وليصان عن صورة الفساد وتظيما له خشية أن تظهر منه رائحة كريهة ولا باس باستعمال أنواع الطيب غير الزعفران والورس في حق الرجل ولا باس بتطييب قطن منفوش ووضعه في أنفه وفمه خشية خروج شئ يلوث الأكفان ثم يوضع الميت على الإزار فيلف عليه من جهة يساره ثم من جهة يمينه ليكون الأيمن على الأيسر كما في حال الحياة ثم يلف اللفافة عليه كذلك . ويجمع ما فضل عند رأسه فيرد على وجهه وما فضل عند رجليه فيرد عليهما ، ويربط الكفن إن خيف انتشاره وإذا وضع في القبر حل الرباط .
((1/347)
6) كفن المرأة : المرأة كالرجل في اقل الكفن وكفن الضرورة . فالواجب في كفنها ثوب ساتر جميع البدن عند الثلاثة . وعند الشافعي : ثوب ساتر العورة وهى جميع بدن الحرة إلا وجهها وكفيها(1). وأما كفن الكفاية فهو في حق البالغة والمراهقة إزار ولفافة وخمار يغطى به رأسها فيجوز الاقتصار عليها بلا كراهة ويكره تكفينها في ثوبين بلا ضرورة ، أما الصغيرة فلا بأس بتكفينها في ثوبين . والسني في كفن المرأة البالغى المراهقة خمسة : قميص وإزار وخمار ولفافة وخرقة – عرضها ما بين الثدي والفخذ – يربط بها ثدياها وبطنها عند الحنفيين ، وكذا عند الشافعي وأحمد غير أنهما يجعلان بدل الخرقة لفافة . واصله حديث ليلى بنت قانف الثقفية قالت : كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم عند وفاتها ، وكان أول ما أعطانا النبي صلى الله عليه وسلم الحقاء ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة ثم أدرجت بعد في الثوب الآخر ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند الباب معه كفنها ، فناولناه ثوبا ثوبا . أخرجه أحمد وأبو داود والبيهقى بسند لا باس به(2). {476}
والحقاء ككساء الإزار ، والدرع القميص ، والملحفة الملاءة تلتحف بها المرأة ، والثوب الآخر لفافة أخرى (وقال ) الحنفيون : المراد بالملحفة الخرقة يربط بها ثديا المرأة وبطنها ( وقال) عمر رضى الله عنه : كفن المرأة خمسة أثواب " وَلاَ تَعتْدُوا إنَّ اللهَ لاَ يُحِب الُمْعتَدِين " أخرجه ابن أبى شيبة .
(
__________
(1) انظر ص 205 ج5 مجموع النووى .
(2) انظر ص 175 ج7 – الفتح الربانى ( كم يكون الكفن ) وص 316ج8 المنهل العذب ( كفن المرأة ) وص 6 ج4 بيهقى . والصحيح أن هذه القصة فى شأن زينب بنت النبى صلى الله عليه وسلم لأن أم كلثوم توفيت والنبى صلى الله عليه وسلم ببدر . والحقاء بالكسر والمد وفى رواية بالقصر لغة فى الحقو(1/348)
وقالت ) المالكية : المستحب في كفن المرأة سبعة أثواب : إزار وقميص وخمار أربع لفائف وكأنهم يرون أن اسم العدد لا مفهوم له ، فأباءوا الزيادة على ما في الحديث ، ورأوا أن الأمر في ذلك واسع ( ومذهب) الأولين هو الراجح لموافقته للنص ، ولأن الأصل في فعل النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون للتشريع .
(7) كيف تكفن المرأة ؟ : كيفية تكفينها عند الحنفيين أن يطيب الكفن كما تقدم ثم تبسط اللفافة ثم الإزار وتوضع المرأة في القميص ويجعل شعرها على صدرها ثم تخمر(1) ثم توضع على الإزار فتلف به ثم باللفافة ثم تربط الخرقة فوق الأكفان عند الصدر فوق الثديين والبطن لئلا ينتشر الكفن باضطرابها حال الحمل .
( وكيفيته ) عند الشافعية والحنبلية أن يشد على المرأة الإزار ثم القميص ثم الخمار ثم تلف في لفافتين ، ويعقد الكفن إن خيف انتشاره صيانة للميت ثم يحل في القبر .
(8) كفن المحرم : إذا مات المحرم يغسل بماء وسدر كالحلال ولا يكفن في المخيط ولا يغطى رأسه ولا يطيب لبقاء حكم إحرامه ( روى) سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما : أن رجلا كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقصته ناقته وهو محرم فمات ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تمسوه بطيب ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا . أخرجه السبعة والبيهقى(2). {477 }
(
__________
(1) تخمر : أى يغطى راسها بالخمار
(2) تقدم رقم 449 ص 331(1/349)
وبهذا) قال الشافعي وأحمد وإسحاق والثوري ( وعن ) أحمد لا يغطى وجهه لما روى في الحديث : ولا تخمروا رأسه ولا وجهه (1) ولا يكفن في المخيط لأنه يحرم عليه في حياته فكذلك بعد الموت . والعمل على أنه يغطى جميع بدن المحرم إلا رأسه فإن كل الميت امرأة محرمة أليست القميص وخمرت كما تفعل في حياتها ولا تطيب ولا يغطى وجهها لأنه يحرم على المحرمة في حياتها فكذلك بعد موتها . ( فإن ماتت ) المتوفى عنها زوجها في العدة فالصح أن تطيب لأن التطيب إنما حرم في الحياة لكونه يدعو إلى نكاحها وقد زال بالموت(2).
( وقال) الحنفيون ومالك والأوزاعى : إذا مات المحرم انقطع إحرامه فيكفن في المحيط وتغطى رأسه ويطب وهو مروى عن عائشة وابن عمر ( فقد) مات ابنه واقد بالجحفة محرما فكفنه وخمر وجهه ورأسه ( وقال) : لولا أنا حرم لطيبناه . أخرجه مالك في الموطأ(3). {478 }
(
__________
(1) هذه رواية مسلم انظر ص 128 ج8 نووى . قال البيهقى وذكر الوجه غريب .
(2) انظر ص 332 ج2 شرح المقنع
(3) انظر ص 152 ج2 – الزرقانى على الموظإ ( تخمير المحرم وجهه ) .(1/350)
وقد سئل) عطاء عن المحرم يغطى رأسه إذا مات ؟ فقال : غطى ابن عمر وكشف غيره . أخرجه عبد الرازق في مصنفه بأسانيد جياد ( وحكى ) ابن حزم أنه صح عن عائشة تحنيط الميت المحرم وتطييبه وتخمير رأسه لأن افحرام عبادة تبطل بالموت كالصلاة والصوم ( وأجابوا) عن حديث ابن عباس بأنه خصوصية لهذا الرجل لأن إخباره صلى الله عليه وسلم بإنه يبعث ملبيا شهادة منه بأن حجه قد قبل وذلك غير محقق لغيره وبأن عمله قد انقطع بموته ( لحديث ) إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له . أخرجه مسلم والبخاري في الأدب والثلاثة عن أبي هريرة(1). {479 }
(دل) الحديث على أن عمل الإنسان ينقطع بموته إلا في هذه الثلاثة وليس الإحرام منها ( ورد) بأن الأصل عدم الخصوصية وأن قوله صلى الله عليه وسلم : يبعث ملبيا ليس قاصرا على ما قالوا ، بل هو ظاهر في بقاء حكم الإحرام لأن التلبية شعار المحرم فالحكم عام . ( ويؤيده) حديث ابن عباس النبي صلى الله عليه وسلم قال : اغسلوا المحرم في ثوبيه اللذين أحرم فيهما واغسلوه بماء سدر وكفنوه في ثوبيه ولا تمسوه بطيب ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة محرما . أخرجه النسائي(2). {480 }
وهو ظاهر في العموم واعتذر الداودى عن مالك بأنه لم يبلغه الحديث .
(
__________
(1) انظر ص 85 ج11 نووى ( ما يلحق الإنسان بعد وفاته – الوصية ) وص 77 ج3 عون المعبود ( ما جاء فى الصدقة ) وص 129 ج2 مجتبى ( فضل الصدقة عن الميت ) .
(2) انظر ص 269 ج1 مجتبى ( كيف يكفن المحرم ) .(1/351)
9) كفن الصغير ك الصغير كالكبير في الكفن ذكرا كان أم أنثى عند الشافعية فيستحب تكفين الصبي في ثلاثة أثواب كالبالغ . ( قال) الحنفيون) وأحمد : يحسن أن يكفن كالكبير ، ويجوز تكفينه في ثوب واحد بلا كراهة ، ولا باس بتكفين الصغيرة في ثوبين ، والمراهقة بمنزلة البالغة في الكفن لأن المراهق حال حياته يخرج فيما يخرج فيه البالغ عادة ، فكذا يكفن فيما يكفن فيه .
(قال) المروزى : سالت أبا عبد الله – يعنى أحمد – في كم تكفن الجارية إذا لم تبلغ ؟ قال : في لفافتين وقميص لا خمار فيه لأن غير البالغة لا يلزمها ستر رأسها في الصلاة ( واختلفت ) الرواية عن أحمد في الحد الذي تصير به في حكم المرأة في الكفن ( فروى) عنه إذا بلغت ( لحديث ) عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار . أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم(1). {481 }
مفهومة أن غير البالغة لا تحتاج إلى خمار في صلاتها فكذا في كفنها ، وقد كفن ابن سيرين بنته وقد قاربت الحيض بغير خمار . ( وروى) عن أحمد أنها إذا كانت بنت تسع سنين يصنع بها ما يصنع بالمرأة لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بعائشة وهى بنت تسع سنين وروى عنها أنها قالت : إذا بلغت الجارية تسعا فهي امرأة(2).
(10) كفن السقط ونحوه : السقط – بكسر السين – الجنين ينزل قبل تمامه وهو مستبين الخلق ، وهو ومن ولد ميتا يلفان في خرقة بلا مراعاة وجه الكفن كالعضو من الميت ، فإذا وجد عضو من أعضاء الإنسان أو نصفه مشقوقا طولا أو نصفه مقطوعا عرضا ليس معه الرأس يلف في خرقة وإن كان معه الرأس يكفن وقيل : يلف في خرقه . وإن وجد أكثر يكفن لأن للأكثر حكم الكل(3).
(
__________
(1) انظر ص 89 ج3 – الفتح الربانى 0 المرأة الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها ) وص 30 ج5 – المنهل العذب) المرأة تصلى بغير خمار )
(2) انظر ص 342 وما بعدها ج2 مغنى ابن قدامة .
(3) انظر ص 307 ج1 بدائع الصنائع .(1/352)
فوائد) : ( الأولى) إذا نبش القبر وأخذ الكفن فعند الشافعية يجب تكفينه ثانيا سواء كفن من ماله أو من مال غيره أو من بيت المال . ( وقيل ) إذا كفن من ماله ثم اقتسم الوثة التركة ثم نبش القبر وسرق الكفن استحب للورثة أن يكفنوه ثانيا ولا يلزمهم ذلك ، لأنه لو لزمهم ثانيا للزمهم إلى مالا يتناهى(1) ولو كفن ثم أكله سبع وبقى الكفن ( قيل) يقسم بين الورثة ( وقيل ) يكون لبيت المال لأنهم لم يرثوه عند الموت فلا يرثونه بعد(2) .
(وقال ) الحنفيون : إذا نبش القبر وأخذ الكفن والميت لم يتفسخ كفن ثانيا من جميع المال لأن حاجته إلى الكفن ثانيا كحاجته إليه أولا : فإن قسم المال فالكفن على الوارث دون والغرمان والموضى له ، لأنه بالقسمة انقطع حق الميت عنه فصار كأنه مات ولا مال له فيكفنه وارثه إن كان له مال ن وإن لم يكن له مال ولا لمن تلزمه نفقته فكفنه في بيت المال . وإن نبش بعد ما تفسخ وأخذ كفنه كفن في ثوب واحد ، لأمه إذا تفسخ خرج عن حكم الآميين وصار كالسقط ، ولذا لا يصلى عليه(3).
(
__________
(1) انظر ص 210 ج5 مجموع النووى
(2) انظر ص 296 ج2 مهذب الشيرازى
(3) انظر ص 309ج1 بدائع الصنائع .(1/353)
الثانية ) يجوز للإنسان أن يعد لنفسه كفنا ( لحديث) سهل بن سعد الساعدى أن أمرأة جاءت النبي صلى الله عليه وسلم ببردة منسوجة فيها حاشيتها – أتدرون ما البردة ؟ قالوا : الشملة قال : نعم – قالت : نسجتها بيدي فجئت لأكسوكها ، فإخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها ، ثم سألته ، وعلمت أنه لا يرد قال : إني والله ما سألته لألبسها إنما سألته لتكون كفنى . قال سهل : فكانت كفنه . أخرجه البخاري(1). {482 }
(
__________
(1) انظر ص 91 ج3 فتح البارى ( من استعد الكفن فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم ) و( فيها حاشيتها ) يعنى أنها لم تقطع من ثوب فتكون بلا حاشية وقيل حاشية الثوب هدية فكأنها جديدة لم يقطع هدبها ولم تلبس بعد . وقيل حاشيتا الثوب ناحيتاه اللتان فى طرفهما الهدب . و( أتدرون الخ) من قول سهل بن سعد كما فى رواية البخارى فى الأدب ولفظه : فقال سهل للقوم . أتدرون ما البردة ؟ قالوا الشملة . وفى تفسير البردة بالشملة تجوز لأن البردة كساء والشملة ما يشمل به فهى أعم لكن لما كان أكثر اشتمالهم بالبردة أطلقوا عليها اسم الشملة ( فحسنها ) من التحسين أى نسبها الى الحسن .(1/354)
فقد ) دل الحديث على جواز تحصيل مالا بد للميت منه من كفن ونحوه في حال حياته لما فيه من تذكر الموت والاستعداد له ( وفى الحديث) افضل المؤمنين إيمانا أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم له استعدادا (1) ( وقال) الصيرفي : لا يستحب أن يعد الإنسان لنفسه كفنا لئلا يحاسب عليه إلا إذا كان من جهة يقطع بحلها أو من اثر أهل الخير والصلحاء ، فإن ادخاره حينئذ حسن الحديث سهل المذكور . وهل يلحق بذلك حفر القبر في حياته ؟ ( قال) ابن بطال : وقد حفر جماعة من الصالحين قبورهم قبل الموت بأيديهم ليتمثلوا حلول الموت فيه . ( ورد) عليه ابن المنير بأن ذلك لم يقع من أحد من الصحابة ، ولو كان مستحبا لكثر فيهم (قال) البدر العيني : لا يلزم من عدم وقوعه من أحد من الصحابة عدم جوازه لأن ما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن ، ولا سيما إذا فعله قوم من العلماء الأخيار(2).
الصلاة على الميت
__________
(1) انظر ص 61 ج8 عمدة القارى ( من استعد الكفن ) .
(2) انظر ص 61 ج8 عمدة القارى ( من استعد الكفن ) .(1/355)
الكلام فيها ينحصر في عشرين فصلا (1) فضلها – قد ورد في الحث على الصلاة على الميت وتشييعه حتى يدفن أحاديث ( منها ) حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من تبع جنازة وصلى عليها فله قيراط ومن تبعها حتى يفرغ منها فله قيراطان أصغرهما مثل أحد أو أحدهما مثل أحد أخرجه السبعة ( وقال ) الترمذى : حسن صحيح وروى من غير وجه(1) . {483 }
__________
(1) انظر ص 197 ج2 – الفتح الربانى 0 فضل الصلاة على الميت ) وص 128 ج3 فتح البارى ( من انتظر حتى تدفن 9 وص 13 ج7 نووى ( فضل الصلاة على الجنازة ) ولفظ الشيخين 0 من شهد الجنازة حتى يصلى فله قيراط . ومن شهد حتى يدفن كان له قيراطان . قيل وما القيراطان ؟ قال مثل الجبلين العظيمين ) وص 331 ج8 – المنهل العذب وص 282 ج1 مجتبى 0 ثواب من صلى على جنازة) وص 150 ج2 تحفة الأحوذى ( فضل الصلاة على الجنازة ) وص 241 ج1 – ابن ماجه ( والقيراط) سدس درهم والدرهم ست عشرة خرنوبة . ولما كان القيراط المتعارف حقيرا مثله النبى صلى الله عليه وسلم بأعظم الجبال خلقا وأحبها لنفس المؤمن ( ففى الحديث ) إن أحدا جبل يحينا ونحبه . أخرجه مالك والشيخان والترمذى عن أنس ولكونه قريبا من المخاطبين خاطبهم بما يعرفون تقريبا لعقولهم وإلا فالثواب معنى لا يدرك بالحس .(1/356)
وفى رواية للبخاري : من شيع جنازة ، وفى أخرى له : من شهد والفاء في قوله : فصلى ليست للترتيب فإن الإجر المذكور يحصل لمن صلى على الجنازة وتبعها تقدمت الصلاة أم تأخرت ( وحديث) خباب صاحب المقصورة قال : يا عبد الله بن عمر ألا تسمع ما يقول أبو هريرة ؟ إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من خرج مع جنازة من بيتها وصلى عليها ثم تبعها حتى يدفن كان له قيراطان من أجر ، كل قيراط مثل أحد ، ومن صلى عليها ثم رجع كان له مثل أحد . فارسل ابن عمر خبايا إلى عائشة يسألها عن قول أبى هريرة ثم يرجع إليه فيخبره ما قالت فقال : قالت عائشة صدق أبو هريرة ، فقال ابن عمر : لقد فرطنا في قراريط كثيرة . أخرجه أحمد وأبو داود والبيهقى ومسلم وهذا لفظه(1). {484 }
(وهذا) ظاهر في أن الأجر المذكور يحصل لمن خرج مع الجنازة من بيتها ولأحمد من حديث أبي سعيد الخدرى : من جاء جنازة في أهلها فتبعها حتى يصلى عليها فله قيراط (2)، ومقتضاه : أن القيراط يختص بمن حضر من أول الأمر إلى انقضاء الصلاة ، وبذلك صرح المحب الطبري وغيره.
( والظاهر ) أن القيراط يحصل لمن صلى فقط لأن كل ما قبل الصلاة وسيلة إليها ، لكن يكون قيراط من صلى فقط دون قيراط من شيع وصلى ، لحديث أبي هريرة مرفوعا : من صلى على جنازة ولم يتبعها فله قيراط . أخرجه أحمد ومسلم(3) . {485 }
(
__________
(1) انظر ص 194 ج7 – الفتح الربانى ( فضل الصلاة على الميت ) وص 16 ج7 نووى ، وص 333 ج8 – المنهل العذب . وص 412 بيهقى . ( والمقصورة ) الدار الواسعة المحصنى . وقيل إنها أصغر من الدار تقصر لا يدخلها إلا صاحبها .
(2) انظر ص 197 ج7- الفتح الربانى ( فضل الصلاة على الميت وتشييع الجنازة )
(3) انظر ص 15 ج7 نووى(1/357)
فدل) على أن الصلاة تحصل القيراط وإن لم يقع ابتاع ( وقال) ابن المنير : إن القيراط لا يحصل إلا لمن ابتع وصلى ، أو اتبع وشيع وحضر الدفن لا لمن اتبع وشيع ثم انصرف بلا صلاة ، وذلك لأن الاتباع إنما هو وسيلة لأحد مقصودين : الصلاة أو الدفن ، فإذا تجردت الوسيلة عن المقصد لم يحصل المترتب عليه وإن كان يرجى أن يحصل بذلك فضل ما يحتسب ( وقد) روى سعيد بن منصور عن مجاهد أنه قال : اتباع الجنازة افضل النوافل ( وحديث ) ابن سيرين عن أبى هريرة إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا وكان معه حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين . كل قيراط مثل أحد ، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط . أخرجه البخاري والنسائي(1). {486 }
وهو صريح في أن الحاصل من الصلاة والدفن قيراطان فقط ( وظاهر ) قوله في الحديث الأول : ومن تبعها حتى يفرغ منها فله قيراطان(2) أن هذين القيراطين غير قيراط الصلاة وبه جزم بعض المتقدمين . ويمكن الجمع بينهما بأن المراد بقوله في الحديث الأول " فله قيراطان " أى بقيراط الصلاة .
(
__________
(1) انظر ص 80 ج1 فتح البارى ( اتباع الجنائز من الإيمان ) وص 282 ج1 مجتبى ( ثواب من صلى على جنازة) .
(2) انظر رقم 483 .(1/358)
دلت)هذه الأحاديث على أن من صلى على الميت وسيعه فله قيراطان من الأجر : قيراط للصلاة وقيراط للتشييع مع حضور الدفن والفراغ منه . وف بعضها عدم التقييد بحضور الدفن ولكن يحمل المطلق منها على المقيد ، وهذا هو الصحيح . وقيل : يحصل القيراط الثاني إذا ستر الميت في القبر باللبن ونحوه وإن لم يلق عليه التراب ( والحاصل) إن الانصراف من الجنازة مراتب (أ ) أن ينصرف عقب الصلاة (ب) أن ينصرف عقب وضع الميت في القبر وستره قبل إهالة التراب . (جـ) أن ينصرف بعد إهالة التراب وفراغ الدفن . (د) أن يمكث عقب الفراغ ويستغفر للميت ويدعو له ويسأل له التثبيت . فالرابعة أكمل المراتب والثالثة تحصل القيراطين ولا تحصلهما الثانية على أترجح . ويحصل بالإولى قيراط بلا خلاف .
( وحديث) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من تبع جنازة يحمل من علوها وحثا في قبرها وقعد حتى يؤذن له ، آب بقيراطين من الأجر كل قيراط مثل أحد . أخرجه أحمد وفيه ابن لهيعة متكلم فيه ، وعبد الله بن هرمز ضعيف(1). {487 }
__________
(1) انظر ص 196 ج7 – الفتح الربانى ( فضل الصلاة على الميت ) و( من علوها) بضم العين واللام وكسر الواو مشددة . وفيه إشارة الى كيفية حمل الجنازة بارتفاع سريرها على عاتق الرجال .( وحثا) التراب يحثوه ويحثيه حثيا من باب رمى لغة أى هاله بيده .(1/359)
وهو يدل على استحباب استئذان المشيع أولياء الميت في الأنصراف بعد الدفن . ولم يقل بذلك أحد إلا ما رواه ابن عبد الحكم عن مالك ، وروى عن بعض الصحابة (وقال) الجمهور : لا يطلب استئذان المنصرف بعد الدفن ( لقول) زيد بن ثابت رضى الله عنه : إذا صليت فقد قضيت الذي عليك . ذكره البخاري معلقا . ووصله سعيد بن منصور من طريق عروة عن زيد بن ثابت قال : إذا صليتم على الجنازة فقد قضيتم ما عليكم فخلوا بينها وبين أهلها(1) أى قضيتم حق الميت . فمن أراد الاتباع زيادة في الأجر فله ذلك 0 وقال: حميد بن هلال ما علمنا على الجنازة إذنا ولكن من صلى ثم رجع فله قيراط . ذكره البخاري معلقا(2).
(
__________
(1) انظر ص 125 ج3 فتح البارى ( فضل ابتاع الجنائز) واراد البخارى بذكر هذين الثرين الرد على قول ابى هريرة : أميران وليسا بأميرين الرجل يكون مع الجنازة يصلى عليها فليس له أن يرجع حتى يستأذن وليها ( الثر ) اخرجه عبد الرازق من طريق عمرو بن شعيب وهو منقطع موقوف (وقد) ورد مثله مرفوعا من حديث جابر . أخرجه البزار بسند فيه مقال . ومن حديث ابى هريرة مرفوعا بسند ضعيف . وهو الحديث رقم 487 ( انظر ص 125 ج3 فتح البارى ) ( الشرح)
(2) انظر ص 125 ج3 فتح البارى ( فضل ابتاع الجنائز) واراد البخارى بذكر هذين الثرين الرد على قول ابى هريرة : أميران وليسا بأميرين الرجل يكون مع الجنازة يصلى عليها فليس له أن يرجع حتى يستأذن وليها ( الثر ) اخرجه عبد الرازق من طريق عمرو بن شعيب وهو منقطع موقوف (وقد) ورد مثله مرفوعا من حديث جابر . أخرجه البزار بسند فيه مقال . ومن حديث ابى هريرة مرفوعا بسند ضعيف . وهو الحديث رقم 487 ( انظر ص 125 ج3 فتح البارى ) ( الشرح)(1/360)
وبهذا ) قال الجمهور لإطلاق أحاديث الباب ( وقالت) المالكية : يكره الانصراف عن الجنازة قبل الصلاة عليها ولو بإذن أهلها لما فيه من الطعن في الميت وإن طولوا . ويكره الانصراف بعد الصلاة بلا إذن أهلها إن لم يطولوا ولا يكره بعدها إن أذنوا أو طولوا ولو لم يأذنوا(1).
2- حكم صلاة الجنازة : هي فرض كفاية بالكتاب والسنة والإجماع قال الله تعالى : " وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُم "(2) والحمل على المفهوم الشرعي أولى ( وعن) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين فيسأل : هل ترك لدينه فضلا ؟ فإن حدث أنه ترك وفاء صلى وإلا قال للمسلمين صلوا على صاحبكم( الحديث ) أخرجه الشيخان(3). {488 }
وقد نقلوا الإجماع على أن الجنازة فرض كفاية إلا ما حكى عن بعض المالكية من أنها سنة ، وهذا متروك لا يلتفت إليه(4) . وقد واظب النبي صلى الله عليه وسلم واصحابه رضى الله عنه والأمة من لدن النبي صلى الله عليه وسلم يومنا هذا عليها .
(3) سببها : سبب لزومها الميت المسلم ، لأنها شرعت قضاء لحقه فيصلى على كل مسلم مات بعد الولادة صغيرا كان أم كبيرا ذكرا أم أنثى إلا البغاة وقطاع الطريق ونحوهم ، ولا يصلى على من ولد ميتا . وإن مات في حال ولادته ، فإن كان خرج أكثره صلى عليه وإن كان اقله لم يصل عليه اعتبارا للأغلب (5) .
(
__________
(1) انظر ص 172 ج1 صغير الدرديرى
(2) التوبة : 103
(3) انظر ص 414 ج9 فتح البارى ( قول النبى صلى الله عليه وسلم : من ترك كلا أو ضياعا فإلى – النفقات ) وص 59 ج11 نووى مسلم ( الفرائض )
(4) انظر ص 311 ج1 بدائع الصنائع
(5) انظر ص 212 ج5 مجموع النووى .(1/361)
4) شروطها : هي عامة وخاصة (أ) فالعامة هي ما يشترط للمكتوبة إلا الوقت فيشترط لها الطهارة الحقيقية والحكمية واستقبال القبلة وستر العورة والنية حتى إنهم لو صلوا على جنازة والإمام غير طاهر فعليهم إعادتها لأن صلاة الإمام غير جائزة ، فكذا صلاتهم لأنها مبنية على صلاته . ولو كان الإمام متطهرا والقوم على غير طهارة جازت صلاة الإمام وليس عليها إعادتها لأن حق الميت تأدى بصلاة الإمام ، ولو تحروا على جنازة فأخطئوه القبلة جازت صلاتهم لأن المكتوبة تجوز فهذه أولى وإن تعمدوا خلافها لم تجز لأن استقبال القبلة شرط لا يسقط حالي الاختيار كما في سائر الصلوات(1) .( وشذ) قوم فقالوا : يجوز أن يصلى على الجنازة بغير طهارة ، وبه قال الشعبي وابن جرير الطبري والشيعة . ظنوا أن اسم الصلاة لا يتناول صلاة الجنازة ، وإنما يتناولها اسم الدعاء إذ ليس فيها ركوع ولا سجود وهو قول خرق الإجماع فلا يلتفت إليه(2) .
(فائدة) من وجد الماء لكنه خاف باستعماله فوات صلاة الجنازة أيباح له التيمم ؟ قال النعمان وسفيان الثوري والأوزاعى وجماعة : يتيمم ويصلى على الميت وهو رواية عن أحمد لما روى عن ابن عمر رضى الله عنهما أنه أتى بجنازة وهو على غير وضوء فتيمم ثم صلى عليها . أخرجه البيهقى في المعرفة وقال : وهذا لا أعلمه إلا من هذا الوجه ، فإن كان محفوظا فإنه يحتمل أن يكون ورد في سفر وإن كان الظاهر خلافه(3). {489 }
__________
(1) انظر ص 315 ج1 بدائع الصنائع 0 بيان ما تصح به وما تفسد )
(2) انظر ص 223 ج5 مجموع النووى
(3) انظر ص 230 ج1 – الجوهر النقى على البيهقى .(1/362)
وتقدم نحوه عن ابن عباس في بحث ما يباح بالتيمم(1) . والموقوف في هذا كالمرفوع لأنه لا يقال من قبل الرأي( وقال) مالك الشافعي : لا يتيمم للجنازة مع وجود الماء ولو خاف فوتها قياسا على سائر الصلوات وهى رواية عن أحمد . ولو كان المصلى ولى الميت لا يباح له التيمم مع وجود الماء اتفاقا لأن له حق الإعادة فر خلاف الفوت ومبني الخلاف تم صلاة الجنازة لا تقضي عند الحنيفين وعند غيرهم تقضي بخلاف الجمعة لانه فرض الوقت قائم وهو الظهر وبخلاف سائر الصلوات لأنها تفوت إلي خلف وهو القضاء الفائت إلي خلف قائم معني وسجده التلاوة ولا يخاف فوتها رأسا لانه ليس لآبائها وقت معين(2) .
( واستدل) من برى اشتراط الطهارة بعموم قول الله تعالى " وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداًد"(3) فسماها صلاة وقوله تعالى " إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ "(4) وقوله صلى الله عليه وسلم ك لا يقبل الله صلاة بغير طهور(5) ولأنها لما افتقرت إلي شروط الصلاة دل على أنها صلاة وكون معظم مقصودها الدعاء لا يخرجها عن كونها صلاة .
(وأجاب ) الأولون بأن صلاة الجنازة خصت بجواز التيمم لمن خاف فوتها باستعمال الماء بما تقدم عن ابن عمر وابن عباس .
__________
(1) انظر رقم 460 بص 432 ج1 – الدين الخالص طبعة ثانية .( التيمم لخوف فوت صلاة الجنازة )
(2) انظر ص 51 ج1 بدائع الصنائع .
(3) التوبة : 84 .
(4) المائدة : 6
(5) هذا بعض حديث أخرجه السبعة إلا البخارى عن ابن عمر وتقدم تاما رقم 330 بص 268 ج1 – الدين الخالص طبعة ثانية . ( أقسام الوضوء)(1/363)
ب- وشروطها الخاصة : أربعة ( الأول) إسلام الميت فلا يصلى على كافر لقوله " وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ " ( الثاني ) طهارة الميت فلا تصح على غير شهيد لم يغسل إلا إذا دفن بغير غسل ولم يمكن إخراجه إلا بالنبش فإنه يصلى على قبره بغير غسل للضرورة عند الحنفيين والحنبلييم فاشبه على الغريق قبل الغسل كالغائب البعيد ، لأن الغسل تعذر لمانع فأشبه الحي إذا عجز عن الغسل والتيمم صلى على حسب حاله(1) ( وقالت) المالكية : الغسل والصلاة متلازمان في الطلب فكل من وجب غسله وجبت الصلاة عليه وبالعكس . وليسا متلازمين في الفعل وجودا وعدما لأنه قد يتعذر الغسل وتجب عليه الصلاة . ومن دفن بلا غسل نبش قبره وأخرج المغسل ما لم يتغير وإلا صلى على قبره بلا غسل ( وقالت ) الشافعية : لا يصلى على غير الشهيد بلا غسل مطلقا . فلو مات في بئر أو انهدم عليه جدار ونحوه وتعذر إخراجه وغسله لم يصل عليه . وتصح الصلاة بعد غسله قبل تكفينه مع الكراهة .(2)
(
__________
(1) انظر ص 355 ج3 ج2 شرح المقنع .
(2) انظر ص 222 ج5 مجموع النووى .(1/364)
الثالث ) وضع الميت أمام المصلى عليه فلا تصح على محمول على الأعناق أو الدابة ولا على موضوع خلف المصلى عند الحنفيين وهو المعتمد عند مالك مطلقا والصحيح عند الشافعية والحنبلية إذا كان الجنازة حاضرة ، فإن صلى عليها وهى على أعناق الرجال لم تجز عند الثلاثة وعلى المعتمد عند مالك ( وقال) الأمير : الأظهر أنه لا يشترط وضعها عن أعناق الرجال . ولو تقدم المصلى على الجنازة عليها وهى حاضرة أو صلى على القبر وتقدم عليه ففيه وجهان عند الشافعية ( أصحهما )بطلان صلاته وقيل يجوز إن قلنا بجواز إن قلنا بجواز التقدم على الإمام وإلا فلا وهو الصحيح . ولو صلى المأموم قدام الإمام وقدام الجنازة فإن أبطلنا صلاة المنفرد إذا تقدم على الجنازة فهذا أولى . وإلا ففيه القولان في تقدم المأموم على الإمام والصحيح بطلانها عند غير مالك . فحصل من هذا أنه متى تقدم على الجنازة أو القبر أو الأمام فالصحيح بطلان صلاته(1) وإن كان الميت في أحد جانبي البلد لم يصل عليه من في الجانب الآخر لأنه يمكنه الحضور للصلاة عليه أو على قبره كما لو كانا في جانب واحد . وعن أحمد يجوز كما لو كان الميت في بلد أخرى(2).
__________
(1) انظر ص 227ج5 مجموع النووى
(2) انظر ص 355 ج2 شرح المقنع .(1/365)
الصلاة على الغائب : (الرابع) من شروط صحة الصلاة على الجنازة حضور الميت كله أو جله فلا تصح على غائب عند الحنفيين ومالك وروى عن أحمد لأنه كالإمام " وقال " الشافعي وجمهور السلف : تجوز الصلاة على الغائب وهو المشهور عن أحمد ( لحديث ) أبي هريرة صلى الله عليه وسلم نعى الناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى فصف أصحابه وكبر أربع تكبيرات(1). أخرجه السبعة . {490 }
(وعن) عطاء عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مات اليوم عبد الله صالح أصحمة فقوموا عليه . فقام فأمنا فصلى عليه . أخرجه أحمد والشيخان(2) . {491 }
__________
(1) تقدم رقم 397 ص 283 ( نعى الميت) و(نعى النجاشى) أى أخبرهم بموته ( فى اليوم الذى مات فيه ) كان ذلك فى رجب سنة تسع وقيل كان قبل الفتح . والمراد بالمصلى مصلى العيدين ببطحان ( لحديث) ابى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال إن النجاشى قد مات فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه إلى البقيع فصفنا خلفه وتقدم النبى صلى الله عليه وسلم فكبر اربع تكبيرات . اخرجه ابن ماجه ما نظر ص 240 ج1 ( ما جاء فى الصلاة على النجاشى 9 والمراد بالبقيع بطحان . ويحتمل أن المراد بالمصلى مصلى الجنائز وبقيع الغرقد .
(2) انظر ص 219 ج7- الفتح الربانى ( الصلاة على الغائب ) وص 132 ج7 فتح البارى ( موت النجاشى ) وص 22 ج7 نووى ( التكبير على الجنازة ) . (وأصحمة) بفتح فسكون الصاد وفتح الحاء المهملتين ومعناه بالعربية عطية . وغلط من قال إنه اضخمة بالخاء المعجمة .(1/366)
والأحاديث في هذا كثيرة وهى صريحة في جواز الصلاة على الميت الغائب سواء أصلى عليه في البلد التي مات فيها أم لا . وساء أكانت البلد التي مات فيها جهة القبلة أم لا وهذا هو الراجح " وقال" ابن تيمية : الصواب أن الغائب إن مات ببلد لم يصل عليه فيه صلى عليه كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي لأنه مات بين الكفار ولم يصل عليه . وإن صلى عليه حيث مات لم يصل عليه صلاة الغائب وفى مذهب أحمد ثلاثة أقوال : أصحها هذا التفصيل والمشهور عند أصحابه الصلاة عليه مطلقا(1) . ( وقالوا ) : تتوقت الصلاة عليه بشهر كالصلاة على القبر لأنه لا يعلم بقاؤه من غير تلاش أكثر من ذلك(2) .
( وأجاب) الأولون عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي وزيد ابن حارثة وجعفر بن أبي طالب – لما استشهدوا بمؤتة(3) – بأنه كشف للنبي صلى الله عليه وسلم حتى رآهم وصلاة المأموم على ميت يراه الإمام دونه لا يمنع الاقتداء (روى) أبو المهلب عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن أخاكم النجاشي توفى فقوموا فصلوا عليه . فقام النبي صلى الله عليه وسلم وصفوا خلفه فكبر أربعا وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه . أخرجه ابن حبان في صحيحه(4). {492 }
(
__________
(1) انظر ص 145 ج1 زاد المعاد ( لم يكن من هدية الصلاة على كل ميت غائب ) .
(2) انظر ص 392 ج2 مغنى ابن قدامة .
(3) مؤتة) بضم فيكون موضع بالشام كان بها غزوة تقدم بيانها بهامش ص 91 ج4 – الدين الخالص ( السفر يوم الجمعة) .
(4) انظر ص 122 ج3 فتح البارى ( الشرح)(1/367)
وعن) عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر قالا : لما التقى الناس بمؤته جلس النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر وكشف له ما بينه وبين الشام فهو ينظر إلى معتر كهم فقال صلى الله عليه وسلم : أخذ الراية زيد بن حارثة فمضى حتى استشهد ، فصلى عليه ودعا له . وقال : استغفروا له دخل الجنة وهو يسعى . ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب فمضى حتى استشهد فصلى عليه ودعا له وقال : استغفروا له دخل الجنة وهو يطير فيها بجناحين حيث شاء . أخرجه الواقدى في المغازى(1) . {493 }
(
__________
(1) انظر ص 384 ج2 نصب الراية .(1/368)
ومنهم) من أجاب بأن هذا خاص بالنجاشي لإشهار أنه مات مسلما . ويدل على ذلك أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على غائب سوى النجاشي ( وما روى) أنه صلى على معاوية بن معاوية الليثى وهو غائبا يصح(1) ( وأيضا) لم يثبت عن أحد الصحابة أنه صلى على غائب . ولا صلى أحد منهم – ممن كان غائبا عن المدينة – على النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب ( ورد) بأن هذا لا يفيد القطع بالخصوصية وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم صلى على زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب ( وقال) النووي : لو فتح باب هذا الخصوص لا نسد كثير من ظواهر الشرع لاحتمال انحراف العادة في تلك القضية ، مع أنه لو كان شيء مما ذكروه لتوفرت الدواعي على نقله (قال) ابن العربي قالت المالكية : ليس ذلك إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم ( قلنا) وما عمل به محمد تعمل به أمته . يعنى لأن لأصل عدم الخصوصية .(قالوا) طويت له الأرض وأحضرت الجنازة بين يديه( قلنا) إن ربنا عليه لقادر وإن نبينا صلى الله عليه وسلم لأهل لذلك .
__________
(1) وما روى ... الخ) يشير الى ما رواه العلاء بن زيدل أو ابن زيد عن أنس أنهم كانوا فى تبوك فأخبر جبريل النبى صلى الله عليه وسلم بموت معاوية بن معاوية فى ذلك اليوم وأنه وقد نزل عليه سبعون الفا يصلون عليه فطويت الأرض للنبى النبى صلى الله عليه وسلم حتى ذهب فصلى عليه ثم رجع ( قال النووى) حديث ضعيف ضعفه البخارى والبيهقى واتفق الحفاظ على ضعف العلاء وأنه منكر الحديث ( انظر ص 253 ج5 مجموع النووى) وقال على بن المدينى : العلاء بن زيد كان يضع الحديث وقال ابو حاتم : متروك الحديث حديثه ليس بالقائم .(1/369)
ولكن لا تقولوا إلا ما رويتم ولا تخترعوا حديثا من عند أنفسكم ولا تحدثوا إلا بالثابتات ودعوا الضعاف فإنها سبيل إتلاف ( وقال) الكرمانى قولهم – رفع عنه الحجاب – ممنوع ولئن سلمنا فكان غائبا عن الذين صلو عليه مع النبي صلى الله عليه وسلم(1) ( ويؤيده) حديث مجمع بن جارية الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أن أخاكم النجاشي قد مات فقوموا فصلوا عليه فصفنا خلفه صفين وما نرى شيئا . أخرجه ابن ماجه والطبرانى بسند صحيح رجاله ثقات(2). {494 }
وأجاب بعض الحنفيين عن ذلك بما تقدم من أنه يصير كالميت الذي يصلى عليه الإمام وهو يراه المأمومون فغنه جائزا اتفاقا(3).
فائدة : لو صلى إنسان على أموات المسلمين في أقطار الأرض الذين ماتوا في يومه ممن تجوز الصلاة عليهم جاز وكان حسنا مستحبا لأن الصلاة على الغائب صحيحة على ما علمت . ومعرفة الموتى وأعدادهم ليست شرطا(4).
(5)- وقت الصلاة الجنازة : ليس لها وقت محدود بل يصلى عليها متى حضر ولو في أوقات النهى عند الحنفيين والشافعي " لحديث " على رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ثلاث لا يؤخرون : الصلاة إذا أتت والجنازة إذا حضرت والأيم إذا وجدت كفئا . أخرجه أحمد والحاكم والترمذى وقال غريب ليس بمتصل(5) { 495 }
__________
(1) انظر ص 122 و 123 ج3 فتح البارى ( الصفوف على الجنازة)
(2) انظر ص 240 ج1 - ابن ماجه( الصلاة على النجاشى ) وص 123 ج3 فتح البارى ( الشرح ) .
(3) انظر ص 123 ج3 فتح البارى .
(4) انظر ص 268 ج5 مجموع النووى .
(5) تقدم رقم : ص 264(1/370)
فتجوز صلاة الجنازة في كل الأوقات ولا تكره في أوقات النهى ولكن يكره أن يتحرى صلاتها في هذه الأوقات بخلاف ما إذا حصل ذلك اتفاقا(1) . ( وعن) ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها فإنها تطلع بين قرني شيطان . فإذا طلع حاجب الشمس فلا تصلوا حتى تبرز . وإذا غاب حاجب الشمس فلا تصلوا حتى تغيب . أخرجه مالك وأحمد والنسائي بسند حسن(2). {496 }
( وقالت) المالكية : لا تكره صلاة الجنازة وقت الاستواء ولا بعد صلاة الصبح قبل الإسفار ولا بعد صلاة العصر قبل الاصفرار وتكره بعدهما . وتحرم وقت الطلوع والغروب إلا إن خيف تغيرها فتجوز ( وقالت) الحنبلية : تجوز صلاة الجنازة بلا كراهة في كل وقت إلا وقت الطولع والاستواء والغروب فتكره " لحديث " عقبة بن عامر قال : ثلاث ساعات كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلى فيهن أو نفبرفيهن موتانا : حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع ، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب . أخرجه البيهقى والجماعة إلا البخاري(3). {497 }
(
__________
(1) انظر ص 213 ج5 مجموع النووى .
(2) انظر ص 297 ج2 – الفتح الربانى ( النهى عن الصلاة عند الطلوع والغروب ) وص 65 ج1 مجتبى ( النهى عن الصلاة عند طلوع الشمس)
(3) انظر ص 32 ج4 بيهقى ( من كره الصلاة والقبر فى الساعات الثلاث ) وص 289 ج2 الفتح الربانى (اوقات النهى) وص 114 ج6 نووى مسلم . وص 25 ج9 المنهل العذب ( الدفن عند طلوع الشمس وعند غروبها ) وص 283 ج1 مجتبى ( الساعات التى نهى عن اقبار الموتى فيهن ) وص 144 ج2 تحفة الأحوذى 0 كراهية الصلاة على الجنازة عند الطلوع والغروب ) وص 238 ج1 – ابن ماجه ( الأوقات التى لا يصلى فيها على الميت ولا يدفن 9 .( وتضيف 9 بضاد مفتوحة فياء مشددة أى تميل .(1/371)
وقال) الترمذى حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم يكرهون الصلاة على الجنازة في هذه الساعات ( وقال) ابن المبارك معنى هذا الحديث : أو أن نقبر موتانا – يعنى الصلاة على الجنازة وكره الصلاة على الجنازة عند طلوع الشمس وعند غروبها وإذا انتصف النهار حتى تزول الشمس وهو قول أحمد واسحق ( وقال) الشافعي : لا باس أن يصلى على الجنازة في الساعات التي يكره فيهن الصلاة ( حمل ) الترمذى قوله أن نقبر فيهن موتانا على صلاة الجنازة واستند إلى قول ابن المبارك وحمله أبو داود على الدفن الحقيقي حيث ذكره تحت باب الدفن عند طلوع الشمس وعند غروبها ( قال ) النووي : قال بعضهم إن المراد بالقبر صلاة الجنازة وهذا ضعيف لأن صلاة الجنازة لا تكره في هذا الوقت بالإجماع فلا يجوز تفسير الحديث بما يخالف الإجماع بل الصواب أن معناه تعمد تأخير الدفن إلى هذه الأوقات كما يكره تعمد تأخير العصر إلى اصفرار الشمس بلا عذر . فأما إذا وقع الدفن في هذه الأوقات بلا تعمد فلا يكره(1).
(
__________
(1) انظر ص 114 ج6 نووى مسلم ( الجنائز ) .(1/372)
ولكن) دعوى الأجماع على عدم كراهة صلا الجنازة في هذه الأوقات غير مسلم ( فقد) قال بكراهتها فيها ابن المبارك وأحمد وأسحق ( قال) الخطابي : ذهب أكثر أهل العلم إلى كراهية الصلاة على الجنائز في الأوقات التي اكره فيها الصلوات . وكأن الشافعي يرى الصلاة على الجنائز أى ساعة شاء من ليل أو نهار وكذا الدفن وقول الجماعة أولى لموافقته الحديث(1) وقد استند من فسر القبر بالصلاة إلى ما في حديث خارجة بن مصعب عن ليث بن سعد عن موسى بن على ابن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر قال : نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلى على موتانا عند ثلاث عند طلوع الشمس ط لحديث " أخرجه أبو حفص عمر بن شاهين في كتاب الجنائز(2).
ولو صحت هذه الرواية لكانت قاطعة للنزاع . ولوجب حمل قوله أن نقبر فيهن موتانا على الصلاة . لكن هذه الرواية ضعيفة لضعف خارجة بن مصعب (قال) في التقريب : متروك وكان يدلس عن الكذابين ويقال إن ابن معين كذبه(3).
__________
(1) انظر ص 313 ج1 معالم السنن ( الدفن عند الطلوع والغروب ) .
(2) انظر ص 250 ج1 نصب الراية .
(3) انظر ص 144 ج2 تحفة الأحوذى 0 الشرح ) .(1/373)
فيكره عند أحمد واسحق وابن المبارك صلاة الجنازة وقت الطلوع والاستواء والغروب إلا إن خيف عليها التغير فتجوز بلا كراهة للضرورة ( وقال ) الحنفيون : يكره تحريما تأديتها في هذه الأوقات الثلاثة إن حضرت قبلها . ولا باس بالدفن في هذه الأوقات فإن صلوا في أحد هذه الأوقات لم يكن عليهم إعادتها لأن صلاة الجنازة لا يتعين لأدائها وقت ن ففي أى وقت صليت وقعت أداء لا قضاء . ولا تكره الصلاة على الجنازة بعد صلاة الفجر وبعد صلاة العصر قبل تغير الشمس لأن الكراهة في هذه الأوقات ليست لمعنى في الوقت فلا يظهر في حق الفرائض . ولو أرادوا أن يصلوا على جنازة وقد غربت الشمس فالفضل أن يبدءوا بصلاة المغرب ثم يصلون على الجنازة لأن العرب آكد منها فكان تقديمه أولى ولأن في تقديم الجنازة تأخير المغرب وهو مكروه(1).
(
__________
(1) انظر ص 316 ج1 بدائع الصنائع ( ما يكره فى صلاة الجنازة )(1/374)
6) مكانها : تجوز صلاة الجنازة في أي مكان طاهر ولو في المسجد بلا كراهة عند الشافعي وأحمد وإسحاق ( لحديث ) عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة قالت : لما توفى سعد بن أبي وقاص وأتى بجنازته أمرت به عائشة أن يمر به عليها فشق به في المسجد ودعت له فأنكره ذلك عليها فقالت ما أسرع الناس إلى القول ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على أبني بيضاء إلا في المسجد سهيل وأخيه . أخرجه البيهقى والسبعة إلا البخاري(1) . { 498 }
( وقال) الترمذى حديث حسن والعمل عليه عند بعض أهل العلم ( قال) مالك : لا يصلى على الميت في المسجد( وقال) الشافعي . يصلى عليه في المسجد واحتج بهذا الحديث .
وبهذا قال ابن حبيب المالكي وجمهور الفقهاء . وقد ورد فيه آثار ( منها ) ما روى هشام بن عرفة عن أبيه قال : ما صلى على أبي بكر إلا في المسجد . أخرجه ابن أبي شيبه وسعيد بن منصور بسند رجاله ثقات (2) .
(وعن) ابن عمر رضى الله عنهما أن عمر رضى الله عنه صلى عليه في المسجد وصلى عليه صهيب . أخرجه البيهقى وابن أبى شيبه(3).
(
__________
(1) انظر ص 247 ج7 – الفتح الربانى ( الصلاة على الجنازة فى المسجد ) وص 28 ج7 نووى . وص 21 ج9 – المنهل العذب . وص 279 ج1 مجتبى . وص 145 ج2 تحفة الاحوذى . وص 238 ج1 – ابن ماجه . وص 51 ج4 بيهقى ( فشق به ) أى ادخل الميت فى وسط المسجد فكأنه شفة نصفين ( فدعت له) أى صلت عليه صلاة الجنازة ففى رواية لمسلم قالت : ادخلوا به المسجد حتى اصلى عليه . وما أنكر عليها الا من لم يبلغهم أن النبى صلى الله عليه وسلم على ابنى بيضاء فى المسجد فلما اخبرتهم بذلك سلموا لها هذا ك وبنو بيضاء ثلاثة : سهل وسهيل وصفوان . وأمهم البيضاء اسمها دعد . وابوهم وهب بن ربيعة القرشى الفهرى ( انظر ص 39 ج7 نووى مسلم ) .
(2) انظر ص 52 ج4 – الجوهر النقى . وص 277 ج2 نصب الراية .
(3) انظر ص 52 ج4 – الجوهر النقى . وص 277 ج2 نصب الراية .(1/375)
وقال) الحنفيون ومالك في المشهور عنه : تكره الصلاة تنزيها على الميت في المسجد سواء أكان الميت والقوم فيه أو القوم فيه والميت خارجه ، لأن المساجد إنما أعدت للمكتوبة وتوابعها كنافلة وتدريس علم . وتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى وصلى على النجاشي(1).
(وعن ) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم : قال من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له . أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والبيهقى(2). {499 }
( وأجابوا) عن حديث عائشة بأن صلاته صلى الله عليه وسلم على أبني بيضاء في المسجد كانت واقعة حال لا عموم لها لجواز أنه صلى الله عليه وسلم كان وقتئذ معتكفا في المسجد أو أنه فعل ذلك لبيان الجواز فلا ينافى الكراهة ولو كان ذلك سنة عامة في كل ميت لكان معلوما للصحابة فلم ينكروا على عائشة أمرها بإدخال جنازة سعد بن أبي وقاص المسجد ولردت عليهم بقولها : كان النهى صلى الله عليه وسلم يصلى على الجنازة في المسجد وما خصت ابن بيضاء بالذكر ( ورد) بأنها لما أنكرت ذلك سلموا لها فدل على أنها حفظت ما نسوه وأن الأمر استقر على جواز الصلاة في المسجد بلا كراهة ( ويؤيده) صلاة الصحابة على أبي بكر وعمر في المسجد( وأجاب ) الأولون : (أ) عن أن النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي خارج المسجد باحتمال أنه كان لضيق المسجد وكثرة المصلين أو لبيان الجواز فلا ينافى الكراهة .
(
__________
(1) انظر رقم 490 ص 360 .
(2) انظر ص 248 ج7 – لفتح الربانى ( الصلاة على الجنازة فى المسجد) وص 24 ج9- المنهل العذب . وص 238 ج1 – ابن ماجه . وص 52 ج4 بيهقى . ( فلا شىء له ) أى من الثوب وفى النسخة الصحيحة فى شىء عليه أى من الأثم .(1/376)
ب) وعن حديث من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له . بأنه ضعيف لا يصح الاحتجاج به(1) (ورد) بأنهم إنما ضعفوه بصالح مولى التوءمة لاختلاطه في آخر عمره ودعوى أنه لم يتميز ما روى عنه قبل الاختلاط وبعده غير صحيح ( فقد) قال ابن معين : صالح مولى التوءمة ثبت حجة سمع منه ابن أبي ذئب قبل أن يخرف . والحديث من رواية ابن أبي ذئب فهو صحيح وحينئذ يجاب عنه بما قال النووي : الذي في النسخ المشهورة المحققة المسموعة من سنن أبي داود : من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء عليه . أى فلا وزر عليه وتكون اللام بمعنى على جمعا بين الروايات (2) وعليه فالحديث من أدلة القائلين بجواز الصلاة على الجنازة خارج المسجد بلا كراهة وهو الظاهر من الأدلة إلا أنها في غير المسجد أفضل لما تقدم من إنكار الصحابة على عائشة أمرها بالصلاة على سعد في المسجد ، فلو كانت الصلاة على الميت فيه مشهورة فاضلة لما أنكروا عليها فإنكارهم يدل على إن المشهور بينهم الصلاة على الجنازة خارج المسجد و يشهد له خروجه صلى الله عليه وسلم إلي المصلى للصلاة على النجاشي(3) . ولم يكن من هدى النبي صلى الله عليه وسلم الراتب الصلاة على الميت في المسجد وإنما كان كما صلى على أبني بيضاء وكي الأمرين جائز والأفضل الصلاة عليها خارج المسجد(4)
(فائدة) تكره الصلاة على الجنازة في المقبرة بين القبور عند جمهور العلماء وقال أبو هريرة وعمر بن عبد العزيز لا تكره . وعن مالك روايتان(5) .
(
__________
(1) ضعيف ) لأن فى سنده صالحا مولى التوءمة تكلم فيه غير واحد قال أحمد ابن حنبل : هذا حديث ضعيف تفرد به صالح مولى التوءمة وهو ضعيف .
(2) انظر ص 40 ج7 نووى مسلم .
(3) انظر ص 193 ج1 بداية المجتهد ( موضع صلاة الجنازة ) .
(4) انظر ص 140 ج1 زاد المعاد
(5) انظر ص 268 ج5 مجموع النووى .(1/377)
7) أركانها : أركان صلاة الجنازة ثمانية ( الأول) النية – وهى لغة العزم على الشيء ، وشرعا العزم عليه مقترنا بفعله . وهى ركن عند المالكية والشافعية وشرط عند الحنفيين وأحمد لقوله تعالى : " وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ "(1) ، فإن الإخلاص هو النية لأنه عمل من أعمال القلب ( ولحديث ) إنما الأعمال بالنيات . أخرجه الشيخان عن عمر(2). {500 }
وقد أجمع العلماء على أنها فرض في مقاصد العبادات ومحلها القلب فلا يتلفظ بها ، بل ينوى مع التكبير الصلاة على هذا الميت أو هؤلاء الأموات إن كانوا متعددين وإن لم يعرف عددهم . ويجب على المأموم نية الاقتداء ولا يشترط نية الفرضية عند غير الشافعية ، ولا يشترط تعيين الميت ولا أنه رجل أو أمرأة ، بل يكفيه نية الصلاة على هذا الميت ، وإن كان مأموما كفاه نية الصلاة على من يصلى عليه الإمام . ولو عين الميت وأخطأ بأن نوى محمدا فكان عليا ، أو رجلا فكان امرأة أو عكسه ، لا تصح صلاته لأنه نوى غير الميت ، وإذا نوى الصلاة على هذا محمد فكان محمودا فوجهان لتعارض الإشارة والنية ، أصحهما الصحة ، ولا يضر اختلاف نية الأمام والمأموم عند الشافعية والحنبلية ، فإذا نوى الإمام الصلاة على حاضر ونوى المأموم على غائب وعكسه ، أو نوى غائبا ونوى المأموم آخر صحت صلاتهما كما صلى الظهر خلف مصلى العصر ( وقال) الحنفيون ومالك : لا يصح صلاة المأموم لعدم اتحاد الصلاة(3).
( الثاني ) التكبيرات الأربع : هي ركن لا تصح صلاة الجنازة إلا بها بالإجماع ( لحديث) جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي فكبر أربعا . أخرجه الشيخان(4). {501 }
(
__________
(1) البينة : آية 5 .
(2) انظر ص 6 ج1 فتح البارى ( بدء الوحى) .
(3) انظر ص 229 ج5 مجموع النووى .
(4) انظر ص 132 ج3 فتح البارى ( التكبير على الجنازة اربعا ) وص 22 ج7 نووى مسلم .(1/378)
وعن) جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كبروا على موتاكم بالليل والنهار أربع تكبيرات . أخرجه أحمد والبيهقى وفيه ابن لهيعة فيه كلام(1). {502 }
(وعن) أبي سلمان المؤذن قال : توفى أبو سريحة فصلى عليه زيد بن أرقم فكبر عليه أربعا وقال : كذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم . أخرجه أحمد بسند جيد(2). {5 03}
(وبهذا ) قال الئمة الأربعة والجمهور . وقد ورد فيه آثار أخر (روى) عبد الرحمن بن أبى ليلى أن زيد بن أرقم كان يكبر على جنائزنا أربعا وإنه كبر على جنازة خمسا ، فسألوه فقال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبرها . أخرجه البيهقى والسبعة إلا البخاري وقال الترمذى : حسن صحيح(3). {5 04}
(وعن) عبد الله بن معقل أن عليا صلى على سهل بن حنيف فكبر عليه ستا ثم التفت إلينا فقال : إنه من أهل بدر . أخرجه الحاكم والبيهقى والطبرانى في الكبير بسند رجاله الصحيح(4). {5 05}
(وعن) ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ثلى على قتل أحد فكبر تسعا تسعا ثم سبعا سبعا ثم أربعا أربعا حتى لحق بالله أخرجه الطبرانى في الكبير والأوسط بسند حسن(5). {5 06}
(
__________
(1) انظر ص 229 ج7 – الفتح الربانى ( عدد تكبير صلاة الجنازة ) وص 36 ج4 بيهقى .
(2) انظر ص 230 ج7 – الفتح الربانى . و( ابو سريحة) بفتح السين اسمه حذيفة ابن اسيد بفتح فكسر .
(3) انظر ص 36 ج4 بيهقى ( من روى: الله اكبر على الجنازة خمسا ) وص 230 ج7 – الفتح الربانى ( عدد تكبير صلاة الجنائز ) وص 36 ج9 – المنهل العذب ( التكبير على الجنازة) وص 281 ج1 مجتبى . وص 140 ج2 تحفة الأحوذى . وص 236 ج1 ابن ماجه ( فيمن كبر خمسا) (فسالوه) فى رواية أبى داود وابن ماجه فسالته وهى تبين أن السائل ابن أبى ليلى
(4) انظر ص 409 ج3 مستدرك وص 36 ج4 بيهقى 0 زيادة التكبير على الأربعة ) وص 34 ج3 مجمع الزوائد ( التكبير على الجنازة)
(5) انظر ص 35 ج3 مجمع الزوائد ( التكبير على الجنازة )(1/379)
وهذا) وقد استقر الأمر وأجمع العلماء على إن التكبير أربع ( قال) أبو وائل : كانوا يكبرون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم سبعا وخمسا وستا ، أو قال أربعا فجمع عمر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأخبر كل رجل بما رأى فجمعهم عمر على أربع تكبيرات . أخرجه البيهقى بسند حسن(1). {507}
وانعقد الإجماع بعد ذلك على أربع ، وما سوى ذلك شاذ لا يلتفت إليه .(وقال) الترمذى : العمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم يرون التكبير على الجنازة أربع تكبيرات ، وهو قول سفيان الثوري ومالك بن انس وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحق (2)، فالتكبيرات الأربع أركان لا تصح صلاة الجنازة إلا بها إجماعا .
فائدتان : (الأولى) لو نقص مصلى الجنازة عن أربع تكبيرات بأن سلم بعد الثالثة ، فإن كان عمدا بطلت صلاته عند الجمهور ، وإن سلم ناسيا كبر الرابعة وسلم (لقول) حميد الطويل : صلى بنا أنس فكبر ثلاثا ثم سلم ، فقيل له فاستقبل القبلة ثم كبر الرابعة ثم سلم ز أخرجه البخاري معلقا(3) ، ولا يشرع فيها سجود السهو ( الثانية ) لو زاد الإمام على الربع التكبيرات لا يتبعه المقتدى بل ينتظر تسليمه ليسلم معه على المختار عند الحنفيين والشافعي ( وقيل) يسلم بمجرد تكبير الإمام الخامسة ولا يتابعه لأن الزائدة على الأربع منسوخ (وقال) زفر : يتابعه لأن مجتهد فيه فيتابع فيه المقتدى إمامه كما في تكبيرات العيدين (ورد) بأن مازاد على الأربع منسوخ فلا يتابعه فيه بخلاف تكبيرات العيدين.
(
__________
(1) انظر ص 37 ج4 بيهقى ( أكثر الصحابة اجتمعوا على اربع )
(2) انظر ص 140 ج2 تحفة الأحوذى . ( ما جاء فى التكبير على الجنازة )
(3) انظر ص 230 ج5 مجموع النووى .(1/380)
هذا) ومن كبر خمسا فإن كان ناسيا لم تبطل صلاته ولا يسجد للسهو ، كما لو كبر أو سبح في غير موضعه ، وإن كان عمدا فوجهان : ( أحدهما) تبطل صلاته لأنه زاد ركنا فاشبه من زاد ركوعا ( والثاني ) لا تبطل وهو الصحيح فقد صحت الأحاديث بأربع تكبيرات وخمس وهو من الاختلاف المباح والجميع جائز ولانه ليس إخلالا بصورة الصلاة فلم تلطل به كما لو زاد الأمام على أربع عمدا لم ينتظره المأموم سواء رآه مذهبا أم لا ، ويكره انتظاره بل يسلمون وصلاتهم جميعا صحيحة ، لأن التكبير في صلاة الجنازة ليس بمنزلة الركعات من كل وجه ، فإن انتظروه فينبغي عدم البطلان ، وإن زاد سهوا أو جهلا يجب انتظاره على المعتمد ، فإن لم ينتظروه فينبغي الصحة ، وإن شكوا أزاد عمدا أم سهوا ؟ انتظروه على الظاهر ، فإن لم ينتظروه فالصلاة صحيحة (1) . (وقالت) الحنبلية : يتابعه في الخامسة فقط في ظاهر المذهب ( وقيل) يتابعه إلى سبع ، وقيل : لا يتابعه في الزائد على أربع ولكن لا يسلم إلا مع الإمام لأنها زيادة غير مسنونة للأمام فلا بتابعه المأموم فيها كالقنوت في الركعة الأولى . والرواية الأولى هي الصحيحة لما تقدم عن زيد بن أرقم أنه كبر على جنازة خمسا وقال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبرها(2).
(
__________
(1) انظر ص 36 ج9 – المنهل العذب المورود ( التكبير على الجنازة) .
(2) انظر ص 350 ج2 – شرح المقنع .(1/381)
الثالث) القيام للقادر عليه – فلا تصح قاعدا أو راكبا بلا عذر عند الحنفيين وأحمد وهو الصحيح عند المالكية والمشهور عند الشافعية ( وقيل) يجوز عندهم القعود فيها مع القدرة على القيام كالنوافل لأنها ليست من فرائض الأعيان . وقيل : إن تعينت عليه لم تصح إلا قائما وإلا صحت قاعدا(1)، أما لو تعذر النزول لطين أو مطر فإنها تصح من الراكب اتفاقا . ولو كان الإمام مريضا فصلى قاعدا والناس قياما صحت صلاتهم عند النعمان وأبي يوسف والشافعية وهو رواية عن أحمد ( لحديث ) عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مرضه الذي مات فيه بالناس جالسا وأبو بكر قائما يقتدي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر . أخرجه الشيخان(2). {5 08}
(وقال) مالك في المشهور عنه ومحمد بن الحسن : تصح صلاة الإمام فقط ،وهى رواية عن أحمد لأنه لا يصح افتداء القائم بالقاعد لعذر عندهم ، لما روى الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يؤمن أحد بعدى جالسا . أخرجه البيهقى والدار قطني وقال : لم يروه غير جابر الجعفى عن الشعبي وهو متروك . والحديث مرسل ى تقوم به حجة(3). {509}
ولأن القيام ركن فلا يصح اقتداء القادر عليه بالعاجز عنه كسائر الأركان (ورد) بأن الحديث لا يحتج به . وقد صلى إماما من جلوس أربعة من الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهم : اسيد بن حضير ، وجابر بن عبد الله ، وقيس ابن فهد ، وأبو هريرة ، كما تقدم(4).
(
__________
(1) انظر ص 222 ج5 مجموع النووى
(2) انظر ص 113 ج2 فتح البارى ( من قام إلى جنب الإمام لعلة ) وص 140 ج4 نووى ( استخلاف الإمام إذا عرض له عذر ) والحديث تقدم تاما بص 121 و122 ج3 – الدين الخالص .
(3) انظر ص 122 ج3 – الدين الخالص .( اقتداء الجالس بالقائم وعكسه )
(4) انظر ص 385 ج1 مستدرك . وص 39 ج4 بيهقى(القراءة فى صلاة الجنازة )(1/382)
الرابع) قراءة الفاتحة – هي ركن بعد التكبيرة الأولى عند الحنبلية ، وهو المشهور عند الشافعية ( لحديث) جابر بن عبد الله قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر على جنائزنا أربعا ، ويقرأ بفاتحة الكتاب في التكبيرة الأولى . أخرجه البيهقى والحاكم وهذا لفظه ن وفيه إبراهيم بن محمد وهو متروك عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، وفيه كلام وقد تغير أخيرا(1). {510}
(وعن) أسماء بنت يزيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا صليتم على الجنازة فاقرءوا بفاتحة الكتاب . أخرجه الطبرانى في الكبير وفيه معلى بن حمران قال الهيثمى : لم أجد من ذكره وبقية رجاله موثقون وفى بعضهم كلام(2) . {511}
(قال) طلحة بن عبد الله بن عوف : صليت مع ابن عباس على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب فقال : إنها من السنة . أخرجه البخاري والثلاثة وابن حبان والحاكم والبيهقى وصححه الترمذى . {512}
وقال : والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من الصحابة وغيرهم : يختارون أن يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وقال بعضهم : لا يقرأ في الصلاة على الجنازة ، إنما هو الثناء على الله تعالى والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم ، والدعاء للميت . وهو قول الثوري وغيره من أهل الكوفة .
(
__________
(1) انظر ص 32 ج3 مجمع الزوائد ( الصلاة على الجنازة ) .
(2) انظر ص 132 ج3 فتح البارى ( قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة ) وص 37 ج9 – المنهل العذب . وص 71 ج1 مجتبى ( الدعاء) وص 142 ج2 تحفة الأحوذى . وص 38 ج4 بيهقى .(1/383)
وقول) الصحابي : من السنة كذا في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتقرأ الفاتحة سرا ( لقول) أبي أمامة بن سهل : السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافته ثم يكبر ثلاثا والتسليم عند الآخرة . أخرجه النسائي والطحاوى والبيهقى بسند صحيح(1). {513}
وظاهر كلام المهذب وغيره من الشافعية اشتراط كون الفاتحة في الأولى لكن ذكر القاضي عياض وغيره أن أصل الفاتحة واجب وكونها في الأولى افضل ن ويجوز في الثانية مع إخلاء الأولى منها(2).
(وقال) الحنفيون ومالك : لا قراءة في صلاة الجنازة ( لقول) ابن مسعود : لم يوقت لنا في الصلاة على الميت قراءة ولا قول ، كبر ما كبر الإمام ، وأكثر من طيب الكلام . أخرجه أحمد بسند رجاله رجال الصحيح (3) {514}
(وروى) نافع أن ابن عمر كان لا يقرأ في الصلاة على الجنازة . أخرجه مالك في الموطأ(4). {515}
(وعن) عبد الرحمن بن عوف وابن عمر أنهما قالا : ليس فيها قراءة شيء من القرآن ، ولأنها شرعت للدعاء ومقدمه الدعاء الحمد والثناء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لا القراءة .
( وقول) النبي صلى الله عليه وسلم : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ،ولا صلاة إلا بقراءة ( لا يتناول) صلاة الجنازة لأنها ليست بصلاة حقيقية إنما هي دعاء واستغفار للميت ولأنها ليست بصلاة مطلقة فلا يتناولها مطلق الاسم . وتأويل حديث جابر أنه قرأ على سبيل الثناء لا على سبيل قراءة القرآن . وهذا ليس بمكروه عند الحنفيين(5).
(
__________
(1) انظر ص 281 ج1 مجتبى . وص 288 ج1 طحاوى . وص 39 ج4 بيهقى ( القراءة فى صلاة الجنازة) .
(2) انظر ص 223 ج5 مجموع النووى .
(3) انظر ص 32 ج3 مجمع الزوائد ( الصلاة على الجنازة) .
(4) انظر ص 13 ج2 – الزرقانى على الموطإ ( ما يقول المصلى على الجنازة ) .
(5) انظر ص 313 ج1 بدائع الصنائع .(1/384)
وقال) ابن القيم : ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر إن يقرا على الجنازة بفاتحة الكتاب ولا يصح إسناده ز قال شيخنا : لا يجب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة بل هي سنة (1)، والدليل ظاهر فيما ذهب إليه الأولون .
( واجابوا) عن قول ابن مسعود : لم يوقت لنا ن بان معناه لم يقدر . وهذا لا يدل على نفى اصل القراءة ( وقد ) روى ابن المنذر عنه أنه قرأ على جنازة بفاتحة الكتاب وأيضا هو ناف وغيره مثبت والمثبت مقدم على النافي .
(الخامس) الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم – هي ركن عند الشافعية والحنبلية بعد التكبيرة الثانية (لقول) الزهري : أخبرني أبو أمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرا في نفسه ثم يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات لا يقرا في شيء منهن ثم يسلم سرا في نفسه . أخرجه الشافعي في مسنده ، والنسائي والبيهقى وعبد الرازق بسند صححه الحافظ ابن حجر(2). {516}
__________
(1) انظر ص 141 ج1 زاد المعاد .
(2) انظر ص 132 ج3 فتح البارى ( قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة) وص 281 ج1 مجتبى ( الدعاء ) وص 39 ج4 بيهقى( القراءة فى صلاة الجنازة) .(1/385)
واقل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم صل على محمد ، وأكملها اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد . ولا تجب على الآل على المذهب . وقيل تجب وعن الشافعي أنه يكبر الثانية ثم يحمد الله ويصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو للمؤمنين والمؤمنات(1). (وقال) الحنفيون : الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم سنة بعد التكبيرة الثانية ، لما تقدم ، فإنه يدل على اصل المشروعية لا على الوجوب .
(وقال) المالكية : تندب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التكبيرات الأربع ( لقول) ابن شهاب : أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف أنه اخبره رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ويخلص الصلاة في التكبيرات الثلاث ثم يسلم تسليما خفيفا حين ينصرف . والسنة أن يفعل من وراءه مثل ما فعل إمامه . قال الزهري : حدثني بذلك أبو أمامه وابن المسيب يسمع ، فلم ينكر ذلك عليه . أخرجه البيهقى (2) . {517}
(السادس) الدعاء للميت – هو ركن بالإجماع ( لحديث) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء . أخرجه أبو داود وابن ماجه والبيهقى وابن حبان وفى سنده محمد بن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن . ولكن رواه ابن حبان من طريق آخر عنه مصرحا بالسماع ولذا صحح الحديث(3). {518}
__________
(1) انظر ص 235 ج5 مجموع النووى.
(2) انظر ص 40 ج4 بيهقى ( الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم فى صلاة الجنازة) .
(3) انظر ص 40 ج9 – المنهل العذب ( الدعاء الميت ) وص 35 ج1 – ابن ماجه وص 40 ج4 بيهقى ( الدعاء فى صلاة الجنازة ) .(1/386)
ومعنى أخلصوا له الدعاء أى اجعلوه الدعاء له خالصا مقصودا به وجه الله تعالى سواء أكان الميت محسنا أم مسيئا ، فإن العاصي أحوج الناس إلى الدعاء إخوانه المسلمين وأفقرهم إلى شفاعتهم . ولذا قدم بين أيديهم للشفاعة له ولا يكون الإخلاص إلا بصفاء الخاطر من الشواغل الدنيوية وبالخضوع بالقلب والجوارح . ويحتمل أن المعنى خصوا الميت بالدعاء وبه قال جمهور الشافعية ، فيقول : اللهم اغفر له وارحمه ، ونحوه ، وأكثر الفقهاء على جواز تعميم الدعاء لما يأتي في الأحاديث .
( وحديث ) أبي هريرة ليس نصا فيما قاله الشافعية ، فلا يصح حجة لهم . ويكفى أقل الدعاء نحو : اللهم اغفر له ( ويسن) كونه بعد الثالثة عند الحنفيين ( لحديث) فضالة بن عبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يدعو في صلاته لم يحمد الله ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو بعد . أخرجه أحمد والثلاثة والبيهقى والحاكم وصححه الترمذى(1). {519}
وهو واجب بعد التكبيرة الثالثة عند الشافعية والحنبلية ، ولا دليل على تخصيصه بها واقله ما يقع به اسم الدعاء .
الدعاء المأثور : ولا يتعين فيه لفظ سوى أن يكون بأمور الآخرة وإن دعا بالمأثور فما أحسنه (وقد) ورد فيه أحاديث ( منها) حديث عوف بن مالك رضى الله عنه قال : صلى النبي صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظنا من دعائه :
" اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعطف عنه واكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس و أبدله دارا خيرا من داره و أهلا خيرا من أهله وزوجا خيرا من زوجه
__________
(1) انظر ص 8 ج6 مسند احمد . وص 146 ج8 – المنهل العذب المورود ( الدعاء ) وص 289 ج1 مجتبى ( التمجيد والصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم فى الصلاة ) وص 253 ج4 تحفة الأحوذى ( جامع الدعوات 9 وص 47 ج4 بيهقى وص 230 ج1 مستدرك(1/387)
وادخله الجنة و أعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار " . قال عوف : حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت . أخرجه احمد ومسلم والنسائي و الترمذى وابن ماجة والبيهقى(1) . {520 }
( وقال ) أبو هريرة رضى الله عنه : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى على جنازة قال : " اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا و غائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا ، اللهم من أحييته منا فاحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفيه على الإيمان ، اللهم لا تحرمنا اجره ولا تضلنا بعده " . أخرجه احمد والأربعة والبيهقى(2) {521 }
(
__________
(1) انظر ص 237 ج7- الفتح الرباني ( ما يقال من الأدعية في الصلاة على الميت ) وص 30 ج7 نووي ( الدعاء للميت في الصلاة ) وص281 ج1 مجتبى ( الدعاء ) وص 141 ج2 تحفة الاحوذى . وص 235 ج1 – ابن ماجة ( الدعاء في الصلاة على الجنازة ) وص 40 ج4 بيهقى . و ( البرد) بفتحتين ما ينزل من السحاب كصغار الملح أي يطهره بأنواع الرحمة التي نزلت منزلة الثلج والبرد في إزالة الوسخ . وخصهما بالذكر ناكيدا للطهارة لانهما باقيان على خلقتهما لم يستعملا ولم تنلهما الأيدي ( وزوجا ) معطوف على أهلا من عطف الخاص على العام . وهذا خاص بالرجل ولا يقال في الصلاة على المرأة : أبدلها زوجا خيرا من زوجها لجواز إن تكون لزوجها في الجنة . فان المرأة لا يمكن الشركة فيها بخلاف الرجل ( انظر ص 281 ج1 زهر الربى شرح المجتبى ) .
(2) انظر ص 235 ج7- الفتح الرباني ( ما يقال من الأدعية في الصلاة على الميت ) ومن 41 ج9- المنهل العذب ( الدعاء للميت ) وص 281 ج1 مجتبى . وص 141 ج2 تحفة الاحوذى . وص 235 ج1 – ابن ماجة .(1/388)
وحديث أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في الصلاة على الجنازة فقال : " اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت رزقتها وأنت هديتها للإسلام وأنت قبضت روحها وأنت اعلم بسرها وعلانيتها ، جئنا شفعاء له فاغفر له ذنبه " . أخرجه احمد وأبو داود والبيهقى والنسائي في عمل اليوم والليلة بسند جيد (1). { 522 }
( قال ) واثلة بن الاسقع : صلى بنا صلى الله عليه و سلم على رجل من المسلمين فسمعته يقول : " اللهم أن فلان في ذمتك و حبل جوارك فقه من فتنة القبر و عذاب النار و أنت أهل الوفاء و الحق ، اللهم فاغفر له و ارحمه فانك أنت الغفور الرحيم " أخرجه احمد و أبو داود و ابن ماجة بسند جيد (2) {523 }
(
__________
(1) انظر ص 234 ج7 – الفتح الربائى ( ما يقال من الادعيه في الصلاة على الميت ) وص 40 ج9 – المنهل العذب المورود ( لدعاء للميت ) وص 42 ج 4 بيهقى .
(2) انظر ص 234 ج 7 – الفتح الربائى – و ص 42 ج 9 – المنهل العذب المورود ( الدعاء ) للميت ) و ص 235 ج 1 – ابن ماجة . و المراد بذمة الله حفظه و رعايته . و المرد بالحبل العهد أي اجعله في كنف حفظك وعهدك . و الأظهر إن المراد بالحبل القرآن أي انه يتمسك به واقف عند حدود ( لحديث ) ابن عباس أن النبي صلى الله تعالى عليه و على اله و سلم قال : القرآن حبل الله المتين . أخرجه الحاكم و صحيحه . كان من عادة العرب إن يخيف بعضهم بعضا فكان الرجل إذا أراد سفرا اخذ عهدا من سيد كل قبيلة فيأمن به مادام في حدودها حتى ينتهي إلى الآخر فيأخذ مثل ذلك . فهذا حبل الجوار أي العهد و الآمان و النصرة . انظر ص 197 ج 1 نهاية ابن الأثير ( مادة حبل ) .(1/389)
هذا ) وقد جمع الشافعي – من مجموع الأحاديث الواردة – دعاء رتبه و استحبه قال يقول اللهم هذا عبدك وابن عبدك خرج من روح الدنيا وسعتها – ومحبوبة وأحباؤه فيها – إلى ظلمة القبر وما هو لاقيه . كان يشهد إن لا اله إلا أنت وان محمدا عبدك ورسولك وأنت اعلم به . اللهم إنه نزل بك وأنت خير منزول به ، واصبح فقيرا إلى رحمتك وأنت غنى عن عذابه . وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له . اللهم إن كان محسنا فزد إحسانه ، وإن كان سيئا فتجاوز عنه ولقه برحمتك رضاك ، وقه فتنه القبر وعذابه ، و أفسح له في قبره وجاف الأرض عن جنبيه ولقه برحمتك رضاك ، وقه فتنة القبر وعذابه ، و أفسح له في قبره وجاف الأرض عن جبنيه و لقه برحمتك الآمن من عذابك حتى تبعثه آما إلى جنتك برحمتك يا ارحم الراحمين(1) و هذه الأدعية بالنسبة إلى الكبير ( و أما ) غير المكلف فلا يستغفر له بل يدعو بما في حديث أبى هريرة : اللهم اجعله لفقا سلفا و فرطا و أجرا . أخرجه البيهقى(2){524 }
( و قال ) الحسن : يقرا على الطفل بفاتحة الكتاب و يقول : اللهم اجعله لنا فرطا و سلفا و أجرا " أخرجه البخاري(3) .
( و قال ) النووي : إن كان صبيا أو صبية اقتصر على ما في حديث: اللهم اغفر لحينا و ميتنا إلى آخره ، و ضم إليه : اللهم اجعله فرطا لأبويه و سلفا و ذخرا و عظة و اعتبارا و شفعيا و ثقل به موازينهما و أفرغ الصبر على قلوبهما ولا تفتهما بعده و لا تحرمهما أجره(4) .
(
__________
(1) انظر ص 238 ج 5 مجموع النووي . و ( روح الدنيا ) بفتح الراء نسيم الريح . و ( ما هو لاقيه ) أي الملكان و الأهوال و غيرها و( لقه ) بشد القاف أي أنله و أعطه بسبب رحمتك رضاك .
(2) انظر ص 45 ج 4 بيهقى . ( و الفرط ) بفتحتين السابق المهئ للمصالح .
(3) انظر ص 132 ج 3 فتح الباري ( قراءة الفاتحة على الجنازة ) .
(4) انظر ص 238 ج 5 مجموع النووي ( و الذخر ما أعد لوقت الحاجة ) .(1/390)
السابع ) السلام – هو ركن بعد التكبيرة الرابعة – يسلم مرة عند مالك و الشافعي و أحمد . و واجب مرتين يمينا و يسارا ينوى بهما الميت و القوم عند الحنفيين . و أقله : السلام عليكم ( لقول ) ابن مسعود رضى الله عنه : ثلاث خلال كان النبي صلى الله عليه و سلم يفعلهن تركهن الناس إحداهن التسليم على الجنازة مثل التسليم في الصلاة . أخرجه البيهقى و والطبرانى في الكبير بسند جيد رجاله ثقات(1) {525 }
( و قال ) أبو موسى الاشعرى : صلينا مع النبي صلى الله عليه و سلم على جنازة فسلم عن يمينه و عن شماله . أخرجه والطبرانى في الكبير و الأوسط و فيه خالد بن نافع الاشعرى ضعفه أبو زرعة(2) . { 526 }
فالسلام ركن في صلاة الجنازة عند غير الحنفيين لا تصح إلا به لأنها صلاة يلزم لها الإحرام فلزم الخروج منها بالسلام كسائر الصلوات لما تقدم ، ولحديث مالك بن الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : صلوا كما رأيتموني أصلى . أخرجه البخاري(3) { 527 }
__________
(1) انظر ص 43 ج 4 بيهقى ( من قال يسلم عن يمينه و عن يساره ) و ص 34 ج 3 مجمع الزوائد ( الصلاة على الجنازة ) .
(2) انظر ص 34 ج3 مجمع الزوائد .
(3) انظر ص 76ج 2 فتح الباري ( الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة ) .(1/391)
و أما صفة السلام فالواجب عند الحنفيين تسليمتان يمينا ويسارا لما تقدم . والمختار عند مالك سلام واحد .( والمشهور ) عن الشافعي انه يستحب تسليمتان ( وقال ) في ألام: تسليمة واحدة يبدا بها ملتفتا إلي يمينه ويختمها ملتفتا إلى يساره فيدير بها وجهه وهو فيها . وقيل : يأتي بها تلقاء وجهه وهو اشهر(1) ( وقال ) احمد : يسلم تسليمة واحدة وقال : من مسلم عليها تسليمتين فهو جاهل جاهل ويستحب أن يسلمها عن يمينه كسائر الصلوات وإن سلم تلقاء وجهه فلا يأس يقول : السلام عليكم ورحمة الله . وإذا قال : السلام عليكم اجزا . ويسن الإسرار بالسلام عنده . واختار القاضي أن المستحب تسليمتان(2)
( الثامن ) الترتيب بين الأركان – هو فرض عند الشافعي واحمد بان يقرا الفاتحة بعد التكبيرة الأولى ويصلى على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الثانية ويدعو للميت بعد الثالثة ويسلم بعد الرابعة ( وقال ) الحنفيون : يسن الثناء بعد الأولي والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الثانية والدعاء للميت ولنفسه وللمؤمنين بعد الثالثة . ويجب السلام مرتين بعد الرابعة . ( وقالت ) المالكية : يندب الثناء على الله تعالى ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد كل تكبيرة ثم يدعو وجوبا بعدهما في كل تكبيرة ثم يدعو وجوبا بعدهما في كل تكبيرة وفي الرابعة يسلم وجوبا .
{
__________
(1) انظر ص 240 ج5 مجموع النووي .
(2) انظر ص 349 ج2 شرح المقنع .(1/392)
تنبيه } علم مما تقدم إن فرائض صلاة الجنازة عند الحنفيين أربعة : النية وهى شرط والتكبيرات الأربع والقيام المقادر والدعاء . و أما السلام فواجب . وأركانها عند المالكية خمسه : النية والقيام المقادر على المشهور والتكبيرات الأربع والدعاء بينهن والسلام . وعند الشافعي واحمد ثمانية : النية والقيام والتكبيرات وقراءة الفاتحة بعد الأولى والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الثانية والدعاء للميت بعد الثالثة و تسليمة واحدة بعد الرابعة والترتيب(1)
( 8) سنن صلاة الجنازة – هي قسمان : خارج عنها وداخل فيها :
( أ ) فالسنن الخارجة أربع ( 1) قيام الأمام حذاء راس الرجل وحذاء وسط المرأة عند الشافعي واحمد وروى عن النعمان ( لقول ) نافع أبى غالب : مرت جنازة معها ناس كثير قالوا : جنازة عبد الله بن عمير فتبعتها ، فلما وضعت الجنازة قام انس فصلى عليها وأنا خلفه لا يحول بيني وبينه شئ ، فقام عند رأسه فكبر أربع تكبيرات لم يعطل ولم يسرع ثم ذهب يقعد فقالوا : يا أبا حمزة : المرأة الأنصارية فقربوها وعليها نعش اخضر فقام عند عجيزتها فصلى عليها نحو صلاته على الرجل ثم جلس ، فقال العلاء بن زياد : يا أبا حمزة هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى على الجنازة كصلاتك يكبر عليها أربعا ويقوم عند راس الرجل و عجيزة المرأة ؟ قال : نعم
(
__________
(1) انظر ص 374 ج2 مغنى ابن قدامة .(1/393)
الحديث ) وفيه قال أبو غالب : فسالت عن صنيع انس في قيامه على المرأة عند عجيزتها فحدثوني انه إنما كان لانه لم تكن النعوش ، فكان الإمام يقوم حيال عجيزتها يسترها من القوم . أخرجه أبو داود والبيهقى مطولا واحمد والطحاوى و الترمذى وابن ماجه مختصرا وحسنه الترمذى(1) {528 }
(
__________
(1) انظر ص 28 ج9 – المنهل العذب ( ابن يقوم الامام من الميت إذا صلى عليه ؟ ) وص 23 ج 4 بيهقى . وص 204 ج3 مسند احمد .وص 283 ج1 طحاوى ( الرجل يصلى على الميت اين يقوم منه ؟ ) وص 146 ج2 تحفة الاحوذي و ص 224ج1- ابن ماجه ( تين يقوم الامام اذا صلي علي جنازه ؟) ( والنعش) في الاصل وما يحمل فيه والمراد هنا ثوب يوضع علي اعواد من جريد او قصب او خشب كالقبه فوق سرير المرأه لسترها وأول من فعل له ذلك فاطمه بنت النبي صلي الله عليه وسلم ( روت) ام جعفر بنت محمد ان فاطمه بنت النبي صلي الله عليه وسلم يا اسما ني قد استقبحت ما يصنع بالنساء انه يطرح علي المرأه الثوب فيصفها فقالت اسماء الا اريك شيئا رايته بارض الحبشه ؟ فدعت بجرائد رطبه فحنتها . ثم طرحت عليها ثوبا فقالت فاطمة رضى الله عنها : ما احسن هذا واجملة ! يعرف به الرجل من لارماة فاذا انا مت فاغسلينى انت وعلى رضى الله عنه ولا تدخلى على احدا . فاما توفيت جاءت عائشة رضى الله عنها تدخل فقالت اسماء : لاتدخلى . فشكت لابى بكر فقالت : إن هذه الخثعمية تحول بينى وبين ابنة رسول الله صلى الله عنه وسلم وقد جعلت لها مثل هودج العروس ، فجاء ابو بكر رضى الله عنه فوقف على الباب وقال ياسماء ما حملك ان منعت أزواج النبى صلى الله عنه سولم وجعلت لها مثل هودج العروس ؟ فقالت : امرتنى الا تدخلي على أحدا واريتها هذا الذى صنعت وهى حية فأمرتني ان اصنع ذلك لها فقال ابو بكر رضى الله عنه فاصنعي ما أمرتك ثم انصرف وغسلها على اسماء رضى الله عنهما . اخرجه البيهقى انظر ص 34 ج4 .(1/394)
قال) الطحاوي : وهذا احب إلينا فقد قوته الآثار التي روينها عن النبي صلي الله عليه وسلم
( ومشهور) مذهب الحنفين إن ألسنه وقوف المصلي إماما أو منفردا حذاء صدر الميت ذكرا كان أو أنثي ( لقول ) سمره بن حندب : صليت وراء النبي صلي الله عليه وسلم علي أمرأه ماتت في نفسها فقام عليها للصلاه وسطها . أخرجه السبعة والبهيقي(1) {529 }
(ووجهه) إن الصدر هو وسط البدن لان الرجلين والرأسين من الأطراف والبدن من العجيزه إلي الرقبه فكان وسطه الصدر , والقيان بحذاء الوسط أولى ليستوي الجانيان في الحظ من الصلاة ولان اللقب معدن العلم و الحكمه فالوقوف بحياله أولي(2) .( و أجابوا ) عن قيام انس حيال عجيزة المرأة بان جنازتها لم تكن مستورة بقبه ونحوها يقوم الإمام حيال العجيزه ليسترها عن أعين الناس . و أما ألان فقد اتخذت القباب علي جنازة المراه فلا داعي لقيام الإمام عند العجيزه , بل يقف عند الصدر كما وقف النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على النفساء .
(
__________
(1) انظر ص 244 ج7 – الفتح الربائى ( موقف المصلى من الرجل والمرأة ) وص 131 ج3 فتح الباري ( أين يقوم من المرأة والرجل ؟ ) ومن 31 ج7 نووي . وص 33 ج9 المنهل العذب . وص 280 ج1 مجتبى ( الصلاة على الجنازة قائما ) وص 147 ج2 تحفة الاحوذى . وص 234 ج1 – ابن ماجه . وص 34 ج4 بيهقى ( ما ورد في النعش للنساء )
(2) انظر ص 312 ج1 بدائع الصنائع .(1/395)
ويدل ) لهذا التأويل ما تقدم في أخر الحديث من قول أبي غالب : سالت عن صنيع انس في قيامه على المرأة عند عجيزتها فحدثوني انه إنما كان لانه لم تكن النعوش فكان الإمام يقوم حيال عجيزتها يسترها عن القوم( ولكن) يرد هذا التأويل قوله في الحديث: وعليها نعش اخضر ( وقالت) المالكية : السنة أن يقف المصلى عند وسط الذكر وحذو منكبي غيره لئلا يتذكر ما ينافى الصلاة إذا وقف عند وسط المرأة ( قالوا ) ووقوفه صلى الله عليه وسلم عند وسط المرأة لعصمته من تذكر ما ينافى الصلاة ويجعل الإمام راس الميت عن يمينه إلا في الروضة الشريفة فيجعل رأسه عن يساره بحاه راس النبي صلى الله عليه وسلم .
( والظاهر ) الذي تشهد له الأدلة ما ذهب إليه الأولون من إن الإمام يقف عند عجيزة المرأة لانه ابلغ في صيانتها عن الباقين ويقف عند صدر الرجل .
( 2، 3) ويسن إن يصلى على الميت جماعه ثلاثة صفوف ( لحديث) مرئد ابن عبد الله اليزنى عن مالك بن هبيرة إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من مؤمن يموت فيصلى عليه ثلاثة صفوف . أخرجه احمد وأبو داود وابن ماجه والبيهقى والحاكم وصححه ، والترمذى وحسنه(1) {530 }
__________
(1) انظر ص 201 ج 7- الفتح الربائى ( ما يرجى للميت بكثرة المصلين عليه ) وص 328 ج8- المنهل العذب ( الصفوف على الجنازة ) وص 234 ج1 – ابن ماجه ( من صلى عليه جماعة من المسلمين ) وص 30 ج 4 بيهقى ( ما يرجى للميت في ثكرة من يصلى عليه ) وص 143 ج2 تحفة الاحوذى . و( مرئد ) بفتح فسكون ففتح . ( وهبيرة ) بالتصغير . و ( أوجب ) أي أوجب اصطفافهم المغفرة أو الجنة للميت . وفي رواية احمد : إلا غفر له .(1/396)
وهذا متفق عليه ، وكلما كثر الجمع كان افضل ( لحديث ) ابن عباس إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه . أخرجه احمد ومسلم وأبو داود والبيهقى(1) { 531 }
( وحديث ) عائشة رضى الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يموت أحد من المسلمين فيصلى عليه أمة من الناس يبلغون إن يكونوا مائة فيشفعوا له إلا شفعوا فيه . أخرجه احمد ومسلم والنسائي والترمذى وقال حديث حسن صحيح (2) { 532 }
ففي هذه الأحاديث الترغيب في الصلاة على الميت جماعة وفي كثرة المصلين عليه وعلى إن من صلى عليه جماعة من المسلمين المخلصين له في الدعاء قبل الله دعاءهم . وقدرت الكثرة في بعض الروايات بثلاثة صفوف واقل الصف اثنان وفي بعضها بأربعين وفي بعضها بمائة . ولا منافاة بينها لان اسم العدد لا مفهموم له . فذكر الأربعين لا ينافى ما دونه ولا ما فوقه .
( وقال ) القاضي عياض : هذه الأحاديث خرجت أجوبة لسائلين سألوا عن ذلك ، فاجاب النبي صلى الله عليه وسلم كل واحد منهم عن سؤاله بما يناسبة . ويحتمل إن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم بقبول شفاعة مائة فاخبر به ، ثم بقبول شفاعة أربعين ، ثم بثلاثة صفوف – وإن قل عددهم – فاخبر به (3) .
(
__________
(1) انظر ص 202 ج8- الفتح الربائى . وص 18 ج7 نووي ( من صلى عليه أربعون شفعوا فيه ) وص 235 ج8 – المنهل العذب ( فضل الصلاة على الجنازة ) وص 30 ج 4
(2) انظر ص 202 ج7 – التفح الربائى . وص 17 ج7 نووي . وص 281 ج1 مجتبى ( فضل من صلى عليه مائة ) وص 143 ج2 تحفة الاحوذى ( كيف الصلاة على الميت والشفاعة له . و( إلا شفعوا فيه ) بشد الفاء مكسورة مبنى للمفعول أي قبل الله تعالى شفاعتهم فيه .
(3) انظر ص 17 ج7 نووي مسلم(1/397)
قال ) احمد : احب إذا كان فيهم قلة إن يجعلهم ثلاثة صفوف . قالوا : فان كان وراءه أربعة كيف يجعلهم ؟ قال : يجعلهم صفين في كل صف رجلين وكره أن يكونوا ثلاثة فيكون في كل صف رجل واحد (1) .
فائدتان : ( الأولى ) إذا لم يصل على الجنازة إلا إمام ورجل وامرأة يستحب أن يكون الرجل وراء الإمام والمرأة وراء الرجل ليكونوا ثلاثة صفوف.
( ولحديث ) عبد الله بن أبى طلحة " إن أبا طلحة دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمير بن أبى طلحة حين توفى ، فاتاهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فصلى عليه في منزلة ، فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم وكان أبو طلحة وراء و أم سليم وراء أبى طلحة ، ولم يكن معهم غيرهم " . أخرجه الطبرانى في الكبير بسند رجاله رجال الصحيح(2) { 533 }
( الثانية ) يجوز للنساء حضور صلاة الجنازة إذا خرجن متسترات غير متبرجات ولا متعطرات و أمن الفتنة ( لما ) روى إن عمر بن الخطاب رضى الله عنه انتظر أم عبد الله حتى صلت على عقبة . أخرجه الطبرانى في الكبير بسند حسن (3) { 534 }
فإن كن مع الرجال صلين مقتديات بإمامهم . وإن كن منفردات ( قالت ) الشافعية : يستحب إن يصلين منفردات ، فان صلت بهن إحداهن جاز وكان خلاف الأفضل .
( قال ) النووي ك وفيه نظر و ينبغي إن تسن لهن الجماعة كما في غيرها وبه قال الحسن بن صالح وسفيان الثوري واحمد والحنفيون . وقال مالك : يصلين فرادى(4)
(
__________
(1) انظر ص 374 ج2 مغنى ابن قدامة .
(2) انظر ص 34 ج3 مجمع الزوائد ( الصلاة على الجنازة ) . وأبو طلحة زيد بن سهل بن الأسود ( وأم سليم ) زوجة وهي والدة انس بن مالك .
(3) انظر ص 34 ج3 مجمع الزوائد ( صلاة النساء على الجنائز )
(4) انظر ص 215 ج5 مجموع النووى(1/398)
4 ) يسن تسوية الصفوف في صلاة الجنازة كغيرها من الصلوات ، لما تقدم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الصلاة على النجاشي صف أصحابه وكبر عليه أربعا(1)
( وروى ) أبو المليح انه صلى على جنازة فالتفت فقال : استووا لتحسين شفاعتكم(2) .
( ب) السنن الداخلة في صلاة الجنازة للأمام تسع :
( الأولى ) رفع اليدين عند التكبيرة الأولى حذو المنكبين – كما في سائر الصلوات – وهو سنة بالإجماع . وكذا يستحب رفع اليدين عند باقي التكبيرات عند الشافعي واحمد . وروى عن مالك ( لقول ) نافع : كان ابن عمر يرفع يديه على كل تكبيرة من تكبيرات الجنازة ، وإذا قام بين الركعتين يعنى في المكتوبة . أخرجه البخاري في كتاب رفع اليدين المفرد ، والبيهقى وقال : ويذكر عن انس ابن مالك انه كان يرفع يديه كلما كبر على الجنازة . قال الشافعي : وبلغني عن سعيد بن المسبب وعروة بن الزبير مثل ذلك(3) { 535 }
( وقال ) الحنفيون والثوري والزهري : لا يرفع يديه في صلاة الجنازة إلا في التكبيرة الأولي ، وهو مشهور مذهب مالك ( لحديث ) طاوس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه على الجنازة في أول تكبيرة ثم لا يعود . أخرجه الدار قطبي وفي سنده الحجاج بن نصير بن السكن . قال العقيلى : مجهول . قال الحافظ : لا يصح فيه شئ (4) { 536 }
__________
(1) انظر رقم 297 ص 282 ( نعى الميت )
(2) انظر ص 275 ج 2 مغنى ابن قدامه .
(3) انظر ص 123 ج3 فتح الباري – وص 44 ج4 بيهقى ( يرفع يديه في كل تكبيرة ) .
(4) انظر ص 192 – الدار قطنى .(1/399)
يعنى انه لم يثبت في رفع اليدين في غير التكبيرة الأولي شئ يصلح للاحتجاج به عن النبي صلى الله عليه وسلم . و أفعال الصحابة وأقوالهم لا حجة فيها إن لم تكن مستندة إلى قوله أو فعل النبي صلى الله عليه وسلم . فينبغي إن يقتصر على الرفع عند التكبيرة الأولي لانه لم يشرع في غير صلاة الجنازة إلا عند الانتقال من ركن إلى ركن ولا انتقال في صلاة الجنازة .
( الثانية ) وضع اليمنى على اليسرى في صلاة الجنازة كسائر الصلوات .
( ولقول ) أبي هريرة : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى على جنازة رفع يديه في أول التكبير ثم يضع يده اليمنى على يده اليسرى . أخرجه البيهقى والترمذى وقال : حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وفي سنده يزيد من سنان الرهاوى ضعفه أهل الحديث (1) { 537 }
( قال ) الترمذى : اختلف آهل العلم في هذا . قال ابن المبارك في الصلاة على الجنازة : لا يقبض بيمينه على شماله . ورأى بعضهم أن يقبض بيمينه على شماله ، كما يفعل في الصلاة وهو احب إلى .
( الثالثة ) الثناء بعد التكبيرة الأولي وهو الدعاء بنحو : سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا اله غيرك ز وغيره مما تقدم في بحث دعاء الاستفتاح (2) ( وهو ) سنة عند الحنفيين بقصد الثناء . وعليه يحمل ما تقدم عن ابن عباس رضى الله عنهما انه صلى على جنازة فقرا بفاتحة الكتاب(3)
(
__________
(1) انظر ص 38 ج4 بيهقى ( وضع اليمنى على اليسرى في صلاة الجنازة ) وص ج2 تحفة الاحوذى ( رفع اليدين على الجنازة )
(2) انظر ص 226 ج2- الذين الخالص ( دعاء الاستفتاح ) .
(3) تقدم رقم 512 ص 375 ( قراءة الفاتحة ) .(1/400)
وقالت ) المالكية واكثر الشافعية والحنبلية : لا يستحب دعاء الاستفتاح في صلاة لأنها مبنية على التخفيف واختاره الطحاوى ( قال ) أبو داود : سمعت احمد يسال عن الرجل يستفتح الصلاة على الجنازة : بسبحانك اللهم وبحمدك . قال : ما سمعت . وروى عنه انه سنة لان الاستعادة فيها مشروعة فسن فيها الاستفتاح كسائر الصلوات(1)
( الرابعة ) التعود قبل قراءة الفاتحة عند الحنبلية وبعض الشافعية لقوله تعالى :
{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } (2) وبالقياس على سائر الصلوات وهو مختصر لا تطويل فيه فاشبه التامين .
( الخامسة ) التامين عقب الفاتحة عند القائلين بمشروعية قراءتها في صلاة الجنازة تبعا القراءة كسائر الصلوات .
( السادسة ) قرائة سورة قصيرة بعد الفاتحة عند بعض الشافعية ( لقول ) طلحة ابن عبد الله بن عوف : صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرا بفاتحة الكتاب وسورة وجهر حتى اسمعنا ، فأما فرغ أخذت بيده فسألته ، فقال : سنة وحق . أخرجه النسائي وأبو يعلى الموصلي بسند صحيح(3) { 538 }
ولان كل صلاة تقرا فيها الفاتحة تقرا فيها السورة ( وقال ) الجمهور : لا تقرا سورة في صلاة الجنازة لأنها مبنية على التخفيف ولو شرعت قراءة السورة : فيها لشاع نقله ( قال ) البيهقى : حديث القراءة في صلاة الجنازة رواه إبراهيم بن أبى حرة عن إبراهيم بن سعد وفيه : فقرا بفاتحة الكتاب وسورة . وذكر السورة فيه غير محفوظ (4) . ( و الأصح ) عند الشافعية انه لا يستحب قراءة سورة
__________
(1) انظر ص 346 ج2 شرح المقنع .
(2) النحل : 98
(3) انظر ص 281 ج1 مجتبى ( الدعاء ) وص 234 ج5 مجموع النووي .
(4) انظر ص 38 ج4 بيهقى . وقوله غير محفوظ ( رد ) بأنه محفوظ رواه النسائي كما ترى برقم 538 ولكنه لا يدل على فرضية القراءة ولا الجهر بها .(1/401)
في صلاة الجنازة ونقل إمام الحرمين إجماع العلماء عليه(1)
( السابعة ) جهر الإمام بالتكبيرات والسلام عند الجمهور للإمام ولما روى نافع عن عبد الله بن عمر انه كان إذا صلى على الجنائز يسلم حتى يسمع من يليه . أخرجه مالك في الموطا(2) { 539 }
( وقال ) الحسن بن زياد : لا يرفع الصوت بالتسليم في صلاة الجنازة ، وروى عن مالك لما في حديث أبى إمامة بن سهل إن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يقرا بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولي سرا في نفسه ( الحديث ) وفيه ثم يسلم سرا في نفسه . أخرجه الشافعي في مسنده والنسائي والبيهقى(3). { 540 }
ولكن العمل على الجهر بالسلام . وتقدم قول ابن مسعود رضى الله عنه : التسليم على الجنازة مثل التسليم في الصلاة (4) ، وهو يدل على الجهر بالسلام ، لان التسليم في الصلاة يكون جهرا للإعلام بالخروج منها .
( الثامنة ) الإسرار بالقراءة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء عند الجمهور ( لقول ) أبى إمامة : السنة في الصلاة على الجنازة إن يقرا في التكبيرة الأولي بأم القران مخافتة ثم يكبر ثلاثا والتسليم عند الآخرة . أخرجه النسائي والطحاوى والبيهقى بسند صحيح(5) { 541 }
( ويدل ) عليه مفهوم قول ابن عجلان : سمعت سعيد بن أبى سعيد يقول : صلى ابن عباس على جنازة فجهر بالحمد لله ثم قال : إنما جهرت لتعلموا أنها سنة . أخرجه الحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم ، وقد أجمعوا على أن قول الصحابي سنة . حديث مسند(6). { 542 }
__________
(1) انظر ص 234 ج5 مجموع النووي .
(2) انظر ص 234 ج5 مجموع النووي .
(3) انظر ص 15 ج2- الزرقانى على الموطأ ( جامع الصلاة على الجنازة )
(4) انظر رقم 516
(5) تقدم رقم 513 .
(6) انظر ص 358 ج1 مستدرك(1/402)
فإنه يفهم منه أن الأصل ففي القراءة الإسرار . وإنما جهر ابن عباس ليعلم القوم أن قراءة الفاتحة ففي صلاة الجنازة سنة . (وقال) أبو الزبير : سئل جابر عما يدعى للميت فقال : ما باح لنا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر . أخرجه أحمد(1). { 543 }
(قال) الحافظ : الذي وقفت عليه : باح بمعنى جهر ( وأما حديث ) عوف ابن مالك قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظنا من دعائه : " اللهم اغفر له وارحمه " ( الحديث) . أخرجه النسائى(2). { 544 }
(فاجاب) عنه الجمهور بأن النبي صلى الله عليه وسلم جهر بالدعاء أحيانا لقصد التعليم .
(وقال) بعض الشافعية : إن صلى ليلا جهر وإلا أسر (هذا) وقد اتفق العلماء على أنه يسر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء وعلى أنه يجهر بالتكبيرات والسلام وعلى أنه يسر بالقراءة نهارا . وفى الليل وجهان : أصحهما أنه يسر أيضا . (قال) الشافعي ففي المحتضر . ويخفى القراءة والدعاء ويجهر بالتسليم ولم يفرق بين الليل والنهار(3).
(التاسعة) الدعاء بعد التكبير الرابعة (لما روى) إبراهيم الهجري من عبد الله بن أبي أوفى قال : مات ابنه له فخرج ففي جنازتها على بغلة خلف الجنازة ، ثم صلى عليها فكبر أربعا ، فقام بعد التكبيرة الرابعة بقدر ما بين التكبيرتين يستغفر لها ويدعو ، ثم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع هكذا . أخرجه البيهقى(4). { 545 }
(
__________
(1) انظر ص 357 ج3 مسند احمد . و(باح) بالشىء يبوح به إذا أعلنه . نهاية .
(2) انظر رقم 520 ص 379 .
(3) انظر ص 234 ج5 مجموع النووى .
(4) انظر ص 42 ج4 بيهقى ( الاستغفار للميت والدعاء له ما بين التكبيرة الرابعة والسلام )(1/403)
وهو مستحب عند الشافعية وروى عن أحمد ومباح عند الحنفيين ومالك ولا يتعين له دعاء ، ولكن يستحب اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله أو يقول : " ربنا أتنا ففي الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار "(1)
(9) الأحق بالإمامة ففي الجنازة : الأولى بها عند النعمان ومحمد بن الحسن والثاني ففي القديم – الولي إن حضر ، ثم القاضي ، ثم إمام الجهة ، ثم ولى الميت الأقرب فالأقرب على ترتيب العصبة إلا الأب فإنه يقدم يقدم على الأبن إذا اجتمعا (لقول) ابى حازم : شهدت حسينا حين مات الحسن وهو يدفع فى قفا سعيد بن العاص وهو يقول : تقدم فلولا أنها السنة ما قدمتك . وسعيد أمير على المدينة يؤمئذ أخرجه الطبرانى فى الكبير والبزار بسند رجاله موثقون والبيهقى(2). {546}
فيقدم الوالي على القريب لعموم ولايته ( وقال) أبو يوسف والشافعي في الجديد : القريب أولى من السلطان ، لأن هذه الصلاة مبنية على الولاية ، والقريب في مثل هذا مقدم على السلطان كما في النكاح وغيره من التصرفات ، ولأن هذه الصلاة شرعت للدعاء والشفاعة للميت ودعاء القريب أرجي لأنه يبالغ في إخلاص الدعاء له وإحضار القلب لزيادة شفقته وكمال تضرعه فكان اقرب إلى الإجابة . فاولى الناس بالصلاة عليه الأب ثم الجد ثم ابن الابن ثم الأخ ثم ابن الأخ ثم العم ثم ابن العم على ترتيب العصبات ، لأن القصد من الصلاة الدعاء للميت ودعاء هؤلاء أرجي للإجابة فإنهم أفجع بالميت من غيرهم فكانوا بالتقديم أحق فإن اجتمع أخ شقيق وأخ لأب فالأخ الشقيق أولى(3).
(
__________
(1) انظر ص 239 ج5 مجموع النووى .
(2) انظر ص 31 ج3 مجمع الزوائد ( الصلاة على الجنازة ) وص 29 ج4 بيهقى ( من قال : الوالى احق بالصلاة على الميت من الولى )
(3) انظر ص 216 ج5 مجموع النووى .(1/404)
وقالت) المالكية والحنبلية : الأولى بالصلاة على الميت : الوصي ثم الأمير ثم ألب وإن علا ثم الأبن وإن سفل ثم أقرب العصبة لإجماع الصحابة رضى الله عنهم على هذا ، فقد أوصى أبو بكر أن يصلى عليه عمر ، وأوصى عمر إن يصلى عليه صهيب ، وأوصت عائشة أن يصلى عليها ابا هريرة(1).
(وعن) أبي إسحق أن عبد الله بن مسعود أوصى : إذا أنا مت يصلى على الزبير بن العوام . أخرجه البيهقى(2).
(فهذه) قضايا انتشرت ولم يظهر فيها مخالف فكان إجماعا سكوتيا (وأجاب ) الأولون عن هذه الوقائع بحملها على إجازة أولياء الميت للوصية ولو لم يجيزوها ما صحت .
(هذا) وإن اجتمع زوج المرأة وعصبتها فالظاهر تقديم العصبة عند غير النعمان فإنه يقدم زوج المرأة على ابنها منه . وروى عن أحمد لأن أبا بكرة صلى على امرآته ولم يستأذن إخوتها ، ولأنها أحق بغسلها فكان أحق بالصلاة (واستدل)
الجمهور بما روى عن عمر رضى الله عنه أنه قال لأهل امرأته : أنتم أحق بها ولأن الزوجية قد زالت بالموت فصار أجنبيا ، والقرابة لم تزل . وعلى هذا إن لم يكن لها عصبة فالزوج أولي لأن له سببا وشفقة فهو أولى من الأجنبي ، فإذا استوى وليان في درجة فأولاهما أحقهما بالإمامة في المكتوبات ، لعموم حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يؤم القوم أقرؤكم لكتاب الله تعالى . أخرجه السبعة إلا البخاري(3). { 547 }
(
__________
(1) انظر ص 366 ج2 مغنى ابن قدامة .
(2) انظر ص 29 ج4 بيهقى ( من قال الوصى بالصلاة عليه أولى ) .
(3) انظر ص 224 ج5- الفتح الربانى ( من أحق بالإمامة ) وص 172 ج5 مسلم وص 296 ج4 – المنهل العذب المورود . وص 126 ج1 مجتبى . وص 196 ج1 تحفة الأحوذى وص 160 ج1 – ابن ماجه .(1/405)
وقيل) إذ استوى الوليان يقدم الأسن لأنه أقرب إلي إجابة الدعاء وأعظم عند الله أجرا وهذا ظاهر مذهب الشافعي والأول أولى لأن فضيلة السن معارضة بفضيلة العلم وقد رجحها الشارع في سائر الصلوات مع أنه يقصد في الجنازة إجابة الدعاء وهى من العالم اقرب ( روى) ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم : اجعلوا أئمتكم خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم . أخرجه الدار قطني قطني والبيهقى بسند ضعيف(1). { 548 }
(فإن) استووا في العلم والسن والورع وتشاحوا ، اقرع بينهم . ومن قدمه الولي فهو بمنزلته(2).
(10) المسبوق فى صلاة الجنازة : له أحوال خمس :
(
__________
(1) انظر ص 90 ج3 بيهقى ( اجعلوا ائمتكم خياركم ) .
(2) انظر ص 368 ج2 مغنى ابن قدامة .(1/406)
أ) من سبق ببعض التكبير ينتظر الإمام حتى يكبر معه عند النعمان ومحمد ومالك وروى عن أحمد ، لأن التكبير هنا بمنزلة ركعة ولو فاتته ركعة لم يشتغل بقضائها ، فكذا إذا فاتته تكبيرة ، ولو كبر حين حضر لا تفسد صلاته لكن لا تحسب له تكبيرة . ( قال ) الشافعي وأبو يوسف : يكبر حين يحضر ويعتبر ما أداه وهو الصحيح عن أحمد وروى عن مالك لأنه في سائر الصلوات متى أدرك الإمام كبر معه بلا انتظار ، وليس هذا اشتغالا بقضاء ما فاته فإنما يصلى مع الإمام ما أدركه كمن يكبر عقب تكبير الإمام قبل أن يتم المأموم القراءة فإنه يكبر ويتابع الإمام ويقطع القراءة (1) عند احمد وأبى يوسف وهو الأصح عند الشافعي . وتحسب له التكبيرة للعذر . (ب) وإن أدرك المأموم الإمام بعد التكبيرة الثانية حسبت له عند أبى يوسف والشافعي وبقضى واحدة . وتحسب له على الصحيح عند أحمد ولا يقضى شيئا . ولا تحسب له عند النعمان ومحمد ومالك ويقضى ثنتين . (جـ) ولو حضر المأموم بعد ما كبر الإمام الرابعة قبل السلام لم يدخل معه وقد فاتته الصلاة عند أبى حنيفة ومحمد ومالك لأنه لا ثمرة لتكبيرة وحده وقد أتم الإمام التكبيرات فلا تتأنى المتابعة (وقال) أبو يوسف والشافعي وأحمد : يكبر المأموم وتحسب له تطبيرة ، وإذا سلم لإمام قضى ثلاث تكبيرات كما لو كان حاضرا خلف الإمام ولم يكبر حتى كبر الإمام الرابعة(2).
(
__________
(1) انظر ص 376 ج2 مغنى
(2) انظر ص 314 ج1 بدائع الصنائع .(1/407)
د) وإذا سلم الإمام وقد بقى على بعض المأمومين بعض التكبيرات ، يأتي بها المسبوق قبل رفع الجنازة عند الحنفيين ، لأن شرط صحة صلاة الجنازة حضور الميت . (وقال) غيرهم : يستحب عدم رفعها حتى يقضى المسبوق ما عليه . وهل يأتي به تباعا بلا ذكره بعده ؟ قال الحنفيون : يدعو إن لم يخف رفعها وإلا أتى بما سبق به تباعا (وقال مالك) يدعو إن لم ترفع الجنازة ، وإن رفعت تابع التكبير وسلم . وعند الشافعي وجهان : أصحهما أنه يأتي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء ، وقيل : يكتفي بالتكبيرات (1) .
(هذا) ولا تصح صلاة المسبوق في الجنازة عند الحنفيين ومالك والشافعي إلا بتدارك ما فاته قياسا على سائر الصلوات ( ولحديث ) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا " أخرجه السبعة(2). { 549 }
(
__________
(1) وملخص مذهب مالك فى المسبوق : أن من سبق بالتكبير مع الإمام ينتظر وجوبا حتى يكبر معه لأنه كالقاضى خلف الإمام إذا كل تكبيرة بمنزلة ركعة . فإن كبر صحت ولا يعتد بها عند الأكثر . وقال اشهب : يدخل مع الإمام ولا ينتظر لأنه لا تفوق التكبيرة إلا بالتى بعدها ويدعو المسبوق بعد تكبيرة فى القضاء إن تركت الجنازة وإن تركت الجنازة وإن رفعت والى التكبير بلا دعاء وسلم ( انظر ص 168 ج1 صعير الدرديرى ) .
(2) انظر ص 209 ج5 – الفتح الربانى ( فضل المشى الى الجماعة بسكينة ) وص 266 ج2 فتح البارى ( المشى الى الجمعة) وص 98 ج5 نووى ( اسحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة ) وص 271 ج4 – المنهل العذب المورود ( السعى الى الصلاة ) وص 148 ج1 مجتبى السعى الى الصلاة ) .(1/408)
وقالت) الحنبلية : من فاته شئ من التكبير استحب له قضاؤه متتابعا فإن سلم مع الأمام ولم يقض فصلاته صحيحة (لما) روى أن عائشة قالت : يا رسول الله إني أصلى على الجنازة ويخفى على بعض التكبير ، قال : سمعت فكبرى وما فاتك فلا قضاء عليك(1).
(وأجابوا ) عن الحديث بإنه ورد في الصلوات الخمس بدليل قوله فيه : ولا تأنوها وأنتم تسعون (وروى) أنه صلى الله عليه وسلم سعى في جنازة سعد حتى سقط رداؤه عن منكبيه . فعلم أنه لم يرد بالحديث هذه الصلاة والقياس على سائر الصلوات لا يصح لأنه لا يقضى في شئ من الصلوات التكبير المنفرد .(هـ) وإذا أدرك الإمام في الدعاء على الميت تابعة فيه فإذا اسلم الإمام كبر وقرأ الفاتحة ثم كبر وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وكبر وسلم .(وقال) الشافعي : متى دخل المسبوق في الصلاة ابتداء بالفاتحة ثم أتى بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الثانية(2).
(
__________
(1) ذكره ابن قدامة فى المغنى .
(2) انظر ص 376 ج2 منه .(1/409)
11) الصلاة على متعدد : إذا حضرا أكثر من ميت فالأفضل إفراد كل ميت بصلاة . ويجوز أن يصلى عليهم واحدة لأن المقصود من صلاة الجنازة الدعاء والشفاعة وهذا يحصل بصلاة واحدة . فان صلى على كل واحد على حدة فالأولى تقديم الأفضل فالأفضل ، وإذا صلى عليهم دفعة واحدة فان كانوا من نوع واحد بان يكونوا ذكورا وإناثا ، فان شاءوا وضعوا واحدا بعد واحدا مما يلي القبلة ليقوم الأمام بحذاء الكل وهذا هو الأولى ، وحينئذ يكون أفضلهم مما يلي الأمام (لحديث ) ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ليلينى منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ( الحديث ) . أخرجه احمد ومسلم وأبو داود والترمذى وقال : حسن غريب (1) {550 }
(
__________
(1) انظر ص 302 ج5 – الفتح الربائى ( مشروعية وقوف اولى الاحلام والنهى قريبا من الامام ) وص 154 ج4 نووى ( تسوية الصفوف وفضل الاول فالاول منها ) وص 63 ج5 المنهل العذب المورود ( من يستحب ان يلى الامام في الصف ) ( وليلينى ) بياء مفتوحة بعد اللام وياء مفتوحة ونون مشددة بعدها وفي رواية مسلم : ليلنى – بتخفيف النون ولاياء قبلها(1/410)
وقال ) الشعبي : صلى على يوم صفين على عمار بن ياسر وهاشم بن عتبة فكان عمار أقربهما إلي على ، وكان هاشم أقربهما إلي القبلة أخرجه الطبرانى وفيه سفان ابن هارون وفيه كلام وقد وثق(1) {
__________
(1) انظر ص 36 ج3 مجمع الزوائد ( الصلاة على اكثر من ميت ) ( وصفين ) بكسرتين وشد الفاء موضع قرب الرقه على الشاطىء القرات الغربى كانت وقعتها بين كل ومعاوية في غرة صفر سنة 27 سبع وثلاثين هجرية قتل فيها سبعون الفا دام القتال فيها 110 عشرة ومائة يوم . ثم رفع اهل الشام المصاحف يدعون الى ما فيها من الصلح مكيدة من عمرو بن العاص فكسف الناس عن الحرب . وتدعوا الى الصلح على يد حكمين ..فحكم ( بشد الكاف ) على ابا موسى الاشعرى وحكم معاوية عمرو بن العاص وكتبوا كتابا على ن يجتمعوا بإزرح(بضم الراء بلد بالشام) لينظروا في امر الامة فاقترف الناس ورجع معاوية الى الشام وعلى إلى الكوفة فخرج عليه الخوارج وقالوا لا حكم الا لله واجتمعوا يحروراء فبعث اليهم ابن عباس فجادلهم والزمهم الحجة فرجع منهم كثير وثبت قوم وساروا الى النهروان فسار إليهم على فقتلهم وقتل كبيرهم ذا الثدية ( بضم الثاء وشد الياء ) حرقوص ابن زهير سنة ثمان وثلاثين واجنمع الناس بازرح في شعبان من هذه السنة فقدم عمرو ابن العاص ابا موسى الاشعرى مكيدة منه فتكلم فخلع عليا وتكلم عمرو فاقر معاوية وبايع له فتفرق الناس على هذا وصار على في خلاف من اصحابة حتى اجتمع بمكة ثلاثة من الخوارج عبد الرحمن بن ملجم والبرك بن عبد الله التميمى وعمرو بن بكير التميمى وتعاهدوا على ان يقتل الاول عليا والثانى معاوية والثالث عمرو بن العاص على ان يكون ذلك في ليلة واحدة ليلة حادى عشر او ليلة سابع عشر من رمضان سنة اربعين فقدم ابن ملجم الكوفة ليلة سابع عشر من رمضان لقتل على ، فاستيقظ على رضى الله عنه سحرا فقال لابنه الحسن رايت الليلة النبى صلى الله عليه وسلم فقلت يارسول الله : لقيت من امتك من الاود ( بفتحتين التعب والثقل ) واللدد ( شدة الخصومة ) ما لقيت فقال لى ادع الله عليهم فقلت : اللهم ابدلنى بهم خيرا لى منهم وابدلهم بى شرا لهم منى . ودخل المؤذن – ابن الذباح – على على فقال . الصلاة فخرج على على الصلاة فاعترضة ابن ملجم فضربة بالسيف فشد عليه فامسك واوثقوه واقام على الجمعه والسبت . وتوفي ليلة الاحد التاسع عشر من رمضان وغسله الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وصلى عليه الحسن ودفن بدار الاماة بالكوفة ( انظر ص 67 تاريخ الخلفاء للسيوطى ) .(1/411)
551 }
(وإن ) كانوا رجالا ونساء جاز أن يصلى على كل نوع على حدة ( لما) روى عن عبد الله بن مفغل انه صلى على الرجال على حدة وعلى المرأة على حدة ثم اقبل على القوم فقال : هذا الذي لا شك فيه . وإن صلى عليهم جميعا دفعة واحدة جاز . وحينئذ توضع الرجال مما يلي الأمام والنساء خلف الرجال مما يلي القبلة كما يصطفون خلف الأمام حال الحياة . ( ولو ) اجتمع رجل وصبى وخنثي وامرأة وصبية وضع الرجل مما يلي الأمام والصبى وراءه ثم الخنثى ثم المرأة ثم الصبية ( لحديث ) نافع عن ابن عمر انه صلى على تسع جنائز جميعا فجعل الرجال يلون الأمام وجعل النساء يلين القبلة ، فصفهن صفا واحدا ووضعت جنازة أم كلثوم – بنت على امرأة عمر بن الخطاب – وابن لها يقال له زيد وضعا جميعا ، والأمام يومئذ سعيد بن العاص ، وفي الناس ابن عمر وأبو هريرة وأبو سعيد وأبو قتادة ، فوضع الغلام مما يلي الأمام ، فقال رجل فأنكرت ذلك . فنظرت إلي ابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد وأبي قتادة فقلت : ما هذا ؟ قالوا : هي السنة . أخرجه النسائي والبيهقى والدار قطبي بسند صحيح(1) {552 }
(
__________
(1) انظر ص 280 ج1 مجتبى ( اجتماع جنائز الرجال والنساء ) وص 33 ج4 بيهقى وص 194 – الدار قطبى ( والامام ) يعنى الامير لا انه كان إماما في الصلاة بل الامام كان ابن عمر ويحتمل ان سعيدا كان إمام في الصلاة بدليل قوله في رواية البيهقى : فصلى عليهما امير المدينة ويكون المراد بقوله : صلى ( يعنى ابن عمر ) على تسع جنائز اى اشار يترتيب الجنائز " والرجل المكر بضم فسكون فكسر " وضع الغلام جهة الامام والمراة جهة القبلة " عمار بن ابى عمار " كما في رواية النسائى والبيهقى .(1/412)
وعن ) سليمان بن موسى أن واثلة بن الاسقع – في الطاعون كان بالشام مات فيه بشر كثير – فكان يصلى على جنائز الرجال والنساء جميعا – الرجال مما يليه والنساء مما يلي القبلة – ويجعل رءوسهن إلي ركبتي الرجال ز أخرجه الببيهقى(1) {553} ( (دلت ) هذه الأحاديث والآثار على انه إذا وجدت جنازة ذكور وإناث ، تجعل الذكور مما يلي الأمام والإناث مما يلي القبلة ، وإذا اجتمع رجل وصبى وامرأة يوضع الرجل أما ثم الصبي ثم الأنثى . وهذا متفق عليه .
( فوائد ) ( الأولى ) لو كبر الأمام على جنازة ثم أتي بجنازة أخري فوضعت معها استمر في صلاته على الأولى ويستأنف الصلاة على الأخرى عند الحنفيين والشافعي لان التحريمة انعقدت للصلاة على الأولى فيتمها ، فان كبر التكبيرة الثانية ينويهما فهي للأولى فقط لانه لم يقصد الخروج عن الأولى فبقى فيها . وإن كبر ينوب الثانية وحدها فهي لها لانه خرج عن الأولى بالتكبيرة ناويا الثانية ، كما إذا كان في الظهر فكبر ينوب العصر فانه يصير منتقلا من الظهر ، فكذا هذا بخلاف ما إذا نواهما جميعا لانه ما رفض الأولى فيبقى فيها فلا يصير شارعا في الثانية . ثم إذا صار شارعا في الثانية فإذا فرغ منها أعاد الصلاة على الأولى(2).
( وقالت ) الحنبلية : إذا كبر على جنازة ثم جيء بأخرى، كبر الثانية عليهما وينويهما . فان جيء بثالثة كبر الثالثة عليهن ونوهن ، فان جيء برابعه كبر الرابعة عليهن ثم يكمل التكبير إلي سبع وهو اكثر ما ينتهي إليه التكبير فان جيء بخامسة لم ينوها بالتكبير ، وإن نواها لم يجز لأنه دائر بين أن يزيد على سبع أو بنقص في تكبيرها عن أربع وكلاهما ولا يجوز ، وكذا لو جيء بثانية بعد التكبيرة الرابعة . ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
__________
(1) انظر ص 32 ج4 بيهقى ( جنائز الرجال والنساء إذا اجتمعت ) .
(2) انظر ص 316 ج1 بدائع الصنائع . وص 227 ج5 مجموع النووى .(1/413)
لم يحزان يكبر عليها الخامسة لما بينا . فان أراد أهل الجنازة الأولي رفعها قبل سلام الأمام لم يجز ، لان السلام ركن لا تتم الصلاة إلا به . إذا تقرر هذا فانه يقرا في التكبيرة الخامسة الفاتحة ، وفي السادسة يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويدعو في السابعة ليكمل لجميع الجنائز القراءة والأذكار كما كمل لهن التكبيرات(1).
( الثاني ) إذا صلى على موتى دفعة فان كان المصلى هو السلطان جاز ، وإن كان بعض الأولياء ، فان رضوا بصلاة واحدة قدم ولى السابقة ، وإن حضرت الجنائز دفعة اقرع بينهم ، وإن لم يرضوا بصلاة واحدة صلى كل واحد على ميته عند الحنفيين والشافعي (2)
( وقالت ) الحنبلية : عن اجتمع جنائز فتشاح أولياؤهم فيمن يتقدم للصلاة عليهم قدم أولاهم بالإمامة في الفرائض . ( وقيل ) يقدم من سبق ميته . ( ووجه ) الاول انهم تساووا فأشبهوا الأولياء إذا تساووا في الدرجة مع قول النبي صلى الله عليه وسلم : يؤم القوم اقرؤهم لكتاب الله (3) ، وإن أراد ولى كل ميت إفراد ميته بصلاة جاز(4).
( الثالثة ) إن وجد من الأموات من يصلى عليه ومن لا يصلى عليه واشتبه الأمر صلى على الكل بنية من يصلى عليه عند الأئمة الثلاثة ( وقال ) الحنفيون : إن كان المسلمون اكثر صلى عليهم وإلا فلا لان للأكثر حكم الكل .
(
__________
(1) انظر ص 394 ج2 مغنى ابن قدامة .
(2) انظر ص 327 ج5 مجموع النووى .
(3) تقدم رقم 547 ص 396 .
(4) انظر ص 369 ج2 مغنى ابن قدامة .(1/414)
12) كيفية صلاة الجنازة : اجمع كيفية لكل ما ورد إن ينوب الصلاة على من حضر ويكبر رافعا يديه ثم يضع اليمنى على اليسرى فوق السرة ثم يأتي بدعاء الاستفتاح ويتعوذ ويقرا الفاتحة ويؤمن ويقرا سورة قصيرة ويدعو للميت سرا ، ثم يكبر الثانية ويصلى على الأولياء صلى الله عليه وسلم بالوارد عقب التشهيد ، ثم يدعو للميت ، ثم يكبر الثالثة ويدعو للميت ولنفسه وللمؤمني بالرحمة والمغفرة ، والدعاء بالمأثور افضل ، ثم يكبر الرابعة ويدعو بنحو قوله { ربنا آتتا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } ثم يسلم .
( روى) سعيد بن كيسان عن أبيه انه سأل أبا هريرة كيف تصلى على الجنازة ؟ فقال : اتبعها من بيت أهلها فإذا وضعت كبرت وحمدت الله تعالى وصليت على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم أقول : " اللهم عبدك وابن عبدك وابن أمتك كان يشهد أن لا اله إلا أنت وان محمدا عبدك ورسولك وأنت اعلم به اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه إن كان مسيئا فتجاوز عن سيئاته ، اللهم لا تحرمنا اجره ولا تفتنا بعده " . أخرجه مالك في الموطا(1) { 554 }
(
__________
(1) انظر ص 12 ج 2- الزرقانى على الموطإ ( ما يقول المصلى على الجنازة ) .(1/415)
وعن ) شر حبيل بن سعد قال : حضرت عبد الله بن عباس صلى بنا على جنازة بالابواء فكبر ثم قرا بأم القران رافعا صوته بها ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم وثم قال : " اللهم عبدك وابن عبدك ورسولك اصبح فقيرا إلي رحمتك فقيرا إلي رحمتك وأصبحت غنيا عن عذابه تخلى من الدنياواهلها ، وغن كان زاكيا فزكه ، وإن كان مخطئا فاغفر له ، اللهم لا تحرمنا اجره ولا تفقنا بعده " ثم كبر ثلاث تكبيرات ، ثم انصرف فقال : يأبها الناس أبي لم أقرا عليها إلا لتعلموا أنها سنة ". أخرجه البيهقى(1) { 555 }
( 13 ) إعادة صلاة الجنازة : لها ثلاث حالات : ( أ) إن صلى على الميت غير الاحق بالصلاة عليه بلا إذن منه ولم يصل الاحق معه فله إعادة الصلاة عليه اتفاقا ، لان الحق له وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم وعلى قبر بعد ما صلى على الميت كما ياتى ، لانه عليه الصلاة والسلام كان الاحق بالصلاة عليه ، وهذا متفق عليه .
( ب ) ولا يصح عند الحنفيين ومالك ان يصلى غير الاحق بعد صلاته لأن الفرض تأدى بالأولى . والتنقل بصلاة الجنازة غير مشروع (وروى) أبوب عن نافع أن ابن عمر قدم بعد ما توفى عاصم أخوه فسال عنه فقال : أبن قبر أخى ؟ فدلوه عليه فأتاه فدعا له . أخرجه عبد الرازق وقال وبه نأخذ(2). { 556 }
(
__________
(1) انظر ص42 ج4 بيهقى ( الدعاء في صلاة الجنازة ) و( الابواء ) بفتح فسكون قرية بين مكة والمدينة في الشمال الشرقي من رابغ كان بها اول غزوة للنبى النبى صلى الله عليه وسلم : خرج في سفر سنة اثنتين من الهجرة يريد قريشا وبنى ضمرة من كتابة فصالحة مخشى ( بفتح فسكون فكسر ) ابن عمرو الضمرى ( انظر ص 172 ج1 بهجة النحافل )
(2) انظر ص 48 ج4 – الجوهر النقى ( الصلاة على القبر ) .(1/416)
وقالت) الشافعية والحنبلية : من فاتته الجنازة فله أن يصلى عليها ما لم تدفن فإن دفنت صلى على القبر ( لما) روى الحكم عن حنش قال : مات سهل بن حنيف فأتى به الرحبة فصلى عليه على رضى الله عنه فلما أتينا الجبانة لحقنا قرظة بن كعب فى نا س من قومه فقالو : يأمير المؤمنين لم نشهد الصلاة عليه فقال : صلوا عليه فصلى بهم قرظة بن كعب . أخرجه البيهقى(1). { 557 }
وعن عمرو بن مرة عن خثيمة أن أبا موسى صلى على الحارث بن قيس الجعفى بعد ما صلى عليه أدركهم بالجبان . أخرجه البيهقى(2). { 558 }
(جـ) ومن صلى على جنازة لا يشرع له إعادتها عند الحنفيين ومالك . ولا يستحب عند أحمد وهو الصحيح عند الشافعية لأن الثانية تكون نافلة والتنفل بها غير مشروع وعليه فلو صلاها ثانيا لا تصح عند الحنفيين ومالك ، وتصح عند الشافعى وأحمد وإن كانت غير مستحبة وتقع نفلا . وقال القاضى حسين : تقع فرض كفاية كما لو صلت جماعة فصلاة الجميع تقع فرضا(3) .
هذا ، وإذا صلى على الجنازة لا توضع لأحد يصلى عليها ثانيا ، بل يبادر بدفنها إلا أن يرجى الولى فتؤخر إلا أن يخاف تغير الميت .
(
__________
(1) انظر ص 45 ج4 بيهقى ( الرجل تفوته الصلاة مع الإمام فيصليها بعده ) (والرحبة) بفتحات أو بفتح فسكون – المكان المتسع بين افنية القوم . ( وقرظة ) بالظاء المعجمة وفتحات (والجبان) الصحراء
(2) نظر ص 45 ج4 بيهقى ( الرجل تفوته الصلاة مع الإمام فيصليها بعده ) (والرحبة) بفتحات أو بفتح فسكون – المكان المتسع بين افنية القوم . ( وقرظة ) بالظاء المعجمة وفتحات (والجبان) الصحراء
(3) انظر ص 246 ج5 مجموع النووى(1/417)
وقال) ابن عقيل : لا ينتظر به أحد ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فى طلحة بن البراء : " وعجلوا فإنه لا ينبغى لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهرانى أهله "(1). وأما من أدرك الجنازة ممن لم يصل فله أن يصلى عليها . فعله على وأنس وسلمان بن ربيعة وغيرهم رضى الله تعالى عنهم(2).
(14) الصلاة على القبر : لها حالان : (أ) من دفن بعد غسله بلا صلاة صلى على قبرة عند الحنفيين ما لم يغلب على الظن تفسخه .(وقالت) الشافعية والحنبلية : يصلى على القبر ابدا لعموم حديث يزيد بن ثابت قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما وردنا البقيع إذا هو بقبر جديد فسأل عنه فقيل : فلانه فعرفها فقال : ألا آذنتمونى بها ؟ قالوا : يا رسول الله كنت قائلا صائما فكرهنا أن نؤذيك ، فقال : لا تفعلوا ، لا يموتن فيكم ميت ما كنت بين أظهركم آذنتمونى به فإن صلاتى عليه له رحمة ، ثم أتى القبر فصفنا خلفه وكبر عليه اربعا . أخرجه أحمد والنسائى وابن ماجه والبيهقى بسند جيد والحاكم وابن حبان وصححاه(3). {559 }
(
__________
(1) هو بعض حديث تقدم رقم 363 ص 263 ( المبادرة بتجهيز الميت )
(2) انظر ص 354 ج2 شرح المقنع .
(3) انظر ص 225 ج7 – الفتح الربانى ( الصلاة على القبر بعد الدفن ) وص 284 ج1 مجتبى ( الصلاة على القبر ) وص 48 ج4 بيهقى . وص 240 ج1 – ابن ماجه . (فعرفها) الظاهر أنها المرأة التى كانت تقم ( تكبس ) المسجد 0روى) بريدة أن النبى صلى الله عليه وسلم مر على قبر جديد حديث عهد بدفن ومعه أبو بكر فقال : قبر من هذا ؟ فقال ابو بكر ك يا رسول الله هذه أم محجن كانت مولعة بلقط القذى من المسجد فقال : أفلا ىذنتمونى ؟ فقالوا كنت نائما فكرهنا أن نهيجك قال فلا تفعلوا فإن صلاتى على موتاكم نور لهم فى قبورهم . فصف اصحابه فصلى عليها . أخرجه البيهقى ( انظر ص 48 ج4 منه) (وقائلا) من القيلولة أى نصف النهار .(1/418)
وقال) الترمذى : والعمل على هذا . وهو قول الشافعى وأحمد وإسحق(وقال) بعض أهل العلم : لا يصلى على القبر ، وهو قول مالك بن أنس (وقال) ابن المبارك : إذا دفن الميت ولم يصل علي القبر . وقال أحمد وإسحق : يصلى على القر إلى شهر(1).
(وقالت) المالكية : من دفن بلا صلاة أخرج وصلى عليه إن لم يخف تغيره وإلا صلى على قبره وجوبا ما لم يظن فناؤه . (ب) أما من صلى عليه وليه أو غيره بإذنه فلا يصلى على قبره عند الحنفيين لأنه لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا السلف الصالح أنه صلى على قبر النبي صلى الله عليه وسلم (وقال) مالك : من لمن لم يكن صلى على الميت وإن لم يكن ولى الميت فى أى وقت لإطلاق الأحاديث الواردة فى ذلك ، كحديث ثابت البنانى عن أبى رافع عن ابى هريرة : أن امرأة سوداء رجلا كان يقم المسجد فقعده النبي صلى الله عليه وسلم فسال عنه فقيل : مات ، فقال : ألا آذنمون به ؟ دلونى على قبره فدلوه فصلى عليه . أخرجه أحمد والشيخان وابو داود وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقى(2). { 560 }
(
__________
(1) انظر ص 148 ج2 تحفة الأحوذى ( الصلاة على القبر)
(2) انظر ص 223 ج7 – الفتح الربانى . وص 133 ج3 فتح البارى ( الصلاة على القبر بعد ما يدفن ) وص 25 ج7 نووى مسلم . وص 45 ج9 – المنهل العذب وص 240 ج1 – ابن ماجه . وص 47ج4 بيهقى .(أو رجلا) الشك فيه من ثابت أو ابى رافع . وفى رواية للبخارى عن حماد عن ثابت أن امرأة أو رجلا كان يقم المسجد قال حماد : ولا اراه إلا امراة وتقدم عند البيهقى عن بريدة أنها أم محجن وهو كنيتها واسمها خرقاء .(1/419)
وحديث ) أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن هذه القبور ممتلئة على أهلها ظلمة وإن الله عز وجل ينورها بصلاتى عليها . وقال رجل من الأنصار يا رسول الله إن أخى مات ولم تصل عليه قال : فاين قبره ؟ فأخبره فانظلق رسول اله صلى الله عليه وسلم مع الأنصارى فصلى . أخرجه أحمد والبيهقى وابو داود والطيالسى بسند رجاله رجال الصحيح(1). { 561 }
والأحاديث فى هذا كثيرة ، وهى تدل على أنه يجوز لمن لم يصل على الميت قبل دفنه أن يصلى على قبره وليا أو غيره ابدا ، وبه قال الشافعى وابن المبارك واختاره ابن عقيل الحنبلى ، لقول عقبة بن عامر : صلى النبي صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثمانى سنين كالمودع للأحياء والأموات ( الحديث ) . أخرجه الشيخان وابو داود والبيهقى(2). { 562 }
(ومشهور) مذهب أحمد أنه يصلى على القبر إلى شهر فقط ( لما روى) قتادة عن سعيد بن المسيب أن أم سعد ماتت النبي صلى الله عليه وسلم غائب ، فلما قدم صلى عليها وقد مضى لذلك شهر . أخرجه الترمذى والبيهقى وقال : وهو مرسل صحيح(3). { 563 }
(
__________
(1) انظر ص 224 ج7 – الفتح الربانى ( الصلاة على القبر ) وص 36 ج3 مجمع الزوائد .
(2) انظر ص 245 ج7 فتح البارى 0 غزوة أحد ) وص 78 ج9 – النهل العذب المورود ( الميت يصلى على قبره بعد حين ) وص 14 ج4 بيهقى ( من روى أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليهم بعد 8 سنين ) .
(3) انظر ص 149 ج2 تحفة الأحوذى ( الصلاة على القبر ) وص 48 ج4 بيهقى(1/420)
وأجاب ) الحنفيون ومالك عن هذه الأحاديث (أ) بأن الصلاة على القبر من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم (لقوله) فى حديث أنس : إن هذه القبور ممتلئة على أهلها ظلمة وإن الله ينورها بصلاتى عليها(1). (وقوله) فى حديث يزيد ابن ثابت : فإن صلاتى عليه له رحمة(2). (ووجه) الدلالة أن صلاته صلى الله عليه وسلم لتنوير القبر والرحمة . وهذا لا يوجد فى صلاة غيره فلا تكون الصلاة على القبر مشروعة لغيره (ورد) ابن حبان ذلك بأن ترك إنكاره صلى الله عليه وسلم على من صلى معه على القبر يدل على جواز ذلك لغيره ، وأنه ليس من خصائصه صلى الله عليه وسلم وأيضا فإن مجرد كون الله ينور القبور بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم عليه الا ينفى مشروعية الصلاة على القبر لغيره اقتداء به صلى الله عليه وسلم وهو القائل : صلوا كما رايتمونى أصلى(3) . فهو بعمومه يشمل صلاة الجنازة .
(ب) (وأجاب) الحنفيون ايضا بأن ذلك خاص بولى الميت الذى صلى عليه وهو غائب . النبي صلى الله عليه وسلم عليه أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو وليهم (وقال) ابن القاسم : قلت لمالك : فالحديث الذى جاء أنه عليه الصلاة والسلام صلى على قبر ؟ قال : قد جاء وليس عليه العمل(4).
(
__________
(1) انظر رقم 561 .
(2) تقدم رقم 559 ص 407
(3) تقدم رقم 527 ص 383
(4) انظر ص 49 ج4 – الجوهر النقى ( الصلاة على القبر ) .(1/421)
هذا) والظاهر الذى تشهد له الأدلة الثابتة ثبوتا لا يقابله العلماء إلا بالقبول أن الصلاة على القبر جائزة فى أى وقت ، سواء فى ذلك من صلى على الميت ومن لم يصل وليس للمانعين منها دليل ناهض ( ولا ينافى ) ما ذكره حديث ابى مرثد الغنوى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تجلسوا على القبور ولا تضلوا إليها " أخرجه أحمد ومسلم والترمذى وابو داود والبيهقى(1). { 564 }
فإن المراد منه الصلاة ذات الركوع والسجود بخلاف هذه فليست منهيا عنها لفعله صلى الله عليه وسلم إياها وإقراره الصحابة على فعلها .
(15) صلاة الجنازة على النبي صلى الله عليه وسلم : الصحيح الثابت أن المسلمين صلوا على النبي صلى الله عليه وسلم افرادا لا يؤمهم أحد . وقد جاء فى هذا أحاديث ( منها ) ما قال ابن عباس : لما صلى على رسول الله صلى الله علهي وسلم أدخل الرجال فصلوا عليه بغير إمام ارسالا حتى فرغوا ثم أدخل النساء فصلين عليه ثم أدخل الصبيان فصلوا عليه ثم أدخل العميد فصلوا عليه ارسالا لم يؤمهم على النبي صلى الله عليه وسلم أحد . أخرجه البيهقى وفيه الحسين بن عبد الله تركه أحمد والنسائى وباقى رجاله ثقات(2). { 565 }
__________
(1) انظر ص 89 ج8 – الفتح الربانى ( النهى عن البناء على القبر ) وص 38 ج7 نووى مسلم . وص 154 ج2 تحفة الأحوذى ( كراهية الوطء على القبور والجلوس عليها ) وص 85 ج9 – المنهل العذب المورود ( كراهية القعود على القبر ) وص 79 ج4 بيهقى ( النهى عن الجلوس على القبور ) .
(2) انظر ص 30 ج4 بيهقى ( الصلاة على الجنازة افذاذا ) ( وارسالا ) بفتح فسكون جمع رسل بفتحتين أى افواجا وفرقا يتبع بعضهم بعضا .(1/422)
قال الشافعى رجمة الله : وذلك لعظم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأبى هو وأمى وتنافسهم فى أن لا يتولى الإمامة فى الصلاة عليه واحد وصلوا عليه مرة بعد مرة(1).
(وحديث ) سالم بن عبيد الله قال : دخل ابو بكر رضى الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم حين مات ثم خرج فقيل له : توفى النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : نعم ، فعلموا أنه كما قال . قيل : ويصلى عليه وكيف يصلى عليه ؟ قال : يجيئون عصبا عصبا فيصلون عليه ، فقالوا : هل يدفن وابن ؟ فقال : حيث قبض الله روحه ، فإنه لم يقبض الله روحه إلا فى مكان طيب . أخرجه البيهقى(2). { 566 }
(وحديث ) ابى عمران الجونى عن أبى عسيب أو أبى عسيم أنه شهد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا : كيف نصلى عليه ؟ قال : " ادخلوا ارسالا ارسالا فكانوا يدخلون من هذا الباب فيصلون عليه ثم يخرجون من الباب الآخر " ( الحديث ) أخرجه أحمد بسند رجاله الصحيح(3). { 567 }
(
__________
(1) انظر ص 30 ج4 بيهقى ( الصلاة على الجنازة افذاذا ) ( وارسالا ) بفتح فسكون جمع رسل بفتحتين أى افواجا وفرقا يتبع بعضهم بعضا .
(2) انظر ص 30 ج4 بيهقى . و( عصبا) بضم ففتح جمع عصبة بضم فسكون وهى الجماعة من العشرة إلى الأربعين
(3) انظر ص 204 ج7 – الفتح الربانى ( مشروعية الصلاة على الأنبياء ) وص 81 ج5 مسند أحمد ( أو ابى عسيم ) مصغر شك من الراوى وهو صحابى لا تضر جهالته (والحديث) تمامه : فلما وضع فى لحده صلى الله عليه وسلم قال المغيرة : قد بقى من رجليه شىء لم يصلحوه قالوا : فادخل فاصلحه فدخل وأدخل فمس قدميه فقال : اهيلوا على التراب حتى بلغ أنصاف ساقيه ثم خرج فكان يقول : أنا احدثكم عهدا برسول الله صلى عليه وسلم .(1/423)
والظاهر ) أن أبا عسيب علم ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته ، فلما راى الصحابة يسال بعضهم بعضا عن كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بما علم . (ويؤيده) ما فى حديث ابن مسعود " قلنا : فمن يصلى عليك يا رسول الله ؟ فبكى وبكينا وقال : مهلا ، غفر الله لكم وجزاكم عن نبيكم خيرا إذا غسلتمونى ووضعتمونى على سريرى فى بيتى هذا على شفير قبرى فاخرجوا عنى ساعة فإن أول من يصلى على خليلى وجليسى جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت مع جنوده ثم الملائكة عليهم السلام ، وليبدأ بالصلاة على رجال أهل بيتى ثم نساؤهم ، ثم ادخلوا على افواجا أفواجا وفرادى فرادى فصلوا على ولا تؤذونى بباكية ولا صارخة ولا رانة ولا بضجة ، ومن كان غائبا من اصحابى فابلغوه عنى السلام " ( الحديث ) أخرجه البيهقى والبزار من عدة طرق بسند رجاله موثقون(1). { 568 }
وإنما لم يؤمهم أحد ليباشر كل واحد من الناس الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بلا توسط أحد ، ولتكرر صلاة المسلمين عليه مرة بعد أخرى من كل فرد فرد من كل الصحابة رجالهم ونسائهم وصبيانهم .
(16) الصلاة على الصغير : يصلى كالكبير لعموم الأدلة ( ولحديث ) المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الطفل يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة " أخرجه أحمد والبيهقى والربعة ، وقال الترمذى : حسن صحيح(2). { 569 }
(
__________
(1) انظر ص 25 ج9 مجمع الزوائد ( وداعه صلى الله عليه وسلم) .
(2) انظر ص 207 – الفتح الربانى ( الصلاة على الصغير ) وص 11 ج9 – المنهل العذب المورود ( المشى أمام الجنازة ) وص 276 ج1 مجتبى ( الصلاة على الأطفال) وص 236 ج1 – ابن ماجه . وص 144 ج2 تحفة الأحوذى .(1/424)
وقالت) عائشة " أتى النبي صلى الله عليه وسلم بصبى فصلى عليه ، فقلت : طوبى لهذا ، عصفور من عصافير الجنة لم يعمل سوءا ولم يدركه ، قال : أو غير ذلك يا عائشة ؟ خلق الله عز وجل الجنة وخلق لها أهلا وخلقهم فى اصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وخلقهم فى أصلاب آبائهم " أخرجه النسائى(1) . { 570 }
(وشذ) سعيد بن جبير فى قوله : لا يصلى على الصغير ما لم يبلغ ( وكذا) من قال : لا يصلى عليه ما لم يصل ، محتجين بقول عائشة رضى الله عنها : لقد توفى إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانية عشر شهرا فلم يصل عليه . أخرجه أبو داود وأحمد وقال : حديث منكر(2). { 571 }
(ورد) : (أ) بأن أكثر الرواة أثبتوا أنه صلى الله عليه وسلم صلى على إبراهيم وروايتهم أولى لأنها أصح من رواية النفى وهى مثبته ، فوجب تقديمها على النافية . (ب) أنه يجمع بينهما بأن من قال : صلى ، اراد أمر بالصلاة عليه واشتغل هو بصلاة الكسوف . ومن قال : لم يصل ، أراد لم يصل بنفسه(3).
(
__________
(1) انظر ص 286 ج1 مجتبى ( الصلاة على الصبيان ) و( طوبى ) من الطيب وهى الجنة أو شجرة فيها وقيل فرح وقرة عين ( ولم يدركه ) أى لم يدرك أوانه بالبلوغ (أو غير ذلك ) اى بل غير ذلك أحق وأولى وهو التوقف . وقد أجمع العلماء على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة ( وأجابوا) عن هذا الحديث بأنه صلى الله عليه وسلم لعله نهاها عن المسارعة الى القطع من غير دليل أو قال ذلك قبل ان يعلم أن أطفال المسلمين فى الجنة وقد صرح كثير أن التوقف فى مثله أحوط إذ ليست المسالة مما يتعلق بها عمل ولا عليها اجماع . انظر ص 276 ج1 سندى مجتبى .
(2) انظر ص 19 ج9 – المنهل العذب المورود ( الصلاة على الطفل) وص 209 ج7 – الفتح الربانى ( الصلاة على الصغير ) .
(3) انظر ص 257 ج5 مجموع النووى .(1/425)
قال) ابن عبد البر : حديث عائشة لا يصح ، ويحتمل أن يكون معناه لم يصل عليه فى جماعة ، أو أمر اصحابه فصلوا عليه ولم يحضرهم .
(هذا) وولد الزنا يغسل ويصلى عليه عند الجمهور . (وقال) قتادة : لا يصلى عليه(1)، ولا يصلى على أطفال المشركين لأن لهم حكم آبائهم إلا من حكمنا بإسلامه كأن يسلم أحد أبويه أو يموت أو يسبى منفردا عن ابويه أو عن أحدهما فإنه يصلى عليه(2).
(17) الصلاة على السقط : السقط – مثلث السين والكسر أشهر – هو فى الأصل . الولد ينزل قبل تمام مدة الحمل بينا خلقه . والمراد به هنا ما نزل ميتا أو حيا ولم تستمر حياته . ( وحكمه ) أنه إن استهل – أى وجد منه ما يدل على حياته كبكاء أو صوت بعد الولادة – ثم مات فكالكبير ، يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن ويرث ويورث اتفاقا ( لحديث ) جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا استهل الصبى صلى هليه وورث وورث " . أخرجه النسائى وابن ماجه والبيهقى(3). { 572 }
(وعنه ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الطفل لا يصلى عليه ولا يرث ولا يورث حتى يستهل . أخرجه النسائى والترمذى وقال : روى مرفوعا وموقوفا وهذا أصح(4). { 573 }
(قال) الترمذى : ذهب بعض اهل العلم إلى هذا وقالوا : لا يصلى على الطفل حتى يستهل ، وهو قول الثورى والشافعى(5)، وبه قال باقى الأئمة .
__________
(1) انظر ص 267 ج5 منه .
(2) انظر ص 219 ج2 مغنى ابن قدامة .
(3) انظر ص 236 ج1 – ابن ماجه ( الصلاة على الطفل ) وص 8 ج4 بيهقى ( السقط يغسل ويكفن ) .
(4) انظر ص 145 ج2 تحفة الأحوذى ( ترك الصلاة على الطفل حتى يستهل ) .
(5) انظر ص 145 ج2 تحفة الأحوذى ( ترك الصلاة على الطفل حتى يستهل ) .(1/426)
وإن لم يستهل سمى وغسل – وإن لم يتم خلقه – وأدرج فى خرقة إكراما لبنى آدم ودفن بلا صلاة عليه عند الحنفيين ولا يرث إن انفصل بلا جنابة(1) .
...
(وقالت) المالكية : من لم يستهل صارخا يكره غسله والصلاة عليه ولو تحرك أو بال أو عطس إن لم تتحقق حياته ، فإنه تحققت بأن رضع كثيرا أوقعت منه امور لا تكون إلا من حي وجب غسله والصلاة عليه(2) .(وقالت) الشافعية : من لم يستهل أو يختلج وتحرك حركة تدل على الحياة فالصحيح أنه يغسل ويصلى عليه ، وإن لم يتحرك ولم يختلج ولم يكن منه ما يدل على الحياة . فإن لم يبلغ اربعة اشهر فلا يصلى عليه اتفاقا ولا يغسل على المذهب . وإن بلغ اربعة أشهر فالصحيح أنه يجب غسله ولا تجوز الصلاة عليه (وقال) أحمد : من لم يستهل إذا كان له اربعة أشهر غسل وصلى عليه . وقد صلى على ابن بنته ولد ميتا . ويدل له عموم ما روى المغيرة بن شعبة أن صلى الله عليه وسلم قال : والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة . أخرجه أحمد وابو داود والحاكم وصححه(3). { 574 }
(قال) الترمذى : والعمل عليه عند بعض أهل العلم قالوا : يصلى على الطفل وإن لم يستهل بعد أن يعلم أنه خلق ، وهو قول أحمد وإسحاق(4).
(
__________
(1) بلا جناية) أما لو نزل بجناية بأن ضرب شخص بطن امرأة فالقت جنينا ميتا فإنه يرث بأن مات ابوه قبل انفصاله ويورث ما وجب فيه وهو الغرة لأنه فى حكم الحى . والغرة ( بضم فشد الراء ) نصف عشر الدية – خمس من الإبل أو خمسمائه درهم – وتمامه بصفحة 123 وما بعدها من إرشاد الرائض ( الحمل ) .
(2) انظر ص 173 ج1 صغير الدردير .
(3) انظر ص 207 ج7 – الفتح الربانى ( الصلاة على الصغير والسقط ) وص 11 ج9 – المنهل العذب المورود ( المشى أمام الجنازة ) .
(4) انظر ص 145 ج2 تحفة الأحوذى .(1/427)
فاما) من لم يكن له اربعة اشهر ، فإنه لا يغسل ولا يصلى عليه ولف فى خرقة ويدفن . فإن لم يتبين أهو ذكر أم أنثى ؟ سمى باسم يصلح للذكر والأنثى كسلمة وقتادة وهند وعتبة ، وهذا مستحب ( لحديث ) ابى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : سموا أسقاطكم فإنهم من افراطكم . أخرجه ابن عساكر وحسنه السيوطى(1). { 575 }
(18) الصلاة على المقتول : القتيل فى حد أو قصاص يجب أن يغسل ويصلى عليه عند الحنفيين والشافعى وأحمد والجمهور ( لحديث )عبد الله بن بريدة عن ابيه أن أمرأة من غامد أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : أنى قد فجرت قال : ارجعى . فرجعت ، فلما كان الغد اتت فقالت : لعلك أن تردنى كما رددت ما عز بن مالك فوالله إنى لحبلى ( الحديث ) وفيه : فأمر بها فحفر لها وأمر بها فرجمت . وكان خالد بن الوليد فيمن يرجمها وسبها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا خالد فوالذى نفسى بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له " وأمر بها فصلى عليها ودفنت . أخرجه أحمد ومسلم وابو داود(2). { 576 }
__________
(1) انظر رقم 4713 ص 113 ج4 فيض القدير للمناوى ( والأفراط) جمع فرط بفتحتين وهو من يتقدم القوم ليهيىء لهم منازل الآخرة ومقامات الأبرار . " وأما " خبر : أن عائشة اسقطت من النبى صلى الله عليه وسلم سقطا فسماه عبد الله وكناها به " فلا يصح " .
(2) انظر ص 202 ج11 نووى ( حد الزنا ) وص 152 ج9 عون المعبود ( المرأة التى أمر النبى صلى الله عليه وسلم برجمها ) .(1/428)
والأحاديث فى هذا كثيرة . (قال) مالك : يكره للإمام وأهل الفضل الصلاة على من قتل فى حد زجرا للناس لئلا يجترثوا على مثل فعله . ( ولقول ) ابى بشر : حدثنى نفر من أهل البصر عن ابى برزة الأسلمى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على ما عز بن مالك ، ولم ينه عن الصلاة عليه . أخرجه وابو داود والبيهقى(1) . {577 }
(وحديث ) جابر بن عبد الله رضى الله عنهما أن رجلا من اسلم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف بالزنا ( الحديث ) وفيه : فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خيرا ولم يصل عليه . أخرجه وابو داود والنسائى(2){578 }
(وأجاب ) الجمهور : (أ) عن حديث ابى بشر بأنه ضعيف لأن فى سنده مجاهيل . (ب) وعن حديث جابر بأن قوله فيه ولم يصل عليه . أى حين رجم فلا ينافى أنه صلى الله عليه وسلم بعد (فقد) روى ابو أمامه بن سهل بن حنيف فى قصة ماعز قال : فقيل : يا رسول الله أتصلى عليه ؟ قال : لا فلما كان من الغد قال : صلوا على صاحبكم ، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلموالناس . أخرجه عبد الرازق(3). { 579 }
فهذا الخبر يجمع بين الروايات . فتحمل رواية نفى الصلاة على أنه لم يصل عليه حين رجم ورواية الإثبات على أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليه فى اليوم الثانى وايضا فإن رواية الإثبات أقوى لأنها من رواية الصحيح .
(19) الصلاة على العضاة : العصاة جمع عاص وهو من ارتكب ما يغضب الله تعالى كالباغى وقاطع الطريق ومن يسمى فى الرض بالفساد وقاتل نفسه متعمدا والكلام عليهم من جهة الصلاة ينحصر فى اربعة أقسام :
(
__________
(1) انظر ص 18 ج9- المنهل العذب المورود ( الصلاة على من قتلته الحدود ) وص 19 ج4 بيهقى .
(2) انظر ص 216 ج7 – الفتح الربانى ( هل يصلى الإمام على من قتل فى حد ؟ ) وص 256 ج4 عون المعبود ( رجم ماعز) وص 278 ج1 مجتبى ( ترك الصلاة على المرجوم ) .
(3) انظر ص 107 ج12 فتح البارى ( الرجم بالمصلى ) .(1/429)
أ) من قتل من البغاة وقطاع الطريق ومن يعثو فى الأرض فسادا يغسل – فرقا بينه وبين الشهيد – يكفن ويدفن بلا صلاة عليه إهانة له عند الحنفيين (فقد ) روى عن على رضى الله عنه أنه لم يصل على أهل نهروان . فقيل له : أكفار هم ؟ فقال : لا ، ولكن هم إخواننا بغوا علينا . اشار إلى أنه ترك الصلاة عليهم إهانة لهم ليكون زجرا لغيرهم . وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضى الله عنهم ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعا(1). (وقال) الشافعى وأحمد : يصلى على العصاة لأنهم مسلمون قال تعالى : " وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّه "(2) . (وروى) مكحول عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : صلوا خلف كل بر وفاجر وصلوا على كل بر وفاجر . أخرجه البيهقى وقال : مكحول لم يسمع من ابى هريرة ومن دونه ثقات . وقال الحاكم : هذا حديث منكر(3). { 580 }
(وقال) البيهقى : قد روى – فى الصلاة على كل بر وفاجر والصلاة على من قال : لا إله إلا الله – أحاديث كلها ضعيفة غاية الضعف ، وأصح ما روى فى هذا الباب حديث مكحول عن ابى هريرة . (قال) مالك : لا يصلى الإمام وأهل الفضل على العصاة .
(وإذا ) قتلت البغاة رجلا من أهل العدل كفن فى ثيابه الصاحلة للكفن وصلى عليه بلا غسل عند الحنفيين لأنه شهيد (وقال ) مالك والشافعى : يجب غسله والصلاة عليه وهو رواية عن أحمد ( وعنه) أنه لا يغسل ولا يصلى عليه(4).
(
__________
(1) انظر ص 312 ج1 بدائع الصنائع . و(نهروان) – بفتح فسكون – مدينة واسعة بين بغداد وواسط من الجانب الشرقى . كان بها وقعة لعلى رضى الله عنه مع الخوارج . انظر ص 347 ج8 معجم البلدان
(2) الحجرات : 9
(3) انظر ص 19 ج4 بيهقى ( الصلاة على من قتل نفسه ) .
(4) انظر ص 267 ج5 مجموع النووى .(1/430)
ب) ولا يصلى على من قتل نفسه متعمدا عند ابى يوسف والأوزاعى ( لحديث ) جابر بن سمرة قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه . أخرجه مسلم والنسائى والترمذى وحسنه والبيهقى(1). { 581 }
(وقال) البيهقى : قد روينا عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلى أنه صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك ليحذر الناس بترك الصلاة عليه فلا يرتكبوا كما ارتكب .( وقال) الترمذى : قد اختلف اهل العلم فى هذا ، فقال بعضهم يصلى على كل من صلى للقبلة وعلى قاتل النفس وهو سفيان الثورى وإسحاق . (وقال) أحمد : لا يصلى الإمام على قاتل النفس ويصلى عليه غير الإمام وكذا الخائن فى الغنيمة (لحديث ) زيد بن خالد الجهنى رضى الله عنه أن رجلا من المسلمين توفى بخيبر وأنه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : صلوا على صاحبكم ، فتغيرت وجوه القوم لذلك ، فلما رأى الذى بهم قال : إن صاحبكم غل فى سبيل الله ففتشنا متاعه فوجدنا فيه خرزا من خرز اليهود ما يساوى درهمين . أخرجه أحمد وابو داود والنسائى وابن ماجه بسند رجاله رجال الصحيح(2). { 582 }
(وقال) النعمان ومحمد بن الحسن ومالك والشافعى : يصلى على قاتل النفس والغال الإمام وغيره كسائر العصاة لعموم الأدلة على طلب صلاة الجنازة .
(
__________
(1) انظر ص 47 ج7 نووى مسلم ( ترك الصلاة على قاتل نفسه ) وص 279 ج1 مجتبى . وص 191 ج2 تحفة الأحوذى ( من يقتل نفسه لم يصل عليه ) وص 19 ج4 بيهقى ( الصلاة على من قتل نفسه غير مستحل لقتلها ) (والمساقص ) جمع مشقص- كمنبر – نصل عريض أو سهم فيه ذلك يرمى به الوحش أو غيره .
(2) انظر ص 121 ج7 – الفتح الربانى ( ترك الإمام الصلاة على الغال ونحوه ) وص 20 ج3 عون المعبود ( تعظيم الغلول ) وص 278 ج1 مجتبى ( الصلاة على من غل ) وص 102 ج2 – ابن ماجه ( الغلول ( وغل) بفتح فشد أى خان فى الغنيمة قبل القسمة وهو محرم بالإجماع .(1/431)
وأجابوا) عن حديث جابر بن سمرة وزيد بن خالد بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ترك الصلاة على قاتل نفسه وعلى الغال عقوبة لهما وزجرا للناس عن الوقوع فى مثل ذنبهما كما ترك الصلاة على الدين زجرا للناس عن التساهل فى الدين وإهمال الوفاء به . ولما اتسعت الفتوحات وكثر المال صار يصلى على المدين ويسدد دينه كما تقدم .
(جـ) سائر العصاة غير من تقدم يصلى عليهم اتفاقا لعموم الأدلة . (قال ) ابن سيرين : ما أعلم أن احد من أهل العلم ولا التابعين ترك الصلاة على أحد من أهل القبلة تاثما(1) .
(وقال) ابو غالب : قلت لبى أمامه : الرجل يشرب الخمر فيموت يصلى عليه ؟ قال : نعم ، لعله اضطجع على فراشه مرة فقال لا إله إلا الله ، فغقر له بها أخرجهما ابن ابى شيبه(2).
(فإذا قتل) أو مات تارك الصلاة غسل وكفن وصلى عليه ودفن فى مقابر المسلمين كما يفعل بسائر اصحاب الكبائر على الصحيح عند الأئمة (وقال) بعض الشافعية : لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ويطمس قبره تغليظا عليه وتحذيرا من حاله وهو قول ضعيف ليس عليه من دليل(3) .
(قال) أحمد : من استقبل قبلتنا وصلى صلاتنا نصلى عليه وندفنه كما يصلى على ولد الزنا وعلى الزانية ( وسئل ) عمن لا يعطى زكاة ماله فقال : يصلى عليه ، ما نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة على أحد إلا على قاتل والغال . وبهذا قال الأئمة الأربعة وغيرهم (4) .
(
__________
(1) تأثما) أى خوفا من الوقوع فى الإثم .
(2) انظر ص 213 ج7 – الفتح الربانى (الشرح)
(3) انظر ص 268 ج5 مجموع النووى
(4) انظر ص 419 ج2 مغنى ابن قدامة .(1/432)
وأما) قول ابى قتادة : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعى لجنازة سال عنها فإن اثنى عليها خير قام فصلى عليها وإن أثنى عليها غير ذلك قال لأهلها : شأنكم بها ولم يصل عليها . أخرجه أحمد بسند صحيح (1) . { 583 }
( فمحمول) على المنافقين لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن بالمدينة منافقين والله امره بعدم الصلاة عليهم بقوله : " وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً "(2) ، لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعي لجنازة سال عنها ، فإن ذكرت بخير صلى عليها ، وإن ذكرت بشر قال لأهلها : شأنكم بها ولم يصل عليها . وإنما قلنا ذلك لأنه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه ترك الصلاة على مسلم غير الغال وقاتل نفسه وكذا المدين في أول الأمر .
(د) المبتدعة والخوارج :(قال) الحنفيون والشافعي : يصلى عليهم كغيرهم من المسلمين لعموم الأدلة ( وقال ) أحمد : لا اشهد الجهمية ولا الرافضة(3) ويشهدهم من شاء 0وقال) الفريابى : من شتم أبا بكر فهو كافر لا أصلي عليه .
(وقال) أحمد : أهل البدع لا يعادون إن مرضوا ولا تشهد جنائزهم إن ماتوا ، وبهذا قال مالك لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة لأقل من هذا وهو الدين والغلول فأولى أن تترك الصلاة به(4).
(
__________
(1) انظر ص 213 ج7 – الفتح الربانى ( ترك الإمام الصلاة على الغال وقائل نفسه ونحوهما ) .
(2) التوبة :84
(3) الجهمية ) هم اصحاب جهم بن صفوان . يقولون ك لا قدرة للعبد اصلا ولو كسا بل العبد بمنزلة الجماد . وأن الجنة والنار تفنيان بعد دخول أهلهما حتى لا يبقى إلا الله . ( والرافضة ) شرذمة شغلت نفوسها بالخروج عن حد الاستقامة ولعن ابى بكر وعمر رضى الله عنهما وتكفيرهما والتبرؤ منهما .
(4) انظر ص 419 ج2 مغنى ابن قدامة(1/433)
وروى) ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن لكل أمة مجوسا وإن مجوس أمتي الذين يقولون لا قدر ، إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم . أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه والترمذى وحسنه وكذا ابن ماجة عن جابر وزاد : وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم(1).
{ 584 }
(وقال) ابن حزم ك يصلى على كل مسلم بر أو فاجر مقتول في حد أو في حرب أو في بغى يصلى عليهم الإمام وغيره . وكذا على المبتدع مالم يبلغ الكفر وعلى من قتل نفسه أو غيره إذا مات مسلما لعموم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : صلوا على صاحبكم . فمن منع من الصلاة على مسلم فقد قال قولا عظيما وإن الفاسق لأحوج إلى دعاء إخوانه المؤمنين من الفاضل المرحوم .
(20) ما يفسد صلاة الجنازة : تفسد بما يفسد به سائر الصلوات من الكلام ونحوه والحدث والأكل والشرب والعمل الكثير والتحول عن القبلة وترك شرط من شروطها أو ركن من أركانها بلا عذر على ما تقدم بيانه في مبطلات الصلاة (2)، غبر أن الحنفيين قالوا : (أ ) إن محاذاة المرأة للرجل لا تبطل صلاة الجنازة وإن أبطلت غيرها على ما تقدم في بحث ( وقوف المرأة في صف الرجال )(3).
(ب) القهقهة في صلاة الجنازة لا تنقص الطهارة ، لأن القهقهة عرفت حدثا بالنص الوارد في صلاة مطلقة فلا يجعل واردا في غيرها(4)، لكن لو سبقه الحدث في صلاة الجنازة يبنى وإن عرف البناء بنص وارد في صلاة مطلقة . والفرق :
(
__________
(1) انظر ص 140 ج1 – الفتح الربانى ( هجر المكذبين بالقدر) وص 222 ج4 عون المعبود ( القدر ) وص 25 ج1 – ابن ماجه
(2) انظر ص 2 ج4 – الدين الخالص
(3) تقدم أن الراجح القول بعدم فساد صلاة الرجل بمحاذاة المرأو . انظر ص 145 وما بعدها ج3 – الدين الخالص .
(4) تقدم أن الراجح نقض الوضوء بالقهقهة فى الصلاة . انظر ص 259 وص 260 ج1 – الدين الخالص طبعة ثانية .(1/434)
أ) أن القهقهة جعلت حدثا لقبحها في الصلاة وقبحها يزداد بزيادة حرمة الصلاة ، ولا شك أن حرمة الصلاة المطلقة فوق حرمة صلاة الجنازة . فكان قبحها في الصلاة المطلقة فوق قبحها في صلاة الجنازة فجعلها حدثا هناك لا يدل على جعلها حدثا هنا . (ب) وكذا المحاذاة جعلت مفسدة في الصلاة تعظيما لها وليست صلاة الجنازة مثل تلك في التعظيم بخلاف البناء لأن الجواز وتحمل المشي في أعلى العبادتين يوجب في أدناهما(1).
(فائدة) في الشهادة للميت وعليه : يجوز الثناء على الميت مطلقا(2) ، ويجوز ذكر مساوئ المنافق والمجاهر بالفسق والبدعة للتحذير من طريقهم والتنفير من التخلق بأخلاقهم (لقول) أنس : مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وجبت وجبت وجبت . فقال عمر : فذاك أبي وأمي ، مر بجنازة فأثنى عليها خيرا فقلت وجبت ثلاثا ، ومر بجنازة فاثنى عليها شرا فقلت وجبت ثلاثا ؟ فقال : من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ، ومن اثنتيم عليه شرا وجبت له النار . انتم شهداء الله في الأرض ثلاثا . أخرجه أحمد والشيخان والنسائي والبيهقى(3). { 585 }
المخاطب في هذا الحديث الصحابة ومن على شاكلتهم من المؤمنين الصالحين .
(
__________
(1) انظر ص 316 ج1 بدائع الصنائع ( ما تفسد به صلاة الجنازة ) .
(2) أما الحى فإنه منهى عن الثناء عليه اذا افضى إلى الإطراء خشية عليه من العجب والفخر .
(3) انظر ص 40 ج8 – الفتح الربانى ( ثناء الناس على الميت ) وص 148 ج3 فتح البارى . وص 18 ج7 نووى . وص 273 ج1 مجتبى ( الثناء ) وص 75 ج4 بيهقى ( وجبت) فى رواية أحمد ومسلم : وجبت ثلاثا . وأنتم شهداء الله فى الأرض ثلاثا للتأكيد والاهتمام . والمراد بوجوب الجنة استحقاقها وثبوتها لذى الخير بمحض فضل الله تعالى ، لأن الثواب من فضل الله تعالى والعقاب عدل منه . وذكر الثناء فى جانب الشر مشاكلة وإلا فالثناء لا يستعمل إلا فى الخير واستعماله فى الشر شاذ .(1/435)
وروى) ثابت البنانى عن أنس قال : مر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال : وجبت . ثم مر بأخرى فاثنوا عليها شرا فقال وجبت . فقيل : يا رسول الله ، قلت لهذا وجبت ولهذا وجبت ؟ قال : شهادة القوم ، المؤمنون شهداء الله في الأرض . أخرجه البخاري(1). { 586 }
فالمعول عليه في ذلك شهادة أهل الفضل والصلاح والصدق والأمانة بخلاف الفسقة لأنهم قد يذكرون أهل الفسق بالخير وأهل الفضل والصلاح بالشر فليسوا داخلين في هذا الحديث . ومصداقه قول الله تعالى:"وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا "(2) أي جعلناكم عدولا خيارا تشهدون على غيركم من الأمم ويكون الرسول مزكيا لكم مبينا عدالتكم . ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذكر مساوئ الميت – مع نهيه صلى الله عليه وسلم عن سب الأموات كما يأتي – لأن النهى عن سبهم إنما هم المؤمنون الصالحون . أما المنافقون والمجاهرون بالفسق فيجوز سبهم للتحذير من التخلق بأخلاقهم ( والظاهر) أن الذي اثنوا عليه شرا كان من المنافقين كما تقدم عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على الذي أثنوا عليه شرا وصلى على الآخر(3) .
(
__________
(1) انظر ص 159 ج5 فتح البارى ( تعديل كم يجوز ؟) و( شهادة القوم ) مبتدأ خبره محذوف تقديره مقبولة أو هو خبر مبتدأ محذوف تقديره هذه شهادة القوم . و( المؤمنون ) مبتدأ خبره ( شهداء الله)
(2) البقرة : 143 .
(3) انظر ص 149 ج3 فتح البارى ( ثناء الناس على الميت ) وحديث ابى قتادة تقدم رقم 583 ص 421 .(1/436)
ويحتمل) أمران آخران : (أ) أن الذي كان يحدث عنه الشر كان مجاهرا به فيكون من باب : لا غيبة لفاسق .(ب) يحمل النهى على ما بعد الدفن ، والجواز على ما قبله ليتعظ به من يسمعه(1).(وقال) أبو السود الدولي : أتيت المدينة وقد وقع فيها مرض – فهم يموتون موتا ذريعا – فجلست إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه فمرت به جنازة فاثنى على صاحبها خير ، فقال عمر : وجبت . ثم مر بأخرى فأثنى على صاحبها خير ، فقال عمر : وجبت ثم مر بالثالثة فأثني عليها شر ، فقال عمر : وجبت . فقال أبو الأسود : ما وجبت يا أمير المؤمنين ؟ قال : قلت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة . فقلنا : وثلاثة ؟ فقال : وثلاثة . قلنا : واثنان ؟ قال : واثنان . ثم لم نسأله عن الواحد " . أخرجه أحمد والبخاري والنسائي والبيهقى والترمذى وقال : حسن صحيح(2). {587 }
__________
(1) انظر ص 166 ج3 فتح البارى ( ما ينهى من سب الأموات )
(2) انظر ص 43 ج8 – الفتح الربانى ( ثناء الناس على الميت) وص 149 ج3 فتح البارى . وص 273 ج1 مجتبى ( الثناء ) وص 75 ج4 بيهقى . وص 158 ج2 تحفة الأحوذى ( الثناء الحسن على الميت ) و(ابو الأسود ) اسمه ظالم بن عمرو بن سفيان . و(خير) بالرفع نائب فاعل أثنى وهو المختار . وفى اصول البخارى . خيرا وشرا بالنصب . ووجهه بعضهم بأن الجار والمجرور اقيم مقام الفاعل وخيرا مقام المفعول وهو جائز وإن كان المشهور عكسه . وقال النووى : منصوب بنزع الخافض أى أثنى عليه بخير . وقول عمر لكل منهما وجبت قاله بناء على اعتقاده صدق الوعد المستفاد من قوله صلى اله عليه وسلم : أدخله الله الجنة . أما اقتصار عمر على ذكر من شهد له بالخير فهو للاختصار . وعرف من القصة أن المثنى على كل من الجنائز المذكورة كان أكثر من واحد . أنظر ص 149 ج3 فتح البارى .(1/437)
ففي هذه الأحاديث تزكية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ، وأن لشهادة المؤمنين مدخلا في نفع المشهود له وضرر المشهود عليه . وللعلماء في ذلك قولان : (أ) أن هذا الثناء بالخير من أهل الفضل خاص بمن كان ثناؤهم مطابقا لفعاله فيكون من أهل الجنة ، فإن لم يكن كذلك فليس هو مرادا بالحديث .
(ب) الصحيح المختار أنه على عمومه وأن كل مسلم مات فألهم الله الناس أو معظمهم الثناء عليه كان ذلك دليلا على أنه من أهل الجنة ، وإن لم تكن أفعاله تقتضيه فلا تحتم عليه العقوبة بل هو في خطر المشيئة ، فإذا ألهم الله الناس الثناء عليه علمنا بذلك أن الله تعالى قد شاء المغفرة له ، وبهذا تظهر فائدة الثناء(1).
وهذا في جانب الخير واضح (ويؤيده) حديث ثابت عن انس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ط ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من جيرانه الأذنين أنهم لا يعلمون منه إلا خيرا إلا قال الله تعالى : قد قبلت علمكم فيه وغفرت له ما لا تعلمون " . أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم(2). { 588 }
(
__________
(1) انظر ص 19 ج7 نووى مسلم
(2) انظر ص 45 ج8 – الفتح الربانى ( ثناء الناس على الميت ).(1/438)
وأما) جانب الشر فظاهر الأحاديث أنه كذلك . لكن ذلك في حق من غلب شره على خيره . (ويؤيده) ما في حديث أنس قال : " كنت قاعدا عند النبي صلى الله عليه وسلم فمر بجنازة فقال : ما هذه ؟ قالوا : جنازة فلان كان يحب الله ورسوله ويعمل بطاعة الله ويسعى فيها ، فقال : وجبت وجبت وجبت . ومر بجنازة أخري قالوا : جنازة فلان كان يبغض الله ورسوله ويعمل بمعصية الله ويسعى فيها ، فقال : وجبت وجبت وجبت . قالوا : يا رسول الله ، قولك في الجنازة وجبت وجبت وجبت ؟ فقال : نعم يأبا بكر ، إن لله ملائكة تنظق على لسان بنى آدم بما في المرء من الخير والشر " . أخرجه الحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم(1). { 589 }
__________
(1) انظر ص 48 ج3– الفتح الربانى ( ثناء الناس على الميت ).(1/439)
وفى هذه الأحاديث أيضا دليل : (أ) على جواز ذكر المرء بما فيه من خير أو شر للحاجة ولا بعد ذلك غيبه . (ب) وعلى نجاة من يشهد له الصالحون بالخير ، ومحله إذا شهدوا بما يعلمون بحسب ظاهر حاله (وأما) ما اعتاده كثير من أهل الزمن من قول بعضهم بعد الصلاة على الميت : ما تشهدون فيه ؟ فيقولون : هو من أهل الخير والصلاح – وإن لم يكن كذلك – فهو بدعة ذميمة أوقعت كثيرا من الناس في شهادة الزور مخالفة لهدى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح . فقد علمت أنهم كانوا يشهدون بلا سؤال بما يعلمون في الميت : من خير أو شر . أما أهل زماننا فقد ابتدعوا السؤال وقد يشهدون زورا لأنهم لا يفرقون بين الصالح والطالح . فهم آثمون في ذلك ، فعلى العاقل اجتناب ذلك والتأسى بفعل النبي صلى الله عليه وسلم واصحابه وسلف الأمة الصالحين وليهتد بهديهم . فالخير كله في الاتباع والشر كله في الابتداع ، قال تعالى: " وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً "(1) " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"(2)
(
__________
(1) النساء : 115 .
(2) الأنعام : 153 .(1/440)
خاتمة) في سب الأموات – علمت أنه يجوز سب الميت الكافر والمنافق والمجاهر بالفسق والبدعة . أما المؤمن الصالح والفاسق غير المجاهر فيحرم سبه حيا وميتا . وعليه يحمل النهى الوارد في الأحاديث ( كحديث )عائشة رضى الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا . أخرجه أحمد والبخاري والنسائي والبيهقى(1). { 590 }
(وحديث) ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تسبوا موتانا فتؤذوا أحياءنا . أخرجه أحمد بسند جيد(2). {591 }
(وحديث ) عمران بن أنس المكي عن عطاء عن ابن عمر رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم . أخرجه أبو داود وابن حبان والبيهقى والترمذى وقال : حديث غريب سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول : عمران بن أنس منكر الحديث . وقال العقيلى : لا يتابع على حديثه(3). { 592 }
__________
(1) انظر ص 48 ج8 – الفتح الربانى ( النهى عن سب الأموات ) وص 274 ج1 مجتبى . وص 75 ج4 بيهقى . و(افضلوا ) أى وصلوا إلى جزاء ما قدموا من خير أو شر فلا يفيد سبهم .
(2) انظر ص 49 ج8 – الفتح الربانى ( النهى عن سب الأموات ) (فتؤذوا) أى فيتسبب عن الأموات أذية الأحياء من قرابتهم وليس هذا قيدا فى النهى فلا يجوز سب الأموات وإن لم يكن لهم قريب أو كان ولا يتأذى بسبهم أو لم يبلغه ، لأن علة النهى المرحمة قطعا .
(3) انظر ص 275 ج4 عون المعبود ( النهى عن سب الموتى ) وص 75 ج4 بيهقى ( والمساوى) جمع مسوى – بفتح الميم والواو – مصدر ميمى وصف به ثم جمع . أو اسم مكان .(1/441)
فهذه الأحاديث تدل بظاهرها على منع سب الأموات مطلقا . لكن هذا العموم مخصوص بغير الكافر والمنافق . فإن المؤمن الفاسق وإن جاز ذكر مساوية حال حياته ليجتنبها ويحذره الناس لا يجوز ذكرها بعد وفاته ، إذ لا فائدة فيه حينئذ ، خصوصا مع احتمال أنه مات تائبا . ( ولذا) قال الجمهور : لا يجوز لعن يزيد بن معاوية والحجاج الثقفي وغيرهما ممن كثر شره والميت الذي ذكر بالشر عند النبي صلى الله عليه وسلم كان من المنافقين لما تقدم في رواية الحاكم أنه كان يبغض الله ورسوله.(1)
(د) حمل الجنازة
هو فرض كفاية بالإجماع وليس في حملها دناءة وسقوط مروءة ، بل هو بر وطاعة وإكرام للميت ، فعله الصحابه والتابعون ومن بعدهم من أهل الفضل والعلم ثم الكلام هنا ينحصر في سنة مباحث :
(
__________
(1) ا نظر رقم 589 ص 427(1/442)
1) من يحملها : إنما يحملها الرجال سواء أكان الميت ذكرا أم أنثى لأن النساء يضعفن عن الحمل وربما انكشف منهن شيء لو حملن . ( ولحديث ) أبي سعيد الخدرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم ، فإن كانت صالحة قالت : قدموني ، وإن كانت غير صالحة قالت : يا ويلها أين تذهبون بها ؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعها لصعق . أخرجه أحمد والبخاري والنسائي والبيهقى(1).
__________
(1) انظر ص 2 ج8 – الفتح الربانى ( حمل الجنازة) ، وص 119 ج3 فتح البارى 0قول الميت وهو على الجنازة قدمونى ) ، وص 270 ج1 مجتبى ( السرعة بالجنازة) وص 21 ج4 بيهقى ( المشى بالجنازة) ، ( وضعت الجنازة) اى جعل الميت على السرير لقوله فى الحديث : فإن كانت صالحة ( ويؤيده) حديث ابى هريرة مرفوعا : إذا وضع الرجل الصالح على سريره قال قدمونى ( الحديث أحمد والنسائى . انظر ص 6 ج8 – الفتح الربانى ( حمل الجنازة ) وص 270 ج1 مجتبى والقائل الروح والحسد ز و(يسمع صوتها ) يدل على أنه قول بلسان المقال لا بلسان الحال . و( يا ويلها ) أى يا حزنها وأضافة إلى ضمير الغائب حملا على المغنى كراهية أن يضيف الويل إلى نفسه ( ويؤيده) ما فى حديث ابى هريرة السابق : وإذا وضع الرجل السوء على سريرة قال يا ويله اين تذهبون بى ويحتمل أنه لما ابصر نفسه غير صالحة تفرعنها وجعلها كأنها غيره (ولو سمعها ) أى سمع صوت النفس السوء ( لصعق ) من باب تعب أى لغشى عليه من شدة ما يسمعه من الدعاء بالويل فغنه يصحح بصوت منكر . وهذا بالنسبة للميت السوء . وأما الصالح فمن شأنه اللطف والرفق فى الكلام فلا يصعق من يسمع كلامه أن يحصل الصعق من كلام الصالح لكونه غير مألوف ( وقد) روى ابن منده الحديث بلفظ ك لو سمعه الإنسان لصعق من المحسن والمسىء ( فإن قيل) ورد فى حديث السؤال فى القبر : فضربه ضربة فيصعق صعقة يسمعها كل شىء إلا الثقلين ..وفى حديث الباب استثنى الإنسان فقط ( والجواب) أن كلام الميت لا يقتضى الصعق إلا من الآدمى لكونه لم يالف سماع كلام الميت بخلاف الجن . وأما صيحة المضروب فى القبر فإنها غير مالوفة للانس والجن جميعا . انظر ص 12 ج3 فتح البارى 0قول الميت وهو على الجنازة قدمونى )(1/443)
قال واحتملها الرجال ، ولم يقل : واحتملت . فدل على تخصيص الرجال بحملها (أصرح) من هذا في منعهن من الحمل ( حديث ) انس قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فرأى نسوة فقال : أتحملنه ؟ قلن : لا . قال : أتدفنه ؟ قلن : لا .قال : فارجعن مأزورات غير مأجورات . أخرجه أبو يعلى وفيه الحارث بن زياد ضعيف(1). { 594 }
ولأن الجنازة لا أن يشبعها الرجال ، فلو حملها النساء لكان ذلك ذريعة إلى اختلاطهن بالرجال فيؤدى إلى الفتنة(2).
(2) كيفية حمل الجنازة : يسن أن يحملها أربعة من الرجال إن كان الميت كبيرا فيكره كون الحامل اقل من ذلك والحمل على الدابة والظهر ونحوه مما لا إكرام فيه . وأما الصغير فلا باس أن يحمله واحد . ( ويسن) أن يبدأ الحامل بمقدم الجنازة يضعه على كتفه الأيمن ثم يضع مؤخرها عليه ثم يضع مقدمها على يساره ثم مؤخرها على يساره ( لقول) ابن مسعود رضى الله عنه : " إذا تبع أحدكم الجنازة فليأخذ بجوانب السرير الربعة بعد أو يذر فإنه من السنة " . أخرجه البيهقى وابن ماجة وأبو داود الطيالسى بسند رجاله ثقات وهو موقوف في حكم المرفوع لقوله : فإنه من السنة(3). { 595 }
(وعن) أنس بن مالك رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من حمل جوانب السرير الأربع كفر الله عنه أربعين كبيرة " . أخرجه الطبرانى في الأوسط وفيه : على بن أبى سارة وهو ضعيف(4). { 596 }
(
__________
(1) انظر ص 118 ج3 فتح البارى ( حمل الرجال الجنازة دون النساء ) وص 28 ج3 مجمع الزوائد - ( اتباع النساء الجنائز ) .
(2) انظر ص 118 ج3 فتح البارى .
(3) انظر ص 20 ج4 بيهقى ( حمل الجنازة ) وص 232 ج1 – ابن ماجه ( ما جاء فى شهود الجنائز )
(4) انظر ص 26 ج3 مجمع الزوائد ( حمل السرير) .(1/444)
وبهذا) قال الحنفيون وروى عن أحمد والشافعي . وعن أحمد أنه يدور على السرير فيأخذ بعد ياسرة المؤخرة يامنة المؤخرة ثم المقدمة ( ومشهور) مذهب الشافعي أن الأفضل أن يحمل بين العمودين ( لحديث) إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده قال : " رأيت سعد بن أبي وقاص في جنازة عبد الرحمن بن عوف قائما بين العمودين المقدمين واضعا السرير على كاهله " أخرجه الشافعي والبيهقى(1) .
{ 597 }
(هذا) ويحرم حمل الجنازة على هيئة مزرية كحملة في قفة وغرارة وعلى هيئة يخاف منها سقوطه . فإن خيف تغيره قبل أن يهيأ له ما يحمل عليه فلا باس أن يحمل على الأيدي والرقاب حتى يوصل إلى القبر(2).
(فائدة) يطلب ستر سرير المرأة بمكبة توضع فوق النعش ، وتغطى بثوب لتستر المرأة عن أعين الناس . والصحيح أن أول من اتخذ لها نعش مستور فاطمة الزهراء .
(روت) أم جعفر بنت محمد بن جعفر أن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم قالت : يا سماء إني قد استفتحت ما يصنع بالنساء ، إنه يطرح على المرأة الثوب فيصفها . فقالت أسماء : ألا أريك شيئا رايته بأرض الحبشة ؟ فدعت بجرائد رطبة فحنتها ثم طرحت عليها ثوبا . فقالت فاطمة رضى الله عنها : ما أحسن هذا وأجمله ؟ يعرف به الرجل من المرأة ، وأوصت أن يتخذ لها ذلك ، ففعلوه " أخرجه البيهقى(3). { 598 }
(
__________
(1) انظر ص 20 ج4 بيهقى ( من حمل الجنازة فوضع السرير على كاهله بين العمودين ) .
(2) انظر ص 270 ج5 مجموع النووى
(3) انظر ص 34 ج4 بيهقى ( ما ورد فى النعش للنساء ) وتقدم الحديث تاما بهامش رقم 528 ص 384 ( سنن صلاة الجنازة ) .(1/445)
وأما) ما قيل من أن أول ما اتخذ ذلك في جنازة زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه أمر بذلك ( فباطل) غير معروف (قال) النووي : نبهت عليه لئلا يغتر به(1).
(3) كيفية السير في الجنازة : يسن لحامليها الإسراع بها إسراعا وسطا لا يضطرب معه الميت على النعش ولا يحصل منه مشقة على الحامل أو المشيع (لحديث ) سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخيرا تقدمونها إليه ، وإن تك سوى بذلك فشر تضعونه عن رقابكم " أخرجه السبعة والبيهقى(2). { 599 }
(وقال) عطاء : حضرنا مع ابن عباس جنازة ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إذا رفعتم نعشها فلا تزعزعونها ولا تزلزلوها " أخرجه أحمد ومسلم(3). { 600 }
(
__________
(1) انظر ص 271 ج5 مجموع النووى ، ولعل مستند هذا القائل ( ما روى) عن اسماء بنت عميس أن ابنة للنبى صلى الله عليه وسلم توفيت ، وكانوا يحملون الرجال والنساء على الاسرة سواء فقالت يارسول الله : إننى كنت بالحبشة وهم يجعلون للمرأة نعشا فوقه أضلاع يكرهون أن يوصف شىء من خلقها أفلا أجعل لابنتك نعشا مثله ؟ فقال : اجعليه فهى ( أى اسماء ) اول من جعل نعشا فى الإسلام لرقية بنت النبى صلى الله عليه وسلم . أخرجه الطبرانى فى الأوسط وفيه خلف بن راشد وهو مجهول انظر ص 26 ج3 جمع زوائد 0 ستر سرير المراة ) .
(2) انظر ص 7 ج8 – الفتح الربانى ( حمل الجنازة والإسراع بها ) وص 119 ج3 فتح البارى ( الشرعة بالجنازة) وص 12 ج7 نووى . وص 11 ج9 – المنهل العذب المورود . وص 270 ج1 مجتبى . وص 232 ج1 – ابن ماجه (شهود الجنازة ) وص 138 ج2 تحفة الأحوذى . وص 21 ج4 بيهقى .
(3) انظر ص 4 ج8 – الفتح الربانى ( حمل الجنازة والإسراع بها ) ( والزعزعة والزلزلة ) الحركة الشديدة .(1/446)
وروى) عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه أنه كان في جنازة عثمان بن أبي العاص وكنا نمشى مشيا خفيفا فلحقنا أبو بكرة فرفع سوطه فقال : " لقد رايتنا ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم نرمل رملا " . أخرجه أبو داود والنسائي والبيهقى والحاكم بأسانيد صحيحة(1). { 601 }
(وهذا) مستحب باتفاق العلماء . وشذ ابن حزم فقال بوجوب الإسراع بالجنازة . وهو عند بعض السلف والحنفيين المشي بها مسرعين دون الخبب(2).
(وقال) الشافعي والجمهور : المراد بالإسراع ما فوق المشي المعتاد ، ويكره الإسراع الشديد . ومال القاضي عياض إلى نفى الخلاف فقال : من استحب الإسراع أراد الزيادة على المشي المعتاد من كرهه أراد الإفراط فيه كالرمل(3).
(4) تشييع الجنازة : تشييعها فرض كفاية بالسنة وإجماع الأمة (روى) أبو سعيد الخدرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عودوا المريض وامشوا مع الجنازة تذكركم الآخرة " . أخرجه أحمد البزار بسند رجاله ثقات(4). { 602 }
(
__________
(1) انظر ص 13 ج9 – المنهل العذب المورود ( الإسراع الجنازة ) وص 271 ج1 مجتبى . وص 22 ج4 بيهقى . وص 445 ج3 مستدرك . و(ابو بكر) بقيع ( بالتصغير ) ابن الحارث . و(نرمل) من باب طلب أى نسير سيرا فوق المعتاد ودون الهرولة .
(2) الخبب ) بفتحتين خطو فسيح دون ( العنق ) بفتحتين وهو شدة الإسراع فى السير .
(3) انظر ص 119 ج3 فتح البارى ( السرعة بالجنازة) .
(4) انظر ص 29 ج3 مجمع الزوائد ( اتباع الجنازة )(1/447)
وقد) ورد في فضل تشييع الجنازة أحاديث تقدم بعضها في ( فضل الصلاة على الميت)(1)فيستحب للرجال اتباع الجنازة حتى تدفن ، وهو مجمع عليه هذا ، ويجوز المشي أمامها وخلفها وحيث شاء (لحديث) أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أنتم مشيعون فامشوا بين يديها وخلفها وعن يمينها وعن شمالها وقريبا منها " أخرجه أبو الحسن رزين بن معاوية . وذكره البخاري معلقا(2). { 603 }
والأفضل عند مالك والشافعي وأحمد والجمهور المشي أمامها (لقول) ابن عمر رضى الله عنهما : " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة " . أخرجه أحمد والأربعة(3). { 604 }
(وفى) رواية لأحمد عن ابن عمر وعثمان رضى الله عنهم (وحكمه) ذلك أن المشبع شفيع والشفيع يتقدم المشفوع له . وقد ورد في هذا آثار (منها) قول أبى حازم : " رأيت أبا هريرة والحسن بن على رضى الله عنهما يمشيان أمام الجنازة " أخرجه البيهقى(4).( وقول) أبي حازم : " رأيت عبد الله بن عمر وحسن بن على وابن الزبير يمشون أمام الجنازة حتى وضعت " أخرجه البيهقى(5) .
(
__________
(1) انظر ص 352 وما بعدها .
(2) انظر ص 300 ج3 تيسير الوصول ( تشييع الجنازة) وص 118 ج3 فتح البارى ( السرعة بالجنازة )
(3) انظر ص 15 ج8 – الفتح الربانى ( المشى أمام الجنازة وخلفها ) وص 10 ج9 – المنهل العذب المورود وص 275 ج1 مجتبى ( مكان الماشى من الجنازة ) وص 127 ج2 تحفة الأحوذى وص 233 ج1 – ابن ماجه ( شهود الجنازة ) .
(4) انظر ص 24 ج4 بيهقى ( المشى أما الجنازة) .
(5) انظر ص 24 ج4 بيهقى ( المشى أما الجنازة) .(1/448)
وقال) الحنفيون والأوزاعى : الأفضل المشي خلفها (لقول) البراء بن عازب رضى الله عنه : " امرنا النبي صلى الله عليه وسلم باتباع الجنازة وعيادة المريض " ( الحديث أخرجه الشيخان والنسائي(1). 605 }
والمتبع هو الماشي خلف لا المتقدم ( وروى) مسروق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لكل أمة قربان وإن قربان هذه الأمة موتاها فاجعلوها موتاكم بين أيديكم " . أخرجه ابن أبي شيبه بسند صحيح مرسلا(2). { 606 }
وتقدم أحاديث كثيرة – معظمها قوى بالغ القوة وغالب أسانيدها صحاح وحسان ورجالها ثقات – تدل على أن الأفضل اتباع الجنازة والمشى خلفها . ومنه تعلم أنه لا وجه لقول البيهقى : أحاديث المشي خلفها كلها ضعيفة ( ومما ) ورد في هذا ( قول) طاوس : " ما مشى النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات إلا خلف الجنازة " أخرجه عبد الرازق وهو صحيح مرسل(3). { 607 }
(
__________
(1) انظر ص 72 ج3 فتح البارى ( الأمر باتباع الجنائز) وص 31 ج14 نووى ( تحريم الذهب والحرير على الرجل) وص 275 ج1 مجتبى ( الأمر باتباع الجنائز) ولفظ الحديث تاما عند البخارى قال البراء : امنا النبى صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع : امرنا باتباع الجنائز وعيادة المريض وإجابة الداعى ونصر المظلوم وابرار القسم ورد السلام وتشميت العاطس ونهانا عن آنية الفضة وخاتم الذهب والحرير والديباج ( ما سداه ولحمته حرير ) والقسى 0 بفتح القاف وشد السين مكسورة ) نسبة إلى القس قرية قرب دمياط – وهو ثياب مخططة من ثياب الشهرة ( انظر هامش ص 249 ج6 – الدين الخالص ) والإستبراق ( ما غلظ من الحرير ) والمياثر( جمع ميثرة بكسر فسكون 0 غطاء يوضع على سرج الفرس أو رحل البعير – كانت تصنعه النساء لأزواجهن من الديباج ) .
(2) انظر ص 292 ج2 نصب الراية
(3) انظر ص 292 ج2 نصب الراية(1/449)
وعن) ابن عمرو أن أباه قال : " إذا أنت حملتني على السرير فامش مشيا بين المشيين وكن خلف الجنازة فإن مقدمها للملائكة وخلفها لبنى آدم " أخرجه ابن أبى شيبه(1).
(وأجابوا ) (أ) عن حديث ابن عمر بأنه محمول على بيان الجواز والتسهيل على الناس ( فقد ) روى زائدة عن ابن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه " أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يمشيان أمام الجنازة وكان على رضى الله عنه يمشى خلفها ، فقيل لعلى : إنهما يمشيان أمامها ، فقال : إنهما يعلمان أن المشي خلفها افضل من المشي أمامها كفضل صلاة الرجل في جماعة على صلاته فذا ، ولكنهما سهلان يسهلان للناس " أخرجه الطحاوى والبيهقى وابن أبي شيبة وعبد الرازق بسند رجاله ثقات . قال الحافظ : وسنده حسن وهو موقوف له حكم المرفوع(2). { 608 }
والمراد أن الناس يتحرزون عن المشي أمامها ، فلو اختار أبو بكر وعمر رضى الله عنهما المشي خلفها ، أضاف الطريق على مشيعيها ( وعن) عبد الله بن يسار عن عمرو بن حريث قلت لعلى بن أبي طالب : ما تقول في المشي أمام الجنازة ؟ فقال : المشي خلفها أفضل من المشي أمامها كفضل المكتوبة على التطوع . فلت : فإني رأيت أبا بكر وعمر يمشيان أمامها . قال : إنهما إنما كرها أن يحرجا الناس " . أخرجه أحمد والطحاوى بسند رجاله ثقات (3) . { 609 }
(
__________
(1) انظر ص 293 منه .
(2) انظر ص 279 طحاوى . وص 25 ج4 بيهقى ( المشى خلفها ) وص 292 ج2 نصب الراية . وص 119 ج3 فتح البارى ( السرعة بالجنازة) .
(3) انظر ص 15و16 ج8 – الفتح الربانى ( المشى أمام الجنازة وخلفها ) وص 279 طحاوى(1/450)
ب) وعن الآثار بأنه لم يصرح في شيء منها بأن المشي أمامها أفضل فتحمل على الجواز . وقد صرح على رضى الله عنها بأن المشي خلفها افضل فكان أولى بالاتباع . (وقال) أبو الدرداء : من تمام أجر الجنازة أن تشيعها من أهلها وتمشى خلفها . (وقال ) أبو الدرداء : من تمام أجر الجنازة أن تشيعها من أهلها وتمشى خلفها . ( وقال) إبراهيم النخعى : قلت لعلقمة : أيكره المشي خلف الجنازة ؟ قال : لا ، إنما يكره السير أمامها . أخرجهما ابن أبي شيبة بسندين صحيحين(1). واقل أحوال ما روينا أنه يدل على أفضلية المشي خلفها .
(وقال) أنس بن مالك والثوري : المشي أمامها وخلفها وعن يمينها وعن شمالها سواء ، لما تقدم عن أنس(2) (ولحديث ) المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الراكب يسير خلف الجنازة والماشى يمشى خلفها وأمامها وعن يمينها وعن يسارها قريبا منها " . أخرجه أحمد والربعة والبيهقى والطحاوى والحاكم وصححه هو والترمذى(3) . { 610 }
(
__________
(1) انظر ص 25 ج4 – الجوهر النقى ( المشى خلفها .
(2) انظر رقم 603 ص 435
(3) انظر ص 15 ج8 – الفتح الربانى . وص 11 ج9 – المنهل العذب المورود ( المشى أمام الجنازة) وص 275 ج1 مجتبى ( مكان الراكب من الجنازة) وص 233 ج1 – ابن ماجه ( شهود الجنائز ) وص 144 ج2 تحفة الأحوذى ( الصلاة على الأطفال ) وص 25 ج4 بيهقى ( المشى خلفها) وص 278 طحاوى . وص 355 ج1 مستدرك .(1/451)
وهذا) ولا باس بالركوب لمشيع الجنازة عند الحنفيين . والفضل المشي إلا لعذر لأنه أقرب إلى الخشوع وأليق بالشفاعة ( ويكره) للراكب أن يتقدم الجنازة لأنه لا يخلو من ضرر بالناس . (ولقول) النبي صلى الله عليه وسلم : الراكب يسير خلف الجنازة . (وقال) الجمهور : يكره الركوب مع الجنازة إلا لعذر . وحملوا الحديث على حالة الضرورة أو أن إذن النبي صلى الله عليه وسلم بالركوب لمن يسير خلفها ، إذن في مقابلة المنع فلا ينافى الكراهة المستفادة من إنكاره صلى الله عليه وسلم على من ركب مع الجنازة ( فقد) قال ثوبان : " خرج النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فرأى ناسا ركبانا على دوابهم فقال : ألا تستحيون ؟ إن ملائكة الله على أقدامهم وأنتم على ظهور الدواب " . أخرجه ابن ماجة والبيهقى والترمذى وقال : حديث ثوبان روى عنه موقوفا(1) . { 611 }
(
__________
(1) انظر ص 232 ج1 – ابن ماجه 0 شهود الجنائز ) وص 23 ج4 بيهقى ( الركوب عند الانصراف من الجنازة ) وص 138 ج2 تحفة الأحوذى ( كراهية الركوب خلف الجنازة )(1/452)
وأجاب) الحنفيون بأن إنكاره صلى الله عليه وسلم على من ركب إنما كان لأجل مشى الملائكة مع الجنازة . أو إنما أنكر عليهم ترك الفضل وهو المشي إلا لعذر . (وقالت) الشافعية : الفضل للراكب أن يسير أمامها كالماشى . لكن ظاهر حديث المغيرة يرده . (هذا) ويجوز لمشيع الجنازة الركوب حال الرجوع بلا كراهة اتفاقا ( لحديث ) جابر بن سمرة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم اتبع جنازة ابن الدحداح ماشيا ورجع على فرسه " أخرجه مسلم والثلاثة والبيهقى . وقال الترمذى : حسن صحيح(1). { 612 }
(وعن) ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بدابة وهى مع جنازة فأبي أن يركبها . فلما انصرف أتى بدابة فركب فقيل له ، فقال : " إن الملائكة كانت تمشى فلم أكن لأركب وهم يمشون ، فلما ذهبوا ركبت " . أخرجه أبو داود والبيهقى والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين(2) . { 613 }
(وجملة القول في هذا البحث أن المشي خلف الجنازة افضل منه أمامها لقوة دليله وأن الراكب لعذر أو غيره يكون خلفها وأن الركوب بعد الانصراف منها جائز بلا كراهة وأن المشي في الجميع أفضل من الركوب إلا لعذر .
(
__________
(1) انظر ص 32 ج7 نووى . وص 8 ج9 – المنهل العذب المورود ( الركوب فى الجنازة ) وص 284 ج1 مجتبى ( الركوب بعد الفراغ من الجنازة ) وص 138 ج2 تحفة الأحوذى ( الرخصة فى ذلك ) يعنى فى الركوب خلف الجنازة . وص 22 ج4 بيهقى . و(ابن ) يدالين وحاءين مهملتين ويقال ابو الدحداح وابن الدحداحة . واسمه ثابت كما فى رواية لابن احمد وهو صحابى جليل ابلى بلاء حسنا فى غزوة أحد .
(2) انظر ص 8 ج9 – المنهل العذب المورود ( الركوب فى الجنازة ) وص 23 ج4 بيهقى ( الركوب عند الانصراف من الجنازة ) .(1/453)
5) اتباع النساء الجنازة : لا يجوز لهن اتباع الجنائز لما يقع منهن من الصياح والنياحة ولطم الخدود وإزعاج الميت وتألم الحي ( وقد) ورد في هذا أحاديث ( منها) ما روى حليس بن المعتمر عن أبيه قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى على جنازة ن فجاءت امرأة بمجمر تريد الجنازة ، فصاح بها حتى دخلت في آجام المدينة " أخرجه الطبرانى في الكبير . قال الهيثمى : وحليس لم أجد من ذكره(1). {614 }
(وحديث ) محمد ابن الحنفية عن على رضى الله عنه قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم فإذا نسوة جلوس فقال : ما يجلسكن ؟ قلن : ننتظر الجنازة ، قال : هل تغسلن ؟ قلن : لا ، قال : هل تحملن ؟ قلن : لا ،قال : هل تدلين فيمن يدلى ؟ قلن : لا ، قال : فارجعن مأزورات غير مأجورات . أخرجه ابن ماجة والحاكم وفى سنده دينار عن عمر وثقه وكيع وذكره ابن حبان في الثقات .
وقال الأزدى : متروك . وفيه متروك . وفيه إسماعيل بن سليمان قال أبو حاتم : صالح ، وذكره ابن حبان في الثقات وقال بخطىء . وباقي رجاله ثقات(2). { 615 }
(وحديث) عبد الله بن عمرو قال : بينما نحن نمشى مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ بصر بامرأة لا نظن أنه عرفها ، فلما توجهنا إلى الطريق وقف حتى انتهت إليه ، فإذا فاطنة رضى الله عنها فقال : ما أخرجك من بيتك يا فاطمة ؟ قالت : أتيت أهل هذا البيت فرحمت إليهم ميتهم وعزيتهم ، فقال : لعلك بلغت معهم الكدى ، قالت : معاذ الله أن أكون قد بلغتها معهم وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر . قال : لو بلغتها ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك
__________
(1) انظر ص 29 ج3 مجمع الزوائد( اتباع النساء الجنائز) .( مجمر ) كمنبر ما يبخر به من عود وغيره .(وآجام) جمع أجم كعنق وهو الحصن
(2) انظر ص 246 ج1 – ابن ماجه ( اتباع النساء الجنازة) .(1/454)
أخرجه أحمد وهذا لفظه وأبو داود والنسائي والبيهقى . وفيه ربيعة بن سيف وثقه العجلى وضعفه النسائي وذكره ابن حبان في الثقات وقال يخطئ كثيرا(1) . { 616 }
ولذا قال الحنفيون وأحمد والجمهور : يكره تحريم اتباع النساء للجنازة لظاهر النهى في الأحاديث وإن كان في بعضها ضعف فيقوى بعضها بعضا . ويعضده المعنى – الحادث باختلاف الزمان – الذي أشارت إليه عائشة رضى الله عنها بقولها : لو أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى من النساء ما رأينا لمنعهن المساجد كما منعت بنو إسرائيل نساءها . أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والبيهقى(2). { 617 }
__________
(1) انظر ص 21 ج8 – الفتح الربانى ( النهى عن اتباع الجنازة بنار أو صياح أو نساء ) وص 265 ج8 – المنهل العذب المورود ( التعزية) وص 265 ج1 مجتبى ( النعى) وص 77 ج4 بيهقى ( نهى النساء عن اتباع الجنائز) ( فرحمت إليهم ) أى دعوت لميتهم بالرحمة . ( والكدى) بضم ففتح مقصورا جمع كدية كمدية وهى فى الأصل الأرض الصلبة . والمراد هنا المقابر لأنها كانت تحفر فى مواضع صلبة خشية السقوط . و (لو بلغتها ) أى لو ذهبت معهم إلى المقابر لا تدخلين الجنة مع السابقين حتىيدخلها جد أبيك يعنى عبد المطلب فإنه من أهل الفترة هم إنما يدخلون الجنة بعد شدة واختبار ولا دلالة فى هذا على ما توهمه بعضهم من أن ارتكاب الكبيرة مؤد إلى الخلود فى جهنم لأنه لومشت امرأة مع جنازة إلى المقابر أو ارتكب أحد كبيرة غير مستحل لها لم يكن ذلك كفرا موجبا للخلود فى النار . وغايته أنه ذنب يعذب عليه مرتكبه ثم يصير إلى الجنة ( انظر ص 266 ج1 زهر الربى ) .
(2) انظر ص 201 ج5 – الفتح الربانى ( منعهن من الخروج إذا خشى منه الفتنة ) وص 238 ج2 فتح البارى ( خروج النساء إلى المساجد ) وص 268 ج4 – المنهل العذب المورود ( التشديد فى ذلك )أى فى خروج النساء الى المساجد وص 133 ج3 بيهقى(1/455)
وهذا في نساء زمانها رضى الله عنها فما ظنك بنساء زماننا . ( وقالت ) الشافعية : يكره تنزيها خروج النساء مع الجنائز (لقول) أم عطية رضى الله عنها : " نهينا أن نتبع الجنائز ولم يعزم علينا " . أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود وابن ماجة والبيهقى(1). { 618 }
أي نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نسير مع الجنازة ولم يؤكد علينا في هذا النهى كما أكد علينا في غيره ، فهو نهى تنزيه (وأجاب) الأولون بان هذا فهم فهمته أم عطية وفهمها ليس بحجة ، وإلا فأصل النهى التحريم . ( وقالت) الشافعية : يؤيد أن للتنزيه حديث محمد بن عمرو بن عطاء عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في جنازة فرأى عمر امرأة فصاح بها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " دعها يا عمر فإن العين دامعة والنفس مصابة والعهد قريب " . أخرجه ابن أبي شيبة وابن ماجة بسند رجاله ثقات(2). { 619 }
(ورد) بأنه لا يدل على جواز اتباع النساء الجنائز ، فإن سياقه في نهى عمر لهن عن البكاء . (قال ) سلمة بن الأزرق : سمعت أبا هريرة قال : مات ميت من آل النبي صلى الله عليه وسلم فاجتمع النساء يبكين عليه ، فقام عمر ينهاهن ويطردهن ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : دعهن يا عمر فإن العين دامعة والقلب مصاب والعهد قريب . أخرجه النسائي(3). { 620 }
(
__________
(1) انظر ص21 ج8 – الفتح الربانى ( النهى عن اتباع الجنائز بنار أو نساء ) وص 93 ج3 فتح البارى( اتباع النساء الجنازة) وص 2 ج7 نووى ( نهى النساء ع ابتاع الجنائز ) وص 329 ج8 – المنهل العذب المورود . وص 246 ج1 ابن . ماجه . وص 77 ج4 بيهقى .
(2) انظر ص 93 ج3 فتح البارى ( الشرح) وص 247 ج1 – ابن ماجه ( البكاء على الميت )
(3) انظر ص 263 ج1 مجتبى ( الرخصة فى البكاء على الميت ) .(1/456)
فالحديث) كما ترى في البكاء بدمع العين بلا صياح وهذا مرخص فيه . وبه يحصل الجمع بين أحاديث الباب . وليس فيه جواز اتباع النساء الجنائز .(وقال) مالك ك لا يكره خروج عجوز لجنازة مطلقا ولا خروج شابة في جنازة من عظمت مصيبته عليها – كأب وأم زوج وولد وأخ وأخت – إذا أمنت الفتنة . أما من لم تأمنها فيحرم خروجها خلف الجنازة مطلقا(1). (ومحل) الخلاف إذا خرجت النساء متسترات بلا رفع صوت ولا نياحة وإلا فلا خلاف في منعهن من الخروج إلى القبور . (قال) ابن الحاج : واعلم أن الخلاف المذكور بين العلماء إنما هو في نساء ذلك الزمان ( يعنى زمن السلف الصالح ) وكن على ما يعلم من عادتهم في الاتباع . وأما خروجهن في هذا الزمان فمعاذ الله أن يقول أحد من العلماء أو ممن له مروءة أو غيره في الدين بجواز ذلك .فإن دعت ضرورة للخروج فليكن ذلك على ما علم في الشرع من الستر ، لا على ما علم من عادتهم الذميمة في هذا(2).(فهذا) ابن الحاج يقبح ما كان عليه نساء زماننا – القرن الرابع عشر – الكاسيات العاريات المائلات المميلات – يخرجن نائحات لاطمات كاشفات الصدور والسيقان ناشرات الشعور صابغات الأيدي والوجوه . نعوذ بالله تعالى من ذلك ونسأله تعالى السلامة والهداية .
(6) مكروهات الجنازة : يكره فيها أمور ، المذكور منها هنا سبعة : (أ) يكره لمتبع الجنازة الضحك والتحدث في أمر الدنيا ومس الميت باليد ونحوهما تبركا . وقيل : يمنعه كمس القبر أولى ، وهو بدعة قبيحة .
(روى) الخلال في أخلاق أحمد بن حنبل أن على بن عبد الصمد الطيالسى مسح يده على أحمد ثم مسحها على يديه وهو ينظر فغضب شديدا وجعل ينفض يده ويقول : عمن أخذتم هذا ؟ وأنكره شديدا(3).
(
__________
(1) انظر ص 171 ج1 صغير الدردير .
(2) انظر ص 208و209 ج1 – المدخل
(3) انظر ص 405 ج1 كشاف القناع(1/457)
ب) ويكره تحريما أن تتبع الجنازة بنار أو صوت ( لحديث ) أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تتبع الجنازة بنار أو صوت . أخرجه أحمد بسند فيه رجل لم يسم وبقية رجاله ثقات ، وأبو داود والبيهقى بسند فيه مجهولان(1). { 621 }
(وحديث) زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله عز وجل يحب الصمت عند ثلاث : عند تلاوة القرآن ، وعند الزحف ، وعند الجنازة أخرجه الطبرانى في الكبير وفيه رجل لم يسم(2). { 622 }
(وعن) أبي جرير أن أبا بردة قال : أوصى أبو موسى حين حضره الموت قال : إذا انطلقتم بجنازتي فأسرعوا بي المشي ولا تتبعوني بمجمر ( الثر ) أخرجه البيهقى وقال : وفى وصية عائشة ، وعبادة بن الصامت ، وأبى هريرة ـ وآبي سعيد الخدرى ، واسماء بنت أبي بكر رضى الله عنهم : ألا تتبعوني بنار . وأخرجه ابن ماجة لفظ : أوصى أبو موسى الأشعرى حين حضره الموت فقال : لا تتبعوني بمجمر ، قالوا له : أو سمعت فيه شيئا ؟ قال : نعم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنده حسن(3). { 623 }
(وقال) عمرو بن العاص : إذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار . أخرجه مسلم من حديث طويل والبيهقى مختصرا(4). { 624 }
(
__________
(1) انظر ص 20 ج8 – الفتح الربانى ( النهى عن اتباع الجنازة بنار أو صياح أو نساء ) وص 336 ج8 – المنهل العذب المورود ( النار يتبع بها الميت ) وص 394 ج3 بيهقى .
(2) انظر ص 29 ج3 مجمع الزوائد ( الصمت والتفكير لمن اتبع جنازة ) . (والرزحف) التقاء الصفوف فى القتال لأن الصمت أهيب للعدو .(وعند الجنازة) أى عند غسيل الميت والصلاة والمشى معه .
(3) انظر ص 395 ج3 بيهقى ( لا يتبع الميت بنار ) وص 233 ج1 – ابن ماجه .
(4) انظر ص 138 ج2 نووى ( الإسلام يهدم ما قبله ) وص56 ج4بيهقى ( ما يقال بعد الدفن) وسيأتى الحديث تاما إن شاء الله تعالى فى بحث ( الانتظار بعد الدفن ) .(1/458)
دل) ما روينا على أنه لا يجوز اتباع الجنازة بنار ولا صوت لأنه من فعل الجاهلية وفيه تشبه بأهل الكتاب ، وقد نهينا عن التشبه بهم ( فقد ) رأى سعيد بن جبير مجمرا في جنازة فكسره وقال : سمعت ابن عباس يقول : لا تشبهوا بأهل الكتاب . أخرجه ابن أبي شيبه(1).
__________
(1) انظر ص 20 ج8 – الفتح الربانى ( الشرح)(1/459)
وعلى خذا اتفقت كلمة العلماء (قال) ابن نجيم : وينبغي لمن اتبع الجنازة أن يطيل الصمت ويكره تحريما رفع الصوت بالذكر وقراءة القرآن وغيرهما . فإن أراد أن يذكر الله يذكره في نفسه لقوله تعالى : " إن اللهَ لاَ يُحَبُ الْمثعْتدَيَنَ " أي الجاهرين بالدعاء (وعن) إبراهيم المخعى أنه كان يكره أن يقول الرجل وهو يمشى معها : استغفروا له غفر الله لكم(1) (وقال) النووي : يكره أن تتبع الجنازة بنار . والمراد أنه يكره البخور في المجمرة بين يديها إلى القبر . ونقل ابن المنذر إجماع العلماء على كراهته للنهى ولأنه تفاؤل بذلك فأل السوء . وكذا يكره أن يكون عند القبر مجمرة حال الدفن : وأما اتباع الجنازة بنائحة فحرام فإن النوح حرام مطلقا(2) (وقال) ابن قدامة : يكره رفع الصوت عند الجنازة لنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تتبع الجنازة بصوت . وكره سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن والنخعى وأحمد وإسحق قول القائل خلف الجنازة : استغفروا له . وهو بدعة محدثة (وروى) أن ابن عمر كان في جنازة فسمع قائلا يقول : استغفروا له غفر الله لكم . فقال ابن عمر : لا غفر الله لك . أخرجه سعيد ابن منصور ( وقال) أحمد : لا يقول خلف الجنازة : سلم رحمك الله ، فإنه بدعة ولكن يقول : باسم الله وعلى ملة رسول الله ويذكر الله إذا تناول السرير . وبكره اتباع الميت بنار (روى) عن ابن عمر وأبى هريرة وعبد الله بن مغفل ومعقل بن يسار وسعيد بن المسيب وغيرهم أنهم أوصوا ألا يتبعوا بنار . فإن دفن ليلا فاحتاجوا إلى وضوء فلا بأس إنما يكره المجامر فيها البخور(3) (
__________
(1) انظر ص 192 ج2 – البحر الرائق شرح كنز الدقائق
(2) انظر ص 281 ج5 مجموع النووى
(3) انظر ص 363 و364 ج2 مغنى ابن قدامة ..(1/460)
روى) ابن عباس " النبي صلى الله عليه وسلم دخل قبرا ليلا فاسرج له سراج فأخذه من قبل القبلة " ( الحديث ) أخرجه الترمذى وقال حسن(1){ 625 }
(وقال) ابن إدريس الحنبلي : ويكره رفع الصوت والضجة عند رفع الجنازة ويسن لمتبعها أن يكون متخشعا متفكرا في مآله ويرجع متعظا بالموت وبما يصير إليه الميت ( روى) ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا شهد جنازة رويت عليه كآبة وأكثر حديث النفس . أخرجه الطبرانى في الكبير . وفيه ابن لهيعة متكلم فيه(2). { 626 }
(
__________
(1) انظر ص 157 ج2 تحفة الأحوذى ( الدفن بالليل ) وقوله : حسن (رد) بأن فيه منهال بن خليفة ضعفه ابن معين . والحجاج بن ارطاة وهو مدلس لم يذكر سماعا .
(2) انظر ص 29 ج3 مجمع الزوائد ( الصمت والتفكر لمن اتبع الجنازة) .(1/461)
وقال) سعيد بن معاذ : ما تبعت جنازة فحدثت نفسي بغير ما هو مفعول بها(1) (وقال) النووي في الأذكار: واعلم أن الصواب ما كان عليه السلف من السكوت حال السير مع الجنائز فلا يرفع صوت بقراءة ولا ذكر ولا غيرهما لأنه أسكن لخاطره وأجمع لفكره فيما يتعلق بالجنازة وهو المطلوب في هذا الحال فهذا هو الحق ولا تغتر بكثرة ما يخالفه . وأما ما يفعله الجهلة من القراءة على الجنازة بالتمطيط وإخراج الكلام عن موضوعه فحرام بالإجماع(2) (وقال) ابن الحاج : وليعذر من هذه البدعة التي يفعلها أكثرهم وهى أنهم يأتون بمن يذكرون أمام الجنازة جماعة على صوت واحد . يتصنعون في ذكرهم ويتكلفون فيه على طرق مختلفة . ثم العجب أنهم يحرفون أسماء الله تعالى . وهو أمر يؤدب عليه فاعله ويزجر . على أنهم لو أتوا بالذكر على وجهه لمنعوا منه لأنه محدث في الدين لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا السلف الصالح رضى الله عنهم . فقد كانوا يلتزمون في جنائزهم الأدب والسكون والخشوع حتى إن صاحب المصيبة لا يعرف من بينهم لحزن الأدب والسكون والخشوع حتى إن كان يريد أن يلقى صاحبه لضروروات فيلقاه في الجنازة فلا يزيد على السلام . وانظر قول ابن مسعود رضى الله عنه – لمن قال في الجنازة : استغفروا لأخيكم - لا غفر الله لك . فإذا كان هذا حالهم في تحفظهم من رفع الصوت بمثل هذا اللفظ . فما بالك بما يفعلونه مما تقدم . فأين الحال من الحال ؟ فعلى هذا يتعيت على من له عقل ألا ينظر إلى أفعال أهل الوقت ولا عوائدهم .
__________
(1) انظر ص 405 كشاف القناع .
(2) انظر ص 183 ج4 ( الفتوحات الربانية على الأذكار النووية ) ( ما يقوله الماشى مع الجنازة)(1/462)
بل يلزم الاقتداء بأفعال السلف وأعوالهم فهم القوم لا يشقى جليسهم ولا من أحبهم إن المحب لمن يحب مطيع(1) (ولهذا) النصوص وغيرها أفتى علماء العصر : (1) أن السنة في السير مع الجنازة ألا يكون معها صوت ولا رايات ولا طبل ولا باز ولا موسيقى ولا مجامر ولا رفع صوت بذكر أو قرآن أو بردة أو غيرها . وأن الصواب ما كان عليه السلف من السكوت حال السير معها لأنه أسكن للخاطر وأجمع للفكر فيما يتعلق بالجنازة وهو المطلوب في هذا الحال(2).
(2) وقد سئل الأستاذ الإمام – الشيخ محمد عبده مفتى الديار المصرية رحمة الله تعالى – عن الذكر جهرا أمام الجنازة بكيفية معتدلة خالية من التلحين هل ذلك جار على السنن القويم أو فيه إخلال بالدين ؟ (فأجاب) بقوله : أما الذكر جهرا أمام الجنازة ففي الفتح والأنقروية من باب الجنائز : يكره للماشى أمام الجنازة رفع الصوت بالذكر فإن أراد أن يذكر الله فليذكره في نفسه وهذا أمر محدث لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا التابعين ولا تابعيهم فهو مما يلزم منعه(3) .
(جـ) (ويكره) لمشيع الجنازة الجلوس قبل وضعها عن الأعناق – عند الحنفيين وأحمد والأوزاعى وإسحاق – لأنه قد تدعو الحاجة إلى التعاون . والقيام أمكن فيه ( ولحديث ) أبي سعيد الخدرى رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا اتبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع " أخرجه مسلم وأبو داود والبيهقى(4). { 627 }
(
__________
(1) انظر ص 20 و21 ج3 مدخل
(2) انظر ص 15و16 من تحفة الأبصار والبصائر فى بيان كيفية السير مع الجنازة إلى المقابر للشيخ الإمام رحمة الله والفتاوى من 1-9، 11 ، 12 ، 13 ، 16 من فتاوى ائمة المسلمين له .
(3) هذا بعض فتوى تقدمت تامة فى ( بدع الجمعة) ص 358 ج4 – الدين الخالص
(4) انظر ص 28 ج7 نووى ( القيام للجنازة) وص 3 ج9 – المنهل العذب المورود وص 26 ج4 بيهقى .(1/463)
وحديث) أبي سعيد وأبى هريرة رضى الله عنهما قالا : " ما رأينا النبي صلى الله عليه وسلم شهد جنازة قط فجلس حتى توضع " . أخرجه النسائي (1) { 628 }
(والمراد) حتى توضع بالأرض (لما) روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا تبع أحدكم الجنازة فلا يجلس حتى توضع في الأرض " . أخرجه البيهقى وكذا أبو داود معلقا(2). { 629 }
(وحكمه ) النهى عن القعود قبل أن توضع الجنازة أن المشيع إنما جاء اهتماما بشأنها وليس منه أن يجلس قبل وضعها بالأرض . أما بعد وضعها فيطلب الجلوس ويكره القيام على المختار ( لحديث ) عبادة بن الصامت رضى الله عنه قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم في الجنازة حتى توضع في اللحد فمر به حبر من اليهود فقال هكذا نفعل فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وقال : اجلسوا خالفوهم " . أخرجه البيهقى والأربعة إلا النسائي وقال الترمذى : غريب وفيه بشر بن رافع ليس بالقوى وعبد الله بن سليمان عن أبيه وهو ضعيف وأبو منكر الحديث (3) { 630 }
__________
(1) انظر ص 271 ج1 مجتبى ( الأمر بالقيام للجنازة)
(2) انظر ص 26 ج4 بيهقى ( القيام للجنازة ) وص 4 ج9 – المنهل العذب المورود ولفظه : روى الثورى عن سهيل عن أبيه عن ابى هريرة قال فيه حتى توضع بالأرض .
(3) انظر ص 28 ج4 بيهقى ( من زعم أن القيام للجنازة منسوخ) وص 7 ج9 – المنهل العذب المورود ( القيام للجنازة) وص 241 ج1 – ابن ماجه . وص 140 ج2 تحفة الأحوذى ( الجلوس قبل أن توضع (والحبر) بفتح الحاء وكسرها عالم اليهود.(1/464)
يعنى خالفوهم في القيام بعد وضعها على الأرض بالجلوس ( وقالت) المالكية : يكره لمشيع الجنازة أن يستمر قائما حتى توضع ( وقالت ) الشافعية : لا يكره لمشيعها الجلوس قبل وضعها بالأرض (لقول) على رضى الله عنه : " قام النبي صلى الله عليه وسلم مع الجنازة حتى توضع وقام الناس معه ثم قعد بعد ذلك وأمرهم بالقعود " أخرجه البيهقى والطحاوى(1). { 631 }
(
__________
(1) انظر ص 27 ج4 بيهقى ( حجة من زعم أن القيام للجنازة منسوخ) .(1/465)
وقالوا) هذا الحديث ناسخ لأحاديث الأمر بالقيام قبل أن توضع ( ورد) بأنه يمكن الجمع يجعل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقعود بعد القيام لبيان الجواز وحمل الأمر بالقيام على الندب . والنسخ لا يصار إليه عند إمكان الجمع (قال) النووي : واختلفوا في القيام على القبر حتى تدفن فكرهه قوم وعمل به آخرون . والمشهور في مذهب الشافعية أن القيام ليس مستحبا واختار المتولي أنه مستحب وهذا هو المختار فيكون الأمر به للندب . والقعود بيان للجواز ولا يصح دعوى النسخ في مثل هذا لأن النسخ إنما يكون إذا تعذر الجمع بين الأحاديث ولم يتعذر هنا(1) إذا ثبت هذا فالظاهر أنه يكره لمن تبع الجنازة الجلوس قبل وضعها بالأرض . وإذا جلس قبل ذلك طلب منه القيام لأن المقصود منه تعظيم أمر الموت وهو لا يفون بالجلوس (قال) البخاري : من تبع جنازة فلا يقعد حتى توضع عن مناكب الرجال فإن قعد أمر بالقيام . (وروى) سعيد المقبرى عن أبيه قال : " كنا في جنازة فأخذ رضى الله عنه بيد مروان فجلسا قبل أن توضع فجاء أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه فأخذ بيد مروان فقال : قم فوالله لقد علم هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن ذلك ن فقال أبو هريرة : صدق " .أخرجه البخاري والبيهقى(2) . { 632 }
(
__________
(1) انظر ص 27 ج7 نووى مسلم ( القيام للجنازة) .
(2) انظر ص 115 ج3 فتح البارى ( متى يقعد إذا قام للجنازة ) وص 26 ج4 بيهقى ( القيام للجنازة) (والمقبرى) نسبة إلى مقبرة بالمدينة كان مجاورا لها .(1/466)
دل) الحديث على أن أبا هريرة لم يكن يرى القيام واجبا وأن مروان لم يكن يعرف حكم المسألة قبل ذلك وأنه بادر إلى العمل به بخبر أبي سعيد(1) أما من تقدم الجنازة فلا باس أن يجلس قبل أن تنتهي إليه اتفاقا (قال) الترمذى : روى عن بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أنهم كانوا يقدمون الجنازة ويقعدون قبل أن تنتهي إليهم ، وهو قول الشافعي (2)، وكذا باقي الأئمة . (د) ويكره تحريما تغيير اللباس حزنا على الميت أو ترك بعضه (لحديث) عمران بن حصين وأبى برزة قالا : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فرأى قوما قد طرحوا أرديتهم يمشون في قمص ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ابفعل الجاهلية تأخذون أو بصنع الجاهلية تشبهون ؟ لقد هممت أن أدعو عليكم دعوة ترجعون في غير صوركم . فأخذوا أرديتهم ولم يعودوا لذلك أخرجه ابن ماجة (3) { 633 }
(والحديث) لو صح لأفاد الحرمة لكنه ضعيف لأن في سنده على بن الحزور وهو متروك الحديث ، وقال البخاري : منكر الحديث عنده عجائب . وفيه نفيع ابن الحارث الأعمى تركه غير واحد ، ونسبة يحيى بن معين وغيره للوضع .
(هـ) ويكره عند مالك صلاة فاضل على بدعي لم يكفر ببدعته وعلى مظهر كبيرة كشرب خمر أمام الناس بلا مبالاة وعلى نظهر صغيرة مصر عليها(4).
(و) وكره عنده تكبير نعش لميت صغير لما فيه من المباهاة ، وفرش النعش بحرير أو خز ولا باس بستر الكفن بثوب طيلسان أخضر أو غيره وبنزع عند الدفن(5).
(
__________
(1) انظر ص 115 ج3 فتح البارى .
(2) انظر ص 151 ج2 تحفة الأحوذى ( القيام للجنازة ) .
(3) انظر ص 233 ج1 – ابن ماجه ( النهى عن التسلب مع الجنازة ) والتسلب الإحداد وهو ترك الزينة .
(4) وتقدم بيان سائر المذاهب فى الصلاة على المبتدعة والخوارج ص 422 .
(5) انظر ص 172 ج1 صغير الدرديرى والصاوى عليه .(1/467)
ز) ويكره لمن كان جالسا بالمصلى أو عند القبر أو في الطريق ومرت عليه جنازة القيام لها عند الحنفيين ومالك والشافعي وهو المشهور عن أحمد (لقول) واقد بن عمرو بع سعد بن معاذ : شهدت جنازة في بنى سلمة فقمت ، فقال لي نافع بن جبير : اجلس فإني سأخبرك في هذا بثبت : حدثني مسعود بن الحكم الزرقى أنه سمع على بن أبي طالب رضى الله عنه يقول : " كان النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة ، ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس " . أخرجه أحمد وابن حبان وكذا البيهقى ومسلم بلفظ : " رأينا النبي صلى الله عليه وسلم قام فقمنا فقعدنا " يعنى في الجنازة وأسانيد جيدة وقال الترمذى : حسن صحيح(1). { 634 }
(وقال) أبو معمر : كنا عند على فمرت به جنازة فقاموا لها فقال على : ما هذا ؟ قالوا : أمر أبى موسى فقال : " إنما قام النبي صلى الله عليه وسلم لجنازة يهودية ولم يعد بعد ذلك " أخرجه النسائي وابن أبي شيبة بسند جيد(2) .
(
__________
(1) انظر ص 36 ج8 – الفتح الربانى ( من قال بنسخ القيام للجنازة) وص 27 ج4 بيهقى . وص 29 ج7 نووى . وص 151 ج2 تحفة الأحوذى ( الرخصة فى ترك القيام للجنازة) (وبنو سلمة ) بفتح السين وكسر اللام قبيلة من الأنصار . و(ثبت ) كسبب أى حجة .
(2) انظر ص 272 ج1 ( مجتبى ) الرخصة فى ترك القيام ) .(1/468)
دلت) هذه الأحاديث على أنه لا يشرع القيام لمن مرت عليه جنازة إلا أن يريد اتباعها . (قال) ابن حبيب وابن الماجشون المالكيان وبعض الشافعية والحنبلية : يستحب لمن مرت عليه جنازة وهو جالس أن يقوم لها حتى تخلفه أو توضع(1) ( لحديث) عامر بن ربيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا رأى أحدكم الجنازة ولم يكن ماشيا معها فليقم حتى تجاوزه أو توضع " . أخرجه السبعة والبيهقى وقال الترمذى : حسن صحيح(2). { 636 }
(
__________
(1) وهو قول ضعيف ومشهور مذهب مالك أنه : (أ) يكره لمن مرت به جنازة القيام بها . (ب) يكره لمن تبعها أن يستمر قائما حتى توضع . (جـ) يكره لمن سبق للمقبرة إذا رآها حتى توضع . (د) لا باس بالقيام عليها حين الدفن والقول بنسخة غير صحيح ، وفعله على رضى الله عنه وقال : قليل لأخينا قيامنا على قبره . وأما القيام للحى فيحرم لم يحبه ويعجب به ويكره لمن لا يحبه ويتأذى منه ويجوز لمن لا يحبه ولا يعجب به . ويستحب للعالم والصهر والوالدين ولمن نزل به هم – فيعزى – أو سرور – فيهنأ وللقادم من سفر . وهذا كله ما لم يترتب على تركه فتنة فيجب . انظر ص 172 ج1 الصاوى على صغير الدرير .
(2) انظر ص 28 ج8 - الفتح الربانى ( من اتبع جنازة فلا يجلس حتى توضع ) وص 115 ج3 فتح البارى( القيام للجنازة) وص 27 ج7 نووى . وص 2 ج9 المنهل العذب المورود . وص 271 ج1 مجتبى ( الأمر بالقيام للجنازة) وص 151 ج2 تحفة الأحوذى . وص 26 ج1 – ابن ماجه . وص 26 ج4 بيهقى .(1/469)
وحديث ) أبي سعيد الخدرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا رأيتم الجنازة فقوموا فمن تبعها فلا يجلس حتى توضع . أخرجه أحمد والشيخان والنسائي والبيهقى وقال الترمذى : حسن صحيح(1). { 637 }
(وحديث) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من صلى على جنازة فلم يمش معها فليقم حتى تغيب عنه " ( الحديث) أخرجه أحمد والطحاوى(2). { 638 }
(قالوا) فهذه أحاديث غاية في الصحة قد شد من عضدها عمل جماعة من الصحابة بها بعد عصر النبوة ( وأجاب ) الأولون : (أ) بأن الأمر بالجلوس لا يعارض بفعل بعض الصحابة بعد عصر النبوة لاسيما وقد تركه كثير من الصحابة عملا بالأمر بالجلوس . ومن علم حجة على من لم يعلم . (ب) وبأن الأمر بالقيام منسوخ بحديث على وغيره مما روينا في أدلة الجمهور (قال) الترمذى : حديث على حسن صحيح والعمل على هذا عند بعض أهل العلم (قال) الشافعي : وهذا اصح شيء في هذا الباب . وهذا الحديث ناسخ للحديث الأول : إذا رأيتم الجنازة فقوموا ( وقال) أحمد : إن شاء قام وإن شاء لم يقم ، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد روى عنه أنه قام ثم قعد ومعنى قول على : قام النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى الجنازة ثم ترك ذلك بعد فكان لا يقوم إذا رآها(3).
(فائدة) يستحب لمن مرت به جنازة أن يدعو لها ويثنى عليها إن كانت أهلا لذلك ، ويستحب لمن رآها أن يقول : سبحان الحي الذي لا يموت أو سبحان الملك القدوس(4).
(هـ) الدفن
__________
(1) انظر ص 26 ج8 الفتح الربانى ( القيام للجنازة إذا مرت ) وص 116 ج3 فتح البارى 0 من تبع جنازة فلا يقعد حتى توضع ) وص 28 ج7 نووى . وص 271 ج1 مجتبى ( الأمر بالقيام للجنازة) وص 26 ج4 بيهقى . وص 151 ج تحفة الأحوذى .
(2) انظر ص 26 ج8 الفتح الربانى ( القيام للجنازة إذا مرت )
(3) انظر ص 152 ج2 تحفة الأحوذى .
(4) انظر ص 281 ج5 مجموع النووى .(1/470)
هو مواراة الميت . والكلام فيه ينحصر في 18 ثمانية عشر فرعا :
(1) حكم الدفن : هو فرض كفاية بالإجماع لأن في ترك الميت على وجه الأرض هتكا لحرمته ويتأذى الناس من رائحته . وعليه عمل الناس من لدن سيدنا آدم عليه السلام إلى يومنا هذا . وقد ارشد الله تعالى قابيل إلى دفن أخيه هابيل ، فبعث غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يوارى سوءة أخيه(1).
__________
(1) قابيل وهابيل) ابنا آدم على الصحيح . ذكر الله قصتها فى قوله تعالى فى المائدة " واتل عليهم نبأ ابنى آدم إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ( هابيل) ولم يتقبل من الآخر . قال لقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين (27) لئن بسطت إلى يدك لتقتلنى ما أنا بباسط يدى إليك لأقتلك إنى أخاف الله رب العالمين (28) إنى أريد أن تبوء بإثمى وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين (29) فطوعت له نفسه قتل أخيه ( هابيل) فقتله فأصبح من الخاسرين (30) فبعث الله غرابا يبحث فى الأرض ليريه كيف يوارى سوءة أخيه . قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوراى سوءة أخى فاصبح من النادمين (31) " (وحاصل) القصة ما روى ابن عباس وابن مسعود قالا : كان لا يولد لآدم ولد إلا ولد معه جارية فكان يزوج غلام هذا البطن جارية البطن الآخر حتى ولد له ابنان : قابيل – وكان صاحب زرع – وهابيل – وكان صاحب ضرع – وكان قابيل أكبرهما وكانت له أخت أحسن من أخت هابيل . وهابيل طلب أن ينكح أخت قابيل فأبى عليه وقال هى أختى ولدت معى وهى أحسن من أختك وأنا أحق أن اتزوجها فامره أبوه أن يزوجها هابيل . وإنهما قربا قربنانا الى الله أيهما أحق بالجارية فقرب هابيل جذعة ( ناقة لها رابع سنين ) سمينة وقرب قابيل حزمة سنبل فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها فأكلها فنزلت النار فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل فغضب وقال : لأقتلنك حتى لا تنكح أختى فقال هابيل : إنما يتقبل الله من المتقين ..أخرجه ابن جرير انظر ص 121 ج6 تفسير الطبرى ( وقال) عبد الله بن عمرو : أيم الله إن كان المقتول لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج أن يبسط يده إلى أخته . انظر ص 120 منه(1/471)
وقال تعالى : " أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً {25} أَحْيَاء وَأَمْوَاتاً "(1) أي جامعة للأحياء على ظهرها بالمساكن ، والأموات في بطنها بالقبور . وقال تعالى : " ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ "(2) أي أكرمه بدفنه .
(2) وقت الدفن : ليس للدفن وقت محدود ، بل يجوز في أي وقت ليلا أو نهارا بلا كراهة عند الأئمة الأربعة والجمهور (لقول) عمرو بن دينار : أخبرني جابر بن عبد الله أنه رأى ناس نارا في المقبرة فأتوها فإذا النبي صلى الله عليه وسلم في القبر وإذا هو يقول : ناولوني صاحبكم فإذا هو الرجل الذي كان يرفع صوته بالذكر " أخرجه أبو داود والبيهقى والحاكم بسند على شرط الشيخين(3). { 639 }
(وقالت) عائشة رضى الله عنها : " إن أبا بكر لم يتوف حتى أمسى من ليلة الثلاثاء ودفن قبل أ يصبح " . أخرجه البخاري(4). (وقال) ابن عباس : " مات إنسان كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فمات بالليل فدفنوه ليلا فلما أصبح أعلموه فقال : ما منعكم أن تعلموني ؟ قالوا : كان الليل وكانت الظلمة فكرهنا أن نشق عليك . فأتى قبره فصلى عليه " أخرجه البخاري وابن ماجة(5). { 640 }
فقد اقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على الدفن ليلا ، وإنما أنكر عليهم عدم إعلامه بموت الرجل . ولذا قال الجمهور : لا يكره الدفن ليلا .
(
__________
(1) المرسلات : 25و26
(2) عبس : 21
(3) انظر ص 325 ج8 – المنهل العذب المورود ( الدفن بالليل وص 31 ج4 بيهقى والمراد بالنار سراج منير فى المقبرة . و( الرجل) هو عبد الله ذو البجادين تثنية بجاد وهو كساء مخطط . والمراد ( بالذكر ) القرآن لقوله فى حديث ابن عباس : يرحمك الله إن كنت لأواها تلاء للقرآن . أخرجه الترمذى . انظر ص 157 ج2 تحفة الأحوذى
(4) هو بعض حديث تقدم تاما رقم 454 ص 333 ( تجنب المغالاة فى الكفن ) .
(5) انظر ص 75 ج3 فتح البارى ( الإذن بالجنازة) وص 240 ج1 – ابن ماجه ( الصلاة على القبر ) .(1/472)
وقال) الحسن البصري وسعيد بن المسيب : يكره الدفن ليلا .
(وقال) ابن حزم : لا يجوز إلا لضرورة ( لحديث) جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال : " توفى رجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من بنى عذرة فقبر ليلا ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبر الرجل ليلا حتى يصلى عليه إلا أن يضطروا إلى ذلك " . أخرجه أحمد ، ونحوه لمسلم وأبى داود(1).
(وعن) جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تدفنوا موتاكم بالليل إلا أن تضطروا ط . أخرجه ابن ماجة(2). { 642 }
(وأجاب) الجمهور بأن النهى عن الدفن ليلا يحتمل : (أ) أن يكون لرغبة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على كل ميت . ومن قبر ليلا قد لا يتيسر له صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه . (ب) أو لقلة المصلين لا لعدم صحة الصلاة ليلا . فلا يكره الدفن ليلا ن لكن المستحب الدفن نهارا .
(هذا) ولا يكره الدفن وقت طلوع الشمس واستوائها وغروبها عند الحنفيين ومالك والشافعي لإطلاق الأحاديث إلا أن يتحرى الدفن وقتها فيكره .
(
__________
(1) انظر ص 67 ج8 – الفتح البارى ( الدفن ليلا) وص 10 ج7 نووى ( تسجية الميت وتحسين كفنه ) وص 307 ج8 – المنهل العذب المورود ( الكفن ) ( ويصلى عليه 9 مبنى للمفعول يعنى أن الدفن نهارا يحضره كثير من الناس فيصلون عليه بخلاف الدفن ليلا ويصح كسر اللام مبنيا للفاعل والمعنى حتى يصلى عليه النبى صلى الله عليه وسلم لأنه كان حريصا على ذلك
(2) انظر ص 239 ج1 – ابن ماجه ( الأوقات التى لا يصلى فها على الميت ولا يدفن )(1/473)
وعليه ) يحمل حديث عقبة بن عامر قال : " ثلاث ساعات كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلى فيهن أو نقبر فيهن موتانا : حين تطلع الشمس بازعة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب " أخرجه البيهقى والسبعة إلا البخاري(1). { 643 }
(وقالت) الحنبلية : يكره الدفن في هذه الأوقات . (وقال) ابن حزم : يحرم لظاهر النهى في حديث عقبة .( وأجاب) الجمهور عنه بأنه محمول على تحرى الدفن في هذه الأوقات . ومحل الخلاف ما لم يخشى تغير الميت وإلا فلا خلاف في جواز الدفن في هذه الأوقات بلا كراهة .
(3) مكان الدفن : يدفن الميت في القبر ، واقله حفرة توارى الميت وتمنع بعد ردمها ظهور رائحة منه تؤذى الحي ولا يتمكن من نبشها سبع . وأكمله اللحد ، وهو حفرة في جانب القبر جهة القبلة يوضع فيها الميت وتجعل كالبيت المسقف ينصب اللبن عليه(2). والدفن فيه مستحب بالإجماع (لقول) عائشة رضى الله عنها " لما مات النبي صلى الله عليه وسلم اختلفوا في اللحد والشق حتى تكلموا في ذلك وارتفعت أصواتهم ، فقال عمر : لا تصخبوا عند النبي صلى الله عليه وسلم حيا ولا ميتا فأرسلوا إلى الشقاق واللاحد جميعا ، فجاء اللاحد فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دفن " . أخرجه ابن ماجة بسند صحيح رجاله ثقات(3) . { 644 }
(
__________
(1) تقدم رقم 497 ص 364 ( وقت صلاة الجنازة ) ( وأن نقبر ) من بابى نصر وضرب أى ندفن . و(قائم الظهيرة ) يعنى قيام الشمس ووقوفها عن الحركة فى رأى العين وقت الاستواء .
(2) اللبن بفتح فكسر الطوب النىء
(3) انظر ص 243 ج1 – ابن ماجه ( ما جاء فى الشق) . و( لا تصخبوا ) بصاد مهملة ساكنة وخاء معجمة أى لا ترفعوا أصواتكم بالخصام . وفى نسخة ( لا تضجوا) بكسر الضاد المعجمة وشد الجيم أى لا تصيحوا ( فلحد) من باب نفع ويقال الحد كأكرم .(1/474)
وعن) سعد بن أبي وقاص أنه قال في مرضه الذي هلك فيه : " ألحدوا لي لحدا وانصبوا على اللبن نصبا كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم " . أخرجه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجة(1).{ 645 }
(وقال) مبارك بن فضالة : حدثني حميد الطويل عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال : " لما توفى النبي صلى الله عليه وسلم كان رجل يلحد وآخر يصرخ . قالوا : نستخبر ربنا فنبعث إليهما فأيهما سبق تركناه فارسل إليهما ، فسبق صاحب اللحد ، فلحدوا للنبي صلى الله عليه وسلم " . أخرجه ابن ماجة ، ومبارك وثقه الجمهور وقد صرح بالتحديث فزالت تهمة تدليسه وباقي رجاله ثقات فالسند صحيح(2). { 646 }
(دلت ) هذه الأحاديث على أن اللحد أفضل من الشق إلا أن تكون الأرض رخوة يخاف منها انهيار اللحد فيصار إلى الشق . وهو حفرة مستطيلة في وسط القبر تبنى جوانبها باللبن أو غيره يوضع فيها الميت ويسقف عليه باللبن أو الخشب أو غيرهما ، ويرفع السقف قليلا بحيث لا يمس الميت . أما إذا كانت الأرض صلبة فالدفنفى الشق مكروه . (وعليه) يحمل حديث جرير ابن عبد الله البجلى أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء حتى جلس على شفير القبر ، فقال : " الحدوا ولا تشققوا فإن اللحد لنا والشق لغيرنا " . أخرجه أحمد بسند جيد(3). { 647 }
__________
(1) انظر ص 55 ج8 – الفتح الربانى ( اختيار اللحد على الشق ) وص 33 ج 7 نووى . وص 283 ج1 مجتبى ( اللحد والشق ) وص 243 ج1 – ابن ماجه ( استحباب اللحد ) .
(2) انظر ص 243 ج1 – ابن ماجه ( ما جاء فى الشق ) . و( يلحد ) كيمنع من لحد أو بضم فسكون من الحد . (ويصرخ) كيمنع يقال ضرح للميت حفر له والضريح اللحد أو الشق والثانى هو المراد للمقابلة . واللاحد كان ابو طلحة والشاق أبو عبيدة
(3) انظر ص 52 و53 ج8 – الفتح الربانى ( اختيار اللحد على الشق) و( شفير)كل شىء جانبه .(1/475)
أي اللحد لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، والشق لغيرها من الأمم . وقيل : معناه اللحد لأموتنا معشر المسلمين والشق لغيرنا من أهل الكتاب ( روى) جرير ابن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اللحد لنا والشق لهل الكتاب " أخرجه أحمد وفيه عثمان بن عمير أبو اليقظا متفق على ضعفه(1). { 648 }
فهذا يدل على كراهة الدفن في الشق . وفيما قبله إشعار بأفضلية الدفن في اللحد .
(
__________
(1) انظر ص 53 ج8 – الفتح الربانى ( اختيار اللحد على الشق ) .(1/476)
فوائد) (الأولى) يكره عند الحنفيين دفن الميت ولو صغيرا بالمنزل لأن هذا خاص بالأنبياء (وقالت) الشافعية والحنبلية : يجوز الدفن في البيت لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدفن الموتى بالبقيع وليكثر الدعاء للميت ممن يزور المقابر (فإن قيل) كيف يكون الدفن في المقبرة أفضل و النبي صلى الله عليه وسلم دفن في البيت (فالجواب) أنه صلى الله عليه وسلم في الحجرة لقول أبي بكر من حديث ابن عباس الآتي : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض(1) (وحكمه ) اختصاصه صلى الله عليه وسلم بذلك قصد كثرة زائرية والتخفيف عليهم بقرب زيارته(2) ولئلا يتخذ قبره مسجدا (روت ) عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد لولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا " أخرجه البخاري(3). { 649 }
(
__________
(1) يأتى الحديث تاما رقم 652 ص 461 وقد وافق على الصديق رضى الله عنهما على ذلك وقال : أنا سمعته أيضا .
(2) انظر ص 283 ج5 مجموع النووى .
(3) انظر ص 165 ج3 فتح البارى ( قبر النبى صلى الله عليه وسلم ) (لأبرز قبره ) أى لكشف القبر ولم يتخذ عليه سور . والمراد الدفن خارج البيت وهذا قالتهه عائشة قبل أن يوسع المسجد النبوى . ولذا لما وسع جعلت حجرتها مثلثه الشكل محددة حتى لا يتأتى لأحد أن يصلى إلى جهة القبر مستقبل القبلة و( غير أنه خشى) بفتح الخاء أو بضمها وفى رواية البخارى غير أنى أخشى . وفى رواية مسلم غير أنه خشى بالضم لا غير . انظر ص 130 ج3 فتح البارى ( ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور )(1/477)
الثانية) لو قل بعض الورثة : يدفن الميت في ملكه وقال بعضهم : بل في المقبرة دفن فيها ولو بادر أحدهم ودفنه في البيت كان للباقين نقله لكنه يكره . ولو قال بعضهم : يدفن في البيت كان للباقين قبوله لأن عليهم فيه منة . ولو بادر أحدهم فدفنه في ملك نفسه أو كفنه من مال نفسه فالظاهر أنه لا ينقل ولا ينزع كفنه بعد دفنه في ملك الميت ثم باعته الورثة لم يكن للمشترى نقله وله الخيار في فسخ البيع إن كان جاهلا بدفنه(1) (وقد) سئل أحمد عن الرجل يوصى أن يدقن في داره قال : يدفن في مقابر المسلمين(2).
(الثالثة) يستحب الدفن في أفضل مقبرة في البلد (روى) ميمون الأودى أن عمر قال : " يا عبد الله بن عمر اذهب إلى أم المؤمنين عائشة فقل : يقرأ عمر عليك السلام ثم سلها أن أدفن مع صاحبي قالت : كنت أريده لنفسي فلأوثرنه اليوم على نفسي فلما أقبل قال له ما لديك ؟ قال : أذنت لك . قال ما كان شيء أهم إلى من ذلك المضجع فإذا قبضت فاحملوني ثم سلموا ثم قل يستأذن عمر بن الخطاب .
فإن أذنت لي فادفنوني وإلا فردوني إلى مقابر المسلمين " . أخرجه البخاري(3) { 650 }
(
__________
(1) انظر ص 283 ج5 مجموع النووى .
(2) انظر ص 390 ج2 مغنى ابن قدامة .
(3) انظر ص 166 ج3 فتح البارى ( قبر النبى صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر ) . والمراد بصاحبى : النبى صلى الله عليه وسلم وابو بكر رضى الله عنه .(1/478)
ويستحب) الدفن في المقبرة التي يكثر فيها الصالحون لتناله بركتهم وكذا في البقاع الشريفة (قال) أبو هريرة : أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام فلما جاءه صكه ففقأ عينه فرجع إلى ربه فقال : أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت فرد الله إليه عينه وقال : راجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة قال ثم مه ؟ قال قم الموت . قال فالآن فسال الله أن يدينه من الأرض المقدسة رمية بحجر " . ( الحديث) أخرجه أحمد والشيخان(1) { 651 }
(دل) الحديث على استحباب الدفن في المواضع الفاضلة والقرب من مدافن الصالحين لشرفها وفضيلة المدفونين فيها فيكون أقرب إلى الرحمة .
(
__________
(1) انظر ص 134 ج3 فتح البارى ( من أحب أن يدفن فى الرض المقدسة ) وص 127 ج15 نووى ( فضائل موسى صلى الله عليه وسلم ) . و( متن الثور) ظهره . و( رمية بحجر) أى ادننى إلى الأرض المقدسة حتى يكون بينى وبينها قدر رمية الحجر . وإنما سال الإدناه إليها ولم يسال نفس بيت المقدس لأنه خاف أن يكون قبره مشهورا عندهم فيقتين به الناس . وقد أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث ، قالوا : كيف يجوز لموسى فقء عين ملك الموت ؟ ( والجواب) من وجهين :
(أ ) ... أنه لا يبعد أن يكون الله أذن لموسى فى هذه اللطمة امتحانا للملطوم .
(ب)أن موسى صلى الله عليه وسلم لم يعلم أنه ملك الموت وظن أنه رجل يريده فدفعه دفعا أدى إلى فقء عينه ( ويؤيده) رواية صكة وليس فى الحديث أنه تعمد فقأها ولا يقال قد اعترق موسى – حين جاءه ثانيا – بأنه ملك الموت لأنا نقول إنه أتاه ثانيا بما علم به أنه ملك الموت فاستسلم ( انظر ص 128 وما بعدها ج15 نووى مسلم ) .(1/479)
الرابعة ) يكره اتفاقا دفن الميت في تابوت لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه وفيه تشبه بأهل الدنيا . والأرض أنشف لفضلاته إلا إذا كانت الأرض رخوة أو ندية فلا باس بالدفن في التابوت (1)
(4) دفن النبي صلى الله عليه وسلم : دفن صلى الله عليه وسلم بالموضع الذي توفى فيه وهو حجرة عائشة (قال) ابن عباس رضى الله عنهما : وقد اختلف المسلمون في المكان الذي يحفر ( يعنى النبي صلى الله عليه وسلم ) فقال قائلون : يدفن في مسجده وقال قائلون : يدفن مع أصحابه فقال أبو بكر : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول " ما قبض نبي إلا دفن وسط الليل من ليلة الأربعاء . ونزل في حفرته على بن أبي طالب والفضل بن العباس وقثم أخوه وشقران مولى النبي صلى الله عليه وسلم وقال أوس بن خولة لعلى بن أبي طالب : أنشدك الله وحفظنا من النبي صلى الله عليه وسلم . فقال له على : انزل وكان شقران مولاه أخذ قطيفة كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها فدفنها في القبر وقال : والله لا يلبسها أحد بعدك " أخرجه ابن ماجة . وفيه الحسين بن عبد الله تركه أحمد والنسائي وقواه ابن عدى وباقي رجاله ثقات(2) { 652 }
(
__________
(1) انظر ص 278 ج5 مجموع النووى . وص 384 ج1 مغنى ابن قدامة .
(2) انظر ص 255 ج1 – ابن ماجه ( وفاته ودفنه صلى الله عليه وسلم ) . ( ثم دفن ليلة الأربعاء ) أخر دفنه لعدم اتفاقهم على موته صلى الله عليه وسلم أو لأنهم ما علموا بموضع دفنه حتى ذكرهم الصديق أو لاشتغالهم بامر الخلافة .(1/480)
والقطيفة) كساء له خمل . والمشهور أن شقران انفرد بدفنها ولم يوافقه أحد من الصحابة على ذلك ولا علموا به ( وقال) ابن عبد البر : أخرجت عن القبر لما فرغوا من موضع اللبنات (وقال) ابن عباس : " جعل تحت النبي صلى الله عليه وسلم حين دفن قطيفة حمراء " . أخرجه مسلم والنسائي والترمذى وقال حسن صحيح . وقد روى عن ابن عباس أنه كره أن يلقى تحت الميت في القبر شيء(1) { 653 }
وهو قول الجمهور ( وأجابوا) بأن ما فعله شقران خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم (قال) وكيع : هذا للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة . أخرجه ابن سعد في الطبقات وله عند الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : افرشوا لي قطيفتى في لحدي فإن الأرض لم تسلط على أجساد الأنبياء(2) . وقد نص الشافعي وغيره على كراهة وضع قطيفة أو مضربة ( مرتبة ) أو وسادة أو نحو ذلك تحت الميت ( وشذ) عنهم البغوى فقال : لا بأس بذلك لهذا الحديث والصواب كراهته كما قال الجمهور(3)
(5) كا يطلب في القبر : يطلب فيه ستة أمور : (أ) يستحب توسيعه وتحسينه اتفاقا وكذا إعماقه عند غير المالكية (لقول) هشام بن عامر : شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقلنا يا رسول الله : الحفر علينا لكل إنسان شديد . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : احفررا وأعمقوا وأحسنوا . وفى رواية : أوسعوا وادفنوا الاثنين والثلاثة في القبر وقدموا أكثرهم قرآنا " أخرجه أحمد والبيهقى وأبو داود والنسائي(4). { 654 }
(
__________
(1) انظر ص 34 ج7 نووى( وضع القطيفة فى القبر ) وص 283 ج1 مجتبى ( وضع الثوب فى اللحد وص 153 ج2 تحفة الأحوذى ( الثوب يلقى تحت الميت فى القبر )
(2) انظر ص 283 ج1 زهر الربى شرح المجتبى .
(3) انظر ص 24 ج7 نووى مسلم .
(4) انظر ص 54 ج8 – الفتح الربانى . وص 413 ج3 بيهقى ( اتساع القبر وإعماقه ) وص 68 ج9 – المنهل العذب المورود ( تعميق القبر ) وص 283 ج1 مجتبى ( اعماق القبر ) .(1/481)
ودفن) الاثنين والثلاثة في القبر لا يكون إلا لضرورة كما يأتي إن شاء الله .
(واختلف ) العلماء في قدر الإعماق ( فقال)الحنفيون وأحمد : يعمق قدر نصف القامة أو على الصدر وإن زاد فحسن . وطول القبر على قدر طول الميت ن وعرضه على قدر نصف طوله . ( وقالت) الشافعية وبعض الحنبلية : حد الإعماق قدر قامة وبسطة وهى مد يديه قائمة إلى رءوس الأصابع وقدر بأربعة أربع .
(قال) الحسن : أوصى عمر أن يجعل عمق قبره قامة وبسطة وحكمته إلا ينبش القبر سبع ولا سارق ولا يظهر رائحة الميت(1). (وقالت) المالكية : اقل القبر ما منع رائحة الميت وحرسه من السباع ولا حد لأكثرة وندب عدم عمقه(2).
(ب) ويسن رفع القبر عن الأرض نحو شبر اتفاقا (لقول) القاسم بن محمد ابن أبي بكر : " دخلت على عائشة فقلت : يا أماه اكشفي لي في قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضى الله عنهما فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء " أخرجه أبو داود والبيهقى والحاكم(3). { 655 }
(وروى) النعمان عن حماد عن إبراهيم النخعى قال : كان يستحب أن يرفع القبر عن الأرض حتى يعرف لكيلا يوطأ . أخرجه أبو يوسف في الآثار(4).
(
__________
(1) انظر ص 288 ج5 مجموع النووى .
(2) انظر ص 174 ج1 صغير الدردير .
(3) انظر ص 72 ج9 – المنهل العذب المورود ( تسوية القبر) وص 3 ج4 بيهقى و(لا مشرفة ) أى غير مرتفعة ( ولا لاطئة) بالهمزة أى غير لازقة بالأرض بل مرتفعة عنها شبرا ( فقد) روى ابن حبان أن قبره صلى الله عليه وسلم كان مرتفعا شبرا عن الأرض . وهذا لا ينافى أنه كان مسما ( ومبطوحة الخ) أى مفروشة بحصباء الموضع المعروف بالعرضة الحمراء . ( والعرصة) كل موضع واسع لا بناء فيه .
(4) انظر رقم 299 ص 18- الآثار .(1/482)
وحكمه) استحباب رفع القبر نحو شبر ليعلم أنه قبر فيتوفى ويدعى لصاحبه إلا أن يكون الميت مسلما دفن في دار الحرب فيخفى قبره خشية أن يتعرض له الكفار بالأذى أما رفع القبر فوق الشبر فهو بدعة مذمومة في الدين مخالفة لهدى الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح فيلزم إزالة الزائد (فما ) يفعله الناس الآن – من تشييد القبور ورفعها كثرا – منكر يجب عليهم تسويتها بلا فرق بين نبي وغيره وصالح وطالح . (وأما) قول على رضى الله عنه لأبى هياج الأسدى : " أبعثك على ما بعثتي عليه النبي صلى الله عليه وسلم ألا تترك قبرا مشرفا إلا سويته ولا تمثالا في بيت إلا طمسته " . أخرجه أحمد ومسلم والثلاثة والبيهقى وقال الترمذى : حسن والعمل على هذا عند بعض أهل العلم يكرهون أن يرفع القبر فوق الأرض إلا بقدر ما يعرف أنه قبر لكيلا يوطأ ولا يجلس عليه(1) {656 }
(فإنه ) لم يرد التسوية بالأرض وإنما أراد تسطيحه جمعا بين الأحاديث(2).
(وقد صرح بحرمة رفع القبر زيادة عن الشبر أصحاب أحمد وجماعة من المالكية والشافعية . (والقول) بأنه غير ممنوع لوقوعه من السلف والخلف بلا نكير غير مسلم . (قال) الشافعي في الأم : رأيت من الولاة من يهدم ما بنى في المقابر ولم أر الفقهاء يعيبون عليه ذلك(3) .
(
__________
(1) انظر ص 73 ج8 – الفتح الربانى ( تسوية القبور ) وص 36 ج7 نووى . وص 69 ج9- المنهل العذب المورود . وص 285 ج1 مجتبى . وص 153 ج2 تحفة الأحوذى وص 3 ج4 بيهقى . و(ابوهياج) بفتح فشد الياء المثناة من تحت – اسمه حيان بن حصين تابعى ثقة .( والتمثال) صورة ذى الروح ( والطمس ) المحور والإزالة
(2) انظر ص 296 ج5 مجموع النووى
(3) انظر ص 298 منه .(1/483)
جـ) ويسن بناء القبر باللبن والقصب ( البوص) لقول بريدة : " الحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونصب عليه اللبن نصبا وأخذ من قبل القبلة " . أخرجه الطبرانى في الأوسط وفيه يحيى الحمانى وفيه كلام(1) . { 657 }
(وقال) الشعبي : " جعل على قبر النبي صلى الله عليه وسلم طن من قصب " أخرجه ابن أبي شيبة مرسلا(2) ، والطن بضم الطاء : الحزمة .
(وبكره) عند الأئمة بناؤه بالآخر والجص والخشب إذا لم تكن الأرض رخوة أو ندية (لقول) جابر : " نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقعد على القبر وأن يجصص ويبنى عليه " . أخرجه البيهقى والسبعة إلا البخاري وقال الترمذى : حسن صحيح . وقد روى من غير وجه عن جابر . وقد رخص بعض أهل العلم – منهم الحسن البصري والشافعي – في تطبين القبور(3). { 658 }
(وقال) النعمان : حدثنا شيخ لنا يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن تربيع القبور وتجصيصها . أخرجه محمد بن الحسن في الآثار(4). { 659 }
(
__________
(1) انظر ص 42 ج3 مجموع الزوائد ( اللحد) .
(2) انظر ص 471 ج1 فتح القدير لابن الهمام .
(3) انظر ص 4 ج4 بيهقى ( لا يبنى على القبور ولا تجصص) وص 78 ج8 – الفتح الربانى ( النهى عن البناء على القبور) وص 37 ج7 نووى . وص 79 ج9 – المنهل العذب المورود ( البناء على القر 9 وص 285 ج1 مجتبى وص 244 ج1 – ابن ماجه ( النهى عن البناء على القبور وتجصيصها ) وص 155 ج2 تحفة الأحوذى ( كراهية تجصيص القبور .
(4) انظر ص 109 ج1 قود الجواهر المنيفة .(1/484)
وظاهر ) النهى التحريم وبه قال ابن حزم وحملت الأئمة والجمهور النهى على الكراهة ، لكن لا دليل على صرفه عن التحريم . وحكمته أن القبر للبلى لا للبقاء ولأن تجصيصه من زينة الدنيا ولا حاجة للميت إليها ولأن الآجر مسته النار فيكره أن يجعل على الميت تفاؤلا .(وأما) إذا كانت الأرض رخوة ، بنى القبر بالآجر ونحوه بلا كراهة . والصحيح أنه لا يكره تطيينة عند الشافعي وأحمد لأنه لم يرد فيه نهى وهو المختار عند الحنفيين .(روى) جعفر بن محمد عن أبيه : " أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع قبره من الأرض شبرا وطين بطين أحمر من العرصة وجعل عليه الحصباء " أخرجه أبو بكر النجاد وسكت عليه في التلخيص(1). { 660 }
(وقالت) المالكية : يكره تطيين القبر ما لم يتوقف منع الرائحة على تطينه وإلا فلا كراهة(2).
(د) ويسن – عند الحنفيين ومالك وأحمد وبعض الشافعية - : تسنيم القبر أي جعله مرفوعا – كالسنام – نحو شبر (لحديث) أبى بكر بن عباس " أن سفيان التمار حدثه أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسما " أخرجه البخاري والبيهقى(3) " { 661 }
(
__________
(1) انظر ص 386 ج2 شرح المقنع وص 226 ج5 تلخيص الحبير ( هامش مجموع النووى) (وأما) ما رواه الحاكم والديلمى عن ابن مسعود مرفوعا : لا يزال الميت يسمع الأذان ما لم يطين قبره أو قال ما لم يطوقبره ( فسنده) باطل فإنه من رواية القاسم بن محمد الطايانى . وقد رموه بالوضع انظر ص 226 ج5 تلخيص .
(2) انظر ص 172 ج صغير الدردير والصاوى .
(3) انظر ص 165 ج3 فتح البارى ( قبر النبى صلى الله عليه وسلم وابى بكر وعمر ) وص 3 ج 4 بيهقى ( تسنيم القبور )(1/485)
وقال ) بعض الشافعية : يستحب تسطيح القبر (لقول) ثمامة بن شفى : " كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم فتوقى صاحب لنا فأمر فضالة بقبره فسوى ثم قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها " أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي والبيهقى(1). { 662 }
(وفى حديث) أبي هياج عن على : ألا تترك قبرا مشرفا إلا سويته(2).
(وأجاب) الجمهور بأن الحديثين ليسا نصا في التسطيح بل محتملان له ولإزالة ما ارتفع عن القدر المشروع في القبر وهو لا ينافى التسنيم (قال) الطبري : لا أحب أن يتعدى في القبور أحد المعنيين من تسويتها بالأرض أو رفعها مسنمة قدر شبر على ما عليه عمل المسلمين وتسوية القبور ليست بتسطيح(3) (ودليل ) الجمهور اثبت وأصح وصريح في التسنيم . فكان العمل به أولى(4).
(
__________
(1) انظر ص 74 ج8 – الفتح الربانى ( تسوية القبور ) وص 35 ج7 نووى . وص 71 ج9 – المنهل العذب المورود . وص 285 ج1 مجتبى . وص 2 ج 4 بيهقى . ( وثمامة بن شفى) بضم الثاء والشين وفتح الفاء . و( فضالة) بفتحتين كان قائد جيش غزوة رودس . وهى من جزر البحر الأبيض على ليلة من الأسكندرية فتحت سنة ثلاث وخمسين من الهجرة فى عهد معاوية . واستولى عليها السلطان سليم الثانى سنة 922 اثنين وعشرين وتسعمائة هجرية وهى الآن تبع ايطاليا .
(2) تقدم الحديث رقم 656 ص 463
(3) انظر ص 4 ج4 – الجوهر النقى .
(4) وقول) البيهقى : متى صحت راية القاسم – قبورهم مبطوحة – دل ذلك على التسطيح (رده) ابن التركمانى فقال : لم أر أحدا صرح أن المبطوح هو المسطح . بل المبطوح معناه غير المشرف . وقوله : لا مشرفة ولا لاطئة يدل على ذلك وحديث القاسم تقديم رقم 655 ص 463 (وقول) البيهقى : وحديث القاسم أصح وأولى أن يكون محفوظا ( مردود) بأن هذا خلاف الاصطلاح بل حديث الثمار اصح لأنه مخرج فى صحيح البخارى . وحديث القاسم لم يخرج فى شىء من الصحيح ( انظر ص 3و4 ج4 – الجوهر النقى ) .(1/486)
هـ) ويسن -عبد النعمان ومحمد بن الحسن والشافعي وأحمد – رش الماء على القبر ليسكن ترابه (وروى) عامر بن ربيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قام على قبر عثمان بن مظعون أمر فرش عليه الماء . أخرجه البزار بسند رجاله موثقون (قال) الهيثمى : إلا أن شيخ البزار محمد بن عبد الله لم اعرفه(1) . { 663 }
(وعن ) عائشة رضى الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم رش على قبر ابنه إبراهيم أخرجه الطبرانى في الأوسط بسند رجاله الصحيح خلا شيخ الطبرانى(2) . { 664 }
(
__________
(1) انظر ص 45 ج 3 مجمع الزوائد ( رش الماء على القبر) .
(2) انظر ص 45 ج 3 مجمع الزوائد ( رش الماء على القبر) .(1/487)
وعن) أبي يوسف أنه كره الرش لأنه يشبه التطيين . وتقدم أنه لا بأس بالتطيين على المختار عند الحنفيين (ويكره) أن يرش القبر بماء الورد وأن يطلى بالخلوق لأنه إضاعة مال(1) (و) ويستحب – عند الشافعية وأحمد – تعليم القبر بحجر أو خشب أو غيره ليعرف (لحديث) كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله ابن حنطب قال : لما مات عثمان بن مظعون أخرج بجنازته فدفن فامر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا أن يأتيه بحجر فلم يستطع حمله فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم وحسر عن ذراعية ثم حملها فوضعها عند رأسه وقال أتعلم بها قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي . أخرجه أبو داود والبيهقى وابن أبى شيبة بسند حسن وكثير تكلم فيه وهو صدوق(2). {665 }
(ومشهور ) مذهب مالك أنه : لا باس بوضع حجر أو عود أو نحوه على القبر ليعرف به ما لم يكتب عليه ( وقال) الحنفيون : يجوز اتخاذ علامة للقبر بغير الكتابة إن خيف ذهاب معالم القبر ، وإلا فإن قصد به الزينة كره وإن قصد به التفاخر والمباهاة حرم كما اعتاده كثير من أهل الزمان من المبالغة في تحسين القبر ونقشه ورفعه ووضع عمامة أو قلنسوة أعلاه .
(
__________
(1) انظر ص 298 ج5 مجموع النووى( والخلوق) – بالقاف كرسول – طيب مركب من الزعفران وغيره .
(2) انظر ص 53 ج9 – المنهل العذب المورود ( جمع الموتى فى قبر والقبر يعلم ) وص 412 ج3 بيهقى ( اعلام القبر بصخرة او علامة ما كانت ) والمطلب تابعى ولكنه فى الحديث قال الذى يخبرنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنى أنظر إلى بياض ذراعى النبى صلى الله عليه وسلم . وإبهام الصحابى لا يضر لأن الصحابة كلهم عدول ، و(أتعلم بها ..) أى أعرف قبره بالعلامة وأدفن إلى جانب قبره من مات من أهلى وليس المراد أنه صلى الله عليه وسلم بدفن من مات منهم مع عثمان فى قبر لأنه لا يجوز دفن اكثر من واحد فى قبر إلا لضرورة .(1/488)
6) من يتولى الدفن : يتولاه الرجال سواء أكان الميت ذكرا أم أنثى (لما ) روى محمد بن الحنفية عن على قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم فإذ1 نسوة جلوس فقال ما يجلسكن ؟ قلن لا . قال هل تحملن ؟ قلن لا . قال هل تدلين فيمن يدلى ؟ قلن لا . قال فارجعن مأزورات غير مأجورات . أخرجه ابن ماجة والحاكم (1) { 666 }
(قال) أنس بن مالك : شهدنا ابنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس على القبر فرأيت عينيه تدمعان ثم قال : هل منكم من رجل لم يفارق الليلة ؟ فقال أبو طلحة أنا يا رسول الله . قال : فانزل ، فنزل في قبرها . أخرجه أحمد والبخاري والبيهقى والطحاوى والترمذى في الشمائل (2) { 667 }
(
__________
(1) انظر رقم 615 ص 440 ( اتباع النساء الجنائز) .
(2) انظر ص 59 ج8 – الفتح الربانى ( من اين يدخل الميت قبره ) وص 102 ج3 فتح البارى ( ما يرخص من البكاء فى غير نوح) وص 53 ج4 بيهقى ( الميت يدخله قبره الرجال) وص 203 شمائل ( بكاء النبى صلى الله عليه وسلم ) .( وابنته ) هى أم كلثوم زوج عثمان . ووهم من قال هى رقية فإنها ماتت و النبى صلى الله عليه وسلم ببدر لم يشهدها . ( لم يقارف ) – بالقاف والفاء – أى لم يجامع لما فى حديث أنس أن رقية لما ماتت قال النبى صلى الله عليه وسلم : لا يدخل القبر رجل قارف أهله ، فلم يدخل عثمان بن عفان القبر . أخرجه أحمد بسند رجاله رجال الصحيح ( انظر ص 60 ج8 الفتح الربانى ) والحكمة فى اختيار من لم يحصل منه جماع فى تلك الليلة أنه حينئذ يأمن من أن يذكره الشيطان بما كان منه فى تلك الليله ، والسر فى إيثار ابى طلحة على عثمان أنه كان قد جامع بعض جواريه فى تلك الليلة فتلطف النبى صلى الله عليه وسلم فى منعه من النزول فى قبر زوجته بلا تصريح .(1/489)
دل) ما ذكر على أن الرجال أحق بالدفن من النساء ، لأنهم أقوى عليه منهن ولأن المرأة إذا تولته أدى إلى كشف بعض بدنها وهو عورة ( والأولى) عند الحنفيين والشافعي أن يدفن الرجل امرأته . فإن لم يكن زوج فمحارمها فإن لم يكن محرم فشيوخ الرجال واصلحهم لأن أبا طلحة رضى الله عنه تولى دفن بنت النبي صلى الله عليه وسلم وهو أجنبي ولم يكن هناك محرم إلا النبي صلى الله عليه وسلم فلعله كان له عذر في عدم نزول قبرها وكذا زوجها عثمان بن عفان رضى الله عنه (وقالت ) الحنبلية : الأولي بذلك المحارم ثم الزوج ثم صالحو الناس وشيوخهم ، لأن الزوج تزول زوجيته بموتها والقرابة باقية . وأولى الناس بدفن الرجل أولاهم الصلاة عليه من أقاربه لأن القصد الدعاء للميت والرفق به .
(فائدة) يدخل القبر – عند الحنفيين والجمهور – من تدعو إليه حاجة الدفن وترا أو شفعا ( لقول) ابن عباس رضى الله عنهما : كان الذين نزلوا في قبر النبي صلى الله عليه وسلم على بن أبي طالب والفضل بن العباس وقثم بن العباس وشقران مولى النبي صلى الله عليه وسلم وقال أوس بن خولة لعلى بن أبي طالب رضى الله عنه : يا على أنشدك الله وحفظنا من النبي صلى الله عليه وسلم فقال له انزل فنزل مع القوم فكانوا خمسة . أخرجه البيهقى وقال : وشقران هو صالح مولى النبي صلى الله عليه وسلم لقبه شقران(1)
(وقال) عامر : غسل النبي صلى الله عليه وسلم على والفضل واسامة بن زيد رضى الله عنهم وهم أدخلوه قبره قال وحدثني مرحب أو ابن أبي مرحب أنهم أدخلوا معهم عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه فلما فرغ على رضى الله عنه قال : إنما يلي الرجل أهله أخرجه البيهقى(2). { 669 }
(
__________
(1) انظر ص 53 ج4 بيهقى ( الميت يدخله قبره الرجال) وتقدم نحوه رقم 652 ص 461 .
(2) انظر ص 53 ج4 بيهقى(1/490)
وقالت) الشافعية : يستحب كون الدافنيين وترا فإن حصلت الكفاية بواحد وإلا فثلاثة وإلا فخمسة إن أمكن(1)
(7) كيفية الدفن : يدخل الميت القبر كيفما أمكن إما من جهة القبلة أو من مقابلها أو من قبل بعثتي أو من رجليه إذ لا نص يعين شيئا من ذلك ( واختلف ) العلماء في الأفضل (قال) مالك والشافعي وأحمد : يسن إدخاله القبر من قبل بعثتي بأن يوضه السرير في مؤخر القبر بحيث يكون راس الميت بإزاء موضع قدميه من القبر ثم يسل من قبل بعثتي (لقول) أبي إسحق عمرو بن عبد الله السبيعى : أوصى الحارث بن عبيد أن يصلى عليه عبد الله بن يزيد فصلى عليه . ثم ادخله القبر من قبل رجلي القبر وقال هذا من السنة " أخرجه أبو داود وابن أبى شيبة والبيهقى بسند صحيح(2) . { 670}
(وقال) الحنفيون : الأفضل أن يدخل الميت من قبل القبلة بأن توضع الجنازة في جانب القبلة من القبر ويحمل منه الميت فيوضع في اللحد ( لحديث) عطية العوفى عن أبي سعيد : " أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ من قبل القبلة واستقبل استقبالا " أخرجه ابن ماجة . وعطية ضعفه غير واحد(3). { 671}
(وروى) عمر بن سعيد : " أن عليا كبر على يزيد المكفف أربعا وأدخله من قبل القبلة " أخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرازق بسند صحيح وقال وبه نأخذ (4) { 672}
(
__________
(1) انظر ص 291 ج5 مجموع النووى .
(2) انظر ص 59 ج9 – المنهل العذب المورود ( كيف يدخل الميت قبره ؟ ) وص 54 ج4 بيهقى .
(3) انظر ص 242 ج1 – بان ماجه ( ما جاء فى إدخال الميت القبر )
(4) انظر ص 300 ج2 نصب الراية(1/491)
وقد) ورد في هذا روايات وإن كان في بعضها ضعف ولكنها لكثرتها يقوى بعضها بعضا (هذا) وقد استبعد الشافعي إدخال النبي صلى الله عليه وسلم من جهة القبلة وقال : إن هذا غير ممكن لأن شق قبره صلى الله عليه وسلم لاصق بالجدار ولحده تحت الجدار وليس هناك موضع يوضع فيه ولا يمكن إلا أن يسل سلا ويدخل من غير القبلة ( ودعوى) أن استقبال القبلة افضل ( جوابه ) أن استقبالها إنما يستحب بشرطين : أن يمكن وألا ينابذ سنة وهذا ليس ممكنا ومنابذا للسنة(1).
(أقول) الأمر في هذا واسع والمدار فيه على الأسهل . فإن سهل عليهم أخذه من جهة القبلة أو من جهة الرأس أو من جهة الرجلين فلا يخرج فيه .
(8) ما يطلب للدفن : هو ستة أمور (أ) يستحب : عند الحنفيين ومالك وأحمد ستر فم القبر بثوب عند دفن المرأة دون الرجل ( لما روى) على بن الحكم عن رجل من أهل الكوفة عن على بن أبي طالب رضى الله عنه : " أنه أتى ونحن ندفن ميتا وقد بسط الثوب على قبره فجذب الثوب من القبر وقال : إنما يصنع هذا بالنساء " . أخرجه البيهقى(2) { 673}
(وقالت) الشافعية : يستحب نشر ثوب على قبر الرجل والمرأة ( لحديث ) يحيى بن عقبة عن على بن بذيمة الجزرى عن مقسم عن ابن عباس قال : " جلل النبي صلى الله عليه وسلم قبر سعد بثوبه " أخرجه البيهقى وقال : لا أحفظه إلا من حديث يحيى بن عقبة وهو ضعيف (3) . { 674}
(
__________
(1) انظر ص 295 ج5 مجموع النووى
(2) انظر ص 54 ج4 بيهقى ( ستر القبر بثوب ) و( بذيمة ) بفتح فكسر المعجمة
(3) انظر ص 54 ج4 بيهقى ( ستر القبر بثوب ) و( بذيمة ) بفتح فكسر المعجمة(1/492)
وأجاب) الجمهور بأن الحديث ضعيف وعلى فرض الصحة فيحتمل أنه مخصوص بسعد بن معاذ رضى الله عنه لأنه كان مجروحا قد تغير جرحه فستره النبي صلى الله عليه وسلم لمنع الرائحة . (ب) ويستحب لواضع الميت في القبر الدعاء له وإن كان مأثورا فما أحسنه ( ومنه) ما في حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا وضعتم موتاكم في القبر فقولوا : باسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم " أخرجه أحمد والبيهقى والحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين(1). { 675}
(وعن) ابن عمر رضى الله عنهما : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع الميت في القبر قال : باسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم " أخرجه الأربعة وقال الترمذى حسن غريب وصححه ابن حبان(2). {676}
(
__________
(1) انظر ص 58 ج8 – الفتح الربانى ( من اين يدخل الميت قبره وما يقال عند ذلك ) وص 55 ج4 بيهقى ( ما يقال إذا أدخل الميت قبره ) .
(2) انظر ص 62 ج9 – المنهل العذب المورود ( الدعاء للميت إذا وضع فى قبره وص 242 ج1 – ابن ماجه 0 فى إدخال الميت القبر ) وص 152 ج2 تحفة الأحوذى .(1/493)
وفى) رواية لابن ماجة : باسم الله وفى سبيل الله وعلى ملة رسول الله (وفى) رواية للترمذى: باسم الله وباله وعلى ملة رسول الله ( قال ) عبد الرحمن ابن العلاء بن اللجلاج : قال لي أبي : يابنى إذ أنا من فالحد لي لحدا فإذا وضعتني في لحدي فقل : باسم الله وعلى ملة رسول الله ثم شن التراب على شنا ثم أقرا عند رأسي بفاتحة البقرة وخاتمها فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك " . أخرجه الطبرانى في الكبير بسند رجاله موثقون . وأخرجه البيهقى موقوفا على ابن عمر(1) .{ 677}
(
__________
(1) انظر ص 44 ج3 مجمع الزوائد ( ما بقول عند إدخال الميت القبر ) وص 56 ج4 بيهقى ( ما ورد فى قراءة القرآن عند القبر ) . ( وشن ) – بضم الشين المعجمة أو السين المهملة – أى ضع التراب على قبرى برفق ( وفاتحة البقرة ) بسم الله الرحمن الرحيم آلم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) وتقدم بيانها بص 133 ( علاج الجنون والصرع ) وخاتمتها " آمن الرسول بما أنزل اليه من ربه والمؤمنون كل أمن بالله وملائكتة وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا واليك المصير 285 لا يكلف الله نفسا الا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين 286 " تقدم بيانها بص 203 ج5 – الدين الخالص .(1/494)
والحديث)صريح في أن القراءة تكون عند راس الميت في القبر ( لكنه) ورد من طرق أخرى أن القراءة إنما تكون بعد الدفن خارج القبر ( قال) أخرجه البيهقى وحسنة النووي وهو وإن كان من قول ابن عمر فمثله لا يقال من قبل الرأي ( ويمكن ) أنه لما علم بما ورد في فضل ذلك على العموم استحب أن يقرا على القبر رجاء أن ينتفع بقراءته ( وحكمه) قراءة ما ذكر عند وضع الميت في قبره أن يكون كالحصن والعدة التي يتقى بها الفتن والأهوال . وخصت فاتحة البقرة لاشتمالها على مدح كتاب الله تعالى وأنه هدى للمتقين المؤمنين بالغيب والمقيمين الصلاة والمؤدين الزكاة . وخاتمها لاحتوائها على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وإظهار الاستكانة وطلب الغفران والرحمة والنصر على الأعداء والالتجاء إلى كنف الله تعالى وحمايته (وروى) قتادة أن أنسا دفن ابنا له فقال : اللهم جاف الأرض عن جنبيه وافتح أبواب السماء لروحه أبدله دار خيرا من داره " . أخرجه الطبرانى في الكبير بسند رجاله ثقات(1)
(ويستحب ) أن يقول من يدخل الميت القبر بعد ما تقدم : اللهم أسلمه إليك الأشحاء من ولده وأهله وقرابته وإخوانه وفارق من كان يحب قربه وخرج من سعة الدنيا والحياة إلى ظلمة القبر وضيقة ونزل بك وأنت خير منزول به إن عاقبته فبذنب وإن عفوت فأنت أهل العفو غنى عن عذابه وهو فقبر إلى رحمتك . اللهم اشكر حسنته واغفر سيئته وأعذه من عذاب القبر واجمع له برحمتك الأمن من عذابك واكفه كل هول دون الجنة اللهم اخلفه في تركته في الغابرين وارفعه في عليين وعد عليه برحمتك يا أرحم الراحمين(2).
(
__________
(1) انظر ص 44 ج3 مجمع الزوائد ( ما يقول عند إدخال الميت القبر ) .
(2) انظر ص 292 ج5 مجموع النووى .(1/495)
جـ) ويلزم توجيه الميت إلى القبلة عند الجمهور ( لما روى) ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الكبائر الإشراك بالله وقذف المحصنة وقتل النفس المؤمنة والفرار يوم الزحف وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين المسلمين وإلحاد بالبيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا " . أخرجه البيهقى بسند صحيح(1). { 679}
والإلحاد بالبيت الميل عن الحق في حرم الكعبة (فقد) دل على أن الكعبة قبلة للحى والميت (وقالت) المالكية والقاضى أبو الطيب الشافعي : توجيه الميت إلى القبلة مستحب كوضعه على الشق الأيمن . (د) ويستحب اتفاقا أن يوضع على شقه الأيمن وأن يوضع خده على لبنه أو حجر أو تراب أو نحوه بأن ينحى الكفن عن خده ويوضع على ما ذكر (لقول) عمر رضى الله عنه : إذا أنزلتموني في اللحد فأفضوا بخدي إلى الأرض . ذكره في المهذب(2)
(هـ) ويستحب وضع شيء خلفه من لبن أو غيره يمنعه من الوقوع على قفاه ( لقول) واثلة بن الأسقع كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا وضع الميت في قبره قال : " باسم الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم" ووضع خلف قفاه مدرة وبين كتفيه مدرة وبين ركبتيه مدرة ومن ورائه أخرى " . أخرجه الطبرانى في الكبير وفيه بسطام بن عبد الوهاب وهو مجهول(3). { 680}
(وتقدم) أنه يكره أن يوضع تحت الميت وسادة أو مرتبة أو ثوب (4) (لما روى) يزيد بن الأصم عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه كره أن يجمل تحت الميت ثوب في القبر . أخرجه البيهقى(5).
__________
(1) انظر ص 409 ج3 بيهقى ( ما جاء فى استقبال القبلة بالموتى ) .
(2) انظر ص 291 ج5 مجموع النووى .
(3) انظر ص 44 ج4 مجموع الزوائد ( ما يقول عند إدخال الميت القبر ) و( مدرة) ( بفتحات – واحدة المدر وهو الطين المتماسك .
(4) انظر ص 359 ( دفن النبى صلى الله عليه وسلم) .
(5) انظر ص 408 ج3 بيهقى ( ما روى قطيفة ى صلى الله عليه وسلم ) .(1/496)
0فائدة) لا باس بدفن شيء من آثار الصالحين مع الميت ( لما روى) عن أنس رضى الله عنه : " أنه كانت عنده غصبة للنبي صلى الله عليه وسلم فدفنت معه بين جنبه وقميصه " أخرجه البزار بسند رجاله موثقون(1). { 681}
(و) ويستحب حل عقد الكفن بعد الدفن لأن عقدها كان للخوف من انتشاره وقد أمن ذلك بدفنه ( وروى) معقل بن يسار : " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وضع نعيم بن مسعود في القبر نزع الأخلة بفيه " أخرجه البيهقى (2) {682}
(ولا يجوز) شق الكفن لأنه إتلاف مال وقد نهى الشرع عنه وأمر بإحسان الكفن وشقه يتلفه ويذهب بحسنه(3).
(9) ما يطلب بعد الدفن : يطلب بعدة ستة أمور : (أ) يستحب سد القبر سدا محكما بطوب نيء ووضع البوص ونحوه فوق اللبن ليمنع نزول التراب على الميت لما تقدم عن ابن أبى وقاص قال : وانصبوا على اللبن نصبا(4) (وقال) الشعبي : جعل على قبر النبي صلى الله عليه وسلم طن من قصب أخرجه ابن أبى شيبة مرسلا(5).
(ويكره) سد القبر بالآجر والخشب والحجارة ونحوها – عند غير مالك إن لم تكن الأرض رخوة أو ندية ، فإن كانت فلا بأس بسده بما ذكر .
(وقالت ) المالكية : يندب سد القبر باللبن فإن لم يوجد فلوح من خشب في جر فحجر فقصب ، فإن لم يوجد شيء من ذلك فسن التراب بباب اللحد . وينبغي أن يلت بالماء ليتماسك(6).
(
__________
(1) انظر ص 45 ج3 مجمع الزوائد ( دفن الآثار الصالحة مع الميت ) و( عصبة) بفتح فسكون واحدة العصب وهى يردد يمينه يعصب غزلها أى يجمع ويشد ثم يصبغ وينسج فيظهر موشى لبقاء ما عصب منه أبيض .
(2) انظر ص 407 ج3 بيهقى ( عقد الأكفان عند خوف الانتشار وحلها إذا أدخلوه القبر ) و( الأخلة ) ب بقتح فكسر فشد – جمع خلال وهو ما يربط به الكفن .
(3) انظر ص 383 ج2 مغنى ابن قدامة .
(4) انظر رقم 645 ص 457 ( مكان الدفن ) .
(5) انظر ص 471 ج1 فتح القدير لابن الهمام ، والطن بالضم الحزمة .
(6) انظر ص 169 ج1 صغير الدردير(1/497)
ب) وبعد إهالة التراب على القبر يستحب – اتفاقا – لمن شهد الدفن أن يحثو على القبر ثلاث حثيات بيديه جميعا من قبل راس الميت ( لحديث) أبى هريرة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم على جنازة ثم أتى قبر الميت فحثي عليه من قبل رأسه ثلاثا " . أخرجه ابن ماجة بسند ظاهر الصحة ورجاله ثقات(1). { 683}
(جـ) ويستحب – عند الحنفيين ومالك والشافعي – أن يقول في الحثية الأولى " مِنْهاَ خَلَقَنْاَكُمْ " وفى الثانية " وَفِيهاَ نُعِيدكُمْ " وفى الثالثة " و مِنْهاَ خَلَقَنْاَكُمْ وَفِيهاَ نُعِيدكُمْ و مِنْهاَ نُخْرِحكُم تاَرَةَّ أُخْرَى " أخرجه أحمد والحاكم من رواية عبيد الله ابن زخر عن على بن زيد بن جدعان عن القاسم وهم ضعفاء(2). { 684}
لكن الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال . (وقال) أحمد : لا يطلب ذكر الآية أو غيرها عند حثو التراب لضعف الحديث وعدم صراحته في المدعى .
(
__________
(1) انظر ص 244 ج1 – ابن ماجه ( ما جاء فى حثو التراب فى القبر ) ( فحثى ) من باب عدا ورمى
(2) انظر ص 57 ج8 – الفتح الربانى ( ما جاء فى الحثى فى القبر )(1/498)
د) ويسن للمشيعين الانتظار بعد الدفن قدر بحر جمل وتفريق لحمه ليأتنس بهم الميت . (قال) عمرو بن العاص رضى الله عنه من حديث طويل : " فإذا دفنتموني فشنوا على التراب شنا ثم أقيموا حول قبرى قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها حتى استأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربى " . أخرجه مسلم(1). { 685}
(
__________
(1) انظر رقم 924 ص 444 ولفظ الحديث عند مسلم : عن ابن شماسة ( بضم الشين) المهرى قال : حضرنا عمرو بن العاص وهو فى سياقه الموت ( بكسر السين أى حال حضور الميت ) فبكى طويلا وحول وجهه إلى الجدار فجعل ابنه يقول : يا أبتاه أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا ؟ أما بشرك بكذا ؟ فأقبل بوجهه فقال: إن افضل ما نعد شهادة أن لا اله الا الله وأن محمد رسول الله . إنى قد كنت على أطباق (أى أحوال) ثلاث لقد رايتنى وما أحد أشد بغضا للنبى صلى الله عليه وسلم منى لا أحب إلى أن أكون قد استمسكت منه فقلت فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار ، فلما جعل الله تعالى الإسلام فى قلبى أتيت النبى صلى الله عليه وسلم فقلت ابسط يمينك فلأبايعك فبسط يمينه فقبضت يدى قال : مالك يا عمرو ؟ قلت اردت أن اشترط قال : ما تشترط بماذا ؟ ( الباء زائدة للتوكيد . أو اصلية لتضمين تشترط معنى تحتاط) فقال : أن يغفر لى قال : أما علمت أن الأسلام يهدم ما كان قبله ؟ وما كان أحد أحب إلى من النبى صلى الله عليه وسلم ولا أجل فى عينى منه ، وما كنت أطيق أن أملاء عينى منه إجلالا له . ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأنى لم أكن أملآ عينى منه ، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة ، ثم ولينا اشياء ما أدرى ما حالى فيها ، فإذا أنا مت فلا تصحبنى نائحة ولا نار ، فإذا دفنتمونى ( الحديث) انظر ص 137 ج2نووى ( الإسلام يهدم ما قبله ) .(1/499)
هـ) ويستحب الاستغفار للميت والدعاء له عند القبر بعد دفنه بالثبات . فيقول – مستقبلا وجهه – اللهم هذا عبدك وأنت أعلم به منا ولا نعلم منه إلا خيرا وقد أجلسته لتسأله . اللهم فثبته بالقول الثابت في الآخرة كما ثبته في الدنيا . اللهم ارحمه وألحقه بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ولا تضلنا بعده ولا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله ولسائر المسلمين(1) . ( قال) عثمان بن عفان رضى الله عنه : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دفن الميت وقف عليه وقال : " استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل " . أخرجه أبو داود والحاكم وصححه والبيهقى بسند حسن(2). { 686}
(وكان) على رضى الله عنه إذا فرغ من دفن الميت قال : اللهم هذا عبدك نزل بك وأنت خير منزول به فاغفر له ووسع مدخله . أخرجه أبو الحسن رزين بن معاوية(3).
(و) يستحب – عند أكثر الشافعية والحنبلية وبعض الحنفيين والمالكيين – تلقين الميت المكلف بعد الدفن بأن يقوم إنسان عند بعثتي ويقول : يا فلان بن فلانة ويا عبد الله بن أمة الله اذكر العهد الذي خرجت عليه من الدنيا – شهادة أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وإن محمد عبده ورسوله وأن الجنة حق وأن النار حق وأن البعث حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأنك رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا وبالقرآن إماما وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخوانا . فهذا التلقين عندهم مستحب(4)
(
__________
(1) انظر بحث ( ما يقال عند الدفن والتلقين ) من ( شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور ) للسيوطى فن الحديث رقم 79 بدار الكتب المصرية
(2) انظر ص 73 ج9 – المنهل العذب المورود ( الاستغفار عند القبر للميت ) وص 56 ج4 بيهقى ( ما يقال بعد الدفن ) .
(3) انظر ص 304 ج3 تيسير الوصول ( نقل الميت ) .
(4) انظر ص 303 ج5 مجموع النووى.(1/500)
لظاهر) حديث أبي سعيد الخدرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لقنوا موتاكم قول لا اله إلا الله " أخرجه البيهقى والسبعة إلا البخاري(1). { 687}
(قال) الأى : لا يبعد حمله على التلقين بعد الدفن(2) لما فيه من حمل لفظ الحديث على ظاهرة والأصل عدم التأويل (وقال) ابن الحاج والقرطبي وغيرهما من المالكية : يندب التلقين بعد الدفن ويستأنس له بما قال أبو أمامه وهو في النزع إذا أنا مت فاصنعوا بي كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب على قبره فليقم أحدكم على راس قبره ثم ليقل : يا فلان ابن فلانه فإنه يسمعه ولا يجيب ، ثم يقول : يا فلان ابن فلانة فإنه يستوي قاعدا ، ثم يقول يا فلان ابن فلانه ، فإنه يقول : أرشدنا رحمك الله ولمن لا تشعرون فليقل : اذكر ما خرجت عليه من الدنيا : شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأنك رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وبالقرآن أماما ، فإن منكرا ونطيرا يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه ويقول : انطلق بنا ما نقعد عند من لقن حجته ، فيكون الله حجيجه دونهما " . قال رجل : يا رسول الله فإن لم يعرف أمه ؟ قال : " فينسبه إلى حواء يا فلان ابن حواء " . أخرجه الطبرانى في الكبير . قال في التلخيص : سنده صالح . وقال الهيثمى : وفى سنده جماعة لم أعرفهم(3).
(
__________
(1) انظر رقم 259 ص 197 ( تلقين المحتضر )
(2) انظر ص 62 ج3 أبى مسلم ( الجنائز )
(3) انظر ص 45 ج3 مجمع الزوائد ( تلقين الميت بعد دفنه(2/1)
فهذا ) الحديث وإن كان ضعيفا فيستأنس به وقد اتفق العلماء على المسامحة في أحاديث الفضائل والترغيب والترهيب . وقد تقوى بشواهد كحديث " أسالوا له التثبيت " ووصية عمرو بن العاص وهما صحيحان ن ولم يزل أهل الشام على العمل بهذا في زمن من يقتدي به وإلى الآن (1) . (وقال) الكمال بن الهمام : وأما التلقين بعد الموت فقيل يفعل لحقيقة : لقنوا موتاكم لا إله إلا الله . ونسب إلى أهل السنة والجماعة ، وقيل : لا يؤمر به ولا ينهى عنه ولا شك أن اللفظ لا يجوز إخراجه عن حقيقته إلا بدليل(2) . (وقال) بعض الحنبلية ك لا يستحب التلقين بعد الدفن بل يكره وهو مشهور مذهب المالكية لأنه لم يعرف لدى السلف الصالح بل هو مبتدع حدث بالشام (قال) الأثرم : قلت لأبى عبد الله (بعنى الإمام أحمد ) فهذا الذي يصنعون إذا دفن الميت يقف الرجل ويقول : يا فلان ابن فلانة اذكر ما فارقت عليه : شهادة أن لا اله إلا الله . فقال : ما رأيت أحدا فعل هذا إلا أهل الشام حين مات أبو المغيرة جاء إنسان فقال ذاك وكان أبو المغيرة يروى فيه عن أبي بكر بن أبي مريم عن أشياخه أنهم كانوا يفعلونه(3) . وأجابوا (أ) عن حديث " لقنوا موتاكم قول لا إله إلا الله " بأن التلقين حقيقة في المحتضر مجاز في الميت . ولذا قال ابن حبان وغيره : المراد بالميت من حضرة الموت . (ويؤيده) حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " افتحوا على صبيانكم أول كلمة بلا إله إلا الله . ولقنوهم عند الموت لا إله إلا الله " . أخرجه البيهقى في شعب الإيمان(4). {688}
(
__________
(1) انظر ص 304 ج5 مجموع النووى .
(2) انظر ص 446 ج1 فتح القدير لابن الهمام .
(3) انظر ص 280 ج2 مغنى ابن قدامة .
(4) انظر ص 253 ج8 – المنهل العذب المورود ( الشرح) .(2/2)
وحديث) زاذان أبي عمر قال : حدثني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : من لقن عند الموت لا إله إلا الله دخل الجنة . أخرجه أحمد بسند جيد(1). { 689}
(ويؤيده) أيضا ما رواه ابن حبان في الحديث بزيادة : فإنه من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة يوما من الدهر وإن أصابه ما أصابه قبل ذلك .
(وقال) النووي: لقنوا موتاكم أي من حضره الموت ، والمراد ذكروه لا إله إلا الله لتكون آخر كلامه كما في الحديث . فإن من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة(2)
(ب) وعن حديث أبي أمامه بأنه ضعيف . ضعفه الحافظ بن حجر والعراقي والنووي وابن الصلاح . وقال في الهدى : لا يصح رفعه (أقول) : والأمر في هذا واسع فلا ينهى عن التلقين بعد الدفن ولا يؤمر به ، فإن الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال .
تم الجزء السابع ، ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثامن وأوله : " محظورات القبر
تعريف بأهم المراجع التي استعنا بها في تخريج أحاديث سابع الدين الخالص
والنصوص العلمية وبيان مطابع المراجع تيسيرا للرجوع إليها
المرجع ... المطبعة
القرآن الكريم ... الأميرية ببولاق مصر 1358 هـ
صحيح الإمام البخاري وشرحه فتح الباري للحافظ بن حجر العسقرنى
عمدة القاري شرح صحيح البخاري لبدر الدين أبى محمد العيني الحنفي ... الخيرية 1319 هـ
المنيرة
صحيح الإمام مسلم وشرح الإمام محيى الدين يحيى النووي عليه سنن الإمام أبي داود السجستانى وشرحه المنهل العذب المورود للشيخ الإمام محمود خطاب رحمة الله ... المصرية 1347 هـ
الأستقامة 1351 هـ
سنن الإمام أبي داود السجستانى وشرحه عون المعبود لأبى عبد الرحمن الشهير بمحمد أشرف ... الهند
جامع الإمام الترمذى وشرحه تحفة الأحوذى للعلامة محمد ابن عبد الرحمن ... الهند
صحيح الإمام الترمذى بشرح ابن العربي ... المصرية 1350 هـ
__________
(1) انظر رقم 257 ص 196 ( تلقين المحتضر )
(2) انظر ص 219 ج6 نووى مسلم .(2/3)
السنن الصغرى لأبى عبد الرحمن النسائي المسي بالمجتبى
وشرحه زهر الربى للسيوطى وبهامشة شرح السندى ... الميمنة 1312 هـ
سنن الإمام أبي عبد الله محمد بن ماجة القزوينى وحاشية السندى عليه
شرح العلامة محمد الزرقانى على صحيح موطإ الإمام مالك تيسير الوصول إلى جامع الأصول للمحدث عبد الرحمن الشيبانى الزبيدى ... العلمية 1313 هـ
المصرية الكستلية 1279 هـ
السنن الكبرى للحافظ البيهقى والجوهر النقي لابن التركماني ... الجمالية 1230 هـ
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للحافظ على بن أبي ... الهند 1344 هـ
بكر الهيثمى ... القدسي 1352 هـ
الجامع الصغير للسيوطى وسرحه ( فيض القدير ) للمناوى ... مصطفى محمد 1356 هـ
كشف الخفاء ومزيل الإلباس للعلامة إسمعيل العجلونى ... القدسي 1351 هـ
مسند الإمام أحمد بن حنبل ... الميمنة 1306 هـ
الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيبانى للشيخ عبد الرحمن ألبنا ... الفتح الرباني 1353هـ
المستدرك للحافظ أبي عبد الله الحاكم النيسابورى ... الهند 1334هـ
شرح معاني الآثار للحافظ أبي جعفر الطحاوى ... الهند
سنن الإمام الدار قطني ... الأنصارية بالهند
سبل السلام شرح بلوغ المرام للعلامة محمد بن إسماعيل الصنعانى ... مصطفى محمد هـ
المرجع ... المطبعة
الروض الأنف شرح سيرة ابن هشام للعلامة عبد الرحمن السهيلى ... الجمالية 1332 هـ
زاد المعاد في هدى خير العباد لابن القيم ... المصرية 1347 هـ
تسهيل النافع في الطب والحكمة للشيخ إبراهيم الأزرق ... الحلبي 1349 هـ
الطب النبوي للحافظ أبي عبد الله الذهبي ... الحلبي 1394 هـ
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للعلامة محمد لشوكاني ... الحلبي 1349 هـ
تفسير القرآن العظيم للأمام عماد الدين إسماعيل بن كثير القرشي ... مصطفى محمد 1356 هـ
تفسير الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير القرشي ومعه معالم التنزيل تفسير الإمام البغوى ... المنار(2/4)
جامع البيان في تفسير القرآن للأمام أبي جعفر الطبري وبهامشه غرائب القرآن ورغائب الفرقان للعلامة ... الأميرية ببولاق مصر
نظام الدين النيسابورى ... 1323 هـ
تفسير الجلالين وحاشية الصاوى عليه ... الشرقية
المجموع شرح المهذب للأمام أبي زكريا يحيى النووي الشافعي المغنى للعلامة أبى محمد عبد الله بن قدامة شرح مختصر أبي القاسم الخرقى ومعه شرح المقنع ( الشرح الكبير ) ... المنيرة
للأمام أبى الفرج عبد الرحمن بن قدامة في مذهب الإمام أحمد بن حنبل ... المنار 1341 هـ
غذاء الألباب شرك منظومة الآداب للشيخ محمد السفارينى الحنبلي ... النجاح 1324 هـ
بجائع الصنائع في ترتيب الشرائع للأمام علاء الدين مسعود الكاسانى الحنفي ... شركة المطبوعات العمية 1327 هـ
نصب الراية لأحاديث الهداية للمحدث عبد الله بن يوسف الزيلعى الحنفي ... دار المأمون بشبرا مصر 1357 هـ
البحر الرائق شرح كنز الدقائق للعلامة زين الدين بن نجيم عقود الجواهر المنيفة في أدلة مذهب الإمام أبى حنيفة للعلامة السيد محمد مرتضى الحسيني ... العلمية 1311 هـ
الوطنية بالإسكندرية 1292 هـ
فتح القدير للشيح الإمام كمال الدين محمد ابن الهمام الحنفي ... الأميرية ببولاق مصر 1315 هـ
الشرح الصغير للعلامة أحمد الدرديرى وعليه بلغة السالك لأقرب المسالك للشيخ أحمد الصاوى ... الحسينية المصرية
نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار للعلامة محمد بن على لشوكاني ... المنيرة 1344 هـ
بهجة المحافل وبغية الأماثل في المهجزات والشمائل لعماد الدين يحيى العامرى ... الجمالية
الشمائل المحمدية للأمام الترمذى مع الواهب اللدنية للشيخ إبراهيم الباجورى ... الاستقامة
كتاب الروح للأمام ابن القيم ... الهند 1318 هـ
اللآلى المصنوعة في الأحاديث الموضوعة لجلال الدين السيوطى ... الأديبة 1317 هـ
تذكرة الموضوعات للعلامة محمد طاهر بن على الهندي ... المنيرة
دليل الجزء السابع
من كتاب الدين الخالص
ص ... الموضوع ... ص ... الموضوع(2/5)
2 ... (الجنائز) المرض . فضله ... 24 ... ما ينافية ( مرضى النبي صلى الله عليه وسلم )
4 ... صبر المريض ( فضل الله عليه) ... 25 ... إخباره بقرب أجله . مبدأ مرضه
5 ... (فضل الصبر ) أنواعه . أفضله ... 26 ... غزوة خيبر . دعاؤه بها
7 ... الصرع . سببه . علاجه (هامش) ... 27 ... مسجد خيبر ( هامش)
8 ... (عيادة المريض ) حكمها ... 27 ... شدة مرضه صلى الله عليه وسلم
9 ... مشروعيتها لكل مرض ما يلحق بها (فضلها) ... 28 ... من قتل بخيبر . تمريض النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة
10 ... (آدابها) ... 29 ... آخر صلاة صلاها.
11 ... الدعاء للمريض ... 29 ... آخر خطبة له ( هامش )
12 ... تطيب نفسه بقرب الشفاء . طلب الدعاء منه . تخفيف العيادة وعدم تكريرها ... 30 ... آخر وصاياه وكلماته صلى الله عليه وسلم
13 ... غزوة الخندق ( هامش) ... 31 ... رد زعم الشيعة أنه صلى الله عليه وسلم أوصى لعلى رضى الله عنه (هامش)
15 ... صب وضوء العابد الصالح على المريض . المشي والركوب في العيادة ... 33 ... أنواع المرض ) مرض القلب
مرض الشهوة والغى . مرض البدان .
16 ... لا يتناول العائد عند المريض شيئا هل يعاد من لا يعود ؟ ... 34 ... ما يؤذى حبسه
17 ... عيادة المرأة ... 35 ... ( التداوي) حكمه
18 ... (عيادة الذمي) والمبتدع والمجاهر بالمعصية(طول العمر مع حسن العمل) ... 36 ... المذاهب فيه
19 ... عمر التذكر . النذير ( هامش) ... 37 ... ما يطلب فيه
20 ... (حسن الظن بالله تعالى ) متى يغلب الرجاء على الخوف ... 38 ... معالجة المرأة الرجل وعكسه ( ما يجوز التداوي به وما لا يجوز )
21 ... الطمع المذموم ( اليأس من رحمة الله كبيرة ... 40 ... الخمر داء . إشاعة اللقمة بها ( الطب النبوي ) ( العلاج بالأدوية الطبيعية ) العسل
22 ... (حسن الخاتمة) ... 41 ... منافعة
23 ... شكاية المريض ) متى تباح الشكوى إلى الله والصبر الجميل . ... 42 ... علاج استطلاق البطن بالعسل ( الحبة السوداء ) منافعها . لم وصف العسل لمن به الإسهال وهو مسهل؟
ص ... الموضوع ... ص ... الموضوع
43 ... علاج الزكاة . كيفية التداوي بالحبة السوداء ... 66 ... الحق أنها لا تتقيد بوقت . ما جاء في أيامها(2/6)
44 ... ( العجوة ) منافعها ... 67 ... كراهتها يوم الثلاثاء ( الكي)
45 ... ( الحناء ) منافعها – علاج الصداع والشقيقة ... 68 ... حكمة النهى عنه .
46 ... ( السنا) ... 69 ... أنواعه .
47 ... ( القسط ) منافعة . ذات الجنب .العذرة ... 69 ... لا تعارض بين ما ورد فيه ( الحمية ) أنواعها
48 ... فوائد القسط ... 71 ... منع السقيم مما يزيد في علته
49 ... الرد على من خفي عليه نفعه من وجع ذات الجنب ( الإثمد ) كيفية الاكتحال به ... 72 ... ( الورس) ( رماد الحصير)
50 ... منافع الرمد ... 73 ... غزوة أحد ( هامش)
51 ... ( السعوط) (دواء الحمى) أنواعها ... 75 ... قتل أبي بن خلف ، قتال نسيبة بنت كعب
52 ... دواء حمى اليوم ، ما المراد بالماء الذي تطفأ به الحمى ؟ ... 63 ... ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم في أحد
53 ... هل إطفاؤها خاص بماء زمزم ؟ إطفاؤها بالماء البارد خاص ببعضها ... حكمة بلا ء الأنبياء ( الترياق)
55 ... لا خطر على المحموم في ساتعماله ... التميمة ( دواء النسا)
56 ... ( التلبينة ) علاج المريض يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص (هامش) ... 79 ... (دواء العين)
57 ... منافع ماء الشعير ... 80 ... متى تضر العين ؟ تأثيرها بإرادة الله تعالى
58 ... ( لبن الإبل وبولها) ... 81 ... كيفية علاج المعيون بوضوء العائن
علاج الاستسقاء بها
59 ... ( الحجامة والفصد ) ... 83 ... علاج العين بالدعاء . ما يقول إذا رأى ما يعجبه
لا قصاص على العائن
60 ... الحجامة أنفع من الفصد ... 84 ... ( علاج الصرع ) أنواعه
61 ... (فضل الحجامة ) الخير في الأدوية محقق ... 85 ... فضل من يصرع يصبر ، علاج صرع الجن
(دواء الجنون)
62 ... أصول العلاج ثلاثة ... 87 ... (دواء الكلية) ( التداوي بسمن البقر
63 ... (موضع الحجامة) منافع الفصد والحجامة ... 88 ... ( الباسور)
64 ... ( وقت الحجامة) ... 89 ... ( الإذخر ) الأرز ) هو الصنوبر ( الأرز الحب) 90 ( الباذنجان) ( البسر) ( البصل)
ص ... الموضوع ... ص ... الموضوع
91 ... النهى عن أكله ( البطيخ ) ... 116 ... ( العنب ) ( العنبر)
92 ... البلح ) الجمع بينه وبين التمر ... 117 ... ( الفضة) ( القثاء)( قصب السكر)
93 ... ( البيض ) منافعه ... 118 ... ( الكراث) ( الكرم ( اللبان)(2/7)
94 ... ( التمر) أكله والزبد . أكل الخبز بالتمر ... 119 ... ( ماء زمزم)
95 ... ( التين) منافعه ... 120 ... ( المسك) ( الملح)
96 ... ( الثريد) ( الثلج) ... 121 ... ( النبق) ( الهنديا)
97 ... ( الثوم) منافعه ومضاره ... 122 ... ( اليقطين ) منافعة
98 ... ( الجبن ) منافعه ( الجمار ) ( الحرير ) لبسه للضرورة ... 123 ... ( العلاج بالأدوية الروحية الإلهية )( الصلاة)
99 ... ( الحلبة) ... 124 ... لم كانت شفاء؟
منافع طول السجود والصلاة
100 ... ( الخبز) ... 125 ... صلاة المصيبة
101 ... ( الخل) ... ( الصوم ) حكمته ( القرآن )
102 ... ( الخلال) ( الدهن) ... 127 ... ( الفاتحة ) هي شفاء من كل داء
103 ... منافعه ( الذباب) ... 128 ... أخذ الأجرة على الرقية وتعليم القرآن
104 ... ( الذهب) ... 129 ... كيفية الرقية بالفاتحة
105 ... ( الرطب) أكل القثاء مع الرطب ... 131 ... ( البقرة )
106 ... حكمة الفطر على الحلو أو الماء ... 132 ... ( المعوذات)
107 ... ( الزمان) ... 133 ... ( علاج الضرس) ( علاج الجنون والصرع)
تفسير الربع الآيات من أول سورة البقرة
108 ... ( الزبد) ( الزبيب) ( الزنجبيل) ... 134 ... فضل الإيمان بالغيب .
109 ... ( الزيت ) السفرجل ) ... 135 ... إقامة الصلاة . فضل الإنفاق في الخير
110 ... (الساق) ... 137 ... أهل الجنة وأهل النار . وصف المتقين
111 ... (السمك) أنواعه ... 138 ... تفسير : إلهكم إله واحد
112 ... ( السمن) (السواك) ... 139 ... آيات الله في السفن والسحاب والرياح
113 ... الشحم ( الصبر) ... تفسير آية : شهد الله . معنى شهادة الله والملائكة وأولى العلم
114 ... الضفدع ( الطلح ) ... تفسير آية : إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض
115 ... ( الطلع ) ( الطيب) ( العدس) ... كلام السلف في الاستواء على العرش تفسير آخر سورة " المؤمنون "
ص ... الموضوع ... ص ... الموضوع
145 ... بيان قوله : وأنه تعالى جد ربنا تفسير عشر آيات من أول الصافات ... 170 ... المتوكل لا يعلقها
146 ... رمى الشياطين بالشهب حال استرق السمع . ... 171 ... ( تميمة الحمى وعسر الولادة )
147 ... تفسير آيات آخر الحشر ... 172 ... ( تميمة الرعاف والوحشة وعرق النسا ووجع الضرس)(2/8)
148 ... الاتعاظ بأوامر القرآن ... 173 ... تميمة الخراج) الآثار الموضوعة في المرض والطب)
149 ... تنزيهه تعالى عن كل نقص ... 174 ... المكذوب في فضل المرض
150 ... ( الرقى) فضل أواخر الحشر . أحكامها (هامش) ... 175 ... ما قيل في التمارض وإعطاء المريض ما يشتهية والحمية وذهاب البصر والسمع
151 ... استحباب الرقية من الحمى والعين وغيرهما ... 176 ... ما قيل في الزكام والعيادة
152 ... رقية للنبي صلى الله عليه وسلم . ... 178 ... ما قيل في الجذام ونزول المرض والبرء
155 ... دعاء العائد للمريض ... 179 ... ما قيل في الحجامة والدواء .
دعاء الفزع ليلا ( الرقية من العين)
157 ... علاج العين قبل الإصابة وبعدها ... 180 ... ما قيل في وجع العين
158 ... تعويذ النبي صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين ... ما قيل في الحرز . حرز أبي دجانة حفيظة آخر رمضان ( هامش )
159 ... ( الرقية من لدغة العقرب ) ... 182 ... ما قيل في التداوي بفضل الوضوء والبلاء وعمل الدواء
159 ... ما تضمنته سورة الإخلاص من العقائد ... 183 ... ما قيل في الملح والأرز والبان والبيض
160 ... ما تضمنته المعوذتان من التحصينات علاج لدغة العقرب بالماء والملح ... 184 ... ما قيل في الباذنجان والدهن والزبيب
161 ... وبقراءة : سلام على نوح في العالمين ... 185 ... ما قيل في الطين والعنب والعدس والكراث
162 ... ( رقية النملة ) ... 186 ... ما قيل في اللبان والرنجس ( الطاعون)
163 ... تعليم النساء الكتابة ( هامش ) رد النهى عن تعليمهن . رأى الإسلام في تعليم المرأة ... 187 ... أجر الصابر على الطاعون
164 ... ما كانت عليه في صدر الإسلام . حال نساء الزمان ... 188 ... النهى عن الدخول في نكان الطعون والخروج منه
165 ... ثمرة تعليم المرأة . تعليمها الطب التعليم واختلاط الجنسين . المرأة في ميدان العمل ... 190 ... حكمة النهى عن ذلك
166 ... حقوقها السياسية . مضار اختلاط الجنسين ... 191 ... ما ورد في فضل الطاعون
167 ... مضار الرقص التوقيعي ( هامش) قرارات حكيمة لوزير المعارف ... 192 ... ( ما يطلب للمريض والمحتضر )(2/9)
168 ... رقية الحية والفزع والأرق ... 193 ... تحسين خلق المريض ووصيته وعظة بعد العافية
169 ... ( التمائم) هل يجوز تعليقها السمات والتعاويذ ... ما يراه المحتضر
ص ... الموضوع ... ص ... الموضوع
195 ... توجيهه إلى القبلة ... 224 ... رثاء أبي سفيان بن الحارث وحسان بن ثابت
196 ... كيفية تلقينه الشهادتين . كيفيته ... 225 ... ( ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم)
198 ... عرض الإسلام على الكافر المحتضر ... 227 ... قسمة أرض خيبر صلح أهل فدك صدقة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة
199 ... حضور الصالحين عند المحتضر ... 228 ... قصة بنى النضير ( هامش )
200 ... ما يقال عنده وعند الميت ... 231 ... ( عرض عمل الحي على الميت) استبشار الميت بصالح عمل الحي
الدعاء للميت . فضل قراءة يس
201 ... حكمة قراءتها عند المحتضر ... 232 ... ( مكان الموت)
202 ... تلقينه محاسن عمله ... 233 ... ( الآثار الموضوعة في الموت )
204 ... ( الموت) تعزية الخضر الصحابة في النبي صلى الله عليه وسلم ... 234 ... ( ما قيل في الموت عن المرض )
( ما قيل في الفرار من الموت)
205 ... ( ما ورد في الموت) ... 235 ... ( ما قيل في شدة الموت )
207 ... ( تذكر الموت) ... 236 ... ( ما قيل في قبض روح البهائم) ما قيل في ذكر الموت وفى تناظر ملكي الحياة والموت وكراهية الموت والغفلة عنه
208 ... القبر بيت الغربة والدود ... ما قيل في تأخير دفن الغريق وفيما لا يموت وأن الميت يجتنب ( ما قيل في قبض النبي صلى الله عليه وسلم )
209 ... عبرة مما في صحف سيدنا موسى عليه السلام ... 238 ... الروح( أدلة أنها جسم )
210 ... يبعث المرء على مامات عليه ... 239 ... تعذيب الظالم حال قبضة
211 ... ( تمنى الموت ) ... 240 ... بشارة الصالح عند الموت والبعث
213 ... ( علامات الموت) ... 242 ... ( مصير الروح بعد خروجها )
214 ... ( الموت في أحد الحرمين ) ... 243 ... أرواح المؤمنين في الجنة
215 ... (موت الغربة ) ( موت الفجأة) ... 244 ... حال المقرب وغيره نعيم الشهداء في الجنة
217 ... ( الموت يوم الجمعة) ( موت النبي صلى الله عليه وسلم) ... 245 ... روح المؤمن تحت العرش والكافر تحت الثرى(2/10)
218 ... هول المصيبة بموته صلى الله عليه وسلم ... 246 ... تفاوت الرواح في البرزخ
ثبات الصديق . خطبته يومئذ
219 ... ثوب عمر إلى رشده ... 247 ... حبس الروح لدين ونحوه
220 ... خطبة أخرى للصديق ... 249 ... ( دور النفس ) أربع ( تلاقى الأرواح وتزاورها)
221 ... ( رثاء النبي صلى الله عليه وسلم) ... 251 ... ( ما يقال للروح عند الموت والبعث )
( رثاء صفية للنبي صلى الله عليه وسلم)
223 ... رثاء فاطنة الزهراء للنبي صلى الله عليه وسلم) ... رؤيا الصالحين بعد الموت ( ما يتعلق بالميت)
ص ... الموضوع ... ص ... الموضوع
253 ... تأمين الملائكة على دعاء أهل الميت . ما يقال عند تغميض الميت ... 280 ... توبيخ الميت بما يندبه به أهله
254 ... ما يوضع على بطن الميت ... 281 ... تألمه من ذلك .
255 ... حكمة تغطيته . تقبيله . الدعاء له ولأهله ... 282 ... ( نعى الميت ) مشروعية الإعلان بالموت للتجهيز
256 ... ما يقول المصاب عند المصيبة . فضل الصر ... 283 ... ترجمة النجاشي . الهجرة إلى الحبشة( هامش)
258 ... ( قضاء دين الميت) من مات عازما على القضاء قضى الله عنه ... 285 ... إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بموت قواد مؤته
إسلام النجاشي ( هامش)
260 ... متى لا يصلى النبي على من مات مدينا جواز تحمل دين الميت ... 286 ... كراهة الإعلان بالموت بالصحف والدعاية
261 ... فضل سداده ... 287 ... نعى الجاهلية . كراهية التبرير على المآذن
262 ... هل يصح ضمان دين الميت . من مات مدينا بلا وفاء قضى دينه من بيت المال ... 288 ... ( الإحداد على الميت)
263 ... ( المبادرة بتجهيز الميت) ... 289 ... حكمة . حكمته
265 ... حكمة ذلك ( البكاء على الميت) ... 290 ... هل تحد المرأة على غير الزوج ؟ يجوز تركه لعذر
266 ... الرخصة في البكاء بلا نوح والتحذير منه بنوح ... المذهب في حكم اكتحال معتدة الزفاة الجمع بين حديثي النهى عنه والإذن فيه .
268 ... الحث على الصبر والتسليم لقضاء الله ... 292 ... ( تجهيز الميت)
269 ... متى يجوز البكاء بصوت ؟ ... 293 ... ( غسله ( حكمه) ( سبب غسله )
270 ... ( ندب الميت) ... 294 ... ( شروطه ) شروط الوجوب . وقعة الجمل ( هامش)(2/11)
271 ... ندب أبي بكر النبي صلى الله عليه وسلم ( النياحة والندب) ... 296 ... بدء القتال فيها تداعى الناس للصلح خروج على إلى البصرة ( هامش)
272 ... حال الحالقة والخارقة والسالقة ... 297 ... دعوة أهل الكوفة إلى القتال ( هامش)
273 ... حال الخامشة وجهها والناشرة شعرها النهى عن النوح والمساعدة فيه . بيعة النساء ( هامش ) ... 298 ... عتاب على طلحة والزبير . صلاته على القتلى ( هامش)
275 ... رد دعوى إباحة النياحة ما في الأمة من أمور الجاهلية ... 299 ... رثاؤه طلحة . ما ورد في وقعة الجمل ( هامش)
276 ... ( هل يعذب الميت بالنياحة عليه ) ... 300 ... المذاهب في الصلاة على جزء الميت
277 ... دليل أنه لا يعذب بذلك ... 301 ... هل يغسل الباغي ونحوه ؟ هل النية شرط لصحة غسل الميت ؟
278 ... الجواب عنه ... 302 ... هل تلزم التسمية فيه ؟ شرط جواز غسل الميت . المرأة تموت مع الرجال أيغسلها محرم ؟
279 ... الجمع بين ما يدل على أنه يعذب بذلك . وقوله تعالى " ولا تزر وازرة وزر أخرى " ... 303 ... الرجل إذا مات ولم يكن إلا أجنبية يمم من يغسل الصغيرة ؟
من يغسل الجنب إذا مات غسلين ؟
ص ... الموضوع ... ص ... الموضوع
305 ... هل يغسل السيد أنته وهل تغسله السمات ؟ ... 331 ... حكمة استحباب الكفن الأبيض تطييبه
(من يتولى غسل الميت)
306 ... الرفق به والستر على غير المبتدع ... 323 ... كراهة المغالاة فيه : التكفين في الغسيل والجديد
307 ... ( غسل أحد الزوجين الآخر) ... 334 ... ما يكون منه الكفن . هل تكفن المرأة في الحرير ؟
309 ... هل تغسل الذميمة زوجها المسلم وعكسه ؟ ... 335 ... ( كفن النبي صلى الله عليه وسلم )
310 ... متى لا يغسل الرجل امرأته ... 336 ... أصح ما ورد فيه
حكم ما إذا مات أحد الزوجين وهى في العدة ( تجهيز الكافر)
311 ... ترجمة أبى طالب ( هامش) ... 337 ... ( كفن الرجل) . أنواعه . كفن الضرورة
312 ... موته كافرا ( هامش) ... 340 ... كفن الكفاية
313 ... هل يجهز المسلم قريبه الكافر ؟ ... 341 ... كفن السنة . حكم الزيادة على الثلاث فيه
314 ... ( كيفية غسل الميت ) ... 342 ... هل يكون فيه قميص وعمامة ؟(2/12)
315 ... هل يغسل في قميص ؟ ... 343 ... لم كفن ابن أبي في قميص النبي صلى الله عليه وسلم
316 ... ستر مكان غسل الميت . غسله على مرتفع ... 0 كيف يكفن الرجل )
317 ... كيف يوضأ الميت ؟ ... 345 ... ( كفن المرأة )
318 ... حكمة مشروعية توضئته المذاهب في كيفية غسل الميت ... 346 ... ( كيف تكفن ) ( كفن المحرم)
319 ... تسريح شعر المرأة ... 347 ... هل ينقطع إحرامة بالموت ؟
320 ... حكم قلم ظفر الميت وأخذ شعره وختانه ... 348 ... كفن الصغير
322 ... لا يعاد غسله لخروج نجاسة منه بعد التكفين . تطييبه ... 349 ... ( كفن السقط ونحوه ) هل يلزم إعادة تكفين من سرق كفنه
323 ... إذا تعذر غسله يمم ... 350 ... هل يجوز للإنسان تحصيل أسباب تجهيزه ؟
324 ... ما ورد في غسل المرأة ... 352 ... ( الصلاة على الميت ( فضلها )
326 ... الغسل من غسل الميت ... 353 ... أجر إتباع الجنازة لا يكمل إلا إلا بالصلاة عليها والدفن
327 ... غسل النبي صلى الله عليه وسلم ... 354 ... مراتب الانصراف من الجنازة
329 ... ( تكفين الميت ) ... 356 ... هل يستأذن المشيع في الانصراف
330 ... ما يطلب منه ... 357 ... ( حكم صلاة الجنازة ) ( سببها) ( شروطها)
ص ... الموضوع ... ص ... الموضوع
358 ... شروطها الخاصة . من يصلى عليه بلا غسل ... 389 ... حضور النساء صلاة الجنازة . تسوية الصفوف فيها
359 ... هل تصح صلاة من تقدم على الجنازة ... 390 ... رفع اليدين حال التكبير . لم يثبت الرفع في غير الأولى
360 ... ( الصلاة على الغائب ) ... 391 ... وضع اليمنى على اليسرى والثناء
362 ... رد دعوى أن الصلاة على الغائب خاص بالنجاشي ... 392 ... التعوذ والتأمين . هل تقرأ فيها سورة ؟
363 ... الصلاة على غائب غير معين ( وقت صلاة الجنازة) ... 393 ... ما يجهز به الإمام الأسرار بالقراءة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
364 ... هل تصلى في أوقات النهى ... 394 ... الدعاء بعد الرابعة
366 ... تقدم صلاة المغرب على صلاة الجنازة ... 395 ... ( الأحق بالإمامة فيها ) هل القريب أو الوصي أحق بصلاتها من الوالي ؟
367 ... ( مكانها ) من قال بعدم كراهتها في المسجد ... 396 ... هل الزوج أولى من العصبة(2/13)
368 ... من قال بكراهتها فيه ... 397 ... ( المسبوق في صلاة الجنازة )
369 ... حكم صلاتها في المقبرة ... 398 ... ما يصنع المسبوق بتكبيرتين وأربع
370 ... ( أركانها ( النية ) ( التكبير ) ... كيف يأتي بما فاته
372 ... أكثر الصحابة على أنه أربع . نقص تكبير الجنازة ... 400 ... ( الصلاة على متعدد )
373 ... زيادته عن أربع هل يتابع المأموم الإمام في اليادة ... 401 ... صلاتها على متعددين الذكور والإناث . وقعة صفين ( هامش)
374 ... القيام هل يقتدي فيها القائم بالقاعد ؟ ... 402 ... ما يصنع الإمام إذا حضرت جنازة وهو يصلى على غيرها
375 ... ( قراءة الفاتحة ) ... 403 ... الصلاة على متعدد . بعضه لا يصلى عليه
376 ... الإسرار بالقراءة . محلها . دليل عدمها ... 404 ... ( كيفية صلاة الجنازة)
377 ... الجواب عنه ( الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ) ... 405 ... ( إعادة صلاة الجنازة)
378 ... ( الدعاء للميت ) ... 406 ... لا تؤخر الجنازة بعد الصلاة عليها
379 ... مكانة ( الدعاء المأثور) ... 407 ... ( الصلاة على القبر )
381 ... دعاء جامع للشافعي فيها ... 411 ... صلاة الجنازة على النبي صلى الله عليه وسلم
382 ... ( السلام ... 413 ... ( الصلاة على الصغير )
384 ... (الترتيب) مجمل أركانها ( سنن صلاة الجنازة ) ... 414 ... لا يصلى على ولد مشرك ( الصلاة على السقط)
385 ... موقف الإمام فيها . وصف نعش المرأة ( هامش) ... حكم من لم يستهل
387 ... ما يرجى للميت بكثرة المصلين عليه ... ( الصلاة على المقتول )
ص ... الموضوع ... ص ... الموضوع
418 ... ( الصلاة على العصاة) هل يصلى على البغاة وقطاع الطريق ؟ ... 450 ... كراهة الإحداد لغير الزوجة
419 ... هل يصلى على من قتله البغاة وقائل نفسه ؟ ... 451 ... كراهة القيام لمن مرت به جنازة
أحكام القيام لها وللحى ( هامش)
421 ... هل يصلى على تارك الصلاة وسائر العصاة ... 452 ... نسخ القيام لمن مرت به
422 ... المذاهب في الصلاة على المبتدعة والخوارج ... 453 ... ( الدفن ) ( حكمه ) قصة أبني آدم ( هامش)
423 ... ( ما يفسد صلاة الجنازة ) . القهقهة فيها لا تبطل الوضوء ... 454 ... ( وقت الدفن ) حكم الدفن ليلا(2/14)
424 ... الثناء على الميت وذكر مساوئ المجاهر بالفسق ... 456 ... حكمة وقت الطلوع والاستواء والغروب ( مكان الدفن )
426 ... نفع وضرر شهادة المؤمنين لمشهود له أو عليه ... 457 ... اختيار الدفن في اللحد . متى يدفن في الشق
428 ... السؤال عن حال الميت بدعة النهى عن سب الأموات غير المجاهرين بالفسق ... 458 ... حكم الدفن في المنزل لم دفن النبي صلى الله عليه وسلم فيه ؟
430 ... ( حمل الجنازة) ( من يحملها ) ... 460 ... استحباب الدفن في المقبرة التي يكثر فيها الصالحون . حكم الدفن في التابوت
431 ... كيفية حملها ... 461 ... ( دفن النبي صلى الله عليه وسلم )
433 ... كيفية السير فيها ... حكم وضع ثوب ونحوه تحت الميت ( ما يطلب في القبر ) توسيعه وإعماقه
434 ... تشييعها ... 463 ... رفعه نحو شبر
435 ... مكان الماشي من الجنازة الأفضل في هذا ... 464 ... بناء القبر . كراهة بنائه بالآجر وتخصيصه
437 ... حكمة مشى العمرين أمامها ... 466 ... تسنيمه . غزوة رودس ( هامش)
438 ... ما يدل على فضل المشي خلفها . حكم الركوب فيها ... 467 ... رش الماء على القبر . تعليمه بحجر ونحوه
349 ... جوازه حال الرجوع ( إتباع النساء الجنائز ) ... 468 ... ( من يتولى الدفن)
440 ... نهيهن عن ذلك ... 489 ... الأق بدفن المرأة زوجها أم محارمها الأحق بدفن الرجل
441 ... المذاهب في حكمه ... 470 ... كيفية الدفن
442 ... متى يجوز للمرأة اتباعها ؟ ... 471 ... ( ما يطلب للدفن ) ستر القبر حال الدفن
443 ... ( مكروهاتها ) ... 472 ... الدعاء للميت وقته . قراءة القرآن عند القبر
444 ... لا تتبع بمجمر ولا صوت ... 474 ... ما يقال عند إدخال الميت القبر . توجيهه إلي القبلة على شقه الأيمن
446 ... الصمت والتفكير لمن اتبعها . حرمة التمطيط في القراءة ... 475 ... دفن شيء من أثار الصالحين معه
447 ... لا تتبع بصوت ولا رايات ولا موسيق ... ( ما يطلب بعد الدفن) حثو التراب على القبر
449 ... كراهة جلوس مشيعها قبل وضعها بالأرض ... الانتظار بعد الدفن . أحوال عمرو بن العاص في الجاهلية والإسلام ( هامش )
ص ... الموضوع ... ص ... الموضوع(2/15)
478 ... الاستغفار للميت والدعاء له بعد الدفن تلقين الميت بعد الدفن صيغة التلقين ... 481 ... تعريف بمراجع نصوص الكتاب
480 ... القول بكراهته . أدلته ... 485 ... دليل الكتاب(2/16)
الدين الخالص
أو
إرشاد الخلق إلى دين الحق
وهو آخر كتاب وضع أصله الشيخ الإمام محيي السنة ومميت البدعة
صاحب الفضيلة والإرشاد المرحوم السيد
محمود محمد خطاب السّبكى
المتوفى فى الرابع عشر من ربيع الاول سنة 1352هـ -7يوليو سنة 1933م
عمه الله تعالى بالرحمة والرضوان وأسكنه عالى الجنان
الجزء السادس
عنى بنتقيحه وتصحيحه وتنسيقه والتعليق عليه وضبط الآيات والأحاديث وترقيمها وبيان حالها وغريبها ومراجعها خليفة الشيخ الامام المرحوم السيد
أمين محمود خطاب
المتوفى فى السابع والعشرين من ذى القعدة 1387هـ - 26 فبراير 1968م رحمه الله رحمة واسعة وجعل قبره
روضة من رياض الجنة وحشره مع الصالحين
حقوق الطبع محفوظة له
الطبعة الثالثة: 1406هـ- 1985م
بسم الله الرحمن الرحيم
... الحمد لله وبه نستعين ، ونصلي ونسلم على سيد النبيين وآله وصحبه والتابعين . ( أما بعد ) فقد تقدم الكلام بالجزء السابع على تسعة فروع من مباحث الدفن :
(10) محظورات القبر
... يُمنع البناء والقعود والمشي والكتابة عليه والصلاة إليه وعليه ، وغير ذلك مما يأتي، لأحاديث (منها) حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يُبني على القبور أو يُقعدَ عليها أو يُصلَّى عليه. أخرجه أبو يعلى بسند رجاله ثقات. وروى ابن ماجه النهي عن البناء عليها فقط(1). ... ... {1}
__________
(1) انظر ص 61 ج 3 مجمع الزوائد (البناء على القبور والجلوس عليها) وص 244 ج 1- ابن ماجه.(1/1)
... (وحديث) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه حتى تخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر" أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {2}
... (وحديث) عقبةَ بِن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأن أمشي على جمرة أو سيف أو أخصف نعلي برجلي أحب إلى من أن أمشي على قبر مسلم ، وما أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي أو وسط السوق" أخرجه ابن ماجه بسند صحيح(2). ... ... ... ... ... ... ... ... {3}
... (وحديث) سليمان بن موسى عن جابر بن عبد الله قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب على القبر شيء" أخرجه ابن ماجه والحاكم بسند صحيح رجاله ثقات(3). ... ... ... ... ... ... {4}
... "وقول" الحاكم: ليس العمل عليه فإن أئمة المسلمين من الشرق إلى الغرب يكتبون على قبورهم وهو شيء أخذه الخلف عن السلف. "رده" الذهبي بأنه محدث ولعل من فعل ذلك من السلف لم يبلغهم النهي(4). (وحديث) سليمان ابن موسى عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبني على القبر أو يزاد عليه أو يجصص أو يكتب عليه" أخرجه النسائي(5). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {5}
__________
(1) انظر ص 78 ج 8- الفتح الرباني (النهي عن البناء على القبور والجلوس عليها والصلاة عليها) وص 37 ج 7 نووي. وص 83 ج 9- المنهل العذب المورود (كراهية القمود على القبر) وص 287 ج 1 مجتبي وص 244 ج 1- ابن ماجه (النهي عن المشي على القبور والجلوس عليها).
(2) انظر ص 244 ج 1- ابن ماجه (أو أخصف ... الخ) من خصفت النعل بالرجل خرزته بها. وهذا إن أمكن ففيه تعب شديد (وما أبالي ... الخ) يريد أنهما في القبح سيان. فمن أتى أحدهما فهو لا يبالي بأيهما أتى.
(3) انظر ص 244 ج 1- ابن ماجه (النهي عن البناء على القبور وتجصيصها والكتابة عليه).
(4) انظر ص 244 ج 1 سندي ابن ماجه.
(5) أنظر ص 284 ج 1 مجتبي (الزيادة على القبر).(1/2)
... (وحديث) أبي مرثد الغنوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها" أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والبيهقي(1). ... ... ... ... ... ... ... {6}
... (وحديث) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" أخرجه مسلم والنسائي، وكذا أحمد وأبو داود والبيهقي بلفظ: "قاتل الله اليهود"(2). ... ... ... {7}
( وحديث ) عبد الرزاق بسنده إلى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا عقر في الإسلام " قال عبد الرزاق : كانوا يعقرون عند القبر ، يعني بقرة أو شيئا. أخرجه أبو داود والبيهقي والترمذي وقال : حسن صحيح(3). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {8}
... أفادت هذه الأحاديث عشرة أمور:
( أ ) النهي عن تجصيص القبور- وقد تقدم بيانه(4).
( ب ) النهي عن البناء على القبور:
يعني أي بناء كان سواء تعلق بالميت كقبة أو بالحي كحجرة أو مدرسة أو خباء أو مسجد، أو كان البناء على نفس القبر ليرتفع من أن يوطأ كما يفعله كثير من الناس. وكره أحمد أن يقام على القبر فسطاط، لأن أبا هريرة أوصى حين حضره الموت: أن لا تضربوا على فسطاطا(5)
(
__________
(1) انظر رقم 564 ج 7 ص 318- الدين الخالص (الصلاة على القبر).
(2) انظر ص 151 ج 8- الفتح الرباني (النهي عن اتخاذ المساجد على القبور) وص 12 ج 5 نووي. وص 82 ج 9- المنهل العذب المورود. وص 288 ج 1 مجتبي.
(3) أنظر ص 76 ج 9- المنهل العذب المورود. وص 57 ج 4 بيهقي (والعقر) في الأصل ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف ونحوه وهو قائم (أو شيئا) وفي نسخة: أو شاة، والمراد بالشيء ما يذبح من الحيوانات غير البقر.
(4) أنظر ص 261 ج 7- الدين الخالص (بناء القبر).
(5) أنظر ص 387 ج 2 شرح المقنع.(1/3)
ولظاهر) النهي في الأحاديث قال ابن حزم: يحرم البناء على القبر مطلقا، وحمل غيره النهي على الكراهة إذا كانت الأرض غير مسبلة ولا موقوفة ولم يقصد بالبناء الزينة وإلا كان حراما (ولذا) قال الحنفيون: يحرم البناء على القبر للزينة ويكره للإحكام إلا إذا كانت الأرض موقوفة وإلا حرم مطلقا لما في ذلك من التحجير على الناس، وكذا المسبلة وهي التي اعتاد الناس الدفن فيها ولم يسبق لأحد ملكها. (وتكره) القباب والستور والعمائم لقبور الصالحين وغيرهم.
... (وقالت) المالكية والشافعية: يكره البناء على القبر أو تحويط عليه ولو بلا قبة إن كان بأرض مباحة ملك للميت أو غيره بإذنه أو أرض موات إذا لم يكن مباهى بها. فإن كان بأرض غير مباحة بأن كانت موقوفة للدفن مثل قرافة مصر أو فعل ذلك للمباهاة حرم لما فيه من التحجير على ما هو حق لجميع المسلمين ولأنه من الإعجاب وهما منهي عنهما، وكذا يحرم البناء والتحويط إذا كان ذريعة لإيواء أهل الفساد(1)، ومن الضلال المجمع عليه أن كثيرا من الأغنياء يبنون أسبلة ومدارس ومساجد وحجرا للاستقبال والبيات وينبشون القبور ويجعلون محلها المراحيض ويزعمون أنهم يحسنون صنعا. كلا ما فعلوا إلا الضلال والبهتان.
... ويجب على ولي الأمر أن يأمر بهدمها كما تقدم إلا إن كان البناء يسيرا للتمييز فإن جائز (ويكره) إقامة مظلة على القبر لأن عمر رضي الله عنه رأى مظلة على قبر، فأمر برفعها وقال: دعوه يظله عمله(2). ورأى ابن عمر فسطاطا على قبر عبد الرحمن بن أبي بكر فقال: انزعه يا غلام فإنه يظله عمله. ذكره البخاري(3).
__________
(1) أنظر ص 172 ج 1 صغير الدردير.
(2) أنظر ص 298 ج 5 مجموع النووي.
(3) أنظر ص 145 ج 3 فتح الباري (الجريدة على القبر).(1/4)
... (وقالت) الحنبلية: يكره البناء في المسبلة وغيرها، غير أن الكراهة في المسبلة أشد لأنه تضييق بلا فائدة واستعمال للمسبلة فيما لم توضع له. وعن أحمد منع البناء في وقف عام (قال) ابن تيمية: من بني ما يختص به في المقبرة غير المملوكة فهو غاصب عند الأئمة الأربعة. وفيه تضييق على المسلمين، وإن كان في ملكه فهو سرف وإضاعة مال وكل منهي عنه. والقول بتحريم البناء في المسبلة هو الصواب. وقال في كسوة القبر بالثياب: اتفق الأئمة على أنه منكر إذا فعل بقبور الأنبياء والصالحين فكيف بغيرهم(1).
__________
(1) أنظر ص 410 ج 1 كشاف القناع (وقد) جاء إلى لجنة الفتوى بالأزهر- من جمعية جوات الإسلامية بالهند- السؤال الآتي: هل يجوز إقامة أضرحة أو أي أبنية أخرى فوق قبور المسلمين المدفونين في أرض موقوفة أعدت لدفن موتى المسلمين فحسب؟ (فأجابت) بما يأتي: بعد حمد الله تعالى والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه: تفيد اللجنة أنه لا يجوز شرعا إقامة أضرحة أو أبنية أخرى فوق قبور المسلمين المدفونين في أرض موقوفة أعدت لدفن موتى المسلمين. وذلك لورود السنة الصحيحة الصريحة بالنهي عن ذلك بل عن كل بناء على القبر. وذكرت حديث جابر السابق (رقم 5) وحديث أبي الهياج عن علي (رقم 656 ص/ 360 ج 7- الدين الخالص) وقالت: وهذان الحديثان صريحان في النهي عن إقامة أبنية أو أضرحة على قبور الموتى. ويدل الحديث الثاني على هدم ما بني على القبور من الأبنية وتسويتها بالأرض. ولذلك قال الشافعي في الأم: ورأيت من الولاة من يهدم ما بني فيها ولم أر الفقهاء يعيبون عله ذلك (وهما) يدلان على عدم جواز إقامة بناء على القبر مطلقا سواء أكان القبر في أرض مملوكة للباني أم غير مملوكة له كالأرض الموقوفة للدفن فيها أو المرصدة من ولي الأمر للدفن فيها لأن ما جاء بهذين الحديثين مطلق غير مقيد بأرض دون أرض..فالذهاب إلى جواز ذلك في الأرض المملوكة وعدم جوازه في الأرض المسبلة أو الموقوفة لا دليل عليه من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس. ومن هذا يتبين أنه لا يجوز إقامة أضرحة أو أبنية أخرى على القبور لا سيما أن ذلك مما يوجب التضييق على الناس في الدفن وأنه قصد به المفاخرة والزينة كما ظهر من السؤال وهذا هو ما عليه الأئمة الأربعة وتمامه بص 359 وما بعدها من المجلد 18- الثامن عشر من مجلة الأزهر عدد ربيع الآخر سنة 1366 هـ.(1/5)
... (جـ) النهي عن القعود على القبور:
... والمراد به ما يشمل الجلوس والاضطجاع والاستناد والنوم، ولظاهر النهي والوعيد (قال) أبن حزم بحرمة ذلك، وحمل الجمهور النهي على الكراهة منهم الحنفيون والشافعي وأحمد وداود (وقال) مالك: لا يكره القعود على القبر إلا إذا قعد لقضاء الحاجة وهذا حرام اتفاقا (قال) في الموطأ: إنما نهى عن القعود على القبر- فيما نرى- للذاهب يعني لحاجة الإنسان من التبول والغائط(1)، ودليله ما (روي) عن علي أنه كان يتوسد القبور ويضطجع عليها. أخرجه مالك في الموطأ والطحاوي بسند رجاله ثقات(2). (وقول) نافع: كان ابن عمر يجلس على القبور. أخرجه البخاري ووصله الطحاوي(3)(وقول) عثمان بن حكيم: أخذ بيدي خارجة فأجلسني على قبر، وأخبرني عن عمه ثابت رضي الله عنه قال: إنما كره ذلك لمن أحدث عليه. أخرجه البخاري ووصله مسدد في مسنده الكبير بسند صحيح(3). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {9}
__________
(1) أنظر ص 20 ج 2- الزرقاني على الموطأ. و (نرى) بضم النون: أي نظن.
(2) أنظر ص 20 ج 2- الزرقاني على الموطأ.
(3) 2،3) انظر ص 146 ج 3 فتح الباري (الجريدة على القبر) و(خارجة) ابن زيد ابن ثابت.(1/6)
... فبين يزيد في هذا الأثر الجلوس المنهي عنه (ولذا قال) بعض المالكية: لا يكره القعود على القبر لغير قضاء الحاجة. ولكن مشهور المذهب أنه يكره القعود والمشي على القبر مطلقا إذا ظن بقاء شيء من عظام الميت، وإلا جاز بلا كراهة. (ورده) الجمهور بأنه لا يصح حمل أحاديث النهي عن الجلوس على القبر على الجلوس لقضاء الحاجة، لأن هذا على فرض ثبوته لا يخصص عموم النهي الصحيح الصريح في الجلوس (كحديث) أبي مرثد. الغنوى السابق(1)(وحديث) عمارة بن حزم قال: رآني النبي صلى الله عليه وسلم جالسا على قبر فقال: "يا صاحب القبر أنزل من على القبر لا تؤذي صاحب القبر ولا يؤذيك" أخرجه الطبراني في الكبير وفيه ابن لهيعة وفيه كلام وقد وثق(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {10}
... وذكر لأحمد أن مالكا يتأول حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يجلس على القبور أي للخلاء فقال: ليس هذا بشيء. ولم يعجبه رأى مالك(3).
... هذا، وحكمة النهي عن الجلوس على القبر ما يترتب عليه من الاستخفاف بحق المسلم وإيذائه (فقد) سئل ابن مسعود عن وطء القبر فقال: كما أكره أذى المؤمن في حياته فإني أكره أذاه بعد موته. أخرجه سعيد بن منصور. وإيذاؤه محرم.
... قال الله تعالى: "والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا"(4).
... (د) النهي عن المشي على القبر:
... الكلام فيه كالكلام في القعود عليه والاتكاء إليه ومحل الحرمة أو الكراهة إذا لم تدع إليه ضرورة كما إذا لم يصل إلى قبر ميته إلا بالمشي على القبور فإنه يجوز اتفاقا.
... (هـ) النهي عن الكتابة على القبر:
... لظاهر النهي (قال) ابن حزم والظاهرية: تحرم كتابة اسم الميت أو تاريخ وفاته أو شيء من القرآن أو
__________
(1) أنظر رقم 6 ص 3.
(2) أنظر ص 61 ج 3 مجمع الزوائد (البناء على القبور والجلوس عليها..).
(3) أنظر ص 387 ج 2 مغنى ابن قدامة.
(4) الأحزاب: آية 58.(1/7)
أسماء الله تعالى أو نحو ذلك على القبر. (وقال ) الحنفيون: يكره تحريما الكتابة على القبر مطلقا إلا إذا خيف ذهاب أثره فلا يكره. (وقالت) المالكية: تحرم كتابة القرآن وتكره كتابة أسم الميت أو تاريخ موته. (وقالت) الشافعية والحنبلية: تكره الكتابة على القبر مطلقا، وحكمة النهي عن ذلك خشية أن يوطأ أو يسقط على الأرض فيعرض المكتوب للإهانة.
... (و) النهي عن الزيادة على القبر:
... لا يجوز أن يزاد في بنائه زيادة تؤدي إلى ارتفاعه عن الشبر وأن يزاد على التراب الذي خرج منه كما قال البيهقي: لا يزاد في القبر أكثر من ترابه لئلا يرتفع. وكذا لا يزاد القبر طولا أو عرضا عن قدر جسد الميت.
... (ز) النهي عن الصلاة إلى القبور أو عليها:(1/8)
... لظاهر النهي (قالت) الحنبلية والظاهرية: تحرم الصلاة في المقبرة وعلى القبر وتقدم بيان المذاهب في هذا وافيا في بحث المواضع المنهي عن الصلاة فيها(1). (وفي الحديث) السابع من أحاديث الباب منع الصلاة إلى قبور الأنبياء واتخاذها مساجد لأنه قد يفضي إلى عبادة من في القبر وكذا قبور الأولياء والصالحين. ولذا لما احتاجت الصحابة والتابعون إلى توسعة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وامتدت الزيادة إلى حجر أمهات المؤمنين- ومنها حجرة السيدة عائشة مدفن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما- بنوا حول القبر الشريف سورا مرتفعا مستديرا لئلا يظهر القبر في المسجد فيصلي إليه العوام. ثم بنوا جدارين كهيئة مثلث قاعدته الحائط الشمالي للقبر حتى لا يتمكن من استقبال القبر. وقد زعم بعضهم أن النهي عن الصلاة إلى القبر إنما كان في الزمن السالف لقرب العهد بعبادة الأوثان. أما الآن فلا كراهة فيها، وهو مردود باتفاق المسلمين على خلافه ولعموم النهي في حديث جندب بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك" أخرجه مسلم(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {11}
... (ح) التحذير من اتخاذ القبور مساجد :
__________
(1) أنظر ص 261 ج 3- الدين الخالص.
(2) أنظر ص 13 ج 5 نووي (النهي عن بناء المسجد على القبور).(1/9)
... يحرم اتخاذ قبور المسلمين التي لم تندرس مساجد(1). كما يحرم بناء المساجد على القبور لما تقدم(2)(ولحديث) عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي مات فيه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. قالت: ولولا ذلك لأبرز قبره" (الحديث) أخرجه أحمد والشيخان(3). {12}
... أي لولا الخوف من اتخاذ قبره صلى الله عليه وسلم مسجدا كما فعل اليهود والنصارى بأنبيائهم لكشف قبره صلى الله عليه وسلم ولم يتخذ عليه الحائل، أو المراد لدفن خارج بيته. وتقدم بيان ذلك وافيا في بحث اتخاذ القبور مساجد(4).
... (ط) التحذير من إيقاد السرج على القبور:
... يحرم إيقاد المصابيح والشموع على القبر ولو قبر نبي أو ولي لما فيه من تضييع المال بلا منفعة والمبالغة في تعظيم القبور كاتخاذها مساجد ( ولقول ) أبن عباس رضي الله عنهما : " لعن النبي صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج " أخرجه أحمد والأربعة والبزار وابن حبان والحاكم وحسنه الترمذي(5).{13}
... (ي) النهي عن الذبح عند القبر:
__________
(1) أما قبور المشركين وقبر المسلم إذا اندرس فيجوز اتخاذها مساجد لما تقدم بص 277 ج 3- الدين الخالص.
(2) أنظر حديث رقم 7 ص 3.
(3) أنظر ص 154 ج 8- الفتح الرباني (النهي عن اتخاذ المساجد على القبور) وص 130 ج 3 فتح الباري (ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور) وص 12 ج 5 نووي.
(4) أنظر ص 277 ج 3- الدين الخالص.
(5) أنظر ص 160 ج 8- الفتح الرباني (زيارة القبور) وص 102 ج 9- المنهل العذب المورود (زيارة النساء للقبور) وص 287 ج 1 مجتبي (التغليظ في اتخاذ السرج على القبور) وص 246 ج 1- ابن ماجه ولفظه: زوارات بضم الزاي: جمع زوارة بمعنى زائرة. و(السرج) بضمتين: جمع سراج وهو المصباح.(1/10)
... دل الحديث الثامن من أحاديث الباب على تحريم الذبح عند القبر وأنه من عمل الجاهلية، كانوا يعقرون الإبل على قبر الرجل الجواد يقولون: نجازيه على فعله لأنه كان يطعمها الأضياف فنحن نعقرها عند قبره لتأكلها السباع والطير، ومنهم من كان يزعم أنه إذا عقرت راحلته عند قبره حشر راكبا، ومن لا يعقر عنده حشر راجلا. وهذا زعم باطل، ومنه يعلم أن ما يفعله كثير من أهل زماننا الجاهلين من نحر الإبل أو غيرها عند خروج الميت من باب الدار أو عند القبر ليس له أصل في الدين بل هو بدعة مذمومة نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، فليحذر من هذه البدعة ومما يفعله بعضهم من أنهم يحملون أمام الجنازة الخراف والخبز وغيرها ويسمون ذلك عشاء القبر، فإذا أتوه ذبحوا ما أتوا به بعد الدفن وفرقوه مع الخبز، ويقع بسبب ذلك تزاحم وضرب وإيذاء وعدم اعتبار بحال الميت.
... وهذا مخالف للسنة من وجوه:
... (ا) أن ذلك من فعل الجاهلية لما تقدم.
... (2) ما فيه من الرياء والسمعة والمباهاة والفخر لأن السنة في القرب الإسرار بها لأنه أسلم والمشي بذلك أمام الجنازة جمع بين إظهار الصدقة والرياء، ولو تصدق بذلك في البيت سرا لكان عملا صالحا إذا سلم من البدعة بأن يتخذ ذلك سنة أو عادة لأنه لم يكن من فعل من مضى، والخير كله في اتباعهم رضي الله عنهم(1).
(11) سؤال القبر وفتنته
__________
(1) أنظر ص 35 ج 3- المدخل لابن الحاج.(1/11)
... تقدم أنه يجب الإيمان بسؤال القبر وفتنته. وقد جاء في هذا أحاديث صحيحة بلغت حد الشهرة (منها) ما تقدم في بحث السمعيات(1). (ومنها) حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم جنازة فقال: "يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فإذا الإنسان دفن فتفرق عنه أصحابه جاء ملك في يده مطراق فأقعده، قال ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. فيقول له: صدقت، ثم يفتح له باب إلى النار فيقول: هذا كان منزلك لو كفرت بربك، فأما إذ آمنت بربك فهذا منزلك فيفتح له باب إلى الجنة، فيريد أن ينهض إليه فيقول له: أسكن ويفسح له في قبره. وإن كان كافرا أو منافقا يقول له: ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا، فيقول: لا دريت ولا تليت ولا اهتديت، ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقول: هذا منزلك لو آمنت بربك فأما إذ كفرت بقربك فإن الله عز وجل أبدلك به هذا، ويفتح له باب إلى النار، ثم يقمعه قمعة بالمطراق يسمعه خلق الله كلهم غير الثقلين.
... فقال بعض القوم: يا رسول الله ما أحد يقوم عليه ملك في يده مطراق إلا قبل عند ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت" أخرجه أحمد والبزار وزاد: "في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء". ورجاله رجال الصحيح(2).
__________
(1) أنظر ص 62 ج1- الدين الخالص طبعة ثانية (سؤال القبر).
(2) أنظر ص 108 ج 8- الفتح الرباني (هول القبر) و ص 47 ج 3 مجمع الزوائد (السؤال في القبر). و(إن هذه الأمة) أي أمة الدعوى لا فرق بين مسلم وكافر. وتقدم بص 63 ج 1 من الدين الخالص طبعة ثانية:
( أ ) أن الأحاديث دلت على اختصاص هذه الأمة بسؤال القبر.
(
ب ) بيان حكمة هذا الاختصاص وأن ابن القيم اختار القول بعموم المسألة لأنه ليس في الأحاديث ما ينفي المسألة عمن تقدم من الأمم. وإنما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بكيفية امتحان هذه الأمة في القبور لا أنه نفى ذلك عن غيرهم قال: والظاهر أن كل نبي مع أمته كذلك فتعذب كفارتهم في قبورهم بعد سؤالهم وإقامة الحجة عليهم كما يعذبون في الآخرة بعد السؤال وإقامة الحجة (أنظر ص 141 كتاب الروح)، وقد يدل عليه قوله تعالى: "النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب" سورة غافر: آية 46. و(جاءه ملك) تقدم في حديث أنس وغيره ويأتي في حديث أبي هريرة رقم 17: فأتاه ملكان. ويجمع بينهما بأنه خص هنا أحدهما بالذكر لكونه يحمل المطراق (والمطراق) آله يضرب بها كالعصى و(لا دريت إلخ) أي لا فهمت ولا عرفت الحق بنفسك ولا تبعت من يعرف ولا قرأت القرآن فاهتديت به (ثم يقمعه) من أقع أي يضربه ضربة. و(الثقلان) الجن والإنس. ومقتضاه أن كل شيء غيرهما حتى الجماد يسمع الضرب. ويمكن أن يخص منه الجماد لما في حديث أبي هريرة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: يسمعه كل دابة إلا الثقلين. أخرجه البزار (انظر ص 52 ج 3 مجمع الزوائد) و(هبل) كتعب، أي فقد عقله من شدة الخوف والجزع.(1/12)
... ... ... ... ... ... {14}
... (وحديث) عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت يهودية فاستطعمت على بابي فقالت: أطعموني أعاذكم الله من فتنة الدجال ومن فتنة عذاب القبر، فلم أزل أحبسها حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله ما تقول هذه اليهودية؟ قال: وما تقول؟ قلت: تقول أعاذكم الله من فتنة الدجال ومن فتنة عذاب القبر، فقام النبي صلى الله عليه وسلم ورفع يديه مدا يستعيذ بالله من فتنة الدجال ومن فتنة عذاب القبر، ثم قال: أما فتنة الدجال فإنه لم يكن نبي إلا قد حذر أمته وسأحذركموه تحذيرا لم يحذره نبي أمته، إنه أعور والله عز وجل ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن، فأما فتنة القبر في تفتنون وعني تسألون، فإذا كان الرجل الصالح أجلس في قبره غير فزع ولا مشعوفٍ ، ثم يقال له: فيم كنت؟ فيقول: في الإسلام، فيقال: ما هذا الرجل الذي كان فيكم؟ فيقول: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءنا بالبينات والهدى من عند الله فصدقناه، فيفرج له فرجة قبل النار، فينظر إليها يحطم بعضها بعضا، فيقال له: انظر إلى ما وقاك الله عز وجل، ثم يفرج له فرجة إلى الجنة، فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقول له: هذا مقعدك منها وعلى اليقين كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله. وإذا كان الرجل السوء أجلس في قبره فزعا مشعوفا، فيقال له: فيم كنت؟ فيقول: لا أدري، فيقال له: ما هذا الرجل الذي فيكم؟ فيقول: سمعت الناس يقولون قولا فقلت كما قالوا، فيفرج له فرجة قبل الجنة، فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: انظر إلى ما صرف الله عنك، ثم يفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضا، ويقال له: هذا مقعدك منها كنت على الشك وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله ثم يعذب" أخرجه أحمد بسند رجاله رجال الصحيحين(1). {
__________
(1) أنظر ص 112 ج 8- الفتح الرباني (ما جاء في هول القبر وفتنته) و ص 48 ج 3 مجمع الزوائد (السؤال في القبر) و(استطمعت) أي طلبت الطعام لفقرها..وأحبسها: أي أشاغلها وأمنعها عن الانصراف حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم (ولا مشعوف) بالشين المعجمة والعين المهملة: من الشعف وهو شدة الفزع، ويطلق على شدة الحب.(1/13)
15}
... (وحديث) أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل الإنسان قبره فإن كان مؤمنا أحف به عمله- الصلاة والصيام- فيأتيه الملك من نحو الصلاة فترده ومن نحو الصيام فيرده، فيناديه أجلس، فيجلس، فيقول له: ماذا تقول في هذا الرجل؟ يعني النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من؟ قال: محمد، قال: أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال يقول: وما يدريك أدركته؟ قال: أشهد أنه رسول الله، قال يقول: على ذلك عشت وعليه مت وعليه تبعث. وإن كان فاجرا أو كافرا جاءه ملك ليس بينه وبينه شيء يرده، فأجلسه، قال: أجلس، ماذا تقول في هذا الرجل؟ قال: أي رجل؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قال يقول: ما أدري والله سمعت الناس يقولون شيئا فقلته، قال له الملك: على ذلك عشت وعليه مت وعليه تبعث، وتسلط عليه دابة في قبره معها سوط ثمرته جمرة مثل غرب البعير تضربه ما شاء الله صماء لا تسمع صوته فترحمه". أخرجه أحمد بسند رجاله رجال الصحيح(1).
__________
(1) أنظر ص 114 ج 8- الفتح الرباني (ما جاء في هول القبر وفتنته) و ص 51 ج 3 مجمع الزوائد (السؤال في القبر) (فيأتيه الملك من نحو الصلاة فترده إلخ) أي تدفع الملك عنه وتقول: ليس لك قبلي مدخل (روى) أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده إنه ليسمع خفق نعالهم حين يولون عنه، فإذا كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه والزكاة عن يمينه والصوم عن شماله وفعل الخيرات والمعروف والإحسان إلى الناس من قبل رجليه، فيؤتي من قبل رأسه، فتقول الصلاة: ليس قبلي مدخل، فيؤتى عن يمينه، فتقول الزكاة: ليس قبل مدخل، فيؤتى من قبل شماله، فيقول الصوم: ليس قبل مدخل، ثم يؤتى من قبل رجليه، فيقول فعل الخيرات إلى الناس: ليس من قبلي مدخل (الحديث) أخرجه الطبراني في الأوسط بسند حسن (أنظر ص 51 ج 3 مجمع الزوائد) (وثمرة السوط) طرفه الأسفل. وغرب- بفتح فسكون- البعير: الدلو الكبير يحمله البعير..يعني أن الله يسلط على الكافر أو الفاجر في قبره دابة صماء معها سوط طرفه من نار عظيم تضربه به إلى ما شاء الله.(1/14)
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {16}
... (وحديث) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قبر الميت أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر وللآخر النكير، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين، ثم ينور له فيه، ثم يقال له: نم، فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم، فيقولان: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك. وإن كان منافقا قال: سمعت الناس يقولون قولا فقلت مثله لا أدري، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول ذلك، فيقال للأرض التئمى عليه، فتلتئم عليه فتختلف أضلاعه، فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك" أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب(1).
__________
(1) أنظر ص 162 ج 2 تحفة الأحوذي (ما جاء في عذاب القبر) و(قبر) أي دفن وهو أمر غالبي وإلا فالسؤال يكون لكل ميت حتى من أكلته السباع فإن الله تعالى يصل روحه بعجب الذنب فيحيا بحياته سائر أجزاء البلدان ليسأل فيثاب أو يعذب. ولا بعد في ذلك فإن الله على كل شيء قدير. و(أسودان) وفي حديث أبي هريرة عند الطبراني في الأوسط: أعينهما مثل قدور النحاس وأنيابهما مثل صياصي (أي قرون) البقر وأصواتهما مثل الرعد (أنظر ص 54 ج 3 مجمع الزوائد) وإنما يكونان على هذه الصفة لما في سواد المنظر وزرقة العين من الهول والوحشة ويكون حالهما على الكفار أشد ليتحيروا في الجواب. وأما المؤمنون فيبتلون بذلك فيثبتهم الله فلا يخافون ويأمنون، جزاء خوفهم من الله في الدنيا. و(المنكر) أسم مفعول من أنكر. و(النكير) فعيل بمعنى مفعول من نكر كتعب، أي لا يعرفهما الميت لأنه لم ير مثلهما. وذكر بعض الفقهاء أن اسم الملكين اللذين يسألان المذنب منكر ونكير..وأسم اللذين يسألان المطيع مبشر وبشير (أنظر ص 155 ج 3 فتح الباري) و(في هذا الرجل) قيل تصور له صورة النبي صلى الله عليه وسلم فيشار إليه.(1/15)
... ... ... ... {17}
والأحاديث في هذا كثيرة صحيحة صريحة في أن سؤال القبر حق ثابت، وبه قال أهل السنة والجماعة، وأنكره ضرار بن عمرو وبشر المريسي وأكثر المتأخرين من المعتزلة مستدلين:
( أ ) بقوله تعالى: { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إِلاَّ المَوْتَةَ الأُولَى }(1). أي لا يذوقون في الجنة موتا سوى الموتة الأولى، ولو صاروا أحياء في القبور لذاقوا الموت مرتين لا مرة.
( ب) وبقوله تعالى: { وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القُبُورِ }(2).
فإن الغرض من سياق الآية تشبيه الكفرة بأهل القبور في عدم الإسماع.
(جـ) وبالعقل فإن نرى شخصا يصلب ويبقى مصلوبا حتى تذهب أجزاؤه ولا نشاهد فيه إحياء ولا مساءلة، وأبلغ منه من أكلته السباع والطيور وتفرقت أجزاؤه في بطونها وحواصلها، وكذا من أحرق وتفتتت أجزاؤه وذرتها الرياح العاصفة شمالا وجنوبا وغربا، فإنا نعلم عدم إحيائه ومسائلته ضرورة (وأجاب) أهل السنة:
... (أولا) عن قوله تعالى: { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إِلاَّ المَوْتَةَ الأُولَى } بأن ذلك وصف لأهل الجنة، أي لا يذوق أهلها فيها الموت فلا ينقطع نعيمهم كما انقطع نعيم أهل الدنيا، فلا دلالة في الآية على انتفاء موتة أخرى بعد المساءلة وقبل دخول الجنة.
... (ثانيا) عن قوله تعالى: { وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القُبُورِ } .
... بأن عدم إسماع من في القبور لا يستلزم عدم إدراكهم.
__________
(1) سورة الدخان: آية 56.
(2) سورة فاطر: آية 22.(1/16)
... (ثالثا) عن دليلهم العقلي أن المصلوب لا بعد في إحيائه ومساءلته مع عدم المشاهدة، كما في النائم فإنه حي ولا نشاهد حياته، وكما في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام وهو بين أظهر أصحابه مع ستره عنهم ولا بعد في رد الحياة إلى بعض أجزاء البدن فيختص بالإحياء والمساءلة والعذاب وإن لم يكن ذلك مشاهدا لنا(1). هذا وقد دلت الأحاديث على أن السؤال عام للمؤمن والكافر والمنافق، خلافا لمن زعم أنه خاص بمن يدعي الإيمان إن محقا وإن مبطلا مستندا لقول عبيد بن عمير التابعي : " إنما يفتن رجلان مؤمن ومنافق ، وأما الكافر فلا يسأل عن محمد ولا يعرفه" أخرجه عبد الرزاق وهو مقطوع(2).
... والأحاديث الناصة على أن الكفار يسأل مرفوعة كثيرة صحيحة، فهي أولى بالقبول. وجزم الحكيم الترمذي بأن الكافر يسأل(3)، ويدل عليه الكتاب والسنة.
__________
(1) انظر ص 145 إلى 147 ج 8 عمدة القارئ (الميت يسمع خفق النعال) و(قال) النووي: فإن قيل فنحن نشاهد الميت على حاله في قبره فكيف يسأل ويقعد ويضرب بمطارق من حديد ولا يظهر له أثر؟ (فالجواب) أن ذلك غير ممتنع بل له نظير في العادة وهو النائم فإنه يجد لذة وآلاما لا نحس نحن شيئا منها. وكذا اليقظان يجد لذة وآلما لما يسمعه، أو يفكر فيه ولا يشاهد ذلك جليسه منه. وأما إقعاده فيحتمل أن يكون مختصا بالمقبور دون المنبوذ ومن أكلته السبباع والحيتان. وأما ضربه بالمطارق فلا يمتنع أن يوسع له في قبره فيقعد ويضرب. انظر ص 201 ج 17 نووي مسلم. (عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه وإثبات عذاب القبر).
(2) أنظر ص 155 ج 3 فتح الباري (ما جاء في عذاب القبر) و(المقطوع) ما أضيف إلى التابعي فمن دونه من قول أو فعل أو تقرير (أنظر ص 10 ج1- المنهل العذب المورود).
(3) أنظر ص 155 ج 3 فتح الباري (ما جاء في عذاب القبر).(1/17)
... قال الله تعالى: "يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء"(1).
... وفي حديث أنس عند البخاري: وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ (الحديث)(2). وفي حديث أبي سعيد: وإن كان كافرا أو منافقا يقول له: ما تقول في هذا الرجل؟ (الحديث)(3).
... وفي حديث البراء بن عازب: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا (الحديث) وفيه: "فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك" (الحديث)(4).
... هذا، والسؤال يختص بمن شأنه أنه يفتن. وعليه فالصحيح أن الصبيان والأنبياء والملائكة والشهداء لا يسألون كما تقدم(5).
(12) عذاب القبر ونعيمه وضغطته
... تقدم أنه يجب الإيمان بعذاب القبر ونعيمه، وهو ثابت بالكتاب والسنة قال الله تعالى: "ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله
__________
(1) سورة إبراهيم: آية 27.
(2) أنظر ص 154 وما بعدها ج 3 فتح الباري (ما جاء في عذاب القبر).
(3) أنظر رقم 14 ص 11.
(4) أنظر رقم 45 ص 60 وما بعدها ج 1- الدين الخالص طبعة ثانية (الأجل).
(5) انظر ص 64 منه.(1/18)
غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون"(1).
__________
(1) سورة الأنعام: آية 93: "ولو ترى" يا محمد أو كل راء "إذ الظالمون في غمرات الموت" أي سكراته وكرباته، جمع غمرة وهي الشدة، وأصلها الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها، ثم استعملت في الشدائد والمكاره "والملائكة باسطوا أيديهم" بالضرب والتعذيب يضربون وجوههم وأدبارهم" سورة الأنفال: آية 52. يضربونهم حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم يقولون لهم: "أخرجوا أنفسكم" من هذه الغمرات التي وقعتم فيها أو أخرجوا أنفسكم من أيدينا وخلصوها من العذاب. أو أخرجوا أرواحكم من أجسادكم وسلموها إلينا. وذلك أن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال والسلاسل والأغلال والحميم وغضب الرحمن الرحيم، فتفرق روحه في جسده وتعصى وتأبى الخروج، فتضربه الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم قائلين لهم: أخرجوا أنفسكم "اليوم تجزون عذاب الهون" أي الهوان الذي تصيرون به في إهانة وذلك بعد ما كنتم فيه من الكبر والتعاظم "بما كنتم تقولون على الله غير الحق" أي بسبب قولكم غير الحق من إنكار إنزال الله الكتب على رسله والإشراك به "وكنتم عن آياته" أي عن التصديق بها والعمل بمقتضاها "تستكبرون" أي تتعاظمون عن الإيمان بالله والقرآن وكان ما جوزيتم به من عذاب الهوان جزاء وفاقا (روى) علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: "والملائكة باسطوا أيديهم" قال: هذا عذاب الموت. والبسط: الضرب، يضربون وجوههم وأدبارهم. أخرجه الطبراني وابن أبي حاتم وابن منده (انظر ص 151 ج 3 فتح الباري) ويشهد له قوله تعالى: "فكيف إذا توفهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم" سورة القتال: آية 27. وفي الآية حجة على أن النفس والروح شيء واحد لقوله تعالى: "أخرجوا أنفسكم" والمراد الأرواح.(1/19)
... خاطبوهم عند الموت بقولهم: اليوم تجزون عذاب الهون. وهذا وإن كان قبل الدفن فهو من جملة العذاب الواقع قبل يوم القيامة(1).
... وقال تعالى: "فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بال فرعون سوء العذاب* النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب(2).
__________
(1) انظر ص 151 ج 3 فتح الباري. وقال الحافظ: وإنما أضيف العذاب إلى القبر لكون معظمه يقع فيه ولكون الغالب على الموتى أن يقبروا وإلا فالكافر ومن شاء الله تعذيبه من العصاة يعذب بعد موته ولو لم يدفن، ولكن ذلك محجوب عن الخلق إلا من شاء الله.
(2) سورة غافر: آية 45 و46 "وحاق بآل فرعون" أي أحاط ونزل بفرعون وقومه "سوء العذاب" وهو الغرق في الدنيا والعذاب بنار الجحيم في العقبى. وبين ذلك بقوله "النار يعرضون عليها غدوا وعشيا" أي صباحا ومساء ما بقيت الدنيا فإن أرواحهم تعرض على النار صباحا ومساء إلى قيام الساعة، فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار، ولذا قال: "ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب" أي يقال للملائكة: أدخلوا آل فرعون أشد عذاب النار ألما وأعظمه نكالا (أنظر ص 481 ج 4 فتح القدير للشوكاني) فالآية حجة في إثبات عذاب القبر، وفيها رد على من أنكره مطلقا لا على من خصه بالكفار، وفيها دليل على أن الأرواح باقية بعد فراقها، وهو قول أهل السنة والجماعة.
"فائدة" هذه الآية مكية وقد استدل بها على عذاب القبر وقد روى إسحاق بن سعيد عن أبيه عن عائشة أن يهودية كانت تخدمها (بضم الدال وكسرها) فلا تصنع إليها عائشة شيئا من المعروف إلا قالت لها اليهودية: وقاك الله عذاب القبر. قالت: فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علي فقلت: يا رسول الله قل للقبر عذاب قبل يوم القيامة؟ قال: لا. وعم ذلك (أي لم تسألين عن ذلك) قالت: هذه اليهودية لا نصنع إليها شيئا من المعروف وإلا قالت: وقاك الله عذاب القبر. قال: كذبت يهود لا عذاب دون يوم القيامة. ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث فخرج ذات يوم نصف النهار مشتملا بثوبه محمرة عيناه وهو ينادي بأعلى صوته: أيها الناس أظلتكم الفتن كقطع الليل المظلم. أيها الناس لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا. أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر فإن عذاب القبر حق" أخرجه أحمد بسند رجاله رجال الصحيح (أنظر ص 54 ج 3 مجمع الزوائد "ما جاء في عذاب القبر").
(وقالت) عائشة: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وعندي امرأة من اليهود وهي تقول: أشعرت أنكم تفتنون في القبور؟ فارتاع النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنما تفتن اليهود. فقالت عائشة: فلبثنا ليالي، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: هل شعرت أنه أوحى إلي أنكم تفتنون في القبور؟ فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يستعيذ من عذاب القبر. أخرجه أحمد ومسلم (انظر ص 121 ج 8- الفتح الرباني) فهذان الحديثان يدلان على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما علم بعموم عذاب القبر وهو بالمدينة. وآية "النار يمرضون عليها غدوا وعشيا" وآية "يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين" مكيتان، وفيهما دليل على عذاب القبر لغير المؤمنين (أنظر ص 153 ج 3 فتح الباري).(1/20)
... ذكر عذاب الدارين ذكرا صريحا لا يحتمل غيره.
... وقال تعالى: "ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون"(1).
... احتج ابن عباس على عذاب القبر، وذلك لأن قوله "من العذاب الأدنى" يدل على أنه يبقى بعد ما يذوقونه منه في الدنيا بقية يذوقونها بعد الموت، والعذاب الأكبر بعد الحشر. وهذا نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم: فيفتح له طاقة إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها، فإن الذي يصل إليه بعض ذلك ويبقى أكثره.
... وقال تعالى: "وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم"(2).
__________
(1) سورة السجدة: آية 21 (والعذاب الأدنى) مصائب الدنيا وفتنة القبر وعذابه (والعذاب الأكبر) عذاب الآخرة "لعلهم يرجعون" أي لعل من بقى منهم يثوب فيرجع.
(2) سورة التوبة: آية 101. و(مردوا على النفاق) أي مرنوا واستمروا عليه وثبتوا عليه ثبوتا شديدا ومهروا فيه حتى خفى أمرهم على النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بسائر المؤمنين ولذا قال: "لا تعلمهم" أي لا تعلم أعيانهم فلا ينافى أن للنفاق دلائل لا تخفى عليه صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى "ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول" سورة القتال: آية 30. ولقوله "نحن نعلمهم" مقرر لما قبله لما فيه من الدلالة على أنهم مهروا في النفاق ورسخوا فيه على وجه يخفي على البشر ولا يظهر لغير الله تعالى لعلمه بما يخفي وما تكنه الضمائر. ثم توعدهم بقوله "ستعذبهم مرتين" أي في الدنيا بالفضيحة وإظهار حالهم وفي القبر بالعذاب والنكال "ثم يردون إلى عذاب عظيم" وهو عذاب الآخرة في النار.
(
روى) أبو مالك عن ابن عباس في قوله "وممن حولكم من الأعراب" الآية، قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا يوم الجمعة فقال "أخرج يا فلان إنك منافق وأخرج يا فلان فإنك منافق" فأخرج من المسجد ناسا منهم فضحهم. فجاء عمر وهم يخروجون من المسجد فاختبأ منهم حياء أنه لم يشهد الجمعة (أي أنه لما رآهم خارجين ظن أنهم فرغوا من الصلاة فاستحيا أن يواجههم) وظن أن الناس قد انصرفوا، واختبئوا هم من عمر. ظنوا أنه قد علم بأمرهم، فجاء عمر فدخل المسجد فإذا الناس لم يصلوا، فقال له رجل من المسلمين: أبشر يا عمر قد فضح الله المنافقين اليوم. قال ابن عباس: فهذا العذاب الأول حين أخرجهم من المسجد والعذاب الثاني عذاب القبر. أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط (انظر ص 231 ج 4 تفسير ابن كثير).(1/21)
... والأحاديث في هذا كثيرة: (منها) حديث مسروق عن عائشة رضي الله عنها أن يهودية دخلت عليها فاستوهبتها طيبا، فوهبت لها عائشة، فقالت: أجارك الله من عذاب القبر، قالت: فوقع في نفسي من ذلك حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، قلت: يا رسول الله، إن للقبر عذابا؟ قال: "نعم إنهم ليعذبون في قبورهم عذابا تسمعه البهائم" أخرجه أحمد والنسائي، وكذا البخاري بنحوه(1). ... ... ... ... ... {18}
... (وحديث) ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الموتى ليعذبون في قبورهم حتى إن البهائم تسمع أصواتهم" أخرجه الطبراني في الكبير بسند حسن(2). ... ... ... ... {19}
...
(وحديث) عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يرسل على الكافر حيتان: واحدة من قبل رأسه والأخرى من قبل رجليه، يقرصانه قرصا، كلما فرغتا عادتا، إلى يوم القيامة" أخرجه أحمد بسند حسن(3){20}
... (وحديث) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكثر عذاب القبر من البول" أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم وابن خزيمة وصححاه بسند جيد(4). ... ... ... ... ... {21}
__________
(1) أنظر ص 118 ج 8 – الفتح الرباني (ما جاء في عذاب القبر) وص 291 ج 1 مجتبي (التعوذ من عذاب القبر) وص 153 ج 3 فتح الباري (ما جاء في عذاب القبر).
(2) أنظر ص 56 ج 3 مجمع الزوائد (العذاب في القبر).
(3) أنظر ص 55 ج 3 مجمع الزوائد وص 124 ج 8 – الفتح الرباني (عذاب القبر).
(4) انظر ص 130 ج 8 منه (عذاب القبر سبب البول) وص 74 ج 1 – ابن ماجه (التشديد في البول) (ومن البول) أي من جهة عدم التحرز منه لأنه مفسد للصلاة.(1/22)
... (وحديث) جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوما إلى سعد بن معاذ رضي الله عنه حين توفى، فلما صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ووضع في قبره وسوى عليه سبح النبي صلى الله عليه وسلم، فسبحنا طويلا، ثم كبر فكبرنا، فقيل: يا رسول الله لم سبحت ثم كبرت؟ قال: "لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره حتى فرجه الله عز وجل عنه" أخرجه أحمد والطبراني في الكبير بسند جيد(1). ... {22}
... وفيه دليل على أن ضغطة القبر تعم الصالح والطالح، فالصالح يضمه القبر ضمة رفق وإشفاق، والطالح يضمه ضمة تختلف منها أضلاعه.
... (وحديث) عائشة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "إن للقبر ضغطة ولو كان أحد ناجيا منها نجا منها سعد بن معاذ" أخرجه أحمد والبيهقي بسند جيد(2). ... ... ... ... ... ... {23}
... (وحديث) أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلي على صبي أو صبية فقال "لو كان أحد نجا من ضغطة القبر لنجا هذا الصبي" أخرجه الطبراني في الأوسط بسند رجاله ثقات(3). ... ... ... {24}
... قال أبو القاسم السعدي: لا ينجو من ضمة القبر صالح ولا طالح، غير أن الفرق بين المسلم والكافر فيها دوام الضغط للكافر، وحصول هذه الحالة للمؤمن في أول نزوله إلى القبر ثم يفسح له. والمراد بضغطه القبر التقاء جانبيه على جسد الميت. وقال الحكيم الترمذي: سبب هذا الضغط أنه ما من أحد إلا وقد ألم بذنب ما، فتدركه هذه الضغطة جزاء لما ألم ثم تدركه الرحمة. وكذلك ضغطة سعد بن معاذ في التقصير من البول(4).
__________
(1) انظر ص 133 ج 8- الفتح الرباني (ما جاء في ضغطة القبر) وص 46 ج 3 مجمع الزوائد.
(2) انظر ص 134 ج 8 – الفتح الرباني (ضغطة القبر) وص 46 ج 3 مجمع الزوائد.
(3) انظر ص 47 ج 3 مجمع الزوائد (ضغطة القبر).
(4) انظر ص 289 ج 1 زهر الربى.(1/23)
... (قلت) يشير إلى ما روي الحسن البصري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين دفن سعد بن معاذ: "إنه ضم في القبر ضمة حتى صار مثل الشعرة، فدعوت الله أن يرفعه عنه، وذلك بأنه كان لا يستبرئ من البول" أخرجه البيهقي(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {25}
... وأما الأنبياء فليس لهم في القبور ضمة ولا سؤال لعصمتهم (وعن) أبي هريرة قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة، فجلس إلى قبر منها فقال: "ما يأتي على هذا القبر من يوم إلا وهو ينادي بصوت ذلق طلق: يا بن آدم كيف نسيتني؟ ألم تعلم أني بيت الوحدة وبيت الغربة وبيت الوحشة وبيت الدود وبيت الضيق إلا من وسعني الله عليه؟ ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار" أخرجه الطبراني في الأوسط، وفيه محمد بن أيوب بن سويد، وهو ضعيف(2). ... ... ... ... {26}
... والأحاديث في هذا كثيرة، وهي تدل على ثبوت عذاب القبر للكفار مطلقا ولمن شاء الله من الموحدين، وأنه لا ينجو من ضغطته إلا الأنبياء لعصمتهم، وأن نعيمه للمؤمنين الصالحين.
... (وبهذا) قال أهل السنة والجماعة، لأنه أمر دل عليه الكتاب والسنة، ولا يمتنع عقلا أن يعيد الله الحياة في الجسد كله أو بعضه ويعذبه أو ينعمه. وإذا ورد به الشرع ولم يمنعه العقل وجب قبوله واعتقاده. ولم يخالف في ثبوت عذاب القبر إلا الخوارج وأكثر المعتزلة. والمعذب عند أهل السنة الجسد كله أو بعضه بعد إعادة الروح إليه أو إلى جزء منه.
__________
(1) انظر ص 290 ج 1 منه.
(2) انظر ص 46 ج 3 مجمع الزوائد (خطاب القبر) و(ذلق وطلق) بفتح فسكون، أي فصيح بليغ.(1/24)
... وخالف فيه طائفة فقالوا: لا يشترط إعادة الروح، وهذا فاسد، لأن الألم والإحساس إنما يكون في الحي، ولا يمنع من ذلك كون الميت قد تفرقت أجزاؤه أو أكلته السباع أو حيتان البحر أو نحو ذلك. فكما أن الله تعالى قادر على أن يعيده للحشر، فهو قادر على أن يعيد الحياة إلى جزء منه أو أجزاء وإن أكلته السباع والحيتان(1).
... (قال) ابن القيم: أما عذاب القبر فحق أعاذنا الله منه، ولا خلاف بين أهل السنة فيه لثبوته بالأخبار الصحيحة الصريحة الكثيرة المتواترة تواترا معنويا. (قال) أبو عبد الله أحمد بن حنبل: عذاب القبر حق لا ينكره إلا ضال مضل. وقال حنبل: قلت لأبي عبد الله في عذاب القبر، فقال: هذه أحاديث صحاح نؤمن بها ونقر بها. كلها جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد جياد، قال تعالى: "وما آتاكم الرسول فخذوه".
... قلت له: وعذاب القبر حق؟ قال: حق يعذبون في القبور، وقال: نؤمن بعذاب القبر وبمنكر ونكير، وأن العبد يسأل في قبره، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، أي في القبر(2).
... (وأما) محل العذاب فالروح والبدن جميعا باتفاق أهل السنة والجماعة، فإذا مات العبد تبقى روحه منعمة أو معذبة، تارة منفردة عن البدن، وتارة متصلة به، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحالة مجتمعين(3)، فإذا كان يوم القيامة أعيدت الأرواح إلى الأجساد وقاموا من قبورهم لرب العالمين وتعاد الأبدان. وهذا متفق عليه بين أهل الشرائع المسلمين واليهود والنصارى(4). وإنما أوقع من أحال عذاب القبر في الضلال قياسهم غيب المال على شاهد الحال.
__________
(1) انظر ص 201 ج 17 نووي مسلم (إثبات عذاب القبر والتعوذ منه).
(2) انظر ص 91 كتاب الروح.
(3) انظر ص 80 كتاب الروح.
(4) انظر ص 83 منه.(1/25)
... (والجواب) عن شبههم أنا نعلم أن الرسل صلوات الله عليهم وسلام لم يخبروا بما يحيله العقل، غاية ما يقال إنهم يخبرون بما لا تدركه العقول بمجردها ، كالغيوب من تفاصيل البرزخ واليوم الآخر والثواب والعقاب. ولا يكون خبرهم محالا في العقل أصلا، بل كل خبر يظن أن العقل يحيله، فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون كذبا عليهم، أو يكون ذلك العقل فاسدا، وهو شبهة خيالية يظن صاحبها أنها معقول صريح ، قال تعالى: { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ؟ }(1).
... وهذا يندفع بأمور ملاكها أن ننعم النظر في السنة مع التلبس بثوب الافتقار والتضرع للملك الجبار حتى نفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مراده من غير غلو ولا تقصير، فلا نحمل كلامه ما لا يحتمله ولا نخرج به عن مراده، وقد حصل بإهمال ذلك من الضلال ما لا يعلمه إلا الله، وسوء الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أصل كل بدعة وضلالة، بل أصل كل خطاء في الأصول والفروع، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد، وهذا إنما يعرفه من عرف ما عند الناس وعرضه على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما من عكس الأمر فعرض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم على ما يعتقده مما قلد فيه من أحسن الظن به فهو في الضلال لا ينفعه جدال، فدعه وما اختاره لنفسه ووله ما تولى وسل الله العافية(2).
... (فوائد):
... (الأولى) اعلم أن الدور ثلاثة: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار. ولكل دار أحكام تختص بها:
( أ ) فدار الدنيا جعل الله أحكامها على الأبدان، وجعل الأرواح تبعا لها، ولذا جعل الله الأحكام الشرعية مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح وإن أضمرت النفوس خلافها.
(
__________
(1) سورة الرعد: آية 19 وانظر ص 99 كتاب الروح.
(2) انظر ص 100 منه.(1/26)
ب ) وجعل الله أحكام البرزخ على الأرواح وجعل الأبدان تبعا لها، فكما تبعت الأرواح الأبدان في أحكام الدنيا- فتألمت بألمها وألتذت براحتها وكانت هي التي باشرت أسباب النعيم والعذاب- تبعت الأبدان الأرواح في القبور في نعيمها وعذابها. والأرواح حينئذ هي التي تباشر العذاب والنعيم. فالأبدان هنا ظاهرة والأرواح خفية، والأبدان كالقبور لها، والأرواح هناك ظاهرة والأبدان خفية في قبورها. تجري أحكام البرزخ على الأرواح فتسري إلى أبدانها نعيما أو عذابا كما تجري أحكام الدنيا على الأبدان فتسري إلى الأرواح.
(جـ) وجعل الله أحكام الدار الآخرة على الأرواح والأبدان معا، فأحط بهذا الوضع علما يزل عنك كل إشكال. وقد أرانا الله تعالى من ذلك نموذجا في الدنيا من حال النائم، فإن ما ينعم به أو يعذب في نومه يجري على روحه أصلا والبدن تبع له. وقد يتعدى أثره إلى البدن تأثيرا مشاهدا فيرى النائم أنه عذب أو نعم فيصبح وأثر ذلك في جسمه ونحو ذلك(1).
(قال) سعيد بن سلمة: بينا امرأة عند عائشة إذ قالت: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا أشرك بالله شيئا ولا أسرق ولا أزني ولا أقتل ولدى ولا آتي ببهتان بين يدي ورجلي ولا أعصى فلي معروف، فوفيت لربي فو الله لا يعذبني الله تعالى، فأتاه في المنام ملك فقال: كلا إنك تتبرجين وزينتك تبدين وخيرك تكدرين وجارك تؤذين وزوجك تعصين، ثم وضع أصابعه الخمس على وجهها فقال: خمس بخمس ولو زدت زدناك. فأصبحت وأثر الأصابع في وجهها. ذكر الحارث بن أسد المحاسبي(2).
__________
(1) انظر ص 101 كتاب الروح.
(2) انظر ص 139 ج 8- الفتح الرباني (الشرح).(1/27)
... (قال) ابن القيم: وأعجب من ذلك ربما رأيت النائم يقوم ويضرب ويبطش ويتكلم كأنه يقضان وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك. وذلك أن الحكم لما جرى على الروح استعانت بالبدن من خارجه ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحس، فإذا كانت الروح هنا تتألم وتتنعم فيصل ذلك إلى البدن بطريق الاستتباع ففي البرزخ أقوى، فإذا كان يوم الحشر صار الحكم على الأرواح والأجساد معا، ومتى أعطيت هذا الموضع حقه لاحت لك أسرار أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم من عذاب القبر ونعيمه. ومن أشكل عليه شيء من ذلك فمن قلة علمه وسوء فهمه. وأغرب من ذلك أنك تجد النائمين في فراش واحد: هذا روحه في نعيم، وهذا روحه في عذاب، وربما استيقظا أو أحدهما وأثر ذلك على بدنه ولا شعور لأحدهما بما فيه الآخر(1).
... (الثانية) أعلم أن الله تعالى حجب أمر الآخرة وما كان متصلا بها عن إدراك المكلفين في هذه الدار، وذلك من كمال حكمته ليتميز المؤمن بالغيب من غيره. وأول ذلك نزول الملائكة على المحتضر على الهيئات التي تقدمت في الأحاديث. وقد يسلمون عليه ويرد عليهم بلفظ أو إشارة. وربما سأل من عنده عنهم: من أين هؤلاء الرجال الحسان؟ ونحو ذلك، وكل من امتدت حياته في هذه الدار رأى من ذلك ما يغنيه عن الأخبار، ويكفي من ذلك قوله تعالى: { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ }(2).
... أي أقرب إليه بملائكتنا ورسلنا وغير ذلك من قبض الروح وخروجها والشعاع الذي يخرج معها، والروح الطيب والخبيث، وهو غير مرئي لنا ولا محسوس وهو في هذه الدار، ثم تأتي الروح فتشاهد غسل الميت وتكفينه وحمله(3).
__________
(1) انظر ص 102 كتاب الروح.
(2) سورة الواقعة: آية 83 و84 و85.
(3) انظر ص 103 و104 كتاب الروح.(1/28)
... (روى) أبو سعيد الخدرى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعها الصعق" أخرجه أحمد والبخاري والنسائي والبيهقي(1). ... {27}
__________
(1) انظر رقم 593 ص 333 ج 7 – الدين الخالص (حمل الجنازة).(1/29)
... وقد ثبت نحو هذا في هذه الدار وأطلع الله عليه بعض من اختار. فهذا جبريل كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم ويتمثل له رجلا يكلمه تارة، وتارة يأتيه الوحي مثل صلصلة الجرس ولا يسمعه غيره من الحاضرين. وكان يدارسه القرآن ويشاهد الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم من الأحوال الاضطرارية الطبيعية ما يعلم بها مجيئه إليه قطعا من غير إخبار ولا يسمعون كلامه ولا يرون شخصه، وربما رآه بعضهم كما جاء في الصحيح (فقد) كانت الملائكة تضرب الكفار بالسياط وتصيح بهم ويراهم الكفار ويسمعونهم كما أخبر كثيرا منهم بذلك بعد إسلامه ولا يسمع المسلمون ولا يرون. وكل من له نظر في كتب السنة الصحيحة قطع بذلك. وهذاه الجن تتكلم بالأصوات المرتفعة بيننا ونحن لا نسمعهم والعبد أضعف بصرا وسمعا من أن يثبت لمشاهدة عذاب القبر، وربما كشف لبعض الناس عن شيء فربما ثبت وربما صعق(1)،
__________
(1) انظر ص 113 و114 كتاب الروح..(1/30)
وليس بعزيز على من أوجد هذا الإنسان من العدم وجعله حيا عالما سميعا بصيرا بعد أن لم يكن شيئا مذكورا، أن يجمع أجزاءه بعد أن تفرقت رمادا في هواء البر والبحر وفي حواصل الطير وبطون السباع، ويجعل للروح اتصالا بها لتحس بالعذاب والنعيم؛ فقد أرانا أعجب من ذلك بأن جعل في الجمادات شعورا وإدراكا (فقد) صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع تسليم الحجر والشجر عليه(1)، وأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يسمعون تسبيح الطعام وهو يؤكل والحصى في أيديهم، وأما حنين الجذع فأشهر من أن يذكر(2).
__________
(1) روي جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "إن بمكة حجرا كان يسلم على ليالي بعثت إني لأعرفه الآن" أخرجه مسلم والترمذي (أنظر ص 329 ج 3 تيسير الوصول) وقال ابن عباس: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بم أعرف أنك رسول الله؟ قال: "أن أدعو هذا العذق من النخلة فيشهد لي أني رسول الله، فدعاه فجعل المذق ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: السلام عليك يا رسول الله، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أرجع إلى موضعك، فعاد إلى موضعه والتأم، فأسلم الأعرابي. أخرجه الترمذي (انظر ص 330 ج 3 تيسير الوصول).
(2) قال أنس: خطب النبي صلى الله عليه وسلم إلى لزق جذع، فلما صنعوا له المنبر فخطب عليه صلى الله عليه وسلم، فحن الجذع حنين الناقة، فنزل صلى الله عليه وسلم فمسه فسكن. أخرجه الترمذي (أنظر ص 330 ج 3 تيسير الوصول).(1/31)
... (الثالثة) اتساع القبر وضيقه ونوره وظلمته أمر معلوم من الدين بالضرورة لا مرية فيه لمتشرع لما تقدم من الأحاديث الصحيحة، وفيها أنه يفسح للمؤمن في قبره سبعون ذراعا ويملأ عليه خضرا إلى يوم يبعثون والكفار بعكس ذلك؛ هذا واتساع القبر للروح بالذات والبدن تبع لها فيكون البدن في لحد أضيق من ذراع وقد فسح له مد بصره تبعا لروحه (قال) ابن القيم: أخبر بعض الصادقين أنه حفر ثلاثة أقبر، فلما فرغ منها اضطجع ليستريح فرأى فيما يرى النائم ملكين نزلا فوقفا على أحد الأقبر، فقال أحدهما لصاحبه: أكتب فرسخا في فرسخ، ثم وقفا على الثاني فقال: اكتب ميلا في ميل، ثم وقفا على الثالث فقال: اكتب فترا في فتر، ثم انتبه فجئ برجل غريب لا يؤبه له فدفن في القبر الأول، ثم جئ برجل آخر فدفن في القبر الثاني، ثم جئ بامرأة مترفة من وجوه البلد حولها ناس كثير
فدفنت في القبر الضيق الذي سمعه يقول: فترا في فتر(1).
... (الرابعة) أعلم أن الميت إذا وضع في لحده ودفن لا يحجب التراب الملائكة عن الوصول إليه، بل لو نقر له حجر وأودع فيه وختم عليه بالرصاص لم يمنع وصولهم إليه، فإن هذه الأجسام الكثيفة لا تمنع خرق الأرواح لها، بل الجن لا يمنعها ذلك، وقد جعل الله تعالى الحجارة والتراب للملائكة بمنزلة الهواء للطير(2).
__________
(1) انظر ص 105 كتاب الروح (والفتر) بكسر فسكون: ما بين رأسي الإبهام والسبابة.
(2) انظر ص 104 و105 كتاب الروح.(1/32)
... (الخامسة) أعلم أن النار التي في القبر والخضرة ليستا من نار الدنيا ولا نباتها ولا يحس بهما أهل الدنيا. فالله تعالى يحمي على الميت ذلك التراب وتلك الحجارة التي فوقه وتحته حتى تكون اعظم حرا من نار الدنيا بما لا يعلمه إلا الله ولو مسها أهل الدنيا لم يحسوا بذلك، وأعجب من هذا أن الرجلين يدفنان أحدهما إلى جنب الآخر، وهذا في حفرة من حفر النار لا يصل حرها إلى جاره، بل ربما كان في روضة من رياض الجنة. وقد أرانا الله تعالى من آثار قدرته في هذه الدار ما هو أعجب من ذلك، لكن النفوس مولعة بالتكذيب بما لم تحط به علما إلا من وفقه الله وعصمه، فكيف ينكر في الحكمة إسبال غطاء يحول بين المكلفين وبين مشاهدة ما يريد الله تعالى إخفاءه حتى إذا كشف الغطاء شاهدوه عيانا، وقد يطلع الله على ذلك بعض عبيده؛ ولو أطلع الكل عليه لزالت حكمة التكليف والإيمان بالغيب ولما تدافن الناس كما في الصحيحن(1). (
__________
(1) انظر ص 105 و106 كتاب الروح (ولما تدافن الناس) أي لا يدفن بعضهم بعضا لما يحصل لهم من الفزع والدهشة المؤدية لترك مصالحهم حتى يتركوا دفن موتاهم، ولفظ الحديث: عن زيد بن ثابت رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حائط من حيطان المدينة فيه أقبر وهو على بغلته فحادت به (أي مالت عن الطريق ونفرت لما اعتراها من الفزع عند سماع أصوات المعذبين بالقبور) وكادت أن تلقيه، فقال: من يعرف هذه الأقبر؟ فقال رجل: يا رسول الله قوم هلكوا في الجاهلية، فقال: لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر، ثم قال: تعوذوا بالله من عذاب جهنم. قلنا: نعوذ بالله من عذاب جهنم. ثم قال: تعوذوا بالله من فتنة المسيح الدجال. فقلنا: نعوذ بالله من فتنة المسيح الدجال. ثم قال: تعوذوا بالله من عذاب القبر. فقلنا: نعوذ بالله من عذاب القبر. ثم قال: تعوذوا بالله من فتنة المحيا والممات. قلنا نعوذ بالله من فتنة المحيا والممات..أخرجه أحمد ومسلم (انظر ص 126 ج 8- الفتح الرباني (عذاب أهل الجاهلية في القبر) وص 202 ج 17 نووي.(1/33)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "بينا أسير بجنبات بدر إذ خرج رجل من حفرة في عنقه سلسلة فناداني: يا عبد الله اسقني، فلا أدري أعرف اسمي أو دعاني بدعاية العرب؟ وخرج رجل في ذلك الحفير في يده سوط فناداني: لا تسقه فإنه كافر ثم ضربه بالسوط حتى عاد إلى حفرته، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم مسرعا فأخبرته، فقال لي: أو قد رأيته؟ قلت: نعم. قال: ذاك عدو الله أبو جهل بن هشام وذاك عذابه إلى يوم القيامة. أخرجه الطبراني في الأوسط، وفيه عبد الله بن محمد بن المغيرة وهو ضعيف(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {28}
... وعن هشام بن عروة رضي الله عنهما عن أبيه قال: بينما راكب يسير بين مكة والمدينة إذ مر بمقبرة فإذا برجل قد خرج من قبره يلتهب نارا مصفداً في الحديد فقال: يا عبد الله انضح يا عبد الله انضح، وخرج آخر يتلوه فقال: يا عبد الله لا تنضح يا عبد الله لا تنضح، وغشى على الراكب وعدلت به راحلته إلى العرج وأصبح قد أبيض
شعره، فأخبر عثمان بذلك، فنهى أن يسافر الرجل وحده. ذكره ابن أبي الدنيا(2).
__________
(1) انظر ص 57 ج 3 مجمع الزوائد (العذاب في القبر).
(2) انظر ص 107 كتاب الروح. و(المرج) بفتح فسكون: موضع بطريق المدينة.(1/34)
... (السادسة) أعلم أن عذاب القبر ونعيمه هو عذاب البرزخ ونعيمه وهو ما بين الدنيا والآخرة وإنما أضيف إلى القبر باعتبار الغالب؛ فالمصلوب والغريق والحريق وأكيل السباع والطيور له من عذاب البرزخ ونعيمه قسطه حتى لو علق العاصي على رءوس الأشجار في مهاب الرياح لأصاب جسده من عذاب البرزخ حظه، ولو ألقى الصالح في أتون من النار لأصاب جسده من نعيم البرزخ وروحه نصيبه فيجعل الله النار على هذا بردا وسلاما والهواء على ذلك نارا وسموما، فعناصر العالم ومواده منقادة لربها وفاطرها يصرفها كيف يشاء كما صرفها فيما ناشد بخلق هذه القوى فيها بعد أن لم تكن- تبارك اسمه(1).
... (السابعة) عذاب القبر نوعان:
(أ) دائم وهو عذاب الكفار وبعض العصاة لقوله تعالى في آل فرعون : " النار يعرضون عليهم غدوا وعشيا "(2).
__________
(1) انظر ص 117 و118 كتاب الروح. (والأتون) بشدة التاء: الموقد، والعامة تخففه، وجمعه أتاتين بتامين.
(2) سورة غافر: آية 46.(1/35)
... وفي حديث سمرة عند البخاري في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم: فهو يفعل به ذلك يوم القيامة(1). وفي حديث أبي هريرة: في الذين ترضخ رءوسهم لا يفتر عنهم(2). وفي الصحيح عن أبي هريرة في قصة الذي لبس بردين وجعل يمشي يتبختر فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة(3). وفي بعض ألفاظ حديث البراء الطويل عند أحمد: ثم يخرق له خرق إلى النار فيأتيه من غمها ودخانها إلى يوم القيامة(4). لكن ورد في بعض الأحاديث أنه يخفف عنهم ما بين النفختين فإذا قاموا من قبورهم قالوا: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا.
... (ب) عذاب منقطع، وهو عذاب من خفت جراثمهم من العصاة، فإن كلا يعذب بحسب جريمته، ثم يرفع عنهم بدعاء أو صدقة أو قراءة أو نحو ذلك (قال) عبد الله بن نافع: مات رجل من أهل المدينة فرآه رجل كأنه من أهل النار فاغتم لذلك، ثم إنه سابعة أو ثامنة رآه كأنه من أهل الجنة، فقال: ألم تكن قلت إنك من أهل النار؟ قال: قد كان ذلك، إلا أنه دفن معنا رجل من الصالحين فشفع في أربعين من جيرانه فكنت منهم. ذكره ابن أبي الدنيا.
... (وقال) وحدثنا أحمد بن يحيى عن بعض الأصحاب قال: مات أخي فرأيته في النوم فقلت له: ما كان حالك حين وضعت في قبرك؟ قال: أتاني آت بشهاب من نار، فلولا أن داعيا دعا لي لرأيت أنه سيضربني به.
__________
(1) انظر الحديث تماما بهامش ص 153 ج 5 – الدين الخالص (الإسراء) وص 162 ج 3 فتح الباري (باب- بعد ما جاء في أولاد المشركين).
(2) الحديث أخرجه البزار. انظره تاما بهامش ص 149 ج 5 – الدين الخالص (الإسراء) و ص 67 ج 1 مجمع الزوائد.
(3) الحديث أخرجه الشيخان. انظر ص 202 ج 10 فتح الباري (من جر ثوبه من الخيلاء) وص 64 ج 14 نووي (تحريم التبختر في المشي مع إعجابه بثيابه). و(يتجلجل) بالجيم: أي يتحرك وينزل مضطربا. والصحيح أن هذا الرجل كان من بني إسرائيل.
(4) انظر ص 143 كتاب الروح.(1/36)
... (وقال) بشار بن غالب: رأي رابعة العدوية في منامي وكنت كثير الدعاء لها، فقالت لي: يا بشار هداياك تأتينا على أطباق من نور مغطاة بمناديل الحرير. قلت: وكيف ذاك؟ قالت: هكذا دعاء المؤمنين الأحياء للموتى إذا استجيب جعل على أطباق النور ثم غطى بمناديل الحرير، ثم أتى بها الذي دعى له من الموتى فقيل: هذه هدية فلان إليك(1).
(الثامنة) الأسباب الموجبة لعذاب القبر هي الجهل بالله تعالى، وإضاعة أوامره واتركاب معاصيه المفضية إلى سخطه وعذابه، فمن أغضب الله تعالى وأسخطه في هذه الدار، ومات من غير توبة، كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب الله وسخطه عليه فمستقل ومستكثر(2). وقد عين النبي صلى الله عليه وسلم للوقوع في عذاب القبر أسبابا كثيرة من اتقى ما ذكر من هذا الإجمال، استغنى عن تفصيلها، ولما كان أكثر الناس مستخفا بأكثر النواهي كان أكثر أصحاب القبور معذبين، والفائز منهم قليل إلا إن عفا الله، وهو أهل العفو والمغفرة.
(التاسعة) الأسباب المنجية من عذاب القبر كثيرة (منها) العلم بالله وخشيته وتقواه وامتثال أمره والوقوف عند نهيه وتجنب الأسباب المقتضية للعذاب، ومن أنفع ذلك أن يجلس الإنسان قبل النوم ساعة يحاسب فيها نفسه ثم يجدد لكل ذنب توبة نصوحا وينام على هذه التوبة، فإن مات كان على توبة وإلا استيقظ مستقبلا للعمل مسرورا بتأخير الأجل حتى يستقبل ربه ويستدرك ما فاته، وليس للعبد أنفع من هذه التوبة لا سيما إذا عقب ذلك بذكر الله تعالى واستعمل السنن التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يغلبه النوم(3).
__________
(1) انظر ص 144 و 145 كتاب الروح.
(2) انظر ص 123 منه.
(3) انظر ص 127 و128 كتاب الروح.(1/37)
... هذا، وقد عين النبي صلى الله عليه وسلم للنجاة من عذاب القبر أسبابا أخرى (منها) الشهادة في سبيل الله (روى) راشد بن سعد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال: يا رسول الله ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة. أخرجه النسائي(1). ... {29}
... والمعنى أن الشهيد اختبر إيمانه من نفاقه ببارقة السيف، فدل على أن إيمانه هو الذي يحمله على بروزه للقتل وبذل نفسه لله وتسليمها له، وهاج من قلبه حمية الغضب لله ورسوله إظهارا لدينه وإعزازا لكلمته فظهر أن دعواه الإيمان بلسانه برزت عن قلب صادق وضمير الله واثق، فأغنى ذلك عن الامتحان في قبره (ومنها) المواظبة على قراءة سورة تبارك في كل ليلة.
(قال) ابن عباس رضي الله عنهما: ضرب رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا فيه إنسان يقرأ سورة (تبارك الذي بيده الملك) حتى ختمها، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر فإذا إنسان يقرأ سورة تبارك حتى ختمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هي المانعة، هي المنجية تنجيه من عذاب القبر" أخرجه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {30}
__________
(1) انظر ص 289 ج 1 مجتبي (الشهيد) ورقم 54 ص 74 ج 1- الدين الخالص طبعة ثالثة (سؤال القبر).
(2) انظر ص 175 ج 1 تيسير الوصول (سورة الملك) وص 129 كتاب الروح وص 250 ج 5 فتح القدير للشوكاني.(1/38)
... (وعن عكرمة) عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لرجل: ألا أتحفك بحديث تفرح به؟ قال: بلى. قال: اقرأ (تبارك الذي بيده الملك) وعلمها أهلك وجميع ولدك وصبيان بيتك وجيرانك فإنها المنجية، والمجادلة تجادل يوم القيام عند ربها لقارئها، وتطلب له إلى ربها أن ينجيه من عذاب النار ومن عذاب القبر. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي" أخرجه عبد بن حميد والحاكم والطبراني(1). ... ... {31}
__________
(1) انظر ص 19 ج 8 – المنهل العذب (الشرح) وص 129 كتاب الروح.(1/39)
... (ومنها) جملة أعمال صالحة مبينة في حديث سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن سمرة قال: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن بمسجد المدينة. فقال: إني رأيت البارحة عجبا: رأيت رجلا من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب، فجاءه وضوؤه من ذلك، ورأيت رجلا من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر فجاءته صلاته فاستنقذته من ذلك، ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته الشياطين فجاءه ذكر الله فخلصه منهم، ورأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا فجاءه صيام رمضان فسقاه، ورأيت رجلا من أمتي من بين يديه ظلمة فجاءته حجته وعمرته فاستخرجاه من الظلمة، ورأيت رجلا من أمتي جاءه ملك الموت ليقبض روحه فجاءه بره بوالديه فرده عنه، ورأيت رجلا من أمتي يكلم المؤمنين ولا يكلمونه فجاءته صلة الرحم فقالت: إن هذا كان واصلا لرحمه فكلمهم وكلموه وصار معهم، ورأيت رجلا من أمتي يأتي النبيين وهم حلق حلق كلما مر على حلقة طرد فجاءه اغتساله من الجنابة فأخذ بيده فأجلسه إلى جنبي، ورأيت رجلا من أمتي يتقي وهج النار بيديه عن وجهه فجاءته صدقته فصارت ظلا على رأسه وسترا عن وجهه، ورأيت رجلا من أمتي جاءته زبانية العذاب فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذه من ذلك، ورأيت رجلا من أمتي هوى في النار فجاءته دموعه التي بكى بها في الدنيا من خشية الله فأخرجته من النار، ورأيت رجلا من أمتي قد هوت صحيفته إلى شماله فجاءه خوفه من الله تعالى فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه، ورأيت رجلا من أمتي قد خف ميزانه فجاءه أفراطه فثقلوا ميزانه، ورأيت رجلا من أمتي على شفير جهنم فجاءه وجله من الله تعلى فاستنقذه من ذلك، ورأيت رجلا من أمتي يرعد كما ترعد السفعة فجاءه حسن ظنه بالله فسكن رعدته، ورأيت رجلا من أمتي يزحف على الصراط مرة ويحبو مرة فجاءته صلاته على فأخذت بيده فأقامته على الصراط حتى جاز، ورأيت رجلا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة فغلقت الأبواب دونه فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله فأخذت(1/40)
بيده فأدخلت الجنة" أخرجه الطبراني في الكبير والديلمي وأبو موسى المديني وقال: حديث حسن جدا، وقال الهيثمي: رواه الطبراني بإسنادين في أحدهما سليمان بن أحمد الواسطي، وفي الآخر خالد بن عبد الرحمن المخزومي، وكلاهما ضعيف(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... {32}
... وقال ابن القيم: سمعت شيخ الإسلام- يعني ابن تيمية- يعظم أمر هذا الحديث وقال: أصول السنة تشهد له وهو من أحسن الأحاديث (ومنه) تعلم رد قول ابن الجوزي: هذا الحديث لا يصح.
... (وقال) القرطبي: هذا حديث عظيم ذكر فيه أعمال خاصة تنجي من أحوال خاصة، وإنما هذا لمن أخلص لله في عمله وصدق الله في قوله وفعله وأحسن نيته في سره وجهره، فهو الذي تكون أعماله حجة له دافعة عنه مخلصة إياه، فلا تعارض بين هذا الحديث وبين أخبار أخر، فإن الناس مختلفو الحال في الإخلاص في الأعمال(2).
(13) المشي بالنعلين بين القبور
__________
(1) انظر ص 132 وما بعدها كتاب الروح. ورقم 2652 ص 21 وما بعدها ج 3 فيض القدير (واحتوشته) احتاطت به (وحلق) بكسر ففتح: جمع حلقة بفتح أو كسر فسكون كقصعة وسدرة، والرواية بفتحتين على غير قياس، أي يجلسون دوائر دوائر (وأفراطه) جمع فرط بفتحتين، أي أولاده الصغار الذين ماتوا قبله وصبر عليهم (والسعفة) بفتح فسكون: خوص جريد النخل (أرى) النبي صلى الله عليه وسلم هذه الرؤيا، ورؤيا الأنبياء حق ووحي.. (ليعلم) العباد فائدة هذه الطاعات وأن لكل نوع منها أثرا في الموقف وفي مواطن القيامة يعينه وينجيه من الأهوال (أنظر ص 25 ج 3 فيض القدير).
(2) انظر ص 25 ج 3 منه.(1/41)
... يجوز- عند الحنفيين ومالك والشافعي- المشي بين القبور بالنعل والخف ونحوهما (لحديث) أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع فرع نعالهم (الحديث) أخرجه احمد والشيخان وأبو داود والنسائي(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... {33}
__________
(1) أنظر ص 82 ج 8 – الفتح الرباني (المشي بين القبور بالنعل) وص 154 ج 3 فتح الباري (ما جاء في عذاب القبر) وص 203 ج 17 نووي (إثبات عذاب القبر) وص 88 ج 9 – المهل العذب المورود (المشي بين القبور بالنعل) و ص 288 ج 1 مجتبي (التسهيل في غير السبتية) وأنظر الحديث تاما رقم 50 ص 72 ج 1 – الدين الخالص طبعة ثالثة (سؤال القبر).(1/42)
... (وقال) أحمد وبعض الشافعية: يكره المشي بين المقابر بالنعل مطلقا. ويسن خلعه إذا دخلها إلا لضرورة كخوف نجاسة أو شوك أو حرارة أرض (لقول) بشير بن معبد: بينما أنا أماشي النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبور المشركين فقال: لقد سبق هؤلاء خيرا كثيرا ثلاثا، ثم مر بقبور المسلمين فقال: لقد أدرك هؤلاء خيرا كثيرا ثلاثا، ثم حانت من النبي صلى الله عليه وسلم نظرة فإذا رجل يمشي في القبور عليه نعلان، فقال: يا صاحب السبتيتين ويحك ألق سبتيتك، مرتين أو ثلاثا. فنظر الرجل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم خلع نعليه. أخرجه أحمد والحاكم وصححه والأربعة إلا الترمذي، وهذا لفظ أبي داود(1). ... ... ... ... ... ... ... {34}
__________
(1) انظر ص 80 ج 8 – الفتح الرباني (المشي بين القبور بالنعل) و ص 85 ج 9 المهل العذب المورود، وص 288 ج 1 مجتبي (كراهية المشي بين القبور بالنعال السبتية) وص 244 ج 1- ابن ماجه (خلع النعلين في المقابر) و(بشير) كعظيم، كان اسمه زحما- بفتح فسكون- فسماه النبي صلى الله عليه وسلم بشيرا. و(لقد سبق هؤلاء خيرا ... ) أي تقدموا الخير حتى جعلوه خلف ظهورهم ولم يعملوا به، والتكرير للتأكيد والتنفير من التخلق بأخلاقهم. و(لقد أدرك هؤلاء خيرا ... ) أي تحصلوا عليه. وفي رواية النسائي: لقد سبق هؤلاء شرا كثيرا. أي سبقوه حتى جعلوه وراء ظهورهم ووصلوا إلى الخير والكفار بالعكس. و(عليه نعلان) يعني يمشي بينها في نعليه كما في رواية النسائي وابن ماجه. و(السبتيتين) بكسر السين وسكون الباء: نسبة إلى السبت وهو جلود البقر المدبوغة بالقرظ، سميت بذلك لأن شعرها قد سبت، أي أزيل. و(ويحك) كلمة ترحم وإشفاق، عكس ويلك: وأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالخلع احتراما للقبور.(1/43)
... (وقال) ابن حزم: يحرم المشي بين القبور بنعلين سبتيتين، ويجوز بغيرهما عملا بالحديثين(1).
... (وأجاب) الجمهور عن حديث السبتيتين بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر الرجل بخلعهما لاحتمال أنه كان بهما قذر أو لاختياله بهما، لأن النعال السبتية إنما يلبسها أهل الترفه والتنعيم، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون السائر في المقابر على زي التواضع. وبهذا يجمع بين الحديثين(2).
(14) دفن أكثر من واحد في القبر
__________
(1) عملا بالحديث) وهذا جمع حسن. ولا وجه لمن غلط ابن حزم بأن سماع خفق النعال لا يستلزم أن يكون المشي بين القبور، لأن الغالب فيمن دفن الميت أن يمشي بين القبور. والأحكام ينظر فيها إلى الغالب.
(2) انظر ص 312 ج 5 مجموع النووي.(1/44)
... لا يدفن اثنان فأكثر في قبر، بل يفرد كل ميت في قبر حال الاختيار، لأن الأحاديث دلت على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدفن كل واحد في قبر. واستمر عمل الصحابة ومن بعدهم على هذا. فيكره جمع اثنين في قبر إلا لضرورة، ككثرة الموتى وتعسر إفراد كل ميت بقبر، أو قلة الدافنين أو ضعفهم، فيجمع بين الاثنين والأكثر في قبر بحسب الضرورة، لحديث هشام بن عامر رضي الله عنه قال: جاءت الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقالوا: يا رسول الله أصابنا قرح وجهد فكيف تأمرنا؟ فقال: احفروا وأوسعوا واعمقوا واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر، قالوا: فأيهم نقدم؟ قال: أكثرهم قرآنا. أخرجه أحمد والبيهقي والثلاثة. وقال الترمذي: حسن صحيح(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {35}
... (وروى) عبد الرحمن بن كعب أن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد. أخرجه البخاري(2). ... ... ... ... ... ... {36}
... وفي الحديثين دليل على جواز دفن الرجلين والمرأتين في قبر للضرورة ويندب حاجز بين كل اثنين بتراب إن أمكن. وكذا يجوز دفن الرجل مع المرأة للضرورة (روى) واثلة بن الأسقع أنه كان يدفن الرجل والمرأة في القبر الواحد فيقدم الرجل وتجعل المرأة وراءه. أخرجه عبد الرزاق بسند حسن(4). ... ... ... {37}
__________
(1) انظر ص 53 ج 8 – الفتح الرباني (دفن الاثنين والثلاثة في قبر واحد إذا اقتضى الحال ذلك) و ص 413 ج 3 بيهقي (ما يستحب من اتساع القبر وإعماقه) و ص 67 ج 9- المنهل العذب المورود (تعميق القبر) و ص 283 ج 1 مجتبي (ما يستحب من إعماق القبر) وتقدم نحوه رقم 654 ص 359 ج 7 – الدين الخالص (ما يطلب في القبر) (والقرح) بفتح أو ضم فسكون في الأصل: الجرح، وقيل بالفتح: الجرح، وبالضم: أثره وهو الألم (والجهد) بفتح فسكون: المشقة (وأحضروا) أمر من حفر كضرب.
(2) 3 و4) انظر ص 129 ج 3 فتح الباري (دفن الرجلين والثلاثة في القبر).(1/45)
... وليس من الضرورة المبيحة لجمع أكثر من ميت في قبر ضيق محل الدفن في تلك المقبرة مع وجود غيرها مسبلة أو موقوفة، ولا دفن الرجل مع قريبه اتفاقا. فإن حصلت ضرورة لدفن أكثر من واحد في القبر يقدم فيه أفضلهم إلى القبلة؛ فلو اجتمع رجل وصبي وامرأة قدم إلى القبلة الرجل ثم الصبي ثم المرأة. ويقدم الأب على الابن وإن كان الابن أفضل لحرمة الأبوة. وتقدم الأم على البنت. ولو مات جماعة من أهله وأمكنه دفنهم واحدا واحدا فعل، فإن خشي تغير أحدهم بدأ به ثم بمن خشي تغيره، وإن لم يخش تغير أحد بدأ بأبيه ثم أمه ثم الأقرب فالأقرب، فإن كانا أخوين قدم أكبرهما، فإن استويا أو كانتا زوجتين أقرع بينهما(1).
...
(الفوائد):
... (الأولى) من مات في سفينة دفن في قبر إن أمكن الخروج قبل تغيره وإلا ألقى في البحر بعد غسله وتكفينه والصلاة عليه- عند النعمان ومالك وأحمد لما روى أنس بن مالك أن أبا طلحة ركب البحر فمات فلم يجدوا له جزيرة إلا بعد سبعة أيام فدفنوه فيها ولم يتغير. أخرجه البيهقي بسند صحيح(2). ... ... ... ... {38}
... وقال: وروينا عن الحسن البصري أنه قال: يغسل ويكفن ويصلي عليه ويطرح في البحر. وفي رواية: يجعل في زمبيل ثم يقذف به في البحر.
... (وقالت) الشافعية: يجهز ثم يجعل بين لوحين ويلقى في البحر ليلقيه إلى الساحل فلعله يصادفه من يدفنه.
... (الثانية) لو ماتت امرأة حامل واضطرب في بطنها ما رأوا أنه جنين حي، شق بطنها وأخرج، صيانة لحق الحي- عند الحنفيين وأكثر الفقهاء.
__________
(1) انظر ص 284 ج 5 مجموع النوي.
(2) انظر ص 7 ج 4 بيهقي (الإنسان يموت في البحر).(1/46)
... (قالت) الشافعية: إن رجى حياة الجنين وجب شق جوفها وإخراجه، وإلا فثلاثة أوجه: أصحها لا تشق ولا تدفن حتى يموت، وقيل: تشق ويخرج، وقيل: يثقل بطنها بشيء ليموت الجنين، وهو مردود منكر، وكيف يؤمر بقتل حي معصوم وإن كان ميئوسا من حياته من غير سبب منه يقتضي القتل؟ وإذا قلنا بشق جوفها شق في مكان يسهل على الطبيب شقه(1).
... (وقالت) الحنبلية: لو ماتت وفي بطنها جنين ترجى حياته حرم شق بطنها بل تخرجه النساء لا الرجال، وهو معتمد مذهب مالك، لأن حياة الجنين مشكوكة فلا تهتك حرمتها لهذا المشكوك فيه. وإن لم يمكن إخراجه لا تدفن حتى يتحقق موته ولو تغيرت (وعن) مالك أنه إن رجى حياته يشق بطنها من خاصرتها اليسرى إن كان الحمل أنثى، ومن اليمين إن كان الحمل ذكرا. واتفق العلماء على أنه إن أمكن إخراجه بحيلة غير الشق وجب(2)، ولو خرج بعض الولد حيا ولم يمكن إخراجه إلا بشق شق المحل وأخرج لما ذكرنا. وإن مات على تلك الحال وأمكن إخراجه أخرج وغسل. وإن تعذر غسله ترك وغسلت الأم وما ظهر من الولد. وما بقى ففي حكم الباطن لا يحتاج إلى التيمم من أجله، لأن الجميع كان في حكم الباطن، فلما ظهر البعض تعلق به حكم الظاهر وما بقي فهو على ما كان عليه(3).
... والظاهر مذهب الأولين. والعمدة في ترجيح حياة الجنين وعدمها قول ثقات الأطباء. وقد ثبت ذلك فليس أمرا موهوما كما قاله الحنبلية بناء على تجربة ناقصة.
... (الثالثة) لو ماتت نصرانية حامل من مسلم دفنت في قبر وحدها وظهرها إلى القبلة على جانبها الأيسر-
__________
(1) نظر ص 302 ج 5 مجموع النووي.
(2) انظر ص 174 ج 1 – الصاوي على صغير الدردير.
(3) انظر ص 413 ج 2 مغنى ابن قدامة.(1/47)
على المختار عند أحمد- ليكون وجه الجنين إلى القبلة على جانبه الأيمن لأن وجهه إلى ظهرها وهي كافرة فلا تدفن في مقابر المسلمين وولدها محكوم بإسلامه فلا يدفن بين الكفار (روى) سليمان بن موسى عن واثلة بن الأسقع أنه دفن امرأة نصرانية في بطنها ولد مسلم في مقبرة ليست بمقبرة النصارى ولا المسلمين. أخرجه البيهقي(1).
... (الرابعة) يستحب اتفاقا جمع الموتى الأقارب في مكان واحد بأن يقارب بين قبورهم، لأنه أيسر لزيارتهم وأكثر للترحم عليهم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دفن عثمان بن مظعون وضع صخرة عند رأسه وقال: أتعلم بها قبره وأدفن إليه من مات من أهلي(2).
... (الخامسة) إن بلع شخص مالا فمات لا يشق بطنه ولو كان المال لغيره ولم يدع ما يفي به فعلى ورثته قيمته عند الحنفيين وابن حبيب المالكي وهو مشهور مذهب أحمد. وروى عن الشافعي (الحديث) عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "كسر عظم الميت ككسره حيا" أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والبيهقي من عدة طرق بسند صحيح إلا سعد ابن سعيد الأنصاري فقد ضعفه أحمد ووثقه الكثيرون(3). {39}
__________
(1) انظر ص 59 ج 4 بيهقي (النصرانية تموت وفي بطنها ولد مسلم) (وأما) ما روي عمرو بن دينار أن شيخا من أهل الشام أخبره أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دفن امرأة من أهل الكتاب في بطنها ولد مسلم في مقبرة المسلمين. أخرجه البيهقي بص 58 ج 4 (فقد) قال ابن المنذر: لا يثبت.
(2) تقدم برقم 665 ص 363 ج 7 – الدين الخالص (تعليم القبر بحجر أو غيره).
(3) انظر ص 58 ج 4 بيهقي (من كره أن يحفر له قبر غيره إذا كان يتوهم بقاء شيء منه مخافة أن يكسر له عظم) والحديث تقدم رقم 417 ص 227 ج 7 – الدين الخالص (من يتولى غسل الميت).(1/48)
... وجه الدلالة أن كسر العظم وشق الجوف في الحياة لا يجوز لاستخراج جوهرة وغيرها فكذا بعد الموت (ومشهور) مذهب مالك: أنه يشق بطنه إن ثبت- ولو بشاهد ويمين- أنه ابتلع مالا نصاب زكاة(1).
... (والصحيح) عند الشافعي: أنه يشق بطنه إن بلع مالا ليغره وطلبه صاحبه. وهو قول لأحمد، لأن فيه رفع الضرر عن المالك برد ماله إليه، وعن الميت بإبراء ذمته، وعن الورثة بحفظ التركة لهم. فعلى هذا الوجه إذا بلى جسده وغلب على الظن ظهور المال وتخليصه من أعضاء الميت جاز نبشه وإخراجه.
... (ففي حديث) عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "هذا قبر أبي رغال دفن معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه معه، فابتدره الناس فاستخرجوا الغصن" أخرجه أبو داود(2). {40}
... (وقيل) لا يشق بل تجب قيمته في تركته (أما) إذا بلع مالا لنفسه فوجهان مشهوران عند الشافعي: أحدهما يشق لأنه صار للورثة، والثاني لا يشق لأنه استهلكه في حياته فلم يتعلق به حق الورثة (ورد) بأنه لو كان مستهلكا
لما شق جوفه لمال الأجنبي. وحيث قلنا بشق جوفه وإخراج المال، فلو دفن قبل الشق نبش القبر لذلك.
__________
(1) انظر ص 174 ج 1 – الصاوي على صغير الدردير.
(2) انظر ص 148 ج 3 عون المعبود (نبش القبور العادية يكون فيها المال) وهذا بعض حديث تقدم تاما بص 277 و278 ج 3 – الدين الخالص (اتخاذ القبور مساجد). و(أبو رغال) بكسر الراء: أبو تقيف من ثمود. وهو غير أبي رغال الذي كان دليلا للحبشة حين توجهوا إلى الكعبة عام الفيل فمات في الطريق.(1/49)
... (وقالت) الحنبلية: إن بلع الميت مالا له لا يشق بطنه لأنه استهلكه في حياته(1)(وقيل) إنه إن كان يسيرا ترك، وإن كان كثيرا شق بطنه وأخرج، لأن فيه حفظ المال من الضياع ونفع الورثة الذين تعلق حقهم بماله بمرضه. وإن كان المال لغيره وابتلعه بإذنه فهو كماله، لأن صاحبه أذن في إتلافه، ولو كان في أذن الميت حلق أو في إصبعه خاتم نزع، فإن صعب نزعه برد وأخذ، لأن تركه تضييع للمال(2).
(15) نبش القبر
... يحرم نبش قبر ميت لدفن غيره لما فيه من هتك حرمة الميت. فلا يجوز دفن ميت في موضع ميت حتى يبلى الأول بحيث لا يبقى منه شيء من لحم أو عظم. فإذا بلى وصار ترابا جاز الدفن في موضعه اتفاقا. ولا يجوز أن يسوي عليه التراب ويعمر عمارة قبر جديد إن كان في مقبرة مسبلة لأنه يوهم الناس أنه قبر جديد فلا يدفنون فيه، بل يجب تركه على حاله ليدفن فيه من أراد الدفن. ويرجع في مدة البلى إلى أهل الخبرة، ولو حفر فوجد فيه عظام الميت لا يتمم حفره، ولو فرغ من حفره وظهر شيء من العظام جعل في جنب القبر ودفن الثاني معه، وكذا لو دعت الحالة إلى دفن الثاني مع العظام دفن معها(3).
... (قال) في المدخل: اتفق العلماء على أن الموضع الذي يدفن فيه المسلم وقف عليه ما دام شيء موجودا فيه حتى يفني، فإن فني جاز حينئذ دفن غيره فيه، فإن بقى شيء من عظامه فالحرمة باقية لجميعه.
__________
(1) انظر ص 301 ج 5 مجموع النووي.
(2) انظر ص 414 ج 2 معنى ابن قدامة.
(3) انظر ص 284 ج 5 مجموع النوي.(1/50)
... (قال) بعضهم: ولا يجوز أخذ أحجار المقابر العافية لبناء قنطرة أو دار ولا حرثها للزراعة، لكن لو حرثت جعل كراؤها في مؤن دفن الفقراء(1). وكذا يحرم نبش قبر من دفن وأهيل عليه التراب بلا صلاة بل يصلي على القبر عند الحنفيين والشافعي وروى عن أحمد. وعنه أنه ينبش ويصلي عليه لأنه دفن قبل واجب الصلاة كما لو دفن بلا غسل. أما من لم يهل عليه التراب فيخرج ويصلي عليه لأن هذا ليس نبشا(2). هذا، ويجوز عند مالك والشافعي وأحمد نبش القبر لغرض صحيح كتحسين الكفن، وغسل من دفن بلا غسل، وتوجيه من دفن لغير القبلة، وإخراج مال وقع في القبر أو ترك فيه إلا أن يخاف على الميت أن يتفسخ فيترك.
... (قال) جابر بن عبد الله: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبى بعد ما دفن فأخرجه فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه" أخرجه الشيخان والنسائي(3). ... ... ... ... ... ... ... {41}
__________
(1) انظر ص 174 ج 1 – الصاوي على صغير الدردير.
(2) انظر ص 298 ج 5 مجموع النووي.
(3) انظر ص 89 ج 3 فتح الباري (الكفن في القميص الذي يكف أو لا يكف) وص 121 ج 17 نووي (صفات المنافقين) وص 284 ج 1 مجتبي (إخراج الميت من اللحد بعد أن يوضع فيه).(1/51)
... (وقال) جابر بن عبد الله: "دفن مع أبي رجل فلم تطب نفسي حتى أخرجته فجعلته في قبر على حدة" أخرجه البخاري والنسائي والبيهقي(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {42}
... ففيه دليل على جواز نبش القبر لأمر يتعلق بالحي، لأنه لا ضرر على الميت في دفن ميت آخر معه. وقد بين جابر ذلك بقوله: فلم تطب نفسي. ولكن هذا إن ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن له بذلك أو أقره فيها وإلا فلا حجة في فعل الصحابي.
... (وقال) الحنفيون: لا ينبش القبر لما ذكر لأن النبش مثلة، وقد نهى عنها.
... (وأجاب) الأولون بأن النبش إنما يكون مثله في حق من تغير وهو لا ينبش قبره(2)وإن وقع في القبر ماله قيمة نبش وأخرج، فإذا نسى الحفار مسحاته في القبر جاز نبشه وإخراجها،فإن أعطاه أولياء الميت ثمنها لا ينبش(3)
... وإن دفن من غير كفن ففيه وجهان:
... (أحدهما) يترك لأن المقصود من الكفن ستره، وقد حصل بالتراب.
__________
(1) انظر ص 142 ج 3 فتح الباري (هل يخرج الميت من القبر واللحد لعلة؟) وص 284 ج 1 مجتبي. وص 57 ج 4 بيهقي (من حول الميت من قبره إلى آخر لحاجة). (والرجل) الذي دفن مع أبي جابر هو عمرو بين الجموح بن زيد كان صديق عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر، دفن معه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم (روى) محمد بن إسحاق عن أبيه عن أشياخ من الأنصار قالوا: أتى النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد بعبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح ممثلين فقال: ادفنوهما في قبر واحد فإنهما كانا متصاحبين في الدنيا.. أخرجه ابن أبي شيبة (أنظر ص 56 ج 8 – الفتح الرباني- الشرح).
(2) انظر ص 415 ج 2 مغنى ابن قدامة.
(3) وما روى أن المغيرة بن شيبة طرح خاتمة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: خاتمي، ففتح موضع منه فأخذ المغيرة خاتمة فكان يقول: أنا أقربكم عهدا بالنبي صلى الله عليه وسلم (فقد قال) النووي: حديث المغيرة ضعيف غريب (قال) الحاكم أبو أحمد: لا يصح. انظر ص 300 ج 5 مجموع النووي.(1/52)
... (الثاني) ينبش ويكفن لأن التكفين واجب فأشبه الغسل(1). وكذا يجوز نبش القبر إذا دفن في أرض مغصوبة ولم يرض صاحبها ببقائه فيها عند مالك والشافعي وأحمد.
... (وقال) الحنفيون: إذا دفن في أرض مغصوبة أو أخذت بعد دفنه بشفعة، فالمالك مخير بين إخراجه ومساواة القبر بالأرض والانتفاع بها بزرع ونحوه، لأن حقه في باطنها وظاهرها، فإن شاء ترك حقه في باطنها وإن شاء استوفاه(2). وإن كفن بثوب مغصوب فقيل تلزم قيمته من تركته ولا ينبش لما فيه من هتك حرمته مع إمكان دفع الضرر بدونها. وقيل: ينبش إذا كان الكفن باقيا بحاله ليرد إلى مالكه، وإن كان باليا لزم قيمته من تركته، فإن أذن المالك في الدفن في أرضه ثم أراد إخراجه لا يملك ذلك، لأن فيه ضررا بالميت وإن بلى وعاد ترابا فلصاحب الأرض أخذها، وكل موضع أجيز نبشه لحرمة مالك الآدمي فالمستحب تركه احتراما للميت(3).
... (وجملة) القول أنه يجوز نبش القبر- لسبب شرعي- إذا بلى الميت وصار ترابا، وحينئذ يجوز دفن غيره فيه وزرع أرضه والبناء وسائر وجوه الانتفاع، وإن كانت عارية رجع فيها المعير، وهذا كله إذا لم يبق للميت أثر من عظم أو غيره، ويختلف ذلك باختلاف البلاد والأرض. والمعتمد فيه قول أهل الخبرة بها(4).
(16) نقل الميت
__________
(1) انظر ص 416 ج 2 مغنى ابن قدامة.
(2) انظر ص 472 ج 1 فتح القدير للكمال ابن الهمام.
(3) انظر ص 416 ج 2 مغنى ابن قدامة.
(4) انظر ص 303 ج 5 مجموع النووي.(1/53)
... يحرم عند الحنفيين إخراج الميت ونقله من قبره بعد دفنه إلا لعذر مما تقدم، ولذا لم ينقل كثير من الصحابة وقد دفنوا بأرض الحرب إذ لا عذر. ولو مات ابن لامرأة ودفن في غير بلدها وهي غائبة ولم تصبر وأرادت نقله لا تجاب إلى ذلك(1)، أما إذا أرادوا نقله قبل الدفن أو تسوية اللبن فلا بأس بنقله نحو ميل أو ميلين لأن المسافة إلى المقابر قد تبلغ هذا المقدار. أما نقله من بلد إلى بلد فمكروه عند الحنفيين. والمستحب أن يدفن كل في مقبرة البلد التي مات بها(2).
... ( روى ) ابن جريج عن عبد الله بن أبي مليكة أنه لما توفى عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما بالحبشى حمل إلى مكة فدفن بها . فلما قدمت عائشة رضي الله عنها أتت قبره وقالت : " والله لو حضرتك ما دفنت إلا حيث مت ولو شهدت ما زرتك " أخرجه الترمذي بسند رجله ثقات ، إلا أن ابن جريح مدلس وقد رواه بالعنعنة(3). {43}
... (وعن عروة) بن رويم أن أبا عبيدة بن الجراح هلك بفحل فقال: "ادفنوني خلف النهر، ثم قال: ادفنوني حيث قبضت" أخرجه البيهقي(4). ... ... ... ... ... ... ... ... ... {44}
__________
(1) لا تجاب إلى ذلك) فتجويز شواذ بعض المتأخرين ذلك لا يلتفت إليه (انظر ص 472 ج 1 فتح القدير لابن الهمام).
(2) انظر ص 472 ج 1 منه.
(3) أنظر ص 157 ج 3 تحفة الأحوذى (زيارة القبور للنساء) و(الحبشي) بضم فسكون فكسر فشد الياء: موضع بينه وبين مكة اثنا عشر ميلا.
(4) انظر ص 85 ج 4 بيهقي (من كره نقل الموتى من أرض إلى أرض) و(فحل) بكسر فسكون: موضع بالشام كانت فيه وقعة للمسلمين مع الروم بعد فتح دمشق (قال) الحموى في المعجم: وأظنه عجميا لم أره في كلام العرب قتل فيها ثمانون ألفا من الروم.(1/54)
... (وقال) بعض الحنفيين: لا بأس بنقله من بلد إلى بلد قبل الدفن إذا أمن تغير رائحته (روى) أن سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد ماتا بالعقيق فحملا إلى المدينة ودفنا بها. أخرجه مالك في الموطأ(1). ... ... {45}
... (وقال) داود بن قيس: حدثتني أمي أن سعد بن أبي وقاص مات بالعقيق على نحو من عشرة أميال، فرأيته حمل على أعناق الرجال حتى أتى به فأدخل المسجد فوضع عند بيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفناء الحجر، فصلى عليه الإمام وصليت عليه بصلاة الإمام. أخرجه البيهقي(2). ... ... ... ... ... {46}
... (وقالت) المالكية: يجوز نقل الميت من مكان إلى آخر قبل دفنه وبعده لمصلحة كأن يخاف عليه أن يأكله البحر أو السبع وكرجاء بركته للمكان المنقول إليه أو لزيارة أهله أو لدفنه بينهم ونحو ذلك. فالنقل حينئذ جائز ما لم تنتهك حرمة الميت بانفجاره أو نتانته أو كسر عظمه(3).
... (والمعتمد) عند الشافعية: أنه يحرم نقل الميت من بلد إلى بلد إلا أن تكون بقرب مكة أو المدينة أو بيت المقدس فيجوز النقل إليها لفضل المكان. ويحرم نقله من القبر إلا لغرض صحيح كما تقدم. ولو أوصى بنقله إلى غير الحرمين وبيت المقدس لم تنفذ وصيته لأن الشرع أمر بتعجيل دفنه، وفي نقله تأخيره وانتهاكه من وجوه وتعرضه للتغير وغيره.
__________
(1) انظر ص 18 ج 2 زرقاني على الموطأ (دفن الميت) و(العقيق) موضع قيل على ثلاثة أميال أو سبعة أو عشرة من المدينة نحو نجد.
(2) انظر ص 57 ج 4 بيهقي (من لم ير بالنقل بأسا).
(3) انظر ص 171 ج 1 صغير الدردير.(1/55)
... (قال) جابر بن عبد الله: "كنا حملنا القتلى يوم أحد لندفنهم فجاء منادى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تدفنوا القتلى في مضاجعهم فرددناهم" أخرجه أحمد والأربعة والبيهقي بأسانيد صحيحة. وقال الترمذي: حسن صحيح(1). ... ... ... ... ... ... ... ... {47}
... وإذا لحق القبر سيل أو نداوة يجوز نقله على الأصح عندهم (لما) في حديث جابر بن عبد الله قال: "دفن مع أبي يوم أحد آخر في قبر ثم لم تطب نفسي أن أتركه من الآخر فاستخرجته بعد ستة أشهر فإذا هو كيوم وضعته غير هنية في أذنه" أخرجه البخاري والبيهقي(2). ... ... ... ... ... ... ... {48}
... (وقالت) الحنبلية: لا يجوز نقل الشهداء لما تقدم عن جابر. ويجوز نقل غيرهم ولو بعد الدفن إلى بقعة خير من بقعته ولحاجة كإفراده عمن دفن معه (لقول) جابر: "دفن مع أبي رجل فكان في نفسي من ذلك حاجة، فأخرجته بعد ستة أشهر فما أنكرت منه شيئا إلا شعيرات كن في لحيته مما يلي الأرض" أخرجه أبو داود والبيهقي(3). {49}
__________
(1) أنظر ص 326 ج 8 – المنهل العذب المورود (الميت يحمل من أرض إلى أرض) وص 282 ج 1 مجتبي (أين يدفن الشهيد؟) وص 238 ج 1- ابن ماجه (ما جاء في الصلاة على الشهداء ودفنهم) وص 57 ج 4 بيهقي (من كره نقل الموتى من أرض إلى أرض) وص 303 ج 5 مجموع النووي.
(2) انظر ص 141 ج 3 فتح الباري (هل يخرج الميت من القبر واللحد لعلة؟) وص 57 ج 4 بيهقي (من حول الميت من قبره إلى آخر لحاجة). (وهنية) تصغير هنة، أي شيء يسير.
(3) انظر ص 89 ج 9 – المنهل العذب المورود (تحويل الميت من موضعه). وص 58 ج 4 بيهقي (والشعيرات) جمع شعيرة: تصغير شعرة للتقليل.(1/56)
... (وقال) أحمد: ما أعلم بنقل الرجل يموت في بلده إلى بلد أخرى بأسا. وقال الزهري: قد حمل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من العقيق إلى المدينة، وحمل أسامة بن زيد من الجرف. أخرجه البيهقي(1). وهذان موضعان قريبان لا يتغير الميت بالنقل إلى مثلهما. أما إذا كان المكان بعيدا يخشى من النقل إليه تغير الميت فلا يجوز نقله اتفاقا، لأن تعريض الميت للتغيير حرام.
(17) إعداد القبر
... لا بأس أن يعد الإنسان لنفسه قبرا في أرض مملوكة له أو في مقبرة غير مسبلة ويوصى بدفنه فيه ( قال ) أحمد : لا بأس أن يشتري الرجل موضع قبره ويوصى أن يدفن فيه . وعن عثمان وعائشة وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم أنهم فعلوا ذلك . ويحرم حفره في مقبرة مسبلة قبل وقت الدفن واتخاذ قبر فيها ليدفن فيه(2). ( وقالت ) المالكية : يحرم البناء في مقبرة موقوفة وإعداد القبر حال الحياة . وترب مصر كالملك فيجوز إعداد القبر فيها(3).
(18) وضع الجريد على القبر
__________
(1) انظر ص 57 ج 4 بيهقي (من لم ير بالنقل بأسا). و(الجرف) بضم فسكون: موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام.
(2) انظر ص 413 ج 1 كشاف القناع. وص 390 مغني ابن قدامة.
(3) انظر ص 167 ج 1 مجموع الأمير.(1/57)
... قيل: لا بأس بما اعتيد من وضع الريحاني والجريد على القبور، لظاهر (حديث) ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين يعذبان، فقال: "إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة. ثم أخذ جريدة رطبة فشقها بنصفين ثم غرز في كل قبر واحدة. فقالوا: يا رسول الله لم صنعت هذا؟ فقال: لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا" أخرجه السبعة وقال الترمذي: حسن صحيح، غير أنه لم يذكر وضع الجريد(1). ... ... ... ... ... ... ... {50}
... ( وقال ) مورق العجلي : " أوصى بريدة الأسلمي أن يجعل في قبره جريدتان " أخرجه ابن سعد موصولا، والبخاري معلقا(2)أمر بريدة أن يغرزا في ظاهر القبر اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في وضعه الجريدتين على القبرين(5) . ( وقال ) الجمهور : ليس في الحديث ما يدل على استحباب وضع الجريد على القبر لأنه واقعة حال لا تفيد العموم.
__________
(1) انظر ص 127 ج 8- الفتح الرباني (عذاب عصاة المؤمنين في القبر وما يخففه عنهم) وص 146 ج 3 فتح الباري (الجريد على القبر) وص 200 ج 3 نووي (نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه) وص 78 ج 1 – المنهل العذب المورود (الاستبراء من البول) وص 291 ج 1 مجتبي (وضع الجريدة على القبر) وص 74 ج 1 – ابن ماجه (التشديد في البول) و(بنصفين) أي شقها نصفين، فالباء زائدة للتأكيد. و(غرز) بالزاي وفي رواية بالسين.
(2) 4 و5) انظر ص 145 ج 3 فتح الباري (الجريد على القبر). و(مورق) بضم ففتح فكسر الراء مشددة.(1/58)
... (قال) الخطابى: وأما غرسه صلى الله عليه وسلم شق الجريد على القبر، وقوله: "لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا" فإنه من ناحية التبرك بأثر التبرك بأثر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ودعائه بالتخفيف عنهما، وكأنه صلى الله عليه وسلم جعل مدة بقاء النداوة فيهما حدا لتخفيف العذاب عنهما، وليس ذلك من أجل أن في الجريد الرطب معنى ليس في اليابس. والعامة في كثير من البلدان تفرش الخوص في قبور موتاهم، وأراهم ذهبوا إلى هذا وليس لما تعاطوه من ذلك وجه(1).
... ويؤيده أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة غير بريدة ولا سيما الخلفاء الراشدين أنه وضع جريدا ولا غيره
على القبور، ولو كان ذلك سنة ما تركه أولئك الأئمة.
... (وفي حديث) العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ" (الحديث) أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والترمذي وقال: حسن صحيح(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... {51}
__________
(1) انظر ص 19 ج 1 معالم السنن (الاستبراء من البول).
(2) انظر ص 188 ج 1 – الفتح الرباني (الاعتصام بسنته صلى الله عليه وسلم) وص 10 ج 1 – ابن ماجه (اتباع سنة الخلفاء الراشدين) وص 24 ج 1 تيسير الوصول (الاستمساك بالكتاب والسنة) و(الخلفاء) قيل: هم الأئمة الأربعة رضي الله عنهم. وقيل: بل هم ومن سار بسيرتهم من المجتهدين فإنهم خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم. و(عضوا عليها بالنواجذ) بالذال المعجمة وهي الأضراس، والمراد الحث على الاستمساك بالسنة كالاستمساك بالشيء بين الأضراس.(1/59)
... (قال) الحافظ ابن حجر: وكأن بريدة حمل الحديث على عمومه ولم يره خاصا بذينك الرجلين. ويظهر من تصرف البخاري أن ذلك خاص بهما، فلذا عقبه بقوله: ورأى ابن عمر رضي الله عنهما فسطاطا على قبر عبد الرحمن ابن أبي بكر فقال: انزعه يا غلام فإنما يظله عمله(1).
... (هذا) ووصية بريدة ليست حجة على غيره. فما قاله الخطابي ومن نحا نحوه هو الأولى ولا سيما أن غالب الناس يعتقد في وضع هذا الجريد ونحوه اعتقادا تأباه الشريعة المطهرة كما هو معروف من حالهم. نسأل الله السلامة والهداية.
(الشهيد)
أفرد يبحث لاختصاصه بفضيلة وأحكام.
... والكلام فيه ينحصر في سبعة فروع:
... (أ) تعريفه: هو لغة فعيل بمعنى فاعل لأنه شاهد، أي حي حياة خاصة في قبره ولأنه يشهد رحمة الله تعالى، أو بمعنى مفعول أنه مشهود له بالجنة ولأن الملائكة تشهد موته إكراما له. واختلف العلماء فيه عرفا.
... (فقال) الحنفيون: الشهيد شرعا هو مسلم مكلف طاهر قتله أهل الحرب مباشرة أو تسببا، أو قتله البغاة أو قطاع الطريق ولو بغير آلة جارحة، أو وجد ميتا في المعركة وبه أثر جراحة- كخروج الدم من موضع لم يعتد خروجه منه كالعين والأذن، لا من الأنف أو الدبر- ولم يرتفق بشيء من مرافق الحياة بعد الجرح- كأكل وشرب ونوم وعلاج- ونقله حيا من المعركة لغير خوف عليه من وطء الأقدام- أو قتل ظلما ولم يجب بقتله دية(2).
__________
(1) انظر ص 145 ج 3 فتح الباري (الجريدة على القبر) وفيه: وهذا الأثر وصله ابن سعد من طريق أيوب بن عبد الله بن يسار قال: مر عبد الله بن عمر على قبر عبد الرحمن بن أبي بكر وعليه فسطاط مضروب، فقال: يا غلام انزعه فإنه يظله عمله. قال الغلام: تضربني مولاتي. قال: كلا. فنزعه.
(2) قتل ظلما) أي لا حدا ولا قصاصا (ولم يجب بقتله دية) خرج القتل خطأ والقتل بغير محدد فإن الواجب فيه الدية عند النعمان.(1/60)
... (وقالت) المالكية والشافعية: الشهيد مسلم مات حال قتال الكفار سواء أقتله كافر أم أصابه سلاح مسلم خطأ أم عاد إليه سلاح نفسه أو سقط عن فرسه أم ضربته دابة فمات أم أصابه سهم لا يعرف هل رماه مسلم أو كافر أم وجد قتيلا عند انكشاف الحرب ولم يعلم سبب موته، سواء أكان عليه أثر دم أم لا، وسواء مات في الحال أم تأخر ثم مات بذلك السبب قبل انقضاء الحرب، وسواء أكل أم شرب أم وصى أم لم يفعل شيئا من ذلك، لا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة والصبي والصالح والفاسق. فإذا انقضت الحرب ولا ترجى حياته فهو شهيد، وإن كانت ترجى حياته فليس بشهيد.
... (وبنحوه) قالت الحنبلية، غير أنهم قالوا: إن مات في دار الحرب حتف أنفه أو عاد إليه سيفه فقتله، أو وجد ميتا ولا أثر به، أو حمل بعد جرحه فأكل أو شرب أو نام أو بال أو تكلم أو عطش أو طال بقاؤه عرفا غسل وسلى عليه وجوبا. ومن قتل مظلوما إن قتله الكفار صبرا في الحرب ألحق بشهيد المعركة فلا يغسل ولا يصلي عليه.
... (ب) تجهيز الشهيد:
... الشهيد لا يغسل، ويكفن في ثيابه الصالحة للكفن اتفاقا. ولا يصلي عليه عند مالك والشافعي والجمهور، وهو الأصح عن أحمد (لحديث) جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قتلى أحد: "لا تغسلوهم فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكا يوم القيامة، ولم يصل عليهم" أخرجه أحمد(1). ... ... {52}
__________
(1) انظر ص 159 ج 7 – الفتح الرباني (ترك غسل الشهيد).(1/61)
... وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: "أيهما أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة" وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا ولم يصل عليهم" أخرجه البخاري والأربعة وإلا أبا داود وصححه الترمذي(1). {53}
... وقال: قد اختلف أهل العلم في الصلاة على الشهيد، فقال بعضهم: لا يصلي على الشهيد، وهو قول أهل المدينة وبه يقول الشافعي وأحمد. وقال بعضهم: يصلي على الشهيد، واحتجوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على حمزة، وهو قول الثوري وأهل الكوفة وبه يقول إسحاق. والأصح عند الشافعية أن الخلاف في منع الصلاة على الشهيد. وقيل الخلاف عندهم في الاستحباب، وهو المنقول عن الحنابلة (قال) أحمد: الصلاة على الشهيد أجود وإن لم يصلوا عليه أجزأ(2).
... (وحكمة) عدم غسل الشهيد بقاء الدم ورائحته لأنه أثر طاعة يبعث عليها. والصلاة تابعة للغسل (قال) الشافعي في الأم: لعل ترك الغسل والصلاة لأن يلقوا الله بكلومهم لما جاء أن ريح دمهم ريح المسك. واستغنوا بإكرام الله لهم عن الصلاة عليهم مع التخفيف على من بقى من المسلمين لما يكون فيمن قاتل من جراحات وخوف عودة العدو رجاء طلبهم وهمهم بأهلهم وهم أهلهم بهم(3).
__________
(1) انظر ص 136 ج 3 فتح الباري (الصلاة على الشهيد) وص 277 ج 1 مجتبي (ترك الصلاة عليهم) وص 147 ج 2 تحفة الأحوذي (ترك الصلاة على الشهيد) وص 238 ج 1 – ابن ماجه (الصلاة على الشهداء) و(في ثوب واحد) بأن يجمعهما في ثوب أو يقطعه بينهما للضرورة (ولم يصل عليهم) بفتح اللام لقوله ولم يغسلوا. وفي رواية للبخاري: وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يصل عليهم (بكسر اللام) ولم يغسلهم (أي لم يفعل ذلك بنفسه ولا بأمره). انظر ص 139 ج 3 فتح الباري.
(2) انظر ص 126 ج 3 فتح الباري (الصلاة على الشهيد).
(3) انظر ص 264 ج 5 مجموع النووي.(1/62)
... (وقال) الحنفيون: يصلي على الشهيد بلا غسل، وروى عن أحمد (لقول) عطاء بن أبي رباح "إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد" أخرجه أبو داود مرسلا وأخرجه الواقدي في المغازي عن عطاء عن ابن عباس(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {54}
... (وعن) أبي حماد الحنفي عن ابن عقيل عن جابر قال: جئ بحمزة فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ثم جئ بالشهداء فيوضعون إلى جانب حمزة فصلى عليهم ثم يرفعون ويترك حمزة حتى صلى على الشهداء كلهم (الحديث) أخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد(2). ... ... ... ... ... ... ... {55}
... ( وروى ) عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ، ثم انصرف إلى المنبر فقال : " إني فرط لكم وأنا شهيد عليكم " ( الحديث ) أخرجه الشيخان(3). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {56}
... (وأجاب) الأولون: (أولا) عن أحاديث الصلاة على الشهيد بأن المراد بالصلاة فيها الدعاء (ويرده) قوله في حديث عقبة: صلاته على الميت.
__________
(1) انظر ص 46 مراسيل. وص 313 و314 ج 2 نصب الراية.
(2) انظر ص 119 ج 2 مستدرك. وص 309 ج 2 نصب الراية (وأبو حماد) مفضل بن صدقة- وإن ضعفه يحي بن معين والنسائي- فقد وثقه ابن مسلم وأثنى عليه أحمد بن محمد ابن شعيب ثناء تاما. وقال ابن عدى: ما أرى به بأسا.
(3) انظر ص 36 ج 3 فتح الباري (الصلاة على الشهيد) وص 57 ج 15 نووي (حوض نبينا صلى الله عليه وسلم- الفضائل) و(الفرط) بفتحتين السابق. و(الحديث) تمامه: وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض- أو مفاتيح الأرض- وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها.(1/63)
... (وثانيا) بأن هذا خاص بشهداء أحد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليهم بعد ثمان سنين (ورد) بأن هذا لا يدل على الخصوصية لأن الحنفيين يقولون بمشروعية الصلاة على قبر من دفن بلا صلاة ما لم يظن تفسخه ومعلوم أن الشهداء لا يبلون، فالصلاة عليهم يقول بها الحنفيون.
... فالراجح القول بوجوب الصلاة على الشهيد، لأن أحاديث الصلاة قد شد من عضدها كونها مثبتة والإثبات مقدم على النفي. ومن مرجحات الإثبات هنا أنه لم يرو النفي إلا أنس وجابر(1)، وهما قد رويا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على حمزة(2)، فقد وافقا غيرهما في مشروعية الصلاة على الشهيد في تلك الواقعة. ويبعد كل البعد أن يخص النبي صلى الله عليه وسلم بصلاته حمزة لمزية القرابة ويدع بقية الشهداء.
... (جـ) الشهيد غير المكلف:
__________
(1) حديث أنس في عدم الصلاة على الشهيد هو ما حدث أن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل عليهم. أخرجه أو داود والبيهقي والترمذي وقال حسن غريب (أنظر ص 290 ج 8 – المنهل العذب المورود) وص 10 ج 4 بيهقي (وحديث) جابر تقدم رقم 52 و53 انظر ص 54.
(2) حديث جابر في الصلاة على الشهيد تقدم رقم 56 و(حديث) أنس هو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بحمزة وقد مثل به. ولم يصل على أحد من الشهداء غيره. أخرجه أبو داود (أنظر ص 297 ج 8 – المنهل العذب المورد) وأخرجه البيهقي مطولا وقال: هذه اللفظة "ولم يصل على أحد من الشهداء غيره" ليست محفوظة (أنظر ص 11 ج 4 بيهقي).(1/64)
... إن كان الشهيد صبيا أو مجنونا لا يغسل كغيره عند مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد، لعموم حديث عبد الله بن ثعلبه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقتلى أحد: "زملوهم بدمائهم فإنه ليس كلم يكلم في الله إلا يأتي يوم القيامة يدمى: لونه لون الدم وريحه ريح المسك" أخرجه النسائي(1). ... ... ... ... {57}
... لم يفصل بين المكلف وغيره (وقال) النعمان: لا يثبت حكم الشهادة لغير المكلف لأنه ليس من أهل القتال فيغسل ويصلي عليه. (ورد) بأن النساء يعتبرن من الشهداء ولسن من أهل القتال.
... (د) الشهيد غير الطاهر:
... يعني الجنب والحائض ومن أصابته نجاسة- دلت الأحاديث السابقة على أن الشهيد لا يغسل ولو مات جنبا. وبه قالت المالكية وبعض الشافعية وأبو يوسف ومحمد (وقال) النعمان والحنبلية وبعض الشافعية: إذا مات الشهيد جنبا يغسل لأنه غسل وجب بغير الموت فلا يسقط بالموت كغسل النجاسة.
... (ولحديث) ابن الزبير رضي الله عنهما أن حنظلة بن أبي عامر قتل- يعني في غزوة أحد- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن صاحبكم حنظلة تغسله الملائكة فاسألوا صاحبته، فقالت: خرج وهو جنب لما سمع الهائعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لذلك غسلته الملائكة" أخرجه البيهقي وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم وسنده جيد(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {58}
... (وقال) ابن عباس رضي الله عنهما: أصيب حمزة بن عبد المطلب وحنظلة ابن الراهب وهما جنب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "رأيت الملائكة تغسلهما" أخرجه الطبراني في الكبير بسند حسن(3). ... ... {59}
__________
(1) انظر ص 282 ج 1 مجتبي (مواراة الشهيد في دمه) و(الكلم) بفتح فسكون: الجرح. و(يدمى) كيرضي.
(2) انظر ص 15 ج 4 بيهقي (الجنب يستشهد في المعركة) وص 204 ج 3 مستدرك و(الهائعة) الصوت الشديد يدعو إلى الحرب.
(3) انظر ص 23 ج 3 مجمع الزوائد (من يجنب ثم يموت قبل أن يغتسل).(1/65)
... (قال) الحافظ: وهو غريب في ذكر حمزة (وأجاب) الأولون بأن غسله للجناية لو كان واجبا ما سقط بغسل الملائكة، ولأمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسله، ولهذا احتج القاضي حسين والبغوي بهذا الحديث لترك الغسل.
... هذا، والمرأة إذا طهرت من حيض أو نفاس ثم قتلت فهي كالجنب، ولو قتلت في حيضها أو نفاسها لم يجب الغسل لأن الطهر من الحيض شرط في الغسل فلا يثبت الحكم بدونه. وإذا أسلم الرجل ثم استشهد فلا غسل عليه لأنه روى أن أصيرم بن عبد الأشهل أسلم يوم أحد ثم قتل فلم يؤمن بغسله(1).
... (فائدة) لو أصابت الشهيد نجاسة لا بسبب الشهادة، لزم غسلها عند الجمهور وهو الأصح عند الشافعي لأنها ليست من آثار الشهادة (وقال) بعض الشافعية: إن أدى غسلها إلى إزالة دم الشهادة لم تغسل وإلا غسلت.
... (هـ) كفن الشهيد:
... يكفن في ثيابه الصالحة للكفن ويكمل إن نقص ما عليه عن كفن السنة، وينقص ما زاد عن الثلاث اتفاقا (لحديث) عبد الله بن ثعلبه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد: "زملوهم في ثيابهم" أخرجه أحمد وكذا النسائي بلفظ: زملوهم بدمائهم. ورجاله رجال الصحيح(2). ... ... ... ... ... ... {60}
__________
(1) انظر ص 402 ج 2 مغني ابن قدامة.
(2) انظر ص 186 ج 7 – الفتح الرباني (تكفين الشهيد في ثيابه) وص 282 ج 1 مجتبي (مواراة الشهيد في دمه) وتقدم عنده تاما رقم 57 (وزملوهم) بشد الميم، أي لفوهم وغطوهم (بدمائهم) أي في ثيابهم الملطخة بالدم بلا غسل.(1/66)
... وينزع عن الشهيد ما لا يصلح للكفن كالفرو والقلنسوة والخف والنعل والسلاح والدرع والجلد والنقاب عند الحنفيين والشافعي وأحمد (لقول) ابن عباس رضي الله عنهما: "أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم" أخرجه أبو داود وابن ماجه، وفي سنده على بن عاصم- تكلم فيه غير واحد- عن عطاء بن السائب وفيه مقال. وقد حدث به بعد الاختلاط(1). ... ... ... ... {61}
... (وقال) مالك: لا ينزع عنه شيء مما ذكر، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ادفنوهم بدمائهم وثيابهم". (ورد) بأن الخف والخاتم والمنطقة ونحوها لا يعد من الثياب.
... هذا، ويجب عند الحنفيين ومالك دفن الشهيد بثيابه، لظاهر الأمر بدفنه بما قتل فيه (وقال) الشافعي وأحمد: يستحب دفنه بثيابه ويجوز تكفينه بغيرها لما تقدم أن صفية أخرجت ثوبين ليكفن فيهما حمزة رضي الله عنه، فكفن في أحدهما وكفن في الآخر رجل من الأنصار(2)(وأجاب) الأولون بأنه لم يكن على حمزة والأنصاري ما يصلح للكفن فكفن كل بثوب.
... (و) من لا يعتبر شهيدا:
... هو من لا يشمله تعريف الشهيد، وهو خمسة أنواع:
( 1 ) من مات في معترك الكفار فجأة أو بمرض فلا يعد شهيدا فيغسل ويكفن في غير ثيابه ويصلي عليه عند الثلاثة، وهو الصحيح عند الشافعي، لأنه لم يقتله المشركون ولا قتل بسببهم.
( 2 ) من قتله مسلم عمدا ولو باغيا أو قاطع طريق أو لصا فلا يعد شهيدا عند الثلاثة (وقال) الحنفيون: إنه شهيد لأنه قتل ظلما ولم تجب فيه دية فيصلي عليه بلا غسل.
( 3 ) من وجد ميتا بعد الحرب وليس به أثر جراحة فلا يعد شهيدا عند الحنفيين وأحمد لعدم ما يدل على قتله، خلافا لمالك والشافعي.
(
__________
(1) انظر ص 289 ج 8 – المنهل العذب المورود (الشهيد يغسل) وص 238 ج 1 ابن ماجه (الصلاة على الشهداء ودفنهم).
(2) انظر رقم 464 ص 262، 263 ج 7 – الدين الخالص (كفن الضرورة).(1/67)
4 ) من رفسته دابة في حرب المشركين أو عاد إليه سلاحه أو تردى عن جبل أو في قبر في حال المطاردة، فلا يعد شهيدا، فيغسل ويصلى عليه عند الحنفيين ومالك وأحمد، لأنه لم يقتله المشركون (وقال) الشافعي: يعد شهيدا فلا يغسل ولا يصلى عليه لأنه مسلم قتل في معركة المشركين بسبب قتالهم(1).
( 5 ) من مات بغير حرب الكفار- كالمبطون والمطعون والغريق والغريب والميتة في الطلق ومن قتله مسلم أو غيره في غير حال القتال ونحوهم- فهؤلاء ليسوا بشهداء فيغسلون ويصلى عليهم اتفاقا. ولفظ الشهادة الوارد فيهم- كما سيأتي – المراد به أنهم شهداء الآخرة لا المعركة.
(ز) أقسام الشهداء: أقسامه ثلاثة:
... (1) شهيد الدنيا والآخرة: وهو من مات في المعركة في حرب الكفار أو البغاة على ما تقدم بيانه ولم يراء ولم يخن في الغنيمة ولم يقتل مدبرا عن القتال، وهم أحياء في البرزخ حياة خاصة.
__________
(1) انظر ص 167 ج 5 مجموع النووي.(1/68)
... قال تعالى: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون* فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون* يستبشرون بنعمة من الله وفضل أن الله لا يضيع أجر المؤمنين"(1).
__________
(1) سورة آل عمران: آيات 169 و170 و171 (قال) الجمهور حياة الشهداء حياة محققة ترد إليهم أرواحهم في قبورهم فينعمون ويرزقون من ثمر الجنة ويجدون ريحا وليسوا فيها. (وقيل) إنها حياة مجازية. والمعنى أنهم مستحقون للتنعيم في الجنة. والصحيح الأول. ولا موجب للمصير إلى المجاز لأن ما صح به النقل فهو الواقع. وقد وردت السنة بأن أرواحهم في حواصل طيور وأنهم يرزقون في الجنة ويأكلون ويتنعمون (عند ربهم) أي في كرامته فهي عندية الكرامة لا عندية المسافة والقرب. و(يرزقون) الرزق المعروف فهم يأكلون من ثمار الجنة. وقيل المراد بالرزق الثناء الجميل، والصحيح الأول لما سبق. و(فرحين بما آتاهم الله من فضله) أي هم مسرورون بما ساقه الله إليهم من الكرامة بالشهادة وما صاروا فيه من حياة طيبة وما يصل إليهم من رزق الله تعالى (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) أي يفرحون بما أعطاهم، وبما أعد لإخوانهم الشهداء وغيرهم الذين لم يموتوا بعد لأنهم لما عاينوا ثواب الله وما أعده الله للمسلمين وتيقنوا بحقية دين الإسلام، استبشروا بذلك لجميع أهل الإسلام وإن لم يقتلوا فهم فرحون بأنفسهم بما أعطاهم الله مستبشرين للمؤمنين بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. و(يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) كرر يستبشرون للتأكيد ولبيان أن الاستبشار ليس لمجرد عدم الخوف والحزن بل به وبنعمة من الله وهي الجنة والمغفرة. والفضل من النعمة ذكر بعدها للتأكيد. وفيه دليل على اتساع النعمة وأنها ليست كنعم الدنيا، فهم يستبشرون بنعمة الله عليهم وبأن الله لا يضيع أجر المؤمنين..وقد ورد في هذا أحاديث تقدم منها حديث مسروق عن عبد الله رقم 325 ص 188 ج 7 – الدين الخالص، وحديث ابن عباس رقم 329 ص 190 منه (مصير الروح بعد خروجها).(1/69)
... وقد ورد في فضلهم أحاديث (منها) حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الشهداء على بارق- نهر بباب الجنة- في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا" أخرجه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط بسند رجاله ثقات ، والحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم(1). ... ... ... ... {62}
... (2) شهيد الدنيا فقط: وهو المقتول في حرب الكفار وقد خان في الغنيمة أو قاتل رياء أو قتل مدبرا فله حكم الشهادة في الدنيا فلا يغسل ويصلى عليه عند الحنفيين، ولا يصلي عليه عند غيرهم على ما تقدم، ولا ثواب له على الشهادة في الآخرة.
__________
(1) تقدم رقم 231 ص 191 ج 7 – الدين الخالص (مصير الروح بعد خروجها). و(بكرة وعشيا) أي تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل إليهم الروح والفرح كما تعرض النار على آل فرعون غدوا وعشيا فيصل إليهم الوجع والحزن. وهو يدل على أن الأرواح جواهر قائمة بنفسها تبقى بعد الموت مدركة على ما تقدم. وتخصيص الشهداء بما ذكر لاختصاصهم بمزيد البهجة والكرامة. وهذا لا ينافى أن نميم القبر وعذابه كما يكون للروح يكون للجسد لأن للروح اتصالا به.(1/70)
... (3) شهيد الآخرة فقط : بمعنى أن له ثوابا خاصا، وهو من مات في الطاعون والغريق والمبطون وغيرهم ممن ذكروا في أحاديث ( منها ) حديث جابر ابن عتيك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله : المطعون شهيد، والغرق شهيد ، وصاحب ذات الجنب شهيد ، والمبطون شهيد ، وصاحب الحريق شهيد ، والذي يموت تحت الهدم شهيد ، والمرأة تموت بجميع شهيدة" أخرجه مالك وأحمد وأربعة إلا الترمذي بسند صحيح(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {63}
(وحديث) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول الله، من قتل في سبيل الله فهو شهيد. قال: إن شهداء أمتي إذا لقليل. قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد، والغريق شهيد" أخرجه مسلم(2). ... ... ... ... ... ... ... {64}
__________
(1) انظر ص 243 و 244 ج 8 – المنهل المورود (فضل من مات بالطاعون) و ص 96 ج 2 – ابن ماجه (ما يرجى فيه من الشهادة) وص 67 ج 2 مجتبي (آخر الجهاد) و(المطعون) من مات بالطاعون. و(الغرق) بفتح فكسر، أي الغريق، ومحل كونه شهيدا ما لم يكن ألقى بنفسه في الماء. و(ذات الجنب) القروح تصيب الإنسان داخل جنبه وينشأ عنه حمى لازمة وسعال. وقد تقدم بيانها وطريق مداواتها بالقسط والزيت. انظر ص 40 ج 7 – الدين الخالص. و(المبطون) الذي يموت بمرض البطن كإسهال أو استسقاء. و(المرأة تموت بجمع) بتثليت الجيم والضم أشهر: هي التي ماتت وفي بطنها ولدها أو ماتت عند الولادة أو التي تموت بكرا. وجمع بمعنى مجموع، أي أنها ماتت مع شيء فيها غير منفصل عنها من حمل أو بكارة.
(2) انظر ص 62 ج 3 نووي (بيان الشهداء). و(في سبيل الله) أي طاعته كصلاة وذكر وقراءة قرآن ودراسة علم.(1/71)
... (وحديث) سعيد بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل دون ماله فهو شهيد. ومن قتل دون دمه فهو شهيد. ومن قتل دون دينه فهو شهيد. ومن قتل دون أهله فهو شهيد" أخرجه أحمد والأربعة وابن حبان وصححه الترمذي. وأخرج البخاري صدره من حديث ابن عمرو(1). ... ... ... ... ... ... {65}
... ذكر في هذه الأحاديث ثلاثة عشر شهيدا. وقد أجتمع للحافظ ابن حجر من الطرق الجيدة أكثر من عشرين ليسوا في المرتبة سواء(2).
... هذا، ويتصل بما يتعلق بالميت أربعة أصول:
(أ) التعزية
... هي من العزاء- بالفتح والمد- لغة: الصبر الحسن، وشرعا: تسلية المصاب وحثه على الصبر والرضا بالقدر، فإنه لابد للإنسان من أمر يمتثله ونهي يجتنبه وقدر يصبر عليه. وإليه الإشارة بقوله تعالى:
... "إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المسحنين"(3).
... (1) حكم التعزية وفضلها:
... هي مستحبة. وقد ورد في فصلها والحث عليها أحاديث (منها) حديث عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبته إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة" أخرجه ابن ماجه والبيهقي. وفيه قيس أبو عمارة، ذكره ابن حبان في الثقات، ووثقه الذهبي. وقال البخاري: فيه نظر. وباقي رجاله ثقات(4). ... ... ... ... ... {66}
__________
(1) انظر ص 75 ج 5 فتح الباري (من قاتل دون ماله) ورقم 8617 ص 195 ج 6 فيض القدير للمناوي. و(دون ماله) دون- في الأصل- ظرف مكان بمعنى أسفل أو تحت. استعملت هنا للسببية توسعا لأن الذي يقاتل على ماله كأنه يجعله خلفه أو تحته ثم يقاتل عليه.
(2) انظر ص 29 ج 6 فتح الباري (الشهادة سبع سوى القتلى).
(3) سورة يوسف: آية 90.
(4) انظر ص 250 ج 1 – ابن ماجه (ثواب من عزى مصابا) وص 59 ج 4 بيهقي و(من حلل) أي من الحلل المعدة لأهل الكرامة.(1/72)
... (وعن) الأسود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من عزى مصابا فله مثل أجره" أخرجه ابن ماجه والبيهقي والترمذي وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن عاصم. وروى بعضهم عن محمد بن سوقة بهذا الإسناد مثله موقوفا(1). ... ... ... ... ... ... ... {67}
... (وروى) معاوية بن قرة عن أبيه قال: "كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس يجلس إليه نفر من أصحابه وفيهم رجل له ابن صغير يأتيه من خلف ظهره فيقعده بين يديه فهلك فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة لذكر ابنه فحزن عليه، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "مالي لا أرى فلانا؟" قالوا: يا رسول الله بنيه الذي رأيته هلك، فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن بنيه، فأخبره أنه هلك فعزاه عليه، ثم قال: "يا فلان أيما كان أحب إليك: أن تمتع به عمرك، أو لا تأتي غدا إلى باب من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك؟" قال: يا نبي الله بل يسبقني إلى باب الجنة فيفتحها لي لهو أحب إلي. قال: "فذاك لك" أخرجه النسائي والبيهقي(2). {68}
__________
(1) انظر ص 250 ج 1 – ابن ماجه. وص 59 ج 4 بيهقي. وص 163 ج 2 تحفة الأحوذي. وقول الترمذي (غريب) غير مسلم فقد رواه وكيع عن إسرائيل عن محمد بن سوقة عن إبراهيم عن الأسود عن ابن مسعود مرفوعا وذكر المزي في أطرافه أن الثوري رواه عن ابن سوقة مثله (فهذان) تابعا ابن عاصم فروياه عن ابن سوقة مرفوعا (انظر ص 59 ج 4 – الجوهر النقي) (وقال) الزركشي في تخريج الرافعي- بعد ما ساق له عدة طرق- هذا كله يرد على ابن الجوزي حيث ذكر الحديث في الموضوعات (وقال العلائي: له طرق لا طعن فيها وليس واهيا فضلا عن كونه موضوعا.
(2) أنظر ص 296 ج 1 مجتبي (التعزية) وص 59 ج 4 بيهقي (تعزية أهل الميت).(1/73)
... وتقدم في حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما أخرجك من بيتك يا فاطمة ؟ قالت: أتيت أهل هذا البيت فرحمت إليهم ميتهم وعزيتهم" ( الحديث ) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {69}
... فيه دليل على جواز خروج المرأة محتشمة متسترة لتعزي جيرانها ( ولهذا ) قال الأئمة الأربعة والجمهور: يستحب تعزية جميع أقارب الميت- بعد الدفن وقبله- إلا شابه يفتتن بها، لا نعلم في هذا خلافا إلا أن الثوري قال: لا تستحب التعزية بعد الدفن لأنه خاتمة أمره.
... ( ورد ) : (أ) بعموم أحاديث التعزية. ... (ب) أن المقصود بها تسلية أهل المصيبة وقضاء حقوقهم، والحاجة إليها بعد الدفن كالحاجة إليها قبله.
... (ويستحب) تعزية جميع أهل المصيبة الكبار والصغار والرجال والنساء إلا أن تكون المرأة شابة فلا يعزيها إلا محارمها. وتعزية الصلحاء والضعفاء عن احتمال المصيبة والصبيان أكد(2).
... (2) حكمتها:
... شرعت التعزية لما فيها من التعاطف والتحاب والتعاون على البر والتقوى والحمل على الصبر والرضا بالقدر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحث على الرجوع إلى الله تعالى ليحصل الأجر. والمشروع منها مرة واحدة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "التعزية مرة واحدة"(3).
... (3) وقتها :
__________
(1) تقدم تاما رقم 616 ص 341 ج 7 – الدين الخالص (اتباع النساء الجنائز).
(2) انظر ص 409 ج 5 مغنى أبن قدامة، وص 305 ج 5 مجموع النووي.
(3) انظر ص 145 ج 4 نيل الأوطار (تعزية المصاب).(1/74)
... يدخل وقت التعزية من الموت إلى ثلاثة أيام بعد الدفن عند الحنفيين ومالك وأحمد وجمهور الشافعية، وأولها أفضل. وهي بعد الدفن أفضل منها قبله، لأن أهل الميت مشغولون قبل الدفن بتجهيزه ولأن وحشتهم بعد الدفن لفراقه أكثر. وهذا إذا لم ير منهم جزع شديد وإلا قدمت لتسكينهم وتسليتهم وتكره تنزيها بعد الثلاثة لأن المقصود منها تسكين قلب المصاب، والغالب سكونه بعد الثلاثة فلا يجدد له الحزن إلا أن يكون المعزى أو المعزى غائبا فلا بأس بالتعزية بعد الثلاث. والحاضر الذي لم يعلم الموت كالغائب. والظاهر امتدادها بعد القدوم والعلم ثلاثة أيام (وقال) بعض الشافعية: لا حد لوقتها. وقيل: إنه يعزي قبل الدفن وبعده في رجوعه إلى منزله، ولا يعزي بعد وصوله المنزل(1).
... (4) لفظ التعزية:
__________
(1) انظر ص 306 ج 5 مجموع النووي.(1/75)
... تحصل التعزية بأي لفظ يتسلى به المصاب ويحمله على الصبر، والأفضل كونها بالوارد (ومنه) ما في حديث معاذ بن جبل أنه مات ابن له فكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم يعزيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى معاذ بن جبل. سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو (أما بعد) فأعظم الله لك الأجر وألهمك الصبر ورزقنا وإياك الشكر، فإن أنفسنا وأموالنا وأهلنا من مواهب الله الهنيئة وعواريه المستودعة متع بها إلى أجل معدود ويقبضها لوقت معلوم، ثم افترض علينا الشكر إذا أعطى والصبر إذا أبتلى، وكان ابنك من مواهب الله الهنيئة وعواريه المستودعة متعك الله به في غبطة وسرور وقبضه منك بأجر كثير: الصلاة والرحمة والهدى إن احتسبته، فأصبر ولا يحبط جزعك أجرك فتندم، وأعلم أن الجزع لا يرد ميتا ولا يدفع حزنا وما هو نازل فكأن قد والسلام" أخرجه الحاكم وقال: غريب حسن وابن مردويه والطبراني في الكبير والأوسط وفيه مجاشع بن عمرو ضعيف(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {70}
__________
(1) انظر ص 3 ج 3 مجمع الزوائد (التعزية) ورقم 2260 ص 122 ج 8 كنز العمال وذكر عدة روايات ثم قال كل هذه الروايات ضعيفة لا تثبت فإن وفاة ابن معاذ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين وإنما كتب إليه بعض الصحابة فتوهم الراوي فنسبها إلى النبي صلى الله عليه وسلم و(الغبطة) بكسر فسكون: النعمة والخير وحسن الحال (فكأن قد) أي فكأن قد وقع ما هو نازل أو حصل فلا فائدة في الجزع.(1/76)
... (وقول) أسامة بن زيد: أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعض بناته أن صبيا لها- ابنا أو بنتا- قد أحتضر فاشهدنا، فأرسل إليها يقرأ السلام ويقول: "إن لله ما أخذ وما أعطى وكل شيء عنده إلى أجل مسمى فلتصبر ولتحتسب" أخرجه السبعة إلا الترمذي(1). ... ... ... ... ... ... ... {71}
... (وعن) جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال: لما توفى النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية سمعوا قائلا يقول: "إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب" أخرجه البيهقي وقال: وقد روى معناه من وجه آخر عن جابر، ومن وجه عن أنس، وفي أسانيده ضعيف(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... {72}
__________
(1) انظر ص 89 ج 8 – الفتح الرباني (تعزية المصاب) وص 100 ج 3 فتح الباري (قول النبي صلى الله عليه وسلم: يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه) وص 224 ج 6 نووي (البكاء على الميت) وص 275 ج 8 – المنهل العذب المورود. وص 264 ج 1 مجتبي (الأمر بالاحتساب والصبر عند نزول المصيبة) وص 248 ج 1 – ابن ماجه (البكاء على الميت) و(إن لله ما أخذ) أي أن العالم كله ملك لله، فلم يأخذ ما هو لكن، بل أخذ ما هو له عندكم عارية.
وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوما أن ترد الودائع
... (وما أعطى) أي له ما وهبه لكم وقدم الأخذ على الإعطاء وإن كان هذا سابقا لمناسبة المقام (فلتصبر) أي فلتتحمل مرارة فلقده بلا إظهار جزع (ولتحتسب) أي تدخر ثواب فقده والصبر عليه عند الله تعالى.
(2) انظر ص 60 ج 4 بيهقي (ما يقول في التعزية من الترحم على الميت..). والحديث تقدم بأتم من هذا بهامش ص 16 ج 7 - الدين الخالص (الموت).(1/77)
... (وقد) بلغ الشافعي أن عبد الرحمن بن مهدي ماتا له ابن، فجزع عليه عبد الرحمن جزعا شديدا، فبعث إليه الشافعي رحمه الله: يا أخي عز نفسك بما تعزي به غيرك، واستقبح من فعلك ما تستقبحه من فعل غيرك. واعلم أن أمض المصائب فقد سرور وحرمان أجر. فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر؟ فتناول حظك يا أخي إذا قرب منك قبل أن تطلبه وقد نأى عنك، ألهمك الله عند المصائب صبرا وأحرز لنا ولك بالصبر أجرا. وكتب إليه:
إني معزيك لا أني على ثقة من الخلود ولكن سنة الدين
فما المعز بباق بعد ميته ولا المعزى ولو عاشا إلى حين
... أخرجه البيهقي(1).
... وكتب رجل إلى آخر يعزيه بابنه: (أما بعد) فإن الولد على والده ما عاش حزن وفتنة. فإذا قدمه فصلاة ورحمة، فلا تجزع على ما فاتك من حزنه وفتنته، ولا تضيع ما عوضك الله عز وجل من صلاته ورحمته(2).
__________
(1) انظر ص 147 ج 4 – الفتوحات الربانية على الأذكار النووية. و(عز نفسك إلخ) أي صبرها على مضض المصائب بما تصبر به غيرك من التأمل فيما ورد من الوعد بالثواب وحسن المآب لمن صبر واحتسب. و(أمض) بفتح الميم وشد الضاد: أي أشد المصائب واوجعها (فتناول حظك إلخ) أي خذ نصيبك من الأجر بجميل الصبر وحفظ اللسان عما لا يرضى الرحمن (وقد نأى) أي بعد (عنك) الثواب لجزعك.
(2) انظر ص 148 ج 4 أذكار. والولد (حزن) إن كان عاقا و(فتنتة) إن كان بارا. فإنه ربما يفتن بمحبته ويتقاعد عن الطاعات. قال تعالى: "إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم" سورة التغابن: آية 15 (فإذا قدمه إلخ) بشد الدال، أي إذا مات الولد قبله وأحتسب أجره عند ربه فهو له صلاة ورحمة. قال تعالى: "أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة" سورة البقرة: آية 157.(1/78)
... (وقال) أبو الحسن المدائني: دخل عمر بن عبد العزيز على ابنه في مرضه، فقال: يا بني كيف تجدك؟ قال: أجدني في الحق. قال: يا بني لأن تكون في ميزاني أحب إلى من أن أكون في ميزانك. فقال: يا أبت لأن يكون ما تحب أحب إلي من أن يكون ما أحب(1).
... (5) جواب التعزية:
... قال أحمد بن الحسين: سمعت أحمد بن حنبل وهو يعزي في عبثر ابن عمه وهو يقول: استجاب الله دعاك ورحمنا وإياك(2). ويقال في جواب التعزية: آجرك الله.
... (6) تعزية الذمي:
... يندب تعزيته كعيادته عند الحنفيين والشافعي والجمهور، ويستحب أن يدعو للميت المسلم. فإذا عزى مسلما بمسلم قال: أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك وغفر لميتك. وإن عزى مسلما بكافر قال: أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك . وإن عزى كافرا بمسلم قال: أحسن الله عزاءك وغفر لميتك. وإن عزى كافرا بكافر قال: أخلف الله عليك(3). (وتوقف) أحمد رحمه الله عن تعزية أهل الذمة وهي تخرج على عيادتهم. وفيها روايتها:
( أ ) لا نعودهم فكذا لا نعزيهم (لحديث) أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسم" أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي(4). ... ... ... ... ... {73}
(
__________
(1) انظر ص 150 ج 4 أذكار (وأجدني في الحق) أي الموت. فإن الحق يطلق على كل ثابت، سواء أكان عينا كالجنة أم لا كالموت.
(2) انظر ص 410 ج 2 مغنى ابن قدامة.
(3) انظر ص 305 ج 5 مجموع النووي "وقول" الشيرازي في المهذب في تعزية كافر بكافر: ولا نقص عددك لتكثر الجزية المأخوذة منهم "مشكل" لأنه دعاء ببقاء الكافر ودوام كفره فالمختار تركه (انظر ص 306 ج 5 مجموع النووي).
(4) انظر ص 148 ج 14 نووي (النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام) وص 519 ج 4 عون المعبود (السلام على أهل الذمة).(1/79)
ب) نعودهم (لحديث) أنس: أن غلاما من اليهود مرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: أسلم. فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه، فقال له: أطع أبا القاسم، فأسلم. فقام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقوم: "الحمد لله الذي أنقده بي من النار" أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي(1). ... {74}
فعلى هذا نعزيهم فنقول في تعزيتهم بمسلم: أحسن الله عزاءك وغفر لميتك. وعن كافر: أخلف الله عليك. وقيل: يقول: أعطاك الله مصيبتك أفضل ما أعطى أحدا من أهل دينك(2).
(7) الجلوس للتعزية:
يكره- عند الشافعي وأحمد وجماعة من الحنفيين- لولى الميت الجلوس في مكان خاص يعزى فيه لأنه محدث وبدعة. (قال) كثير من متأخري الحنفيين: يكره الاجتماع عند صاحب البيت، ويكره له الجلوس في بيته حتى يأتي إليه من يعزى، بل إذا فرغ ورجع الناس من الدفن فليتفرقوا ويشتغل كل بأمره(3)لا فرق في ذلك بين الرجال والنساء. (وقال) الشافعي في الأم: أكره المأتم وهي الجماعة وإن لم يكن لهم بكاء فإن ذلك يجدد الحزن ويكلف المؤنة مع ما مضى فيه من الأثر(4)(وقال) متقدمو الحنفيين: لا بأس بالجلوس في غير المسجد ثلاثة أيام للتعزية بلا ارتكاب محظور من فرش البسط وتناول الدخان والقهوة وغيرها كعمل الأطعمة لأنها تتخذ عند السرور.
(
__________
(1) انظر رقم 43 ص 16 ج 7 – الدين الخالص (عيادة الذمي).
(2) انظر من 410 ج 2 مغنى ابن قدامة.
(3) انظر ص 664 ج 1 رد المختار على الدر المختار.
(4) انظر ص 148 ج 1 – الأم.(1/80)
ونقل) الخطاب المالكي عن سند أنه يجوز الجلوس لها بلا مدة معينة. ومحل الخلاف في إباحة الجلوس وعدمها، إذا خلا المجلس من المنكرات وإلا امتنع اتفاقا، كما يقع من غالب أهل الزمان فإن مجالسهم للتعزية يرتكبون فيها مخالفات (منها) إتيانهم بأشخاص يقرءون القرآن بقصد إسماع الحاضرين في نظير أجر يأخذونه على قراءتهم. وغالب هذه المجالس في الأمصار تكون في الشوارع والطرقات، ويكثر إذ ذاك شرب الدخان واللغط ويحيى بعضهم بعضا بتحيات غير إسلامية نحو: نهارك سعيد، أو ليلتك سعيدة، أو البقية في حياتكم، أو لا يمشي أحد لكم في سوء، ونحو ذلك مما يشوش على القارئ. وينضم إلى ذلك اشتغالهم بشرب نحو القهوة والشاي. ومن المعلوم أن هذه الأمور كلها منكرات مخالفة لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح، مضادة للشريعة المطهرة، ولا سيما قراءة القرآن في الأماكن القذرة والطرق وحال شرب الدخان الذي تنفر منه الملائكة وكل من له طبع سليم من الآدميين. كيف يرتكب العاقل شيئا مما ذكر. وقد ورد في الفرقان والتوراة أنه يلزم المستمع كلام الله تعالى أن يكون في غاية الأدب والخشوع متدبرا ما يتلى عليه ليعمه الله بالرحمة والإحسان.
قال تعالى: "وإذا قرىء القرءان فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون"(1). وقال تعالى: "أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوب أقفالها"(2).
(
__________
(1) سورة الأعراف: آية 204.
(2) سورة محمد: آية 24.(1/81)
وقال) في التوراة: يا عبدي أما تستحي مني إذا يأتيك كتاب من بعض إخوانك وأنت في الطريق تمشي فتعدل عن الطريق وتقعد لأجله وتقرأه وتتدبره حرفا حرفا حتى لا يفوتك منه شيء. وهذا كتابي أنزلته إليك أنظره كم فصلت لك فيه من القول وكم كررت فيه عليك لتتأمل طوله وعرضه ثم أنت معرض عنه أو كنت أهون عليك من بعض إخوانك؟ يا عبدي يقصد إليك بعض إخوانك فتقبل عليه بكل وجهك وتصغي إلى حديثه بكل قلبك. فإن تكلم متكلم أو شغلك شاغل في حديثه، أومأت إليه أن كف. وهأنذا مقبل عليك ومحدث لك وأنت معرض بقلبك عني. أفجعلتني أهون عندك من بعض إخوانك(1)؟ (وأيضا) فإن شرب الدخان في ذاته حرام فضلا عن تعاطيه في مجلس القرآن.
(ووجه) حرمته أنه مضر بالصحة بإخبار منصفي الأطباء. ولا خلاف في تحريم تعاطي المضر. وقد صار ضرره محققا محسوسا مشاهدا بمن يتعاطاه في بصره وأسنانه وقلبه ورئتيه وأعصابه ... كل ذلك فضلا عن إضاعة المال فيما يغضب الكبير المتعال، وأن ذلك إسراف وتبذير حرمه الرب القدير وسوى بين فاعله والشياطين، قال تعالى: { إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا }(2).
ولو أنا شاهدنا رجلا يرمي درهما في البحر، لعددناه مجنونا، فكيف ومتعاطي الدخان قد رمى بماله وصحته في مكان سحيق. زد على ذلك إيذاءه لمن يتعاطاه سيما في مجامع الصلاة ونحوها. وهو مؤذ للملائكة الكرام البررة من أمرنا بإكرامهم.
(
__________
(1) أنظر ص 269 ج 8 – المنهل العذب المورود.
(2) سورة الإسراء: أية 27.(1/82)
روى) جابر مرفوعا: "من أكل ثوما أو بصلا فليعتز لنا أو فليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته" أخرجه الشيخان وأبو داود(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {75}
ومعلوم أن رائحة الدخان إن لم تكن في النتن أقبح من البصل والثوم فهي لا تقل عنهما. (وقال) جابر: نهى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن أكل البصل والكراث، فغلبتنا الحاجة فأكلنا منها فقال: "من أكل من هذه الشجرة المنتنة فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس" أخرجه مسلم(2). ... ... [76]
(وعن) أنس أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "من آذى مسلما فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله تعالى" أخرجه الطبراني في الأوسط بسند حسن(3). ... ... ... ... ... ... ... [77]
(8) مأتم الأربعين والعام:
__________
(1) انظر ص 232 ج 2 فتح الباري (الثوم النئ والبصل والكراث) وص 49 ج 5 نووي (نهى من أكل ثوما أو بصلا أو كراثا أو نحوها عن حضور المسجد..) وص 360 ج 3 عون المعبود (أكل الثوم) وتقدم تمام الكلام في أدلة حرمة الدخان بهامش ص 310 ج 3 – الدين الخالص.
(2) انظر ص 49 ج 5 نووي (نهى من أكل ثوما أو بصلا أو كراثا أو نحوها عن حضور المسجد).
(3) انظر رقم 8269 ص 19 ج 6 فيض القدير للمناوي.(1/83)
ومن البدع المستنكرة والعادات المستقبحة الاحتفال بذكرى الأربعين ومرور العام، لأنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا عهد الصحابة والتابعين، ولم يكن معروفا حينئذ. وفيه مفاسد دينية ودنيوية يأباها العقل والنقل. والخير في اتباع من سلف، والشر في ابتداع من خلف(1)
__________
(1) وقد) ورد إلى فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية سابقا سؤال بشأن مأتم الأربعين. فأجاب بما نصه: يحرص كثير من الناس على إقامة مأتم ليلة الأربعين لا يختلف عن مأتم يوم الوفاة فيعلنون عنه في الصحف ويقيمون له السرادقات ويحضرون القراء وينحرون الذبائح ويفد المعزون فيشكر منهم من حضر ويلام من تخلف ولم يعتذر ويقيم السيدات بجانب ذلك مأتما آخر في ضحوة النهار للنحيب والبكاء وتجديد الأسى والعزاء. ولا سند لشيء من ذلك في الشريعة الغراء، فلم يكن من هدى النبوة ولا من عمل الصحابة ولا من المأثور عن التابعين، بل لم يكن معروفا عند جمهور المسلمين بمصر بهذه الصورة الراهنة إلى عهد غير بعيد وإنما هو أمر استحدث أخيرا ابتداعا لا اتباعا، وفيه من المضار ما يوجب النهي عنه:
( أ ) فيه التزام عمل- ممن يقتدي بهم وغيرهم- ظاهرة أنه قربة وبر، حتى استقر في أذهان العامة أنه من المشروع في الدين.
( ب ) وفيه إضاعة الأموال في غير وجهها المشروع، في حين أن الميت كثيرا ما يكون عليه ديون أو حقوق لله تعالى أو للعباد لا تتسع موارده للوفاء بها مع تكاليف هذا المأتم، وقد يكون الورثة في أشد الحاجة إلى هذه الأموال. ومع هذا يقيمون مأتم الأربعين استحياء من الناس ودفعا للنقد، وكثيرا ما يكون في الورقة قصر يلحقهم الضرر بتبديد أموالهم في هذه البدعة.
(جـ) وفيه مع ذكر تكرير العزاء وهو غير مشروع لحديث "التعزية مرة".
(لهذا) وغيره من المفاسد الدينية والدنيوية أهبنا بالمسلمين:
(
1 ) أن يقلعوا عن هذه العادة الذميمة التي لا ينال الميت منها رحمة أو مشوبة، بل لا ينال الحي منها سوى المضرة إذا كان القصد مجرد التفاخر والسمعة أو دفع الملامة والمعرة.
( 2 ) وأن يعلموا أنه لا أصل لها في الدين. قال تعالى: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" سورة الحشر: آية 7. (أنظر الفتوى المقيدة بسجلات إفتاء الديار المصرية رقم 377 بتاريخ 14 أغسطس سنة 1947).(1/84)
(ب) صنع الطعام لأهل الميت ومنهم
(أولا) يستحب- عند الأئمة الأربعة وغيرهم- لأقارب أهل الميت وجيرانهم تهيئة طعام لهم- إن لم يرتكبوا منكرا- فقد أتاهم من الحزن ما يشغلهم عن تهيئة الطعام لأنفسهم، فتقديمه لهم نوع من البر بالقريب والجار والعطف عليه. وفيه أعظم تسلية لأهل الميت وعظيم الأجر لفاعليه.
وقد ورد في هذا أحاديث (منها) حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: لما جاء نعى جعفر حين قتل قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم ما يشغلهم" أخرجه أحمد والشافعي والأربعة إلا النسائي وحسنه الترمذي وصححه ابن السكن والحاكم وفي سنده خالد بن سارة وثقه أحمد والترمذي وابن معين والنسائي وغيرهم(1).
__________
(1) انظر رقم 1091 ص 533 ج 1 فيض القدير. وص 287 ج 8 – المنهل العذب المورود. وص 134 ج 2 تحفة الأحوذي (الطعام يصنع لأهل الميت) وص 252 ج 1 – ابن ماجه (قتل) جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في جمادى الأول سنة ثمان من الهجرة بمؤتة (يضم فسكون) قرية بالشام قرب دمشق وقد تقدم بيان حاصل غزوة مؤتة بهامش ص 91 ج 4 – الدين الخالص (السفر يوم الجمعة) وقد ورد فيها أحاديث:
... (منها) حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة زيد بن حارثة رضي الله عنه وقال: "إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة. قال ابن عمر: فكنت معهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفرا رضي الله عنه، فوجدناه في القتلى ووجدنا ما في جسده بضعا وتسعين من طعنة ورمية" أخرجه البخاري (انظر ص 360 ج 7 فتح الباري- غزوة مؤتة).
... (وحديث) أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أخذ الراية زيد فأصيب ثم جعفر فأصيب ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، وإن عيني النبي صلى الله عليه وسلم لتذرفان (بكسر الراء، أي يسيل دمعها) ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة (بكسر فسكون، أي من غير تولية من النبي صلى الله عليه وسلم) ففتح الله تعالى له" أخرجه البخاري والنسائي (أنظر ص 75 ج 3 فتح الباري- الرجل ينعي الميت).
... (ويذكر) أن أبا بكر رضي الله عنه لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أصيب فلان ففلان" قال: حسبك يا رسول الله، فلو لم يقلها وتتابع القول لأصيبوا عن آخرهم (انظر ص 393 ج 1 بهجة المحافل).
... (وحديث) عوف بن مالك الأشجعي قال: خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة، ورافقني مددي (أي رجل من المدد الذين جاءوا يمدون جيش مؤتة) من أهل اليمن ليس معه غير سيفه، فنحر رجل من المسلمين جزورا، فسأله المددى طائفة من جلده، فأعطاه إياه، فاتخذه كهيئة الدرق، ومضينا فلقينا جموع الروم وفيهم رجل على فرس له أشقر، عليه سرج مذهب وسلاح مذهب، فجعل الرومي يفرى بالمسلمين (يعني يفتك بهم، وهو كناية عن شدة نكايته بهم) فقعد له المدى خلف صخرة، فمر به الرومي فعرقب فرسه فخر وعلاه فقتله وحاز فرسه وسلاحه. فلما فتح الله على المسلمين بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ منه بعض السلب (بفتحتين وهو ما مع المقتول من فرس وسلاح) قال عوف: فأتيته فقلت: يا خالد، أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى ولكني استكثرته. قلت: لتردنه إليه أو لأعرفنكها، أي لأجازيك بها حتى تعرف صنيعك هذا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يرد عليه (قال) عوف فاجتمعنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقصصت عليه قصة المددى وما فعل خالد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا خالد ما حملك على ما صنعت؟ قال: استكثرته. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا خالد رد عليه ما أخذت منه. قال عوف: فقلت له دونك يا خالد (أي خذها كأنه وفاء له بما وعده) ألم أف لك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ فأخبرته، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا خالد لا ترد عليه، هل أنتم تاركون لي أمرائي؟ لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره". أخرجه مسلم وأبو داود وهذا لفظه (انظر ص 64 ج 12 نووي وص 23 ج 3 عون العبود (الإمام يمنع القاتل السلب إن رأي).(1/85)
(وحديث) عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت إذا مات الميت من أهلها فاجتمع النساء ثم تفرقن إلا أهلها وخاصتها أمرت ببرمة من تلبينة فطبخت ثم صنع ثريد فصبت التلبينة عليها، ثم قالت: كلن منها فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "التلبينه مجمة لفؤاد المريض تذهب ببعض الحزن" أخرجه أحمد والشيخان(1){79}
والمطلوب صنع طعام يشبع أهل الميت يومهم وليتهم، فإن الغالب أن الحزن الشاغل عن تناول الطعام لا يستمر أكثر من يوم. ويسن الإلحاح عليهم في الأكل لئلا يضعفوا بتركه استحياء أو لفرط الجزع. ولو كان النساء ينحن لم يجز صنع طعام لهن لأنه إعانة على المعصية.
(
__________
(1) انظر ص 94 ج 8 – الفتح الرباني (صنع طعام لأهل البيت). وص 439 ج 9 فتح الباري (التلبينة- الأطعمة) وص 202 ج 14 نووي (والبرمة) بضم فسكون: القدر من الحجارة. وتقدم ببيان باقي غريب الحديث بص 47 ج 7 – الدين الخالص هامش رقم 110.(1/86)
ثانيا) ويكره تحريما- اتفاقا- جمع الناس على طعام يصنعه أهل الميت إن لم تدع إلى ذلك ضرورة كمعز مسافر سفرا طويلا (لقول) جرير بن عبد الله البجلي: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة. أخرجه أحمد وابن ماجه بسند صحيح(1). ... ... ... ... ... ... ... {80}
(
__________
(1) انظر ص 94 ج 8 – الفتح الرباني (صنع طعام لأهل الميت وكراهته منهم لاجتماع الناس عليه) وص 252 ج 1 – ابن ماجه (النهي عن الاجتماع لأهل الميت وصنعة الطعام) "وأما" حديث عاصم بن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فرأيته وهو على القبر يوصي الحافر: أوسع من قبل رجليه، أوسع من قبل رأسه. فلما رجع استقبله داعي امرأة فجاء وجئ بالطعام فوضع يده ثم وضع القوم فأكلوا فنظر آباؤنا النبي صلى الله عليه وسلم يلوك لقمة في فيه ثم قال: أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها. فأرسلت المرأة تقول: يا رسول الله إني أرسلت إلى النقيع (بالنون- موضع على نحو عشرين ميلا من المدينة يباع فيه الغنم- وأخطأ من قال البقيع بالباء) يشتري لي شاة فلم أجد فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة أن أرسل إلى بثمنها فلم يوجد فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إليها؛ فقال عليه الصلاة والسلام: أطعميه الأساري. أخرجه أحمد وأبو داود بسند صحيح وهذا لفظ أبي داود (أنظر ص 293 ج 5 مسند أحمد. وص 248 ج 3 عون المعبود- أجتناب الشبهات- البيوع) "فلا يعارض" حديث جرير لأنه ليس فيه أن الداعية امرأة المتوفي ففي الحديث استقبله داعي امرأة. وفي رواية أحمد: فقالت: يا رسول الله، إنه كان في نفسي أن أجمعك ومن معك على طعام. وعلى فرض أنها امرأة المتوفى فهي واقعة حال لا عموم لها. وحديث جرير عام.(1/87)
وقول) الصحابي: كنا نعد كذا من بمنزلة رواية إجماع الصحابة رضي الله عنهم وله حكم الرفع. (والمعنى) أنهم كانوا يعدون الاجتماع عند أهل الميت بعد دفنه وأكل الطعام عندهم نوعا من النياحة الممنوعة شرعا لما في ذلك من التثقيل عليهم وشغلهم مع ما هم فيه من الاضطراب بموت أحدهم ولما فيه من مخالفة السنة، لأن الأهل والجيران مأمورون بأن يصنعوا لأهل الميت الطعام، وفي صنعهم هم عكس الموضوع ومخالفة المشروع. وعلى هذا اتفق العلماء.
(قال) في شرح منية المصلى: ويكره اتخاذ الطعام في اليوم الأول والثالث وبعد الأسبوع، ونقل الطعام إلى القبر في المواسم واتخاذ الدعة لقراءة القرآن، وجمع الصلحاء والقراء للختم أو لقراءة سورة الأنعام أو الإخلاص. والحاصل أن اتخاذ الطعام عند قراءة القرآن لأجل الأكل يكره، وإن اتخذ طعاما للفقراء كان حسنا(1). وهذه الأفعال كلها للسمعة والرياء فيحترز عنها لأنهم لا يريدون بها وجه الله تعالى(2)، وهذا إذا لم يكن في الورقة صغار أو غائب ولم يحصل منكر. أما إذا كان كذلك فحرام باتفاق.
(قال) ابن عابدين: إذا كان في الورثة صغار أو غائب أو ما يرتكب من المنكرات كإيقاد الشموع والقناديل ودق الطبول والغناء بالأصوات الحسان واجتماع النساء والمردان، وأخذ الأجرة على الذكر وقراءة القرآن وغير ذلك، فلا شك في حرمة تقديم الطعام من أهل الميت، وما ذكر من المنكرات وبطلان الوصية به(4).
(
__________
(1) أنظر ص 609 شرح منية المصلى.
(2) 3 و4) انظر ص 664 ج 1 رد المختار.(1/88)
وقال) بعض المالكية: وأما الاجتماع على طعام بيت الميت فبدعة مكروهة إن لم يكن في الورثة صغير وإلا فهو حرام. ومن الضلال الفظيع والمنكر الشنيع والحماقة غير الهينة تعليق الثريات (النجف) وإدارة القهوات في بيوت الأموات والاجتماع فيها للحكايات وتضييع الأوقات في المنهيات مع المباهاة والمفاخرات، ولا يتفكرون فيمن دفنوه في التراب تحت الأقدام ووضعوه في بيت الظلام والهوام، ولا في وحشته وضمته وهول السؤال، ولا فيما انتهى إليه الحال من الروح والريحان والنعيم، أو الضرب بمقامع الحديد والاشتعال بنار الجحيم، ولو نزل عليهم كتاب بانتهاء الموت وأنهم مخلدون بعده لقلنا إنما يفعلونه فرحا بذلك، ولكن الهوى أعماهم وأصمهم. وإن سئلوا عن ذلك أجابوا باتباع العادة والمباهاة ومحمدة الناس. فهل في ذلك خيرا؟ كلا بل هو شر وخسران وضير(1).
(جـ) زيارة القبور
... يستحب زيارة القبور للرجال من غير وطء للقبر، ولا استعانة بأهلها، ولا سؤالهم شيئا ولا مس القبر ولا تقبيله ولا الطواف به، فإنه من عادة أهل الكتاب، ولم يعهد في الإسلام إلا للحجر الأسود والكعبة. ويقصد بزيارتها وجه الله تعالى وإصلاح القلب ونفع الميت بالدعاء له وما يتلى عنده، لأن زيارتها تحدث في القلب خشية وتذكرا للموت.
__________
(1) انظر ص 272 ج 8 – المنهل العذب المورود.(1/89)
... (وقد ورد) في هذا أحاديث: (منها) حديث عبد الله بن بريدة بن الخصيب الأسلمى عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها فإنها تذكركم الآخرة". وفي رواية: "فإن في زيارتها تذكرة" أخرجه أحمد ومسلم والأربعة وابن حبان والحاكم والبيهقي(1). ... ... ... ... ... {81}
... (نهاهم) النبي صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور أولا لقرب عهدهم بالجاهلية فربما تكلموا بما اعتيد حينئذ من فحش القول. فلما انتشر الإسلام واطمأنوا به وعرفت أحكامه واشتهرت تعاليمه أمرهم النبي صلى الله عليه السلم بالزيارة مع مرعاة الآداب الشرعية، كما في حديث أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرا" أخرجه الشافعي وأحمد، وأخرجه الحاكم بلفظ: نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن فيها عبرة. وقال: حديث صحيح على شرط مسلم(2). ... ... ... ... {82}
... والأمر في الحديثين للندب عند الجمهور للتعليل بعده (وقال) ابن حزم: إنه للوجوب (وعن) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من زار قبري أبويه أو أحدهما في كل جمعة غفر له وكتب برا" أخرجه البيهقي والطبراني في الأوسط والصغير، وفي سنده عبد الكريم أبو أمية وهو ضعيف(3). ... ... {83}
__________
(1) انظر ص 158 ج 8 – التفح الرباني (استحبابها للرجال دون النساء) وص 46 ج 7 نووي. وص 101 ج 9 – المنهل العذب المورود (زيارة القبور) وص 285 ج 1 مجتبي وص 156 ج 2 تحفة الأحوذي (الرخصة في زيارة القبور) وص 245 ج 1- ابن ماجه. وص 76 ج 4 بيهقي.
(2) انظر ص 158 ج 8 – الفتح الرباني "والهجر" بضم فسكون" القول السوء.
(3) انظر ص 59 ج 3 مجمع الزوائد (زيارة القبور).(1/90)
... (وعن) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت" أخرجه أحمد ومسلم والبيهقي والحاكم وصححه والأربعة إلا الترمذي(1).
__________
(1) انظر ص 159 ج 8 – التفح الرباني. وص 46 ج 7 نووي. وص 93 ج 9 – المنهل العذب المورود (زيارة القبور) وص 286 ج 1 مجتبي (زيارة قبر المشرك) وص 245 ج 1 – ابن ماجه (زيارة قبور المشركين) وما كان للنسائي وابن ماجه ذكر الحديث تحت هذه الترجمة وكأنهما أخذاها من المنع من الاستغفار أو من مجرد أنه الظاهر على مقتضى وجود أم النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة لا من قوله: بكى وأبكى، إذ لا يلزم من البكاء عند الحضور في ذلك المحل العذاب أو الكفر بل يمكن تحققه مع النجاة والإسلام، هذا (والحق) نجاة والدي النبي صلى الله عليه وسلم لثلاثة مسالك:
( أ ) أنهما ما بلغهما الدعوة ولا عذاب على من لم تبلغه الدعوة لقوله تعالى: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا" الإسراء: آية 15 – فلعل من سلك هذا المسلك يقول في تأويل الحديث: إن الاستغفار فرع تصور الذنب وذلك إنما يكون من المكلف. ومن لم تبلغه الدعوة ( ب ) غير مكلف فلا حاجة إلى الاستغفار له، فيمكن أن يقال: لا يشرع الاستغفار إلا لأهل الدعوة لا لغيرهم وإن كانوا ناجين.
وأما من يقول: إنهما أحييا للنبي صلى الله عليه وسلم فآمنا به فيحمل الحديث على أنه كان قبل الإحياء.
(جـ) وأما من يقول إن الله تعالى يوفقهما للخير والامتثال عند الامتحان يوم القيامة فيقول: لا داعي للاستغفار لهما قطعا. فاتضح وجه الحديث على جميع المسالك (انظر ص 286 ج 1 السندي على المجتبي).
هذا: وأم النبي صلى الله عليه وسلم هي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة. توفيت وهو ابن ست سنين بالأبواء فهي من أهل الفترة.
(
وقد) اتفق العلماء على أن من مات قبل البعثة ولم تبلغه الدعوة يموت ناجيا. وإنما بكى النبي صلى الله عليه وسلم لتذكر الآخرة وعدم إدراك أمه أيامه. هذا وقد ورد أدلة كثيرة صريحة في أن آباءه صلى الله عليه وسلم ناجحون (منها) حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى كنت من القرن الذي كنت منه. أخرجه البخاري (أنظر ص 370 ج 6 فتح الباري- صفة النبي صلى الله عليه وسلم) والمراد بالقرن السيد وآباء الرجل.
و(حديث) واثلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله اصطفى من ولد إبراهيم وإسماعيل واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة واصطفى من بين كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم. أخرجه مسلم والترمذي وقال حديث حسن صحيح وهذا لفظه (انظر ص 36 ج 15 نووي مسلم- فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم) وص 292 ج 4 تحفة الأحوذى (فضل النبي صلى الله عليه وسلم) ومن المعلوم أن الخيرية والاصطفاء من الله تعالى والأفضلية عنده لا تكون مع الشرك (انظر ص 416 ج 2 – الحاوي للفتاوي للسيوطي).
(وقد) روى عن أبويه صلى الله عليه وسلم ما هو صريح في توحيدهما واعترافهما بدين سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
(روى) الزهري عن أم سماعة بنت أبي رهم عن أمها قالت: شهدت آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم في علتها التي ماتت بها ومحمد – غلام يقع (مرتفع) له خمس سنين- عند رأسها فنظرت
بارك فيك الله من غلام يا بن الذي من حومة الحمام (الموت)
نجا بعون الملك العلام فودى غداة الضرب بالسهام
بمائة من إبل سوام إن صح ما أبصرت في المنام
فأنت مبعوث لدى الأنام تبعث في الحل وفي الحرام
تبعث بالتحقيق والإسلام دين أبيك البر إبراهيم
فالله أنهاك عن الأصنام أن لا تواليها مع الأقوام
ثم قالت: كل حي ميت وكل جديد بال وكل كبير يفني وأنا ميتة وذكرى باق. وقد تركت خيرا وولدت طهرا. ثم ماتت فكنا نسمع نوح الجن عليها، فحفظنا من ذلك:
نبكي الفتاة البرة الأمينة ذات الجمال العفة الرزينة
زوجة عبد الله والقرينة أم نبي الله ذي السكينة
وصاحب المنبر بالمدينة صارت لدى حفرتها رهينة
أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة بسند ضعيف (أنظر ص 429 ج 2 – الحاوي). فهذا صريح في أنها موحدة إذ ذكرت دين إبراهيم وبعث أبنها عليهما الصلاة والسلام ونهيها له عن الأصنام وموالاتها (وقد نقل) عن أبيه عبد الله ما يدل على توحيده وإيمانه وخوفه من الله وإيمانه بالشرائع القديمة. من ذلك قوله حين عرضت امرأة نفسها عليه:
أما الحرام فالمهات دونه والحل لا حل فأستبينه
يحمي الكريم عرضه ودينه فكيف بالأمر الذي تبغينه
هذا مع ما كان عليه من كمال العفة، فقد افتتن به النساء ولم ينلن منه شيئا (وأما) حديث أنس أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: في النار. فلما قفى دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار. أخرجه مسلم (أنظر ص 79 ج 3 نووي – من مات على الكفر فهو في النار) "فهو" من رواية حماد بن سلمة عن ثابت، وقد خالفه معمر بن راشد عن ثابت فلم يذكر: إن أبي وأباك في النار، وإنما قال: إذا مررت بقبر كافر فبشره بالنار. ولا دلالة في هذا على أن والده صلى الله عليه وسلم في النار. وحديث معمر أصح فإنه أثبت من حماد لأن حمادا تكلم في حفظه وفي أحاديثه مناكير. ولذا لم يخرج له البخاري شيئا ولا خرج له مسلم في الأصول إلا من روايته عن ثابت، وأما معمر فلم يتكلم في حفظه ولا استنكر شيء من حديثه واتفق الشيخان على التخريج له فكان حديثه أثبت. ويقويه حديث الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه سعد بن أبي وقاص أن أعرابيا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أين أبي؟ قال: في النار. قال: فأين أبوك؟ قال: حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار. أخرجه البزار والطبراني والبيهقي بسند على شرط الشيخين (أنظر ص 434 ج 2 – الحاوي للفتاوي).
(هذا) ولو فرض اتفاق الرواة على اللفظ الأول كان معارضا بما تقدم من الأدلة. والحديث الصحيح إذا عارضه أدلة أخرى هي أرجح منه وجب تأويله وتقديم تلك الأدلة عليه (أنظر ص 436 ج 2 حاوي) وعليه فلو صحت رواية حماد بن سلمة "فالمراد" بقوله صلى الله عليه وسلم: إن أبي "أبو طالب" على حد قوله تعالى: "وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر" فقد كان عمه على المشهور. أو يراد بالنار نار الاختبار التي يؤمر بدخولها أهل الفترة ومن لم تبلغهم الدعوة. فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما، ومن أبى خلد في نار الجحيم.
(روى) الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئا ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات في فترة. فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا. وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر. وأما الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا. وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني لك رسول. فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن لم يدخلها يسحب إليها. أخرجه أحمد وإسحاق بن راهويه والبيهقي في كتاب الاعتقاد وصححه. (أنظر ص 404 و405 ج 2 حاوي).
هذا وليس لنا أن نقول إن أبوي النبي صلى الله عليه وسلم في النار لقوله تعالى: "إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا" سورة الأحزاب: آية 57 (وقد) سئل أبو بكر بن العربي عن رجل قال: إن أبا النبي صلى الله عليه وسلم في النار، فأجاب بأن من قال ذلك فهو ملعون للآية. قال: ولا أذى أعظم من أن يقال عن أبيه صلى الله عليه وسلم إنه في النار (وتمامه بص 95 وما بعدها ج 9 – المنهل العذب المورود) وفيه بعد كلام: إذا علمت هذا تعلم أن آباه النبي صلى الله عليه وسلم ناجون إما لأنهم كانوا على ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإما لأنهم من أهل الفترة الذين لم يبدلوا، فإن أهل الفترة ثلاثة أقسام:
( أ ) من عرف الله ببصيرته وعقله فوحده بعبادته.
( ب ) من لم يشرك ولم يوحد ولا دخل في شريعة نبي من الأنبياء ولا أبتكر لنفسه شريعة ولا اخترع دينا، بل بقى مدة عمره على غفلته. وهذان القسمان غير معذبين.
(جـ) من غير وبدل وأشرك وشرع لنفسه وحرم وحلل. وهذا معذب. وعليه يحمل ما ورد من الأحاديث الدالة على تعذيب بعض أهل الفترة (كحديث) أبي هريرة مرفوعا: رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه (بضم فسكون أي أمعاءه) في النار. وكان أول من سيب السوائب. أخرجه الشيخان (أنظر ص 197 ج 8 فتح الباري – ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة) وص 189 ج 17 نووي (جهنم) والسوائب جمع سائبة وهي الدابة كانوا يسيبونها لآلهتهم فلا يحمل عليها شيء (والبحيرة) التي يحبس درها للأصنام فلا يحلبها أحد من الناس. وتمامه بص 99 ج 9 – المنهل العذب المورود.(1/91)
... ... ... ... {84}
... ولهذه الأحاديث قالت الأئمة الأربعة والجمهور: يسن للرجال زيارة القبور على الوجه المشروع حملا للأمر على الندب. (وقال) ابن حزم: زيارة القبور واجبة ولو مرة في العمر للأمر على الوجوب. ثم الكلام هنا ينحصر في أربعة مباحث:
... (1) كيفية الزيارة :
... يسن أن يخرج الزائر متواضعا مراقبا الله تعالى، معتبرا بمن تقدمه من الموتى، قاصدا وجه الله تعالى، ونفع الميت بالسلام عليه والدعاء له. فإذا وصل القبر قام مسلما داعيا مستقبل القبلة على المشهور عند الحنفيين بلا تمسح بالقبر ولا طواف حوله ولا دعاء صاحبه. (وقبل) يستقبل وجه الميت، وهو قول الشافعي. وكذا الكلام في زيارة النبي صلى الله عليه وسلم.
... (قال) أبو الليث: لا يعرف وضع اليد على القبر سنة ولا مستحبا بل هو بدعة منكرة من عادة أهل الكتاب(1). ويستحب للزائر أن يدنو من قبر المزور بقدر ما كان يدنو من صاحبه لو كان حيا وزاره. وهو بالخيار إن شاء زار قائما وإن شاء قعد كما يزور الرجل أخاه في الحياة. ولا يستلم القبر بيده ولا يقبله.
... (قال) أبو الحسن محمد الزعفراني: واستلام القبور وتقبيلها كما يفعله العوام من المبتدعات المنكرة يجب تجنبه وينهى فاعله، فمن قصد السلام على ميت سلم عليه من قبل وجهه. وإذا أراد الدعاء تحول عن موضعه واستقبل القبلة(2).
... (2) ما يقوله الزائر:
__________
(1) انظر ص 408 شرح منية المصلي.
(2) انظر ص 310 ج 5 مجموع النووي.(1/92)
... يستحب للزائر التسليم على أهل القبور والدعاء لهم بالعافية والرحمة والمغفرة وإذا كان بالوارد فما أحسنه (ومنه) ما في حديث سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أنتم فرطنا ونحن لك تبع، ونسأل الله لنا ولكم العافية". أخرجه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه والبيهقي(1). ... ... {85}
... (وحديث) ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال: "السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر" أخرجه الترمذي وحسنه(2). {86}
... (وحديث) عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم- كلما كان ليتها- يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم أغفر لأهل بقيع الغرقد" أخرجه مسلم(3). ... ... ... ... ... ... ... ... {87}
__________
(1) انظر ص 172 ج 8 – الفتح الرباني (ما يقال عند زيارة القبور) وص 45 ج 7 نووي. وص 278 ج 1 مجتبي (الأمر بالاستغفار للمؤمنين) وص 242 ج 1 – ابن ماجه (ما يقال إذا دخل المقابر) وص 79 ج 3 بيهقي. وعطف (المسلمين) على المؤمنين لاختلاف اللفظ لا لاختلاف المعنى، لأن المؤمن المنافق لا يجوز السلام عليه والترحم عليه. وذكر المشيئة للتبرك لا للتعليق لتحقق الموت. ويحتل أن التعليق بالنسبة للموت على الإيمان. و(الفرط بفتحتين: السابق.
(2) انظر ص 156 ج 2 تحفة الأحوذي (ما يقول الرجل إذا دخل المقابر).
(3) انظر ص 40 ج 7 نووي (ما يقال عند دخول القبور) و(البقيع) بالباء الموحدة: مدفن أهل المدينة. و(الغرقد) بفتح فسكون: شجر له شوك، سمي بقيع الغرقد لغرقد كان فيه.(1/93)
... (وحديث) عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو بالبقيع فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم لنا فرط وإنا بكم لاحقون، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم. أخرجه ابن ماجه(1). {88}
... (وقال) أنس: "مر رجل بالمقابر فقال: اللهم رب الأرواح الفانية والعظام النخرة التي خرجت من الدنيا وهي بك مؤمنة أدخل عليها روحا منك وسلاما منا، فاستغفر له من مات من لدن آدم" أخرجه ابن النجار(2).
دلت هذه الأحاديث:
... (أ) على أن السلام على الموتى كالسلام على الأحياء يقدم فيه المبتدأ على الخبر وأنه يكون بأل أو التنوين، ويجوز في السلام على الموتى: عليكم السلام، بتقديم الخبر على المبتدأ (لقول) أبي جرى الهجيمي: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: "عليك السلام يا رسول الله. فقال: لا تقل عليك السلام، فإن عليك السلام تحية الموتى" أخرجه الثلاثة. وقال الترمذي: حسن صحيح(3). ... ... ... ... ... ... ... ... {89}
... يعني أن هذه الصيغة تختص بالموتى. وأما السلام عليكم فمشترك(4).
__________
(1) انظر ص 241 ج 1 – ابن ماجه (ما يقال إذا دخل المقابر).
(2) انظر رقم 2297 ص 126 ج 8 كنز العمال.
(3) انظر ص 520 ج 4 عون المعبود (كراهية أن يقول عليك السلام) و(جرى) مصغر وكذا (الهجيمي).
(4) "وما قاله" بعضهم من لزوم تقديم المبتدأ على الخبر في السلام على الأحياء والأموات وأن حديث أبي جرى إنما هو إخبار عن عادة أهل الجاهلية من تقديم الخبر على المبتدأ في تحية الموتى "بعيد" لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فإن عليك السلام تحية الموتى. فعلم أنه يقال في السلام على الأموات: السلام عليكم. وعليكم السلام.(1/94)
... (ب) وأنه يطلب الدعاء للأموات بما تقدم في الأحاديث، وليحذر مما اعتاده بعض الجاهلين من التمسح بالقبر وتقبيله والطواف حوله ودعاء صاحبه وطلب ما يحتاجه منه فإن ذلك من عادة المشركين (وعن) ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله" (الحديث) أخرجه أحمد والترمذي والحاكم(1). ... ... ... ... ... ... {90}
... وقد يفضي ذلك إلى ما كانت عليه الأمم السابقة من عبادة الأوثان، وفي المنع من ذلك بالكلية قطع لهذه الذريعة المؤدية إلى فساد العقيدة.
... (3) زيارة النساء:
... يحرم على النساء زيارة القبور إن ارتكبن في زيارتها ما يغضب الواحد الغيور. وعليه تحمل الأحاديث الواردة في لعن زائرات القبور (ومنها) حديث ابن عباس قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور" (الحديث) أخرجه أحمد والأربعة والبزار وابن حبان والحاكم وحسنه الترمذي(2). ... ... ... ... {91}
... (وحديث) أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور" أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه وابن حبان(3). ... ... ... ... ... ... ... {92}
__________
(1) انظر الحديث التاسع عشر من الأربعين النووية.
(2) تقدم رقم 13 ص 9.
(3) انظر ص 161 ج 8 – الفتح الرباني (لعن زائرات القبور) وص 246 ج 1 – ابن ماجه (النهي عن زيارة النساء للقبور) وص 156 ج 2 تحفة الأحوذى (كراهية زيارة القبور للنساء). و(زوارات) بفتح الزاي: جمع زائرة، وقيل بضمها: جمع زوارة بمعنى زائرة.(1/95)
... أي دعا عليهن بالطرد عن رحمة الله تعالى لما يقع منهن حال الزيارة من الجزع وشق الجيوب ولطم الخدود والتبرج (قال) القرطبي: هذا اللعن إنما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصيغة من المبالغة. ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج وما ينشأ منهن من الصياح ونحوه (فقد) يقال إذا أمن جميع ذلك فلا مانع من الإذن ، لأن تذكر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء ، فإذا كانت زيارتهن للاعتبار بلا تعديد ولا نوح فهي مكروهة تحريما عند بعض الحنفية والمالكية والشافعية لظاهر الأحاديث.
... ( وقال ) بعض الحنفية وأكثر الشافعية والحنبلية : تكره زيارتهن تنزيها . والصارف للأحاديث عن التحريم قول أم عطية : " نهينا أن نتبع الجنائز ولم يعزم علينا " أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود وابن ماجه والبيهقي(1). {93}
... (وقال) فريق ثالث من الحنفيين: زيارتهن حينئذ جائزة. وهو قول لمالك ورواية عن أحمد (قالوا) إن منعهن من الزيارة كان قبل الترخيص، فلما رخص فيها عمت الرخصة الرجال والنساء. (ويؤيده) حديث عبد الله ابن أبي مليكة أن عائشة رضي الله عنها أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أم المؤمنين من أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن، فقلت لها: أليس كان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور؟ قال: نعم كان نهى عن زيارة القبور ثم أمر بزيارتها. أخرجه الحاكم، وقال الذهبي: صحيح، والبيهقي وقال:" تفرد به بسطام بن مسلم البصري(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {94}
__________
(1) تقدم رقم 618 ص 441 ج 7 – الدين الخالص (اتباع النساء الجنائز).
(2) انظر ص 376 ج 1 مستدرك. وص 78 ج 4 بيهقي (ما ورد في دخولهن في عموم قوله فزوروها).(1/96)
... (وقالت) عائشة رضي الله عنها من حديث طويل: "فكيف أقول: تعني إذا زارت القبور- يا رسول الله؟ فقال قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون" أخرجه أحمد ومسلم(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... {95}
... فتعليمها ما تقول إذن لها بالزيارة للقبور (ويجمع) بين الأدلة بأن الإذن في الزيارة لمن خرجت متسترة خاشعة متذكرة أمر الآخرة، معتبرة بما صار إليه أهل القبور، تاركة النياحة وضرب الخدود وشق الجيوب وسوء القول. وبأن المنع لمن فعلت شيئا مما ذكر كما يقع من كثير من نساء زماننا ولا سيما نساء مصر. ومعلوم أن أمن الفتنة في زماننا معدوم بل مستحيل عادة، إذ المرأة لو خرجت إلى زيارة القبور لا تسلم من ارتكاب الفجور وعبث الفساق وأهل الشرور. فيطلب طلبا أكيدا عدم خروج النساء لزيارة القبور لا ليلا ولا نهارا لا فرق في ذلك بين شابة وغيرها، إذ لكل ساقطة لا قطة ولا سيما ما هو فاش من غالب أهل الزمان من الفساد والإفساد. ومن القواعد المقررة أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. ومن ثم ذهب شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية وغيرها إلى عدم جواز الزيارة للنساء. والله الهادي إلى سواء السبيل.
... (4) بدع المقابر:
__________
(1) انظر ص 173- 175 ج 8- الفتح الرباني (ما يقال عند زيارة القبور) وص 41-44 ج7 نووي (ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها).(1/97)
... ومن البدع المذمومة ما التزموه في المقابر من العادات المقبوحة كاتخاذها أعيادا تشد إليها الرحال ويجتمع فيها النساء والرجال والأطفال ولا سيما في ليلتي العيدين وأول جمعة من رجب، وتذبح عندها الذبائح وتطبخ أنواع المآكل فيأكلون ويشربون ويبولون ويتغوطون ويلعبون ويصخبون ويقرأ لهم القرآن من يستأجرون لذلك من العميان ولهم أعمال من دون ذلك هم عليها عاكفون. وإذا كان ما يأتون من القراءة والذكر هنالك من البدع المنكرة وكان بعض المباحات يعد هناك من الأمور المكروهة أو المحرمة، فما القول في سائر أفعالهم الظاهرة والباطنة "ولو لم يرد" في حظر هذه الاجتماعات في المقابر إلا حديث ابن عباس مرفوعا: لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج. أخرجه أحمد والأربعة والحاكم وصححه(1). "لكفى" ولكن ذلك كله قد صار من قبيل شعائر الدين وآيات اليقين توقف له الأوقاف التي يسجلها ويحكم بصحتها قضاة جاهلون ويأكل منها أدعياء العلم الضالون المضلون. وقد كان بعض الصحابة وغيرهم من علماء السلف يتركون بعض السنن أحيانا حتى لا يظن العوام أنها مفروضة بالتزامها تأسيا بالرسول صلى الله عليه وسلم في ترك المواظبة على بعض الفضائل خشية أن تصير من الفرائض. فخلف من بعدهم خلف قصروا في الفرائض وتركوا السنن والشعائر وواظبوا على هذه البدع حتى إنهم ليتركون لأجلها الأعياد والجمع.
__________
(1) تقدم رقم 13 ص 9.(1/98)
... (ومن المنكر) ما يقع من بعض من لا خلاق لهم من اعتقادهم في قبور الصالحين والأولياء وبعض الأشجار والأولياء وبعض الأشجار والأبواب أنها تنفع أو تضر أو تقرب إلى الله تعالى أو تقضي الحوائج بمجرد التشفع بها إلى الله تعالى، يطوفون بها طواف الحجاج بيت الله الحرام ويخاطبون الميت بالكلمات المكفرة كقولهم: "أقصم ظهره يا سيد وخذ عمره وتصرف فيه يا إمام، ويهتفون بأسمائهم عند الشدائد. ولكل جهة رجل ينادونه، فأهل مصر يدعون الشافعي والبدوي والبيومي. وأهل العراق والهند والشام يدعون عبد القادر الجيلي. وأهل مكة والطائف يدعون ابن عباس. وينذرون لهم النذور، ويذبحون لهم الذبائح، ويوقدون لهم السرج، ويضعون الدراهم في صناديقهم.
... ولا ريب أن هذا من أعمال الجاهلية ومخالف لدين الله تعالى ورسوله وما كان عليه سلفنا الصالح رضى الله تعالى عنهم، ولو عرف الناذر بطلان ذلك ما أخرج درهما، فإن الأموال عزيزة عند أهلها. قال تعالى: "ولا يسألكم أموالكم. إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم"(1).
... فالواجب على كل عاقل تحذير من يفعل ذلك، لأنه إضاعة للمال، ولا ينفعه ما يخرجه، ولا يدفع عنه ضررا، بل فيه المخالفة والمحاربة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. ويجب رد المال إلى من أخرجه وقبضه حرام لأنه أكل مال الناذر بالباطل ، وقد قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ }(2).
__________
(1) سورة القتال: آية 36 و37 (فيحفكم) أي يجهدكم ويطلب منكم كل أموالكم (ويخرج أضغانكم) أي يظهر أحقادكم.
(2) سورة النساء: أية 29 (الباطل) ما لم يبحه الشرع كالنذر لغير الله وكالغصب والقمار والرياء ونحو ذلك.(1/99)
... وفيه تقرير للناذر على قبح اعتقاده وشنيع مخالفته فهو كحلوان الكاهن ومهر البغى(1)ولأنه تدليس من هؤلاء القوم وإيهام له أن الولي ينفعه ويضره. فأي تقرير لمنكر أشد من قبض النذر على الميت، وأي تدليس أعظم من هذا؟
... (قال) الصنعاني بعد كلام في هذا الموضوع (فإن قلت) هذا أمر عم البلاد واجتمعت عليه سكان الأرض شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، فلا بلدة ولا قرية إلا وفيها قبور ومشاهد وأحياء يعتقدون فيها ويعظمونها وينذرون لها ويهتفون بأسمائها ويحلفون بها ويطوفون بفناء القبور ويسرجونها ويلقون عليها الورد والرياحين ويلبسونها الثياب ويصنعون كل ما يقدرون عليه من العبادة لها وما في معناها من التعظيم والخشوع، بل هذه مساجد المسلمين غالبها لا يخلو عن قبر أو مشهد يقصده المصلون في أوقات الصلاة، يصنعون فيه ما ذكر أو بعضه، ولا يسع عقل عاقل أن منكرا يبلغ إلى ما ذكرت من الشناعة، ويسكت عليه علماء الإسلام.
... (قلت) إن أردت الإنصاف وتركت متابعة الأسلاف وعرفت أن الحق ما قام عليه الدليل لا ما اتفق عليه العالم جيلا بعد جيل، فاعلم أن هذه الأمور التي ندندن حولها إنكارها ونسعى في هدم منارها صادرة عن العامة الذين إسلامهم تقليد الآباء بلا دليل: ينشأ الواحد منهم فيجد أهل بلدته يلقنونه في الطفولة أن يهتف باسم من يعتقدون فيه ويراهم ينذرون له ويعظمونه ويرحلون به إلى محل قبره ويلطخونه بترابه، ويطوفون به على قبره، فينشأ وقد قر في قلبه عظمة ما يعظمونه، فنشأ على هذا الصغير وشاخ عليه الكبير ولا يسمعون من أحد إنكارا عليهم، بل ترى من يتسم بالعلم ويدعي الفضل معظما لما يعظمونه، قابضا للنذور، آكلا ما ينحر على القبور، فيظن أن هذا دين الإسلام.
__________
(1) حلوان الكاهن) ما يعطى من يدعي علم الغيب ويخبر الناس عما يقع لهم مستقبلا.(1/100)
... ولا يخفي على أحد يتأهل للنظر ويعرف بارقة من علم الكتاب والسنة والأثر أن سكوت العالم أو العالم على وقوع منكر ليس دليلا على جوازه، ولنضرب لك مثلا من ذلك: هذا حرم الله الذي هو أفضل بقاع الدنيا بالاتفاق أحدث فيه بعض الملوك هذه المقامات الأربعة التي فرقت عبادة العباد، واشتملت على ما لا يحصيه إلا الله تعالى من الفساد وصيرت المسلمين كالملل المختلفة في الدين. بدعة قرت بها عين إبليس اللعين وقد سكت الناس عليها ووفد علماء الأقطار إليها وشاهدوها وسكت منهم من سكت، أفهذا السكوت دليل على جوازها؟ هذا لا يقوله عاقل وكذلك سكوتهم على هذه الأشياء الصادرة من القبوريين(1).
... وقال ابن القيم: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا زار القبور يزورها للدعاء لأهلها والترحم عليهم والاستغفار لهم، فأبى المشركون إلا دعاء الميت والأقسام على الله به وسؤاله الحوائج والاستعانة به والتوجه إليه بعكس هدية صلى الله عليه وسلم فإنه هدى توحيد وإحسان إلى الميت، وهدى هؤلاء شرك وإساءة إلى نفوسهم وإلى الميت، وهم ثلاثة أقسام: إما أن يدعوا للميت أو يدعوا به أو عنده، ويرون الدعاء عنده أولى من الدعاء في المساجد. ومن تأمل هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه تبين له الفرق بين الأمرين(2).
(د) القرب تهدي إلى الميت
__________
(1) انظر ص 29 وما بعدها من تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد. وانظر تمامه بص 103 ج 9 – المنهل العذب المورود (ومراده) بالمقامات الأربعة: مصلى الحنفي شمال الكعبة ومصلى المالكي غربها ومصلى الحنبلي جنوبها ومصلى الشافعي في الجنوب الشرقي منها. كان يصلي في هذه المقامات أثمة أربعة في وقت واحد. وقد اتفقت الأئمة الأربعة والعلماء على منع تعدد الجماعة في المسجد في وقت واحد، ولكن الآن يصلي بالحرم المكي إمام واحد.
(2) انظر ص 146 ج 1 زاد المعاد (هديه صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور).(1/101)
... الميت ينتفع بما يهدي إليه من الطاعات وأنواع البر ، كالصدقة والدعاء والصلاة والصيام وغيرها، قال تعالى: "والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان"(1).
... (وعن) ابن عباس رضي الله عنهما أن سعد بن عبادة توفيت أمه وهو غائب عنها، فقال: يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها إن تصدقت بشيء عنها؟ قال: نعم. قال: فإني أشهدك أن حائطي المخرف صدقة عليها. أخرجه أحمد والبخاري والثلاثة(2). ... ... ... ... ... ... ... {96}
... (وعن) أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبي مات وترك مالا ولم يوص فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟ فقال: نعم. أخرجه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه(3). ... ... {97}
__________
(1) سورة الحشر: آية 10.
(2) انظر ص 97 ج 8- الفتح الرباني (وصول ثواب القرب المهداة إلى الموتى) وص 253 ج 5 فتح الباري (الإشهاد في الوقف والصدقة- الوصايا) وص 130 ج 2 مجتبي (فضل الصدقة عن الميت- الوصايا) وص 78 ج 3 عون المعبود (من مات عن غيير وصية يتصدق عنه) و(أم سعد) هي عمرة بنت مسعود بن قيس أسلمت وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم. وماتت سنة خمس من الهجرة وابنها غائب مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة دومة الجندل. فلما رجعوا صلى النبي صلى الله عليه وسلم على قبرها. و(الحائط) البتسان. و(المخرف) كمنبر عطف بيان له: أي المثمر. وفي رواية البخاري: المخراف، كمفتاح، وهو المكان المثمر.
(3) انظر ص 100 ج 8 – الفتح الرباني. وص 83 ج 11 نووي (وصول ثواب الصدقات إلى الميت) وص 129 ج 2 مجتبي (فضل الصدقة على الميت) وص 83 ج 2 ابن ماجة (من مات ولم يوص هل يتصدق عنه؟) و(يكفر) من التكفير للسيئة يحتمل أن المتوفي لم يؤد زكاة وجبت عليه، فسأل ابنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه إن أداها هل يكفر عنه هذا الذنب. ويحتمل أنه ترك الوصية مع كثرة ماله، وعد هذا سيئة لما فيه من الحرمان من الثواب.(1/102)
... ( وقال ) أنس رضي الله عنه : يا رسول الله إنا نتصدق عن مواتانا ونجح عنهم وندعو لهم ، فهل يصل ذلك إليك؟ فقال: نعم، إنه ليصل إليهم ويفرحون به كما يفرح أحدكم بالطبق إذا أهدى إليه . أخرجه أبو حفص العكبري(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {98}
... وعن سعد بن عبادة رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي ماتت وعليها نذر أفيجزئ عنها أن أعتق عنها؟ قال: أعتق عن أمك. أخرجه مالك وأحمد والبخاري والنسائي(2). ... ... ... {99}
... وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من مات وعليه صيام صام عنه وليه. أخرجه أحمد والشيخان(3). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {100}
... (وروي) أن رجلا سأل النبي صلى اغلله عليه وسلم فقال: كان لي أبوان أبرهما حال حياتهما فكيف لي ببرهما بعد موتهما؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن من البر بعد الموت أن تصلي لهما مع صلاتك وتصوم لها مع صيامك. أخرجه الدارقطني(4). ... ... ... ... ... ... ... ... ... {101}
__________
(1) انظر ص 309 ج 1 فتح القدير لابن الهمام.
(2) انظر ص 99 ج 8 – الفتح الرباني (وصول ثواب القرب إلى الموتى) وص 252 ج 5 فتح الباري (ما يستحب لمن توفى فجأة أن يتصدقوا عنه وقضاء النذور عن الميت) وص 130 ج 2 مجتبي (فضل الصدقة عن الميت) (أفاد) هذا الحديث أن أم سعد ماتت وعليها نذر فوفاه عنها ابنها. وفي الحديث رقم 96 ص 92 أته تصدق عنها بحائطه المخرف (ويجمع) بينهما بأنه فعل ذلك كله. فلله دره من بار بأمه.
(3) انظر ص 135 ج 10 – الفتح الرباني (قضاء الصوم عن الميت) وص 138 ج 4 فتح الباري (من مات وعليه صوم) وص 23 ج 8 نووي.
(4) انظر ص 308 ج 2 فتح القدير لابن الهمام.(1/103)
... (وعن) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له. أخرجه السبعة إلا البخاري(1). ... ... {102}
... (والأحاديث) في هذا كثيرة وكلها تدل على أن الميت ينتفع بعمل الحي من دعاء وصلاة وصدقة وصيام وحج، وغير ذلك من أنواع البر، من غير أن ينقص من أجر العامل شيء. وبه قال جمهور أهل السنة منهم الحنفيون وأحمد.
... وقد أمر الله تعالى بالدعاء للوالدين بقوله:
... "وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا"(2).
... وأخبر باستغفار الملائكة للمؤمنين، قال تعالى:
... "والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض"(3).
... وقال: "الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم"(4).
__________
(1) انظر ص 85 ج 11 نووي (ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته) وص 129 ج 2 مجتبي (فضل الصدقة عن الميت) ص 77 ج 3 عون المعبود (الصدقة عن الميت- الوصايا) وص 298 ج 2 تحفة الأحوذى (الوقف- الأحكام) ومعنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته فلا ثواب له بعد إلا في هذه الأشياء الثلاثة لكونه كان سببها، فإن الولد من كسبه وكذا العلم الذي خلفه من تعليم أو تصنيف وكذا الصدقة الجارية.
(2) سورة الإسراء: آية 24.
(3) سورة الشورى: آية 5.
(4) سورة غافر:آية 7(1/104)
... (فهذه) الأدلة تفيد القطع بحصول الانتفاع بعمل الغير، ولا ينافيه قوله تعالى: "وأن ليس للإنسان إلا ما سعي"(1)، لأن المؤمن إذا عمل عملا خيريا وقصد به أخاه المؤمن وصل إليه ثوابه بسبب إيمانه، فكأنه من عمله (وقيل) إن الآية مخصوصة بغير ما دلت عليه الأدلة السابقة من أن الإنسان ينتفع بعمل غيره من دعاء وصلاة وصدقة وقراءة قرآ.
... (وعن) عكرمة أن الآية خاصة بقوم موسى وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام. أماهذه الأمة فالواحد منها ينتفع بعمل غيره لما تقدم. (وقيل) المراد بالإنسان في الآية الكافر، أي ليس له من الخير في الدنيا إلا ما عمل هو فيثاب عليه بالتوسعة في رزقه والعافية في بدنه وليس له في الآخرة شيء.
__________
(1) صورة النجم: آية 39 (ودعوى) نسخها غير مسلمة لأنها من الأخبار، والنسخ لا يجري في الخبر (وجعل) اللام في "للإنسان" بمعنى على (بعيد) من ظاهر الآية وسياقها لأنها عظة لمن تولى وأعطى قليلا وأكدى (أي أمسك عن العطاء) نزلت في الوليد بن المغيرة سمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وجلس إليه فوعظه فرغب في الإسلام وطمع فيه النبي صلى الله عليه وسلم ثم إنه عاتبه رجل من المشركين فقال: أتترك ملة آبائك؟ أرجع إلى دينك وأنا أتحمل عنك كل شيء تخافه في الآخرة، لكن على أن تعطيني كذا من المال، فوافقه الوليد على ذلك ورجع عما هم به من الإسلام وضل ضلالا بعيدا وأعطى بعض المال للرجل ثم أمسك عنه وشح (قال) الشوكاني في تفسيره: ولم يصب من قال إن هذه الآية منسوخة بمثل هذه الأمور فإن الخاص لا ينسخ العام بل يخصصه؛ فكل ما قام الدليل على أن الإنسان ينتفع به وهو من غير سعيه كان مخصصا لما في هذه الآية من العموم (أنظر ص 111 ج 5 فتح القدير).(1/105)
... هذا. وأعلم أن العبادة مالية وبدنية، فالمالية كالصدقة، نبه الشارع بوصول ثوابها على وصول ثواب سائر الأعمال المالية. أما أداء الدين فبالإجماع ولو كان من أجنبي بلا إذن. ونبه بوصول ثوابت الصوم وهو من العبادة البدنية على وصول ثواب العبادات البدنية. ونبه بوصول ثواب الحج المركب من عبادتين مالية وبدنية على وصول ثواب المركب منهما (ومشهور) مذهب مالك والشافعي أن ثواب العبادة البدنية لا يصل كالصلاة والصيام وقراءة القرآن أخذا بعموم قوله تعالى: "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى" وقد علمت أن الآية لا تنافى انتفاع الميت بعمل غيره من قراءة وغيرها. ولذا قال الحنفيون وأحمد: إنه ينتفع بعمل غيره إذا أدى بخشوع وخضوع ووقار ولم تكن القراءة بأجر وكانت على الوجه المشروع.
... (قال) ابن القيم: أفضل ما يهدي إلى الميت العتق والصدقة والاستغفار والدعاء له والحج عنه. وأما قراءة القرآن وإهداؤها له تطوعا بغير أجر فيصل إليه ثوابها كما يصل ثواب الصوم والحج(1). ولذا اختار المحققون من أصحاب مالك والشافعي أن ثواب القراءة يصل إلى الميت إذا جعلت من قبيل الدعاء بأن يقول: اللهم أجعل لفلان مثل ثواب ما قرأت.
__________
(1) انظر ص 227 كتاب الروح. ويؤيده تصريح الإمام الشافعي رضي الله عنه بقوله: إذا صح الحديث فهو مذهبي واضربوا بقولي عرض الحائط. وقوله: إذا قلت قولا فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت فاتركوا قولي واعملوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم. فانظر كيف اعتبر الحديث الصحيح مذهبه وأنه راجع عن أقواله إذا خالفت الحديث.(1/106)
... (قال) النووي: أجمع العلماء على أن الدعاء للأموات ينفعهم ويصل ثوابه إليهم، لقوله تعالى: "والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان"(1). وغيرها من الآيات والأحاديث، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم أغفر لأهل بقيع الغرقد". وقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر لحينا وميتنا".
... (واختلف) العلماء في وصول ثواب قراءة القرآن. فالمشهور من مذهب الشافعي أنه لا يصل. وذهب أحمد بن حنبل وجماعة من أصحاب الشافعي إلى أنه يصل، فالاختيار أن يقول القارئ بعد فراغه: اللهم أوصل مثل ثواب ما قرأته إلى فلان(2)(أما القراءة) بأجر ولو بشرط فلا يصل ثوابها، والآخذ والمعطي آثمان به عند الحنفيين وأحمد (لحديث) عبد الرحمن بن شبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اقرءوا القرآن واعملوا به، ولا تجفوا عنه ولا تغلوا فيه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به" أخرجه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني والبيهقي في الشعب بسند قوي رجاله ثقات(3). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {103}
__________
(1) سورة الحشر: آية 10.
(2) أنظر ص 204 ج 4 شرح الأذكار (ما ينفع الميت من قول غيره).
(3) انظر رقم 1338 ص 64 ج 2 فيض القدير للمناوي (ولا تجفوا عنه) أي لا تبتعدوا عن تلاوته (ولا تغلوا فيه) أي لا تتجاوزوا حدوده من حيث اللفظ أو المعنى بأن تتأولوه بباطل،. أو المراد: لا تبذلوا جهدكم في قراءته من غير تفكر، ففي الحديث: "لا تفقه في قراءة القرآن في أقل من ثلاث" أخرجه أحمد عن قتادة (ولا تستكثروا به) أي لا تجعلوه سببا للإكثار من الدنيا فلا تأخذوا على قراءته أجرا من حطام الدنيا.(1/107)
... فقد حضر النبي صلى الله عليه وسلم على القراء أن يتعوضوا بالقرآن شيئا من عرض الدنيا ولأن القراءة عبادة وأجرها من الله تعالى ( وقالت ) المالكية والشافعية : يجوز أخذ الأجر على القرآن لإطلاق حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله " ذكره البخاري معلقا(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {104}
... وحمله الألون على خصوص ما ورد فيه من الرقي جمعا بين الأحاديث. وعلى الجملة فإن الصدقة على الميت والدعاء له يصل ثوابهما إليه باتفاق أهل السنة. أما القراءة والعبادة البدنية ففيهما خلاف والراجح وصول ثوابهما إليه. والخلاف في القراءة إن لم تخرج مخرج الدعاء وإلا وصل ثوابها اتفاقا. والواصل في الحج إلى الميت ثواب العمل عند الجمهور. وقال بعض الحنفيين: بل ثواب الإنفاق.
... وقال أحمد بن حنبل: الميت يصل إليه كل شيء من الخير للنصوص الواردة فيه، ولأن المسلمين يجتمعون في كل مصر ويقرءون ويهدون لموتاهم من غير نكير فكان إجماعا(2).
... هذا، ولا يشترط في وصول الثواب الإهداء باللفظ بل يكفي نيته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الفعل عن الغير كالصوم والحج والصدقة، ولم يقل لفاعل ذلك: قل اللهم هذا عن فلان بن فلان، والله تعالى يعلم نية العبد وقصده بعمله، فإن ذكره جاز وإن ترك ذكره واكتفى بالنية وصل الثواب. ولا يحتاج أن يقول: اللهم إني صائم غدا عن فلان بن فلان.
__________
(1) انظر ص 304 ج 4 فتح الباري (ما يعطي في الرقية).
(2) انظر ص 424 ج 2 مغنى.(1/108)
... ولهذا اشترط من اشترط نية الفعل قبل الفعل ليكون واقعا بالقصد عن الميت. فأما إذا فعله لنفسه ثم نوى أن يجعل ثوابه للغير لم يصر للغير بمجرد النية، كما لو نوى أن يهب أن يتصدق لم يحصل ذلك بمجرد النية، ولا يلزم أيضا تعليق الإهداء بأن يقول: اللهم إن كنت قبلت هذا العمل وأثبتني عليه فاجعل ثوابه لفلان: بل لا فائدة في هذا الشرط فإن الله تعالى يعطي ثوابه للمهدي إليه وإن لم يشترطه(1).
... واختلفوا أيضا في إهداء الثواب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم من لم يستحبه ورآه بدعة فإن الصحابة لم يفعلوا ذلك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم له أجر كل من عمل خيرا من أمته من غير أن ينقص من اجر العامل شيء، لأنه هو الذي دل أمته على كل خير وأرشدهم ودعاهم إليه، ومن دعا إلى هدى فله من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء؛ فللنبي صلى الله عليه وسلم مثل أجر من اتبعه، أهداه إليه أم لم يهده(2).
__________
(1) انظر ص 226 كتاب الروح.
(2) انظر ص 22*9 منه (وقد) ذكر ابن حجر في الفتاوى الفقهية أن ابن تيمية زعم منع إهداء ثواب القراءة للنبي صلى الله عليه وسلم لأن جنابه الرفيع لا يتجرأ عليه إلا بما أذن فيه كالصلاة عليه وسؤال الوسيلة له (ورد) عليه السبكي بأن مثل هذا لا يحتاج لإذن خاص، فقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يعتمر عنه صلى الله عليه وسلم بعد موته من غير وصية. وتمامه في رد المحتار ص 665 ج 1.(1/109)
... ومن العلماء من استحبه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحق بذلك حيث أنقذنا من الضلالة، ففي ذلك نوع شكر وإسداء جميل له والكامل قابل لزيادة الكامل (وما استدل به) المانعون من أنه تحصيل حاصل لأن جميع أعمال أمته في ميزانه (يجاب عنه) بأنه لا مانع من ذلك، فإن الله تعالى أخبرنا بأنه صلي عليه، ثم أمرنا بالصلاة عليه. وكذا اختلف في إطلاق قول العامل: اللهم أجعل ذلك زيادة في شرف النبي صلى الله عليه وسلم، فمنعه الحافظ ابن حجر لأنه لم يرد له دليل.
... (وأجاب) ابن حجر المكي في الفتاوى الحديثية بأن قوله تعالى: "وقل رب زدني علما" وحديث مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: "واجعل الحياة زيادة لي في كل خير" دليل على أن مقامه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وكماله يقبل الزيادة في العلم والثواب وسائر المراتب والدرجات(1).
... (خاتمة) يكره تحريما عند النعمان ومالك قراءة القرآن عن القبر لأنه لم يصح فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس من عمل السلف بل كان عملهم التصدق والدعاء لا القراءة.
... (وقال) محمد بن الحسن والشافعي: تستحب القراءة عند القبر لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف الله عنهم يؤمئذ وكان له بعدد من فيها حسنات" ذكره القرطبي وابن قدامة(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {105}
__________
(1) انظر ص 666 ج 1- رد المختار.
(2) انظر ص 3 ج 15- الجامع لأحكام القرآن. وص 425 ج 2 مغنى ابن قدامة.(1/110)
... (وأجاب) الأولون بأن الحديث لا أصل له في كتب الحديث (وقال) في شرح اللباب: ويقرأ من القرآن ما تيسر له من الفاتحة وأول البقرة إلى قوله: "أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون" وآية الكرسي وآمن الرسول ويس وتبارك وسورة التكاثر والإخلاص ثنتي عشرة مرة أو إحدى عشرة مرة أو سبعا أو ثلاثا. ثم يقول: اللهم أو صل ثواب ما قرأناه إلى فلان أو إلى الأموات(1)(ورد) بأنه لا يوجد ما يؤيد هذا ولو من طريق ضعيف.
... (وعن) على مرفوعا: من مر على المقابر وقرأ "قل هو الله أحد" إحدى عشرة مرة ثم وهب أجرها للأموات أعطى من الأجر بعدد الأموات. أخرجه الدارقطني(2). ... ... ... ... ... ... ... {106}
... (ورد) بأن ابن الجوزي قال في التذكرة: هو مأخوذ من نسخة عبد الله ابن أحمد في الموضوعات (وقالت) الحنبلية وبعض المالكية: لا بأس بالقراءة عند القبر وجعل ثوابها للميت (روى) عن أحمد أنه قال: إذا دخلتم المقابر فاقرءوا آية الكرسي ثلاث مرات، وقل هو الله أحد، ثم قل: اللهم إن فضله لأهل المقابر(3). ولم يثبت ما يؤيده.
__________
(1) انظر ص 666 ج 1 رد المحتار.
(2) انظر ص 309 ج 2 فتح القدير لابن الهمام.
(3) انظر ص 424 ج 2 مغنى ابن قدامة.(1/111)
... (وقال) علي بن موسى الحداد: كنت مع أحمد بن حنبل ومحمد بن قدامة في جنازة، فلما دفن الميت جلس رجل ضرير يقرأ عند القبر، فقال له أحمد: يا هذا إن القراءة عند القبر بدعة، فلما خرجنا من القبر قال محمد بن قدامة لأحمد: يا أبا عبد الله ما تقول في مبشر الحلبي؟ قال: ثقة. قال: كتبت عنه شيئا؟ قال: نعم. قال: أخبرني مبشر عن عبد الرحمن بن العلاء ابن اللجلاج عن أبيه أنه أوصى إذا دفن أن يقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها. وقال: سمعت ابن عمر يوصى بذلك. فقال له أحمد: فارجع وقل للرجل يقرأ. ذكره الخلال(1)(ورد) بأن هذا الحديث شاذ منكر رواه مبشر عن عبد الرحمن اللجلاج، وهو ليس من رجال الصحيح ولا السنن الذين يعتد بهم ولا يعرف له في الصحيحين إلا حديث واحد عند الترمذي، وقد قالوا إنه مقبول، ولم يوثقه إلا ابن حبان، وتساهله في التعديل معروف، على أن مبشرا نفسه ضعفه بعضهم ولم يعتدوا بما رواه لأنه لم يتبين سببه فهو حديث لا يثبت، وعلى فرض ثبوته فهو من قول العلاء وابن عمر، ولعله اجتهاد منهما وهو موقوف لا حجة فيه. ولم يرد في هذا حديث صحيح ولا حسن ألبته.
... (وعن) أبي بكر رضي الله عنه مرفوعا: "من زار قبر والديه أو أحدهما يوم الجمعة فقرأ عنده (يس) غفر له" أخرجه ابن عدى وضعفه السيوطي. وقال ابن عدى: هذا الحديث بهذا الإسناد باطل، لأن فيه عمرو بن زياد متهم بالوضع(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {107}
... ولذا حكم ابن الجوزي عليه بالوضع وتعقبه السيوطي بأن له شاهدا، وهو حديث: "من زار قبر أبويه أو أحدهما في كل جمعة مرة غفر الله له وكتب برا" أخرجه الحكيم الترمذي عن أبي هريرة(3). ... ... {108}
__________
(1) انظر ص 14 كتاب الروح: وتقدم بلفظ آخر مرفوعا وموقوفا رقم 677 ص 367 ج 7- الدين الخالص (الدعاء للميت عند الدفن).
(2) انظر رقم 8717 ص 141 ج 6 فيض القدير للمناوي.
(3) انظر رقم 8718 ص 141 منه.(1/112)
... ( وهذا ) غير صواب لتصريح العلماء حتى السيوطي نفسه بأن الشواهد لا أثر لها في الحديث الموضوع بل في الضعيف(1).
... ( واختار ) ابن القيم أنه لا بأس بالقراءة على القبر تطوعا ( لقول ) الحسن ابن الصباح : سألت الشافعي عن القراءة عند القبر فقال : لا بأس بها . وذكر الخلال عن الشعبي قال : كانت الأنصار إذا مات لهم الميت اختلفوا إلى قبره يقرءون عنده القرآن(2)( ورد ) بأن هذا لا يثبت وعلى فرض ثبوته لا حجة فيه فقد قالوا: إن الصحابي إذا انفرد بقول أو عمل لا يعد قوله أو عمله حجة ولا يتخذ قدوة فيه، فكيف بغيرهم إذا كان قوله مخالفا للنصوص الصريحة في الكتاب والسنة . ( فإن قيل ) إن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى الصوم والصدقة والحج دون القراءة ( قيل ) إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبتدئهم بذلك بل أجاب كلا عن سؤاله، فهذا سأله عن الحج عن ميته فأذن له، وهذا سأله عن الصيام عنه فأذى له، وهذا سأله عن الصدقة فأذن له، ولم يمنعهم مما سوى ذلك. وأي فرق بين وصول ثواب الصوم الذي هو مجرد نية وإمساك، وبين وصول ثواب القراءة والذكر؟ "والقائل" إن أحدا من السلف لم يفعل ذلك "قال" ما لم علم له به فإن هذه شهادة على نفي ما لم يعلم . فما يدريه أن السلف كانوا يفعلون ذلك ولا يشهدون من حضرهم عليه بل يكفي إطلاع علام الغيوب على نياتهم ومقاصدهم لا سيما والتلفظ بنية الإهدار لا يشترط كما تقدم(3). ( ورد ) بأنه ما من نوع من أنواع البر المشروعة إلا وقد نقل عن الصحابة والسف الصالح فيه الكثير الطيب حتى الصدقات التي صرح القرآن بتفضيل إخفائها على إبدائها تكريما للفقراء وسترا عليهم ولما قد يعرض فيها من المن والأذى والرياء المبطلة لها.
__________
(1) انظر ص 141 منه.
(2) انضر ص 14 كتاب الروح.
(3) انظر ص 228 و229 من كتاب الروح.(1/113)
وقراءة القرآن على القبر ليست كذلك حتى إن المراءاة بها مما لا يكاد يقع لأن من يقرأ لغيره لا يعد من العباد الممتازين على غيرهم فيكتمها خوف الرياء. فلو كانت القراءة عند القبر مشروعة لفعله السلف ولنقل إلينا منه الكثير، ولكنه لم يكن.
... (فالراجح) الذي تشهد له الأدلة الثابتة أن قراءة القرآن عند القبر مكروهة لأنه لم يثبت فيها حديث مرفوع صحيح ولا حسن ولم ينقل عن أحد من الصحابة ولا التابعين. ولذا قال الإمام أحمد: القراءة عند القبر بدعة. وتقدم الجواب عما استند إليه القائلون بالاستحباب. والله الموفق للصواب.
الزكاة
... هي الركن الثالث من أركان الإسلام بعد الشهادتين والصلاة. ذكرت بعد الصلاة لاقترانها بها في اثنتين وثمانين آية، وفي عدة أحاديث (منها) حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الإسلام، فقال: "الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤتى الزكاة المفروضة وتصوم
رمضان" (الحديث) أخرجه الشيخان(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... {1}
... (وحديث) ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصمونا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله" أخرجه الشيخان وكذا أحمد عن أبي هريرة(2). ... ... {2}
__________
(1) انظر ص 85 ج 1 فتح الباري (سؤال جبريل) وص 161 و162 ج 1 نووي (تعريف الإسلام).
(2) انظر ص 57 ج 1 فتح الباري (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) وص 212 ج 1 نوي (الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله) وص 96 ج 1- الفتح الرباني (حكم الأمر بالشهادتين).(1/114)
... (وقال) ابن مسعود رضي الله عنه: مرنا بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ومن لم يزك فلا صلاة له. أخرجه الطبراني بسند صحيح(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {3}
... (ثم) الكلام هنا ينحصر في خمسة عشر مبحثا:
... (1) تعريف الزكاة:
... هي لغة الطهارة والنماء والبركة، قال تعالى: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها"(2)، وقال: "وما ءاتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون"(3)(وشرعا) حق واجب في المال لله تعالى. وبعبارة أخرى تمليك جزء من مال عينه الشارع لمستحقه مع قطع المنفعة عن المملك من كل وجه(4)(سميت) بذلك لأنها مطهرة للمال بإخراج حق الغير منه، ومطهرة للمزكى من دنس البخل والآثام. وبها يبارك في المال ويخلف على المتصدق، قال تعالى: "وما انفقتم من شيء فهو يخلفه"(5).
... (وعن) أبي كبشة الأنماري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه: ما نقص مال من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله بها عزا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر" (الحديث) أخرجه الترمذي(6). ... ... ... ... ... ... ... ... {4}
... (2) دليلها:
... الزكاة فرض قطعي ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة.
__________
(1) انظر ص 62 ج 3 مجمع الزوائد (فرض الزكاة).
(2) سورة التوبة: آية 103.
(3) سورة الروم: آية 39.
(4) تمليك) خرج به الإباحة فلو انفق على يتيم ناويا الزكاة لا يجزئه. و(جزء من مال) خرج به المنفعة فلو أسكن فقيرا داره مدة بنية الزكاة لا يجزئه. و(عينه الشارع) خرج ما لم يعينه كصدقة التطوع والفطر لأنها وإن كانت مقدرة فليست معينة من المال لو جوبها في الذمة. و(مع قطع المنفعة) خرج الدفع إلى أصول المزكى وفروعه وزوجه ومكاتيه على خلاف يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
(5) سورة سبأ : أية 39.
(6) انظر ص 284 ج 3 تيسير الوصول (المواعظ).(1/115)
... (قال) الله تعالى: "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة"(1)، وقال "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها" وقال تعالى: "كلوا من ثمره إذا أثمر وءاتوا حقه يوم حصاده"(2). وغير ذلك من الآيات.
... (وقد) ورد فيها أحاديث غير ما تقدم (منها) حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن قال: "إنك تأتي قوما أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإنهم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله عز وجل افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله تعالى افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب" أخرجه السبعة وقال الترمذي: حسن صحيح(3). ... ... ... ... ... ... ... ... ... {5}
__________
(1) سورة البقرة: آية 43.
(2) سورة الأنعام: آية 141.
(3) انظر ص 188 ج 8 – الفتح. الرباني (افتراض الزكاة) وص 229 ج 3 فتح الباري (أخذ الصدقة من الأغنياء) وص 196 ج 1 نووي (الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام) وص 84 ج 9 – المنهل العذب المورود وص. 33 ج 1 مجتبي (وجوب الزكاة) وص 5 ج 2 تحفة الأحوذي (كراهية أخذ خيار المال في الصدقة) وص 279 ج 1- ابن ماجه (فرض الزكاة) (وقد بعث) النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن في ربيع الآخر سنة عشر من الهجرة (وقيل) بعثه سنة تسع أو ثمان. كان واليا على اليمن أو قاضيا بها (وكرائم) جمع كريمة أي نفيسة فلا يجوز للساعى اخذ خيار المال إلا برضا المالك. ولم يذكر في الحديث الصوم والحج، لأن اهتمام الشارع بالصلاة والزكاة أكثر.(1/116)
... (وحديث) على رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإن الله يحاسبهم حسابا شديدا ويعذبهم عذابا أليما" أخرجه الطبراني في الصغير والأوسط وقال: تفرد به ثابت بن محمد الزاهد وهو من رجال الصحيح، وبقية رجاله وثقوا، وفيهم كلام(1). ... ... ... ... ... ... ... {6}
... (وحديث) أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "ويل للأغنياء من الفقراء يوم القيامة، يقولون ربنا ظلمونا حقوقنا التي فرضت لنا عليهم، فيقول الله تعالى: وعزتي وجلالي لأدنينكم ولأباعدنهم ثم تلا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "وفي أموالهم حق معلوم* للسائل والمحروم" أخرجه الطبراني في الصغير والأوسط. وفيه الحارث بن النعمان وهو ضعيف(2). ... ... ... ... {7}
... (وأجمع) المسلمون في جميع الأعصار والأقطار على فرضية الزكاة. فمن جحد فرضيتها وهو بين المسلمين فهو مرتد يستتاب ثلاثا. فإن تاب وإلا قتل لأنه أنكر أمرا ثابتا بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. أما من أنكر فرضيتها جهلا لحداثة عهده بالإسلام أو لأنه نشأ بعيدا عن الأمصار والعلماء لا يحكم بكفره لعذره، بل يعرف فرضيتها وتؤخذ منه، فإن جحدها بعد ذلك حكم بكفره(3).
... (3) وقت افتراضها:
__________
(1) انظر ص 62 ج 3 مجمع الزوائد (فرض الزكاة) (والجهد) بفتح فسكون: المشقة أي لن يصيب الفقراء الجهد والمشقة من الجوع والعرى إلا لمنع الأغنياء الزكاة وبخلهم بها.
(2) انظر ص 62 ج 3 مجمع الزوائد (فرض الزكاة).
(3) انظر ص 334 ج 5 مجموع النوي.(1/117)
... فرضت الزكاة في السنة الثانية من الهجرة. وقيل: فرضت بمكة إجمالا وبينت بالمدينة تفصيلا جمعا بين "الآيات" الدالة على فرضيتها بمكة، كقوله تعالى: "وءاتوا حقه يوم حصاده(1)". وقوله: "وفي أموالهم حق للسائل والمحروم"(2). "والآيات" الدالة على فرضيتها بالمدينة، كقوله: "وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة"(3). وقوله: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها"(4).
... (4) سببها:
... سبب لزوم الزكاة الملك التام لنصاب حولي فارغ عن:
(أ ) دين ولو مؤجلا له مطالب من العباد سواء أكان لله كزكاة أو للعبيد.
(ب ) وعن حاجته الأصلية كدار السكني، وكتب العلم لأهله، وآلات الصناعة لأربابها، وأثاث المنزل، وآلات الحرب للمجاهدين.
(5) حكمتها:
... وحكمة مشروعية الزكاة:
(أ ) التطهر من أدناس الذنوب والبخل.
(ب ) حفظ المال من التلف.
(
__________
(1) سورة الأنعام: ىية 141.
(2) سورة الذاريات: آية 19.
(3) سورة البقرة: آية 43.
(4) سورة التوبة: آية 103.(1/118)
روي) أبو هريرة عن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما تلف مال في بحر ولا بر غلا بحبس الزكاة" أخرجه الطبراني في الأوسط وفيه عمر بن هارون ضعيف(1). ... ... ... ... {8}
... (جـ) لما فيها من الإحسان إلى المحتاجين والرفق بهم ورفع درجات المزكي وتطييب قلوب الفقراء واطمئنانهم بما يأخذون من الأغنياء، فلا يطمعون في الاستيلاء على أموالهم بوجه غير مشروع.
... (د) وأيضا فإن المال محبوب بالطبع، فإذا استغرق القلب في حبه. اشتغل به عن حب الله وعن الطاعة المقربة إلى الله تعالى، فاقتضت الحكمة إيجاب الزكاة في ذلك المال ليكون سببا للقرب من الله تعالى.
... (هـ) وأيضا فإن إخراج المال شاق على النفس، فأوجب الله تعالى الزكاة لامتحان أرباب الأموال ليتميز بذلك المطيع المخرج لها عن طيب نفس من العاصي المانع لها. ولا ريب أن من أخرج الزكاة فقد حفظ دينه وأرضى ربه ونما ماله وحفظ من التلف، وتبرأ من دنس الشح.
... (6) منع الزكاة:
__________
(1) انظر ص 63 ج 3 مجمع الزوائد (فرض الزكاة) "وأما" حديث ابن مسعود مرفوعا: حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، وأعدوا للبلاء الدعاء. أخرجه الطبراني في الأوسط والكبير وفي موسى بن عمير الكوفي وهو متروك (انظر ص 63 ج 3 مجمع الزوائد) "فقد" قال ابن الجوزي لا يصح. تفرد به موسى بن عمير وقال أبو حاتم ذاهب الحديث كذاب. وقال ابن عدى: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. ثم ساق له أخبارا منها هذا (وقد) أورده السيوطي في الجامع الصغير عن الحسن مرسلا: "حصنوا أموالكم بالزكاة وداووا مرضاكم بالصدقة واستعينوا على حمل البلاء بالدعاء والتضرع: أخرجه أبو داود في المراسيل. وأسنده البيهقي وغيره من وجوه ضعيفة (انظر ص 388 ج 3 فيض القدير).(1/119)
... منعها إثم كبير وضلال مبين جاء فيه الوعيد الشديد في آيات وأحاديث كثيرة (قال) تعالى: "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم* يوم يحمي عليها في نار جهنم فتكوي بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون"(1).
... (وقال) تعالى: "ولا يحسبن الذين يبخلون بما أتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة. ولله ميراث السموات والأرض"(2).
__________
(1) سورة التوبة ىية 34 و35. و(الكنز) ما لم تؤدي زكاته نقدا أو غيره. أما مازكي فليس بكنز على المختار (لحديث) أم سلعة موضوعا: "ما بلغ أن تؤدي زكاته فزكى فليس بكنز" أخرجه أبو داود والدارقطني والبيهقي وقال: تفرد به ثابت بن عجلان وهو ثقة. وأخرجه الحاكم بلفظ: إذا أديت زكاته فليس بكنز (أنظر ص 136 ج 9 المنهل العذب المورود) و(البشارة) الخبر يتغير له لون البشرة لتأثيره في القلب فرحا أو حزنا.
(2) سورة آل عمران آية: 180 و (البخل) منع الإنسان الحق الواجب و(التطويق) أن يجعل ما بخلوا به من مال طوقا من نار في أعناقهم. وقبل معناه أنهم سيحملون عقاب ما بخلوا به فهو من الطاقة لا من الطويق. وقوله "سيطوقون ما بخلوا به" بيان للشر الذي أو عدوا به "ولله ميراث السموات والأرض" أي له وحده ما فيهما مما يتوارثه أهلها. فما بالهم يبخلون بذلك ولا ينفقونه؟ وهو لله سبحانه وتعالى لا لهم وإنهما هو في أيديهم عارية مستردة، قال تعالى: "وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه" سورة الحديد آية 7.(1/120)
... (وعن) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا جيء به يوم القيامة وبكنزه فيحمي عليه صفائح في نار جهنم فتكوي بها جنبته وجنبه وظهره حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون. ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا جيء به يوم القيامة وبإبله كأوفر ما كانت عليه فيبطح لها باقع قرقر تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مضى أخراها ردت عليه أولادها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. وما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها إلا جيء به وبغنمه يوم القيامة كأوفر ما كانت فيبطح لها بقاع قرقر فتطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها كلما مضت أخراها ردت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. قيل: يا رسول الله فالخيل؟ قال: الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة. والخيل ثلاثة وهي لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر. فأما الذي هي له أجر الذي يتخذها ويحبسها في سبيل الله فما غيبت في بطونها فهو له أجر وإن استنت منه شرفا أو شرفين كان له في كل خطوة خطاها أجر، ولو عرض له نهر فسقاها منه كان له بكل قطرة غيبته في بطونها اجر حتى ذكر الأجر في أرواثها وأبوالها. وأما الذي هي ستر فرجل يتخذها تعففا وتجملا وتكرما ولا ينسى حقها في ظهورها وبطونها في عسرها ويسرها. وأما الذي عليه وزر فرجل يتخذها أشرا وبطرا ورثاء الناس وبذخا عليه.(1/121)
قيل: يا رسول الله فالحمر؟ قال: ما أنزل على فيها شيء إلا هذه الآية: "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره" أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود(1).
__________
(1) انظر ص 193 ج 8 – الفتح الرباني (افتراض الزكاة) وص 64 ج 7 نووي (إثم مانع الزكاة) وص 299 ج 9 – المنهل العذب المورود (حقوق المال) (فتكوى بها جبهته إلخ) خص الجبهة والجنوب والظهور لأنها أشرف الأعضاء لاشتهالها على الدماغ والقلب والكبد، فالتألم بكيها أشد: لا يوضع دينار ولا درهم فوق غيره ولكن يوسع الجلد حتى توضع كلها عليه بعد جعلها صفائح من نار (وأيضا) فإن الغني الشحيح إذا طلب منه السائل بدت على جبهته آثار الكراهة والمنع، وإن كرر السائل الطلب نأى بجنبه ومال عنه، وإن ألح في السؤال ولاه ظهره وتوجه إلى جهة أخرى وهي النهاية في الرد والغاية في المنع (وإلا) فالكي بها لجميع البدن (وظاهر) قوله (حتى يحكم الله بين عباده) أن هذا العذاب يكون في الموقف (وطول) يوم القيامة مقدار خمسين ألف سنة من أيام الدنيا (إنما هو) على الكافر والعاصي كل بقدر ذنبه، أما كامل الإيمان فيكون عليه أخف من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا.
... (روى) أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يوما كان مقداره خمسين ألف سنة. فقيل: ما أطول هذا اليوم. فقال: والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة" أخرجه أحمد وابن حبان (انظر ص 300 ج 9 – المنهل العذب المورود- الشرح) (ويرى سبيله) بضم الياء مبنيا للمفعول وبفتحها مبنيا للفاعل، أي يعين له أحد الطريقين أو يعلم هو مصيره إما إلى الجنة إن كان ما ناله من العذاب كفر ما عليه أو عفا الله عنه، وإما إلى النار إن لم يكن كذلك، وهذا في غير مستحل منع الزكاة، أما هةو فيخلد فيها (والبطح) الإلقاء على الوجه (والقاع) الأرض المستوية الواسعة وكذا (القرقر) بفتحتين بينهما سكون وذكر للتأكيد أو هو الأملس من الأرض المستوية، وهو صفة لقاع، والمعنى أنه يلقى على وجهه لتطأه الإبل بأرض واسعة مستوية ملساء (والمغيب في بطن الخيل) العلف والماء (واستنت) أي جرت (والشرف) بفتحتين: المرتفع من الأرض. والمعنى: إن جرت الخيل للحصول على العلف والماء مكانا أو مكانين كان لصاحبها بكل خطوة خطاها في رعايتها وسقايتها أجر عظيم، والمراد (بحق الخيل) الإحسان إليها والقيام بمؤنها (وقيل) المراد به وجوب الزكاة فيها. وبه قال النعمان على ما يأتي ببيانه إن شاء الله. والمراد (بحق ظهورها) الجهاد عليه وما يكسبه من مال العدو وهو خمس الغنيمة (والأثر) بفتحتين من باب تعب: البطر وكفر النعمة بعدم شكرها (والبطر) كذلك، وقيل الأشر: المرح. والبطر: الطغيان عند الحق (والبذخ) بمعنى الأشر والبطر. يقال: بذخ الرجل، أي تكبر (والحمر) بضمتين جمع حمار.(1/122)
... ... ... {9}
... (وحديث) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يأخذ بلهزمتيه يوم القيامة، ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا: "ولا يحسبن الذين يبخلون بما أتاهم الله من فضله" الآية. أخرجه مالك وأحمد والبخاري(1). ... ... ... {10}
... (وحديث) عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنع عبد زكاة ماله إلا جعل له شجاع أقرع يتبعه يفر منه وهو يتبعه فيقول: أنا كنزك، ثم قرأ عبد الله: سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة" أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وصححه المنذري(2). ... ... ... ... ... {11}
... ففي هذه الآيات والأحاديث التنفير من منع الزكاة وأن مانعها يعذب بأنواع من العذاب. فتارة يجعل ماله صفائح من نار يكوي بها. وتارة يمثل ماله ثعبانا عظيما يطوقه ويأخذ بشدقيهز وتارة يمثل حيوانا يطؤه بأظلافه وينطحه بقرونه. وتارة يتبعه وهو يفر منه فيهدده وينهره بقوله: أنا كنزك أنا مالك الذي لم تؤد حقه فذق وباله وجزاء تفريطك. ودلت الأحاديث أيضا أن مانع الزكاة لا يخلد في النار إن لم يستحل تركها على ما تقدم.
__________
(1) انظر ص 200 ج 8 – الفتح الرباني (عذاب من منع الزكاة) وص 173 ج 3 فتح الباري (إثم مانع الزكاة) و(مثل) يشد الثل مبنيا للمفعول، أي صور ماله على صورة شجاع، وهو ذكر الحية الذي يقوم على ذنبه ويهجم على الفارس، (والأقرع) الذي انتحل شعره لكثرة سمه (والزبيبتان) نكتتان سوداو أن فوق عينه أةو نقطتان يكتنفان فاه. وقيل: لحمتان على رأسه مثل القرنين. وقيل: نابان يخرجان من فيه مثل الفيل (واللهزمتان) بكسر اللام والزاي وسكون الهاء: الشدقان أو العظمان الناتئشان في الحيين تحت الأذنين.
(2) أنظر ص 202 ج 8 – الفتح الرباني، وص 333 ج 1 مجتبي (التغليظ في حبس الزكاة) وص 279 ج 1- ابن ماجه (ما جاء في منع الزكاة).(1/123)
... (7) قتال مانع الزكاة :
... اتفقت الصحابة رضي الله عنهم على قتال مانع الزكاة. (قال) أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: "لما توفى النبي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر بعدهن وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال النبي صلى الله عليه وسلك: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله. فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه. فقال عمر: فو الله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق" أخرجه الجماعة إلا ابن ماجه(1).
__________
(1) انظر ص 191 ج 8 – الفتح الرباني (افتراض الزكاة) وص 171 ج 3 فتح الباري (الزكاة) وص 200 ج 1 نووي (الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) وص 114 ج 9 – المنهل العذب المورود (الزكاة) وص 335 ج 1 مجتبي (منع الزكاة).
... (واستخلف) أي تولى الخلافة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وتم له ذلك يوم الثلاثاء الرابع عشر من ربيع الأول سنة 11 من الهجرة (9 يونيه سنة 632 م) (وأنظر) حديث بيعته رضي الله عنه ص 115 ج 9 – المنهل العذب المورود.
... (وكفر من كفر) أي ارتد عن الدين من أراد الله كفره، فأنكروا الشرائع الصلاة ومنعوا الزكاة، ومنهم من أقر بالصلاة ومنع الزكاة.
... وادعى النبوة مسيلمة الكذاب وطليحة الأسدي وسجاح بنت الحارث والأسود العنسي باليمن. فأسرع أبو بكر رضي الله عنه في تلافي الأمر، وأمر بعقد أحد عشر لواء لأحد عشر قائدا؛ فقاتلوا أهل الردة حتى رجعوا إلى الإسلام وقاتلوا المتنبئين حتى قتل مسيلمة باليمامة، والأسود العنسي بصنعاء وهرب طليحة الأسدي وسجاح وأسلما بعد ذلك. وكان لطليحة شأن في نصرة الإسلام زمن عمر بن الخطاب (وقاتلوا) مانعي الزكاة حتى أدوها وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.
... و(كيف تقاتل الناس.. الخ) عزم أبو بكر رضي الله عنه على قتال مانعي الزكاة لأنها حق المال، كما يقاتل تارك الصلاة لأنها حق البدن. وبين ذلك لعمر رضي الله عنه فعرف أنه الحق (ومما) يدل على قتال مانع الزكاة كتارك الصلاة (حديث) ابن عمر – السابق رقم 2 ص 103- الزكاة- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة" و(العقال) بكسر العين: الحبل يعقل به البعير، كان يؤخذ في الصدقة لأن على صاحبها تسليمها للساعي وإنما يكون بالرباط. وقيل أراد ما يساوي مقالا من حقوق الصدقة.(1/124)
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {12}
... (وقد) جاء في هذا أحاديث كثيرة صحيحة تدل على أنه يطلب من الإمام قتال من امتنع عن تأدية الزكاة وكان ذا قوة (فإن) ظفر به وبماله أخذ منه الزكاة بلا زيادة ولا تسبي ذريته، لأن الجناية من غيرهم ولأن مانع الزكاة لا يسبي (وإن) ظفر به دون ماله دعاه إلى أداء الزكاة واستتابه ثلاثا. فإن تاب وأدى الزكاة إلا قتل عقوبة لا كفرا، لأن عمر وغيره من الصحابة رضي الله عنهم امتنعوا من قتال مانعي الزكاة في بدء الأمر ولو اعتقدوا كفرهم لما توقفوا عنه. ثم اتفقوا على القتال وبقي الكفر على اصل النفي، ولأن الزكاة فرع من فروع الدين فلا يكفر تاركه بمجرد تركه كالحج (وروي) عن أحمد ما يفيد أنه يكفر بقتاله عليها (روى) الميموني عنه أنه قال: إذا منعوا الزكاة كما منعوها أبا بكر وقاتلوا عليها لم يورثوا ولم يصل عليهم.
... (وقال) ابن مسعود: ما تارك الزكاة بمسلم وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه لما قاتلهم وعضتهم الحرب قالوا: نؤديها، قال: لا أقبلها حتى تشهدوا أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة فدل على كفرهم.
... (وأجاب) الجمهور عن هذا بأنه يحتمل أنهم جحدوا وجوبها، فقد نقل عنهم أنهم قالوا: إنما كنا نؤدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن صلاته سكن لنا وليس صلاة أبي بكر سكنا لنا فلا نؤدي إليه.
... (ويحتمل) أن أبا بكر رضي الله عنه قال ذلك لأنهم ارتكبوا كبائر من غير توبة، فحكم لهم بالنار ظاهرا كما حكم لقتلى المجاهدين بالجنة ظاهرا. والأمر مفوض إلى الله تعالى في الجميع ولم يحكم عليهم بالخلود في النار ولا يلزم من الحكم بها الحكم بالخلود بعد أن أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن قوما من أمته يدخلون النار ثم يخرجهم الله تعالى منها ويدخلهم الجنة(1).
__________
(1) انظر ص 438 ج 2 مغني ابن قدامة.(1/125)
... (أما) من منعها بلا قوة معتقدا وجوبها فإن الإمام يأخذها منه ويعزره، ولا يؤخذ منه أزيد منها عند الأئمة الأربعة والجمهور (لحديث) أبي هريرة أن أعرابيا قال للنبي صلى اله عليه وسلم: دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة قال: "تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان" قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا. فلما أدبر قال: "من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا" أخرجه الشيخان(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {13}
__________
(1) انظر ص 170 ج 3 فتح الباري (الزكاة) وص 174 ج 1 نووي (الإيمان الذي يدخل به الجنة).(1/126)
... فقوله: لا أزيد على هذا، أقره عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو مطلق يشمل من منع الزكاة ثم أداها (وقال) الشافعي في القديم وإسحاق بن راهويه: يأخذ منه الزكاة وشطر ماله (لحديث) بهز بن حكيم عن أبيه عن جده معاوية ابن حيدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في كل إبل سائمة، في كل أربعين ابنه لبون لا تفرق إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجرا فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها منه وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا عز وجل لا يحل لآل محمد منها شيء. أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي(1). ... ... {14}
... (وأجاب) الجمهور بأنه لم يثبت (فقد) روى البيهقي عن الشافعي أنه قال: هذا الحديث لا يثبته أهل العلم بالحديث، وليس بهز حجة.
... (وقال) أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وسئل أحمد عنه فقال: ما أدري وجهه. وسئل عن سنده فقال: صالح.
... (8) فضل الزكاة:
__________
(1) انظر ص 217 ج 3- الفتح الرباني 0جامع لأنواع تجب فيها الزكاة) وص 170 ج 9- المنهل العذب المورود (زكاة السائمة) وص 335 ج 1 مجتبي (عقوبة مانع الزكاة) وص 105 ج 4 بيهقي (ما ورد فيمن كتمه). و(السائمة) ما ترعى في كلأ مباح. و(في كل أربعين ابنة لبون) بدل مما قبله. وهو محمول عند الجمهور على ما إذا زادت الإبل على مائة وعشرين. وعند الحنفيين على ما بعد مائة وخمسين على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. و(لا تفرق إبل عن حسابها) أي لا يفرق أحد الخليطين إبله عن إبل صاحبه فرارا من الصدقة. فقوله (عن حسابها) أي عن مقدارها وعددها الذي تجب فيه الزكاة كما إذا كان لأحدهما ثلاث من الإبل وللآخر اثنان فإن في مجموعها شاة. ولو فرقاها فلا شيء عليهما. و(مؤتجرا) أي طالبا أجرها من الله تعالى طيبة بها نفسه. و(الشطر) النصف. و(عزمة) أي عزم الله ذلك عزمة، أي أوجبه وجوبا.(1/127)
... قد ورد في فضل الصدقة- واجبة أو غير واجبة - أحاديث ( منها ) حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله عز وجل يقبل الصدقات ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره أو فلوه أو فصيله حتى إن اللقمة لتصير مثل جبل أحد، قال تعالى : "ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات" . "ويمحق الله الربا ويربي الصدقات" . أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وصححه المنذري(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {15}
__________
(1) انظر ص 181 ج 8 – الفتح الرباني (ما ورد في فضلها) وص 22 ج 2 تحفة الأحوذي (فضل الصدقة) وص 290 ج 1 – ابن ماجه. (ويأخذها بيمينه) هذا من أحاديث الصفات نؤمن به ونمره على ظاهره من غير تشبيه ولا تعطيل. قال تعالى: "ليس كمثله شيء" وقيل: المراد من أخذها باليمين حسن القبول وكمال الرضا عن المتصدق (والمهر) بضم فسكون: ولد الفرس الصغير (والفلو) بفتح فضم فشد الواو: هو المهر يفصل عن أمه وكذا الفصيل.(1/128)
... (وحديث) أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما طلعت شمس قط إلا بعث بجنبتيها ملكان يناديان يسمعان أهل الأرض إلا الثقلين: يأيها الناس هلموا إلى ربكم فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، ولا آبت شمس قط إلا بعث بجنبتيها ملكان يناديان يسمعان أهل الأرض إلا الثقلين: الهم أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا مالا تلفا" أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم وقال صحيح الإسناد(1). ... ... ... ... ... ... {16}
__________
(1) أنظر ص 184 ج 8 – الفتح الرباني (ما ورد في فضلها) وقال المنذري: ورواء البيهقي من طريق الحاكم وزاد بعد قول الملكين: وأعط ممسكا تلفا. وأنزل الله في ذلك قرآنا- في قول الملكين: يأيها الناس هلموا إلى ربكم- في سورة يونس: "والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" وأنزل في قولها: اللهم أعط منفقا خلفا.. الخ- "والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى" إلى قوله: اللعسرى (أنظر ص 39 رقم 4 ج 2- الترغيب في وجوه الخير) و(وهلموا.. الخ) أقبلوا على طاعة ربكم وتصدقوا بفضل مالكم ولا تبخلوا به رغبة من كثرته فإن ما قل منه وكفى صاحبه- بعد إخراج الصدقة منه- خير مما كثر وألهى صاحبه عن الصدقة وفعل الخير.(1/129)
... (وحديث) أنس أن رجلا من بني تميم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني ذو مال كثير وذو أهل وولد وحاضرة فأخبرني كيف النفق وكيف أصنع؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تخرج الزكاة من مالك فإنها طهرة تطهرك، وتصل أقرباءك وتعرف حق السائل والجار والمسكين. فقال: يا رسول الله أقلل لي. قال: "فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا". قال: حسبي يا رسول الله إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله؟ فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: نعم إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها فلك أجرها وإثمها على من بدلها. أخرجه أحمد والطبراني في الكبير بسند رجاله رجال الصحيح(1). ... {17}
... والأحاديث في هذا كثيرة(2)،
__________
(1) انظر ص 187 ج 8 – الفتح الرباني وص 63 ج 3 مجمع الزوائد (فرض الزكاة). (والمحاضرة) الجماعة تأتي الرجل للضيافة. (وأقلل لي) أي بين لي بلفظ قليل.
(2) منها) حديث جرير بن عبد اله السابق رقم 5 ص 6 ج 1 – الدين الخالص طبعة ثالثة. (وحديث) عدى بن حاتم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله عز وجل ليس بينه وبينه ترجمان (بفتح التاء وضمها) فينظر عمن أيمن منه (أي ليستعين به في هذا الموقف) فلا يرى إلا شيئا قدمه، وينظر عمن أشأم منه (أي عمن يكون عن شماله) فلا يرى إلا شيئا قدمه، وينظر أمامه فتستقبله النار. فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل. فمن لم يجد فبكلمة طيبة. أخرجه أحمد والشيخان (انظر ص 155 ج 9 الفتح الرباني- صدقة التطوع. وص 323 ج 11 فتح الباري- من نوقش الحساب عذب).
... (وحديث) يزيد بن حبيب أن أبا الخير مرثد بن عبد الله حدثه عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس أو يحكم بين الناس. أحد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. (أنظر ص 156 ج 9 الفتح الرباني- صدقة التطوع).
... (وحديث) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن ملكا بباب من أبواب السماء يقول: من يقرض اليوم يجزئ غدا، وملكا بباب آخر يقول: اللهم أعط منفقا خلفا وعجل لمسك تلفا" أخرجه أحمد ومسلم. (انظر ص 158 د 9 – الفتح الرباني (صدقة التطوع).
... (وحديث) ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيكم مال وارثه أحب إليه من مال؟ قالوا: يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه. قال: أعلموا أنه ليس منكم أحد إلا مال وارثه أحب إليه من ماله. مالك إلا ما قدمت. ومال وارثك ما أخرت" أخرجه أحمد والبخاري والنسائي (انظر ص 160 ج 9 – الفتح الرباني. وص 204 ج 11 فتح الباري- ماق دم من ماله فهو له).(1/130)
وهي تدل على أن الله تعالى يقبل الصدقة من عبده ويثيبه عليها ويبارك له في ماله إذا أخرجها من حلال مخلصا لله تعالى، وأن من أنفق في طاعة الله أخلف الله عليه وضاعف له الثواب أضعافا كثيرة، وأن أفضل الإنفاق الإنفاق على العيال ثم الأقارب والمساكين ونحوهم مع عدم التبذير، وأن البخل لا يزيد في المال إلا خسارا بل يذهب البركة منه ويحرم صاحبه من الثواب، ويقع في العذاب الأليم إذا بخل بالصدقة الواجبة.
... (9) شروط الزكاة:
... للزكاة شروط افتراض وشروط ضحة:
... (أ) فشروط الافتراض عشرة:
... (الأول) الإسلام- عند غير مالك- لقول أبي بكر فيما كتبه لأنس حين بعثه مصدقا: هذه فريضة الصدقة التي فرضها النبي صلى الله عليه وسلم على المسلمين والتي أمر الله بها نبيه عليه الصلاة والسلام، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها (الحديث) أخرجه الجماعة إلا مسلما والترمذي(1). ... ... ... ... {18}
... (فلا تفترض) على كافر أصلي ولو ذميا لأنها قربة وليس هو من أهلها وهو غير مخاطب بفروع الشريعة على الصحيح عند غير مالك. وإن أسلم لم يطالب بها في مدة الكفر لقوله تعالى: "قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف"(2). (وكذا) لا تفترض في مال المرتد عند الحنفيين لأنه يصير كالكافر الأصلي حتى لو ارتد بعد لزومها تسقط عنه.
__________
(1) انظر ص 211 ج 8 – الفتح الرباني (كتاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي جمع فيه فرائض الصدقة) وص 204 ج 3 فتح الباري (زكاة الغنم) وص 139 ج 9 – المنهل العذب المورود (زكاة السائمة) وص 336 ج 1 مجتبي (زكاة الإبل) وص 283 ج 1 ابن ماجة (والمصدق) بفتح الصاد وكسر الدال مشددة: من يجمع صدقات النعم. وكان أبو بكر رضي الله عنه بعث أنسا إلى اليمن لجمع الصدقات.
(2) سورة الأنفال: آية 39.(1/131)
... (وقالت) الشافعية والحنبلية: من ارتد بعد لزومها لا تسقط عنه، لأن ما ثبت وجوبه لا يسقط بالردة كغرامة المتلفات. وأما ما لزمه حال الردة فيجب عليه وجوبا موقوفا- على الأصح- عند الشافعي فإن عاد إلى الإسلام وجبت عليه وإلا فلا(1). (وعند) الحنبلية قولان بالوجوب وعدمه.
... (وقالت) المالكية: الإسلام شرط لصحة الزكاة لا لوجوبها، فتجب على الكافر بمعنى أنه يعاقب على تركها عقابا زائدا على عقاب الكفر، لأنه مخاطب بفروع الشريعة وإن كانت لا تصح إلا بالإسلام، وإذا أسلمت سقطت عنه بلا فرق بين الكافر الأصلي والمرتد(2).
... الزكاة في مال غير المكلف:
... (الثاني) من شروط افتراض الزكاة عند الحنفيين: التكليف- في غير زكاة الزروع والفطر- بالبلوغ والعقل فلا تفترض على صبي ومجنون لقول الله تعالى: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها"(3). وهما ليسا في حاجة إلى التطير، إذ لا ذنب عليهما (ولحديث) علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم" أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين. وأقره الذهبي، لكن النسائي أخرجه من عدة طرق وقال: لا يصح منها شيء والموقوف أولي بالصواب(4). ... ... ... ... ... ... {19}
__________
(1) انظر ص 328 ج 5 مجموع النووي.
(2) تقدم بيان المذاهب في أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أوغير مخاطبين في بحث شروط الصلاة (أنظر ص 92 ج 2 – الدين الخالص).
(3) سورة التوبة: آية 103.
(4) انظر ص 238 ج 2 – الفتح الرباني (أمر الصبيان بالصلاة.. الخ)، وص 243 ج 4 عون المعبود (المجنون يسرق أو يصيب حدا) ورقم 4463 ص 35 ج 4 فيض القدير.(1/132)
... (ولا يطالب) وليهما بإخراجها من مالهما لأنها عبادة محضة وليس مخاطبين بها، وإلزامهما بالمتلفات والغرامات لكونها من حقوق العباد، ووجوب العشر وصدقة الفطر في مالهما لما فيهما من معنى المؤنة فالتحقا بحقوق العباد (والمجنون) الأصلي إذا أفاق يعتبر ابتداء الحول من وقت إفاقته كوقت بلوغ الصبي. وكذا الجنون الطارئ إن استوعب الحول على الأصح. ولا عبرة بالجنون غير المستوعب. وهذا التفصيل يجري في المعتوه.
... ( وقال ) مالك والشافعي وأحمد والجمهور: لا يشترط في وجوب الزكاة التكليف فتجب في مال الصبي والمجنون (لحديث) المثنى بن الصباح عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا من ولي يتيما له مال فليتجزأ له ولا يتركه تأكله الصدقة" أخرجه الدار قطني والترمذي وقال : " ألا من ولى يتيما له مال فليتجر له ولا يتركه تأكله الصدقة " أخرجه الدار قطنى والترمذى وقال :
إنما روى من هذا الوجه. والمثنى بن الصباح يضعف في الحديث. وأخرجه البيهقي والدارقطني بسند فيه مندل بن علي وهو ضعيف، والعزرمي وهو متروك(1). ... ... ... ... ... ... ... ... {20}
... (ولكن) له شاهدان :
... (أ) ما روى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة" أخرجه الطبراني في الأوسط بسند صحيح(2) . ... ... ... ... ... ... ... ... {21}
... (ب) ما روى ابن جريح عن يوسف بن ماهك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة" أخرجه الشافعي والبيهقي بسند صحيح(3). ... ... ... {22}
__________
(1) أنظر ص 14 ج 2 تحفة الأحوذي (زكاة مال اليتيم) وص 107 ج 4 بيهقي (من تجب عليه الصدقة) وص 206 – الدارقطني (وجوب الزكاة في مال الصبي واليتيم).
(2) انظر ص 67 ج 3 مجمع الزوائد (زكاة أموال الأيتام).
(3) انظر ص 107 ج 4 بيهقي (من تجب عليه الصدقة) و(ماهك) بفتح الهاء.(1/133)
... (وقد) أكده الشافعي بعموم الأحاديث الصحيحة في إيجاب الزكاة مطلقا وما روى عن الصحابة في ذلك(1) (ولذا) قال الجمهور: يجب على ولي غير المكلف إخراج زكاة ماله، لأن الزكاة تراد للثواب ومواساة الفقير. وغير المكلف من أهل الثواب والمواساة. ويجب في ماله غرامة ما أتلفه فوجبت الزكاة في ماله. (قال) الترمذي: اختلف أهل العلم في هذا. فرأى غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مال اليتيم زكاة منهم عمر وعلي وعائشة وابن عمر، وبه يقول مالك والشافعي وأحمد واسحق. وقالت طائفة: ليس في مال اليتيم زكاة، وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك(2).
... (وأجاب) الجمهور:
(أ ) عن استدلال الحنفيين – بآية: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها" فإن غير المكلف ليس من أهل التطهير- بأن الغالب في الزكاة أنها تطهير وليس ذلك شرطا. فإن العلماء اتفقوا على وجوب زكاة الفطر والعشر في مال غير المكلف وإن لم يكن في حاجة إلى التطهير.
(
__________
(1) روى) سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة. أخرجه البيهقي وقال: هذا إسناد صحيح وله شواهد عن عمر (انظر ص 107 ج 4) (وروى) عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عليا رضي الله عنه زكى أموال بني أبي رافع فلما دفعهم إليهم وجدوها ينقص فقالوا: إنا وجدناها بنقص، فقال علي: أترون أنه يكون عندي مال لا أزكيه؟ أخرجه البيهقي (أنظر ص 108 ج 4) (وروى) عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال: كانت عائشة رضي الله عنها تليني وأخا لي يتيما في حجرها وكانت تخرج من أموالنا الزكاة. أخرجه البيهقي (انظر ص 108 ج 4) (وروى) أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه كان يزكى مال اليتيم. وروى ذلك عن الحسن بن علي وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما. أخرجه البيهقي (أنظر ص 108 ج 4).
(2) انظر ص 15 ج 2 تحفة الأحوذي.(1/134)
ب ) وعن حديث: رفع القلم عن ثلاثة، بأن المراد رفع الإثم والوجوب. والجمهور يقولون: لا إثم على غير المكلف ولا تجب الزكاة عليه بل في ماله، ويطالب بإخراجها وليه. وذلك أن المقصود من الزكاة سد حاجة الفقير من مال الغني شكرا لله وتطهيرا للمال. ومال غير المكلف قابل لأداء النفقات والغرامات. فعلى الولي إخراجها من مال غير المكلف. فإن لم يخرجها وجب على غير المكلف إخراجها بعد البلوغ والإفاقة، لأن الحق توجه إلى المال والولي عصى بالتأخير فلا يسقط ما توجه إلى المال. وإذا نسب إلى الجنين مال بإرث أو غيره وانفصل حيا هل تجب فيه الزكاة عند الجمهور؟ الظاهر أنها لا تجب لأن الجنين لا تتيقن حياته ولا يوثق بها فلا يحصل تمام الملك واستقراره، فعلى هذا يبتدئ حولا من حين ينفصل(1).
(
__________
(1) أنظر ص 330 ج 5 مجموع النووي.(1/135)
والراجح) الذي يشهد له العقل والنقل ما ذهب إليه الحنفيون من أن زكاة غير العشر والفطرة لا تفترض في مال غير المكلف كباقي أركان الإسلام (قال) في الدرر البهية وشرحها: وتجب الزكاة في الأموال إذا كان المالك مكلفا. أعلم أن هذه المقالة قد ينبو عنها ذهن من يسمعها. فإذا راجع الإنصاف ووقف حيث أوقفه الحق- علم أن هذا هو الحق. وبيانه أن الزكاة هي أحد أركان الإسلام. ولا خلاف أنه لا يجب شيء من الأربعة الأركان التي الزكاة خامستها على غير مكلف. فإيجاب الزكاة عليه إن كان بدليل فما هو؟ فما جاء عن الشارع في هذا شيء مما تقوم به الحجة كما يروي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه أمر بالاتجار في أموال الأيتام لئلا تأكلها الزكاة(1). فلم يصح ذلك في شيء مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فليس مما تقوم به الحجة. وأما ما روي عن ابن مسعود أنه قال: من ولي مال يتيم فليحص عليه السنين، فإذا دفع إليه ماله أخبره بما فيه من الزكاة، فإن شاء زكى وإن شاء ترك(2). وروى نحو ذلك عن ابن عباس.
__________
(1) هو حديث ابن عمرو السابق رقم 20 ص 120 (الزكاة في مال غير المكلف.
(2) أخرجه البيهقي عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن مسعود. وقال: ضعف أهل العلم ليثا. وقد روى عن ابن عباس إلا انه ينفرد به ابن لهيعة وهو ضعيف لا يحتج به. وأيضا فإن الحديث منقطع لأن مجاهدا لم يدرك ابن مسعود (انظر ص 108 ج 4 بيهقي).(1/136)
... (وإن قال) قائل: إن الخطاب في الزكاة عام كقوله تعالى: "خذ من أموالهم صدقة" (فذلك) ممنوع، وليس الخطاب في ذلك إلا لمن يصلح له الخطاب وهم المكلفون. وأيضا بقية الأركان بل وسائر التكاليف- التي وقع الاتفاق على عدم وجوبها على من ليس بمكلف- الخطاب بها عامة للناس. والصبي من جملة الناس. فلو كان عموم الخطاب في الزكاة مسوغا لإيجابها على غير المكلفين، لكان العموم في غيرها كذلك، وهو باطل بالإجماع. وما استلزم الباطل باطل. مع أن تمام الآية- أعني قوله تعالى: خذ من أموالهم صدقة- يدل على عدم وجوبها على الصبي وهو قوله: تطهرهم وتزكيهم بها، فإنه لا معنى لتطهير الصبي والمجنون ولا لتزكيته. فما جعلوه مخصصا لغير المكلفين في سائر الأركان الأربعة، لزمهم أن يجعلوه مخصصا في الركن الخامس وهو الزكاة. وبالجملة فأموال العباد محرمة بنصوص الكتاب والسنة لا يحللها إلا التراضي وطبية النفس، أو ورود الشرع كالزكاة والدية والأرش والشفعة. فمن زعم أنه يحل مال أحد من عباد الله- سيما من كان قلم التكليف عنه مرفوعا- فعليه البرهان. والواجب على المنصف أن يقف موقف المنع حتى يزحزحه عنه الدليل. ولم يوجب الله تعالى على ولي اليتيم والمجنون أن يخرج الزكاة من مالهما ولا أمره بذلك ولا سوغه له، بل وردت في أموال اليتامى تلك القوارع التي تتصدع لها القلوب وترجف لها الأفئدة(1).
... (وقال) العلامة صديق بن حسن البخاري: والحق الذي لا محيص عنه أنها لا تجب الزكاة في مال الصبي. والمرفوع في هذه المسألة لم يثبت والموقوف لا حجة فيه. وحكم الصبي في جميع الفرائض- في الصلاة والصوم والزكاة- وأحد لم يخص منها شيء دون شيء(2).
... هل على العبد زكاة؟
__________
(1) انظر ص 120 و121- الروضة الندية.
(2) انظر ص 270 ج 1 فتح الملك العلام شرح بلوغ المرام.(1/137)
... (الثالث) من شروط افتراض الزكاة: الحرية، فلا تفترض على العبد القن والمدبر عند كافة العلماء وكذا المكاتب والمستسعى لا تجب عليهما زكاة عند الجمهور سواء الزرع وغيره لضعف ملكهما ولأن الزكاة للمواساة وليس الرقيق من أهلها (وقال) الحنفيون: على المكاتب زكاة الزرع دون باقي الأموال (لعموم) حديث معاذ رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ مما سقت السماء العشر ومما سقى بالدوالي نصف العشر" أخرجه النسائي(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {23}
... والمستسعى كالمكاتب عند أبي حنيفة (وقال) أبو يوسف ومحمد: هو حر مدين يزكي ما زاد على الدين المطلوب منه لسيده إن بلغ نصابا وحال عليه الحول (وقال) الجمهور: إن عتق المكاتب والمال في يده استأنف له الحول من حين العتق، وإن عجز وصار المال للسيد ابتدأ الحول من حينئذ.
... زكاة الصداق والموقوف وغير المملوك ونحوها:
... (الرابع) من شروط افتراض الزكاة: الملك التام (وهو) عند الحنفيين أن يكون المال مملوكا في اليد (وعند) المالكية أن يكون للشخص حق التصرف فيما ملك (وعند) الشافعية والحنبلية أن يكون المال بيده يتصرف فيه باختياره وثمرته له ولم يتعلق به حق الغير، وعليه:
( أ ) فلا زكاة في الزرع الثابت بأرض مباحة اتفاقا لعدم الملك.
( ب ) ولو ملك ما لم يقبضه كصداق المرأة قبل قبضه فلا زكاة فيه حتى تقبضه على ما سيأتي بيانه في زكاة الدين إن شاء الله تعالى.
(جـ) ومن قبض ما لا يملك كالمدين الذي بيده مال الدائن فلا زكاة عليه عند الحنفيين، لأنه غير مملوك له.
(
__________
(1) أنظر ص 344 ج 1 مجتبي (ما يوجب العشر وما يوجب نصف العشر) و(الدوالي) جمع دالية، وهو ما يستسقى به من البئر.(1/138)
وقال) مالك: إن كان ما بيده نقدا وعنده عقار أو غيره يوفى منه الدين فعليه زكاة ما بيده متى مضى عليه حوله لأنه- بقدرته على تسديده من ماله- أصبح مملوكا له. أما إذا كان ما بيده حرثا أو ماشية أو معدنا فعليه زكاته وإن لم يوجد عنده ما يوفي به الدين.
... (وقالت) الشافعية والحنبلية: يجب على من استدان مالا أن يزكيه إذا حال عليه الحول وهو في يده لأنه ملكه بالاستقراض ملكا تاما.
... (د) ولا زكاة في المال الموقوف مطلقا عند الحنفيين لعدم الملك (وقالت) المالكية: تجب الزكاة في المال الموقوف على ملك الواقف لأن الوقف لا يخرج العين عن الملك. فلو وقف بستانا ليفرق ثمره على الفقراء أو بين بني فلان، وجب عليه أن يزكى ثمره إن بلغ نصابا وإلا فلا، إلا إذا كان عند الواقف ثمر بستان آخر يكمل النصاب فيجب عليه زكاة الجميع.
... (وقالت) الشافعية والحنبلية: لا تجب الزكاة في مال موقوف على غير معين كالمساكين أو على مسجد ومدرسة ونحوها. وتجب في الموقوف على معين إذا بلغ ثمره نصابا. وكذا تجب على من أجر أرضا موقوفة وزرعها فعليه زكاة الخارج إن بلغ نصابا مع أجرة الأرض. فإذا كانت الماشية موقوفة على جهة عامة كالفقراء والمساجد واليتامى فلا زكاة فيها اتفاقا، لأنه ليس لها مالك معين، وإن كانت موقوفة على معين واحد أو جماعة.(1/139)
... فإن قلنا: إن الملك- في رقبة الموقوف- لله تعالى وهو الأصح، فلا زكاة اتفاقا كالوقف على جهة عامة. وإن قلنا: إن الملك في الرقبة للموقوف عليه وهو قول ضعيف عندهم، ففي وجوبها على الموقوف عليه وجهان : أصحهما لا تجب. والأشجار الموقوفة من نخل أو عنب إن كانت موقوفة على جهة عامة كالمساجد والمدارس والقراء والمساكين فلا زكاة في ثمارها. وإن كانت على معين وجبت الزكاة في ثمارها إذا بلغت نصابا اتفاقا. ويخرجها من نفس الثمرة إن شاء، لأنه يملك الثمرة ملكا مطلقا (وعن) أحمد: إن كانت موقوفة على غير معين لم تجب، وإن كانت على معين وجبت. وهكذا حكم الغلة الخالصة من ارض موقوفة إن كانت على معين وجبت زكاتها اتفاقا وإن كانت على جهة عامة لم تجب على المذهب(1).
... (الخامس) من شروط افتراض الزكاة: ملك النصاب- في غير الزروع اتفاقا، وكذا في الزروع عند غير النعمان- فلا تفترض على من لم يملك نصابا، وهو ما قدره الشارع لافتراض الزكاة، ويختلف باختلاف المال المزكى كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
... (السادس) حولان: الحول القمري على ملك النصاب- في الأثمان والمواشي وعروض التجارة- فلا زكاة فيما ذكر إلا بعد مضي حول تام- تحديدا- بعد ملك النصاب عند غير الحنبلية- وتقريبا- عندهم فلا يضر نقصانه نصف يوم (لحديث) حارثة بن محمد عن عمرة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" أخرجه ابن ماجه مرفوعا والبيهقي مرفوعا وموقوفا(2). ... ... ... ... {24}
... قال البيهقي: وحارثة لا يحتج بخبره، والاعتماد في ذلك على الآثار الصحيحة فيه عن أبي بكر الصديق وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وغيرهم رضي الله عنهم.
__________
(1) انظر ص 340 ج 5 مجموع النووي.
(2) انظر ص 281 ج 1 – ابن ماجه (من استفاد مالا) وص 95 ج 4 بيهقي (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول).(1/140)
... (وعن) أيوب عن نافع أن ابن عمر قال: "من استفاد مالا فلا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول عند ربه" أخرجه الترمذي وقال: وهذا أصح من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه(1). ... ... ... {25}
... (وعن) عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم" (الحديث) وفيه: وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول. أخرجه أبو داود والبيهقي(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... {26}
... (أما) ما يخرج من الأرض كالزرع والمعدن والركاز فتفترض فيها الزكاة ولم يحل عليها الحول. وكذا ربح التجارة لأنه يزكي بحول أصله إن كان نصابا (وجملة) القول أن أموال الزكاة ضربان:
(أ ) ما هو نماء في نفسه كالحبوب والثمار: فهذا تجب فيه الزكاة بلا توقف على الحول.
(ب ) ما هو مرصد للنماء كالنقود وعروض التجارة والماشية: فهذا يعتبر فيه الحول اتفاقا(3).
(
__________
(1) انظر ص 9 ج 2 تحفة الأحوذى (لا زكاة على المال المستفاد حتى يحول عليه الحول) و(هذا أصح من حديث عبد الرحمن بن زيد) أي هذا الموقوف صحيح (وأما) حديث زيد بن أسلم عن نافع عن ابن عمر مرفوعا (فضعيف) قال الترمذي: وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف. هذا: وقد روى المرفوع الدارقطني والبيهقي (انظر ص 198- الدارقطني وص 104 ج 4 بيهقي).
(2) انظر ص 163 ج 9 – المنهل العذب المورود (زكاة السائمة) وص 95 ج 4 بيهقي وعاصم بن ضرة وثقة ابن المديني معين والنسائي وتكلم فيه ابن حبان وابن عدى. فالحديث حسن (وقال) النووي في الخلاصة: وهو حديث صحيح أو حسن. ولا يقدح فيه ضعيف الحارث لمتابعة عاصم له (أنظر ص 328 ج 2 نصب الراية).
(3) انظر ص 361 ج 5 مجموع النووي، وفيه: وقال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما: تجب الزكاة فيما ذكر يوم ملك النصاب، فإذا حال الحول وجبت زكاة ثانية.(1/141)
والفرق) أن ما اعتبر له الحول مرصد للنماء. فالماشية مرصدة للدر والنسل. وعروض التجارة مرصدة للربح وكذا الأثمان. فاعتبر له الحول لكونه مظنة النماء، ولأن الزكاة إنما وجبت مواساة. ولم تعتبر حقيقة النماء لكثرة اختلافه وعدم ضبطه ولأن الزكاة تتكرر في هذه الأحوال فلابد لها من ضابط كيلا يفضي إلى تعاقب الوجوب في الزمن الواحد فينفذ مال المالك. أما الزروع والثمار فهي نماء في نفسها تتكامل عند نضوجها، فتؤخذ الزكاة منها حينئذ ثم تعود في النقص فلا تجب فيها ثانية لعدم إرصادها للنماء. وكذلك الخارج من المعدن مستفاد خارج من الأرض فنزل منزلة الزروع والثمار، إلا أنه إن كان من جنس الأثمان وجبت فيه الزكاة عند كل حول لأنه مظنة للنماء من حيث إن الأثمان قيم الأموال ورءوس مال التجارات(1).
(السابع) من شروط افتراض الزكاة: كمال النصاب في طرق الحول- عند الحنفيين ومالك- ولا يضر نقصانه في أثنائه ما بقى من النصاب شيء، أما لو عدم بالمرة أو نقص في آخر الحول فلا تفترض الزكاة (وقال) الشافعي وأحمد: يشترط كمال النصاب في كل الحول، فلو كمل في أول الحول ثم نقص في أثنائه ثم كمل فلا زكاة إلا إذا مضى حول كامل من يوم التمام ولو بادل بماشية ماشية من جنسها، استأنف كل واحد منهما الحول على ما أخذه من حين المبادلة، وكذا لو بادل الذهب بالذهب والفضة بالفضة استأنف الحول وإن كان صيرفيا على الأصح(2).
(وقال) بعض الحنبلية: نقص الحول ساعة أو ساعتين معفو عنه.
(وقال) بعضهم: لا يعفى عن النقص في الحول وإن كان يسيرا لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) (3).
(
__________
(1) انظر ص 456 ج 2 شرح المقنع.
(2) انظر ص 361 ج 5 مجموع النوي.
(3) تقدم رقم 24 ص 126.(1/142)
وقال) بعضهم: نقص الحول أقل من يوم لا يؤثر لأنه يسير فأشبه الحبة والحبتين. وظاهر الحديث يقتضي التأثير وهو أولى، ومتى باع النصاب في أثناء الحول أو أبدله بغير جنسه أنقطع حول الزكاة واستأنف له حولا لما ذكرنا من الحديث. ولا نعلم في ذلك خلافا إلا أن يبدل ذهبا بفضة أو فضة بذهب فإنه مبني على الروايتين في ضم أحدهما إلى الآخر، فقيل: يضم لأنهما كالجنس الواحد. فعلى هذا لا ينقطع الحول. وقيل: لا يضم أحدهما إلى الآخر لأنهما جنسان في باب الربا. فعلى هذا ينقطع الحول ومحل انقطاع الحول بالبيع والإبدال ما لم يقصد بذلك الفرار من الزكاة عند قرب وجوبها وإلا فلا تسقط. وكذا لو أتلف جزءا من النصاب لتسقط عنه الزكاة لم تسقط وتؤخذ منه في آخر الحول من جنس المال المبيع أو المبدل دون الموجود لأنه الذي وجبت فيه الزكاة. وهذا قول مالك والأوزاعي وابن الماجشون وإسحاق(1).
... (فائدة) لو ملك أقل من نصاب ثم كمل بالربح ثم كمل بالربح لا يحسب الحول إلا من وقت الكمال عند الثلاثة لعموم حديث: لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول.
... (وقالت) المالكية: لو ملك أقل من نصاب في أول الحول ثم اتجر فيه فربح ما يكمل النصاب في آخر الحول وجب عليه زكاة الجميع (وعن أحمد) فيمن ملك دون النصاب من الغنم فكمل بنتاجها احتسب الحول من حين ملك الأمهات. والمذهب الأول لأن النصاب هو السبب فاعتبر معنى الحول على جميعه(2).
... (الثامن)- من شروط افتراض الزكاة- العلم بفرضيتها لمن أسلم في دار الحرب- عند الحنفيين- أما من أسلم في دار الإسلام فلا يشترط في حقه العلم بفرضيتها لأن لا يعذر بالجهل.
__________
(1) انظر ص 460 ج 2 شرح المقنع.
(2) انظر ص 457 شرح المقنع.(1/143)
... (وقال) غيرهم: لا يشترط العلم بفرضية الزكاة ولو لمن أسلم في دار الحرب. فإذا مضت عليه سنين ولم يؤد زكاتها لومه إخراج الزكاة عن جميعها ولو لم يعلم بوجوب الزكاة أو كان في دار الحرب. ولو غلب أهل البغي على بلد ولم يؤد أهل ذلك البلد الزكاة أعواما ثم ظفر بهم الإمام أخذ منهم زكاة الماضي عند مالك والشافعي وأحمد.
... (وقال) الحنفيون: لا زكاة عليهم لما مضى(1)، لأن العلم بفرضية الصلاة والصيام والزكاة شرط لمن أسلم في دار الحرب لأنه يعذر بجهله بخلاف من اسلم في دارنا، وأيضا فإن الصلاة والصوم عبادتان بدنيتان والزكاة عبادة مالية تتعلق بمرافق الأمة الاجتماعية العامة التي يكفلها الإمام وينفق منها في مصالح العامة، فلابد أن يكون له الولاية التامة على من يأخذها منه(2).
... زكاة مال المدين:
... (التاسع) فراغ مال الزكاة- غير الزرع- من دين محيط بماله له مطالب من العباد- عند الحنفيين- بأن كان دينا للعبد أو لله له مطالب من العباد كالزكاة والمطالب بها الإمام في الأموال الظاهرة وهي المواشي وما يخرج من الأرض والملاك في الأموال الباطنة وهي أموال التجارة والأثمان، لأن الإمام كان يأخذها إلى زمن عثمان رضي الله عنه ثم فوضها إلى أربابها فهم نواب الإمام فيها. فلا تفترض الزكاة على مدين بما ذكر دينا محيطا بماله كله أو جله والباقي أقل من النصاب. أما إذا بقى منه نصاب فإنه يزكى الباقي لعدم المانع. أما الدين الخالص لله تعالى الذي ليس له مطالب من العباد كالنذر والكفارات ونفقة الحج فإنه لا يمنع وجوب الزكاة.
__________
(1) انظر ص 337 ج 5 مجموع النووي.
(2) أنظر ص 546 ج 2 مغنى ابن قدامة.(1/144)
... (وقالت) المالكية: يشترط في زكاة النقدين- غير المعدن والركاز(1)- عدم دين ينقص النصاب وليس عند المالك ما يفي به من غير حاجته الضرورية. فلا تفترض زكاة النقدين على مدين دينا ينقص النصاب وليس عنده ما يفي بالدين من غير مال الزكاة بعد حوائجه الضرورية كدار السكنى. أما الماشية والحرث والمعدن والركاز فتجب فيها الزكاة ولو مع الدين.
... (والأصح) عند الشافعية: أن الدين لا يمنع وجوب الزكاة في أي مال كان. وقيل: إنه يمنع وجوبها في الأموال الباطنة وهي الذهب والفضة وعروض التجارة، ولا يمنعها في الظاهرة وهي الزروع والثمار والمواشي والمعادن (والفرق) أن الظاهرة نامية بنفسها، وبهذا قال مالك(2).
... (والأصح) عند الحنبلية أنه يشترط في كل أموال الزكاة عدم دين يستغرق النصاب أو ينقصه ولو كان الدين من غير جنس المال المزكى أو كان دين خراج أو أجرة أرض وحرث وغيرها؛ فمن كان عنده مال وجبت زكاته وهو مدين فليخرج منه ما يفي بدينه ثم يزكي الباقي إن بلغ نصابا وإلا فلا، لأن المدين محتاج والصدقة إنما تجب على الأغنياء (لحديث) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى" أخرجه أحمد وكذا البخاري معلقا في الوصايا(3). ... ... ... ... ... ... ... {27}
... (وروى) أبو عبيد في كتاب الأموال عن السائب بن يزيد قال: سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: "هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم ومن لم يكن عنده زكاة لم يطلب منه حتى يأتي تطوعا. قال إبراهيم النخعي: أراه (يعني شهر رمضان) (4).
... (وقالت) الحنبلية: دين الله تعالى كالنذر والكفارة فيه وجهان:
__________
(1) الركاز: المال المدفون.
(2) انظر ص 544 ج 5 مجموع النووي.
(3) انظر ص 189 ج 3 فتح الباري (لا صدقة إلا عن ظهر غنى).
(4) انظر ص 545 ج 2 مغنى ابن قدامة.(1/145)
... (أحدهما) يمنع الزكاة لأنه دين يجب قضاؤه كدين الآدمي (وقد) روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر افأقضيه عنها؟ قال: "نعم فدين اله أحق أن يقضي" أخرجه الشيخان(1). ... ... ... ... ... ... ... ... {28}
... (وثانيهما) لا يمنع دين الله الزكاة، لأنها آكد منه لتعلقها بالعين. ويفارق دين الآدمي لتأكده وتوجه المطالبة به. فإن نذر الصدقة بمعين فقال: لله على أن أتصدق بهذه المائتي ريال إذا حال الحول (فقيل) يخرجها ولا زكاة عليه لأن النذر آكد لتعلقه بالعين والزكاة مختلف فيها (وقيل) تلزمه زكاتها وتجزيه الصدقة بالباقي ويكون ذلك صدقة مجزئة عن الزكاة والنذر، لأن الزكاة صدقة وباقيها يكون صدقة لنذره وليس بزكاة(2).
... (العاشر)- من شروط افتراض الزكاة- التمكن من أدائها- عند مالك والشافعي في القديم- فلا تفترض فيما حال عليه الحول قبل التمكن من أدائها حتى لو هلك المال حينئذ فلا زكاة فيه لأنها عبادة، فيشترط لوجوبها إمكان أدائها كسائر العبادات. وكذا لو أتلف المال بعد الحول وقبل إمكان الأداء فلا زكاة عليه إذا لم يقصد بإتلافه الفرار من الزكاة.
__________
(1) انظر ص 140 ج 4 فتح الباري (من مات وعليه صيام) وص 24 ج 8 نووي (قضاء الصوم عن الميت).
(2) انظر ص 455 ج 2 شرح المقنع.(1/146)
... (وقال) الحنفيون وأحمد والشافعي في الجديد: لا يشترط لوجوب الزكاة التمكن من أدائها. فتجب بحلول الحول ولو لم يتمكن من الأداء. واتفق العلماء على أن إمكان الأداء شرط في الضمان. ومعناه أنه يضمن من الزكاة بقدر ما بقي من النصاب. فلو هلك النصاب كله بعد الحول وقبل إمكان الأداء فلا شيء على المالك، لأنا إن قلنا: الإمكان شرط في الوجوب فلم يصادف وقت الوجوب مالا، وإن قلنا: الإمكان شرط في الضمان فلم يبق شيء يضمن بقسطه. فلو حال الحول على خمس من الإبل فتلف واحد قبل الإمكان فلا زكاة على التالف اتفاقا. وأما الأربعة فإن قلنا: الإمكان شرط في الوجوب فلا شيء فيها. وإن قلنا: شرط في الضمان فقط وجب أربعة أخماس شاة. ولو تلف أربعة فعلى الأول لا شيء وعلى الثاني يجب خمس شاة. ولو ملك ثلاثين بقرة فتلف خمس منها بعد الحول وقبل الإمكان فعلى الأول لا شيء عليه، وعلى الثاني يجب خمسة أسداس تبيع. ولو تم الحول على تسع من الإبل فتلف أربعة قبل الإمكان، فإن قلنا: التمكن شرط في الوجوب وجب شاة، وإن قلنا: شرط في الضمان والوقص(1) عفو فكذلك، وإن قلنا: يتعلق الفرض بالجميع الفصحيح الذي قطع به الجمهور يجب خمسة اتساع شاة(2).
__________
(1) الوقص: بفتحتين وقد تسكن القاف: ما بين الفريضتين من نصب الزكاة.
(2) انظر ص 375 ج 5 مجموع النووي.(1/147)
... (والراجح) أن الزكاة تجب بحلول الحول سواء تمكن من الأداء أو لم يتمكن (لحديث) لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول(1). فمفهومه وجوبها عليه إذا حال الحول ولأنه لو لم يتمكن من الأداء حتى حال عليه حولان وجبت عليه زكاة الحولين، ولا يجوز وجوب فرضين في نصاب واحد في حال واحد. وقياس المالكية الزكاة على سائر العبادات ينقلب عليهم، فإننا نقول هذه عبادة فلا يشترط لوجوبها إمكان أدائها كسائر العبادات، فإن الصوم يجب على الحائض والمريض العاجز عن أدائه والصلاة تجب على المغمي عليه والنائم ومن أدرك من أول الوقت جزءا ثم جن أو حاضت المرأة، والحج يجب على من أيسر في وقت لا يتمكن من الحج فيه أو منعه من المضي مانع. ثم الفرق بينهما أن تلك عبادات بدنية يكلف فعلها ببدنه فأسقطها تعذر فعلها. وهذه عبادة مالية يمكن ثبوت الشركة للمساكين في ماله والوجوب في ذمته مع عجزه عن الأداء كثبوت الديون في ذمة المفلس وتعلقها بماله بجنايته(2).
(ب) شروط صحة أداء الزكاة:
... يشترط لصحة أدائها شرطان:
... (الأول) الإسلام- عند المالكية- بناء على المعتمد عندهم من أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. فلا تصح الزكاة من الكفار عندهم، كما لا تجب عليه عند غيرهم القائلين بأن الكفار غير مخاطبين بالفروع.
... (الثانية) النية المقارنة لأداء الزكاة حقيقة أو حكما- بأن دفع إلى الفقير بلا نية ثم نوى والمال بيد الفقير- أو المقارنة لعزل المقدار الواجب إخراجه لقوله تعالى: "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين"(3). فإن الإخلاص هو النية لأنه عمل قلبي (ولحديث) عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الأعمال بالنيات" أخرجه الشيخان(4). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {29}
__________
(1) لقد رقم 24 ص 126 (الحول).
(2) انظر ص 539 ج 2 مغنى ابن قدامة.
(3) سورة البينة: آية 5.
(4) انظر ص 8 ج 1 فتح الباري (بدء الوحي) وص 53 ج 13 نووي.(1/148)
... أي إنما صحتها بالنية (وقد) أجمع العلماء على أن النية فرض في الزكاة وغيرها من مقاصد العبادات، لكنه لو تصدق بكل المال ولم ينو الزكاة سقطت- عند الحنفيين- لدخول الواجب فيما تصدق به فلا يحتاج للتعيين. (وقال) غير الحنفيين: لا تسقط الزكاة لعدم النية. (وشذ) الأوزاعي فقال: لا يشترط للزكاة نية لأنها دين فلا تجب لها النية كسائر الديون، ولهذا يخرجها ولي اليتيم ويأخذها السلطان من الممتنع. (ورد):
(أ ) بحديث: إنما الأعمال بالنيات؛ وأداؤها عمل فلابد له من النية.
(ب ) وبأنها عبادة تتنوع إلى فرض ونفل فافتقرت إلى النية كالصلاة، وتفارق قضاء الدين بأنه ليس بعبادة، ولهذا يسقط بإسقاط مستحقة، وولي الصبي والسلطان ينويان عند الحاجة.
(هذا) والنية أن يعتقد أنها زكاته أو زكاة من يخرج عنه كالصبي والمجنون، ومحلها القلب، ويجوز تقديمها على الأداء زمنا يسيرا كسائر العبادات، ولأن الزكاة تجوز النيابة فبها فاعتبار مقارنة النية للإخراج يؤدي إلى الحرج، فإن دفع الزكاة إلى وكيله ونوي هو دون الوكيل جاز إن قرب الزمن وإلا لم يجز إلا إن نوى الوكيل أيضا عند الدفع، ولو نوى الوكيل دون الموكل لم يجز لأن الفرض يتعلق به، وإن دفعها إلى الإمام ناويا ولم ينو الإمام حال دفعها للفقراء جاز وإن تأخر دفعها لهم لأنه وكيل عنهم(1).
(
__________
(1) انظر ص 505 ج 2 مغني ابن قداغمة.(1/149)
وحاصل) مذهب المالكية: أنه يجب على المزكي نية الزكاة عند عزلها أو دفعها لمستحقها لتتميز عن صدقة التطوع، فإن لم ينو ولو جهلا أو نسيانا لم تجزه. وهل يشترط إعلام الآخذ أو علمه بأنها زكاة أو لا يشترط لما فيه من كسر النفس؟ خلاف. ولا يجوز سرقة قدر الزكاة من مال من اشتهر بعدم التزكية لعدم النية (وقيل) يجوز إذا علم من شخص أنه لا يخرجها بحال وليس حاكم يكرهه على إخراجها. وإذا نوى رب المال بما سرق منه زكاة ماله لم تفده هذه النية لأن شرط النية أن تكون عند عزلها أو دفعها(1).
(10) وقت تأدية الزكاة:
يجب إخراجها فورا عند الثلاثة والجمهور، وهو المختار عند الحنفيين (لقول) عقبة بن الحارث النوفلي: "صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر فسلم فقام مسرعا فتخطي رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته فقال: "ذكرت شيئا من تبر عندنا فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته" أخرجه البخاري(2). ... ... ... ... ... ... ... {30}
ففي الحديث دليل على:
(أ ) طلب المبادرة بإخراج الزكاة بعد وجوبها كراهة أن يحبس في القيامة على التأخير (قال) ابن بطال: إن تأخير الصدقة يحبس صاحبها يوم القيامة.
(
__________
(1) انظر ص 604 ج 1 – الفجر المنير شرح مجموع الأمير.
(2) انظر ص 229 ج 2 فتح الباري (من صلى بالناس فذكر حاجة فتخطاهم) و(التبر) بكسر فسكون: الذهب الذي لم يصغ، ويقال للفضة أيضا.(1/150)
ب ) أنه ينبغي أن يبادر بالخير، فإن الآفات تعرض والموانع تمنع والتسويف غير محمود. وفي المبادرة تخليص الذمة وبعد من المطل المذموم وحفظ للمال من الدمار (قالت) عائشة رضي الله عنها: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما خالطت الصدقة مالا قط إلا أهلكته" أخرجه الشافعي والبخاري في التاريخ وابن عدى والبيهقي والحميدي(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {31}
(فهو) يدل على أن التراخي عن إخراج الزكاة بعد وجوبها سبب لإهلاك المال وإن كان عازما على إخراجها. وفيه دليل على تعلق الزكاة بعين المال لا بالذمة لأن الزكاة إذا لم تكن في جزء من المال فلا يستقيم اختلاطها بغيرها ولا كونها سببا لإهلاك ما خالطته (وفي) المنتقى: إذا لم يؤد الزكاة حتى مضي حولان فقد أساء وأثم وعليه زكاة حول واحد عند الحنفيين. (وعن) محمد أن التأخير لا يجوز وهو نص على الفور. وذكر الجصاص أنها على التراخي لأنه إذا هلك النصاب بعد تمام الحول والتمكن من الأداء لا يضمن، ولو كانت واجبة على الفور لضمن كمن أخر صوم شهر رمضان عن وقته فإنه يجب عليه القضاء. ومعنى التراخي أنها تجب مطلقا بلا تعيين وقت، فمتى أدى في وقت ما جاز، وإذا لم يؤد إلى آخر عمره يتضيق عليه الوجوب(2).
__________
(1) انظر ص 211 ج 4 نيل الأوطار (المبادرة إلى إخراج الزكاة) ورقم 7897 ص 443 ج 5 فيض القدير للمناوي.
(2) انظر ص 3 ج 2 بدائع الصنائع.(1/151)
والدليل يشهد للفورية، وعليه فإذا وجبت الزكاة وتمكن من إخراجها لم يجز تأخيرها لأنه حق يجب صرفه إلى الآدمي فلم يجز فيه التأخير كالوديعة إذا طلبها صاحبها، فإن أخر الزكاة وهو قادر على أدائها ضمنها لأنه أخر ما يجب عليه مع إمكان الأداء فيضمنه كالوديعة وإن لم يتمكن فله التأخير إلى التمكن فإن أخر بعد التمكن عصى وصار ضامنا، فلو تلف المال كله بعد ذلك لزمته الزكاة، وإن تلف المال بعد الحول وقبل التمكن فلا إثم ولا ضمان عليه اتفاقا، وإن أتلفه المالك لزمه الضمان، وإن أتلفه أجنبي فعلى القول بأن التمكن شرط في الوجوب فلا زكاة، وكذا على أنها تتعلق بالعين فينتقل حق الفقراء إلى القيمة(1).
(11) قضاء الزكاة:
من وجبت عليه الزكاة وتمكن من أدائها ثم مات لم تسقط عند الشافعي وأحمد والحسن البصري، فيجب إخراجها من ماله (لحديث) فدين الله أحق أن يقضي(2) (وقال) الليث والأوزاعي: تخرج من ثلث ماله قبل الوصايا (وقال) الحنفيون ومالك والشعبي والنخعي وسفيان الثوري: إن أوصى بها أخرجت من ثلث ماله كسائر الوصايا، وإن لم يوص لم يلزم الورثة إخراجها، وإن أخرجها وارث أو أجنبي لا يسقط الواجب لعدم نيته، وفعلهم لا يقوم مقام فعله بدون إذنه وتعتبر صدقة تطوع، وإن أوصى معها بوصايا وضاق الثلث عن الكل يوزع بينهم بالسوية (فلو) قال: ثلث مالي لحج والزكاة ولعلي والكفارات قسم الموصى به على أربعة، ولا يقدم الفرض على حق الآدمي لحاجته. (واستدلوا) على سقوط الزكاة بالموت بأنها عبادة محضة شرطها النية فتسقط بالموت كالصلاة (وأجاب) الأولون: بأنها ليست كالصلاة لأنها لا تصح الوصية بها ولا تدخلها النيابة بخلاف الزكاة(3).
(
__________
(1) انظر ص 333 ج 5 مجموع النووي.
(2) تقدم رقم 28 ص 131.
(3) انظر ص 335 ج 5 مجموع النووي. وص 461 ج 1 رد المحتار.(1/152)
وعلى هذا) الخلاف: إذا مات من عليه صدقة الفطر أو النذر أو الكفارات أو الصوم أو النفقات فإنه لا يستوفى من تركته عند الحنفيين ومالك، ويستوفى عند الشافعي وأحمد، وإن مات من لزمه العشر، فإن كان الثمر أو الزرع باقيا فلا يسقط بالموت في ظاهر الرواية- عند الحنفيين- وإن استهلكه حتى صار دينا في ذمته فهو على هذا الخلاف، وإن أوصى بالأداء يؤدي من ثلث ماله عند الحنفيين ومالك. وعند الشافعي وأحمد يؤدي من جميع ماله. والكلام فيه مبني على أن الزكاة حق الله تعالى عند الحنفيين ومالك وهو لا يتأدى إلا بمباشرة أو إنابة، وعند الشافعي وأحمد: الزكاة حق العبد وهو الفقير فأشبهت سائر الديون وهي لا تسقط بموت المدين فكذا الزكاة ولو مات من عليه الزكاة في خلال الحول انقطع حكم الحول عند الحنفيين ومالك. وعند الشافعي وأحمد لا ينقطع الحول بل يبنى الوارث عليه، فإذا تم الحول أدى الزكاة(1).
(فائدة) من لزمته زكاة ثم مرض ولا مال له لزمه أن ينوي تأدية الزكاة عند القدرة ولا يقترض، فإن اقترض ودفع الزكاة ناويا الوفاء عند التمكن فقد سقط عنه الواجب(2).
(12) ركن الزكاة:
هو تمليك الحق الواجب في المال لمستحقه بتسليمه إليه أو إلى نائبه مع قطع المنفعة عن المالك من كل وجه لقوله تعالى: "وآتوا الزكاة" والإيتاء التمليك. وقوله: "إنما الصدقات للفقراء ... ... الآية" واللام تفيد التمليك فلا تدفع الزكاة فيما لا تمليك فيه، كبناء مسجد أو إصلاح طريق أو تكفين ميت فقير أو قضاء دينه ولو بأمره قبل موته، لأن قضاء دين الحي لا يقتضي التمليك للمدين، ففي الميت أولي. أما قضاء دين الحي الفقير بإذنه فإنه يجوز باعتبار أنه تمليك للمدين والدائن يقبضه بالنيابة.
(13) أنواع الزكاة:
__________
(1) انظر ص 53 ج 2 بدائع الصنائع.
(2) انظر ص 337 ج 5 مجموع النووي.(1/153)
هي نوعان: زكاة مال، وزكاة رأس، وهي صدقة الفطر (فزكاة) المال تكون في النعم والأثمان والعروض والزروع والثمار والمعادن، وهاك بيانها مرتبة:
(أ) زكاة النعم
... النعم- بفتحتين- الإبل والبقر والغنم. وتفترض فيها الزكاة- بالسنة والإجماع- إذا بلغت نصابا وحال عليها
الحول وكانت سائمة- وهي التي تكتفي بالرعي في كلأ مباح في أكثر السنة- عند الحنفيين وأحمد، ولا عبرة لعلفها أقل الزمن لأنه لا يمكن الاحتزاز عنه ، إذ لا توجد المرعى في كل سنة. والصحيح عند الشافعية أنها إن علفت قدرا تعيش بدونه وجبت الزكاة وإلا فلا . والماشية تصبر عن العلف اليومين ولا تصبر الثلاثة (ودليل ذلك) ما في حديث أنس من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وفي سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة إلى عشرين ومائة" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي. وفي رواية للبخاري والنسائي: "فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة واحدة فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها"(1). ... ... ... ... ... ... ... ... {32}
... وعن معاوية بن حيدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في كل خمس ذود سائمة صدقة" أخرجه الطبراني في الأوسط بسند رجاله موثقون(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... {33}
... (قيد) وجوب الزكاة بالسائمة فدل على أن المعلوفة لا زكاة فيها. (وقال) مالك والليث: تجب الزكاة في الماشية ولو معلوفة أو عاملة متى بلغت النصب للإطلاق في عدة أحاديث:
__________
(1) انظر ص 214 ج 8 – الفتح الرباني (كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جمع فيه فرائض الصدقة) وص 140 ج 9 – المنهل العذب المورود (زكاة السائمة) وص 340 ج 1 مجتبي (زكاة الغنم) وص 206 ج 3 فتح الباري (زكاة الغنم) وص 338 ج 1 مجتبي (زكاة الإبل).
(2) انظر ص 70 ج 3 مجمع الزوائد (ما تجب فيه الزكاة) و(خمس) مضاف إلى (ذود) بفتح فسكون، والذود من الإبل: ما بين الثلاث إلى العشر، وهو مؤنث لا واحد له من لفظه.(1/154)
... (منها) حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "ليس فيما دون خمس ذود صدقة" الحديث أخرجه الجماعة، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقد روى من غير وجه(1). ... ... {34}
... (وحديث) معاذ أن النبي صلى اله عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا أو تبيعة" (الحديث) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه(2). ... ... ... ... ... {35}
... (وأجابوا) عن أدلة الجمهور بأن التقييد فيها بالسائمة خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، ويحتمل أن يكون ذكر السائمة لأن النعم وقتئذ كانت سائمة.
... (وأجاب) الجمهور عن هذا بأن الأصل في القيود في كلام الشارع اعتبارها فلا يترك ظاهرها والعمل بمفهومها إلا بدليل، ولا دليل يقضي بعدم اعتبار القيد، فذكر السوم لابد له من فائدة يعتد بها صيانة لكلام الشارع عن اللغو. والمتبادر منه أن للمذكور حكما يخالف المسكوت.
... (ويؤيده) حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس في البقر العوامل صدقة ولكن في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسن أو مسنة" أخرجه الطبراني في الكبير وفي ليث بن أبي سليم وهو ثقة ولكنه مدلس(3). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {36}
__________
(1) انظر ص 240 ج 8 الفتح الرباني (زكاة الذهب والفضة) وص 199 ج 3 فتح الباري (زكاة الورق) وص 52 ج 7 نووي (الزكاة) وص 123 ج 9 – المنهل العذب المورود (ما تجب فيه الزكاة) وص 336 ج 1 مجتبي (زكاة الإبل) وص 6 ج 2 تحفة الأحوذي (صدقة الزرع والثمر).
(2) انظر ص 221 ج 8 – الفتح الرباني (زكاة البقر) وص 172 ج 9 – المنهل العذب المورود. وص 5 ج 2 تحفة لأحوذي.
(3) انظر ص 75 ج 3 مجمع الزوائد (بيان الزكاة).(1/155)
... (وحديث) أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هاتوا ربع العشور من كل أربعين درهم" (الحديث) وفيه: وفي البقر في كل ثلاثين تبيع وفي الأربعين مسنة وليس على العوامل شيء" أخرجه أبو داود والدارقطني وابن أبي شيبة والبيهقي (وقال) ابن القطان: إسناده صحيح(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {37}
... (وقد) روى مرفوعا وموقوفا، والموقف في هذا الباب له حكم الرفع. (وبهذا) يظهر أن ما ورد في زكاة المواشي مطلقا عن ذكر السوم غير باق على العموم لوجود ما يخصصه نصا أو قياسا (ومنه) تعلم أن الراجح مذهب الجمهور (وقال) ابن عبد البر: لا أعلم أحدا قال بقول مالك والليث من فقهاء الأمصار، ثم الكلام ينحصر في تسعة فروع:
... (1) زكاة الإبل:
__________
(1) انظر ص 158 ج 9 – المنهل العذب المورود (زكاة السائمة)، وص 99 ج 4 بيهقي (كيف فرض صدقة البقر)؛ وص 204 – الدارقطني، وص 14 ج 2 – ابن أبي شيبة، وص 360 ج 2 نصب الراية. و(التبيع) ولد البقرة في السنة الأولى.(1/156)
الإبل: اسم جنس لا واحد له من لفظه، وهو يشمل العربي والبختي، وهو المتولد بين عربي وعجمي- منسوب إلى بختنصر- فهما في الزكاة سواء، وأقل نصاب الإبل خمس، ففيها إلى تسع شاة ثني من الضأن وهو ما تم له سنة، ولا يجزئ الجذع وهو ما أتى عليه أكثر السنة، وفي عشر إلى أربع عشرة شاتان، وفي خمس عشرة إلى تسع عشرة ثلاث شياه. وفي عشرين إلى أربع وعشرين أربع شياه. وفي خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين بنت مخاض- وهي التي تم لها سنة ودخلت في الثانية- سميت بذلك لأن أمها تصير في الغالب ذات لبن لأخرى. وفي ست وأربعين إلى ستين حقة- بكسر الحاء- وهي التي دخلت في السنة الرابعة وحق لها أن تركب وتحمل. وفي إحدى وستين إلى خمس وسبعين جذعة- بالذال المعجمة وهي التي دخلت في الخامسة وأجذعت، أي أسقطت مقدم أسنانها- وهي أكبر سن يؤخذ في الزكاة. واعتبر في الكل الأنوثة لما فيها من منفعة الدر والنسل. وفي ست وسبعين إلى تسعين بنتا لبون. وفي إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة حقتان.
((1/157)
وعلى هذا) أجمعت الأمة واتفقت الآثار واشتهرت كتب الصدقات عن النبي صلى الله عليه وسلم (ومن) أحسنها حديث أنس أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين: بسم الله الرحمن الرحيم. هذه فريضة الصدقة إلى فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين والتي أمر اله بها رسوله، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها ومن سئل فوقها فلا يعط في كل أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم من كل خمس شاه، فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى، فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى، فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها بنت لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل ( الحديث ) أخرجه الجماعة إلا مسلما والترمذي، وهذا لفظ البخاري(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {38}
ثم بعد عشرين ومائة تستأنف الفريضة عند الحنفيين والثوري. ففي كل خمس- تزيد على عشرين ومائة- شاة مع الحقتين إلى خمس وأربعين ومائة ففيها حقتان وبنت مخاض، وفي مائة وخمسين ثلاث حقاق. ثم تستأنف الفريضة. فيجب في كل خمس شاة مع ثلاث حقاق إلى خمس وسبعين ومائة ففيها بنت مخاض وثلاثة حقاق. وفي ست وثمانين ومائة بنت لبون وثلاث حقاق. وفي ست وتسعين ومائة إلى مائتين أربع حقاق أو خمس بنات لبون. ثم تستأنف الفريضة كما استؤنفت في الخمسين التي بعد المائة والخمسين.
(
__________
(1) انظر المراجع برقم 18 ص 118 (شروط الزكاة).(1/158)
واستدلوا) بحديث حماد بن سلمة: قلت لقيس بن سعد: اكتب لي كتاب أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم، فأعطاني كتابا أخبر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كتبه لجده عمرو بن حزم فكان فيه: "فإذا كانت أكثر من عشرين ومائة فإنها تعاد إلى أول فريضة الإبل" أخرجه أبو داود في المراسيل والطحاوي(1). ... ... {39}
(وفي رواية) عن قيس بن سعد قلت: لأبي بكر بن عمرو بن حزم: أخرج لي كتاب الصدقات الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: فأخرج لي كتابا فيه: إذا زادت الإبل على مائة وعشرين استؤنفت الفريضة، فما كان أقل من خمس وعشرين ففيها الغنم في كل خمس ذود شاة.
(
__________
(1) انظر ص 14 مراسيل، وص 417 ج 2 شرح معاني الآثار، وص 343 ج 2 نصب الراية.(1/159)
وقال) الشافعي والأوزاعي وابن القاسم المالكي: إذا زادت الإبل على عشرين ومائة بواحدة ففيها ثلاث بنات لبون، وفي مائة وثلاثين حقة وبنتا لبون، وفي مائة وأربعين حقتان وبنت لبون، وهكذا في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة. وهو رواية عن أحمد (لقول) ابن شهاب: هذه نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه في الصدقة وهي عند آل عمر بن الخطاب وهي التي انتسخ عمر بن عبد العزيز من عبد الله بن عبد الله ابن عمر وسالم بن عبد الله بن عمر. فذكر الحديث (وفيه) فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون حتى تبلغ تسعا وعشرين ومائة، فإذا كانت ثلاثين ومائة ففيها بنتا لبون وحقة حتى تبلغ تسعا وثلاثين ومائة، فإذا كانت أربعين ومائة ففيها حقتان وبنت لبون حتى تبلغ تسعا وأربعين ومائة، فإذا كانت خمسين ومائة ففيها ثلاث حقاق حتى تبلغ تسعا وخمسين ومائة، فإذا كانت ستين ومائة ففيها أربع بنات لبون حتى تبلغ تسعا وستين ومائة، فإذا كانت سبعين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون وحقه حتى تبلغ تسعا وسبعين ومائة، فإذا كانت ثمانين ومائة ففيها حقتان وابنتا لبون حتى تبلغ تسعا وثمانين ومائة، فإذا كانت تسعين ومائة ففيها ثلاث حقاق وبنت لبون حتى تبلغ تسعا وتسعين ومائة، فإذا كانت مائتين ففيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون أي السنين وحدت أخذت" (الحديث) أخرجه أبو داود والحاكم والدار قطني(1). ... ... ... ... ... ... ... ... {40}
(
__________
(1) انظر ص 155 ج 9 – المنهل العذب المورود (زكاة السائمة) وص 393 ج 1 مستدرك، وص 205 – الدارقطني.(1/160)
ومشهور) مذهب المالكية كمذهب الشافعي، غير أنهم حملوا الزيادة على عشرين ومائة على عشرة لا على واحدة وهو رواية عن أحمد (قالوا) إن زادت الإبل على مائة وعشرين، فإذا كانت الزيادة من واحد وعشرين إلى تسع وعشرين ومائة اختار الساعي حقتين أو ثلاث بنات لبون، وإن كانت الزيادة عشرات بأن بلغت مائة وثلاثين أو أربعين أو خمسين تغير الواجب وتقدر في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة(1).
(واستدلوا) بقوله في حديث أنس: فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة(2).
(وأجاب) الحنفيون: بأنه لا تعارض بين هذا وبين ما في حديث حماد ابن سلمة لحمل الزيادة في هذا على الزيادة الكثيرة جمعا بين الأخبار (روى) سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال: "كتب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كتاب الصدقة فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض فقرنه بسيفه، فعمل به أبو بكر حتى قبض، ثم عمل به عمر حتى قبض، فكان فيه: في خمس من الإبل شاه" (الحديث) وفيه عند أحمد: فإذا زادت (يعني على تسعين) ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإذا كثرت الإبل ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين ابنة لبون" (الحديث) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه(3). ... ... ... ... ... ... {41}
(وقال) والعمل على هذا عند عامة الفقهاء.
(
__________
(1) انظر ص 530 ج 1 – الفجر المنير.
(2) تقدم رقم 38 ص 141 (زكاة الإبل).
(3) انظر ص 207 ج 8- الفتح الرباني (ما جاء في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي جمع فيه فرائض الصدقة) وص 153 ج 9- المنهل العذب المورود (زكاة السائمة) وص 3 ج 2 تحفة الأحوذى (زكاة الإبل والغنم) وقال الترمذي في العلل: سألت بالخاري عن هذا الحديث فقال: أرجو أن يكون محفوظا، وسفيان بن حسين صدوق. قال المنذري: حديثه عن الزهري فيه مقال. (وقال) البيهقي: تابع سفيان بن حسين- على وصله- سليمان بن كثير، وهو ممن اتفق الشيخان على الاحتجاج بحديثه.(1/161)
وجملة) القول في زكاة الإبل أنهم أجمعوا على أن في أربع وعشرين فما دونها الغنم، وعلى أن في خمس وعشرين بنت مخاض، وعلى أن مقدار الواجب في الإبل إلى مائة وعشرين على ما في حديث أنس(1): فإذا زادت على مائة وعشرين، فمذهب الشافعي والأوزاعي وأحمد وأبو داود أن في مائة وإحدى وعشرين ثلاث بنات لبون، ثم في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة كما سبق. (وعن) مالك روماية كمذهب الشافعي، ورواية ثالثة أن الساعي يتخير في مائة وإحدى وعشرين بين ثلاث بنات لبون وحقتين.
(وقال) إبراهيم النخعي والثوري والحنفيون: إذا زادت الإبل على عشرين ومائة تستأنف الفريضة. فيجب في خمس وعشرين ومائة حقتان وشاة، وفي مائة وثلاثين حقتان وشاتان، وهكذا على ما تقدم(2).
(2) ما يؤخذ في الزكاة عند عدم السن المطلوب:
من لزمه سن كبنت لبون توجد عنده دفع أدنى منه والفرق بين السنين وهو شاتان أو عشرون درهما عند الشافعي وأحمد أو دفع أعلى وأخذ الفرق (لقول) النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أنس: "ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تقبل منه الحقة ويجعل معها شاتين- إن استيسرتا له- أو عشرين درهما. ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده حقة وعنده الجذعة فإنها تقبل منه الجذعة ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين. ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده إلا بنت لبون فإنها تقبل منه بنت لبون ويعطي شاتين أو عشرين درهما. ومن بلغت صدقته بنت لبون وعنده حقة فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين" (الحديث) أخرجه الجماعة، إلا مسلما والترمذي(3). ... ... ... ... ... {42}
(
__________
(1) تقدم رقم 38 ص 141.
(2) انظر ص 400 ج 5 مجموع النووي.
(3) انظر ص 203 ج 3 فتح الباري (من بلغت عنده صدقة بنت مخاض وليست عنهد) وتقدم الحديث رقم 18 ص 18 (شروط الزكاة).(1/162)
وقال) الحنفيون: من لزمه سن ولم يوجد عنده يدفع أدنى منه والفرق بين السنين بالغا ما بلغ- ويجبر الساعي على قبول ذلك- أو يدفع أعلى من السن الواجب ويأخذ الفرق بين السنين من الساعي إن شاء لأنه في حكم البيع، وهو مبني على التراضي أو يدفع قيمة السن المطلوب مستدلين (بحديث) أنس المذكور، وتقدير الفرق فيه بالشاتين أو العشرين درهما بناء على أن ذلك كان قيمة التفاوت في زمنهم لا أنه تقدير لازم (وقال) مالك: يلزم رب المال بإحضار السن الواجب ولو بالشراء (والظاهر) المعقول ما ذهب إليه الحنفيون. واله ولي التوفيق.
(3) زكاة البقر:
البقر: اسم جنس واحدة بقرة ذكرا أو أنثى، وهو يشمل الجاموس، فهما في الزكاة سواء- سمي بقرا لأنه يبقر الأرض أي يشقها- وليس في أقل من ثلاثين منه زكاة بالإجماع، فإن كان ثلاثين سائمة متخذة للنسل والدر لا للتجارة وحال عليها الحول ففيها تبيعة أو تبيع له سنة عند الجمهور، وتشهد له اللغة.
(وقال) مالك: التبيع ماله سنتان- سمي بذلك لأنه يتبع أمه- أما إن كانت للتجارة فالمعتبر أن تبلغ قيمتها نصابا وكذا الإبل والغنم. وإذا كانت أربعين ففيها مسنة أو مسن عند الحنفيين. والمسن ما له سنتان عند الجمهور (وقال) مالك: المسن ماله ثلاث سنين.
(ودليل) ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس في البقر العوامل صدقة ولكن في كل ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة وفي كل أربعين مسن أو مسنة" أخرجه الطبراني في الكبير وفي ليث بن أبي سليم وهو ثقة لكنه مدلس(1). ... ... ... ... ... ... ... ... {43}
(
__________
(1) تقدم رقم 36 ص 14 (زكاة النعم).(1/163)
وقال) غير الحنفيين: يلزم في الأربعين مسنة أنثى للاقتصار عليها في أكثر الروايات كرواية أبي وائل بن سلمة عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثني إلى اليمن أن لا آخذ من البقر شيئا حتى تبلغ ثلاثين، فإذا بلغت ثلاثين ففيها عجل تابع جذع أو جذعة حتى تبلغ أربعين، فإذا بلغت أربعين ففيها بقرة مسنة" أخرجه أحمد والثلاثة، وهذا لفظ النسائي(1). ... ... ... ... ... {44}
__________
(1) انظر ص 219 ج 8 – الفتح الرباني (جامع لأنواع تجب فيها الزكاة) وص 5 ج 2 تحفة الأحوذي (زكاة البقر) وص 172 ج 9 – المنهل العذب المورود (زكاة السائمة) وص 339 ج 1 مجتبي (زكاة البقر).(1/164)
ولا شيء فيما زاد على الأربعين إلى تسع وخمسين عند الثلاثة وأبي يوسف ومحمد. وروى عن النعمان وهو المختار وعليه الفتوى عند الحنفيين (لقول) معاذ: "بعثني النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصدق أهل اليمن وأمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا- والتبيع: الجذع أو الجذعة- ومن كل أربعين مسنة. قال: فعرضوا على أن آخذ ما بين الأربعين والخمسين وما بين الستين والسبعين وما بين الثمانين والتسعين، فأبيت ذاك وقلت لهم: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقدمت فأخبرت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين تبيعا ومن كل أربعين مسنة ومن الستين تبيعين ومن السبعين مسنة وتبيعا ومن الثمانين مسنتين ومن التسعين ثلاثة اتباع ومن المائة مسنة وتبيعين ومن العشرة والمائة مسنتين وتبيعا ومن العشرين ومائة ثلاث مسنات أو أربعة اتباع، وأمرني ألا آخذ فيما بين ذلك شيئا إلا أن يبلغ مسنة أو جذعا، وقال: إن الأوقاص لا فريضة فيها" أخرجه أحمد والبزار وهو ضعيف لأن في سند أحمد مجهولا وفي سند البزار الحسن بن عمارة وهو ضعيف(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {45}
(
__________
(1) انظر ص 221 ج 8 – الفتح الرباني (زكاة البقر وما جاء في الوقص) و(أصدق) بفتح الصاد وشد الدال: أي اجمع منهم الصدقة (فقدمت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم) إلخ لم يرجع من اليمن إلى المدينة إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم (روى) طاوس اليماني أن معاذ بن جبل أخذ من ثلاثين بقرة تبيعا ومن أربعين بقرة مسنة وأتى بما دون ذلك، فأبي أن يأخذ منه شيئا وقال: لم أسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيئا حتى ألقاه فأساله، فتوفى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يقدم معاذ أخرجه مالك في الموطأ والبيهقي، انظر ص 98 ج 4 بيهقي (كيف فرض صدقة البقر).(1/165)
وظاهر) الرواية عند النعمان أن فيما زاد عن الأربعين من البقر بحسابه. ففي الواحدة ربع عشر مسنة، وفي الاثنين نصف عشر مسنة وهكذا، لأن الأصل أن لا يخلو المال عن شكر نعمته بعد بلوغه النصاب، والعفو لا يثبت إلا بنص، والمراد بالأوقاص في دليل الجمهور الصغار فلا تسقط الزكاة بالشك بعد تحقق السبب.
(وروى) الحسن بن زياد عن النعمان أنه لا شيء فيما زاد عن الأربعين إلى الخمسين ففيها مسنة وربع مسنة أو ثلث تبيع، لأن نصاب البقر مبني على أن يكون بين كل عقدين وقص وفي كل عقد واجب بدليل ما قبل الأربعين وبعد الستين، فيكون ما بين الأربعين والخمسين كذلك (ورد):
(أ ) بقول معاذ في الحديث السابق: وأمرني أن لا آخذ فيما بين ذلك شيئا إلا أن يبلغ مسنة أو جذعا.
(ب ) وبقوله: "لم يأمرني النبي صلى الله عليه وسلم في أوقاص البقر بشيء" أخرجه أحمد بسند رجاله رجال الصحيح(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {46}
(
__________
(1) أنظر ص 73 ج 3 مجمع الزوائد (بيان الزكاة).(1/166)
قال) ابن عبد البر في الاستذكار: لا خلاف بين العلماء أن النسبة في زكاة البقر على ما في حديث معاذ وأنه النصاب المجمع عليه فيها(1).
... (فوائد)
... (الأولى) لا يخرج الذكر في الزكاة إلا في البقر والغنم. (قال) الخطابي: يشبه أن يكون ذلك لقلة نصاب البقر وانحطاط نوعه فيسوغ إخراج الذكر منه ما دام قليلا إلى أن يبلغ كمال النصاب وهو الأربعون(2)، يعني فتتعين حينئذ الأنثى وهي المسنة عند غير الحنفيين، أما هم فقد سووا بين الذكر والأنثى في كل نصب البقر (لحديث) ابن عباس رضي الله عنهما السابق(3).
... (وحكمة ذلك التقارب بين الذكر والأنثى في البقر والغنم دون الإبل، وعليه فابن اللبون في الغبل ليس بأصل إنما هو بدل من ابنة المخاض، ولهذا لا يجزئ مع وجودها.
__________
(1) وأما قول) ابن جرير الطبري: صح الإجماع أن في كل خمسين بقرة بقرة فوجب الأخذ بهذا وما دون ذلك فمختلف ولا نص في ايجابه (فمردود) بما تقدم من الأحاديث وإن كان في بعضها مقال لكنها لكثرتها يقوي بعضها بعضا (وكذا) ما رواه معمر عن الزهري عن جابر ابن عبد الله قال: "في كل خمس من البقر شاة، وفي عشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياة، وفي عشرين أربع شياه، فإذا كانت خمسا وعشرين ففيها بقرة إلى خمس وسبعين، فإذا زادت على خمس وسبعين ففيها بقرتان إلى عشرين ومائة، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بقرة بقرة (قال) معمر قال الزهري: وبلغنا أن قولهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: في كل ثلاثين بقرة تبيع وفي أربعين بقرة بقوة أن ذلك كان تخفيفا لأهل اليمن ثم كان هذا بعد ذلك" أخرجه البيهقي وقال: فهذا حديث موقوف ومنقطع، والمنقطع لا تثبت به حجة، وما قبله أكثر وأشهر (انظر ص 99 ج 4 بيهقي).
(2) انظر ص 34 ج 2 معالم السنن.
(3) تقدم رقم 43 ص 146 (زكاة البقر).(1/167)
... (الثانية) لرب المال أن يعطي المسنة عن التبيع والتبيعين عن المسنة أو يخرج أكثر منها سنا عنها، فإذا وجب تبيع فأخرج تبيعة أو مسنة أو مسنا قبل منه لأنه أكمل من الواجب، ولو وجب مسنة فأخرج تبيعين قبل منه، وإن أخرج مسنا لم يقبل(1) عند غير الحنفيين على ما تقدم.
... (الثالثة) لا مدخل للجبران في غير زكاة الإبل. فإذا وجب تبيع أو مسنة ففقده لم يجز الصعود لسن أعلى ولا النزول لأسفل مع الجبران لعدم ورود النص به. والعدول إلى غير المنصوص عليه في الزكاة لا يجوز.
... (الرابعة) لا زكاة في بقر الوحش على الأصح عند الجمهور، لأن اسم البقر لا ينصرف إليها عند الإطلاق، ولأنه لا يتأتى فيها تحقق نصاب مع السوق وحولان الحول، ولأنها لا تجزئ في الضحية والهدى فلا تجب فيها الزكاة. وسر ذلك أن الزكاة إنما وجبت في بهيمة الأنعام دون غيرها لكثرة النماء فيها بالدر والنسل وكثرة الانتفاع بها لكثرتها وخفة مئونتها فاختصت الزكاة بها دون غيرها(2).
... (4) زكاة الغنم:
... الغنم اسم جنس لا واحد له من لفظه يطلق على الذكر والأنثى ويشمل الضأن والمعز فهما في الزكاة سواء- سميت غنما لأنه ليس لها آلة دفاع فكانت غنيمة لكل طالب- وأول نصاب الغنم أربعون. فإذا كانت سائمة وحال عليها الحول ففيها إلى عشرين ومائة شاة وفي إحدى وعشرين ومائة إلى مائتين شاتان. وفي واحدة ومائتين إلى تسع وتسعين وثلاثمائة ثلاث شياه. وفي أربعمائة إلى تسع وتسعين وأربعمائة أربع شياه. ثم في كل مائة شاة.
__________
(1) انظر ص 416 ج 5 مجموع النووي.
(2) اغنظر ص 470 ج 2 مغنى ابن قدامة.(1/168)
... على هذا أجمعت الأمة وبه جاءت كتب الصدقات (منها) ما في كتاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه لأنس من قوله صلى الله عليه وسلم: "وفي سائمة الغنم إذا كانت أربعين فقيها شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت على عشرين ومائة ففيها شاتان إلى أن تبلغ مائتين، فإذا زادت على مائتين ففيها ثلاث شياه إلى أن تبلغ ثلاثمائة، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة، ولا يؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار من الغنم ولا تيس الغنم إلا أن يشاء المتصدق" (الحديث) أخرجه الجماعة إلا مسلما والترمذي(1). ... ... ... ... ... {47}
... هذا. والشاة الواجبة في الغنم الثني من الضأن وهو ما له سنة، والثني من المعز ما له سنتان عند الحنفيين والشافعي، وماله سنة عند مالك وأحمد. ولا يجزئ الجذع من الضأن وهو ماله أكثر من ستة أشهر عند الحنفيين وهو المعتمد عند مالك. ويجزئ عند الشافعي وأحمد.
... (5) ما لا يؤخذ في زكاة الماشية:
... لا يؤخذ في زكاة النعم معيب ولا فحل للضراب ولا كريم (لما) في حديث سالم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ولا يؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار من الغنم ولا تيس الغنم إلا أن يشاء المصدق" أخرجه أبو داود والدارقطني(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {48}
__________
(1) تقدم رقم 38 ص 141 (زكاة الإبل).
(2) انظر ص 156 ج 9 – المنهل العذب المورود (زكاة السائمة) وأخرجه الحاكم من حديث أنيس (انظر ص 391 ج مستدرك) و(من الغنم) لا مفهوم له فإن المعيب لا يؤخذ في جميع المواشي. و(المصدق)- بفتح الصاد وكسر الدال المشددتين- رب الماشية. والاستثناء فيه راجع إلى التيس. والمعنى: لا يؤخذ تيس الغنم إلا أن يشاء المالك إعطاءه، لأن أخذه بغير اختياره يضره (وروى) بتخفيف الصاد وهو الساعي، فالاستثناء راجع إلى الثلاثة، أي لا تؤخذ الهرمة ولا ذات العيب ولا تيس الغنم إلا أن يشاء الساعي أخذ واحد مما ذكر بأن يرى أنه أنفع للفقراء.(1/169)
... والهرمة- بفتح فكسر- كبيرة السن التي سقطت أسنانها (والعوار) بفتح العين أو ضمها: العيب والنقص (والتيس)- بفتح فسكون- الفحل. أي لا يؤخذ فحل الغنم إذا كانت كلها أو بعضها إناثا لقلة الرغبة فيه لعدم سمنة أو لأن المالك يتضرر بأخذه. أما إذا كانت كل الغنم ذكورا فيؤخذ التيس وقيد بالغنم لأن الذكر من غيرها قد يؤخذ كابن اللبون والتبيع والمسن (وقال) أحمد: لا يؤخذ الذكر في شيء من الزكاة إذا كان في النصاب إناث غير تبيع البقر وابن اللبون بدلا عن بنت مخاض لم توجد.
... (وقال) الحنفيون: يجوز إخراج الذكر من الغنم الإناث لقوله صلى الله عليه وسلم: "في أربعين شاة شاة" ولفظ الشاة يشمل الذكر والأنثى. وإن كان النصاب كله ذكر والأنثى. وإن كان النصاب كله ذكورا جاز إخراج الذكر في الغنم اتفاقا. وفي البقر في أصح الوجهين عند أحمد. وفي الإبل وجهان (والفرق) بين الثلاثة أن النبي صلى اله عليه وسلم نص على الأنثى في فرائض الإبل والبقر غير التبيع والمسن وأطلق في الشاة (وقال) في الإبل "من لم يجد بنت مخاض أخرج ابن لبون ذكرا" .
... هذا (واختلف) في العيب المانع من الأجزاء في الزكاة، فالأكثر على أنه ما يثبت به الرد في البيع، وهو ما يوجب نقصان الثمن عند التجار (وقيل) هو ما يمنع الإجزاء في الأضحية. ومحل عدم إجزاء المعيب إذا كان المال كله سليما، فإن كان فيه سليم ومعيب أخذ سليما وسطا قيمته بين المعيب والسليم، وإن كان كله معيبا أخذ الساعي واحدة من أوسطه عند الثلاثة، وهو رواية عن مالك. والمشهور عنه أنه يكلف رب المال إعطاء صحيحة أخذا بظاهر الحديث.
... (ودليل) الجمهور قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فإياك وكرائم أموالهم"(1)، ولأن مبنى الزكاة على المواساة وتكليف المالك إخراج الصحيحة عن المرضى إخلال بالمواساة. ولهذا يؤخذ الردئ من الحبوب والثمار الرديئة، والحكم في الهرمة كالحكم في المعيبة.
__________
(1) هذا بعض الحديث رقم 5 ص 104 (دليل الزكاة).(1/170)
... (وجملة) القول أن أسباب النقص خمسة:
... (الأول) المرض، وتقدم بيانه.
... (الثاني) العيب، وحكمه حكم المرض سواء أكانت الماشية معيبة كلها أو كانت معيبة كلها أو كانت معيبة وصحيحة، ولو ملك خمسا وعشرين بعيرا معيبة وفيها بنتا مخاض إحداهما من أجود المال مع عيبها والأخرى دونها، فهل يأخذ الأجود؟ الصحيح أنه يأخذ الوسط لئلا يجحف برب المال.
... (الثالث) الذكورة- فإذا كانت الإبل كلها إناثا أو انقسمت ذكورا وإناثا لم يجز فيها الذكر إلا في خمس وعشرين من الإبل فإنه يجزئ فيها ابن لبون عند فقد بنت المخاض، وإن تمحضت ذكورا فالأصح جواز الأخذ الذكر. وعليه يؤخذ في ست وثلاثين ابن لبون أكثر قيمة من ابن لبون يؤخذ في خمس وعشرين. وأما البقر فالتبيع يؤخذ منها في موضع وجوبه وهو في كل ثلاثين وحيث وجبت المسنة تعينت عند غير الحنفيين إن تمحضت البقر إناثا أو كانت ذكورا وإناثا.
... (وقال) الحنفيون: يجوز أخذ المسن وإن تمحضت إناثا لما تقدم، وإن تمحضت البقر ذكورا جاز أخذ الذكر اتفاقا، ولو كانت البقر أربعين أو خمسين فأخرج تبيعين أجزأه. وأما الغنم فإن كانت كلها إناثا أو انقسمت ذكورا وإناثا تعينت الأنثى عند غير الحنفيين، وعندهم: يجوز الذكر لأن واجبها شاة وهو يقع على الذكر والأنثى، وإن تمحضت ذكورا أجزأ الذكر اتفاقا.
... (الرابع) الصغر- وللماشية فيه حالات:
(أ ) أن تكون كلها أو بعضها، ولو قدر الفرض في سن الفرض فيجب سن الفرض المنصوص عليه ولا يكلف فوقه ولا يدفع دونه وإن كان أكثرها كبارا أو صغارا.
(ب ) أن تكون كلها فوق سن الفرض فلا يكلف الإخراج منها بل يحصل السن الواجبة ويخرجها وله أن يدفع الأعلى أو الأقل مع الجبران في الإبل كما سبق.
((1/171)
الخامس) رداءة النوع- فإن اتحد نوع الماشية وصفها أخذ الساعي من أيها شاء، إذ لا تفاوت، وإن اختلفت صفتها وهي نوع واحد ولا عيب فيها ولا صغر، فقيل: يختار الساعي خيرهما، وقيل: بل يأخذ الوسط لئلا يجحف برب المال(1).
(6) توقي كريم المال في الزكاة:
لا يؤخذ في الزكاة الماخض وهي الحامل ولا ما طرقها الفحل لاحتمال حملها ولا الأكولة وهي السمينة التي أعدت للأكل ولا خيار المال ولا ذات اللبن والولد (لقول) النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "فإياك وكرائم أموالهم". (وروى) سفيان بن عبد الله الثقفي: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعثه مصدقا- علىالطائف- وكان يعد على الناس السخل فقالوا: أتعد علينا السخل ولا تأخذ منه شيئا؟ فلما قدم على عمر ذكر ذلك له، فقال عمر: نعم نعد عليهم السخلة يحملها الراعي ولا نأخذها ولا نأخذ الأكولة ولا الربي ولا الماهخض ولا فحل الغنم ونأخذ الجذعة والثنية وذلك عدل بين غذاء المال وخياره" أخرجه مالك والشافعي والبيهقي(2). ... ... ... {49}
(
__________
(1) انظر ص 419 إلى 424 ج 5 مجموع النووي.
(2) انظر ص 61 ج 2 زرقاني الموطأ (ما يعتد به من السخل في الصدقة) وص 100 ج 4 بيهقي (السن التي تؤخذ في الغنم) و(السخل) بفتح فسكون- جمع سخلة كتمر وتمرة. وهي ولد الضأن والمعز ساعة تولد، ويجمع أيضا على سخال (والأكولة) بفتح فضم- الشاة تعزل للأكل والعاقر من الشياه. وأما الأكولة بضمتين فهي قبيحة المأكول وليست مرادة هنا لأن السياق في تعداد الخيار (والربي) بضم الراء وشد الباء مقصورا: الشاة تربى في البيت للبنها، والجمع رباب كغراب (وغذاء المال) بكسر الغين والمد: جمع غذى ككريم وهو الصغير.(1/172)
وأيضا) فإن الزكاة تجب على وجه الرفق، وأخذ خيار المال خروج عن حد الرفق، فإن رضى رب المال بإخراج ذلك قبل منه (لقول) أبي بن كعب: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم مصدقا فمررت برجل فلما جمع لي ماله لم أجد عليه فيه إلا ابنة مخاض، فقلت له: أد ابنة مخاض، فقلت له: أد ابنة مخاض فإنها صدقتك. فقال: ذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر، ولكن هذه ناقة فتية عظيمة سمينة فخدها. فقلت له: ما أنا بآخذ ما لم أومر به، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم منك قريب فإن أحببت أن تأتيه فتعرض عليه ما عرضت على فأفعل فإن قبله منك قبلته وإن رده عليك رددته. قال: فإني فاعل، فخرج معي وخرج بالناقة التي عرض علي حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا نبي الله أتاني رسولك ليأخذ مني صدقة مالي وأيم الله ما قام في مالي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رسوله قط قبله فجمعت له مالي، فزعم أن ما علي فيه ابنة مخاض وذلك ما لا لبن فيه ولا ظهر، وقد عرضت عليه ناقة عظيمة فتية ليأخذها، فأبى علي ، وها هي ذه قد جئتك بها يا رسول الله خذها. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذاك الذي عليك فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه وقبلناه منك. قال: فها هي ذه يا رسول الله قد جئتك بها فخذها. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبضها ، ودعا له في ماله بالبركة. أخرجه أحمد والحاكم وصححه والبيهقي وأبو داود، وهذا لفظه ، وفيه محمد بن إسحاق مدلس لكنه صرح هنا بالتحديث(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {50}
(
__________
(1) انظر ص 226 ج 8 – الفتح الرباني (اجتناب كرائم أموال الناس في الزكاة) وص 96 ج 4 بيهقي (ما يأخذ الساعي فوق ما يجب) وص 182 ج 9 – المنهل العذب المورود (وفيه) أي في المال. وفي رواية أحمد: فيها. أنث الضمير باعتبار الإبل (ولا لبن فيه) إلخ، يعني أن بنت المخاض لا منفعة فيها بلبن ولا ركوب لصغرها.(1/173)
دل) الحديث على أن الكريم من المال لا يؤخذ لحق رب المال إلا إن تطوع به، وإذا ثبت هذا وأنه لا يؤخذ الردئ لحق الفقراء، ثبت أن الحق في الوسط من المال، فإذا جاء الساعي قسم الماشية أثلاثا: ثلث خيار، وثلث أوساط، وثلث ردئ، وأخذ من الوسط(1).
(ومما يدل) على هذا حديث عبد الله بن معاوية الغاضري- من غاضرة قيس- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان: من عبد الله وحده وأنه لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه رافدة عليه كل عام ولا يعطي الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة ولكن من وسط أموالك، فإن الله لم يسألكم خيره ولا يأمركم بشره" أخرجه أبو داود والبزار والطبراني بسند جيد(2). ... ... ... {51}
(فائدة) لو تبرع المالك بالحامل قبلت منه عند العلماء كافة غير داود قال: لا تجزئ الحامل لأن الحمل عيب في الحيوان، بدليل أنه لو اشترى جارية فوجدها حاملا فله ردها بسبب الحمل ولا تجزئ في الأضحية (ورد) بأن الحمل نقص في الآدميات لما يخاف عليهن من الولادة بخلاف البهائم. ولذا لو اشترى بهيمة فوجدها حاملا ليس له ردها به فليس الحمل فيها عيبا بل فضيلة، وإنما لم تجزئ الحامل في الأضحية، لأن المقصود من الأضحية اللحم، والحمل يهزلها. والمقصود في الزكاة كثرة القيمة والدر والنسل وذلك في الحامل فكانت أولى بالجواز(3).
(7) ما لا زكاة فيه:
هو خمسة أنواع:
(أ) الرقيق والخيل:
__________
(1) انظر ص 476 ج 2 مغنى أبن قدامة.
(2) انظر ص 181 ج 9 – المنهل العذب المورود (زكاة السائمة) و(غاضرة قيس) قبيلة. و(الرافدة) من الرفد- بفتح فسكون- وهو الإعانة. يقال: رفدته نفسه رفدا، من باب ضرب، أي أعانته. و(الدرنة) بفتح فكسر: الجرباء. و(الشرط) بفتحتين: صغار المال وشراره . و(اللئيمة) البخيلة باللبن.
(3) انظر ص 428 ج 5 مجموع النووي.(1/174)
الرقيق آدمي مملوك(1)، فإن كان مملوكا للتجارة فيه الزكاة عند عامة العلماء إلا الظاهرية فلا زكاة فيه عندهم مطلقا كالخيل (والخيل) أسم جنس لا واحد له من لفظه، وأحوالها ثلاث:
(1) أن تكون للتجارة، ففيها زكاة التجارة إجماعا- خلافا للظاهرية- لكونها مالا ناميا فاضلا عن الحاجة، لأن الإعداد للتجارة دليل النماء والفضل عن الحاجة.
(2) أن تكون معدة للركوب أو للحمل أو للجهاد في سبيل الله، فلا زكاة فيها اتفاقا لأنها مشغولة بالحاجة. ومال الزكاة إنما هو المال النامي الفاضل عن الحاجة.
(3) أن تسام للدر والنسل، فلا زكاة فيها عند الجمهور والثلاثة وأبي يوسف ومحمد (لحديث) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه" أخرجه السبعة، وقال الترمذي: حسن صحيح(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {52}
والعمل عليه عند أهل العلم أنه ليس في الخيل السائمة صدقة ولا في الرقيق إذا كانوا للخدمة. فإذا كانوا للتجارة ففي أثمانهم الزكاة إذا حال عليها الحول (وعن) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر" أخرجه أحمد ومسلم والدراقطني(3). ... ... ... ... ... {53}
(
__________
(1) والرق عجز حكمي سببه الكفر الأصلي.
(2) انظر ص 234 ج 8 – الفتح الرباني (عدم الزكاة في الرقيق والخيل والحمر) وص 209 ج 3 فتح الباري (ليس على المسلم في عبده صدقة) وص 55 ج 7 نووي وص 198 ج 9 – المنهل العذب المورود (صدقة الرقيق) وص 342 ج 1 مجتبي. وص 7 ج 2 تحفة الأحوذي. وص 285 ج 1- ابن ماجه (صدقة الخيل والرقيق).
(3) انظر ص 234 ج 8- الفتح الرباني (عدم الزكاة في الرقيق والخيل والحمر) و ص 56 ج 7 نووي.(1/175)
وعن) علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق" أخرجه أحمد والطحاوي والأربعة. وقال الترمذي: سألت البخاري عن هذا الحديث فقال: صحيح(1). ... {54}
(وقال) النعمان وزفر وزيد بن ثابت: لا زكاة في ذكور الخيل الخلص لعدم التناسل فيها. وتجب في الخيل- إذا كانت سائمة متخذة للنسل ذكورا وإناثا أو إناثا- عن كل فرس دينار أو ربع عشر قيمة الخيل إن بلغت نصابا ولا يقدر فيها نصاب عند النعمان في المشهور عنه (وقيل) نصابها ثلاثة أو خمسة (روي) أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم النخعي قال: في الخيل السائمة التي يطلب نسلها إن شئت في كل فرس دينار أو عشرة دراهم. وإن شئت فالقيمة. فيكون في كل مائتي درهم خمسة دراهم" أخرجه محمد في الآثار. وروى نحوه أبو يوسف(2).
(وقد) تنازع العلماء في زكاة الخيل في زمن مروان بن الحكم فشاور الصحابة في ذلك فروى أبو هريرة الحديث: ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة (فقال) مروان لزيد بن ثابت: ما تقول يا أبا سعيد؟ فقال أبو هريرة: عجبا من مروان أحدثه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ما تقول يا أبا سعيد؟ فقال زيد: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أراد به الفرس الغازي. فأما تاجر يطلب نسلها ففيها الصدقة. فقال: كم؟ قال: في كل فرس دينار أو عشرة دراهم(3).
(
__________
(1) انظر ص 235 ج 8 – الفتح الرباني (عدم الزكاة في الرقيق ... ) وص 167 ج 9 – المنهل العذب المورود (زكاة السائمة) وص 343 ج 1 مجتبي (زكاة الورق) وص 3 ج 2 تحفة الأحوذي. وص 285 ج 1 – ابن ماجه (صدقة الخيل والرقيق).
(2) انظر ص 359 ج 2 نصب الراية. ورقم 429 ص 87 (آثار).
(3) انظر ص 178 ج 2 سبل السلام (زكاة الخيل إذا كانت للتجارة).(1/176)
وقال) يعلي بن أمية: ابتاع عبد الرحمن بن أمية أخو يعلي من رجل من أهل اليمن فرسا أنثى بمائة قلوص فندم البائع فلحق بعمر فقال: غصبني يعلي وأخوه فرسا لي. فكتب إلى يعلي أن ألحق بي. فأتاه فأخبره الخبر فقال: إن الخيل لتبلغ هذا عندكم؟ ما علمت أن فرسا يبلغ هذا فنأخذ من كل أربعين شاة ولا نأخذ من الخيل شيئا، خذ من كل فرس دينارا. فضرب علي الخيل دينارا دينارا " أخرجه عبد الرزاق والبيهقي(1). ... ... ... {55}
(وقال) وقد روينا ما دل علي أن عمر رضي الله عنه إنما أمر بذلك حين أحبه أربابها(2). وهذه الرواية إن صحت تكون محمولة على مثل ذلك لتتفق الروايات (وقال) السائب بن يزيد: "رأيت أبي يقوم الخيل ويدفع صدقتها إلى عمر بن الخطاب" أخرجه الطحاوي والدار قطني بسند صحيح(3). ... ... ... ... ... {56}
(وأجاب) الجمهور بأن ذلك اجتهاد من عمر رضي الله عنه فلا يكون حجة. علي أنه روى عنه أنه إنما أمرهم بذلك حين اختاروا دفع الزكاة عن الخيل (روى) الزهري عن سليمان بن يسار أن أهل الشام قالوا لأبي عبيدة ابن الجراح رضي الله عنه: "خذ من خيلنا ورقيقنا صدقة، فأبى، ثم كتب إلى عمر رضي الله عنه، فأبى، فكلموه أيضا، فكتب إلى عمر، فكتب إليه عمر: إن أحبوا فخذها منهم وارددها عليهم وارزق رقيقهم" أخرجه البيهقي ومالك وقال: أي أرددها على فقرائهم(4). ... ... ... ... ... ... ... ... ... {57}
(
__________
(1) انظر ص 119 ج 4 بيهقي (من رأى في الخيل صدقة) وص 359 ج 2 نصب الراية (والقلوص) الناقة الشابة.
(2) حين أحبه أربابها) يعني حين اختاروا أن يأخذ منهم صدقة في الخيل، يشير به إلى ماروي بعد (رقم) 57.
(3) انظر ص 310 ج 1 شرح معاني الآثار. وص 359 ج 2 نصب الراية.
(4) انظر ص 118 ج 4 بيهقي (لا صدقة في الخيل) وص 72 ج 2 زرقاني على الموطأ (صدقة الرقيق والخيل) و(ازرق رقيقهم) أي فقيرهم أو عبيدهم.(1/177)
ففي) امتناع أبي عبيدة وعمر أولا من أخذ الزكاة في الخيل والرقي، دليل واضح على أنه لا زكاة فيهما، وإلا فما كان ينبغي أن يمتنعا عن أخذ ما أوجب الله أخذه.
(ومما تقدم) يعلم أن القول بعدم وجوب الزكاة في الخيل والرقيق هو الأصح لقوة دليله. ولذا اختاره
الطحاوي وأجاب عن أدلة الحنفيين. وقال: فلما لم يكن في شيء من هذه الآثار دليل على وجوب الزكاة في الخيل السائمة وكان فيها ما ينفي الزكاة فيها، ثبت بتصحيح هذه الآثار قول الذين لا يرون فيها زكاة(1).
(ب) البغال والحمير:
إن اتخذت للتجارة ففيها زكاة العروض كسائر أموال التجارة، وإن لم تكن للتجارة فلا زكاة فيها اتفاقا لعدم التناسل في البغال وعدم قصده في الحمير (وفي حديث) أبي هريرة قال: يا رسول الله فالحمر؟ قال: ما أنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره* ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره" أخرجه أحمد ومسلم(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {58}
(وعن) عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا صدقة في الكسعة والجبهة والنخة". وفسره أبو عمر قال: الكسعة: الحمير: الخيل، والنخة: العبيد. أخرجه الطبراني في الكبير، وفيه سليمان بن أرقم متروك(3). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {59}
دل ما ذكر على عدم وجوب الزكاة في الحمير والبغال إلا إذا كانت للتجارة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك.
(جـ) صغار النعم :
__________
(1) انظر ص 311 ج 1 شرح معاني الآثار.
(2) هذا عجز الحديث السابق رقم 9 ص 109 (منع الزكاة) (الجامعة) أي المتناولة لكل خير ومعروف، و(الفاذة) أي القليلة النظير، والمعنى أنه لم ينزل علي فيها نص، ولكن نزلت هذه الآية الدالة على الترغيب في الخير. فمن تطوع خيرا فهو خير له.
(3) انظر ص 69 ج 3 مجمع الزوائد (صدقة الخيل والرقيق) و(الكسعة) بضم فسكون و(الجبهة) بفتح فسكون و(النخة) بضم النون مشددة وفتح الخاء.(1/178)
يشترط في نصاب السائمة أن يكون كله أو بعضه كبيرا ذا سنة فأكثر فإن كان كله صغارا- فصلانا أو حملانا أو عجولا-(1) فلا زكاة فيه عند أبي حنيفة ومحمد وروي عن أحمد، فلو ملك خمسا وعشرين من الإبل ثم وضعت خمسا وعشرين فصيلا ومات الكبار قبل تمام الحول وتم على الصغار، فلا زكاة فيها وكذا الحملان والعجول، لأن تقدير النصاب إنما يعرف بالنص والنص إنما ورد باسم الإبل والبقر والغنم وهي لا تتناول الفصلان والحملان والعجول، فلم يثبت كونها نصابا (ولما روى) سويد بن غفلة قال: سرت مع مصدق النبي صلى الله عليه وسلم فإذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تأخذ من راضع لبن (الحديث) أخرجه أحمد وأبو داود والبيهقي والدارقطني، وفيه هلال بن خباب، وثقه كثير وتكلم فيه البعض(2). ... ... ... ... {60}
(وقال) مالك وزفر: تجب الزكاة في الصغار كالكبار، وهو مشهور مذهب أحمد لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض، وقوله: في ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة، من غير فصل بين الكبار والصغار، لكنن لا يؤخذ الصغير (وعليه) فالمراد من الواجب في قوله: في خمس من الإبل شاة، وفي قوله: في أربعين شاة شاة، الكبيرة لا الصغيرة (ورد) بأن اسم الإبل والبقر لا يشمل الفصلان والعجول فالمراد بها الكبير.
(
__________
(1) الفصلان) بضم الفاء أو كسرها- جمع فصيل: وهو ولد الناقة قبل أن يتم له سنة و(الحملان) بضم الحاء وكسرها- جمع حمل- بفتحتين: ولد الضأن في السنة الأول و(العجول) جمع عجل بكسر فسكون: ولد البقر في السنة الأولى.
(2) انظر ص 227 ج 8 – الفتح الرباني (اجتناب كرائم الأموال) وص 175 ج 9 المنهل العذب المورود، وص 101 ج 4 بيهقي. و(راضع لبن) أي صغير لئلا يجحف بالفقير فإن حقه في الوسط.(1/179)
وقال) أبو يوسف والشافعي: يجب في الصغار واحدة منها لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: في خمس من الإبل شاة وفي أربعين شاة شاة، لكن لا سبيل إلى إيجاب المسنة لقول النبي صلى الله عليه وسلم للسعاة: إياكم وكرائم أموال الناس ولا تأخذوا من حرزات الأموال ولكن خذوا من حواشيها(1). وأخذ الكبار عن الصغار أخذ من كرائم الأموال وحرزاتها(2) (ورد) بما تقدم. واستدلوا أيضا بما روي أبو هريرة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها" أخرجه البخاري(3). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {61}
__________
(1) روى عروة عن عائشة قالت: بعث النبي صلى الله عليه وسلم مصدقا في أول الإسلام فقال: خذ الشارف والبكر ولا تأخذ حرزات الناس. أخرجه الطحاوي (انظر ص 314 ج 1 شرح معاني الآثار) و(الشارف) الناقة المسنة و(حرزات المال) خياره.
(2) انظر ص 31 ج 2 بدائع الصنائع.
(3) انظر ص 207 ج 3 فتح الباري (أخذ العناق في الصدقة).(1/180)
والعناق: الأنثى الصغيرة من أولاد المعز، فدل أن أخذ الصغار زكاة كان أمرا ظاهرا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ورد) بأنه روى عن الصديق رضي الله عنه أنه قال: والله لو منعنوي عقالا- وهو صدقة عام أو الحبل الذي يعقل به بعير الصدقة- فتعارضت الرواية فيه فلم يكن حجة وإن ثبت فهو تمثيل لا تحقيق، أي لو وجبت هذه ومنعوها لقاتلتهم. وعلى هذا الخلاف إذا كان له مسنات فاستفاد في خلال الحول صغارا ثم هلكت المسنات وبقي المستفاد فهل تجب الزكاة في المستفاد؟ فمن كان له أربعون حملا ومسنة فهلكت المسنة وتم الحول على الحملان فلا زكاة فيها عند أبي حنيفة ومحمد، وعند مالك وزفر وأحمد تجنب فيها مسنة. وعند أبي يوسف والشافعي تجب واحدة من الصغار. هذا إذا كان الكل صغارا. فأما إذا اجتمعت الصغار والكبار وهي نصاب ومات بعضها قبل تمام الحول فإن الصغار تعد ويجب فيها ما يجب في الكبار وهو المسنة اتفاقا (لما تقدم) في حديث سفيان بن عبد الله الثقفي من قول عمر رضي الله تعالى عنه: نعم نعد عليهم السخلة يحملها الراعي ولا نأخذها ونأخذ الجذعة والثنية. أخرجه مالك والشافعي والبيهقي(1). ... ... ... ... ... ... {62}
__________
(1) هذا بعض الأثر رقم 49 ص 154 (توقي كريم المال في الزكاة).(1/181)
وذلك أن الأصل حال اختلاط الصغار بالكبار أنه تجب الزكاة في الصغار تبعا للكبار إذا كان العدد الواجب في الكبار موجودا مع الصغار في قولهم جميعا، فإذا لم يكن الواجب في الكبار كله موجودا مع الصغار فإنه يجب بقدر الموجود عند أبي حنيفة ومحمد. فإذا كان له مستنتان ومائة وتسعة عشر حملا يجب فيها مسنتان اتفاقا لوجود الواجب، وإن كان له مسنة واحدة ومائة وعشرون حملا أخذت تلك المسنة فقط في قول أبي حنيفة ومحمد. وعند أبي يوسف والشافعي ومالك وأحمد تؤخذ المسنة وحمل، وإن كان له ستون من العجول فيها تبيع. فعند النعمان ومحمد يؤخذ التبيع لفقط، وعند غيرهما يؤخذ التبيع وعجل. وإن كان له ستة وسبعون من الفصلان فيها بنت لبون تؤخذ فقط عند النعمان ومحمد، وعند غيرهما تؤخذ بنت لبون وفصيل لأن الوجوب لا يتعلق بالصغار أصلا عندهما وعند غيرهما يتعلق بها(1).
(وجملة) القول أن الأئمة اتفقوا على أن النتائج يضم إلى الأصل إذا كان نصابا ولا يستأنف له حول لتعذر تميزه وضبط أوقات وجوده فجعل تبعا للأصل. وإن لم يكن الأصل نصابا فلا يضم إليه النتائج عند الثلاثة (وقال) مالك: يضم.
(د) العوامل:
هي جمع عاملة، وهي ما أعدت للعمل حملا وركوبا وغيرهما. ولا زكاة فيها عند غير مالك (لحديث) عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هاتوا ربع العشور من كل أربعين درهما درهم" (الحديث) وفيه: "وفي البقر في كل ثلاثين تبيع، وفي الأربعين مسنة وليس على العوامل شيء" أخرجه أبو داود والدارقطني وابن أبي شيبة والبيهقي بسند صحيح(2). ... ... ... ... ... ... {63}
(وعن) عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه أنه قال: ليس في الإبل العوامل ولا في البقر العوامل صدقة. أخرجه البيهقي والدار قطني(3). ... ... ... ... ... ... ... ... ... {64}
(
__________
(1) انظر ص 32 ج 2 بدائع الصنائع.
(2) تقدم رقم 37 ص 140 (زكاة النعم).
(3) انظر ص 116 ج 4 بيهقي (ما يسقط الصدقة عن الماشية) وص 204- الدارقطني.(1/182)
وعن) أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس في المثيرة صدقة" أخرجه الدارقطني والبيهقي وقال: في إسناده ضعف والصحيح موقوف. وقال الحافظ في الدراية: إسناد حسن وأخرجه عبد الرزاق موقوفا وهو أصح(1). ... ... ... ... ... ... ... ... {65}
(فهذه) الأحاديث تدل على أنه لا زكاة في الماشية العاملة، وبه قال جمهور العلماء (وقال) مالك: تجب الزكاة فيها أخذا بإطلاق الأحاديث. (ورد) بأن المطلق يحمل علي المقيد (قال) الإمام أحمد: ليس في العوامل زكاة وأهل المدينة يرون فيها الزكاة وليس عندهم في هذا أصل (وكذا) لا زكاة في الماشية المعلوفة، خلافا لمالك على ما تقدم بيانه(2).
(هـ) الأوقاص:
هي جمع وقص- بفتح فسكون أو فتحتين- ما بين نصابي السائمة وهو عفو لا زكاة فيه اتفاقا، لكن تتعلق
به الزكاة مع النصاب عند محمد بن الحسن وزفر وهو المعتمد عند المالكية، وهو قول للشافعي لأن الزكاة فرضت شكرا لنعمة المال والكل نعمة، فتتعلق به.
(ويؤيده) ما في كتاب الصديق رضي الله عنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم في الإبل: فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى، فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وفي سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث" (الحديث) أخرجه الجماعة إلا مسلما والترمذي(3). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {66}
(
__________
(1) انظر ص 204- الدارقطني وص 116 ج 4 بيهقي. وص 360 ج 2 نصب الراية (والمثيرة) من أثار الأرض: عمرها بالزراعة.
(2) تقدم ص 138 (زكاة النعم).
(3) تقدم رقم 38 ص 141 (زكاة الإبل) ورقم 47 ص 150 (زكاة الغنم).(1/183)
وعن) أبي وائل عن معاذ قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أخذ من البقر شيئا حتى تبلغ ثلاثين، فإذا بلغت ثلاثين ففيها عجل تابع جذع أو جذعة حتى تبلغ أربعين، فإذا بلغت أربعين ففيها بقرة مسنة. أخرجه أحمد والثلاثة(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {67}
(وقال) النعمان وأبو يوسف وأحمد: لا تتعلق الزكاة بالعفو وهو المشهور عند المالكية والأصح عند الشافعية (مستدلين) بما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في خمس من الإبل شاة ولا شئ في الزيادة حتى تبلغ عشرا" أخرجه أبو يعلي وأبو إسحاق الشيرازي(2). ... ... ... ... ... ... ... {68}
(قال) في الهداية: وكذا قال في كل نصاب ونفى الوجوب عن العفو(3) (ورد) بأنه لا حجة فيه لأنه لم يثبت من طريق صحيح، وإذا ثبت لا يقوي قوة حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه. ولا خلاف في أن الوقص عفو لا زائد في الواجب لأجله. وإنما الكلام في تعلق الواجب به مع النصاب وهو الأقوى من جهة الدليل (وثمرة) الخلاف تظهر فيما إذا كان له تسع من الإبل أو مائة وعشرون من الغنم فهلك بعد الحول من الإبل أربع ومن الغنم ثمانون. فعلى الأول يلزم (5/9) خمسة أتساع شاة عن الإبل وثلث شاة عن الغنم الباقية. وعلى الثاني عليه شاة كاملة لبقاء النصاب. والله تعالى ولي التوفيق.
(8) الجمع والتفريق:
__________
(1) تقدم رقم 44 ص 147 (زكاة البقر).
(2) انظر ص 362 ج 2 نصب الراية.
(3) انظر ص 512 ج 1 فتح القدير.(1/184)
لا يجوز لأرباب الماشية الجمع بين متفرق أموالهم ولا تفريق المجتمع منها مخافة وجوب الصدقة عليهم أو كثرتها: كأن يكون لشخص أربعون شاة ولآخر أربعون ولثالث أربعون فيجمعونها ليكون فيها شاة واحدة بدل ثلاث. وأن يكون خليطان لكل واحد مائة شاة وشاة، فيكون الواجب عليهما ثلاث شياه فيفترقان عند طلب الساعي الزكاة فيكون على كل واحد منهما شاة واحدة، نهرا عن ذلك لأنه هروب عن الحق الواجب وإجحاف بالفقير. ولا يجوز أيضا للساعي أن يفرق المجتمع لكثرة الصدقة أو يجمع بين المفترق لتحققها أو زيادتها: كأن يكون لكل من الخليطين أربعون شاة فيفرق بينهما ليأخذ من كل واحد شاة بعد أن كان عليهما شاة واحدة، أو يكون لواحد عشرون شاة ولآخر كذلك فيأمر بجمعهما لأخذ الصدقة منهما، أو يكون لشخص مائة شاة وشاة ولآخر مثله فيأمر الساعي بجمعهما ليأخذ ثلاث شياه بدل شاتين (ودليل) ذلك ما في حديث سويد بن غفلة قال: أتانا مصدق النبي صلى الله عليه وسلم فأخذت بيده وقرأت في عهده: لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة. أخرجه أحمد وابن ماجه وأبو داود وهذا لفظه(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... {69}
(وعن) ثمامة أن أنسا رضي الله عنه حدثه أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له: هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة" أخرجه البخاري(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {70}
(ومحل) عدم الجمع والتفريق خشية الزكاة في حالين:
(
__________
(1) انظر ص 227 ج 8 – الفتح الرباني (ما يجزئ من النعم). وص 283 ج 1 – ابن ماجه (ما يأخذ المصدق من الإبل) وص 177 ج 9 – المنهل العذب المورود (زكاة السائمة).
(2) انظر ص 252 ج 3 فتح الباري (لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع) (والتي فرض) أي كتب له الصدقة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم.(1/185)
أ ) في الجنس الواحد فلا يدخل في النهي ما اختلف جنسه. فمن كان عنده دون نصاب من البقر ودون نصاب من الغنم مثلا لا يضم إلى بعض اتفاقا.
(ب ) إذا تعدد المالك، وأما إذا اتحد وكان له ماشية ببلد لا تبلغ نصابا وله بأخرى ما يكمله من جنسها فإنه يضم بعضها إلى بعض. وكذا من كان له نصاب في جهة وآخر في جهة أخرى فإنه يضم بعضه إلى بعض، ولا يضر اختلاف الأمكنة عند الجمهور، ووافقهم أحمد فيما إذا كانت ماشية الرجل متفرقة دون مسافة القصر. وأما إذا كانت بينهما مسافة قصر فما فوق فلا يجمع بينها وينزل كل منها منزلة مال مستقل. فما بلغ منها نصابا زكي وإلا فلا.
(قال) ابن المنذر: لا أعلم هذا القول عن غير أحمد. وأجمع أهل العلم على ضم الضأن إلى المعز. فإذا ثبت هذا فإنه يخرج الزكاة من أي الأنواع أحب (وقال) مالك وإسحاق: يخرج من أكثر النوعين عددا، فإن استويا أخرج من أيهما شاء.
(وقال) الشافعي: يؤخذ من كل نوع ما يخصه واختاره ابن المنذر لأنها أنواع تجب فيها الزكاة فتجب زكاة كل نوع منه كأنواع الثمر والحبوب. وهكذا الحكم في أنواع الإبل والبقر، وفي السمان مع المهازيل، والكرام مع اللثام. فأما الصحاح مع المراض والذكور مع الإناث والكبار مع الصغار فيتعين عليه صحيحة وأنثى وكبيرة على قدر قيمة المالين إلا أن يتطوع رب المال بالفضل(1).
(9) الخلطة: هي نوعان:
(أ ) خلطة أعيان، وهي أن يكون مال كل متميزا فخلطاه في المراح (المبيت) والمسرح والمرعى وغيرها.
(
__________
(1) انظر ص 480 ج 2 مغنى ابن قدامة.(1/186)
ب ) وخلطة شيوع، وهي أن لا يتميز نصيب أحد الرجلين أو الرجال عن نصيب غيره، ولا تأثير لها بقسميها في وجوب الزكاة عند الحنفيين، فلا تجب الزكاة في نصاب مشترك لا يبلغ نصابا إلا بالضم، لا فرق في ذلك بين السائمة ومال التجارة، وإن تمت الخلطة باتحاد المسرح والمرعى والراعي والمراح والفحل وغيرها، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة(1). فإن المراد الجمع والتفريق في الأملاك لا الأمكنة. ألا ترى أن النصاب المفرق في أمكنة مع اتحاد المالك تجب فيه الزكاة. ومن ملك ثمانين شاة ليس للساعي أن يجعلها نصابين بأن يفرقهما في مكانين. فمعنى لا يفرق بين مجتمع أنه لا يفرق الساعي بين الثمانين مثلا ليجعلها نصابين. ومعنى لا يجمع بين متفرق أنه لا يجمع مثلا بين الأربعين المتفرقة بالملك بأن تكون مشتركة ليجعلها نصابا. والحال أن لكل عشرين(2). أما لو تعدد النصاب المشترك بحيث يبلغ- قبل الضم- ما لكل واحد بانفراده نصابا فإنه يجب عن كل منهما زكاة نصابه. فإذا أخذ الساعي زكاة النصابين من المالين. فإن تساويا فلا رجوع لأحدهما على الآخر. كما لو كان المال المشترك ثمانين شاة لكل منهما أربعون وأخذ الساعي شاتين منهما. وإن لم يتساويا تراجعا بالحصص بأن يكون لهما مائة وثلاثة وعشرون شاة لأحدهما الثلثان وللأخر الثلث فالواجب شاتان، فيأخذ من كل منهما شاة فيرجع صاحب الثلث على صاحب الثلثين بثلثي الشاة التي دفعها ويرجع صاحب الثلثين على صاحب الثلث بثلث الشاة التي دفعها ويقام ثلثه مقام ثلث من الثلثين الماطلب بهما ويبقى ثلث شاة يطالب به صاحب ثلثي المال(3).
__________
(1) تقدم رقم 70 ص 166 (الجمع والتفريق).
(2) انظر ص 496 ج 1 فتح القدير (صدقة السوائم).
(3) انظر ص 38 ج 2 رد المحتار (زكاة المال).(1/187)
وهذا هو المراد بقول النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب الصديق: "وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية".
(وقالت) المالكية: خلطاء الماشية كمالك واحد في الزكاة ولا أثر للخلطة إلا إذا كان كل من الخليطين يملك نصابا بشرط اتحاد الراعي والفحل والمراح ونية الخلطة. وأن يكون مال كل متمايزا عن الآخر وإلا كانا شريكين. وأن يكون كل منهما أهلا للزكاة، فلو كان أحدهما عبدا أو كافرا فلا تصح خلافا لابن الماجشون. ولا يشترط اتحاد المبيت ولا كون الخلطة في جميع الحول. فلو اختلطا قبل الحول بنحو شهرين فهما خليطان ولا يكفي الشهر خلافا لابن حبيب. ولا تؤثر الخلطة إلا في المواشي. وبه قال الأوزاعي: وما يؤخذ من المالين يوزع على الشريكين بنسبة ما لكل. ولو كان لأحدهما مال غير مخلوط اعتبر كله مخلوطا.
(وقالت) الشافعية: الخلطة بقسميها تؤثر في إيجاب الزكاة في المواشي والزروع والثمار والنقدين بشروط خمسة:
(1) أن يكون الشركاء أهلا لوجوب الزكاة: فلو كان أحدهما ذميا أو مكاتبا فلا أثر للخلطة بل إن كان نصيب المسلم الحر نصابا زكاة وإلا فلا.
(2) وأن يبلغ المال بعد لخطة نصابا.
(3) وأن يمضي عليه بعد الخلط حول كامل.
(4) وأن لا يتميز أحد المالين عن الآخر في المراح والمسرح والمشرب والراعي والمحلب (مكان الحلب) ولا يشترط خلط اللبن في إناء واحد.
(5) وأن يتحد الفحل إذا كانت الماشية من نوع واحد. فإذا كان بين شخصين فأكثر من أهل الزكاة نصاب مشترك في الأعيان أو الأوصاف ومضى بعد الخلط حول كامل ففيه زكاة المال الواحد.
((1/188)
وبهذا) قال أحمد، غير أنه قال: لا تؤثر الخلطة إلا في المواشي فتؤثر في إيجاب الزكاة وفي تكثيرها وتقليلها. فلو ملك شخصان فأكثر أربعين شاة وتحققت شروط الخلطة وجبت فيها الزكاة (لحديث) ثمامة بن عبد الله أن أنسا حدثه أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له: هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم علي المسلمين (الحديث) وفيه: ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية. أخرجه البيهقي والبخاري مفرقا في موضعين(1). ... ... ... ... ... ... {71}
... (وأجاب) الأولون بأنه محمول علي ما إذا كان لكل منهما نصاب، بدليل عموم السلب (في حديث) أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليس فيما دون خمس ذود صدقة" (الحديث) أخرجه الجماعة. وقال الترمذي: حسن صحيح وقد روي من غير وجه(2). ... ... ... ... ... {72}
... (وفي حديث) ثمامة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإن لم تبلغ سائمة الرجل أربعين من الغنم فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها، وفي الرقة ربع العشر، فإن لم يكن المال إلا تسعين ومائة فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها" أخرجه الجماعة إلا مسلما والترمذي(3). ... ... ... ... ... ... ... {73}
__________
(1) انظر ص 104 ج 4 بيهقي (صدقة الخلطة) وص 202 ج 3 فتح الباري (ترجمتين بجملتي الحديث).
(2) تقدم رقم 34 ص 139 (زكاة النعم).
(3) تقدم رقم 38 ص 141 (زكاة الإبل).(1/189)
... وسائر النصوص الواردة في نصب الزكاة تدل على عدم الوجوب فيما دون النصاب (قال) ابن عبد البر: أجمعوا على أن المنفرد لا يلزمه زكاة في أقل من نصاب. واختلفوا في الخليطين. ولا يجوز نقض أصل مجمع عليه برأي مختلف فيه (وقال) الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث: إذا بلغت ماشيتهما النصاب وجبت وإن لم يكن لكل نصاب، وليس ذلك برأي لأنه لم يفرق في حديثي الذود والغنم يبين المجتمعين بالخلطة لمالكين أو لمالك واحد. وقد اتفقوا في ثلاثة خلطاء لهم مائة وعشرون شاة لكل واحد أربعون أن عليهم شاة واحدة فنقصوا المساكين شاتين للخلطة. فقياسه لو كانت أربعون بين ثلاثة وجبت عليهم شاة للخلطة أيضا، لكن الاتفاق علي هذا إنما هو بين القائلين بتأثير الخلطة فلا يعادل القياس علي المجمع عليه. وهو خلاف عموم السلب في قوله: "ليس فيما دون خمس ذود صدقة" وخلاف الشرط في حديث الغنم: (فقول) الحنفيين ومالك أرجح واستدلالهم أوضح(1).
(ب) زكاة الأثمان
الأثمان: هي الفضة والذهب. والكلام ينحصر في اثنى عشر فرعا:
... (1) زكاة الفضة:
... الفضة أسم لمعدن رزين. والزكاة فيها فرض- بالكتاب والسنة وإجماع الأمة- مضروبة وغير مضروبة إذا بلغت نصابا حال عليه الحول فاضلا عن الحوائج الأصلية والدين الذي له مطالب من العباد . ونصابها مائتا درهم ولو غير خالصة- عند الحنفيين ومالك- وفيها ربع العشر (خمسة دراهم) بالإجماع (روى) عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قد عفوت عن الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهما درهم، وليس في تسعين ومائة شيء فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم" أخرجه الأربعة. وقال الترمذي: سألت البخاري عن هذا الحديث فقال: صحيح(2). ... ... ... ... ... ... {74}
__________
(1) أنظر ص 60 و61 ج 2 زرقاني الموطأ (صدقة الخلطاء).
(2) تقدم رقم 54 ص 157 (ما لا زكاة فيه).(1/190)
... (وقال) الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم ليس فيما دون خمسة أواق صدقة، والأوقية أربعون درهما وخمس أواق مائتا درهم(1).
... (2) مقدار الأوقية والدرهم:
... المراد بالأوقية أوقية الحجاز. فالأواقي الخمس مائتا درهم بدرهم الوزن المتعارف. وفي الأحاديث المذكورة دليل على أن الأوقية والدرهم كانا معلومين لمن خاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم وإلا لبينهما لهم ولم يكلهم إلى مجهول(2).
(3) نصاب الفضة بالدرهم والعملة:
__________
(1) انظر ص 6 ج 2 تحفة الأحوذي.
(2) ومنه يتبين بطلان قول من زعم أن الدراهم كانت مجهولة إلى زمن عبد الملك بن مروان وأنه جمعها برأي العلماء وجعل كل عشرة وزن سبعة مثاقيل. هذا والدرهم ستة دوانق وست عشرة حبة خرنوب. فالدانق حبتان وثلثا حبة. والدرهم المعتبر في الزكاة وغيرها هو درهم الوزن المتعارف الآن (قال) ابن منظور: وزنة المثقال المتعامل به الآن درهم وثلاثة أسباع درهم وهو بالنسبة إلى رطل مصري عشر عشر رطل (انظر ص 91 ج 13 لسان العرب، أي أن المثقال جزء من مائة من الرطل المصري. فالرطل المصري مائة مثقال، لكن الواقع أنه مائة مثقال وأربعة أخماس مثقال. وإذا ضربت في درهم وثلاثة أسباع درهم (مقدار المثقال بالدرهم) ينتج 144 أربع وأربعون ومائة درهم، وهو قدر الرطل المصري بالدرهم.(1/191)
الدرهم لغة: اسم لما ضرب من الفضة على شكل مخصوص . وشاعاً : قدر مخصوص يزن ستة عشر قيراطاً ولو غير مضروب وهو الدرهم المتعارف، وهو يزن 3.12 جرام. والريال المصري يزن 9 دراهم أو 28 جراماً أو 144 قيراطاً وعياره (الخالص فيه من الفضة 4/5). والريال المجيدي= 1/4 17 قرشا ويزن 13/16 7 دراهم أو 3/8 24 جراما أو 125 قيراطا وفيه من غير الفضة 7/8 18 قيراطا وعياره 85.5/100. والشلن= 7/8 4 قرشا ويزن 1.81 درهم أو 5.65 جرامات أو 96ر 28 قيراطا وفيه من غير الفضة نحو 1/10 وزنه. والفرنك= 3.8575 قرشا ويزن 1.6 درهما أو 5 جرام وفيه من غير الفضة نحو 1/5 وزنه. (وعلى) ما قاله الحنفيون ومالك- من أن المغشوش يعتبر كالخالص إن راج رواجه- يكون نصاب الفضة مائتي درهم أو 624 جرام أو 3200 قيراط أو 3/9 22 ريالا مصريا أو 25.6 ريالا مجيديا أو 110.5 شلنا أو 124.8 فرنك. (وعلى) ما ذهب إليه الشافعية والحنبلية- من أنه لا زكاة في المغشوش حتى يبلغ خالصه نصابا- يكون نصاب الفضة 7/9 27 ريالا مصريا أو 30.15 ريالا مجيديا أو 122.8 شلن أو 156 فرنك(1).
__________
(1) وذلك بقسمة النصاب ( مائتي درهم ) على خالص الفضة في الريال المصري (7.2 دراهم) وقسمة النصاب بالقيراط على خالصها في المجيدي (106 قيراط وثمن قيراط) وقسمته على خالصها في الشلن (26.064 قيراطا) وقسمة النصاب بالجرام على خالصها في الفرنك (4 جراما).(1/192)
... هذا على التحقيق من أنه لا تفاوت بين الدرهم الشرعي والعرفي،÷ وهو المختار عند محققي الحنفيين، وأما على ما قاله غيرهم من أن الدرهم الشرعي خمسون حبة وخمسا حبة من متوسط الشعير فينبغي تحويل الدراهم الشرعية إلى دراهم عرفية بضرب عدد الدراهم (200 × 50.4) حبة وهو مقدار الدرهم الشرعي وقسمة الحاصل على مقدار الدرهم العرفي (64 حبة) ينتج (157.5) درهم عرفي(1).
(فعلى) ما قاله المالكية- من أن المغشوش كالخالص- يكون نصاب الفضة 200 درهم شرعي أو 157.5 درهم عرفي أو 491.4 جرام أو 2520 قيراط(2) أو 17.5 ريالا مصريا أو 20.16 ريالا مجيديا أو 86.97 شلنا أو 98.28 فرنكا(3). (وعلى) مذهب الشافعية والحنبلية- من عدم اعتبار الغش واعتبار الخالص من الفضة- يكون نصابها بالعملة 21.87 ريالا مصريا أو 96.63 شلنا أو 122.85 فرنكا(4).
... (4) زكاة الذهب:
__________
(1) ومنه تعلم أن ما ذكره العلامة الدردير في الشرح الصغير من أن نصاب الفضة بالدرهم العرفي (158 درهم وخمسة أثمان) غير محرر حتى على القول بأن الدرهم (57.6 شعيرة) فإن نصاب الفضة عليه بالدرهم العرفي (180 درهم) بضرب (57.6 شعيرة في 200 درهم) وقسمة الحاصل على (64 حبة).
(2) وذلك بضرب النصاب (157.7 درهم) في جرام الدرهم وفي قيراطه.
(3) وذلك بقسمة النصاب (157.5 درهم) على وزن الريال والشلن والفرنك.
(4) وذلك بقسمة النصاب (157.5 درهم) على خالص الفضة في الريال المصري (7.2 دراهم) ويقال في الباقي نحو ما تقدم.(1/193)
... الذهب معدن أصفر رزين والزكاة فيه فرض بالكتاب والسنة وإجماع الأمة- إذا بلغ نصابا حال عليه الحول فاضلا عن الحوائج الأصلية والدين الذي له مطالب من العباد - ونصابه عشرون مثقالا وفيها ربع العشر بالإجماع (الحديث) علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قال: "فإذا كانت لك مائتا درهم وحال عليه الحول ففيها خمسة دراهم وليس عليك شيء- يعني في الذهب- حتى يكون لك عشرون دينارا، فإذا كانت لك عشرون دينارا وحال عليها الحول ففيها مصف دينار فما زاد فبحساب ذلك" (الحديث) أخرجه أبو داود والبيهقي وصححه البخاري وحسنه الحافظ وفيه الحارث الأعور مختلف فيه(1). ... ... ... ... ... {75}
... (وعن) ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من كل عشرين دينارا فصاعدا نصف دينار ومن الأربعين دينارا: دينارا. أخرجه ابن ماجه والدارقطني وفيه إبراهيم بن إسماعيل ضعيف(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {76}
... (5) المثقال والعملة الذهبية:
... المثقال لغة: كل ما يوزن به قليلا أو كثيرا، وشرعا: قدر مخصوص يزن 6/7 22 قيراطا ولو غير مضروب، وهذا التقدير هو المفتي به والمختار عند الحنفيين فالمثقال درهم وثلاثة أسباع درهم ووزنه بالجرام 4.44 والجنيه المصري يزن بالدرهم 2.72 وبالجرام 8.5 وبالقيراط 42.6 وثمنه غش والجنيه المجيدي= 87.75 قرشا ويزن بالدرهم 1/3 2 وبالجرام 1/5 7 وبالقيراط 27 وبه 2.5 قيراط غش والجنيه الإنجليزي= 97.5 قرشا ويزن بالدرهم 2.56 وبالجرام 7.988 وبالقيراط 40.96 وغشه 1/12 من وزنه. والجنيه الفرنسي (الونتو) 77.15 قرشا ويزن بالدرهم 2.06 وبالجرام 6.452 وبالقيراط 32.96 وغشه عشر وزنه.
... (6) نصاب الذهب بالدينار والعملة:
__________
(1) تقدم رقم 26 ص 100 (الحول).
(2) انظر ص 281 ج 1 – ابن ماجه (زكاة الورق والذهب) وص 199 دارقطني.(1/194)
... الدينار هو المثقال، ونصاب الذهب عشرون مثقالا ووزنها 4/7 28 درهما أو 1/7 89 جراما أو 1/7 45 قيراطا(1) وتساوي 10.5 جنيهات مصرية أو 6/7 12 جنيها مجيديا أو 9/56 11 جنيها إنجليزيا أو 13.87 جنيها فرنسيا(2). هذا على التحقيق من أن المثقال 3/7 1 درهم. وأما على ما قاله بعض الفقهاء أن المثقال الشرعي 72 حبة فينبغي تحويل المثاقيل الشرعية إلى مثاقيل عرفية بضرب عدد المثاقيل الشرعية (20) في مقدار المثقال (72 حبة) وقسمة الحاصل على مقدار المثقال العرفي (91 حبة) ينتج 15.824 مثقالا عرفيا.
... (فعلى) ما قاله المالكية- من أن المغشوش كالخالص- يكون نصاب الذهب (20) عشرين مثقالا شرعيا أو 15.824 مثقالا عرفيا أو 22.6 درهما أو 70.512 جراما أو 361.6 قيراطا(3) ويساوي بالجنيه المصري 8.3 وبالجنيه المجيدي 9.773 وبالإنجليزي 8.828 وبالفرنسي 10.97(4).
... (وعلى) ما قاله الشافعية والحنبلية- من أنه لا زكاة في المغشوش حتى يبلغ خالصه نصابا- يكون نصاب الذهب بالجنيه المصري 9.478 وبالمجيدي 10.48 وبالإنجليزي 9.6 وبالفرنسي 12.18(5).
... (7) هل في زكاة النقد عفو:
__________
(1) وذلك بضرب (20 مثقالا) في (درهم وثلاثة أسباع درهم) ثم ضرب الحاصل في جرام الدرهم وفي قيراطه.
(2) وذلك بقسمة النصاب (28 درهما وأربعة أسباع درهم) على وزنه كل جنيه.
(3) وذلك بضرب النصاب (15.824 مثقالا) في (درهم وثلاثة أسباع درهم) ثم ضرب الحاصل في جرام الدرهم وقيراطه.
(4) وذلك بقسمة النصاب بالمثقال العرفي أو الدرهم أو أجزائه على وزن كل جنيه.
(5) وذلك بقسمة النصاب (361.6 قيراط) على خالص الذهب في كل جنيه.(1/195)
... اختلف العلماء في هذا فذهب مالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد والثوري وغيرهم إلى أنه لا عفو في النقدين. فما زاد على النصاب يزكي بحسابه قل أو كثر (لما) في حديث عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قال: هاتوا ربع العشور من كل أربعين درهما درهم وليس عليكم شيء حتى تتم مائتي درهم فإذا كانت مائتي درهم ففيها خمسة دراهم فما زاد فعلى حساب ذلك. أخرجه أبو داود والدارقطني والبيهقي وابن أبي شيبة. قال ابن القطان: إسناده صحيح وكلهم ثقات من طريق عاصم(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {77}
... (وعن) نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: في كل مائتي درهم خمسة دراهم فما زاد فبحساب ذلك. أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة بسند صحيح(2). ... ... ... ... ... ... ... {78}
... (وذلك) لأن الزكاة وجبت شكرا لنعمة المال. واشتراط النصاب في الابتداء لتحقق الغنى ولا معنى لاشتراطه بعد ذلك فيما لا ضرر في تجزئته كالدراهم والدنانير (وقال) النعمان وسعيد بن المسيب: لا شيء في الزائد على النصاب حتى يبلغ خمسه وهو أربعون درهما في الفضة- ففيها درهم- وأربعة مثاقيل في الذهب، ففيها قيراطان وسبعا قيراط(3).
... (واستدلوا): (أ) بما في كتاب عمرو بن حزم من قول النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم: "وفي كل خمس أوراق من الورق خمسة دراهم وما زاد ففي كل أربعين درهما درهم" أخرجه النسائي وابن حبان والحاكم وصححاه والبيهقي(4). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {79}
__________
(1) تقدم رقم 37 ص 140 (زكاة النعم).
(2) انظر ص 7 ج 3 – ابن أبي شيبة. وص 366 ج 2 نصب الراية.
(3) وذلك بضرب قيمة المثقال بالقيراط 22 وستة أسباع قيراط في 4 ينتج 91 قيراطا وثلاثة أسباع قيراط ربع عشره قيراطان وسبعا قيراط.
(4) انظر ص 395 و 396 ج 1 مستدرك. وص 367 ج 2 نصب الراية. وص 89 ج 4 بيهقي (فرض الصدقة).(1/196)
... (وأجاب) الجمهور بأن في سنده سليمان بن داود الخولاني (قال) ابن حزم ساقط مطروح(1)، وعلى فرض صحته فهو بمفهومه يفيد نفي الزكاة عما دون خمس النصاب. وحديث علي رضي الله عنه يفيد بمنطوقه وجوب الزكاة فيما دون الخمس. وكذلك حديث: في الرقة ربع العشر. وإذا تعارض منطوق ومفهوم رجح المنطوق.
... (ب) وبقول الحسن البصري: كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: فما زاد على المائتين ففي كل أربعين درهما درهم. أخرجه ابن أبي شيبة(2).
... (وأجاب) الجمهور بأن المراد أن ما زاد من الأربعينيات فيه درهم فلا ينافى أن الأقل منها يكون بحسابه جمعا بين الأدلة (ومنه) تعلم أن الراجح قول الجمهور لقوة أدلته. (ومما) ينبني على هذا الخلاف ما لو كان له خمسة دراهم ومائتان ومضى عليها عامان، فعند الجمهور عليه 1/8 5 دراهم زكاة العام الأول فبقى في العام الثاني مائتان إلا ثمن درهم ولا زكاة فيه. وعند النعمان عليه عشرة دراهم زكاة العامين لأنه لا زكاة عنده في الخمسة دراهم.
... (فائدة) المعتمد في فرضية الزكاة وأدائها في الأثمان الوزن لا القيمة عند الجمهور لأنه الوارد عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (وهذا) عند الحنفيين إذا أدى من الجنس، أما لو أدى من خلافه فالمعتبر القيمة عندهم.
... (8) زكاة المخلوط والمغشوش:
__________
(1) مطروح) رد بقول البيهقي: وحديث سليمان بن داود مجود الإسناد. وقد أثنى على سليمان هذا أبو زرعة وأبو حاتم وعثمان بن سعيد وغيرهم، ورأوا هذا الحديث موصول الإسناد حسنا (أنظر ص 90 ج 4 بيهقي).
(2) انظر ص 368 ج 2 نصب الراية.(1/197)
... إذا سبك أحد النقدين بغيره فما غلبت فضته أو ذهبه فكالخالص منهما عند الحنفيين وكذا ما استوى فيه النقد وغيره احتياطا ومراعاة لحال الفقراء. وإن سبك الذهب والفضة فإن كان الذهب غالبا فالكل في حكم الذهب الخالص وكذا إذا استويا لأنه أعز وأغلى قيمة، وإن كانت الفضة غالبة وبلغت نصابا ففيه زكاتها، وإن بلغ الذهب نصابا ففيه زكاته. وما غلب غشه ولم يكن ثمنا رائجا تعتبر قيمته لا وزنه، فإن بلغت نصابا من أقل نقد تفرض فيه الزكاة زكاه إن نوى فيه التجارة عند الحنفيين وإلا فلا.
... (وقالت) المالكية: تجب الزكاة في المغشوش وناقص الوزن إن راج كل رواج الكامل في المعاملات. فإن لم ترج أصلا أو راجت دون رواج الكاملة حسب الخالص في المغشوش فإن بلغ نصابا زكى وإلا فلا، واعتبر كمال الناقص بزيادة ما يكمله، فلو كانت المائتا درهم لنقها تروج رواج مائة وتسعين لم تجب الزكاة فيها إلا بزيادة ما يكملها، وبهذا قال أحمد في الناقصة. (وقال) الشافعي وأحمد: لا زكاة في المغشوشة حتى يبلغ الخالص منها نصابا. (وقال) بعض الشافعية: إذا كان الغش يماثل أجرة الضرب والتخليص تسومح فيه. وعليه عمل الناس، لا فرق في ذلك بين الذهب والفضة.
... (9) ضم النقدين:
... قد اختلف العلماء في أنه هل يضم أحمد النقدين إلى الآخر؟ (فقال) الحنفيون ومالك وجماعة: يضم كل إلى الآخر. وروى عن أحمد: فإذا بلغ النصاب زكى. (وقال) الشافعي وداود: لا يضم. وروى عن أحمد: فلو ملك مائتي درهم إلا درهما وعشرين مثقالا إلا نصفا فلا زكاة في واحد منهما عند الشافعي ويزكي عند غيره.(1/198)
... (واختلف) القائلون بالضم في كيفيته (فقال) النعمان: يضم الذهب إلى الفضة بالقيمة. فإذا كان له مائة درهم وذهب قيمته مائة درهم وجبت الزكاة. (وقال) مالك وأبو يوسف وأحمد: يضم أحدهما إلى الآخر بالإجزاء. فإذا كان معه مائة درهم وعشرة دنانير أو خمسون درهما وخمسة عشر دينارا ضم أحدهما إلى الآخر. ولو كان له مائة درهم وخمسة دنانير قيمتها مائة درهم فلا ضم(1). هذا واختلاف الرواية عن أحمد فيما إذا لم يكن مع النقدين عروض تجارة وإلا لزم الضم رواية واحدة، لأن العرض يضم إلى كل واحد منهما، فيجب ضمهما إليه.
... (وسبب) اختلافهم: هل كل واحد من النقدين تجب فيه الزكاة لعينه أو لسبب يعمهما وهو كونهما رؤوس الأموال وقيم المتلفات؟ فمن رأى أن الزكاة في كل لعينه قال: هما جنسان لا يضم أحدهما إلى الآخر كما في البقر والغنم. ومن رأى أن المعتبر فيهما هو الأمر الجامع بينهما أوجب ضم بعضهما إلى بعض(2). (والمختار) القول بعدم الضم وهو الذي يشهد له الدليل.
... (10) زكاة الحلي:
__________
(1) انظر ص 18 ج 6 مجموع النووي.
(2) انظر ص 235 ج 1 بداية المجتهد (ضم الذهب إلى الفضة في الزكاة).(1/199)
... الحلي- بفتح فسكون- ما تتزين به المرأة من مصوغ المعدن وغيره، والجمع حلي بضم فكسر فشد- كفلس وفلوس- وتفترض الزكاة في تبر الذهب والفضة وهو ما ليس مضروبا وفي آنيتهما، والحلي غير المباح بالإجماع. وكذا تفترض في الحلي المباح عند الحنفيين ومجاهد والزهري وغيرهم ( لحديث ) ابن عمرو أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال لها : " أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا . قال : أيسرك أن يسورك الله تعالى بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ فخلعتهما فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: هما لله ولرسوله : أخرجه أبو داود والنسائي بسند قوي فيه حسين بن ذكوان ثقة ، وصححه الحاكم(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {80}
... ومنه تعلم أن قول الترمذي- لا يصح في هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء- غير صحيح.
... (وقالت) عائشة رضي الله عنها: "دخل على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فرأى في يدي فتخات من ورق فقال: ما هذا يا عائشة؟ فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله. قال: أتؤدين زكاتهن؟ قلت: لا. قال: هو حسبك من النار" أخرجه أبو داود والدارقطني والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين وفيه محمد بن عمرو بن عطاء ثقة(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {81}
__________
(1) انظر ص 134 ج 9 – المنهل العذب المورود (زكاة الحلي) وص 343 ج 1 مجتبي (والمسكة) بفتحات: الأسورة.
(2) انظر ص 137 ج 9 – المنهل العذب المورود (زكاة الحلي) وص 205 الدارقطني. وص 389 ج 1 مستدرك (والفتخة) بفتح فسكون أو فتح: خاتم كبير أو حلقة من فضة كالخاتم (وحسبك من النار) يعني لو لم تعذبي في النار إلا من أجل هذا لكفاك. وهو وعيد شديد لمن لم يؤد زكاة الحلي.(1/200)
... (وعن أسماء) بنت يزيد قالت: دخلت أنا وخالتي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلينا أسورة من ذهب، فقال لنا: أتعطيان زكاته؟ فقلنا: لا. قال: أما تخافان أن يسور كما الله أسورة من نار؟ أديار زكاته" أخرجه أحمد بسند حسن(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {82}
... (وقال) مالك والشافعي وأحمد: لا زكاة في الحلي المباح (لما روي) عافية بن أيوب عن ليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا: ليس في الحلي زكاة. أخرجه الدارقطني وابن الجوزي في التحقيق من عدة طرق فيها مقال(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... [83]
... (قال) البيهقي في المعرفة: وما يروي ليس في الحلي زكاة فباطل لا أصل له إنما يروي عن جابر من قوله. وعافية مجهول.
... (وعن) عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه "أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تلي بنات أخيها يتامى في حجرها لهن الحلي فلا تخرج من حليهن الزكاة" أخرجه مالك والبيهقي(3).
... (وعن) نافع أن ابن عمر كان يحلي بناته وجواريه الذهب ثم لا يخرج من حليهن الزكاة. أخرجه مالك(4).
... (وعن) أسماء بنت أبي بكر أنها كانت تحلي بناتها الذهب ولا تزكيه نحوا من خمسين ألفا. أخرجه الدار قطني(5).
__________
(1) انظر ص 21 ج 9 – الفتح الرباني (زكاة الحلي).
(2) انظر ص 205 الدارقطني. وص 374 ج 2 نصب الراية.
(3) انظر ص 48 ج 2 زرقاني الموطأ (ما لا زكاة فيه من الحلي) وص 138 ج 4 بيهقي (لا زكاة في الحلي) والمراد أخوها لأبيها محمد بن أبي بكر.
(4) انظر ص 48 ج 2 زرقاني الموطإ.
(5) انظر ص 206 – الدارقطني. و(نحوا من خمسين ... .) أي أن حلي البنات كان نحوا من خمسين أل درهم مثلا.(1/201)
... (وهذه) آثار تدل على عدم وجوب الزكاة في الحلي. ولكن بعد ثبوت الحديث وحته لا حجة في الآثار (وروى) البيهقي عن ابن عمر وسعيد بن المسيب أن زكاة الحلي عاريته(1). (وأظهر) الأقوال وأقواها دليلا القول بوجوب الزكاة في الحلي (قال) الخطابي: الظاهر من الكتاب يشهد لمن أوجبها والأثر يؤيده. ومن أسقطها ذهب إلى النظر ومعه طرف من الأثر والاحتياط أداؤها(2).
... (وأجاب) القائلون بعدم وجوب الزكاة في الحلي المباح:
( أ ) بأن الحلي كان في أول الإسلام محرما على النساء كما نقله البيهقي وغيره.
( ب ) بأنه صلى الله عليه وسلم لم يحكم على الحلي مطلقا بالوجوب إنما حكم على فرد خاص منه وهو قوله (هذه) لأنه كان فيه سرف بدليل قوله في الحديث (غليظتان) وهم يقولون بحرمة ما فيه سرف ووجوب الزكاة فيه(3).
(فوائد):
... (الأولى) ما ذكر من الخلاف في وجوب الزكاة في الحلي إنما هو في حلي الذهب والفضة. وأما حلي غيرهما كاللؤلؤ والمرجان والزبرجد والماس ونحوها فلا زكاة فيه اتفاقا إلا إذا اتخذ للتجارة ففيه الزكاة.
... (الثانية) لا فرق في الحلي المباح بين أن يكون مملوكا لامرأة تلبسه أو تعيره أو لرجل يحلي به أهله أو يعيره أو يعده لذلك لأنه مصروف عن جهة النماء إلى استعمال مباح فأشبه حلي المرأة، فإن اتخذ حليا فرارا من الزكاة لم تسقط عنه لأنها إنما سقطت عما أعد للاستعمال لصرفه عن جهة النماء ففيها عداه يبقى على الأصل.
__________
(1) انظر ص 140 ج 4 بيهقي.
(2) انظر ص 17 ج 2 معالم السنن.
(3) انظر ص 99 ج 1 كفاية الأخيار.(1/202)
... (الثالثة) إن انكر الحلي كسرا لا يمنع اللبس فهو كالصحيح إلا أن ينوي ترك لبسه، وإن كان كسرا يمنع الاستعمال ففيه الزكاة لأنه صار كالنقرة(1) وإن نوت المرأة بحلي اللبس التجارة، انعقد عليه حول الزكاة من حين نوت لأن الوجوب هو الأصل فانصرف إليه بمجرد النية كما لو نوى بمال التجارة القنية انصرف إليه بغير استعمال(2)، وكذلك ما يباح للرجال من الحلي كخاتم الفضة وقبيعة السيف وحلية المنطقة وأنف الذهب، وكل ما أبيح للرجل حكمه حكم حلي المرأة لأنه مصروف عن جهة النماء فأشبه حليها(3).
... (الرابعة) يعتبر الناب في الحلي الذي تجب فيه الزكاة بالوزن. فلو ملك حليا قيمته مائتا درهم ووزنه دون المائتين لم يكن عليه زكاة. وإن بلغ مائتين وزنا ففيه الزكاة وإن نقص في القيمة (لحديث) ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة(4) اللهم إلا أن يكون الحلي للتجارة فيقوم. فإذا بلغت قيمته بالذهب أو الفضة نصابا ففيه الزكاة لأنها متعلقة بالقيمة. وهو مخير بين إخراج ربع عشر حلية مشاعة أو دفع ما يساوي ربع عشرها من جنسها. ولو أراد كسرها ودفع ربع عشرها لم يكن له ذلك لأنه ينقص قيمتها. وإذا كان وزن الحلي عشرين مثقالا وقيمته ثلاثون فعليه نصف مثقال لا تزيد قيمته شيئا لأن نصاب الأثمان تتعلق الزكاة بوزنه لا بصفته كالدراهم المضروبة. وإن أراد إخراج الفضة عن حلي الذهب أو الذهب عن الفضة، أخرج على الوجهين في إخراج أحد النقدين عن الآخر(5).
__________
(1) انظر ص 6.7 ج 2 شرح المقنع.
(2) انظر ص 6.8 ج 2 مغنى.
(3) قبيعة السيف) ما على مقبضه من فضة أو ذهب (أنظر ص 6.7 ج 2 شرح المقنع).
(4) هذا بعض حديث تقدم مرجعه ص 139 رقم 34.
(5) انظر ص 608 ج 2 مغنى.(1/203)
... (الخامسة) إن كان في الحلي جوهر ولآليء مرصعة فالزمكاة في الحلي من الذهب والفضة دون الجواهر لأنها لا زكاة فيها عند أحد من أهل العلم. فإن كان الحلي للتجارة قومه بما فيه من الجواهر، لأن الجواهر لو كانت مفردة وهي للتجارة لقومت وزكيت فكذلك إذا كانت في حلي التجارة.
... (السادسة) إذا اتخذت المرأة حليا ليس لها اتخاذه، كما إذا اتخذت حلية الرجال كحلية السيف والمنطقة فهو محرم وعليها الزكاة، كما لو اتخذ الرجل حلي المرأة(1).
... (11) زكاة الدين:
... للعلماء في هذا تفصيل (قال) أبو حنيفة: الدين ثلاثة أقسام:
( أ ) قوى: وهو ما يكون بدل مال لو بقى في يده وجبت زكاته كثمن سائمة وبدل القرض والتجارة إذا كان على معترف به ولو مفلسا فإذا تم نصابا بنفسه أو بما عند الدائن وحال عليه الحول ولو قبل قبضه وجبت زكاة ما يقبض منه إذا كان أربعين درهما، فكلما قبض هذا المقدار لزمه أن يخرج عنه درهما ولا شيء فيما زاد حتى يبلغ أربعين، فإن قبض أول دفعة ثلاثين مثلا أو قبض في الأول أربعين، ثم قبض أقل منها، فإنه لا تجب عليه الزكاة في كل حال إلا في أربعين كاملة، لأن الزكاة لا تجب في الكسور من الأربعين. فلو كان له دين عند غيره ثلاثمائة درهم حال عليه ثلاث سنين فقبض منها مائتين فعليه خمسة للسنة الأولى وأربعة لكل من الثانية والثالثة عن مائة وستين ولا شيء عليه في الزائد لأنه دون الأربعين(2). . ويعتبر هنا حولان، الحول من وقت مل النصاب لا من وقت القبض، فيجب أداء الزكاة بمجرد القبض.
(
__________
(1) انظر ص 609 ج 2 مغنى.
(2) وذلك لأنه لما أخرج عن السنة الأولى خمسة بقى 195 درهم منها 40 في 4= 160 يخرج عنها 4 للسنة الثانية فيبقى 191 درهم منها أيضا 160 يخرج عنها 4 للسنة الثالثة ولا شيء في الزائد عن 160 لأنه لم يبلغ 40.(1/204)
ب ) دين متوسط: وهو ما كان بدل مال لو بقى في يده لا تجب فيه زكاة كثمن دار السكنى وثيابه المحتاج إليها وطعامه وشرابه ودوابه المعلوفة والعاملة ونحوها من كل ما لا تجب فيه الزكاة وليس للتجارة. وهذا لا زكاة فيه حتى يقبض منه نصابا ويحول عليه الحول من وقت القبض على الأصح (وقيل) يعتبر حوله بحول الأصل، فإذا كان الدين خمسمائة درهم وقبض منها مائتين وحال عليها الحول بعد القبض لزمه خمسة دراهم ولا زكاة عليه فيما دون ذلك إلا إذا كان عنده ما يضم المقبوض من الدين إليه.
(جـ) دين ضعيف: وهو ما لم يكن بدل مال كالمهر والوصية وبدل الخلع، ولا تجب فيه الزكاة ما لم يقبض نصابا ويحول عليه الحول بعد القبض إلا إذا كان عنده نصاب سوى مال الدين فإنه إذا قبض من الدين شيئا ضمه إلى النصاب وزكاه بحوله.
(وقال) أبو يوسف ومحمد: الديون كلها سواء تجب زكاة ما يقبض منها ولو قليلا(1). (وقالت) المالكية: من ملك مالا ميراثا أو هبة أو صدقة أو داقا أو بدل خلع أو ثمن عرض مقتنى، كأن باع متاعا أو عقارا ولم يتسلمه بل بقى دينا له عند واضع اليد فهذا الدين لا تجب فيه الزكاة إلا بعد قبضه ومضى حول عليه من وقت القبض، فلو ورث رجل مالا وعين له القاضي حارسا قبل قبضه واستمر دينا له عدم أعوام فلا يطالب بزكاته في كل هذه الأعوام ولو أخره فرارا من الزكاة، فإذا قبضه ومضى عليه حول من يوم القبض وجبت زكاة هذا الحول.
(
__________
(1) انظر ص 349 ج 1 فتح الملك المنان بشرح منحة الرحمن (زكاة الدين).(1/205)
ومن) كان بيده مال وأقرضه لغيره وبقى عند الغير أعواما فتجب عليه زكاة عام واحد إلا إذا أخره قصدا فرارا من الزكاة فتجب عليه زكاته عن كل عام قصد تأخير قبضه فيه. ويعتبر عام زكاة هذا المال من يوم الملك أو من يوم تزكيته إن كان زكاه قبل إقراضه. فإذا ملك شخ مالا ومكث معه ستة أشهر ثم أقرضه فمكث عند المقتض ستة أشهر أخرى وجبت فيه الزكاة عن هذا الحول لأنه يحتسب من يوم الملك. أما إذا بقى بيده سنة ثم زكاه وأقرضه لغيره فإن الحول يحسب من يوم تزكيته وتجب الزكاة في هذا الدين بشروط أربعة:
(الأولى) أن يكون أصله عينا (ذهبا أو فضة) أو عرض تجارة لمحتكر(1) كما لو باع ثيابا للتجارة بعشرين جنيها مؤجلة إلى عام أو أكثر. أما إذا كان أصل الدين عرضا للقنية ولم ينو به التجارة ، كما لو باع دارا يسكنها بأربعمائة جنيه مؤجل عاما أو أكثر ، فلا تجدب عليه زكاة ثمنها إلا إذا قبض منه نصابا فأكثر ومضى على المقبوض عام من يوم قبضه زكى المقبوض لا غير ، ولو كان اصل الدين عرض تجارة لتاجر مدير(2) زكي الدين كل عام بضمه إلى قيم العروض التي عنده وإلى ثمن ما باعه من ذهب أو فضة.
(الثاني) أن يقبض شيئا من الدين وإلا فلا زكاة عليه إلا في دين تجارة المدير.
(الثالث) أن يكون المقبوض ذهبا أو فضة ، فإن قبض، فإن قبض عروضا كثياب وحبوب فلا زكاة عليه إلا إذا باع هذه العروض ومضي حول من يوم قبض العروض فيزكي الثمن إذا كان تاجرا محتكرا . أما المدير فيزكي قيمة العروض كل عام ولو لم يبعها ، وإن لم يكن تاجرا أصلا بأن قبض عروضا للقنية ثم باعها لحاجة فتجب عليه زكاتها إذا مضى عليه حول من يوم قبض ثمنها.
(
__________
(1) المحتكر: هو من لا يبيع بالسعر الحاضر وإنما يحبس السلع رجاء ارتفاع الائتمان.
(2) المدير: من يبيع ويشتري بالثمن الحاضر.(1/206)
الرابع) أن يكون المقبوض نابا على الأقل ولو قبضه في عدة مرات أو يكون عنده ما يكمل النصاب من ذهب أو فضة حال عليهما الحول أو كانا من المعادن ، لأن المعادن لا يشترط في زكاة المستخرج منها حلول الحول، فلو قبض من دينه نابا زكاه دفعة واحدة ثم يزكى المقبوض بعد ذلك قل أو كثر إلا أن مبدأ الحول في المستقبل مختلف ، فحول الناب المقبوض أولا من يوم قبضه وحول الدفع المقبوضة بعد من يوم قبض كل منها. أما إذا كان المقبوض أولا أقل من نصاب ولم يكن عنده ما يكمل الناب فلا يزكى إلا إذا تم المقبوض نصابا بدفعة أخرى. ويعتبر حول المجموع من يوم التمام ثم ما يقبضه بعد التمام يزكيه قل أو كثر، ويعتبر حوله في المستقبل من يوم قبضه.
(وقالت) الشافعية: تجب زكاة الدين إذا كان ثابتا دراهم أو دنانير أو عروض تجارة ولو مؤجلا. ولا يجب على الدائن إخراجها إلا إذا تمكن من أخذ دينه، وحينئذ يخرجها عن الأعوام الماضية. وإذا تلف الدين قبل التمكن من أخذه سقطت زكاته. أما إذا كان ماشية أو مطعوما كالحبوب والتمر والفواكه فلا زكاة فيه.
(وقالت) الحنبلية: تجب زكاة الدين الثابت في ذمة المدين ولو مفلسا ولا يجب إخراجها إلا عند قبضه فيزكى ما قبضه عما مضي فورا إذا بلغ المقبوض نصابا بنفسه أو بضمه إلى ما عنده من المال، ولا زكاة في الديون التي لم تثبت في ذمة المدين. والله تعالى ولي التوفيق.
(12) زكاة الأوراق المالية (البنكنوت):(1/207)
ورقة البنك ورقة عملة قابلة لدفع قيمتها عينا لحاملها يتعامل بها كما يتعامل بالعملة المعدنية، فهي سندات دين على البنك يمكن الحصول على قيمتها فضة فورا وتقوم مقامها في المعاملة فتجب فيها الزكاة متى بلغت قيمتها نصابا، ووجدت سائر الشروط المعتبرة في زكاة النقدين عند الحنفيين ومالك. والتعامل بها ينطبق على قاعدة الحوالة بالمعاطاة من غير شرط إيجاب وقبول عند الثلاثة خلافا للشافعية حيث قالوا: لا تصح الحوالة بالمعاطاة لعدم وجود الإيجاب والقبول بين المعطى والآخذ، ولذا قالوا هم والحنبلية: لا تجب الزكاة في الورق النقدي إلا إذا قبض مالكه قيمته ذهبا أو فضة ومضى على هذه القيمة حول كامل.
(ورد) بأن هذا مناف لما تقتضيه حكمة التشريع وفيه ضياع لحق الفقير وهدم لأحد أركان الإسلام، وهو الزكاة التي شرعت طهرة للمال ولصاحبه ورأفة بالفقير وعطفا عليه وبه يكون التحابب والتآلف والتعاطف والتراحم المشار إليها في حديث: "ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضوا تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" أخرجه أحمد والشيخان عن النعمان بن بشير، وهذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: مثل المؤمنين ... الخ(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {84}
__________
(1) انظر ص 338 ج 10 – فتح الباري (رحمة الناس- الأدب) و 140 ج 16 نووي مسلم (تراحم المؤمنين- البر).(1/208)
وإنا نجد الآن الأوراق المالية مكدسة في البنوك والخزائن وتمكث على هذا السنين الطوال لا يرف منها إلا ما تدعو الحاجة الوقتية إلى صرفه، فلو قلنا بعدم الزكاة فيها لأنها ليت ذهبا ولا فضة لما وجبت الزكاة على أحد. وهذا غير معقول. والمعقول أن من ملك النصاب من الورق المالي وحال عليه حول كامل لزمه زكاته باعتبار زكاة الفضة لأن الذهب غير ميسور الآن. هذا ما ندين الله تعالى به وهو الحق الصريح بلا مرية، وقانا الله تعالى من رذيلة البخل "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون"(1).
__________
(1) قال المرحوم الشيخ محمد حسنين مخلوف في كتاله "التبيان في زكاة الأثمان": ورد إلينا بتاريخ 11 ربيع الأول سنة 1324 هـ ؤال صورته: إذا وجد عند شخص ورقة بنكنوت قيمتها مائة جنيه مثلا وحال عليها الحول هل تجب فيها الزكاة؟
... (فأجبنا) بوجوب الزكاة فيها تخريجا على زكاة الدين عند السادة الشافعية، لأن المزكى في الحقيقة هو المال المضمون بها.
... (وتفصيل) الجواب أن الأوراق المالية الجاري بها التعامل الآن معتبرة كسندات ديون على شخص معنوي، كما هو الظاهر من التعهد المرقوم عليها وصورته: أتعهد بأن أدفع لدى الطلب مبلغ كذا لحامل هذا السند. أصدر بمقتضى المروم العالي المؤرخ في 25 يونيو سنة 1898.
... (وقد) سئل المرحوم الشيخ محمد بخيت بما صورته: السلام عليكم ورحمة الله (أما بعد) فنلتمس من فضيلتكم أن تفيدونا من الآتي:
... (أولا) حكم الزكاة في ورق البنكنوت هل تجب فيه زكاة المال؟ وإذا كانت تجب فعلى سعر الذهب أو الفضة؟ وما وجه ذلك على المذاهب الأربعة؟ (ثانيا) حكم زكاة الجنيه الذهب الذي كان مقداره 100 قرش والآن مقداره 130 قرش (مائة وثلاثون) فأكثر مع أن النصاب اثنا عشر جنيها تقريبا. وعلى سعره الحالي يبلغ أقل من عشرة جنيهات.
... (فأجاب) بقوله: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده (أما بعد): فالجواب عن السؤال الأول أن هذه الأوراق التي نستعملها وتسمى بالبنكنوت هي في الحقيقة سندات لحامليها. والحكومة ضامنة لقيمتها كما هو مقتضى ما هو مكتوب على الورقة الواحدة (أتعهد بأن أدفع عند الطلب مبلغ كذا لحامل هذا السند) وليست هذه الأوراق بمثابة نقود، بل المعاملة بهذه الأوراق تتخرج على الحوالة بالمعاطاة من غير اشتراط صيغة الحوالة كالبيع. والذي تقرر في المذهب أن الدين تجب زكاته إذا بلغ نصابا وحال عليه الحول وكان قويا. ولا شك أن قيمة هذه الأوراق تعتبر من الدين القوى الذي هو في حكم العين المقبوضة لتمكنه من استبدالها في أي وقت شاء. كما أن المعاملة بالحوالة على وجه التعاطي جائزة باتفاق أئمة المذاهب الثلاثة: الحنفية والمالكية والحنابلة، وعند الشافعي على قول صحيح. والأصح عندهم: لا تجوز. وبناء على ذلك تجب الزكاة في هذه الأوراق متى بلغ مقدارها نصابا من الفضة أو الذهب باعتبار ربع العشر. ويجوز أن يدفع ربع العشر من عينها عن طريق الحوالة للفقير بما يأخذه. كما يجوز أن يخرج ربع العشر ذهبا أو فضة. والله أعلم.
... (أما عن الثاني) فنفيد أن ناب الذهب في الزكاة هو عشرون مثقالا، والمثقال هو الدينار. والواجب في الإخراج متى حال عليه الحول هو ربع العشر والعبرة إنما هي باعتبار الوزن لا القيمة، وكل جنيه إنجليزي وزنه يساوي الجنيه الآخر، فهي كلها مساوية في الوزن، وحينئذ متى كان المال المزكى جنيهات إنجليزية (مائة جنيه مثلا) يخرج منها بع العشر وهو جنيهان ونف. وإن كان المال المزكى أوراقا فكذلك يخرج ربع عشر ما تشهد به. فإن كان عنده مائة ورقة (تشهد كل واحدة منها بمائة قرش صاغ) فالواجب عليه أن يخرج مائتين وخمسين قرشا وهو ربع العشر. والله أعلم. أنظر ص 45 من مجلة الإرشاد العدد الثامن من السنة الأولى 25 ذي الحجة سنة 1351هـ.(1/209)
أما أسهم الشركات كشركة المياه والترام والنور والغاز، وأوراق الديون (الكمبيالات والسندات) فإن المعاملة بها لا يمكن تخريجها على قاعدة من قواعد الشرع لعدم إمكان صرف قيمتها فورا ولعدم قيامها مقام النقدين في التعامل، فإن تعامل بها أحد فحكمها حكم المقبوض بالعقود الفاسدة على الأصح. ومتى تلف ثمن الأوراق في يد بائعها يكون مثله أو قيمته باقيا على ملك مشتريها، فإن كانت من أسهم شركات تجارية ففيها زكاة التجارة، وإن كانت أسهم شركات غير تجارية كشركة الترام والمياه فلا زكاة إلا فيما قبض منها من المال وحال عليه الحول. وكذا سندات الديون التي يشتريها شخ من غيره، فمتى اعتبرها مملوكة له أي أنه مستحق للدين المكتوب في الورقة، وجبت عليه زكاة ما يقبضه من المدين على ما مر بيانه. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(جـ) زكاة العروض
... العروض جمع عرض- فتح فسكون- وهو لغة: اسم لما سوى النقدين ، والمراد به هنا ما عدا النقود والسوائم التي لم ينو فيها التجارة. ثم الكلام هنا في ثلاثة فروع:
... (1) حكم زكاة العروض:
... هي مشروعة عند الجمهور (لقول) جعفر بن سعد حدثني خبيب بن سليمان عن أبيه عن سمرة بن جندب قال: "أما بعد فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعد للبيع" أخرجه أبو داود
والبيهقي. قال ابن عبد البر: إسناده حسن(1). ... ... ... ... ... ... ... ... {85}
__________
(1) انظر ص 132 ج 9 – المنهل العذب المورود (العروض إذا كانت للتجارة) و 146 ج 4 بيهقي (زكاة التجارة) وجعفر وخبيب وأبوه ذكرهم ابن حبان في الثقات "فقول" ابن حزم: إنهم مجهولون وتبعه ابن القطان "غير مسلم" أنظر ص 214 هامش الدارقطني.(1/210)
... (ومعنى) الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بإخراج الزكاة من المال الذي يعد للتجارة. وهذا إذا كان نصابا وحال عليه الحول (وظاهره) يعم كل ما يتجر فيه، سواء أكان في عينه زكاة كالنعم أم لا، كالعقار والخيل والبغال والحمير (وعن) ابن جريج عن عمران بن أبي أنس عن مالك بن أوس عن أبي ذر رضي الله عنهم أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قال: "في الإبل صدقتها وفي الغنم صدقتها وفي البقر صدقتها وفي البز صدقته" أخرجه الدار قطني والبيهقي(1). ... ... ... ... ... ... ... ... {86}
... (والبز)- بفتح الباء وبالزاي- متاع البيت من الثياب ونحوها، ومن الناس من صحفه بضم الباء وبالراء المهملة وهو غلط(2) (قال) ابن المنذر: أجمع عامة أهل العلم على وجوب زكاة التجارة في قيمتها- إذا بلغت نصابا لا في عينها- وحال عليها الحول. (فقال) غير المالكية: تجب بمضي كل حول، وكذا عند المالكية إذا كان التاجر مديرا وهو من يبيع كيفما اتفق ولا ينتظر ارتفاع السعر كأرباب الحوانيت. أما المحتكر وهو من لا يبيع في الحال بل ينتظر ارتفاع الأسعار فإن يزكيها إذا باعها عن عام واحد ولو مكثت عنده أعواما. وحجتهم ما نقله مالك من عمل أهل المدينة.
__________
(1) انظر ص 203 – الدارقطني. وص 147 ج 4 بيهقي (زكاة التجارة) قال الترمذي في كتاب العلل: سألت البخاري فقال: ابن جريج لم يسمع من عمران بن أبي أنس هو يقول: حدثت (بالبناء للمفعول) عن عمران (وقال) ابن القطان: ابن جريج مدلس لم يقل حدثنا عمران، فالحديث
منقطع.
(2) انظر ص 377 ج 2 نصب الراية.(1/211)
... (هذا) وقد ورد في زكاة التجارة آثار (منها) ما روى أبو عمرو بن حماس عن أبيه قال: كنت أبيع الأدم والجعاف ، فمرر بي عمر بن الخطاب فقال: أد صدقة مالك. فقلت: يا أمير المؤمنين إنما هو الأدم. قال: قومه ثم أخرج صدقته. أخرجه أحمد والشافعي وعبد الرزاق والدار قطني والبيهقي(1) (وعن) نافع أن ابن عمر قال: ليس في العروض زكاة إلا ما كان للتجارة. أخرجه الشافعي وأحمد والبيهقي(2).
... (وقالت) الظاهرية: لا زكاة في مال التجارة (لحديث) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "ليس على المسلم صدقة في عبده ولا في فرسه" أخرجه السبعة(3). ... ... ... ... ... {87}
... (وأجاب) الجمهور بأن المراد به ليس في الخيل السائمة صدقة ولا في الرقيق إذا كانوا للخدمة. أما إذا كانوا للتجارة ففي أثمانها الزكاة إذا حال عليها الحول كما تقدم عن الترمذي (وأجاب) الظاهرية عن حديث سمة بأنه
ضعيف كما تقدم، وكذا حديث أبي ذرة فقد ضعف الحافظ جميع طرقه.
... (قال) ابن رشد: والسبب في اختلافهم، اختلافهم في وجوب الزكاة بالقياس، واختلافهم في تصحيح حديث سمرة. أما القياس الذي اعتمده الجمهور فهو أن العروض المتخذة للتجارة مال مقود به التنمية فأشبه الأجناس الثلاثة التي فيها الزكاة باتفاق، أعني الحرث والماشية والذهب والفضة (وزعم) الطحاوي أن زكاة العروض ثابتة عن عمر وابنه ولا مخالف لهما من الصحابة. وبعضهم يرى أن مثل هذا إجماع من الصحابة وفيه ضعف(4).
__________
(1) انظر رقم 3054 ص 302 ج 3 كنز العمال. وص 39 ج 2- الأم. وص 213 الدارقطني. وص 147 ج 4 بيهقي (والأدم) بفتحتين أو ضمتين: جمع أديم وهو الجلد المدبوغ (والجعاف) الخفاف.
(2) انظر ص 39 ج 2- الأم. وص 147 ج 4 بيهقي (زكاة التجارة) وص 378 ج 2 نصب الراية.
(3) تقدم رقم 52 ص 157 (ما لا زكاة فيه).
(4) انظر ص 233 ج 1 بداية المجتهد (ما تجب فيه الزكاة).(1/212)
... (وقال) في شرح الدرر البهية: ولا زكاة في غير الذهب والفضة من الجواهر كالدر والياقوت والزمرد والماس واللؤلؤ والمرجان وأموال التجارة لعدم قيام دليل يدل على ذلك، وقد كانت التجارة في عصره صلى الله عليه وسلم قائمة في أنواع مما يتجر به، ولم ينقل عنه ما يفيد ذلك (وأما) حديث سمرة بن جندب (فقال) ابن حجر في التلخيص: إن في إسناده جهالة (وأما) حديث أبي ذر (فقد) ضعف الحافظ في الفتح جميع طرقه. وقال في واحدة منها: هذا الإسناد لا بأس به. ولا يخفاك أن مثل هذا لا تقوم به الحجة لا سيما في التكاليف التي تعم بها البلوي.
... (وقد) نقل ابن المنذر الإجماع على زكاة التجارة، وهذا النقل ليس بصحيح، فقد خالف في ذلك الظاهرية وهم فرقة من فرق الإسلام (إذا تقرر) هذا علمت أنه لا دليل على وجوب زكاة التجارة. والبراءة الأصلية مستصحبة حتى يقوم دليل ينقل عنها(1).
... (2) شروط صيرورة العرض للتجارة.
... ولا يصير العرض للتجارة إلا بشرطين:
( أ ) أن يملكه بفعله كالبيع والنكاح والخلع وقبول الوصية والهبة واكتساب المباحات، لأن ما لا يثبت له حكم الزكاة بدخوله في ملكه لا يثبت بمجرد النية كالصوم. ولا فرق بين أن يملكه بعوض أو بغير عوض لأنه ملكه بفعله فأشبه الموروث.
( ب ) أن ينوي عند تملكه أنه للتجارة فإن لم ينو لم يصر للتجارة وإن نواه بعد ذلك، وإن ملكه بإرث وقصد أنه للتجارة لم يصر لها لأن الأصل القنية والتجارة عارض فلا يصار إليها بمجرد النية كما لو نوى الحاضر السفر لم يثبت له حكم السفر بدون فعل (وعن أحمد) رواية أخرى أن العرض يصير للتجارة بمجرد النية (لقول) سمرة: أمرنا النبي صلى الله عليه ولم أن نخرج الصدقة مما نعد للبيع. فعلى هذا لا يعتبر أن يملكه بفعله ولا أن يكون في مقابلة عوض بل متى نوى به التجارة صار للتجارة(2).
(
__________
(1) انظر 125 و126- الروضة الندية (زكاة الذهب والفضة).
(2) انظر ص 623 ج 2 مغنى ابن قدامة.(1/213)
3) كيف تزكي العروض؟:
النصاب في العروض- عند القائلين بزكاتها- هو نصاب الأثمان فتقوم العروض في بلد التجارة بما هو أنفع للفقير احتياطا لحقوقهم، فإن بلغت قيمتها نصابا بأحد النقدين ونوى فيها التجارة وحال عليها الحول فارغة عن الدين والحوائج الأصلية لزم فيها بع العشر ويضم قيمة العروض إلى الذهب والفضة ويضم أحدهما إلى الآخر والعروض بعضها إلى بعض بالقيمة عند النعمان.
(وقال) مالك وأبو يوسف ومحمد وأحمد: الضم في النقدين بالأجزاء، ولا ضم عند الشافعي على ما تقدم بيانه(1). "فمن كان" عنده حمار للتجارة قيمته ثلاثة أرباع النصاب ويملك نقودا تكمل النصاب وحال على الكل حول، أو كان عنده بغل وشاة للتجارة قيمتهما تبلغ نصابا "لزم" الضم والزكاة اتفاقا. ولا يضر نقصان الناب في أثناء الحول إن كمل في طرفيه عند الحنفيين، لأن في اشتراط كماله في كل الحول حرجا، فاعتبر كماله في أول الحول للانعقاد وفي آخره للوجوب. ولكن لابد من بقاء شيء من المال في أثناء الحول ليضم المستفاد إليه لأن هلاك الكل مبطل لانعقد الحول.
(وقالت) الحنبلية: يشترط تمام الناب كل الحول، فلو ملك سلعة قيمتها دون النصاب فمضى نصف الحول وهي كذلك ثم زادت قيمتها دون النصاب فمضى نصف الحول وهي كذلك ثم زادت قيمة النماء بها أو تغيرت الأسعار فبلغت نصابا أو باعها بنصاب أو ملك في أثناء الحول عرضا آخر أو أثمانا تم بها النصاب، ابتدأ الحول من حينئذ فلا يحسب بما مضي. ولو ملك بالتجارة نصابا فنقص عن النصاب في أثناء الحول ثم زاد حتى بلغ نصابا استأنف الحول لكونه انقطع بنقصه في أثنائه(2).
(
__________
(1) تقدم ص 178 (ضم النقدين).
(2) انظر ص 624 ج 2 مغنى ابن قدامة.(1/214)
وقالت) المالكية: لا يشترط في المال المتجر فيه أن يكون نابا في أول الحول بل المدار على نهايته، فإن تم النصاب في آخر الحول زكي وإلا فلا وهو الصحيح عند الشافعية لأنه يتعلق بالقيمة. وتقويم العرض في كل وقت يشق فاعتبر حال الوجوب وهو آخر الوقت. وعليه إذا اشترى عرضا للتجارة بشيء يسير انعقد الحول فإذا بلغ نصابا في آخر الحول وجبت الزكاة. ولو كان عرض التجارة دون النصاب فباعه بسلعة أخرى دون النصاب في أثناء الحول لا ينقطع الحول عندهم. وأما ابتداء الحول ففيه تفصيل:
( أ ) إن ملك عرض التجارة بنصاب من النقد بأن اشتراه بعشرين مثقالا أو بمائتي درهم، ابتدأ الحول من حين ملك ذلك النقد وبنى حول التجارة عليه. هذا إذا اشتراه بعين النقد.
( ب ) فإن اشترى في الذمة ودفعه في ثمنه انقطع حول النقد وابتدأ حول التجارة من حين الشراء.
(جـ) وإن كان النقد الذي اشترى به دون نصاب ينعقد الحول من حين الشراء عند مالك والشافعي ولا ينعقد عند غيرهما.
(د) وإن اشترى بغير نقد فإن كان الثمن مما لا زكاة في عينه كالثياب والحديد، فابتداء الحول من حين ملك عرض التجارة، ولو كانت قيمته دون النصاب عند مالك والشافعي.
(هـ) وإن كان الثمن مما تجب فيه الزكاة في عينه كالسائمة، فالصحيح أن حولها ينقطع ويبتدئ حول التجارة من حين ملك عرض التجارة ولا يبني لاختلاف الزكاة قدرا ووقتا بخلاف بناء التجارة على النقد(1).
هذا، ويتصل بما تقدم من أنواع الزكاة ثلاثة أمور:
(1) زكاة المستفاد:
المستفاد قسمان:
( أ ) مستفاد من نفس المال البالغ نصابا بنتاج أو ربح، وهذا يتبع الأصل في حوله وزكاته.
( ب ) مستفاد بنحو هبة أو إرث من جنس الناب في أثناء الحول، وهذا فيه خلاف.
(
__________
(1) انظر ص 55 و56 ج 6 مجموع النووي.(1/215)
قال) الحنفيون: يضم المستفاد من جنس نصاب إليه ويكون تابعا له في الحول والزكاة، سواء أكانت الفائدة حاصلة بهبة أو ميراث أو شراء أو نتاج أو غير ذلك فتزكى الفائدة مع الأصل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب في خمس وعشرين إلى خمس ثلاثين من الإبل بنت مخاض فإذا زادت واحدة ففيها بنت لبون من غير فصل بين الزيادة في أول الحول أو في أثنائه، ولأن المستفاد يضم إلى جنسه في النصاب اتفاقا فوجب ضمه إليه في الحول والزكاة كالنتاج ولأنه إذا ضم إلى النصاب وهو سبب فضمه إلى الأصل في الحول الذي هو شرط أولي. فإنه لو كان عنده مائتا درهم مضى عليها نصف حول ثم وهب له مائة أخرى فإن الزكاة تجب في هذه المائة إذا تم حولها اتفاقا ولولا المائتان ما وجبت الزكاة في المائة فإذا ضمت إلى المائتين في الوجوب فكذلك في وقته ولأن إفراد المستفاد بالحول يقضي إلى تجزئة الواجب في الماشية وإلى اختلاف أوقات وجوب الزكاة وإلى وجوب القدر اليسير الذي لا يتمكن من إخراجه، ثم يتكرر ذلك في كل حول، وهذا حج مرفوع بقوله تعالى: "وما جعل عليكم في الدين من حرج"(1). وقد اعتبر الشارع دفع الحرج بإيجابه غير الجنس فيما دون خمس وعشرين من الإبل فجعل فيها الغنم.
(
__________
(1) جزء من آية 78 آخر سورة الحج وأولها: وجاهدوا في الله ...(1/216)
وقال) الشافعي وأحمد: يتبع المستفاد الأصل في الناب ويستقبل به حول جديد، سواء أكان الأصل نعما أم غيرها، فمن كان عنده ثلاثون من البقر ومضي عليها نصف حول ثم استفاد بغير نتاج عشرة فإذا تم حول الثلاثين لزم فيها تبيع وإذا تم حول الفائدة وجب فيها ربع مسنة أو ثلث تبيع، ومن كان عنده مائتا درهم مضى عليه تسعة أشهر ثم استفاد أخرى، زكى كلا عند تمام حوله. "ووافق" مالك أبا حنيفة في النعم "فقال" يضم المستفاد منها إلى جنسه إذا كان الأصل نابا ويزكى معه في حوله دفعا لتجزئة الواجب، ووافق الشافعي وأحمد في الذهب والفضة فقال: إن المستفاد منهما يضم إلى الأصل في النصاب لا في الحول، بل يستقبل به حول جديد.
(2) تعجيل الزكاة:
يجوز لمن يملك نصابا أو أكثر تعجيل الزكاة لسنة أو أكثر- عند الحنفيين والشافعي وأحمد- بشرط أن يكون إخراجها بعد ملك الناب وأن لا ينقطع في أثناء الحول وأن يكمل في آخره (لحديث) ابن مسعود "أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم تعجل من العباس صدقة سنتين" أخرجه البزار والطبراني في الكبير والأوسط وفيه محمد بن ذكواني تكلم فيه وقد وثق(1). ... ... ... ... ... ... ... ... {88}
(وقال) أبو رافع: بعث النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ساعيا على الصدقة، فأتى العباس بن عبد المطلب، فأغلظ له العباس، فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عمر أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه؟ إن العباس كان أسلفنا صدقة العام عام أول" أخرجه الطبراني في الأوسط وفيه إسماعيل المكي تكلم فيه وقد وثق(1). ... ... ... ... ... ... ... {89}
لكن جواز التعجيل مخصوص بالمالك ولا يصح من الوي والولي.
(
__________
(1) 1 و2) انظر ص 79 ج 3 مجمع الزوائد (تعجيل الزكاة). و(الصنو) – بكسر فسكون – الشقيق أو المثل، يعني: أما علمت أنه عمى؟ فكيف تتهمه بما ينافى كماله فلعل له عذرا!(1/217)
وقالت ) المالكية : يجوز تقديم الزكاة شهرا مع الكراهة ( وقال ) سفيان الثوري وداود: لا يصح تعجيلها قبل تمام الحلول ( لحديث ) عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" أخرجه ابن ماجه مرفوعا والبيهقي مرفوعا وموقوفا، وفيه حارثة ابن محمد، قال البيهقي: لا يحتج بخبره(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {90}
ونحوه من الأحاديث الدالة على تعليق وجوب الزكاة بالحول (وأجاب) الجمهور بأنها إنما تدل على اشتراط الحول في الوجوب، وهو محل اتفاق، والخلاف في جواز الإخراج قبل تمام الحول وقد دلت عليه أحاديث الباب.
(فائدة) إذا عجل زكاته ثم هلك النصاب أو بعضه قبل تمام الحول خرج المدفوع عن كونه زكاة لأن شرطها الحول ولم يوجد. وهل يرجع فيها على المدفوع إليه؟ فيه تفصيل:
( أ ) إن كان الدافع المالك- وبين عند الدفع أنها زكاة معجلة وقال: إن عرض مانع من وجوبها استرجعتها- فله الرجوع اتفاقا. وإن اقتصر على قوله: هذه زكاة معجلة أو علم القابض ذلك، فالأصح جواز الرجوع (وقيل) لا رجوع لأن التمليك وجد فإذا لم يقع فرضا وقع نفلا كما لو قال: هذه صدقتي المعجلة فإن وقعت الموقع وإلا فهي نافلة ولا رجوع له- إذا لم تقع الموقع- اتفاقا.
( ب ) إن دفعها الإمام أو الساعي وذكر أنها معجلة ولم يشترط الرجوع، فله ردها اتفاقا.
(
__________
(1) تقدم رقم 24 ص 126 (الحول).(1/218)
جـ) إن دفع الإمام أو الساعي أو المالك ولم يقل: إنها معجلة ولا علمه القابض فالراجح جواز الرجوع مطلقا لأنه لم يقع الموقع (وقيل) لا رجوع مطلقا لتفريط الدافع (وقيل) إن دفع الإمام أو الساعي رجع وإن دفع المالك فلا رجوع، لأن الظاهر أن ذلك زكاة واجبة أو صدقة تطوع، وقد لزمت بالقبض فلا يملك الرجوع (ومتى) ثبت الرجوع، فإن كان المعجل تالفا ضمنه القابض إن كان حيا، وإن كان ميتا ضمنه ورثته في تركته، فإن كان مثليا كالدراهم ضمنه بمثله، وإن كان متقوما ضمنه بقيمته يوم الدفع على الأصح (وإن كان) المعجل باقيا رجع فيه(1).
(3) تأخير الزكاة:
إذا مضى حولان على ناب لم تؤد زكاته ففيه تفصيل:
( أ ) إن قلنا: الزكاة واجبة في عين المال- وهو مذهب الحنفيين ومالك ورواية عن الشافعي وأحمد- فعليه زكاة واحدة، فإذا كان عنده أربعون شاة مضى عليها ثلاث سنين لم يؤد زكاتها، فعليه شاة واحدة، لأن الزكاة تعلقت في الحول الأول بشاة من النصاب فلم تجب فيه فيما بعده زكاة لنقصه عن النصاب. وإذا كان عنده مائتا درهم فلم يزكها حتى مضى عليها حولان يزكها سنين، دفع عنها في أول سنة ربع العشر خمسة وعشرين درهما ثم في كل سنة بحساب ما بقى. وهذا قول مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد. ومن له أربعون من الغنم نتجت شاة في كل حول، وجب عليه في كل سنة شاة لأن النصاب كمل بالنتاج. فإن كان النتاج بعد وجوب الزكاة استؤنف الحول الثاني من وقت النتاج.
( ب ) وإن قلنا: إن الزكاة تجب في الذمة- وهو رواية عن الشافعي وأحمد- وجب عليه لكل حول زكاة. فمن له أربعون شاة مشى عليها ثلاث سنين لم يؤد زكاتها، فعليه ثلاث شياه. ومن له دينار مضى عليها ثلاث سنين لم يؤد زكاتها، فعليه سبعة دنانير ونصف دينار، لأن الزكاة وجبت في ذمته فلم تؤثر في نقص النصاب.
__________
(1) انظر ص 149 ج 6 مجموع النووي.(1/219)
وهذا الخلاف في غير الإبل التي تجب فيها الغنم. أما ما زكاته الغنم من الإبل، فإن عليه فيه لكل حول زكاة، لأن الفرض يجب من غيرها فلا يتعلق بعينها عند الجمهور. وعن الشافعي أن الزكاة تنقصه كسائر الأموال. فمن عنده خمس من الإبل مضى عليها ثلاثة أعوام، فعند الجمهور يلزمه لكل حول شاة. وعلى قول الشافعي لا يلزمه إلا شاة واحدة، لأنها نقصت بوجوب الزكاة فيها في الحول الأول عن خمسة كاملة (وأجاب) الجمهور بأن الواجب هنا من غير جنس النصاب فلم ينقص به النصاب كما لو أداه بخلاف غيره من المال فإن الزكاة تتعلق بعينه فتنقصه. فمن ملك خمسا وعشرين من الإبل حال عليها أحوال، فعليه للحول الأول بنت مخاض، وعليه لكل حول بعده أربع شياه وإن بلغت قيمة الشياه الواجبة أكثر من الإبل(1).
(د) زكاة الزروع والثمار
الزروع جمع زرع وهو ما استنبت بالبذر لقصد استغلال الأرض من الأقوات وغيرها (والثمار) جمع ثمر- بفتحتين- وهو ما يؤكل من أحمال الأشجار والنجوم- وهي ما لا ساق لها من النبات- كالبطيخ والقثاء.
والكلام هنا ينحصر في اثنا عشر فرعا:
(1) حكم زكاة الزرع:
هي فرض بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. قال الله تعالى: "وآتوا حقه يوم حصاده"(2). والحق هو العشر أو نصفه. وقال: "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض"(3). أضاف المخرج إلى المخاطبين فدل على أن للفقراء فيه حقا كما أن للأغنياء حقا.
__________
(1) انظر ص 465 ج 2 شرح المقنع.
(2) سورة الأنعام، آية 141.
(3) سورة البقرة، آية 267.(1/220)
وقد علم من السنة أن حق الفقير العشر أو نصفه (وعن) جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله ولم قال: "فيما سقت السماء والأنهار والعيون العشر وفيما سقى بالسانية نف العشر" أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنائي(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... {91}
والأحاديث في هذا كثيرة، وعلى هذا أجمعت الأمة.
(2) سببها:
سبب زكاة الزرع الأرض النامية بالخارج حقيقة فلو تمكن من الزرع ولم يزرع فلا زكاة عليه، ولو أصاب الزرع آفة لا يلزمه شيء.
(3) شروط افتراضها:
هي شروط أهلية ومحلية:
(أ) فشروط الأهلية ثلاثة:
(
__________
(1) أنظر 3 ج 9 – الفتح الرباني (زكاة الزروع والثمار) وص 54 ج 7 نووي (ما فيه العشر أو نصف العشر) وص 202 ج 9 – المنهل العذب المورود (صدقة الزرع) و 344 ج 1 مجتبي (ما يوجب العشر) و(السانية) الناضح من الإبل والبقر يستقي عليه.(1/221)
الأول) الإسلام عند غير المالكية على ما تقدم بيانه في بحث شروط الزكاة وهو شرط ابتداء هذا الحق فلا يبتدأ إلا على مسلم لأن فيه معنى العبادة والكافر ليس من أهل وجوبها ابتداء. وكذا لا يجوز أن يتحول إليه عند النعمان ويجوز عند أبي يوسف ومحمد. فلو اشترى الذمي أرض عشر من مسلم فعليه الخراج عند النعمان لأن العشر فيه معنى العبادة والكفار ليس أهلا لوجوبها. وإذا تعذر إيجاب العشر عليه فلا سبيل إلى أن ينتفع الذمي بأرضه في دار الإسلام من غير حق يضرب عليه فضربنا عليها الخراج الذي فيه معنى الصغار كما لو جعل داره بستانا وتصير خراجية بمجرد شرائها. وفي رواية لا تصير خراجية ما لم يوضع عليها الخراج ولا يؤخذ إلا إذا مضت- من وقت الشراء- مدة يمكنه أن يزرع فيها، سواء زرع أو لم يزرع (وقال) أبو يوسف: عليه عشران لأنه لما وجب عليه العشر وهو كافر، ضوعف. ويوضع موضع الخراج (وقال) محمد: عليه عشر واحد لأن الأصل أن كل أرض ابتدئت بضرب حق عليها أن لا يتبدل الحق بتبدل المالك كالخراج. ويوضع عنده موضع الصدقة لأن الواجب لما لم يتغير قده لا تتغير صفته. ولو اشترى مسلم من ذمي أرضا خراجية فعلية الخراج ولا تنقلب عشرية لأن الأصل أن مئونة الأرض لا تتغير بتبدل المالك إلا لضرورة(1).
(
__________
(1) انظر 55 ج 2 بدائع الصنائع.(1/222)
الثاني) الملك التام للخارج- لا للأرض- للزوم العشر في الخارج من الأرض الموقوفة، ولعموم قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض". وقوله تعالى: "وآتوا حقه يوم حصاده". (وحديث) ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان عثريا العشر، وفيما سقى بالنضح نصف العشر" أخرجه البخاري والأربعة(1). ... ... ... ... ... {92}
(والعثري)- بفتحتين- ما يشرب بعروقه من غير سقي وهو المعروف بالبعلي. ففي رواية النسائي وابي داود وابن ماجه: أو كان بعلا. والمراد بالنضح سقي الزرع بآلة مطلقا. والمعنى في ذلك أن العشر يجب في الخارج لا في الأرض فكان ملك الأرض وعدمه سواء وعليه فلو استأجر شخص أرضا وزرعها فعليه زكاة الخارج- إن بلغ نصابا- عند الثلاثة وأبي يوسف ومحمد والجمهور (وقال) النعمان: الزكاة على صاحب الأرض لأن الخارج له حكما فإنه يأخذ بدله الأجرة فكأنه زرع بنفسه (ورد) بأن حقه في الأجر لا في الخارج والزكاة تجب في الخارج(2).
(وقال) ابن رشد: والسبب في اختلافهم هل العشر حق الأرض أو حق الزرع؟ فلما كان عندهم أنه حق لأحد الأمرين اختلفوا في أيهما أولى أن ينسب إلى موضع الاتفاق وهو كون الزرع والأرض لمالك واحد (فذهب) الجمهور إلى أنه ما تجب فيه الزكاة وهو الحب (وذهب) أبو حنيفة إلى أنه ما هو أصل الوجوب وهو الأرض(3).
(
__________
(1) انظر ص 213 ج فتح الباري (العشر فيما يسق من ماء السماء) وص 198 ج 9 – المنهل العذب المورود (دقة الزرع) وص 344 ج 1 مجتبي (ما يوجب العشر) وص 14 ج 2 تحفة الأحوذي (الصدقة فيما يسقي بالأنهار وغيرها) وص 286 ج 1 – ابن ماجه (صدقة الزوع والثمار) و(النضح) بفتح فسكون في الأصل: حمل البعير الماء لسقي الزرع. و(الناضح) البعير يحمل الماء للسقي.
(2) انظر ص 56 ج 2 بدائع الصنائع.
(3) انظر ص 227 ج 2 بداية المجتهد (الأرض المستأجرة).(1/223)
الثالث) العلم بالفرضية لمن أسلم بدار الحرب- عند الحنفيين- على ما تقدم في شروط افتراض الزكاة (وأما) التكليف والحرية فليسا من شروط الفرضية هنا فيلزم العشر أو نصفه في الخارج من أرض الصبي والمجنون لعموم الأحاديث السابقة.
(ب) شروط المحلية ثلاثة:
(الأول) أن تكون الأرض عشرية، فلا عشر في الخارج من أرض الخراج- عند الحنفيين- لأن العشر والخراج لا يجتمعان في أرض واحدة (وقال) الثلاثة: يجتمعان فيجب العشر في الخارج من أرض الخراج كأرض مصر والعراق لأنهما حقان مختلفان ذاتا ومحلا وسببا. فإن الخارج يجب في الذمة والعشر يجب في الخارج وسبب وجوب الخراج الأرض النامية وسبب وجوب العشر الخارج حتى لا يجب بدونه. وهذا هو الحق ولذا اختاره المحققون من الحنفيين كالكمال ابن الهمام (قال) بعد قول صاحب الهداية- ولأن أحدا من أئمة العدل والجور لم يجمع بينهما- قد منع بنقل ابن المنذر الجمع في الأخذ عن عمر بن عبد العزيز. وقد نقل ابن المبارك الجمع بينهما مذهبا لجماعة آخرين فلم يتم (يعني دعوى أن أحدا من الأئمة لم يجمع بينهما) وعدم الأخذ من بعض الأئمة يجوز لكونه فوض الدفع إلى المالك فلم يتعين قول صحابي بعدم الجمع ليحتج به من يحتج بقول الصحابي. على أن فعل عمر ابن عبد العزيز يقتضي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يقول بمنع الجمع لأنه كان متبعا له مقتفيا لآثاره ثم المصنف (يعني احب الهداية) منع تعدد السبب وجعل السبب فيهما معا الأرض.(1/224)
ولا مانع أن يتعلق بالسبب الواحد- وهو الأرض هنا- وظيفتان مع أن العمومات تقتضيه مثل قوله صلى الله عليه ولم: "ما سقت السماء ففيه العشر" فإنه يقتضي أن يؤخذ مع الخراج إن كان(1).
(قال) ابن رشد: وسبب اختلافهم كما قلنا: هل الزكاة حق الأرض أو حق الحب؟ فإن قلنا إنه حق الأرض لم يجتمع فيها حقان وهما العشر والخراج، وإن قلنا الزكاة حق الحب كان الخراج حق الأرض والزكاة حق الحب. وإنما يجيء هذا الخلاف في أرض الخراج لأنها ملك ناقص. ولذا اختلف العلماء في جواز بيعها. وأما إذا انتقلت أرض العشر إلى الذمي يزرعها فإن الجمهور على أنه ليس فيها شيء (وقال) النعمان: إذا اشترى الذمي أرض عشر تحولت أرض خراج. فكأنه رأى أن العشر هو حق أرض المسلمين والخراج هو حق أرض الذميين. لكن كان يجب على هذا الأصل إذا انتقلت أرض الخراج إلى المسلمين أن تعود أرض عشر، كما أن عنده إذا انتقلت أرض العشر إلى الذمي عادت أرض خراج(2).
(الثاني)- من شروط المحلية- وجود الخارج. فلو لم تخرج الأرض شيئا لا يجب العشر لأنه جزء من الخارج وإيجاب جزء منه- ولا خارج- محال.
الزروع التي تجب فيها الزكاة.
كون الخارج من الأرض- عند النعمان وزفر- مما يقصد بزراعته استغلال الأرض عادة. فلا عشر
__________
(1) انظر 366 ج 4 فتح القدير (العشر والخراج) "وأما" ما احتج به بعض الحنفيين من حديث يرويه يحيى بن عنبسة بسنده إلى ابن مسعود مرفوعا: لا يجتمع على مسلم خراج وعشر "فقد" أخرجه ابن عدى في الكامل والبيهقي في السن وقال: هذا حديث باطل وصله ورفعه. ويحيى بن عنبة منهم بالوضع (انظر ص 132 ج 4 بيهقي) وقال ابن عدى: يحيى بن عنبسة منكر الحديث. وإنما رواه أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم ووصله يحيى وهو يروى الموضوعات عن الثقات. (انظر ص 442 ج 3 نصب الراية).
(2) انظر ص 228 ج 1 بداية المجتهد (الأرض المستأجرة).(1/225)
عندهما في نحو حطب وحشيش وتبن وبذر بطيخ وقصب فارسي (البوص) لأنه لا يقصد بهذه الأشياء استغلال الأرض ونماؤها عادة، لأن الأرض لا تنمو بها بل تفسد، بخلاف قصب السكر. وأما لو اتخذ الأرض مشجرة أو مقصبة أو منبتا للحشيش، فإن الزكاة تجب في الخارج منها لأنه غلة وافرة قصد به استغلال الأرض ولعموم الآيات والأحاديث السابقة (وقال) أبو يوسف ومحمد: يشترط أن يكون الخارج نصابا مما يبقى سنة بلا علاج كثير، سواء أكان مكيلا كالتمر والحبوب أم غير مكيل كالقطن والسكر؟ فإن كان مما يكال فلابد أن يبلغ خمسة أو سق (لحديث) أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس فيما دون خمسة أو ساق من تمر ولا حب صدقة" أخرجه أحمد ومسلم والنسائي والبيهقي(1). ... ... ... ... ... ... ... ... {93}
والوسق- بفتح فسكون- ستون صاعا والصاع قدحان بالكيل المصري. فالنصاب: خم وسبعون كيلة، أي ستة أرادب وربع أردب (وإن كان) الخارج مما لا يكال فعند أبي يوسف لا تجب فيه زكاة إلا إن بلغ قيمة نصاب من أدنى ما يكال، فلا تجب الزكاة في القطن ونحوه إلا إذا بلغت قيمته خمسة أوسق من الشعير ونحوه.
(وقال) محمد: يلزم أن يبلغ خمسة أمثال من أعلى ما يقدر به نوعه. ففي نحو القطن لا تجب فيه الزكاة إلا إن بلغ خمسة قناطير، لأن التقدير بالوسق فيما يوسق كان باعتبار أنه أعلى ما يقدر به نوعه. وعليه فلا زكاة عند أبي يوسف ومحمد فيما لا يبقى سنة كالفواكه والخضراوات كالفجل والجرجير والثوم والبصل والقثاء والخيار والبطيخ والقرع والباذنجان واللوبيا الخضراء (لحديث) موسى بن طلحة عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس في الخضراوات زكاة" أخرجه الدار قطني وفيه مروان السنجاري ضعيف(2). ... ... {94}
(
__________
(1) انظر ص 5 ج 9- الفتح الرباني (زكاة الزرع والثمار) وص 52 ج 7 نووي (الزكاة) وص 343 ج 1 مجتبي (زكاة التمر) وص 128 ج 4 بيهقي (صدقة الزرع).
(2) انظر 201- الدارقطني.(1/226)
قال) الترمذي: ليس يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، وإنما يروي هذا عن موسى بن طلحة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مرسلا. والعمل على هذا عند أهل العلم أنه ليس في الخضراوات صدقة(1). وذلك لأن الأحاديث فيها وإن كانت ضعيفة فقد رويت من عدة طرق يقوي بعضها بعضا.
(وقال) مالك: يشترط في الخارج أن يكون نصابا مما يبقى وييبس ويستنبته بنو الإنسان، سواء أكان مقتاتا كالقمح والشعير والسلت والعلس والذرة والدخن والأرز والجلبان والبسيلة (أو غير مقتات) كالحمص والفول واللوبيا والعدس والترمس والزيتون والسمسم والقرطم وحب الفجل الأحمر (ولا زكاة) في التين والرمان والتفاح وسائر الفواكه ولا في بذر كتان وقطن وسلجم ولا في جوز ولوز وحب الفجل الأبيض والعصفر، والتوابل وهي الفلفل والكزبرة والأنسيون. والشمار والكمون والحبة السوداء، ولا في الخضراوات وحب الرشاد. والنصاب عند مالك خمسة أوسق. والوسق ستون صاعا، والصاع قدح وثلث. فالنصاب عنده خمسون كيلة.
(وقال) الشافعي: يشترط في الخارج أن يكون نصابا مما يقتات ويدخ ويستنبته الآدميون كالقمح والشعير والسلت- وهو نوع من الشعير لا قشر له- والدخن والعد والذرة والأرز والحمص واللوبيا اليابسة والجلبان والفول. فلا زكاة فيما لا يقتات كالخضراوات وحب الرشاد والكمون وبذر القطن والكتان والتمس والسمسم والزيتون وبذر الفجل والقرطم.
(
__________
(1) انظر ص 12 ج 2 تحفة الأحوذي (زكاة الخضراوات) والمراد من أهل العلم الأكثر (فقد) علمت أن النعمان يوجب في الخضراوات الزكاة.(1/227)
وقال) أحمد: يشترط في الخارج أن يكون نصابا مما يكال ويبقى وييبس ويستنبته الآدميون سواء أكان مقتاتا كالقمح والشعير والذرة والأرز والدخن، أم غير مقتات كالفول والعدس والكسبرة والكمون والكراوية والترمس والسمسم والحلبة وسائر الحبوب؟ وتجب أيضا فيما جمع هذه الأوصاف من الثمار اليابسة كالتمر والزبيب والمشمش والتبين واللوز والبندق والفستق. فلا زكاة في الفواكة كالخوخ والكمثرى والتفاح ولا في الخضراوات (هذا) والنصاب عند الشافعي وأحمد خمس وسبعون كيلة كما تقدم عن أبي يوسف ومحمد.
(وقال) الحسن البصري والثوري والشعبي: لا تجب الزكاة إلا في القمح والشعير والزبيب والذرة والتمر (لحديث) أبي موسى الأشعري ومعاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثهما إلى اليمن فأمرهما أن يعلما الناس أمر دينهم وقال: "لا تأخذا الصدقة إلا من هذه الأربعة: الشعير والحنطقة والزبيب والتمر) أخرجه الحاكم والدارقطني والطبراني في الكبير بسند رجاله رجال الصحيح والبيهقي(1). ... ... ... ... ... ... {95}
(وقال) موسسى بن طلحة: عندنا كتاب معاذ برضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه إنما أخذ الصدقة من الحنطة والشعير والزبيب والتمر. أخرجه أحمد والدارقطني والبيهقي والحاكم وقال: هذا حديث قد احتج بجميع رواته. وموسى بن طلحة تابعي كبير لم ينكر أنه يدرك أيام معاذ(2). ... ... ... {96}
(ورد) بأن صاحب الاستذكار ذكر أنه لم يلق معاذا ولا أدركه.
(
__________
(1) انظر ص 401 ج 1 مستدرك (أخذ الصدقة من الحنطة والشعير) و 201 الدارقطني. وص 75 ج 3 مجمع الزوائد (زكاة الحبوب) وص 125 ج 4 بيهقي (لا تؤخذ صدقة شيء من الشجر غير النخل والعنب).
(2) انظر ص 7 ج 9 – الفتح الرباني (زكاة الزرع والثمار) وص 201- الدارقطني وص 128 ج 4 بيهقي (الصدقة فيما يزرعه الآدميون) وص 401 ج 1 مستدرك.(1/228)
ورجح) بعضهم هذا القول لهذه الأدلة وإن كان في بعضها ضعف ولا يصح جعلها من باب التنصيص على بعض أفراد العام لما في بعضها من الحر تارة والنفي عما عدا هذه الأشياء تارة أخرى.
(4) وقت وجوب زكاة الزرع:
تجب في الحبوب باشتدادها وفي الثمر يبدو صلاحه- عند مالك والشافعي وأحمد- فالوجوب:
( أ ) في زكاة الزرع بإفراك الحب واستغنائه عن السقي وإن بقى في الأرض لتمام طيبه لا باليبس كما قيل، وإلا لم يحسب ما أخذه فريكا أخضر وليس كذلك بل يحسب ويقدر جفافه.
( ب ) وفي زكاة الثمر بطيبه وطيب كل نوع معلوم فيه. فطيب البلح بإحمراره أو إصفراره وجريان الحلاوة فيه، وطيب العنب بظهور الحلاوة فيه (وعليه) فلا شيء على وارث مما ورثه قبل الإفراك والطيب إلا أ، يكون نصابا أو أقل ويكون عنده زرع يضم إليه ويزكيه. فإن بلغت حصة بعضهم نصابا دون البعض وجبت على الأول دون الثاني. أما ما ورثه بعد الطيب والإفراد فتجب زكاته وإن كان أقل من نصاب حيث كان المجموع نصابا لتعلق الزكاة بالموروث قبل الموت فيزكى حينئذ على ملك الميت.
(والزكاة) في الزرع واجبة على ممن باعه بعد الإفراك والطيب، وإن افتقر البائع تؤخذ الزكاة من عين المبيع إن وجد عند المشتري ويرجع على البائع بثمنها. وإن لم يوجد المبيع لا تؤخذ الزكاة من المشتري بل من البائع عند يساره، وإن أهلك الزرع المشتري زكاه ورجع بما دفعه على البائع، وإن أهلكه أجنبي فزكاته على البائع ويرجع على الأجنبي بمثل ما أخرجه، وإن هلك بآفة سماوية فلا زكاة فيه على أحد لأنه جائحة على الفقراء(1).
__________
(1) انظر ص 553 ج 1 – الفجر المنير.(1/229)
هذا، وبدو الصلاح في بعضه ولو قل وجبت الزكاة. وكذا اشتداد بعض الحب كاشتداد كله(1). (وقال) النعمان: تجب الزكاة بخروج الزرع وظهور الثمر لقوله تعالى: "يأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض"(2). أمر الله تعالى بالإنفاق مما أخرجه من الأرض، فدل على أن الوجوب متعلق بالخروج (وقال) أبو يوسف: تجب الزكاة بالإدراك لقوله تعالى: "وأتوا حقه يوم حصاده". ويوم حصاده هو يوم إدراكه فكان هو وقت الوجوب. (وقال) محمد بن الحسن: تجب الزكاة بالتنقية في الحبوب والجذاذ في الثمر لأنه حينئذ يتناهى عظم الحب والثمر.
(وفائدة) هذا الاختلاف على قول النعمان لا تظهر إلا في الاستهلاك فما كان منه بعد الوجوب يضمن عشره وما كان قبله لا يضمن. وأما عند أبي يوسف ومحمد فتظهر ثمرة الخلاف في الاستهلاك والهلاك في حق تكميل النصاب وما هلك قبله لا يعتبر. وبيانه أنه إذا أتلف إنسان الزرع أو الثمر قبل الإدراك أخذ صاحب المال من المتلف ضمان المتلف وأدى عشره، وإن أتلف البعض دون البعض أدى قدر عشر المتلف من ضمانه، وإن أتلفه احبه أو أكله كلا أو بعضا يضمن عشره ويكون دينا في ذمته عند النعمان لأن الإتلاف حصل بعد الوجوب فكان الحق مضمونا. وأما عندهما فلا يضمن عشر المتلف لأن الإتلاف حصل قبل الوجوب، ولو بعد الوجوب ويكون عليه عشر الباقي قل أو كثر عند النعمان، لأنه لا يشترط النصاب. وكذا عندهما إن بقى نصاب، وإن هلك بعد الإدراك والتنقية والجذاذ أو بعد الإدراك قبل التنقية والجذاذ سقط الواجب اتفاقا، وإن هلك بعضه سقط بقدره وبقى عشر الباقي ولو قل عند النعمان، وعندهما يكمل نصاب الباقي بالهالك(3).
(5) قدر الواجب في زكاة الزرع:
__________
(1) انظر ص 465 ج 5 مجموع النووي.
(2) سورة البقرة، الآية، رقم 267.
(3) انظر ص 63 ج 2 بدائع الصنائع.(1/230)
يفترض في الزرع والثمر عشر الخارج إن سقى بلا آلة بل بماء المطر أو النهر أو العين، ونصف العشر مما سقى بآلة بخارية أو طمبور أو ساقية أو بماء مشتري. لما في ذلك من زيادة المؤونة. (ودليله) ما تقدم في حديث جابر وابن عمر(1).
(وقول) معاذ: "أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن آخذ مما سقت السماء العشر ومما سقى بالدوالي نصف العشر" أخرجه النسائي(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {97}
(وعن) موسى بن طلحة عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قال: "فيما سقت السماء والبعل والسيل العشر، وفيما سقى بالنضح نصف العشر، وإنما يكون ذلك في التمر والحنطة والحبوب، فأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب فقد عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم" أخرجه البيهقي والحاكم وقال: صحيح الإسناد(3). ... ... ... ... ... ... ... ... ... {98}
وهذا متفق عليه، وإن سقى الزرع بآلة تارة وبلا آلة تارة، فإن كان ذلك متساويا لزم ثلاثة أرباع العشر عند الجمهور، وهو قول للحنفيين. والمشهور عنهم وجوب نصف العشر وهو الظاهر، وإن كان أحدهما أكثر من الآخر فعند الحنفيين وأحمد العبرة بالأكثر، وهو قول مشهور عن مالك وقول للشافعي. والآخر يؤخذ من كل بحسابه.
(وجعل) النبي صلى الله عليه وسلم زكاة ما خفت مئونته العشر توسعة على الفقراء وما ثقلت مئونة سقيه نصف العشر رفقا بأرباب الأموال.
__________
(1) حديث جابر تقدم رقم 91 ص 199 وابن عمر رقم 92 ص 20 (زكاة الزروع والثمار).
(2) تقدم رقم 23 ص 124 (هل على العبد زكاة)؟
(3) انظر ص 129 ج 4 بيهقي (الصدقة فيما يزرعه الآدميون) وص 401 ج 1 متدرك (الصدقة من الحنطة والشعير) (وإنما يكون ذلك ... إلخ) مدرج من الراوي في الحديث و(القصب) بالصاد عند الحاكم. وبالضاد عند البيهقي- بفتح فسكون- وهو كل نبت اقتضب فأكل طريا. وقيل هو نوع من الفاكهة يقطع فينبت خلافه.(1/231)
هذا، ولا يحتسب الزارع ما أنفق على الغلة من سقي أو عمارة أو أجر حافظ أو عمال أو نفقة البقر أو تكاليف الزرع بل يؤخذ المفروض من كل الخارج، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الحق على التفاوت بتفاوت المؤن، ولو رفعت المؤن لارتفع التفاوت. والله تعالى ولي التوفيق.
(6) سقوط الزكاة:
تسقط زكاة المواشي والأثمان والعروض والخارج من الأرض بواحد من ثلاثة:
(أ) هلاك المال بعد الوجوب بأن حال عليه الحول أو حان حصاده ففرط في الأداء حتى هلك المال بلا استهلاك، فإن هلك كله سقط الواجب كله، وإن هلك بعضه سقطت حصته، لأن الزكاة متعلقة بعين المال لقوله تعالى: "خذ من أموالهم صدقة"(1) وقوله تعالى: "وفي أموالهم حق معلوم"(2)، وبالهلاك قد فات محل الزكاة فتسقط عند الحنفيين ومالك، ويصرف الهالك إلى الكل عند محمد وزفر وهو المعتمد عند المالكية، وحكى عن الشافعي، وإلى العفو أولا ثم إلى ناب يليه، وهكذا عند النعمان وهو مشهور مذهب مالك، والأصح عند الشافعي.
(وقال) أبو يوف: يصرف بعد العفو إلى الكل شائعا. فلو هلك خمسة عشر من أربعين من الإبل فأربعة من الهالك تصرف إلى العفو ثم أحد عشر إلى النصاب الذي يليه وهو ما بين خمس وعشرين وست وثلاثين عند النعمان ومن معه فيلزم بنت مخاض. وعند أبي يوسف يلزم 25/26 من بنت لبون. وعند محمد ومن معه يلزم خمسة أثمان بنت لبون. وهذا هو الأقوى لما تقدم من أن الزكاة تتعلق بالنصاب والعفو على الأصح. وخرج بالهلاك ما لو استهلكه بعد الحول فلا تسقط الزكاة للتعدي. ولو منع السائمة العلف والماء حتى هلكت فهو استهلاك على الصحيح عند الحنفيين.
(
__________
(1) سورة التوبة، آية رقم 103.
(2) سورة المعارج، ىية رقم 24.(1/232)
وقال) الشافعي: إن هلك المال بتفريط بأن قصر في حفظه أو عرف المستحقين وأمكنه تسليمهم فأخر بلا عذر ضمن، لأنه متعد بذلك، وإن لم يفرط لم يضمن كالوكيل وناظر مال اليتيم إذا تلف في يده شيء بلا تفريط لا يضمن(1).
(والمشهور) عن أحمد أن الزكاة لا تسقط يتلف المال سواء فرط أو لم يفرط. وحكى عنه الميموني أنه إن تلف النصاب قبل التمكن من الأداء سقطت الزكاة وإن تلف بعده لم تسقط، لأنه مال وجب في الذمة فلم يسقط بتلف النصاب كالدين. فأما الثمرة فلا تجب زكاتها في الذمة حتى تحرز لأنها في حكم غير المقبوض. ولهذا لو تلفت كانت في ضمان البائع، وبه قال مالك، إلا في الماشية فإنه قال: لا شيء فيها حتى يجيء المصدق فإن هلكت قبل مجيئه فلا شيء عليه.
(والصحيح) أن الزكاة تسقط بتلف المال إذا لم يفرط في الأداء لأنها تجب على سبيل المواساة فلا تجب بعد تلك المال، والتفريط أن يمكنه إخراجها فلا يخرجها، فإن لم يتمكن من إخراجها فليس بمفرط، سواء أكان لعدم المستحق أو لبعد المال أو لكون المطلوب إخراجه لا يوجد في المال(2).
(ب) وتسقط الزكاة بالردة عند الحنفيين خلافا للأئمة الثلاثة على ما تقدم في شروط افتراض الزكاة حتى لو أسلم لا يجب عليه الأداء عند الحنفيين، ويجب عند الثلاثة لأنه قادر أداء ما وجب عليه بالعود إلى الإسلام. واستدل الحنفيون بحديث جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يجب ما كان قبله" أخرجه الطبراني وابن سعد(3). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {99}
ولأن المرتد ليس من أهل العبادة.
(جـ) وتسقط الزكاة بموت من تلزمه بلا وصية عند الحنفيين ومالك. وقال الشافعي وأحمد: لا تسقط بالموت على ما تقدم في بحث قضاء الزكاة(4).
(7) خرص البلح والعنب:
__________
(1) انظر ص 175 ج 6 مجموع النووي.
(2) انظر ص 464 ج 2 شرح المقنع.
(3) انظر رقم 3064 ص 179 ج 3 فيض القدير. ورقم 243 ص 17 ج 1 كنز العمال.
(4) تقدم 136.(1/233)
الخرص- بفتح فسكون مصدر خرص من بابي ضرب ونصر- لغة الحزر والتخمين. والمراد به هنا تقدي ما على النخل من الرطب تمرا وما على الكرم من العنب زبيبا بأن ينظر الخارص العارف فيقول: يخرج من هذا من التمر كذا ومن الزبيب كذا وكذا، فيحصى عليهم وينظر مبلغ العشر ممن ذلك، ثم يخلى بين المالك وبين الثمار يصنع ما أحب. وإذا أدركت الثمار أخذ منها العشر. وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد (لقول) ابن جرير: أخبرت عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة إلى اليهود فيخرص عليهم النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه. أخرجه أبو داود وأحمد والداقطنى وزادا: ثم يخيرون يهود أيأخذونه بذلك الخرص أم يدفعونه إليهم بذلك؟ وإنما كان أمر النبي صلى الله عليه وسلم لكي يحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمرة وتفرق. وفي سنده راو لم يسم(1). ... ... ... ... ... ... ... ... {100}
__________
(1) انظر ص 12 ج 9 – الفتح الرباني (خرص النخل والعنب) وص 214 ج 9 المنهل العذب المورود (متى يخرص التمر) وص 217- الدارقطني. وقد رواه عبد الرزاق. والدارقطني بلا واسطة بين ابن جريج والزهري. وابن جريج مدلس فلعله ترك الواسطة تدليا. وذكر الدارقطني الاختلاف في الحديث فقال: رواه صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة وأرسله معمر ومالك وعقيل عن الزهرري عن سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم.(1/234)
أعطى النبي صلى الله عليه وسلم اليهود نخل خيبر مساقاة ليعملوا فيها ويكون لهم نصف الثمار. ثم أمر ابن رواحة بخرصها ليظهر نصيب اليهود من نصيبه صلى الله عليه وسلم؛ وليعلم قدر الزكاة في نصيبه صلى الله عليه وسلم، وخيرهم بين "أخذ التمر" بهذا الخرص ودفع قيمة ما يخص النبي صلى الله عليه ولم "أو دفعه إليه" وأخذ قيمة ما يخصهم منه حتى لا يكون هناك ظلم. (وقد) دل الحديث على أن خرص البلح يكون عند بلوغ صلاحه وأنه يكفي فيه العدل العارف الواحد. وبه قالت المالكية والحنبلية وبعض الشافعية. وقال بعضهم: لابد من اثنين.
(وروى) سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ صدقة النخل تما. أخرجه أبو داود وبان ماجه وابن حبان والدارقطني والترمذي وقال: حسن غريب. وقد روى ابن جريج هذا الحديث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة. وسألت البخاري عن هذا فقال: حديث ابن جريج غير محفوظ. وحديث سعيد بن المسيب عن عتاب أصح(1). ... {101}
وفي الحديث انقطاع(2) (وحكمة) الخرص أن الفقراء شركاء أرباب الأموال في الثمر، فلو منع رب المال
__________
(1) انظر ص 209 ج 9 – المنهل العذب المورود (خرص العنب) وص 286 ج 1 ابن ماجه (خرص النخل والعنب) وص 216- الدارقطني. وص 17 ج 2 تحفة الأحوذى (الخرص) و(أسيد) بفتح فكسر.
(2) انقطاع) لأن سعيدا لم يدرك عتابا فإن سعيدا ولد سنة 15 هـ وعتابا مات سنة 13 هـ. قال النووي: هذا الحديث وإن كان مرسلا لكنه اعتضد بقول الأئمة.(1/235)
من الانتفاع بالثمر إلى صلاحه لأضره ذلك. ولو انبسطت يده في الثمر لأخل ذلك بحق الفقراء. ولما كانت الأمانة غير متحققة عند كل واحد من أرباب الأموال وعمالهم وضع الشارع هذا الضابط ليتأتى لرب المال الانتفاع به مع حفظ حق المساكين (وفي الحديث) دليل على أن الزكاة لا تخرج عقب الخرص وإنما تخرج إذا صار الرطب تمرا والعنب زبيبا. وهذا فيما شأنه أن يجفف من العنب والرطب، أما ما لا يجفف منهما كعنب مصر ورطب شمالها، فتجب فيه الزكاة عند النعمان قل أو كثر كسائر الفواكه وتخرج من عينه أو قيمته (وقال) أبو يوسف ومحمد: لا زكاة فيه لعدم بقائه سنة علاج كثير.
(وقالت) المالكية: يتصدق من ثمنه إن بيع وإلا فمن قيمته يوم طيبه ولا يجزئ الإخراج من عينه (وعن) سهل بن أبي حثمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا خرصتم فجذوا ودعوا الثلث فإن لم تجذوا أو تدعوا فدعوا الربع. أخرجه أحمد والثلاثة وابن حبان والحاكم وصححه(1). ... ... ... ... ... ... {102}
وقال الترمذي: والعمل على حديث سهل عند أكثر أهل العلم في الخرص. وفي رواية النسائي والترمذي والحاكم: إذا خرصتم فخذوا بالخاء، أي إذا قدرتم الثمار أيها الخارصون فخذوا ثلثي زكاة ما قدرتم عند الجذاذ واتركوا الثلث أو الربع لرب المال ليتصدق به على أقاربه وجيرانه. ويحتمل أن يكون المعنى: ارتكوا ثلث الثمرة فلا يؤخذ عليه زكاة رأفة بأرباب الأموال. والمرجع في تقدير المتروك إلى الساعي، فإن رأى الأكلة كثيرا ترك الثلث، وإن كانوا قليلا ترك الربع.
(
__________
(1) انظر ص 13 ج 9 – الفتح الرباني (خرص النخل والعنب) وص 211 ج 9 المنهل العذب الموررود (الخرص) وص 344 ج 1 مجتبي (كم يترك الخارص؟) وص 17 ج 2 تحفة الأحوذي (الخر) وص 402 ج 1 متدرك (فجذوا) أي إذا قدر الخارص الثمار وعرفتم حق الله فيها فاقطعوا منها ما شئتم، وهو أمر إباحة.(1/236)
ولهذه) الأحاديث ونحوها قال مالك بوجوب الخرص في التمر والعنب سواء أكان شأنهما الجفاف أو لا كعنب مصر ولا يخص غيرهما في المشهور وفي إلحاق الزرع بهما عند عدم أمن أهله عليه قول مصحح. وقيل: يجعل عليهم حارس أمين. وقو قول صحيح (وإنما) خص التمر والعنب بالخرص على المشهور لأن الشأن الاحتياج إليهما بالأكل والبيع والإهداء دون غيرها، فلو تركا بلا تخريص لغبن الفقرراء فلزم الحرص ليعرف ما تجب فيه الزكاة وما لا تجب وقدر الواجب. ويشترط أن يكون الخرص عند بدو الصلاح وأن يحتاج للأكل منهما رطبين فيخرص كل نخلة على حدة لأنه أقرب للصواب ويسقط الخارص ما تنقصه للجفاف فإن كان الباقي على تقدير الجفاف نصابا زكاه وإلا فلا. وإن تعدد الخاررصون واختلفوا في القدر عمل بقول الأعرف وإن اتحد الزمن وإلا فالأول. وإن استووا في المعرفة يؤخذ من قول كل بنسبته لمجموع عددهم(1) ثم بعد الخرص إن أصابته جائحة قبل جذاذه سقط حق ما تلف فإن بقى بعد ما تجب فيه الزكاة زكاه وإلا فلا. وإن زادت الثمرة بعد جذاذها على خرص عدل عارف وجب الإخراج عن الزائد(2).
(وقالت) الشافعية والحنبلية: يسن خرص الرطب والعنب اللذين تجب فيهما الزكاة ولا مدخل للخرص في غيرهما لعدم التوقيف فيه ولعدم الإحاطة كالنخل والعنب. ويلزم خرص كل البستان، ولا يجوز الاختصار على رؤية بعضه وقياس الباقي به لأنها تتفاوت، فإن اختلف نوع التمر وجب خرص شجرة شجرة، وإن اتحد جاز خرصها واحدة واحدة وهو الأحوط وجاز أن يطوف بالجميع ثم يخرصه دفعة واحدة(3).
(
__________
(1) فلو خرص واحد البستان بمائة قنطار وآخر بثمانين وثالث بتسعين جمعت الأعداد وقسمت على ثلاثة فيكون الخارج وهو تسعون قنطارا المعول عليه.
(2) انظر ص 555 ج 1 – الفجر المنير.
(3) انظر ص 478 ج 5 – مجموع النووي.(1/237)
ويدل) أيضا على طلب الخرص قول أبي حميد الساعدي: غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك فلما جاء وادي القرى إذا امرأة في حديقة لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أخروا وخرص رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أو سق فقال لها: أحصى ما يخرج منها" (الحديث)أخرجه البخاري(1). {103}
(وقال) الحنفيون والثورى: لا يجوز الخرص، لأنه ظن وتخمين (ولحديث) جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخرص وقال: "أرأيتم إن هلك الثمر أيحب أحدكم أن يأكل مال أخيه بالباطل؟" أخرجه الطحاوي وفي سنده ابن لهيعة متكلم فيه(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {104}
(وأجابوا): ( أ ) عن حديث عائشة بأن في سنده مجهولا.
( ب ) وعن حديث عتاب بأن فيه انقطاعا كما تقدم.
(جـ) وعن حديث سهل بن أبي حثمة بأن فيه عبد الرحمن بن مسعود. قال ابن القطان: لا يعف حاله. ولذا قال أبو بكر بن العربي: لا يصح حديث سهل بن أبي حثمة ولا في الخرص حديث صحيح إلا حديث البخاري ويليه حديث ابن رواحة ، وهو حديث عائشة.
(د) وعن حديث أبي حميد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بالخرص معرفة مقدار ما في نخل تلك المرأة خاصة ليأخذ منها الزكاة وقت القطع على حسب ما يجب عليها ، وأيضا فقد خر حديقتها وأمرها أن تحى وليس فيه أنه جعل زكاة الثمر في ذمتها وأمرها أن تترف في ثمرها كيف شاءت . وإنما كان يفعل ذلك تخويفا لئلا يخونوا وأن يعرفوا مقدار ما في النخل ليأخذوا الزكاة وقت القطع.هذا معنى الخرص. فأما أنه يلزم به حكم شرعي فلا(3).
(وأجاب) الجمهور:
(
__________
(1) انظر ص 221 ج 3 فتح الباري (خر الثمر) و(تبوك) موضع بين المدينة ودمشق. وغزوتها كانت في رجب سنة تسع من الهجرة (أنظر بيانها بهامش ص 313 وما بعدها ج 6 – الدين الخالص) و(أحصى) أي احفظي عدد كيلها. وفي رواية: أحصيها حتى نرجع إليك إن شاء الله تعالى.
(2) انظر ص 318 ج 1- شرح معاني الآثار.
(3) انظر ص 69 ج 9 – عمدة القارئ.(1/238)
أ ) بأن هذه الأحاديث وإن كان في بعضها مقال فقد قويت بعمل الأمة بمقتضاها.
( ب ) وأن العمل بالخرص بقى طوال حياة النبي صلى الله عليه وسلم وعمل به أبو بكر رضي الله عنهما (روى) سهل بن أبي حثمة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعثه إلى خرص التمر وقال: "إذا أتيت أرضا فأخرصها ودع لهم قدر ما يأكلون" أخرجه الحاكم(1). (قال) الخطابي: أنكر أصحاب الرأي الخرص، وقال بعضهم: إنما كان ذلك الخرص تخويفا للأكرة لئلا يخونوا فأما أن يلزم به حكم فلا، وذلك أنه ظن وتخمين وفيه غرر، وإنما كان جوازه قبل تحريم الربا والقمار.
(قلت) العمل بالخرص ثابت وتحريم الربا والقمار والميسر متقدم وبقى الخرص يعمل به رسول الله صلى الله وسلم طول عمره، وعمل به أبو بكر وعمر. وعامة الصحابة على تجويزه والعمل به، لم يذكر عن أحد منهم فيه خلاف. فأما قولهم إنه ظن وتخمين فليس كذلك، بل هو اجتهاد في معرفة مقدار الثمار بالخرص الذي هو نوع من المقادير كما يعلم ذلك بالمكاييل والموازين(2). (ومنه) يعلم أن الراجح القول بمشروعية الخرص في البلح والعنب أخذا بظاهر الأحاديث.
(8) ضم الحبوب والثمار:
أجمع العلماء على أن الصنف الواحد من الحبوب والثمر يجمع جديده إلى رديئة وتؤخذ الزكاة عن جميعه بحسب قدر كل واحد منهما، فإن كان الثمر أصنافا أخذ من وسطه. واختلفوا في ضم الحبوب المختلفة:
(
__________
(1) انظر ص 403 ج 1 مستدرك.
(2) انظر ص 44، ص 45 ج 2 معالم السنن (الخرص).(1/239)
فقالت) المالكية: تضم القطاني السبع بعضها إلى بعض، وهي العدس والحمص والبسلة والجلبان والترمس واللوبيا والفول. وروى عن أحمد (وكذا) يضم عند المالكية القمح والشعير والست لأنها جنس واحد في الزكاة. فإذا اجتمع منها خمسة أوسق زكاها وأخرج من كل بحسبه ويجرئ إخراج الأعلى منها أو المساوي لا الأدنى عن الأعلى. وكذا تضم أصناف التمر والزبيب بعضها لبعض، ولا يضم غير ما ذك من دخن وذرة وأرز وزيتون وحب فجل أحمر وسمسم وقرطم لأن كلا منها جنس على حدة. وإنما يضم صنف لآخر إن زرع أحدهما قبل وجوب زكاة الآخر بإفراكه وبقى من حب الأول إلى وجوبها في الثاني ما يكمل به مع الثاني نصاب كأن يبقى من الأول وسقان إلى وجوب زكاة الثاني وقد بلغ ثلاثة أوسق فيضم الأول وللثاني ويزكيان لأنهما كفائدتين جمعهما ملك وحول(1).
(وقال) الحنفيون والشافعي وأحمد في رواية: لا يضم شيء من الحبوب إلى غيره ولا من الثمار لعدم قيام الدليل على الضم (قال) ابن المنذر: وأجمعوا على أنه لا تضم الإبل إلى البقر ولا إلى الغنم ولا الثمر إلى الزبيب
فكذا لا ضم في غيرها؛ وليس للقائلين بضم الأجناس دليل صحيح صريح فيما قالوه(2).
(9) زكاة الزيتون والرمان:
__________
(1) انظر ص 555 ج 1 – الفجر المنير.
(2) انظر ص 511 ج 5 – مجموع النووي.(1/240)
قال الله تعالى: "وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده"(1).
__________
(1) الأنعام، آية: 141. و(أنشأ) أي خلق (جنات معروشات) أي بساتين وغيرها ممسوكات مرفوعات (وغير معروشات) أي غير مرفوعات (قال) أبن عباس: (معروشات) ما انبسط على الأرض مما يعرش مثل الكروم والزرع والبطيخ (وغير معروشات) ما قام على ساق مثل النخل وسائر الأشجار (مختلفا) في الخلق والطعم (أكله) طعمه وحبه (متشابها) ورقة وثمره حال مما قبله (وغير متشابه) طعمه ولو وريحه وجرمه (وءاتوا حقه) أي زكاته (وقيل) هو إطعام من حضر وترك ما قط من الزرع والثمر للفقراء (يوم حصاده) أي وقت تيسر الإخراج منه8 فيما لا يتوقف على تصفية كالعنب والزيتون والنخل. وأما ما لا يحتاج إلى تصفية كالحبوب فالمعنى وءاتوا حقه الذي وجب يوم حصاده بعد الدرس والتذرية.
... (هذا) وقد اختلف في الآية. أهي محكمة أم منسوخة أم محمولة على الندب؟ فذهب ابن عمر وعطاء ومجاهد والنعمان ومن وافقهم إلى أنها محكمة وأنه يجب على الزارع يوم الحصاد أن يعطي من حضر من المساكين حقهم من الزكاة. (وقال) الحسن والنخعي إنها منسوخة بالزكاة ويؤيده أن هذه الآية مكية وآية الزكاة مدنية نزلت في السنة الثانية من الهجرة وإليه ذهب الجمهور من السلف والخلف. وقال بعضهم: الآية محمولة على الندب لا على الوجوب.
... (روى) حبان الأعرج عن جابر بن زيد في قوله تعالى: "وءاتوا حقه يوم حصاده" قال: الزكاة المفروضة. أخرجه البيهقي وقال: ويذكر نحو هذا عن سعيد بن المسيب وعن محمد بن الحنفية ومالك بن أنس (وذهب) جماعة من التابعين إلى أن المراد به بغير الزكاة المفروضة.
... (روى) نافع عن ابن عم في قوله تعالى: "وءاتوا حقه يوم حصاده" قال: كانوا يعطون من اعتراهم شيئا سوى الصدقة (انظر ص 132 ج 4 بيهقي) (وروى) سالم عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: "وءاتوا حقه يوم حصاده" قال: كان قبل الزكاة فلما نزلت الزكاة نسختها. قال فيعطي منه ضغثا (قبضة من السنبل وغيره) ويذكر عن السدى أنها مكية نسختها الزكاة (انظر ص 133 ج 4 بيهقي).
... (وروى) جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من كل جاد عشرة أو سق من التمر بقنو يعلق في المسجد للمساكين. أخجه أحمد وأبو داود بسند جيد (أنظر ص 305 ج 9 – المنهل العذب المورود) أي أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كل نخل يقطع من ثمره عشرة أوسق بعذق يعلق في المسجد ليأكل منه المساكين. والأمر هنا للندب عند الجمهور.(1/241)
(قال) أنس وابن عباس والنعمان وغيرهم: المراد بالحق هنا الزكاة المفروضة- العشر ونصف العشر- ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك وبه قال بعض الشافعية. ولذا قال النعمان: تجب الزكاة في كل ما تنبت الأرض طعاما وغيره- بلا شرط نصاب- ومنه الزيتون والرمان. وإليه مال ابن العربي في أحكامه فقال: وأما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق وعضد مذهبه وقواه(1).
(وقال) مالك: تجب الزكاة في الزيتون إن بلغ حبه نصابا وهو رواية عن أحمد. تخرج الزكاة من زيته- وإن قل- إن كان له زيت وأمكن معرفة قدر الزيت ولو بالتحري أو بإخبار موثوق به فلا يخرج حينئذ من حبه أو ثمنه أو قيمته. وإن لم يكن له زيت كالزيتون الأخضر أو كان ولم يكن معرفة قدره تخرج الزكاة من قيمته إن أكله أو أهداه ومن ثمنه إن باعه. وإن لم يكن ما ذكر من القيمة والثمن نصابا إذ العبرة بنصاب الحب فإن لم يكن الحب نصابا فلا زكاة فيه. وأما حب الفجل الأحمر والقرطم والسمسم فيجوز الإخراج من زيتها وحبها(2).
(والصحيح) عند الشافعية والحنبلية أنه لا زكاة في الزيتون، وبه قال أبو يوسف ومحمد لأنه لا يدخر يابسا فأشبه الخضراوات ولأنه لم يرد بالآية الزكاة لأنها مكية. والزكاة فرضت بالمدينة على أنها محمولة على ما يتأتى حصاده ونصابه خمسة أوسق(3) لكن تقدم أنه قيل: إن الزكاة فرضت بمكة إجمالا وبينت بالمدينة تفصيلا(4).
(
__________
(1) انظر ص 101 ج 7 تفسير القرطبي.
(2) انظر ص 546 ج 1 – الفجر المنير.
(3) انظر ص 553 ج 9 – شرح المقنع.
(4) تقدم ص 106 (وقت افتراض الزكاة).(1/242)
وقال) ابن رشد: وسبب اختلافهم هل الزيتون قوت أو ليس بقوت؟ ومن هذا الباب اختلاف أصحاب مالك في إيجاب الزكاة في التين أو عدم إيجابها. وذهب بعضهم إلى أن الزكاة تجب في الثمار دون الخضر وهو قول ابن حبيب لقوله تعالى: "وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات" الآية. ومن فرق في الآية بين الثما والزيتون فلا وجه لقوله إلا وجه ضعيف(1) (وهو) بهذا يميل إلى ما قاله النعمان. واختار القرطبي قول الجمهور قال: إن الزكاة إنما تتعلق بالمقتات دون الخضراوات، وقد كان بالطائف الرمان والفرسك والأترج فما ثبت أن النبي صلى الله عليه ولم أخذ منها زكاة ولا أحدا من خلفائه. وهذا هو الصحيح في المسألة(2).
(10) إخراج الطيب:
ينبغي للمزكي أن يتحرى دفع الطيب الوسط من ماله في الزكاة ويتجنب دفع الردئ لقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد"(3).
__________
(1) انظر ص 233 ج 1 بداية المجتهد (ما تجب فيه الزكاة).
(2) انظر ص 101 ج 7 تفسير القرطبي (والفرسك) بكر فسكون فكسر: الخوخ أو نوع منه.
(3) سورة البقرة آية: 267 "ولستم بآخذيه" أي لو أعطيتموه ما أخذتموه "إلا أن تغمضوا فيه" أي تتغاضوا في أخذه والله الغني عنه. فلا تجعلوا لله ما تكرهون" واعلموا أن الله غني حميد" أي وإن أمركم بالصدقات وبالطيب منها فهو غني عنها وما ذاك إلا أن يواسي الغنى الفقير كقوله تعالى: "لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم" وهو غني عن جميع خلقه وكلهم فقراء إليه وهو واسع الفضل لا ينفد ما لديه، فمن تصدق بصدقة من كسب طيب فليعلم أن الله غني واسع العطاء كيم جواد وسيجزيه بها ويضاعفها له أضعافا كثيرة وهو المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره لا إله غيره ولا رب سواه.
... (روى) عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم" قال: من الذهب والفضة "ومما أخرجنا لكم من الأرض" يعني من الحب والثمر وكل شيء فيه زكاة. أخرجه ابن جرير في تفسيره (انظر ص 54 ج 3) وقال البراء: كانت الأنصار يعطون في الزكاة الشيء الدون من الثمر فنزلت: "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم" الآية. فالدون هو الخبيث. ولو كان لك على إنان شيء فأعطاك شيئا دونه فقد نقصك بعض حقك قبلته فهو الإغماص (انظر ص 136 ج 4 بيهقي- يحرم على صاحب المال أن يعطي الصدقة من شر ماله).(1/243)
المعنى أن الله تعالى يأمر عباده المؤمنين بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وينهاهم عن التصدق بردئ المال ودنيئه فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا. ولذا قال: "ولا تيمموا الخبيث" أي لا تقصدوا المال الرديء فتخصوه بالإنفاق. ففي الآية الأمر بالتصدق بالطيب دون الردئ سواء الصدقة المفروضة والتطوع، وأنه ينبغي لرب المال أن يعطي الصدقة ولو تطوعا من أفضل ماله كسبا ونوعا، فإن ذلك أقرب إلى القبول وأجدر بالثواب العظيم، قال الله تعالى: "وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا"(1).
( وعن ) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه ولم قال : "إن العبد إذا تصدق من طيب تقبلها الله منه وأخذها بيمينه ورباها كما يربى أحدكم مهره أو فصيله، وإن الرجل ليتصدق باللقمة فتربو في يد الله، أو قال : في كف الله، حتى تكون مثل الجبل، فتصدقوا" أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وقال: حسن صحيح(2). {105}
(11) دفع القيمة:
__________
(1) آخر سورة المزمل.
(2) انظر ص 44 ج 9 – الفتح الرباني (كراهة تيمم الخبيث ودفعه في الصدقة) وص 290 ج 1 – ابن ماجه (فضل الصدقة) وص 22 ج 2 تحفة الأحوذى. وتقدم الحديث بلفظ آخر رقم 15 ص 115 (فضل الصدقة).(1/244)
يجوز عند الحنفيين دفع القيمة في زكاة الماشية والزروع والنذر وصدقة الفطر والكفارات غير الإعتاق، فلو أدى ثلاث شياه سمان عن أربع وسط أو بعض بنت لبون عن بنت مخاض صح. وهذا في غير المثلى فلا تعتبر القيمة في نصاب مكيل أو موزون. ولو نذر التصدق بهذا الخبز مثلا فإنه يجوز التصدق بقيمته (لما روى) طاوس "أن معاذا قال لأهل اليمن: إيتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة" أخرجه البخاري معلقا بصيغة الجزم الدال على صحته عنده(1).{106}
(
__________
(1) انظر ص 200 ج 3 فتح الباري (العرض في الزكاة) والعرض- بفتح فسكون ما عدا النقدين وقد وصل الحديث البيهقي وابن أبي شيبة من طريق سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس. انظر ص 113 ج 4 بيهقي (من أجاز أخذ القيم في الزكوات) (والخميص) ثوب من خز، له علمان (وقول) النووي: إن المراد من هذا أخذ البدل عن الجزية لا عن الزكاة (يرده) تصريح معاذ بقوله: في الصدقة. وقوله: مكان الذرة والشعير. ولا مدخل لهما في الجزية (وقول) البيهقي: حديث طاوس عن معاذ إذا كان مرسلا فلا حجة فيه (يرده) أن المرسل حجة عند الحنفيين ومن يقول بقولهم (وقول) غيرهما: إن أثر معاذ فعل صحابي لا حجة فيه (يرده) أن معاذا كان أعلم الناس بالحلال والحرام. وقد بين له النبي صلى الله عليه ولم ما يصنع. فلا يعمل هذا إلا بتوقيف وإقرار من النبي صلى الله عليه وسلم.(1/245)
ولما) في كتاب الصديق رضي الله عنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى، فإن لم تكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر" (الحديث) وفيه: فمن بلغت عنده صدقة الجذعة وليس عنده جذعة وعنده حقة فإنها تقبل منه الحقة ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين دررهما" (الحديث) أخرجه الجماعة إلا مسلما والترمذي، وهذا من رواية النائي(1). ... ... ... {107}
وهذا نص في جواز دفع القيمة لما تقدم عن الحنفيين أن تقدير الفضل بالعشرين درهما أو الشاتين لأنه كان قيمة التفاوت حينئذ وابن اللبون يعدل بنت المخاض إذ ذاك (وقال) أبي بن كعب: بعثني النبي صلى الله عليه ولم مصدقا، فمررت برجل فقال: "هذه ناقة فتية عظيمة" (الحديث) وفيه: "فقال له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ذاك الذي عليك فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه وقبلناه منك" (الحديث) أخرجه أحمد والحاكم وصححه. والبيهقي وأبو داود(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {107}
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض الناقة تطوع وبعضها فرض مكان بنت مخاض وليس في فروض الصدقات بعض ناقة فثبت أنه صلى الله عليه وسلم أخذها على وجه البدل(3) (هذا) وتعتبر القيمة في الوائم يوم الأداء عند الحنفيين وكذا في غيرها عند أبي يوسف ومحمد. وقال النعمان: تعتبر يوم الوجوب.
(وللمالكية) هنا أقوال: جواز القيمة مطلقا وعدم الجواز مطلقا، وجواز إخراج الذهب والفضة عن الحرث والماشية فقط مع الكراهة وعدم الجواز فيما عدا ذلك.
(
__________
(1) تقدم رقم 42 ص 145 (ما يؤخذ في الزكاة عند عدم الن المطلوب).
(2) تقدم تاما رقم 50 ص 155 (توقي كريم المال في الزكاة).
(3) أنظر ص 114 ج 4- الجوهر النقي.(1/246)
وقالت) الشافعية: تجب الزكاة من عين المال المزكى، ولا تجزئ القيمة إلا عند عدم الجنس المطلوب (لحديث) عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله علبيه وعلى آله ولم بعثه إلى اليمن فقال: "خذ الحب من الحب والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقرة من البقر" أخرجه أبو داود وابن ماجه والبيهقي والحاكم وقال: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع عطاء عن معاذ فإني لا أتقنه(1). ... ... ... {109}
(وبهذا) قالت الحنبلية، إلا أن لهم في إخراج أحد النقدين عن الآخر قولين بالجواز والمنع.
(وأجاب) الحنفيون بأن قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم إلى آخره. ونصه على بنت المخاض وغيرها، إنما هو لبيان ما هو أيسر على صاحب المال؛ فلا ينافي جواز دفع القيمة باختيار المالك.
(12) هل في العسل زكاة؟:
لا زكاة فيما يخرج من الحيوان إلا العسل فقد اختلف فيه (قال) الحنفيون وأحمد وإسحق: يجب فيه العشر (لحديث) سليمان بن موسى عن أبي سيارة المتعى قال قلت: يا رسول الله إن لي نحلا. قال: أد العشر. قلت: يا رسول الله، أحمها لي. فحماها لي" أخرجه أحمد وابن ماجه والببيهقي وقال: هذا أصح ما روى في وجوب العشر في العسل، وهو حديث منقطع(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... {110}
(
__________
(1) انظر ص 203 ج 9- المنهل العذب المورود (صدقة الزرع) و 285 ج 1 ابن ماجه (ما تجب فيه الزكاة) وص 112 ج 4 بيهقي ( لا يؤدي من ماله إلا ما وجب عليه) وص 388 ج 1 مستدرك (فإني لا أتقنه) أتقن غيره أن عطاء لم يسمع من معاذ لأنه ولد بعد موته. قال البزار: لا نعلم أن عطاء مع من معاذ.
(2) انظر ص 17 ج 9 – الفتح الرباني (زكاة العسل) وص 187 ج 1- ابن ماجه وص 126 ج 4 بيهقي (والمتعي) بضم ففتح (واحمها) أي أحفظ لي مرعاها حتى لا يرعاها الناس. و(منقطع) أي حذف منه غير الصحابي.(1/247)
قال) الترمذي: سألت البخاري عن هذا، فقال: حديث مرسل، وسليمان بن موسى لم يدرك أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وليس في زكاة العسل شيء يصح(1).
(وعن) عمرو بن الحارث بسنده إلى ابن عمرو قال: جاء هلال أحد بنى متعان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعشور نحل له، وكان سأله أن يحمي واديا يقال له سلبة، فحمى له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الوادي، فلما ولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب سفيان بن وهب إلى عمر يسأله عن ذلك، فكتب عمر: إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عشور نحله فأحم له سلبة وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من يشاء" أخرجه أبو داود والنسائي والبيهقي وحسنه ابن عبد البر، وقال الحافظ: إسناده صحيح إلى عمرو(2). {111}
(وهذا) إذا أخذ العل من أرض عشرية، وإن أخذ من أرض خراج فلا تجب فيه زكاة عند الحنفيين، لأنه قد وجب على مالكها الخراج بزرعها فلا يجب فيها حق آخر لأجلها. وأرض العشر لم يجب في ذمته حق عنها، فلذا وجبت الزكاة فيما يكون منها. وقد تقدم أن محققي الحنفيين يرون أنه لا مانع من الجمع بين الخراج وغيره. وسوى الإمام أحمد بين الأرضين في ذلك.
(
__________
(1) انظر 126 ج 4 بيهقي (ما ورد في العسل).
(2) انظر 205 ج 9 – المنهل العذب المورود (زكاة العسل) وص 346 ج 1 مجتبي (زكاة النحل) و 126 ج 4 بيهقي. وص 223 ج 3 فتح الباري (العشرر فيما يسقى من ماء السماء) و(بنو متعان) بضم فسكون: قبيلة (وسلبة) بفتحات أو بفتح فسكون: وادلهم (ولي عمر) من باب ورث، أي تولى الخلافة، وبضم الواو فشد اللام مكسورة، أي جعل واليا (وسفيان بن وهب) هكذا هنا. وروى سفيان بن عبد الله وهو الصواب فإنه هو الذي كان عامل عمر على الطائف (والمراد بالذباب) النحل وأضيف إلى الغيث (المطر) لأنه يرعى ما ينبت به.(1/248)
هذا) وهل للعسل نصاب؟ فيه خلاف (فقال) النعمان: لا نصاب له فتجب الزكاة في قليله وكثيره لإطلاق الأحاديث (وقال) أبو يوسف: لا زكاة فيه حتى يبلغ عشر قرب كل قربة خمسون رطلا عراقيا(1) (لحديث) عبد الله بن عمرو أن بني شبابة كانوا يؤدون إلى النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم عن نحل كان لهم العشر من كل عشر قرب قربة" أخرجه الطبراني وأخرج نحوه أبو داود والبيهقي(2). ... ... ... ... {112}
(وقال) محمد بن الحسن: لا زكاة في العسل حتى يبلغ خمسة أفراق كل فرق ستة وثلاثون رطلا عراقيا (وقال) أحمد والزهري: لا زكاة فيه حتى يبلغ عشرة أفراق (لما روى) عن عمر أن أناسا قالوا له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع لنا واديا باليمن فيه خلايا من نحل وإنا نجد ناسا يسرقونها، فقال عمر: إن أديتم صدقتها من كل عشرة أفراق فرقا حميناها لكم" أخرجه الجوزجاني(3). قالوا: هذا تقدير من عمر رضي الله عنه، فيتعين المصير إليه. (ورد) بأنه لم يقم دليل على اعتبار النصاب في العسل. وغاية ما في حديث القرب أنه كان أداؤهم من كل عشر قرب قربة وهو فرع بلوغ عسلهم هذا المبلغ. أما النفي عما هو أقل من عشر قرب فلا دليل عليه(4) ويقال مثله في أثر الأفراق.
(
__________
(1) الرطل العراقي ثلاثون ومائة درهم وتمامه يأتي في بحث قدر الصاع (من زكاة الفطر) إن شاء الله.
(2) انظر ص 6 ج 2 فتح القدير. وص 207 و208 ج 9 – المنهل العذب الموود (زكاة العسل) وص 128 ج 4 بيهقي (وبنو شبابة) بطن من قبيلة فهم.
(3) انظر ص 578 ج 2 مغنى ابن قدامة.
(4) انظر ص 7 ج 2 فتح القدير.(1/249)
وقال) مالك والشافعي والثورى: لا زكاة في العسل قل أو كثر. وروى عن ابن عمر وعلي والجمهور لأنه مائع خارج من حيوان فأشبه اللبن، (ولقول) عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم: جاء كتاب من عمر بن عبد العزيز إلى أبي وهو بمعنى: أن لا تأخذ من العسل ولا من الخيل صدقة. أخرجه مالك والشافعي والبيهقي(1).
(وقال) يحيى بن آدم: حدثنا حسين بن زيد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال: ليس في العسل زكاة. قال يحيى: وسئل حسن ابن صالح عن العسل فلم ير فيه شيئا، وذكر عن معاذ أنه لم يأخذ من العسل شيئا. أخرجه البيهقي(2).
(وأجابوا) عن الأحاديث السابقة:
(أ ) بأنها ضعيفة لا تقوم بها حجة.
(ب ) وبأن هلالا المتعانى تطوع بما دفعه.
(روى) صالح بن دينار أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عثمان بن محمد ينهاه أن يأخذ من العسل صدقة إلا إن كان النبي صلى الله عليه وسلم أخذها، فجمع عثمان أهل العسل فشهدوا "أن هلال بن سعد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعسل، فقال: ما هذا؟ فقال: هدية. فأكل النبي صلى الله عليه وسلم. ثم جاء مرة أخرى فقال: ما هذا؟ فقال: صدقة. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأخذها ورفعها ولم يذكر عند ذلك عشورا ولا نصف عشور إلا أنه أخذها" فكتب عثمان بن محمد بذلك إلى عمر بن عبد العزيز قال: فكنا نأخذ ما أعطونا من شئ ولا نسأل عشورا ولا شيئا فما أعطونا أخذنا. أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (قال) الحافظ: لفن إسناد الأول أقوى إلا أنه محمول على أنه في مقابلة الحمى كما يدل عليه كتاب عمر بن الخطاب(3).
(
__________
(1) انظر ص 72 ج 2 زرقاني الموطأ (صدقة الرقيق والخيل والعسل) وص 127 ج 4 بيهقي.
(2) انظر ص 127 منه (ما ورد في العسل).
(3) انظر 223 ج 3 فتح الباري. وص 207 ج 9 – المنهل العذب المورود (الشرح) و(إسناد الأول) يعني حديث هلال رقم 111 ص 225.(1/250)
وقال) ابن المنذر: ليس في وجوب الصدقة في العسل خبر يثبت ولا إجماع. فلا زكاة فيه، وهو قول الجمهور(1). (هذا) وسبب اختلافهم اختلافهم في تصحيح حديث ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال في العسل: في كل عشرة أزق زق. أخرجه التمذي وقال: في إسناده مقال ولا يصح في هذا الباب كبير شيء. والطبراني في الأوسط والبيهقي وقال: تفرد به صدقة بن عبد الله السمين وهو ضعيف(2). ... ... {113}
ومما تقدم يعلم أن الصحيح القول بعدم وجوب الزكاة في العسل. (قال) أبو الطيب صديق بن حسن: ولم يكن من العادة النبوية أخذ الزكاة من الخيل والرقيق والبغال والحمير والبقول والبطيخ والخيار والعسل والفواكه التي لا تدخل المكيال ولا تصلح للادخار إلا الرطب والعنب، فإنه كان يأخذ الزكاة منها لا يفرق بين الرطب واليابس(3).
(هـ) المعدن والركاز
المعدن- بفتح فسكون فكسر- مأخوذ من العدن، وهو الإقامة، ومنه قوله تعالى: "جنات عدن" وعرفا- عند الحنفيين والمالكية والحنبلية- هو ما خلقه الله تعالى في الأرض من ذهب أو فضة أو نحا أو رصاص أو مغرة أو كبريت أو نحوها، كالبلور والعقيق والزرنيخ والنفط (زيت البترول).
(والكنز) مأخوذ من كنز المال إذا جمعه. وعرفا- عند الحنفيين- اسم لمال دفنه بنو آدم في الجاهلية أو الإسلام.
(
__________
(1) انظر ص 223 ج 3 فتح الباري. وقال: وما نقله عن الجمهور مقابلة قول الترمذي – بعد أن أخرج حديث ابن عمر (رقم 113)- والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم. وأشار شيخنا إلى أن الذي نقله ابن المنذر أقوى.
(2) انظر ص 8 ج 2 تحفة الأحوذي (زكاة العسل) وص 17 ج 3 مجمع الزوائد، ولفظه: في العسل العشر في كل ثني عشرة قربة وليس فيما دون ذلك شيء. و 126 ج 4 بيهقي (وأزق)- بفتح فضم فشد- جمع زق- بكسر فشد- وهو ظرف من جلد يجعل فيه السمن والعسل.
(3) انضر ص 129- الروضة الندية (زكاة النبات).(1/251)
والركاز) لغة مأخوذ من الركز بمعنى الإثبات. وشرعا- عندهم- اسم لمال ركزه الخالق أو المخلوق في الأرض.
(والركاز)- عند مالك وأحمد- ما يوجد في الأرض أو على وجهها من دفائن الجاهلية ذهبا أو فضة أو غيرهما.
(وقالت) الشافعية: المعدن ما يستخرج من مكان خلقه الله فيه من الذهب والفضة فقط (والركاز) دفين الجاهلية، فهو خاص بالكنز عند مالك والشافعي وأحمد.
(قال) مالك رضي الله عنه: الأمر الذي سمعت أهل العلم يقولون: إن الركاز إنما هو دفن يوجد من دفن الجاهلية ما لم يطلب بمال ولم يتكلف فيه نفقة ولا كبير عمل ولا مؤونة. فأما ما طلب بمال وتكلف فيه كبير عمل فأصيب مرة وأخطئ مرة فليس بركاز. وذكره البيهقي(1).
(وقال) الحنفيون: الركاز يعم الكنز والمعدن (لحديث) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الركاز الذهب الذي ينبت في الأرض" أخرجه أبو يعلي والبيهقي. (وروى) من طريق آخر عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في الركاز الخمس. قيل: وما الركاز يا رسول الله؟ قال: الذهب والفضة الذي خلقه الله في الأرض يوم خلقت" أخرجه البيهقي وقال: تفرد به عبد الله بن سعيد المقبري ضعيف جدا جرحه أحمد ويحيى بن معين وجماعة(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {114}
فهذا يدل على أن الركاز هو المعدن.
ثم الكلام هنا ينحصر في سبعة فروع:
(1) المستخج من المعدن: هو ثلاثة أقسام:
(أ ) مائع كالقار (الزفت) والنفط (زيت البترول) والملح المائي.
(ب ) جامد لا ينطبع بالنار كالجص والنورة، والجواهر كالياقوت والفيروزج والزمرد، وهذان لا زكاة فيهما عند الثلاثة لعدم ما يدل على وجوب الزكاة فيهما.
(
__________
(1) انظر 47 ج 2 زرقاني الموطأ (زكاة الركاز) وص 155 ج 4 بيهقي (ودفن)- بكسر فسكون- أي مدفون.
(2) انظر ص 78 ج 3 مجمع الزوائد (الركاز والمعادن) و 152 ج 4 بيهقي (المعدن ركاز فيه الخم).(1/252)
وقال) أحمد: فيهما الزكاة لعموم قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض"(1)، ولأنه معدن من غير جنس الأرض فتتعلق به الزكاة كالأثمان، فيجب في قيمته ربع العشر إذا بلغ نصابا في الحال(2).
... (جـ) جامد ينطبع ويذوب بالنار كالذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص، وفيه الخمس عند الحنفيين إذا استخرج من أرض خراج أو عشر أو صحراء لقوله تعالى: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسة"(3) ولا شك في صدق الغنيمة على هذا المال فإنه كان في أيدي الكفرة، وقد أوجف عليه المسلمون فكان غنيمة (ولحديث) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البئر جرحها جبار، والمعدن جرحه جبار، والعجماء جرحها جبار، وفي الركاز الخمس" أخرجه السبعة، وهذا لفظ مسلم(4).
__________
(1) سورة البقرة: آية 267.
(2) انظر ص 580 ج 2 شرح المقنع.
(3) سورة الأنفال: الآية 41.
(4) انظر ص 25 ج 9 – الفتح الرباني (الركاز والمعدن) وص 234 ج 3 فتح الباري (فر الركاز الخمس) وص 226 ج 11 نووي وص 322 ج 4 عون المعبود (العجماء والمعدن والبئر جبار- الديات) وص 345 ج 1 مجتبي (المعدن) وص 16 ج 2 تحفة الأحوذي (العجماء جرحها جبار) وص 77 ج 2 – ابن ماجه (الجبار) و(العجماء) بالمد: كل حيوان سوى الآدمي. وقال أبو داود: العجماء المنفلتة التي لا يكون معها أحد بالنهار لا بالليل (والجبار) بضم ففتح مخففا: الهد، يعني أن ما أتلفته البهيمة هدر. هذا محمول على ما أتلفته نهارا أو ليلا بلا تفريط من مالكها أو أتلفت شيئا وليس معها أحد. أما إذا كان معها سائق أو قائد أو راكب فأتلفت شيئا فعلى من معها الضمان وإذا أتلفت آدميا وجبت ديته على عاقلة من معها والكفارة في ماله عند الشافعي (وقال) مالك والليث: لا ضمان فيما أصابته بيدها أو رجلها.
... (وقال) الحنفيون لا ضمان فيما نفحت برجلها دون يدها لإمكان التحفظ من اليد دون الرجل وإذا كانت معروفة بالإفساد ولم يكن معها أحد وأتلفت شيئا بالنهار ضمنه مالكها لأن عليه ربطها حينئذ وإن انفلتت ليلا أو نهارا فأتلفت شيئا فلا ضمان عند الحنفيين.
... (وقال) مالك: يضمن صاحبها ما أتلفته (وقالت) الشافعية: إن فرط في حفظها ضمن وإلا فلا وكذلك المعدن والبئر إذا هلك الأجير فيهما فدمه هدر لا يطالب به. والمراد بالعجماء: الدابة المنفلتة ليس معها قائد ولا سائق. وبالبئر: ما يحفره الإنسان في ملكه فيتردى فيها إنسان فيكون هدرا.(1/253)
... ... ... ... ... {115}
... والزكاة يعم المعدن والكنز كما قلنا فكان إيجاب الخمس فيه إيجابا فيهما. ولا يتوهم عدم إرادة المعدن بسبب عطف الركاز عليه بعد إفادة أنه جبار، أي هدر لا شيء فيه وإلا لتناقض فإنه الحكم المعلق بالمعدن ليس هو المعلق به في ضمن الركاز ليختلف بالسلب والإيجاب، إذ المراد به إهلاكه الأجير الحافز له أو هلاكه به غير مضمون، لا أنه لا شيء فيه نفسه وإلا لم يجب شيء أصلا وهو خلاف المتفق عليه(1).
__________
(1) أنظر ص 537 و538 ج 2 فتح القدير (المعدن والركاز).(1/254)
... (وقال) أحمد: تجب الزكاة في كل أنواع المعدن إن بلغ نصابا بنفسه أو قيمته بلا اشتراط حول لعموم قوله تعالى: (ومما أخرجنا لكم من الأرض) ولقول الشافعي رضي الله عنه: أنبأ مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن غير واحد من علمائهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع لبلال بن الحارث المزني معادن القبلية. ومن ناحية الفرع فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم. أخرجه مالك والبيهقي والشافعي وقال: ليس هذا مما يثبت هل الحديث ولو أثبتوه لم تكن فيه رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وإلا إقطاعه. فأما الزكاة في المعادن دون الخمس فليست مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه(1). (وإنما) لم يعتبر له الحول لحوله دفعة واحدة فأشبه الزروع والثمار، ولأن النماء يتكامل فيه بالوجود والأخذ فهو كالزرع. إذا ثبت هذا فإنه يشترط إخراج النصاب دفعة واحدة أو دفعات لا يترك العمل بينهن ترك إهمال، فإن أخرج دون النصاب ثم ترك العمل مهملا له ثم أخرج دون النصاب فلا زكاة فيهما، وإن بلغ مجموعهما نصابا لفوات الشرط، وإن بلغ أحدهما نصابا دون الآخر، ركي النصاب وحده، ويجب فيما زاد على النصاب بحسابه كالأثمان والخارج من الأرض. فأما ترك العمل ليلا وللاستراحة أو لعذر من مرض أو لإصلاح الأداة أو إباق خادم ونحوه، فلا يقطع حكم العمل وإن كان مشتغلا بالعمل فخررج بين المعدنين تراب لا شيء فيه(2).
__________
(1) انظر ص 152 ج 4 بيهقي (زكاة المعدن ومن قال المعدن ليس بركاز) و(القبلية) بفتحتين فكر نسبة إلى قبل (بفتحتين) وهو ناحية من ساحل البحر بينها وبين المدينة خمسة أيام وقيل هي من ناحية الفرع (بضمتين) وهو موضع بين نحلة والمدينة (انظر ص 226 ج 3 نهاية).
(2) انظر ص 528 ج2 شرح المقنع(1/255)
... (وقال) مالك والشافعي: تجب الزكاة في معدن الذهب والفضة فقط إذا بلغ نصابا. وإن لم يحل عليه الحول (لحديث) عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (ابن عمرو) أن النبي صلى الله عليه ولم قال: "لا زكاة في حجر" أخرجه ابن عدى في الكامل والبيهقي(1). ... ... ... ... ... ... ... ... {116}
ورواه من طريقين آخرين موقوفا و مرفوعا و قال : رواة هذا الحديث النبى صلى الله عليه و سلم أن يذكر له حكما آخر , ذكره بالاسم الآخر وهو الركاز . و لفظ الحديث في صحيح كما تقدم : و البئر جبار , و في الركاز الخمس , فلو قال : و فيه الخمس لحصل الالتباس بأحتمال عود الضمير إلى البئر(2) .
... (و يؤيده ) ما روى عن على رضى الله عنه أنه جعل المعدن ركازا وأوجب فيه الخمس . أخرجه حميد بن زنجويه النسائي(3) .
(2) مكان المعدن : هو ثلاثة اقسام :
... (الأول) ما يجده المسلم أو الذمى في داره أو ملكه . ولا شئ فيه عند النعمان و أحمد إلا إذا حال عليه الحول وهو نصاب ففيه الزكاة. ( و قال ) أبو يوسف و محمد: يجب الخمس في الحال. (و قال) مالك و الشافعي : تجب فيه الزكاة في الحال .
... ( الثانى ) ما يجده فلاوة أو جبل أو موات ففيه الخمس وباقيه للواجد.
... ( الثالث ) ما يستخرج من البحر , فلا همس ولا زكاة فيه عند النعمان
و محمد مالك , و هو المشهور عن أحمد ( لقول ) أبن عباس رضى الله عنهما:
__________
(1) انظر ص 146 ج4 بيهقى ( مالا زكاة فيه من الجواهر غي الذهب والفضة ) .
(2) أنظر ص 152 ج4 – الجوهر النفى .
(3) أنظر ص 103 ج 9 عمدة القارى ( في الكاز الخمس ) و قال الطحاوى في احكام القرآن : و قد كان الزهري-وهو راوى حديث الركاز –يذهب إلى وجوب الخمس في المعادن ( روى ) يونس عن الزهرى : في الركاز المعدن و اللؤلؤ يخرج من البحر و العنبر من ذلك الخمس
( أنظر ص 154 ج4 –الجوهر النقى ) .(1/256)
" ليس في العنبر زكاة انما هو شئ دسرة البحر " أخرجه البيهقي و علقه البخاري(1) . ( وقال ) جابر : " ليس في العنبر زكاة و انما هو غنبمة لمن أخذه " أخرجه ابن أبى شيبه(2) . ( وقال ) الشافعي : تجب الزكاة في الذهب و الفضة فقط .
(3) مكان الركاز : هو ثلاثة أقسام :
... (الأول ) أن يجده مسلم أو ذمي ولو غير مكلف في موات أو ارض – لا يعلم مالكها - ولو على وجهها أو في طريق غير مسلوك , ففيه الخمس اتفاقا ( لقول ) ابن عمرو رضى الله عنهما : سئل النبى صلى الله عليه و سلم عن اللقطة فقال : " ما كان في طريق مأتي ولا في قرية عامرة ففيه و في الكاز الخمس " أخرجه النسائي(3). ... ... ... ... ... ... ... ... { 117 }
__________
(1) أنظر ص 146 ج4 بيهق ( ما لا زكاة فيه مما أخذ من البحر ) . وص 96 ج9 عمدة القارئ ( و العنبر ) بفتح فسكون : نوع من الطيب
( ودسره ) أى دفعه ورمى به إلى الساحل " و أما " ماروى طاوس أن ابن عباس سئل عن العنبر : أفيه زكاة ؟ فقال : أن كان فيه شئ ففيه الخمس " فقد " أخرجه البيهق و قال : فابن عباس علق القول فيه في هذة الرواية و قطع بأن لا زكاة فيه في الروايه الأولى . فالقطع أولى ( أنظر ص 146 ج4 بيهقى ) .
(2) انظر ص 97 ج9 عمدة القارى ( ما يتخرج من البحر ) .
(3) أنظر ص 345 ج1 مجبي ( المعدن ) و ( مأتى ) كمرمي اسى مسلوك و ( عرفها ) أمر من التعريف و هو اعلام الناس باللقطة ( والا فلك ) أي أن لم يظهر مالكها فهيا لك . و هذا إذا كان فقيرا . أما الغنى فلا يملكها بلى يعطيها للفقراء .(1/257)
... ( الثاني ) أن يجده في ملكه المنتقل إليه ولم يعلم انه دفين المسلمين فهو له عند أنى يوسف وهو الأصح عن أحمد , لان الركاز لا يملك بملك الأرض لانه مودع فيها و انما يملك بالظهور عليه وواجده قد ظهر عليه فاستحق أنا يملكه , إلا أن ادعى المالك الذى انتقل عنه الملك انه له فالقول قوله, لان يده كانت عليه يبعا لملكه , و أن لم يدعه فهو لواجده ( وقال ) النعمان و محمد : هو الأول مالك للأرض أو لورثته أن عرف والا وضع في بيت المال.
... (وقال ) الشافعى : هو للمالك قبل أن اعترف به , والا فهو لمن قبله كذلك إلى أول مالك , وهو رواية عن أحمد . وان انتقلت الأرض بالميراث حكم بأنه ميراث , فأن اتفقت الورثه على أنه لم يكن لمورثهم فهو لأول مالك , فان لم يعرف فهو مال ضائع يوضع في بيت المال , وان اختلفت الورثه فأدعى بعضهم أنه لمورثهم وأنكر البعض , فكم من أنكر في نصيبه حكم المالك الذى لم يعترف به و حكم المدعى حكم المالك المعترف(1) .
... ( الثالث ) أن يجده في ملك مسلم أو ذمي فهو لصاحب الملك عند النعمان و محمد بن الحسن وهو رواية عن أحمد , وعنه أنه لواجده واستحسنه أبو يوسف , لان الكنز لا يملك بملك الأرض على ما تقدم إلا أن ادعاه المالك فالقول له , لأن عليه تبعا للملك وان لم يدعه فهو لواجده .
... (وقال ) الشافعي : هو لمالك الدار أن اعترف به والا فهو لأول مالك . وان استأجر حفارا ليحفر له طلبا للكنز فوجده فهو للمستأجر لأنه استأجره لذلك , وان استأجره لأمر غير طلب الكنز فهوا لواجده , وقيل لمالك الأرض(2) .
(4) ما يجب في الركاز :
__________
(1) أنظر ص 588 إلى 590 ج2 شرح المقنع .
(2) أنظر ص 590 منه .(1/258)
... الركاز إذا كان دفين الجاهلية بأن كان عليه صورة صم أو صليب أو كان ضرب الجاهلية ففيه الخمس اتفاقا , سواء أكان ذهبا أم فضه أم رصاصا أم زئبقا , أم كان من غير جنس الأرض أم لا ينطبع و أربعة أخماسه لأقدم مالك للأرض – عند النعمان و محمد بن الحسن و مالك و الشافعي – أن عرف المالك ووجد الركاز في دار أو أرض مملوكتين له و أن كان ميتا فلورثته أن عرفوا و إلا يوضع في بيت المال ( وقال ) أبو يوسف و أحمد : أربعة أخماس الركاز للواجد ما لم يدعه مالك الأرض , فان ادعى أنه ملكه فالقول قوله اتفاقا(1) . ( ودليل ) ذلك فول ابن عباس رضى الله عنهما : " قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم في الركاز الخمس " أخرجه أحمد و ابن أبى شيبة بسند جيد(2) . ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {118}
... ( وعن ) ابن عمرو أن النبى صلى الله عليه و سلم قال – في كنز وجده رجل في خربة جاهليه -:أن وجدته في قريه مسكونة أو سبيل مؤتاة فعرفه وان وجدته في خربة جاهلية أو في قرية غير مسكونة ففيه و في الركاز الخمس .أخرجه البيهقى بسند حسن(3) . ... ... ... ... ... ... ... ... {119}
ولا طلاق هذه الأحاديث قال الحنفيون : يجب الخما في الركاز قل أو كثر ولا يعتبر فيه نصاب
( وقال ) الأئمة الثلاثة : يعتبر فيه النصاب ( لحديث ) أبى سعيد الخدرى أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " لا صدقة فيما دون خمس اوراق من الورق " أخرجه السبعة(4) . ... ... ... {120}
... ( وأجاب ) الحنفيون بأن الظاهر من الصدقة الزكاة فلا تتناول الخمس لأنة لا يسمى زكاة إلا مجازا .
(5) من عليه الخمس ؟ :
__________
(1) أنظر ص207 ج1 – الدرر المنيفة شرح الدرة اللطيفة للمرحوم الشيخ أمين خطاب .
(2) أنظر ص 75 ج9 – الفتح الربانى ( الركاز و المعدن ) .
(3) أنظر ص 155 ج4 بيهقى ( زكاة الركاز ) .
(4) أنظر ص 281 ج1 – ابن ماجه ( ما تجب فيه الذكااة من الاموال ) وتقدم بيان باقى المراجع ص 139 رقم 34 ( زكاة النعم ) .(1/259)
يجب الخمس على من وجد الركاز من مسلم وذمى مكلفا و غير مكلف عند الجمهور . فعلى الذمى – يجد الركاز – الخمس . وغير المكلف يخرج عنه وليه عند الحنفيين ومالك و أحمد و الثوري وغيرهم ( لعموم ) قول النبى صلى الله عليه و سلم : " وفى الركاز الخمس"(1) , فأنة يدل بعمومه على وجوب الخمس في كل الركاز , و
بمفهومة على أن باقيه لواجدة كائنا من كان . وحكى عنه الصبى و المرأة أنهما لايملكان الركاز(2) .
(6) مصرف الخمس :
... مصرفه مصرف خمس الغنيمة عند الحنفيين و مالك وهو الاصح عن أحمد لقوله تعالى :
(( واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه )) (3) , ولا شك في صدق الغنيمة على هذا المال , فانه كان مع مكانة في ايدى الكفرة وقد اوجف عليه المسلمين فكان غنيمة . ( وقال ) الشافعي : مصرفه مصرف الزكاة . و روى عن أحمد ( لحديث ) عبد الله بن بشر الحثعمي عن جل من قومه قال : سقطت على جرة من دير قديم بالكوفة فيها أربعة آلاف درهم ، فذهبت بها إلى علىا رضى الله عنه فقال : اقسمها خمسة اقسام ، فقسمتها ، فأخذ منها على رضى الله عنه خمسا واعطانى أربعة اخماس ، فلما ادبرت دعانى فقال : في جيرانك فقراء و مساكين ؟ قلت: نعم. قال : خذها فاقسمها بينهم . أخرجه البيهقى(4) .
( و يجوز ) لواجد الركاز أن يتولى تفرقة الخمس بنفسه عن الحنفيين وابن المنذر لأثر على هذا وهو رواية عن أحمد و لأنة فئ مجاز رده أو بعضه على واجده كخراج الأرض(5) .
(7) ضم المعادن :
__________
(1) هذا عجز الحديث رقم 115 ص 231 ( المستخرج من المعدن ) .
(2) أنظر ص 587 ج2 شرح المقنع .
(3) سورة الانفال : آيه 41 .
(4) أنظر ص 156 و 157 ج4 بيهقي ( ماروى عن على في الركاز ) .
(5) أنظر ص 587 ج2 شرح المقنع .(1/260)
... أن وجد في المعدن أجناس من الذهب أو الفضة ضم بعضها إلى بعض لأنها من جنس واحد ، وان كان فيه أحد النقدين و جنس آخر ضم أحدهما إلى الآخر كما تضم العروض إلى الأثمان ، وان استخرج نصابا من معدنيين وجبت الزكاة فيه كالزرع في مكانيين(1) . وان وجد في المعدن الذهب و الفضة فهل يضمان ؟ فيه خلاف تقدم بيانه في بحث ضم النقدين(2) .
صدفه الفطر
... وهى صدفة الفطر ، و يقال لها زكاة الفطر أضيفت إلى الفطر لكونها تجب بالفطر من رمضان (روى)عبد الله بن عم أن النبي صلى الله علية و سلم ((فرض زكاة الفطر من رمضان على كل نفس من المسلمين حر أو عبد،أو رجل أو امرأة،صغير أو كبير،صاعا من تمر أو صاعا من شعير))أخرجه مالك و النسائى و مسلم وهذا لفظه(3) .
... هذا ، و الصدقة عطية يقصد بها وجه الله تعالى و ثوابه . وزكاة الفطر شرعا مال يعطى لمن يستحق الزكاة على وجه مخصوص يأتى بيانه أن شاء الله تعالى . ثم الكلام هنا ينحصر في بعة عشر فرعا :
(1) حكم زكاة الفطر :
__________
(1) أنظر ص 583 ج2 منه .
(2) تقدم ص 178 .
(3) أنظر ص 79 ج2 زرقانى الموطا . و ص 346 ج1 مجتبى ( فرض زكاة رمشان على المسلمين ) و ص 61 ج7 نووى ( زكاة الفطر ) هذا و تسميه أول يوم من شوال يوم الفطر تسميه اسلاميه .(1/261)
... هى واجبه عند الحنفيين لأنها ثبتت بدليل ظنى وان ورد في الحديث بلفظ : فرض ، لأن معناه قدر . و الراجح إنها واجبه على الفور يوم عيد الفطر(1) ، لأنها إنما شرعت لغناء الفقير عن السؤال يوم الفطر . و في التأخير تفويت لهذا الغرض السامي فوجوبها مقيد لا مطلق . ( وقال ) مالك و الشافعي و أحمد و الجمهور : زكاة الفطر فرض ( لحديث ) نافع عن ابن عمر (( أن النبى صلى الله عليه و سلم أمر بزكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير ( قال ) ابن عمر : فجعل الناس عدله مدين من حنطة )) أخرجه الشيخان وابن ماجه(2) . {122}
... وأصل الأمر الوجوب . و الواجب و الفرض عندهم بمعنى ، وهو ما طلب فعله طلبا جازما بدليل قطعى أو ظني . ( و قال ) أشهب المالكي و ابن اللبان الشافعي وبعض الظاهرية : زكاة الفطر سنه ، وتأولوا ( فرض ) بمعنى قدر ( ورد ) بورود الأمر بها و الأمر للوجوب .
(2) دليلها :
زكاة الفطر مشروعة بالكتاب و السنة وإجماع الأمة ، قال الله تعالى : ( قد أفلح من تزكي ) (3). (روى) نافع عن ابن عمر انه كان يقول : نزلت هذه الآية في زكاة رمضان . أخرجه البيهقى(4).
(
__________
(1) و اختار علاء الدين الكاانى أن وجوب زكاة الفطر على التراخى قال : أختلف اصحابنا في زكاة الفطر فقال بعضهم : تجب وجوبا مضيقا في يوم الفطر ( وقال ) بعضهم : تجب وجوبا موسعا في الممر كالزكاة و النذور و هذا هو الصحيح لأن الأمر بأدائها مطلق عن الوقت فلا يتضيق إلا في آخر الممر ( أنظر ص 69 ج2 بدائع الصنائع ) .
(2) أنظر ص 239 ج3 فتح الباري ( صدقه الفطر صاعا من تمر ) و ص 60 ج7 نووى ( زكاة الفطر ) و ص 287 ج1 – ابن ماجة .
(3) سورة الاعلي : آيه 14 .
(4) أنظر من 159 ج4 بيهقى ( زكاة الفطر ) .(1/262)
وقال) أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فلي" ثم يقسم الفطرة قبل أن يغدو إلى المصلى يوم الفطر. أخرجه ابن مردويه والبيهقي(1). (وقال) ابن عمر: إنما نزلت هذه الآية في إخراج صدقة الفطر قبل صلاة العيد "قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى" أخرجه ابن مردوديه والبيهقي(2).
(وعن) ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل حر أو عبد، صغير أو كبير، ذكر أو أنثى من المسلمين. أخرجه السبعة(3). ... ... {123}
(
__________
(1) انظر ص 415 ج 5 تفسير الشوكاني.
(2) انظر ص 415 ج 5 تفسير الشوكاني.
(3) انظر ص 134 ج 9 – الفتح الرباني (زكاة الفطر) وص 237 ج 3 فتح الباري (صدقة الفطر على العبد وغيره) وص 58 ج 7 نووي (زكاة الفطر) وص 222 ج 9 – المنهل العذب (كم يؤدي من الفطر) وص 346 ج 1 مجتبي (فرض زكاة رمضان على المسلمين..) وص 28 ج 2 تحفة الأحوذي. وص 287 ج 1 – ابن ماجه (صدقة الفطر).(1/263)
وقال) البيهقي: أجمع أهل العلم على وجوب زكاة الفطر، وإن اختلفوا في تميتها فرضا فلا يجوز تركها(1). (وفرضت) في شعبان من السنة الثانية من الهجرة.
(3) سببها:
سبب وجوب زكاة الفطر رأس يمونه ويلي عليه.
(4) حكمتها:
__________
(1) فلا يجوز تركها) يرد على من زعم أن وجوبها نسخ بزكاة المال (لقول) أبي عمار: سألت قيس بن سعد عن صدقة الفطر فقال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة ثم نزلت فلم ننه عنها ولم نؤمر بها ونحن نفعله. أخرجه أحمد والنسائي والبيهقي (انظر ص 136 ج 9 الفتح الرباني- زكاة الفطر- وص 347 ج 1 مجتبي- فرض صدقة الفطر قبل نزول الزكاة- وص 159 ج 4 بيهقي- زكاة الفطر فريضة) وقال: وهذا لا يدل على سقوط فرضها لأن نزول فرض لا يوجب سقوط آخر. وأيضا فإن في إسناده راويا مجهولا وعلى تقدير الصحة فلا دليل فيه على النسخ لاحتمال الاكتفاء بالأمر الأول (انظر ص 236 ج 3 فتح الباري- صدقة الفطر).(1/264)
حكمة مشروعيتها أنها تطهير للائم مما وقع منه من اللغو والرفثي ولتكون عونا للفقراء على كفايتهم يوم العيد (روى) عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات. أخرجه أبو داود وابن ماجه والدارقطني وقال: ليس في رجاله مجروح، والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {124}
والغرض من الحديث بيان أن إخراج زكاة الفطر قبل صلاة العيد أفضل وهو مجمع عليه.
(5) شروطها:
تجب زكاة الفطر بشروط ثلاثة:
(الأول) الإسلام: فلا تفترض على كافر إجماعا (لقول) النبي صلى الله عليه وسلم في حديثي ابن عمر "من المسلمين"(2)، ولأنها قربة وطهرة وهو ليس من أهلهما (قال) ابن المنذر: أجمع أهل العلم أن لا صدقة على الذمي في عبده المسلم لأنه كافر وهي زكاة فلا تجب عليه كزكاة المال.
(
__________
(1) انظر ص 218 ج 9 – المنهل العذب (زكاة الفطر) وص 287 ج 1 – ابن ماجه (صدقة الفطر) وص 219- الدارقطني. وص 409 ج 1 مستدرك (واللغو) ما لا فائدة فيه من قول أو فعل كالهزل واللعب والتعمق في الشهوات (والرفث) الفحش من القول. وكانت الفطرة كذلك لأن الحنات تذهب السيئات (وفي حديث) أبي ذر ومعاذ مرفوعا: واتبع السيئة الحسنة تمحها. أخرجه أحمد والترمذي والبيهقي، (أنظر رقم 115 ص 120 ج 1 فيض القدير).
(2) انظر رقم 121 ص 238 و123 ص 240.(1/265)
وعن) أحمد وبعض الشافعية: أنه يجب على الكافر إخراج صدقة الفطر عن عبده المسلم لأن العبد من أهل الطهرة فوجب أن تؤدي عنه زكاة الفطر، كما لو كان سيده مسلما(1). (أما المرتد) فلا تجب عليه عند الحنفيين، ولو ارتد بعد لزومها تسقط عنه. وعند غيرهم تفصيل يعلم مما تقدم في بحث الإسلام من شروط افتراض الزكاة(2). (وهل) على المسلم أن يزكى عن عبده الكافر؟ (قال) الجمهور: لا تجب لظاهر الحديث.
(وقال) الحنفيون والثورى: يجب على سيده المسلم أن يزكى عنه، لعموم حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد من تمونون. أخرجه الدارقطني وقال: الصواب أنه موقوف، والبيهقي وقال: إسناده غير قوي لأن فيه القاسم بن عبد الله وليس بالقوى(3). ... ... ... {125}
(وعن) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر" أخرجه أحمد ومسلم والدارقطني(4). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {126}
والعبد يعم المسلم وغيره، ولأن الوجوب على السيد والشرط إسلامه. (ورد) بأن عموم العبد في الحديثين يخصصه قول النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم "من المسلمين" في حديثي ابن عمر (فهو) صريح في أن العبد لابد أن يكون مسلما وإن كان المؤدى عنه سيده (فالراجح) ما ذهب إليه الجمهور من أن العبد الكافر لا يجب على سيده المسلم أن يزكى عن مملوكه الكافر "لا يصلح" للاحتجاج به(5).
__________
(1) انظر ص 647 ج 2 مغنى ابن قدامة.
(2) تقدم ص 118.
(3) انظر ص 220- الدارقطني. وص 161 ج 4 بيهقي (إخراج زكاة الفطر).
(4) تقدم رقم 53 ص 157 (ما لا زكاة فيه).
(5) لا يصلح للاحتجاج به) منه:
... (أ) حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه ولم قال: "دقة الفطر عن كل صغير وكبير ذكر وأنثى يهودي أو نصراني" (الحديث) أخرجه الدارقطني وفيه سلام الطويل متروك الحديث ولم يسنده غيره (وقال) الذهبي: خبر واه (وقال) ابن الجوزى: زيادة اليهودي والنصراني فيه موضوعية. تفرد بها سلام الطويل.
... (ب) ما روى عن ابن عمر أنه كان يخرج صدقة الفطر عن كل ح وعبد صغير وكبير ذكر وأنثى كافر ومسلم حتى إن كان ليخرج عن مكاتبيه من غلمانه. أخرجه الدارقطني وفيه عثمان الوقاي متروك (انظر ص 224- الدارقطني).(1/266)
(الثاني) الحرية: فلا فطرة على رقيق إجماعا لأنه لا يملك، ولو ملك لا يتحقق منه التمليك.
(الثالث) اليسار عند الحنفيين: ويتحقق بملك نصاب من أنصبة الزكاة فاضل عن حوائجه الأصلية كمسكنه ومركبه وأثاث منزله، فلا فطرة على فقير لا يملك هذا النصاب (لحديث) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا صدقة إلا عن ظهر غني واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول" أخرجه أحمد وعلق البخاري صدره(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {127}
ولفظ (ظهر) زائد، ولا غنى مع الحاجة والمشغول بها كالعدم (وقال) مالك والشافعي وأحمد والجمهور: لا يشتط في وجوبها اليسار، فتجب على من يجد ما يؤديه زيادة عن قوته وقوت من يمونه يوم العيد وليلته (لحديث) عبد الله بن ثعلبة بن أبي صغير عن أبيه أن النبي صلى الله وسلم قال: "أدوا صاعا من قمح أو بر عن كل اثنين، صغير أو كبير، ذكر أو أنثى، حر أو مملوك، غنى أو فقير، أما غنيكم الله، وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما يعطي" أخرجه أحمد والبيهقي والدارقطني وأبو داود، وفيه النعمان بن راشد متكلم فيه(2). ... ... ... {128}
(
__________
(1) انظر ص 103 ج 9 – الفتح الرباني (اليد العليا والسفلى) وتقدم رقم 27 ص 131 (زكاة المدين).
(2) انظر ص 143 ج 9- الفتح الرباني (من روى نصف صاع من قمح)و 163 ج 4 بيهقي (وجوبها على الغنى والفقير إذا قدر) وص 223 الدارقطني. و 235 ج 9- المنهل العذب (من روى نصف صاع من قمح).(1/267)
وأجاب) الحنفيون بأن الحديث ضعيف بالنعمان بن راشد، فقد ضعفه غير واحد، وأيضا فإن أكثر الروايات ليس فيها ذكر الفقير فكانت هذه رواية شاذة فلا تقبل (وأجاب) الجمهور عن حديث "لا صدقة إلا عن ظهر غني" بأن المشهور فيه ما روى أبو هريرة مرفوعا: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {129}
وهو لا ينافى طلبها من الفقير (ولعل) الظاهر قول الجمهور: إنها واجبه على الفقير الذي يجد ما يؤديها منه زائدا عن قوته وقوت من يمونه يوم العيد وليلته. (قال) الخطابي: وفي حديث عبد الله بن ثعلبة أنها تلزم الفقير إذا وجد ما يؤديه، ألا تراه يقول: وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطاه، فقد أوجب عليه أن يؤديها عن نفسه مع إجازته له أن يأخذ صدقة غيره(2).
(وأما) التكليف فليس شرطا في وجوب الفطرة عند الأئمة الثلاثة، والنعمان وأبي يوسف، فتجب في مال الصبي والمجنون الغنيين يخرجها الولي منه وإلا أخرجها الولي عنهما من ماله (وقال) محمد وزفر: لا فطرة عليهما، فلو أدى الأب أو الوصي من مالهما لا يضمن عند الجمهور، ويضمن عند محمد وزفر، لأنها عبادة والعبادة لا تجب على غير المكلف.
(وقال) الجمهور: إنها ليست بعبادة محضة بل فيها معنى المؤنة فأشبهت زكاة الحرث (وكذا) صوم رمضان ليس شرطا لوجوب الفطرة، فمن أفطر لكبر أو مرض أو سفر يلزمه صدقة الفطر، لأن الأمر بأدائها مطلق عن هذا الشرط ولأنها تجب على غير المكلف بالصوم(3).
(6 و7) ركنها وثمرتها:
__________
(1) انظر ص 190 ج 3 فتح الباري (لا صدقة إلا عن ظهر غنى) وص 327 ج 9- المنهل العذب المورود (الرجل يخرج من ماله) وص 350 ج 1 مجتبي (الصدقة عن ظهر غنى).
(2) انظر ص 52 ج 2 معالم السنن (كم يؤدي في صدقة الفطر).
(3) انظر ص 70 ج 2 بدائع الصنائع.(1/268)
ركن صدقة الفطر تمليكها لمستحقها فلا تتأدى بالإباحة كالإطعام، وثمرتها سقوط الواجب في الدنيا ونيل الثواب في العقبى.
(8 و9) من تجب عليه وعنه:
تجب على المسلم الحر الموسر أو ما يجد ما يؤديه زيادة عن قوته وقت من يمونه يوم العيد وليلته على ما تقدم بيانه. وتجب عن نفسه وعمن تلزمه نفقته ويلي أمره بسبب من ثلاثة:
(أ) القرابة: كطفله الفقير الذي عليه نفقته (لقول) عبد الله بن ثعلبة: خطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس قبل الفطر بيوم أو يومين فقال: "أدوا صاعا من بر أو قمح بين اثنين أو صاعا من تمر أو شعير عن كل حر أو عبد صغير أو كبير" أخرجه عبد الرزاق وأحمد وأبو داود والدارقطني بسند صحيح قوي، غير أن عبد الله بن ثعلبة مختلف في صحبته(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {130}
ولأن نفقتهم واجبة على الأب وولايته عليهم تامة (وهل) يخرج الجد عن ابن ابنه الفقير الصغير حال عدم الأب أو كونه فقيرا؟ (ذكر) محمد ابن الحسن أنه لا يخرج لأن ولاية الجد قاصرة لأنها لا تثبت إلا عند عدم الأب فأشبهت ولاية الوصي (وعن) النعمان أنه يخرج عنه (وبه) قال مالك والشافعي وأحمد؛ لأن الجد قائم مقام الأب عند عدمه فكانت ولايته كولاية الأب (أما) الأولاد الذكور الكبار العقلاء فلا يجب على الأب أن يخرج عنهم عند الحنفيين ومالك وإن كانوا في عياله فقراء عاجزين عن الكسب، لأن أحد شطري السبب وهو الولاية منعدم فيهم. وإن أخرج عنهم بلا إذنهم جاز.
(
__________
(1) انظر ص 407 ج 2 نصب الراية. وص 143 ج 9- الفتح الرباني (من روى نصف صاع من قمح) وص 239 ج 9- المنهل العذب المورود. وص 224- الدارقطني.(1/269)
وقال) الشافعي وأحمد: على الأب فطرة أولاده الكبار إن كان ينفق عليهم لعجزهم عن الكسب، أو لاشتغالهم بطلب العلم، لعموم حديث ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد ممن تمونونه" أخرجه البيهقي والدارقطني وقال: رفعه القاسم بن عبد الله وهو ليس بالقوى. والصواب وقفه(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {131}
... (وقال) الأولون: الحديث محمول على جواز الأداء عنهم لا على الوجوب. ويخرج الأب عن الأنثى ما لم تتزوج. فلو زوجت الصغير وسلمت للزوج فلا فطرة لها على أبيها. ولا يلزم الرجل فطرة والديه وإن كانا فقيرين عند الحنفيين لعدم الولاية. وقال الأئمة الثلاثة: عليه فطرتهما كنفقتهما.
(ب) الزوجية: فيجب على الرجل فطرة زوجته المدخول بها زوجة أبيه الذي عليه نفقته ولو غنية أو مطلقة رجعيا أو دعى للدخول بها- عند الأئمة الثلاثة والليث- لأن النكاح سبب تجب به النفقة فوجبت به الفطرة، ولعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: "ممن تمونون".
... (وقال) الحنفيون والثورى: لا يجب عليه فطرة الزوجة لأن ولايته عليها قاصرة على حقوق الزوجية، فإن كانت غنية فعليها فطرتها في مالها.
... (جـ) ملك من يمونه ويلي عليه: فيخرج الفطرة عن عبده للخدمة ولو مدبرا أو أم ولد أو مأذونا له في التجارة، لعموم حديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق (وأما) زوجة العبد ففطرتها عند الحنفيين على نفسها إن كانت حرة موسرة وإلا فلا. (والمعتمد) عند مالك أن لا فطرة لها على زوجها (وقيل) يخرج عنها ولو حرة لوجوب نفقتها عليه(2). (وقال) الشافعي: فطرتها على سيد زوجها وهو قياس مذهب أحمد. وذكر أصحابه أن فطرتها على نفسها إن كانت حرة وعلى سيدها إن كانت أمة(3).
(
__________
(1) تقدم رقم 125 ص 242.
(2) انظر ص 612 ج 1- الفجر المنير.
(3) انظر ص 651 ج 2 شرح المقنع.(1/270)
فائدة) الخادم الحر ولاية مخدومه عليه قاصرة، فلا تلزمه فطرته عند الحنفيين وعليه فطرة نفسه إن كان غنيا (وقال) غيرهم: إن التزم المخدوم نفقة الخادم لزمه فطرته وإلا فلا.
(10) وقت وجوب زكاة الفطر:
تجب بطلوع فجر يوم الفطر- عند الحنفيين والليث وهو رواية ابن القاسم عن مالك- لأنها قربة تتعلق بيوم الفطر فلا تتقدم عليه كالأضحية.
(وقال) الشافعي وأحمد والثوري: تجب بغروب شمس آخر يوم من رمضان وهو رواية أشهب عن مالك، لأنها تضاف إلى الفطر فتجب به (ولما) في حديثي ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان(1) والفطر من رمضان لا يكون إلا بغروب شمس آخر رمضان، ولأن الفطرة شرعت طهرة للصائم كما في حديث ابن عباس(2) فأفاد أن وقت الوجوب بعد غروب شمس آخر يوم من رمضان.
(وثمرة) الخلاف تظهر فيمن ولد أو أسلم أو استغنى عند طلوع فجر يوم الفطر وبعد غروب شمس آخر يوم من رمضان: تلزم فطرته عند الحنفيين، ولا تلزم عند غيرهم. وإن حصل ما ذكر بعد الفجر فلا زكاة اتفاقا. ومن مات أو ارتد أو أعسر قبل طلوع الفجر لزمت فطرته عند الشافعي ومن وافقه. ولا تلزم عند الحنفيين.
(11) وقت أدائها:
__________
(1) تقدم رقم 121 ص 238، 123 ص 240.
(2) تقدم رقم 124 ص 241 (حكمتها).(1/271)
وقت أداء زكاة الفطر جميع العمر عند الأربعة والجمهور ولا تسقط بالتأخير عن يوم الفطر، لأن الأمر بأدائها مطلق عن الوقت فتؤدي في أي وقت، وإنما يتعين بالأداء أو بآخر العمر وفي أي وقت أدى كان مؤديا لا قاضيا كما في سائر الواجبات الموسعة. غير أن المستحب أن يخرجها قبل الخروج إلى المصلى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك(1) ويأمر به (روى) نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بإخراج الزكاة قبل الغدو لصلاة يوم الفطر. أخرجه الترمذي. وقال: حسن صحيح(2). ... ... ... ... {132}
(وعن) ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر أن تؤدي قبل خروج الناس إلى الصلاة" أخرجه السبعة إلا ابن ماجه(3). ... ... ... ... ... ... ... ... ... {133}
__________
(1) انظر ص 84 ج 2 بدائع الصنائع.
(2) انظر ص 29 ج 2 تحفة الأحوذي (تقديمها قبل الصلاة) (والغدو) المشي أول النهار.
(3) انظر ص 150 ج 9- الفتح الرباني (وقت إخراجها) وص 241 ج 3 فتح الباري (الصدقة قبل العيد) وص 63 ج 7 نووي (زكاة الفطر) وص 220 ج 9- المنهل العذب المورود (متى تؤدي) وص 348 ج 1 مجتبي (الوقت الذي يستحب أن تؤدى فيه صدقة الفطر).(1/272)
وباستحباب ذلك قال الأئمة الأربعة والجمهور واستدلوا بهذه الأحاديث على كراهة تأخير إخراج صدقة الفطر عن صلاة العيد (وقال) ابن حزم بحزمته (وظاهر) قوله في حديث ابن عباس: من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات(1) (أن) من أداها بعد صلاة العيد لا تعتبر زكاة بل صدقة من الصدقات، وأمر القبول فيها موقوف على مشيئة الله تعالى (والجمهور) على أنها مجزئة إلى آخر يوم الفطر وتأخيرها عنه بلا عذر حرام عند الأئمة الأربعة والجمهور، لأن زكاة واجبة لإغناء الفقير في هذا اليوم، فكان في تأخيرها إثم، ولا تسقط بالتأخير (خلافا) للحسن بن زياد الحنفي وداود الظاهري حيث قالا بسقوطها لأنها قربة تختص بيوم العيد فتسقط بمضيه، كالأضحية تسقط بمضي أيام النحر (ورد) بأن الأضحية غير معقولة المعنى فلا تكون قربة إلا في وقتها، أما الزكاة فإنها قربة مالية معقولة المعنى فلا تسقط إلا بالأداء.
(وعن) ابن سيرين والنخعي الرخصة في تأخيرها عن يوم العيد. قيل لأحمد: فإن أخرج الزكاة ولم يعطها، قال: نعم إذا أعدها القوم واتباع السنة أولى(2) (ويجوز تقديمها) ولو قبل رمضان ولعدة سنين على الصحيح عند الحنفيين لتحقيق سبب الوجوب وهو راس يمونه ويلي عليه فصار كإخراج الزكاة بعد وجود النصاب. وعند الشافعي يجوز تعجيلها بعد دخول رمضان لا قبله لأنها صدقة الفطر ولا فطر قبل الشروع في الصوم.
(
__________
(1) تقدم رقم 124 ص 241 (حكمتها).
(2) انظر ص 666 ج 2 مغنى ابن قدامة.(1/273)
وقال) بعض الحنبلية: يجوز تعجيلها في النصف الأخير من رمضان (وقال) مالك والكرخي: يجوز تقديمها يوما أو يومين قبل العيد وهو مشهور مذهب أحمد (لقول) ابن عمر رضي الله عنهما: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر أن تؤدي قبل خروج الناس إلى الصلاة. قال نافع: وكان ابن عمر يؤديها قبل ذلك باليوم واليومين" أخرجه أبو داود والدارقطني(1). ... ... ... ... ... ... ... ... {134}
(وقال) البخاري: وكان ابن عمر يعطيها الذين يقبلونها وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين(2) وهذا مما لا يخفى على النبي صلى الله عليه وسلم بل لابد من كونه بإذن سابق فإن الإسقاط قبل الوجوب مما لا يعقل، فلم يكونوا يقدمون عليه إلا بسمع(3) (والدليل) ظاهر فيما ذهب إليه مالك وأحمد، لأن المقصود من زكاة الفطر إغناء الفقير يوم العيد وتعجيلها اليوم واليومين لا يخل بالمقصود منها، فإن الظاهر أنها تبقى أو بعضها إلى يوم العيد فيستغني بها عن السؤال فيه. والله ولي التوفيق.
(12) الواجب في زكاة الفطر وقدره:
يجب فيها نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو شعير أو زبيب عند الحنفيين ( لحديث ) عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مناديا في فجاج مكة: ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم ذكر أو أنثى حر أو عبد صغير أو كبير مدان من قمح أو صاع سواه من طعام" أخرجه الدارقطني والترمذي وقال: حسن غريب(4). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {135}
(
__________
(1) انظر ص 220 ج 9- المنهل العذب المورود (متى تؤدى) وص 224- الدارقطني.
(2) انظر ص 242 ج 3 فتح الباري (صدقة الفطر على الحر والمملوك).
(3) انظر ص 42 ج 2 فتح القدير (مقدار الواجب ووقته).
(4) انظر ص 220- الدارقطني وص 28 ج 2 تحفة الأحوذى (صدقة الفطر) وفي سند الحديث سالم بن نوح وثقه أبو زرعة وابن حبان، وقال في التنقيح: هو صدوق روى له مسلم في صحيحه وقال النسائي: ليس بالقوى.(1/274)
وقال) ابن عمر: "كان الناس يخرجون صدقة الفطر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم صاعا من شعير أو تمر أو سلت أو زبيب. فلما كان عمر وكثرت الحنطة جعل عمر نصف صاع حنطة مكان صاع من تلك الأشياء" أخرجه أبو داود والدارقطني(1) (وقالت) أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: "كنا نؤدي زكاة الفطر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مدين من قمح بالمد الذي تقتاتون به" أخرجه أحمد والطبراني. وفي سنده ابن لهيعة متكلم فيه ورواه الطبراني في الأوسط بسند رجاله رجال الصحيح(2). ... ... ... ... ... {136}
(ولهذه) الأحاديث قال الحنفيون وزيد بن علي: يجزئ فيها نصف صاع من بر وصاع من غيره (وعن) النعمان أنه يكفي من الزبيب نصف صاع (لكنه) مردود بهذه الأحاديث ونحوها الدالة على الزبيب لا يكفي منه إلا صاع. ولذا اختاره أبو يوسف ومحمد، وعليه الفتوى عند الحنفيين، وقالوا: تؤدي من القمح ودقيقه وسويقه والشعير ودقيقه وسويقه والسلت كذلك والتمر والزبيب. ولا تكفي الفطرة من غير هذه الأصناف إلا بالقيمة.
(
__________
(1) انظر ص 227 ج 9- المنهل العذب المورود (كم يؤدي في صدقة الفطر) وص 222- الدارقطني وفي سند الحديث عبد العزيز بن أبي داود وثقه يحيى القطان وابن معين وأبو حاتم والحاكم وغيرهم. وهم أعرف ممن ضعفه. وقد أخرج له البخاري استشهادا (والسلت) بضم فسكون نوع من الشعير ليس له قشر كأنه الحنطة، وقيل هو حب بين الحنطة والشعير.
(2) انظر ص 144 ج 9 – الفتح الرباني (من روى نصف صاع من قمح) وص 81 ج 3 مجمع الزوائد (صدقة الفطر).(1/275)
وقال) مالك والشافعي: يجب في صدقة الفطر صاع من غالب قوت البلد في السنة. ورجح الحطاب المالكي اعتبار غالب القوت في رمضان. واستظهر الأمير غالب القوت يوم الوجوب (وقال) أحمد: يجب في الفطرة صاع من البر والشعير ودقيقهما وسويقهما والتمر والزبيب يخير في الإخراج من أيها إن وجدت، وإلا أخرج من المقتات من حب أو تمر وهو قول للشافعي ويخرج الأقط في رواية عن أحد (لقول) أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "كنا إذا كان فينا النبي صلى الله عليه وسلم نخرج زكاة الفطر عن كل صغير وكبير حر ومملوك صاعا من طعام أو صاعا من أقط أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من زبيب فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوية حاجا أو معتمرا فكلم الناس على المنبر فكان فيما كلم به الناس أن قال: إني أرى أن مدين من سمراء الشام تعدل صاعا من تمر، فأخذ الناس بذلك. قال أبو سعيد: فأما أنا فلا أزال أخرجه أبدا ما عشت" أخرجه السبعة وقال الترمذي: حسن صحيح(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {137}
__________
(1) انظر ص 138 ج 9- الفتح الرباني (مقدارها وأصنافها) وص 239 ج 3 فتح الباري (صاع من زبيب) وص 62 ج 7 نووي (زكاة الفطر) وص 229 ج 9 المنهل العذب المورود (كم يؤدي في صدقة الفطر) وص 347 ج 1 مجتبي (الزبيب) وص 27 ج 2 تحفة الأحوذى وص 288 ج 1- ابن ماجه (صدقة الفطر) و(الطعام) في الأصل يشمل كل ما يقتات به من الحنطة والتمر والشعير وغيرها (وقوله) في رواية لأحمد وغيره: فلماجاء معاوية وجاءت السمراء قال: إني أرى معدا من هذا يعدل مدين (دليل) على أن الحنطة لم تكن لهم قوتا قبل هذا فكيف يتوهم أنهم أخرجوا ما لم يكن موجودا؟ (والأقط)- بفتح الهمزة وكسر القاف وقد تسكن مع فتح الهمزة وكسرها- : لبن مجفف غير منزوع الزبد.(1/276)
والعمل على هذا عند بعض أهل العلم يرون مكن كل شيء صاعا. وهو قول الشافعي وإسحاق. وقال بعض أهل العلم: من كل شيء صاع إلا البر فإنه يجزئ نصف صاع، وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك وأهل الكوفة و(السمراء) القمح.
والحديث يدل:
(أ ) على جواز إخراج الأقط في الفطرة. وبه قال مالك وروى عن أحمد (وقال) الحنفيون: لا يجزئ إلا باعتبار القيمة (وقال) الشافعي: لا أحب أن يخرج الأقط فإن أخرج صاعا منه لم يتبين لي أن عليه الإعادة.
(ب ) على أنه يكفي في الفطرة نصف صاع من بر، وهو قول الحنفيين وقد صح عن الخلفاء الراشدين وغيرهم (روى) أبو قلابة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أخرج زكاة الفطر مدين من حنطة وأن رجلا أدى إليه صاعا بين اثنين. أخرجه عبد الرزاق والدارقطني والطحاوي(1).
(وقال) عمر لنافع: إنما زكاتك على سيدك أن يؤدي عنك عند كل فطر صاعا من تمر أو شعير أو نصف صاع بر. أخرجه الطحاوي(2) (وقال) عثمان رضي الله عنه في خطبته: أدوا زكاة الفطر مدين من حنطة. أخرجه الطحاوي(3).
(وقال) علي رضي الله عنه: على من جرت عليه نفقتك نصف صاع من بر أو صاع من شعير أو تمر. أخرجه عبد الرزاق والدارقطني(4) (وقال) ابن الزبير: زكاة الفطر مدان من قمح أو صاع عن تمر أو شعير. أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة(5).
__________
(1) انظر ص 225- الدارقطني. وص 321 ج 1 شرح معاني الآثار. وص 426 ج 2 نصب الراية.
(2) انظر ص 321ج 1 شرح معاني الآثار. وص 426 و427 ج 2 نصب الراية.
(3) انظر ص 321ج 1 شرح معاني الآثار. وص 426 و427 ج 2 نصب الراية.
(4) انظر ص 225- الدارقطني. وص 427 ج 4 نصب الراية.
(5) انظر ص 427 منه.(1/277)
الدقيق والسويق: يجوز إخراجهما في الفطرة عند الحنفيين وأحمد (لقول) أبي سعيد الخدري: لم نخرج على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من زبيب أو صاعا من دقيق أو صاعا من أقط أو صاعا من سلت. أخرجه النسائي(1). ... ... ... ... ... ... ... {138}
(وروى) محمد بن سيرين عن ابن عباس قال: أمرنا أن نعطي صدقة رمضان عن الصغير والكبير والحر والمملوك صاعا من طعام، ومن أدى برا قبل منه، ومن أدى شعيرا قبل منه، ومن أدى زبيبا قبل منه، ومن أدى سلتا قبل منه، وأحسبه قال: ومن أدى دقيقا قبل منه، ومن أدى سويقا قبل منه أخرجه البيهقي وقال: هذا مرسل. محمد بن سيرين لم يسمع من ابن عباس شيئا(2). ... ... ... ... ... ... ... {139}
(هذا) والواجب عند الحنفيين نصف صاع من دقيق القمح وسويقه وصاع من دقيق الشعير وسويقه (وقال) أحمد: الواجب صاع من كل (وقالت) المالكية والشافعية والجمهور: لا يجوز إخراج الدقيق والسويق، لأنهما لم يذكرا في الأحاديث الصحيحة.
(13) قدر الصاع:
الصاع قدحان بالكيل المصري أو أربعة أمداد، والمد حفنة بكفي الرجل المعتدل الكفين. وهو رطل وثلث بالعراقي عند مالك والشافعي وأحمد وفقهاء الحجاز وأبي يوسف. فيكون الصاع خمس أرطال وثلثا (وقال) النعمان ومحمد وفقهاء العراق: المد رطلان فيكون الصاع ثمانية أرطال. والرطل العراقي عند الحنفيين والرافعي 130 درهم بالدرهم المتعارف، وعند الحنبلية 128 درهم وأربعة أسباع درهم، ورجحه النووي. وعند المالكية 128 درهم (والحق) أن الخلاف في وزن الصاع لفظي وبيانه:
(
__________
(1) انظر ص 347 ج 1 مجتبي (الدقيق).
(2) انظر ص 168 و169 ج 4 بيهقي (من قال يخرج من الحنطة نصف صاع).(1/278)
أ) أن من قال: إنه خمسة أرطال وثلث رطل عراقي اعتبره من التمر والشعير (لقول) أبي داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الفرق ستة عشر رطلا وسمعته يقول: صاغ ابن أبي ذئب خمسة أرطال وثلث. قال: فمن قال ثمانية أرطال؟ قال ليس ذلك بمحفوظ. ذكره البيهقي(1).
(وقال) الحسين بن الوليد القرشي: قدم علينا أبو يوسف رحمة الله من الحج فقال: إني أريد أن أفتح عليكم بابا من العلم همني تفحصت عنه فقدمت المدينة فسألت عن الصاع فقالوا: صاعنا هذا صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: ما حجتكم في ذلك؟ قالوا: نأتيك بالحجة غدا. فلما أصبح أتاني نحو من خمسين شيخا من أبناء المهاجرين والأنصار مع كل رجل منهم الصاع تحت ردائه كل رجل منهم يخبر عن أبيه أو عن أهل بيته أن هذا صاع النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم، فنظرت فإذا هي سواء فعايرته، فإذا هو خمسة أرطال وثلث بنقصان يسير فرأيت أمرا قويا فتركت قول أبي حنيفة رضي الله عنه في الصاع وأخذت بقول أهل المدينة. ذكره البيهقي(2).
(ب) ومن قال: الصاع ثمانية أرطال اعتبره من الماء (لما روي) عبد الكريم عن أنس بن مالك قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد رطلين ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال" أخرجه الدارقطني والبيهقي بسند ضعيف(3). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {140}
(
__________
(1) انظر ص 170 ج 4 بيهقي (صاع النبي صلى الله عليه وسلم كان خمسة أرطال وثلث).
(2) انظر ص 171 ج 4 بيهقي.
(3) انظر ص 226- الدارقطني. وص 171 ج 4 بيهقي.(1/279)
وقال) والصحيح عن أنس بن مالك: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمس أمداد. ثم أخبرت أسماء بنت أبي بكر أنهم كانوا يخرجون زكاة الفطر بالصاع الذي كانوا يقتاتون به. فدل ذلك على مخالفة صاع الزكاة والقوت صاع الغسل(1) (ومنه) يعلم أنه لا خلاف في وزن مد وصاع الفطرة. والاشتباه إنما جاء لعدم بيان المكيل بهما وهو يختلف خفة ورزانة(2).
__________
(1) انظر ص 172 منه.
(2) وذلك أن الماء أثقل من العدس وهو أثقل من الحلبة والفول. وهما أثقل من البر والحمص وهما أثقل من الذرة الشامي وهي أثقل من الذرة الطبيعي وهي أثقل من التمر والشعير. فإن الصاع منهما يزن 693 وثلث درهم وهي خمسة أرطال وثلث بالعراقي. والصاع من الماء العذب الصافي أو المعين 1040 درهم وهي ثمانية أرطال بالعراقي. وقد وزن القدح المصري فوجد أنه يسع من القمح 470 درهم ومن الذرة الشامي 454 ونصف درهم ومن الشعير 370 ونصف درهم، أي أنه يسع مدين وثمن مد تقريبا إذا وضع الحب بلا زلزلة ولا دك ولا تقبيب باليد. فزيادة ثمن المد تقابل ما في الحب من الطين والتراب. فالقدح بحالته يساوي نصف الصاع "وأما" ما في كتب المالكية من أن الصاع بالكيل المصري قدح وثلث قدح "ففيه" شيء من التسامح حتى لو تمشينا على ما اشهر عنهم من أن الدرهم الشرعي أقل في الوزن من الدرهم العرفي. فإن الصاع على ما قالوا يسع من متوسط الشعير 682 درهما شرعيا بضرب خمسة أرطال وثلث في مقدار الرطل عندهم وهو 128 درهم وهي بالدرهم العرفي 537 درهم تقريبا بضرب دراهم الصاع وهي 682 في مقدار الدرهم الشرعي وهو 50.4 حبة من الشعير وقسمة الحاصل على مقدار الدرهم العرفي وهو 64 حبة ينتج 537 درهم عرفي تقريبا. وتقدم أن القدح المصري يسع من الشعير 370 درهم ونصف درهم فإذا قسم مقدار الصاع على مقدار القدح كان الخارج 1..45 أي قدح ونصف تقريبا "وما اشتهر" في كتب الحنفيين من أن الصاع قد حان وثلثا قدح "فمبني" على أن الصاع ثمانية أرطال بالعراقي وأن الخلاف في وزنه حقيقي وقد علمت أنه لفظي وأنه لا خلاف في أن صاع الفطرة خمسة أرطال وثلث بالعراقي (انظر تمامه ص 223 ج 9- المنهل العذب المورود).(1/280)
(14) إخراج القيمة:
يجوز عند الحنفيين إخراج قيمة الواجب في زكاة الفطر، لما تقدم في بحث دفع القيمة في الزكاة(1) وروى عن أبي يوسف أنه قال: الدقيق أحب إلي من الحنطة والدرهم أحب إلي من الدقيق والحنطة لأن ذلك أقرب إلى دفع حاجة الفقير ولأن المطلوب إناء الفقير في هذا اليوم، والإغناء يحصل بالقيمة بل هو بها أتم وأوفر. ولا يجوز أداء المنصوص عليه بعضه عن بعض باعتبار القيمة "فكما" لا يجوز إخراج الحنطة عن الحنطة باعتبار القيمة- بأن يؤدي نصف صاع من حنطة جيدة عن صاع من حنطة وسط لا يجوز أن يؤدي نصف صاع من تمر- تبلغ قيمته نصف صاع من البر- بل يقع عن التمر، وعليه تكميل الباقي، لأن القيمة لا تعتبر في المنصوص عليه(2).
(وقال) الأئمة الثلاثة: لا يجزئ دفع القيمة (قال) أبو داود: قيل لأحمد، أعطى دراهم في صدقة؟ قال: أخاف أن لا يجزئه. خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم (وظاهر) مذهب أحمد أنه لا يجزئ إخراج القيمة في شيء من الزكوات (وروى) عنه جواز دفع القيمة فيما عدا الفطرة (قال) أبو داود: سئل أحمد عن رجل باع ثمرة نخله قال: عشرة على الذي باعه. قيل له: فيخرج ثمرا أو ثمنه؟ قال: إن شاء أخرج ثمرا وإن شاء أخرج من الثمن(3) (هذا) والأفضل عند الحنفيين إخراج زكاة الفطر مما هو أعلى قيمة (وقال) مالك وأحمد: الأفضل إخراج التمر (وقال) الشافعي: البر أفضل. ولعله كان أعلى في وقته ومكانه، لأن المستحب أن يخرج أغلاها ثمنا وأنفسها صنفا (واختار) مالك وأحمد إخراج التمر اقتداء بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه.
(
__________
(1) تقدم ص 222، 223، 224.
(2) انظر ص 72 ج 2 بدائع الصنائع.
(3) انظر ص 661 ج 2 مغنى ابن قادمة.(1/281)
قال) ابن عمر: "فرض النبي صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على الذكر والأنثى والحر والمملوك صاعا من تمر أو صاعا من شعير فعدل الناس به نصف صاع من بر فكان ابن عمر يعطي التمر فأعوز أهل المدينة التمر فأعطى الشعير" أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود(1).
والحكمة في هذا أن التمر فيه قوة وحلاوة، وهو أقرب تناولا وأقل كلفة. والأفضل بعد التمر البر، وقيل الزبيب لأنه أقرب تناولا وأقل كلفة (ورد) بأن البر أنفع في الاقتيات وأبلغ في دفع حاجة الفقير.؟
(قال) أبو مجلز: قلت لابن عمر: قد أوسع الله والبر أفضل من التمر أفلا نعطي البر؟ قال: لا أعطي إلا كما كان يعطي أصحابي. أخرجه جعفر الفرياني(2). ويستنبط منه أنهم كانوا يخرجون من أعلى الأصناف التي يقتات بها، فإن التمر أعلى من غيره وقتئذ.
(15) مكان أدائها:
__________
(1) انظر ص 139 ج 9- الفتح الرباني (مقدارها وأصنافها) وص 242 ج 3 فتح الباري 0صدقة الفطر على الحر والمملوك) وص 228 ج 9- المنهل العذب (كم يؤدي في صدقة الفطر) (فعدل) بفتحات، أي سوى الناس نصف الصاع من بر بصاع من غيره لما رأوا من الاستواء في المنفعة والقيمة. والمراد بالناس أهل المدينة والشام (فأعوز) أي أعجزهم الحصول على التمر.
(2) انظر ص 242 ج 3 فتح الباري (الشرح).(1/282)
تؤدي زكاة الفطر في مكان المؤدى عنه- عند النعمان وأبي يوسف ومالك والشافعي- فيؤدي الموسر زكاة الفطر عن نفسه حيث هو وعمن يمونه ويلي عليه حيث هم، لأنها أحد نوعي الزكاة، وزكاة المال تؤدي حيث المال، فكذا زكاة الرأس تؤدي في مكان الرأس. والعبرة بقوت موضع المخرج عنه فإن أخرج عن أهله من الصنف الذي يأكلونه وإن أخرجوا عنه أخرجوا من الصنف الذي يأكله(1) ولو عجلها بمحل ثم سافر لآخر فوجبت عليه فيه أجزأت (وقال) محمد بن الحسن المعتبر مكان المؤدى فيخرج عن نفسه وعمن يلي عليه في مكانه لأنها تتعلق بذمة المؤدى لا بماله فيعتبر مكانه.
(16) سقوطها:
تسقط زكاة الفطر عند الحنفيين بالردة وبموت من وجبت عليه بلا وصية (وقال) مالك تسقط بالموت بلا وصية لا بالردة (وقال) الشافعي وأحمد: لا تسقط بهما على ما تقدم بيانه في بحثي شروط افتراض الزكاة وقضائها(2) فإن مات من وجبت عليه الفطرة قبل أدائها بلا وصية سقطت عنه عند الحنفيين ومالك، وإن أوصى بها تخرج من ثلث ماله كسائر الوصايا.
(وقال) الشافعي وأحمد: تخرج من تركته وإن لم يوص. فإن كان عليه دين وله مال يفي بالفطرة والدين قضيا جميعا. وإن لم يف بهما قسم بينهما بالحصص. وإن كان عليه زكاة مال وصدقة فطر ودين، فزكاة الفطر والمال كالشيء الواحد لاتحاد مصر فهما فتقسم التركة بينهما وبين الدين، لأن حق الله تعالى وحق الآدمي إذا تعلقا بمحل واحد تساويا في الاستيفاء (ولو مات) من يمونه بعد وجوب الفطر تسقط عند الحنفيين ومالك (وقال) الشافعي وأحمد: لا تسقط لأنها دين ثبت في ذمته بسبب من يمونه فلا تسقط بموته(3).
(17) مصرفها:
__________
(1) انظر ص 616 ج 1- الفجر المنير.
(2) تقدم صفحة 118 (شروط الافتراض) وص 136 (قضاء الزكاة).
(3) انظر ص 698 ج 2 مغنى ابن قدامة.(1/283)
تصرف زكاة الفطر عند مالك لحر مسلم فقير أو مسكين دون باقي الأصناف وجاز دفعها لأقاربه الذين لا تلزمه نفقتهم. وللزوجة دفعها لزوجها الفقير بخلاف العكس(1) (وقال) غير مالك: تصرف لمن تصرف له الزكاة، لأنها صدقة فتدخل في عموم آية: "إنما الصدقات للفقراء والمساكين" ولا يجوز دفعها إلى من لا يجوز دفع زكاة المال إليه، ولا يجوز دفعها إلى ذمي- عند مالك وأبي يوسف والشافعي وأحمد- لأنها زكاة، فلا يجوز دفعها إلى غير المسلمين كزكاة المال(2).
(وقال) النعمان ومحمد: يجوز دفعها لذمي لا لحربي، لقوله تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون"(3).
(14) مصرف الزكاة
تصرف إلى الأصناف المذكورة في آية: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله"(4) .
قال ابن قدامة: ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى غير هذه الأصناف إلا ما روى عن أنس والحسن أنهما قالا: ما أعطيت في الجسور والطرق فهي صدقة ماضية. والصحيح الأول، لأن الله تعالى قال: "إنما الصدقات للفقراء" وإنما للحصر تثبت المذكور وتنفي ما عداه(5)، والمذكور في الآية ثمانية أصناف:
(1 و2) الفقير والمسكين:
__________
(1) انظر ص 136 ج 1- الفجر المنير.
(2) انظر ص 690 ج 2 مغنى ابن قدامة.
(3) سورة الممتحنة: آية 8 و9.
(4) سورة التوبة: آية 60.
(5) انظر ص 689 ج 2 شرح المقنع.(1/284)
الفقير عند الحنفيين من له شيء دون النصاب أو قدر نصاب غير نام أو مشغول بالحاجة الأصلية- كمسكن وملبس ومركب- فيصبح الدفع إليه ولو كان صحيحا مكتسبا أو يملك نصبا كثيرة غير نامية إذا كانت مستغرقة بالحاجة الأصلية، ولذا يصح دفعها لعالم له كتب تساوي نصبا كثيرة لكنه محتاج إليها للدراسة والمراجعة، وكذا آلات المحترفين والصناع والزراع والمجاهدين.
(وقال) مالك: الفقير من لا يملك قوت عامة (والمسكين) عند الحنفيين ومالك من لا شيء له، ولذا يحل له السؤال لقوته أو ما يواري جسده، بخلاف الفقير؛ فلا يحل له ولا لقادر على الكسب ولا من يملك خمسين درهما السؤال (لحديث) ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح" فقيل: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: "خمسون درهما أو قيمتها من الذهب" أخرجه أحمد والأربعة وحسنه الترمذي وفيه حكيم بن جبير. تكلم فيه شعبة وغيره(1). ... ... {142}
(
__________
(1) انظر ص 90 ج 9 – الفتح الرباني (النهي عن السؤال) وص 248 ج 9- المنهل العذب المورود (من يعطي من الصدقة) وص 363 ج 1 مجتبي (حد الغني) وص 289 ج 1- ابن ماجه (من سأل عن ظهر غني) وص 19 ج 2 تحفة الأحوذى (من تحل له الزكاة) (وخموش) بالضم مصدر خمكش بفتحات بمعنى خدش. ويحتمل أن يكون خموش جمع خمش كفلس (والكدوح) بمعنى الخموش، ويحتمل أن يكون الكدوح مصدرا سمي به الأثر وأن يكون جمع كدح.(1/285)
وقالت) الشافعية: الفقير من لا مال له ولا كسب أو له مال أو كسب لا يكفيه ولا يحصل به نصف كفايته ومن تلزم نفقته العمر الغالب – وهو ستون سنة – بحيث لو وزع ما عنده من المال على غالب العمر لم يبلغ نصف كفايته . ولو كان يملك نصاباً أو أكثر فعليه زكاته وله أن يأخذ زكاة غيره (والمسكين) من له مال أو كسب يقع موقعاً من كفايته ولا يكفيه: بأن يحتاج في اليوم إلى عشرة دراهم مثلاًَ وعنده كسب أو مال يبلغ خمسة فأكثر.
(وقالت) الحنبلية: الفقير من لا مال له ولا كسب يحصل به نصف كفايته كمن يكفيه عشرة ولا يحصل إلا على ثلاثة ولا له خمسون درهما أو قيمتها من الذهب (والمسكين) من يجد معظم كفايته أو نصفها، مثل من يكفيه عشرة فيحصل على خمسة فما زاد.
هذا ما ذكره الفقهاء في معنى الفقير والمسكين. ويكفي أن نعلم أن الفقير من ليس بغنى. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم حد الغنى- في حديث ابن مسعود- بخمسين درهما أو قيمتها من الذهب. فمن لم يملك هذا المقدار ولا قيمته فاضلا عن حوائجه الأصلية وحوائج من يمون فهو فقير تحل له الزكاة. ومن ملك هذا المقدار أو قيمته فاضلا عما ذكر فهو غنى لا تحل له الزكاة .
(وبهذا) قال سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد بن حنبل (وقال) غيرهم ما تقدم وقالوا: ليس في الحديث بيان أن من ملك خمسين درهما لا تحل له الصدقة إنما فيه أن كره له المسألة فقط، لأن المسألة لا تحل إلا مع الضرورة ولا ضرورة لمن يجد قوته وما يستر عورته.
((1/286)
قال) أبو الطيب صديق بن حسن: والحق أن الفقير والمسكين متحدان يصح إصلاق كل واحد من الاسمين على من لم يجد فوق ما تدعو الضرورة إليه خمسين درهما. وليس في قوله تعالى (أما السفينة فكانت لمساكين) ما ينافى هذا لأن ملكهم لها لا يخرجهم عن صدق اسم الفقر والمسكنة عليهم لما عرف من أن آلات ما تقوم به المعيشة مستثناة، والسفينة للملاح كدابة السفر لمن يعيش بالمكاراة والضرب في الأرض(1).
(3) العامل على الزكاة:
وهو من صبه الإمام لجمع الصدقات. ويدخل فيه الساعي والكاتب والقاسم والحاشر- وهو الذي يجمع أرباب الأموال للساعي- والحافظ لها. فيعطي كل بقدر عمله ولو غنيا لا هاشميا (لحديث) عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لعامل عليها أو رجل اشتراها بماله أو غارم أو غاز في سبيل الله أو مسكين تصدق عليه منها فأهدى منها لغني" أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين(2). ... ... ... ... ... ... {143}
ولأنه فرغ نفسه لعمل من أعمال المسلمين فيستحق الأجر كالغزاة والقضاة. ولذا جوزوا لطالب العلم أن يأخذ من الزكاة ولو كان غنيا إذا فرغ نفسه لإفادة العلم واستفادته ولم يكن له مرتب في مال الدولة.
(هذا) ويشترط في العامل أن يكون حرا ذكرا مكلفا مسلما، لأن السعاية ولاية والولاة يشترط فيهم ذلك، ولأن الكافر ليس بأمين. ويشترط كونه غير هاشمي، لأن الهاشمي من أهل البيت، وقد منعهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أخذ الزكاة ولو عمالا.
(
__________
(1) انظر ص 134- الروضة الندية (مصارف الزكاة).
(2) انظر ص 70 ج 9 – الفتح الرباني (الصدقة في سبيل الله) وص 271 ج 9 المنهل العذب المورود (من يجوز له أخذ الصدقة وهو غني) وص 290 ج 1- ابن ماجه (من تحل له الصدقة) وص 47 ج 1- مستدرك.(1/287)
روى) عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث أنه هو والفضل أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليزوجهما ويستعملهما على الصدقة فيصيبان من ذلك، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمحمية الزبيدي: زوج الفضل، وقال لنوفل بن الحارث بن عبد المطلب: زوج عبد المطلب ابن ربيعة" الحديث أخرجه مسلم والنسائي وأحمد وهذا لفظه(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {144}
ولا تشترط فيه الحرية عند الحنبلية (وقال) بعضهم: لا يشترط إسلامه ولا كونه من غير ذوي القربى. وهذا مردود بالحديث (هذا) ويعطي العامل عند الحنفيين كفايته وكفاية أعوانه بالوسط إلا إذا استغرقت كفايته ما جمعه فلا يعطي أزيد من النصف (لحديث) المستورد بن شداد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ولي لنا عملا وليس له منزل فليتخذ منزلا، أو ليست له زوجة فليتزوج، أو ليس له خادم فليتخذ خادما، أو ليست له دابة فليتخذ دابة، ومن أصاب شيئا سوى ذلك فهو غال" أخرجه أحمد، وكذا ابو داود يسند صالح وسكت عنه هو والمنذري(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {145}
(قال) الخطابي: هذا يتأول على وجهين:
(أحدهما) أنه إنما أباح اكتساب الخادم والمسكن من عمالته التي هي أجر مثله وليس له أن يرتفق بشيء سواها.
(والوجه الثاني) أن للعامل السكنى والخدمة، فإن لم يكن له مسكن ولا خادم استؤجر له من يخدمه فيكفيه مهنة مثله ويكترى له مسكن يسكنه مدة مقامه في عمله(3).
(
__________
(1) انظر ص 177 و178 ج 7 نووي (تحريم الزكاة على الآل) وص 365 ج 9 مجتبى (استعمال الآل على الصدقة) وص 79 ج 9- الفتح الرباني (تحريم الصدقة على بني هاشم).
(2) انظر ص 56 ج 9- الفتح الرباني (العاملين عليها) وص 95 ج 3 عون المعبود (أرزاق العمال) (والغال) بشد اللام: الخائن.
(3) انظر ص 7 ج 3 معالم السنن.(1/288)
وقال) مالك: يعطي العامل بقدر عمله وإن استغرق ما جمعه.
(وقال) الشافعي: يعطي قدر أجر مثله.
(وعن) أحمد روايتان: يعطي العامل ثمن ما جمع أو يعطي بقدر عمله. فعلى هذه الرواية يخير الإمام بين أن يستأجر العامل إجارة صحيحة بأجر معلوم إما على عمل معلوم أو مدة معلومة، وبين أن يجعل له جعلا معلوما على عمله فإذا فعله استحق الجعل وإن شاء بعثه من غير تسمية ثم أعطاه(1).
(روى) عبد الله بن السعدي أنه قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الشام فقال: ألم أخبر أنك تعمل على عمل من أعمال المسلمين فتعطي عليه عمالة فلا تقبلها؟ قال: أجل إن لي أفراسا وأعبدا وأنا بخير وأريد أن يكون عملي صدقة على المسلمين، فقال عمر: إني أردت الذي أردت، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيني المال فأقول: أعطه من هو افقر إليه مني، وإنه أعطاني مرة مالا فقلت له: أعطه من هو أحوج إليه مني. فقال: ما آتاك الله عز وجل من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف فخذه فتموله أو تصدق به. ومالا، فلا تتبعه نفسك" أخرجه البخاري والنسائي وهذا لفظه(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... {146}
(4) المؤلفة قلوبهم:
المؤلفة: جمع مؤلف من التأليف، أي الجمع، والمراد جمع القلوب. وهم ثلاثة أقسام:
( أ ) كفار كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعطيهم تأليفا لهم ليسلموا هم وقومهم. وهذا من الجهاد لأنه كما يكون بالسنان يكون بالإحسان.
( ب ) وكافر كان يعطي لدفع شره.
(
__________
(1) انظر ص 695 ج 2 شرح المقنع.
(2) انظر ص 123 ج 13 فتح الباري (رزق الحاكم والعاملين عليها- الأحكام) وص 365 ج 1 مجتبي (من آتاه الله مالا من غير مسألة)، (وعمالة)- بضم العين وتخفيف اليم- ما يعطاه العامل نظير عمله. أما بفتحها فنفس العمل (ما آتاك الله) رواية البخاري: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خذه فتموله وتصدق به فما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وإلا فلا تتبعه نفسك).(1/289)
جـ) ومن أسلم على ضعف كان يعطي ليثبت إسلامه.
هذا وقد سقط نصيب المؤلف عند الحنفيين من الزكاة لإجماع الصحابة على ذلك في خلافة الصديق من آخر دفعة دفعها لهم النبي صلى الله عليه وسلم وظهر ذلك في خلافة الصديق رضي الله عنه لما جاءه عيينه بن حصن والأقرع ابن حابس والعباس بن مرداس وطلبوا من الصديق نصيبهم، فكتب لهم به وجاءوا على عمر وأعطوه الخط، فأبى ومزقه وقال: هذا شيء كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيكموه تأليفا لكم على الإسلام والآن قد اعز الله الإسلام وأغنى عنكم فإن ثبتم على الإسلام وإلا فبيننا وبينكم السيف "الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"(1) فرجعوا إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا: الخليفة أنت أم عمر؟ فقال: هو إن شاء. ووافقه ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فكان إجماعا. فلولا اتفاقهم عليه وأن مفسدة مخالفته أكثر من المفسدة المتوقعة لمنعهم لبادروا لإنكاره(2).
(وقال) حبان بن أبي جبلة قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد أتاه عيينه بن حصن: الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. يعني ليس اليوم مؤلفة. أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره(3).
(
__________
(1) سورة الكهف: آية 59.
(2) انظر ص 15 ج 2 فتح القدير لابن الهمام.
(3) انظر ص 113 ج 10 تفسير الطبري.(1/290)
وقالت) الشافعية: من أسلم على ضعف في ألفته بالمسلمين أو على ضعف في يقينه يعطي تأليفا له وتثبيتا لإسلامه (ويعطي) مسلم قوي الإيمان والألفة بالمسلمين لكن له شرف في قومه يتوقع بإعطائه إسلام غيره (ويعطي) مسلم- ذو شوكه يكفينا شر من يليه من الكفار أو مانعي الزكاة- إن رأى الإمام الحاجة لإعطائه بأن يكون إعطاؤه أهون على المسلمين من محاربة الكفار أو مانعي الزكاة. أما المؤلف الكافر وهو من يرجى إسلامه أو يخاف شره فلا يعطي من الزكاة اتفاقا ولا من غيرها على الأصح عندهم إلا لنازلة نزلت بالمسلمين، كأسر بعضهم وهجوم الكفار على بعض بلاد الإسلام ولا يردون الأسير ولا يندفعون عن بلاد الإسلام إلا ببذل مال لهم فيعطون من غير الزكاة حينئذ للضرورة ولا يعطون منها، لأن الله أعز الإسلام وأهله وأغنى عن التأليف. وأما إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم مؤلفة الكفار من الغنائم فكان من خمس الخمس وهو ملك النبي صلى الله عليه وسلم يصرفه حيث شاء(1).
(وقال) مالك وأحمد: يعطي المؤلفة من الزكاة ولو كفارا لإطلاق قوله تعالى: "والمؤلفة قلوبهم" (ولحديث) أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يسأل شيئا عن الإسلام إلا أعطاه فأتاه رجل فسأله فأمر له بشاء كثير بين جبلين من شاء الصدقة فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمدا صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعطي عطاء ما يخشى الفاقة" أخرجه أحمد ومسلم(2). ... ... ... ... ... ... ... ... {147}
(قالوا) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة كثيرا حتى مات. ولا يجوز ترك كتاب الله وسنة رسوله إلا بنسخ. والنسخ لا يثبت بالاحتمال، وليس في القرآن نسخ لذلك ولا في السنة. فكيف يترك الكتاب والسنة بمجرد الآراء والتحكم أو بقول صحابي أو غيره.
(
__________
(1) انظر ص 289 روضة المحتاجين.
(2) انظر ص 60 ج 9- الفتح الرباني (المؤلف قلوبهم) وص 72 ج 15 نووي (سخاؤه صلى الله عليه وسلم) و(الشاء) جمع شاة.(1/291)
قال) الزهري: لا أعلم شيئا نسخ حكم المؤلفة. على أن ما ذكروه من المعنى لا خلاف بينه وبين الكتاب والسنة. فإن الغنى عنهم لا يوجب رفع حكمهم وإنما يمنع عطيتهم حال الغنى عنهم، فمتى دعت الحاجة إلى إعطائهم أعطوا(1).
(فالظاهر) جواز إعطاء المؤلفة عند الحاجة إلى التأليف. فإذا كان قوم لا يطيعون الإمام إلا للدنيا ولا يقدر على إدخالهم تحت طاعته بالقسر والغلب فله أن يتألفهم ولا يكون لفشو الإسلام تأثير لأنه لم ينفع في خصوص هذه الواقعة(2) وإن كان معيبا عيبا فاحشا كالعرج والعور والعمي ويعتق ويكون ولاؤه للمسلمين لأن المال لهم (واختار) هذا البخاري وابن المنذر محتجين بأن الرقاب لو اختصت بالمكاتب لدخل في حكم الغارمين؛ لأنه مدين وبأن شراء الرقبة لتعتق أولى من إعانة المكاتب لأنه قد يعان، ولا يعتق، لأنه عبد ما بقى عليه درهم ولأن الشراء يتيسر في كل وقتع بخلاف الكتابة.
(
__________
(1) انظر ص 527 ج 2 مغنى ابن قدامة.
(2) انظر ص 234 ج 4 نيل الأوطار (المؤلفة قلوبهم).(1/292)
وقال) أبو جعفرب الطبري: والصواب عندي قول من قال: عني بالرقاب في هذا الموضع المكاتبون لإجماع الحجة على ذلك(1) وهو قول الجمهور. وقول مالك مخالف لظاهر الآية لأن المكاتب من الرقاب لأنه عبد واللفظ عام فيدخل في عمومه. إذا ثبت ذلك فإنه إنما يدفع إليه إذا لم يكن معه ما يقضي به كتابته ولا يدفع إلى من معه وفاء كتابته شيء لأنه مستغن عنه في وفاء الكتابة، فإن كان معه بعض الكتابة تمم له وفاء كتابته، وإن لم يكن معه شيء أعطى جميع ما يحتاج إليه لوفاء الكتابة ولا يعطي بحكم الفقر شيئا لأنه عبد. ويجوز إعطاء قبل حلول كتابته لئلا يحل النجم ولا شيئ معه فتفسخ الكتابة. ولا يدفع إلى مكاتب كافر شيء لأنه ليس من مصارف الزكاة. ويجوز أن يشتري بها أسيرا مسلما لأنه فك رقبة من الأسر فهو كفك رقبة للعبد من الرق ولأن فيه إعزازا للدين فهو كصرفه على المؤلف قلوبهم ولأنه يدفعه إلى الأسير في قك رقبته فأشبه ما يدفعه إلى الغارم لفك رقبته من الدين(2).
هذا واختلف في المكاتب الفاسق هل يعان؟ قال الجمهور: يعان وهو الظاهر.
(6) الغارم:
أي المدين، وهو ثلاثة أقسام:
(
__________
(1) انظر ص 114 ج 10 جامع البيان.
(2) انظر ص 698 ج 2 شرح المقنع (ويجوز أن يشتري بها أسيرا..) وهو الراحج عند المالكية (قال) الشيخ الإمام رحمه الله في حكمة البصير: أعلم أن في فك الأسير بالزكاة خلافا والراجع الإجزاء كما قاله ابن حبيب وابن عبد الحكم. وهو وجيه لأنه أولى من فك الرقاب التي بأيدينا (أنظر ص 907 ج 1).(1/293)
أ) من استدان لإصلاح حاله أو لعمارة مسجد أو إكرام ضيف وعجز عن أداء دينه كان لا يملك نصابا فاضلا عن دينه ولو له دين على غيره لكن لا يقدر على أخذه فيعطي من الزكاة ما يفي بدينه (لقول) أبي سعيد الخدري رضي الله عنه "أصيب رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" أخرجه أحمد ومسلم(1). ... ... ... ... {148}
(فقد) دل على أن من أصيب في ماله فهو غارم يباح له أخذ الصدقة سواء أكانت تطوعا أم واجبة (ويشترط) عند الحنفيين- أن يكون استدان لمباح ولو صرفه بعد في معصية. أما إن تداين لمعصية وصرفه في مباح أو في معصية وتاب توبة صادقة فإنه يعطي، وإن لم يتب لم يعط . ويشترط احتياجه للمساعدة بأن حل الدين ولم يقدر على وفائه وغن كان ما عنده يفي بجميع الدين فلا يعطي من نصيب الغارمين وإن صار فقيرا يأخذ بوصف الفقر.
(وقال) مالك: يباع على المفلس دار سكناه فتباع في الدين ويسكن بالأجرة. وكتب طالب علم ينتفع بها كآلة الصناع، قيل: تباع في دين المفلس، والأصح لا تباع. هذا وخرج بدين الآدمي حقوق الله تعالى كالكفارة والزكاة والهدى فلا يعطي من الزكاة لوفاء ما ذكر(2).
__________
(1) انظر ص 67 ج 9- الفتح الرباني (الغارمين) وص 218 ج 10 نووي (وضع الحوائج- المساقاة) و(ليس لكم إلا ذلك) أي ليس لكم الآن إلا هذا، وليس لكم حبسه ما دام معسرا فليس فيه غبطال حق الغرماء فيما بقى.
(2) انظر ص 598 ج 1- الفجر المنير.(1/294)
وإن كان الغارم من ذوي القربى فقال بعض العلماء: يجوز الدفع إليه لأن علة منعه من الأخذ منها لفقره صيانته عن أكلها لكونها أوساخ الناس وإذا أخذها للغرم صرفها إلى الغرماء فلا يناله دناءة وسخها (وقيل) لا يجوز لعموم النصوص في منعهم من أخذها وكونها لا تحل لهم ولأن دناءة أخذها تحصل سواء أكلها أم لم يأكلها(1).
(ب) غارم استدان لإصلاح بين متخاصمين في قتيل أو مال متلف وإن عرف القاتل والمتلف فاستدان ما سكن به الفتنة فيعطي ما يقضي به دينه إن حل الدين ولم يبق له بعده قدر نصاب عند الحنفيين (وعند) الأئمة الثلاثة يعطي ولو غنيا بشرط أن يستدين ولم يوف من ماله. أما لو لم يستدن بأن أعطى من ماله ابتداء أو استدان ووفي من ماله فلا يعطي.
(
__________
(1) انظر ص 700 ج 2 شرح المقنع.(1/295)
قال ) قبيصة بن المخارق الهلالي رضي الله عنه : " تحملت حمالة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته فيها، فقال : أقم حتى تأتينا الصدقة فإما أن نحملها إوما أن نعينك فيها، وقال : إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: لرجل تحمل حمالة قوم فيسأل فيها حتى يؤديها ثم يمسك ، ورجل أصابته جائحة أجاحت ماله فيسأل فيها حتى يصيب قواما من عيش أو سدادا من عيش ثم يمسك، ورجل أصابته فاقة فيسأل حتى يصيب قواما من عيش أو سدادا من عيش ثم يمسك ، وما يوى ذلك من المسائل سحت يا قبيصة يأكله صاحبه سحتا" أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... {149}
(جـ) غارم لضمان فغن كان بإذن المضمون أعطى إن أعسر هو والأصيل وإن كان بغير إذنه أعطى إن أعسر وإن لم يعسر المضمون.
(
__________
(1) انظر ص 65 ج 9- الفتح الرباني (الغارمين) وص 133 ج 7 نووي (من تحل له المسألة) وص 275 ج 9- المنهل العذب المورود (ما تجوز فيه المسألة) وص 360 ج 1 مجتبي (الصدقة لمن تحمل حمالة) و(الجائحة) ما يجتاح المال ويتلفه ظاهرا كالسيل والحريق (والقوام) بكسر القاف: ما تقوم به الحاجة ويستغنى به (والقوام) بفتح القاف: الاعتدال (والسداد) بكسر السين: ما تسد به الحاجة والخلل، وأما بالفتح فهو الإصابة في النطق والرأي (والفاقة) الفقر والحاجة (والسحت) بضم فسكون: الحرام، وسمي سحتا لأنه يسحت، أي يمحق.(1/296)
هذا) والراجح أن الغارم يعطي من الزكاة مطلقا (قال) أبو الطيب صديق بن حسن: وأما الغارم فظاهر إطلاق الآية يشمل من عليه دين سواء أكان غنيا أو فقيرا مؤمنا أو فاسقا في طاعة أو معصية. أما عدم الفرق بين الغني والفقير، فلإطلاق الآية ولاستثناء الغارم من حديث: لا تحل الصدقة لغني. وأما عدم الفرق بين المؤمن والفاسق، فلإطلاق الآية لا سيما إذا استدان الفاسق في غير سرف ولا معصية فلا معنى لاشتراط الإيمان. وأما عدم الفرق بين الدين في طاعة أو معصية. فلإطلاق الآية. وإذا ورد ما يقتضي التقييد بما لزم في طاعة أو معصية، فلإطلاق الآية. وإذا ورد ما يقتضي التقييد بما لزم في طاعة فله حكمه. نعم إذا كانت الإعانة له تستلزم إغراءه على المعاصي ووقوعه فيما يحرم عليه، فلا ريب أنه ممنوع لأدلة أخرى. وأما إذا لومه الدين في السرف والمعصية ثم تاب وأقلع وطلب أن يعان من الزكاة على القضاء، فالظاهر عدم المنع(1).
(7) سبيل الله:
__________
(1) انظر ص 134- الروضة الندية (مصارف الزكاة).(1/297)
المراد به- عند النعمان- جميع القرب. فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخير إذا كان محتاجا (وقال) أبو يوسف: المراد منه فقراء الغزاة لأن سبيل الله إذا أطلق في عرف الشرع يراد به ذلك. (وقال) محمد: المراد به الحاج المنقطع(1). (روت) أم معقل الأسدية "أن زوجها جعل بكرا لها في سبيل الله وأنها أرادت العمرة، فسألت زوجها البكر، فأبى، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فأمره أن يعطيها، وقال النبي صلي الله عليه وعلى آله وسلم: الحج والعمرة من سبيل الله، فأعطاها البكر" (الحديث) أخرجه أحمد و أبو داود و الحاكم و قال : صحيح على شرط مسلم . ( ورد ) بأن فيه مجهول و إبراهيم ابن مهاجر متكلم فيه(2) . { 150 }
... ( وقال ) الأئمة الثلاثة : المراد بسبيل الله الغزاة المتطوعون بالجهاد أن لم يكن لهم شئ فى بيت المال فيعطون ولو أغنياء إعانة لهم على الغزو ( لما ) تقدم من قوله صلى الله عليه و سلم : لا تحل الصدقه لغنى إلا لخمسة ، و منهم : أو غاز فى سبيل(3) . ولن الله تعالى جعل الفقراء و المساكين صنفين و عد بعضهما ستة أصناف لم يشترط فيهم الفقر ، فيجوز لهم الأخذ مع الغنى الظاهر الآية(4) .
... ( وأجاب ) الحنفيون عن الحديث : لا تحل الصدقة لغنى إلا لغاز فى سبيل الله ، بأنه محمول على من كان غنيا حال إقامته ، فلا تحل له الصدقة ، فإذا عزم على السفر للجهاد احتاج لعدة و سلاح لم يكن محتاجا لهم فى إقامته فيجوز أن يعطى من الصدقة و إن كان غنيا فى مصره .
__________
(1) انظر ص 45 ج 2 بدائع الصنائع.
(2) انظر ص 69 ج9 – الفتح الربانى ( الصدقه فى سبيل الله ) و ص 151 ج2 عون المعبود ( العمره ) و ص 482 ج1 مستدرك .
(3) تقدم رقم 143 عن أبى سعيد ص 260 ( العامل على الزكاة ) ..
(4) انظر ص 704 ج2 شرح المقنع .(1/298)
... ( وحاصل ) مذهب مالك رحمه الله ان المجاهد فى سبيل الله أى المتلبس به ان كان ممن يجب عليه لكونه حرا مسلما ذكرا مكلفا قادرا ، يعطى من الزكاة ما ينفقه فى جهاده ولو غنيا أو هاشميا ، ويدخل فيه المرابط و يشترى له منها آلة الجهاد كسيف و رمح . وقولهم : لا يعطى للمجاهد الهاشمى ، محمول على ما ينفقه على نفسه . و أما الآلة فلا يتملكها لأنها تبقى للمجاهدين ، و كالمجاهد جاسوس يرسل للاطلاع على أحوال العدو ويعلمنا بها فيعطى منها و ان كان كافرا لأنه ساع فى مصالح المسلمين(1).
__________
(1) فائدة ) لا يصرف من الزكاة فى الحج عند الحنفيين و مالك و الشافعي وهو الأصح عن أحمد لأن سبيل الله عند الإطلاق إنما يتصرف إلى الجهاد ، لان الزكاة انما تصرف الى المحتاج كالفقراء و المساكين و فى الرقاب و الغارمين لقضاء ديونهم أو على من يحتاج إليه المسلمون كالعامل والغازي والمؤلف والغارم لإصلاح ذات البين، والحجد للفقير لا نفع للمسلمين فيه ولا حاجة بهم عليه ولا حاجة به أيضا، لأن الفقير لا فرض عليه فيسقطه، وتكليفه به مشقة قد خفف الله عنه إيجابها، وتوفير ما يعطي له لذوي الحاجة من المستحقين أو دفعه في مصالح المسلمين اولى (وعن) أحمد أن الفقير يعطي قدر ما يحج به الفرض أو يستعين به فيه، وهو قول إسحاق لما تقدم في حديث أم معقل: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر زوجها أن يعطيها بكرا- جعله في سبيل الله- لتعتمر عليه..وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الحج والعمرة من سبيل الله (أنظر رقم 150 ص 269)، والأول أولى، وأما الحديث فلا يمتنع أن يكون الحج من سبيل الله، والمراد بالآية غيره لما ذكرنا، وإذا قلنا: يدفع في الحج من الزكاة فلا يعطي إلا بشرطين: (أحدهما) ألا يكون له ما يحج به سواها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحل الصدقة إلا لخمسة ولم يذكر الحاج فيهم (أنظر رقم 143 ص 260) ولأنه يأخذ لحاجته فاعتبرت فيه الحاجة كمن يأخذ لفقره (ثانيهما) أن يأخذ لحجته الفرض لأنه يحتاج إلى إسقاط فرضه وإبراهء ذمته، أما التطوع فله عنه مندوحة. (وظاهر) كلام أحمد جوازه في الفرض والنقل لأن الكل من سبيل الله، ولأن الفقير لا فرض عليه، فالفرض منه كالتطوعن فعلى هذا يجوز أن يدفع ما يحج به حجة كاملة وما يعينه في حجه. ولا يجوز أن يحج من زكاة نفسه كما لا يجوز أن يغزو بها (أنظر ص 701 ج 2 شرح المقنع).(1/299)
... ... ... ... ... ... {151}
... ويلحق به كل من تعذر عليه حصوله على ماله ولو في بلده. والأولى أن يتسلف إن قدر (وقالت) المالكية والحنبلية: ابن السبيل. الغريب المحتاج لما يوصله وكان تغربه في غير معصية بالسفر، ويلزمه أن يتسلف إن قدر فإن لم يجد مسلفا أعطى من الزكاة ولو غنيا ببلده، وإن وجد مسلفا أعطى إن كان فقيرا ببلده. أما من كان معه ما يوصله فلا يعطي منها كما لو كان تغربه في معصية.
... (وقالت) الشافعية: ابن السبيل هو منن ينشئ سفرا لغرض صحيح ولو للتنزه أو يكون مجتازا فيعطي ما يوصله لمقصده إن كان محتاجا غير عاص بسفره، فإن كان سفره لمعصية فلا يعطي. وكذا الهائم الذي سفره لغيره غرض صحيح.
ثم الكلام بعد ينحصر في سبعة فصول:
(1) توزيع الزكاة على مستحقيها:
خص الله تعالى الصدقة بهؤلاء الأصناف فلا تصرف لغيرهم ويجوز دفعها على كلهم أو بعضهم عند الحنفيين ومالك وأحمد والجمهور، لأن الآية إنما سيقت لبيان أن الصدقة لا تخرج عن هذه الأصناف لا لإيجاب قسمها عليهم جميعا (روى) عطاء عن عمر: "إنما الصدقات للفقراء. قال: أيما صنف أعطيته من هذا أجزأك" أخرجه الطبري(1).
(وقال) أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: "بعث على رضي الله عنه وهو باليمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة في ترابها، فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين الأقرع بن حابس وبين زيد الخيل وعيينة بن حصن وعلقمة ابن علاثة، فغضبت قريش والأنصار وقالوا: تعطي صناديد أهل نجد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما أتألفهم. ذكره علاء الدين الكاساني وقال: ولو كان كل صدقة مقسومة على الثمانين بطريق الاستحقاق لما دفع النبي صلى الله عليه وسلم الذهبية إلى المؤلفة دون غيرهم(2).
(
__________
(1) انظر ص 115 ج 3 جامع البيان.
(2) انظر ص 46 ج 2 بدائع الصنائع (ذهيبة) تصغير وأنثه لأن الذهب يؤنث.(1/300)
وقال) الشافعي: يلزم تعميم الأصناف إن قسم الإمام، وكذا إن قسم المالك. وكانوا محصورين (لقول) زياد بن الحارث الصدائي: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته، فأتاه رجل فقال: أعطني من الصدقة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك" أخرجه أبو داود والطحاوي، وفيه عبد الرحمن بن زياد الإفريقي تكلم فيه غير واحد(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {152}
(وبهذا) قال الزهري وداود (والظاهر) ما ذهب إليه الأولون، وليس في الىية ما يدل على طلب تعميم الأصناف. وفي التعميم حرج ومشقة (والمراد) من حديث زياد بن الحارث بيان أن الآية تكفلت ببيان الأصناف الذين يجوز الدفع إليهم (ولذا) اختار بعض محققي الشافعية عدم وجوب التعميم.
(قال) العلامة البيضاوي في تفسير الآية بعد أن ذكر قول الجمهور : واختاره بعض أصحابنا، وبه كان يفتي شيخي ووالدي رحمهما الله تعالى، على أن الآية لبيان أن الصدقة لا تخرج عنهم لا لإيجاب قسمها عليهم (وندب) إيثار المضطر على غيره بأن يزاد في عطائه منها بلا تحديد، فإن خيف هلاك أو شدة أذى وجب الإيثار ولا يندب تعميم الأصناف الثمانية عند مالك إلا أن يقصد الخروج من خلاف الشافعي(2) .
(
__________
(1) انظر ص 255 ج 9- المنهل العذب المورود (من يعطي الصدقة).
(2) انظر ص 602 ج 1- الفجر المنير.(1/301)
وقال) الحنفيون وأحمد: يستحب تفريقها على من أمكن من الأصناف وتعميمهم ويبدأ بإعطاء جابي الزكاة لأنه يأخذ أجر عمله فكان استحقاقه أولى. ولذا إذا عجزت الصدقة عن أجره تمم من بيت المال، ويعطي كل صنف قدر كفايته فإن فضلت عن كفايتهم نقل الفاضل إلى أقرب البلاد إليه، وإن نقصت أعطى الإمام كل إنسان منهم ما يرى(1)، وإذا تولى الرجل تفريق زكاته، فالأفضل له- عند غير مالك- دفعها إلى الأقارب غير الأصول والفروع، لما فيه من الصلة والصدقة (روى) سلمان بن عامر الضبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم اثنتان صلة وصدقة" أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه والحاكم وقال: صحيح الإسناد(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {153}
ويخص ذوي الحاجة لأنهم أحق، فإن استووا فيها فأولاهم أقربهم نسبا. (وقال) مالك: يكره تخصيص قريب لا تلزم المزكي نفقته. وأما إعطاؤه كغيره فلا كراهة فيه إن كان من أهلها، ولنائب رب المال أن يأخذ منها بالمعروف إن كان من أهلها(3).
(2) شروط من تدفع له الزكاة:
يشترط في مصرف الزكاة سبعة شروط:
(
__________
(1) انظر ص 708 ج 2- شربحج المقنع.
(2) انظر ص 191 ج 9- الفتح الرباني (الصدقة على الزوج والأقارب) وص 261 ج 1- مجتبي (الصدقة على الاقارب) وص 22 ج 2- تحفة الأحوذي، وص 407 ج 1- مستدرك.
(3) انظر ص 603 ج 1- الفجر الجديد.(1/302)
أ ) الإسلام (لقول) النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: "فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله تعالى افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد في ففرائهم"(1)، والضمير للمسلمين فلا تدفع لكافر. نعم الكيال والحمال والحافظ ونحوهم يجوز كونهم كفارا عند الشافعي يعطون أجرهم من سهم العامل لأن ذلك أجرة لا زكاة، وكذا الجاسوس الكافر يعطي عند مالك والمؤلف الكافر يعطي عنده وعند أحمد(2)، وكذا إن كان عاملا في إحدى الروايتين عنه. ويجوز دفع الزكاة وغيرها للمسلم الفاسق إلا إن علم أنه يستعين بها على معصية فيحرم وإن أجزأ.
( ب ) الحرية- وهي شرط في غير الرقاب، فلا تعطي- عند غير الحنفيين- لرقيق ولا لمن فيه شائبة رق لأن نفقته على سيده، فإن عجز السيد عنها باعه أو أعتقه فيكون من أهل الزكاة، وإذا كان العبد عاملا جاز إعطاؤه من الزكاة أجر عمله (وقال) الحنفيون: لا يشترط حرية المؤدى إليه، فيجوز دفع الزكاة لعبد سيده فقير، وتقع للسيد، وكذا يصح دفعها عند النعمان لعبد سيده غنى إذا كان مأذونا له في التجارة وكان مدينا بما يستغرق رقبته وكسبه؛ لأن السيد لا يملك حينئذ كسبه فهو كالمكاتب.
(وقال) أبو سف ومحمد: لا يجوز دفع الزكاة لعبد سيده غني، لأنه يملك كسبه عندهما (أما المكاتب) فيجوز- عند غير مالك- أن يدفع إليه غير سيده زكاته على ما تقدم بيانه في بحث الرقاب(3)، وكذا يجوز للسيد دفع زكاته إلى مكاتبه عند ابى يوسف و محمد وهو الصحيح عن احمد ، لأنه صار معه فى المعاملة كالأجنبى ، فهو كالدائن يدف زكاته الى مدينه . ( وقال ) النعمان : لا يدفع السيد زكاتة لمكاتبه لأن للسيد حقا فى كسبه فكأنه دفع لنفسه ، وهو رواية عن احمد .
__________
(1) هذا بعض الحديث رقم 5 ص 105 (دليلها).
(2) انظر ص 600 ج 1- الفجر المنير.
(3) تقدم ص 211.(1/303)
... (ج) إلا يكون غنيا بمال : يشترط فى المصرف الاحتياج على ما تقدم فى بحث الفقير و المسكين فلا تدفع الزكاة إلا غنى بالإجماع ( وهو ) عند الحنفيين من يملك نصابا ولو غير تام – من النقود أو الماشيه أو العروض – فاضلا عن الدين و الحوائج الأصلية ( لحديث ) سالم بن أبى الجعد عن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه و سلم قال : " لا تحل الصدقة لغنى ولا ذى مرة سوى " أخرجه أحمد و النسائى و أبن ماجه و الدار قطنى بسند رجاله ثقات ، لكن قال أحمد : سالم لم يسمع من أبى هريرة . وأخرجه الحاكم عن ابى حازم عن أبى هريرة و قال : صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبى(1) . ... ... ... ... ... ... ... {154}
... ( وقالت ) المالكيه : الغنى من يملك أو يكتسب ما يكفيه – هو ومن تلزمه نفقته – عاما فيجوز دفعها لمن يملك أو يكتسب نصابا فأكثر لا يكفيه .
... ( وقالت ) الشفاعية : الغنى من له مال أو كسب يكفيه ومن تلزمة نفقته العمر الغالب وهو ستون سنة على ما تقدم فى بحث الفقير و المسكين(2) .
... ( قال ) الشافعى رحمة الله : قد يكون الرجل غنيا بالدرهم مع الكسب و لا يغنيه الألف مع ضعفه فى نفسه و كثرة عياله(3).
... ( وعن ) أحمد روايتان :
( الأولى ) أن الغنى هو من يقدر على تحصيل ما يكفيه ومن تلزمه نفقته ، فاذا لم يكن محتاجا حرمت عليه الزكاة وان يملك شيئا ، وان كان محتاجا حلت له و ان ملك نصابا من الأثمان و غيرها .
(
__________
(1) انظر ص 91 ج9 – الفتح الربانى ( من لاتحل له الصدقة ) و ص 363 ج1 – مجتبى ( اذا لم يكن له دراهم و كان له عدلها ) و ص 289 ج1 – ابن ماجة ( من سال عن ظهر غنى ) و ص 210 – الدار قطنى ، و ص 407 ج1 – مستدرك ، ( و المرة ) بكسر الميم : الشدة و القوة ( و السوى ) السليم الخلق التام الأعضاء .
(2) تقدم ص 259
(3) انظر ص57 ج2 – معالم السنن ( من يعطى الصدقة وحد الغى ) ..(1/304)
الثانية ) أن الغنى هو من يملك خمسين درهما أو قيمتها من ذهب ، أو قدر على تحصيل ما يكفيه على الدوام من يكسب أو تجارة أو عقار أو نحوها .فلو ملك من العروض أو الحبوب أو السائمة أو العقار ما لا تحصل به الكفايه لم يكن غنيا و ان ملك نصابا . و هذا هو الظاهر من مذهبه ( لما ) روى عن على وابن مسعود رضى الله عنهما انهما قالا : لاتحل له الصدقة لمن لهم خمسون درهما أو قيمتها من الذهب(1) .
... ( واجاب ) الأولون بأن هذا وما روى مثله مرفوعا لا يدل على حرمة أخذ الزكاة علة من ملك خمسين درهما أو قيمتها ، انما يدل على حرمة السؤال على من ذكر . على ان الحديث ضعيف لا يحتج به كما تقدم(2) .
... ( وقال ) الحسن البصرى رضى الله عنه : الغنى من ملك اربعين درهما أو قيمتها ( لقول ) أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه : سرحتى امى الى النبى صلى الله عليه و سلم أسأله ، فأتيته فاستقبلنى ، فقال : " من استغنى اغناه الله و من استعف أعفه الله و من استكفى كفاه الله و من سال وله قيمه أو قية فقد ألحف .
فقلت : ناقى الياقوتة معى خير من اوقية ، فرجعت ولم أسأله " أخرجه احمد و النسائى بسند رجاله ثقات(3) .{155}
... و الاوقيه أربعون درهما . ( واجاب ) الأولون عن هذا الحديث بحمله على حرمة السؤال . بمعنى انة لا يحل سؤال الصدقة لمن له أوقية أو قدرها من الذهب .
أقسام الغنى : هو ثلاثة أقسام :
(
__________
(1) انظر ص 523 ج2 – مغى ابن قدامة .
(2) تقدم رقم 142 ص 259 ( الفقير و المسكين ) .
(3) انظر ص 92 ج9 – الفتح الربانى ( نهى الغى عن السؤال ) و ص 363 ج1 – مجتبى ( من الملحف ؟ ) ( وسر حتى ) أى ارسلتى
( و ألحف ) أى تعدى فى السؤال والح فبه و ( الياقوتة ) اسم للناقة .(1/305)
1) الغنى الموجب للزكاة ، وهو أن يملك نصابا من المال النامى الفاضل عن حاجته الاصلية – عند الحنفين – وهو مانع من اخذ الزكاة ( لقول ) النبى صلى الله عليه و سلم لما بعثة الى اليمن : " ان الله افترض عليهم صدقة فى اموالهم تؤخذ من أغنبائهم و ترد فى فقرائهم "(1) .
... قسم الناس قسمين : أغنياء و فقراء وجعل الأغنياء يؤخذ منهم و الفقراء ترد عليهم ، فمن لم يؤخذ منه يكون مردودا عليه ( وقال ) مالك و الشافعي و احمد : قد يجوز لمن تجب عليه الزكاة أن يأخذ زكاة غيرة ، فمن ملك نصاب زكاة – لا تتم به الكفايه – من غير الأثمان فله أن يأخذ من الزكاة .
... ( قال ) الميمونى : ذاكرت أبا عبد الله – يعنى احمد – فقلت : قد تكون للرجل الإبل و الغنم تجب فيها الزكاة و هو فقير و تكون له اربعون شاة و تكون له الضيعة لا تكفيه فيعطى الصدقة ؟ قال : نعم و ذلك لأنه لا يملك ما يغنيه و لايقد على كسب ما يكفيه فجاز له الاخذ من الزكاة كما لو كان ما يملك لا تجب فيه الزكاة(2) .
(
__________
(1) هذا بعض الحديث رقم 5 ص 105 ( دليلها ) .
(2) انظر ص 525 ج2 – مغى ابن قدامة .(1/306)
2) الغنى المحرم لأخذ الصدقة و الموجب لصدقة الفطر و الأضحية – عند الحنفيين – وهو أن يملك مما لا تجب فيه الزكاة ما يفضل عن حاجته وتبلغ قيمة الفاضل مائتى درهم زيادة عما يحتاج اليه و ليس للتجارة و لا من السوائم ، فاذا كان كذلك حرم عليه أخذ الصدقة ( وقال ) مالك و الشافعى و أحمد : لا يحل الأخذ من الزكاة لمن عنده ما يكفيه من مال أو كسب بلا زيادة ( لقول ) عبيد الله ابن عدى : " أخبرنى رجلان أنهما أتيا النبى صلى الله عليه و سلم فى حجة الوداع يسألانه الصدقة ، فرفع فيهما النبى صلى الله عليه و سلم البصر و خفضه ، فرآهما رجلين جلدين ، فقال : ان شئتما أعطيتكما منها ولاحظ فيها لغنى ولا لقوى مكتسب " أخرجه أحمد و النسائى وأبو داود و الدار قطنى بسند جيد(1) . ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {156}
... ( وأجاب ) الحنفيون بأن هذا محمول على حرمة السؤال لا على حرمة الأخذ من الزكاة ، ولو كان حراما لم يعطهما النبى صلى الله عليه و سلم ، و لكن قال ذلك للزجر عن السؤال و الحمل على الكسب .
(
__________
(1) انظر ص 93 ج9 – الفتح الربانى ( نهى الغى عن السؤال ) و ص 363 ج1 – مجتبى ( مسألة القوى المكتسب ) و ص 262 ج9 – المنهل العذب المورود ( من يعطى من الصدقة ) و ( رجلان ) من الصحابة وجهالة الصحابة لا تضر . و ( جلدين ) بسكون اللام : اى قويين .(1/307)
3) الغنى المحرم للسؤال : وهو يتحقق بالقدرة على الكسب أو بملك خمسين درهما أو قيمتها أو ما يستر جسده ويفى بقوت يومه ( لحديث ) سهل ابن الحنظلية أن البنى صلى الله عليه وسلم قال : " من سأل و عنده ما يغنيه فانما يستكثر من نار جهنم ، قالوا : يا رسول الله وما يغنيه ؟ قال : ما يغديه أو يعشيه " أخرجه أحمد وأبو داود مختصرا بسند رجاله رجال الصحيح(1) . ... ... ... ... ... ... ... ... ... {157}
... الغنى بغيره :
(د) يشترط فيمن تصرف له الزكاة أن لا يكون غنيا بغنى غيره وهو من تجب عليه فطرته عند الحنفيين ومن تلزمه نفقته عند غيرهم ، فلا تدفع الى أولاد صغار أبوهم غنى وان لم يكونوا فى عيالهم لانهم أغنياء بغناه ، أما الكبار الفقراء فتدفع لهم الزكاة لأنهم لا يعتبرون أغنياء بغنى أبيهم و ان كانت نفقتهم عليه بان كان الوالد زمنا او اعمى ، او طالب علم ، او انثى لم تتزوج . وكزا يصح دفعها الى اصل الغنى وامرئته الفقيرين ولو فرض لها نفقه عند المعونان و محمد ، لانها لا تعد غنيه بغنى زوجها لانها لا تستحق عليه الا مقدار النفقه فلا تعد به غنيه .
(وعن ) ابى يوسف : لا يجوز اعطاؤها من الزكاة اذا قضي لها بالنفقة لانها تصير دينا بالقضاء فتصير بها غنيه بغنى زوجها ( وقال ) الائمه الثلاثة : لا تدفع الزكاة لمن تزلم الغنى نفقته كرفعه ولو كبيرا واصله و امرائتة الفقراء ، وهذا – بالنسبه للمرأة – اذا كان زوجها موسرا ينفق عليها و ان لم ينفق عليها وتعزر ذلك ، جاز الدفع اليها كما لو طعلت منفعة العقار(2) .
عودة منفعة الزكاة على المزكى :
__________
(1) انظر ص 94 و 95 ج9 – الفتح الربانى ( نهى الغى عن السؤال ) و ص 253 ج9 – المنهل العذب المورود ( من تحل له الصدقة ) (والحنظلية) اسم أم سهل ، وأبوه الربيع بن عمرو .
(2) انظر ص 526 ج2 – مغنى ابن قدامه .(1/308)
... (هـ) يشترط عدم اتصال المنافع بين المزكى و المؤدى اليه لأن ذلك يمنع تمليك الفقير من كل وجه بل صرافا الى نفس المزكى من وجهه ، و عليه :
(1) لا تدفع الزكاة لأصل المزكى كأبويه و اجداده وجداته ولو من قبل الأم وان علوا
(2) ولا الى فرعيه وان سفله ، لعدم قطع المنفعة عن المزكى بدفعه لمن ذكر . وهذا مجمع عليه .
(3) و لا يدفع الرجل زكاته الى امرأته اجماعا .
(4) ولا تدفع المرأة الزكاة الى زوجها و لو معتدة من طلاق بائن بينونة كبرى – عند النعمان و أحمد فى روايه – لعدم قطع المنفعه عنها بدفعها لزوجها .
( وقال ) أبو يوسف و محمد و الشافعي و أحمد فى روايه و اشهب المالكي : يجوز للمرأة دفع زكاتها الى زوجها الفقير ( لحديث ) أبي سعيد الخدرى رضى الله عنه أن زينب أمرأة ابن مسعود قالت : يا بني الله إنك أمرت اليوم بالصدقة و كان عندي حلي لي فأردت أن أتصدق به ، فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم . فقال النبي صلي الله تعالي و على آله و سلم : " صدق ابن مسعود ، زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم " أخرجه البخاري مختصرا(1) . ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {158}
__________
(1) انظر ص 209 ج3 – فتح الباري ( الزكاة على الاقارب ) و ( و لودك ) لعله مجاز عن الربائب ( لحديث ) زينب امرأة ابن مسعود أنها قالت لبلال : سل النبى صلى الله عليه و سلم أيجزئ عني أن انفق على زوجى وايتام لي فى حجري ؟ فسأله فقال : " نعم و لها اجر القرابه واجر الصداقة " أخرجه أحمد و الشيخان و النسائي و ابن ماجة و هذا لفظ البخاري مختصرا ( أنظر ص 188 ج9 – الفتح الرباني و ص 210 و 211 ج3 – فتح الباري الزكاة على الزوج و الايتام . و ص 86 ج7 – نووي . و ص 361 ج1 – مجتبي – الصدقة على الاقارب . و ص 289 ج1 – ابن ماجة ) . .(1/309)
... ولأنه لا يجب على المرأة نفقة الزوج فلا مانع من الدفع إليه كالأجنبي لأن الاصل جواز الدفع الى الزوج لدخوله فى الاصناف المستحقة للزكاة ، و ليس فى المنع نص و لا إجماع(1) .
... ( وأجانب ) الأولون عن حديث ابى معود بأنه محمول علي صدقة التطوع ( لقول ) البنى صلى الله عليه و سلم : " زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم " و الولد لا تدفع اليه الزكاة ( و لحديث) رائطة امرأة ابن مسعود قالت : يا رسول الله ، انى امرأة ذات صنعة أبيع منها و ليس لي ولا لولدي ولا لزوجي نفقه غيرها و قد شغلوني عن الصدقة فما أستطيع أن أتصدق بشئ فهل لى من اجر فيما أنفقت ؟ فقال لها النبى صلى الله و عليه و علي آله و سلم : " أنفقي عليهم فان لك فى ذلك اجر ما انفقت عليهم " أخرجه أحمد و البيهقي(2) . ... ... ... {159}
... ( والراجع ) عند المالكية أنه يكره للمرأة دفع الزكاة للزوج . و قيل : يمنع لعودها فى النفقة(3) .
... الهاشمي و مولاه :
... (و) يشترط فيمن تصرف له الزكاة أن لا يكون من بنى هاشم ولا من مواليهم :
... [ا] فلا تدفع الزكاة للنبى صلى الله عليه و سلم و لا لآله ، و هم – عند الحنفيين – آل العباس بن عبد المطلب و آل على و جعفر و عقيل أبناء أبي طالب و آل حارث بن عبد المطلب ( و خص ) هؤلاء بالمنع لجواز الدفع الى غيرهم من بني هاشم وهم بنو أبي لهب لأنهم آذوا النبي صلى الله عليه و سلم فأستحقوا الاهانه بجواز دفع أوساخ الناس اليهم بخلاف هؤلاء فانهم آووا و نصروه فاستحقوا الكرامة بتنزيههم عن أوساخ الناس و هي الصدقة .
__________
(1) انظر ص 714 ج2 – شرح المقنع ..
(2) نظر ص 189 و 190 ج9 - الفتح الرباني ( الدقة على الزوج و الاقارب ) وص 179 ج4 - بيهقي ( الأختيار فى صدقة التطوع ) و(رائطة) هي زينب ف ى الحديث السابق ، و لعلها كانت تتسمي باسمين.
(3) انظر ص 603 ج 1- الفجر المنير.(1/310)
... ( وقال ) مالك و أحمد : آل النبى صلى الله عليه و على آله و سلم بنو هاشم مطلقا حتى من اسلم من بنى لهب(1) ( لعموم ) قول النبى صلى الله عليه و سلم – فى حديث عبد المطلب بن ربيعه - : " ان الصدقه لا تنبغى لآل محمد انما هيا اوساخ الناس "(2) . وقد اسلم عتبه و معتب ابنا أبى لهب عام الفتح و شهد حنينا و الطائف ، و قد أعقبا .
... ( وقال ) الشافعي و جماعة : آل النبى صلى الله عليه و سلم : بنو هاشم و بنو المطلب ، لآن النبى صلى الله عليه و سلم أعطاهم من سهم ذوى القربى و لم يعط غيرهم من قبائل قريش ، فكان ذال يدل ما حرموة من الزكاة .
__________
(1) و المراد ببنوة هاشم كل من لهاشم عليه ولادة ذكرا أو أنثى ولو بواسطة غير انى فلا يدخل فى بنى هاشم ولد بناته ( أنظر من 600 ج1 – الفجر المنير ) .
(2) هو بعض الحديث رقم 144 ص 261 ( العامل على الزكاة ) .(1/311)
... ( قال ) جبير بن مطعم : لما كان يوم خبير وض \ع النبى صلى الله عليه و سلم سهم ذوى القربي فى بني هاشم و بني المطلب ، و ترك بني نوفل و بني عيد شمس ، فأتيت أنا و عثمان بن عفان رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقلنا : يا سرول الله هؤلاء بنوا هاشم لا ننكر فضلهم للموضع الذى وضعك الله به منهم ، فما بال اخواننا بنى المطلب أعطيتهم و تركتنا و قرابتنا واحدة ؟ فقال النبى صلى الله عليه و سلم : " انا و بنى المطلب لا نفترق فى جاهليه و الا اسلام و انما نحن وهم شئ واحد وشبك بين اصابعه " أخرجه احمد و ابو داود النسائى(1) . {160}
__________
(1) أنظر ص 81 ج 4 مسند أحمد و ص 106 ج3 عون المعبود ( مواضع قسم الخمس – الخراج ) و ص 178 ج2 مجتبى ( قسم الفيئ ) ( و شبك ) أشار النبى صلى الله عليه و سلم بالتشبيك الى نصرتهم اياه حينما حوصروا فى شعب ابى طالب لما تعاهدت قريش على مقاطعه بنى هاشم فى البيع و الشراء و النكاح و غيرها فانجاز بنو هاشم و بنو المطلب الى الشعب واستمروا محصورين فيه نحو ثلاث سنين الا أبا لهب فلم يكن معهم .(1/312)
... ( وأجاب ) الاولون بان بنى المطلب انماب اعطوا من خمس الخمس لنصرتهم و موالاتهم بنى هاشم الا لمجرد القرابه ، فان بنى عبد شمس و بنى نوفل ليسوا دونهم فى القرابة و لم يعطوا من الخمس الخمس. والنصرة لا تقضى منع الزكاة فتعطى للمستحق من بنى المطلب بدخولهم فى عموم من يستحقهم وانما منع منها بنو هاشم لما فى حديث عبد المطلب بن ربيعه من قول النبى صلى الله عليه و سلم : ان هذة الصدقة انما هيا اوساخ الناس وانها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد(1) ." ولحديث ابى هريرة رضى الله عنة ان الحسن ابن على رضى الله عنهما اخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها فى فيه ، فقال النبى صلى الله عليه و سلم : كخ كخ أرم بها ، اما علمت" لا نأكل الصدقة او ان لا تحل لنا الصدقة ؟ " أخرجه احمد و الشيخان(2) . ... ... ... ... ... ... {161}
__________
(1) تقدم رقم 144 ص 261 (العامل على الزكاة).
(2) انظر ص 75 ج 9 الفتح الرباني (تحريم الصدقة على بني هشام) وص 227 ج 3 فتح الباري (الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم) وص 175- ج 7 نووي (تحريم الزكاة على الرسول وآله) (وكخ) بفتح أو كسر فسكون الخاء مخففا ومثلا وبكسرها منونة وغير منونة: وهي كلمة لردع الصبي عن تناول ما لا ينبغي.(1/313)
... (فوجب) اختصاص بني هاشم بالمنع، ولا يصح قياس بني المطلب عليهم لأن بني هاشم أقرب إليه صلى الله عليه وسلم واشرف وهم آله (وهذا) في الصدقة الواجبة كالزكاة والكفارات وجزاء الصيد (متفق عليه) أما صدقة التطوع وغلة الوقوف، فالراجح عند الحنفيين أنها لا تدفع لهم إلا على وجه الهدية (لحديث) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى بطعام سأل عنه، فإن قيل: هدية، أكل، وإن قيل: صدقة، لم يأكل وقال لأصحابه: كلوا" أخرجه أحمد والشيخان(1). ... ... ... ... ... ... ... {162}
... (قال) الخطابي: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ولا يأخذ الصدقة لنفسه وآله، وكأن المعنى في ذلك أن الهدية إنما يراد بها ثواب الدنيا، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبلها ويثيب عليها فتزول المنة عنه والصدقة يراد بها ثواب الآخرة فلم يجز أن تكون يد أعلى من يده صلى الله عليه وسلم في أمر الآخرة(2).
... (والمعتمد) عند مالك والشافعي وأحمد وبعض الحنفيين: أنه يجوز لآل النبي صلى الله عليه وسلم الأخذ من صدقة التطوع قياسا على الهبة والهدية والوقف ولأن المحرم عليهم إنما هو أوساخ الناس وهي الزكاة لا صدقة التطوع (والظاهر) القول بحرمة صدقة التطوع عليهم كالفرص لأن الدليل لم يفصل وهو الراجح عند الحنفيين.
... (فائدة) إذا منعت الآل من حقهم في سهم ذوي القربى لم يعطوا من الزكاة عند الحنفيين وأحمد وهو الصحيح عند الشافعي، لعموم الأدلة المانعة، ولأن منعهم من الزكاة لشرفهم بقرابة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهي باقية فيبقى المنع (وقال) مالك والأصطخري الشافعي والطحاوي: يجوز دفع الزكاة إليهم حينئذ بوصف الفقر.
__________
(1) انظر ص 76 ج 9- الفتح الرباني (تحريم الصدقة على بني هاشم لا الهدية) وص 127 ج 5 فتح الباري (قبول الهدية) وص 184 ج 7 نووي (إباحة الهدية للنبي صلى الله عليه وسلم).
(2) أنظر ص 71 ج 2 معالم السنن (الصدقة على بني هاشم).(1/314)
... [ب] ولا تدفع الزكاة لموالي آل النبي صلى الله عليه وسلم عند الحنفيين والشافعي وأحمد وابن الماجشون (لحديث) أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا من بني مخزوم على الصدقة فقال: أصحبني لعلك تصيب منها معي، فقلت: حتى أسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فسألته، فقال: "مولي القوم من أنفسهم وإنا لا تحل لنا الصدقة" أخرجه أحمد والثلاثة والحاكم وصححه وقال الترمذي: حسن صحيح(1) ... ... ... {163}
... (وقال) مالك وبعض الشافعية: يجوز دفع الزكاة إلى موالي آل النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم ليسوا بقرابة ولا حظ لهم في سهم ذوي القربى فلا يحرمون من الصدقة كسائر الناس، ولأن علة التحريم- وهي الشرف- مفقودة فيهم (والحديث) حجة عليهم ولا قيام للعلة العقلية مع الدليل الصحيح الصريح، فلا تحل لهم صدقة الفرض وكذا صدقة التطوع على الراجح عند الحنفيين. والمعتمد عند الشافعية أنه يجوز لموالي آل النبي صلى الله عليه وسلم الأخذ من صدقة التطوع كالهدية والوقف.
__________
(1) انظر ص 80 ج 9- الفتح الرباني (تحريم الصدقة على بني هاشم ومواليهم) وص 291 ج 9- المنهل العذب المورود (الصدقة على بني هاشم) وص 366 ج 1 مجتبي (مولى القوم منهم) وص 21 ج 2 تحفة الأحوذى (كراهة الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته ومواليه) وص 404 ج 1 مستدرك.(1/315)
... (ز) يشترط فيمن تصرف له الزكاة كونه أهلا للملك، فلا تدفع الزكاة فيما لا تمليك فيه كبناء مسجد أو قنطرة أو إصلاح الطرق أو تكفين ميت فقير أو قضاء دينه ولو بأمره قبل موته، ولو اشترى بالزكاة طعاما فأطعم الفقراء. ولم يدفع عين الطعام إليهم لا يجوز لعدم التمليك(1)،
__________
(1) انظر ص 39 ج 3 بدائع الصنائع (وقد) سئل الشيخ محمد بخيث مفتي الديار المصرية سابقا رحمه الله بما نصه: ما قولكم فيمن يقول بجواز دفع الزكاة- من غير تمليكها للفقير- إلى وجوه البر وغلى ما يظن نفعه للمجتمع من المصالح، كتكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد والمدارس والمستشفيات والمنتديات والاستخبارات الإسلامية ونحوها، فهل في جواز ذلك قول لأحد الأئمة ممن يؤخذ بقولهم وتظهر حجتهم؟ "وهل ما يذكره" الرازي في تفسيره عن القفال عن بعض الفقهاء أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة للمساجد، لأن قوله "وفي سبيل الله" عام في الكل (أنظر ص 464 ج 4 التفسير الكبير للفخر الرازي- الصنف السابع) "مما يعول عليه" السادة الفقهاء. وهل هذا البعض في موضع الإمامة والقدوة والأخذ بقوله؟ وهلا تقضي ذلك إلى إبطال الحكمة في تشريع الزكاة؟ أفيدونا أدامكم الله مرجعا لحل المعضلات.
... (فأجاب) رحمة الله بما ملخصه: اطلعنا على هذا السؤال ونقيد أن علماءنا صرحوا بأنه لابد من عطاء الزكاة من التمليك وأنها لا تصرف إلى بناء المساجد والقناطر والسقايات وإصلاح الطرقات والحج والجهاد وكفن ميت وكل ما لا تمليك فيه. وفسروا قوله "وفي سبيل الله" بفقراء الغزاة أو فقراء الحاج المنقطع بهم الطريق على ما بين في الأصل. وأبو يوسف رحمه الله يقول: الطاعات كلها في سبيل الله، ولكن عند إطلاق هذا اللفظ يكون المقصود منه الغزاة عند الناس ولا يصرف إلى الأغنياء من الغزاة عند خلافا للشافعي. وحكى أبو ثور عن أبي حنيفه أنه الغازي دون الحاجز وذكر ابن بطال أنه قال أبي حنيفة ومالك والشافعي. ولابد من التمليك أيضا عند الائمة الثلاثة.
... (قال) في الأم: ويعطي سهم سبيل الله جل وعز من غزا من جيران الصدقة فقيرا كان أو غنيا ولا يعطي منه غيرهم إلا أن يحتاج إلى الدفع عنهم فيعطاه من دفع عنهم المشركين (أنظر ص 62 ج 2 الأم- بيان أهل الصدقات) وقال في المدونة: وقال مالك: يعطي من الزكاة ابن السبيل وإن كان غنيا في بلده إذا احتاج. وإنما مثل ذلك مثل الغازي في سبيل الله يعطي منها وإن كان غنيا. قلت: فالحاجد المنقطع به، فقال مالك: هو ابن السبيل يعطي من الزكاة، قلت: والحاج عند مالك ابن السبيل وإن كان غنيا؟ قال: نعم (انظر ص 257 ج 1 مدونة- إعطاء المكاتب وابن السبيل من الزكاة) وقال مالك: لا يجزيه أن يعطي من زكاته في كفن ميت لأن الصدقة إنما هي للفقراء والمساكين ومن سمي الله، فليس للأموات ولا لبنيان المساجد (انظر ص 258 ج 1 مدونة- تكفين الميت من الزكاة).
... ((وقال) أبو بكر بن العربي في كتابه (الأحكام): قوله "وفي سبيل الله" قال مالك: سبل الله كثيرة، ولكني لا أعلم خلافا في أن المراد بسبيل الله ههنا الغزو، ويؤثر عن أحمد وإسحاق إنه الحج، يعني أن الحج من جملة السبل مع الغزو، لأنه طريق بر فيعطي منه باسم السبيل. وهذا يحل عقد الباب ويحرم قانون الشريعة وينثر سلك النظر وما جاء قط بإعطاء الزكاة في الحج أثر (انظر ص 396 ج 1- أحكام القرآن- التاسعة عشر).
... (وقال) الحافظ: وأما سبيل الله فالأكثر على أنه يختص بالغازي غنيا أو فقيرا، إلا أن أبا حنيفة خصه بالغازي المحتاج (وعن) أحمد وإسحق: الحج من سبيل الله. وقال ابن عمر: أما إن الحج من سبيل الله. أخرجه أبو عبيده بإسناد صحيح.
... (وقال) ابن المنذر: إن ثبت حديث ابن عباس: حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل الصدقة للحج، قلت بذلك. وتعقب بأنه يحتمل أنهم كانوا فقراء وحملوا عليها خاصة ولم يتملكوها (انظر ص 213 ج 3 فتح الباري- قول الله تعالى: "وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله".
... (وقال) في كشاف القناع: وهم أي أهل الزكاة الذين جعلهم الشرع محلا لدفعها إليهم ثمانية أصناف لا يجوز صرفها إلى غيرهم كبناء المساجد والقناطر وتكفين الموتى ووقف المصاحف وغير ذلك من جهات الخير (أنظر ص 486 ج 1- ذكر أهل الزكاة).
... "وأما" ما نقله الرازي عن بعض الفقهاء أنه أجاز صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد، لأن قوله "في سبيل الله" عام في الكل. أ هـ. وجاري الفخر الرازي على ذلاك الخازن في تفسيره وصديق حسن خان في فتح البيان. "وما" نقله أبو بكر بن العرب عن محمد بن عبد الحكم من أنه يعطي من الصدقة في الكراع والساح وما يحتاج إليه من آلات الحرب وكف العدو عن الحوزة لأنه كله من سبيل الغزو ومنفعته (انظر ص 397 ج 1- أحكام القرآن) "فذلك مردود" بما تقدم نقله عن الشافعي وما قاله أبو يوسف من أن الطاعات في سبيل الله ولكن عند إطلاق هذا اللفظ المقصود منه الغزاة عند الناس. أ هـ. أي عند العلماء فأقاد أن سبيل الله عام بحسب معنى اللفظ ولكن عرف في لسان الشارع بأن المراد منه خاص وهو ما تقدم فصار المعنى الخاص هو الحقيقة الشرعية وهي مقدمة على الحقيقة اللغوية لأن الحقيقة الشرعية هي المعنى المراد في إصطلاح تخاطب الشارع فلا يعدل عنه. وهذا كله إذا حمل قول بعض الفقهاء ومحمد بن عبد الحكم على ظاهره وأما إن جعل المراد منه ما قدمناه فلابد من التمليك ولا خلاف في عدم جواز صرفها لنفس تلك الخيرات، والله أعلم (12 ربيع الأول سنة 1348).(1/316)
ولو دفع زكاته إلى الإمام أو عامل الصدقة، جاز لأنه نائب عن الفقير في القبض. وكذا لو دفع زكاة ماله إلى غير مكلف فقير وقبض له وليه أو صيه جاز، لأن الولي يملك قبض الصقدقة عنه، وكذا الأجنبي الذي هو في عياله، لأنه كالولي في قبض الصدقة لكونه نفعا محضا، ألا ترى أنه يملك قبض الهبة له.
... (وعن) أبي يوسف ومحمد: أن من عال يتيما فجعل يكسوه ويملكه الطعام وينوي به زكاة ماله يجوز، ثم إن كان اليتيم عاقلا يدفع إليه وإن لم يكن عاقلا يقبض عنه بطريق النيابة ثم يكسوه ويطعمه لأن قبض الولي كقبضه لو كان عاقلا، ولا يجوز قبض الأجنبي للفقير المكلف إلا بتوكيله لأنه لا ولاية له عليه فلابد له من امره كما في قبض الهبة(1).
... (3) الخطأ في مصرف الزكاة:
... لو دفع المزكي- بعد التحري- زكاته إلى من ظنه مصرفا فبان أنه غني أو هاشمي أو ذمي أو أصله أو فرعه، أجزأه ما دفعه من زكاته- عند النعمان ومحمد ( لقول ) معن بن يزيد رضي الله عنهما: كان أبي أخرج دنانير يتصدق بها فوضعها عند رجل في المسجد فجئت فأخذتها فأتيته بها، فقال: والله ما إياك أردت فخاصمته إلى النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فقال: "لك ما نويت يا يزيد ولك ما أخذت يا معن" أخرجه أحمد والبخاري(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {164}
__________
(1) انظر ص 39 ج 2 بدائع الصنائع.
(2) انظر ص 187 ج 3 فتح الباري (إذا تصدق على ابنه وهو لا يشعر).(1/317)
... فعموم لفظ- ما في قوله: لك ما نويت- يفيد المطلوب وإن كان يحتمل أن الصدقة كانت نفلا (ولحديث) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال رجل: لأصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون: تصدق على سارق، فقال: اللهم لك الحمد لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد على زانية لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني فأصبحوا يتحدثون: تصدق على غني، فقال: اللهم لك الحمد على سارق وعلى زانية وعلى غني، فأتى فقيل له: أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغنى فلعله أن يعتبر فينفق مما أعطاه الله" أخرجه أحمد والشيخان والنسائي(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {165}
__________
(1) انظر ص 35 ج 9- الفتح الرباني (من دفع صدقته إلى من ظنه من أهلها...) وص 187 ج 3 فتح الباري (إذا تصدق على غني وهو لا يعلم) وص 110 ج 7 نووي (ثبوت أجر المتصدق) وص 348 ج 1 مجتبي (إذا أعطاه غنيا وهو لا يشعر) و(الرجل) المتصدق كان من بني إسرائيل كما في رواية لأحمد. و(تصدق) مبني للمجهول. وكذا (فأتى) وفي رواية الطبراني: فساءه ذلك فأتى في منامه أي أرى في المنام. وعند أحمد: فأتى فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت. وفي الحديث دلالة على أن الصدقة كانت مختصة عندهم بأهل الحاجة من أهل الخير. وفيه أن نية المتصدق إذا كانت صالحة قبلت صدقته ولو لم تقع الموقع. واختلف الفقهاء في الأجزاء إذا كان ذلك في زكاة الفرض. ولا دلالة في الحديث على الإجزاء ولا على المنع. ولذا ترجم له البخاري فقال (باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم) ولم يجزم بالحكم وتمامه في فتح الباري (انظر ص 187 ج3).(1/318)
... (وقال) مالك وأبو يوسف والشافعي: لو دفع المزكى بعد التحري زكاته إلى من ظنه مصرفا فبان أنه غني أو هاشمي أو ذمي أو أصله أو فرعه لا يجزئه ما دفعه عن زكاته، لظهور الخطأ بيقين، وعليه الإعادة لأنه دفع الواجب إلى غير مستحقه فلم يخرج من عهدته وأخطأ اجتهاده (وأجابوا) عن الحديث باحتمال أن الصدقة فيهما كانت نفلا.
... (والمختار) عند أحمد أنه إذا أعطى الزكاة من يظنه فقيرا فبان غنيا أنه يجزئه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي ساله الصدقة: إن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك(1) ولو اعتبر حقيقة الغنى لما اكتفى بقوله (وأما) لو بان الآخذ عبدا أو كافرا أو هاشميا أو أصلا أو فرعا للمعطي لم يجزء عند أحمد رواية واحدة، لأنه ليس بمستحق ولا تخفي حاله غالبا فلم يجزء الدفع غليه كديون الآدمي. وفارق من بان غنيا بأن الفقر والغنى مما يعسر الإطلاع عليه ومعرفة حقيقته، فاكتفى بظهور الفقر ودعواه بخلاف غيره(2).
... (4) من يطالب بأداء الزكاة:
__________
(1) تقدم رقم 152 ص 273 (توزيع الزكاة على ستحقيها).
(2) انظر ص 528 ج 2 مغنى ابن قدامة.(1/319)
... مال الزكاة نوعان (ظاهر) وهو المواشي والزروع والمال الذي يمر به التاجر على العاشر (وباطن) وهو الذهب والفضة وأموال التجارة في مواضعها (أما الظاهر) فللإمام ونوابه من السعادة والعشار ولاية الأخذ والطلب(1)- عند الحنفيين ومالك- لقوله تعالى: "خذ من أموالهم صدقة"(2)نزلت في الزكاة وفيها أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأخذ الزكاة، فللإمام المطالبة بهذا وأخذها، ولقوله تعالى: "إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها" فقد جعل للعاملين عليها حقا، فلو لم يكن للإمام أن يطالب أرباب الأموال بدفع الصدقات وكان أداؤها لأرباب الأموال لم يكن لذكر (العاملين) وجه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث المصدقين إلى أحياء العرب والبلدان لأخذ الصدقات من الملاك، وفعله الخلفاء من بعده.
... (وقال) الصديق رضي الله عنه- لما امتنعت العرب عن أداء الزكاة-: والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه(3) (وكذا) المال الباطن إذا مر به التاجر على العاشر كان له أن يأخذ منه، لأنه لما سافر به وأخرجه من العمران صار ظاهرا والتحق بالسوائم، لأن الإمام إنما كان له المطالبة بزكاة المواشي في أماكنها لمكان الحماية، لأن المواشي في البراري لا تصير محفوظة إلا بحفظ السلطان وحمايته، وهذا المعنى موجود في مال يمر به التاجر على العاشر فكان كالسوائم، وعليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإن عمر رضي الله عنه نصب العشار وقال لهم: خذوا من المسلم ربع العشر ومن الذمي نصف العشر ومن الحربي العشر، وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضياللبه عنهم، ولم ينقل أنه أنكر عليه واحد منهم، فكان إجماعا.
__________
(1) الساعي) من يسعى إلى القرى لأخذ صدقات المواشي في أماكنها (والعاشر) من يأخذ الصدقة من التاجر يمر عليه.
(2) سورة التوبة: آية 103.
(3) هذا بعض الحديث رقم 12 ص 112 (قتال مانع الزكاة).(1/320)
... (وروى) عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عماله بذلك وقال أخبرني بهذا من سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
... (وأما المال) الباطن الذي يكون في المصر فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طالب بزكاته وأبو بكر وعمر طالبا وعثمان طالب زماناز ولما كثرت أموال الناس ورأى أن في تتبعها حرجا على الأمة وفي تفتيشها ضررا بارباب الأموال، فوض الأداء إلى أربابها.
... (وقال) الشيخ أبو منصور الماتريدي: لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث في مطالبة المسلمين بزكاة الورق وأموال التجارة، ولكن الناس كانوا يعطون ذلك للمستحق، ومنهم كان يحمل إلى الأئمة فيقبلون منه ذلك ولا يسألون أحدا عن مبلغ ماله ولا يطالبونه بذلك(1).
... (وقال) أحمد: يستحب للإنسان تفرقة زكاته بنفسه ويجوز دفعها إلى الساعي (وعنه) يستحب أن يدفع إليه العشر ويتولى تفريق الباقي (وقال) الشافعي: دفعها إلى الإمام العادل أفضل، وهو قول الشعبي والأوزاعي، لأن الإمام أعلم بمصارفها ودفعها إليه يبرئه ظاهرا وباطنا، ودفعها إلى الفقير لا يبرئه باطنا لاحتمال أن يكون غير مستحق لها (وكان) ابن عمر يدفع زكاته على من جاءه من سعاة ابن الزبير (وقال) سهيل بن أبي صالح: أتيت سعد بن أبي وقاص فقلت: عندي مال وأريد أن أخرج زكاته وهؤلاء القوم على ما ترى فما تأمرني؟ وقال: ادفعها إليهم، فأتيت بان عمر وأبا هريرة وأبا سعيد، فقال كل مثل ذلك(2).
__________
(1) انظر ص 35 ج 2 بدائع الصنائع.
(2) أخرج هذه الآثار سعيد بن منصور وابن أبي شيبة (وعن) سعد بن أبي وقاص مرفوعا: ادفعوها إليهم ما صلوا الخمس. أخرجه الطبراني في الأوسط. وفيه هانئ بن المتوكل وهو ضعيف (انظر ص 80 ج 3 مجمع الزوائد) (دفع الصدقات إلى الأمراء).(1/321)
... ( هذا ) ويجوز دفع الزكاة إلى السلطان الجائر ويبرأ رب المال بذلك عند الجمهور ( لقول ) أنس بن مالك رضي الله عنه : "أتى رجل من بني تميم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : حسبي يا رسول الله إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم إذا اديتها إلى رسولي فقد برئت منها فلك أجرها إثمها على من بدلها . أخرجه أحمد والطبراني في الكبير بسند رجاله رجال الصحيح(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {166}
... (قال) في المنتقى: احتج بعمومه من يرى أن الزكاة المعجلة إلى الأمام إذا هلكت عنده تهلك على حساب الفقراء دون الملاك (وقال) وائل الحضرمي: سأل سلمة بن يزيد الجعفي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله أرايت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم، فقال: "اسمعوا واطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم" أخرجه مسلم والترمذي(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {167}
... (وعليه) فلو أخذ الأمراء الظلمة الصدقات والعشور والخراج ولا يضعونها مواضعها فهل تسقط عن أربابها؟ اختلف المشايخ فيه (ذكر) الفقيه أبو جعفر الهندواني أنه يسقط ذلك كله وإن كانوا لا يضعونها في أهل لأن حق الأخذ لهم فيسقط عنا بأخذهم والوبال عليهم. وهذا قول الشافعي وأحمد.
__________
(1) انظر ص 36 ج 9- الفتح الرباني (براءة رب المال بدفع الزكاة إلى المصدق). وتقدم الحديث بأتم من هذا رقم 17 ص 116 (فضل الزكاة).
(2) انظر ص 136 ج 12 نووي (الأمر بالصبر عند ظلم الولاة).(1/322)
... (وقال) أبو بكر الإسكاف: إن جميع ذلك لا يسقط ويعطي ثانيا، لأنهم لا يضعونها مواضعها ولو نوى صاحب المال أنه يدفع إليهم ذلك عن زكاة ماله (قيل) يجوز لأنهم فقراء في الحقيقة. ألا ترى أنهم لو أدوا ما عليهم من التبعات والمظالم صاروا فقراء. (وقيل) إن السلطان لو أخذ مالا من رجل بلا حق مصادرة فنوى صاحب المال وقت الدفع أن يكون ذلك عن زكاة ماله وعشر أرضه يجوز ذلك(1).
... (5) شروط ولاية آخذ الزكاة:
... يشترط لذلك شروط أربعة:
(أ) وجود الحماية من الإمام: حتى لو ظهر أهل البغي على مدينة من مدائن أهل العدل وغلبوا عليها فأخذوا صدقات السوائم والعشور والخراج، ثم ظهر عليهم إمام العدل، لا يأخذ منهم ثانيا، لأن حق الأخذ للإمام لأجل الحفظ والحماية ولم يوجد إلا أنهم يفتون فيما بينهم وبين ربهم أن يؤدوا الزكاة والعشر ثانيا وكذا الخراج عند بعضهم (وقيل) ليس عليهم الإعادة لأن الخراج يصرف على المقاتلة والبغاة يقاتلون العدو ويذبون عن حريم الإسلام. وأما إذا مر من لزمته الزكاة على البغاة فأخذوها منه، فللإمام أخذها ثانيا، لأن التفريط من قبل من مر عليهم، والذمي في هذا كالمسلم.
(ب) وجوب الزكاة: فلا ولاية على من لم تجب عليه لأن المأخوذ زكاة وهي في عرف الشرع ما يجب إخراجه فلابد من تقدم الوجوب فتراعي شروطه وهي الملك المطلق وكمال النصاب وكونه معدا للنماء وحولان الحول وعدم الدين المطالب به من العباد وأهلية الوجوب وغير ذلك مما تقدم.
(
__________
(1) انظر ص 26 ج 2 بدائع الصنائع.(1/323)
جـ ود) ظهور المال وحضور المالك: فلو حضر ولم يظهر ماله لا يطالب بزكاته لأنه لم يظهر ماله لا يدخل تحت حماية السلطان، وكذا إذا ظهر المال ولم يحضر المالك ولا المأذون من جهته كالوكيل، لا يطالب بزكاته. فإذا جاء الساعي إلى صاحب المواشي يريد أخذ الصدقة فقال: ليست مالي أو لم يحل عليها الحول أو على دين يحيط بقيمتها، فالقول قوله بيمينه لأنه ينكر وجوب الزكاة. ولو قال: أديت إلى مصدق آخر فإن لم يكن في تلك السنة مصدق آخر لا يصدق لظهور كذبه بيقين. وإن كان مصدق آخر يصدق مع اليمين- وإن لم يثبت دعواه- في ظاهرة الرواية (ولو قال) أديت الزكاة إلى الفقراء لا يصدق وتؤخذ منه عند الحنفيين (وقال) الشافعي: لا تؤخذ لأن المصدق لا يأخذ الصدقة لنفسه بل ليوصلها على المستحق وقد أوصلها المالك بنفسه. وللحنفيين أن حق الأخذ للإمام، فهو بقوله: أديت بنفسي، أراد إبطال السلطان، فلا يملك ذلك(1).
(6) مكان صرف الزكاة:
هو مكان المال المزكى، فلو كان المزكى في بلد والمال في بلد فهي المعتبرة، فينبغي صرف زكاة كل بلد إلى فقراء أهلها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال: فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم(2).
(
__________
(1) انظر ص 35 ج 2 بدائع الصنائع.
(2) هذا بعض الحديث رقم 5 ص 104 (دليلها).(1/324)
واختلف) العلماء في نقلها (فقال) الحنفيون: يكره نقلها بعد تمام الحول من بلد إلى ىخر لهذا الحديث (ولما روى) إبراهيم بن عطاء عن أبيه قال: إن زيادا أو بعض الأمراء بعث عمران بن حصين على الصدقة، فلما رجع قال لعمران: أين المال؟ قال: وللمال أرسلتني؟ أخذناها من حيث كنا نأخذها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعناها حيث كنا نضعها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" أخرجه أبو داود وابن ماجه بسند رجاله رجال الصحيح إلا إبراهيم بن عطاء وهو صدوق(1). ... ... ... ... ... ... {168}
(سأل) الأمير عن المال زعما منه أن عمران كسائر العمال الذين يجمعون الأموال ويحملونها على الأمراء ليصرفوها في مصارفهم الخاصة، فأنكر عليه عمران وبين له أن الماثور عن النبي صلى الله عليه وسلم صرف الزكاة لمستحقيها في المكان الذي جمعت فيه.
(ولذا) قال الحنفيون: يكره نقلها إلا إلى قريب المزكي لما فيه من الصلة أو إلى شخص أحوج من أهل بلده أو أصلح أو أنفع للمسلمين أو من دار الحرب إلى دار الإسلام أو إلى طالب علم أو كانت معجلة قبل تمام الحول، فحينئذ لا يكره نقلها (لما روى) طاوس: "أن معاذا قال لأهل اليمن: إيتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم وخير لأصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم بالمدينة" أخرجه البخاري معلقا والبيهقي موصولا(2). ... ... ... ... ... ... ... ... {169}
(وكان) النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ الصدقات من الأعراب خارج المدينة ويصرفها في فقراء المهاجرين والأنصار بالمدينة (هذا) ولم يقل الحنفيون بحرمة نقلها لغير قريب أو أحوج، لأن آية: "إنما الصدقات للفقراء" وغيرها من النصوص مطلقة عن التقييد بمكان.
(
__________
(1) انظر ص 246 ج 9- المنهل العذب المورود (الزكاة تحمل من بلد إلى بلد) وص 285 ج 1- ابن ماجه (عمال الصدقة).
(2) تقدم رقم 106 ص 222 (دفع القيمة).(1/325)
وقال) مالك وأحمد: يجب صرفها في موضع الوجوب أو قربه إلى ما دون مسافة القصر، سواء وجد بموضع الوجوب مستحق أو لا، لأنه في حكم موضع الوجوب. ولا يجوز نقلها لمسافة القصر فأكثر إلا أن يكون المنقول إليهم أحوج فيندب نقل أكثرها لهم. وإن نقلت إلى مسافة القصر فأكثر إلى من هم أقل منهم في الاحتياج أجزأت مع الحرمة، وإن نقلت إلى مثلهم أجزأت مع الكراهة.
(قال) أبو داود: سمعت أحمد سئل عن الزكاة يبعث بها من بلد إلى بلد؟ قال: لا. قيل: وإن كان قرابته بها؟ قال: لا. (وقال) طاوس في كتاب معاذ بن جبل: من خرج من مخلاف إلى مخلاف فإن صدقته وعشرة ترد إلى مخلافه. أخرجه الأثرم في سننه(1).
__________
(1) انظر ص 531 ج 2 مغنى ابن قدامة (والمخلاف) بكسر فسكون: العشيرة أو البلد.(1/326)
وإن لم يوجد بمحل الوجوب أو قربه مستحق، نقلت وجوبا إلى محل فيه مستحق ولو بعد مسافة القصر (وقالت) الشافعية: يجب صرفها في بلد المال، فلو نقلت إلى بلد آخر مع وجود المستحقين ففيه أربعة أقوال الأصح أنه لا يجوز النقل ولا يجزئ ولو لأقل من مسافة القصر(1). ويجوز إن فقد المستحق في موضع الوجوب (لحديث) عمرو بن شعيب أن معاذ بن جبل لم يزل بالجند إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قدم على عمر فرده على ما كان عليه، فبعث إليه معاذ بثلث صدقة الناس، فأنكر ذلك عمر وقال: لم أبعثك جابيا ولا آخذ جزية، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فترد على فقرائهم. فقال معاذ: ما بعث إليك بشيء وأنا أجد أحدا يأخذه منى. فلما كان العام الثاني بعث إليه بشطر الصدقة فتراجعا بمثل ذلك. فلما كان العام الثالث بعث إليه بها كلها، فراجعه عمر بمثل ما راجعه، فقال معاذ: ما وجدت أحدا يأخذ مني شيئا. أخرجه أبو عبيد في كتاب الأموال(2).
(وقال) أحمد: لا تخرج صدقة قوم عنهم من بلد إلى بلد إلا أن يكون فيها فضل عنهم، لأن الذي كان يجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر من الصدقة إنما كان عن فضل عنهم، وكذلك إذا كان ببادية ولم يجد من يدفعها غليه فرقها على فقراء أقرب البلاد إليه(3).
(
__________
(1) والقول الثاني) يجزئ النقل ويجوز مطلقا (الثالث) لا يجزئ ولا يجوز مطلقا (الرابع) يجزئ ويجوز النقل دون مسافة القصر ولا يجزئ ولا يجوز نقل الزكاة إليها وهذا إذا فرق رب المال زكاته، أما إذا فرقها الإمام أو الساعي فالأشبه جواز النقل مطلقا.
(2) انظر ص 532 ج 2 مغنى ابن قدامة (والجندل) بضم فسكون: بلد باليمن.
(3) انظر ص 532 ج 2 مغنى ابن قدامة (والجندل) بضم فسكون: بلد باليمن.(1/327)
وإذا ) أخذ الساعي الصدقة فاحتاج إلي بيعها لمصلحة- من كلفه في نقلها أو مرضها أو نحوها- فله ذلك لما روى قيس بن أبي حازم أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم رأى في إبل الصدقة ناقة كوماء، فسأل عنها، فقال المصدق: "إني ارتجعتها بإبل فسكت" أخرجه أبو عبيد في الأموال(1). ... ... ... ... {170}
وقال: الرجعة أن يبيعها ويشتري بثمنها أو غيرها. فإن لم يكن حاجة على بيعها، فقال بعض الحنبلية: لا يجوز والبيع باطل وعليه الضمان.
(وقيل) يجوز لحديث قيس فإن النبي صلى الله عليه وسلم سكت حين أخبره المصدق بارتجاعها ولم يستفصل(2).
(7) ما يطلب من المزكى والآخذ:
هو ثلاثة أمور:
(أ) يسن للمزكي دفع الزكاة بيده اليمني متواضعا لله تعالى، معتقدا أن الفضل والنعمة من الله تعالى، وإنما أجرى الخير على يديه تفضلا منه وإحسانا داعيا بقوله: اللهم اجعلها مغنما ولا تجعلها مغرما (لحديث) سويد بن سعيد حدثنا الوليد بن مسلم عن البختري بن عبيد عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أعطيتم الزكاة فلا تنسوا ثوابها أن تقولوا: اللهم اجعلها مغنما ولا تجعلها مغرما" أخرجه ابن ماجه وسويد فيه مقال، والوليد مدلس، والبختري متروك متفق على ضعفه(3). ... ... ... ... ... ... ... {171}
(
__________
(1) انظر ص 533 منه (والكوماء) بفتح فسكون: الناقة العظيمة السنام.
(2) انظر ص 533 ج 2 مغنى ابن قدامة.
(3) انظر ص 282 ج 1- ابن ماجه (ما يقال عند إخراج الزكاة) و(أن تقولوا) بدل من ثواب، أي لا تنسوا هذا الدعاء الذي فيه طلب الثواب من الله تعالى.(1/328)
ب) ويسن للأخذ أن يدعو للمزكي بنحو آخرك الله فيما أعطيت وجعله طهورا، وبارك لك فيما أبقيت (لحديث) وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ساعيا فأتي رجلا فآتاه فصيلا مخلولا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تبارك فيه ولا في إبله. فبلغ الرجل. فجاء بناقة حسنا، فقال: أتوب إلى الله وإلى نبيه صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم بارك فيه وفي إبله" أخرجه النسائي(1). ... ... {172}
(وقال) عبد الله بن أبي أوفى: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقة قال: اللهم صل عليهم، فأتاه أبي أبو أوفي بصدقته، فقال: الهم صل على آل أبي أوفى" أخرجه السبعة إلا الترمذي(2). ... {173}
(ولهذا) قال الأئمة الأربعة والجمهور: يسن دعاء آخذ الزكاة لرب المال. وأوجبه داود وبعض الشافعية لظاهر قوله تعالى: "وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم" (ورد) بأن هذا مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم لكون صلاته سكنا لهم بخلاف صلاة غيره، ولو كان الدعاء واجبا لأمر به النبي صلى الله عليه وسلم السعادة.
(
__________
(1) انظر ص 240 ج 1 مجتبي (الجمع بين المفترق..) و(فصيلا مخلولا) أي مهزولا وهو الذي جعل في أنفه خلال لئلا يرضع أمه فهزل.
(2) انظر ص 232 ج 3 فتح الباري (صلاة الإمام على صاحب الزكاة ودعاؤه له) وص 84 ج 7 نووي (الدعاء لمن أتى بصدقته) وص 191 ج 9- المنهل العذب المورود (دعاء المصدق لأهل الصدقة) وص 241 ج 1 مجتبي (صلاة الإمام على صاحب الصدقة)- وص 282 ج 1- ابن ماجه (ما يقال عند إخراج الزكاة) و(لفظ آل) زائد لأن الآل يطلق على ذات الشيء (وفي الحديث) دليل على جواز الدعاء بالصلاة على غير الأنبياء استقلالا وفي هذا خلاف (انظر ص 393 إرشاد الناسك. إلى أعمال المناسك- الصلاة على آل النبي صلى الله عليه وسلم).(1/329)
جـ) يندب ستر الزكاة عن أعين الناس، لأن عمل السر أفضل إلا أن يكون الغالب تركها فيستحب الإظهار للاقتداء به. وقيل: إن إظهارها أفضل، وكذا سائر الفرائض، لكن يحرم قصد المحمدة (وأما) صدقة التطوع فيستحب فيها الإسرار لخبر: ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه(1) (فعده) من السبعة الذين يظلهم الله تعالى في ظل عرشه.
(وقال) ابن عباس في قوله تعالى: "إن تبدوا الصدقات فنعما هي"(2) الآية: جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفا، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا. وكذا في جميع الفرائض والنوافل. وعن عقبة بن عامر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرىن كالمسر بالصدقة" أخرجه أحمد والثلاثة(3). ... ... ... ... ... {174}
(15) صدقة التطوع
__________
(1) هذا بعض حديث (روى) أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل. وشاب نشأ في عبادة الله. ورجل قلبه معلق بالمساجد إذا خرج منه حتى يعود إليه. ورجلان تحابا في الله فاجتمعا على ذلك وافترقا عليه. ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه. ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين. ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه" أخرجه أحمد والشيخان والنسائي (أنظر رقم 4645 ص 88 ج 4 فيض القدير).
(2) سورة البقرة: آية 271 (وما من نعما) في محل نصب تمييز، أي إن تظروا الصدقات فنعم شيئا إظهارها.
(3) انظر ص 202 ج 9- الفتح الرباني (صدقة السر) وص 357 ج 1- مجتبي (السر بالصدقة) وص 263 ج 7- المنهل العذب المورود (رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل).(1/330)
الصدقة عطية يراد بها الثواب من الله تعالى، وقد تقدم في فضلها والترغيب فيها أحاديث (فيسن) للإنسان التصدق بما ينتفع به ويثاب عليه ولو قليلا، قال الله تعالى: "فمن يعمل مثال ذرة خيرا يره"(1) (وعن) عدى بن حاتم أن النب صلى الله عليه وسلم قال: "من استطاع منكم أن يتقي النار فليتصدق ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة" أخرجه أحمد ومسلم(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {175}
(وعن) عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لها: "يا عئشة استتري من النار ولو بشق تمرة فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان" أخرجه أحمد والبزار بسند حسن(3). ... ... {176}
(
__________
(1) سورة الزلزة: آية 7.
(2) انظر ص 156 ج 9- الفتح الرباني (الحث على الصدقة) وص 100، 101 ج 7 نووي (والكلمة الطيبة) هي التي فيها تطييب قلب السائل وطاعة الله تعالى بالتسبيح والتحميد ونحوهما لما هو وقاية من النار.
(3) انظر ص 159 ج 9- الفتح الرباني، ص 105 ج 3- مجمع الزوائد (الحث على الصدقة).(1/331)
ومن) آثار الصدقة الاستظلال بها يوم القيامة وإكرام الله للمتصدق وتأمينه يوم الفزع الأكبر (روى) يزيد بن أبي حبيب أن أبا الخير مرثد بن عبد الله حدثه، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس أو يحكم بين الناس. قال يزيد: وكان أبو الخير لا يخطئه يوم إلا تصدق فيه بشيء ولو كعكة أو بصلة أو كذا" أخرجه أحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {177}
فتصدق أيها العاقل بفضل مالك يخلف الله عليك ويدعو لك الملك بالخلف ولا تمسك فيدعو عليك بالتلف فتكون من الهالكين وتندم ولا ينفعك الندم، قال الله تعالى: "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين"(2).
( وعن ) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا " أخرجه مسلم(3). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {178}
وقال تعالى: "من ذا الذي يقرض الله فرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة"(4). وقال تعالى: "وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا"(5).
(
__________
(1) انظر ص 416 ج 1- مستدرك، وتقدم الحديث بهامش ص 117 (فضل الزكاة) (وظل الصدقة) كناية عن إكرام الله للمتصدق في الموقف وتأمين خوفه (ويحتمل) أن يجسم الله الصدقة فيكون لها ظل يستظل به المتصدق من حر الشمس في الموقف (وفي الحديث) أن من لم يجد ما يتصدق به إلا الشيء القليل فليتصدق به فإن أجره عظيم ونفعه غميم، والعبرة بالإخلاص في العمل.
(2) سورة سبأ: آية 39.
(3) انظر ص 95 ج 7- نووي (كل نوع من المعروف صدقة).
(4) سورة البقرة: آية 245.
(5) آخر سورة المزمل.(1/332)
وعن) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: "يا بن آدم أنفق أنفق عليك، وقال: يمين الله ملأي سحاء لا يغيضها شيء الليل والنهار" أخرجه مسلم(1). ... ... ... ... ... {179}
(وعن) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سبق درهم مائة ألف درهم. قالوا وكيف؟ قال: لرجل درهمان تصدق بأحدهما وانطلق رجل إلى عرض ماله فأخذ منه مائة ألف درهم فتصدق به" أخرجه النسائي وابن حبان والحاكم وصححه(2). ... ... ... ... ... ... ... ... {180}
(
__________
(1) انظر ص 79 ج 7- نووي (الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف)، و(أنفق أنفق عليك) هو بمعنى "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه" فيتضمن الحث على الإنفاق في وجوه الخير والتبشير بالخلف من فضل الله (وسحاء) بالمد، أي دائمة الصب والهطل بالعطاء، يقال: سح يسح سحا فهو ساح، والمؤنث سحاء كهطلاء، وفي رواية: يمين الله ملأي سحا بالتنوين على المصدر (واليمين) هنا كناية عن محل العطاء وصفها بالامتلاء لكثرة منافعها فجعلها كالعين التي لا يفيضها الاستقاء ولا ينقصها الامتياح (نزع الماء) وخص اليمين لأنها في الأكثر مظنة العطاء على طريق المجاز والاتساع (أنظر ص 149 ج 2- نهاية) وقال الترمذي: روى عن مالك بن أنس وسفيان ابن عيينة وعبد الله بن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أمروها بلا كيف (بصيغة الأمر من الإمراء، أي أجروها على ظاهرها ولا تعرضوا لها بتأويل ولا تحريف بل فوضوا الكيف على الله سبحانه وتعالى) وهكذا قول أهل العلم منن أهل السنة والجماعة (انظر ص 23 ج 2- تحفة الأحوذي) (الليل والنهار) منصوبان على الظرفية.
(2) انظر ص 350 ج 1- مجتبي (جهد المقل) وص 416 ج 1- مستدرك، و(عرض المال) بضم العين: جانبه.(1/333)
وظاهر) الحديث أن الأجر على قدر حال المعطي لا على قدر المال المعطى. فصاحب الدرهمين حيث أعطى نصف ماله في حال لا يعطي فيها إلا الأقوياء يكون أجره على قدر همته، بخلاف الغني فإنه ما أعطى نصف ماله ولا في حال يعطي فيها عادة(1).
والأدلة في هذا كثيرة- تقدم بعضها في فضل الزكاة(2)، وكلها تحث على الإنفاق في وجوه الخير وأنواع البر في هذه الدار لينتفع به في الجزاء. فعلى العاقل الراغب في الخير لنفسه أن يبادر بتقديم ما ينفعه في رمسه فيتصدق وهو صحيح محتاج قبل الفوات بهجوم الموت، قال الله تعالى:
__________
(1) انظر ص 350 ج 1- سندي مجتبي.
(2) تقدم ص 116.(1/334)
"وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين * ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعلمون"(1).
__________
(1) المنافقون 10 و11 (والمعنى) أن الله تعالى "بعد ان نهى" المؤمنين عن أن تشغلهم دنياهم عن طاعة مولاهم، لئلا يكونوا من الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة "أمرهم" بالإنفاق في سبييل الخير فقال "وأنفقوا" تصدقوا "مما رزقناكم" وقال ابن عباس: يريد الزكاة "من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول" سائلا الرجعة "رب لولا أخرتني" أمهلتني "إلى أجل قريب فأصدق" أي فأتصدق وأزكي مالي "وأكن من الصالحين" أي من المؤمنين، وقيل: المراد بالصلاح هنا الحج، فكل مفرط يندم عند الاحتضار ويسأل طول المدة ولو شيئا يسيرا ليستدرك ما فاته وهيهات كان ما كان واتى ما هو آت وكل بحسب تفريطه. أما الكفار فكما قال الله تعالى: "وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب 44 نجب دعوتك ونتبع الرسل أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال 45" سورة إبراهيم (وقال) تعالى: "حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون 99 لعلى أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ على يوم يبعثون 100" سورة المؤمنون (وبرزخ) أي حائل بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا "والله خبير بما تعملون" أي عليم بمن يكون صادقا في قوله وسؤاله ومن لو ردوا لعادوا إلى شر مما كانوا عليه (قال) ابن عباس رضي الله عنهما: من كان له مال يبلغه حج بيت ربه أو يجب عليه فيه زكاة فلم يفعل يسأل ارجعة عند الموت، فقال رجل: يا بن عباس اتق الله فإنما يسأل الرجعة الكفار، فقال: سأتلو عليكم بذلك قرآنا: "يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون، وأنفقوا مما رزقناكم...." إلخ السنرة أخرجه الترمذي وقال: حدثنا عبد بن حميدنا عبد الرزاق عن الثوري عن يحيى بن أبي حية عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. هكذا روى ابن عيينة وغير واحد هذا الحديث عن ابي جناب عن الضحاك عن ابن عباس من قوله ولم يرفعه، وهذا أصبح من رواية عبد الرزاق (وأبو جناب) اسمه يحيى بن أبي حية وليس بالقوى في الحديث (انظر ص 202 ج 4- تحفة الأحوذي- سورة المنافقون).(1/335)
ثم الكلام في ستة فروع:
(أ) التنافس في الخير:
لما علم الصحابة رضي الله عنهم فضل الصدقة وعظيم ثوابها وجزيل نفعها تسابقوا إليها وتنافسوا فيها. فكان أحدهم يتصدق بما يناسب حاله ويتفق وماله (روى) الحارث الأعور عن علي رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة نفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهم: يا رسول الله كانت لي مائة دينار فتصدقت منها بعشرة دنانير، وقال الآخر: يا رسول الله كانت لي عشرة دنانير فتصدقت منها بدينار، وقال الآخر: كان لي دينار فتصدقت بعشرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم في الأجر سواء، كلكم تصدق بعشر ماله" أخرجه أحمد والبزار. والحارث فيه كلام كثير(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {181}
(وفي) الحديث تسلية للفقير وحثه على الصدقة كي لا يحرم من ثوابها.
(
__________
(1) انظر ص 183 ج 9- الفتح الرباني (من تصدق بعشر ماله) وص 111 ج 3- مجمع الزوائد (أجر الصدقة).(1/336)
وقال) أبو السليل: وقف علينا رجل في مجلسنا بالبقيع فقال: حدثني أبي أو عمي أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقيع وهو يقال: من يتصدق بصدقة أشهد له بها يوم القيامة، فحللت من عمامتي لوثا أو لوثين وأنا أريد أن أتصدق بهما فأدركني ما يدرك بني آدم، فعقدت على عمامتي، فجاء رجل ولم ار بالبقيع رجلا أشد سوادا أصفر منه ولا آدم يعير بناقة لم أر بالبقيع ناقة أحسن منها، فقال: يا رسول الله أصدقة؟ قال: نعم، قال: دونك هذه الناقة، فلمزه رجل فقال: هذا يتصدق بهذه؟ فوالله لهي خير منه، فسمعها رسول اله صلى الله عليه وسلم فقال: كذبت بل هو خير منك ومنها ثلاث مرار، ثم قال: ويل لأصحاب المئين من الغبل ثلاثا. قالوا: إلا من يا رسول الله؟ قال: إلا من قال بالمال هكذا وهكذا، وجمع بين كفيه عن يمينه وعن شمالهن ثم قال: قد أفلح المزهد المجهد ثلاثا، المزهد في العيش، المجهد في العبادة. أخرجه أحمد، وفي سنده من لم يسم(1). ... ... ... ... ... {182}
__________
(1) انظر ص 184 ج 9- الفتح الرباني، و(لوثا أو لوثين) أي لفة أو لفتين يريد التصدق بهما لتأثره بما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، و(ما يدرك بني آدم) أي من الحرص على المال والبخل والإنفاق، فعدل عن ذلك وعقد عمامته بعد أن هم بالتصدق بجزء منها (وأصفر منه) أي أسود فإن الأصفر يطلق على الأسود، ومنه قوله تعالى: "كأنه جماله صفر" أي جمال سود، و(أدم) أي أسود، عطف تفسير، و(يعير بناقة) أي يتصدق بها، و(صدقة) أي اتريد صدقة؟ (فلمزه) أي عابه، و(إلا من قال بالمال هكذا) أي فرقه على من عن يمينه وشماله من المحتاجين، و(المزهد) بضم فسكون فكسر: القليل الشيء (المجهد) من أجهد نفسه في العبادة.(1/337)
وقد دل الحديث (على) أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يشهد للمتصدق يوم الجزاء (وعلى) ذم من لم يتصدق بفضل ماله من الأغنياء وأن لهم الويل وهو شدة الهلاك وأليم العذاب (وعلى) مدح الزاهد في الدنيا، المجتهد في عبادة ربه جل شأنه، وأنه المفلح السعيد، جعلنا الله تعالى منهم.
(وقال) عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أن نتصدق، فوافق ذلك مالا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقت يوما فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ فقلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ فقال: أبقيت لهم الله ورسوله. قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدا"أخرجه أبو داود والترمذي والحاكم وصححاه(1).{183}
(وفي الحديث) دليل على عدم كراهة التصدق بكل المال من صحيح البدن غير المدين الصبور الذي لا عيال له أو له عيال يصبرون، فإن فقد شيء من هذه كره. وهذا من حيث الجواز. أما من حيث الاستحباب فيستحب أن يكون ذلك من الثلث فقط جمعا بين قصة أبي بكر رضي الله عنه وحديث كعب ابن مالك قال: قلت: يا رسول الله إن من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي كله على الله وإلى رسوله صدقة. قال: لا. قلت: فنصفه. قال: لا. قلت: فثلثه. قال: نعم. قلت: فإني سأمسك سهمي من خيبر" أخرجه أبو داود(2). ... ... ... ... {184}
ولهذا قال الجمهور: يستحب أن تكون الصدقة من الثلث فقط.
(وقال) مالك والأوزاعي: لا يجوز التصدق إلا بالثلث يرد على المعطي الزائد. ويرده قصة الصديق وعمر رضي الله عنهما.
(ب) صدقة الجسد:
__________
(1) انظر ص 329 ج 9- المنهل العذب المورود (الرجل يخرج من ماله)، وص 414 ج 1- مستدرك، و(أبقيت لهم الله ورسوله) يعني أنه تصدق بكل ماله ولم يدخر لأهله شيئا ابتغاه مرضاة الله ورسوله.
(2) انظر ص 240 ج 3- عون المعبود (من نذر أن يتصدق بماله).(1/338)
إن الله تعالى كرم بني آدم وخصهم بمزايا لا تحصى وأنعم عليهم نعما لا تستقصى. فينبغي لكل منهم أن يشكر مولاه- على ما أولاه من فضل ورعاية- بالإكثار من ذكر الله تعالى وطاعته، قال تعالى:
"فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون"(1).
( وعن ) بريدة الأسلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "في الإنسان ستون وثلثمائة مفصل فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منها صدقة، قالوا : فمن الذي يطيق ذلك يا رسول الله؟ قال: النخاعة في المسجد تدفنها ، والشيء تنحيه عن الطريق ، فإن لم تقدر فركعتا الضحى تجزئ عنك" أخرجه أحمد وابن حبان بسند جيد(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {185}
والمعنى أنه يندب لكل مكلف أن يتصدق بعدد مفاصله شكرا لله بأن جعل له مفاصل يتمكن بها من القبض والبسط. وخصت بالذكر لما في التصرف بها من دقائق الصنع التي اختص بها الآدمي. ولما فهم الصحابة رضي الله عنهم أن الصدقة لا تكون إلا بالمال وهم لا يقدرون على التصدق عن كل مفصل بين لهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن ثواب الصدقة ليس محصورا في المال فقال: النخاعة في المسجد تدفنها... الخ، أي يكتب لك بها ثواب المتصدق بالمال، وكذا تنحية الشيء المؤذي- كشوك أو حجر- عن الطريق تثاب عليها فإن لم يتيسر لك ذلك فصل ركعتين سنة الضحى تجزئك عن صدقة الجسد.
(
__________
(1) سورة البقرة: آية 152.
(2) انظر ص 176 ج 9- الفتح الرباني (صدقة الجسد).(1/339)
وعن) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل سلامي من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، قال: تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة مشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الاذى عن الطريق صدقة" أخرجه أحمد والشيخان، وهذا لفظ مسلم(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {186}
والمعنى أن مما يثاب عليه ثواب الصدقة الإصلاح بين المتخاصمين بالعدل، ومعاونة الضعيف على ركوب دابته وفي رفع متاعه عليها، والكلمة التي يطيب ويطمئن لها قلب المخاطب، فطيب الكلام من جليل عمل البر، قال تعالى:
(ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) (2). والدفع يكون بالقول كما يكون بالفعل، ووجه كون الكلمة الطيبة صدقة أن عطاء المال يفرح به قلب من يعطاه وكذلك الكلام الطيب فتشابها من هذه الجهة.
( وعن ) أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة وكل تسبيحة صدقة وتهليلة صدقة وتكبيرة صدقة وتحميده صدقة ، وأمر بمعروف صدقة، ونهى عن المنكر صدقة ، ويجزئ أحدكم من ذلك كله ركعتان يركعهما من الضحى . أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي والبيهقي(3). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {187}
__________
(1) انظر ص 177 ج 9- الفتح الرباني وص 195 ج 5 فتح الباري (فضل الإصلاح بين الناس) وص 94 و95 ج 7 نووي (كل نوع من المعروف صدقة) و(الخطوة) بفتح الخاء: المرة، وبضمها: ما بين القدمين.
(2) سورة فصلت: آية 24.
(3) انظر ص 22 ج 5 الفتح الرباني وص 233 ج 5 نووي وص 186 ج 7 المنهل العذب المورود (صلاة الضحى) والحديث تقدم ص 328 ج 5 الدين الخالص (والسلامي) بضم السين وفتح الميم في الاصل: عظام الأصابع ثم استعمل في سائر عظام الجسد ومفاصله (ويجزئ) بضم الياء: من اإجزاء، وبفتحها: من جزي يجزئ، أي يكفي عن صدقة الأعضاء ركعتا الضحى.(1/340)
والمعنى أن ركعتي الضحى تكفي عن الصدقات المطلوبة عن مفاصل الإنسان لأنه بتأديتها تتحرك جميع هذه المفاصل فيكون كل مفصل أدى ما عليه من الصدقة، ولعل تخصيص ركعتي الضحى بذلك أنه وقت غفلة أكثر الناس عن الطاعة لاشتغالهم فيه بأعمالهم الدنيوية. فالمصلى في هذا الوقت يكون قد أدى شكر المنعم الذي أنعم عليه بخلقه في أحسن تقويم وحفظه عما يغيره ويؤذيه.
(وغني) عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، فمن كبر الله وحمد الله وهلل الله وسبح الله واستغفر الله وعزل حجرا عن طريق الناس أو شوكة أو عظما عن طريق الناس وأمر بمعروف أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمائة السلامي فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار" أخرجه مسلم. وفي رواية: فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار(1).{188}
(جـ) كل معروف صدقة:
المعروف: اسم جامع لأنواع البر والخير وكل ما عرف حسنه بالشرع والعقل. ومعنى كونه صدقة أن ثوابه كثواب من تصدق بالمال، فإن قارنته النية أجر صاحبها جزما وإلا ففيه احتمال. هذا والصدقة لا تختص بأهل اليسار بل كل واحد قادر على فعلها في أكثر الأوقات بلا مشقة.
والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة تقدم بعضها.
(ومنها) حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قال: "كل معروف صدقة ومن المعروف أن تلقي أخاك بوجه طلق وأن تفرغ من دلوك في إنائه" أخرجه أحمد والحاكم والترمذي وقال: حسن صحيح. وأخرج مسلم صدره عن حذيفة(2). ... ... ... ... ... {189}
(
__________
(1) انظر ص 92 و93 ج 7 نووي (كل معروف صدقة).
(2) انظر ص 174 ج 9- الفتح الرباني (خصال تعد من الصدقة) وص 90 و91 ج 7- نووي، و(كل معروف صدقة) أي له حكمها في الثواب.(1/341)
وعن) أبي موسى الاشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "على كل مسلم صدقة. قيل: أرأيت إن لم يجد؟ قال: يعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق. قيل: أرأيت إن لم يستطع أن يفعل؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف. قيل: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يأمر بالمعروف أو الخير. قيل: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: يمسك عن الشر فإنه له صدقة" أخرجه أحمد والشيخان والنسائي(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... {190}
والمعنى أنه يطلب من كل مسلم رأى محتاجا عاجزا عن الكسب مشرفا على الهلاك أن يتصدق عليه وجوبا إحياء له وغلا كان التصدق مستحبا متاكدا (وقد) دل الحديث على أن الصدقة تكون بالمال وبغير المال. وهو إما فعل وهو الإعانة أو تعرك وهو الغمساك عن الشر وأن أعمال الخير إذا حسنت فيها النية تكون كالصدقة في الأجر ولا سيما في حق من لا يقدر على الصدقة. وعلى أن الصدقة في حق القادرة عليها أفضل من سائر الأعمال القاصرة على فاعليها، وفيه أن من أمسك عن الشر يكتب له ثواب المتصدق. يعني إذا نوى بالإمساك القربة بخلاف محض الترك. والإمساك إما أن يكون عن غيره، فكأنه تصدق على الغير بالسلامة منه أو عن نفسه بأن كان شره لا يتعدى نفسه فأمسك عنه، فيكون قد تصدق على نفسه بمعنها من الإثم.
(د) تصدق المرأة والولد والخادم من مال المالك:
__________
(1) انظر ص 175 ج 9- الفتح الرباني، وص 197 ج 3- فتح الباري (على كل مسلم صدقة) وص 94 ج 7- نووي، وص 351 ج 1- مجتبي (صدقة العبد) واعلم أنه لا ترتيب فيما تضمنه الحديث، إنما هو إيضاح لما يفعله عن عجز عن خصلة من الخصال المذكورة فإنه يمكنه خصلة أخرى فمن أمكنه أن يعمل فيتصدق وأن يغيث الملهوف وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويمسك عن الشر فيلفعل الجميع، وفي الحديث فضل التكسب لما فيه من الإعانة ونفع النفس والاستغناء عن السؤال.(1/342)
يجوز للمرأة والولد والخادم التصدق من مال الزوج والوالد والسيد ولو بلا إذنه- بما اعتيد التصدق بمثله- وبإذنه ورضاه في الكثير من غير إسراف ولا فساد وهم شركاء في الأجر (لديث) أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أنها قالت: يا نبي الله لي شيء إلا ما أدخل على الزبير فهل على جناح أن أرضخ مما يدخل على؟ فقال: "أرضخي ما استطعت ولا توعي فيوعى الله عليه" أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي ولفظهما: ولا توكي فيوكي الله عليك(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {191}
أي ليس لي من المال إلا ما أدخله الزبير بيته أيجوز لي أن أتصدق منه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انفقي منه ولا تمسكي فيضيق الله عليك.
(والحديث) محمول على إعطاء ما جرى العرف بإعطائه من غير إسراف، وأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالإعطاء بلا توقف على إذن زوجها لعلمه صلى الله عليه وسلم بأن الزبير تطيب نفسه بما تتصدق به. ولم يقيد إنفاقها بعدم الغسراف لعلمه صلى الله عليه وسلم بأن السيدة أسماء رضي الله عنها ذات دين تحسن التصرف.
(
__________
(1) انظر ص 97 ج 9- الفتح الرباني (صدقة المرأة من بيت زوجها بغير إذانه) وص 137 ج 5- فتح الباري (هبة المرأة لغير زوجها) وص 119 د 7- نووي (الحث على الإنفاق...)، وص 18 ج 10- المنهل العذب المورود (الشح)، وص 355 ج 1- مجتبي (الإحصاء في الصدقة) و(أرضخي) أي أعطى شيئا قليلا مما جرت العادة بإعطاء مثله (ولا توعي) أي لا تدخري المال في الوعاء فيمنعه الله عنك كما منعت ويقتر عليك كما قترت (ولا توكي) من الغيكاء وهو المنع، أي لا تمنعي ما في يدك فيمنع اللفه عنك بركة رزقه.(1/343)
وعن) عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئا" أخرجه الستة وابن حبان(1)
(ومعنى) هذه الأحاديث أن المشارك في الطاعة مشارك في الأجر، والمراد المشاركة في أصل الثواب وإن كان أحدهما أكثر. فإذا أعطى المالك لخازنه أو امرأته درهم مثلا يوصلها إلى فقير على باب الدار فأجر المالك أكثر، وإن أعطاه رمانة أون رغيفا ونحوهما ليعطيه إلى محتاج في مسافة بعيدة تزيد أجرة الذهاب إليها على الرمانة ونحوها فأجر الوكيل أكثر. وقد يكون عمله قدر الرغيف فيكون الأجر سواء.
(واعلم) أنه لابد للعامل والزوجة والمملوك من إذن المالك في ذلك، فإن لم يكن إذن اصلا فلا أجر لهم، بل عليهمك وزر بتصرفهم في مال الغير بغير إذنه، والإذن صريح مفهوم من العرف والعادة كإعطاء السائل كسرة ونحوها مما جرت به العادة وعلم بالعرف رضا المالك وإذنه حاصل وإن لم يتكلم، فإن شاك في رضاه أو علم من حاله الشح بذلك أو شك فيه لم يجز للمرأة وغيرها التصدق من ماله إلا بصريح إذنه(2).
(هـ) التصدق على الصالحين:
__________
(1) انظر ص 195 ج 3- فتح الباري (أجر المرأة إذا تصدقت من بيت زوجها غير مفسدة) وص 111 ج 7- نووي (أجر الخازن الأمين والمرأة إذا تصدقت من بيت زوجها) وص 336 ج 9- المنهل العذب المورود (المرأة تصدق من بيت زوجها) وص 351 ج 1- مجتبي (صدقة المرأة من بيت زوجها)، وص 26 ج 6- تحفة الأحوذي (نفقة المرأة من بيت زوجها).
(2) انظر ص 111- 113 ج 7- نووي (أجر الخازن الأمين).(1/344)
الصالح المتقي الواقف عند الحدود القائم بحق العباد والمعبود- فهو الذي ترجى بركته وتستجاب دعوته- لذا يستحب للإنسان أن يخصه بصدقته إعانة له على طاعة الله تعالى (لحديث) أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي" أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم وقال: صحيح وأقره الذهبي(1). ... ... ... ... ... ... ... {195}
المراد أن المطاعمة توجب الألفة وتؤدي إلى الخلطة، ومخالطة غير التقي تخل بالدين وتوقع في الشبه والمحظورات، فكأنه ينهي عن مخالطة الفجار، إذ لا تخلو عن فساد إما بمتابعة في فعل أو مسامحمة في إغضاء عن منكر فإن سلم من ذلك ولا يكاد فلا تخطئه فتنة الغير به، وليس المراد حرمان غير التقي من الإحسان، لأن المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم أطعم المشركين وأعطى المؤلفة المئين، بل المراد الإرشاد إلى الأكمل وألا يخالط غير التقي. فالمعنى لا تصاحب إلا مطيعا ولا تخالل إلا تقيا(2).
(عن) عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "من أخرج صدقة فلم يجد إلا بربريا فليردها" أخرجه أحمد وفي سنده ابن لهيعة ضعيف(3). ... ... ... ... ... {196}
__________
(1) انظر رقم 9808 ص 404 ج 6- فيض القدير.
(2) انظر ص 405 ج 6- فيض القدير.
(3) انظر ص 195 ج 9- الفتح الرباني (إعطاء الصدقة للصالحين) (والبربري) بفتح فسكون ففتح نسبة إلى بربر- وهم جيل بالمغرب جمعه برابرة.(1/345)
والمراد بالبرابرة: المتوحشون الذين لا دين لهم ولا خشية عندهم. أما المسلمون منهم الصالحون فيعطون الصدقة (والحديث) يدل على كراهة إعطاء الصدقة لفاسق إذا علم أنه يستعين بها على ارتكاب مكروه، ويحرم إعطاؤه إذا علم أنه يستعين بها على ارتكاب محرمن أما إذا لم يعلم شيئا أو علم أنه يستعين بها على القوت فلا كراهة في إعطائه ولو كافرا ويثاب على ذلك، قال الله تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) (1)، ومعلوم أن الاسير حربي، وتقدم في حديث- من تصدق على سارق وزانية وغني- أنه قيل له: أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها تستعف عن زناها(2).
(و) الصدقة الجارية:
أي الباقي أجرها بعد موت المتسبب فيها ما دامت قائمة، وهي عشر خصال نظمها الحافظ السيوطي في قوله:
إذا مات ابن آدم ليس يجري عليه من خصال غير عشر
علوم بثها ودعاء نجل وغرس النخل والصدقات تجري
وراثة مصحف ورباط ثغر وحفر البئر أو إجراء نهر
وبيت للغريب بناه يأوى إليه أو بناء محل ذكر
وتعليم لقرآن كريم فخذها من أحاديث بحصر
وهاك بعض ما ورد فيها:
(ورى) أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" أخرجه أحمد ومسلم والثلاثة(3). ... ... {197}
المعنى أن الإنسان إذا مات انقطع ثواب عمله إلا من ثلاث خصال:
(أ ) الصدقة الجارية ، أي المتصلة، كوقف أو بناء مسجد أو مستشفى أو منزل للضيف، ونحو ذلك.
(
__________
(1) سورة الإنسان: آية 8.
(2) تقدم رقم 165 ص 289 (الخطأ في مصرف الزكاة).
(3) انظر ص 204 ج 9- الفتح الرباني (الصدقة الجارية) وص 85 ج 11 نووي (ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته- الوصية) وص 77 ج 3- عون المعبود (الصدقة عن الميت- الوصايا) وص 129 ج 2- مجتبي (فضل الصدقة عن الميت- الوصية).(1/346)
ب ) علم ينتفع به، كتعليم وتصنيف ، وهذا أكثر ثوابا لطول بقائه على ممر الزمان.
(جـ) ولد يدعو له ، لأنه السبب في وجوده ، وكذا دعاء غير الولد ينفع الميت ، والتقييد بالولد لحثه على الدعاء لأصله.
(وعن) أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربع تجري عليهم أجورهم بعد الموت: رجل مات مرابطا في سبيل الله، ورجل علم علما فأجره يجري عليه ما عمل به، ورجل أجرى صدقة فأجرها يجري عليه ما جرت عليه، ورجل ترك ولدا صالحا يدعو له" أخرجه أحمد والطبراني، وفيه ابن لهيعة ورجل لم يسم، لكن حسنه الحافظ السيوطي لقوته بالحديث السابق(1). ... ... ... ... ... {198}
والمرابط من لازم محلا بين داري إسلام وكفر لحراسة المسلمين ، فمن مات على هذا الحال يكتب له كل يوم بعد موته ثواب المرابط إلى يوم القيامة أو إلى أن يأمن المسلمون من جهة العدو بأخذ بلاده أو الصلح بينهم وبينه. وكان هذا الأجر العظيم للمرابط، لأنه مهدد في كل لحظة بالقتل ولا يصبر على هذا إلا قوي الإيمان.
(وعن) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قال: "إن الله تعالى ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول: يارب اني لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك" أخرجه أحمد بسند رجاله رجال الصحيح(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {199}
دل الحديث على أن دعاء الولد لوالديه ينفعهما بعد موتهما، فمن لم يدرك والديه وأراد برهما أو أدركهما وقصر في برهما فليكثر من الدعاء لهما بعد موتهما، فهو من أعظم أنواع البر بالوالدين، وللولد في ذلك أجر عظيم.
وقد دلت أحاديث الباب أيضا:
(أ ) على فضل الزواج لرجاء ولد صالح.
(ب ) وعلى مشروعية الوقف وعظيم نفعه في الدنيا والآخرة.
(
__________
(1) أنظر ص 204 ج 9- الفتح الرباني، وص 137 ج 3- مجمع الزوائد (من يجري عليه أجره بعد موته) و(ما جرت عليه) أي مدة بقائها جارية.
(2) انظر ص 205 ج 9- الفتح الرباني (الصدقة الجارية).(1/347)
جـ) وعلى فضل العلم والحث على التعلم والتصنيف والتعليم وأن يختار من العلوم الأنفع فالأنفع.
(د) وعلى أن الدعاء ينفع الميت وكذا الصدقة وقضاء الدين، والله تعالى ولي التوفيق والهادي إلى أقوم طريق
الصيام
هو رابع أركان الإسلام. ذكر بعد الزكاة لذكره بعدها في الحديث. وهو لغة: مطلق الإمساك عن الكلام وغيره. ومنه قوله تعالى حكاية عن مريم (إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً)(1)
وشرعاً: الإمساك بنية عن الأكل والشرب وكل مفطر من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بشرائط يأتي بيانها إن شاء الله تعالى.
(وركنه) الإمساك عن كل مفطر- مما سيأتي- من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع نية الصوم من أهله وهو المسلم العاقل الخالي من حيض ونفاس.
ثم الكلام ينحصر في ثلاثة عشر أصلاً:
(1) فضل الصيام :
__________
(1) سورة مريم : اية 26.(1/348)
الصوم- فرضاً ونفلاً- له وللصائم فضل عظيم وثواب كبير جاء فيه أحاديث (منها) حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به. والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصحب ولا يجهل، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم مرتين، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه" أخرجه أحمد ومسلم والنسائي(1). {
__________
(1) انظر ص207 ج9 الفتح الرباني 0فضل الصيام) وص 30 ج8 نووي وص 210 ج1 مجتبي (والصيام جنة بضم الجيم: أي ستره ومانع من الرفث والآثام، ووقاية من النار لأنه إمساك عن الشهوات والنار محفوفة بها (روى) أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حفت الجنة بالمكارة وحفت النار بالشهوات" أخرجه الشيخان (انظر ص77 ج23 عمدة القاري وص 165 ج17 نووي – الجنة وصفة نعيمها) و 0فلا يرفث) بتثليث الفاء، أي لا يتكلم بفحش القول (ولا يصخب) بالصاد أو السين وفتح الخاء: أي لا يصيح ولا يخاصم (ولا يجهل) أي لا يرتكب شيئاً من أفعال الجاهلية كالسفه والسخرية وما ذكر لا يباح في غير الصوم. والمقصود أن المنع من ذلك يتأكد بالصوم (فإن شاتمه) أي شتمه متعرضاً لمشاتمته (أو قاتله) أي نازعه ودافعه (إني صائم) أي يقول ذلك بلسانه ليعلم مخاطبه أنه معتصم بالصيام عن اللغو والرفث والجهل. أو يقول ذلك لنفسه منعاً لها من مقابلة الجهل بالجهل، وقيل يقول ذلك بلسانه في الفرض ولنفسه في التطوع (والخلوف) بضم الخاء: تغير رائحة فم الصائم بسبب الصيام و(أطيب عند الله) كناية عن رضاء الله وإحسانه لأن استطابة بعض الروائح من صفات المخلوقات والله تعالى منزه عن ذلك والمراد أن الخلوف أكثر من التطيب بالمسك المندوب إليه في الجمع والأعياد ومجالس الخير..و (فرح بفطره) أي لتمام عبادته وسلامتها من المفسدات ولما يترتب عليها من الثواب (وفرح بصومه) أي بما يراه من جزائه وتذكر نعمة الله عليه بتوفيقه.(1/349)
1}
والمعنى أن كل عمل ابن آدم له فيه حظ نفسي- من رياء ونحوه فهو يتعجل به ثواباً من الخلق – إلا الصيام فإنه خالص لله تعالى لا يعلم ثوابه غيره وإنما خص الصيام بنسبته إلى الله تعالى- وكل الطاعات له- لأنه لم يعبد بالصيام غير الله تعالى. فلم يعظم الكفار في زمن ما معبوداً لهم بالصيام. وقيل: لأن الصوم بعيد من الرياء لخفائه بخلاف الصلاة والحج ونحوهما.
(وعن) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصيام جنة، فإذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم مرتين، والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، والصيام لي وأنا أجزي به والحسنة بعشرة أمثالها" أخرجه البخاري وأبو داود(1){2}
(
__________
(1) انظر ص72 ج4 فتح الباري (فضل الصوم) وص 88 ج10 – المنهل العذب المورود (الغيبة للصائم) و (يترك طعامه وشرابه) أي قال الله تعالى: يترك الصائم طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، أي خوفاً مني وامتثالاً لأمري، يدل على هذا ما في رواية أحمد: يقول الله عز وجل: إنما يترك طعامه وشرابه من أجلي. وفي هذا الحصر التنبيه على الجهة التي بها يستحق الصائم هذا الجزاء وهو الإخلاص الخاص به، فلو ترك الطعام لغرض آخر كالتخمة لا يحصل له هذا الفضلز والمدار فيما ذكر على الداعي الذي يدعو إلى الفعل أو التركز ولاشك ان من لم يعرض له شهوة شيء طول النهار ليس في الفضل كم عرض له ذلك فجاهد نفسه في تركه (انظر ص75 ج4 فتح الباري) (وأنا أجزي به) أي بلا عدد ولا حساب. قال الله تعالى: (وإنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب) قال الأكثر: والصابرون الصائمون لأنهم يصبرون أنفسهم عن الشهوات.(1/350)
وعن) سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن للجنة باباً يقال له الريان، يقال يوم القيامة: أين الصائمون؟ هلموا إلى الريان، فإذا دخل أخرهم أغلق ذلك الباب" أخرجه احمد والشيخان والنسائي والترمذي وفيه: فمن كان من الصائمين دخله، ومن دخله لم يظمأ أبداً. وقال حسن صحيح(1){3}
(وعن) أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً" أخرجه السبعة إلا أبا داود(2){4}
وهو محمول على من لا يتضرر بالصوم ولا يفوت به حقاً ولا يختل به قتاله ولا غيره من مهمات الغزو وإلا تعين الفطر ولا ثواب له إن صام.
(وعن) عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيهن فيشفعان" أخرجه احمد والطبراني في الكبير بسند رجاله رجال الصحيح(3). {5}
__________
(1) انظر ص213 ج9- الفتح الرباني (فضل الصيام) وص 79 ج4 فتح الباري (الريان للصائمين) وص 32 ج8 نووي وص 312 ج1 مجتبي (والريان) ضد العطشان مشتق من الري وهو مناسب لحال الصائم لأنه بتعطيش نفسه في الدنيا يدخل من باب الريان ليأمن العطش.
(2) انظر ص215 ج9- الفتح الرباني (فضل الصيام) وص 31 ج6 فتح الباري (فضل الصوم في سبيل الله) وص 33 ج8 نووي وص 213ج1 مجتبي وص 27 ج1- ابن ماجه (صيام يوم في سبيل الله) أي في الجهاد. و (خريفاً) أي سنة.
(3) انظر ص216 ج9- الفتح الرباني (فضل الصيام) وص 181 ج3- مجمع الزوائد (فيشفعان) بضم الياء وشد الفاء: أي يقبل، الله شفاعتهما ويدخله الجنة، وهذا يحتمل الحقيقة بأن يخلق الله في الصيام والقرآن النطق، ويحتمل المجاز والتمثيل.(1/351)
والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وفيما ذكر الغناء والكفاية لمن أراد سلوك سبيل السعادة. والله ولي التوفيق والهداية.
(2) وقت الصوم :
هو نوعان: ما يرجع إلى أصل الوقت، وما يرجع إلى وصفه:
(أ) فالذي يرجع إلى أصله هو بياض النهار من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، فلا يجوز الصوم في الليل لأن الله تعالى أباح تناول المفطرات في الليل إلى طلوع الفجر، ثم أمر بالصوم إلى الليل.
قال تعالى: "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن، علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب الله عليكم وعفا عنكم، فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم، وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل"(1).
والمراد بالخيط الأبيض بياض النهار وبالأسود ظلمة الليل (قال) عدي بن حاتم رضي الله عنه: لما نزلت "حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود" عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض، فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لين فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فقال: "إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار" أخرجه الشيخان وأبو داود(2){6}
__________
(1) سورة البقرة : آية 187 "وابتغوا ما كتب الله لكم" أي اطلبوا ما قدر الله لكم من الولد أو الرخصة بإباحة الطعام وغيره طول الليل، وسيأتي بيان الآية إن شاء الله تعالى.
(2) انظر ص93 ج4- فتح الباري (قول الله تعالى: وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) وص 200 ج7- نووي (الدخول في الصوم بطلوع الفجر) وص 70 ج10 المنهل العذب المورود (وقت السحور)، و (العقال) بكسر العين: الحبل يعقل بن البعير (إنما ذلك) إشارة إلى ما ذكر من قوله: حتى يتبين لكم الخيط الأبيض....إلخ، وعند مسلم وأبي داود: عن وسادك لعريض إنما هو سواد الليل وبياض النهار.(1/352)
فكان هذا تعيين الليالي للفطر والنهار للصوم، ولأن الحكمة التي لها شرع الصوم من التقوى وتعرف قدر النعم الحامل على شكرها لا يحصل بالصوم في الليل لأن ذلك لا يحصل إلا بفعل شاق على البدن مخالف للعادة وهوى النفس ولا يتحقق ذلك بالإمساك في حالة النوم فلا يكون الليل محلاً للصوم(1).
(ب) والذي يرجع إلى وصف الوقت من الخصوص والعموم ثلاثة أقسام:
(الأول) وقت صوم التطوع وهو السنة كلها ما عدا يومي العيد وأيام التشريق ورمضان، فيجوز صوم التطوع خارج رمضان في كل أيام السنة غير أيام العيد والتشريق (لحديث) أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام من كل شهر ثلاثة أيام فذلك صيام الدهر، فأنزل الله تعالى تصديق ذلك في كتابه: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" اليوم بعشرة أيام" أخرجه النسائي وابن ماجه والترمذي وحسنه(2){7}
فقد جعل الدهر كله محلاً للصوم من غير فصل ولأن المعاني التي كان الصوم لها حسناً وعبادةً موجودة في سائر الأيام فكانت الأيام كلها محلاً للصوم عدا ما تقدم على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
(الثاني) وقت الصوم غير المعين كقضاء رمضان والكفارات وهو كل السنة إلا يومي العيدين وأيام التشريق الثلاثة ويوم الشك ورمضان. أما الخمسة الأولى فلورود النهي عن صيامها لما فيه من الإعراض عن ضيافة الله تعالى، فأوجب ذلك نقصاناً في صومها. والواجب في ذمته صوم كامل فلا يتأدى بالناقص. وأما يوم الشك فلأنه يحتمل أن يكون من رمضان وأن يكون من شعبان فإن كان من شعبان يكون قضاء هما لزم في الذمة، وإن كان من رمضان لا يكون قضاء، فلا يكون قضاء مع الشك(3).
(
__________
(1) انظر ص77 ج2- بدائع الصنائع.
(2) انظر ص327 ج1- مجتبي (صوم ثلاثة أيام من الشهر)، وص 268 ج1- ابن ماجه، وص60 ج2- تحفة الأحوذي.
(3) انظر ص79 ج2- بدائع الصنائع.(1/353)
الثالث) وقت صوم رمضان: وهو شهر رمضان فلا يجوز في غيره إلا قضاء، لقوله تعالى: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" أي فليصم في الشهر. ثم الكلام ينحصر في ستة فصول:
(1) ما يثبت بالهلال: يجب على الناس وجوباً كفائياً طلب رؤية الهلال في التاسع والعشرين من رجب وشعبان ورمضان وذي القعدة، لأن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يوماً (روي) نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "إنما الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له" أخرجه مسلم واحمد وزاد: قال نافع فكان ابن عمر إذا مضى من شعبان تسع وعشرون يبعث من ينظر فإن رؤى فذاك. وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب أو قتر أصبح مفطراً. وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائماً(1){8}
(
__________
(1) انظر ص190 ج7 نووي (وجوب صيام رمضان لرؤية الهلال) وص 250- ج9 الفتح الرباني (ثبوت الشهر برؤية الهلال) (فلا تصوموا حتى تروه) يعني هلال رمضان (ولا تفطروا حتى تروه) أي هلال شوال (فإن غم) بض فشد ويقال أعمى- بضم فيكون فكسر- أي وجد مانع من رؤية الهلال (قدروا له) امر من قدرت الشيء أقدره بكسر الدال وضمها أي قدروا له تمام الثلاثين أي انظروا في أول الشهر واحسبوا تمام الثلاثين يوما. وبهذا قال الحنفيون ومالك والشافعي والجمهور لقوله في رواية لمسلم: فاقدروا له ثلاثين وفي رواية وقدروه تحت السحاب ولذا أوجب الصيام من الغد إذا لم بر الهلال ليلة الثلاثين من شعبان وكان بالسماء مانع من الرؤية من غيم ونحوه. (والفتر) بفتحتين الغبار (وأصبح صائماً) يدل على أن ابن عمر كان يرى صوم يوم الشك. وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.(1/354)
فإن) رؤى هلال رمضان في التاسع والعشرين من شعبان، صام الناس لزوماً. وإن لم ير الهلال لنحو غيم أو غبار، لزم إكمال شعبان ثلاثين يوماً (لحديث) أبي هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً" أخرجه احمد والشيخان والنسائي والدارمي(1){9}
(وعن) عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحفظ من هلال شعبان مالا يتحفظ من غيره ثم يصوم لرؤية رمضان فإن غم عليه عد ثلاثين يوماً ثم صام" أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين. والدار قطني وقال: إسناده حسن صحيح. وفيه معاوية بن صالح وثقه أحمد وإن قال أبو حاتم لا يحتج به(2){10}
والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى في رؤية هلال شعبان وعد أيامه محافظة على صوم رمضان تحرياً لا يتحراه في غيره من الأشهر التي لا يتعلق بها أمر شرعي كالحج والأضحية. فإن رؤى هلال رمضان ليلة الثلاثين من شعبان صام رمضان وإن حال بين رؤيته غيم اكمل شعبان ثلاثين يوماً.
(
__________
(1) انظر ص248 ج9- الفتح الرباني (ثبوت الشهر برؤية الهلال) وص 87 ج4 فتح الباري (إذا رأيتم الهلال فصوموا) وص 193 ج7 نووي (وجوب صيام رمضان لرؤية الهلال) وص 301 ج1 مجتبي (إكمال شعبان ثلاثين إذا كان غيم) وص 3 ج2 دارمي (الصوم لرؤية الهلال).
(2) انظر ص254 ج9- الفتح الرباني (إكمال شعبان إذا غم الهلال) وص 42 ج10- المنهل العذب المورود (إذا أغمى الشهر) وص 423 ج1 مستدرك وص 227 الدارقطني.(1/355)
وعن) طلق بن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى جعل هذه الأهلة مواقيت للناس صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأتموا العدة" أخرجه أحمد والطبراني في الكبير. وفيه محمد بن جابر اليماني وهو صدوق(1){11}
والمعنى أن الله تعالى جعل الأهلة مواقيت ليعلم الناس بها أوقات الحج والعمرة والصوم والإفطار وآجال الديون وغير ذلك. فصوموا لرؤية هلال رمضان وأفطروا لرؤية هلال شوال. وليس المراد الصيام والإفطار من وقت الرؤية بل المراد الصوم من فجر الليلة التي رؤى فيها هلال رمضان والإفطار بعد غروب شمس آخر يوم من رمضان سواء رؤى الهلال قبل الغروب أو بعده. والمراد رؤية بعض المسلمين ولا يشترط رؤية كل إنسان بل يكفي رؤية عدلين أو عدل في الصوم. أما الفطر فلا يجوز بشهادة عدل واحد على هلال شوال عند جميع العلماء إلا أبا ثور فجوزه بعدل(2)
__________
(1) انظر ص247 ج9- الفتح الرباني (ثبوت الشهر برؤية الهلال) وص 145 ج3 مجمع الزوائد (الأهلة وقوله صوموا لرؤيته).
(2) انظر ص190 ج7 نووي مسلم.(1/356)
ففي هذه الأحاديث الأمر بصوم رمضان عند رؤية هلاله وإن كان شعبان ناقصاً وبالفطر من رمضان برؤية هلال شوال وإن كان رمضان ناقصاً. وفيها النهي عن صوم رمضان قبل رؤية هلاله ولم يكمل شعبان والنهي عن الفطر قبل رؤية هلال شوال إذا لم يكمل رمضان (فائدة) "قوله" في حديث ابن عمر فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه(1)"ظاهره" إيجاب الصوم والفطر للرؤية وجدت ليلاً أو نهاراً وحمله الجمهور على اليوم المستقبل في الصوم والفطر مطلقاً. وبيانه (أ) انه إن رؤى في التاسع والعشرين بعد الزوال، تكون الرؤية لليوم المستقبل اتفاقاً. (ب) وإن رؤى يوم الثلاثين قبل الزوال فهي للماضية عند أبي يوسف وحكى عن احمد وهو المختار. فيلزم صوم ذلك اليوم إن كان في آخر شعبان وفطره إن كان في آخر رمضان (وقال) النعمان ومحمد ومالك والشافعي: لا نعتبر للماضية بل للمستقبلة وهو المشهور عن أحمد (لقول) أبي وائل: جاءنا كتاب عمر- ونحن بخانقين- إن الأهلة بعضها أعظم من بعض فإذا رأيتم الهلال لأول النهار فلا تفطروا حتى تمسوا إلا أن يشهد رجلان ذوا عدل انهما أهلاه بالأمس عشية. أخرجه الدارقطني من طريقين(2).
(
__________
(1) تقدم رقم 8 ص323 (ما يثبت به الهلال).
(2) انظر ص232- الدارقطني. و (خانقين) بكسر النون والقاف، بلد قرب بغداد (وأهلاه) أي رأيا الهلال.(1/357)
ب) الشهادة برؤية الهلال: إذا كان بالسماء مانع من الرؤية كغيم وغبار شديد يقبل في هلال رمضان خبر عدل واحد ولو أثنى أو عبداً(1)لأنه أمر ديني، وخبر العدل مقبول في الديانات ويلزم أن يكون المخبر مسلماً مكلفاً، ومستور الحال كالعدل، ولا يشترط لفظ الشهادة ولا الدعوى (لقول) ابن عمر رضي الله عنهما: "تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه" أخرجه أبو داود والدارمي والبيهقي وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم(2){12}
(قال) الترمذي: والعمل على هذا عند اكثر أهل العلم قالوا: تقبل شهادة رجل واحد في الصيام، وبه يقول ابن المبارك والشافعي واحمد. وقال إسحق: لا يصام إلا بشهادة رجلين، ولم يختلف أهل العلم في الإفطار انه لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين(3)فلابد في هلال شوال وذي الحجة من شهادة حرين أو حر وحرتين بشرط العدالة ولفظ الشهادة، لتعلق حق العباد بما ذكر، بخلاف صوم رمضان لأنه حق الشرع ولا تقبل شهادة واحد ولا شهادة النساء فقط ولا السبيل.
(
__________
(1) العدالة ملكة يحمل على ملازمة التقوى والمروءة وأدنى مراتبها ترك للكبائر وعدم الإصرار على الصغائر.
(2) انظر ص63 ج10- المنهل العذب المورود (شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان) وص 4 ج2 دارمي. وص 212 ج4 بيهقي. وص 423 ج1 مستدرك. (وتراءى الناس الهلال) أي اجتمعوا لرؤيته.
(3) انظر ص34 ج2 تحفة الاحوذي.(1/358)
لقول) الحارث بن حاطب: "عهد إلينا النبي صلى الله عليه وسلم أن ننسك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهداً عدل نسكنا بشهادتهما، ثم قال: إن فيكم من هو أعلم بالله ورسوله مني وشهد هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوماً إلى عبد الله بن عمر فقال: بذلك أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" أخرجه أبو داود والدار قطني مختصراً بسند صحيح(1){13}
(فهذا) الحديث يدل بمفهومه على عدم جواز شهادة رجل واحد في الإفطار، ولا يعارضه منطوق (بل) يؤيده منطوق حديث عبد الملك بن ميسرة عن طاوس قال: "شهدت المدينة وبها ابن عمر وابن عباس، فجاء رجل إلى وإليها وشهد عنده على رؤية هلال شهر رمضان، فسأل ابن عمر وابن عباس عن شهادته فأمراه أن يجيزها وقالا: إن رسول الله صلى وسلم أجاز شهادة واحد على رؤية هلال رمضان، وكان لا يجيز شهادة الإفطار إلا بشهادة رجلين" أخرجه الطبراني في الأوسط والدار قطني وقال:تفرد به حفص بن عمر الأبلي وهو ضعيف(2){14}
(
__________
(1) انظر ص59 ج10- المنهل العذب المورود (شهادة رجلين على رؤية هلال شوال) وص 232- الدارقطني (وننسك) – مضارع نسك كنصر- أي تقرب إلى الله تعالى بالصوم في رمضان والإفطار في أول شوال وبالأضحية وأعمال الحج في وقتها.
(2) انظر ص146 ج3 مجمع الزوائد (الأهلة) وص 227 – الدارقطني.(1/359)
وإن) لم يكن بالسماء مانع من رؤية الهلال فلابد في هلال رمضان وغيره- عند الحنفيين- من شهادة جمع عظيم يغلب على ظن القاضي صدقهم لأن خبر غيرهم في مثل هذا الحال ظاهر في الغلط فيتوقف في قبوله (وروي) عن النعمان الاكتفاء بشهادة اثنين بالرؤية وإن لم يكن بالسماء علة. وأنه يقبل في رمضان شهادة الواحد العدل وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله، لأن هذا من باب الإخبار لا من باب الشهادة، بدليل أنه تقبل شهادة الواحد إذا كان بالسماء علة. ولو كان شهادة لما قبل لأن العدد شرط في الشهادات. وإذا كان إخباراً لا شهادة فالعدد ليس بشرط في الإخبار عن الديانات وإنما تشترط العدالة فقط(1)(قال) ابن نجيم: ولم أر من رجحها من المشايخ. وينبغي العمل بها في زماننا لأن الناس تكاسلوا عن ترائي الأهلة فكان التفرد غير ظاهر في الغلط(2)(وقال) الشافعي وأحمد يكفي في هلال رمضان- وإن لم يكن بالسماء علة- رؤية عدل واحد ولو عبداً أو امرأة عند احمد وهو قول للشافعي. ومعتمد مذهبه انه لابد أن يكون حراً ذكراً. ولا يثبت هلال غير رمضان كشوال والحجة إلا بشهادة عدلين حرين لما تقدم (وقالت) المالكية: يثبت هلال رمضان وشوال برؤية عدلين أو جماعة مستفيضة وأقلها خمسة. وهذا في حق قوم يعنون بأمر الهلال. أما من لم يعن به فيثبت برؤية عدل واحد. ووافقه- في اشتراط العدلين- الأوزاعي والليث وإسحق وداود (وقال) الثوري: يكفي رجلان أو رجل وامرأتان، لحديث الحارث بن حاطب(3)(قال) النووي: ومحل الخلاف ما لم يحكم بشهادة الواحد حاكم يراه وإلا وجب الصوم ولم ينقض الحكم إجماعاً.
(
__________
(1) انظر ص80 ج2 بدائع الصنائع.
(2) انظر ص268 ج2- البحر الرائق.
(3) تقدم رقم 13 ص327.(1/360)
ج) من رأى الهلال ورد قول: من رأى وحده هلال رمضان وشهد عند القاضي ورد قوله لسبب ما، لزمه الصوم عند الثلاثة وهو المشهور عن احمد لتحقق رؤيته. وإن أفطر قضى فقط لأنه صار مكذباً شرعاً برد خبره ولأنه يحتمل الاشتباه. والكفارة تندرئ بالشبهة (ومن) رأى هلال شوال وشهد عند القاضي ورد قوله لزمه الصوم عند الحنفيين ومالك وأحمد احتياطاً للصوم (ولحديث) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون" أخرجه الترمذي بسند رجاله ثقات وحسنه وأخرجه الدار قطني من طريق الواقدي وقال ضعيف(1){15}
(
__________
(1) انظر ص37 ج2 تحفة الاحوذي (الفطر يوم تفطرون) وص 231- الدارقطني. وأخرجه أبو داود مختصراً بلفظ: وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون. انظر ص41 ج10- المنهل العذب المورود (إذا أخطأ القوم الهلال).(1/361)
قال) الترمذي: معنى هذا أن الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس(1)(وقال) الخطابي معنى الحديث أن الخطأ مرفوع عن الناس فيما كان سبيله الاجتهاد فلو أن قوماً اجتهدوا فلم يروا الهلال إلا بعد ثلاثين فلم يفطروا حتى استوفوا العدد ثم ثبت أن الشهر كان تسعاً وعشرين فإن صومهم وفطرهم ماض لا شيء عليهم من وزر. وكذلك في الحج إذا أخطئوا يوم عرفة فإنه ليس عليهم إعادته ويجزيهم أضحاهم كذلك(2)(وقال) الشافعي: من رأى هلال شوال ورد قوله لزمه الفطر عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ولا تفطروا حتى تروه ولكن يخفيه لئلا يتهم. وهو قول للمالكية (وإن) رآه اثنان فلم يشهدا عند الحاكم جاز لمن سمع شهادتهما الفطر إذا عرف عدالتهما. ولكل واحد منهما أن يفطر بقولهما إذا عرف عدالة الآخر (لقول) عبد الرحمن بن زيد "إني جالست أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإنهم حدثوني أنه صلى الله عليه وسلم قال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وأنسكوا لها فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين يوماً وإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا" أخرجه احمد والنسائي بسند لا بأس به. ولم يذكر النسائي: مسلمان(3){16}
(وإن) شهدا عند الحاكم فرد شهادتهما لجهله بحالهما، فلمن علم عدالتهما الفطر لأن رد الحاكم هاهنا ليس بحكم منه وإنما هو توقف لعدم علمه. ولهذا لو ثبت عدالتهما يعد ذلك حكم بها وإن لم يعرف أحدهما عدالة صاحبه لم يجز له الفطر إلا أن يحكم بذلك الحاكم لأنه يكون مفطراً برؤيته وحده(4)
(
__________
(1) وعظم) بكسر العين وفتح الظاء، أي كثرة الناس.
(2) انظر ص95 ج3 معالم السنن (إذا أخطأ القوم الهلال).
(3) انظر ص264 ج9- الفتح الرباني (من يكتفي بشهادته برؤية الهلال) وص 300 ج1 مجتبي (قبول شهادة الرجل الواحد على هلال رمضان) و(أنسكوا لها) أي تقربوا إلى الله بالصوم والفطر في وقتهما.
(4) انظر ص10 ج3 شرح المقنع.(1/362)
فائدة) إذا صام قوم ثمانية وعشرين يوماً من رمضان بعد إكمال شعبان ثم رأوا هلال شوال. فإن كانوا أكملوا شعبان بعد رؤية هلاله قضوا يوماً واحداً إذا لم يروا هلال رمضان حملا على نقصان شعبان. وإن أكملوه من غير رؤية هلاله قضوا يومين احتياطاً لاحتمال نقصان رجب وشعبان فإنهم لما لم يروا هلاله كملوا بالضرورة رجب (ولو) صام أهل بلد ثلاثين يوماً وصام أهل بلد آخر تسعة وعشرين يوماً (فإن كان) صوم أهل ذلك البلد برؤية الهلال وثبت ذلك عند قاضيهم أو عدوا شعبان ثلاثين يوماً ثم صاموا رمضان فعلى أهل البلد الآخر قضاء يوم لأنهم أفطروا يوماً من رمضان لثبوت الرمضانية برؤية أهل ذلك البلد وعدم رؤية أهل البلد لا يقدح في رؤية أولئك إذ العدم لا يعارض الوجود (وإن) كان صوم أهل ذلك البلد بغير رؤية هلال رمضان أو لم تثبت الرؤية عند قاضيهم ولا عدوا شعبان ثلاثين يوماً فقد أساءوا حيث تقدموا رمضان بصوم يوم وليس على أهل البلد الآخر قضاؤه لأن الشهر قد يكون ثلاثين وقد يكون تسعة وعشرين: هذا إذا كانت المسافة بين البلدين قريبة لا تختلف فيها المطالع. فأما إذا كانت بعيدة فلا يلزم أحد البلدين حكم الآخر، لأن مطالع البلاد عند المسافة البعيدة تختلف فيعتبر في أهل كل بلد مطالع بلدهم دون البلد الآخر.(1)
(د) اختلاف المطالع: أي مطلع الشمس وزوالها وغروبها: ولا يعتبر في رؤية الهلال اختلاف المطالع، فإذا رأى الهلال أهل بلد لزم سائر البلاد العمل بمقتضى هذه الرؤية فيصوم المصري برؤية المكي وبالعكس- عند جمهور الحنفيين ومالك وأحمد والليث بن سعد وروي عن الشافعي- لعموم الخطاب في حدث أبي هريرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قال "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" (الحديث) أخرجه أحمد والشيخان والنسائي والدارمي(2){17}
__________
(1) انظر ص83 ج2 بدائع الصنائع.
(2) تقدم رقم 9 ص324 (ما يثبت به الهلال).(1/363)
وهذا خطاب عام لا يختص بأهل ناحية فالاستدلال به على لزوم رؤية أهل بلد لغيرهم من أهل البلاد أظهر من الاستدلال به على عدم اللزوم لأنه إذا رآه أهل بلد فقد رآه المسلمون فيلزم غيرهم ما لزمهم إذا ثبت عند الغير رؤية من رأى بطريق شرعي موجب للصيام كأن يشهد اثنان فأكثر أن قاضي بلد كذا شهد عنده اثنان برؤية الهلال في ليلة كذا وقضى بشهادتهما فلهذا القاضي أن يحكم بشهادتهما لأن قضاء القاضي حجة وقد شهدوا به. أما لو أخبر جماعة أن أهل بلد كذا رأوا هلال رمضان ليلة كذا فصاموا وهذا يوم الثلاثين بحسابهم فلا يباح لمن أخبروا بذلك فطر غد لأن أولئك الجماعة لم يشهدوا بالرؤية.
(والمختار) عند الشافعية وصاحب التجريد وغيره من الحنفيين أن لأهل كل بلد رؤيتهم وهو الأشبه لأن كل قوم يخاطبون بما عندهم فلا يصوم المصري برؤية المكي مثلاً (روي) كريب "أن أم الفضل ابنة الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال فقدمت الشام فقضيت حاجتها فاستهل رمضان وأنا بالشام فرأينا الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني ابن عباس ثم ذكر الهلال فقال متى رأيتموه؟ قلت: رأيته ليلة الجمعة قال: أنت رأيته؟ قلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. قال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل الثلاثين أو نراه فقلت: أفلا تكتفي برؤية معاوية وصيامه قال: لا. هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" أخرجه أحمد ومسلم والثلاثية والدار قطني وقال: إسناده صحيح. وقال الترمذي: حسن صحيح غريب. والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم أن لكل أهل بلد رؤيتهم(1){18}
__________
(1) انظر ص270 ج9- الفتح الرباني (إذا رؤى الهلال في بلد دون غيره) وص 197 نووي (لكل بلد رؤيتهم) وص 50 ج10- المنهل العذب المورود. وص 300 ج1 مجتبي (اختلاف أهل الآفاق في الرؤية) وص 35 ج3 تحفة الأحوذي. وص 234- الدارقطني (وأم الفضل) لبابة امرأة العباس رضي الله عنهما.(1/364)
يعني أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم ألا نعتمد على رؤية غيرنا ولا نكتفي بها بل لا نعتمد إلا على رؤية أهل بلدنا (وأجاب) الجمهور عن هذا الحديث:
(أ) بأن الإشارة في قوله- هكذا امرنا- يحتمل أن يراد بها أنه صلى الله عليه وسلم أمرنا ألا نقبل شهادة الواحدة في حالة الإفطار.
(ب) وبأنه خبر واحد ليس فيه لفظ الشهادة ونصابها اثنان.
(ج) وبأن الحجة إنما هي في المرفوع من رواية ابن عباس لا في اجتهاده.
والمشار إليه بقوله: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. هو قوله: فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين (روي) عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصوموا حتى تروه فإن حال دونه غمامة فأتموا العدة ثلاثين ثم أفطروا" أخرجه الثلاثة وقال الترمذي حسن صحيح(1){19}
وهو خطاب لكل من يصلح له من المسلمين. وعدم عمل ابن عباس رضي الله عنهما برؤية أهل الشام مع اختلاف المطلع إما لعدم ثبوت الشهادة على رؤيتهم، وإما اجتهاد منه وليس بحجة. فالذي ينبغي اعتماده هو ما ذهب إليه الأولون "ولا يلتفت" إلى قول ابن عبد البر: قد أجمعوا على أنه لا تراعي الرؤية فيما بعد من البلدان كخراسان والأندلس "لأن" الإجماع، لا يتم والمخالف مثل الحنفيين ومالك وأحمد (وقال) ابن الماجشون: لا يلزم أهل بلد رؤية غيرهم إلا أن يثبت ذلك عند الإمام الأعظم فيلزم الناس كلهم لأن البلاد في حقه كالبلد الواحد إذ حكمه نافذ في الجميع.
(
__________
(1) انظر ص44 ج10- المنهل العذب المورود (فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين) وص 302 ج1 مجتبي وص 33 ج2 تحفة الأحوذي (الصوم لرؤية الهلال) و (لا تصوموا) أي لا تصوموا رمضان حتى تروا هلاله ثم صوموا حتى تروا هلال شوال أو تكملوا عدة رمضان.(1/365)
فائدة) دل حديث كريب(1)على أن من رأى هلال رمضان في جهة ثم انتقل إلى أخرى رؤى فيها الهلال في ليلة بعد الأولى فصام ثلاثين ولم ير هلال شوال في هذه الجهة، لزمه الصوم مع أهلها لأنه صار منهم. وأن أفطر لزمه القضاء عند من أخذ بظاهر الحديث. أما من لا يعتبر اختلاف المطالع فإنه يقول: يلزم أهل الجهة الثانية موافقته في الفطر إن ثبتت عندهم رؤية البلد الأولى بوجه شرعي ولزمهم قضاء اليوم الأول وإن لم تثبت عندهم لزمه هو الفطر سراً والله تعالى ولي التوفيق.
(و) لا يثبت الهلال بقول لحساب: لا يعتمد في ثبوت الصوم والفطر على قول المنجمين، لأنه خلاف الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (روى) نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له" الحديث (وفيه) كان ابن عمر يفطر مع الناس ولا يأخذ بهذا الحساب. أخرجه أبو داود والدار قطني(2){20}
(
__________
(1) تقدم رقم 18 ص332.
(2) انظر ص33 ج10 – المنهل العذب (الشهر يكون تسعاً وعشرين). وص 229 – الدارقطني. وتقدم رقم 8.(1/366)
قال) المازري: حمل جمهور الفقهاء قوله صلى الله عليه وسلم: فاقدروا له على أن المراد إكمال العدة ثلاثين كما فسره في حديث آخر: ولا يجوز أن يكون المراد حساب المنجمين، لأن الناس لو كلفوا به ضاق عليهم لأنه لا يعرفه إلا أفراد. والشرع إنما يعرف الناس بما يعرفه جماهيرهم(1)وأيضاً فإن الشارع لا يعول على الحساب ولا يعتمد عليه (روى) ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا وعقد الإتهام في الثالثة: والشهر هكذا وهكذا وهكذا يعني تمام ثلاثين" أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي(2){21}
__________
(1) انظر ص189 ج7 نووي مسلم.
(2) انظر ص252 ج9- الفتح الرباني (ثبوت الشهر برؤية الهلال) وص 89 ج4 فتح الباري (قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا نكتب ولا نحسب وص 192 ج7 نووي (وجوب صيام رمضان لرؤية الهلال) وص 31 ج10- المنهل العذب (الشهر يكون تسعاً وعشرين) وص 302 ج1 مجتبي و (أمية) أي منسوبة إلى الأم باعتبار البقاء على ما ولدتنا عليه أمهاتنا لم يتعلم الكتابة والحساب. وهذا بالنظر للغالب في العرب (وعقد الإبهام) أي أنه أشار بيديه ثلاث مرات ناشراً أصابعه وفي المرة الثالثة قبض الإبهام إشارة إلى أن الشهر يكون تسعاً وعشرين ثم أشار بيديه ثلاث مرات ناشراً أصابعه ولم يقبض إبهامه في الثالثة إشارة إلى أنه يكون ثلاثين.(1/367)
والمراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها ولم يكونوا يعرفون من ذلك إلا النزر اليسير فعلق الحكم بالصوم والفطر بالرؤية لرفع الحجر عنهم في معاناة حساب التسيير واستمر الحكم في الصوم ولو وجد بعدهم من يعرف ذلك. بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً: ويوضحه قوله في الحديث الماضي: فإن حال دونه غمامة فأتموا العدة ثلاثين(1)ولم يقل فسلوا أهل الحساب. والحكمة فيه كون العدد عند الإغماء يستوي فيه المكلفون فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم وقد ذهب قوم إلى الرجوع إلى أهل التسيير في ذلك وهم الروافض ونقل عن بعض الفقهاء موافقتهم. وإجماع السلف الصالح حجة عليهم وهو مذهب باطل فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم لأنها حدس وتخمين ليس فيها قطع ولا ظن غالب مع أنه لو ارتبط الأمر بها لضاق إذ لا يعرفها إلا القليل(2)وعلى هذا اتفق أهل الذكر من الفقهاء (قال) ابن عابدين: ولا عبرة بقول المنجمين- ولو عدولاً- في وجوب الصوم على الناس بالإجماع ولا يجوز للمنجم أن يعمل بحساب نفسه. وللإمام السبكي الشافعي تأليف مال فيه إلى اعتماد قولهم لأن الحساب قطعي. وما قاله رده متأخرو أهل مذهبه (منهم) ابن حجر والرملي في شرحي المنهاج (وفي فتاوي) الشهاب الرملي الكبير الشافعي سئل:
(أ) عن قول السبكي: لو شهدت بينة برؤية الهلال ليلة الثلاثين من الشهر وقال الحساب بعدم إمكان الرؤية تلك الليلة، عمل بقول أهل الحساب لأن الحساب قطعي والشهادة ظنية. فهل يعمل بما قال؟
(
__________
(1) تقدم رقم 19 ص333.
(2) انظر ص90 ج5 فتح الباري (الشرح).(1/368)
ب) وفيما إذا رؤى الهلال نهاراً قبل طلوع الشمس يوم التاسع والعشرين من الشهر وشهدت بينة برؤية هلال رمضان ليلة الثلاثين من شعبان، فهل تقبل الشهادة؟ لأن الهلال إذا كان الشهر كاملاً يغيب ليلتين أو ناقصاً يغيب ليلة. (جـ) أو غاب الهلال الليلة الثالثة قبل دخول وقت العشاء، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي العشاء لسقوط القمر الليلة الثالثة. هل يعمل بالشهادة؟
((1/369)
فأجاب) بأن المعمول به في المسائل الثلاث ما شهدت به البينة، لأن الشهادة نزلها الشارع منزلة اليقين. وما قاله السبكي مردود وليس في العمل بالبينة مخالفة لصلاته صلى الله عليه وسلم. ووجه ما قلنا: أن الشارع لم يعتمد الحساب بل ألغاه بالكلية بقوله: "نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا"(1). (وقال) الشيخ عبد الحافظ في شرح مجموع الأمير: ولا يثبت رمضان بقول منجم لا في حق غيره ولا في حق نفسه، لأنه ليس من الطرق الشرعية ونحن مأمورون بتكذيبه، قال الله تعالى: "قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله"، وقال صلى الله عليه وسلم: "من صدق كاهناً أو عرافاً أو منجماً فقد كفر بما أنزل على محمد"(2). والكاهن الذي يخبر عن الأمور المستقبلة. والعراف هو الذي يخبر عن الأمور الماضية أو المسروق أو الضال ونحو ذلك. والمنجم هو الذي يعرف سير القمر وقوس الهلال ونوره، ومثله من يقول: أول الشهر طلوع النجم الفلاني، فإذا قال المنجم: الشهر ناقص أو تام لم يلتفت إلى قوله ولا إلى حسابه، لأن الشارع أناط الصوم والفطر والحج برؤية الهلال لا بوجوده وإن فرض صحة قوله(3). (وقال) النووي: إذا غم الهلال وعرف رجل الحساب ومنازل القمر وعرف بالحساب أنه من رمضان ففيه أوجه (أصحها) لا يلزم الحاسب ولا المنجم ولا غيرهما بذلك. لكن يجوز لهما دون غيرهما ولا يجزئهما عن فرضهما(4). (وقال) الإمام القسطلاني: قالت الشافعية: ولا عبرة بقول المنجم فلا يجب به الصوم ولا يجوز، والمراد بآية "وعلامات وبالنجم هم يهتدون"(5)
__________
(1) انظر ص10 ج2- در المختار (الصوم)
(2) روي) أبو هريرة مرفوعاً: من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد. أخرجه أحمد والحاكم بسند قوي (انظر رقم 8285 ص23 ج6- فيض القدير).
(3) انظر ص623 ج1- الفجر المنير.
(4) انظر ص279 و 280 ج6- مجموع النووي.
(5) سورة النحل: آية 16..(1/370)
الاهتداء في أدلة القبلة. ولكن له أن يعمل بحسابه كالصلاة ولظاهر هذه الآية. وقيل: ليس له ذلك(1)(
__________
(1) انظر ص343 ج3- إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (قول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم الهلال فصوموا) (ولا عبرة) أي في ثبوت الصيام عند الإمام وجماعة المسلمين، وقوله: (له أن يعمل بحسابه) أي في خاصة نفسه بشرط المنع من رؤية الهلال لغيم ونحوه، وهذه رواية مخالفة للمعلوم من مذهب الإمام الشافعي مع أنهم اختلفوا عليها في الاجزاء وعدمه، وقوله (كالصلاة) فيه نظر، فقد فرق الإمام القرافي بينهما قال: والفرق هاهنا أن الله تعالى نصب زوال الشمس سبباً لوجوب الظهر وكذا بقية الأوقات فمن علم سبباً بأي طريق لزمه حكمه، فلذلك اعتبر الحساب المفيد للقطع، وأما الأهلة فلم يجعل خروجها من شعاع الشمس سبباً للصوم، بل نصبت رؤية الهلال- خارجاً عن شعاع الشمس- هي السبب، فإذا لم تحصل الرؤية لم يحصل السبب الشرعي ولا يثبت الحكم، لقول النبي صل الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته" (انظر رقم 9 ص324 – ما يثبت به الهلال) ولم يقل: صوموا لخروجه عن شعاع الشمس، كما قال تعالى في الصلاة: "أقم الصلاة لدلوك الشمس" أي لميلها، ومعلوم أنه يجب الاقتصار- في القضاء والفتوى والعمل- على المشهور أو الراجح وطرح الشاذ والضعيف، والقول بجواز العمل بالحساب قول شاذ ومقيد بخاصة النفس وبالغيم فلا تجوز الفتوى به (وتمامه بص 119 ج1- فتح العلي المالك على مذهب الإمام مالك للشيخ عليش)..(1/371)
فتحصل) مما ذكر أنه لا يعول على حساب ولا تنجيم لا في صيام ولا في إفطار ولو بالنسبة إلى نفس الحاسب والمنجم بل لابد في ذلك من رؤية الهلال أو إكمال العدد "ومن زعم" أن المقصود العلم أو الظن بدخول الشهر وخروجه، وأن الحديث لا يدل على إناطة ثبوت الصوم والإفطار برؤية الهلال "فقد غفل" عن كون الشارع لم يجعل الحساب ولا التنجيم طريقاً للعلم أو الظن بدخول الشهر أو خروجه، وإلا لقال: صوموا لعلمكم أو ظنكم بدخول الشهر أو خروجه مثلاً، والله الهادي إلى سواء السبيل.
(ز) ما يقال عند رؤية الهلال: يستحب لمن رأى هلال رمضان أو غيره أن يقول: (ما في حديث) ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال: "الله اكبر أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما يحب ربنا ويرضى، ربنا وربك الله" أخرجه الدارمي والأثرم(1){22}
(وما في حديث) طلحة بن عبيد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال: "اللهم أهله علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام ربي وربك الله" أخرجه أحمد والدارمي والترمذي وحسنه والحاكم وابن حبان وزاد: والتوفيق لما تحب وترضى(2){23}
(
__________
(1) انظر ص3 ج2- دارمي (ما يقال عند رؤية الهلال) و (الهلال) يكون في الليلة الأولى والثانية والثالثة ثم يكون قمراً. و(أهله) من الإهلال وهو في الأصل رفع الصوت نقل إلى رؤية الهلال، لأن الناس يرفعون أصواتهم إذا رأوه بالإخبار عنه. ونبه بذكر الأمن والسلامة، على طلب دفع كل مضرة وبالإيمان والإسلام على جلب كل منفعة على أبلغ وجه وأوجز عبارة.
(2) انظر ص4 ج2- دارمي، وص 245 ج4- تحفة الاحوذي.(1/372)
وما روي) قتادة أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال: "هلال خير ورشد، هلال خير ورشد، هلال خير ورشد، آمنت بالذي خلقك ثلاث مرات. ثم يقول: الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا" أخرجه أبو داود وقال: ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب حديث مسند صحيح(1){24}
(هذا) ما ورد "أما ما يفعله" بعض العوام من رفع الأيدي عند رؤية الهلال قائلين: (هل هلالك، جل جلالك، شهر رمضان علينا وعليك) ونحو ذلك، ثم يمسحون وجوههم "فبدعة" منكرة من عمل الجاهلية لم تفعل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا السلف الصالح (ومن البدع) ما يفعله بعض العوام وأرباب الطرق، من الطواف ليلة رؤية رمضان- في العواصم وبعض القرى- بالرايات رافعين أصواتهم بالأذكار والصلوات مع اللغط والتشويش والزمر والطبل وزغاريد النساء واختلاط الرجال بهن وبالأحداث واستعمال آلات اللهو وغير ذلك فإنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا السلف الصالح رضي الله عنهم.
(3) شروط الصيام
هي نوعان: ما يعم الصيام كله، وهو شرط الأداء، وما يخص البعض، وهو شرط الوجوب.
(أ) شروط الأداء: هي ثلاثة أنواع: (1) ما يرجع إلى رفث الصوم، وتقدم بيانه(2). (2) شرط جواز الأداء، وهو الإسلام فلا يجوز صوم الكافر إجماعاً وفي كونه شرط وجوب خلاف يأتي بيانه.
(
__________
(1) انظر ص48 ج4- عون المعبود.
(2) انظر ص222.(1/373)
3) شروط صحة الأداء، وهي ثلاثة: (الأول) الخلو عما ينافي الصوم من مفسد بطروه عليه ومن حيض ونفاس (وهو) شرط صحة عند الحنفيين والشافعي وأحمد وشرط صحة ووجوب عند مالك. فيجب الصوم على الحائض والنفساء إن رأت علامة الطهر ولو مع الفجر فتنوي حينئذ ويصح صومها، وإن شكت بعد الفجر هل طهرت قبله أم بعده؟ أمسكت بقية يومها وجوباً ولا كفارة إن لم تمسك وقضت ذلك اليوم المشكوك فيه(1)(والبلوغ) ليس من شروط الصحة لصحة صوم الصبي العاقل.
(
__________
(1) انظر ص634 ج1- الفجر المنير.(1/374)
الثاني) التمييز، وهو شرط صحة عند الشافعي، فلا يصح صوم غير مميز كمجنون وإن قل جفونه ومغمىً عليه وسكران إذا لم يفيقا لحظة من النهار، أما إذا أفاق كل منهما ولو لحظة من النهار فإنه يصح صومه ولا يضر النوم جميع النهار، لأن النائم مميز حكماً لسرعة انتباهه إذا نبه. (ويلزم) المغمى عليه القضاء اتفاقاً لأن مدقه لا تطول غالباً ولا يزول به التكليف كالنوم. أما المجنون فلا يلزمه قضاء ما مضى في جنونه ولو كان غير مطبق لأنه يطول غالباً ويزول به التكليف. (وقال) مالك وأحمد: العقل شرط صحة ووجوب فلا يصح صوم المجنون ولا المغمى عليه ولا يجب عليهما. ومن زال عقله بجنون أو إغماء كل اليوم أو جله ولو سلم أوله أو دون جله ولم يسلم عند طلوع الفجر، قضى الصوم وجوباً بأمر جديد، فلا ينافي أن العقل شرط وجوب وصحة معاً. أما من جن أو أغمى عليه نصف اليوم فأقل وسلم مما ذكر وقت طلوع الفجر، فلا قضاء عليه وإن لم ينو بالفعل حيث تقدمت له النية تلك الليلة ولو باندراجها في نية الشهر. والسكر ولو بحلال كالإغماء على الراجح ولا قضاء على النائم ولو نام كل الشهر إن بيت النية أولاً(1). (وقال) الحنفيون: ليس العقل ولا الإفاقة شرطاً لصحة الصوم لأن من نوى الصوم ليلاً ثم جن أو أغمى عليه نهاراً يصح صومه في ذلك اليوم، وإنما لم يصح فيما بعده لعدم تصور النية منهما، ومن جن كل رمضان بأن زال عقله قبل غروب شمس آخر شعبان واستمر حتى تم رمضان لا يقضي، لأنه لما طال جنونه باستيعاب الشهر سقط به القضاء دفعاً للحرج وإن أفاق لحظة منه ولو آخر النهار قضى ما مضى لتحقق سبب الوجوب وهو شهود بعض الشهر ولا حرج في القضاء حيث لم يستوعب الجنون الشهر كله. ولا فرق في ذلك بين الجنون الأصلي والطارئ في ظاهر الرواية. واختاره الكمال ابن الهمام.
__________
(1) انظر ص634 ج1 – الفجر المنير.(1/375)
واختار الحلواني أن من أفاق في وقت غير صالح لإنشاء النية بأن أفاق بعد الزوال أو ليلاً لا قضاء عليه وصححه غير واحد فهما فولان مصححان. والمعتمد الأول، لأنه ظاهر الرواية، ومن أغمى عليه أياماً ولو كل الشهر قضاها إلا يوماً حدث فيه أو في ليلته الإغماء ولم يفطره، فلا يقضيه لتحقق الصوم فيه إذ الظاهر أنه نوى الصوم حملاً لحال المسلم على الصلاح، والفرق بين الإغماء والجنون أن الإغماء لا يطول عادة فلا يسقط به القضاء.
(الثالث) النية وهي لغة: العزم، وشرعاً الإرادة المقارنة للفعل المسبوقة بعلم النوى. وصحت غير المقارنة في الصوم للضرورة. والشرط علمه بقلبه أي صوم يصوم. ولا عبرة باللسان وإن خالف القلب ويقوم مقامها التسحر. ولو قال: نويت صوم غد إن شاء الله تعالى صح استحساناً لأن النية أمر قلبي والمشيئة إنما تبطل العمل اللفظي. ثم الكلام فيها في ثلاثة مواضع: صفتها، وكيفيتها، ووقتها.
(فصفتها) أنها ركن عند الشافعية وشرط لصحة كل صوم عند الثلاثة، لقوله تعالى: "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين"(1)، فإن الإخلاص هو النية، لأنه من أعمال القلب (وعن) عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" أخرجه الشيخان(2). {25}
أي صحتها بالنية. وقد أجمع العلماء على أنها فرض في الصوم وغيره من مقاصد العبادات. والعبادة عمل يأتيه العبد باختياره خالصاً لله تعالى بأمره. والاختيار والإخلاص لا يتحققان بدون النية.
(
__________
(1) سورة البينة: آية 5.
(2) تقدم رقم 29 ص133 (شروط صحة الزكاة).(1/376)
كيفيتها) يكفي عند الحنفنيين نية طلق الصوم في صوم النفل وفي الصوم المعين وقته كرمضان والمنذور المعين لقوله تعالى: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" وهذا قد شهد الشهر وصامه فيخرج عن العهدة (ولو) نوى في رمضان النفل أو واجباً آخر، وقع عن رمضان (ولو نوى) في المنذور المعين وقته النفل، وقع عن المنذور. ولو نوى فيه واجباً آخر وقع عما نوى بخلاف رمضان. ووجه الفرق أن شهر رمضان معين بتعيين الله تعالى فيظهر تعيينه في حق كل صوم آخر وأن التعيين في المنذور بتعيين العبد فيظهر تعيينه بالنسبة لصوم التطوع دون الواجبات التي هي حق الله تعالى في هذه الأوقات فبقيت محلاً لها، فإذا نواها صح (وهذا) في حق المقيم. أما المسافر فإن صام رمضان بمطلق النية وقع صومه عن رمضان وإن صام فيه ناوياً واجباً آخر وقع عما نوى عند النعمان وعند الصاحبين يقع عن رمضان وكذا إن صام ناوياً التطوع عندهما وعن النعمان روايتان الأصح أنه يقع عن التطوع(1)(وهذا) وصوم القضاء والكفارات والنذور المطلقة لا يجوز إلا بتعيين النية حتى لو صام ناوياً مطلق الصوم لا يقع عما عليه ولو نوى بصومه قضاء رمضان والتطوع كان عن القضاه عند أبي يوسف لأن نية التعيين في التطوع لغو فلغت وبقي أصل النية فصار كأنه نوى قضاء رمضان (وقال) محمد: يكون عن التطوع، لأنه عين الوقت لجهتين مختلفتين فسقطتا وبقي أصل النية وهو نية الصوم فيكون عن التطوع (وإن) نوى قضاء رمضان وكفارة الظهار يكون عن القضاء استحساناً عند أبي يوسف، لأنه خلف عن صوم رمضان وخلف الشيء يقوم مقامه. وصوم رمضان أقوى حتى تندفع به نية أي صوم آخر..والقياس أن يقع عن التطوع وهو قول محمد، لأن جهتي التعيين تعارضتا فسقطتا فبقي نية مطلق الصوم فيكون تطوعاً(2)(
__________
(1) انظر ص84 ج2 بدائع الصنائع.
(2) انظر ص85 منه..(1/377)
وقال) مالك والشافعي وأحمد: يجب تعيين النية في كل صوم واجب بأن يعزم أنه يصوم غداً من رمضان أو من قضائه أو من كفارته أو عن نذر. ويجوز عندهم صوم النفل بنية مطلقة وعن أحمد أنه لا يجب تعيين النية لرمضان (فلو) نوى في رمضان الصوم مطلقاً أو نوى نفلاً وقع عن رمضان وصح صومه (ولو) نوى ليلة الشك: إن كان غداً من رمضان فأنا صائم فرضاً وإلا فهو نفل، لم يجزئه على الرواية الأولى، لأنه لم يعين الصوم عن رمضان جزماً ويجزيه على الأخرى، لأنه قد نوى الصوم. ولو كان عليه صوم من سنة خمس فنوى أن يصوم عن سنة ست أو نوى الصوم عن يوم الأحد وكان الإثنين أو ظن أن غداً الأحد فنواه وكان الإثنين، صح صومه لأن نية الصوم لم تحتل وإنما اخطأ في الوقت. وإذا عين النية عن صوم رمضان أو قضائه أو كفارة أو نذر لم يحتج أن ينوي كونه فرضاً.وقال ابن حامد يجب ذلك(1).
__________
(1) انظر ص18 ج3 مغنى ابن قدامة.(1/378)
وقت النية: وقتها عند مالك والليث: الليل في كل صوم ولو نفلاً (وقال) الشافعي وأحمد: وقتها الليل في الفرض والليل وأول النهار في النفل (وقال) الحنفيون: وقتها الليل في صوم ليس له وقت معين كقضاه رمضان وصوم الكفارات والنذر المطلق. أما الصوم المعين زمنه كأداء رمضان والنذر المعين فوقتها فيه من أول الليل إلى ما قبل الزوال. وكذا صوم النفل والمكروه (فيلزم) تبييت نية الصوم بإيقاعها في جزء من الليل بلا فرق بين صوم الفرض والنفل عند مالك، لعموم حديث سالم بن عبد الله عن أبيه عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له" أخرجه أحمد والأربعة والدار قطني وابن خزيمة وابن حبان وصححاه مرفوعاً (وقال) الترمذي: حديث حفصة لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه وقد روي عن نافع عن ابن عمر قوله وهو أصح(1){26}
فقوله: فلا صيام له نكرة . في سياق النفي تعم الفرض والنفل. والحديث وإن اختلف في رفعه ووقفه فهو صالح للاحتجاج به، لأن له شاهداً يقويه (روت) عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له" أخرجه الدار قطني والبيهقي. وفيه عبد الله بن عباد ضعيف(2){27}
(وقال) الشافعي وأحمد: يجب تبييت النية في الفرض دون التطوع.
__________
(1) انظر ص275 ج9- الفتح الرباني (وجوب النية في الصوم ليلاً). وص 215 ج10- المنهل العذب المورود وص 32 ج1 مجتبي. وص 48 ج2 تحفة الأحوذي (لا صيام لمن لم يعزم من الليل) وص 267 ج1- ابن ماجه وص 234 الدارقطني (ويجمع) بضم فسكون فكسر من أجمع إجماعاً. أي عزم النية وأحكمها.
(2) انظر ص234 الدارقطني وص 203 ج4 بيهقي (الدخول في الصوم بالنية).(1/379)
وحملوا الأحاديث السابقة على الفرض دون النفل فلا يجب فيه التبييت (لحديث) عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيها فيقول: هل عندكم طعام؟ فإذا قلنا: لا قال إني صائم" أخرجه أحمد ومسلم والثلاثة. وهذا لفظ أبي داود(1){28}
(وقال) الحنفيون: يلزم تبيت نية الصوم من الليل ولو عند طلوع الفجر إن لم يتعلق بوقت معين كقضاء رمضان وصوم الكفارات والنذر المطلق. وحملوا على هذا حديث: من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له(2)أما ماله زمن معين كأداء رمضان والنذر المعين فيصح صومه بنية في الليل والنهار قبل الزوال. وكذا الصوم المسنون والمكروه، فلا يلزم فيما ذكر تبييت النية لقوله تعالى: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ثم أتموا الصيام إلى الليل(3) (أباح) الله تعالى الأكل والشرب إلى طلوع الفجر وأمر بالصيام بكلمة ثم التي للتراخي فأفاد أن النية تعتبر بعد الفجر قطعاً (وعن) سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر رجلاً من أسلم أن أذن في الناس أن من كان أكل فليصم بقية يومه ومن لم يكن أكل فليصم. فإن اليوم يوم عاشوراء" أخرجه احمد والشيخان والنسائي والبيهقي(4){29}
__________
(1) انظر ص277 ج9- الفتح الرباني. وص 34 ج8 نووي (جواز صوم النافلة بنية من النهار) وص 320 ج1 مجتبي. وص 275 ج4 بيهقي. وص 217 ج10- المنهل العذب المورود وص 50 ج2 تحفة الأحوذي (إفطار الصائم المتطوع).
(2) تقدم رقم 26 ص344.
(3) سورة البقرة: آية 187.
(4) انظر ص179 ج10- الفتح الرباني (فضل يوم عاشوراء) وص 178 ج4- فتح الباري وص 13 ج8 نووي وص 319 ج1 مجتبي (إذا لم يجمع من الليل هل يصوم ذلك اليوم من التطوع؟) وص 288 ج4 بيهقي (صوم عاشوراء كان واجباً ثم نسخ وجوبه).(1/380)
كان صوم عاشوراء فرض حتى فرض رمضان فصار سنة كما سيأتي(1)ولو نوى صوم ما ذكر عند الزوال أو بعده, لا يصح لعدم مقارنة النية لأكثر النهار. (هذا) وقد علم أن الصوم في الليل كافية في كل صوم بالإجماع, لكن بشرط عدم الرجوع عنها. حتى لو نوي ليلا صوم غد ثم عزم ليلا على الفطر لم يصبح صائما، فلو أفطر لا شئ عليه في غير رمضان ولو مضى عليه لا يجزئه لا نتقاض النية بالرجوع . ولو نوي الصائم بالنهار الفطر لم يفطر.
والأفضل في كل صوم أن ينوي وقت طلوع الفجر إن أمكنه أو من الليل لأن النية عند طلوع الفجر تقارن أول جزء من العبادة حقيقة ومن الليل تقارنه تقديرا(2).
(وأجاب) من أجب تبييت النية في كل صوم:
( أ ) عن الآية بأنها محتملة لأن تكون نية الصوم نهاراً وأن تكون ليلاً. والمعني: ثم أتموا الصيام الذي نويتموه ليلاً.
... ( ب ) وعن حديث سلمة بأنه منسوخ بحديث: من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له, لتأخر هذا. ولو سُلّم عدم النسخ فالنية إنما صحت في نهار عاشوراء لأنه ما بلغهم فرضية صوم إلا نهاراً. والرجوع إلى الليل حينئذ متعذر. والنزاع فيما كان ممكنا فيختص جواز النية بالنهار بمن ظهر له ومن ظهر له نهاراً أن اليوم من رمضان.
... ( ج ) وعن حديث عائشة بأنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد نوي الصوم وأراد الفطر لعذر (ويقوي) هذا قوله في رواية أحمد : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بأتيها وهو صائم . ولو سلم عدم الاحتمال فإن غايته تخصيص صوم التطوع من عموم الحديث من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له.
(
__________
(1) يأتي في بحث ( مبدأ فرض الصيام – وصوم يوم عاشوراء) إن شاء الله تعالى.
(2) انظر ص 85 ج 2 بدائع الصناع.(1/381)
تنبيه) قد دلت أحاديث لزوم تبييت نية الصوم على أنها تجب لكل يوم وبه قال الحنفيون والشافعي والجمهور. وهو أصح الروايتين عن أحمد، لأن صوم كل يوم عبادة مستقلة (وقال) مالك وإِسحق : يكفي نية صوم لشهر أول ليلة من رمضان ولا يجب تجديدها لكل يوم بل يستحب ، لقوله صلى الله عليه وسلم: وإنما لكل امرئ ما نوى. وهذا قد نوى جمع الشهر فكان له ما نوى (ورد) بإن معناه أن كل عبادة تحتاج إلى نية وصوم كل يوم من رمضان عبادة مستقلة فتحتاج إلى نية (ومنه) يعلم أن الراجح قول من قال بلزوم تبييت النية في كل يوم غير النقل. وقول من قال بلزومها في كل ليلة من رمضان وعلى قياس رمضان إذا نذر صوم شهر بعينه فيقال فيه مثل ما ذكر في رمضان(1).
... (ب) شروط وعيوب الصوم : يشترط لوجوبه ستة شروط.
__________
(1) انظر ص 26 ج 2 مغنى ابن قدامة .(1/382)
... ( 1 ) الإسلام. وهو شرط وجوب وصحة عند الحنفيين وأحمد, فلا يفترض الصوم على الكافر الأصلي وإن عوقب في الآخرة على ترك اعتقاد افتراضه لأنه غير مخاطب بفروع الشريعة على المرتد عند الحنفيين وهو الصحيح عند أحمد لأنه يصير كالكافر الأصلي، وكذا لا يصح منه لأن النية شرط لصحته وهي لا تصلح إلا من المسلم كما تقدم (وقال) الشافعي: الإسلام – ولو فيما مضى – شرط وجوب فلا وجوب فلا يجب الصوم على الكافر الأصلي وجوب مطالبة وإن كان يعاقب عليه في الآخرة عقاباً زائداً على عقاب الكفر ويجب على المرتد وجوب مطالبة بأن يقال له أسلم وصم. ويجب القضاء عليه إن عاد للإسلام. وهو رواية عن أحمد (هذا) ولا يجوز للمسلم إعانة الكافر على ما لا يحل عندنا كالأكل والشرب في نهار رمضان بضيافة أو غيرها لأنه إعانة على معصية (وقال) مالك الإسلام شرط صحة. فلا يصح صوم الكافر وإن كان واجباً عليه ويعاقب على تركه زيادة على عقاب الكفر، لأنه يرى أن الكافر مخاطب بفروع الشريعة وإن كانت لا تصح إلا بالإسلام. وإذا أسلم سقطت عنه ولو مرتداً لقوله تعالى "قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف(1)".
... ( 2 ) البلوغ: وهو شرط وجوب عند الأربعة. فلا يفترض الصيام على صبي لعدم تكليفه. لكن على ولي الصبي أن يأمره به إذا أطاقه ويضربه عليه إذا امتنع كالصلاة في الأصح عند الحنفيين والشافعي واحمد (لحديث) الربيع بنت معوذ قالت "أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: من كان أصبح صائماً فليتم صومه. ومن كان أصبح مفطراً فليصم بقية يومه فكنا نصومه بعد ذلك ونصوم صبياننا الصغار" (الحديث) أخرجه الشيخان والبيهقي(2){30}
__________
(1) سورة الأنفال: آية 39.
(2) انظر ص144 ج4 فتح الباري (صوم الصبيان) وص 13 ج8 نووي (صوم يوم عاشوراء) وص 288 ج4 بيهقي.(1/383)
... (وفي الحديث) تمرين الصبيان على الطاعات وتعويدهم العبادات ولكنهم ليسوا مكلفين (واختلف) في تحديد السن التي يؤمر الصبي عندها بالصيام (فعند) الحنفيين والشافعي يؤمر به لسبع ويضرب عليه لعشر إذا أطاقه (وقال) احمد يؤمر به لعشر (وقالت) المالكية: لا يجب الصوم على الصبي ولو مراهقاً ولا يطلب من الولي أمره به لأن الصوم غير مشروع في حقه (وحديث) الربيع بنت معوذ (يرده) لأنه يبعد كل البعد ألا يطلع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على ذلك.
... ( 3 ) العقل: وهو شرط وجوب عند الحنفيين والشافعي. فلا يفترض الصوم عند الحنفيين على مجنون مطلقاً، لعدم تكليفه (ولحديث) علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم" أخرجه أحمد وأبو داود
والترمذي(1). {31}
(وقالت) الشافعية: لا يجب الصوم على المجنون إلا إن تعدى بتعاطي ما يزيل عقله من شرب أو غيره فيجب ويلزمه قضاؤه بعد الإفاقة. ومثله السكران على المعتمد. فإن تعدى بشرب المسكر وجب عليه الصوم ولزمه قضاؤه بعد الإفاقة، وإلا فلا يدب عليه. وأما المغمى عليه فيجب عليه قضاء الصوم وإن لم يعتمد بسبب الإغماء (وقال) مالك وأحمد: العقل شرط وجوب وصحة معاً. فلا يجب الصوم على مجنون ولا يصح منه على ما تقدم بيانه في شروط صحة الأداء(2)
__________
(1) تقدم رقم 19 ص119 (الزكاة في غير المكلف).
(2) تقدم ص 340.(1/384)
... ( 4 ) يشترط لوجوب الصوم- عند الحنفيين- العلم بافتراضه لمن أسلم في دار الحرب بإخبار رجلين أو رجل وامرأتين أو واحد عدل عند النعمان (وقال) أبو يوسف ومحمد: لا تشترط في المخبر العدالة ولا البلوغ ولا الحرية فلو أسلم الحربي في دارهم ولم يعلم أن عليه صوم رمضان ثم علم لا يلزمه قضاء ما مضى، أما من أسلم في دار الإسلام فلا يشترط في حقه العلم بافتراضه فيلزمه قضاء ما لم يصمه بعد الإسلام، لأن الجاهل في دارنا لا يعذر بجهله في مثل هذا.
(5 و6) الإقامة والقدرة على الصوم: وهما شرطان لوجوب الأداء: فلا يجب أداء صوم رمضان على مسافر ولا على عاجز عنه حسا- لكبر أو مرض- أو شرعاً- لحيض أو نفاس- وعلى من زال عذره القضاء، لقوله تعالى "فمن كان منكم مريضاً أو على سفرٍ فعدة من أيامٍ أخر(1)" (ولحديث) معاذة العدوية "أن امرأة سألت عائشة: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت عائشة رضي الله عنها: كان يصيبنا ذلك على عهد النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة" أخرجه السبعة والبيهقي(2){32}
(
__________
(1) سورة البقرة: آية 184.
(2) انظر ص153 ج2- الفتح الرباني (موانع الحيض..) وص 288 ج1 فتح الباري (لا تقضي الحائض الصلاة) وص 26 و 27 ج4 نووي (قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة) وص 42 و 43 ج3- المنهل العذب المورود وص 319 ج1 مجتبي (وضع الصيام عن الحائض. وص 123 ج1 تحفة الأحوذي. وص 112 ج1- ابن ماجه. وص 308 ج1 بيهقي.(1/385)
فائدة) من صار أهلاً لوجوب الصوم بعد أن لم يكن واجباً عليه، لزمه إمساك بقية اليوم- احتراماً للوقت بقدر المستطاع عند الحنفيين وروي عن أحمد- ككافر أسلم أو صبي بلغ أو مجنون أفاق أو مسافر أقام أو مريض بريء وقد أفطر أو فات وقت النية. وأما لو زال المانع من الصوم قبل تناول مفطر وفوات وقت النية فيلزمه الصوم وإن نوى الفطر وكذا إذا طهرت حائض أو نفساء بعد الفجر أو معه، يلزمها الإمساك (هذا) والكافر إذا أسلم والصبي إذا بلغ، لا يلزمهما قضاء اليوم الذي صارا فيه أهلاً للصيام، لعدم أهليتهما له أول اليوم أما غيرهما- إذا صار أهلاً للصوم وكان قد أفطر أو فات وقت النية- فيجب عليه قضاء اليوم الذي صار فيه أهلاً للصوم (لحديث) عبد الرحمن بن مسلمة عن عمه أن أسلم أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال "صمتم يومكم هذا؟ قالوا. لا. قال: فأتموا بقية يومكم واقضوه" أخرجه أبو داود وقال: يعني يوم عاشوراء(1){33}
... (دل) الحديث على وجوب الإمساك على من وجب عليه الصوم في أثناء اليوم. وعلى لزوم القضاء إذا كان تناول مفطراً أو لم ينو الصوم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسلم بالإمساك بقية يوم عاشوراء وقضائه. وكأن صومه واجباً على ما يأتي (وقال) مالك والشافعي: لا يلزم من ذكر إمساك ولا قضاء (وروي) عن احمد: بل يستحب له الإمساك لحرمة الشهر ولم يجب لأنه أبيح له الفطر أول النهار ظاهراً وباطناً: وإذا أفطر كان له استدامة الفطر كما لو دام العذر. أما من أفطر والصوم واجب عليه، فيلزمه الإمساك والقضاء اتفاقاً كمن أفطر لغير عذر (ومن ظن) أن الفجر لم يطلع فأكل وقد طلع، أو أن الشمس قد غابت فأفطر ولم تغب والناسي للنية ونحو ذلك، فهؤلاء يلزمهم الإمساك والقضاء اتفاقاً. وكذا لو ثبتت رؤية الهلال في أثناء النهار. والله الهادي إلى سواء السبيل.
(4) أقسام الصيام
__________
(1) انظر ص208 ج10 – المنهل العذب المورود (فضل صوم عاشوراء).(1/386)
... هو أربعة أقسام إجمالاً وثمانية تفصيلاً عند الحنفنيين (فرض) معين كأداء رمضان. وغير معين كقضائه وصوم الكفارات (وواجب) معين كالمنذر المعين بوقت كنذر صوم يوم الخميس وغير معين كالنذر المطلق. وإتمام صوم التطوع بعد الشروع فيه (ومنهي عنه) وهو حرام كصوم العيدين وأيام التشريق ومكروه تحريماً كصوم يوم الشك ومكروه تنزيهاً كصوم يوم عاشوراء مفرداً وسبت وأحد (وتطوع) وهو سنة كصوم عاشوراء مع التاسع. ومندوب كصوم ثلاثة أيام من كل شهر. وهاك بيانها مفصلاً:
... (أ) صيام رمضان :
... فرض صومه يوم الاثنين لليلتين خلتا من شعبان من السنة الثانية من الهجرة. وهو ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. قال تعالى "يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون(1)" وقال تعالى "فمن شهد منكم الشهر فليصمه(2)" (وروي) ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن الإسلام بني على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة وصيام رمضان، وحج البيت" أخرجه أحمد والشيخان(3){34}
__________
(1) سورة البقرة. آية 183 و 185
(2) سورة البقرة. آية 183 و 185
(3) انظر ص79 ج1- الفتح الرباني (أركان الإسلام) وص 38 ج1- فتح الباري (الإيمان) وص 177 ج1 نووي (أركان الإسلام) وقد أخرجه مسلم من أربع طرق. هذا لفظ الرابع. ولفظ الأول: بني الإسلام على خمسة على أن يوحد الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان والحج. فقال رجل الحج وصيام رمضان: قال (يعني ابن عمر) لا. صيام رمضان والحج هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم (انظر ص176 ج1 نووي) وفيهما كما ترى تقديم الصوم على الحج وفي الثاني والثالث تقديم الحج على الصوم كما عند أحمد والبخاري.(1/387)
... (وقال) طلحة بن عبيد الله: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل مجد ثائر الرأس نسمع دوى صوته ولا نفقه ما يقول حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خمس صلوات في اليوم والليلة فقال: هل علي غيرهن؟ قال: لا إلا أن تطوع. قال النبي صلى الله عليه وسلم: وصوم رمضان. قال: هل علي غيره؟ فقال: لا إلا أن تطوع (الحديث) أخرجه أحمد والشيخان والنسائي وأبو داود وهذا لفظ مسلم(1){35}
__________
(1) انظر ص68 ج1- الفتح الرباني. وص 72 ج4 فتح الباري (وجوب صوم رمضان). وص 166 ج1 نووي (الصلوات أحد أركان الإسلام) وص 79 ج1 مجتبي وص 276 ج3- المنهل العذب المورود و(رجل) هو ضمام بن ثعلبة. و (نجد) قسم من بلاد العرب بين الحجاز والعراق. و (ثائر الرأس) أي منتشر الشعر. و (دوي الصوت) بفتح الدال وكسر الواو وشد الياء- بعده في الهواء. وقيل هو صوت غير مرتفع كصوت النحل. و (رمضان) اسم للشهر المعروف وهو من الرمض (بفتح الميم) شدة الحر. وفيه دليل على جواز أن يقال: جاء رمضان بدون ذكر الشهر. وهو المختار عند المحققين "وما قيل" من أن رمضان اسم من أسماء الله تعالى "ليس بصحيح" ولم يصح فيه شيء. وقد جاء فيه أثر ضعيف وأسماء الله تعالى توفيقية لا تطلق إلا بدليل صحيح (انظر ص188 ج7 نووي مسلم).(1/388)
والأحاديث في هذا كثيرة، وقد أجمعت الأمة على فرضية صوم رمضان لا يجحدها إلا كافر (وشرع) الصوم لحكم (منها) أنه وسيلة إلى شكر النعمة إذ هو كف للنفس على الأكل والشرب والمفطر، وهي من أجل النعم وأعلاها والامتناع عنها زماناً معتبراً يعرف قدرها إذ النعم مجهولة فإذا فقدت عرفت فيحمله ذلك على قضاء حقها بالشكر. وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى في آية الصوم "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون"(1). (ومنها) أنه وسيلة إلى التقوى لأنه إذا انقادت نفسه للامتناع عن الحلال طمعاً في مرضاة الله تعالى وخوفاً من أليم عقابه، فأولى أن تنقاد للامتناع عن الحلال طمعاً في مرضاة الله تعالى وخوفاً من أليم عقابه؛ فأولى أن تنقاد للامتناع عن الحرام فكان الصوم سبباً للاتقاء عن محارم الله تعالى، وإليه الإشارة بقوله تعالى: "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" (ومنها) أن فيه قهر النفس وكسر الشهوة لأن النفس إذا شبعت مالت إلى الشهوات. وإذا جاءت امتنعت عما تهوي (روي) ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجالاً" أخرجه الشيخان(2){36}
__________
(1) سورة البقرة : آية 185.
(2) انظر ص83 ج4 فتح الباري (الصوم لمن خاف على نفسه العزوبة) أي خاف ما ينشأ عنها من الوقوع في الزنا. وص 172 ج9 نووي (استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه....).(1/389)
... فكان الصوم وسيلة إلى الامتناع عن المعاصي (ومنها) أن فيه كسر النفس وقهر الشيطان، فالشبع نهر في النفس يرده الشيطان والجوع نهر في الروح ترده الملائكة (ومنها) كونه موجباً للرحمة والعطف على المساكين فإن الإنسان إذا ذاق ألم الجوع والعطش في بعض الأوقات تذكر حال المسكين في عمومها فيسارع إلى رحمته ومواساته بما يمكن من ذلك وبه ينال حسن الجزاء من الله تعالى. (ومنها) ما يترتب على الصوم من رياضة النفس وراحة أعضاء الجهاز الهضمي شهراً من السنة لتقوى وتقوم بما خلقت له خير قيام. ولذا أباح الشارع الفطر لمن لا يلائمه الصوم كالمريض والمسافر. وهذه الحكم إنما تظهر ثمرتها لمن يعتدل في الطعام والشراب ويتحلى بالآداب الشرعية في الصيام. ثم الكلام ينحصر في سبعة فصول.
... (1) أحوال الصيام: شرع الصوم على ثلاثة مراتب (أ) إيجابه على وجه التخيير، فكان من شاء صام ومن شاء أفطر- ولو قادراً صحيحاً مقيماً- وأطعم عن كل يوم مسكيناً.(1/390)
... (ب) تحتم الصيام على القادر الصحيح المقيم، وكان إذا غربت الشمس يتناولون المفطر ما لم يناموا، ومن نام قبل أن يطعن ويشرب حرم عليه الطعام والشراب إلى الليلة القابلة، قال تعالى: "يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون. أياماً معدوداتٍ فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدةٌ من أيامٍ أخر وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكين"(1)
__________
(1) معنى الآيتين: اعلموا أيها المؤمنون أن الله فرض عليكم الصيام كما فرضه على الأمم السابقة فالتشبيه في وجوب الصيام (قيل) كان الصوم على آدم عليه الصلاة والسلام أيام البيض- الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من الشهر- وعلى قوم موسى عاشوراء (وقيل) التشبيه في القدر والوقت. والمعنى أن الله تعالى فرض على هذه الأمة صوم رمضان كما فرضه على من قبلهم، لكنهم زادوا في العدد إلى خمسين ونقلوا الصيام من أيام الحر إلى أيام الاعتدال (وقيل) التشبيه في الصفة. وهي ترك المفطر (والمعنى أن الله تعالى فرض عليكم ترك المفطرات كما فرضه على من قبلكم غير أنهم في صيامهم قصروا الإمساك عن المفطر من ذي الروح والمستخرج منه. وقوله تعالى (لعلكم تتقون) أي ليكون الصوم وقاية بينكم وبين العاصي. فإنه يكسر الشهوة التي هي مبدؤها ففي حديث ابن مسعود: ومن لم يستطع (يعني النكاح) فعليه بالصوم فإنه له وجاء أي قاطع للشهوة. فصوموا أياماً معدودة معلومة وهي رمضان. ومن كان مريضاً مرضاً يشق معه الصوم أو مسافراً سفراً تقصر له الصلاة وبدأه قبل الفجر فله الفطر وعليه صيام أيام أخر قضاء ما أفطر..أما من سافر نهاراً فلا يباح له الفطر في هذا اليوم (قال) علي رضي الله عنه: من أدرك رمضان وهو مقيم ثم سافر فقد لزمه الصوم، لأن الله يقول "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" أخرجه عبد ابن حميد وابن جرير (انظر ص86 ج2 جامع البيان) وقوله "وعلى الذين يطيقونه فدية" أي على من يجهده الصوم لكبر أو مرض لا يرجي برؤه فدية، وهي عن كل يوم نصف صاع من بر أو سويقه أو دقيقه أو صاع من تمر أو شعير أو زينب عند الحنفيين. ومد (أي ربع صاع) من غالب قوت البلد عند غير الحنفيين. وعلى هذا لا نسخ في الآية (فقد) قرأها ابن عباس وقال: ليست بمنسوخة هو للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فليطعما مكان كل يوم مسكيناً. أخرجه البخاري والنسائي (انظر ص125 ج8 فتح الباري- قوله تعالى: أياماً معدودات.....) (وعنه) قال: يطيقونه يكلفونه فدية طعام مسكين واحد فمن تطوع خيراً طعام مسكين آخر. ليست بمنسوخة (الحديث) أخرجه النسائي (انظر ص318 ج1 مجتبي تأويل قوله: وعلى الذين يطيقونه فدية...) و (قيل) المعنى وعلى المطيقين للصوم إن أفطروا بلا عذر فدية كانوا مخيرين بين الصوم والفدية. ثم نسخ التخيير بقوله تعالى "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" (قال) سلمة بن الأكوع: لما نزلت هذه الآية "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها. أخرجه الخمسة (انظر ص126 ج8 فتح الباري – فمن شهد منكم الشهر فليصمه- وص 318 ج1 مجتبي وص 26 ج10- المنهل العذب- نسخ قوله: وعلى الذين يطيقونه) وقوله "فمن تطوع خيراً فهو خير لكم" أي فمن زاد في الفدية فله ثواب أكثر وصومكم أيها المرخص لهم في الفطر خير لكم من تأخير الصيام ومن الفدية إن كنتم تعلمون ما في الصوم من الفضيلة وبراءة الذمة، لآثرتموه على عدمه. وإنما خص فرض الصيام بشهر رمضان لمزيد فضله: فقد أنزل فيه القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة القدر منه. ثم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم منجماً في ثلاث وعشرين سنة. والقرآن هداية للناس من الضلال وآيات واضحات من جملة الكتب السماوية الهادية إلى الحق والفارقة بينه وبين الباطل بما فيها من الحكم والأحكام. وقوله "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" أي فمن علم الهلال برؤية أو غيرها، فليصم رمضان إلا إذا كان مريضاً أو مسافراً فله الفطر وعليه قضاء ما أفطره وقد أباح الله الفطر للعذر ووسع في القضاء فلم يوجب فيه المبادرة في زمن معين ولا التتابع للتسهيل عليكم ولتكملوا قضاء ما فاتكم بعد زوال العذر ولتحمدوا الله وتشكروا له على ما أولاكم من النعم التي من اجلها الإرشاد لمعالم الدين.(1/391)
... (جـ) التخفيف على الصائم بإباحة تناول المفطرات طول الليل قبل النوم وبعده، قال الله تعالى: "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل"(1)
__________
(1) سورة البقرة: آية 187. و (الرفث) الجماع وعدي بإلى لتضمنه معنى الإفضاء. وجعل كل من الزوجين لباساً للآخر لأنه يستره عند الجماع عن أعين الناس ولامتزاج كل منهما بالآخر عنده و (تختانون أنفسكم) أي تخونونها بالمباشرة في ليالي الصيام. وسماهم خائنين لأنفسهم لأن ضرر ذلك عائد عليهم (فتاب عليكم) أي قبل التوبة من خيانتكم لأنفسكم أو خفف عنكم بإباحة الطعام وتناول المفطرات ليلاً. (وعفا عنكم) أي تجاوز عما ارتكبتم من الخيانة أو وسع وسهل لكم في الأمر (وابتغوا ما كتب الله لكم) أي اطلبوا الولد بمباشرة نسائكم والمراد بالخيط الأبيض الفجر الصادق المعترض نوره في الأفق وبالخيط الأسود سواد الليل (وقد) دل على هذه الأحوال حديث عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال: أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال وأحيل الصيام ثلاثة أحوال (الحديث) وفيه "وأما أحوال الصيام فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام فصام سبعة عشر شهراً من ربيع الأول إلى رمضان من كل شهر ثلاثة أيام وصام يوم عاشوراء ثم إن الله تعالى فرض عليه الصيام فأنزل (يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم إلى قوله: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) فكان من شاء صام ومن شاء أطعم مسكيناً فأجزأ ذلك عنه..ثم إن الله تعالى أنزل الآية الأخرى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن إلى قوله: فمن شهد منكم الشهر فليصمه) فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح ورخص فيه للمريض والمسافر وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام. فهذان حالان. وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا. فإذا ناموا امتنعوا. ثم إن رجلاً من الأنصار يقال له صرمة بن قبس ظل يعمل صائماً حتى أمسى فجاء إلى أهله فصلى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح فأصبح نائماً فرآه النبي صلى الله عليه وسلم وقد جهد جهداً شديداً قال "ما لي أراك قد جهدت جهداً شديداً قال: يا رسول الله إني عملت أمس فجئت حين جئت فألقيت نفسي فنمت وأصبحت صائماً وكان عمر قد أصاب من النساء- من جارية أو من حرة- بعد ما نام وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فأنزل الله تعالى "أحل لكم ليلة الصيام- الآية" أخرجه احمد وأبو داود والبيهقي وهو مرسل صحيح السند فإن ابن ابي ليلى لم يدرك معاذاً (انظر ص239 ج9- الفتح الرباني- الأحوال التي عرضت للصيام. وص 151 ج4- المنهل العذب المورود- كيف الأذان).(1/392)
... (2) مبدأ فرض الصيام: (قال) الحنفيون ومالك وبعض الشافعية: أول ما فرض صيام عاشوراء ثم ثلاثة أيام من كل شهر ثم نسخ ذلك بصوم رمضان بالإمساك كل يوم وليلة من بعد النوم إلى غروب الشمس، ثم نسخ ذلك بآية "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" وروي عن أحمد (قالت) عائشة رضي الله عنها: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه. فلما فرض رمضان كان هو الفريضة وترك عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه" أخرجه الجماعة
إلا ابن ماجه وقال الترمذي: صحيح(1){37}
... (والمشهور) عند الشافعية واحمد: أنه لم يفرض علينا صوم قبل رمضان (قال) معاوية بن أبي سفيان: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه وأنا صائم فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر" أخرجه مالك وأحمد والشيخان(2){38}
... استدلوا به على أنه لم يكن صوم عاشوراء فرضاً قط، ولا دلالة فيه لاحتمال أنه يريد ولم يكتب الله عليكم صيامه على الدوام كصيام رمضان وغايته أنه عام خص بالأدلة الدالة على تقدم وجوبه(3).
__________
(1) انظر ص105 ج2 زرقاني الموطأ (صيام يوم عاشوراء) وص 184 ج10 الفتح الرباني (عدم تأكد صومه بعد نزول رمضان) وص 175 ج4 فتح الباري وص 4 ج8 نووي وص202 ج10 – المنهل العذب المورود وص 56 ج2 تحفة الاحوذي.
(2) انظر ص106 ج2 زرقاني وص 186 ج10- الفتح الرباني وص 175 و 176 ج4 فتح الباري وص 8 ج8 نووي.
(3) انظر ص176 ج4 فتح الباري.(1/393)
... (3) فضل صيام رمضان: صيام رمضان وقيامه لهما فضل كبير وثواب جزيل من أداهما مصدقاً محتسباً: أي طالباً رضاء الله وثوابه، غفرت ذنوبه وضوعفت حسناته ورفعت درجاته (روي) أبو هريرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قال: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" أخرجه السبعة. وزاد احمد في رواية: وما تأخر(1){39}
... (وعن) أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان وعرف حدوده وتحفظ مما كان ينبغي أن يتحفظ منه كفر ما قبله" أخرجه احمد وابن حبان والبيهقي بسند جيد(2){40}
(
__________
(1) انظر ص219 ج9- الفتح الرباني (فضل صيام رمضان وقيامه) وص 81 ج4 فتح الباري و ص40 ج6 نووي. وص 308 ج7- المنهل العذب المورود (قيام رمضان) وص 31 ج2 تحفة الاحوذي وص 258 ج1- ابن ماجه. و (إيماناً) أي تصديقاً بأنه حق. وظاهر الحديث يشمل غفران الصغائر والكبائر وبه جزم ابن المنذر. وقال الأكثر: المراد غفر الصغائر فقط. قال النووي: وفي التخصيص نظر وإن اجمعوا على الكبائر لا تسقط إلا التوبة أو بالحد. ومعنى غفر الذنب المتأخر أنه يحفظ من الوقوع فيه أو أنه إن وقع مغفوراً. وتقدم- بهامش ص246 ج5- الدين الخالص- بيان الخصال المكفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة.
(2) انظر ص221 ج9- الفتح الرباني (فضل صيام رمضان وقيامه) وص 304 ج4 بيهقي (وعرف حدوده) بان صامه راغباً في الثواب خائفاً من العقاب مخلصاً لله (ويحفظ...) أي اجتنب اللغو والرفث والخصام والغيبة والنميمة والنظر إلى ما يثير الشهوة.(1/394)
وقال) أبو هريرة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة فيقول: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" أخرجه السبعة. وزاد النسائي في رواية "وما تأخر"(1).
(وعن) معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً يصلي الخمس ويصوم رمضان غفر له. قلت: أفلا أبشرهم يا رسول الله؟ قال: دعهم يعملوا" أخرجه أحمد بسند جيد(2){42}
قد دلت هذه الأحاديث على أن صيام رمضان وقيامه يكفر أن الذنوب المتقدمة وفي بعضها والمتأخرة. ويأتي في صوم عرفة أنه كفارة سنتين وفي عاشوراء أنه كفارة سنة وأن رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما وأن العمرة إلى العمرة والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما وأن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه. فكيف الجمع بينهما؟ (والجواب) أن كل واحدة من هذه الخصال صالحة لتكفير الصغائر فإن صادفتها كفرتها (وإن لم) يصادفها ذنب بأن كان عاملها سليماً من الذنوب لكونه غير مكلف أو موفقاً فلم يرتكب صغيرة أو ارتكبها وتاب أو عقبها بحسنة أذهبتها، قال تعالى: "إن الحسنات يذهبن السيئات"(3)فإذا (يكتب) له بهذا العمل حسناتٌ ويرفع له بدرجات، ويرجي أن يخفف عنه بعض الكبائر.
__________
(1) انظر ص225 ج9- الفتح الرباني وص 179 ج4 فتح الباري و ص40 ج6 نووي وص 306 ج7- المنهل العذب المورود (قيام شهر رمضان) وص 228 ج1 مجتبي وص 205 ج1- ابن ماجه (من غير أن يأمرهم...) فيه دليل على عدم وجوب القيام. وأصرح منه حديث عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله فرض صيام رمضان وسننت قيامه (الحديث) أخرجه احمد والنسائي وابن ماجه وفيه النضر بن شيبان ضعيف (انظر ص244 ج9- الفتح الرباني).
(2) انظر ص222 ج9- الفتح الرباني و (دعهم) أي لا تخبرهم لئلا يتكلوا ويتركوا العمل.
(3) سورة هود آية: 114.(1/395)
... (4) فضل رمضان: رمضان شهر عظيم مبارك أنزل الله في القرآن، قال تعالى: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان"(1)، وهو أفضل الشهور وشهر الصبر ثوابه الجنة وشهر المواساة أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار. فرض الله صيامه وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامه. وفيه ليلة القدر خير من ألف شهر يضاعف الله فيه أجر العاملين ويغفر للصائمين (وقد) جاء في فضله والحث على العمل فيه أحاديث (منها) حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما حضر رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد جاءكم رمضان شهر مبارك افترض الله عليكم صيامه تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب الجحيم وتفل فيه الشياطين فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم" أخرجه أحمد والنسائي والبيهقي(2){
__________
(1) سورة البقرة: آية 185.
(2) انظر ص225 ج9- الفتح الرباني (فضل رمضان والعمل فيه) وص 299 ج1 مجتبي. وفائدة فتح أبواب الجنة في رمضان توقيف الملائكة على عمل الصائمين وحمد الله لهم وأن ذلك من الله بمنزلة عظيمة. وأيضاً إذا علم المكلف الموقن بهذا الخير الصادق يزيد في نشاطه ويتلقاه بصدر منشرح واهتمام كامل (وهذا) يدل على أن أبواب الجنة تغلق في غير رمضان. ولا ينافيه قوله تعالى (وإن للمتقين لحسن مآب، جنات عدن مفتحة لهم الأبواب) سورة ص آية 49 و 50 لأن هذا مع كونه في الآخرة لا يقتضي دوام كونها مفتحة الأبواب (وتغليق) أبواب النار في رمضان يقضي أنها تفتح في غير، ولا ينافيه قوله تعالى (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها) سورة الزمر: 71- لأن هذا في الآخرة ولا ينافي أن يكون هناك غلق قبل ذلك (وغلق) أبوابها في رمضان لا ينافي موت الكفرة فيه وتعذيبهم بالنار إذ يكفي فيه فتح باب صغير من القبر إلى النار غير الأبواب المغلقة (وتغل فيه الشياطين) لتعجيزهم من الإغواء وتزيين الشهوات..ولا ينافيه وقوع المعاصي والشرور في رمضان لأن لذلك أسباباً غير الشياطين كالنفوس الخبيثة وشياطين الإنس فلا يلزم أن تكون كل معصية بوسوسة شيطان. فهذا إبليس لم يسبقه شيطان آخر وسوس له بل كانت معصيته من قبل نفسه.(1/396)
43}
... (وعن) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين" أخرجه البخاري ومسلم والنسائي، وعندهما: فتحت أبواب الرحمة، بدل أبواب السماء(1){44}
__________
(1) انظر ص80 ج4 فتح الباري (هل يقال رمضان) (وص 187 ج7 نووي (الصيام) وص 229 ج1 مجتبي والمراد بـ(أبواب السماء) ما يصعد منها إلى الجنة لأنها فوق السماء وسقفها عرش الرحمن كما ثبت بالكتاب والسنة (وأبواب الجنة (لحديث) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "تحاجت النار والجنة فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين. وقال الجنة: فمالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم (بفتح السين والقاف أي ضعفاؤهم والمحتقرون منهم) وعجزهم (بفتحتين جمع عاجز أي العاجزون عن طلب الدنيا والتمكن فيها) فقال الله للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي. ولكل واحدة منكما ملؤها (الحديث) أخرجه مسلم انظر ص181 ج17 نووي (جهنم أعاذنا الله منها).(1/397)
... (وعن) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كانت أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب ونادى مناد: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار في كل ليلة" أخرجه ابن ماجه والترمذي وفيه أبو بكر بن عياش مختلف فيه(1){45}
(دلت) هذه الأحاديث على أن أبواب الجنة تفتح في رمضان حقيقة. وقيل: المراد بفتحها كثرة الطاعات المستلزمة دخول الجنة من الصيام والصلاة والذكر والقراءة في شهر رمضان.
__________
(1) انظر ص259 ج2- ابن ماجه (فضل رمضان) وص 31 ج2 تحفة الاحوذي (وصفدت) بضم المهملة وكسر الفاء المشددة أي شدت وأوثقت بالأغلال وهو معنى سلسلت وأغلقت (والمردة) جمع ما رد وهو المتجرد للشر. و (يا باغي الخير...) أي يا طالب الخير أقبل على فعله فإنك تعطي الثواب الجزيل على العمل القليل و (يا طالب الشر أمسك) وتب فإنه أو أن قبول التوبة. وفائدة هذا النداء- وهو غير مسموع- أن المؤمنين قد علموا به وصدقوا بخبر الصادق الأمين صلى لله عليه وسلم فتذكروا وأقبلوا على الخير وكفوا عن الشر وبه يحصل المقصود من النداء بأن يتذكر الناس كل ليلة أنها ليلة المناداة فيتعظوا بها. ولعل طاعة المطيعين وتوبة المذنبين ورجوع المقصرين في رمضان من أثر هذا النداء ونتيجة إجابة الله تعالى للداعين. ولهذا نرى أكثر المسلمين صائمين وغالب من يترك الصلاة في غير رمضان يصلون فيه ويصومون.(1/398)
... (وعن) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان فانسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه أو أحدهما الكبر فلم يدخلاه الجنة" أخرجه أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه بسند جيد(1){46}
... المعنى أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره؛ وبر الوالدين وصيام رمضان والعمل الصالح فيه، أسباب لدخول الجنة، فمن بخل بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره أو عق والديه أو لم يصم رمضان وقصر في طاعة الله تعالى لم يدخل الجنة مع السابقين وأذله الله وأخزاه.
... (وعن) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان ولا أتى على المنافقين شهر شر لهم من رمضان وذلك لما يعد المؤمنون فيه من القوة للعبادة وما يعد المنافقون فيه من غفلات الناس وعوراتهم، هو غنم للمؤمنين يغتنمه الفاجر" أخرجه أحمد والطبراني في الأوسط والبيهقي(2){47}
__________
(1) انظر ص230 ج9- الفتح الرباني (فضل رمضان) ورقم 4459 ص34 ج4 فيض القدير (ورغم) بكسر الغين وفتحها أي ذل وأصابه الخزي والهوان وأصله لصق أنفه بالرغام وهو تراب مخلوط برمل.
(2) انظر ص231 ج9- الفتح الرباني وص 140 ج3 مجمع الزوائد وص 304 ج4 بيهقي (فضل رمضان).(1/399)
... وفي رواية له: "ونقم للفاجر" أي أن الله تعالى ينتقم من الفاجر ويذيقه العذاب الأليم بسوء فعله وإيذائه المسلمين بتتبع عوراتهم في أثناء غفلتهم عن الدنيا وانقطاعهم لطاعة الله، فكأن ذلك غنيمة يغتنمها الفاجر في نظره ولكنها في الحقيقة شر له لو كان يعلم ما أعد له في الآخرة من العذاب الأليم. وأما المؤمن فإنه بعد ما يقويه على الطاعة في رمضان من ادخار ما ينفقه على عياله فيه لأن اشتغاله بالطاعة فيه يمنعه من تحصيل المعاش أو يقلل منه، فهو يحصل ما يلزمه وأولاده من القوت في رمضان قبل حلوله ليتفرغ فيه للطاعة فهو خير له لما اكتسبه فيه من الأجر العظيم والرحمة والمغفرة والعتق من النار.
... (وعن) ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الجنة لتزخرف لرمضان من رأس الحول إلى الحول المقبل، فإذا كان أول يوم من رمضان هبت ريح من تحت العرش فصفقت ورق الجنة ويجيء الحور العين يقلن يارب اجعل لنا من عبادك أزواجاً تقر بهم أعيننا وتقر أعينهم بنا" أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط باختصار، وفيه الوليد القلانسي وثقه أبو حاتم وضعفه جماعة(1){48}
... (وعن) أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر" أخرجه مسلم(2){49}
والأحاديث في هذا كثيرة(3)، وفيما ذكر الغناء والكفاية لمن تدبر واتعظ وكان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
__________
(1) انظر ص142 ج3 مجمع الزوائد. و (صفق) من باب ضرب أي حركة الريح.
(2) انظر ص117 ج3 نووي (فضل الوضوء والصلاة عقبه). و (إذا اجتنب) مبني للفاعل (الكبائر) مفعول. وروي: إذا اجتنب بزيادة تاء التأنيث مبني للمفعول والكبائر نائب فاعل.
(3) منها ما تقدم عن سلمان الفارسي رص 251 ج4 الدين الخالص.(1/400)
... (5) الطاعة في رمضان: ينبغي لكل عاقل الإكثار من العبادة في رمضان لأنها في الأيام الفاضلة لها مزية على غيرها. ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من العبادة في شهر رمضان ويحث على فعل الخير والإكثار منه فيه (روي) سلمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من فطر صائماً على طعام وشراب من حلالٍ صلت عليه الملائكة في ساعات شهر رمضان وصلى عليه جبريل ليلة القدر" أخرجه الطبراني في الكبير والبزار وزاد: ورزق دموعاً ورقة. قال سلمان: إن كان لا يقدر على قوته؟ قال: على كسرة خبز أو مذقة لبن أو شربة ماء كان له ذلك. وفيه الحسن بن أبي جعفر. قال ابن عدي: له أحاديث صالحة وهو صدوق، وفيه كلام(1){50}
__________
(1) انظر ص156 ج3 مجمع الزوائد (من فطر صائماً). و (مذقة لبن) بفتح بسكون الشربة من لين مخلوط.(1/401)
... (وقال) ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة" أخرجه أحمد والشيخان(1){51}
__________
(1) انظر ص228 ج9- الفتح الرباني (فضل رمضان والعمل فيه) وص 82 ج4 فتح الباري (أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان). و (المدارسة) القراءة بالتناوب. والظاهر أن جبريل عليه السلام كان يسمع القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم ويقرؤه عليه ليزداد حفظاً. و (المراسلة) شبه عموم جوده وشمول نفعه بالريح المرسلة. وإنما هذا للتقريب من العقول وإلا فشتان ما بين الأمرين فإن جود النبي صلى الله عليه وسلم يحيي القلوب بعد موتها. والريح تحيي الأرض بعد موتها بما تحمله من الغيث. ولما كان ابن عباس يريد بيان تفاضله صلى الله عليه وسلم في الجود أشار إلى السبب الموجب لكثيرة جوده صلى الله عليه وسلم وهو كونه في رمضان وعند ملاقاة جبريل عليه الصلاة والسلام. أما رمضان فإنه شهر عظيم وفيه الصوم وهو من أشرف العبادات. وأما ملاقاة جبريل عليه الصلاة والسلام فإن فيها زيادة ترقي الغبي صلى الله عليه وسلم في المقامات وزيادة اطلاعه على علوم القرآن. وكان ينزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في كل ليلة من رمضان ولم ينزل إلى غيره من الأنبياء في هذا الشهر. وكان يدارسه القرآن في رمضان لتجديد العهد واليقين.(1/402)
... ومعنى الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أسخى الناس وأكرمهم لأن نفسه صلى الله عليه وسلم أشرف النفوس ومزاجه أعدل الأمزجة، فلابد أن يكون فعله أحسن الأفعال، وخلقه أحسن الأخلاق. وكان جوده وكرمه في رمضان أكثر منه في سائر الأوقات. وفي الحديث فوائد: استحباب الإكثار من العطاء في رمضان ولا سيما عند ملاقاة الصالحين للتأثر بلقائهم، واستحباب زيارة أهل الصلاح والفضل ومجالستهم وتكرير ذلك إذا كان فيه مصلحة، وأن قراءة أفضل من التسبيح والتحميد وسائر الأذكار.
... (وكان) من هديه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان الإكثار من أنواع العبادات: كان يكثر فيه من الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن والصلاة والذكر والاعتكاف. وكان يخص رمضان من العبادة بما لا يخص غيره به من الشهور حتى إنه كان يواصل فيه أحياناً ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة. وكان ينهي أصحابه عن الوصال فيقولون له: إنك تواصل. فيقول: "لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني(1). هذا ويستحب للرجل أن يوسع على عياله وأقاربه بلا تكلف ولا التزام ويحسن إلى جيرانه في شهر رمضان لاسيما في العشر الأواخر منه. ويسن الاعتكاف فيه وأكده العشر الأواخر منه(2)، كما يأتي إن شاء الله تعالى في الاعتكاف.
__________
(1) انظر ص154 ج1 زاد المعاد.
(2) انظر ص377 ج6 مجموع النووي.(1/403)
... (6) التفريط في رمضان: يلزم العاقل أن يتحلى بالفضائل ويتخلى عن الرذائل عموماً وفي رمضان خصوصاً، فلا يفطر فيه بلا عذر ولا يشرب فيه خمراً ولا يزني ولا يغتاب ولا يرتكب إثماً أياً كان، وإلا كان من المحرومين من الثواب المطرودين من رحمة رب الأرباب، الذين تضاعف لهم السيئات. وقد جاء في هذا أحاديث (منها) حديث زياد بن نعيم الحضرمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربع فرضهن الله في الإسلام، فمن جاء بثلاث لم يغنين عنه شيئاً حتى يأتي بهن جميعاً: الصلاة، والزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت" أخرجه احمد مرسلا، لأن زياد بن نعيم ليس صحابياًِ. وفي سنده ابن لهيعة ضعفوه وله شواهد تعضده(1){52}
... والمعنى أن الله تعالى فرض على كل مسلم مكلف أربع خصال من أركان الإسلام، وهي: الصلاة، والزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً. من أتى بثلاث منها لم يغنين عن المتروك، لأنه ركن مستقل يثاب على فعله ويعاقب على تركه، فمن أدى الصلاة مثلاً ومنع الزكاة بعد وجوبها عليه، أثيب على تأدية الصلاة وعوقب على منع الزكاة. ومن جاء بهما وترك الصيام، أثيب عليهما وعوقب على ترك الصيام. ومن أتى بالثلاثة وهو مستطيع الحج ولم يحج، أثيب على الثلاثة وعوقب على ترك الحج. ومن أتى بهما جميعاً كان من الناجحين (هذا) ولم يذكر في الحديث النطق بالشهادتين وهو أول أركان الإسلام، لأنه ذكر هنا ما يفترض على كل مسلم ولا يتحقق الإسلام إلا بالنطق بالشهادتين فهو مذكور معنى.
(
__________
(1) انظر ص226 ج9- الفتح الرباني (وعيد من تهاون بصيام رمضان).(1/404)
وقال) البخاري: ويذكر عن أبي هريرة رفعه: من أفطر يوماً من رمضان من غير عذر ولا مرض لم يقضه صوم الدهر وإن صامه. وبه قال ابن مسعود. وقال سعيد بن المسيب والشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم وقتادة وحماد: يقضي يوماً مكانه(1)(دل) على أن من أفطر في رمضان وهو مقيم صحيح متعمداً بلا عذر فعليه إثم كبير ولا يكفي عن ذلك صيام الدهر كله. والمراد به عند الجمهور أنه لا تحصل له فضيلة الصوم في رمضان وليس المراد أنه لو صام الدهر ناوياً قضاء ذلك اليوم لا يكفيه ولا يسقط عنه بل لو صام بنية القضاء سقط عنه الواجب عند الجمهور وعليه الكفارة على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
(وعن) ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عري الإسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن أسس الإسلام من ترك واحدة منهن فهو بها كافر حلال الدم: شهادة أن لا إله إلا الله والصلاة المكتوبة وصوم رمضان" أخرجه أبو يعلي والديلمي بسند حسن وقال الذهبي: حديث صحيح(2){53}
__________
(1) انظر ص114 ج4 فتح الباري (إذا جامع في رمضان). و (يذكر عن أبي هريرة رفعه....) يشير إلى ما روي أبو المطوس عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أفطر يوماً من رمضان في غير رخصة رخصها الله له لم يقض عنه صيام الدهر وإن صامه. أخرجه أبو داود وابن ماجه والدارمي والبيهقي والدارقطني وابن خزيمة وصححه والترمذي وقال: لا نعرفه إلا من هذا الوجه سمعت محمداً البخاري يقول: أبو المطوس اسمه يزيد بن المطوس ولا أعرف له غير هذا الحديث. ولا أدري سمع أبوه من أبي هريرة أم لا؟ انظر ص135 ج10- المنهل العذب المورود. وص 264 ج1- ابن ماجه. وص 228 ج4 بيهقي. وص 45 ج2 تحفة الأحوذي.
(2) انظر رقم 5414 ص311 ج4 فيض القدير.(1/405)
وهذا بالنسبة للشهادة على بابه. وأما بالنسبة للصلاة والصوم فهو من باب الزجر والتهويل أو محمول على مستحل الترك (قال) الذهبي في الكبائر وعند المؤمنين مقرر أن من ترك صوم رمضان بلا مرض ولا عرض أنه شر من المكاس والزاني ومدمن الخمر. بل يشكون في إسلامه ويظنون به الزندقة والانحلال(1).
(وعن) ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الجنة لتزين من السنة إلى السنة لشهر رمضان فإذا دخل رمضان قالت الجنة: اللهم اجعل لنا في هذا الشهر من عبادك سكاناً ويقلن الحور العين: اللهم اجعل لنا من عبدك في هذا الشهر أزواجاً. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فمن صان نفسه في شهر رمضان فلم يشرب فيه مسكراً ولم يرم فيه مؤمناً بالبهتان ولم يعمل فيه خطيئة، وزوجة الله كل ليلة مائة حوراء وبني له قصراً في الجنة من ذهب وفضة وياقوتٍ وزبرجدٍ. لو أن الدنيا جمعت فجعلت في ذلك القصر لم تكن فيه إلا كمربط عنز في الدنيا ومن شرب فيه مسكراً أو رمي فيه مؤمناً ببهتان أو عمل فيه خطيئة أحبط الله عمله سنة فاتقوا شهر رمضان- فإنه شهر الله – أن تفرطوا فيه فقد جعل الله لكم أحد عشر شهراً تنعمون فيها. وجعل لنفسه شهر رمضان فاحذروا شهر رمضان" أخرجه الطبراني في الأوسط وقال: لم يروه عن الأوزاعي إلا احمد بن أبيض.قال الهيثمي: ولم أجد من ترجمة وبقية رجاله موثقون(2){54}
__________
(1) انظر رقم 5414 ص311 ج4 فيض القدير.
(2) انظر ص144 ج3 مجمع الزوائد (احترام شهر رمضان ومعرفة حقه). و (مربط) – كمقعد ومنزل- موضع تربط فيه الدابة.(1/406)
... (ففي هذه) الأحاديث الوعيد الشديد والتشنيع الفظيع على من تعمد الفطر في رمضان بلا عذر أو ارتكب فيه إثماً وأنه يضيع ثوابه ويحبط عمله. ومما يؤلم نفس الغيور ويضيق به صدره، أن يرى مخالفة هذه الأحاديث من بعض من يزعم انهم مسلمون. فيفطرون في رمضان جهاراً في الشوارع والأسواق ولا يجدون من ينهاهم. وإذا نهاهم إنسان قل أن يسلم من أذى فإنا لله وإنا إليه راجعون. ونرى كثيراً من المطاعم والمقاهي في المدن والقرى مفتحة الأبواب للمفطرين نهاراً جهاراً(1)
__________
(1) وقد) سئلت لما نصه: ما قولكم فيمن يفتح محلاً للطعام والشراب ويبيع ذلك للمفطرين في شهر رمضان ويقدم لهم ذلك في محله نهاراً. أيجوز ذلك أم هو حرام؟ أفيدونا مأجورين (فأجبت) قائلاً: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي فرض على عباده الصيام. وحرم على غير ذي العذر الإفطار في رمضان. والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن اهتدى بهداه. أما بعد: فإن الله تعالى فرض صيام شهر رمضان على المكلف القادر الصحيح المقيم. والصيام ركن من أركان الإسلام قد ثبتت فرضيته بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. والفطر فيه بغير عذر من الكبائر وتقديم الطعام أو الشراب لمن لزمه الصيام حرام، لما فيه من التعاون على المنكر. قال الله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) وعلى كل مسلم أن ينهي المفطر في رمضان بغير عذر عن الفطر وإلا كان شريكاً له في الإثم ويوشك الله أن يعم الكل بعذاب. قال الله تعالى (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) وقال النبي صلى الله عليه وسلم "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان" أخرجه احمد ومسلم عن أبي سعيد الخدري..وقال صلى الله عليه وسلم "لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم" أخرجه البزار والخطيب والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة. وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "والذي نفسي بيده لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً ثم تدعون فلا يستجاب لكم" أخرجه الترمذي. فعلى أرباب المطاعم والمشارب والمقاهي إغلاقها نهاراً في رمضان. ويحرم عليهم تقديم الطعام والشراب نهاراً لأي مكاف بالصيام، لما في ذلك من التعاون على الإثم والعدوان والتهاون بأحكام الدين وترك النهي عن المنكر. وفي تركه الضرر العام وانتشار المعاصي والتظاهر بها. (وقد) ذهب جمهور العلماء إلى أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة وأنهم سيعذبون على تركها عذاباً شديداً زائداً على عذاب الكفر. قال الله تعالى في شأن أهل النار (ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين، وكنا نكذب بيوم الدين، حتى أتانا اليقين).
وعليه فيحرم على المسلم تقديم الطعام والشراب في نهار رمضان للنصاري واليهود وغيرهم من الكفار فضلاً عن المسلمين. وعلى ولاة الأمور أن ينتبهوا لهذا وان يأخذوا على أيدي العابئين باحكام الدين المفطرين في رمضان المتجاهرين بالفسق والفجور خشية أن يعم الله الكل بالعذاب. وكفى ما مضي من إهمال وتفريط حتى حل بما ما حل وسلط الله تعالى علينا من لا يرحمنا. ولا نجاة إلا بالرجوع إلى حظيرة الدين والعمل بأوامره والوقوف عند حدوده. قال الله تعالى (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير موضعها (يا ايها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب" أخرجه أبو داود والترمذي. وذلك أن الهداية لا تتحقق إلا بالقيام بما كلفنا به. ومنه الأمر والنهي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يفقه الأمة في دينها، وأن يلهم الجميع الرشد والصواب، وأن يوافق الكل لتعرف أحكام الدين واتباع طريق سيد النبيين عليه وعلى آله الصلاة والسلام ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. (11 من رمضان سنة 1360 العدد الرابع من السنة الثالثة من مجلة الاعتصام).(1/407)
... وفي الليل ترى محلات الفجور وحانات الخمور وأماكن الملاهي والقمار يؤمها الأشرار في ليالي رمضان التي هي جديرة بالصلاة والقيام والتوبة من جميع الآثام فلو علم هؤلاء الجهال ما في قيام رمضان من الثواب ونزول الرحمات لرجعوا إلى الله تائبين وعلى ما فرطوا نادمين. ولكن استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون. نعم نرى المساجد يؤمها في رمضان كثير من الناس ولكنهم قليلون بالنسبة لمن يؤم محلات الفساد والفجور. فالعاقل من خالف نفسه وهواه وتاب إلى مولاه وأقبل في رمضان على طاعة الله وأكثر فيه من الصدقة على أهل الفقه والاحتياج ووصل الأرحام واعتصم بحبل الله الذي لا ينام واستمسك بالعروة الوثقى وبذا يجوز الفصل والرضا ويكون من حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون.
(7) كف الصائم جوارحه عما لا يرضى ربه: هذا مطلوب من الصائم وغيره إلا انه من الصائم آكد. والجوارح سبعة.(1/408)
... (1) اللسان: فعلى الصائم حبسه عن النطق بالفحش والبهتان والمراء والخصومة والكذب وغيرها من الآثام. قال الله تعالى "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد(1)" ويلزم الصمت والاشتغال بالطاعة من صلاة وذكر وتلاوة. فهذا هو الذي يعتد به من صوم اللسان (وعن) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت" أخرجه أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه(2){55}
__________
(1) سورة ق آية: 18 و (رقيب) أي ملك يرقب قوله وفعله ويكتبه. و(عتيد) أي حاضر (روي) عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى (ما يلفظ من قول غلا لديه رقيب عتيد) قال: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى إنه ليكتب قوله: أكلت وشربت ذهبت جئت رأيت حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر منه ما كان من خير أو شر وألقى سائره. فذلك قوله: (يمحو الله ما يشاء ويثبت) أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم (وقال) ابن عباس أيضاً: إنما يكتب الخير والشر لا يكتب: يا غلام أسرج الفرس يا غلام اسقني الماء. أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر والحاكم وصححه (وروي) عمرو بن ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عند لسان كل قائل فليتق الله عبد ولينظر ما يقول" أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد والبيهقي في الشعب (انظر ص76 ج5 فتح القدير الشوكاني).
(2) انظر ص343 ج10 فتح الباري (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر- الأدب) وص 19 ج2 نووي (إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت).(1/409)
وليحذر الصائم كل الحذر من النميمة واللغو والزور والغيبة. وهي إفهام تنقيص الغير بما فيه. فإن لم يكن فبهتان (روي) أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون ما الغيبة؟ قالوا الله ورسوله اعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته. وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته" أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي(1){56}
... ولا خلاف في أن الغيبة من الكبائر قد نفر عنها الشارع تنفيراً قال الله تعالى: "ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم(2)" والمعنى لا يأتي أحدكم بما يدل على تنقيص غيره ولو تعويضاً فإن من نقص مسلماً أو ثلم عرضه فهو كآكل لحمه حياً. ومن اغتابه فهو كآكل لحمه ميتاً. وهذا مكروه لديكم قطعاً فينبغي أن تكون الغيبة كذلك فامتثلوا أمر ربكم واحذروا عقابه بتباعدكم عما نهاكم عنه لأنه جل شأنه بليغ في قبول التوبة يجعل التائب كمن لم يذنب ويفيض عليه آثار إحسانه.
__________
(1) انظر ص142 ج16 نووي وص 420 ج4 عون المعبود (الغيبة).
(2) سورة الحجرات: آية 12.(1/410)
... (واللغو) الباطل وكل ما لا ثواب فيه وهو والغيبة مذمومان منهي عنهما كل إنسان والصائم أشد نهياً عنهما وعن غيرهما. وقد جاء في تحذيره مما ذكر أحاديث (منها) حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"أخرجه الجماعة إلا مسلماً(1){57}
__________
(1) انظر ص76 ج10 الفتح الرباني (تحذير الصائم من اللغو والرفث والغيبة) وص 82 ج4 فتح الباري (من لم يدع قول الزور والعمل به) وص 87 ج10- المنهل العذب المورود. وص 266 ج1- ابن ماجه وص 39 ج2 تحفة الاحوذي (التشديد في الغيبة للصائم) (فليس لله حاجة) لا مفهوم له فإن الله تعالى لا يحتاج إلى شيء. وإنما المعنى: فليس لله إرادة في قبول صيامه. فوضع الحاجة موضع الإرادة. وهذا النفي كناية عن عدم القبول أي لا يقبل الله صيامه. وليس المعنى أنه يؤمر بأن يدع صيامه وإنما المعنى التحذير من قول الزور وعمله. ومقتضاه أن من فعل ما ذكر لا يثاب على صيامه وان ثواب الصيام لا يوازن إثم ما ذكر.(1/411)
المراد بالزور الحرام ومنه الكذب والغيبة. والمعنى أن من لم يترك حال صيامه القول الباطل من الكذب والغيبة وشهادة الزور والبهتان والقذف والسب واللعن والميل عن الحق وغير ذلك مما يجب على الإنسان اجتنابه، لا يقبل الله صيامه ولا يثيبه عليه (وقال) عبيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن امرأتين صامتا وإن رجلاً قال: يا رسول الله. إن هاهنا امرأتين قد صامتا وإنهما قد كادنا أن تموتا من العطش فأعرض عنه أو سكت ثم عاد قال يا نبي الله إنهما والله قد ماتتا أو كادتا أن تموتا قال ادعهما فجاءتا فجيء بقدح أو عس فقال لإحداهما قيئ فقاءت قيحاً ودماً وصديداً ولحماً حتى قاءت نصف القدح ثم قال للأخرى قيء فقاءت من قيح ودم وصديد ولحم عبيط وغيره حتى ملأت القدح. ثم قال: إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما وأفطرتا على ما حرم الله عليهما جاست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان لحوم الناس" أخرجه احمد وأبو يعلي وفيه رجل لم يسم(1){58}
... (وعن) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس الصيام من الأكل والشرب إنما الصيام من اللغو والرفث فإن سابك أحد أو جهل عليك فقل: إني صائم إني صائم، أخرجه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم(2){59}
... (ففي) هذه الأحاديث حث الصائم على التحلي بالأخلاق الكريمة لأنه متلبس بعبادة عظيمة وألا يقابل السيئة بالسيئة. فإن سابه أحد أو شاتمه فليعرض عنه قائلاً: إني صائم مرتين وفيها تحذيره من اللغو والرفث وهو الكلام القبيح. وتحذيره من الغيبة ونحوها من كل محرم شرعاً. فإن من ارتكب شيئاً مما ذكر فقد أحبط ثواب صيامه واستحق المقت من ربه.
__________
(1) انظر ص77 ج10- الفتح الرباني وص 171 ج3 مجمع الزوائد (الغيبة للصائم). و (العس) بضم العين وشد السين، القدح العظيم (والعبيط) الطري النيئ الكثير.
(2) انظر ص430 ج1 مستدرك.(1/412)
... (2) البصر: فليغضه عن النظر إلى ما يشغله عن ذكر ربه قال الله تعالى: "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم(1)" وقال تعالى: (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً(2)" (روي) حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "النظرة سهم من سهام إبليس من تركها مخافة الله أعطاه الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه" أخرجه الحاكم وصححه وأقره العراقي وضعفه المنذري(3){60}
... (3) السمع: فيلزم صونه عن الإصغاء لكل ما يحرم قوله أو يكره لأن كل واحد منهما ينافي الكمال المطلوب من الإنسان التحلي به. وقد سوى الله تعالى بين القول الزور والفعل المذموم في التنقير، فقال الله تعالى: "سماعون للكذب أكالون للسحت" فقائل القبيح والمستمع له شريكان في الإثم.
__________
(1) سورة النور: آية 30.
(2) سورة الإسراء: آية 36.
(3) انظر رقم 2864 ص328 ج2 كشفا الأخطاء.(1/413)
... (4) البطن: الجسد إنما ينمو بما يتناوله الإنسان من الغذاء فليكن من الحلال المطلق فإنه مقلل للحساب مذهب للحسرة والندامة يوم المآب وهو من أعظم الأسباب للقرب من رب الأرباب (روي) ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استحيوا من الله حق الحياء. قالوا: يا نبي الله إنا نستحي من الله ولله الحمد. قال: ليس كذلك ولكن من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعي وليحفظ البطن وما حوى وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء" أخرجه احمد والترمذي والحاكم والبيهقي في الشعب. وفيه أبان بن إسحق متكلم فيه ووثقه العجلي. وفيه الصباح بن مرة وهو واه تكلم فيه لرفعة هذا الحديث والصواب وقفة. وقال الترمذي: حسن غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه. وأخرجه الطبراني مرفوعاً من حديث عائشة(1). {61}
... فليحذر العاقل أن يتناول عند فطره وفي كل أوقاته شيئاً من الحرام أو ما فيه شبهة فلا ينبغي لمن صام عن الحلال طيلة النهار أن يفطر على الحرام.
__________
(1) انظر رقم 973 ص487 ج1 فيض القدير (الرأس وما وعى) أي ما جمع من الحواس الظاهرة كالسمع والبصر والفم فلا يستمع ولا ينظر إلى محرم ولا يتكلم بما لا ثواب له فيه. والحواس الباطنة بأن لا يفكر إلا فيما يعود عليه بالسعادة والرفاهية و (البطن وما حوى) أي ما جمعه من القلب والفرج واليدين والرجلين فإنها لاتصال عروقها بالبطن يقال إن البطن حوتها.(1/414)
... (5) الفرج: فليحفظ مما لا يرضى قال الله تعالى: "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم"(1)فإرسال الطرف مبدأ المحنة، والنظر يريد الزنا، ونهاية المحنة بلوغ النفس وطرها من المنظور إليه بالمباشرة والوطء (وعن) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا والقلب يهوي ويتمنى وبصدق ذلك الفرج أو يكذبه" أخرجه مسلم(2). {62}
... (6و7) اليد والرجل: فلا يمدها العاقل- ولا سيما الصائم – لمنهى عن فبذلك يكمل له صومه ويقبل عمله، فكل صوم صينت فيه الجوارح عن اللغو والآثام، ينال به العز والإكرام من الله تعالى في الدنيا ودار السلام. (روي) المطلب عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم وأوفوا إذا وعدتكم وأدوا إذا ائتمنتم واحفظوا فروجكم وغضوا أبصاركم وكفوا أيديكم" أخرجه احمد وابن حبان والحاكم والبيهقي في الشعب بسند جيد غير أن المطلب لم يسمع عبادة(3). {63}
فمن أراد القبول والنجاة والحسنى وزيادة فليكف الجوارح عن استرسالها في القبائح نسأل الله تعالى الهداية والتوفيق.
(ب) الصوم الفرض غير المعين
__________
(1) سورة النور: آية 30.
(2) انظر ص206 ج16 نووي (قدر على ابن آدم نصيبه من الزنا).
(3) انظر رقم 1095 ص535 ج1 فيض القدير. والمراد بالضمان الالتزام أي التزموا وداوموا على استعمال هذه لجوارح في طاعة الله تعالى التزم لكم دخول الجنة مع السابقين الأولين.(1/415)
... هو ما ليس له وقت معين كصوم قضاء رمضان وصوم كفارة القتل والظهار والفطر في رمضان، وكل منهما شهران متتابعان، وكفارة اليمين وجزاء الحلق، وكل منهما ثلاثة أيام، وصوم التمتع والقران وهي عشرة أيام، وكفارة جزاء الصيد وهو تقويم البدنة بدراهم والدراهم بطعام فصيام يوم بدلاً عن كل مد، أو يعطي نصف صاع من بر ونحوه على ما بين في الحج(1).
__________
(1) انظر ما يلزم في حلق الناسك ص268 إرشاد الناسك إلى أعمال المناسك. (الجناية بغير الوطء) وانظر صوم التمتع ص264 (التمتع) وصوم القارن ص 260 (كيفية القران) وصيام جزاء الصيد ص284 (الجناية على الحرم)(1/416)
... ثم الصوم الفرض والواجب قسمان: (الأول) ما يلزم فيه التتابع وهو ستة: صوم رمضان وكل كفارة شرع فيها العتق ككفارة القتل والظهار والإفطار في رمضان وكذا كفارة اليمين عند الحنفيين وأحمد، فلابد فيما ذكر من التتابع للتقييد به في النص (قال) الله تعالى: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" والشهر متتابع لتتابع أيامه فيكون صومه متتابعاً. وكذا الصوم المنذور المعين بأن قال: لله علىَّ أن أصوم شهر رجب مثلاً فلابد فيه من التتابع، وقال تعالى: "وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنةٍ فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة مً من الله"(1)، وقال تعالى: "والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا"(2)(وعن) أبى هريرة رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هلكت. قال: وما أهلكك؟ قال: واقعت امرأتي في رمضان. قال: فهل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا (الحديث) أخرجه السبعة(3){64}
__________
(1) سورة النساء: آية 92.
(2) سورة المجادلة: آية 3 و 4 (والعود) في قوله (ثم يعودون لما قالوا) هو عزم المظاهر عزماً مؤكداً على وطء المظاهر منها.
(3) انظر ص89 ج10- الفتح الرباني وص 116 ج4 فتح الباري (إذا جامع في رمضان) وص 224 ج7 نووي (وجوب الكفارة فيه) وص 120 ج10- المنهل العذب المورود وص 45 ج2 تحفة الأحوذي وص 264 ج1- ابن ماجه.(1/417)
... وبهذا قال كافة العلماء(1)، وقرأ ابن مسعود في كفارة اليمين: فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات (وقال) مالك والشافعي: لا يلزم التتابع في صوم كفارة اليمين لعدم التقييد به في قراءة الجمهور.
__________
(1) كافة العلماء ) ولم يشذ إلا ابن أبي ليلى قال: يجوز التفريق في صوم كفارة رمضان ( لحديث ) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً أفطر في رمضان أن يعتق رقبة أو يصوم شهرين أو يطعم ستين مسكيناً. أخرجه مالك وأحمد ومسلم وأبو داود والبيهقي والدارقطني (انظر ص99 ج2 زرقاني الموطأ- كفارة من أفطر في رمضان. وص 93 ج10 الفتح الرباني وص 227 ج7 نووي وص 131 ج10 المنهل العذب المورود ص 225 ج4 بيهقي. وص 251 الدار قطني أطلق الصيام في الحديث عن التتابع ( وأجاب ) الجمهور بأنه مقيد به في رواية مالك والبيهقي. وعلى فرض إطلاقه فهو محمول على المقيد.(1/418)
... (الثاني) ما لا يلزم فيه التتابع وهو ستة أنواع: قضاء رمضان وكل كفارة لم يشرع فيها عتق- كصوم التمتع والقران- وكفارة جزاء الحلق والصيد وصوم النذر المطلق واليمين المطلق، كأن يقول: والله لأصومن شهراً، لإطلاق الصوم فيما ذكر، قال الله تعالى: "فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر(1)، أي فأفطر فليصم عدة ما فاته في أيام أخر، وقال تعالى: "فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم"(2)، وقال تعالى: "فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك"(3)وقال تعالى: "يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذو عدلٍ منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً"(4)، ذكر الله الصيام فيما ذكر مطلقاً عن شرط التتابع وكذا الناذر والحالق في النذر المطلق واليمين المطلقة (وبهذا) قال الأئمة الأربعة والجمهور (وقالت) الظاهرية: يلزم التتابع في قضاء رمضان (روى) عن أبيّ بن كعب انه قرأ: فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر متتابعات. (وعن) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان عليه صوم رمضان فليشرده ولا يقطعه" أخرجه البيهقي والدار قطني، وفيه عبد الرحمن بن إبراهيم ضعفه يحيي بن معين والنسائي(5){65}
__________
(1) سورة البقرة: آية 185.
(2) آية 196 منها.
(3) آية 196 منها.
(4) سورة المائدة: آية 95.
(5) انظر ص259 ج4 بيهقي. وص 243 الدارقطني.(1/419)
فهو لضعفه لا يصلح دليلاً على لزوم التتابع، وقراءة أبي لم تثبت ولو ثبتت تحمل على الندب دون الاشتراط، إذ لو ثبت على وجه الاشتراط ما خالف ابياً أحدً في لزوم التتابع(1)(فالحق) أنه لا يلزم التتابع في قضاء رمضان لما تقدم (ولقول) عائشة رضي الله عنها: نزلت: فعدة من أيام أخر متتابعات فسقطت متتابعات. أخرجه البيهقي والدار قطني وقال: إسناد صحيح(2). وقال البيهقي: وسقطت أي نسخت لا يصح له تأويل غير ذلك (وعن) سفيان ابن بشر بسنده إلى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قضاء رمضان: إن شاء فرق وإن شاء تابع. أخرجه الدار قطني وقال: لم يسنده غير سفيان بن بشر وصححه ابن الجوزي وقال: ما علمنا أحداً طعن في سفيان بن بشر(3){66}
(جـ) الصوم المنهي عنه
... ورد النهي عن عشرة أنواع من الصيام هاك بيانها:
__________
(1) ما خالفه أحد) أما ذكر التتابع في صوم كفارة اليمين في قراءة ابن مسعود فلم يخالفه فيه أحد من الصحابة فصار كالمتوفي العمل به.
(2) انظر ص258 ج4 بيهقي (قضاء رمضان) وص 243 الدار قطني.
(3) انظر ص244 منه.(1/420)
... (1) يوم الشك: هو- عند الحنفيين والشافعي- اليوم الذي بلى التاسع والعشرين من شعبان إذا تحدث الناس بالرؤية ولم تثبت أو شهد بها من ردت شهادته لفسق ونحوه، فإن لم يتحدث بالرؤية أحد فليس يوم شك ولو كانت السماء مغيمة، واختاره ابن عبد السلام المالكي ( لقول ) النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن غم عليكم فاقدروا له"(1)أي أكملوا مدة ما قبله ثلاثين يوماً فإنه يدل على أن صبيحة يوم الغيم من شعبان جزماً. (وقالت) المالكية: يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا كانت السماء مغيمة فلو كانت مصحبة لم يكن يوم شك لأنه إن لم ير الهلال كان من شعبان جزماً(2). (وقالت) الحنبلية: هو يوم الثلاثين من شعبان إذا تحدث الناس برؤية الهلال ليلته ولم يروه والسماء مصحية، فإن حال دون رؤيته غيم أو غبار فليس يوم الشك (والظاهر) مذهب الأولين هذا ولصوم يوم الشك ثلاث صور:
... (أ) أن ينوي صومه عن رمضان وهو مكروه تحريماً عند الحنفيين ومالك والليث (لقول) صلة بن زفر: كنا عند عمار بن ياسر فأتى بشاة مضية فقال: كلوا، فتنحى بعض القوم فقال: إني صائم، فقال عمار: من صام اليوم الذي شك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم أخرجه الأربعة والدارمي والدار قطني وقال: إسناد حسن صحيح ورواته ثقات(3){67}
__________
(1) هذا عجز الحديث رقم 8 ص255 (ما يثبت به الهلال).
(2) انظر ص623 ج1 الفجر المنير.
(3) انظر ص52 ج10 المنهل العذب المورود (كراهية صوم يوم الشك) وص 306 ج1 مجتبي وص 32 ج2 تحفة الأحوذي وص 2 ج2 دارمي وص 227 الدار قطني.(1/421)
... (وقال) الترمذي: حسن صحيح والعمل على هذا عند اكثر أهل العلم، وبه يقول سفيان الثوري ومالك بن أنس وعبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق: كرهوا أن يصوم الرجل اليوم الذي يشك فيه، ورأى أكثرهم إن صامه وكان من شهر رمضان أن يقضي يوماً مكانه(1). (وقال) الحنفيون: إن ظهر أنه من رمضان أجزأ عنه (وقال) بعض المالكية والشافعية يحرم صومه يوم الشك عن رمضان، لظاهر قول عمار: ومن صام اليوم الذي شك فيه فقد عصا أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. والقائل بالكراهة حمل العصيان فيه على شدة الزجر فلا يقتضي الحرمة (وقال) ابن عمر: يجب صومه عن رمضان إذا حال دون رؤية الهلال سحاب أو غبار. أما إذا كانت السماء سحواً ولم ير الهلال فلا يصام وهو ظاهر مذهب أحمد (وعنه) أنه في حال الغيم لا يجب صومه ولا يجزئه عن رمضان إن صامه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم الشك ولأن الأصل بقاء شعبان فلا ينتقل عنه بالشك (وعنه) أيضاً رواية ثالثة أن الناس تبع للإمام فإن صاموا وإن أفطر أفطروا، وهو قول الحسن وابن سيرين (لحديث) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون" أخرجه الترمذي بسند رجاله ثقات وقال: حسن غريب(2){68}
ومعناه أن الصوم والفطر يكون مع الجماعة ومعظم الناس.
__________
(1) انظر ص33 ج2 تحفة الأحوذي.
(2) تقدم رقم 15 ص259 (من رأى الهلال ورد قوله)(1/422)
... (ب) أن ينوي صوم يوم الشك عن واجب غير رمضان، وهو مكروه تنزيهاً عند الحنفيين ويقع عما نواه إن ظهر أنه من شعبان في الأصح، وإن لم يظهر الحال لا يكفي عما نوي، لجواز أن يكون من رمضان فلا يكون قضاء بالشك، وإن ظهر أنه من رمضان أجزأ عنه لو كان الصائم مقيماً، ولو كان مسافراً فنوى فيه واجباً آخر لم يكره عند النعمان لأن أداء رمضان غير واجب عليه ويقع عما نوى وإن بان أنه من رمضان (وقال) أبو يوسف ومحمد: يكره للمسافر صومه كالمقيم ويجزئ عن رمضان إن بان أنه منه (وقال) مالك والشافعي: يجوز صوم يوم الشك عن واجب غير أداء رمضان كقضاء عن رمضان سابق أو نذر أو كفارة يمين. (جـ) أن ينوي صوم يوم الشك تطوعاً فلا يكره- عند الحنفيين ومالك والشافعي- بل يستحب إن وافق صوماً اعتاده أو صام من آخر شعبان ثلاثة أيام فأكثر لا أقل (لحديث) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقدموا صوم رمضان بيوم ولا يومين إلا أن يكون صوم يصومه رجل فليصم ذلك الصوم" أخرجه السبعة والدار قطني وقال: إسناده صحيح، وقال الترمذي: حسن صحيح(1){69}
__________
(1) انظر ص256 ج9- الفتح الرباني وص 90 ج4 فتح الباري (لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين) وص 194 ج نووي وص 54 ج10- المنهل العذب المورود وص 307 ج1 مجتبي (التسهيل في صيام يوم الشك) وص 33 ج2 تحفة الأحوذي وص 260 ج1 – ابن ماجه وص 229 – الدارقطني.(1/423)
... والعمل على هذا عند أهل العلم كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان، وإن كان رجل يصوم صوماً فوافق صيامه ذلك فلا بأس به عندهم ففي الحديث النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم ويومين لمن لم يصادف عادة له فإن يصله بصوم قبله ولا صادف عادة له فهو حرام على الصحيح عند الشافعي ولا بأس به عند الحنفيين ومالك، لأن المراد بالتقدم- المنهي عنه في الحديث- التقدم بصوم عن رمضان جمعاً بينه وبين حديث عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له أو لرجل: "هل صمت من سرر شعبان شيئاً؟ قال: لا. قال: فإذا أفطرت فصم يوماً أو يومين" أخرجه احمد ومسلم وأبو داود والدارمي وقال: سرره آخره(1){70}
... وفي رواية له: (فإذا أفطرت من رمضان فصم يومين مكانه) أي بدل ما اعتدت صيامه.
... فالأمر بصوم آخر شعبان محمول على استحباب صومه تطوعاً والنهي عن التقدم محمول على صومه عن رمضان جمعاً بين الأدلة وقال النووي: هذا الحديث مخالف للأحاديث الصحيحة في النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم ويومين (ويجاب عنه) بأن هذا الرجل كان معتاداً صيام آخر الشهر أو نذره فتركه لخوفه من الدخول في النهي عن تقدم رمضان فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن الصوم المعتاد لا يدخل في النهي(2)(وعليه) فالحديث يدل على أن من اعتاد الصوم في النصف الثاني من شعبان فله صومه بلا كراهة، وكذا من كان عليه صيام نذر فله أن يؤديه فيه. فإن ضاق الوقت عليه ودخل رمضان قضاء في شوالٍ(3).
__________
(1) انظر ص206 ج10 الفتح الرباني (النهي عن الصوم في النصف الثاني من شعبان والرخصة في ذلك) وص 53 ج8 نووي (صوم شعبان) وص 45 و 46 ج10- المنهل العذب المورود وص 18 ج2 دارمي (الصوم من سرر الشهر) و (السرر) بفتحتين آخر الشهر ليلة ثمان وعشرين أو ما بعدها سمي بذلك لاستسرار القمر فيه أي استتاره.
(2) انظر ص54 ج7 نووي مسلم.
(3) هذا) وقد ذكر الحنفيون – لصوم يوم الشك- صورتين أخريين:
(
أ) أن يرد الصائم في أصل النية بأن ينوي صوم غد إن كان من رمضان وعدم صومه إن كان من شعبان فلا يصير صائماً لعدم الجزم بالنية فصار كما لو نوى أنه إن وجد غداء أفطر وإلا صام (ب) أن يردد في وصف النية بأن ينوي إن كان غداً من رمضان صام عنه وإن كان من شعبان فعن واجب آخر وهذا مكروه تنزيهاً لتردده بين أمرين الفرض والواجب (وكذا) يكره تنزيهاً لو نوى عن رمضان إن كان غداً منه وعن التطوع إن كان من شعبان لتردده بين مكروه وغيره وفي الصورتين إن ظهر أنه من رمضان أجزأه لوجود أصل النية وهو كاف في رمضان لعدم لزوم التعيين فيه وإن ظهر أنه من شعبن يكون نفلاً غير مضمون بالقضاء لعدم التنفل قصداً.(1/424)
... هذا. والأدلة الصحيحة تدل على أن يوم الشك لا يصام عن رمضان ولو كان بالسماء غيم ولا عن نفل غير معاذ ولا بأس بصومه عن غيرهما. والله ولي التوفيق.
... (2) صوم العيدين: يحرم – عند مالك والشافعي وأحمد- صوم يومي عيد الفطر والأضحى سواء النذر والكفارة والقضاء والتطوع وبه قال بعض الحنفيين. ومشهور مذهبهم أن صومهما مكروه تحريماً؛ لما فيه من الإعراض عن ضيافة الله تعالى (ولحديث) أبي سعيد الخدري رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم الفطر ويوم النحر" أخرجه السبعة إلا النسائي وقال الترمذي: حسن صحيح(1){72}
... وصف اليومين لبيان العلة في وجوب فطرهما وهي الإشعار بانتهاء صوم الفرض بعيد الفطر والتمكين من الأكل من الأضحية المتقرب يذبحها في الأضحى (وإن نذر) صوم هذين اليومين لم ينعقد نذره ولا شيء عليه عند مالك والشافعي والجمهور وهو رواية أبي يوسف عن النعمان، (وقال) أحمد وإسحق: من نذر صومها لا ينعقد نذره وعليه كفارة يمين (لحديث) عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين" أخرجه أحمد والأربعة، وقال الترمذي: حديث غريب وفي سنده سليمان بن أرقم قال النسائي متروك الحديث(2){73}
__________
(1) انظر ص140 ج10- الفتح الرباني (النهي عن صوم يومي العيدين) وص 172 ج4 فتح الباري وص 15، 16 ج8 نووي وص 165 ج10- المنهل العذب المورود وص 270 ج1- ابن ماجه وص 62 ج2 تحفة الاحوذي.
(2) انظر ص230 ج3 عون المعبود وص 145 ج2 مجتبي (كفارة النذر) وص 367 ج2 تحفة الأحوذي (لا نذر في معصية) وص 333 ج1- ابن ماجه.(1/425)
... (وأجاب) الجمهور عن الحديث بأنه ضعيف (ورد) بأنه روى من عدة طرق يقوي بعضها بعضاً فهو صالح للاحتجاج به. وقد صححه الطحاوي وابن السكن. (وروي) محمد والحسن بن زياد عن النعمان أنه يصح نذر صوم يوم العيد لكن لا يصومه بل يقضيه في يوم آخر. لأنه نذر صوماً مشروعاً والنهي عن صومه لغيره وهو ترك إجابة دعوة الله تعالى فيصح نذره لكنه يفطر احترازاً عن المعصية ثم يقضي إسقاطاً للواجب وإن صامه يخرج عن العهدة لأنه أداة كما التزمه، ومنشأ الخلاف أن النهي هل يقضي فساد المنهي عنه؟ قال الأكثر: يقتضي فساده (وقال) الحنفيون: لا يقتضي الفساد ولا ينفي مشروعية الأصل ونسب إلى أكثر الفقهاء (ويؤيده) قول زياد بن جبير: جاء رجل إلى ابن عمر رضي الله عنهما فقال: رجل نذر أن يصوم يوماً فوافق ذلك يوم عيد فقال ابن عمر: أمر الله بوفاء النذر ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم هذا اليوم" أخرجه الشيخان(1){74}
فقد عرض ابن عمر للسائل بأن الاحتياط قضاء ذلك اليوم جمعا بين أمر الله تعالى بوفاء النذر ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم العيد (ولو شرع) في صوم يومي العيد ثم أفسده يلزمه القضاء عند أبي يوسف ومحمد وأن الشروع في التطوع سبب الوجوب كالنذر، فإذا وجب المضي فيه وجب القضاء بالإفساد كما لو شرع في التطوع في سائر الأيام ثم أفسده (وقال) النعمان: لا يلزمه القضاء لأن الشروع ليس سبب الوجوب وضعا وإنما الوجوب يثبت ضرورة صيانة للمؤدى عن البطلان وتؤدى هاهنا لا يجب صيانته لمكان النهي فلا يجب المضي فيه فلا يضمن بالإفساد(2)
__________
(1) انظر ص172 ج4 فتح الباري وص 16 ج8 نووي (صوم يومي العيدين).
(2) انظر ص79 ج2 بدائع الصنائع.(1/426)
... (وأما) لو نذر صوم يوم معين فوافق يوم العيد، فلا يحل صومه إجماعاً ويلزمه قضاؤه عند الحنفيين ولا يلزمه عند الجمهور وهو أصح قولي الشافعي، لأن لفظه لم يتناول القضاء، وإنما يجب قضاء الفرائض بأمر جديد على المختار. وكذا لو صادف أيام التشريق لا يجب قضاؤه في الأصح(1).
... (3) صوم أيام التشريق(2): هي ثلاثة أيام بعد يوم النحر. وصومها حرام ولو للمتمتع عند الليث بن سعد وهو المشهور عن الشافعي والأصح عند أحمد وبه قال بعض الحنفيين. ومشهور المذهب أن صومها مكروه تحريماً لما فيه من الإعراض عن ضيافة الله تعالى (ولقول) سعد بن أبي وقاص: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أنادي أيام مني أنها أيام أكل وشرب فلا صوم فيها يعني أيام التشريق. أخرجه احمد والبزار بسند رجاله رجال الصحيح(3){75}
... والمعنى أن هذه الأيام لا يجوز صيامها لأن الله تعالى أكرمنا بضيافته لنا فيها فلا ينبغي الإعراض عنها كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: وهي أيام أكل وشرب. قال الخطابي وهذا كالتعليل لوجوب الإفطار فيها فلا يجوز صيامها تطوعاً ولا نذراً ولا عن صوم التمتع(4).
__________
(1) انظر ص16 ج8 نووي مسلم.
(2) التشريق) لغة رفع الصوت بالتكبير بعد الصلوات في أيام التشريق. ويطلق على تخفيف لحوم الضحايا في الشرقة (أي الشمس).
(3) انظر ص142 ج10- الفتح الرباني. وص 202 ج3 مجمع الزوائد (ما نهى عن صيامه من أيام التشريق).
(4) انظر ص128 ج2 معالم السنن.(1/427)
... (وعن) أبي مرة مولى أم هانئ أنه دخل مع عبد الله بن عمرو على أبيه عمرو ابن العاص رضي الله عنهما فقرت إليهما طعاماً فقال كل، فقال إني صائم. قال عمرو كل فهذه الأيام التي كان يأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفطرها وينهانا عن صيامها. وهي أيام التشريق. أخرجه احمد وابن خزيمة والحاكم وصححاه والنسائي وأبو داود والبيهقي والدارمي(1){76}
... (وقال) مالك: يحرم على غير المتمتع صوم ثاني وثالث يوم النحر ولو نذراً، وبكره صوم رابعه تطوعاً، وإن نذر صومه لزمه صومه. وإن صامه تطوعاً ينعقد. وإذا أفطره عامداً غير قاصد التخلص من النهي، يلزمه قضاؤه وإنما لزم نذره مع أن النذر إنما يلزم به ما ندب نظراً إلى كونه لا ينحر فيه عند مالك ولا يرمي فيه المتعجل فضعف كونه من أيام التشريق المنهي عن صيامها فأعمل فيه النذر لقوته. ولما كان له حكمها عند بعض العلماء كره تطوعاً لعدم المعارض القوي(2)(وقال) الأوزاعي وإسحق والشافعي في القديم وأحمد في رواية: لا يجوز صيام أيام التشريق إلا للمتمتع الذي لم يجد الهدي ولم يصم ثلاثة الأيام في تسع ذي الحجة (لقول) ابن عمر: الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج إلى يوم عرفة. فإن لم يجد هدياً ولم يصم صام أيام مني، أخرجه البخاري(3).
(
__________
(1) انظر ص144 ج10- الفتح الرباني (النهي عن صوم أيام التشريق) وص 435 ج1 مستدرك وص 166 ج10- المنهل العذب المورود. وص 260 ج4 بيهقي. وص 24 ج2 الدارمي. و (إني صائم) قاله ابن عمرو ففي الموطأ عن أبي مرة عن ابن عمرو أنه أخبره أنه دخل على أبيه عمرو فوجده يأكل قال فدعاني فقلت له: إني صائم (الحديث) (انظر ص223، 224 ج2 زرقاني الموطأ- صيام أيام مني).
(2) انظر ص53 ج2 (حكمة البصير للشيخ الإمام).
(3) انظر ص174 ج4 فتح الباري (صيام أيام التشريق).(1/428)
وقال) ابن عمر: "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريق" أخرجه الدار قطني وفيه يحيي بن سلام ليس بالقوي(1){77} (وهذا) الحديث وإن تكلم فيه يؤيده عموم قول الله تعالى "فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج(2)" فإن الآية عامة فيما قبل يوم النحر وما بعده. فتدل على جواز صيام أيام التشريق للمتمتع. وعلى هذا فقد تعارض عموم الآية المشعر بالإذن بالصيام وعموم الحديث المشعر بالنهي. وفي تخصيص عموم المتواتر بعموم الآحاد نظر لو كان الحديث مرفوعاً فكيف، وفي كونه مرفوعاً نظر(3)(فالراجح) القول بجواز صيام أيام التشريق للمتمتع دون غيره حملاً للأحاديث المطلقة في النهي عن صيامها على المقيدة بإباحة صومها للمتمتع.
... (فائدة) هل يصح نذر صوم أيام التشريق؟ (روي) محمد بن الحسن عن النعمان أنه يصح نذر صومها، لكن الأفضل أن يفطر فيها ويصوم أياماً أخر ولو صامها يكون مسيئاً، وإن خرج عن عهدة النذر، لأنه أوجب صومها ناقصاً وأداه ناقصاً (وروي) أبو يوسف عن النعمان انه لا يصح نذر صومها ولا يلزمه شي. ولو شرع في صومها ثم أفسده هل يلزمه القضاء؟(4)فيه خلاف تقدم بيانه في صوم يومي العيد (وقالت) الشافعية: يجوز صوم هذه الأيام لسبب كنذر أو كفارة أو قضاء. أما ما لا سبب له فلا يجوز فيها اتفاقاً.
__________
(1) انظر ص24 الدارقطني.
(2) سورة البقرة: آية 196.
(3) انظر ص174 ج4 فتح الباري (الشرح).
(4) انظر ص79 ج2 بدائع الصنائع.(1/429)
... (4) صوم يوم الجمعة: يكره- عند أبي يوسف والشافعي وأحمد- إفراده بالصوم إلا أن يوافق عادة له (الحديث) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده" أخرجه البيهقي والستة إلا النسائي. وقال الترمذي: حسن صحيح(1){78}
... (وعن) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي. ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم" أخرجه مسلم والبيهقي(2){79}
... (حمل) الجمهور النهي في الحديثين ونحوهما على الكراهة (وحمله) ابن حزم على الحرمة فقال: يحرم إفراد يوم الجمعة بصوم (وقال) الطحاوي: ثبت بالسنة طلبه والنهي عنه والآخر منهما النهي، لأن فيه وظائف فلعله إذا صام ضعف عن فعلها (وعن) النعمان ومالك ومحمد بن الحسن: أنه يباح صوم يوم الجمعة مطلقاً (قال) مالك في الموطإ: لم أسمع أحداً من أهل العلم والفقه، ومن يقتدي به ينهي عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن (وقال) ابن مسعود: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثةً أيام من غرة كل هلال وقلما يفطر يوم الجمعة" أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه والبيهقي وابن حبان وصححه والترمذي وحسنه(3){80}
__________
(1) انظر ص167 ج4 فتح الباري وص 18 ج8 نووي (كراهة إفراد يوم الجمعة بصوم لا يوافق عادته) وص 168 ج10- المنهل العذب المورود وص 54 ج2 تحفة الأحوذي وص 270 ج1- ابن ماجه وص 02 ج4 بيهقي. و (لا يصم) بالنهي وفي رواية البخاري والترمذي: لا يصوم. بالنفي، والمراد منه النهي.
(2) انظر ص18 ج8 نووي وص 302 ج4 بيهقي (النهي عن تخصيص يوم الجمعة بالصوم).
(3) انظر ص219 ج10- الفتح الرباني (صوم ثلاثة أيام من غرة كل هلال) وص 123 ج1 مجتبي (صوم النبي صلى الله عليه وسلم). وص 270 ج1- ابن ماجه (صيام يوم الجمعة) وص 294 ج4 بيهقي. وص 54 ج21 تحفة الأحوذي.(1/430)
... لكن لا يتم الاستدلال به، لأن المعنى أنه كان يصوم يوم الجمعة مع يوم قبله أو بعده لا أنه كان يصومه وحده (فقد) نهى صلى الله عليه وسلم عن إفراده بالصوم. ولعل النعمان ومالكا ومن معهما لم يبلغهما أحاديث النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصوم ولو بلغتهم لم يخالفوها وسنة النبي صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع (واختلف) في سبب النهي عن إفراد يوم الجمعة بصوم على أقوال (منها) أنه يوم دعاء وذكر وعبادة من الغسل والتبكير إلى صلاة الجمعة وانتظارها واستماع الخطبة وإكثار الذكر بعدها، لقول الله تعالى "فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون(1)" وغير ذلك من العبادات المطلوبة يومها فاستحب الفطر فيه، ليكون أعون للمؤمن على تأدبة هذه الوظائف بنشاط وانشراح بلا ملل ولا سآمة (ومنها) أن يوم الجمعة يوم للعيد الأسبوعي والعيد لا يصام (روي) أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن يوم الجمعة يوم عيد فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده" أخرجه أحمد والحاكم وقال صحيح الإسناد(2){81}
ولا يلزم من هذا أن يكون كالعيد من كل وجه؛ فإنه يباح صومه مع يوم قبله أو بعده أو وفق عادة بخلاف العيد فإنه لا يصام مطلقاً.
__________
(1) سورة الجمعة: آية 10.
(2) انظر ص148 ج10- الفتح الرباني (إفراد يومي الجمعة والسبت يصوم). وص 437 ج1 مستدرك.(1/431)
... (5) إفراد يوم السبت أو الأحد بصيام: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التطوّع بصوم يوم السبت وأباح صومه مع الجمعة وصامه هو مع الأحد (روي) عبد الله بن بسر السلمي عن أخته الصماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم. وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أو عود شجرة فلميضغه" أخرجه احمد والأربعة والدارمي والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري وصححه ابن السكن وحسنه الترمذي(1){82}
... (وقال) ومعنى الكراهية في هذا أن يختص الرجل يوم السبت بصيام، لأن اليهود يعظمون يوم السبت (وعن) جويرية بنت الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها في يوم الجمعة وهي صائمة فقال "أصمت أمس؟ قالت: لا قال: تريدين أن تصومي غداً؟ قالت: لا. قال: فأفطري" أخرجه احمد والبخاري وأبو داود والشافعي والبيهقي(2){83}
__________
(1) انظر ص152 ج10- الفتح الرباني (النهي عن إفراد يومي الجمعة والسبت بالصيام) وص 170 ج10- المنهل العذب المورود (النهي أن يخصص يوم السبت بصوم) وص 54 ج3 تحفة الأحوذي. وص 270 ج1- ابن ماجه وص 19 ج2 دارمي: وص 302 ج4 بيهقي وص435 ج1 مستدرك (والصماء) لقب واسمها بهيمه أو نهيمه صحابية. و (لحاء) ككساء قشر الشجرة و (يمضغ) بفتح الضاد وضمها.
(2) انظر ص150 ج10- الفتح الرباني وص 167 ج4 فتح الباري (صوم يوم الجمعة) وص 172 ج10- المنهل العذب المورود وص 302 ج4 بيهقي.(1/432)
... (دل) الحديث على أن من شرع فيما يظنه طاعة فتبين له خلافه يطلب منه قطعه وفيه دلالة على إباحة صوم يوم السبت موصولاً بما قبله (وقالت) أم سلمة رضي الله عنها: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم يوم السبت ويوم الأحد اكثر مما يصوم من الأيام ويقول "إنهما عيدا المشركين. فأنا أحب أن أخالفهم" أخرجه أحمد والبيهقي والحاكم وابن خزيمة وصححاه. وهذا مختصر(1){84} فالنهي عن صوم السبت في الحديث الأول، محمول على إفراده بالصوم. وأما إذا وصله بيوم قبله أو بعده كما في الحديثين بعده فجائز (ولذا) قال الحنفيون والشافعي وأحمد: يكره إفراد السبت بالصوم إن لم يوافق عادة له.
... (والحكمة) في النهي عن صومه أن اليهود كانوا يعظمونه باتخاذه عيداً، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم مخالفتهم (وقال) مالك وجماعة: لا يكره صومه ولو منفرداً. ولا دليل لهم على هذا (وقول) أبي داود: حديث عبد الله بن يسر منسوخ (غير) مقبول وأي دليل على نسخه؟(2)
__________
(1) انظر ص224 ج10- الفتح الرباني (صيام السبت والأحد). وص 303 ج4 بيهقي (النهي عن تخصيص يوم السبت بالصوم) وص436 ج1 مستدرك.
(2) انظر ص440 ج6 مجمع النووي (وقال) مالك: هذا الحديث كذب. وهذا القول لا يقبل فقد صححه الأئمة. قال الحاكم: حديث صحيح على شرط البخاري (انظر ص439 ج6 مجموع النووي).(1/433)
... (ويكره) إفراد يوم النيروز ويوم المهرجان(1)بالصوم، لأنهما يومان يعظهما الكفار فيكون تخصصيهما بالصيام دون غيرهما موافقة لهم في تعظيمهما فكره كيوم السبت، وعلى قياس هذا كل عيد للكفار أو يوم يفردونه بالتعظيم(2)كيوم الأحد إذا كانوا يعظمونه بالصوم . أما إذا عظموه بغيره فلا يكون صومه تشبهاً بهم ( قال ) العلامة القسطلاني : وقد ورد أيضاً النهي عن إفراد صوم يوم الأحد، لأن النصارى تعظمه كما أن اليهود تعظم يوم السبت(3).
... (6) صوم الدهر: ورد النهي عن صومه فيحرم صوم السنة كلها بما فيها أيام العيد والتشريق (وعليه) يحمل حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا صام من صام الأبد" أخرجه أحمد والشيخان وابن ماجه(4){85}
... (وحديث) عبد الله بن الشخير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام الأبد فلا صام ولا أفطر" أخرجه أحمد وابن ماجه وابن حبان بسند جيد(5){86}
... وهذا إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لم يحصل له أجر الصوم لمخالفته ولم يفطر لأنه أمسك عن الطعام والشراب ولأنه إذا اعتاد الصوم لم يجد مشقه يترتب عليها مزيد الثواب فكأنه لم يصم. وحيث لم ينل راحة المفطرين فكأنه لم يفطر. ويحتمل انه دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم على من فعل ذلك كراهة لفعله وزجراً له عن ذلك.
__________
(1) النيروز) بفتح فسكون معرب نوروز بالفارسية ومعناه يوم جديد وهو أول توت و22 سبتمبر أول فصل الخريف. و (المهرجان) يوم 29 برمهات و25 مارس وهو يوم الاعتدال الربيعي.
(2) انظر ص98 3 مغنى ابن قدامة.
(3) انظر ص59 مدارك المرام.
(4) انظر ص156 ج10- الفتح الرباني (النهي عن صوم الدهر). وص 158 ج4 فتح الباري (حق الأهل في الصوم). وص 45 ج8 نووي. وهو في الصحيحين عجز حديث. وص 268 ج1- ابن ماجه.
(5) انظر ص157 ج10- الفتح الرباني. وص 268 ج1- ابن ماجه (صيام الدهر).(1/434)
... (وحديث) أبي قتادة أن عمر رضي الله عنه قال: "يا رسول الله كيف بمن يصوم الدهر كله؛ قال: لا صام ولا أفطر أو ما صام وما أفطر" (الحديث) أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود مطولاً والنسائي والترمذي وحسنه(1){87}
فإن ظاهره أنه تضيق عليه حصرا له فيها لتشديده على نفسه ورغبته عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم واعتقاده أن غيرها أفضل. وهذا وعيد شديد يقتضي الحرمة(2)، وحمله الجمهور كغيره على من صام السنة كلها وفيها الأيام المنهي عن صومها(3)، أما لو صام السنة غير الأيام المنهي عنها فهو جائز ( لحديث ) أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله لمن الآن الكلام وأطعم الطعام وتابع الصيام وصلى بالليل والناس نيام" أخرجه أحمد وابن حبان والبيهقي بسند رجاله ثقات(4){89}
__________
(1) انظر ص160 ج10- الفتح الرباني (ما يستحب صومه وما يكره) وص 51 ج8 نووي. وص 173 ج10- المنهل العذب المورود. وص 61 ج2 تحفة الأحوذي. وص 324 ج1 مجتبي (النهي عن صوم الدهر).
(2) انظر ص159* ج4 فتح الباري.
(3) وحمله الجمهور) (وقيل) بأن على فيه بمعنى عن أي ضيقت عنه فلا يدخلها. وذلك أن الصائم لما ضيق مسالك الشهوات بالصوم ضيق الله عليه النار. فلا يبقى له فيها مكان.
(4) انظر ص192 ج3 – مجمع الزوائد (صيام الدهر). وص 301 ج4- بيهقي (من لم يرد بسرد الصيام بأساً).(1/435)
... فإن متابعة الصيام تشمل صيام الدهر (وعن) عائشة أن حمزة الأسلمي رضي الله عنه قال: "يا رسول الله إني رجل أشرد الصوم أفأصوم في السفر؟ قال: صم إن شئت وأفطر إن شئت" أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والبيهقي والدارمي والنسائي(1){90}
... فقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على متابعة الصوم في غير الأيام المنهي عن صيامها. وفيه دلالة على أن صوم الدهر وسرده غير مكروه لمن لا يخاف منه ضرراً ولا يفوت به حقاً بشرط فطر يومي العيدين وأيام التشريق لأنه أذن له فيه في السفر ففي الحضر أولى.
... (وأما) إنكاره صلى الله عليه وسلم على ابن عمرو بن العاص صوم الدهر (فلأنه) علم صلى الله عليه وسلم أنه سيضعف عنه. وهكذا جرى فإنه ضعف في آخر عمره وكان يقول: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم(2). (وقال) أبو الخطاب الحنبلي: والذي يقوي عندي أن صوم الدهر مكروه وإن لم يصم الأيام المنهي عن صيامها، فإن صامها فقد فعل محرماً، وإنما كره صوم الدهر لما فيه من المشقة والضعف وشبه التبتل المنهي عنه(3).
__________
(1) انظر ص100 ج10- الفتح الرباني (الفطر والصوم في السفر) وص 129 ج4 فتح الباري. وص 237 ج7 نووي. وص 146 ج10- المنهل العذب المورود. وص 324 ج1- مجتبي (سرد الصيام) وص 243 ج4 بيهقي. وص 97 ج2- دارمي.
(2) انظر ص237 ج7- نووي مسلم.
(3) انظر ص99 ج3- مغنى ابن قدامة.(1/436)
... (7) وصال الصوم- الوصال هو صوم يومين فأكثر بلا فطر بينهما قصداً- فليس منه الإمساك عن الفطر بلا قصد- وهو منهي عنه (لحديث) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والوصال- قالها ثلاث مرار- قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله، قال: "إنكم لستم في ذلك مثلي، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني فاكلفوا من العمل ما تطيقون" أخرجه مالك وأحمد والشيخان والبيهقي(1){91}
... (وعن) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تواصلوا"، قالوا: يا رسول الله إنك تواصلُ، قال: "إني لست مثلكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني" فلم ينتهوا عن الوصال، فواصل بهم النبي صلى الله عليه وسلم يومين وليلتين ثم رأوا الهلال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو تأخر الهلال لزدتكم، كالمنكل بهم" أخرجه أحمد وكذا الشيخان والبيهقي بلفظ: نهى صلى الله عليه وسلم عن الوصال (الحديث)(2){92}
__________
(1) انظر ص109 ج2- زرقاني الموطأ (النهي عن الوصال) وص 79 ج10- الفتح الرباني وص 148 ج4 فتح الباري (التنكيل لمن أكثر الوصال) وص 212و213 ج7 نووي وص 282 ج4 بيهقي و(يطعمني ربي ويسقيني) أي يجعله الله تعالى في قوة الطاعم الشارب (وقيل) وعلى ظاهره وأنه يطعم من طعام الجنة كرامة له. والصحيح الأول، لأنه لو أكل حقيقة لم يكن مواصلاً (ويؤيده) قوله في حديث ابن عمر رقم 93- إني أظل أطعم يقال ظل يفعل كذا إذا عمله في النهار دون الليل. ولا يجوز أن يكون أكلا حقيقياً في النهار (فاكلفوا) – بهمزة وصل وسكون الكاف وفتح اللام- من كلفت بهذا الأمر من باب تعب أي تكلفوا من العمل ما تطيقونه.
(2) انظر ص83 ج10- الفتح الرباني وص 147 ج4 فتح الباري وص 212 ج7 نووي وص 282 ج4 بيهقي.(1/437)
... (وإنما) نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة بهم لئلا يشق عليهم (روي) نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم واصل فواصل الناسُ فشق عليهم فنهاهم، قالوا: إنك تواصل، قال: "لست كهيئتكم إني أظل أطعم وأشقى" أخرجه البخاري(1){93}
... وهل النهي للتحريم؟ (قال) الحنفيون ومالك والشافعي والجمهور: إنه للكراهة لأن النبي صلى الله عليه وسلم واصل بالصحابة ولو كان حراماً ما واصل بهم وقال ابن حزم والظاهرية: النهي للتحريم واختاره ابن العربي المالكي أخذاً بظاهر النهي (ورد) بأنه مصروف عن التحريم (بحديث) أبي هريرة، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم واصل بأصحابه (وبحديث) عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قال: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصيام والحجامة للصائم إبقاء على أصحابه ولم يحرمهما على أحد. أخرجه أحمد بسند صحيح(2){94}
... (وقال) أحمد وإسحاق وابن المنذر وبعض المالكية: يجوز الوصال إلى السحر ويكره الزائد عليه (لحديث) أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر (الحديث) أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود(3){95}
__________
(1) انظر ص98 ج4 فتح الباري (بركة السحور............)
(2) انظر ص36 ج10- الفتح الرباني.
(3) انظر ص85 ج10- الفتح الرباني (الوصال إلى السحر) وص 149 ج4 فتح الباري وص 85 ج10- المنهل العذب المورود (الوصال).(1/438)
... (قالوا) هذا الوصال لا يترتب عليه مشقة ولا حرج، فقد تناول الأكلة التي للصائم في اليوم والليلة غير أنه نقلها من أول الليل إلى آخره، وكان هذا عوناً على قيام الليل. (ولا يخفى) أن محل ذلك لم يشق على الصائم وإلا فلا يكون قربة. (وفي) الحديثين رد على من قال: إن الإمساك بعد الغروب لا يجوز وإن كان تعجيل الفطر أفضل كما سيأتي (والظاهر) مذهب الجمهور: أن الوصال مكروه، لأن الأدلة صريحة في الكراهة. وقد واصل الصحابة رضي الله عنهم بعد النهي للتنزيه لا للتحريم (تنبيه) علم أن النبي صلى الله عليه وسلم واصل بأصحابه يومين، وواصل أحياناً إلى السحر وثبت أنه كان يواصل خمسة عشر يوماً. أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح.
... (8) الصوم في النصف الثاني من شعبان- يكره- عند الشافعية- صوم التطوع في النصف الثاني من شعبان إلا صوماً اعتاده أو وصله بصوم في النصف الأول (لحديث) العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان النصف من شعبان فأمسكوا عن الصوم حتى يكون رمضان" أخرجه أحمد والأربعة وقال الترمذي: حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه على هذا اللفظ(1){96}
__________
(1) انظر ص205 ج10- الفتح الرباني وص 56 ج10- المنهل العذب المورود وص 51 ج2 تحفة الأحوذي (كراهية الصوم في النصف الباقي من شعبان).(1/439)
... ولفظه عنده: إذا بقي نصف من شعبان فلا تصوموا (والنهي) هنا للتنزيه رحمة بالأمة أن يضعفوا عن صيام رمضان على وجه النشاط، وأما من صام شعبان كله فقد تمرن على الصوم وتزول عنه الكلفة ولذا قيده بالانتصاف (وقيل): نهى عن الصوم في النصف الثاني من شعبان لأنه نوع من التقدم المنهي عنه (وقال) الحنفيون ومالك وأحمد والجمهور: لا يكره صوم التطوع في النصف الثاني من شعبان (لحديث) عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له أو لرجل: "هل صمت من سرر هذا الشهر شيئاً؟ يعني شعبان. قال: لا. قال: فإذا أفطرت "فصم يومين" أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والدارمي(1){97}
... وتقدم أنه يدل على أن من اعتاد الصوم في النصف الثاني من شعبان فله صومه بلا كراهة وأن من عليه صوم واجب كمنذر فله أن يؤديه فيه، فإن ضاق عليه الوقت ودخل رمضان قضاء في شوال (وأجاب) الجمهور عن حديث العلاء بأنه ضعيف، فقد قال أحمد وابن معين: إنه منكر (واستدل) البيهقي على ضعفه بحديث: لا تقدموا صوم رمضان بيوم أو يومين(2)فقال: الرخصة في ذلك بما هو أصح من حديث العلاء، واستدل الطحاوي على ضعفه بحديث عمران ابن حصين(3).
__________
(1) تقدم رقم ص384 (صوم يوم الشك).
(2) تقدم رقم 69 ص384 (صوم يوم الشك).
(3) جمع الطحاوي بين حديث العلاء وحديث: لا تقدموا صوم رمضان، بأن حديث العلاء محمول على من يضعفه الصوم، وحديث النهي عن التقدم بصوم يوم أو يومين مخصوص بمن يحتاط بزعمه لرمضان وهو جمع حسن (انظر ص91 ج4) فتح الباري.(1/440)
... (9) صوم المرأة وزوجها حاضر: لا يحل للمرأة المتزوجة أن تصوم تطوعاً وزوجها حاضر إلا بإذنه (لحديث) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصم المرأة يوماً واحداً وزوجها شاهد إلا بإذنه إلا رمضان" أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والبيهقي والدارمي(1){98}
... فيحرم على امرأة- يحتاجها بعلها- تطوّع بصلاة أو صوم أو اعتكاف أو حج أو عمرة بلا إذن من الزوج. وكذا ليس لها نذر شيء من ذلك بلا إذن. فإذا تطوّعت بشيء من ذلك أو نذرته بلا إذن فله إفساده عليها بالجماع ويلزمها قضاؤه. وأولى لو استأذنته فقال لها لا تصومي مثلاً فأصبحت صائمة فله جماعها. وكذا لو دعاها لفراشه فأحرمت بصلاة نافلة أو فريضة متسعة الوقت فله قطعها وضمها إليها بخلاف ما ضاق وقته. وفي قطع الفرض إذا اتسع وقته نظر، لأن الصلاة أمرها يسير وهي فرض تلبست به وتريد براءة ذمتها. فإن أذن لها في نذر أو تطوع فليس له إفساده عليها. وإن علمت أنه لا يحتاج لها الزوج جاز لها التطوّع بلا إذن. ولها تعجيل قضاء ما عليها من صوم وله منعها بالأولى من فرض اتسع وقته(2)(وحكمة) حرمة ما ذكر على المرأة أن زوجها له حق الاستمتاع بها في أي وقت وهو واجب على الفور فلا يفوت بالتطوع ولا بواجب على يكره تطوعها بصوم وغيره بلا إذن زوجها. والصحيح الحرمة. فلو صامت بلا إذن صح صومها وإن كان حراماً، لأن تحريمه لحق الزوج لا لمعنى يعود على الصوم فهو كالصلاة في دار مغصوبة فإذا صامت بلا إذن فلا ثواب لها(3).
__________
(1) انظر ص166 ج10- الفتح الرباني وص 236 ج9 فتح الباري (صوم المرأة بإذن زوجها) وص 115 ج7 نووي (أجر المرأة إذا تصدقت من بيت زوجها) وص 232 ج10 – المنهل العذب المورود وص 303 ج4 بيهقي وص 12 ج2 دارمي.
(2) انظر ص659 ج1- الفجر المنير.
(3) انظر ص392 ج6 مجموع النووي.(1/441)
... أما لو كان الزوج غائباً فلها التطوّع بما ذكر، فلو صامت وقدم في أثناء الصيام فله إفساد صومها بلا كراهة، وفي معنى الغيبة كونه مريضاً لا يستطيع الجماع(1).
... (10) ويكره لضيف تطوع بصوم بلا إذن رب المنزل (لحديث) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ألبسه الله نعمى فليكثر من الحمد لله، ومن كثرت ذنوبه فليستغفر الله، ومن أبطأ رزقه فليكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، ومن نزل بقوم فلا يصومنَّ إلا بإذنهم" أخرجه الطبراني في الصغير والأوسط من حديث طويل وفيه يونس ابن تميم ضعفه الذهبي(2). {99}
... (وكان) ابن عمر إذا أراد أحد أن يصحبه في سفر اشترط عليه ألا يصحبنا على تغير خلال ولا ينازعنا الأدان ولا يصومنَّ إلا بإذننا. أخرجه الطبراني في الكبير بسند رجاله رجال الصحيح(3)والنهي فيما ذكر للتنزيه (وحكمته) دفع تحرج أهل المنزل بصومه لتقييد الوقت وإحسان الطعام للصائم بخلاف ما إذا كان مفطراً فيأكل معهم ويندفع عنهم الحرج ولأن من آداب الضيف أن يطيع المضيف. فإن خالفه فقد ترك الأدب(4).
(د) صوم التطوع
... التطوع بالصوم له فضل عظيم وثواب جزيل به تضاعف الحسنات وترفع الدرجات وتكفر السيئات "إن الحسنات يذهبن السيئات" والكلام هنا في أربعة وعشرين فصلاً:
__________
(1) انظر ص238 ج9 فتح الباري.
(2) انظر ص201 ج3 مجمع الزوائد (من نزل بقول فأراد الصوم).
(3) انظر ص201 ج3 مجمع الزوائد (من نزل بقول فأراد الصوم).
(4) انظر ص67 ج2 تحفة الأحوذي.(1/442)
... (1) صوم ستة أيام من شوال- يستحب- عند الحنفيين والشافعي وأحمد ومحققي المالكية- صيام ستة أيام من شوال (لحديث) جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان وستاً من شوالٍ فكأنما صام السنة كلها" أخرجه احمد والبيهقي والطبراني في الأوسط والبزار، وفيه عمرو بن جابر ضعيف(1){100}
... لكنه يتقوى بحديث أبي أيوب الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوالٍ فكأنما صام الدهر" أخرجه أحمد ومسلم والبيهقي والدارمي والأربعة إلا النسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح وفيه سعد بن سعيد تكلم فيه بعضهم من قبل حفظه(2){101}
__________
(1) انظر ص220 ج10- الفتح الرباني (صوم ستة من شوال) وص 292 ج4 بيهقي وص183 ج3 مجمع الزوائد.
(2) انظر ص221 ج10- الفتح الرباني وص 56 ج8 نووي وص 292 ج4 بيهقي وص21 ج2 دارمي وص 190 ج10- المنهل العذب المورود وص 269 ج1- ابن ماجه وص 56 ج2 تحفة الأحوذي (ولا يضر) التكلم في سعد من قبل حفظه فقد تابعه أخواه عبد ربه يحيي وصفوان بن سليم وغيرهم وقد روي الحديث من عدة طرق مرفوعاً ولا يشك في صحته.(1/443)
... (والمعنى) أن من واظب على صيام رمضان وستة أيام من شوال في كل سنة فكأنما صام طول حياته. أما من صام رمضان وستاً من شوال سنة واحدة فكأنما صام سنة واحدة لأن الحسنة بعشر أمثالها ورمضان بعشرة أشهر والستة الأيام بشهرين (والسر) في مشروعية صومها أنها تجبر ما وقع في رمضان من خلل. والأفضل عند الحنفيين والشافعي صومها متوالية عقب يوم الفطر لظاهر قوله "ثم أتبعه بست من شوال" فإن فرقها أو أخرها عن أول شوال فقد حصل أصل السنة (وقال) أحمد: يستوي التتابع وعدمه في الفصل (وعن) مالك أنه يكره صوم هذه الأيام حذراً من اعتقاد وجوبها (قال) يحيي: سمعت مالكاً يقول في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان: إنه لم ير أحداً من أهل العلم والفقه يصومها، ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف وأن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء(1)فمالك رضي الله عنه إنما كره صيامها لذلك. فأما من صامها رغبة لما جاء فيها فلا كراهة. ويحتمل أنه إنما كره وصل صومها بيوم الفطر. فلو صامها في أثناء الشهر فلا كراهة وهو ظاهر قوله: صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان(2)
__________
(1) انظر ص126 ج2 زرقاني الموطأ.
(2) انظر ص127 منه (وما نسب) للنعمان وأبي يوسف من أنه يكره صوم هذه الأيام محمول على من يصوم يوم الفطر وخمسة أيام بعده. فأما إذا أفطر يوم العيد ثم صام بعده ستة أيام فليس بمكروه بل هو مستحب وسنة (انظر ص78 ج2 بدائع الصنائع)..(1/444)
ومنه تعلم أنه لا وجه للقول بكراهة صوم ستة أيام من شوال خشية اعتقاد وجوبها (وقول) مالك: لم أر أحداً يصومها (ليس) بحجة على الكراهة لأن السنة ثبتت في ذلك بلا معارض وكونه لم ير لا يضر (وقولهم) إنه قد يخفي ذلك فيعتقد وجوبه (مردود) بأنه لا يخفى ذلك على أحد، ويلزم على قوله أنه يكره صوم يوم عرفة وعاشوراء وسائر الصوم المندوب إليه خشية اعتقاد الوجوب وهذا لا يقوله أحد(1).
... (2) صوم شوال والأربعاء والخميس والجمعة: يستحب صوم شوال بعد يوم الفطر وصوم الأربعاء واليومين بعده من كل شهر (لقول) عكرمة بن خالد: حد ثني عريف من عرقاء قريش، حدثني أبي أنه سمع من فلق في رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من صام رمضان وشوالاً والأربعاء والخميس والجمعة دخل الجنة" أخرجه أحمد وفيه من لم يسم وبقية رجاله ثقات(2){102}
... (وقال) مسلم القرشي: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام الدهر فقال "إن لأهلك عليك حقاً، صم رمضان والذي يليه وكل أربعاء وخميس فإذا أنت قد صمت الدهر" أخرجه أبو داود والترمذي وزاد: فإذا أنت قد صمت الدهر وأفطرت. وقال حديث غريب(3){103}
... وقد جاء في هذا أحاديث ضعيفة يقوي بعضها بعضاً.
__________
(1) انظر ص379 ج6 مجموع النووي.
(2) انظر ص223 ج10- الفتح الرباني (صيام شوال والأربعاء والخميس والجمعة) (والعريف) القائم بأمر جماعة يدبر أمرهم كرئيس البلد (والفلق) بسكون اللام. الشق، يعني أنه سمع الحديث من شق فم النبي صلى الله عليه وسلم.
(3) انظر ص189 ج10- المنهل العذب المورود (صوم شعبان) وص 55 ج2 تحفة الأحوذي (صوم الأربعاء والخميس) والضمير المستتر في (والذي يليه) عائد على رمضان والبارز على شوال أي صم رمضان وصم الشهر الذي يقع بعده وهو شوال. أخرجه الشيخان.(1/445)
... (3) الصوم في الأشهر الحرم: الحرم بضمتين جمع حرام وصفت بذلك لحرمتها وحرمة القتال فيها في الجاهلية وصدر الإسلام. وهي أربعة ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب قال الله تعالى "إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم"(1). (وعن) أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم: ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان(2). {104}
__________
(1) التوبة: 26 (عند الله) أي في حكمه وتقديره (في كتاب الله) يعني اللوح المحفوظ.
(2) انظر ص225 ج8 فتح الباري (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً) وص 167 ج11 نووي (تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال) و (رجب مضر) الخ فإن ذلك لأن ربيعة كانت تحرم بالحج في رمضان وتسميه رجباً، من رجبت الرجل حرمته، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه رجب مضر لا رجب ربيعة.(1/446)
... وقد جاء في الترغيب في الصوم فيها أحاديث (منها) حديث مجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انطلق فأتاه بعد سنة وقد تغيرت حاله وهيئته فقال يا رسول الله أما تعرفني؟ قال ومن أنت؟ قال أنا الباهلي الذي جئتك عام الأول. قال فما غيرك وقد كنت حسن الهيئة؟ قال ما أكلت طعاماً إلا بليل منذ فارقتك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم عذبت نفسك؟ ثم قال صم شهر الصبر ويوماً من كل شهر. قال: زدني فإن بي قوة قال صم يومين قال زدني قال: صم ثلاثة أيام قال زدني قال صم من الحرم واترك صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك، وقال بأصابعه الثلاثة فضمها ثم أرسلها" أخرجه أحمد وابن ماجه والبيهقي وأبو داود بسند جيد وهذا لفظه(1){105}
... (صم من الحرم) أي إذا أردت الزيادة عن ثلاثة أيام من كل شهر فصم من الأشهر الحرم غير أنك لا توالي الصيام فيها أكثر من ثلاثة أيام ثم أفطر مثلها وهكذا كما أشار النبي صلى الله عليه وسلم بضم أصابعه الثلاثة إلى أنه يصوم منها ثلاثة أيام وأشار بإرسالها إلى أنه يفطر ثلاثة أيام مع صيام رمضان وصيام ثلاثة أيام من كل شهر غير الأشهر الحرم.
__________
(1) انظر ص194 ج10- الفتح الرباني (الصوم في رجب والأشهر الحرم) وص 272 ج1- ابن ماجه وص 291 ج4 بيهقي وص 180 ج10- المنهل العذب المورود و (مجيبة) بضم فكسر (وشهر الصبر) شهر رمضان. والصبر في الأصل الحبس سمي الصيام صبراً لما فيه من حبس النفس عن تعاطي المفطر ولا يضر جهالة أبي مجيبة أو عمها لأن الصحابة كلهم عدول.(1/447)
... (4) صوم تسع ذي الحجة: يستحب لغير الحاج صيام تسعة أيام من أول ذي الحجة (لحديث) هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر أو اثنين من الشهر والخميس" أخرجه أحمد وأبو داود والبيهقي بسند جيد وقال تعني ويوماً آخر(1){106}
دل على استحباب صوم هذه الأيام ولا يعارضه (قول) عائشة رضي الله عنها: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً العشر قط" أخرجه أحمد ومسلم والأربعة والبيهقي وفي رواية لمسلم: لم يصم العشر(2){107}
__________
(1) انظر ص234 ج10- الفتح الرباني (صوم تسع ذي الحجة) وص 195 ج10 المنهل العذب المورود وص 284 ج4 بهيقي و ( بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم هي أم سلمة فقد رواه النسائي عن هنيدة عن أمه عن أم سلمة ) . و( تعني ) يعني بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم و (يوماً آخر) لتكون ثلاثة أيام.
(2) انظر ص237 ج10- الفتح الرباني وص 71 ج8 نووي وص 198 ج10 المنهل العذب الموورد (فطر العشر) والمراد بالعشر في الحديث تسع ذي الحجة، وص271 ج1- ابن ماجه وص 58 ج2 تحفة الأحوذي وص 285 ج4 بيهقي.(1/448)
... (لأن) عائشة رضي الله عنها أخبرت بأنها لم تره صائماً، ولا يلزم من نفي رؤيتها عدم صيامه في الواقع. وقد ثبت أنه كان يصوم تسع ذي الحجة والمثبت مقدم على النافي (ويحتمل) أنها أرادت أنه لم يصمها لعارض مرض أو سفر أو غيره (وعن) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة يعدل صيام كل يوم منها صيام سنة، وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر" أخرجه ابن ماجه والترمذي وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث مسعود بن واصل عن النهاس وفيهما مقال فالحديث ضعيف(1){108}
... (5) صوم يوم عرفة: هو اليوم التاسع من ذي الحجة. ويتأكد صومه بغير عرفة (لحديث) أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبلة وصوم عاشوراء يكفر سنة ماضية" أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه والبيهقي من عدة طرق(2){109}
... قال الترمذي: قد استحب أهل العلم صيام يوم عرفة إلا بعرفة. ومعنى الحديث أن صيام يوم عرفة يكفر ذنوب السنة الماضية ويحول بين صائمه وبين الذنب في السنة الآتية: والمكفر الذنوب الصغائر عند الجمهور لأن الكبار لا يكفرها إلا التوبة أو عفو الله، فإن لم يكن له صغائر خفف عنه من الكبائر إن كانت وإلا رفعت درجاته.
(
__________
(1) انظر ص271 ج1- ابن ماجه (صيام العشر) وص 58 ج2 تحفة الأحوذي (العمل في أيام العشر) و (ما) بمعنى ليس (ومن أيام) من زائدة وأيام اسم و (احب إلى الله) بالنصب خبر ما (وأن يتعبد) متعلق بأحب بحذف الجار أي ليس أيام أحب إلى الله لأن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة.
(2) انظر ص234 ج10 الفتح الرباني (صوم يوم عرفة لغير الحاج) وص 271 ج1- ابن ماجه وص 283 ج4 بيهقي.(1/449)
وعن) سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام يوم عرفة غفر له سنتين متتابعتين" أخرجه الطبراني في الكبير وأبو يعلي بسند رجاله رجال الصحيح(1){110}
... وحكمة تكفير صومه سنتين وجوه (منها) أنه من شهر حرام توسط بين شهري حرام من عامين فناسب أن يكفر العامين ولا كذلك عاشوراء (ومنها) اختصاص صوم يوم عرفة بالأمة المحمدية بخلاف يوم عاشوراء فإن اليهود كانت تصومه. هذا وصومه سنة لغير الحاج أما الحاج فيكره له صومه عند الجمهور (قال) عكرمة: سألت أبا هريرة عن صوم يوم عرفة بعرفات فقال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم عرفة بعرفات" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي وصححه ابن خزيمة(2){111}
... أي نهى النبي صلى الله عليه وسلم الحاج عن صيام يوم عرفة لأنه يضعفه عن الدعاء والذكر وسائر الأعمال المطلوبة منه في هذا اليوم، ولأنه يوم عيد لأهل عرفة لاجتماعهم فيه، (ولظاهر) النهي قال يحيي بن سعيد: يحرم على الحاج صوم يوم عرفة. وحمل الجمهور النهي عن صومه على الكراهة بالنسبة لمن يضعفه الصيام عن الدعاء والابتهال في ذلك المقام. فأما من وجد قوة لا يخاف معها ضعفاً فصوم ذلك اليوم أفضل له (وقال) أحمد: إن قدر على ان يصوم صام وإن أفطر فذلك يوم يحتاج فيه إلى قوة(3).
__________
(1) انظر ص189 ج3 مجمع الزوائد (صيام يوم عرفة).
(2) انظر ص235 ج10- الفتح الرباني وص 198 ج10- المنهل العذب المورود (صوم عرفة بعرفة) وص 271 ج1- ابن ماجه وص 284 ج4 بيهقي.
(3) انظر ص131 ج2 معالم السنن.(1/450)
... (وقال) جماعة: يستحب صوم يوم عرفة ولو للحاج إلا من يضعفه الصوم عن الوقوف بعرفات ويكون مخلاً له في الدعوات محتجين بعموم الأحاديث المرغبة في صيامه (وأجاب) الجمهور بأنها محمولة على من لم يكن بعرفة جمعاً بين الأحاديث، ولذا قالوا: يستحب إفطاره لمن بعرفة حتى قال عطاء: من أفطره ليتقوى به على الذكر كان له مثل أجر الصائم(1).
... (تنبيه) علم: من حديث أبي هريرة النهي عن صوم يوم عرفة بعرفة، ومن حديث أبي قتادة استحباب صومه مطلقاً "ومن حديث" عقبة بن عامر مرفوعاً "يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا لأهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب" أخرجه احمد والثلاثة والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم والبيهقي والدارمي وقال الترمذي: حسن صحيح(2){112}
... "كراهة" صوم يوم عرفة مطلقاً (ويجاب) عنه بأن كونه عيداً لا ينافي الصوم أو أنه مختص بأهل عرفة. والظاهر أن قوله صلى الله عليه وسلم: وهي أيام أكل وشرب. راجع إلى يوم النحر وأيام التشريق. (هذا) ويجمع بين الأحاديث بأن صوم يوم عرفة مستحب لغير الحاج مكروه للحاج بعرفة إن كان الصوم يضعفه.
... (6) الطاعة في عشر ذي الحجة: هذه الأيام من المواسم الشرعية ذات النفحات الإلهية: للطاعة فيها فضل عظيم يضاعف فيها ثواب العمل الصالح. حث الشارع على الاجتهاد في أنواع العبادة فيها من صوم وصلاة وتكبير واستغفار وذكر وغيرها.
(
__________
(1) انظر ص171 ج4 فتح الباري (الشرح).
(2) انظر ص143 ج10- الفتح الرباني (صوم أيام التشريق) وص 167 ج10 المنهل العذب المورود وص 63 ج2 تحفة الأحوذي وص 434 ج1 مستدرك وص 298 ج4 بيهقي وص 23 ج2 دارمي (صيام يوم عرفة).(1/451)
وقد) ورد في هذا أحاديث (منها) حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أيام اعظم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد" أخرجه أحمد والبيهقي في الشعب وأخرجه الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس بسند جيد(1){113}
... أي أكثروا فيهن من قول لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله (وقال) ابن عباس ويذكروا اسم الله في أيام معلومات. أيام العشر والأيام المعدودات أيام التشريق. وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما. ذكره البخاري(2).
__________
(1) انظر ص168 ج6- الفتح الرباني (الحث على الذكر والطاعة في أيام العشر) و (ما من أيام...) أي ليس أيام العمل الصالح أعظم عند الله وأحب إليه من العمل في أيام عشر ذي الحجة فأيام اسم ما ومن زائدة وأعظم خبر لمبتدأ محذوف.
(2) انظر ص312 ج2 فتح الباري (فضل العمل في أيام التشريق).(1/452)
... وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام يعني أيام العشر. قالوا يا رسول الله: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء" أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود وابن ماجه والبيهقي والترمذي وقال حديث حسن غريب صحيح(1){114}
__________
(1) انظر ص166 ج6- الفتح الرباني وص 313 ج2 فتح الباري وص 196 ج10 المنهل العذب المورود (صوم العشر) وص 271 ج1- ابن ماجه وص 284 ج4 بيهقي وص 58 ج2 تحفة الأحوذي (العمل في أيام العشر) و (ما من أيام...) أي ليس أيام يكون العمل الصالح فيها أحب إلى الله من العمل في أيام عشر ذي الحجة ولعل وجه استبعادهم- كون الجهاد في هذه الأيام احب منه في غيرها- أن الجهاد في هذه الأيام يخل بالحج فينبغي أن يكون في غيرها أحب منها فيها وقوله صلى الله عليه وسلم إلا رجل أي جهاد رجل. بيان لفخامة جهاده وتعظيم له بأنه قد بلغ مبلغاً لا يكاد يتفاوت بشرف الزمان وعدمه.(1/453)
... والمعنى أن العمل الصالح في الأيام المذكورة يعطي الإنسان عليه أجراً عظيماً لا يعطاه عليه لو عمله في غيرها جهاداً كان أو غيره. فالعمل فيها أفضل من العمل في غيرها وتظهر فائدة الأفضلية فيمن نذر الصيام أو علق عملاً من الأعمال بأفضل الأيام. فلو أفرد يوماً منها تعين يوم عرفة؛ لأنه أفضل الأيام العشر المذكور على الصحيح، فإن أراد أفضل أيام الأسبوع تعين يوم الجمعة جمعاً بين هذه الأحاديث وحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قال: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة" (الحديث) أخرجه مالك وأحمد ومسلم والثلاثة(1){115}
... (قال) الداودي: لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأيام خير من يوم الجمعة، لأنه قد يكون فيها يوم الجمعة فيلزم تفضيل الشيء على نفسه (ورد) بأن المراد أن كل يوم من أيام العشر أفضل من غيره من أيام السنة سواء أكان يوم الجمعة أم لا. ويوم الجمعة فيها أفضل من يوم الجمعة من غيرها لاجتماع الفضيلتين فيه.(2)
... (7) صوم المحرم: يستحب صوم شهر الله المحرم (لحديث) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم" أخرجه أحمد ومسلم والأربعة والبيهقي والدارمي(3){116}
__________
(1) انظر ص5 ج6 الفتح الرباني وص 41 ج6 نووي (فضل يوم الجمعة) وص 180 ج6 المنهل العذب المورود وص 203 ج1 مجتبي وص 354 ج1 تحفة الأحوذي (الحديث) تقدم تاماً مبيناً بص 133 ج4 الدين الخالص (الجمعة).
(2) انظر ص314 ج2 فتح الباري (الشرح).
(3) انظر ص173 ج10- الفتح الرباني وص 54 ج8 نووي (فضل صوم المحرم) وص 1783 ج10- المنهل العذب المورود وص 53 ج2 تحفة الاحوذي وص 273 ج1- ابن ماجه (صيام شهر المحرم) وص 291 ج4 بيهقي. وص 21 ج2 دارمي. وأضيف المحرم إلى الله للتعظيم.(1/454)
وظاهره أن المراد صيام المحرم بتمامه. (ويؤيده) حديث النعمان بن سعد أن رجلاً قال لعلي رضي الله عنه يأمير المؤمنين. أي شهر تأمرني أن أصوم بعد رمضان؟ فقالت ما سمعت أحداً سأل عن هذا بعد رجل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي شهر تأمرني أن أصوم بعد رمضان؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن كنت صائماً شهراً بعد رمضان فصم المحرم فإنه شهر الله، وفيه يوم تاب فيه على قوم ويتوب فيه على قوم" أخرجه ابن احمد في زوائد المسند والدارمي والترمذي وقال حديث حسن غريب(1){117}
... دلت هذه الأحاديث على فضل شهر الله المحرم لإضافته إلى الله تعالى، وعلى أن صيامه أفضل من صيام سائر الشهور بعد رمضان، لأن فيه تاب الله على قوم ويتوب على قوم آخرين.
... (8) صوم عاشوراء: عاشوراء بالمد وقد يقصر معدول عن عاشر للمبالغة والتعظيم وهو في الأصل صفة لليلة العاشرة ثم صار علماً على اليوم العاشر من المحرم عند الجمهور (لحديث) عائشة رضي الله عنها: "إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصيام عاشوراء يوم العاشر" أخرجه البزار بسند رجاله رجال الصحيح(2){118}
__________
(1) انظر ص173 ج10- الفتح الرباني وص 21 ج2 دارمي وص 53 ج2 تحفة الأحوذي (صوم المحرم) و (تاب فيه على قوم) هم بنو إسرائيل وأنجاهم فيه من فرعون واغرقه والله اعلم بمن يتوب عليه فيه (ولا يقال) إذا كان صوم المحرم أفضل الصيام بعد رمضان فلم لم يكثر النبي صلى الله عليه وسلم الصيام فيه؟ (لأنا نقول) لعله صلى الله عليه وسلم لم يعلم فضل صوم المحرم إلا في آخر حياته أو أنه كان يعرض له فيه أعذار تمنع من صومه كسفر أو مرض.
(2) انظر ص189 ج3 مجمع الزوائد (الصوم قبل عاشوراء وبعده).(1/455)
... وعاشوراء يوم معظم في الجاهلية والإسلام (قال) ابن عباس: "لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء فسئلوا عن ذلك فقالوا: هو اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون ونحن نصومه تعظيماً له. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن أولى بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه" أخرجه الدارمي والسبعة إلا الترمذي(1){119}
... قدم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المدينة في ربيع الأول فأقام بها إلى عاشوراء من السنة الثانية فوجد اليهود يصومونه فصامه وأمر بصيامه لا تقليداً لهم بل لوحي نزل عليه، أو لأنهم اخبروا أن موسى كان يصومه فصامه شكراً لله على نجاة موسى من عدوه.
... وكانت قريش تصومه عملاً بما علموا من شريعة إبراهيم وإسماعيل وموسى عليهم الصلاة والسلام وكانوا يعظمونه بكسوة الكعبة فيه وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه قبل البعثة موافقة لهم وبعد البعثة وقبل الهجرة بوحي لأنه فعل خير. ولما هاجر إلى المدينة صامه وأمر الناس بصيامه استئلافاً لليهود. وكان صلى الله عليه وسلم في بدء الهجرة يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه (وكان) اليهود يعظمونه بالصوم وغيره كما قال أبو موسى الأشعري: "كان أهل خيبر يصومون عاشوراء يتخذونه عيداً ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فصوموه أنتم" أخرجه مسلم(2){120}
__________
(1) انظر ص22 ج2 دارمي وص 178 ج10- الفتح الرباني (فضل يوم عاشوراء) وص 176 ج4 فتح الباري وص9 ج8 نووي وص 204 ج10- المنهل العذب المورود وص 271 ج1- ابن ماجه و (نحن أولى...) أي نحن أحق منكم بمتابعة موسى عليه الصلاة والسلام.
(2) انظر ص10 ج8 نووي (صوم يوم عاشوراء) و (الحلي) بفتح فسكون جمعه حلي بضم الحاء وكسرها وكسر اللام وشد الياء و (الشارة) بالشين المعجمة بلا همز- الهيئة الحسنة والجمال أي يلبسونهن اللباس الحسن الجميل.(1/456)
... وللأمر بصيامه قال الحنفيون ومالك وبعض الشافعية: إن صيام يوم عاشوراء كان فرضاً ثم نسخ بفرض رمضان وصار صومه سنه وروي عن أحمد (ويؤيده) ما تقدم أن أسلم أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "صمتم يومكم هذا؟ قالوا لا. قال: فأتموا بقية يومكم واقضوه" أخرجه أبو داود، قال يعني يوم عاشوراء(1){121}
يعني أمسكوا عن المفطر بقية اليوم واقضوه بعد وهذا يدل على أن صيامه كان واجباً.
(والمشهور) عند الشافعية وأحمد: أن صوم عاشوراء سنة من حين شرع ولم يجب قط على هذه الأمة لكنه كان مؤكداً. ولما فرض رمضان صار مستحباً مستدلين (أ) بحديث بن معاوية بن أبي سفيان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه وأنا صائم فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر" أخرجه مالك وأحمد والشيخان(2){122}
... (ورد) بان معاوية أسلم عام الفتح سنة ثمان من الهجرة، فإن كان سمع هذا بعد إسلامه فإنما سمعه سنة تسع أو عشر وذلك بعد نسخه برمضان فمعنى لم يكتب لم يفرض بعد إيجاب رمضان جمعاً بينه وبين الأدلة الصريحة في وجوبها. وإن كان سمعه قبل إسلامه فالمراد لم يكتبه عليكم على الدوام كصيام رمضان (ب) وبحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يوم عاشوراء يوم كان يصومه أهل الجاهلية. فمن أحب أن يصومه فليصمه. ومن كره فليدعه" أخرجه أحمد ومسلم والبيهقي(3). {123}
__________
(1) تقدم رقم 323 ص351 (من صار أهلاً للصوم).
(2) تقدم رقم 38 ص358 (مبدأ فرض الصيام)
(3) انظر ص185 ج10- الفتح الرباني. وص 6 ج8 نووي (صوم يوم عاشوراء) وص 290 ج4 بيهقي.(1/457)
... (وأجيب) بان تخيير النبي صلى الله عليه وسلم بين صومه وعدمه لا يدل على أنه لم يكن واجباً ثم نسخ وجوبه (قال) الحافظ في الفتح: ويؤخذ من مجموع الأحاديث أنه كان واجباً لثبوت الأمر بصومه. ثم تأكد الأمر بذلك، ثم زيادة التأكيد بالغداء العام ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك ويقول ابن مسعود: لما فرض رمضان ترك عاشوراء(1)مع العلم بأنه ما ترك استحبابه بل هو باق. فدل على أن المتروك وجوبه. وأما قول بعضهم: المتروك تأكد استحبابه والباقي مطلق استحبابه فهو ضعيف بل تأكد استحبابه باقي لاستمرار اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم يصومه حتى في عام وفاته صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "لئن عشت لأصومن التاسع والعاشر" ولترغيبه في صومه وأنه يكفر سنة وأي تأكيد أبلغ من هذا؟(2)
... (9) الصوم قبل يوم عاشوراء وبعده: يستحب صوم التاسع من المحرم أو الحادي عشر أو هما مع عاشوراء (قال) ابن عباس رضي الله عنهما: "حين صام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمرنا بصيامه قالوا. يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى. فقال صلى الله عليه وسلم: "فإذا كان العام المقبل إن إن شاء الله صمنا اليوم التاسع" فلم يأت العام المقبل حتى توفى النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم" أخرجه مسلم وأبو داود والبيهقي(3){124}
__________
(1) ويقول ابن مسعود) يشير إلى ما قال علقمة: دخل الأشعث بن قيس على ابن مسعود وهو يأكل يوم عاشوراء فقال: يأبا عبد الرحمن إن اليوم يوم عاشوراء فقال: قد كان يصام قبل أن ينزل رمضان، فلما نزل رمضان ترك فإن كنت مفطراً فأطعم أخرجه مسلم (انظر ص8 ج8 نووي – صوم يوم عاشوراء).
(2) انظر ص176 ج4 فتح الباتري (الشرح)
(3) انظر ص12 ج8 نووي وص 205 ج10- المنهل العذب المورود (ما روي أن عاشوراء اليوم التاسع) وص 287 ج4 بيهقي.(1/458)
... وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لئن بنيت إلى قابل لأصومن اليوم التاسع" أخرجه أحمد ومسلم والبيهقي(1){125}
... يحتمل أن المعنى: إن عشت لأصومن التاسع بدل العاشر. والصحيح أن المعنى: إن عشت لأصومن التاسع والعاشر (ويؤيده) حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا يوم
عاشوراء وخالفوا فيه اليهود. وصوموا قبله يوماً أو بعده يوماً" أخرجه احمد والبزار والبيهقي بسند جيد(2){126}
أي صوموا معه يوماً آخر أو يومين مخالفة لليهود لأنهم يصومون عاشوراء فقط.
__________
(1) انظر ص189 ج10- الفتح الرباني وص 12 ج8 نووي وص 287 ج2 بيهقي.
(2) انظر ص189 ج10* الفتح الرباني وص 188 ج3 مجمع الزوائد (الصوم قبل يوم عاشوراء وبعده) وص 287 ج4 بيهقي وقد ذكر العلماء في حكمة استحباب صوم تاسوعاء أوجهاً : (أ) أن المراد منه مخالفة اليهود في الاقتصار على صوم العاشر (ب) أن المراد به وصل يوم عاشوراء بصوم للنهي عن إفراده بالصوم كما نهى عن إفراد الجمعة بالصوم (ج) الاحتياط في صوم العاشر خشية نقص الهلال ووقوع غلط فيكون التاسع في العدد هو العاشر في نفس الأمر انظر ص383 ج6 مجموع النووي.(1/459)
... (10) التوسعة في يوم عاشوراء: يوم عاشوراء موسم شرعي يستحب صيامه وإحياؤه بالطاعة والتوسعة على الأهل والأقارب والفقراء بلا تكلف ولا التزام (وقد) ورد في هذا أحاديث اجودها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وسع على نفسه وأهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته" أخرجه ابن عبد البر في الاستذكار والبيهقي في الشعب على شرط مسلم وهذا أصح طرقه(1){127}
... (11) بدع عاشوراء: قد أحدث الناس في هذا اليوم العظيم بدعاً منكرة وارتكبوا فهي أعمالاً مستقبحة (منها) صلاة أربعين ركعة بين الظهر والعصر على كيفية مخصوصة تقدم بيانها في الصلوات غير المشروعة وأنها موضوعة(2)(ومنها) ما قيل عن أبي هريرة رضي الله عنه: من صلى فيه أربع ركعات يقرأ في كل ركعة الحمد لله مرة وقل هو الله أحد إحدى وخمسين مرة غفر الله له ذنوب خمسين عاماً.
__________
(1) انظر ص284 ج2 كشف الخفاء. وفيه: قال السخاوي في المقاصد: رواه الطبراني والبيهقي عن ابن مسعود وعن أبي سعيد. ورواه البيهقي عن جابر وأبي هريرة. وقال إن أسانيده كلها ضعيفة ولكن إذا ضم بعضها إلى بعض استفاد قوة، بل قال العراقي في أماليه: لحديث أبي هريرة طرق صحح بعضها الحافظ بن ناصر الدين وتعقب ذكر ابن الجوزي له في الموضوعات وأورده ابن حبان في الثقات فالحديث حسن على رأيه.
(2) تقدم ص 161 ج6 الدين الخالص.(1/460)
... وهذا لم يثبت (ومنها) الاغتسال والاكتحال فيه وما قيل في الترغيب فيهما فيه لم يثبت (من ذلك) ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: من اكتحل بالإثمد يوم عاشوراء لم ترمد عينه أبداً. رواه الحاكم والبيهقي في شعبة والديلمي وقال الحاكم منكر. وقال في المقاصد: بل موضوع. وقال في اللاليء حديث منكر والاكتحال في هذا اليوم لا يصح فيه أثر فهو بدعة ابتدعها قتلة الحسين "رضي الله عنه" وقبحهم (قال) ابن رجب في الطائف المعارف: كل ما روي في فضل الاكتحال والاختصاب والاغتسال يوم عاشوراء موضوع لم يصح(1)(ومنها) ما قبل عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: من اغتسل وتطهر في يوم عاشوراء لم يمرض في سنته إلا مرض الموت. وضعه أيضاً قتلة الحسين (ومن البدع المذمومة) البخور الذي يسير به بعض العاطلين في الأزقة والحارات بمصر وغيرها في شهر المحرم ويسمونه بخور العشر وهو ملح ونحوه يصبغونه ألواناً ويرقى حاملوه الأطفال بكلمات ساقطة يقولونها بمحضر أمهاتهم يزعمون أن هذه الرقية وقاية لهم من العين وكل مكروه إلى السنة القابلة وتدخره النساء جميع العام ويزعمون أن المسحور إذا تبخر به بريء من السحر، وأنه ينفع من النظرة وهو من خرافاتهن (ومن البدع) أيضاً طبخ الحبوب في يوم عاشوراء زاعمين أن لذلك مزية في هذا اليوم وأن له أجراً عزيماً لمن يفعله ويطعم الفقراء والمساكين.
__________
(1) انظر ص234 ج2 كشف الخفاء.(1/461)
وهذا أمر يحتاج إلى توقيف من المشرع صلى الله عليه وسلم ولم يثبت فهو بدعة وضلالة (ومنها) الشحذ على الأطفال في هذا اليوم باسم زكاة العشر رجاء أن يعيشوا وبعض أرباب الأموال يزعم ان ذلك يكفي عن زكاة ماله وهو وهم وجهل (ومنها) طواف البنات في شوارع مصر بأطباق الحلوى منادين بقولهن (ياسي على لوز) فهذا ضلال وعار وشنار تأباه المروءة والغيرة فإنهن يخرجن متبرجات متهتكات خليعات كالعاهرات يداعبهن الكهول والشبان وفي هذا من الفتنة والفساد ما تئن له الفضيلة.(1/462)
... (وما قيل) من أنه يطلب في هذا اليوم بعد الاغتسال زيارة العالم وعيادة المريض ومسح رأس اليتيم وتقليم الأظفار وقراءة سورة الإخلاص ألف مرة وصلة الرحم (ليس له أصل) يدل على زيادة فضل لهذه الأمور في خصوص هذا اليوم بل هذه الخصال كلها مطلوبة شرعاً في أي وقت كان. أما تخصيصها بهذا اليوم فهو بدعة (قال) ابن الحاج: يوم عاشوراء موسم شرعي والتوسعة فيه على الأهل واليتامى والمساكين والصدقة مندوب إليها بلا تكلف وأن لا يصير ذلك سنة يسنن بها لابد من فعلها. فإن وصل إلى هذا الحد كره سيما إذا كان الفاعل ممن يقتدي به ولم يكن السلف يعتادون فيه طعاماً مخصوصاً بل كان بعضهم يترك التوسعة فيه قصداً للتنبيه على أنها غير واجبة. أما ما يفهمه الناس اليوم من أن عاشوراء يختص بذبح الدجاج وغيره وطبخ الحبوب وغيرها، فلم يكن السلف يفعلون ذلك في هذه المواسم ولا يعرفون تعظيمها إلا بكثرة العبادة والصدقة والخير لا بالتوسعة في المأكول (ومن) البدع المحدثة فيه تخصصه بزيارة القبور للرجال والنساء (ومنها) استعمال الحناء للنساء في هذا اليوم بزعم أنه من حق عاشوراء وتمامه فيه(1)(ومن) المختلق ما قيل إن آدم تاب الله عليه يوم عاشوراء، وإبراهيم نجاه من النار، وأيوب عافاه الله يومه، ويونس أخرجه الله من بطن الحوت يومه، ويعقوب اجتمع بيوسف يومه عليهم الصلاة والسلام.
... (12) صوم يوم الاثنين والخميس: يستحب صومهما (لقول) عائشة رضي الله عنها: "كان النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يتحرى صيام الاثنين والخميس" أخرجه احمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان وصححه والترمذي وقال: حسن صحيح(2){128}
__________
(1) ص289 ج2 المدخل (يوم عاشوراء).
(2) انظر ص228 ج10- الفتح الرباني (صيام الاثنين والخميس). وص 322 ج1 مجتبي (صوم النبي صلى الله عليه وسلم). وص 272 ج1 ابن ماجه. وص 55 ج2 تحفة الاحوذي.(1/463)
... (وعن) أبي هريرة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يصوم الاثنين والخميس فقيل له، فقال: إن الأعمال تعرض كل اثنين وخميس فيغفر الله لكل مسلم أو لكل مؤمن إلا المتهاجرين فيقول: أخرهما" أخرجه أحمد وابن ماجه بسند صحيح(1){129}
... (13) صوم ثلاثة أيام من كل شهر: يستحب صيام ثلاثة أيام من كل شهر فإنه كصيام السنة (لحديث) أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام ثلاثة أيام من كل شهر فقد صام الدهر كله" أخرجه احمد وابن حبان وابن خزيمة، وكذا النسائي وابن ماجه والترمذي وزادوا: فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" اليوم بعشرة، وحسنه الترمذي(2){130}
__________
(1) انظر ص227 ج10- الفتح الرباني. وص 272 ج1- ابن ماجه. و (إلا المتهاجرين) من الهجر وهو ضد الوصل والمراد هنا العداوة والبغضاء وعند ابن ماجه إلا متهجرين أي متقاطعين لأمر لا يقتضي ذلك. وإلا فالتقاطع للدين ولتأديب الأهل جائز. وفي رواية لمسلم: إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا. انظر هذين حتى يصطلحا. انظروا هذين حتى يصطلحا. كررها للتأكيد. وكأنه خطاب للملائكة. وقوله في حديث الباب: اخرهما كأنه خطاب لرئيس الملائكة أي لا تعرض عملهما حتى يصطلحا (ولفظ) الحديث عند مسلم: عن أبي هريرة مرفوعاً: تعرض الأعمال في كل يوم خميس واثنين فيغفر الله عز وجل في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئاً إلا أمراً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال اركوا (بهمزة وصل أي أخروا) هذين حتى يصطلحا. اركوا هذين حتى يصطلحا (انظر ص122 ج16 نووي- النهي عن الشحناء).
(2) انظر ص210 ج10- الفتح الرباني وص 327 ج1 مجتبي وص 60 ج2 تحفة الأحوذي (صوم ثلاثة من كل شهر). وص 268 ج1- ابن ماجه.(1/464)
... (وعن) قرة بن إياس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر وإفطاره" أخرجه احمد والبزار والطبراني في الكبير بسند رجاله رجال الصحيح(1){131}
... (وقال) أبو هريرة رضي الله عنه: "أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام" أخرجه البخاري والنسائي والبيهقي والترمذي(2){132}
... (دلت) هذه الأحاديث على استحباب صيام ثلاثة أيام غير معينة من كل شهر. ويؤيده حديث معاذة عن عائشة أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر. قالت: فقلت من أيه كان يصوم؟ فقالت: لم يكن يبالي من أيه كان يصوم" أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه والبيهقي والترمذي وقال: حديث حسن صحيح(3){133}
... (14) صوم أيام البيض: هي أيام الليالي المقمرة طول الليل (وقد) جاءت مفسرة في حديث قتادة بن ملحان قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نصوم البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة وقال: هي كصوم الدهر" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والبيهقي(4){134}
__________
(1) انظر ص210 ج10- الفتح الرباني (صوم ثلاثة أيام غير معينة من كل شهر) وص 196 ج3 مجمع الزوائد.
(2) انظر ص163 ج4- تفح الباري (صيام البيض). وص 327 ج1 مجتبي (صوم ثلاثة أيام من كل شهر). وص 392 ج4- بيهقي. وص 59 ج2- تحفة الأحوذي.
(3) انظر ص212 ج10- الفتح الرباني. وص 48 ج8- نووي (صيام ثلاثة أيام). وص 213 و 214 ج10- المنهل العذب المورود (من قال لا يبالي من أي الشهر).
(4) انظر ص216 ج10- الفتح الرباني (صوم أيام البيض) وص210 و 211 ج10 المنهل العذب المورود (صوم الثلاث من كل شهر). وص 329 ج1 مجتبي. وص 268 ج1-(1/465)
... (وقال) أبو ذر: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام البيض: ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة" أخرجه النسائي وصححه ابن حبان(1){135}
... والأحاديث في هذا كثيرة وهي تدل على استحباب صوم أيام البيض وأنها الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من الشهر. وبه قال الحنفيون وأحمد وجمهور الشافعية وابن حبيب المالكي (وقالت) المالكية: يستحب صوم ثلاثة أيام من كل شهر ويكره تخصيصها بالبيض، وأحاديث الباب حجة عليهم (قال) ابن رشد: إنما كره مالك تحرى صومها مع ما جاء فيها من الأثر مخافة أن يظن الجاهل وجوبها(2)، وقد روي أن مالكاً رحمه الله كان يصومها وحض الرشيد على صيامها.
... (15) صيام ثلاثة أيام متفرقة: يستحب صيام ثلاثة أيام من كل شهر موزعة بين الاثنين والخميس وأحدهما مكرر، أو يصوم من كل عشرة أيام يوماً (لقول) حفصة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من الشهر: الاثنين والخميس والاثنين من الجمعة الأخرى" اخرجه احمد وأبو داود والنسائي والبيهقي(3).{136}
(وقال) ابن عمر رضي الله عنهما: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر: الخميس من أول الشهر والاثنين الذي يليه والاثنين الذي يليه" أخرجه احمد بسند جيد. وكذا النسائي بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر: يوم الاثنين من أول الشهر والخميس الذي يليه ثم الخميس الذي يليه(4){137}
__________
(1) انظر ص328 و 329 ج1 مجتبي (كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر؟)
(2) انظر ص216 ج1 بداية المجتهد (الصيام المندوب إليه).
(3) انظر ص218 ج10 الفتح الرباني (صوم ثلاثة أيام معينة من كل شهر) وص 212 ج10- المنهل العذب المورود (من قال الاثنين والخميس) وص 322 ج1 مجتبي (صوم النبي صلى الله عليه وسلم) وص 294 ج4 بيهقي.
(4) انظر ص218 ج10 الفتح الرباني وص 328 ج1 مجتبي 0كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر).(1/466)
... (وقالت) أم سلمة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر أولها الاثنين والخميس والخميس" أخرجه أبو داود والبيهقي. وكذا النسائي بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بصيام ثلاثة أيام: أول خميس والاثنين والاثنين(1){138}
... هذه الرواية فيها انه صلى الله عليه وسلم أمر بتكرير يوم الاثنين، والتي قبلها فيها أنه أمر بتكرير الخميس. وقد سبق بفعله صلى الله عليه وسلم أنه كرر كلاً منهما. فدل المجموع على المطلوب إيقاع صيام الثلاثة في هذين اليومين إما بتكرار الخميس وإما بتكرار يوم الاثنين.
... (وعن) أبي الدرداء أنه كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام اليوم الأول ويوم العاشر ويوم العشرين ويقول: هو صيام الدهر كل حسنة بعشر أمثالها.
... (16) صيام ثلاثة أيام معينة: يستحب صيام ثلاثة أيام معينة من كل شهر من أوله، أو السبت والأحد والاثنين من أول الشهر، ثم الثلاثاء والأربعاء والخميس من أول الشهر الذي بعده، أو الاثنين من أوله ثم الخميس والجمعة، أو ثلاثة من آخره (لحديث) ابن مسعود رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من غرة كل هلال وقاما يفطر يوم الجمعة" أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه والبيهقي والترمذي وقال: حسن غريب(2){139}
... (وعن) سفيان عن منصور عن خيثمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس" أخرجه الترمذي وحسنه، وقال: وروي عبد الرحمن بن مهدي هذا الحديث عن سفيان ولم يرفعه(3){140}
__________
(1) انظر ص213 ج10- المنهل العذب المورود (من قال الاثنين والخميس). وص 295 ج4 بيهقي. وص 328 ج1 مجتبي.
(2) تقدم رقم 80 ص391 (صوم يوم الجمعة)
(3) انظر ص55 ج2 تحفة الاحوذي (صوم الاثنين والخميس).(1/467)
... قال الحافظ في الفتح وهو أشبه(1): وإنما فعل هذا النبي صلى الله عليه وسلم مراعاة للعدالة بين الأيام، وقد ذكر الجمعة في الحديث السابق، وإنما لم يصم النبي صلى الله عليه وسلم الستة متوالية كي لا يشق على الأمة الاقتداء به رحمة لهم وشفقة عليهم.
... قال الروباني: صيام ثلاثة أيام من كل شهر مستحب، فإن اتفقت أيام البيض كان أحب (وقال) غير واحد من العلماء: إن استحباب صيام البيض غير استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر(2)وهذا هو الأولى. وحمل المطلق من الأحاديث على المقيد منها لا حاجة إليه فإن الباب باب تطوع وهو واسع.
... (17) صوم داود عليه السلام: وهو صوم يوم وإفطار يوم وهو احب الصوم وأفضله؛ لأنه أشق على النفس، فإنه لا يعتاد الصيام ولا الفطر، وفاعله يمكنه أن يؤدي حق نفسه وأهله وزائره أيام فطره بخلاف من يتابع الصوم فإنه لا يمكنه القيام بهذه الحقوق.
... (قال) عبد الله بن عمرو: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، واحب الصلاة إلى الله صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه" أخرجه الدارمي والبيهقي والسبعة إلا الترمذي، وهذا لفظ البخاري(3){141}
__________
(1) انظر ص162 ج4- فتح الباري (صيام البيض).
(2) انظر ص163 ج4 – فتح الباري.
(3) انظر ص229 ج10- الفتح الرباني. وص 290 ج6 فتح الباري (أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود) وص 46 ج8 نووي (صوم يوم وإفطار يوم) وص 209 ج10- المنهل العذب المورود وص 221 ج1 مجتبي (صوم نبي الله داود) و(أحب الصلاة إلى الله..) أي أفضل صلاة التطوع ليلاً صلاة داود.(1/468)
... (وعن) ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الصيام صيام داود عليه السلام، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً" أخرجه البخاري والنسائي وهذا لفظه(1){142}
... (والأحاديث) في هذا كثيرة وهي صريحة في أنه ليس في صيام التطوع أفضل من صيام يوم وفطر يوم، فهو أفضل من صيام يومين وإفطار يوم ومن صيام الدهر سوى الأيام المنهي عن صيامها.
... (18) صوم رجب: لم يثبت من طريق صحيح في صوم رجب نهي ولا ندب إلا: (أ) ما ورد في الترغيب في صوم الأشهر الحرم وهو منها. (ب) وما ورد في صوم الاثنين والخميس وثلاثة أيام من كل شهر وصوم أيام البيض وصوم داود، وتقدم كل هذا. (ج) وما ورد في مطلق التطوع (كحديث) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "من صام يوماً في سبيل الله زحزح الله وجهه عن النار بذلك سبعين خريفاً" أخرجه احمد والنسائي وابن ماجه(2){143}
__________
(1) انظر ص76 ج9 – فتح الباري ج9 – فتح الباري (في كم يقرأ القرآن؟) وص 324 ج1 مجتبي (صوم يوم وإفطار يوم).
(2) انظر ص163 ج10- الفتح الرباني (صوم التطوع في السفر) وص 313 ج1 مجتبي (من صام يوماً في سبيل الله) وص 270 ج1- ابن ماجه وتقدم نحوه عن أبي سعيد رقم 4 ص319 (فضل الصيام).(1/469)
... والمراد من سبيل الله الجهاد. وقيل: طاعة الله تعالى. والمراد من صام قاصداً وجه الله، والأول أقرب ولا يعارض ذلك أن الفطر في الجهاد أولى لأن الصيام يضعفه عن اللقاء لأن أفضل الصوم حينئذ محمول على من لم يخش ضعفاً، ولاسيما من اعتاده فمن لم يضعفه الصوم عن الجهاد، فالصوم في حقه أفضل ليجمع بين الفضيلتين (وقال) عثمان بن حكيم: سألت سعيد بن جبير عن صوم رجب كيف أترى؟ قال: حدثني ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم" أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود(1){144}
... والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صام التطوع تابع الصيام حتى تظن أنه لا يفطر، وإذا أفطر تابع الإفطار حتى نظن أنه لا يصوم. وهذه كانت حالته صلى الله عليه وسلم في رجب وغيره، لكن الحديث يؤخذ منه أن هذه الحالة برجب فيفيد فضل الإكثار من الصوم فيه، والأولى إبقاء الحديث على عمومه وأن رجباً كغيره من الشهور. ويؤيده (حديث) سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "ما صام النبي صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً قط غير رمضان ويصوم حتى يقول القائل لا والله لا يفطر ويفطر حتى يقول القائل لا والله لا يصوم" أخرجه البخاري(2){145}
__________
(1) انظر ص193 ج10- الفتح الرباني (الصوم في رجب) وص 38 نووي (صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان) وص 184 ج10- المنهل العذب المورود (صوم رجب).
(2) انظر ص155 ج4 فتح الباري (صوم النبي صلى الله عليه وسلم وإفطاره).(1/470)
فالظاهر أن مراد سعيد بن جبير بهذا الاستدلال انه لا نهي عنه ولا ندب فيه لعينه بل له حكم باقي الشهور ولم يثب في صوم رجب نهي ولا ندب لعينه ولكن أصل الصوم مندوب إليه(1). "وأما حديث" ابن عباس: "أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم نهى عن صوم رجب" أخرجه ابن ماجه(2){146}
__________
(1) انظر ص38 ج8 نووي مسلم.
(2) انظر ص173 ج1- ابن ماجه (صيام الأشهر الحرام).(1/471)
... "فضعيف" لأن فيه داود بن عطاء متفق على ضعفه وزيد بن عبد الحميد متكلم فيه، وعلى تقدير صحته فهو محمول على صوم رجب كله وإفراده بالصوم. ولذا قال أحمد: يكره صوم جميعه منفرداً، فإن صام السنة كلها ما عدا يومي العيد وأيام التشريق فلا بأس بصيام جميعه (وقد) ورد في صيام رجب والعبادة فيه أحاديث منها الباطل ومنها الضعيف ذكر بعضها- للتنبيه وعدم الاغترار بها- في المنهل العذب المورود(1)(ولذا) حكى ابن السبكي عن محمد بن منصور السمعاني أنه قال: لم يرد في استحباب صوم رجب على الخصوص سنة ثابتة، والأحاديث التي تروي فيه واهية لا يفرح بها عالم (قال) حرشة بن الحر: رأيت عمر بن الخطاب يضرب أكف الرجال في صوم رجب حتى يضعوها في الطعام ويقول: رجب وما رجب؟ إنما رجب يعظمه أهل الجاهلية فلما جاء الإسلام ترك. أخرجه الطبراني في الأوسط وفيه الحسن بن جبلة. قال الهيثمي: لم أجد من ذكره، وبقية رجاله ثقات(2). (وقال) ابن حجر في تبيين العجب بما ورد في فصل رجب: لم يرد في فضله ولا في صيامه ولا في صيام شيء منه معين ولا في قيام ليلة مخصوصة منه حديث صحيح يصلح للحجة (وقال) أبو شامة: وقد رويت كراهة صومه عن جماعة من الصحابة منهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
__________
(1) انظر ص186 ج10 (صوم رجب).
(2) انظر ص191 ج3- مجمع الزوائد (صيام رجب) وأخرجه سعيد بن منصور بسند مجمع على عدالة رجاله.(1/472)
وكان عمر يضرب بالدرة صوامه، ثم قال: وعن أبي بكر رضي الله عنه أنه دخل على أهله وقد أعدوا لرجب، فقال: ما هذا؟ فقالوا: لرجب نصومه، فقال: أجعلتم رجباً كرمضان قال الطرطوشي: يكره صيام رجب لأنه إذا خصه المسلمون بالصوم في كل عام حسب العوام- ومن لا معرفة له بالشريعة مع ظهور صيامه- أنه فرض كرمضان أو أنه سنة ثابتة خصه رسول الله صلى الله عليه وسلم صيامه- أنه فرض كرمضان أو انه سنة ثابتة خصه رسول الله صلى الله عليه وسلم كالسنن الراتبة أو أن الصوم فيه مخصوص بفضل ثواب على سائر الشهور جار مجرى صوم عاشوراء، فيكون من باب الفضائل لا من باب السنن والفرائض ولو كان من باب الفضائل لسنة النبي صلى الله عليه وسلم أو فعله مرة في العمر كما فعل في يوم عاشوراء ولما لم يفعل بطل كونه مخصوصاً بالفضيلة وليس هو فرضاً ولا سنة باتفاق فلم يبق لتخصيصه للصيام وجه، فكره صومه والدوام عليه حذراً من أن يلتحق بالفرائض والسنن الراتبة عند العوام، فإن احب امرؤ أن يصومه على وجه تؤمن فيه الذريعة وانتشار الأمر حتى لا يعد فرضاً أو سنة فلا بأس بذلك(1)
__________
(1) انظر ص42 و 43- الباعث على إنكار البدع والحوادث (والدرة) – كسدرة- السوط.(1/473)
... (19) بدع رجب: قد أحدث الناس في هذا الشهر الحرام أموراً شنيعة وبدعاً ذميمة (منها) زيارة النساء المقابر في الجمعة الأولى منه وغيرها مما يعد عنهم موسماً، وهي من البدع المقبوحة والعادة المستنكرة وأي بدعة أكبر قبحاً وأعظم وزراً من بدعة جمعت مفاسد عديدة وشروراً كثيرة من انتهاك الحرمات وابتذال الأعراض وإضاعة الأموال وإيذاء الموتى وتهتك النساء واختلاطهن بالرجال مع فساد الأخلاق وانتشار الفساد وإحياء عادة الجاهلية من الندب والنياحة وشق الجيوب ولطم الخدود وصبع الوجوه والأيدي بالسواد ولا يخشين الوعيد، فيما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من شق الجيوب، ولطم الخدود، ودعا بدعوى الجاهلية" أخرجه السبعة إلا أبا داود، وقال الترمذي: حسن صحيح(1){147}
__________
(1) تقدم رقم 376 ص211 ج7- الدين الخالص (النياحة والندب).(1/474)
... يحل الموسم بزعمهم- رجب أو غيره- فتصير النساء لا هم لهن إلا ما يعدونه للخروج إلى المقابر من ألوان الطعام وأنواع الفواكه وطاقات الأزهار. فالغني ينفق ذو سعة، والفقير يضيع ما تحتاج إليه عياله وقد يقترض لذلك بفوائد أو يرهن متاع بيته عند المرابين، ويكثر النزاع بين المرء وزوجه وقد يؤدي إلى الفراق أو دوام الخصام والشقاق، وإذا خرجن إلى المقابر رفعت الساء أصواتهن بالبكاء، وأظهرن الحزن والجزع، وتكلمن بكلمات كفرية فيها السخط على القدر والاعتراض على الله تعالى في حكمه وقضائه ، وبعد قليل توضع الموائد فوق المقابر وعلى رؤوس الموتى ، ومنها يأكلون كما تأكل الأنعام ناسين الموت وسكراته ، وغافلين عن الموتى وما هم فيه من ظلمة ووحشة ، فإذا أكلوا انتشروا في الصحراء يتزاورون كأنهم في منازل الأحياء لا في مقابر الأموات وأماكن الخشية والاعتبار . ذلك هو الضلال البعيد ، كيف لا وهذا لا يرضى الرب ولا به ترحم الموتى ، بل الأمر بالعكس، ولم يأت في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أول جمعة من رجب أو أي موسم جعل لزيارة القبور، ولم يثبت أن أحداً من الصحابة أو أئمة السلف كان يخرج هو ونساؤه في هذه المواسم لزيارة الموتى. وكذا حمل الأطعمة إلى المقابر لم يعرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من السلف الصالح، بل هو مناف للعبرة والاتعاظ مبطل لثواب الصدقة لما فيه من الرياء ، ولو تصدقوا في البيوت سراً على المحتاجين لكان أرجى للقبول ، وأقرب إلى الوصول ولكفوا حملها وحمل أوزارها ( وقال ) ابن عباس : " لعن النبي صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج " أخرجه احمد والأربعة وحسنه الترمذي(1). {148}
__________
(1) تقدم رقم 13 ص9 (التحذير من إيقاد السرج على القبور).(1/475)
... أي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على من ذكر بالطرد عن رحمة الله تعالى، أما الزائرات فلما يكون منهن حال الزيارة من التبرج والجزع ولطم الخدود والندب والنياحة والتسخط وعدم الرضا بالقضاء والقدر. وأما المتخذون عليها المساجد فلما يكون منهم من تعظيم القبور والتشبه بعباد الأوثان. وأما المتخذون عليها السرج فلما فيه من تضييع المال بلا منفعة والمبالغة في تعظيم القبور.
... (ومن بدع رجب) صلوات غير مشروعة في أول ليلة من رجب وليلة الجمعة الأولى منه (صلاة الرغائب) وليلة النصف منه. وتقدم- في بحث الصلوات غير المشروعة- بيانها وأن ما ورد منها موضوع(1)(ومنها) ما قيل عن ابن عباس: من صلى ليلة سبع وعشرين من رجب اثنتى عشرة ركعة يقرأ في كل ركعة منها فاتحة الكتاب وسورة فإذا فرغ من صلاته قرأ فاتحة الكتاب سبع مرات وهو جالس ثم قال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم أربع مرات ثم أصبح صائماً حط الله عنه ذنوب ستين سنة وهي الليلة التي بعث فيها محمد صلى الله عليه وسلم.
... (قال) العجلوني: وكذلك صلاة عاشوراء وصلاة الرغائب موضوع بالاتفاق وكذلك صلاة ليالي رجب وليلة السابع والعشرين منه(2)(ومن الموضوع) ما قيل عن أبي هريرة رضي الله عنه: من صام السابع والعشرين من رجب كتب الله له صيام ستين شهراً. قال أبو الخطاب: وهذا حديث لا يصح(3).
__________
(1) انظر ص163 ج6 – الدين الخالص.
(2) انظر ص410 ج2 كشف الخفاء.
(3) انظر ص64 الباعث على إنكار البدع والحوادث.(1/476)
... (ومن الموضوع) ما روي حصين بن مخارق بسنده إلى الحسين رضي الله عنه مرفوعاً: من أحيا ليلة من رجب وصام يوماً أطعمه الله من ثمار الجنة وكساه من حلل الجنة وسقاه من الرحيق المختوم إلا من فعل ثلاثاً: من قتل نفساً، أو سمع مستغيثاً بليل أو نهار فلم يغثه، أو شكاً إليه أخوه حاجة فلم يفرج عنه. (قال) السيوطي: موضوع آفته حصين(1)(ومن البدع) الاجتماع في المساجد وزيادة الغور فيها وعلى المآذن واختلاط الرجال والنساء احتفالاً بالإسراء ليلة السابع والعشرين من رجب مع القراءة والذكر بالتحريف والتلحين في أسماء الله تعالى وغير ذلك من المنكرات والمفاسد على ما تقدم بيانه في بحث المواسم غير المشروعة(2).
... (20) صوم شعبان(3): يستحب صومه كله أو جله (لحديث) أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم من السنة شهراً تاماً إلا شعبان يصله برمضان" أخرجه أبو داود والنسائي(4){149}
__________
(1) انظر ص66 ج2 اللآلئ المصنوعة.
(2) انظر ص143 ج5 الدين الخالص.
(3) "شعبان" من الشعب- بفتح فسكون – وهو الجمع والتفريق سمي بذلك لأنه تشعب فيه خير كثير.
(4) انظر ص55 ج10- المنهل العذب المورود (من يصل شعبان برمضان) وص 321 ج1 مجتبي (صوم النبي صلى الله عليه وسلم).(1/477)
... أي لم يكن يصوم تطوعاً شهراً كاملاً إلا شعبان فكان يصومه في بعض الأحيان. (وقالت) عائشة رضي الله عنها: "كان أحب الشهور إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصومه شعبان ثم يصله برمضان" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين(1){150}
... أي كان صوم شعبان أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من صوم غيره من بقية الشهور التي كان يتطوع فيها بالصيام ، وكان يصل صيامه بصيام رمضان . ويحتمل أن المعنى : أنه كان يصوم في آخر شعبان حتى يقرب أن يصله برمضان.
... (وقالت) عائشة رضي الله عنها : "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من شهر من السنة أكثر من صيامه في شعبان ، كان يصومه كله" أخرجه أحمد والشيخان(2){151}
__________
(1) انظر ص200 ج10- الفتح الرباني (صيام النبي صلى الله عليه وسلم) وص 188 ج10- المنهل العذب المورود (صوم شعبان) وص 321 ج1 مجتبي. وص 292 ج4 بيهقي. وص 434 ج1 مستدرك. و(أحب) خبر كان وشعبان بالرفع اسمها على تقدير مضاف أي صوم شعبان أحب (وأن يصومه)- أن- أولت يصوم بمصدر هو دليل المضاف المقدر. وهذا لا ينافي حديث أبي هريرة مرفوعاً: لا تقدموا صوم رمضان بيوم ولا يومين (الحديث) تقدم رقم 69 ص384 (يوم الشك) لأن النهي عن التقدم محمول على من لم يصم شعبان كله أو معظمه بل يصوم اليوم أو اليومين قبل رمضان احتياطاً.
(2) انظر ص200 ج10- الفتح الرباني (صيام النبي صلى الله عليه وسلم) وص 153 ج4 فتح الباري (صيام شعبان) وص 38 ج8 نووي.(1/478)
... والمعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم في شعبان وفي غيره من الشهور سوى رمضان، وكان صيامه في شعبان أكثر من صيامه فيما سواه . ويجمع بين هذه الأحاديث بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان كله تارة ويصوم معظمه أخرى، لئلا يتوهم أنه واجب كرمضان(وقيل) المراد بقولها:كله-أنه كان يصوم من أوله تارة ومن آخره أخرى ومن أثنائه طوراً،فلا يخلي شيئاً منه من صيام ولا يخص بعضه بصيام دون بعض(1).
... (وحكمه) إكثاره صلى الله عليه وسلم من صوم شعبان ما دل عليه حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: "ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم" أخرجه أحمد والنسائي وابن خزيمة وصححه(2)وابن ماجه وابن حبان(3){153}
__________
(1) انظر ص153 و 154 ج4 فتح الباري.
(2) انظر ص203 ج10- الفتح الرباني (صيام النبي صلى الله عليه وسلم) وص 322 ج1 مجتبي (ويغفل الناس عنه..) ظاهره أنهم كانوا يصومون في رجب لأن ظاهر الغفلة عن شعبان أي عن تعظيمه بالصوم كما يعظمون رمضان ورجبا به. ولم ينههم النبي صلى الله عليه وسلم عن الصوم في رجب وهو يفيد جواز صيامه لا أنه سنة متبعة (فأحب أن يرفع عملي....) طلباً لزيادة رفع الدرجة. ولا ينافي هذا عرض الأعمال كل اثنين وخميس كما تقدم برقم 129 ص419 (صوم الاثنين والخميس) لجواز رفع أعمال الأسبوع مفصلة في هذين اليومين ورفع أعمال العام مجملة في شعبان.
(3) انظر ص217 ج1- ابن ماجه (ما جاء في ليلة النصف من شعبان).(1/479)
... فهو ضعيف جداً قال الإمام البوصيري في الزوائد: إسناده ضعيف لضعف بن أبي سبرة واسمه أبو بكر بن عبد الله بن محمد قال فيه أحمد بن حنبل وابن معين: يضع الحديث(1)وقال النسائي متروك وقال الذهبي في الميزان: ضعفه البخاري وغيره وإبراهيم بن محمد ضعفه الجمهور (وما نسب) إلى علي رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة النصف من شعبان قام فصلى أربع عشرة ركعة ثم قال: فإن أصبح في ذلك اليوم صائماً كان له كصيام ستين سنة ماضية وصيام ستين سنة مستقبلة (قال) ابن الجوزي: موضوع وإسناده مظلم(2)(وكذا) يكره اتخاذه موسماً تصنع فيه الأطعمة والحلوى وتظهر فيه الزينة وتقدم أنه من المواسم المحدثة المبتدعة التي لا أصل لها: وما قيل من قسم الأرزاق فيها لم يثبت (وقد) ابتدع فيها صلاة تسمى صلاة الرغائب وصلاة البراءة (قال) أبو الخطاب ابن دحية: أحاديث صلاة البراءة موضوعة. ومن عمل بخبر صح أنه كذب فهو من خدم الشيطان. وتقدم الكلام وافياً في ذلك وفيما أحدث ليلة نصف شعبان في بدع المساجد(3)وفي الصلوات غير المشروعة(4)وأن المراد من ليلة مباركة في قوله تعالى: "إنا أنزلناه في ليلة مباركةٍ إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم" عند الجمهور هي ليلة القدر لا ليلة نصف شعبان.
__________
(1) انظر ص217 ج1- ابن ماجه (ما جاء في ليلة النصف من شعبان).
(2) تقدم تاماً ص243 ج3 هامش الدين الخالص.
(3) انظر ص346 منه.
(4) انظر ص164 ج6 منه.(1/480)
... (ومن) البدع التي جرت إلى جملة من المحرمات وشاعت في غالب المساجد التي لم يقف ذو الشأن فيها عند الحدود الشرعية، اجتماع كثير من الناس صغاراً وكباراً ذكوراً ونساء داخل المسجد بعد صلاة المغرب من ليلة النصف من شعبان ويقرأ عليهم إمام المسجد أو من يقوم مقامه الدعاء المعروف الذي لم يثبت عن أحد ممن يقتدي بهم (ومما يؤلم) القلب ويحزن الفؤاد أن الأئمة العلماء الرسميين يلقنون هذا الدعاء للعوام فيرددونه وراءهم بأصوات مرتفعة وقد ضاق المسجد بمن فيه، لأن العوام لا يتخلف منهم أحد في هذه الليلة إلا النادر، لاعتقادهم أن قراءة هذا الدعاء سبب في طول العمر وتوسيع الرزق والغني عن الناس مع ما فيه من مخالفة كتاب الله تعالى وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم كما تقدم والتخليط في قراءة سورة يس بعد الدعاء والتهويش الذي يعم القريب والبعيد ولاسيما من كان يتعبد داخل المسجد ومن المعلوم أن التشويش ولو على نائم خارج المسجد حرام بإجماع المسلمين فما الظن بوقوعه في مساجد الله تعالى والتشويش به على المتعبدين بدعاء ما أنزل الله به من سلطان فإنا لله وإنا إليه راجعون ومن المعلوم أن الدعاء في حد ذاته مشروع لكن بشرط أن يكون جارياً على الحدود الشرعية غير متعديها والله لا يحب المعتدين نسأله تعالى أن يوفقنا جميعاً لما يرضيه(1).
__________
(1) انظر تمامه ص 348 ج3 الدين الخالص.(1/481)
... (22) صوم الشتاء: الشتاء ليلة طويل ونهاره قصير. وهذه فرصة على العاقل اغتنامها لقيام الليل وصيام النهار. فلطول الليل يمكن أن تأخذ النفس حظها من النوم ثم يقوم للتهجد والأوراد بنشاط فيجتمع له فيه نومه وراحة بدنه وإدراك وظائف العبادات. ولقصر نهاره يتسنى له صيامه، لأنه لا حر فيه ولا عطش ولا تعب ولا ملل (روي) أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الشتاء ربيع المؤمن، أخرجه احمد وأبو يعلي بسند حسن(1){154}
(وعن) عامر بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة، أخرجه احمد والبيهقي والترمذي وقال حديث مرسل: عامر بن مسعود لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم(2){155}
لكن قال أحمد: أرى له صحبة. وعده ابن حبان وابن منده وابن عبد البر من الصحابة.
... (وعن) ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مرحباً بالشتاء فيه تنزل الرحمة أما ليله فطويل للقائم وأما نهاره فقصير للصائم، أخرجه الديلمي(3){156}
... (23) صوم الأعزب: الأعزب من لا زوج له فإذا لم يقدر على نفقات النكاح فليكثر من الصوم فإنه يكسر الشهوة، لحديث ابن مسعود قال: كنا مع النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم شباباً ليس لنا شيء فقال: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج. ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" أخرجه الشيخان(4){157}
__________
(1) انظر ص200 ج3 مجمع الزوائد (الشتاء ربيع المؤمن).
(2) انظر ص206 ج4 بيهقي وص 70 ج2 تحفة الأحوذي (الصوم في الشتاء)، (والغنيمة الباردة) أي التي تحصل بلا مشقة أو الثابتة. يقال يرد لي على فلان كذا أي ثبت. او الطيبة. وكان الصوم في الشتاء غنيمة لحصوله بلا مشقة.
(3) انظر ص5 ج2 كشف الخفاء.
(4) تقدم رقم 36 ص354 (صيام رمضان)(1/482)
... ولا يقال إن الصوم يزيد في تهيج الحرارة، وهذا يثير الشهوة لأنا نقول: إنما يكون ذلك في مبدأ الأمر فإذا تمادى عليه واعتاده سكن ذلك والله ولي التوفيق.
... (24) فطر الصائم المتطوع: يجوز للصائم المتطوع الفطر ولو بلا عذر (لحديث) عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيها وهو صائم فقال: "أصبح عندكم شيء تطعمينيه؟ فنقول لا فيقول: إني صائم. ثم جاءها بعد ذلك فقالت: أهديت لنا هدية فقال ما هي؟ قالت حيس قال: قد أصبحت صائماً فأكل" أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والبيهقي والنسائي وهذا لفظه(1){158}
... قال الترمذي: والعمل عليه عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أن الصائم المتطوع إذا أفطر فلا قضاء عليه إلا أن يجب أن يقضيه . وهو قول سفيان الثوري وأحمد وإسحق والشافعي(2)(وعن) أم هانئ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الفتح فأتى بشراب فشرب ثم ناولني فقلت إني صائمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المتطوع أمير على نفسه فإن شئت فصومي وإن شئت فأفطري" أخرجه الدارقطني والبيهقي وأحمد وهذا لفظه والحاكم بلفظ: الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر: وقال صحيح الإسناد. وتلك الأخبار المعارضة لهذا لم يصح منها شيء(3){159}
__________
(1) انظر ص277 ج9- الفتح الرباني (وجوب النية في الصوم) وص 34 ج8 نووي (جواز فطر الصائم نفلاً) وص 217 و 218 ج10- المنهل العذب المورود وص 275 ج4 بيهقي وص 320 ج1 مجتبي (والحيس) – بفتح فسكون- طعام يتخذ من التمر والسمن واللبن منزوع الزبد أو الدقيق بدل اللبن.
(2) انظر ص49 ج2 تحفة الأحوذي.
(3) انظر ص169 ج10- الفتح الرباني (صوم التطوع لا يلزم بالشروع) وص 235 الدارقطني وص 276 ج4 بيهقي وص 439 ج1 مستدرك.(1/483)
... (قال) ابن مسعود: إذا أصبحت وأنت تنوي الصيام فأنت بأحد النظرين: إن شئت صمت وإن شئت أفطرت. أخرجه البيهقي(1)(وقالت) عائشة: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: أعندك شيء؟ قلت: لا. قال إذن أصوم. ودخل علي يوماً آخر فقال أعندك شيء؟ قلت نعم. قال: إذن أفطر وإن كنت فرضت الصوم" أخرجه البيهقي والدارقطني وقالا: هذا إسناد صحيح(2){160}
... (ولهذه) الأحاديث قال الثوري والشافعي وأحمد ومحققو الحنفيين: من دخل في صوم التطوع يستحب له إتمامه. وإذا أفطر ولو بلا عذر فلا إثم عليه لكن يكره له الفطر بلا عذر، لعموم قوله تعالى "ولا تبطلوا أعمالكم(3)" وخروجاً من خلاف من أوجب الإتمام. وإذا أفطر بعذر فلا كراهة. وعلى كل فلا يجب القضاء بل يستحب.
... (وقال) مالك والحسن البصري: لا يجوز للمتطوع الإفطار. وإذا أفطر بلا عذر لزمه القضاء. وهو ظاهر الرواية عن النعمان لقوله تعالى: "ثم أتموا الصيام إلى الليل(4)" وهو يعم الفرض والنفل.
... (وإن) أفطر المتطوع لعذر كأن أمره أحد والديه أو شيخه بالفطر شفقة عليه وكطرو الحيض على المتطوعة، فلا إثم ولا قضاء عليه عند مالك والشافعي وأحمد ومحققي الحنفيين. وظاهر الرواية عندهم: لزوم القضاء (لقول) أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً فأتاني هو وأصحابه. فلما وضع قال رجل: أنا صائم. فقال له صلى الله عليه وسلم: دعاك أخوك وتكلف لك أفطر وصم يوماً مكانه" أخرجه أبو داود الطيالسي والدارقطني والبيهقي وفيه: وصم يوماً مكانه إن شئت(5){161}
__________
(1) انظر ص277 ج4 بيهقي (صيام التطوع).
(2) انظر ص275 منه. وص 236 الدارقطني.
(3) سورة محمد: آية 23.
(4) سورة البقرة: آية 187.
(5) انظر ص293 طيالسي. وص 237 الدارقطني وص 279 ج4 بيهقي (التخيير في القضاء إن كان صومه تطوعاً) وص 456 ج2 نصب الراية.(1/484)
... (وقال) أبو هريرة: أهديت لعائشة وحفصة هدية وهما صائمتان فأكلتا منها فذكرتا ذلك للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: "اقضيا يوما مكانه ولا تعودا" أخرجه الطبراني في الأوسط. وفيه محمد بن أبي سلمة المكي وقد ضعف بهذا الحديث(1){162}
... (وأجاب) الأولون بأن الأمر بالقضاء في هذه الأحاديث للاستحباب لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد عند البيهقي: وصم يوماً مكانه إن شئت (وعن) أم هانئ أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم شرب شراباً فناولها لتشرب. فقالت: إني صائمة ولكني كرهت أن أرد سؤرك فقال: إن كان قضاء من رمضان فاقضي يوماً مكانه وإن كان تطوعاً فإن شئت فاقضي وإن شئت فلا تقضي" أخرجه أحمد والبيهقي. وفيه سماك بن حرب متكلم فيه. وهارون ابن بنت أم هانئ لا يعرف(2){163}
... (ولذا) اختار الكمال بن الهمام وتاج الشريعة وغيرهما من الحنفيين أنه يباح الفطر للمتطوع ولو بلا عذر، لتضافر الأدلة الصحيحة عليه وأن المختار استحباب القضاء.
... (هذا) وسائر النوافل من العبادات حكمها حكم الصيام في أنها لا تلزم بالشروع ولا يجب قضاؤها إذا أبطلها عند الجمهور إلا الحج والعمرة فإنهما يخالفان سائر العبادات في هذا لتأكيد إحرامهما ولا يخرج منهما بإفسادهما (وعن) أحمد في الصلاة ما يدل على أنها تلزم بالشروع. أما من شرع في فرض كقضاء رمضان أو نذر معين أو مطلق أو صيام كفارة فلا يجوز له الخروج منه، لأن المتعين وجب عليه الدخول فيه وغير المتعين تعين بدخوله فيه فصار بمنزلة الفض المتعين وهذا مجمع عليه والحمد لله(3).
(5) آداب الصيام
__________
(1) انظر ص202 ج3 مجمع الزوائد (من يصبح صائماً ثم يفطر).
(2) انظر ص168 ج10 الفتح الرباني (صوم التطوع لا يلزم بالشروع فيه) وص 278 ج4 بيهقي (والسؤر) ما يقي من طعام الآكل أو شرابه.
(3) انظر ص90 ج3 مغنى ابن قدامة.(1/485)
... الصوم ثلاث مراتب (الأولى) صوم العوام. ويحصل بالكف عن المفطرات بقطع النظر عن البعد عن المحرمات القولية والفعلية (روي) أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رب صائم ليس له من صيامه لا الجوع" (الحديث) أخرجه ابن ماجه والنسائي بسند ضعيف وإن صححه السيوطي(1){164}
... أي ليس لصومه قبل عند الله تعالى ولا ثواب له فيه، لارتكابه المحرم بالفطر على حرام وعدم حفظ جوارحه من الأيام وإن سقط فرض الصوم بكفه عن المفطرات.
... (الثانية) صوم الخواص ويحصل (أ) بصيانة الجوارح السبع- وهي العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل- عن استرسالها في المخالفات (ب) وسكونها عن الحركات الرديئة ومنعها عن انتهاك المحارم المردية واستعمالها في شيء من الآثام المبعدة عن دار السلام. وهذا هو سر الصوم المشار إليه بقول الله تعالى: "يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون(2)" ولذا قال الشاعر:
... إذا ما المرء صام عن الخطايا ... ... فكل شهوره شهر الصيام
... فعلى الصائم مراعاة هذه الجوارح وكفها عن استرسالها فيما منعت منه فإن قصر في حفظها ربما أداه إلى دخول جهنم من سبعة أبوابها فإنه لا يستحق أحد جهنم إلا بعصيانه بجارحة من هذه الجوارح فمن رعاها في صيامه أمنه الله من انتقامه يوم ينظر المرء ما قدمت يداه.
(روي) أبو هريرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قال: "ليس الصيام من الأكل والشرب إنما الصيام من اللغو والرفث" (الحديث) أخرجه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم(3){165}
وقد تقدم تمام الكلام في هذا في بحث كف الصائم جوارحه عما لا يرضى ربه(4).
__________
(1) انظر ص266 ج1- ابن ماجه (الغيبة والرفث للصائم).
(2) سورة البقرة: آية 183.
(3) تقدم رقم 59 ص375 (كف الصائم جوارحه).
(4) تقدم ص372.(1/486)
... (الثالثة) صوم خواص الخواص. وهو صوم القلب عن الاهتمام بشيء لا يرضى الله وصيانته عن الالتفات إلى الأغيار وإهمال الفكر في الدنيا وأسبابها وزينتها وشهواتها وشغل النفس بذكر الله تعالى وطاعته في جميع الحالات، وليس من الدنيا الاشتغال بتحصيل الكفاف الذي يسد الجوعة ويستر العورة وعلى كل فيستحب للصائم أمور المذكور منها أحد عشر.
... (1) يستحب تعجيل الفطر إذا دخل وقته بتحقق الغروب (لحديث) عاصم ابن عمر بن الخطاب عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاء الليل من هاهنا وذهب النهار من هاهنا وغابت الشمس فقد أفطر الصائم" أخرجه الدارمي والسبعة إلا النسائي وقال الترمذي حسن صحيح(1){166}
... المعنى أنه متى تحقق الصائم الغروب فليفطر. فهو خير بمعنى الأمر. أو فقد دخل وقت إفطاره. ولا منافاة بينهما لأن دخول وقت الإفطار لا ينافي الأمر به على وجه الندب أو الإباحة (وعن) سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" أخرجه الشيخان وابن ماجه والدارمي والترمذي وقال: حسن صحيح(2){167}
__________
(1) انظر ص5 ج10- الفتح الرباني وص 141 ج4 فتح الباري (متى يحل فطر الصائم) وص 209 ج7 وص 94 ج10- المنهل العذب المورود. وص 37 ج2 تحفة الأحوذي وص 7 ج2 دارمي.
(2) انظر ص142 ج4 فتح الباري (تعجيل الإفطار) وص 207 ج7- ابن نووي وص 267 ج1- ابن ماجه وص 7 ج2 دارمي وص 38 ج2 تحفة الأحوذي.(1/487)
... وهو الذي اختاره أهل العلم: استحبوا تعجيل الفطر. وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحق والمعنى: لا يزال أمر أمتي منتظماً وهم بخير ما داموا محافظين على هذه السنة وإذا خالفوها كان ذلك علامة على فساد يقعون فيه (وعن) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر، لأن اليهود والنصارى يؤخرون" أخرجه أحمد وابن مجه والنسائي وأبو داود وهذا لفظه والحاكم وصححه(1){168}
والمعنى: لا يزال الدين الإسلامي ظاهراً ما عجل الناس فطرهم في الصيام امتثالاً للسنة: فهم بخير ما حافظوا عليها. فهذه الأحاديث تدل على طلب تعجيل الفطر بعد تحقق الغروب (والحكمة) فيه أنه أرفق بالصائم وأقوى له على العبادة. قال الشافعي في الأم: تعجيل الفطر مستحب ولا يكره تأخيره إلا لمن تعمد ذلك ورأى الفضل فيه(2).
... (2) ويستحب كون الفطر قبل صلاة المغرب، ليطمئن قلبه في الصلاة وينقطع عن الشواغل والتطلع للمفطر. وأن يكون على رطبات وتراً. فإن لم يحدث فتمرات وتراً فإن لم يجد حساً حسوات من ماء (لقول) أنس بن مالك رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قل أني صلي فإن لم تكن حساً حسوات من ماء" أخرجه أبو داود والحاكم والدارقطني وقال: إسناده صحيح والترمذي وقال: حسن غريب(3){169}
__________
(1) انظر ص6 ج10- الفتح الرباني (تعجيل الفطر) وص 267 ج1- ابن ماجه وص 76 ج10 المنهل العذب المورود. وص 431 ج1 مستدرك.
(2) انظر ص360 ج2 مجموع النووي.
(3) انظر ص79 ج10- المنهل العذب المورود (ما يفطر عليه) وص 432 ج1 مستدرك. وص 240- الدارقطني وص 37 ج2 تحفة الأحوذي. و (رطبات) جمع رطبة- بضم فسكون- وهو تمر النخل إذا نضج قبل أن يكون تمراً. وأقل الجمع ثلاث وهو الأكمل. و (حسوات) – بضم الخاء وفتح السين أو سكونها- جمع حسوة – بضم فسكون- أي شرب ثلاث مرات.(1/488)
دل الحديث على استحباب فطر الصائم على واحد مما ذكر مرتباً. فإن بدأ بالماء مع وجود التمر أو بالتمر مع وجود الرطب، فاتته السنة (فما) قيل إن الترتيب لكمال السنة، لا لأصلها غير مسلم (وعن) أنس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي المغرب حتى يفطروا ولو على شربة من ماء" أخرجه البيهقي والحاكم(1){170}
... في الحديثين استحباب تعجيل الفطر قبل صلاة المغرب "وأما" ما روي حميد بن عبد الرحمن أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان كان يصليان المغرب حين ينظران إلى الليل الأسود قبل أن يفطرا ثم يفطران بعد الصلاة. أخرجه مالك في الموطأ(2).
... "فهو" لبيان جواز تأخير الفطر عن الصلاة، لئلا يظن وجوب التعجيل (وقال) الزرقاني: كانا يسرعان بصلاة المغرب، لأنه مشروع اتفاقاً وليس من تأخير الفطر المكروه، لأنه إنما يكره تأخيره إلى اشتباك النجوم على وجه المبادرة لكن روي ابن أبي شيبة وغيره عن أنس قال: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي حتى يفطر ولو على شربة من ماء(3).
... (وعن) سليمان بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان أحدكم صائماً فليفطر على التمر، فإن لم يجد التمر فعلى الماء. فإن الماء طهور. أخرجه أحمد والدارمي والحاكم وقال صحيح على شرط البخاري والأربعة إلا النسائي وقال الترمذي: حسن صحيح(4){171}
... الأمر فيه للندب. والتمر اسم جنس يصدق بالواحدة فيتحقق الطلب يأكل ثمرة. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفطر على ثلاث تمرات وهو الأكمل.
__________
(1) انظر ص239 ج4 بيهقي (ما يفطر عليه) وص 432 ج1 مستدرك.
(2) انظر ص89 ج2 زرقاني الموطأ.
(3) انظر ص89 ج2 زرقاني الموطأ.
(4) انظر ص7 ج10- الفتح الرباني. وص 7 ج2 دارمي. وص 431، 432 ج1 مستدرك. وص 78 ج10- المنهل العذب المورود (ما يفطر عليه) وص 36 ج2 تحفة الأحوذي. وص 267 ج1- ابن ماجه.(1/489)
... (دلت) هذه الأحاديث على استحباب الفطر على رطب أو تمر إن وجد فإن لم يوجد فعلى الماء لا فرق في ذلك بين مكي وغيره (وقول) من قال السنة بمكة تقديم ماء زمزم على التمر أو خلطه به (مردود) بأنه خلاف الاتباع، وبأنه صلى الله عليه وسلم صام عام بالفتح أياماً كثيرة ولم ينقل عنه أنه خالف عادته التي هي تقديم التمر على الماء. ولو كان لنقل.
... (هذا) والحكمة في طلب الإفطار على التمر ونحوه أنه حلو والحلو يقوي البصر الذي يضعف بالصوم (فمن خواص) التمر أنه إذا وصل المعدة إن كان خالية حصل به الغذاء وإلا ساعد على هضم ما بها من بقايا الطعام (وقول) الأطباء: إنه يضعف البصر (محمول) على كثيره المضر دون قليله فإنه يقويه. وإذا كانت العلة كونه حلواً والحلو له ذلك التأثير فيلحق به الحلويات كلها وهذا من كمال شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ونصحهم فإن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو مع خلو المعدة أدعى إلى قبوله وانتفاع القوي به لا سيما القوة الباصرة فإنها تقوى به (وأما) الماء فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوع يبس فإن رطبت بالماء كمل انتفاعها بالغذاء بعده (ولهذا) كان الأولى بالظمآن الجائع أن يبدأ قبل الأكل بشرب قليل من الماء ثم يأكل بعده هذا مع ما في التمر والماء من الخاصية التي لها تأثير في صلاح القلب لا يعلمها إلا أطباء القلوب(1).
__________
(1) انظر ص16 ج1 زاد العاد.(1/490)
... (3) كيف يفطر الصائم؟- إذا لم يكن الطعام حاضراً تناول الصائم شيئاً مما تقدم ثم صلى المغرب وبعده يتناول حاجته من الطعام وإن كان الطعام حاضراً تناول شيئاً مما تقدم ثم أخذ حاجته من الطعام (لحديث) أنس أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قال: "إذا قدم العشاء فابدءوا به قبل صلاة المغرب ولا تعجلوا عن عشائكم" أخرجه الشيخان(1){172}
... (وعن) عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء" أخرجه أحمد والشيخان(2){173}
__________
(1) انظر ص110 ج2 فتح الباري (إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة) وص 45 ج5 نووي (ولا تعجلوا عن عشائكم) دل على أنه يأكل حاجته من الطعام كاملاً وهو الصواب. وأما ما تأوله بعضهم على أيه يأكل لقماً يكسر بها شدة الجوع فليس بصحيح يرده صريح الحديث (انظر ص46 ج5 نووي).
(2) انظر ص94 ج4- الفتح الرباني (كراهة الصلاة بحضرة الطعام) وص 109 ج2 فتح الباري وص 45 ج5 نووي.(1/491)
... (حملت) الظاهرية الأمر على الوجوب. وحمله الجمهور على الندب. فتكره الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله لما فيه من اشتغال القلب به وذهاب كمال الخشوع. وهذا إذا صلى حينئذ وفي الوقت سعة فإذا ضاق بحيث لو أكل خرج وقت الصلاة، صلى على حاله محافظة على حرمة لوقت ولا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها (وقال) بعض الشافعية: لا يصلي بحاله بل يأكل وإن خرج الوقت، لأن مقصود الصلاة الخشوع فلا يفوته. والصواب الأول(1)(ولظاهر) الحديثين قال أحمد وإسحاق: يقدم العشاء على الصلاة وإن لم يكن محتاجا إليه أو خفيفاً ولم يخش فساده لما فيه من شغل القلب وذهاب كمال الخشوع (وقال) الحنفيون والشافعي: إنما يبدأ بالعشاء إذا كانت نفسه شديدة التوقان إليه وإلا ترك الطعام وصلى (وعن) مالك: يبدأ بالصلاة إلا أن يكون طعاماً خفيفاً (قال) حميد: كنا عند أنس رضي اله عنه فأذن بالمغرب فقال: أبدءوا بالعشاء. وكان عشاؤه خفيفاً. أخرجه الدارقطني (وقد) ظن قوم أن هذا من باب تقديم حظ العبد على حق الحق عز وجل وليس كذلك. وإنما هو صيانة لحق الحق ليدخل العبادة بقلب غير مشغول (ولا يعارض) هذا حديث جابر مرفوعاً "لا تؤخر الصلاة لطعام ولا لغيره" أخرجه أبو داود وفيه (أ) معلي بن منصور كذبه أحمد. (ب) ومحمد بن ميمون منكر الحديث لا يحل الاحتجاج به(2){174}
... لأنه ضعيف كما ترى فلا يعارض الصحيح. وإن سلمنا صحته فمعناه: لا تؤخر الصلاة عن وقتها. وإذا كان الوقت باقياً يبدأ العشاء.
__________
(1) انظر ص46 ج5 نووي.
(2) انظر ص403 ج3 عون المعبود (إذا حضرت الصلاة والعشاء).(1/492)
... (4) ويستحب للصائم الدعاء عند فطره فإنه مجاب (روي) ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد"، وكان عبد الله ابن عمرو يقول إذا أفطر: اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي. أخرجه ابن ماجه بسند صحيح(1){175}
... (وقال) ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال "دهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله تعالى" أخرجه أبو داود والبيهقي والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين. والدارقطني وقال: تفرد به الحسين ابن واقد وإسناده حسن(2){176}
ذكر المشيئة للتبرك أو للتعليق فإن ثبوت الأجر لغير النبي صلى الله عليه وسلم مفوض لمشيئة الله تعالى فلا يدري قبل الله صومه أم رده؟ (وعن) معاذ ابن زهرة أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر قال: اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت" أخرجه أبو داود والبيهقي وهو مرسل لأن معاذ بن زهرة ليس له صحبة(3){177}
__________
(1) انظر ص274 ج1- ابن ماجه (الصائم لا ترد دعوته) قال الترمذي في النوادر خصت أمة محمد صلى الله عليه وسلم من بين الأمم في شأن الدعاء. قال تعالى (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) (سورة الإسراء: آية 60) وإنما كان ذلك للأنبياء، فأعطيت هذه الأمة ما أعطيت الأنبياء فلما دخل التخليط في أمورهم من أجل الشهوات التي استولت على قلوبهم وحجبها شرع الصوم لأنه يمنع النفس عن الشهوات فإذا ترك شهوته ولم يتعلق بها قلبه صفاً وصارت دعوته بقلب فارغ قد زايلته ظلمة الشهوات وتولته الأنوار. فإن كان ما سأل في المقدر به عجل وإن لم يكن كان مدخراً له في الآخرة (انظر ص 274 ج1 سندي ابن ماجه).
(2) انظر ص80 ج10- المنهل العذب المورود (القول عند الفطر) وص 339 ج4 بيهقي. وص 422 ج1 مستدرك وص 240 الدارقطني.
(3) انظر ص81 ج10- المنهل العذب المورود. وص 229 ج4 بيهقي.(1/493)
... (وقال) ابن عباس رضي الله عنهما: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: "اللهم لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا فتقبل منا إنك أنت السميع العليم" أخرجه الطبراني في الكبير والدارقطني وفيه عبد الملك بن هارون وهو ضعيف(1){178}
... (دلت) هذه الأحاديث على طلب دعاء الصائم بما ذكر فيها بعد الفطر شكراً لنعمة زوال المشقة عنه والحصول على الثواب العظيم والله تعال مجيب الدعاء.
... (5) ويسن لمن أفطر عند غيره أن يدعو له بما في حديث مصعب بن ثابت عن عبد الله بن الزبير قال. أفطر رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم عند سعد بن معاذ فقال: "أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة" أخرجه ابن ماجه – ومصعب ضعيف(2){179}
... أي جعلكم الله أهلاً لذلك دائماً. فهو دعاء بالتوفيق حتى يفطر الصائمون عندهم أو بشارة بما حصل لهم من الخير.
__________
(1) انظر ص156 ج3 مجمع الزوائد (ما يقول إذا أفطر).
(2) انظر ص273 ج1- ابن ماجه (ثواب من فطر صائماً).(1/494)
... (6) السحور: هو – بفتح السين- ما يتسحر به من طعام وشراب. وبالضم الأكل في السحر بنية الصوم وهو خاص بهذه الأمة (لحديث) عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر" أخرجه أحمد ومسلم والثلاثة وقال الترمذي حسن صحيح(1){180} الفصل بمعنى الفاصل وأكله- بفتح فسكون- أي الفارق بين صيام أمة محمد صلى الله عليه وسلم وصيام الأمم السابقة هو السحور فإنه من خصائص هذه الأمة. أما الأمم السابقة فكان يحرم عليهم الطعام والشراب بالنوم كما كان لهذه الأمة في بدء الإسلام (وقد) جاء الأمر بالتسحر في حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تسحروا فإن في السحور بركة أخرجه الستة إلا أبا داود. وقال الترمذي: حسن صحيح. وأخرجه أحمد والنسائي من عدة طرق عن أبي هريرة(2){181}
... وفي الحديث الحث على السحور والأمر فيه للندب، فقد أجمع العلماء على استحبابه، وأما البركة التي فيه فلأنه بقوى على الصيام وينشط له وتحصل بسببه الرغبة في الازدياد من الصيام لخفة المشقة فيه على التسحر (وقيل) لأنه يتضمن الاستيقاظ والذكر والدعاء في ذلك الوقت الشريف وقت تنزل الرحمة وقبول الدعاء والاستغفار. وربما توضأ صاحبه وصلى أو أدام الاستيقاظ للذكر والدعاء والصلاة أو التأهب لها حتى يطلع الفجر(3).
__________
(1) انظر ص16 و 17 ج10 الفتح الرباني (فضل السحور) وص 207 ج7 نووي. وص 65 ج10- المنهل العذب المورود. وص 304 ج1 مجتبي. وص 40 ج3 تحفة الأحوذي.
(2) انظر ص99 ج4 فتح الباري (بركة السحور) وص 206 ج7 نووي. وص 303 ج1 مجتبي: وص 40 ج2 تحفة الأحوذي. وص 266 ج1- ابن ماجه وص 14 ج10- الفتح الرباني (فضل السحور).
(3) انظر ص206 ج7 نووي مسلم.(1/495)
... (وعن) جابر بن عبد الله رضي الله عنه عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أراد أن يصوم فليتسحر بشيء" أخرجه أحمد وأبو يعلي والبزار والطبراني في الأوسط وفيه عبد الله بن محمد حديثه حسن وفيه كلام(1){182} والأحاديث في هذا كثيرة وفيما ذكرنا غناء وكفاية.
وقت السحور: يمتد وقت السحور إلى طلوع الفجر الصادق، وحينئذ يجب الإمساك عن كل مفطر وهو المراد بقوله تعالى: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر(2)" والفجر فجران:
... (1) الفجر الكاذب وهو الذي يبدو أولاً ساطعاً مستطيلاً من أعلى إلى أسفل.
... (2) الفجر الصادق وهو الذي يبدو منتشراً في الأفق بعد الأول بزمن يسع السحور. وقد بينت السنة علامة كل منهما.
(روي) سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير" أخرجه أحمد ومسلم والثلاثة والدارقطني وقال: إسناده صحيح وحسنه الترمذي(3){183}
... المعنى لا يمنعكم من السحور أذان بلال فإنه يؤذن بلبل ولا يمنعكم البياض الذي يظهر في السماء شرقاً مستطيلاً كذنب الذئب فإنه هو الفجر الكاذب. وكلوا واشربوا حتى يظهر الفجر الصادق وهو المنتشر ضوءه في الأفق معترضاً في جانب السماء من جهة الشرق.
(
__________
(1) انظر ص16 ج10- الفتح الرباني وص 150 ج3 مجمع الزوائد (ما جاء في السحور)
(2) سورة البقرة: آية 187.
(3) انظر ص24 ج10 الفتح الرباني (وقت السحور) وص 205 ج7 نووي (الدخول في الصوم بطلوع الفجر) وص 67 ج10 المنهل العذب المورود. وص 305 ج1 مجتبي. وص 39 ج2 تحفة الأحوذي. وص 23 الدارقطني.(1/496)
وعن) ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن بلالاً يؤذن بليل لينبه نائمكم ويرجع قائمكم وليس الفجر أن يقول هكذا وأشار بكفه ولكن الفجر أن يقول هكذا وأشار بالسبابتين" أخرجه السبعة إلا الترمذي(1){184}
... والغرض الإشارة إلى أن الفجر الكاذب الذي يخرج مستطيلاً. وأما الفجر الصادق فلا يتحقق حتى يظهر النور منتشراً في الأفق (وقد دل) ما ذكر أنه يباح الأكل والشرب ونحوهما ليلة الصيام إلى ظهور الفجر الصادق. وهو قول الجمهور والأئمة الأربعة. وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس وعلماء الأنصار.
... (7) ويسن تأخير السحور: إلى قبيل ظهور الفجر (لحديث) أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور" أخرجه أحمد. وفيه سليمان بن أبي عثمان مجهول(2){185}
__________
(1) انظر ص35 ج3 الفتح الرباني (الأذان أول الوقت) وص 71 ج2 فتح الباري (الأذان قبل الفجر) وص 203 ج8 نووي (الدخول في الصوم بطلوع الفجر) وص 68 ج10- المنهل العذب المورود (وقت السحور) وص 305 ج1 مجتبي (كيف الفجر) وص 266 ج1- ابن ماجه. (ويرجع) كيضرب يستعمل لازماً ومتعدياً. يقال رجع محمد ورجعته وهو هنا متعد. (قائمكم) بالنصب مفعول يرجع أي يرد قائمكم إلى حاجته قبل الفجر.
(2) انظر ص12 ج10- الفتح الرباني. وص 154 ج3 مجمع الزوائد (تعجيل الفطر وتأخير السحور).(1/497)
... (وعن) أنس بن زيد بن ثابت رضي الله عنهم قال: "تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة قلت: كم كان قدر ما بينهما؟ قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية" أخرجه السبعة إلا أبا داود. وقال الترمذي: حسن صحيح(1){186}
... وبه يقول كافة العلماء: استحبوا تأخير السحور فينبغي العمل على هذا. وأما ما يفعله الناس اليوم من تعجيل السحور فهو خلاف السنة (قال) ابن أبي جمرة: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينظر ما هو الأرفق بأمته فيفعله، لأنه لو لم يتسحر لاتبعوه فيشق على بعضهم. ولو تسحر في جوف الليل لشق أيضاً على بعضهم ممن يغلب عليه النوم وقد يفضي إلى ترك صلاة الصبح في وقتها أو يحتاج إلى المجاهدة بالسهر(2)(والحكمة) في طلب تأخير السحور أن النهار يقبل وفي المعدة من الغذاء ما يتقوى به على الطاعة فلا يجهده الصوم ولا يقعده عن الطاعة.
__________
(1) انظر ص28 ج10- الفتح الرباني. وص 98 ج4 فتح الباري (قدركم بين السحور وصلاة الفجر) وص 207 ج7 نووي. وص 304 ج1 مجتبي. وص 266 ج1 ابن ماجه. وص 38 ج2 تحفة الأحوذي (قلت كم كان) أي قال أنس لزيد: كم كان بين السحور والصلاة؟ قال: قدر قراءة خمسين آية أي متوسطة قدر سورة المرسلات.
(2) انظر ص98 ج4 فتح الباري (الشرح).(1/498)
... (فائدة) الشك في طلوع الفجر لا يمنع الأكل وغيره لقوله تعالى "وكلوا واشربوا حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر". (قال) رجل لابن عباس متى أدع السحور؟ فقال رجل: إذا شككت. فقال ابن عباس رضي الله عنهما: كل ما شككت حتى يتبين لك. أخرجه البيهقي(1)بسند صحيح (وقال) وروي في هذا عن أبي بكر الصديق وعمر وابن عمر رضي الله عنهم. قال النووي وقد اتفق أصحاب الشافعي على جواز الأكل للشاك في طلوع الفجر وأما قول الغزالي والمتولي: لا يجوز للشاك في طلوع الفجر أن يتسحر فلعلهما أرادا أنه ليس مباحاً مستوى الطرفين بل الأولى تركه فإن أرادا به تحريم الأكل على الشاك في طلوع الفجر فهو غلط مخالف القرآن ولابن عباس ولجماهير العلماء ولا نعرف أحداً قال بتحريمه إلا مالكاً فإنه حرمه وأوجب القضاء على من أكل شاكاً في الفجر(2).
... (8) ويطلب من العاقل: - ولا سيما الصائم- ترك الإفراط في تناول الطعام. فليحترز الصائم من الشبع في الإفطار والسحور (روي) المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قال: "ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطن بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه" أخرجه الترمذي(3){187}
... والصائم إذا شبع عند فطره فقد ارتكب ما يقتضي النقص من أجره. والشبع يورث القسوة ويوفر الجفوة ويثير النوم ويجلب الكسل عن الطاعة (روي) عن سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول للحواريين: لا تأكلوا كثيراً فتشربوا كثيراً فتقسوا قلوبكم(4).
__________
(1) انظر ص221 ج4 بيهقي.
(2) انظر ص306 ج6 مجموع النووي.
(3) انظر ص350 ج2 تيسير الوصول (ذم كثرة الأكل).
(4) انظر ص91 مدارك المرام.(1/499)
... (9) ويستحب للصائم: السواك أول النهار وآخره- عند الحنفيين ومالك والثوري ومحققي الشافعية- لما تقدم عن عامر بن ربيعة(1)والحديث وإن كان ضعيفاً – له شواهد تعضده (منها) حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "من خير خصال الصائم السواك" أخرجه ابن ماجه والبيهقي والدارقطني. وفيه مجالد ضعفه قوم ووثقه آخرون(2){188}
__________
(1) تقدم رقم 102 ص173 ج1- الدين الخالص (السواك للصائم) الطبعة الثانية.
(2) انظر ص265 ج1- ابن ماجه (السواك للصائم) وص 272 ج4 بيهقي (السواك الصائم) وص 248 الدارقطني.(1/500)
... (وقال) الترمذي: ولم ير الشافعي بالسواك بأساً أول النهار وآخره(1)(وقال) أحمد وإسحق: يكره السواك للصائم بعد الزوال وهو المشهور عند الشافعية مستدلين بحديث الخلوف(2)وتقدم انه لا يدل على الكراهة ولذا نقل عن الشافعي وجماعة من أصحابه عدم كراهة السواك للصائم بعد الزوال. قال النووي: وهذا النقل غريب وإن كان قوياً من حيث الدليل. وبه قال المزني وأكثر العلماء وهو المختار(3)(قال) عبد الرحمن بن غنم: سألت معاذ بن جبل أاتسوك وأنا صائم؟ فقال: نعم. قلت: أي النهار أتسوك؟ قال: أي النهار شئت إن شئت غدوة وإن شئت عشية. قلت فإن الناس يكرهونه عشية قال: ولم؟ قلت: يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" قال: سبحان الله لقد أمرك بالسواك حين أمرهم وهو يعلم أنه لابد أن يكون بفم الصائم خلوف وإن استاك. وما كان بالذي يأمرهم أن ينتنوا أفواههم عمداً. ما كان في ذلك من الخير شيء. بل هو شر" (لحديث) أخرجه الطبراني في الكبير. وفيه بكر بن خنيس وهو ضعيف وقد وثقه ابن معين في رواية(4){186}
هذا في استياك الصائم بسواك يابس وفي استياكه بالعود الرطب خلاف آخر.
__________
(1) انظر ص47 ج2 تحفة الأحوذي.
(2) تقدم رقم 103 ص173 ج1- الدين الخالص الطبعة الثانية.
(3) انظر ص276 ج1 مجموع النووي (استياك الصائم بعد الزوال).
(4) انظر ص165 ج3 مجمع الزوائد 0السواك للصائم) و (الخلوف) – بضم الخاء وتفتح- تغير رائحة الفم من خلو المعدة.(2/1)
... (قال) مالك وإسحق والشعبي: يكره. وروي عن أحمد خشية أن يتحلل منه في الفم شيء، ولما فيه من طعم (ورد) بأن ما يتحلل منه كماء المضمضة فإذا طرحه لا يضره وكذا ما فيه من طعم ولذا قال الحنفيون والثوري والأوزاعي والشافعي. لا بأس بالاستياك بالرطب كاليابس. وروي عن أحمد (قال ابن سيربن) لا بأس بالسواك الرطب قيل: له طعم. قال: والماء له طعم وأنت تتمضمض به. ذكره البخاري(1)وقال زياد بن حدير: ما رأيت أحداً كان أدوم لسوك رطب- وهو صائم- من عمر بن الخطاب(2).
... (10) ويستحب للصائم: الإكثار من العبادة والصدقة والإحسان إلى الأقارب واليتامى والمساكين لما تقدم في بحث الطاعة في رمضان(3).
... (11) وتسن صلاة التراويح وتقدم بيانها وافياً(4).
(6) ما يباح للصائم
... يباح له أمور المذكور منها هنا ثمانية:
... (1) الكحل: بفتح فسكون – أي الاكتحال. وقد اختلف العلماء في اكتحال الصائم (فقال) الحنفيون والشافعي: يباح له الاكتحال ولا يفطر بذلك وإن وجد طعمه في حلقه ومثله ما يقطر في العين لأنها ليست بجوف ولا منفذ منها إلى الحلق (لقول) عائشة رضي الله عنها: "اكتحل النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم" أخرجه ابن ماجه والبيهقي وفيه بقية وسعيد الزبيدي ضعيفان(5){190}
(وعن) انس بن مالك انه كان يكتحل وهو صائم. أخرجه أبو داود بسند لا بأس به(6). ومثل هذا لا يفعله أنس من قبل نفسه ففعله حجة (وقد) ورد في إباحة الكحل للصائم أحاديث وآثار تصلح بمجموعها للاحتجاج على جواره.
__________
(1) انظر ص110 ج4 فتح الباري (اغتسال الصائم).
(2) انظر ص46 ج3 مغنى ابن قدامة.
(3) انظر ص365.
(4) انظر ص243 ج5 الدين الخالص.
(5) انظر ص265 ج1- ابن ماجه (الكحل للصائم) وص 262 ج4 بيهقي.
(6) انظر ص105 ج1- المنهل العذب المورود (الكحل عند النوم للصائم).(2/2)
... (وقال) احمد: يكره الاكتحال للصائم وإن وجد طعمه في حلقه أفطر (وقال) مالك: يحرم إن تحقق وصوله إلى الحلق وعليه القضاء وإن شك كره (لحديث) معبد بن هوذة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا نكتحل بالنهار وأنت صائم واكتحل ليلاً بالاثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر" أخرجه البيهقي والدارمي.
وفيه عبد الرحمن بن النعمان عن أبيه وهما ضعيفان (وقال) يحيي ابن معين: هو منكر(1){191}
(
__________
(1) انظر ص262 ج4 بيهقي (الصائم يكتحل) وص 15 ج2 دارمي (والإثمد) بكسر فسكون حجر كحله أ- ود (ومنكر) لأنه مخالف لفعل النبي صلى الله عليه وسلم فقد اكتحل وهو صائم.(2/3)
وقال) ابن عباس: الفطر مما دخل وليس مما خرج. ذكره البخاري معلقاً ووصله البيهقي وابن أبي شيبة عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس في الحجامة للصائم قال: الفطر مما يدخل وليس مما يخرج(1)والكحل إذا وجد طعمه في الحلق فقد دخل. (وحاصل) مذهب مالك أن كل ما وصل الحلق من هذه المنافذ- وهي العين والأذن والأنف ومسام الشعر- مفطر إلا إذا فعل ليلاً وهبط للحلق نهاراً فلا يضر. واعلم أن الكحل ونحوه إن علم عدم وصوله للحلق جاز نهاراً وإن علم وصوله حرم وإن شك في ذلك كره وقيل يجوز الكحل نهاراً ولو اعتاد وصوله للحلق وهو قول أشهب(2)(وقال) ما كان الناس يشددون في هذه الأشياء هكذا (وقال) ابن حبيب: يقضي بما وصل الفرض دون النفل فتحصل أن الذي لا يصل جائز اتفاقاً ولا يوجب قضاء مطلقاً اتفاقاً والواصل فيه أقوال ثلاثة وعلى هذا يجري الجواب فيما يقطر في الأذن. فيجوز إذا كان لا يصل ويختلف فيه إذا كان يصل. وقال التتائي بالقضاء ولو لم يصل(3)(وقال) ابن قدامة: فأما الكحل فما وجد طعمه في حلقه أو علم وصوله إليه فطره وإلا لم يفطره. وكذا الذرور والصبر والفطور وإن اكتحل باليسير من الإثمد غير المطيب كالميل ونحوه لم يفطر. وعن ابن أبي ليلى وابن شبرمة أن الكحل يفطر الصائم(4)
__________
(1) انظر ص125 ج4 فتح الباري (الحجامة والقيء للصائم) وص 261 ج4 بيهقي (الإفطار بالطعام وغيره).
(2) انظر ص637 ج1- الفجر المنير.
(3) انظر ص27 ج2 حكمة البصير للشيخ الإمام.
(4) انظر ص38 ج3 مغنى ابن قدامة (والذرور) كرسول ما يذر في العين من الكحل وغيره و (الصبر) – بكسر الباء وتسكينها لغة قليلة- الدواء المر..(2/4)
والظاهر بل المعتبر مذهب من قال بإباحة الكحل ونحوه مما يقطر في العين وأنه لا يفطر لما تقدم من الأدلة وهي وإن كان في بعضها مقال لكنها لكثرتها يقوي بعضها بعضاً، ولأن الأصل في كل شيء الجواز ولا ينتقل عنه إلا بدليل وليس في الباب ما يصلح للنقل لاسيما وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بالترغيب في الكحل بدون خطر على الصائم كما جاءت في السواك والعين ليست بمنفذ فلا يبطل الصوم بما يصل إليها.
(2) الدهن:- بفتح فسكون- أي الإدهان: ويباح للصائم دهن الشعر بزيت ونحوه عند الجمهور ولا يفطر وإن وجد أثره في الحلق- إن كان لغير الزينة أما الاكتحال أو الادهان لفصد الزينة، فمكروه (وقالت) المالكية الادهان كالاكتحال، لأن ما يصل الحلق مفسد وإن كان دهناً وصل إليه من مسام شعر الرأس كحناء وضعه في رأسه فوجد طعمه في حلقه، أو كان كحلاً وصل إليه من عينيه. وإذا وضع دواء أو دهناً في أنفه أو أذنه ليلاً فهبط لحلقه نهاراً، فلا يضر(1).
(
__________
(1) انظر ص637 ج1- الفجر المنير.(2/5)
3) الحقنة: في غير الدبر وقيل المرأة- يباح للصائم حقن الدواء ونحوه في العروق ولا يفطر به كالكحل، لأنه يصل إلى الجوف بواسطة المسام لا من منفذ مفتوح. وكذا الحقنة في إحليل الذكر لا يفطر بها الصائم عند النعمان ومالك ومحمد بن الحسن وأحمد (وقال) أبو يوسف والشافعي: يفطر بها إن وصلت المثانة والخلاف مبني على أنه هل بين المثانة الجوف منفذ؟ عند الأولين لا، وعند أبي يوسف والشافعي نعم. وهذا أمر طبي يرجع فيه إلى أهل الذكر والخلاف فيما وصل إلى المثانة. أما ما دام الدواء في القضية فلا يفطر اتفاقاً كما أن الحقنة في الدبر وقبل المرأة تفسد الصوم اتفاقاً(1).
__________
(1) وقد سئل الأستاذ الجليل الشيخ محمد بخيت مفتي مصر سابقاً رحمه الله بما صورته السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (أما بعد) فإننا نرجو من فضيلتكم التكرم بالإجابة عن حكم الحقنة تحت الجلد أو في العضلات أو في سائر الجسم وسواء أكانت للتداوي أو التغذية أو للتحذير (كالمورفين) المخدر وغيره. بحيث تكون الفتوى شاملة الحكم على المذاهب الأربعة: أدامكم الله ذخراً للعلم.
(
فأجاب) بقوله: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده (أما بعد) فقد اطلعنا على هذا السؤال وتفيد: أنه لو ادهن أو اكتحل، لا يفطر ولو وجد طعم الدهن أو الكحل. وكذا لو بزق فوجد لونه في الأصح،لأن الموجود في حلقه أثر داخل من المسام التي هي خلل البدن. والمفطر إنما هو الداخل من المنافذ للاتفاق على أن من اغتسل في ماء فوجد برده في باطنه أنه لا يفطر. وإنما كره الإمام الدخول في الماء والتلقف بالثوب المبلول، لما فيه من إظهار الضجر في إقامة العبادة. وبالجملة فالشرط في الفطر أن يصل إلى الجوف وأن يستقر فيه والراد بذلك أن يدخل إلى الجوف ولا يكون طرفه خارج الجوف ولا متصلاً بشيء خارج الجوف. وأن يكون الوصول إلى الجوف من المنافذ المعتادة لا من المسام ونحوها من المنافذ التي لم تجر العادة بأن يصل شيء منها إلى الجوف ومن ذلك يعلم "أن الاحتقان" تحت الجلد سواه كان ذلك في العضدين أو الفخذين أو رأس الأليتين أو في أي موضع من ظاهر البدن. وسواء كان الحقن للتداوي أو للتغذية أو للتخدير "غير مفسد" للصوم لأن مثل هذه الحقنة لا يصل منها شيء إلى الجوف من المنافذ المعتادة أصلاً. وعلى فرض الوصول فإنما تصل من المسام فقط وما تصل إليه ليس جوفاً ولا في حكم الجوف. نعم إن كان لغرض التخدير كان غير جائز مع عدم الإفطار. وذلك لما رواه مسلم عن أم سلمة (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر. ذكره السيوطي في الجامع معزواً لأحمد وأبي داود رقم 9507 ص338 ج6 فيض القدير) هذا كله إذا لم يحصل في عقب الحقن. أما إذا حصل للمحتقن قيء عقب الحقن فإن حصل تقايؤه بسبب الحقنة وكان ما قاءه طعاماً أو ماء أو مرة وقد ملأ الفم فسد صومه. وإن لم يملأ الفم أو كان ما قاءه بلغما فلا يفسد صومه. ومن ذلك يعلم أن ما يصل إلى الجوف لا يفسد الصوم إلا إذا وصل إليه من منفذ منفتح عرفاً. وهذا مذهب الحنفية وهو مذهب الشافعية إلا فيما لو وجد عين الكحل في حلقه كأن ظهرت في نحو نخامة فإنه إن ابتلعها فسد صومه وإلا فلا (قال) ابن قاسم العبادي في حاشية التحفة (قوله مفتوح) أي عرفاً أو فتحاً يدرك ا هـ فأخرج بقوله: عرفاً أو فتحاً يدرك العين فإنها لا تسمى منفذاً منفتحاً في العرف وليس انفتاحها مدركاً كما أنه أخرج بهما مسام الجلد فإن انفتاحهما لا يدرك إلا بالاستعانة ا هـ (وقال) الشرقاوي على التحرير قوله وإن وجد طعم الكحل خرج به ما لو وجد عينه كان ظهرت في نحو نخامة فإن ابتلعها ضر وإلا فلا (وأما المالكية) فقالوا لا يفسد الصوم إلا وصول شيء مائع إلى الحلق أو وصول شيء إلى المعدة سواء وصل من الأعلى أو من الأسفل بشرط أن يكون من طريق متسع كالدبر وفرج المرأة وأما الحقنة في الإحليل (الذكر) فلا تفسد الصوم (وأما) الحنابلة فقالوا كما في شرح المنتهي هامش شرح في الإقناع ص 570 ج1 مانصه: لو أفطر في إحليله أو غيب فيه شيئاً فوصل إلى المثانة لم يبطل صومه ا هـ ومن هذا يعلم أن الحقنة تحت الجلد لا تفسد الصوم باتفاق المذاهب الأربعة سواء كانت للتداوي أو للتغذية أو للتخدير وفي أي موضع من ظاهر البدن لأن مثل هذه الحقنة لا يصل منها شيء إلى الجوف من المنافذ المعتادة أصلاً وعلى فرض الوصول، فإنما تصل من المسام فقط وما تصل إليه ليس جوفاً ولا في حكم الجوف. وليست تلك المسام منفذاً منفتحاً لا عرفاً ولا عادة، ومثل الحقنة تحت الجلد فيما ذكر الحقنة في العروق التي ليست في الشرايين والحقنة التي تكون في الشرايين وكلاهما أيضاً لا يصل منه شيء إلى الجوف لكن الفرق أن الحقنة التي في الشرايين تكون في الدورة الدموية ولذلك لا يعطيها إلا الطبيب. فالحق أن الحقنة بجميع أنواعها المتقدمة لا تفخر. (مجلة الإرشاد غرة رمضان سنة 1351 – العدد الثاني من السنة الأولى. صفحة 42 وما بعدها).(2/6)
(4) تبرد الصائم: يباح له أن يدفع عن نفسه الحر أو العطش بصب الماء على رأسه أو بدنه كله أو بالمضمضة والاستنشاق بلا مبالغة فيهما عند الجمهور ومنهم أبو يوسف (لقول) رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسكب على رأسه الماء بالسقيا إما من الحر وإما من العطش وهو صائم. ثم لم يزل صائماً حتى أتى كديداً ثم دعا بماء فأفطر وأفطر الناس وهو عام الفتح" أخرجه أحمد وهذا لفظه وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي وصححه ابن عبد البر(1) ... ... ... ... ... ... {192}
(وقال) النعمان: يكره للصائم تنزيهاً التبرد لما فيه من إظهار الضجر من العبادة وحمل فعله صلى الله عليه وسلم على بيان الجواز رحمة بضعفاء الأمة (ورد) بأن هذا تعليل في مقابلة النص فلا يعول عليه.
(5) ويباح للصائم مضغ طعام لابد منه لطفل بأن لم يوجد من يمضغه له غير صائم ولم يوجد ما يأكله الطفل بلا مضغ للضرورة.
(6) الحجامة: هي أخذ الدم من الرأس؛ والقصد أخذه من أي عضو في الجسد يباح للصائم الاحتجام والفصد إذا لم يضعفه عن الصوم (لحديث) ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم" أخرجه أحمد والبخاري وهذا لفظه والبيهقي وقال الترمذي صحيح(2){193}
(
__________
(1) انظر ص46 ج10 – الفتح الرباني وص 92 ج10- المنهل العذب المورود (السواك للصائم) وص 263 ج4 بيهقي (الصائم يصب على رأسه الماء) و (السقيا) موضع بين مكة والمدينة على ميلين منها و (كديد) بفتح فكسر- ماء على مرحلتين من مكة (وهو عام الفتح) أي وهم مسافرون لفتح مكة.
(2) انظر ص37 ج10- الفتح الرباني. وص 127 ج4 فتح الباري (الحجامة والقي للصائم) وص 263 ج4 بيهقي. وص 64 ج2 تحفة الأحوذي.(2/7)
وعن) ثابت البناني أنه قال لأنس بن مالك: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم؟ قال: لا إلا من أجل الضعف" أخرجه البخاري والبيهقي(1) ... ... ... {194}
(وعن) أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في القبلة للصائم والحجامة" أخرجه النسائي والدار قطني بسند صحيح كلهم ثقات(2) ... ... ... ... ... ... {195}
(ولهذه) الأحاديث الصحيحة ونحوها قال الحنفيون ومالك والشافعي فيما نقله عنه الترمذي: لا بأس بالحجامة للصائم إذا لم تضعفه عن الصوم ولا تبطله وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين. إما إن أضعفته الحجامة عن الصوم يقيناً تحرم ولا تبطل الصوم وتكره إن ظن حصول ضعف بها وكرهت حجامة مريض إن شك في السلامة والعطب بخلاف الصحيح فلا تكره له عند الشك. وإن خشي بتأخيرها هلاكاً وجبت وإن أدت إلى الفطر ولا كفارة. والفصادة كالحجامة في هذا التفصيل(3)(وقال) احمد وإسحاق والأوزاعي وجماعة: الحجامة تحرم على الصائم وتفطره حجاماً ومحجوماً (لحديث) ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على رجل يحتجم في رمضان فقال: "أفطر الحاجم والمحجوم" أخرجه أحمد وهذا لفظه. والأربعة والحاكم والدارمي والبيهقي من عدة طرق بألفاظ متقاربة. وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين(4) ... ... ... ... ... ... {196}
__________
(1) انظر ص128 ج4 فتح الباري. وص 263 ج4 بيهقي.
(2) انظر ص239 – الدارقطني.
(3) انظر ص631 ج1 – الفجر المنير.
(4) انظر ص35 ج10- الفتح الرباني (الحجامة للصائم) وص 94 ج10- المنهل العذب المورود. وص 64 ج2- تحفة الأحوذي. وص 265 ج1- ابن ماجه. وص 427 ج1 مستدرك وص 14 ج2 دارمي. وص 265 ج4 بيهقي.(2/8)
أي تعرض كل منهما للإفطار. أما المحجوم فلخشية الضعف. وأما الحاجم فلأنه لا يأمن أن يصل إلى جوفه شيء من الدم عند مص المحجم وليس المراد أنهما أفطرا حقيقة فهو نظير قولهم هلك فلان إذا تعرض للهلاك وإن كان سالماً. فالحديث لا تثبت به دعوى الحرمة والإفطار (وعن) رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "افطر الحاجم والمحجوم" أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين. والترمذي وقال حسن صحيح(1) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {197}
(وأجاب) الجمهور عن هذا الحديث بأنه منسوخ (وقال) ابن حزم: صح حديث أفطر الحاجم والمحجوم بلا ريب لكن وجدنا من حديث أبي سعيد رخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم وإسناده صحيح(2)فوجب الأخذ به لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة فدل على نسخ الفطر بالحجامة سواء كان حاجماً أو محجوماً(3).
(ومنه) تعلم أن الحق ما ذهب إليه الجمهور من أن الحجامة غير محرمة على الصائم ولا موجبة لإفطار الحاجم ولا المحجوم (وجملة) القول أنها مكروهة في حق من يضعف بها وتشتد الكراهة إذا كان الضعف يؤدي إلى الإفطار. ولا تكره في حق من لا يضعف بها. وعلى كل فتجنبها للصائم أولى (هذا) وقد أباح احمد للصائم الفصد والتشريط بالموسى بدل الحجامة للتداوي.
(7) ويباح للصائم أن يصبح جنباً (لحديث) عائشة وأم سلمة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً في رمضان من جماع غير احتلام ثم يصوم" أخرجه احمد والشيخان والدارمي وأبو داود والنسائي(4){198}
(
__________
(1) انظر ص35 ج10- الفتح الرباني. وص 428 ج1 مستدرك. وص 64 ج24 تحفة الأحوذي (كراهية الحجامة للصائم).
(2) تقدم رقم 195 ص460.
(3) انظر ص204 ج6- المحلي (المسألة 752).
(4) انظر ص68 ج10- الفتح الرباني. وص 101 ج4 فتح الباري (الصائم يصبح جنباً) وص 223 ج7 نووي وص 13 ج2 دارمي. وص 116 ج10 المنهل العذب المورود.(2/9)
وعن) عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قال: يا رسول الله إني أصبح جنباً وأنا أريد الصيام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وأنا أصبح جنباً وأنا أريد الصيام فأغتسل وأصوم" فقال الرجل: يا رسول الله إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فغضب رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم وقال "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتبع" أخرجه مالك وأحمد ومسلم والنسائي وأبو داود وهذا لفظه وابن خزيمة والطحاوي والبيهقي(1) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {199}
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه أشد الناس خشية لله (إنما يخشى الله من عباده العلماء) والنبي صلى الله عليه وسلم أعلم العباد بربه. وخشيته صلى الله عليه وسلم خشية مهابة وإجلال لا خشية توقع مكروه لأنه معصوم مأمون العاقبة صلى الله عليه وسلم.
(دل) الحديثان على أنه يجوز للصائم أن يصبح جنباً ولا قضاءً عليه سواء كانت الجنابة من جماع أو غيره. وسواء كان الصوم فرضاً أم نفلاً ولو كان تأخير الغسل إلى ما بعد الفجر عمداً (وبهذا) قال الجمهور والأئمة الأربعة. وشذ من زعم أن من أخر الغسل عن الفجر عامداً لا يصح صومه.
(
__________
(1) انظر ص89 ج2 زرقاني الموطأ. وص 71 ج10 الفتح الرباني (من أصبح جنباً وهو صائم) وص 223 ج7 نووي. وص 119 ج10- المنهل العذب المورود وص 213 ج4 بيهقي.(2/10)
8) يباح للصائم بلع ريقه أولاً فأولاً، لأن في اتقائه حرجاً ومشقة ولا يمكن الاحتراز عنه "وما جعل عليكم في الدين من حرج" أما إذا جمع ريقه في فمه ثم ابتلعه فإنه يكره لما فيه من الشبهة ولا يفطر به إجماعاً. أما إذا ابتلع ريق غيره فعليه القضاء إجماعاً(1). وكذا عند الحنفيين إذا ابتلع ريق حبيبه لأنه مرغوب فيه طبعاً يلتذ به. ولا كفارة عند الشافعية والحنبلية (وإن جمع) شخص ريقه ثم ابتلعه قصداً لم يفطره، لأنه يصل إلى جوفه من معدته فأشبه ما إذا لم يجمعه (وعن) احمد أنه يفطره لأنه أمكنه التحرز منه فأشبه ما لو قصد ابتلاع غبار الطريق، والأول أصح فإن الريق لا يفطر إذا لم يجمعه وإن قصد ابتلاعه فكذلك إذا جمعه بخلاف غبار الطريق فإن خرج ريقه إلى ثوبه أو بين أصابعه أو بين شفتيه ثم عاد فابتلعه أنظر، لأنه ابتلعه من غير فمه فأشبه ما لو بلع ريق غيره (ولو) ترك في فمه حصاة أو درهماً فأخرجه وعليه بلة من الريق ثم أعاده في فيه نظر (فإن) كان ما عليه من الريق كثيراً فابتلعه أفطر.
__________
(1) فعليه القضاء...) لا يقال: روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم ويمص لسانها. أخرجه أبو داود (انظر ص123 و 114 ج10- المنهل العذب المورود- الصائم يبلع الريق) لأنا نقول: قال ابن الأعرابي: بلغني عن أبي داود انه قال: هذا الإسناد ليس بصحيح. وعلى فرض صحته يحتمل أن يكون المعنى يقبل في الصوم وبمص لسانها في غيره، ويحتمل أن يمصه ثم لا يتبلعه.(2/11)
وإن كان يسيراً لم يفطر بابتلاع ريقه، لأنه لا يتحقق انفصال ذلك البلل ودخوله إلى حلقه فلا يفطره كالمضمضة والتسوك بالسواك الرطب المبلول (ولو) أخرج لسانه وعليه بلة ثم عاد فأدخله وابتلع لم يفطر، وإن ابتلع النخامة ففيها روايتان إحداهما يفطر لأن النخامة تنزل من الرأس والريق من الفم (ولو) تنخم من جوفه ثم اذدرده أفطر لأنه أمكن التحرز منها فأشبه الدم ولأنها من غير الفم فأشبه القيء والرواية الثانية لا يفطر لأنه معتاد في الفم غير واصل من خارج فأشبه الريق (فإن) سال فمه دماً أو خرج إليه قلس أو قيء فابتلعه أفطر وإن كان يسيراً لأن الفم في حكم الظاهر والأصل حصول الفطر بكل واصل منه لكنه عفى عن الريق لعدم إمكان التحرز منه فما هداه يبقى على الأصل وإن ألقاه من فيه وبقي فمه نجساً أو تنجس فمه بشيء من خارج فابتلع ريقه فإن كان معه جزء من المنجس أفطر بذلك الجزء وإلا فلا(1).
(7) ما يكره للصائم :
هو أمور المذكور هنا خمسة عشر:
(1) يكره له تحريماً ذوق شيء مفطر من غذاء أو دواء بلا عذر لما فيه من تعريض الصوم للفساد ولو كان نفلاً لغير عذر. ولا بأس به مع العذر كسوء خلق الزوج فحينئذ لا يكره لامرأته ذوق المرق بلسانها (وعليه) يحمل قول ابن عباس: لا بأس أن يتطاعم الصائم للشيء يعني المرقة ونحوها. أخرجه البيهقي(2).
__________
(1) انظر ص40- 43 ج3- مغنى ابن قدامة.
(2) انظر ص261 ج4 بيهقي.(2/12)
ومثل المرأة في ذلك الطاهي (الطباخ) وكذا يجوز لمن أراد شراء مأكول أو مشروب أن يذوقه إذا خشي أن يغبن فيه ولا يوافقه. وإذا ذاقه وجب عليه أن يمجه لئلا يصل إلى حلقه منه شيء. ومن أصبح بين أسنانه طعام فإن كان يسيراً لا يمكنه لفظه فابتلعه لا يفطر به لأنه لا يمكن التحرز منه فأشبه الريق، وهذا مجمع عليه (وإن كان) كثيراً يمكن لفظه فإن لفظه فلا شيء عليه وإن ابتلعه عامداً فسد صومه عند الجمهور (وقال) الحنفيون: لا يفطر إن كان ما بين الأسنان دون الحمصة لأنه لابد أن يبقى بين أسنانه شيء مما يأكله فلا يمكن التحرز منه فأشبه ما يجري به الريق (وللجمهور) أنه بلع طعاماً يمكنه لفظه باختياره ذاكراً لصومه فأفطر به كما لو ابتدأ الأكل. ويخالف ما يجري به الريق فإنه لا يمكن لفظه(1).
(2) ويكره للصائم مضغ العلك بكسر فسكون (اللبان) إن لم يتحلل منه شيء لما في ذلك من الاتهام لأن من رآه يظن فطره (ولقول) أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يمضغ العلك الصائم" أخرجه البيهقي(2)(وقال) علي رضي الله عنه: إباك وما يسبق إلى القلوب إنكاره وإن كان عندك اعتذاره. وفي غير الصوم يستحب مضغ العلك للنساء ويكره للرجال على المختار إلا في خلوة لعذر كتسهيل ربح وتقليل بخر بفمه لحاجة.
(
__________
(1) انظر ص46 ج3 مغنى ابن قدامة.
(2) انظر ص269 ج4 بيهقي (وقال) الكمال ابن الهمام وعنه عليه الصلاة والسلام: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم (انظر ص75 ج2 فتح القدير).(2/13)
3) ويكره للصائم المبالغة في المضمضة والاستنشاق احتياطاً للعبادة فإنه يخشى وصول شيء من الماء إلى الحلق (لحديث) لقيط بن صبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإذا استنشقت فأبلغ إلا أن تكون صائماً" أخرجه أحمد والأربعة وقال الترمذي حسن صحيح. وقد كره أهل العلم السعوط للصائم ورأوا أن ذلك يفطر وفي الحديث ما يقوي قولهم(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... {200}
فلو بالغ في المضمضة أو الاستنشاق أو لم يبالغ ووصل إلى جوفه شيء من الماء خطأ (قال) الحنفيون ومالك والمزني: يفسد صومه وعليه القضاء وهو قول للشافعي وأحمد فيما إذا بالغ (وقال) أحمد والشافعي: لا يفسد صومه كالناسي إذا لم يبالغ قولاً واحداً عند أحمد ورواية عن الشافعي (وقال) الخطابي: فيه من الفقه أن وصول الماء إلى الدماغ يفطر الصائم إذا كان يفعله. وعلى قياس ذلك كل ما وصل إلى جوفه يفعله من حقنة وغيرها سواء كان ذلك في موضع الطعام والغذاء أو في غيره من حشو جوفه(2).
(
__________
(1) انظر ص35 ج2 الفتح الرباني. وص 84 ج2- المنهل العذب المورود. وص 26 ج1 مجتبي و67 ج2 تحفة الأحوذي (كراهية مبالغة الاستنشاق للصائم) وص 82 ج1- ابن ماجه و (السعوط) بضم السين الدواء يوضع في الأنف. وبفتحها مصدر لغة.
(2) انظر ص108 ج2 معالم السنن.(2/14)
فأما) المضمضة لغير الطهارة فإن كانت لحاجة كغسل فمه عند الحاجة إليه فحكمه حكم المضمضة للطهارة. وإن كان عابثاً أو تمضمض من أجل العطش كره. وسئل أحمد عن الصائم يعطش فيتمضمض ثم يمجه قال: يرش على صدره أحب إلى. فإن فعل فوصل الماء إلى حلقه أو ترك الماء في فيه عابثاً أو للتبرد فالحكم فيه كالحكم في الزائد على الثلاث لأنه مكروه. وإن دخل الماء في مسامعه من الغسل المشروع من غير إسراف ولا قصد فلا شيء عليه كما لو دخل إلى حلقه من المضمضة في الوضوء وإن غاص في الماء أو أسرف أو كان عابثاً فحكمه حكم الداخل إلى الحلق من المبالغة في المضمضة والاستنشاق والزائد على الثلاث(1).
(4 و 5) ويكره – عند الحنفيين – للصائم القبلة الفاحشة وهي مص شفتيها وكذا المباشرة الفاحشة وهي أن يتعانقا متجردين متماسى الفرجين فتكره مطلقاً وإن أمن الإنزال والجماع لأن شأنه تعريض الصوم للفساد. وكذا يكره غير الفاحش منهما إن لم يأمن ما ذكر ولا يكرهان إن أمن ذلك (لحديث) أبي هريرة رضي الله عنه "أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصائم فرخص له وأتاه آخر فسأله فنهاه فإذا الذي رخص له شيخ والذي نهاه شاب" أخرجه أبو داود والبيهقي بسند جيد(2) ... ... ... ... ... ... {201}
__________
(1) انظر ص44و 45 ج3 مغنى ابن قدامة.
(2) انظر ص115 ج10- المنهل العذب المورود (كراهيته للشاب) وص 231 ج4 بيهقي.(2/15)
والمراد من المباشرة ما عدا الجماع فتشمل القبلة والمس باليد واتصال الجسم بالجسم ( وقال ) ابن عمرو رضي الله عنهما : "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء شاب فقال يا رسول الله أقبل وأنا صائم ؟ قال : لا . فجاء شيخ فقال أقبل وأنا صائم ؟ قال : نعم فنظر بعضنا إلى بعض. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قد علمت لم نظر بعضكم إلى بعض. إن الشيخ يملك نفسه" أخرجه أحمد والطبراني في الكبير . وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه كلام(1) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {202}
(بين) النبي صلى الله عليه وسلم أن القبلة والمباشرة لا يكرهان لذاتهما بل إذا أفضتا إلى الإنزال (وعن) عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم كان يقبل بعض أزواجه وهو صائم ويباشر وهو صائم وكان أملككم لإربه" أخرجه السبعة إلا النسائي(2) ... ... ... ... ... {203}
(
__________
(1) انظر ص51 ج10- الفتح الرباني (القبلة للصائم) وص 166 ج3 مجمع الزوائد.
(2) انظر ص54 ج10- الفتح الرباني وص 106 ج4 فتح الباري (المباشرة للصائم) وص 217 ج7 نووي وص 265 ج1- ابن ماجه وص 48 ج2 تحفة الأحوذي وص 109 ج10- المنهل العذب المورود (والأرب) بفتحات الحاجة والشهوة ويروي بكسر فسكون ويطلق على الذكر خاصة أي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أقدر على وطره وشهوته يأمن مع المباشرة الإصابة في الفرج.(2/16)
دلت) هذه الأحاديث على أنه يجوز للصائم الذي يملك نفسه ويأمن الفتنة أن يقبل ولا يفسد صومه. وأما من لا يأمن الفتنة فيكره له التقبيل والمباشرة (وبهذا) قال الحنفيون وقال الشافعي: يكره ما ذكر إن لم يحرك الشهوة وإلا حرم. ومشهور مذهب مالك كراهة التقبيل ونحوه مطلقاً إذا علمت السلامة وإن لم تعلم فهو حرام. وروي ابن مذهب عن مالك الإباحة في النفل دون الفرض (قال) عبد الحافظ: وكره مقدمة جماع كقبلة وفكر ونظر إن أمن على نفسه من خروج مني أو مذي وإن لم يأمن ذلك بأن تحقق خروج أحدهما أو ظنه أو شك فيه حرم عليه كل من المقدمة والفكر، لا إن توهم عدم السلامة فلا حرمة وكفر مع القضاء إن أمني حال الحرمة لا حال الكراهة فلا يكفر وإنما يقضي فقط كما إذا أمذي مطلقاً حال حرمة أو كراهة(1)(وحاصل) مذهب أحمد أن المقبل إذا كان ذا شهوة مفرطة- بحيث يغلب على ظنه أنه إذا قبل أنزل- لم تحل له القبلة لأنها مفسدة لصومه فحرمت كالأكل وإن كان ذا شهوة خفيفة- بحيث لا يغلب على ظنه ذلك- كره له التقبيل لأنه يعرض صومه للفطر ولا يأمن عليه الفساد وإن كان شيخاً هرماً لا تحرك القبلة شهوته ففي رواية لا تكره له لما تقدم مما يدل على إباحتها للشيخ وفي رواية يكره له القبلة لأنه لا يأمن من حدوث الشهوة، ولأن الصوم عبادة تمنع الوطء فاستوى في القبلة فيه من تحرك شهوته وغيره. وأما اللمس بغير شهوة فليس بمكروه بحال(2).
(
__________
(1) انظر ص630 ج1 الفجر المنير.
(2) انظر ص48 ج3 مغنى ابن قدامة.(2/17)
هذا) وللمقبل والمباشر ثلاث أحوال: (أ) ألا ينزل فلا يفسد صومه اتفاقاً لحديث عائشة(1)(وحديث) جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "هششت فقبلت وأنا صائم فقلت: يا رسول الله صنعت اليوم أمراً عظيماً فقبلت وأنا صائم قال: أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس به فقال: فمه" أخرجه أحمد وأبو داود والطحاوي والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين(2) ... ... ... {204}
(فمه) يعني فما الفرق بين المضمضة والقبلة فإن كلا لا يفطر الصائم.
(ب) أن يمني فيفطر اتفاقاً، لإشارة الحديثين، ولأنه إنزال بمباشرة فأشبه الإزال بالاستمتاع بغير الفرج وعليه القضاء فقط عند الحنفيين والشافعي وأحمد وكذا الكفارة عند مالك وإسحاق.
(جـ) أن يمذي فيفطر وعليه القضاء عند مالك وأحمد (وقال) الحنفيون والشافعي: لا يفطر لأن المذي خارج لا يوجب الغسل فأشبه البول ووجه الأول أنه خارج بشهوة عن مباشرة فأفسد الصوم كالمني فليس كالبول. واللمس بشهوة كالقبلة فيما ذكر.
(6 و 7) ويكره للصائم تكرار النظر بشهوة إلى امرأته وإدامة الفكر في الجماع ولا بأس بذلك عند عدم الشهوة عند الحنفيين والشافعي وأحمد (وعنه) أنه لا يكره بحال لأن إفضاءه إلى الإنزال المفطر بعيد جداً بخلاف القبلة(3).
(
__________
(1) هو ما تقدم رقم 203.
(2) انظر ص52 ج10- الفتح الرباني (الرخصة في القبلة والمباشرة للصائم) وص 113 ج10- المنهل العذب المورود. وص 431 ج1 مستدرك و (هش) من بابي ضرب وتعب أي ارتاح ونشط و (مه) ما استفهامية حذفت ألفها وعوض عنها هاء السكت. وفي رواية أحمد (ففيم9 أي ففيم تسأل؟
(3) انظر ص49 ج3 مغنى ابن قدامة.(2/18)
وقال) مالك: النظر والفكر كالقبلة فإن أمن على نفسه من الإنزال كرها وإن لم يأمن حرماً (هذا) ولمكرر النظر ثلاثة أحوال: (أ) ألا ينزل فلا يفسد صومه اتفاقاً. ... (ب) أن يمني فيفسد صومه عند احمد ومالك وعليه القضاء فقط عند أحمد وعند مالك عليه الكفارة أيضاً إن كان النظر محرماً (وقال) الحنفيون: لا يفطر مطلقاً ولأنه لا نص في الفطر بما ذكر ولا إجماع (وقالت) الشافعية: لا يفطر إلا أن اعتاد الإنزال بذلك فيفطر على المعتمد.
(جـ) أن يمذي فلا يفطر عند الحنفيين والشافعي وأحمد لأنه لا نص في الفطر به ولا يمكن قياسه على إنزال المني لمخالفته له في الأحكام فيبقى على الأصل. فأما إن نظر فصرف بصره لا يفسد صومه وإن أنزل عند الثلاثة (وقالت) المالكية إن أمذى بالفكر أو النظر فعليه القضاء. وإن أمنى بإدامتهما فعليه الكعارة إن كانت عادته الإنزال ولو في حين ما. فإن كانت عادته عدم الإنزال بإدامة النظر أو الفكر فخالف عادته وأمنى فلا كفارة على ما اختاره ابن عبد السلام وكذا لو أمنى بمجرد نظر أو فكر فلا كفارة عليه عند ابن القاسم(1).
وأما من فكر فأنزل فلا يفسد صومه عند الحنفيين والشافعي وهو الصحيح عن أحمد (لحديث) أبى هريرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قال: "إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسهما ما لم تتكلم به أو تعمل به" أخرجه الستة(2) ... ... ... ... ... ... ... ... ... {205}
(وقال) مالك يفسد صومه وروي عن أحمد، لأن الفكرة تستحضر فتدخل تحت الاختيار فقد مدح الله الذي يتفكرون في خلق السموات والأرض ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التفكر في ذات الله تعالى ولو كانت الفكرة غير مقدور عليها لم يتعلق بها ذلك كالأحلام(3).
(
__________
(1) انظر ص111 ج10 المنهل العذب المورود (الشرح).
(2) انظر رقم 1704 ص218 ج2 فيض القدير.
(3) انظر ص41 ج2 شرح المقنع.(2/19)
8) ويكره للصائم وغيره طول الصمت لما فيه من تفويت الغنم العظيم والثواب الجزيل المترتب على خير القول من إرشاد إلى طريق أو أمر بمعروف ونهى عن منكر أو نصح مسترشد أو بث علم لمن يحسنه أو تلاوة قرآن بحيث يستمع لما يتلوه إلى غير ذلك من أنواع الطاعة القولية ولما فيه من حصول الشهرة والرياء بهذا العمل (قال) ابن عباس: "بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مره فليتكلم وليستظل وليقعد وليم صومه" أخرجه البخاري وأبو داود وابن ماجه(1) ... ... ... ... ... ... {206}
(9 – 11) وكره للصائم إكثار نوم نهاراً لئلا يذهب مشقة الصوم وكره له شم روائح زكية كالمسك والعنبر والرند وكره مداوة أسنان نهاراً ولا شيء عليه إن سلم فإن ابتلع منه شيئاً غلبة قضى وإن تعمد كفر أيضاً إلا لضرورة في تأخير الدواء لليل كشدة تألم وإن لم يحدث منه مرض فلا تكره المداواة بل تجب إن خاف هلاكاً أو شديد أذى(2).
(12) ويكره- عند مالك- للصائم أن غزل الكتان الذي له طعم وهو الذي يعطن في المبلات إذا لم يكن الغازل مضطراً للغزل وإلا فلا كراهة وعليه أن يمج ما تكون في فمه من الريق على كل حال. أما الكتان الذي لا طعم له وهو الذي يعطن في البحر فلا يكره غزله ولو من غير ضرورة.
(13) ويكره- عند مالك- الحصاد للصائم لئلا يصل إلى حلقه شيء من الغبار فيفطر ما لم يضطر إليه وإلا فلا كراهة وأما رب الزرع فله أن يقوم عليه عند الحصاد لأنه مضطر لحفظه وملاحظته(3).
(
__________
(1) انظر ص471 ج11 فتح الباري (النذر فيما لا يملك وفي معصية) وص 228 ج3 عون المعبود (النذر في المعصية) وص 334 ج1- ابن ماجه.
(2) انظر ص630 ج1- الفجر المنير و (الرند) – بفتح الراء وسكون النون- شجر طيب الرائحة.
(3) انظر ص533 الفقه على المذاهب الأربعة.(2/20)
14) ويكره للصائم- عند مالك- الاستياك بالسواك الرطب الذي يتحلل منه شيء، وإلا جاز في كل النهار، بل يندب لمقتضى شرعي كوضوء وصلاة كما تقدم(1).
(15) ويكره للصائم- عند أحمد- أن يجامع وهو شاك في طلوع الفجر الثاني ولا يكره له السحور مع الشك في ذلك لأنه يتقوى به على الصوم بخلاف الجماع(2).
وقد تقدم في المستحبات مع بعد تركه من المكروهات فليلاحظ هذا من يرغب في القربات.
(8) ما لا يفسد الصوم
هو أمور المذكور منها هنا ستة عشر: (1و2 و 3) الأكل والشرب والجماع ناسياً عند الحنفيين والشافعي (لحديث) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه" أخرجه السبعة وهذا لفظ مسلم وقال الترمذي حديث حسن صحيح(3): ... {207}
والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم وبه يقول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق (وقال) مالك بن أنس إذا أكل في رمضان ناسياً فعليه القضاء والأول أصح (وعن) أبي هريرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قال: "من أفطر في رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة" أخرجه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم والدار قطني والبيهقي بسند رجاله ثقات(4) ... ... ... ... ... ... ... {208}
(
__________
(1) انظر ص534 منه.
(2) انظر ص536 منه.
(3) انظر ص61 ج10 الفتح الرباني. وص 111 ج4 فتح الباري وص 35 ج8 نووي (أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر) وص 45 ج2 تحفة الأحوذي وص 264 ج1- ابن ماجه (فإنما أطعمه الله وسقاه). يعني ما وقع منه من الأكل والشرب لا يفسد صومه، لأنه لم يكن له اختيار لنسيانه.
(4) انظر ص430 ج1 مستدرك. وص 237 الدارقطني وص 229 ج4 بيهقي (من أكل أو شرب ناسياً).(2/21)
وقال) أحمد يجب القضاء والكفارة بالجماع ناسياً ولا شيء في الأكل والشرب وبه قال ابن الماجشون، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي وقع امرأته في رمضان بالكفارة ولم يسأله أواقعها عمداً أو سهواً؟ ولو كان هناك فرق في الحكم لاستفسر منه النبي صلى الله عليه وسلم (ورد) بأن قوله في الحديث: هلكت يدل على أنه واقع عمداً وكذا قوله عند البخاري: احترقت وفي رواية سعيد بن منصور تب واستغفر فإن ذلك كله يدل على أنه واقع عمداً خصوصاً التوبة والاستغفار فإنهما لا يكونان إلا من عمد.
(وقالت) المالكية: من تعاطى أي مفطر ناسياً في رمضان فعليه القضاء دون الكفارة قياساً للصوم على الصلاة فكما أن ترك ركعة منها نسياناً يفسدها، كذلك ترك ركن من الصوم وهو الإمساك عن المفطر يفسده (وأجابوا) عن أحاديث الباب بأنها أخبار آحاد مخالفة للقاعدة (وهو) مردود بأن هذه الأحاديث قاعدة مستقلة في الصيام وقياسهم الصيام على الصلاة قياس في مقابلة النص لا يعول عليه (ودعوى) بعضهم أن الأحاديث محمولة على صيام التطوع (يرده) قوله صلى الله عليه وسلم: من أفطر في رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة فهذا هو الحق.
(4) من احتلم نهاراً وهو صائم لا يبطل صومه إجماعاً.
(5) وكذا من احتجم عند الثلاثة خلافاً لأحمد كما تقدم(1)(لحديث) ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا يفطرن الصائم: القيء والحجامة والاحتلام" أخرجه البزار بسندين صحح أحدهما وأخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري(2)(روي) الحديث من عدة طرق ارتقى بها إلى درجة الحسن. والقيء فيه محمول على ما لو ذرعه القيء جمعاً بين الأخبار. ... ... ... ... ... {209}
(
__________
(1) انظر بحث الحجامة ص 459.
(2) انظر ص170 ج3 مجمع الزوائد (الحجامة للصائم) وص 44 ج2 تحفة الأحوذي (الصائم يذرعه القيء).(2/22)
6) ولا يفسد الصوم بإنزال مني بنظر وإن أدامه عند الحنفيين والشافعي، لأنه في معنى الاحتلام (وقال) مالك وأحمد: يفسد صومه وإن أمذى لا يفسد صومه عند الثلاثة ويفسد عند مالك كما تقدم إلا إن غلبه المني أو المذي بمجرد نظر أو فكر(1).
(7) ولا يفسد صوم من أنزل بإدامه فكر عند الحنفيين والشافعي. وهو الصحيح عن أحمد (وقال) مالك يفسد صومه كما تقدم.
(8) ولا يبطل الصوم بالاكتحال ولا بما يقطر في العين ولو وجد طعمه في حلقه أو رأى لونه في بزاقه عند الحنفيين والشافعي، لأن الداخل من المسام الغير النافذة لا ينافي الصوم كما إذا تبرد بالماء ووجد أثره بباطنه (ولما) تقدم من الأحاديث الدالة على إباحة الكحل للصائم (وقال) مالك وأحمد: يبطل الصوم بالكحل ونحوه إن وجد طعمه في حلقه أو علم وصوله إليه كما تقدم.
(9) ولا يبطل الصوم بالإدهان وإن وجد أثر الدهن في الحلق عند الثلاثة (وقال) مالك: هو كالكحل إلا إذا وضع دهناً على جرح في بطنه واصل لجوفه، لأنه لا يصل لمحل الطعام والشراب وإلا لمات من ساعته(2).
(10 و 11) ولا يبطل الصوم بالقبلة والمباشرة بلا إنزال إجماعاً كما تقدم.
(12 و 13 و 14) ولا يفسد الصوم بشم الروائح العطرية كالورد والنرجس والياسمين ولا بتأخير غسل الجنابة حتى تطلع الشمس ولو مكث جنباً كل اليوم. ولا بدخول غبار طريق أو غربلة دقيق أو ذباب أو بعوض إلى حلقة رغماً عنه(3)
(15) ولا يفسد صوم المرأة عند أحمد إذا أدخلت أصبعها أو غيره في فرجها ولو مبتلاً(4).
(
__________
(1) انظر ص533 كتاب الفقه على المذاهب الأربعة.
(2) انظر ص533 كتاب الفقه.
(3) انظر ص529 منه.
(4) انظر ص535 منه.(2/23)
16) ومن ذرعه القيء لا يبطل صومه ولو كان ملء الفم إذا لم يعد منه شيء إجماعاً (لحديث) أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء ومن استقاء عمداً فليقض" أخرجه أحمد والدار قطني والحاكم وصححه والبيهقي والأربعة إلا النسائي وقال الترمذي حسن غريب(1){210}
(وقال) محمد بن الحسن: أخبرنا مالك أخبرنا نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول من استقاء وهو صائم فعليه القضاء. ومن ذرعه القيء فليس عليه شيء أخرجه محمد في موطئه وقال: وبه نأخذ وهو قول أبي حنيفة(2)(دل) الحديث على أن من غلبه القيء وهو صائم لا يفطر به ولو كان ملء الفم وهو قول الأئمة الأربعة والجمهور ومحله ما لم يرجع منه شيء إلى حلقه بعد إمكان طرحه وإلا فعليه القضاء (وقال) محمد بن الحسن إن عاد بنفسه لا يفطر وهو الصحيح عند الحنفيين (وقال) أبو يوسف يفسد الصوم بعود القيء كإعادته إن كان ملء الفم ومبني الخلاف بينهما أن محمداً يعتبر الفعل وأبا يوسف يعتبر ملء الفم، لأن له حكم الخارج وما دونه لا يعتبر خارجاً، لأنه لا يمكن ضبطه. ويتفرغ على هذا أربع مسائل:
(الأولى) إذا كان القيء أقل من ملء الفم وعاد أو شيء منه لم يفطر اتفاقاً لعدم الفعل عند محمد ولعدم ملء الفم عند أبي يوسف (الثانية) إذا كان أقل من ملء الفم وأعاده أو شيئاً منه لم يفطر عند أبي يوسف وهو المختار لعدم ملء الفم ويفطر عند محمد للفعل.
(الثالثة) إذا كان ملء الفم وعاد أو شيء منه لا يفطر عند محمد لعدم الفعل وهو الصحيح ويفطر عند أبي يوسف، لأنه يعتبر خارجاً شرعاً وقد دخل وهذه الصور يشملها الحديث.
(
__________
(1) انظر ص42 ج10- الفتح الرباني (القيء للصائم) وص 240 الدارقطني وص 426 ج1 مستدرك. وص 219 ج4 بيهقي. وص 106 ج10- المنهل العذب المورود وص 4 ج2 تحفة الأحوذي. وص 264 ج1- ابن ماجه.
(2) انظر ص44 ج2 تحفة الأحوذي وهامش (1) رقم 816 ص179 آثار أبي يوسف(2/24)
الرابعة) إذا كان ملء الفم وأعاده أو شيئاً منه أفطر اتفاقاً. لأنه خارج أدخله جوفه ويدخل في معنى ذرع القيء كل ما غلب على الإنسان من دخول الذباب حلقه ودخول الماء جوفه إذا وقع في ماء غمر وما أشبه ذلك، فإنه لا يفسد صومه شيء من ذلك أما تعمد القيء فمفطر كما يأتي إن شاء الله تعالى.
وعلى الجملة فلا يبطل الصوم بارتكاب شيء من المباح والمكروه للصائم على ما تقدم بيانه.
(9) ما يفسد الصوم
هو قسمان ما يوجب القضاء. وما يوجب القضاء والكفارة:
(أ) ما يوجب القضاء فقط: هو أمور المذكور منها هنا ستة عشر:
(1) الإفطار مكرهاً أو خطأ كأن تمضمض فسبق الماء إلى حلقه فيفسد صومه عند الحنفيين ومالك. وروي عن أحمد، لتذكره الصوم ولأن المكره تناول المفطر لدفع الضرر عن نفسه فأشبه المريض ومن شرب لدفع العطش (وقال) الشافعي. لا يفطر المكره والمخطئ وهو المشهور عن أحمد (لحديث) ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" أخرجه ابن ماجه والحاكم والطبراني والدار قطني. وفيه محمد بن مصطفى وثقه أبو حاتم وفيه كلام لا يضر. وبقية رجاله رجال الصحيح(1) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {211}
(وأجاب) الأولون عنه بأنه ضعيف. قال أبو حاتم: هذه أحاديث منكرة موضوعة وقد أنكره الإمام أحمد. وعلى فرض ثبوته فالمراد به رفع الإثم، لأن رفع الواقع محال بدليل لزوم الدية والكفارة في قتل الخطأ.
(
__________
(1) انظر ص322 ج1- ابن ماجه (طلاق المكره والناسي) ورقم 1809 ص 267 ج2 فيض القدير.(2/25)
2) وصول ما لا نفع فيه للبدن إلى الجوف من منفذ مفتوح أو إلى باطن الرأس عمداً كأن ابتلع حصاة أو حديداً أو ملحاً كثيراً أو لوزة يقشرها فإنه يفطر عند كافة العلماء(1)لما في حديث عائشة من قوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم "إنما الإفطار مما دخل وليس مما خرج" أخرجه أبو يعلي قال الهيثمي. وفيه من لم أعرفه وبقية رجاله ثقات(2) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {212}
(3) ويفسد الصوم بالحقنة وهي صب الدواء أو الماء في الدبر أو قبل المرأة. وأما احتقان الدواء في العروق فكالكحل لا يفسد به الصوم على ما تقدم بيانه.
(4) ويفسد الصوم بالإسعاط وهو إيصال مائع وغيره إلى الجوف من الأنف.
(
__________
(1) كافة العلماء) وشذ الحسن بن صالح فقال. لا فطر بما ليس طعاماً ولا شراباً وحكى عن أبي طلحة الأنصاري انه كان يتناول البرد (بفتحتين ما ينزل من السحاب يشبه الحصا ويسمى حب الغمام) في الصوم ويقول: ليس بطعام ولا شراب (قال) أنس ابن مالك: مطرت السماء برداً. فقال لنا أبو طلحة: ناولني يا أنس من ذلك البرد فتناولته فجعل يأكل وهو صائم. قلت: ألست صائماً؟ قال: بلى إن هذا ليس بطعام ولا شراب وإنما هو بركة من السماء تطهر به بطوننا. قال أنس: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: خذ عن عمك. أخرجه أبو يعلي. وفيه علي بن زيد وفيه كلام وقد وثق وبقية رجاله رجال الصحيح. ورواه البزار موقوفاً وزاد: فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فكرهه وقال: إنه يقطع الظمأ (انظر ص171 ج3 مجمع الزوائد- الصائم يأكل البرد) وفي قول سعيد إنه يقطع الظمأ رد على من يقول: إنه ليس شراباً. فالصواب ما ذهب إليه كافة العلماء. من أن هذا ونحوه من المفطرات.
(2) انظر ص167 ج3 مجمع الزوائد (القبلة والمباشرة للصائم) و(من لم أعرفه) لعله سلمى البكرية.(2/26)
5) ويفسد بإقطار مائع ولو ماء في الأذن على الصحيح عند الحنفيين والشافعي وأحمد لأنه وصل الجوف بفعله. أما إن خاض الماء فدخل أذنه لا يفسد صومه إتفاقاً.
(وقالت) المالكية: يفسد الصوم بوصول مائع إلى الحلق من فم وأذن أو عين أو أنف سواء كان المائع ماء أو غيره وصل عمداً أو سهواً أو غلبة كماء غلب من المضمضة أو السواك حتى وصل إلى الحلق أو وصل خطأ كأكله نهاراً معتقداً بقاء الليل أو غروب الشمس أو شاكاً في ذلك ما لم يتبين أن أكله قبل الفجر أو بعد غروب الشمس وإلا فلا يفسد صومه وفي حكم المائع البخور وبخار القدر إذا استنشقها فوصلا إلى حلقه وكذلك الدخان الذي اعتاد الناس شربه فمجرد وصوله إلى حلقه مفطر وإن لم يصل إلى المعدة. وأما دخان الحطب فلا أثر له كرائحة الطعام إذا استنشقها(1).
(6) ويفسد الصوم بمداواة جائفة – وهو جرح يبلغ الجوف- إذا وصل الدواء إليه.
(7) ويفسد بمداواة آمة- بالمد والتشديد- وهي شجة تصل أم الرأس إذا وصل الدواء إلى دماغه ومتى وصل إليه وصل إلى جوفه لأن التحقيق أن بين جوف الرأس وجوف المعدة منفذاً أصلياً وهذا إذا تحقق الوصول اتفاقاً وكذا إن شك فيه، وكان الدواء رطباً عند النعمان ومالك، لعموم ما ورد: الفطر مما دخل وليس مما خرج، أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس وأبو يعلي مرفوعاً(2)(وقال) أبو يوسف ومحمد والشافعي وأحمد: لا يفسد الصوم بالشك في الوصول أما إذا كان الدواء يابساً فلا فطر اتفاقاً إذا شك في وصوله إلى الجوف.
(
__________
(1) انظر ص530 كتاب الفقه.
(2) تقدم بعد رقم 191 ص455 (ما يباح للصائم) من قول ابن عباس وتقدم عن عائشة مرفوعاً رقم 212 ص478.(2/27)
8) ويفسد الصوم بتعمد القيء ولو قليلاً عند الأربعة ومحمد، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ومن استقاء عمداً فليقض"(1)(وقال) أبو يوسف تعمد القيء لا يفسد الصوم إلا إذا ملأ الفم. وهو رواية عن أحمد لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ولكن دسعة تملأ الفم" ولأن اليسير لا ينقض الوضوء فلا يفسد الصوم كالبلغم ذكره ابن قدامة وقال: والحديث لا نعرف له أصلاً ولا فرق بين كون القيء طعاماً أو بلغماً أو دماً أو غيره لأن الجميع داخل تحت عموم الحديث(2)(وقال) النعمان ومالك ومحمد: القيء إن كان بلغماً فهو غير مفسد مطلقاً (وقال) أبو يوسف: إذا ملأ الفم أفسد بناء على قوله: إنه ناقض للوضوء (والظاهر) أن قوله هنا أحسن لأن الفطر نيط بما يدخل الجوف أو بالقيء عمداً بلا فرق بين بلغم وغيره.
(9) ويفسد الصوم- عند الحنفيين والشافعي وأحمد- بإنزال المني عن مباشرة بنحو قبلة أو تبطين أو بجامعة في غير سبيل آدمي حي مشتهي أو بوطء بهيمة أو ميتة أو صغيرة لا تشتهي أو استمناء بالكف وهذا حرام، فإن غلبته الشهوة ففعله لتسكينها فالرجاء ألا يعاقب. وإن خرج منه المني أو المذي لمرض فلا شيء عليه لأنه خارج بغير شهوة فأشبه البول، ولأنه خرج من غير اختيار منه ولا تسبب فيه فأشبه الاحتلام. ولو جامع في الليل فأنزل بعد ما أصبح لم يفطر، لأنه لم يتسبب فيه نهاراً فأشبه ما لو أكل في الليل فذرعه القيء نهاراً(3)
(
__________
(1) تقدم رقم 21 ص475 (من ذرعه القيء).
(2) انظر ص52 ج3 مغنى ابن قدامة و (الدسعة) بفتح فكسون- الدفعة من القيء ونسبه في النهاية لسيدنا علي وقال: وجعله الزخشري حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(3) انظر ص48 ج3 مغنى ابن قدامة.(2/28)
وقالت) المالكية: يفسد الصوم بإنزال المني أو المذي مع لذة معتادة بنظر أو فكر أو غيرهما كالقبلة أو المباشرة فيما دون الفرج أما إذا خرج المني أو المذي لمرض فلا يفسد الصوم كما لا يفسد بخروج أحدهما بمجرد نظر أو فكر بلا استدامة إذا كان ذلك يكثر عرضه له بأن كان حصوله مساوياً لعدم حصوله في الزمن أو زائداً. أما إذا كان زمن عروضه أقل من زمن ارتفاعه فإنه يفسد الصوم(1).
(10) ويفسد الصوم- عند الأئمة الأربعة والجمهور- يتناول مفطر مع ظن المبيح وفيه خمس صور (ا) فمن تسحر يظن بقاء الليل- وقد طلع الفجر- بطل صومه وعليه الفضاء عند الأربعة والجمهور (قال) مكحول: سئل أبو سعيد الخدري عن رجل تسحر وهو يرى أن عليه ليلاً وقد طلع الفجر. فقال: إن كان شهر رمضان صامه وقضى يوماً مكانه. وإن كان من غير رمضان فليأكل من آخره فقد أكل من أوله ذكره البيهقي. وقال: وقول من قال يقضي أصح لما مضى من الدلالة على وجوب الصوم من وقت طلوع الفجر(2).
(ب) ومن أفطر آخر النهار يظن غروب الشمس ولم تغرب بطل بصومه عند الأربعة والجمهور (قال) شعيب بن عمرو الأنصاري أفطرنا مع صهيب الخير أنا وأبي في شهر رمضان في يوم غيم وطش فبينما نحن نتعشى إذ طلعت الشمس فقال صهيب: طعمة الله أتموا صيامكم إلى الليل واقضوا يوماً مكانه. أخرجه البيهقي(3).
(
__________
(1) انظر ص529 كتاب الفقه.
(2) انظر ص216 ج4 بيهقي (من أكل وهو يرى أن الفجر لم يطلع ثم بان أنه كان قد طلع).
(3) انظر ص217، 218 منه ورقم 1217 ص 379 ج1 كشف الخفاء و (الطش) المطر.(2/29)
جـ) وإن أكل شاكاً في طلوع الفجر ولم يتبين الأمر فليس عليه قضاء وله الأكل حتى يتيقن طلوع الفجر عند الحنفيين والشافعي واحمد، لقوله تعالى: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر(1) مد الأكل ولأن الأصل بقاء الليل فيكون زمان الشك منه ما لم يعلم بيقين زواله (وقال) مالك: يجب القضاء لأن الأصل بقاء الصوم في ذمته فلا يسقط بالشك ولأنه أكل شاكاً في النهار والليل فلزمه القضاء كما لو أكل شاكاً في غروب الشمس.
(د) وإن أفطر شاكاً في غروب الشمس ولم يتبين الأمر فعليه القضاء عند الأئمة الأربعة والجمهور لأن الأصل بقاء النهار.
(هـ) وإن أكل ظاناً أن الشمس قد غربت أو أن الفجر لم يطلع ثم شك بعد الأكل ولم يتبين الأمر فلا قضاء عليه لأنه لم يوجد بيقين يزيل ذلك الظن الذي بني عليه فأشبه ما لو صلى بالاجتهاد ثم شك في الإصابة بعد صلاته(2).
(فائدتان) (الأولى) من جامع قبل طلوع الفجر ثم طلع (فإن نزع) فوراً لم يفسد صومه عند الحنفيين والشافعي وهو مشهور مذهب أحمد، لأنه ترك للجماع فلا يتعلق به حكمه (وقال) مالك: يفسد صومه ولا كفارة عليه، لأنه لا يقدر على أكثر مما فعله فأشبه المكره.
(وإن لم ينزع) فسد صومه وعليه القضاء اتفاقاً وكذا الكفارة عند مالك والشافعي وأحمد (وقال) الحنفيون: لا كفارة عليه (الثانية) لو جامع يظن أن الفجر لم يطلع وتبين أنه قد طلع فسد صومه وعليه القضاء فقط عند الحنفيين والشافعي وقال مالك وأحمد: عليه الكفارة أيضاً.
(11) يفسد الصوم بإدخال خرقة أو خشبة أو أصبع مبلولة في الدبر وقيل المرأة إذا لم يبق من المدخل شيء. أما إذا يغيبه كله لا يفسد صومه عند الحنفيين وأحمد ومالك (وقال) الشافعي: يفسد بذلك.
(12) ويفسد صومه من استنجى فتعمد إيصال الماء إلى داخل دبره بأن بالغ في الاستنجاء أو استرخى.
(
__________
(1) سورة البقرة آية 187.
(2) انظر ص74 ج3 مغنى ابن قدامة.(2/30)
13) ويفسد الصوم بالأكل عمداً بعد أكله ناسياً الصوم فظن أنه أفطر فيلزمه القضاء اتفاقاً لوجود المفطر ولا كفارة عليه عند الحنفيين والشافعي وأحمد للشبهة. وكذا لو علم أن صومه لا يفسد بالفطر ناسياً وبلغه الحديث في ذلك فلا كفارة عليه عند النعمان والشافعي وأحمد مراعاة لخلاف الإمام مالك (وقال) أبو يوسف ومحمد ومالك: عليه الكفارة لعدم الشبهة.
(14) ويفسد الصوم بالحيض والنفاس إجماعا. والحكمة في عدم صحته معهما أن كلا منهما يضعف البدن كالصوم. واجتماع مضعفين مضر ضرراً شديداً فاقتضت الحكمة ترك الصوم معهما وقد تقدم أنهما يسقطان أداء الصوم دون قضائه.
(15) ويفسد الصوم بالردة إجماعا وعليه قضاء ذلك اليوم إذا عاد إلى الإسلام سواء أسلم في أثناء اليوم أو بعد انقضائه, لأن الصوم عبادة من شرط النية فأبطلتها الردة كالصلاة والحج ولأنها عبادة محضة ينافيها الكفر(1).
(16) ويفسد الصوم بنية الفطر عند الأئمة الثلاثة وهو ظاهر مذهب أحمد لأنه عبادة من شرطها النية فيفسد بقية الخروج منه كالصلاة ولأن الأصل اعتبار النية في جمع أجزاء العبادة ولكن لما شق اعتبار حقيقها اعتبر بقاء حكمها وهو أن لا ينوي قطعها فإذا نواه حقيقة وحكمها ففسد الصوم بزوال شرطه. وإن عاد فنوى الصوم قبل الزوال أجزأه عند الحنفيين لأنه يصح بنية قبل الزوال ولا يجزئ عند من يشترط تبييت النية في رمضان. هذا ومن فسد صومه بشيء مما ذكر لزمه (أولاً) إمساك بقية اليوم في غير الحيض والنفاس احتراماً للوقت بالقدر الممكن (وثانياً) قضاء ما أفسده في أيام أخر. والكلام هنا ينحصر في ثلاثة فروع:
(1) التتابع: لا يلزم في قضاء رمضان التتابع عند الأئمة الأربعة والجمهور، لإطلاق قوله تعالى "ومن كان يمرضاً أو على سفر فعدةٌُ من أيامٍ أخر" وتقدم الكلام فيه وافياً في بحث مالا يلزم فيه التتابع(2)
(
__________
(1) انظر ص 53 ج 3 مغني ابن قدامة.
(2) تقدم ص 380.(2/31)
2) القضاء كالأداء: لا يطلب في قضائه أزيد مما وجب أداؤه عند الأربعة والجمهور – فمن أفطر متعمداً بلا عذر يلزمه صيام يوم واحد قضاء عن اليوم الذي أفطره مع الكفارة إن لزمته وتقدم تمام الكلام على هذا في بحث التفريط في رمضان(1).
(3) تأخير القضاء: قضاء رمضان واجب على التراخي عند الجمهور لإطلاق الآية (ولقول) عائشة رضي الله عنها "إن كانت إحدانا لتفطر – يعني في رمضان- في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فما تقدر على أن تقضيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأتي شعبان"أخرجه مسلم(2) ... ... ... ... {213}
والمعنى أن كل واحدة من نسائه صلى الله عليه وسلم كانت مهيئة نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم مستعدة لاستمتاعه في أي وقت شاء ولا تدري متى يريد؟ ولم تستأذنه في الصوم مخافة أن يأذن وقد يكون له حاجة فيها فتفوتها عليه وهذا من كمال الأدب وإنما كانت تصومه في شعبان لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم معظم شعبان فلا حاجة له فيهن حينئذ في النهار ولأنه إذا جاء شعبان يضيق قضاء رمضان فإنه لا يجوز تأخيره عنه(3).
(وقالت) عائشة رضي الله عنها: "ما كنت أقضي ما يكون علي من رمضان إلا في شعبان حتى توفي رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم" أخرجه أحمد والترمذي وقال حسن صحيح(4). ... {214}
(دل) الحديثان على جواز تأخير قضاء رمضان إلى شعبان لعذره وبه قال علمة أهل العلم وهو وإن كان من فعل نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن الظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع عليه وأقره لتوفر دواعي أن يسأله زوجاته صلى الله عليه وسلم عن أمر الشرع.
__________
(1) تقدم ص367.
(2) انظر ص22 ج8 نووي (تأخير قضاء رمضان).
(3) انظر ص22 ج8 نووي مسلم (تأخير قضاء رمضان).
(4) انظر ص131 ج10- الفتح الرباني (قضاء رمضان) وص 66 ج2 تحفة الأحوذي.(2/32)
أما تأخير القضاء لغير عذر فهو جائز عند الجمهور إن أفطر لعذر كمرض أو سفر أو حيض وإذا بقي على رمضان الثاني بقدر ما عليه من أيام رمضان الأول لزمه القضاء فوراً حينئذٍ. وكذا يلزمه القضاء فوراً عند الشافعية إذا تعمد الفطر بلا عذر (وقال) الحنفيون: يجب قضاء رمضان وجوباً موسعاً بلا تقييد بوقت ولو كان متعمداً الفطر فلا يأثم بتأخيره إلى رمضان الثاني. ويجب العزم على القضاء على الصحيح.
(فائدة) إذا أخر القضاء حتى دخل رمضان آخر (فإن كان) لعذر بأن دام سفره أو مرضه حتى دخل رمضان الثاني، صام الحاضر ثم يقضي الأول ولا فدية عليه عند الأئمة الأربعة والجمهور (وإن أخر) القضاء لغير عذر (فقال) مالك والشافعي وأحمد وإسحاق يصوم رمضان الحاضر ويفدي عن الماضي عن كل يوم مداً من طعام ويقضيه (لما روي) عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال: من كان عليه قضاء رمضان فلم يقضه وهو قوي على صيامه حتى جاء رمضان آخر فإنه يطعم مكان كل يوم مسكيناً مداً من حنطة وعليه مع ذلك القضاء. أخرجه مالك في الموطإ(1)
(وقال) ابن عباس: من فرط في صيام شهر رمضان حتى يدركه رمضان آخر فليصم هذا الذي أدركه ثم ليصم ماقاته ويطعم مع كل يوم مسكيناً أخرجه الدار قطني(2).
(
__________
(1) انظر ص116 ج2 زرقاني الموطأ (فدية من أفطر في رمضان من علة).
(2) انظر ص246 الدار قطني.(2/33)
وقال) الحنفيون والحسن البصري: من أخر قضاء رمضان حتى جاء آخر يلزمه القضاء فقط ولا فدية عليه ولو كان التأخير لغير عذر، لأن القضاء واجب على التراخي مطلقاً فلا يلزم بالتأخير سوى القضاء وهذا هو الراجح، لأنه لم يثبت في لزوم الفدية عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء بل كل ما ورد فيها آثار لا حجة فيها والبراءة الأصلية قاضية بعدم وجوب الفدية حتى يقوم دليل ناقل عنها ولا دليل هنا. وعلى القول بلزوم الفدية هل يسقط القضاء بها؟ ذهب الأكثر إلى أنه لا يسقط (وقال) ابن المنذر: قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وسعيد بن جبير وقتادة: يصوم رمضان الحاضر ويفدي عن الفائت ولا قضاء عليه.
(ب) الكفارة في رمضان
هي إعتاق رقبة ولو صغيرة أو معيبة عيباً لا يفوت كل المنفعة كالعور والمرج أو كافرة- عند الحنفيين- لإطلاق الأحاديث (وقال) الأئمة الثلاثة والجمهور يشترط أن تكون الرقبة مؤمنة حملاً للمطلق في أحاديث كفارة الصيام على المقيد في آية كفارة القتل فإن الرقبة فيها مقيدة بالمؤمنة. فإن لم يجد الرقبة صام شهرين متتابعين ليس فيهما رمضان ولا يوم منهي عن صومه كالعيدين وأيام التشريق. فإن لم يستطع الصيام أعطى ستين مسكيناً- ولو مراهقين- كل واحد نصف صاع من بر أو صاعاً من تمر أو شعير أو زبيب أو قيمة ذلك أو أطعمهم أكلتين مشبعتين عند الحنفيين (لما روي) مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قرأ (وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكين) يقول: هو الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصيام فيفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً نصف صاع من حنطة. أخرجه الدار قطني(1)وفي حديث سلمة بن صخر أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قال: فأطعم وسقا من تمر بين ستين مسكيناً" أخرجه أبو داود(2) ... ... ... ... ... ... ... {215}
__________
(1) انظر ص205 الدارقطني.
(2) انظر ص233 ج2 عون المعبود (الظهار).(2/34)
والوسق ستون صاعاً (وقال) مالك والشافعي: يعطي كل مسكين مداً من غالب قوت البلد (لما) في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: فأتى بعرق فيه نمر قدر خمسة عشرة صاعاً أخرجه أبو داود والدار قطني والبيهقي(1)(وقال) أحمد يعطي كل مسكين مداً من بر أو نصف صاع من تمر أو شعير (قال) أبو زيد المدني: جاءت امرأة من يني بياضة بنصف وسق شعير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المظاهر أطعم هذا فإن مدى شعير مكان مد بر" أخرجه أحمد(2) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {316}
وبه قال ابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وزيد. ولا مخالف لهم في الصحابة ويجزئ الدقيق والسويق وإن غذى المساكين أو عشاهم لم يجزئه عند مالك والشافعي وهو أظهر الروايتين عن أحمد، لأن الشارع قدر ما يعطي لكل مسكين بمد من البر أو نصف صاع من غيره. وإذا أطعمهم لا يعلم أن كل مسكين استوفى ما يجب له (هذا) وظاهر الأحاديث أنه لابد من إطعام ستين مسكيناً ولا يكفي ما دونه وبه قال الجمهور ومنهم الأئمة الثلاثة (وقال) الحنفيون: لو أطعم مسكيناً واحداً في ستين يوماً كفاه، لأن المراد سد حاجة الفقير والحاجة تتجدد بتجدد الأيام.
فكان في اليوم الثاني كمسكين آخر. والراجح مذهب الجمهور والمراد بالإطعام الإعطاء ولا يشترط حقيقة الإطعام وهو وضع المطعوم في الفم. بل يكفي الوضع بين يديه اتفاقاً وفي ذكر الإطعام ما يدل على وجود طاعمين فيخرج الطفل الذي لم يطعم وبه قال الحنفيون. ونظر الشافعي إلى النوع فقال يسلم لوليه(3).
(
__________
(1) انظر ص132 ج10- المنهل العذب المورود (كفارة من أتى أهله في رمضان) وص 243 – الدارقطني. وص 226 ج4 بيهقي (والعرق) بفتحتين، المكتل يسع خمسة عشر صاعاً.
(2) انظر ص68 ج3 مغنى ابن قدامة.
(3) انظر ص118 ج4 فتح الباري (الشرح).(2/35)
والحكمة) في جعل الكفارة من هذه الخصال الثلاثة أن من انتهك حرمة الصوم بالجماع فقد أهلك نفسه بالمعصية فناسب أن يفدي نفسه. (أ) إما بعتق رقبة (لحديث) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منها عضواً من أعضائه من النار" أخرجه الشيخان(1) ... {217}
(ب) وإما بالصوم لأنه جنى على الصوم بإفساده. وكان شهرين لأنه لما أفسد يوماً كان كمن أفسد الشهر كله، لأنه كعبادة واحدة فكلف بشهرين زجراً له.
(جـ) وإما بالإطعام، لأن فيه مقابلة كل يوم من الستين بإطعام مسكين. هذا ولزوم القضاء والكفارة على التراخي عند الأئمة الأربعة ومحمد بن الحسن. وهو الأصح. وعلى الفور عند أبي يوسف. هذا والكلام هنا ينحصر في ثلاثة فروع: (الأول) ما يوجب القضاء والكفارة: يوجبهما أمور المذكور منها هنا ثلاثة: (أولاً) الجماع: بتغييب جميع الحشفة أو قدرها من مقطوعها عمداً من مكل مختار لم يطرأ عليه مبيح للفطر بغير صنعه. كمرض- في أداء رمضان وكان ناوياً الصوم وجامع في أحد سبيلي آدمي حي مشتهي وإن لم ينزل. فيجب القضاء والكفارة على الفاعل والمفعول عند الحنفيين ومالك وهو رواية عن أحمد (وقال) الشافعي: الكفارة على الفاعل فقط ويأتي بيانه. أما القضاء فلإدراك ما فاته (ولحديث) حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي يفطر يوماً في رمضان أن يصوم يوماً مكانه" أخرجه البيهقي(2) ... ... ... {218}
(
__________
(1) انظر ص477 و 478 ج11 فتح الباري (قول الله تعالى: أو تحرير رقبة) وص 151 ج10 نووي (فضل العتق).
(2) انظر ص226 ج4 بيهقي (من روي الأمر بقضاء يوم مكانه).(2/36)
دل) على وجوب قضاء اليوم الذي أفسده. وبه قال الحنفيون ومالك وأحمد وهو مشهور مذهب الشافعي. وعنه انه لا قضاء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الأعرابي بالقضاء (وقال) الأوزاعي: إن كفر بالعتق أو الإطعام صام مكان اليوم الذي أفطره. وإن صام شهرين متتابعين؛ دخل فيهما قضاء ذلك اليوم.
(وأما) لزوم الكفارة، فلحديث حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت قال: وما شأنك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان قال: فهل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا. قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا قال فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً؟ قال لا. قال: اجلس فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر فقال تصدق به فقال: يا رسول الله ما بين لابتيها أهل بيت أمقر منا فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت ثناياه. قال فأطعمه إياهم" أخرجه السبعة. وهذا لفظ أبي داود. وصححه الترمذي(1) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {219}
وقال الشافعي: وقول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي أفطر فتصدق عليه: خذه فأطعمه أهلك، يحتمل معاني: يحتمل أن يكون الكفارة على من قدر عليها. وهذا رجل لم يقدر على الكفارة فلما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً وملكه قال الرجل: ما أحد أفقر إليه منا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خذه فأطعمه أهلك لأن الكفارة إنما تكون بعد الفضل عن قوته واختار الشافعي لمن كان على مثل هذا الحال أن يأكله وتكون الكفارة عليه ديناً فمتى ما ملك يوماً كفر.(2)
__________
(1) انظر المراجع رقم 64 ص297 (ما يلزم فيه التتابع) و (اللابتان) تثنية لابة بالياء الموحدة وهي الحرة- بفتح الحاء وشد الراء- أرض ذات حجارة سود.
(2) انظر ص46 ج2 تحفة الأحوذي.(2/37)
وهكذا قال الجمهور ومنهم الحنفيون ومالك وروي عن أحمد، لأن الرجل لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم يعجزه عن الخصال الثلاث. أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالجلوس ولما أتى بعرق التمر أمره بإخراجه في الكفارة. فلو كانت تسقط بالعجز لم يكن عليه شيء ولم يأمر بإخراجه. فدل هذا على ثبوتها في ذمته. وإنما أذن له النبي صلى الله عليه وسلم في إطعام عياله، لأنه كان محتاجاً ومضطراً إلى الإنفاق عليهم في الحال. والكفارة على التراخي فأذن له في أكله وبقيت الكفارة في ذمته (وقال) عيسى بن دينار المالكي: تسقط الكفارة بالإعسار لما تقرر أنها لا تصرف على المكفر ولا على عياله. ولم يبين له النبي صلى الله عليه وسلم استقرارها في ذمته إلى حين يساره وهو ظاهر مذهب أحمد وقول للشافعي (واستدل) له بحديث علي بن أبي طالب "أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هلكت. فقال: وما أهلكك؟ قال: أتيت أهلي في رمضان قال هل تجد رقبة؟ قال لا قال فصم شهرين متتابعين. قال لا أطيق الصيام قال فأطعم ستين مسكيناً لكل مسكين مد قال ما أجد فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعاً. قال أطعمه ستين مسكيناً قال والذي بعثك بالحق ما بالمدينة أهل بيت أحوج منا. قال فانطلق فكله أنت وعيالك فقد كفر الله عنك" أخرجه الدار قطني(1). ... ... {220}
(دل) على عدم استقرار الكفارة في ذمته (وقال) بعضهم: ما أكله الرجل كفارة له خصوصية (ورد) بأن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل ولا دليل (وأجاب) الجمهور بأن الحديث لا دلالة فيه على سقوط الكفارة بالإعسار، لاحتمال أن النبي صلى الله عليه وسلم تطوع بالتكفير عنه وسوغ له صرفها إلى أهله لبيان أنه يجوز التطوع بالكفارة عن الغير بإذنه وأنه يجوز للمتطوع صرفها إلى أهل المكفر(2).
(
__________
(1) انظر ص251 الدارقطني.
(2) انظر ص113 ج1 كفاية الأخبار.(2/38)
فائدة) دلت أحاديث الكفارة على ثلاثة أمور: (أ) وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان عامداً وهو قول عامة العلماء(1)(وأما) من جامع تأسيساً فلا يفطر عند الحنفيين والشافعي لدخول الجماع في عموم الحديث من أفطر في رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة(2)(وهو) يرد على من قال بالقضاء كمالك والثوري وعلى من قال بلزوم القضاء والكفارة وهو أحمد ونافع وابن الماجشون المالكيان (هذا) وقد أجمع العلماء على أن من وطئ في نهار رمضان عامداً وكفر ثم وطئ في يوم آخر فعليه كفارة أخرى. وإن لم يكفر عن اليوم الأول فعليه كفارة واحدة عند الحنفيين وهو رواية عن أحمد لأنها جزاء عن جناية تكرر سببها قبل استيفائها فتتداخل (وقال) مالك والليث والشافعي: عليه كفارتان وهو رواية عن أحمد، لأن كل يوم عبادة مستقلة. فإذا وجبت الكفارة بإفساده لم تتداخل كرمضانين. أما من جامع مرتين في يوم واحد ولم يكفر عن الأول فيلزمه كفارة واحدة إجماعاً. وإن كفر عن الأول فلا يكفر ثانياً عند الثلاثة (وقال) احمد: عليه كفارة ثانية. وكذا كل من لزمه الإمساك وحرم عليه الجماع في نهار رمضان وإن لم يكن صائماً- كمن لم يعلم برؤية الهلال إلا بعد طلوع الفجر أو نسي النية أو أكل عامداً ثم جامع- فإنه يلزمه كفارة عند أحمد، لأن الصوم في رمضان عبادة تجب الكفارة بالجماع فيها فتتكرر بتكرر الوطء إذا كان بعد التكفير كالحج (قال) الثلاثة: لاشيء عليه بذلك الجماع، لأنه لم يصادف الصوم ولم يمنع صحته فلا يوجب شيئاً كالجماع في الليل(3).
(
__________
(1) عامة العلماء) وشذ الشعبي وسعيد بن جبير وقتادة في قولهم: عليه القضاء دون الكفارة قال الخطابي بشبه أن يكون الحديث لم يبلغهم.
(2) تقدم رقم 208 ص473 (ما لا يفسد الصوم).
(3) انظر ص70 ج3 مغنى ابن قدامة.(2/39)
وجملة) القول في هذا عند مالك أن الكفارة تتعدد بتعدد الأيام ولا تتعدد بتعدد المفطر سواء كفر عن الأول أم لا، لبطلان صيامه في ذلك اليوم بالفطر الأول. وأما بالنسبة للمفعول فتتعدد. فإذا جامع امرأتين أو أكثر في يوم واحد تعددت عليه الكفارة بتعدد المكفر عنه(1).
(ب) دلت الأحاديث على أن الكفارة تكون بأحد الخصال الثلاثة على الترتيب. لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما يقل السائل من أمر إلا بعد عجزه عنه، ولأنه عطف بعض الجمل على بعض بإلغاء التي للترتيب (وبهذا) قال الحنفيون والشافعي وابن حبيب المالكي وهو مشهور مذهب أحمد (وقالت) المالكية: الكفارة واجبة على التخيير وهو رواية عن أحمد (لحديث) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً أفطر في رمضان أن يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكيناً (الحديث) أخرجه مالك وأحمد ومسلم وأبو داود والدار قطني والبيهقي. وفي بعضها ترك التقييد بالتتابع(2) ... ... ... ... ... ... {221}
__________
(1) انظر ص641 ج1- الفجر المنير (قال) ابن رشد: والسبب في اختلافهم تشبيه الكفارات بالحدود. فمن شبهها بها قال. كفارة واحدة تجزيء في ذلك عن أفعال كثيرة كما يلزم الزاني جلد واحد ولو زنا ألف مرة إذا لم يجلد لواحد منها ومن لم يشبهها بالحدود جعل لكل واحد من الأيام حكماً منفرداً بنفسه في هتك الصوم فيه، أوجب في كل يوم كفارة. والفرق بينهما أن الكفارة فيها نوع من القربة والحدود زجر محض (انظر ص214 ج1 بداية المجتهد).
(2) انظر ص99 ج2 زرقاني الموطأ (كفارة من أفطر في رمضان) وص 93 ج10- الفتح الرباني. وص 226 و 227 ج7 نووي. وص 130 ج10- المنهل العذب المورود. وص 251 الدارقطني وص 225 ج4 بيهقي.(2/40)