محمد الصالح السليمان
الرحلات الخيالية
في الشعر العربي الحديث
1999
دراسة
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
2000
إهداء
بسم الله الرحمن الرحيم
{وقل ربِّ زدني علماً }
إلى النور الذي يضيء ظلمة الطريق كلّما ادلهمّت عليّ الخطوب، إلى اللذين يحترقان لينبعث من الرماد والعرق ثمر الحبّ والأمل أسأل الله أن يجعل هذا العمل في ميزان حسناتهما....
أبي وأمي
إلى من أودعت سرّ التحنان والعطاء وتحمّلت معي المشاق.......
زوجتي
إلى ريحانة السكن والرحمة ابنتي .......
غفران
إلى كلّ الذين كانت قلوبهم معي في كلّ خطوة.......
أخوتي وأخواتي
((
البريد الالكتروني: E-mail : unecriv@net.sy
aru@net.sy
موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة الإنترنت
www.awu-dam.com
تصميم الغلاف للفنانة: نسرين المقداد
((
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة
الشعر العربي حديقة وارفة الظلال متنوّعة الأزاهير، هدفت الدراسة إلى اختيار زهرة من أزاهيره تمثّل الرحلات الخياليّة في الشعر العربي الحديث لتسلّط الضوء من خلالها على بعض الجوانب الفكرية والفنيّة التي ارتبطت بالواقع العربي، وبدور الشعر الريادي في مشروع النهضة الثقافية العربية المعاصرة.
ويعدّ العنوان مفتاحاً لهذه الدراسة، فالرحلات: عرفها الإنسان مذ خلقه الله واستخلفه في الأرض، وجعل منها فيما بعد فنَّاً أدبياً رفيعاً يحمّله أحاسيسه ويرسم فيه صور حياته. أمّا الخيالية فهي الصفة الخالصة لهذا البحث إذ تميز هذه الرحلات عن غيرها من الرحلات الجغرافية والعلمية والأدبية ((في الشعر العربي الحديث)) تحصر هذه العبارة الدراسة في الشعر دون غيره من الأجناس الأدبية التي عنيت بأدب الخيال كالقصة والرواية، وكلمة الحديث تحدّها في نهايات القرن الماضي امتداداً إلى الثمانينيات من هذا القرن.(1/1)
ولم تحظّ هذه الدراسة من قبل ببحث مستقل يحلّلها ويوضح مضمونها الفني والفكري، حتى إن لقي بعض نصوصها دراسة ما فهي في إطار دراسة هذا الشاعر أو تلك المدرسة الأدبية.
واعتمدت الدراسة في مصادرها على دواوين الشعراء، فإن لم تجد للشاعر ديواناً التمست النصّ في المجلات والدوريات القديمة.
وقد سارت فصول الرسالة متآخية لتؤلّف هذا البحث. فبدأت بالمدخل الذي يحدّد مفهوم الرحلة الخياليّة، ويعرض للرحلات الخياليّة في الأساطير الشرقية القديمة عند السومريين والبابليين، وفي الملاحم الأدبية والأسطورية كملحمة جلجامش، والأوديسة والإنيادة، ثمّ تقف الدراسة على الرحلة الخياليّة في الأدب العربي والأوربي القديم وتعلّل سبب غيابها في الأدب الجاهلي والإسلامي والأموي والعباسي الأوّل، وتعرض لأهم النصوص القديمة في هذا الميدان كالمقامة الإبليسية والتوابع والزوابع ورسالة الغفران، ثمّ تعرض ((الكوميديا الإلهية)) لدانته.
وفي الفصل الأوّل تقدّم الدراسة عرضاً شاملاً للرحلات الخياليّة المدروسة وفق ثلاثة محاور تحدّد أشكالها، هي:
أوّلاً ... : رحلات إلى عالم الجنّ والمدن المسحورة.
ثانياً ... : رحلات إلى العالم العلوي.
ثالثاً ... : رحلات إلى عالم الموت والبرزخ والآخرة.
وتقدّم لكلّ رحلة ملخّصاً شاملاً ومعلومات توثيقية ترتبط بعدد أبياتها ووزنها وتاريخ نشرها أوّل مرة.ثمّ نعلق عليها بإيجاز.
وتكشف الدراسة في الفصل الثاني أبرز الدوافع الوجدانية والاجتماعية والفنية لكتابة الرحلات الخياليّة حيث تطفو على سطح الرؤى أحلام الحريّة وآلام الحيرة والقلق ورغبات الثورة والتمرّد، والرغبة في تصوير بعض الجوانب الاجتماعية المتردّية وفضح الظلم وإدانة الاستعمار، والنقد السياسي، كما تظهر الرغبة في التجديد والتواصل مع التراث العربي والإنساني القديم.(1/2)
وفي الفصل الثالث تقدّم الدراسة صورة للعلاقات بين الرحلة الخياليّة والثقافة. كالثقافة الأسطورية والدينية والفلسفية العربية منها والغربية والثقافة اللغوية والأدبية والعلمية.
أما الفصل الرابع: فيدرس الموقف الفكري للرحلات الخيالية وفق أربعة محاور: الأوّل بعنوان: التأمل ويشمل الموت والحياة والروح والجسد والعلم والدين والجبر والاختيار والخير والشرّ. والثاني بعنوان: المعاناة وتعالج فيه الدراسة فضح الفساد الاجتماعي والخلقي وإدانة الجري وراء الشهوات والظلم السياسي والاجتماعي. وفي المحور الثالث وهو بعنوان: الخلاص تكشف الدراسة أهم السبل التي يرى فيها الشعراء خلاصهم وخلاص مجتمعهم كالشعر والحبّ والخيال والفنّ. والفصل الرابع: يضم بعض النوازع الإنسانية كبناء المدن المثالية وسنّ القوانين الإنسانية.
أما الفصل الخامس والأخير: فيعنى بالجانب الفنّي في الرحلات الخيالية، وتقسم الدراسة فيه إلى قسمين يشمل الأوّل دراسة عامّة لخصائص الرحلات الخياليّة كدراسة التقنيات الفنية نحو البدايات والنهايات ومابينها من تحوّلات والعقدة والصراع، ثمّ دراسةعناصر الزمان والمكان والشخصيات، والحوار والتناصّ.
ويقدّم القسم الثاني دراسة تطبيقية للغة الشعرية والصورة في مطوّلة ((على بساط الريح)) لفوزي معلوف كأنموذج للرحلة الخياليّة.
ثمّ تعرض الخاتمة أهم النتائج وتعليق ختامي ويليها ملحقان:
الأول ... : الكوميديا السماوية للفراتي.
الثاني ... : شعراء الرحلات الخياليّة.
وقد اعتمدت الدراسة في عرضها وتحليلها للرحلات الخيالية مناهج متعددة محاولة الوصول إلى منهج نقدي تكاملي لمعالجة النصوص الأدبية، فكان المنهج الوصفي رائدها في الفصل الأول، والمنهج النفسي والاجتماعي في الفصل الثاني والثالث والرابع، والمنهج اللغوي والنفسي في الفصل الخامس.(1/3)
وخلصت الدراسة إلى عدد من النتائج كان منها: أن اختيار المكان يعكس موقفاً فكرياً لهذا الشاعر أو ذاك، وأنّ للدوافع الوجدانية والاجتماعية دوراً كبيراً في حض الشعراء للرحيل خيالياً، كما كانت الرغبة في تجديد ثوب الشعر العربي الحديث والتواصل به مع التراث القديم من أهم الدوافع لذلك، كذلك عكست بعض هذه الرحلات صورة الواقع العربي ومعاناته الفكرية والسياسية والاجتماعية في ظل الاستعمار.
والله الموفق.
دير الزور 1999
((
المدخل
1 - الرحلات الخيالية في الأساطير.
2 - الرحلات الخيالية في الملاحم.
3 - الرحلات الخيالية في الأدب العربي والغربي.
(((
المدخل
الرحلات الخيالية في الأساطير
الرحلة الخيالية هي الانتقال المتخيّل الذي يقوم به الأديب عبر الحلم أو الخيال إلى عالم بعيد عن عالمه الواقعي، ليطرح في هذا العالم رؤاه وآلامه وأحلامه التي لم تتحقّق في دنيا الواقع.
وهذه الظاهرة الأدبية ليست جديدة، فقد أخذ الإنسان القديم على عاتقه إيجاد تفسيرات روحية وفكرية لما يحيط به من ظواهر كونية، وقد روت الأساطير كثيراً من مثل تلك الرحلات.
ولعلّ أقدم رحلة خيالية تقدّمها الأساطير هي رحلة الإله الخياليّة للقضاء على آلهة العماء (تيامات) أو (التنين) وخلق الكون من أشلائها وإجراء الأنهار والبحار من دمها.(1)
__________
(1) ينظر: إيلياد، مرسيا، رمزية الطقس والأسطورة، تر : نهاد خياطة، دار العربي. دمشق.سورية، ط/أولى، 1987، ص :48.(1/4)
وتعدّ الأسطورة السومرية التي تتحدث عن رحلة الربّة ((إنانا)) إلى العالم السفلي أهم رحلة خيالية أسطورية، وتتلخّص في أن الربّة ((إنانا)) سئمت بقاءها في عالم السماء فتمنت أن تهبط إلى العالم السفلي، فأخذت زينتها وهبطت درجات العالم السفلي السبع، بعد أن كان الحرّاس ينزعون عنها جزءاً من زينتها عند كلّ درجة فوصلت الدرجة السابعة وقد تعرّت تماماً، عندها أمرت ((أريشكيجال)) ربّة العالم السفلي أن تموت ((إنانا)) وتسمّر إلى عمود خشبي، ويشفع لها أرباب العالم العلوي عند ((أريشكيجال)) التي تقبل على شرط أن تقدّم فداء، ويكون فداؤها زوجها دوموزو، الذي تنقضّ عليه العفاريت، كما في الأسطورة، وتسحبه إلى العالم السفلي، ليمكث فيه ستة أشهر، ثمّ يعود بعدها إلى العالم العلوي، وهكذا دواليك.
وتمثّل هذه الرحلة الخيالية إلى العالم الآخر والعودة منه، ثمّ العودة إليه ثانية دورة الفصول الأربعة في بيئة زراعية فسرت فيها الأسطورة الربيع بانبعاث دوموزو والخريف بموته(1).
__________
(1) ينظر: سواح، فراس، مغامرة العقل الأولى، دمشق، ط: عاشرة، 1993، ص : 330-334.(1/5)
وتأتي أسطورة ((عشتار)) صياغة أسطورية أخرى لهبوط ((إنانا)) إلى العالم السفلي، وهي نفسها عشتار، لتمثّل القوة الإخصابية الفاعلة في الإنسان والنبات وعندما احتجزتها ((أريشكيجال)) توقّفت كل مظاهر الحياة، كما تقول الأسطورة، فيتدخّل كبير الآلهة (سن) بسبب اضطراب مظاهر الحياة ولا يقدر على تخليص (عشتار) من ربّة العالم السفلي إلاّ عندما يخلق خصيَّاً رائع الجمال يغري ((أريشكيجال)) ويستميل قلبها حتّى تقسم له قسماً عظيماً أن تلبي أيّ طلب يريد، عندئذٍ يطلب (الخصيّ) قربة ماء الحياة بحجة الشرب، فتدرك ((أريشكيجال)) حيلته التي وقعت في شراكها فتسلّط عليه لعناتها، وكان عليها كذلك أن تفي بالقسم، فتأمر وزيرها (نمتار) أن يزّين قصر العدالة ومسكن الآلهة وينضح عشتار بماء الحياة لتخرج عشتار ومعها زوجها تموز(1).
وهنا تنتهي الأسطورة بتمايز فريد عن الأسطورة السابقة وإن بدا التفسير لظاهرة الخصب والنماء في البيئة الزراعية واحداً، غير أنّ الرحلة الخياليّة الأولى تمثّل رحلة التجدّد والقوّة التي تصنعها الربّة ((إنانا)) من تلقاء نفسها، في حين تمثّل ((عشتار)) في رحلتها الخياليّة الحركة الجدليّة لدورة الإخصاب والجدب، وقد بدت الرحلتان الخياليتان نموذجاً نمطيّاً ((يتطلع إليه الإنسان أبداً لما يستطيع إليه الحامي أن يفعل من أجله، وصورة للخلاص من ربقة الموت بمعونة الفادي الذي يقبل فيما بعد أن يذوق الموت ليهب من يؤمن به الحياة))(2).
*
__________
(1) ينظر: المرجع نفسه، ص :335- 341.
(2) المرجع نفسه، ص : 341. ...(1/6)
وتتحدّث أسطورة أورفيوس عن رحلة خياليّة إلى عالم الموتى (هاديس) لاسترجاع زوجته (يوريديس) من عالم الموتى، وكانت قد ماتت بسبب لدغة ثعبان، فحزن لموتها أورفيوس أشد الحزن، وتوسّل إلى الآلهة أن تأذن له بالرحيل إليها وإعادتها إلى الحياة، فأذنت له آلهة العالم السفلي بإعادتها إلى الحياة، على شرط أن لا يلتفت إليها طوال الرحلة، فلما بلغ الباب التفت إلى الوراء ليطمئن على زوجته التي هزه إليها الشوق، فحنث بالشرط فسقطت زوجته ثانية إلى عالم الموتى، وأمضى حياته الباقية يعزف على قيثاره حزناً عليها(1).
والأسطورة توحي بأنّ الماضي لا يمكن أن يعود، كما تؤكّد دور الفن، ولاسيما الموسيقا في التعبير عن المشاعر وعلاج النفس.
*
الرحلة الخياليّة في الملاحم.
وتتضمن هذه الملحمة رحلتين، الأولى رحلة جلجامش مع أنكيدو إلى جبال الأرز وقتلهما إله الشرّ، ثمّ رحلة جلجامش وحده بعدموت صديقه أنكيدو إلى عالم الموتى وركوبه البحار والمحيطات وعودته بزهرة الخلود ثمّ نزوله إلى البئر والتهام الأفعى تلك الزهرة.
وتمثّل الرحلة الأولىصراع الإنسان مع قوى الشرّ كما تمثّل الرحلة الثانية بحث الإنسان عن سرّ الحياة وصراعه مع الموت ذلك المجهول.
لقد كانت رحلة جلجامش تعبيراً عن توق الإنسان إلى المعرفة وكشف المجهول ومحاولته معرفة سرّ الحياة والخلود. والقضاء على قوة الموت والفناء(2).
*
__________
(1) ينظر: سابيرو، ماكس، وهندريكس، رودا، معجم الأساطير، تر: حنا عبود، دار الكندي، دمشق، ط/أولى 1989، ص : 191-192.
(2) ينظر: السواح، فراس، مغامرة العقل الأولى، ص: 281-284.(1/7)
وتأتي الرحلة الخياليّة إلى عالم الآخرة في ملحمة هوميروس في مقدمة الرحلات الخياليّة في الأدب الإغريقي، وتبدأ الرحلة بعد انطلاق أوديسيوس من جزيرة الربّة (سيرس) إلى العالم السفلي ليقابل العرّاف تيرزياس، وبعد أن يقدم القرابين للإله ((بلوتو)) عند الصخرة العظيمة، يدلف إلى عالم الموتى فتتهافت عليه أشباح الموتى، فيذبّها عن قرابينه بالسيف إلى أن يقابل العرّاف تيرزياس الذي يرشده إلى طريقة الحديث مع الأموات، ويخبره بما سيقع له من حوادث وعنت في رحلته حتى يصل إلى أتيكا ويتغلّب على خصومه ويعيش بقية حياته بهدوء ودعة، ثمّ يختفي شبح تيرزياس فيرى أوديسيوس شبح أمّه وأشباح أصدقائه في حرب طروادة ((أخيل وأجاكس)) وبنات العالم السفلي كما يشاهد ((ثيتيوس الجبار)) وهو يُعذّب بأفعوان هائل مسلّط على كبده إضافة إلى معاناة العطش والجوع الشديدين اللذين لا يستطيع إطفاء لهيب نارهما في أحشائه، وهكذا إلى أن يقابل شخصيات كثيرة في الجحيم كهرقل وبرومثيوس، وعندما يبطئ في موقفه يخشى على نفسه من ((برسوفونية)) التي قد ترسل إليه رأس الجرجون فيترك عالم الموتى وينطلق إلى سفينته مبتعداً ورجاله عن عالم الأموات(1).
ويبدو أنّ الرحلة الخياليّة حاولت استشراف الغيب وساعدت على إرواء ظمأ النفس التوّاقة لمعرفة شيء عن مصائر البشر بعد الموت.
*
__________
(1) ينظر: هوميروس، الأوديسة، تر: دريني خشبة، مطبعة الرسالة، مصر، 1945، ص: 149-169.(1/8)
ثم حاول فرجيل (89-19 ق.م)، أن يحاكي هوميروس في الإنيادة، فأراد أن يحفظ أمجاد الرومان في عمل يسجّله التاريخ ويخلّده للأجيال القادمة. وأهم مافي الإنيادة الجزء السادس، وفيه يتحدّث فرجيل عن رحلة (اينياس)، ((فقد نزل في مدينة (كوميه) إلى كهف الكاهنة (سيبيل Sibylle) حيث تتنبّأ له بمغامرات وآلام جديدة، ثمّ يزود بغصن ذي أوراق ذهبية ويقدّم قرباناً للآلهة (بروزربين) وزوجها (بلوتون) الحاكمين على الدار الآخرة... فيصادف ربان سفينة الموتى التي تنقلهم إلى العالم الآخر.. ويلقى الكلب الوحشي ذا الحلاقيم الثلاثة(كير بيروس) الذي يمنع الموتى من الرجوع إلى الدنيا، وهناك يلتقي بمن لم يدفنوا من الموتى المنتحرين... ويرى حقل الدموع وفيه موتى الحبّ، وبينهم (ديدون) التي لا تصغي إلى رجائه وتوسّله إليها أن تسامحه، ثمّ يرى الأبطال الذين سقطوا في ميادين الحرب، ويلقي بالغصن الذهبي المقدّس في نهر (ستيكس) ليعبره ويذهب إلى مقام النعيم، وهناك يلتقي بوالده (أنشيرس) الذي يقدّم له الأرواح التي ستهبط للدار الدنيا ومنهم العظماء الرومانيون من سلالته ثمّ يعبر ذلك العالم مع الشاعر (موزيوس) الذي كان بصحبته في رحلته ويترك الباب العاجي الذي يفصل ذلك العالم عن عالمنا حيث تنطلق فيه الأحلام الخياليّة لعالم الناس))(1).
وتنتهي رحلة فرجيل الخياليّة بعد أن طاف بإينياس في عالم الموتى لينقل تصوّرات الرومانيين عن جحيمه ونعيمه كما تعكس هذه الرحلة الخياليّة بعض المواقف الاجتماعية السائدة في عصر الشاعر نحو بعض فئات الناس كالمنتحرين الذين يقابلون بالاحتقار والازدراء في الدارين.
__________
(1) هلال، محمد غنيمي، الأدب المقارن، دار العودة، ودار الثقافة،بيروت، ط/خامسة، (د.ت)، ص: 149-150.(1/9)
وهكذا كانت الرحلة الخياليّة في الملاحم المذكورة وسيلة للإنسان القديم للوصول إلى عالم الموتى المجهول تارة، وصفحة يستشرف من خلالها الرحّالة آفاق المستقبل وغامض الغيب تارة أخرى، كما تبدو الرحلة الخياليّة صورة معكوسة للحياة الاجتماعية في عصر صاحب الملحمة.
*
ثمّ جاء الإسلام فأعطى المسلمين تصوّراً غنياً وعميقاً عن اليوم الآخر، وهو حقّ وصدق، كما أغنى خيالهم، وأشبع نفوسهم، وأراح أرواحهم بحديث الإسراء والمعراج، وكان الاعتقاد به ركناً من أركان الإيمان لديهم، ولذلك استقر في نفوسهم وأشبع لديهم الرغبة في معرفة العالم الآخر.
ولهذا كلّه لم يظهر نصّ أدبي يتصوّر الرحلة إلى العالم الآخر إلاّ في عصور متأخرة، ولعلّ أول ما ظهر في هذا المجال هو قصة الإسراء والمعراج التي توسّعت في حديث الرسول عن الإسراء والمعراج، وهي نصّ شعبيّ نسب إلى ابن عباس رضي الله عنهما.
*
الرحلات الخيالية في الأدب العربي والأدب الغربي
ظهرت المقامة الإبليسيّة لبديع الزمان الهمذاني (358-398هـ)، وخلاصتها أنّ أبا الفتح الإسكندري، بطل المقامات، فقد إبلاً له فخرج في طلبها، حتّى ساقته الأقدار إلى وادٍ أخضر فيه أشجار باسقة وثمار يانعة وأزهار منوّرة، ويلتقي في ذلك الوادي شيخاً يجلس على الأرض، فيأنس لحديثه ويبادله القول إلى أن يسأله الشيخ إن كان يروي شيئاً من أشعار العرب فينشد لامرئ القيس وعبيد ولبيد وطرفة، لكنّ الشيخ لا يطرب له، فيطلب إلى الإسكندري أن يسمع فينشده قول جرير:
بَانَ الخَليطُ ولو طَوَّعْتُ ما بَانَا ... وقطّعُوا من حِبَالِ الوصْلِ أقْرانَا
فيستغرب الإسكندري منه أن نسب القصيدة لنفسه ويسأله عن سبب ذلك الادعاء، فيتهرّب الشيخ من السؤال بسؤال عن شعر أبي نواس فيسمعه الإسكندري قول أبي نواس:
لا أندبُ الدّهْرَ رِبْعَاً غَيرَ مأنُوسِ ... ولسْتُ أصْبُو إلى الحادينَ بالعيسِ(1/10)
وهي قصيدة ماجنة فيطرب لها الشيخ ويشهق ويزعق، فيقول له الإسكندري: قبّحك الله من شيخ، لا أدري أبنتحالكِ شعر جرير أنت أسخف أم بطربك من شعر أبي نواس وهو فويسق عيّار؟ ... فيردّ عليه الشيخ ردّاً طويلاً مسجوعاً، على عادة الهمذاني ليكتشف الإسكندري أن الشيخ الذي قابله هو شيطان شعر جرير، وهو الذي ألهمه النونية التي مرّ مطلعها(1).
ولقد استفاد الهمذاني في رحلته الخياليّة تلك من أسطورة شيطان الشعر المشهورة، فكانت سابقة فريدة في الأدب العربي تبعتها تجارب مشابهة وربّما كانت مستقاة من جوهرها كرحلة التوابع والزوابع لابن شهيد.
وقد استوحت رحلة التوابع والزوابع لابن شهيد (382-426هـ)، فكرة المقامة الإبليسية، حيث يرتحل ابن شهيد مع بنات أفكاره محلّقاً على أجفان الرؤى، مبتكراً شيطان شعر خاصّاً به ينقله إلى أودية الجانّ، ليلتقي من يشاء من شياطين الشعراء وقرنائهم من الجنّ، ويطارحهم الشعر والنثر وفنون الأدب، ويسألهم عمّا ألهموه لأدبائهم من شعر ونثر وينشدهم بعض شعره. وهو في مطارحته كلّها يحكم على نتاجات من سبقوه ويبدي آراءه في أشعار خصومه من الشعراء خاصّة، وغايته في ذلك كلّه إثبات علو كعبه، والمفاخرة بمكانته العلمية والأدبية متخذاً من إجازات فحولهم شهادات فخر له، ويعرض ابن شهيد في توابعه لشيء من الظواهر الاجتماعية السائدة في عصره، كالحبّ والغزل اللذين صارا مرضاً لا يكتفي بالناس، بل يمتدّ إلى حيواناتهم، وغايته من ذلك التفكّه والتندّر في هذه الرحلة.
__________
(1) ينظر:الهمذاني، بديع الزمان، شرح مقامات بديع الزمان، تح.محمد محيي الدين عبد الحميد، ط، ثانية، ص: 253-277.(1/11)
وهكذا بدت رحلة التوابع والزوابع كمحاولة جديدة استطاع الشاعرمن خلالها طرح آرائه الشعرية والأدبية والعقلية، وصبّ جام غضبه على خصومه وحاسديه، ورسم من خلال صورة فكهة ونادرة بعضاً من ملامح المجتمع الأندلسي في عصره.(1)
*
ثم جاءت رسالة الغفران للمعري (363-449 هـ)، وتقسم إلى قسمين رئيسين يضمّ الأوّل: الرحلة إلىجنّة الغفران وجحيمه، ويضمّ الثاني: الردّ على رسالة ابن القارح، علي بن منصور، ويهمّ الدراسة القسم الأوّل من هذه الرسالة وفيه نجد ابن القارح في فردوس الغفران، حيث يعقدمجالس الأدب والمنادمة ويصطفي له ندماء من اللغويين والنحويين أمثال: المبرّد، وابن دريد، والمفضّل الضبّي، والأخفش الأوسط، وثعلب، والخليل، وغيرهم. ثمّ يطوف في رياض الجنّة ويلتقي الشعراء الجاهليين -ممّن غفر الله لهم- والإسلاميين، ويطارحهم الشعر والقريض، ويجلس إلى الأعشى وزهير وعبيد والنابغة الذبياني والجعدي وأبي ذؤيب الهذلي، ويعرض لأسباب دخول هؤلاء الجاهليين الجنّة وتتداخل الأحداث وتتسارع بين جدال وشجار ونقد وتعريض، ويلتفت بعد ذلك المعرّي بابن القارح خطفاً إلى الوراء ليروي ابن القارح على أسماع الشعراء وقائع الحشر والقيامة، وماكان فيها من أحداث مهولة وما لقيه ابن القارح من عنت، حتّى فاز بشفاعة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) ينظر: ابن بسام، الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، تح جامعة القاهرة، 1939، لجنة التأليف والترجمة والنشر، ج4، ص: 106-109.(1/12)
ثم ينتقل ابن القارح من هذه المجالس الأدبية إلى جنّة العفاريت ويلتقي (بأبي هدرش، الخيتعور)، الذي كان قد ألهم أمرأ القيس معلقته المشهورة التي مطلعها ((قِفَا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلٍ))، ويحاوره ويطارحه القصيد. وفي أطراف الجنّة يقابل (الحطيئة العبسي)، في كوخٍ حقير وضيع، ويرى الخنساء تطلّ على شفير جهنّم ترقب أخاها صخراً والنار تضطرم برأسه وتبكيه بأحرّ الشعر، ثمّ يطلّ ابن القارح نفسه على الجحيم ليرى شعراء الجاهلية والزنادقة وبعض الكتابيين ممّن وجبت في حقهم النار أمثال عنترة وامرئ القيس وعلقمة الفحل وعمرو بن كلثوم وطرفة بن العبد، والأخطل التغلبي وبشار بن برد، يحاورهم ويطارحهم في مسائل لغوية، وقضايا أدبية، ثمّ يعود إلى الجنّة ليلتقي بآدم عليه السلام، ويحاوره فيما نسب إليه من الشعر، ثمّ يدخل روضة الحيّات ويقابل حيّة فقيهة بالقراءات، ولكنّه يخرج مرعوباً بعد أن دعته واحدة منهنّ إلى البقاء معها. ويدخل جنة الرّجاز ويلتقي رؤبة بن العجّاج ويقع بينهما شجار، ويعلو الصياح إلى أن يتدخّل العجّاج حاجزاً بينهما، ثم يستقرّ ابن القارح في الجنّة يتمتّع بما فيها من نعيم. وتنتهي الرحلة عند هذا الحدّ.(1)
لقد كانت رسالة الغفران رحلة خياليّة صوّرالمعري من خلالها رؤيته للجنّة والنار وفهمه لهما، وعبّر من خلالها عن موقفه من الأدب والشعر والشعراء والحياة والمجتمع، مستفيداًفي ذلك كلّه من قصّة الإسراء والمعراج ومن التصوّر الإسلامي للجنّة والنار وإن كان لا يعبّر بالضرورة عن صورة الجنّة والنار في الإسلام، ممّا يجعل صورة الجنّة في رسالة الغفران هي تصوّر المعرّي لها.
__________
(1) ينظر: المعري، أبو العلاء، رسالة الغفران، تح: عائشة عبد الرحمن، دار المعارف، مصر، ط/رابعة، 1950.(1/13)
وهكذا بدت الرحلة الخياليّة في الأدب العربي مبنيّة على التصوّر الشعبي الأسطوري، لأسطورة شيطان الشعر لتحمل قضايا الأديب في عصره ولتعكس الوجه الاجتماعي لبيئة تعنى بالفنّ والأدب وتقيم وزناً عظيماً للأديب كما حملت الرحلة تصوّر بعض الشعراء الأدبي والفكري للجنّة والنار، وإن كان هذا التصوّر متأثّراً بالثقافة القرآنية والنبوية فهو يحفظ للأديب خصوصيّة الرؤية والتصوّر.
*
ثمّ ظهرت رحلة خياليّة للشاعر الإيطالي دانته (1265- 1331) لم تنشر باسمها المذكور إلاّ سنة 1555 وتقوم الرحلة الخيالية على الرحيل إلى عالم الآخرة وعرض هذا العالم من وجهة النظر الشخصية الموشّاة بالثقافة الدينية المسيحية الشائعة في عصرها.وتقسم الرحلة إلى ثلاثة أجزاء: الجحيم، والمطهر، والجنّة، وكلّ جزء مكوّن من ثلاثة وثلاثين نشيداً مع مقدمة في نشيد واحد.
والجحيم هومملكة الظلمات ووادي المهاوي الأليم، حيث يهوي الإنسان الذي لايحيا حياة الحكمة والفضيلة في معناها الإنسانيّ والاجتماعيّ وهذا الجحيم في باطن الأرض في أبعد مكان من الله حيث تسقط الأرواح كالأوراق الجافّة فارقت غصونها وتُركت إلى ثقلها المادي، إلى طبيعتها الأرضيّة حين لم تحاول الارتقاء روحياً، ويرحل إليها دانته مع (فرجيل) رمز الحكمة الشعرّية ويصلان معاً إلى الطبقة الأولى، وممّن يقيمون فيها العلماء والشعراء الذين ساعدوا على رقيّ الإنسانية ولكنّهم ليسوا من المؤمنين ومنهم ابن سينا وابن رشد، وفي الدائرة الثانية المترفون تدور بهم عاصفة دائبة لا تهدأ، وفي الثالثة الشرهون بطونهم إلى الأرض يفترسهم الوحش ذو الحلاقيم الثلاثة، وفي الرابعة البخلاء والمترفون يدحرجون الصخور، وهكذا حتّى يبلغ الدرك الأسفل حيث الشيطان في أبعد منطقة من الله وهي منطقة الزمهرير.(1/14)
والمطهر جبل في الأرض مرتفع مقابل لمنطقة الجحيم التي هي مركز الأرض، وفي المطهر المذنبون يكفّرون عن سيئاتهم ولكنّهم يختلفون عن سكّان الجحيم بأنّهم تائبون، لذلك لديهم الأمل في النجاة، وكلّما نجت روح من أرواح المطهر انطلقت إلى عالم الخلد فيهتزّ الجبل، وهو ذو سبع دوائر، وفي قمته الجنّة الأرضية حيث تظهر (بياتريتشه) حبيبة الشاعر في الطفولة. عندئذٍ يترك (فرجيل) ليصحب (بياتريتشه) في السماوات السبع ذات الكواكب المتحرّكة. ثمّ السماء الثامنة ذات النجوم الثابتة، وهي عرش الله حولها تسع دوائر من لهيب فيها جوقات الملائكة تسبّح بحمد الله وعظمته في ألوان ومناظر تبهر، ثمّ السماء العاشرة أرفع منطقة تسكنها الأرواح الخالدة.
وتنتهي رحلة دانته عند هذه الدرجة بعد أن استطاع أن يحلّق بخياله بعيداً في ملكوت السماوات ويحقّق لنفسه ماقد فقده في دنيا الناس من مكانة اجتماعيّة وسياسيّة، وماقد حرمه من تحقيق ذاته الإنسانيّة العاشقة في الأرض كان قد حقّقه في السماء وانتقم لنفسه من خصومه السياسيين كما انتصر لعقيدته من خصومه الدينيين(1).
__________
(1) ينظر: هلال، محمد غنيمي، الأدب المقارن، ص: 149-150.(1/15)
لقد اتضح من خلال عرض الرحلة الخياليّة القديمة بدءاً بالأسطورة وانتهاء إلى الكوميديا الإلهيّة الدور المهم الذي أسهمت فيه الرحلات الخياليّة في عكس آمال الإنسان وطموحاته التي يريد تحقيقها وذلك بعد أن يقتحم عوامل مجهولة. ربّما تكون قد شغفته شوقاً لكشف مجاهيلها. فكانت الرحلة وسيلة لتحقيق التجديد الإلهي الخالد في الأسطورة السومريّة والأكاديّة،ووسيلة معرفة واستشراف للمستقبل في الملاحم القديمة كملحمة جلجامش والأوديسة، وطريقاً يصل المرء من خلاله إلى الخلود الفكري في الإنيادة، ومسرحاً يستعرض فيه الأديب قدراته الفكريّة والفنيّة والأدبيّة، يوجّه فيها النقد لخصومه وربّما يضرم نار الانتقام في رؤوسهم كما هوحال الرحلة في الأدب العربي القديم والأدب الأوربي.
(((
الفصل الأول
أشكال الرحلات الخيالية
أولاً: رحلات إلى عالم الجنّ والمدن المسحورة
ثانياً: رحلات إلى العالم العلوي.
ثالثاً: رحلات إلى عالم الموت والآخرة.
(((
الفصل الأول
أشكال الرحلات الخياليّة
أولاً - رحلات إلى عالم الجنّ والمدن المسحورة:
يرتبط هذا الشكل من الرحلات الخياليّة بأماكن الجنّ والعفاريت والشياطين تلك الكائنات الغريبة التي اختارها بعض الشعراء ملاذاً له يبثّها مواقفه من الحياة والفنّ والفكر وتشمل ((رحلة عبقر))، لشفيق معلوف، و((في حانة إبليس)) لمحمد الفراتي، و((ترجمة شيطان))، لعباس محمود العقّاد.
أمّا المدن المسحورة فهي تلك المدن التي عرفت في زمن ما واختفت بصورة غامضة، وارتبطت بشكل ما بالغرابة والعجائبيّة نحو ((إرم ذات العماد)). التي استوحى منها نسيب عريضة مطولته ((على طريق إرم)).
وأول هذه الرحلات الخياليّة إلى تلك العوالم الغريبة هي:
رحلة ((عبقر))، لشفيق معلوف1905.(1/16)
مطوّلةعبقر من أهم الرحلات الخياليّة في الشعر العربي الحديث وقد نظمها الشاعر شفيق معلوف مستمداً مادتها من الأساطير العربية القديمة. وقد صدرت بعض أناشيدها أوّل مرّة في صحافة المهجر البرازيلية عام 1929، إلى أن صدرت عن مجلة الشرق البرازيلية عام 1936، وقد تضمنّت ستة أناشيد هي ((في طريق عبقر، الإله الناقص، حسرة الروح، حكمة الكهّان، ثورة البغايا، العبقريّون)). إضافة إلى مقدّمة عن أساطير العرب وشياطين الشعر بقلم والده عيسى إسكندر معلوف. وقد لقيت اهتماماً كبيراً في الأوساط الأدبيّة والفنيّة يومذاك، الأمر الذي حفّز شفيقاً إلى إصدارها سنة 1949 في 343 صفحة بعد أن تضاعفت أناشيدها وبلغت اثني عشر نشيداً، فكانت الأناشيد المضافة: ((نهر الغي، وادي سجين، الهوجل والهوبر، حلم هراء، العنقاء، أحاديث خرافة))(1)، وقد نظمت المطوّلة على البحر السريع المنوّع القوافي.
قدّم شفيق المعلوف مطوّلة عبقر على أساس فكرة شيطان الشعر الذي يحلّق بالشاعر بعيداً عن عالم الواقع إلى عالم الجنّ والشياطين في وادي عبقر. ذلك الوادي الذي تؤوب إليه كلّ الأساطير والخرافات.
وقد جاءت ((عبقر)) فريدة بين مطوّلات الشعر العربي ومن بين موضوعات الرحلات الخياليّة لما في موضوعها من خصوصيّة، إذ تتناول أساطير العرب وخرافاتهم وعباداتهم ومعتقداتهم في الجاهليّة. وقد حملت أناشيدها العناوين التالية:
النشيد الأوّل: طريق عبقر ... النشيد السابع: حلم هراء.
النشيد الثاني: الإله الناقص ... النشيد الثامن: حكمة الكهّان.
النشيد الثالث: حسرة الروح ... النشيد التاسع: ثورة البغايا.
النشيد الرابع: نهر الغي ... النشيد العاشر: العنقاء.
النشيد الخامس: وادي سجين. ... النشيد الحادي عشر: أحاديث خرافة.
النشيد السادس: الهوجل والهوبر ... النشيد الثاني عشر: العبقريّون.
__________
(1) ينظر: دقاق، عمر، شعراء العصبة الأندلسية في المهجر، بيروت، مكتبة الشرق، ط/أولى، 1973، ص: 430-431.(1/17)
في النشيد الأوّل ينبري شيطان الشاعر مستظلاً بغيمة، وقد بانت سُحنته البشعة، فيحيّي الشاعر بتحيّة الصباح، ثمّ يعرض عليه أن ينطلق به إلى عالم السحر والخرافة حيث تأوي الجنّ والشياطين في وادي عبقر فيوافق الشاعر على ذلك ويمتطي ظهره، يقول:
حتَّى تَهاوَى بي إلى موضعٍ ... مَا راقَني مِنْ قَبلهِ مَوضعُ
غَمائمٌ زرقٌ على مَتْنِها ... مَنازِلٌ جُدرانُها تَسْطَعُ
فَقالَ هذي عَبْقَرٌ ما ترَى ... وَضَجَّةٌ الجِنِّ التي تَسْمعُ(1)
وفي النشيد الثاني يقف علىأبواب عرّافة عبقر، وهي عجوز دردبيس تخال جهنّم في عينيها، ولكنّها دوّت سخطاً ودعت ويلاً عندما شاهدت هذا الإنسيّ الذي اقتحم عليها عالمها حاملاً شرّه بين جنبيه، وراحت تقذفه بعبارات التقريع والتذّمر قائلةً:
يَا آَكَلَ الأمواتِ ... ورَامِقَ النّيراتِ
بالأعْينِ الوَالِههْ ... لا تَمْضِ في عُجْبِكْ
فإنَّما الآلِههْ ... لَيْسَتْ على دَرْبِكْ
مادَامَ حبُّ الذَّاتِ ... يَنْخَرُ في قَلْبِكْ(2)
ويبتعد الشاعر في -النشيد الثالث- مع شيطانه عن عرّافة عبقر مستاءً ممّا سمع، غير أنّ الشيطان يحثّه على المُضي قُدماً في متابعة الرحلة، ثمّ يسمع صوتاً شجيّاً يعتصر الأسى نبراته، هو صوت أميرة الجنّ،بدت وقد أصابها طائف من الإنس فذاقت لذّة الجسد واحترقت بنار الشهوة، فما تلبث تعانق الأرواح دونما نفع، فلا شيء يشبع فيها النهم غير الجسد، لذا تراها تبيع الخلود بالكفن، فتقول:
ياحَامِلَ الجسم ألا أعطنيهْ ... وخُذْ إذا شِئْتَ خُلودِي ثَمَنْ
وِشَاحِي الناريُّ مَنْ يَشْتَرِيهْ ... فإنّني أَبِيْعُهُ بالكَفَنْ(3)
__________
(1) المعلوف، شفيق، عبقر، ط/أولى، سنة 1946، سان باولو، ص: 155.
(2) المصدر السابق، ص: 168.
(3) المصدر نفسه: ص 183.(1/18)
وفي الرابع من أناشيد عبقر يثب الشيطان بالشاعر وثبة عظيمة تقذفهما إلى نهر الغي، حيث يلتقي مارداً اسمه سرحوب، ما يفتأ يضرب النهر بعكّازه، فينفرج عن لجّة دهماء ظلماء كثيرة الشعاب يمشي فيها هذا المارد الأعمى كالبصير في النور، ويقدّم للشاعر عدداً من النصائح الخلقية التي تقوّم المجتمع في مواجهة الفساد الماديّ، يقول على لسان سرحوب:
يا أيُّها الهانِئونْ ... برُؤيَةِ الأسحارِ
والمَالِئونَ العُيونْ ... بِبَهجَةِ الأَنْوارِ
ماكُنتم تخبطونْ ... في لُجّةِ الآثامِ
لَوْ أنّكُمُ تُبْصِرُونْ ... مِثْلِيَ في الظّلامْ(1)
ثمّ في النشيد الخامس يقفزبه شيطانه إلى وادي سجين، فيرى إبليس قد استراح على عرشه بعد أن قلّد أبناءه الخمسة مقاليد الغواية والضلال.
الأوّل: ((ثُبَرّ)) شيطان الحروب والدمار ومثير الفتن والأهوال، بدا وقد أطلق ضحكات الهزء والسخرية من بني البشر بعد أن نزع القيود من أرجل العبيد ليتوّج بها رؤوس الغزاة، ثمّ يظهر أخوه ((داسم)) مزّيّن النقائص والدسائس، ومعلّم الناس أساليب الرياء والخداع، ثمّ يبدو ((أعور)) إبليس الشهوة، يقول لبني البشر:
وَلْيَعْلَمِ العَاشِقُونْ ... أنَّ اصطِفَاقَ الجُفُونْ
في لذةٍ غَائِمهْ ... مَاهُو إلاّ مِرانْ
يُهَيّئُ الأجْفَانْ ... للنَّومَةِ الدَّائِمَهْ(2)
ثمّ يخرج ((زلنبور)) شيطان المال، معبود أهل الذهب ومفضّض الأغلال، غير أنّ الجميع يسيرون في النهاية تحت راية ((مِسْوَطٍ)) شيطان الكذب.
وفي النشيد السادس يتحدث المعلوف عن الهوجل والهوبر شيطاني الشعر، والهوجل يوحي الشعر الجيد ويعمل لأجل الحياة وبثّها في كلّ مكان، في حين يقوم الثاني على الإتلاف والتخريب وقد تمثّل ذلك في صورة إيحائيّة تصوّر الهوبر يأكل البسر ويرمي بالنواة على الأرض ليلتقطها الهوجل فيغرسها في الأرض.
__________
(1) المصدر نفسه، ص: 184-185.
(2) المصدر نفسه، ص: 229.(1/19)
وفي النشيد السابع يتحدّث عن رؤيا أميّة بن أبي الصّلت وخلاصتها: إنّ الشاعر الجاهلي كان يهيّئ نفسه للنبوّة لما شاع في زمنه عن نبي يرسل في العرب، وفي ليلة ماينام أميّة فيأتيه هُراء في المنام بهيئة طير جثمت بقربه فشقّت أضلاعه واستخرجت قلبه المجبول على الشرّ والحسدوالرياء فعرضت على ذلك القلب نور النبوّة فأباها، لأنّ النبوّة مقام سامٍ لا يصل إليه إلاّ من صفا قلبه وخلصت سريرته، فيقول:
أَذَاكَ قَلْبِيْ أَنَاْ ... تَاللهِ قُلْ يا هُراءْ
إذَا قُلوبُ الوَرَى ... كَانَتْ وَقلْبِي سَوَاءْ
وَكَانَ مَا بِي بِهِمْ ... لا كُنْتُ في الأَنبِياءْ(1)
أمّا في النشيد الثامن فيقابل المعلوف حكيمي عبقر، وهما: شقٌّ وسَطيح، فالأوّل كان نصف إنسان بعين ورجل ونصف لسان، والثاني قد سُلّت من جسده العظام فصار يُطوى كطيّ السجل. ويعرض الكاهنان على الشاعر عدداً من النصائح بما أوتيا من الحكمة. ويركز شفيق في هذا النشيد على الجوهر الأساسي في الحياة، وهو الروح. لأنّ الجسد مجرّد وعاء لا يضرّ النقصان فيه كمال الروح -ولاسيما- إذا تقوّت الروح ومُلئِتْ حكمة.
وفي نشيد ثورة البغايا، وهو النشيد التاسع يصوّر البغايا اللواتي ثرن في الجحيم على الله، واعترضن على قدره فيهن حتّى ضجّ منهنّ أهل النار، فزجّ بهن الله في وادي عبقر، يقول شفيق على لسانهنّ:
ُثرْنَا عَلَيْهِ حِينَما سَامَنَا ... عَسْفَاً فَلَمْ نَصْبِر على عَسْفِهِ
قَدْ حَشَدَ اللّذَّاتِ قُدَّامَنا ... وجَيَّشَ العَذَابَ مِنْ خَلْفِهِ
أَفْتَى بأنْ نَقُومَ في رِبْقِنا ... بِجِزيَةِ العَبْدِ إلى رَبِّهِ(2)
__________
(1) المصدر نفسه: ص :229.
(2) المصدر نفسه، ص: 255-256.(1/20)
وفي النشيد العاشر يميل الشيطان بالشاعر إلى ناحية من عبقر يضيق بها الأفق، ويملأ جنباتها طائر خرافي هوالعنقاء ومن خلفها فرخاها الرُّخ والفينيق، ويصوّر المعلوف حال هذه الطيوروضخامتها وأوكارها مقارناً بين عظمة أجسامها وعظمة عقول بني البشر التي أسكنها أهلها جماجمهم الضيّقة فحدّوا من إبداعها وانطلاقها، يقول:
مَا عَجَبِي لِفينقِ مُوْقِدِ ... لِنَفْسِهِ النّارَ على المِحْرَقَةْ
بَلْ لِطُيُورٍ مِثْلِها ضَخْمَةٍ ... أَوْكَارُها الجَمَاجِمُ الضيّقَةْ(1)
وفي أحاديث خرافة وهي النشيد الحادي عشر يروي الشاعر أسطورة خرافة وأحاديثه التي يرويها، وهي نسور لقمان، وأسطورة نصر بن دهمان، وحديث من البادية. ففي حديث نصر بن دهمان يتحدث خرافة عن نصر بن دهمان شيخ غطفان الذي عاد شاباً بعد أن أحنت ظهره السنون حتّى بدا كنابش قبره بيده، ولكنّ جنيّة تسلّلت ليلاً إلى مخدعه لتعيد إليه الشباب من دمعها وكحلها وحرقة أنفاسها.
وفي مقطوعة أناهيد يروي أسطورةً تتحدث عن امرأة من الأعراب اسمها أناهيد باعت نفسها للهوى، وجعلتْ من نفسها مستراحاً للركبان، فتثير غضب الآلهة عليها فتحوّلها إلى نجمة تهدي الركبان في الليالي التائهة في قلب الصحراء.
أما النشيد الثاني عشر، فهو آخر محطات الرحلة حيث همس الجماجم، ولغة الفناء تشدّ إليها الرائي المتعظ، ويبقى الخلود للروح وتبقى الأجسام قشوراً لا تفتأ تتيبّس ليتفتّق اللبّ عن خلق جديد، ويظل الحبّ هدفاً تسعى إليه الشاعريّة ووسيلة لخلاص الإنسانيّة من آلامها، فيقول:
والحُبُّ في الجَنَّةِ مَا شأْنُهُ ... وَلا أَذَىً فيهَا ولا بُغْضُ
أَلْقُوهُ للنارِ وَإنْ أَرمَضَتْ ... أَقْدَامَهُ المَوَاطِئُ الرُّمضُ
ولَيَتَلّقَّفَهُ شُواظُ اللَّظَى ... وَلْيَتَلَهَّمْ بَعْضَهُ البَعْضُ
فَالأرضُ إنْ كانتَ جَحيماً لَهُ ... وَكانَ فيها تَهْنأ الأَرْضُ(2)
__________
(1) المصدر نفسه، ص 269-270.
(2) المصدر السابق، ص: 320.(1/21)
لقد تمثّل الشاعر في عبقر الحياة الإنسانيّة المعاصرة، التي تقوم على الصراع بين المادّية الطاغية والروح الإنسانيّة الطاهرة، فبدت عبقر كأنّها صورة ممسوخة لهذا المجتمع بكلّ ما فيه من تناقضات، وقد أراد الشاعر فيها أن يرسم موقفه من الإنسان، الذي بدا شريراً بطبعه، والحياة الاجتماعيّة المتردية التي رسفت في قيود الرذيلة، وغلبة الشهوات، وقد ألبس شفيق مادته الأسطورية في هذه الرحلة رؤية إنسانيّة شفافة بعثتها بثوب جديد يتساوق والهدف الذي صرّح به شفيق في مقدّمة عبقر وهو بعث التراث الأسطوري العربي والتجديد في الشعر العربي المعاصر.
*
في حانة إبليس محمد الفراتي 1890-1978.
قصّة شعريّة نشرها الشاعر في ديوانه النفحات في حوالي 1956-1957 وهي مؤلّفة من خمسة وستين ومائة بيت على بحر الهزج منوّع القوافي.
وتدور أحداث القصّة في طفولة الشاعر عندما يلتقي جنيّة تغريه بالحلوى لتسوقه خلفها نحوعالم إبليس حيث يلتقي هناك أبا مرّة ويدور بينهما حوار طويل ينتهي الحوار إلى هدّية يقدّمها إبليس لهذا الطفل الناشئ، هي موهبة الشعر على أن يحتفظ الطفل بالسّر إلى أن يكبر وإلاّ فسيصاب بالخبل انتقاماً تقوم به الشياطين والجنيّة لذلك.
يقصّ علينا الشاعر، وهو شيخ طاعن في السنّ ماكان في طفولته من لقائه جنيّة أخذت تناديه وتغريه بالحلوى لتستجرّه وراءها بعيداً عن الدور، ثمّ لتأخذه إلى أعماق الأرض حيث تقطع به مسافة طويلة ليقف أمام ظلمة داجية وتصيح بكلمة سحريّة تشقُّ دياجي الظلمة، لتضيء تحتها دور وبساتين لا نكاد نلمح فيها شيئاً يتميّز عن عالمنا الأرضي يقول:
إِذْا بِالأَرْضِ قَدْ ضَاءَتْ ... وَبَانَتْ تحْتَها دُوْرٌ
وَقَدْ حَفَّتْ بِتِلْكَ الدُّو ... رِ أَنْهَارٌ وَجَنَّاتٌ
وَعَنْ بُعْدٍ تَرَاءَتِ لِي ... صَحْرَاءٌ وَوَاحاتٌ(1)
__________
(1) المصدر السابق، ص: 270.(1/22)
ثمّ يصوّر قصر إبليس فيتكئ في تصويره على خيالات وصور مستمدّة من عالم ألف ليلة وليلة، فهو قصر مشيد من درّ وماس، وأبوابه من الجواهر والذهب، وبناء القصر يغلبُ عليه الطابع الإسلامي ففي وسطه قبّة عظيمة وبهو كبير، ودعائمه من الذهب وتحفُّ بإيوانه ولجّته أشباح ومخلوقات عجيبة من الجنّ يقول:
إذا قَصْرٌ مَشِيْدٌ مَا ... لَهُ شِبْهٌ لَدَى النّاسِ
بِأْعَلَى رَبْوَةٍ قَدْ شِيْـ ... ـدَ مِنْ دُرٍّ وَمِنْ مَاسِ
وَفَوْقَ العَرْشِ إِبْلِيسٌ ... لَهُ عِزٌّ وَسُلْطَانُ(1)
ثمّ ينتقل الفراتي إلى وصف إبليس ومالديه من زينة وأدوات إغواء، حتّى إذا اقترب منه ناداه أبومرّة مستعطفاً إيّاه ومستغلاً سذاجته ليريه في مرآته أعاجيب عن الناس، ماكانت تخطر له ببال. فيرى الناس يتقاتلون على الدنيا كالوحوش الضارية ويرى تهافت الناس على الشهوات وغيرها من مهاوي الأخلاق، وكأنّه يؤكّد سطوة الشهوات والغرائز في رسم مصائر كثير من البشر، لأنّ كل الناس في رأي إبليس صريع الجنس والشهوة بدءاً بأبي البشر آدم. ويظهر إبليس تظلمه أمام الشاعر، فالله عزّ وجلّ، على حدّ زعمه، قد ظلمه أكبر الظلم حين تاب على آدم ولعنه إلى يوم القيامة، رغم أنّ آدم قد ركّبت فيه كلّ طباع السوء، فيقول:
وآدَمَكُمْ طِبَاعُ السُّو ... ءِ أجْمَعُ رُكِّبَتْ فيهِ(2)
وبعد هذه الحوارية يلتفت إبليس إلى الشاعر ليقدّم له هدية ثمينة، ألا وهي صولجان الشعر، فيقول:
أتدْري فيمَ جِئْنَا بِـ ... ـكَ في ذَا اللّيلِ مِنْ أهْلِكْ
فَعِنْدِي مِنْحةٌ مَخْبُو ... ءَةٌ في الغَيبِ مِنْ أجلِكْ
فذا الطّاوُوسُ قَد يُعطى ... لمزهُوّين بالفنِّ
فدُونَكَ صولجانَ الشِّعـ ... ـرِ خذْهُ وِهْبَةً مِنّي(3)
__________
(1) المصدر نفسه، ص 271.
(2) المصدر السابق، ص 274.
(3) المصدر نفسه، ص: 278-279.(1/23)
ثمّ تعود السعلاة بالشاعر الفراتي بعد أن يأخذ منه إبليس المواثِيق بألاّ يخبر أحداً بما جرى حتى يغدو شيخاً طاعناً في السنِّ. ثمّ يعرض الفراتي لبعض العادات الشرقية السائدة في بلده، ولاسيما، المتعلقة بالأحزان ويشيد بالتآزر الذي يلقاه الإنسان المنكوب بمصيبة ما من أقاربه وذويه، فيقول:
فَأَلْفيتُ أبي المحزُو ... نَ طولَ اللّيلِ سَهَرانا
وَأَلفيتُ عَجُوزَ الخيـ ... ـرِ أمّي وَهْي مُحتارَهْ
تنوحُ وحَولَها العمّا ... تُ والخَالاتُ والجارَهْ(1)
وينقلب حال أهل الشاعر سروراً بعد حزن عندما يتلقونه ويخبرهم
بما جرى له حسبما أوصته السعلاة أن يفعل ويطوي سرّ الحادثة إلى أن
يرويها في هذه القصيدة.
وهكذا انتهت رحلة الشاعر الفراتي بعد أن حلّق بخياله في عالم الجنّ والشياطين ذلك العالم الغريب، لا للتسلية والترفيه، وإنّما ليرسم ملامح موقفه من الحياة الاجتماعيّة التي صوّر كثيراً من جوانبها وماكان ليرتحل إلاّ ليعرّض ببعض الجوانب الفاسدة، والتهافت وراء الشهوات والانخداع ببعض الفئات المدّعية التديّن، كما استطاع أن يرسم لوحة صادقة لمجتمع إنساني لا يزال يعيش أحاديث الجنّ وأساطير خرّافية. ولا يخفى تأثّر الفراتي في رحلته الخياليّة هذه بأسطورة شيطان الشعر الذي يلهم الشاعر أجمل القصائد.
*
ترجمة شيطان عباس محمودالعقّاد (1889-1964).
جاءت قصيدة ((ترجمة شيطان)) في ديوانه ((أشباح الأصيل)) مؤلفة من (220) مائتين وعشرين بيتاً على بحر الرمل. موزّعة على شكل ثنائيات متّحدة القافية شغلت الصفحات من 272 إلى 289.(2)
__________
(1) المصدر نفسه، ص: 280.
(2) العقاد، عباس محمود، ديوان العقاد، أشباح الأصيل، دار الكتاب العربي، بيروت، ص 272-289.(1/24)
وتروي القصيدة سيرة شيطان ناشئ من ولد إبليس سئم الحياة التي خُلق لها فيتمرّد على هذه الخلقة والمهمّة التي تقتصر على الإغواء، ويتوب إلى الله عزّ وجلّ عن الشرّ فيجازيه الله عن توبته بالجنّة مسكناً ومآباً، ولكنّ روح الثورة لاتفارق هذا المخلوق فيرى أنّ أيّ منزلة دون الكمال الإلهي نقص وعيب فيطلب إلى الله في تحدّ صارخ أحد أمرين: إمّا الخلود الإلهي المطلق، وإمّا التحوّل حجراً صلداً تُخلّد فيه روعة الفنّ الجميل. يطالعنا العقّاد منذ البداية بمقدّمة فلسفية قوامها فكرة بسيطة هي أنّ الله خلق هذا الشيطان محنة للعالمين ووسيلة لتعليم الحكّام والملوك كيف يرمون من شاؤوا التخلّص منه بتهمة المروق والعصيان. يقول:
صَاغَهُ الرَّحمنُ ذُو الفَضْلِ العَمِيمْ ... غَسَقَ الظَّلمَاءِ في قَاعِ سَقَرْ
ورَمَى الأرضَ بِهِ رَمْي الرَّجيمْ ... عِبرةً فاسْمَعْ أعاجيب العِبَرْ(1)
ثمّ يقذف به من السماء إلى أرض الزنوج ((أولاد حام)) فهم بجهلِهم وتخلّفهم أرضٌ خصبةٌ للإغواء، ولكنّه لا يبقى طويلاً حتى يُرمى به في سواحل أوربّة، يقول:
لَمْحَةٌ جَازَتْ بهِ مَشْرِقَها ... ثُمَّ رَدَّتْهُ حِيالَ المَغْرِبِ
وَيِشاءُ اللّهُ أَنْ يُوبِقَها ... فَاشْتَهَاهَا شهْوَةَ المُغْتَصِبِ
وارتضى فِيها مقَاماً رَغَداً ... حَوْلَ بَحْرِ الرّومِ أوبَحْرِ العَجَمْ(2)
فيلبس عليهم الشيطان الحقّ ويخنس على القلوب، فإذا هي صراعات مرة مع الرغبات والشهوات والعادات والقوانين، غير أنّ كلّ هذا يكون بأسلوب تقريري لا أثر بالغ للتصوير الشعري فيه.
__________
(1) المصدر نفسه، ص: 272.
(2) المصدر نفسه، ص 275.(1/25)
ثمّ يسأم الشيطان من دوره في الإغواء ويكفر بالشرّ العقيم، لأنّ الناس قد تساوت لديه في الهدى والضلالة، فينوب إلى الله ويتوب عن الإغواء، ومُحال أن يردّه الله، فيفتح له أبواب جنّته يختار منها المقام الذي يشاء عند مصبّ السلسبيل في زمرة من الملائك والحور والولدان المخلّدين يقول:
يَكْفُرُ الشَّيطانُ بالشّرِّ العُقامْ ... فَتَعُدُّ الكُفْرَ مِنْهُ نَدَما
وَتُنَجِّيهِ إلى دَارِ السَّلامِ ... وَقَدِيْمَاً قُلْتَ لا يَغْشَى الحِمَى
فَضْلُكَ اللّهُمَّ مِنْ غَيْرِ حِسَابْ ... وَكَذا اللّهُمَّ آلاءُ العَلِيمْ
نَزَلَ الشَّيطانُ مِنْ جَنَّتِهِ ... مَنْزِلاً يَرْضَى بِهِ الفَنُّ الجميلْ(1)
إلاّ أنّ الشيطان سرعان ما يسأم حياة النعيم لأنّه لم يصل إلى مقام الخلود المطلق، مقام الربوبيّة الذي لا يدانيه نقص، إذاً لابدَّ من الثورة والتمرّد، وهنا تصل روعة التصوير الشعري عند العقّاد ذروتها، حيث يقول:
وَبَدَا الشَّيْطانُ مَعْرُوفاً تَرَى ... كِبْرِيَاءَ الكُفْرِ في وِقْفَتِهِ
عَالَي الجَبْهَةِ يَأْبَى القَهْقَرَى ... وَتَوُجُّ النَّارُ مِنْ نَظْرَتِهِ(2)
ويحسد الشيطان الله على مقام الربوبيّة ويظنّ أن الله ظلمه لأنّه خلق فيه روح التمرّد والعصيان، فهو أسير إرادته، ولو أنه عصى الله بإرادته لوجبت لعنته لمخالفته أمر الله، ويعترض الشيطان علىالله الذي يهب الجنّة لعباده من السذّج الذين لا يطمحون بالنظر إلى الخلود المطلق ولا يفكّرون به مجرّد التفكير في حين يشقى هو بعقله لأنه ينظر إلى البعيد ويطمح إلى الخلود.
وتصل ذروة التمرّد لدى الشيطان حين يتحدّى ربّه بأنّه لن يسأله الرحمة والشفقة أبداً، وأن يجعله حجراً صلداً وفتنة تجذب إليها النفوس والعقول فيقول:
وادْعُ في خلقِكَ يَسْجُدْ مَنْ رَجا ... خُلْدَكَ الأعلى فما نحنُ سُجودْ
__________
(1) المصدر نفسه، ص: 282.
(2) المصدر نفسه، ص: 282.(1/26)
لنكوْنَنَّ إذا صحَّ الحَجَا ... حَجَراً صَلْداً ولاهذا الوجودْ(1)
ويتخلّى إبليس عن ذلك الشيطان الناشئ، ويسخر منه، ويرفض أن يسلكه سبيل شهداء الشياطين، فيقول:
قالَ: فلْتسلكْهُ فيمَنْ سَلكُوا ... أيُّها المَولى سبيلَ الشّهداءْ
وتَقَضَّتْ بينهُمْ سيرتُهُ ... وَمضَى كالطّيفِ أو رَجْعِ الصَّدى
باءَ بالسّخْطِ فلا شيعتُهُ ... رَضِيَت عنه ولا أرضَى العِدا(2)
وتبدو (ترجمة شيطان) للعقّاد رحلة خالصة للخيال، وتكاد لا تحمل شيئاً من الارتباط للواقع، وكأنّ العقّاد اتخذ من الموضوع مادة للإبداع والتجديد، فكانت القصيدة بذلك مخلصة لموضوعها، لم تحمّله أبعاداً خارجة عنه.
وهي من غير شكّ تكشف عن تجذّر الفساد في نفس الشيطان، وكأنّها تريد توكيد ثبات الشرّ في النفس الشريرة.
*
على طريق إرم نسيب عريضة (1887-1946)؟
وتعدّ (على طريق إرم) رحلة إلى عالم عجائبي، بحثاً عن الراحة والطمأنينة وقد استغرقت من ديوانه (الأرواح الشريرة) قرابة تسع عشرة صفحة بلغت أبياتها 247 بيتاً موزعة على ستة أناشيد هي:
1 ـ أوّل الطريق.
2 ـ القلوب علىالدروب.
3 ـ الطلل الأخير.
4 ـ في القفر الأعظم.
5 ـ القيروان.
6 ـ نار إرم(3)
وهي منوّعة الأبحر والقوافي وفيها مخمّسات في النشيد الأخير، أمّا الأبحر العروضية فهي: مخلّع البسيط في النشيد الأول، ومجزوء المتدارك في الثاني، ومجزوء الوافر في الثالث، والمجتث في الرابع والخامس أيضاً، وفي النشيد الأخير مجزوء المتدارك.
__________
(1) المصدر السابق، ص: 287.
(2) المصدر نفسه، ص: 289.
(3) عريضة، نسيب، الأرواح الحائرة، نيويورك، 1946، ص: 179-197.(1/27)
لقد دفعت كثرة التفكير الشاعر إلى أن يتخيّل عالماً نقيّاً صافياً ترى فيه النفس استقراراً وهناءة عند تحقيق ذاتها فكانت ((على طريق إرم)) محاولة لتحقيق هذه الراحة بخوض غمار المغامرة وحضّ أدوات النفس على الصمود في مواجهة القلق الناجم عن سطوة الحياة المادّية ويظل في كفاح وجهاد، ومدّ وجزر إلى أن يصل إلى نار إرم التي ينشدها ويرى فيها خلاصه المؤمّل.
(( جاء في أساطير العرب أنّ (إرم ذات العماد) مدينة عجيبة بناها شدّاد بن عاد من حجارة الذهب واللؤلؤ والجواهر فكانت فتنة باهرة للعيون لا يقدر القادم إليها من بعيد أن ينظر إليها إذا واجهها في ضوء النهار، ثمّ أقفرت هذه المدينة العجيبة واختفت في الصحراء، فهي في مكان محجوب عامرة بقصورها السحريّة وكنوزها المباحة، ولكن لا وصول إليها، وقد طلبها كثيرون فهلكوا أو ضلّوا وعادوا قانعين من الغنيمة بالإياب. هذه إرم الأساطير. أمّا إرم الشاعر التي يتحدث عنها الناظم في ملحمته فهي (إرم) الروحيّة......))(1).
إذن فللشاعر إرم أخرى غير المقصودة بالأسطورة، إنّها وليدة التفكير العميق بالنفس والحياة والخلود والموت، هذا التفكير الذي رسمت ملامحه حمأة الحياة المادّية، التي طغت على كلّ شيء في هذا العصر، لذا وجدنا أنّ الشعراء ارتدّوا إلى ذواتهم يصنعون لأنفسهم عالماً من الخيال يلوذون به فراراً من هذه الحياة المتعبة، يحلمون فيه بالدعة والطمأنينة ولو لحظات، ليعودوا بعدها إلى عالم الواقع، وقد حملوا معهم نشوة الحلم ليسيل المداد به.
__________
(1) المصدر السابق، ص: 178.(1/28)
وفي لحظة الإبداع ينفلت الخيال من صفد الواقع، يسعى الشاعر إلى الروح المشرقة فيتخذ لنفسه سميراً-قد لا يكون سوى شعره- ليجدّ في السير نحو الطريق التي أشرقت بروقها في روعه، وارتسمت معالم الطريق إليها فأصيبت روحه منها بمسّ لطيف يكاد لا يفارقها. وهنا يكون النشيد الأول هو بعنوان ((أول الطريق)): فقد هامت روحه هُيام الأعمى الذي لا يحسن السؤال، ولا يعرف الطريق إلى هذا الروح الذي طاف به من عالم الخيال، وقد سارت إليه القوافل تباعاً ليس لها هادٍ إلاّ الروح لأنها المطيّة الوحيدة إلى منبع الإشراق الحقيقي.
يهيّئ الشاعر لنفسه المطايا ليكوّن الركب العجيب الذي سيقلّه إلى إرم الروحيّة، لذا تراه يسوّد القلب على ركبه ويجعله هادياً لهم ومرشداً إلى الحلم.
أمّا النشيد الثاني وهو بعنوان ((القلوب على الدّروب)) فإنّ الشاعر والركب يمتحنان القلب بعد أن سوّداه على ركبهم ليمحّصا قدرته على قيادة الركب والوصول به إلى الغاية المرجوّة، لكنّه قائد يذوب من الحبّ ولا يصبر على ليل الأسى الذي يمتحن مطايا القلوب ويرميها بوابل من الشوق فيهيج طرف الشاعر بالدموع وتجتمع إلى صدره الهموم، حتّى يكاد ييأس من طلوع الفجر. فهل يستطيع القلب أن يكون مرشداً ودليلاً إلى منبع الإشراق؟ وهاهي ذي الأجراس ترنّ بأسماع الشاعر، وليس رنينها إلاّ صدّىً لأنين الروح الملهبة بسياط الشوق والهيام، فيخشى الشاعر على ركبه من الشتات فيصيح:
يَا قُلوباً غَدتْ نياقا ... سَامَها الوَقْدُ أَنْ تُساقَا
قَدْ سَرَى قَبْلَكِ الجَمالُ ... مَعَهُ النُّورُ والكَمالُ
فأسْرِعِي يَا قُلوبْ ... واهْتدِي بالطُّيوب(1)
__________
(1) المصدر السابق، ص :184.(1/29)
وفي النشيد الثالث ((الطلل الأخير)) يجرّد الشاعر من نفسه واحة صوفيّة فيناجي ذلك الطلل مناجاة لهفة وحنين، غير أنّ الحيرة تملأ قلبه بالضياع والأسى، إذ يحاول أن يصل إلى راحة الروح التي طالما حلم بها، ولكنّه لا يصل إلى ذلك الصفاء رغم كلّ أحلامه في الوصول.
وفي النشيد الرابع ينحر الشاعر ناقة الوجد في القفر الأعظم ويقدّم قربان الجسد على مذبح الأسى والوفاء لعلّه يتخفّف من أوضاره المادّية المثقلة للروح، لتخفّ الروح إلى العُلى حيث السمّو والعلاء، غير أن الجسد يضيع في صحراء التيه فلا شيء يهدي هذه الروح إلاّ مزايا البذل والتضحية والفداء، لذا يحثّ النفس عليها لأنّها لن تصل إلىمنبع الإشراق إلاّ بهذه السجايا، عندئذٍ لا تهمّ المسالك، وأيّاً كانت سالكة أم غير سالكة فكلّها تؤدّي إلى الخلود في الحياة التي يأكل الفناء رواءها وإشراقها يقول:
يا نَفْسُ لا فرقَ عِندي ... في سَلْكِ أيّ الدّروبِ
تَقَدِّمي وَسيري ... إلى مَكانٍ بَعِيدِ
كلُّ الدّروبِ تُؤَدِّي ... إلى سَبيلِ جَديدِ
إنَّا وإِيَّاكِ رَكْبٌ ... عَلَى طريقِ الخلودِ(1)
ثمّ تدور مناجاة بين الشاعر ونفسه، يستحث الشاعر نفسه على أن تهديه بصفاتها ونقائها إلى الطريق الصحيح، فيصيح بأذن نفسه ليسمع صوت الفجر يهديه إلى حقيقة لا مفرّ من إدراكها، إنّها حقيقة انقضاء الحياة في عبث لا طائل منه، فالعمر يمضي مابين ليل وفجر، فيستغيث الشاعر نفسه أن تكفَّ عن تذكيره بأوزاره التي يحملها على ظهره، مرهقاً بأوجاعها. ورغم مايلوّح به الشاعر من روح الأمل فإنّ نزعة التشاؤم تسيطر على الأبيات.
وفي النشيد الخامس: وهو بعنوان ((القيروان))، وربّما أراد الشاعر بهذه التسمية الإشارة إلى مدينة القيروان التي كانت منبعاً للعلم والمعرفة في إفريقيّة بعد الفتح الإسلامي.
المفيد في الأمر أنّ الشاعر راح يتفقّد الركب ويجمع أشتاته فيقول:
__________
(1) المصدر السابق، ص: 185.(1/30)
قَدْ كانَ في الرَكْبِ قَلْبي ... وَمُهجَتِي وَهَوايا
والعقلُ حَامِي السَّرايا ... والشَّوقُ زاجِي المَطايا
وفِي الهَوادِجِ حُلْمِي ... ورَغْبَتِي والطَوَايا
بَنَاتُ صَدْرِي وشِعْرِي ... والذّكْرَياتُ الحَظَايا(1)
وتغدو قيادة الركب صراعاً بين أفراده فكّل يريد أن يقود الركب إلى غايته المنشودة، ولكن هيهات فقد راحوا يتساقطون واحداً تلو الآخر، ولكنّ الأمل ونشوة الحلم لا تزال تداعب نفس الشاعر في الوصول إلى غايته المنشودة فيستحثّ بقايا الركب إلى السير نحوها وإن عظمت الصعاب، فيقول:
يَاركْبُ يَا ركْبُ صَبْراً ... لَمْ يَبْقَ إلاّ اليَسِيرُ
لاتَرْجِعُوا القِفَارَ ... فِيها الأمَانِي تَبُورُ
أَمَامَنا الطَّودُ فامضُوا ... إلى الشِّعَابِ المَسيرُ(2)
ويجمع الشاعر أشتات ركبه ويلوذ إلى نفسه ينقّيها إلى أن تصل غاية النقاء والطهر، عندها فقط تلوح له نار إرم في النشيد السادس، تلك النار التي رحل لأجلها، لأجل أن يملأ جوانحه من نورها الفيّاض ذلك النور الذي لن يبارحه حتّى يفرّق الموت بينهما فيقول:
إيْهِ ضَوئِي البَعيدْ ... لُحْ ولُحْ ما تُريدْ
لَيسَ طَرفِيْ يَحيدْ ... عَنْكَ حتّى يعودْ(3)
لتُرابٍ ودُودْ
هكذا يبدو واضحاً أنّ المعرفة هي رفيق الإنسان وأمله الذي لا يمكنه التخلّي عنه في حياته، لأنّ تخليه عنه يعني فقده هُويته الإنسانيّة، ولكن قبل أن يتشبث الإنسان بهذا الرفيق لابدّ أن ينقّي روحه ويخلّصها من أوضارها الماديّة التي ربّما تحوّل هذه الأداة الفاعلة دماراً وحروباً بعد أن كانت في روع الشاعر وكلّ ذي روح طاهرة أداة وجود وخير عطاء.
*
__________
(1) المصدر نفسه، ص:189.
(2) المصدر نفسه، ص: 197.
(3) المصدر نفسه، ص: 197.(1/31)
لقد تميّزت الرحلات الخياليّة السابقة باختيارها الأماكن الغريبة والمسحورة التي تأوي إليها الشياطين والجنّ مراحاً تعرض من خلاله نظرتها إلى المجتمع الإنساني المعاصر فتعرّض بمفاسده وتفضح نقائصه، وتدعو من طرف خفي إلى الحياة الإنسانية الكريمة القائمة على الروحانيّة سمة رابطة بين بني البشر.
ثانياً: رحلات إلى العالم العلوي.
لقد نظر الإنسان منذ القدم إلى قبّة السماء فوجد فيها لغزاً محيّراً أوقد في روحه جذوة البحث والمعرفة، فأنشأ لها علماً خاصاً يدرس ظواهرها الثابتة والمتغيّرة ويسجّل حركة النجوم ومواقعها بما ينفعه في حياته، ولكنّ ذلك كلّه لم يروِ شغفه إلى البحث والمعرفة عن أسرارها الغامضة، وقبل أن تمكنّه وسائله الماديّة من ارتياد أجوازها، فقد ارتادها بفكره وخياله، متصوّراً أنّ عليها حياة عاقلة خيراً من حياته بين أبناء جنسه. وقد يبدع شخصيات خياليّة قريبة من واقعه لا يريد منها إلا التعريض بحياة مجتمعه وتوجيه سياط النقد اللاذعة له.
وقد انطوت هذه الرحلات تحت قسمين رئيسين، الأوّل: اتجاه إلى عالم الفلك والنجوم وفيه رحلات محمد الفراتي: ((الكوميديا السماويّة))، ورحلة رشيد أيوب: ((حلم في المريخ)) ورحلة محمد حسن فقّي: ((الكون والشاعر)). والثاني: التمس عالم الروح والملائكة بما فيها من معاني الطهر والنقاء.وهي : ((على بساط الريح)) لفوزي معلوف، و((أبونا آدم))، لإبراهيم الهوني، و
((الله والشاعر)) لمحمد حسن فقّي، و((المعري يبصر)) لأنيس المقدسي.
الكوميديا السّماوية(1) لمحمد الفراتي (1890-1978).
هي أطول القصائد التي نظمها محمد الفراتي سنة 1956 ست وخمسين وتسعمائة وألف، وقد ظنّ معظم الباحثين أنّها فقدت بعدأن فقدها خليل هنداوي،(2)
__________
(1) الكيالي، سامي، مجلة الحديث، المجلد 31، العدد 3-4-5-6-7-8-9- عام 1957.
(2) الحريري، محمد علي، الفراتي، وعالم النسيان، مجلة الفيصل، العدد 34- 1980.(1/32)
ولكنّ الأستاذ سامي الكيالي كان قد أقنع الشاعر الفراتي بنشر قسم كبير منها في مجلة الحديث وترك الشاعر قسماً نشره في ديوانيه: النفحات والعواصف، وبلغت أبياتها كاملة ثمانية وأربعين وستمائة بيت موزعة على العناوين التالية:(1)
أ - حُلم مُريع أو ليلة في عالم المريخ/ الطويل.
ب - من أنا ومن أين جئت إلى هذا الوجود/ الوافر.
ج - السّاحر/ الرمل.
د - غرور الشّباب/ الخفيف.
هـ- في حانة إبليس/ الهزج.
و - إلى أين مصيري بعد الموت/ الوافر.
وقد درس هذه القصيدة باحثٌ سوري في مجلة المعرفة العدد (427)، نيسان 1999، ودراسته غلب عليها الطابع الوصفي، وقد كانت دراستنا أسبق إلى دراسة القصيدة غير أنّ التأخر في إنجاز طباعة البحث هو السبب في تأخير ظهور هذا البحث.
وتدور أحداث الرحلة في عالم علويّ يصعد إليه الشاعر بوساطة الأحلام والرؤى ليلتقي هناك شخصيات مريخيّة يتحاور معها في قضايا تهمّ البشر وتهمّ الشخصيات التي أبدعتها مخيّلة الشاعر. ثمّ ينفض الشاعر عنه الهموم والأحزان ليهيم في الفضاء بعيداً يلتقي في الكواكب شعراء وأدباء وعلماء وزنادقة وأناساً مثاليين، لا يمكن أن تتحقّق ملامحهم في الواقع الإنساني، ثمّ يخرج عن نطاق الوجود لتفنى روحه في الأنوار القدسيّة، وليلوح له نور المصطفى صلّى الله عليه وسلم. فيفنى بهذا النور فناء المحب المدّله. أمّا قصيدة ((غرور الشباب)) فهي حلم يداعب مخيلة الشاعر ليعيش مع ((فرنوف معيد الشباب)) لحظات من العودة إلى الشباب وتجديد الشعر والروح والجسد.
__________
(1) المصدر السابق، العدد 3-4- ص: 142(1/33)
تبدأ الكوميديا بـ ((الحلم المريع)) ليلفت الشاعر الانتباه إلى عالم الرؤى والأحلام الذي يشدّه إليه ليحلّق بجناحيه صعوداً وهبوطاً في أعماق نفسه ليجد نفسه على كوكب المريخ، على شاطئ بحر خضم اسمه ((سيسا)) وهو كثير المخاطر والأهوال، ويجدّ الشاعر في طلب النار لرفقته من وادٍ قريب فيرى هناك مخلوقات شبيهة ببني البشر، يقترب منها يحاول التفاهم معها فلا يستطيع حتّى يمكنه ذلك بالإشارة، فيأخذونه معهم ليجد مدينة زاهرة في هذا الكوكب. فيطوّف فيها ويراقب أهل الأرض الذين يقضون الدهر في حروب ومطاحنات فيرى رجلاً مريخيّاً يشير إلى كوكب الأرض وينعت أهله بأقبح الصفات يقول:
يَقولُ لَهمْ والأرضُ تَلْمَعُ في الدُّجَى ... عَلَى سَطْحِهِا أَشْقَى النُّفُوسِ وألأَمُ
فَقُلْتُ بِنَفْسِيَ وَافَضيْحَةَ أَهْلِهَا ... وَوَا خَجْلَتَاهُ إنّني قُلْتُ مِنْهُمو(1)
ثمّ يطلب الشاعر من صاحبه المريخيّ أن يجوز بحرهم إلى مكان آخر، وهنا يستطرد الشاعر كثيراً في وصف رفيقه في هذه الرحلة واسمه ((ميكال))، ثمّ يتحدّث ميكال عن حياته العلميّة وأساتيذه ومن أبرزهم رفائيل، ويعرض عليه الشاعر أن يزور أستاذه رفائيل. ويلتقي الشاعر رفائيل ويسرد عليه الشاعر قصّة التاريخ البشريّ الدينيّ من خلق آدم إلى بعثة الأنبياء وحياة البشر بين الظلم والعدل والخير والشرّ، وهنا يخشى ميكال على أستاذه رفائيل من سآمه الحديث، فيطلب من الشاعر السكوت ليتكلّم رفائيل بنصائح يقدّمها للشاعر فيها -على حدّ زعمه- صلاح حال أهل الأرض ليؤكدّ أنّ العقل هو الحكم الفيصل الصالح لحياة المخلوقات ويجب أن يدين له الجميع بذلك. وفي تلك اللحظة يسرُّ الفراتي في سرّه قولاً يجعل رفائيل يثور ويزّبد ويربد يقول:
هُنَا قُلْتُ في نَفْسِيْ وَلَمْ أَدْرِ أنَّهُ ... عَلِيمٌ بِمَا أُخْفِي بِسرّي وَأَكْتُمُ
__________
(1) المصدر السابق، العدد 3-4 المجلد 31، ص: 147.(1/34)
ألا اقْطَعْ حَدِيثَ الدِّينِ عنَّا فإِنَّما ... حَدِيثُكَ هَذَا يَا رَفائيلُ يُؤلْمُِ(1)
ثمّ يحدّث رفائيل الشاعر عن نفسه وأصل حكمته وعلمه، وينتبه الشاعر صبحاً ليجد نفسه بين أولاده وعقيلته فيردّد بيتي حكمة خلص بهما من هذه الرحلة:
بَنِي الأرضِ مافَوقَ البَسِيْطَةِ عاقِلٌ ... وليسَ من الأخلاقِ في الأرضِ دِرْهَمُ
وإِنّي وإِياكُمْ وكلَّ أخِي حجَا ... يدبُّ على الغَبْراءِ صَخرٌ مُرْضَّمُ(2)
وفي القسم الثاني تشدّ روح الشاعر في سياحتها إلى كواكب عجيبة يسمّيها نسبة إلى ساكنيها، ففي كوكب الشعراء يلتقي أبا نواس وحوله الندامى تعاطى رحيق الخلد خمراً معتّقة، فيعجب الشاعر لذلك ويهتف به، فيميل أبو نواس إلى جهة الصوت جذلا سكرانا، فلا يرى شيئاً. فيخبره الشاعر أنّه روح ولن يراه ويدور بينهما حوارعن مصير أبي نواس وكيف وصل إلى هذا المقام السنّي ويضمّن الفراتي ذلك الحوار هجوماً على أدعياء التقوى والورع على لسان أبي نواس، فيقول:
فَكَمْ شَيْخٍ بِلا عِلْمٍ وَتَقْوَى ... يُعَدُّ لَدَى الوَرَى مِنْ أَوْلِيَاهَا
تَرَاهُ مَرَرْتَ غَداً عَلَيْهِ ... لَدَى سَقَرٍ يُلوّح في لَظَاهَا(3)
ينتقل الفراتي بعدها إلى كوكب آخر ((فوق رمح السماك)) يرى نوراً مضيئاً يغشى العيون، فيقطع إليه جبالاً وسهولاً وحزوناً، ليصل إليه فيقف على عدد من الزنادقة أمثال ابن الراوندي ومزدك، وغيرهما من الزنادقة فيوجّه إليهم الشاعر شهبه الكلامية الحارقة، ثمّ يحاور الشاعر زعيمهم ابن الراوندي مستغلاً هذا الحوار ليطعن أيضاً على بعض المتديّنين الذين يحيون في الحياة بُلهاً مجانين بلا عقول. أمّا الزنادقة فشقوا بعلمهم وعقولهم الجبّارة كما يزعمون فما طالوا دنيا ولا فازوا بآخرة، فيقول:
__________
(1) المصدر السابق، العدد 3-4 المجلد 31، ص: 153.
(2) المصدر السابق، العدد 3-4 المجلد 31، ص:154.
(3) المصدر السابق، العدد 5، المجلد 31، ص: 267-268.(1/35)
وَلَمْ نَقْنَعْ بِقِسْمَتِهِ وَثُرْنَا ... عَلَيْهِ يَوْمَ ذَلكَ سَاخِطِينَا
وَظَلَّ اللهُ يَضْحَكُ إِذْ رَآنَا ... مِنْ الإِفْلاسِ بِتْنَا مُلْحِدِينَا(1)
وفي نهاية الطواف النجمي بين الكواكب يرسم الشاعر عالماً مثاليّاً في كوكب العباقرة إذ حاول الشاعر أن يصبّ كلّ طموحاته في هذا النشيد ليخرجه على صورة الجنّة في هيكله وبنائه وأهله، فهومنبت العلماء العظام وكبار صانعي حضارة المستقبل وفيه تتحقّق كلّ الأماني دون أن يلفظ الإنسان فيه ببنت شفة فما عليه إلاّ التخاطب بالخواطر والأفكار.
ثمّ يخرج الشاعر عن المجرّة تاركاً أبا نواس ليقترب من مناهل الشهود المطلق ويكشف أستار الحُجب ويذوق لذّة الوجد الصوفي الحقيقي لأنه ينكر أن يكون كصوفيّ زمانه يقول:
ذَكَرْتُكَ كُلَّ حِينٍ في جَنَانِي ... وَلَيْسَ كَذِكْرِ صُوفِيٍّ مَرِيدِ
يُهَيْنِمُ عَنْكَ مَشْغُولاً بِلَفْظٍ ... يُرَدِّدُهُ كَزَمْزَمَةِ الهُنُودِ(2)
وفي قصيدة ((غرور الشباب)) يبتعد الفراتي عن الكواكب والنجوم إلى عالم الأحلام والرؤى، ذلك الحلم الذي طالما داعب الخيال البشري النازع إلى الخلود والشباب والقوّة والتجدّد، إنّه عودّة إلى الشباب ذلك الفردوس المفقود، حيث القوّة والحيويّة والنشاط والحبّ والهوى والطيش كما يقول الشاعر:
قَالَ لي مُغْرِيَاً وَقَدْ جَسَّ نَبْضِي ... لَمْ تَزَلْ فِيهِ وَمْضَةٌ مِنْ حَيَاةِ
أَفَتَهْوَى الشَّبَابَ؟ قُلْتُ: ومَنْ لِي ... بِمُثِيْرِ الأَهْوَاءِ والشَّهْوَاتِ(3)
__________
(1) المصدر نفسه، العدد 6، المجلد 31، ص: 349.
(2) المصدر نفسه، العدد 7 المجلد 31، ص: 433
(3) الفراتي، محمد، النفحات، ص: 300.(1/36)
فتأخذ الشاعر نشوة المخمور وقد تبدّل الحال بعد المشيب إلى الشباب والقوّة فلابدّ أن يجدّد الشعر ويطرح القديم ليتناسب مع الروح الجديدة التي دبّت فيه فيرتّل من آي الشعر أبياتاً يؤذّن فيها ببدء العهد الجديد. وبينما يخطر الشاعر في هذه اللوحة الفنيّة التي تواشجت فيها عناصر الجمال، حيث رسم الشاعر صورة الحياة المتجدّدة في نفسه بعد أن كادت يبوسة الشيخوخة أن تقتلها، وقد تجاوز التسعين، يسمع هاتفاً يسفّه شعره وروحه التوّاقة إلى الجمال فيلتفت على طريقة الشعراء القدماء ليبرهن لهذا الطيف الذي قطع عليه نشوة الحلم وشاعريته، إنّه ذلك الشاعر الذي لا يشقّ له غبار في الوصف، غير أنّ الطيف يعيب عليه نزوعه إلى القديم البالي من الشعر ليكرّر على سمعه:
لَمْ تَزَلْ مِنْ طِرَازِ شِعْرِكَ هَذَا ... في نُزُوعٍ إلى القَدِيمِ العَاتِي(1)
ويرد عليه الشاعر مُغضباً: أن اسمع هذا التصوير من أفانين الشعر فيرسم له لوحة شعريّة لا تملك النفس أمام صورتها وألوانها الأخّاذة وأريجها الفوّاح، وحورها الحسان إلاّ أن تترنّح سكرى جذلى. ويظلّ الشاعر في هذه الصور إلى أن ينتزع منه الإعجاب والاعتراف بالشاعريّة الفذّة ليسمّيه شاعر الخلد والفنّ والنّفحات والنّفثات.
وهنا ينتهي الحلم على غرور يملأ رأس الشاعر وقلبه فيستيقظ ليجد نفسه على حالها من شيب وتقوّس ظهر وقناعة أنّ الناس تهوى السخافات والترّهات ولا تقدّر العلماء.
__________
(1) المصدر نفسه، ص: 303.(1/37)
وهكذا انتهت الكوميديا السماوّية، التي كانت محاولة حلّق من خلالها الفراتي بعيداً في أجواز الفضاء، في سياحة فكريّة وروحيّة، أراد من خلالها أن يندّد بالواقع الاجتماعي الذي لبس أقنعة الزيف والخداع واضطهد الشاعر الإنسان ليس إلاّ لأنّه صوت حقّ وشعور وفنّ وجمال، كما أراد منها الشاعر أن يروّح عن نفسه المتعبة التي أثقلتها السنون وذهبت برونقها الأيام. محاولاً الانتصار لنفسه وإثبات جدارته بأن ينال القدر والاحترام كشاعر فذّ من أولئك الذين يشار إليهم بالبنان، لاسيما بعد عزلة أدبيّة واجتماعيّة عن الناس دامت قرابة ربع قرن. ... ... ... ***
حلم في المريخ رشيد أيوب 1872-1941
جاءت قصيدة رشيد أيوب ((حلم في المريخ)) في ديوانه الأيّوبيّات وقد نظمها على طريقة المخمّسات وعددها خمسة عشر مخمّساً. على البحر الطويل موزّعة على الصفحات من 148 إلى 156 (1),
القصيدة رحلة تأمليّة تحاول أن تجد حلاً لتساؤلات البشر عن وجود حياةعاقلة على الكواكب الأخرى فتختار كوكب المريخ الذي كان أكثر الكواكب جدلاً في هذه القضية وتتّخذ من الروح مطيّة خياليّة تغيب عن ذات الشاعر لتطوف في عالم المريخ وتعود إلى الشاعر لتخبره بالحياة المثاليّة التي تعبّر عن نزوع طامح للقيم المثاليّة.
يبدأ الشاعر القصيدة في خلوة نفسيّة يتأمّل فيها الكائنات والكون ويتساءل في نفسه عن هذه المخلوقات التي بثّها الله في هذا الكون والتي ما خُلقت عبثاً، يقول:
خَلَوْتُ بِنَفْسِيْ والهُمُومُ بِمَعْزِلٍ ... فَشَاهَدْتُ مَعْنَى الكَائِنَاتِ فَلَذَّ لِيْ
وَطَابَ بِأَسْرَارِ النُّجُومِ تَغَزُّلِي ... فَقُلْتُ لِنَفْسِيْ والكَواكِبُ تَنْجَلِي
أَيا نَفْسُ مَا هَذِي النُّجُومُ السَّوَاطِعُ(2)
__________
(1) أيوب، رشيد، الأيوبيات، دار بيروت، دار صادر، لبنان، 1959، ص: 148-156.
(2) المصدر نفسه، ص: 148.(1/38)
ويتساءل الشاعر في لهفة عن صدق مقولة الناس والمهتمّين بوجود حياة على كوكب المريخ، وهل هم بشر مثلنا وأصلهم من تراب كأصلنا وهل يعرفون الجهل والعلم والحقّ وغير ذلك ممّا نعرف؟..
ولكن ليس من وسيلة تمكّن الشاعر من تحقيق هذا التطلّع إلاّ نفسه النقية الطاهرة فهي خير وسيلة للانطلاق في أجواء الحلم.
يناجي الشاعر نفسه بعد أن نقّاها من الهموم والآلام ليحمّلها المهمّة العظيمة التي ستقوم بها يقول:
وَقُلْتُ لَهَا لمَّا رَخَيْتُ زِمَامَها ... وَعَاهَدْتُهَا ألاّ أَخُونَ ذِمَامَها
وَإِنِّيَ لا أَنْفَكُ أَرْعَى هُيَامَها ... أَيّا نَفْسُ سِيْرِي واغْتَنَمْتُ سَلامَها
فَطَارَتْ إلى نَحْوِ السَّماءِ تُسَارِعُ(1)
فالنفس الإنسانيّة لدى رشيد أيوب وسيلة كشف ومعرفة، كما هو الحال لدى المتصوّفة، لأنّ الشفافية تصل بروح الإنسان إلى إدراك حقيقة الوجود.
وتؤوب النفس بعد أن أنهت رحلتها الكونية موفّية بوعدها للشاعر فتناجيه بخطرات الروح وماذا عاينت هناك في المريخ يقول:
هُنَالِكَ في المَرْيخِ عَايَنْتُ خُضْرَةً ... كَأَحْسَنِ خَلْقِ اللّهِ لَوْناً وَفِطْرَةً
تَدُوْمُ إلى مَا شَاءَ رَبُّكَ عِبْرَةً ... تَرَاهُ إِذا ما جَالَ لَحْظُكَ مَرَّةً
بِعَيْنِ مُرُوْجٍ عُرْفُهَا الدَّهْرَ ذَائِعُ
وَفِيْهِ ريَاضٌ باللَّطَائِفِ تُوصَفُ ... وفي وَسْطِها عَيْنٌ مِنَ الدُّرِ تَذْرِفُ
يَمَرُّ بِها صَافِيْ النَّسِيمِ فَتَأَلَّفُ ... ويُطْرِبُها صَوْتُ النَّعيمِ فَتْعْطِفُ
وَتَبْقَى دُهُوراً والصَّفَا مُتَتَابِعُ(2)
__________
(1) المصدر نفسه، ص: 152.
(2) المصدر نفسه، ص 153-154.(1/39)
وهكذا تنتهي رحلة رشيد أيوب إلى غايتها المرجوّة التي أرادها الشاعر لها، وهي أن تنبّه أولئك البشر الغافلين عن آي الإعجاز في خلق الله ولطيف صنعه في المخلوقات التي فطرها على أحسن حال، وربّما أراد أن يشير من طرف خفيّ إلى أن النفس البشريّة مكمن العرفان إذا ما هذّبت ونقّيت ممّا لحق بها من أوضار المادّية في ظلال المجتمعات المعاصرة. ويبقى السؤال قائماً هل الحياة التي رأتها نفس رشيد أيوب حقيقية على المريخ أم أنّ الحلم لا يزال مستمرّاً؟.
*
على بساط الريح فوزي معلوف 1899-1930.
تتألف مطوّلة ((على بساط الريح)) من خمسة وعشرين ومائتي بيت من الشعر موزّعة على أربعة عشر نشيداً ينتظمها البحر الخفيف بقافية متنوّعة، طبعت في سان باولو، في البرازيل دون تاريخ بمقدّمة للشاعر الإسباني ((فرانسيسكو فيلا سبازا)).(1)
تبدأ الرحلة الخياليّة برحلة واقعيّة على متن الطائرة، وهناك في الفضاء تنفك قيود الروح لتحلّق بعيداً بين الطيور والنجوم تحاورها وتجادلها وتستغيث بها لتلبيّ رغبة الشاعر في تحقيق وجوده الروحيّ في هذا العالم النقيّ لكنّها- أي روح الشاعر -لا تجد واحتها إلاّ بعد أن كاد الصدى يقتلها يأساً، إذ تنبري الروح لعناقه والدفاع عنه ليعود الشاعر إلى موطنه الأرض بعد أن قضى لحظات خالدة في عالم الطهر.
يختار الشاعر في النشيد الأول ((مَلِكٌ في الهوَاءِ)) الفضاء واحة لخياله الخصب يؤسّس فيها مملكة خياليّة تعجز عن نوالِها أيدي البشر وأطماعهم، لأنّها تملك قوّة الروح والخيال التي تحوّل المستحيل ممكناً، فيقول:
يَاجَنَاحَ الخَيَالِ أَقْوَىَ جَنَاحٍ ... أَنْتَ يَلْوِي ظَهْرَ الرِّيَاحِ لِصَدْمِهْ
لَيْتَ شِعْرِي ما الشَّاعرُ ابنٌ لهذي الْـ ... أرضِ إلاّ بِلَحْمَهِ وَبِعَظْمِهْ (2)
__________
(1) معلوف، فوزي، على بساط الريح، دار صادر، دار بيروت، 1958، بيروت، لبنان.
(2) المصدر نفسه، ص 63.(1/40)
وفي النشيد الثاني ((رُوحُ الشَّاعِرِ)) يُشيد فوزي بالروح الوثّابة التي تصل الشاعر بعالم الخلد وبعرائس الجمال والجلال لأنّها ليست ابنة التراب واللحم والدّم يقول:
لَسْتِ مِنْ عَالَمِ التُّرابِ وإِنْ كُنْـ ... ـــتِ تَقَمَّصْتِ بالتُّرابِ عَلَيْهِ
أَنْتِ مِنْ عَالَمٍ بَعيدٍ عَنْ الأَرْ ... ضِ يَفِيضُ الجَلالُ عَنْ جَانِبِيهِ(1)
ولكنّ الشاعر يلتفت في النشيد الثالث ((العبد)) إلى واقعه ليجد نفسه مقيّداً إلى الأرض يشدّه إليها اللحم والدّم والقوانين والشرائع والقضاء والتمدّن يقول:
أَنَا في قَبْضَةِ العُبوديّةِ العَمْـ ... ـيَاءِ أَعْمَى مُسَيَّرٌ بِغُرورِهْ
كلٌّ مَابِي في الكَونِ أَعْمَى ومُنْقَا ... دٌ على رُغْمِهِ لأَعْمَى نَظِيْرِهْ
غَيرَ رُوحِي فالشِّعرُ فَكَّ جَنَاحِيْـ ... ـها فَطَارَتْ في الجوِّ فَوْقَ نُسورِهْ(2)
وفي النشيد الرابع يمتطي الشاعر الطائرة هذه الوسيلة الحضارية التي ألّبت عليه الطيور، وكأنّه ينعى على الإنسان إسفافه في حياته الماديّة التي نفّرت منه كلّ أشكال الجمال في الكون، فها هي الطيور تصف بساطه الحديديّ بالشيطان وتصف راكبه بالغادر، فيقول:
يَالَهُ طَائراً بِصُورَةِ شَيْطا ... نِ يَبُثُّ اللّهيبَ بُرْكَانُ صَدْرِهْ
آدميٌ هَذا - أَجَابَ أَخُوهُ ... جَاءَ يَسْتَعْمِرُ الأَثِيرَ بأَسْرِهْ
نحنُ لَمْ نَهْجِرِ البَسيطَةَ إلاّ ... هَرَباً مِنْهُ واجْتِنَاباً لِشَرِّهْ(3)
ويمجّد الشاعر في النشيد السادس الشقاء الإنساني على طريقة الرومانتيكيين متخذاً من الطبيعة إطاراً يصوّر فيها خطرات النفس المعذّبة وأحلامها العذبة.
__________
(1) المصدر نفسه، ص70.
(2) المصدر نفسه، ص79.
(3) المصدر نفسه، ص: 93-94.(1/41)
ويدخل الشاعر في النشيد السابع عالم النجوم التي تنكره وتنكر آلته الشرّيرة التي تقتحم عليها عالمها، وتصف الشاعر بالعجز والشقاء وتظهر اليأس من صلاحه، في حين حاول الشاعر جهده أن يقنعها بأنّه ذلك الشاعر الذي قضى لياليه في مراقبتها مراقبة المشوق إليها، وقد سفح دم المداد تغزّلاً فيها، يقول:
إِيْهِ يا نَجْمَتِي أَلَمْ تَعْرِفِينِي ... شَاعِراً يُنْصِتُ الدُّجَى ِلنُواحِهْ
كَمْ ليالٍ في الرَّوضِ أَحْييتُها أَبـ ... ـكِي وَأَشْكُو إليكِ بينَ أَقاحِهْ
سَامَحَ اللهُ فيْكِ قَلْباً نَسيّاً ... هُوَ في الكَونِ مِثلُ قَلْبِ مِلاحِهْ(1)
وفي النشيد الثامن ينثر الشاعر كنانة نفسه ويصوّر تلاشي أحلامه على صخرة الواقع القاسية، فهو يعيش دنيا المتناقضات فليست حياته إلاّ شقاء، وماكانت آماله وأحلامه وأطيافه إلاّ ومضات لمعت في حياته ساعة من دجى ليلة مدلهمّة ثمّ انطفأت يقول:
لَيْتَ شِعْرِي والّليلُ يَعْقُبُهُ الفَجْـ ... ـرُ مَتَى يَعْقُبُ البُكاءَ ابتسَامُ
ضَاعَ عُمْرِيْ سَعْياً وَرَاءَ رُسومٍ ... خطَطَتها في الشَّاطِئِ الأقدامُ
عِشْتُ أبْنِي على الرِّمَالِ وَهَلْ يَثْـ ... ـبُتُ رُكْنٌ لَهُ الرّمالُ دِعَامُ(2)
وفي النشيد التاسع(( في عالم الأرواح)) يصل فوزي معلوف إلىغايته في الرحلة حيث عالم الروح الأثير الذي لا يستطيع الشاعر إدراك شيء من كنهه فيروح واصفاً الدّويّ والأنوار الخافتة والبرّاقة فيه.
وأمّا النشيد العاشر وهو((حفنة من تراب)) فإنّ الشاعر يدخل في حوار مع الأرواح التي تنكر هذا الوافد الغريب بما يحمل بين جنبيه من كدر وشرور، حتّى لا يؤمّل فيه الخير إلاّ عندما يموت فيمتصّ الثرى مافي جسده من غذاء يمدّ به أنساغ الحياة الهادئة الوادعة، ليصل المعلوف إلى ذروة الجمال والحكمة.
__________
(1) المصدر نفسه ص: 111
(2) المصدر نفسه، ص :119.(1/42)
وفي النشيد الحادي عشر يبدو الشاعر حانقاً على الشرّ بداخله إذ تأبى الأرواح إلاّ وصفه بالشرّ والخراب والدمار والطمع والأنانيّة.
وفي النشيد الثاني عشر وهو بعنوان ((كفّارة الشاعر)) يلتقي الشاعر روحه التي أقبلت تدافع عنه في عالم الأرواح وتصطفيه إليها لأنه قبل كلّ شيء شاعر ليس عمره كأعمار بني جنسه لأنّ عمره قطرة حبر سالت قافية على طرسه فحوّلت الدنيا أفراحاً وأغاريد. وهو يضحّي بروحه ويحرقها علىهيكل الخلود شمعة وضّاءة يقول:
جَاءَ مِنْ أَرْضِهِ يُفَتِّشُ عَنِّي ... بَائِسَاً فاخْشَعُوا احتراماً ليأْسِهْ
وَدُعُوهُ مَعِيْ فَفِيْ قُبُلاتِي ... شَهْدُ عَطْفٍ يُنْسِيهِ عَلْقَمَ كأسِهْ(1)
وفي النشيد الثالث عشر يعيش الشاعر لحظات الصفاء الخالدة مع روحه حيث تتضاءل أمام فرحته جبال الأرض وسهولها ووديانها وتحلّق حوله أغاريد الفرح تعزف على قيثاراتها أناشيد الحبّ ونغماته، فيقول:
وَعَذَارَى الأَرْوَاحِ تُنْشِدُ مِنْ بُعْـ ... ـدٍ بِصَوْتٍ ، اللّه في نَبَرَاتِهْ
رَافَقَتْهُ قِيْثَارَةُ الحُبِّ فانْسَلَّ ... أَنِيْنُ الأَوْتَارِ في نَغَمَاتِهْ(2)
وفي النشيد الأخير تنتهي الرحلة ليعود الشاعر إلى الأرض فلا يجد مؤنساً له ولا مدّوناً للحظات الخلد هذه إلاّ قلمه ذلك الرفيق الذي ماخانه يوماً وما جافاه إن جافته الصحاب.
وهكذا سار فوزي معلوف حثيثاً نحو موطنه المحلّق حيث الروح تشدّه، تنزعه من عالم التراب ومطالب اللحم والدّم، ولكن متى يحقّق حلم الحريّة وتتحقّق تلك المعادلة الصعبة الراسفة به إلى قيوده؟ إنّ شعاع الأمل هوالذي يشقّ طريقه نحو الروح ولا يفتَّق هذا الوميض الأخّاذ إلاّ الشعر الذي يحمل له الخلاص المنشود. ولتغدو مطالب الفرد نزوعاً إنسانيّاً يحمل الحبّ والصفاء لكلّ البشر.
*
المعرّي يبصر أنيس الخوري المقدسي
__________
(1) المصدر السابق، ص 151.
(2) المصدر نفسه، ص158.(1/43)
تعدّ قصيدة ((المعرّي يبصر)) لأنيس الخوري المقدسي، قصيدة فلسفيّة مؤلّفة من ثلاثة أناشيد رئيسيّة هي:
1 - حيرة وشكوك.
2 - ظلام التشاؤم.
3 - تجلّي النور.
وقد بلغ عدد أبياتها (102) مائة وبيتين ينظمها البحر الوافر في قافية منوّعة تختلف من نشيد لآخر، نشرها الشاعر في مجلة المورد الصافي الصادرة في بيروت في العدد العاشر وألقاها بمناسبة عيد الشبيبة في سورية 1921(1)
يدور موضوع القصيدة حول تساؤلات يطرحها الشاعر عن الكون والأفلاك والمخلوقات وعن خالق هذه الكائنات، وتقوده هذه التساؤلات إلى الشك القاتل فيخوض بحراً رهيباً من الشكّ والحيرة إلى أن يلتقي المعرّي وسط الظلمة فيحاوره ويناجيه إلى أن يقوده الأخير إلى أول الطريق المنير فيصل الشاعر إلى حقيقة مكمن السعادة في الوجود.
تتناول القصيدة النفس الإنسانيّة، ذلك اللغز الذي حيّر العلماء ولا يزال مشكلاً رغم الدراسات العلميّة والطروحات الفلسفيّة التي تناولته، بيدَ أنّ الشعراء هم أكثر الناس تفاعلاً مع النفس الإنسانيّة، فهم يحملون في طيّات تكوينهم قدرة تمكنّهم من اختراق الغامض المستتر من الحجب. والمقدسيّ واحد من شعراء العربيّة باحث وأديب يخاطب في قصيدته في النشيد الأوّل: قوى المجهول التي برت هذا الكون وكوّنت ملامحه، طالباً إليها أن تبدّد ظلام الشكّ في نفسه، يقول:
أَعِيْرِينِي الضّياءَ مِنَ النّجومِ ... مُكَوِّنَةَ العَوَالِمِ مِنْ سَدِيمِ(2)
ولكنّه يظل يتخبّط في بحر من الشكّ متلاطم يلقي شراع العقل في حيرة تكاد تمزّقه في وسط خضمّها البهيم، فإذا العقل يتيه بين الحياة والموت، بين النجوم والأفلاك في البحث عن سبب هذه الموجودات، فالأمطار والأحياء والنجوم، كلّ أولئك يجري بنظام ودقّة ما لهما مثيل، فهل العقل يرشدنا إلى بارئ الأكون؟
__________
(1) المقدسي، أنيس، المعري يبصر، مجلة المورد الصافي، العدد 10، بيروت، 1921، ص: 329-335.
(2) المصدر السابق، ص 329.(1/44)
وَكَمْ بيني وَبينَ الحقِّ سُتْرٌ ... تَكَشَّفُ عَنْ مَلايينِ السُّتورِ(1)
سَأحيَا ما حَييتُ وَلَيْسَ نُورٌ ... لِعَيْنِ العَقْلِ في العمرِ القصيرِ
ومَا للقلبِ مِنْ أملٍ فيرجو ... ولا فجرٍ لذا الليلِ العَميمِ
أعِيْريني الضّياءَ مِنَ النَجومِ ... مُكَوِّنَةَ العَوالِمِ مِنْ سَدِيمِ(2)
وبينما هو على تلك الحال في (( النشيد الثاني)) يرى الشاعر شبحاً قد دبّت فيه الحياة، فيدنو منه على وجل وترقّب لعلّه يجد لديه مايشفي الصدى الروحيّ إلى المعرفة والعلم، ويخلِّصه من لهيب الشكّ، فيعرّفه المعرّي على نفسه.
وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال: لماذا اختار أنيس المقدسي المعرّي؟ ألأنّه قضى جلّ حياته بحثاً عن أساس المعرفة، أم لأنّه كان قد انتهى إلى القول بفساد كلّ شيء من هذا الكون إلاّ الخالق البارئ؟ ربّما هذا هو السرّ الذي جعل المقدسي يفتتح قصيدته ببيت راح يكرّره في القصيدة مرّات عدّة يقول:
أعِيريني الضّياءَ مِنَ النّجومِ ... مُكوِّنَةَ العَوالِمِ مِنْ سَديمِ(3)
فهل أراد الشاعر أن يتخلّص من شكوك نفسه، فجعل المعرّي رمزاً لخلاصه بعد أن خلص نفسه من أوهامها وقطع دابر شكوكها كما يقول:
كَذَاكَ خَرَجْتُ عَنْ أَوْهَامِ نَفْسِي ... وَفازَ القلبُ بالغَرضِ المَرُومِ
فَصِرْتُ أَرى الوُجودَ كَما تَراني ... بَصِيراً والبَصِيرُ يَرى جَليّا
هَجَرْتُ المِحْبَسَينِ فَصِرْتُ حُرّاً ... أَرى الدُّنْيَا تَروقُ لِنَاظِريّا(4)
__________
(1) * سترٌ: هكذا وردت في النص، والصواب بالكسر لأن تمييز كم الخبرية مجرور.
(2) المصدر نفسه، ص: 330.
(3) المصدر نفسه، ص: 332..
(4) المصدر نفسه، ص: 334.(1/45)
ويسأل الشاعر المعريّ عن كيفيّة تحقيق هذه الطمأنينة لأنّه لا يزال أسير الشكوك والأوهام، ولا يزال القلب باهت الإيمان، فلا القلب ينجيه ولا العقل يرحمه، ويطرح في الحوار مع المعرّي قضايا مهمّة جداً في الرحلات الخياليّة كالقدريّة والجبر والاختيار وشقاء أهل العقل والعلم، كما يتساءل عن العدل أمام الظلم في هذه الحياة، والموت المسلّط على الرقاب وأين يمكن للإنسان أن يجد السعادة؟
فقد بحث عنها في كلّ مكان، لقد فتّش النجوم والمقابر ورمم الموتى فلم يجد لها أثراً، ثمّ يسأل المعريّ عن سبب وجوده في هذا المكان، فيقول:
فَقَالَ:قُضِيْ عَليَّ الدَّهْرَ أَنِّي ... أَكُونُ لِعَابِريِ الوَادِي دَليْلا
فأَرْشُدُ كلَّ ذي قلبٍ صَدُوقٍ ... وَأهْدِيْهِ إِذَا تَاهَ السَّبيلا
وأُخْرِجُهُ مِنَ الظُّلماتِ حتّى ... يَرَى في الأُفْقِ أَنْوارَ النَّعيمِ(1)
ثمّ يرشده المعرّي إلى السبيل الذي ينتصر فيه على أوهامه، إنّه الصبر والمصابرة أمام الشكوك والأهوال التي سيلاقيها، وهنا يبدأ النشيد الثالث ((تجلي النور)) حيث تتجلّى الحقائق أمام الشاعر فلا يرى الخير إلاّ في العمل الشريف والحبّ الطاهر والقلب النقيّ، وعلى المرء ترك مالا يعنيه وما لا رجاء له في أن يراه بالبيّنات. ثمّ ينادي في النهاية ذلك النور الذي شعّ في أعماق روحه قائلاً:
فَيَا نُوراً تَلألأَ في الأَعَالي ... بَعْيداً عَنْ يَقينِ ذَوِيْ اليَقِينِ
إليَكَ أتَيْتُ في ظُلُماتِ نفسي ... لِتَهْدِينْي إلى الحقِّ المُبينِ
لَعَلِّي بالغٌ بِكَ في حَيَاتِي ... مَقاماً ليسَ يُبْلَغُ بالعُلومِ(2)
__________
(1) المصدر نفسه، ص:335.
(2) المصدر نفسه، ص: 335.(1/46)
وهكذا تنتهي رحلة المقدسي بعد أن رأت نفسه النور الذي كانت تبحث عنه، وتبدو النزعة الصوفيّة جليّة في هذه الرحلة التي ترى العلم والمعرفة عاجزين عن تحقيق السعادة التي تحتاج إلى الحبّ والعرفان سبيلاً لتحقيقها، وربّما نمّت هذه النزعة عن عداء ساد الواقع العربي الأدبي للعلوم التقنيّة، لاسيما أنّ هذا التقدّم أتى به الغرب الذي يريد استعمار البلاد، لذا دعت هذه الرحلات إلى الحبّ والفنّ ومنه الشعر سبيلاً لتحقيق السعادة الإنسانية أجمع.
*
الكون والشّاعر محمد حسن فِقّي (1912).
جاءت القصيدة في مجموعة ((قدر ورجل)) وهي مؤلّفة من سبعة وسبعين بيتاً على البحر السريع ورويّ واحد هو النون.
هي رحلة خياليّة يطوّف فيها الشاعر أجواز الفضاء يحاور سكّانه ويطرح تساؤلات كثيرة عن الخير والشرّ والموت، والحياة يفصح الشاعر فيها في النهاية عن تفاؤله في الحياة وإيمانه بانتصار الخير أبداً وهزيمة الشرّ وانحساره.
يجرّد الفقّي من نفسه روحاً تخاطب روح الخلد التي هيّجت أشجان النفس، ويستحثّها الشاعر لتحمل روحه بعيداً عن الأرض لتحرّر الروح من قيودها، قيود العبوديّة والجسد والقوانين الوضعيّة إذ لم تعد الروح تطيق حال الأرض التي استشرى الشرّ فيها فصارت له دولة وسلطان، ولكن هي الدنيا دَوْل بين الحقّ والباطل، فلابدّ أن ينتصر الحقّ ويزهق الباطل، وإذا انتصر الحقّ فلن يكون كالباطل في جبروته وغروره، لذا لن يعاقب الشرّ بما يستحقّ، بل سيحتضنه ويوجهه إلى مافيه نفع العالم أجمع، يقول:
وَهَلْ إِذَا الخَيْرُ أَتَاحَتْ لَهُ ... دُنْيَاهُ مَا يَكْفَلُ رَجْحَانَهُ
يُحَاسِبُ الشَّرَّ على ما جَنَتْ ... يَدَاهُ أَمْ يَمْنَحُ غُفْرَانَهُ
لكنَّهُ الخَيْرُ حَليمٌ فَمَا ... أَضلّهُ الحِلْمُ ولا شانَهُ(1)
__________
(1) ساسي ، عبد السلام طاهر، شعراء الحجاز في العصر الحديث، القاهرة، 1951، ص:50.(1/47)
وهنا تبدأ الرحلة حيث ينطلق الشاعر فيرتاد أجواز الفضاء ورحاب الكون، وكأنّه سليمان عليه السّلام يجوبها على بساطه الريحي ويلتقي في الجوّ الطير، ولكنّه لقاء الودّ والصفاء لا الإنكار والتطيّر كما حصل لفوزي المعلوف، ويشرق الحوار وفلسفته عن الروح الإنسانيّة التوّاقة إلى عناصر الجمال والصفاء والطهر يقول:
لَمْ يُزعجِ الطّيرَ عَلى كَوْنِهِ ... بَينَ جُموعِ الطَيْرِ إنسانَهُ
أكانَ يَدْرِي الطَّيرُ أَنَّ الذي ... صاحَبَهَا صاحَبَ أخدانَهُ(1)
ويستمع الشاعر إلى حديث الطير عن نفسها فتبدو متفائلة بالحياة، وأغلب الظنّ أنّ هذا التفاؤل فيض من روح الشاعر التي ملأها الإيمان فاطمأنّت به. وتتكّشف في حواريّة الشاعر والبلبل نظرة الشاعر للحياة، ورأيه في الناس الذين ملأ الزيف والخداع حياتهم حتّى صار الزيف طبعاً كأنّه جُبل في فطرتهم لذا يقول البلبل:
وَقَالَ إِنْ كُنْتَ تُريدُ الهُدَى ... فَهاكَ مِنْ طَبْعِي بُرْهَانَهُ
الزَّيْفُ في النَّاسِ وَأمّا هُنا ... فَالطّيْرُ لا يَخْدَعُ إِخْوَانَهُ(2)
وبعد حديث الطير ينطلق الشاعر محلّقاً في الفضاء ليشارف النجم ثمّ يرتقي إلى ماهو أبعد من النجوم وأطهر، إلى عالم الملائكة، ذلك العالم الذي لا يمكن خرقه -وفق المعتقد الإسلامي- لأنها ملئت حرساً شديداً فكيف لابن الطين أن يصل إلى هذا المقام السنيّ؟ لاشكَ إنّه الحلم، هذا العالم الغريب الذي كان خير مطيّة تخفّ بها الروح من أدرانها لتصل إلى أعلى المقامات لذا يقول:
تَبَاركَ اللّهُ فَكَمْ شَاعِرٍ ... يُطاولُ المُلكَ وَتيْجَانَهُ
لَمْ يَعرِفِ الذُّلَّ ولاقَيْنَهُ ... وَلا وَعَى المَكْرَ وأَشْطَانَهُ(3)
__________
(1) المصدر السابق: ص:51.
(2) المصدر نفسه، ص:51.
(3) المصدر نفسه، ص:53.(1/48)
يبدو أن الرحلة التي قام بها الفقّي تعكس ارتقاء الروح في درجات الكمال ولكن قبل أن تخترق هذا العالم السماوي النّقي لابدّ لها من التخّلص من قيود المادية الراسفة ، التي تثقلها إلى الأرض وتحول دون انطلاقها، وكما هي الحال لدى فوزي معلوف ليس للشاعر إلا روح الشعر التي ترفع الشاعر إلى أن يطاول عنان السماء ويحلّق بجناح الخيال والشعر إلى العالم النقي الطاهر.
اللّه والشّاعرُ محمّد حسن فقّي
هذه القصيدة وردت في المجلّد الأوّل من المجموعة الكاملة من الصفحة 80 إلى الصفحة 84، وهي مؤلّفة من ستةوسبعين بيتاً منظومة على البحر الخفيف موحّدة الوزن، منوعة القافية والرويّ.(1)
هي رحلة روحيّة يصل فيها الفقيّ مقاماً لا تصل إليه روح بشر، ولم تصل إليه تطلعات شعراء الرحلات الخياليّة، إنّه مقام القرب من الحضرة الإلهيّة وهناك يحاور الشاعر الملائكة، ويتحدّث إلى ربّ الأرض والسماوات الذي يقربّه قربى لا يقربّها بشراً بعده وهو في رحلته هذه ينطلق من روح إسلاميّ محضّ وقدرة شاعريّة فريدة غايتها تمجيد الشعر من بين الفنون الإنسانيّة.
ففي لحظة البداية نجد أنفسنا في رحاب الملأ الأعلى مع الشاعر الذي جعل من قلبه الطاهر الجريء وسيلة للوصول إلى هذا المكان الذي لا يعرف إلاّ الطهر والنّقاء، يقول:
ثمَّ أَوْجَستُ خيفَةً إِذْ تَسلّلْـ ... ـتُ إليهِ، هُنَا بِقْلبٍ فريٍّ
غَيْرَ أنّي أَحْسَسْتُ أنّي تَطَهَرْ ... تُ وَقَدْ لُذْتُ بالمقامِ السّنيِّ(2)
ولكنْ ما غاية الشاعر من هذه الرحلة؟ أهي ذاتية يريد بها أن يرفع شأن الشعر والشعراء في عصر بات الشعر فيه يعاني نزعات الاحتضار أمام كثير من الفنون الأدبية؟ أم هي رحلة غايتها التطهّر بأنوار الربوبيّة...؟
__________
(1) فقي، محمد حسن، الأعمال الكاملة، مجلد 1، الدار السعودية للنشر، الرياض، السعودية، ص: 80-84.
(2) المصدر نفسه، ص: 81.(1/49)
ينطلق الشاعر يفصّل الحواريّة التي تخيّلها بينه وبين الذات الإلهيّة، فالله يعلم بوجوده بين عباده من الصفوة المقرّبين من حضرته الإلهية لأنّه صعّده إلى مقامه السنّي ليحتفي به وبشعره يقول:
وَسَيَلْقَى هُنَا الكَرَامَةَ مَا ظَلَّ ... فإنّي الحفيُّ بالشّعراءِ
وَتَرَامَى إليَّ هَمْسٌ خفيٌّ ... م ... مِنْ صُفوفِ الأمْلاكِ يَعْجَبُ مني
مَنْ تُرَاهُ هَذا وَمَا ذلكَ الشعّـ ... ـرُ أَفَنٌ يَسْمُو على كلِّ فَنِّ؟
مَنْ تُراهُ هَذا وَمَا ذلكَ الشّعـ ... أَوْ رأيْنا كمِثْلِهِ حَظَّ جِنٍّ(1)
لكنّ الله لا يخفى عليه شيء من تعجبهم فيردّ عليهم بأنّ ما يرونه رهن المشيئة الإلهيّة التي تعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء، ثمّ يقرّ بأسلوب تقريري تغلب عليه الرؤية الإسلاميّة بالتمجيد لله جلّ وعلا، فهو ربّ النعماء والحمد والرحمة و الحكم، وله مقاليد الأمر في السماء والأرض.وتتساءل الملائكة عن سبب تقريب هذا المخلوق فيأتي الجواب من الحقّ جلّ جلاله، فيقول:
مَا تُراهُ إلاَّالكريمَ بِمَا يَمْـ ... ـلُكُ حتَّى وَلَوْ أَسَأْتَ إليهِ
لَوْ تَسَلّلْتَ في حنايَاهُ لَمْ تَلْـ ... ـق حُقُوداً تَضُجُّ في جَانِبَيْهِ
أَفَلا تُبْصِرُ الجنانَ مُطِلاً ... كالنَّدى كالشُّعَاعِ في مُقْلَتِيهِ
وَلَقَدْ يَسْتَفِزُّهُ الغيُّ حِيناً ... ثمَّ لا يستمرُّ إلاَّ قَلْيلا
هُوَ كِفْلٌ مِنْ النّبوّةِ لَوْلا ... أنّني ما اتخذْتُ مِنْهُ رَسُولا(2)
ولا تخفى عنه النزعة الذاتيّة التي تحاول رفع مقام الشعر حتّى إنّ الله ليجعل لذة الإحساس بالحياة في شقاء الشعراء وآلامهم وحسراتهم وآهاتهم، هنا يزهو الشاعر حين يرى الملائكة ترنو إليه بإعجاب ودهش ليختم قصيدته بأسلوب تقريري إيماني بأنّ الله مصدر الشعر والشعور والإلهام.
__________
(1) المصدر السابق: ص:81.
(2) المصدر نفسه، ص:83.(1/50)
وهكذا ربط الشاعر الفقيّ بين قصيدة ((الكون والشاعر)) و((الله والشاعر))، برباط مقدّس يجعل من الشعر رسالة إنسانيّة ترفع الشاعر إلى أعلى درجات الكمال حتّى يغدو صنو الأنبياء، ويتوافق هنا مع رؤية المعلوف التي ترى الشعر وسيلة تمنح الإنسان الخلود والنقاء اللذين يرفعانه فوق حاجات اللحم والدم.
*
أبونا آدم إبراهيم الهوني (1907).
قصيدة ((أبونا آدم)) في ديوان الشاعر إبراهيم الهوني موزّعة على الصفحات من 36 إلى 40 وقد بلغت أبياتها ستة وسبعين بيتاً على البحر الطويل الموحّد القافية والرويّ(1)وهي ترجع إلى عام 1948
إن روح الشاعر المستاءة ممّا تراه على الأرض من مفاسد تدفعه إلى ركوب جناح الخيال بعيداً في عالم السماء لعلّه يجد مكاناً تتخلّص فيه نفسه من أوصابها وهناك يلتقي ببعض الملائكة يحاورهم في فكرتهم عن البشريّة مشيراً إلى قصّة آدم مع الملائكة ثمّ يتابع انطلاقه إلىحيث يسكن آدم وحواء ويحاورهما في أحوال الناس وما آلت إليه أوضاعهم من فساد ويطلب البقاء لديهم لكنَّ آدم يخبره باستحالة مطلبه ما لم يتخلّص من الجسد بالموت.
يشقى إبراهيم الهوني، كدأب أهل الرحلات، بروحه الشاعريّة بين أهل الأرض، فهو يسعىبوعيه أو لا وعيه للبحث عن النقاء والصفاء فيفتش في هذه الأرض فلا يعثر علىضالته فيتخذّ من الخيال جناحاً يحلّق به.
وأين يجد الصفاء والنقاء؟ لاشكّ سيجده في عالم الملائكة والأرواح؟ فيصعد بين أطباق السماوات مراقباً أحوال الملائكة بين السجود والركوع والقيام والقعود وكثرة التسبيح. عندها يتقدّم من ملك سرعان ما يعرف أنّه آدمي من أهل ((برقة))، فيتساءل الشاعر بدهشة عن قدرة المَلَكْ على معرفة الشاعر فيجيبه المَلَّكَ على تساؤله.
__________
(1) الهوني، إبراهيم ، الديوان، مكتبة الأندلس، بنغازي، ليبيا، ط/أولى، 1996.(1/51)
ثمّ يتحاور مع أحد الملائكة في جملة من الأمور منها قضيّة المعصية والطاعة، واستفسار الملائكة من الله جلّ جلاله عن جعل آدم خليفة في الأرض ثمّ يترك ذلك الملك، ليتقدّم إلى خيمة يقبع فيها آدم وحواء فيدهش لما فيها من جمال يأخذ بمجامع الألباب.
يقترب أكثر منهما ويستمع لحوار بين آدم وزوجته عمّا تغيّر من أحوال البشر على الأرض من بعدهما ومادبّ بينهم من مفاسد ودمار، ولكنّهما ينتبهان إلى الشاعر المراقب والمنصت للحديث فيطلب إليه آدم أن يدخل فيعرّفهما بنفسه، ويبثّهما شكواه من أحوال الأرض وتغيّر أوضاع الناس وانقلاب المفاهيم، وسيادة النفاق والكذب وازدراء العلماء وتكريم الجهّال، وانتشار أمراض القلوب وغيرها، الأمر الذي يدفع آدم إلى التبرّؤ من نسله وتمنّي حواء لو أنها كانت عقيماً لم تنجب أبد الدهر.
ولكنّ لدى الشاعر رغبة عارمة في الخلاص من شرور أهل الأرض تجعله يطلب البقاء بين آدم وحواء ولكن هيهات أن يكون ذلك مالم يسبقه تطهير للروح من قيود الجسد ولا يكون ذلك إلاّ بالموت، يقول:
فَقُلْتُ أبي أَبْغِي المُكُوثَ بِسَاحِكُمْ ... مَلَلْتُ لَعَمْرِي عِيشَةَ الضَّنْكِ والذُّلِّ
فَقَالَ: مُكوثُ المرءِ عِنْدِي مُحرَّمٌ ... إذا لَمْ يُطَهَّرْ بالمَمَاتِ مِنَ الغِلِّ.
فَقُلْتُ: سلامُ اللّهِ ثمّ تركتهُمْ ... وأُرْجَعْتُ رَغْمَ الأَنْفِ للعَالَمِ السّفلِي(1)
__________
(1) المصدر السابق، ص: 40.(1/52)
وهكذا كانت رحلة الهوني محاولة جادة للتطهّر من المفاسد الخلقيّة والاجتماعيّة التي سادت في مجتمعه وذلك باستجماع كلّ مالديه من طاقة الخيال الخلاّق ليستعيد بها لحظات من النقاء والطهر في عالم السماء كان قد تشوّق إلى العيش بها، ومن اللافت للانتباه أن هذه النهاية المأساويّة التي يرى فيها الشاعر خلاصه. فالخلاص كما يخبره آدم هو أن تطهّر الروح من أثقال المادة والجسد ولا يكون إلاّ بالموت، لذا يسيطر على الشاعر حسّ القهر الذي تلخّصه عبارة ((رغم الأنف)) في قوله:
((وأُرْجِعْتُ رَغْمَ الأَنْفِ لِلعَالمِ السّفلِي))(1)
*
وهكذا وجد بعض الشعراء في توجّههم إلى عالم السماء والروح والأمل في تحقيق الخلاص المنشود الذي كانوا يحلمون به، وإن تباينت تطلعاتهم إلى ذلك الخلاص ووسائلهم إليه، فالشعر والفنّ عند المعلوف والفقّي رسالة إنسانية تحمل هموم الأدب التي أثقلتها قيود الحياة الماديّة المعاصرة. وبدا النزوع الرومانتيكي واضحاً في أماني بعض الشعراء اليائسة من صلاح الأرض، فكان الموت أمنية للخلاص من أوضار المادّية العمياء كما بدا ذلك لدى الهوني.
ولم ينس الشعراء وهم يحلّقون في فضاءات النقاء والصفاء أن ينظروا لمجتمعاتهم نظرة الفاحص الناقد الذي يكشف مافيها من زيف وفساد.
ثالثاً - رحلات إلى عالم الموت والآخرة.
__________
(1) المصدر نفسه، ص: 40.(1/53)
لقد اتجهت بعض الرحلات الخياليّة إلى عالم الموت والبرزخ تحمل إليه أرواحها المتعبة عساها تجد في هذا العالم الرهيب خلاصاً لها، وربّما دفع حبّ الاكتشاف بهم لولوج هذه الظلمات التي لا يمكن رسم ملامحها إلاّ من خلال الرؤى المجنّحة، أمّا عالم الآخرة فيراد به الصورة المتخيّلة للقيامة، ولكنّ هذه الرؤى لابدّ أن تتلوّن بأفكار الشاعر وموقفه نحو المجتمع والحياة والإنسان. وهذه الرحلات، ((ثورة في الجحيم)) للزّهاوي، و((على شاطئ الأعراف))، لمحمد عبد المعطي الهمشري، و((جحيم النفس)) لمحمد حسن فقّي، و((ملحمة القيامة)) لعبد الفتاح رواس القلعجي.
على شاطئ الأعراف: محمد عبد المعطي الهمشري (1908-1938).
جاءت قصيدة ((علىشاطئ الأعراف)) لمحمد الهمشري في ثلاثمائة وسبعة أبيات منظومة على البحر الخفيف، المنوّع الرويّ، وموزّعة على ستة عشر نشيداً تتفاوت في الطول. وقد نشر مقتطفات منها في مجلّة السياسة الأسبوعيّة، ثمّ نشرها في مجلّة أبولو، المجلّد الأول شباط 1933 الصفحة 627 وقد أثبتها عبد العزيز شرف كاملة في كتابه الهمشري شاعر أبولو.(1)
تبدأ الرحلةبانتقال الشاعر إلى عالم الفناء على جناح الشعر وخياله ليطوف في رحاب شاطئ الأعراف يعلو فيها الشاعر فلك الروح السابحة في بحران الحزن والألم ليرى سفن الموت وقد لفّها سواد الليالي ويناجي الشاعر الليل والوقت والسكون، ثمّ يستفيق على نور الآلهة التي تحاول تخليصه ممّا به فتأخذه إلى الجنّة، ثمّ يعود ليستمع إلىغناء قيثار الموت يردّد ألحان الصِّبا والمشيب والأسى ليصل بعدها إلى شاطئ الأعراف حيث يبثّ هناك شكاته إلى العدم بعد أن فقد أذن المصيخ في دنيا الناس.
__________
(1) ينظر: شرف عبد العزيز، الهمشري شاعر أبولو، دار الجيل، بيروت، 1991، حيث نقل الباحث حديثاً مطولاً للشاعر ذكر فيه خواطره حول كتابة القصيدة، ص: 117.(1/54)
القصيدة رحلة تأمّلية إلىعالم ترك أثره عميقاً في نفس الشاعر هو عالم الموت، والشاعر إنسان مرهف الإحساس كان قد انتقل بحسّه ليعالج هذا العالم، إن لم نقل يتنبأ بوساطة روحه بمصيره القريب لأنّ روحه صورة من نفسه الحزينة وتجاربه العاطفيّة التي باءت بالفشل، فجاءت انعكاساً لشحوب الأمل الذي لفّ الشاعر أثناء إقامته في المنصورة.
وشاطئ الأعراف شاطئ خياليّ بخلاف الأعراف، المكان المذكور في القرآن الكريم الذي هو بين الجنّة والنار.(1)
يبدأ الشاعر بنشيد الذكريات إذ يشرب كأس الفناء الذي يبعث فيه روح الشعر ويوقظ سبات الفكر فتبحر به سفينة الذكريات تطوي ضفاف الحياة، غير أنّ رياح الأسى ماتلبث تداعب الشراع وسط دجى اليأس وصورة الموت يهمس في أذن الشاعر في ذهول وثّاب يتخطّى كلّ الأعاصير والأهوال يقول:
إنّهُ الحبُّ مَايَزالُ يُعَاني ... كلَّ هَولٍ وَيمتطي كلَّ صَعْبِ(2)
غير أن الشاعر يخاف على الحبّ ممّا تعاني النفس في الموت ويخشى أن يلفظ أنفاسه ويردى كما أرديت النفس، ولكنّ الحبّ صنو الحياة وارثة الموت وهو نور الإله يرفّ على الكون، ثمّ يتنبّه الشاعر فجأة على ضجيج سفن الموت تعبر شاطئ الأعراف فيخاطب الوقت لأنه وقود الحياة، قائلاً:
وَيَكَ يَا وقتُ إِتَئِدْ! أينَ أَمْضِي ... تائِهَاً فوقَ هاتِهِ الأمْواجِ(3)
وسفن الموت عليها من المنايا شحوب ترفع راية الشاطئ ويحوّم الفناء حولها بهزيمه ، ثمّ يمضي بفلكه الكسير، وقد أحاطت به الويلات، يتهادى خلف سفن الموت. والليالي تمرّ مسرعات مثل الظلال وكأنّ نور الحياة في احتضار أبديّ والليل مقبرة الأحقاب.
__________
(1) قال المفسرون: أصحاب الأعراف قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فليسوا من أهل الجنة ولا من أهل النار)). ينظر: الصابوني، محمد علي، صفوة التفاسير، دار القلم العربي، حلب، سورية، ط أولى، 1994، ج1، ص: 447.
(2) المصدر السابق، ص: 119.
(3) المصدر نفسه، ص:120.(1/55)
ثمّ في نشيد ((الشاعر والآلهة))، يتنبّه الشاعر مبغوتاً إلى نور يشقّ الدجى ويملأ جنبات الأفق فيسأل الشاعر الآلهة عن ذلك فتخبره إنّه ركابها قد تخطّى كلّ العواصف والظلمات ليقلّه إلى الفردوس حيث عذارى الينبوع وموسيقا الحياة ليلقى التعويض عمّا لاقاه من آلام في هذه الحياة، وعندما تحاول الآلهة تركه في فردوسها يأبى إلاّ مرافقتها لأنه اعتاد ملازمتها في الحياة فهي السلوى والنجوى يقول:
كُنْتِ سَلْوَايَ في الحياةِ وفي الموْ ... تِ أرَاكِ عَلى دُجَاهُ خُذيني(1)
فتصحبه آلهة الشعر على فلك الدّجى يسير حثيثاً بين الأهوال.
ثمّ يسمع إلى أرغن يردّد ألحاناً كثيرة تمثّل أدوار الحياة المختلفة كلحن الصِّبا والجمال والمشيب والأسى. وفي غمرة هذه الألحان يتنبّه الشاعر على نور باهت يملأ الأفق شعاعه فتنبّهه الآلهة إلى مطلع شاطئ الأعراف، فيقول:
هُوَ مَثْوَى الأَلْحانِ بَعْدَ شتاتٍ ... وَمقرُّ الأَرْواحِ بَعْدَ طَوافِ
تَرْقُبُ المَوْتَ والحَيَاةَ تَسيرا ... نِ عَلى الوَقْتِ وهو كالرّجَافِ(2)
وهناك في مكان قصيّ عن العالم حيث يخيّم الصمت، ويلوّن الفضاء شحوب الموت ويقطع الصمت نعيب الموت يستقرّ شاطئ الأعراف، فلا ملامح واضحة هنا تحيي الأمل في النفس غيرمنظر بياض الثلج فوق الصخر، يقول:
لَهْفِي كلُّ مَا أرى فَهْوَ مَوتٌ ... يُنْذِرُ الأَرْضَ مَوْعِداً بالثَّبورِ
هُوَ وادٍ للموتِ يَنْشُر فيهِ ... شِبْهَ دُنيا تَفْنَى وشِبْهَ حَيَاةِ(3)
__________
(1) المصدر السابق، ص: 126.
(2) المصدر نفسه، ص:136.
(3) المصدر نفسه، ص: 137-138.(1/56)
ويصف الشاعر مافي الشاطئ من خيالات ودياجير وموج متعال على موج وظلمات بعضها فوق بعض، وكذلك سفائن العمر وهي تمضي والوقت يقطع منها حبائل الآمال، وعزيف وادي الموت حتّى يكاد الشاعر يقطّع النفس من شدّة الهول فتنجده الآلهة وتقوده إلى بقايا الشاطئ ليرى قبر الليالي وقبر الحياة الذي راح يرشّه الزمان بدموع الرحمة والشفقة وتبدو ركائب الحياة تسير متهاديّة إلى مثوى الأحقاب حتّى تغيب في الضريح فلا يبقى منها غير طيف الخيال.
وفي نشيد ((السكون الحاكم)) حيث تنتهي الحياة ويسود الصمت ويخيّم الفناء، يصرخ الشاعر في العدم مستجدياً أن يسمع شكواه، ويبدوأنّ الشاعر فقد أذن المصيخ له في عالم الحياة، فاستعان بروح الشعرليصل إلىهذا العالم العجيب ليبثّه شكواه فتراه يقول:
قِفْ وَدَعْنِي أَبْثُثْ إليكَ شُكَاتِي ... والتياعي مُهَمْهِماً في أُذْنِكْ
لَمْ أَجِدْ في الحياةِ لي أُذُناً تَسْـ ... ـمَعُ شَكْوَايَ أو فؤاداً حَنُوناً
وَلِذا قَدْ أَتيْتُ أَشْكُوكَ مَابِي ... فَلَقَدْ تَرْحَمُ الكَئيبَ الحَزِينا(1)
وفي النشيد الأخير وعنوانه ((ساحر الوادي المغني)) يتخيّل الشاعر مغنيّاً يعبث بقيثاره في وادي الموت يغنّي أهل الفناء كما كان يغنّي ألحان الحياة، غير أنّ قيثاره قد تعطّل وطال صمته فيطلب منه الشاعر النهوض وبعث لحن الحياة في صمت الوادي ووحشته يقول:
سَاحِرَ الموتِ طَالَ صَمْتُكَ هيَّا ... رَجِّعْ اللَّحنَ أيُّهذا الشّادِي
قُمْ أيَا عازِفَ المنونِ وَغَنِّ ... وابْعَثِ النَّغْمَ فوقَ صمتِ الوادِي(2)
ثمّ يهتف به أخيراً لبعث الألحان، داعياً على تلك اليد التي عطّلت قيثاره عن بعث نسغ الحياة في وادي الموت، يقول:
لَهْفِي مَا أَرَاكَ تَبْعَثُ لَحْناً ... فاخْبِرْ الشّعْرَ مادهى قِيثَارَكْ
سوءَةٌ لليدِ الّتي عَطّلَتها ... وَعَفْتْ في غِنائِها أَوْ تَارُكْ(3)
__________
(1) المصدر السابق، ص 144.
(2) المصدر نفسه، ص: 145.
(3) المصدر نفسه، ص: 146.(1/57)
وهكذا طاف الهمّشري في عالم الخيال الذي أبدعته مخيّلته وروحه الشعريّة ليطرح في هذا العالم بقايا حزنه الكئيب الذي رسمته الحياة الحزينة وخلعت عليه مسحة من الرهبة والتشاؤم، وكان لابدّ لهذه الروح من التطهّر منها فكانت الرحلة وسيلة للخلاص ولارتقاء الروح في عالم الطهر. إنّ رحلة الهمشري هي تعبير عن نزوع رومانتيكي يسمو من خلاله الشاعر فوق الواقع ويبوح بمشاعره ونزعاته وأهوائه، بما فيها من شجن وألم، ويسعى بهذا البوح إلى تحقيق شيء من الخلاص أو التوازن.
ثورة في الجحيم: جميل صدقي الزهاوي (1863-1936).
تعدّ قصيدة ((ثورة في الجحيم)) من أطول قصائد الزهاوي التي نشرها أوّل مرة في مجلّة الدهور اللبنانية سنة 1931، ثمّ ضمّنها ديوانه الأوشال وبلغ عدد أبياتها ثلاثة وثلاثين وأربعمائة بيت، وهي منظومة على البحر الخفيف الموحّد القافية والرويّ ((الرّاء))(1) وقسّمها إلى ثلاثين مقطوعة هي:
1- منكر ونكير في قبر الميّت ووصف دقيق لهما.
2- حوار بين الملكين والميّت فيه أسئلة عن أمور عديدة يجامل الميّت في الإجابة عنها.
3- مصارحة الميّت.
4- وصف الصراط.
5- السؤال عن الملائكة والشياطين والجنّ، وأجوبة الميّت.
6- السفور والحجاب، وجواب الميّت.
7- السؤال عن الله، وجواب الميّت.
8- إلقاء الحجّة.
9- الله هو الأثير والاختلاف في الاسم.
10- امتناع الميّت عن الإفاضة في الجواب.
11- اتركاني ولا تزعجاني.
12- تقريع الميّت.
13- الإلحاف في السؤال.
14- الحوار الأخير.
15- عذاب القبر.
16- أخذ الميّت إلى الجنّة ليرى ما حُرمه من الثواب، ثمّ وصفها بدقّة.
17- قذف الميّت في الجحيم ووصف عذابها.
18- حوار بين الشاعر وليلى في جهنّم.
19- الشعراء في الجحيم.
20- عمر الخيام يتغنّى بالخمرة في الجحيم.
21- سقراط يلقي محاضرة في الحكماء في الجحيم.
__________
(1) الزهاوي، جميل صدقي، الديوان، تقدم عبد الرزاق الهلالي، دار العودة، بيروت، 1975.(1/58)
22- منصور الحلاّج في الجحيم يعاتب الله.
23- اختراع أحد أهل الجحيم آلة تطفئ النار.
24- خطبةأحد شباب الجحيم يحدث بها ثورةعارمة.
25- المعرّي ينشد نشيد الثورة، ويردّد له الجمهور.
26- الحرب بين الزبانية وأهل الجحيم.
27- إنجاد الشياطين بقيادة إبليس لأهل الجحيم وانتصار الملائكة بقيادة عزرائيل للزبانية.
28- نشوب حرب مهولة بين الطرفين تنجلي عن انهزام الملائكة وإطفاء نار الجحيم، واحتلال أهل الجحيم للجنّة، طائرين على ظهور الشياطين.
29- طرد أهل الجنة من البله بعد احتلالها.
30- الخاتمة.
تدور أحداث الرحلة بعد انتقال الزهاوي إلى عالم الموت وهناك في القبر يلتقي ملكيّ السؤال منكراً ونكيراً بمنظرهما المهول، ويدور بينهم حوار طويل حول قضايا الدين والاعتقاد في الدنيا يظهر الشاعر فيه السخرية والتهكّم من هذه المعتقدات، ممّا يدفع الملكين إلى نقله إلى الجحيم ليقاسي العذاب الأليم وهنا يبدأ قسم آخر يلتقي فيه الشاعر رجال علم وأدب وفنّ وفكر وسياسية في الجحيم يحاورهم ويتحدّث إليهم ويساهم في التحريض على الثورة التي تنشب نارها بين سكان الجحيم وملائكة العذاب لتنتهي بانتصار لقوى الجحيم على الملائكة وينتهي معها الحلم.(1/59)
يبدأ الزهاوي رحلته بالانتقال المفاجئ من عالم الأحياء إلى عالم الأموات، وهناك في القبر (أوّل منازل الآخرة)(1)، يلتقي الشاعر الملكين منكراً ونكيراً، فيصف منظرهما بشيء من المبالغة والتهويل لإظهار هول الموقف فالقبر ليس فيه ما يؤنس، وكانا فظين غليظين معه في المعاملة ثمّ يبدأان بسؤاله عن بعض القضايا التي كان يؤمن بهاعندما كان حيّاً، كالإسلام والتسيير والتخيير والشعر والفنّ. غير أنّ الشاعر ينحرف بالسؤال، إذ يظهر تبرّمه من أسئلة الملائكة المتعلّقة بالدين، وعندما يلحفان عليه بالسؤال يتبرّم بهما ويشكو ويئنّ ثمّ يفصح عن مذهبه الذي عاش عليه ويتلخّص في قوله:
غَيرَ أنّي أُجلُّ ربِّيَ منْ إتْ ... ـيانِ مَا يأبَاهُ الحَجا والضّميرُ(2)
ثمّ يسأله الملكان عن الملائكة والجنّ والشياطين، وهي أمور يعدّ التصديق بها من صلب العقيدة وإنكارها يقود إلى الكفر والتجديف، ويبدي الشاعر كعادته شكّه في كلّ ما لا يقبله العقل يقول:
غَيرَ أنِّي أرتابُ في كلِّ ما قَدْ ... عَجزَ العقلُ عَنْهُ والتّفكيرُ(3)
ثمّ يتابع الملكان الأسئلة والشاعر يسخر مرّة ويرتاب أخرى ويراوغ ثالثة حتّى يظهر فلسفته الماديّة بكلّ وضوح في ردّه على الملكين لمّا سألاه عن الله:
ليسَ بين الأثيرِ واللهِ فرقٌ ... في سِوى اللّفظِ إنْ هداكَ الشّعورُ(4)
ويطلب بعد ذلك من الملكين أن يسألاه عن الشعر والفنّ وماذا قدّم من أعمال نصر بها الحقّ والوفاء والعمل في سبيل رفعة الوطن وبنائه غير أنّ الملكين يوضحان له أنّ الدار للحساب وأنّه ليس للشعر والفن مقام لدى أهل القبور، ويصل الحوار بعد ذلك إلى ذروة الجدل ويغدو مركّزاً سريعاً ينتهي إلى ضرب الشاعر وتقريعه من قبل الملكين وإعلانهما انضمامه إلى أهل الجحيم، يقول:
__________
(1) الترمذي، سنن الترمذي، دار الفكر، دمشق، 1983، حديث رقم 2230.
(2) المصدر السابق، ص: 719.
(3) المصدر نفسه، ص: 720.
(4) المصدر نفسه، ص: 772.(1/60)
لا يُفيدُ الإيمانُ من بعدَ كُفْرٍ ... وكذَا جدُّ الطّائِشين عَثُورُ(1)
ثمّ يطير به الملكان إلى الجنّة ليرياه ما حرم من النعيم فيزداد حسرة وحرقة وغصّة، فيصف الجنّة متكئاً على وصف القرآن لها، ثمّ يخرجان به منها إلى الجحيم حيث يبدأ القسم الثاني من هذه الرحلة.
أوّل من يلتقيه في الجحيم فتاة اسمها ليلى فرّق بينها وبين حبيبها سمير فراحت تبكيه بحرقة وغصّة، فيحاورها الشاعر ويعرف ما أوجب عليها الجحيم.
ثم يلتقي الشعراء في الجحيم أمثال الفرزدق والمتنبي والمعرّي وبشار وأبي نواس والخيام ودانته وشكسبير وامرئ القيس، فيقول:
قُلْتُ مَاذا بكُمْ فقالُوا لقيِنا ... مِنْ جَزاء مالا يُطيقُ ثَبيرُ
إنَّنا كُنَّا نَسْتَخِفُ بأمرِ الدِّ ... م ... ينِِ في شِعرِنَا فَسَاءَ المَصيرُ(2)
ويستمع بعد ذلك إلى الخيّام يتغنّى بالخمرة ويتمنّى لو أنّه ما فارقها أبداً حتّى ولو كان بقاء الودّ بينهما في الجحيم، فهي تبرّد النار وتصمد في وجه الزمهرير، وكذلك يستمع إلى سقراط الذي وقف خطيباً بين الحكماء والعلماء أمثال: أرسطا طاليس، وكوبر نيك وداروين وغيرهم. حتّى الحلاّج لم يسلم من العذاب في النار وهو يعاتب الله لأنّه زجّ به في الجحيم.
ثمّ يلوح التذمّر والضجر بين أهل الجحيم من سوء المعاملة وسوء المقدور الذي كتب عليهم فيخطب أحد شباب الجحيم خطبة تثير روح الثورة بين أهلها فتضجّ الجحيم بالأصوات تتعالى في جوانبها وقد ماج أهلها وهاجوا حتّى كادت السماوات تقع لثورتهم وانطلقوا من كلّ حدب وصوب يرفعون الأصوات بأناشيد الثورة حتّى كان المعرّي موجّههم السياسيّ ومثير الحماس في صفوفهم يقول:
المعرّي: غصَبوا حقّكُمْ فيا قَومُ ثُوروا ... إنَّ غَصبَ الحُقوقِ ظُلْمٌ كَبيرُ
الجمهور: غَصَبُوا حقَّنا ولَمْ يُنصِفُونَا ... إنَّما نحنُ للحقوقِ نثورُ
__________
(1) المصدر نفسه، ص: 726.
(2) المصدر نفسه، ص: 733.(1/61)
المعرّي: لكُمُ الأكْواخُ المُشيدَةُ بالنَّا ... رِ وللبُلهِ في الجنانِ القُصورُ(1)
فتهبّ زبانية العذاب مذعورة إلى الجحيم لصدّ السيل الجارف الذي تحرّك في النار وراحت الأذرع تتطاير والرؤوس تتهاوى والبطون تفرى، وتتدخل الشياطين لإنجاد أهل الجحيم والملائكة لإنجاد ملائكة العذاب وتدور حرب طاحنة بين الفريقين يغدو الجبل فيها حصاة تتطاير بين الفريقين والشهب والصواعق سياطاً يترامى بها الطرفان إلى أن يسفر دجى الحرب عن انتصار جيش الشياطين واندحار جيش الملائكة بقيادة عزرائيل ثمّ يطير الثائرون على ظهور الشياطين يريدون احتلال الجنّة ولا يجدون هناك مقاومة تذكر فيتمّون بذلك إحراز نصرهم المبين ويطردون من الجنة من فيها من البله والسذج ويتركون الصالح من أهلها. عندها يستفيق الشاعر على حرّ شمس الضحى، وإذا به كان في حلم أثاره الجرجير يقول:
وتَنَبَّهتُ مِنْ مَنَامِيَ صُبْحاً ... وإذا الشَمس في السَّماءِ تُنيرُ
وإذَا الأمْرُ ليسَ في الحقِّ إلاّ ... حُلُمَاً قَدْ أثَارَهُ الجَرْجِيْرُ(2)
__________
(1) المصدر نفسه، ص:736.
(2) المصدر نفسه، ص:739.(1/62)
وبهذا تنتهي أمنية كانت تعيش في خلد الزّهاوي، يعرّض فيها بكلّ من يريد من رموز تدّعي الدين والتقوى ذاهباً في رؤيته إلى أبعد أشكال الرمز الشعريّ حين يدفع بثورة البؤساء في دنيا الخيال إلى تحطيم كلّ أشكال القهر والحرمان في الأرض، وهو الذي يقول عنها في ردّه على الأمير عليّ بن الحسين شقيق الملك فيصل حين سأله عنها: ((يا سيّدي وماذا تخشى من شاعر بلغ من السنين عتياً، وحاربته الأيام وتكاثرت حوله الأعداء، فانفعل انفعال الشعراء ولكنّه أعجز من أن يضرم الثورة في الأرض فأضرمها في السماء))(1) كما تكشف الرحلة عن طبيعة تفكير الزّهاوي الذي بدا مقلّداً للفلسفة الغربية ذات النزعة الماديّة الغالبة، ونفسيّته المترددة الخائفة التي لا تستطيع الصمود أمام سطوة السلطان، كما تلمس موقفه من الحياة الاجتماعيّة في عصره، ولا سيما، قضايا المرأة والتزام النضال في حياة الفرد الكريمة وغيرها من القيم الاجتماعيّة التي بدأت المجتمعات تفقدها في ظلّ الحكومات الرازحة تحت الاستعمار.
*
جحيم النّفس ... ... محمد حسن فقّي 1912
كتب الفقّي قصيدة جحيم النفس سنة 1952م وهي في المجلّد الأول من مجموعته الكاملة في الصفحات 222- 223- 224- 225. وتتألف من واحد وستين بيتاً على البحر الخفيف الموحّد القافية والرويّ الذي هو ((الميم))(2).
يتخيّل الشاعر أنّ محبوبته التي هي (نفسه) ماتت قبله فيطلب إليها أن تسبقه إلى الجحيم وتخبر هناك إبليس وأتباعه من الإنس والجنّ بقدومه، وفي الجحيم يخاطب الشاعر هذه النفس التي ساقته إلى هذه المملكة ويحاول أن يطهّرها بالعذاب والاكتواء بالنار لترقى إلى مستوى الطهر الروحي الذي تستحقْ معه أن تسكن النعيم.
__________
(1) المصدر نفسه، ص: ب ب المقدمة.
(2) فقي، محمد حسن، الأعمال الكاملة، مج1، ص: 222- 225.(1/63)
في عرض مفاجئ يُسمَع صوت الشاعر يخاطب نفسه بأن تسبقه إلى الجحيم، وفي عتوّ جارف وصلف لا تحدّه حدود يطلب إليها بأن تحثّ سكّان النار على انتظار هذا الزعيم القادم الذي لا يأبه لنار ولا لشواظ ولا لعذاب، فيقول:
اسبقيني إلى الجحيمِ فإنِّي ... سأوافِيْكِ في غَدي للجحيمِ
واطْلبي مِن سُراتِهِ أنْ يكونُوا ... عِنْدَ أبوابِهِ قُبيلَ قُدومي
أخبرِيهمْ أنَّ الزّعيمَ سَيأتِيـ ... ـكُمْ فَهُبُّوا إلى لقاءِ الزّعيمِ(1)
وهناك يلقاه شيطانه، وماذا يفعل الشيطان أمام من يدّعي أنّه زعيم على الشياطين وقد فاقهم في الإثم والشرّ، حتّى إنّ الأرض لتشكو من مباذله! وليس أمام الشيطان إلاّ أن يرفع له راية الإثمّ وعرفان الحمد على الشرّ الذي فاقه فيه ويجعل هذا الوافد الجديد يتقدّمه إلى النار يقول:
قالَ فيه شَيْطَانُهُ وَهْوَ يُطْريْ ... ـهِ لأَنْتَ الرّجيمُ مَوْلى الرَجيمِ
لستُ أدْرِي فأنْتَ في الشّرِّ مَوهُو ... بٌ وفي الإِثْمِ ضَاربٌ في الصّميمِ(2)
ولكن مَنْ هذه المخاطبة التي يخاطبها الشاعر؟ أهي نفسه الآثمة التي سبقته إلى الجحيم أم فتنته وضلالته في هذه الحياة، أم تراها محبوبته ملهمة الفجور والآثام؟ والأرجح أنّ المخاطبة هنا هي نفسه لأنّه يدعوها في نهاية القصيدة إلى التطهّر من الآثام بالنار لكي تحظى بالنعيم.
أخذ الشاعر في الجحيم يتحسّس من نفسه وهي تعاني عذاب الحريق، ويحمّلها أسباب شقائه، فقد ساقته إلى الآثام، وكانت دليله إلى المهالك والمهاوي فكم زيّنت له سوء عمله فرآه سروراً وسعادة، في حين كانت تسوقه إلى الجحيم يقول:
أَنَا لَولاكِ لَمْ أكُنْ عَارِمَ الصبَّـ ... ـوةِ أعْنُو لِخَمرتي ونَديمي
ولِمَا تَنْصبينَ مِنْ شَرَكٍ اللّهـ ... ـوِ ومَا تشتَهينَ مِنْ تأثيمِ
قُدتني كالبعيرِ يَلهو بهِ الطّفْـ ... ـلُ خَطيماً حيناً وغَيرَ خَطيمِ
__________
(1) المصدر نفسه، ص: 222
(2) المصدر نفسه، ص: 222.(1/64)
ربَّما قادَهُ لسكِّينِ جزَّا ... رٍ فيغدُو مِنْ بعدِهَا كالرَّميم(1)
وفي لجّة جهنّم يحاول الشاعر أن يتلمس مسالك النجاة ولكنّه لا يكاد يتخلّص من هاوية إلاّ ليقع في أخرى، ويطّوف معها في النار معانياً شتّى أنواع العذاب، ويلتقي الشاعر إبليس في النار فيحاول الأخير ثنيه عن السعي إلى النعيم لأنّها والنار -في رأيه- وجهان لنقد واحد فيقول:
قَالَ إنَّ الفِردوسَ قَدْ أَجْدبَ اليو ... مَ فما فيهِ من وليٍّ حَميمِ
ولقَدْ جَاءَني رسولٌ منَ الجنَّـ ... ـةِ يشكُو إليَّ شكْوَى العديمِ
قالَ هذا وصدَّ عَنْ وجههِ الدَّا ... مي شُواظاً أهدتهُ ريحُ السَّمومِ
فتعجَّبْتُ من الرّاوي وقَهْقَهْـ ... ـتُ فَوْلّى وَقَالَ: أَنْتَ خَصيمي(2)
وفي النهاية يلتفت إلى حسنائه المغوية، وقد تغيّرت ملامحها حتّى صارت كأنّها هشيم الحطيم، وقد لفّها الحزن والندم والأسى على ما فوتّت إلى أن صارت قابلة للخلاص من الجحيم فيخرجان إلى الجنّة يقول:
واتّجهنا إلى السّموِّ كِلانا ... سَائرٌ في طريقِهِ المستقيمِ
ربَّما طّهَّرَ الجحيمُ نفوساً ... شَقِيَتْ قَبْلَ طَهْرِها بالنَّعيم
أيّها النَّفْسُ بَيْنَ جنبَيكِ نَارٌ ... تَتَلظّى تفُوقُ نَارَ الجحيمِ
فارحَميني مِنْ الضّريمِ فإنِّي ... لَمْ أَذُقْ في اللّظى كهذا الضّريم(3)
وهكذا يطوف الفقي برحلته الخياليّة التطهيريّة في أهوال الجحيم آملاً أن يتخلّص ممّا دنّس نفسه من أوضار الماديّة وشوائبها الفاسدة، فلم يجد سوى النار وسيلة للخلاص منها، فساقها إلى حتفها لتتطهّر وتصبح جاهزة للتمتع بنعيم الراحة والطمأنينة قبل نعيم الجنّة.
إنّ رحلة الفقّي تعبير عن اليقين بفطرة النفس، ونقائها الأوّل، وقدرتها على التوبة، وعودتها إلى فطرتها، وهي تأكيد لقبول التوبة، فالخير أصيل في الإنسان والشرّ عارض، ولابدّ من زوال العرض وبقاء الجوهر.
__________
(1) المصدر نفسه، ص: 223.
(2) المصدر نفسه، ص: 223- 224.
(3) المصدر نفسه، ص: 225.(1/65)
ملحمة القيامة: عبد الفتاح القلعجي (1938)
ملحمة شعرية جاءت في كتاب متوسط الحجم بلغ نيفاً ومائتي صفحة، وقد صدرت طبعته الأولى عن دار النفائس في بيروت سنة 1980. وقد اعتمد فيها بنيتها الإيقاعيّة على التفعيلة التي تختلف من نشيد لآخر، وقسّمها مبدعها إلى:
1- الصيحة الأولى.
2- الصيحة الثانية.
3- الصيحة الثالثة.
4- الحساب.
5- المطهر.
6- الشفاعة.
7- الجنّة.
8- النار.
9- ذبح الموت.
يسوق الشاعر -وفق الرؤية الدينية- العالم لنهايته الحتمية كنتيجة لطغيان الماديّة الراسفة في الإلحاد والشرور والأوهام والحروب والدمار والفوضى والفساد فتكون الصيحة الأولى التي يعلنها بوق إسرافيل، وتتالى الصيحات إلى أن تقوم الساعة على شرار الخلق عندها يكون الحشر والأحداث المتلاحقة لوقوف الناس فريقين أمام الله فئة مثّلت الخير والنقاء والصفاء وأخرى مثّلت الجبابرة والطغاة والوضعيين واليهود والطغام من الشذّاذ والأفاقين، ومن المطهر تشخص الأبصار وتظمأ القلوب إلى شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، فيفصل بين أهل الجنة والنار، ويضرب بينهم بسور من نار، لينعم أهل النعيم بنعيمهم ويشقى أهل النار بعذابهم، وفي انشغال كلّ بنفسه ينادي منادي الرحمن بذبح الموت وخلود الفريقين كلّ في محلّه فيتأبّد حزن الإنسان ويتأبّد فرح الإنسان. ويتردّد صوت الحقّ ((لا ظلم اليوم.. لاظلم اليوم)).
يلهب الشاعر خيال القارئ بما يوحي باقتراب النهاية، فيلفت انتباهه إلى سرّ التحوّل الخطير الذي طرأ على الكون، حيث سار سيراً حثيثاً مفعماً بالأسى إلى نهايته، فالهرج والمرج قد عمّا، والكون قد لبس سديم الدخان والفوضى التي ما تلبث أن تتقشع عن شخصيّة حواريّة تدير حواراً مع شخصيّة أخرى إنّهما الشيخ والفتاة.(1/66)
يبدأان الحوار فيرسمان ملامح الصورة الأخيرة من سفر الكون الذي سار به بنوه إلى حتفه الأخير، بعد أن سمّروا نعشه بالفساد والاضطراب والماديّة إلى أن يشقّ السكون الكوني صيحة إسرافيل يقول:
بوقُ إسرافيلَ يُنهي العالمَ المسجورَ فينا
وتهاوى النّاسُ أوراقَ خريفْ
كلُّ ما في الأرضِ ماتْ(1)
ثمّ يسود الصمت ما يشاء الله ليعلن الحقّ جلّ وعلا بدء الصيحة الثانية وينساب صوت الحقّ في خيمة الصمت فتعجّ الحركة في جسد الكون، ولكنّه نشاط مقيّد بإذن الإرادة الإلهيّة، فتنصت إلى همسة الأرواح التي تحوّم في رحلة العودة فوق الأجساد، ثمّ ينطلق اللحن العلويّ إيذاناً ببدء الحياة، فتظهر شخصيتا الشيخ والفتاة، لترويا مجريات الأمور، وربّما كانت الشخصيتان تمثّلان الضمير الإنساني لذلك نجد الشاعر يصرّ على بقائهما أولاً في الرحلة، ثمّ تبدأ الشخصيات بالظهور على ساحة الأحداث لترسم لنا واقعيّة الحدث، فمن كلّ الجهات، هذا رجل وتلك امرأة، وهنا صوت سماويّ، ملك وملكة، كلّ الشرائح الإنسيّة والجنيّة والغرائبيّة كالدجّال والجسّاسة وإبليس.. إلخ. وكلٌّ أصابه الذهول حيث عنت الوجوه للحيّ القيوم.
وفي الصيحة الثالثة تتجدّد الحياة في كلّ شيء ولكنه تجدّد الخوف والرهبة. فكلّ شيء يعود بعد طول اغتراب، إنّها مسرحيّة الحياة التي ينهي الرحمن فصلها الأخير فتتوالى الكرب ويمتدّ يوم المحشر أحقاباً ويقيّد الوقت في صفد اللحظة إلى أن يأذن الله بقوله عزّ وجلّ: (إلى ربِّكَ يومئذٍ المسَاقْ)(2).
__________
(1) القلعجي، عبد الفتاح رواس، القيامة، دار النفائس، بيروت، ط أولى، 1980، ص: 21.
(2) سورة القيامة، الآية، 30.(1/67)
تخرج نار تسوق الناس في أرض تيه لا معلم فيها ولا دليل وفي صورة إيحائية تحت عنوان ((فرار))(1) يبدو طفل يتضرّع إلى أمّه كيما تضمّه تحت جناح الأمن والرحمة، لكنّ الذهول يتحوّل نحيباً فهذه هي الصاخّة، وتتكرّر الصور لتعكس بوضوح ثنائيات ضدّية كالخوف والرجاء، والسعادة والشقاء، والذلّ والجبروت، وفي هذا التصوير يضرب الشاعر غوصاً في أعماق النفس البشرية، يكشف عنها الأقنعة التي تراكمت عليها، فتظهر شخصيات الناس أشبه بأشباح لا ملامح لها.
حتّى عندما يستخدم الشاعر صورة الرقص فهي لا توحي بالسعادة في الحركة والنفس، بل هو رقص مهول يحمل في اهتزازاته البؤس والشقاء.
ثمّ تنصب الموازين على أجساد تتلوّى من الظمأ القاتل وقد نهش أكبادها طول الانتظار، تتدافع جماعات إلى مكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ترجوه أن يدعو الله ليبدأ الحساب، فيدعو النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ويُجاب. وتظهر شخصيتا الملحمة لتصفا الحركات والأصوات والصور المتشابهة حتّى ليخال المتلقّي أنّ الشخصيّات جمعت كلّها على صعيد واحد، ثمّ بالتفاتة جميلة يوحّد الشاعر التاريخ على صعيد القيامة في كلّ لحظاته الماضية والحاضرة والمستقبليّة التي لابدّ من وقوعها حسب المعتقد الديني، ثمّ تنصب الموازين والصراط وتظهر الأعراف التي تتميّز عن أعراف الهمشري.
وفي صورة المطهر ترسم صورة راعبة للعذاب، صورة تتداخل فيها الألوان والأصوات ليس للدلالة على الحياة، بل للدلالة على الموت البطيء خوفاً وألماً وقهراً يقول:
ورؤوسٌ رُضِختْ بالصّخرِ، عادَتْ مثلما كانتْ
ولا تفترُّ عنهمْ
فلقدْ كانُوا إذا نادى: الصّلاةَ
اثّاقلوا حتَّى الفَواتْ(2)
__________
(1) المصدر نفسه، ص: 42.
(2) المصدر نفسه، ص:120.(1/68)
وفي فصل الشفاعة تتوافد الخلائق إلى آدم ثمّ إلى نوح فإبراهيم فموسى فعيسى تطلب إلى هؤلاء الأنبياء دعاء الله، وكلّهم يدفع الناس إلى لاحقه إلى أن تصل الخلائق إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم صاحب راية الحمد والشفاعة الكبرى فيقوم فيدعو الله، فتنصب الموزاين للحساب.
وفي النار يصوّر أبواب جهنّم وألوان العذاب المصفّدة خلف أبوابها، ثمّ يصف حوارها مع أهلها الذين تصلبهم على أعواد الجوع والظمأ حتّى يغاثوا بماء المهل وطعام الضريع إلى قوله:
وتبثّرَ في جسدِ الصمّتِ حسيسُ النّارِ
والوقّادونَ يَغُذُّونَ اللّهبَ المجنونْ
أجساداً وحجارهْ(1)
أمّا صورة الجنّة فهي على النقيض ممّا عليه صورة النار، فهي زاهية الألوان وارفة الظلال تموج ألواناً وتنوّعاً وجمالاً. فالحبّ يحلّ كلّ حناياها والوسن الناعس يداعب أجفان ساكنيها. وهناك يُسمع صوت الرحمن:
(اُدخُلُوها بسلامٍ آمنين)(2)
وتبدو أبوابها السبعة وكلّ باب يمتاز عن لاحقه فهذا (باب العُتبة) وذاك (باب الرحمة) وذلك (باب الريّان.... إلخ. عندها يخلع الإنسان أوزار الدنيا وأثقال النقص ليرتدي الحبرة الربانيّة ويحظى بعين العناية الرحمانيّة وتفنى روحه في فغمة الصمدية. يقول:
أحبيبَ التّوقِ انْحَرْ عَطَشي
فإليَّ... إليْ
أفغمني.. أفغمنْي
أواهُ
حبيبي
إنّي أفنى، أفنى، أفنى، أفـ.. ـنـ.. ـى(3)
ولعلّ أجمل ما في هذا الفصل المجالس التي يعقدها الشاعر في الجنّة على غرار مجالس المعرّي، ولكنّ هذه المجالس ثوريّة واجتماعيّة تذكر تاريخ العمّال والفلاّحين والكادحين والمناضلين ضد قوى الشرّ والطغيان.
ثمّ ما تلبث شخصيّتا المسرحيّة اللتان ظهرتا في بداية الرحلة أن تختفيا بعد أن تكشفا عن ثنويّة الضدّ التي تجمعها ورمزيّة الروح التي آلفتهما، يقول:
الدائرةُ الطّينيّةْ
الزَمنُ الإنسانيُّ
الجنسُ المنشطِرُ
__________
(1) المصدر نفسه، ص: 161.
(2) سورة الحجر، الآية: 46.
(3) المصدر نفسه، ص: 178.(1/69)
الثنويةُ. نحنُ
ن.. حـ .. ن ... ... ... ن.. ن.. ن(1)
وتختم رحلة القيامة في المرحلة الأخيرة بما يندمج مع المعتقد الدينيّ الإسلاميّ بذبح الموت، هذا الكأس العلقم الذي طالما سقى المخلوقات من مراره سيسقى أخيراً من الكأس نفسه، عندما يصدع جبريل بأمر السماء وينادي أهل الجنّة وأهل النار وتتقطّع النفوس بين الرجاء والخوف، أهل النار راجون وأهل الجنّة خائفون. ليموت الموت ويخلد كلٌّ في محلّه الخلود البعيد عن مغالطات الأساطير وتناقضاتها، خلود لا ظلم معه أبداً، وليدوّي صوت الرحمن في نهاية الملحمة:
لا ظلمَ اليومْ
لا ظلمَ اليومْ
لا ظلمَ اليومْ(2)
وهكذا تنتهي رحلة القيامة. هذا الغفران الجديد الذي لبس ثوب الذرة والإلكترون وواكب عصر الطائرة والفضاء، بما يجدّد روح الأمل والإيمان في النفس ويشدّ من إصرها على مواكبة الحياة والعمل من أجل خير الإنسان وبقاء الإنسان.
*
وهكذا بدت الرحلات الخياليّة، في هذه الدراسة الوصفية، في انطلاقها بعيداً عن عالمها زفرات أنين أطلقتها أرواح متعبة أضناها الواقع السياسيّ والاجتماعيّ، هي توّاقة إلى الحرية والخلاص فانطلقت تروم خلاصها ونقاءها في عالم من السحر والخيال. بعد أن تشرّبت من مناهل الثقافة والمعرفة.
__________
(1) المصدر نفسه، ص:215.
(2) المصدر نفسه، ص: 223.(1/70)
ولقد تعدّدت الأماكن والجهات التي انطلق إليها الشعراء كلّ حسب قناعته، فبعض الشعراء وجد ضالته في الأساطير يجلو عنها غبار السنين يستخلص جوهرها النفيس الذي غدا رمزاً شفافاً يحمل التجربة الشعريّة والمعاناة الإنسانيّة، وقد وجد شعراءٌ غايتهم في مدن السحر والخيال التي صارت لديهم شعلة للعلم والمعرفة التي تضيء جوانب حياتهم المظلمة، وبقي الشيطان لدى أغلب الشعراء رمزاً للثورة والشرّ والتمرّد وإن غدا قناعاً يغلّف وجه الشاعر ويخفي رغباته، وفي اتجاه آخر وجد بعض الشعراء غايتهم في عالم الفضاء حيث عالم الروح المخمليّ الذي تشتاق إليه أرواحهم المتعبة، وربّما وجد بعض هؤلاء غايته في الانتقال إلى عالم الموت والآخرة. ويبقى الهدف الأسمى لهؤلاء هو الخلاص الذي تعدّدت لأجله الأماكن، كما كان كشف جوانب الحياة الاجتماعيّة ومعاناة الإنسان غاية سامية تحملها رسالة الشعر من أجل الحياة. وقد وظّف الشعراء كلّ ما لديهم من ثقافة دينيّة وعلميّة وفلسفيّة تحدوهم بذلك رغبة في التجديد في الشعر العربي المعاصر.
(((
الفصل الثاني
دوافع الرحلات الخيالية
أولاً ... : الدوافع الوجدانية
ثانياً ... : الدوافع الاجتماعية والسياسية
ثالثاً ... : الدوافع الفنية
(((
دوافع الرحلات الخيالية
أوّلاً: الدوافع الوجدانية
* حلم الحريّة:
لقد أراد الإنسان منذ أن خلقه الله إيجاد أدوات تضمن له البقاء والاستمرار في هذه الحياة، لكنّ هذه الحاجة لم تدفعه يوماً إلى إهمال روحه إلاّ عندما ازدادت أدواته تعقيداً، فصار واضحاً لديه أنّ للحضارة تأثيراً ضاراً على حياته الفكريّة والروحيّة، لما تخلّفه هذه الحضارة من أسباب الصراع المادي الذي خلّف وراءه أمراضاً نفسية وعقداً كثيرة.(1/71)
لهذه الأسباب حلم بعض الشعراء بالابتعاد عن الواقع والغور بعيداً في ذواتهم أو الهروب إلى عوالم بعيدة يحقّقون فيها ما تصبو إليه أرواحهم المثقلة بأعباء الحياة الراسفة في قيود الماديّة، ويوجّهون النقد لأبناء مجتمعاتهم الذين انحرفوا عن المهام الجليلة التي خلقوا لأجلها، وكلّهم أمل أن يحقّقوا صورة الإنسان النقي البريء.
وقد كانت الحريّة هاجس فوزي معلوف الذي انطلق على أداة من أدوات الحضارة (الطيّارة) يروم الخلاص من واقعه، وعندما صار في الجوّ خفّت روحه وتطلّعت إلى كسر أغلال المادة وتحطيم قيود الجسد الذي أذاقها مرارة الكآبة والعبودية، حتّى بات الشاعر عبداً لكلّ ما حوله في الحياة، فيقول:
بينَ رُوحِي وجِسمِي الأَسيرِ
كانَ بُعْدٌ
ذُقْتُ مُرَّهْ
أَنَا في الأرْضِ وَهْي فَوقَ الأثيرِ أنا عَبْدٌ
وهْي حُرَّهْ(1)
فهذا المقطع يعبّر عن ذروة المعاناة الإنسانية عندما يستحوذ حسّ العبوديّة على الشاعر، لذا كان مطلب الحريّة وسيلة للارتقاء فوق الآلام، فوق الأرض التي يغطّي الشقاء كلّ بطاحها.
ويتجلّى الحلم في سيرورة الوحدة العضويّة للقصيدة، وهي تعبّر عنه في أناشيدها الأربعة عشر. ففي النشيد الأول يحدّد الشاعر أدوات وجوده الروحيّ باستخدامه ظروف المكان المعبّرة عن الفوقيّة، فيقول:
في عُبابِ الفَضاءِ فَوقَ غُيومِهْ
فَوقَ نَسْرِهْ
ونَجْمَتِهْ
أنْزلَتْهُ فِيهِ عَروسُ قوافِيْـ ... ـهِ بَعيداً عن الوُجُودِ وَظُلمِهْ(2)
__________
(1) معلوف، فوزي، على بساط الريح، ص: 77.
(2) المصدر نفسه، ص:61.(1/72)
ثمّ يصرّ على ما تلهج به نفسه من الانطلاق والحريّة، فيجعل النور موكباً له، ويتّخذ من الفضاء مسرحاً لسطوته وسلطانه، ثمّ إنّه يتردّد في بقيّة الأناشيد بين الأمل الطامح والواقع الثقيل، وربّما لجأ إلى الرمز مرّة وإلى التصريح مرّة أخرى، لكنّ مجموع الأناشيد يشكّل كلاً واحداً تمثّله الرغبة الطامحة إلى الانعتاق والحريّة، والروح الشاعرة وحدها القادرة على تحقيق هذه الغاية، فهي الروح الخلاّقة التي أرهفت سمعها لتصغي إلى أنغام الخلود العلويّة، فهي روح لا يقربها الإثم أو الشرّ، لذا يتوق الشاعر للوصول إليها عندما يجد نفسه يجوز الفضاء ويتخلّص من قيوده الأرضية، فيقول:
يا طُيورَ السَّماءِ في الرِّيحِ رُوحِيْ
بي جَرْياً
عَلى الجَلَدْ
وبِجِسمِي طِيرِيْ إلى حَيْثُ رُوحِي
فيهِ تَحْيَا
بِلا جَسَدْ(1)
لكنّ الحلم لا يأتي كما تشتهي النفس وتحبّ فلابدّ ممّا ينغّص عليه سعادته إنّها عقدة الذنب لكونه ابناً للحضارة الماديّة التي تلاحقه في كلّ منزل ينزل فيه وتحول دون تحقيق التوافق بينه وبين الطيور والنجوم والأرواح إلى أن تنبري روح الشاعر المتحرّرة من الجسد لتعانق هذا الشاعر الذي طالما اشتاقت للقائه، فيقول:
هِيَ رُوحي جَاءتْ تُخلْصْني مِنْ ... غَضَبِ العَالَمِ الفَخُورِ بشَمْسِهْ
طَوَّقَتْنِي بِكلِّ عَطْفٍ وصَاحَتْ ... أَخْواتِي: رِفْقاً بِهِ وببُؤسِهْ
إنَّ بينَّ السَّريرِ والنَّعشِ خُطوا ... تٍ دَعَوْهَا الوُجُودَ وهْيَ بِعكْسِهْ(2)
وفي تلك اللحظات تشرق الروح وتتحقّق هواجس الشاعر وتختصر المسافات وتتضاءل المجرات، فتصير المادة ظلاً هزيلاً باهتاً لا قيمة له ينظر إليها الشاعر باحتقار وازدراء، فيقول:
ونَرَى الطَودَ في السُّهولِ كمَا تُبْـ ... ـصِرُ فَوقَ التُّرابِ ظِلَّ حَصَاتِهْ
__________
(1) المصدر نفسه، ص: 85.
(2) المصدر نفسه، ص: 149.(1/73)
ونَرَى المَوجَ في الخِضَمِّ كمَا تَلْـ ... ـمَحُ جَوّاً والسُّحبُ في مِرآتِهْ(1)
*
ويستحثّ حلم الحريّة الشاعر محمد حسن فقّي في قصيدته ((الكون والشاعر)) حيث يستنهض الشاعر عرائس الشعر لتعرج بروحه بعيداً عن الأرض التي ملأ الشرُّ أرجاءها بعد أن صال على الخير صولة غادرة تركته صريعاً، فيقول:
عَرَّجْتَ بالرُّوحِ إلى عالمٍ ... أَنْكَرَ فِيهِ الرُّوحُ جُثْمَانَهُ
حَلَّقْ بِنَا فالأرضُ مَوْبُوءَةٌ ... وطُفْ بنا الجوَّ وَسُكّانَهُ
تنَمّرَ الشَّرُّ بِها عَارِمَاً ... فَجَنْدَلَ الخَيرَ وَأعْوَانَهُ(2)
وهو ينعى على الناس استحواذ الشرّ عليهم، وما على الشاعر إلاّ الفرار بروحه بعيداً لتخفّ في عالم الطهر والنقاء وتتخلّص من الأحقاد والضغائن. وفي الفضاء يلتقي الشاعر بعالم العجماوات من طيور وغيرها ثمّ ينطلق إلى عالم النجوم فالملائكة، وهناك يقارن بين هذه المخلوقات بفطرتها وبراءتها وبين الناس الذين يحكمهم قانون الصراع من أجل البقاء والتناحر والتنافر، فيقول:
الزَّيفُ في النَّاسِ وأَمّا هُنَا ... فالطَيرُ لا يَخْدَعُ إِخوانَهُ(3)
ويعزز الشاعر الفقي الرؤية التي لمسناها عند فوزي معلوف حين يرى أنّ الإنسان يرقى بصفاته ونقائه إلى ما لا تصل إليه نفس أيّ إنسان راسفة في أغلال اللحم ومطالب الجسد، كما يؤكّد خصوصيّة الشعر في تحقيق هذا الحلم الذي يرنو للوصول إليه، فيقول:
قَالَ مَلاكٌ إِيهِ يا شَاعِري ... مَاخَانَكَ السَّعيُ ولا خَانَهُ
فإنَّما الفِردوسُ في عَالمٍ ... تصوِّرُ الأحلامُ ضُحيانَهُ
سَوْاءٌ الأرضُ وهَذِي السَّما ... إنْ لم يُنَقَّ الرُّوحُ أدرانَهُ(4)
__________
(1) المصدر نفسه، ص: 159.
(2) ..؟..، عبد السلام طاهر، شعراء الحجاز في العصر الحديث، ص: 49.
(3) المصدر نفسه، ص: 51.
(4) المصدر نفسه، ص: 52.(1/74)
ويعود الشاعر الجسد إلى الأرض ليعاني آلام العبوديّة من عبوديّة جسد وقوانين وحاجات ماديّة، ولتبقى الروح محلّقة في سماء الحريّة لا تعرف ذلاً أو هواناً، ويبقى الشاعر الفقّي أكثر تفاؤلاً من فوزي معلوف لأنّه يؤمن أنّ الخير سينتصر على الشرّ وأنّ الشعر سبيل إلى تحقيق حلم الحريّة والخلاص، فيقول:
تَبَاركَ اللّهُ فَكَمْ شَاعِر ... يُطَاوِلُ المُلكَ وتيجانَهُ
لمْ يَعرِف الذّلَ ولا قَينَهُ ... ولا وَعى المكرَ وأشْطَانَهُ
فعَاشَ لا يُرهِبُهُ دُهْرُهُ ... إِسْرَارُهُ شَابََ إِعْلانَهُ(1)
*
وهكذا ظلّت الحريّة والخلاص من هموم الواقع هاجساً يحرّض الشعراء ويدفعهم حثيثاً للمضيّ قدماً في رحلاتهم الخيالية عسى أن يحققوا ما فقدوه في عالم الناس، غير أنّ هذا الحلم تلفّع بالسوداويّة والتشاؤم عند فوزي معلوف، في حين أخذ مسحة من التفاؤل الديني عند محمد حسن فقّي.
* الحيرة والقلق:
ويمثّل نسيب عريضة في رحلته ((على طريق إرم)) القلق وظاهرة الاغتراب الروحي التي تكشف عن توق الشاعر في رحلته الخيالية إلى التماس أدوات وجوده وحاجاته التي تحقق كنهه الإنساني الحرّ. ولعلّ المعرفة أرقى هذه الأدوات التي يبحث الشاعر عن شعلتها. ولكي يصنع الشاعر ذلك خلق عالماً غرائبياً خفيّاً وكوّن لذلك ركباً يحمل ظعنه، وما إن يبدأ بالمسير حتّى تستحوذ عليه الحيرة والتردّد فالطريق مليء بالعثرات والحيرة تنشر شباكها في كلّ مكان، فيقول:
أهيمُ في الدُّجَى مثلَ أعمَى ... جَاعَ ولا يُحسِنُ السُّؤالْ
يَهُزُّنِي في الدُّجَى حَنينٌ ... إلى الذي مَرَّ من وِصالْ
هَلْ مِنْ سبيل إلى رجوعٍ ... هَلْ من طريق إلى وُصُولْ
تَهيمُ نَفسي ولسْتُ أَدْري ... بحاصِلٍ أو بمُستحيلْ
يا صَاحِ قَد حِرتُ أينَ أمضي ... والسُّبْلُ ضّلَّتْ عَن الضّلولْ(2)
__________
(1) المصدر نفسه، ص: 53.
(2) عريضة، نسيب، الأرواح الحائرة، ص: 180.(1/75)
ويظلّ الشاعر أسير الشكوك والحيرة وهما يغذّانِ من روحه حتّى يجعلا منها قفراً عظيماً تنوح فيه الأماني اليائسة والأوهام، فيلوذ الشاعر إلى الحلم والخيال وسيلة يرأب بهما الصدع الذي تركته الحيرة في نفسه، فيقول:
وَولْوَلتْ في الدُّجَى شُكُوكي ... ورفْرفَتْ أَجنحُ الخَيالِ
واستأثَرَ الحُلمُ باختيارٍ ... وطَارَ هَمّي بلا عِقالِ
فعُدْ بنا يا سَميرَ حُزنِي ... نقنَعْ من الأرضِ بالخيالِ(1)
ويبلغ القلق مبلغه من الشاعر في بحثه عن وسيلة للخلاص من أوهام نفسه حتّى ليغلب الاستفهام على أسلوبه في التعبير عن رغبته في الوصول إلى نبع الإلهام، فيقول:
قَدْ سَريْنا فهلْ شُروقُ ... أيّها الفَجرُ هَلْ تفيقُ
مَن يطيقُ الذي نُطيقُ ... أينَ ذا تنتهي الطَريقُ
قَدْ بَرانا اللّغوبْ ... واعتَرانَا الشُّحوبْ(2)
لقد كان القلق والحيرة دافعاً حدا بالشاعر إلى الرحيل بعيداً إلى عالم الخيال، ولكنّنا سرعان ما نرى القلق والشكّ سلاحاً قاضياً يلجأ إليه ركب الشاعر في رحلته للخلاص من قائد الركب ((العقل)) الذي سام الركب أمض العذاب فكان الشكّ لجاماً يحدّ من عجبه وتيهه ويسلّط عليه جيشاً عرمرماً من الظنون فيغادره صريعا فيقول:
أَجَابَهُ الشَّكُّ مَهلاً ... كَفاكَ تَيهاً بِمَهْمَهْ
فأقْبَلَ العقلُ يَصْأَى ... غَيظاً بوَجْهٍ مُشوّهْ
وقَال: مَهْ! فَأَتاهُ ... رَجْعُ الصَّدى، قَائلاً: صَهْ
وأطلقَ الشَّكُّ جَيشاً ... مِنْ الظْنونِ وَجهجَهْ
فَفَرَّ عقلي جَباناً ... وجُنَّ خَوفاً وقَهقَهْ(3)
__________
(1) المصدر نفسه، ص: 181.
(2) المصدر نفسه، ص: 183.
(3) المصدر نفسه، ص: 193.(1/76)
ويبقى الشاعر مصرّاً عى المضي قدماً في رحلته متوسلاً بشتّى الأدوات والمطايا متجاوزاً كلّ الأشواك والعقبات التي تساقط أمامها أفراد ركبه واحداً تلو الأخر حتّى مايبقى إلاّ روح الشعر المفعمة بالأسى تبكي أطلال الركب فيحاورها الشاعر بحوار تلقي عليه العاطفة الحزينة ظلالاً متسربلة بالتشاؤم، فيرى كلّ نفيس وثمين في حياته يعود لسراب وخواء، فلا مرشد له في رحلته إلى طريق النور إلاّ نفسه التي يلوذ إليها يستحثّها أن تستنهض عرائس الشعر لتصل به إلى الأمل المنشود، فيقول:
يا نَفسُ رِفقاً ومَهْلاً ... فأنتِ ظعْنِي ورَحْلِي
طرْحْتُ كلَّ رِحالِي ... إلاّك مازِلْتِ حِملِي
تعلِّلِي بِسُكُوتٍ ... وعلَّليني بجَهلِي
فاصمِتْ وسِرْ في السِّكونِ ... على طَريق الجُنونِ
لعلّهُ بعدَ حينٍ ... يَبدُو لنا وَجهُ ربّي(1)
إذن فما ذلك المكان الذي يبدو للشاعر فيه وجه ربّه؟ إنّه- ولا شكّ- ذلك النور الذي تُشعّ به نار إرم، تلك النار التي اتقدت في روح الشاعر، فصهرت ما فيها من أوهام الحيرة والشكّ، فهي سبيل الخلاص والمعرفة، فيقول:
تِلكَ نَارُ الخُلودْ
ضَلَّ عَنها الأَنامْ ... واستَحبُوا الظَّلامْ(2)
والسؤال الذي يُطرح هنا ما سبب اختيار الشاعر للنار رمزاً لشعلة المعرفة؟ ويذكّر هذا السؤال بقول لديمقراطيس ((إنّ الكون من عناصر أربعة: التراب والماء عنصران وضيعان، والهواء والنار عنصران شريفان))(3).
__________
(1) المصدر نفسه، ص: 194- 195.
(2) المصدر نفسه، ص: 195.
(3) عساف، ساسين، الصورة الشعرية ونماذجها في إبداع أبي نواس، بيروت، ط1، 1988، ص22.(1/77)
فللنار فضل على التراب، لأنّ الجسد مصيره إلى تراب أمّا الروح فتبقى حرّة كما هي حال النار توحي بالحيوية و((تعطي الانطباع بالقوِّة والطاقة والرشاقة والإشراق... وحين نستخدم النار رمزاً نصف التجربة الداخليّة المتميّزة بالعناصر نفسها التي نلاحظها في تجربة النار الحسية))(1) لهذا وصف نسيب عريضة نار إرم بأنها نار الخلود لأنّها شعلة الروح التي تمنحه قوّة وحيويّة ونشاطاً وإشراقاً يخلّصه من القلق والحيرة ويلازمه في حياته إلى أن تنطفئ جذوة هذه الروح في صدره ويصير تراباً، يقول:
إِيهِ ضَوئِي البَعيدْ ... لُحْ ولُحْ ما تُريدْ
لَيسَ طَرفِي يَحيدْ ... عَنكَ حتْى يَعُودْ
لتُرابٍ ودُود(2)
وقد دفعت الحيرة والشك أنيس المقدسي إلى الاندياح عميقاً في أغوار نفسه يجلو الصدأ المتراكم عن ذيّاك النور الذي حجبته غشاوة الحياة الماديّة، فألقت به في دياجير الوهم والشك والقلق.
ينظر الشاعر في الكون نظرة الباحث القلق المضطرب لعلّه يهتدي إلى شيء من نور الحقيقة فيكرر المطلع اللاهج بنبرة الاستجداء والبحث، فيقول:
أعيريني الضّياءَ مِنْ النّجُومِ ... مُكوَّنَةَ العَوالِمِ مِنْ سَديمِ(3)
ويقوده التساؤل إلى الحيرة التي ساقت عريضة قبله للارتحال، ولكن ثمّة أسئلة تطرح نفسها عن أسرار الكون وما فيه من خلائق وموجودات فيقول:
مَنِ الإِنسانُ ما هَذي البَرايَا ... ومَا في الكَونِ مِنْ سِرِّ بَهيمِ
ومَاذا في السَّماءِ وفي الدَّرارِي ... فهلْ فِيهنَّ مِنْ عَقلٍ عَليمِ(4)
ويستعين الشاعر بعقله وقلبه للاهتداء إلى حقيقة الحياة فلا يسعفانه فيما يروم فيرتدي التشاؤم وشاحاً يغلّف رؤيته لهذا الوجود، فيقول:
__________
(1) فروم، أريك، اللغة المنسية، تر: محمود الهاشمي، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1991، ط1، ص: 42.
(2) المصدر نفسه، ص: 197.
(3) المقدسي، أنيس، المعري يبصر، مجلة المورد الصافي، ص: 335.
(4) المصدر نفسه، ص:339.(1/78)
وكَمْ بيني وبينَ الحقِّ سُترٌ ... تَكَشّفُ عن ملايين الستورِ
سأحيا ما حَييتُ ولَيس نورٌ ... لعينِ العقلِ في العُمرِ القصير
ومَا للقَلبِ من أملٍ فيرجو ... ولا فجرٌ لذا اللّيل العَميمِ(1)
وفي هذه اللحظات من الضياع يجد الشاعر أنّه لا مناصّ من الرحيل عميقاً في أغوار النفس ليلتقي صديقاً قديماً كانت الأوهام والشكوك قد نهشت قلبه، وخلّدت معاناته من خلال فلسفة رسمت ملامح حياته حتّى اشتهر بها إنّه رهين المحبسين وفيلسوف المعرة أبو العلاء المعرّي. ولكنّه يلوح للشاعر أطلال شبح عرض لعابري طريق البحث والخلاص مبدياً أسفه عمّا أمضاه من عمره في وهم وسراب وشكوك لذا نذر نفسه هادياً يرشد كلّ من ضلّ السبيل.
عندها يتابع الشاعر سيره إلى حيث النور يتلألأ في الأعالي وينجلي ظلام الوهم والشكّ الذي أخرج الشاعر إلى دنيا الخيال، فيقول:
فَيا نُوراً تَلألأ في الأَعَالِي ... بَعيداً عن يَقينِ ذَوي اليّقينِ
إليكَ أتيْتُ في ظُلُماتِ نَفسِي ... لِتَهدِينِي إلى الحَقِّ المُبينِ
لَعلّي بالِغٌ بكَ في حياتي ... مَقاماً ليسَ يُبلَغُ بالعُلومِ(2)
إذن فقد كانت الحيرة والقلق دوافع مشتركة دفعت ببعض شعراء الرحلات الخياليّة إلى الرحيل بعيداً عن واقعهم في محاولة البحث عن الخلاص ممّا أحاط بهم من واقع متردّ وهموم حملتها النفوس، وقد تمايزت الحلول، فنسيب عريضة وجد الخلاص في المعرفة والكشف الروحي، في حين وجدها أنيس المقدسي في تطهير النفس واستخلاص جوهرها السامي المتمثّل في الحبّ سبيلاً للسعادة البشرية المنشودة.
***
* الخوف والرهبة:
__________
(1) المصدر نفسه، ص:330.
(2) المصدر نفسه، ص: 335.(1/79)
كثيرة هي المشكلات التي تواجه الإنسان فتحاصره، ويحاول جاهداً الخلاص منها والسيطرة عليها، ولعلّ الموت أخطر هذه المشكلات، فهو السيف المسلّط على عنقه لا يستطيع الفكاك منه، لذا سرعان ما صنع الإنسان لنفسه أساطير غامر فيها باقتحام العالم السفلي ليواجه الموت والصمت والوحشة والاهتراء واليباب والعفونة كما فعلت الربّة ((إنانا)) في الأسطورة السومريّة و((عشتار)) في الأسطورة الآكاديّة وجلجامش وأوزريوس وأوديسيوس وإينياس...
وقد أرّق هذا الخوف من الموت الشاعر محمد عبد المعطي الهمشري فأقضّ مضجعه، ولذلك أحبّ الحياة وتشبّث بها، وهو في رحلته الخيالية يبعث صورة الحياة في أرجاء عالم الموت، تارة بصورة النور وأخرى بموسيقا الألحان وثالثة بصورة الثلوج، وكأنّه يريد أن يؤكّد لنفسه أنّه يرى الحياة ويسمعها ويحسّ بها، ويحاول الشاعر بالحبّ وسيلة أن يبدّد مخاوفه من الموت الذي ملأ قلبه رهبة وخوفاً حتّى يستغيث بالحبّ قائلاً:
أَيُّها الحُبُّ أَنْتَ للمَوتِ مَوتٌ ... ذُو غِلابٍ عَلى البِلى مُستَخِفُّ
أنتَ صِنو الحَياةِ وَارِثِةِ المو ... تِ ونُورٌ على الإِلهِ يَرفُّ(1)
__________
(1) شرف، عبد العزيز، الهمشري شاعر أبولو، ص: 120.(1/80)
إذاً فالقصيدة ((تجسّم لنا شعور الرغبة في الحياة والخوف من المجهول وهو شعور قديم حاول الإنسان منذ القديم أن يعبّر عنه فوضع من أجل ذلك الأساطير المختلفة))(1) وهذا ما عبّر عنه فرويد باسم غريزة الجنس في مواجهة الموت، ولهذا خرج الهمشري مرتحلاً على جناح الخيال ليصنع لنفسه عالماً خاصّاً بالموت يطهّر من خلاله نفسه ويتجاوز بوساطته محنته ومعاناته ومخاوفه. وقد تفنّن الشاعر في رسم صور كثيرة للموت تمثّلت مرّة في سفن الموت التي تحمل بقايا الأرواح إلى الشطّ وصورة قيثار الموت وقبر الليالي وبحر الوقت ليصل بهذه الصور إلى ذروة المعاناة، فيصيح بلهفة المفجوع:
رَبِّ أينَ المَفرُّ منها، وهَذا ... شَبَحُ المَوتِ قَدْ أطَالَ حِرانَهْ
هِي هذِي السَّفينُ تمضِي عِجَالاً ... مُسرعَاتٍ تَجري عَلى التّيَّارِ
تتلاشى في بعْضِها ثُمَّ تَحيَا ... لتُعيدَ التّمثيلَ في الأَعمَارِ
وَا لِهذا الفَناءِ!.. وَالهِواهُ ... وَا لِهذا القَضاءِ والأَقدارِ(2)
لقد مثّل الهمشري في رحلته الأسطوريّة تلك نمطاً مكرّراً للإنسان الذي دفعه لا وعيه الجمعي في هذه الرحلة ليجدّد فعل أسلافه الأسطوريين أمثال أوزوريس ابن الشمس وجلجامش وعشتار وإنانا وأوديسيوس وإينياس في البحث عن وسيلة لتطهير النفس من مخاوف الموت ورهبته.
***
* القهر الاجتماعي:
لعلّ عقدة أخرى لا تقلّ عن عقدة الموت هي الشعور بالقهر الاجتماعي الذي يمثّله قول طرفة بن العبد في معلقته:
وَظُلمُ ذَوي القُربى أشدُّ مَضاضةً ... على المرء من وَقع الحُسام المُهنَّدِ(3)
__________
(1) إسماعيل، عز الدين، الشعر العربي المعاصر، دار الكاتب العربي، القاهرة، 1967، ص: 237.
(2) المصدر نفسه، ص: 139.
(3) التبريزي، الخطيب، شرح القصائد العشر، تقديم عبد السلام الحوفي، دار الكتب العلمية، ط1، 1987،
ص: 115.(1/81)
ومحمد الفراتي شاعر عانى كثيراً في حياته من انتقاص الناس لقدره ومكانته، ولا سيما في بلده، فلم يحظ بكبير الاهتمام من الأوساط الأدبيّة، والاجتماعيّة الأمر الذي دفعه لاعتزال الناس قرابة ربع قرن، وقد كتب الفراتي ((الكوميديا السماوية)) في هذه الفترة، وربّما أراد منها أن يعوّض نفسه عمّا هضم الناس من حقّها، وأراد أن يبرز قدرته في قرض الشعر ومجاراة الأغراض الجديدة والمعاني المستحدثة، وقد تجلّى هذا الإحساس في قصيدته ((في حانة إبليس)) وفي قصيدته ((غرور الشباب)).
إنّ ما يسيطر على حسّ الفراتي في قصيدته ((في حانة إبليس)) هو محاولته بشكل خفر تارة، وبصورة واضحة تارة أخرى، إثبات علو كعبه في الشعر لا سيما أنه قد حاز صولجان الشعر من شيخ شياطين الشعر إبليس، فيقول:
أتدرِي فِيمَ جِئنا بِـ ... ـكَ في ذَا اللّيلِ مِن أهلِكْ
فعندِي مِنحةٌ مَخبو ... ءَةٌ في الغَيبِ مِن أجلِكْ
فَذا الطّاووُسُ قَد يُعطى ... لمزهُوّين بالفَنِّ
فَدونَكَ صَولجَانُ الشّعـ ... ـرِ خُذْهُ وِهبةً مِنّي(1)
وتدور قصيدة ((غرور الشباب)) حول الغاية ذاتها، فمحاولة إثبات الجدارة على نظم الجميل من الشعر والتفوّق على الأقران لم تفارق القصيدة منذ أن برز للشاعر هاتفه المتخيّل بقوله:
وإذَا هَاتفٌ ورائِي يُنادِي ... ويْكَ دَعْنَا من هَذِهِ التُّرّهاتِ
لم تزَلْ من طِرازِ شِعرِكَ هذا ... في نُزوعٍ إلى القَديمِ العَاتِي(2)
لكنّ الشاعر يطرح على ذلك الهاتف من جديد شعره الجميل، لا سيما أنّه قد جدّد في رحلته الخياليّة هذه شبابه وروحه، صوراً خلابة ينتزع بها إعجاب الهاتف فيصفه الأخير بشاعر الخلد والروض الباسم، وبلبل الشعر في حدائق الفكرة. غير أنّ حسّ القهر يطارد الشاعر فلا يتخلّص منه لأنّه يستيقظ على نهاية الحلم وكأنّ شيئاً لم يتغيّر في طباع الناس التي لا تعجب إلاّ بالسخيف من الفنّ، فيقول:
__________
(1) الفراتي، محمد، النفحات، ص: 278.
(2) المصدر نفسه، ص: 302.(1/82)
فتنبّهتُ من رُقادِي وَقد طِرْ ... تُ لحُمقِي تَوّاً إلى مِرآتِي
فإذَا الشّيبُ لا يَزالُ بفودِي ... ثُمّ كالقَوسِ لا تَزالُ قناتِي
وإذَا بي -كَذلِكَ الطّيفِ- أحيا ... بينَ نَاسٍ تَهتزُّ للتُّرّهاتِ(1)
وهكذا بقي القهر الاجتماعي حافزاً لانطلاق الفراتي في رحلته بعيداً ليلجأ إلى عالم الأحلام تارة وإلى عالم الجنّ والشياطين تارة أخرى ويحدوه في ذلك أن يقول للناس: إنّني شاعر لا يشقّ له غبار وإن عشت بعيداً فإنّ انتقاص الناس من قدري لا يقلّل من شأني أبداً وقد حزت شاعريتي من أفحل شياطين الشعر إبليس.
***
* الثّورة والتّمرّد:
يظهر الدافع إلى الثورة في قصيدة العقّاد ((ترجمة شيطان)) فقد أراد الشاعر أن يحقّق التغيير المنشود لكنّ العقّاد لم يسفر عن تجربته بوضوح، فقد لجأ إلى الرمز متّخذاً من صورة الشيطان- بما عرف عنه من روح الثورة والتمرّد- يكشف بها عن كنه الروح الثائرة في أعماقه، ولكن على أيّ شيء تثور روح العقّاد؟ وما الذي دفعها إلى الثورة؟.
إنّها تثور على القيم الإنسانيّة التي عصفت برونقها رياح الحرب العالمية الأولى وجعلت بنيانها هشّاً في نفسه الشاعريّة، فكانت الحرب العالمية سبباً خفيّاً أولاً في تجربته ثم شخصيّة العقّاد وطابعها، ((فثمة مصدران هامّان وفاعلان يميّزان هذه الشخصيّة أوّلهما: التمرّد: وهو الانتصاف إلى الكيان الفردي، وكان ملمحاً من ملامح العقّاد في مواقفه ونظراته وأسلوب حياته، وهو يعتقد أنّه إذا لم يفعل ذلك، أي لم يتمرّد، فلن يكون نفسه بمعنى أنّه سيفقد ملامح وجهه وسيفقد إنسانيّته أو تقدّمه.... والثاني: الذاتية العارمة التي قد تصل به أحياناً إلى أن يجعل الأنا محكّاً للكون))(2).
__________
(1) المصدر نفسه، ص: 305.
(2) العشماوي، محمد زكي، أعلام الأدب واتجاهاتهم الفنية، دار المعرفة الجامعية، ط1، 1995، ص: 80.(1/83)
إذاً فالعقّاد سئم الحياة وواقع الإنسان فأراد له التغيير ولكنّه لم يستطع أن يواجه الواقع مباشرة فاتخذ من الشيطان وسيلة للتعبير عن آرائه، فيقول:
سَخرَ الشَّيطانُ مِن قِسمته ... ومن الأرضِ وما فَوقَ السَّماءْ
ومَضى يَهجِسُ في مِحنتِهِ ... ((ألِهذا تُستذَلُّ الكِبريَاءْ))(1)
كما يظهر النزق الثوري الذي يطبع نفسيّة العقّاد حين يجعل الشيطان يأنف من إغواء البشر لأنّه في عصر ما عاد يميّز فيه الخير من الشرّ فيقول:
أنِفَ الشَّيطانُ من فِتنتِهِ ... أُمَماً يأنَفُ من إهلاكِها
ورَأى الفَاجرَ من زُمرَتِهِ ... كعفيفِ الذّيل من نُسّاكِها(2)
ولا يبارح هذا النزق روح الشيطان الذي أنزلته الرحمة الإلهيّة مكاناً عند مصبّ السلسبيل في جنّة النعيم، لأنَ النزق طبع وجبلّة فيه، وفي اعتراض على قدر الله وفي سخرية يقف الشيطان متحدّياً ربّه، فيقول:
هكذَا مُلكُكَ يَاربَّ القَضاءْ ... دَوْلَةً تَحمي على الطَّرفِ النَّظرْ
حَظٌ مَن يَدنُو من السّترِ الشّقاءْ ... وسَعيدٌ مَن لَها عَمّا استَتَرْ
فَاغْنِ بالرَّاضِينَ عن أقدارِهَا ... إنّهم نِعمَ عِتادُ المَالِكينْ
واجعلِ الفِردَوسَ من أقطَارِهَا ... حينَ يَرضُونَ ومَا هُم ساخِطينْ(3)
وتقود روح الثورة الشيطان إلى رفض الخلود والجنّة، ويؤثر عليهما أن يكون حجراً صلداً كي لا يخضع أو يطيع، يقول:
أَنا لا تَخطُرُ لي في أَمَلي ... لا تَكُنْ تَوبَةُ نَفْسي أَمَلكْ
وادْعُ في خَلقِكَ يَسجُدْ مَن رَجا ... خُلدَكَ الأَعلى فَما نَحنُ سُجودْ
لنكونَنَّ إِذا صَحَّ الحجَا ... حَجَراً صَلْداً ولا هَذا الوُجودْ(4)
*
وقد دفعت روح الثورة الشاعر محمد حسن فقّي ليتحدّى قدره بكلّ ما لديه من عنجهيّة وكبرياء وتحدٍّ، حتّى إنّه لا يأبه بجحيم ولا تغني عن نفسه جنّة وحور عين، ليقول في مطلع قصيدته:
__________
(1) العقاد، عباس محمود، الديوان، ص: 276.
(2) المصدر نفسه، ص: 277.
(3) المصدر نفسه، ص: 283.
(4) المصدر نفسه، ص: 286.(1/84)
اسبقِينِي إلى الجَحيمِ فإِنّي ... سَأوافِيكِ في غَدِي للجَحيمِ
واطلُبِي مِنْ سُراتِهِ أَنْ يكونُوا ... عندَ أبوابِهِ قُبيلَ قُدومِي
أخْبريهمْ أنَّ الزّعيمَ سَيأتِيـ ... ـكُمْ فهُبُوا إلى لقاءِ الزّعيمِ
قَد شَكَتْ ثُمَّ مِن مباذِلِهِ الأر ... ضُ فماذا عَنْ هَواهُ الذّميمِ
ثمّ قَالَ شَيطانُهُ وهْو يُطريـ ... ـهِ لأَنتَ الرَّجيمُ مَولى الرّجيمِ(1)
ثمّ تتحوّل هذه الروح الثوريّة إلى نقمة وتذمّر نحو النفس التي أغرت الشاعر وساقته إلى مهاوي الرذيلة ورسمت ملامح طريقه إلى الجحيم، فيقول:
إِيهِ لا تَغضَبِي فَما أنتِ إلاّ ... صَخرةٌ حَطَّمَتْ حَديدَ القُرومِ
حيّةٌ تَنفُثُ السُّمومَ ولكنّي ... م ... تجرَّعْتُ كلَّ هذي السُّمومِ
أَنَا لَولاكِ لَم أكُنْ عَارِمَ الصَّبـ ... ـوةِ أعْنُوا لخَمرتِي ونَديمي(2)
غير أنّ الفقي سرعان ما يخفّف من حدّة الثوريّة لتنتهي قصيدته نهاية تفقدها شيئاً من الجمالية التي اكتسبتها في بدايتها، وقد وجد الشاعر في العقيدة الإسلامية ما يحقّق توازنه النفسي- رغم محاولة إبليس إغواءه- على الاستمرار بتمرّده وثوريته.
وهكذا تبدو الرغبة العارمة في التغيير والتمرّد على نوازع النفس وأهوائها هي الدوافع التي حدت بالعقّاد والفقّي إلى الرحيل بعيداً عن الواقع وإن بدت الجرأة في الثورة أقوى عند الفقّي في بداية قصيدته ((جحيم النفس)) منها عند العقّاد، وقد تمايزت الرحلتان في التعويض النفسي إذا تجلّى لدى العقّاد في الفنّ رمزاً للفتنة والحياة في حين وجدها الفقّي في العقيدة الدينيّة والإيمان الخالص بالله.
__________
(1) فقي، محمد حسن، الديوان، مج1، ص222.
(2) المصدر نفسه، ص: 222- 223.(1/85)
هذه أبرز الدوافع الوجدانية التي دفعت بهؤلاء الشعراء للرحيل عن واقعهم الإنساني، متجاوزين ما فيه ومستخفّين بقيوده الماديّة ومشبّثين بعالم الروح إلى حيث تتحقّق طموحاتهم وأحلامهم، وقد صدر بعض هؤلاء الشعراء في تجربته عن رؤية ووعي بأدوات هذه الرؤية وبعضهم الآخر عبّر عنه لا شعوره فباح بمكنون النفس وشواغل الفكر، فكان أن طغت على سطح الوعي أحلام الحريّة، واضطرابات القلق والحيرة والتمزّق التي تكدّر صفو الحياة، وقد دفع القهر والخوف ببعضهم إلى اقتحام لجّة الموت وبثّ فيه روح الأمل لمواجهة هذا الإحساس، وقد جعل بعضهم الرحلة إشباعاً نفسيّاً يعوّض فيه نفسه عمّا تلاقيه من اضطهاد وقهر.
وهكذا غدت الرحلة الخياليّة وسيلة هرب للشاعر من واقعه الإنساني المضني وملاذاً يعوّض ما فاته في دنيا الناس يستطيع من خلاله البوح بما لا يمكنه البوح به في الواقع وتحقيق ما لا يمكن تحقيقه أيضاً.
***
ثانياً- الدوافع الاجتماعيّة والسياسيّة
* تصوير الواقع الاجتماعي المتردّي:
لم يكن شعراء الرحلة الخياليّة بمنأى عن قضايا عصرهم وواقعهم، بل عاشوا خضمّها فدفعتهم ظروفهم السياسيّة والاجتماعيّة إلى التحليق بعيداً، يرومون النجوم بيارق أويتخذون ظهور الشياطين مطايا وأجنحة الخيال مراكب، ليدلي كلّ واحدٍ بدلوه وأفكاره بعيداً عن عين الرقيب الاجتماعي التي تطاله، وتحول بينه وبين ما يتطلّع إلى تحقيقه.
*
لقد دفعت الحياة الماديّة في العصر الحديث شفيقاً لكي يعكس في مطوّلة ((عبقر)) صورة مجتمعه الذي يعيش فيه، ويجلو رموزه من خلال الأساطير. فما صورة عبقر المشوّهة إلاّ وصف للمجتمع الإنساني الذي تمثله النفس البشرية يقول عنها:
قُمْ فَتَرى كَيفَ شَياطِينُها ... تُطلُّ في عينيكَ مِن بَابِها
وكَيفَ مِن فيكَ ثَعابينُها ... تَنسلُّ مِن فَوهَةِ سِردَابِها(1)
__________
(1) معلوف، شفيق، عبقر، ص: 155- 156.(1/86)
وقد أخذت الصورة الساخرة في رسم ملامح عبقر تعبر عن واقع الإنسان وما يعيشه من تناقضات يقول عنها:
فَيا لأَبراجٍ ضِخام البِنَا ... مِلءَ الثَّرى مِلءَ السَّماواتِ
يَدرُجُ كالنَّملِ عَفارِيتُها ... مِن قَلبِ مَهواةٍ لِمَهواةِ
أَقزامُ جِنِّ في سُفوحِ الرُّبا ... جَيَّشَهُمْ طَاغيةٌ عَاتِ
إِنْ أَزمَعوا الزَّحفَ تَرَاهمْ عَلوا ... أغْربَ أَصنافِ المطيّاتِ
فَمِن يَرابعٍ ومِن أَنعُمٍ ... إلى دُيُوكٍ وعِظَاياتِ
مَراكبٌ للجِنِّ يَرمي بِها ... فُرسَانُها صَدرَ المَفازاتِ
مِن كلِّ قِزْمٍ لا يَمسُّ الثَّرى ... بِرجلِهِ الصُّغرَى المُدلاّةِ
نِشَابُهُ القُنفُذ مِزراقُهُ ... وتِرسُهُ قَحفُ السُّلحفاةِ(1)
ويعدّ أبناء إبليس في عبقر صورة مصغّرة لمفاسد المجتمع المادي الذي يعيش الشاعر واقعه، إذ هو واقع قائم على الحروب والقتل والتدمير والكذب والشهوة وحبّ المال والمفاسد القائمة على النفاق والمراءاة والتلوّن وغيرها من النقائص والمثالب التي دفعت الشاعر إلى كتابة ((عبقر)) وكلّ نقيصة أو مثلبة يمثّلها اسم لشيطان من أبناء إبليس وهم: ثبر، وداسم، وزلنبور، ومسوط وأعور.
*
وربّما دفع تصوير الواقع الاجتماعي الفراتي في قصيدته ((في حانة إبليس)) إلى رحلته الخياليّة بعيداً عن مجتمعه ليصوّر هذا المجتمع بكلّ ما فيه من قيم وأفكار وعادات، فهو مجتمع بسيط لا يزال يعيش أحاديث الخيال والجنّ والسعلاة التي غالباً ما ترويها الجدّات حول المدفأة في أيام الشتاء الباردة. إضافة إلى عرضه لبعض رواسب العادات الجاهليّة مثل البكاء على الميّت وإقامة المناحات، فيقول:
غَداً يفقِدُني أهلِي ... وتَبكِني غَداً أُمّي
وينعاني أَبِي المَحزو ... نُ في الصُّبحِ إلى عَمّي
غَداً تُبنَى إِذا مَا غِبْـ ... ـتُ في الدَّارِ مَناحاتٌ
غَداً تعلُو بِذاكَ البيـ ... ـتِ للنّسوَانِ صَيحاتٌ(2)
__________
(1) المصدر نفسه، ص:154.
(2) الفراتي، محمد، النفحات، ص: 269.(1/87)
وقد أراد الفراتي تصوير تخلف المجتمع الذي يعيش فيه فهو مجتمع تقوده فئات من الدجالين تحت أقنعة التقوى والورع والصوفيّة، يقول:
تقدَّمتُ إلى المِرآ ... ةِ كَي أَنفُضَ مَا فيها
فَما أَبْصرتُ صُوفياً ... ولا مَا يُشْبه الصّوفي
وألفيتُ سَراحينَ ... بأَهدامٍ من الصّوفِ(1)
كما أنّ الناس في صورة هذا المجتمع قد انحرفوا عن دينهم الصحيح إلى عادات ضارة كالإيمان بتأثير رجال الله الصالحين في مصائر الناس، يقول:
وقُلْ تِهتُ بِذَا القَفرِ ... وكَمْ قَد تَاهْ مَخبولُ
وقُلْ لولا رِجَالُ اللهِ ... م ... لاغتَالَتِنَي الغُولُ(2)
ويشير الفقّي من طرف خفي إلى فراره من الواقع لما فيه من زيف، فيقول على لسان البلبل:
وَقَالَ: إن كُنتَ تُريدُ الهُدى ... فَهاكَ مِنِ طَبعيَ بُرهَانَهُ
الزَّيفُ في الناَّسِ وأَمّا هُنا ... فالطّيرُ لا يخدعُ إخوانَه(3)
ويؤكّد هذا الدافع الذي أخرجه عن أرضه في حواره مع الملك الذي تعجّب من، قدرة بشر يعيش على بطاح الأرض المتخمة بالشرور الوصول إلى المقام السامي الذي وصله الشاعر، وهو بعد لم يتخلّص من قيود الجسد التي تشده إليها فيجيبه الشاعر بقوله:
سَواءٌ الأَرضُ وهَذِي السَّما ... إنْ لمَ يُنقَّ الرُّوحُ أَدْرَانَهُ(4)
وقد كتب القلعجي ((ملحمة القيامة)) ليصور أثر الواقع الاجتماعي المتردّي في الإنسان المعاصر بكلّ ما يحمله هذا الواقع المادي من نقائص وشرور تدفع بالإنسان قدماً إلى أجله المحتوم وصولاً إلى ساعة القيامة، ومن هذه النقائص والشرور بروز التناحر في العلاقات الاجتماعية وتضييع الأمانة وسيادة العُري والعهر والشهوات والحروب وغيرها، فيقول الشاعر:
عادَ الأشرارُ
خُصوماتٌ وحُروبٌ
وكما الحُمُرُ تَهارجُ
اهترَجَتْ أُممٌ وشُعوبُ
لمْ يَبقَ سوى الفُجّارِ
قبائلَ قابيلَ
__________
(1) المصدر نفسه، ص: 276.
(2) المصدر نفسه، ص: 279.
(3) ساسي، عبد السلام طاهر، شعراء الحجاز في العصر الحديث، ص: 51.
(4) المصدر نفسه، ص53.(1/88)
تدكُّ رُخَامَ التَّاريخِ(1)
*
ولم يكن إبراهيم الهوني ليخرج في رحلته الخيالية إلا لضيقه بحال أهل الأرض، فقد غدا المجتمع الذي يعيش فيه خليطاً عجيباً من النقائص والمفاسد ولا حريّة للشاعر في النصح، وحتّى إن أتيح له فلقد سئم، لقوله:
لَقَدْ مَلَّ مَن يُبدي النّصائحَ جاهِداً ... ومَلَّ الذي يَنهى ومَلَّ الذي يُملي
وقَدْ غَيرّوا مَا كُنتَ فيهِمْ عَرفتَهُ ... مِن الجودِ والإِخلاصِ والصِّدقِ والبّذلِ
ومَا جِئتُكمْ حَتّى كَرِهْت مَعَيشتي ... وشَاهدت كَيدَ الخلِّ في السّرِّ للخلِّ (2)
وهكذا كان تصوير الواقع المتخلّف وكشف زيفه ومفاسده الشغل الشاغل لشعراء الرحلات الخياليّة الذين أرادوا الهروب بعيداً عنه ولكن ما عساهم يفعلون وهم أبناؤه سوى أن يكشفوا عنه أقنعته عسى أن يجدوا الرقية التي تساعدهم على تخليصه ممّا هو فيه من مفاسد، وقد تباينت هذه الصور فجاءت صوره ساخرة هازئة عند شفيق معلوف تنّم عن حدّة المرارة والأسى في حين كانت أكثر واقعية عند الفراتي ولكن الفقّي كان أكثر تفاؤلاً في تصويره اللاواعي للمجتمع في حين أخذت الصورة بعداً مأسوياً لدى القلعجي الذي حمّل المجتمع وزر نهاية العالم وسوقه إلى مصير مظلم. وكان الهوني أشد كراهية ومقتاً من الشعراء السابقين لهذا الواقع الذي أضناه فخرج يلتمس في عالم الخيال الراحة والهناء بعيداً عنه.
***
* إدانة الاستعمار:
ولم ينس فوزي معلوف وهو يحلّق في أجواز الفضاء أنَّهُ طريد الاستعمار الذي لا يعني له إلاّ الشّر الذي جوّع شعبه ودفع به للرحيل إلى المهجر ليعاني هناك المشقّة والغربة والبؤس، وهو إذ يوجّه الإدانة للاستعمار يختار صورة إيحائية جعلها المستعمر وسيلة قتل وتدمير حتّى لا يطابق وضعها إلاّ كلمة ((شيطان)) فيقول على لسان الطير التي مثلّت المعادل الموضوعي للشاعر:
__________
(1) القلعجي، عبد الفتاح، ملحمة القيامة، ص: 15.
(2) الهوني، إبراهيم، الديوان، ص: 39.(1/89)
قالَ نَسْرٌ لآخَر: أَيُّ طيرٍ
هُو هَذا
ومَنْ رِفاقُهْ
إنْ يكُنْ قَادِماً إِلينا لخَيرٍ
فَلمِاذا
عَلاَ زُعَاقُهْ
يَا لَهُ طَائِراً بصُورَةِ شَيْطَا ... نٍ يَبثُّ اللَهيبَ بُركَانُ صَدْرِهْ(1)
وتطفو بعد ذلك على السطح في عفوية متناهية صورة ذلك المستعمر الجشع الذي يريد أن يستعمر العالم بأسره فما عادت الأرض تكفيه فحلّق يستعمر الفضاء يقول:
آدميٌّ هَذا أجَابَ أَخُوهُ ... جَاءَ يَستَعمِرُ الأَثِيرَ بِأَسْرِهْ
كُرةُ الأَرضِ عن مَطامِعِهِ ضَا ... قَتْ فحطّتْ هُنا مَطَامِحُ فِكرِهْ
نَحْنُ لَمْ نَهجُرِ البَسيطَةَ إِلاّ ... هَرَباً مِنه واجتِناباً لِشرِّهْ(2)
ثم يعانق الشاعر ألم الطيور المهاجرة عن الأرض ليؤكّد إدانته للاستعمار الذي نكّل به وآذاه وغدر به، وهو لم يفرّ عن أرضه إلاّ فراراً منه يقول:
زَارَكَ اليَومَ مُتعَباً يَنْشُدُ الرَّا ... حَةَ في هَدأَةِ السُّكونِ وَسِحرِهْ
فرَّ عن أَرضِهِ فِرارَك عَنها ... مِن أذى أَهلِها وتَنكِيلِ دَهْرِهْ(3)
*
وهكذا دفع الإحساس بالظلم والقهر الذي سبّبه الاستعمار شعراء الرحلة الخياليّة للابتعاد عن واقعهم المأسوي إلى عالم لا يشعرون فيه بالظلم والاضطهاد، بل إنهم يلتفتون من عالمهم المخملي هذا ليوجهوا إلى الاستعمار أصابع الاتهام ويحمّلوه وزر مآسيهم التي يكابدونها.
***
* النقد السياسي:
__________
(1) معلوف، فوزي، على بساط الريح، ص: 93.
(2) المصدر نفسه، ص: 94.
(3) المصدر نفسه، ص: 95.(1/90)
وقد دفعت الحياة السياسية الشاعر الزهاوي للرحيل بعيداً عن واقعه السياسي الذي يقسّم المجتمع إلى فئتين: حاكمة متسلطة غنيّة تتجمّع في يديها الأموال والخيرات، وأخرى فقيرة بائسة ليس لها من حظّ إلاّ الشقاء والألم والحسرة، وقد دفع بهاتين الفئتين إلى التصادم ليصل إلى دافعه الذي أخرجه عن دنيا الواقع إلى عالم الخيال لإضرام ثورة البؤساء، ويبرز الدافع بوضوح في الشعار الذي ردّده المعرّي مراراً أثناء قيام الثورة. فيقول:
المعرّي: غَصَبُوا حقّكُمْ فَيا قَوْم ثُوُروُا ... إِنَّ غَصبَ الحُقوقِ ظُلمٌ كَبيرُ
الجمهور: غَصَبوُا حقَّنَا ولمْ يُنصِفُونَا ... إِنَّما نَحْنُ للحقُوقِ نَثُورُ
المعرّي: لَكُمُ الأَكواخُ المشيدةُ بالنّا ... رِ وللبُلهِ في الجنانِ القُصورُ
الجمهور: غصَبُوا حقَّنا ولم ينصِفُونا ... إنَّما نحنُ للحقُوقِ نَثُورُ
المعرّي: إنّ خَضعتُمْ فما لكُمْ مِن نصيب ... في طِوال الدُّهورِ إلاّ السَّعيرُ(1)
وهكذا كانت الدوافع الاجتماعية سبباً غير مباشر لشعراء الرحلات الخياليّة في رحيلهم بعيداً عن واقعهم الاجتماعي ولكنّهم في خروجهم لم ينسوا أنّهم أبناؤه الذين يتوقون إلى صلاحه، وقد رسموا واقعه المتخلف مندّدين بمفاسده الخلقية كاشفين ما فيه من زيف، وربّما حمّل بعضهم الواقع الاجتماعي وزر الحياة البشرية وخرابها ووصولها إلى حتفها المؤكّد وصولاً إلى ساعة القيامة كما خرج بعض الشعراء للرحيل عن عالمهم ليشيروا بأصابع الاتهام إلى الاستعمار الذي أفسد البلاد والعباد فنسبوا إليه كلّ الشرور، ولقد امتازت هذه الدوافع بطابع رومانتيكي لم يستطع مواجهة السلبيات بروح واقعية ثوريّة فعّالة، فلجأ إلى الرحلة للتعويض عن عجزه في مواجهة الواقع.
ثالثاً- الدوافع الفنيّة والفكرية
* التجديد:
__________
(1) الزهاوي، جميل صدقي، الديون، ص:736.(1/91)
كانت الرغبة في مجاراة العلوم الحديثة وغيرها من مستّجدات العصر حافزاً لبعض شعراء الرحلات الخياليّة إلى كتابة هذه الرحلات.
فقد كتب رشيد أيوب قصيدته ((حلم في المريخ)) كمحاولة شعرية لطرق موضوعات جديدة كتلك التي أغنتها علوم الفضاء الحديثة عن إمكانية وجود حياة على كواكب أخرى، وعلى الأخص كوكب المريخ. فسار الشاعر في هذا التيار ولكنّه سير الشاعر الراغب في تجديد قوى الروح والنفس بإضافة اكتشافات جديدة، فيقول:
يَقُولون في المريخ قومٌ كَشكلِنَا ... أناسٌ لهم عقْلٌ يُناجِي كَعقلِنَا
فهلْ أَصلُهم نَوعُ التَّرابِ كأَصلِنَا ... وهَل يَجهلونَ الكَائِناتِ كَجهلِنَا
وَهَلْ يَعرِفُونَ الحقَّ أمْ هو ضَائِعُ(1)
عندئذ يستعين الشاعر بنفسه وينطلق في رحلته الخياليّة مولّداً صوراً مثاليّة لحياة متخيلة على هذا الكوكب.
وشاعر آخر كالفراتي دفعته رغبة عارمة في التجديد إلى الرحيل خياليّاً عبر عالم الحلم، لا سيما أنّه كان قد اعتزل الناس مدّة طويلة فأحسّ في عزلته الأدبيّة بفقدان رونق الشعر من قوافيه فما عادت هذه القوافي تهزّ القلوب كما تفعل أسطر السيّاب ونازك الملائكة والقروي وغيرهم، فليس أمام الشاعر إلاّ أن يلجأ إلى عالم الحلم الذي يفسح المجال للاشعور للتعبير عن الرغبات الكامنة تحت طبقة الوعي، وقد جدّد الشاعر في قصيدته ((غرور الشباب)) شبابه ونفض عن روحه أنّات الشيخوخة ومظاهر الموت التي ترتسم عليه، ولابدّ من تجديد القديم من نفحاته لذا يقول:
غيرَ أنّي مَازلتُ أَذكُرُ أنّي ... عِشتُ دَهراً كَشَاعِرٍ في الفُراتِ
شَاعِراً كُنْتُ مُعْجَباً بِقَديميِ ... لا أرى للجديدِ من حَسناتِ
عَصَفتْ نخوةُ الشّبابِ بِرأسِي ... فأطارتْ ما فيهِ من نَعَراتِ
فاطّرحتُ القَديمَ من شِعريَ الغـ ... م ... ـثِّ وحتَّى الغريبَ من ((نَفَحاتي))(2)
__________
(1) أيوب، رشيد، الأيوبيات، ص: 150.
(2) الفراتي، محمد، النفحات، ص: 301.(1/92)
وكذلك يحاول الشاعر أن يثبت شاعريته وعزمه على التجديد في الشعر في ردّه على الهاتف الذي كان يطارده في قوله:
لَمْ تَزلْ مِن طِرازِ شِعركَ هَذا ... في نُزوعٍ إلى القَديمِ العَاتِي(1)
وليس الهاتف الخيالي في النهاية إلاّ تلك الرغبة الخفيّة بالتجديد التي حاصرت الفراتي في عزلته الأدبيّة والاجتماعية، فيحاول الشاعر إرضاء هذه الرغبة من نبع شعره الفيّاض إلى أن يحوز رضاها واعترافها له بأنّه شاعر الخلود، فيقول:
وإِذا الهَاتِفُ الأَديبُ يُنادي ... إِيهِ مرحَىَ لهذِه الآياتِ
أَنتَ في الحَقِّ شَاعِرٌ عَبْقري ... لا تُجارَى وشَاعِرُ المُعْجِزاتِ
شِاعِرُ الحُبِّ والجَمالِ لعَمرِي ... شَاعِرُ الفّنِّ شَاعِرُ النّفَثَاتِ
شاعِرٌ للخُلودِ أَنتَ وللخُلْـ ... ـدِ أَغَانِي الفِتيانِ والفَتَياتِ(2)
إذن فغاية الشاعر الرغبة في التجديد وإبراز علو كعبه في فنّ الشعر والقريض، ولعلّ الرحلة الخياليّة كظاهرة أدبيّة هي شكل من أشكال التجديد في الشعر العربي المعاصر تحاول إلباسه ثوباً جديداً يرفع شأنه بين الفنون الإنسانيّة.
***
* محاكاة القدماء وإحياء التراث:
لم تخل بعض الرحلات الخياليّة من دوافع التقليدية والسير على نهج الأدباء القدماء سواء أكان الشاعر صرّح بهذا الدافع أم تجلّى بخفر في رحلته.
ولا تخلو ملحمة القيامة من هذا الدافع الذي يمكن أن يتجلّى خفراً في رغبة عبد الفتّاح القلعجي في نظم ملحمة شعريّة على نمط رسالة الغفران ليعرض فيها موقفه من الحياة والموت والحقّ والباطل والفساد والفضيلة والخير والشرّ، ولكن من وجهة دينيّة قوامها الرؤية الإسلاميّة الصحيحة.
ويعدّ بعث التراث العربي القديم طموحاً كبيراً سعى إليه كثير من الشعراء في مطلع هذا القرن.
__________
(1) المصدر نفسه، ص: 304.
(2) المصدر نفسه، ص: 305.(1/93)
ولعلّ شاعراً كشفيق معلوف قد جعل هذا الغرض أهم الحوافز التي دفعته إلى نظم مطوّلة عبقر، وذلك ليعيد فيها جمع تراث العرب الأسطوري في عمل أدبي يمنحه الحيويّة والنشاط وينفض عنه ركام الزمن الغابر فقال في مقدمة المطوّلة: ((فأساطيرنا العربيّة لم يصلنا منها غير القليل، وهو على قلّته مشوّه مبتور لكنّه لم يخل من مغاز غامضة، وجب علينا سبر أعماقها وإرجاعها إلى أصولها وشرح رموزها وهذا ما عملنا في شعر عبقر فالأساطير التي لا ترمز إلى فكرة خلقنا لها الفكرة التي نخالها صالحة لها، وما كان منها ذا رمز جلونا رموزه وتبسّطنا فيه تصوير مراميه...))(1).
فهذا النصّ يؤكّد رغبة شفيق معلوف في إحياء أساطير العرب وبعثها تراثاً حيًاً يمكن أن يحمل الفكرة والفائدة للمتلقّي.
وربّما تأخذ هذه الرغبة صورة أخرى يمكن فهمها من خلال دراسة الرحلة الخياليّة بشكل رمزي يربط بين الرحلة الخياليّة ونموذجها النمطي في الأساطير.
لتظهر الرحلة كأنّها تكرار ومحاكاة لأسطورة وطنيّة قديمة والشاعر صورة لذلك البطل الأسطوري.
فرحلة الهمشري على شاطئ الأعراف هي محاكاة للأسطورة المصرية التي تتحدّث عن رحلة ابن الشمس أوزوريس الذي يمثّل الحركة الدائبة للشروق والغروب في الشمس والحياة. وتقابلها في رحلة الهمشري فكرة ارتقاء الروح تدريجيّاً في مراحل الرحلة وفي ذلك يقول هلال: ((تقوم فكرة على شاطئ الأعراف على ارتقاء الروح تدريجياً وهذا ما تمثّله الأسطورة كفكرة محسوسة وهو تاريخ الشمس، فرع وآمون نهاراً وأوزوريس ليلاً))(2).
__________
(1) معلوف، شفيق، عبقر، ص: 10- 11.
(2) هلال، محمد غنيمي، الأدب المقارن، ص: 376.(1/94)
وهكذا بدت الدوافع الفنيّة والفكريّة رافداً أسهم في شحذ همم شعراء الرحلة الخياليّة للرحيل بعيداً عن عالمهم وصولاً إلى تحقيق ما تصبو إليه نفوسهم من رغبة التجديد في الشعر العربي المعاصر، وإحياء التراث العربي القديم وجعله مادة إنسانيّة فعّالة تعيد وضع العرب في مقدّمة ركب الحضارة الإنسانيّة كقوّة مؤثّرة في الثقافة لا متأثرة فحسب، وربّما أسهم اللاوعي الجمعي في دفع بعض الشعراء إلى تكرار الفعل النمطي الأسطوري لأسلافهم القدماء فأعيدت الأسطورة القديمة ولكن في ثوب جديد واسم جديد بعد أن صارت الفكرة المحسوسة رمزاً شفّافاً.
لقد تهيأت لشعراء الرحلات الخيالية دوافع مباشرة وأخرى غير مباشرة حدت بهم إلى الرحيل بعيداً عن عالمهم، فكانت الدوافع النفسيّة وفيها طغت أحلام الحريّة والرغبة في الخلاص من قيود الواقع الراسف في أوضار الماديّة، ودوافع الحيرة والشكّ والرهبة والخوف والتمرّد والثورة التي تدعو إلى التغيير كمعادل جديد يعيد للشاعر توازنه النفسي الذي فقده في ظلال الواقع الإنساني المتردي.
ثم كان للمجتمع دوره الخفي العظيم في حثّ هؤلاء الشعراء على التحليق بعيداً عن مهاويه ومفاسده وشروره ولكنّهم التفتوا إليه مشيرين بأصابع الاتهام إلى من كان وراء مصائبه وارتكاساته وإحباطاته كالاستعمار والفساد. التفتوا إليه يحدوهم الأمل في إحياء روح النضال الوطني والسياسي في نفوس أبنائه. ولا يخفى ما للدوافع الفنيّة والفكريّة من أثر في هذه الرحلات للتجديد في بناء الشعر العربي والإسهام في مشروع النهضة العربية الفكري والثقافي وإحياء تراثها القديم.
(((
الفصل الثالث
المصادر الثقافية للرحلات الخيالية
أوّلاً ... : الثقافة الأسطورية
ثانياً ... : الثقافة الدينية
ثالثاً ... : الثقافة الفلسفية
رابعاً ... : الثقافة العلمية
خامساً ... : الثقافة الأدبية
((
المصادر الثقافية للرحلات الخيالية
أولاً- الثقافة الأسطورية:(1/95)
لم تكن الرحلة الخياليّة لتنبغ في مخيّلة شاعرها من فراغ، وإنّما استندت إلى مادة ثقافية يحصل عليها الأديب غالباً من قراءاته المتنوّعة، بحيث يلوّن الرحلة بلون خاص يعكس سماته المميزة عن غيره.
* التأثر بالأساطير العربية القديمة:
وقد أسهمت الأسطورة في بناء بعض الرحلات الخياليّة من خلال استخدامها موضوعاً أساسياً ومادة ثقافية رئيسية في الرحلة الخياليّة وتأتي مطوّلة ((عبقر)) في مقدمة الرحلات الخياليّة، حيث إنّ شفيق معلوف كان -على الأرجح- أوّل من دعا إلى استخدام الأسطورة في الشعر العربي الحديث. وكانت مقدمة الديوان -وهي بقلم والد الشاعر: عيسى إسكندر معلوف- في طليعة الدراسات العربية في هذا المجال.
((وقد تجلّت في عبقر كلّ سمات الأسطورة الأصلية وخصائصها، فهي قبل كلّ شيء عمل خيالي موغل في التصورات والأوهام، بعيد عن الحقيقة والواقع))(1) ومن الأساطير التي أغنت المطوّلة: أسطورة ((شيطان الشعر)) وهو الذي يوحي للشاعر سحر القول ويحمله فوق جناحيه إلى عالم الأحلام والرؤى، وأسطورة ((وادي عبقر)) الذي حمل اسم المطوّلة: وهو وادٍ للجنّ تأوي إليه الأحلام والرؤى، وينسب إليه كلّ جميل ودقيق. و((سرحوب الأعمى)) وهو شيخ ضرير يشقّ نهر الغيّ بعصاه، ويبصر في الظلام ما لا تبصره أعين البصراء، و((أبناء إبليس)) رموز الشرّ والخراب، و((الهوجل والهوبر)) شيطاناً الشعر الصالح والطالح، و((هراء)) الذي يوحي الأحلام المزعجة، و((كاهنا عبقر)) شقّ وسطيح، و((العنقاء وفرخاها)) وما يتعلق بهما من موت وبعث بعد التحوّل إلى رماد.... وغيرها من الأساطير، والشاعر لا يثقل الأسطورة بالرمز، إنّما يستخدمها بعفوية، فتجيء واضحة شفّافة، ومن ذلك استخدامه الفينيق، ليعبر من خلاله عن معنى الفداء والتضحية والانبعاث، ويجيء تعبيره واضحاً، وفيه يقول:
__________
(1) دقاق، عمر، شعراء العصبة الأندلسية في المهجر، ص: 442.(1/96)
وفَرخُ عنقاءٍ عَميدُ العُلَى ... فِينيقٌ كَمْ جرَّرَ ذَيلَ الفَخارْ
مُكوّماً مِحرقةً شَادَها ... إِكليلَ غارٍ فوقَ إِكليلِ غارْ
طيّنَها بالطّيبِ واحتلَّها ... فعبَّقَ النّدُّ بِها والبَهارْ
حَتَّى إذا عَرّضها للضّحَى ... شَبَّتْ بها من جَذوةِ الشَّمسِ نَارْ
فأَحرقتْهُ نارُهُ وانطَوَتْ ... أمجادُهُ في حَفنةٍ مِن غُبارْ
كأَنَّ مَن لَم يلتَهِمْ نَفسَهُ ... بنفسِهِ كانَ على المَجدِ عَارْ
تململَ الرَّمادُ واعصَوصَفَتْ ... زعَازِعُ الذّكرَى عَليهِ فَثارْ
زَعازِعٌ بعدَ انقضاءِ المَدَى ... أَطَرْنَ مِن قَلبِ الرّمادِ الشَّرارْ
نَشرنَهُ غِلالَةً من لَظَى ... لبِسَها الفَينيقُ ريشاً وطَارْ(1)
وإرم مدينة بناها عاد بن شداد واختفت بطريقة غامضة فنسجت حولها أساطير كثيرة، وقد أخبر عنها القرآن بأنّها لا مثيل لها بين البلاد بقوله تعالى: (ألمْ ترَ كيفَ فعلَ رَبُّكَ بعاد، إرمَ ذاتِ العمادِ التي لمْ يخلُقْ مثلُهَا في البلادِ)(2) وقد جعل منها الشاعر نسيب عريضة رمزاً صوفياً ووسيلة كشف روحي توصله إلى منبع الإشراق الحقيقي، وهي شعلة المعرفة التي يقول عنها:
تِلكَ نَارُ العَلَمْ ... أُوقِدتْ في إِرمْ
قبلَ عَهدِ القِدَمْ ... مَالها مِن خُمودْ
أو تَزولُ العُهودْ
نَحوَ ذاكَ الوَميضْ ... سِرْ بنَا نَستعِيضْ
عَن ظَلامِ الحَضيضْ ... وشَقاءِ الوُجُودْ
بِسناءِ الوُعُودْ(3)
* التأثر بالأساطير الشرقية القديمة:
__________
(1) معلوف، شفيق، عبقر، ص: 267- 268.
(2) سورة الفجر، الآية، 6
(3) عريضة، نسيب، الأرواح الحائرة، ص: 196- 197.(1/97)
وقد أغنت الأساطير الشرقية القديمة الرحلات الخياليّة، سواء أتأثّر بها الشعراء بطريقة مباشرة أم غير مباشرة، فرحلة الهمشري ((على شاطئ الأعراف)) تأثّرت في روحها وسيرورتها الفنية بأسطورة أوزوريس في رحلة الصعود، فالأسطورة تروي حركة (رع) إله الشمس في النهار، وتبدأ رحلته عندما يطرق باب الحياة خارجاً من جوف أمّه (نوت) ليصعد بكلّ عظمة وأبهّة وفخار إلى صفحة السماء ليقله زورق خفيف وينازل الشرّ ويطرد الظلمات وفي هذا كلّه تقف إيزيس إلى جانبه، وفي السماء يكون أوزوريس الذي يحيي الليل ويمخر دياجيه بزورقه السماوي حتّى منتصف الليل بعد أن تهاجمه الشياطين ويزداد انزعاجاً إلى أن يأخذ في سيره الحثيث، فإذا أسفر الصبح عاد بانتصاره وجلاله في صورة رع(1). وإذا كانت إيزيس قد وقفت في ولاء إلى جانب أوزوريس فإنّ ربّة الشعر وقفت بكلّ إخلاص وحبّ مع الشاعر في رحلته التي صاغها وهو يسبح في فلك الأسطورة القديمة بعد أن حمّلها روح التجربة الشعرية التي حملت نوازعه الاجتماعية والنفسية ومثّلته مطوّلة ((على شاطئ الأعراف)).
ويبقى الانزياح الدلالي في بنية الأسطورة هو الذي يمنح تجربة الهمشري خصوصيتها التي تميّزها عن الأسطورة الأم. فإذا كانت الأسطورة تقضي صراع أوزوريس مع الشياطين وسقوطه في هاوية الظلام ليعود مرّة أخرى في صورة رع إله الشمس فإنّ ((على شاطئ الأعراف)) تخلق الحياة وتجدّد الروح الإنسانية القادرة على مواجهة الشرّ والقهر والاستمرار في النضال ضد الاستعمار حتّى تحقيق الحريّة والاستقلال، ولتنتصر في النهاية غريزة الحبّ والحياة على حسّ الموت والفناء، فيقول:
أَيُّها الحبُّ أنتَ للموتِ موتٌ ... ذو غِلابٍ على البِلى مُسْتخفُّ
أنتَ صُنوُ الحياةِ وارِثةِ المو ... تِ ونورٌ على الإلهِ يرفُّ
__________
(1) ينظر: هلال، محمد غنيمي، الأدب المقارن، ص: 376.(1/98)
سوفَ تبقى بعدَ الفناءِ سَبُوحاُ ... في فضاءٍ من الأثيرِ يشفُّ(1)
وهكذا استطاع شعراء الرحلات الخياليّة أن يستفيدوا من تراثهم الأسطوري العربي خاصّة والشرقي عامة، وتوظيف هذا التراث في التجربة الشعرية، كما استطاع بعضهم اختراق الأنماط الأسطورية وخلق تجارب شعرية تحمل في ملامحها بعض سمات الفردي والجمعي.
***
ثانياً- الثقافة الدينية:
أثرت المعطيات الدينية الرحلات الخياليّة بالرؤى والأفكار التي حملت جزءاً من المعاناة الإنسانية التي تلونّت بالسمة الدينية، ولا سيما، فيما يرتبط بمواقف الشعراء من الموت والحياة والخير والشرّ والقيامة والبرزخ.
وقد تعدّدت صور تأثّر الشعراء بالدين بدءاً من القرآن الكريم إلى الحديث النبوي الشريف إلى الفلسفة الإسلامية.
* التأثر بالقرآن الكريم:
فالشاعر عبد الفتاح القلعجي اقتبس كثيراً من الآيات القرآنية وبثّها في ثنايا رحلته الخياليّة ((ملحمة القيامة)) وقد استطاعت الآيات القرآنية أن تحمل في موقعها من النصوص الشعرية روح الشعر الوثّابة إضافة إلى مدلولها القرآني المعجز في الأصل، وبهذا المزج بين الأداءين القرآني والشعري تتشكّل صورة شعرية جديدة تختصر الزمان والمكان ممّا ((يؤدّي- بالضرورة- إلى تكثيف التجربة الفنية والتعبير بدقّة لغوية مركّزة عمّا كان الشاعر مضطراً إلى شرحه والإسهاب فيه))(2).
يقول الشاعر:
... عادَ إلى رَحِمِ الصّلصَالِ
على الشَّاطِئ هَمسةُ رُوحٍ في جَسدِ خَليَهْ
... ((هل أتى على الإنسانِ حينٌ من الدَّهر
... لمْ يكُنْ شَيئاً مَذكوراً))
قَالتْ غَبرةُ إِنسانٍ
... ((أ إنِنّا لمبعوثُونْ))؟
... ((أَ وآباؤُنا الأَوَلونْ))
سَأَلتْ ذَرّةُ عَظمٍ نَخِرهْ
... ((مَنْ يحيي العِظامَ وَهْي رَمِيمْ)).(3)
__________
(1) شرف، عبد العزيز، الهمشري شاعر أبولو، ص: 120
(2) عيد، رجاء، لغة الشعر أبولو، ص: 120.
(3) القلعجي، عبد الفتاح، ملحمة القيامة، ص: 27.(1/99)
ولم يكن التأثّر بالقرآن الكريم باقتباس الآيات فحسب وإنّما أفاد الشعراء من قصص القرآن الكريم وتصويره للجنّة والنار والأعراف والمحشر، ولو نظرنا إلى بعض الرحلات الخياليّة لرأينا الفراتي يسوق في ((الكوميديا السماوية)) حديثاً طويلاً في ردّه على رفائيل الذي استفسر عن حياة أهل الأرض، فيسرد عليه الشاعر تاريخ الأديان البشرية مكثّفاً، فيبدأ معه بقصة خلق آدم عليه السلام، ونشوء العداوة الفطرية بين آدم وإبليس وقصة ابني آدم اللذين اقتتلا، ثمّ إرسال الله الأنبياء واحداً تلو الآخر:
فيقول:
وأُمُّهمُو حَوَّاءُ أَغْوَتهُ بالّتي ... نَهى اللهُ أنْ يَجنِي جَنَاها ويَطْعَمُ
فَقَال: اهبِطا منها وكانَتْ وزَوجُها ... بِجنّاتِ عَدنٍ قَبلَ ذَا تَتَنعّمُ
أزَلَّهُما الشَّيطَانُ عَنها فَعُوقِبا ... بِمَا نَحنُ مِنهُ الدَّهرَ نَشقَى ونَألمُ
عَصى آدمٌ أَمرَ الإلهِ وزَوجُهُ ... فَهلْ نَحنُ مِنْ جرَّاءِ ذلك نُظلَمُ(1)
ونلحظ مثل هذا التأثر بقصة آدم وإبليس في قصيدة ((في حانة إبليس)) للفراتي أيضاً فهو يقول على لسان إبليس:
أَبُوكُمْ آدَمٌ أَغْوَتـ ... ـهُ في الجنَّاتِ حَواءُ
وأَنتُمْ بَعْدُ تَغويكُمْ ... بِها هِندٌ وأَسْماءُ
عَصَيتُ الأَمرَ عَن خَطأٍ ... وعَنْ قَصدٍ عَصى الأمرَا
فقرَّبَهُ وأبعدنِي ... فقُلْ لي كَيفَ لا أَضرَى(2)
وفي هذا يقول الله تعالى( وعصَى آدمُ ربَّهُ فغوَى ثمَّ اجتباهُ ربُّهُ فتابَ عليهِ وهدَى، قالَ اهبِطَا منها جميعاً فإمَّا يأتينَّكُمْ منّي هدىً فمنْ اتبعَ هدايَ فلا يضلُّ ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإنَّ له معيشةً ضنكاً ونحشرهُ يومَ القيامةِ أعمى)(3).
ويقول تعالى في آية أخرى (فتلقّى آدمُ من ربِّهِ كلماتٍ فتابَ عليهِ إنَّهُ هو التّوابُ الرحيمُ)(4).
__________
(1) الفراتي، محمد، الكوميديا، مج 31، ع3-4،ص:150.
(2) الفراتي، محمد، النفحات، ص: 273.
(3) سورة طه، الآية: 120.
(4) سورة البقرة، الآية: 37.(1/100)
وقد أفاد إبراهيم الهوني من قصّة خلق الله لآدم وما سبق هذا الخلق من استفسار الملائكة عن استخلاف هذا المخلوق الجديد، ووظّفه في حواره مع الملك الذي تعجّب من وصول الشاعر إلى هذا المقام فيقول:
فَنحنُ عَبيدُ اللهِ مِن نورِ نُورِهِ ... خُلِقنا ومَا لله في الخَلْقِ منْ مِثْلِ
عَبدناهُ حتَّى مَا تنامُ عُيونُنا ... وأَنتُمْ خُلِقتُمْ مِن تُرابٍ ومِن رَملِ
فقُلْتُ أَلا زِلتُمْ تَقولونَ هكَذا ... وَقَد قُلتُمُ في آدَمَ القَولَ مِن قبلِ
ولمَّا أرادَ اللهُ إسنادَ مُلكِهِ ... لآدَمَ قُلتُمْ يُفسِدُ الأَرضَ بالقَتلِ
فَقَالَ: نَعمْ قُلْنَا بأَمرِ إِلهِنا ... وإِنّ الذي قُلْناهُ حُقّقَ بالفِعلِ(1)
ويقول الله تعالى: (وإذْ قالَ ربُّكَ للملائكةِ إنّي جاعلٌ في الأرضِ خليفةً قالوا أتجعلُ فيها مَن يُفسدُ فيها ويسفكُ الدّماءَ، ونحنُ نسبِّحُ بحمدكَ ونقدِّسُ لكَ قالَ إنِّي أعلمُ مالا تعلمونَ)(2).
وقد أغنى وصف القرآن الكريم للجنّة والنار خيال شعراء الرحلات الذين استعانوا بأوصافه لرسم صورة الجنّة والنار وفق رؤاهم الفكرية والنفسية فقد فصّل الله تعالى في صورة النار بما فيها من أهوال وأنكال وعذاب. وفي دركاتها وأبوابها يقول تعالى: (كلاّ إنّها لظىً، نزّاعةٌ للشَوَى)(3) ويقول عزّ وجلّ:
(وما أدراكَ ما سقرُ، لا تُبقِي ولا تَذرُ لوَاحةٌ للبشرِ، عليها تسعةَ عشرَ)(4) ويقول تعالى عنها: (وما أدراكَ ما الحطمةُ، نارُ اللهِ الموقدةُ التي تطّلعُ على الأفئدةِ إنَّها عليهمْ مؤصدةٌ في عمدِ ممددةٍ)(5).
__________
(1) الهوني، إبراهيم، الديوان، ص37.
(2) سورة البقرة، الآية: 30.
(3) سورة المعارج، الآية: 15-16.
(4) سورة المدثر، الآيات: من 26- 30.
(5) سورة الهمزة، الآيات: من 5-9.(1/101)
وقد التقط عبد الفتاح القلعجي الكثير من الصفات والتقسيمات والتصويرات الخاصّة بالنار في القرآن وبثّها في وصف نار ملحمته فتحدّث عن أبواب جهنّم السبعة وعن خطاب جهنم لورّادها، فيقول:
صوتُ جهنَّمَ: يا وُرَّادي
يا مَنْ كذَّبتُمْ بِلقاءِ اللّهِ /بجنَّتِهِ/ بوُجُودِي
ماذَا قُلْتُمْ في العاجِلةِ/ الدّنيا؟
المُحتَشِدون ((قُلْنا لولا أُنزِلَ علينا مَلائكةً
أَو نَرى رَبَّنا))(1)
وفي محلّ آخر يقول:
صوتُ الحقِّ مُخَاطِباً جهنَّم ((هل امتلأْتِ))
صوتُ جهنَّمَ: ((هلْ مِن مزيدْ؟))(2)
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الخطاب في قوله: (يومَ نقولُ لجهنَّمَ هلْ امتلأتِ وتقولُ هلْ مِن مزيدٍ)(3).
وقد أفاد الزهاوي من أوصاف القرآن الكريم لجهنّم حين وصف النار التي نقله إليها الملكان، فوصف ما فيها من طعام الزقّوم وشراب اليحموم، وشهيق جهنّم وزفيرها فقال:
إنّها في أعماقِهَا طَبقَاتٌ ... بَعضُهَا تَحتَ بَعضِهَا مَحفُورُ
وأَشدُّ العذابِ ما كانَ في الها ... وِيةِ السُّفلى حَيثُ يَطغَى السَّعيرُ
حَيثُ لا يَنصُرُ الهَضيمَ أَخوهُ ... حَيثُ لا يُنجِدُ العَشيرَ العَشيرُ
الطّعامُ الزَّقومُ في كلِّ يومٍ ... والشَّرابُ اليَحمُومُ واليَحمُورُ
ولَقَدْ يُسقَى الظّامِئُونَ عَصيراً ... هُو مِن حَنظَلٍ وسَاءَ العَصيرُ
ولَها مِن بَعدِ الزَّفير شَهيقٌ ... ولَها مِن بَعدِ الشَّهيق الزَّفيرُ
ولَهُمْ فيها كُلَّ يومٍ عّذابٌ ... ولَهُمْ فيها كُلَّ يومٍ ثَبُورُ(4)
__________
(1) القلعجي، عبد الفتاح، القيامة، ص: 138.
(2) المصدر نفسه، ص: 146.
(3) سورة ق، الآية: 30.
(4) الزهاوي، جميل صدقي، الديوان، ص: 730.(1/102)
وفي نظرة لبعض الآيات نجد الزهاوي قد استقى معاني القرآن الكريم ومنها قوله تعالى: (إذا أُلقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفورُ، تكادُ تميّزُ من الغيظِ كلّما ألقِيَ فيها فوجٌ سألهمْ خزنتُها ألمْ يأتِكُمْ نذيرٌ..)(1) وفي محل آخر يقول تعالى: (إنّ شجرةَ الزقّومِ، طعامُ الأثيمِ، كالمهلِ يغلِي في البطونِ، كغلي الحميم)(2).
ويبدو التأثّر واضحاً في رسم صورة الجنّة عند عبد الفتاح القلعجي، حيث يأخذ الصورة من المعتقد الديني ويتكئ كثيراً على القرآن الكريم في رسم ملامحها، وإن برزت خصوصيّة رؤيته في كثير من التفصيلات. فإنّ الخطوط العامّة للصورة استقيت من القرآن فأبوابها ومراتب المؤمنين فيها والنعيم الموعود وكثير من صوره يرسمها القرآن الكريم في مواضع كثيرة، يقول تعالى في سورة الواقعة: (وأصحاب اليمين ما أصحابُ اليمينِ، في سدرٍ مخضودٍ، وطلحٍ منضودٍ، وظلٍّ ممدودٍ وماءٍ مسكوب، وفاكهةٍ كثيرة، لا مقطوعةٍ ولا ممنوعةٍ، وفرشٍ مرفوعةٍ، إنّا أنشأناهُنَّ إنشاءً، فجعلناهُنَّ أبكاراً، عرباً أتراباً، لأصحابِ اليمينِ...)(3).
والشاعر يقول في المعنى نفسه:
وأصْحَابُ اليمينِ
اليومَ في شُغلٍ
تراهُمْ فاكهينَ، ونُورُهُمْ يَعدُو أَمَامَهمُ
لهُمْ ما يشتهُونَ: الماءُ والظّلُّ
وفاكِهَةُ السَّماءِ
وكلّما رُزِقُوا ثِمارَ الجَهْدِ والغُفرانِ قَالوا
... ((هَذا الذي رُزِقنَا مِن قَبلُ
... ... وأُوتُوا بهِ مُتشَابِها))(4)
__________
(1) سورة الملك، الآية: 7-8.
(2) سورة الدخان، الآيات: من 43- 46.
(3) سورة الواقعة، الآيات: من 27- 38.
(4) القلعجي، عبد الفتاح، القيامة، ص: 187.(1/103)
وربّما اقترب الشاعر محمد عبد المعطي الهمشري كثيراً من معنى الأعراف في القرآن الكريم، فكما هي في القرآن الكريم منزلة بين منزلتين يمثّلها قوله تعالى: (بينهما حجابٌ وعلى الأعرافِ رجالٌ يعرفونَ كلاً بسيماهُمْ ونادوا أصحابَ الجنَّةِ أنْ سلامٌ عيكُمْ لم يدخلوها وهمْ يطعمونَ، وإذا صُرفتْ أبصارهُمْ تلقاءَ أصحابِ النَّارِ قالوا ربّنا لا تجعلْنا معَ القومِ الظالمينَ)(1) وهي عند الهمشري تمثّل مرحلة فاصلة لابدّ للروح من اجتيازها للوصول إلى السعادة، فيقول:
الشَّاعرُ: إيهِ ربّاهُ مَا أَراهُ أَمَامي؟
أيُّ نُورٍ في أيّما أَسدافِ؟
الآلهةُ: هُو شَطُّ الأَعرافِ
الشّاعرُ: أيّةُ شَطٍّ ذا المُسمّى بشَاطئ الأعرافِ
الآلهةُ:
هُو مَثوى الألحانِ بعدَ شَتَاتٍ ... ومَقرُّ الأَرواحِ بَعدَ طوافِ
تَرْقُبُ المَوتَ والحياةَ تَسيرا ... نِ على الوقْتِ وهْو كالرَّجّافِ(2)
وهكذا أسهم القرآن في إغناء الرحلات الخياليّة، ولا سيما فيما يتعلق بالموضوعات الدينية والرؤى الفكرية وقصص الأنبياء وأوصاف الجنّة والنار وَقد تنوّعت وجوه التأثّر من اقتباسات وتضمينات إلى تأثّر بمعانيه وبغيبياته التي أخبر عنها.
* التأثر بالحديث النبوي الشريف:
ويأتي الحديث النبوي الشريف بعد القرآن الكريم أهمية في إغناء مادة الرحلات الخياليّة سواء تمّ هذا الإغناء بطريقة مباشرة أم غير مباشرة.
وقد كان عبد الفتاح القلعجي أكثر الشعراء تأثّراً بأحاديث النبيّ الكريم عليه الصلاة والسلام فبنى الملحمة على أساس أحاديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن علامات القيامة وما يكون بين يدي الساعة من أحاديث وأهوال وأسباب تهيّئ لقيامتها.
__________
(1) سورة الأعراف، الآية: 46- 47.
(2) شرف، عبد العزيز، الهمشري شاعر أبولو، ص:136.(1/104)
ويمكن الوقوف بوضوح على هذا التأثّر في حديث الشفاعة الكبرى ومقارنته مع حديث الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ((فعن أبي هريرة رضي الله عنه أُتي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوماً بلحم فرفع إليه الذراع -وكانت تعجبه- فنهش منها نهشة، فقال: أنا سيّد الناس يوم القيامة، وهل تدرون بم ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغمّ والكرب مالا يطيقون ولا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: ائتوا آدم، فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم، أنت أبونا أبو البشر، خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا عند ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنّه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح، أنت أوّل الرسل إلى الأرض، وسمّاك الله عبداً شكوراً، اشفع لنا إلى ربّنا، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم نوح: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنّي قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم، فيقولون: يا إبراهيم أنت نبيّ الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم إبراهيم: إن ربّي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وذكر كذباته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله فضّلك الله برسالته وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى: إن ربّي قد غضب اليوم(1/105)
غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنّي قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، نفسي نفسي، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى، أنت رسول الله، وكلّمت الناس في المهد، وكلمة منه ألقاها إلى مريم وروح منه، فاشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنباً، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمّد صلى الله عليه وسلم، فيّأتون فيقولون يا محمّد: أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وغفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربّي، ثمّ يفتح الله عليّ ويلهمني من محامده وحسن الثّناء عليه شيئاً لم يفتحه لأحد غيري من قبلي، ثمّ يقول: يا محمّد ارفع رأسك سل تعطه، واشفع تشفع. فأرفع رأسي فأقول: يا ربّ أمّتي، فيقول: يا محمّد أدخل الجنّة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنّة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، والذي نفس محمّد بيده إنّ ما بين المصراعين من مصاريع الجنّة لكما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصرى))(1).
ويقول الشاعر:
أينَ شفيعٌ مَنْ هَذا الطّينِ اللاّزِبْ
نَادى صَوتُ الحقٍّ
((مَنْ يشفَعُ عِندهَ إلاّ بإذنِهْ))
- (وفدٌ مَنْ المؤمنينَ يطرقَونَ أبوابَ الرّسلِ طالبينَ لإخوانهمْ الذينَ في النّارِ الشّفاعَةَ، يقفونَ أمامَ بابِ آدمَ ينادُون)
الوفدُ: ((يا آدمُ:
أنتَ أبو البَشَرِ
خلقكَ الله بيدهِ، ونفخَ فيكَ من روِحِهِ، وأَمَرَ
الملائكةَ فسجدُوا لكَ، / وأسكنَكَ الجنّة.
ألا تشفعْ لنا إلى ربِّكَ؟ ألا ترى ما نحن فيهِ وما بلغنا؟
__________
(1) البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، تحقيق د. مصطفى البغا، دار ابن كثير، 1987، رقم الحديث: 4343.(1/106)
آدمُ: إنَ ربّي غَضبَ اليومَ غضباً لم يغضبْ قبلَهُ مثلَهُ،
ولا يغضبُ بعدَهُ مثلَهُ،
إنّهُ نهاني عَن الشجرةِ... فَعصيتُ
نفسي... نفسِي... نفسِي
اذهبوا إلى غيري... اذهبوا إلى نوحٍ))(1)
وهكذا يستمر الشاعر في اقتباس حديث الشفاعة حرفيّاً فيذكر ذهاب الوفد إلى نوح ومن بعد نوح إبراهيم ومن بعده موسى فعيسى ثم إلى محمّد صلّى الله عليه وسلّم حيث يقول عن شفاعته:
صوتُ الحقِّ: ((يا محمّدُ
ارفعْ رأسَكَ
سلْ تعطَهْ... واشفعْ... تشفّعْ))
محمّدٌ: -يرفعُ رأسَه- ((أمّتي يا ربُّ.. أمّتي يا ربُّ.. أمّتي يا ربُّ))
أيّةُ سَجدةٍ؟
كانَتْ للنّاسِ خَلاصاً
أنهَتْ فَصلَ عذابِ المَطهَرْ.
((إنْ منكُمْ إلاّ واردُهَا))
أيّة كلمةٍ
قرّبتْ النّاسوتَ من اللاهوتْ
فغدا الطّينُ شَفيعاً... مَشْفوعاً
وتمجَّد اسمُ الماءِ الدّافِقْ:
مِن بينِ الصُلبِ والتّرائِبْ
محمّدٌ: يا ربُّ
ائذنْ لي فيمَنْ قالَ لا إله إلاّ اللّه))...(2)
وواضح اقتباس الشاعر حديث الشفاعة كاملاً وتحميله روحاً شعرياً ينقله في سياقه بين الأسطر إلى تجربة شعرية ذات روح شفّاف ولا يقتصر الأمر على حديث الشفاعة فهناك الكثير من الأحاديث كحديث ((آخر عناقيد الجنّة)) و((آخر الخارجين من النار)) وغيرها ممّا بثّه الشاعر في ثنايا ملحمته متساوقاً مع القرآن الكريم. ولم يقتصر التأثير في ملحمة القيامة وحسب بل يمكن أن نلمس آثار ذلك في رؤى بعض الرحلات الخياليّة الأخرى على نحو ما في مطوّلة عبقر حين يرى شفيق معلوف أن رأس الشرور الكذب وأن الشياطين لا تسير حتى يرفع شيطان الكذب رأيته، فيقول:
أَبناءُ إبليسَ مَا ... جالُوا بميدَان
ولا امتطَوا خَيلَهُمْ ... للعالِمِ الثّانِي
إلاّ إذا ما ركِبْ ... مِسوَطُ قُّدامَهُمْ
يرفعُ بندَ الكَذِبْ(3)
__________
(1) القلعجي، عبد الفتاح، ملحمة القيامة، ص: 126- 127.
(2) المصدر السابق، ص: 129.
(3) المعلوف، شفيق، عبقر، ص: 211.(1/107)
والرسول صلّى الله عليه وسلم يقول ((يطبع المؤمنين على الخلال كلّها إلاّ الخيانة والكذب))(1).
* التأثّر بالإسراء والمعراج:
ويتجلّى إثراء الحديث النبويّ الشريف للرحلات الخياليّة في وصف الجنّة والنّار وقد أسهمت أحاديث الإسراء والمعراج بالقسم الأعظم. وقد أخذ الزهاوي أكثر أوصافه منها في ثورته الجحيمية، ولا سيّما، في وصف الجنّة فيقول:
جنَّةٌ عرضُها السَّماوات والأر ... ض بها مِن شَتَّى النَّعيمِ الكَثيرُ
فَطَعامٌ للآكِلينَ لَذيذٌ ... وشَرابٌ للشّاربينَ طَهورُ
سَمكٌ مَقليٌّ وطَيرٌ شَويُّ ... ولذيذٌ مِن الشّواءِ الطيورُ
وبها بَعدَ ذَلكُمْ ثَمراتٌ ... وبهَا أكوابٌ وفيها خُمورُ
وبها دوحَةٌ يُقالُ لها الطّو ... بى لها ظِلٌّ حَيثُ سِرتَ يَسيرُ
تتدلّى غُصونُها فَوقَ أرضٍ ... عَرضُها مِن كلِّ النَواحِي شُهورُ
وعَلى تِلكُمُ الأَسّرةِ حورٌ ... في حُلْيٍّ لها ونِعمَ الحُورُ
ولقَدْ يُعطى المَرءُ سَبعينَ حَورا ... ءَ عليهُنّ سُندسٌ وحَريرُ
يتهادَينَ كالجُمانِ حِساناً ... فوقَ صرحٍ كأَنَّهُ بَلُّورُ(2)
وهذا غيض من فيض فقد استوفت أبيات الوصف هذه سبعة وسبعين بيتاً، ولعلّ نظرة إلى حديث الإسراء والمعراج تقرّب لنا مدى تأثّر الزهاوي به. يقول الحديث: ((فأتى على واد فوجد ريحاً طيّبة وريح مسك وسمع صوتاً فقال: يا جبريل ما هذه الريح الطيّبة الباردة، وما هذا المسك وما هذا الصوت؟. قال: هذا صوت الجنّة تقول: يا ربّ آتني بما وعدتني فقد كثرت غرفي واستبرقي وحريري وسندسي وعبقري ولؤلؤي ومرجاني وفضتي وذهبي وصحافي وأباريقي وكؤوسي وعسلي ومائي ولبني وخمري فائتني بما وعدتني...))(3).
__________
(1) ابن حنبل، أحمد، المسند، مؤسسة التاريخ العربي، دار إحياء التراث العربي، 1991، حديث رقم: 21149.
(2) الزهاوي، جميل صدقي، الديوان، ص: 727.
(3) الأنصاري، إسماعيل، الإسراء والمعراج، من تفسير الحافظ بن كثير، ط1، الرياض، 1973، ص71.(1/108)
وفي حديث آخر يقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((ثمّ إنّي رفعت إلى الجنّة فاستقبلتني جارية، فقلت لمن أنت يا جارية؟ قالت لزيد بن حارثة، وإذا بأنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغيّر طعمه وأنهار من خمر لذيذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفّى وإذا رمَانها كالدلاء عِظماً وإذا أنا بطيرها كأنّها يخنكم هذه))(1).
وهكذا أغنت الثقافة الدينية الرحلات الخياليّة فأمدتها بالمادة الفكرية والثقافية التي حملت شيئاً من روح التجربة الشعرية.
*
ثالثاً- الثقافة الفلسفية:
أمدت الفلسفة الرحلات الخياليّة بمادتها الفكرية وآرائها التي حملها الشعراء معهم في رحلاتهم وأرادوا التعبير عنها.
* التأثّر بالفلسفة العربية:
لقد كانت فلسفة أبي العلاء المعرّي، القائمة على التشاؤم ممّا في الحياة من شرور بالإضافة إلى الشكوك التي قضى حياته في غيهبها، أكثر هذه الفلسفات تأثّيراً في شعراء الرحلات الخياليّة.
ولعلّ جميل صدقي الزهاوي أبرز شعراء الرحلات الذين تأثّروا بفلسفة المعرّي الشكوكيّة في مطوّلته ((ثورة في الجحيم)) فهو يظهر شكّه بقدرة الدين على صنع الحياة الأمثل للإنسان، ويجاهر بريبته في أسس المعتقد الديني كالبعث والجنّ والملائكة والصراط والله، ولا يدين إلاّ بدين العقل كما هو حال المعرّي، فيقول الزهاوي:
غيرَ أنّي أرتَابُ في كلِّ ما قَدْ ... عَجَزَ العَقَلُ عنهُ والتّفكيرُ(2)
وهو يردّد هنا قول المعري:
كذبَ الظّنُّ لا إمامَ سِوى العقـ ... ـلِ مُشيراً في صُبحِهِ والمَساءِ(3)
وقد أراد الزهاوي أن يعلي شأن فلسفة أبي العلاء المعرّي فجعله في مقدّمة الشعراء الملقين في جحيمه، فيقول:
ثمَّ حيّانِي أحمدُ المُتنبّي ... والمعرّي الشّيخُ وهْو ضَريرُ
__________
(1) المصدر نفسه، ص: 50.
(2) الزهاوي، جميل، الديوان، ص: 720.
(3) نقلاً عن، ضيف، شوقي، الفن ومذاهبه في الشعر العربي، دار المعارف، مصر، ط تاسعة، ص: 391.(1/109)
وكِلا الشّاعِرينِ بحرٌ خِضمٌّ ... وكِلا الشّاعِرينِ فحلٌ كبيرُ(1)
كما أنّ تقديم المعرّي كمحرّض على الثورة يؤكّد رؤية الزهاوي للدور الريادي الذي تقوم به الفلسفة في قيادة الثورة وصنع الحياة المثالية للإنسان، حيث لم يعد الدين- بنظره- قادراً على تحقيق الحياة الكريمة، لا سيما إذا تحوّل إلى وسيلة قمع وإرهاب وضغط.
وقد أغنت روح المعرّي الفلسفية مطوّلة ((على بساط الريح)) إذ تتقارب الرؤيتان اللتان ينبثق عنهما المعرّي والمعلوف في نظرتهما إلى الإنسان والحياة وهي رؤية قائمة على السوداوية والتشاؤم، فيقول فوزي معلوف:
قالَ رُوحٌ حَذارِ يا أَترابي
واطردُوهُ
عنِ السّماءْ
هُو في الأرْضِ حَفنةٌ من ترابٍ
فأبُوهُ
طينٌ وماء
هو مِن نفحةٍ كَفَتْ لتَجلّيـ ... ـهِ وتَكْفِي بذاتِها لاحتجاَبِهْ
وكَما كَانَ أَصلُه مِن تُراب الـ ... أرضِ يَغدُو مَصيرُهُ لتُرابِهْ
ليتَهُ عَادَ للثّرى مِثلما جَا ... ءَ نَقيّاً بنفسِهِ وإهابِهْ
هُو يحيَا للشّرِّ فالشّرُّ يَحيا ... أَبَداً حَيثُ حَلّ شُؤمُ رِكابِهْ(2)
فهو يرى الإنسان ابن التراب شريراً تفرّ منه كلّ أشكال الخير والبراءة من طيور ونجوم وأرواح في حين يرى المعرّي الحياة شقاء وتعباً لا جدوى من الإصرار على البقاء فيها لأنّها إلى فناء، فلو بلغ الإنسان منها ما بلغ فإنّ ساعة الموت ستنسيه كلّ السرور والفرح، فيقول:
غيرُ مُجدٍ في مِلَتِي واعتقادي ... نوحُ باك ولا ترنُّمُ شَادِي
وشبيهٌ صوتُ النعيِّ إذا قيـ ... ـسَ بصوتِ البَشيرِ في كلِّ نادي
أبكَتْ تِلكُمُ الحمامَةُ أَمْ غَنَّـ ... م ... ـت على فَرِعِ غُصنِها الميَّادِ
تَعبٌ كلُّها الحياة فَما أعـ ... ـجَبُ إلاّ مِن راغبٍ في ازديادِ
__________
(1) المصدر السابق، ص: 731.
(2) معلوف، فوزي، على بساط الريح، ص: 133.(1/110)
إنَّ حُزناً في ساعَةِ الموتِ أضعا ... فُ سرورٍ في ساعَةِ الميلادِ(1)
وتظلّ (على بساط الريح) (مجموعة قصائد عميقة المغزى مرتبطة بفكرة واحدة يغلب عليها التأمل والفلسفة، وهي نفثات شاعر يحسّ بأنّه مقيّد بجسمه إلى الأرض، لكنّ روحه تسرح في الفضاء الرحب بين الأرواح العلويّة الخالدة"(2).
وقد اعتمد أنيس المقدسي في قصيدته (المعرّي يبصر) فلسفة المعرّي الشكوكية التي تستفسر عن الكون والموت والحياة والمخلوقات، حتّى إنّ الشاعر ليصرح ببناء مطوّلته على الفلسفة من عناوين الأناشيد فيقول: "قصيدة فلسفية في ثلاثة أناشيد: حيَر وشكوك، ظلام التشاؤم، تجلّي النور"(3). ويصرّح بلقائه بالمعرّي الذي تحوّل من شاكّ إلى موقن يرشد الضالين بقوله:
أنَا الأَعَمى الذي قَدْ كُنتُ قَبلاً ... حَليفَ البُؤسِ مثلَكَ والعَذابِ
أهيمُ كَما تهيمُ شَقاً لأنّي ... ضَلَلْتُ عَن الطّريق المُستقيمِ
بذا الوادِي شقيتُ وكَمْ نفوسٍ ... بهِ ذَاقَتْ مراراتِ الحَياةِ
هجرْتُ المحبسينِ فصرْتُ حُرّاً ... أرى الدّنيا تَروقُ لناظِريّا(4).
ونسيب عريضة من شعراء الرحلات الخيالية الذين أفادوا من الفلسفة العربية الإسلامية لا سيما تلك المتعلقة بالروح والنفس، إذ اقتربت رؤيته لها من نظرة ابن سينا للنفس فالأخير يرى أنّ النفس كانت تعيش في مكان عال وسامٍ تنعم بطمأنينة وهناءة لا مثيل لها، فعوقبت بالهبوط من ذلك المكان، لذا هي في شوق دائم إلى ذلك العالم الذي أهبطت منه (وهي فكرة اعتنقها أكثر شعراء الرابطة القلمية)(5). لذا يقول الشاعر:
__________
(1) المعرّي، أبو العلاء، سقط الزند، تصحيح إبراهيم الزين، دار الفكر، بيروت، 1965، ص: 7.
(2) قبش، أحمد، تاريخ الشعر العربي الحديث، دار الجيل، (د. ت) ص: 341)
(3) المقدسي، أنيس، المورد الصافي، ص: 329
(4) المصدر نفسه، ص:332
(5) سراج، نادرة، شعراء الرابطة القلمية، دار المعارف، مصر، 1957، ص:144(1/111)
أحنُّ شَوقاً إلى ديارٍ ... رَأيتُ فيها سَنىَ الجَمالِ
أُهْبِطتُ منها إلى قَرارٍ ... أمْسَتْ بهِ الرُّوحُ في اعتقالِ(1)
وقد كان حظّ محمد عبد المعطي الهمشري من الثقافة الفلسفية جيداً، لا سيما فلسفة المصريين القدماء حول قضايا الموت والحياة والخلود والروح.. وغيرها. وقد بثّ الهمشري كثيراً من أفكارها الفلسفية، حتّى إنّ محمد غنيمي هلال سمّى مطوّلته بـ: "الملحمة الفلسفية"(2).
كما طغت الأفكار الفلسفية بطابعها العقلي الجاف على مطوّلة العقّاد "ترجمة شيطان" الأمر الذي دفع محمد مندور إلى وصفها بقوله: "فمنذ البداية تطالعنا طبيعة العقّاد الشعرية في جفافها العقلي وصياغتها النثرية وروحها التعليمية"(3) وقد اضطّر العقّاد بسبب هذه السيطرة الفلسفية والعقلية إلى شرح الكثير من الأفكار في الحواشي. فمثلاً يقول:
عَلّمَ الأَقيالَ قِدماً سِرَّها ... فَأَقَامُوا ديِنَهُ في العَالمين(4)
ويشرحها في الحاشية بقوله: "يريد كلف الملوك ببناء المعابد لتعزيز قوتهم بقوّة العقائد"(5) ويقول في موقع آخر:
سنّةُ اللهِ وما أوسَعها ... رَحمةٌ مِنه بِجبَاري الأُمَمْ
ويحهُمْ لو لم يكنْ أبدعَها ... كيفَ يدرونَ بأسرارِ النّقمْ(6)
ويشرحها بقوله: "يقصد استجرار الملوك مخالفيهم للطعن بالدين وغيره ليقتلوهم به"(7).
ونلمح آثار التفكير الفلسفي عند محمد حسن فقّي في قصيدته "الله والشاعر" و"الكون والشاعر" إذ عرض فيهما الشاعر فلسفته في الصراع بين الخير والشرّ والعفو والنقمة والرفعة والضعة.. إلخ، فيقول:
__________
(1) عريضة، نسيب، الأرواح الحائرة، ص:179.
(2) شرف، عبد العزيز، شاعرية الهمشري في ميزان النقد الأدبي، ط أولى. دار الجيل، بيروت، 1992، ص:115
(3) مندور، محمد، الشعر المصري بعد شوقي، ص:59-60
(4) العقاد، عباس، الديوان، ص:273
(5) المصدر نفسه، ص:273
(6) المصدر نفسه، ص273
(7) المصدر نفسه، ص273.(1/112)
وهلْ إذا الخيرُ أَتَاحَتْ لَهُ ... دُنيَاهُ مَا يكْفُلُ رجَحانَهْ
يحاسِبُ الشّرّ على ما جَنتْ ... يَداهُ أمْ يمنحُ غُفرانَهْ
كانَ مَديناً آدَهُ ديِنُه ... فما لَهُ يَرحمُ دَيّانَهْ
أجنّ أم أشفقَ مِن ضَربةٍ ... تحطّمُ الكُفرَ وأَوثَانَهْ
وكانَ يسْري خَائفاً في الدّجى ... يحاذرُ الشّرَّ ولُقيانَهْ
لكنَّهُ الخيرُ حَلِيماً، فما ... أضلّهُ الحِلمُ ولا شانَهْ(1)
* التأثّر بالفلسفة الغربية:
لقد قرأ الزهاوي عن التركية كثيراً من آراء فلاسفة الغرب وعلمائه نحو مؤلفات (الدكتور ورتبات) في الفسلجة والتشريح، ثمّ كتاب "الكوميديا الإلهية" لدانته وديواني فيكتور هوغو الفلسفيين (الله) و(نهاية الشيطان) ثمّ قرأ بإعجاب ما كتبه الفيلسوف التركي (رضا توفيق) عن أدب (عبد الحقّ حامد) الفيلسوف التركي الشهير والمقارنة بين فلسفته وفلسفة هوغو(2). وهذه الفلسفات من شأنها تمجيد العلم وتقديسه حتّى إنّها لا تدين بغير دين العقل، وقد ضمّن الزهاوي ثورته أسماء بعض هؤلاء الفلاسفة، حيث يقول:
ثمّ إنّي سمعْتُ سقراطَ يُلقي ... خُطبةً في الجحيمِ وهْي تفورُ
وإلى جنبهِ على النّار أفلا ... طونُ يُصغي كأنَّهُ مسرورُ
وأرسطاليسُ الكبيرُ وقدْ أغـ ... رقَ منه المشاعرَ التّفكيرُ
ثمّ كوبر نيكُ الذي كانَ قدْ أفـ ... همَنَا أنّ الأرضَ جُرم يَدورُ
تتبعُ الشّمسَ أينَما هيَ سارَتْ ... وعليها مِثلَ الفراشِ تطورُ(3)
ثمّ هِلكُ وبخترُ وجسندي ... ويليهمْ اسبنسرُ المشهورُ
ثمّ توماسُ ثمّ فِخْتُ ومنهمُ ... اسبنُوزا وهلبَكُ وجيورُ(4)
ونيوتونُ الحبرُ ثمّ رِنَانُ ... ثمّ روسو ومثلُهُ فولتيرُ
والحكيمُ الكندي ثمّ ابنُ سينا ... وابنُ رُشدٍ وهو الحفيُّ الجَسورُ(5)
__________
(1) ساسي، عبد السلام، شعراء الحجاز في العصر الحديث، ص50
(2) ينظر، الزهاوي، جميل صدقي، مقدمة الديوان، تقديم عبد الرزاق الهلالي، ص: ب ب.
(3) تطور: تحوم.
(4) جيور: هو جيوراندي
(5) المصدر السابق، ص:733(1/113)
وهكذا تبيّن بوضوح أثر الثّراء الفكري الفلسفي في إغناء الرحلات الخيالية ومدّها بالفكر والثقافة التي حملت في ثناياها هموم الأديب ورسمت موقفه من الحياة والفن والأدب كما أنّها قد تلوّنت بمشاعره العاطفية فكانت مرّة مشعّة بالتفاؤل والأمل وأخرى ملفّعة بالسوداوية والتشاؤم.
رابعاً: الثقافة العلمية:
وللثقافة بكلّ اتجاهاتها الفلكية والطبيعية والأدبية أثرها الواضح في الرحلات الخيالية فقد أمدّتها بمادتها الثقافية وأفكارها التي حملت روح التجربة الشعرية، فتحوّلت من مجرد أفكار عقلية تقريرية إلى رؤى تحمل المشاعر العاطفية وتتلوّن بالأحاسيس الإنسانية.
وتأتي العلوم الفلكية في مقدمة هذه العلوم، فقد بنى الفراتي رحلته الخيالية "الكوميديا السماوية" على أساس هذه العلوم، وكان مطلعاً فيها، فقد ألّف تفسيراً للآيات الكونية في القرآن الكريم يتّفق مع أحدث النظريات العلمية في هذا الميدان، وله مؤلفات أخرى كلّها مخطوطة كان يخاف من نشرها لأنّه كان "يخشى أن يثير عليه علماء السوء في بلده فيحدث له أمور لا يرضى أن تثار بعد أن بلغ من العمر عتياً"(1).
وبدا تأثّره في عناوين الأناشيد الفرعية، ومنها: حلم في المريخ، وما وراء الطبيعة، وكوكب العباقرة، وكوكب الزنادقة، وكوكب الشعراء، إضافة إلى أنّه يذكر أسماء ومقاييس ترتبط بهذه العلوم، فيقول:
هَبطْنَا إلى المريخِ ليلاً فعاقَنَا ... عنِ السيّرِ في سِيسا الظّلامُ المُخَيّمُ
و(سِيسا) بلحنِ القَومِ فيما عرفْتُهُ ... عُبابُ خِضمّ بالمخاطرِ مُفعَمُ(2)
وفي موضع آخر يقول على لسان الرجل المريخي "رفائيل":
عبدْنَا القُوى حيناً ومن جُملة الّذي ... عبدْنَا (سيا رابا) و(هيتا) و(مي سم)(3)
__________
(1) الحريري، محمد علي، الفراتي في عالم النسيان، مجلة الفيصل، العدد 34، 1980.
(2) الفراتي، محمد، الكوميديا السماوية، مجلة الحديث، مج 31- ع3-4، ص: 144.
(3) المصدر السابق، ع 3-4، ص:153.(1/114)
و(سي رابا): معناها الأكبر أي ابن الشمس و(يريد به المشتري).
و(هيتا): معناها الملوّن و(يريد به زحل).
و(مي سم) معناها مي: الشديد، سم: البعد، أي شديد البعد
و(يعني به نبتون).
وفي استخدامه للقياسات الفلكية يقول عن تلسكوب صنع في كوكب هيدا:
ويقربُ طُولُهُ مِن ألفِ (كادِ) ... بقطرٍ زادَ عنْ مِئتي (جَريم)
وفي أنبوبهِ تَلقَى مِآتٍ ... من العَدساتِ كالدّر النّظم
فمنْ موشُورةٍ لمحدّباتٍ ... إلى أُخرى بِسطْحٍ مُستقيمِ(1)
الكاد: قياس يساوي متر ونصف المتر تقريباً.
الجريم: دسيّ متر أي: عشرة سنتمترات.
وشاعر آخر بنى رحلته الخيالية على فكرة فلكية مفادها توقّع وجود حياة عاقلة على كوكب المريخ، وقد أراد الشاعر رشيد أيوب أن يتأمّل بعين روحه هذا الكوكب ويعرف مدى صحة ظنون العلماء. فارتحل على جناح الخيال وأفرد لروحه العنان فحلّقت تطوف أرجاء ذلك الكوكب عسى أن يلقى الإجابة عن تساؤلاتها فيقول:
يقُولونَ في المرّيخِ قَومٌ كشكلِنَا ... أناسٌ لَهُمْ عَقلٌ يُناجي كعقلِنَا
فهلْ أصلُهُمْ نوعُ التُّرابِ كأصلِنَا ... وهَلْ يَجهلُونَ الكائِنَاتِ كجهلِنَا(2)
ولكنّه في النهاية يؤكد وجود حياة روحية مثالية ليست كحياة الأرض، فيقول:
كأنّي شاهدْتُ الجِنانَ وآلها ... وهَيهاتَ أنسى عزّها وجَمالَها
هنالِكَ أشباحٌ تمنَيْتُ حالَها ... فسبحانَ مَن أهدى إليها جَمالَها
مُسربَلةٌ بالحسنِ واللّطفُ واسِعُ(3)
__________
(1) المصدر نفسه، ع5، ص:263.
(2) أيوب، رشيد، الأيوبيات، ص:150.
(3) المصدر نفسه، ص:156.(1/115)
وثورة الزهاوي في الجحيم كانت ثورة للعلم والفلسفة ضد الميتافزيقيا الدينية. وقد تأثّر الزهاوي إجمالاً بمعطيات العلوم في عصره حتّى غلبت الروح العلمية على شعره(1). فتأثّر بمطالعاته لمجلّة المقتطف المصرية التي أخذت تصل بغداد تباعاً فيجد فيها ضالته من الأبحاث العلمية والفلسفية زد على ذلك كلّه مطالعاته لكتابات الدكتور ورتبات في الفسلجة والتشريح، ولا يخفى على أحد تأثّره الواضح بتلك العلوم في ثورته الجحيمية، وثورته على العقل الغيبي بقوله:
قلتُ لله في السَماوات والأَرْ ... ض وما بينهُنَّ خلقٌ كثيرُ
غيرَ أنّي أرتابُ في كلّ ما قدْ ... عَجزَ العقلُ عنهُ والتّفكِيرُ(2)
أو نحو قوله:
ما لكلِّ الأكوانِ إلاّ إلهٌ ... واحدٌ لا يزالُ وهْوَ الأثيرُ
ليسَ بينَ الأثيرِ واللهِ فرقٌ ... في سوى اللفظِ إنْ هداكَ الشّعورُ(3)
فالأثير: مصطلح علمي فيزيائي يطلق على الهواء الذي يحمل الموجات الصوتية، ولولا معرفة الزهاوي بمثل هذه المصطلحات العلمية لما أطلقها هنا في قصيدته.
ونلحظ في جحيمه معظم الشخصيات العلمية والفكرية والفلسفية في العالم على خلاف ما وضع دانته في جحيمه، إذا كان نزوع الأخير سياسياً دينياً، أمّا الزهاوي فنزوعه علمّي فلسفيّ. لذا وضع هذه النخبة من العلماء، فيقول:
ثمّ كوبرنيكُ الذي كانَ قدْ أفـ ... همَنا أنّ الأرضَ جُرْمُ يدورُ
تتبعُ الشّمسَ أينما هيَ سارتْ ... وعليها مِثْلُ الفِراشِ تطورُ
ثمّ دروينُ وهْوَ مَنْ قَالَ إنّا ... نسلُ قردٍ قضتْ عليهِ الدّهورُ(4)
__________
(1) ينظر، ضيف، شوقي، دراسات في الشعر المعاصر، مقال عن الزهاوي بعنوان (العلم في شعر الزهاوي).
(2) الزهاوي، جميل صدقي، الديوان، ص 720.
(3) المصدر نفسه، ص:722.
(4) المصدر نفسه: ص:733(1/116)
أما الذي استفاد من العلوم والتقنية في تجربته الشعريّة فائدة تناسقت مع روحه الشاعرية، وحملت التجربة الشعورية بصدق انفعالاتها فهو عبد الفتاح روّاس القلعجي في ملحمته الشعرية القيامة. فالشّاعر يوجّه من اللحظة الأولى اتهامه إلى النزعة المادية التي دفعت بالعالم إلى نهايته الحتمية، لذا كثرت في ثنايا ملحمته المصطلحات العلمية والتقنية فيقول:
وتشقّقتِ الأرضُ، تصاعدَ منها نارٌ ودُخانٌ
ومصانعُ نوويهْ
تنفثُ في الأجواءِ سَحاب الموتِ(1).
وفي محل آخر يقول:
... خُيّلَ للإنسانِ السّامريّ
أنْ قدْ عرفَ السّرَ الأسمَى في التركيب الذّري الخلوي
ومعادلةَ الروحِ
وفعلَ الخلق
وصبغيّات الخلدِ(2)
وليس أدلُّ على ذلك ممّا سيعرض في هذا المقطع الذي يوحي بمدى اتساع المادة العلمية التي أغنت ملحمة الشاعر، وأراد من خلالها أن يوّضح مدى قدرته على استيعابها وتحويرها بطريقة شعرية إلى رموز فعّالة يشير بها إلى الحياة المادية العمياء بالتهمة في إفساد سعادة الإنسان فيقول:
الشّيطانُ الآلةُ: إنّي الرّبُّ
اسجُدوا عند أقدامِي
فأَنَا الرّبُّ الفولاذيْ
الشّيطانُ الآلةُ: لي أعوانٌ
آلهةٌ أجزاءٌ منّي
الأرقامُ /النترونُ/ الإشعاعُ الذّرّيْ
السّرعةُ والكتلةُ والزّمنُ النّسبيّ
النبذُ /الجذبُ/ الحدثُ النّجميْ
... /.../ الكمُّ الكليْ
همُ آلهةُ العقلِ الإنسانِي الأعلى(3)
خامساً: الثقافة الأدبية:
__________
(1) القلعجي، عبد الفتاح رواس، ملحمة القيامة، ص:11
(2) المصدر نفسه ص:13.
(3) المصدر السابق، ص:17(1/117)
كما أفاد الشعراء من الثقافة الأدبية والتراثية في بناء بعض الرحلات الخيالية، "فحلم الهراء" في مطوّلة عبقر بناه شفيق معلوف على قصة رواها صاحب الأغاني عن نبوّة أميّة بن أبي الصّلت. وبمقارنة بسيطة بين القصتين نلمس التأثّر الواضح بينهما. وملخّص القصة عند شفيق أنّ الشاعر ينام لينشق السقف عن طائرين يجثمان بالقرب منه، فيقترب أحدهم ويبضع صدره ليخرج قلبه فيجده قد جبل على الشرّ والرياء والحسد وقد بات مأوّى للنقائص، فيعيده ويستيقظ الشاعر ليجد الخواء في روحه، فيقول:
ومالَ مَغلوباً على أَمرِهِ ... أميّةُ وغَلّ في مضجَعِهِ
فكشَفَ الطّائِرُ عَن صَدرِهِ ... وأَرجَعَ القَلبَ إلى موضعِهِ
حتّى إذا أميّة أضحَى ... ألوى بكفيهِ على جنبهِ
فلمْ يجدْ دَماً ولا جُرحاً ... لكن أحسَّ الجرحَ من قلبهِ(1)
أمّا رواية الأغاني فتقول: "دخل يوماً أميّة بن أبي الصّلت على أخته وهي تهيّئ أدماً لها فأدركه النوم فنام على سرير في ناحية البيت قال: فانشقّ جانب من سقف البيت وإذا بطائرين قد وقع أحدهما على صدره ووقف الآخر مكانه، فشقّ الواقع صدره فأخرج قلبه فشقّه، فقال الطائر الواقف للطائر الذي على صدره: أوعى؟ قال: وعى. قال: أقبل؟ قال: أبى. قال: فردّ قلبه في موضعه فنهض فأتبعهما أميّة طرفه فقال:
لبيكما لبيكما ... هأنذا لديكما
لا برئ فأعتذر ولا ذو عشيرة فأنتصر، فرجع الطائر على صدره فشقّه ثمّ أخرج قلبه فشقَه، فقال الطائر الأعلى: أوعى قال: وعى، قال: أقبل؟ قال: أبى، ونهض، فأتبعهما بصره، وقال:
لبيكما لبيكما ... هأنذا لديكما
لا مال يغنيني ولا عشيرة تحميني، فرجع الطائر فوقع على صدره فشقّه ثمّ أخرج قلبه فشقّه، فقال الطائر الأعلى: أوعى؟ قال: وعى. قال: أقبل؟ قال: أبى، ونهض فأتبعهما نظره، وقال:
لبيكما لبيكما ... هأنذا لديكما
إن تغفرِ اللّهمّ تغفرْ جمّا ... وأيُّ عبدٍ لكَ لا ألمّا
__________
(1) معلوف، شفيق، عبقر، ص:232.(1/118)
قالت أخته: ثمّ انطبق السقف وجلس أميّة يمسح صدره. فقلت يا أخي: هل تجد شيئاً؟ قال: لا، ولكنّي أجد حرّاً في صدري فأنشأ يقول:
ليتني كُنْتُ قَبلَ ما قَد بدا لي ... في قنانِ الجبالِ أرعَى الوُعُولا
اجعلِ الموتَ نُصبَ عينيكَ واحذَرْ ... غَولةَ الدَّهرِ إنّ للدّهرِ غُولا(1)
ويبدو أنّ الأصفهاني قد ترك الرواية مفتوحة للاحتمالات في حين أنّ شفيقاً تصرّف بالرواية وأنهاها نهاية فقيرة إلى الإيحاء الشعري كما افتقرت إلى الحوار بين الشاعر والطائرين ممّا يقرّبها من التقريرية.
وقد أفاد الفراتي من ثقافته الفارسية في "الكوميديا السماوية" حين وضع بعض الأبيات الشعرية على لسان رفائيل وهي:
"آرشما بندي جمين موزاد مورردي بارمئي صان دندو ما سمى دوصاند داجنداد جنار" وترجمتها: يا نجوم السماء من شموس وسيّارات وأقمار ليت شعري ما الذي أعجبكن فاجتذبتن إليكن روح الراحل الكريم قبل أن يميط عنكن اللثام"(2). وقد أثرت هذه الثقافة الفارسية الكوميديا بأسماء الشخصيات والكواكب وغيرها.
وهكذا أسهمت الثقافة العلمية والفلسفية والأدبية واللغوية في مدّ الرحلات الخيالية والمادة الفكرية التي حملت روح التجربة الشعرية تارة، وبدت جافة تقريرية في أحداث أخرى.
(((
الفصل الرابع
قضايا في الرحلات الخيالية
أوّلاً: التأمل
ثانياً: المعاناة
ثالثاً: الخلاص
رابعاً: الرؤى الذاتية والنوازع الإنسانية
((
قضايا في الرحلات الخيالية
أولاً: التأمل
*الموت والحياة:
__________
(1) الأصفهاني، علي بن الحسين، الأغاني، بيروت، لبنان، دار الكتب، ج 4- ص: 127-128.
(2) الفراتي، محمد، الكوميديا السماوية، مجلة الحديث، مج 31- ع5- ص:264.(1/119)
لقيت مسألة الموت والحياة اهتماماً كبيراً من شعراء الرحلة الخياليّة وتباينت مواقفهم منها، وبدا نزوعهم في معالجة هذه المسألة رومانتيكياً تغلّفه غلالة من الألم والتشاؤم. ولم تكن هذه النزعة نتيجة الواقع العربي فحسب فقد كان الشعراء متأثّرين بالشعر الغربي ولا سيما الرومانتيكي.
ولعلّ أبرز من عالج هذه المسألة الشاعر محمد عبد المعطي الهمشري الذي وقف على شرفة التساؤل عن مصير الإنسان، فراح يتنقّل في شاطئ الأعراف ليعاني الأهوال، ولكن من غير استسلام للرؤية السوداوية، فقد راح يجترح الحياة وسط الموت، والنور وسط الظلمة.
ومن خلال هذه الثنائيات الضديّة يثبت لنا تشبّثه بالحياة وتعلّقه بها، وهذه الثنائيات هي:
الموت والحياة، والحبّ والكراهيّة، والنور والظلام، والموسيقا والزفيف، والجمال والقبح.
والشاعر يتشبّث بالحبّ، فهو صنو الحياة يقول:
أيّها الحبُّ أنتَ للموتِ موتٌ ... ذُو غِلابٍ على البِلى مُستخفُّ
أنتَ صُنو الحياةِ وارِثةِ المو ... تِ ونور على الإلهِ يرفُّ
سوفَ تبقى بعدَ الفَناءِ سَبوحاً ... في فضاءٍ من الأثيرِ يشفُّ(1)
فالشاعر يرى في الحبّ سبيلاً إلى الخلاص، لأنّه يمثّل نزوع الإنسان إلى الخلود، وبالحبّ تصفو نفسه، ويخلد، ويستطيع الانتصار على الفناء.
ويعرض شفيق معلوف لمسألة الموت والحياة من خلال أسطورة الفينيق، فيبدي إعجابه بهذا الطائر الذي يقبل الموت من أجل حياة جديدة، وينعى على طيور أخرى ضعيفة منطوية على نفسها لا تعرف سوى الموت يقول:
مَا عجبي لفينِق مُوقدٍ ... لنفسهِ النّارَ على المِحرقهْ
ولا لرُخّ رأسهُ في العُلى ... ورجُلهُ على الثّرى مُوثقهْ
ولا لعنقاءٍ وقدْ أمعنَتْ ... في نومِها الدّهري مُستغرقهْ
بلْ لطُيورٍ مِثْلِها ضخمةٍ ... أوكارُها الجماجمُ الضيّقهْ(2)
__________
(1) شرف، عبد العزيز، الهشري شاعر أبولو، ص:120.
(2) المعلوف، شفيق، عبقر، ص: 269-270.(1/120)
وفي موضع آخر من أناشيد عبقر يخاطب لقمان نسوره السبعة، ويعبّر عن تشبثه بالحياة في مواجهة الموت، فيقول:
فخلّني أحظَ بأمنيّتي ... وخلّني أجنِ الغراسَ الّتي
نصبْتُها منذُ عامْ
كمْ ليَ في الحياةِ مِنْ مأربٍ ... فالشّطُّ ما لاصقَهُ مَركبي
لألقيَ المِرسَاهْ
كلاّ ولا أفرغْتُها كأسي ... حتّى بعينيَّ أرى نفْسي
تفارقُ الحياهْ(1)
فالموت لدى شفيق معلوف بلاء نازل وشحوب بعد الزهو والنضار، وظلمة بعد نور، ولكن مهما بلغت سطوة هذا الموت وسلطانه فإنّه لا يصل إلى الأحلام الخالدة التي تنطق بها أرواح الموتى، يقول في نشيد العبقريّين:
لكنّما احلامُنَا لمْ تَزلْ ... ترقُصُ سكْرى فوقَ غُلفِ المُقلْ
حاملة للنّاسِ خمرَ الهَوى ... مُشعّةً خلفَ كؤوسِ الأملْ(2)
ويرى نسيب عريضة الحياة عبثاً وفوضى، لذا يجزع عندما يرى الأيام تنقضي ما بين غروب وفجر، وإذا كان الموت مصير هذه النفس فمن العبث قضاؤها في جهد وجدّ، أو خمول وكسل، فهي ضياع وتيه لذا يقول:
ما نفعُ جَهْدٍ ووجْدٍ ... ما بينَ ليلٍ وفجرِ
إنْ سرتَ أو طرتَ إنّا ... باقونَ في تيهِ قَفرِ(3)
ولا يكاد فوزي معلوف يميّز بين صرخة الولادة وشهقة الموت، يقول:
إنّ بين السّريرِ والنّعْشِ خطوا ... تٍ دَعَوْهَا الوجودَ وهي بعكسِهْ(4)
ولعلّ معلوف يردّد هنا صرخة المعرّي حيث يقول:
غيرُ مجدٍ في ملتي واعتقادي ... نوحُ باكٍ ولا ترنُّمُ شَادِي
وشبيهٌ صوتُ النعيّ إذا قيـ ... سَ بصوتِ البشيرِ في كلّ نادِي
أبكَتْ تِلكُمُ الحَمامةُ أمْ غنَّـ ... تْ على فرعِ غصْنِها الميَّادِ(5)
فالمعرّي يرقى إلى مستوى إنساني حين يدرك أنّ الولادة والموت هما طرفان لظاهرة واحدة هي الحياة.
__________
(1) المصدر نفسه ص:300
(2) المصدر نفسه، ص:316
(3) عريضة، نسيب، الأرواح الحائرة، ص:188.
(4) المعلوف، فوزي، على بساط الريح، ص:150
(5) المعري، أبو العلاء، سقط الزند، تصحيح: إبراهيم الزين، دار الفكر، بيروت، 1965، ص:7.(1/121)
ومعلوف يدانيه في التعبير حين يرى ظاهرة الوجود الممتدّة بين المهد واللحد هي العدم عينه، ومثل هذه الرؤية العميقة لا تأتي إلاّ لروح شاعريّة مترعة بالعمق الإنساني الشفّاف الذي يجلو صدأ الغموض عن فلسفة الحياة والموت ليصل إلى هذا السرّ العظيم، ولذا بات الفرق معدوماً بين الموت والحياة في رؤيته ما دام يشعر أنّه عبد لكليهما مقيّد بهما، ولا خلاص من هذه العبودية إلاّ بالحريّة والخلود، ذلك الحلم الذي داعب مخيّلة الإنسان منذ بدء الخليقة، وسيظل إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها.
ويظهر الشكّ واضحاً في قصيدة "المعرّي يُبْصر" لأنيس المقدسي فالقصيدة تعبّر عن الشكّ في وجود محرّك للكون مدير له، لأنّ الكون كلّه محض تكرار أو دائرة مغلقة ولا معنى لها، يقول الشاعر:
يقولُونَ الحياةُ بَدتْ قديماً ... بلا مُحيٍ سِوى كرِّ الدّهورِ
فلا قصدٌ لشيءٍ في البَرايا ... وليسَ لهنَّ مِن بارٍ قديرِ
وكلّ حوادثِ الأيامِ طَلٌّ ... وكلُّ بداءةٍ مثلُ المصيرِ
ودائرةُ الحياةِ بلا نظام ... ولا غرضٍ تدور ولا مديرِ(1)
ويرتبط الموت والحياة ارتباطاً وثيقاً بالعقيدة الدينية عند عبد الفتاح رواس القلعجي في ملحمة (القيامة)، فالموت طريق موصل إلى ساعة القيامة، ولكنّه ليس الموت المرتبط بالإنسان فحسب، بل الموت الكوني الذي يموت فيه الموت نفسه ويبقى بارئ الكون فقط، يقول الشاعر:
قَبضَ اللهُ حياةَ الطّيرِ والوحشِ
وما في الأرضِ مِنْ جنسِ الهوامِ
قبضَ اللهُ نفوسَ الجانِ
قبضَ القادرُ أرواحَ الملائكِ
وعلى الكرسي ماتَ الموتُ
ثمّ في راحتهِ اللاتنتهي
ارتصّ الزّمانُ بالمكانِ
ادّغَما
ثمّ ماتا(2)
أما صورة الحياة فهي صورة نوعيّة تلبس الخلود ثوباً، ذلك الحلم القديم، ولكنّه خلود ذو وجهين متناقضين: الأوّل: يمثل السعادة والهناء والرخاء لا تملّ النفوس هناءته.
__________
(1) المقدسي، أنيس، المورد الصافي، ع 10، ص:330.
(2) القلعجي، عبد الفتاح، القيامة، ص:21(1/122)
والثاني: خلود الحسرة والعذاب والألم والشدّة والكرب والعويل والصراخ، خلود تجدّد من أجل العذاب (كلّما نضجتْ جلودهُمْ بدّلناهُمْ جلوداً غيرها)(1) ويضمنّها الشاعر شعره، فيقول:
كلّما.. نَضجَت من الجمرِ جلودُهُمْ
بدّلها اللهُ جلوداً أخرى(2)
ويعمّق الشاعر حسّ الخلود المأسوي لدى أهل النار وخلود السعادة لأهل الجنّة في آخر أبواب الملحمة حين يذبح الموت، ليتأبّد فرح أهل الجنّة وحزن أهل النار، ولتنتهي بذبح الموت مأساة الإنسان وأمل الإنسان، وتكون الدنيا حلماً تقطعه صرخة الولادة وشهقة الموت.
***
لقد نظر شعراء الرحلات إلى الموت والحياة نظرات متباينة، فهما -أي الموت والحياة- ندّان متلازمان لدى محمد عبد المعطي الهمشري والموت ضرورة طبيعيّة لاستمرار الحياة. فلم يعد الموت بعد الرحلة لدى الهمشري ذلك الجانب المرعب في حياتنا ما دام ثمّة حياة أخرى نصنعها بالحبّ والجمال، في حين لم تتجاوز رؤية شفيق معلوف النظرة السطحيّة للمسألة، ولم يعمّق أفكاره أو يستفد من الرمزيّة الشفّافة التي تنبض بها أسطورة الفينيق أو الرخ أو العنقاء، وكانت الرؤية أكثر شفافية لدى فوزي في قصيدته (على بساط الريح) إذ بدا التلازم واضحاً بين الموت والحياة واندغامهما في قيد الشاعر المثقل لروحه فكلاهما مستعبد له، فالحياة في ظلّ العبوديّة موت للإنسان، والموت ما لم يقد للخلود عبودية. وبقيت النزعة الشكوكية غالبة على رؤية المقدسي ونسيب عريضة، في حين انتصرت عقيدة الحياة لدى عبد الفتاح القلعجي وإن كانت ذات بعدين متباينين: شقيّ وسعيد.
***
-الدين والعلم:
__________
(1) سورة النساء، آية: 56.
(2) المصدر السابق، ص:135.(1/123)
إنّ ظهور مسألة العلم والدين غريب في واقعنا الديني والاجتماعي والسياسي، فهي نبتة أوربيّة كانت ثمرة الصراع الطويل بين الكنيسة وعلماء أوربة فقد جلست أوربة زماناً تقتات على مائدة الحضارة الإغريقيّة، ثمّ ما لبثت أن غرقت في ظلام الوثنية، ثمّ جاءت المسيحيّة لتطهرّها من أوضار الوثنية وتكون المخلّص لها، ولكن سرعان ما انحرف رجال الكنيسة بالدين المسيحي عن أصله في سبيل تحقيق مآربهم الشخصية، وللمحافظة على نفوذ الكنيسة لا بدّ من قمع كلّ محاولة يمكن أن تفتح الأعين على جهالة الكنيسة وزيف سلطتها المطلقة (فقد عُدّ من أحرق من العلماء العاملين والمؤلفين والمفكرين في أوربة لذلك العهد فبلغ خمسة وثلاثين ألف عالم ومفكر، فلمّا جاء القرن الخامس عشر كانت النفوس قد حقدت أشد الحقد على رجال الكنيسة الذين أسرفوا في الانتصار لأصولهم المنحرفة"(1).
ولهذه الأسباب نشأ العلم في أوربة معادياً للدين، ومع النهضة العربية في مطلع هذا القرن أخذ بعض المفكرين المعطيات الغربية -للأسف- دون تدبّرها وعرضها على الواقع العربي.
وقد لوحظ أن بعض شعراء الرحلات انتصروا للعلم ضدّ الدين، ولكنّ هذا الانتصار لم يكن إلاّ من خلال التقليد الأعمى للغرب.
وتبدو هذه الفلسفة الوضعيّة في هجوم الزهاوي على كلّ المعتقدات الدينية التي سخر منها بمرارة، فهو لا يعرف الله إلاّ وفق المعطيات العلميّة، فهو عنده -عزّ وجلّ- شكل من أشكال الأثير يقول:
إنّما عِلميْ كلُّه هُو أنْ م ... اللّهَ حيُّ وأنّه لا يبورُ
ما لكلِّ الأكوانِ إلاّ إلهٌ ... واحدٌ لا يزولُ وهْو الأثيرُ(2)
__________
(1) السامرائي، نعمان عبد الرزاق، العلاقة بين العلم والدين، ط أولى، 1984، الرياض، ص:37.
(2) الزهاوي، جميل صدقي، الديوان، ص:722.(1/124)
ويبدو أن المعطيات العلميّة الحديثة استهوت الشاعر بإنجازاتها الهائلة إلى حدّ دفعه للتشكيك بكلّ فكر لا يقوم على أساس التفكير العلمي "وهذه النزعة العلميّة عند الزهاوي جعلت شعره يصطبغ بصبغة ماديّة، إذ جعله يُعنى بالجسم والمادة، وجعله إيمانه بالكهرباء يبتعد عن الروح وعالمها"(1)، لذا نراه يجعل هذا البيت شعاره في ثورته كلّها، فيقول:
غيرَ أنّي أرتابُ في كلِّ ما قدْ ... عجزَ العقلُ عنهُ والتّفكيرُ(2)
ثمّ إنّه يعمّق حدّة الصراع بين العلم والدين حين يجعل الدين مضطهداً للعلم ورموزه من فلاسفة وعلماء وفنّانين، إذ يزجّ بهؤلاء في الجحيم لأنّهم انتسبوا إلى العلم، ولا تزال هذه الفكرة تسيطر على توجّهه حتّى ينهي القصيدة بانتصار للعلم على قوى الدين الممثّلة بالملائكة وقائدهم عزرائيل، وجيش العلم والجحيم بقيادة الشياطين، وها هو ذا يصف المعركة فيقول:
ثمّ جاءّتْهُم الشّياطينُ أنصَا ... راً وما جيشُ الماردينَ حَقيرُ
كانَ إبليسُ قائداً للشّيا ... طينِ وإبليسُ حيثُ كانَ قديرُ
وتلاقَى فوقَ الجحيم الفريقا ... نِ وهذا نارٌ وهذا نورُ(3)
.. إلى قوله:
كانَتْ الحربُ في البَداءِ سجالاً ... ما لصبحِ النّصرِ المبينِ سُفورُ
ثمّ للنّاظرين بانَ جَليّاً ... أنّ جيشَ الملائكِ المدحورُ(4)
ولا تُستغرب استعانته بالشياطين لأنّه يعدّهم ضحية من ضحايا الدين، ولكن من المستغرب أن يجعلهم في صفّ العلم.
***
ويستفيد الفراتي في "الكوميديا السماوية" من أهمّ الأفكار العلمية الشائعة في عصره كالقول بوجود حياة على الكواكب الأخرى، ولا سيما كوكب المريخ فيصوّر نزوله عليه ولقاءه الناس فيه، يقول:
ولمّا تعارَفْنا وأفرخَ روْعُنا ... وَجَدَّوا بنا نحوَ الدّيارِ وأتْهَموا
__________
(1) ضيف، شوقي، دراسات في الشعر العربي المعاصر، ص:82.
(2) الزهاوي، جميل صدقي، الديوان، ص:720
(3) المصدر السابق، ص:737-738
(4) المصدر نفسه، ص:739.(1/125)
تيقنتُ أنّ الأرضَ لم تَكُ وحدَهَا ... لتُسكنَ إذْ كُنّا على الأرضِ نزعمُ(1)
ويثير في نشيد "كوكب الزنادقة" قضية الصراع بين العلم والدين فيذكر نخبة من الذين عرفوا بإلحادهم كابن الرواندي ومزدك وينتصر للدين الصحيح الخالص، بعيداً عن هرطقات الفلاسفة وشطحات الصوفيّة، وهو بذلك يحاول أن يخلّص الدين ممّا لحق به من شوائب الفلسفات كالحلوليّة ووحدة الوجود وغيرها، وكذلك يطعن بكثير من طرق الصوفيّة والتيارات الدينيّة الضالّة فيقول:
وراحَ يقصُّ ما قدْ كانَ منهُ ... عليّ ويذرفُ الدّمعَ السّخينا
أرادَ اللهُ أنْ نحيا عَليها ... زنادقةً ونحيا مارِقينا
ولو لمْ يعطِنا عقلاً لكُنّا ... دراويشاً وكُنا زاهدينا
نكدّي بالنّهارِ بكلّ دربٍ ... ونمسي في التّكايا قابعينا
نقطّعُ وقتَنا في غيرِ جَدوى ... على كتبِ التّصوفِ عاكفينا
ونخدعُ مَنْ يراقبُنا بشطحٍ ... وطاماتٍ فنفتنُهُ فُتونا
ونزعمُ أنّنا في اللهِ نفنى ... وأحياناً يحلُّ الله فينا
فلمْ نكُ مثلَهم حتَى ترانا ... نعدُّ لدى الورى في الصّالحينا
كدأبكَ هكذا بالأمس كُنّا ... بدورِ العلم نبحثُ دائبينا
شقينا بالعلوم وكُلّ حرٍّ ... سيشقى بالعلومِ كما شقينا(2)
فالفراتي يعلن حربه على هذه الجماعة من الناس، المرتبطة بالبطالة والخداع والمكر، حتّى استطاعوا بخداعهم أن يصيروا رموزاً للتقوى والصلاح، أمّا العلماء الذين يقضون عمرهم بالعلم وأقيسته ومبادئه وقوانينه فليس لهم إلاّ الشقاء والمرارة، والفراتي يشير في البيت الأخير إلى قول المتنبي الشهير:
ذو العقلِ يشقى في النّعيم بعقله ... وأخو الجهالةِ في الشّقاوةِ ينعمُ(3)
__________
(1) الفراتي، محمد، الكوميديا السماوية، مجلة الحديث، مج 31- ع3-4، ص:146.
(2) المصدر السابق، ع 6- ص:3488.
(3) المتنبي، أحمد بن الحسين، الديوان، مراجعة نخبة من الأدباء، دار الفكر، 1968- ص:274.(1/126)
وهكذا فقد انتصر الزّهاوي للعلم بحماسة شديدة في مواجهة الدين ممّا حدا به إلى إنكار كلّ المعتقدات الدينيّة، غير أنّ الفراتي وازن في شيء من الحذر بين العلم والدين، فهو لم ينتصر للملاحدة الذين ناصروا العلم على الدين فأنكروا الله وسفّهوا أحلام المرسلين، ولم يؤيّد المتظاهرين بالتديّن كالدراويش والصوفيّة وبعض الزهاد.
***
-الروح والجسد:
أثار بعض الشعراء في رحلاتهم الخياليّة مشكلة الروح والجسد، وعبّروا عن إحساسهم بالصراع بينهما، وبرز هذا الصراع في قصيدة "على بساط الريح" لفوزي معلوف، فمنذ بداية القصيدة يريد فوزي التحليق بروحه لا بجسده، لاعتقاده أنّ الجسد يثقل عند التحليق، فهو لحم وعظم ودم وأصله من تراب. وتتعمّق هذه الرؤية للجسد في نشيد (العبد). إذ الجسد لديه عبودية لما له من رغبات وأهواء وانفعالات تقيّده، فيقول:
أنا في قبضةِ العبوديّةِ العمـ ... ياءِ أعمى مسيّرّ بغرورهْ
إنّ جسمي عبدٌ لعقلي وعقلي ... عبدُ قلبي والقلبُ عبدُ شعورهْ
وشعوري عبدٌ لحسّي وحسّي ... هو عبدُ الجمالِ يحيا بنورِهْ
كلُّ ما بي في الكونِ أعمى ومنقا ... دٌ على رغمهِ لأعمى نظيرهْ(1)
ويقابل الجسد الروح التي هي الخلاص والحريّة والشعلة التي لا تنطفئ فعندما يضرب فوزي بروحه بعيداً في آفاق الخيال تصير كلّ الكائنات له حاشية وأتباعاً، لذا يقول عن نفسه حين تتخفّف روحه من أدران الجسد:
مَلِكٌ قبّةُ السّماءِ لهُ قَصـ ... رٌ وقلبُ الأثيرِ مَسرَحُ حكمِهْ
ضاربٌ في الفضاءِ موكبُهُ النّـ م ... ورُ وأتباعُهُ عرائسُ حُلْمِهْ
ملكٌ ركنُهُ الهواءُ وما أقْـ ... واهُ رُكناً قامَ الخلودُ بدعمِهْ(2)
وقصيدة المعلوف هذه تمجيد للروح في مقابل الجسد، ومحاولة خلاص صادقة من قيود الجسد الراسفة إلى فضاء الحريّة.
والشاعر ينتصر للروح، ويرى أنّ الإنسان في الأرض محض تراب، فيقول:
هُو في الأرض حفنةٌ من ترابِ
__________
(1) المعلوف، فوزي، على بساط الريح، ص:79.
(2) المصدر نفسه، ص63.(1/127)
فأبُوهُ
طينٌ ومَاءْ(1)
ولذلك فالإنسان يحيا للشرّ في الأرض، ولا يسمو إلاّ عندما تتحرّر روحه، ويتخلّص من ربقة الجسد، وعندئذ يتحلّل جسده، ويغدو غذاءً تحيا به الزهور فيقول:
هُو يحيَا للشّر فالشّرُّ يحيَا ... أبداً حيثُ حلَّ شؤمُ رِكابِهْ
وهْو لا ينفعُ البسيطةَ إلاّ ... حيثُ يثوي في القبرِ بينَ رحابِهْ
حينَ يمتصّهُ الثّرى فيغذّي ... منهُ ما في الأديم منْ أعْشَابِهْ
يا لعَمْرِي كلُّ النباتِ الذي في الـ ... كونِ من زهرهِ إلى لبلابِهْ
ليسَ إلاّ عصيرُ أجسامِ مَن ما ... توا فزانوا الثّرى بأجملَ ما بِهْ(2)
ولعلّه بذلك يشير من طرف خفي إلى القول بأنّ المادة لا تفنى وإنّما هي في تحوّل دائم.
وتبدو الروح في قصيدة نسيب عريضة "على طريق إرم" سبيل الإنسان المعاصر للوصول إلى السعادة وإلى النبع الفيّاض الذي لا ينضب، لذا يخاطب نفسه قائلاً:
يا نفسُ رِفقاً ومَهلاً ... فأنتِ ظَعني ورَحلِي
فاصمتْ وسِرْ في السكونِ ... على طريق الجنونِ
لعلّه بعدَ حينِ ... يبدوُ لنا وجهُ ربّي(3)
ولعلّ الشاعر في عيشه وسط النهضة الماديّة الصناعيّة في أمريكا قد لمس بروحه الشفّافة عجز المادة العلميّة عن تحقيق السعادة، فلذلك لجأ إلى الروح.
ويظهر لدى شعراء الرحلات الخياليّة التعبير عن الصراع بين العقل والنفس، أو المعرفة والحبّ، وهذا الصراع هو امتداد للصراع بين الجسد والروح، ولقد شكّ بعض الشعراء بمقدرة العقل على تحقيق المعرفة الكليّة وفي ذلك يقول أنيس المقدسي:
وليسَ العلمُ يروي نفسَ صادٍ ... فما علمُ الأنامِ سوى رجوم(4)
وتطلّع الشاعر نفسه بالمقابل إلى الحبّ بوصفه طاقة روحيّة قادرة على تحقيق التواصل والسمو بالروح، وهو يقول في ذلك:
هلِ الدّنيا سوى قلبٍ شريفٍ ... يُجاهدُ في سبيلِ الوَاجباتِ
__________
(1) المصدر نفسه، ص:133.
(2) المصدر السابق، ص:135.
(3) عريضة، نسيب، الأرواح الحائرة، ص:195.
(4) المقدسي، أنيس، المورد الصافي، ع 10، ص:335.(1/128)
ويعملُ باسماً في كلّ حالِ ... وينظرُ باسماً للكائناتِ
ويزهو نامياً يوماً فيوماً ... إلى أسمى كمالاتِ الحياةِ
إلى الحبّ المطلّ من الأعالي ... إلى روحِ الوجودِ إلى النّعيم
هُو النّورُ الذي يهدي البَرايا ... فما تُجديكَ أنوارُ النّجومِ(1)
ويحمّل القلعجي الماديّة وزر دفع عجلة الزمان إلى الأمام في سيرها الحثيث وصولاً إلى ساعة القيامة، لأنّ القيامة وفق المعتقد الإسلامي لن تقوم إلاّ بعد طغيان المادة، وبعد أن تنطفئ شعلة الروحانية والإيمان في نفوس الخلق فتكون القيامة خاتمة لسلسلة الصراع الطويل بين الجسد والروح الذي بدأ بخلق الإنسان، فيقول:
الشّيخُ: الإنسانُ طغى وتجبّرْ
عبد الآلةَ.. صنعَ يديهِ، تكبَّرَ
أعطاها الثّقةَ الكُبرى
لم يذكرْ:
أنّ المعدنَ يُصهرْ
والمصنوعَ يُكْسَرْ(2)
ولقد كان للروح والجسد في صراعهما على مرّ الزمان رموز وأعلام تجمعهم ملحمة القيامة في عرصات الساعة متمايزين وفق المعطيات الإسلامية، فأغلب ملوك الأرض والطغاة والدكتاتوريين والدجّالين والأفّاقين والشذّاذ والفلاسفة الوضعيين والملحدين واليهود رموز للماديّة الطاغية المضطهدة، وكلّ الأنبياء والقديسين والمصلحين من الفلاسفة والعلماء والمفكرين والشعراء والبسطاء هم الفئة المقهورة في الأرض لأنّهم يرمزون للروحية الشفّافة.
ولم يجمعهم الشاعر إلاّ ليحقّق حلم الانتصار للروح على المادة يقول:
الدجّالُ: أيا مهديُّ.. أينَ تسيرُ
المهديُّ: رسولُ الله يدعوني إلى الموردْ
الدجّالُ: أغثني كأسَ ماءٍ، يا فداكَ أبي
المهديُّ: هي الكوثرْ
شرابُ المؤمنينَ اليومَ.. يا دجّالُ
الدجّالُ: أما لو شاء ربّكَ كنتُ مهديّاً
المهديُّ: "لكُمْ دينُكُمْ.. ولي دين"
لكُمْ حوضٌ.. لنا حوض(3)
__________
(1) المصدر السابق، ص335.
(2) القلعجي، عبد الفتاح، القيامة، ص:18.
(3) المصدر السابق، ص:60.(1/129)
وبخلاف ذلك كلّه، يعبّر شفيق معلوف عن نزوع نحو الجسد وبُعد عن الروح إذ يصوّر جنيّة تملّ روحها الخالدة، وتعرضها للبيع مُقابل متعة جسديّة فتقول:
ما نفعُ روحٍ خالدٍ عشتُ فيهْ ... ما زلتُ لم أحضنْ ولم أُحتضَنْ
يا حاملَ الجسم ألا أعطنيهْ ... وخذْ إذا شئتَ خلودي ثَمَنْ
روحيَ لا يَبلى فمنْ يرتضيهْ ... أحملُ ما في جسمهِ من شجَنْ
وشاحيَ النّاريّ من يشتريهْ ... فإنّني أبيعهُ بالكَفنْ(1)
وينزع الزّهاوي أيضاً إلى تمجيد العقل وإنكار كلّ ما عداه، بل إنّه يكفر بالروح ويدعو إلى ماديّة واضحة، فيقول:
غيرَ أنّي أرتابُ في كلّ ما قَدْ ... عجزَ العقلُ عنهُ والتّفكيرُ(2)
وفي جوابه للملكين حين يسألانه عن هاروت وماروت ويأجوج ومأجوج يقول:
قلتُ ما لي بكلّ ذلكَ علمٌ ... فبجحدي عقلي عليّ يشورُ(3)
وفي موضع آخر يقول:
ثمّ تلاّني للجبينِ وقَالا ... ليَ ذُقْ أنْتَ الفيلسوفُ الكبيرُ
قلتُ صَفْحاً فكلُّ فلسفتي قَدْ ... كانَ ممّا يمليهِ عقلي الصغيرُ(4)
ولقد عبّر شعراء الرحلات الخياليّة عن الصراع بين الروحانية والماديّة ورأى أغلبهم أنّ الحياة السعيدة الهانئة لا يصلح أساساً لبنيانها إلاّ قيامها على الروحانيّة واختلف عنهم شفيق معلوف في تعلّقه بالجسد وغالى من بعده الزهاوي في تمجيد العقل وإنكار الروح.
-الجبر والاختيار:
تعرّض محمد الفراتي لمشكلة الجبر والاختيار في قصيدته (في حانة إبليس) حين أظهر إبليس وهو يفضّل العنصر الشيطانيّ على العنصر البشريّ، فيقول:
فآدمُ كانَ مِن طينٍ ... ومن نارٍ بَرى نَبْعِي
ولا يسمو سموَّ النّا ... رِ ذاكَ الطينُ، بالطبعِ(5)
وهو يتفق في هذا التجديف مع بيتي بشار بن برد في قوله:
إبليسُ خيرٌ مِنْ أبيكُمْ أدَمَ ... فَتبيّنوا يا معشَر الفجّارِ
__________
(1) المعلوف، شفيق، عبقر، ص:181.
(2) الزهاوي، جميل صدقي، الديوان، ص:720.
(3) المصدر نفسه، ص:7725
(4) المصدر نفسه، ص726.
(5) الفراتي، محمد، النفحات، ص273.(1/130)
النّارُ مَعْدنهُ وآدمُ طينٌ ... والطينُ لا يَسمُو على النّارِ(1)
وإبليس يشكّك بالعدل الإلهي، لأنّه أخرج آدم من باب التوبة والقربى، وأخرج إبليس من باب اللعنة والرجم، يقول الفراتي على لسان إبليس:
عَصَيْتُ الأمرَ عن خطأ ... وعنْ قصدٍ عصى الأمرا
فقرّبَهُ وأبعدَنِي ... فقلْ لي كيفَ لا أضرى(2)
فإبليس في عصيانه يمثّل الاختيار الحرّ أمام الجبر الإلهي ويختلف عنه ابن راوندي الذي يرى أنّه واقع في المعصية والكفر مجبراً لا مختاراً، ولذلك ينكر العذاب ويثور معترضاً على الجبر الإلهي وفق تصوّره، فيقول:
أرادَ اللهُ أنْ نحيْا عليْها ... زنادِقَةً ونحيْا مارقينَا
وسُدّتْ دونَنا طرقُ المعالي ... ولمْ نُدركْ مقامَ النّابهينا
ولمْ نطق احتمالَ الجورِ منهُ ... ومنْ فوقُ سهامُ النّاقدينا
ولمْ نقنعْ بقسمتهِ وثرْنا ... عليهِ يومَ ذلكَ ساخِطينا(3)
كما عرض شفيق معلوف لهذه الفكرة في نشيد "ثورة البغايا" أولئك اللاتي ثرنَ على الله، واعترضن على قدره فيهنّ، إذ زجّ بهنّ في جهنّم وسامهنّ الخسف والهون رغم أنّه الذي خلقهنّ وخلق أفعالهنّ فيصرخن قائلات:
مذْ خلعَ اللهُ علينا المقلْ ... زوّدَنا بنظرةِ ضائعهْ
وشهوةٍ مُلحةٍ جائعهْ ... وبشرة هفّافةٍ للقبلْ
فمنْ لنا بطاعةِ الله وهـ ... و الذّي في وسطِ العاصفهْ
زجَ بنا بالأضلعِ الرّاجفهْ ... والجسدِ المُستسلمِ الواهي
ثُرنا عليهِ حينما سامَنا ... عَسْفاً فلمْ نصبِرْ على عَسفهِ
قَدْ حشدَ اللّذّاتِ قُدّامَنا ... وجيّشَ العذابَ مِن خلفهِ
أفتى بأنْ نقومَ في ربقَنا ... بجزيةِ العبدِ إلى ربّهِ
هُو الذي أذنبَ في خلقِنا ... وراحَ يجزينا على ذنبهِ(4)
__________
(1) ضيف، شوقي، العصر العباسي الأول، دار المعارف، ص:203.
(2) المصدر السابق، ص:274.
(3) الفراتي، محمد، الكوميديا السماوية، مجلة الحديث، مج 31- ع6، ص:348.
(4) المعلوف، شفيق، عبقر، ص:258-259.(1/131)
ويبلغ الاعتراض على إرادة الله لدى الحلاّج درجة التجديف، على نحو ما صوّره الزّهاوي، إذ يتّهم القدر بالخطأ، فيقول:
لِمَ شئتَ العذابَ لي ولماذا ... لمْ تُجرني منهُ وأنتَ المجيرُ
كانَ في الدّنيا القتلُ منهم نصيبي ... ونَصيبي اليومَ العذابُ العسيرُ
قلتَ: إنّ المقدورَ لا بدّ منهُ ... أوَ حتّى إنْ أخطأ المقدورُ(1)
والشيطان في تصوّر العقّاد مجبر على الشرّ، وليس مخيراً فيه، ولو أنّه حاول أن يكون خيّراً لخالف الإرادة الإلهيّة، ولعوقب، وبذلك فهو مجبر، لا مخيّر، فيقول في ترجمة شيطان:
خِلقةٌ شاءَ لها اللّه الكُنودْ ... وأبى منها وفاءَ الشّاكرِ
قدّرَ السّوءَ لها قبلَ الوجودْ ... وتعالى من عليمٍ قادرِ
قال: كوني محنةً للأبرياءْ ... فأطاعَتْ يا لها من فاجرهْ
ولو اسطاعتْ خلافاً للقضاءْ ... لاستحقّتْ منهُ لعنَ الآخرهْ(2)
ويتمنّى الشحرور عند محمد حسن فقّي في قصيدته "الكون والشاعر" لو كان طاووساً يزهو بحلته وزينته، أو قمريّاً يملأ الكون بأنغامه التي أودع الحبّ فيها تحنانه، لكنّه لم يستسلم لقدره، فيقول:
لكنّني والقُبحُ لي ميْسَمٌ ... كنتُ على المذبحِ قُربانَهُ
أظلُّ دامي القلبِ من لعنَةٍ ... فهلْ أنا الخالقُ خسرانَهُ
لو صغتُ نفسي كنتُ فنّانَها ... وكنتُ بادي الحسنِ فتّانَهُ
إنْ أخطأ الجاهلُ في وزنهِ ... صححتِ الأقدارُ ميزانَهُ(3)
ويلاحظ التعبير الانفعالي لدى معظم الشعراء عن مشكلة الجبر والاختيار من خلال شخصيات ثائرة ناقمة تتمثّل على الأغلب في شخصيّة إبليس، كما يلاحظ اقتراب بعضهم من التجديف، ولا سيما الزهاوي.
__________
(1) الزهاوي، جميل صدقي، الديوان، ص:734.
(2) العقاد، عباس، الديوان، ص:272.
(3) ساسي، محمد طاهر، شعراء الحجاز في العصر الحديث، ص: 51.(1/132)
لقد عالج شعراء الرحلات الخياليّة -من منظور دينيّ- تأمّلهم في مسألة الموت والحياة وتباينت آراؤهم تجاهها، غير أنّهم أكّدوا تشبثّهم بالحياة والحبّ مقابلاً للموت والفناء، كما وقف بعض الشعراء عند مسألة العلم والدين فانتصر للتفكير العلمي المادي، وحاول بعضهم الآخر الموازنة بحذر بين الاثنين، ورأوا في الروح أساساً للحياة الحرّة موجهين أصابع الاتهام للجسد، لأنّه سبب في تقييد أرواحهم عن الانطلاق والتحليق بعيداً. ووجد بعضهم في إبليس مثلاً للاختيار الحر أمام الجبر الإلهي غير أنّ الرؤية امتازت بالانفعالية.
*
الخير والشرّ:
الخير والشرّ خصمان متنافسان لا يفتأان يتصارعان في نفوس البشر وأهوائهم وتصرفاتهم، فإذا غلب الشرّ على الخير باتت النفس البشرية خربة عفنة لا تكاد تسيغ نفسها لو عرفت حقيقة أمرها.
ولقد بنى شفيق معلوف نظرته إلى الإنسان على أساس الشرّ الذي هو أصل فيه، لذلك لو نظر الإنسان إلى نفسه لعرف حقيقة الشرّ الكامن فيها. يقول:
فقُمْ وخُضْ لجّةً ديجورِها ... واعملْ على تمزيق جلبابِها
قُمْ فترى كيفَ شياطينُها ... تُطِلّ من عينيكَ في بابها
وكيفَ منْ فيكَ ثعابينُها ... تنسلُّ من فوُهةِ سردابها (1)
وقد جعل ذلك مبرراً لنفور الجن من الإنسان، ولاستعاذة عرافة عبقر من شرّه، فيقول:
فانتفضتْ والجنّ من حولها ... أجفلنَ وارفضضْنَ بين الشجر
ودمدمَتْ سُخطاً وقد هالها ... أنْ يُقْلِقَ الأرواحَ مرأى البَشَرْ(2)
__________
(1) المعلوف، شفيق، عبقر، ص151.
(2) المصدر السابق، ص:160(1/133)
وتأخذ صورة الصراع منحىً آخر لدى شاعر لا يرى الشرّ في نفس الإنسان، بل يراه في معتقداته وغيبيّاته التي يؤمن بها فالخير والشرّ لديه هما العلم والدين. فالعلم هو الخير وقوتّه التي لا تملك إلا العقل والضمير الحيّ، أمّا قوى الدين (الغيب) فيمثّلها منذ البداية منكر ونكير، ثمّ يمثّلها في الجحيم جيش الملائكة بقيادة عزرائيل، وجيش الخير يمثّله العلماء والمفكرون والشياطين.
ولعلّ في انتصار الزهاوي لجيش أهل الجحيم انتصاراً لقوى الخير، في زعمه، على قوى الشرّ، فالدين وغيبيّاته لا تأتي بالنفع على أحد فيما يقدّمه المرء لمجتمعه من خير، فيقول:
إنّما قدْ سألتُما عن أمورٍ ... هي ليسَتْ تُغني وليسَتْ تضيرُ
ولماذا لَمْ تسألا عنْ ضميري ... والفتى من يعفُّ منهُ الضّميرُ
ولماذا لمْ تسألا عنْ جهادي ... في سبيل الحقوقِ وهو شهيرُ
ولماذا لَمْ تسألا عنْ ذيادي ... عَنْ بلادي أيامَ عزّ النّصيرُ
ولماذا لَمْ تسألا عَنْ وفائي ... ووفائي لمَنْ صحبْتُ كثيرُ
ولماذا لَمْ تسألا عنْ مساعيّ ... م ... لإبطالِ الشرّ وهو خطيرُ(1)
ويبدو الخطأ قائماً في صلب تفكير الزهاوي، لأن الدين عنده مصدر شرور وتسلط وظلم، بخلاف ما هو عليه حقيقة، فهل الدين لا يحثّ على الصدق والجهاد والخير والوفاء والإخلاص..؟!
وتأخذ جدلية الصراع بين الخير والشرّ طابعاً رومانتيكياً عند فوزي معلوف ومحمد حسن فقّي. إذ يمثّل الإنسان الشرّ لدى فوزي معلوف في مطوّلته (على بساط الريح) فهو الذي استعمر أرضه وشرّده منها، وهو الذي يمتصّ عرقه وقوّته في مهجره، أمّا عنصر الخير فتمثّله الطبيعة هذه الأمّ الرؤوم الحنون على ابنها الشاعر.
وسرعان ما أنكرت الطيور والنجوم والأرواح هذا البشر الذي شقّ أديم مملكتها السماوية لظنها السوء به كأي إنسان آخر من البشر، فيقول:
أنا عَن وصْفِ شرّهِ عاجِزٌ و م ... اللهِ مَهما أفضْتُ في تِبيانِهْ
__________
(1) الزهاوي، جميل صدقي، الديوان، ص: 723-724.(1/134)
ما دَعوهُ الإنسانَ من إنسهِ لـ م ... كِنْ دَعوهُ الإنسانُ مِن نسيانِهْ
نسيَ الخيرَ حينَ أوغلَ في الشّرِّ ... م ... فداسَ الضميرَ في عِصيانِهْ
ملأتْ قَلبَه الأفاعي فَلا يُسْـ ... معُ غيرُ الفحيحِ في خَفقانِهْ
حَسَدٌ نَاهِشٌ بقيّةَ ما في ... نفسهِ من إبائِهِ وحنانِهْ(1)
ولكنّ الشاعر في النهاية هو غير بقيّة البشر الذين يعيشون معه ويتصفون بهذه الصفات لأنّ روح الشعر تخلّصه من النقص والشرور وترتفع به فوق مقام الإنسان ابن الخطيئة، وهذا يعني أن الشعر عند المعلوف هو الخلاص، إذ يرقى به الإنسان ويتخلّص من نزعة الشرّ لديه، والشاعر بذلك كلّه ينمّ عن نزعة رومانتيكية واضحة.
وتقوم رؤية الفقّي على أساس هذا الصراع بين الخير والشرّ من خلال بُعد خيالي فالشرّ يصول على الخير فيغادره صريعاً، ويحوّل العالم إلى مسخ من الشرّ العقيم فيمدّ للمجرم في إجرامه ويمنع أهل الإيمان من إيمانهم، فيؤلّه الناس الطواغيت، فإذا ما دارت على الشرّ الدوائر نسي أعوانه وأهله وتنكّر لهم، في حين ينتصر الخير للحلم والصبر والأناة والرحمة قبل كلّ شيء فلا يعاقب الشرّ بالشرّ وإنمّا يتركه وشأنه فيكفيه -أي الشرّ- ما فيه من شرور لتأوي إلى وحشته وأطلاله كلّ الرذائل وغربان الآثام وبوم الأحزان. ثمّ يوضّح هذه الرؤية على طريقة فوزي معلوف بوساطة الطبيعة، فيختار الطيور المرتبطة بالبراءة والرقة والسمو ويجعل- على ألسنتها- رؤيته لأولئك الناس الذين غلبت عليهم شرورهم وزيفهم وخداعهم، في حين لا تعرف الطبيعة شيئا ًعن هذه الطباع، يقول:
الزّيفُ في النّاسِ وأمّا هُنا ... فالطّيرُ لا يخدَعُ إِخوانَهُ(2)
__________
(1) المعلوف، فوزي، على بساط الريح، ص: 141-142.
(2) ساسي، محمد طاهر، شعراء الحجاز في العصر الحديث، ص: 53.(1/135)
ثمّ ترتقي شخصيات الخير من الطير إلى الملائكة -بما اشتهر عنهم من طهر- لأنّهم العباد المقرّبون للحضرة الإلهية، والإخلاص في العبادة هو الذي يرفع إلى المقامات السنيّة، فيقول:
ورأيْتُ الأملاكَ تَهفُو إلى اللهِ ... وتفضي إلى السّنا العبقريّ
وسمعتُ اللّحنَ السّماويّ يَشدُو ... بالتّسابيحِ مِن فمٍ علويّ(1)
وتتفق رؤية الفقّي للشاعر مع رؤية فوزي معلوف، فالشاعر عنده رمز للخير وهو بريء من آثام الإنسان وشروره، بفضل ما أوتي من شعر، يرفعه إلى مصاف الأنبياء، وإن كان قد جبل من ماء وطين، فيقول:
وسَيلقَى هُنا الكرامةَ ما ظلَّ ... م ... فإنّي الحفيّ بالشّعراءِ
إنّ في طبعهِ نُزوعا إلى الرّشـ ... دِ يقيهِ إذا أضّلَّ السّبيلا
هُو كفلٌ مِن النّبوّةِ لَولا ... أنّني ما اتخذتُ منهُ رسُولا(2)
أمّا (القيامة) لعبد الفتاح القلعجي فقد كانت تتويجاً للصراع بين الخير والشرّ، فالشرّ تنمر في الأرض وصار له دولة وسلطان، وغدت رموزه واضحة، هذه الرموز التي دفعت عقارب الساعة سريعاً حتّى ساعة اختصار الكون، هذه الساعة أو مقدّمات القيامة كانت إكليل الغار الذي تُوّج به الشرّ في انتصاره على الخير، فيقول:
ثمّ تمطّى الشّرّ
ولوى الدّهرُ عِنانَ حِصانِهْ
نحوَ حُقولِ الطّينِ اللاّزبْ(3)
ولكلّ من الخير والشرّ رموزه البشرية والحيوانية والخلقية، فالقتل والحروب والفسق والعريّ والظلم والفتن والطغاة والجبابرة والدجّالون والفراعنة رموز الشرّ التي قادت أحداث الشرّ في الأرض، وفي المقابل فإنّ للخير رموزه هو الآخر كالأديان السماويّة والأنبياء والمصلحين والمهدييّن والعلماء والمفكرين والمثقفين. إلخ. يقول:
الشّيخُ: خرجَ النّسوةُ في أثوابِ العُرْي
وسادَ الجنسُ، اللونُ الأحمرْ
الفتاةُ: خرجَ الدّجّالونَ يقولُ الواحدُ مِنهمْ:
__________
(1) فقي، محمد حسن، الديوان، مج 1- ص: 80
(2) المصدر نفسه، مج 1، ص: 81.
(3) القلعجي، عبد الفتاح، القيامة، ص: 10.(1/136)
إنّي يا قومُ رسولُ اللهِ
الشّيخُ: امتدّتْ نجمةُ داوّد
فدمّرَهَا سيفٌ إسلاميٌّ بتار(1)
وتبقى المعركة دولاً بين الخير والشرّ في ملحمة القيامة حتّى تقوم الساعة على انتصار الشرّ الذي ألَّه العقل البشري. وتبدو رؤية الشاعر الفكريّة مبنيّة على الحديث النبويّ الشريف: "لا تقومُ الساعةُ إلاّ على شرارِ الخلق" (2) ومن ثمّ تكون القيامة والبعث والحساب والمطهر والجنّة والنار انتصاراً للخير ورموزه في تحقيق الفرح والسعادة الأبديين، يقول:
يا روادَ جهنّمْ
(( ما أغنَى عنكُمْ جَمعُكُمْ
وما كُنتُمْ تستكبرُونْ ))
يا أصحابَ النّارِ
هذا الدربُّ إلى النّارِ
قطيعاً مِن حزنٍ سِيرُوا
يحزركُم لومٌ وشِنّارُ
يا أصحابَ الجنّةِ
(( أدخُلوا الجنّةَ
لا خوف عليكُمْ
ولا أنتُمْ تَحزنُونْ))(3).
وواضح انتصار شعراء الرحلات الخياليّة لنوازعهم الإنسانيّة الخيّرة على النوازع الشريرة بكلّ ما تمثّله هذه النوازع من استعمار وطاغوت وظلم وفساد وقد وجد بعضهم في الشعر ميزة ترفع الشاعر فوق غيره من البشر الذين ظنّ بهم رواد الرومانتيكية ظنّ السوء، فلجؤوا إلى الطبيعة يلتمسون لديها الخير والبراءة الأولى، في حين انتصر بعضهم عقائدياً للخير في معركته مع الشرّ كما فعل القلعجي في ملحمة (القيامة).
ثانياً: المعاناة:
الفساد العام:
يشير الفراتي في حواره مع إبليس إلى المفاسد التي انتشرت في مجتمعه من خلال تظلّم إبليس ومحاولته نفي تهمة الإغواء عن نفسه، فيقول:
هلِ الشيّطانُ يَحدُوكمْ ... إلى الماخورِ والسُّكْرِ
متى أصبحتُ قائدكمْ ... إلى التّدميرِ والقتلِ
متى أمسيتُ رائدكُمْ ... إلى التّضليلِ والختْلِ
متى يوماً تصبّتني ... بها المرأةُ والكرسي
متى كنتُ كهذي النّا ... س لمْ أعبُدْ سوى نفسي(4)
__________
(1) القلعجي، عبد الفتاح، القيامة، ص:10
(2) ابن حنبل، أحمد، المسند، حديث رقم: 3930
(3) المصدر السابق، ص: 112-113.
(4) الفراتي، محمد، النفحات، ص: 274-275(1/137)
ولم يترك الفراتي مفسدة في مجتمعه إلا هاجمها في رحلته الخياليّة، حتى الصوفيّة لم تفلت من قبضته إذ عدّها واحدة من مفاسد المجتمع الإسلامي. حيث عزفت عن دينها الصحيح ولجّت في غياهب الجهل والشعوذة، فسيطرت على أفهام البسطاء والسذّج من الناس.
أمّا الهوني فغالبية أفكاره في الرحلة تدور حول نقد القيم الاجتماعيّة الفاسدة. فما أخرجه عن الأرض إلاّ فساد أهلها فيها، واختلاط الطالح بالصالح، حتى غدا كريم النفس والطباع كخسيسها، وتبرز حدّة هذا الشعور بالإحباط في حوار الشاعر مع الملك إذ غدا الختل طابعاً لبني البشر يرى في وجوههم، فيقول:
وقلْتُ: لَهُ باللهِ كيفَ عرفتني ... فقالَ: على جبهاتكُمْ طابَعُ الختْلِ(1)
كما يستعيد الهوني إلى الذاكرة اتّهام الملائكة للبشر بالإفساد في الأرض فيقول:
فقلتُ ألا زِلتم تقولونَ هكذا؟ ... وقد قُلتُمُ في آدمَ القَولَ مِنْ قبل
ولمّا أرادَ الله إسنادَ مُلكهِ ... لآدمَ قلتُمْ يُفسدُ الأرضَ بالقتلِ
فقالَ: نعم قُلنا بأمرِ إلهِنا ... وإنّ الذي قلناهُ حُقّقَ بالفعلِ(2)
وعندما يشكو الشاعر حاله لأبيه آدم التي دفعت به إلى الخروج عن عالم الأرض الفاسد إلى السماء لالتماس الطهر يعدّد كثيراً من المفاسد الاجتماعيّة التي سادت على وجه البسيطة وغيرت حالها، يقول:
وصارُوا كأنّ القومَ لا همّ عندهُم ... مِنْ الدّينِ والدّنيا سوى الشّربِ والأكلِ
ولو يا أبي شاهدْتَهمْ لوجدتَهمْ ... طغَوا وبغوا واستبدلُوا العلمَ بالجهلِ
وصارَ لديهِمْ صاحبُ العَدلِ ظالماً ... وذو الظّلم يُدعى بينهم مِن ذوي العدلِ(3)
__________
(1) الهوني، إبراهيم، الديوان، ص: 36.
(2) المصدر السابق، ص:37.
(3) المصدر نفسه ص: 39.(1/138)
وهكذا يعمّق الهوني رؤيته نحو المجتمع الفاسد في مكان انطلق إليه على جناح الخيال، وربّما لم ينطلق هذه الانطلاقة إلاّ عندما يئس من صلاح بني البشر على الأرض فالتمس الصلاح في السماء بعيداً، ولكن هيهات هيهات فإنّ المكوث في السماء يحتاج إلى تطهّر من الجسد المثقل بأدران الماديّة، وهذا لا يتمّ إلا بالموت، وهنا تقترن المثاليّة عند الهوني بالموت، فيتحوّل الموت، تلك المأساة خلاصاً لذيذ المعاناة عنده، لأنّ فيه الخلاص من هذا المجتمع الفاسد، فيقول:
فقلتُ: أبي أبغِي المكوثَ بساحِكمْ ... مللْتُ لعمري عيْشَةَ الضّنكِ والذّلّ
فقالَ: مكوثُ المرءِ عندي محرّمٌ ... إذا لمْ يُطهّرْ بالمماتِ من الغلّ
فقلتُ: سلامُ اللهِ ثمّ تركتُهمْ ... وأُرجعْتُ رغم الأنفِ للعالمِ السفلي(1)
ويركّز عبد الفتاح القلعجي في ملحمة القيامة على المفاسد الاجتماعيّة التي ساقت عجلة القيامة قُدماً للوصول إلى ساعة النهاية الدنيويّة والبداية الأخرويّة فتراه يعدّد بعض هذه المفاسد التي أصابت المجتمعات الإنسانيّة، فيقول:
الشيّخُ: وتتالتْ إرهاصاتُ الناقورِ
وأوحَلَ في الطغيانِ القتله
انفجرتْ في الأرضِ حروبٌ
غُسِلَتْ بالدّمْ(2)
ولقد تحوّل المجتمع في ملحمة القيامة إلى كتلة من المفاسد لا تكاد تخلو من نقيصةٍ في الكون إلاّ تلبّست أهل الساعة الذين قال عنهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: "إنهم شرار الناس"(3).
وفي هذا الاتهام أكبر طعنة يوجّهها القلعجي للمجتمعات الإنسانيّة التي يقول عن أرواح البشر فيها:
"ثمّ تسربلَهُ الرّوحُ الشيّطانيّ" (4)
__________
(1) المصدر نفسه، ص:40.
(2) القلعجي، عبد الفتاح، القيامة، ص:10.
(3) ابن حنبل، أحمد، المسند، حديث رقم 3930.
(4) المصدر السابق، ص:13.(1/139)
إذاً عبّر هؤلاء الشعراء عن القيم الاجتماعيّة التي سادت مجتمعاتهم الإنسانيّة رغم أنّهم حلّقوا بعيداً عنها فهم لم ينسوا ساعة أنّهم أبناؤها فكشفوا كثيراً من القيم الفاسدة التي سببّت لهم هذه الحالة النفسيّة المأزومة وربّما أرادوا بطرف خفيّ الدعوة إلى نقيضها وبناء الحياة الأمثل والأفضل، وعليه لا بدّ أن تكون هناك دعوة للقيم الأخلاقية الفاضلة.
فساد الأخلاق:
ومن أبرز هذه الأمراض الاجتماعيّة ما يتجلّى في اختلال المفاهيم حيث يختلط الفاضل بالرديء حتّى ما يبقى إلاّ خيط واهٍ يميّز بينها نحو قول شفيق معلوف:
فاندسّتِ الكبرياءْ ... تحتَ حجابِ الحسبْ
وتحتَ سترِ الإباءْ ... غلغلَ وجهُ الغضبْ
وانقلبَ العنادُ ... بينَ الورى حزمَا
وصارَ الاستبدادُ ... في عرفِهمْ عَزْما
وأصبحَ الجشعُ ... أسمى مَزايا الرّوحِ(1)
ويتعمّق هذا الاختلال الذي يتّهم به شفيق المجتمع المعاصر في حادثه تاريخيّة رمزيّة. في نشيد حلم هراء. هذا المخلوق الأسطوي الذي يوحي الأحلام للبشر.
وفيه قصّة حلمه الذي أوحاه لأميّة بن أبي الصّلت الشاعر الجاهلي الذي كان يهيّئ نفسه للنّبوّة. إذ كشف له عن سريرته السوداء العفنة المبطّنة بالحسد والحقد اللذين ينهشان شفافية الروح فيها، وإن بدت ظاهراً هيّنة ليّنة فإنها تتجلى عن حقيقتها تحت مخاض الرياء في قلبه، فهاله ما رأى فيها، فيقول:
أذاكَ قلبي أنا ... تاللهِ قلْ يا هُراءْ
إذا قلوبُ الورَى ... كانَتْ وقلبي سَواءْ
وكانَ ما بِي بِهِمْ ... لا كُنتُ في الأنبياءْ(2)
ويوجّه شفيق في (أبناء إبليس) طعنة عنيفة للمجتمع الذي ينصاع وراء مثل هذه المفاسد التي يمثّلها أبناء إبليس كحبّ المال والبخل الذي يصل درجة العبادة، يقول:
شيطانُ شِعْري انْبرَى ... وقالَ هلْ مَنْ تَرى
غيرَ زلنبورِ ... مذهَبِ الأغلالِ
مفضّضِ النّيرِ ... معبوْدِ أهلِ المَالِ
فهو إذا ما نَصبْ ... ميزانَه في يديْهْ
__________
(1) المعلوف، شفيق، عبقر، ص: 196-197.
(2) المصدر السابق، ص:229.(1/140)
تنشبُ حربُ الذّهبْ ... والرّوحُ في كفتيهْ(1)
ولكنّ الحضيض في الأخلاق الفاسدة ذلك الخلق الذميم الذي تسير كلّ الأخلاق الفاسدة والنواقص تحت لوائه إنّه الكذب، ذلك الخُلق الذي لا يدانيه خلق من الأخلاق الفاسدة. ولعلّه يتوافق في هذا الرأي مع الحديث الشريف في قوله صلى الله عليه وسلم: "يطبع المؤمن على الخلال كلّها إلاّ الخيانة والكذب"(2).
يقول شفيق:
وبانَ مسوطُ ... فُجاءةً يقتربْ
كأنّ مُديةً ... من شفتيهِ تثِبْ
إنْ يروِ مصلتاً ... ذاكَ اللسانِ الذربْ
يَغصّص بريقهِ ... وجفنُهُ يضطْربْ
كأنّ بعضَهُ ... ببعضِهِ يحتجبْ
وسارَ رافعاً ... رايتَهُ المشرْعهْ
فسارَ خلفهُ ... إخوتهُ الأربعهْ(3)
وأمّا سيطرة الشهوة على المجتمع فهي من أفتك الأمراض التي تحلّ عُرى المحبّة والتعاون وتؤدي إلى انهيار المجتمعات الإنسانية، يقول شفيق على لسان شيطان الشهوة:
وذاكَ أعورْ ... أطلّ ينظُرْ
مِنْ ظاهِر الهّوهْ ... وقالَ: إنّي أنا
حامِي ذمارِ الخنَا ... والعُهر والشّهوهْ
شرارتي في العُيون ... حريقةُ الدّمِ
أنا مُثيرُ الجنُونْ ... والفمُ لصقَ الفم
ما اتكأ العاشِقوُنْ ... إلاّ على مِعْصَمي
كمْ ذاقَ خمري عاشقٌ فالتوى ... مُعربداً في سكراتِ الهوَى
مهدّماً ببعضهِ بعضَهُ ... وهْوَ على الأنقاضِ يمشي السّوى(4)
والفراتي يوجّه سياط نقده اللاذع لمجتمعه ولمفاسده الاجتماعيّة حين يستقرئ ذلك في مرآة إبليس في قصيدته (في حانة إبليس) فيقول:
وجالَ الطّرفُ في المرآ ... ةِ يستقري الأعاجيبا
فلمْ يُبصِرْ سِوى ذئبٍ ... يطارِدُ مثلَهُ ذيبا
ولمْ أُبصرْ سِوى الأنثى ... يجدُّ وراءَ ها الفحلُ
وغيرَ العُرسِ في الدّنيا ... لدى الزّوجينِ لا يحلو(5)
__________
(1) المصدر نفسه: ص: 207-208.
(2) ابن حنبل، أحمد، المسند، حديث رقم 21149.
(3) المصدر السابق، ص:200-201.
(4) المصدر نفسه، ص: 210-211
(5) الفراتي، محمد، النفحات، ص: 273.(1/141)
فدلالات المعنى تنقد أبناء المجتمع الذين يضيّعون حياتهم جرياً وراء شهواتهم، سواءٌ أكانت شهوة المال أم القتل أم الاغتصاب أم الشبق الجنسي الذي لا يشبع.
لقد أسهم شعراء الرحلات الخياليّة في عكس معاناة الإنسان، هذه المعاناة التي تبدأ بأعماقه وما يدور فيها من صراع بين الخير والشرّ منتصرين لنوازع الخير وقوتّه التي تمثلت بالروح مقابل المادة -اللهمّ- إلاّ الزهاوي الذي وجد الشرّ في قوى الغيب والدين، كما ندّد الشعراء بالمفاسد الخلقّية ودعوا في المقابل إلى القيم المثالية العليا التي ترفع شأن الإنسان، ولم يكونوا بمنأى عن الحياة السياسيّة التي عاشوا همومها ففضحوا المستعمر ودعوا إلى مقاومته.
ثالثاً: الخلاص
-الشعر والحبّ والفنّ:
خرج شعراء الرحلات الخياليّة بعيداً عن أرضهم بحثاً عن الحياة المثالية التي يئسوا من وجودها عليها، فبرزت لديهم الدعوة إلى القيم المثالية التي يمكنها تحقيق الخلاص للبشر ممّا ألمّ بهم من مفاسد وظلم.
ولا يزال الشعر واحداً من أهم الأصوات الداعية للقيم الإنسانية الفاضلة فهو سبيل الرقي وسلم المعالي. ولمّا كان الزهاوي يناصر هذه الدعوة التي ترى الفن للحياة فإنّه يرى أنّ الشعر منبر للجماهير، يربط ما ضي الأمة بحاضرها ويستشرف آفاق مستقبلها، فيقول:
وسَلاني عمّا نظمْتُ من الشّعـ ... رِ فبالشّعرِ يرتقي الجمُهورُ
وسلاني عنْ نصريَ الحقّ وثّا ... باً بهِ وهْوَ بالسّؤالِ جديرُ
إنّما الشّعرُ سلَمّ للمعالي ... ثمّ فيهِ لأمّةِ تحريرُ
إنّه تارةً لقومٍ غَناءٌ ... ليناموا وتارةً تحذيرُ
وسلاني عنْ جعليَ الصّدقَ كالصـ ... خرِ أسَاساً تُبنَى عليهِ الأمورُ
وسلاني عن حفظيَ الفنّ مِنْ أنْ ... يعتريه قبلَ التّمام الدّثورُ(1)
__________
(1) الزهاوي، جميل صدقي، الديوان، ص: 724.(1/142)
وليست هذه النظرة ببعيدة عن رؤية الشاعر محمد حسن فقّي في قصيدته (الله والشاعر) حين يجعل الشاعر كفلاً للنبوّة غير أنّ الله لم يتخذ من الشعراء نبيّاً، فيقول:
وسَيلقَى هنا الكرّامةَ ما ظلْ ... فإنّي الحفيّ بالشّعراءِ
وتَرامَى إليّ هَمْسٌ خَفيّ ... من صُفوفِ الأملاكِ يعجَبُ مِنّي
مَنْ تُراهُ هذا وما هُو الشّعـ ... رُ أفَنٌ يسْمُو على كلّ فنّ
ما رأينا مِن قبلِهِ حظّ إنسٍ ... أوْ رأينا كمثلِهِ حظّ جنّ
هُو كفلٌ مِن النّبوّةَ لولا ... أنّني ما اتخذْتُ منهُ رَسولا(1)
وروح الشعر هي وسيلة الخلاص التي ترتفع بالشاعر بعيداً عن عالم التراب إلى عالم النور والجلال والجمال، يقول فوزي:
أيّ روحٍ في بردةِ الشّعراءِ
رفعَتْهُمْ
على الهواءْ
أبعدتْهُم عن عالم الأحياءِ
قرّبَتْهمْ
من السّماءْ(2)
إلى قوله:
لستِ مِنْ عالمِ التّرابِ وإنْ كُنْـ ... تِ تَقَمّصتِ بالتّرابِ عَليهِ
أنْتِ مِنْ عالمٍ بعيدٍ عنْ الأَرْ ... ضِ يفيضُ الجَلالُ عَن جانبيهِ
نسمةُ الشّعرِ أنتِ فيهِ تبثّيـ ... نَ أَريجَ الشّعورِ في بُردتيهِ
هُو فردوسُكِ السّحيقُ فلا الإثْـ ... مُ ولا الشّرُّ يبلغانِ إليهِ
وفتى الشّعرِ فيهِ يستنزلُ الوحـ ... يَ بياناً يجثّو الخلودُ لديهِ(3)
ووجد شعراء الرحلات في الحبّ أفضل وسائل الخلاص من هموم الحياة الماديّة ومتاعبها ومن الشرور التي تنكّد عيش الإنسان لذا يأبى شفيق معلوف أن يكون الحبّ في الجنّة لأنّ الأرض أولى به، فيقول:
والحبّ في الجنّةِ ما شأنّهُ ... ولا أذّى فيها ولا بُغضُ
ألقُوهْ للنّار وإنْ أرْمضتْ ... أقدامَهُ المواطئ الرّمضُ
وليتَلقّفهُ شُواظُ اللّظى ... وليتلهّمْ بعضَهُ البعضُ
فالأرضُ إن كانَتْ جَحيماً لهُ ... وكانَ فيها تَهنأ الأرضُ(4)
__________
(1) الفقي، محمد حسن، الديوان، مج 1- ص: 81.
(2) المعلوف، فوزي، على بساط الريح، ص: 69.
(3) المصدر نفسه، ص:70
(4) معلوف، شفيق، عبقر، ص:320(1/143)
وهو الهدف السامي الذي تطمح إليه النفس الإنسانيّة لأنّه نورها الذي يهديها إلى السعادة الحقيقية التي لا يزال الإنسان يبحث عن أسبابها، لذا جعله المقدسي سبيل السعادة، فيقول:
هلِ الدّنيا سوى قلبٍ شريفٍ ... يُجاهدُ في سبيلِ الواجباتِ
ويعملُ باسماً في كلّ حالٍ ... وينظرُ باسماً للكائناتِ
ويزهو نامياً يَوماً فيوماً ... إلى أسمى كمالاتِ الحياةِ
ويقول:
إلى الحبّ المطلّ مِن الأعالي ... إلى روحِ الوجودِ إلى النّعيم
هو النّورُ الذي يَهدي البَرايا ... فما تُجديكَ أنوارُ النُجومِ(1)
ولعلّ التشوّق إلى الحياة النبيلة والقيم العظيمة هو الذي حدا بالشعراء إلى العوالم البعيدة زماناً أو مكاناً لرسم ملامح الإنسان المثالي الذي حلموا دوماً به، أمّا المكان المثالي الذي تاقوا لإيجاده بديلاً عن عالم يرسف فيه الشاعر بقيود جسده إلى الأرض لذا رسم فوزي معلوف مكانه الخيالي الذي يتلاءم وروحه التوّاقة للانطلاق يقول:
مَوطِنُ الشّاعرِ المحلّق منْذُ الـ ... بدءِ لكنْ بروحِهِ لا بجسمِهْ
أنزلَتْهُ فيهِ عَرُوسُ قوافيـ ... هِ بعيداً عنِ الوُجودِ وظُلمِهْ
مَلِكٌ قبّةُ السّماءِ لَهُ قَصـ ... رٌ وقلبُ الأثيرِ مسْرَحُ حُكمِهْ
ضاربٌ في الفضَاءِ موكبُهُ النّـ م ... سورُ وأتباعُهُ عرائسُ حُلْمهْ
مُلكُهُ ركنُهُ الهَواءُ وما أقـ ... واهُ ركناً قامَ الخلودُ بدعمِهْ
عَرْشهُ سدّةُ السّحابِ عَليها ... نفضَ الليلّ كلّ رهبةِ رسمِهْ
تاجُهُ هَالةٌ ويَنْضُدُ في فضّـ ... تها الأُفْقُ بدرَهُ قربَ نجمهْ
والدّجى طَيْلسَانُه فاحَ كافو ... رُ دَراريهِ فوقَ عنبر فَحمِهْ
والثُّريا في كفّهِ صَوْلجانٌ ... درّهُ لمّه الصّباحُ بكُمِهْ(2)
وتأخذ صورة المكان بعدها المثالي في تصوّر رشيد أيوب لتلك الحياة التي ربّما تكون في عالم المرّيخ، فيقول:
__________
(1) المقدسي، أنيس، المعري يبصر، مجلة المورد، مج 10، ص: 335.
(2) المعلوف، فوزي، على بساط الريح، ص: 61-62.(1/144)
هنالِكَ في المرّيخِ عَايَنْتُ خُضْرةً ... كأَحْسَنِ خَلْق اللهِ لوناً وفِطْرةً
تدومُ إلى ما شاءَ ربُّكِ عبرةً ... تَراهَا إذا ما جالَ لَحظُكَ مرّةً
بعين مروجُ عُرفها الدّهرَ ذائعُ
وفيهِ رياضٌ باللطائِفِ تُوصَفُ ... وفي وَسْطِها عينٌ مِنَ الدّرّ تذرِفُ
يمرّ بها صافي النّسيم فتألَفُ ... ويُطرِبُها صوتُ النّعيمِ فتعطِفُ
وتبقى دُهوراً والصّفا متتابعُ
مَغان من الياقوت تُبنى قُصُورُهَا ... وقَدْ كُوْنَتْ حَصْبَاؤُهَا وصُخُورُهَا
ومِنْ تحتِها الأنهارُ قد شفّ نُورُها ... يعزّ على طيرِ السّماءِ عُبُورُهَا
ومِن فَوقِها بَرقٌ مدَى الدّهرِ لامِعُ
كأنّيَ شَاهدْتُ الجِنَانَ وآلَها ... وهيهاتَ أنسى عزّها وجمالَها
هنالكَ أشباحٌ تمنّيتُ حالهَا ... فسبحانَ من أهدَى إليها جمالهَا
مسربلةً بالحسنِ واللّطفُ واسعُ
وشاهدتُ نهراً حيثُما هيَ تعبدُ ... وتجثو لربِّ الكائناتِ وتحمدُ
تخالُ إذا عاينتهَا وهْي تسجدُ ... طيوراً على ذاكَ الغديرِ تُغرّدُ
فيا مَا أحلاها ونِعمَ المراتعُ(1)
ولقد رسم محمد الفراتي في (الكوميديا السماوية) صورة مثالاً لمجتمع مثالي في كوكب العباقرة بقوله:
نظرتُ إلى مدائنَ عامرات ... وجنّاتٍ بها دانٍ جناهَا
تخالُ ترابَها مسكاً ذكياً ... وياقوتاً ومرجاناً حصاها
مدائنُها تحيّرُ كلّ راءٍ ... وأجملُ مِنْ مدائِنها قُراهَا
تضيءُ قصورُها مِنْ غيرِ نورٍ ... فيصبحُ كالنّهار بها دُجاهَا(2)
وعن إنسانة هذه الكوكب يقول:
تناهَتْ في اللّطافة فهيّ تبدّو ... كعاريةٍ ولمْ تخلعْ رداهَا
إذا غنّت على الأوتارِ لحناً ... ترجّعهُ الملائِكُ في عُلاهَا
وإنْ رقصَت تراقصَتِ الدّراري ... على حركاتِها وعلى غِناهَا
تغازلُ منْ تَشاءُ بلا احتشامٍ ... ولم تعرفْ بكوكبها السّفاهَا
مباحٌ كلّ ما تأتي ولكنْ ... لغيرِ البعلِ لم تحلِلْ عُراهَا(3)
__________
(1) أيوب، رشيد، الأيوبيات، ص: 153-154-155.
(2) الفراتي، محمد، الكوميديا السماوية، مجلة الحديث، مج 31- ع6، ص: 350.
(3) المصدر نفسه، ص: 351.(1/145)
ويتمثّل الخلاص لدى القلعجي في الجنّة، مأوى الأنبياء والأتقياء والمؤمنين الصالحين، وقد وصف كلّ ما يتعلّق بها فوصف الطريق إليها، إذ يزدحم على أرصفته الفرح المتوثّب، وتتراصّ الملائكة على جنباته لترشق المؤمنين ولتغرس في طريقهم البسمة، فيقول في وصف جبل الرحمة:
جَبلُ الرّحمهْ
في كُسوتهِ أشجارُ الغُفرانِ
يصعَدُهُ السّالكُ نحوَ الفردوسِ الموعودِ
يجرّ رداءَ الإيمانْ
زمرٌ.. زمرٌ
مِنْ فوقِهم ظُلَلٌ
مِنْ تحتِهم ظُلَلٌ
مزّجاةٌ في منتشرِ الرّضوانْ(1)
ثم يصف أبواب الجنّة، وما فيها من السعادة والسرور، فهي سبعة أبواب منها:
باب الخَلْع، والصفا، والرّداء، والرّحمة، والجذب، والرّؤية، والفناء فيقول في باب الفناء:
سبّوحٌ.. سبّوحْ
أوزعْني يا ربّ
أنْ أشكرَ نعمتَكَ النّعماء
هيولايَ انصهرتْ في الفُغْمَةِ
سقطَ نصيفُ الرّوحِ
ولاحَ مقامٌ محمودٌ
ترفعُني كفُّ اللهِ إلى فلكِ القُبلهْ
أفنى.. أفنى في الصّمديّة
وهمٌ كانَ الموتُ
ها.. إنّي أفنى
.. أُولدْ(2)
ويكثر القلعجي في وصف الجنّة ومتعها ومسرّاتها فيصف الملائكة والمؤمنين بمراتبهم، وأسواقها ومجالسها وأماكن التنزه فيها.. وغيرها..
لقد أراد الشعراء في الرحلات الخياليّة أن يعيشوا ظروف مجتمعاتهم، وأن يبنوا بآن معاً مجتمعهم المثاليّ الذي يحلمون به، مجتمع المسّرات واللذائذ بعيداً عن غصص المظالم والمفاسد والحروف والقتل والتدمير.
فكان الشعر والحبّ والفنون دعائم هذه النظرة المثالية ودستورها ورائدها الذي يستشرف آفاق المستقبل ورؤاه.
رابعاً: الرّؤى الذّاتية والنوازع الإنسانيّة:
لقد حاولت بعض الرحلات الخياليّة- رغم رومانتيكيتها- تجاوز واقع التعبير عن الذات الفرديّة لتعبرّ عن بعض الرؤى الإنسانيّة ولم لا؟ والأدب أحد الأسس الهامّة في بناء الحضارة الإنسانيّة، وله دوره الرياديّ الواضح في ذلك.
__________
(1) القلعجي، عبد الفتاح، القيامة، ص: 166-167.
(2) المصدر السابق، ص:167.(1/146)
فقد بدت مطوّلة الهمشري في ظاهرها حديثاً عن الذات الفرديّة، فهي تعبّر عن ارتقاء الروح الفرديّ، ومروره بأطوار من الحزن والمكابدة، مكابدة الأهوال والآلام في سبيل الوصول إلى تطهير النفس من الخوف، ذلك الخوف الذي يأخذ بمجامعها، فصارت تشعر بشبه موات في حياتها فـ (هي خلجات أنهكت قوى هذا القلب وأحالت شعاع الأمل الربيعي الضاحك إلى خطفات باهتة من شفق شتاء، وما زالت تخفق على ضعفها في محراب الحبّ. وزادت هذه الحال في نفسي سوءاً فهبطت نفسي من جراء ذلك إلى قرارٍ من الحزن السحيق لا أدري سببه.."(1).
ومن ثمّ فالقصيدة تعبير عن هذه الروح المتعبة، ومحاولة تطهيريّة لها من ذلك الخوف العميق والحزن الراسخ فكادت تكون القصيدة شكوى إنسانيّة رومانتيكية يبثّها الشاعر للعدم بقوله:
أيّها العدمُ أينَ تنعسُ في الصّمـ ... تِ وتلقى لديهِ راحةَ جفنكْ
قفْ ودَعْني أبثُثْ إليكَ شكاتي ... والتياعي مُهمهماً في أُذنِكْ
لمْ أجدْ في الحياة لي أُذُناً تسـ ... معُ شكوايَ أو فؤاداً حنونا
ولذا قدْ أتيتُ أشكوكَ ما بي ... فلقدْ ترحمُ الكئيبَ الحزينا(2)
وتبرز النوازع الإنسانيّة عند الفراتي في (الكوميديا السماويّة) فهو يدعو على لسان إحدى شخصياته المهمّة في الكوميديا إلى الوحدة الإنسانيّة التي تلغي كلّ الفروق بين بني البشر.
فيدعو إلى لغة عالمية: لغة تمجّد الفكر وتلغي كلّ اللّغات الخاصّة بكلّ جماعة من الناس ويمكن لهذه اللغة أن تختزل المسافات الفكريّة بين جميع البشر وهذه الدعوة التي سبق إليها الفراتي تلاقي رواجاً كبيراً في أوربا هذه الأيّام.
كما دعا الفراتي إلى إلغاء جميع الديانات وصراعاتها، ووضع قوانين وضعية تخضع لها جميع الشعوب وتجعلُ الدين وحده للعقل.
__________
(1) شرف، عبد العزيز، الهمشري، شاعر أبولو، ص:117.
(2) المصدر نفسه، ص:144.(1/147)
ولكنّ الفراتي كان قد عرض هذه الآراء على استحياء، فلم يصرّح بشيء من ذلك لأنّه كان يخشى كثيراً أن يثير حفيظة الناس ضدّه لذا تراه يقول على لسان رفائيل:
بني الأرضِ ما معنى التّبايُنُ في اللُغى ... أمغنِ عناءَ الفكرِ هذا التّكلمُ
فلا تعبدوا الألفاظَ فهي وسيلةٌ ... لدى القّصدِ عمّا في الضّميرِ تترجمُ
فأهلاً بتوحيدِ اللّغاتِ فإنّهُ ... وجدّكَ في شرعِ التّضامنِ سُلّمُ
سهرْنا على تهذيب أخلاقِ نشئنا ... إلى أنْ بلغْنَا ما أردْنَا ونمنمُوا
ففي أيّ دينٍ أمْ بأيّةِ شرعةٍ ... يحلُّ لكُمْ سفكُ الدّماءِ المُحرّمُ
لقدْ قالَ: إنّ الدّينَ للعقلِ وحدهُ ... ولا دينَ إلاّ ما بهِ العقلُ يحكمُ
ألا اقطعْ حديثَ الدّين عنّا فإنّما ... حديثُكَ هذا يا رفائيلُ يؤلمُ
أذاكَ نقصٌ عندكُمْ في كمالنا ... ولمْ أرَ ذا نفسٍ من النّقصِ يسلَمُ(1)
وتظهر الدعوة إلى الإنسانيّة الشاملة عند شفيق معلوف حينما لا يميّز بين أحد من البشر، فالأرض واحدة لا حدود لها ولا حواجز، لأنّها بيت كبير للإنسان، أمّا تقسيمها فعمل شيطانيّ يتنافى مع النزوع الإنسانيّ السامي لذا نسب هذا العمل إلى ثبر شيطان الحروب، فيقول:
بانَ لنا ثُبَرْ ... مُسَعّرُ الشّرورْ
القاذِفُ البَشَرْ ... بالويلِ والثّبُورْ
طغى بينَ الوجودْ ... فأنشأ الأوْطَانْ
وخطّطَ الحُدودْ ... سياجُها النّيرانْ(2)
يبدو أنّ النوازع الإنسانيّة - اللهمّ نزوع الهمشري- ذات طابع حالم كثيراً ما كانت تصطدم بصخرة الواقع لتتحطّم عليه وتنكفئ على نفسها تتجرّع غصص الحرقة والخيبة والمرارة.
__________
(1) الفراتي، محمد، الكوميديا السماوية، مجلة الحديث، مج 31- ع4، ص: 152.
(2) معلوف، شفيق، عبقر، ص: 193.(1/148)
لقد ذهب بعضهم إلى أنّ التجربة الخياليّة (هي التي تكتسب مقوّماتها من الخيال وأظهر شواهد هذه التجربة تتأتى عند الرمزيين والسرياليين الذين ابتعدوا عن الواقع لينفذوا إلى عالم الرؤى والأشباح. فقد جنح هؤلاء وهؤلاء كما جنح معهم أصحاب الفنّ للفن إلى خلق تجارب لم يحسّوا بها في الواقع، وحتى إذا تسرّبت إليهم من الواقع فإنهم لا يلبثون غير قليل حتّى يقذفوا بها إلى عوالم اللاّشعور وذلك ليتيحوا لتجربتهم أن تطبع بطابع الخيال وأن تهوّم فيما وراء الواقع، وأن تقتبس من أحلام اليقظة فيتكلّفون العشق وهم غير عشّاق ويتكلّفون الحزن وهم غير حزانى وهناك مجال كبير للحديث عن الصدق الواقعي فقد ينجح الشاعر أو القاصّ فنياً، ولكنّه قد يخفق واقعياً لأنّه تحمّل تجربة غير صادقة"(1).
غير أنّ واقع الحال في الرحلات الخياليّة أثبت خلاف ما ذهب إليه القول السابق، فالصدق الفنّي لمثل هذه التجارب يغنيها عن ارتباطها بواقع الأديب، ولعلّ القضايا التي عولجت كانت من صميم الواقع الاجتماعيّ والفكريّ والثقافيّ العربيّ، فلم تكن هذه الرحلات تهويماً من تهويمات السريالية أو أنّها ابتعدت عن صميم الواقع الإنسانيّ في تطلّعاتها ورؤاها الفكريّة.
فقد عالجت هذه الرحلات المشكلات الإنسانية الكبرى كمشكلة الموت والحياة، فتنوّعت مواقفها منها بين الرؤية السوداويّة المتشائمة والرؤية المتفائلة التي تبثّ روح الأمل وشعاع الحياة من خلال عتمة الموت، كما برز لديّها الخلود كحلم إنساني ووسيلة للخلاص من ربقة الموت وقيود الجسد المهدّد بالموت والتلاشي. وكان التلازم بين الموت والحياة لدى بعضها الآخر ضرورة ملحّة لاستمرار الحياة على الأرض.
__________
(1) عفيفي، محمد الصادق، النقد التطبيقي والموازنات، ص: 97.(1/149)
وأخذت مشكلة الصراع بين العلم والدين حيّزاً عميقاً في الرؤى الفكريّة لدى هؤلاء الشعراء فبعضهم انتصر للدين على العلم المادّي والآخر انتصر للعلم على الدين والثالث وازن بين العلم والدين وفق المنظور الإسلامي الصحيح بعيداً عن هرطقات الفلاسفة وشطحات الصوفيّة. وقد كان ثمّة عمق رمزي بعيد ذي مضمون اجتماعيّ وسياسيّ لمثل هذه المشكلة عند الزهاوي.
وانتصر أغلب شعراء الرحلات للروحانيّة الإيمانيّة على الماديّة العمياء فوجهوا للأخيرة أصابع الاتهام في جلبها الشقاء لبني البشر كما فعل القلعجي وفوزي معلوف بينما انتصر الزهاوي للماديّة رائداً وقائداً للحياة الأمثل بعيداً عن الغيبيّات الروحيّة.
كما عالجت الرحلات الخياليّة مشكلات الجبر والاختيار التي أثارت جدلاً في فلسفة الدين.
وقد برزت المشكلات الاجتماعيّة واضحة وقد تباينت المواقف من قضاياها فعرض الشعراء للصراع بين الخير والشرّ. ورأى بعضهم أنّ الشرّ طبع في جبّلة الإنسان. وبالتالي طمحوا إلى صورة الإنسان المثال ذي الطابع الرومانتيكي. في حين تمثّل الشرّ -بشكل مغاير عن باقي شعراء الرحلات- في الدين عند جميل صدقي الزّهاوي والخير لديه يتمثّل في كلّ ما هو علميّ وعقليّ، ثم إنّ هؤلاء الشعراء حذّروا من المفاسد الأخلاقيّة والاجتماعيّة كالحسد والرياء والكذب والشبق الجنسيّ والتباغض والكبر.. وغيرها.
ودعو كذلك إلى الفضائل الخلقيّة التي تقوم على أساسها المجتمعات الحضاريّة المثلى كالصدق والإيثار والوفاء والعفّة.. ونبراسهم في ذلك ثقافة دينية يهتدون بها.
كما حاول هؤلاء الشعراء في تحليقهم بعيداً عن واقعهم المأساوي أن يرسموا الصورة المثال للمجتمعات التي يتمنّون العيش فيها. فتمثّلت الصورة في الفردوس الموعود لدى القلعجي، وفي حلم رشيد أيوب، وكوميديا الفراتي متلفّعة بوشاح دينيّ.(1/150)
ولم تخلُ هذه الرحلات من نزعات إنسانيّة كانت عمقاً للتجارب الفرديّة كما هو الحال لدى الهمشري. وحملت دعوات للعالمية واللامركزية واللاعنصريّة كما عند الفراتي وشفيق معلوف.
(((
الفصل الخامس
البنية الفنية للرحلات الخيالية
أوّلاً ... : التقنيات الفنية
ثانياً ... : العناصر الفنية
ثالثاً ... : التناص
رابعاً ... : اللغة الشعرية
((
البنية الفنية للرحلات الخياليّة
أولاً: التقنيات الفنية:
-البدايات والنهايات:
كانت البداية المفاجئة ملمحاً لبعض الرحلات الخيالية، وتشعر هذه البدايات بانقطاع سلسلة الحوادث المنطقية التي تسبق الرحلة التي بدأت القصيدة منها، الأمر الذي يكسب هذه البدايات صفة من صفات التجربة الشعرية وهي الغموض على نحو بداية الفراتي في قصيدته "الحلم المريع أو ليلة في عالم المريخ"، فيقول:
هبطْنَا إلى المريخِ ليلاً فعاقَنَا ... عن السّيرِ في (سِيسَا) الظّلامُ المخيّمُ
وسيسا بلحنِ القومِ فيما عرفْتُهُ ... عُبابُ خضمّ بالمخاطرِ مُفعَمُ(1)
وهذا شأن بعض الشعراء أمثال محمد حسن فقّي في قصيدته (الله والشاعر) وجميل صدقي الزهاوي في مطوّلته (ثورة في الجحيم) ونسيب عريضة في قصيدته (على طريق إرم) وفوزي معلوف في مطولته (على بساط الريح) حيث يقول:
في عُباب الفضاءِ فوقَ غيومِهْ
فوقَ نَسرِهْ
نجمتهْ
حيثُ بثّ الهَوى بثغرِ نسيمِهْ
كلّ عطرِهْ
ورقتِهْ
موطنُ الشّاعرِ المحلّق منذُ الـ ... بدءِ لكنْ بروحهِ لا بجسمِهْ(2)
__________
(1) الفراتي، محمد، الكوميديا السماوية، مجلة الحديث، ع 3-4، : 144.
(2) معلوف، فوزي، على بساط الريح، ص: 61.(1/151)
فمن المفترض أن يسبق وجود الشاعر في أجواز الفضاء أحداث أسهمت في وصوله إلى الفضاء كما تفرض بعض الأسئلة نفسها على المتلقّي، عن وسيلة الانتقال والأسباب التي دفعت بالشاعر إلى هذا العالم. إذ خالف الشاعر فوزي روح المنطق الذي يفترض مجيء نشيد الطيّارة في مقدّمة المطوّلة. وهذا شأن الشعر يخالف التوقعات دائماً، حيث يقول:
صعّدِ الطّرفَ في الأثيرِ تجدْني ... قاطعاً في الأثيرِ ميلاً فميلا
خبباً تارةً، وطوراً وئيدا ... صُعُداً مرّةً وأخرى نُزُولا
فوقَ طيّارة على صهوات الرّ ... يح راحَتْ ترّوضُ المُستحيلا(1)
وقد امتازت بعض البدايات بالطول إلى حدّ الإملال الذي يدخل السآمة على نفس المتلقي، بل ربّما أدّى هذا التطويل إلى بعثرة اهتمامه بالنصّ، الأمر الذي يسم النصّ بالجمود ويقرّبه من الأسلوب التقريري النثري.
ففي (ترجمة شيطان) يقدّم العقاد لمطولته ببداية فلسفية تعليلية يطرح فيها كثيراً من الآراء الفلسفية في أساليب السياسة والملك والحكم والجبر والقدرية، حتى بلغت هذه البداية قرابة خمسة وثلاثين بيتاً، ليبدأ بعد ذلك كلّه رحلته، فيقول:
لا نُطيلُ القَولَ فالخَطبُ يسيرْ ... وحياةُ الإنسِ والجنّ هَدَرْ
خرجَ الشّيطانُ في الأرضِ يسيرْ ... ومنَ اللهِ إلى اللهِ الصّدورْ
لمحةٌ جازتْ بهِ مَشرِقَها ... ثمّ ردّتْهُ حيالَ المغربِ(2)
ونلمس مثل تلك البداية لدى الفراتي في قصيدته (في حانة إبليس) إذ يقدّم الشاعر للمتلقّي مبرّرات تستغرق أكثر من عشرين بيتاً بهدف إقناعه بسبب طرقه لمثل هذا الموضوع، فيقول:
عنِ الجنّ استمعْ منّي ... حديثاً فاتنَ الجرسِ
فما أحلى حديثَ الجنّ ... منْ راويهِ للإنسِ
وما أحلى حديثَ الجنّ ... في أيامِ كانونِ(3)
__________
(1) المصدر السابق، ص: 86.
(2) العقاد، عباس، الديوان، ص: 275.
(3) الفراتي، محمد، النفحات، ص: 267.(1/152)
وقد جاءت بعض الرحلات ذات بداية طويلة نوعاً ما، لكنّ طولها ليس مملاً كما سلف لدى العقّاد والفراتي. ففي قصيدة أنيس المقدسي (المعرّي يبصر) تساؤلات واستفسارات حائرة عن الكون والوجود والمخلوقات وأصلها. وقد قادت هذه التساؤلات الشاعر إلى الرحيل في عالم الخيال ليلتقي المعرّي الشيخ الضرير. وعليه فالبداية ليست من ضروب الحشو والتطويل بمقدار ما هي دافع ومحفّز للشاعر للرحيل، فيقول:
ووادٍ مظلمٍ أمسيتُ حيناً ... أهيمُ بهِ وأشقى في هُيامِى
بنفس مرّة ثقُلتْ عليها ... يدُ الأقدارِ في حلكِ الظّلامِ
وأرختْ حولها منْ كلّ جنبِ ... سدولاً قد نُسجنَ من الهُمومِ(1)
إلى قوله:
فلاحَ لناظري شبحٌ غريبٌ ... على كثب يُشيرُ بلا كلامِ
فأدنيتُ الخُطا منهُ وقلبي ... لما شاهدتُ في وجلٍ عظيمِ(2)
وهذا شأن رشيد أيوب في بداية رحلته (حلم في المريخ) إذ تبدأ بالتساؤلات والتفكير في حال الحياة على كوكب المريخ.
ولقد أخذت بعض البدايات صورة متساوقة مع سائر الأحداث في الرحلة الخيالية لدى الشاعر، رغم أنّ وضعها المنطقي يفقدها شيئاً من إيحائها الشعري، ولكنّها تبقى ذات أهمية لتناغمها مع أهداف الرحلة على نحو ما فعل عبد الفتاح القلعجي في ملحمة القيامة.
وتمثل النهاية الوقفة الأخيرة للأحداث المتنامية في القصّة الشعرية وخلاصة الموقف الذي أبرزه الشاعر في رحلته الخياليّة. وقد تنوّعت هذه النهايات من رحلة لأخرى. فبعضها كان خلاصة لرؤية الشاعر في الحياة وموقفه من الفنّ والشعر والحبّ. فمثلاً لم يجد شفيق معلوف خيراً من الحديث عن أهمّية الحبّ لما فيه من الصلاح لأهل الأرض فيقول:
والحبّ في الجنّةِ ما شأنَهُ ... ولا أذى فيها ولا بُغضُ
ألقوهُ للنّار وإنْ أرمضتْ ... أقدامهُ المواطِئُ الرّمضُ
وليتلقّفْهُ شُواظُ اللّظَى ... وليتلّهمْ بعضهُ البعضُ
__________
(1) المصدر نفسه، ص: 331.
(2) المصدر نفسه، ص: 331.(1/153)
فالأرضُ إنْ كانتْ جَحيماً لَهُ ... وكانَ فيها تهنأ الأرضُ(1)
وتشبه هذه النهاية نهاية قصيدة (المعرّي يبصر) لأنيس المقدسي الذي يلخّص رحلته وخلاصة تجربته مؤكّداً أنّ الخلاص والأمل في الحبّ الذي ينير درب الإنسانية فيقول:
ويزهُو نامياً يوماً فيوماً ... إلى أسمى كمالاتِ الحَياةِ
إلى الحبّ المطلّ من الأعالي ... إلى روحِ الوُجودِ إلى النّعيم
هو النور الذي يَهدي البَرايا ... فما تجُديكَ أنوارُ النجَومِ
فَيا نُورا تلألأ في الأعالي ... بعيداً عن يقينِ ذَوي اليَقينِ
إليكَ أتيتُ في ظُلماتِ نفسي ... لتهديني إلى الحقّ المُبينِ
لعلّي بالغٌ بكَ في حياتي ... مقاماً ليسَ يُبلغُ بالعُلومِ(2)
وقد شابه فوزي معلوف سابقيه حيث أنهى مطوّلته بتمجيد للشعر الذي يخلّد اللحظات السعيدة في حياة البشر ويخفّف آلامهم التي ترزح فوق ظهورهم مثقلة بأعباء الحياة وتناقضاتها، وقد أشار إلى الشعر مجازاً بآلته التي يُكتب بها، فيقول:
فرأيْتُ اليَراعَ قُربي يؤاسيـ ... ني ويبكي لمَا لَقيتُ وألقى
يا يَراعي ما زلتَ خيرَ صديق ... ليَ منذ امتزجتَ بي وستبقى
باسماً من سعادتي حينَ أهنا ... باكياً من تعاستي حينَ أشقى
كَمْ حبيبٍ سَلا وعَهدُكَ باقٍ ... فهو أوفَى من كلّ عَهدٍ وأبقى
أنا لم ألقَ مثلَ صَمتِكَ صمتاً ... حوّلتْهُ عرائِسُ الشّعرِ نُطقا(3)
ومثيل لهذا التمجيد الذي يرفع شأن الشعر يؤطره محمد حسن فقّي في قصيدتيه ( الكون والشاعر والله والشاعر) .
وتأتي النهاية متناغمة مع الروح العقائدية التي انتظمت ملحمة القيامه إذ هي انتصار لقوى الخير وتأبّد لفرح الإنسان ابن الخير وخلود لشقاء الإنسان ربيب الشرّ. وقد كانت الكلمات الأخيرة في الملحمة أشبه بقفلة موسيقية لملحمة الحياة الإنسانية بقوله:
وتأبّد حزنُ الإنسانِ
وتأبّدَ فرحُ الإنسانِ
__________
(1) معلوف، شفيق، عبقر، ص: 320.
(2) مقدسي، أنيس، المعري يبصر، مجلة المورد الصافي، ص: 335.
(3) معلوف، فوزي، على بساط الريح، ص: 166-167.(1/154)
غبشَ الصّمتُ المسكوبُ على جَسدِ الكَونِ
وسقى الصلصال الإنسانْ: فرحاً
والأعناقُ مسمَرةٌ في اللّحظةْ
آماداً تنتظرُ الصوتُ الأعلى
تنتظرُ العودة للحركةْ
حتّى انبثقتْ من حمأ الدهشةِ أطرافُ الكلمهْ
وهنالكَ..
فوقَ السّورِ الفاصلِ بينَ الظالمِ والمظلومْ
جلْجلَ صوتُ الحقّ:
"لا ظُلمَ اليومْ"
"لا ظُلمَ اليومْ"
"لا ظُلمَ اليومْ" (1)
ثم إنّ بعض النهايات حمّلت بالعبرة والعظة والحكمة التي تلخّص رؤية الشاعر للحياة وموقفه من الناس، وهي بذلك تقترب من القصائد التراثية كقصائد زهير والنابغة وأبي العلاء والمتنبيّ والبوصيري.
يقول الفراتي في نهاية قصيدته الحلم المريع من الكوميديا:
بَني الأرضِ ما فوقَ البَسيطةِ عاقلٌ ... وليسَ من الأخلاقِ في الأرضِ درهَمُ
وإنّي وإيّاكمْ وكلّ أخي حجاً ... يدبُ على الغبراءِ صخرٌ مرضّمُ(2)
ويقول في نهاية قصيدته غرور الشباب:
فإذا الشّيبُ لا يزالُ بفودي ... ثمّ كالقوس لا تزالُ قناتي
وإذا بي -كذلك الطّيفِ -أحيا ... بينَ ناسٍ تهتزُّ للتّرّهاتِ(3)
واتجه في هذا المنحى رشيد أيوب في قوله:
فقلْ للذي قد ضلّ جهلاً بحكمه ... وظنّ بأنّ الله وهْمٌ بوهمهِ
ألا كلُّ شيءٍ في الوجودِ بعلمهِ ... وألسنةُ الأكوانِ تنطقُ باسمهِ
كما أومأتْ منها إليهِ أصابعُ(4)
وربمّا نمّت بعض النهايات عن ضبابية بالرؤية لغلبة الخوف على الشاعر أحياناً أو لغلبة التفكير الفلسفي العقلي على الشاعر تارة أخرى. الأمر الذي جعلها شاذة عن تناسق أحداث الرحلة الخيالية بشكل عام. فالنهاية في مطوّلة العقّاد (ترجمة شيطان) تقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسة هي. نهاية الشيطان، حين انتهى أمره بالتحوّل إلى حجر يفتن النفوس بجماله وتناسقه.
__________
(1) القلعجي، عبد الفتاح، ملحمة القيامة، ص: 223.
(2) الفراتي، محمد، الكوميديا السماوية، مجلة الحديث، ع 3-4- 154.
(3) الفراتي، محمد، النفحات، ص: 305.
(4) أيوب، رشيد، الأيوبيات، ص: 156(1/155)
وهناك نهاية أخرى في آخر المطوّلة هي أشبه بالحكمة التي ينثرها العقاد كرأي له بنهاية هذا الشيطان الغرّ، فيقول:
باءَ بالسّخطِ فلا شيعتَهُ ... رَضيتْ عنه ولا أرضى العدا
وكذا العَهدُ بمشبوبِ القلى ... عارمَ الفطنةِ جيّاشَ الفؤادْ
أبداً يهتفُ بالقولِ فلا ... يُعجبُ الغيّ ولا يُرضي الرّشاد(1)
وبين هاتين النهايتين تقف نهاية مفتعلة أملتها الروح التعليلية التي تحبّ تفسير كلّ شيء بأدقّ تفاصيله، حيث أنهى حديث الشياطين بسخرية من شيطانه فيقول:
فتلاحى القَومُ ثمّ استضحكوا ... ودعا مازحُهُمْ شَرّ دُعاءْ
قال فلتسلكْهُ فيمَنْ سلكُوا ... أيّها المولى سبيلَ الشهداء
وتقضّتْ بينهُمْ سِيرتُهُ ... ومَضى كالطّيفِ أو رجعِ الصّدى(2)
وربمّا كانت الرّوح التعليلية هي السبب الذي ألجأ العقّاد إلى هذا الاضطراب الذي أفسد النهاية في المطوّلة وجعلها غير منسجمة مع سيرورة أحداثها.
وربمّا ساق الخوف جميل صدقي الزهاوي إلى ادعاء ما أحدثه من ثورته الجحيمية حلماً أثاره الجرجير، فكانت تلك النهاية الأكثر سلامة له في مواجهة خصومه إذ لايمكن أن يحكم عليه بالتحريض على الحكّام والسياسيين في الأحلام، فيقول:
وتنبّهتُ مِن مَنَامِيَ صُبْحاً ... وإذَا الشّمسُ في السَّماءِ تُنيرُ
وإذا الأَمرُ ليسَ في الحقّ إِلاّ ... حُلُماً قَدْ أثارهُ الجَرجيرُ(3)
وتذهب بعض الرحلات إلى جعل النهاية جزءاً من الغاية التي خرجت لأجلها الرحلة فتأتي النهاية تتويجاً للعنت الذي لاقاه الشاعر في رحلته ليصل إلى مايراه سعادة في نهاية المطاف كما هو حال نسيب عريضة في قصيدته ((على طريق إرم)) حيث قدّم الشاعر قلبه على مذبح الإخلاص في سبيل الوصول إلى إرم التي أوقدت ناره، فيقول:
نحوَ ذَاكَ الوميضْ ... سِرْ بنَا نستعيض
عَنْ ظَلامِ الحضيضْ ... وشقَاءِ الوُجُودْ
بسناءِ الوُعُودْ
__________
(1) العقاد، عباس، الديوان، ص: 289.
(2) المصدر نفسه، ص: 288.
(3) الزهاوي، جميل، الديوان، ص:735.(1/156)
إيهِ ضَوئي البعيدْ ... لُحْ ولُحْ مَا تُريدْ
ليسَ طَرفِي يحيدْ ... عَنكَ حتّى يعودْ
لترابٍ ودُودْ(1)
كما أخذت بعض النهايات طابعاً مأسوياً ينمّ عن الحسّ الذي سيطر على الشاعر، ولاسيما، حين يرى الموت وسيلة خلاصه الوحيدة، فيقول:
فقلْتُ: أَبي أَبغي المكوثَ بساحِكُمُ ... مللْتُ لعمري عيشةَ الضّنكِ والذُّلِّ
فقالَ: مُكوثُ المرءِ عندي مُحرّمٌ ... إذا لَمْ يُطهّرْ بالمماتِ مِنَ الّغلِّ(2)
وهكذا، فالملاحظ عليها مجيء أغلب النهايات فيها على شكل حِكم، الأمر الذي يطبع هذه القصائد بالمحافظة، على التراث الفنّي القديم.
*
* العرض والتحوّلات:
ثمّة أحداث بين البداية والنهاية ينظمها الطابع السردي الحكائي في أغلب الرحلات الخيالية، وهو يتألف من مواقف وأحداث وشخصيّات يعرض لها تغيّرات في بنية الرحلة الخيالية بحيث تتساوق مع غاياتها وأهدافها التي رسمها الشاعر لنفسه.
غير أنّ الملاحظ وقوع هذه التغيّرات في إطار الوحدة العضوية الناظمة لأغلب الرحلات الخيالية التي تناولتها الدراسة في البحث والتحليل.
ففي مطوّلة ((على بساط الريح)) تبدو الأحداث متناغمة مع الحالة النفسية التي استحوذت على الشاعر فوزي معلوف في سيرورة القصيدة، وتراوحت بين التفاؤل والتشاؤم، وهو الغالب. وهذا الجوّ تصوغه قوتّان متضادّتان: الروح التي تشبع الأمل والتفاؤل، والمادة التي تشدّ الشاعر إلى غيابه التشاؤم والسوداية، وشخصية الشاعر متغيّرة متلوّنة بهذين اللونين الشائعين في النصّ، فيقول واصفاً ألمه:
انظريهِ يَمشي وفي خطواتِهْ
نزواتٌ
منَ الألمْ
عاثرَ الجدِّ، جدَّ تحدُو بذاتِهْ
نزعاتٌ
إلى العَدمْ(3)
ونلمحه شخصاً آخر عندما يقابل روحه وتنفرج أزمته ويتحقّق حلمه فيندغم مع روحه في عالم الأرواح، فيسمع هسهستها، فيقول:
__________
(1) عريضة، نسيب، لأرواح الحائرة، ص:197.
(2) الهوني، إبراهيم، الديوان، ص:40
(3) معلوف، فوزي، على بساط الريح، ص:101.(1/157)
فانتقلْنَا إلى فَضاءِ منَ البحَـ ... رانِ هَاروتُ فيهِ بعضُ حُماتِهْ
وملأْنَا من لفحِ قبْلاتِنَا الجوَّ ... م ... فعادَتْ بالنّفح من قبلاتِهْ
ثمَّ قُمْنا نجُيلُ في الكونِ أبصا ... راً أرتْنَا مِنهُ حَقيقةَ ذاتِهْ
ننظُرُ النَّاسَ من عَلٍ مثلَما تنـ ... ـظُرُ نملاً يَمشي إلى غزواتِهْ
ونرى الطّودَ في السّهولِ كَما تُبـ ... ـصرُ فَوقَ التُّرابِ ظلَّ حَصاتِهْ
ونرى الموجَ في الخضمّ كَما تلـ ... ـمَحُ جَوّاً والسّحبُ في مِرآتِهْ(1)
وهذا شأن أنيس المقدسي في قصيدته ((المعرّي يبصر)) حيث بدأها بالتساؤل الذي تحوّل فيما بعد إلى حيرة وضياع قاداه إلى المضي بعيداً في أغوار نفسه، ليلتقي بشخصية تحوّل حبكة الأحداث وتأزّمها إلى الانفراج وتحوّل شخصية الشاعر من متشائمة إلى متفائلة وذلك كلّه في إطار الوحدة العضوية الناظمة، حيث يمثّل النشيد الثالث صورة التفاؤل المندغم مع النهاية.
وتسير مطوّلة الهمشري على هذا النحو إذ تنتظم أناشيدها وحدة عضوية تبدأ بصورة الشاعر الخائف الوجل، وهو يرقب الطريق إلى الشاطئ، حتّى تتحوّل دفّة الأحداث إلى السرور والفرح والإشراق في بروز لوحة الآلهة على صفحة الرؤيا، فيقول:
الشاعرُ: أيُّ نورٍ هذا الذي يَبهرُ الأُفـ ... قَ ويَزهُو مُغشّياً جُنباتِهْ
الآلهةُ: هُو ياشاعري الصّغيرَ ركابي ... ويشعُّ الضيّاءُ مِن مِشكَاتِهْ
قدْ تخطّى إليكَ كلَّ هُبوبٍ ... ومسفُّ اللجّاتِ في مائجاتِهْ(2)
ثم تعود الرؤية لتتغلّف بالتشاؤم والألم في الأناشيد الباقية حتّى تصل إلى النهاية التحريضية، فتكون مراحل الشخصية وتحوّلاتها: الخوف، فالمعاناة، فالتحريض.
__________
(1) المصدر السابق، ص:158-159.
(2) شرف، عبد العزيز، الهمشري شاعر أبولو، ص: 123.(1/158)
ومثل هذه التحوّلات نقف عليها في أحداث رحلة نسيب عريضة ((على طريق إرم)) التي تبدأ بالتساؤل ثمّ تتحوّل التساؤلات إلى حيرة وضياع وتتطوّر شخصيّة الشاعر بتطوّر المواقف إلى أن تصل إلى الانفراج، غير أنّ الشخصيّات في هذه المطوّلة أكثر تعقيداً، إذ تتغيّر سريعاً، فالقلب كان قائداً للركب وسيداً للموقف ولكنّه سرعان ما يسقط سريعاً تحت ضربات العقل الذي تحوّل بدوره من راكب عادي إلى جبّار متسلّط يسوم الركب العذاب والقهر بصرامته وسطوته لكنّ مصير هذه الشخصية يكون أبشع من سابقتها، وما هذه الشخصيات إلاّ أطوار لروح الشاعر التي يدفعها وميض من الأمل نحو غايتها. يقول عن العقل:
وصارَ عقلي عَتيّاً ... يسومُ رَكبي العَذابَا
إنْ ضلّ قالَ: اهتدينا ... وصِدقُ ظنّي أصَابا(1)
إلى قوله:
فَضجّ رَكبي وصَاحُوا ... ياعَقلُ أينَ المنَازِلْ
فقالَ: ليسَ صِراطِي ... مَشارباً أو مآكِلْ
وأطلقَ الشّكُّ جَيشاً ... من الظّنونِ وجَهجَهْ
ففرَّ عَقلي جَباناً ... وجُنّ خوفاً وقَهقَهْ(2)
__________
(1) عريضة، نسيب، الأرواح الحائرة، ص:192.
(2) المصدر نفسه، ص:192-193.(1/159)
وقد سارت على نحو ما مرّ بعض الرحلات التي اعتمدت الترابط العضوي بين أناشيد المطوّلة ومقاطعها. على نحو مطوّلة العقّاد التي تتميّز بتطوّر مواقفها مع تنامي شخصية الشيطان من متمرّد على قدره المرتبط بالشرّ إلى متمرّد على النعيم المرتبط بالإيمان والخير إلى متمرّد على اللّه، فالناظم المشترك للمواقف الرئيسية هو التمرّد، لكنّه يختلف بعد ذلك في تفاصيل المواقف ونوعيتها، وهكذا كانت مواقف الشخصية تتطوّر نحو الأشد فالأشد في حين أخذت الأحداث والشخصيات صورة عكسيّة لدى محمد حسن فقّي في قصيدته ((جحيم النفس)) إذ تبدأ القصيدة بدويٍّ شديد أشبه بحجر سقط في الماء ثم مالبثت دوائره آخذةً بالضعف والتلاشي شيئاً فشيئاً، والتراجع عما قرّره في البداية وذلك لغلبة الروح الإسلامية، التي ترى في النار تطهيراً للنفس لتنتقل بعدها إلى دار الخلود، فيقول في البداية:
اسبقيني إلى الجحيم فإنّي ... سأوافيكِ في غَدي للجحيمِ
واطلُبي من سُراتِهِ أنْ يكونوُا ... عندَ أبوابِهِ قبيلَ قُدومي
قَالَ فيه شَيطانُهُ وهْوَ يُطريـ ... ـهِ لأَنتَ الرَّجيمُ مَولى الرّجيمِ
لستُ أدرِي فأنتَ في الشّر موّهو ... بٌ وفي الإثمِ ضاربٌ في الصّميمِ(1)
ثمّ يمرّ في مرحلة محاسبة النفس وعقابها ثمّ التماس طريق الخلاص لتكون النهاية.
ولقد امتازت بعض الرحلات بأحادية الموقف أسلوباً لعرض الرحلة الخيالة. فإبراهيم الهوني في قصيدته ((أبونا آدم)) لم يستطع أن يلوّن من مواقفه أو شخصيّته فبدت أحداث المطوّلة رتيبة تحمل مأسوية المعاناة وحسب، حتّى بعد لقائه لآدم وحوّاء رغم أنّه يستطيع بذر روح الأمل في الحوار، لكنّ شدّة المعاناة لازمته حتّى وصل إلى النهاية المأسوية التي ترى الموت سبيلاً لخلاصها ملخّصاً في قوله:
فقالَ: مكوثُ المرءِ عندي محرّمٌ ... إذا لمْ يُطهّرْ بالممَاتِ منَ الغلِّ(2)
__________
(1) فقي، محمد حسن. الديوان، مج1، ص:222.
(2) الهوني، إبراهيم، الديوان، ص:40.(1/160)
والرتابة نفسها في الأحداث وأحادية الموقف تسيطران على مطوّلة الفراتي في الكوميديا السماوية. إذ يبدو الشاعر للوهلة الأولى حانقاً على بني البشر الراسفين في قيود الحياة المادّية، والسابحين في مستنقعات الفساد والرذيلة، حتّى المتصوفين لم يفلتوا من قبضته في معظم أجزاء الكوميديا إذ يسمهم بالفساد في حانة إبليس وقد تكرّر ذلك في كوكب الشعراء، وفي كوكب الزنادقة، فيقول في حانة إبليس:
فما أبصرتُ عشرينَ ... تَقيّاً في نواحيها
وما أبصرتُ صوفياً ... ولاما يُشبهُ الصّوفي
وألفيتُ سراحين ... بأهدامٍ من الصّوفِ(1)
ونلمح مثل هذه الرتابة وثبات الموقف في قصيدة محمد حسن فقّي ((الكون والشاعر)) و((اللّه والشاعر)) وفي قصيدة الزهاوي ((ثورة في الجحيم))، حافظت شخصياته على ثبات مواقفها ولم تتغيّر الأحداث إلاّ بالمقدار الذي يؤكّد ثبات موقف الشاعر من الدين والغيبيّات وانتصاره لفكره المادّي، حين صوّر انقلاب الأحداث وتحوّلها لصالح جيش الجحيم في معركته الحاسمة مع جيش الملائكة، فيقول:
كانتِ الحربُ في البداءِ سِجالاً ... ما لصبحِ النّصرِ المبينِ سُفورُ
ثمّ للناظرينَ بانَ جليّاً ... إنّ جيشَ الملائكِ المدحورُ
هزموهُمْ إلى معاقِلهِمْ في الـ ... ـليلِ حتّى بدا الصّباحُ المنيرُ(2)
كما سارت أحداث ((ملحمة القيامة)) سيراً منتظماً متساوياً مع الرؤية الدينية الإسلامية التي انطلق منها الشاعر، ولكنّ ثمّة تحوّل في مواقف الشخصيات فبعد أن ظهر أشرار الناس سعداء فرحين بسحق كلّ قوى الخير في مقدّمات الساعة باتوا تحت مظلّة المحشر والجحيم خائفين قلقين تارة ويعانون ألواناً من العذاب تارة أخرى. وتحوّلت الشخصيات المضطّهدة من ضعيفة مسحوقة إلى شخصيات مطمئنة بما أتاها اللّه تعالى من أحوال السرور وبما حباها من أنوار الحضرة والرضوان.
__________
(1) الفراتي، محمد، النفحات، ص:276.
(2) الزهاوي، جميل صدقي، الديوان، ص:738..(1/161)
وهكذا كانت الرحلة الخيالية من بدايتها إلى نهايتها موضوعاً إنسانياً عالج فيه الشاعر شخصيات ومواقف بألوان متعدّدة تقوم أحياناً على التناسق النفسي تارة أو الثنائيات الضدّية التي تتواشج في النهاية لتبرز الجوهر الناظم للمرحلة آناً آخر، وامتازت بعض أشكال الرحلة بأحادية الموقف ورتابة الأحداث أو بالأحرى تناسقها مع حدّة الإحساس بالمعاناة، في حين تساوقت الشخصيات بصورة طبيعية مع سيرورة الأحداث في بعض الرحلات الخيالية التي سيطرت عليها وحدة الموقف الفكري العقائدي.
* العقدة:
تمثّل العقدة الذروة العظمى التي تصل فيها الأحداث والمواقف إلى حدّ ما من التشابك والتعقيد بحيث تصبح هذه الخيوط المتشابكة عصيّة على الاستمرار، وتكون بحاجة إلى فكّ خيوطها. وتتآخى هذه التقنية الفنية مع عناصر السرد الحكائي لتحمل في ثناياها عناصر التشويق والإثارة، وتقدّم في الوقت نفسه للخاتمة السعيدة أو الفاجعة المأسوية.(1/162)
ويمثّل النشيد الحادي عشر: ((رقيّ كاذب)) عقدة الأحداث في مطوّلة ((على بساط الريح)) إذ يصل الشاعر إلى حافّة اليأس بعد أن صدم بما واجهه من عنت الطيور والنجوم، وهاهي ذي الأرواح تريد طرده عن عالمها، فهل يعود الشاعر خالي الوفاض بعد أن كان يمنّي النفس بلقاء الروح المحبوبة الغائبة. وهو هنا في عالم الأرواح لايرى إلاّ صورة الإنسان الشرير ابن الأرض، الذي أفعم قلبه بالسموم والأحقاد وافترست ذئاب الحسد بقية مافيه من خير وإنسانية، بل هو لانفع فيه إلاّ عندما يصير تحت التراب متفسخاً، لتقتات على جسده أنساغ الزهور والرياحين. وبعد هذه الصورة القاتمة في هذه الرحلة النهائية يقف المتلّقي في تشوّق إلى معرفة نهاية الأحداث، فيأتي الحلّ ارتجالاً وقائماً على البديهة، وإن لم يكن منطقياً، فقد ظهرت الروح بصورة مفاجئة دونما مقدّمات، لتقود الروح تلك المطوّلة إلى النهاية وانفراج العقدة عن لحظات من السعادة تسجّل بأسطر من نور في سجل الخلود، فيقول:
وتجلّتْ روحٌ على القُربِ منّي
رمقتني
بلا غَضبْ
خلْتُها أقبلَتْ تُدافِعُ عنّي
صحّ ظنّي
ولا عجبْ
هي رُوحي جاءَتْ تُخلّصني مِن ... غضبِ العالمِ الفخورِ بشمسِهْ(1)
وهذا شأن الشاعر نسيب عريضة الذي ساق الحلّ ارتجالاً لعقدة مطوّلته وأحداثها حين تصل هذه الأحداث قمّة التأزّم في تشتّت الركب وسقوط بعض أفراده صرعى على طريق الجنون وتحوّل الأمل حيرة وضياعاً، عندئذ تنبري النفس التي تكون قائداً مثالياً للركب، لاسيما إذا نقّيت من أوضار الجسد، فتصل بالركب إلى غايته المنشودة، فيقول:
يانفسُ رفقاً ومهلاً ... فأنتِ ظَعني ورحلي
طرحتُ كلَّ رحالي ... إلاّكِ مازلتِ حملي
تعلّلي بسكوتِ ... وعلّليني بجهلي
حزنتُ فيمَ تُغنَّي ... أسرّكِ اليومَ ثُكلي
أما علمتِ بأنّي ... فقدتُ قلبي وعقلي(2)
__________
(1) معلوف، فوزي، على بساط الريح، ص:149.
(2) عريضة، نسيب، الأرواح الحائرة، ص:195.(1/163)
وتبدو العقدة في قصيدة أنيس المقدسي شبيهة بسابقتيها ويُمثّل نشيد (هبوط النفس المفكرة إلى وادي الظلام) مرحلة الحيرة في سيرورة الأحداث وهو عقدة القصيدة حيث يريد الشاعر أن يلقى الخلاص، فيلوح له شبح المعرّي، فيقول:
أخذْتُ أهيمُ في الوادِي وخَطوي ... ثقيلٌ في حَشَا اللّيلِ المريبِ
ولاقبَسٌ يُنيرُ دُجى سبَيلي ... ويُحيى بيَ رَجا فَرجٍ قريبِ
ولا صوتٌ سوى أناتِ حُزنٍ ... يردّدها صَدى تلكَ الرّسومِ
نظرْتُ إلى هُنا وهُنا لعلّي ... أرى لي مُؤنساً وسْطَ الظّلام
فَلاحَ لناظِري شَبحٌ غَريبٌ ... على كثبٍ يُشيرُ بلا كلامِ(1)
وتبدو العقدة حادّة جداً في مطوّلة العقّاد إذ وصلت ذروة التأزّم في وقوف الشيطان بعنت شديد أمام اللّه ورفضه السجود، لأنّ في السجود جنّة الفردوس التي تبقى، مهما بلغت من الجمال، دون كمال اللّه عزّ وجلّ، فيقول:
عفْوَكَ اللّهم أولا عفو لي ... طالَ بي حُلمك فابعَثْ أجلَكْ
وادعُ في خلقِكَ يسجُدْ من رجَا ... خُلدَكَ الأعلى فَما نحنُ سجوُدْ
لنكوُنَنّ إذا صحَّ الحَجا ... حَجراً صَلداً ولا هَذا الوجُودْ(2)
وبعد هذا التأزّم في الموقف وتشابك الأحداث يأتي ردّ الحقّ جلّ في علاه:
قالَ: كُنْ عبدي! فلمَا أنْ أبى ... قالَ كُنْ صخراً كما شئتَ فكانْ(3)
__________
(1) المقدسي، أنيس، المعري يصر، المورد الصافي، ص: 331.
(2) العقاد، عباس، الديوان، ص:288.
(3) المصدر نفسه، ص:288.(1/164)
وتبدو العقدة غائبة في بعض الرحلات الخيالية حيث ينفرد كلّ نشيد بموقف وفكرة خاصّة تتضافر لتؤلّف رؤية الشاعر بعيداً عن عناصر السرد الحكائي المعتمد على تنامي الأحداث وتشابكها حتّى تصل إلى العقدة. وعلى هذا النحو سارت مطوّلة ((عبقر)) وبعض قصائد ((الكوميديا السماوية)) باستثناء قصيدة ((غرور الشباب)) حيث ينطلق الشاعر في حلمه مجدّداً شبابه وشعره وروحه وفي غمرة سروره ينبري له هاتف يسفّه شعره وأحلامه، وهنا تتشابك الأحداث وتتأزّم المواقف بين أخذ وردّ إلى أن يصل الحلّ على اعتراف الهاتف بشاعرية الفراتي.
كذلك تغيب العقدة في قصيدة إبراهيم الهوني ((أبونا آدم)) وقصيدة محمد حسن فقّي ((الكون والشاعر)) إذ هي سرد أكثر من كونها قصّة أو معاناة تبحث عن فرجة ونهاية.
أمّا العقدة في ((ثورة الجحيم)) للزهاوي فهي درامية قائمة على الصراع بين جيش الشياطين وجيش الملائكة إذ تتشابك أحداث الثورة حتّى تصل إلى هذه العقدة، ويبقى المتلّقي يترقّب الأحداث التي ستسفر عنها هذه المعركة فإذا ما وصلت نهايتها يفاجأ المتلقّي ويصاب بالدهشة حين يرى الانتصار لصالح جيش العلم ومن خلفه الشياطين، غير أنّ الزهاوي يفسد هذه العقدة الجميلة بالنهاية المفتعلة للمطوّلة.
وكانت العقدة في قصيدة رشيد أيوب ((حلم في المريخ)) مفتعلة اصطنعها الشاعر عندما فارقته نفسه لاكتشاف كوكب المريخ، فيقول:
فغابَ وجودي حيثُ طَالَ توقّفي ... أهيمُ اشتياقاً مُذْ دعاني تشوّفي
يشاركُني بالشرِّ حُسنُ تصرّفي ... وقلبي جَهاراً باتَ وهْو مُعنفي
وأصبحتُ بينَ الحالتينِ أُدافعُ(1)
__________
(1) أيوب، رشيد، الأيوبيات، ص:152.(1/165)
وقد بقيت العقدة في مطوّلة محمد عبد المعطي الهمشري ((على شاطئ الأعراف)) مقّنعة تغلّفها غلالة من الغموض الشفّاف لأنّ الأحداث تسير متدرّجة دونما تشابك، وتظلّ الروح تعاني من الخوف والرهبة وتحاول بعث الأمل إلى أن تصل إلى نشيد السكون الحاكم حيث يخيّمِ حسّ الموت، حتّى إنّ الشاعر ليستغيث ولا يجد مغيثاً له وهذا ذروة ماتصل إليه أزمة الشاعر النفسية، عندئذ يصرخ الشاعر في السكون الحاكم ويبثّه شكواه ويدعو على اليد التي عطّلت نشاطه.
وهذا شأن محمد حسن فقّي في قصيدته ((جحيم النفس)) فقد كانت العقدة مقنعة لاختلاطها مع البداية، حيث كانت بداية القصيدة هي ذروة الأحداث وشدّة تأزّمها وبعد ذلك تأخذ القصيدة في السير الهادئ الرتيب للوصول إلى الحلّ.
وكذا كانت العقدة في الرحلة الخيالية متنوّعة بين كلّ رحلة وأخرى، ففي بعض الرحلات تساوقت بشكل فريد مع سائر عناصر السرد القصصي، ومثّلت ذروة التأزّم النفسي الذي يعانيه الشاعر لتنفرج بعد ذلك عن حالة من السعادة القصوى أو الفاجعة المأسوية. وكانت غائبة في رحلات أخرى لغياب التحوّلات في الشخصيات والمواقف لغلبة أحادية الموقف والشخصية الفاعلة في الأحداث. كما كانت مغلّفة بغلالة من الغموض في بعض الرحلات لارتباطها الوثيق بالموقف النفسي أو لاختلاطها مع البداية أو النهاية تارة أخرى.
*
* الصراع:
إنّ هذه التقنية قائمة في الأساس على التناقض، فحيثما يكون بين الشخصيات أو الرؤى تضادّ يتولّد الصراع في العمل الفنّي، ولعلّ الرحلات الخيالية قامت في الأساس على التضادّ بين نوازع الخير التي يمثّلها الشاعر والشرّ الممثّل في الواقع المحيط به، وبين الماديّة والروحية، والواقعية والمثالية، والموت والحياة، والعلم والدين.
وقد اتضح الصراع بجلاء في قصيدة الزهاوي ((ثورة في الجحيم)) و ((ملحمة القيامة)) لعبد الفتاح روّاس القلعجي.(1/166)
ففي ثورة الزهاوي بدأت الصورة الدرامية بين الشخصيات الرئيسية: ((الشاعر والملكين)) ومن خلفهما الاتجاهات الفكرية لكليهما فالشاعر يمثّل العلم والفكر، الضعيف المقهور، والملكان يمثّلان الدين المتسلّط، فيقول:
واقفاً لي كأنّما هُو نَسرٌ ... وكأنّي أمامهُ عُصفورُ(1)
كما يسهم الحوار في إبراز ملامح الصراع بما يعكسه من مظاهر نفسية للملك والشاعر متضافراً مع الصورة الشعرية، فيقول:
قالَ: مَن أنتَ؟ وهْوَ ينظرُ شَزْراً ... قُلتُ: شيخٌ في لحدِهِ مَقبورُ(2)
ويتنامى الصراع شيئاً فشيئاً بين الشاعر الذي يمثّل المادّية العقلية، والملكين اللذين يمثّلان الدين، ويصل الصراع ذروته في المعركة الحاسمة بين أنصار كلا الطرفين الفريق الأوّل فريق الشاعر والفلاسفة والعلماء والفنّانين والشياطين، والثاني فريق الملائكة الموكلّين وملائكة جهنّم وتسفر هذه المعركة عن انتصار جيش العلم ضدّ الدين. ونلحظ عكس هذا الصراع لدى القلعجي في ملحمة القيامة.
ونقف على شكل آخر من الصراع: إنّه صراع يكشفه الحوار الداخلي ويشبه إلى حدّ بعيد ما يسمى في الرواية الحديثة ((تيار الوعي)) وقد تجلّى ذلك في ((على طريق إرم)) لنسيب عريضة لأنّها تقوم على أساس استبطان الذات الإنسانية وقواها الروحية والماديّة، ومحاولة التوفيق فيما بينهما للوصول إلى الهدف المنشود، ولكن هذه المحاولة ولّدت الصراع بين المتناقضات، وسقوط كليهما أمام الامتحان ممثّلاً للأوّل بالقلب والثاني بالعقل، وقد أسقط كليهما لقناعته بعجز أحدهما دون الآخر برفع الذات الإنسانية إلى أعلى درجات الكمال، فيقول:
فقالَ عقلِي: لماذا ... تُمالِئُون الضّلولا
بئسَ الدليلُ انتخبتُمْ ... قلباً غويّاً عليلا
يسيرُ نحوَ مكانٍ ... قَدْ استحالتْ طلولا
قْفوا بنا واستريحوا ... ثمَّ اتبعوني دَليلا
فصاحَ فينَا فُؤادي ... حَذارِ هذا العذولا
__________
(1) الزهاوي، جميل صدقي، الديوان، ص:715.
(2) المصدر نفسه، ص:716.(1/167)
والعقلُ غَيـ ... ـرُ خَؤونٍ
يغريكُمُ ... باليقينِ
يُلهيكُمُ ... بالظّنونِ
فخرَّ قلبي صَريعاً ... فوقَ الرّمالِ ذَبيحا(1)
كما يحتدّ الصراع فيما بعد بين العقل وشكوك النفس التي تلقي العقل مجنوناً على طريق إرم لتسلّم القيادة إلى النفس النقية من الأوضاع.
***
ثانياً: العناصر الفنية:
* الزمان:
أهم العناصر الفنّية في بنية الرحلات الخيالية، فهو يمثّل المدّة التي استغرقتها الرحلة الخيالية منذ انطلاقتها إلى نهايتها.
لقد انطلق فوزي معلوف في رحلته الخيالية في البداية واقعياً على متن طيّارة، وهناك في الفضاء يحلّق على جناح الحلم لتتحوّل الوسيلة الماديّة إلى شكل سحري أخّاذ لايتحقّق إلاّ في عالم الشاعر الأثيري الخاص. ولمّا كان الحلم وسيلة الشاعر في رحلته الخيالية، وهو لايخضع لقوانين الزمان والمكان، وعليه فلا يمكن أن تتقيّد الرحلة بزمان أو مكان ((فنحن يمكن أن نحلم بحادثتين تجريان على نحو متزامن في حين أنّه من المستحيل في الواقع أن تحدث في الوقت نفسه))(2)لذا قد يستغرق الحلم لو ترجم إلى الواقع عشرات السنين في حين يرى أكثر العلماء أنّ أطول حلم لايدوم أكثر من أربعين ثانية. لذلك رأى فوزي بتلك اللحظات التي قضاها مع روحه دقائق لاتحسب من الزمان لأنّها خارجة عن قيوده وحدوده، فيقول:
تلكَ بضعٌ مِن الدقائق مرَّتْ
في خِضَمٍّ
... مِن الخلُودْ
هِي مثّلُ الأحلامِ زارتْ وفَرَّتْ
أيُّ حُلْمٍ
تُرى يعودْ(3)
__________
(1) عريضة، نسيب، الأرواح الحائرة، ص:190.
(2) فروم، أريك، اللغة المنسية، ترجمة محمود منقذ الهاشمي، ص:28.
(3) الزهاوي، جميل صدقي، الديوان، ص:739.(1/168)
وقد كانت رحلة الزهاوي على امتدادها وطولها في حال ترجمة الأحداث للواقع لحظات زمنية قليلة جداً إذ هي حلم أثاره أكل الجرجير والإكثار منه، ولو أردنا أن نخالف آراء العلماء في زمن الحلم ووافقنا الزهاوي لقلنا أنّ الحلم امتدّ حوالي ساعتين ونصف أو أكثر بمقدار ارتفاع الشمس بعد الفجر، فيقول:
وتنبّهتُ مِن منامِيَ صُبحاً ... وإذا الشّمسُ في السَّماءِ تُنيرُ
وإذا الأمرُ ليسَ في الحقِّ إلاّ ... حُلُماً قد أثارهُ الجَرجيرُ(1)
وهذا شأن كلّ الشعراء الذين بنوا رحلاتهم على أساس الحلم، لكنّه حلم الشعراء الذي يسفر عن وشائج خفيّة روحية لاتخضع هي الأخرى للواقع ومنهم محمد حسن فقّي في ((اللّه والشاعر)) والفراتي في ((الحلم المريع)) و ((غرور الشباب)) وقصيدة نسيب عريضة ((على طريق إرم)).
ولم يكن الحلم الوسيلة الوحيدة للانتقال إلى العالم المختار لشاعر الرحلة الخيالية، فقد اتخذ بعضهم من الخلوة الروحية والتأمل جناحين اسطوريين خارقين يجوز بهما أعماق الفضاء وأغوار الأرض، كحال رشيد أيوب وأنيس المقدسي. كما اتخذ بعضهم الآخر من الخيال مطيّة للخروج إلى عالم السماوات والمجرّات وأغوار النفس والأرض. وهذا يعني امتداداً للرحلة الخيالية ومدّتها الزمانية.
__________
(1) المصدر نفسه، ص:739.(1/169)
فالشاعر شفيق معلوف في ((عبقر)) ركب جناح الخيال وانتقل مع شيطانه إلى عالم الأحلام والرؤى، وهذا الانتقال الخيالي استغرق زمناً مجهولاً قد يمتدّ كزمن الحلم وامتداده إلى مالانهاية لأنّه رحلة إلى الزمان السحيق، ومحاولة ترميم لهذا الزمان الغابر بأوهامه وأساطيره وأحلامه، وهذا شأن كلّ الشعراء الذين بنوا رحلاتهم على أساس تجربة الخيال الذي يمنح الشاعر حريّة في الامتداد الزماني، إذ قد يصل إلى آلاف السنين كما هو الحال في ((ملحمة القيامة)) التي تمتدّ ما بين إرهاصات القيامة والصيحات الثلاث والحشر والحساب والجنّة والنار وذبح الموت الذي تنتهي عنده الرحلات الخيالية. ومثل هذا الامتداد الزماني في الرحلة الخيالية نجده في قصيدة محمد عبد المعطي الهمشري ((على شاطئ الأعراف)) حيث تمتدّ الرحلة عبر أطوار ومراحل لابدّ لها من مدد زمانية حتّى تتشكّل وتتلامح بدءاً من الموت المتخيّل إلى الخوف والرهبة إلى التفاؤل بوجود ربّة الشعر إلى العودة للتشاؤم إلى الاستغاثة التي أطلقها في أذن السكون الحاكم.
وهذا شأن محمد حسن فقّي كذلك في قصيدة ((جحيم النفس)) لأنّ استغراق المراحل التي مرّت بها يحتاج زمناً طويلاً، هذا فيما لو ترجمت الأحداث إلى الواقع، أمّا إن بقيت في عالم الشعر واللاشعور والحلم فهي في زمان الحلم.
*
* المكان:
وقد بدا المكان في الرحلة الخيالية ذا طبيعة خاصة له معاييره وخصائصه التي لاتخضع لمقاييس الواقع(1).
فجاء المكان واسعاً لانهاية لامتداده، فهو في الفضاء وماوراء المجرّات، وفي رحاب الحضرة الإلهية تارة، وضيق محدّد في أودية الجانّ والشياطين، أو تحت الأرض آناً آخر وهو في أغوار النفس الإنسانية الغامضة، أو هو خيالي يقع فيها وراء الحياة الكونية والإنسانية.
__________
(1) ينظر: بحراوي، حسن، بنية الشكل الروائي، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، 1990، ص:32.(1/170)
ففي قصيدة ((على بساط الريح)) يكون الفضاء الرحب هو حيز الرحلة المكاني، ويمتاز هذا الحيز بصفات تصبغه بصباغ جمالي خاصّ قد لاتتوافر في غيره من الأماكن فهو مأوى الأرواح المتحرّرة من قيود المادّة والجسد، فيقول عنه:
في عُبابِ الفَضاءِ فَوقَ غيومِهْ
فوقَ نَسرِهْ
نجمتِهْ
مَوطِنُ الشّاعِرِ المحَلّقِ مُنذ الـ ... ـبدءِ لكنْ بروحِهِ لابجسمهْ
أنزلَتْهُ فيهِ عَروسُ قوافيـ ... ـهِ بَعيداً عن الوجُودِ وظُلْمِهْ
مَلكٌ قبّةُ السماءِ لَهُ قصـ ... ـرٌ وقَلبُ الأثير مَسرَحُ حكمِهْ(1)
إذاً هو مكان تتحقّق فيه العدالة بأزهى مايحلم به الإنسان، ويقابل هذا المكان الواسع الرحب عالم من الضيق والقتامة والظلم يحاول أن يفرض قوانينه على الشاعر إنّه أرضه التي ولد عليها. وبين هذين المتناقضين يتخلّق صراع يتناوب أناشيد المطوّلة إلى أن يحصل الشاعر على بغيته في العيش في المكان الروحي بضع لحظات يسترقها من غفلة الدهر عنه بعد تحرّره من المكان المادّي المظلم.
وهذا شأن كثير من شعراء الرحلات الخيالية الذين اتصف لديهم المكان بالازدواجية فمكان الحلم المخيّل واسع رحب ذو صباغ خاصّ والمكان الواقعي فاسد مستعبد ضيق. يقول إبراهيم الهوني:
ركبْتُ عَلى ظَهرِ الخَيالِ فَطافَ بي ... عَوالِمَ أرقى مِن عُويلمِنَا السُّفلِي(2)
ويفعم قلبه بالأسى حين يوقن إنّه عائد إلى عالمه الشرير الذي فرّ عنه، فيقول:
فقلْتُ: أبي أبغِي المُكوثَ بساحِكُمْ ... مللْتُ لَعمري عِيشةَ الضنّكِ والذّلِّ
فَقالَ: مُكوثُ المرءِ عندي محرَّمٌ ... إذَا لمْ يُطهّرْ بالممَاتِ مِن الغِلِّ
فقلت: سَلامُ اللّه ثمَّ تركْتُهُمْ ... وأُرِجعْتُ رَغمَ الأَنفِ للعَالمِ السّفلي(3)
__________
(1) معلوف، فوزي، على بساط الريح، ص:61.
(2) الهوني، إبراهيم، الديوان، ص:36.
(3) المصدر نفسه، ص:40.(1/171)
وكذلك أخذ مكان الرحلة عن الفراتي امتداده الواسع الذي صبغ شخصياته بطابعه فهو مثالي واسع خيّر، في حين يرى كوكبه الأرضي كما رآه سابقاه، فيقول:
فقالَ: اقتِربْ مِنّي فأًسرعتُ نحَوَهُ ... ومثلي بتَمحيصِ الحقائق مُغرَمُ
نظرتُ إذا جيشٌ هنالِكَ زاحِفٌ ... على مثلِهِ والجوُّ أغبرُ أقتمُ
وفي ساحَةِ (الرّينِ) الجُيوشُ مُخفّةٌ ... تساقِي الردّى والأَرضُ يغمرُهَا الدَّمُ(1)
وقد انفرد المكان في قصيدة ((اللّه والشاعر)) لمحمد حسن فقّي عن باقي الرحلات الخيالية إذ اختار الحضرة الإلهية مكاناً للرحلة الخيالية وهو مكان يتصف باللاتناهي والاتساع والعلو العظيم، ورغم ذلك فهو تقليدي لايتعدّى وصف الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم لوقوفه في رحاب الحضرة الإلهية. يقول الشاعر:
في رحاب السّماء في المَلأِ الأعـ ... ـلى تغشّى الوجودَ عِطرٌ ونَورُ
وتجلّى سُبحانهُ فإذا الكو ... نُ جَلالٌ بنوره وحُبورُ(2)
وقد أسهب رشيد أيوب في وصف مكانه العلوي الذي تخيّل وجوده على كوكب المريخ حتّى بلغ وصفه حوالي ستة مخمسات، رغم أن كوكب المريخ مكان واقعي، لكنّ الوصف عندما اقترن بشاعرية رشيد أيوب ونتاج خياله الإبداعي امتاز بخصائص مميّزة، شاعرية قبل كلّ شيء، رغم أنّ وصفه تقليدي يمكن أن نلمح تأثير قصص ألف ليلة وليلة فيه، فيقول:
وفيهِ رِياضٌ باللطّائِفِ تُوصَفُ ... وفي وسطِها عينٌ من الدرِّ تَذرِفُ
يمرُّ بها صَافِي النّسيمِ فتألَفُ ... ويطربُهَا صوتُ النّعيم فتعطِفُ
وتبقى دُهُوراً والصّفا مُتتابَعُ
مغانٍ مِن الياقُوتِ تُبنى قُصورُهَا ... وقَد كوّنَتْ حَصباؤُهَا وصخورُهَا
وِمنْ تحتِها الأنهارُ قَد شفَّ نُورُها ... يعزُّ على طيرِ السِّماءِ عُبورُها
ومِنْ فَوقِها بَرقٌ مدى الدّهرِ لامعُ(3)
__________
(1) الفراتي، محمد، الكوميديا السماوية، مجلة الحديث، ع3-4 ص:148.
(2) فقي، محمد حسن، الديوان، مج1، ص:80.
(3) أيوب، رشيد، الأيوبيات، ص:154.(1/172)
والمكان في ((مطوّلة عبقر)) سفلي غرائبي، فعبقر واد تأوي إليه الجنّ والأرواح بعد شتات وللمكان صباغه الخاصّ به. فهو مكان سديمي تُبنى على غمائمه منازل وأبراج أربعة، وله أبواب أربعة رئيسية يرصد حراسها زعازع أشدّاء. ولكنّ الشاعر لم يطل كثيراً في وصف شكل المكان لأنّه راح يقسّم أنحاءه على عناوين أناشيده، نحو: البلد المرصود، الطريق المسحورة، نهر الغي.. فيقول:
حتّى تَهاوى بي إلى موضعٍ ... مَاراقنِي مِنْ مثلِهِ موضِعُ
غَمائمٌ زرقٌ على مَتنِها ... منازِلٌ جُدرانُها تسطَعُ
تثورُ في أبراجِها ضَجّةٌ ... بها يَضيقُ الأُفقُ الأَوسعُ
فقالَ: هَذي عَبقرٌ ما تَرى ... وضجّةُ الجنِّ التي تسمعُ
عزَّتْ على الإنسِ فمنْ حَولهِا ... أبالسُ الأَبراجِ تَستطلِعُ
جهاتُهَا الأربَعُ مرصُودَةٌ ... تحرسُهَا الزّعازِعُ الأَربَعُ
طَوّفْتُ بالأَبراجِ مُستقصياً ... غور مهاويها السّحيقاتِ(1)
ويبقى الوصف الذي قدّمه شفيق لعبقر مألوفاً في الأساطير العربية عن هذا الوادي.
ومن الأماكن السفليّة الغرائبية ماقدّمته قصيدة ((في حانة إبليس)) للفراتي عن مسكن إبليس وقصره الأرضي، الذي يشبه في وصفه أوصاف وادي عبقر ولم تتجاوز جزئياته أوصاف الأماكن الخيالية التي تقدّمها قصص ألف ليلة وليلة، فيقول:
وصَاحَتْ بَعد أنْ سْرنَا ... طَويلاً ((هِيهِ زامورُ))
إذا بالأرْضِ قَد ضاءَتْ ... وبانَتْ تَحتَها دُورُ
وقد حفَّتْ بتلكَ الدُّو ... رأنهارٌ وجنّاتٌ
وعَنْ بُعدٍ تراءَتْ ليَ م ... صَحراءٌ وواحاتٌ
وقَصرٌ مثل عِقدِ الما ... سِ عن بعدٍ تَراءى لي
فأذهَلَنِي جَمالُ القَصْـ ... ـرِ عنْ نفسِي وعن حَالِي(2)
__________
(1) معلوف، شفيق، عبقر، ص:153-154.
(2) الفراتي، محمد، النفحات، ص:271.(1/173)
وهناك شكل آخر للمكان في الرحلة الخيالية هو المكان الميتافيزيقي الذي يبدو غير مألوف في الأدبيات، إلاّ في القديمة التي أشارت إليه بلمحات خاطفة، لذا كانت الأوصاف التي قدّمها شعراء الرحلات الخيالية مبتكرة جديدة فـ ((على شاطئ الأعراف)) مطوّلة رسمت ملامح غير مألوفة للشاطئ الذي تلوّن بمخاوف الشاعر وآلامه من الموت والحب الفاشل، رغم محاولته بثّ روح الأمل في أرجائه بين فينة وأخرى، فيقول:
في انتحاءٍ عَن العوالِم قَاصٍ ... حَيثُ يَرقى السكونُ مرقَى الفَضاءِ
وطُيورُ القَضاءٍ تَنعَبُ في المَو ... تِ نعيباً يَزيدُ هَولَ الفنَاءِ
غَيرَ أنَّ السّكونَ ينهشُهُ نهَـ ... ـشاً ويَمشي الحفي على الضُّوضَاءِ
سَرمديُّ البقَاءِ يحكُمُ في المّو ... تِ ويبقَى على بَقاءِ البَقاءِ(1)
وتبدو الصورة المكانية وهمية مبتكرة يقرّبها البعد الأسطوري كثيراً من الصورة الحسية فيقول:
هو وادٍ للمَوتِ ينشُرُ فيهِ ... شِبهَ دُنيا تَفنَى وشبهَ حَياةِ
يَبسُطُ الوقْتُ كالخضَمِّ ليطويـ ... ـهِ ويَعدُو عليهِ كالسّعلاةِ
مزّقَتْ نفسَها الرّياحُ عليهِ ... داوياتٍ من فوقِهِ مُعوِلاتِ
لغطٌ يشبِهُ الحياةَ بما تحـ ... ـوِي ولكِنْ خلوٌ من الأصواتِ(2)
ولقد أسهب الشاعر في وصف الطريق إلى الوادي ومافيه من دياجير وأهوال تمزّق على أرصفتها الروح لوعة وأسى، كما أسهب في وصف الشاطئ حتّى وصل في الوصف ثلاثين بيتاً تقريباً، إضافة إلى أماكن أخرى في المطوّلة، كقبر الليالي، وقصر الحياة، وسفائن الموت.. وغيرها.
__________
(1) شرف، عبد العزيز، الهمشري شاعر أبولو، ص:137.
(2) المصدر نفسه، ص138.(1/174)
أمّا وصف الزهاوي للعالم الماورائي بدا تقليدياً واسعاً متنوّعاً وأوّل المنازل التي نزلها الزهاوي القبر ((أوّل منازل الآخرة))(1)ويظهر أن الشاعر لم يسهب في وصفه له إذ لم تكن الغاية الوصف بل عكس الحالة النفسية التي كان عليها الشاعر حين أيقظه الملكان في قبره، فيقول:
فبدَا القَبرُ ضَيّقاً ذَا وخُومٍ ... مابهِ للهَواءِ خَرقٌ صَغيرُ
إنّه تحَتَ الأَرَضِ إلاّ قَليلاً ... مَنزِلُ المرْءِ ذي الطّموحِ الأخيرُ
ألمنْ خابَ حُفرةٌ ذاتُ ضيق ... ولمنْ فَازَ روضَةٌ وغَديرُ(2)
ثمّ تأتي جهنّم بعد القبر وهي مكان يذهل القلوب عن كلّ غالٍ وعزيز، وهو في وصفه متكئ على أوصاف القرآن ولم يزد عليها شيئاً، فالوصف تقليدي معروف، فيقول:
ولَهُمْ فيها كلَّ يومِ عذابٌ ... ولهْمْ فِيها كلَّ يومٍ ثُبورُ
ثمَّ فيها عقاربٌ وأفاعٍ ... ثمَّ فيها ضَراغِمٌ ونُمورُ
يضرَعُ المجرمونَ فيها عِطاشاً ... والضّراعات مَالها تأثيرُ..(3)
كما أنّه أسهب في وصف أهوال هذا العذاب حتّى بلغ وصفه قرابة سبعة وعشرين بيتاً.
وقد لقي المكان في ((ملحمة القيامة)) اهتماماً كبيراً من الشاعر عبد الفتاح القلعجي، فالجحيم مكان مرعب مهول بكلّ مافيه ملامح وجزئيات وعناصر أخرى متمّمة، وقد اعتمد الشاعر على الوصف القرآني القائم على التشخيص في عرض صورة النّار، فيقول:
كالفكّ المفترسْ
وتفُورُ، تميّزُ غَيظاً تلتهم الجَسدَ الأَعمى(4)
وهي مكان عريض واسع لكنّها ليست سعة السعادة والحريّة، بل سعة العذاب والألم والحسرة، هي سكن ولكنّه لايحمل في طياته ذكريات الماضي الجميل وهي بيت ولكنّها ليست ككلّ البيوت فهي ذات أبواب كثيرة وكلّ باب يحمل خلفه ألواناً من العذاب تميّزه عن بقية الأبواب الأخرى.
__________
(1) الترمذي، سنن الترمذي، دار الفكر، دمشق، 1983، حديث رقم: 2230.
(2) الزهاوي، جميل صدقي، الديوان، ص:715.
(3) المصدر نفسه، ص:730.
(4) القلعجي، ملحمة القيامة، ص:141.(1/175)
ويظهر اللون الأسود في فضاء المكان منعكساً نفسياً لحال أهل النار، ففيها الظلمة بسوادها الحالك، والجسد البشري المتفحّم والأسود في كلّ مكان حتّى الملائكة، فيقول:
أَتَى مَالِكٌ
في هالاتِ لهيبٍ أسْودٍ
يا مالكُ ليقضِ عَلينا ربُّكْ(1)
وتتوضّح صورة المكان شيئاً فشيئاً من خلال عناصر العذاب وأدواته التي تتضافر مع سابقاتها لتؤلّف الفضاء المأسوي للمكان المرعب، فيقول:
يَنساحُ المُهلُ إلى السّفحِ
والبركانُ الأعمى
يزبدُ، يبصُقُ غضباً مِن فلزِ مصهورٍ
ظُللٌ مِن نارْ
فوقَ رؤوسٍ النّاسِ
وتحتهمْ ظُللٌ مِن نارْ(2)
واتصفت بعض الأماكن في الرحلات الخيالية بالمثالية بوصفها أفضل مايراه الشاعر فضاءً شعرياً يرسمه خياله، وقد أجمعت كلّها على الجنّة مكاناً رائعاً يتّصف بالراحة والسعة والألوان الزاهية المشرقة، وفيها كلّ معاني الراحة والسعادة والهناء والشفافية، وممّا لاشكّ فيه أنّ صفات المكان تهيّئ المتلّقي لترشيح الشخصيّة التي ستبرز في هذا المكان وتُهيّأ للعيش فيه، وقد تفاوت الوصف بالطول والقصر لدى الشعراء فالعقّاد لم يسهب في وصفه بل اكتفى بالإشارة إليه في عدد من الأبيات، فيقول في بعضها:
نَزَلَ الشّيطانُ مِن جنّتهِ ... مَنزلاً يَرضَى بهِ الفنُ الجميلْ
ومشَى فاختارَ في مشيتِهِ ... هَبطةً عندَ مصبِّ السّلسبيلْ
هضبةً فيها نخيلٌ وثَمرْ ... وبراكينَ خبا منها الضّرامْ(3)
إلى قوله:
وعلى أحواضِها الطّيرُ تُغنّي ... ياكريمُ، ياحليمُ، ياغفورْ
وحَواليَها على رحب المدى ... زُمرُ الأملاكِ مِن خلفِ زُمرْ(4)
__________
(1) المصدر نفسه، ص:142.
(2) المصدر نفسه، ص:149.
(3) العقاد، عباس، الديوان، ص:279.
(4) المصدر نفسه، ص:280.(1/176)
ولم يزد الزهاوي في وصفه للجنّة على ماقدّمته آيات القرآن الكريم وأحاديث الإسراء والمعراج، وقد وصلت أبياته في وصف الجنّة إلى خمسة وثلاثين بيتاً، غير أنّ المكان: أي الجنّة، لم تشكّل لديه صورة الفرح الغامر لأنّه حمّله الأسى والألم، فالملكان لم يرياه الجنّة إلاّ ليتحسّر على مافاته من نعيمها، فيقول:
ولقدْ رُمتُ شُربةً مِن نَميرٍ ... فتيمّمتهُ ففرَّ النّميرُ
وتذكَرتُ أنّني رجلٌ جيء ... م ... بهِ كي يُراعَ منهُ الشّعورُ(1)
أمّا القلعجي فهو أكثر شعراء الرحلات اهتماماً بجمالية المكان فقد وجد مثاليته في العقيدة الإسلامية، وجمّل في ملامحه وزيّن، إضافة إلى الجمال الذي تبعثه معاني القرآن الكريم وأوصافه التي ضمّنها كثيراً من أناشيده عن الجنّة ومافيها.
وتبدو صورة الجنّة لدى الفراتي مبتكرة لم تأخذ شيئاً كثيراً من معاني القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وقد تمثّلت صورتها في كوكب العباقرة، فكلّ شيء في هذا الكوكب متميّز: التربة من الذهب والأحجار الكريمة، والدّور تشعّ بلا كهرباء والبشر ليسوا بشراً كالذين وصفهم القرآن من أهل الجنّة فهم يتخاطبون بلغة الفكر، والزمان فيها غير الزمان المعهود، فيقول:
وتشعرُ بالثوانِي حينَ تمضِي ... ولمْ تَكْحُلْ بغُمضِ مُقلتاهَا
ويبنِي كلُّ فردٍ في أوانٍ ... صُروحاً يُعجِزُ الدّنيا بناهَا
عباقِرُ تخلُقُ الأشياءَ خَلقاً ... ولمْ تُنكرْ خوارقُها الإلهَا(2)
وهكذا جاءت الصورة الزمانية والمكانية للرحلة الخيالية ذات طابع مميّز تراوح بين الحلم والخيال اللذين لايخضعان لقوانين الزمان والمكان الواقعيين فبدت الرحلة التي تحتاج آلاف السنين لقطع أشواطها تنقضي في حلم بين ليلة وضحاها.
__________
(1) الزهاوي، جميل صدقي، الديوان، ص:729.
(2) الفراتي، محمد، الكوميديا السماوية مجلة الحديث، ع7، ص:351.(1/177)
أمّا المكان فقد تلوّن إلى درجة واسعة من علوي ذي سعة ورحابة، وإن لم تكن الرحابة تعني السعادة والهناء في بعض الأحيان، إلى سفلي غرائبي، عالمه الجنّ والشياطين، وآناً آخر هو نفسي يكشف مجاهيل النفس البشرية الغامضة، إلى عوالم ماورائية لعب الخيال والابتكار دوراً كبيراً في تقريبها من مدركات المتلقّي، إلى عوالم مثالية تعكس بوضوح السمو الروحي الذي تنشده الرحلة الخيالية وتجد فيه مكاناً تتحقّق فيه السعادة التي يسعى الإنسان إليها ويجاهد في سبيلها.
*
* الشخصيّات:
تنوّعت الشخصيّات في الرحلات الخيالية من إنسانية إلى حيوانية إلى شيطانية وفضائية.. وغيرها.
الشخصيات الإنسانية:
وبدا الشاعر أهمّ شخصيّة إنسانية في الرحلة الخيالية لأنّها تمثّل صوت الإنسان، والرحلة تدور في مجملها حول طبيعة هذه الشخصيّة وتعكس آلامها وآمالها. ويمكن أن ندرس هذه الشخصيّة من خلال ثلاثة محاور: الشكلي والاجتماعي والنفسي.
*
تظهر صورة الشاعر فوزي معلوف ذات بعدين متناقضين في الشكل الخارجي إذ هو ملك رومانتيكي يسبح في فضاءات الخيال آناً، وعبد مقيّد بجسمه وقوانين واقعه وحياته وموته وبالقضاء والقدر المتحكّم به، لذا يقول:
أنا عبدُ الحياةِ والموتِ أمشي ... مُكرَهاً مِن مُهودِها لقُبورهْ
عبدُ ماضمّتِ الشّرائعُ مِن جُو ... رِ يخطُّ القَويُّ كلَّ سطورهْ
أنا عبدُ القضاءِ تملأُ نفسي ... رَهبةٌ مِن بشيرهِ ونذيرهْ(1)
ومثل هذه الصورة الشكلية القائمة على التناقض نراها في شخصية محمد حسن فقّي في قصيدته ((الكون والشاعر)) رغم أنّ الصورة لم تكن واضحة وضوحها عند فوزي معلوف.
وبدا الفراتي في قصيدته ((في حانة إبليس)) طفلاً بريئاً ساذجاً يمكن استجراره بالحلوى، فيقول على لسان السعلاة:
تَعالَ إليَّ يا طِفلي ... وخُذْ حلوى وهَاديني
نَهضتُ مُسارعاً أعدُو ... وراءَ الصّوتِ مِن جَهلي(2)
__________
(1) معلوف، فوزي، على بساط الريح، ص:77-78.
(2) الفراتي، محمد، النفحات، ص:268.(1/178)
أمّا الزهاوي فقد بدت ملامحه الخارجية منعكساً لحالته النفسية إذ هو شيخ ضعيف لاحول له ولاقوّة، وله صورة أخرى في النار تعكس آثار العذاب الذي لاقاه، فيقول:
قالَ مَن أنتَ وهو ينظرُ شزراً ... قلتُ شيخٌ في لحدهِ مقبورُ(1)
وهو في النار مشوّه يقول عن حاله:
ثمَّ بقسوةٍ ومن فوقِ رأسي ... قَطِراناً لسوءِ حظّي يفورُ
فشوَى رأسي ثمَّ وجهيَ حتّى ... باتَ مثلَ المجدورِ فيهِ بُثورُ(2)
أمّا بقية الشعراء فتبدو صورهم غائبة في هذا المحور الشكلي إلاّ أنّنا يمكن أن نقف على صوتها وفكرها وعلاقاتها بالمجتمع.
*
للمجتمع دور مهم في رسم شخصية الشاعر من خلال علاقة الأنا الأدنى (الفرد) بالأنا الأعلى (المجتمع). إذ غالباً ما يشكّل الأخير قمعاً وقهراً للأوّل حتّى يشوّه فيه كلّ جميل وينفّر منه كلّ أشكال البراءة. على نحو ماوقع لفوزي معلوف مع الطيور والنجوم والأرواح، فيقول على لسان نسر:
إنَّ قلبي لموجسٌ منهُ شراً ... رُحْ بنا نجتلي حقيقَةَ أمرِهْ
آدميٌّ هذا؟ أجابَ أخوهُ! ... جاءَ يستعمرُ الأثيرَ بأسرهْ(3)
وفي عبقر تفرّ العرّافة والجنّ من حولها من رؤية الشاعر، بل إنّها لتخشى على ثعبانها من شرّه، فيقول:
ودَدتُ يا غادرُ لو أنّني
أطلقتُ ثعبانيَ لاينثني
عنكَ فيرديكَ، ولكنّني
أخشَى على الثّعبانِ مِن غَدركْ
في نابهِ السّمُّ كانْ
وصارَ في صدركْ(4)
وهذا شأن أغلب الشعراء الذين ينزعون منزعاً رومانتيكياً يرى الإنسان شريراً بفطرته، كإبراهيم الهوني والعقّاد وعريضة.... وغيرهم.
*
__________
(1) الزهاوي، جميل صدقي، الديوان، ص:716.
(2) المصدر نفسه، ص:726.
(3) معلوف، فوزي، الديوان، ص:94.
(4) معلوف، شفيق، عبقر، ص:166.(1/179)
ويمثّل البعد النفسي أوسع المحاور التي تحدّد ملامح الشخصيات في الرحلات الخيالية وقد سبرت الدراسة أغلب جوانب هذا البعد في دراسة الدوافع. غير أنّ الملاحظ بروز الأنا الفردي الذي تنتصر له الروح الرومانتيكية في معظم الرحلات الخيالية ويقابل هذا الأنا أنا أعلى يحاول صهر الأوّل في بوتقته وينجم عن هذين القطبين صراع وانقسام في الشخصيات وفق ثنائية ضديّة: روحية ومادّية تمثّل الأولى قوى خيّرة يمثّلها شاعر الرحلة الخيالية وأهل الفنّ والفكر والإصلاح والأنبياء.. وغيرهم، وأخرى شريرة يمثّلها الطاغون والفراعنة والدجّالون والأفّاقون.
الشخصيات اللاإنسانية:
تقف هذه الشخصيات إلى جانب الشخصيات الإنسانية وتسهم في بلورة الرؤى الفكرية التي يريد الشعراء طرحها، وتتنوّع هذه الشخصيات فبعضها ينتمي إلى الطبيعة الحيّة والصامتة، هذه الأمّ الرؤوم التي لجأ إليها الشعراء والرومانتيكيون فسكبوا أرواحهم جداول عشق وهُيام في رياضها. وقد مثّلت هذه الشخصيات الطبيعية قوى الخير التي نفرت من واقع الإنسان وحياته الموبوءة. كالطيور والنجوم في قصيدة فوزي معلوف ((على بساط الريح)) و ((الكون والشاعر)) لمحمد حسن فقّي، حيث يقول الفقّي:
فغرّدَ البُلبُلُ تغريدةً ... يُخطئُ فيها الوصفُ حُسبانَهُ
وقالَ: إن كنتَ تريدُ الهُدَى ... فهاكَ مِن طَبعيَ بُرهانَهُ
الزّيف في النّاسِ وأمّا هُنا ... فالطّيرُ لايخدَعُ إخوانَهُ(1)
__________
(1) ساسي، عبد السلام طاهر، شعراء الحجاز، ص:51.(1/180)
وكان الشيطان أبرز شخصية بعد الإنسان في معظم الرحلات الخيالية، ولقد استقرّ في عرف الدراسات الاجتماعية والدينية أنّ الشيطان رمز الشرّ الأوّل على الأرض، فلا يكاد يذكر إلاّ وذكر مرادفاً له الخراب والدمار والشرّ حتّى إنّ العرب سمّت أحد الشياطين بـ ((ثبر)) ويعني الهلاك. لكنّ الرحلة الخيالية رأت فيه وجوهاً وأقنعة متلوّنة جعلته شخصية متميّزة وفاعلة ومنفعلة مع الأحداث. فهو في مطوّلة عبقر صديق معين على قضاء الأرب، رغم صورته المقزّزة التي رسمها الشاعر له، فيقول:
كأنّهُ لمّا بدا خُفيةً ... قَذَفهُ مِن الثّرى وسَاحِرُ
في فَمهِ مِن سَقرٍ جَذوةٌ ... منها يطيرُ الشّرُ الثّائِرُ
ووجهُهُ جُمجمةٌ راعني ... أنيابُها والمِحجرُ الغائِرُ
كأنّما مِحجرُها كوّةٌ ... يُطلُّ مِنها الزّمنُ الغابِرُ(1)
غير أنّ الصورة الأخلاقية والاجتماعية لإبليس تظهر في نشيد أبناء إبليس الخمسة الذين يمثّلون المفاسد الاجتماعية وآفاتها، وقائدهم في ذلك شيطان الكذب، هذه الآفة التي تسوق المجتمع إلى شفير الهلاك والدمار.
أمّا في ((ترجمة شيطان)) فتكون صورة إبليس أقرب ماتكون إلى الحقيقة التي اكتسبتها منذ أقدم العصور فهي محنة للبشر على الأرض رماهم اللّه بها ليفرّقوا من خلالها بين الخير والشرّ، فيقول:
قالَ كُوني مِحنةً للأبرياءْ ... فَأطَاعَتْ يَالَها مِن فَاجرهْ
ولو اسطاعَتْ خِلافاً للقضاء ... لاستَحقَّتْ منهُ لعنَ الآخرهْ(2)
وتظهر روح الثورة والتمرّد ملازمة للشيطان من ظاهر النصّ فهو متمرّد على خلقته التي جُبل عليها وعلى محنته التي امتحن فيها، وهي إغواء ذوات الذنب، على حدّ زعم العقّاد يقول:
سَخِرَ الشّيطانُ مِنْ قِسْمَتِهِ ... ومِنَ الأَرْضِ ومَا فَوْقَ السَّماءْ
ومَضَى يَهْجِسُ في مَحْنَتِهِ ... ((ألهذا تُسْتَذَلُ الكبرياءْ))؟(3)
__________
(1) معلوف، شفيق، عبقر، ص:147.
(2) العقاد، عباس، الديوان، ص:272.
(3) المصدر نفسه، ص:274-275.(1/181)
ولاتبرح هذه الروح تلازمه في الجنّة ولكنّها تبرز في صورة ملال وسأم من حال لايصل فيها شأوه من الكمال والخلود المطلقين. عندها يتحدّى اللّه ويطلب منه ألاّ ينتظر منه توبة المُكدّين من عباده، فيقول:
عَفْوَكَ اللّهمَّ أَو لاَ عَفْوَ لي ... طَالَ بي حُلْمُكَ فابْعَثْ أجَلَكْ
أنا لاتَخْطُرُ لي في أَمَلي ... لاتَكُنْ تَوبَةُ نَفْسِي أَمَلَكْ
وادْعُ في خَلْقِكَ يَسْجُدُ مَنْ رَجَا ... خُلْدَكَ الأعَلى فَما نحنُ سُجودْ
لَنكَوُنَنَّ إذا صَحَ الحَجَا ... حَجَراً صَلْداً ولاَ هَذَا الوُجُودْ(1)
أمّا الوجه الثالث لصورة الشيطان فيبدو في قصيدة ((في حانة إبليس)) لمحمد الفراتي إذ يبدو متظلّماً مقهوراً في ظاهر الأمر، خبيثاً مراوغاً يحاول السخرية من البشر وعلى رأسهم آدم، فيقول:
أَبَوكُمْ آدَمٌ أَغْوَتْـ ... ـهُ فِي الجَنَّاتِ حَوُاءُ
وَأَنْتُم بَعْدُ تُغوُيكم ... بها هِنْدٌ وأسماءُ
فَآدمُ كَانَ مِنْ طِينٍ ... ومِنْ نارٍ بَرى نبعي
وَلاَ يَسْمُو سُمُو النّا ... رِ ذَاكَ الطّينُ بالطّبعِ
عَصَيْتُ الأَمَر عَنْ خَطَأٍ ... وَعَنْ قَصْدٍ عَصَى الأَمْرَا
فَقَرَّبَهُ وَأَبْعَدَنِي ... فَقُلْ لي كَيْفَ لاَ أَضْرى(2)
وتبرز بعد ذلك شخصيات أخرى منها ((آلهة الشعر)) في قصيدة
((على شاطئ الأعراف)) وهي ذات بعد رمزي تمثّل روح الشاعر الوثّابة التي تخلق الحياة في خضمّ الموت، والجنّة وسط الخواء والخراب.
وشخصيّة ((أرغن الموت)) الذي يعزف بقيثاره لحناً صامتاً شجيّاً يتعطّل لفترة من الزمن، لكنّ الأمل لايزال يشرق على روح الشاعر، فيقول:
لَهْفِي مَا أَرَاكَ تَبْعَثُ لَحْنَاً ... فَاخْبِرِ الشِّعرَ مَا دَهى قيثَارَكْ
سَوْءَةٌ للْيَدِ التّي عَطَّلَتْها ... وَعَفَتْ فِي غِنَائِها أوْتَارَكْ(3)
__________
(1) المصدر نفسه، ص:285-286.
(2) الفراتي، محمد، النفحات، ص:273.
(3) شرف، عبد العزيز، الهمشري شاعر أبولو، ص:146.(1/182)
إذاً لقد قدّمت الرحلات الخيالية شخصيّات متنوّعة وكأنّها تمثّل جميع النماذج البشرية التي أراد الشعراء بثّها في رحلاتهم وإلباسها غِلالة من المشاعر العاطفيّة أو المواقف النفسيّة والاجتماعية والسياسية، إضافة إلى دور الشخصية الرئيسية التي بدت متنامية مع الأحداث متطوّرة بتطوّرها نابضة بالحيويّة والنشاط والحركة ممّا دفع عن المتلقّي رتابة الحدث وسآمته.
كما حملت الشخصية الإنسانية وغيرها فعالية الموقف فتفاعلت مع الأحداث ولم تكن هامشيّة إلاّ في القليل النادر، كما عكست الصراع الحادّ بين الثنائيات التي قامت على أساسها أغلب الرحلات الخياليّة. ولاسيما الصراع بين مطالب الروح ومطالب الجسد.
***
* الحوار:
إذا كانت ملامح الشخصيّة تتشكّل من خلال أبعادها النفسيّة والاجتماعية فإنّ الحوار الجيد الذي يصوغه الشاعر بين شخصياته يساعدنا كثيراً على فهم الشخصيّات المتحاورة بشكل أكثر وضوحاً إلى جانب مكوّناتها النفسيّة والعلميّة والفلسفيّة والاجتماعيّة، إضافة إلى كونه يكشف لنا عن الصراع النفسيّ بين الفرد والمجتمع، أو الأيديولوجيّ بين العلم والدين، أو الاجتماعي بين القيم الخلقية الفاضلة والمفاسد الاجتماعية.
((والعجيب في الحوار أنّه يؤدي هذه المهمّات كلّها في الوقت نفسه، فقد يرسل العبارة من عباراته إرسالاً على لسان شخص فإذا هذه العبارة محمّلة بمختلف المهام، ففيها إخبار بحادثة وفيها تكوين لشخصيّة، وفيها خلق لجوّ، وفيها تلوين لروح مظلم أو مفرح، مثلها في ذلك مثل العبارة الموسيقية التي تنطلق محمّلة بالنغم الذي يروي، ويلوّن، ويكوّن، ويثير كلّ هذا في لحظة. وكشأن البيت في القصيدة الشعريّة، ينطلق حاملاً إلى النفس عذوبةً ووزناً وفكراً ومعنى وصوراً كلّ هذا في آن....))(1).
في دراسة الرحلة الخيالية نلحظ شكلين رئيسين للحوار هما:
__________
(1) ينظر: الحكيم، توفيق، فن الأدب، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1973، ص:150.(1/183)
1- ((الديالوج)) الحوار الخارجيّ.
2-((المنولوج) المناجاة.
ويبدو الحوار في قصيدة (على بساط الريح) -أعني الديالوج- قائماً بين شخصيتين متناقضتين ظاهراً. أولاهما شخصيّة الشاعر وهي شخصية إنسانية تمثّل الحياة الأرضيّة الماديّة المستعمرة، وثانيتهما شخصيّة الطيور أوّلاً والنجوم ثانياً والأرواح ثالثاً والقلم أخيراً. وتعكس هذه الشخصيات -باستثناء الأخير- في حوارها مع الشاعر كراهيّتها لبني البشر وشرورهم، وفقدان الثقة في صلاح بني الناس، فيقول في الحوارية الأولى:
قَالَ نَسْرٌ لآخَر: أيُّ طيرٍ
هُو هذا
ومَنْ رفاقُهْ؟
إنْ يَكُنْ قَادِماً إلينا لخَيرٍ
فَلمِاذّا
عَلاَ زُعَاقُهْ؟
يَالَهُ طَائراً بِصُورَةِ شَيْطَا ... نٍ يبثُّ اللّهِيبَ بُركانُ صَدْرِهْ
أهْو منّا؟ لا لا: فَلَمْ أَرَ جباً ... راً كَهذا في الجوِّ مَا بينَ طَيْرِهْ
إنَّ قَلبي لمَوُجِسٌ مِنه شَرّاً ... رُحْ بِنا نجتَلي حَقيْقَةَ أَمْرِهْ
آدَمِيٌّ هَذا أَجابَ أَخُوهُ ... جَاءَ يَستعمِرُ الأثيرَ بَأسْرِهْ(1)
فهذا الحوار الذي يقوم على الاستفهام الإنكاري والتعجبّي يعكس بوضوح العلاقة المتأزمة بين الشاعر والطير، كما يعكس من طرف خفيّ ذلك الخوف الخفر من الطيور على عالمهم السّماويّ، إنّه خوف عدوى انتقال الشرور من الأرض إلى السّماء، لذلك نسبته إلى الشّيطنة فجعلت من بساطه الحديدي شيطاناً ((يبثّ اللهيب بركان صدره))(2) كما يبرز لفظُ الفعل ((يستعمر) كمحرق مولّد في هذا الحوار يحمل بعداً نفسياً واجتماعياً وسياسياً للشخصية الموصوفة.
هذا الحوار دفع الشاعر للاشتراك في الحواريّة في محاولة لكشف غشاوة الوهم الذي تحمله الطير، فيقول:
لاَ تَخَافِي يَاطيرُ مَا أَنَا إلاّ ... شَاعِرٌ تَطْرَبُ الطُّيورُ لِشِعْرهْ
زَارَكِ اليَوْمَ مُتْعَباً يُنْشُدُ الرّا ... حَةَ في هَدْأةِ السُّكُونِ وَسِحْرهْ
__________
(1) معلوف، فوزي، على بساط الريح، ص:93.
(2) المصدر نفسه، ص:93.(1/184)
فَرَّ عَنْ أرَضِهِ فَرارَكِ عنها ... مِنْ أذى أهْلِها وتَنْكيل دَهْرِهْ(1)
ولا نلمح تعاطفاً بين الشاعر والطيور، بل والنجوم والأرواح، بله روحه التي تحضنه، تحتضن فيه الشاعر الإنسان، الشاعر المكلّل بالألم الرومانتيكي العظيم، فيقول:
طَوَّقَتْني بكُلِّ عَطْفٍ وَصَاحَتْ: ... أخَواتِي رِفْقَاً بِهِ وَببُؤسِهْ
هَو بالرَّغَمِ عَنْه من عَالَمِ الأَرْ ... ضِ تَزَيَّا بِشَكْلِ أَبْنَاءِ جِنْسِهْ(2)
ويظلّ الحوار الخارجي ((الديالوج)) في إطاره التراثي الذي يعمد إلى لغة السرد المتمثّلة بـ (قال وقلت)) وأخواتها من المرادفات متجلّياً في معظم الرحلات الخياليّة، ويبرز دوره في عكس البنية الدراميّة لبعض القصائد ذات الشكل المسرحي كـ ((ثورة في الجحيم)) و ((ملحمة القيامة)).
ففي الأولى يرسم الحوار ملامح الصراع المتفجّر بين عنصرين متضادّين الأوّل يمثّله الشاعر الفيلسوف ذو النزعة المادّية الفكريّة العلمية، والثاني يمثّله الملائكة الموكّلون بالبشر: وهم يمثلون الجانب الديني الغيبي.
ويظهر الحوار في غالبه مسهباً في الحكاية والسرد متكلّفاً في كثير من أجزاء القصيدة، ولكنّ كلّ ذلك لم يحل بينه وبين رسم ملامح شخصية الزهاوي الذي بدا مضطرباً قلقاً خائفاً، يقول عن نفسه:
غَيْرَ أَنَّي صَدَعْتُ بِالحَقِّ في الآ ... خَرِ حتَّى التَاثَتْ عَلَيَّ الأُمُورُ(3)
ثم يُبرز الحوار الاستفهامي بين الشاعر والملكين العقيدة التي انطلق منها الزهاوي في صراعه الدرامي مع الملكين. وهو قائم على السؤال والجواب، بيد أنّ الاستطراد يقطعه في بعض الأحيان كما فعل في وصف شدّة خوفه وتردّده، ثم يعرّض لشكوكه بالصراط، فيقول:
ثُمَّ إِنِّي في الوَقْتِ هَذا لخَوفي ... لَسْتُ أدْرِي مَاذَا اعْتِقَادِي الأَخيرُ
__________
(1) المصدر نفسه، ص:95.
(2) المصدر نفسه، ص:149-150.
(3) الزهاوي، جميل صدقي، ص:716.(1/185)
لَمْ يَرُبْنِي أَمْرُ الصِّراطِ مُقَاما ... فَوقَ واد منَ الجحيمِ يَفُورُ
غَيْرَ أنّي أُجلُّ رَبِّي مِن إتـ ... ـيانِ مَايَأبَاهْ الحَجَا والضَّميرُ(1)
وهذا ديدن الزهاوي وغيره من شعراء الرحلات في توظيف الحوار الخارجي ((الديالوج)) في بنية العمل الشعري إذ يؤدّي الحوار إلى كشف ملامح الشخصيّات المتحاورة. وقد يرسل الكلمة أو العبارة فتكشف عن الانفعال السائد أو الموقف المراد التعبير عنه، ونلمس مثل هذه الحواريات لدى محمد الفراتي في ((الكوميديا السّماويّة))، وحانة إبليس، وأنيس المقدسي في ((المعرّي يبصر)) ومحمد حسن فقّي في ((الكون والشّاعر)) و ((اللّه والشّاعر)) و ((جحيم النّفس)) ونسيب عريضة في ((على طريق إرم)) وغيرهم.
الحوار الداخلي ((المناجاة)):
هو ذلك الشجن الداخليّ الذي ينجم عن انشطار نفسي تعانيه الشخصيّة في لحظات تأزّمها وشعورها بالاستلاب فـ ((تكون المناجاة الذاتية اللغة الممكنة حين تصل الأزمة ذروتها))(2).
و((على بساط الريح)) يعاني المعلوف أزمة حقيقية تمزّقه بين نوازع الروح وتطلعاتها نحو الانطلاق والرحابة والسعة وقيود الجسد وماتتبعه هذه القيود من حياة وموت وقوانين وحبّ وكره... وقد خلقت هذه الأزمة حالة استلاب وقع الشاعر بين براثنها فجاءت قصيدته صدى لهذه الحالة، ثمّ لتتحول في كثير من الأناشيد إلى مناجاة نفسيّة كما هو الحال في نشيد ((العبد)) إذ يبدو التكرار اللاشعوري لكلمة عبد محرقاً مولّداً لهذه المناجاة التي تعكس روح اليأس والقنوط والتشاؤم اللّهمّ روح الشاعر، فيقول:
كُلُّ مابي في الكَوْنِ أَعْمى وَمُنْقَا ... دٌ على رَغْمِهِ لأَعَمَى نظِيرهْ
غيَرَ رَوْحي فالشّعرُ فكَّ جَنَاحَيْـ ... ـها فَطَارَتْ في الجوِّ فَوْقَ نُسورِهْ
__________
(1) المصدر نفسه، ص:719.
(2) عيد، رجاء، لغة الشعراء، منشأة المعارف في الاسكندرية، 1977، ص:46.(1/186)
تَنْتَحي عَالَم الخُلُودِ لِتحَيا ... حُرّةً بَيْن رُوْضهِ وغَديرِهْ(1)
ونقع على أمثال هذه المناجاة الذاتية التي تعكس القلق والحيرة لدى أنيس المقدسي في ((المعرّي يبصر)) فهو يهجس بهذا الكون الذي يحيط به، فيتساءل عن البارئ الذي فطر هذا الكون، أهو على مثال البشر أم غير ذلك؟ فيقول:
هلِ الدّنْيا سِوى مَجْرَى رحيبٍ ... جَرَتْ فِيهِ الخَلائِقُ مِنْ قَديمِ
إلى بحرِ الفَناءِ ولا رُجوعٌ ... لها مِنْ ذلكَ البَحْرِ العظيمِ
مَنِ الإنسانُ ما هذي البرايا ... وما في الكونِ من سرٍّ بهيمِ؟
وماذا في السَّماءِ مِنَ الدّرارِي ... فهلْ فيهِنَّ مِنْ عقلٍ عليمِ؟(2)
ويسوق هذا الحوار الداخلي الشاعر إلى صديق قديمٍ ضالّ يقف في الممرّ العابر بين نور الحقيقة المشرقة وكهف الظنون والأوهام، ليدلّه إلى ذلك النور البعيد الذي تنجلي به أوهام المادّية وتتهاوى على صلابته صروحها، فيقول:
وحَاذِرْ أَنْ تعودَ إلى ديَاجِي الـ ... ـشّكُوكِ فَمَا بِها للنَّفسِ نُورُ
ولَيْسَ سَعادَةُ الإِنْسَان وهماً ... لمِنْ في صَدْرِهِ قَلْبٌ كبيرُ
ولَيْسَ العِلمُ يَروي نَفْس صَادٍ ... فما علْمُ الأنام سِوى رجومِ(3)
أما قصيدة نسيب عريضة فتعدّ محاولةً جادة لاستبطان الذات البشريّة بكلّ قواها الروحيّة والعقليّة والعاطفيّة، وتحديد أدوات وجودها فكانت القصيدة حواراً داخلياً بين الشاعر ونفسه وعقله وقلبه وروحه، هؤلاء الذين ألّفوا ركبه نحو إرم، فيقول:
قدْ كانَ في الركبِ قَلبِي ... وَمُهجَتِي وَهوايَا
والعقْلُ حامِي السَّرايَا ... والشَّوقُ زَاجي المَطايَا
وفي الهَوادِجِ حُلمِي ... ورغْبتِي والطَّوايَا
بناتُ صدْرِي وشِعْري ... والذّكرياتُ الحَظايَا
وساجراتُ الأمانِي ... وعَائِلاتُ الخَطايَا(4)
__________
(1) معلوف، فوزي، على بساط الريح، ص:79.
(2) المقدسي، أنيس، المعري يبصر، مجلة المورد الصافي، ص:329.
(3) المصدر السابق، ص:335.
(4) عريضة: نسيب، الأرواح الحائرة، ص:189.(1/187)
ويكشف هذا الحوار عن النفس القلقة التي تحاول أن تفتح أمامها آفاق الرؤى في هذه الحياة من أوسع أبوابها، وهي المعرفة هذه النار السماويّة التي توقّدت في إرم الروحيّة التي يقول عنها:
تلكَ نارٌ تَشيقْ ... كلَّ طَرفٍ طليقْ
هَلْ إليها طريقْ ... غيرُ دربِ اللُّحودْ
إذْ تُحلُّ القُيودْ
تِلكَ نارُ القِرَى ... والجياعُ الورَى
مَن إليها سَرَى ... ما أراهُ يَعودْ
بلْ سَيغْدو الوقودْ
تِلكَ نارُ العَلمْ ... أوقِدتْ في إرمْ
قَبلَ عَهدِ القِدَمْ ... ما لها مِن خُمودْ
أوَ تزولُ العهودْ(1)
ومن المنولوج في الرحلات الخياليّة ماينمّ عن نزعة تأمليّة لاتكشف عن تمزّق نفسيّ أو معاناة يعانيها الشاعر، بل يكون هذا المنولوج وسيلة كشف ومعرفة، وهذا يتجلّى واضحاً في قصيدة رشيد أيوب ((حلم في المريخ)) التي يتساءل فيها قائلاً:
يقولونَ: في المريخِ قومٌ كَشِكْلِنَا ... أناسٌ لهُمْ عَقْلٌ يُناجي كعَقْلنِا
فهلْ أصْلُهمْ نَوعُ التّرابِ كَأصلِنا ... وهلْ يجْهلونَ الكَائِنات كَجهلنِا(2)
كما تتجلّى حالة الاستلاب ((الأزمة الداخلية)) في لغة المنولوج واضحة في حوار الفقّي مع نفسه في ((جحيم النفس)) فهو يحملّها مآسيه وصراعه الذي يمزّق روحه بين نوازع الخير والشرّ، ويحاول أن يقود النفس إلى النّار كمحاولة تطهيريّة لها للتخلّص من أوضاع الصراع التي لوّثت نقاءها، فيقول:
أيُّها النَّفْسُ بَيْنَ جَنبَيكِ نَارٌ ... تَتَلظَّى تَفُوقُ نَارَ الجَحيمِ
فارْحَمينِي مِنَ الضَّريمِ فإنّي ... لَمْ أذُقْ في اللّظَى كَهَذا الضّريمَ(3)
وهكذا ساهم الحوار في الرحلات الخيالية بشكل فعّال فأبرز -بنوعيه- ملامح الشخصيّات المتحاورة وأزماتها النفسيّة والفكريّة التي يراد التعبير عنها كما رسم صورة الصراع المستديم بين الرّوح والمادّة والواقع والمثال.
*
__________
(1) المصدر السابق، ص:196.
(2) أيوب، رشيد، الأيوبيات، ص:150.
(3) فقي، محمد حسن، الديوان، مج1، ص:225.(1/188)
ثالثاً: التناصّ ((الاستدعاء الثقافي))
يمثّل التناصّ رافداً ثقافياً يعتمد عليه الشاعر في بناء عمله الفنّي متكئاً على ثقافته التراثية سواء أكان هذا الاتكاء شعورياً أو لاشعورياً. ومن ذلك قول الزهاوي:
قَلتُ في خَشيةٍ (بَلى) وفُؤادِي ... مِن شَعاعٍ بهِ يكادُ يُطيرُ(1)
فهو يستدعي بصورة مباشرة قول قطريّ بن الفجاءة حين يصف نفسه التي يخاطبها في موضع الإقدام، فيقول:
أقولُ لها وقدْ طارتْ شَعاعاً ... مِن الأبطالِ ويحكِ لنْ تراعِي(2)
وفي ((الكوميديا السماوية)) يتناصّ الفراتي في قوله:
وأجْفَلَ مُرتَاعاً وأجهشَ بالبُكا ... ونَاحَ كَما نَاحَتْ عَلى الإلف أيّمُ(3)
مع صورة الحمام الباكي على فراق المحبوب لدى بعض الشعراء العذريين، كقول المجنون:
فَقُلْتُ: حَمامَ الأَيكِ مَالَكَ بَاكياً ... أَفَارقْتَ إلفاً أَمْ جَفَاكَ حَبيبُ
فقَالَ: رماني الّدهر مِنهُ بَقوسِهِ ... وأَعْرضَ إلَفِي فَالفُؤادُ يَذوبُ(4)
أمّا قول الفراتي:
وأمضَى المُنَى أَنْ يصطدِمَ الأرضَ كوكَبٌ ... عَظيمٌ بِهِ أركانُهَا تَتَهدَّمُ(5)
فهو يستدعي بصورة مباشرة نظرية لعلماء الجيولوجيا مفادها أنّ عصر الديناصورات انتهى بسبب ارتطام نيزك عظيم بالأرض فوقع جراء ذلك انفجار هائل نجم عنه سحب كثيفة من الدخان الأسود غطّت وجه الأرض لعدّة شهور. وقوله:
رَفائيلُ أحوالُ البَسيطَةِ جَمَّةٌ ... فمنْها سَحيلٌ لو عَلمْتَ ومُبْرَمُ(6)
يستدعي بصورة مباشرة قول زهير في مدح هرم بن سنان والحارث عن عوف:
__________
(1) الزهاوي، جميل صدقي، الديوان، ص:717.
(2) أبو تمام، ديوان الحماسة، شرح الخطيب التبريزي، عالم الكتب، بيروت، ج1، ص:1/50.
(3) الفراتي، محمد، الكوميديا السماوية، مجلة الحديث، ع3، ص:147.
(4) المجنون، الديوان، تح. فرج عبد الستار، دار مصر للطباعة، (د.ت)، ص:58.
(5) الفراتي، محمد. الكوميديا السماوية، ع3-4، ص:149.
(6) المصدر نفسه، ص:150.(1/189)
يميَناً لنِعْمَ السّيّدانِ وَجدتُمَا ... عَلى كَلّ حَالٍ من سَحيلٍ ومُبرمِ(1)
أمّا موضوع ((في حانة إبليس)) فيستدعي إلى ذهن المتلقّي الحكايات الشعبية عن السعلاة التي تخطف الصغار إلى باطن الأرض بعد أن تغريهم بالحلوى وغير ذلك وهي شائعة كثيراً في أرياف المناطق الشرقية والجزيرة. ويتناصّ قوله في ((في حانة إبليس)):
فَآدَمُ كانَ مِن طينٍ ... ومِنْ نَارٍ بَرى نَبعِي
ولايَسمُو سُموَ النّا ... رِ ذَاكَ الطّينُ بالطّبعِ(2)
مع قول بشار بن برد وبصورة كليّة شاملة:
إبليسُ خَيرٌ مِن أبيكم آدمَ ... فتبيّنُوا يامَعشرَ الفجّارِ
النّارُ مَعدنُهُ وآدمُ طِينٌ ... والطّينُ لايسموُ عَلى النّارِ(3)
أمّا قوله:
فَلو أدْركْتُ إذْ ذَاكَ ... مِنَ الشيخِ أباطيلَهْ
لأدْخَلتُ أبَا مرّ ... ةَ في القُمقُمِ بالحِيْلهْ(4)
يستدعي إلى ذهن المتلقّي حكايا السندباد البحري الذي يدخل العفريت بالحيلة إلى القمقم ويتخلّص من شرّه.
كما يستدعي الحديث على ألسنة الطير والحيوان في الرحلة الخيالية قصص كليلة ودمنة وقصص أحمد شوقي على لسان الحيوان، يقول محمد حسن فقّي:
قَالَ عُقابٌ: ليتَنِي بُلبُلٌ ... ترُدِّدُ الأجْوَاءُ أَلحانَهُ
يعَيشُ في الرَّوضِ ويَشدُو لَهُ ... فَيُسْكِرُ الرّوضَ وغدُرانَهُ(5)
ويتناصّ قول أنيس المقدسي:
بربِّكَ يَارسَولَ العَقلِ قُلْ لِي ... أَللعُقَلاءِ أشواكُ الحَياةِ(6)
مع قول المتنبي:
__________
(1) التبريزي، الخطيب، شرح القصائد العشر، تقديم عبد السلام الحرفي، ص:136.
(2) الفراتي، محمد، النفحات، ص:273-274.
(3) ضيف، شوقي، الأدب في العصر العباسي، دار المعارف، ط6، 1976، ص:203.
(4) المصدر السابق، ص:277.
(5) ساسي، عبد السلام طاهر، شعراء الحجاز، ص:51.
(6) المقدسي، أنيس، المعري يبصر، مجلة المورد الصافي، ص:333.(1/190)
ذُو العَقلِ يَشْقَى في النّعيم بَعقلِهِ ... وأخُو الجَهالَةِ في الشّقَاوَةِ يَنعَمُ(1)
ويبدو التناصّ بين القولين كليّاً من حيث الفكرة في حين اختلف الأسلوبان في التعبير عنها إذ كان قول المتنبيّ خبرياً يعتمد المقارنة بين العقلاء والجهلاء في حين اعتمد المقدسي على الحوارية الإنشائية فبدأ بالقسم ثمّ النداء فالاستفهام.
كما يتناصّ العقّاد في قوله:
فاصْبِرُوا فالصّبرُ مِفتاحُ المُنَى ... واسمعُوا كَيفَ غَوى الشّيطانُ فيها(2)
بصورة مباشرة مع المثل الشعبي ((الصّبر مفتاح الفرج)).
وقد لمَّح العقّاد بشكلٍ غير مباشر إلى قول المتنبيّ:
فاطلبِ العزَّ في لظىً ودعْ الذُّلَّ ... م ... ولَو كانَ في جنانِ الخُلودِ(3)
في قوله على لسان الشيطان:
عَفوكَ اللّهُمَّ لا خُلْدَ هنا ... ومَتى كَان خُلودٌ في قُيودْ(4)
أمّا في قصيدة فوزي معلوف (( على بساط الريح)) فالعنوان يستدعي إلى الذهن بصورة مباشرة حكايا ألف ليلة وليلة، ورحلات السندباد البحري السبع، أمّا قوله:
آدميٌّ هذا أجابَ أخوهُ ... جاءَ يستعمرُ الأثيرَ بأسرِهْ(5)
فإنّه يستدعي إلى الذهن صورة الاستعمار في أعين الشعراء بما تحمله هذه الصورة من بشاعة وقتل وتدّمير وسلب وقسوة يقول أحمد شوقي:
سَلي مَن راعَ غِيدَكِ بعدَ وُهَنٍ ... أبينَ فؤادِهِ والصّخرُ فرقُ
وللمستعمرينَ وإنْ ألانُوا ... قُلوبٌ كالحجارةِ لاتَرقُّ(6)
وتبدو تقنيّة التناصّ ذات أهمية كبيرة في بلورة المشاعر النفسية، حيث يتناصّ الشاعر مع ابن زيدون في قوله:
__________
(1) المتنبي، أحمد بن حسين، الديوان، مراجعة نخبة من الأدباء، دار الفكر، 1968، ص:274.
(2) العقاد، عباس، الديوان، ص:279.
(3) المصدر السابق، ص:79.
(4) المصدر السابق، ص:286.
(5) معلوف، فوزي، على بساط الريح، ص:94.
(6) شوقي، أحمد، الديوان، جمع وشرح رشيد الأشقر، مج1، دار صادر، بيروت، ط1، 1993، ص:365.(1/191)
وللنسيمِ اعتلال في أصائِلِهِ ... كأنَّما رقَّ لي فاعتلَّ إشْفاقا(1)
أمّا الشاعر، فيقول:
وإذا ما النّسيمُ مرَّ عليهِ ... فعليلٌ أتى يعودُ عليلا(2)
والتناصّ هنا في الصورة والفكرة العامّة، والاختلاف في الصياغة لأنّ الشاعر استخدم أسلوب الشرط والجملة الفعلية المفسرة بجملة أخرى لتدلّ على الحركية. بينما جاءت صورة ابن زيدون قائمة على الجملة الأسمية ومعقود طرفاها بالمشبك كأنّما. والمهمّ أنّ الشاعر حاكى ابن زيدون واستطاع الاعتماد على التراث في تجديد الصورة التي تعبّر عن حال الإنسان العليل الشاحب وعطف الطبيعة عليه. وهذا التناصّ يؤكّد أنّ: ((مجال النصّ لايقتصر على مافيه من علاقات متناغمة كما الحال عند البنيويين، بل للمحاكاة شأن في تحقيق هذا المجال وذلك إذا ما استطاع المبدع إبداع جديد اتكاءً على التراث السابق))(3).
وفي قوله:
ألِفَ اليأسَ قلبُهُ فهْو واليأ ... سُ يُحاكي بُثينةً وجميلا(4)
يستدعي بصورة مباشرة قصّة العشق العذري المشهور بين جميل بن معمر ومحبوبته بثينة.
ويتناصّ في قوله:
وكما كانَ أَصْلُهُ مِن تُرابِ الـ ... أرضِ يَغدو مصيرُهُ لترابِهْ(5)
مع قول المعرّي المستوحى من حديث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ((الناس بنو آدم وخلق اللّه آدم من تراب)) (6)، أما المعرّي فيقول:
خفّفِ الوطْءَ ما أَظنُّ أديمَ الـ ... أرضِ إلاّ مِن هذه الأجسادِ(7)
وفي مطوّلة عبقر يستدعي قول الشاعر:
__________
(1) ابن زيدون، أحمد، الديوان، تح وشرح محمد سعيد الكيلاني، مصر، ط3، 1965، ص:171.
(2) معلوف، فوزي، على بساط الريح، ص:103.
(3) عكام، فهد، الشعر الأندلسي نصاً وتأويلاً، دار الينابيع، دمشق، 1995، ص:89.
(4) المصدر السابق، ص:102.
(5) المصدر نفسه، ص:133.
(6) الترمذي، سنن الترمذي، حديث رقم:3193.
(7) المعرث، أبو العلاء، سقط الزند، تصحيح إبراهيم الزين، ص:7.(1/192)
فدونَكَ اللّذّاتِ موفورَةً ... لاتكُ في انتهابِها مُبْطِئا(1)
الدعوة إلى تجاوز الألم بانتهاب اللذات بدءاً من النزعة السيدورية في ملحمة جلجامش، حين تدعوه سيدورى إلى انتهاب اللذات لنسيان مأساته بفقدان أنكيدو بقولها:
أمّا أنتَ ياجلجامشُ، فاملأ بطنكَ
افرحْ ليلكَ ونهاركَ
اجعلْ مِن كلِّ يومٍ عيداً
ارقصْ لاهياً في اللّيلِ وفي النّهارِ
اخطرْ بثيابٍ زاهيةٍ نظيفةٍ
اغسلْ رأسكَ وتحمّمْ بالمياهِ
دلّلْ صغيركَ الذي يمسكُ بيدكَ
وأسعدْ زوجكَ بينَ أحضانِكَ
هذا نصيبُ البشرِ مِن هذه الحياةِ(2)
وهذا يستدعي قول طرفة بن العبد:
فإنْ كنتَ لاتسْطيعُ دفعَ منيّتي ... فدَعني أُبادِرْها بما ملكَتْ يدِي
ولولا ثلاثٌ هنَّ مِن عيشةِ الفَتَى ... وجَدَكَ لم أحفَلْ متى قامَ عُوَّدي
فمنهُنَّ سبقِي العاذلاتِ بشَربَةٍ ... كُميتٍ متى ما تُعْلَ بالماءِ تُزبدِ(3)
وهكذا يسهم التناصّ في إغناء البنية الفنّية للرحلة الخياليّة، لاسيما أنّه يفسح المجال واسعاً لعرض النصّ على ثقافة المتلقّي ((إذ بوسعه أن يستوحي مايشاء، بقدر مايملك من ثقافة واطلاع، بما ينسجم مع النصّ، ويدعمه، ويؤكّد أعماقه، ولايناقضه أو يختلف معه))(4).
__________
(1) معلوف، فوزي، عبقر، ص:145.
(2) سواح، فراس، ملحمة جلجامش، دار علاء الدين، دمشق، ط1، 1996، ص:262.
(3) التبريزي، الخطيب، شرح القصائد العشر، تقديم عبد السلام الحوفي، ص:104.
(4) محبك، د.أحمد زياد، الاستدعاء الثقافي في أنشودة المطر لبدر شاكر السياب، مجلة باسل حافظ الأسد للعلوم والآداب الإنسانية، العدد الأول، 1998، ص:16.(1/193)
ولقد مثّل التناصّ رافداً فنّياً وثقافياً جعل الشاعر على صلة بتراثه الفكري وفتح أمام المتلقّي باباً للحريّة أوسع في إخضاع النصّ لثقافته بعيداً عن ظروف النصّ المرتبطة بالمبدع وظروفه، أو ظروف الكتابة الأدبية. وقد امتاز في بعض الأحيان بالكلّية والشمولية والمباشرة في بعضها، في حين كان جزئياً أو غير مباشر يعتمد اللمحة الخفية والإشارة الذكية.
أمّا اللغة الشعرية فقد اكتفت الدراسة عنها بالدراسة التطبيقية التحليلية على قصيدة فوزي معلوف (على بساط الريح)) كأنموذج فنّي متكامل.
***
رابعاً: اللغة الشعرية في ((على بساط الريح)):
تعدّ اللغة بنية الخطاب الشعريّ ومادته الخام، وهي في الوقت نفسه ذات مخزون تاريخيّ واجتماعيّ يصبُّ فيه فكر الإنسان وتطلّعاته وهمومه، ويعكس الشعر من خلال مناخه الروحيّ المرتبط بالظاهرة الاجتماعية والنفسية.
وسيتم درس اللغة الشعرية في نصّ شعري كامل هو النشيد السادس من مطوّلة: (على بساط الريح) كمثال للدرس اللغوي.
ولتحليل هذه المادة الخام لابدّ من دراستها وفق مظاهرها الثلاثة:
أوّلها -المظهر اللفظي في النّص.
ثانيها- المظهر الدلاليّ.
ثالثها -المظهر التركيبيّ.
النصّ: النشيد السادس.
((رمز الألم))
انْظُرِيهِ يَمْشِي وفي خُطُوَاتِهْ
نَزَوَاتٌ
من الأَلَمْ(1)
عَاثِرَ الجدِّ جَدَّ تَحْدُو بِذَاتِهْ
نَزَعَاتٌ
__________
(1) نزوات: واحدتها نزيّة. ونزا، وثب. والفحل وثب للسفاد-النازيّة، الحدة والنشاط. ونزا القلب. طمح، والمراد راقبي أيتها الطيور هذا الكائن الذي ينشط الألم في قلبه ويتواثب بحرية ونشاط.(1/194)
إلى العَدَمْ(1)
غَمَرَتْهُ الأَحلامُ بالشَّفَق الوَرْ ... دِيّ يُغْرِيهِ بالمُنَى تَعْلِيْلا(2)
وَتَلاشَت حُلْماً فَحُلْماً إلى اللاَّ ... شَيءَ تَمْشِي بِهِ قَلِيْلاً قَليْلا(3)
هُوَ في مِيعَةِ الشَّبابِ وَلَوْ حَدَّ ... م ... قَتِ فِيهِ أَبْصَرَتِ شَيْخَاً هَزِيلا(4)
بِقَوامٍ كأنَّ قَاصَمَةَ الظَّهْـ ... ـرِ أَنَاخَتْ عَلِيهِ حِمْلاً ثَقِيلا(5)
__________
(1) الجدِّ: الاجتهاد -والجدِّ، هو الحظ- وجدّ فلان، صاد ذا حظّ- وجدّ في الأمر، اجتهد. تحدو: حدا يحدو.ساق بسوق -الإبل بالحداء. الغناء. النزعات: واحدها نُزُع- وهي حالة شعورية ترمي إلى سلوك معين لتحقيق رغبة ما. العد: ضد من الوجود. والمعنى يصير: حظه متعثر وتسوق نشاطه وتوجهه رغبات لاشعورية إلى الموت والفناء.
(2) الشفق: والشفقة: حمرة تظهر في الأفق حين تغرب الشمس وتستمر من الغروب إلى قبيل العشاء. أغرى يغري. غراً وغراة: تعلّق قلبه به ولزمه كأنّه ألصق به بالغراء، ويقال أغراه به حرّضه عليه.
(3) تلاشى: فني، لاشاه: أفناه. والمعنى وامّحت أحلامه وصارت إلى سراب يتلاشى شيئاً فشيئاً ويُفنى وراءها عمره.
(4) ميعة الشباب:أوّله. وميعة الخضر أوّله ونشاطه. وميعة السّكر: نشاطه. حدّق: شدّد النظر إليه. هَزُل: ضَعُف، والهزل: النحافة الشّديدة. والمعنى: لقد بدوت لكثرة ما أحمله من الهموم -رغم حداثة سني- شيخاً هزيلاً واهي الروح والجسد.
(5) أناخ: به البلاء والذّل حلّ به ولزمه. أناخ بأرضه: أنزل به حاجته. القوام: حسن الطول. القوام: العدل. قاصمة الظهر: المصيبة الشديدة. وقصم الشيء كسره. والمعنى هو يحيا بجسم قد حلّت به المصائب والبلايا رحالها فغادرته هالكاً لاقوة فيه.(1/195)
وَجَبِينٍ أَلقَتْ عليهِ شُجُونُ النّـ ... ـفْسِ ظِلاً من العُبُوسِ ظَليلا(1)
فَهْوَ لايَعْرِفُ التَّبَسُّمَ إلاّ ... عِنْدَمَا يَسْتَعيدُ حُلْماً جَمِيلا(2)
أَلِفَ اليَأْسَ قَلْبُهُ فهوَ واليأ ... سُ يُحاكِي بُثَيْنَةً وَجَمِيلا(3)
وإذا اليَأْسُ صَدَّ عَنْهُ قَلِيلاً ... رَاحَ يَبْكِي على نَوَاهُ طَويلا(4)
وَإذا ما النَّسِيْمُ مَرَّ عَلِيْهِ ... فَعَلِيلٌ أَتَى يَعُودُ عَلِيلا(5)
__________
(1) الشّجون: واحدها شجن وهو الحزن. عبس: جمع مابين عينيه وجلَدَ جبهته تجهم. الظّل: خيال يقع على شيء مجاور للمرسوم من سقوط الضوء عليه. الظليل: الدائم. والمعنى: ولقد تركت الأحزان أخاديدها عميقاً في جبينه وألبسته غلالة من التجهم والكآبة حتى غديا لازمين له.
(2) استعاد: استرجع. والمعنى: لقد لازمه البؤس والشقاء فهو لايعرف للسعادة طعماً ولا للهناءة معنى إلا عندما يرتد إلى الماضي -شأن الرومانتيكيين- بذكرياته السعيدة.
(3) ألف: أنس به وأحبه. حاكى-يحاكي. يشابه بالقول أو الفعل. حاكاه شابهه. والمعنى: لقد أنس اليأس والقنوط قلبي وهذا اليأس، يماثل يأس جميل عند فراقه بثينة بعد زواجها.
(4) صدّ عنه: أعرض عنه. نواه: النوى: البعد. والمعنى: وصار اليأس لزاماً وإلفاً لقلبي، ولو أنه فارقه للحظة عاد يبكي على بعد فراقه.
(5) النّسيم: الهواء العليل الرقيق. الاعتلال: اللين، واعتلّت الريح: لانت. العليل: المريض. عاد: يعود عوداً وعيادة. زار المريض. والمعنى: فإذا ماهبّ عليه النسيم رقيقاً ليناً، فإنّما هو مريض جاء يزور مريضاً دنفاً مثله.(1/196)
حَائِرُ الطّرفِ شَارِدُ الفِكْرِ يَحْكِي ... مُدْلِجاً في الظَّلامِ ضَلَّ السّبيلا(1)
تَاهَ في عَالمِ الخَيالِ فَضَاعَتْ ... نَفْسُهُ وهْي تُنْشِدُ المُستحيلا(2)
حَوَّلَ الأَرْضَ عَالَماً عُلُويّاً ... قَاطِراً مِن وُحُولِها سَلْسَبيْلا(3)
مَلأَ العَالَمَ السَّمَاويَّ شَدْواً ... مُنْزِلاً مِنْه للوَرَى إِنْجيلا(4)
هَاكَ عِقْدَ النُّجومِ بَيْنَ يَديهِ ... صَارَ بَعْدَ انْفِراطِهِ إكْلِيلا(5)
هوية النصّ دلالياً:
__________
(1) الحائر: البائر المضطرب المتردّد. شارد الفكر: شرود الذهن عدم الانتباه إلى الظروف المحيطة أو الملابسات الطارئة. المدلج: الدالج. السائر في الليل. ضلّ: تاه، وفقد الهدى. والمعنى تراه مضطرباً لايلفت الانتباه إلى مايحيط به من أحداث مثله مثل التائه الذي سار ليلاً وقد ضل طريقه.
(2) نشد: نشد الشيء طلبه وجدّ في البحث عنه. والمعنى فلجأ إلى عالم الخيال عساه يحقّق مايصبو إليه ويطلبه فتاهت روحه جرياً وراء المستحيل وسرابه.
(3) العلو في كل شيء أرفعه والعلّي: أعلى مكان وأعلى درجة. قطّر: أرسل وأسال الماء والدمع. وفي المصطلح الحديث: استخلاص الماء العذب من ماء البحر. والمعنى: لقد حوّل الأرض بنزوعه الروحي إلى عالم سماوي وصيّر أوضارها ماء سلسبيلاً سائغاً للشاربين.
(4) الورى: الخلق. الشّدو: الغناء. وشدا بالشعر ترنّم وتغنّى. والمعنى: لقد ملأ السماء غناءً عذباً وأدباً بليغاً يحمل للإنسانية جمعاء ديناً وتشريعاً ينشر العدل والسلام بين أبنائها.
(5) انفرط: الشيء تبدّد وتفرق. الإكليل: التاج. والإكليل عُصابة تزّين بالجوهر وهو طاقة من الورود والأزهار على هيئة التّاج تتوّج الرأس للتزيين. والمعنى لقد حوّل بروحه الوثّابة النجوم المبعثرة والمتفرقة إكليل نور يزّين وجه الكون.(1/197)
هذا النشيد هو السادس بين أناشيد ((على بساط الريح)) الأربعة عشر، ويمثّل تعبيراً رومانتيكياً عن آلام الذات الإنسانية التي تمتزج بالطبيعة لتعكس من خلالها تجربتها الانفعاليّة الذاتيّة وتشرك الطبيعة في لواعجها وآلامها حيناً في حنوٍّ رفيق، وحيناً آخر تنزوي إلى نفسها تتجرّع كأس اللوعة والأسى. ثمّ لترقى بهذه التجربة الذاتيّة وتجعلها لوحة لكلّ البشر الذين يكابدون الشقاء بين تطلّع الحلم ووطأة الواقع. وقد تولّد هذا النشيد عن حوارية طويلة مع الطيور التي وجّهت للشاعر أصابع الاتهام. فهي وليدة اللحظة ولم تكن قد تولّدت قبل قول القصيدة. إذ أنّ الشاعر أراد أن يقتصر في القصيدة على وصف الطيّارة(1)وتتوالى النظائر الدلاليّة كالآتي:
1-دعوة الطيور إلى كشف آلام الشاعر ومعاناته.
2-حال الشاعر المتعثّرة تحت رغبة الموت المسيطرة عليه.
3-هُيام الشاعر وجريه وراء إغراءات الأحلام والأماني.
4-تلاشي الأحلام وضياع العمر خلف أوهام السراب.
5-دعوة للطيور لرؤية آثار البؤس والشقاء على جسده.
6-اتخاذ المصائب كاهل الشاعر مبركاً لها بأحمالها الثقيلة.
7-تغضن الجبين وارتسام العبوس على محيّاه لما يعانيه من آلام.
8-الحرمان من السعادة وأسبابها إلاّ في حال استعادة اللحظات الفائتة الجميلة.
9-بروز الإلفة بين اليأس وقلب الشاعر.
10-تواشج العلاقة بينهما وتحوّلها إلى عشق وغرام، يسبّب الفراق بينهما التعاسة.
11-مشاركة الطبيعة الشاعر آلامه ومصابهُ ورقتها لحاله.
12-سيطرة الحيرة والشرود على حاله.
13-بحثه عن أمانيه في عالم الخيال، وضياع نفسه وهي تطلب تحقيق المستحيل.
14-تصيّير الأرض -في عالم الخيال- عالماً سماويّاً وتطهير أوضارها وتحويلها إلى سلسبيل عذب نقي.
15-تحوّل الشعر إلى دعوة إنسانية وصلاحيّته دستوراً ونظاماً لنشر العدل والسلام.
__________
(1) ينظر: معلوف، شفيق، ذكرى فوزي معلوف، مطبعة زحلة الفتاة، لبنان، (د.ت)، ص:32-33.(1/198)
16-قدرة الشعر ومن خلفه الشاعر على تحويل المستحيل إلى ممكن كنظم النجوم إكليلاً يزيّن روح الإنسان.
هذا النشيد غنائيّ المنحى يصوّر فيه الشاعر -وهو جزء منه- شقاء الإنسان في هذا العالم وتعسه وسوء حظه وآلامه اللاتي رزحت على صدره بحملها الثقيل، ويعبّر عن حاجته إلى أن يفلت من هذه الكآبة التي ألفها من حين لآخر. فبعد أن بلغ عالم الطير ببساطه الريحي الرهيب وأجفلت الطير منه وتهيّأت للقائه لقاء المحارب المقاتل يفاجئها الشاعر برفع أوّل أقنعته التي لم تألفه -والإنسان ككلّ- بها.
هذا القناع باحت به صورة العنوان ((رمز الألم)) كما وثّقته في الأبيات نغمتان متناقضتان، أولاهما: نغمة اليأس التي حوّلت الشاعر إلى شبح بؤس وخيال. وثانيتُهما: نغمة الحلم والأمل التي صاغتها روح الشعر فحوّلت الأدب إنجيلاً والأرض فردوساً.
وتتوزّع الأولى على الأبيات من (الأول إلى الحادي عشر)، والثانية على الأبيات من (الثاني عشر إلى السادس عشر). وتبدو النغمة الأولى متنامية لتشكل من عناصرها المتضافرة صورة الإنسان الذي يكابد الشقاء. ففي (البيت الأوّل) يتخذ الألم من قلب الشاعر وخطواته مراحاً يصول فيه ويجول ثمّ تظهر في (البيت الثاني) تلك الرغبة التي تسوق الشاعر لطلب الموت أملاً في النجاة والراحة من الشقاء. وفي (البيت الثالث والرابع) تُعزّز صورة الحلم المتلاشي عمق الألم واليأس الراسخين في قلبه.
وتنتقل الصورة بعد ذلك إلى رسم الملامح الحسيّة بعد أن رسمت سماتها المعنوية. فتبدو في (البيت الخامس) صورة الشاب الضعيف الهزل.
وفي (البيت السادس) تتكالب المآسي والمصائب على ظهره، وفيه تُجسّم المصائب، وفي (البيت السابع) الجبين المتغضّن والروح الملفّعة بالتشاؤم.(1/199)
ثمّ يتوجّه الشاعر إلى تصوير آثار العلاقة بينه وبين اليأس. ففي (البيت الثامن) يغدو الابتسام رمزاً للسعادة التي لايقدّمها إلاّ الحلم. وتتسع دائرة الأسى أكثر في (البيت التاسع) لتصعيد صورة اليأس الضارب في أعماق المستحيل كاستحالة اللقاء التراثي بين الشاعر العذري ومحبوبته المتزوّجة.
وفي (البيت العاشر) تتحوّل ملازمة اليأس للشاعر إلى إلفة ومحبة وربّما عشق وغرام يبكي العاشق فيه فراق محبوبه.
ثم تُقحم الطبيعة في (البيت الحادي عشر) لتكون مشاركةً ومنفعلة بانفعال الشاعر فتهتمّ لهمومه وتشفق لوهنه وضعفه.
وتظهر آثار اليأس على حركة الشاعر المتوتّرة القلقة في (البيت الثاني عشر) حتّى ليحاكي الحائر في ليلة بهيمة لايعرف فيها معلماً يهتدي به.
ثمّ تبدأ النغمة الثانية: الانطلاق بعيداً في عالم الخيال ضاربة في أعماق الكون طالبة تحقيق المستحيل في (البيت الثالث عشر).
وفي الأبيات (الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر) يبرز الإيمان الكبير بدور الروح الخلاّقة والشعر في تحقيق المستحيل والارتقاء بحيوات الناس.
خصائص المعنى:
توحي قراءة النشيد بمعانٍ ودلالاتٍ لغويّة ونفسيّة واجتماعيّة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالوحدة العضوية الناظمة للأناشيد الأربعة عشر.
ففي قوله ((انظريه)) يوحي الخطاب بوجود طرف آخر يفهم لغة الخطاب، ومن هو؟ إنّه الطيور. وهنا تقف الطيور كرمز للقطيعة بين الشاعر والمجتمع، فهو لم يجد الأذن المصيخة له عند البشر فلجأ إلى الطبيعة. ومثل هذا اللجوء لمسناه واضحاً لدى محمد عبد المعطي الهمشري حين قال:
لَمْ أَجدْ في الحَياةِ لي أُذُناً تَسْـ ... ـمَعُ شَكْوَاي أَو فُؤاداً حَنُونا
وَلِذا قَدْ أَتَيْتُ أَشْكُوكَ مَا بِي ... فَلَقَدْ تَرْحَمُ الكَئِيبَ الحَزِيْنَا(1)
__________
(1) شرف، عبد العزيز، الهمشري، شاعر أبولو، ص:144.(1/200)
وهو كذلك يؤكّد الرؤية الرومانتيكية التي فقدت الأمل بصلاح الإنسان كما فعل أخوه شفيق في ملحمة عبقر في نشيد ((عرّافة عبقر)).
أمّا قوله ((في خُطُواتِه نَزَواتٌ مِنَ الألَمْ)) فيوحي بالرغبة الجنسيّة المتولّدة عن كلمة (نزوة). وهل الرغبة الجنسيّة إلاّ تفريغ لشحنة عاطفية مغمورة في أعماق النفس؟ وقوله ((تَحْدُو بِذاتِهِ نَزَعاتٌ)) يؤكّد الرغبة السابقة في إحضار صورة الإبل التي يسوقها راع نحو غاية وهدف. أو رغبة لاشعورية بالخلاص.
وعبارة (الشفق الوردي) توحي بالطبيعة الهادئة الجميلة التي تبعث الأمل في النفس.
وفي قوله ((هُوَ في مِيعَةِ الشَّبَاب)) عبارة توحي بالقوّة والفتوّة ولكنّها تبرز هنا لتؤكّد ضدّاً هو الغاية والمقصد، وفي قوله ((أبصرت شيخاً هزيلاً)) نقيض الصورة السابقة، يوحي بالوهن الشديد الذي أصابه لكثرة الهموم.
أمّا قوله ((قاصمة الظهر)) قد يوحي هذا التعبير الكنائي بعظم المصيبة التي ترزح على ظهره حتّى تصل حدّاً يتقطّع الظهر منها. وفي قوله ((وجبين ألقت عليه شجون النفس)) يوحي بصورة الوجه المرآة التي تنعكس عليه انفعالات الروح. ومن خلال الغموض الشفّاف أوحي في (البيت الثامن) بأنّ الأحلام وسيلة لتحقيق السعادة وذلك عندما تجاوز العلاقة الحقيقية إلى العلاقة المجازيّة. فأشار للسعادة بالتبسّم.
وفي قوله ((ألف اليأس قلبه)) يوحي بالعلاقة الوشيجة التي تحوّلت إلى علاقة حبّ وعشق ربطت بين الشاعر والأسى واليأس حتّى لغدت قصّة الحب هذا تعيد إلى الذاكرة صورة تراثية لها مدلولها العميق من الحبّ اليائس والحزين إنّها: قصّة حبّ جميل بن معمّر لبثينة. وفي ذلك اعتماد على التراث وإفادة من تجاربه في صنع التجربة المعاصرة.(1/201)
وفي قوله ((رَاحَ يبكي عَلى نَوَاهْ)) يوحي بتحوّل العلاقة من حبّ وإلفةٍ إلى حاجة لازمة للنفس، إذا مافُقدت حنّت النفس إليها وبكت على فراقها، ممّا يعزّز النزوع المأسوي والتلذّذ بالألم لدى فوزي معلوف خاصّة، والشعر الرومانتيكي عامة.
وفي قوله ((وإذا ما النّسيم مرَّ عليه فعليلٌ أتى يعود عليلا)) إيحاء بمشاركة الطبيعة للإنسان بهمومه وآلامه، كما أن إضفاء الصفات الحسيّة الإنسانية على الطبيعة الصامتة يوحي بأنّ الجوهر الجمالي يكمن في صورة الإنسان وأنّ الطبيعة ترسم بهذه الصورة الجماليّة.
ويبرز الغموض الشفّاف في قوله ((حائر الطرف شارد الفكر)) فألّ التعريف في المضاف إليه عوّضت عن هاء الغائب. فأصل الكلام حائرٌ طرفه شاردٌ فكره. ولعلّ في استخدام ضمير الغائب هنا للمتكلم إيحاء بالشمولية التي تتجاوز الذات لتدل على العموم.
وفي قوله ((تَاهَ في عَالَمِ الخَيالِ)) يوحي بنزوع نحو الخيال لتحقيق التوازن النفسي المرتهن إلى ماديّة الجسد. واللجوء إلى الخيال في مثل هذا المجال يشفُّ عن أزمة نفسيّة بين أنا الشاعر والأنا الأعلى (المجتمع). أمّا في قوله ((حوّل الأرض عالماً علويّاً)) يوحي بعملية تغيير كمّي وكيفي. أمّا الكمّي ففي نقل الأدنى إلى الأعلى، والكيفي في تحويل الوحل إلى سلسبيل سائغ للشاربين. أمّا قوله ((قاطراً من وحولها سلسبيلا)) فالوحول: توحي بالمفاسد الاجتماعية. والخلقية التي أراد الشاعر في رسالته الشعرية تغييرها في الحياة.
وهو كذلك يستشرف آفاق الرؤى المستقبليّة. وهنا يبرز على الصعيد الإنساني في كونه لخدمة الحياة وارتباطه بها.
كما يبرز الخيال ملازماً للشعر وهما جناحا الشاعر للحفاظ على نقائه وطهره وسعادته في مقابل التردّي الاجتماعي والإنساني والأخلاقي في المجتمعات الماديّة. وتبرز الثنائيات الضدّية في النصّ واضحة كتقنيّة فنيّة للإيحاء الدلالي المعبّر عن مكنونات النصّ:
ميعة الشباب ... و الشيخ الهزيل(1/202)
السعادة والهناء ... و العبوس والتجهم
الأرض ... ... والسّماء
الوحول ... ... و السلسبيل
إضافة إلى دور الجناس الاشتقاقي في هذه الإيحاءات الدلاليّة نحو: ظلّ وظليل، الجدّ وجدّ، تلاشت واللاشيء.
***
خصائص التركيب:
وتتضافر التراكيب مع المعاني في البوح بالقلق النفسي الذي سيطر على حال الشاعر. وأوّل مايلفت الانتباه في التراكيب جملة (انظريه في البيت الأول) حيث تنفرد هذه الجملة عن غيرها من التراكيب بأنّها جملة إنشائيّة طلبيّة بينما نجد باقي التراكيب تغلب عليها سمة الخبريّة، ممّا يعطي الجملة السابقة بروزاً تعبيريّاً مهمّاً إذ تعدّ بمثابة الرابط بين النشيد السابق مع النشيد المدروس. كما تلفت الانتباه في مجيئها على صيغة المخاطب، وباقي القصيدة في أسلوب الغائب ممّا يحقّق أسلوب الالتفات الذي يوحي بالتشتّت النفسيّ والروحيّ.
وتأتي العلاقة الجدليّة بين الأفعال في تراوحها بين الماضي والمضارع كلبنة أساس تربط بين حاضر الإنسان وماضيه، كما تنمّ في حركتيها الساكنة والمتحركة عن الاضطراب النفسي، وممّا يلاحظ مجيء الجمل الاسميّة للدلالة على ثبات الألم ورسوخه في روح هذا الإنسان الذي ولد وولد معه الشقاء.
وقد جاء أسلوب التقديم والتأخير في التراكيب معزّزاً آخر اللغة الشعريّة ينبض بها النص فهو وسيلة للتشويق، كما يعطي بعض الألفاظ بروزاً تعبيرياً إذ جاءت هذه الألفاظ متأخرة عن محلّها الطبيعيّ ومتوافقة مع تفعيلة القافية فمثلاً قوله: ((في خطواته نزوات)) يعطي تأخير لفظة ((نزوات)) غموضاً شفّافاً للتعبير. وقد عزّز هذا الغموض إيجاز الحذف الذي له شأنه في اللغة الشعريّة.
ويبرز عنصر التشويق في تأخير الفاعل ((نزعات)) في قوله: ((تحدو بذاته نزعات)) وكأنّه يمسك بنفس المتلقّي عن التردّد في الصدر إلاّ أن يقف على الفاعل الذي ساق ذات الشاعر إلى العدم.(1/203)
وتبرز بعض الألفاظ بروزاً تعبيرياً هاماً في مجيئها أوّلاً: متأخّرة وحقّها التقديم، وثانياً: كونها وقعت في القافية، الأمر الذي يدفع عن المتلقّي رتابة التركيب العادي. كما في قوله: ((مُنزلاً منه للورى إنجيلا)).
وأمّا في إطار علاقة الوزن باللغة فيجدر الإشارة إلى أنّ البحر الناظم للمطوّلة ومن ضمنها هذا النشيد المطروق، هو البحر الخفيف، وهو بحر من شأنه تمزيق أوصال الكلمات، ممّا يبرز أهمية خاصّة لبعض الكلمات التي تخلص من هذا التمزيق، ويعطيها انحرافاً عن ظاهرة موسيقية جديرة بالوقوف عليها. ((والبحر الخفيف من أخفّ البحور على الطبع وأطلاها للسمع يشبه الوافر ليناً ولكنّه أكثر سهولة وانسجاماً، وإذا جاد نظمه رأيته سهلاً لقرب الكلام المنظوم فيه من مقول المنثور، وليس في جميع البحور نظيره يصحّ للتصرف بجميع المعاني))(1).
ولم يغيّر فوزي البحر في أناشيده ولكنّه غيّر في طريقة الوزن إذ بدأ هذه الأناشيد بلازمة تحذف التفعيلة الأخيرة ويضيف هذه اللازمة نفسها في البيت الثاني في وضع يعطي الموسيقا روعة وجمالاً يقول:
((اُنْظُريهِ يَمْشِي وفي خُطُواتِهْ))
نَزَواتٌ
مِنَ الأَلَمْ
عَاثِرَ الجِدِّ جَدَّ تَحْدُو بِذَاتِهْ
نَزَعَاتٌ
إلى العَدَمْ(2)
وكذلك غيّر في نظام قوافيه كيما يتلاءم مع كلّ نشيد ويدفع عن القارئ سآمة الرويّ ((ثمّ انظر إلى هذه الموسيقى التي تنبّث في الأنشودة كلّها مؤلّفة من الألفاظ والمعاني، ومن هذه الصور الغريبة التي يعرضها عليك في جرأة، كأنّها الأصوات النابية التي تفرضها الموسيقى عليك فرضاً لأمر يريده هو ولا تفطن له أنت وإنّما تتذوّقه وتحبّه وتطمئن إليه))(3).
__________
(1) الشايب، أحمد، أصول النقد الأدبي، مكتبة النهضة المصرية، ط سابعة، 1964،، ص:323.
(2) معلوف، فوزي، على بساط الريح، ص:101.
(3) حسين، طه، حديث الأربعاء، دار المعارف، مصر، ط تاسعة، ج3، ص:182.(1/204)
ولاشكّ أنّ لكلّ نشيد من أناشيد المطوّلة وقعه الخاص -ولاسيما- حين تلبس الموسيقا ثوب الألفاظ. وهنا تبرز بعض الكلمات كـ( مستحيلا- سلسبيلا- إنجيلا- إكليلا) بروزاً تعبيريّاً لموافقتها التفعيلة الأخيرة وورودها في القافية. كما يثير الانتباه مجيئها في القسم الثاني من النشيد وهو يمثّل وثبة الشاعر النوعيّة للفكاك من قيود المادّة الراسفة في روحه.
وكذلك مجيء كلمة (علويّاً) صفة (لعالم) ومتطابقة مع التفعيلة (فعلاتن) دلالة هامة لكونها وقفة إنشادية تعطي المتلقي اتساعاً في تصوّر هذا العالم الأرحب الذي صنعه الشاعر بخياله الخلاّق.
أمّا بقية الوزن في الأبيات -باستثناء ماأشارت إليه الدراسات- فينداح بتمهّل وهدوء يوحي بطبيعة التجربة العامة.
أمّا القافية فهي أوّلاً متنوّعة إذ جاءت في البيتين الأول والثاني منتهية بحرف الميم وهي ((تخرج من مخرج الباء وهو المخرج الثاني عشر من مخارج الفم وهي أخت الباء في الجهر والشدّة غير أنّ الميم فيها غنّة إذا سكّنت))(1). ممّا يعطي الافتتاحية نغماً خاصاً يميّزها عن الأبيات اللاحقة، ولكنّه لايفصلها عن الموقف العام في النشيد. بينما نجد القافية في سائر الأبيات التزمت اللاّم رويّاً مع الألف المطلقة التي توحي بحالة التأوّه الذي يصير مع اللاّم بوحاً ينداح مع فتح الفم بعد ضغط اللسان باللاّم. واللاّم تتساوى مع الميم لأنّ في اللاّم توسطاً بين الرخاوة والشدّة وهي تخرج من حافة اللسان أدناه إلى طرفه(2)وتكرارها في بعض القوافي مثل ((تعليلا -قليلا- ظليلا- عليلا- إكليلا)) يعطيها ما يشبه الحركة الاهتزازية التي توحي بالقلق والاضطراب الروحيّين اللّذين يشيعان في المطوّلة عامّة والنشيد خاصّة.
__________
(1) القيسي، مكي بن أبي طالب، الرعاية، تحقيق أحمد حسن فرحات، توزيع دار الكتب العربية، طبع دار المعارف، دمشق، 1973، ص:206.
(2) ينظر، المرجع السابق، ص:162.(1/205)
وتبرز الزحافات العروضيّة في البحر الخفيف ذات أهمية كبيرة في البوح بالمشاعر العاطفية على مستواها الموسيقي.
فالملاحظ للنصّ المختار منذ بدايته إلى آخر بيت فيه لايجد فيه بيتاً يخلو من الزحافات -ولاسيما- في تفعيلتي (فاعلاتن -مستفعلن)، وأهم هذه الزحافات الخبن، وهو حذف الساكن الثاني من التفعيلتين السابقتين فتغدوان (فعلاتن- متفعلن أو مفاعلن).
///ه/ه ... ... //ه//ه
وهذا الزحاف يوحي بالوجوم المغلف للأبيات، وذلك بعد أن حوّل هذه التفعيلات من وقفات تعطي النفس استراحة في الوقوف على الساكن فقد كانت:
/ه//ه/ه ... ... ... /ه/ه//ه- وصارت ... ///ه/ه//ه/ه
تم تتم تم ... ... ... تم تمت تم ... ... تتتم تم تتم تتم
ولو أنّ الكلمات سارت سيراً طبيعيّاً في النصّ لجاءت لها حلاوة ورقّة لطيفة ربّما لاتتناسب مع المقاصد الروحيّة للنصّ وهو يصوّر -كما أكدت الدراسة- الشقاء الإنساني في إطار الحياة المادّية.
وتبرز في البيت الثالث كذلك كلمة (تعليلا) لورودها أوّلاً في القافية مستقلة بتفعيلة (فالاتن) ممّا يعطيها بروزاً شعرياً هاماً وهذه التفعيلة تعبّر عن أهمية الحلم الذي قامت عليه الرؤية في مطوّلة ((على بساط الريح)).
ولا يقلّ التآلف الخفر بين الحروف أهميّة عن الظّلال الشعريّة التي ألقاها البحر والقافية والعروض على الأبيات. وقد جاءت هندستها الموسيقيّة على النحو التالي:
-فتكرار فونيمين(1) في كلّ سطر من البيت الواحد يعطيه إيقاعاً موسيقياً متناغماً نحو قوله:
عاثر الجدّ جدّ تحدو بذاته ... نزعات إلى العدم(2)
عا ... ... ... ... ... ... ... عا
وربّما يكون هذا التكرار الإيقاعي لثلاثة حروف كما في (البيت الرابع عشر)
حوّل الأرض عالماً علوياً ... قاطراً من وُحُولها سلسبيلا(3)
ح و ل ... ... ... ... ... ... ... ح و ل
__________
(1) الفونيم: هو صورة الصوت اللفظية.
(2) المعلوف، فوزي، على بساط الريح، ص:101.
(3) المصدر نفسه، ص:103.(1/206)
ولعلّ تكرار هذه الفونيمات في الشطر الواحد يعطي الموسيقى تناغماً متآلفاً بين الحروف نحو قوله في (البيت الثاني):
عاثرَ الجِدِّ جّدَّ تحدُو بذاتِهْ ... نَزَعاتٌ إلى العَدَمْ(1)
ج دد ج دد
وفي قوله في (البيت الثالث):
وتلاشت حُلماً فحلماً إلى اللا ... شيء تمشي بهِ قليلاً قليلا(2)
ل اش ح ل م ح ل م ل ا ش ... ... ق ل ي ل ق ل ي ل
وفي قوله في (البيت السابع):
وجبينِ ألقتْ عليه شُجُونُ النّـ ... ـفسِ ظلاً من العُبُوسِ ظليلا(3)
... ... ... ... ... ... ظ ل ... ... ظ ل
ويمكن أن تتعانق الحروف المتناغمة بين الشطرين فتأتي الفونيمات في آخر الشطر الأول وأول الشطر الثاني وآخره نحو قوله:
وإذا ما النّسيمُ مرًّ عليهِ ... فعليلٌ أتى يعودُ عليلا(4)
... ... ع ل ي ... ... ... ع ل ي ... ع ل ي
وهناك الكثير من الملاحظات حول تكرار هذه الفونيمات المفردة بين كلمات البيت الواحد وبين الأبيات الأخرى، والمهم في ذلك أنّ هذه التكرارات الصوتيّة المتناغمة في النشيد بكلّ حالاتها المتآلفة والمتعانقة والإيقاعيّة توحي بدور الموسيقا المهم بالإيحاء الشعري، وفي رسم الصورة الشعورية التي يعانيها الشعر، ولعلّ مثل هذا التآلف لا يمكن الاستدلال عليه بالدلائل بل إنّ القارئ يشعر به ويعانيه.
وللتكرار دوره المهم في رسم الصورة الانفعاليّة في القصيدة، يرسمه في تكرار الكلمة الواحدة نحو قوله:
وتلاشَتْ حلْماً فحلماً إلى اللا ... شيء وتمشي به قليلاً قليلاً(5)
__________
(1) المصدر نفسه، ص:101.
(2) المصدر نفسه، ص:101.
(3) المصدر نفسه، ص:102.
(4) المصدر نفسه، ص:103.
(5) المصدر السابق، ص101.(1/207)
فقد تكرّرت في هذا البيت كلمتا (حلم وقليل) ممّا يعطيه موقعاً موسيقيّاً هاماً بين الأبيات، فالأولى تمثّل بصيص الأمل الذي ما زال الشاعر يتشوّفه حتّى راح ينسلّ من أمام عينيه ببطء قاتل ما وسعته كلمة (قليلاً) الأولى فجاءت الثانية توكيداً لها،، وكأنّ انسلالها من أمامه انسلال الروح من الجسد، وهذا يمثّل ذروة اليأس التي بلغت بالشاعر في هذا النشيد.
ومن ظواهر التكرار اللافت للانتباه في هذا النشيد أيضاً تكرار كلمة (جميل) في القافية وفي بيتين متلازمين في (البيت الثامن والتاسع) ولكنّ كليهما يعطي معنىً مغايراً للآخر، الأمر الذي يعني جناساً لفظياً تامّاً له بروزه الشعريّ الهام اإلى جانب التكرار، الذي يشكل بدوره نظاماً إيقاعيّاً منضبطاً بالوزن ويحرك العواطف ويولّد حالة من التوازن ناتجة عن انطلاق الانفعال وعن جهد الشاعر تلقائياً للسيطرة على هذا الانفعال، وهي حالة تديم الصراع الذي يولّدها وتحيل الوزن إلى عامل نمو عضوي في القصيدة(1).
***
الصورة الشعرية:
وتبقى الصورة الشعرية ذلك الممثّل المكاني للمشاعر العاطفيّة بعد أن مثّلت الموسيقا الشعريّة، هذه المشاعر على مستوى التشكيل الزماني للغة. وهي تسود في كلّ أبيات النصّ دون استثناء، وتبدو متنوّعة منها ما هي كنائيّة واستعاريّة وتشبيهيّة، وبعضها واضح جليّ والآخر ضمنيّ غامض.
وهي قبل كلّ هذا صدىً لما يعجّ داخل النفس من الهموم والآلام والتشاؤم من مصير الإنسان الراسف في أغلال الماديّة العمياء.
وربّما تعكس هذه الصورة الصراع الحاد بين الأنا الأدنى (الشاعر)، والأنا الأعلى (المجتمع)، أو بعض الملامح الاجتماعيّة للعصر الذي قيلت فيه القصيدة.
__________
(1) ينظر، عساف، ساسين، الصورة الشعرية في إبداع أبي نواس، ص: 18.(1/208)
ففي قوله ((في خطواته نَزواتٌ من الألمْ)) جعل الشاعر الشيء المراد تصويره وهو ((نزوات الألم)) تماثل الشيء المتخذ دلالة في التصوير وهو قفزات فحل الإبل أو اللاعب وهي العنصر الخفي الذي أوحت به القرينة اللفظية ((نزوات)).
فالصورة تشخيصيّة قائمة على التماثل بين الشيء المراد تصويره والشيء المتخذ صوىً وربّما كان الفحل هو الأقرب للمعنى المراد فهو يثب طلباً للسفاد، مثل الألم الذي يلقّح نفس الشاعر ويمتزج بها.
وتبرز شاعريّة الصورة في غياب العنصر الخفي الذي يحتاج إلى تفكير عميق للوصول إليه واكتشافه وهذا ما يحقّق لذّة الاكتشاف لدى المتلقّي.
وفي قوله (عاثرُ الجِدِّ)) صورة تشخيصيّة قائمة على التماثل بين الشيء المراد تصويره في هذه الصورة وهو الجدّ (حظّ الشاعر) وقد اتخذ له الشاعر نظيراً دلاليّاً تقوم علاقته معه على التماثل هو الطفل الصغير وهو عنصر خفي أوحت به القرينة الدلالية الممثّلة في (عاثر). وفي غياب الشيء المتخذ صوىً للدلالة غموض شفّاف يمنح التعبير صفة شعريّة. والصورة تمثّل الحظّ العاثر للشاعر وربّما للإنسان عموماً حيث لا يعرف حظّ هذا المخلوق الثبات والارتكاز كحال الطفل الصغير في سنينه الأولى.(1/209)
وفي قوله ((تَحدو بذاتهِ نَزَعاتٌ إلى العدمْ)) صورة تشخيصيّة بنيتها سداسيّة تمثّل بما يلي: فالشيء المراد تصويره في الصورة هو نزعات الشاعر التي تحدو ذاته إلى العدم ويقابل هذه العناصر في النظير الدلالي: الراعي يسوق الإبل والشياه التي تقابل الذات إلى المرعى الذي يقابل العدم. والعناصر المتخذة دلالة كلّها عناصر خفية أوحى بها المحرق المولّد في الصورة (تحدو)، فهذا التماثل بين عناصر الصورة الأولى والثانية ولّده في المخيلة المحرق المولّد (يحدو) فقد استدعى الحداء صورة الراعي الذي يسوق الإبل إلى المرعى وهي صور نابضة بالحياة تناقض مدلول الصورة الأولى التي قامت على أساس أنّ نزعات الشاعر ورغباته اللاشعوريّة ساقت نفسه إلى العدم والموت، ممّا يعني أنّ صورة اليأس من الحياة تطلبت صورة تدفع الأمل في النفس فخلقت صورة الموت المطلوب صورة الحياة المفقودة. وربّما يريد الشاعر -وهو احتمال قائم- أن يقول: إنّ الموت الذي يطلبه صار يعادل الحياة التي ينشدها الراعي لقطيعه الذي يسوقه أمامه، وهذا ذروة النزوع الرومانتيكي الذي يجد في الموت خلاصاً للبحث عن حياةٍ أخرى تهب الشاعر أو الرومانتيكي عموماً ما فقده في دنيا الناس، زد على ذلك ما تقدّمه الصورة من لذّة للمتلقّي عندما تقرّب له المعنوي إلى الصورة الحسيّة على سبيل التحقيق الاستعاري، وذلك باستدعاء صورة تراثيّة جميلة تربط الحاضر بالماضي ومحقّقة على سبيل الواقع الحسي.
وفي قوله في (البيت الثالث): (( غَمَرتْهُ الأحلامُ بالشفّق الورديِّ)) صورة استعاريّة بنيتها التشخيصيّة كالآتي:(1/210)
فالشيء المراد تصويره ((الشاعر والأحلام التي تغمره بالشفق الوردي)) يقابلها في التماثل الكاهن يقابل الأحلام والمعمّد يقابل الشاعر والماء المقدّس يقابل الشفق الوردي، والعناصر المتخذة دلالة خفيّة في الصورة أوحى بها المحرق المولّد (تغمره)، وهنا تأخذ الصورة المركّبة بنية سداسيّة قائمة على التصوّر الديني الذي يرتبط وثيقاً بعقيدة فوزي معلوف، وهي قائمة في الأساس على مبدأ التطهير الذي يشكل أحد أهم الطقوس المسيحية.
فالأحلام تتماثل مع صورة الكاهن الذي يغمر المعمّد الذي يقابل الشاعر وفيها محاكاة لا شعوريّة للطقس الأسطوري الأول حيث نزل السيد المسيح عليه الصلاة والسلام وتطهّر بمياه طبرية(1) أمّا المعلوف فيتطهّر هنا بأهم وسائل التطهير في عرف المدرسة الرومانتيكيّة، وهي الأحلام، التي تتضادّ مع الألم والشقاء الإنساني كما كان الماء في المعموديّة مضاداً لآلام المسيح(2) وبهذا يكرّر فوزي الطقس الأسطوري لصورة الطهر التي قام بها أسلافه الأولون، رجوعاً إلى الوراء بالمسيح وبنوح عليهما السلام.
وكلّ ذلك أوحاه المحرق المولّد في العبارة وهو (غمرته): ويعني تغطية الشخص بالمياه. ولعلّ التباعد بين الشيء المراد تصويره والشيء المتصوّر يؤكّد شاعريّة الصورة ويؤكّد في الوقت ذاته أنّ الطبيعة تبقى دائماً معادلاً موضوعياً للذات الإنسانية، ومسرحها الذي تبثّ آلامها وآمالها فيه ولا سيما لشعراء الرومانتيكيّة العربية. وفوزي أحد هؤلاء الشعراء.
__________
(1) ينظر، إيلياد، مرسيا، رمزية الطقس والأسطورة، تر: نهاد خياطة، ط أولى، 1987، دمشق، ص: 126.
(2) المرجع السابق، ص: 127.(1/211)
وفي قوله: ((بالشفّق الورديّ يُغريهِ بالمُنى تَعليلا))، فالشفق الورديّ يماثل الحسناء الفاتنة وهي عنصر خفي، والمحرق المولّد في هذه الصورة القائمة على التماثل بين الشفق الورديّ والحسناء هو (يغريه) وهو فعل يوحي بشكل خفر بالنزوع الجنسي المكبوت، وربّما أراد الشاعر بهذه الصورة تفريغ مثل هذه العواطف المكبوتة من خلال تغليفها بغلالة من الرمز الشفّاف الأمر الذي يتطلب من المتلقّي تأمّلاً عميقاً لكشف مثل هذا النزوع الغامض، وهذا الكشف بحدّ ذاته لذّة عظيمة تتحقّق للمتلقّي.
وفي قوله: ((تمشي به قليلاً قليلا)) صورة تشخيصيّة للفاعل المحذوف العائد على الأحلام وهي قائمة على التماثل بين الشيء المراد تصويره وهو الأحلام والعنصر الخفي المتخذ دلالة وهو الرائد أو الدليل. والقرينة اللفظيّة الدالّة عليه هي (تمشي). وتأخذ الصورة هنا بعداً نفسيّاً يعكس أثر تلاشي الأحلام في حياة الشاعر حيث يسوقه هذا التلاشي إلى نهايته ببطء شديد. وفي هذا التصوير استمرارية للنقطة التي بدأ بها الشاعر إشادته بالحلم وسيلة للتغيير والتطهير.
وفي (البيت الخامس) تبرز الكناية كوسيلة هامة من وسائل التصوير الفنّي في القصيدة بما تحمله من بعد رمزي. فقوله: ((هو في ميعة الشباب)) ولميعة الشباب:
مدلول أوّل: أوّله ونضارته
مدلول ثانٍ: قويّ نشيط متحفّز
وفي البيت نفسه صورة كنائيّة أخرى تشكّل طباقاً مع الصورة السابقة ولازمة لها بآن واحد معاً وهي: ((شيخاً هزيلاً)) ولها مدلولان:
مدلول أوّل: رجل كبير طاعن في السنّ
مدلول ثانٍ: ضعيف شديد الوهن
وبالتالي تتضامّ الكنايتان في طباق يعكس أثر الشقاء والألم في جسد الشاعر.
فالمفروض من الجسد في أول الشباب القوّة، ولكن ذلك الجسد يرزح تحت وطأة الشقاء والألم الذي صيّره ضعيفاً ناحلاً واهناً.
وفي قوله في (البيت السادس): ((قاصمة الظهر)) كناية عن موصوف ترسيميتها الدلاليّة: قاصمة الظهر لها مدلولان:(1/212)
مدلول أوّل: الشيء الذي يقطع الظهر ويعطبه
مدلول ثانٍ: المصيبة العظيمة
ولكنّ هذه الكنائيّة تدخل في ترسيمة صورة استعاريّة أكبر منها هي: الشيء المراد تصويره قاصمة الظهر تتماثل مع العنصر الخفي المتخذ دلالة هو الإبل المحمّلة بالأثقال. وهذه الصورة الممتزجة تدخل في الترسيمة الكبرى وهي: قوام الشاعر المنحني يشبه القوام الذي أناخت عليه قاصمة الظهر أحمالها، وهذا التداخل في الصور البيانيّة يجمع شعاثه المشبك التشبيهي ((كأنّ)) في صورة طريفة يعكسها التشبيه التمثيلي الذي تعدّدت صوره في محاولة لا شعوريّة من الشاعر تأكيد حدّة المعاناة التي يكابدها هذا الإنسان فلم تفِ صورة (قاصمة الظهر) بأن تؤكّد عظمة المصيبة، فجاءت صورة الإبل التي تئنّ تحت ثقل الأحمال معزّزاً دلالياً للصورة السابقة لتربطها أداة التشبيه إلى بعضها فوق ظهر الشاعر الذي يئنّ تحت حمله الثقيل.
وفي قوله في (البيت السابع): ((وجبينٍ ألقت عليه شجونُ النفسِ ظلاً)) صورة تشخيصيّة تقوم على التماثل وبنيتها: الشيء المراد تصويره شجون النفس تتماثل مع العنصر الخفي الرسّام وقد أوحى به المحرق المولّد (ظلاً).
والصورة تحاول رسم أبعاد الحزن وآثاره في وجه الشاعر، فكما أنّ الرسّام يفاوت في درجات اللون والظلال لإبراز معالم الصورة فإنّ الشجون تركت ظلّها الشديد القتامة على وجه الشاعر لتؤكّد مرّة بعد مرّة صورة الشاعر الشقيّ بآلامه وأحزانه بعد أن كان أوّلها: صورة الشيخ الهزيل، ثمّ القوام الآن تحت أحماله الثقيلة، فالجبين المقطّب بالعبوس، فالصورة المذكورة أخيراً.(1/213)
وللمجاز دوره المهمّ في الإيحاء بالموقف الشعوريّ إلى جانب الاستعارة والتشبيه والكناية. ففي قوله في (البيت الثامن): ((فهو لا يعرف التبسّم)) مجاز مرسل علاقته اللازمة والملزوميّة أو ما يعرف شيوعاً بالسببيّة والمسببيّة فذكر المسبَّب وأراد السبب وهو ((السعادة)) لأنّ التبسّم لا يحدث إلاّ بسببها. وهذا انحراف واضح عن الصور عموماً يمنح التعبير صفة الشعريّة. وهي في الوقت نفسه ممهّدة للصورة اللاحقة في (البيت التاسع) وهي قوله: ((ألف اليأس قَلبُه)):
فالشيء المراد تصويره هو اليأس الذي يتماثل مع العنصر الخفي المتخذ دلالة وهو المحبوب الذي يألفه القلب. وفي هذه الصورة انزياح عن السياق الطبيعي للفظة الحبّ. وهذا الانزياح الدلالي من أهم الصفات التي تمتاز بها اللغة الشعريّة عن غيرها. فمن المعهود للحبّ أن يقع على المألوف والقريب إلى النفس لا أن يقع على من يحمّل النفس الكآبة والأحزان وهو (اليأس) ولهذا لن يكون هذا الحبّ طبيعيّاً، فهو حبّ ثماره الآلام وجوانبه الأخطار، حبّ للموت والفناء، حبّ للمستحيل، وعندئذ يصبح الحبّ عمقاً مأسوياً جديداً في حياة الإنسان والشاعر اللذين يكابدان الألم والشقاء. ولكي يوكّد الشاعر هذه العلاقة المأسويّة شبكها بالصورة اللاحقة لها بمشبك تمثيلي هو (يحاكي) في قوله: ((فهو واليأس يحاكي بثينة وجميلاً)) وترسيمة الصورة هي اليأس المحبوب يشابه يأس جميل من بثينة.
وفي هذا التضمين التاريخيّ الفنّي إيحاء بأهمية التراث وبقدرته على استيعاب أبعاد تعبيريّة رمزيّة يمكن أن يوظّفها الشاعر لتقرّب الموقف الشعوريّ الذي يريد بثّه إلى المتلقّي.
وتتواشج الصورتان السابقتان مع الصورة اللاحقة لهما ولربّما كانت هذه الصورة توكيداً لهما. وهي قوله في (البيت العاشر): ((وإذا اليأس صدّ عنه قليلاً راح يبكي على نواه طويلاً)) لتكوّن صورة تشخيصيّة ذات بنية رباعية قوامها:(1/214)
اليأس الذي يصدّ عن الشاعر ويبكيه شيء يراد تصويره. وقد اتخذ الشاعر له دلالة تماثله هي ذاك المحبوب المجافي الذي يصدّ عن محبوبه فيبكيه.
وتقوم المشابهة الخفيّة بين العناصر المتماثلة على أساس المحرق المولّد ((يبكي)) فتصبح الصورة: الشاعر يبكي على فراق اليأس ومجافاته بكاء العاشق المتيّم. وهي صورة في الوقت ذاته تشابه الصورة السابقة التي أشرنا إليها في الحبّ العذريّ ممّا يؤكّد تواشج الصورتين، وربّما يكون للمجتمع أثره في رسم هذه الصورة المأسوية للحبّ، فالمجتمع سبب في شقاء الشاعر العذريّ وفي تحقيق مأساته، وهو في الوقت ذاته سبب في مأساة المعلوف بما فيه من قيود رسمها الشاعر في ((نشيد العبد)).
وفي قوله في (البيت الحادي عشر): ((وإذا النّسيمُ اليومَ مرَّ عليهِ)) تقوم الصورة على التماثل بين النسيم والعائد (الزائر) يؤكّد ذلك القرينة اللفظيّة (مرّ) فتغدو بنيتها على أنّ الشيء المراد تصويره هو ((النسيم)) يماثل العنصر الخفي المتخذ دلالة وهو ((العائد)) الذي يزور المريض. وتوحي هذه البنية بالبنية الاجتماعيّة للمجتمع الشرقي القائم على القيم الخلقيّة الفاضلة ومنها عيادة المريض.
ويؤكّد هذه الصورة، الصورة اللاحقة لها في قوله: ((فعليلٌ أتى يعودُ عليلاً)) فهي قائمة على التشخيص، ولكنّ الشيء المراد تصويره هو العنصر الخفيّ هنا وفق البنية التالية: الشيء المراد تصويره هو النسيم يماثل الشيء المتخذ دلالة وهو العليل.
وتشارك الطبيعة -في الشعر الرومانتيكي- مشاركة فعّالة فهي تحمل الأحاسيس والمشاعر وتعكس المشاعر النفسيّة من خلال انفعالها مع الحدث. وهذه سمة من سمات الشعر الرومانتيكي خاصّة. لأنّ الطبيعة أمّ رؤوم تضمّ الشاعر في سويداء قلبها محقّقة له الفردوس الذي فقده في ظلّ الحضارة الماديّة.
وفي قوله: ((حائرُ الطّرْفِ)) صورة تشخيصيّة تقوم بنيتها على التماهي وترسيمتها هي:(1/215)
الشيء المراد تصويره (الطّرف) يماثل الرجل المضطرب وهو عنصر خفيّ اتخذه الشاعر معادلاً دلالياً أوحى به المحرق المولّد (حائر) والصورة هنا حسيّة تتماثل مع صورة حسيّة أخرى، وهي قائمة على البعد النفسي الذي يصوّر التيه والضياع الذي يعاني منه الإنسان وهو يقلّب طرفه في هذه الدنيا عساه يقع على خلاص له ممّا يعانيه.
وفي قوله: ((شَارِدُ الفكر)) توكيد للصورة السابقة، وهي قائمة على التماثل أيضاً وترسيمتها وهي:
الشيء المراد تصويره (الفكر) يماثل الشيء المتخذ دلالة وهو الإبل الشاردة، ويبقى العصر خفيّاً تؤكّده القرينة اللفظيّة (شارد).
وهاتان الصورتان الاستعاريّتان تشتبكان مع الصورة اللاحقة لهما بمشبك التشبيه (يحكي) فتصبح الصورة:
الشاعر ذو الطرف الحائر والفكر الشارد يشابه المدلج الضّال في الطريق وهكذا تتضامّ الصورة التشبيهيّة مع الصورتين الاستعاريّتين لتعطينا وحدة نفسيّة تصوّر الضياع والتيه اللذين يعاني منهما بنو البشر والشاعر أحد هؤلاء الناس.
ولعلّ المحرق المولّد في كلّ صورة من الصور يترادف مع المحرق المولّد الذي يأتي مع الصور اللاحقة، فالحيرة والشرود والضلال روافد ثلاثة تصبُّ في نهر واحد هو الضياع والتيه الذي أراد الشاعر أن يرسم ملامحه في هذه الصور الثلاث.
وفي قوله: ((فضاعت نفسه وهي تنشد المستحيلا)) بنية استعارية، فالشيء المراد تصويره هو المستحيل الذي يماثل الشيء المتخذ دلالة وهو العِلق النفيس وهو عنصر خفيّ أوحت به القرينة اللفظية(تنشد).
وتعكس الصورة عمق المأساة عندما يصبح المستحيل غاية المرء وضالته، غير أنّ المعنى البعيد الذي يريده الشاعر: أن تحقّق السعادة للإنسان في ظلّ الحياة الماديّة أمر مستحيل لا يمكن الوقوف على حدوده إلاّ في عالم الخيال، ذلك العالم الرومانتيكي الأثير الذي يحقّق الغرابة والدهشة والانخطاف.
وفي قوله في (البيت الرابع عشر):
(((1/216)
حوّلَ الأرضَ عالماً علويّاً قاطراً من وحُولها سلسبيلاً))، في الشطر الأول مجاز مرسل علاقته المحليّة في قوله: ((حوّل الأرض عالماً علويّاً)) فالأرض لا تحوّل لأنّها كوكب جماد لا يتمّ لقوّة بشرية تغيير معالمه مهما أوتيت من قوة خارقة والمراد، حوّل البشر فيها إلى بشر يضاهون الملائكة الأنقياء الأطهار، فذكر المحل ((الأرض)) وأراد الحالّين فيه ((البشر)).
وفي قوله ((قاطِراً مِن وحوُلها سَلسَبيلا)) صورة استعاريّة تقوم على التماثل بين عناصر خفيّة يولّدها المحرق المولّد ((قاطر)) وتبدو ترسيمتها هي:
الشيء المراد تصويره الشاعر الذي يقطّر الوحول ويحوّلها إلى مياه عذبة يماثل العنصر الخفي المتخذ دلالة وهو الكيميائي الذي يقطّر المياه الآسنة ويحوّلها إلى مياه عذبة.
كما يعزّز هذه الترسيمة كون متمّماتها قائمة على بنية رمزية كنائية ترسيمتها الأولى: الوحول وهي ذات مدلولين:
مدلول أوّل: طين لزج لاختلاطه بالماء
مدلول ثانٍ: المفاسد الاجتماعيّة والأخلاقيّة
والثانية: سلسبيلا وهي ذات مدلولين:
مدلول أوّل: الماء العذب النقي
مدلول ثانٍ: القيم الأخلاقيّة الفاضلة
فهذه الصورة بمنزلة الشاهد على دور الشعر في بناء الحياة الاجتماعيّة وأثره الفعّال في تغيير المجتمع والقيم وتحويلها وتجديدها وتبديلها بالمناسب للوجه الحضاري للإنسان، ولم يتكلّف الشاعر هذه الصور إلاّ انطلاقاً من إيمانه بدور الكلمة وفعاليّتها في التحويل والتبديل والتجديد.
وفي قوله في (البيت الخامس عشر): ((مَلأَ العالمَ السّماويّ شَدواً)) مجاز مرسل علاقته السببيّة، أو (اللازمية والملزوميّة) فذكر المسبّب وأراد السبب لأنّ الشعر سبب من أسباب الشدو (الغناء).(1/217)
وفي قوله: (( مُنْزلاً منه للورى إنجيلا)) هو كذلك مجاز مرسل علاقته السببيّة والمسببيّة، أو الأصح هنا اللازميّة والملزوميّة فذكر اللازم وهو الإنجيل وقصد ما يلزم له، وهي التعاليم والقيم والإرشاد، وهذا المجاز يحتاج من المتلقّي بذل الجهد لاكتشاف المقصد وهو يعطي المتلقي لذّة ما بعدها لذّة.
وفي قوله في (البيت السادس عشر): ((هاكِ عِقدَ النّجومِ بينَ يديهِ)) صورة تخيليّة ذات بعد أسطوري أخّاذ تأتي ترسيمتها كالآتي:
الشيء المراد تصويره هو الشاعر الذي ينظم النجوم عقداً يزيّن صدر الطيور والشيء المتخذ دلالة في التماثل: الصائغ الذي ينظم الجواهر المتلألئة عقداً تزيّن به الحسناوات نحورها. وهي كلّها عناصر خفيّة كلّ عنصر منها يقابل عنصراً من العناصر المراد تصويرها التي أوحى بها الفعل (ينظم).
وهذه العناصر التي تتآلف منها الصورة بشكل خفر فيما بينها تؤلّف بعداً أسطورياً يقوم على الخيال الخلاّق حيث يتناسب طردياً مع مقدّمة المطوّلة التي صوّرت الشاعر الملك الأسطورة وها هي ذي تصوّره بالصائغ الأسطوري الذي يصوغ النجوم عقداً جميلاً وإكليلاً تتزيّن به الطيور. ولكن ما الذي دفع المعلوف إلى خلق مثل هذه الصورة؟ ممّا لا شكّ فيه أنّ إيمانه بقوّة الشعر الخلاّق، يقف وراء هذا الجنوح الأسطوري.(1/218)
وهكذا فإن الصورة الشعريّة في مطوّلة ((على بساط الريح)) كانت ريشة هامّة من رياش الشاعر في إلباس الفكرة عاطفته الفيّاضة، ولربّما كانت أغلب هذه الصور قائمة على التماثل ممّا تعكس امتزاج الشاعر بالتجربة الشعريّة، وتعبيره الصادق عن مشاعر اليأس والتشاؤم القائم عليه واقع الإنسان الحديث في ظلّ الحياة الماديّة العمياء التي تستعبد الإنسان، ولم يقل دور البنية الرامزة في الكناية والمجاز والمرسل أهمية عن الاستعارة والتشبيه في إبراز هذه العواطف، وأسهم الاتكاء على الموروث القديم في إمداد التجربة الشعريّة ورفدها بصوّر جديدة وتجارب راسخة كان لها شأنها في بنية الصورة الفنيّة.(1/219)
لقد تآخت المظاهر الثلاثة للبنية اللغوية، لتؤلّف بصورة خفرة غامضة ومضة نور تتألّف من ومضات أخرى في بنية (على بساط الريح) التي أضاءت في روح الشاعر وخلده فخلّدها لحظات خالدة ونقلها إلى الإنسانية جمعاء، فقد أسهمت النظائر الدلاليّة في كشف جانب هام من هذه البنية اللغوية، ما لبثت أن عزّزته خصائص المعاني بما فيها من تقنيات فنيّة ساعدت على رفع درجة التكبير المجهري للنصّ، لتكشف عن جوانب شعرية هامّة، كالالتفات من المخاطب إلى الغائب، والغموض الشفّاف الذي تبرزه ألّ التعريف المعوّضة عن الضمير المحذوف، والثنائيات الضدّية التي ساعدت على إبراز المعاناة الإنسانية من خلال جدلية المعاني. ولا تقلّ بصمات خصائص التركيب أهمية عن سابقاتها بما فيها من تقنيات فنيّة: كانفراد جملة إنشائية عن غيرها من جمل النصّ، أو إيجاز الحذف الذي يوحي بالغموض الشفّاف الذي يحمل المتلقّي على إعمال التفكير للوصول إلى ما يحمل النصّ من معانٍ، ويمنحه لذّة الاكتشاف، والتقديم والتأخير الذي يثير عنصري الغموض والتشويق في ذهن المتلقّي. وبدت الظاهرة الموسيقية في النصّ كأهمّ رياش الشاعر الفنان في إبراز جمالية النّص بما فيه من إيحاءات دلالية وظواهر لافتة للانتباه كالتفعيلات المخبونة التي توحي بثقل العبء الذي تنوء تحته روح الشاعر، والتفعيلات السالمة من تمزيق أوصال الكلمات في تقطيع البحر وتآلف الحروف الخفر الذي لا يمكن الحكم على جماليته علمياً إذ هو أمر ذوقي.(1/220)
ثمّ كانت الصورة الفنيّة ريشة أخيرة أتمّ بها الشاعر لوحته الفنيّة الأخّاذة بما فيها من صور استعارية وتشبيهية وكنائية ومجازية تقوم على بنى ثنائية أو رباعية أو سداسية وكثيراً ما تتداخل هذه الصور، فتندعم الصورة الاستعارية بالتشبيهية أو الاستعارية بالكنائية في تماثل فريد(1).
((
الخاتمة
ملخص:
لقد بيّنت الدراسة أهمية الرحلة الخياليّة للأديب العربي القديم حيث جعلها وسيلة غير مباشرة للتعبير عن رؤاه الفكرية وأغراضه الفنّية والأدبية، على نحو ابن شهيد والمعرّي، ودانته في الأدب الأوربي القديم.
وفي وصف الرحلات الخياليّة في الشعر الحديث تباين المكان الذي انطلقت إليه الرحلات الخياليّة فكان لبعضها أن اختار عالم الجنّ والشياطين والمدن المسحورة ليعيش لحظات الخلق الأسطوري في زمن البساطة والبراءة. ومن ثمّ ليجلو غبار الزمان المتراكم عن الرؤية الأولية للإنسان العربي نحو الموت والحياة والفنّ والجسد والروح، وقد رأى بعض شعراء الرحلة في المدن المسحورة وسيلة كشف روحي يعينه على تحقيق أدوات وجوده الإنساني.
في حين اختار قسم آخر من الشعراء السماء والأفلاك وعالم الأرواح مراحاً يطرحون فيه رؤيتهم للعالم مؤكّدين أهمية النقاء الروحي كوسيلة لتحقيق السعادة الإنسانية، ولم ينسَ الشعراء، وهم يحلّقون في هذه العوالم العلوية أن يشيروا بأصابعهم وكلماتهم إلى الواقع المأسوي الذي فروا عنه، فعرضوا مفاسده وشروره.
منتصرين لذواتهم أوّلاً، ثمّ للنوازع الإنسانية العليا التي أسهمت في إبراز الروح الشعرية مميزاً للشاعر الإنسان عن غيره من البشر، ففوزي معلوف ما ذاق طعم الحريّة إلا عندما عانقته روح الشعر، والفراتي لم يخرج في عالم الحلم إلا لينتصر لشاعريته.
__________
(1) لا بد من الإشارة إلى أن هذه الفقرة الخاصة بدرس (على بساط الريح) تدين في منهجها بالفضل إلى الأستاذ الدكتور فهد عكام في كتابه "الشعر الأندلسي نصاً وتأويلاً"(1/221)
وكذلك اختار الشعراء الموت والبرزخ والآخرة ليعرضوا رؤاهم ومواقفهم من الواقع الاجتماعي والسياسي والحياة والفنّ فيه، وربّما حمل المكان شيئاً من الرمزية الشفافة لدى بعض هؤلاء الشعراء.
وبيّنت الدراسة أهم الدوافع غير المباشرة التي دفعت بالشعراء إلى كتابة الرحلة الخياليّة، فبرزت الدوافع الوجدانية في مقدّمة هذه الأسباب، ولم تكن كذلك لولا الواقع الاجتماعي المتردّي الذي ألجأ الشاعر العربي إلى الارتداد عميقاً نحو ذاته يستجلي جوهرها تارة، أو يغور بعيداً في طبقات الأرض السحيقة يرسم صورة مشوّهة لمجتمعه ويفضح مفاسده وشروره مرّة أخرى.
غير أنّ الواقع الاجتماعي المأسوي لم يجعل الشعراء متنكّرين لمجتمعاتهم الراسفة في قيود الجهل والتخلّف فأرادوا من وراء ذلك فضح المساوئ والتحذير منها كما حمّلوا الاستعمار وزر هذه الإحباطات والارتكاسات في المجتمع، وحثّوا على الثورة والتمرّد سبيلاً للخلاص. لكنّ تحريضهم ظلّ أسير النزعة الرومانتيكية.
وقد باحت بعض الرحلات برغبة خفية في تجديد ثوب الشعر العربي الذي بات خَلِقاً من التكرار والجمود لذا أصرّ كثير من الشعراء على أهمية الشعر ومن ورائه الفنّ سبيلاً للخلاص، وكذلك بدت الرغبة جلية في إحياء التراث العربي من خلال بعث أساطيره ورفع ركام الزمن عن جوهرها النفيس لتسهم بدورها في الفكر العربي والإنساني.
ولم تكن الرحلة الخياليّة قد نبغت فجأة في قرائح الشعراء دونما سابق عهد بثقافة. فإنّما شكّلت البيئة الثقافية لبنة أساسية في بناء الرحلة. وقد استلهم بعض الشعراء ما وصل إليه من ثقافة أسطورية شرقية أو عربية ووظّفها في رحلته كموضوع أساسي تقوم عليه الرحلة الخياليّة، في حين أخذت الصورة الأسطورية رونقها الشفّاف عند محمد عبد المعطي الهمشري الذي حمّل الأسطورة رؤيته الروحية نحو الموت والحياة، وقد بدا في أسطورته وكأنّه شخصية أسطورية تؤدّي فعلاً مقدّساً تستعيد فيه الروح بريقها الشفّاف.(1/222)
ولم تكن الثقافة الدينية أقل شأناً من غيرها في التأثير على بنى الرحلة الخياليّة بكلّ عناصرها الأساسية من قرآن وحديث وفلسفة إسلامية فحملت النصوص القرآنية وضوح الفكرة ورونق الشاعرية فلبست ثوباً جديداً من شأنه أن يشكّل بذرة لشكل آخر من الشعر العربي الحديث.
وأسهمت الثقافة الفلسفية في إغناء الرحلات الخياليّة بمادّتها الغنية من الفلسفة العربية القديمة كفلسفة المعرّي، حيث ساعدت هذه الثقافة على ترسيخ النزعة التشاؤمية التي تآخت مع مثيلتها في النزوع الرومانتيكي.
ولقد باحت الرؤية الفكرية في الرحلات الخياليّة بمكنوناتها فكان التأمّل في الموت والحياة اللذين تباينت آراء الشعراء فيهما فبدا الموت ضرورة طبيعية تفرضها الحياة البشرية في هذا الكون، في حين هو وسيلة للخلاص من هموم الواقع ومآسيه ولربّما ارتبطت صورته بالمعتقد الديني الذي يرى فيه طريقاً لحياة أخرى شقيّة أو سعيدة.
كما تبلورت رؤاهم نحو الروح والجسد وكانوا أكثر انتصاراً للروح باستثناء الزهاوي الذي انتصر للعلم الوضعي الماديّ وشفيق معلوف في (نشيد الجنيّة) وقد ابتدع الشعراء لكليهما (أي الروح والجسد)، رموزاً من صميم الحياة الإنسانية، وقد نمّت رؤاهم التأمّلية عن صراع خفي بين العلم والدين، وبرزت كذلك فلسفة الجبر والاختيار كامتداد للفلسفة الإسلامية، حيث مثّل إبليس الاختيار الحرّ لدى أغلب الشعراء، في حين أدان بعضهم الآخر الجبر الإلهي من خلال شخصياته.
وكانت المعاناة منعكساً للواقع المؤلم الذي يعانيه الشاعر من صراع الخير والشرّ في داخله، وإن كان انتصار أغلب الشعراء للخير فإن هذا الانتصار غلبت عليه النظرة التشاؤمية، وكان أن وجّه الشاعر النقد اللاذع للمجتمع العربي، وربّما حثّ على الثورة وسيلة للخلاص كما جعل الشعر والحبّ رائدين لخلاص الإنسان.(1/223)
وقد عرضت البنية الفنيّة الصورة الجمالية للرحلة الخياليّة نصّاً وتأويلاً فانطلقت من التقنية الفنّية لتحليل البدايات والنهايات وما بينها من تحوّلات في الشخصيات والمواقف فكانت البدايات متنوّعة بين المفاجئة والطويلة المملّة والرتيبة المتناسقة مع سيرورة الأحداث، وجاءت أغلب النهايات استمراراً للنهاية التراثية في القصيدة العربية إذ تقوم على الحكمة والتأمّل.
وكذلك تنوّعت العقدة، فجاءت مرتجلة ساقتها طبيعة الأحداث، وحادة في بعضها بلغت فيها الرحلة ذروة الجمال الفنّي، كما كانت غائبة في بعضها الآخر، ومقنّعة تغلّفها غلالة من الغموض الشفّاف أحياناً أخرى.
وكان الصراع منعكساً فنّياً للثنائيات الضدّية التي قامت عليها أكثر الرحلات الخياليّة وارتبط الزمان بعالم الحلم والخيال لذا ابتعد عن الواقعية الأمر الذي أفسح المجال واسعاً أمام امتداده في بعض الرحلات إلى ما لانهاية. كذلك امتاز المكان في الرحلة بصباغ خاصّ يميّزه عن بقية الأماكن فكان تارة علوياً ذا سعة ورحابة وإن كانت الرحابة لا تعني بالضرورة السعادة -وتارة أخرى كان سفلياً غرائبياً عجيباً مهّد بدوره لظهور شخصيات غريبة أسطورية أو شبه أسطورية وقد ظلّت الأماكن في سياقها المألوف في الثقافة الدينية والشعبية إلاّ المكان الماورائي (عالم الموت) فقد كان مبتكراً جديداً رآه الشعراء بأرواحهم وسمعوا أصوات شخصياته من خلال أنين أحاسيسهم المفّعمة باللوعة والأسى.
وكانت الشخصيات في أغلب الرحلات الخياليّة متنوّعة بين إنسانية وأسطورية ولا إنسانية كما انقسمت في مواقفها الفكريّة بين خيّرة وشريرة، وإن لم تكن مقاييس الشعراء واحدة لهذه المسألة.(1/224)
وأسهم الحوار بنوعيه الديالوج والمنولوج، في رسم الصورة الفكّرية والشعورية للشخصيات وباحت من خلال عباراتها عن مكنوناتها الانفعالية والفكّرية، وظّل الديالوج في إطاره التراثي مرتبطاً بفعل قال وقلت وأخواتها، في حين عبّر المنولوج عن حالة من الاستلاب الروحي، فكان أشبه بالبوح والمناجاة الذاتية.
وظلّ التناصّ رافداً ثقافياً وفكّرياً للشاعر والمتلقّي في آن معاً ويعطي المتلقّي مجالاً للحريّة أوسع ليخضع النصّ لثقافته يقرؤه بعيداً عن علاقته بمبدعه وظروفه النفسية والاجتماعية.
وكانت اللغة الشعرية بمظاهرها الثلاثة: المظهر اللفظي والتركيبي والدلالي خير رياش الشاعر الفنّان في استكمال ملامح الصورة الجمالية للرحلة الخياليّة.
***
تعليق
أوجه التشابه والاختلاف مع الآداب العالمية:
لم يكن التأثّر بالأدب العالمي عند أصحاب الرحلات مثل التأثّر بالأدب العربي القديم، فأصل هذه الرحلات هو الشرق وليس الغرب، بدءاً بجلجامش إلى كتاب الموتى إلى يونس ويوسف والمعراج ومقامات الهمذاني وتوابع وزوابع ابن شهيد والغفران. بل نذهب أبعد من ذلك لنقول: إنّ الأدب العالمي حاكى رحلات أدبائنا القدماء، ولا سيما دانته في الكوميديا الإلهية.
وهذه أبرز وجوه التشابه بين هذه الرحلات والرحلات العربية والعالمية قديمها وحديثها.
- أوجه التشابه:
أوّلاً- اختيار هذه الرحلات الحديثة وتلك القديمة عوالم غير عوالمنا الإنسانية، سواء أكانت عوالم حسية أم معنوية.
ثانياً- استخدمت كلّها وسائل انتقال إلى ذلك العالم الذي تنشده، وإن اختلفت هذه الوسائل، فإنّ هناك وسيلة تكاد تطغى على البقية، وهي الموت. حيث يكون الموت معبراً هاماً إلى عالم بعيد عن عالمنا الأرضي، في القبر، أو على عرصات القيامة، أو في الجنّة أو الجحيم، أو على شاطئ الأعراف. ولعلّ تسمية الشعراء الذين ألمحنا إليهم الآن يعدّ حشواً لا فائدة منه.(1/225)
ثالثاً- ويبدو واضحاً اعتماد هذه الرحلات على الصديق أو المرافق في الرحلة، فقد كان المرافق للمعريّ ابن القارح، ومع ابن شهيد زهير بن نمير أشجع الجنّ، ومع دانته في النار فرجيل رمز العقل عند الرومان، وفي الجنّة بياترتشة، وكذلك الحال لدى شعراء الرحلات المحدثين، فشفيق معلوف رافقه شيطان شعره إلى عبقر، والفراتي صاحبته السعلاة في حانة إبليس، أمّا في الكوميديا فقد رافقه ((ميكال)) ولكن أكثرهم رفقة نسيب عريضة، حيث صحبه في رحلته عقله وقلبه ومهجته... الخ. لذا يقول:
قدْ كانَ في الرّكبِ قلبِي ... ومُهجَتي وَهَوايا
والعقلُ حامِي السّرايا ... والشّوقُ زاجي المطايَا
وفي الهوادجِ حُلمِي ... ورَغْبتِي والطّوايَا
بناتُ صدري وشعري ... والذّكرياتُ الحظايَا
وساحراتُ الأماني ... وعائلاتُ الخطايَا(1)
وكذلك رافقت روح الشعر فوزي معلوف في ((على بساط الريح))، ومع عبد المعطي الهمشري ربّة الشعر، ومع الفقّي في ((جحيم النفس)) روحه الثائرة. أمّا اختيار ساعة القيامة والجنّة والنار فلا نستطيع أن نقول: إنّ شعراء الرحلات تأثّروا بدانته لأنّ دانته أصلاً كان متأثراً برسالة الغفران وبروح الغفران الفنية. أمّا القلعجي فتطغى عليه الروح الدينية الإسلامية.
وأمّا شخصية الشيطان فهي مشتركة عند أغلب الشعراء بمحمولاتها الفكرية والفنية والرمزية، ويمكن أن ندّعي تأثّر العقّاد بفردوس ملتون خصوصاً بالروح الثورية المتمرّدة التي أسبغها على الشيطان.
- أوجه الاختلاف:
أوّلاً- اختلاف الغايات والمضامين الفكرية لهذه الرحلات، ويمكن أن نحصرها في أنّها غايات سياسية كما لدى الزهاوي ودانته، وفكرية كما لدى نسيب والمقدسي وشفيق، ودينية كما لدى الفراتي والزهاوي والهوني، وذاتية فنية، كالفقّي والهمشري وفوزي والعقّاد، واجتماعية متداخلة مع الغايات الأخرى.
__________
(1) عريضة، نسيب، الأرواح الحائرة، ص: 189.(1/226)
ثانياً- اختلاف المادة الثقافية الناظمة لهذه الرحلات، فبعضها اتكأ على الأسطورة، والثاني على الدين، وثالث على التجربة الذاتية، ورابع على الفلسفة وخامس على العلوم الفلكية والكونية.
في الختام يمكن نقول: إنّ علاقات التأثّر قائمة بين الآداب العالمية والعربية في كلّ الأجناس الأدبية، وليس الأمر محصوراً بهذه الظاهرة الشعرية التي عرفها أدبنا العربي قديمه وحديثه، وتؤكّد الدراسة أنّ هذه العلاقات الثقافية القائمة على التأثّر لا تقلّل من قيمة أيّ نص أدبي، حتّى لو كان التأثّر حديثاً جداً بين شعراء الرحلات الخيالية أنفسهم، كما هو الحال لدى فوزي المعلوف وإبراهيم الهوني ومحمد حسن فقّي، إنّما من شأنها أن تغني هذه الموضوعات، وتزيدها رونقاً وجمالاً.
ولعلّ في هذا ما يفتح أفقاً جديداً للبحث، ممّا يؤكّد أن للبحث العلمي جهد إنساني مستمر.
((
ملاحق
ملحق (1)
الكوميديا السماوية للشاعر محمد الفراتي
تفرد الدراسة في هذا الملحق لإثبات النصّ الكامل للكوميديا السماوية للشاعر محمد الفراتي، فقد ذهب معظم الباحثين إلى أنّ النصّ قد ضاع بعد أن أخذه خليل هنداوي من الشاعر لدراسته حيث فقده، غير أنّ الأستاذ سامي الكيالي قد أقنع الفراتي أن ينشرها في صفحات مجلة الحديث التي يرأس تحريرها، فنشرت المجلة القسم الأكبر منها، ولم تسنح الفرصة للفراتي أن ينشرها في ديوانه النفحات، حيث نشر فيه قصيدتيه: (في حانة إبليس وغرور الشباب)، ويضم النصّ المثبت:
أوّلاً: مقدمة الكوميديا أو (الحلم المريع).
ثانياً: من أنا ومن أين جئت إلى هذا الوجود.
ثالثاً: الكواكب وفيه:
1- كوكب الشعراء.
2- كوكب العباقرة.
3- كوكب الزنادقة.
رابعاً: إلى أين مصيري بعد الموت، وفيه:
1- ما وراء الطبيعة.
2- التعارف الروحي.
النصّ
مقدمة الكوميديا ((الحلم المريع)):
هبطْنا إلى المريخِ ليلاً فعاقنا ... عن السّيرِ في ((سيسا)) الظلامُ المخيّمُ(1/227)
وسيسا بلحنِ القومِ فيما عرفْتهُ ... عبابُ خضمٍ بالمخاطرِ مفعمُ
فقلتُ لأصحابي أقيمُوا مكانكُمْ ... إلى الصبحِ في هذي الرّبوعِ وخيمُوا
فقالوا على اسمِ اللَّهِ نبرحُ أرضنا ... إلى موطنٍ فيهِ نعزُّ ونكرمُ
فسرْنا حثيثاً نحوَ عشرِ فراسخٍ ... فلاحَ لنا نورٌ ضئيلٌ مقسّمُ
يُرى ظاهراً للعينِ طوراً ويختفي ... عن العينِ أخرى فعلَ من يتكلمُ
إلى أنْ علونا ربوةً ذاتِ روضةٍ ... بلابُلها من فوقها تترنّمُ
ولاحتْ لنا النّار التي كانَ ضوؤُها ... خفيّاً بواديها تُشبُّ وتُضرمُ
فقلتُ امكثُوا صحبي قليلاً فإنَّني ... سمعتُ أناساً عندها تتكلّمُ
سمعتُ حديثاً ما تبيّنتُ لحنَهُ ... وأبصرْتُ ناساً لست أعرف من همُو؟
سوى أنّهمْ في خلقهمْ يشبهوننا ... وفي الخلق حتّى الآنَ ما كنتُ أعلمُ
وسرتُ إليهم مستميتاً وإنّني ... لأخشى على نفسي الأذيةَ منهمُو
ولما رأوني مقبلاً ثارَ واحدٌ ... إليّ وأمّا الآخرونَ فأحجموا
فأيقنت أنّي قد ظفرْتُ ببغيتي ... فقلتُ وكلّي فرحةٌ وتبسمُ
الإنسان المريخي لا يفهم لغات أهل الأرض:
أأنتَ فصيحٌ ذو بيانٍ ومنطقِ ... خبيرٌ بوحي القولِ أمْ أنتَ أعجمُ
وما اسمُكَ يا هذا وفي أيّ موطنٍ ... ربيْتَ ومن أيّ القبائلِ أرنتمُو
فأطرقَ إطراقَ الشّجاعِ ولمْ يحرْ ... جواباً كأنْ هوَ هازئٌ متهكّمُ
فترجمْتُ في كلّ اللغاتِ مقالتي ... فلمْ يجدِ نفعاً لي حديثي المترجمُ
فأفهمتُه قصدي ببعضِ إشارةٍ ... فأوشكَ بعد الجهدِ أو كادَ يفهمُ
وأصحبَ لمّا أنْ رآني مسالماً ... وأقبلَ مرتاحاً عليَّ يسلّمُ
فصافحتهُ فاهتزّ لمّا تعاقدَتْ ... يدانا وكلٌّ جاذلٌ متبسّمُ
أشرت لصحبي أن تعالوا فأقبلُوا ... إليَّ وفيهم ريبةٌ وتوهّمُ
ألاحَ بمنديلٍ فأقبلَ صحبُهُ ... علينا فأُلهمنا السّدادَ وألهمُوا
أخذْتُ لأصحابي أقصُّ حديثَهُ ... وراحَ يناجي صحبَهُ ويُدمدمُ
ولمّا تعارفنا وأفرخَ رُوعُنا ... وجدّوا بنا نحوّ الديارِ وأتهموا(1)
تيقنْتُ أنّ الأرضَ لم تكُ وحدَها ... لتسكنَ إذ كنّا على الأرضِ نزعمُ
__________
(1) أفرخ: هدأ.(1/228)
في المريخ مدينة زاهرة:
تقدَّم نحوي ذلكَ الشّخصُ وانبرى ... يُحملِق في وجهي وحيناً يهينمُ(1)
وعلّمني سرّاً وقالَ ترى بهِ ... وتسمعُ ما يخفى عليكَ وتفهمُ
فصرتُ كأنّي قد درستُ لغاتِهمْ ... قديماً أو أنّي كنتُ في الأصلِ منهمُو
نظرتُ إذا صرحٌ هنالِكَ شاهقٌ ... محيطُ بهِ سورٌ حريزٌ ومحكَمُ(2)
ومن دونِ ذاكَ الصّرحِ دورٌ كأنّما ... نوافذُها في ظلمةِ الليلِ أنجُمُ
على ساحلِ البحرِ المحيطِ مدينةٌ ... بها الخلقُ فيما تشتهي تتنعّمُ
معاهدُ لم تشبهْ معاهدَنا التي ... بها الوهمُ يغشو والحقائقُ تكتمُ
معاهدُ ما ينبتُ في الأرضِ مثلُها ... بها العلمُ يزهو والمعارفُ تخدمُ
ولما صعدْنَا الصّرحَ شاهدْتُ مرصداً ... عليهِ من الآلاتِ قدرٌ منظّمُ
فتيّمني من جودةِ الصّنعِ بعضُها ... ولي في جمالِ الصّنعِ قلبٌ متيّمُ
تشابِهُ آلاتِ المراصدِ عندَنا ... ولكنّها منها أدقُّ وأحكمُ
تقرّبتُ من شيخٍ هنالكَ ناحلٍ ... يقومُ وتاراتٍ من الضّعفِ يجثمُ
تصوّبَ منظاراً ليرصدَ كوكباً ... فيخفيهِ عنهُ العارضُ المتجهّمُ(3)
وما هو إلاّ أن صفا الجوُّ برهةً ... فعادَ إلى منظارهِ يترسّمُ
وأجفلَ مرتاعاً وأجهشَ بالبُكا ... وناحَ كما ناحَتْ على الإلفِ أيّمُ
فقلتُ وما يبكيكَ يا شيخُ إنّهُ ... لينكأُ قلبي جفنُكَ المتورّمُ(4)
فقالَ اقتربْ منّي فأسرعْتُ نحوَهُ ... ومثلي بتمحيصِ الحقائق مغرمُ(5)
نظرتُ إذا جيشٌ هنالِكَ زاحفٌ ... على مثلِهِ والجوُّ أغبرُ أقتمُ
وفي ساحةِ (الرينِ) الجيوشُ مخفّةٌ ... تساقي الردّى والأرضُ يغمرُهَا الدّمُ
فللهِ أشلاءٌ هناكَ تمزّقَتْ ... وللَّهِ أطفالٌ هناكَ تيتّموا
على مثلِ هذا يسكبُ الشيخُ دمعّهُ ... ومن مثلِ هذا يخجلُ المتعلّمُ
رجعتُ إلى صحبي (وميكالُ) واقفٌ ... يشيرُ إلى نجمٍ مضيءٍ ويشتمُ
سمعتُ كلاماً منهُ رنَّ بسمعي ... فأوقد ناراً بالحشا تتضرّمُ
__________
(1) يهينم: يتكلم بصوت خفي.
(2) حريز: مصان.
(3) المتجهم: الغيم الذي لا مطر فيه.
(4) ينكأ: يجرح.
(5) تمحيص: فحص.(1/229)
يقولُ لهم والأرضُ تلمعُ في الدّجى ... على سطحِها أشقى النّفوسِ وألأمُ
فقلتُ بنفسي وافضيحةَ أهلِها ... ووا خجلتاهُ إنّني قلتُ منهمُو
أميكالُ إنّ الليلَ أوشكَ ينقضي ... وعمّا قريبٍ فجرُكمْ يتبسّمُ
وقصدي عبورُ البحرِ إن كنتَ مُسعفي ... فإنّي على استكشافهِ لمصمّمُ
ومالي مقامٌ عندكُمْ غيرَ ليلتي ... فإنْ ذرَّ قرنُ الشّمس ولَّيتُ عنكُمُ
فلي صبيةٌ غَادرتُهم في تنوفةٍ ... يموتونَ جوعاً إن تغيّبتُ عنهمُو(1)
فأسرع ميكالٌ وجهّزَ مركباً ... وقالَ اركبُوا لا بأس صحبي عليكمُو
سأقطعُ عرضَ البحرِ في ربعِ ساعةٍ ... ولا مركبي يعيى ولا أنا أسأمُ
وأعملَ فيهِ الكهرباء بقوةٍ ... تذلّلُ منه كلَّ صعبٍ وتخطمُ
وراحَ يرينا آلةً هندسيّةً ... يقيسُ بها بُعدَ الطريق ويرسمُ
وأخرى تحدّى قوّتَيها فسالبٌ ... وآخرٌ فيها موجبٌ متحكّمُ
إلى أن علا منها هزيمٌ فأبرقَتْ ... وأشرقَ منها أزرقُ اللونِ معْلمُ
ودارَتْ على أقطابها دورةَ الرحى ... لوالبُ لم يحلمْ بها المتوهّمُ
فراحتْ تشقُّ الموجَ شقّاً بصدرِهَا ... وتَهوي كما يَهوي إلى الصيدِ قشعمُ
ومَنْ يخدمِ العلمَ المفيدَ فإنّهُ ... على رغمِ أنفِ الجهلِ لا بدَّ يخدمُ
نظرنا على بعدٍ جزيرةَ (بلّنسٍ) ... بآفاقِها جيشُ الظلامِ مخيّمُ
وبلّنسُ فيما قالَ ميكالُ جنّةٌ ... بها للذي يهوى الإقامةَ مغنمُ
وقد كانَ ميكالٌ على ما أفادنا ... بها وبسرِّ الكهرباءِ يعلّمُ
أكبَّ على التدريسِ تسعينَ حجةً ... فأوضحَ معناهَا فلمْ يبقَ مبهمُ
وأستاذهُ فيها وشاعرُ عصرهِ ... (رفائيلُ) ذاكَ الفيلسوفُ المعلّمُ
فقلتُ لميكالٍ زرِ الشيخِ إنّهُ ... ليكبرُ في عينيّ قدراً ويعظُمُ
فلم يمتنعْ إذ قالَ لا شكَّ أنّنا ... سنأخذُ عنهُ ما نشاءُ ونفهمُ
دخلنا على الشّيخِ الجليلِ فجاءةً ... فأكرمَ مثوانا الجليلُ المكرّمُ
وبعد حديث طالَ بيني وبينهُ ... وصحبي من الإدلاجِ والأينِ هوّمُوا
وأدركَ أنّي من بني الأرضِ فانثنى ... يلاحظُني طوراً وطوراً يهمهمُ
__________
(1) التنوفة: الفلاة لا ماء فيها ولا أنيس.(1/230)
يمشّتْ بأعصابي من الخوفِ رعدَةٌ ... تكشّفَ مِنها سرّيَ المتكتّمُ
وما الخوفُ إلاّ من بقائيَ سالماً ... على الخزي في المريخِ والموتُ أسلمُ
تمنيّتُ أنَّ الأرضَ لم تكُ موطني ... ولم يكُ لي ظلٌّ على الأرضِ يُرسمُ
ولا كانتِ الدنيا ولا كانَ أهلُها ... ولا كنتُ فيها شاعراً أترنّمُ
وأمضى المنَى أن يصدم الأرضَ كوكبٌ ... عظيمٌ بهِ أركانُها تتهدّمُ
فيغسلُ عنها العارَ تمزيقُ جُرمِها ... فنصبحُ لا نخزى ولا نتألّمُ
رآني رفائيلُ المعلّمُ باهتاً ... فأدرك أنّي من بني الأرضِ أنقمُ
فقالَ سليلَ الطينِ هل أنتَ مُخبري ... عنِ العالمِ الأرضي إنْ كنتَ تعلمُ
فقلتُ أجلْ عندي بهمْ بعضُ خبرةٍ ... تحيطُكَ علماً بالذي لكَ يلزمُ
رفائيلُ أحوالُ البسيطةِ جمّةٌ ... فمنها سَحيلٌ لو علمْتَ ومُبرمُ
أجدَّك هلْ يعنيكَ بدءُ حياتِنا ... فتاريخُ مبدانا على الأرضِ مُبهمُ
وإنّا برُغمِ البحثِ والنقدِ لم نزلْ ... على أنْ نرى رأي الأوائلِ نرغمُ
فمنّا نحاسيُّ الأديم وبَعضُنا ... بهِ صُفرةٌ والبعضُ كالليلِ أدهمُ
ومنّا أناسٌ كالصباحِ وجوهُهم ... لهمْ سوءُ خلقٍ كالدّجنّةِ مظلمُ
على بعدِ ما بينِ العروقِ توافقوا ... بأنّ أباهُم آدمٌ وهو أأدمُ
وأمهمُو حوّاءُ أغوتهُ بالتي ... نهى اللَّهُ أن يجني جناهَا ويطعمُ
فقالَ اهبطا منها وكانتْ وزوجُها ... بجناتِ عدنٍ قبلَ ذا تتنعّمُ
أزلهُما الشَيطانُ عنها فعوقبا ... بما نحنُ منهُ الدّهرَ نشقى ونألمُ
عصى آدم أمرَ الإلهِ وزوجُهُ ... فهل نحنُ من جراءِ ذلكَ نظلمُ
شقينا شقاءً يعلمُ اللَّه أنهُ ... أضرَّ بنا ذاكَ الشّقاءُ المحتّمُ
ثقيلٌ علينا وطؤهُ غيرَ أنّهُ ... من الغُبنِ لا نشكو ولا نتبرّمُ
وأعجبُ من هذا وذلكَ فتنةٌ ... تبيّن منها أنّ قابيلَ مجرمُ
فمن أجلِ إقليما الجميلةِ أخوةٌ ... على الأرضِ فيما بينها سُفكَ الدّمُ
ومنْ بعد هذا أرسلَ اللَّهُ رسلهُ ... تُحلُّ بما يوحي لها وتحرّمُ
على الملكِ داودَ الزبورُ تنزّلتْ ... فداودُ بينَ الناسِ بالحقِّ يحكمُ(1/231)
ومن قبلهِ موسى بن عمرانَ رحمةً ... فتوراتُهُ وحيٌ من اللَّهِ مُلهمُ
وعيسى أتى روحاً من اللَّهِ هادياً ... إلى الناسِ بالإنجيلِ للشّرِّ يحسمُ
وأرسلَ ختمَ الأنبياءِ محمّداً ... بفرقانِهِ شرعُ الإلهِ يتمّمُ
لقدْ أخبرَتْ رسْلُ الإلهِ بأنّهُ ... يعذّبُ منّا من يشاءُ ويرحمُ
وأنَّ جزاءَ المؤمنِ البرِّ جنّةٌ ... وأنَّ جزاءَ الكافرينَ جهنّمُ
فأتباعُ موسى مثّلوا بابنِ مريمَ ... على زعمِهمْ والزّعمُ بالحقِّ يدعمُ
وأتباعُ عيسى أبكروا دينَ أحمدٍ ... وقالوا بلا ريبٍ حديثٌ مرّجمٌ
وآمن أتباعُ النّبيّ محمّدٍ ... بمنْ قبلهِ حقّاً وللَّهِ أسلمُوا
ومن ذا ترى أنَّ المقدّم مثبتٌ ... لسابقهِ والجاحدُ المتقدّمُ
مذاهبهمْ شتّى وشتّى قلوبهُمْ ... وذا الطبع فيهِ راسخٌ متحكّمُ
شعوبٌ فمنها نابهُ الذكرِ عاملٌ ... مجدٌ ومنها خاملُ الذكرِ معدمُ
يقولونَ إنّ العدلَ في الأرضِ شائعٌ ... وجدِّكَ ما للعدلِ في الأرضِ مجثمُ
وما العدلُ إلاّ حيثُ يرعدُ مدفعٌ ... ويشهرُ بتارٌ ويشرعُ لهذمُ
تنبّهَ ميكالٌ من القومِ قائلاً ... بعيشكَ ما هذا الحديثُ المجمجمُ
فقلتُ له لا شيءَ دعني فربّما ... إذا طالَ بي مُكثي رفائيلُ يسأمُ
بدتْ من رفائيلَ الجليل ابتسامةٌ ... فخلتُ لها صمَّ الصفا يتبسّمُ
فقالَ بنيَّ اسمعْ أحدثْكَ بالذي ... بهِ نفعُ أهلِ الأرضِ أن كنتَ تفهمُ
إذا زرت سكانَ البسيطةِ قلْ لهمْ ... رفائيلُ (سي مورا) عليكمْ يسلّمُ(1)
وبلغهمُوا عنّي رسالةَ ناصحٍ ... فإنّي أراهمْ عن طريقِ الهُدى عمُوا
شذرات من نصائح رفائيل لأهل الأرض:
بني الأرضِ ما معنى التباينُ في اللغى ... أمغنٍ غناءَ الفكرِ هذا التكلّمُ
فلا تعبُدوا الألفاظَ فهْي وسيلةٌ ... لدى القصدِ عمّا في الضميرِ تترجمُ
فما الفرقُ وضعاً بين قولي مكرّمٌ ... أريدُ الفتى الجاني وقوليَ مجرمُ
أرى اللفظَ مهما جلَّ في السّمعِ وقعُهُ ... ففي القلبِ معناهُ أجلُّ وأعظمُ
__________
(1) سي: ابن -مور: الشمس (ابن سليل الشمس يعني به المريخ).(1/232)
فأهلاً بتوحيدِ اللغاتِ فإنَّهُ ... وجدِّكَ في شرعِ التضامنِ سلّمُ
سهرنَا على تهذيبِ أخلاقِ نشئِنا ... إلى أن بلغنا ما أردْنا ونمنمُوا
ففي أيّ دينٍ أمْ بأيةِ شرعةٍ ... يحلُّ لكمْ سفكُ الدّماءِ المحرّمُ
ألستمُ على وجهِ البسيطةِ أخوةٌ ... يفرّقكُمْ دينٌ ويجمعكُمْ دمُ
عجبتُ لأهلِ الأرضِ كيفَ تفرقُوا ... وما علّةُ التفريق إلاّ التّوهمُ
فلم أرَ ذا دينٍ وإن كانَ صادقاً ... لآخرَ فيما يدّعيهِ يسلّمُ
عبدنا القُوى حيناً ومن جملةِ الذي ... عبدنا (سيا رابا) و (هيتا)و (مي سم)(1)
إلى أن أتى ريبو العظيمُ فقادنا ... إلى الحقِّ فهْو السابقُ المتقدّمُ
ثِقوا أنّنا لولاهُ لم نكُ قادةً ... ولم يكُ في المريخِ هذا التقدّمُ
فإن كنتمُ تبغونَ نجحاً فدونكُمْ ... تعاليمَ ريبو فهي للداءِ بلسمُ
لقد قالَ إنّ الدّينَ للعقلِ وحدَهُ ... ولا دينَ إلاّ ما بهِ العقلُ يحكمُ
هنا قلتُ في نفسي ولم أَدرِ أنّهُ ... عليمٌ بما أخفي بسرّي وأكتمُ
ألا أقطعْ حديثَ الدّينِ عنّا فإنّما ... حديثُكَ هذا يا رفائيلُ يؤلمُ
فسبحانَ من خصَّ الكمالَ بذاتهِ ... وسبحانَ ربّي الواحدِ المتكلّمِ
الكارثة:
وما كِدتُ أُنهي القولَ حتّى رأيتُهُ ... ولم أجهلِ الأسبابَ كالنحلِ يرزمُ
لقد هالني أنّي نظرتُ كأنّهُ ... بألحاظهِ جمرُ الغَضا يتضرّمُ
وبانَ ليَ الوجهُ الوسيمُ كأنّهُ ... وقد راعني قِطْعٌ من الليلِ مظلمُ
فيا خطراتِ الفكرِ لا كنْتِ إنّهُ ... يراك فلا يخفى عليهِ التكتّمُ
توهمّتُ أنّي بين أبناءِ جلدتي ... متى شئتُ في آرائِهم أتحكّمُ
فلو كانَ ما تخفي الضّمائرُ بادياً ... لمَا راجَ في الدّنيا الخِداعُ والمذمّمُ
أشارَ إلى ميكالَ أن قمْ فما لَنا ... سبيلٌ إلى إرشادِ من ليسَ يفهمُ
ألا اقطعْ بهِ عرضَ الخضمِّ فإنْ بدَتْ ... جزيرةُ (أركادا) هناكَ فخيّمُوا
__________
(1) سي رابا: معناها الأكبر أي ابن الشمس يريد به (المشتري)،، وهيتا: معناها الملون ويريد به (زحل)، ومي سم: مي معناها الشديد، وسم معناها البعد أي شديد البعد ويقصد به (نبتون).(1/233)
ودعْهُ إذا لاقيتَ (رائيلَ) خالياً ... يسائِلْهُ يأخذْ بالذي هو أحزمُ
فنّبهتُ أصحابي من النّومِ بعدَ ما ... تجرّعتُ كأسَ الصبّرِ والصّبرُ علقمُ
فقالوا أبانَ الفجرُ قلتُ لهمُ بلى ... وبانَتْ خفايانا وبانَ التكتّمُ
ولما اقتعدْنَا غاربَ البحرِ طوّحَتْ ... بنا في مهاوي الموجِ هوجاءُ صلدمُ
وهبّتْ علينا الرّيحُ نكباءُ فارتمَتْ ... تغورُ بنا طوراً وطوراً تقمقمُ
وصاح بنا ميكالُ أن قد تحطّمتْ ... فما حيلتي هذا قضاءٌ محتّمُ
فبنياي في بحرِ الهواجسِ غارقٌ ... أفكرُ في صرفِ الرّدى كيفَ أسلمُ
تنبّهتُ من نومي على صوتِ صاخبٍ ... ينادي أَيا أماهُ هل أنا مرغمُ
وإذْ أنا في بيتي وحولي عقيلتي ... بصيحاتِ أطفالٍ لها تتنغّمُ
فقلْتُ وهلْ ما كانَ قدْ كانَ يقظةً ... أوَ أنيَ مما بي مِنْ الهمِّ أحلمُ
خاتمة:
بني الأرضِ ما فوقَ البسيطةٍ عاقلٌ ... وليسَ منَ الأخلاقِ في الأرضِ درهمُ
وإنّي وإياكُمْ وكلَّ أخي حجا ... يدبُّ على الغبراءِ صخرٌ مرضّمُ
من أنا، ومن أين جئت إلى هذا الوجود؟:
أنا الرّوحُ التي قدْ كنتُ أحيا ... على طرفِ المجرّةِ مِن قديمِ
أنا ابنُ المجتبى (أوديسُ) حقاً ... أنا المدعو بـ (أورينَ) الحكيمِ
وجدّي الفيلسوفُ (أزودكاها) ... و (كاها) كانَ أعظمَ من عظيمِ
على سيّارِ هيدا عشْتُ دهراً ... أقلّبُ بينَ أحضانِ النّعيمِ
وكانتْ لي مراصدُ ذاتُ شأنٍ ... لمعرفتي بأوضاعِ النجومِ
وإحداها بناهُ لي أميرٌ ... من الأمراءِ ذي كرمٍ عميمِ
على جبلٍ عظيمٍ ذي شعافٍ ... وذي قممٍ تلفّعُ بالغيومِ
ولي فيهِ (تلسكوبٌ) جميلٌ ... وأذكرُ أنّهُ من صنعِ (سيمي)
وسيمي كانَ أشهرَ منْ عليها ... بذاكَ العهدِ ما بينَ العمومِ
فكمْ أذكى هنالكَ من عقولٍ ... وكمْ أحيا هنالكَ من علومِ
لقد شهدتْ لهُ أبناءُ هيدا ... بحذقٍ حازَ إعجابَ الخصومِ
توجّههُ لوالبُ محكماتٌ ... إلى الآفاقِ في الليلِ البهيمِ
ويقربُ طولُهُ من ألفِ (كادٍ) ... بقطرٍ زادَ عن مئتي (جريمِ)(1)
__________
(1) الكاد يقرب طوله متر ونصف، والجريم دستي متر.(1/234)
وفي أنبوبهِ تلقى مآتٍ ... من العدساتِ كالدّرِ النّظيمِ
فمن موشورةٍ لمحدباتٍ ... إلى أخرى بسطحٍ مستقيمِ
بهِ أجلو عمايةَ كلّ نجمٍ ... بجنحِ الليلِ يسبحُ في السّديمِ
وكانَ يمرُّ عن بعدٍ سحيقٍ ... بنا سيّارُ (كورادُ) العقيمُ
على آفاق هيدا كانَ يبدو ... فيظهرُ مثلَ نونٍ في رقيمِ
لهُ فلكٌ يدورُ عليهِ حيناً ... وآونةً بخطٍ مستقيمِ
فحيّرَ فكرتي وذهلْتُ حتّى ... عن الخلِّ المصافي والحميمِ
فكمْ حاولتُ تعليلاً ودحضاً ... لحجةِ كلِّ أفاكٍ أثيمِ
ولكن لم أوافقْ رغمَ جهدي ... ورغمَ شماتةِ الخصمِ اللئيمِ
سدى ذهبَتْ جهودي واعتراني ... ذهولٌ باتَ كالظلِّ المقيمِ
لذا انكمشَتْ رجالُ العلمِ عنّي ... فعدتُ رهينَ قيدي في الحريمِ
وفي يومٍ من الأيامِ عادَتْ ... ليَ الذكرى ولجّتْ بي همومي
فقمْتُ كعادتي ومضيْتُ تواً ... إلى إصلاحِ صاروخي النجومِ
وما هو غيرُ رجعِ الطّرفِ حتّى ... علا بيَ فوقَ أطباقِ الغيومِ
مضى كالبرقِ فاختلّتْ قواهُ ... وقبلاً كانَ يخطرُ كالنّسيمِ
وظلَّ مجلجلاً كالرعدِ حتّى ... تراءَتْ لي المنيةُ في الهزيمِ
إلى أنْ راحَ مرتطماً بشعفٍ ... فيا لعمايةِ القدرِ الغشومِ
هوى نحو الحضيضِ فعادَ جسمي ... وإياهُ هنالكَ كالهشيمِ
فعندئذٍ شعرتُ بأنَّ روحي ... نأتْ عن ذلك الخلِّ القديمِ
فعدتُ أشاهدُ الأرواحَ حولي ... بذاكَ الأفق تسبحُ في السّديمِ
فها هيَ روحُ (كيوبيدا) بن صُورا ... وها هيَ روحُ (مورادَ) الكريمِ(1)
لقد صُعقَتْ لهلكي آلُ (كاها) ... كما طعِنتْ صحابي في الصّميمِ(2)
وقد ناحَتْ كنوحِ الورقِ زوجي ... وقد جزعَتْ من الرزءِ العظيمِ
فوا لهفي على ما حلَّ يا بني ... (أجند سكارَ) ذي القلبِ الرحيمِ(3)
و (أرديكا) ابنتي ذاتِ القوامِ الر ... م ... شيق اللّدنِ والوجهِ الوسيمِ(4)
__________
(1) كيوبيدا: من عظماء كواكب هيدا، وموراد، من الرجال الخالدين في هيدا.
(2) كاها: كبير عائلة الفقيد.
(3) جند سكار: ابن أورين الحكيم.
(4) أرديكا: ابنة أورين الحكيم.(1/235)
مشتْ عظماءُ هيدا حولَ نعشي ... إلى (كوراتَ) في حزنٍ عميمِ(1)
وأبّنني هنالكَ نحوَ ألفٍ ... منَ العظماءِ بالقولِ الحكيمِ
وآخرُ مَن رثاني (جند غوبي) ... بشعرٍ كانَ كالدّرِّ النّظيمِ(2)
فها هيَ قطعةٌ ممّا رثاني ... بهِ فاسمعْ بدورِكَ يا نديمي
آرشما بندي جمين موزاد مور ردي بارمئي
صان دندو ما سمى دو صاند داجنداد جنار
يا نجوم السماء من شموس وسيارات وأقمار ليت شعري ما الذي أعجبكن فاجتذبتن إليكنّ روح الراحل الكريم قبل أن يميط عنكن اللثام.
سارد يا مردي بكو آن دي كما هي سيرمي
ما ناكاد ميزوهي ديساد شوبي كار بكاد
وأنت أيها الفلك الدّوار متى يتمّ دورانك الذي تصعق دون تصور مداه العقول فتعيد سيرتك الأولى وتبتدئ من حيث انتهيت فترجع إلينا روح الراحل العظيم.
آزد مندي أزهماتا إين دميري مندمير
هان شدوا ازآد كاهي آن دَكاهي أن دكا
وأنت يا طيور الغرد يا ابنة الطبيعة الجيّاشة بالحرارة الزاخرة بأنوار الحياة احبسي أنفاسك عن التغريد ولو لحظة واحدة وقف جريانك كذلك أيها الجدول الهادر الصخّاب وكفّي عن الزمزمة يا عواصف الخريف فعسى أن يرفّ بأذني صدى ذلك العبقري العظيم.
بزد ميني ما خبائي مزد ماري شيرد شير
كان دأو وآكاد شاي من كشاني دربكا
بأبي وأمي دمك الزكي الذي تناثرت قطراته فوق الرمال وجسدك الطاهر الذي تمزّق لحمه وتهشّمت عظامه فوق الصخور، ولعمري قد كان دماغك الحسّاس مثوى لأعظم روح عرفها التاريخ.
ليحترق قلبك بنار الأسى يا جند غوبي كما تحترق الفراشة باللهب، وليذب سنا تلك الحسرات أضاليعك ولتتصعّد زفراتك الحرّى إلى عنان السماء ولترنّ بسمع تلك الروح الطاهرة أنّات حزنك العميق.
موشمين كاندر ميا صاندو مهائي كاردمين
كاب دوكابَي صور جانمي باسميري تانمي
__________
(1) كورات: مقبرة العظماء.
(2) جند غوبي: أعظم شعراء هيدا.(1/236)
من منّا يعلم أين يكون في غد مستقرك أيتها الروح الخارقة أفي إحدى هذه الأجرام التي نراها تسبح فوق رؤوسنا أم أنّك ستطيرين إلى عوالم أخرى وراء هذا العالم المحدود، لقد عرفناك وأنت رهينة في هذا الجسد لا ترضين أن تكون لك الكواكب مستقراً فطيري إن شئت إلى اللانهاية إلى حيث تتحدين بعالم العقول المجردة إلى حيث تسبحين بنور ربّك الفياض(1).
كوكب الشعراء:
وبينا كنْتُ حولَ بناتِ نعشٍ ... مُغذاً كي أحاذِي مستواهَا
شعرتُ بجذبِ إحداهَا لروحي ... وما جاوزتُ آنئذٍ مَداهَا
ولاحَتْ لي نجومٌ من قريبٍ ... صغارُ الحجمِ تخطرُ في سَماهَا
وراء الفرقدينِ مبعثراتٌ ... ولم تبعدْ كثيراً عن سهاهَا
فملْتُ لها وقلْتُ لعلَّ روحي ... تصادفُ في سياحتها مناهَا
وحينَ قربْتُ منها كدْتُ شوقاً ... أجنُّ لما بدا لي منْ وراهَا
على آفاقِها تبدو طيوفٌ ... ترقرقُ في أشعتها نداهَا
ذوائبُ شمسِها متموجاتٌ ... على وهداتِها وعلى رُباهَا
كأنّ الخلدَ إحداها فتاقتْ ... لها نفسي فعجْتُ عن ذراهَا
نظرتُ هناكَ أخداناً نشاوى ... فقلتُ مَن النّدامى في صفاهَا
تعاطى من رحيقِ الخلدِ صِرفاً ... معتّقةً وتنعمُ في هواهَا
إذا بأبي نؤاسٍ وسْط شربٍ ... يعاقِرُهَا فينفحهُ شذاهَا
وولدانٍ تديرُ عليهِ راحاً ... وتدني منهُ للثمِ الشّفاهَا
أنفسُ أبي نؤاسٍ رهْنُ خلدٍ ... وما عرفَتْ على الدّنيا هُداهَا
تعالى اللَّهُ ليسَ من اعتراضٍ ... أيسعدُها ولم تلهَمْ تُقاهَا
هتفْتُ بهِ وكانَ يميلُ سكراً ... على حينِ ازدهى وشدا وتاهَا
فقال: نعمْ أخي ونعامُ عينِ ... فخذْ كأساً وناولني سواهَا
سوسي كرانكوا دفوا لا موسَى ... و (خيّام بامنست ومن با أو) ههاهَا
وظلّ مقهقهاً وظللْتُ أرنو ... إليهِ وهْو مرتقبٌ سناهَا
فصحْتُ بهِ تنبّهَ يا بنَ هاني ... وقدماً كنْتَ لم تشأ انتباهَا
__________
(1) يقدم الشاعر اعتذار بقوله: معذرة أيها القارئ الكريم عن التقصير في هذه الترجمة لأنّ لغة الأرض لا يمكنها أن تترجم لغة السماء.(1/237)
فقالَ مَن المنادي قلتُ روحٌ ... ولا تتعبْ فإنّكَ لنْ تراهَا
ألمْ تكُ يا مخنثُ قبلَ حينٍ ... تلاطُ كما اعترفْتَ على ذُراهَا
ألمْ تكُ فاسقاً من قومِ لوطٍ ... ترى الغلمانَ أفضلَ من نِساهَا
ألمْ تجهرْ بأنواعِ المخازِي ... ألمْ تكفرْ ولم تخشَ الإلهَ
فمنْ ديرٍ إلى ماخورِ فسقٍ ... إلى قوّادةٍ تغشى حِماهَا
فقالَ: بلى وها أنا بعدَ هذا ... أنعّمُ بل وأسكرُ في سماهَا
ألا يا طيفُ مالكَ من فُسوقي ... إذا ما كنتَ بالتّقوى تباهَا
ألا يا طيفُ إنك طيفُ إنسٍ ... ولستَ من الملائكِ في عُلاهَا
فما لكَ يا لئيمُ وما لنفسي ... عليها إثمها ولها تقاهَا
فدعْ عنكَ اعتراضكَ إنّ روحِي ... بفضلِ الصّدقِ قد لقيتْ مناهَا
فلو أنّي دجلْتُ لكنْتُ فيهم ... تقيّاً حينَ تُحسبُ أتقياهَا
أكنتُ مضلِّلاً إنْ كنْتَ حرّاً ... صريحاً حينَ تختلُ أدعياهَا
فكمْ شيخٍ بلا علمٍ وتقوى ... يعدُّ لدى الورى مِن أولياهَا
تراهُ إذا مررتُ غداً عليهِ ... لدى سقرٍ يلوّحُ في لظاهَا
بفضلِ اللَّهِ كنْتُ أقلَّ مالاً ... على الدّنيا وكنْتُ أقلَّ جاهَا
وكنْتُ أسيرُ من نفسي بجيشٍ ... لهُ زجلٌ وإنْ تبعَتْ هواهَا
وكنْتُ متى خلوتُ بها وتصحو ... أناقشُها الحسابَ على عماهَا
ولم أكُ راضياً عنها وإنّي ... برغمي كنْتُ مقتفياً خطاهَا
لذلكَ عدْتُ منقلباً لربّي ... بروحٍ لم تطرْ حتّى احتباهَا
فكمْ ناسٍ هنالكَ كفّروني ... لآراءٍ يرونَ ولا أراهَا
ألا فلتعتقدْ ناسٌ بأنّي ... لدى سقرٍ وتنعمُ في شقاهَا
سينكشفُ الحجابُ غداً فتخزى ... أناسٌ حينَ لا يَخزى سواهَا
عمائمُ كالقلانسِ خادعاتٍ ... وقيتَ السّوءَ فاحذرْ من رياهَا
متى عاينتها فابصقْ عليها ... لأن اللؤمَ مختبئٌ وراهَا
فكمْ قدْ ضلّلتْ جيلاً بجيلِ ... عثانينُ الخنا فانتفْ لحاهَا
فلو أعطيْتُ حكماً في حياتي ... تركتُ النعلَ يُروى من دماهَا
هنا انقطعَ اللجاجُ وكانَ أولى ... بنفسي أنْ تجانبَ مشتهاهَا
ألا للَّهِ أنتَ أبا نؤاسٍ ... فصيحٌ حينَ تقرعُ أدعياهَا
صحيحٌ ما تقولُ وليتَ شعري ... متى تصحو الخلائقُ من كرَاهَا(1/238)
كوكب الزنادقة:
تركْتُ كواكبَ العوّاءِ خلفي ... ورحْتُ أجدّ مكتئباً حزيناً
وفي (رمحِ السّماكِ) رأيتُ نجماً ... مضيئاً فاتنا يغشى العيونا
من الإكليلِ طِرْتُ إليهِ لمّا ... رأيْتُ الفجرَ يُوشكُ أن يحينَ
طويْتُ إليهِ ألفي ألفَ عامٍ ... ولم أقطع لهُ بعدُ شطونا
نظرتُ إذا بحارٌ زاخراتٌ ... على آفاقهِ مُلئَتْ سفينا
وأرضٌ قد رأيْتُ بها عيوناً ... وجنّاتٍ تسرُّ النّاظرينا
ولاحتْ لي حزاورةٌ عجافٌ ... تدهْدي في أباطِحها الكرينا
أهابَ بواحدٍ منهم غلامٌ ... على حنقٍ ليفهمَهُ رطينا
يقولُ أيابنَ راوندي تقدّمْ ... ولا تخنسْ وراءَ اللاعبينا
فقالَ أجلْ هنا سأظلُّ وحدي ... إذا ما اللَّه يغلبكُمْ كمينا
أ (مزدك) إنّني أُدعى بحقٍّ ... لزندقتي زعيمَ المارقينا
أيغلبُني الإلهُ وكنْتُ وحدي ... على الدّنيا قريعَ المؤمنينا
فصحْتُ بهِ خسئتَ فإنَّ هذا ... لفوقَ الكفرِ يا ابنَ الفاعلينا
ففرَّ صحابَهُ وانصاعَ نحوي ... يهزُّ عليّ قبضتَهُ اليمينا
يقولُ إليكَ عنّي لا أبالي ... (برَوْ) لو كنْتَ إبليسَ اللعينا
أتحسبُ أنّني أخشاكَ كلاّ ... فقد لاقيتُ كُردياً حَرونا
فقلتُ لهُ وراءَكَ لسْتَ ممّنْ ... عنيتُ فدعْ إذن هذا الجنونا
فإنّي لو ترى في الكونِ روحاً ... وديعٌ لا يحبُّ المعتدينا
ولكنّي أخُو ولعٍ ملحٍّ ... إلى تمحيصِ حالِ الغابرينا
فأفرخَ روعُهُ لمّا رآنِي ... أُلاطفُهُ فأقبلَ مستكينا
وراحَ يقصُّ ما قدْ كانَ منهُ ... عليّ ويذرفُ الدّمْعَ السَّخينا
أرادَ اللَّهُ أنْ نحيا عليها ... زنادقهً ونحيا مارقينا
ولو لمْ يعطِنا عقلاً لكنَّا ... دراويشاً وكنَّا زاهدينا
نكدّي بالنّهارِ بكلِّ دربٍ ... ونمسي في التكايا قابعينا
نقطّعُ وقتَنا مِن غيرِ جدوى ... على كتبِ التّصوفِ عاكفينا
ونخدعُ من يُراقبُنا بشطحٍ ... وطاماتٍ فنفتنهُ فتونا
ونزعُمُ أنّنا في اللَّهِ نفنى ... وأحياناً يحلُّ اللَّهُ فينا
فلم نكُ مثَلهُمْ حتّى ترانا ... نعدُّ لدى الورى في الصّالحينا
كدأبكَ هكذا بالأمسِ كنّا ... بدورِ العلمِ نبحثُ دائبينا(1/239)
شقينا بالعلومِ وكلُّ حُرٍّ ... سيشقى بالعلومِ كما شقينا
عُنينا بالشّروحِ كما حفْظنا ... لنروي من مناهِلِها- المتونا
بأقسيةِ العلمِ نرومُ حلاً ... لِما في الكونِ يمكنُ أنْ يكونا
نحاولُ هتكَ حُجْبِ الغيبِ قسراً ... فتعجزُنا فنرجعُ خاسئينا
كأنَّ اللَّه لم يخلقْ سِوانا ... لنقضِ في الطبيعةِ- ناقدينا
لذلكَ عَدَّنا الفقهاءُ جَهلاً ... على الدّنيا ملاحدَ مارقينا
على أنّ الحقائقَ وسَطَ بحرٍ ... لقينا دونَ ساحِلِه المنونا
مشاعِرنُا خوادعُ كاذباتٍ ... فكيفَ بها نرى العلمَ اليقينا
ومَن رامَ انكشاف الغيبِ حيّاً ... كمنْ رامَ المحالَ ولنْ يكونا
لهونا بالدّمى في حينِ أنّا ... جهلْنَا كونَنا جَهلاً مشينا
فقلْنا لا إلهَ وليسَ وحيٌ ... وسفّهنا حلومَ المرسلينا
وأوسعنا السّماءَ هناكَ سبّاً ... فأتعبنا الكِرامَ الكاتبينا
رآنا اللَّه (أطفالاً كباراً) ... على الغبراءِ نجري عابثينا
وأطفالاً على التحقيق لسنا ... بذاكَ الجدِّ إلاّ لاعبينا
فدلّلنا وهدهدْنا عليها ... فيا للصبّيةِ المتدللّينا
فجادَلْنا بجدوى العلمِ حيناً ... وأُحرمْنا حياةَ المترفيْنا
وسُدَّتْ دوننا طُرقُ المعالي ... ولم ندركْ مقام النابهينا
ولم نطق احتمالَ الجورِ منه ... ومِن فوقٍ سُهامُ الناقدينا
ولم نقنعْ بقسمتهِ وثرْنَا ... عليهِ يومَ ذاكَ ساخطينا
وظلَّ اللَّه يضحكُ إذْ رآنا ... من الإفلاسِ بتْنَا مُلحدينا
ولا تكُ مُغضباً عمّا ترانا ... عليهِ هكذا متندرينا
لو أنَّ اللَّه كانَ كما تراهُ ... لبتْنا في العذابِ مخلّدينا
كوكب العباقرة:
لمحْتُ من السّماكِ سنا نجومٍ ... بعيداً كانَ عن طلبي مَداهَا
لشدّةِ بعدِها عنّي كأنّي ... وقدْ صوّبْتُ طَرفي لا أراهَا
تناهَتْ في البعادِ فلسْتُ أدري ... سراباً ما أشاهدُ أمْ سناهَا
عن (العيّوق) لم تبعدْ فغشّى ... ضياهُ الهائلُ الصّافِي ضياهَا
ركبْتُ لها الأثير وكنْتُ برقاً ... فلمْ يوهنْ قوايَ ولا براهَا
وقد وافيتُها من بعدِ ألفٍ ... من الأعوامِ فازدهَرَتْ سَماهَا(1/240)
نظرْتُ إلى مَدائنَ عامراتٍ ... وجنّاتٍ بها دانٍ جَنَاهَا
تخالُ ترابَها مِسكاً ذكياً ... وياقوتاً ومُرجاناً حصاهَا
مدائِنُها تُحيّرُ كلَّ راءٍ ... وأجملُ مِنْ مدائِنِها قُراهَا
تضيءُ قصورُهَا مِنْ غيرِ نورٍ ... فيصبحُ كالنّهارِ بها دُجاهَا
تضيءٌ ولا أرى مِن كهرباءٍ ... ولا (راداً) يشعُّ على ذُراهَا
ولو خيّرتُ داراً غيرَ (هيدا) ... بهذا الكونِ لم أخترْ سِواهَا
يعيشُ المرءُ فيها ألفَ عامٍ ... وإنْ شاءَتْ تجدّد مُبتداهَا
تجوبُ الكونَ معظمَهُ بآنٍ ... مطوّفةً ولمْ تنقلْ خُطاهَا
كأنّ الكونَ سفرٌ ذو فصولٍ ... صحائفُهُ تقلّبُها يداهَا
لو أنّ البرقَ جاراها لسبقٍ ... بميدانِ الوجودِ لما شآهَا
تناهَتْ عندَها الأجرامُ عدّاً ... وإنْ كانتْ لدينا لا تناهَا
تروحُ وتغتدِي بينَ الدّراري ... إذا حادي الهوى يوماً حداهَا
فمن سيّارها لِسواهُ تمضي ... ومنْ قمرٍ إلى قمرٍ سُراهَا
إذا رامَ الفتى منهم فتاةً ... وإنْ بَعُدَتْ تورّدُ وجنتاهَا
يصافحُها وما طالتْ يداهُ ... على نأيٍ ولا طالتْ يداهَا
ويهوى أنْ يشمَّ عبيرَ نفحٍ ... بمفرقِهَا فينفحُهُ شذاهَا
ويرغبُ أنْ يبادِلَها هواها ... فترغبُ أنْ تبادلِهُ هواهَا
ويهوى أنْ يساجلَها لحوناً ... بألحانٍ فتسمعهُ صدَاهَا
ولم تستعملِ (الرّادارَ) يوماً ... ولم تفتحْ لما تبغيهِ فاهَا
منَ (الأورانَ) قد نسجتْ ثياباً ... ومن إشعاعهِ اتّخذتْ حَلاهَا
خيوطُ النّورِ لُحمتُها لتسبي ... ومن أسلاكِ (أورانٍ) سُداهَا
تناهتْ في اللَّطافةِ فهي تَبدو ... كعاريةٍ ولم تخلعْ رِداهَا
إذا غنّتْ على الأوتارِ لحناً ... ترجّعهُ الملائِكُ في عُلاها
وإنْ رقصَتْ تراقَصتِ الدّراري ... على حركاتِها وعلى غِناهَا
تغازلُ من تشاءُ بلا احتشامٍ ... ولم تعرِف بكوكبها السفاهَا
فباحَ كلّ ما تأتي ولكِنْ ... لغيرِ البعلِ لم تحللْ عُراهَا
جمالُ العبقريةِ عبقريٌّ ... بلا شبهٍ تعالى منْ بَراهَا
صفَتْ روحاً وأخلاقاً وجسماً ... وإدراكاً وحسّاً وانتباهَا
رحيقُ الخلدِ مْن فيها مُدامٌ ... فيا للَّهِ ما أحلى لُماهَا(1/241)
كحورِ العينِ في جنّاتِ عدنٍ ... لو أنَّ الشيبَ يصفحُ عن صباهَا
قد اتحدتْ جميعاً في المبادي ... كما اشتركَتْ جميعاً في غذاهَا
أهابَتْ بالطبيعةِ فاستجابَتْ ... عناصُرهَا لما تهوى قِواهَا
تُحيلُ إذا تشاءُ التربَ تبراً ... وحرُّ لظىً تقطّرهُ مياهَا
وما غيرُ الأثيرِ لها وسيطاً ... وكادَ يكونُ في نظري إلهَا
ويكفي أنْ تموّجَهُ عقولٌ ... بفكرتِها فيبلغَها مُناهَا
متى رامَتْ عويصاً ذلّلته ... وكمْ من مشكلٍ حلّتْ نهاهَا
لها من كلِّ فنٍّ عبقريٍّ ... تمارسُهُ طرائقُ لا تناهَا
وتشعرُ بالثّواني حين تمضي ... ولم تكحلْ بغمضٍ مُقلتَاهَا
ويبني كلُّ فردٍ في أوانٍ ... صروحاً يعجزُ الدّنيا بناهَا
عباقرُ تخلقُ الأشياءَ خلقاً ... ولم تنكرْ خوارقُها الإلهَا
لها سفرٌ بألفي ألفِ جزءٍ ... علومُ الكونِ أجمعُ قد حَواهَا
وليسَ لها بدنياها سواهَا ... بحجمِ في الضآلةِ قد تناهَا
ولم يستغنِ بيتٌ عنهُ حتّى ... ولا بيتُ الذي يرعى الشّياهَا
وهذا السّفرُ (فيداكونَ) يُدعى ... وينطقُ في لسانهمي (بُداهَا)
وألّفهُ وسمّاهُ قديماً ... لَهمْ جدّي العظيمُ (أزردكاها)
وخلّفَ بعدهُ (سيمي) بهيدا ... بنورٍ من معارفِهِ حماهَا
وهيدَا كوكبي الأزليّ لهفي ... على منْ حلّه أوّاهُ آهَا
تركْتُ بهِ (أجند سكار) طفلي ... و(أوريكا) التي ثكلَتْ أباهَا
وزوجي أم أوريكا (هوارا) ... فوا لهفاهُ هل عيني تراهَا
ما وراء الطبيعة:
خرجْتُ عنِ المجرّةِ مستحثّاً ... قوى روحي لتسرحَ في المسيرِ
فجدّتْ بي وقدْ لمحَتْ سديماً ... يرى كالغيمِ في ذاتِ الشّعورِ
وطارَتْ ألفَ عامٍ وهيّ برقٌ ... وأعياهَا مَدى ذاكَ العبورِ
رأتْ ما لا ترى عينُ ابنُ أنثى ... وإنْ جهدَتْ على كرّ العصورِ
رأتْ ما لا يُحصَى من شموسٍ ... تحرَّكُ كالرّحى بيدي مديرِ
تدحرجُ كالكراتِ بصولجانٍ ... خفيٍّ في يدِ الملكِ القديرِ
وقد تبدو توابعُها فتحكي ... فراشاً حامَ حولَ كراتِ نورِ
غريبٌ أمرُ هذا الكونِ إنّي ... ليعجزُ عن تصوّرهِ شعوري
فلو أعطيتُ قوّةَ ألفِ روحٍ ... وطرْتُ هناكَ آلافَ الدّهورِ(1/242)
لما أدركْتُ كمْ في الكونِ يُلفى ... سديمٌ وانكفأَتُ على غروري
وعنْ ذاكَ السّديمِ خرجتُ أهْوى ... إلى سِدمٍ كأمواجِ البحورِ
تدوّمُ في الفضاءِ مبعثراتٍ ... هُنا وهناكَ تبعثُ بالحرورِ
ولولا النّورُ يدفئُ كُنهَ روحي ... إذنْ جمدتْ ببردِ الزّمهريرِ
بعدتُ عن السّديمِ أشدَّ بعدٍ ... إلى أنْ جزتُ أمواجَ الأثيرِ
فلمْ أُبصرْ من الأكوانِ شيئاً ... يعدُّ من الطّبيعةِ كالنقيرِ
سوى نورٍ ولا كالنّورِ يُلفى ... تراءى لي فضاعفَ من سُروري
يلوحُ على مدى بُعدٍ سحيقٍ ... كومضِ البرقِ في الليلِ المطيرِ
فقلتُ لعلَّ هذا نورُ ربِّي ... وذي سبحانُهُ من قُدسِ طوري
فزدتُ لهُ اشتياقاً واعتراني ... ذهولٌ كادَ يفقدُني شعورِي
فرحْتُ لهُ كمثلِ البرقِ تحدُو ... بيَ الأشواقُ كالطّفلِ الغريرِ
إلى أنْ صرتُ عنهُ قابَ قوسٍ ... ولا تسألْ هنالِكَ عن حُبورِي
إذا صوتٌ يَرنُّ بسمعِ روحي ... غريبُ الجرسِ أشبهُ بالصفيرِ
تعالى اللَّه ليسَ تراهُ روحٌ ... مجرّدةٌ ولا عينا بصيرِ
ولا تجهلْ فذلِكَ نورُ طهَ ... حبيبُ اللَّهِ ذي الجاهِ الكبيرِ
تقرّبْ واغترفْ من فيضِ نورٍ ... يحفُّ الكونَ كالبحرِ الغزيرِ
ولمّا أنْ قربْتُ نشقْتُ عُرفاً ... ذكياً فانتشيتُ من العبيرِ
مُحِيْتُ من الوجودِ فلا وجودٌ ... يعبّرُ عن مفاتنهِ شعورِي
ولا أدري بنفسي أينَ أضحَتْ ... فهلْ مُحقَتْ إلى أخرى الدّهورِ
إذا بي فوقَ هذي الأرضِ أحيا ... وتحتَ لوائهِ يحيا ضميري
التعارف الروحي:
عرفتُ محمداً من قبلِ كوني ... وقبلَ تكوّنِ العصرِ الجليدي
تبعتُ طريقهُ الهادي لتحيا ... بهِ روحي فتنعمَ بالخلودِ
سلكتُ طريقهُ والكونُ جسمٌ ... فأرشدني إلى روحِ الوجودِ
فبانَ الكونُ لي عرضاً وبانتْ ... جواهرُهُ تحلُّ عن الحدودِ
دعا روحي وكانَتْ فوقَ هيدا ... منعّمةً على ذاكَ الصعيدِ
دعا روحي لينقذَهَا فلبَّتْ ... نداهُ وهي ترسفُ في القيودِ
وقد كشفَ الغطاءَ وعن وضوحٍ ... يجلّي الغيبَ للبصرِ الحديدِ
تجلَّتْ وهي في أخفى خفاءٍ ... معاني القربِ في ذاكَ الصعودِ(1/243)
صفتْ مرآةُ روحي واستنارَتْ ... فلا تنفسْ عليَّ إذنْ شهودي
ولم أعبثْ هُديتَ فلا تَزرْ بي ... تعالى اللَّه عن عبثِ الوليدِ
كتابُ اللَّه لي هَدْيٌ ونورٌ ... لكشفِ غوامضِ المعنى العتيدِ
جلَتْ آياتُهُ اللّغزَ المعمّى ... عن الآبادِ والأزلِ البعيدِ
هي الشّهبُ الثواقبُ في الدّياجي ... لترجمَ كلَّ شيطانٍ مريدِ
وتحرقَ من تعامى عنْ هُداهَا ... وتمسخهُ ولا مسخَ القرودِ
وتلعنُ من بهذي الأرضِ يعشُو ... عن النّورِ المشعِّ على الوجودِ
إلهي بلْ ويا مَن أنتَ أدنى ... لمَن ناداكَ من حبلِ الوريدِ
مراديَ أنتَ لا جنّاتِ عدْنٍ ... وقصدي يومَ أخذِكَ بالوعيدِ
ذكرتكَ كلَّ حينٍ في جناني ... وليسَ كذكرِ صوفيِّ مُريدِ
يهينمُ عنكَ مشغولاً بلفظٍ ... يردّدهُ كزمزمةِ الهنودِ
فأنتَ لدى التيقظِ نصبُ عيني ... وإنْ أهجعْ ذكرتُكَ في هُجودي
فلا تشغلْ عن الذّكرِ فؤادِي ... فالذكرُ حياتي بلْ خلودِي(1)
((
ملحق (2)
شعراء الرحلات الخيالية
إبراهيم محمد الهوني: (1907-ت) م
((ولد في مدينة بنغازي عام 1907. ودرس فترة من الزمن بالمدرسة العربية الإيطالية إذ لم يكن أمام طلاب المعرفة غيرها، ثم ترك المدرسة وأخذ يكدح مجاهداً في الحياة ليكسب رزقه بعرق جبينه من عمل بسيط، وكان في الوقت نفسه يدرس دراسة خصوصية حتّى تقدّم لامتحان شهادة التعليم عام 1938. وشغل بعض المناصب التعليمية والإدارية والقضائية وآخر منصب شغله هو قاضٍ بمحكمة بنغازي. يتكلم الشاعر الإيطالية ويتقن العربية، وقد حاول أن ينظم بعض الأشعار المترجمة عن الإنكليزية))، له ديوان شعر مطبوع في بنغازي سنة 1966.
- مراجعه: الشعر والشعراء في ليبيا، محمد الصادق عفيفي، دار المعارف بمصر.
تاريخ الشعر العربي الحديث، أحمد قبّش، دار الجيل، ص: 422.
*
جميل صدقي الزّهاوي: (1863-1936)م
__________
(1) الفراتي، محمد، مجلة الحديث، المجلد 31، الأعداد، 3، 4، 5، 6، 7، 9، عام 1957.(1/244)
ولد في بغداد لأبوين كرديين سنة 1863. أصيب في شبابه بمرض جعل حركاته اللاإرادية تبديه كالمجنون أحياناً، ثمّ اهتمّ بالفلسفة وغيرها من العلوم حتّى لقب بالفيلسوف وقادته فلسفته إلى التجديف فسمّاه الناس بالزنديق. كان متقلباً مطبوعاً على الخوف والجبن والحزن أسهم في العديد من الأعمال الإدارية في عهد الحكومة العثمانية، وشارك الشعب العراقي فرحته في تتويج الملك فيصل، ولكنّه رفض أن يكون شاعر الملك. أصيبت قدمه اليسرى بكسر فلزم بيته يقضي وقته بالمطالعة والتأليف حتّى وافاه الأجل ببغداد في 24 شباط 1936. له مؤلفات عديدة ومقالات كثيرة فمن مؤلفاته في الفلسفة (الكائنات)، ومنها في الفلك (المجمل ممّا أرى) وله في الترجمات (رباعيات الخيّام) وله الديوان وآخر طبعاته طبعة دار العودة 1975، ويمتاز أسلوبه بغلبة الطابع العقلي والجمود التقريري القريب من روح العالم المفكر أكثر من روح الأديب الشاعر)).
ينظر: قبش، أحمد، تاريخ الشعر العربي الحديث، ص: 389-391.
رشيد أيوب: (1871-1941) م
ولد ببسكنتا سنة 1871 هاجر إلى أمريكا الشمالية بعد رحلات قام بها إلى باريس ومانشستر ثمّ إلى نيويورك اتخذ لنفسه لقب (الدرويش) إعلاناً عن زهده في الغنى. أصدر ديوانه الأوّل (الأيوبيات) عام 1917م، وصدر ديوانه الثاني (أغاني الدرويش) عام 1928م. وأصدر ديوانه الثالث والأخير (هي الدنيا) 1939م. توفي سنة 1941 بعد أن أتمّ السبعين من عمره. يمتاز شعره بالرقة والبساطة والعناية بالإيقاع الموسيقي وهو أحد الأعضاء المؤسسين للرابطة القلمية بالمهجر.
ينظر: قبش، أحمد، تاريخ الشعر العربي الحديث، ص: 286.
ينظر: الناعوري، عيسى، شعراء القصة والوصف في لبنان، ص: 150.
*
شفيق معلوف: (1905-) م(1/245)
ولد في زحلة عام 1905م والده العلاّمة عيسى إسكندر معلوف وشقيق إسكندر وفوزي ورياض، تخرج من الكلية الشرقية بزحلة ثمّ انتقل إلى دمشق وحررّ في جريدة (ألف باء) مدة ثلاث سنوات. هاجر عام 1926 إلى البرازيل ليعمل إلى جانب أخيه فوزي في مصانع أسّسها خاله جورج معلوف في سان باولو وكان من مؤسسي العصبة الأندلسية وتولى رئاستها ورئاسة مجلتها التي رفدها شفيق بعلمه وأدبه وماله طيلة خمسة عشر عاماً.
له ديوان شعر صغير باسم ((الأحلام)) صدر عام 1926م، و ((ملحمة عبقر)) صدرت عام 1936م وصدرت مرّة ثانية 1949م وله ديوان ((مجامر العنادل)) و ((عيناك مهرجان)) و ((لكلّ زهرة عبير)) و ((نداء المجاديف)) و ((حبات زمرد)) هو كتاب نقدي في الأدب العربي وألف ليلة وليلة.
ينظر: قبّش، أحمد، تاريخ الشعر العربي الحديث، ص: 345- 346.
*
عباس محمود العقّاد: (1889- 1964) م
ولد بأسوان عام 1889 لأسرة مصرية متوسطة الحال اختلف في أوّل حياته إلى الكتاتيب ثمّ التحق بالمدرسة ثمّ أتمّ دراسته بطريقة حرّة والتحق ببعض الوظائف الحكومية ثمّ تركها وعمل في الصحافة ثمّ معلماً حيث تعرّف في هذه المهنة على إبراهيم عبد القادر المازني وعبد الرحمن شكري، وقد أسهمت هذه الثقافة في اطلاّعه على الآداب الغربية وألّف مع صديقيه جماعة الديوان التي هاجمت أعلام شعراء الإحياء شوقي وحافظ. له أعمال كثيرة جمعت كلّها في حوالي اثني عشر مجلداً إضافة إلى ديوان بثلاثة أجزاء وقد بلغت مؤلفاته نحواً من ثمانين مؤلفاً. امتاز بعنايته بأسلوبه القائم على الجزالة وقد غلبت عليه السمة العقلية. توفي سنة 1964م.
ينظر: قبّش، أحمد، تاريخ الشعر العربي الحديث، ص: 327- 329.
*
عبد الفتاح رواس القلعجي: (1938) م(1/246)
ولد في حلب سنة 1938 يحمل إجازة باللغة العربية عمل مدرساً وصحفياً، ومعدّاً إذاعياً وتلفزيونياً في إذاعة حلب، نشر للمرّة الأولى في الصحف والمجلات السورية، عضو جمعية البحوث والدراسات في اتحاد الكتاب العرب. أهمّ مؤلفاته: (مولد النور- شعر 1971) و (القيامة - شعر 1980) و (مسرحية ثلاث صرخات - مسرحية 1976) و (هبوط تيمور لنك- مسرح 1980) و (أحاديث وقصص - قصص للأطفال 1978) و (أحسن القصص- قصص للأطفال 1980) و (العلاّمة خير الدين الأسدي- دراسة 1980) و (مدخل إلى علم الجمال الإسلامي - دراسة 1993)و (مسافر إلى أروى- شعر 1994) حصل على جائزة الشهيد باسل الأسد للإبداع الأدبي عن عام 1998.
ينظر: عزّت، أديب والفيصل، سمر روحي وحميد حسن، أعضاء اتحاد الكتاب العرب، مطبعة الكاتب العربي، دمشق، 1995، ص: 987.
*
فوزي معلوف: (1899- 1930) م
((ولد في 21 آيار 1899 في زحلة وأبوه عيسى إسكندر المعلوف العالم اللغوي. مال إلى النظم في مطلع شبابه، وبدت الروح الشعرية فيه عام 1914م.
حيث راسل كبريات الصحف ونشر عديداً من المقالات في الصحف. ولّي المنصب سكرتير الجامعة السورية في دمشق، وكان مدير مدرسة المعلمين في دمشق 1919، وكان قد تخرج من الكلية الشرقية بزحلة ومعهد الفرير ببيروت، وأتقن اللغة العربية والفرنسية ثمّ أضاف إليهما البرتغالية والإسبانية بعد هجرته. هاجر إلى سان باولو بالبرازيل فلبث فيها ما بقي من حياته منصرفاً إلى التجارة والصناعة حتّى توفي 1930 في ريودي جانيرو عاصمة البرازيل إثر عملية جراحية)).
أهم مؤلفاته (( على بساط الريح)) نشرت لأوّل مرّة 1919 في مجلة المقتطف وله قصّة ((ابن حامد)) صدرت 1916 وله مطوّلة اسمها ((شعلة العذاب)) لم تتم بسبب موافاته المنية قبل الانتهاء منها. و ((مطوّلة على ضفاف الكوثر)) و ((الحمامة في القفص)) و ((أغاني الأندلس)).
ينظر: قبّش، أحمد، تاريخ الشعر العربي الحديث، ص: 341.
*(1/247)
محمد حسن فقّي: (1330هـ= 1912م)
ولد بمكة المكرّمة عام 1330هـ اشتغل مدرساً بمدرسة الفلاح ثمّ وكّل إليه تحرير جريدة ((صوت الحجاز)) والتحق بعد هذا بوزارة المالية وكان يتولى تحرير الجريدة مع عمله. كان عام 1966م سكرتيراً ثالثاً للسفارة السعودية في واشنطن ونال شهادة الماجستير من جامعتها في العلاقات الدولية. هو أديب كبير وشاعر أصيل وناثر جيد، له ثلاثة دواوين شعرية فيها أجمل الشعر الحجازي وأعذبه. وجمعت دواوينه في أعماله الكاملة في اثني عشر مجلداً.
ينظر: قبّش، أحمد، تاريخ الشعر العربي الحديث، ص: 587.
*
محمد عبد المعطي الهمشري: (1908- 1938) م
ولد بالسنبلاوين بمصر كان جدّه قد جاء مع محمد علي باشا إلى مصر، وكان أبوه مهندساً زراعياً تزوج عدة زيجات آخرها والدة الشاعر وكان ميلاد الشاعر سنة 1908. وكان والده ميالاً إلى الأسماء المركبة فسمّاه هذا الاسم لكنّ الشاعر خلافاً لوالده كان يوقّع فقط بالأحرف الأولى من الاسم ثمّ الكنية م. ع. الهمشري. متتبعاً بذلك طريقة شاعره الأثير شيلي وفي المنصورة تفتحت مواهبه الشعرية مع عدد من الشعراء من سنّه وهم: صالح جودت، وعلي محمود طه، وإبراهيم ناجي الطبيب. بدأ حياته شاعراً عاطفياً رومانتيكياً، وقد أحبّ في بداية شبابه ومُني بالفشل، فبقي على ذلك الحب إلى أن مات إثر عملية جراحية للزائدة الدودية أصيبت أثناءها أمعاؤه بالشلل. فتوفي سنة 1938، أهم أعماله ملحمة ((على شاطئ الأعراف)).
ينظر: شرف، عبد العزيز، الهمشري شاعر أبولو.
ينظر: شرف، عبد العزيز، شاعرية الهمشري في ميزان النقد.
ينظر: قبش، أحمد، تاريخ الشعر العربي الحديث، ص: 672.
*
محمد الفراتي: (1890- 1978) م(1/248)
ولد في دير الزور 1890م، تلقى فيها تعليماً أوليّاً ثمّ انتقل إلى حلب ومنها إلى مصر سنة 1911، والتحق من هناك بالثورة العربية حيث عين قاضياً ثمّ عاد إلى بلدته مع دخول الجيش العربي إلى سورية وعمل في التعليم ثمّ غادر بلدته إلى بغداد وعلّم فيها سنتين حتّى اختاره ساطع الحصري معلماً في البحرين حيث بقي فيها ثلاث سنوات حتى 1937 فعاد إلى بلده وعمل معلماً مدة ثلاثة عشر عاماً وسُرح لمجاوزته السن القانونية، وعين بعد ذلك مشرفاً على مكتبة الأوقاف حتّى سنة 1959 حيث عينته وزارة الثقافة مترجماً من الفارسية إلى العربية، عاش أكثر حياته فقيراً محروماً وأخذ الحزن منه مبلغه حين استشهد ابنه الأكبر، ومات الثاني في حادث دراجة نارية.
اجتمع لديه ثمانية دواوين هي: ديوان الفراتي، النفحات الأولى، العواصف، الهواجس، صدى الفرات، النفحات الثانية، أروع القصص، سبحات الخيال.
إضافة إلى مؤلفات كثيرة في الترجمة مثل: ((البستان)) و ((كلستان)) و ((روضة الورد)) كما ترجم رباعيات الخيّام. وله قاموس في اللغة الفارسية وترجمات لحافظ الشيرازي وجلال الدين الرومي وتراجم لم تنشر لفريد الدين العطّار والفردوسي. ومؤلفات في الفلك والنجوم... توفي في دير الزور في 17 تموز سنة 1978م.
عياش، عبد القادر، معجم المؤلّفين السوريين، دار الفكر، دمشق، طبعة أولى، 1985.
نسيب عريضة: (1887- 1946) م(1/249)
ولد الشاعر في مدينة حمص ثمّ غادرها إلى الناصرة ليتعلم في مدرسة المعلمين الروسية إلى جانب ميخائيل نعيمة وعبد المسيح حداد حيث صاهر الأخير ولكنّه لم يرزق من أخته بأولاد. هاجر إلى أمريكا واستقر في نيويورك سنة 1905 وراح يحرّر في صحف ((الهدى)) و ((السائح)) و ((مرآة الغرب)) ثمّ أنشأ مطبعة الأتلانتيك ومنها صدرت مجلة ((الفنون)) أولى مجلات المهجر الراقية ثمّ فجع بأخيه ثمّ بأخته. له ديوان وحيد فيه مطوّلته ((على طريق إرم)) وهو ((الأرواح الحائرة)) وله رواية مترجمة عنوانها ((أسرار البلاط الروسي)) وله قصتان تاريخيتان هما ((ديك الجن الحمصي)) و (الصمصامة))، توفي في بروكلن قبل صدور ديوانه بأيام عام 1946م.
ينظر: قبش، أحمد، تاريخ الشعر العربي الحديث، ص: 289-290.
((
( المصادر:
-أ-
أيوب- رشيد:
1959- الأيوبيات- دار صادر- دار بيروت- لبنان.
- ز -
الزهاوي - جميل صدقي:
1975 -ديوان الزهاوي- تقديم: عبد الرزاق الهلالي - دار العودة- بيروت.
- س -
ساسي - عبد السلام طاهر:
1951 -شعراء الحجاز في العصر الحديث - القاهرة.
- ش -
شرف -عبد العزيز:
1991- الهمشري شاعر أبولو -دار الجيل- الطبعة الأولى.
- ع -
عريضة - نسيب:
1946 - الأرواح الحائرة- نيويورك.
عقاد - عباس محمود:
... ( د. ت) -الديوان- أشباح الأصيل- دار الكتاب العربي- بيروت-.
- ف -
الفراتي -محمد:
( د. ت) -النفحات- المطبعة السليمية- دير الزور- سورية.
فقّي- محمد حسن:
(د. ت) -الأعمال الكاملة- الدار السعودية للنشر- الرياض.
- ق-
قلعجي -عبد الفتاح:
1980 -ملحمة القيامة- دار النفائس- بيروت- الطبعة الأولى.
-ك-
الكيالي- سامي:
1957- مجلة (الحديث) -حلب- مج31- الأعداد (3-4-5-6-7-8-9).
- م -
معلوف -شفيق:
1946 -عبقر- سان باولو- البرازيل- الطبعة الأولى.
معلوف - فوزي:
1958 -على بساط الريح- دار صادر- دار بيروت.
المقدسي- أنيس الخوري:(1/250)
1921 -المعري يبصر- مجلة (المورد الصافي) -بيروت- العدد (10).
- هـ -
الهوني -إبراهيم:
1966 -ديوان الهوني -مكتبة الأندلس - بنغازي- الطبعة الأولى.
(
المراجع:
-أ-
القرآن الكريم.
ابن بسام:
1939 -الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة - تحقيق: جامعة القاهرة -لجنة التأليف والترجمة والنشر- مصر.
ابن الحجاج- مسلم:
1975- صحيح مسلم- دار إحياء التراث العربي- بيروت.
ابن حنبل - أحمد:
1991- مسند أحمد- مؤسسة التاريخ العربي- دار إحياء التراث العربي- بيروت.
ابن زيدون- أحمد:
1965 -ديوان ابن زيدون- تحقيق وشرح: محمد سعيد الكيلاني -مصر- الطبعة الثالثة.
أبو تمام - حبيب بن أوس:
(د. ت) -ديوان الحماسة- شرح: الخطيب التبريزي -عالم الكتب- بيروت.
إسماعيل - عز الدين:
1967- الشعر العربي المعاصر- دار الكتاب العربي للنشر- القاهرة.
الأصفهاني -أبو الفرج:
(د.ت) -الأغاني- دار الكتب- بيروت.
الأنصاري -إسماعيل:
1973 -الإسراء والمعراج- من تفسير الحافظ ابن كثير -الرياض- الطبعة الأولى.
... إعداد د. أنيس إبراهيم -و - د. عبد الحليم منتصر عطية الصوالحي -و- محمد خلف اللَّه أحمد:
(د.ت) -المعجم الوسيط- أمواج للطباعة.
إيلياد- مرسيا:
1987 -رمزية الطقس والأسطورة- تر. نهاد خياطة -دار العربي- دمشق- الطبعة الأولى.
- ب -
بحراوي- حسن:
1990 -بنية الشكل الروائي- المركز الثقافي العربي- بيروت- الدار البيضاء.
البخاري- محمد بن إسماعيل:
1978 -صحيح البخاري- تح. د. مصطفى البغا -دار بن كثير- اليمامة- دمشق.
التبريزي- الخطيب:
1985 -شرح القصائد العشر- تقديم: عبد السلام الحوفي- دار الكتب العلمية -بيروت- الطبعة الأولى.
-ح-
حسين -طه:
(د.ت) -حديث الأربعاء- ج3- دار المعارف -مصر- الطبعة التاسعة.
الحكيم- توفيق:
1973- فن الأدب- دار الكتاب اللبناني- بيروت.
- خ-
خشفة- محمد نديم:
1990- جدلية الإبداع الأدبي- اتحاد الكتاب العرب- دمشق.
-د-
دقاق- عمر:(1/251)
1973- شعراء العصبة الأندلسية في المهجر -دار الشرق- الطبعة الأولى.
- س-
سابيرو- ماكس وهندريكس رودا:
1987 -معجم الأساطير- تر. حنا عبود -دار الكندي- دمشق- الطبعة الأولى.
السامرائي- نعمان عبد الرزاق:
1984 -العلاقة بين العلم والدين- الرياض- الطبعة الأولى.
سراج -نادرة جميل:
1957- شعراء الرابطة القلمية - دار المعارف- مصر- الطبعة الأولى.
سواح- فراس:
1993- مغامرة العقل الأولى- دمشق- الطبعة العاشرة.
1996- ملحمة جلجامش- دار علاء الدين - دمشق- الطبعة الأولى.
-ش-
الشايب- أحمد:
1964 -أصول النقد الأدبي- مكتبة النهضة- مصر- الطبعة السابعة.
شرف- عبد العزيز:
1992- شاعرية الهمشري في ميزان النقد -دار الجيل- الطبعة الأولى.
-ص-
الصابوني -محمد علي:
1994- صفوة التفاسير - دار القلم العربي- حلب- سورية- الطبعة الأولى.
-ض-
ضيف- شوقي:
1974- دراسات في الشعر العربي المعاصر -دار المعارف- مصر- الطبعة الخامسة.
(د.ت) -العصر العباسي الأول- دار المعارف- مصر.
(د. ت) -الفنّ ومذاهبه في الشعر العربي -دار المعارف- مصر- الطبعة التاسعة.
-ع-
عزت- أديب والفيصل- سمر روحي وحميد- حسن:
1995- أعضاء اتحاد الكتاب العرب- مطبعة الكاتب العربي- دمشق.
عساف -ساسين:
1988- الصورة الشعرية ونماذجها في إبداع أبي نواس -بيروت- الطبعة الأولى.
العشماوي- محمد زكي:
1995- أعلام الأدب العربي واتجاهاتهم الفنية- دار المعرفة الجامعية- الطبعة الأولى.
عفيفي- محمد الصادق:
(د.ت) -النقد التطبيقي والموازنات -دار المعارف- مصر.
العقّاد- عباس محمود:
1978- الأعمال الكاملة- مج12- دار الكتاب اللبناني -بيروت- الطبعة الأولى.
عكام- فهد:
1995 -الشعر الأندلسي نصاً وتأويلاً -دار الينابيع- دمشق.
عياش- عبد القادر:
1985م، 1405هـ -معجم المؤلفين السوريين -دار الفكر- دمشق- الطبعة الأولى.
عيد- رجاء:
1977- لغة الشعر- منشأة المعارف بالإسكندرية- مصر.
-ف-
فروم- أريك:(1/252)
1991- اللغة المنسية- تر: محمود منقذ الهاشمي -اتحاد الكتاب العرب- الطبعة الأولى.
-ق-
قبّش- أحمد:
(د.ت) تاريخ الشعر العربي المعاصر -دار الجيل- بيروت.
القيسي- مكي بن أبي طالب:
1973 -الرعاية- تح. أحمد حسن فرحات- طبع دار المعارف- دمشق.
-م-
المتنبي- أحمد بن الحسين:
1968 -ديوان المتنبي- مراجعة نخبة من الأدباء- دار الفكر.
المجنون:
(د.ت) -ديوان المجنون- تح. فرج عبد الستار- دار مصر للطباعة.
المعرّي- أبو العلاء:
1950 -رسالة الغفران- تح. عائشة عبد الرحمن -دار المعارف- مصر- الطبعة الرابعة.
1965- سقط الزند- تصحيح. إبراهيم الزين- دار الفكر- بيروت.
معلوف -شفيق:
(د.ت) -ذكرى فوزي معلوف- مطبعة زحلة- الفتاة- لبنان.
مندور- محمد:
1955- محاضرات في الشعر المصري بعد شوقي -جامعة الدول العربية- معهد الدراسات العربية العالية.
-ن-
ناعوري- عيسى:
1961-شعراء القصة والوصف في لبنان -دار صادر- دار بيروت- لبنان.
-هـ-
هلال- محمد غنيمي:
(د.ت) -الأدب المقارن- دار العودة- دار الثقافة- بيروت- الطبعة الخامسة.
الهمذاني- بديع الزمان:
(د. ت) -شرح مقامات بديع الزمان - تح. محمد محيي الدين عبد الحميد- الطبعة الثانية.
هوميروس:
1945 -الأوديسة- تر. دريني خشبه -مطبعة الرسالة- مصر.
المجلات والدوريات.
الحريري -محمد علي:
1980- مقالة: الفراتي في عالم النسيان- مجلة (الفيصل) - العدد (34).
فهيم- حسين:
1989 -أدب الرحلات- مجلة (عالم المعرفة) - الكويت- العدد (138).
محبّك- د. أحمد زياد:
1998 -مقالة: الاستدعاء الثقافي في أنشودة المطر لبدر شاكر السياب -مجلة (باسل حافظ الأسد للعلوم والآداب الإنسانية)- العدد (1).
(((
الفهرس
إهداء ...
مقدّمة ...
المدخل ...
الفصل الأول: ...
أشكال الرحلات الخياليّة ...
أولاً - رحلات إلى عالم الجنّ والمدن المسحورة: ...
رحلة ((عبقر))، لشفيق معلوف1905. ...
في حانة إبليس محمد الفراتي 1890-1978. ...(1/253)
ترجمة شيطان عباس محمودالعقّاد (1889-1964). ...
على طريق إرم نسيب عريضة (1887-1946)؟ ...
ثانياً: رحلات إلى العالم العلوي. ...
الكوميديا السّماوية لمحمد الفراتي (1890-1978). ...
حلم في المريخ رشيد أيوب 1872-1941 ...
على بساط الريح فوزي معلوف 1899-1930. ...
المعرّي يبصر أنيس الخوري المقدسي ...
الكون والشّاعر محمد حسن فِقّي (1912). ...
اللّه والشّاعرُ محمّد حسن فقّي ...
أبونا آدم إبراهيم الهوني (1907). ...
ثالثاً - رحلات إلى عالم الموت والآخرة. ...
على شاطئ الأعراف محمد عبد المعطي الهمشري (1908-1938). ...
ثورة في الجحيم جميل صدقي الزهاوي (1863-1936). ...
ملحمة القيامة عبد الفتاح القلعجي (1938) ...
الفصل الثاني ...
دوافع الرحلات الخيالية ...
أوّلاً: الدوافع الوجدانية ...
* حلم الحريّة: ...
* الحيرة والقلق: ...
* الخوف والرهبة: ...
* القهر الاجتماعي: ...
* الثّورة والتّمرّد: ...
ثانياً- الدوافع الاجتماعيّة والسياسيّة ...
* تصوير الواقع الاجتماعي المتردّي: ...
* إدانة الاستعمار: ...
* النقد السياسي: ...
ثالثاً- الدوافع الفنيّة والفكرية ...
* التجديد: ...
* محاكاة القدماء وإحياء التراث: ...
الفصل الثالث ...
المصادر الثقافية للرحلات الخيالية ...
أولاً- الثقافة الأسطورية: ...
* التأثر بالأساطير العربية القديمة: ...
* التأثر بالأساطير الشرقية القديمة: ...
ثانياً- الثقافة الدينية: ...
* التأثر بالقرآن الكريم: ...
* التأثر بالحديث النبوي الشريف: ...
* التأثّر بالإسراء والمعراج: ...
ثالثاً- الثقافة الفلسفية: ...
* التأثّر بالفلسفة العربية: ...
* التأثّر بالفلسفة الغربية: ...
رابعاً: الثقافة العلمية: ...
خامساً: الثقافة الأدبية: ...
الفصل الرابع ...
قضايا في الرحلات الخيالية ...
أولاً: التأمل ...
*الموت والحياة: ...
-الدين والعلم: ...
-الروح والجسد: ...
-الجبر والاختيار: ...
الخير والشرّ: ...
ثانياً: المعاناة: ...
الفساد العام: ...
فساد الأخلاق: ...
ثالثاً: الخلاص ...
-الشعر والحبّ والفنّ: ...
رابعاً: الرّؤى الذّاتية والنوازع الإنسانيّة: ...
الفصل الخامس ...(1/254)
البنية الفنية للرحلات الخياليّة ...
أولاً: التقنيات الفنية: ...
-البدايات والنهايات: ...
* العرض والتحوّلات: ...
* العقدة: ...
* الصراع: ...
ثانياً: العناصر الفنية: ...
* الزمان: ...
* المكان: ...
* الشخصيّات: ...
الشخصيات الإنسانية: ...
الشخصيات اللاإنسانية: ...
* الحوار: ...
ثالثاً: التناصّ ((الاستدعاء الثقافي)) ...
رابعاً: اللغة الشعرية في ((على بساط الريح)): ...
هوية النصّ دلالياً: ...
خصائص المعنى: ...
خصائص التركيب: ...
الصورة الشعرية: ...
الخاتمة ...
ملخص: ...
تعليق ...
ملحق (1) ...
ملحق (2) ...
( المصادر: ...
المراجع: ...
(((
رقم الإيداع في مكتبة الأسد الوطنية
الرحلات الخيالية في الشعر العربي الحديث : دراسة/
محمد الصالح السليمان– دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 2000 – 272ص؛ 25سم.
1- 811.9009 س ل ي ر ... ... ... 2- العنوان
3- السليمان
ع- 666/4/ 2000 - ... ... ... ... مكتبة الأسد
((
هذا الكتاب
دراسة نقدية ذات طابع "أكاديمي" تتناول أشكالاً من الرحلات الخيالية في الشعر العربي الحديث، كما ظهرت في نصوص بعض الشعراء العرب.وتهدف إلى تسليط الضوء على بعض الجوانب الفكرية والفنية التي ارتبطت بالواقع العربي وبدور الشعر الريادي في مشروع النهضة الثقافية العربية المعصرة.
(((1/255)