بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن السيرة النبوية مليئة بالعبر، حافلة بالأسرار، مقومة للسلوك، مربية للعواطف، باعثة على الاقتداء.
وإن الحديث عن السيرة لمن أعظم ما تنشرح له الصدور، وتنطلق الأسارير، وتخفق الأفئدة.
كيف لا وهو حديث عن أكرمِ البشرية، وأزكاها وأبرها، وعظيمٍ لو طالعت كتب التاريخ والسير عربية وغير عربية، وأمعنت النظر في أحوال عظماء الرجال من مبدأ الخليقة إلى هذا اليوم _ فإنك لا تستطيع أن تضع يدك على اسم رجل من أولئك العظماء، وتقص علينا سيرته ومزاياه وأعماله الجليلة حديثاً يضاهي أو يداني ما تُحدِّث به عن هذا الرسول العظيم.
وغير خفي على مَنْ يَقْدُر هذا النبي قدره أن ليس في طوق كاتب _ ولو ألقت إليها البلاغة أعنتها _ تقصي المعاني التي انطوت في هذه السيرة العظيمة.
هذا وإن مما يبعث على الأسى، ويدعو إلى الأسف والحسرة ما تناقلته وسائل الإعلام في الفترة الماضية، حيث تناولت ما تبثه صحف الدانمارك والنرويج وغيرها تلك الصحف التي ما فتئت تنال من مقام النبوة بأسلوب ساخر، ينم عن حقد دفين، وحسد يأكل قلوبهم، ويأبى لها أن إلا تغالط الحقائق، وتتيه في أودية الزور والبهتان؛ ظانين أن ذلك ينزل من مقام النبوة الأعظم فتيلاً أو قطميراً.
وفي تعب من يحسد الشمس نورها ... ويجهد أن يأتي لها بضريب(1)
[يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] (التوبة:32).
ولقد ساء ذلك الفعل الشائن قلوب المسلمين، وتتابعت أقلام الكتاب في رد ذلك الزيف، وإبطال ذلك الكيد؛ فكان من ذلك بعثٌ لفضائل هذا النبي الكريم _عليه من الله أفضل الصلاة وأتم التسليم_.
__________
(1) _ ديوان المتنبي بشرح العكبري 1/56.(1/1)
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود(1)
وفضيلة النبي"لم تطوَ، وإنما تتجدد، وتتلألأ كالبدر في سماء صاحية، وكالشمس في رأْد الضحى.
ورغبة في الإسهام في هذا الواجب العظيم، وأداءاً لأقل القليل في حق هذا النبي الكريم _ رأيت أن أقدم جهد المقل في هذا الشأن.
وذلك من خلال هذا البحث الذي جاء عنوانه يحمل المسمى الآتي:
(الرحمة والعظمة في السيرة النبوية)
أما خطته فجاءت مشتملة على مدخل، وتمهيد، وثلاثة فصول، وخاتمة وذلك على النحو التالي:
_ مدخل: في أسرار السيرة النبوية، ومناهج البحث فيها.
_ تمهيد: وقد جاء مشتملاً على بعثة النبي"وخلاصة سيرته.
_الفصل الأول: من جوانب الرحمة في سيرة النبي".
وتحته خمسة مباحث:
المبحث الأول: في كون النبي"مفطوراً على الرحمة، وكون
شريعته مشتملة على الرحمة العامة الكاملة.
المبحث الثاني: رحمة النبي"بالبشر عموماً.
المبحث الثالث: رحمة النبي"بالضعفة والمساكين.
المبحث الرابع: رحمة النبي"بالنساء.
المبحث الخامس: رحمة النبي"بالحيوان.
_ الفصل الثاني: من جوانب العظمة في سيرة النبي".
وتحته مدخل وخمسة مباحث:
_ مدخل: في مفهوم العظمة
_ المبحث الأول: في رجاحة عقل النبي"وغزارة علمه.
_ المبحث الثاني: في عظمة خلق النبي".
_ المبحث الثالث: في إخلاص النبي" وصدق عزيمته.
_ المبحث الرابع: في حسن بيان النبي".
_ المبحث الخامس: من شهادات المنصفين على عظمة النبي" وصدق رسالته.
_ الفصل الثالث: مجلس رسول الله".
وتحته مدخل وخمسة مباحث:
_ مدخل: وفيه بيان لأسباب إيراد هذا الفصل، وأنه بحث نادر لطيف لم يفرده أحد من الأوائل، وأنه يجلي رحمة النبي"وتواضعه، وما إلى ذلك من جوانب عظمته.
_ المبحث الأول: مقدمة في مجالس العظماء.
_ المبحث الثاني: في ورود مجلس رسول الله في القرآن، وصفة ذلك المجلس.
_ المبحث الثالث: مكان مجلس الرسول"وكيفية التئامه وخروجه إليه.
__________
(1) _ ديوان أبي تمام 1/213.(1/2)
_ المبحث الرابع: هيئة المجلس الرسولي، وما كان يجري فيه.
_ المبحث الخامس: وقت المجلس الرسولي، وآدابه.
_ خاتمة: وتحتوي على ملخص لأهم ما جاء في البحث.
فهذه خطة البحث، ومجملُ ما سيتضمنه.
أما منهجه فقد روعي فيه مخاطبةُ غير المسلمين، وما لديهم من شبهات حول الرسول" مما هو داخل ضمن فصول هذا البحث.
ويتسنى ذلك بالتأكد من صحة المعلومة، والحرص على بيان الحق بدليله بعيداً عن لغة التعالي والاستفزاز، ولغة التبعية والانهزام؛ فالأولى تصد عن قبول الحق، والثانية تخذله، أو تضعف جانبه.
ويتسنى ذلك بالجمع بين الأصالة والمعاصرة؛ فالأصالة تعطي البحث قوة، والمعاصرة تعين على فهم أحوال المخاطبين، وتنزيل الكلام على تلك الأحوال.
كما روعي في البحثِ الحرصُ على إظهاره في حلة قشيبة، ومعرض حسن، وذلك من خلال أمور منها:
1_ مراعاة قواعد البحث من عزو، وتخريج.
2_ الحرص على سلامة اللغة، ومراعاة قواعد الإملاء، وعلامات الترقيم.
3_ مراعاة لغة البحث، والحرص على أن تكون حالاً بين حالين: بين السوقي القريب، والوحشي الغريب.
4_ الرجوع إلى المصادر الأصيلة الموثوقة من كتب السنة والسيرة سواء كانت قديمة أو حديثة.
5_ مراعاة عنصر التشويق، وذلك من خلال وضع العناصر، والتنويع في الاستشهاد والنقل.
إلى غير ذلك مما يعين على فهم المقصود، وطرد الملل، وإمكانية تجزئة البحث، أو استلال مقالات منه؛ فإلى تفاصيل البحث، والله المستعان، وعليه التكلان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أولاً: في أسرار السيرة النبوية: السيرة النبوية حافلة بالأسرار، مليئة بالعبر.(1/3)
ولعل من أعظم أسرار سيرة نبينا محمد " أنها تمتاز عن سير سائر العظماء بأنها لا تُسْتَنْفَد مهما كتب فيها من كتب؛ فسير العظماء _على الجملة_ يقوم بأمرها، ويغني في شأنها أن تكتب مرة أو مرات، ثم تستنفد معانيها، ويصير الحديث فيها معاداً مكروراً تغني فيه أعمال الأسلاف عن محاولات الأخلاف.
أما سيرة نبينا محمد"فلقد عُني المؤرخون والرواة بها منذ صدر الإسلام حتى يومنا هذا، وصدر فيها كثير من الكتب في عدة لغات، ومع ذلك لم تخْلَق جِدَّتُها، بل إنها لتزداد _على كثرة ما يكتب فيها_ جِدَّة وَرُوَاءَاً.
وليس ذلك _على خَطره_ بدعاً من طبيعة الأشياء؛ فمحمد هو رسول الله، وخاتم النبيين، وقد أنزل الله إليه الكتاب؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور.
والناس المعنيُّون بهذا هم كلُّ الناس منذ بُعث حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وهؤلاء _بسنة الله في الكون_ في تجدد دائم، وتطور متصل، تَجِدُّ لهم دائماً أحوال، وتحدث لهم أحداث يكون لها آثارها في معاشهم وعلومهم وتفكيرهم.
فليس عجباً أن يلتمس المؤمنون في الكتاب المنزل، وفي التفسير الحيّ لهذا الكتاب الذي عاشه خاتم النبيين بسيرته _ هدياً لهم فيما يستقبلون كل يوم من شأن.
وليس عجباً أن يلتمس غيرُ المؤمنين في هذا الكتاب المنزَّل وفي تفسيره الحي من سيرة الرسول ما عسى أن يقعوا فيه على مسافة خُلف بين الدين والتطوُّر، أو بين الكتاب والسنة أو السيرة.
وكذلك عُنِيَ المؤمنون وغير المؤمنين بالسيرة عناية تختلف من حيث الحقيقة والخرافة، ومن حيث الإنصاف والجور.
والسيرة الشريفة _مع هذه العناية المتصلة_ جديدةٌ خصبة، ملهمة موحية؛ لأنها الترجمة الحية العملية لمبادئ الإسلام العليا، فهي تتراءى للعقول والنفوس قوية مشرقة لم يُبلِ جِدَّتها تقادمُ العهد، ولا تطاول الزمان.(1/4)
وما أكثر ما تَجنَّى خصوم الإسلام على سيرة نبيه جهلاً أو جحوداً بالحق، فلم ينالوا منها نيلاً، بل ربما دفع تجنِّيهم بعضَ الباحثين إلى العناية بها؛ تَلَمُّساً للإنصاف، وطلباً للمعرفة؛ فهدوا بذلك إلى الخير، أو شيء منه.
ولعل من صلاة الله على نبيه أن أوزع الناس هذه العناية بسيرته سواء منهم من أقرَّ به، أو من أنكر نبوته؛ لأنه " نور، ومن عرف النور فقد شهد لنفسه بالاستبصار، ومن أنكره فقد شهد على نفسه بالعمى، والنور على الحالين نور.
وقد رفع الله ذكر محمد، فقرن اسمه باسمه في الأذان والصلوات، ووصفه في أكثر من موضع من القرآن بصفات تجعله في المرتبة التي لا تُنال.
[الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُم الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِم الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] (الأعراف:157).
وليس مصدرُ العناية بالسيرة إرضاءَ حاجةِ العلم والدرس فحسب؛ فحاجات المؤمنين إلى هذا الينبوع من الحب والهدى أشد من حاجات العلماء إلى البحث والدرس، وكلُّ من في قلبه نفحة إيمان يجد نفسه مهما فرّط في الدِّين مشدوداً إلى محمد، راغباً في أن تزداد هذه العلاقة وثاقة.
وحب رسول الله من حب الله، فليس محمد _على شأنه الأجل_ إلا بشراً رسولاً(1).
__________
(1) _ نظر إلى مقدمة الأستاذ محمد فتحي عبدالمنعم لكتاب محمد رسول الله للعلامة أحمد تيمور باشا ص14_16.(1/5)
ومن أعظم أسرار السيرة النبوية أن لها أبلغ الأثر في تقويم السلوك، وتربية العواطف الشريفة؛ فإنها المرآة التي تنعكس منها تلك الصورة التي تعد _بحقٍّ_ أرقى صورة للحياة البشرية؛ حيث كان النبي محمد _عليه الصلاة والسلام_ يرسم بأقواله، وأعماله، وسائر تصرفاته _ القدوة العليا التي يجب أن تهدف إليها جهود البشر في سيرهم نحو الكمال المنشود.
إن ثلاثة وعشرين عاماً هي جملة السنين التي عاشها محمد"نبياً رسولاً قد لا تكون في مقياس الزمن شيئاً مذكوراً إذا قيست إلى ما قضته البشرية من حقب متطاولة، وأجيال متعاقبة.
ولكنها في مجال التربية، والإصلاح، ورسم قواعد السلوك البشري الفاضل، ووضع المعالم، والحدود لحياة الإنسان كما يحب رب الإنسان، وبما يحقق الغاية من وجوده، ويكفل لها الحياة السعيدة الكريمة _ لأرجح في الميزان من كل ما غَبَر من حقب وأجيال؛ ذلك أن بركات هذا النبي لا تكاد تحصر ولا تحصى(1).
وإن منها لبركة الوقت التي نال أمته منها أوفر الحظ والنصيب؛ فنالت من الأعمال، والعلوم، والأخلاق، والحكمة _في وقت قصير_ ما لم تنله أمة من الأمم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =فكل من استقرأ أحوال العالم وجد المسلمين أحدَّ وأسدَّ عقلاً، وأنهم ينالون من حقائق العلوم والأعمال أضعاف ما يناله غيرهم في قرون وأجيال+(2).
__________
(1) _ انظر مقدمة الدكتور محمد خليل هراس على الخصائص الكبرى للسيوطي 1/3_4.
(2) _ نقض المنطق لابن تيمية ص7_8.(1/6)
وقال × في موضع آخر: =فهدى الله الناس ببركة نبوة محمد " وبما جاء به من البينات والهدى، هداية جلَّت عن وصف الواصفين، وفاقت معرفة العارفين، حتى حصل لأمته المؤمنين عموماً، ولأهل العلم منهم خصوصاً من العلم النافع، والعمل الصالح، والأخلاق العظيمة، والسنن المستقيمة ما لو جمعت حكمة سائر الأمم علماً وعملاً الخالصة من كل شوب إلى الحكمة التي بعث بها لتفاوتا تفاوتاً يمنع معرفة قدر النسبة بينهما، فلله الحمد كما يحب ربنا ويرضى، ودلائل هذا وشواهده ليس هذا موضعها+(1).
ومن أعظم ما امتازت به سيرة النبي " أنها معلومة للناس بجميع أطوارها، متجلية لهم دخائلها من كل مناحيها.
ولا ريب أن ذلك من أعظم أسرار عظمتها وخلودها؛ إذ لا يصح أن تكون سيرة أحد من الناس قدوة لغيره إلا أن تكون واضحة معلومة منزهة عن العيوب والمثالب.
ولقد ضبط العلماء سيرته _عليه الصلاة والسلام_ وأتوا على دقائق قد لا تخطر بالبال.
ولو استعرض القارئ فهرس أحد الكتب التي اعتنت بسيرته وشمائله لوجد ذلك واضحاً جلياً(2).
ولهذا فإنه _عليه الصلاة والسلام_ لم يكن ليتحرج من نقل ما يقوم به من أعمال حتى في داخل منزله؛ فترى _من جراء ذلك_ كثرة الأحاديث التي ترويها أمهات المؤمنين عن النبي ".
ولم يكن ذلك إلا لأن سِرَّه كعلانيته، وظلمةَ ليلِه كضوء نهاره؛ فسيرته معلومة منذ ولادته إلى ساعة وفاته.
ثانياً: مناهج البحث في السيرة النبوية: لقد حظيت السيرة النبوية بما حفلت به من أقوال، وأفعال، وتقريرات بعناية العلماء قديماً وحديثاً.
ولقد كتب العلماء قديماً في السيرة وكانت كتاباتهم تحمل طابعاً يناسب عصورهم، ويناسب _كذلك_ كثيراً ممن جاء بعدهم، وتصلح لأن تكون مادة ومراجع أصيلة للسيرة.
__________
(1) _ اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 1/64.
(2) _ انظر الرسالة المحمدية للسيد سليمان الندوي ص102_104.(1/7)
غير أن هناك كثيراً من المسلمين في العصر الحديث يرغبون عن تلك الأساليب القديمة، ويرغبون في كتاباتٍ معاصرة تُكْتَبُ بأسلوب ملائم، وتعالج قضايا استجدت في موضوع السيرة.
ومن هنا قام كثير من الكتاب بتقديم دراسات في السيرة، فأدوا دوراً طيباً وآثاراً حسنة في نفوس المسلمين.
ولكن تلك الكتابات لم تكن على وتيرة واحدة من جهة تقديرها للوحي، والغيبيات، والمعجزات، ومقام النبوة عموماً.
كما أنها لم تكن على نحوٍ واحد من جهة اختلاف توجهات أصحابها، وأهدافهم من كتابة السيرة، والمقام لا يسمح بمزيد من التفصيل.
وعلى كل حال فإن مناهج الباحثين في السيرة النبوية يمكن حصرها في ثلاثة:
المنهج الأول: منهج المبالغين الغالين: الذين يضفون على النبي"صفات لا تليق إلا بالله _عز وجل_.
فهؤلاء يبالغون في إطرائه، ولا يبالون في صحة ما يروون أو ينقلون، ولا يعتمدون على القرآن الكريم، والمصادر الأصيلة من كتب السنة والسيرة.
ولا يمتري عاقل أنه لا أفسد للتاريخ والسير من تلك الروايات المحلقة في سماء الخيال، والتي تنقل الحياة البشرية من عالم الواقع إلى جو الأساطير.
وليست هناك حياة كانت على الأرض هي أغنى بواقعها المجرد من حياة سيد الخلق محمد ".
فهي حياة تنطق كل حركة منها، ويشهد كلُّ موقف من مواقفها بأنها حياة بلغت في السلوك البشري حد الإعجاز.
وإن خصائصه ومعجزاته التي نطقت بها آيات الكتاب المجيد، والسنن الصحيحة، والآثار المعتبرة لهي من الكثرة والوفرة بحيث لا تحتاج إلى تلك الزيادات التي يمجها الذوق السليم، وتعافها الفطرة السوية، والتي لا يشهد لها سند صحيح، ولا نقلٌ مُوثَّق، بل عامتها من وضع الزنادقة والمنحرفين(1).
المنهج الثاني: منهج الباحثين الغربيين ومن سار على طريقتهم: فهذا المنهج يسلكه أغلب المستشرقين ومن شاكلهم من الكتاب والمفكرين المنتسبين للإسلام.
__________
(1) _ انظر مقدمة الخصائص الكبرى 1/4.(1/8)
فهؤلاء إذا تناولوا السيرة بالبحث والدراسة تعاملوا معها كما يتعاملون مع سيرة أي زعيم أو بطل، أو قائد، أو فاتح؛ فيتحدثون عن النبي"كما يتحدثون عن هؤلاء، ويصفونه بالبطل، أو العبقري، أو الزعيم أو نحو ذلك من الألقاب التي لا تغني عن مقام النبوة.
وتراهم يتحدثون عن سيرته _عليه الصلاة والسلام_ حديثاً مادياً بحتاً مجرداً دون ربط لها بالوحي والغيب، والتأييد الإلهي، وكأنهم يتحدثون عن سيرة نابليون، أو هتلر، أو موسوليني.
ولا ريب أنهم قد يثنون على النبي"ويصفونه بأوصاف كبيرة، ويفضلونه على غيره.
ولكن الخطورة تكتنف هذا المنهج من جهة قطعه عن الصلة بالله، وعن الإيمان بالغيب؛ فتراهم ينكرون عدداً من المعجزات الثابتة بصريح القرآن، ومتواتر السنة، كنزول الملائكة في بدر، وطير الأبابيل، وشق صدر النبي" والإسراء.
وترى بعضهم يرى أن (اقرأ) كانت مناماً، وأن الإسراء سياحة الروح في عالم الرؤى، ويَصِفُ الملائكة الذين أمد الله بهم المسلمين في غزوة بدر بالدعم المعنوي، ويصف الطير الأبابيل بداء الجدري، وأن شق الصدر كان شيئاً معنوياً، وأن لقاء جبريل بالنبي" في غار حراء كان مناماً، إلى غير ذلك مما جاء في ذلك السياق.
وهكذا تُفَّرغ سيرة النبي"من الحقائق الغيبية، والمعجزات والخوارق التي لا يمكن أن تتنافى في جوهرها مع حقائق العلم وموازينه التي يدَّعون أنهم يسيرون على وفْقها؛ لأن الله هو خالق النواميس، وهو القادر على خرقها متى شاء.
وربما استروح بعض أصحاب هذا المنهج إلى إحياء الأساطير في سيرة النبي"(1).
__________
(1) _ انظر البحث القيم الذي قدمه الأستاذ أنور الجندي لمؤتمر السيرة النبوية _ في مقدمة تحقيق كتاب (سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد) للإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي، تحقيق وتعليق الشيخين: عادل عبدالموجود، وعلي محمد معوض 1/17_35.(1/9)
المنهج الثالث: وهو المنهج الصحيح: وهو الذي أنكر منهج الغلو والمبالغة في إطراء النبي" كما أنكر الأسلوب المادي الفلسفي في دراسة السيرة.
فالمنهج الصحيح هو الذي يقوم على الأصالة والسلامة، وهو الذي يعتمد في دراسة السيرة، واستلهام العبر منها على القرآن الكريم، والمصادر الأصيلة الصحيحة من كتب السنة والسيرة دون مبالغة في إطراء النبي " وإخراجه عن وصف العبودية في أعلى مقاماتها.
ودون غمط لمقام النبوة الذي يعلو به على سائر البشر.
وهو المنهج الذي يقوم _أيضاً_ على الإيمان بالغيبيات، والمعجزات، والأخبار القطعيات.
فهذا هو المنهج الحق، وإن كان أصحابه يتفاوتون في جودة الطرح، وقوته، وعمقه.
الحديث عن بعثة النبي محمد"وسيرته يطول، ولقد أفرد العلماء في هذا الشأن كتباً كثيرة.
والمجال ههنا لا يتسع للإطالة والإسهاب؛ ولعل الحديث في الصفحات الآتية يتناول الموضوعات التالية من السيرة النبوية المباركة:
أولاً: مهيئات النبوة:
لقد هيأ الله _عز وجل_ للنبي " مهيئات كثيرة كانت إرهاصاً لبعثته ونبوته، فمن ذلك ما يلي:
1_ دعوة إبراهيم، وبشرى عيسى _عليهما السلام_ ورؤيا أمه آمنة: يقول النبي"عن نفسه: =إني عبدالله لَخَاتم النبيين، وإن آدم _عليه السلام_ لمُنْجَدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت+(1).
__________
(1) _ انظر المسند (17280) ودلائل النبوة للبيهقي 1/80_82، والروض الأنف للسهيلي 1/290، وخلاصة السيرة النبوية والدعوة الإسلامية لمحمد رشيد رضا ص13_14.(1/10)
ومعنى الحديث: أن النبي"يقول: أنا مصداق دعوة إبراهيم الخليل _عليه السلام_ لأن إبراهيم لمَّا كان يرفع القواعد من الكعبة في مكة، ومعه ابنه إسماعيل كان يقول _كما أخبرنا الله عنه في القرآن_: [رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] (البقرة 127_129).
فاستجاب الله دعوة إبراهيم وإسماعيل _عليهما السلام_ فكان النبي الخاتم محمد _عليه الصلاة والسلام_ من ذريتهما.
أما قوله: =وبشرى عيسى+ فإن نبي الله عيسى _عليه السلام_ قد بَشَّر بالنبي محمد " كما أخبر الله عنه في القرآن، فقال: [وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] (الصف: 6).
فعيسى _عليه السلام_ هو آخر نبي من أنبياء بني إسرائيل، وليس بينه وبين محمد " نبي؛ وقد بَشَّر بنبي يأتي من بعده اسمه أحمد، وأحمد من أسماء النبي محمد ".
أما =رؤيا أمه+ فقد رأت رؤيا صادقة؛ ذلك أن أمه لما أخذها المخاض، فوضعته تَمَثَّل لعينيها ذلك النور الذي أضاءت له بصرى في أرض الشام(1).
__________
(1) _ انظر دلائل النبوة للبيهقي 1/80_84.(1/11)
2_ كون النبي " خرج في أمة العرب: تلك الأمة التي فُضِّلَت على غيرها من الأمم آنذاك، حتى استعدت لهذا الإصلاح الروحي المدني العام، الذي اشتمل عليه دين الإسلام، بالرغم مما طرأ عليها من الأمية، وعبادة الأصنام، وما أحدثت فيها غلبة البداوة من التفرق والانقسام.
ومع ذلك فقد كانت أمةُ العربِ متميزةً باستقلال الفكر، وسعة الحرية الشخصية، في الوقت الذي كانت الأمم الأخرى ترسف في عبودية الرياستين الدينية والدنيوية، محظوراً عليها أن تفهم غير ما يُلَقِّنها الكهنة، ورجال الدين من الأحكام الدينية، أو أن تخالفهم في مسألة عقلية، أو كونية، كما حظرت عليها التصرفات المدنية والمالية.
وكانت أمة العرب _أيضاً_ متميزة باستقلال الإرادة في جميع الأعمال أيام كانت الأمم مُذَلَّلَةً مُسَخَّرة للملوك والنبلاء، المالكين للرقاب والأموال بحيث يستخدمونهم كما يستخدمون البهائم؛ فلا رأي لهم في سلم، ولا حرب، ولا إرادة لها دونهم في عمل ولا كسب.
وكانت أمة العرب متميزة بعزة النفس، وشدة البأس، وقوة الأبدان والقلوب أيامَ كانت الأمم مؤلفة من رؤساء أفسدهم الإسراف والترف، ومرؤوسين أضعفهم البؤس والشظف، وسادة أبطرهم بغي الاستبداد، ومُسَوَّدين أذلَّهم قَهْرُ الاستعباد.
وكانت أمة العرب أقرب إلى العدل بين الأفراد، وكانت ممتازة بالذكاء، وكثيرٍ من الفضائل الموروثة والمكتسبة كإكرام الضيف، وإغاثة الملهوف، والنجدة، والإباء، وعلو الهمة، والسخاء، والرحمة، وحماية اللاجىء، وحرمة الجار أيام كانت الأمم مرهقة بالأثرة، والأنانية، والأنين من ثقل الضرائب والأتاوى الأميرية.(1/12)
وكانت أمة العرب قد بلغت أوج الكمال في فصاحة اللسان، وبلاغة المقال مما جعلها مستعدة للتأثر والتأثير بالبراهين العقلية، والمعاني الخطابية، والشعرية، وللتعبير عن جميع العلوم الإلهية والشرعية، والفنون العقلية، والكونية أيام كانت الأمم الأخرى تنفصم عرى وَحْدتها بالتعصبات الدينية والمذهبية، والعداوات العرقية.
وأعظم مزية امتاز بها العرب، أنهم كانوا أسلم الناس فطرةً، بالرغم من أن أمم الحضارة كانت أرقى منهم في كل فن وصناعة.
والإصلاح الإسلامي مبني على تقديم إصلاح النفس باستقلال العقل، والإرادة، وتهذيب الأخلاق على إصلاح ما في الأرض من معدن، ونبات، وحيوان.
وبهذا كان الله _عز وجل_ يُعِدُّ هذه الأمة للإصلاح العظيم الذي جاء به محمد"(1).
3_ شرف النسب: فقد كان نسبه " أشرف الأنساب، وأصرحها، قال _تعالى_: [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ] (آل عمران:33).
فالله _عز وجل_ اصطفى هؤلاء؛ إذ جعل فيهم النبوة والهداية للمتقدمين، واصطفى قريشاً من كِنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفى من بني هاشم سيد ولد آدم محمداً " فكان آل إسماعيل أفضل الأولين والآخرين، كما كان بنو إسحاق أفضل المتوسطين.
أما اصطفاء الله لقبيلة قريش فقد كان بما آتاهم الله من المناقب العظام، ولاسيما بعد سُكنى مكة، وخدمة المسجد الحرام؛ إذ كانوا أصرح ولد إسماعيل أنساباً، وأشرفهم أحساباً، وأعلاهم آداباً، وأفصحهم ألسنة، وهم الممهدون لجمع الكلمة.
جاء في صحيح مسلم عن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله" يقول: =إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم+(2).
__________
(1) _ انظر خلاصة السيرة النبوية ص3_7.
(2) _ مسلم (2276).(1/13)
أما اصطفاء الله لبني هاشم فقد كان لما امتازوا به من الفضائل والمكارم؛ فكانوا أصلح الناس عند الفتن، وخيرهم لمسكين ويتيم.
وإنما أطلق لقب هاشم على عمْرو بن عبد مناف؛ لأنه أول من هشم الثريد _وهو طعام لذيذ_ للذين أصابهم القحط، وكان يَشْبَعُ منه كلَّ عامٍ أهلُ الموسم كافة، ومائدتُه منصوبةٌ لا ترفع في السراء ولا في الضراء.
وزاد على هاشم ولَدُه عبدالمطلب جدُّ الرسول " فكان يطعم الوحش، وطير السماء، وكان أول من تعبد بغار حراء، وروي أنه حرم الخمر على نفسه.
وبالجملة: فقد امتاز آل النبي"على سائر قومه بالأخلاق العلية، والفواضل العملية، والفضائل النفسية، ثم اصطفى الله محمداً"من بني هاشم؛ فكان خير ولد آدم، وسيدهم(1).
4_ بلوغه " الذروة في مكارم الأخلاق: فقد جبله الله _عز وجل_ على كريم الخلال، وحميد الخصال، فكان قبل النبوة أرقى قومه، بل أرقى البشرية في زكاء نفسه، وسلامة فطرته، وحسن خلقه.
نشأ يتيماً شريفاً، وشبَّ فقيراً عفيفاً، ثم تزوج محباً لزوجته مخلصاً لها.
لم يتولَّ هو ولا والده شيئاً من أعمال قريش في دينها ولا دنياها، ولا كان يعبد عبادتهم، ولا يحضر سامرهم، ولا ندواتهم، ولم يُؤْثَرْ عنه قول ولا عمل يدل على حبِّ الرياسة، أو التطلع إليها.
وكان يُعرف بالتزام الصدق، والأمانة، وعلو الآداب؛ فبذلك كان له المقام الأرفع قبل النبوة؛ حتى لقبوه بالأمين.
وعلى هذه الحال كان"حتى بلغ أشده، واستوى، وكملت في جسده الطاهر، ونفسه الزكية جميع القوى، ولا طمع في مال، ولا سمعة، ولا تطلع إلى جاه ولا شهرة، حتى أتاه الوحي من رب العالمين _كما سيأتي بيانه بعد قليل_(2).
__________
(1) _ انظر الفصول في سيرة الرسول لابن كثير ص5_7، وخلاصة السيرة النبوية ص10_11
(2) _ انظر خلاصة السيرة ص17_19.(1/14)
5_ كونه"أميّاً لا يقرأ ولا يكتب: فهذا من أعظم المهيئات والدلائل على صدق نبوته؛ فهذا الرجل الأمي الذي لم يقرأ كتاباً، ولم يكتب سطراً، ولم يقل شعراً، ولم يرتجل نثراً، الناشىءُ في تلك الأمة الأمية _ يأتي بدعوة عظيمة، وبشريعة سماوية عادلة، تستأصل الفوضى الاجتماعية، وتكفل لمعتنقيها السعادة الإنسانية الأبدية، وتعتقهم من رق العبودية لغير ربِّهم _جل وعلا_.
كل ذلك من مهيئات النبوة، ومن دلائل صدقها(1).
6_ كونه نشأ في مكة المكرمة: تلك البلدة الطيبة التي اختارها الله لأول بيت قام في الأرض لتوحيد الله والعبادة الخالصة، والنسك السليم.
قال الله _عز وجل_: [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ] (آل عمران: 96).
ومن أعجب ما امتازت به مكة عن بلاد الله جميعاً بين زمن مولد حامل أكمل رسالات الله وزمن هجرته _ أنها بلدة لم يشعر أهلها بحاجتهم إلى حكومة، ولم تمسَّ حاجتُهم إلى إقامة شرطة تحمي أهل العافية فيهم من أهل البغي والشر؛ لأنهم قلما عرفوا فيهم مُواطناً من أهل مكة تنزع نفسه إلى البغي والشر.
وأكثر ما كان يقع فيهم الباطل أن يمطل المدين دائنه في وفاء ما في ذمته له، فكان يستعين عليه بأهل العافية؛ فيحصل منه على حقه بلا حاجة إلى قضية أو محكمة.
ولأجل هذا انعقد في بيت وجيه من وجهاء مكة وشريف من أشرافها وهو عبدالله بن جدعان التيمي _من أسرة أبي بكر الصديق_ حِلْفٌ اشترك فيه طائفة من أهل الفُتُوَّة والمروءة في قريش، وتعاقدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو من غيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على مَنْ ظلمه حتى تُرَدَّ عليه مظلمته(2).
__________
(1) _ انظر خلاصة السيرة ص25.
(2) _ انظر مع الرعيل الأول للشيخ محب الدين الخطيب ص19_20.(1/15)
وكان رسول الله "لا يزال يومئذ فتى، فقد حَّث عثمان بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين _رضي الله عنها_ أنها سمعت رسول الله " يقول: =لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان من حلف الفضول مالو دُعيتُ إليه لأجبت، وما أحب أن لي به حُمْرَ النعم+(1).
ثانياً: نبذة عن نسب النبي " وحياته:
نسبه: هو محمدُ بنُ عبدِالله بنِ عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وعدنان من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم _عليهما السلام_(2).
وأُم النبي"هي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، وزهرة أخو جد النبي".
وقد تزوج بها عبدالله والد النبي"وأقام معها في بيت أهلها ثلاثة أيام، فلم تلبث أن حملت بالنبي"ولم تجد في حمله ثقلاً، ولا وحماً كما هو شأن المحصنات الصحيحات الأجسام(3).
وقد رأت أمه رؤيا لما حملت به، وقد مَرَّ ذِكْرُ الرؤيا في كلام سابق.
ولادته: وقد ولدته أمه سَويّ الخلق، جميل الصورة، صحيح الجسم، وكانت ولادته عام الفيل الموافق للحادي والسبعين بعد الخمسمائة للميلاد(4).
__________
(1) _ أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه، للفاكهي (126) 5/190.
(2) _ انظر جوامع السيرة لابن حزم ص4_6، والروض الأنف 1/23_38 ففيهما تفصيل النسب، وشرح الأسماء الواردة فيه، وحدائق الأنوار، ومطالع الأسرار لابن الدَّيبع 1/94، وسبل الرشاد في هدي خير العباد 1/235_322، وخلاصة السيرة ص11_12، ومحمد رسول الله لأحمد تيمور باشا ص28، وموسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم 1/192.
(3) _ انظر خلاصة السيرة ص13_14، والسيرة النبوية الصحيحة د. أكرم العمري 1/90_91.
(4) _ انظر حدائق الأنوار لابن الدَّيبع الشافعي 1/29، وخلاصة السيرة ص14، وفقه السيرة للشيخ محمد الغزالي، خرَّج أحاديثه الشيخ الألباني ص58_63.(1/16)
وقد تُوفي والده وهو حَمْلٌ في بطن أمه، فكفله جده عبدالمطلب، وأرضعته أمه ثلاثة أيام ثم عهد جده بإرضاعه إلى امرأة يقال لها حليمة السعدية.
رضاعته في بني سعد: وكان من عادة العرب أن يسترضعوا لأولادهم في البوادي؛ حيث تتوافر أسباب النشأة البدنية السليمة(1).
ولقد رأت حليمة السعدية من أمر هذا الرضيع عجباً، ومن ذلك: أنها أتت مع زوجها إلى مكة على أتان هزيلة بطيئة السير، وفي طريق العودة من مكة، وهي تضع الرضيع في حجرها كانت الأتان تعدو عَدْواً سريعاً، وتُخَلِّف وراءها كل الدواب، مما جعل رفاق الطريق كلهم يتعجبون.
وتُحدِّث حليمة بأن ثديها لم يكن يُدِرُّ شيئاً من الحليب، وأن طفلها الرضيع كان دائم البكاء من شدة الجوع، فلما ألقمت الثدي رسول الله"دَرَّ غزيراً، فأصبحت ترضعه وترضع طفلها حتى يشبعا.
وتُحدِّث حليمة عن جدب أرض قومها ديار بني سعد، فلما حظيت بشرف رضاعة هذا الطفل أنتجت أرضها، وماشيتها، وتَبَدَّلت حالها من بؤس وفقر إلى هناء ويسر.
وبعد سنتين عادت به حليمة إلى أمه وجده في مكة، لكن حليمة ألَحَّتْ على أمه أن توافق على بقائه عندها مرة ثانية؛ لِمَا رأت من بركته عليها، فوافقت أُمُّه آمنة، فعادت حليمة بالطفل مرة أخرى إلى ديارها والفرحة تملأ قلبها.
وبعد سنتين عادت به حليمة إلى أمه، وعمره آنذاك أربع سنوات، فحضنته أمه إلى أن توفيت، وكان له من العمر ست سنين، فكفله جده عبدالمطلب سنتين ثم توفي، وقبل وفاته أوصى به ابنه أبا طالب عمَّ النبي " فحاطه بعنايته كما يحوط أهله وولده(2).
إلا أنه كان لفقره يعيش عيش الشظف؛ فلم يتعود " نعيم الترف، ولعلَّ ذلك من عناية الله بهذا النبي الكريم.
__________
(1) _ انظر جوامع السيرة النبوية لابن حزم الأندلسي ص6_7، والروض الأنف 1/278_286 و297.
(2) _ انظر الروض الأنف 1/300_301، وأعلام النبوة للماوردي ص248_249.(1/17)
وكان " قد ألِفَ رعي الغنم مع إخوانه من الرضاع لما كان في بادية بني سعد، فصار يرعى الغنم لأهل مكة؛ فيكفي نفسه بما يأخذه على ذلك من الأجرة، ولا يرهق عمه بالنفقة.
سفره مع عمه إلى الشام، ولقاؤه بحيرا الراهب: ثم سافر مع عمه أبي طالب في تجارة إلى الشام، وله من العمر اثنتا عشرة سنة وشهران وعشرة أيام، وهناك رآه (بحيرا) الراهب، وبشَّر به عمَّه أبا طالب، وحذَّره من عدوان اليهود عليه بعد أن رأى خاتم النبوة بين كتفيه.
سفره مُتَّجِراً بمال لخديجة: ثم إنه سافر مرة أخرى مُتَّجراً بمالٍ لخديجة بنت خويلد، فأعطته أفضل مما كانت تعطي غيره؛ إذ جاءت تلك التجارة بأرباح مضاعفة، بل جاءت بسعادة الدنيا والآخرة.
وكانت خديجة هذه أعقل وأكمل امرأة في قريش، حتى كانت تدعى في الجاهلية: الطاهرة؛ لِما لها من الصيانة، والعفَّة، والفضائل الظاهرة.
زواجه بخديجة: ولما حدَّثَها غُلامها ميسرةُ بما رأى من النبي"في رحلته معه إلى الشام من الأخلاق العالية، والفضائل السامية، وما قاله (بحيرا) الراهب لعمه أبي طالب في رحلته الأولى إلى الشام _ تعلقت رغبتها به؛ وبأن تتخذه زوجاً لها، وكانت قد تزوجت من قبل، وتوفي عنها زوجها؛ فتمَّ ذلك الزواج الميمون، وكان عمره آنذاك خمسة وعشرين سنة، وعمرها قريباً من أربعين سنة.
ولم يتزوج عليها طيلة حياتها، ولا أحب مثلها، وتوفيت بعد البعثة النبوية بعشر سنين، فكان كثيراً ما يذكرها، ويتصدق عنها، ويهدي لصاحباتها، وهي الزوجة التي رُزِق منها جميع أولاده عدا إبراهيم؛ فإنه من زوجته ماريا القبطية.
هذه بعض أخباره وسيرته قبل النبوة، وبدء الوحي على سبيل الإجمال(1).
ثالثاً: بدء الوحي:
__________
(1) _ انظر سنن الترمذي (3620) ودلائل النبوة 1/90_92، والروض الأنف 1/313_318 و322_335، والخصائص الكبرى للسيوطي 1/226، وخلاصة السيرة ص15_16، ومحمد رسول الله لأحمد تيمور باشا ص35_36، وفقه السيرة للغزالي ص68_69.(1/18)
بَلَغَ النبي"أشُدَّه، وقَرُب من الأربعين، واكتملت قواه العقلية والبدنية، وكان أول ما بدأ به من الوحي الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مِثْلَ فَلَق الصبح واضحة كما رآها في منامه.
اختلاؤه بغار حراء، ونزول الوحي عليه: ثم بعد ذلك حُبِّبَ إليه الخلاء، فكان يخلو بنفسه في غار حراء في مكة، فيتعبد الله الليالي ذوات العدد، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود بالطعام والشراب، حتى جاءه الحق، وهو على هذا الشأن بنزول القرآن عليه في شهر رمضان، وذلك بأن تَمَثَّل له المَلَكُ جبريل، ولقَّنَه عن ربِّه أول ما نزل من القرآن، فقال: [اقْرَأْ] فقال: =ما أنا بقارىء+ فقال له: [اقْرَأْ] فقال: =ما أنا بقارىء+ فقال: [اقْرَأْ] فقال: =ما أنا بقارىء+ وكان جبريل بعد كل جواب من الأجوبة الثلاثة يضمه على صدره، ويعصره حتى يبلغ منه الجهد.
ولما تركه جبريل في المرة الثالثة ألقى عليه أول آيات أُنزلت من القرآن، وهي [اقْرَأْ بِاسْم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّك الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] (العلق 1_5).
بهذه الآيات العظيمة التي تأمر بالعلم، وتبيِّن بداية خلق الإنسان _ بدأ نزول الوحي على النبي " فرجع النبي إلى زوجته خديجة يرجف فؤاده، ولكنه حفظ رشاده، فقال: =زملوني زملوني+ يعني: لففوني بالثياب، ففعلوا، حتى إذا ذهب عنه الروع، أخبر خديجة الخبر، وقال: =لقد خشيت على نفسي+.
فقالت خديجة _رضي الله عنها_: =كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتُكْسِبُ المعدوم، وتُقْري الضيف، وتعين على نوائب الحق+.
وهكذا استدلت هذه المرأة العاقلة على أن من كان هذا شأنه في محبة الخير للناس فلن يخذله الله؛ فسنَّة الله تقتضي بأن الجزاء من جنس العمل.(1/19)
ثم انطلقت بعد ذلك خديجة بالنبي"حتى أتت ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان قد تنصَّر في الجاهلية، ويكتب الإنجيل بالعبرانية، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة: اسمع من محمد ما يقول، فقال ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره " خبر ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس(1) الذي أُنزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً _أي شاباً_ ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك.
فقال له الرسول ": =أَوَ مُخْرِجيَّ هم؟+ قال: نعم؛ لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودِيَ، وإن يدركني يومُك أَنْصُرْك نصراً مؤزراً، ثم توفي ورقة، وفتر الوحي(2).
واستمرت فترة الوحي ثلاث سنين، قوي فيها استعداد النبي، واشتدَّ شوقه وحنينه.
قال ": =بينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري قبل السماء فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض؛ فجئثت(3) منه حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت: زملوني زملوني+(4).
وذكر أنه رعب منه، ولكن ذلك دون الرَّعبة الأولى، فرجع إلى أهله فتزَمَّلَ، وتَدَثَّرَ _أي: تغطى بالثياب_.
ثم أنزل الله عليه قوله _تعالى_: [يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ] (المدثر).
أي: يا أيها الذي تدثر بثيابه قم فأنذر الناس بالقرآن، وبلغهم دعوة الله، وطهر ثيابك وأعمالك من أدران الشرك، واهجر الأصنام، وتبرأ من أهلها.
__________
(1) _ الناموس: صاحب سر المَلِك، قال بعضهم: هو صاحب سر الخير، والجاسوس: صاحب سر الشر. انظر الروض الأنف 1/408.
(2) _ انظر صحيح البخاري (4953) ومسلم (161) والروض الأنف 1/396، وخلاصة السيرة ص19_20.
(3) _ جئثت منه: أي ذُعِرْت وخِفْت. انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 1/228.
(4) _ البخاري (3238) وانظر الروض الأنف 1/420_422.(1/20)
تتابع الوحي، وقيامه بالدعوة: ثم حمي الوحي بعد ذلك، وتتابع، وبلَّغ " دعوة ربه، حيث أمره وأوحى إليه بأن يدعو الناس إلى عبادة الله وحده، وإلى دين الإسلام الذي ارتضاه الله، وختم به الأديان؛ فقام النبي " يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن(1).
فاستجاب له أول من استجاب: خديجة من النساء، وأبو بكر الصديق من الرجال، وعلي بن أبي طالب من الصبيان، ثم توالى دخول الناس في دين الله، فاشتدَّ عليه أذى المشركين، وأخرجوه من مكة، وآذوا أصحابه أشدَّ الأذى، فهاجر إلى المدينة، وتتابع عليه نزول الوحي، واستمر في دعوته، وجهاده، وفتوحاته، حتى عاد إلى مكة ظافراً فاتحاً.
وبعد ذلك أكمل الله له الدين، وأقرَّ عينه بعز الإسلام وظهور المسلمين، ثم توفاه الله وعمره ثلاث وستون سنة، أربعون منها قبل النبوة وثلاث وعشرون نبياً رسولاً(2).
وبه ختم الله الرسالات السماوية، وأوجب طاعته على الجن والإنس؛ فمن أطاعه سعد في الدنيا، ودخل الجنة في الآخرة، ومن عصاه شقي في الدنيا، ودخل النار في الآخرة.
وبعدما توفاه الله _عز وجل_ تابع أصحابه مسيرته، وبلَّغوا دعوته، وفتحوا البلدان بالإسلام، ونشروا الدين الحق حتى بلغ ما بلغ الليل والنهار.
ودينه " باقٍ إلى يوم القيامة.
__________
(1) _ انظر خلاصة السيرة ص21.
(2) _ انظر جوامع السيرة ص6_7.(1/21)
فما القول في أميّ نشأ بين أميين، قام بذلك الإصلاح الذي تغيَّر به تاريخ البشر أجمعين: في الشرائع، والسياسات، وسائر أمور الدنيا والدين؟ وامتدَّ مع لغته في قرن واحد من الحجاز إلى آخر حدود أوربا وأفريقيا من الغرب، وإلى حدود الصين من جهة الشرق حتى خضعت له الأمم، ودانت له الدول، وأقبلت إليه الأرواح قبل الأشباح، وكانت تتبعه في كل فتوحه الحضارةُ، والمدنيةُ، والعدل والرحمة، والعلوم العقلية والكونية على أيدي تلك الأمة الحديثة العهد بالأمية، التي زكَّاها القرآن، وعلَّمها أن إصلاح الإنسان يتبعه إصلاح الأكوان؛ فهل يمكن أن يكون هذا إلا بوحي من لدن حكيم عليم، وتأييد سماوي من الإله العزيز القدير الرحيم؟(1)
الفصل الأول: من جوانب الرحمة في سيرة النبي"
وتحته: خمسة مباحث:
المبحث الأول: في كون النبي"مفطوراً على الرحمة، وكون
شريعته مشتملة على الرحمة العامة الكاملة.
المبحث الثاني: رحمة النبي"بالبشر عموماً.
المبحث الثالث: رحمة النبي"بالضعفة والمساكين.
المبحث الرابع: رحمة النبي"بالنساء.
المبحث الخامس: رحمة النبي"بالحيوان.
...
قال الله _عز وجل_ في وصف نبيه " وفي معرض الامتنان على الأمة: [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)] (آل عمران).
قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور×في تفسير هذه الآية: =واللين هنا مجاز في سعة الخلق مع أمة الدعوة والمسلمين، وفي الصفح عن جفاء المشركين، وإقالة العثرات+(2).
__________
(1) _ انظر خلاصة السيرة ص30_31.
(2) _ تفسير التحرير والتنوير، للعلامة محمد الطاهر بن عاشور، 4/145.(1/22)
وقال×: =أرسل محمد " مفطوراً على الرحمة؛ فكان لينُه رحمةً من الله بالأمة في تنفيذ شريعته بدون تساهل وبرفق وإعانة على تحصيلها؛ فلذلك جعل لينه مصاحباً لرحمةٍ من الله أودعها الله فيه؛ إذ هو قد بعث للناس كافة، ولكن اختار الله أن تكون دعوته بين العرب أول شيء لحكمة أرادها الله _تعالى_ في أن يكون العرب هُمْ مُبَلِّغَ الشريعة للعالم.
والعرب أمة عرفت بالأنفة، وإباء الضيم، وسلامة الفطرة، وسرعة الفهم.
وهم المتلقون الأولون للدين؛ فلم تكن تليق بهم الشدة والغلظة، ولكنهم محتاجون إلى استنزال طائرهم في تبليغ الشريعة لهم؛ ليتجنبوا بذلك المكابرةَ التي هي الحائل الوحيد بينهم وبين الإذعان إلى الحق.
وورد أن صفح النبي"وعفوه ورحمته كان سبباً في دخول كثير في الإسلام، كما ذكر بعض ذلك عياض في كتاب الشفا+(1).
وقال الله _عز وجل_ مبيناً شمول الرحمة للعالمين بإرسال الرسول": [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] (الأنبياء:107).
فجاءت هذه الآية مُؤَكِّدةً للرحمة بأسلوب من أقوى أساليب التأكيد، ألا وهو أسلوب الحصر، وأداتُه هنا النفي والاستثناء؛ فدل ذلك على أن الرحمة عامة.
قال ابن القيم×: =وأصح القولين في قوله _تعالى_: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] (الأنبياء:107) أنه على عمومه، وفيه على هذا التقدير وجهان:
أحدهما: أن عموم العالمين حصل لهم النفع برسالته، أما أتباعه فنالوا بها كرامة الدنيا والآخرة، وأما أعداؤه المحاربون له فالذين عُجِّل قَتْلُهم وموتُهم خيرٌ لهم من حياتهم؛ لأن حياتهم زيادةٌ في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة، وهم قد كتب عليهم الشقاء؛ فتعجيلُ موتِهم خيرٌ لهم من طول أعمارهم في الكفر.
وأما المعاهدون له فعاشوا في الدنيا تحت ظله وعهده وذمته، وهم أقل شراً بذلك العهدِ من المحاربين له.
__________
(1) _ تفسير التحرير والتنوير 4/145.(1/23)
وأما المنافقون فحصل لهم بإظهار الإيمان به حقنُ دمائهم وأموالِهم وأهلِهم واحترامُها، وجريانُ أحكامِ المسلمين عليهم من التوارث وغيرها.
وأما الأمم النائية عنه فإن الله _سبحانه_ رفع برسالته العذاب العام عن أهل الأرض؛ فأصاب كلَّ العالمين النفعُ برسالته.
الوجه الثاني: أنه رحمة لكلِّ أحدٍ، لكنَّ المؤمنين قبلوا هذه الرحمة؛ فانتفعوا بها دنيا وأخرى، والكفار ردوها؛ فلم يخرج بذلك عن أن يكون رحمة، لكن لم يقبلوها كما يقال: هذا دواء لهذا المرض، فإن لم يستعمله لم يخرج عن أن يكون دواءاً لهذا المرض+(1).
وقال الشيخ ابن عاشور×في تفسير الآية: =فجاءت هذه الآية مشتملة على وصف جامع لبعثة محمد ".
ومزيَّتُها على سائر الشرائع مزيةٌ تناسبُ عمومَها ودوامها، وذلك كونُها رحمةً للعالمين+(2).
إلى أن قال×: =وتفصيل ذلك يظهر في مظهرين: الأول تخلق نفسه الزكية بخلق الرحمة، والثاني إحاطة الرحمة بتصاريف شريعته.
فأما المظهر الأول: فقد قال فيه أبو بكر محمد بن طاهر القيسي الإشبيلي أحد تلامذة أبي علي الغساني وممن أجاز لهم أبو الوليد الباجي من رجال القرن الخامس: =زيَّن الله محمداً "بزينة الرحمة؛ فكان كونه رحمةً، وجميع شمائله رحمة وصفاته رحمة على الخلق+ا _ هـ.
ذكره عنه عياض في الشفاء، قلت: يعني أن محمداً " فُطِر على خلق الرحمة في جميع أحوال معاملته الأمة؛ لتتكون مناسبة بين روحه الزكيةِ وبين ما يُلقى إليه من الوحي بشريعته التي هي رحمة حتى يكون تَلَقِّيْهِ الشريعةَ عن انشراح نفس أن يجد ما يوحى به إليه ملائماً رغبته وخلقه، قالت عائشة: =كان خلقه القرآن+(3).
__________
(1) _ جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام لابن القيم ص9.
(2) _ تفسير التحرير والتنوير 7/164_165.
(3) _ مسلم (746).(1/24)
ولهذا خص الله محمداً " في هذه السورة بوصف الرحمة، ولم يصف به غيره من الأنبياء، وكذلك في القرآن كله، قال _تعالى_: [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] (التوبة:128).
وقال _تعالى_: [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ] (آل عمران:159) أي برحمة جبلك عليها، وفطرك بها، فكنت لهم ليناً.
وفي حديث مسلم: أن رسول الله لما شُجَّ وجهُه يومَ أحدٍ شق ذلك على أصحابه فقالوا: لو دعوت عليهم فقال: =إني لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة+.(1)
وأما المظهر الثاني من مظاهر كونه رحمةً للعالمين: فهو مظهر تصاريف شريعته، أي ما فيها من مقومات الرحمة العامة للخلق كلهم؛ لأن قوله _تعالى_: [لِلْعَالَمِينَ] متعلق بقوله [رَحْمَةً]+(2).
وقال×مبيناً تخصيص الشريعة الإسلامية بوصف الرحمة الكاملة: =لا جرم أن الله _تعالى_ خص الشريعة الإسلامية بوصف الرحمة الكاملة، وقد أشار إلى ذلك قوله _تعالى_ فيما حكاه خطاباً منه لموسى _عليه السلام_: [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ] الآية (الأعراف).
ففي قوله _تعالى_: [وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ] إشارة إلى أن المراد رحمة هي عامة؛ فامتازت شريعة الإسلام بأن الرحمة ملازمة للناس بها في سائر أحوالهم، وأنها حاصلة بها لجميع الناس لا لأمة خاصة.
__________
(1) _ مسلم (4704).
(2) _ تفسير التحرير والتنوير 7/166_167.(1/25)
وحكمةُ تمييزِ شريعة الإسلام بهذه المزية أن أحوال النفوس البشرية مضت عليها عصورٌ وأطوارٌ تهيأت بتطوراتها لأن تساس بالرحمة، وأن تُدْفَع عنها المشقةُ إلا بمقاديرَ ضروريةٍ لا تقام المصالح بدونها؛ فما في الشرائع السالفة من اختلاط الرحمة بالشدة، وما في شريعة الإسلام من تَمَحُّضِ الرحمة _ لم يَجْرِ في زمن من الأزمان إلا على مقتضى الحكمة.
ولكن الله أسعد هذه الشريعةَ، والذي جاء بها، والأمة المتبعة لها _ بمصادفتها للزمن والطور الذي اقتضت حكمةُ اللهِ في سياسة البشر أن يكون التشريعُ لهم تشريعَ رحمةٍ إلى انقضاء العالم.
فأقيمت شريعةُ الإسلام على دعائم الرحمة والرفق واليسر، قال _تعالى_: [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] (الحج:78).
وقال _تعالى_: [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ] (البقرة:185).
وقال النبي": =بعثت بالحنيفية السمحة+.(1)
وما يُتَخَيَّل من شدة في نحو القصاص والحدود فإنما هو لمراعاةِ تعارضِ الرحمةِ والمشقة كما أشار إليه قوله _تعالى_: [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ] (البقرة:179).
فالقصاص والحدود شدة على الجناة، ورحمة ببقية الناس.
وأما رحمة الإسلام بالأمم غير المسلمين فإنما نعني به رحمته بالأمم الداخلة تحت سلطانه، وهم أهل الذمة.
ورحمته بهم عدم إكراههم على مفارقة أديانهم، وإجراء العدل بينهم في الأحكام بحيث لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم في الحقوق العامة.
هذا وإن أريد بـ =العالمين+ في قوله _تعالى_: [إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] النوع من أنواع المخلوقات ذات الحياة فإن الشريعة تتعلق بأحوال الحيوان في معاملة الإنسان إياه، وانتفاعه به؛ إذ هو مخلوق لأجل الإنسان قال _تعالى_: [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً] (البقرة:29).
__________
(1) _ مسند الإمام أحمد (22345).(1/26)
وقال _تعالى_: [وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ] (النحل).
وقد أذنت الشريعة الإسلامية للناس في الانتفاع بما ينتفع به من الحيوان، ولم تأذن في غير ذلك؛ ولذلك كُرِهَ صيد اللهو، وحُرِّم تعذيب الحيوان لغير أكله، وعد فقهاؤنا سباق الخيل رخصة للحاجة في الغزو ونحوه.
ورغبت الشريعة في رحمة الحيوان؛ ففي حديث الموطأ عن أبي هريرة مرفوعاً: =أن الله غفر لرجل وجد كلباً يلهث من العطش، فنزل في بئر، فملأ خفه ماءً، وأمسكه بفمه حتى رقي، فسقى الكلب، فغفر الله له+.(1)
أما المؤذي والمضر من الحيوان فقد أذن في قتله وطرده لترجيح رحمة الناس على رحمة البهائم، وفي تفاصيل الأحكام من هذا القبيل كثرة لا يعوز الفقيه تتبعها+(2).
هذا وسيتبيَّن شيءٌ من تفاصيل الرحمة في المباحث التالية.
مرَّ في البحث الماضي حديثٌ عن كون النبي"مفطوراً على الرحمة، وأن الله _عز وجل_ بعثه بدين الرحمة.
والحديث هنا بيان لرحمة النبي"بالبشر على وجه العموم.
قال الله _عز وجل_: [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)] (التوبة).
قال القاضي عياض×: =قال بعضهم: من فضله _عليه الصلاة والسلام_ أن الله _تعالى_ أعطاه اسمين من أسمائه، فقال: بالمؤمنين رؤوف رحيم+.(3)
__________
(1) _ الموطأ (1455) ورواه البخاري (2320) ومسلم (1553).
(2) _ تفسير التحرير والتنوير 7/168_170، وانظر الشفا، للقاضي عياض 1/159_162، وموسوعة نضرة النعيم 6/2061_2102.
(3) _ الشفا 1/159.(1/27)
وهو _عليه الصلاة والسلام_ رحمة للعالمين عموماً، كما قال _عز وجل_: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)] (الأنبياء).
وتتجلى في رسالة النبي"كل معاني الرحمة؛ فقد رفع الله عن أمته الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، فيسر لها الدين، ورفع عنها الحرج.
وقد امتلأت نفسه بالرحمة؛ فكانت تفيض بالشفقة، والرأفة، وكان يوصي بها أصحابه، ويحث عليها أمته؛ فكانوا أرحم الناس بالناس، وأحرص الناس على هداية الناس. (1)
فالرحمة جانبٌ عظيمٌ من جوانب شخصية النبي" وصورةٌ لنفسه الكريمة؛ فالبر إمامه، والرحمة محيطة به سواء كان ذلك في حال يسره أو عسره، أو كان مع موافقيه أو مخالفيه، وهو الذي يقول: =من لا يرحم لا يرحم+(2).
ويقول: =من لا يرحم الناس لا يرحمه الله+(3).
ويقول: =الراحمون يرحمهم الرحمن؛ ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء+(4).
وإذا تتبعتَ سيرته _عليه الصلاة والسلام_ وجدتَ أنه يعامل الناس بمقتضى تلك الرحمة، ويتضح ذلك من خلال النظر في طوائف الناس أمامه _عليه الصلاة والسلام_.
فطوائفهم لا تخرج عن أربع، وذلك كما يلي:
1_ طائفة المهتدين المؤمنين: فهؤلاء يلاقيهم في بشر وطلاقة مُحيَّاً، ويخالطهم في تواضع، ويحمل لهم من الرحمة ما هو أرق من النسيم، وأجود من الغيث العميم.
أما البشاشة وطلاقة المحيا فقد جاء في الصحيح عن جرير بن عبدالله البجلي أنه قال: =ما حجبني(5) رسول الله"منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم+.(6)
__________
(1) _ انظر السيرة النبوية الصحيحة 2/636.
(2) _ أخرجه البخاري (5997) ومسلم (2319).
(3) _ أخرجه البخاري (6013) ومسلم (2319).
(4) _ أخرجه أحمد 2/160، وأبو داود (4941) والترمذي (1924).
(5) _ أي ما منعني من الدخول إليه إذا كان في بيته ما استأذنت عليه.
(6) _ أخرجه البخاري (2871 و 5739) ومسلم (2475).(1/28)
فالذين يلقون ذوي النفوس الطاهرة في كُلُوحٍ وانقباض بعلة المحافظة على الوقار _ لم يهتدوا إلى السيرة الحميدة سبيلاً.
وأما التواضع فقد قال أنس بن مالك ÷: كان رسول الله"أحسن الناس خُلُقاً وإن كان ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير يقال له: أبو عمير: =يا أبا عمير ما فعل النغير(1)+.(2)
فالذين يخرجون للناس في وجوه عليها غبرة الكبرياء إنما يلقون قلوباً نافرةً، وألسنةً ساخرةً، ولقد كان لهم في رسول الله أسوة حسنة لو شاؤوا أن يكونوا أجلاء محترمين.(3)
وأما الرحمة فقد قال _تعالى_ في كتابه الكريم: [عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] (التوبة:128).
وحدثنا عن هذه الرحمة مالك بن الحويرث إذ قال: أتينا رسول الله " ونحن شَبَبَة(4) متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظن أننا اشتقنا أهلنا، وسألنا عمن تركنا وراءنا من أهلنا فأخبرناه، وكان رقيقاً رحيماً، فقال: =ارجعوا إلى أهليكم، فعلموهم، ومُرُوهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي+.(5)
2_ طائفة المنافقين: وهؤلاء كان _عليه الصلاة والسلام_ يعاملهم بما يشبه معاملة المهتدين من الرحمة، والرفق، والإحسان، ومقابلة الإساءة بالعفو أو الإحسان؛ فكان يعاملهم على ظواهرهم دونما بحث عما تُكِنُّه سرائرهم، وتنطوي عليه دخائل نفوسهم.
ويشهد لذلك حوادثُ كثيرةٌ، ومن أجلاها مواقفه العظيمة مع رأس المنافقين عبدالله بن أُبَيِّ بنِ سلول الذي آذى النبي"أيما أذية؛ حيث آذاه في بيته كما في قصة الإفك _ فهو الذي تولى كبره، وأشاع قالة السوء عن عائشة _رضي الله عنها_.
__________
(1) _ النغير: طائر كان يلعب به.
(2) _ أخرجه البخاري (6129 و 6203) ومسلم (2150).
(3) _ انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص102.
(4) _ جمع شاب.
(5) _ أخرجه البخاري (605 و 5662 و 6819) ومسلم (674).(1/29)
وهو الذي رجع بمن تبعه من الطريق يوم أحد، فخذل النبي"في أحرج أوقاته، وهو الذي قال _كما أخبر الله عز وجل عنه_: [لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ] (المنافقون:8).
وهو صاحب المواقف المشهورة بالخزي والشنار.
هذا الرجل الذي كان من شأنه ما كان لما مات طلب ابنُه من النبي قميصه؛ ليكفنه فيه؛ تطهيراً له؛ فأعطاه قميصه كفناً لزعيم المنافقين !
أرأيت أكرم من هذا الصنيع؟ وهل وقف الأمر عند هذا الحد؟
لا، بل مشى _عليه الصلاة والسلام_ إلى قبره، فوقف يريد الصلاة عليه، فوثب إليه عمر بن الخطاب ÷ وقال: أتصلي على ابنِ أُبَيٍّ وقد قال يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ يعدد عليه قوله، فتبسم رسول الله" وقال: =أخِّر عني يا عمرُ+.
فلما أكثر عليه قال: =إني خيِّرت فاخترت؛ لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها+.
وذلك إشارة إلى قوله _تعالى_ في المنافقين: [اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ] (التوبة:80).
ففي الخيار بين أن يستغفر أو لا يستغفر نزعت به طبيعته الرحيمة إلى الاستغفار لأعدائه.
قال عمر بن الخطاب في نهاية الحديث: =فصلى عليه رسول الله"ثم انصرف؛ فلم يمكث إلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة: [وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)] (التوبة).
قال: فعجبت بَعْدُ من جرأتي على رسول الله"يومئذٍ، والله ورسوله أعلم+.(1)
فهذه مواقفه مع زعيم المنافقين؛ فما ظنك بمن دونه؟
__________
(1) _ انظر صحيح البخاري (1366).(1/30)
3_ طائفة المخالفين المسالمين: فهؤلاء يحرص على هدايتهم، ويلقاهم بالأدب الجميل، ويقسط إليهم، ولا يهضم لأحد منهم حقاً، ويأخذ فيهم بأدب قوله _تعالى_: [لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ] (الممتحنة:8).
والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، ومنها ما جاء في صحيح البخاري عن أنس÷قال: =كان غلام يهودي يخدم النبي"فمرض، فأتاه النبي"يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: =أسلم+.
فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم، فأَسْلَمَ، فخرج النبي" وهو يقول: =الحمد لله الذي أنقذه من النار+(1).
ثم إن حسن معاملته _عليه الصلاة والسلام_ للمخالفين الذين دخلوا معه في عهده، أو رضوا بأن يعيشوا تحت راية الإسلام _ من أوضح الشواهد على سماحة الدين الحنيف وبنائه على رعاية قاعدتي الحرية وتوطيد السلام؛ فراية الإسلام صالحة لأن تخفق على رؤوس أمم مختلفة في عقائدها، متفاوتة على مرافق حياتها.
وقد جرى أمراء الإسلام العادلون على هذه السيرة في معاملة أهل الذمة؛ فكانوا ينصحون لنوابهم بالعدل، ويخصون أهل الذمة في نصيحتهم بالذكر.
وأحسن مثل على هذا كتاب عمر بن الخطاب÷إلى عمرو بن العاص÷ وهو يومئذ الوالي على مصر.
ومما جاء في هذا الكتاب: =وإن معك أهلَ ذمةٍ وعهد، وقد وصى رسول الله"بهم+.(2)
ومنه =وقد قال ": =من ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته فأنا خصمه يوم القيامة+(3).
احذر يا عمرو أن يكون رسول الله"لك خصماً؛ فإنه من خاصمه خصمه+(4).
__________
(1) _ البخاري (1356).
(2) _ كنز العمال، للهندي (14304).
(3) _ أخرجه أبو داود في سننه (3052) بلفظ: =ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسٍ _ فأنا حجيجه يوم القيامة+.
(4) _ انظر كنز العمال (14304) وسنن أبي داود (3052).(1/31)
من الأحاديث الثابتة في هذا الصدد قوله": =من قذف ذمياً حد له يوم القيامة بسياط من نار+.(1)
فانظروا إلى مكانة العهد في نظر الإسلام، وزنوها بمعاهدات يأخذ فيها بعض الأقوياء على أنفسهم احترام حقوق شعب إسلامي حتى إذا أمسكوا بناصيته لم يستحيوا أن يعبثوا بالأرواح، وتجول أيديهم في الأموال، ويعملوا جهدهم على أن يقلبوهم إلى جحود بعد إيمان، ويغضبون بعد هذا كله على من يسميهم أعداء الإنسانية، وقابضي روح الحرية.
لقد أدرك الفقهاء رعايةَ شارعِ الإسلامِ لأهل الذمة، وحرصَه على احترام حقوقهم؛ فاستنبطوا من أصوله أحكاماً جعلوا المسلم وغير المسلم فيها على سواء.
ومن هذه الأحكام أنهم أجازوا للمسلم أن يوصي أو يقف شيئاً من ماله لغير المسلمين من أهل الذمة، وتكون هذه الوصية أو الوقف أمراً نافذاً.
ولما قال": =لا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا يخطب بعضكم على خطبة بعض(2)+ قالوا: البيع على بيع غير المسلم الداخل في ذمة الإسلام كالبيع على بيع المسلم.
والخطبة على خطبته كالخطبة على خطبة المسلم: كلاهما حرام.
وإذا ذكر الفقهاء آداب المعاشرة نبهوا على حقوق أهل الذمة، وندبوا إلى الرفق بهم، واحتمال الأذى في جوارهم، وحفظ غيبتهم، ودفع من يتعرض لأذيتهم.(3)
قال شهاب الدين القرافي×في كتاب الفروق: =إن عقد الذمة يوجب حقوقاً علينا؛ لأنهم في جوارنا، وفي خفارتنا وذمة الله _تعالى_ وذمة رسوله"ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء، أو غيبة في عرض أحدهم، أو أي نوع من أنواع الأذية، أو أعان على ذلك _ فقد ضيع ذمة الله _تعالى_ وذمة رسوله"وذمة دين الإسلام.
__________
(1) _ أخرجه الطبراني في الكبير (135).
(2) _ أخرجه مسلم (1412).
(3) _ انظر رسائل الإصلاح، للشيخ محمد الخضر حسين، ص120_122، ومحمد رسول الله وخاتم النبيين ص103.(1/32)
وكذلك حكى ابن حزم × في مراتب الإجماع: أن من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه _ وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك؛ صوناً لمن هو في ذمة الله _تعالى_ وذمة رسوله" فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة+.(1)
4_ طائفة المخالفين المحاربين: فهؤلاء يخرج لهم _عليه الصلاة والسلام_ في مظهر الحزم والاحتراس، ويدفعهم بالتي هي أحكم وأعدل؛ فيرفق بهم إن كان هناك موضع للرفق، ويأخذ فيهم بسنة الحزم إن طغى بهم الشر؛ فلم يكن الرفق ليزيدهم إلا تمرداً.(2)
فإذا أذن _صلوات الله عليه_ بقتل كعب بن الأشرف فلأن كعباً هذا كان شاعراً، وكان يهجو رسول الله، ويحرض عليه كفار قريش، ويفعل بعد هذا شيئاً وهو أشد على قلوب العرب من وقع السهام النافذة، وهو أنه كان يشبب بنساء المسلمين.
وقد احتمل منه النبي _عليه الصلاة والسلام_ هذا الأذى حيناً، ولما أبى كعب أن ينزع عن إثارة هذه الفتن أذن لأحد الأنصار في قتله؛ ليميط عن سبيل الدعوة إلى الله حية تسعى، ويدفع عن أعراض المسلمين شعراً مقذعاً.
ومن ذا يجهل أن محمداً " قد أفاض على العالم حكمة وهداية وإصلاحاً، وما الحسام الذي يأمر بانتضائه إلا كمبضع طبيب ناصح يشرط به جسم العليل؛ لينزف دمه الفاسد حرصاً على صحته وسلامته.
ومن تقصى السيرة النبوية وجد فيها ما يصدق قول عائشة _رضي الله عنها_: =ما انتقم رسول الله " لنفسه إلا أن تنتهك حرمات الله، فينتقم لله+.(3)
__________
(1) _ الفروق للقرافي 3/14، وانظر أهل الذمة والولايات العامة في الفقه الإسلامي، لنمر محمد الخليل نمر ص127_161، وأهل الذمة في الحضارة الإسلامية، لحسن المِمّي ص101_105، وحقوق غير المسلمين في الدولة الإسلامية د.علي بن عبدالرحمن الطيار.
(2) _ انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص103.
(3) _ أخرجه الحاكم في مستدركه (4223) وأحمد في مسنده (25029).(1/33)
فمحمد _عليه الصلاة والسلام_ لم يقاتل الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون حرصاً على حياته، وإنما كان يقاتلهم حرصاً على حياة الفضيلة، وظهور الحق، وبسط أنوار التوحيد، وإقامة نظم المدنية المهذبة، ولكن الناشئين على اللهو واتباع الشهوات لا يفقهون.(1)
فما الذي كان يريده المفترون على محمد " أن يفعل بعد ما ألح عليه العدوان هكذا, حتى كاد يأتي عليه.
إن الدنيا لَتَعرف كيف تَكتَّلَ الكفار ضده في شعب أبي طالب ذلك الحصار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي المشهور الذي أنزل بمحمد وصحبه وبعض قرابته من الضُّر ما آذاهم حتى أكل بعضهم يوماً من الجوع أوراق الشجر.
ولولا أن الله عَطَّف عليه قلوبَ بعض الكرام لبلغ الكفار مرادهم، مما أكره الرسول"على الإذن لصحبه بالهجرة الكبرى إلى المدينة.
ثم أدركهم بعدها صبيحة الليلة التي جمع الكفارُ فيها من كل قبيلة فتىً، وقرروا أن ينُهْوا حياته بالسيف؛ حتى يضيع في القبائل دمه، وما تقوى على حربهم قريش.
فأي صبر كانوا ينتظرون من الرسول " فوق هذا الصبر؟ وكيف تكون الموادعةُ بعد هذا سبيلَ التفاهمِ من أناس رفعوا عليه السيف, ولم يَحْمِهِ منه أحدٌ غيرُ رعايةِ الله له؟!
إن صبر محمد " على قومه حتى هذا المدى لهو آية الآيات على عظمة التسامح والمسالمة عند محمد، وإرخائه العِنان لقوم لم يكونوا يستحقون سوى الكبريت والحطب.
لقد سَالَمَ محمدٌ المشركين , وجاوز حدود الصبر, فما أجدت المسالمة, ولا أفاد الصَّبرُ, وأصبح الاستمرار عليهما مما لا يتفق ومنطقَ الحياة, ومما لا يتفق _كذلك_ ومنطقَ النبي الذي جاء قوياً كفرسان العرب, عظيماً في حسبه ونسبه وفضائله, والذي جاء قبل هذا ليكون رسولَ حياةٍ يخاطب أهلها بما يفهمون.
__________
(1) _ انظر حدائق الأنوار 1/44 و 2/509، ومحمد رسول الله وخاتم النبيين ص104، ومحمد رسول الله لمحمد رضا ص230.(1/34)
إنْ لقيه الناس بالإحسان فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ وإن كانت الأخرى فَدِيْنُ محمدٍ فيه ترياقُ السموم، وقرعُ الحديد بالفولاذ.
ومن عَجَبٍ أن ما اتخذه محمد _صلوات الله عليه_ سلوكاً لنفسه، وطريقاً لحماية دعوته منذ القرون الطوال هو نفسه الطريق الذي آثرته البشرية دون غيره لضمان البقاء.
ولو خضع الناس، وأداروا خدودهم اليسرى لمن يصفعهم على اليمنى لما قام على وجه الدنيا أحدٌ في وجه ظالم, ولعاش الطغاة أعمارهم محفوفين بالإجلال والإعظام.
ولو قال أصحاب محمد"مقالة أصحاب موسى: [اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ] (المائدة: 24) لما قُدِّرَ للحياة أن تفيد من أسرار هذا الدين العظيم الذي لا يوجد لمشكلات عالم اليوم من حلول أفضل مما فرضها لها دين محمد "!(1)
وإذا جنح _عليه الصلاة والسلام_ إلى خيار الحرب؛ فهل يعني ذلك أن يتجرد من الرحمة، ويكون هدفُه الأولُ والأخير سفكَ الدماءِ دون مراعاة لعهد أو حرمة؟
لا، إن الحرب في شرعة رسول الله "لها آداب، وأحكام محفوفة بالرفق، والرحمة.
فمن الرفق الذي أقام عليه الإسلام سياسته الحربية أنه منع من التعرض بالأذى لمن لم ينصبوا أنفسهم للقتال كالرهبان، والفلاحين، والنساء، والأطفال، والشيخ الهرم، والأجير، والمعتوه، والأعمى، والزَّمِن.
ومن الفقهاء من لا يجيز قتل الأعمى، والزَّمِن ولو كانا ذوي رأي في الحرب وتدبير.
ولا يجوز قتلُ النساءِ وإن استعملن لحراسة الحصون أو رمين بنحو الحجارة، ودليل هذا قوله _تعالى_: [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا] (البقرة:190) فجعل القتال في مقابلة القتال.
__________
(1) _انظر مقال نبي الملحمة للأستاذ عبدالصبور مرزوق في كتاب محمد رسول الله لأحمد تيمور باشا ص181_185.(1/35)
ونبه النبي"على أن من لا يقاتل لا يقتل، حين وجد امرأة في بعض الغزوات قتيلة؛ فأنكر ذلك، وقال: =ما كانت هذه لتقاتل+! (1)
وإذا وضع المحاربون الأطفال والنساء أمامهم، وجب الكف عن قتالهم، إلا أن يَتَّخِذوا ذلك ذريعة للنصر علينا، ونخشى أن تكون دائرة السوء على جندنا.
ولا يجيز الإسلامُ التمثيلَ بالمحارب، قال": =ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً+(2).
وخرج أبو داود وابن ماجه من حديث ابن مسعود عن النبي"قال: =أعفُّ الناس قِتلةً أهلُ الإيمان+(3).
ويمنع من حمل الرؤوس من بلد إلى بلد، أو حملها إلى الولاة، وقد أنكر أبوبكر الصديق÷هذا؛ فقد روى البيهقي عن عقبة بن عامر الجهني أن عمرو ابن العاص، وشرحبيل بن حسنة بعثا عقبة بريداً إلى أبي بكر الصدِّيق÷برأس يناق بطريق الشام؛ فلما قدم على أبي بكر أنكر ذلك، فقال له عقبة: يا خليفة رسول الله فإنهم يصنعون ذلك بنا.
قال أبو بكر: تأسِّياً أو استناناً بفارس والروم؟
لا يحمل إليَّّ برأس، وإنما يكفي الكتاب والخبر.(4)
وأخرج أحمد وأبو داود من حديث عمران بن حصين وسمرة بن جندب أن النبي"كان ينهى عن المُثْلة.(5)
والمثلة: تعذيب المقتول بقطع أعضائه، وتشويه خلقه قبل أن يُقتل أو بعده، وذلك كأن يجدع أنفُه، أو تصلم أذنُه، أو تفقأ عينُه، وما أشبه ذلك من أعضائه.(6)
ولم يشرعِ الإسلامُ للأسير حكماً واحداً، بل جعل أمره موكولاً إلى الأمير الذي يقدر مصلحة الحرب، وله أن يخلي سبيله بفداء، أو بغير فداء.
__________
(1) _ أخرجه أبو داود في سننه (2669) وابن حبان في صحيحه (4791).
(2) _ رواه مسلم (1731).
(3) _ أبو داود (2666) وابن ماجه (2681).
(4) _ سنن البيهقي 9/132، قال في تلخيص الحبير 4/288: =إسناده صحيح+.
(5) _ المسند 4/439 و 440 و 460، وأبو داود (2667).
(6) _ انظر جامع العلوم والحكم لابن رجب 1/390_392.(1/36)
ومن أدب الحرب في الإسلام الوفاءُ بتأمين المحارب؛ فإذا أعطى أحدُ الجند الأمان لأحد المحاربين _ وجب احترام هذا التأمين، ولا يجوز لأحد أن يتعرض لذلك المحارب بأذى.
وإلى هذا يشير قوله _صلوات الله عليه_: =ويسعى بذمتهم أدناهم+.(1)
وقد أمضى النبي"تأمين أم هانئ بنت أبي طالب لرجل من المشركين، وقال لها: =قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ+.(2)
وحدث في عهد عمر بن الخطاب أن عبداً أَمَّن أهل بلد بالعراق، فكتب قائد الجيش وهو أبو عبيدة إلى عمر يأخذ رأيه في هذا التأمين، فكتب إليه عمر: =إن الله عظّم الوفاء، فلا تكونون أوفياء حتى تفوا؛ فوفوا لهم، وانصرفوا عنهم+.(3)
ومن آداب الحرب في الإسلام، ومما يُجَلِّي معنى الرفق والرحمة مجاملةُ رسل العدو، وترك التعرض لهم بأذى؛ فقد يأتي رسول العدو في شأن الصلح أو غيره مما فيه تخفيف شر الحرب؛ فمن حسن الرأي أن لا يُتَعَرَّض للرسل بأذى، وأن يكونوا في أمن حتى يعودوا إلى قومهم؛ فإن التعرض لهم بأذى يقطع صلة الرسالة بين الفريقين، ويسد طريق المفاوضات التي يُتَوسَّل بها إلى عدم الدخول في الحرب، أو إنهائها إذا كانت ناشبة.
ومكارم الأخلاق تأبى أن يُتَعَرَّض لرسول بأذىً ولو أرسله قومه لإبلاغ ما عزموا عليه من محاربتنا، أو صدر منه كلام في تعظيم أمر قومه بقصد الفخر أو الإرهاب.
وقد جرى نظام الإسلام في الحرب على هذا الأدب المقبول.(4)
__________
(1) _ أخرجه الحاكم في مستدركه (2623) وأخرجه أبو داود في سننه (4530).
(2) _ أخرجه البخاري (350 و 3000 و 5806) ومسلم (336).
(3) _ تاريخ الطبري 3/188.
(4) _ انظر رسائل الإصلاح 1/117_118، وآداب الحرب في الإسلام للشيخ محمد الخضر حسين ص45.(1/37)
قدم أبو رافع بكتاب من قريش إلى رسول الله" فلما رأى رسول الله ألقِيَ في قلبه الإسلام، فقال: يا رسول الله: إني _والله_ لا أرجع إليهم أبداً، فقال رسول الله": =أما أني لا أخيس بالعهد، ولا أحبسُ البُرُدَ، ولكن ارجع فإن كان في قلبك الذي في قلبك الآن، فارجع+.
قال: فرجعت، ثم أقبلت إلى رسول الله"، وأسلمت.(1)
هذه نبذة من خلق الرحمة التي كانت تصاحب النبي"في حروبه، تلك الرحمة التي غَيَّرت نظرةَ الناس من بعده للحرب؛ إذ نظرتهم تعني أن مبدأ الشفقة مناقض للحرب التي تعني الكُلوحَ، والعبوس، والقسوة بكل حال.
وبخاصة ما نراه اليوم من حروب هذا العصر التي تأكل الأخضر واليابس، وتتسم بالوحشية، ولا تعرف الرحمة لا في أثنائها ولا بعد نهايتها.
غير أن الناظر في تاريخنا المجيد، وسيرة نبينا الأعظم يجد هذا المعنى لائحاً واضحاً _كما مر_ ويراه _كذلك_ بعد نصره"، وتمكنه من الأعداء الذين ناصبوه العداوة، ولم يَدَعوا طريقاً في سبيل إيذائه إلا وسلكوه.
وإذا أردت مثالاً يثبت فؤادك فانظر إلى ما كان منه _عليه الصلاة والسلام_ يوم فتح مكة الذي حصل بعد صراع مرير، وبعد أن فعلت قريشٌ بالنبي"وأصحابه ما فعلوا.
فعندما انتصر عليهم، وأحاط بهم إحاطة السِّوار بالمِعْصم، وظنت قريش الظنون؛ لعلمهم بسوء صنيعهم السابق، وحسبوا أنه سيدخل مكة دخول الجبابرة والطغاة مزهواً منتقماً _ فاجأهم بأن جاء متواضعاً متخشعاً لربه، غير مَزْهوٍّ بنصره، ولا شامت بأعدائه.
وعندما رأى قريشاً وهم يتوقعون الإجهاز عليهم، ورأى جموع الصحابة وعيونهم تَتَلَمَّظُ تَلَمُّظَ الحيَّات وهم ينتظرون أدنى إشارة منه أشار النبي"حتى يبيدوا خضراء قريش _ قال النبي _عليه الصلاة والسلام_ مخاطباً قريشاً: =ما تظنون أني فاعل بكم+؟
قالوا: أخ كريم وابن أخٍ كريم.
__________
(1) _ أخرجه الحاكم في مستدركه (6538) أبو داود في سننه (2758) وأحمد في مسنده (23908).(1/38)
قال: =فاذهبوا فأنتم الطلقاء+.(1)
ولقد كان لتحلِّي المسلمين بأدب الحرب من الرحمة والسماحة أثر بالغ في نفوس كثير من أعدائهم؛ حيث أعجبوا بدين الإسلام، ونبيِّه، ورحمةِ أهله، وحسنِ معاملتهم.
بل لقد وجدوا عدلاً ورحمة لم يجدوها عند بني ملتهم، مما حدا بكثير منهم إلى الدخول في الإسلامِ، والحوادثُ في هذا السياق لا تكاد تحصى.(2)
__________
(1) _ انظر سنن البيهقي الكبرى 9/118، وفتح الباري لابن حجر 8/18.
وما مضى من أحكام الحرب وآدابها إنما هو نزر يسير مجمل، أما تفاصيل ذلك، واستثناءاته وأحكامه فهي مبثوثة في التفاسير، وكتب الفقه، وشروح الحديث، والكتب التي أفردت في الحرب، والجهاد وما إلى ذلك.
انظر المبسوط للسرخسي 10/5، وشرح فتح القدير لابن الهمام 4/90، والمغني لابن قدامة 9/326، وروضة الطالبين للنووي 10/150، وآداب الحرب للشيخ محمد الخضر حسين، وقواعد الحرب في الشريعة الإسلامية للشيخ عواض الوذيناني.
(2) _ ومن الأمثلة على ذلك أن كثيراً من زعماء الصليبيين، وكثيراً من عامتهم الذين قطعوا الأرض لقطع رقاب المسلمين _ ارتَموا في أحضان الدعوة الإسلامية التي غامروا كل مغامراتهم للقضاء عليها منذ أول تعارف؛ ذلك هو أعجبُ آثارِ التسامح!
= فقد أسلم في الحرب الصليبية الأولى ممن أسلم (رينود) أمير طوائف الجرمان واللمبارديين، وأسلم معه خلق كثير منهم.
وأسلم في الحرب الصليبية الثانية خلقٌ كثيرٌ، كما يروي السير توماس عن راهب من رهبان سنت دنيس كان قسيساً في المعبد الخصوصي للملك لويس السابع، ورافقه في هذه الغزوة طائفة كبيرة، وإليكم ما يقوله الراهب في عبارة شائقة:
=وفي طريق الصليبيين إلى المقدس، عبر جبال الأناضول التقوا بجيش المسلمين، فهُزِم الصليبيون شرَّ هزيمة.
وكان في الممرِّ الجبلي (فريجيا) وذلك سنة 1148م، ولم يصلوا إلى مرسى (أضاليا) إلا بشقِّ الأنفس، ومنها استطاع القادرون بعد تلبية طلبات التجار اليونانيين الباهظة أن يرحلوا إلى أنطاكية بحراً، وقد دفعوا مبالغ طائلة، وتركوا خلفهم الجرحى، والمرضى، والحجاج، فدفع كذلك لويس خمسمائة مارك لليونانيين على أن يُعْنَوْا بهؤلاء الضعفاء حتى يُشْفَوا، وعلى أن يرافقهم حرسُ اليونان حتى يلحقوا بمن سبقهم، فما كان من اليونان الغادرين إلا أن تربصوا حتى تباعد جيش الصليبيين، واتصلوا بالمسلمين الأتراك، وأخبروهم بما عليه الحجاج والجرحى، ممن تخلفوا من الوهن والعجز، ثم قعدوا ينظرون إلى إخوانهم في الدين ينال منهم البؤس، والمرض، وسهام المسلمين.
ولما ضاق الصليبيون المتخلفون ذَرْعاً بما أصابهم خرج ثلاثةُ آلاف أو أربعة من قلعتهم محاولين النجاة بأنفسهم، فحصرهم المسلمون، وشدُّوا عليهم، ثم حملوا على المعسكرات الصليبية، وكان حال من خرج ومن بقي في المعسكر ليس فيه أقلُّ رجاءٍ، ولم يُنْقَذُوا إلا بما نزل في قلوب المسلمين من الرحمة، حين اطَّلعوا على ما فيه عدُّوهم من بأساء، وما أصابهم من ضراء رقَّت قلوبهم، وذابت نفوسهم؛ رحمة لأعدائهم الصليبيين المساكين، فواسَوا المريضَ، وأحسنُوا للفقيرِ، واطعموا المسكينَ بسخاءٍ وكرم، وبلغ من إحسانهم أن بعضهم استردَّ بالشِّراء أو الحيلة أو القهر النقودَ الفرنساوية التي أخذها اليونان من الحجاج، وردَّها عليهم، ووزعها على المحتاجين من الصليبيين.
وقد كان الفرق واضحاً بين معاملة هؤلاء الكفار _يقصد المسلمين_ للحجاجِ المسيحيينَ، ومعاملة اليونان الذين سخَّروا إخوانهم في الدين، ونهبُوا أموالَهم وضربوهم.
كان الفرق عظيماً لدرجةٍ حملت الصليبيين على اعتناق دين الأعداء المنقذين، ومن غير أن يُكرَهوا أو يُقْهرُوا.
= لقد فرُّوا من إخوانهم في الدين الذين أساؤوا إليهم، فلَحِق ثلاثةُ آلافٍ بالجيشِ الإسلاميِّ بعد أن رجع عنهم ودخلوا في دينه.
لقد كانت الرحمةُ أشدَّ قسوةً من الخيانةِ !
لقد أعطاهم المسلمون الخبزَ وسلبوهم الإيمانَ، واحسرتاهُ !
لقد ارتدُّوا عن المسيحية من غيرِ أن يُجْبَرَ واحدٌ منهم على ترك دينه+.
ذلك ما يقوله الراهب!
ولقد بلغ تأثير الإعجاب بشجاعة صلاح الدين وفضائله في الصليبيين، أن كثيراً من أمرائهم وعامَّتهم المُعجَبين به ذهب بهم هذا الإعجابُ إلى ترك دينهم، وأهلهم والدخول في الإسلام.
مثلُ ذلك ما فعل الزعيم الإنجليزيُّ (روبرت سنت أليان) وكان ذلك قبل انتصار صلاح الدين في معركة حِطّين الفاصلة التي وقع فيها ملكُ القدسِ (جاي) أسيراً.
ويقول بعضُ مؤرخي النصارى: إن ستةً من أمراء هذا الملك استولى عليهم الشيطانُ ليلةَ المعركة، فأسلموا، وانضموا إلى صفوف الأعداء دون أن يُقهروا من أحدٍ على ذلك.
وقد وصل الأمرُ (بريمون الثالث) أمير طرابلس الشام أن اتفق مع صلاح الدين على أن يدعو قومه إلى الإسلام.
وحتى بعد صلاح الدين، لما قام الصليبيون بحربهم الثالثة انتقاماً لسقوط بيت المقدس، وحاصروا عكا، وأصابتهم البأساءُ، وعضَّهم الجوع _ فرّ كثير إلى صفوف المسلمين؛ فمنهم من آمن، ومنهم من رجع إلى قومه، ومنهم من استمر على نصرانيته، واختار البقاءَ وأن يقاتل في صفوف المسلمين.
وفي هذا المعنى يقول السير (جون ما ندفيل) أحدُ المعاصرين للصليبيين: =كان بعضُ المسيحيين يرتدُّون عن دينهم، ويصيرون عرباً؛ لفقرهم، أو غباوتهم، أو شقاوتهم+.
ولا يُنتظر _بالطبع_ من صليبيٍّ كالسير جون أن يفسِّرَ ما يسميه المسلمون بالهداية إلا بالغباوة والشقاوة.
والذي يعنينا من الأمر أن الفقراء والأغبياء والضالين الذين ذكرهم السير ما ندفيل دخلوا في الإسلام الذي جاؤوا لمحوه مختارين، واجْتُذِبُوا إليه بالدعوة والإرشاد لا القهر والاضطهاد، بل إنَّ بعض المؤرخين المسيحيين المعاصرين للفتح الإسلامي واسترداد بيت المقدس، وبعد ذلك بكثير بعد انهيار دُوَل الفرنجة في الشام كلِّها يُشيرون إلى فرحِ النصارى بالتحرّر من حكم الصليبيين.
= ويقول السير توماس في هذا المعنى: =لقد سكنوا إلى الحكم الإسلامي وادعين مستبشرين، كما استمر الحكامُ المسلمون على عادتهم القديمة من التسامح، وسعة الصدر لأهل الملل الأخرى+.
يقول الأستاذ عبدالرحمن عزام× في كتابه (بطل الأبطال): =وإذا كان ما ذكرنا هو بعض الشواهد على انتشار الدعوة المحمدية بالحجة بين أشدِّ خصومها المحاربين، وفي أحلكِ أيام الدولة الإسلامية أيام غاراتِ الصليبيين والتتر _ فإن لنا شاهداً آخرَ من بطريقِ خراسانَ في أعزِّ أيام الدولة الأموية العربية، نختتمُ به هذا الفصل، يقول البطرقُ (يوساب الثالث) اليعقوبيُّ في خطاب طويل بعث به لحَبْرٍ زميلٍ: =أين أبناؤك أيها الأب ! أين هذا الشعب العظيمُ شعبُ مَرْو ! لم تصبهم جائحة، ولا سقطوا للسيف، ولا عُذِّبوا بنار، وإنما أصابهم متاع الدنيا، فارتدّوا عن دينهم، وقذفوا بأنفسهم كما يَقْذِفُ المجانينُ في مهاوي الهلاك والكفر، فلم ينجُ من هذا السعير إلا قسييان اثنان فرَّا بنفسيْهما من جحيم الكفر _أي الإسلام_ واحسرتاه على الآلاف المؤلَّفة الذين حملوا اسمَ المسيحية وصفتَها، ولم يقعْ منهم شهيدٌ واحد، ولا ضحى واحد منهم لدينه !!
أين كذلك بِيَعُ كِرْمانَ، وكنائسُ فارس !
لم يكن قدومُ شيطانٍ، ولا ملَك، ولا أميرٍ، ولا أمرُ خليفة أو سلطان هو الذي قضى عليها.
لم يكن ساحراً موهوباً أُوتِيَ المنطقَ، وسلطةَ الشيطان على النفوس، ولكنه ساحرٌ هز رأسَه فقط، فخرّت كنائسُ فارسَ كله على الأرض !
أما العرب الذين آتاهم الله ملك الدنيا كما تعلم _ فإنهم عندك كذلك_ فلم يطعنوا في ديننا، ولا اعتدوا على بِيَعنا، بل بالعكس ضالعوا مع ديننا، وفضّلوه على غيره، وأكرموا رهباننا وقساوستنا، واحترموا أولياءنا، وأحسنوا الهباتِ إلى معابدنا، فلماذا _إذاً_ هجر أهلُ مَرْو نصرانيتَهم زُلْفَى لهؤلاء العرب، وهم يعلمون ويقولون: إن العربَ ما طلبوا منهم تغييرَ دينهم، بل أقرُّوهم عليه كاملاً، ولم يسألوهم إلا ضريبةً بسيطةً يؤدُّونها عن أنفسهم، ولكنهم اشترَوا خلودَ أرواحهم في دين المسيح بمتاعٍ قليلٍ ؟!+.
انظر الرسالة الخالدة لعبدالرحمن عزام ص313_320.(1/39)
وإن تعجب بعد هذا كله فاعجب من صنيع كثير من الظالمين البعيدين كل البعد عن العدل، وحقائق التاريخ، ممن يصفون دين الإسلام ونبيه وأهله بالقسوة والهمجية، والتطرف والإرهاب إلى غير ذلك مما هو محض افتراء، ومحاولة للصد عن دين الإسلام.
والحقيقة الماثلة للعيان تقول بأن الإسلام دين الرحمة، والرفق، والتسامح؛ فماذا فعل المسلمون حين انتصروا على خصومهم؟ هل تكبَّروا، وتسلطوا، واستبدوا؟ وهل انتهكوا الأعراض، وقتلوا الشيوخ، والنساء، والأطفال؟
ماذا فعل النبي " عندما انتصر على خصومه الذين كانوا يؤذونه أشد الأذى؟ ألم يكن يصفح عنهم؟ ويمنَّ عليهم بالسبي والأموال؟
وماذا فعل المسلمون عندما انتصروا على كسرى وقيصر؟ هل خانوا وغدروا؟ هل تعرَّضوا للنساء؟ وهل أساؤوا للرهبان في الأديرة؟ وهل عاثوا في الأرض فساداً؟ وهل هدموا المنازل، وقطعوا الأشجار؟
وماذا فعل صلاح الدين لما انتصر على الصليبيين الذين فعلوا بالمسلمين الأفاعيل، ونكَّلوا بهم أيَّما تنكيل؟ فماذا فعل بهم صلاح الدين لما انتصر عليهم؟ ألم يصفح عن قائدهم؟ ويعالجه؟ ويطلق سراحه؟
وماذا كانت أحوال أهل الذمة في بلاد المسلمين عبر العصور المتطاولة إلى يومنا هذا؟ ألم يكونوا ينعمون بالأمان، والعدل، والإحسان؟
ألم يجدوا من عدل المسلمين وإحسانهم ما لم يجدوه من بني جلدتهم؟
فهذه المواقف النبيلة وأمثالها كثير في تاريخ المسلمين، مما كان له أبلغ الأثر في محبة الناس للإسلام، والدخول فيه عن قناعة ويقين.
أفغير المسلمين يقوم بهذا؟ آلغرب يقدم مثل هذه النماذج؟
الجواب ما تراه، وتسمعه؛ فمن أين خرج هتلر، وموسوليني، ولينين، وستالين، ومجرمو الصرب؟ أليست أوربا هي التي أخرجت هؤلاء وأمثالهم من الشياطين الذين قتلوا الملايين من البشر، ولاقت منهم البشرية الويلات إثر الويلات؟
ألا يعد أولئك هم طلائع حضارة أوربا؟ فَمَنِ الهمج القساة العتاة إذاً؟
ومَنِ المتطرفون الإرهابيون حقيقة؟(1/40)
ثم مَنِ الذين صنعوا القنابل النووية، والعنقودية، والذرية، والجرثومية، وأسلحة الدمار الشامل؟
ومن الذين لوَّثوا الهواء بالعوادم، والأنهار بالمبيدات؟
ومن الذين يسلكون الطرق القذرة التي لا تمت إلى العدل، ولا إلى شرف الخصومة بشيء؟
من الذين يُعَقِّمون النساء؟ ويسرقون أموال الشعوب وحرياتهم؟ ومن الذين ينشرون الإيدز؟
أليس الغرب، ومن يسير في ركابهم؟
ومن الذي يدعم اليهود وهم في قمة التسلط والإرهاب؟
وماذا حصل في محاكم التفتيش، وما أدراك ما محاكم التفتيش؟
وماذا حصل في بعض السجون كأبي غريب وغيره مما يندى له الجبين؟
هذه هي الحقيقة الواضحة، وهذا هو الإرهاب والتسلط.
ولا يعني ذلك بحال من الأحوال أن يكون غير المسلمين على سُنَّة واحدة من الظلم والتسلط والجبروت، لا بل إن فيهم من هو قائم بالعدل، بعيد عن الظلم.
أما جهاد المسلمين لإحقاق الحق، وقمع الباطل، ودفاعهم عن دينهم، وأنفسهم وبلادهم فليس إرهاباً، وإنما هو العدل بعينه.
وما يحصل من بعض المسلمين من الخطأ في سلوك سبيل الحكمة فقليل لا يكاد يذكر بجانب وحشية الغرب، وتبعته تعود على من أخطأ السبيل، ولا تعود على الدين، ولا على المسلمين، ولا يُقَرُّ عليها من قام بها، بل إن أهل الإسلام ينكرون مثل ذلك أشد الإنكار.
وهكذا ينبغي للعاقل المنصف؛ أن ينظر إلى الأمور كما هي بعيداً عن الظلم والتزوير والنظرة القاصرة.
وبعد هذا فإن كان للإنسان من عجبٍ فإنه من الأوربيين، والأمريكان؛ حيث لم يكتشفوا حقيقة الدين الإسلامي وعظمة نبيِّه فيما اكتشفوه، وهو أجلُّ من كل ما اكتشفوه، وأضمن للسعادة الحقيقية من كل ما وصلوا إليه؛ فهل هم جاهلون بحقيقة الإسلام حقاً؟ أو أنهم يتعامون ويصدون عنه؟!
إن كانت الأولى، فهي مصيبة، وإن كانت الثانية فمصيبتان!(1/41)
لقد امتدت رحمته "إلى الضعفاء والمساكين من نحو الصبيان، والخدم، واليتامى، والفقراء؛ فكان يجالسهم، ويلاطفهم، ويحنو عليهم، ويحسن إليهم، ويرفع من شأنهم، ويُحذِّرُ من ظلمهم؛ فكانوا يأوون إلى ظله الشريف، ويحتمون بِطِرافه السامي الذُّرا.
وأخباره _عليه الصلاة والسلام_ في هذا الباب كثيرة متنوعة، وإليك طرفاً من ذلك فيما يلي:
1_ رَفْعه من شأن الضعفاء وحثُّه على التخفيف عليهم: فعن حارثة بن وهب ÷ قال: سمعت النبي" يقول: =ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف مُتَضعِّف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ كُلُّ عُتل جواظ مستكبر+.(1)
وعن سهل بن سعد الساعدي ÷ أنه قال: =مر رجل على رسول الله " فقال لرجل عنده جالس: =ما رأيك في هذا؟+ فقال رجل من أشراف الناس: هذا _والله_ حريٌّ إن خطب أن يُنكح، وإن شفع أن يُشَفَّع، قال: فسكت رسول الله"ثم مر رجل، فقال له رسول الله": =ما رأيك في هذا+.
فقال: يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حريٌّ إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفَّع، وإن قال أن لا يُسْمَع لقوله، فقال رسول الله": =هذا خير من ملء الأرض مثل هذا+.(2)
وعن أبي سعيد الخدري÷ عن النبي"قال: =احتجت الجنة والنار، فقالت النار: فِيَّ الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة: فيَّ ضعفاء الناس ومساكينهم؛ فقضى الله بينهما، إنك الجنة رحمتي أرحم بك من أشاء، وإنك النار عذابي أعذب بك من أشاء، ولكليكما علي ملؤها+.(3)
وعن أبي هريرة ÷ أن رسول الله " قال: =إذا صلى أحدكم للناس فليخفف؛ فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء+.(4)
__________
(1) _ أخرجه البخاري (4918) ومسلم (2853).
(2) _ أخرجه البخاري (5091).
(3) _ أخرجه مسلم (2846).
(4) _ أخرجه البخاري (703) ومسلم (467).(1/42)
2_ تفقده لأحوال الضعفاء، وسؤاله عنهم، ووفاؤه لهم: فعن أبي هريرة÷ أن امرأة سوداء كانت تَقُمُّ المسجد، أو شاباً، ففقدها رسول الله " فسأل عنها أو عنه، فقالوا: مات، قال: =أفلا كنتم آذنتموني+.
قال: فكأنهم صغَّروا أمرها أو أمره، فقال: =دلوني على قبره+ فدلوه فصلى عليها، ثم قال: =إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله _عز وجل_ ينورها لهم بصلاتي عليهم+.(1)
فانظر كيف بلغت رحمته، ووفاؤه لهذه الجارية المحتقرة، أو هذا الشاب المحتقر؟
3_ رأفتُه باليتيم، وبيانُه جزاءَ كافلِه: فعن أبي هريرة ÷ قال: قال رسول الله": =كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة+ وأشار مالك بالسبابة والوسطى+(2) ونحوه عن سهل عند البخاري(3).
4_ حثه على القيام بشأن الأرملة والمسكين: فعن أبي هريرة ÷ قال: قال رسول الله": =الساعي على الأرملة، والمسكين كالمجاهد في سبيل الله+.
وأحسبه قال: =كالقائم لا يفتر، وكالصائم لا يفطر+.(4)
5_ ذَمُّهُ الدعوةَ للطعام الذي منع منه الفقراء: فعن أبي هريرة أنه كان يقول: =بئس الطعام طعام الوليمة؛ يُدعى إليه الأغنياء، ويترك الفقراء+.(5)
6_ رأفتُه بالبنات، وبيانُهُ فضلَ إعالتهن، والإحسان إليهن: فعن أنس ابن مالك÷ قال: قال رسول الله": =مَنْ عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين، وضم أصابعه+.(6)
__________
(1) _ أخرجه البخاري (1337) ومسلم (956).
(2) _ أخرجه مسلم (2983).
(3) _ البخاري (5304).
(4) _ أخرجه البخاري (5353) ومسلم (2982).
(5) _ أخرجه البخاري (5177) ومسلم (1432).
(6) _ أخرجه مسلم (2631).(1/43)
وعن عائشة _رضي الله عنها_ قالت: =جاءتني امرأة معها ابنتان تسألني، فلم تجد عندي غير تمرة واحدة، فأعطيتها إياها، فَقَسَمَتْها بين ابنتيها، ولم تأكل منها، ثم قامت فخرجت، فدخل النبي " فحدثته، فقال: =من ابتُليَ من هذه البنات شيئاً فأحسن إليهن كن له ستراً من النار+.(1)
7_ تحذيره من تضييع حقوق الضعفاء: فعن أبي شريح الخزاعي÷ قال: قال رسول الله": =اللهم إني أحرج حق الضعيفين: اليتيم، والمرأة+.(2)
8_ رحمته بالمرضى إذا زارهم: فعن عبد الله بن عمر _رضي الله عنهما_ قال: =اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتى رسول الله " يعوده مع عبدالرحمن ابن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبدالله بن مسعود _رضي الله عنهم_ فبكى رسول الله " فلما رأى القوم بكاء رسول الله " بكوا، فقال: =ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا _وأشار إلى لسانه_ أو يرحم+.(3)
9_ رحمته بالصغار، وبكاؤه عليهم: فعن أبي قتادة الحارث بن ربعي ÷ قال: قال رسول الله ": =إني لأقوم إلى الصلاة وأريد أن أطول فيها؛ فأسمع بكاء الصبي؛ فأتجوَّز في صلاتي؛ كراهية أن أشق على أمه+.(4)
وعن أبي هريرة ÷ قال: قبَّل النبي " الحسنَ بن علي _رضي الله عنهما_ وعنده الأقرع بن حابس، فقال الأقرع: =إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت منهم أحداً+ فنظر إليه رسول الله " فقال: =من لا يرحم لا يُرحم+.(5)
__________
(1) _ أخرجه البخاري (1418) ومسلم (2629 و 2630).
(2) _ أخرجه أحمد 2/439، والنسائي (9149) وابن ماجه (3678) والحاكم 1/63 و4/128، وقال: =صحيح الإسناد على شرط مسلم+ ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في الصحيحة (1015).
(3) _ أخرجه البخاري (1304) ومسلم (924).
(4) _ أخرجه البخاري (707).
(5) _ أخرجه البخاري (5997) ومسلم (2319).(1/44)
وعن عائشة _رضي الله عنها_ قالت: قدم ناس من الأعراب على رسول الله" فقالوا: أتُقبِّلون صبيانكم؟ فقال: =نعم+ قالوا: لكنا والله ما نُقبِّل، فقال رسول الله ": =أَوَ أملك أن كان الله نزع من قلوبكم الرحمة+.(1)
وعن أسامة بن زيد _رضي الله عنهما_: =أن رسول الله"رفع إليه ابن ابنته وهو في الموت، ففاضت عينا رسول الله" فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله، قال: =هذه رحمة جعلها الله _تعالى_ في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء+.(2)
وعن أنس÷: =أن رسول الله"دخل على ابنه إبراهيم÷وهو يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله"تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله، فقال: =يا ابن عوف، إنها رحمة+ ثم أتبعها بأخرى، فقال: =إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون+.(3)
10_ حثُّه على إكرام الخدم، والحشم: فعن المعرور بن سويد قال: =رأيت أبا ذر الغفاري÷وعليه حلةٌ، وعلى غلامه مثلُها، فسألته عن ذلك، فذكر أنه سابَّ رجلاً على عهد رسول الله " فعيَّره بأمه، فقال النبي": =إنك امرؤ فيك جاهلية، هم إخوانكم، وخولكم(4) جعلهم الله تحت أيديكم؛ فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم؛ فإن كلفتموهم فأعينوهم+.(5)
وعن أبي هريرة ÷ عن النبي " قال: =إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين، أو أكلة أو أكلتين؛ فإنه ولي علاجه+.(6)
__________
(1) _ أخرجه البخاري (5998) ومسلم (2317).
(2) _ أخرجه البخاري (1282) ومسلم (923).
(3) _ أخرجه البخاري (1303) ومسلم (1315).
(4) _ الخوَل: الخدم، والحشم.
(5) _ أخرجه البخاري (2545) ومسلم (1661).
(6) _ أخرجه البخاري (2557) ومسلم (1663).(1/45)
11_ نهيه عن أذية الخدم: فعن سويد بن مقرن ÷ قال: =رأيتني سابع سبعة من بني مقرن مالنا خادم إلا واحدة لطمها أصغرنا، فأمرنا رسول الله "أن نعتقها+.(1)
وفي حديث ابن عمر _رضي الله عنهما_: =كفارته أن يعتقه+.(2)
كل ذلك أثر من آثار رحمته التي أودعها الله في نفسه الشريفة المباركة.
أما رحمته " بالنساء فحدث ولا حرج، فلقد أولاهن جانباً عظيماً من اهتمامه، وتوجيهه، وأمره بالقيام بحقهن، وتحذيره من التقصير في شأنهن؛ فنالت المرأة في شريعته من الرحمة، والرعاية ما لم تَنَلْهُ في أي شريعة أو نظام، سواء كانت أماً، أو أختاً، أو بنتاً، أو زوجة، أو غير ذلك.
بل لقد كان " المثال الحي لِحُسْن التعامل مع نسائه؛ حيث ضرب أروع الأمثلة في ذلك.
وتتجلى هذه الرحمة في أقواله، وأحواله"في هذا الشأن، وفيما يلي ذكر لشيء من ذلك.
أولاً: من أقواله في رحمة النساء، ورعاية حقوقهن:
1_ حثه على بر الأم، وتقديم حقها على حق الأب: فقد جاء رجل إلى النبي" فقال: يا رسول الله من أولى الناس بحسن صحابتي؟ قال: =أمك+ قال: ثم من؟ قال: =أمك+ قال: ثم من؟ قال: =أمك+ قال ثم من؟ قال: =أبوك+.(3)
2_ وصايتُه بالنساء، وأمره بالإحسان إليهن: فقد قال النبي": =اتقوا الله في النساء، فإنهن عوانٍ عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف+.(4)
3_ بيانه فضل الصدقة على الأهل: قال": =دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها الذي أنفقته على أهلك+.(5)
__________
(1) _ أخرجه مسلم (1658).
(2) _ أخرجه مسلم (1659).
(3) _ رواه البخاري (5626) ومسلم (2548).
(4) _ أخرجه مسلم (1218) وأبو داود في سننه (1905) وابن ماجه (3074).
(5) _ رواه مسلم (995).(1/46)
وقال": =ابدأ بنفسك، فتصدق عليها، فإن فَضُل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا+.(1)
4_ وصيتُه بالصبر على النساء، وتحذيره من الاستعجال في شأن الطلاق: قال": =استوصوا بالنساء؛ فإن المرأة خلقت من ضِلَع أعوج، وإن أعوج شيء في الضِّلع أعلاه، إن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، استوصوا بالنساء خيراً+.(2)
وقال": =لا يَفْرَك _أي يبغض_ مؤمنٌ مؤمنةً؛ إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر+.(3)
قال النووي×في شرح هذا الحديث: =ينبغي أن لا يبغضها؛ لأنه إن وجد فيها خلقاً يُكْره، وجد فيها خلقاً مرضياً، كأن تكون شرسة الخلق، لكنها ديِّنة، أو جميلة، أو عفيفة، أو رفيقة، أو نحو ذلك+(4).
5_ بيانُه أن خيار الناس خيارهم لنسائه: قال": =أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً، وخياركم خياركم لنسائهم+.(5)
6_ تحذيره من إفشاء سر الفراش: قال": =إن من أشر الناس منزلةً يوم القيامة الرجلَ يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرها+.(6)
7_ بيانه أن النساء شقائق الرجال: قال": =النساء شقائق الرجال+.(7)
8_ نهيه عن ضرب الزوجة بلا مسوغ: قال": =لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يضاجعها+.(8)
__________
(1) _ رواه مسلم (997).
(2) _ رواه البخاري (3331) ومسلم (1468).
(3) _ رواه مسلم (1469).
(4) _ صحيح مسلم بشرح النووي 10/47.
(5) _ أخرجه أحمد 2/250 و 472، والترمذي(1162) وقال: حسن صحيح، وابن حبان (4176) وصححه الألباني في الصحيحة (284).
(6) _ رواه مسلم (1437).
(7) _ أخرجه أحمد 6/256، وأبو داود (436) والترمذي (113) وصححه أحمد شاكر في تحقيق الترمذي 1/190_192.
(8) _ أخرجه البخاري (5204) ومسلم (2855).(1/47)
9_ تحذير الرجل من الميل لإحدى زوجاته إذا كان عنده أكثر من زوجة: قال": =من كانت له امرأتان، فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشِقُّه مائل+.(1)
10_ بيانه أن المرأة لا تُزَوَّج إلا بإذنها: قال": =لا تُنكح الأيِّم حتى تستأمر، ولا تُنكح البكر حتى تستأذن+.
قالوا: يا رسول الله! وكيف إذنها؟ قال: =أن تسكت+. (2)
11_ ذكره لفضل العناية بالبنات، وإحسان تربيتهن: قال": =من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن ستراً له من النار+.(3)
وقال": =لا يكون لأحد ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات، أو بنتان، أو أختان، فيتقي الله فيهن، ويحسن إليهن إلا دخل الجنة+.(4)
12_ نهيهُ الزوجَ عن مفاجأة زوجته بعد طول الغياب عنها: فعن جابر÷ قال: كنا مع رسول الله"في غزوة، فلما قدمنا المدينة ذهبنا لندخلها، فقال رسول الله": =أمهلوا، لا تدخلوا ليلاً _يعني عشاءً_ حتى تمتشط الشَّعِثة(5) وتستحد المغيبة(6)+(7).
والهدف من هذا التشريع إبقاء الرغبة في الزوجة قوية؛ بحيث لا يحدث منها ما يُطْلِعُ الزوج على شيء من عيوبها، أو ما ينافي كمال زينتها من تشعث الشعر، وإهمال الزينة، ونحو ذلك.
بل يجدها دائماً في حال من الجمال والزينة، وما شأنه أن يبقي على سرور النفس، وشدة الرغبة.
13_ نهيه عن طروق الأهل ليلاً: فقد جاء في صحيح البخاري أن النبي" قال: =إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلاً+(8).
قال ابن حجر×: =الطُّروق بالضم المجيء ليلاً من سفر أو من غيره على غفلة.
__________
(1) _ رواه أحمد (2/295 و 347 و 471) والترمذي (1141) وأبو داود (2133) والحاكم (2/203) وقال الذهبي: على شرط البخاري ومسلم.
(2) _ رواه البخاري (5136).
(3) _ رواه البخاري (1418) ومسلم (2629).
(4) _ أخرجه أحمد 3/43.
(5) _ الشعثة: البعيدة العهد بالغسل، وتسريح الشعر والنظافة.
(6) _ المغيبة: التي غاب عنها زوجها.
(7) _ رواه مسلم (715) وأبو داود (2776) والترمذي (1172).
(8) _ البخاري (5244).(1/48)
يقال لكل آتٍ بالليل طارق، ولا يقال بالنهار إلا مجازاً+(1).
ففي هذا الحديث دليل على أنه يستحب التأني للقادم على أهله حتى يشعروا بقدومه قبل وصوله بزمان يتسع فيه التجمل والاستعداد؛ فلربما كانت الزوجة في حال انفرادها على وضع لا يليق، وربما كانت مشغولة ببعض أعمال المنزل، فأهملت بعض زينتها واستعدادها للقاء الزوج.
والزوجُ راغب فيها، فإذا هجم على زوجته وهي على هيئة تقذفها العين، وتنفر منها النفس ـ كان ذلك مدعاة للنفور من الزوجة، وقلة الرغبة فيها.
ومن هنا كان تنبيه الزوجة وإعلامها بقدوم الزوج أولى وأدوم لتعلق القلب بها، وأحفظ من النفور والملل ونبوِّ العين عنها(2).
قال ابن حجر×في شرح الحديث السابق: =فلما كان الذي يخرج لحاجته مثلاً نهاراً ويرجع ليلاً لا يتأتَّى له ما يحذر من الذي يطيل الغيبة ـ كان طول الغيبة مظنة الأمن من الهجوم، فيقع الذي يهجم بعد طول الغيبة غالباً ما يكره(3) إما أن يجد أهله على غير أهبة من التنظف والتزين المطلوب من المرأة، فيكون ذلك سبباً للنفرة بينهما+(4).
والحاصل أن الزوج لا ينبغي له أن يفاجأ زوجته إذا قدم من غيبته؛ اتباعاً للسنة، وتلافياً لما ذكر؛ فعليه أن يرسل من يخبرهم بقدومه، وأن يتريث بعد وصول الخبر لأهله، أو أن يرسل إليهم بأنه سيأتي في اليوم الفلاني إن يسر الله له القدوم.
وفي هذا الوقت تيسرت السبل؛ فبإمكان الزوج أن يتصل عبر الهاتف، ويخبر أهله بأنه قادم في اليوم الفلاني أو الساعة الفلانية.
ثم إن على الزوجة إذا علمت بقدوم زوجها أن تأخذ زينتها، وأن تستعد له أتم الاستعداد.
__________
(1) _ فتح الباري 9/251.
(2) _ انظر اللقاء بين الزوجين للشيخ عبدالقادر عطا ص73.
(3) _ لعلها: على ما يكره.
(4) _ فتح الباري 9/252.(1/49)
وهكذا يتبين لنا شيء من عظم شأن المرأة، ومنزلتها عند رسول الله"(1).
__________
(1) _ قارن بين هذا وبين صنيع أهل الجاهلية الذين يعاملون المرأة بكل قسوة، ولا يرونها إلا هملاً مُضاعاً، ولقىً مزدرىً، وحمىً مستباحاً.
ويكفي شاهداً على ذلك تسخطهم بالأنثى، ووأدهم للبنات.
قال الله _تعالى_ ناعياً عليهم هذا الصنيع: [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] (التكوير).
قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور × في تفسير هذه الآية: =والوأد: دفن الطفلة وهي حية: قيل: هو مقلوب آداه، إذا أثقله؛ لأنه إثقال الدفينة بالتراب.
قال في الكشاف: =كان الرجل إذا وُلِدتْ له بنتٌ؛ فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية، وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية يقول لأمها: طيبيها وزينيها؛ حتى أذهب بها إلى أحمائها, وقد حفر لها بئراً في الصحراء؛ فيبلغ بها البئر, فيقول لها: انظري فيها، ثم يدفعها من خلفها، ويهيل عليها التراب، حتى تستوي البئر بالأرض.
وقيل: كانت الحامل إذا أقربت حفرت حفرة, فتمخضت على رأس الحفرة, فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة، وإن ولدت ابناً حبسته+ا هـ.
=وكانوا يفعلون ذلك؛ خشية من إغارة العدو عليهم, فيسبي نساءهم, ولخشية الإملاق في سني الجدب؛ لأن الذكر يحتال للكسب بالغارةِ وغيرِها, والأنثى عالةٌ على أهلها، قال _تعالى_: [وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ] وقال: [وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ].
وإذ قد فشى فيهم كراهية ولادة الأنثى فقد نما في نفوسهم بغضها, فتحركت فيها الخواطر الإجرامية؛ فالرجل يكره أن تولد له أنثى لذلك، وامرأته تكره أن تولد لها أنثى؛ خشيةً من فراق زوجها إياها, وقد يهجر الرجل امرأته إذا ولدت أنثى.
وقد توارثت هذا الجهل أكثرُ الأمم على تفاوت بينهم فيه، ومن كلام بعضهم وقد ماتت ابنته: =نعم الصهر القبر+.
ومن آثار هذا الشعور حرمانُ البنات من أموال آباءهن بأنواع من الحيل مثل وقف أموالهم على الذكور دون الإناث, وقد قال مالك: إن ذلك من سنة الجاهلية، ورأى ذلك الحُبس باطلاً، وكان كثير من أقرباء الميت يلجئون بناته إلى إسقاط حقهن في ميراث أبيهن لأخوتهن في فور الأسف على موت أبيهن؛ فلا يمتنعن من ذلك، ويرين الامتناع من ذلك عاراً عليهن؛ فإن لم يفعلن قطعهن أقرباؤهن.
وتعرف هذه المسألة في الفقه بهبة بنات القبائل, وبعضهم يعدها من الإكراه+. تفسير التحرير والتنوير 30/145_146.
هذه منزلة المرأة في الجاهلية ولا يبعد عنها ما تعانيه المرأة في النُظُم الأرضية التي لا ترعى للمرأة كرامتها، حيث يتبرأ الأب من ابنته حين تبلغ سن الثامنة عشرة أو أقل؛ لتخرج هائمة على وجهها تبحث عن مأوى يسترها، ولقمة تسد جوعتها، وربما كان ذلك على حساب الشرف، ونبيل الأخلاق.
فأين رحمة الإسلام بالمرأة، وجعلها إنساناً مكرماً من الأنظمة التي تعدها مصدر الخطيئة، وتسلبها حقها في الملكية والمسؤولية، وتجعلها تعيش في إذلال واحتقار، وتعدها مخلوقاً نجساً؟.
وأين رحمة الإسلام بالمرأة ممن يجعلون المرأة سلعة يتاجرون بجسدها في الدعايات والإعلانات.
وأين رحمة الإسلام بها من الأنظمة التي تعد الزواج صفقة مبايعة تنتقل فيه الزوجة؛ لتكون إحدى ممتلكات الزوج؟ حتى إن بعض مجامعهم انعقدت؛ لتنظر في حقيقة المرأة وروحها هل هي من البشر أو لا؟!
= فالحضارة المعاصرة لا تكاد تعرف شيئاً من معاني التذمم والرحمة، وإنما تنظر للمرأة نظرة مادية بحتة، فترى أن حجابها وعفتها تخلف ورجعية، وأنها لابد أن تكون دمية يعبث بها كل ساقط؛ فذلك سر السعادة عندهم.
وما علموا أن تبرج المرأة وتهتكها هو سبب شقائها وعذابها.
وإلا فما علاقة التطور والتعليم بالتبرج وإظهار المفاتن، وإبداء الزينة، وكشف الصدور، والأفخاذ، وما هو أشد؟ !
وهل من وسائل التعليم والثقافة ارتداء الملابس الضيقة والشفافة والقصيرة؟!
ثم أي كرامة حين توضع صور الحسناوات في الإعلانات والدعايات؟ !
ولماذا لا تروج عندهم إلا الحسناء الجميلة، فإذا استنفدت السنوات جمالها وزينتها أهملت ورميت كأي آلة انتهت مدة صلاحيتها؟ !
وما نصيب قليلة الجمال من هذه الحضارة؟ وما نصيب الأم المسنة، والجدة، والعجوز؟
إن نصيبها في أحسن الأحوال يكون في الملاجئ، ودور العجزة والمسنين؛ حيث لا تُزار ولا يُسأل عنها.
وقد يكون لها نصيب من راتب تقاعد، أو نحوه، فتأكل منه حتى تموت؛ فلا رحم هناك، ولا صلة، ولا ولي حميم.
أما المرأة في الإسلام فكلما تقدم السن بها زاد احترامها، وعظم حقها، وتنافس أولادها وأقاربها على برها _ كما سبق _ لأنها أدَّت ما عليها، وبقي الذي لها عند أبنائها، وأحفادها، وأهلها، ومجتمعها.(1/50)
ثانياً: من أحوال النبي"مع نسائه:
الناظر في سيرة المصطفى"يرى صوراً مشرقة من خلقه الكريم في معاملته الناس جميعاً.
ولكن سلوكه في بيته، ومع أزواجه له دلالتُه الخاصة المُبِيْنَةُ عن سلامة ذوقه، ورقة طباعه، وعمق عاطفته، وقدرته الفذة على مراعاة مشاعر أزواجه، واحترام رغباتهن ما دامت في حدود الشرع.(1)
وفيما يلي ذكر لبعض المواقف العظيمة التي تدل على رحمته بأزواجه، وحسن تعامله معهن:
1_ هذه عائشة _رضي الله عنها_ تحج معه"فتمنعها حيضتها من أداء العمرة مع الناس، فلما أراد الرسول"العودة إلى المدينة قالت: يا رسول الله تعودون بحج وعمرة، وأعود بحجة وحدها؟
فإذا بالرسول يشفق أن تعود زوجه وهي تشعر بفوات بعض الفضل والخير عليها، فيتوقف، ويطلب من أخيها عبدالرحمن بن أبي بكر _رضي الله عنهما_ أن يصحبها إلى التنعيم حيث تحرم بالعمرة.(2)
2_ وفي غزوة المريسيع _بني المصطلق_ يوقف الجيش كله؛ لأن عقداً لعائشة انفرط منها فهي تجمع حباته من بين الرمال.(3)
3_ وروى البخاري أنه " لما رجع من غزوة خيبر، وتزوج صفية بنت حيي كان يدير كساءً حول البعير الذي تركبه يسترها به، ثم يجلس عند بعيره، فيضع ركبته، فتضع صفيةُ رجلها على ركبته حتى تركب !!
ولم يكن هذا المشهد بعيداً عن أعين الناس، بل كان على مشهد من جيشه المنتصر...(4)
كان يعلمهم أن الرسولَ البَشَرَ، والنبيَّ الرحمةَ، والقائدَ المظفر لا ينقص من قدره أن يوطِّئ أكنافَه لأهله، وأن يتواضع لزوجه، وأن يعينها ويسعدها.
__________
(1) _ انظر السيرة النبوية الصحيحة 2/643.
(2) _ انظر صحيح البخاري (1673) ومسلم (1211).
(3) _ انظر صحيح البخاري (327 و 3469 و 4331 و 4332) ومسلم (367).
(4) _ انظر صحيح البخاري (2120 و 2736 و 3974).(1/51)
4_ ويشهد الإنسان طابع الصدق في علاقاته"بأزواجه، فهو الرسول البشر، ليس فيه تعاظم الأقوياء بجاههم أو غناهم، بل فيه سماحة الأنبياء، وندى العظماء، وسيرة الأتقياء، تجده يحنو على أزواجه ويعينهن، فيقمّ بيته بيده، ويحلب الشاة، ويخرز النعل، ويتلطف إليهن، ويداري غضبهن، ويعدل بينهن، ويراعي ما جُبِلْنَ عليه من الغَيرة، ويحتمل هفواتهن، ويرفق بصغيرتهن؛ حيث تعيش أمهات المؤمنين في غرفهن الصغيرة بجوار المسجد النبوي، تمتزج حياتهن بأصوات الأذان للصلوات، ويشهدن جموع الناس مقبلين مدبرين يصلون، ويستمعون لأحاديث الرسول"، ويشتركن في بيان تعاليم الإسلام، وخاصة في شؤون المرأة، حين يتعذر على النبي" _لحيائه_ البيان.
ثم لهن حياة خاصة مع الرسول"حافلة بالعبادة وبالعلم، مليئة بالعبر، دافقة بالخير، ولا تخلو من الجدل والخصومة حيناً، والغَيرة حيناً آخر، قالت عائشة _رضي الله عنها_: =ما علمتُ حتى دخلت عليَّ زينبُ بغير إذن وهي غَضبى، ثم قالت: يا رسول الله أَحَسْبُكَ إذا قلبت لك بُنَيّةُ أبي بكر ذُرَيعَتَيها _أي ساعِدَيْها_؟
ثم أقبلت عليَّ، فأعرضتُ عنها، حتى قال النبي": =دونك فانتصري+ فأقبلتُ عليها حتى رأيتُها، وقد يبس ريقها في فيها ما تردُّ عليَّ شيئاً، فرأيت النبي" يتهلّلُ وجهُه+(1).
وهنا نلمس تقدير النبي"لغيرة الضرائر من بعضهن، ومراعاته للفطرة، فقد ترك زينب تفرغ غضبها، وأذن لعائشة أن ترد عليها، وعدل بين زينب _وهي بنت عمه وزوجه_ وعائشة _وهي بنت صاحبه وزوجه_ ولم يغضب من هذه الملاحاة، فهي أمر طبيعي في حياة الضرائر.
بل لم تتغير ملامح وجهه إلى العبوس لتكدير صفوه، بل عَلَتْه ابتسامة رقيقة وهو يشهد انتصاف عائشة من زينب.
وفي هذا _أيضاً_ دلالة على أن سيرة النبي"وحياته كتاب مفتوح، لا يخفى منه شيء.
__________
(1) _ انظر البخاري: الأدب المفرد (558) والنسائي _الكبرى_ (8914 و 8915) وابن ماجه (1981).(1/52)
5_ وكانت زينب بنت جحش تطاول عائشة وتفاخرها في الحظوة عند رسول الله"، كما ذكرت عائشة في حديث الإفك(1).
وكانت تفاخر بأن الله _تعالى_ زوَّجها من الرسول"، فأنزل في ذلك قرآناً [فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً] (الأحزاب:37).
أما عائشة _رضي الله عنها_ فكانت البكر الوحيدة من أزواجه"، وكانت تُدِلُّ بذلك، وتشير إليه بذكاء وفطنة امتازت بها، تقول: =يا رسول الله أرأيت لو نزلت وادياً وفيه شجرة قد أُكِل منها، ووجدت شجراً لم يؤكل منها في أيِّها تُرتِع بعيرك؟ قال: =في التي لم يُرتع منها+ تعني أن رسول الله"لم يتزوج بكراً غيرها.(2)
وهذا الإدلال المقبول لا يخالف الحقيقة، ولا يجانب الصدق، فليس من ضرر في استجابة الرسول" وإرضائه لهذا الإدلال والاعتزاز، وإدخاله بذلك السرور على قلب زوجه.
6_ وكان رسول الله " يغضب إذا تجاوزت الغيرة حدها، واعتدت على حقوق الآخرين، فلم يكن زمام الموقف يَفْلُتُ من يده، بل كان يبيِّن الخطأ ويقوِّمه.
قالت عائشة _رضي الله عنها_: =ما غِرتُ على أحد من نساء النبي"ما غِرتُ على خديجة، وما رأيتُها، ولكن كان النبي"يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة، ثم يقطعها أعضاءً، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلتُ له: كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد+.(3)
وهكذا كان عظيم وفائه لزوجه خديجة أول من آمن به وآزره، وتَحَمَّل معه أعباء دعوته؛ فكان يذكرها دائماً، ويثني عليها أبداً، ويصل صديقاتها ومعارفها، ويفرح للقاء أقاربها ويكرمهم حتى غارت أم المؤمنين عائشة؛ لإكثاره من ذلك وإلا فهل يغار الحي من الميت ؟!
__________
(1) _ انظر صحيح البخاري (2518 و 3910) ومسلم (2770).
(2) _ انظر صحيح البخاري (4789).
(3) _ انظر صحيح البخاري (3818) ومسلم (2435).(1/53)
جاء في الصحيحين عن عائشة _رضي الله عنها_ قالت: استأذنت هالة بنت خويلد _أخت خديجة_ على رسول الله"فارتاع لذلك، فقال: =اللهم هالة+ قالت عائشة: فغرت.(1)
ولم يمنعه حبه لعائشة أن يصرِّح بفضل خديجة ومكانها في قلبه، ولو في ذلك الموقف الذي ظهرت فيه غيرتها، بل لم يكتم حبَّه لها، وقد مضى على وفاتها أكثر من خمس سنين؟ فقال لعائشة: =إني قد رُزقت حبَّها+(2).
فما أعظم وفاءه، وما أرحبَ قلبه، وما أصدقَ لسانه، وما أصرحَ وأفصحَ تعبيره!
إن محمداً الرسولَ البشرَ لا يجد غضاضة في أن يحب امرأته، وأن يصارحها بذلك معبراً عن عاطفةٍ خَيِّرة، ويكتم كثيرون سواه عواطفهم تجاه أزواجهم؛ لئلا تُخدش كبرياؤهم، أو يقل احترامهم فيما يحسبون وهم مخطؤون.(3)
روى البخاري عن عمرو بن العاص أنه قال لرسول الله": أي الناس أحبُّ إليك؟ قال: =عائشة+(4).
7_ وكان _عليه الصلاة والسلام_ يراعي صغر سن عائشة _رضي الله عنها_ وحبها للعب مع صديقاتها، قالت عائشة: =كنت ألعبُ بالبنات _أي اللُّعب_ عند النبي" وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله"إذا دخل يتقمَّعن منه _أي يختفين_ فَيُسَرِّبُهنَّ(5) إليَّ، فيلعبن معي+(6).
8_ وكانت عائشة _رضي الله عنها_ توصي المسلمين بمراعاة ذلك مع أزواجهم حديثاتِ السن تقول: =رأيت النبي"يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد حتى أكون أنا الذي أسأم؛ فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو+(7).
9_ ولم يجد الرسول"غضاضة في أن يسابق عائشة _رضي الله عنها_ مرتين في منأى عن الناس؛ لإدخال السرور على قلبها.
__________
(1) _ البخاري (3821) ومسلم (2437).
(2) _ انظر صحيح مسلم (2436).
(3) _ انظر السيرة النبوية الصحيحة 2/647.
(4) _ رواه البخاري (3462 و 4100) ومسلم (2384).
(5) _ يُسَرِّبُهن: أي يرسلهن سرباً سرباً، ويردهن إليها.
(6) _ رواه مسلم (2440).
(7) _ رواه البخاري (944 و 3337 و 4938) ومسلم (892).(1/54)
قالت عائشة _رضي الله عنها_: =خرجتُ مع النبي"في بعض أسفاره، وأنا جارية لم أحمل اللحم، ولم أبدن، فقال للناس: تقدَّموا، فتقدَّموا، ثم قال لي: =تعالي أسابقك+.
فسابقتُه فسبقتُهُ، فسكتَ عني حتى إذا حملت اللحم، وبدنت، ونسيت خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس: تقدموا فتقدموا، ثم قال: =تعالي حتى أسابقك+.
فسابقته فسبقني، فجعل يضحك وهو يقول: =هذه بتلك+(1).
10_ وكان يتلطف معها بالكلام، ويداعبها، قال لها مرة: =إني لأعلم إذا كنت عنّي راضية، وإذا كنت عليّ غَضبى+.
قالت: ومن أين تعرف ذلك؟
قال: =أما إذا كنتِ عني راضية فإنك تقولين: لا وربِّ محمد، وإذا كنت غضبى قلت: لا وربِّ إبراهيم+.
قالت: قلت: أجل والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك.(2)
فما أحسن هذه المعاشرة، وما ألطف رسول الله"، وما أحسن خلق عائشة _رضي الله عنها_ مع زوجها الرسول الكريم.(3)
لم تقف رحمته"عند حد الرحمة بالإنسان أياً كان، بل تعدت ذلك إلى الرحمة بالحيوان البهيم الذي لا يبين عن شكواه وآلامه؛ فجاء _عليه الصلاة والسلام_ بأحكام وآداب خاصة بالحيوان تتلاءم مع هداية الإسلام المؤسسة على الرحمة، المحفوفة بالحكمة؛ فالرحمة تبعث النفوس مبعث الرفق والإحسان.
والحكمة تقف بالرحمة عند حدودٍ لو تجاوزتها انقلبت إلى ضعف ورعونة.
وعلى هذا الطريق جاءت الأحكام والآداب الخاصة بالتصرف في الحيوان.
وفيما يلي طرف مما جاء به في أحكام الحيوان يُبَيَّن من خلالها مدى الحكمة والرحمة والرفق الذي جاء به سيد البشر _عليه الصلاة والسلام_.(4)
__________
(1) _ رواه أحمد (26320) وأبو داود (2578).
(2) _ رواه البخاري (4930 و 5728) ومسلم (2439).
(3) _ انظر زاد المعاد لابن القيم 1/151_152، وسيرة الرسول"مقتبسة من القرآن الكريم لمحمد عزة دروزة 1/68_96، ومحمد"المثل الكامل ص251_259، وفقه السيرة لمحمد منير غضبان ص643_676.
(4) _ انظر رسائل الإصلاح 1/139_147.(1/55)
1_ أن الإسلام أذن في أكل الطيب من الحيوان: ونبه بهذا الإذن على خطأ أولئك الذين يقبضون أيديهم عن تذكيته أو أكله بدعوى الرأفة أو الزهد.
وأباح استعماله في نحو الركوب، والحراثة، وحمل الأثقال.
وقد امتن القرآن الكريم بهذه الضروب من الاستمتاع المألوف بين العقلاء، فقال _تعالى_: [وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)] (النحل).
وقال _تعالى_: [وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ (80)] (النحل).
2_ أن الله _تعالى_ امتن في كتابه العزيز بما يتخذ من أصواف الأنعام وأوبارها وأشعارها وجلودها من الملابس والفرش والبيوت، وبما يتغذى به من ألبانها ولحومها، وبما هُيَّئت له من حمل الأثقال.
وهذه المنافع من أهم ما تنتظم به حياة الإنسان، ومن أعظم ما يكون به إكرام الحيوان ما دام على قيد الحياة.
قال _تعالى_: [وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ (8)] (النحل).
فذكر في هذه الآية أهمَّ ما خلقت له الخيل والبغال والحمير من المنافع وهو الركوب، وفي الركوب راحة البدن، وسرعة الانتقال من مكان إلى مكان، والراحةُ من متمات الصحةِ، وسرعةُ الانتقال حفظٌ للوقت من أن يذهب في غير جدوى.
امتن الله _تعالى_ بالأنعام والخيل وما عطف عليها، ونبه على ما فيها من جمال وزينة.(1/56)
وفي هذا ما يرشد إلى أن يكون الاستمتاع بها في رفق ورعاية؛ فإن إرهاقها، أو قلة القيام على ما تستمد منه حياتها _ يجعل نفعها ضئيلاً، ويذهب بما فيها من جمال وزينة.
3_ أنه كان للعرب قبل الإسلام عادات تحرمهم من الانتفاع ببعض أفراد الحيوان، وفيها قوة على أن ينتفعوا بها: ومن هذا القبيل الناقة المسماة بالسائبة، وهي الناقة التي يقول فيها الرجل: إذا قدمت من سفري، أو برئت من مرضي فهي سائبة، ويحرم ركوبَها ودَرَّها.
والوصيلة: وهي أن تلد الشاة ذكراً وأنثى، فيقولون: وصلت أخاها، فلا يُذبح من أجلها الذكر.
والجمل المسمى بالحامي: وهو الفحل الذي ينتج مِنْ صُلبه عشرة أبطن، فكانوا يقولون: قد حمى ظهره، ويمتنعون من ركوبه والحمل عليه.
والبحيرة: وهي الناقة التي تنتج خمسة أبطنٍ آخرُها ذكر؛ فإنهم كانوا يبحرون أذنها _أي يشقونها_ ثم يحرمون ركوبها ودرها.(1)
ثم جاء الإسلام فلم ير من الحكمة تعطيل الحيوان وهو صالح لأن ينتفع منه، فنهى عن هذا التعطيل الناشئ عن سفاهة الرأي، فقال _تعالى_: [مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103)] (المائدة).
4_ أنه كان للعرب عادات يسومون فيها الحيوان سوء العذاب: ومن هذه العادات ما يفعلونه لموت كريم القوم؛ إذ يعقلون ناقته أو بعيره عند القبر، ويتركونها في حفرة لا تطعم، ولا تسقى حتى تموت.
__________
(1) _ انظر التحرير والتنوير 7/72.(1/57)
ومن هذا الباب شقهم لآذان الأنعام كما مر في عادتهم في البحيرة، وهو ما أشار القرآن إلى قبحه، إذ جعله مما يأمر به الشيطان، فقال _تعالى_: [وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ] (النساء).
5_ أن الحيوان كان كسائر الأمتعة تحت يد مالكه يفعل فيه كيف يشاء، وإذا ناله رفق فمن ناحية عاطفة الإنسان على ما يملك؛ لتطول مدة انتفاعه به.
ولكن النبي"أرشد إلى أن الحيوان في نفسه حقيقٌ بالعطف، فغرس له في القلوب عطفاً عاماً، واستدعى له الرحمة حتى مِنْ قوم لا ينتفعون أو لا يرجون أن ينتفعوا به في حال، وجعل الرفق به من قبيل الحسنات التي تذهب السيئات، وتنال بها المثوبة عند الله _كما سيأتي بيانه بعد قليل_.
فقد أذن النبي"في قتل الحيوان المؤذي كالكلب العقور، والفأرة، وأمر بالإحسان في القتل، فقال": =إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة+(1).
وأذن في ذبح الحيوان للاستمتاع بالطيب من لحومه، فقال": =وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته+(2).
وقد يخطر في البال أنه متى أُذن في قتل الحيوان، أو ذبحه فللإنسان أن يتخذ لإزهاق روحه ما شاء من الطرق أو الوسائل؛ فَقَصد الشارع الحكيم إلى دفع هذا الخاطر، وإرشاد الناس إلى اتخاذ أحسن الطرق في القتل أو الذبح؛ فلا يجوز إحراق ما أُذِن في قتله أو التمثيل به، ويجب إرهاف آلة الذبح؛ حتى لا يلاقي الحيوان قبل إزهاق روحه آلاماً.
قال ابن رجب×في شرح الحديث الماضي: =والإحسان في قتل ما يجوز قتله من الناس والدواب _ إزهاقُ نفسِه في أسرع الوجوه وأسهلها من غير زيادة في التعذيب؛ فإنه إيلام لا حاجة إليه.
__________
(1) _ أخرجه مسلم (1955).
(2) _ مسلم (1955).(1/58)
وهذا النوع هو الذي ذكره النبي" في هذا الحديث، ولعله ذكره على سبيل المثال، أو لحاجته إلى بيان تلك الحال+.
إلى أن قال: =والقِتلة والذِّبحة بالكسر: أي الهيئة.
والمعنى: أحسنوا هيئة الذبح، وهيئة القتل.
وهذا يدل على وجوب الإسراع في إزهاق الأرواح التي يباح إزهاقها على أسهل الوجوه.
وقد حكى ابن حزم الإجماع على وجوب الإحسان في الذبيحة+.(1)
وقال ابن رجب: =فلهذا أمر النبي"بإحسان القتل، وأمر بأن تحدَّ الشفرة، وأن تراح الذبيحة، يشير إلى أن الذبح بالآلة الحادة يريح الذبيحة بتعجيل زهوق نفسها+.(2)
وجاء في مسند الإمام أحمد عن معاوية بن قرة عن أبيه أن رجلاً قال للنبي": يا رسول الله إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها.
فقال النبي": =والشاة إن رحمتها رحمك الله+.(3)
وقد ذكر أهل العلم آداباً اقتبسوها مما جاء به المصطفى"من أصول الرحمة والرفق بالحيوان، فقد روى عبدالرزاق في المصنف عن ابن سيرين أن عمر ابن الخطاب÷رأى رجلاً يسحب شاةً برجلها؛ ليذبحها، فقال له: =ويلك، قُدْها إلى الموت قوداً جميلاً+(4).
وقال الإمام أحمد: =تقاد إلى الذبح قوداً رفيقاً، وتوارى السكين عنها، ولا تظهر السكين إلا عند الذبح+.(5)
6_ أن الشريعة أباحت صيد الحيوان بنحو الجوارح والنبال والشباك؛ لينتفع منه الإنسان بما يحل الانتفاع به، ومنعت من أن ينصب الحيوان غرضاً؛ ليرمى بنحو النبال.
ومما جاء في ذلك من أحاديث عن رسول الله"قوله: =لا تتخذوا شيئاً فيه الروح غرضاً+.(6)
__________
(1) _ جامع العلوم والحكم 1/382.
(2) _ جامع العلوم والحكم 1/391.
(3) _ المسند 5/34.
(4) _ المصنف (8605).
(5) _ جامع العلوم والحكم 1/392.
(6) _ أخرجه مسلم (1957).(1/59)
وفي الصحيحين عن ابن عمر: =أنه مرَّ بفتيان من قريش قد نصبوا طيراً وهم يرمونه، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله"لعن من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً+(1).
7_ أنه قد وردت أحاديث عن النبي"في فضل سقي الحيوان وإطعامه، وعدِّهما من عمل الخير الذي تنال به الزلفى عند الله، قال": =ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة+(2).
وفي الصحيحين أن رسول الله"قال: =بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً، فنزل فيها، فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب، فشكره الله؛ فغفر له+.
قالوا: يا رسول الله: وإن لنا في البهائم أجراً ! فقال: =في كل ذات كبد رطبة أجر+(3).
وانظر إلى قولهم: =وإن لنا في البهائم أجراً+ تراهم كيف كانوا يستهينون بأمر الحيوان، ولا يعتقدون أن الإحسان إليه يبلغ مبلغ الإحسان إلى الإنسان؛ فيستحقون عليه أجراً، وكيف يكون حال حيوان وقع تحت يدِ مَنْ لا يعتقد أنه سينال بالإحسان إليه ثواباً، ويلقى من أجل القسوة عليه عذاباً؟!
وفي الصحيحين عن عبدالله بن عمر أن رسول الله"قال: =عذبت امرأة في هرة لم تطعمها، ولم تسقها، ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض+(4).
والوعيد بعقوبة النار على الأمر يدل على أنه من المحظور حظراً لا هوادة فيه، ومن ذا يخطر على باله قبل هذا أن يكون لحيوانٍ كالهرة حرمةٌ تبلغ في الخطر أن يعاقبَ مَنْ ينتهكها بعذاب النار؟
__________
(1) _ البخاري (5515) ومسلم (1958).
(2) _ أخرجه البخاري (2320) ومسلم (1553).
(3) _ البخاري (2466) ومسلم (2244).
(4) _ البخاري (2365 و 3318 و 3483) ومسلم (2242).(1/60)
وقرر الفقهاء وجوب القيام على سقي الدابة وإطعامها بأن يعلفها أو يرعاها بنفسه، أو يكل لغيره رعيها ولو بأجر، ولم يختلفوا في وجوب ذلك عليه، وصرح طائفة منهم بأنه يجبر عليه قضاءً، فإن لم يفعل بيعت الدابة، ولا تترك تحت يده تقاسي عذاب الجوع.
ومما جاء في السنة النبوية من هذا القبيل ما جاء في حديث رسول الله"أنه مر ببعير قد لحق ظهره ببطنه فقال: =اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة وكلوها صالحة+(1).
8_ ومن الرفق بالحيوان تجنب أذيته في بدنه: بنحو الضربِ الأليمِ، والإشعارُ الوارد في بدن الهدي ليس إلا جرحاً في سنام البعير بنحو المبضع؛ ليكون علامة أنها هَدْيٌ، وأما طعن البدنة بنحو السنان حتى يتجاوز الجلد إلى اللحم فإنما يرتكبه الجهال، ولا يختلف العلماء في تحريمه.
9_ ومن الرفق بالدابة أن لا يتابع السير عليها متابعة ترهقها تعباً: قال": =إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض+(2).
وفي رواية: =ولا تعدوا المنازل+.(3)
10_ وورد في الصحيح أن رسول الله"قال: =لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت+(4).
فذهب بعض أهل العلم في فهم الحديث مذهب الرحمة بالحيوان، وقال: إنما أمر بقطع القلائد من أعناق الإبل؛ مخافة اختناق الدابة بها عند شدة الركض، ولأنها تُضَيِّق عليها نفسَها ورعيَها، وكراهة أن تتعلق بشجرة؛ فتخنقها أو تعوقها عن المضي في سيرها.
11_ ومن المحظور وقوف الراكب على الدابة وقوفاً يؤلمها: وقد ورد في النهي عن هذا الصنيع حديث: =إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر؛ فإن الله إنما سخرها لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس+(5).
__________
(1) _ أخرجه أبو داود (2548) وابن خزيمة في صحيحه (2545).
(2) _ أخرجه مسلم (1926).
(3) _ أخرجه أبو داود (2570) وأحمد في مسنده (15132).
(4) _ أخرجه البخاري (2843) ومسلم (2115).
(5) _ أخرجه أبو داود (2567).(1/61)
ومن الفنون التي يسلكها قساة القلوب في تعذيب الحيوان تهييج بعض الحيوان على بعض، كما يُفْعَل بين الكباش والديوك وغيرها، وهو اللهو الذي حرمته الشريعة؛ لما فيه من إيلام الحيوان وإتعابه في غير فائدة، وفي سنن أبي داود عن ابن عباس _رضي الله عنهما_ قال: =نهى رسول الله " عن التحريش بين البهائم+(1) والتحريش بينها إغراء بعضها على بعض.
وإن شئت أن تزيد يقيناً بما جاء به الإسلام من الرأفة بالحيوان فانظر إلى ما رواه أبو داود عن ابن مسعود قال: =كنا مع النبي"في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حُمَّرَةً(2) معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحُمَّرةُ فجعلت تَعْرِشُ(3) فلما جاء رسول الله" قال: =من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها+.
ورأى قرية نمل قد أحرقناها، فقال: من أحرق هذه؟ قلنا: نحن، قال: =إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار+(4).
هذه شذرات مما أوصى به الإسلام من الرفق بالحيوان، وإن شئت أن تعلم كيف كان أثرها في نفوس من يقتدون بآدابه في كل حال _ فإليك مثلاً من آداب عدي بن حاتم أحد أفاضل الصحابة _رضي الله عنهم_ هو أنه كان يفت الخبز للنمل، ويقول: إنهن جارات، ولهن حق.
ومن أدب الشيخ أبي إسحاقَ الشيرازي×: أنه كان يمشي في طريق يرافقه فيه بعض أصحابه، فعرض لهما كلب، فزجره رفيق الشيخ، فنهاه الشيخ، وقال له: أما علمت أن الطريق بيني وبينه مشترك؟!
فقد رأيت كيف حاربت الشريعة السمحة طبيعة القسوة على الحيوان، وقررت للتصرف فيه أحكاماً مبينة على قاعدة الرفق بكل ذي كبد رطبة.
__________
(1) _ أبو داود (2562).
(2) _ الحمرة: ضرب من الطير، وقيل: القُبُّرة.
(3) _ تعرش: أي ترتفع، وتظلل بجناحيها على من تحتها.
(4) _ أبو داود (2675).(1/62)
ومن خلال ذلك يتبين أن الإسلام قد وضع لجمعيات الرفق بالحيوان أساساً يقيمون عليه دعوتهم، وما من نفس أو جمعية تدعو إلى ناحية من الخير إلا وجدت في هذه الشريعة ما يؤيد دعوتها، ويهديها سبيل الرشد إذا تشابهت السبل عليها.
ومما تضطرم له القلوب أسفاً أن تؤسس جمعيات الرفق بالحيوان في بلاد أوربا منذ ما يزيد على مائة وثمانين سنة، ويرتفع صوت الدعوة إلى الرحمة بالحيوان أكثر مما يرتفع في بلاد الإسلام.
وقد ظن كثير من الأحداث والعامة الذين يقيسون الأديان بسِيَرِ المنتمين إليها أن الإسلام لم يوجه عنايته إلى واجب الشفقة على الحيوان، وأن أوربا هي صاحبة الفضل في الدعوة إلى هذه الشفقة؛ حيث أنشئت في إنجلترا جمعية الرفق بالحيوان الملكية سنة 1824م، وما علموا أن النبي"قد قرر تلك الحقوق على أحسن ما يمكن قبل 1400سنة.(1)
تضاف العظمة إلى الإنسان، فيرادفها التجبر والخيلاء، وهذا المعنى لا يحوم على نفس الرسول"يقيناً، ولا ينزل بساحته في حال.
وقد يراد من العظمةِ الجلالُ الذي هو أثُر سمو القدرِ، وبلوغ المنزلة الكبرى في خصال الشرف.
وهذا المعنى يتحقق في أكمل الخليقة؛ فقد كان جلاله يبهر العيون، ويذيب القلوب.
وقد يُقْصَدُ من العظمة عِظَمُ القدر، والتناهي في خصال السؤدد والكمال.
ورسول الله"أوسعُ الناس في هذه العظمة مجالاً، وأبعدهم فيها أمداً، وأرسخهم فيها قدماً.
فلا جناح على من ينفي عن رسول الله"العظمة قاصداً معنى التجبر والأُبَّهة، أما من ينفي عنه العظمة يقصد الجلال، ويقصد بلوغه في الكمال الأمد الأقصى _ فقد تنكَّب عن الحقيقة جانباً(2).
وإن من يبتغي عظمة رجل بحق فليبحث عنها في ناحية عقله، وعلمه، وخلقه، وإخلاصه، وعزمه، وعمله، وحسن بيانه.
__________
(1) _ انظر رسائل الإصلاح 1/147.
(2) _ انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص191.(1/63)
ولقد جمعت هذه الخصال للنبي"بحذافيرها، فقد كان راجح العقل، غزير العلم، عظيم الخُلُق، شديد الإخلاص، جليل العمل، صادق العزم، راجح البيان.
وهذا ما سيتبين في المباحث التالية.
أولاً: في رجاحة عقل النبي":
لا يمتري عاقل منصف أن النبي " أرجح البشرية عقلاً، وأذكاهم جناناً، وأنفذهم بصيرة، وأوسعهم حلماً.
ويتجلى رجحانُ عقلِه في مظاهر كثيرة، منها أنه نشأ بين قوم يعبدون الأصنام، ويتنافسون في مظاهر الأبهة والخيلاء، وينحطون في شهواتهم إلى المنزلة السفلى، فلم يكن لهذه البيئة المظلمة من أثر في نفس محمد " قليل أو كثير؛ فقد انتبذ من بين هذه الظلمات المتراكمة مكاناً يخلو فيه بنفسه، ويقدح فيه زناد فكره، ويناجي فيه ربه؛ فإذا نورُ النبوة يتلألأ بين جنبيه، وحكمة الله تتدفق بين شفتيه.(1)
ويتجلى رجحان عقله في كونه أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وكان مع هذه الأمية، والنشأة البعيدة من مواطن العلوم، ومجالس العلماء ينظر إلى الحقائق الغامضة؛ فيصيب كبدها, وينطق فإذا الحكمة كاشفة النقاب، والبلاغة آخذة بالألباب.
فكمال عقل المصطفى " من النوع الذي يخص الله _تعالى_ به بعض المصطفين من عباده؛ ليُعِدَّهم بذلك إلى أشرف مقام, هو مقام النبوة والرسالة.
وإذا كان ما ألقي على عاتق هذا الرسول العظيم هي الرسالة العامة الخالدة _ فمن المعقول أن يهب الله _تعالى_ له من فضل العقل، وسمو الحكمة ما يناسب عمومَ رسالته، وبقاءَها إلى قيام الساعة.
وإذا تحدث متحدث عن كمال عقل محمد"فلا يتحدث عن عقل يرجع سبب عظمته إلى بيئة أو دراسة, إنما يتحدث عن عقل أودعه _تعالى_ في أكمل خلقه؛ ليفهم به مقاصد الوحي؛ فيقوم ببيانها, ويدرك أمراض النفوس؛ فيصف أدواءها, ويتدبر أمور الجماعات؛ فيحسن سياستها.
__________
(1) _ انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص204_205.(1/64)
وإذا قرأتَ سيرته في تلك السنين المعدودة التي قضاها _عليه السلام_ في المدينة_ نظرت ماذا كان يقوم به من جلائل الأعمال, ويدعو إليه من وجوه الإصلاح, ويُبَيِّنه من حلال وحرام, ويؤم الناس في الصلوات, ويقود الجيوش في الغزوات, ويفتي السائلين في العبادات والمعاملات والجنايات, ويجلس إلى الأفراد والجماعات: يذكر الغافلين, ويرشد الضالين, ويجادل المعاندين, ويبشر المتقين, ويفصل بين المتخاصمين, وينظر في شؤون منزله, ويسوس آل بيته وخَدَمَه في رفق وعدل.
ولا شك أن هذه الأعمال المختلفة النواحي _كما ترى_ لا يكفي في تدبيرها وإقامتها عقل من هذه العقول التي يحدثنا عنها التاريخ, ولو صدقت مبالغاته في إطرائها، وإعلاء شأنها.
قال القاضي عياض في كتاب (الشفا): =وأما وفور عقله، وذكاء لُبِّه، وقوة حواسه، وفصاحة لسانه، فلا مرية أنه " كان أعقل الناس، وأذكاهم.
ومن تأمل تدبيره أمرَ بواطنِ الخلق وظواهرهم، وسياسة العامة والخاصة مع عجيب شمائله، وبديع سيره, فضلاً عما أفاضه من العلم, وقرره من الشرع, دون تعلم سبق, ولا ممارسة تقدمت ولا مطالعة لكتب منه _ لم يَمْتَرِ في رجحان عقله، وثقوب فهمه لأول بديهته.
وهذا ما لا يحتاج إلى تقريره لتحقيقه.
وقد قال وهب بن منبه: قرأت في أحد وسبعين كتاباً فوجدت في جميعها أن النبي"أرجح الناس عقلاً، وأفضلهم رأياً+.(1)
وقال الماوردي×متحدثاً معدداً بعض صفات النبي":
=إحداهن: رجاحة عقله، وصحة وهمه، وصدق فراسته.
وقد دل على وُفور ذلك فيه صحة رأيه، وصواب تدبيره، وحسن تألُّفِه، وأنه ما استفعل(2) في مكيدة، ولا استعجز في شديدة، بل كان يلحظ المباديَ فيكشف عيوبَها، ويحل خطوبها.
وهذا لا ينتظم إلا بأصدق وهم، وأوضح جزم+.(3)
__________
(1) _ الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض 1/91_92.
(2) _ هكذا في الأصل، ولعل الصواب ما اسَتُغْفِل.
(3) _ أعلام النبوة للماوردي ص256.(1/65)
فظهور هذا العقل الكبير في أمي لا يقرأ ولا يكتب من أظهر الدلائل على أن هذا الأمي صادق في دعوى أنه رسول رب العالمين؛ فإذا تكلم أحد في كمال عقل المصطفى " فإنما يصف آيةً تبعث في قلب الجاحد إيماناً, وتزيد قلب المؤمن اطمئناناً.
ولعلك تذكر قوله _تعالى_:[وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] (آل عمران:159) فيختلج في صدرك أن أمره باستشارة أصحابه يقتضي أن آراءهم قد تكون أصوب من رأيه.
والجواب أنه كان " يستشير أصحابه في أمر الحروب ونحوها؛ ليقيم قاعدة الشورى بين الناس, وبالشورى تسعد الأمة، ويرتفع شأن الدولة.
قال الحسن×: =قد علم الله أنه ما به إليهم من حاجة، ولكن أراد أن يستنَّ به من بعده+.
وفي استشارته " لأصحابه تَطْيِيبٌ لنفوسهم، وزيادةُ تأليفٍ لقلوبهم؛ إذ كان العرب من أشد الناس كراهة للاستبداد, ونفوراً من الرئيس الذي لا يجعل لهم في تصريف الأمور العامة نصيباً من الرأي.
وفي استشارته " أصحابَه إشعارٌ لهم بعلو مكانتهم عنده؛ إذ يدلّهم على أنه يراهم مَطْلع الآراء السديدة، ومواطن الإخلاصِ, والإخلاصُ رأس كل فضيلة, وأي منزلة أرفع من منزلة قوم يعرض عليهم " الأمر يستطلع آراءهم فيه, وهو الغني عنهم بما يأتيه من وحي السماء, وبما رزقه الله _تعالى_ من سمو الفكر، وصفاء البصيرة.
ولعلك تذكر أن طائفة من المشركين بلغت بهم الرَّقاعة أنْ وصفوا صاحب هذا العقل العظيم بالجنون, كما حكى الله عنهم ذلك في قوله _تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ] (الحجر:6).
ويقدح في خاطرك أن عقلاً تهبط منه الحكم البالغة, وتسطع منه الحجج الدامغة لا يَصِفُ صاحبَه بالمجنون إلا مَنْ فقد عقله, وصار يرمي بالألفاظ في غير معنى, فتقول: كيف يحكي القرآن كلام من فقدوا عقولهم, وأطلقوا في الهذيان ألسنتهم؟(1/66)
والجواب: أن القوم يعلمون أنه ينطق بالحكمة, ويجادل بالحجة, وإنما رموه بالجنون؛ تناهياً في العناد, وقصداً للإساءة بالقول, وحكى الله عنهم ذلك الزعمَ البينَ البطلان؛ ليرينا مبلغَهم من العناد، وسقوطهم أمام الحجة، وتخبطهم في تَطَلُّبِ وَجْهٍ يصرفون به الناس عن إجابة دعوته.
وأيُّ تخبطٍ بَعْدَ تخبطِ من يأتي إلى أرجح البشر عقلاً, وأسناهم خلقاً, وأحسنهم سمتاً, وأجلّهم وقاراً _ فيقول عنه: إنه مجنون؟!
وقد انحدرت من سماء ذلك العقل العظيم حِكَمٌ أنفسُ من الدرر, وأنفع من الغيث.(1)
ثانياً: غزارة علم النبي":
كيف لا يكون النبي"أغزر الناس علماً وقد خاطبه ربه بقوله: [وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)] (النساء).
فلم يتولَّ تعليمه معلم أو مربٍّ، وإنما علمه ورباه وزكاه ربه _عز وجل_.
ذلك العِلْمُ الذي يزكي النفوس، وينقِّي الأبصار، ويرفع الأمم إلى ذروة العز والشرف، حتى تحرز الحياة الطيبة في الأولى، والسعادة الباقية في الأخرى.
ومَنْ يتدبر القرآنَ والأحاديث الثابتة حتى يتفقه فيما انطويا عليه من حقائق وحكم وآداب _ يلف رأسه حياءاً من أن ينفي عن المصطفى " عظمة العلم تحت اسم الفلسفة متكئاً على أنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب.
وقد خرج من بين يدي محمد " رجال عظماء، ولم يتلقوا من العلم غير ما كانوا يتلقونه في مجلسه من حكمته، فكانوا منبعَ علمٍ وأدب، وأدركوا في حصافة الرأي وقوةِ الحجةِ الأمدَ الأقصى.(2)
__________
(1) _ انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص118_123، ومحمد"المثل الكامل ص18_20.
(2) _انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص205.(1/67)
قال الماوردي × متحدثاً عن علمه ": =ما أوتي من الحكمة البالغة، وأعطي من العلوم الجمة الباهرة، وهو أميٌّ من أمة أمية لم يقرأ كتاباً، ولا درس علماً، ولا صحب عالماً ولا معلماً؛ فأتى بما بهر العقول، وأذهل الفِطَن، مع إتقان ما أبان، وإحكام ما أظهر؛ فلم يُعْثَر فيه بزلل في قول أو عمل+.(1)
وقد كان العالم قبل البعثة يتخبط في ظلمات بعضها فوق بعض: ظلمة من الجهل، وظلمة من دناسة الأخلاق، وظلمة من منكر الأعمال، فبعث الله المصطفى " ليخرج الناس من هذه الظلمات إلى نور يسعى بين أيديهم في الحياة الأولى، ويهديهم السبيل إلى السعادة في الحياة الأخرى.
طلع محمد _صلوات الله عليه_ بكتاب مُمَتَّع بالحكمة، مُقَوِّم للأخلاق، مصلح للأعمال، منظم لشؤون الحياة، تدبرته فئة قليلة، واتخذته قائدها المطاع؛ فكانت خير أمة جاهدت في الله فانتصرت، وغَلبت فرحمت، وحكمت فعدلت، وساست، فأطلقت الحرية من عقالها، وفجرت المعارف ينابيع بعد نضوبها، واسألوا التاريخ؛ فإنها قد استودعته من مآثرها الغرّ ما بصر بضوئه الأعمى، وازدهر في الأرض ازدهار الكواكب في كبد السماء.
هذه حقائق لم يُنحَ فيها نحو المبالغة؛ فإن المصطفى _صلوات الله عليه_ قد قضى على عبادة الأوثان، والغلو في الخضوع لغير الواحد القهار، وقضى على الإلحاد وإنكار الإله، فأصبح المؤمنون أمماً بعد أن كانوا أفراداً.
ولا يخفى أن الغلوَّ في تعظيم غير الله رجس من عمل الشيطان، وأن الإلحاد داعية الفسوق والطغيان؛ فلدعوة محمد" الفضل الأكبر في رفع النفوس من حضيض الشرك إلى سماء التوحيد الخالص، ولها الفضل في تطهير النفوس من خبث الإلحاد الذي يشوه فطرتها، ويوفر أسباب شقوتها.
جاهد المصطفى"الجهلَ، وشرُّ الجهلِ عدم معرفة مبدع الكائنات بحق، والتوجهُ إلى غيره في سائر القربات.
__________
(1) _ أعلام النبوة ص263.(1/68)
وجاهد الأخلاق الرذيلة، فكرَّه للنفوس الجزعَ، والجبنَ، والبخلَ، والصغارَ، والكبارَ، والقسوةَ، والأثرةَ.
وعلمها الصبرَ، والشجاعةَ، والكرمَ، والعزّةَ، والتواضعَ، والرحمةَ، والإيثارَ.
علّمها الصبر؛ فهان عليها كل عسير، وعلمها الشجاعة؛ فحقر أمامها كل خطير، وعلمها الكرم؛ فجادت في سبيل الخير بكل نفيس، وعلمها العزة؛ فسمت إلى كل مقام مجيد، وعلمها التواضع؛ فتألفت كل قلب سليم، وعلمها الرحمةَ، والرحمةُ رباطُ التآزرِ والتعاونِ على تكاليف الحياة، وعلمها الإيثارَ، والإيثارُ أقصى ما يبلغه الإنسان من مراتب الكمال.
رفع المصطفى"أعلام العلم، وهدى إلى مكارم الأخلاق، ثم علّم الإنسان كيف يعمل صالحاً، ويعيش آمناً، وهو الذي أوحى إليه بأصولٍ تجعل المدنية محكمة البناء، وآدابٍ تكسوها رونقاً وبهاءاً.(1)
بل لقد تظافرت البراهين الحسية والعلمية والتجريبية على صدق ما جاء به الرسول"حتى في أشد المسائل بُعداً عن المحسوس، وأعظمها إنكاراً في العصور السابقة.
خذ على سبيل المثال قول النبي": =طهور إناءِ أحدكم إذا ولغ(2) فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أوْلاهن بالتراب+.(3)
ولقد جاء الطب باكتشافاته ومكبراته؛ فأثبت أن في لعاب الكلب ميكروباتٍ وأمراضاً فتَّاكة لا يزيلها الماء وحده، وأظهرت البحوث العلمية الحديثة أنه يحصل من إنقاء التراب لهذه النجاسة ما لا يحصل بغيره.
__________
(1) _ انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص108_109.
(2) _ الولوغ: الشرب بأطراف اللسان.
(3) _ أخرجه مسلم (279).(1/69)
وجاء _أيضاً_ أن شرب الكلب في الإناء يسبب أمراضاً خطيرة، فالكلب كثيراً ما تكون فيه ديدان مختلفة الأنواع، ومنها دودة شريطية صغيرة جداً، فإذا شرب في إناء، أو لمس إنسانٌ جسدَ الكلب بيده أو بلباسه انتقلت بويضات هذه الديدان إليه، ووصلت إلى معدته في أكله، أو شربه، فتثقب جدرانها، وتصل إلى أوعية الدم، وتصل إلى الأعضاء الرئيسة، فتصيب الكبد، وتصيب المخ، فينشأ عنه صداعٌ شديد، وقيءٌ متوالٍ، وفقدٌ للشعور، وتشنجاتٌ، وشلل في بعض الأعضاء، وتصيب القلب، فربما مزَّقته، فيموت الشخص في الحال.(1)
ثم إن العلوم الطبيعية تؤيد الإسلام، وتؤكد صحته على غير علم من ذويها.
مثال ذلك: تلقيح الأشجار الذي لم يُكتَشف إلا منذ عهد قريب، وقد نصَّ عليه القرآن الذي أُنزل على النبي الأمي منذ أربعة عشر قرناً في قوله _تعالى_: [وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ] (الحجر: 22) وكذلك قوله _تعالى_: [وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ] (ق: 7) وقوله: [وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ] (الذاريات: 49) وقوله: [سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا] (يس: 36).
فهذا كلام رب العالمين في القرآن قبل أن تبيِّن لنا العلوم الطبيعية أن في كل نبات ذكراً وأنثى.
ولقد اعتنق بعض الأوربيين الإسلام لما وجد وصف القرآن للبحر وصفاً شافياً مع كون النبي " لم يركب البحر طول عمره، وذلك مثل قوله _تعالى_: [أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا] (النور: 40).(2)
__________
(1) _ انظر توضيح الأحكام من بلوغ المرام للشيخ عبدالله البسام 1/134_137.
(2) _ انظر الطريق إلى الإسلام، للكاتب ص36_38.(1/70)
وهناك إشارات كثيرة في علم الطب سواء في القرآن أو السنة، قال _تعالى_: [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] (الأعراف: 31).
قال العلماء: إن هذه الآية جمعت الطبَّ كلَّه؛ ذلك أن الاعتدال في الأكل والشرب من أعظم أسباب حفظ الصحة.
ومن الإشارات لحفظ الصحة أن الإسلام حرَّم الخمر، ولا يخفى ما في الخمر من أضرار صحية كثيرة، فهي تضعف القلب، وتفري الكلى، وتمزق الكبد إلى غير ذلك من أضرارها المتنوعة.
ومن ذلك: أن الإسلام حرَّم الفواحش من زناً ولواط، ولا يخفى ما فيهما من الأضرار الكثيرة، ومنها الأضرار الصحية التي عُرِفَتْ أكثر ما عُرِفَتْ في هذا العصر من: زهري، وسيلان، وهربس، وإيدز ونحوها.
ومن حِفظ الإسلام للصحة أنه حرَّم لحم الخنزير، الذي عُرِفَ الآن أنه يولِّد في الجسم أدواءً كثيرة، ومن أخصِّها الدودة الوحيدة، والشعرة الحلزونية، وعَمَلُهما في الإنسان شديد، وكثيراً ما يكونان السبب في موته.
ومن الإشارات في هذا الصدد ما عُرف من أسرار الوضوء، وأنه يمنع من أمراض الأسنانِ والأنفِ، بل هو من أهم الموانع للسل الرئوي؛ إذ قال بعض الأطباء: إن أهم طريق لهذا المرض الفتاك هو الأنف، وإن أنوفاً تُغسَلُ في اليوم خمس عشرة مرة لجديرة بألا تبقى فيها جراثيمُ هذا الداءِ الوبيل، ولذا كان هذا المرض في المسلمين قليلاً؛ وفي الإفرنج كثيراً.
والسبب أن المسلمين يتوضؤون للصلاة خمس مرات في اليوم، وفي كل وضوء يغسل المسلم أنفه مرة أو مرتين أو ثلاثاً.(1)
ومن الأمثلة _أيضاً_ ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس ÷ أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت.
فسأل أصحابُ النبيِّ"النبيَّ"فأنزل الله _تعالى_: [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ] إلى آخر الآية.
__________
(1) _ انظر الطريق إلى الإسلام ص35_36.(1/71)
فقال رسول الله": =اصنعوا كل شيء إلا النكاح+(1).
قال ابن القيم×: =وجماع الحائض حرام طبعاً وشرعاً؛ فإنه مضر جداً، والأطباء قاطبة تحذر منه+(2).
وجاء في تفسير المراغي×: =وقد أثبت ذلك الطب الحديث؛ فقالوا: إن الوقاع في زمن الحيض يحدث الأضرار الآتية:
1_آلام أعضاء التناسل في الأنثى، وربما أحدث التهابات في الرحم، وفي المبيضين، أو في الحوض تضر صحتها ضرراً بليغاً، وربما أدى ذلك إلى تلف المبيضين، وأحدث العقم.
2_ أن دخول مواد الحيض في عضو التناسل عند الرجل قد تحدث التهاباً صديدياً يشبه السيلان، وربما امتد ذلك إلى الخصيتين فآذاهما، ونشأ عن ذلك عقم الرجل، وقد يصاب الرجل بالزهري إذا كانت جراثيمه في دم المرأة.
وعلى الجملة فقربانها في هذه المدة قد يحدث العقم في الذكر أو في الأنثى، ويؤدي إلى التهاب أعضاء التناسل، فتضعف صحتها، وكفى بهذا ضرراً.
ومن ثم أجمع الأطباء المحدثون في بقاع المعمورة على وجوب الابتعاد عن المرأة في هذه المدة كما نطق بذلك القرآن الكريم المنزل من لدن حكيم خبير+(3).
ثم إن ما جاء به _عليه الصلاة والسلام_ يتفق مع الحقائق العلمية، ولهذا لا يمكن أن تتعارض الحقائق العلمية الصحيحة مع النصوص الشرعية الصريحة.
وإذا ظهر في الواقع ما ظاهره المعارضة فإما أن يكون الواقع مجرد دعوى لا حقيقة لها، وإما أن يكون النص غير صريح في معارضته؛ لأن النص وحقائق العلم كلاهما قطعي، ولا يمكن تعارض القَطْعِيَّين.
__________
(1) _ رواه مسلم (302).
(2) _ زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم 4/234.
(3) _ تفسير المراغي 1/317_318.(1/72)
ولقد قرر هذه القاعدة كثير من علماء المسلمين، بل لقد قررها كثير من الكُتَّاب الغربيين المنصفين، ومنهم: الكاتب الفرنسي المشهور (موريس بوكاي) في كتابه (التوراة والإنجيل والقرآن والعلم) حيث بيَّن في هذا الكتاب أن التوراة المحرَّفة، والإنجيل المحرَّف الموجودين اليوم يتعارضان مع الحقائق العلمية، في الوقت الذي سجل فيه هذا الكاتب شهادات تفوق للقرآن الكريم سبق بها القرآنُ العلمَ الحديثَ.
وأثبت الكاتب من خلال ذلك أن القرآن لا يتعارض أبداً مع الحقائق العلمية، بل إنه يتفق معها تمام الاتفاق.(1)
فهذه نبذة يسيرة جداً تشهد بغزارة علم النبي".
نبينا محمد"هو خير البرية، وأزكى البشرية، وأعلاها رتبة، وأجلها قدراً، وأحسنها خلقاً، وأكرمها على الله _تبارك وتعالى_.
اختاره الله على علم، وأكرمه بالرسالة، وأيده بالوحي.
جبله على حميد الخلال، وفطره على كريم الخصال، ثم أدبه فأحسن تأديبه، فرباه فأحسن تربيته، فكان خلقه القرآن، كما قالت أم المؤمنين عائشة _رضي لله عنها_ عن خلقه " لما سئلت عنه.
__________
(1) _ انظر التوراة والإنجيل والقرآن والعلم لموريس بوكاي ترجمة الشيخ حسن خالد.(1/73)
وإنما أدبه القرآن بمثل قوله _تعالى_: [خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ] (الأعراف،199) وقوله _تعالى_: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ] (النحل، 90) وقوله: [وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] (لقمان، 17) وقوله: [فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] (المائدة،13) وقوله: [فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ] (الحجر،85) وقوله:[وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] (الشورى،43) وقوله: [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] (فصلت،34) وقوله [وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] (آل عمران،134) وقوله: [اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً] (الحجرات،12).
وأمثال هذه التأديبات في القرآن كثير لا يكاد يحصر.
وهو _عليه الصلاة والسلام_ هو المقصود الأول بالتأديب والتهذيب، ثم منه يشرق النور على كافة الخلق؛ فإنه أُدِّب بالقرآن، وأدَّب الخلق به، ثم لما أكمل الله له خلقه أثنى عليه فقال _تعالى_: [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيْمٍ] (القلم:4).
فسبحانه ما أعظم شأنه، وأتم امتنانه، انظر إلى عظيم فضله، وعميم لطفه؛ كيف أعطى ثم أثنى؟ !(1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =فأما الخلق العظيم الذي وصف الله به محمداً "فهو الدين الجامع لجميع ما أمر الله به مطلقاً، هكذا قال مجاهد، وغيره.
__________
(1) _ انظر إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي، 2/357ـ 358.(1/74)
وهو تأويل القرآن، كما قالت عائشة _رضي الله عنها_: =كان خلقه القرآن+(1).
وحقيقته المبادرة إلى امتثال ما يحبه الله _تعالى_ بطيب نفس، وانشراح صدر+(2).
وقال ابن القيم×في تفسير الآية السابقة: =قال ابن عباس ومجاهد: لعلى دين عظيم، لا دين أحبَّ إليَّ، ولا أرضى عندي منه، وهو دين الإسلام.
وقال الحسن: هو آداب القرآن.
وقال قتادة: هو ما كان يأمر به من أمر الله، وينهى عنه من نهي الله.
والمعنى أنك على الخلق الذي آثرك الله به في القرآن+(3).
وقال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور×: =والخلق العظيم: هو الخلق الأكرم في نوع الأخلاق, وهو البالغ أشد الكمال المحمود في طبع الإنسان؛ لاجتماع مكارم الأخلاق في النبي"فهو حُسْنُ معامَلَتِهِ الناسَ على اختلاف الأحوال المقتضية لحسن المعاملة؛ فالخلق العظيم أرفع من مطلق الخلق الحسن+(4).
وقال: =اعلم أن جماع الخلق العظيم الذي هو أعلى الخلق الحسن هو التدين، ومعرفة الحقائق، وحلم النفس، والعدل، والصبر على المتاعب، والاعتراف للمحسن، والتواضع، والزهد، والعفة، والعفو، والجود، والحياء، والشجاعة، وحسن الصمت، والتؤدة، والوقار، والرحمة، وحسن المعاملة والمعاشرة.
والأخلاق كامنة في النفس, ومظاهرها تصرفات صاحبها في كلامه، وطلاقة وجهه، وثباته، وحكمه، وحركته وسكونه، وطعامه وشرابه، وتأديب أهله ومَنْ لِنَظره، وما يترتب على ذلك من حرمته عند الناس, وحسن الثناء عليه والسمعة.
وأما مظاهرها في رسول الله"ففي ذلك كله, وفي سياسته أُمَّتَهُ، وفيما خُصَّ به من فصاحة كلامه، وجوامع كلمه+(5).
__________
(1) _ رواه مسلم (746) من حديث هشام بن حكيم أنه سأل عائشة _رضي الله عنها_ عن خلق رسول الله".
(2) _ مجموع الفتاوى لابن تيمية 10/658.
(3) _ مدارج السالكين في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن القيم 2/289.
(4) _ تفسير التحرير والتنوير 29/64.
(5) _ تفسير التحرير والتنوير 29/65.(1/75)
قال أحمد شوقي في همزيَّته النبوية(1):
يا من له الأخلاق ما تهوى العلا ... منها وما يتعشَّقُ الكبراء
لو لم تُقمْ ديناً لقامت وحدها ... ديناً تضيء بنوره الآناء
زانتك في الخلق العظيم شمائلٌ ... يُغرى بهن ويُولع الكرماءُ
وإذا عفوت فقادراً ومقدراً ... لا يستهين بعفوك الجهلاءُ
وإذا رحمت فأنت أم أو أب ... هذان في الدنيا هما الرحماء
وإذا غضبت فإنما هي غضبة ... في الحق لا ضغن ولا بغضاء
وإذا رضيت فذاك في مرضاته ... ورضى الكثيرِ تحلُّمٌ ورياء
وإذا خطبت فللمنابر هِزةٌ ... تعرو النديَّ وللقلوب بكاء
وإذا قضيت فلا ارتياب كأنما ... جاء الخصومَ من السماء قضاءُ
وإذا حميتَ الماء لم يُورد ولو ... أن القياصرَ والملوك ظِماءُ
وإذا أجرت فأنت بيتُ الله لم ... يَدْخُلُ عليه المستجيرِ عداءُ
وإذا ملكت النفس قمت ببرها ... ولو آن ما ملكت يداك الشاء
وإذا بنيتَ فخيرُ زوجٍ عِشْرةً ... وإذا ابتنيت فدونك الآباء
وإذا صحبت رأى الوفاءَ مجسماً ... في بردك الأصحابُ والخلطاءُ
وإذا أخذت العهد أو أعطيته ... فجميعُ عهدك ذمةٌ ووفاء
وإذا مشيت إلى العدا فَغَضَنْفَرٌ ... وإذا جريت فإنك النكباء(2)
وتمدُّ حِلْمَك للسفيه مدارياً ... حتى يضيق بعرضكَ السفهاء
في كل نفس من سُطاك مهابةٌ ... ولكل نفسٍ في نداكَ رجاء
والرأي لم يُنضَ المُهندُ دونه ... كالسيف لم تضرب به الآراء
ولقد كتب العلماء _رحمهم الله_ في شمائل النبي " وأخلاقه، فتحدثوا عن حلمه، وعفوه، ورحمته، وشفقته، وحيائه، وشجاعته، وجوده، وكرمه، وصدقه، وبره، ووفائه، وأمانته، وإيثاره، وتواضعه، ولين جانبه، وكرم معشره، ونحو ذلك مما بلغ به الذروة في كل خلق كريم.
فمن تأسى به، وتخلق بخلقه كان في أعز جوار، وأمنع ذمار.
فبحسب متابعته تكون العزة، والكفاية، والنصرة كما أن بحسب متابعته تكون الهداية والفلاح والنجاة؛ فالله _سبحانه_ علق سعادة الدارين بمتابعته، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته.
__________
(1) _ الشوقيات 1/35_36.
(2) _ النكباء: ريح بين ريحين.(1/76)
فلأتباعه الهدى والأمن، والفلاح، والعزة، والكفاية، والنصرة، والولاية والتأييد، وطيب العيش في الدنيا والآخرة.
ولمخالفيه الذلة، والصغار، والخوف، والضلال، والخذلان، والشقاء في الدنيا والآخرة(1).
فبسط شمائله الحميدة، ونشر أخلاقه الكريمة _ من أمثل الطرق، وأقوم السبل لحسم الفساد، وكسر شوكة الباطل، بل إن ذلك مرقى العز، وسلم السعادة، وسبيل التأسي.
وفيما يلي من أسطر ذكر لبعض ما رقمته أقلام العلماء في أخلاق النبي " وذلك على سبيل الاختصار والاختزال، دون ذكر للأسانيد، أو إكثار من الإحالات؛ إذ المقام ليس مقام إطالة وإسهاب.
فمما قيل في أخلاقه _عليه الصلاة والسلام_ ما يلي:
كان "أحلم الناس، وأشجع الناس، وأعدل الناس، وأعف الناس.
وكان أسخى الناس، لا يبيت عنده دينار ولا درهم، وإن فضل شيء ولم يجد من يعطيه وفاجأه الليل لم يأو إلى منزله حتى يتبرأ منه إلى من يحتاج إليه.
وكان لا يأخذ مما آتاه الله إلا قُوْتَ عامه فقط، وكان ذلك أيسر ما يجد من التمر والشعير، ويرضى ذلك في سبيل الله، ولا يسأل شيئاً إلا أعطاه، ثم يعود إلى قوت عامه، فيؤثر منه حتى إنه ربما احتاج قبل انقضاء العام إن لم يأته شيء.
وكان يخصف النعل، ويرقع الثوب، ويخدم في مَهْنة أهله، ويقطع اللحم معهن، وكان أشد الناس حياءً، لا يثبت بصره في وجه أحد.
وكان يجيب دعوة العبد والحر، ويقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن، أو فخذ أرنب، ويكافئ عليها، ويأكلها، ولا يأكل الصدقة، ولا يستكبر عن إجابة دعوة الأَمَةِ والمسكين.
يغضب لربه، ولا يغضب لنفسه، وكان يعصب الحجر على بطنه من الجوع، ومرة يأكل ما حضر، ولا يرد ما وجد، ولا يتورع عن مطعم حلال، وإن وجد تمراً دون خبز أكله، وإن وجد شواءً أكله، وإن وجد خُبْزَ بُرٍّ أو شعيرٍ أكله، وإن وجد حلواً أو عسلاً أكله، وإن وجد لبناً دون خبز اكتفى به، وإن وجد بطيخاً أو رطباً أكله.
__________
(1) _ انظر زاد المعاد لابن القيم 1/37.(1/77)
وكان يعود المرضى، ويشهد الجنائز، ويمشي وحده بين أعدائه بلا حارس.
وكان أشد الناس تواضعاً، وأسكنهم من غير كبر، وأبلغهم من غير تطويل، وأحسنهم بشراً، لا يهوله شيء من أمور الدنيا.
يلبس ما وجد، فمرة شملة، ومرة بُرْدَ حِبَرةٍ يمانياً، ومرة جبةَ صوفٍ، فما وجد من المباح لبس.
يركب ما أمكنه، مرة فرساً، ومرة بعيراً، ومرة بغلة شهباء، ومرة حماراً، ومرة يمشي راجلاً حافياً.
يجالس الفقراء، ويؤاكل المساكين، ويكرم أهل الفضل في أخلاقهم، ويتألف أهل الشرف بالبر لهم، يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم.
لا يجفو على أحد، يقبل معذرة المعتذر إليه، يمزح ولا يقول إلا حقاً، يضحك من غير قهقهة، يسابق أهله، ترفع الأصوات عليه فيصبر.
وكان لا يمضي له وقت في غير عمل لله _تعالى_ أو فيما لا بد له منه في صلاح نفسه.
لا يحتقر مسكيناً لفقره وزمانته، ولا يهاب ملكاً لملكه، يدعو هذا وهذا إلى الله دعاءً مستوياً، قد جمع الله _تعالى_ له السيرة الفاضلة، والسياسة التامة وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب.
نشأ في بلاد الجهل والصحاري في فقره، وفي رعاية الغنم يتيماً لا أب له، فعلمه الله _تعالى_ جميع محاسن الأخلاق، والطرق الحميدة، وأخبار الأولين والآخرين، وما فيه النجاة والفوز في الآخرة، والغبطة والخلاص في الدنيا، ولزوم الفضل، وتركَ الفضول.
ما شتم أحداً من المؤمنين إلا جعل لها كفارة ورحمة، وما لعن امرأة قط، ولا خادماً بلعنة.
وما ضرب أحداً بيده قط، إلا أن يضرب بها في سبيل الله _ تعالى _ وما انتقم من شيء صنع إليه قط إلا أن تنتهك حرمة الله، وما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما إلا أن يكون فيه إثم أو قطيعة رحم، فيكون أبعد الناس من ذلك.
وما كان يأتيه أحد حر أو عبد أو أمة إلا قام معه في حاجته.
ولم يكن فظاً ولا غليظاً، ولا صخاباً في الأسواق، وما كان يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح.(1/78)
وكان من خلقه أن يبدأ من لقيه بالسلام، ومن قادمه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف.
وما أخذ أحدٌ بيده، فيرسل يده حتى يرسلها الآخر، وكان إذا لقي أحداً من أصحابه بدأه بالمصافحة، ثم أخذ بيده، فشابكه، ثم شد قبضته عليها.
وكان أكثر جلوسه ينصب ساقيه جميعاً، ويمسك بيده عليهما شبه الحبْوة، ولم يكن يعرف مجلسه من مجلس أصحابه؛ لأنه كان يجلس حيث انتهى به المجلس، وما رؤي قط ماداً رجليه بين أصحابه؛ حتى لا يضيق بها على أحد إلا أن يكون المكان واسعاً لا ضيق فيه.
وكان يكرم من يدخل عليه حتى ربما بسط ثوبه لمن ليس بينه وبينه قرابة ولا رضاع يجلسه عليه.
وكان يؤثر الداخل عليه بالوسادة التي تحته، فإن أبى أن يقبلها عزم عليه حتى يفعل.
وما استصفاه أحد إلا ظن أنه أكرم الناس عليه، وكان يعطي كلَّ مَنْ جلس إليه نصيبه من وجهه، وسمعه، وحديثه، ولطيف محاسنه وتوجهه.
ومجلسه مع ذلك مجلس حياء وتواضع وأمانة.
ولقد كان يدعو أصحابه بكناهم؛ إكراماً لهم، واستمالة لقلوبهم، وكان يُكَنِّي من لم تكن له كنية، فكان يدعى بما كَنَّاه به، ويكني _أيضاً_ النساء اللاتي لهن أولاد، واللاتي لم يلدن يبتدئ لهن الكنى، ويكني الصبيان، فيستلين به قلوبهم.
وكان أبعد الناس غضباً، وأسرعهم رضاً، وكان أرأف الناس بالناس، وخير الناس للناس، وكان لا يشافه أحداً بما يكرهه.
هذه بعض أخلاقه وشمائله، رزقنا الله حسن اتباعه، والاتساء به، والاهتداء بهديه.(1)
أولاً: إخلاص النبي"لربه:
__________
(1) _ انظر الشمائل المحمدية للترمذي ص 186_ 280، 262_ 283 تحقيق محمد عفيف الزعبي، وانظر الأنوار في شمائل النبي المختار للبغوي تحقيق الشيخ إبراهيم اليعقوبي 1/161_ 358، وأخلاق النبي " لأبي الشيخ الأصبهاني تحقيق عصام الدين الصبابطي ص13_ 98، ودلائل النبوة لأبي نعيم ص 551_ 656، وإحياء علوم الدين 2/357_ 387، وشمائل الرسول ودلائل نبوته وفضائله وخصائصه لابن كثير 1/73_ 152.(1/79)
كان _عليه الصلاة والسلام_ أشد الناس إخلاصاً لربه _جل وعلا_ وكيف لا يكون كذلك، وهو الذي أوحى إليه ربه [لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ (65)] (الزمر).
وأوحى إليه [بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ (66)] (الزمر).
وأوحى إليه [وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] (البينة:5).
كيف لا يكون كذلك وهو القائل: =إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى+(1).
كيف لا يكون كذلك وهو الذي يروي عن ربه قوله _عز وجل_: =أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ فمن عمل عملاً فأشرك فيه غيري فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك+(2).
ولو أراد أحدٌ تقصي مظاهر إخلاصه لطال به المقام، والمجال لا يتسع لذلك، وفيما يلي ذكر لشيء من تلك المظاهر التي يتجلى بها إخلاصه الذي هو روح العظمة، فمن ذلك ما يلي:
1_ صفاء سريرته: فقد كان صافي السريرة لا يبغي إلا هدياً، ولا ينوي إلا إصلاحاً؛ فلم يكن يريد العلوَّ في الأرض، ولا صرف وجوه الناس إليه.
2_ سلامته من الأغراض الشخصية، وترفعه عن المطامع الدنيوية: فما كان _صلوات الله وسلامه عليه_ خاملاً؛ فيطلب بهذه الدعوة نباهة شأن ووجاهة؛ فإن في شرف أسرته، وبلاغة منطقه، وكرم خلقه ما يكفيه لأن يحرز في قومه الزعامة لو شاء.
وما كان مقلاً حريصاً على بسطة العيش؛ فيبغي بهذه الدعوة ثراءاً؛ فإن عيشه يوم كان الذهب يصب في مسجده ركاماً لا يختلف عن عيشه يوم كان يلاقي في سبيل الدعوة أذى كثيراً، وعيشَه يومَ كان يتعبد في غار حراء كعيشه يوم أظلت رايتُه البلادَ العربية، وأطلت على ممالك قيصر من ناحية تبوك.(3)
__________
(1) _ أخرجه البخاري (1).
(2) _ أخرجه مسلم (2985).
(3) _ انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص205.(1/80)
3_ قوة إقباله على الله _عز وجل_: فقد كان مملوء القلب بخشية الله _جل وعلا_ موصول الهمة بعبادته؛ فكان _عليه الصلاة والسلام_ يقوم بالدعوة، ويضيف إلى هذا العمل العظيم التقرب إلى الله _تعالى_ بالذكر، والصلاة، والصيام، وتلاوة القرآن.
وكان يتهجد بالليل على وفق قوله _تعالى_: [وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً (79)] (الإسراء).
جاء في الصحيحين عن المغيرة بن شعبة ÷ أنه قال: =إن كان النبي"ليقوم ليصلي حتى ترم(1) قدماه فيقال له، فيقول: =أفلا أكون عبداً شكوراً+.(2)
وكان يخص رمضان من العبادة بما لا يخص غيره من الشهور؛ فيكثر فيه من تلاوة القرآن، والصلاة والذكر، والاعتكاف.
وما كان يخرج عنه شهر حتى يصوم منه، وربما صام أياماً متتابعة؛ حتى يقال: لايفطر.
وكان يواصل(3) الصوم في رمضان؛ ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة.
وكان ينهى أصحابه عن الوصال فيقولون له: إنك تواصل، فيقول: =لست كهيئتكم: إني أبيت عند ربي فيطعمني ويسقيني+.(4)
والمراد من إطعام الله وسقيه ما يغذيه به من المعارف، وما يفيضه على قلبه من لذة المناجاة، وما يمده به من القوة والألطاف.
وكان روح عبادته الإخلاص؛ فهو يصلي في حجرته نافلة كما يصلي في المسجد، ويذكر الله خالياً كما يذكره في جماعة، ويعمل له في السر كما يعمل له في العلانية.(5)
وقد سئلت أم المؤمنين عائشة _رضي الله عنها_ عن عمل رسول الله" فقالت: =كان عمله ديمة، وأيكم يطيق ما كان رسول الله"يطيق؟+(6)
__________
(1) _ تنتفخ.
(2) _ أخرجه البخاري (1078 و 4556 و 6106) ومسلم (2820).
(3) _ يَصِل الليل بالنهار في الصوم يومين أو أياماً.
(4) _ أخرجه البخاري (1822 و 1862 و 1866) ومسلم (1102 و 1105).
(5) _ انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص64_65.
(6) _ أخرجه البخاري (1886).(1/81)
ولو لم يكن محمد _صلوات الله عليه_ مخلصاً في ما يفعل صادقاً فيما يبلغ لما استطاع أن يملأ الليل والنهار بعبادات يأخذ بها نفسه في الحضر والسفر، ويقوم بها في العلانية كما يقوم بها في حجرته وأهل الحجرة نائمون.(1)
4_ زهده في الدنيا: إذ لو كان للشهوات عليه من سبيل لذهبت به في ابتغاء العيش الناعم مذهب أولئك الذين يتظاهرون بالزهد إذا لم يجدوا؛ حتى إذا ما أيسروا، ورأوا زهرة الحياة الدنيا طوع أيمانهم خلعوا ثوب الزهد، وتحولوا إلى طبيعة الشَّرَهِ كثيراً أو قليلاً.
قال القاضي عياض×: =وأما زهده في الدنيا فقد تقدم من الأخبار في هذه السيرة ما يكفي.
وحسبك منه تقلله منها، وإعراضه عن زهرتها، وقد سيقت إليه بحذافيرها، وترادفت عليه فتوحها إلى أن توفي ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله+.(2)
أما تعدد زوجاته _عليه الصلاة والسلام_ فلا ينافي زهده؛ فقد كان لمصالح جليلة، ومقاصد نبيلة.(3)(4)
__________
(1) _ انظر شمائل الرسول 1/135_138، ومحمد رسول الله وخاتم النبيين ص70.
(2) _ الشفا 1/179_180.
(3) _ انظر الشفا 1/184_188، وشمائل الرسول 1/109_134، ومحمد رسول الله وخاتم النبيين ص64_65 و 96.
(4) _ يقول الشيخ محمد بهجة البيطار×مبيناً شيئاً من تلك الحكم: =لو رجعنا إلى التاريخ الصحيح في أزواج النبي " أمهات المؤمنين، لعلمنا أنَّ التعددَ، أو الجمع بين التسع لم يكن إلا بعد هجرته " إلى المدينة في السنوات العشر الأخيرة من عمره ".
= أما في مكة فقد عاش فيها قبل الهجرة ثلاثة وخمسين عاماً، لم يجمع في أثنائها بين زوجتين قط، والسيدة خديجة التي كانت أولى أزواجه وأم أولاده _عدا إبراهيم؛ فإنه من مارية القبطية_ قد تزوج بها وهي امرأة في الأربعين من عمرها، وهو في الخامسة والعشرين من حياته الشريفة، في نضارة الصبا، وريعان الفتوة، وجمال الطلعة، وكمال الرجولة، وعاشت معه 25 عاماً، ثم توفيت وهي عجوز في الخامسة والستين من عمرها.
قضى حياة الشباب، وسنَّ الحاجة إلى النساء مع خديجة، المرأة الثيِّب التي تزيد عنه في السن خمسة عشر عاماً، ولم يتزوج عليها، ولا أحب بعدها أحداً أكثر من حبه لها، وكان طول حياته يذكرها، ويكرم صديقاتها ومعارفها، ولما قالت له عائشة: =هل كانت إلا عجوزاً أبدلك الله خيراً منها _تعني نفسها_ وكانت تُدِلّ بحداثة سنها وجمالها، وكونها بنت صديقه الأول، وصديقه الأكبر أبي بكر ÷ _ قالت: فغضب، وقال: =والله ما أبدلني خيراً منها، آمَنَتْ بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء+.
من هذا الشاهد تعلم أن عفَّتَه " لا نظير لها، ولو شاء لتزوج بحسان الأبكار، أو لو شاء لتزوج على خديجة كما كان يفعل غيره، لاسيما أن تعدد النساء كان في الجاهلية شائعاً جداً، وليس له حدٌ معين، ولكنه عفَّ ضميرُه، ولم يمدَّ عينه إلى زهرة الحياة، وزينتها.
أما باقي أزواجه " فخمس من قريش، وهنَّ عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أمية، وأما الأربع الباقيات فهن صفية بنت حيي الخيبرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، وليس فيهن كلِّهن بِكْرٌ إلا عائشة.
والحكمة في تزوجه " بعد هجرته إلى المدينة ببضع نسوة في بضع سنين هو العناية بإصلاح البيوت، وتهذيب النفوس، ونشر الفضيلة، وأن تكون أزواجه قدوة حسنة لجميع النساء في تلقي العلم، والحكمة، والرحمة، والتقوى والعبادة، والتربية والتعليم+.
ثم شرع×في بيان عدد من الحكم، وختم كلامه بقوله: =فأنت ترى أن النبي" قد قُصِر على أزواجه الطاهرات، وحُرِّم عليه أن يمد عينيه إلى غيرهن بالزيادة أو التبدل، بخلاف رجال أمته الذين =أبيح لهم التعدد بشروطه، وكذا التطليق، وأن يستبدلوا بأزواجهم غيرهن، إذاً فقد قُصِر النبي " على دائرة ضيقة من الأزواج، وكانت الأمَّة في دائرة أوسع منها.
أهذا الذي يسمونه تمتعاً بالنساء أو الأزواج؟
نساء كلهن ثيبات _عدا السيدة عائشة_ ومنهن من لها أولاد، تزوجهنَّ _صلوات الله عليه_ في سن الكهولة أو الشيخوخة، وحين الحاجة إلى التبليغ والتعليم، وربما كان التزوج بهن كلهن قبل نزول آية التحديد بأربع نسوة، فهي قد نزلت في السنة الثامنة للهجرة، وكان تزوجه بآخرهن ميمونة بنت الحارث الهلالية في أواخر سنة سبع منها، وحرم عليه تطليقهن؛ لأنهن قد اخترن ما عند الله على زهرة الحياة الدنيا وزينتها، على أنهن قد صرن أمهات المؤمنين، فما الفائدة من طلاقهن وهن حرام على الرجال؟ أوليست الحكمة في بقائهن عند هذا الزوج الكريم، والرسول العظيم متعلماتٍ، ومعلماتٍ، ومُثلاً عليا في البر والتقوى وسائر الصالحات؟ بلى ثم بلى.
انظر كتاب: محمد بهجة البيطار، إعداد الأستاذ علي الرضا الحسيني ص28_36، ومحمد"المثل الكامل ص251_259.(1/82)
ثانياً: صدق عزيمة النبي":
أما صدق عزيمته"فيتجلى من خلال كثير من المواقف التي مر بها _عليه الصلاة والسلام_ ومن ذلك _على سبيل المثال لا الحصر_ ما يلي:
1_ صدق عزيمته في احتماله للشدائد والخطوب: فإنه كان يتلقاها بقلب لا يخضع للنوائب، وعزم تزول الراسيات ولا يزول.
وأقربُ مَثلٍ يُساق على هذا الخلق الجليل واقعة أحد التي قضى الله بأن يبلو فيها المسلمين، ويميز بها المنافقين من المؤمنين، فقد لقي فيها رسول الله بأساً شديداً وكُسِرَتْ فيها رَباعِيَتُه، وجُرِحَتْ وجنتُه وشفته، ومُثِّل فيه أفظع تمثيل، ولكنه حذر _عليه الصلاة والسلام_ أن يظن المشركون به وبأصحابه وهناً، وتدور نشوة الانتصار في رؤوسهم، فيهموا بالعودة إلى المدينة، ويطمعوا في استئصال من فيها من المسلمين، فقصد إلى أن يريهم قوة وعزماً، فبعث في الغد من ينادي في الناس بطلب العدو، ويؤذنهم أن لا يخرج معه إلا من شهد الوقعة بالأمس، فانتدب منهم سبعين رجلاً، فخرج بهم يقفو أثر القوم حتى بلغ القوم مكاناً يقال له (حمراء الأسد) فألقى الله الرعب في قلوب المشركين، فانصرفوا إلى ديارهم، وانقلب رسول الله والذين معه إلى المدينة، وقد أَمِنوا ما كانوا يحذرون.(1)
2_ صدق عزيمته في احتمال الأذى: حيث يتجلى صبره _عليه الصلاة والسلام_ وقوة عزمه ساعة يعتدي عليه السفهاء من خصوم هدايته؛ فإنه كان"يقابل أذاهم بالتجلد والمضي في الدعوة كيف يشاء، ولَشَدَّ ما لقي من الأذى، فلم يحجم به يوماً عن أن يصدع بما أمر الله، ولم يحجم به يوماً عن أن يضرب بالدعوة في وجوه أولئك الجبابرة.(2)
__________
(1) _ انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص71.
(2) _ انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص71_72.(1/83)
3_ صدق عزيمته في مقابلة الإساءة بالإحسان: فكان _صلوات الله وسلامه عليه_ يقابل الإساءة بالرفق والأناة، جاء في صحيح الصحيحين أن رجلاً أتى النبي"يتقاضاه، فأغلظ له في القول، فهَّم به أصحابه، فقال: =دعوه، فإن لصاحب الحق مقالاً+.(1)
وجاء في الصحيحين أن رهطاً من اليهود دخلوا عليه وقالوا: =السام عليكم+ محرفين كلمة (السلام) إلى (السام) والسام الموت، فلم يزد رسول الله على أن قال: =وعليكم+.
ولما ردَّت عليهم أم المؤمنين عائشة بقولها: =وعليكم السام واللعنة+ قال لها: =مهلاً يا عائشة إن الله يحب الرفق بالأمر كله+.(2)
وجاء في صحيح البخاري أن عائشة _رضي الله عنها_ تصفُ رسول الله فتقول: =والله ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط؛ حتى تنتهك حرمات الله، فينتقم له+.(3)
وإذا تقصَّيتَ سيرته بحثاً وتنقيباً، وجدت مُصَدَّقه لما وصفته به أم المؤمنين من الرفق والحلم، فما عاقب _عليه الصلاة والسلام_ أحداً مسه بأذى، ولا اضطغن على أحد أغلظ له في القول، بل كان يلاقي الإساءة بالحسنى، والغلظة بالرفق إلا أن يتعدى الشر، فيلقي في سبيل الدعوة حجراً أو يحدث في نظام الأمة خللاً، فلمحمد"يومئذ شأنه الذي يقول فيه: =لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها+(4).(5)
__________
(1) _ البخاري (2183 و 2260 و 2271 و 2465 و 2467) ومسلم (1601).
(2) _ البخاري (5678 و 5683 و 5901 و 6038) ومسلم (2165).
(3) _ أخرجه البخاري (6404).
(4) _ أخرجه البخاري (3288 و 4053 و 6406) ومسلم (1688).
(5) _ انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص72، وموسوعة نضرة النعيم 6/2287_2299.(1/84)
4_ صدق عزيمته في الاعتدال حال السراء والضراء: فتراه كالعلم الشامخ حين تمسه الضراء؛ حيث تهب عليه عواصف البلاء، فلا تلقى إلا قلباً صابراً، وقدماً ثابتاً، ويكفي شاهداً على هذا ما كان يلاقيه في بعض غزواته من شدائد، فلا يكون من هذه الشدائد إلا أن تؤكد عزمه، وتشد أزره، وتزيد داعية توكله على الله قوة.
وكذلك ينبغي للمسلم أن يواجه البأساء في صبر ووقار، ويعمل على كشفها ما استطاع، ويضيف إلى هذا الدواء الناجع الاعتماد على من بيده ملكوت كل شيء؛ فقد قال _تعالى_: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] (الأحزاب:21).
هذا شأنه"في الخطوب، أما إذا أفاض الله عليه نعمة فإنها تنزل بأرض طيبة المنبت؛ فلا تثمر إلا شكراً، ومِنْ شُكْرِه للنعمة أن لا يتعاظم بها، أو يلبس في معاملة الناس حالاً غير ما كان يلبسه قبلها.
وقد كان حاله"في الزهد والتواضع بعد فتح مكة وغيرها من البلاد كحاله يوم كان يدعو إلى الله وحيداً وسفهاء الأحلام في مكة يسخرون منه ويضحكون.(1)
قال الماوردي×متحدثاً عن هذا المعنى في سيرة النبي": =والخصلة الثانية: ثباته في الشدائد وهو مطلوب، وصبره في البأساء وهو مكروب ومحروب، ونفسه في اختلاف الأحوال ساكنة، لا يجوز في شديدة، ولا يستكين لعظيمة أو كبيرة، ويقدر على الخلاص، وهو بالشر لا يزداد إلا اشتداداً وصبراً، وقد لقي بمكة ما يشيب النواصي(2) ويهد الصياصي(3) وهو _على الضعف_ يصابر صبر المستعلي، ويثبت ثبات المستولي+.(4)
__________
(1) _ انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص101_102.
(2) _ النواصي: شَعْرُ مُقَدَّمِ الرأس.
(3) _ الصياصي: الحصون.
(4) _ أعلام النبوة ص256.(1/85)
5_ شجاعته المتناهية: فالنبي"تنتهي إليه الشجاعة بأسرها، ومن مواقفه البطولية ما كان من أمر الهجرة وذلك لما اجتمعت عليه قريش ورمته عن قوس واحدة، وأجمعت على قتله، والقضاء على دعوته، فما كان منه إلا أن قابل تلك الخطوب بجأشٍ رابط، وجبين طَلْقٍ، وعزم لا يلتوي.
ولاحت نجومٌ للثريا كأنها ... جبين رسول الله إذ شاهد الزحفا
ولقد كان ذلك دَأْبَهُ _عليه الصلاة والسلام_ فلم تكن تأخذه رهبة من أشياع الباطل وإن كثر عددهم، بل كان يلاقيهم بالفئات القليلة، ويفوز عليهم فوزاً عظيماً، وكان يقابل الأعداء بوجهه، ولا يوليهم ظهره، وإن تزلزل جنده، وانصرفوا جميعاً من حوله.
وكان يتقدم في الحرب حتى يكون موقفه أقرب موقف من العدو، وإذا اتقدت جمرةُ الحرب، واشتدّ لهبُها أوى إليه الناس، واحتموا بظله الشريف؛ فلم يكن يتوارى من الموت، أو يُقَطِّب عند لقائه؛ كيف وهو يتيقن أن موتَه هو انتقال من حياة مخلوطة بالمتاعب والمكاره إلى حياة أصفى لذة، وأهنأ راحةً، وأبقى نعيماً؟(1)
6_ قيامه بصغار الأمور وكبارها: فتراه لا يحقر شيئاً من الأعمال التي ترضي الله، وتنفع الناس؛ ففي الوقت الذي يقوم فيه بجلائل الأعمال من تزكية الأمة، وتدبير شؤونها، ومن قيامه بعبادة ربه آناء الليل وأطراف النهار، ومن تبيينه الحلال والحرام، وإمامة الناس في الصلوات إلى غير ذلك من تذكير الغافلين، وإرشاد الضالين، ومجادلة المعاندين، وتبشير المتقين، والفصل بين المتخاصمين_ تراه مع ذلك كله ينظر في شؤون منزله، ويسوس آل بيته في رفق وعدل، بل تراه لا يغفل ملاطفة الصغار، وإلقاء السلام على الصبيان(2).
ولم يكن أحد يلهيه عن أحدٍ ... كأنه والد والناس أطفال
لا ريب أن حسن البيان، وفصاحة المنطق، وبلاغته من ضروب العظمة الحاملة على إجلال صاحبها.
__________
(1) _ انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص106.
(2) _ انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص120.(1/86)
وغير خاف أن النبي" قد بلغ الذروة في ذلك الشأن؛ فقد أحرز من خصلتي الفصاحةِ والبلاغةِ الغايةَ التي ليس وراءها لمخلوق غاية، فانظروا إن شئتم إلى مخاطباته وخطبه، وما يضربه من الأمثال، وينطق به من جوامع الكلم تجدوا جزالة اللفظ، ومتانة التركيب، وسهولة المأخذ، إلى رفعة الأسلوب، إلى حكمة المعنى.(1)
أما حديثك في العقول فَمَشْرَعٌ ... والعلم والحِكَمُ الغوالي الماءُ
هو صبغة الفرقان نفحةُ قدسه ... والسين من سوراته والراء
جَرتِ الفصاحةُ من ينابيع النهى ... من دَوْحِهِ وتفجَّر الإنشاء
في بحره للسابحين به على ... أدب الحياة وعلمها إرساءُ(2)
قال القاضي عياض×: =وأما فصاحة اللسان، وبلاغة القول فقد كان" من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهل، سلاسة طبع، وبراعة منزع، وإيجاز مقطع، وفصاحة لفظ، وجزالة قول، وصحة معانٍ، وقلة تكلف، أوتي جوامع الكلم، وخصَّ ببدائع الحكم+.(3)
ولقد كان"ينوِّع في الأساليب، ويراعي مقتضيات الأحوال، ويستخدم أنواع التأثير التي سبقت كثيراً من النظريات والدراسات الحديثة في فن الخطابة، والإلقاء، والتأثير في الناس.
ولو انبرى دارس لجمع شيء من ذلك لظفر بما لا يخطر بالبال من تلك المادة.
وإليك فيما يلي شيئاً من هذا القبيل مما يؤكد مرتبته العالية في البيان والتأثير.
1_ أنه يحدث الناس بما يعرفون: إذ من السياسة والحكمة في الدعوة أن يُخاطَبَ كلُّ قوم بما يفهمون، وأن يُتَحامى مخاطبةُ أحدٍ بما لا يحتمله عقله؛ فذلك أدعى لقبول الموعظة، والبعد عن مواطن النفرة والتكذيب.
ومما يعين على فهم السامعين، وعَقْلهم لما يلقى إليهم، ووقوعه في قرارات نفوسهم _ أن تكون الموعظة بألفاظ مأنوسة، وتأليف محكم، ومعانٍ بارزة.
وهكذا كانت مواعظ النبي " وخطبه؛ فهي مصوغة بألفاظ مألوفة، ومعانٍ قريبة المأخذ.
__________
(1) _ انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص206.
(2) _ الشوقيات 1/37.
(3) _ الشفا 1/95_96، وانظر أعلام النبوة ص266.(1/87)
وهي مع قرب معانيها من أذهان الجمهور قد حازت في مراقي البلاغة الأمد الأسمى. (1)
ومن تحديث الناس بما يعقلون أن يكون الكلام ملائماً لكافة الطبقات، فلا يحسن بالخطيب أن يتعرض في خطبته إلى المسائل التي قد يتعثر فهمها على كثير منهم، أو أن يتناولوها على غير وجهها.
وكانت خطب الرسول"جارية على هذا النحو؛ بحيث يستوي في فهمها الطبقاتُ المختلفةُ دون أن يجدوا فيها ما ينبو عنه الفكر، أو يحار فيه العقل. (2)
2_ مراعاة المدة الزمنية للخطبة، والميل إلى الإيجاز والاقتصاد: فما كان" يطيل في أغلب خطبه؛ لأنه يخشى على الناس الملل.
وكانت خطبه _مع قصرها_ مليئة بالحكمة، والموعظة الحسنة؛ إذ تجيء حافلة بجوامع الكلم، والجملِ التي تجري على الألسنة مجرى الأمثال. (3)
جاء في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة ÷ قال: =كنت أصلي مع رسول الله" فكانت صلاته قصداً، وخطبته قصداً+. (4)
ومعنى =قصداً+: أي متوسط بين الإفراط والتفريط، وبين التقصير والتطويل.(5)
وفي صحيح مسلم عن أبي وائل قال: =خطبنا عمارٌ فأوجز، وأبلغ، فلما نزل قلنا: يا أبا اليقظان! لقد أبلغتَ، وأوجزتَ، فلو كنتَ تَنَفَّسْتَ!
فقال: =إني سمعت رسول الله " يقول: =إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته مئنةٌ من فقهه؛ فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة، وإن من البيان سحراً+.(6)
ومعنى قولهم: =لو كنت تنفست+: أي أطلت قليلاً.
ومعنى: =مئنة من فقه+: أي علامة. (7)
ومع أن هذا هو دأب رسول الله " في خطبه ومواعظه _ فهو يطيل في بعض الأحيان متى اقتضى الحال الإطالة.
__________
(1) _ انظر محمد رسول الله وخاتم النبين ص185.
(2) _ انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص187.
(3) _ انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص185.
(4) _ مسلم (866).
(5) _ انظر مرقاة المفاتيح لملا علي قاري 3 / 498.
(6) _ مسلم (869).
(7) _ شرح النووي على صحيح مسلم ص 568.(1/88)
جاء في صحيح مسلم عن عمرو بن أخطب ÷ قال: =صلى بنا رسول الله " الفجر، وصعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان وبما هو كائن، فَأَعْلَمُنا أَحْفَظُنا+.(1)
3_ الترسل في الكلام، وإلقاؤه مفصلاً دون إبطاء أو تعجيل: فكان يلقي بحروف متمايزة، وكلمات مُفَصَّلة، فتقع في الذهن وكأنها عِقْدُ جِيْدٍ أُحْكِمَ تنسيقُه؛ فالترسل والتمهل دون إبطاء أو تعجيل هو هدي النبي " في كلامه، ومواعظه.
قالت أم المؤمنين عائشة _رضي الله عنها_: =كان النبي " يحدِّث حديثاً لو عدَّه العادُّ لأحصاه+.(2)
وقالت: =إن رسول الله " لم يكن يسرد الحديث كسردكم+.(3)
قال ابن حجر × في شرح الحديث الأول: =قولها: =لو عده العاد لأحصاه+: أي لو عدَّ كلماته، أو مفرداته، أو حروفه لأطاق ذلك، وبلغ آخرها.
والمراد بذلك المبالغة في الترتيل، والتفهيم+.(4)
وقال × في شرح الحديث الثاني: =قولها: =لم يكن يسرد الحديث كسردكم+: أي يتابع الحديث استعجالاً بعضه إثر بعض؛ لئلا يلتبس على المستمع+.(5)
وجاء في سنن أبي داود عن جابر ÷ قال: =كان في كلام رسول الله " ترتيل، أو ترسيل+.(6)
وفيه _أيضاً_ عن عائشة _رضي الله عنها_ قالت: =كان كلام رسول الله " كلاماً فصْلاً يفهمه كلُّ مَنْ سمعه+.(7)
4_ ملاحظة نبرة الصوت: جاء في صحيح مسلم عن النبي " أنه إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبَّحكم ومسَّاكم.(8)
__________
(1) _ مسلم (2892).
(2) _ أخرجه البخاري (3567) ومسلم (2493).
(3) _ أخرجه البخاري (3568) ومسلم (2493).
(4) _ 5_ فتح الباري 6 / 669.
(6) _ أبو داود (4838) وقال الألباني في صحيح الجامع (4823): =حسن+.
(7) _ أبو داود (4839) وقال الألباني في صحيح الجامع (4826): =حسن+.
(8) _ مسلم (867).(1/89)
5_ حسن الاستخدام للتكرار: فإن للتكرار أثراً كبيراً في جذب الانتباه، وتأكيد المعاني، وتقريرها في الأذهان.
والخطيب البارع يحسن استخدام التكرار، ويوقعه مواقعه اللائقة به.
ولقد كان النبي"يأخذ بهذا الأسلوب، وربما أعاد الجملة ثلاث مرات إذا كان المقام يقتضي ذلك. (1)
ولهذا عقد الإمام البخاري × في صحيحه باباً بعنوان: =باب من أعاد الحديث ثلاثاً؛ ليفهم عنه+.
وساق فيه عدة أحاديث، منها ما رواه عن أنس ÷ عن النبي": =أنه كان إذا سلَّم سلَّم ثلاثاً، وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً+. (2)
وعن أنس _أيضاً_ عن النبي ": =أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً؛ حتى تُفْهم عنه+ الحديث. (3)
وعن عبدالله بن عمرو _رضي الله عنهما_ قال: تخلف رسول الله " في سفر سافرناه، فأدْرَكَنا وقد أرهقْنا الصلاة _صلاة العصر_ ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: =ويلٌ للأعقاب من النار+ مرتين أو ثلاثاً.(4)
والأحاديث في ذلك كثيرة منها قوله: =ألا وقول الزور، فما زال يكررها+.(5)
وقال ابن عمر _رضي الله عنهما_ قال النبي ": =هل بلَّغت+ ثلاثاً.(6)
وعن عبدالله بن عمر _رضي الله عنهما_ عن النبي " قال: =لا صام من صام الأبد، لا صام من صام الأبد، لا صام من صام الأبد+.(7)
6_ صوغ التشابيه، وضرب الأمثلة: فلذلك أثر كبير في جعل الحقائق الخفية واضحة، والمعاني الغريبةِ قريبة مألوفة.
وعلى هذا النحو كانت تجري كثير من الأحاديث النبوية.
__________
(1) _ انظر محمد رسول الله ص 185، والخطابة للشيخ محمد أبو زهرة ص66.
(2) _ البخاري (94).
(3) _ البخاري (95).
(4) _ البخاري (96) ومسلم (241).
(5) _ البخاري (2586).
(6) _ رواه البخاري (1742).
(7) _ رواه مسلم (1159).(1/90)
ومن الأمثلة على ذلك قول النبي"في شأن المؤمنين وتآلفهم: =مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى+.(1)
7_ إعطاءُ الوسائلِ صورةَ ما تُفضي إليه من الخير والشر: فهذا الأسلوب من الطرق الحكيمة في الحث على فعل الشيء، أو الزجر عنه.
ويشهد لذلك كثير من النصوص، منها قوله": =الدال على الخير كفاعله+.(2)
فقد أراك الدلالة على فعل الخير في صورة فعل الخير نفسه؛ إذ جعلها بوسيلة التشبيه بمنزلة واحدة، وذلك مما يقوي داعية الدلالة على الخير في نفسك.
وكما قال ": =إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه+.
قيل: يا رسول الله! وكيف يلعن الرجل والديه؟
قال: =يسب الرجل أبا الرجل، فيسبُّ أباه، ويسب أمَّه، فيسب أمَّه+.(3)
فانظر كيف عدَّ سبَّ الرجلِ لأبي الرجل أو أمه في صورة سب الرجل لوالديه، وفي ذلك من تأكيد الزجر عن إطلاق اللسان بالسب ما لا تجده في النهي عن سب الناس بطريق غير هذا الطريق. (4)
8_ قرن القول ببعض الإشارات الحسية التي تناسب المعنى: فهذا مما يزيد به المعنى جلاءً، ويأخذ في النفس صورةً غير صورته المجردة عن الإشارة.
ولقد كان النبي " يستعين في تثبيت المعنى بالإشارة بيده إشارة مناسبة للمعنى، مما يجعل للكلام أثراً بليغاً في النفوس.
والأمثلة على ذلك كثيرة، منها ما جاء في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي " قال: =إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً+ وشبك بين أصابعه.(5)
__________
(1) _ أخرجه البخاري (6011) ومسلم (258).
(2) _ أخرجه أحمد 5/274، وقال الألباني في صحيح الجامع (33): =صحيح+ ورواه مسلم (1893) بلفظ: =من دل على خير فله مثل أجر فاعله+.
(3) _ أخرجه البخاري (5973) ومسلم (90).
(4) _ انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص 115.
(5) _ البخاري (481 و 2446 و 6026) ومسلم (2585).(1/91)
وفي صحيح البخاري عن سهل ÷ قال رسول الله ": =أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى، وفرَّج بينهما شيئاً+.(1)
وعن ابن عمر _رضي الله عنهما_ أن رسول الله " قام عند باب حفصة فقال بيده نحو المشرق: =الفتنة من ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان+ قالها مرتين أوثلاثاً.(2)
9_ استدعاء طلب البيان: وهذا الأسلوب قريب مما قبله، وذلك أن يأتي المتكلم بالكلام على وجه الغموض يستدعي به طلب البيان، حتى إذا سئل عن ذلك، أو شعر بحاجة المخاطبين إلى الجواب _ أجاب عن ذلك، وكشف الغموض، فيتقرر المعنى في نفوسهم بأشد مما لو أتى من أول الأمر واضحاً بيناً.(3)
ومن هذا الباب قوله ": =انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً+.
فقال رجل: يا رسول الله! أنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إن كان ظالماً كيف أنصره؟
قال: =تحجزه، أو تمنعه من الظلم؛ فإن ذلك نصره+.(4)
وفي رواية =تأخذ فوق يديه+.(5)
10_ استعمال أسلوب النداء، ومناداة المخاطبين بما يحبون: وذلك بشد انتباه المخاطبين، واستدعاء استجابتهم بنداءات يطلقها الخطيب في ثنايا حديثه بين الفينة والأخرى.
ومن ذلك أن يقول: أيها المؤمنون، أيها الناس، معاشر المسلمين، أيها الإخوة.
وإن كان هناك نسوة وجه النداء إليهن؛ ففي ذلك تنبيه، وتشويق، وتغيير لنمط الحديث.
ولقد تكرر هذا المعنى كثيراً في القرآن والسنة.
ومن ذلك قوله _تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] (آل عمران:102).
وقوله _عز وجل_: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ] (النساء:1).
__________
(1) _ البخاري (5304 و 6005).
(2) _ رواه البخاري (3104 و 7093) ومسلم (2905).
(3) _ انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص 116.
(4) _ رواه البخاري (6952).
(5) _ رواه البخاري (2444).(1/92)
والأمثلة من السنة على ذلك كثيرة، ومنها على سبيل الإيجاز ما يلي:
قال _عليه الصلاة والسلام_: =أيها الناس اربعوا على أنفسكم+. (1)
وقال: =أيها الناس إليَّ+. (2)
وقال: =أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي+. (3)
وقال: =أيها الناس تصدقوا+. (4)
وقال: =أيها الناس عليكم بالسكينة+. (5)
وقال: =أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو+. (6)
وقال: =يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج+. (7)
وقال: =يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب؟+. (8)
وقال: =يا معشر النساء تصدقن+. (9)
وقال: =يا معشر يهود أسلموا تسلموا+. (10)
كل عاقل منصف لا يسعه إلا الإعجاب بعظمة النبي"والتصديق بما جاء به؛ ذلك أن الأمارات الكثيرة شاهدةٌ بعظمته، ناطقةٌ بصدقه.
ولا ريب أن شهادةَ المخالف لها مكانتها؛ فالفضل _كما قيل_ ما شهدت به الأعداء.
وفيما يلي عدد من الشهادات التي أدلى بها جمع من الفلاسفة والمفكرين من غير المسلمين من النصارى وغيرهم.
1_ شهادة الفيلسوف الإنجليزي الشهير توماس كارليل الحائز على جائزة نوبل للسلام، وهذه الشهادة تكاد تكون أشهر وأعظم شهادة نطق بها كاتب غربي، وتكاد تظن أن الذي كتبها مسلم خبير بأحوال النبي".
وفيما يلي مقتطفات مما قال كارليل في كتابه الأبطال مخاطباً قومه النصارى: =لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متحدث في هذا العصر أن يصغي إلى ما يقال من أن دين الإسلام كذب، وأن محمداً خدّاع مزوِّر.
__________
(1) _ رواه البخاري (6384).
(2) _ رواه البخاري (927).
(3) _ رواه البخاري (917).
(4) _ رواه البخاري (1462).
(5) _ رواه البخاري (1671).
(6) _ رواه البخاري (2966).
(7) _ رواه البخاري (5065).
(8) _ رواه البخاري (7523).
(9) _ رواه البخاري (304 و 1462).
(10) _ رواه البخاري (6944).(1/93)
وإن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة؛ فإن الرسالة التي أدَّاها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرناً لنحو مائتي مليون من الناس، أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائقة الحصر والإحصاء أكذوبة وخدعة؟!
أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبداً، ولو أن الكذب والغش يروجان عند خلق الله هذا الرواج، ويصادفان منهم مثل هذا القبول، فما الناس إلا بُلْهٌ مجانين، فوا أسفا! ما أسوأ هذا الزعم، وما أضعف أهله، وأحقهم بالرثاء والرحمة.
وبعد، فعلى من أراد أن يبلغ منزلة ما في علوم الكائنات ألا يصدق شيئاً ألبتة من أقوال أولئك السفهاء؛ فإنها نتائج جيل كفر، وعصر جحود وإلحاد، وهي دليل على خبث القلوب، وفساد الضمائر، وموت الأرواح في حياة الأبدان.
ولعل العالَم لم يرَ قط رأياً أكفر من هذا وأَلأَم، وهل رأيتم قط _معشر الإخوان_ أن رجلاً كاذباً يستطيع أن يوجد ديناً، وينشره علناً؟
والله إن الرجل الكاذب لا يقدر أن يبني بيتاً من الطوب؛ فهو إذا لم يكن عليماً بخصائص الجير، والجص، والتراب، وما شاكل ذلك _ فما ذلك الذي يبنيه ببيت، وإنما هو تل من الأنفاق، وكثيب من أخلاط المواد.
نعم، وليس جديراً أن يبقى على دعائمه اثني عشر قرناً يسكنه مائتا مليون من الأنفس، ولكنه جدير أن تنهار أركانه، فينهدم؛ فكأنه لم يكن+.
إلى أن قال: =وعلى ذلك، فلسنا نَعُدُّ محمداً هذا قط رجلاً كاذباً متصنعاً، يتذرع بالحيل والوسائل إلى بغيته، ويطمح إلى درجة ملك أو سلطان، أو إلى غير ذلك من الحقائر.
وما الرسالة التي أدَّاها إلا حقٌ صراحٌ، وما كلمته إلا قول صادق.
كلا =ما محمد بالكاذب+ ولا المُلفِّق، وهذه حقيقة تدفع كل باطل، وتدحض حُجة القوم الكافرين.(1/94)
ثم لا ننسى شيئاً آخر، وهو أنه لم يتلق دروساً على أستاذ أبداً، وكانت صناعة الخط حديثة العهد إذ ذاك في بلاد العرب _وعجيب وأيم الله أُمِّيَة العرب_ ولم يقتبس محمد من نور أي إنسان آخر، ولم يغترف من مناهل غيره، ولم يكن إلا كجميع أشباهه من الأنبياء والعظماء، أولئك الذين أشبِّههم بالمصابيح الهادية في ظلمات الدهور.
وقد رأيناه طول حياته راسخ المبدأ، صادق العزم بعيداً، كريماً بَرًّا، رؤوفاً، تقياً، فاضلاً، حراً، رجلاً، شديد الجد، مخلصاً، وهو _مع ذلك_ سهل الجانب، ليِّن العريكة، جم البشر والطلاقة، حميد العشرة، حلو الإيناس، بل ربما مازح وداعب، وكان _على العموم_ تضيء وجهه ابتسامةٌ مشرقة من فؤاد صادق؛ لأن من الناس من تكون ابتسامته كاذبة ككذب أعماله وأقواله+.
إلى أن قال: =كان عادلاً، صادق النية، كان ذكي اللب، شهم الفؤاد، لوذعياً، كأنما بين جنبيه مصابيح كلِّ ليل بهيم، ممتلئاً نوراً، رجلاً عظيماً بفطرته، لم تثقفه مدرسة، ولا هذبه معلم، وهو غني عن ذلك.
ويزعم المتعصبون من النصارى والملحدين أن محمداً لم يكن يريد بقيامه إلا الشهرة الشخصية، ومفاخر الجاه والسلطان.
كلا _وأيم الله_ لقد كان في فؤاد ذلك الرجل ابن القفار والفلوات، المتوقد المقلتين، العظيم النفس، المملوء رحمة وخيراً وحكمة، وحِجَىً _ أفكار غير الطمع الدنيوي، ونوايا خلاف طلب السلطة والجاه، وكيف لا، وتلك نفس صامتة كبيرة، ورجل من الذين لا يمكنهم إلا أن يكونوا مخلصين جادين؛ فبينما ترى آخرين يرضون الاصطلاحات الكاذبة، ويسيرون طبق الاعتبارات الباطلة إذ ترى محمداً لم يرض أن يَتَلَفَّع بمألوف الأكاذيب، ويتوشح بمبتدع الأباطيل.(1/95)
لقد كان منفرداً بنفسه العظيمة، وبحقائق الأمور والكائنات، لقد كان سرُّ الوجود يسطع لعينيه _كما قلت_ بأهواله، ومخاوفه، وروانقه، ومباهره، ولم يكن هناك من الأباطيل ما يحجب ذلك عنه، فكان لسان حال ذلك السر الهائل يناجيه: ها أنا ذا، فمثل هذا الإخلاص لا يخلو من معنى إلهي مقدس، فإذا تكلم هذا الرجل فكل الآذان برغمها صاغية، وكل القلوب واعية، وكل كلام ما عدا ذلك هباء، وكل قول جفاء+.
إلى أن قال: =إذاً فلنضرب صفحاً عن مذهب الجائرين أن محمداً كاذب، ونعد موافقتهم عاراً، وسبة، وسخافة، وحمقاً؛ فلنربأ بأنفسنا عنه+.
إلى أن قال: =وإن ديناً آمن به أولئك العرب الوثنيون، وأمسكوه بقلوبهم النارية لجدير أن يكون حقاً، وجدير أن يُصَدَّق به.
وإنما أودع هذا الدين من القواعد هو الشيء الوحيد الذي للإنسان أن يؤمن به.
وهذا الشيء هو روح جميع الأديان، وروح تلبس أثواباً مختلفة، وأثواباً متعددة، وهي _في الحقيقة_ شيء واحد.
وباتباع هذه الروح يصبح الإنسان إماماً كبيراً جارياً على قواعد الخالق، تابعاً لقوانينه، لا مجادلاً عبثاً أن يقاومها ويدافعها.
لقد جاء الإسلام على تلك الملل الكاذبة، والنحل الباطلة، فابتلعها، وحق له أن يبتلعها؛ لأنه حقيقة، وما كان يظهر الإسلام حتى احترقت فيه وثنيات العرب، وجدليات النصرانية، وكل ما لم يكن بحق؛ فإنها حطب ميت+.
إلى أن قال: =أيزعم الأفَّاكون الجهلة أنه مشعوذ ومحتال؟
كلا، ثم كلا، ما كان قط ذلك القلب المحتدم الجائش كأنه تَنُّور فِكْر يضور ويتأجج _ ليكون قلب محتال ومشعوذ، لقد كانت حياته في نظره حقاً، وهذا الكون حقيقة رائعة كبيرة+.
إلى أن قال: =مثل هذه الأقوال، وهذه الأفعال ترينا في محمد أخ الإنسانية الرحيم، أخانا جميعاً الرؤوف الشفيق، وابن أمنا الأولى، وأبينا الأول.(1/96)
وإنني لأحب محمداً لبراءة طبعه من الرياء والتصنع، ولقد كان ابن القفار رجلاً مستقل الرأي، لا يقول إلا عن نفسه، ولا يدّعي ما ليس فيه، ولم يكن متكبراً، ولكنه لم يكن ذليلاً ضَرِعاً، يخاطب بقوله الحرِّ المبين قياصرة الروم وأكاسرة العجم، يرشدهم إلى ما يجب عليهم لهذه الحياة، وللحياة الآخرة، وكان يعرف لنفسه قدرها.
ولم تخل الحروب الشديدة التي وقعت له مع الأعراب من مشاهد قوة، ولكنها كذلك لم تخل من دلائل رحمة وكرم وغفران، وكان محمد لا يعتذر من الأولى، ولا يفتخر بالثانية+.
إلى أن قال: =وما كان محمد بعابث قط، ولا شابَ شيئاً من قوله شائبةُ لعبٍ ولهوٍ، بل كان الأمر عنده أمر خسران وفلاح، ومسألة فناء وبقاء، ولم يكن منه بإزائها إلا الإخلاص الشديد، والجد المرير.
فأما التلاعب بالأقوال، والقضايا المنطقية، والعبث بالحقائق _ فما كان من شأنه قط، وذلك عندي أفظع الجرائم؛ إذ ليس هو إلا رقدة القلب، ووسن العين عن الحق، وعيشة المرء في مظاهر كاذبة.
وفي الإسلام خَلَّة أراها من أشرف الخلال وأجلها، وهي التسوية بين الناس، وهذا يدل على أصدق النظر، وأصوب الرأي؛ فنفس المؤمن رابطة بجميع دول الأرض، والناس في الإسلام سواء+.
إلى أن قال: =وسع نوره الأنحاء، وعمَّ ضوؤه الأرجاء، وعقد شعاعه الشمال بالجنوب، والمشرق بالمغرب، وما هو إلا قرن بعد هذا الحادث حتى أصبح لدولة العرب رجل في الهند، ورجل في الأندلس، وأشرقت دولة الإسلام حقباً عديدة، ودهوراً مديدة بنور الفضل والنبل، والمروءة، والبأس، والنجدة، ورونق الحق والهدى على نصف المعمورة+ا_هـ.(1)
__________
(1) _ انظر الإسلام في نظر أعلام الغرب للأستاذ حسين عبدالله باسلامة ص89_95، ومحمد رسول الله _خلاصة سيرته ومقالات نادرة فيها_ للكاتب ص30_35.(1/97)
2_ وهذه شهادة قالها (الكونت هنري دي كاستري) وهو أحد وزراء فرنسا، وأحد حكام الجزائر السابقين في كتابه (الإسلام) الذي عرَّبه الأستاذ فتحي زغلول باشا × يقول الوزير الفرنسي الكونت: =إن أمة العرب قبل النبي كانت وثنية على وجه العموم، وكان مذهب توحيد الإله يخطر في الأذهان رويداً رويداً، وكان المشخصون لهذا الاعتقاد فريقاً يقال لهم الأحناف(1) بقوا على مذهب إبراهيم، وأما المسيحيون فكانوا فرقاً كثيرة كلها تعتقد بمذهب التكثير _تعدد الآلهة_.
وتلقى محمد مذهب أولئك الأحناف بحالة سطحية، لكن لما كانت نفس ذلك النبي مفطورة على التشبع بالدين تكيف هذا المذهب في وجدانه حتى صار اعتقاداً لم تصل إليه نفسٌ قبله إلا قليلاً، وهو ذلك الاعتقاد المتين الذي أحدث انقلاباً كلياً في النوع البشري.
ومن الخطأ أن نبحث عن هذا المبدأ العميم فيضه في غير طريقة الأحناف؛ لأن محمداً ما كان يقرأ ولا يكتب، بل كان _كما وصف نفسه مراراً_ نبياً أمياً.
وهو وصف لم يعارضه فيه أحد من معاصريه، ولا شك أنه يستحيل على رجل في الشرق أن يتلقى العلم بحيث لا يعلمه الناس؛ لأن حياة الشرقيين كلَّها ظاهرة للعيان، على أن القراءة والكتابة كانت معدومة في ذلك الحين من تلك الأقطار؛ فثبت _إذن_ مما تقدم أن محمداً لم يقرأ كتاباً مقدساً، ولم يسترشد في دينه بمذهب متقدم عليه؛ إذ لو فرض وكان القرآن قد نقل بعضاً من الكتب المقدسة الأخرى لبقي الأمر مشكلاً كما كان عليه في معرفة حقيقة ما اختلج بروحه الديني، وكيف وجد فيها ذلك الاعتقاد الثابت بوحدانية الله حتى استولى عليه روحاً وجسماً؟
__________
(1) _ يقصد بهم: الحنفاء الذين بقوا على الفطرة والتوحيد.(1/98)
ولقد نعلم أنه مرَّ بمتاعب كثيرة، وقاسى آلاماً نفسية كبرى قبل أن يُخْبَر برسالته؛ فقد خلقه ذا نفس تمحضت للدين، ومن أجل ذلك احتاج إلى العزلة عن الناس؛ لكي يهرب من عبادة الأوثان، ولكي ينفرد بما نزل فيه من الفكر العظيم وهو وحدانية الله _تعالى_ اعتكف في جبل حراء، وأرخى عنان التفكير يجول في بحار التأملات عابداً مجتهداً.
ولعمري فيم كان يفكر ذلك الرجل الذي بلغ الأربعين وهو في ريعان الذكاء، ومن أولئك الشرقيين الذين امتازوا في العقل بحدة التخيل، وقوة الإدراك، لا بوضع المقدمات، وتعليق النتائج عليها ما كان إلا أن يقول مراراً، ويعيد تكراراً هذه الكلمات =الله أحد، الله أحد+ كلمات رددها المسلمون أجمعون من بعده، وغاب عنا _معشر المسيحيين_ مغزاها؛ لبعدنا عن فكرة التوحيد.
ولم يزل عقله مشتغلاً حتى ظهر هذا الفكر في كلامه على صور مختلفة جاءت في القرآن [لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)] (الإخلاص).
وكانت مترادفات اللغة العربية تساعده بمعانيها الرقيقة على ترداد ذلك الفكر السامي الذي دل عليه، ومن تلك الأفكار وتلك العبادة تولدت كلمة الإسلام =لا إله إلا الله+ ذلك هو أصل الاعتقاد بإله فرد، ورب صمد، منزه عن النقائص، وهو اعتقاد قوي يؤمن به المسلمون على الدوام، ويمتازون به على غيرهم من القبائل والشعوب، أولئك حقاً هم المؤمنون كما يسمون أنفسهم، فظهور هذا الاعتقاد بواسطته دفعة واحدة هو أعظم مظهر في حياته، وهو ذاته أكبر دليل على صدقه في رسالته، وأمانته في نبوته+.
ثم تكلم عن الوحي، ومعجزات القرآن في بلاغته ومعانيه واعتراف فصحاء العرب بإعجازه، وذكر منهم عتبة بن ربيعة، وذكر مسيلمة الكذاب، وأثبت بطلان ادعائه.(1/99)
ثم قال: =ولو قال قائل: إن القرآن ليس كلام الله، بل كلام محمد _ فلا بد لنا على الحالين من الاعتراف بأن تلك الآيات البينات لا تصدر عن مبتدع أبداً، خلافاً لرأي من ذهب إلى تكذيب نبوته، ولعل رأيهم جاء من ضيق اللغة التي تلجئنا إلى أن نرمي بالكذب نبياً هو في الحقيقة شخص مليء أمانة وصدقاً+.
إلى أن قال: =إذاً ليس محمد من المبتدعين، ولا من المنتحلين كتابهم، وليس هو نبي سلاب كما يقول موسيو (سايوس) ولا نسلم بإنكار هذه الحقيقة، وحينئذ لا عجب إذا تشابهت تلك الكتب في بعض المواضيع خصوصاً إذا لاحظنا أن القرآن جاء ليتممها، كما أن النبي"خاتم الأنبياء والمرسلين+.
ثم قال: =ولكن الأمر الذي تهم معرفته هو أن القرآن آخر كتاب سماوي ينزل للناس، وصاحبه خاتم الرسل؛ فلا كتاب بعد القرآن، ولا نبي بعد محمد" ولن تجد بعده لكلمات الله تبديلاً+.
وقال بعد أن أطال البحث في تحليل ما تقدم، ورد على المتطرفين من المستشرقين فرياتهم على نبي الإسلام": =وبالجملة فإن الإسلام ما دخل بلداً إلا وصار ذا المقام الأول بين الديانات المسيحية من غير أن يتعرض لمحوها، وعلى هذا يتحقق أن الدين الإسلامي لم ينتشر بالعنف والقوة، بل الأقرب للصواب أن يقال: إن كثرة مسالمة المسلمين، ولين جانبهم كان سبباً في سقوط الممالك الغربية+.
إلى أن قال: =إن ديانة القرآن تمكنت من قلوب جميع الأمم اليهودية، والمسيحية، والوثنية في أفريقيا الشمالية، وفي قسم عظيم من آسيا؛ حتى إنه وجد في بلاد الأندلس من المسيحيين المتنورين من تركوا دينهم حباً في الإسلام كل هذا بغير إكراه+.(1/100)
هذه نبذة وجيزة من نظرية الكونت هنري دي كاستري الوزير الفرنساوي من كتابه (الإسلام) وهذا الكتاب يحتوي على مواضع شتى دحض بها مفتريات القسس، والمبشرين، وبعض المستشرقين المتطرفين الذين لا يقيمون للإنصاف وزناً، وكل ما أذاعوه من التشنيع على الإسلام، وكتابه ونبيه مع أنه قد صرح أنه مسيحي المذهب، ولكن الذي دفعه إلى ذلك هو:
أولاً: حرية الرأي، والإنصاف في القول الحق، وإن كان ذلك ضد مذهبه.
ثانياً: أراد أن يطلع الأمة الفرنساوية على حقيقة الدين الإسلامي؛ لتكون على بينة من أمرها، ولا تغتر بفريات المبشرين الذين يستنزفون أموال أمتهم باسم التبشير لدينهم دون جدوى ولا طائل تحته غير تضحية الأموال الضخمة في سبيل شهوات القسس، وغطرستهم التي لا حد لها.(1)
3_ وهذه شهادة للأستاذ الموسيو (سيديو) الفرنساوي أحد أعلام الإفرنج، وأحد وزراء فرنسا السابقين في كتابه (خلاصة تاريخ العرب) تعريب علي باشا مبارك × في المقدمة بعد ذكره لفضل الأمة العربية فقال: =ثم أتى النبي" فربط علائق المودة بين قبائل جزيرة العرب، ووجَّه أفكارها إلى مقصد واحد؛ فعلا شأنها حتى امتدت سلطتها من نهر التاج _المار بأسبانيا، وبرتغال_ إلى نهر الكنج _وهو أعظم أنهار الهند_ وانتشر نور العلوم والتمدن بالشرق والغرب، وأهل أوربا إذ ذاك في ظلمة جهل القرون المتوسطة، وكأنهم نسوا نسياناً كلياً ما وصل إليهم من أحاديث اليونان والرومان.
__________
(1) _ الإسلام في نظر أعلام الغرب ص25_28.(1/101)
واجتهد العباسيون ببغداد، والأمويون بقرطبة، والفاطميون بالقاهرة في تقدم الفنون، ثم تمزقت ممالكهم، وفقدوا شوكتهم السياسية؛ فاقتصروا على السلطة الدينية التي استمرت لهم في سائر أرجاء ممالكهم، وكان لديهم من المعلومات، والصنائع، والاستكشافات ما استفاده منهم نصارى أسبانيا حين طردهم منها، كما أن الأتراك والمغول بعد تغلبهم على ممالك آسيا استفادوا معارف من تغلبوا عليهم+.(1)
4_ وقال الأستاذ المستشرق (دوزي): =لو صح ما قاله القساوسة من أن محمداً نبي منافق كذاب؛ فكيف نعلل انتصاره؟ وما بال فتوحات أتباعه تترى، ويتلو أحدها الآخر؟ وما بال انتصاراتهم على الشعوب لا تقف عند حد؟ وكيف لا يدل ذلك على معجزة هذا الرسول؟
ولقد كانوا يعتقدون أول أمرهم أن خذلان المسلمين سيتم بمعجزة قريبة؛ فقد طالما سمعوا عن معجزات الكنيسة التي كانت تحدث لأقل مناسبة، وانتظروا هذه المعجزة التي تخلص البلاد المسيحية من غزوات المسلمين، ولكن انتظارهم تلك المعجزات قد طال، وذهب صبرهم أدراج الرياح، وعبثاً حاولوا وقوع هذه المعجزة.
وأعجب من ذلك أن المعجزة _إن لم نقل معجزات_ قد حدثت حقاً في ذلك العصر، وكانت معجزات أعظم مما كان يتوهمه القديسون أنفسهم، وأي معجزة أروع وأعجب من أن نرى شعباً كان إلى زمن قليل في غيابة من الخمول، ثم ظهر إلى الدنيا فجأة، وظل يتقدم بسرعة لا مثل لها، وهو يغزو الأرجاء الفسيحة، وينتصر على قطر بعد قطر؛ فَتَدِيْنُ له البلاد بالطاعة والولاء، وتقبل على دينه من كل حدب وصوب راضية غير مكرهة؟
ولو أننا عزونا إقبال المسيحيين على الإسلام إلى الفائدة الشخصية، أو الرغبة في التخلص من الذل والضعة _ فنحن جديرون أن نقرر أن من الثابت المحقق أن كثيراً من المسيحيين دانوا بالإسلام عن عقيدة وإيمان+اهـ.(2)
5_ وهذه مقولة لشاعر فرنسا (لامارتين):
__________
(1) _ الإسلام في نظر أعلام الغرب ص29.
(2) _ الإسلام في نظر أعلام الغرب ص40_41.(1/102)
يقول الأستاذ محمد كرد علي×في كتابه المذكرات: =وآخر ما قرأناه في سيرة النبي العربي، وتحليل عمله العظيم، ما قاله شاعر فرنسا العظيم (لامارتين) قال: لم يقصد رجل قط مختاراً أو غير مختار إلى غاية أسمى؛ لأن تلك الغاية كانت فوق طاقة البشر، وهي القضاء على ما دخل من الخرافات بين الخالق والمخلوق؛ ليجعل الله للعبد والعبد لله، وأن يعدّل فكرة الألوهية المعقولة في الوثنية المادية المشوهة.
وما عهد قط رجل مثله قام في وقت قصير بثورة عظيمة مستديمة في العالم؛ لأن الإسلام بعد أقل من قرنين من انتشاره بالدعاة والقوة عم الأقطار العربية الثلاثة، ودعا إلى الله الواحد الأحد في فارس، وخراسان، وما وراء النهر، والهند الغربية، والشام، ومصر، والحبشة، وجميع الأقطار المعروفة من شمالي إفريقية، وعدة أجزاء من البحر المتوسط، وأسبانيا، وشطر من غاليا (فرنسا).
فإذا كانت عظمة الغاية، وقلة الوسائط، ووفرة النتيجة هي الأسباب الثلاثة التي تبين عن نبوغ المرء _ فمن يجرؤ أن يُشَبِّهَ بمحمد رجلاً عظيماً من رجال التاريخ الحديث؛ فإن من اشتهر منهم لم يُجَيِّش إلا جيوشاً، ولم يسن إلا قوانين، ولم يؤسس إلا ممالك، فلم يُنْشِؤا فيما أنشأوا إلا دولاً عادية كان حظها أن تداعت أركانها بعدهم.
أما ذاك الرجل فأباد جيوشاً، ووضع شرائع، وأسس ممالك، وأَلَّف بين شعوب، وأقام دولاً، وضم شمل ملايين من البشر في ثلث العالم المعمور، وزاد على ذلك أن بدل أفكاراً، ومعتقداتٍ، وأرواحاً، وأتى بكتاب أصبح كل حرف من حروفه شريعة قومية روحية سرت إلى شعوب من جميع اللغات والعناصر، وطبع هذه الجنسية الإسلامية بطابع ثابت، وقضى على الأرباب المصنوعة، ودعا إلى الاعتقاد بالله الواحد الأحد.(1/103)
ومن يكون أكثر عظمة إذا قيست العظمة البشرية بكل مظاهرها بعظمة محمد الحكيم الخطيب الداعية المشرع المحارب المبدع في أفكاره، ومؤسس التعاليم القائمة على العقل، وعلى عبادة لا صور فيها، ومنشئ عشرين مملكة أرضية، ومملكة روحية واحدة+.(1)
هذا نزر يسير مما ورد في هذا السياق، والشهادات فيه لا تكاد تحصى كثرةً.(2)
لإيراد هذا الفصل ضمن هذا البحث أسباب عديدة منها ما يلي:
1_ أنه موضوع نادر لا تجد من أفرده بالبحث والتقصي لا من المتقدمين ولا من المتأخرين إلا العلامة التونسي الشيخ محمد الطاهر بن عاشور× 1296_ 1394هـ حيث كتب بحثاً عنوانه مجلس رسول الله"(3).
2_ أنه موضوع لطيف يخدم ما نحن بصدده من البحث في جوانب رحمة الرسول"وعظمته؛ حيث يُجلِّي ذلك غاية التجلي، ويمثِّله أحسن تمثيل.
3_ أن مجلس رسول الله"ميدانٌ لِتَسَابُقِ الآداب، وجوٌّ لِتَرَفْرُفِ الكمالات.
4_ أن للناس مجالس يرتادونها، وأحاديثَ يتجاذبون أطرافها، ولكل من المجالسة والمحادثة آداب يحسن مراعاتها، ويجمل الأخذ بها.
ولا ريب أن الوقوف على مجلس رسول الله"وأحاديثه من أعظم ما يرتقي بالأحاديث والمجالس؛ فإلى مباحث هذا الفصل.
احتفاف العظيم بمظاهر العظمة في أعين ناظريه وتُبَّاعه وسيلة من وسائل نفوذ تعاليمه في نفوسهم، وتلقيهم إرشادَه بالقبول والتسليم، واندفاعِهم بالعمل بما يمليه عليهم.
__________
(1) _ المذكرات، محمد كرد علي 4/1315_1316.
(2) _ وإذا أردت المزيد من ذلك فارجع إلى كتاب: الإسلام في نظر أعلام الغرب، وكتاب: أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوربية، لأحمد علي الملا، ص103_106.
(3) _ وذلك في مجلة الهداية الإسلامية، الجزء العاشر، المجلد العاشر، ص578_597 في ربيع الثاني 1357هـ _ 1938م، وقد أفدت منه كثيراً في هذا الفصل.(1/104)
وإن للعظمة نواحيَ جمةً، ومظاهرَ متفاوتةَ الاتصال بالحق: فمنها العظمة الحقة الثابتة، ومنها المقبولة النافعة، ومنها الزائفة التي إنْ نفعت حيناً أضرت أزماناً، وإن راجت عند طوائف عُدَّتْ عند الأكثرين بطلاناً، وفي هاته الأصناف معتاد وغير معتاد، وبينها مراتب كثيرة الأعداد، لا يعزب عن الفطن استخراجُها من خلال أصنافها، والحكمُ الفصلُ في آدابها وأُلاَّفها.
وبمقياس اتسام العظيم بسمات العظمة الحقة، يكون مقياس غُنْيته عن مخايل التعاظم الزائفة، كما أنه بمقدار خلوه من تلك السمات الحقة يقترب من الاحتياج إلى شيء من تلك المخايل، كالمصاب بفقر الدم لا يستغني عن زيادة التدثر بدثر الدفاء.
وكثيراً ما تحمَّل العظماءُ مشاقَّ التكلف، لما يثقل عليهم التظاهر به؛ مجاراةً لأوهام التُّبَّاع أولي المدارك البسيطة؛ حذراً من أن ينظروا إليهم بعين الغضاضة، أو يلاقوهم بمعاملة الفضاضة.
فهم يقتحمون ذلك الثقل، ولسان حالهم يقول: =مكره أخوك لا بطل+.
فلا غرو أن كان المتوسمون منذ القدم تقوم لهم من صفات مجالسِ السَّراة والجماعات دلائلُ منبئةٌ بأحوال أصحاب تلك المجالس كما قال الشاعر:
ولما أن رأيت بني جُوَيْن ... جلوساً ليس بينهم جليس
يئست من التي قد جئت أبغي ... إليهم إنني رجل يؤوس
وإننا إذا تتبعنا ما يعد من هيئات المجالس أحوال كمالٍ حقَّاً أو وهماً نجد منها المتضاد الذي إن اشتمل المجلس على شيء منه لم يشتمل على ضده، مثل الحجاب والإذن، والوقار والهزل.
ونجد بعضها غير متضاد بحيث يمكن اجتماعه كوضع الأرائك والطنافس النفيسة مع التزام الوقار والحكمة، وكالفخامة والزركشة مع إقامة الإنصاف؛ فقد كان مجلس سليمان _عليه السلام_ مكسوَّاً بفخامة الملك، وهو _مع ذلك_ منبع لآثار النبوة والحكمة.(1/105)
فأما الأوصافُ المتضادةُ فلا شبهةَ في كون مجالسِ العظماء حقًّا تُنَزَّه عما يضاد الحق منها، وأما غير المتضادة فلا يُعد تجردُ مجلسِ العظيمِ عما هو من هذا الصنف مهمَّاً إلا زيادةً في عظمته، وليس ذلك بلازم في تحقق أصل عظمته الحقة.
تجرى أشكال الدعوة الإلهية على حسب استعداد الأقوام؛ لتلقي مراد الله منهم، فيسن لهم من الأحوال والهيئات ما هم به أَحْرِياء(1) لنفوذ مراد الله فيهم؛ فقد يُتسامح لدعاتهم ببعض المظاهر التي لا حظ لها في التأثير الخلقي، أو التشريعي، ولا تحط من اعتبار صاحب الدعوة في أنظار أهل الكمال، وتعين على قبول دعوته بين العموم البسطاء؛ لموافقتها بساطة إدراكهم، وعدم منافاتِها الحقَّ؛ فإن بني إسرائيل لما فَتَنَتْهم مظاهرُ عبدةِ الأصنام وقالوا لموسى: [اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ] (الأعراف:138) غضب عليهم رسولهم، ووبخهم على ذلك.
ولما بهرتهم مظاهر الملك التي شاهدوها عند الأقوام الذين مروا بهم في تيههم، والذين جاوروا بلادهم، وقالوا لنبيهم شمويل: [ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] (البقرة:246) لم يَرَ نبيهم في ذلك بأساً؛ إذ رآه أعونَ لهم على الدفاع عن جامعتهم؛ فأقام لهم شاول ملكاً، ثم خلفه من الملوك من كان له وصف النبوة مثل داود وابنه سليمان الذي عظم سلطانه، وفخمت مَظاهرُ ملكه التي ما كانت تُنْقِصُ كماله النبوي.
وأظهر حجة على ذلك أن ملكة سبأ ما دانت له حين مجيء كتابه إليها بالدعوة إلى الإيمان بالله، والدخول في طاعة ملكه العادل، فقالت: [إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ] (النمل:34).
__________
(1) _ أحرياء جمع حري، بمعنى خليق وجدير.(1/106)
ثم هي لما وفدت عليه بمدينته، ورأت من عظمة سلطانه ما أبْهَتَها، ودخلت الصرح الممرد فحسبته لجة _ هنالك قالت: [رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] (النمل:44).
وكذلك فرعون موسى كان مما منعه أن يؤمن بموسى _عليه السلام_ أنه لم يرَ عليه آثارَ العظمةِ الزائفة؛ إذ قال في تعليل كفره به: [فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ] (الزخرف:53) وهي شعار الملوك في عرفهم.(1)
وفي هذا ما يشرح لنا تلك المجادلة التاريخية العظيمة الجارية بين عظيمين من عظماء أمتنا: عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيان؛ فقد جاء في كتب السير أن عمر بن الخطاب ÷لما قدم الشام تلقاه معاوية ÷ في موكب عظيم وهيئة؛ فلما دنا منه قال: أنت صاحب الموكب العظيم؟ قال: نعم، قال: مع ما بلغني من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك؟
قال: نعم، قال: ولِمَ تفعلُ ذلك؟
قال: نحن بأرضٍ جواسيسُ العدوِّ بها كثير، فيَجِبُ أن نظهر من عزِّ السلطان ما يرهبهم؛ فإن نهيتني انتهيت.
قال: يا معاوية: ما عاتبتك عن شيء يبلغني عنك إلا تَرَكْتَني منه في أضيقَ من رواحب الضِّرْس(2) فإن كان ما قلتَ حقاً فرأي أريب، وإن كان باطلاً فخدعة أديب.
قال معاوية: فَمُرْني، قال عمر: لا آمرك ولا أنهاك.
فقال عبدالرحمن بن عوف ÷وكان في معية عمر: يا أمير المؤمنين ما أحسن ما صدر عما أوْرَدْتَه.
قال عمر: لِحُسْن مصادره وموارده جشمناه ما جشمناه.(3)
__________
(1) _ انظر الهداية الإسلامية، مبحث مجلس رسول الله 10/578_580.
(2) _ هكذا في كتاب عين الأدب والسياسة لعلي بن هذيل ص183، وفي سير أعلام النبلاء للذهبي 3/133: =إلا تركتني في مثل رواجب الضَّرِس+.
(3) _ انظر سير أعلام النبلاء 3/133، وعين الأدب والسياسة ص183.(1/107)
والآن تهيأت إفاضة القول في صفة مجلس رسول الله " ومتعلقاته، وهو مبحث جليل لم يسبق للعلماء الباحثين عن السيرة والشمائل النبوية تدوينُه، وتخصيصُه بالبحث والتبويب، واستيعابُ ما يتعلق به _كما يقول ابن عاشور×_.(1)
أولاً: ورود المجلس الرسولي في القرآن:
لقد وردت الإشارة في القرآن الكريم إلى مجلس رسول الله" وذلك في قوله _تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا...] (المجادلة:11).
قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور×: =قال جمهور العلماء من السلف ومن بعدهم: المراد بالمجلس في الآية هو مجلس رسول الله، وسأذكر ذلك في المبحث المناسب له.
ثم إني لم أر لأحد من الباحثين في السيرة من ذكر هذا المجلس سوى عياض في كتاب الشفاء؛ فإنه ذكره بكلمة واحدة في غرض آخر؛ إذ قال في فصل زيارة القبر الشريف هذه العبارة: (قال إسحاق بن إبراهيم(2) الفقيه: ومما لم يزل مِنْ شأن مَنْ حجَّ المرورُ بالمدينة، والقصد إلى الصلاة في مسجد رسول الله" والتبرك برؤيته، وروضته، ومنبره، وقبره، ومجلسه)ا _هـ.(3)
فكان حقَّاً علينا أن نخصه بمقال أتقصَّى فيه ما تناثر في خلال كتب الحديث والسيرة؛ فيجيء بحثاً أُنُفاً(4) يبهج من كان بسيرة رسول الله كلفاً+.(5)
ثانياً: صفة مجلس رسول الله":
__________
(1) _ انظر الهداية الإسلامية 10/581.
(2) _ هو إسحاق بن راهويه.
(3) _ الشفا للقاضي عياض 2/669_670، وانظر شرح الشفا للقاضي عياض للملا علي قاري 2/151.
(4) _ أُنُفاً: أي جديداً.
(5) _ الهداية الإسلامية 10/581.(1/108)
لقد جاء مجلس رسول الله" على غاية ما يكون من البساطة، والتواضع، والخلو من مظاهر الأبهة؛ لأنه أعظم المصلحين وأفضل المرسلين، فأراد الله _عز وجل_ أن يكون ذلك النبي مقصوراً على التأييد بالدلائل الحقة الباقية على الزمان، وأن يجرده عن وسائل الخِلاَبة والاسترهاب؛ فتكونَ دعوته أكمل الدعوات، وعظته أبلغ العظات كما هو أكمل الدعاة والواعظين.
وذلك _كما يقول ابن عاشور(1)_ لحكم جمة، منها ما يلي:
الحكمة الأولى: أن لا يكون جلالُ قَدْرِه في النفوس، ونفوذُ أمره في الملأ محتاجاً إلى معونة بوسيلة من الوسائل المكملة للتأثير الذاتي النفساني، بل يكون تأثيره الذاتي كافياً في نفوذ آثاره في قلوب أتباعه؛ إذ كانت نفسُه الشريفةُ أكملَ نفسٍ برزت في عالم الوجود الحادث، فتكون أغنى النفوس عن التوسل بغير صفاتها الذاتية؛ إذ لا نقص في تأثير نفسه.
من أجل ذلك ادخر الله لرسوله التأييد بأوضح الدلائل، وأغناها عن العوارض التي تصطاد النفوس، وتسترهب العيون؛ حتى لا يكونَ شأنه جارياً على الشؤون المألوفة.
ولعل هذا مما يُلوِّح إليه قوله _تعالى_: [وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ] (الكهف:29).
أي هذه دعوة الحق المحض الغَنِيَّةُ عن البهرجةِ الزائلة والله أعلم؛ فيكون هذا من المعجزات الخفية التي هي آيات للمتوسمين على كُرور الأيام والسنين.
الحكمة الثانية: أن يكون الرسول غيرَ مشارك لأحوال أصحاب السيادة الباطلة من الجبابرة والطغاة؛ حتى لا يكون من دواعي إيمان بعض الفرق به وطاعتهم له_ما بهرهم من تلك الزخارف، كحال الذين استكبروا من قوم نوح؛ إذ قالوا: [وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ] (هود:27).
__________
(1) _ الهداية الإسلامية 10/581_582، وانظر شرح الشفا للقاضي عياض للملا علي قاري 2/151.(1/109)
وهذا معنى قول رسول الله ": =خيرت بين أن أكون نبيَّاً عبداً، أو نبيَّاً ملكاً، فاخترت أن أكون نبيَّاً عبداً+.(1)
الحكمة الثالثة: أن يحصلَ له _مع ذلك_ أعظمُ جلال في نفوس أعدائه بله أوليائه؛ فيكون فيه دليل على أن جلاله مستمد من عناية الله _تعالى_ وتأييده.
روى أبو داود، والترمذي أن قيلة بنت مَخْرمة جاءت رسول الله في المسجد وهو قاعدٌ القرفصاءَ قالت: =فلما رأيت رسول الله المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق+.(2)
فقولها: المتخشع في الجلسة أَوْمَأَ إلى أن شأن المتخشع في المعتاد ألا يرهب، وهي قد أَرْعَدَتْ منه؛ رهبة.
ووصف كعب بن زهير رسول الله حينما دخل عليه المسجد في أصحابه مؤمناً تائباً، وكان كعب يومئذ أقرب عهداً بالشرك، وأوغل في معرفة مظاهر ملوك العرب وسادتهم؛ إذ هو الشاعر ابن الشاعر؛ فإذا هو يقول بين يدي رسول الله يصف مجلسه:
لقد أقوم مقاماً لو أقوم به ... أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لظل يرعد إلا أن يكون له ... من الرسول بإذن الله تنويل
ثم يقول في صفة الرسول:
لذاك أهيبُ عندي إذ أُكَلِّمُه ... وقيل: إنك منسوب ومسؤول
من خادر من ليوث الأسد مسكنه ... من بطن عَثَّرَ غِيلٌ دونه غيلُ(3)
وجاء في صحيح مسلم من حديث عمرو بن العاص ÷ _وهو في سياق الموت_ أنه قال: =وما كان أحدٌ أحبَّ إليَّ من رسول الله " ولا أجلَّ في عينِي منه، وما كنت أطيق أن أملأ عينَيَّ منه؛ إجلالاً له، ولو سُئلتُ أن أصفه ما أطقتُ؛ لأني لم أكن أملأُ عينَيَّ منه+.(4)
أولاً: مكان مجلس الرسول:
__________
(1) _ رواه أحمد في المسند (7160).
(2) _ أبو داود (4847) والترمذي في سننه (2814) وفي الشمائل (120).
(3) _ عثَّر: مكان مشهور بكثرة السباع، والغيل: الشجر الكثير الملتف. انظر السيرة النبوية لابن هشام 4/114_115.
(4) _ أخرجه مسلم (121).(1/110)
إن من مارس الحديث والسيرة لا يَشُكُّ في أن مجلس رسول الله الذي يلتف حوله فيه أصحابه، وتجري فيه معظم أعماله في شؤون المسلمين _ إنما كان بمسجده، وأن ما عداه من الأمكنة التي ورد في الآثار حلوله فيها إنما هي مقاعد كان يحل فيها قبل البعثة، وبعدها قبل الهجرة، وبعدها قبل أن ينتظم أمر المسلمين، أو بعد ذلك فيما بعد الهجرة؛ لعوارض تعرض من زيارة، أو ضيافة، أو عيادة، أو قضاء مصالح، أو نحو ذلك؛ فقد جلس قبل البعثة وهو بمكة في دار ابن جُدعان، وفي المسجد الحرام، وأوى إلى غار حراء يَتَحَنَّث بإلهام من الله _تعالى_ استئناساً بالوحي، وجلس بعد البعثة في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وفي شعب أبي طالب مدة القطيعة، وسكن دار أبي أيوب الأنصاري عند مَقْدَمِهِ المدينةَ، وجلس بمسجد قباء قبل بناء المسجد النبوي، ولم يلبث أن بنى مسجده؛ فكان مجلسه بَعْدُ في ذلك المسجد فيما عدا أحوالاً تعرض مثل خروجه إلى بني عمرو بن عوف؛ للإصلاح بينهم.(1)
وقد أرشدنا إلى ذلك ما في الصحيح عن أبي موسى الأشعري أنه قال: =توضأت يوماً وخرجت من بيتي فقلت: لألزمن رسول الله يومي هذا، ولأكونن معه، فجئت المسجد فسألت عنه، فقالوا: خرج... إلخ +.(2)
فقوله: =فجئت المسجد، فسألت عنه+ ينبئ بأن مَظِنَّةَ لقاءِ الرسول هي المسجد.
ثم إن تعيين مكان جلوسه من المسجد لم يَجْرِ له ذكر في كلامهم.
والذي يظهر أنه كان يلزم مكاناً معيناً للجلوس؛ لينتظره عنده أصحابه والقادمون إليه.(3)
والظاهر أن هذا المكان المعين هو ما بين المنبر وحجرة عائشة _رضي الله عنها_ وهو الملقب بالروضة، ويدل لذلك ثلاثة أدلة:
الدليل الأول: ما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله" قال: =ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة+.(4)
__________
(1) _ انظر صحيح البخاري (684) ومسلم (121).
(2) _ مسلم (2403).
(3) _ انظر الهداية الإسلامية 10/584_586.
(4) _ البخاري (1196) ومسلم (1390 و 1391).(1/111)
وللعلماء في معنى ذلك تأويلات أظهرها والذي مال إليه جمهورهم أنه كلام جرى على طريقة المجاز المرسل؛ فإن ذلك المكانَ لما كان موضع الإرشاد والعلم كان الجلوس فيه سبباً للتنعم برياض الجنة؛ فأطلق على ذلك المكان أنه روضة من رياض الجنة بإطلاق اسم المسبب على السبب.
أو جرى على طريق الاستعارة بأن شَبَّه ما يصدر في ذلك المكان من الإرشاد والتشريع والعلم والموعظة والحكمة المنعشة للأرواح بما في رياض الجنة من الثمار والأزهار والأنهار ذات الإنعاش الخالد، فأطلق اسم المشبه به على المشبه.
وفي هذا إنباء بأن موضع الروضة مجلس رسول الله الذي كان فيه معظم إرشاده وتعليمه الناس.
الدليل الثاني: أنا نجد أحاديث كثيرة روتها عائشة _رضي الله عنها_ تتضمن ما دار بين رسول الله وبين سائليه، ولم نجد مثل ذلك لبقية أمهات المؤمنين؛ فعلمنا أن ذلك انفردت به عائشة؛ من أجل قرب بيتها من مجلس الرسول، وقد كان بيتها بقرب الروضة.
الدليل الثالث: ما رواه الترمذي عن أبي هريرة أنه قال: =لقد رأيتني وإني لأَخِرُّ فيما بين منبر رسول الله وحجرة عائشة؛ فيجيء الجائي، فيضع رجله على عنقي يرى أن بي جنوناً وما بي جنون، وما هو إلا الجوع+.(1)
مع ما رواه البخاري ومسلم من أن أبا هريرة قال: =يقولون: إن أبا هريرة يكثر الحديث والله الموعد، ويقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل أحاديثه، وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإخوتي من الأنصار يشغلهم عملٌ في أموالهم، وكنت امرءً مسكيناً ألزم رسول الله على مِلْء بطني؛ فأحضر حين يغيبون، وأعي حين ينسون+.(2)
فينتج من ذلك أن مقام أبي هريرة كان في الروضة، وأن ملازمته رسول الله كانت في ذلك المقام، وأن الروضة هي مجلس رسول الله ".(3)
__________
(1) _ الترمذي (2367) وقال: =حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه+.
(2) _ أخرجه البخاري (118 و 2223) ومسلم (2492).
(3) _ انظر الهداية الإسلامية 10/586_587.(1/112)
قال ابن عاشور×: =هذا وقد رأيت في كلام شهاب الدين الخفاجي في شرحه على شفاء عياض كلمة تقتضي الجزم بأن مجلس رسول الله هو الروضة؛ فإنه لما بلغ إلى قول عياض: =لم يزل من شأن مَنْ حج المرورُ بالمدينة والقصد إلى التبرك برؤية مسجد رسول الله وروضته ومنبره وقبره ومجلسه+ إلخ...
قال: =ومجلسه أي موضع جلوسه في الروضة المأثور ا _ هـ.+.
ولم أقف على مستنده الصريح فيما جزم به+.(1)
قال الشيخ ملا علي قاري في شرح الشفا عند قول عياض: =ومجلسه+ قال: =أي محل جلوسه في المسجد، ومكان صلاته عند الاسطوانات وغيرها+.(2)
ثانياً: كيفية التئام مجلس الرسول وخروجه إليه:
كان أصحاب رسول الله إذا قصدوا مسجده يحضرون المكان الذي اعتاد الجلوس فيه، فإذا قدموا قبل خروج الرسول"يجلسون ينتظرونه حتى إذا خرج رسول الله كانوا يقومون له، فنهاهم عن ذلك، روى أبو أمامة، قال: =خرج علينا رسول الله فقمنا له، فقال: =لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً+(3) فصار القيام منسوخاً على الأصح.
وعندما يخرج رسول الله على أصحابه يبقون جلوساً؛ فلا يرفع أحد منهم بصره إلى رسول الله إلا أبو بكر وعمر؛ فإنهما كانا ينظران إليه، وينظر إليهما، ويبتسمان إليه، ويبتسم إليهما، كذا في الشفاء.
وفي الشفاء أنه كان يجلس حيث انتهى به المجلس، ويجلس بين أصحابه مختلطاً بهم.(4)
__________
(1) _ الهداية الإسلامية 10/587.
(2) _ شرح الشفا 2/151.
(3) _ أخرجه أبو داود (5230).
(4) _ انظر شرح الشفا 1/289، والهداية الإسلامية 10/588.(1/113)
والظاهر أن معنى ذلك أنه حين يخرج إليهم لا يتخطى رقابهم، ولكن يجلس حيث انتهى به المجلس؛ ففي الصحيحين عن أبي واقد الليثي أن رسول الله بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان منهم إلى رسول الله، وذهب واحد، فوقفا على رسول الله، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهباً، فلما فرغ رسول الله _أي من كلامه_ قال: =ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهما فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيى فاستحيى الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه+.(1)
وفي أسباب النزول والتفسير أن رسول الله كان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، وأن ناساً منهم جاؤوا إلى مجلسه فلم يجدوا موضعاً، فقاموا مواجهين له، ولم يوسع لهم أحد، فقال رسول الله لبعض من حوله من غير أهل بدر: قم يا فلان ويا فلان، وفي ذلك نزل قوله _تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ] الآية، (المجادلة:11).(2)
وسيأتي تفصيله في ذكر آداب مجلسه ".
وربما وقف السامع إلى حديث رسول الله، وفي البخاري: باب من سأل وهو قائم عالماً جالساً، وأخرج حديث أبي موسى الأشعري: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله ما القتال في سبيل الله؟ فرفع رسول الله رأسه إليه وقال: =من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا+.
قال الراوي: وما رفع رأسه إليه إلا أن السائل كان قائماً+.(3)
وكان الملازمون مجلسَ رسول الله " أصحابَه من الرجال.
__________
(1) _ البخاري (66 و 474) ومسلم (2176).
(2) _ انظر تفسير التحرير والتنوير 27/36_42، والهداية الإسلامية 10/588_589.
(3) _ البخاري (123) ورواه مسلم (1904).(1/114)
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أنه قال: =قال النساء للنبي: غلبنا عليك الرجال؛ فاجعل لنا يوماً لنفسك، فوعدهن يوماً لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن...إلخ +.(1)
وظاهر ترجمة البخاري لهذا الحديث أن اليومَ المجعولَ للنساء لم يكن يوماً مفرداً وحيداً، بل جعل لهن نوبة من الأيام؛ فيحتمل أنه جعل لهن يوماً في الأسبوع، أو في الشهر، أو بعد مدة غير معينة يعين لهن موعده من قبل، والله أعلم.
أولاً: هيئة المجلس الرسولي:
تدل الآثار على أن مجلس رسول الله " كان على صورة الحلقة الواحدة، أو الحِلَق المتداخلة كما ورد في حديث أبي واقد الليثي في صحيح البخاري؛ إذ قال فيه: =فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم+.(2)
وقد تقدم آنفاً، بل صرح بعض الرواة بأن أصحاب رسول الله "كانوا يجلسون حوله حِلَقاً.
أما رسول الله "فكان مجلسه في وسطهم؛ ففي الصحيحين عن أنس ابن مالك÷أن ضماماً بن ثعلبة السعدي ÷لما دخل المسجد قال: أيكم محمد؟ قال أنس: والنبي متكئ بين ظهرانيهم(3).
وسيأتي الحديث، ومعنى بين ظهرانيهم أنه في وسطهم.
وجاء في سنن أبي داود والنسائي عن أبي ذر وأبي هريرة: =كان النبي" يجلس بين ظهري أصحابه، فيجيء الغريب فلا يدري أهو هو حتى يسأل، فطلبنا لرسول الله "أن نجعل له مجلساً كي يعرفه الغريب، فبنينا دكاناً من الطين يجلس عليه فجلس عليه، وكنا نجلس بجنبتيه+.(4)
__________
(1) _ البخاري (101 و 1249) ومسلم (2633).
(2) _ مضى تخريجه.
(3) _ البخاري (63) ومسلم (12).
(4) _ أبو داود (4698) وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود (3931): =صحيح+ والنسائي (4991) وقال الألباني في صحيح سنن النسائي (4618): =صحيح+.
والغريب أن الشيخ ابن عاشور× قال: =ومن الغريب ما ذكره القرطبي في كتاب (المفهم على صحيح مسلم) عن البزار عن عمر بن الخطاب ثم ذكر الحديث السابق.
وقال: =وهذا غريب؛ إذ لم يُذكر هذا الدكان فيما ذكروه في تفصيل صفة المسجد النبوي في الكتب المؤلفة في ذلك+.(1/115)
وكانت هيئة جلوس رسول الله "في مجلسه غالباً الاحتباء، فقد ذكر الترمذي في كتاب الشمائل عن أبي سعيد الخدري ÷: =كان رسول الله "إذا جلس في المجلس احتبى بيديه+.
وقول الراوي: كان يفعل، يدل على أنه السُّنةُ المتكررة.
والاحتباء: هو الجلوس وإيقاف الساقين، فتجعل الفخذان تجاه البطن بإلصاق، ويلف الثوب على الساقين والظهر، فإذا أراد المحتبي أن يقوم أزال الثوب.
وأما الاحتباء باليدين هو أن يجعل المحتبي يديه يشد بهما رجليه عوضاً عن الثوب، فإذا قام قالوا حلَّ حُِبوته _بكسر الحاء وضمها_.
وكان الاحتباء أكثر جلوس العرب، وربما جلس رسول الله "القُرْفُصَاء _بضم القاف وسكون الراء بالمد والقصر_ وهي الاحتباء باليدين، وربما جعلت اليدان تحت الإبطين، وهي جلسة الأعراب والمتواضعين.
وقد وُصِف جلوس رسول الله " القرفصاء في حديث قيلة بنت مخرمة _رضي الله عنها_ وقد تقدم آنفاً، وربما اتكأ رسول الله"في مجلسه في المسجد.
وفي الصحيحين عن أبي بكرة÷أن رسول الله"قال: =ألا أحدثكم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، وقال: ألا وقول الزور...إلخ+.(1)
وفي حديث جابر بن سمرة÷رأيت رسول الله"متكئاً على يساره وربما اتكأ على يمينه.(2)
وفي حديث حنظلة بن حِذْيَم قال: =أتيت النبي"فرأيته جالساً متربعاً+.(3)
وقد تجعل له وسادة، روى الترمذي عن جابر بن سمرة÷أنه رأى رسول الله"متكئاً على وسادة على يساره(4).
__________
(1) _ البخاري (2654) ومسلم (87).
(2) _ أخرجه ابن عدي في الكامل 1/425.
(3) _ أخرجه البخاري في الأدب المفرد (1179) وقال الألباني في صحيح الأدب المفرد (899): =صحيح لغيره+.
(4) _ سنن الترمذي (2770) وقال: =هذا حديث حسن غريب+ والشمائل للترمذي (123).(1/116)
وعددُ جُلساء رسول الله"لا ينضبط، بل كان يختلف باختلاف الأيام وأوقات النهار، فربما اشتمل المجلس على أربعين رجلاً كما ورد في الصحيحين من حديث أنس بن مالك÷قال: =أرسلني أبو طلحة الأنصاري÷أدعو له رسول الله"خامس خمسة لطعام صنعه لرسول الله"فوجدت النبي"في المسجد معه ناس فقمت، فقال: =أأرسلك أبو طلحة؟+ قلت: نعم، قال: =لطعام؟+ قلت: نعم، فقال لمن معه: =قوموا+ وكانوا نحو الأربعين+ (1).
وربما كان مجلسه يشتمل على عشرة، ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر _رضي الله عنهما_ قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله " فأُتِيَ بجمار نخلة فقال النبي ": =إن من الشجرة شجرةً لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم+ فأردت أن أقول هي النخلة ثم التفت، فإذا أنا عاشر عشرة أنا أحدثهم فسكتُّ...إلخ+.(2)
ثانياً: ما كان يجري في مجلس رسول ":
نبعت ينابيع الهدى، والحكمة، والتشريع من مجلس رسول الله " ومن منبره، ولقد كان أكثر ما رواه أصحابه عنه مما سمعوه منه في مجلسه؛ لذلك يكثر أن تجد في الأحاديث المروية عن الصحابة أن يقول الصحابي: =بينما نحن جلوس عند رسول الله "+.
وفي ذلك المجلس تتلى آيات الكتاب الحكيم _كما سيأتي في حديث أبي سعيد الخدري÷_.
وكان يقع التحاكم عند رسول الله " في مجلسه، وقد حكم فيه بين المسلمين كثيراً، وبين اليهود في قصة الرجم؛ إذ جاءه اليهود برجل وامرأة زنيا فأمر بهما، فرجما في موضع الجنائز من المسجد.(3)
وكانت تفد عليه الوفود وهو في مجلسه، ويأتيه سفراء المشركين من أهل مكة، ويَعْتَوِرُه العُفاة، وأصحاب الحاجات.
__________
(1) _ البخاري (422 و 3578) ومسلم (2040).
(2) _ البخاري (4698) ومسلم (2811).
(3) _ انظر البخاري (7543) ومسلم (1699).(1/117)
وربما اختلف الصبيان إلى ذلك المجلس، أو دعاهم إليه رسول"فقد أخرج البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة ÷ قال: =ما رأيت حَسَناً(1) قطّ إلا فاضت عيناي دموعاً، وذلك أن النبي"خرج يوماً، فوجدني في المسجد، فأخذ بيدي، فانطلقت معه، فما كلمني حتى جئنا سوق بني قينقاع، فطاف فيه، ونظر، ثم انصرف وأنا معه، حتى جئنا المسجد، فجلس، فاحتبى، ثم قال: =أين لَكاع؟ ادعُ لي لَكاع(2)+.
فجاء حسن يشتد، فوقع في حجره، ثم أدخل يده في لحيته، ثم جعل النبي"يفتح فاه، فيدخل فاه في فيه، ثم قال: =اللهم إني أحبُّه فأحبَّه، وأحبَّ من يحبه+.(3)
وإلى ذلك المجلس يأوي الفقراء، فكان _عليه الصلاة والسلام_ يدنيهم، ويتألفهم، فعن أبي سعيد الخدري÷قال: =كنت في عصابة من المهاجرين جالساً معهم، وإن بعضهم يستتر من العري، وقارئ يقرأ علينا، فكنا نستمع إلى كتاب الله _تعالى_ فقال النبي": =الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر معهم نفسي+.
قال: ثم جلس رسول الله"وسَطَنا؛ ليعدل بيننا نفسه فينا، ثم قال بيده هكذا؛ فاستدارت الحلقة، وبرزت وجوههم.
قال: فما عرف رسول الله"منهم غيري، فقال رسول الله":
=أبشروا معاشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة، تدخلون الجنة قبل الأغنياء يوم القيامة بنصف يوم، وذلك خمسمائة عام+.(4)
ثم هو _أيضاً_ مجلس أدب ينشد فيه الشعر، وتضرب فيه الأمثال.
ولقد أنشد كعب بن زهير قصيدته المشهورة؛ فلما بلغ إلى وصف راحلته فقال:
__________
(1) _ يعني الحسن بن علي _رضي الله عنهما_.
(2) _ اللُّكع عند العرب يطلق على عدة معان، يطلق على العبد، ثم استعمل في الحمق والذم، يقال للرجل لُكع، ويقال للمرأة لكاع، وأكثر ما يقع في النداء، وقد يطلق على الصغير، وهو المراد هنا.
(3) _ الأدب المفرد (1183) وقال الألباني في صحيح الأدب المفرد (902): (حسن).
(4) _ أخرجه البيهقي في دلائل النبوة 1/351_352، والترمذي (2353) عن أبي هريرة، وقال: =حسن صحيح+.(1/118)
قنواء في حرتيها للبصير بها ... عِتْقٌ مبينٌ وفي الخدين تسهيل
قال رسول الله " لأصحابه: ما حرتاها؟ فقال بعضهم: عيناها، وسكت بعضهم، فقال رسول الله ": هما أذناها.
ولما بلغ كعب قوله في مدح المهاجرين:
لا يقع الطعن إلا في نحورهم ... وما لهم عن حياض الموت تهليل
نظر رسول الله "إلى من حوله من قريش نظر من يومئ إليهم أن اسمعوا هذا المدح.(1)
وروى الترمذي عن جابر بن سمرة ÷ قال: جالست رسول الله "أكثر من مائة مرة، وكان أصحابه يتناشدون الشعر، ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت، فربما يبتسم معهم.(2)
وربما أُنْشِد الشِّعرُ، فتمثل في بعض ما أُنْشِدَ أمامه، فعن الأعشى المازني قال:
=أتيت النبي"فأنشدته:
يا مالك الناس وديانَ العرب ... إني لقيت ذِرْبةً من الذِّرب
أخلفتِ الوعدَ ولَطَّت بالذنب ... وهن شرُّ غالبٍ لمن غلب
فجعل"يتمثلها، ويقول: وهن شرُّ غالبٍ لمن غلب+.(3)
وربما أنشده أحد الشعراء، فاستوقفه، وسأله عن مقصوده في أحد الأبيات، وربما دعا له، فعن يعلى بن الأشدق قال: سمعت النابغة الجعدي يقول: أنشدت النبي":
بلغنا السماءَ مجدنا وجدودنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فقال: =أين المظهر يا أبا ليلى؟+.
قلت: الجنة، قال: =أجل إن شاء الله+.
ثم قال:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... بوادرُ تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليمٌ إذا ما أورد الأمرَ أصدرا
فقال رسول الله": =لا يفضضِ الله فاك مرتين+.
ويروى أن النابغة كان أحسن الناس ثغراً، وأنه عاش مائة وثلاثين سنة، فكان إذا سقطت له ثنية نبتت مكانها أخرى.(4)
__________
(1) _ انظر السيرة النبوية لابن هشام 4/113 و 116، والهداية الإسلامية 10/592_593.
(2) _ الترمذي (2850) وقال: =هذا حديث حسن صحيح+.
(3) _ أخرجه أحمد (6884) والبيهقي في السنن الكبرى(20904).
(4) _ انظر مسند الحارث (زوائد الهيثمي (894) وسبل الرشاد للصالحي 9/349.(1/119)
وربما استنشد _عليه الصلاة والسلام_ أحد جلاسه؛ فعن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: =استنشدني النبي"من شعر أمية بن أبي الصلت؛ فأنشدته مائة قافية وبيت+.(1)
وربما تمثل بالشعر في مجلسه؛ ففي الصحيحين عن جندب بن عبدالله÷قال: أصابت أصبعُ النبي"شيئاً، فدَمِيت.
وفي لفظ: بينما نحن جلوس مع رسول الله"في بعض المشاهد إذ أصابه حجر، فعثر، فدميت أصبعه فقال:
هل أنت إلا أَصْبُعٌ دَمِيت ... وفي سبيل الله ما لقيت(2)
وعن عكرمة قال: سألت عائشة _رضي الله عنها_: هل سمعت رسول الله"يتمثل شعراً قط؟
فقالت: أحياناً إذا دخل بيته يقول: =ويأتيك بالأخبار من لم تزودِ+.(3)
وقوله: =ويأتيك بالأخبار من لم تزود+ هذا عجز بيت لطرفة بن العبد في معلقته المشهورة، وصدره:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ................................................
وقد ورد في الأثر أن أصحاب رسول الله " إذا دخلوا عليه كانوا لا يفترقون إلا عن ذَواق، ويخرجون أدلة _أي فقهاء_.(4)
وللعلماء اختلاف في تأويله، فحمله بعضهم على ظاهره، أي لا يفترقون إلا بعد أن يطعموا طعاماً قليلاً؛ ولذلك عبر عنه بذَواق، وهو بفتح الذال الشيء المَذُوق من تمر أو نحوه أو ماء.(5)
وقد ورد في حديث عبد الله بن عمر _رضي الله عنهما_ أنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله " فأُتِيَ بِجُمَّار نخلة...إلخ(6) أي أتى به ليؤكل في مجلسه، ولذلك ترجم البخاري هذا الحديث: باب أكل الجمار.
__________
(1) _ أخرجه أحمد (19474) وابن ماجه (3758) والطبراني في الأوسط (2429).
(2) _ البخاري (5794) ومسلم (1796).
(3) _ أخرجه البخاري في الأدب المفرد (792) وقال الألباني في صحيح الأدب المفرد (608): =صحيح+.
(4) _ أخرجه الطبراني في الكبير 22/157، وانظر الشفا 1/204.
(5) _ انظر أخلاق النبي"للأصبهاني ص24، والهداية الإسلامية 10/593.
(6) _ البخاري (5129).(1/120)
وفي الصحيحين عن أبي هريرة ÷: جاء رجل إلى رسول الله "يذكر أنه وقع على أهله في نهار رمضان إلى أن قال: فبينما نحن على ذلك إذ أُتي النبي" بعرق فيه تمر(1)... إلخ.
والعَرَِق بفتح العين وفتح الراء ويجوز كسرها هو المكتل أي الزنبيل.
وتأوله ابنُ الأنباري، وابنُ الأثيرِ، وغيرُ واحدٍ أنه أراد أنهم لا يتفرقون إلا عن علم تعلموه يَقُوْم لأنفسهم مقامَ الطعامِ والشراب للأجسام في الانتعاش والالتذاذ؛ فجرى الكلام على طريقة الاستعارة.(2)
وفي ذلك المجلس ينكر _عليه الصلاة والسلام_ ما يراه مجانباً للصواب مع احتفاظه بعادته الجميلة في التعريض والتعميم، حيث يأخذ في التأديب والزجر عما لا ينبغي مأخذاً لطيفاً، فلا يوجّه الإنكار إلى من صدر منه الخطأ بعينه ما وجد في الموعظة العامة كفاية من باب قوله: =ما بال أقوام+.
جاء في الصحيحين عن عائشة _رضي الله عنها_ قالت: صنع النبي"شيئاً فرخَّص فيه، فتنزه عنه قومٌ، فبلغ ذلك النبي"فخطب، فحمد الله ثم قال: =ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟ فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية+. (3)
وقد بوب البخاري×لهذا الحديث في =باب من لم يواجه الناس في العتاب+.
وشكى إليه رجلٌ رجلاً حين كان يطيل بهم صلاة الغداة، فاشتد غضبه " ولكنه احتفظ بعادته الجميلة؛ فلم يخاطب الذي كان يطيل على التعيين، بل عمم الموعظة وقال: =أيها الناس إن منكم منفِّرين؛ فمن صلى بالناس فليخفف؛ فإن فيهم المريض، وذا الحاجة+. (4)
وربما احتاج _عليه الصلاة والسلام_ إلى التعيين، إذا استدعاه المقام.
__________
(1) _ البخاري (1834و 5053 و 5737 و 6331 و 6333) ومسلم (1111).
(2) _ انظر الهداية الإسلامية 10/593.
(3) _ البخاري (6101) ومسلم (2356).
(4) _ رواه البخاري (702) و(704) و(6110) ومسلم (466).(1/121)
فقد جاء في الصحيحين عن جابر بن عبدالله ÷ قال: =كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي " ثم يرجع فيؤم قومه، فصلى ليلة مع النبي " العشاء، ثم أتى قومه فأمَّهم، فافتتح بسورة البقرة، فانحرف رجل، فسلَّم، ثم صلى وحده، وانصرف، فقالوا له: أنافقت يا فلان؟ قال: لا، والله لآتين رسول الله " فلأخبرنه، فأتى رسول الله " فقال: يارسول الله إنَّا أصحاب نواضح نعمل بالنهار، وإن معاذاً صلى معك العشاء، ثم أتى فافتتح بسورة البقرة، فأقبل رسول الله " على معاذ فقال: =يامعاذ! أفتان أنت؟ اقرأ بكذا، واقرأ بكذا+.
وفي رواية: =يامعاذ! أفتان أنت _ثلاثاً_ اقرأ: (والشمس وضحاها) و(سبح اسم ربك الأعلى) ونحوهما+.
وفي رواية: =فتان، فتان، فتان+ ثلاث مرار أو قال: =فاتناً، فاتناً، فاتناً+.(1)
وفي ذلك المجلس يجيب عن الأسئلة التي ترد عليه _كما في حديث جبريل عليه السلام المشهور_ حيث سأل النبي"عن الإسلام، والإيمان، والإحسان.(2)
وعن أبي هريرة÷قال: كان رسول الله"يوماً بارزاً للناس فأتاه رجل فقال: يا رسول الله، ما الإيمان؟ قال: =أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه وتؤمن بالبعث+ الحديث(3).
والأحاديث في هذا السياق كثيرة جداً.
وربما وجَّه النبي _عليه الصلاة والسلام_ السؤال إلى من حوله، وهذا كثير جداً كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة÷قال: =كنا في قُبَّة نحواً من أربعين رجلاً مع رسول الله"فقال: =أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة+ الحديث(4).
وقد يبتدر الحديث من تلقاء نفسه، وهذا _أيضاً_ كثيرٌ جداً كما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة÷عن النبي"قال: =لقابُ قوسٍ في الجنة خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب+(5).
__________
(1) _ البخاري (701 و 507 و710 و6106) ومسلم (465).
(2) _ رواه مسلم (8).
(3) _ رواه ابن ماجه (64).
(4) _ البخاري (2528) ومسلم (221).
(5) _ البخاري (2793) ومسلم (1882).(1/122)
ومما يجري في ذلك المجلس العظيم المبارك كثرة ذكر الله، ودعائه، واستغفاره _كما سيأتي عنه الحديث في آداب المجلس الرسولي_.
أولاً: وقت المجلس الرسولي:
لعل معظم جلوس رسول الله " للناس كان في أوقات تفرغ معظم الصحابة من العمل، فكان يجلس لهم بعد صلاة الصبح كما يشهد لذلك حديث كعب ابن مالك÷وتوبته، قال كعب: =ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا؛ فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله _عز وجل_ منا سمعت صوت صارخ أَوْفَى على سلع، يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر، قال فخررت ساجداً وعرفت أن قد جاء الفرج.
إلى أن قال كعب: حتى دخلت المسجد؛ فإذا رسول الله " جالس في المسجد وحوله الناس+ الحديث.(1)
وكذلك حديث أبي موسى الأشعري÷المتقدم إذ يقول: توضأت يوماً وخرجت من بيتي فقلت: لألزمن رسول الله"يومي هذا، وأكون معه، فجئت المسجد... إذ لا شك أن ذلك وقت صلاة الصبح.
وما كان رسول الله"يستغرق الصباح كله في المجلس؛ فإن أصحابه كانوا يذهبون إلى أعمالهم وحاجاتهم، ولأن رسول الله"كان يدخل بيوت أزواجه، فقد قالت عائشة _رضي الله عنها_ كان يكون في بيته في مَهْنَةِ أهله.(2)
وفي حديث علي÷من رواية الترمذي ورواية عياض: كان دخوله لنفسه؛ فكان إذا أوى إلى منزله جزَّأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزءاً لله، وجزءاً لأهله، وجزءاً لنفسه، ثم جزأ جزءه بينه وبين الناس، فَيَرِدُ ذلك على العامة بالخاصة، ولا يدخر عنهم شيئاً.(3)
أي كان له في بيته وقت يجلس إليه فيه خاصة أصحابه ومن له حاجة خاصة.
__________
(1) _ انظر حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه الطويل في صحيح البخاري (2757 و 2947 و3556 و3889) ومسلم (2769).
(2) _ انظر صحيح البخاري (676).
(3) _ أخرجه الطبراني في الكبير 22/157.(1/123)
ومعنى يرد ذلك على العامة أنه تحصل منه منفعة للعامة بما يرويه الخاصة من علمه للناس، وفي هذا دليل على أن معظم ما عدا وقت دخوله إلى منزله كان وقت مجلسه إلا إذا عرضت حاجة يذهب إليها.(1)
ثانياً: آداب مجلس رسول الله:
كيف لا يكون مجلس يحتله رسول الله " ميداناً تسابق الآداب فيه إلى غاياتها، وجوَّاً ترفرف فيه الكمالات راقيةً إلى سماواتها.
فإن صاحبه هو الذي أدبه ربه بأحسن تأديب، وجلساءه هم أولئك الغُرُّ المناجيب، وناهيك بأن ورد بعض آدابه في الكتاب المجيد، قال الله _تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا] (المجادلة:11).
قال الواحدي، وابن عطية عن مقاتلٍ وقتادةَ وزيدِ بنِ أسلم: كان النبي" يجلس في المسجد فجلس يوماً وكان في المجلس ضيق؛ إذ كان الناس يتنافسون في القرب من رسول الله " وفي سماع كلامه، والنظر إليه، وكان رسول الله" يكرم أهل بدر، فجاء أناس من أهل بدر، فلم يجدوا مكاناً في المجلس، فقاموا وِجَاهَ النبي"على أرجلهم يرجون أن يوسع الناس لهم، فلم يوسع لهم أحد، فأقام رسول الله"أناساً بقدر من جاء من النفر البدريين، فعرف رسول الله" الكراهية في وجوه الذين أقامهم، فنزلت الآية.
فقوله: [إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ] فيما إذا كان في المجلس ضيق، فيتفسح الناس بدون أن يقوم أحد.
وقوله: [وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا] أي إذا قيل لكم ارتفعوا وقوموا عن المجلس فافعلوا، أي إذا أمركم الرسول"في مجلسه بالقيام فلا تتحرجوا، وهو ضرب من التفسح.
__________
(1) _ انظر الهداية الإسلامية 10/594.(1/124)
وقيل: التفسح يكون بالتوسعة من قعود أو من قيام، فهما داخلان في قوله: تفسحوا، والنشوز هو أن يؤمروا بالانفضاض عن المجلس، فإذا أمروا بذلك فلا يتحرجوا؛ لأن رسول الله"يحب أحياناً الانفراد بأمور المسلمين؛ فربما جلس إليه القوم، فأطالوا؛ لأن كل أحد يحب أن يكون آخر الناس عهداً بالنبي" وكل ذلك من فرط محبتهم إياه، وحرصهم على تلقي هداه.(1)
ومن آدابه المذكورة في الكتاب المجيد ما في قوله _تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ] (الحجرات:2).
وقوله: [لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً] (النور:63).
قال علماء التفسير: نزلت هاتان الآيتان بسبب محاورة جرت بين أبي بكر وعمر _رضي الله عنهما_ بين يدي رسول الله"في مجلسه، وذلك حين قدم وفد بني تميم أشار أبو بكر÷على النبي"أن يؤمَّ على بني تميم القعقاع بن معبد، فقال عمر÷: بل أمِّر عليهم الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي! فقال عمر: ما أردت خلافك، فتماديا، وارتفعت أصواتهما، فنزل القرآن بهذه الآية، قالوا: فكان أبو بكر ÷ بعد ذلك لا يكلم رسول الله"إلا كأخي السرار _أي كصاحب السر والمسارة_ وكان عمر÷بعد ذلك إذا كلم رسول الله"لا يكاد يسمعه حتى إن رسول الله"لَيَسْتَفْهِمه.(2)
ومن آداب ذلك المجلس أن خاصة أصحابه لا يسألون النبي"إلا إذا ابتدرهم النبي"كما في حديث جبريل المشهور؛ فإن جبريل _عليه السلام_ يسأل والنبي"يجيبه، وجبريل على هيئة رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه أحد من الصحابة _كما ذكر ذلك عمر بن الخطاب_.
__________
(1) _ انظر تفسير التحرير والتنوير 27/36_42، والهداية الإسلامية 10/594_595.
(2) _ انظر صحيح البخاري (4845).(1/125)
ومع هذه الحالة الغريبة، والتشوف لمعرفة هذا السائل لم يسأل عنه أحدٌ من الصحابة؛ إجلالاً لرسول الله"حتى ابتدرهم النبي"وأعلمهم به.
قال عمر في آخر الحديث: ثم انطلق _يعني جبريل_ فلبث ملياً، ثم قال لي: =يا عمر أتدري من السائل؟+.
قلت الله ورسوله أعلم.
قال: =فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم+(1).
ومن آداب مجلسه أن أصحابه يكونون فيه على غاية التؤدة والسكينة؛ فقد روى أبو داود في سننه عن أسامة بن شريك قال: =أتيت النبي"وأصحابُه كأنما على رؤوسهم الطير+(2).
ومعنى كأنما على رؤوسهم الطير: أي في حالة السكون؛ لأن الطائر ينفر من أدنى تحرك.
وكان رسول الله"يعطي كل أحد من جلسائه نصيبه لا يحسب أحد أن أحداً أكرم عليه منه.
وكان مجلسه مجلس وقار، وحلم، وحياء، وخير، وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحُرَمُ، ولا تثنى فلتاته.
ومعنى لا تؤبن فيه الحرم: أي لا تذكر فيه حرمات الناس بسوء، يقال أبَنه إذا ذكره بسوء، والمراد بالحرم هنا أعراض الناس، وما يحرِّمون تناوله منهم.
ومعنى لا تثنى فلتاته: لا تعاد، مأخوذٌ من التثنية وهي الإعادة، والفلتات جمع فلتة، وهي الزلة من القول والفعل إذا جرت على غير قصد بغتة؛ يعني أن أهل ذلك المجلس أهل حفظ للسر، وإعراض عن اللغو، فلو صدرت من أحد فلتة لم يتناقلها جلساؤه بالتسميع والتشنيع.
وهذا أدب عربي رفيع، وفي هذا المعنى قال ودَّاك بن ثميل من شعراء الحماسة:
وأحلام عاد لا يخاف جليسهم ... إذا نطق العوّارَ غربُ لسان
ومن آداب ذلك المجلس أن أصحابه لا يقاطعون الرسول"إذا تكلم، وإذا سكت تكلموا، وإذا تحدثوا عنده لم يختلفوا، ولم يتخاصموا.
ومن أراد الكلام أنصتوا، واستمعوا له حتى يفرغ من كلامه.
وكان آخر من يتكلم عند النبي"له نفس حظ أول المتكلمين من الانصات والاهتمام.
__________
(1) _ رواه مسلم (8).
(2) _ أبو داود (3855).(1/126)
وكان _عليه الصلاة والسلام_ يضحك مما يضحكون، ويعجب مما يعجبون إذا كان في حدود الأدب.
وكان يصبر على الغريب إذا جفاه في مقاله وسؤاله، حتى إن أصحابه قد لا يرضون ذلك، ولكنهم لا يتقدمون بين يديه _عليه الصلاة والسلام_ ولا يتجاوزون ما علمهم من الصبر، والرحمة، وإعانة طالب الحاجة على طلبه.
ولهذا كان جلساؤه يتواصون بالتقوى، ويحفظون المروءات في مجلسه، فيوقِّرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويرفدون ذا الحاجة، ويتعَطَّفون على الغريب، ويحتملون جفوته، بل ربما علموه بعض آداب ذلك المجلس قبل دخولهم فيه.(1)
يقول الشيخ عبدالحي الكتاني×في كتابه التراتيب الإدارية: =وفي تفسير المولى أبي السعود الحنفي: كان أبو بكر÷إذا قدم على رسول الله"الوفود أرسل من يعلمهم كيف يسلمون، ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول الله"+اهـ.
قلت _أي الكتاني_: وهذا يفهمنا _أيضاً_ أن أبا بكر يشغل _أيضاً_ وظيفة مدير التشريفات+.(2)
ومن آداب ذلك المجلس إلقاء السلام في أوله وآخره؛ قال _عليه الصلاة والسلام_: =إذا انتهى أحدكم إلى مجلس فليسلم، فإن بدا له أن يجلس فليجلس، ثم إذا قام فليسلم؛ فليست الأولى بأحق من الآخرة+.(3)
__________
(1) _ انظر أوصاف النبي " للترمذي ص280_282، والشفا 1/206، وشرح الشفا 1/272، وأخلاق النبي"للأصبهاني ص23_27، والهداية الإسلامية 10/596_597.
(2) _ نظام الحكومة النبوية المسمى: التراتيب الإدارية للكتاني 1/39.
(3) _ أخرجه أحمد 2/287، والترمذي (2706) والبخاري في الأدب المفرد (1007) وابن حبان (494 _ 495 _ 496) والبغوي في شرح السنة (3328) كلهم عن أبي هريرة، وقال الترمذي: =حديث حسن+ وصححه أحمد شاكر في شرحه للمسند (7839) وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (757).(1/127)
وأعظم ما يجري في ذلك المجلس من آدابٍ وأعمالٍ وأقوالٍ كثرةُ ذكرِ الله _عز وجل_ ودعائه واستغفاره؛ فكان _عليه الصلاة والسلام_ لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر الله.(1)
وجاء في الأدب المفرد للبخاري عن ابن عمر _رضي الله عنهما_ قال: =وإن كنا لَنَعُدُّ في المجلس للنبي": =رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم+ مائة مرة+.(2)
وروى الترمذي وحسّنه عن ابن عمر _رضي الله عنهما_ قال: ما كان رسول الله"يقوم من مجلسه حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: =اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما يهون علينا مصيبات الدنيا، ومتّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مَبْلَغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا+.(3)
وإذا انتهى ذلك المجلس خُتِمَ بكفارة المجلس، فعن أبي هريرة÷قال: قال رسول الله": =من جلس في مجلس، فَكَثُر فيه لَغَطُه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك _ إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك+.(4)
وعن أبي برزة÷ قال: كان رسول الله" يقول بأَخَرةٍ(5) إذا أراد أن يقوم من المجلس: =سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك+.
فقال رجل: يارسول الله، إنك لتقول قولاً ماكنت تقوله فيما مضى.
__________
(1) _ انظر الشفا 1/39.
(2) _ الأدب المفرد (618) وقال الألباني في صحيح الأدب المفرد (481): =صحيح+.
(3) _ الترمذي (3502).
(4) _ أخرجه أحمد2/494، والترمذي(3433) والبغوي(1340) والحاكم1/536، وابن حبان (594) عن أبي هريرة وقال الترمذي: =حديث حسن غريب صحيح+ وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع(6068).
(5) _ بأخرة: بفتح الهمزة والخاء: آي في آخر عمره.(1/128)
قال: =ذلك كفارة لما يكون في المجلس+.(1)
قال ابن عبد البر×: =وروي عن جماعة من أهل العلم بتأويل القرآن في قول الله _عز وجل_: [وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ] (الطور: 48) منهم مجاهد، وأبو الأحوص، وعطاء، ويحيى بن جعدة، قالوا: حين تقوم من كل مجلس تقول فيه: سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك.
قالوا: ومن قالها غفر له ما كان في المجلس.
وقال عطاء: إن كنت أحسنت ازددت إحساناً، وإن كان غير ذلك كان كفّارة.
ومنهم من قال: تقول حين تقوم: سبحان الله وبحمده من كل مكان، ومن كل مجلس+.(2)
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبعد: ففي خاتمة البحث، هذه خلاصة لأهم ما تضمنه، وهي أشبه بالمعالم العامة عن السيرة النبوية.
1_ أن الحديث عن السيرة النبوية مما تنشرح له الصدور، وتنطلق الأسارير، ولا يمكن لأحد مهما أوتي من البيان والعلم أن يعطي السيرة حقها.
2_ الحملات التي تنال من مقام النبوة إنما قامت على الحقد، ومغالطة الحقائق.
3_ لا بد عند الكتابة في السيرة، ومخاطبة غير المسلمين من صحة المعلومات، والحرص على بيان الحق بدليله، والبعد عن لغة التعالي والاستفزاز، ولغة التبعية والانهزام؛ فالأولى تصدُّ عن قبول الحق، والثانية تخذله، وتضعف جانبه.
4_ السيرة النبوية حافلة بالأسرار مليئة بالعبر، ومن أسرارها:
أ_ أنها لا تُستَنْفَد مهما كُتب فيها؛ فلا تزال ملهمةً مُوْحِيَةً لا تَخْلَقُ، بل إنها تزداد جِدَّة ورُوَاءاً.
ب_ أن التجني على مقام النبوة يدفع إلى العناية بالسيرة؛ طلباً للمعرفة، وتلمساً للإنصاف.
ج_ أن الله _عز وجل_ أوزع الناس العناية بالسيرة النبوية.
د_ أن للسيرة أبلغ الأثر في تقويم السلوك، وتربية العواطف الشريفة.
__________
(1) _ أخرجه أبو داود(4859) والحاكم1/537، والدارمي2/736 (2559) عن أبي برزة الأسلمي، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود(4068): = حسن صحيح+.
(2) _ بهجة المجالس، لابن عبدالبر 1/53.(1/129)
هـ_ أن مدة رسالة النبي " قصيرة في مقياس الزمن، ولكنها عظيمة في معناها وأثرها.
و_ أن السيرة امتازت بكونها معلومةً للناس بجميع أطوارها.
5_ حظيت السيرة النبوية بعناية العلماء وكتاباتهم قديماً وحديثاً، وتكاد مناهج البحث فيها تنحصر في ثلاثة:
المنهج الأول: منهج المبالغين الغلاة: الذي يُضْفُون على النبي"صفاتٍ لا تليق إلا بالله _جل وعلا_ فهؤلاء يبالغون في إطرائه، ولا يبالون في صحة ما يروون وينقلون، ولا يعتمدون على المصادر الأصيلة الصحيحة.
المنهج الثاني: منهج الباحثين الغربيين ومن سار على طريقتهم: فهؤلاء يتعاملون مع سيرة النبي" كما يتعاملون مع سيرة أي زعيم أو بطل، أو قائد، أو فاتح، ويصفونه بالزعيم، والبطل، والعبقري، أو نحو ذلك من الألقاب التي لا تغني عن مقام النبوة شيئاً.
وتراهم يتحدثون عن السيرة حديثاً مادياً مجرداً دون ربط لها بالوحي، والغيبِ، والتأييدِ الإلهي، والإيمانِ بالمعجزات الثابتة؛ بحجة أنها لا تتلاءم مع المنهج العلمي العقلي.
المنهج الثالث: وهو المنهج الصحيح الذي أنكر منهج الغلو كما أنكر الأسلوب المادي الفلسفي في دراسة السيرة.
وهذا المنهج يقوم على الأصالة، والسلامة، وهو الذي يعتمد في دراسة السيرة على القرآن الكريم، والسنة الصحيحة، وكتب السيرة المعتمدة الصحيحة.
وهذا المنهج _أيضاً_ يقوم على الإيمان بالغيبيات والمعجزات، والأخبار القطعيات.
6_ لقد هيأ الله لنبوة محمد " إرهاصات كانت مقدمة لبعثته، منها: دعوة إبراهيم، وبشرى عيسى _عليهما السلام_ ورؤيا أمه آمنة.
ومنها شرفُ نسبه، وكونُه خرج في أمة العرب، وبلوغُه الذروةَ في مكارم الأخلاق، وكونُه أُمِّياً لا يقرأ ولا يكتب، وكونُه نشأ في مكة المكرمة.
7_ ورد في البحث نبذةٌ عن نسب النبي"وحياته منذ ولادته إلى حين وفاته.
8_ ورد في البحث نبذة عن بدء الوحي، وتتابعه.(1/130)
9_ لقد فُطِرَ النبي"على الرحمة، وجاءت شريعته مشتملة على الرحمة العامة الكاملة الشاملة.
10_ الرحمة من أعظم جوانب شخصية النبي"، وهي صورة لنفسه الكريمة؛ فالرحمة محيطة به سواء في حال يسره أو عسره، أو كان مع موافقيه أو مخالفيه.
11_ كان _عليه الصلاة والسلام_ يعامل المهتدين المؤمنين بالبشر، وطلاقة المحيا، ويخالطهم في تواضع، ويحمل لهم من الرحمة ما هو أرق من النسيم، وأجود من الغيث العميم، وقد ورد في البحث ثلاثة أمثلة على ذلك.
12_ كان يعامل المنافقين بما يشبه معاملة المهتدين المؤمنين من جهة رحمتهم، والرفق بهم، والإحسان إليهم، ومقابلة الإساءة بالعفو، أو الإحسان، ومن جهة معاملتهم على ظواهرهم دون بحث عما تكنه سرائرهم.
وأعظم مثال يجلي ذلك المعنى ما كان من أمره مع زعيم المنافقين عبدالله ابن أُبَيِّ بن سلول.
13_ كان يعامل المخالفين المسالمين بالحرص على هدايتهم، ولقياهم بالأدب الجميل، والإقساط إليهم، وإيصال البر لهم، والبعد عن ظلمهم.
14_ كان يعامل المخالفين المحاربين بالحزم، والاحتراس، ويدفعهم بالتي هي أحكم وأعدل؛ فيرفق بهم إن كان هناك موضع للرفق، ويأخذ فيهم بسنة الحزم إن طغى بهم الشر.
وكان له مواقف كثيرة في الصبر عليهم، والتأني في شأنهم.
15_ كان له في الحرب أخبار كثيرة، وأحوال عظيمة، وآداب سامية، وأحكام محفوفة بالرحمة والرفق، وقد ورد في البحث نماذج من ذلك.
16_ كان لحسن معاملته الأثرُ الأكبر في أَتْباعه ومخالفيه؛ فأتباعه اقتدوا به، ومخالفوه دخل الكثير منهم في الإسلام.
17_ لقد امتدت رحمته _عليه الصلاة والسلام_ إلى الضعفاء، والمساكين من نحو الصبيان، والخدم، والفقراء؛ فكان يجالسهم، ويلاطفهم، ويبشرهم، ويحنو عليهم، ويحسن إليهم، ويرفع من شأنهم، ويُحذِّرُ من ظلمهم؛ فكانوا يأوون إلى ظله الشريف، ويحتمون بِطِرافه السامي الذُّرا.
وقد ورد في البحث ذكر لأحدَ عشر مظهراً لتلك الرحمة.(1/131)
18_ للنساء نصيبٌ وافٍ من رحمته _عليه الصلاة والسلام_ فكان يوليهن اهتمامَه، وتوجيهه.
وكان يأمر بالقيام بحقهن، ويُحَذِّر من ظلمهن، أو التقصير في شأنهن؛ فنالت المرأة في شريعته من الرحمة والرعاية ما لم تنله في أي شريعة أو نظام سواء كانت أماً أو أختاً أو زوجة أو غير ذلك.
وقد ورد في البحث ذكر لثلاث عشرة وصية نبوية في هذا الشأن.
19_ كان لسلوكه في بيته، ومع أزواجه دلالته الخاصة المُبِيْنَةُ عن سلامة ذوقه، ورقة طباعه، وعمق عاطفته، وقدرته الفذة على مراعاة مشاعر زوجاته، واحترام رغباتهن ما دامت في حدود الشرع، فكان يرحمهن، ويأنس بحديثهن، ويعينهن على أعباء المنزل.
وكان يُصَرِّح لهن بالحب، والمودة، وكان وفياً لزوجته الأولى خديجة أشد الوفاء حتى بعد موتها؛ فكان يكثر من ذكرها، ويكرم صديقاتها.
وقد ورد في البحث ذكر لعشرة مظاهر تبين أحواله مع نسائه.
20_ لم تقف رحمته"عند الرحمة بالإنسان أياً كان، بل تعدت ذلك إلى الرحمة بالحيوان البهيم الذي لا يُبِيْنُ عن شكواه وآلامه؛ فجاء"بأحكام وآداب خاصة بالحيوان تتلاءم مع هداية الإسلام المؤسسة على الرحمة، المحفوفة بالحكمة.
ويتبين من خلال ذلك أن الإسلام قد وضع لجمعيات الرفق بالحيوان أساساً يقيمون عليه دعوتهم قبل أن تؤسس جمعية الرفق بالحيوان سنة1824م.
21_ تضاف العظمة إلى إنسان، فيرادفها التجبر والخيلاء، وهذا المعنى لا يحوم على نفس رسول الله"يقيناً.
وقد يراد من العظمةِ الجلالُ الذي هو أثرُ سموِّ القَدْرِ، وبلوغ المنزلة الكبرى في خصال الشرف، والتناهي في خصال السؤدد والكمال.
ورسول الله"أوسع الناس في هذه العظمة مجالاً، وأبعدهم فيه أمداً، وأرسخهم قدماً.
22_ العظمة الحقة تكمن في ناحية العقل، والعلم، والخلق، والإخلاص، والعزم، وحسن البيان.(1/132)
ولقد جُمِعَتْ هذه الخصالُ للنبي" بحذافيرها، فقد كان راجحَ العقل، غزيرَ العلمِ، عظيمَ الخُلُقِ، شديدَ الإخلاصِ، جليلَ العملِ، صادقَ العزمِ، رائع البيانِ.
وقد ورد في البحث تفصيل لكل واحدة من هذه الخصال.
23_ كان _عليه الصلاة والسلام_ أحسن الناس أخلاقاً، وقد ورد تفصيل لذلك.
24_ يتجلى إخلاصُ النبي"في صفاء سريرته، وسلامته من الأغراض الشخصية، وترفعه عن المطامع الدنيوية، وقوة إقباله على الله، وزهده في الدنيا، وقد تخلل ذلك بيان لبعض الحكم من تعدد زوجاته، ورد بعض الشبهات حول تلك المسألة.
25_ ويتجلى صدقُ عزيمته في احتمال الشدائد والأذى، ومقابلته الإساءة بالإحسان، واعتدالِه في السراء والضراء، وشجاعته المتناهية، وقيامه بصغار الأمور وكبارها.
26_ بلغ النبي " الذروةَ في فصاحةِ المنطق، وبلاغته، وإصابة المعنى إلى غاية ليس وراءها لمخلوق غاية.
27_ كان " ينوِّع في الأساليب، ويراعي مقتضيات الأحوال، ويستخدم أنواع التأثير التي سبقت كثيراً من النظريات الحديثة في فن الخطابة، والإلقاء، والتأثير في الناس، ومن ذلك أنه كان يحدث الناس بما يعرفون، ويميل إلى الإيجاز والقصد، ويترسل في كلامه، ويلقيه مُفَصَّلاً دون إبطاء أو تعجيل.
وكان يلاحظ نبرة الصوت، ويحسن استخدام التكرار، ويصوغ التشابيه، ويضرب الأمثلة، ويعطي الوسائلَ صورةَ ما تفضي إليه من الخير والشر، ويقرن القول ببعض الإشارات الحسية التي تناسب المعنى.
وكان يستدعي طلب البيان، ويستعمل أسلوب النداء، وينادي المخاطبين بما يحبون.
وقد ورد في البحث تفصيل، وأدلة على جميع ما ذكر.
28_ ورد في البحث عدد من شهادات المنصفين من غير المسلمين على عظمة النبي"وصدق رسالته.
29_ أُوْرد في هذا البحث فَصْلٌ عن مجلس رسول الله"لأسباب منها أنه بحث لطيف نادر قليل من يطرقه، بل لم يُفْرِدْه أحدٌ من الأوائل، وأنه ميدان للكمالات، وأنه خير مثالٍ عَمَلِيٍّ يُجَلِّي رحمةَ النبي"وعظمته.(1/133)
30_ ورد في البحث وصف لمجالس العظماء، ونواحي العظمة، وتحمل العظماء مشاق التكلف، وهيئات المجالس، وأن أشكال الدعوة الإلهية على حسب استعداد الأقوام.
31_ ورد ذكر مجلس الرسول"في القرآن الكريم.
32_ كان مجلس الرسول"في غاية البساطة؛ لحكم عظيمة منها أن لا يكون جلالُ قدره محتاجاً إلى معونة، وأن لا يكون مشاركاً لأصحاب السيادة، وأن يحصل له أعظمُ جلالٍ في نفوس أعدائه، مع ضرب أمثلة على ذلك.
33_ مكان مجلس رسول الله " مسجده، وهناك أماكن أخرى يجلس فيها؛ لعوارضَ تَعْرِضُ له.
34_ الظاهر أن مكان مجلسه في المسجد هو ما بين المنبر وحجرة عائشة _رضي الله عنها_ لأدلة ذكرت في البحث.
35_ كان أصحابه إذا قصدوا مسجده يحضرون ذلك المكان الذي اعتاد الجلوس فيه.
36_ كانوا يقومون له فنهاهم، وكان يجلس حيث انتهى به المجلس، وكان لا يتخطى رقابهم، وكان يكرم أهل بدر، وربما وقف السامع إلى حديثه ".
37_ كان المجلس الرسولي على هيئة الحلقة الواحدة، وكانت هيئةُ جلوس النبي" الاحتباءَ غالباً، وقد يجلس القرفصاء، أو متكئاً، أو متربعاً، وعدد جلسائه لا ينضبط.
38_ في مجلس النبي"تجري أمور عظيمة متنوعة؛ فَمِنْهُ تنبع ينابيعُ الحكمة والتشريع، وفيه تُتلى آياتُ الكتابِ الحكيم، ويقع التحاكم، وتَفِدُ إليه الوفودُ، ويَعْتَوِرُه العُفاة، ويأتيه طالبو الحاجات.
وهو مجلس أدب، يُنشد فيه الشعر، وتُضرب الأمثال.
39_ كان أصحابه لا يفترقون إلا عن ذَوَاق، ويخرجون أدلة _فقهاء_.
40_ في ذلك المجلس يُنْكِرُ النبي"ما يراه مجانباً للصواب مع احتفاظه بعادته الجميلة في الإنكار.
41_ وفيه يجيب عن الأسئلة التي تَرِدُ عليه، وربما ابتدر الحديث من تلقاء نفسه.
42_ وفيه يَكْثرُ ذكرُ الله، ودعاؤه، واستغفاره.
43_ وقت المجلس الرسولي بعد صلاة الصبح، وما كان يستغرق الصبح كله.(1/134)
44_ لذلك المجلسِ آدابٌ عظيمةٌ منها التفسحُ، وأن الأصواتَ لا تُرْفَعُ فيه، وأن خاصةَ أصحابه لا يسألون النبي"إلا إذا ابتدرهم.
45_ أن النبي"كان يصبر على الغريب إذا جفاه في مقاله وسؤاله.
46_ أن أصحاب ذلك المجلس يتعاطون التقوى، ويحفظون المروءات.
47_ من أدب ذلك المجلسِ إلقاءُ السلام في أوله وآخره.
48_ من أدب ذلك المجلس أنه يختم بكفارة المجلس.
49_ اشتملت فصول البحث على دحض كثير من المزاعم والشبهات التي تُثار حول نبي الإسلام".
فهذه خلاصة ما ورد في هذا البحث، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
_ أثر العلماء المسلمين في الحضارة الغربية، أحمد علي الملا، دار الفكر، دمشق، ط2، 1401هـ _ 1981م.
_ إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي، دار الريان للتراث.
_ أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه، تصنيف الإمام محمد بن إسحاق الفاكهي، دراسة وتحقيق عبدالله بن عبدالله بن دهيش، مكتبة ومطبعة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، ط1، 1407هـ.
_ أخلاق النبي "، لأبي الشيخ الأصبهاني، تحقيق عصام الدين الصبابطي.
_ أخلاق النبي"، للحافظ أبي محمد جعفر بن حيان الأصبهاني، دراسة وتحقيق د. السيد الجميلي، دار الكتاب العربي ببيروت، ط1، 1405هـ _ 1985م.
_ الإسلام في نظر أعلام الغرب، حسين عبدالله باسلامة، تهامة، جدة، المملكة العربية السعودية، ط2، 1403هـ_1983م،.
_ أعلام النبوة، لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي، قدَّم له وشرحه وعلَّق عليه محمد شريف سُكَّر، دار إحياء العلوم، بيروت، ط1، 1408هـ _ 1988م.
_ اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، لابن تيمية، تحقيق د.ناصر العقل، مكتبة الرشد، الرياض، ط2، 1411هـ _ 1991م.
_ الأنوار في شمائل النبي المختار، للبغوي، تحقيق الشيخ إبراهيم اليعقوبي.
_ أهل الذمة في الحضارة الإسلامية، حسن الممي، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1998م.(1/135)
_ أهل الذمة والولايات العامة في الفقه الإسلامي، إعداد نمر محمد خليل النمر، المكتبة الإسلامية، عمَّان، الأردن، ط1، 1409هـ.
_ بطل الأبطال، للأستاذ عبدالرحمن عزام، رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، مطابع دار الأصفهاني وشركاه بجدة.
_ بهجة المجالس وأنس المجالس، وشحذ الذاهن والهاجس للإمام ابن عبدالبر، تحقيق د. محمد مرسي الخولي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1981م.
_ تاريخ الطبري، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، بيروت، دار الكتب العلمية.
_ تفسير التحرير والتنوير, تأليف العلامة محمد الطاهر بن عاشور, دار سحنون للنشر والتوزيع, تونس.
_ تفسير المراغي، للشيخ أحمد مصطفى المراغي، خرَّج أحاديثه باسل عيون السود، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، ط1، 1418هـ _ 1998م.
_ تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، لابن حجر العسقلاني، تحقيق وتعليق عادل أحمد عبدالموجود، وعلي محمد معوض، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1419هـ، 1998م.
_ التوراة والإنجيل والقرآن، لموريس بوكاي، ترجمة الشيخ حسن خالد.
_ توضيح الأحكام من بلوغ المرام، للشيخ عبدالله البسام، مكتبة الأسدي، مكة المكرمة، ط5، 1423هـ _ 2003م.
_ الجامع الصحيح سنن الترمذي للإمام الترمذي، تحقيق الشيخ أحمد شاكر وآخرون، بيروت، دار الكتب العلمية.
_ جامع العلوم والحكم، لابن رجب الحنبلي، تحقيق شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة، ط2، 1412هـ _ 1991م.
_ جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام، لابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
_ جوامع السيرة النبوية، لابن حزم الأندلسي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1403هـ _ 1983م.(1/136)
_ حدائق الأنوار ومطالع الأسرار في سيرة النبي المختار، لابن الدِّيبع الشيباني الشافعي، حقَّقه عبدالله بن إبراهيم الأنصاري، طُبع على نفقة صاحب السمو الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر.
_ حقوق غير المسلمين في الدولة الإسلامية، د. علي بن عبدالرحمن الطيار، ط1، 1425هـ _ 2004م.
_ الخصائص الكبرى، أو كفاية الطالب اللبيب في خصائص الحبيب، للحافظ جلال الدين السيوطي، تحقيق د. محمد خليل هراس، دار الكتب الحديثة، شارع الجمهورية بعابدين.
_ الخطابة _أصولها تاريخها في أزهر عصورها عند العرب_ للشيخ محمد أبوزهرة، دار الفكر العربي.
_ خلاصة السيرة النبوية، وحقيقة الدعوة الإسلامية، للشيخ محمد رشيد رضا، صححها وعلَّق عليها عبدالله السيد أحمد حجاج، 1400هـ _ 1980م.
_ دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، وثَّق أصوله وخرَّج أحاديثه وعلَّق عليه د. عبدالمعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1405هـ _ 1985م.
_ ديوان المتنبي بشرح العكبري، ضبطه وصححه عبدالحفيظ شلبي، ومصطفى السقا، وإبراهيم الأبياري، دار المعرفة، بيروت، لبنان (ب.ت).
_ رسائل الإصلاح، للشيخ محمد الخضر حسين، دار الإصلاح، السعودية، الدمام.
_ الرسالة الخالدة، للأستاذ عبدالرحمن عزام، دار الشروق، دار الفكر.
_ الرسالة المحمدية، للسيد سليمان الندوي، مكتبة دار الفتح، دمشق، ط2، 1383هـ _ 1963م.
_ الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام، لأبي القاسم عبدالرحمن بن عبدالله بن أبي الحسن الخثعمي السهيلي، ومعه السيرة النبوية للمعافري، علَّق عليه ووضع حواشيه مجدي بن منصور بن سيد الشورى، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1418هـ _ 1997م.
_ روضة الطالبين، للنووي، المكتب الإسلامي، بدمشق وبيروت.(1/137)
_ زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن قيم الجوزية، تحقيق وتعليق الشيخ شعيب الأرناؤوط والشيخ عبدالقادر الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، ط15، 1407هـ _ 1987م.
_ سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، للإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي، تحقيق وتعليق الشيخ عادل أحمد عبدالموجود، والشيخ علي محمد معوض، توزيع مكتبة عباس أحمد الباز، مكة المكرمة، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1414هـ _ 1993م.
_ سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ: محمد ناصر الدين الألباني، ط4، 1405هـ، المكتب الإسلامي.
_ سنن ابن ماجة، دار الدعوة، دار سحنون، ترقيم محمد عبدالباقي، ط2.
_ سنن ابن ماجة، محمد فؤاد عبدالباقي، دار الفكر.
_ سنن أبي داود، دار الدعوة، دار سحنون، ط2.
_ سنن أبي داود، محمد محي الدين عبدالحميد، دار الفكر.
_ سنن الترمذي، أحمد شاكر وآخرون، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
_ سنن الترمذي، دار الدعوة، دار سحنون، ط2.
_ سنن الدارمي, للإمام الدارمي, دار المغني, الرياض, ط1, 1421هـ _ 2000م.
_ سنن النسائي، تحقيق عبدالفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، 1406هـ، ط2.
_ السنن الكبرى، للبيهقي، تحقيق د. عبدالغفار البنداري سيد كردي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1411هـ _ 1991م، ط1.
_ سير أعلام النبلاء، للإمام الذهبي، مؤسسة الرسالة، ط4، 1406هـ _1986م، تحقيق شعيب الأرناؤوط.
_ سيرة الرسول " مقتبسة من القرآن الكريم، تأليف الأستاذ محمد عزة دروزة، عُني بها عبدالله بن إبراهيم الأنصاري، طُبع على نفقة إدارة إحياء التراث الإسلامي بدولة قطر.
_ السيرة النبوية الصحيحة محاولة لتطبيق قواعد المحدثين في نقد روايات السيرة النبوية، د. أكرم العمري، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة.
_ السيرة النبوية لابن هشام، الناشر مكتبة الكليات الأزهرية.(1/138)
_ شرح ديوان أبي تمام، للخطيب التبريزي، قدَّم له ووضع هوامشه وفهارسه راجي الأحمر، نشر دار الكتاب العربي، ط2، 1414هـ.
_ شرح السنة للبغوي، تحقيق شعيب الأرناؤوط وزهير الشاويش، المكتب الإسلامي (ب.ت).
_ شرح الشفا للقاضي عياض، شرح الملا علي القاري، توزيع دار الباز للنشر والتوزيع، مكة المكرمة.
_ شرح فتح القدير لابن الهمام مع تكملة نتائج الأفكار في كشف رموز الأسرار، للقاضي زاده، ط1، 1315هـ، المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق.
_ الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض، تحقيق علي محمد البجادي، طُبِعَ بمطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة.
_ شمائل الرسول ودلائل نبوته وفضائله وخصائصه، لابن كثير، تحقيق طه عبدالرؤوف سعد، المكتبة الأدبية العربية، ط1، 1402هـ _ 1982م.
_ الشمائل المحمدية للإمام الترمذي، إخراج وتعليق محمد عفيف الزعبي، دار المطبوعات الحديثة، جدة، ط2، 1406هـ _ 1986م.
_ الشوقيات _ديوان أحمد شوقي_ المكتبة التجارية بمصر.
_ صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1414هـ _ 1993م، ط2.
_ صحيح ابن خزيمة، تحقيق محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1390هـ _ 1970م.
_ صحيح الأدب المفرد للإمام البخاري، تعليق وتحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، دار الصدِّيق للنشر والتوزيع، الجبيل، المملكة العربية السعودية، ط1، 1414هـ _ 1994م.
_ صحيح البخاري، د. مصطفى أديب البُغا، دار ابن كثير، اليمامة، بيروت، 1407هـ _ 1987م، ط3.
_ صحيح البخاري، للإمام البخاري، بيت الأفكار الدولية، عناية أبي صهيب الكرمي، 1419هـ _ 1998م.
_ صحيح الجامع الصغير وزيادته للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، أشرف عليه زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، ط2، 1406هـ.(1/139)
_ صحيح سنن النسائي، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، أشرف على طباعته والتعليق عليه الشيخ زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، الناشر مكتب التربية العربي لدول الخليج، ط1، 1408هـ _ 1988م.
_ صحيح مسلم بشرح الإمام النووي، دار الفكر.
_ صحيح مسلم، محمد فؤاد عبدالباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
_ الطريق إلى الإسلام، محمد بن إبراهيم الحمد، دار ابن خزيمة، الرياض، المملكة العربية السعودية، ط2، 1427هـ _ 2006م.
_ عين الأدب والسياسة وزين الحسب والرياسة، لأبي الحسين علي ابن عبدالرحمن بن هذيل، مكتبة الباز، مكة المكرمة.
_ فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للحافظ ابن حجر العسقلاني، مكتبة ابن تيمية، ط1، 1407هـ.
_ الفروق، لشهاب الدين القرافي، عالم الكتب، بيروت.
_ الفصول في سيرة الرسول "، للحافظ ابن كثير، توزيع دار الباز للنشر والتوزيع، دار الكتب العلمية، بيروت.
_ فقه السيرة، للشيخ محمد الغزالي، خرَّج أحاديثها الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، ط7، 1976م، دار إحياء التراث العربي.
_ فقه السيرة النبوية، لمحمد منير غضبان، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، ط1، 1410هـ _ 1989م.
_ قواعد الحرب في الشريعة الإسلامية دراسة مقارنة للشيخ عواض الوذيناني، مكتبة الرشد ناشرون، المملكة العربية السعودية، الرياض، ط1، 1426هـ، 2005م.
_ كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، لعلاء الدين علي المتقي بن حسام الدين الهندي، تحقيق محمود الدمياطي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1419هـ_ 1999م.
_ المبسوط، للسرخي، ط2، دار المعرفة، بيروت.
_ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب عبدالرحمن ابن قاسم وابنه محمد.
_ محمد بهجة البيطار _بهجة الإسلام_ إعداد الأستاذ علي الرضا الحسيني، الدار الحسينية، 1417هـ _ 1997م.(1/140)
_ محمد رسول الله _خلاصة سيرته ومقالات نادرة فيها_ لمحمد بن إبراهيم الحمد، دار ابن خزيمة، الرياض، المملكة العربية السعودية، ط1، 1427هـ _ 2006م.
_ محمد رسول الله "، تأليف محمد رضا، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
_ محمد رسول الله "، للعلامة أحمد تيمور باشا، دار الآفاق العربية، ط1، 1424هـ _ 2003م.
_ محمد رسول الله وخاتم النبيين، للشيخ محمد الخضر حسين، إعداد وضبط الأستاذ علي الرضا الحسيني، الدار الحسينية، 1417هـ _ 1997م.
_ محمد المثل الكامل، تأليف محمد أحمد جاد المولى بك، ط6، 1388هـ _ 1968م، مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده.
_ مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن القيم، تحقيق وتعليق المعتصم بالله البغدادي، توزيع دار النفائس، الرياض، ط1، 1410هـ.
_ المذكرات لمحمد كرد علي، دار أضواء السلف، الرياض.
_ المستدرك للحاكم، مصطفى عبدالقادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1411هـ _ 1990م، ط1.
_ مسند الإمام أحمد بن حنبل، دار الدعوة، دار سحنون، ط2.
_ المسند للإمام أحمد بن حنبل، شرحه وصنع فهارسه الشيخ أحمد محمد شاكر، مكتبة دار الكتاب الإسلامي بالقاهرة، ط2.
_ المصنف لعبدالرزاق الصنعاني، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1403هـ.
_ معجم الطبراني الكبير، ط2، 1404هـ.
_ موسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم "، إعداد مجموعة من المختصين بإشراف معالي الشيخ د. صالح بن حميد، وعبدالرحمن بن محمد مَلُّوح، دار الوسيلة للنشر والتوزيع، جدة، المملكة العربية السعودية، ط1، 1418هـ _ 1998م.
_ موطأ الإمام مالك بن أنس، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
_ نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية، للشيخ عبدالحي الكتاني، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.(1/141)
_ نقض المنطق، لشيخ الإسلام ابن تيمية، حققه الشيخ محمد بن عبدالرزاق حمزة والشيخ سليمان الصنيع، وصححه الشيخ محمد حامد الفقي، مكتبة السنة المحمدية.
_ النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، تحقيق خليل مأمون شيحا، دار المعرفة، بيروت، لبنان، ط1، 1422هـ
_ نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، للشيخ محمد الخضري، حقَّقه وعلَّق عليه نايف العباس، محي الدين مستو، مؤسسة علوم القرآن، دمشق _ بيروت، ط2، 1400هـ _ 1980م.
_ المقدمة: ... 3
_ فضل الحديث عن السيرة ... 3
_ وقفة عند الحملات التي أرادت الإساءة إلى النبي" ... 3
_ خطة البحث ... 4
_ منهج البحث ... 6
مدخل: في أسرار السيرة النبوية، ومناهج البحث فيها ... 9
أولاً: في أسرار السيرة النبوية: ... 11
_ السيرة لا تُستنفد مهما كتب فيها ... 11
_ من صلاة الله على نبيه أن أوزع الناسَ العنايةَ بسيرته ... 12
_ ليس مصدرُ السيرة إرضاءَ حاجةِ العلمِ والدرس فحسب ... 13
_ للسيرة أبلغُ الأثرِ في تقويم السلوك، وتربية العواطف الشريفة ... 13
_ مدة النبوة والرسالة قصيرة في مقياس الزمن، ولكنها عظيمة في معناها وأثرها ... 13
_ كلمتان لابن تيمية في بركات هذه الأمة ... 14
_ السيرة معلومةٌ للناس بجميع أطوارها ... 14
ثانياً: مناهج البحث في السيرة النبوية: ... 15
المنهج الأول: منهج المبالغين الغالين ... 16
المنهج الثاني: منهج الباحثين الغربيين ومن سار على طريقتهم ... 17
المنهج الثالث: وهو المنهج الصحيح الذي يعتمد على القرآن والسنة الصحيحة والسيرة المعتمدة ... 18
تمهيد: في بعثة النبي " وخلاصة سيرته ... 21
_ أولاً: مهيئات النبوة: ... 23
1_ دعوة إبراهيم، وبشرى عيسى _عليهما السلام_ ورؤيا أمه آمنة ... 23
2_ كون النبي " خرج في أمة العرب ... 24
3_ شرف النسب ... 26
4_ بلوغه " الذروة في مكارم الأخلاق ... 28
5_ كونه"أميّاً لا يقرأ ولا يكتب ... 28
6_ كونه نشأ في مكة المكرمة ... 29
_ ثانياً: نبذة عن نسب النبي " وحياته: ... 30
_ نسبه ... 30
_ ولادته ... 30
_ رضاعته في بني سعد ... 31(1/142)
_ سفره إلى الشام مع عمه، ولقاؤه بحيرا الراهب ... 32
_ سفره مُتَّجِراً بمالٍ لخديجة ... 32
_ زواجه بخديجة ... 32
_ ثالثاً: بدء الوحي: ... 33
_ اختلاؤه بغار حراء، ونزول الوحي عليه ... 33
_ تتابع الوحي ... 36
الفصل الأول: من جوانب الرحمة في السيرة النبوية ... 39
_ المبحث الأول: في كون النبي"مفطوراً على الرحمة، وكون شريعته مشتملة على الرحمة العامة الكاملة: ... 41
_ قوله _تعالى_: [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ] وتفسير ابن عاشور للآية ... 41
_ قوله _تعالى_: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]: ... 42
_ قول ابن القيم في الآية ... 42
_ قول ابن عاشور في الآية ... 43
_ المبحث الثاني: رحمة النبي"بالبشر عموماً: ... 48
_ آيات وأحاديث في الرحمة ... 48
_ طوائف الناس أمام رحمته _عليه الصلاة والسلام_ لا تخرج عن أربع: ... 49
1_ طائفة المهتدين المؤمنين: ... 49
_ ثلاثة أمثلة من معاملته لهؤلاء ... 49
2_ طائفة المنافقين: ... 51
_ مثال لتعامله معهم، وإحسانه إليهم، وهو قصته مع عبدالله ابن أبي بن سلول ... 51
3_ طائفة المخالفين المسالمين: ... 52
_ آيات، وأحاديث، وأمثلة، وآثار في ذلك ... 52
4_ طائفة المخالفين المحاربين: ... 55
_ أمثلة على ذلك ... 55
_ بيان لبعض آداب وأحكام الحرب في الإسلام، وأنها محفوفة بالرحمة والرفق ... 58
_ أمثلة، وآثار في ذلك، وبيان لأثر معاملة المسلمين الحسنة على أعدائهم ... 59
_ المبحث الثالث: رحمة النبي" بالضعفة والمساكين ... 70
_ من أخباره المتنوعة في هذا الباب: ... 70
1_ رَفْعه من شأن الضعفاء ... 70
2_ تفقده لأحوال الضعفاء، وسؤاله عنهم، ووفاؤه لهم ... 71
3_ رأفتُه باليتيم، وبيانُه جزاءَ كافلِه ... 71
4_ حثه على القيام بشأن الأرملة والمسكين ... 72
5_ ذَمُّهُ الدعوةَ للطعام الذي منع منه الفقراء ... 72
6_ رأفتُه بالبنات، وبيانُهُ فضلَ إعالتهن، والإحسان إليهن ... 72
7_ تحذيره من تضييع حقوق الضعفاء ... 72
8_ رحمته بالمرضى إذا زارهم ... 73
9_ رحمته بالصغار، وبكاؤه عليهم ... 73(1/143)
10_ حثُّه على إكرام الخدم، والحشم ... 74
11_ نهيه عن أذية الخدم ... 75
_ المبحث الرابع: رحمة النبي " بالنساء ... 76
_أولاً: من أقواله في رحمة النساء، ورعاية حقوقهن: ... 76
1_ حثه على بر الأم، وتقديم حقها على حق الأب ... 76
2_ وصايتُه بالنساء، وأمره بالإحسان إليهن ... 76
3_ بيانه فضل الصدقة على الأهل ... 77
4_ وصيتُه بالصبر على النساء، وتحذيره من الاستعجال في شأن الطلاق ... 77
5_ بيانُه أن خيار الناس خيارهم لنسائه ... 78
6_ تحذيره من إفشاء سر الفراش ... 78
7_ بيانه أن النساء شقائق الرجال ... 78
8_ نهيه عن ضرب الزوجة بلا مسوغ ... 78
9_ تحذيره من الميل لإحدى الزوجات إذا كان عند الزوج أكثر من زوجة ... 78
10_ بيانه أن المرأة لا تُزَوَّج إلا بإذنها ... 78
11_ ذكره لفضل العناية بالبنات، وإحسان تربيتهن ... 79
12_ نهيهُ الزوجَ عن مفاجأة زوجته بعد طول الغياب عنها ... 79
13_ نهيه عن طروق الأهل ليلاً ... 79
_ ثانياً: من أحوال النبي"مع نسائه ... 83
1_ موقفه"من عائشة _رضي الله عنها_ عندما حجت معه" فمنعتها حيضتها من أداء العمرة مع الناس ... 84
2_ في غزوة المريسيع يوقف الجيش كله من أجل انفراط عقد عائشة ... 84
3_ موقفه لما رجع من غزوة خيبر، وتزوج صفية بنت حيي ... 84
4_ من مظاهر الصدق والرحمة في علاقاته"بأزواجه ... 85
5_ بين زينب بنت جحش و عائشة ... 86
6_ غضبه " إذا تجاوزت الغيرة حدها ... 87
7_ مراعاته لصغر سن عائشة ... 88
8_ عائشة توصي المسلمين بمراعاة الزوجات حديثات السن ... 89
9_ الرسول"يسابق عائشة مرتين ... 89
10_ النبي"يتلطف مع عائشة ... 89
_ المبحث الخامس: رحمة النبي " بالحيوان: ... 91
_ طرف مما جاء به النبي"في أحكام الحيوان من الحكمة والرحمة والرفق: ... 91
1_ أن الإسلام أذن في أكل الطيب من الحيوان ... 91
2_ أن الله _ تعالى _ امتن في كتابه بما يُتَخذ من أصواف الأنعام وأوبارها وأشعارها وجلودها ... 92
3_ عادات سيئة للعرب قبل الإسلام مع الحيوان ... 92(1/144)
4_ للعرب عادات يسومون فيها الحيوان سوء العذاب في ذبحه، ونحو ذلك، وإرشاد النبي"إلى غرس العطف على الحيوان ... 93
5_ أن الحيوان كان كسائر الأمتعة تحت يد مالكه يفعل فيه كيف يشاء ... 94
6_ الشريعة أباحت صيد الحيوان بنحو الجوارح والنبال والشباك، ومنعت أن ينصب غرضاً ... 96
7_ أنه قد وردت أحاديث عن النبي"في فضل سقي الحيوان وإطعامه، وعدِّهما من عمل الخير الذي تنال به الزلفى عند الله ... 97
8_ من الرفق بالحيوان تجنب أذيته في بدنه ... 98
9_ من الرفق بالدابة أن لا يتابع السير عليها متابعة ترهقها تعباً ... 98
10_ النهي عن وضع القلادة في رقبة البعير؛ لئلا تؤذيه ... 99
11_ النهي عن وقوف الراكب على الدابة وقوفاً يؤلمها ... 99
_ أمثلة على أثر آداب الإسلام على نفوس أهله من الرفق بالحيوان ... 100
_ الإسلام وضع أساساً لجمعيات الرفق بالحيوان ... 101
الفصل الثاني: من جوانب العظمة في سيرة النبي" ... 103
_مدخل في مفهوم العظمة ... 105
_ المبحث الأول: في رجاحة عقل النبي"وغزارة علمه ... 106
أولاً: في رجاحة عقل النبي" ... 106
_ مظاهر يتجلى بها ذلك المعنى ... 106
_ كلمتان للقاضي عياض، والماوردي في وفور عقل النبي" ورجاحته ... 107
_الحكمة من استشارته أصحابه مع كمال عقله ... 108
ثانياً: غزارة علم النبي" ... 110
_ بيان لغزارة علمه ... 110
_ كلمة للماوردي في ذلك ... 111
_ آثار غزارة علمه على الناس ... 111
_ براهين حسية، وعلمية، وتجريبية على غزارة علمه، وصدق ما جاء به: ... 113
_ المثال الأول: لعاب الكلب وما يحمله من ميكروبات ... 113
_ المثال الثاني: تلقيح الأشجار ... 114
_ المثال الثالث: وصف البحر ... 114
_ المثال الرابع: إشارات في حفظ الصحة ... 114
_ أن ما جاء به لا يتعارض مع الحقائق العلمية ... 117
_ المبحث الثاني: في عظمة خلق النبي" ... 118
_ أمثلة لآيات أدبه ربه بها ... 118
_ في قوله _تعالى_: [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] وأقوال العلماء في تفسيرها، وبيان جماع الخلق العظيم ... 119(1/145)
_ أبيات لأحمد شوقي في وصف أخلاق النبي" ... 120
_خلاصة لما كتبه العلماء في شمائل النبي"وأخلاقه ... 122
_ المبحث الثالث: في إخلاص النبي" وصدق عزيمته: ... 127
_ أولاً: إخلاص النبي"لربه: ... 127
_ مظاهر يتجلى بها إخلاصه " لربه: ... 127
1_ صفاء سريرته ... 127
2_ سلامته من الأغراض الشخصية، وترفعه عن المطامع الدنيوية ... 128
3_ قوة إقباله على الله _عز وجل_ ... 128
4_ زهده في الدنيا: ... 129
_ كلمة للقاضي عياض في زهده" ... 129
_في تعدد زوجاته، والحكمة من ذلك =هامش+ ... 129
_ ثانياً: صدق عزيمة النبي" ... 132
_ مواقف تتجلى فيها صدق عزيمته": ... 132
1_ صدق عزيمته في احتماله للشدائد والخطوب ... 132
2_ صدق عزيمته في احتمال الأذى ... 133
3_ صدق عزيمته في مقابلة الإساءة بالإحسان ... 133
4_ صدق عزيمته في الاعتدال حال السراء والضراء ... 134
5_ شجاعته المتناهية ... 136
6_ قيامه بصغار الأمور وكبارها ... 136
_ المبحث الرابع: في حسن بيان النبي" ... 138
_ بيان لذلك، وكلمة للقاضي عياض، وأبيات لشوقي ... 138
_ شيءٌ مما يؤكد مرتبته العالية في البيان والتأثير: ... 139
1_ أنه يحدث الناس بما يعرفون ... 139
2_ مراعاة المدة الزمنية للخطبة، والميل إلى الإيجاز والاقتصاد: ... 140
_ ثلاثة أمثلة على ذلك ... 140
3_ الترسل في الكلام، وإلقاؤه مفصلاً دون إبطاء أو تعجيل: ... 141
_ كلمتان لعائشة في ذلك، وشرح ابن حجر لهما ... 141
_ كلمتان لجابر وعائشة في ذلك ... 142
4_ ملاحظة نبرة الصوت: ... 142
_ مثال لذلك ... 142
5_ حسن الاستخدام للتكرار: ... 142
_ عَقْدُ البخاريِّ باباً بعنوان: =باب من أعاد الحديث ثلاثاً ليفهم+ وسوقُه عدةَ أحاديث في ذلك ... 142
6_ صوغ التشابيه، وضرب الأمثلة: ... 143
_ مثال على ذلك ... 143
7_ إعطاءُ الوسائلِ صورةَ ما تُفضي إليه من الخير والشر: ... 144
_ ثلاثة أمثلة على ذلك ... 144
8_ قرنُ القولِ ببعض الإشارات الحسيةِ التي تناسب المعنى: ... 144
_ ثلاثة أمثلة على ذلك ... 144
9_ استدعاء طلب البيان: ... 145
_ مثال على ذلك ... 145(1/146)
10_ استعمال أسلوب النداء، ومناداة المخاطبين بما يحبون: ... 146
_ عشرة أمثلة على ذلك ... 146
_ المبحث الخامس: من شهادات المنصفين على عظمة النبي" وصدق رسالته: ... 148
1_ شهادة الفيلسوف الإنجليزي الشهير توماس كارليل ... 148
2_ شهادة (الكونت هنري دي كاستري) ... 153
3_ شهادة الأستاذ الموسيو (سيديو) الفرنساوي أحد أعلام الإفرنج وأحد وزراء فرنسا السابقين ... 157
4_ مقولة للأستاذ المستشرق (دوزي) ... 158
5_ مقولة لشاعر فرنسا (لا مارتين) ... 159
الفصل الثالث: مجلس رسول الله" ... 161
_ مدخل: في أسباب إيراد هذا الفصل ضمن هذا الكتاب ... 163
_ المبحث الأول: مقدمة في مجالس العظماء: ... 164
_ نواحي العظمة ... 164
_ اتِّسَام العظيم بسمات العظمة الحقة ... 164
_ تحمل العظماء مشاق التكلف ... 164
_ هيئات المجالس ... 165
_ أشكال الدعوة الإلهية على حسب استعداد الأقوام ... 165
_ المجادلة التاريخية بين عمر بن الخطاب ومعاوية ... 166
_ المبحث الثاني: في ورود المجلس الرسولي في القرآن، وصفة ذلك المجلس: ... 168
_ أولاً: ورود المجلس الرسولي في القرآن ... 168
_ ثانيا: صفة مجلس رسول الله": ... 169
_ أنه في غاية البساطة والتواضع لحكم جمة منها: ... 169
_ الحكمة الأولى: أن لا يكون جلال قدره محتاجاً إلى معونه ... 169
_ الحكمة الثانية: أن يكون غير مشارك لأصحاب السيادة ... 170
_ الحكمة الثالثة: أن يحصل له أعظمُ جلالٍ في نفوس أعدائه: ... 170
_ مثال على ذلك ... 170
_ وصف كعب بن زهير رسول الله"حينما دخل عليه المسجد ... 171
_ المبحث الثالث: مكان مجلس الرسول"وكيفية التئامه وخروجه إليه ... 172
_ أولاً: مكان مجلس الرسول: ... 172
_ مكان المجلس مسجده، وهناك أماكن أخرى ... 172
_ الظاهر أن هذا المكان المعين هو ما بين المنبر وحجرة عائشة _رضي الله عنها_ وهو الملقب بالروضة، ويدل لذلك ثلاثة أدلة: ... 173
_ الدليل الأول: ... 173
_ الدليل الثاني: ... 174
_ الدليل الثالث: ... 174
_ ثانياً: كيفية التئام مجلس الرسول وخروجه إليه ... 175(1/147)
_ كان أصحابه إذا قصدوا مسجده يحضرون ذلك المكان الذي اعتاد الجلوس فيه ... 175
_ وكانوا يقومون له فنهاهم ... 175
_ وكان يجلس حيث انتهى المجلس ... 175
_ كان لا يتخطى رقابهم ... 176
_ كان يكرم أهل بدر ... 176
_ ربما وقف السامع إلى حديث رسول الله ... 176
_ المبحث الرابع: هيئة المجلس الرسولي، وما كان يجري فيه: ... 178
_ أولاً: هيئة المجلس الرسولي: ... 178
_ كان على هيئة الحلقة الواحدة ... 178
_ كانت هيئة جلوسه الاحتباء غالباً ... 179
_ وقد يجلس القرفصاء أو متكئاً أو متربعاً ... 179
_ عدد جلسائه لا ينضبط ... 180
_ ثانياً: ما كان يجري في مجلس رسول ": ... 181
_ تنبع منه ينابيع الحكمة والتشريع ... 181
_ تتلى فيه آيات الكتاب الحكيم ... 181
_ يقع فيه التحاكم ... 181
_ تفد فيه الوفود، ويأتيه طالبوا الحاجات، وتعتوره العفاة ... 181
_ ربما اختلف إليه الصبيان، أو دُعوا له ... 182
_ يأوي إليه الفقراء ... 182
_ هو مجلس أدب ينشد فيه الشعر، وتضرب الأمثال: ... 183
قدوم كعب، وإنشاده قصيدته، ووقوف النبي" عند بعض أبياتها
_ وينشد في المجلس الشعر، فيتمثل النبي"ببعض الأبيات المنشدة كما في قصة أبيات الأعشى المازني ... 184
_ وربما أنشده أحد الشعراء، فاستوقفه، وسأله عن مقصوده كما في قصة النابغة الجعدي ... 184
_ وربما استنشد أحد جلاسه كما في حديث عمرو بن الشريد، واستنشاده أبياتاً لأميه بن أبي الصلت ... 185
_ وربما تمثل بالشعر في مجلسه كما في حديث جندب عندما أصيبت أصبع النبي"، وحديث عكرمة، وتمثل النبي"بيت طرفة ... 185
_ كان أصحابه إذا دخلوا عليه لا يفترقون إلا عن ذَوُاق، ويخرجون أدِلَّة ... 185
_ وفي ذلك المجلس كان"ينكر ما يراه مجانباً للصواب مع احتفاظه بعادته الجميلة في الإنكار: ... 186
_ ثلاثة أمثلة على ذلك ... 187
_ في ذلك المجلس يجيب"عن الأسئلة التي ترد عليه: ... 188
_ ثلاثة أمثلة على ذلك ... 188
_ قد يبتدر الحديث من تلقاء نفسه: ... 188
_ مثال على ذلك ... 188
_ كثرة الذكر، والدعاء، والاستغفار ... 189(1/148)
المبحث الخامس: وقت المجلس الرسولي، وآدابه ... 190
أولاً: وقت المجلس الرسولي: ... 190
_ كان يجلس لهم بعد صلاة الصبح ... 190
_ ما كان يستغرق الصباح كله ... 190
ثانياً: آداب مجلس رسول الله: ... 191
_ المراد بالتفسح، وأمر الناس في مجلس رسول الله" ... 192
_ الأصوات لا ترفع في مجلسه" ... 192
_ أن خاصة أصحابه لا يسألون النبي"إلا إذا ابتدرهم النبي": مثال على ذلك ... 193
_ كان"يصبر على الغريب إذا جفاه في مقاله وسؤاله ... 195
_ كان جلساؤه يتواصون بالتقوى، ويحفظون المروءات ... 195
_ من آداب ذلك المجلس إلقاء السلام في أوله وآخره ... 196
_ الإكثار من ذكر الله، ودعائه، واستغفاره: أحاديث في ذلك ... 196
_ ختم المجلس بكفارة المجلس ... 197
_ الخاتمة ... 199
_ فهرس المصادر والمراجع ... 213
_ فهرس الموضوعات ... 224(1/149)