر ? - - - - - الله درهم الله ? - الله أكبر - ? - تمهيد - - - بسم الله الرحمن الرحيم - درهم تمهيد - - - - الله الله أكبر ? - - - - ?? - - - - صدق الله العظيم ? - - الله الله أكبر ? } - - { ? [الأنبياء:25].(28/4)
وقال تعالى ( ( - ( - } - قرآن كريم ((( - - رضي الله عنه - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( - - صلى الله عليه وسلم -( - ( - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - صدق الله العظيم - - - جل جلاله -(( - ( - - رضي الله عنه - - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - الله أكبر - - ((- رضي الله عنه - - - - - عليه السلام - - ( الله أكبر - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - - رضي الله عنه -( - - - جل جلاله -( - - - { ((- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - ((- رضي الله عنه - - ( - ( { - - عليه السلام - - - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنهم - - ( - - - - ( - { - - - - - ( مقدمة ( - - عليه السلام - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - - ( - - - ((((((- عليه السلام - - } ( - - - - (( ((( - - } - - - رضي الله عنه - تمت - - عليه السلام - - ( - - مقدمة ((( - - - ( - (- رضي الله عنهم - - ((- صلى الله عليه وسلم - - ((( مقدمة - رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم ((( - - رضي الله عنه - - - فهرس - ( { - - رضي الله عنهم - - ( - ( - - - - - - جل جلاله -( - ( - - - - ( - ( - - - ( { - - رضي الله عنهم - - ( - ( - - - - عليه السلام - قرآن كريم ( - - - - رضي الله عنهم - - ( - ( - - - } - - رضي الله عنه - الله أكبر ( - ( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - المحتويات ( - ( - ( - ( - ( تمت - - عليه السلام - - ( - - ((( - فهرس - (- رضي الله عنهم -(( - - - ( [الأنعام:71].(28/5)
وقال تعالى ( ( - ( - - ( - الله أكبر ( { ( تمهيد - ( - ( الله أكبر ( تمت - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - ( تمهيد ((- صلى الله عليه وسلم - - - ((( - { - - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ((( - - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - - - - - - - - - - ( الله أكبر - عليه السلام -( - - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم ( تمهيد ( - - جل جلاله -( } - - رضي الله عنه - تمهيد ( - - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - ( فهرس - { - ( المحتويات ( - ( تم بحمد الله ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( تمت - صلى الله عليه وسلم - - - المحتويات ( - ( - ( - ( تمت - - عليه السلام - - ( - - ((( - فهرس - (- رضي الله عنهم -(( - - - ( [غافر:66].(28/6)
وقال تعالى ? - الله ? الله ? - - ? - - الله ? الله - - جل جلاله -? ? - - - - ? الله - - جل جلاله - الله أكبر { - ? - الله أكبر ? - ? - - - - ? درهم - الله أكبر الله الله أكبر - - جل جلاله -? - ? - - الله ? - ? - - - ? - - الله ? الله ? الله الله ? - الله أكبر - - الله الله أكبر ?? - - الله ? الله الله ? الله أكبر - الله ?? - ? الله الله أكبر ? - { - - عز وجل - - الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر ??- جل جلاله -? المحتويات - ? - ?? الله أكبر ? - - - - - الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر - - جل جلاله -? ?- جل جلاله - بسم الله الرحمن الرحيم ? ?- جل جلاله -? - ?? - - - ?- جل جلاله - - - - ?- جل جلاله -? - الله أكبر - ? الله ? المحتويات - ? - ?? الله أكبر ? الله ? - الله أكبر الله أكبر - الله أكبر الله الله أكبر - - جل جلاله -? - الله أكبر الله أكبر الله الله الله أكبر - الله } - الله ?- جل جلاله - - صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - - - ? الله أكبر ? الله ?? - ? بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله -? الله ? - الله أكبر - ? درهم - الله أكبر الله الله أكبر - - جل جلاله -? - ? - - - الله ?- جل جلاله - الله أكبر - الله ? صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - - - ? الله أكبر ? الله ?? - ? - } صدق الله العظيم - الله الله أكبر - } - - { - الله درهم الله ? ?? - } الله - - ? - - - الله الله أكبر ? ? - - - المحتويات - ? - - - جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - - الله الله أكبر - الله ? - ? تمهيد - ? - - الله أكبر الله أكبر - ? الله ? - ? - - الله ? - الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله - جل جلاله - - - جل جلاله - - الله الله ?? - - الله ? - - } الله أكبر - - الله أكبر الله الله أكبر - صدق الله العظيم } - - - ? - } - - - ? - - - الله الله أكبر ? - - - - - {(28/7)
الله أكبر ? الله أكبر ? - ? - - - جل جلاله - - الله - صدق الله العظيم ? الله الله أكبر - - - - تمهيد - ? - - ? - - - الله ?? - ?- جل جلاله -?? { الله - ? } - - { ? [آل عمران:79-80].
وقال تعالى ( - - - رضي الله عنهم - - ( الله أكبر ( { ( المحتويات ( - ( تم بحمد الله ( - ( تمت - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - ( تمهيد ((- صلى الله عليه وسلم - - - - عز وجل -- عليه السلام - - ( فهرس ( - (- رضي الله عنهم - - ( - - رضي الله عنه - - ( - - رضي الله عنه - - ( - - - - ( - { - - - - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله { - - مقدمة (( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - ( - - ((( - ( } ( المحتويات ( - ( تم بحمد الله ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( تمت - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - - صلى الله عليه وسلم - - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - رضي الله عنه -((( - ( - ( - ( - ( - - - ( [النمل:91].
...
- - - - -
الإسلام دين الرسل جميعاً
فالرسل جميعاً متفقون في الدعوة إلى أصل الدين الذي هو الانقياد لله تعالى بالطاعة والعبادة.
قال تعالى عن نوح عليه السلام ? ? - تمهيد - الله الله أكبر ? صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - - - صدق الله العظيم - الله أكبر بسم الله الرحمن الرحيم - ? الله ? الله الله أكبر - - الله ? الله الله أكبر ? - رضي الله عنهم - الله أكبر ? - - - ? - - - الله ? ??- جل جلاله - الله ? - - - صدق الله العظيم - - - - ?? تمهيد - - ?? - - صدق الله العظيم - - - - - بسم الله الرحمن الرحيم - درهم تمهيد - - ? - ? الله ? - ?- جل جلاله - - - - - ? - ? - - جل جلاله -? الله أكبر - - الله ? ?? - - - الله ?? - } - - - - ?- جل جلاله -? الله ? - - جل جلاله -?- جل جلاله -?? { - ? - ? - - ? [يونس:72].(28/8)
وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - - - - ( المحتويات - ( - } - عليه السلام - - ( - ( { - صدق الله العظيم - ( - قرآن كريم ( - - عليه السلام - - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم - ( الله أكبر - - عليه السلام - - (( فهرس - صدق الله العظيم ( - ( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - - - - - ( - ( - - مقدمة - - - ( - ( - - تم بحمد الله - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت - - - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - رضي الله عنه -((( - ( - ((( - ( - - - ( [آل عمران:67].(28/9)
وقال تعالى عن إبراهيم ويعقوب عليهما السلام ( صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - (( - - رضي الله عنه - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه -( ( - { - ( } تم بحمد الله - بسم الله الرحمن الرحيم (( - } - عليه السلام - - ( - ( { - صدق الله العظيم ( { صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - رضي الله عنه - مقدمة ((- رضي الله عنهم - - (( مقدمة - - ((- رضي الله عنه - الله أكبر - ( - - { - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( مقدمة (- عليه السلام - - ( - - ( - ((( - - - (( - - عليه السلام - - ( الله أكبر - - - - - } (( مقدمة ( الله أكبر ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - (( ( - - عليه السلام - - ( - - - رضي الله عنهم - - - - صدق الله العظيم ( - - - - رضي الله عنه -((( - ( - ( - ( - - - ((((( ( - ( { - رضي الله عنه - - - - - (( - - - ((( مقدمة - - - عليه السلام - - ( المحتويات ( - ( - - صلى الله عليه وسلم - - } - رضي الله عنه - - - - - ( تمهيد ( - فهرس - ( - - صلى الله عليه وسلم - - ( تمت - - عليه السلام - - ( - - رضي الله عنه -((( - فهرس - (- رضي الله عنهم -(( - - - ((((( - ( - (- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - { - ( - ( بسم الله الرحمن الرحيم (( - } - عليه السلام - - ( - ( { ( مقدمة - ( - - رضي الله عنه - - ( - قرآن كريم ( { ((- رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - (( - - رضي الله عنه - تمهيد (- رضي الله عنه - - } تمت ( { { - - - - - - - - ((( - - ( المحتويات ( - - - - رضي الله عنه -(((- صلى الله عليه وسلم - - - - - - - - ( - صدق الله العظيم ( - قرآن كريم ( - - - - صدق الله العظيم ( { بسم الله الرحمن الرحيم ( - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم -(28/10)
- - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - ( - ( - - تم بحمد الله ( [البقرة:130-132].
وقال تعالى عن يوسف عليه السلام ? ? - ? - - - - الله - ? الله أكبر - جل جلاله -? الله ? ? - الله الله أكبر { - ? - ? - ? - - - جل جلاله - - ? الله - - جل جلاله - - - - درهم - - الله ? ?- جل جلاله -? بسم الله الرحمن الرحيم - ? الله ? الله الله أكبر - - - ?- جل جلاله -? { { - ? ?- جل جلاله -? { الله أكبر ?- جل جلاله - - - ? - - - الله ? الله ? - - جل جلاله - - - جل جلاله -? - الله أكبر - ??? - - - جل جلاله - - } - - - { ? [يوسف:101].
وقال تعالى عن موسى عليه السلام ? الله ? - الله الله أكبر ? الله ? - عليه السلام -? الله ?? - ? - ??? الله ? - الله أكبر الله الله أكبر ? ? تمهيد - - ?? - - ? الله أكبر ? ? - - الله أكبر الله أكبر ? الله ? - - ? - جل جلاله - - ? - - - - جل جلاله - الله أكبر - - جل جلاله -? صدق الله العظيم - - ? الله ? الله الله أكبر ? المحتويات - - ? الله أكبر - الله أكبر ? بسم الله الرحمن الرحيم - } الله ? الله الله أكبر - ? تمهيد - - ? - - ? الله أكبر ? الله ? - - جل جلاله -?- جل جلاله -? { الله أكبر { الله أكبر - الله ? } - - { ? [يونس:84].(28/11)
وقال تعالى في أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام ( - - ( الله أكبر ( { - - عليه السلام - - ( - - عليه السلام - - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - { - - عليه السلام - - ( قرآن كريم ( - - - - - { - - (( - - جل جلاله - - ( - ( - قرآن كريم ( الله أكبر - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ( المحتويات ( - (- رضي الله عنه - - - - { - ( - - - قرآن كريم - - ( - } - جل جلاله - - - - - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم ( - فهرس - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه -((( - { - ( - } - - صلى الله عليه وسلم -( - - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم - - (- جل جلاله -(( - { - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - - رضي الله عنه - تمهيد ( مقدمة - } - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( [المائدة:44].
وقال تعالى حكاية عن سحرة فرعون الذين آمنوا بموسى عليه السلام ? - - الله الله أكبر ? الله الله الله أكبر - الله } ? - ? - - - ? - - - - الله ? الله أكبر صدق الله العظيم - - ? الله ? - - } صدق الله العظيم } الله ? - الله الله أكبر ? بسم الله الرحمن الرحيم - ? الله ? الله الله أكبر - الله ? الله ? - - جل جلاله -?- جل جلاله -? { { - ? } - - تمهيد { ? [الأعراف:126] فقد فهموا أن الدين الذي دعا إليه موسى عليه السلام هو الإسلام مما يدل على وضوح هذا الأمر.(28/12)
وقال تعالى حكاية عن فرعون ? - عليه السلام - - ? بسم الله الرحمن الرحيم - - الله - - - الله - - تمهيد - - ? الله } الله } صدق الله العظيم - - - - ?? الله - الله ?? - ? - - الله ? - الله الله أكبر ? ? - ? الله ? - - ? - سبحانه وتعالى - - ? بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? - - - - - الله درهم الله ? - الله أكبر - ? - تمهيد - - بسم الله الرحمن الرحيم - درهم تمهيد - - - ?- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - { - الله ? الله ? - - ? - - جل جلاله -?- جل جلاله - الله أكبر - المحتويات - - ? - ? الله الله أكبر - الله ??- جل جلاله -? - - الله - الله أكبر ?? تمهيد - - - - الله الله أكبر ? - - - الله ? الله ?- جل جلاله -? الله ? - - جل جلاله -?- جل جلاله -? { { - ? - ? - - ? [يونس:90].
وقال تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام في كتابه لبلقيس
? - بسم الله الرحمن الرحيم - درهم - - - المحتويات - ? - الله أكبر ? صدق الله العظيم ? الله الله أكبر - - ?? - ? الله ? ?- جل جلاله - الله أكبر ?? - الله أكبر - - - - الله ? الله ? - - جل جلاله -?- جل جلاله -? { الله أكبر { - ? } - - { ?[النمل:31].
وقال تعالى عن أمة عيسى عليه السلام ? - - تمهيد - - الله ? ? - صدق الله العظيم - الله - - ? - - - ? - ? - تمهيد - الله ? - الله أكبر الله أكبر الله - الله أكبر ? - } - الله ? الله - - ? - - ?? - - - المحتويات - ? - ?- جل جلاله -? - - ? ?- جل جلاله - - ?- جل جلاله -?? - ? الله - - جل جلاله - الله أكبر - الله ? المحتويات - - ? الله أكبر - الله أكبر ? - الله الله أكبر ? - الله الله ? الله ? - - ? صدق الله العظيم - الله الله أكبر ? { الله أكبر ? - - الله ? - الله الله أكبر ? بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? - - - - جل جلاله - الله أكبر - الله ?? - ?- جل جلاله -? الله أكبر ? { - ? ? [المائدة:111].(28/13)
وقال تعالى عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى ? الله ??- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - - ? - ? - الله أكبر ? صدق الله العظيم الله أكبر - الله الله أكبر - - - ? ? درهم - الله أكبر الله الله أكبر - - جل جلاله -? - ? - - ?- جل جلاله -? - - جل جلاله -?- جل جلاله -? صدق الله العظيم الله أكبر - الله ? ? - ? - - جل جلاله -?- جل جلاله - الله أكبر - الله ?? - ?- جل جلاله -? صدق الله العظيم ? - ? } - - { - - - - تمهيد - الله ? - عليه السلام -? - ? صدق الله العظيم - - الله أكبر ? ?? - ? صدق الله العظيم - - ? الله ? المحتويات - - ? الله أكبر ? - الله ? - الله الله الله أكبر ? الله ? - - ? - - - جل جلاله -?- جل جلاله - الله أكبر - - ? الله أكبر بسم الله الرحمن الرحيم - ? تمهيد - - - الله ? الله - - ? - - ?- جل جلاله -? - - الله ? الله - جل جلاله - الله أكبر الله أكبر - الله الله } - الله أكبر بسم الله الرحمن الرحيم - ? - تمهيد - - الله الله الله أكبر ? الله أكبر ? ?- جل جلاله -? - - جل جلاله -?- جل جلاله -? صدق الله العظيم - الله الله أكبر ? الله ? - - جل جلاله -?- جل جلاله -? { الله أكبر { - ? } - - { ? [القصص:52-53].
يعني أن المؤمنين منهم بدينهم حقّاً يقولون إنا كنا من قبل نزول القرآن مسلمين فلم يقولوا إنا كنا من قبله يهوداً أو نصارى.
وقال تعالى عن لوط عليه السلام ? - الله ? - ? - - ? صدق الله العظيم - الله أكبر الله - الله ? - الله ? - - جل جلاله -? الله } صدق الله العظيم - الله أكبر الله ?? - - صدق الله العظيم - الله أكبر الله - الله ? الله - جل جلاله -? الله ? - - جل جلاله -?- جل جلاله -? صدق الله العظيم { - ? - ? - - } - تمهيد { ? [الذاريات:36] (1).
__________
(1) ... يراجع في هذا الموضوع كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم) للإمام ابن تيمية ص 450.(28/14)
وقد نفى رسول الله ج النصرانية عن أتباع عيسى -عليه الصلاة والسلام- المخلصين وسماهم مسلمين كما جاء في إحدى روايات خبر إسلام سلمان الفارسي ط التي أخرجها أبو عبدالله الحاكم رحمه الله تعالى وفيها يقول سلمان: فقلت: يا رسول الله ما تقول في دين النصارى؟ قال: لا خير فيهم ولا في دينهم، فدخلني أمر عظيم، فقلت في نفسي: هذا الذي كنت معه ورأيت ما رأيته أخذ بيد المقعد فأقامه الله على يديه، وقال: لا خير في هؤلاء ولا في دينهم!! فانصرفت وفي نفسي ما شاء الله، فأنزل الله عز وجل على النبي ج: ? - رضي الله عنهم - - ( - } - - } تمت - صلى الله عليه وسلم - - ( - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - (- جل جلاله -( تم بحمد الله - ((( - - ( تمت - ( - - - الله أكبر - - رضي الله عنه - - ( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - ( تمهيد - رضي الله عنه - - ( - - رضي الله عنه - - ([المائدة:82] فقال رسول الله ج: عليَّ بسلمان، فأتى الرسول وأنا خائف، فجئت حتى قعدت بين يديه فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم ? - رضي الله عنهم - - ( - } - - } تمت - صلى الله عليه وسلم - - ( - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - (- جل جلاله -( تم بحمد الله - ((( - - ( تمت - ( - - - الله أكبر - - رضي الله عنه - - ( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - ( تمهيد - رضي الله عنه - - ( - - رضي الله عنه - - ( يا سلمان إن أولئك الذي كنت معهم وصاحبك لم يكونوا نصارى إنما كانوا مسلمين، فقلت يا رسول الله والذي(28/15)
بعثك بالحق لهو الذي أمرني باتباعك فقلت له(1): وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه؟ قال: فاتركه فإن الحق وما يجب فيما يأمرك به.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح عال(2).
وذكره الإمام الذهبي وقال: هذا حديث جيد الإسناد(3).
وهذا حديث صريح في أن الإسلام يشمل الرسالات السماوية، فأتباع عيسى عليه الصلاة والسلام بعد التحريف الذي طرأ على أصول ديانته لا يسمَّون مسلمين، وإنما غلب عليهم إطلاق لفظ النصارى، أما الذين ظلوا على دينه الصحيح ولم يحرفوا في أصول ذلك الدين قبل بعثة رسول الله ج فإنهم ليسوا نصارى وإنما هم مسلمون، لأن لفظ النصارى غلب إطلاقه على أتباع ذلك الدين المحرف من ناحية الأصول.
...
- - - - -
أقوال العلماء في هذا الموضوع
__________
(1) ... أي قال سلمان للراهب.
(2) ... المستدرك (3/559-602).
(3) ... سير أعلام النبلاء (1/532).(28/16)
قال الإمام أبو جعفر بن جرير في تفسير قوله تعالى: ?? ? الله ? الله ? ? درهم الله ??? - الله أكبر الله ? ? الله ? - جل جلاله -? بسم الله الرحمن الرحيم - ? الله - جل جلاله -? ?- رضي الله عنهم - - الله أكبر الله أكبر - جل جلاله -? - الله - صدق الله العظيم الله أكبر - - تمهيد - - بسم الله الرحمن الرحيم - درهم تمهيد - - ? الله ? الله ?- جل جلاله -? الله ? - سبحانه وتعالى - - - ? الله { - ? الله الله أكبر ? ? [البقرة:130] $وإنما عنى الله بذلك اليهود والنصارى، لاختيارهم ما اختاروا من اليهودية والنصرانية على الإسلام. لأن (ملة إبراهيم) هي الحنيفية المسلمة، كما قال تعالى ذِكْره: ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - - - - ( المحتويات - ( - } - عليه السلام - - ( - ( { - صدق الله العظيم - ( - قرآن كريم ( - - عليه السلام - - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم - ( الله أكبر - - عليه السلام - - (( فهرس - صدق الله العظيم ( - ( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - - - - - ( - ( - - مقدمة - - - ( - ( - - تم بحمد الله ( [آل عمران:67]#.
وأخرج عن قتادة أنه قال:
$رغب عن ملته اليهود والنصارى، واتخذوا اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله، وتركوا ملة إبراهيم - يعني الإسلام- حنيفاً، كذلك بعث الله نبيه محمداً ج بملة إبراهيم#.
كما أخرج عن الربيع عن أنس بن مالك ط أنه قال:
$رغبت اليهود والنصارى عن ملة إبراهيم، وابتدعوا اليهودية والنصرانية وليست من الله، وتركوا ملة إبراهيم: الإسلام(1)#.
__________
(1) ... تفسير الطبري، سورة البقرة آية 130.(28/17)
قال الزمخشري في قوله تعالى ( ( المحتويات ( - (- رضي الله عنه - - - - { - ( - - - قرآن كريم - - ( - } - جل جلاله - - - - - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم ( - فهرس - ( - - صلى الله عليه وسلم - - ( [المائدة:44] $وأريد بإجرائها - يعني هذه الصفة التعريض باليهود وأنهم بُعداء عن ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم في القديم والحديث وأن اليهودية بمعزل منها(1)#.
وقال ابن منظور في لسان العرب وقوله تعالى ( ( المحتويات ( - (- رضي الله عنه - - - - { - ( - - - قرآن كريم - - ( - } - جل جلاله - - - - - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم ( - فهرس - ( - - صلى الله عليه وسلم - - ( [المائدة:44] $فسره ثعلب فقال: كل نبي بعث بالإسلام غير أن الشرائع تختلف#.
وقال الحافظ ابن كثير عند تفسير قوله تعالى ? ? - تمهيد - الله الله أكبر ? صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - - - صدق الله العظيم - الله أكبر بسم الله الرحمن الرحيم - ? الله ? الله الله أكبر -
__________
(1) ... الكشاف (1/615).(28/18)
- الله ? الله الله أكبر ? - رضي الله عنهم - الله أكبر ? - - - ? - - - الله ? ??- جل جلاله - الله ? - - - صدق الله العظيم - - - - ?? تمهيد - - ?? - - صدق الله العظيم - - - - - بسم الله الرحمن الرحيم - درهم تمهيد - - ? - ? الله ? - ?- جل جلاله - - - - - ? - ? - - جل جلاله -? الله أكبر - - الله ? ?? - - - الله ?? - } - - - - ?- جل جلاله -? الله ? - - جل جلاله -?- جل جلاله -?? { - ? - ? - - ? [يونس:72]: والإسلام دين الأنبياء جميعاً من أولهم إلى آخرهم وإن تنوعت شرائعهم وتعددت مناهلهم كما قال تعالى ? الله صدق الله العظيم ? الله أكبر ?- جل جلاله -? - الله ? - ? الله ? الله - ?? الله أكبر ??- جل جلاله -? - ? الله ?? - - جل جلاله -? - - - الله أكبر الله أكبر - - الله ? صدق الله العظيم ? الله أكبر - جل جلاله -? الله ? ? [المائدة:48] قال ابن عباس: $سبيلاً وسنة#. فهذا نوح يقول ? ? - ? - - جل جلاله -? الله أكبر - - الله ? ?? - - - الله ?? - } - - - - ?- جل جلاله -? الله ? - - جل جلاله -?- جل جلاله -?? { - ? - ? - - ? [يونس:72] ثم ذكر بعض الآيات السابقة(1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا المعنى:
__________
(1) ... تفسير ابن كثير (2/456).(28/19)
$ولفظ (الإسلام) يتضمن الاستسلام والسلامة التي هي الإخلاص، وقد عُلم أن الرسل جميعهم بعثوا بالإٍسلام العام المتضمن لذلك كما قال تعالى: ( ( المحتويات ( - (- رضي الله عنه - - - - { - ( - - - قرآن كريم - - ( - } - جل جلاله - - - - - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم ( - فهرس - ( - - صلى الله عليه وسلم - - ( [المائدة:44] وقال موسى: ? ? تمهيد - - ?? - - ? الله أكبر ? ? - - الله أكبر الله أكبر ? الله ? - - ? - جل جلاله - - ? - - - - جل جلاله - الله أكبر - - جل جلاله -? صدق الله العظيم - - ? الله ? الله الله أكبر ? المحتويات - - ? الله أكبر - الله أكبر ? بسم الله الرحمن الرحيم - } الله ? الله الله أكبر - ? تمهيد - - ? - - ? الله أكبر ? الله ? - - جل جلاله -?- جل جلاله -? { الله أكبر { الله أكبر - الله ? } - - { ? [يونس:84]#.(28/20)
وقال الخليل لما قال له ربه ( - رضي الله عنه - - - - - ( تمهيد ( - فهرس - ( - - صلى الله عليه وسلم - - ( تمت - - عليه السلام - - ( - - رضي الله عنه -((( - فهرس - (- رضي الله عنهم -(( - - - ((((( - ( - (- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - { - ( - ( بسم الله الرحمن الرحيم (( - } - عليه السلام - - ( - ( { ( مقدمة - ( - - رضي الله عنه - - ( - قرآن كريم ( { ((- رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( أيضاً وصى بها بنيه ? - - ??- جل جلاله -? الله - - الله أكبر الله ? الله الله ? تمهيد - - - ? الله - - - - عليه السلام -? الله ??? { ? - - - ? الله أكبر ? - ? الله ?? بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله - - ? - - ? - الله الله أكبر ? الله الله ? - الله أكبر - ? - ? الله الله أكبر - - بسم الله الرحمن الرحيم - درهم تمهيد - - - رضي الله عنهم - - - ? - - - الله ? الله ?? - ?- جل جلاله -?? { الله - ? } - - - { ? [البقرة:131-132] وقال يوسف ? ?- جل جلاله -? بسم الله الرحمن الرحيم - ? الله ? الله الله أكبر - - - ?- جل جلاله -? { { - ? ? [يوسف:101] ونظائره كثيرة.(28/21)
وعُلم أن إبراهيم الخليل هو إمام الحنفاء المسلمين بعده، كما جعله أمة وإماماً، وجاءت الرسل من ذريته بذلك، فابتدعت اليهود والنصارى ما ابتدعوه، مما خرج عن دين الله الذي أُمروا به وهو الإسلام العام، ولهذا أُمرنا أن نقول: ? - الله الله أكبر ?- جل جلاله - - صدق الله العظيم ? - - ?? - الله - - - ?? - - الله ? - - جل جلاله -? الله - الله أكبر ? { - ? - ? - - } تمهيد { ?? - الله - - ? ???- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - ? - صدق الله العظيم ? الله ? صدق الله العظيم الله أكبر ? - - - ?? - ? صدق الله العظيم - - ? الله ? - جل جلاله - } صدق الله العظيم - الله أكبر الله ?? - - ? - ? { الله أكبر ?? الله ? - ? - - ?? - ? صدق الله العظيم - - ? الله ? - الله درهم الله ? الله ? - الله أكبر بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله -? - - - ??? - - ? [الفاتحة:6-7]
وقد ثبت عن النبي ج أنه قال: $اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون# وكل من هاتين الأمتين خرجت عن الإسلام وغلب عليها أحد ضديه، فاليهود يغلب عليهم الكبر ويقلُّ فيهم الشرك، والنصارى يغلب عليهم الشرك ويقلُّ فيهم الكبر، وقد بين الله ذلك في كتابه فقال في اليهود: ? - - تمهيد - - الله ? - الله الله أكبر ? - - الله - - - - الله ? - الله أكبر الله أكبر الله - - - جل جلاله -? ??- جل جلاله -? الله - الله ??- جل جلاله -? - - - - الله أكبر صدق الله العظيم ? تمهيد - - - الله درهم الله ?? - - - الله أكبر - صدق الله العظيم ? الله الله أكبر -(28/22)
- بسم الله الرحمن الرحيم - درهم تمهيد - - الله - ? - - - ? وهذا هو أصل الإسلام، إلى قوله ( - - - جل جلاله -( - - - - - عليه السلام -(- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - } - (( - رضي الله عنه -((( - - - المحتويات - رضي الله عنه - - ( - - - ( تمهيد ( - - جل جلاله -( } - - رضي الله عنه - تمهيد ( - - - ( مقدمة (- رضي الله عنه - الله أكبر ( - { - - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (- رضي الله عنهم -- صلى الله عليه وسلم -( - ( - ( } ( - ( { ( - - - - - - رضي الله عنهم - - ( - ( - - (- صلى الله عليه وسلم - - ( المحتويات ( - - عليه السلام -( - - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم - - قرآن كريم ( - - عليه السلام - - - - رضي الله عنهم - - ( - - صدق الله العظيم - - - عليه السلام - قرآن كريم ( - - الله ( المحتويات ( - ( - (( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ( - ( فهرس ( - - رضي الله عنهم - - ( - - رضي الله عنه - - ( - - - - - { - ( - - ( - ( ( - ((( - } - - - - - { - ( - - (- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - قرآن كريم ( - ( - ( { - - ([البقرة:83-87] (1).
__________
(1) ... مجموع الفتاوى (7/623).(28/23)
وقول شيخ الإسلام ابن تيمية: $وقد عُلم أن الرسل جميعهم بعثوا بالإسلام العام# يعني الإسلام الذي يشمل كل الرسالات السماوية، وذلك تمييزاً له عن الإسلام الخاص الذي سميت به هذه الأمة ذات الرسالة الخاتمة كما جاء في قول الله تعالى ? المحتويات - ? - - - ? - الله أكبر الله - الله ? ? - ?- جل جلاله - - - - - بسم الله الرحمن الرحيم ? الله - - - - جل جلاله -?- جل جلاله - - - الله ?- جل جلاله - - الله ? - ? ?? الله أكبر ? - ? الله - الله الله أكبر - صدق الله العظيم - - - - الله ? الله ? الله ? الله ? الله - صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - الله أكبر ? صدق الله العظيم - - ? الله ? ? - ?? بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله - - ? - - ??- جل جلاله -? - صدق الله العظيم - الله - الله - الله ? بسم الله الرحمن الرحيم - ?- جل جلاله - الله ? ?? الله أكبر ? - - جل جلاله - الله أكبر - - - - - ?- رضي الله عنهم - - الله أكبر - جل جلاله -? - الله - صدق الله العظيم الله أكبر - - تمهيد - الله ? - ? - ? الله أكبر ? - ? الله الله ? الله ? الله ? - - جل جلاله -?- جل جلاله -?? { - ? - ? - - ?- جل جلاله -? - ? صدق الله العظيم - الله الله أكبر ? ? الله ? - الله - - الله أكبر الله ? الله ?? الله أكبر ? الله - - جل جلاله -? - ?? - ? الله الله - ? - - - - - - الله أكبر الله أكبر - ? الله ? صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - الله أكبر ? صدق الله العظيم - - ? الله ? المحتويات - ? - الله أكبر ?? الله أكبر ? الله الله أكبر - الله ? - ? - - الله - الله ? - ? ? - ? الله ? - - { - بسم الله الرحمن الرحيم - ?? - - ? [الحج:78] وقوله تعالى ? الله ? - ? ?? الله أكبر ? - ? الله - الله الله أكبر - صدق الله العظيم - - - ? يقول الإمام الطبري: هو اختاركم لدينه واصطفاكم لحرب أعدائه والجهاد في سبيله.(28/24)
وقوله ? - الله ? الله ? الله ? الله ? الله - صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - الله أكبر ? صدق الله العظيم - - ? الله ? ? - ?? بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله - - ? - - ??- جل جلاله -? - صدق الله العظيم - الله - الله - ? يقول تعالى ذكره: وما جعل عليكم ربكم في الدين الذي تعبدكم به من ضيق لا مخرج لكم مما ابتليتم به بل وسع عليكم، فجعل التوبة من بعضٍ مخرجاً، والكفارة من بعض، والقصاص من بعض، فلا ذنب يذنب المؤمن إلا وله منه في دين الإسلام مخرج.
وقوله ? الله ? بسم الله الرحمن الرحيم - ?- جل جلاله - الله ? ?? الله أكبر ? - - جل جلاله - الله أكبر - - - - - ?- رضي الله عنهم - - الله أكبر - جل جلاله -? - الله - صدق الله العظيم الله أكبر - - تمهيد - ? يعني وما جعل عليكم في الدين من حرج بل وسعه كملة أبيكم إبراهيم(1).
وقوله ? الله ? - ? - ? الله أكبر ? - ? الله الله ? الله ? الله ? - - جل جلاله -?- جل جلاله -?? { - ? - ? - - ?- جل جلاله -? - ? صدق الله العظيم - الله الله أكبر ? ? الله ? - الله - - الله أكبر الله ? ? يعني الله جل وعلا سماكم المسلمين في الكتب السماوية السابقة وفي هذا القرآن.
وقد أخرج الإمام الطبري من طريق علي بن أبي طلحة وعطاء بن أبي رباح عن ابن عباس م قال: الله سماكم المسلمين من قبل.
وضعَّف قولَ عبدالرحمن بن زيد بن أسلم في إرجاع الضمير (هو) إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال: لأنه معلوم أن إبراهيم عليه السلام لم يسم أمة محمد مسلمين في القرآن لأن القرآن أُنزل من بعده بدهر طويل(2).
__________
(1) ... تفسير الطبري (17/207).
(2) ... تفسير الطبري (17/208).(28/25)
ومن أمثلة إطلاق الإسلام الخاص على الأمة المحمدية قول الله تعالى ? الله ??? الله - - ? - - ? - - ? الله ? صدق الله العظيم } - - - ?? الله أكبر ? - ? ?? الله أكبر ? الله ??- جل جلاله - - ? - صدق الله العظيم ? الله ? صدق الله العظيم الله أكبر - - - - الله ? ?? الله أكبر ? صدق الله العظيم - - ? الله ? ?- جل جلاله - - الله ? صدق الله العظيم ?- جل جلاله - الله أكبر ? ? - - - جل جلاله -? الله } الله ? - ? الله أكبر ? - ? الله ? - الله أكبر الله أكبر - ? الله أكبر ?? - - تمهيد ? - - - - - الله أكبر ??- جل جلاله - - ? [المائدة:3] فالإسلام هنا يشمل التوحيد والشريعة.
فالإسلام العام مشترك بين جميع الرسالات السماوية لأن الرسل جميعاً عليهم الصلاة والسلام دعوا إلى التوحيد، أما التسمية بالمسلمين فهذا خاص بأمة محمد ج، وذلك أن الرسل السابقين عليهم الصلاة والسلام كانوا يُبعثون إلى أقوامهم خاصة، فكل أمة تنسب إلى نبيها أو قومها، وقد يجتمع في العصر الواحد أكثر من رسول وأكثر من أمة تدين بالإسلام، فلا يطلق عل كل أمة من تلك الأمم أنها أمة الإسلام، فخص الله تعالى هذه الأمة بهذه التسمية باعتبار أن دعوة رسول الله ج لا تخص أقواماً معينين وإنما تعم الناس جميعاً فهي الأمة الإسلامية، وذلك تشريف عظيم لهذه الأمة.
...
- - - - -
اتحاد الدين وتعدد الشرائع(28/26)
فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام متفقون في الدعوة إلى أصل الدين، قال الله تعالى ? - الله ? الله - الله ? ? الله أكبر ? - ? الله ?- جل جلاله - الله ? - ?? بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله - - ? - - - الله ? - عليه السلام -? - ?? الله ? - - جل جلاله -?- جل جلاله - - - - - ? - الله أكبر ? - ?- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - الله ? - - الله الله أكبر ? صدق الله العظيم الله أكبر - الله - صدق الله العظيم ? - - - ?? صدق الله العظيم الله أكبر - - ? تمهيد - - - الله ? الله ? - الله الله أكبر ? الله أكبر صدق الله العظيم - - ?? الله ? - - - جل جلاله -?- جل جلاله - - الله ? - الله أكبر - جل جلاله -? - الله - الله أكبر صدق الله العظيم الله أكبر - - تمهيد - - عليه السلام -? الله ?? - ? الله ? - عليه السلام - - - ? الله { - - جل جلاله -? الله ? ?? - - - المحتويات - ? - ? - الله أكبر الله أكبر - جل جلاله -? - - - الله ?? بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله - - ? - - - الله درهم الله ? المحتويات - ? - الله أكبر ? الله الله - الله ? الله - الله أكبر الله - - جل جلاله - - ? - - جل جلاله -? ? [الشورى:13].
فذكر الله سبحانه وتعالى أنه شرع لهذه الأمة من الدين ما شرعه للأمم السابقة، حيث أمر الله جل وعلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يقيموا ديناً واحداً ونهاهم عن الفرقة والاختلاف، وهذا الدين هو الإسلام الذي بينته الآيات السابقة، الذي هو عبادة الله وحده، وخصَّ بالذكر أولي العزم من الرسل ابتداء بنوح عليه الصلاة والسلام وانتهاء بمحمد ج لفضلهم وإمامتهم.(28/27)
أما شرائع الأنبياء فهي متعددة ومتنوعة على حسب ما تقتضيه حاجة أممهم، قال تعالى ? الله صدق الله العظيم ? الله أكبر ?- جل جلاله -? - الله ? - ? الله ? الله - ?? الله أكبر ??- جل جلاله -? - ? الله ?? - - جل جلاله -? - - - الله أكبر الله أكبر - - الله ? صدق الله العظيم ? الله أكبر - جل جلاله -? الله ? ? [المائدة:48].
قال قتادة رحمه الله في تفسير هذه الآية: يقول سبيلاً وسنة، وللقرآن شريعة يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء، بلاءً لِيُعلَم من يطيعه ممن يعصيه، ولكن الدين الواحد لا يُقبل غيره: التوحيد والإخلاص لله، الذي جاءت به الرسل(1).
وقال رسول الله ج في هذا المعنى: $الأنبياء إخوة لِعَلاَّت، أمهاتهم شتى ودينهم واحد# أخرجه الشيخان(2).
والعلات هي الضرائر، وأصله أن من تزوج امرأة ثم تزوج أخرى كأنه علَّ منها، والعَلَل الشرب بعد الشرب، وأولاد العلات الإخوة من الأب من أمهات متعددة(3).
__________
(1) ... تفسير الطبري (10/385).
(2) ... صحيح البخاري، رقم 3443، كتاب أحاديث الأنبياء باب 48 (6/478).
صحيح مسلم، رقم 2365، كتاب الفضائل، باب 40 (ص1837).
(3) ... فتح الباري (6/489).(28/28)
وفي هذا الحديث دلالة واضحة على أن أصل دين الأنبياء واحد، وهو التوحيد، وأن شرائعهم متعددة، فما يصلح للشرائع السابقة التي نزلت لأقوام معينين في رقعة من الأرض محدودة قد لا يصلح كله للشريعة العامة التي أُنزلت للناس جميعاً إلى أن تقوم الساعة، وقد يشدد الله سبحانه على بعض الأمم فيحرم عليهم ما أحله لغيرهم لتعنتهم كاليهود مثلاً، ثم يبيحه جل وعلا لمن يأتي بعدهم، أما أصل الدين فإنه لا يتغير بتغير الأمم والأمكنة والأزمنة، فكان الإسلام دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جميعاً، وإذا أُطلق الإسلام دخلت فيه الشرائع ضمناً، لأن التكاليف الشرعية هي القواعد التطبيقية للإسلام، حيث إنها من أمر الله تعالى ونهيه، ولا يتم الإسلام إلا بطاعة الله سبحانه فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر، وإنْ اختلفت الشرائع في بعض التفاصيل فإنها جميعاً من أمر الله جل وعلا ونهيه.
وقد جاء إطلاق الدين في هذا الحديث على التوحيد لأن الدين جاء في مقابلة الشريعة، والأصل أن الدين إذا أُطلق وكذلك الإسلام فإن ذلك يشمل الشريعة، فالقرائن هي التي تبين المقصود.
إذاً فليس هناك أديان سماوية، إنما الدين عند الله واحد
هو الإسلام.
لقد شرع الله جل وعلا هذا الدين منذ أن أهبط آدم عليه السلام إلى هذه الأرض، وكلما انحرف أبناء آدم عن هذا الدين أرسل الله إليهم رسلاً يهدونهم إليه.
...
- - - - -
عموم الرسالة الخاتمة(28/29)
وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة حتى أذن الله جل وعلا بتكَوُّن الأمة الواحدة من البشرية جمعاء فبعث محمداً ج إلى الناس كافة وجعله خاتم المرسلين، فليس بعد القرآن كتاب منزل ولا بعد محمد ج رسول مرسل، فبرسالته ختمت الرسالات السماوية، قال تعالى ? - الله الله ? الله ? - - ? - - الله الله ? الله الله أكبر - - ? - - الله الله أكبر - - - - - - الله - - - - ?- جل جلاله - الله ? ?? - - - جل جلاله -? - الله - الله - جل جلاله - } ?- جل جلاله -? - الله أكبر - ? الله ? ??? - ? الله الله } - ?- جل جلاله - - - - ?- رضي الله عنهم - الله الله أكبر - - الله - الله ? الله - ? - - - الله أكبر الله أكبر - - جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ?? - - ? [الأحزاب:40].
وبرسول الله ج اكتمل بناء الدعوة الإسلامية، قال رسول
الله ج: $إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلاَّ وُضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين# أخرجه الإمام البخاري(1).
فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام قاموا بهداية أقوامهم نحو الرشاد فَأَسْهم كل واحد منهم بوضع لبنة في بناء الدعوة إلى الله حتى إذا توقف نزول الوحي من السماء بعد عيسى عليه السلام وفشا الجهل وعمت الظلمات، وأصبحت البشرية جميعاً بحاجة إلى من يأخذ بيدها نحو النور والهداية أكمل الله جل وعلا بمحمد ج ذلك البناء فبعثه إلى الناس كافة.
فرسول الله ج لم يبعث ببناء قصر جديد، بل أكمل الله به القصر الذي شُيِّد بالأنبياء قبله عليهم الصلاة والسلام لأنه لم يبعث بدين جديد وإنما دعا إلى توحيد الله جل وعلا الذي دعا إليه الأنبياء جميعاً من قبله، وهذا صريح في الدلالة على اتحاد دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
...
- - - - -
__________
(1) ... صحيح البخاري رقم 3535، كتاب المناقب، باب 18 (6/558).(28/30)
فكرة التقريب بين الأديان
ولذلك فإن فكرة التوحيد أو التقريب بين الأديان السماوية فكرة باطلة من أصلها، لأنه ليس هناك أديان سماوية وإنما الدين السماوي واحد هو الإسلام، فمحاولة التوفيق بين الإسلام والأديان الأخرى محاولة للتوفيق بين الحق والباطل ولن يجتمع الحق والباطل أبداً.
إن الدين الإلهي الوحيد هو الإسلام الذي أنزله الله جل وعلا على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، أما الأديان الأخرى كاليهودية والنصرانية فهي من وضع البشر بعدما حرفوا الدين الإسلامي الذي أنزله الله جل وعلا على موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، فلا يمكن عقد مقارنة بين دين أنزله الله تعالى ودين وضعه البشر، كما لا يمكن عقد موازنة بين الخالق جل وعلا والمخلوق.
إن من يحاول أن يوحد بين الدين الإلهي والأديان البشرية كمن يحاول أن يوحد بين الله وخلقه، ومن يحاول أن يقارب بين دين الله وأديان البشر كمن يحاول أن يقارب بين الله وخلقه تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
وعلى هذا لا يجوز أن يقال: الأديان السماوية لأن الدين الإلهي واحد، ويجوز أن يُسمَّى ما وضعه البشر ديناً لأن الله جل وعلا سمى الوثنية ديناً كما في قوله تعالى آمراً نبيه ج أن يقول للكفار ? صدق الله العظيم ? الله أكبر ? - ? صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - الله أكبر ? - ??- جل جلاله - - - ?- جل جلاله -? الله ? - ??- جل جلاله - - } تمهيد { ? [الكافرون:6] وقد كانت قريش تعبد الأصنام، وكما في قوله تعالى عن فرعون في تحذير قومه من موسى عليه الصلاة والسلام ? ??- جل جلاله - بسم الله الرحمن الرحيم الله أكبر ? تمهيد - - ?? - الله - - - - ? - - - ?? بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله - - الله الله أكبر - - الله أكبر ? ?? - - الله ??- جل جلاله - - ? [غافر:26] وقد كان دينهم عبادة فرعون.(28/31)
والذين أرادوا التقريب بين ما أنزل الله على رسوله محمد ج وبين ما أنزل على الرسل من قبله إن أرادوا أصل الدين فإنه واحد لا يتغير وهو عبادة الله وحده لا شريك له فإذا فعلوا ذلك وتركوا عبادة أنبيائهم وأحبارهم ورهبانهم من دون الله تعالى وطبقوا ما جاء في كتبهم التي أنزلها الله كانوا على الإسلام الذي بُعث به محمد ج لأنهم لا يعدُّون مؤمنين حقّاً بكتبهم وأنبيائهم حتى يؤمنوا بمحمد ج حيث بشَّر به أنبياؤهم وأمروهم بالإيمان به إذا بعث، وإن لم يفعلوا ذلك كانوا كفاراً ومصيرهم في الآخرة إلى النار، كما أخرج الحافظ أبو الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى من حديث أبي هريرة ط عن رسول الله ج أنه قال: $والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلا كان من أصحاب النار#(1).
__________
(1) ... صحيح مسلم، رقم 153، كتاب الإيمان، باب 70 (ص134).(28/32)
وقد أمر الله تعالى نبيه ج أن يدعو أهل الكتاب إلى التوحيد الذي هو أصل الدين، قال تعالى ( ( - ( - - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - ((- رضي الله عنه - - ( - (- رضي الله عنه - - ( - ( - - - } - ( قرآن كريم - - - - رضي الله عنهم -( - - - - فهرس - ( { - { - رضي الله عنهم - - ( - - - { ( - - - عليه السلام - قرآن كريم - رضي الله عنهم - - - - عليه السلام - - - - جل جلاله -( - - رضي الله عنه - - ( - ( - - عليه السلام - - ( - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - ( - ((- رضي الله عنه - الله أكبر - صدق الله العظيم ( { { - - - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - ( - ((( - (( مقدمة ( - - - (( - - { - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - ( - ( - - رضي الله عنه - - - - عليه السلام - - ((((- رضي الله عنه - - - ((((- رضي الله عنه - - - - - - - رضي الله عنه - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - - - - تمت ( - - ( } - ( قرآن كريم { - - عليه السلام - قرآن كريم - - } - قرآن كريم ( - قرآن كريم ( { - ( } - - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنهم - - ( { - - - ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ( - - - قرآن كريم ( - ( - ( - ( تم بحمد الله ( [آل عمران:64] ولذلك دعا رسول الله ج هرقل عظيم الروم إلى الإسلام بهذه الآية كما جاء في كتابه الذي أرسله إليه كما سيأتي.
وهكذا يجب أن ندعو أهل الكتاب إلى أصل الدين الذي هو التوحيد ونبذ الشرك بمختلف أشكاله.(28/33)
وإن أرادوا بمحاولة التقريب التوفيق بين شرائع الأنبياء فهذا لا يجوز لأن حكمة الله جل وعلا اقتضت أن تتعدد الشرائع وتختلف في بعض التفاصيل، ثم إنها نُسخت بالشريعة التي أنزلها الله جل وعلا على محمد ج لأن أهل الكتاب مأمورون بالإيمان به وبما جاء به.
...
- - - - -
التقريب بين الأديان من المداهنة
قال الله تعالى عن محاولة المشركين مداهنة رسول الله ج: ( } - - صلى الله عليه وسلم - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( قرآن كريم - - ( صدق الله العظيم ( - ( - ( - - - قرآن كريم ( - ( - ( - ( - - ( ( [القلم:9] والإدهان هو التليين في القول.
وفي معنى هذه الآية يقول حبر الأمة عبدالله بن عباس م: ودوا لو ترخص لهم فيرخصون، أخرجه عنه الإمام الطبري من طريق علي بن أبي طلحة(1).
__________
(1) ... تفسير الطبري (29/21).(28/34)
وقال تعالى في بيان محاولة المشركين فتنة النبي ج ليميل إليهم ويتنازل عن بعض دعوته ? ? تمهيد - - الله ? المحتويات - ? - - - الله } ?? الله الله أكبر ?? - ?- جل جلاله - { - ? الله - - ? - ? الله ? - ?- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - - - ? الله أكبر صدق الله العظيم الله أكبر - الله الله أكبر - صدق الله العظيم ? - - - ?? صدق الله العظيم - الله أكبر - ? تمهيد - - ?? - - الله الله أكبر - { الله أكبر ? الله - - جل جلاله -? - الله الله أكبر ? صدق الله العظيم - الله أكبر - ? الله ? - سبحانه وتعالى - - - ? الله } صدق الله العظيم - الله أكبر الله الله أكبر ?? - - - - تمهيد - الله ? ??? - - الله - بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر - - - ? - درهم ? - - - جل جلاله -? الله - } - - { - - الله درهم ?? الله أكبر - ? الله ? ? - - - ?? - الله أكبر الله الله أكبر ? صدق الله العظيم الله أكبر - الله الله الله أكبر - - - صدق الله العظيم - الله ? - ? - ? - - - جل جلاله -? - ? الله } ? - الله أكبر الله الله أكبر - صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - - ? صدق الله العظيم - الله أكبر - ? - تمهيد - - - - الله أكبر الله أكبر الله أكبر صدق الله العظيم - الله أكبر الله ? ? - - - جل جلاله -? الله الله أكبر ? } - - { - - - - تمهيد - ?? - الله أكبر الله الله أكبر { ?? الله - - - - بسم الله الرحمن الرحيم - درهم ?? صدق الله العظيم ?- جل جلاله -? - جل جلاله -? - ? الله - الله أكبر الله - - ? - - ?? صدق الله العظيم ?- جل جلاله -? الله ? - - - الله ? الله ? - ? - - الله الله ? - الله أكبر - - الله درهم - - - جل جلاله - - الله الله أكبر - ?? - ? - الله الله أكبر ? صدق الله العظيم - الله أكبر - ? الله ? - - } - - جل جلاله -? الله الله أكبر ? ? [الإسراء:73-75].(28/35)
يعني ضِعفَ عذاب الحياة الدنيا وضعف عذاب الآخرة(1)، وإذا كان هذا الوعيد الشديد لرسول الله ج لو فُرض أنه ركن إلى المشركين وداهنهم مع أن مقصوده في ذلك محاولة هدايتهم، فكيف بمن يركنون إلى أعداء الإسلام كسباً لرضاهم وتقرباً إليهم؟!
ولقد عصم الله تعالى نبيه ج من الركون إلى الكفار ومداهنتهم مع كثرة محاولاتهم التي قاموا بها ليخففوا من تمسكه بدعوته إلى التوحيد.
ومن ذلك أن زعماء الكفار اجتمعوا مع النبي ج يوماً لمحاولة التأثير عليه ليتنازل عن دعوة التوحيد والبراءة من الشرك فكان مما عرضوا عليه من العروض المغرية في مقابل ذلك أن قالوا له: فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئياًّ تراه قد غلب عليك - وكانوا يسمون التابع من الجن
رئياًّ - فربما كان ذلك بذلنا لك من أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نُعذِر فيك.
فقال لهم رسول الله ج: ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليَّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلَّغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني
ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم، أو كما قال رسول الله ج(2).
__________
(1) ... المرجع السابق (15/131).
(2) ... سيرة ابن هشام (1/295-300).(28/36)
وهكذا عرض زعماء الكفار على رسول الله ج هذه العروض المغرية التي تُحقق أعلى المطالب الدنيوية في مقابل أن يتنازل عن شيء من دعوته، ولكنه رفض ذلك كله مع أن المقابل لذلك أن يتهموه بالجنون، وأصر على عرض دعوته كاملة من غير تشويه ولا انتقاص، وهذا أبلغ مثل للتوحيد العالي، والتجرد التام، والإخلاص الكامل لله تعالى، وإن في موقفه هذا وأمثاله قدوة حسنة لعلماء أمته.
وهذا لا يعني الدعوة إلى العبوس في وجوه الكفار والخشونه في معاملتهم، فإن مداراة الكفار تشرع لحِكَم كثيرة منها وأهمها محاولة اجتذابهم إلى الإسلام، ومن أمثلة ذلك معاملة النبي ج عليه وسلم لعدي بن حاتم ط الذي كان سيد قومه طيء، وقد ذكر الإمام محمد بن إسحاق خبره في حديث طويل، ومما جاء فيه قول عدي: ثم مضى بي رسول الله ج حتى إذا دخل بي بيته تناول وسادة من أَدَم(1) محشوة ليفاً فقذفها إلي فقال: اجلس على هذه، قال: قلت بل أنت فاجلس عليها، فقال: بل أنت، فجلست عليها وجلس رسول الله ج بالأرض، قال: فقلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك(2).
وهكذا قام النبي ج بإكرام عدي بن حاتم وتواضع له لأنه يريد دعوته واجتذابه إلى الإسلام، وقد دخل في الإسلام وكان له بعد ذلك أثر كبير في الدعوة والجهاد في سبيل الله تعالى.
ومن الحِكَم في مداراة الكفار اتقاء شرهم، وظهور المسلمين بالمظهر الأكمل في المعاملة، ومن الأمثلة على ذلك ما أخرجه الشيخان عن عائشة ك أن رجلاً استأذن على النبي ج، فلما رآه قال: بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة، فلما جلس تطلَّق النبي ج في وجهه وانبسط له، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا، ثم تطلَّقت
في وجهه وانبسطت له، فقال رسول الله ج: يا عائشة متى عهدتني فاحشاً؟ إن شر الناس منزلة يوم القيامة من تركه
__________
(1) ... يعني من جلد.
(2) ... سيرة ابن هشام (4/316).(28/37)
الناس اتقاء فحشه(1).
ومما يحمل على هذا المعنى ما أخرجه الإمام البخاري من حديث
أبي الدرداء ط أنه قال: إنا لنكْشِر(2) في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم(3).
...
- - - - -
موقف النبي ج من أهل الكتاب
لما هاجر رسول الله ج إلى المدينة كان فيها قبائل من اليهود قوية، وهم بنو النضير وبنو قينقاع وبنو قريظة، وقد كان لهم نفوذ في المدينة، ومع ذلك فإن النبي ج لم يعقد معهم مجالس لتوحيد الدين، ولم يقم بأي توجه نحو التقارب معهم، بل دعاهم إلى الدخول في الإسلام.
قال ابن إسحاق رحمه الله تعالى: ودعا رسول الله ج اليهود من أهل الكتاب إلى الإسلام ورغَّبهم فيه، وحذرهم عذاب الله ونقمته(4).
__________
(1) ... صحيح البخاري، كتاب الأدب، رقم 2132 باب 38 (10/453)، ...
صحيح مسلم، كتاب البر، رقم 2591 باب 22 (ص 2002).
(2) ... أي نبتسم.
(3) ... صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب المداراة رقم 82 (10/527).
(4) ... سيرة ابن هشام (2/205).(28/38)
وجاء في كتابه لأهل خيبر: من محمد رسول الله - ج- صاحب موسى وأخيه - عليهما الصلاة والسلام- والمصدق لما جاء به موسى، ألا إن الله قد قال لكم يا معشر أهل التوراة - وإنكم لتجدون ذلك في كتابكم -: ? تمت - الله الله ? الله الله أكبر - - الله ? - ?? - ? الله الله } - - جل جلاله - - ? - - - الله ??- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - الله ? - - سبحانه وتعالى - - ? الله ? الله ? - ? - - - ? - - جل جلاله -? - - - ? - ? الله ? - جل جلاله - } - بسم الله الرحمن الرحيم - ? الله أكبر ? - ? - - - ? - - الله ? الله - - } ? - ? - ? الله الله أكبر ? صدق الله العظيم - الله الله أكبر - ?? - ? - الله أكبر ? الله - الله الله أكبر - - - ? بسم الله الرحمن الرحيم - } - } - - - - ? الله أكبر - - ? الله ?? - ?? الله الله أكبر - صدق الله العظيم - الله الله أكبر ? ? - { ? الله الله أكبر ? الله ?- جل جلاله - الله ? - ?- جل جلاله - - - - - - - الله أكبر الله أكبر ? - الله ? { ? - } الله ? ?? - ? - الله ? - - جل جلاله -? ?- جل جلاله -? - رضي الله عنهم - - ?- جل جلاله -?? - - - ? ?? الله - جل جلاله -? - - الله الله أكبر - - - - - جل جلاله - - - ? - - - ? { ? - - ??- جل جلاله -? - - - ?? - ? الله أكبر ? الله - الله ? ? - جل جلاله - - ? - الله أكبر ? الله } صدق الله العظيم ? بسم الله الرحمن الرحيم - - ? - - ? [الفتح:29] (1).
__________
(1) ... المرجع السابق (2/195).(28/39)
ولما وفد على النبي ج نصارى نجران دعاهم إلى الإسلام، ولم يحصل منه أي توجه للتقارب معهم في دينهم، وكان يتزعمهم حَبْران من علمائهم فقال لهما رسول الله ج: أسلما، قالا: قد أسلمنا، قال: إنكما لم تسلما فأسلما، قالا: بلى قد أسلمنا قبلك، قال: كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولداً، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير(1).
وكتب النبي ج إلى هرقل عظيم الروم الذي كان يمثل أعظم دولة نصرانية آنذاك يدعوه إلى الإسلام وقد جاء في كتابه: أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين(2) ( ( - ( - - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - ((- رضي الله عنه - - ( - (- رضي الله عنه - - ( - ( - - - } - ( قرآن كريم - - - - رضي الله عنهم -( - -
__________
(1) ... سيرة ابن هشام (2/241)، الدر المنثور (2/38).
(2) ... أي الفلاحين.(28/40)
- - فهرس - ( { - { - رضي الله عنهم - - ( - - - { ( - - - عليه السلام - قرآن كريم - رضي الله عنهم - - - - عليه السلام - - - - جل جلاله -( - - رضي الله عنه - - ( - ( - - عليه السلام - - ( - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - ( - ((- رضي الله عنه - الله أكبر - صدق الله العظيم ( { { - - - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - ( - ((( - (( مقدمة ( - - - (( - - { - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - ( - ( - - رضي الله عنه - - - - عليه السلام - - ((((- رضي الله عنه - - - ((((- رضي الله عنه - - - - - - - رضي الله عنه - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - - - - تمت ( - - ( } - ( قرآن كريم { - - عليه السلام - قرآن كريم - - } - قرآن كريم ( - قرآن كريم ( { - ( } - - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنهم - - ( { - - - ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ( - - - قرآن كريم ( - ( - ( - ( تم بحمد الله ( [آل عمران:64] (1).
وهكذا كتب النبي ج إلى ملك أعظم دولة في العالم آنذاك يدعوه إلى الإسلام ولم يفكر في عمل تقارب معه في دينه .
__________
(1) ... صحيح البخاري رقم 7، كتاب بدء الوحي باب رقم 6 (1/31-32).(28/41)
هذا وإن ما ذكر في هذه الرسالة لا يعني إلغاء الحوار مع اليهود والنصارى فإن الله عز وجل قال ( - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ( قرآن كريم ( - ( - ( { - ( تم بحمد الله - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - ( - (- رضي الله عنه - - ( تمهيد ( - - - - صدق الله العظيم ( { (( - { - - - ( - { - ( - ( صدق الله العظيم - - ( مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - - صدق الله العظيم ( { - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم ( - فهرس - - ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - (- جل جلاله -( تم بحمد الله } ( [العنكبوت: 46] فالحوار معهم مشروع ، بل هو أسلوب من أساليب الدعوة ، وقد حاور النبي ج يهود المدينة وحاور نصارى نجران ، ولكن حواره معهم يتم بالاستعلاء والاعتزاز بالإسلام وعدم المداهنة في شئ من الدين .
...
- - - - -
كمال الرسالة الخاتمة
لقد أكمل الله جل وعلا برسالة محمد ج الدين للناس جميعاً، قال تعالى ? الله ??? الله - - ? - - ? - - ? الله ? صدق الله العظيم } - - - ?? الله أكبر ? - ? ?? الله أكبر ? الله ??- جل جلاله - - ? - صدق الله العظيم ? الله ? صدق الله العظيم الله أكبر - - - - الله ? ?? الله أكبر ? صدق الله العظيم - - ? الله ? ?- جل جلاله - - الله ? صدق الله العظيم ?- جل جلاله - الله أكبر ? ? - - - جل جلاله -? الله } الله ? - ? الله أكبر ? - ? الله ? - الله أكبر الله أكبر - ? الله أكبر ?? - - تمهيد ? - - - - - الله أكبر ??- جل جلاله - - ? [المائدة:3].(28/42)
ولقد كان اليهود يحسدون المسلمين على هذه الآية كما أخرج الإمام أحمد من حديث طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر ط فقال: يا أمير المؤمنين إنكم تقرؤون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: وأي آية هي؟ قال: قوله عز وجل ? الله ??? الله - - ? - - ? - - ? الله ? صدق الله العظيم } - - - ?? الله أكبر ? - ? ?? الله أكبر ? الله ??- جل جلاله - - ? - صدق الله العظيم ? الله ? صدق الله العظيم الله أكبر - - - - الله ? ?? الله أكبر ? صدق الله العظيم - - ? الله ? ?- جل جلاله - - الله ? صدق الله العظيم ?- جل جلاله - الله أكبر ? ? قال فقال عمر ط: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول الله ج والساعة التي نزلت فيها، نزلت على رسول الله ج عشية عرفة في يوم الجمعة(1).
وأخرجه الشيخان من حديث طارق بن شهاب(2).
فمن ادعى بعد ذلك أن البشرية بحاجة إلى هدى جديد غير ما جاء به محمد ج فهو ضال أو صاحب هوى فاسد يريد هدم الإسلام الذي ارتضاه الله جل وعلا ديناً للبشرية.
__________
(1) ... مسند أحمد (1/28).
(2) ... صحيح البخاري رقم 4606، كتاب التفسير، المائدة/2 (8/270).
صحيح مسلم، رقم 3017، التفسير (ص 2312).(28/43)
إن الله جل وعلا لا يرسل إلى أمة رسولاً حتى تكون بحاجة إلى الهداية والإرشاد ويعم الضلال والفساد، وإذا نحن نظرنا إلى هذا الدين الذي بعث الله به محمداً ج نجده لا يزال مصدراً للنور والهداية، فكتاب الله موجود بيننا لم يحرف ولم يبدل، وقد تكفل الله جل وعلا بحفظه حتى يرث الأرض ومن عليها، فقال تعالى ? - بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? - تمهيد - - ? صدق الله العظيم - الله ? - الله الله أكبر ? - ? الله الله { الله الله أكبر ? الله - الله أكبر صدق الله العظيم } بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله - - ? - - - بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ? تمهيد - - الله ? - سبحانه وتعالى - - ? الله الله أكبر ? الله ?? الله أكبر ??- جل جلاله -? - الله أكبر الله أكبر الله - - ? } - { ? [الحجر:9] وسنة نبينا ج موجودة بيننا وقد قام علماء الإسلام بجهود جبارة لتمييز ما ثبت عن النبي ج مما نسب إليه خطأ أو كذباً.
فليس هناك ما يدعو إلى بعث نبي جديد ننتظر الهداية على يديه وإنما علينا أن نلتزم بما جاء به رسول الله ج من البينات والهدى حتى نكون من المفلحين.
وقد أخبر النبي ج أن الحق لا يزال في هذه الأمة وأنه سيبقى من هذه الأمة من يمثل هذا الحق ويقوم بالدفاع عنه، قال ج:
$لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم
ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك# أخرجه الإمامان البخاري ومسلم(1).
إننا حينما نشعر بأن عقيدتنا الإسلامية هي العقيدة الصحيحة وأنها هي الدين الحق وأن ما سواها في العالم كله من العقائد باطل لا يرتقي إلى المقارنة مع عقيدة الإسلام، فإن هذا وحده يكفي لتقوية إيماننا وإعطائنا دفعات قوية من الحيوية وبذل الجهد حتى تنتشر هذه العقيدة في أرجاء المعمورة.
__________
(1) ... صحيح البخاري، المناقب، رقم 3641، باب28 (6/632). ...
صحيح مسلم، الإمارة، رقم 1920، باب 53 (ص1523).(28/44)
إننا بحاجة إلى أن نُفهم المؤمنين بالإسلام بأنهم وحدهم على الدين الحق وأن ما سواه باطل وأن الإسلام هو وحده الذي تصح نسبته إلى الله تعالى وأن ما سواه ليس من عند الله.
وحينما يؤمن المسلمون بدينهم حقّاً ويتخذونه مبدأ يعتزون به ويدافعون عنه ويدعون الناس إلى الدخول فيه سنجد أن الناس يسارعون إلى الدخول فيه وحمايته والدعوة إليه.
- - - - -
فهرس المصادر والمراجع
للرسائل الشمولية
الإبانة عن أصول الديانة / للإمام أبي الحسن علي بن إسماعيل
الأشعري / الناشر: قصي محب الدين الخطيب.
الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان / لفضيلة الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد / الناشر: دار
العاصمة - الرياض.
الأدب المفرد / للإمام أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري / الناشر: قصي محب الدين الخطيب.
الاستقامة / للإمام أحمد بن عبدالحليم ابن تيمية / تحقيق: د.محمد رشاد سالم / الناشر: مؤسسة قرطبة - مصر.
الاعتصام / للعلامة إبراهيم بن موسى الشاطبي / الناشر: المكتبة التجارية الكبرى بمصر.
اقتضاء الصراط المستقيم / للإمام أحمد بن عبدالحليم ابن تيمية / الناشر: مطبعة الحكومة - مكة المكرمة.
البداية والنهاية / للحافظ أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير
القرشي / الناشر: دار الكتب العلمية في بيروت.
تاريخ بغداد / للحافظ أحمد بن علي الخطيب البغدادي / الناشر: دار الكتاب العربي في بيروت.
تاريخ الطبري (تاريخ الرسل والملوك) / للإمام محمد بن جرير
الطبري / تحقيق: محمد أبي الفضل إبراهيم / الناشر: دار المعارف بالقاهرة.
تاريخ مدينة دمشق / للحافظ علي بن الحسن ابن عساكر / الناشر: دار الفكر - لبنان.
تبيين كذب المفتري فيما نسب للإمام الأشعري / للحافظ أبي القاسم علي بن الحسن ابن عساكر / الناشر: دار الكتاب العربي - لبنان.
تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي / للحافظ محمد
المباركفوري / الناشر: المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.(28/45)
تحكيم القوانين / لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ/ الطبعة الثالثة.
تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم) / للحافظ أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي / الناشر: مكتبة النهضة الحديثة في مكة المكرمة.
تفسير الطبري (جامع البيان) للإمام أبي جعفر محمد بن جرير
الطبري / الناشر: مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر.
تفسير المنار / للعلامة محمد رشيد رضا / الناشر: دار المنار بمصر.
تعظيم قدر الصلاة / للحافظ محمد بن نصر المروزي / الناشر: مكتبة الدار بالمدينة المنورة.
التوحيد وإثبات صفات الرب / للحافظ محمد بن إسحاق بن
خزيمة / تحقيق: د. محمد خليل الهراس / الناشر: مكتبة الكليات الأزهرية.
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان/ للشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي/ الناشر: المطبعة السلفية ومكتبتها.
جامع العلوم والحكم / للحافظ أبي الفرج عبدالرحمن بن شهاب الدين (ابن رجب) / الناشر: مؤسسة الرسالة / دار الفكر - لبنان.
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء / للحافظ أبي نعيم أحمد
بن عبدالله الأصبهاني / الناشر: مكتبة الخانجي ومطبعة
السعادة بمصر.
الخشوع في الصلاة / للحافظ زين الدين عبدالرحمن بن شهاب الدين (ابن رجب) / الناشر: دار عمار - عمان.
درء تعارض العقل والنقل / للإمام أحمد بن عبدالحليم ابن تيمية / تحقيق: د. محمد رشاد سالم / الناشر: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
الدر المنثور في التفسير بالمأثور / للحافظ جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي / الناشر: محمد أمين دمج - بيروت.
ذيل طبقات الحنابلة / للحافظ أبي الفرج عبدالرحمن بن شهاب الدين (ابن رجب) / الناشر: دار المعرفة - بيروت.
الزهد / للإمام أحمد بن حنبل الشيباني / الناشر: دار الكتب
العلمية - لبنان.
سلسلة الأحاديث الصحيحة / للعلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني / الناشر: المكتب الإسلامي - بيروت.(28/46)
سنن أبي داود / للحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي / تحقيق: عزت عبيد الدعاس / الناشر: محمد علي السيد في حمص.
سنن الدارمي / للحافظ عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي / تحقيق: فؤاد زمرلي وخالد العلمي / الناشر: دار الريان بالقاهرة، ودار الكتاب العربي ببيروت.
سنن ابن ماجه / للحافظ محمد بن يزيد القزويني (ابن ماجه) / تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي / الناشر: دار إحياء
الكتب العربية.
سنن النسائي / للحافظ أبي عبدالرحمن أحمد بن شعيب النسائي / الناشر: المكتبة التجارية الكبرى بمصر.
سير أعلام النبلاء / للإمام محمد بن أحمد الذهبي/
تحقيق: شعيب الأرنؤوط وحسين الأسد / الناشر: مؤسسة الرسالة في بيروت.
سيرة عمر بن عبدالعزيز / للحافظ أبي الفرج عبدالرحمن بن
الجوزي / الناشر: دار الفكر.
سيرة النبي صلى الله عليه وسلم / لأبي محمد عبدالملك بن هشام الحميري / تحقيق : د. محمد خليل الهراس / الناشر: مكتبة الجمهورية في مصر.
شرح السنة / للحافظ الحسين بن مسعود البغوي / تحقيق: شعيب الأرنؤوط وزهير الشاويش / الناشر: المكتب
الإسلامي - بيروت.
شرح العقيدة الطحاوية / للعلامة علي ابن أبي العز الدمشقي / تحقيق: شعيب الأرنؤوط / الناشر: مكتبة دار البيان بدمشق.
شرح لمعة الاعتقاد / لسماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين / الناشر: مكتبة الرشد بالرياض.
صحيح البخاري / للإمام أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري مع شرحه فتح الباري / تحقيق: محمد فؤاد
عبدالباقي ومحب الدين الخطيب / الناشر: المطبعة السلفية ومكتبتها بالقاهرة.
صحيح الجامع الصغير / للعلامة الشيخ محمد ناصر الدين
الألباني / الناشر: المكتب الإسلامي - بيروت.
صحيح مسلم / للإمام مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري / تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي الناشر: دار إحياء التراث العربي.
صحيفة (المسلمون) التي تصدر من المملكة العربية السعودية.(28/47)
فتاوى اللجنة الدائمة في المملكة العربية السعودية.
فتح الباري بشرح صحيح البخاري / للحافظ أحمد بن علي الكناني (ابن حجر العسقلاني) / تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي ومحب الدين الخطيب / الناشر: المطبعة السلفية ومكتبتها.
فتوح البلدان / لأبي العباس أحمد بن يحيى البلاذري / تحقيق: عبدالله أنيس الطباع وعمر أنيس الطباع، الناشر: مؤسسة المعارف في بيروت.
فتوح الشام / لمحمد بن عبدالله الأزدي / تحقيق: عبدالمنعم عبدالله عامر / الناشر: مؤسسة سجل العرب.
الفَرق بين الفِرق / لعبدالقاهر بن طاهر البغدادي / الناشر: مكتبة محمد علي صبيح وأولاده بمصر.
الكشاف / لأبي القاسم جار الله بن محمود الزمخشري / الناشر: مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر.
لسان العرب / لأبي الفضل محمد بن مكرم بن منظور / الناشر: دار صادر في بيروت.
لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية / للعلامة محمد بن أحمد السفاريني / الناشر: المكتب الإسلامي - بيروت، ومكتبة أسامة - الرياض.
مجلة المجتمع / جمعية الإصلاح الإجتماعي - الكويت.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد / للحافظ علي بن أبي بكر الهيثمي / الناشر: دار الكتاب العربي في بيروت.
مجموعة الرسائل المنيرية / الناشر: إدارة الطباعة المنيرية / دار إحياء التراث العربي.
مجموع الفتاوى / للإمام أحمد بن عبدالحليم ابن تيمية / جمع وترتيب عبدالرحمن بن محمد بن قاسم / مطابع الرياض.
مدارج السالكين / للإمام أبي عبدالله محمد بن أبي بكر
ابن القيم / الناشر: مطبعة السنة المحمدية بمصر.
المستدرك على الصحيحين / للحافظ أبي عبدالله الحاكم
النيسابوري / الناشر: مكتب المطبوعات الإسلامية في حلب.
المصنف / للحافظ عبدالرزاق بن همام الصنعاني / تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي / الناشر: المجلس العلمي في الهند وباكستان.(28/48)
معالم السنن / للحافظ أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي / تحقيق: أحمد محمد شاكر ومحمد حامد الفقي / الناشر: دار المعرفة - لبنان.
المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من
الآثار / للحافظ عبدالرحيم بن الحسين العراقي / الناشر: مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر.
الملل والنحل / لأبي الفتح محمد بن عبدالكريم الشهرستاني / تحقيق: عبدالعزيز محمد الوكيل / الناشر: مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع - القاهرة.
منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية / للإمام أحمد بن عبدالحليم ابن تيمية / تحقيق: د. محمد رشاد سالم / الناشر: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
الموافقات في أصول الأحكام / للحافظ إبراهيم اللخمي الشاطبي / الناشر: دار الفكر - لبنان.
موسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية لبلاد السند
والبنجاب / د. عبدالله الطرازي.
الموطأ / للإمام مالك بن أنس / تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي / الناشر: دار إحياء التراث العربي.
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة / لجمال الدين يوسف بن تَغْري بَرْدي الأتابكي / الناشر: وزارة الثقافة والإرشاد القومي، المؤسسة المصرية العامة للتأليف.
النهاية في غريب الحديث والأثر / للحافظ أبي السعادات المبارك بن محمد الجزري (ابن الأثير) / تحقيق: طاهر الزاوي ومحمود الطناحي / الناشر: دار إحياء الكتب العربية.
- - - - -(28/49)
الرسالة السادسة
شمول الإسلام للأديان السماوية
W
سلسلة الرسائل الشمولية
الرسالة السادسة
...
شمول الإسلام للأديان السماوية
إعداد الدكتور
عبد العزيز بن عبد الله الحميدي
المشرف على الإدارة العامة للدعوة في رابطة العالم الإسلامي
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
1424هـ – 2003م(29/1)
- فهرس الموضوعات -
الموضوع ... رقم الصفحة
مقدمة الرسائل........................................................ ... 5
الرسالة السادسة: شمول الإسلام للأديان السماوية.... ... 11
المقدمة.................................................................... ... 13
إن الدين عند الله الإسلام......................................... ... 17
الإسلام دين الرسل جميعاً....................................... ... 19
أقوال العلماء في هذا الموضوع................................... ... 25
اتحاد الدين وتعدد الشرائع........................................ ... 31
عموم الرسالة الخاتمة................................................ ... 35
فكرة التقريب بين الأديان.......................................... ... 37
التقريب من الأديان من المداهنة................................. ... 41
موقف النبي ج من أهل الكتاب................................ ... 47
كمال الرسالة الخاتمة................................................. ... 51
فهرس المصادر والمراجع............................................ ... 55
فهرس الموضوعات.................................................. ... 65
- - - - -(30/1)
الرسائل الشمولية ( 6 ) ...
الرسالة السادسة
شمول الإسلام للأديان السماوية(31/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العلي القدير، السميع البصير، الفعال لما يريد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، سيد الأولين والآخرين وإمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: فهذه رسائل علمية في مجال العقيدة، أقدمها بين يدي إخواني القراء الكرام، لعلها تسهم في شيء من إصلاح المجتمع الإسلامي، وتحقيق الوضع الأمثل له في حاضره ومستقبله.
وإن مما دفعني إلى تأليف هذه الرسائل ما رأيته من واقع بعض المسلمين السيء، حيث تفرقوا شيعاً وأحزاباً، وتنافرت قلوبهم، وتشتت شملهم.
وكان من أهم الأسباب في ذلك ما جرى من الشقاق بين بعض أهل العلم منهم، وإشغال أنفسهم في الردود بعضهم على بعض واتهام بعضهم بعضاً في دينهم.
لقد كان الصحابة ن مُتَّفقِي الكلمة، تجمعهم جماعة واحدة، ويحترم علماؤهم بعضهم بعضاً، ويثني بعضهم على بعض وإن اختلفوا في الاجتهاد في بعض المسائل الشرعية، إلى أن حصل التفرق في المسلمين من بعض التابعين الذين لم يلتزموا بمنهج الصحابة ، فشنوا حملاتهم المغرضة على أمير المؤمنين عثمان ط إلى أن استشهد فتفرق المسلمون من بعده، وقد صاحب تفرقَهم في الآراء تفرق في الدين، ومن أبرز ما حدث آنذاك ظهور الخوارج والرافضة بمختلف طوائفهم، ثم محاولة غزو الإسلام من داخله، وذلك بنشر المذاهب العقدية المنحرفة التي تعتمد على العقل ولا تُحكِّم شريعة الإسلام، وتعتمد على الهوى المنحرف.(32/1)
وفي سبيل مكافحة ذلك الخطر الداهم والغزو الفكري المنظم قام مجموعة من العلماء أصحاب الغيرة والتقوى بالرد على أولئك المنحرفين الضالين عن سبيل الهدى، ولو أن أولئك العلماء جميعاً استقاموا على منهج واحد سليم على مر القرون الإسلامية لنجحوا سريعاً في صد الباطل وجمع كلمة أهل العلم الديني، ومن ورائهم أفراد المسلمين الذين يرون العلماء قادة وموجهين لهم، ولكنهم اختلفوا في بعض تفاصيل المنهج فضعفت كلمتهم وصار بأسهم بينهم أحياناً، وكان ذلك سبباً في استفحال الشر وقوة أهله وامتداد زمن الصراع الفكري بين دعاة الحق ودعاة الباطل.
وهذه الرسائل من مهماتها تقريب وجهات النظر بين المختلفين من أهل العلم والتقوى ليُلقوا أسلحتهم الموجهة إلى نحورهم، وليتفرغوا لأعدائهم الحقيقيين، ولتجتمع من ورائهم الأمة الإسلامية.
ولقد جرت محاولات جادة لجمع علماء المسلمين تحت لواء واحد، خصوصاً في هذا العصر على إثر انتشار الصحوة الدينية وتعدد الجماعات الإسلامية، ولكنْ حال دون النجاح في ذلك اختلاف بعض أهل العلم الذي تولد عنه اختلاف القلوب، وكانت العقبة الكبرى التي تحول دون اجتماعهم هي الخلافات العقدية التي انبنى عليها حكم بعضهم على بعض بالضلال والابتداع، وإذا كان أهل العلم يضلل بعضهم بعضاً ويبدع بعضهم بعضاً فإن اجتماعهم على عمل واحد يكون بعيد المنال، فكان من أهداف هذه الرسائل رفع معالم واضحة لعلماء الأمة كي يلتقوا عليها وإن لم يتفقوا على رأي واحد، تمهيداً لجمعهم تحت رابطة واحدة ولواء واحد.(32/2)
ومن مقاصد هذه الرسائل أنها تعالج أنواعاً من القصور في فهم بعض أمور الدين، وهذا القصور ناتج من عوامل متعددة، منها الميل من بعض الدعاة إلى التميز عن سائر المسلمين، وعدم مراعاة المحافظة على جماعة المسلمين العامة، وعدم الاهتمام الكافي بجمع كلمة المسلمين، وعدم وجود الفزع والإشفاق من تفرقهم وضعف قوتهم، كما أن من أسباب ذلك تركيز الأفكار على قضايا محدودة من الدين وضعف الاهتمام بقضايا الدين الأخرى.
كما أن من محتويات هذه الرسائل محاولة صد هجوم مكثف
من أعداء الإسلام بقصد تذويب المسلمين ودمجهم في أصحاب الديانات الأخرى.
وهذا تعريف موجز بهذه الرسائل :
الأولى: (شمول الاجتهاد في الدين)، وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن الاجتهاد في الدين يشمل العقائد كما يشمل الأحكام الفقهية، اقتداء بالصحابة رضي الله عنهم، واسترشاداً بأقوال العلماء الربانيين المحققين، وتلمساً للسبل التي تخلص الأمة الإسلامية من الشقاق والنزاع والعداوة والبغضاء.
الثانية: (شمول العقيدة) وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن العقيدة تشمل كل عمل يتعلق باعتقاد القلب وإن كان ظاهره ليس من أمور العقيدة، ومن أبرز ذلك تحكيم الإسلام في جميع شئون الحياة ورفض الحكم بغير ما أنزل الله تعالى.
الثالثة: (شمول العبادة) وهذه الرسالة تهدف إلى بيان
أن العبادة تطلق على كل عمل مشروع أريد به وجه الله
تعالى، مع بيان الإيجابيات لهذا الفهم الشامل والسلبيات
للفهم القاصر.
الرابعة: (شمول معالم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة)،
وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن صفات الفرقة الناجية والطائفة المنصورة تجمع بين العلم النافع والعمل الصالح، وما يترتب على ذلك من النتائج البناءة في قيام جماعة المسلمين وحمايتها
من التصدع والانهيار.(32/3)
الخامسة: (شمول السلفية)، وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن السلفية لا تختص بالعقائد، بل تشمل كل ما جاء به الدين من العلم النافع والعمل الصالح، ولذلك فهي تشمل قطاعاً كبيراً من المسلمين ولا تختص بطائفة معينة، مع بيان السلبيات المترتبة على حصر السلفية في طائفة محدودة، أو في جانب معين من الدين.
السادسة: (شمول الإسلام للرسالات السماوية)، وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن أصل الدين الذي هو التوحيد شامل لكل الرسالات السماوية، وأن الإسلام العام يطلق على كل هذه الرسالات، وفي هذا رد على فرية التقريب بين الأديان السماوية.
وقد سمَّيتُ هذه الرسائل (الرسائل الشمولية) لأنها كلها تشتمل على تصحيح بعض المفاهيم القاصرة، وتدعو إلى شمولية الفهم لمحتويات هذه الرسائل.
هذا وقد كنت كتبت هذه الرسائل ما بين عامي أربعة وأربعمائة وألف وأربعة عشر وأربعمائة وألف، وذلك حينما كنت أدرِّس مادة العقيدة في المعهد العالي لإعداد الأئمة والدعاة التابع لرابطة العالم الإسلامي، وقد درَّست أغلب مادة هذه الرسائل لطلاب ذلك المعهد، كما نقلها عدد منهم إلى البلاد التي ذهبوا للعمل فيها ودرَّسوها لطلابهم كما أفادوني بذلك، ولقد كان بعض الطلاب يلحون عليَّ كثيراً في طباعة هذه الرسائل، ولكني تأخرت في ذلك أولاً لانشغالي بإعداد كتاب (التاريخ الإسلامي/ مواقف وعبر) الذي بلغ عشرة مجلدات، وثانياً لأنني كنت أحاول أن أجد الوقت لإعادة النظر فيها وتنقيحها.
والآن فإنني أقدمها للأمة الإسلامية محاولاً بذلك الإسهام في الإصلاح ما استطعت، وقد بذلت جهدي في إعدادها، والتزمت أن لا أستشهد بحديث إلا إذا كان مقبولاً عند أهل الحديث، فإن يكن فيها صواب فمن توفيق الله تعالى، وإن يكن فيها خطأ فمن نفسي القاصرة.
وأسأل الله تعالى التوفيق والسداد لي ولجميع إخواني المسلمين.(32/4)