وقال) مالك: يجمع بين المغرب والعشاء لمطر واقع أو متوقع ، وللطين مع الظلمة إذا كان الطين كثيراً يمنع أواسط الناس من لبس النعل.
وكره الجمع بين الظهر والعصر للمطر،لأن الغالب أن الناس وقتئذ ينتشرون فى أسواقهم وزراعائهم وأمور معايشهم ولا يمنعهم مطر ولا طين من ذلك ، فيكره أن يمتنعوا لذلك من أداء فرائضهم فى أوقاتها المختارة ،وأمما المغرب والعشاء فإن وقتهما ليس وقت سعى لما ذكر ،بل إذا جمع بينهما رجع إلى منزله للراحة .
(وجملة) القول فى هذا ما قاله النووى: ويجوز الجمع بالمطر فى وقت الأولى ولا يجوز فى الثانية على الأصح لعدم الوثوق باستمراره إلى الثانية.
ويشترط وجوده عند الإحرام للأولى والفراغ منها وافتتاح الثانية . ويجوز ذلك لمن يمشى إلى الجماعة فى غير كِنّ بحيث يلحقه بلل المطر. وبه قال جمهور العلماء فى الظهر والعصر وفى المغرب والعشاء . وخصه مالك وأحمد بالمغرب والعشاء .وأما المريض فالمشهور من مذهب الشافعى والأكثرين أنه لا يجوز له الجمع . وجوزه مالك وأحمد وجماعة من الشافعية ،وهو قوى فى الدليل (1) .
والدليل ما تقدم عن ابن عباس قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر ،فقيل لابن عباس : ما أراد إلى ذلك ؟ قال: أراد ألا يحرج أمته (2) .
(
__________
(1) ص213 ج5 شرح مسلم (الجمع بين الصلاتين) و( الكن) بكسر فشد : السترة ،يقال: أكننته من باب قتل سترته فى كنه.
(2) تقدم بالحديث رقم 75 ص74 . وفى رواية فيه : ولا سفر . بدل قوله: ولا مطر . ولم يقع مجموعاً بالثلاثة فى كتب الحديث . بل المشهور : من غير خوف ولا سفر و( ما أراد إلى ذلك؟) أى ما قصد بجمعه بين الصلاتين ؟ فإلى بمعنى الباء . وفى رواية أحمد : وما أراد لغير ذلك ،أى ما قصد بجمعه لغير الخوف والمطر.(1/79)
وأجاب) من لم يقل بالجمع للمرض ونحوه بأنه لا يصح حمل الجمع فيه على الجمع للمرض ، لأنه لو كان كذلك لما صلى معه صلى الله عليه وسلم إلا من كان مريضاً . والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم جمع بأصحابه كما صرح بذلك ابن عباس فى روايته . قاله الحافظ(1) .
(بل يحمل) الجمع فى الحديث على الجمع الصورى كما تقدم . ويؤيده ما تقدم عن عمرو بن دينار قال :أخبرنى أبو الشعثاء جابر بن زيد أنه سمع ابن عباس يقول: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانياً جميعاً وسبعاً جميعاً . قلت له: يا ابا الشعثاء أظنه أجل الظهر وعجل العصر،وأخر المغرب وعجل العشاء . قال: وأنا أظن ذلك(2) .
(وقول) النووي: حمله على الجمع الصوري احتمال ضعيف أو باطل ، لأنه مخالف للظاهر لا تحتمل (تقدم رده ) (3) .
(ومما يدل) على تعيين حمل أحاديث الباب على الجمع الصوري قول ابن مسعود :جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء . فقيل له فى ذلك ،فقال : صنعت هذا لكى لا تخرج أمتي. أخرجه الطبرانى فى الأوسط والكبير. وفى سنده عبد الله بن عبد القدوس .
ضعفه ابن معين والنسائي ووثقه ابن حبان . وقال البخاري : صدوق . قال الهيثمى : وقد روى هذا عن الأعمش وهو ثقة(4) . [84].
(وهذه) الرواية تعين المراد بلفظ جمع ،لما تقرر فى الأصول أن لفظ جمع بين الظهر والعصر لا يعم وقتهما ،بل مدلوله لغة الهيئة الاجتماعية وهى موجودة فى جمع التقديم والتأخير والجمع الصورى ،إلا أنه لا يتناول جميعها ولا اثنين منها ،إذ الفعل المثبت لا يعم أقسامه ولا يتعين واحد إلا بدليل .
وقد قام الدليل على أن الجمع فى أحاديث الباب هو الجمع الصورى.
(
__________
(1) ص16 ج2 فتح البارى (تأخير الظهر إلى العصر).ٍ
(2) تقدم رقم 78 ص75.
(3) تقدم ص75.
(4) ص161 ج2 مجمع الزوائد (الجمع للحاجة).(1/80)
وقول) الحافظ: وإرادة نفى الحرج تقدح فى حمل الجمع على الجمع الصورى ،لأن القصد إليه لا يخلو عن حرج (1) . (يجاب عنه) بأن الشارع قد عين الأوقات بعلامات لا تكاد تلتبس على العامة فضلا عن الخاصة ، فلا حرج فى مراعاتها لمن أراد الجمع الصورى . ولا شك أن فعل الصلاتين والخروج إليهما مرة واحدة أخف وأيسر من خلافه.
( ولا يقال ) حمل الجمع فى الأحاديث على الجمع الصورى مناف لقوله صلى الله عليه وسلم : لئلا تحرج أُمتى ، وإلغاء لمضمونه ( لأنا نقول ) رفع الحرج ليس منسوباً إلى أقواله صلى الله عليه وسلم المبينة للأوقات الشاملة للجمع الصورى ، بل الحرج منسوب لأفعاله صلى الله عليه وسلم ليس إلا ( قالت ) عائشة : ما صلى النبى صلى الله عليه وسلم صلاة لآخر وقتها مرتين حتى قبضه الله. ذكره الشوكانى(2) . ... ... ... ... [85].
فربما ظن ظان أن فعل كل صلاة فى أول وقتها متحتم ،لمواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك. فكان فى جمعه جمعاً صورياً تخفيف وتسهيل على من اقتدى بمجرد الفعل . وقد كان اقتداء الصحابة بالأفعال أكثر من اقتدائهم بالأقوال كما هو معروف . وتمامه فى المنهل(3) .
(ولذا) قال الحنفيون: لا يجوز الجمع بين الصلاتين لسفر ولا مطر ولا مرض ولا عذر آخر إلا للحاج يجمع بين الظهر والعصر بعرفة جمع تقديم ، وبين المغرب والعشاء بالمزدلفة جمع تأخير.
(10) الأذان والإقامة للمجموعتين :
__________
(1) ص17 ج2 فتح البارى (تأخير الظهر إلى العصر).
(2) ص267 ج3 نيل الأوطار (جمع المقيم لمطر أو غيره).
(3) ص69 ج7 المنهل العذب(الجمع بين الصلاتين ).(1/81)
يسن لمن جمع بين الصلاتين لسفر أو غيره أن يؤذن للأولى ويقيم لكل منهما (لحديث) جابر بن عبد الله أن النبى صلى الله عليه وسلم سار حتى أتى عرفة رأى القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له حتى إذا انتهى إلى بطن الوادى خطب الناس ثم أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئاً .أخرجه النسائى(1) . [86].
وفى هذا خلاف يأتى بيانه فى الحج ،وأن الراجح ما دل عليه حديث جابر(2) :
هذا. ويستحب السفر لمصلحة دينية أو دنيوية ،وهو وإن كان فيه مشقة على النفس ففيه فوائد دنيوية وأُخروية عظيمة يأتى بيانها. ويطلب ممن عزم على السفر التحلى بآداب والاشتغال بالدعاء والذكر كما يأتى تفصيله فى الحج(3) .
(فائدة) يجوز ركوب اثنين على الدابة إذا كانت تطيق ذلك . ويسن أن يكون صاحبها فى المقدمة إلا إذا أذن لغيره بالركوب أمامه (لقول) بريدة الأسلمى : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشى إذ جاءه رجل معه حمار فقال : يا رسول الله راكب ،فتأخر الرجل.فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ،أنت أحق بصدر دابتك منى إلا أن تجعله لى . فقال : فإنى جعلته لى . فركب .أخرجه أحمد وأبو داود وابن حبان بسند جيد (4) . [87].
( ولقول ) عمر : قضى النبى صلى الله عليه وسلم أن صاحب الدابة أحق بصدرها . أخرجه أحمد بسند جيد (5) . [88].
(11) السفر يوم الجمعة:
__________
(1) ص100 ج1 مجتبى ( الجمع بين الظهر والعصر بعرفة).
(2) يأتى ص184 ،189 ج9 إرشاد الناسك (الجمع بعرفة ومزدلفة).
(3) يأتى ص6-16 ج9 (فضل السفر وآدابه وأذكاره).
(4) ص353 ج5 مسند أحمد (حديث بريدة الأسلمى...) وص28 ج3 سنن أبى داود (رب الدابة أحق بصدرها).
(5) ص19 ج1 (مسند عمر رضى الله عنه).(1/82)
يباح السفر يوم الجمعة قبل الزوال عند الجمهور ومنهم الحنفيون ومالك وأحمد فى المشهور عنهما والشافعى فى القديم (لحديث) الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال: بعث النبى صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة فى سرية فوافق ذلك يوم الجمعة ، فغدا أصحابه ،فقال : أتخلف فأصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ألحقهم ،فلما صلى مع النبى صلى الله عليه وسلم رآه فقال له: ما منعك أن تغدو مع أصحابك ؟ قال: أردت أن أُصلى معك ثم أحلقهم . فقال: لو أنفقت ما فى الأرض ما أدركت فضل غدوتهم .أخرجه أحمد والبيهقى وقال :انفرد به الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف.وأخرجه الترمذى وقال : هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه (1) . [89].
(وروى) الأسود بن قيس عن أبيه قال: أبصر عمر رضى الله عنه رجلا عليه هيئة السفر فسمعه يقول: لولا أن اليوم يوم جمعة لخرجت ،فقال عمر : اخرج فإن الجمعة لا تحبس من سفر .أخرجه الشافعى والبيهقى (2) (27).
( وقال الشافعى ) فى الجديد : يمنع السفر يوم الجمعة من بعد طلوع الفجر ، وهو رواية عن مالك وأحمد ( لحديث ) ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : من سافر يوم الجمعة دعت عليه الملائكة ألا يصحب فى سفره ولا يعان على حاجته . أخرجه الدارقطنى فى الأفراد ، وفى سنده ابن لهيعة متكلم فيه . ... ... ... [90]
(
__________
(1) ص224 منه (مسند عبد الله بن العباس..) وص 187 ج3 سنن البيهقى (لا تحبس الجمعة عن سفر )وص 372 ج1 تحفة الأحوذى (فى السفر يوم الجمعة) و 0مقسم) بكسر فسكون ،ابن بجرة بضم فسكون . و( السرية) كعطية : طائفة من الجيش أكثرها أربعمائة . و( الغدوة) بفتح الغين : المرة من العدو وهو السير من أول النهار إلى الزوال . والمراد منه هنا الذهاب إلى القتال.
(2) ص154 ج1 بدائع المنن. وص 187 ج3 سنن البيهقى ( لا تحبس الجمعة عن سفر).(1/83)
ويعارضه) ما تقدم . والأولى الجواز مطلقاً ،لأن ذمته بريئة من الجمعة. فلم يمنعه إمكان وجوبها عليه كما قبل يومها (واختار) أبو إسحاق المروزى وإمام الحرمين جواز السفر يومها لواجب دون غيره 0وقال) كثير من الشافعية :يجوز السفر يومها لمطلق الطاعة واجبة أو مندوبة.
(وأما السفر) بعد دخول وقتها ممن تجب عليه ،فالجمهور على منعه لما تقدم فى حديث ابن عمر من أن الملائكة تدعو على من يسافر يوم الجمعة(1) ولأن الجمعة قد وجبت عليه فلا يجوز له الاشتغال بما يمنع منها كاللهو والتجارة والسفر.
(وروى) عن أبى حنيفة والأوزاعى جواز السفر بعد دخول وقت الجمعة كسائر الصلوات،ولما تقدم عن عمر أنه قال: الجمعة لا تحبس عن سفر (2) .
( وأجاب ) عنه الجمهور بأنه محمول على السفر قبل الوقت جمعاً بين الأدلة،وفرقوا بين الجمعة وغيرها من الصلوات بوجوب الجماعة فى الجمعة دون غيرها ( فالظاهر ) ما ذهب إليه الجمهور من منع السفر بعد دخول الوقت لمن وجبت عليه إلا أن يخشى ضرراً من تخلفه للجمعة كانقطاع رفقة لا يمكن السفر إلا معها . وقد أجاز الشارع التخلف عن الجمعة لعذر المطر ونحوه ، فجوازه لما هو أشق منه أولى.
( 12 ) آداب الرجوع من السفر :
يستحب لمن قدم من السفر أن يبدأ بالمسجد فيصلى فيه ركعتى القدوم من السفر،وأن يجلس من يقصد للسلام عليه والتهنئة فى مكان بارز سهل على زائريه ،وألا يأتى أهله بغتة (لقول) جابر بن عبد الله :كنت مع رسول الله ثلى الله عليه وسلم فى سفر ،فلما قدمنا المدينة قال لى : ادخل المسجد فصلى ركعتين .أخرجه البخارى(3) .[91].
(
__________
(1) تقدم رقم 90.
(2) تقدم أثر 27.
(3) ص117 ج6 فتح البارى( الصلاة إذا قدم من سفر – الجهاد).(1/84)
ولقول) كعب بن مالك : كان النبى صلى الله عليه وسلم لا يقدم من سفر إلا نهاراً فى الضحى ،فإذا قدم بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ثم جلس فيه فيأتيه الناس فيسلمون عليه .أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود (1) . [92]
(ولقول) أنس بن مالك: كان النبى صلى الله عليه وسلم لا يطرق أهله ليلا، كان يدخل عليهم غدوة أو عشية .اخرجه أحمد والبخارى (2) . [93].
( ولحديث ) جابر بن عبد الله أن النبىصلى الله عليه وسلم قال له : إذا دخلت ليلا فلا تدخل على أهلك حتى تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة ، وإذا دخلت فعليك الكيس الكيس . أخرجه أحمد والبخارى (3) . [94].
(
__________
(1) ص79 ج5 الفتح الربانى . وص117 ج6 فتح البارى . وص 227 ج5 نووى مسلم . وص 91 ج3 سنن ابى داود( الصلاة عند القدوم من السفر ) والتقييد بالنهار باعتبار الغالب وإلا ففى الحديث بعده :كان يدخل عليهم غدوة أو عشية (والغدوة) ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس . (والعشية) ما بعد الزوال إلى الغروب. والمراد أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى من سفره ليلا مكث بالمسجد حتى يصلى الصبح ثم يذهب إلى بيته . وإذا أتى نهاراً مكث به ولا يدخل بيته إلا فى العشية . والحكمة فى ذلك أن يستعد أهله بالنظافة وتغيير الملابس.
(2) ص79 ج5 الفتح الربانى . وص401 ج3 فتح البارى (الدخول بالعشى –الحج).
(3) ص80 ج5 الفتح الربانى ،وص 273 ج9 فتح البارى (طلب الولد) .
و(المغيبة) من أغابت المرأة ،من غاب عنها زوجها . واستحدادها : استعدادها بالنظافة لتستقبله على أحس حال. و( الشعثة) بفتح فكسر : من تلبد شعرها لعدم غسله وتمشيطه .
و(الكيس) بفتح فسكون فى الأصل : العقل أريد به هنا الجماع ،فكأنه جعل طلب الولد من الجماع عقلا . وفيه الحث على طلب الولد واستعمال الكيس والرفق فيه .(1/85)
أفادت) هذه الأحاديث أنه يكره لمن طال سفره ان يقدم على امرأته ليلا بغتة (فأما) من كان سفره قريباً تتوقع امرأته إتيانه ليلا فلا بأس . ففى رواية : إذ أطال الرجل الغيبة ،وكذا إذا علمت امرأته وأهله وقت قدومه فلا بأس بقدومه متى شاء ،لزوال سبب النهى وهو مفاجأة أهله قبل أن يتأهبوا لقدومه . ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم : فلا تدخل على أهلك حتى تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة.
(ويستحب) لمن قدم من سفر ودخل بيته أن يقول ما فى حديث ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ1 اراد الرجوع (يعنى من السفر) قال: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون. وإذا دخل على أهله قال: توباً توباً ،لربنا أوباً ،لا يغادر حوباً . أخرجه أحمد وابن السنى ، والطبرانى بسند رجاله رجال الصحيح(1) . [95].
(ويستحب) أن يقال لمن قدم من سفر : الحمد لله الذى سلمك ،الحمد لله الذى سلمك ،الحمد لله الذى جمع الشمل بك ،ونحو ذلك(قالت) عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة ، فلما دخل استقبلته فأخذت بيده فقلت : الحمد لله الذى نصرك وأعزك وأكرمك .أخرجه ابن السنى . [96].
( 13 ) سفر المرأة :
لا يحل للمرأة السفر ولو للحج إلا مع محرم أو زوج (لما تقدم) عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " لا تسافر امرأة إلا ومعها ذو محرم" (الحديث) (2) .
(وتقدم) عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر يوماً وليلة إلا مع ذى محرم " (3) .
(
__________
(1) ص75 ج5 الفتح الربانى ، و(توباً) مصدر تاب منصوص على تقدير: تب علينا توباً أو نسألك توباً . و(أوباً) من آب إذا رجع . و( الحوب) الإثم .
(2) تقدم رقم 44 ص51 (مشاقة السفر).
(3) تقدم رقم 45 ص51.(1/86)
فهذه) الأحاديث تشمل كل سفر ومنه الحج ،ولا تعارض آية : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } ، لأن الأحاديث تضمنت أن المحرم فى حق المرأة من جملة الاستطاعة – علىالسفر- المطلقة فى الاية .
هذا. والمحرم كل من حرم عليه نكاح المرأة على التأييد لسبب مباح لحرمتها . وسيأتى بيان من ليس بمحرم (1) .
ومنه عند الحنبلية المحرم الكافر فإنه لا يعد محرماً لقريبته المسلمة عندهم، لأنه لا يؤمن أن يفتنها عن دينها.
( وهل العبد ) كالمحرم ؟ عند الجمهور لا ( لحديث ) ابن عمر : أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : سفر المرأة مع عبدها ضيعة .أخرجه سعيد بن منصور والبزار والطبرانى فى الأوسط بسند فيه ضعيف (2) . [97].
وقيل إنه كالمحرم إذا كانافى قافلة .أما إذا كانا وحدهما فلا ،لهذا الحديث.
هذا. وقد أطلق السفر فى الحديث الأول وقيد فى غيره . وقد عمل أكثر العلماء فى هذا الباب بالمطلق لاختلاف التقديرات ،وليس المراد بالتحديد ظاهره ،بل كل ما يسمى سفراً ،فالمرأة منهية عنه بغير زوج أو محرم (3) .
(وقال) الحنفيون : النهى مقيد بسفر القصر(لحديث) أبى سعيد الخدرى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: لا تسافر المرأة سفر ثلاثة أيام فصاعداً إلا مع أبيها أو أخيها أو ابنها أو زوجها أو مع ذى محرم . أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه (4) .[98].
(وجه) الدجلالة أنه قيد المنع من سفرها وحدها بالثلاث فيعمل به،لأنه المتحقق ،وما عداه مشكوك فيه فيترك على الأصل .
(
__________
(1) يأتى ص31 ج9 (حج المرأة).
(2) ص214 ج3 مجمع الزوائد (سفر النساء)..
(3) ص103 ج9 شرح مسلم ( سفر المرأة مع محرم..).
(4) ص86 ج5 الفتح الربانى . وص 108 ج9 نووى مسلم . وص 263 ج10 المنهل العذب (المرأة تحج بغير محرم) ،وص 109 ج2 سنن ابن ماجه (المرأة تحج بغير ولى).(1/87)
وأجاب) الجمهور بأن التحديد غير مارد ،لأنه مختلف باختلاف حال السائلين فلا يعمل بمفهومه ،ويحتمل أن يكون ذكر الثلاث قبل ذكر ما دونها ، فيؤخذ بأقل ما ورد من ذلك وهو البريد (فعن أبى هريرة ) أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: لا تسافر امرأة بريداً إلا مع زوج أو ذى رحم محرم.أخرجه الطحاوى والبيهقى (1) . [99].
(وقال) الشوكانى: قد ورد من حديث ابن عباس عند الطبرانى ما يدل على اعتبار المحرم فيما دون البريد. ولفظه : لا تسافر المرأة ثلاثة أميال إلا مع زوج أو ذى محرم . [100].
(وهذا) هو الظاهر، أعنى الأخذ بأقل ما ورد ،لأن مافوقه منهى عنه بالأولى(والتنصيص) على ما فوقه كالثلاث واليوم والليلة واليومين والليلتين (لا ينافيه) لأن الأقل موجود فى ضمن الأكثر ،وغاية الأمر أن النهى عن الأكثر يدل مفهومه على أن ما دونه غير منهى عنه ،والنهى عن الأقل منطوق ،وهو أرجح من المفهوم (2) .
( فائدة ) يستحب لمن له أكثر منزوجة وأراد السفر بإحداهن أن يقرع بينهن تطبيباً لخاطرهن ، فمن خرج سهمها أخذها معه ( لحديث ) عائشة : أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه . أخرجه أحمد والبخارى وابن ماجه وأبو داود . واللفظ له (3) . [101].
(السادس ) صلاة الخوف
الكلام فيها ينحصر فى تسعة فروع:
(1) سببها: هو حضور العدو يقيناً ولو لم يشتد الخوف.
(
__________
(1) ص356 ج1 شرح معانى الآثار (المرأة لا تجد محرماً ،هل يجب عليها فرض الحج؟ ) وص 139 ج3 سنن البيهقى) حجة من قال: لا تقصر المرأة الصلاة فى أقل من ثلاثة أيام).
(2) ص16 ج5 نيل الأوطار (النهى عن سفر المرأة إلا بمحرم).
(3) ص87 ج5 الفتح الربانى . وص 250 ج9 فتح البارى (القرعة بين النساء إذا أراد سفراً)وص 243 ج2 سنن أبى داود (القسم بين النساء )وص 311 ج1 سنن ابن ماجه (القسمة بين النساء)وص 311 ج1 سنن ابن ماجه (القسمة بين النساء ).(1/88)
2) دليلها: هى مشروعة بالكتاب والسنة(قال) تعالى : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ } الآية (1).
(وقد ثبت) عن النبى صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة أنه صلاها مع أصحابه رضى الله عنهم كما سيمر عليك.
(3) شرعت فى السنة السابعة من الهجرة على الراجح(لقول) جابر بن عبد الله : غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ست مرار قبل صلاة الخوف ، وكانت صلاة الخوف فى السنة السابعة .أخرجه أحمد وفى سنده ابن لهيعة ضعيف (2) . [102].
(4) حكمها: قد أجمع العلماء على أنها كانت مشوعة فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم .واختلفوا فى جوازها بعد وفاته صلى الله عليه وسلم (فقال) الجمهور: هى جائزة بعده لا تختص بزمانه ،لعموم آية: { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ } . ولفتوى ابن عمر وغيره من الصحابة بها بعد النبى صلى الله عليه وسلم ،وفعلهم لها فى عدة أماكن ،وإجماعهم على ذلك, وقد تقدم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: صلوا كما رأيتمونى أُصلى (3) .
(وقال) المزنى والحسن بن زياد : إنها غير مشروعة بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم . وروى عن أبى يوسف لمفهوم آية : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ } فإنه يفيد أنه إذا لم يكن فيهم لا تصلى بهذه الكيفية .
(وقال) بعض فقهاء الشام : تؤخر الصلاة فى الحرب إلى وقت الأمن كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق.
(
__________
(1) سورة النساء :آية 102.
(2) ص7 ج7 الفتح الربانى . (ست مرار) المراد بها الغزوات التى وقع فيها قتلا. وهى بدر وأحد والخندق وقريظة والمريسيع (بنى المصطلق )وخيبر .
(3) تقدم رقم 23 ص27 (ترتيب الفوائت).(1/89)
وسبب) الاختلاف أن صلاة النبى صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الخوف،هل هى عبادة أو لمكان فضل النبى صلى الله عليه وسلم ؟ فمن رأى أنها عبادة ،لم ير أنها خاصة بزمانه صلى الله عليه وسلم ،ومن رآها لمكان فضله ،رأى أنها خاصة به صلى الله عليه وسلم .
قال الطحاوى : كان أبو يوسف قد قال مرة: لا تصلى صلاة الخوف بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وزعم أن الناس إنما صلوها معه صلى الله عليه وسلم لفضل الصلاة معه . وهذا القول عندنا ليس بشئ (1) .
(وأجاب) الجمهور:
(أولا) بأن الأصل فى فعل النبى صلى الله عليه وسلم التشريع حتى يقوم دليل على التخصيص . فآية : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ } كآية : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } . وليس هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم اتفاقاً ،وإن كان هو المخاطب به. فالحكم بعده باق لا سيما وقد قال صلى الله عليه وسلم :صلوا كما رأيتمونى أُصلى . فمنطوقه مقدم على مفهوم آية : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ } .
وأيضاً فإن شرط كونه فيهم إنما ورد لبيان الحكم لا لخصوص وجوده ، والمعنى: بين لهم بفعلك كيفية صلاة الخوف لكونه لا لخصوص وجوده ، والمعنى : بينلهم بفعلك كيفية صلاة الخوف لكونه أوضح من القول( قال ) ابن المنير: الشرط إذا خرج مخرج التعليم لا يكون له مفهوم كالخوف فى قوله : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ } (2) .
(ثانياً) بأن تأخيره صلى الله عليه وسلم يوم الخندق كان قبل مشروعية صلاة الخوف فهو منسوخ بها،ويحتمل أنه شغله المشركون فنسى الصلاة(3) .
(
__________
(1) ص189 ج1 شرح معانى الآثار (صلاة الخوف).
(2) سورة النساء :آية 101.
(3) حديث تأخير الصلاة يوم الخندق تقدم رقم 20 ص25 .(1/90)
ويؤيده) مذهب الجمهور تأدية الصحابة والأئمة بعدهم صلاة الخوف فى عدة أماكن من غير نكير بعد وفاته صلى الله عليه وسلم (قال) النووى قد ثبتت الآثار الصحيحة عن جماعة من الصحابة أنهم صلوها فى مواطن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مجامع بحضرة كبار الصحابة(وممن) صلاها على بن أبى طالب فى حروبه بصفين(1) وغيرها ،وحضرها من الصحابة خلائق لا ينحصرون (ومنهم) سعد بن أبى وقاص وأبو موسى الأشعرى البيهقى وغيره ،وبعضها فى سنن أبى داود.
قال البيهقى: والصحابة الذين رأوا صلاة النبى صلى الله عليه وسلم فى الخوف لم يحملها أحد منهم على تخصيصها للنبى صلى الله عليه وسلم ولا بزمنه، بل رواها كل واحد وهو يعتقدها مشروعة على الصفة التى رآها (2) .
( 5 ) وشروط أربعة:
(أ) حضور العدو يقيناً أو خوف من نحو سبع كحية عظيمة أو حرق أو غرق ،وإن لم يخف فوت الوقت على الصحيح عند الحنفية (وقالت الشافعية) : يشترط تأديتها آخر الوقت ،وهو قول لبعض الحنفيين ، فلو صلوها مع ظن حضور العدو فى غير جهة القبلة فبان خلافه أعادوا .
(
__________
(1) صفين ،كسجين : موضع بشاطئ الفرات كانت به الواقعة العظمى بين على ومعاوية غرة صفر سنة 37 هجرية..
(2) ص405 ج4 شرح المهذب (مذاهب العلماء فى صلاة الخوف).(1/91)
قال) أبو الفرج عبد الرحمن بن قدامة : ومن صلى صلاة الخوف لسواد ظنه عدواً فبان أنه ليس بعدو أو بينه وبينه ما يمنعه منه فعليه الإعادة ،سواء أصلى صلاة شدة الخوف او غيرها ،وسواء أكان ظنهم مستنداً إلى خبر ثقة او غيره أو رؤية سواد أو نحوه ،لأنه ترك بعض واجبات الصلاة ظناً منه أنه قد سقط فلزمته الإعادة ،كما لو ترك غسل رجليه ومسح على خفيه ظناً منه أن ذلك يجزى فباتا مخرقين ،وكما لو ظن المحدث أنه متطهر فصلى ،ويحتمل ألا تلزم الإعادة إذا كان بينه وبين العدو ما يمنع العبور ،لأن سبب الخوف متحقق وإنما خفى المانع (1) .
(ب) أن يكون فى المصلين كثرة يمنكن تفريطهم طائفتين كل طائفة تقاوم العدو .
(حـ) وأن يخاف هجوم العدو .
(د) وأن يكون قتاله مباحاً . فتجوز فى قتاله الكفار ،ولأهل العدل فى قتال البغاة وقطاع الطرق،ولا يجوز للبغاة والقطاع أن يصلوا صلاة يرتكبون فيها ما لا يباح فى غير حالة الخوف لما فى ذلك من إعانتهم على معصيتهم . أما ما يباح فى حالة الأمن،كأن يصلى الإمام لكل من الطائفتين جميع الصلاة ، فلا يمنع منه العصاة ، إذ لا ترخص فيه . قاله العراقى فى طرح التثريب(2) .
( 6 ) أنواعها :
هى ثلاثة أنواع: أن تكون فى غير شدة الخوف ،والعدو فى جهة القبلة أو فى غير جهتها ،وأن تكون فى شدة الخوف.
( 7 ) ذكيفيتها:
لصلاة الخوف فى غير شدته سبع كيفيات:
(
__________
(1) ص142 ج2 الشرح الكبير (آخر صلاة الخوف).
(2) ص136 ج3 (هل تجوز صلاة الخوف للبغاة وقطاع الطريق؟).(1/92)
الأولى) أن يكون العدو فى جهة القبلة ،فيصفّ الإمام القوم صفين ثم يحرم فيحرمون خلفه ويركعون إذا ركع ويرفعون إذا رفع ،فإذا سجد سجد معه الصف الذى يليه وبقى الصف الآخر قائماً للحراسة ،وإذا قام الإمام ومن سجد معه للركعة الثانية سجد الآخرون السجدتين ،فإذا قاموا إلى الركعة الثانية تقدموا مكان الصف الأول وتأخر الصف الأول مكانه ،فإذا ركع الإمام ركوع الثانية ركعوا جميعاً ثم يرفعون برفعه ثم يسجد معه الصف الذى يليه ويبقى الصف الآخر السجدتين وجلس للتشهد ، فإذا سلم الإمام سلموا جميعاً ، والتقدم والتأخر غير لازم.
ويشترط فى الصلاة على هذه الكيفية ألا يخاف المسلمون كميناً يأتى من خلفهم ،وألا يخفى بعض الكفار عنا ، فإن خفنا كميناً أو خفى بعضهم عنا صلينا كما لو كانوا فى غير جهة القبلة . وبهذه الكيفية قال سفيان الثورى والشافعى وأحمد ،وهى رواية عن مالك ، مستدلين :
((1/93)
أ) بقول أبى عياش الزرقى: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان (1) وعلى المشركين خالد بن الوليد ، فصلينا الظهر ،فقال المشركون :لقد أُصبنا غرة ،لقد أُصبنا غفلة ،لو كنا حملنا عليهم وهم فى الصلاة ، فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر.فلما حضرت العصر قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة والمشركون أمامه . فصفّ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم صف ،وصفّ بعد ذلك صف آخر ،فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وركعوا جميعاً ،ثم سجد وسجد الصف الذى يليه وقام الآخرون يحرسونهم ،فلما صلى هؤلاء السجدتين وقاموا سجد الآخرون الذين كانوا خلفهم ،ثم تأخر الصف الذى يليه إلى مقام الآخرين وتقدم الصف الأخير إلى مقام الصف الأول .
__________
(1) عسفان بض1م فسكون: قرية بين مكة والمدينة على نحو ثلاثة مراحل من مكة ، وتسمى مدرج عثمان . وكانت صلاة النبى صلى الله عليه وسلم بها فى جمادى الأول سنة سبع من الهجرة . وهى أول غزوة شرعت فيها صلاة الخوف على الراجح،ويقال لها غزوة بنى لحيان . وسببها ما قاله أحمد بن عبد الجبار وغيره : لما أصيب خبيب بن عدى وأصحابه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مطالباً بدمائهم ليصيب من بنى لحيان غرة ، فسلك طريق الشام ليرى( بضم الياء) أنه لا يريد بنى لحيان حتى نزل بأرضهم فوجدهم قد حذروا وتنمعوا فى رءوس الجبال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أنا هبطنا عسفان لرأت قريش أنا قد جئنا مكة فخرج فى مائتى راكب حتى نزل عسفان ،ثم بعث فارسين حتى جاءا كراع الغميم ثم انصرفا . فذكر أبو عياش الزرفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بعسفان صلاة الخوف .أنظر ص81 ج4 البداية والنهاية (غزوة بنى لحيان).(1/94)
ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وركعوا جميعاً ،ثم سجد وسجد الصف الذى يليه وقام الآخرون يحرسونهم ،فلما جلس رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم والصف الذى يليه سجد الآخرون ،ثم جلسوا جميعاً فسلم عليهم جميعاً ،فصلاها بعسفان ،وصلاها يوم بنى سليم .أخرجه أحمد وأبو داود والنسائى وابن حبان والبيهقى والحاكم وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين (1) . [
__________
(1) ص3 ج7 الفتح الربانى . وص 99 ج7 المنهل العذب (صلاة الخوف) وص231 ج1 مجتبى . وص 256 ج3 سنن البيهقى (العدو يكون وجاه القبلة ) وص 337 ج1 مستدرك . و( الغرة) بكسر الغين وشد الراء : الغفلة ،وما بعده تأكيد له . والمراد أن المسلمين كانوا غافلين عن حفظ مقامهم وما يخشى من مهاجمة العدو . و(آية القصر) ىية صلاة الخوف (ففى رواية ) أحمد : فنزل جبريل عليه السلام بهذه الايات بين الظهر والعصر : " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة " وفى رواية النسائى:
فنزلت يعنى صلاة الخوف . وأطلق عليها ىية القصر للمجاورة . و( غزوة بنى سليم ) (بالتصغير) كانت بالكدر (بضم فسكون ) موضع على ثمانية برد من المدنية وكان القائد فيها على رضى الله عنه ، واستخلف النبى صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أم مكتوم وغنم فيها خمسمائة بعير، فقسم أربعمائة على المجاهدين ،فخص كل واحد بعيران ، وأخذ النبى صلى الله عليه وسلم مائة . أفاده فى بهجة المحافل (ومنه) تعلم أن " ما فى بعض" كتب التاريخ من أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى بنى سليم فى ثلثمائة رجل من أصحابه فوجدهم قد تفرقوا فى مياههم ولم يلق كيداً . أهـ " غير صحيح" والحديث صريح فى أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بعسفان ثم أن فى أرض سليم . ولا يعارضه ما قيل إن غزوة بنى سليم كانت قبل أحد ولم تكن شرعت صلاة الخوف يومئذ ،لاحتمال أن النبى صلى الله عليه وسلم غزا بنى سليم مرتين : مرة قبل أحد ولم يصل فيها صلاة الخوف،ومرة بعد عسفان وصلى بها صلاة الخوف.(1/95)
103].
(ب) وبما روى عطاء عن جابر عبد الله أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف وذكر أن العدو كانوا بينه وبين القبلة ،وأنا صففنا خلفه صفين ،فكبر وكبرنا معه جميعاً ثم ركع وركعنا معه جميعاً ،فلما رفع رأسه من الركوع سجد وسجد معه الصف الذى يليه ،وقام الصف المؤخر فى نحو العدو،فلما قام وقام معه الصف المقدم ،فركع وركعنا معه جميعاً ،ثم سجد وسجد معه الصف الذى يليه ،فلما سجد الصف الذى يليه وجلس انحدر للصف المؤخر بالسجود ،ثم سلم وسلمنا جميعاً .أخرجه أحمد ومسلم والنسائى والبيهقى(1) . [104].
(الكيفية الثانية) أن يكون العدو فى غير جهة القبلة ، فيجعل الإمام الجيش طائفتين بحيث تكون كل طائفة تقاوم العدو تقف بإزاء العدو ،ويصلى بطائفة ركعة فى فرض ثنائى – وكذا فى العيد عند الحنفيين وركعتين فى غيره ولو مغرباً . وبعد السجدة الثانية من الركعة الأولى فى الثنائى ،وبعد التشهد فى غيره تمضى هذه الطائفة مشاة إلى وجه العدو ولو مستدبرة القبلة ،وتجئ الطائفة التى كانت عند العدو فيصلى الإمام بهم ما بقى له ويسلم وحده ،وتذهب الطائفة الثانية ندباً إلى وجه العدو ،فلو أتموا الصلاة مكانهم صحت ،وتجئ الطائفة الأولى إلى مكان صلاتهم ندباً ويتمون بلا قراءة عند الحنفيين ،لأنهم لاحقون ،ثم يذهبون إلى العدو ،ولو أتموا عنده صح ، ثم تجئ الطائفة الأخرى إن شاءوا ويتمون صلاتهم بقراءة اتفاقاً ، لأنهم مسبوقون.وبهذه الكيفية أخذ الحنفيون والأوزاعى والشافعى وأحمد وأشهب المالكى . ورجحها ابن عبد البر:
(أولا) لقوة أدلتها . وهى:
(
__________
(1) ص4 ج7 الفتح الربانى . وص 125 ج6 نووى مسلم (صلاة الخوف) وص230 ج1 مجتبى . وص 257 ج3 سنن البيهقى (العدو يكون وجاه القبلة ).(1/96)
أ) (قول) ابن مسعود : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ، فقاموا صفين ،فقام صف خلف النبى صلى الله عليه وسلم صف مستقبل للعدو ،فصلى النبى صلى الله عليه وسلم بالصف الذى يليه ركعة،ثم قاموا فذهبوا فقاموا مقام أولئك مستقبلى العدو وجاء أولئك فقاموا مقامهم ،فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة ثم سلم ،ثم قاموا فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ، ثم ذهبوا فقاموا مقام أولئك مستقبل العدو ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ،ثم سلموا .أخرجه احمد وأبو داود والطحاوى والبيهقى بسند رجاله ثقات (1) . [105].
(وظاهره) أن الطائفة الثانية والت بين ركعتها ثم أتمت الطائفة الأولى بعدها.
(ب) وقو ابن عمر: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة،والطائفة الأخرى مواجهة للعدو . ثم انصرفوا وقاموا مقام اصحابهم مقبلين على العدو ،وجاء أولئك فصلى بهم النبى صلى الله عليه وسلم ركعة ثم سلم ،ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة .أخرجه البيهقى والسبعة إلا ابن ماجه وقال الترمذى : هذا حديث حسن صحيح (2) . [106].
(وظاهره) أنهم أتموا لأنفسهم فى حالة واحدة ،ويحتمل أنهم اتموا على التعاقب كما فى حديث ابن مسعود وهو الراجح ،لئلا يلزم تضييع الحراسة المطلوبة .
(
__________
(1) ص10 ج7 الفتح الربانى . وص 119 ج7 المنهل العذب (من قال يصلى بكل طائفة ركعة ثم يسلم ..) وص184 ج1 شرح معانى الآثار (صلاة الخوف) وص261 ج3 سنن البيهقى (من قال فى هذا كبر بالطائفتين جميعاً ثم قضى كل طائفة ركعتها الباقية..).
(2) ص260 ج3 سنن البيهقى (من قال يصلى بكل طائفة ركعة ثم يقضون الركعة الأخرى). وص 11 ج7 الفتحالربانى . وص293 ج2 فتح البارى( صلاة الخوف) وص124 ج6 نووى مسلم . وص 116 ج7 المنهل العذب(من قال يصلى بكل طائفة ركعة). وص229 ج1 مجتبى (صلاة الخوف) وص394 ج1 تحفة الأحوذى .(1/97)
حـ) وما روى أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم أنه قال فى صلاة الخوف: تقوم طائفة مع الإمام وطائفة بإزاء العدو ، فيكبر الإمام بالطائفة التى معه ويصلى بهم ركعة ،فإذا فرغ منها وذهبوا حتى يكونوا بإزاء العدو من غير أن يتكلموا والإمام مكانه ، وتأتى الطائفة التى بإزاء العدو فيصلى بهم الإمام ركعة أخرى حتى إذا فرغ منها انصرف الإمام وذهب هؤلاء من غير أن يتكلموا حتى يكونوا بإزاء العدو ، فيجئ الآخرون فيقضون وحداناً ركعة ركعة ويسلمون . فذلك قوله تعالى : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ } الآية . أخرجه أبو يوسف فى الآثار(1) (28).
(ثانياً) ولموافقتها الأصول فى أن المأموم لا يتم صلاته قبل سلام غمامه (ولم يفرق) الحنفيون ومالك فى العمل بهذه الكيفية بين أن يكون العدو فى جهة القبلة أم لا ( وفرق) الشافعى وأحمد والجمهور فحملوا حديثى ابن مسعود وابن عمر على أن العدو كان فى غير جهة القبلة . وأما إذا كان فى جهتها فيعمل بما تقدم فى حديثى ابى عياش وجابر(ويؤيده) ما تقدم فى حديث ابى عياش من (قوله) قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة والمشركون أمامه (وقول) عطاء عن جابر : وذكر أن العدو كانوا بينه وبين القبلة .
(ولا فرق) فى ذلك بين الثنائية وغيرها ،لعموم آية : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ } فإذا صلى الرباعية صلاة الخوف فرق القوم طائفتين فصلى بكل طائفة ركعتين وتتم لنفسها. وهل تفارقه الطائفة الأولى فى التشهد الأول أو حين يقوم إلى الثالثة ؟ وجهان.
(
__________
(1) انظر رقم 375 ص75 (صلاة الخوف).(1/98)
ودليل) هذا ما روى ابو سلمة عن جابر بن عبد الله قال: كنا مع النبى صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع ،فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبى صلى الله عليه وسلم ،فجاء رجل من المشركين وسيف النبى صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة فاختر طه فقال له: تخافنى ؟ فقال له: لا. قال: فمن يمنعك منى؟ قال: الله ، فتنهده أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم ، وأقيمت الصلاة ،فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا ،وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين ، وكان للنبى صلى الله عليه وسلم اربع وللقوم ركعتان .أخرجه أحمد والشيخان والبيهقى (1) . [107].
حمل الحنفيون ومالك هذا الحديث على الصلاة الرباعية فى الخوف، وتأولوا قوله : وللقوم ركعتان ،بأن المراد ركعتان مع الإمام ثم أتموا لنفسهم .
__________
(1) ص21 ج7 الفتح الربانى . وص302 ج7 فتح البارى (غزوة ذات الرقاع ) وص129 ج6 نووى مسلم (صلاة الخوف) وص259 ج3 سنن البيهقى (الإمام يصلى بكل طائفة ركعتين) والرجل من المشركين هو غورث بن الحارث بغين معجمة مفتوحة وقد تضم . ورواه الخطابى بالتصغير وبالشك فى إعجام الغين وإهمالها اسلم وصحب النبى صلى الله عليه وسلم (فاختر طه) أى سله من غمده . و(قال ) أى رسول الله (الله) يمنعنى . وفى رواية لأحمد : فسقط السيف من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من يمنعك منى؟ قال: كن خير آخذ . فخلى سبيله .(1/99)
وحمله الشافعى وأحمد والحسن البصرى على أنه بيان لصفة أخرى لصلاة الخوف وهى أن يصلى الإمام بكل طائفة ركعتين فيكون مفترضاً فى الأولين متنفلا فى الأخريين ، مستدلين بقول أبى بكرة: صلى بنا النبى صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فصلى ببعض اصحابه ركعتين ثم سلم فتأخروا ،وجاء آخرون فكانوا فى مكانهم فصلى بهم ركعتين ثم سلم ،فصار لنبى صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان .اخرجه أحمد وأبو داود والنسائى والدارقطنى والطحاوى(1) . [108].
(وأعله ) ابن القطان بأن أبا بكرة اسلم بعد وقوع صلاة الخوف بمدة (ورده) الحافظ بأن هذا ليس بعلة لنه يكون مرحل صحابى . ويرده أيضا قول أبى بكرة : صلى بنا فى رواية أحمد ،وعند الطحاوى: صلى بهم .
(وأجاب) الحنفيون عن حديث أبى بكرة بأنه معلول كما تقدم (لكن) يريده حديث أشعث بن عبد الملك الحمرانى عن الحسن عن أبى بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالقوم فى صلاة الخوف صلاة المغرب ثلاث ركعات ثم انصرف ،وجاء الآخرون فصلى بهم ثلاث ركعات ،فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ست ركعات وللقوم ثلاثاً ثلاثاً .أخرجه الدارقطنى والحاكم وقال: هذا حديث غريب. أشعث الحمرانى لم يكتبه غلا بهذا الإسناد ،وهو صحيح على شرط الشيخين(2) . [109].
(
__________
(1) اص19 ج7 الفتح الربانى . وص 126 ج7 المنهل العذب (من قال يصلى بكل طائفة ركعتين ) وص321 ج1 مجتبى (آخر صلاة الخوف) وص186 سنن الدارقطنى . وص176 ج1 شرح معانى الآثار (صلاة الخوف).
(2) ص187 سنن الدارقطنى .وص337 ج1 مستدرك .(1/100)
وأما قول) الحافظ: لم يقع فى شئ من الأحاديث المروية فى صلاة الخوف تعرض لكيفية صلاة المغرب (1) (فمحمول) على أنه لم يرد فى صلاتها مجزأة بين الطائفتين . واختلفوا فيما إذا صليت كذلك . هل يصلى الإمام بالأولى ركعتين وبالثانية واحدة أو العكس ؟ (فقال) الحنفيون ومالك وأحمد : يتعين الأول واختاره الشافعى . لما روى فى البحر عن علىّ أنه صلى بالطائفة الأولى ركعتين . قال: وهو توقيف.
(وأجاز) الشافعى أن يصلى بالطائفة الأولى ركعة وبالثانية ركعتين ، لما ورى عن علىّ أيضاً أنه صلى بالطائفة الأولى ركعة و بالثانية ركعتين .
(وأجاب) عنه فى البحر بأن الرواية الأولى ارجح من جهة المعنى ،لأنها أخف وأوفق للمعتاد فى نظم الصلاة من انصراف كل طائفة عقب التشهد (وعليه) تفارق الطائفة الأولى الإمام وهو جالس للتشهد او قائم على الثالثة وتتم لنفسها ،وتأتى الطائفة الثانية فتصلى معه الركعة الثالثة له ثم تفارقه بعد السلام أو حين جلوسه للتشهد .
(وإذا صلى) بالطائفة الأولى ركعة تفارقه إذا قام للثانية وتتم لنفسها وتأتى الطائفة الثانية وهو فى قيام الثانية وتصلى معه ركعتين ثم تفارقه إذا جلس للتشهد الأخير او بعد سلامه .
(فائدة) يستحب عند الجمهور حمل السلاح حال صلاة الخوف ،لقوله تعالى : { وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ } (2) ،ولأنهم لا يؤمنون أن يفاجئهم عدوهم فيميلون عليهم كما قال تعالى: { وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً } (3) .
(
__________
(1) ص296 ج2 فتح البارى الشرح (باب يحرس بعضهم بعضاً فى صلاة الخوف).
(2) سورة النساء : آية 102 وصدرها : " وإذا كنت فيهم".
(3) سورة النساء : آية 102.(1/101)
وقالت) الظاهرية : يجب حمل السلاح حال صلاة الخوف . وهو قول للشافعى لظاهر الأمر ،وقد اقترن به ما يدل على الوجوب وهو قوله تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ } (1) فنفى الحرج مشروطاً بالأذى دليل على لزوم حمل السلاح عند عدم الأذى .
(وأجاب) الجمهور: بأن الأمر بأخذ السلاح للرفق بهم والصيانة . فليس للإيجاب ،لأنه لو وجب لكان شرطاً فى الصلاة كالسترة . (والحجة) مع من قال بوجوب حمله ،لما تقدم ،وهم يقولون بأن حمل السلاح عند عدم الذى شرط فى صحة الصلاة كالسترة .
(الكيفية الثالثة) إذا كان العدو فى غير جهة القبلة وهى : أن يجعل الإمام القوم طائفتين ، طائفة تقف عند العدو وطائفة تصلى معه ركعة ثم تتم لنفسها وتنصرف على وجه العدو والإمام قائم للثانية ،وتأتى الطائفة التى كانت عند العدو فيصلى بهم ركعة ويثبت جالساً حتى يصلى هؤلاء ركعتهم الثانية ثم يسلم بهم .
__________
(1) سورة النساء :آية 102.(1/102)
وبهذا قال مالك والشافعى وأحمد لما روى صالح بن خوات عمن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف أن طائفة صفت معه وطائفة وجاه العدو فصلى بالتى معه ركعة ثم ثبت قائماً وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو ،وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التى بقيت من صلاته ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم. أخرجه الشافعى والجماعة غلا ابن ماجه(1).[110].
__________
(1) ص202 ج1 بدائع المنن . وص 329 ج1 زرقانى الموطأ (صلاة الخوف) وص16 ج7 الفتح الربانى . وص297 ج7 فتح البارى (غزوة ذات الرقاع ) وص128 ج6 نووى مسلم (صلاة الخوف) وص107 ج7 المنهل العذب . وص 229 ج1 مجتبى . وص395 ج1 تحفة الأحوذى . و( من صلى مع رسول الله ) هو خوات بن جبير أبو صالح على ما جزم به النووى فى تهذيبه (وذات الرقاع) بكسر الراء : غزوة كانت بأرض غطفان من نجد سنة سبع منالهجرة على ما اختاره البخارى ،سميت بذلك لأن اقدام المسلمين وقت من الحفاء فلفوا عليها الخرق . قال أبو موسى الأشعرى : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه فنقبت (من باب فرح) اقدامنا ونقبت قدماى وسقطت أظفارى فكنا نلف على أظفارنا الخرق فسميت غزوة ذاتالرقاع لما كنا نعصب (بفتح فسكون فكسر) على أرجلنا من الخرق.أخرجه البخارى ص297 ج2 فتح البارى ،وقيل : سميت باسم جبل يقال له الرقاع لن فيه بياضاً وحمرة وسواداً (وحاصلها) أن النبى صلى الله عليه وسلم بلغه أن أنماراً وثعلبة وغطفان تجمعوا لغزو المسلمين فاستخلف على المدينة عثمان بن عفان وخرج صلى الله عليه وسلم فى أربعمائة رجل أو سبعمائة فسار حتى أتى أرض غطفان فلم يجد إلا نسوة فأخذهن وهربت الأعراب إلى رءوس الجبال ،ولم يقع ثم قتال،لكن توقع المسلمون ذلك ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف. (وجاه) بكسر الواو وضمها : أى مقابل العدو.(1/103)
ولا يقدح فيه جهالة من روى عنه صالح بن خوات ،لأنه صحابى ، والصحابة كلهم عدول.
(الكيفية الرابعة) هى كالثالثة ،غير أن الإمام لا ينتظر الطائفة الثانية حتى تتم لنفسها ويسلم بها ،بل تجلس معه للتشهد ، فإذا سلم أتموا صلاتهم وسلموا . وبهذا قال مالك والشافعى وأحمد والظاهرية ،لما روى عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات ان سهل بن أبى حشمة حدثه أن صلاة الخوف ان يقوم الإمام وطائفة من أصحابه - وطائفة مواجهة العدو- فيركع الإمام ركعة ويسجد بالذين معه ثم يقوم ، فإذا استوى قائماً ثبت قائماً وأتموا لنفسهم الركعة الباقية ثم سلموا وانصرفوا والإمام قائم ،فكانوا وجاه العدو . ثم يقبل الآخرون الذين لم يصلوا فيكبرون وراء الإمام فيركع بهم ويسجد بهم ثم يسلم ،فيقومون فيركعون لأنفسهم الركعة الباقية ثم يسلمون.
أخرجه مالك والبخارى والأربعة ،وقال الترمذى : هذا حديث حسن صحيح لم يرفعه يحيى بن سعد الأنصارى عن القاسم بن محمد . وهكذا رواه أصحاب يحيى بن سعيد موقوفاً . ورفعه شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد(1) (29).
(الكيفية الخامسة) أن يفرق الإمام القوم فرقتين : فرقة تقف عند العدو ،وفرقة تقف خلفه،فيحرم الكل بإحرامه ولو مستدبرين القبلة ،ويصلى بمن خلفه ركعة ثم ينصرفون مقابل العدو ،ويأتى الآخرون فيصلون لأنفسهم ركعة والإمام قائم ،ثم يصلون معه الركعة الثانية ،ثم تأتى الطائفة التى عند العدو فتصلى لنفسها الركعة الثانية والإمام والطائفة الثانية جالسون ثم يسلم بالطائفتين جميعاً.
__________
(1) ص330 ج1 زرقانى الموطأ (صلاة الخوف) وص300 ج7 فتح البارى (غزوة ذات الرقاع) . وص 108 ج7 المنهل العذب . وص395 ج1 تحفة الأحوذى (صلاة الخوف) وص196 ج1 سنن ابن ماجه . وص321 ج1 مجتبى .(1/104)
وبهذه الكيفية قال إسحاق وأحمد والظاهرية (لقول) أبى هريرة : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العصر فقامت معه طائفة وطائفة أخرى مقابلة العدو ظهورهم إلى القبلة ،فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبروا جميعاً الذين معه والذين يقابلون العدو ،ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة واحدة ،وركعت الطائفة التى معه ،ثم سجد فسجدت الطائفة التى تليه ،والآخرون قيام مقابلة العدو ،ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقامت الطائفة التى معه فذهبوا إلى العدو فقابلوهم ،وأقبلت الطائفة التى كانت مقابلة العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم كما هو. ثم قاموا فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة أخرى وركعوا معه وسجد وسجدوا معه ،ثم أقبلت الطائفة التى تقابل العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد ومن معه ،ثم كان السلام فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلموا جميعاً. فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان ولكل رجل من الطائفتين ركعة ركعة.أخرجه أحمد وأبو داود والنسائى والحاكم وصححه والطحاوى والبيهقى بسند رجاله ثقات (1) .[111].
(
__________
(1) ص23 ج7 الفتح الربانى . وص 111 ج7 المنهل العذب(من قال يكبرون جميعاً وإن كانوا مستدبرين القبلة )وص229 ج1 مجتبى (صلاة الخوف) وص 338 ج1 مستدرك . وص185 ج1 شرح معانى الآثار . وص 264 ج3 سنن البيهقى (من قال قضت الطائفة الثانية الركعة الأولى عند مجيئها..) و( ركعة ركعة) هذا لفظ ابى داود والحاكم،أى كان للنبى صلى الله عليه وسلم ركعتان مع الجماعة ،ولكل طائفة ركعة معه وركعة منفردين . فعند أحمد والنسائى والطحاوى: ولكل رجل من الطائفتين ركعتان ركعتان . وصوبه البيهقى.(1/105)
الكيفية السادسة) أن تصلى إحدى الطائفتين مع الإمام الركعة الأولى إلى الجلوس بين السجدتين ويبقى هو جالساً وتسجد وحدها السجدة الثانية وترجع إلى الوراء حتى تقف عند العدو ،وتأتى الطائفة الثانية فتقف خلف الإمام فيحرمون ثم يركعون ويرفعون من الركوع وحدهم، ثم يسجد الإمام سجدته الثانية فيسجدون معه،ثم يقوم إلى الركعة الثانية ويسجدون لأنفسهم السجدة الثانية ،ثم تجئ الطائفة الأولى خلف الإمام فيصلى بهم جميعاً الركعة الثانية ثم يسلم بهم جميعاً .(1/106)
وبهذا قال إسحاق وأحمد وابن المنذر والظاهرية لما روى عن عائشة قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة الخوف بذات الرقاع ، فصدع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس صدعين ،فصفت طائفة وراءه وقامت طائفة تجاه العدو ،فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبرت الطائفة الذين صفوا خلفه ثم ركع وركعوا ،ثم سجد فسجدوا ،ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه فرفعوا معه ،ثم مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً وسجدوا لأنفسهم السجدة الثانية ،ثم قاموا فنكصوا على أعقابهم يمشون القهقرى حتى قاموا من ورائهم ،فأقبلت الطائفة الأخرى فصفوا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبروا ثم ركعوا لأنفسهم ،ثم سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبروا ثم ركعوا لأنفسهم ،ثم سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدته الثانية فسجدوا معه ،ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ركعته وسجدوا هم لأنفسهم السجدة الثانية . ثم قامت الطائفتان جميعاً فصفوا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فركع فركعوا جميعاً ثم سجد فسجدوا جميعاً ثم رفع رأسه ورفعوا معه، كل ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً جداً لا يألو أن يخفف ما استطاع . ثم سلم فسلموا . فقام وقد شاركه الناس فى الصلاة كلها .أخرجه أحمد – وهذا لفظه – وأبو داود والبيهقى والحاكم ،وقال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ،وهو أتم حديث وأشفاه فى صلاة الخوف (1) . [
__________
(1) ص25 ج7 الفتح الربانى . وص115 ج7 المنهل العذب وصدره : كبر رسول الله . وص265 ج3 سنن البيهقى (من قال قضت الطائفة الثانية الركعة الأولى عند مجيئها..) وص336 ج1 مستدرك . و(صدعين) بكسر فسكون مثنى صدع وهو القسم. و( سريعاً جداً) أى صلى الركعة الثانية مسرعاً فى سجودها الثانى إسراعاً مبالغاً فيه مع مراعاة ما يحصل به أقل الكمال (وحكمة) هذا الإسراع مخافة هجوم العدو خصوصاً حال السجود ..و(المشاركة فى كل الصلاة) باعتبار أن الطائفة الثانية قضت معظم الركعة التى فاتتها قبل سلام الإمام وسلمت بسلامه ،فلا يرد أنها لم تشاركه فى الركعة إلا فى سجدة واحدة.(1/107)
112].
(الكيفية السابعة) أن يصلى الإمام بإحدى الطائفتين ركعة ثم تذهب تحرس العدو ،وتأتى الطائفة الأخرى فتصلى معه الركعة الثانية ثم يسلم ،فتكون له ركعتان ولكل طائفة ركعة بلا قضاء .
وبهذا قال الثورى وأحمد وإسحاق وابن المنذر والظاهرية ،مستدلين بما روى ثعلبة بن زهدم قال: كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقال: أيكم صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ؟ فقال حذيفة بن اليمان : أنا. فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا.أخرجه أبو داود والنسائى والطحاوى والبيهقى والحاكم وقال: هذا صحيح الإسناد (1) [113].
(وقال) الجمهور: صلاة الخوف كصلاة الأمن ،فلا يجوز الاقتصار فيها على ركعة واحدة ،وتأولوا الحديث ونحوه بأن المراد أن كل طائفة صلت مع الإمام ركعة وأتموا لنفسهم ركعة (وقوله) ولم يقضوا: أى لم يعيدوا الصلاة بعد الأمن ،وهو بعيد ،لن معناه المتبادر : لم يصلوا ركعة أخرى غير التى صلوها مع الإمام .
__________
(1) ص122 ج7 المنهل العذب (من قال يصلى بكل طائفة ركعة ولا يقضون ) وص228 ج1 مجتبى (صلاة الخوف) وص183 ج1 شرح معانى الآثار . وص 261 ج3 سنن البيهقى (من قال يصلى بكل طائفة ركعة ولم يقضوا ) وص335 ج1 مستدرك. و( زهدم) بفتح الزاى وسكون الهاء ، و( طبرستان ) بفتح الطاء والباء الموحدة وكسر الاء : مركب من طبر ،وهى بالفارسية اسم للفأس ،وستان وهى الناحية ، سميت بذلك لأنها لكثرة اشجارها واشتباكها لا يتمكن الجيش من سلوكها إلا بعد قطع الأشجار بالطبر . وهى بلاد واسعة بالعجم ،فتحت سنة 29 من الهجرة فى عهد عثمان على يد سعيد بن العاص رضى الله عنهما.(1/108)
ويؤيده(حديث) ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بذى قرد وصف الناس خلفه صفين : صفاً خلفه وصفاً موازى العدو ،فصلى بالذين خلفه ركعة ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء ، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ولم يقضوا .أخرجه النسائي والحاكم وقال: هذا شاهد للحديث الذي قبله وهو صحيح الإسناد(1) .[114].
(قال) أبو محمد عبد الله بن قدامة: ويجوز أن يصلى صلاة الخوف على كل صفة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال أحمد : كل حديث يروى فى أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز . وقال : ستة أوجه أو سبعة تروى فيها كلها جائز .قال الأثرم : قلت لبى عبد الله : تقول بالأحاديث كلها ،كل حديث فى موضعه أو تختار واحداً منها ؟ قال: أنا أقول: من ذهب إليها كلها فحسن ،وأما حديث سهل فأنا أختاره (2) .
{ فوائد } :
(الأولى) إنما تلزم صلاة الخوف بكيفية مما ذكر إذا لم يرض القوم إلا بالصلاة خلف الإمام ،اما إذا رضوا فالأفضل ان يصلى بطائفة كل الصلاة ويصليها بالأخرى غمام آخر.
(الثانية) تجوز صلاة الخوف فى الحضر إذا دعت غليها الحاجة بنزول العدو بالبلد أو قريباً منها ،لعموم أدلة صلاة الخوف ،ولأنها جوزت للاحتياط للصلاة والحرب ،وهذا موجود فى الحضر.
(
__________
(1) ص228 ج1 مجتبى (صلاة الخوف) وص335 ج1 مستدرك. و(ذى فرد) بفتح القاف والراء ،وهى أرض بنى سليم بين خيبر والمدينة على ليلتين منها : كانت غزوتها قبل خيبر بثلاثة ايام( لقول) سلمة بن الأكوع فى حديث طويل عند مسلم : ثم "أى بعد غزوة ذى قرد" أردفنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه على العضباء راجعين إلى المدينة فوالله ما لبثنا 0أى بالمدينة) إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وص182، 183 ج12 نووى مسلم .
(2) ص268 ج2 مغنى( ما ورد فى صفة صلاة الخوف) وحديث سهل تقدم فى الكيفية الرابعة ص104 اثر 29.(1/109)
وبهذا) قال الحنفيون والشافعي وأحمد والأوزاعى . وهو مشهور مذهب مالك . وعنه أنها لا تجوز فى الحضر ؛ لأن الآية غنما دلت على صلاة ركعتين ،وصلاة الحضر أربعاً ،ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلها فى الحضر.
(وأجاب) الأولون بأن الآية عامة فى الحضر والسفر . وصلاة الحضر كما تكون أربعاً تكون ركعتين كما فى الصبح والجمعة ،وثلاثاً كالمغرب .
وترك للنبى صلى الله عليه وسلم فعلها فى الحضر إنما كان لغناه عنها فيه .
( الثالثة ) تبطل صلاة الخوف بالمشي لغير اصطفاف طالباً او مطلوباً وبالركوب مطلقاً ولو لاصطفاف ، لأنه عمل كثير بلا ضرورة . وبالقتال الكثير الزائد على الحاجة ،وكذا إذا صلى فى المغرب بالطائفة الأولى ركعة وبالأخرى ركعتين تفسد صلاتهما عند الحنفيين ومالك وأحمد لانصراف الأولى فى غير أوان الانصراف ،ولأن الثانية لما أدركت الركعة الثانية صارت من الطائفة الأولى ،وقد انصرف أوان رجوعها ،ولا تبطل صلاتهما عند الشافعي لما روى أن علياً رضى الله عنه صلى المغرب ليلة الهرير بالطائفة الأولى ركعة وبالثانية ركعتين . ذكره البيهقى بلا سند وأشار على ضعفه فقال : ويذكر عن جعفر بن محمد عن أبيه أن علياً ....إلخ (1) (30).
ولو جعلهم ثلاث طوائف فصلى بكل طائفة ركعة فسدت صلاة الأولى فقط- عند الحنفيين ومالك وأحمد - لانصرافها فى غير أوان الانصراف .
والأصح عند الشافعية صحة صلاة الكل.
(
__________
(1) ص414 ج4 شرح المهذب . وليلة الهرير من ليالى صفين ،سميت بذلك لنهم كان لهم هرير (صوت) عند حمل بعضهم على بعض .(1/110)
الرابعة) دلت أحاديث صلاة الخوف والعدو فى غير جهة القبلة على تفريق الجيش فرقتين ،وأنه لا يجوز أن يفرقهم الإمام أكثر من فرقتين ، فيصلى لكل فرقة ركعة أو يصلى بالأولى ركعتين وبالباقيتين ركعة ركعة فى الصلاة الرباعية ،إذ لم يرد ذلك فى شئ من أحاديث الباب . والرخص يقتصر فيها على ما ورد . فإذا فعل الإمام ذلك بطلت صلاته ومن خلفه عند سحنون المالكى لمخالفتها المشروع فى صلاة الخوف .
وقال الحنفيون وأحمد : تبطل صلاة الإمام لزيادته على انتظارين ولم يعهد فى صلاة الخوف سواهما .وتبطل صلاة الطائفة الثالثة والرابعة لاقتدائهم بالإمام بعد بطلان صلاته . وأما الطائفة الأولى والثانية فصلاتهم صحيحة لمفارقتهم الإمام قبل بطلان صلاته كما جزم به الرافعى .
(وقال النووى) الأصح ان صلاة الإمام صحيحة ،فإنه قد تدعوا الحاجة إلى ذلك ،وعليه ففى صلاة المأمومين قولان : أصحهما أنها صحيحة (والصحيح) عند المالكية ان صلاة الطائفة الأولى والثالثة باطلة وصلاة غيرهما صحيحة . أفاده العراقى (1) .
(الخامسة) ظاهر إطلاق أحاديث الباب أن صلاة الخوف تجوز ايضاً فى الجمعة ،وعليه فيجوز أن تصلى على هيئة صلاة عسفان بأن يرتبهم الإمام صفين خلفه ويحرس فى سجود كل ركعة صف على ما تقدم . ويجوز أن تصلى علىهيئة صلاة ذات الرقاع بشرط أن يخطب بهم جميعاً أو يخطب بفرقة تفى بالعدد الواجب حضوره فى الجمعة على ما سيأتى بيانه إن شاء الله تعالى .
( 8 ) صلاة شدة الخوف:
__________
(1) ص139 ج3 طرح التثريب (هل للإمام أن يفرقهم أربع فرق فى الرباعية أو ثلاثاً فى المغرب).(1/111)
وإن اشتد الخوف والتحم القتال ولم يتمكن الجيش من تركه لقتلهم وكثرة العدو أو لم يلتحم ،لكن لم يأمن الجيش أن ينقلب العدو عليهم لو انقسموا صلوا ،بحسب الإمكان رجالا وركباناً مستقبلى القبلة وغير مستقبليها يؤمنون بالركوع والسجود على قدر الطاقة ،ويجعلون السجود اخفض من الركوع فيسقط عنهم ما عجزوا عنه من الأركان( لقول) الله تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } ،ولما روى نافع أن ابن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف قال: يتقدم الإمام وطائفة من الناس فيصلى بهم الإمام ركعة.
(ثم قال) فإن كان خوف هو اشد من ذلك صلوا رجالا قياماً على أقدامهم أو ركباناً مستقبلى القبلة أو غير مستقبليها .
قال مالك: قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . أخرجه مالك والشافعي والشيخان والبيهقى ،وهذا لفظ البخاري (1) .[115].
(وبهذا) قالت الأئمة والجمهور إلا أن المالكية قالوا: لا تصلى على هذه الحالة إلا إذا ضاق الوقت (واختلفوا) هل يغتفر للجيش حينئذ التقدم والتأخر والقتال والأفعال الكثيرة المحتاج إليها ؟ فعند مالك وأحمد يغتفر ذلك ، وهو الأصح عن الشافعى . وقيل: تبطل الصلاة به، لكن يمضى فيها لحرمة الوقت ثم يعيد (قال) الشافعى : فأما إذا تابع الضرب أو الطعن فلا تجزئه صلاته ويمضى فيها ولا يدعها فى هذه الحال إذا خاف ذهاب وقتها ويصليها ثم يعيدها (2) .
(
__________
(1) ص331 ج1 زرقانى الموطأ (صلاة الخوف) وص203 ج1 بدائع المنن وص129 ج8 فتح البارى(قوله ) : " فإن خفتم فرجالا أو ركباناً فإذا أمنتم " الآية .وص125 ج6 نووى مسلم . وص256 ج3 سنن البيهقى (صلاة شدة الخوف).
(2) ص197 ج1 كتاب الأم (الوجه الثانى من صلاة الخوف..).(1/112)
وقال) الحنفيون: إن اشتد الخوف صلوا وحداناً (رجالا ) واقفين – لا مشاة – (أو ركباناً) ولو مع السير مطلوبين للضرورة لا طالبين ،يؤمنون بالركوع والسجود إلى أى جهة قدروا إن عجزوات عن التوجه إلى القبلة ، فليس لهم أن يقاتلوا فى حال الصلاة ، فإن فعلوا بطلت صلاتهم . وإذا دعا الحال إلى القتال أخروا الصلاة لجله .
(وقال) ابن أبى ليلى والحكم بن عتبة : إذا اشتد القتال ودعا الحال إلى الركوب لا تصلى الفريضة على الدابة بل تؤخر الصلاة ،لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يصل يوم الخندق راكباً وأخر الصلاة .
(قال) علىّ رضى الله عنه :قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق : ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس .أخرجه الشيخان (1) . [116].
(وأجاب) الأولون بأن غزوة الخندق كانت قبل مشروعية صلاة الخوف فلا يحتج بما وقع فيها على ترك الصلاة فى شدة الخوف راكباً او تأخيرها إن احتاج الأمر للقتال (فقد) تقدم أن أبا سعيد الخدرى قال: حبسنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان بعد الغروب بهوى من الليل حتى كفينا وذلك قوله تعالى : { وَكَفَى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِياً عَزِيزاً } فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأقام الظهر (الحديث) ،وفيه : ثم أقام العشاء فصلاها كذلك . وذلك قبل أن ينزل الله عز وجل فى صلاة الخوف : { فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } .أخرجه الشافعى والطحاوى وقال: فأخبر أبو سعيد أن تركهم للصلاة يومئذ ركباناً إنما كان قبل ان يباح لهم ذلك ،ثم أُبيح لهم بهذه الآية (2) .
(
__________
(1) انظر ص285 ج7 فتح البارى (غزوة الخندق) وص 127 ج5 نووى مسلم (دليل من قال الصلاة الوسطى هى صلاة العصر).
(2) تقدم رقم 21 ص25 ترتيب الفوائت : و( الهوى ) بفتح الهاء وكسر الواو وشد الباء : الزمن الطويل.(1/113)
فالراجح) جواز صلاة الخوف إن اشتد الخوف والتحم القتال ركباناً ومشاة مع القتال ،والضرب والكر والفر إن دعت إليه الحاجة ،لأن النبى صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه فى غير شدة الخوف ، فأمرهم بالمشى إلى جهة العدو وهم فى الصلاة ثم يعودون لقضاء ما بقى من صلاتهم ،وهذا مشى كثير وعمل طويل واستدبار للقبلة . فإذا جاز ذلك مع عدم شدة الخوف فمع شدته أولى.
{ فوائد } :
(الأولى) اختلف العلماء فى جواز الكلام فى صلاة شدة الخوف إن احتيج إليه( فقالت) المالكية: يحل فيها كلام أجنبى لغير إصلاح الصلاة إن احتيج له فى القتال كتحذير وإغراء وأمر ونهى (لقول) حذيفة بن اليمان لسعيد بن العاص: وتأمر أصحابك إن هاجم هيج من العدو فقد حل لهم القتال والكلام .هذا بعض أثر أخرجه أحمد بسند صحيح (1) (31).
(وقال) الحنفيون والشافعى وأحمد : تبطل صلاة الخوف بالكلام وإن احتيج إليه . قال الشافعى : وإذا تعمد فى الصلاة كلمة يحذر بها مسلماً أو يسترهب بها عدواً وهو ذاكر انه فى صلاة فقد انتقضت صلاته وعليه إعادتها متى أمكنه(2) .
(
__________
(1) ص29 ج7 الفتح الربانى . و( إن هاجهم..إلخ) أى إن أزعجهم حرب من العدو فقد حل لهم القتال والكلام الضرورى وهم يصلون .
(2) ص197 ج1 كتاب الأم (الوجه الثانى من صلاة الخوف).(1/114)
وقال) النووى : ولا يجوز الصياح ولا فيره ،والكلام بلا خلاف، فإن صاح فبان معه حرفان فإن بطلت صلاته ،لأنه غير محتاج إليه ،بخلاف المشى وغيره . ولا تضر الأفعال اليسيرة بلا خلاف ،لأنها لا تضر فى غير الخوف ففيه أولى . وأما الأفعال الكثيرة فإن لم تتعلق بالقتال أبطلت بلا خلاف. ، وإن تعلقت به كالطعنات والضربات المتوالية ، فإن لم يحتج إليها أبطلت بلا خلاف لأنها عبث ،وإن احتاج إليها ففيها ثلاثة أوجه : أصحها عند الأكثرين لا تبطل وصححه الرافعى وغيره قياساً على المشى ،ولأن مدار القتال على الضرب ولا يحصل المقصود غالباً بضربة وضربتين ولا يمكن التفريق بين الضربات(1) .
(وأجابوا) عن قول حذيفة بأنه موقوف عليه فلا يعارض عموم ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم : إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس (2) .
(الثانية) تجوز الجماعة فى صلاة شدة الخوف عند أحمد لإطلاق قول ابن عمر: فإن كان خوف هو أشد من ذلك صلوا رجالا قياماً على أقدامهم ...إلخ(3) .
وقالت الشافعية : الجماعة أفضل ،ولا يمنع من الاقتداء اختلاف الجهة كالمصلين حول الكعبة وفيها (وقالت) المالكية: تكره الجماعة فيها (وقال) الحنفيون : لا تصح الجماعة فيها فى ظاهر الرواية إلا إذا كان المقتدى والإمام على دابة واحدة ، فيصح الاقتداء لاتحاد المكان والجهة .
(
__________
(1) انظر ص426 ج4 شرح المهذب (صلاة شدة الخوف).
(2) تقدم رقم 5 ص3 (مبطلات الصلاة).
(3) تقدم برقم 115 ص112.(1/115)
الثالثة) من أمن فى أثناء صلاة الخوف أتمها صلاة آمن ،ومن كان آمناً فخاف أو أشتد خوفه أتم صلاة خائف (وبيانه) أن من صلى بعض الصلاة حال الخوف ثم ذهب خوفه ، لا يجوز انحرافه ومشيه إلى جهة العدو ، وتصلى كل طائفة فى مكانها ،ومن انحرف قبل زوال الخوف بنى على ما صلى ، ومن ابتدأ الصلاة آمناً ثم طرأ الخوف جاز له الانحراف إلى جهة العدو فى وقته لوجود الضرورة ،ومن صلى بعض الصلاة حال شدة الخوف مع الإخلال بشئ من فرائضها كالاستقبال والركوع والسجود فآمن فى أثنائها اتمها بفرائضها ؛ فإن كان راكباً إلى غير القبلة نزل واستقبلها ،وإن كان ماشياً وقف واستقبل حال نزوله أو أخلّ بشئ من فرائضها بعد أمنه فسدت صلاته وإن ابتدأها آمناً ثم حدث خوف أتمها بما استطاع .افاده ابن قدامة(1) .
( 9 ) صلاة الطالب والمطلوب:
__________
(1) تقدم برقم 115 ص112.(1/116)
من كان مطلوباً أو طالباً للعدو فخاف فوته أوفوت الوقت صلى بالإيماء ولو ماشياً إلى غير جهة القبلة عند الأوزاعى وابن حبيسب المالكى وهو رواية عن الشافعى (لقول) عبد الله بن أنيس: دعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قد بلغنى أن خالد بن سفيان بن نبيح يجمع لى الناس ليغزونى وهو بعرنة فأته فاقتله . قلت: يا رسول الله انعته لى حتى أعرفه . قال: إذا رايته وجدت له قشعريرة . فخرجت متوشحاً بسيفى حتى وقعت عليه وهو بعرنة مع ظُعُن يرتاد لهن منزلا وكان وقت العصر . فلما رأيته وجدت ما وصف لى رسول الله صلى الله عليه وسلم منالقشعريرة ، فأقبلت نحوه وخشيت أن يكون بينى وبينه محاولة تشغلنى عن الصلاة ، فصليت وأنا أمشى نحوه أومئ برأسى للركوع والسجود . فلما انتهيت إليه قال : من الرجل ؟ قلت : رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل ، فجاءك لهذا . قال : أجل انا فى ذلك ، فمشيت معه شيئاً حتى إذا أمكننى حملت عليه السيف حتى قتلته ، ثم خرجت وتركت ظعائنه مكبات عليه ، فلما قدمت على رسول الله صلى الله علييه وسلم قال: افلح الوجه . قلت: قتلته يا رسول الله . قال: صدقت( الحديث ) اخرجه أحمد والبيهقى (1) .[ 117].
(
__________
(1) انظر ص26 ج7 – الفتح الربانى . وص 256 ج3 سنن البيهقى 0 صلاة شدة الخوف ). و(أنيس) و( نبيح) مصغران . و( عرنة) بضم ففتح : موضع قرب عرفة . و( قشعريرة ) بضم ففتح فسكون فكسر ،أى رعدة . و( ظعن) بضمتين : جمع ظعينة وهى فى الصل الراحة يظعن( أى يسار) عليها. وقيل هى المرأة فى الهودج . ثم أطلقت على المرأة بلا هودج . و(الحديث) انظره تاماً ص122 ج7 المنهل العذب.(1/117)
وقال الحنفيون) يصلى المطلوب راكباً بالإيماء بخلاف الماشى والسائح والطالب ولو راكباً (وقال) أحمد وعطاء والثورى : المطلوب يصلى سائراً بالإيماء بخلاف الطالب . وهذا هو المختار عند الشافعى ،وإذا انهزم الكفار وتبعهم المسلمون خشية أنهم لو ثبتوا وكملوا للصلاة فاتهم العدو ،لا تجوز لهم صلاة شدة الخوف فى هذه الحالة- عند الشافعية- إلا إن خافوا كميناً او رجوع العدو .
وعند المالكية فى ذلك قول بالجواز وقول بالمنع .
(وكالمطلوب) فى ذلك كل من منعه عدو عن الركوع والسجود أو خاف على نفسه أو أهله أو ماله من نحو لص او سبع ،فإنه يصلى بالإيماء على أى جهة توجه غليها ،والمختار عند مالك الإعادة فى الوقت إن أمن ،ويجوز ذلك فى كل هرب مباح من سيل أو حريق إذا لم يجد معدلا عنه ،أو من سبع .
وكذا المدين المعسر إذا كان عاجزاً عن بينة الإعسار ولو ظفر به المستحق لحبسه ولم يصدقه ،وكذا إذا كان عليه قصاص يرجو العفو عنه إذا سكن الغضب بتغيبه واستبعد إمام الحرمين جواز هربه بهذا التوقع . أفاده العراقي (1) .
(وأجابوا) عن حديث عبد الله بن أنيس بأنه وقعة عين خاصة به لورود الأمر الخاص به وكونه عليه الصلاة والسلام عينه لقتل هذا الرجل وجعل له علامة عليه وهى قشعريرة تحصل له عند رؤيته ،فكان ذلك كما أخبر ، وكان معجزة وعلماً من أعلام النبوة ،فلا يلزم من اغتفار المشى الكثير له فى هذه الحالة اغتفار ذلك لغيره . ويحتمل أن يقال : كان عبد الله بن أنيس فى معنى الطالب الذى يخشى كرة العدو ،إذ لا يأمن شر خالد بن سفيان لو عرفه قبل المبادرة إليه .
__________
(1) انظر ص150 ج3 طرح التثريب (صلاة الخوف للمنهزم والهارب).(1/118)
قال ابن المنذر: كل من أحفظ عنه من أهل العلم يقول: إن المطلوب يصلى على دابته يومئ غيماء، وإن كان طالباً نزل فصلى على الأرض . قال الشافعى : إلا أن ينقطع عن أصحابه فيخاف عود المطلوب عليه فيجزئه ذلك. وعرف بهذا أن الطالب فيه التفصيل بخلاف المطلوب . ووجه الفرق ان شدة الخوف فى المطلوب ظاهرة ،وأما الطالب فلا يخاف استيلاء العدو عليه وإنما يخاف أن يفوته العدو ،وهذا متعقب بكلام الأوزاعى فإنه لم يفرق بين الطالب والمطلوب : قاله الحافظ(1) .
والظاهر ان مرجع هذا الخلاف إلى الخوف المذكور فى الاية ،فمن قيده بالخوف على النفس والمال من العدو فرق بين الطالب والمطلوب ، ومن جعله أعم من ذلك لم يفرق بينهما وجوز صلاة الخوف للراجل والراكب عند حصول أى خوف.
(تنبيه) علم مما تقدم حرص الشارع على الصلاة واهتمامه بأمرها حتى طلب تأديتها من المجاهدين فى سبيل الله تعالى والعدو يطاردهم ويطاردونه ، ولم يبح لهم تأخيرها عن وقتها ،وبهذا تميزت عن سائر العبادات ،إذ كلها تسقط بالأعذار بخلاف الصلاة ، فإنه لا يحل لمن فى راسه عقل تركها بحال من الأحوال ، فإن تركها جريمة كبرى توجب قتل التارك ولو لصلاة واحدة، كما تقدم فى بحث ( جاحد الصلاة وتاركها) (2) فلينظر العاقل إلى هذا وما عليه غالب أهل الزمان من إضاعتهم الصلاة فى الصحة والأمن والحضر ،فضلا عن حخال المرض والخوف والسفر (فإنا لله وإنا إليه راجعون).
(السابع) الجمعة
__________
(1) انظر ص298 ج2 فتح البارى) صلاة الطالب والمطلوب).
(2) تقم ص41 ج2 الدين الخالص.(1/119)
هى بضم الميم وإسكانها وفتحها: من الإجتماع ،سمى اليوم به لأنهجمع فيه خلق آدم من الماء والطين (روى) على بن أبى طلحة عن أبى هريرة قال: قيل للنبى صلى الله عليه وسلم : لأى شئ سمى يوم الجمعة ؟ قال: لأن فيها طبعت طينة أبيك آدم . وفيها الصعقة والبعثة ،وفيها البطشة ،وفى آخر ثلاث ساعات منها ساعة من دعا الله فيها استجيب له . أخرجه أحمد بسند رجاله رجال الصحيح (1) .
__________
(1) انظر ص7 ج6- الفتح الربانى . و(طبعت) أى خلقت (والصعقة) المرة من الصعق ،وهو فى الأصل ما يغشى الإنسان من صوت شديد يسمعه ثم كثرت استعماله فى الموت .والمراد بالصعقة صوت النفخة الأولى التى بها يموت كل حى إلا رؤساء الملائكة (قال) أنس قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ونفخ فى الصور فصعق من فى السموات ومن فى الأرض إلا من شاء الله " فقيل: من هؤلاء الذين استثنى الله يا رسول الله؟ قال: جبرائيل وميكائيل وملك الموت. قال: يقول : يا ملك الموت خذ نفس ميكائيل فيقع كالطود العظيم . ثم يقول : يا ملك الموت من بقى ؟ فيقول : سبحانك ربى ياذا الجلال والإكرام بقى جبريل وملك الموت . فيقول : يا ملك الموت مت، فيموت . ثم يقول : يا جبريل من بقى ؟ يقول جبريل : سبحانك ربى ياذا الجلال والإكرام ،بقى جبريل وهو من الله بالمكان الذى هو به . فيقول : يا جبريل لابد من موته . فيقع ساجداً يخفق بجناحيه يقول : سبحانك تباركت وتعاليت ياذا الجلال والإكرام ،أنت الباقى وجبريل الميت الفانى . ويأخذ روحه (الحديث) أخرجه ابن جرير الطبرى ص20 ج24 جامع البيان ()..وبهذا تنتهى الدنيا (وقيل) من لا يصعق بالنفخة الأولى الشهداء (روى) أبو هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: سألت جبريل عليه الصلاة والسلام عنهذه الآية : " ونفخ فى الصور فصعق من فى السموات ومن فى الأرض إلا من شاء الله" من الذين لم يشأ الله أن يصعقهم ؟ قال: هم الشهداء (الحديث) أخرجه ابو يعلى بسند رجاله ثقات إلا عمرو بن محمد فإنه غير معروف . قاله ابن كثير . ص267 ج7 (5) (والبعثة) بفتح الباء : المرة من البعث وهو بعث للناس من قبورهم وإحياؤهم بعد الموت ليوم الجزاء . قال تعالى : " ذلك بأن الله هو الحق وأنه على كل شئ قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من فى القبور " الحج : (6) والبطشة : أخذ الناس بالقهر والغلبة يوم القيامة . قال تعالى : " إن بطش ربك لشديد ،إنه هو يبدئ ويعيد".(1/120)
وعلى بن أبى طلحة لم يسمع من أبي هريرة . [118].
(وقيل) سمى بذلك لاجتماع الأنصار مع أسعد بن زرارة فيه فصلى بهم وذكرهم ،فسموه بالجمعة بعد أن كان يسمى يوم العروبة ،أى يوم التحسين ،لأنه يوم تجمل( وهو) أفضل ايام الأسبوع (لحديث) ابى هريرة: أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ،فيه خلق آدم ،وفيه اهبط ،وفيه تيب عليه ،وفيه مات ،وفيه تقوم الساعة . وما من دابة إلا وهى مسيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس سفقاً من الساعة إلا الجن والإنس. وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلى يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه (الحديث) أخرجه الأئمة والثلاثة ،وهذا لفظ الشافعى ،وزاد هو والترمذى وأبو داود :قال ابو هريرة :قال عبد الله بن سلام : هى آخر ساعة من يوم الجمعة.(1/121)
فقلت له: كيف هى آخر ساعة من يوم الجمعة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلى ؟وتلك الساعة لا يصلى فيها، فقال عبد الله بن سلام : ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : من جلس مجلساً ينتظر الصلاة فهو فى صلاة حتى يصلى ؟ فقلت: بلى. قال: هو ذاك. وصححه الترمذى (1) . [
__________
(1) انظر ص200 ج1 زرقانى الموطأ (ما جاء فى الساعة يوم الجمعة) وص149 ج1 بدائع المنن: وص5 ج6 – الفتح الربانى- وص180 ج6 – المنهل العذب (فضل يوم الجمعة) وص210 ج1 مجتبى (الساعى التى يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة) وص355 ج1 تحفة الأحوذى (الساعة التى ترجى يوم الجمعة) و(خير) أفعل تفضيل حذفت همزته لكثرة الاستعمال (وظاهره) أن يوم الجمعة أفضل من يوم عرفة والنحر ويؤيده حديث : أفضل الأيام عند الله تعالى يوم الجمعة .أخرجه البيهقى بسند حسن عن أبى هريرة (6) (انظر رقم 1242 ص28 ج2 فيض القدير فهو أفضل الأيام مطلقاً عند الجمهور . وأما يوم عرفة فهو أفضل فهو أفضل ايام السنة لما يأتى فى(فضل يوم عرفة ) ص97 ج9 إرشاد الناسك . ثم يوم النحر لما يأتى فى 0صلاة العيدين) وقالت الشافعية : يوم الجمعة أفضل ايام الإسبوع ويوم عرفة افضل ايام السنة . ويؤيده ما يأتى فى حديث أوس ابن ابى أوس مرفوعاً : إن منأفضل أيامكم يومالجمعة (الحديث) يأتى رقم 129 قال العلامة العراقى : صرح احابنا الشافعية بأنه – أى يوم الجمعة – أفضل ايام الأسبوع وأن يوم عرفة أفضل ايامالسنة ،واختلفوا فى أفضل الأيام مطلقاً علىوجهين اصحهما أنه يوم عرفة ،ومقتضى الحديث المصرح بأن يوم الجمعة خير يوم طلعت فيه الشمس تفضيله مطلقاً .انظر ص217 ج3 طرح التثريب (افضل أيام الأسبوع وأفضل ايام السنة وأفضل الأيام مطلقاً ) (وأهبط) أى أنزل من الجنة فى جزيرة سرنديب (سيلان) جنوب الهند ..وكان هبوطه من مزايا يوم الجمعة ،لما ترتب ع8ليه من خلق بنى آدم ومنهم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام . ولم يخرج منها طرداً ،بل لقضاء أو طار ثم يعود إليها(وأمنا) قيام الساعة ففيه تعجيل لجزاء الأنبياء والديقين والأولياء وغيرهم، وإظهار كرامتهم عند ربهم (وفيه تيب عليه) أى وفقه الله للتوبة مما ارتكبه وهو الأكل من الشجرة التى نهاه الله عن الأكل مها فى قوله : " وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين " سورة البقرة (35) . فلما ندم على ما فعل وعاد على نفسه باللائمة لقنه الله كلمات تاب الله عليه بها كما قال تعالى : " فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه <" سورة البقرة (37)،وكان ذلك يوم الجمعة العاشر من المحرم (وهذه) الكلمات هى قوله : ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين " سورة الأعراف (23). (وقيل) هى سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ،ولا إله إلا أنت . ظلمت نفسى فاغفر لى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت (فإن قيل) كيف أكل آدم منالشجرة مع النهى عنه والوعيد المقترن به بقوله : " فتكونا من الظالمين" (فالجواب) أنه أكل ناسياً النهى والوعيد. وهو الحيح لإخبار الله به فى كتابه فقال : " ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما " سورة طه (115) . لكن " لما كان" الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يلزمهم من التحفظ والتيقظ لكثرة معارفهم وعاو منازلهم . لا يلزم غيرهم " كان" تشاغله عن تذكر النهى تقصيراً صار به عاصياً (ومسيخة) روى بالسين والصاد ،أى مصغية ومترقبة قيام الساعة بإلهام من الله تعالى خوفاً من قيامها فيما بين الفجر وطلوع الشمس يوم الجمعة (إلا الجن والإنس) ،فإنهم لا يخافون قيام الساعة ولا يترقبونه فى هذا اليوم ،لكثرة غفلتهم ،لا لأنهم لا يعلمون ذلك وأخفاها الله عنهم ليتحقق إيمانهم بالغيب ،ولئلا تختل قاعدة الابتلاء والتكليف . و( عبد الله بن سلام ) بتخفيف اللام ،كان اسمه الحصين فسماء النبى صلى الله عليه وسلم عبد الله . اسلم حين قدم النبى صلىالله عليه وسلم المدينة . قال أنس : إن عبد الله بن سلام بلغه مقدم النبى لى الله عليه وسلم المدينة فأتاه فقال : إنى سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبى ، ما أول اشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أول اشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب . وأما أول طعام يأكله اهل الجنة فزيادة كبد الحوت . وأما الشبه فى الولد فإن الرجل إذا غشى المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له ،وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها . قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله (الحديث) أخرجه البخارى ص192 ج7 فتح البارى (إتيان اليهود النبى صلى اللهعليه وسلم حين قدم المدينة) (7) . وزيادة الكبد : قطعة منفردة متعلقة به، وهى: فى غاية اللذة.(1/122)
119].
هذا والكلام هنا فى ستة عشر فصلا:
( 1 ) فضل يوم الجمعة
قد ورد فى فضله أحاديث أخر (منها) قول أنس: أتى جبريل بمرآة بيضاء فيها وكتة إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما هذه ؟ قال: هذه الجمعة فضلت بها أنت وأُمتك . فالناس لكم فيها تبع ك اليهود والنصارى ،ولكم فيها خير ،وفيها ساعة لا يوافقها مؤمن يدعو الله تعالى بخير إلا استجيب له، وهو عندنا يوم المزيد . قال النبى صلى الله عليه وسلم : يا جبريل ما يوم المزيد ؟ قال : إن ربك اتخذ فى الفردوس وادياً اقبح فيه كثب مسك ،فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله ما شاء من ملائكته وحوله منابر من نور عليها مقاعد النبيين ،وحف تلك المنابر بمنابر من ذهب مكللة بالياقوت والزبرجد ،عليها الشهداء والصديقون ،فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب، فيقول الله لهم : أنا ربكم قد صدقتكم وعدى ، فسلونى أعطكم ،فيقولون :ربنا نسألك رضوانك ،فيقول :قد رضيت عنكم ولكم على ما تمنيتم ،ولدى مزيد ،فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيه فيه ربهم منالخير ( الحديث ) أخرجه الشافعى والطبرانى فى الأوسط بسند رجاله ثقات (1) . [120].
( 2 ) مزايا يوم الجمعة
__________
(1) انظر ص148 ج1 بدائع المنن. وص163 ج2 مجمع الزوائد (الجمعة وفضلها) و(وكتة) بفتح فسكون فتاء مثناة فوقية ،أى نقطة . والمراد بها ساعة الإجابة . و(تبع) أى أن الله كتب يوم الجمعة على اليهود والنصارى فأعرضوا عنه واختاروا غيره. و( أفيح) أى متسع جداً و(كثب) بضمتين جمع كثيب: أى تلول مسك .(1/123)
له مزايا أخر( منها) أن من مات فيه أو فى ليلته لا يفتن فى قبره وإن سئل (لحديث) عبد الله بن عمرو :أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر . أخرجه أحمد والترمذى وقال. هذا حديث غريب وليس إسناده بمتصل وحسنه السيوطى (1) . [121].
(ومنها) أن فيها ساعة يستجاب فيها الدعاء (لقول) أبى هريرة : ذكر النبى صلى الله عليه وسلم الجمعة فقال: فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلى يسأل الله عز وجل شيئاً إلا أعطاه الله إياه . وأشار بيده يقللها : أخرجه الشافعى والسبعة إلا أبا داود والترمذى (2) . [122].
(وقد) اختلف فى تعيين هذه الساعة (فقال) عبد الله بن سلام : إنها آخر ساعة من يوم الجمعة ،لما تقدم فى قصة أبى هريرة مع عبد الله بن سلام(3) (ولحديث) جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة ،لا يوجد مسلم يسأل الله شيئاً إلا آتاه الله ، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر. أخرجه أبو داود والنسائي والبيهقى والحاكم وقال: هذا حديث صحيح(4) . [123].
(وقال) ابن عبد البر :إنه اثبت فى هذا الباب وأكثر الأحاديث على هذا ، وبه قال أكثر أهل العلم .
(
__________
(1) ص7 ج6 –الفتح الربانى . وص164 ج2 تحفة الأحوذى (من يموت يوم الجمعة).
(2) انظر ص150 ج1 بدائع المنن.وص12 ج6 الفتح الربانى وصدره :إن فى الجمعة .وص282 ج2 فتح البارى (الساعة فى يوم الجمعة) وص139 ج6 نووى مسلم(الجمعة9 وص211 ج1 مجتبى (الساعة يستجاب فيها الدعاء ..) وص180ج1 سنن ابن ماجه (الساعة ترجى فى الجمعة) و(يقللها) أشار بتقليلها للترغيب فيها والحرص عليها لقلة وقتها وكثرة فضلها .
(3) تقدم رقم 119 ص120.
(4) ص188 ج6 المنهل العذب (الإجابة أية ساعة هى فى يوم الجمعة)و206 ج1 مجتبى 0وقت الجمعة) وص279 ج1 مستدك وص 250 ج3 سنن البيهقى .(1/124)
وقيل) إن ساعة الإجابة من وقت جلوس الخطيب على المنبر إلى أن يفرغ من الصلاة . قال أبو بردة بن أبى موسى الأشعرى : قال لى عبد الله ابن عمر :أسمعت أباك يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هى ما بين أن يجلس الإمام( يعنى على المنبر) إلى أن تقضى الصلاة. أخرجه مسلم والبيهقى وأبو داود (1) . [124].
(وقيل) غير ذلك وارجح الأقوال ما دل عليه حديث أبى موسى وحديث عبد الله بن سلام .
(واختار) ابن القيم ان ساعة الإجابة منحصرة فى أحد الوقتين المذكورتين ، وأن أحدهما لا يعارض الآخر ، لاحتمال أن يكون صلى الله عليه وسلم دل على أحدهما فى وقت وعلى الآخر فى وقت آخر. وهذا كقول ابن عبد البر :
الذى ينبغى الاجتهاد فى الدعاء فى الوقتين المذكورتين . وسبق إلى نحو ذلك الإمام أحمد ., وهو أولى فى طريق الجمع . ذكره الحافظ (2) .
(3) ما يطلب ليلة الجمعة ويومها
هو أمور المذكور منها هنا عشرون :
(1) يستحب الإكثار في يومها وليلتها من قراءة القرآن والذكر والدعاء ، لحديث أبى أمامة :أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة أو يوم الجمعة بنى الله له بيتاً فى الجنة . أخرجه الطبرانى في الكبير والأصفهاني وفى سنده فضال بن جبير وهو ضعيف جداً(3). [125].
وحديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وملائكته حتى يغيب الشمس .أخرجه الطبرانى في الأوسط والكبير. وفى سنده طلحة بن يزيد الرقى وهو ضعيف(4) . [126].
__________
(1) ص140 ج6 نووى مسلم(الجمعة) وص250 ج3 سننالبيهقى (الساعة التى فى يوم الجمعة..) وص189 ج6 المنهل العذب (الإجابة اية ساعة هى فى يوم الجمعة).
(2) انظر ص287و288 ج2 فتح البارى (الساعة التى فى يوم الجمعة).
(3) انظر ص168 ج2 مجمع الزوائد (ما يقرأ ليلة الجمعة ويومها).
(4) كسابقه .(1/125)
وحديث أبى سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ سورة الكهف فى يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين .أخرجه النسائي وكذا البيهقي والحاكم مرفوعاً وموقوفاً وقال: هذا صحيح الإسناد .
ورواه الدارمى موقوفاً على أبى سعيد قال : من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق . وفى سند غير الحاكم أبو هاشم يحيى بن دينار الرماني،تكلم فيه ووثقه الأكثر . وفى سند الحاكم نعيم بن حماد . قال الأزدى : كان نعيم يضع الحديث فى تقوية السنة ،وروى أحاديث منا كير عن الثقات، وضعفه النسائى ووثقه أحمد والعجلى(1). [127].
(فيسن) قراءة ما ذكر كله أو بعضه ليلة الجمعة ويومها لا على وجه يشوش على مصل أو نائم . أما رفع الصوت بالقراءة فى المسجد فمكروه أو حرام لما تقدم فى بحث (رفع الصوت فى المسجد) من الأحاديث والنصوص (2) .
(وقال) العلامة الشيخ عبد العزيز المليبارى الشافعى : وسن قراءة سورة الكهف يوم الجمعة وليلتها لأحاديث فيها . وقراءتهما نهاراً آكد وأولاه بعد الصبح مسارعة للخير ،وأن يكثر منها وم سائر القرآن فيهما . ويكره الجهر بقراءة الكهف وغيرها إن حصل به تأذ لمصل أو نائم كما صرح به النووى.
(وقال) شيخنا فى شرح العباب: ينبغى حرمة الجهر بالقراءة فى المسجد.
__________
(1) انظر ص261 ج1 (الترغيب فى قراءة سورة الكهف وما يذكر معها ليلة الجمعة ويومها ) وص249 ج3 سنن البيهقى . وص368 ج2 مستدرك (سورة الكهف ) وص494 ج2 سنن الدارمى(فضل سورة الكهف)..
(2) تقدم ص263 ج3 الدين الخالص.(1/126)
وحمل قول النووى بالكراهة على ما إذا خف التأذى ،وعلى كون القراءة فى غير المسجد(1) ،فها هو ذا العلامة ابن حجر شارح العباب يقول بحرمة رفع الصوت بقراءة سورة الكهف فى المسجد، وبين أن قول النووى بالكراهة محمول على ما إذا كانت القراءة خارج المسجد وكان التأذى خفيفاً .
( وقال ابن الحاج): وينبغى له (أى لإمام المسجد) (أن ينهى من يقرأ الأعشار بالجهر والناس ينتظرون صلاة الجمعة أو غيرها ،لأنه موضع النهى لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن "(2) ثم قال: : وينبغى له أن ينهى عن قراءة الأسباع فى المسجد لما تقدم من أن المسجد إنما بنى للمصلين والذاكرين (يعنى سراً) وقراءة الأسباع فى المسجد مشوشة ،وقد قال صلى الله عليه وسلم : لا ضرر ولا ضرار (3) . [128].
(وقد سئل) الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده مفتى مصر عما اعتيد من قراءة فقيه سورة الكهف جهراً يوم الجمعة لأجل عدم غوغاء الفلاحين بالكلام الدنيوى (فأجاب) بقوله :وقراءة سورة الكهف يوم الجمعة جاء فى عبارة الأشباه عند تعداد المكروهات ما نصه : ويكره إفراده بالصوم وإفراد ليلته بالقيام وقراءة الكهف فيه ،خصوصاً وهى لا تقرأ إلا بالتلحين وأهل المسجد يلغون ويتحدثون ولا ينصتون ،ثم أن القارئ كثيراً ما يشوش على المصلين فقراءتهما على هذا الوجه محظورة (4) .
(
__________
(1) انظر ص110 فتح العين شرح قرة العين (سنن الجمعة).
(2) هذا عجز حديث تقدم رقم 381 ص263 ج3 الدين الخالص (حرمة رفع الصوت بالمسجد).
(3) ص88 ج2 المدخل (قراءة الأعشار والأسباع) والحديث أخرجه أحمد وابن ماجه عن ابن عباس . وأخرجه ابن ماجه عن عبادة بن الصامت رقم 9899 ص431 ج6 فيض القدير.
(4) هذه بعض فتوى (منقولة) من دفاتر دار إفتاء الديار المصرية رقم 311 جزء ثالث بتاريخ 22 من ربيع الأول سنة 1323هـ.(1/127)
2) ويندب الإكثار من الصلاة والسلام على النبى صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة ويومها لحديث أوس بن أبى أوس : أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ،وفيه قبض ، وفيه النفخة ،وفيه الصعقة ، فأكثروا علىّ من الصلاة فيه ،فإن صلاتكم معروضة علىّ . فقالوا : يا رسول الله وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت ؟ يعنى وقد بليت . قال : إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء . أخرجه أحمد والحاكم وصححه وابن حبان والبيهقى والأربعة إلا الترمذى (1) . [129].
ولحديث أبى أمامة : أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: أكثروا علىّ من الصلاة فى كل يوم جمعة ،فإن صلاة أمتى تعرض على فى كل يوم جمعة، فمن كان أكثركم علىّ صلاة كان أقربكم منى منزلة .أخرجه البيهقى بسند حسن(2) . [130].
__________
(1) ص9 ج6 الفتح الربانى : وص278 ج1 مستدرك . وص248 ج3 سنن البيهقى (ما يؤمر به فى ليلة الجمعة ويومها ...) وص185 ج6 المنهل العذب (فضل يوم الجمعة) وص203 ج1 مجتبى (إكثار الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم )وص174 ج1 سنن ابن ماجه (فضل الجمعة) والمراد بالنفخة النفخة الثانية ، وهى نفخة البعث ،وبالصعقة النفخة الأولى التى يموت بها كل حى إلا رؤساء الملائكة كما تقدم : و(أرمت) بفتحتين فسكون: اصله ارممت أى بليت :، فحذفت إحدى الميمين ،ويجوز كسر الراء .
(2) ص249 ج3 سنن البيهقى (ما يؤثر به فى ليلة الجمعة ويومها).(1/128)
والأحاديث فى هذا كثيرة(1) .
(
__________
(1) منها ( حديث) أكثروا الصلاة على يوم الجمعة وليلة الجمعة . فمن صلى على صلاة صلى الله عليه عشراً .أخرجه البيهقى عن أنس ص249 ج3 (8) و(حديث) إن عن ابن مسعود . ص311 ج14 الفتح الربانى (9) (ومنا) ما يأتى ص356 ج9 (فضل الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم) وفى هذه الأحاديث أيضا دليل على أن النبي عليه الصلاة والسلام حى فى قبره . (قال الشوكانى) وقد ذهب جماعة من المحققين إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم حى بعد وفاته وأنه يسر بطاعات أمته ،وأن الأنبياء لا يبلون ،مع أن مطلق الإدراك كالعلم والسماع ثابت لسائر الموتى. وقد صح عنابن عباس مرفوعاً : ما من أحد يمر على قبر اخيه المؤمن : وفى رواية : بقبر الرجل كان يعرفه فى الدنيا فيسلم عليه إلاعرفه ورد عليه .ولابن أبى الدنيا : إذا مر الرجل بقبر يعرفه فيسلم عليه رد عليه وعرفه ،إذا مر بقبر لا يعرفه رد عليه السلام (10).
(وصح) أنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى البقيع لزيارة الموتى ويسلم عليهم (وورد) النص فى كتاب الله تعالى فىحق الشهداء أنهم أحياء يرزقون وأن الحياة فيهم متعلقة بالجسد . فكيف بالأنبياء والمرسلين؟ . وقد ثبت فى الحديث أن الأنبياء أحياء فى قبورهم . رواه المنذرى وصححه البيهقى . وفى صحيح مسلم عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: مررت بموسى ليلة اسرى بى عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلى فى قبره . ص305 ج3 نيل الأوطار (11) (طاعة الأمة تعرض على الرسول ،هو هو فى قبره حى ).(1/129)
3-6) ويطلب الغسل والسواك والتطيب ولبس أحسن الثياب يوم الجمعة( لحديث) أبى سعيد وأبى هريرة : أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: من اغتسل يوم الجمعة واستاك ومس من طيب ،إن كان عنده ،ولبس من أحسن ثيابه ،ثم خرج حتى يأتى المسجد فلم يتخط رقاب الناس حتى ركع ما شاء إن يركع ،ثم أنصت إذا خرج الإمام فلم يتكلم حتى يفرغ من صلاته ، كان كفارة لما بينها وبين الجمعة التى قبلها . وكان أبو هريرة يقول : ثلاثة أيام زيادة ،إن الله جعل الحسنة بعشر أمثالها .أخرجه أحمد والحاكم وأبو داود وأخرج نحوه ابن ماجه عن أبى ذر الغفارى (1) . [131].
(ولحديث) ابن عمرو : أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: من اغتسل يوم الجمعة ،ومس من طيب امرأته إن كان لها ،ولبس من صالح ثيابه ، ثم لم يتخط رقاب الناس ،ولم يلغ عند الموعظة ،كانت كفارة لما بينهما ، ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً .أخرجه أبو داود ،وفى سنده عمرو بن شعيب مختلف فيه (2) .
__________
(1) ص43 ج6 الفتح الربانى . وص283 ج1 مستدرك . وص204 ج2 المنهل العذب (الغسل يوم الجمعة)وص176 ج1 سنن ابن ماجه (الزينة يوم الجمعة ) (وأنصت..إلخ) أى من تحلى يوم الجمعة بالغسل وما بعده ثم سكت مستمعاً إذا خرج الإمام للخطبة إلى أن ينتهى من الصلاة ،كانت هذه الخصال ماحية للذنوب التى حصلت منه طول الأسبوع وزيادة ثلاثة أيام من الجمعة الآتية .والمراد بالذنوب الصغائر لما فى رواية أبةى هريرى عند مسلم :ما لم يغش الكبائر . وظاهره أنتكفيره الذنوب فى هذه المدة مشروط بفعل كل هذه الخصال مع ترك الكبائر ..
(2) ص211 ج3 المنهل العذب (الغسل يوم الجمعة). و(كانت له ظهراً) أى كانت الجمعة كصلاة الظهر فىالثواب لا كصلاة الجمعة لنقصانه بتخطى الرقاب واللغو ..(1/130)
والأحاديث فى هذا كثيرة (1) .
(وقد اتفق) العلماء على استحباب ذلك كله إلا الغسل فقد تقدم بيان المذاهب فى حكمه ووقته وأدلته فى بحث اقسام الغسل (2) .
(والمراد) بأحسن الثياب البيض ،لما يأى عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : البسوا من ثيابكم البياض فإنها خير ثيابكم ،وكفوا فيها موتاكم .أخرجه أحمد والحاكم والبيهقى والأربعة إلا النسائى وصححه الترمذى (3) .
__________
(1) منها) ما تقدم فى بحث اقسام الغسل ص306 ج1 و(منها) ما روى أن رجلا سأل ابن عباس عن الغسل يوم الجمعة أواجب هو ؟ فقال: لا ،ومن شاء اغتسل .
وسأحدثكم عن بدء الغسل ،كان الناس محتاجين وكانوا يلبسون الصوف وكانوا يسقون النخل على ظهورهم وكان مسجد النبى صلى الله عليه وسلم قصيراً إنما هو ثلاث درجات فعرق الناس فى الصوف فثارت أرواحهم أرواح الصوف (أى ظهرت من أجسادهم رياح كريهة . فالأرواح جمع ريح . والثانية بدل منالأولى) فتأذى بعضهم ببعض حتى بلغت أرواحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال : يا أيها الناس إذا جئتم الجمعة فاغتسلوا ،وليمس أحدكم من أطيب طيب إن كان عنده . أخرجه أحمد والحاكم وقال صحيح على شرط البخارى .وأخرجه أبو داود وزاد : قال ابن عباس : ثم جاء الله بالخير ولبسوا غير الصوف وكفوا العمل ووسع الله مسجدهم وذهب بعض الذى كان يؤذى بعضهم بعضاً من العرق .أهـ. ص42 ج6 الفتح الربانى . وص280 ج1 مستدرك . وص219 ج3- المنهل العذب وصدره :ايها الناس إذا كان هذا...
(الرخصة فى ترك الغسل يوم الجمعة) (12).
(2) تقدم بصفحة 306 ج أول.
(3) يأتى رقم 455 ص256 ج7 (تكفين الميت).(1/131)
ويأتى فى هذا أحاديث كثيرة(1) . [133].
(وحكمة) مشروعية الغسل والسواك والطيب والتجمل بأحسن الثياب يوم الجمعة أن يكون المصلى على أكمل حال وأطيبه ،فلا يتأذى به أحد ، ولأن الملائكة تقف على أبواب المساجد يكتبون الأول فالأول ،فربما صافحوه أو لمسوه .
(7-8) ويندب الأخذ من الشعر وقص الظفر يوم الجمعة (لحديث) أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقلم أظفاره ويقص شاربه يوم الجمعة قبل أن يخرج إلى الصلاة .أخرجه البزار والطبرانى فى الأوسط وفى سنده إبراهيم بن قدامة . ذكره ابن حبان فى الثقات . وقال البزار: ليس بحجة إذا تفرد بحديث،وقد تفرد بهذا (2) . [134].
(ولحديث) عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: من قلم أظفاره يوم الجمعة وقى من السوء إلى مثلها .أخرجه الطبرانى فى الأوسط . وفى سنده احمد بن ثابت الملقب بفرجونة أو فرجويه ،وهو ضعيف(3) . [135].
(
__________
(1) منها ما يأتى فى هذا المرجع ( وقد) كان الغالب من لباسه صلى الله عليه وسلم فى الجمعة البياض فلا ينافى أنه أحياناً كان يلبس غيرها (قال) جابر: كان النبى صلى الله عليه وسلم يلبس برده الأحمر فى العيدين والجمعة . أخرجه البيهقى . ص247 ج3 (الارتداء ببرد) (13).
(2) انظر ص170 ج2 مجمع الزوائد (الأخذ من الشعر والظفر يوم الجمعة).
(3) ص171 منه .(1/132)
9) ويسن قراءة سورة " ألم تنزيل السجدة" بعد الفاتحة فى الركعة الأولى من صلاة صبح الجمعة ، و" هل أتى على الإنسان " فى الركعة الثانية (لحديث) ابن عباس : أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقرأ يوم الجمعة فى صلاة الصبح " ألم تنزيل" و" هل أتى على الإنسان " ، وفى صلاة الجمعة بسورة " الجمعة "و" المنافقين ". أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائى وابن ماجه (1) . [136].
(وظاهره )أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يواظب على قراءة هاتين السورتين فى صبح الجمعة كما يشعر به لفظ كان . ويؤيده (حديث) ابن مسعود أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقرا فى صلاة الصبح يوم الجمعة " ألم تنزيل السجدة" و" هل أتى على الإنسان" يديم ذلك .أخرجه الطبرانى فى الصغير بسند رجاله ثقات،وهوعند ابن ماجه غير قوله:يديم ذلك(2). [137].
(وكان) صلى الله عليه وسلم يقرأ السورتين بتمامهما خلافاً لما يفعله بعض الناس من الاقتصار على بعضهما ،فهو خلاف السنة .
وهذا مذهب الشافعى ،وبه قال الحنفيون وأحمد ،إلا أنه تكره المداومة عليهما عندهم . قال فى المحيط : يستحب قراءة هاتين السورتين فى صبح يوم الجمعة بشرط أن يقرأ غير ذلك أحياناً لئلا يظن الجاهل أنه لا مجزئ غيره أو يرى القراءة بغيره مكروهة(3) .
(وقالت) المالكية : يكره تعمد قراءة سورة سجدة فى الفريضة ، وهو رواية ابن القاسم عن مالك.
(
__________
(1) ص111 ج6 الفتح الربانى . وص167 ج6 نووى مسلم (ما يقرأ فى يوم الجمعة) وص 224 ج6 المنهل العذب مقتصراً على( ما يقرأ فى صلاة الصبح ..) وص210 ج1 مجتبى (القراءة فى صلاة الجمعة) وص141 ج1 سنن ابن ماجه (القراءة فى صلاة الفجر يوم الجمعة).
(2) ص141 منه . وص168 ج2 مجمع الزوائد " ما يقرأ فيها" أى فى صلاة صبح الجمعة.
(3) ص258 ج2 فتح البارى ( ما يقرأ فى صلاة الفجر يوم الجمعة).(1/133)
وروى) أشهب عنه جواز قراءة السورة التى فيها السجدة إذا كان وراء الإمام عدد قليل لا يخاف أن يختلط عليهم.
(وقال) ابن حبيب : يجوز قراءة سورة فيها سجدة فى الصلاة الجهرية دون السرية لأمن التخليط فى الجهرية . ومنهم من علل الكراهة بخشية اعتقاد العوام أنها فرض .
(قال) ابن دقيق العيد: أما القول بالكراهة مطلقا فيأباه الحديث ،لكن إذا انتهى الحال إلى وقوع هذه المفسدة فينبغى أن تترك أحياناً لتندفع ،فإن المستحب قد يترك لدفع المفسدة المتوقعة ،وهو يحصل بالترك فى بعض الأوقات (1) .
ولا وجه للقول بالكراهة مطلقاً أو فى الصلاة السرية ،بل يرده حديث ابن عمر رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم سجد فى صلاة الظهر ثم قام فركع ، فرأينا أنه قرأ " تنزيل السجدة " .أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرطهما (2) . [138].
(فهو) يدل على عدم التفرقة بين السرية والجهرية . (فالراجح) أن قراءة هاتين السورتين فى صبح يوم الجمعة سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا وجه للقول بتركها فى بعض الأحيان لخوف اعتقاد العوام الوجوب أو نحوه ،إذ لا عبرة بتوهم خلاف الوارد وإلا لترك غالب أحكام الشريعة خوف اعتقاد العوام خلاف الوارد ،وهو غير معقول .
(
__________
(1) ص258 منه .
(2) ص162 ج4 الفتح الربانى . وص230 ج5 النهل العذب (قدر القراءة فى صلاة الظهر والعصر).(1/134)
وليس) فى هذه الأحاديث ما يفيد أنه صلى الله عليه وسلم كان يسجد حين يقرأ هذه السورة فى صبح يوم الجمعة( قال) الحافظ: لم أر فى شئ من الطرق التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم سجد لما قرأ سورة " ألم السجدة" فى هذا المحل إلا فى كتاب الشريعة لابن أبى داود من طرق أخرى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: غدوت علىالنبى صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فى صلاة الفجر فقرأ سورة فيها سجدة فسجد (الحديث) وفى إسناده من ينظر فى حاله (1) . [139].
(وروى) على رضى الله عنه : أن النبى صلى الله عليه وسلم سجد فى صلاة الصبح فى تنزيل السجدة .أخرجه الطبرانى فى الأوسط والصغير . وفى سنده الحارث الأعور وهو ضعيف (2) . [140].
(والحكمة) فى قراءة النبى صلى الله عليه وسلم هاتين السورتين فى صبح الجمعة أنهما تضمنتا ما كان وما يكون فى يومها ،فإنهما اشتملتا على خلق آدم وعلى ذكر المعاد وحشر العباد ،وذلك يكون يوم الجمعة ،فكان فى قراءتهما فى هذا اليوم تذكير للأمة بما كان فيه وما يكون، فتكون السجدة جاءت تبعاً وليست مقصودة.
(10) ويندب التبكير إلى صلاة الجمعة (لحديث) أبى سعيد الخدري أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المساجد فيكتبون من جاء من لناس على منازلهم ،فرجل قدم جزوراً ، ورجل قدم بقرة ،ورجل قدم شاة ،ورجل قدم دجاجة ،ورجل قدم عصفوراً ،ورجل قدم بيضة . فإذا أذن المؤذن وجلس الإمام على المنبر طويت الصحف ودخلوا المسجد يستمعون الذكر. أخرجه أحمد والضياء المقدسى بسند رجاله ثقات وحسنه المنذرى (3) . [141].
(
__________
(1) ص258 ج2 فتح البارى ..
(2) ص169 ج2 مجمع الزوائد (ما يقرأ فيها )أى فى صلاة صبح الجمعة .
(3) انظر ص61 ج6 الفتح الربانى . و" الجزور" : البعير ذكر أو أنثى .(1/135)
ولحديث) أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فى الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ،ومن راح فى الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ،ومن راح فى الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن ،ومن راح فى الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ،ومن راح فى الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة . فإذا خرج الإمام اقبلت الملائكة يستمعون الذكر .أخرجه مالك والشافعى والبخارى والثلاثة والبيهقى وابن أحمد فى زوائد المسند (1) . [142].
(
__________
(1) ص185 ج1 زرقانى الموطأ( غسل يوم الجمعة) وص156 ج1 بدائع المنن. وص249 ج2 فتح البارى (فضل الجمعة) وص206 ج1 مجتبى (وقت الجمعة)و359 ج1 تحفة الأحوذى (التبكير إلى الجمعة) وص215 ج3- المنهل العذب (الغسل يوم الجمعة) وص226 ج3 سنن البيهقى (فضل التبكير إلى الجمعة) وص57 ج6 الفتح الربانى . و" البدنة" : الواحد من الإبل ذكراً كان أو أنثى .
والكبش : فحل الغنم . ووصفه بأفرن لأنه أكمل وأحسن صورة . و"الدجاجة " بفتح الدال وكسرها وتضم : تطلق على الذكر والأنثى من الدجاج . والتاء للوحدة لا للتأنيث : وفى رواية للنسائى بعد الكبش بطة ثم دجاجة ثم بيضة . وفى رواية بعد الكبش دجاجة ثم عصفور ثم بيضة كما تقدم . وهما روايتان سندهما صحيح وزيادة الثقة مقبولة . و(أقبلت) أى دخلت (الملائكة) المسجد. وفى رواية : حضرت . وفى مسلم : فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون الذكر ،أى الخطبة . والمراد أنهم يطوون الصحف التى كانوا يكتبون فيها ثواب حاضرى صلاة الجمعة قبل الزوال . وهؤلاء الملائكة غير الحفظة .(1/136)
وقوله غسل الجنابة) من باب التشبيه ،أى غسلا كغسل الجنابة فى الكيفية لا فى الحكم (ففى حديث) ابن جريح عن سمى : فاغتسل أحدكم كما يغتسل من الجنابة .أخرجه عبد الرزاق (1) وبهذا قال الأكثر . وقيل :المراد غسل الجنابة حقيقة . فيستحب له أن يواقع زوجه ليغتسلا من الجنابة .
(وحكمته) أن تسكن نفسه فى الرواح إلى الصلاة ويغض بصره .
(ويؤيده) ما فى حديث أوس بن أوس الثقفى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من غسل يوم الجمعة واغتسل ثم بكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ ،كان له بكل خطوة عمل سنة ،أجر صيامها وقيامها .أخرجه البيهقى والأربعة وحسنه الترمذى وأخرجه أحمد عن ابن عمرو (2) . [143].
(من غسل) روى مخففاً ومشدداً ومعناه : جامع امرأته قبل الخروج إلى الصلاة فاغتسلت ،وقيل التشديد فيه للمبالغة ،اى بالغ فى غسل الرأس لما فيها من الشعث (واغتسل) اى غسل سائر جسده . ويؤيده ما فى رواية لأبى داود بلفظ : من غسل رأسه يوم الجمعة واغتسل (3) .
هذا. وقد اختلفوا فى المراد بالساعات الواردة فى هذه الأحاديث (فمشهور) مذهب المالكية أن المراد بها أجزاء الساعة التى قبل الزوال 0وروى) عن مالك أن المراد بها لحظات لطيفة بعد زوال الشمس . وبه قال القاضى حسين وإمام الحرمين من الشافعية ،لأن الرواح الذهاب بعد الزوال ،ولما فى حديث ابى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: المهجر إلى الجمعة كالمهدى بدنة (الحديث) أخرجه أحمد وغيره(4) . [144].
__________
(1) ص249 ج2 فتح البارى .
(2) 229 ج3 سنن البيهقى (فضل المشى إلى الصلاة ..) وص209 ج3 المنهل العذب (الغسل يوم الجمعة) وص205 ج1 مجتبى (فضل المشى إلى الجمعة) وص357 ج1 تحفة الأحوذى ( فضل الغسل يوم الجمعة)وص 174 ج1 سنن ابن ماجه، و51 ج6 – الفتح الربانى.
(3) انظر 211 ج3 المنهل العذب.
(4) انظر ص60 ج6 الفتح الربانى.(1/137)
والتهجير : السير وقت الهاجرة ،أى شدة الحر.
(وقال) الجمهور: يستحب التبكير إلى الجمعة أول النهار . وبه قال الشافعى وابن حبيب المالكى . فالساعات عندهم من أول النهار . والمراد بالساعات الفلكية . والرواح يكون أول النهار وآخره . والتهجير : التبكير.
هذا . ومن جاء فى أول ساعة من هذه الساعات ،ومن جاء فى آخرها مشتركان فى تحصيل البدنة أو البقرة أو الكبش ،ولكن بدنة الأول أكمل من بدنة من جاء فى آخر الساعة ،وبندة المتوسط متوسطة . هذا هو الراجح المختار . وقال الرافعى : ليس المراد من الساعات ، الساعات الفلكية ،وإنما المراد ترتيب الدرجات وتفضيل السابق على الذى يليه لئلا يستوى فى الفضيلة رجلان جاءا فى طرفى ساعة(1) .
(وقال) الصيدلانى : التبكير يكون من ارتفاع النهار وقت الضحى وأول الهاجرة . وهو الظاهر من أحاديث الباب التى فيها الحث على التهجير إلى الجمعة وينتهى بالزوال حين يحضر الإمام وتطوى الملائكة الحف .
وهذه المدة مقسمة إلى ست ساعات زمنية لا فلكية .
(11و12و13) ويطلب المشى للجمعة ، والقرب من الإمام ،والإنصات له (لما تقدم) عن أوس بن أوس الثقفى وابن عمرو أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: من غسل يوم الجمعة واغتسل ثم بكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام واستمع ولم بلغ ،كان له بكل خطوة عمل سنة ، أجر صيامها وقيامها (2) .
(
__________
(1) ص541 ج4 شرح المهذب.
(2) تقدم رقم 143 ص137 ، و" بكر" بالتشديد :أى بالغ إلى صلاة الجمعة و(ابتكر) أى أدرك أول الخطبة ،أو أدى ما يؤديه المبكر من صلاة وتسبيح وغيرهما .
وقيل هو بمعنى بكر ،وجمع بينهما للتأكيد (والخطوة) بضم فسكون : ما بين القدمين وقت المشى ،وجمعه خطاً وخطوات كغرف وغرفات . وبفتح الخاء : المرة من المشى وجمعها خطوات كسجدة وسجدات.(1/138)
ولحديث) عطاء الخراسانى عن مولى امرأته أم عثمان قال: سمعت علياً رضى الله عنه على منبر الكوفة يقول : إذا كان يوم الجمعة خرج الشياطين يربثون الناس إلى أسواقهم ومعهم الرايات ، وتقعد الملائكة على أبواب المساجد يكتبون الرجل من ساعة والرجل من ساعتين حتى يخرج الإمام.
فمن دنا من الإمام وأنصت واستمع ولم يلغ ،كان له كفلان من الأجر . ومن نأى وجلس حيث لا يسمع فأنصت ولم يلغ ،كان له كفل من الأجر . ومن دنا من الإمام فلغا ولم ينصت ولم يستمع ،كان عليه كفلان من الزور . ومن نأى عنه فلغا ولم ينصت ولم يستمع ،كان عليه كفل من الوزر . ومن قال صه فقد تكلم ،ومن تكلم فلا جمعة له . ثم قال: هكذا سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم .أخرجه أحمد وأبو داود والبيهقى . ومولى امرأة عطاء مجهول (1) . [145].
(
__________
(1) انظر ص62 ج6 الفتح الربانى . وص192 ج6 المنهل العذب (فضل الجمعة) وص220 ج3 البيهقى( الإنصات للخطبة وإن لم يسمعها ). و(يربثون) بالباء المشددة : من التربيث وهو الحبس والتثبيط . والمعنى : أن الشياطين تقعدهم عن السعى إلى الجمعة حتى تمضى الأوقات الفاضلة . و(الرايات ) جمع راية . ولعله كناية عن طاعة الناس للشياطين واتباعهم لهم كما يتبع الجيش حامل الراية . و(كفلان) مثنى كفل بكسر فسكون : التنصيب وإنما كان له كفلان من الأجر لدنوه من الإمام وإنصاته (ومن نأى) أى ابتعد عن الإمام فصار لا يتمكن من السماع والنظر فأنصت ولم يلغ فله نصيب من الأجر لإنصاته (ومن دنا) أى قرب من الإمام فلغا ولم ينصت فعليه كفلان من الوزر لعدم إنصاته ولغوه (ومن نأى) أى بعد بحيث لا يمكنه السماع ولغا فعليه وزر لغوه (فلا جمعة له) أى أنه حرم من ثواب صلاة الجمعة وإن سقط بها الفرض . وقيل صارت له ظهراً . ويؤيده ما تقدم فى حديث ابن عمرو أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً . تقدم رقم 132 ص131.(1/139)
وتقدم) عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت (1) . قال الترمذى : والعمل عليه عند أهل العم . كرهوا للرجل التكلم والإمام يخطب ،وإن تكلم غيره فلا ينكر عليه إلا بالإشارة .
(واللغو) الكلام الذى لا ثواب فيه ،وقيل : الإثم والباطل.
(وفى هذه) الأحاديث دليل على حرمة الكلام حال خطبة الجمعة مطلقاً ولو أمراً بمعروف،وهو قول مالك والأوزاعى وأبو يوسف ومحمد وأحمد .
(وللشافعية) قولان أصحهما لا يحرم الكلام حال الخطبة . والإنصات مستحب بناء على أن المراد باللغو ما لا ثواب فيه ،ويرده :
(أ) ما تقدم فى حديث على رضى الله عنه : ومن دنا من الإمام فلغا ولم ينصت ولم يستمع كان عليه كفلان من الوزر . وقوله : ومن قال صه فقد تكلم ،ومن تكلم فلا جمعة له (2) .
(ب) (وحديث) ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً ،والذى يقول له أنصت ليس له جمعة . أخرجه أحمد والبزار والطبرانى ،وفى سنده مجالد بن سعيد ضعفه كثير ،ووثقه النسائى فى رواية ، وقال الحافظ فى بلوغ المرام : رواه أحمد بسند لا بأس به (3) . [146].
(وقال) أبو حنيفة : يحرم الكلام ويجب الإنصات إذا خرج الإمام إلى الخطبة إلى أن يفرغ منها . (والمراد) بخروجه صعوده على المنبر أو خروجه من الحجرة إن كانت ، لما روى عن على وابن عباس وابن عمر رضى الله عنهم أنهم كانوا يكرهون الصلاة والكلام بعد خروج الإمام .أخرجه ابن أبى شيبة(4) (32).
وقول الصحابى :فى مثل هذا حجة ، فإنه لا يقال من قبل الرأى ، فهو فى حكم المرفوع .
(
__________
(1) تقدم رقم 26 ص30 (قضاء الفائتة فى أوقات النهى).
(2) تقدم رقم 145 ص139 .
(3) ص97 ج6 الفتح الربانى . وص184 ج2 مجمع الزوائد (الإنصات والإمام يخطب) .
(4) ص202 ج2 نصب الراية .(1/140)
وقال) مالك وأحمد وأبو يوسف ومحمد : لا بأس بالكلام ما لم يشرع فى الخطبة ،لأن المنع منه لما فيه من الإخلال بفرض الاستماع ،ولا استماع هنا ،ولقول الزهرى : خروج الإمام يقطع الصلاة وكلامه يقطع الكلام .أخرجه مالك (1) (33).
ومحل الخلاف فى الكلام الدنيوى ،أما الأخروى فلا يكره قبل الخطبة عند أبى حنيفة أيضاً على الأصح . ويشهد له قول أبي أمامة بن سهل : سمعت معاوية بن أبى سفيان وهو جالس على المنبر ،أذن المؤذن ،فقال : الله أكبر ، الله أكبر . فقال معاوية : الله أكبر ،الله أكبر . فقال أشهد أن لا إله إلا الله . قال معاوية : وأنا . فلما قال : أشهد أن محمداً رسول الله ،قال معاوية : وأنا ، فلما أن قضى التأذين قال: يا أيها الناس إنى سمعت النبى صلى الله عليه وسلم على هذا المجلس حين أذن المؤذن يقول ما سمعتم من مقالتى .أخرجه البخاري (2) . [147].
(وهذا) كله فى حق من سمع الخطبة ،سواء أكان فى المسجد أم لا ، أما من لم يسمعها بأن كان بعيداً ففيه خلاف (فقال) الجمهور: يجب الإنصات أيضاً ويحرم الكلام عليه كالسامع . (وقال) أحمد وعطاء والنخعى : لا يحرم ،ويجوز له أن يسبح أو يتكلم فى مسألة علمية .
(وقالت) المالكية : يحرم الكلام على من بالمسجد أو رحبته لا خارجها سداً للذريعة لئلا يسترسل الناس حتى يتكلم من يسمع الإمام .
(
__________
(1) ص195 ج1 زرقانى الموطأ( الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب).
(2) انظر ص269 ج2 فتح الباري ( يجيب الإمام على المنبر إذا سمع النداء)..(1/141)
وهذا) كله فى الكلام حال الخطبة ،أما قبل الشروع فيها وبعد صعود الخطيب على المنبر وبعد الفراغ منها، فالأكثر على الجواز 0قال) الشافعى : لا بأس أن يتكلم والإمام على المنبر قبل كلام الإمام ، فإذا ابتدأ فى الكلام لم أحب أن يتكلم حتى يقطع الإمام الخطبة الآخرة ، فإن قطع الآخرة فلا باس أن يتكلم حتى يكبر الإمام ، وأحسن فى الأدب ألا يتكلم من حين يبتدئ الإمام الكلام حتى يفرغ من الصلاة ،وإن تكلم رجل والإمام يخطب لم أحب ذلك له (1) .
(وقال) الحافظ: واستدل به ،أي بحديث " إذا قلت لصاحبك أنصت " على منع جميع أنواع الكلام حال الخطبة . وبه قال الجمهور فى حق من سمعها ، وكذا الكلام فى حق من لا يسمعها عند الأكثر ،وإذا أراد الأمر بالمعروف فليجعله بالإشارة (2) .
ثم قال: ونقل صاحب (المغنى) الاتفاق على أن الكلام الذى يجوز فى الصلاة يجوز فى الخطبة كتحذير الضرير من البئر.
(وعبارة الشافعى) : وإذا خاف على أحد لم أر باساً إذا لم يفهم عنه بالإيماء ان يتكلم . وقد استثنى من الإنصات فى الخطبة ما إذا انتهى الخطيب إلى ما لم يشرع مثل الدعاء للسلطان ، بل جزم صاحب التهذيب بأن الدعاء للسلطان مكروه .
وقال النووى: محله ما إذا جازف وإلا فالدعاء لولاة الأمور مطلوب .
ومحل الترك إذا لم يخف الضرر وإلا فيباح للخطيب إذا خشى على نفسه (3) .
(وقال) الترمذي : واختلفوا فى رد السلام وتشميت العاطس ، فرخص بعضهم فيهما والإمام يخطب ،وهو قول أحمد وإسحاق . وكره بعض التابعين وغيرهم ذلك ،وهو قول الشافعي .أ. هـ. وحكى ابن العربي عن الشافعي موافقة أحمد وإسحاق.
(
__________
(1) انظر ص180 ج1 كتاب الأم (الإنصات للخطبة).
(2) انظر ص281 ج2 فتح الباري ( الإنصات يوم الجمعة).
(3) انظر ص282 منه .(1/142)
قال) العراقي :وهو أولى مما نقله عنه الترمذى . وقد صرح الشافعي فى مختصر البويطى بالجواز فقال: ولو عطس رجل يوم الجمعة فشمته رجل رجوت أن يسعه ،لأن التشميت سنة . ولو سلم رجل على رجل كرهت ذلك له ورأيت أن يرد عليه ؛ لأن السلام سنة ورده فرض . وقال النووى فى شرح المهذب : إنه الأصح (1) .
(فعلى) العاقل أن يتأدب بآداب الشريعة ويتحلى بتعاليمها ولا سيما فى صلاة الجمعة ليكون ممن سلك أحسن سبيل (روى) عبد الله بن عمرو أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: يحضر الجمعة ثلاثة ، فرجل حضرها يلغو فذاك حظه منها ،ورجل حضرها بدعاء فهو رجل دعا الله عز وجل ، فإن شاء أعطاه وإن شاء منعه ،ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحداً فهى كفارة له إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام ، فإن الله يقول : { مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } .أخرجه أحمد وأبو داود وابن خزيمة والبيهقى بسند جيد(2) . [148].
(14) ويندب لمن أتى المسجد قبل الجمعة التنفل مع طول القيام ما لم يصعد الإمام المنبر (لقول) نافع: كان ابن عمر يغدو إلى المسجد يوم الجمعة فيصلى ركعات يطيل فيهن القيام ،فإذا انصرف الإمام رجع إلى بيته فصلى ركعتين وقال : هكذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم . أخرجه أحمد وأبو داود بسند صحيح ،وهذا لفظ أحمد (3) .
[149].
(
__________
(1) ص366 ج1 تحفة الأحوذى (كراهة الكلام والإمام يخطب).
(2) ص64 ج6 الفتح الربانى . و 280 ج6 المنهل العذب (الكلام والإمام يخطب) وص219 ج3 سنن البيهقى (الإنصات للخطبة) .
(3) ص76 ج6 الفتح الربانى .وص295 ج6 المنهل العذب ( الصلاة بعد الجمعة) وفيه : ويحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك .(1/143)
15) ويطلب ممن دخل المسجد ولم يجد مكاناً يجلس فيه ألا يقيم غيره ليجلس مكانه ،بل يطلب التوسعة ( لحديث) جابر بن عبد الله : أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: لا يقيم أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالفه إلى مقعده ،ولكن ليقل أفسحوا .أخرجه أحمد ومسلم (1) .[150].
(وذكر) يوم الجمعة من التنصيص على بعض أفراد العام لا من باب التقييد ، للأحاديث المطلقة (2) .
(ومن سبق) إلى مكان مباح ولو غير مسجد فى يوم جمعة أو غيره لصلاة أو غيرها ، فهو أحق به . ويحرم على غيره غقامته منه والقعود فيه . وكذا من جلس فى مكان ثم قام منه لقضاء حاجته ثم يعود إليه فإنه احق به ممن جلس فيه بعد قيامه كما تقدم بيانه فى بحث (إقامة الإنسان من مكان مباح سبق إليه) (3) .
(16) ويندب لمن بالمسجد إذا غلبه النعاس فى مكان التحول منه إلى آخر (لحديث) ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: إذا نعس أحدكم فى المسجد يوم الجمعة فليتحول من مجلسه ذلك إلى غيره .أخرجه احمد وأبو داود وابن أبى شيبة والبيهقي والترمذي وقال :هذا حديث حسن صحيح(4) . [151].
(
__________
(1) ص70 ج6 الفتح الربانى . وص161 ج14 نووى مسلم (تحريم إقامة الإمسان من موضعه . كتاب السلام ) و( لا يقيم) روى بصيغة
الخبر،والمراد النهى . ووفى رواية لمسلم : لا يقيمن احدكم الرجل من مجلسه بصيغة النهى المؤكد . وفى رواية له: لا يقيم أحد أخاه يوم
الجمعة ..إلخ ، بصيغة النهى بلا تأكيد .
(2) منها ما تقدم رقم 287 ص240 ج3 الدين الخالص : عن ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه
آخر ،ولكن تفسحوا وتوسعوا(14).
(3) مما تقدم ص204 ج3 الدين الخالص .
(4) ص69 ج6 الفتح الربانى . وص287 ج6 المنهل العذب (الرجل ينعس والإمام يخطب ) وص237 ج3 سنن البيهقي (النعاس فى المسجد يوم
الجمعة) وص72 ج1 تحفة الأحوذى (باب فيمن ينعس يوم الجمعة يتحول.. من مجلسه).(1/144)
وذكر ) يوم الجمعة من التنصيص على بعض إفراد العام اعتناء به أو نظراً للغالب لطول المكث فى المسجد يوم الجمعة . ففى رواية أبى داود : إذا نعس أحدكم وهو فى المسجد .
(وحكمة) الأمر بالتحول أن الحركة تذهب النعاس،أو لأن المكان الذى أصابه فيه النوم فيه شيطان ،ولذا أمر النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه بالانتقال من الوادى الذي ناموا فيه حتى طلعت الشمس وقال : إن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان(1) .
(ولا يقال) إن الانتقال وقت الخطبة عمل منهى عنه ، لما فيه من الاشتغال عن سماع الخطبة المأمور به فلا يشمله الحديث (لأن) انتقال الناعس يؤدى إلى ذهاب نعاسه فينتبه للخطبة،ولذلك أمره الشارع بالتحول.
(17) ويطلب ممن دخل المسجد ألا يتخطى الرقاب (روى) عبد الله بن بسر أن رجلا جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبى صلى الله عليه وسلم يخطب فقال : اجلس فقد آذيت وآنيت .أخرجه أحمد وأبو داود والنسائى والحاكم وصححه .وأخرجه ابن ماجه عن جابر (2) . [152].
(
__________
(1) قال أبو هريرة : عرسنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نستيقظ حتى طلعت الشمس .فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليأخذ كل
رجل براس راحلته ، فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان ، ففعلنا فدعا بالماء فتوضأ ثم سجد سجدتين (الحديث) أخرجه مسلم ص183 ج5
نووى مسلم (قضاء الفائتة..) (15) و" عرسنا " من التعريس وهو التزول آخر الليل.
(2) ص71 ج6 الفتح الربانى . وهو 285 اج6 المنهل العذب (تخطى الرقاب يوم الجمعة) وص207 ج1 مجتبى (النهى عن تخطى الرقاب والإمام
على المنبر). وص288 ج1 مستدرك . وص178 ج1 سنن ابن ماجه : " وآنيت " أى تأخرت .(1/145)
دل) على حرمة تخطى الرقاب يوم الجمعة .وظاهر التقييد بيوم الجمعة أن الحرمة مختصة به، ويحتمل أن التقييد به خرج مخرج الغالب لكثرة الناس فيه ، فيكون باقي الصلوات كالجمعة فى عدم جواز التخطي . وهذا هو الظاهر لوجود العلة وهى الإيذاء ، بل يجرى ذلك فى مجالس العلم وغيرها .
(وبحرمة) تخطى الرقاب يوم الجمعة صرح الشافعي وهو المختار للأحاديث الصحيحة . وعدّه ابن القيم من الكبائر (ومشهور) مذهب الشافعية والحنبلية كراهة التخطي إلا لفرجة فلا يكره .
(وقالت) المالكية : يحرم التخطى حال الخطبة يوم الجمعة ولو لفرجة ، ولا يكره قبل جلوس الخطيب إن كان لسد فرجة وإلا كره .
(وقال) الحنفيون : لا بأس بالتخطى ما لم يخرج الإمام أو يؤذ أحداً إلا لسد فرجة فيجوز (قال) الشيخ إبراهيم الحلبى : وقد علم أن التخطى جائز بشرطين :أحدهما :ألا يؤذى أحداً ،لأن الإيذاء حرام والدنو مستحب .
وترك الحرام مقدم على فعل المستحب . والثانى : ألا يكون الإمام فى الخطبة ، لن تخطيه حينئذ عمل وهو حرام فى حال الخطبة فلا يرتكبه لأجل أمر مستحب .
وينبغى أن يقيد بما إذا وجد بداً ، أما إذا لم يجد بان لم يكن فى الوراء موضع وفى القدام موضع ،فله أن يتخطى إليه للضرورة (1) .
وقد استثنى من التحريم أو الكراهة الإمام أو من كان بين يديه فرجة لا يصل إليها غلا بالتخطى ولم يجد غيرها . ويستأنس له بحديث عقبة بن الحارث قال: صليت وراء النبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر ثم قام مسرعاً فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه ،ففزع الناس من سرعته ، فخرج عليهم فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته ،فقال: ذكرت شيئاً من تبر كان عندنا فكرهت أن يحبسنى فأمرت بقسمته .أخرجه البخاري والنسائي (2) . [153].
(
__________
(1) انظر ص565 غنية المتملى فى شرح منية المصلى.
(2) انظر ص229 ج2 فتح البارى (من صلى بالناس فذكر حاجة فتخطاهم ) و( التبر) بكسر فسكون : الذهب غير مضروب .(1/146)
فهو) يدل على جواز التخطى للحاجة ولمن لا يتأذى الناس بتخطيه ، ولذا خص بعضهم عدم جواز التخطى بغير من يتبرك الناس بمروره .
(فائدة) فرق النووى بين التخطى والتفريق بين الاثنين وهو الظاهر ، لأن التفريق يحصل بالجلوس بينهما وإن لم يتخط ،وهو ممنوع إن لم يكن بينهما فرجة،وإلا فلا بأس به.
(18) قال الأوزاعى وجماعة : يطلب تجنب الاحتباء فى المسجد يوم الجمعة . وهو
أن يجلس على إليتيه رافعاً ساقيه ضاماً وركيه إلى بطنه بثوبه أو يديه (لحديث) معاذ بن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب.أخرجه أحمد وأبو داود والترمذى وحسنه الحاكم وقال: هذا صحيح الإسناد والبيهقى(1) . [154].
وفى سنده سهل بن معاذ وهو ضعيف ،وابو مرحوم عبد الرحيم ضعفه ابن معين ،وقال النسائى : لا بأس به. وذكر ابن حبان فى الثقات .
(والحكمة) فى النهى عن الاحتباء أنه يجلب النوم ويعرض الطهارة للنقض . ويلحق به فى الكراهة الاستناد إلى الحائط أو غيره ،لأنه فى معنى الاحتباء وأكثر.
(وقال) الأئمة والجمهور : لا يكره الاحتباء فى المسجد (قال) أبو داود : وكان ابن عمر يحتبى والإمام يخطب وأنس بن مالك وشريح وصعصعة ابن ضوحان وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعى ومكحول (2) (34).
(
__________
(1) ص72 ج6 الفتح الربانى . وص224 ج6 المنهل العذب (الاحتباء والإمام يخطب) وص367 ج1 تحفة الأحوذى . وص289 ج1 مستدرك و235 ج2 سنن البيهقى (من كره الاحتباء والإمام على المنبر). و( الحبوة) بضم الحاء وكسرها والجمع حبى بالضم والكسر.
(2) انظر ص276 ج6 المنهل العذب( الاحتباء والإمام يخطب) . و( صوحان) بضم الصاء.(1/147)
وقال) يعلى بن شداد : شهدت مع معاوية بيت المقدس ، فجمع بنا، فنظرت فإذا جل من بالمسجد أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم ،فرأيتهم محتبين والإمام يخطب .أخرجه أبو داود والبيهقي(1) (35).
(وأجابوا) عن أحاديث النهى أنها ضعيفة فلا تقوم بها حجة ،وعلى فرض صحتها فيجمع بينها وبين ما تقدم بأن الاحتباء المنهي عنه ما ابتدئ أثناء الخطبة لما فيه من التشاغل عنها. والاحتباء الجائز ما ابتدئ قبلها واستمر إلى الفراغ منها . أفاده الطحاوى(2) .
(هذا) ويكره الاحتباء ولو خارج الصلاة لمن كان لابسا ثوباً واحداً مخافة أن تنكشف عورته (لقول) أبى هريرة: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحتبى الرجل فى ثوب واحد ليس على فرجه منه شئ . أخرجه البخاري والبيهقي (3) .
[155].
ولا بأس به لمن يخش انكشاف العورة . روى أبو حاتم الرازى بالسند إلى ابن عمر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم محتبياً بفناء الكعبة يقول بيده هكذا . وشبك أبو حاتم بيديه . أخرجه البخارى والبيهقى(4) . [156].
(19)وإذا دخل وقت الجمعة وصعد الخطيب المنبر وجلس عليه ، أذن واحد خارج المسجد على سطحه أو على بابه (لقول) السائب بن يزيد : كان بلال يؤذن إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يوم الجمعة ،ويقيم إذا نزل ،ثم كان كذلك فى زمن أبى بكر وعمر رضى الله عنهما حتى كان عثمان .أخرجه أحمد والنسائي (5) .[157].
(
__________
(1) ص257 ج6 المنهل العذب . وص235 ج3 سنن البيهقى (الاحتباء والإمام على المنبر ).
(2) ص276 ج6 المنهل العذب.
(3) ص325 ج1 فتح البارى (ما يستر من العورة) وص236 ج3 سنن البيهقى (الاحتباء المحظور..) والمذكور بعض الحديث.
(4) ص235 منه (الاحتباء المباح..).
(5) انظر ص81 ج6 الفتح الربانى . وص207 مجتبى ( الأذان للجمعة).(1/148)
ولقول السائب) إن الأذان كان أوله حين يجلس الإمام على المنبر يوم الجمعة فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر ،فلما كان خلافة عثمان وكثر الناس أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث ،فأذن به على الزوراء ، فثبت الأمر على ذلك .أخرجه البخاري والبيهقى والأربعة . وأخرجه الشافعي.
وفيه: أمر عثمان بأذان ثان فأذن به فثبت الأمر على ذلك . وكان عطاء ينكر أن يكون أحدثه عثمان ويقول : أحدثه معاوية . وقال الترمذى : هذا حديث حسن صحيح (1) . [158].
وقال الشافعى : وقد كان عطاء ينكر أن يكون عثمان أحدثه ويقول : أحدثه معاوية . وأيهما كان فالأمر الذى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلىّ(2) .
(والزوراء) موضع بسوق المدينة(وما قيل) من أنه حجر كبير على باب المسجد (مردود) بما فى رواية ابن ماجه : فلما كان عثمان وكثر الناس ، زاد النداء الثالث على دار فى السوق يقال لها الزوراء (3) . وأمر به فى ذاك المكان ليعلم الناس أن الجمعة قد حضرت .
(
__________
(1) ص267 ج2 فتح البارى (الأذان يوم الجمعة) وص192 ج3 سنن البيهقى ج1 مجتبى وص318 ج6 تحفة الأحوذى وص180 ج1 سنن ابن
ماجه. وص160 ج1 بدائع المنن . و(أمر عثمان بالأذان الثالث) وفى رواية أحمد : فأمر بالأذان الأول بالزوراء . وعند الشافعى : أمر
عثمان بأذان ثان . ولا تنافى بينهما ،لأنه سمى أولا باعتبار كونه مقدماً فى الفعل على الأذان والإقامة المشروعين فى عهد النبى صلى الله
عليه وسلم .
وسمى ثانياً باعتبار الأذان المتقدم فى المشروعية . وثالثاً باعتبار كونه مزيداً على الأذان والإقامة ..
(2) ص173 ج1 كتاب الأم..
(3) انظر ص180 ج1 سنن ابن ماجه ( ما جاء فى الأذان يوم الجمعة).(1/149)
وكان) يفعل عند دخول الوقت لا قبله ، فما يفعله الناس قبل دخول الوقت مما يسمونه بالأولى والثانية ،لا أصل له ،لأنه لم يفعله النبى صلى الله عليه وسلم ،ولا أمر به ،ولا فعله أحد من أصحابه ولا من السلف ،بل هو محدث ، فيتعين تركه ،لأنه صلى الله عليه وسلم تركه مع وجود المقتضى – وهو تشريع الأحكام فى حياته- واستمر على ذلك حتى فارق الدنيا . وهو يدل على عدم مشروعيته ،وكذلك إجماع الأمة من الصحابة والسلف الصالح على هذا الترك دليل على أن تركه هو السنة وفعله بدعة مذمومة .
(ولا يقال) إنه داخل تحت الأوامر العامة ،كقوله تعالى : { وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } لأن تركه صلى الله عليه وسلم إياه وكذا الصحابة ، دليل على عدم دخوله فى تلك الأوامر { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله تعالى إلا وقد أمرتكم به ،ولا شيئاً يبعدكم عن الله تعالى إلا وقد نهيتكم عنه .أخرجه الطبرانى فى التكبير عن زيد بن أرقم(1) . [159].
وأيضا فإن هذا ليس من الخير ،بل هو ضلال كما قال النبى صلى الله عليه وسلم :أُوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً ، فإنه من يعش منكم بعدى بعدى فسيرى اختلافاً كثيراً : فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء المهديين الراشدين ،تمسكوا بها وعفوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور ،فإن كل محدثة بدعة ،وكل بدعة ضلالة .أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن العرباض بن سارية ،وقال الترمذى : هذا حديث حسن صحيح (2) . [160].
__________
(1) انظر رقم 55 ص90 فتاوى أئمة المسلمين .
(2) ص188 ج1 الفتح الربانى . وص201 ج4 سنن أبى داود( لزوم السنة) وص11 ج1 سنن ابن ماجه (اتباع سنة الخلفاء الراشدين ).(1/150)
ويكفى فى منع ما ذكر أنه بدعة مذمومة،وأن فيه تشويشاً على من بالمسجد وهو حرام بالإجماع ،وأنه وسيلة إلى اعتقاد العوام أنه من الدين ومن الأمور الشرعية التى لابد منها ،والآيات والأحاديث والآثار ناطقة بمنع ذلك كله .
هذا. والأذان الذى زاده عثمان رضى الله عنه كان يفعل على الزوراء بعيداً عن المسجد لتنبيه من بالسوق (أما) ما يفعل من تأدية الذانين على سطح المسجد أو أحدهما فوقه والآخر داخل المسجد( فهو) مخالف لما كان عليه الأمر فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر رضى الله عنهما ،وكذا فى عهد عثمان رضى الله عنه ،فإن الغرض الذى زاد سيدنا عثمان الأذان لأجله- وهو إسماع من لا يسمع الذان على سطح المسجد- ليس موجوداً فى زماننا ، فإن الكل يفعل بالمسجد أو خارجه .
(ولذ1) يطلب الاقتصار على أذان واحد فى الجمعة خارج المسجد كما كان فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم وابى بكر وعمر (قال) الشافعى فى الأم: وأحب أن يكون الآذان يوم الجمعة حين يدخل الإمام المسجد ويجلس على موضعه الذى يخطب عليه ، منبر أو شئ مرفوع له أو الأرض ، فإذا فعل أخذ المؤذن فى الذان ، فإذا فرغ قام فخطب لا يزيد عليه ،وأحب أن يؤذن مؤذن واحد إذا كان على المنبر لا جماعة مؤذنين (1) .
(وعلى الجملة) فقد دلت الأحاديث على أنه كان لا يؤذن للجمعة إلا آذان واحد خارج المسجد حين يجلس النبى صلى الله عليه وسلم على المنبر ، وكذا فى عهد أبى بكر وعمر رضى الله عنهما .
(
__________
(1) ص172، 173 ج1 الأم (وقت الذان للجمعة).(1/151)
أما) ما يفعل الآن فى بعض المساجد أمام المنبر داخل المسجد( فمحدث) أحدثه هشام بن عبد الملك وليس من السنة فى شئ . وقد أحدثوا بدعة أخرى مذمومة وهى ما يفعلونه الآن فى بعض المساجد من جعلهم مؤذنين : أحدهما أمام المنبر، والثانى على مكان مرتفع داخل المسجد ، يقول الأول جملة من الذان ويسكت فيقولها الثانى ، ثم يقول الأول الجملة التى تليها من الأذان ويسكت فيقولها الثانى ،وهكذا حتى ينتهى الذان بهذه الكيفية ، فهذه بدعة لا اصل لها فى الدين يجب إبطالها .
(وقد) اتفقت كلمة العلماء على أن الآذان داخل المسجد خلاف السنة .
(وقال) ابن نجيم: وينبغى للمؤذن أن يؤذن فى موضع يكون اسمع للجيران ولا يؤذن فى المسجد (1) . وفى فتاوى قاضيخان : وينبغى أن يؤذن على المئذنة أو خارج المسجد ولا يؤذن فى المسجد (2) .
(وقال) شمس الدين الرملى : ويستحب أن يؤذن على مكان عال كمنارة وسطح للاتباع ولزيادة الإعلام ،وفى البحر : لو لم يكن للمسجد منارة من أن يؤذن على الباب . وينبغى تقييده بما إذا تعذر فى سطحه ،وإلا فهو أولى (3) .
(وقال) الشيخ محمد عليش: وفعله- يعنى الأذان فى المسجد- بدعة مضيعة لثمرته من إسماع الناس الخارجين عن المسجد ليسعوا إلى ذكر الله ويذروا البيع وكل ما يشغلهم عنه نوالحاضرون فى المسجد لا حاجة لهم فى الأذان ، فالصواب فعله فى محل الأذان المعتاد لإسماع من ليس فى المسجد كما كان فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم (4) .
(
__________
(1) انظر ص255 ج1 البحر الرائق (الأذان).
(2) انظر ص74 ج1 هامش الفتاوى الهندية (مسائل الأذان).
(3) انظر ص305 ج1 نهاية المحتاج (الأذان والإقامة).
(4) ص118 ج1 منح الجليل على مختصر خليل( الأذان والإقامة).(1/152)
وقال) ابن الحاج: السنة فى أذان الجمعة إذا صعد الإمام على المنبر أن يكون المؤذن على المنار (1) أو الباب ،كذلك كان فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر وصدر من خلافه عثمان رضى الله عنهم ، ثم زاد عثمان أذاناً آخر بالزوراء وهو موضع بالسوق لما كثر الناس ، وأبقى الأذان الذى كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنار والخطيب على المنبر إذ ذاك .
ثم إنه لما تولى هشام بن عبد الملك جعل الأذان الذى فعله عثمان بالزوراء على المنار ، ثم نقل الأذان الذى كان على المنار حين صعود الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر وصدر من خلافة عثمان بين يديه .
قال علماؤنا: وسنة النبى صلى الله عليه وسلم هى التى تتبع ، فقد بان أن فعل الأذان فى المسجد بين يدى الخطيب بدعة تمسك بعض الناس بها ، ثم تطاول الأمر على ذلك حتى صار بين الناس كأنه سنة معمول بها ، وهذا وما شاكله ليس له أصل فى الشرع(2) .
(
__________
(1) أراد بالمنار سطح المسجد لارتفاعه ،لأنه لم يكن منائر فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم وصاحبيه (قال) السيوطى فى الأوائل : أول من رقى منارة مصر للأذان شرحبيل بن عامر المرادى . وفى عرافته بنى مسلمة المنائر للأذان بأمر معاوية ولم تكن قبل ذلك (وقال) ابن سعد بالسند إلى أم زيد بن ثابت : كان بيتى أطول بينت حول المسجد فكان بلال يؤذن فوقه من أول ما أذن إلى أن بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده فكان يؤذن بعد ذلك على ظهر المسجد وقد رفع له شئ فوق ظهره (16) انظر ورقة 7 الوسائل لمعرفة الأوائل رقم 3298 تاريخ (المكتبة الأزهرية).
(2) ص74 ج2 المدخل (دكك المؤذنين).(1/153)
20)وإذا أُذن للجمعة وجب على المكلف بها السعى إليها وترك ما يشغل عنه من نحو بيع وأكل( لقوله) تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيْعَ } (1) .
(والمراد) من البيع: ما يشغل عن السعى إليها. وفى عطف ترك البيع على السعى إشارة إلى أنه لو باع أو اشترى حال السعى فهو مكروه تحريماً مع انعقاد البيع على المعول عليه عند الحنفيين.
(وقالت) الشافعية: يحرم الاشتغال بنحو البيع والصنائع ،فإن باع فالبيع صحيح مع الحرمة .
(وقالت) المالكية: يحرم البيع وقت الأذان ويفسخ ولو حصل فى حال السعى إليها إذا كان المتبايعان أو أحدهما ممن تلزمه الجمعة،وإن كانت لا تجب على واحد منهم كره البيع ولم يفسخ (2) .
(وقالت) الحنبلية: البيع وقت الذان حرام ولا ينعقد ،أما قبل الشروع فى الأذان فلا يجب السعى إلا على من كان بعيداً عن محل إقامة الجمعة، فإنه يجب عليه السعى فى وقت يدركها فيه ولو بعد طلوع الفجر.
(3) صلاة الجمعة(3)
هى ركعتان بالإجماع لما تقدم عن عمر رضى الله عنه قال: صلاة السفر ركعتان ،وصلاة الأضحى ركعتان ،وصلاة الفطر ركعتان ،وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم (4) .
(وهى ) صلاة مستقلة ليست ظهراً مقصوراً على الصحيح لحديث عمر (وهى) فريضة محكمة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة يكفر جاحدها ،قال الله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيْعَ } (5) .
(
__________
(1) سورة الجمعة : الآية 9..
(2) ملخصاً ص135 ج1 مدونة (فى البيع والشراء يوم الجمعة)
(3) هذا الفصل الرابع من فصول الجمعة.
(4) تقدم رقم 54 ص54 (قصر الصلاة).
(5) سورة الجمعة : الآية9.(1/154)
أ) (أمر) الله تعالى بالسعى إلى الذكر ،والظاهر أن المراد به الصلاة وقيل الخطبة ،وعلى فهو يفيد افتراض الجمعة ،لأن وجوب السعى إلى الشرط وهو مقصود لغيره فرع افتراض المشروط .
(ب)(نهى) الله عن مباح وهو البيع لئلا يشتغل به عنها ،فلو لم تكن فرضاً لما نهى عنه من أجلها،والمراد بالسعى الذهاب إليها لا الإسراع . وقد ورد عن عمر أنه كان يقرؤها : فامضوا إلى ذكر الله .
(وقال) ابو سعيد الخدرى : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله تعالى قد كتب عليكم الجمعة فى مقامى هذا ،فى ساعتى هذه، فى شهرى هذا،فى عامى هذا ،إلى يوم القيامة ،منتركها من غير عذر – مع إمام عادل أو جائر – فلا جمع الله له شمله ،ولا بورك له فى أمره، ألا ولا صلاة له ،ألا ولا حج له،ألا ولا برّ له ،ألا ولا صدقة له.أخرجه الطبرانى فى الأوسط . قال الهيثمى : وفيه موسى بن عطية الباهلى ولم أجد من ترجمة وبقية رجاله ثقات (1) [161].
(وعن ابن مسعود) أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: لقد همتأن آمر رجلا يصلى بالناس ،ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم .أخرجه أحمد ومسلم (2) [162].
(وعن) ابن عمر وابن عباس رضى الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال- وهو على أعواد منبره- لينتهين اقوام عن وَدْعهم الجمعات أو ليختمن الله عز وجل على قلوبهم وليكتبن من الغافلين .أخرجه أحمد والنسائى(3) . [163].
(
__________
(1) ص169 ج2 مجمع الزوائد (فر ض الجمعة).
(2) ص22 ج6 الفتح الربانى . وص155 ج5 نووى مسلم (التشديد فى التخلف عن الجماعة).
(3) ص21 ج6 الفتح الربانى . وص202 ج1 مجتبى ( التشديد فى التخلف عن الجمعة) و(الختم) الطبع والتغطية واختلف فيه فقيل هو المنع من أسباب الخير وإعدام اللطف . وقيل: هو خلق الكفر والنفاق فى الصدور . وعليه أكثر أهل السنة و " ليكتبن " بضم الياء والباء ونون التوكيد .(1/155)
وقد) أجمع المسلمون على افتراض الجمعة على كل من استكمل شرائط وجوبها .
(فرضت) الجمعة فى ربيع الأول من السنة الأولى من الهجرة . وأول جمعة صلاها النبى صلى الله عليه وسلم كانت فى مسجد بنى سالم بن عوف فى السادس عشر من الشهر المذكور.
(قال) الشيخ منصور بن إدريس : وفرضت بمكة قبل الهجرة ، لما روى الدارقطنى عن ابن عباس قال: أذن النبى صلى الله عليه وسلم فى الجمعة قبل أن يهاجر فلم يستطع أن يجمع بمكة ،فكتب إلى مصعب بن عمير : أما بعد فانظر إلى اليوم الذى تجهر به اليهود بالزبور لسبتهم فأجمعوا نساءكم وأبناءكم فإذا مال النهار عن شطره ،عند الزوال من يوم الجمعة ، فتقربوا إلى الله بركعتين (1) . [164].
فأول من جمع بالمدينة مصعب بن عمير حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فجمع عند الزوال من الظهر (2) .
(ويدل) لهذا أيضا قول ابى مسعود الأنصاري : اول من قدم من المهاجرين إلى المدينة مصعب بن عمير، وهو أول من جمع بها يوم الجمعة جمعهم قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم وهم اثنا عشر رجلا. أخرجه الطبرانى فى الأوسط والكبير. وفى سنده صالح بن أبى الأخضر وهو ضعيف (3) (36).
(وأما) ما روى عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة،فقلت له : إذا سمعت النداء ترحمت لسعد بن زرارة . قال: لأنه أول من جمع بنا فى هزم النبيت من حرة بنى بياضة فى نقيع يقال له نقيع الخضمات . قلت :كم أنتم يومئذ ؟ قال: أربعون .اخرجه أبو داود وابن حيان والدارقطنى والحاكم وصححه ،وابن ماجه والبيهقى وقال: هذا حديث حسن الإسناد صحيح (4) (
__________
(1) لم أعثر على هذا الحديث بسنن الدارقطنى .
(2) ص341 ج1 كشاف القناع (صلاة الجمعة)..
(3) ص176 ج2 مجمع الزوائد (باب فى أول من صلى الجمعة بالمدينة).
(4) ص217 ج6 المنهل العذب (الجمعة فى القرى) وص164 سنن الدارقطنى :
وص281 ج1 مستدرك . وص173 ج1 سنن ابن ماجه (فرض الجمعة) وص 177 ج3 سنن البيهقى (العدد الذين إذا كانوا فى قرية وجبت عليهم الجمعة ) و(الهزم) بفتح فسكون: المنخفض من الأرض . و(النبيت) أبو حى باليمن اسمه عمرو بن مالك . (وحرة بنى بياضة) قرية على ميل من المدينة. وبنو بياضة بطن من الأنصار . و(النقيع) مستنقع يمكث فيه الماء مدة فإذا غار فى الأرض أنبت الكلأ . و(الخضمات) بفتح فكسر أو بفتحتين : موضع بناحية المدينة . والمعنى أن اسعد بن زرارة أول من أمر بصلاة الجمعة بهزم النبيت (وأول) من جمع فى الجاهلية بمكة كعب بن لؤى الجد السابع للنبى صلى الله عليه وسلم خطب وذكر وبشر بمبعث النبى صلى الله عليه وسلم وحض على اتباعه ، ويقال إنه أول من سمى العروبة الجمعة. ومعنى العروبة الرحمة . وكانت قريش تجتمع إليه فيها فيخطبهم فيقول(أما بعد) فاعلموا وتعلموا إنما الأرض لله مهاد ،والجبال أوتاد ،والسماد بناء،والنجوم أعلام . ثم يأمرهم بصلة الرحم ويبشرهم بالنبى صلى الله عليه وسلم ويقول: حرمكم يا قوم عظموه فسيكون له نبأ عظيم ،ويخرج منه نبى كريم .ثم يقو فى شعره :
على غفلة يأتى النبى محمد ... ... فيخبر أخباراً صدوق خبيرها
روف رايناها تقلب أهلها ... ... لها عقد ما يستحيل مريرها
ثم قال:
يا ليتنى شاهد نجواء دعوته ... ... إذا قريش تبغى الحق خذلانا(*)
ذكره السهلى . ص269 ج1 الروض الأنف . وكان بين موت كعب بن لؤى ومبعث النبى صلى الله عليه وسلم وخمسمائة عام .(1/156)
37).
(فيجمع) بينه وبين ما تقدم بأن اسعد كان آمراً وكان مصعب إماماً (وقيل) صليت الجمعة بالمدينة قبل هجرة النبى صلى الله عليه وسلم على سبيل الجواز وفرضت بها بعد الهجرة (وهذا ) هو الظاهر لأن سورة الجمعة مدنية.
(ولقول) محمد بن سيرين : جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة وقبل أن تنزل الجمعة . فقالت الأنصار : إن لليهود يوماً يجتمعون فيه كل سبعة أيام ،والنصارى كذلك. فهلم فلنجعل يوماً نجتمع فيه فنذكر الله ونصلى ونشكره ،فقالوا : يوم السبت لليهود ،ويوم الأحد للنصارى ،فجعلوه يوم العروبة ،واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم ،فسموا الجمعة حين اجتمعوا إليه ،فذبح لهم شاة ، فتغدوا أو تعشوا من شاة ،وذلك لقلتهم ،فأنزل الله تعالى : { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } .أخرجه عبد بن حميد وعبد الرزاق بسند صحيح مرسل رجاله ثقات(1) .(38) .
وبه يجمع بين الأحاديث( قال) الحافظ : واختلف فى وقت فرضيتها ، فالأكثر على أنها فرضت بالمدينة ،وهو مقتضى قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ( } .
وقال الشيخ أبو حامد : فرضت بمكة ،وهو غريب (2) .
(وحكمة) مشروعيتها ما يترتب على الاجتماع لها :من جمع الكلمة والتحاب والتعاطف والتآلف والتعلم وتعود الصبر والامتثال.
__________
(1) مصحرين بضم فسكون : أى بارزين فى الصحراء.
(2) ص239 ج2 فتح البارى (فرض الجمعة)..(1/157)
ولذا أوجب الله على أهل المدينة والقرية بأسرهم ان يجتمعوا فى كل أسبوع يوماً بعينه فى مسجد يسعهم ليجمع شملهم فى كل أسبوع ،كما اجتمع شمل أهل الدور والمنازل فى كل يوم ،كما طلب أن يجتمع أهل المدينة مع أهل القرى المتقاربين فى كل سنة مرتين فى ملى بارزين مصحرين (1) ليسعهم المكان ، ويتجدد الأنس بين كافتهم وتشملهم المحبة الناظمة لهم .
ثم أوجب بعد ذلك ان يجتمعوا فى العمر كله مرة واحدة فى الموضع المقدس بمكة ،ولم يعين من العمر وقتاً مخصوصاً ليتسع لهم الزمان ،وليجتمع أهل المدن المتباعدة كما اجتمع أهل المدينة الواحدة ،ويصير حالهم فى الأنس والمحبة وشمول الخبر والسعادة كحال المجتمعين فى كل سنة وفى كل أسبوع وفى كل يوم ، فيجتمع بذلك الأنس الطبيعى إلى الخيرات المشتركة ، وتتجدد بينهم محبة الشريعة ، وليكبروا الله على ما هداهم ، ويغتبطوا بالدين القويم القيم الذى الفهم على تقوى الله وطاعته .
(4) شروط الجمعة
اعلم أن للجمعة شروط افتراض زائدة على شروط سائر الصلوات من الاسلام والتكليف والطهارة من الحيض والنفاس ،وشروط صحة زائدة على شروط سائر الصلوات من الطهارة وغيرها مما تقدم .
(أ) فشروط افتراضها :الذكورة المحققة والحرية والصحة والقدرة على السهى إليها والإقامة بمحل تقام فيه الجمعة أو بفنائه وعدم العذر الموجب للتخلف عنها " لحديث" جابر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة ،إلا امرأة أو مسافراً أو عبداً أو مريضاً ". أخرجه البيهقى والدارقطنى . وفى سنده أبو لهيعة ومعاذ بن محمد ،وهما ضعيفان(2) . [165].
__________
(1) مصحرين بضم فسكون : أى بارزين فى الصحراء.
(2) ص184 ج3 سنن البيهقى (من لا تلزمه الجمعة) وص163 سنن الدارقطنى.(1/158)
لكن له شواهد (منها) حديث أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خمسة لا جمعة عليهم : المرأة والمسافر والعبد والصبى وأهل البادية ". اخرجه الطبرانى فى الأوسط . وفى سنده إبراهيم بن حماد ضعفه الدارقطنى(1) . [166].
(وحديث) أبى الدرداء أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " الجمعة واجبة إلا على امرأة أو بى أو مريض أو عبد أو مسافر".أخرجه الطبرانى فى الكبير . وفى سنده ضرار بن عمرو الملطى ،وهو ضعيف (2). [167].
(وحديث) محمد بن كعب أنه سمع رجلا من بنى وائل يقول : قال النبى صلى الله عليه وسلم : " تجب الجمعة على كل مسلم إلا امرأة أو صبياً أو مملوكاً ".أخرجه الشافعى (3) .
[168].
وعلى الجملة فالجمعة لا تفترض على ثمانية : الصبى والأنثى والخنثى والرقيق والمريض والعاجز عن السعى إليها والمسافر والمعذور .
(1-4) أما الصبى والأنثى والخنثى،فلا تلزمهم الجمعة بالإجماع ، وكذا الرقيق عند الأئمة الأربعة والجمهور. وللسيد منعه عن الجمعة والجماعة والعيد ،وغذا أذنه فالظاهر أنه لا يلزمه الأداء ،وإن لم يأذنه فله الخروج للاتها عن علم رضا سيده وإلا فلا( وأما الأجير) فليس للمستأجر منعه منها ولكن يسقط عنه من الأجرة بقدر اشتغاله بذلك إن كان طويلاً،وإلا فلا يسقط عنه شئ.
(وقال) الشيخ إبراهيم الحلبى : فلا تجب على العبد ،وعليه الإجماع ، وفيما إذا حضر باب الجامع لحفظ الدابة خلاف ،والأح أنه يصلى إذ1 لم يخل بالحفظ . والمكاتب تجب عليه ،وكذا معتق البعض . ولا تجب على العبد المأذون له فى التجارة (4) .
(
__________
(1) ص170 ج2 مجمع الزوائد (فرض الجمعة ومن لا تجب عليه).
(2) ص170 ج2 مجمع الزوائد (فرض الجمعة ومن لا تجب عليه ).
(3) انظر ص152 ج1 بدائع المنن.
(4) انظر ص558 غنية المملى بشرح منية المصلى ( صلاة الجمعة).(1/159)
وقال) النووى: أكثر العلماء على أن العبد المدبر والمكاتب لا جمعة عليهم ،وهو قول عطاء والحسن البصرى ومالك وأهل المدينة والنووى وأهل الكوفة وأحمد وإسحاق وابى ثور . وقال بعضهم : تجب الجمعة على العبد ، فإن منعه السيد فله التخلف . وعن الحسن وقتادة والأوزاعى وجوبها على عبد يؤدى الضريبة وهو الخراج . وقال داود : تجب عليه مطلقاً ،وهى رواية عن أحمد . دليلنا الأحاديث السابقة .وأما من بعضه حر وبعضه رقيق فلا جمعة عليه على الصحيح ،وبه قطع الجمهور (1) .
(واستدل) داود بدخول الرقيق فى عموم الخطاب فى قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ( } .
(ورد) بأن الاية مجملة والحديث مبين ،وقد رح بأن العبد لا تجب عليه الجمعة .
(واراجح) ما ذهب إليه الأئمة والجمهور من أنها لا تلزم العبد ولو كان مدبراً أو مكاتباً لعموم الأحاديث ، والحكمة فى ذلك ان فى حضوره الجمعة تعطيلا لأعمال سيده،فإن اذن له فى حضورها حضر وصحت منه .
(5)وأما المريض الذى لا يقدر على الذهاب إلفى محل الجمعة أو يقدر ولكن يخاف زيادة المرض أو بطء البرء او يقدر بمشقة ظاهرة ،فلا تلزمه الجمعة دفعاً للحرج والمشقة . ويلحق به من يعوله إذا كان المريض يضيع بخروجه ،ومن به إسهال كثير . وكذا يلحق به الشيخ الكبير الضعيف عن السعى عند أبى حنيفة ومالك (وقال) أبو يوسف ومحمد والشافعى وأحمد : إن وجد مركوباً ملكاً أو بأجرة أو إعارة وجبت عليه الجمعة وإلا فلا .
(
__________
(1) انظر ص485 ج4 شرح المهذب( لا تجب على المسافر ولا على العبد ..).(1/160)
6) وأما العاجز عن السعى إليها ، كمقعد ،ومقطوع الرجلين ، وأعمى لا يهتدى إلى محل الجمعة بنفسه ولم يجد قائداً ، فلا تلزمهم الجمعة إجماعاً : أما العمى الذى يهتدى إلى محلها بنفسه فتلزمه اتفاقاً . وكذا من وجد قائداً متبرعاً او بأجر قادر عليه عند الثلاثة وابى يوسف ومحمد ،لما تقدم عن عمرو بن أم مكتوم أنه قال : يا رسول الله، إنى رجل ضرير البصر شاسع الدار ولى قائد لا يلائمنى ،فهل لى رخصلة أن أُصلى فى بيتى ؟ قال: هل تسمع النداء؟ قال: نعم . قال: لا أجد لك رخصة .اخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم (1) . [169].
وهذا فى مطلق الجماعة ،ففى الجمعة أولى .
(وقال) أبو حنيفة : لا تفترض الجمعة على الأعمى الذى لا يهتدى إلى محلها بنفسه وإن وجد قائداً متبرعاً أو مملوكاً لأن الشخص لا يعد قادراً بقدرة الغير. والحديث ظاهر فى لزومها عليه متى كان قادراً على الوصول إلى محلها بأى حال .
(7)أما المسافر فلا تلزمه الجمعة عند الشافعية ،ولو كان سفره قصيراً (وقال) الحنفيون وأحمد : لا تجب على المسافر سفر قصر . وكذا لا تجب عند الحنفيين على من كان خارجاً عن فناء المصر ولو سمع النداء منها.
وقالت المالكية : لا تجب على مسافر ولو سفراً قصيراً إذا بعد عن البلد بأكثر من فرسخ .
(والراجح) أنها لا تجب على المسافر ما لم ينو إقامة تقطع السفر وتوجب إتمام الصلاة على ما تقدم بيانه .
(
__________
(1) تقدم رقم 59 ص35 ج3 الدين الخالص (حكم الجماعة ).(1/161)
قال) ابو عبد الله بن قدامة : وأما المسافر فأكثر اهل العلم يرون أنه لا جمعة عليه . وحكى عن الزهرى والنخعى أنها تجب عليه ،لأن الجماعة عليه ، فالجمعة أولى . ولنا أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يسافر فلا يصلى الجمعة فى سفره، وكان فى حجة الوداع بعرفة يوم الجمعة فصلى الظهر والعصر جمع بينهما ولم يصل جمعته ،والخلفاء الراشدون رضى الله عنهم كانوا يسافرون فى الحج وغيره فلم يصل أحد منهم الجمعة فى سفره . وكذلك غيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم .وأقام أنس بنيسابور سنة أو سنتين فكان لا يجمع . ذكره ابن المنذر . وهذا إجماع مع السنة الثابتة فيه ، فلا يسوغ مخالفته (1) .
(8) وأما المعذور بعذر يوجب التخلف عنالجماعة ،كمطر ووحل شديد وغيرهما مما تقدم فى بحث " أعذار ترك الجماعة" فلا تفرض عليه الجمعة اتفاقاً (لحديث) أبى المليح بن أسامة عن أبيه قال: اصاب الناس فى يوم جمعة- يعنى مطراً- فأمر النبى صلى الله عليه وسلم ان الصلاة اليوم أو الجمعة اليوم فى الرحال.اخرجه أحمد وابو داود والنسائى والبيهقى والحاكم وقال : هذا حديث صحيح الإسناد(2) . [170].
(
__________
(1) ص193 ج2 مغنى( لا جمعة على مسافر) . و(نيسابور) بفتح فسكون : مدينة عظيمة فى بلاد العجم.
(2) ص33 ج6 الفتح الربانى . وص203 ج6 المنهل العذب (الجمعة فى اليوم المطر ) وص186 ج3 سنن البيهقى (ترك إتيان الجمعة بعذر المطر..) وص293 ج1 مستدرك . و(أن الصلاة )أن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن . و(الرحال) جمع رحل وهو المنزل . والمعنى :أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر مؤذنه ان يعلم الناس بان يصلوا فى رحالهم رحمة بهم ودفعاُ للحرج بعدم تحمل مشقة المطر.(1/162)
وروى) عبد الرحمن بن سمرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " إذا كان مطر وابل فليصل أحدكم فى رحله ". أخرجه ابن أحمد والحاكم . وفى سنده ناصح بن العلاء ، ضعفه ابن معين والبخارى ،ووثقه ابو داود والحاكم (1) . [171].
(ولا تفترض) على مدين معسر يخاف الحبس (قال) الشيخ إبراهيم الحلبى: وإنما اختصت الجمعة بهذه الشروط ،لعدم تأديها فى أى مكان واختصاصها بمكان وصفه يحصل بهما الحرج كالمشقة بسبب العجز والضعف فى المريض ونحوه ،وبسبب فوات مصلحة نفسه أو مولاه فى حق المسافر والعبد ، والحرج مرفوع رحمة من الله ولطفاً ،فلم تجب على هؤلاء لذلك ،وكفاهم أداء الظهر. ولو حضروا وصلوا الجمعة أجزأتهم ولم يلزمهم الظهر ،لأن سقوط الوجوب عنهم للرفق بهم ، فإذا تحملوا المشقة وقعت فرضاً وأجزأت كحج الفقير (2) .
(وقال) أبو عبد الله بن قدامة : قال ابن المنذر :أجمع أهل العلم أن لا جمعة على النساء وعلى أنهن إذا حضرن فلين الجمعة أن ذلك يجزئ عنهنّ ؛ لأن إسقاط الجمعة للتخفيف عنهن ؛ فإذا تحملن المشقة وصلين أجزأهنّ كالمريض . والأفضل للمسافر حضور الجمعة لأنها أكمل.
(فأما العبد) فإن اذن له سيده فى حضورها فهو أفضل لينال فضل الجمعة وثوابها ويخرج من الخلاف . وإن منعه سيده لم يكن له حضورها إلا أن نقول بوجوبها عليه .
(وأما المرأة) فإن كانت مسنة فلا بأس بحضورها ،وإن كانت شابة جاز حضورها وصلاتهما فى بيوتهما خير لهما ،كما روى فى الخبر : وبيوتهنّ خير لهنّ .
(وقال) أبو عمرو الشيبانى :رأيت ابن مسعود يخرج النساء من الجامع يوم الجمعة ،ويقول: اخرجن إلى بيوتكنّ خير لكنّ (3) . (40).
(
__________
(1) ص194 ج2 مجمع الزوائد (التخلف عن الجمعة للمطر) وص292 ج1 مستدرك .
(2) ص594 غنية المتملى بشرح منية المصلى (صلاة الجمعة)..
(3) ص196 ج2 مغنى (صحة الجمعة ممن لا تجب عليهم).(1/163)
وتقدم) بيان هذا وافياً فى بحث " حضور النساء المساجد" وأن جواز خروجهن إلى المساجد مشروط بأمن الفتنة وإلا مُنِعْنَ الخروج كما هو الحال فى زماننا (1) .
(فائدة) أجمع العلماء على أن من كان مقيماً ببلدة وتحققت فيه شروط افتراض الجمعة لزمته وإن لم يسمع النداء للأحاديث المتقدمة ،وأما من كان خارجها فإن أمكنه سماع النداء من مؤذن بطرف بلد الجمعة والأصوات هادئة والريح ساكنة وهو يستمع ،لزمته الجمعةوسعى لها وإلا فلا ،عند الشافعى وأحمد ومحمد بن الحسن .
(روى) ابن عمرو أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " الجمعة على كل من سمع النداء ". أخرجه البيهقى والدارقطنى وابو داود وقال: روى هذا الحديث جماعة عن سفيان مقصوراً على عبد الله بن عمرو ،ولم يرفعوه ، وإنما اسنده قبيصة (2) . [172].
وفى سنده ابو سلمة بن نبيه وعبد الله بن هارون ،وهما مجهولان .
(وقال) أبو حنيفة وأبو يوسف :لا تجب الجمعة على من كان خارج البلد ولو سمع النداء (لقول) على رضى الله عنه : لا جمعة ولا تشريق ولا صلاة فطر ولا أضحى إلا فى مصر جامع أو مدينة عظيمة . أخرجه ابن أبى شيبة ،وهذا لفظه ،وعبد الرازق والبيهقى والطحاوى فى المشكل وصححه ابن حزم (3) .(41).
(
__________
(1) تقدم بص 42 ج2 الدين الخالص .
(2) ص173 ج3 سنن البيهقى (وجوب الجمعة على من كان خارج المصر..) وص165 سنن الدارقطنى . وص200 ج6 المنهل العذب (من تجب عليه ). و( قبيصة ) هو ابن عقبة راوى الحديث عنالثورى . قال ابن معين وغيره : قبيصة ثقة إلا فى حديث النووى.
(3) ص195 ج2 نصب الراية (صلاة الجمعة) وص179 ج3 سنن البيهقى (العدد الذين إذا كانوا فى قرية وجبت عليهم الجمعة) وص54 ج2 مشكل الاثار (العيدان يجتمعان) وص52 ج5 المحلى (صلاة الجمعة).(1/164)
وأجاب) الأولون عنه بأن معناه لا تصح الجمعة إلا فى مصر كما سيأتى لا ينافى وجوبها على من سمع النداء منالمصر(وقال) مالك والليث : تجب الجمعة على من كان بينه وبين بلدها ثلاثة أميال وثلث فأقل .
(ب) وأما شروط صحتها فأربعة :المكان والوقت والخطبة والجماعة.
(1) مكان الجمعة
اختلف العلماء فى المكان الذى تصح فيه إقامة الجمعة. فقال الحنفيون: لا تقام إلا فى المصر او فنائه بكسر الفاء ،وهو الموضع المعد لمصالح المصر، بشرط الا ينفصل عنه بغلوة(1) ،فلا تصح فىقرية ولا مفزة . وبه قال على وحذيفة وعطاء وإبراهيم النخعى ومجاهد وابن سيربن والثورى وسحنون لما تقدم أن علياً رضى الله عنه قال : لا جمعة ولا تشريق ولا صلاةفطر ولا أضحى إلا فى مصر جامع أو فى مدينة عظيمة(2) والموقوف فى مثله كالمرفوع ،لأنه من شروط العبادة ولا مدخل للرأى فيها ،وكفى بقول على رضى الله عنه قدوة.
(والمصر) عندهم هى بلدة كبيرة فيها سوق ووال يقدر على إنصاف المظلوم من الظالم بحشمته وعلمه أو علم غيره ،يرجع الناس إليه فيما يقع من الحوادث،وقيل هو ما لا يسع أكبر مساجده اهله المكلفين بالجمعة.
(وقال) الشيخ غبراهيم الحلبى : وعن محمد أن كل موضع مصره الإمام فهو مصر حتى إنهلو بعث إلىقرية نائباً لإقامة الحدود والقصاص تصير مراً ؛ فإذا عزله تلحق بالقرى . ووجه ذلك ما صح أنه كان لعثمان عبدُ أسود أمير له على الزبدة يصلى خلفه أبو ذر وعشرة منالحابة الجمعة وغيرها. ذكره ابن حزم فىالمحلى (3) .
__________
(1) الغلوة بفتح فسكون فى الأصل : الغاية وهى رمية سهم أبعد ما يقدر عليه ، وقدرها ثلاثمائة ذراع إلى أربعمائة وهو الأصح أى 139 متراً إلى 186.
(2) تقدم أثر 41 ص166..
(3) ص52 ج5 المحلى . و(الربذة) كقصبة : قرية شرقى المدينة على نحو ثلاثة اميال منها ،كانت عامرة فى صدر الإسلام ،وهى الآن دارسة وبها قبر ابى ذر الغفارى .(1/165)
ويجوز إقامتها بمنى أيام الموسم إذا كان الأمير أمير الحجاز أو كان الخليفة هناك عند ابى حنيفة وابىيوسف خلافاً لمحمد ، لأنها تتمصر إذ ذاك، فإن لها سككاص ويصير لها بالموسم اسواق ،بخلاف عرفات لأنها لا أبنية بها.
وبخلاف ما إذا لم يكن إلا أمير الموسم ،أى أمير الحج ،لأنه لم يفوض إليه غقامة الجمع . ولا يصلى العيد بها بالاتفاق لا لعدم التمصر ،ولكن للاشتغال فيه بأمور الحج من الرمى والذبح والحلق وطواف الإفاضة وغيرها فيقع الحرج بصلاتها . فعلى هذا ينبغى أن تيقط الجمعة عن أهل مكة إذا خرجوا للحج واتفق أن العيد يوم الجمعة(1) .
(وقالت9 المالكية : تقام الجمعة فى المصر وفى كل قرية بيوتها متصلة ذات طرق وسوق ومسجد تؤدى فيه الصلوات جماعة وإن لم يكن لهم وال .
(وقالت) الشافعية والحنبلية : تؤدى فى كل قرية فيها أربعون رجلا أحراراً مكلفين مقيمين بها ،لا ينتقلون إلا لحاجة ،بشرط أن تكون أبنيتها مجتمعة عرفاً .
(قال) أبو عبد الله بن قدامة : فأما القرية فيعتبر أن تكونمبنية بما جرت به العادة ببنائها به من حجر او طين او لبن أو قصب او شجر ونحوه .
فأما أهل الخيام وبيوت الشعر والحركات فلا جمعة عليهم ولا تصح منهم ، لأن ذلك لا ينصب للاستيطان غالباً ،ولذلك كانتقبائل العرب حول المدينة فلم يقيموا جمعة ولا أمرهم بها النبى صلى الله عليه وسلم ،ولو كان ذلك لم يخف ولم يترك نقله مع كثرته وعموم البوى به ،لكن إن كانوا مقيمين بموضع يسمعون النداء لزمهم السعى إليها كأهل القرية الصغيرة إلى جانب المصر. ويشترط فى القرية ايضاً ان تكون مجتمعة البناء بما جرت العادة فى القرية الواحدة ، فإن كانت متفرقة المنازل تفرقاً لم تجر العادة به ،لم تجب عليهم الجمعة إلا أن يجتمع منا ما يسكنه اربعون ،فتجب الجمعة بهم ويتبعهم الباقون ،ولا يشترط اتصال البنيان بعضه ببعض .
__________
(1) ص551 غنية المتملى بشرح منية المصلى (صلاة الجمعة).(1/166)
وحكى عن الشافعى أنه شرط ولا يصح ،لأن القرية المتقاربة البنيان قرية مبنية على ما جرت به عادة القرى ؛ فأشبهت المتصلة ،ومتى كانت القرية لا تجب الجمعة على أهلها بأنفسهم وكانوا بحيث يسمعون النداء من المصر أو من قرية تقام فيها الجمعة لزمهم السعى إليها ،لعموم الاية (1) .
(وقال) العلامة منصور بن إدريس : ولا يشترط للجمعة المصر،خلافاً لأبى حنيفة ،لما روى الأثرم عن أبى هريرة أنه كتب إلى عمر يسأله عن الجمعة بالبحرين ،وكان عامله عليها ، فكتب إليه عمر : جمعوا حيث كنتم .
قال أحمد : إسناده جيد (2) . واسنده ابن ابى شيبة عن حذيفة وعلىّ وعمر وغيرهم . (43) (3) .
(واستدلوا )أيضا بقول ابن عباس : إن أول جمعة فى الإسلام بعد جمعة جمعت فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة لجمعة جمعت بجوائى قرية من قرى البحرين .أخرجه البخاري وأبو داود والبيهقى (4) . (44).
(
__________
(1) ص171 ج2 مغنى (اشتراط القرية للجمعة).
(2) ص345 ج1 كشاف القناع (ما يشترط لصحة الجمعة).
(3) ص259 ج2 فتح البارى .
(4) ص259 منه (الجمعة فى القرى والمدن) . وص215 ج6 المنهل العذب .
وص176 ج3 سنن البيهقى 0العدد الذين كانوا فى قرية وجبت عليهم الجمعة) و(جواثى ) بضم الجيم وواو مخففة وقد تبدل همزة مقصورة أو ممدودة . . (والبحرين) اسم بلاد على ساحل بحر العرب بين برة وعمان .(1/167)
وأجاب) الحنفيون بأن ما ذكر لا ينافى اشتراط المصر،إذ القرية تطلق فى لغة القرآن والصدر الأول على المصر،قال تعالى : { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ } (1) أى أنطاكية { وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } (2) أى مكة والطائف . وفى الصحاح : جوائى حصن بالبحرين . فهى مصر على ما تقدم بيانه .ولكن يؤيد القول بصحة الجمعة فى القرى ما تقدم عن عمر أنه كتب إلى أهل البحرين ان جَمَّمعوا حيثما كنتم (3) وهو يشمل المدن والقرى ،وقال الوليد بن مسلم : سألت الليث بن سعد عن المصر،فقال :كل مدينة أو قرية جماعة أمروا بالجمعة،فإن أهل مصر وسواحلها كانوا يجمعون على عهد عمر وعثمان بأمرهما ،وفيها رجال من الصحابة .أخرجه البيهقى (4) . (45).
(واختلفوا) أيضاً فى اشتراط المسجد لصحة صلاة الجمعة . فقالت المالكية : يشترط إقامتها فى مسجد مبنى بناء معتاداً لأهل البلد،وأن يكون واحداً ؛ فلو تعدد فالجمعة للعتيق ،وهو الذى أقيمت فيه الجمعة أولا، وإن تأخر بناؤه ما لم يهجر العتيق أو يكون التعدد لحاجة أو يحكم حاكم بصحتها فى الجديد وإلا صحت فيه ،ومن الحاجة المبيحة للتعدد ضيق العتيق عمن يحضر لصلاة الجمعة ولو كان حضوره مندوباً كالنساء والصبيان (ومنها) وجود عداوة بين أهل البلد.
ويشترط فى المسجد أيضاً ان يكون داخل البلد .
وقال ابن ناجى: يصح أن يكون خارجها بحيث ينعكس عليه دخان البلد ،وحدّه بعضهم بأربعين ذراعاً وبعضهم بأربعين باعاً (ومحل) كلامه إذا بنى خارج البلد ابتداء ،أما إذا بنى داخل البلد ابتداء ثم خرجت وصار خارجاً عنها فالجمعة فيه صحيحة.
(
__________
(1) سورة يس: الاية 13.
(2) سورة الزخرف : الآية 31.
(3) تقدم أثر 43 ص168 ..
(4) انظر ص259 ج2 فتح البارى 0الجمعة فى القرى والمدن).(1/168)
وقال) الحنفيون والشافعى وأحمد والجمهور: المسجد غير شرط فى صحة الجمعة ،لأن الليل المثبت لوجوب الجمعة ساكت عن اشتراطه ، فتجوز فى مسجد البلد وفى أبنيتها وفى الفضاء التابه لها إذا كان لا تقصر فيه الصلاة (قال) فى البحر: وهذا القول قوى إن صحت صلاته صلىالله عليه وسلم فى بطن الوادى. أ.هـ.
(وقد روى) صلاته صلى الله عليه وسلم فى بطن الوادى ابن سعد وأهل السير. ولو سلم عدم صحة ذلك ،لا يدل فعلها فى المسجد على اشتراطه ، ولو كان شرطاً فى صحة الصلاة لما جاز أن يسكت عنه صلى الله عليه وسلم ولا أن يترك بيانه لقوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } (1) .
(فائدة) كانت الجمعة فى عهد النبى صلىالله عليهوسلم وعهد الخلفاء الراشدين والسلف الصالح تقام فى مكان واحد من المر،وكانوا يتركون المساجد الصغيرة إلى المسجد الجامع (قال) ابن عمر : إن أهل قباء كانوا يجمعون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة .أخرجه ابن ماجه . وفى سنده عبد الله بن عمر العمرى وهو ضعيف(2) .
[173].
(وقال) ابن عمر: لا جمعة إلا فى المسجد الأكبر الذى يصلى فيه الإمام .اخرجه ابن المنذر (46).
(وعن) بكير بن الأشج أنه كان بالمدينة تسعة مساجد مع مسجده صلى الله عليه وسلم يسمع أهلها تاذين بلال ، فيصلون فى مساجدهم ، ولم يكونوا يصلون الجمعة فى شئ من تلك المساجد إلا مسجد النبى صلى الله عليه وسلم .اخرجه أبو داود فى المراسيل والبيهقى فى المعرفة (47).
(ويشهد) له صلاة أهل العوالى مع النبى صلى الله عليه وسلم الجمعة كما فى التصحيح .
__________
(1) سورة النحل: الآية 440.
(2) ص179 ج1 سنن ابن ماجه (من أين تؤتى الجمعة؟ ) و(قباء ) بضم القاف يمد ويقصر ويصرف ولا يصرف: موضع جنوب المدينة على ميلين منها .و( يجمعون) من التجميع ..(1/169)
ذكره فى تلخيص الحبير (1) وفيه :وروى البيهقى أن أهل ذى الحليفة كانوا يجمعون بالمدينة . ولم ينقل أنه أذن لأحد فى إقامة الجمعة فى شئ من مساجد المدينة ولا فى القرى التى بقربها (2) .
(وقال) تقى الدين السبكى فى فتاويه : إن دمشق من فتوح عمر إلى اليوم (شهر رمضان سنة 756هـ) لم يكن فى داخل سورها إلا جمعة واحدة(3) . أهـ .
وقد اعتمد السبكى أنه إذا كان فى مصر أو قرية جامع يسع أهلها ثم أريد إحداث جمعة ثانية فى بعض المساجد أن ذلك لا يجوز . وقال ابن جريح : قلت لعطاء : أرأيت اهل البصرة لا يسعهم المسجد الأكبر كيف يصنعون ؟ قال: لكل قوم مسجد يجمعون فيه ثم يجزئ ذلك عنهم .أخرجه عبد الرازق (48).
هذا. وقد اختلف العلماء فى جواز غقامتها فى مواضع ، فالمنقول عن الشافعى فى الجديد أنه لا يجوز غقامتها فى أكثر من موضع . قال فى الأم : ولا يجمع فى مصر وإن عظم أهله وكثر عامله ومساجده إلا فى موضع المسجد الأعظم وغن كانت له مساجد عظام لم يجمع فيها إلا فى واحد ،وايها جمع فيه أولا بعد الزوال فهى الجمعة. وإن جمع فى آخر سواه بعده لم يعتد الذين جمعوا بعده بالجمعة وكان عليهم أن يعيدوا ظهراً أربعاً(4) .
__________
(1) انظر هامش 1ص 498 ج4 شرح المهذب . و(العوالى) موضع قريب من المدينة.
(2) اانظر هامش 1ص 498 ج4 شرح المهذب . و(العوالى) موضع قريب من المدينة .
(3) ذكر الخطيب فىتاريخ بغداد أن أول جمعة أحدثت فى الإسلام فى بلد مع قيام الجمعة القديمة فى أيام المعتضد فى دار الخخلافة من غير بناء مسجد لإقامة الجمعة . وسبب ذلك خشية الخلفاء على أنفسهم فى المسجد العام وذلك سنة 280 هـ. ثم بنى فى أيام المكتفى مسجد فجمعوا فيه . أهـ . ذكره فى تلخيص الحبير. انظر هامش 1ص 498 ج4 شرح المهذب.
(4) ص171 ج1 كتاب الأم (الصلاة فى مسجدين فأكثر).(1/170)
وعن ابى يوسف : لا تجوز فىموضعين من المصر إلا أن يكون بينهما نهر. وعنه تجوز بموضعين لا غير. (وقال) ابو حنيفة ومحمد : يجوز ذلك مطلقاً .
(قال) العلامة ابن نجيم : يصح أداء الجمعة فى مصر واحد بمواضع كثيرة . وهو قول ابى حنيفة ومحمد وهو الأصح ،لن فى الاجتماع فى موضع واحد فى مدينة كبيرة حرجاً بيناً وهو مرفوع . وذكر الإمام السرخسى أن الصحيح من مذهب ابى حنيفة جواز إقامتها فى مصر واحد فىمسجدين وأكثر وبه نأخذ لإطلاق : لا جمعة إلا فى مصر (1) شرط المصر فقط.
وبما ذكرناه اندفع ما فى البدائع من أن ظاهر الرواية جوازها فى موضعين ، ولا يجوز فى أكثر من ذلك ،وعليه الاعتماد .أهـ. فإن المذهب الجواز مطلقاً(2) .
ثم قال: وأما ما استدل به من يمنع التعدد من أنها سميت جمعة لاستدعائها الجماعات فهى جامعة لها ،فلا يفيده لأنه حاصل مع التعدد ، ولهذا قال العلامة ابن جرباش فى النجعة( بضم النون) فى تعداد الجمعة : لا يقال إن القول بالاجتماع المطلق قول بالاحتياط وهو متعين فى مثله ليخرج به المكلف عن عهدة ما كلف به بيقين ،لأن الاجتماع أخص من مطلق الاجتماع ، ووجود الأخص يستلزم وجود الأعم من غير عكس،ولأن الاحتياط هو العمل بأقوى الدليلين ،ولم يوجد دليل عدم جواز التعدد ،بل قضية الضرورة عدم اشتراطه ،وقد قال الله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } (3) .وقال تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (4) .
__________
(1) هو بعض أثر عن على رضى الله عنه تقدم 41 ص166 (هل تلزم الجمعة من كان خارج بلدها؟).
(2) ص142 ج2 البحر الرائق (صلاة الجمعة).
(3) آخر سورة البقرة .
(4) ص143 ج2 البحر الرائق ،والآية آخر سورة الحج.(1/171)
والقول بعدم تعدد الجمعة مع الحاجة وكثرة الناس ،عسر يأباه سهولة الدين ويسره (وقالت) المالكية والحنبلية : يجوز تعدد الجمعة لحاجة كضيق المسجد عمن يحضر لصلاة الجمعة وكوجود عداوة بين أهل البلد (قال) الشيخ منصور بن إدريس : وتجوز إقامتها فى أكثر من موضع من البلد لحاجة (كضيق) مسجد البلد عنأهله (وخوف) فتنة بأن يكون بين أهل البلد عداوة فيخشى إثارة الفتنة ياجتماعه فى مسجد واحد (وبُعد) الجامع عن طائفة من البلد ونحوه كسعة البلد وتباعد أقطاره ،فتصح الجمعة السابقة واللاحقة ،لأنها تفعل فى الأمصار العظيمة فى مواضع من غير نكير ،فكان إجماعاً . قال الطحاوى : وهو الصحيح من مذهبنا. وأما كونه صلى الله عليه وسلم لم يقمها هو ولا أحد من الصحابة فى أكثر من موضع فلعدم الحاجة إليه، ولأن الصحابة كانوا يؤثرون سماع خطبته وشهود جمعته وإن بعدت منازلهم ، لأنه المبلغ عن الله تعالى ،وكذا العيد تجوز غقامتها فى أكثر منموضع من البلد للحاجة لما سبق . فإن حصل الغنى بجمعتين اثنتين لم تجز الجمعة الثلثة لعدم الحاجة إليها. وكذا إذا حصل الغنى بثلاث لم تجز الرابعة ،أو بأربع لم تجز الخامسة ،وهكذا . ويحرم إقامة الجمعة والعيد بأكثر من موضع من البلد لغير حاجة . قال فى المبدع :/ لا نعلم فيه خلافاً إلا عن عطاء(1) . وبقول عطاء قال أبو حنيفة ومحمد- كما علمت- والظاهرية .
ومشهور مذهب الشافعية جواز تعدد الجمعة لحاجة . قال الشيخ على الشبراملسى فى رسالة له فى حكم صلاة الظهر بعد الجمعة، الصحيح أنه لا يجوز تعدد الجمعة ما يشق الاجتماع فى محل واحد- ولو غير مسجد- مشقة لا تحتمل عادة ،أى يقيناً كما قيد به الشهاب بن حجر،وتبعه شيخ مشايخنا الشمس الرملى ،سواء أحال نهر بين أجزاء محلها أم لا ،وسواء أكانت قرى واتصلت أم لا.
__________
(1) ص351 ج1 كشاف القناع (صلاة الجمعة ركعتان).(1/172)
نعم إن حال بينهما سور جاز التعدد مطلقاً لفعل بعضهم لها داخله وبعضهم خارجه. وهل العبرة فيمن يعسر اجتماعه بمن يصليها بالفعل أو من تصح منه أو من يغلب حضوره ،أو من تلزمه ؟ احتمالات ،اعتمد الشمس الرملى كأبيه والشهاب بن حجر ،ثالثها حتى لو كان الغالب يختلف باختلاف الأزمنة اعتبرناه فى كل زمن بحسبه . واعتمد بعض مشايخنا . ويجوز التعدد بقدر الحاجة إن شق الاجتماع بكثرة أهل محلها أو لقتال بينهم أو لبعد أحد طرفيه عنالآخر بحيث لا يسمع من فى أحدهما النداء من الآخر على ما فى الأنوار ،وبحيث لو خرج من فى أحدهما منه للآخر عقب الفجر لم يدركها على ما قاله الشهاب بن جحر وتبعه الشمس الرملى ،أو بحيث تناله مشقة لا تحتمل عادة بالسعى إليها من أحدهما للآخر على ما قاله الشهاب العبادى(1) .أهـ.
(وقال) كثير من الشافعية : إن هذا هو مذهب الإمام ،لأنه دخل بغداد وفيها مسجدان تقام فيهما جمعة ولم ينكر عليه ،ويكون كلامه فى الأم مقيداص بما إذا لم يعسر الاجتماع( وقال) بعضهم :إن أحد المسجدين كان خارج السور،وقال آخرون : لم ينكر عليهم لأن المسألة اجتهادية ،والمجتهد لا ينكر على مجتهد مثله . واياً فهذا هو مختار أكثر أصحاب الشافعى.
(تنبيه) علم مما تقدم أن جمهور العلماء قالوا بجواز تعدد الجمعة ولا سيما إذا كان لحاجة وأنها فرض الوقت .وعهليه فلا تطلب صلاة الظهر بعدها، لأن المكلف لا يطالب بفرضين فى وقت واحد مع ما فى أدائه جماعةمن إيهام نقض الجمعة ،وإيقاع العامة فى اعتقاد أن ليوم الجمعة بعد زواله فرضين : صلاة الجمعة،ولاة الظهر،بل هو الذى لا يرتابون فيه ، ويزيدون عليه أنه لا يصح إلا جماعة.
(
__________
(1) ورقة 1 رسالة فىحكم صلاة الظهر بعد الجمعة رقم 3597 مجاميع فقه شافعى المكتبة الأزهرية .(1/173)
قال) فى الدر المختار: وهى(يعنى الجمعة) فرض مستقل آكد من الظهر وليست بدلا عنه . وفى البحر : وقد أفتيت مراراً بعدم صلاة الأربع بعدها بنية آخر ظهر خوف اعتقاد عدم فرضية الجمعة وهو الاحتياط فى زماننا (وأما) من لا يخاف عليه مفسدة منها ، فالأولى أن تكون فى بيته خفية(1) .
(وقال) زين الدين بن نجيم : يلزم من فعلها (أى الظهر) فى زماننا مفسدة عظيمة ،وهو اعتقاد الجهلة أن الجمعة ليست بفرض لما يشاهدونه من صلاة الظهر فيظنون أنها الفرض وأن الجمعة ليست بفرض فيتكاسلون عن أدائها فكان الاحتياط فى تركها (2) أى الظهر. ولا يخفى أن محو اعتقاد غير الصواب من صدور العامة بتمحيص الحق باب عظيم من أبواب الدعوة إلى الخير.
(وكتب) العلامة البجرمى على قول شيخ الإسلام فى المنهج : "وألا يسبقها بتحرم ولا يقارنها فيه جمعة بمحلها إلا إن كثر أهله وعسر اجتماعهم بمكان ".
(قال) أى كثروا بحيث يعسر اجتماعهم ،اى بأن يحصل لهم مشقة من الاجتماع لا تحتمل أى اجتماع من يجوز له حضور الجمعة وإن لم تلزمه، فيدخل فيه الأرقاء والصبيان والنساء . فعلى هذا القول يكون التعدد في مصر كله لحاجة ، فلا تجب الظهر حينئذ ، كما نقل عن ابن الحق(3).
(ومن) قال من المتأخرين : إنه يسن إقامة ظهر بعد الجمعة خروجاً منت خلاف من يمنع التعدد مطلقاً كما هو ظاهر نص الشافعي في الأم (فقوله) غير مسلم ، فإن الشافعي لا يجيز صلاة الظهر عند الشك في السبق وعدمه إلا حيث ضاق الوقت .
(قال) في الأم : وإن كان وال يصلى في مسجد صغير فجاء وال غيره فصلى في المسجد عظيم فأيهما صلى أولا فهي الجمعة ، فإذا لم يدر أيهما صلى أولا فأعاد أحدهما الجمعة في الوقت أجزأت.وإن ذهب الوقت أعادا معاً فصليا معاً أربعاً أربعاً . قال الربيع : يريد يعيد الظهر(4).
(
__________
(3) ص 423 ج 1 حاشية البجر مي على المنهج (شروط صحة الجمعة) .
(4) ص171 ج 1 كتاب الأم (الأرض تكون بها المساجد).(1/174)
وقال) النووي : من لزمته الجمعة لا يجوز أن يصلى الظهر قبل فوات الجمعة بلا خلاف لأنه مخاطب بالجمعية ؛ فإن صلى الظهر قبل الجمعة , فقولان مشهوران الصحيح بطلانها ويلزمه إعادتها ؛لأن الفرض هو الجمعة(1).
(فهذه) النصوص صريحة في أن الشافعي وأصحابه لا يجيزون صلاة الظهر لمن أشكل عليهم أمر السبق إلا حيث ضاق الوقت عن تأديتها جمعة . فما يفعله كثير من الناس إقامة ظهر عقب صلاة الجمعة في حالة التعدد وإشكال الأمر ، مخالف لما قاله الشافعي وأصحابه .
(
__________
(1) ص496 ج 4 شرح المهذب.(1/175)
ولذا) لما علم والي مصر حسين باشا في عهد السلطان مصطفي الثلث العثماني أن الظهر بعد الجمعة لا أصل له من كتاب ولا سنة ولا من عمل الأئمة (أمر) في سنة 1277 هجرية بعدم إقامتها في الأزهر وغيره ، فجزاه الله خيراً على منع هذه البدعة وأثابه ، ووفق من يتنبه لمنعها(1).
__________
(1) وقد نعى كثير من أفاضل علماء الأزهر على المتمسكين بأذيال هذه البدعة (منهم) فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ حامد محيسن الشافعي وكيل كلية اللغة العربية بالجامعة الأزهرية . قال في العدد السابع من السنة الثالثة لمجلة نور الإسلام الصادر في جمادى الثانية 1356 هـ : تذهب إلى مسجد من مساجد القاهرة أو بلد أخر لتصلى فريضة الجمعة فتسمع أذانا ثم أذانا ثم خطبه ثم خطبه ثانية ثم تقوم الصلاة فتصلى ركعتين الجمعة مؤتماً أنت وجميع من في المسجد بإمام واحد حتى إذا سلم الإمام رأيت طائفة من الجماعة قد انشقت عليه وانحازت إلي جانب من المسجد فاقامت صلاة غير التي صلاة مع الجماعة وركعت أربع ركعات هى صلاة ظهر يوم الجمعة . وما هي بتلك الصلاة الثانية الا كالتي نقضت غزلها من بعد قوه . إذ هي بما أتت قد رجعت إلي تلك الاعمال الكثيرة التي تقدمة صلاة الجمعة فابطلتها مع المقصد التي تلاها ورجعة الي هذا الجمع المترابط الملتئم فصدعته وابطلت غرض الشارع منه . بل أبطلت الغرض العام من الدين والمقصد الاسمي له وهو تضامن الأمه وإتحادها وأن لا يتفرقوا في دينهم شيعا . وإن الذي يصدع قلبك ويملأ نفسك أسفا ويفعمها عجبا أن تري بين هؤلاء الذين صدعوا الجميع واظهروا التفرق علماء دينيون آمين ومؤتمنين . نعم تمتلئ أسفاً وعجباً إذ أنه ليس من شك ولا عمون أنهم تابعون له في تلك الصلاة لم تكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا على عهد خليفة من الخلفاء الراشدين ولا عرفها إمام الأمة المجتهدين ولا إمام المذهب الذي يزعمون أنهم تابعون له في تلك الصلاة وهو الإمام الشافعي رضى الله عنه ..ثم هم مع هذا يفعلونها غير مخجلهم أن هذه عبادة مخترعة مبتدعة لا يعرفها الإسلام إذ الإسلام لا يعرف صلاة سادسة ، وإذ أنت بحثت عن مبني اختراعهم لتلك العبادة وابتداعهم صلاة سادسة وجدت كل ما هناك أن الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه قال : لا يجمع في مصر وإن عظم وكثرت مساجده إلا في مسجد واحد . تلك كلمة الإمام التي لم يجدوا إلى تأويلها سبيلا إلا أن يخترعوا عبادة لا يعرفها الإسلام ولا من فهموا الإسلام من صحابة الرسول وأئمة المسلمين المجتهدين ، ولقد فات هؤلاء أن الإمام الجليل الإمام الشافعي ما أراد من هذا إلا تحقيق الغرض الذي رمي إليه الشارع بهذا التشريع (فريضة الجمعة) وهو محافظة المسلمين على مظهر اتحادهم واتفاق كلماتهم : وأنت ترى أيها المسلم المخلص لدينه أن هذا المقصد ليس بفائت أبداُ حين يكون تعدد الجمعة قد نشأ عن تعذر اجتماعهم في مكان واحد إذ إمامنا الجليل ليس من عدم فهم الإسلام وروح التشريع إلى حد أن يغيب عنه ما هو من أول أصول الإسلام وهو التيسير ورفع الحرج عن جميع تكاليفة "ما جعل عليكم في الدين من حرج" وكيف يصح أن يفهم عن ذلك الإمام الجليل أن لا سبيل إلى الخلوص من تعدد الجمعة ولو كانت الضرورة الملجئة هي الداعية إليه إلا اختراع عبادة وابتداع صلاة سادسة (وهذا) إمامنا الجليل الإمام الشافعي قد دخل بغداد والجمعة تصلي فيها متعددة فلم يكن منه على ذلك إنكار على أي وجه من وجوه الإنكار فضلا عن أن يصلى بعد الجمعة ظهراً ، لأنه يعلم أن محل فوت الغرض عند التعدد إذا لم يكن التعدد عن ضرورة (ولما كان) موقف الإمام من تعدد الجمعة هو هذا الموقف (لم ينكر تعددها ولا صلى بعد الجمعة ظهراً) فقد حاول بعض علماء الشافعية أن يؤولوه بتأويلات بعيدة ليحافظوا بها على امتناع التعدد ولو كانت إليه ضرورة (فمنهم) من قال إن الشافعي لم ينكر تعدد الجمعة ببغداد لأنها قد كان بها نهر يشقها شقين فجعلها كبلدين فكانت لكل بلد جمعة ولما كان هذا التأويل تأويلا بعيداً فقد اعترض عليه الشيخ أبو حامد أنه لو كان الأمر كذلك لكان لمن يجاوز أحد الشقين إلى الشق الآخر في سفره أن يقصر الصلاة قبل مجاوزته ذلك الشق الآخر (ومنهم) من أول ذلك بأن سكوت الإمام على التعدد إنما كان لأن المسألة مسألة اجتهادية وليس لبعض المجتهدين أن ينكر على بعض . وإذا كان الإمام الذي تقلده قد رأيناه بهذا الاعتبار لم ينكر التعدد ولم يبطل الجمعة فلم يصل بعدها ظهراً ، فما بال مقلديه لم يسعهم ما وسعه؟ وهو خفي على الإمام ما هم قد أدركوه؟ لقد كان يجب أن نأخذ بمثل هذا التأويل ولو فرضناه على أكثر ما يكون من ضعف ما دمنا نتفادى به عن اختراع عبادة جديدة وابتداع صلاة سادسة مادام الإمام الذي نقلده لم يكن طيلة حياته أن صلى بعد الجمعة ظهراً حماه الله جريمة الاختراع و الابتداع والمختار الذي عليه أكثر الشافعية أن الإمام الشافعي إنما لم ينكر التعدد ببغداد لأنه قدر أي بها كثرة لا يمكن لها أن تجتمع في مسجد واحد وعلى ذلك فالراجع في المذهب هو إذ ذلك هو ما يساير روح الشريعة من رفع الحرج ويتفق مع ما يجب أن يكون عليه الإمام من فقه الدين وفهم الشريعة ، فما كان لذلك الإمام الجليل أن يفهم الشريعة على وجه يوقع الناس في حرج لا يخلصون منه إلا ببدعة شنعاء وإلا فما بال الإمام قد قضى حياته لم يصل بعد الجمعة ظهراً . وليت شعري إذا كان ذلك شأن الإمام الذي يزعمون أنهم يقلدونه فمن ذلك الذي يقلدونه في هذا الابتداع؟ (وإذا كان) الأمر كذلك وأن التعدد يجوز عند عدم إمكان الاجتماع لأهل البلد في مكان واحد ، فهل يمكن لأحد من هؤلاء المبتدعين أن يدعى أن التعدد في مثل القاهرة لم يكن عن ضرورة دعت لذلك حين لم يمكنهم أن يجتمعوا في مكان واحد ، ألا فليتق الله أولئك المبتدعون وليعلموا أنهم بذلك قد خالفوا نبيهم وخالفوا صحابته وخالفوا إمامهم الذي يزعمون أنهم مقلدوه – يأيها الولعون بالابتداع قد خيرتم الناس في أمركم . فمرة نراكم مجتهدين إذ تقولون وتفعلون غير ما قاله وفعله الأئمة المجتهدون . وأخري نراكم حاملين على من لا يزيد على التدليل على مسألة من المسائل لما في ذلك من مداناة الاجتهاد . خبرونا أيها القوم إلى أين أنتم ذاهبون؟ ربنا قد ألقينا التبعة عن أنفسنا فليتحملها أولئك . (ربنا احكم بيننا بالحق وأنت خير الحاكمين) .ا هـ .
(وممن عنى) بهذه المسألة الأستاذ الجليل الشيخ محمد القباني الشافعي المدرس بكلية الشريعة فبحثها بحثا فقهيا دقيقا أبان خلاصته بقوله : إذا علمنا أن القول المعتمد في المذهب هو صحة تعدد الجمعية لحاجة . وأن هذا القول هو الذي أفتى به المزني في مصر . وقال الرويانى : لا يحتمل مذهب الشافعي خلافه ، وأنه المذكور في جميع الكتب ، وعلمنا أن الحاجة ليست فقط عسر الاجتماع في مكان واحد ، بل من الحاجة وجود عداوة بين أهل البلد الواحد ، أو حصول مشقة في السعي إلى الجمعية إذا أقمت في مكان واحد على أهل الجهات الأخرى ، وهكذا من الحاجات والأسباب الشرعية الداعية إلى التعدد ، وعلمنا أن القول بالتعدد مقتضاه صحة الجمعية من الجميع بقطع النظر عن السبق وعدمه ، لأن السبق والمقارنة إنما يراعيان في حالة التعدد الزائدة على قدر الحاجة ، والزيادة على قدر الحاجة غير متحققة (فإذا) صحت الجمعية بناء على القول المعتمد من صحة التعدد بقدر الحاجة ، واعتبرنا أن التعدد الحاصل في البلاد هو لحاجة ولأسباب شرعية مسوغة للتعدد أقلها إذن وزارة الأوقاف في إقامة جمع متعددة بحث إذا امتنع بعض أئمة المسجد من الصلاة في مسجد لعاقبتهم . وإن وزارة الأوقاف هو إذن شرعي مفوض لها من الإمام ، وقد قال العلماء : إذن الإمام بتعد الجمعة بمنزلة حكمة وحكم الحاكم يرفع الخلاف بين المذاهب ويصير الواجب على الكافة العمل بحكم الحاكم (فإذا) صليت الجمعة بهذه الصفحة ، وهي الصفحة الحاصلة الآن في البلاد المصرية ، كيف نشك في صحتها حتى نجبرها بإعادتها ظهراً مع عدم الشك في صحتها لا يقول به فقيه مطلقاً ، فليترو معنا أهل العلم والفقه في البلاد في نظر هذه الأحكام وتطبقها ، ولا يدخلوا الناس في اختلاف ومشقة وتكليف لم يكلفوا به فضلا عن أن أشد التمسك بتجسيم الخلاف فى كل جزئية من جزئيات الدين ،ليس مما يشرف رجال الدين ، وليس من أمانة العلم أن نتساهل فى تكليف العامة بأمور دينية قد لا تكون عليهم إذا نحن دققنا النظر فى الفقه والدين ، " وفى قواعد الفقه " المشقة تجلب التيسير ومدارك عامة واسعة (تجب) على الفقيه الذى يفتى الناس أن يراعيها (ومسألة) التزام بعضهم أنه يسن صلاة الظهر بعد الجمعة اتياطاً ، ومراعاة للقول الضعيف " فى محل المنع" بتاتاً ونرفضها فقهاً أشد الرفض ،ذلك( أولا) لأن من شرط الاحتياط ومراعاة الخلاف ألا يكون القول المقابل ضعيفاً ،وقد علمت أن القول بمنع التعدد ضعيف مل الضعف . لقول الروبانى :إن المذهب لا يحتمل خلاف جواز التعدد .
(ثانياً) من شروط مراعاة الخلاف أيضاً ألا يكون بين القولين تضاد بحيث يكون المكلف إذا راعى قولا كان مخالفاً للقول الآخر ،وهو هنا إذا صلى ظهراً بعد الجمعة كان فى نظر القول المعتمد متلبساً بعبادة فاسدة غير مطلوبة شرعاً ،وصلاة النفل المطلق اولى له من ذلك . ليكون فى هذه الحالة خرج عن العمل بالقول المعتمد إلى العمل بالقول الضعيف . وقد حكى الحنفية فى كتبهم فى هذه المسألة نفسها أن إذن الحاكم بتعدد الجمعة بمنزلة حكمه وحكم الحاكم كما هو معروف ومقرر يرفع الخلاف .انظر ابن عابدين فى باب الجمعة وخلافه ،وانظر شرح الإحياء .أهـ ملخصاً .(1/176)
(2) وقت الجمعة
الوقت وإن كان شرطاً لكل صلاة ، لكن الجمعية تختص بأنها لا تصح إلا فيها، بخلاف غيرها من الصلوات فإنها تقضى بعده ، ووقتها عند الحنفيين ومالك والشافعي والجمهور : وقت الظهر.
(قال) أنس بن مالك : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى الجمعة إِذا مالت الشمس . أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود والبيهقي والترمذي(1). [174].
وقال هذا حديث حسن صحيح وهو الذى أجمع عليه أكثر اهل العلم ان وقت الجمعة إذا زالت الشمس لوقت الظهر.
(وقال) سلمة بن الأكوع : كنا نصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة إذا زالت الشمس ،ثم نرجع نتبع الفئ .أخرجه أحمد ومسلم والبيهقى(2). [175].
(وقالت) الحنبلية وإسحق: وقت الجمعة من أول العيد إلىآخر وقت الظهر(ولقول) الشيخ منصور البهوتى: ووقت الجمعة من أول وقت العيد (ولقول) عبد الله بن سيدان السلمى: شهدت الجمعة مع أبى بكر فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار . ثم شهدتها مع عمر فكانت خطبته وصلاته إلى أقول قد انتصف النهار . ثم شهدتها مع عمر فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول زال النهار ، فما رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكر(3)(49).
__________
(1) ص37 ج6 – الفتح الربانى . وص264 ج2 فتح البارى (وقت الجمعة إذا زالت الشمس) وص241 ج6 – المنهل العذب (وقت الجمعة) وص190 ج3 سنن البيهقى . وص361 ج1 تحفة الأحوذى .
(2) ص39 ج6 – الفتح الربانى . وص148 ج6 نووى مسلم (صلاة الجمعة حين الزوال ) وص190 ج3 سنن البيهقى (وقت الجمعة).
(3) هذا الأثر أخرجه الدارقطنى . انظر ص169 (صلاة الجمعة قبل نصف النهار )وقال أبو الطيب محمد شمس الحق فى التعليق المغنى على سنن الدارقطنى وأخرجه عبد الله بن أحمد فى زيادات المسند . ويأتى الكلام عليه إن شاء الله تعالى .(1/177)
ويمتد وقتها إلى آخر وقت الظهر إلحاقاً لها بها لوقوعها موضعها . وتلزم الجمعة بالزوال ،لأن ما قبله وقت جواز وفعلها بعده أفضل خروجاً من الخلاف ،ولأنه الوقت الذى كان صلى الله عليه وسلم فيه فى أكثر أوقاته . والأولى فعلها عقب الزوال صيفاً وشتاء(1).
(وصحح) بعض الحنبلية أنه لا دخل وقتها إلا فى الساعة السادسة من النهار (قال) أبو محمد عبد الله بن قدامة : ظاهر كلام الخرقى انه لا يجوز صلاتها فيما قبل السادسة .
وروى عن ابن مسعود وجابر وسعيد ومعاوية أنهم صلوها قبل الزوال.
وقال القاضى واصحابه : يجوز فعلها فى وقت صلاة العيد .
وروى ذلك عبد الله عن أبيه قال: نذهب إلى أنها كصلاة العيد.
وقال مجاهد : ما كان للناس عيد إلا فى أول النهار .
وقال عطاء : كل عيد - حين يمتد الضحى – الجمعة والأضحى والفطر ،لما روى عن بن مسعود أنه قفال ك ما كالن عيد إلا فى اول النهار ،ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى بنا الجمعة فى ظل الحطيم(2)رواه ابن البخترى فى أماليه بإسناده(3). [176].
(وروى) عن ابن مسعود ومعاوية أنهما صليا الجمعة ضحى وقالا ك إنما عجلنا خشية الحر عليكم . وروى الثرم ابن مسعود(4). (50).
__________
(1) ص344 ج1 هامش كشاف القناع 0ولصحتها شروط).
(2) الحطيم) قوس من البناء طرفاه إلى راويتى الشمالية والغربية وارتفاعه متر .
والفضاء الذى بينه وبين حائط البيت يسمى حجر إسماعيل.
(3) انظر ص210 ج2 مغنى ابن قدامة .
(4) ورواه ابن أبى شيبة عن عبد الله بن سلمة (بكسر اللام) وهو صدوق لكنه تغير لما كبر . وروى أثر معاوية بن أبى شيبة عن سعيد بن سويد . وقد ذكره ابن عدى فى الضعفاء ،قاله الحافظ. ص263 ج2 فتح البارى الشرح (وقت الجمعة إذا زالت الشمس).(1/178)
ولأنها عيد فجازت فى وقت العيد كالفطر والأضحى . والدليل على أنها عيد قول النبى صلى الله عليه وسلم : إن هذا يوم جعله الله عيداً للمسلمين(1). [177].
وقوله : قد اجتمع فى يومكم هذا عيدان(2). [178].
وقال : ولنا- على جوازها فى الساعة السادسة- السنة والإجماع.
(أما السنة) فما روى جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى الجمعة ،ثم نذهب على جمالنا فنريحها حين تزول الشمس .أخرجه مسلم(3). [179].
(وعن سهل) بن سعد قال : ما كنا نقيل ولا نتغذى إلا بعد الجمعة فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه(4). [180].
(قال) ابن قتيبة : لا يسمى غداء ولا قائلة بعد الزوال (وقال سلمة ) كنا نصلى مع رسول الله لى الله عليه وسلم الجمعة ،ثم ننصرف وليس للحيطان فئ. رواه أبو داود(5). [181].
(
__________
(1) هذا بعض حديث رواه ابن السباق أنالنبى صلى الله عليه وسلم ،قال فى جمعة : يا معشر المسلمين إن هذا يوم جعله الله عيداً للمسلمين فاغتسلوا (الحديث) أخرجه البيهقى وقال: هذا هو الصحيح مرسل. ص243 ج3 (التنظيف يوم الجمعة ) (17).
(2) ص210 ج2 مغنى (صلاة الجمعة قبل الزوال وبعده) وما ذكر صدر حديث أخرجه أبو داود وابن ماجه والحاكم عن ابى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: قد اجتمع فى يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه عن الجمعة وإنا مجمعون (18) ويأتى فى بحث( اجتماع العيد والجمعة).
(3) ص148 ج6 نووى مسلم (صلاة الجمعة حين الزوال) و( نقيل) من القيلولة وهى النوم بعد الزوال وتطلق على الاستراحة فى هذا الوقت ولو بلا نوم والغداء الطعام يؤكل أول النهار .
(4) ص148 ج6 نووى مسلم (صلاة الجمعة حين الزوال) و( نقيل) من القيلولة وهى النوم بعد الزوال وتطلق على الاستراحة فى هذا الوقت ولو بلا نوم والغداء الطعام يؤكل أول النهار .
(5) ص342 ج6 –المنهل العذب (وقت الجمعة).(1/179)
وأما) الإجماع فروى فيه أثر عبد الله بن سيدان قال: شهدت الجمعة مع ابى بكر فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار " الأثر "(1).
(وأجاب) الجمهور:
(أ) عن احتجاج الحنبلية بأن النبى صلى الله عليه وسلم سمى يوم الجمعة عيداً فجازت الصلاة فيه فى وقت العيد (بأنه) لا يلزم من تسميته عيداً أن يشمل جميع أحكام العيد ،بدليل أن يوم العيد يحرم صومه مطلقاً ،سواء أصام قبله أم بعده ،بخلاف يوم الجمعة بالاتفاق(2).
(ب) وعن حديثى جابر وسهل بن سعد بأنهما محمولان على المبالغة فى تعجيل صلاة الجمعة بعد الزوال بلا إيراد(3).
(حـ) وعن حديث سلمة بأن قوله فيه (وليس للحيطان فئ) معناه أنه ليس لها ظل يستظل به ،كما صرح به عند أحمد ومسلم والنسائى وابن ماجه بقوله: ثم ننصرف وليس للحيطان ظل يستظل به(4)وليس المراد نفى الظل مطلقاً ،لأن الظل لا ينتفى فى وقت ما ، لا قبل الزوال ولا بعده.
(وقال) النووى: وحمل الجمهور هذه الأحاديث على المبالغة فى تعجيلها ، وإنهم كانوا يؤخرون الغداء والقيلولة فى هذا اليوم إلى ما بعد صلاة الجمعة ،لأنهم ندبوا إلى التبكير إليها ،فلو اشتغلوا بشئ من ذلك قبلها خافوا فوتها أو فوت التبكير إليها . وقوله "نتتبع الفئ" إنما كان ذلك لشدة التبكير وقصر الحيطان . وفيه تصريح بأنه قد كان فئ يسير. وقوله : " وما نجد فيئاً نستظل به" موافق لهذا ،فإنه لم ينف الفئ من أصله ،وإنما نفى ما يستظل به، وهذا مع قصر الحيطان ظاهر فى أن الصلاة كانت بعد الزوال متصلة به(5).
(
__________
(1) ص211 ج2 مغنى . والأثر تقدم رقم 49 ص181.
(2) ص211 ج2 مغنى . والأثر تقدم رقم 49 ص181.
(3) ص211 ج2 مغنى . والأثر تقدم رقم 49 ص181.
(4) ص211 ج2 مغنى . والأثر تقدم رقم 49 ص181.
(5) ص148 ج6 شرح مسلم (صلاة الجمعة حين الزوال).(1/180)
د) وعن أثر عبد الله بن سيدان (بكسر السين) بأنه ضعيف ، فقد تكلم غير واحد فى ابن سيدان . قال الحافظ: تابعى كبير غير معروف العدالة . وقال ابن عدى : يشبه المجهول. وقال البخارى : لا يتابع على حديثه . وقد عارضه ما هو أقوى منه. فروى ابن ابى شيبة عن سويد بن غفلة أنه صلى مع ابى بكر وعمر حين زالت الشمس . وإسناده قوى(1). (51).
فالظاهر المعول عليه أنه لا تصح الجمعة قبل الزوال.
هذا. وآخر وقت الجمعة- عند غير مالك- آخر وقت الظهر (لما تقدم) عن عبد الله بن عمرو أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر. أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائى(2). [182].
فلا تصح بعد دخول وقت العصر.
(وقال) مالك: يمتد وقتها إلى الغروب (قال9 العلامة الدردير والشيخ الدسوقى : شرط صحة صلاة الجمعة وقوعها كلها بالخطبة وقت الظهر، فلو أوقع شيئاً من ذلك قبل الزوال لم يصح ،ويمتد وقتها من الزوال إلى الغروب،أى وإن لم يبق ركعة للعصر. وعلى هذا فقولهم : الوقت إذا ضاق يختص بالأخير ، يستثنى منه الجمعة، وهذا هو المعتمد فى المذهب ،خلافاً لمن قال: إنه يمتد للاصفرار(3).
(ورّه) الجمهور بأن الجمعة شرعت على خلاف القياس . فيراعى فيها كل الخصوصيات التى وردت فيها ،ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلاها بعد دخول وقت العصر ،ولا عن أحد من السلف إلى يومنا هذا .
(وإن خرج) الوقت وهم فيها قبل السلام بطلت عند الحنفيين ،غير أنها تنقلب نفلا عند الإمام ،لفوات الشرط ،ويلزم استئناف الظهر.
(وقالت) المالكية : إن غربت الشمس بعد تمام ركعة من الجمعة بسجدتيها أتموها جمعة وإلا أتموها ظهراً.
__________
(1) ص263 ج2 فتح البارى الشرح( وقت الجمعة).
(2) تقدم رقم 9 ص7 ج2 – الدين الخالص (وقت الظهر).
(3) ص299 ج1 – الشرح الكبير وحاشية الدسوقى .(1/181)
وقالت الشافعية : إذا شرعوا فيها وقد بقى من وقت الظهر ما يسعها ولكنهم أطالوها حتى خرج الوقت أتموها ظهراً ،ويسر الإمام فيما بقى ، ويحرم عليهم قطعها ،وإن شرعوا فيها ولم يبق من الوقت ما يسعها فخرج وهم فيها بطلت واستأنفوا ظهراً .
(وقالت ) الحنبلية: إن خرج وقتها وقد صلوا ركعة أتموها جمعة اتفاقاً ،وكذا إن خرج ولم يتموا ركعة على المذهب .
(قال) الشيخ منصور بن يونس : ولا تسقط الجمعة بشك فى خروج الوقت ،لأن الأصل عدمه والوجوب محقق؛ فإن بقى من الوقت قدر التحريمة بعد الخطبة صلوها ، فإن تحققوا خروجه قبل التحريمة صلوا ظهراً ، لأن الجمعة لا تقضى ،وإن لم يتحققوا خروجه قبل التحريمة أتموا جمعة، لأن الأصل بقاؤه ،وهى تدرك بالتحريمة كما تقدم كسائر الصلوات ، فإن علموا إحرامهم بعد الوقت ، قضوا ظهراً لبطلان جمعتهم(1).
(3) خطبة الجمعة
هى شرط لصحة الجمعة عند الأئمة الأربعة والجمهور (لقوله) تعالى : { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } ، والذكر هو الخطبة لاشتمالها عليه ،أمر بالسعى إليه فيكون واجباً ،لأنه يجب السعى لغير الواجب ، ولمواظبته صلى الله عليه وسلم على الخطبة .
(قال) ابن عمر: كان النبى صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين ، كان يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن ،ثم يخطب فيخطب ، ثم يجلس فلا يتكلم ،ثم يقوم فيخطب .اخرجه السبعة إلا ابن ماجه ،وهذا لفظ أبى داود(2). [183].
(
__________
(1) ص345 ج1 شرح المنتهى (ولصحتها شروط).
(2) ص89 ج6 الفتح الربانى ،وص 273 ج2 فتح البارى ( الخطبة قائماً ) وص149 ج6 نووى مسلم (ذكر الخطبتين..) وص209 ج1 مجتبى (الفصل بين الخطبتين )وص362 ج1 تحفة الأحوذى 0الجلوس بين الخطبتين )وص252 ج6 المنهل العذب (الجلوس إذا صعد المنبر).(1/182)
ولم يرد) أنه عليه الصلاة والسلام أو أحداً من الخلفاء الراشدين فمن بعدهم صلى الجمعة بدون خطبة. فهى من جملة الخصوصيات التى لم يرد غسقاط الركعتين إلا مع مراعاتها فكانت شرطاً .
(ويشترط) عند المالكية والشافعية خطبتان ،وهو مشهور مذهب الحنبلية لما تقدم (ومنه) قوله صلى الله عليه وسلم : صلوا كما رأيتمونى أُصلى(1).
ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم ،صلى الجمعة بدون خطبتين .
(وقال) الحنفيون والأوزاعى وإسحاق بن راهويه وابن المنذر : الشرط خطبة واحدة والثانية سنة. وهو رواية عن أحمد (وقال) الحسن البصرى والظاهرية وابن الماجشون المالكى : الخطبة مستحبة .
(قال) الشوكانى : وهذا هو الظاهر . وأجاب عن أدلة الجمهور بما ملخصه : أما استمراره صلى الله عليه وسلم على الخطبة فى كل جمعة، فهو مجرد فعل لا يفيد الوجوب فضلا عن الشرطية .
(وقوله) صلى الله عليه وسلم : " صلوا كما رأيتمونى أُصلى" ، لا يدل على وجوب الخطبة ، لأنها ليست صلاة ، بل ولا يدل على وجوب الصلاة على الصفة التى كان يصليها ،لأنه كان يواظب على أشياء ليست واجبة ، كما يدل عليه حديث المسئ صلاته ، فإنه لم يعلمه التشهد وكان يواظب عليه.
(واستدلالهم) بقوله تعالى : { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } لا يفيد وجوب الخطبة، لأن الذكر ليس نصاً فى الخطبة بل محتمل لها وللصلاة ،وحمله على الصلاة أولى ، للاتفاق على وجوبها ، بخلاف الخطبة ففى وجوبها خلاف(2).
ورد: (أ) بأن وجوب الخطبتين ظاهر من المواظبة عليهما ،وهو بيان لصفة صلاة الجمعة الواجبة ،وهذا ظاهر مطابق لقواعد الأصول ودقائق الشريعة المطهرة ،وأيضاً فإن صلاة الجمعة وجبت بهذه الصفة التى واظب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم . فمن قصر فيها عما كان عليه العمل فإنه لم يؤد ما وجب عليه وهو واضح فى الشرطية .
(
__________
(1) تقدم رقم 23 ص27 (ترتيب الفوائت).
(2) ص336 ج2 نيل الأوطار (حكم خطبة الجمعة).(1/183)
ب) بأن تواتر العمل بهذه الصفة من عهد النبى صلى الله عليه وسلم إلى الآن ،والأحاديث الصحيحة بينت هذه الصفة تفصيلا ،فلم يصلَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة بدون خطبتين . وهذه المواظبة المستمرة لا يصح حملها إلا على أنها بيان لهذا الواجب يلحق به فى الوجوب.
(حـ) بأن تأدية الخطبة داخل تحت كيفية الصلاة المأمور بها فى حديث: " صلوا كما رأيتمونى أُصلى " لقيام الخطبتين مقام ركعتين . قال الشيخ منصور بن إدريس : وعن ابن عمر وعائشة قصرت الصلاة من أجل الخطبتين فهما بدل ركعتين ، فالإخلال بإحداهما إخلال بإحدى الركعتين(1).
هذا . وللخطبة شروط واركان وسنن ومكروهات :
(شروطها) يشترط لصحتها عند الجمهور اثنا عشر شرطاً :
(1)كونها قبل الصلاة ،لأنها شرط والشرط يتقدم على المشروط ، فلا يعتد بالخطبتين عن تأخرتا عن الصلاة ،وتعاد معهما عند الأئمة الثلاثة.
(وقالت)المالكية: إن تأخرتا أعيدت الصلاة فقط دون الخطبة إن قرب الزمن عرفاً ولم يخرج الإمام من المسجد ، فإن طال أو خرج الإمام أعيدت الخطبتان والصلاة .
(2) وكونها فى وقت الجمعة ،لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يصلَّها بدون خطبة فى الوقت ، فلو خطب قبله وصلى فيه لم تصح .
(3و4) وونهما بحضرة جماعة ممن تنعقد بهم الجمعة بأن يكونوا ذكوراً مكلفين ولو صماً أو نياماً ، فلو خطب بحضرة النساء أو الصبيان أو المجانين فقط لا تصح ، وكذا لو خطب بحضرة واحد على الأصح عند الحنفيين .
(5)ويشترط الجهر بالخطبة بحيث يسمع اركانها من تنعقد به الجمعة حيث لا مانع كنوم أو غفلة أو صمم عند الجمهور.
(وقالت) المالكية: الشرط الجهر بها ،ولا يشترط سماع الحاضرين ولا إصغاؤهم ،وإن كان الإصغاء واجباً عليهم ، فلو أسر بها لا تصح .
(
__________
(1) ص347 ج1 كشاف القناع (يشترط لصحتها) و(نصرت) مبنى للمفعول.(1/184)
6) ويشترط- عند الحنفيين - الموالاة بين الخطبة والصلاة ، بألا يفصل بينهما بعمل يقطع الخطبة كالأكل والجماع ، بخلاف غير القاطع كالوضوء والغسل ، وقضاء فائتةوافتتاح تطوع بينهما ، فإنه لا يبطل الخطبة ، وإن كان الأولى إعادتها .
(وقالت) المالكية والحنبلية : يشترط الموالاة بين الخطبتين وبينهما وبين الصلاة بألا يفصل بين ذلك بفاصل طويل عرفاً .
(وقالت) الشافعية: يشترط الموالاة بين أركانها وبينهما وبين الصلاة بألا يفصل بين ما ذكر بقدر ركعتين خفيفتين ،وإلا بطلت الخطبة .
(7)ويشترط كون الخطبة بالعربية للقادر عليها عند ابى يوسف ومحمد والشافعى وأحمد ، فإن عجز عن العربية خطب بما يقدر عليه ، إلا الآية التى هى من اركان الخطبة عند الشافعى وأحمد فلا ينطقها بغير العربية إن عجز عنها ، بل يأتى بدلها بذكر أو دعاء عربى ، فإن عجز عن هذا سكت بقدر الآية .
(وقالت) المالكية: يشترط كونها باللغة العربية ولو كان القوم عجماً ، فإن لم يوجد فيهم من يحسن العربية سقطت عنهم الجمعة ن وقال أبو حنيفة : تصجح الخطبة بغير العربية ولو من قادر عليها والقوم عرب .
(8، 9) ويشترط للخطبة الطهراة من الحدث،والخبث،وستر العورة عند الشافعية ،وهو رواية عن مالك ،ولا يشترط ما ذكر عند الحنفية والحنبلية ،وهو مشهور مذهب المالكية ،فلو خطب غير متطهر او عارياً لا تصح عند الشافعية ،وتصح عند غيرهم مع الكراهة لمخالفته المتوارث .
((1/185)
قال) الشيخ منصور بن إدريس : ولا يشترط للخطبتين الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر ، فتجزئ خطبة محدث وجنب ،لأنه ذكر تقدم الصلاة فاشبه الذان ،وظاهره ولو كان الجنب بالمسجد ،لأن تحريم مكثه لا تعلق له بواجب العبادة ،كمن صلى ومعه درهم غصب. ولا يشترط لهما ستر عورة وإزالة نجاسة لما تقدم ،ولا أن يتولاهما من يتولى الصلاة ،لأن الخطبة منفصلة عن الصلاة فأشبها اللاتين ،ولا حضور النائب فى الصلاة والخطبة (ولا يشترط) أن يتولى الخطبتين رجل واحد،لأن كلا منهما منفصلة عن الأخرى.
(قال) فى النكت : فليلغز بها فيقال : عبادة واحدة بدنية محضة تصح من اثنين ،بل يستحب ذلك ،أى الطهارة وستر العورة وإزالة النجاسة ، وأن يتولى الخطبتين والصلاة واحد خروجاً من الخلاف(1)وكذا لا يشترط فى الإمام أن يكون هو الخطيب عند الحنفيين ،وهو الأصح عند الشافعية .
وقالت المالكية : يشترط أن يكون الخطب هو الإمام إلا لعذر كما سيأتى فى بحث " إمام الجمعة".
(10) ويشترط نية الخطبة عند الحنفيين وأحمد ،فلو خطب بلا نية لا يعتد بالخطبة(2).
__________
(1) ص348 ج1 كشاف القناع (يشترط لصحتها).
(2) تنبيه ) يؤخذ من هذا الشرط ومما قاله المالكية منأنه يشترط فى إمام الجمعة أن يكون هو الخطيب ،أنه لا تصح صلاة الجمعة ممن اكتفوا بسماع الخطبة من المذياع (الراديو) لاختلاف الخطيب والإمام عند المالكية ولعدم علم الخطيب أمام المذياع بالمساجد التى بها آلة الراديو حتى يقصدهم بالخطبة عند الحنفية والحنبلية ولأن الأصل فى مشروعية الجمعة استقلال اهل كل مسجد بغقمتها كما كانت تقام فى عهد المصطفى صلى الله عليهوسلم ،والخلفاء الراشدين والسلف الصالح ،وقد قال صلى الله عليه وسلم : " صلوا كما رايتمونى اصلى " . تقدم رقم 23 ص27 (ترتيب الفوائت).
(
وقد ورد) إلى إدارة مجلة نور الإسلام سؤال فى هذا المعنى نصه : جئ بجهاز راديو فى مسجد فى بلدنا يوم جمعة ،وأفتى بعض حضرات العلماء بأن صلاة الجمعة جائزة اعتماداً على الخطبة المذاعة فى الراديو من مصر ،واستمر المسلمون يصلون الجمعة بدون خطبةمن إمام المسجد اسابيع عدة . فنرجو أن تبينوا الحكم الشرعى فى صحة هذه الصلاة. وما العمل فى حكم الصلاة السابقة إذا أفتيتم ببطلانها؟
(فأجاب) الستاذ الجليل الشيخ محمد قطب البشبيشى واعظ مركز إمبابة بما نصه : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله (أما بعد) فإن صلاة الجمعة على هذه الصورة لا يعتد بها. وليس مع من أفتى بجوازها شبهة فضلا عن دليل والأدلة على بطلان مثل هذه الصلاة كثيرة ،ولكن يكفينا منها ما يأتى:
(أ) إن الجمعة شعيرة منأهم شعائر الدين ألزم الله أهل كل بلد – متى توفرت فيهم شروطها- بأدائها على سبيل الاستقلال ،أى بحيث يكون خطيبهم وإمامهم منهم وهذا هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف . فلو اكتفى أهل بلد بخطبة المذياع التى يلقيها خطيب بلد آخر وهو أجنبى عنه ،لصدق عليهم أنهم صلوا من غير خطبة يقوم بها خطيب منهم . وإذا عدمت الخطبة – على هذا الاعتبار- عدم الاعتداد بالصلاة قطعاً لاستعانتهم بغيرهم دون استقلالهم بجزئيات الجمعة.
(ب) إن الغرض من الخطبتين ليس إبلاغ الوعظ والإرشاد بأى طريق من طرق ا%فبلاغ حتى يكفى بصوت الخطيب دون حضوره مع المصلين بل الغرض من الخطبتين الوعظ والإرشاد . وهناك مقصود آخر هو أعظم منما وهو رقابة الإمام واطلاعه على حالة المصلين بحيث يمكنه أن ينكر ما عساه أن يبدر منهم مما يخالف الدين وليوجه إليه السؤال الضرورى إذا اضطر إليه بعض المصلين ،وعلى هذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلفت نظر بعض المصلين حين ترك ما هو مطلوب منه وقت دخوله المسجد تارة . وسأله بعض الحاضرين عنأمور هامة فأجابه تارة أخرى . يعلم هذا كله من اطلع على السنة الصحيحة.
(حـ) إن الخطيب كالطبيب يجب أن يواجه المريض ويفحص حالته بنفسه . ولهذا تتبين الحكمة فى اشتراط بعض الأئمة أن يكون الخطيب فقد اكتفى باطلاعه على الحاضرين ساعة وجوده بينهم خطيباً ووعظهم ،وأما الخطيب الغائب فقد وجد صوته دون رقابته وجزء العلة لا يكفى كمال هو معلوم .
(د) إن الخطبة عند بعض الأئمة معتبرة كركعتين لتكمل مع ركعتى الجمعة ظهر يومها . ولهذا اشترط فى الخطيب ما اشترط فى الإمام من وجوده مع المصلين بمكان واحد. ووجود الخطيب بالقاهرة والمصلون ببلد آخر مضيع لهذا الشرط ويفقده لا نتوقف فى الحكم ببطلان المعة كما هو افترق المكان بالإمام والمصلين سواء بسواء .
(هـ) يشترط فى بعض المذاهب أن يكون الخطيب هو الإمام إلا لعذر شديد . وحيث لا عذر هاهنا،فلا يصح أن يكون الخطيب غير الإمام .
(و) إن أداء الصلاة بهذه الكيفية مناف لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " صلوا كما رايتمونى أصلى" 019) وبالبداهة نعلم أنالمراد بالصلاة فى الجمعة هو ذلك الأمر المركب من ركعتى الجمعة والخطبة لما بينهما منالارتباط الوثيق ،بل إن كثيراً منالعلماء اعتبروا الخطبة كأذكار الصلاة المتصلة بها كتكبيرة الإحرام والفاتحة ،فاشترطوا الطهارة الكاملة للخطيب،وكذلك هو مناف لقوله صلى الله عليه وسلم : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد "(*) (20).
(ز) إن هذه الخطبة قد ضيعت على المصلين معظم السنن والآداب كاستقبال الحاضرين للخطيب ولحظه بالعيون وتضييع سنن الخطبة وآدابها على جمع كبير ليس بالأمر الهين فى الدين .
(وأما حكم) الصلاة السابقة فهى صحيحة لعذر المصلين فى تقليد عالمهم .أهـ. من العدد السابع عشر الصادر فى غرة ذى القعدة سنة 1956هـ.
(اقول) ولعل شبهة من أفتى بصحة صلاة الجمعة اعتماداً على الخطبة المذاعة فى الرادية أنه راعى القول بأن الخطبة سنة. ولكن لا يخفى ما يترتب على ترك السنة وعدم الاهتمام بشأنها من الفساد وضياع أحكام الدين حكماً بعد حكم (قال) عبد الله بن الديلمى : بلغنى أن أول ذهاب الدين ==ترك السنة ،يذهب الدين سنة سنة كما يذهب فى دينهم إلا نزع الله من سننهم مثلها ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة (2) (وقال) ابو قلابة : ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف( 3) أخرج هذه الاثار الديلمى ص45 ج1 ( .اتباع السنة).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) أخرجه مسلم وابو داود وابن ماجه عن عائشة .انظر رقم 22 ص37 فتاوى أئمة المسلمين .(1/186)
(وقالت) الشافعية : يشترط عدم الصارف ،فلو عطس وحمد الله لعطاسة أو سبح تعجباً ، لم يكف عند الأولين ، لعدم قصد الخطبة . وعند الشافعية للصارف . وعند المالكية وتشترط نية الخطبة .
(11) ويشترط القيام فيها للقادر عند مالك والشافعي والجمهور وأحمد في رواية ( لحديث ) ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم الجمعة قائماً ثم يقعد فيخطب . أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني في الكبير والاوسط بسند رجاله ثقات(1).
( ولحديث ) أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يخطبون يوم الجمعة قياماً يفصلون بينهما بجلوس ، حتى جلس معاوية في الخطبة الأولى وخطب في الاثنية قائماً . أخرجه الشافعى(2). [185]
وجلوس معاوية في الخطبة كان لضرورة كثرة لحمه .
( روى ) الشعبي أن معاوية إنما خطب قاعداً لما كثر شحم بطنه ولحمه . أخرجه ابن أبي شيبة(3). (52)
( وقال ) الحنفيون وأحمد في رواية عنه : القيام في الخطبة سنة ، لأنه الثابت من فعله صلى الله عليه وسلم وفعل الخلفاء الراشدين بعده ، وليس بفرض ، لأن الفعل بمجرده لا يفيد الفرضية ( وهذا ) هو الظاهر .
قال أبو محمد عبد الله بن قدامة : وقوله ( أي الخرقي ) خطبهم قائماً يحتمل أنه أراد اشتراط القيام في الخطبة ، وأنه متى خطب قاعداً لغير عذر لو تصح . ويحتمله كلام أحمد رحمه الله .
قال الأثرم سمعت ابا عبد الله يسأل عن الخطبة قاعداً أو يقعد في إحدى الخطبتين ، فلم يعجبه وقال : قال الله تعالى : (( وتركوك قائماً )) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً فقال له الهيثم بن خارجة : كان عمر بن عبد العزيز يجلس في خطبته فظهر منه إنكار ، وهذا مذهب الشافعي .
__________
(1) انظر ص 89 ج 6 الفتح الرباني . وص 187 ج 2 مجمع الزائد ( الخطبة قائماً ) .
(2) انظر ص 162 ج 1 بدائع المنن .
(3) ص 272 ج 2 فتح الباري ( الخطبة قائماً ) .(1/187)
وقال القاضي : يجزيه الخطبة قاعداً ، وقد نص عليه أحمد ، وهو مذهب أبي حنيفة ، لأنه ذكر ليس من شرطه الاستقبال فلم يجب له القيام كالآذان(1).
( وما يدل ) على عدم وجوب القيام في الخطبة أن كعب بن عجرة دخل المسجد وعبد الرحمن بن أم حكيم يخطب قاعداً ، فقال : انظروا الى هذا الخبيث قاعداً والله تعلاى يقول : " وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها وتركوك قائماً " أخرجه مسلم والنسائي(2). (53)
__________
(1) انظر ص 150ج 2 مغنى ( القيام في الخطبة ) .
(2) ص 152 ج 6 نووي مسلم وص 207 ج1 مجتبي ( قيام الامام في الخطبة ) " وتركوك قائماً " حاصله أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء سعر فقدم دحية بن خليفة الكلبي من الشام بتاجارة فيها ما يحتاج اليه الناس من بر ( القمح ) ودقيق وزيت وغيرها ، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة . فلما علموا بقدوم دحية قاموا اليه بالبقيع ، ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا رهط منهم أبو بكر وعمر ، فنزلت الآية . (قال) جابر بن عبد الله : قدمت عير مرة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فخرج الناس وبقى اثنا عشر منهم أبو بكر وعمر رضى الله عنهما فنزلت : (( وإذا رأوا تجارة أو لهو انفضوا إليها )) أخرجه أحمد والشيخان والترمذي . أنظر ص 305 ج 18 الفتح الرباني .وص 172 ج1 تيسير الوصول (سورة الجمعة ) (4) قال ابن كثير : قد قيل إن هذه القصة كانت لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الصلاة يوم الجمعة على الخطبة . (قال) مقاتل بن حيان : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي يوم الجمعة قبل الخطبة مثل العديدين حتى إذا كان يوم والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب وقد صلى الجمعة فدخل رجل وقال : إن دحية بن خليفة قدم بتجارة فانفضوا ولم يبق معه إلا نفر يسير . أخرجه أبو داود في المراسيل ص 361 ج 8 تفسير ابن كثير . (21)(1/188)
ولم يحكم هو ولا غيره ببطلان الخطبة ، فعلم أن القيام فيها ليس بشرط بل هو سنة أو واجب ، كما قاله بعض الحنفيين .
(12) والجلوس بين الخطبتين شرط عند الشافعية ، ( لقول ) جابر ابن سمرة : كان النبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما ، يقرأ القرآن ويذكر الناس . أحمد ومسلم والدرامي والبيهقي والأربعة إلا الترمذي(1).
( ولقول ) ابن عمر : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة مرتين بينهما جلسة . أخرجه أحمد وابن ماجه(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... [187]
(وقال) الجمهور : الجلوس بين الخطبتين سنة ، لأن مجرد فعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يدل على الوجوب .
( قال ) أبو محمد عبد الله بن قدامة : وروي عن أبي إسحق قال : رأيت علياً يخطب على المنبر فلم يجلس حتى فرغ . (54)
وجلوس النبي صلى الله عليه وسلم كان للاستراحة ، فلم تكن واجبة كالجلسة الأولى ( أي التي قبل الخطبة ) ولكن يستحب . فإن خطب جالساً لعذر فصل بين الخطبتين ، وكذلك إن خطب قائماً فلم يجلس .
(قال) ابن عبد البر : ذهب مالك والعراقيون وسائر الفقهاء إلا الشافعي أن الجلوس بين الخطبتين لا شيء على من تركه(3).
(
__________
(1) ص 90 ج 6 الفتح الرباني . وص 149 ج 6 نووي مسلم ( ذكر الخطبتين والجلسة بينهما ) وص 366 ج 1 سنن الدرامي ( القعود بين الخطبتين ) وص 210 ج 3 سنن والبيهقي . وص 255 ج 6 المنهل العذب ( الخطبة قائماً ) وص 209 ج 1 مجتبي ( القراءة في الخطبة ...) وص 188 ج 1 سنن ابن ماجة ( الخطبة يوم الجمعة ) .
(2) ص 89 ج 6 الفتح الرباني . وص 177 ج 1 سنن ابن ماجة ( الخطبة يوم الجمعة ) .
(3) ص 153 ج 2 مغنى ابن قدامة ( الجلسة بين الخطبتين ) .(1/189)
هذا) ويشترط في الخطيب غير ما تقدم أن يكون عالماً بالعقائد الصحيحة حتى لا يزيغ ولا يضل الناس بسوء عقيدته، وأن يكون عالماً بما تصح به الصلاة ، وينبغي أن يكون ملماً بأحكام الفقه ليتمكن من إجابة من يساله عن بينة ، ويرشده بنور الشريعة الى الصراط المستقيم ، ولا يخبط خبط عشواء في أمور الدين .
أركان الخطبة :
ركنها عند مطلق النعمان مطلق ذكر الله تعالى بنيتها . فيكفى فيها تسبيحة أو تحميدة أو تهليلة أو تكبيرة ( لقوله ) تعالى : " فاسعوا إلى ذكر الله " فدل على أن الركن مطلق الذكر طويلاً أو قصيراً .
(وقد) روى عن عثمان بن عفان رضى الله عنه لما خطب في أول جمعة ولى الخلافة صعد المنبر فقال : الحمد لله . فأرتج عليه ، فقال : إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالاً ، وإنكم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى قوال ، وستأتيكم الخطب بعد ، وأستغفر الله لي ولكم ، ونزل وصلى ولم ينكر عليه أحد . قاله ابن الهمام(1). (55)
فكان إجماعاً منهم على الإكتفاء بهذا القدر وأن الطول المسمى خطبة في العرف ليس بشرط ، فكان الشرط مطلق الذكر . فلو اقتصر على قوله : الحمد لله ، أو سبحان الله ، أو لا إله إلا الله ، أو نحو ذلك ، أجزأ مع الكراهة التنزيهية ، لمخالفته المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو المواظبة على الذكر المسمى خطبة ، المشتمل على التحذير وغيره ، فكان هذا واجباً أو سنة لا ركناً .
( وقالت ) المالكية والأوزاعي وإسحاق وأبو يوسف ومحمد : ركنها الذكر الطويل المشتمل على التحذير وتبشير المسمى خطبة عرفاً . واقله قدر التشهد أو ثلاث آيات ، لأن التسبيحة ونحوها خطبة عرفاً ولا لغة .
(
__________
(1) انظر ص 415 ج 1 فتح القدير ( صلاة الجمعة ) ، ( فأرتج عليه ) أي لم يقدر على اتمام الخطبة : يقال : أرتج على القارىء بالبناء للمفعول إذا لم يقدر على القراءة .(1/190)
وقالت ) الشافعية والحنبلية : أركانها الحمد لله ، والصلاة على رسول الله ، والوصية بالتقوى في كل من الخطبتين ،وقراءة آية من القرآن في إحداهما ، وكذا الدعاء للمؤمنين والمؤمنات بأخروى في الثانية عند الشافعية .
(قال) أبو محمد عبد الله بن قدامة : ويشترط لكل واحدة منهما الله تعالى والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم قال : كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر(1). [188]
وإذا وجب ذكر الله تعالى وجب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، لما روى في تفسير قوله تعالى : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } . قال : لا أذكر إلا ذكرت معي(2). [189]
(ويحتمل) ألا تجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر في خطبة ذلك ( أما القراءة) فقال القاضي : يحتمل أن تشترط في إحداهما 6، لما روي الشعبي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة استقبل الناس فقال : السلام عليكم ، ويحمد الله ويثنى عليه ، ويقرأ سورة ثم يجلس ، ثم يقوم ويخطب ثم ينزل . كان أبو بكر وعمر يفعلانه . رواه الأثرم. [190]
(وظاهر ) هذا أنه إنما قرأ في الخطبة الأولى ووعظ في الخطبة الثانية ، وظاهر كلام الخرقي أن الموعظة إنما تكون في الخطبة الثانية لهذا الخبر .
__________
(1) أخرجه ابن ماجة والبيهقي عن أبي هريرة بلفظ : كل أمر ذي بال لا يبدا فيه بالحمد لله فهو أقطع . انظر رقم 6282 ص 13 ج 5 فيض القدير .
(2) روي أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل عليه السلام عن هذه الآية (ورفعنا لك ذكرك) : قال الله تعالى : إذا ذكرت ذكرت معي .
أخرجه البغوى وابن جرير وأبو يعلى : انظر ص 217 ج 5 هامش تفسير ابن كثير(22) .(1/191)
وقال القاضي : تجب في الخطبتين ، لأنها بيان المقصود من الخطبة ، فلم يجز الإخلال بها(1)
سنن الخطبة :
هي كثيرة المذكور منها هنا ثمان عشرة :
( 1 ) سلام الخطيب على الحاضرين قبل صعوده المنبر عند الشافعي وأحمد
( 2 ، 3 ) واستقبالهم وسلامه عليهم بعد صعوده المنبر اتفاقاً (لقول ) ابن عمر : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دنا من منبره يوم الجمعة سلم على من عنده من الجلوس ، فإذا صعد المنبر استقبل الناس بوجهه ثم سلم قبل أن يجلس )) أخرجه البيهقي وحسنه . [ 191]
( ولقول ) سلمة بن الأكوع : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبتين وجلس جلستين . وحكى الذي حدثني قال : استوى صلى الله عليه وسلم على الدرجة التي المستراح قائماً ثم وجلس على المستراح حتى فرغ المؤذن من الأذان ، ثم قام فخطب الخطبة الأولى ، ثم جلس ثم قام فخطب الثانية .أخرجه الشافعي .(2)[192]
دل ما كان : (أ) على أنه يسن للخطيب إذا صعد المنبر أن يسلم على الحاضرين ويستقبلهم . وهو متفق عليه .
(ب) على أنه يسن سلام الإمام على من عند المنبر قبل صعوده . وبه قال الشافعي وأحمد (وقالت) المالكية والحنفية : لا يسن سلامه على من عند المنبر . والحديث حجة عليهم .
( 4 ) ويسن الجلوس على المنبر قبل الخطبة حتى يفرغ المؤذن ، لما تقدم ، ومنه ما في الحديث ابن عمر قال : كان النبي صلى الله علية وسلم يخطب خطبتين ، كان يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن ( الحديث)(3))وهذا مجمع عليه .
(
__________
(1) ص 151 ج 3 مغني .
(2) انظر ص205 ج 3 سنن البيهقي (الإمام إذا صعد المنبر ...) .
(3) قدم رقم 183 ص 188 (خطبة الجمعة) .(1/192)
5-12 ) ويسن ابتداء الخطبتين بالحمد لله وذكر الشهادة لله بالوحدانية وللنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة . والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم . والإتيان بأما بعد ، واشتمالها على الغيصاء بالتقوى وعلى آية قرآنية ، ,ان يدعو في الخطبة الثانية للمؤمنين والمؤمنات .
(وبهذا ) قال الحنفيون ومالك ، وكذا الشافعية والحنبلية في غير ما عدوه مما ذكر ركناً في الخطبة ، كالحمد لله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهما مما تقدم (لما روي) الحسن بن زياد عن أبى حنيفة رحمة الله أنه قال : ينبغي أن يخطب خطبة خفيفة يفتتح بحمد الله ويثنى عليه ويتشهد ويصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ويعظ ويذكر ويقرأ سورة (أي آية) ثم يجلس جلسة خفيفة . ثم يقوم فيخطب خطبة أخري يحمد الله تعالى ويثني عليه ويتشهد ويصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو للمؤمنين والمؤمنات . ذكره علاء الدين الكاساني(1).
تقدم عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله تعالى فهو أبتر(2).
(وقال) أبو هريرة : قال أن رسول الله عليه وسلم : كل خطبة ليس بها شهادة كاليد الجذماء . أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه(3). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... [193]
وفي سنده عبد الواحد بن زياد . قال الذهبي : ثقة وقال ابن معين : ليس بشيء .
(
__________
(1) ص 263 ج 11 بدائع الصنائع (سنن الخطبة) .
(2) تقدم رقم 188 ص 198 (أركان الخطبة) .
(3) ص 85 ج 6 الفتح الرباني . وص 261 ج 4 سنن أبى داود (في الخطبة كتاب الأدب) وفيه تشهد بدل شهادة أي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله .
و(الجذماء) المقطوعة : أي أن الخطبة الخالية من الشهادتين ناقصة وقليلة البركة .(1/193)
وقال) جابر بن عبد الله : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه بها هو له أهل ، ثم قال : أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وإن أفضل الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة . ثم يرفع صوته وتحمر وجنتاه ويشتد غضبه إذا ذكر الساعة كأنه منذر جيش ، ثم يقول : أتتكم الساعة ، بعثت أنا والساعة هكذا ، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطي ، صبحتكم الساعة ومستكم . من ترك مالا فلأهله ، ومن ترك ديناً فالي وعلى . والضياع يعني ولده المساكين . أخرجه مسلم وأحمد وهذا لفظه(1). ... ... ... ... ... ... ... [194]
(
__________
(1) ص153 ج 6 نووي مسلم . ص 86 ج 6 الفتح الرباني . و(الهدي) بفتح فسكون وهو الطريق ، أي أحسن الطريق محمد صلى الله عليه وسلم . وروي بضم ففتح ومعناه الدلالة والإرشاد وهو الذي يضاف إلى الرسل والقرآن ، قال تعالى : ( وإنك لنهدي إلى صراط مستقيم ) . وقال ( إن هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم) . وقد يضاف إلى الله تعالى ويكون بمعنى اللطف والتوفيق والعصمة ، قال تعالى (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء) . و(المحدثات) جمع محدثة وهي ما لا دليل عليه من كتاب ولا سنة و لا إجماع . و (المنذر) المعلم والمخوف من الإنذار ، معني أنه صلى الله عليه وسلم كان يخوفهم من قيام الساعة وقربها ، ليستعدوا لها بطاعة الله واجتناب المعاصي ، كما يخوف الجيش بهجوم العدو ليستعد للقائه (وأشار بإصبعيه) أي قرب بينهما إشارة إلى قرب ما بين البعثة والساعة ، وأن التفاوت بينهما كالتفاوت بين الإصبعين تقريباً لا تحديداً . و(ضياعاً) بفتح الضاد المعجمة : فسرها الراوى بقوله : ولده (أي المتوفى) المساكين (فإلى ) أي إلى تربية أولاده (وعلى) قضاء دينه .(1/194)
وعن ابن عباس ) أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوماً فقال : إن الحمد لله نستعينة ونستغفره ، ونستهديه ونستنصره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل بلا هادى له. واشهد أن لا إله إلا الله ،وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. من يطع الله ورسوله فقد رشد،ومن يعص الله ورسوله فقد غوى حتى يفئ إلى أمر الله .أخرجه الشافعى فى مسنده(1) . [195].
(ولصلاة )على النبى صلى الله عليه وسلم وإن لم تثبت فى خطبه إلا أنها ثبتت من عمل الصحابة . قال أبو جحيفة : صعد علىّ رضى الله عنه المنبر وحمد الله واثنى عليه وصلى على النبى صلى الله عليه وسلم (الأثر) أخرجه عبد الله ابن أحمد(2) . (56).
وسيأتى أن ابا بكر رضى الله عنه قال فى خطبته : اللهم صل على محمد عبدك ورسولك افضل ما صليت على أحد من خلقك(3) وأن عمر رضى الله عنه صلى على النبى صلى الله عليه وسلم فى خطبته(4) .
(
__________
(1) ص163 ج1 بدائع المنن .
(2) ص256 جلاء الأفهام . وأما :
(أ ) ... ما روى ابو هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: كل أمر ذى بال لا يبدأ فيه بحمد الله والصلاة على فهو اقطع أبتر ممحوق من كل بركة (فقد) أخرجه عبد القادر الرهاوى " بضم الراء أو بفتحها " فى الأربعين وقال: غريب تفرد بذكر اللاة فيه إسماعيل بن زياد وهو ضعيف جداً لا يعبر بروايته ولا بزيادته ،وقال الدارقطنى : متروك يضع الحديث ز وقال التاج السبكى : حديث غي ثابت ز وقال القسطلانى : فى إسناده ضعفاء ومجاهيل . انظر ص14 ج5 فيض القدير شرح الجامع الصغير (23).
(ب ) ... أما قول ابن الزبير: ليس من سنة الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر ، فقد أخرجه الطبرانى فى الكبير وفى سنده ليث بن أبى سليم وهو مدلس انظر ص188 ج2 مجمع الزوائد (الخطبة والقراءة فيها) (5).
(3) يأتى فى الخطبة رقم 23 اثر 64 .
(4) يأتى فى الخطبة رقم 26 أثر 67 .(1/195)
وعن سمرة) بن جندب أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يستغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات .أخرجه الطبرانى فى الكبير والبزار ،وقال : لا نعلمه عن النبى صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد ،وفيه يوسف بن خالد السمتى وهو ضعيف(1) . [196].
(13) ويسن للناس استقبال الإمام حال الخطبة (لحديث) عدى بن ثابت عن أبيه قال: كان النبى صلى الله عليه سلم إذا قام على المنبر استقبله احابه بوجوههم .اخرجه ابن ماجه بسند رجاله ثقات إلا أنه مرسل ،وأخرجه الترمذى عن ابن مسعود قال: كان رسول الله صلى اله عليه وسلم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا . وفى سنده محمد ابن الفضل بن عطية وهو ضعيف(2) . [197].
والأحاديث هنا وإن كانت ضعيفة يقويها عمل السلف على مقتضاها .
(قال) الترمذى : والعمل على هذا عند أهل العلم منأصحاب النبى صلى الله عليه وسلم وغيرهم ، يستحبون استقبال الإمام إذا خطب .أهـ . وهو قول الأئمة الأربعة وسفيان الثورى والأوزاعى وإسحاق.
(قال) الأثرم: قلت لأبى عبد الله أحمد بن حنبل : يكون الإمام متباعداً ، فإذا أردت أن أنحرف إليه حولت وجهى عن القبلة . فقال: نعم تنحرف إليه(3) .
(والحكمة) فى ذلك أنهبلغ فى الاستماع فاستُحِبّ كاستقبال الإمام للمأمومين (قال) العلامة الصنعانى: والحديث (أى حديث ابن مسعود) يدل على أن استقبال الناس الخطيب مواجهين له أمر مستمر ،وهو فى حكم المجمع عليه ،وجزم بوجوبه أبو الطيب من الشافعية(4) .
(
__________
(1) ص190 ج2 مجمع الزوائد (الاستغفار للمؤمنين يوم الجمعة)..
(2) ص180 ج1 سنن ابن ماجه (استقبال الإمام وهو يخطب ) وص363 ج1 تحفة الأحوذى .
(3) ص186 ج2 الشرح الكبير لابن قدامة.
(4) ص82 ج2 سبل السلام . شرح الحديث رقم 28 من (باب الجمعة).(1/196)
14) ويسن أن يخطب على منبر أو مكان مرتفع ،لأن النبى صلى الله عليه وسلم كان يخطب على منبر . ويستحب كونه صغيراً ثلاث درجات بالمقعدة كما كان منبر النبى صلى الله عليه سلم . وتقدم بيانه(1) .
(15) ويستحب أن يكون المنبر عن يمين الإمام كما كان منبر النبى صلى الله عليه وسلم.
(16) ويسن- عند الجمهور- اتماد الخطيب حال خطبته على نحو قوس أو عصا (لحديث) الحكم بن حزن الكلفى قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليهوسلم سابع سبعة أو تاسع تسعة ، فدخلنا عليه فقلنا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة أو تاسع تسعة ، فدخلنا عليه فقلنا : يا رسول الله زرناك فادع الله لنا بخير ، فدعا لنا بخير وأمر بنا فأنزلنا ، وأمر لنا بشئ منالتمر والشأن غذ ذاك دون ، فلبثنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم اياماً شهدنا فيها الجمعة، ، فقام متوكئاً على عصاً أو قوس ، فحمد الله وأثنى عليه بكلمات خفيفات طيبات مباركات ، ثم قال : ايها الناس ، إنكم لن تطيقوا أو لن تفعلوا كل ما أُمرتم به ولكن سددوا وابشروا .اخرجه أحمد وأبو داود والبيهقى وابو يعلى بسند جيد وصححه ابن خزيمة وابن السكن ، وحسن الحافظ سنده(2) . [198].
__________
(1) تقدم برقم 12 من بدع المساجد صفحة 308 الدين الخالص ج3 .
(2) ص92 ج6 الفتح الربانى . وص256- 6 المنهل العذب (الرجل يخطب على قوس ) وص206 ج3 سنن البيهقى . و(حزن) بفتح فسكون. و(الكلفى) بضم ففتح : نسبة إلى بنى كلفة بن حنظلة بن مالك . و( دون) أى والحالة إذ ذاك حال إعسار وضيق من العيش و(سددوا) أى الزموا السداد وهو الصواب من غير إفراط ولا تفريط (وأبشروا) بالثواب على العمل الصالح الدائم وإن قل. والمراد تبشير من عجز عن العمل بالأكمل بأن العجز إذا لم يكن من صنيعه لا يستلزم نقص أجره . وأبهم المبشر به تعظيماً له وتفخيماً .(1/197)
وحكمة ما ذكر ما فيه من البعد عن العبث باليد وانه اثبت للقلب (واختلف) العلماء بأى اليدين يعتمد على العصا أو القوس ؟
(والظاهر) قول مالك: يستحب أخذ ما يعتمد عليه بيده اليمنى (لقول) عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيامن فى ترجله وتنعله وطهوره وفى شأنه كله .أخرجه أحمد والشيخان(1) .[199]
(قال) الإمام ابن القيم : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتمد على قوس أو عصاً قبل أن يتخذ المنبر. وكان فى الحرب يعتمد على قوس ،وفى الجمعة يعتمد على عصاً . ولم يحفظ عنه أنه اعتمد على سيف (وما يظنه) بعض الجهال أنه كان يعتمد على السيف دائماً ،وأن ذلك إشارة إلى أن الدين قام بالسيف( فمن فرط) جهله القبيح من وجهين :
(أحدهما9 أنالمحفوظ أنه صلى اللهعليه وسلم توكأ على العصا وعلى القوس .
(الثانى) أن الدين إنما قام بالوحى ،أما السيف فلمحق اهل الضلال والشرك ،ومدينة النبى صلى الله عليه وسلم التى كان يخطب فيها افتتحت بالقرآن ولم تفتح بالسيف ،ولا يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه بعد اتخاذ المنبر كان يرقاه بسيف ولا قوس ولا غيره ،ولا قبل اتخاذه أنه اخذ بيده سيفاً ألبتة ،وإنما كان يعتمد على عصاً أو قوس(2) .
ويؤيده (حديث) عمار بن سعد قال: حدثنى أبى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب فى الحرب خطب على قوس ،وإذا خطب فى الجمعة خطب على عصاً .أخرجه ابن ماجه والبيهقى(3) . [200].
وفى سنده عبد الرحمن بن سعد وهو ضعيف .
(
__________
(1) ص5ج2- الفتح الربانى. وص189 ج2 فتح البارى (التيمن فى الوضوء والغسل) وص160 ج2 نووى مسلم (حبه صلى الله عليه وسلم للتيامن ) و( الترجل) تسريح الشعر.
(2) ص177 ج1 زاد المعاد (هديه صلى الله عليه وسلم فى خطبة ).
(3) ص177 ج1 سنن ابن ماجه (فى الخطبة يوم الجمعة) وص206 ج3 سنن البيهقى (الإمام يعتمد على عصاً أو قوس..).(1/198)
وقال) ابن جريح : قلت لعطاء : أكان النبى صلى الله عليه وسلم يقوم على عصاً إذا خطب ظ قال: نعم كان يعتمد عليها اعتماداً .اخرجه الشافعي والبيهقى مرسلا(1) . [201].
(17) ويسن للخطيب رفع صوته لإسماع الحاضرين ،وإظهار الشهامة ، وتفخيم أمر الخطبة ،والإتيان فيها بجزيل الكلام (لما تقدم) فى حديث جابر ابن عبد الله(2) .
(وقال) جابر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه ،وعلا صوته ،واشتد غضبه ،كأنه منذر جيش ،يقول : صبحكم ومساكم (الحديث) أخرجه مسلم(3) . [202].
(وهذا) متفق عليه ، فيستحب كون الخطبة فصيحة بليغة مرتبة مبينة من غير تمطيط ولا تقعير،ولا تكون ألفاظاً مبتذلة ملفقة ، فإنها لا تقع فى النفوس موقعاً كاملاً ،ولا تكون وحشية ،لأنه لا يحصل مقصودها ، بل يختار ألفاظاً جدلة مفهومة(4) .
(18) ويسن تقصير الخطبة قصراً معتدلا حتى لا يملها الناس (لقول)جابر بن سمرة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطيل الموعظة يوم الجمعة، إنما هى كلمات يسيرات .اخرجه أبو داود والحاكم والبيهقى بسند رجاله ثقات(5) . [203].
(
__________
(1) ص162 ج1 بدائع المنن. وص206 ج3 سنن البيهقى.
(2) تقدم رقم 194 ص201..
(3) ص153 ج6 نووى مسلم (خطبته صلى الله عليه وسلم فى الجمعة ) و( صبحكم ومساكم ) أى أتاكم العدو وقت الصباح والمساء .
(4) ص528 ج4 شرح المهذب.
(5) ص271 ج6 المنهل العذب (إقصار الخطبة ) ،وص289 ج1 مستدرك . وص208 ج3 سنن البيهقى (القصد فى الكلام).(1/199)
ولقول) عمار بن ياسر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة .اخرجه أحمد ومسلم(1) . [204].
(ولقول) عبد الله بن أبى أوفى :كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيل الصلاة ويقصر الخطبة . اخرجه النسائى بسند صحيح(2) . [205].
(ولقول) أبى راشد: خطبنا عمار بن ياسر فتجوز فى خطبته ،فقال رجل من قريش : لقد قلت قولا شفاء فلو أنك أطلت ؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن نطيل الخطبة . أخرجه بسند جيد(3) .
[206].
ويستحب للخطيب ألا يحضر للجمعة إلا بعد دخول الوقت بحيث يشرع فيها أول وصوله المنبر ،لأن هذا هو المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإذا وصل المنبر صعده ولا يصلى تحية المسجد ، وتسقط بسبب الاشتغال بالخطبة ، كما تسقط فى حق الحاج إذا دخل المسجد الحرام بسبب الطواف .
(وقال) بعض الشافعية : تستحب له تحية المسجد ركعتان عند المنبر ،والمذهب أنه لا يصليها لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه صلاها ،ولم يذكر الشافعى وجماهير الأصحاب التحية ،فظاهر كلامه أنه لا يصليها(4) .
(
__________
(1) ص91 ج6 الفتح الربانى . وص158 ج6 نووى مسلم (صلاة الجمعة وخطبتها) و(مئنة) بفتح فكسر وشد النون مفتوحة ،أى أن قصر الخطبة علامة على فقه الرجل،لأن الفقيه هو المطلع على جوامع الألفاظ ،فيمكن بذلك من التعبير باللفظ المختصر عن المعانى الكثيرة (واقصروا)أمر من قصر من باب نصر ،والأمر بتطويل الصلاة هنا ينافى الأحاديث الآمرة بتخفيف الصلاة ،لأن المراد هنا أن الصلاة تكون طويلة بالنسبة للخطبة لا طول يشق على المأمومين . وهى حينئذ معتدلة .
(2) ص209 ج1 مجتبى ( تقصير الخطبة)..
(3) ص91 ج6 الفتح الربانى . و(شفاء) أى أن الخطبة كانت مؤثرة وشافية لأمراض القلوب . .
(4) ص529 ج4 شرح المهذب.(1/200)
وينبغى)أن يكون الخطيب ملماً باللغة العربية خصوصاً علم الإنشاء ليقتدر على تأليف كلام بليغ ، ينير به أفئدة السامعين ،وان يكون نبيهاً ، لا تعزب عنه شاردة ولا واردة ،لسناً فصيحاً معباً عما يخطر بباله من المعانى والأسرار . وأن يكون وجيهاً تهابه القولب وتعظمه النفوس حتى يكون لكلامه تأثير فيها ، ويجد له سميعاً يعى ما يقال ويعمل بما يسمع . وأن يكون صالحاً ورعاً قنوعاً غير متجاهر بمعصية ولا مرتكباً مخالفة ،عاملا بما يقول ، فإن ذلك أدعى إلى قبول موعظته والعمل بها. قال الإمام أبو الأسود الدؤلى رضى الله عنه :
يأيها الرجل المعلم غيره ... ... هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذى السقام وذى العنا(1) ... كيما يصح به وأنت سقيم
ونراك تصلح بالشاد عقولنا ... ... أبداً وأنت من الرشاد عديم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
وهناك يقبل ما تقول ويشتفى ... ... بالقول منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتى مثله ... ... عار عليك إذا فعلت عظيم
(وقد) حذر الله تعالى من القول بلا عمل فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ؟. كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ }(2)
مكروهات الخطبة:
يكره فيها ترك سنة منهذه السنن ، وتغميض الخطيب عينيه ،ودقة المنبر بما فى يده من قوس أو عاً ؛ فإن هذا باطل لا أصل له وبدعة قبيحة.
__________
(1) العناء: المشقة . يقال : عنى يعنى من باب تعب إذا أصابه مشقة .
(2) سورة الصف : آية 2، 3.(1/201)
دويكره- عند مالك والشافعى وجماعة – رفع يديه حال الدعاء بل يقتصر على رفع السبابة (لقول) حصين بن عبد الرحمن السلمى : كنت إلى جنب عمارة ابن رؤيبة السلمى وبشر يخطبنا ،فلما دعا رفع يديه فقال عمارة : قبح الله هاتين اليدين ،رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب إذا دعا يقول هكذا ورفع السبابة وحدها .أخرجه أحمد ومسلم والبيهقى والثلاثة : وقال الترمذى : هذا حديث حسن صحيح(1). [208].
(قال) القاضى عياض : كره مالك وقوم من السلف رفع اليدين فى الخطبة لهذا الحديث ،لأنه صلى الله عليه وسلم لم يزد على الإشارة بالمسبحة.
وأجازه بعض اصحابنا وآخرون ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رفعهما فى خطبة الجمعة حين استسقى(2). أهـ.
(وأجاب) المانعون بأن رفعه فى الاستسقاء لا يستلزم طلب رفع اليدين حال خطبة الجمعة . فقد تركه صلى الله عليه وسلم مع قيام المقتضى وهو التشلايع وعدم المانع ، فكان الترك سنة والرفع بدعة .
(ويكره) تباطؤ الخطيب حال صعود المنبر ودعاؤه مستقبل القبلة قبل جلوسه ،وربما توهم بعض جهلة الخطباء أنها ساعة إجابة الدعاء ، وذلك خطأ لما تقدم فى موضعه .
(ومن) مكروهات الخطبة : الالتفات فى الخطبة الثانية عند الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم ،وهو باطل مكروه .
(ومنها) المجازفة فى أوصاف السلاطين فى الدعاء لهم وكذبهم فى كثير من ذلك ،كقولهم :السلطان العالم العادل ونحوه.
(ومنها) مبالغتهم فى الإسراع فى الخطبة الثانية وخفض الصوت بها(3) .
(
__________
(1) ص93 ج6 الفتح الربانى . وص162 ج6 نووى مسلم . وص210 ج3 سنن البيهقى (يدعو فى خطبته ). وص268 المنهلالعذب (رفع اليدين على المنبر) وص209 ج1 مجتبى (الإشارة فىالخطبة ) وص268 ج1 تحفة الأحوذى (كراهية رفع الأيدى علىالمنبر) و( بشر) هو ابن الحكم ابن أبى العاص بن أمية .
(2) ص269 ج6 المنهل العذب (رفع اليدين على المنبر).
(3) ص529 ج4 شرح المهذب.(1/202)
أما الدعاء) للسلطان بلا مبالغة وكذب فىالوصف فقد اختلف فيه العلماء : فأفتى العز بن عبد السلام بأنه بدعة غير محبوبة.
(وقال) الشيخ الصاوى: من جملة اللغو الدعاء للسلطان والترضى عن الصحب(1) .
وقال الشيخ الباجورى :ولا يسن الدعاء للسلطان بعينه كما فى شرح المنهج، بل مقتضى نالشافعى كراهته لقوله : ولا يدعو فى الخطبة لأحد بعينه ، فإن فعل ذلك كرهته . والمختار كما فى المجموع أنه لابأس به ، فقول المحشى (البرماوى) تبعاً للقليوبى . ويسن الدعاء للسلطان بعينه ضعيف ،ولا يجوز وصفه بالصفات الكاذبة(2) .
(وقال) ابن نجيم : وأما الدعاء للسلطان فى الخطبة فلا يستحب ،لما روى أن عطاء سئل عن ذلك ، فقال : إنه محدث ،وإنما كانت الخطبة تذكيراً(3) .
(وقال) ابو محمد عبد الله بن قدامة : ويستحب أن يدعو للمؤمنين والمؤمنات ولنفسه والحاضرين ،وإن دعا لسلطان المسلمين بالصلاح فحسن .
(وقد روى) ضبة بن محسن أن ابا موسى كان إذا خطب فحمد الله واثنى عليه وصلى على النبى صلى الله عليه وسلم يدعو لعمر وابىبكر .
وأنكر عليه ضبة البداية بعمر قبل الدعاء لبى بكر ،ورفع ذلك إلى عمر ، فقال لضبة: أنت أوثق منه وارشد .
(وقال) القاضى : لا يستحب ذلك لأن عطاء قال: هو محدث . وقد ذكرنا فعل الصحابة له وهو مقدم على قول عطاء ،ولأن سلطان المسلمين إذا صلح كان فيه صلاح لهم ، ففى الدعاء له دعاء لهم ، وذلك مستحب غير مكروه(4) .
(ومن المكروه) اتفاقاً ما يفعله المؤذون حال الخطبة من الترضى ونحوه، وكذا ما يكون منهم عند ذكر السلطان من قولهم بصوت مرتفع :آمين آمين ، نصره الله وأدامه ،وغير ذلك (فهو) بدعة سيئة وحرام.
__________
(1) ص156 ج1 بلغة السالك لقرب المسالك (الجمعة).
(2) ص226 ج1 حاشية الباجورى على ابن القيم .
(3) ص148 ج2 البحر الرائق (وسن خطبتان).
(4) ص157 ج2 مغنى (سنن الخطبة ).(1/203)
لما تقدم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كالحمار يحمل أسفارا والذى يقول له " أنصت" ليس له جمة(1)، ولما فيه من التهويش على المستمعين ،وكثيراً ما يتكلف فى ذلك حسن الألحان فتنصرف الآذان عن سماع الخطبة ،ويكره للخطيب التكلم حال الخطبة بكلام دنيوى كما فى الذان والإقامة بل أولى . ويكره له الإتيان بالكلمات الغربية والألفاظ البعيدة عنافهام السامعين (لقول) على رضى الله عنه : حدثوا الناس بما يعرفون ،أتحبون أن يكذب الله ورسوله ؟.أخرجه البخارى(2). (57).
(وعليه) فيطلب منالخطيب مراعاة حال الناس وتحذيرهم مما هم فيه غارقون منالبدع والمخالفات ،وأن لا يلتزمفى خطبته الطرق العتيقة من التزامالسجع والاهتمام بتحسين اللفظ وترك ما تقتضيه حال الحاضرين ، فإن التزام السجع قد يفوت عليه مقصوده ،ولولاه لأدى كل إنسان مراده بما يقدر عليه فيعم النفع .
(5) منهاج الخطابة(3)
هذا ، وإنى ذاكر للقارئ الكريم نموذجاً من خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح ، ليحذو حذوها فى الدعوة ونفع العامة ، وليعلم أنالتزام السجع بالطريقة التى عكف عليها الخطباء ليس بحسن :
(1) اول خطبة للنبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة
__________
(1) تقدم رقم 146 ص141 (الكلام حال الخطبة ) و( اسفار) كحمل وهو الكتاب . شبه من تكلم حال الخطبة بالحمار يحمل الكتب بجامع عدم الانتفاع .
(2) ص160 ج1 فتح البارى (من خص بالعلم قوماً ) و( حدثوا إلخ) أى كلموا الناس علىقدر عقولهم و( يكذب) بفتح الذال مشددة ،وذلك أن الشخص إذا سمع ما لم يفهمه منسوباً إلى الله ورسوله فلا يصدقه ويلزمه تكذيبهما .
(3) هذا الفصل السادس فصول الجمعة.(1/204)
قال ابن هشام فى سيرته : كانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنى عن ابى سلمة بن عبد الرحمن أنه قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ،ثم قال: أما بعد ايها الناس فقدموا لأنفسكم ، تعلمن والله ليصعقن أحدكم ، ثم ليدعن غنمه ليس لها راع ، ثم ليقولن له ربه :ألم يأتك رسولى فبلغك ؟ وآتيتك مالا وافضلت عليك ، فما قدمت لنفسك ؟ فلينظرن يميناً وشمالا فلا يرى شيئاً ،ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم . فمن استطاع أن يقى وجهه من النار ولو بشق من تمرة فليفعل ،ومن لم يجد فبكلمة طيبة ، فإن بها تجزى الحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف ،والسلام عليكم وعلى رسول الله ورحمة الله وبركاته ،وأخرجها ايضاص البيهقى(1) . [209].
(2) خطبة أخرى له صلى الله عليه وسلم
روى سعيد بن عبد الرحمن الجمحى أنه بلغه عن خطبة النبى صلى الله عليه وسلم فى أول جمعة صلاها بالمدينة فى بنى سالم بن عمرو بن عوف رضى الله عنهم:
__________
(1) قدم رقم 183 ص 188 (خطبة الجمعة) .(1/205)
الحمد لله ،احمده وأستعينه وأستغفره ،واستهديه وأومن له ولا أكفره ، وأُعادى من يكفره ،واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،وأن محمداً عبده ورسوله ،أرسله بالهدى ودين الحق والنور والموعظة ، على فترة من الرسل ،وقلة من العلم ، وضلالة من الناس ، وانقطاع من الزمان ،ودنو من الساعة ،وقرب من الأجل ،من يطع الله ورسوله فقد رشد ،ومن يعص الله ورسوله فقد غوى وفر وضل ضلالا بعيداً ،وأُوصيكم بتقوى الله، فإن خير ما أوصى به المسلم أن يحضه على الآخرة ،وأن يأمره بتقوى الله، فاحذروا ما حذركم الله من نفسه ،ولا افضل من ذلك نصيحة ،ولا أفضل من ذلك ذكرى ،وإنه تقوى لمن عمل به على وجل ومخافة وعون وصدق على ما تبتغون من أمر الآخرة .ومن يصلح الذى بينه وبين الله من أمر السر والعلانية لا ينوى بذلك إلا وجه الله ، يكن له ذكراً فى عاجل امره ، وذخراً فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم . وما كان مما سوى ذلك يود له أن بينه أمداً بعيداً ، وبحذركم الله نفسه ،والله رءوف بالعباد . هو الذى صدق قوله وأنجز وعده لا خلف لذلك ، فإنه يقول تعالى : { مَا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } . واتقوا الله فى عاجل أمركم وآجله فى السر والعلانية . فإنه { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } ، { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } . وإن تقوى الله توقى مقته وتوقى عقوبته وسخطه .(1/206)
وإن تقوى الله تبيض الوجه ،وترضى الرب ، وترفع الدرجة . فخذوا بحظكم ولا تفرطوا فى جنب الله ، فقد علمكم الله كتابة ، ونهج لكم سبيله ، ليعلم الذين دقوا وليعلم الكاذبين . فأحسنوا كما أحسن الله إليكم ، وعادوا أعداءه ، وجاهدوا فى الله حق جهاده ، هو اجتباكم وسماكم المسلمين " ليهلك من هلك عن بينة ويحيى منحى عن بينة " ولا حول ولا قوة إلا بالله ، فأكثروا ذكر الله ، واعلموا لما بعد الموت ، فإنه من اصلح ما بينه وبين الله يكفيه ما بينه وبين الناس ، ذلك بأن الله يقضى عل الناس ولا يقضون عليه ، ويملك من الناس ولا يملكون منه ، الله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم .
(قال) ابن كثير فى البداية : هكذا أوردها ابن جرير . وفى السند إرسال(1) . [210].
(3) خطبة أخرى للنبى صلى الله عليه وسلم
قال ابن غسحاق : ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس مرة أخرى فقال:
__________
(1) ص213 ج3 البداية والنهاية . و( فترة) بفتح فسكون :أى على انقطاع بعثهم ودروس أعلام دينهم . و( الذكرى) الموعظة والتذكير .و0نفسه) أى عقوبته. و(السخط) بفتحتين وبفتح فسكون : الغضب . و(جنب الله) أمره وحده الذى حده . و(حق الجهاد) الإخلاص فى النية والعمل. وقال ابن المبارك : هو مجاهدة النفس والهوى . (روى9 فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: المجاهد من جاهد نفسه فى الله .اخرجه أحمد والترمذى وصححه (24) انظر ص20 ج6 (مسند فضالة بن عبيد ) وص2 ج3 تحفة الأحوذى (فضل من مات مرابطاً ).(1/207)
إن الحمد لله ،أحمده وأستعينه ، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ،ومن يضلل فلا هادى له ،واشهد أن لا غله إلا الله ولا شريك له ،إن أحسن الحديث كتاب الله تعالى ، قد افلح من زينه الله فى قلبه ،وأدخله فى الإسلام بعد الكفر ،واختاره على وأحبوا الله من أحاديث الناس. إنه أحسن الحديث وابلغه . حبوا منأحب الله وأحبوا الله من كل قلوبكم ، ولا تملوا كلام الله وذكره ،ولا تقس عنه قلوبكم ،اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ،واتقوه حق تقاته ،واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم ، وتحابوا بروح الله بينكم ،إن الله يغضب أن ينكث عهده ،والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
ذكرها ابن هشام وأبو بكر الباقلانى وابن كثير وقال: وهذه الطريق أيضاً مرسلة إلا أنها مقوية لما قبلها(1) . [211].
(4) خطبة له صلى الله عليه وسلم فى التوبة والعمل
(قال) جابر بن عبد الله : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على منبرة يقول:
يايها الناس: توبوا على ربكم قبل أن تموتوا ، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا ،ولوا الذى بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له ،وكثرة الصدقة فى السر والعلانية ، ترزقوا وتؤجروا وتنصروا وتحمدوا وتجبروا .
__________
(1) ص15 ج2 هامش الروض الأنف . وص 214 ج3 البداية والنهاية . وص 62 إعجاز القرآن . و( أحبوا الله ..إلخ) المراد أن يستغرق حب الله جميع أجزاء القلب فكون ذكره وعمله خارجاً من قلبه خالصاً لله . وإضافة الحب إلىالله تعالى من عبده مجاز حسن ،لأن حقيقة المحبة إرادة يقارنها تعلق بالمحبوب طبعاً أو شرعاً .(1/208)
واعلموا أن الله قد افترض عليكم الجمعة فى مقامى هذا ، فى يومى هذا ، فى شهرى هذا ، فى عامى هذا ، إلى يوم القايمة ، فريضة مكتوبة من وجد إليها سبيلا ، فمن تركها فى حياتى أو بعد مماتى جحوداً بها واستخفافاً بحقها ، وله إمام عادل أو جائر ، فلا جمع الله له شمله ، ولا بارك له فى أمره ، ألا ولا صلاة له . ألا ولا صوم له . ألا ولا ضوء له. ألا ولا حج له . ألا ولا صدقة له ، ألا ولا زاة له ، ألا ولا بر له حتى يتوب . من تاب ، تاب الله عليه ،ألا لا تَؤُمَّنَّ امرأة رجلا ،ولا يؤمّ أعرابى مهاجراً ، ولا يؤمّ فاجر مؤمناً إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه وسوطه.
أخرجه ابن ماجه والبيهقي والباقلانى . وفى سنده عبد الله بن محمد العذري عن على بن يزيد بن جدعان ،وهما ضعيفان(1) .
[212].
(5) خطبة له صلى الله عليه وسلم
وخطب النبى صلى الله عليه وسلم أيضا فقال:
أيها الناس : إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم ،وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم ،إن المؤمن بين مخافتين :بين أجل قد مضى لا يدرى ما الله صانع فيه ،وبين أجل قد بقى لا يدرى ما الله تعالى قاض عليه فيه ، فليأخذ العبد لنفسه من نفسه ،ومن دنياه لآخرته ،ومن الشبيبة قبل الكبر،ومن الحياة قبل الموت . والذى نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة أو النار . ذكره الباقلانى(2) . [213].
(6) خطبة جامعة له صلى الله عليه وسلم
قال أبو سعيد الخدري رضى الله عنه : خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم خطبة بعد العصر ،فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :
(
__________
(1) ص173 ج1 سنن ابن ماجه (فرض الجمعة) وص171 ج3 سنن البيهقى (كتاب الجمعة) وص62 إعجاز القرآن .
(2) ص62 إعجاز القرآن . و(معالم) جمع معلم كمذهب ،وهو فى الأصل الدليل فىالطريق والمراد به هنا حدود الشريعة المطهرة ز و( مستعتب) اسم مفعول من استعتب أى طلب الرضا ،أى ليس بعد الموت استرضاء ،لأنه وقت جزاء لا وقت عمل .(1/209)
أما بعد) فإن الدنيا خضرة حلوة ،وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ،فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ،ألا إن بنى آدم خلقوا على طبقات شتى: منهم من يولد مؤمناً ويحيا مؤمناً ويموت مؤمناً ،ومنهم من يولد كافراً ويحيا كافراً ويموت كافراً ،ومنهم من يولد مؤمناً ويحيا مؤمناً ويموت كافراً ،ومنهم من يولد كافراً ويحيا كافراً ويموت مؤمناً . الا إن الغضب جمرة توقد فى جوف ابن آدم ،ألا ترون إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه ؟ فإذا وجد أحدكم شيئاً من ذلك فالأرض الأرض . إلا عن خير الرجال من كان بطئ الغضب ،سريع الرضا ،وشر الرجال من كان سريع الغضب ، بطئ الرضا . فإذا كان الرجل بطئ الغضب ،بطئ الفئ ،وسريع الغضب ،وسريع الفئ ، فإنها بها.
ألا إن خير التجار من كان حسن الفضاء ،حسن الطلب ،وشر التجار من كان سئ القضاء ،سئ الطلب. فإذا كان الرجل حسن القضاء ،سئ الطلب ، او كان سئ القضاء ،سئ الطلب، فإنها بها . ألا إن لكل غادر لواء يوم القيامة بقدر غدرته . ألا وأكبر الغدر غدر أمير عامة .ألا لا يمنعن رجلا مهابة الناس أن يتكلم بالحق إذا علمه .ألا إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر.ألا إن مثل ما بقى من الدنيا فيما مضى منها مثل ما بقى من يومكم هذا فيما مضى منه .(1/210)
أخرجه أحمد والترمذي والحاكم . وفيه على بن زيد بن جدعان ،ضعيف(1) . [
__________
(1) انظر ص19 ج3 (مسند أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه) وانظر رقم 1610 ص179 ج2 فيض القدير . و(خضرة) بفتح فكسر : شبه النبى صلى الله عليه وسلم الدنيا من حيث الرغبة فيها والتكالب عليها والميل بالكلية إليها بفاكهة (خضرة) المنظر (حلوة) المذاق . ولا ريب ان الخضرة فى ذاتها محببة للنفوس ،مذهبة للبؤس ،تسر بها النواظر ،وتنشرح منها الخواطر،وإذا كان كل من الخضرة والحلاوة محبباً للنفوس منفداً فكيف بهما إذا اجتمعا؟ (فاتقوا الدنيا) اى احذروها فإنها إن أقبلت بلت، وإن أدبرت برت (واتقوا النساء) أى الافتتان بهن فإنهن حبائل الشيطان وفخوخه ولا دين لهن ولا عقل عندهن ،وإن كان القليل منهن عادبات صابرات قانتات تائبات ،غير أن الحكم عادة للغالب (وفى الحديث) يا معشر النساء تصدقن وأكثرن من الاستغفار فإنى رايتكن أكثر اهل النار . فقالت امرأة منهن جزلة ( بفتح فسكون أى ذات رأى) ومالنا يا رسول الله اكثر اهل النار . قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير ،ما رايت من ناقات عقل ودين اغلب لذى لب منكن . قالت: يا رسول الله وما نقصان العقل والدين ؟ قال: أما نقصان العقل فشهادة امراتين تعدل شهادة رجل ،فهذا من نقصان العقل ، وتمكث الليالى ما تصلى ،وتفطر فى رمضان ،فهذا من نقصان الدين .أخرجه أحمد وابن ماجه عن ابن عمر والبخارى عن ابى سعيد (25) انظر ص66 ج2 (مسند ابن عمر) وص251 ج2 سنن ابن ماجه (فتنة النساء) وص279 ج1 فتح البارى( ترك الحائض الصوم) و(منهم من يولد مؤمناً إلخ) الفريق الأول هم السعداء فى الدارين . والفريق الثانى هم الأشقياء وإن نعموا بمظاهر الحياة وزخرفها ..والفريق الثالث هو الذى يسبق عليه الكتاب فيعمل ظاهراً عمل البرار وحقيقته أنه رياء وشرك حتى يموت علىما عليه الكفار ، والفريق الرابع من يثوب إلى رشده ويتوب من ذنبه ويعمل عمل الأتقياء البررة حتى يموت على الإيمان فيختم له بالسعادة .(ففى الحديث) إذا اراد الله بعبد خيراً استعمله ، قيل : وما استعمله ؟قال: يفتح له عملا صالحاً بين يدى موته حتى يرضى عنه من حوله.
أخرجه احمد والحاكم عن عمرو بن الحمق (26) انظر ص 244 ج5 مسند أحمد (حديث عمرو بن الحمق الخزاعى) وص340 ج1 مستدرك . واخرج نحوه الحاكم وصححه عن أنس بن مالك و(توقد) بحذف إحدى التاءين تخفيفاً ،أى تستعر (فالأرض الأرض) اى فيلزمها وليجلس إن كان قائماً ،او ليضطجع إن كان جالساً .
فإن فى تغيير الحالة التى كان عليها إذهاباً لحدة غضبه ،وتهدئة لمضطرب أعضائه و( بقدر غدرته) فإن كانت غدرته كبيرة فلواؤه كبير، وغن كانت غدرته صغيرة فلواؤه صغير وهو عبارة عن فضيحته يوم القيامة حيث الخلائق مجتمعون . و( أن يكلم بالحق إذا علمه) الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ،مطلوبان بشروطهما التى منها سلامة العاقبة (ومنها) أن يكون الأمر بالمعروف ورفق ولين . قال تعالى : " يا بنى أقم الصلاة وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر واصبر على ما أصابك ،إن ذلك من عزم الأمور ولا تصعر خدك للناس ولا تمشى فى الأرض مرحاً، إن الله لا يحب كل مختال فخور " (سورة لقمان ) آيتا 17، 18.(1/211)
214].
(7) خطبة له صلى الله عليه وسلم فى وصف الدارين
روى شداد بن أوس انه صلىالله عليه وسلم خطب يوماً فقال:
ألاإن الدنيا عرض حاضر ، يأكل منها البر والفاجر ،ألا وإن الآخرة اجل صادق ، يقضى فيها ملك قادر. ألا وغنالخير كله بحذافيره فى الجنة . ألا وإن الشر كله بحذافيره فى النار . واعلموا وأنتم منالله على حذر ، واعلموا أنكم معروضون على أعمالكم ،وانكم ملاقوا الله ربكم لابد " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ،ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره".
أخرجه البيهقي ،وأخرج الطبرانى فى الكبير صدره إلى قوله : وإن الآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قادر، يحق الحق ويبطل الباطل .أيها الناس : كونوا أبناء الآخرة ولا تكونوا ابناء الدنيا ،فإن كل أم يتبعها ولدها .
وفى سند الطبرانى أبو مهدي سعيد بن سنان وهو ضعيف جداً .واخرج الشافعي صدره من حديث عمرو بن العاص(1) . [215].
(8) خطبة له صلى الله عليه وسلم فى الاتباع
روى عقبة بن عامر الجهنى أن النبى صلى الله عليه وسلم حمد الله واثنى عليه ثم قال:
(
__________
(1) ص216 ج3 سنن البيهقى (كيف تكون الخطبة) وص188 ج2 مجمع الزوائد( الخطبة والقراءة فيها) وص164 ج1 بدائع المنن.(1/212)
أما بعد) فإن اصدق الحديث كتاب الله تعالى ، وأوثق العرى كلمة التقوى ،وخير الملل ملة إبراهيم ،وخير السنن سنة محمد صلى الله عليه وسلم،واشرف الحديث ذكر الله ، وأحسن القصص هذا القرآن ،وخير الأمور عوازمها ،وشر الأمور محدثاتها ،وأحسن الهدى هدى الأنبياء ،واشرف الموت قتل الشهداء ،وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى ،وخير العلم ما نفع ، وخير الهدى ما اتبع ،وشر العمى عمى القلب ،واليد العليا خير من اليد السفلى ،وما قل وكفى خير مما كثر وألهى ،وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة ،ومن الناس من لا يأتى الصلاة إلا دبراً ،ومنهم من لا يذكر الله إلا هجراً نوأعظم الخطاياي اللسان الكذوب ،وخير ما وقر فى القلوب اليقين والارتياب من الكفر، والنياحة من عمل الجاهلية ،والغلول من جثا جهنم ،والكنز كى منالنار ، والشعر من مزامير إبليس ،والخمر جماع الإثم ،والنساء حبالة الشيطان ،والشباب شعبة من الجنون ،وشر المكاسب كسب الربا ،وشر المآكل مال اليتيم ،والسعيد من وعظ بغيره ، والشقى من شقى فى بطن أمه ،وإنما يصير أحدكم إلى موضع اربع اذرع ،والأمر بىخره ، وملاك العمل خواتمه ،وشر الروايا روايا الكذب ،وكل ما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق ،وقتال المؤمن كفر،واكل لحمه من معصية الله وحرمة ماله كحرمة دمه ،ومن يتال على الله يكذبه ،ومن يغفر يغفر الله له ، ومن يعف يعف الله عنه ،ومن يكظم الغيظ يأجره الله ،ومن ي2صير على الرزية يعوضه الله ،ومن يتبع السمعة يسمع الله به ،ومن يصبر يضعف الله له ،ومن يعص الله يعذبه . اللهم اغفر لى ولأمتي . اللهم اغفر لى ولأمتي . استغفر الله لى ولكم .(1/213)
أخرجه البيهقي فى الدلائل وابن عساكر(1) . [216].
(9) خطبة له صلى الله عليه وسلم جامعة
روى ابن مسعود أن النبي صلى اللهعليه وسلم حمد الله واثنى عليه ، ثم قال:
(
__________
(1) انظر رقم 1609 ص185 ج2 فيض القدير .و( عوازم) جمع عزيمة وهى الفرائض التى فرضها الله ،وقيل هى ما وكدت رايك وعزمك عليه ووفيت بعهد اله فيه ، والعزم : الصبر . و( الدبر) بضمتين أو بفتحتين :آخر الش ،اى لا يصلون غلا بعد فوات الوقت .و0 الهجر) بفتح فسكون : الترك والإعراض ،والمراد هجر القلب وترك الإخلاص فى الذ ،فكأن قلبه مهاجر للسانه غير مواصل له. و( الغلول) بفتح أوله :الخائن فى الغنيمة .و( جثا) بضم الجيم مقصوراً جمع جثوه بتثليث الجيم ،وهى فى الصل الحجارة المجموعة ،والمراد أنه من جماعة جهنم .و( الكنز) المال الذى لم تؤد زكاته يكوى به جلد صاحبه يوم القيامة ( قال تعالى ): " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فى سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم ،يوم يحمى عليها فى نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون" سورة التوبة : آية (34، 35) . وفى الحديث : " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدى منها حقها إلا كان يوم القيامة صفحت له صفائح نار فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره " در حديث أخرجه أحمد ومسلم وابو داود (27) يأتى رقم 9 ص86 ج8 الدين الخالص (منع الزكاة) . و( الروايا) جمع راوية ،أى نافل أى الذين ينقلوه الكذب .و( يتأل) من التأل وهو الحلف . يقال : تألى على الله ،أى حلف ليغفرن الله له .و( السمعة) بالضم ك الرياء ،أى من سلك سبيل الرياء شهر الله به وأظهر للناس أن عمله لم يكن خالصاً .(1/214)
أما بعد) غنما هما اثنتان : الكلام والهدى ،فأحسن الكلام كلام الله ، وأحسن الهدى هدى محمد ..ألا وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن شر الأمور محدثاتها ،وكل محدثة بدعة ،وكل بدعة ضلاللاة ..ألا لا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم ..ألا عن كل ما هو آت قريب ،وغنما البعيد ما ليس بىت ..ألا إنما الشقى من شقى فىبطن أمه ،والسعيد من وعظ بغيره ..الا إن قتال المؤمن كفر ، وسبابه فسوق ،ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث.. ألا وإياكم والكذب ، فإن الكذب لا يصلح لا بالجدل ولا بالهزل ،ولا يعد الرجل صبيه فلا يفى له ، وإن الكذب يهدى إلى الفجور ،وإن الفجور يهدى إلى النار ،وإن الصدق يهدى إلىالبر ، وإن البر يهدى إلى الجنة ،وإنه يقال للادق صدق وبر،ويقال للكاذب كذب وفجر ..ألا وإن العبد يكذب حتى يكتب عند الله كذاباً .(1/215)
اخرجه ابن ماجه بسند جيد(1) . [
__________
(1) ص12 ج1 سننابن ماجه (اجتناب البدع والجدل) ط فقسوا قلوبكم " كما استطال اهل الكتاب فخلعوا ربقة الدين منأعناقهم . قال تعالى : " ولا توكونوا" (بالتاء وهى قراءة عيسى وابن اسحاق) " كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم " عجز الاية 19 الحديد وصدرها : " ألم يأن للذين آمنوا" . و( إنما الشقى من شقى فى بطن أمه )أى من قدر كونه شقياً فى أصل خلقته فشقى حيقية (روى) ابن مسعود أن النبى صلى الله عليهوسلم قال: "إن أحدكم يجمع خلقه فى بطن أمه أربعين يوماً نطفة ،ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضعفة مثل ذلك ،ثم يبعث الله ملكاً ويؤمر بأربع كلمات ويقال له اكتب عمله ورزقه وأجله وشقى أو سعيد ،ثم ينفخ فيه الروح ، فإن الرجل منكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل الجنة " أخرجه الستة (28) انظر رقم 2179 ص413 ج2 فيض القدير . و( قتال المؤمن كفر) اى حرام كالكفر ،أو محمول على من استحل ذلك ،أو هو مؤد إليه (روى) أبى بكرة أنالنبى صلى الله عليه وسلم قال : "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فقتل احدهما صاحبه فالقاتل والمقتول فىالنار " قيل: يا رسول الله ، هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال: " إنه كان حريصاً على قتل صاحبه " أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والنسائى (29) انظر رقم 435 ص300 ج1 (فيض القدير)، (وسبابه فسوق) أى أن شتمه خروج عن طاعة الله تعالى وليس هو من صفات المؤمنين (روى) ابن مسعود أنالنبى صلى الله عليهوسلم قال: " ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذئ "أخرجه أحمد وابن حبان فى صحيحه والحاكم (30) انظر رقم 7584 360 ج5 فيض القدير .و( أن يهجر ) محل حرمة الهجر فوق ثلاث ما لم . يكن هجره لله تعالى وإلا فلا ،والدليل عليه قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك ،وقد نظم هذا بعضهم فقال :
يا هاجرى فوق الثلاث بلا سبب ... ... خالف شرع المصطفى ازكى العرب
هجر الفتى فوق الثلاث محرم ... ... ما لم يكن فيه لمولانا سبب(1/216)
217].
(10) خطبة له صلى الله عليه وسلم فى التنفير من الغفلة
روى علىّ كرم الله وجهه أن النبى صلى الله عليه وسلم حمد الله واثنى عليه وقال:
(أما بعد) أيها الناس :كأن الموت فيها على غيرنا قد كتب ،وكأن الحق فيها على غيرنا قد وجب،وكأن الذى نشيع من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون ، نبؤئهم أجداثهم ،ونأكل من تراثهم كأنا مخلدون بعدهم ، قد نسينا كل واعظة ،وأمنا كل جائحة، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، طوبى لمن طاب كسبه ،وصلحت سريرته ،وحسنت علانيته ، واستقامت طويته ،طوبى لمن تواضع لله فى غير منقصة ،وأنفق مالا جمعه فى غير معصية نوجالس اهل الفقه والحكمة ،وخالط أهل الذل والمسكنة ، طوبى لمن أنفق الفضل من ماله ،وأمسك الفضل من قوله ، ووسعته السنة ولم تستهوه البدعة.
ذكره العاملى وأبو نعيم(1). [218].
(11) خطبة له صلى الله عليه وسلم بمنى
وخطب صلى الله عليه وسلبم بالخيف من منى فقال:
نصر الله عبداً سمع مقالتى فوعاها ثم أدّاها إلى من لم يسمعها ،فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو افقه منه . ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله ، والنصح لأئمة المسلمين ولزوم جماعتهم فإن دعوتهم تحوط من وراءهم.
أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم عن جبير بن مطعم ،وابو داود وابن ماجه عن زيد بن ثابت . وذكره القاضى أبو بكر الباقلانى عن زيد بن ثابت ، وزاد: ومن كان همه الآخرة ،جمع الله شمله ،وجعل غناه فى قلبه ،وأتته الدنيا وهى راغمة .ومن كان همه الدنيا ،فرق الله أمره ،وجعل فقره بين عينيه،ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له(2) . [
__________
(1) ص344 ج2 كشكول (وأجداث) جمع جدث وهو القبر، أى ننزلهم مقابرهم و(الجائحة) الافة المهلكة ،يقال : جاحت الآفة المال تجوحه ، من باب قال إذا أهلكته ..
(2) ص81 ج4 مسند أحمد (حديث جبير بن مطعم..) وص52 ج1 سنن ابن ماجه (من بلغ علماً) وص88 ج1 مستدرك . وص322 ج3 سنن أبى داود .
(
فضل نشر العلم) وص63 إعجاز القرآن .( الخيف) بفتح فسكون : ما ارتفع من الوادى قليلا . وبه سمى مسجد منى لأنه بنى فى سفح الجبل و( نضر) من النضرة والنضارة وهى الحسن . و( لا يغل) أى لا يحقد ،يقال : غل صدره يغل من باب ضرب غلا بكسر أوله ،وهو الحقد والضغينة ..(1/217)
219].
(12) خطبة له صلى الله عليه وسلم فى تذكر الموت
وخطب النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله واثنى عليه ثم قال:
أيها الناس : أكثروا من ذكر هازم اللذات ، فإنكم إذا ذكرتموه فى ضيق وسعه ليكم فرضيتم به فأجرتم ،وإن ذكرتموهفى غنى بعضه إليكم فجدتم به فأثبتم .إن المنايا قاطعات الآمال والليالى مدنيات الآجال. وإن العبد بين يومين ،يوم قد مضى أحى فيه عمله فختم عليه ،ويوم قد بقى لا يدرى لعله لا يصل إليه .إن العبد عند خروج نفسه وحلول رمسه يرى جزاء ما اسلف ،وقلة غناء ما خلف ،ولعله من باطل جمعه أو من حق منعه.
أيها الناس :عن فىالقناعة لغنى ،وغن فى الاقتصصاد للغة، وإن فى الزهد لراحة ،ولكل عمل جزاء ،وكل آت قريب.
ذكره بهاء الدين محمد العاملى(1) . [220].
(13) خطبة له صلى الله عليه وسلم فى فضل رمضان
قال سلمان الفارسي رضى الله عنه : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى آخر يوم من شعبان قال:
يأيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مبارك ،شهر فيه ليلة خير من ألف شهر ،شهر جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعاً ،من تقرب فيه بخصلة كان كمن أدى فريضة فيما سواه ،ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه . وهو شهر الصبر ،والصبر ثوابه الجنة . وشهر المواساة ، وشهر يزاد فى رزق المؤمن فيه. من فطر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه وعتق رقتبه من النار ،وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شئ.
__________
(1) ص89 كشكول (من خطبة للنبى صلى الله عليه ولم ) وص339 .رواه هنا عن ابن عباس رضى الله عنهما مرفوعاً .و(الرمس9 بفتح فسكون:التراب سمى به القبر .و(الغناء) بفتحتين : الاكتفاء ،اى يرى قلة كفاية ما ترك .و(البلغة) بضم فسكون: ما يتبع به من العيش..(1/218)
قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلنا يجد ما يفطر الصائم . فقال رسول الله صلى الله عليهوسلم : يعطى الله هذا الثواب من فطر صائماً على تمرة أو شربة ماء أو مذقة لبن . وهو شهر أوله رحمة ،واوسطه مغفرة ،وآجره عتق من النار، من خفف عن مملوكه فيه غفر الله له ،وأعتقه من النار، فاستكثروا فيه من أربع خصال : خصلتين ترضون بهما ربكم ،وخصلتين لا غناء بكم عنهما : فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما بكم ، فشهادة أن لاإله إلا الله ، وتستغفرونه .وأما الخصلتان اللتان لا غناء بكم عنهما ، فتسألون الله الجنة ، وتعوذون به من النار .ومن سقى صائماً سقاه الله من حوضى شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة.
أخرجه ابن خزيمة فى صحيحه .وقال: إن صح الخبر. قال المنذرى : وفى سنده على بن زيد بن جدعان ضعيف(1) . [221].
(14) خطبة له صلى الله عليه وسلم في وصف الدنيا
وخطب النبي صلى الله عليه وسلم ،فحمد الله واثنى عليه ،ثم قال:
الدنيا دار بلاء ومنزلة بلغة وعناء ،قد نزعت عها نفوس السعداء ، وانتزعت بالكره من أيدى الشقياء .فاسغد الناس بها ارغبهم عنها، واشقاهم بها أرغبهم فيها ،فهى الغاشة لمن استنصحها ،والمغوية لمن أطاعها .
الفائز من أعوض عنها ،والهالك من هوى فيها . طوبى لعبد اتقى فيها ربه ، وقدم توبته ،وغلب شهوته من قبل أن تلقيه الدنيا إلى الآخرة ، فيصبح فى بطن موحشة غبرغاء مدلهمة ظلماء ،لا يستطيع أن يزيد فى حسنة ولا ينقص من سيئة ،ثم ينشر فيحشر إما إلى جنة يدوم نعيمها،أو إلى نار لا ينفذ عذابها.
ذكره العاملى(2) . [222].
(15) خطبة له صلى الله عليه وسلم فى التنفير من الدنيا
وخطب النبي صلى الله عليه وسلم ،فحمد الله واثنى عليه ، ثم قال:
__________
(1) ا انظر ص67 ج7 (الترغيب فى صيام رمضان) و( المذقة) بفتح فسكون : للشربة.
(2) ص214 كشكول (أول الجزء الثالث) و( مدلهمة ) يقال: ادلهم الظلام كثف وأسود . ومدلهم مبالغة.(1/219)
ايها الناس: عن هذه الدار دار التواء ، لا دار استواء ، ومنزل ترح لا منزل فرح . فمن عرفها لم يفرح لرخاء ،ولم يحزن لشقاء .الا وإن الله تعالى خلق الدنيا دار بلوى ،والآخرة دار عقبى ،فجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سبباً ،وثواب الاخرة من بلوى الدنيا عوضاً ،فليأخذ ليعطى ويبتلى ليجزى .إنها لسريعة الذهاب ،وشيكة الانقلاب . فاحذروا حلاوة رضاعها لمرارة فطامها ،واحذروا لذيذ عاجلها لكريه آجلها ،ولا تسعوا فى تعمير دار قد قضى الله خرابها ،ولا تواصلوها – فقد أراد الله منكم اجتنابها- فتكونوا لسخطه متعرضين ،ولعقوبته مستحقين .ذكره العاملى . [223].
(16) خطبة حجة الوداع
وفى حجة الوداع خطب النبى صلى الله عليه وسلم الناس بمنى فقال:
إن الحمد لله ،نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ،ونعوذ بالله من شرور انفسنا وسيئات أعمالنا .من يهد الله فلا مضل له،ومن يضلل الله فلا هادى له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،وأن محمداً عبده ورسوله .أُوصيكم عباد الله بتقوى الله ،وأحثكم على طاعة الله ،وأستفتح بالذى هو خير.
(وأما بعد) ايها الناس: اسمعوا منى أُبيَّن لكم ،فإنى لا أدرى لعلى لا القاكم بعد عامى هذا فى موقفى هذا .(1/220)
ايها الناس : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة يومكم هذا ،فى شهركم هذا ، فى بلدكم هذا ،وإنكم ستلقون ربكم فيسالكم عن أعمالكم ،وقد بلغت . فمن كانت عنده أمانة فليؤدها على من ائتمنه عليها .وإن كل رباً موضوع ،ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون . قضى الله أنه لا ربا .إن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله. وإن كل دم كان فى الجاهلية موضوع .وإن أول دمائكم أضع دم ابن وبيعة بن الحارث بن عبد المطلب – وكان مسترضعاً فى بنى ليث فقتله هذيل- فهو اول ما أبدأ به من دماء الجاهلية .وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية .والعمد قود وشبه العمد ما قتل بالعصا والخنجر وفيه مائة بعير. فمن زاد فهو من أهل الجاهلية .
ايها الناس: إن الشيطان قد يئس أن يعيد بأرضكم هذه ابداً ،ولكنه رضى أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون منأعمالكم ، فاحذروه على دينكم .
ايها الناس: إنما النسئ زيادة فى الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله ، فيحلوا ما حرم الله ، ويحرموا ما أحل الله ،وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض .وغن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم ، ثلاثة متوالية ،وواحد فرد : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذى بين جمادى وشعبان.
ايها الناس: إن لكم على نسائكم حقاً ،ولهن عليكم حقاً ،لكم عليهن ألا يوطئن فرُشكم احداً تكرهونه ،وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة ،فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن فى المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مُبّرح ،فإن انتهين وأطعنكم فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف . وغاستوصوا بالنساء خير اً ، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهم شيئاً .وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله ،واستحللتم فروجهن بكلمة الله. فاتقوا الله فى النساء واستوصوا بهن خيراً .(1/221)
فاعقلوا ايها الناس قولى ، فإنى قد بلغت ،وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا ابداص ،أمراً بيناً : كتاب الله وسنة نبيه .
أيها الناس: اسمعوا قولي واعقلوه ،تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة،فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمُنَّ أنفسكم .اللهم هل بلغت ؟قالوا : اللهم نعم .فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الهم أشهد ،فلا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم أعناق بعض .
أيها الناس: إن ربكم واحد ،كلكم لآدم وآدم من تراب ،أكرمكم عند الله أتقاكم ،وليس لعربى على عجمى فضل إلا بالتقوى .ألا هل بلغت ؟ قالوا : نعم .قال: فليبلغ الشاهد منكم الغائب.
أيها الناس:إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ،ولا يجوز لوارث وصية ،ولا نجوز وصية فى أكثر من الثلث ،والولد للفراش وللعاهر الحجر .من ادعى إلى غير ابيه أو تولى غير مواليه ،فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ،لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلا .والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .(1/222)
ذكره ابن هشام مختصراً وابن عبد ربه فى العقد مطولا(1) . [
__________
(1) ص351 ج2 الروض الأنف (حجة الوداع) وص357 ج2 العقد الفريد (خطبة حجة الوداع) و(ابن ربيعة) هو إياس او حارثة،كان طفلا صغيراً يحبو بين البيوت فاصابه حجر فى حرب كانت بين بنى سعد وبنى ليث من قبائل هذيل، و(النسئ) التأخير: كانت الجاهلية تعتقد حرمة الأشهر الحرم وتعظمها ،وكانت معائشهم من الصيد والغارة ،فكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر متوالية ، فكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر ، فيستحلون المحرم ويحرمون صفراً ، فإن احتاجوا إلى القتال فيه أخروا التحريم إلى ربيع الأول. وهحكذا شهر حتى استدار التحريم على السنة كلها ،وكانوا يعتبرون التحريم مرد العدد لا خصوص الشهر المعلومة .و(زيادة فى الكفر) أى كفر ضم على كفر( ليوطئوا) أى ليوافقوا عدة الأشهر الحرم وربما زادوا عدد الشهور بجعلها ثلاثة عشر أو أربعة عشر ليتسع لهم الوقت ،ويجعلون أربعة أشهر منها حراماً كما يريدون ،وكانوا يحجون فى كل شهر عامين ،فحجوا فى ذى الحجة عامين والمحرم كذلك ،وهكذا باقى الشهور .ولما حج رسول الله لىالله عليهوسلم حجة الوداع وافقت شهر الحج المشروع وهو ذو الحجة ،فوقف بعرفة فى اليوم التاسع وخطب الناس فى اليوم العاشر بمنى هذه الخطبة .وإنما قال( رجب مضر إلخ) لأن ربيعة كانت تحرم بالحج فى رمضان وتسميه رجباً من رجبت الرجل عظمته ، فبين صلى الله عليه وسلم أنه رجب مضر لا رجب ربيعة .و( ألا يوطئن إلخ) أى لا ياذن فى دخول بيوتكم أحداً تكرهون دخوله ولو من محارمهن .وليس المراد به الخلوة بالرجال ولا الزنا ،لأنه حرام وإن لم يكرهه الزوج .و(عوان) جمع عانية وهى المرأة :من عنا يعنو ،أى خضع وذل ،والعانى :الأسير .و(كلمة الله) الإيجاب والقبول ،وقيل كلمة التوحيد ،إذ لا تحل مسلمة لغير مسلم (وللعاهر) أى وللزانى الخيبة والذل .ولا حق له فىالولد ،وإنما الولد لصاحب الفراش وهو الزوج أو السيد ..وقيل بالحجر الرجم.و(الصرف )التوبة ،و(العدل) الفدية .(1/223)
224].
(17) آخر خطبة له صلى الله عليه وسلم
قال الفضل بن عباس رضى الله عنهما : أتانى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك وعكاً شديداص وقد عصب راسه ،فقال: خذ بيدى يا فضل ،فأخذت بيده حتى قعد على المنبر ،ثم قال: ناد في الناس يا فضل.
فناديت الصلاة جامعة ،فاجتمعوا .فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال.
(أما بعد) أيها الناس : إنه قد دنا منى خلوف من بين أظهركم، ولن تروني فى هذا المقام فيكم ،وقد كنت أرى أن هذا غير مغن عنى حتى أقوم فيكم مراراً ،ألا فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه،ومن كنت أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه،ولا يقولن قائل:أخاف الشحناء من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم .ألا وإن الشحناء ليست من شأني ولا من خلقي .
وإن أحبكم إلىّ من أخذ منى حقاً إن كان له علىّ ،أو حللنى فلقيت الله عز وجل وليس لأحد عندي مظلمة.
فقام رجل فقال: يا رسول الله لى عندك ثلاثة دراهم .فقال: أماأنا فلا أكذب قائلا ولا مستخلفه على يمين ،فيم كانت لك عندى ؟قال: أما تذكر أنه مر بك سائل فامرتنى فاعطيته ثلاثة دراهم؟ قال :أعطه يا فضل.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يأيها الناس من عنده من الغلول شئ فليرده . فقام رجل فقال: يا رسول الله عندي ثلاثة دراهم غللتها فى سبيل الله .
قال : فلم غللتها ؟قال:كنت إليها محتاجاً .قال: خذها منه يا فضل .
ثم قال: يأيها الناس من أحسن من نفسه شيئاً فليقم أدعو الله له . فقام رجل وقال: يا رسول الله إني لمنافق، وإني لكذوب،وإني لشئوم . فقال عمر بن الخطاب : ويحك ايها الرجل لقد ترك الله لو سترت على نفسك .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :مه يا بن الخطاب ،فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة .اللهم ارزقه صدقاً وإيمانا ،واذهب عنه الشؤم .(1/224)
أخرجه البيهقي وفى سنده ومتنه غرابة شديدة .قاله ابن كثير(1) . [225].
(وعلى الجملة) فخطب النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة غزيرة المعاني ، جمة الفوائد.وقد تقدم له خطب أخرى .وفيما ذكر نفع وغناء ،ولمن اقتنع مزيد إقناع .
خطبة الصديق يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم.
لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم(2)ذهل الناس ذهولا عظيما ، واختلط عليهم أمرهم ، واضطرب حالهم ، حتى إن عمر بن الخطاب – وهو الطود العظيم – اختلط وصار يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يفنى المنافقين . وتهدد من قال إنه قبض . وسل سيفه وقال : من قال إن محمداً قد مات ضربت عنقه ، وأقعد على ، وأخرس عثمان رضى الله عنهم ، وأضنى(3)عبد الله بن أنيس . ولم يكن في الصحابة أثبت من أبى بكر الصديق رضى الله عنه ، والعباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بالسنح ، فقام عمر يقول : والله ما مات رسول الله عليه وسلم ، وليبعثنه الله صلى الله عليه وسلم ، وليبعثه الله فليقطعن .
__________
(1) ص231 ج5 البداية والنهاية (آخر خطبة للنبى صلى الله عليه وسلم ) و(خلوف) بضمتين :أى قرب تخلفى عنكم فلا احضركم لموتى.وفى رواية خفوق بضمتين أى غياب ،يقال: خفق النجم يخفق خفوقاً إذا غاب .و(الغلول) مصدر غل من باب قعد ،أى خان فى الغنيمة وغيرها. وكانت هذه الخطبة قبل وفاة النبى صلىالله عليه وسلم بخمس ليال يوم الخميس.
(2) كان ذلك ضحوة يوم الإثنين الثلث عشر من ربيع الأول سنة 11 هجرية (8يونيو سنة632 م).
(3) أي أصابه الضنا وهو مرض يتولد من وجع القلب ، ولم يزل رضى الله عنه مريضاً به حتى مات كمدا سنة 54 هـ .(1/225)
أيدي رجال وأجلهم . فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله عليه وسلم وقبله وقال : بأبي وأمي ، طبت حياً وميتاً ، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبداً ثم خرج فقال : أيها الحالف ، على رسلك . فلما تكلم أبو بكر جلس عمر . فحمد الله أبو بكر وأثني عليه وقال : ألا من كان يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت . وقال : (إنك ميت وأنهم ميتون) وقال : (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله الشاكرين). قال : فنشج الناس يبكون (الأثر) أخرجه البخاري(1)(58)
وروي أبو سليمة عن ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر بن الخطاب يكلم الناس فقال : اجلس يا عمر . فأبى عمر أن يجلس . فأقبل الناس إليه وتركوا عمر . فقال أبو بكر : (أما بعد) من كان منكم يعبد محمداً فإن محمداً صلى الله عليه وسلم قد مات ، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، قال الله وما محمد إلا رسول قد خلت من قلبه الرسل) ...إلى (الشاكرين) .
(قال) ابن عباس : والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر ، فتلقاها الناس منه كلهم ، فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها .
وقال عمر : والله ما هو إلا أن سميت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها ، وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات . أخرجه البخاري(2). (59)
(19) خطبة للصديق بعد البيعة .
ولما ولي الخلافة قام خطيباً ، فحمد الله وأثني عليه بالذي هو أهله ، ثم قال :
(
__________
(1) ص 20 ج7 فتح الباري (فضل أبى بكر رضى الله عليه ....) . و(النسخ ) بضم فسكون : موضع قرب المدينة كان به مسكن الصدق . و (نشج) الباكي ينشج من باب ضرب : غص بالبكاء بلا صوت .
(2) ص 102 ج 8 فتح الباري (مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته...) .(1/226)
أما بعد) أيها الناس ، فإني قد وليت عليهم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأتن فقوموني . الصدق أمانة والكذب خيانة ، والضعيف فيكم قوي عند حتى آخذ الحق منه إن شاء الله . لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا أخذلهم الله بالذل . ولا تشيع فاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء .أطيعوني ما أطعت الله ورسوله . فإذا عصمت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم . قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله .
ذكره الحافظ ابن كثير بسند صحيح . وابن الأثير وكذا الباقلاني بلفظ : قام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
(أما بعد) فإني وُليِّت أمركم ولست بخيركم ، ولكن نزل القرآن وسن النبي صلى الله عليه وسلم وعلَّمَنا فعلِمْنا . واعلموا أن أكيس الكيس التقى ، وأن أحق الحمق الفجور ، وأن أقواكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق . أيها الناس إنما أنا متبع ولست بمبتدع ، فإن أحسنت فأعينوني ، وإن زِعْت فقومني(1). (60)
(20) خطبة للصديق يوم الجمعة .
__________
(1) ص 301 ج 6 البداية والنهاية (خلافة أبي بكر رضى الله عنه ..) و 126 ج 2 تاريخ الكامل (حديث الثقيفة وخلافة أبي بكر) وص 65 إعجاز القرآن : و(الحمق) يضم فسكون وبضمتين : قلة العقل . و(الكيس) بفتح فسكون ضد الحمق: و(زغت) بكسر فسكون : أي ملت .(1/227)
وخطب رضى الله عنه في ثاني يوم البيعة ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس : إنما أنا مثلكم ، وإني لا أدري لعلكم ستكلفوني ما كان رسول الله عليه وسلم يطيق . إن الله اطفي محمداً على العالمين وعصمه من الآفات ، وإنما أنا متبع ولست بمبتدع . فإن استقمت فتابعوني ، وإن زغت فقوموني ، وإن رسول الله عليه وسلم قبض وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة ضربة سوْط فما دونها . ألا وإنكم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه ، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله . فسابقوا في مهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال ، فإن قوماً نسوا في مهل آجالهم وجعلوا أعمالهم لغيرهم ( فإياكم أنى تكونوا أمثالهم ، الجد الجد ، والنجاء النجاء ، والوحا الوحا ، فإن وراءكم طالبا حثيثاً ، أجلا مُرّه سريع . احذروا الموت ، واعتبروا بالآباء والأبناء والإخوان ، ولا تغبطوا الأحياء إلا بما تغبطون به الأموات .ذكره ابن كثير والطبري(1). (61)
(21) خطبة للصديق في الإخلاص والاعتبار.
وخطب أيضا ، فحمد الله وأثني عليه ثم قال :
إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما أُريد به وجهه ، فأريدا الله بأعمالكم . واعملوا أن أخلصتم لله من أعمالكم فطاعة أتيتموها ، وحظ ظفر ثم به ، وضرائب أديتموها ، وسلف قدمتموه من أيام فانية لأخرى باقية لحين فقركم وحاجتكم.
__________
(1) ص 303 ج 6 البداية ، و 211 ج 3 تاريخ الطبري ( الخبر في أمر الإمارة) و(المظلمة) بكسر اللام : ما أخذه الظالم ، وبفتحها مصدر ظلم . و(النجاء والوحا) الإسراع ، يقال : وحي وتوحي : أسرع . و( الغبطة تمني مثل ما للغير من غير أن يريد زوال نعمته عنه .(1/228)
اعتبروا عباد الله بمن مات منكم ، وتفكروا في من كان قبلكم ، أين كانوا أمس ؟ وأين هم اليوم ؟ أين الجبارون الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة في الوطن الحروب ؟ قد تضعضع بهم الدهر وصاروا رميماً ، قد تركت عليهم القالات الخبيثات ، إنما الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات . وأين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها ؟ قد بعدوا ونسى ذكرهم وصاروا كلا شيء . ألا وإن الله عز وجل قد أبقي عليهم التبعات ، وقطع عنهم الشهوات ، ومضوا والأعمال أعمالهم والدنيا دنيا غيرهم ، وبقينا خلفاً بعدهم ، فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا ، وإن اغتررنا كنا مثلهم ، أين الوضاء الحسنة وجوههم المعجبون بشبابهم ؟ صاروا تراثاً ، وصار ما فرطوا فيه حسرة عليهم . أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط ، وجعلوا فيها الأعاجيب ؟ قد تركوها لمن خلفهم ، فتلك مساكنهم خاوية وهم في ظلمات القبور ، هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً . أين من تعرفون من آباءكم وإخوانكم ؟ قد انتهت بهم آجالهم فوردوا على ما قدموا فحلوا عليه ، وأقاموا للشقوة أو السعادة فيما بعد الموت . ألا إن الله لا شريك له . ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيراً ، ويصرف به عنه سوءاً إلا بطاعته واتباع أمره . واعلموا أنكم عبيد مدينون ، وأن ما عنده لا يدرك إلا بطاعته . أما آن لأحدكم أن تحسر عنه النار ولا تبعد عنه الجنة .
ذكره ابن كثير والطبري(1)(62).
(22) خطبة في التقوي والامتثال
عن موسى بن عقبة أن أبا بكر خطب فقال :
__________
(1) ص 303 ج 6 البداية . وص 211 ج 3 تاريخ الطبري . و(القالات) جمع قالة ، وهي والقيل والقال تكون في الخير . و(الوضاء) بكسر الواو جمع وضئ وهو الحسن والنظيف . و(الركز) بكسر فسكون : الصوت الخفي . و(تحصر) أي تبعد ، يقال : حصر من باب قعد ، إذا نضب عن موضعه .(1/229)
الحمد لله رب العالمين ، احمده وأستعينه ، وأسأله الكرامة فيما بعد الموت ، وأشهد أن لا اله إلا اله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً وسراجا منيراً " لينذر من كان حياً ويحق القول علي الكافرين " ، ( من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ) . أوصيكم بتقوى الله ، والاعتصام بأمر الله الذي شرع لكم وهداكم به ، فإنه جوامع هدى للإسلام بعد كلمة الإخلاص . السمع والطاعة لمن ولاه الله أمركم ، فإنه من يطع والي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد أفلح وأدي الذي عليه من الحق . وإياكم واتباع الهوى ، فقد أفلح من تراب ؟ ثم إلى التراب يعود ، ثم يأكله الدود ، ثم هو اليوم حي وغداً ميت . فاعملوا يوماً بيوم
، وساعة بساعة ، وتوقوا دعاء المظلوم ، وعدوا أنفسكم في الموتى ، واصبروا فإن العمل كله بالصبر . واحذروا فالحذر ينفع ، واعملوا فالعمل يقبل ، واحذروا ما حذركم اله من عذابه . وسارعوا فيما وعدكم الله من رحمته ، وافهموا تفهموا واتقوا تقوا ، وإن الله قد بين لكم ما أهلك به من كان قبلكم ، وما نجا به من نجا قبلكم . قد بين لكم في كتابه حلاله وحرامه ، وما يجب من الأعمال وما يكره . واعملوا أنكم ما أخلصتم لله من أعمالكم فربكم أطعتم ، وحظكم حفظتم واغتبطتم . وما تطوعتم به فاجعلوه نوافل بين أيديكم تستوفوا ، بسلفكم ، وتعطوا جزاءكم حين فقركم وحاجتكم إليها . ثم تفكروا عباد الله في إخوانكم وصحابتكم الذين مضوا ، قد وردوا على ما قدموا فأقاموا عليه ، وأحلوا في الشقاء والسعادة فيما بعد الموت . إن الله له شريك وليس بينه وبين أحد من خلقه نسب يعطيه به خيراً ، النار ، ولا شر في شر بعده الجنة . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم . وصلوا على نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . أخرجه ابن أبي الدنيا وابن عساكر .(63)
((1/230)
23) خطبة جامعة للصديق
وخطب رضى الله عنه لسنة 13 هجرية فقال :
الحمد لله ، أحمده وأستعينه وأستغفره ، وأومن به وأتوكل عليه ، وأستهدي الله بالهدي . وأعوذ به من الضلالة والردى ، ومن الشك والعمى ( من يهد الله فهو المهتدي ، ومن يضلل الله فلن تجد له ولياً مرشداً) ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيى ويميت وهو حي لا يموت ، يعز من يشاء ، بيده الخير وهو على كل شئ قدير ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله بالهدي ودين الحق ، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، إلى الناس كافة رحمة لهم وحجة عليهم ، والناس حينئذ على شر حال في ظلمات الجاهلية ، دينهم بدعة ، ودعوتهم فرية ، فأعز الله الدين بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وألف بين قلوبكم أيها المؤمنون فأصبحتم نعمته إخواناً ،(وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) ، فأطيعوا الله ورسوله ، فإنه قال عز وجل : (من يطع الرسول فقد أطاع الله ، ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً) .
(أما بعد) أيها الناس : إني أوصيكم بتقوى الله العظيم في كل امر وعلى كل حال، ولزوم الحق فيما أحببتم وكرهتم، فإنه ليس فيما دون الصدق من الحديث خير، ومن يكذب يفجر، ومن يفجر يهلك، وإياكم والفخر، وما فخر من خلق من التراب وإلى التراب يعود؟ هو اليوم حي وغداً ميت. فاعملوا وعدوا أنفسكم في الموتى. وما أشكل عليكم فردوا علمه إلى الله، وقدموا لأنفسكم خيراً تجدوه محضراً، فإنه قال عز وجل: "يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً، ويحذركم الله نفسه، والله رؤوف بالعباد".(1/231)
فاتقوا الله عباد الله وراقبوه، واعتبروا بمن مضى قبلكم، واعلموا أنه لابد من لقاء ربكم، والجزاء بأعمالكم صغيرها وكبيرها، إلا ما غفر الله، إنه غفور رحيم، فأنفسكم أنفسكم، والمستعان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله "إن الله وملائكته يصلون على النبي، يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً" اللهم صلى على محمد عبدك ورسولك أفضل ما صليت على أحد من خلقك، وزكنا بالصلاة عليه، وألحقنا به، واحشرنا في زمرته، وأوردنا حوضه. اللهم أعنا على طاعتك، وانصرنا على عدوك.
ذكره ابن عبد ربه(1). (64)
(24) خطبة للصديق في الحث على العمل والإخلاص
قال نعيم بن نمحة: خطب أبو بكر فكان من قوله:
أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم. فمن استطاع أن يقضي الأجل وهو في عمل الله عز وجل فليفعل، ولن تنالوا ذلك إلا بالله تعالى، إن قوماً جعلوا آجالهم لغيرهم، فنهاكم الله أن تكونوا أمثالهم "ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم". أين من تعرفون من إخوانكم؟ قدموا على ما قدموا في سالف أيامهم، وخلوا بالشقوة والسعادة. أين الجبارون الأولون الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط؟ قد صاروا تحت الصخور والآبار..هذا كتاب الله لا تفني عجائبه، فاستضيئوا منه ليوم ظلمة، واستضيئوا بسنائه وبيانه. إن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: "إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين". لا خير في قول لا يراد به وجه الله، ولا خير في مال لا ينفق في سبيل الله، ولا خير فيمن جعله حلمه، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم.
__________
(1) انظر ص360 ج2- العقد الفريد (وكنتم على شفا) الشفا: الحافة والطرف، أي كنتم على طرف حفرة من النار، فأنقذكم الله منها بالإيمان.(1/232)
أخرجه الطبراني في الكبير. قال الهيثمي: ونعيم بن نمحة: لم أجد مكن ترجمة. وقال ابن كثير: هذا إسناد جيد ورجاله ثقات(1). (65)
(25) خطبة للفاروق عمر في التقوى والأمر بالمعروف
خطب عمر يوماً فقال: أيها الناس: اتقوا الله في سريرتكم وعلانيتكم، وأمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، ولا تكونوا مثل قوم كانوا في سفينة فأقبل أحدهم على موضع يخرقه، فمنعوه، فقال: هو موضعي ولي أن أحكم فيه، فإن أخذوا على يده سلم وسلموا، وإن تركوه هلك وهلكوا. وهذا مثل ضربته لكم، رحمنا الله وإياكم.
ذكره ابن عبد ربه(2)(66)
(26) خطبة جامعة للفاروق
وخطب عمر رضي الله عنه سنة 23هـ، فحمد الله وأثنى عليهن وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال:
__________
(1) انظر ص189 ج2 مجمع الزوائد (الخطبة والقراءة فيها) وص 305 ج8 تفسير ابن كثير (سورة الحشر) و (الحوائط) جمع حائط وهو البستان، وحائط البنيان جمعه حيطان.
(2) ص263ج2 العقد الفريد(وهذا مثل) أخذه رضي الله عنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا (اقترعوا) على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم. فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم (أي منعوهم من الخرق) نجوا جميعاً". أخرجه البخاري عن النعمان بن بشير (31). ص81 ج5 أخرجه البخاري (هل يقرع في القسمة؟).(1/233)
أيها الناس: إن بعض الطمع فقر، وإن بعض اليأس غني، وإنكم تجمعون ما لا تأكلون، وتأملون ما لا تدركون، وأنتم مؤجلون في دار غرور، وكنتم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تؤخذون بالوحي، فمن أسر شيئاً أخذ بسريرته، ومن أعلن شيئاً أخذ بعلانيته، فأظهروا لنا أحسن أخلاقكم، والله أعلم بالسرائر، فإنه من أظهر لنا قبيحاً وزعم أن سريرته حسنه لم نصدقه، ومن أظهر لنا علانية حسنة ظننا به حسناً. واعلموا أن بعض الشح شعبة من النفاق، فأنفقوا خيراً لأنفسكم { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ }
أيها الناس: أطيبوا مثواكم، وأصلحوا أموركم، واتقوا الله ربكم، ولا تلبسوا نساءكم القباطي، فإنه إن لم يشف فإنه يصف.
أيها الناس: إني لوددت أن أنجو كفافاً لا لي ولا عليّ، وإني لأرجو إن عمرت فيكم يسيراً أو كثيراً أن أعمل بالحق فيكم إن شاء الله، ألا يبقى أحد من المسلمين وإن كان في بيته إلا أتاه حقه ونصيبه من مال الله، وإن لم يعمل إليه نفسه، ولم ينصب إليه بدنه، وأصلحوا أموالكم التي رزقكم الله، ولقليل في رفق خير من كثير في عنف، والقتل حتف من الحتوف، يصيب البر والفاجر، والشهيد من احتسب نفسه.
ذكره الطبري في تاريخه(1)(67).
(27) خطبة أخرى جامعة للفاروق رضي الله عنه
وخطب أيضاً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
(
__________
(1) ص26 ج5 تاريخ الطبري (خطب عمر رضي الله عنه) و (المثوى) بفتح فسكون: المنزل. و (القباطي)- بضم أوله وتشديد آخره، أو بفتح أوله وتخفيف آخره: ثياب كتاب بيض رقاق- جمع قبطية بضم القاف نسبة إلى القبط على غير قياس. وقد تكسر. و (شف) الثوب يشف: رق فحكى ما تحته ووصفه وحدده لرقته.(1/234)
أما بعد) فإني أوصيكم بتقوى الله الذي يبقى ويفنى ما سواه، الذي بطاعته يكرم أولياءه. وبمعصيته يضل أعداءه، فليس لهالك معذرة في فعل ضلالة حسبها هدى، ولا في ترك حق حسبه ضلالة، تعلموا القرآن تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، فإنه لم تبلغ منزلة ذي حق أن يطاع في معصية الله، واعلموا أن بين العبد وبين رزقه حجاباً، فإن صبر أتاه رزقه، وإن اقتحم هتك الحجاب ولم يدرك فوق رزقه، وإياكم وأخلاق العجم، ومجاورة الجبابرة، وأن تجلسوا على مائدة يشرب عليها الخمر، وأن تدخلوا الحمام بغير مئزر، وإياكم والصغار أن تجعلوه في رقابكم. واعلموا أن سباب المسلم فسق، وقتاله كفر، ولا يحل لك أن تهجر أخاك فوق ثلاثة أيام، ومن أتى ساحراً أو كاهناً أو عرافاً(1)فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما، ومن ساءته سيئة وسرته حسنة فهو أمارة المسلم المؤمن، وشر الأمور مبتدعاتها، وإن الاقتصاد في سنة خير من الاجتهاد في بدعة، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، فإنه أهون لحسابكم، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر يوم تعرضون لا تخفى منكم خافية، عليكم بهذا القرآن فإن فيه نوراًَ وشفاءً، وغيره الشقاء، وقد قضيت الذي عليّ فيما ولاني الله عز وجل من أموركم، ووعظتكم نصحاً لكم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
أخرجه الحاكم وابن عساكر. (68)
(28) خطبة للفاروق في وصف الدنيا والتحلي بالفضائل
__________
(1) "الصغار" الضيم والذل، و "الكاهن" من يدعي معرفة الأسرار، ويخبر عما يكون في المستقبل، وقد كان في العرب كهنة، فمنهم من كان يزعم ان له تابعاً من الجن يلقي عليه الأخبار، ومنهم من كان يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات وأسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله، وهذا يخصونه باسم العراف كالذي يدعي معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة ونحوهما- نهاية ابن الأثير.(1/235)
وخطب أيضاً فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
إنما الدنيا أمل مخترم، وأجل منتفض، وبلاغ إلى دار غيرها، وسير إلى الموت ليس فيه تعريج، فرحم الله امرأ فكر في أمره، ونصح لنفسه، وراقب ربه، واستقال ذنبه، بئس الجار الغني، يأخذك بما لا يعطيك من نفسه، فإن أبيت لم يعذرك. إياكم والبطنة فإنها مكسلة عن الصلاة، ومفسدة للجسم، ومؤدية إلى السقم، وعليكم بالقصد في قوتكم، فهو أبعد من السرف وأصح للبدن. وأقوى على العبادة وإن العبد لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه.
ذكره الشيخ حمزة في المواهب(1). (69)
(29) خطبة لسيدنا عثمان
خطب رضي الله عنه حين بايعه أهل الشورى، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلمن ثم قال:
__________
(1) ص213 ج2- المواهب الفتحية (خطبة عمر الفاروق رضي الله عنه و (منتفض) من الانتفاض وهو ضد الإبرام (والبلاغ) مصدر بلغ الكتاب: وصل و (التعريج) الإقامة و (استقال ذنبه) أي طلب إقالته منه بالتوبة، و (لم يعذرك) من باب ضرب أي لم يقبل اعتذارك (والبطنة) بكسر فسكون: امتلاء البطن من الطعام.(1/236)
إنكم في دار قلعة وفي بقية أعمار، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه. ألا وإن الدنيا طويت على الغرور "فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور" اعتبروا بمن مضى، ثم جدوا ولا تغفلوا، فإنه لا يغفل عنكم. أين أبناء الدنيا وإخوانهم الذين آثروها وعمروها ومتعوا بها طويلاً؟ ألم تلفظهم؟ ارموا بالدنيا حيث رمى الله بها، واطلبوا الآخرة فإن الله قد ضرب لها مثلاً، والذي هو خير، فقال عز وجل: "واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً. المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً". ذكره الطبراني(1)(70)
(30) خطبة له في التقوى والعمل
وقال الحسن البصري: خطب عثمان فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أيها الناس اتقوا الله فإن تقوى الله غنم، وإن أكيس الناس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، واكتسب من نور الله نوراً لظلمة القبر، وليخش عبد أن يحشره الله أعمى وقد كان بصيراً. واعلموا أن من كان الله لم يخف شيئاً، ومن كان الله عليه فمن يرجو بعده؟
أخرجه ابن عساكر وابن كثير(2).
(31) خطبة له في الاستعداد للموت
قال مجاهد: خطب عثمان فقال:
__________
(1) انظر ص43 ج5 تاريخ الطبري (خطبة عثمان رضي الله عنه) و (أهل الشورى) هم الذين وكل إليهم عمر التشاور فيمن يكون خليفة بعده وهم عبد الرحمن ابن عوف، وعثمان، وعلي، والزبير، وسعد ابن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، فاختاروا عثمان وبايعوه. و (قلعة) بضم القاف وسكون اللام وضمها وفتحها: أي دار انقلاع وارتحال. و (الهشيم): اليابس، و (تذروه): أي تفرقه يميناً وشمالاً.
(2) ص214 ج7 البداية والنهاية (ذكر شيء من خطبه).(1/237)
ابن آدم: اعلم أن ملك الموت الذي وكل بك لم يزل يخلفك ويتخطى إلى غيرك منذ أنت في الدنيا، وكأنه قد تخطى غيرك إليك وقصدك. فخذ حذرك واستعد له ولا تغفل فإنه لا يغفل عنك. واعلم ابن آدم إن غفلت عن نفسك ولم تستعد لها لم يستعد لها غيرك، ولابد من لقاء الله، فخذ لنفسك ولا تكلها إلى غيرك والسلام. ذكره ابن كثير(1).
(32) آخر خطبة لعثمان رضي الله عنه
هي قوله: إن الله إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوه بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها، إن الدنيا تفنى، وإن الآخرة تبقى، لا تبطرنكم الفانية، ولا تشغلنكم عن الباقية، وآثروا ما يبقى على ما يفنى، فإن الدنيا منقطعة، وإن المصير إلى الله. اتقوا الله فإن تقواه جنة من بأسه، ووسيلة عنده، واحذروا من الله الغير، والزموا جماعتكم لا تصيروا أحزاباً "واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون، ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون". ذكره ابن كثير والطبري(2)(73)
(33) خطبة لعلي رضي الله عنه لما ولى الخلافة
بويع عليّ بالخلافة يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، فخطب الناس: حمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
__________
(1) انظر ص215 ج7 البداية والنهاية.
(2) انظر ص215 منه. وص 149 ج تاريخ الطبري (بعض خطب عثمان رضي الله عنه) والآيتان من آل عمران: 103، 104 و (لاتبطرنكم) من أبطره: أدهشه وجعله بطراً بفتح فكسر. و (الغير) كعنب: الأحداث.(1/238)
إن الله أنزل كتاباً هادياً بين الخير والشر، فخذوا بالخير ودعوا الشر. الفرائض الفرائض، أدوها إلى الله تعالى يؤدكم إلى الجنة. إن الله حرم حرمات غير مجهولة، وفضل حرمة المسلم على الحرم كلها، وشد بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق. لا يحل دم امريء مسلم إلا بما يجب. بادروا أمر العامة وخاصة أحدكم الموت، فإن الناس أمامكم، وإنما خلفكم الساعة تحدوكم، فخففوا تلحقوا؛ فإنما ينتظر بالناس أخراهم. اتقوا الله عباد الله في بلاده وعباده، إنكم مسئولون حتى عن البقاع والبهائم. أطيعوا الله فلا تعصوه. وإذا رأيتم الخير فخذوا به، وإذا رأيتم الشر فدعوه "واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض".
ذكره ابن الأثير(1). (74)
(34) خطبة له في الحث على العمل والإخلاص
وخطب أيضاً فقال بعد حمد الله والثناء عليه:
أما بعد: فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع، ألا وإن المضمار اليوم وغداً السباق. ألا وإنكم في أيام أمل من ورائها أجل، فمن عمل في أيام أمله قبل حضور أجله نفعه عمله ولم يضره أجله، ومن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله وضره أجله. ألا فاعملوا لله في الرغبة كما تعملون له في الرهبة. ألا وإني لم أر كالجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها، ألا وإنه من لم ينفعه الحق يضره الباطل، ومن لم يستقم به الهدى يجر به الضلال إلى الردي. ألا وإنكم قد أمرتم بالظعن ودللتم على الزاد. ألا وإن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل. تزودوا في الدنيا من الدنيا ما تحرزون به أنفسكم غداً.
ذكره في النهج والباقلاني والعاملي(2). (75)
(35) خطبة لسيدنا علي في التقوى
__________
(1) ص76 ج3 تاريخ الكامل (بيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب) و (تحدوكم) أي تتبعكم، يقال: حدا الليل النهار، أي تبعه.
(2) ص66 ج1 نهج البلاغة. وص 69 إعجاز القرآن. وص 257 كشكول.(1/239)
وخطب أيضاً فقال بعد حمد الله:
أيها الناس اتقوا الله فما خلق امرؤ عبثاً فيلهو، ولا أهمل سدي فيلغو، ما دنياه التي تحسنت إليه بخلف من الآخرة التي قبحها سوء النظر إليها، وما الخسيس الذي ظفر به من الدنيا بأعلى همته كالآخر الذي ظفر به من الآخرة من سهمته. ذكره الباقلاني(1). (76)
(36) خطبة جامعة لعلي رضي الله عنه
وخطب فقال: الحمد لله فاطر الخلق، وفالق الإصباح، وناشر الموتى، وباعث من في القبور، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأوصيكم بتقوى الله، فإن أفضل ما توسل به العبد الإيمان والجهاد في سبيله، وكلمته الإخلاص، فإنها الفطرة، وإقام الصلاة، فإنها الملة، وإيتاء الزكاة، فإنها من فريضته، وصوم شهر رمضان، فإنه جنة من عذابه، وحج البيت، فإنه منفاة للفقر، مدحضة للذنب، وصلة الرحمن فإنها مثراة في المال، منسأة في الأجل، محبة في الأهل، وصدقة السر، فإنها تكفر الخطيئة وتطفيء غضب الرب، وصنع المعروف، فإنه يدفع ميتة السوء وبقي مصارع الهول. أفيضوا في ذكر الله، فإنه أحسن الذكر. وارغبوا فيما وعد المتقون، فإن وعد الله أصدق الوعد. واقتدوا بهدي نبيكم صلى الله عليه وسلم. فإنه أفضل الهدي، واستنوا بسنته فإنها أفضل السنن.
__________
(1) انظر ص69 إعجاز القرآن. و (السهمة) بضم فسكون: النصيب.(1/240)
وتعلموا كتاب الله، فإنه أفضل الحديث، وتفقهوا في الدين، فإنه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره، فإنه شفاء لما في الصدور، وأحسنوا تلاوته، فإنه أحسن القصص. وإذا قريء عليكم فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون، وإذا هديتم لعلمه فاعملوا بما علمتم به لعلكم تهتدون، فإن العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستقيم عن جهله، بل قد رأيت أن الحجة أعظم والحسرة أدوم على هذا العالم المنسلخ من علمه، من هذا الجاهل المتحير في جهله، وكلاهما مضلل مثبور(1). لا ترتابوا فتشكوا، ولا تشكوا فتكفروا، ولا ترخصوا لأنفسكم فتذهلوا، ولا تذهلوا في الحق فتخسروا. ألا وإن من الحزم أن تثقوا، ومن الثقة ألا تغتروا، وإن أنصحكم لنفسه أطوعكم لربه، وإن أغشكم لنفسه أعصاكم لربه. من يطع الله يأمن ويستبشر، ومن يعص الله يخف ويندم. ثم سلوا الله اليقين، وارغبوا إليه في العافية. وخير ما دام في القلب اليقين. إن عوازم الأمور أفضلها(2). وإن محدثاتها شرارها، وكل محدث بدعة، وكل محدث مبتدع، ومن ابتدع فقد ضيع، وما أحدث محدث بدعة إلا ترك بها سنة. المغبون من غبن دينه(3)، والمغبون من خسر نفسه، وإن الرياء من الشرك، وإن الإخلاص من العمل والإيمان، ومجالس اللهو تنسى القرآن، ويحضرها الشيطان، وتدعو إلى كل غي. ومجالسة النساء تزيغ القلوب، وتطمح إليها الأبصار، وهن مصائد الشيطان، فاصدقوا الله فإن الله مع من صدق، وجانبوا الكذب فإن الكذب مجانب للايمان. ألا إن الصدق على شرف(4)منجاة وكرامة، وإن الكذب على شرف رديء وهلكة.
__________
(1) من ثبره الله: أهلكه. ويقال: ثبر هو ثبوراً: هلك.
(2) العوازم جمع عزيمة وهي الفريضة. وقيل: ما وكدت رأيك وعزمتك عليه ووقيت بعهد الله فيه.
(3) غبن من باب ضرب، يقال: غبنه أي نقصه، وغبن بالبناء للمفعول فهو مغبون.
(4) على شرف بفتحتين، أي على رغبة فيه، يقال هو على شرف من كذا إذا كان مشارفاً يقال في الخير والشر.(1/241)
ألا قولوا والحق تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، وأدوا الأمانة إلى من ائتمنكم، وصلوا أرحام من قطعكم. وعودوا بالفضل على من حرمكم، وإذا عاهدتم فأوفوا، وإذا
حكمتم فاعدلوا، ولا تفاخروا بالآباء، ولا تنابزوا بالألقاب(1)، ولا تمازحوا، ولا يغتب بعضكم بعضاً، وأعينوا الضعيف المظلوم والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب. وارحموا الأرملة(2)واليتيم: وافشوا السلام. وردوا التحية على أهلها بمثلها أو بأحسن منها "وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله إن الله شديد العقاب" وأكرموا الضيف، وأحسنوا إلى الجار، وعودوا المرضى، وشيعوا الجنائز، وكونوا عباد الله إخواناً.
(
__________
(1) من التنابز وهو التداعي بالنبز بفتحتين، وهو لقب السوء كفاسق وجاهل، أي لا يدعو بعضكم بعضاً بما يسوءه.
(2) الأرملة بفتح الميم: المرأة التي لا زوج لها.(1/242)
أما بعد) فإن السبقة(1)الجنة، والغاية النار، ألا وإنكم في أيام مهل، من ورائها أجل يحثه عجل، فمن أخلص لله عمله في أيام مهله قبل حضور أجله. فقد أحسن عمله ونال أمله. ومن قصر عن ذلك(2)فقد خسر عمله، وخاب أمله، وضره أمله. فاعملوا في الرغبة والرهبة. فإن نزلت بكم رغبة فاشكروا الله واجمعوا معها رهبة. وإن نزلت بكم رهبة فاذكروا الله واجمعوا معها رغبة، فإن الله قد تأذن "أي أعلم" المسلمين بالحسنى، ومن شكر بالزيادة. وإني لم أر مثل الجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها، ولا اكثر مكتسبا من شيء كسبه ليوم تدخر فيه الذخائر، وتبلى فيه السرائر(3)، وتجتمع فيه الكبائر . وإنه من لا ينفعه الحق يضره الباطل ، ومن لا يستقيم به الهدي يجور به الضلال ، ومن لا ينفعه اليقين يضره الشك ، ومن لا ينفعه حاضرة فعازبه عنه أعور وغائبه عنه أعجز . وإنكم قد أمرتم بالظعْن , ودللتم على الزاد ألا وإن أخوف ما أخاف عليكم اثنان : طول الأمل واتباع الهوى . فأما طول الأمل فينسى الآخرة . وأما اتباع الهوى فيبعد عن الحق . ألا وإن الدنيا قد ترحلت مدبرة ، وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة , ولها بنون .
__________
(1) السبقة بضم فسكون: الخطر يوضع بين أهل السباق، أي أن الجنة هي التي ينبغي التسابق إليها بالعمل الصالح.
(2) قصر عن الشيء قصوراً، من باب قعد: عجز عنه.
(3) أي تظهر وتبدو ويصير السر علانية (ففي الحديث) إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء يعرف به، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان. أخرجه الشيخان عن ابن عمر (30) ص66 ج3 تيسير الوصول (الغدر) وقيل السرائر فرائض الأعمال كالصوم والصلاة والطهارة، فإنها سرائر بين الله والعبد، فقد يقول: صمت ولم يصم، واغتسلت ولم يغتسل، فيختبر حتى يظهر من أداها ممن ضيعها.(1/243)
فكونوا من أبناء الآخرة إن استطعتم ، ولا ذكره ابن كثير(1). (77)
(37) خطبة جامعة لسيدنا على رضى الله عنه
وخطب كرم الله وجهه سنة 40 فقال :
الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره . وسبباً للمزيد من فضله ، ودليلا على آلائه وعظمته .عباد الله : إن الدهر يجرى بالباقين كجريه بالماضين . لا يعود ما قد ولي منه ، ولا يبقي سرمداُ ما فيه ، آخر فعاله كأوله ، متسابقة أموره ، متظاهرة أعلامه . فكأنكم بالساعة تحدوكم حد الزاجر بشوله ، فمن شغل نفسه بغير نفسه تحير في الظلمات ، وارتبك في الهلكات ، ومدت به شياطينه في طغيانه ، وزينت له سيئ أعماله ؛ فالجنة غاية السابقين ، والنار غاية المفرطين .
واعلموا عباد الله أن التقوى دار حصن عزيز ، والفجور دار حصن ذليل ، لا يمنع أهله ، ولا يحرز من لجأ إليه ، ألا وبالتقوى تقطع حمة الخطايا ، وباليقين تدرك الغاية القصوى. عباد الله . الله في أعز الأنفس عليكم ، وأحبكم ، فإن الله قد أوضح لكم سبيل الحق . وأنا طرقه ؛ فشقوة لازمة ، أو سعادة دائمة . فتزودوا في أيام الفناء لأيام البقاء ، قد دللتم على الزاد ، وأمرتم بالظعن ، وحثثتم على المسير ؛ فإنما أنتم كركب وقوف لا تدرون متى تؤمرون بالمسير ؛ ألا فما يصنع بالدنيا من خلق للآخرة ، وما يصنع بالمال من عما قليل يسبه وتبقي عليه تبعته وحسابه.
__________
(1) انظر ص 307 ج 7 البداية (خطبة لعلى في أهل العراق) و ( العازب) : البعد ، أي من لم ينتفع بالحاضر لا يستفيد من الغائب .(1/244)
عباد الله : أنه ليس لما وعد الله من الخير مترك . ولا فيما نهي عنه من الشر مرغب . عباد الله احذروا يوماً تفحص فيه الأعمال ، ويكثر فيه الزلزال . ويشيب فيه الأطفال . اعلموا عباد الله أن عليكم رصداً من أنفسكم ، وعيوناً من جوارحكم . وحفاظ صدق يحفظون أعمالكم ، وعدد أنفسكم . لا تستركم منهم ظلمة ليل داج ، ولا يكنكم منهم باب ذور تاج ، وإن غداً من اليوم قريب ، يذهب اليوم بما فيه ، ويجئ الغد لا حقاً به . فكأن كل امرئ منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته ومخط حفرته ، فياله من بيت وحدة ومنزل وحشية ومفرد غربة . وكأن الصيحة قد أتتكم ، والساعة قد غشيتكم ، وبرزتم لفصل القضاء . قد زاحت عنكم الأباطيل ، واضمحت عنكم العلل ، واستحقت بكم الحقائق ، وصدرت بكم الأمور مصادرها . فاتعظوا بالعبر ، واعتبروا بالغير وانتفعوا بالنذر .
ذكره في النهج(1)(78)
(38) خطبة لعلى رضي الله عنه في الرجاء والخوف والصبر.
__________
(1) ص 305 ج 1 نهج البلاغة و (السرمد) الدائم و(الشول) بفتح فسكون : الناقة التي شال لبنها ، أي ارتفاع .والباء بمعني اللام : والمعني. تسوقكم سوق الزاجر لإبله لتسيره و(حمة ) بضم ففتح (الخطايا) أي ضررها وشرها . و(الداجي) : المظلم، و(الرتاج) بالكسر : الباب العظيم محكم الغلق.(1/245)
وخطب أيضا فقال : أيها الناس : احفظوا عنى خمساً ، فلو شددتم إليها المطايا حتى تضمنوها لم تظفروا بمثلها : ألا لا يرجون أحدكم إلا ربه , ولا يخافن إلا ذنبه ، ولا يستحي أحدكم إذا لم يعلم أن يتعلم ، وإذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم . ألا وإن الخامسة الصبر , فإن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد . من لا صبر له لا إيمان له . ومن لا رأس له لا جسد له . ولا خير في قراءة إلا بتدبير ، ولا في عبادة إلا بتفكير ، ولا في حلم إلا بعلم . ألا أُنبئكم بالعالم كل العالم؟ من لا يزين لعباد الله معاصي الله ، ولم يؤمنهم مكره ، ولم ييئسهم من روحه ولا تنزلوا المطيعين الجنة ، ولا المذنبين الموحدين النار حتى يقضي الله فيهم بأمره . لا تأمنوا على خير هذه الأمة عذاب الله . فإنه يقول : (فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) . ولا تقنطوا شر هذه الأمة من رحمة الله ، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون . ذكره ابن عبد ربه(1).(
__________
(1) ص 373 ج 2 العقد الفريد (وخطب أيضاً) . و(تضنوها) أي تضعفوها و(من روحه) الروح بفتح فسكون :الرحمة ،وما يثر عن على رضى الله عنه :
( أ ) قول ابن عباس : ما اتعظت بعد رسول الله صلى عليه وسلم بمثل كتاب كتبه إلى على رضى الله عنه (أما بعد) فإن الإنسان يسره درك ما لم يكن ليفوته , ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه , فلا تكن بما نلته من دنياك فرحاً , ولا بما فاتك منها ترحا , ولا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل , ويرجو التوبة بدون الأمل : عباد الله, الحذر الحذر . فو الله لقد ستر حتى كأنه قد غفر , وأمهل حتى كأنه قد أهمل والله المستعان على ألسنة تصف ، وقلوب تعرف ، وأعمال تخالف. ذكره في الكشكول (6) ص248 ج 3 .
(
ب ) وما رواه محمد بن إسحاق عن النعمان بن سعد قال : كنت بالكوفة في دار على بن أبى طالب إذ دخل علينا نوف بن عبد الله فقال : يا أمير المؤمنين بالباب أربعون رجلا من اليهود . فقال على : على بهم ؛ فلما وقفوا بين يديه قالوا له : يا على صف لنا ربك . فاستوى على جالسا وقال : معشر اليهود اسمعوا منى ولا تبالوا ألا تسألوا أحداً غيري, بل خلق ما خلق فأقام خلقه ، وصور فأحسن صورته ، توحد في علوه ، فليس لشيء منه امتناع ، ولا له بطاعة شئ من خلقه انتفاع : إجابته للداعين سريعة ، والملائكة في السموات والأرضين له مطيعة . علمه بالأموات البائين كعلمه بالأحياء المتقلبين ،وعلمه بما فى السموات العلا كعلمه بما فى الأرض السفلى ،وعلمه بكل شئ ،لا حيره الأصوات ولا تشغله اللغات . سميع للأوات المختلفة بلا جوارح له مؤتلفة ،مدبر بصي عالم بالأمور . حى قيوم. كلم موسى تكليما بلا جوارح ولا أدوات ولا شفة ولا لهوات (بفتحات جمع لهاة وهى اللحمة المشرقة على الحلق فى أقصى الفم) سبحانه وتعالى عن تكييف الفات . من زعم أن إلهنا محدود، فقد جهل الخالق المعبود. ومن ذكر أن الأماكن به تحيط ،لزمته الحيرة والتخطيط . بل هو المحيط بكل مكان ،فإن كنت صادقاً أيها المتكلف لوصف الرحمن بخلاف التنزيل والبهان ،فصف لى جبريل وميكائيل وإسرافيل . هيهات اتعجز عن صفة مخلوق مثلك ،وتصف الخالق المعبود ؟وأنت لا تدرك صفة رب الهيئة والأدوات فكيف من لم تأخذه سنة ولا نوم ،له ما فى الأرضين والسموات وما بينهما وهو رب العرش العظيم .
(حـ) وما روى: أن جندب بن عبد الله دخل على علىّ فقال: يا أمير المؤمنين إن فقدناك- ولا نفقدك- فنبايع الحسن؟ فقال : ما آمركم ولا أنهاكم ،أنتم أبصر ، فرد عليه مثلها. فدعا حسناً وحسيناً فقال :أوصيكما بتقوى الله وألا تبغيا الدنيا وإن بغتكما ،ولا تبكيا على شئ زوى عنكما ،وقولا الحق ،وارحما اليتيم ،وأعينا الملهوف ، واصنعا للآخرة ،وكونا للظالم خصماً ،وللمظلوم ناصراً ،واعملا بما فى الكتاب ، ولا تأخذ كما فى الله لومة لائم . ذكره الطبرى . (8) ص85 ج6.
(د) وقوله للحسن: أوصيك أى بنى بتقوى الله، وإقام الصلاة لوقتها ،وإيتاء الزكاة عند محلها ،وحسن الوضوء فإنه لا صلاة إلا بظهور،ولا تقبل صلاة من مانع الزكاة.وأوصيك بغفر الذنب،وكظم الغيظ، وصلة الرحم ،والحلم عند الجهل،والنفقة فى الدين ،والتثبت فى الأمر ،والتعاهد للقرآن ،وحسن الجوار،والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ،واجتناب الفواحش . ذكره الطبرى(9) ص85 ج6.
(هـ) وما وصى به عند موته فقال : بسم الله الرحمن الرحيم ،هذا ما أوصى به على بن أبى طالب أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأن محمداً عبده ورسوله ،أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ،إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين ، لا شريك له ،وبذلك أمرت وأنا من المسلمين .أوصيك يا حسن وجميع ولدى وأهلى ومن بلغه كتابى بتقوى الله ربكم.
ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون . واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا فإنى سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: إن صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام.
انظروا إلى ذوى أرحامكم فصلوهم . يهون الله عليكم الحساب .الله الله فى الأيتام ، فلا تعنوا أفواههم (أى لا تذلوهم فلا يتمكنون من الشكاية) ولا يضيعن بحضرتكم . واله الله فى جيرانكم ، فإنهم وصية نبيكم ما زال يوصى بهم حتى ظننا أنه سيورثهم . والله الله فى القرآن ،فلا يسبقنكم إلى العمل به غيركم . والله الله فى الصلاة فإنها عمود دينكم . والله الله فى بيت ربكم . فلا يخلون منكم ما بقيتم . فإنه إن ترك لم يناظر . والله الله فى شهر رمضان.،فإن صيامه جنة من النار . والله الله فى الجهاد فى سبيل الله بأموالكم وأنفسكم . والله الله فى الزكاة ؛ فإنها تطفئ غضب الرب. والله الله فى ذمة نبيكم (يعنى أهل الذمة) فلا يظلمن بين ظهرانيكم .والله الله فى أصحاب نبيكم. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بهم. والله الله فى الفقراء والمساكين فأشركوهم فى معايشكم . والله الله فيما ملكت ايمانكم ،فإن آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: "أوصيكم بالضعيفين: نسائكم وما ملكت ايمانكم الصلاة الصلاة " لا تخافن فى الله لومة لائم يكفكم من أرادكم وبغى عليكم ،وقولوا للناس حسناً كما أمركم الله. ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فيولى الأمر شراراكم ثم تدعون فلا يستجاب لكم . وعليكم بالتواصل والتبادل ،وإياكم والتدابر والتقاطع والتفرق . وتعاونوا علىالبر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب .
حفظكم الله فى أهل البيت ، وحفظ عليكم نبيكم .أستودعكم الله،واقرأ عليكم السلام ورحمة الله (10).
ثم لم ينطق إلا بلا إله إلا الله حتى قبض فى رمضان سنة أربعين .
ذكره ابن كثير،ص327 ج7 البداية. والطبرى ،ص85 ج6.د أدوات ولا شفة ولا لهوات (بفتحات جمع لهاة وهى اللحمة المشرقة على الحلق فى ا مننة(1/246)
79).
(39) آخر خطبة لسيدنا الحسين رضى الله عنه
خطب رضى الله عنه فى اليوم الذى استشهد فيه (1)فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
يا عباد الله: اتقوا الله وكونوا من الدنيا على حذر ،فإن الدنيا لو بقيت على أحد أو بقى عليها أحد،لكانت الأنبياء أحق بالبقاء ،وأولى بالرضاء ، وأرضى بالقضاء ،غير أن الله تعالى خلق الدنيا للفناء ، فجديدها بال، ونعيمها مضمحل ،وسرورها مكفهر ،والنزلة تلعة ،والدار قلعة(2) { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } ، { وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (3) .(80).
(40) خطبة جامعة لسيدنا عبد الله بن مسعود رضى الله عنه
قال بعد حمد اله والثناء عليه:
__________
(1) انظر ص 307 ج 7 البداية (خطبة لعلى في أهل العراق) و ( العازب) : البعد ، أي من لم ينتفع بالحاضر لا يستفيد من الغائب .
(2) أى مات فيه شهيداً بكربلاء من أرض العراق وهو يوم الجمعة عاشر المحرم سنة 61 إحدى وستين،وهو ابن خمس وخمسين سنة.انظر ترجمته وقصة قتله وما حدث لقتله وانتقام الله تعالى ممن قتله وأين راسه رضى الله عنه من ص309 – 312 ج9 المنهل العذب (حق السائل).
(3) مكفهر) كمطمئن: يعنى متغيراً غير خالص ..و(تلعة) بفتح فسكون: أى مرتفع أو منخفض حسب عمل الإنسان فهو من الأضداد . و(القلعة) بضم فسكون : العارية . وفى الحديث: بئس المال القلعة .(1/247)
إن أدق الحديث كتاب الله،وأوثق العرى كلمة التقوى ،وخير الملل ملة إبراهيم صلى الله عليه سلم ،واحسن السنن سنة محمد صلى الله عليه وسلم ،وخير الهدى هدى الأنبياء ،واشرف الحديث ذكر الله،وخير القصص القرآن ،وخير الأمور أوساطها،وشر الأمور محدثاتها ،وما قل وكفى خير مما كثر والهى،وشر الندامة ندامة القيامة،وشر الضلالة الضلالة بعد الهدى ،وخير الغنى غنى النفس ،وخير الزاد التقوى ،وخير ما ألقى فى القلب اليقين ،والريب من الكفر ،وشر العمى عمى القلب ،والخمر جماع كل إثم ،والنساء حبالة (1) الشيطان ،والشباب شعلة من الجنون ،والنوح من عمل الجاهلية ،ومن الناس من لا يأتى الجماعة إلا دبراً ،ولا يذكر الله إلا هجراً(2) ، وأعظم الخطايا الكذب ،وسباب المؤمن فسوق ،وقتاله كفر ،وأكل لحمه (3)
__________
(1) الحبالة بكسر الحاء : ما يصاد بها. روى حذيفة أن النبى صلىالله عليه وسلم قال: الخمر جماع الإثم والنساء حبائل الشيطان وحب الدنيا رأس كل خطيئة .أخرجه أبو الحسن وزين بن معاوية (33) ص285 ج3 تيسير الوصول. و(وحبائل) الشيطان : أى مصائده ،واحدها حبالة.
(2) الدبر بضمتين :آخر الوقت . وفى حديث ابن عمرو مرفوعاً : ثلاثة لا يقبل الله منهم لاة : من تقدم قوماً وهم له كارهون ورجل أتى الصلاة دباراً (الحديث) أخرجه أبو داود وابن ماجهع والبيهقى وقال: حديث روى بإسنادين ضعيفين أحدهما مرسل (34) ص304 ج4 منهل . و(دباراً) بكسر ففتح: أى بعد ما يفوت وقتها . و(الهجر) بفتح فسكون : الترك والإعراض.
(3) أكل لحمه : كناية عن غيبته ،قال تعالى : " ولا يغتب بعضكم بعضاً ،ايحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً"..(1/248)
معصية ،وحرمة ماله كحرمة دمه ،ومن يعف يعف الله عنه ،ومن يكظم الغيظ يأجره الله ،ومن يغفر يغفر الله له ، ومن يصبر على الرزية يعقبه الله ،وشر المكاسب كسب الربا،وشر الأكل أكل مال اليتيم ،والشقى من شقى فى بطن أمه ،والسعيد من وعظ بغيره ،وإنما يكفى أحدكم ما قنعت به نفسه (1) ،وإنما يصير إلى أربعة أذرع،والأمور بعواقبها ،وملاك العمل خواتيمه،وأشرف الموت الشهادة ،ومن يعرف البلاء يصبر عليه،ومن لا يعرفه ينكره ،ومن يستكبر يضعه الله،ومن يطع الشيطان يعص الله،ومن يعص الله يعذبه .اخرجه أبو نعيم فى الحلية . (81).
(41) خطبة لمعاوية بن أبى سفيان فى التقوى
خطب الجمعة فى يوم صائف شديد الحر، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم ،ثم قال:
إن الله عز وجل خلقكم فلم ينسكم ،ووعظكم فلم يهملكم،فقال :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } قوموا إلى صلاتكم .
ذكره ابن عبد ربه (2) . (82).
(42) خطبة لعبد الله بن الزبير فى الحث على العمل
خطب فى موسم الحج ،فحمد الله وأثنى عليه ،ثم قال:
أما بعد: فإنكم جئتم من آفاق شتى ،وفوداً إلى الله عز وجل ، فحق على الله أن يكرم وفده ،فمن كان جاء يطلب ما عند الله فإن طالب الله لا يخيب، فدقوا قولكم بفعل فإن ملاك القول الفعل،والنية النية،القلوب القلوب .الله الله فى أيامكم هذه فإنها أيام تغفر فيها الذنوب. جئتم من آفاق شتى فى غير تجارة ولا طلب مال ولا دنيا ترجونها . ذكره أبو نعيم . (83).
(43) خطبة لسحبان بن زفر فى العمل للآخرة
خطب سنة 54 هـ فقال:
إن الدنيا دار بلاغ ،والآخرة دار قرار.أيها الناس : فخذوا من دار ممركم لدار مقركم ،ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم.
__________
(1) قنع ،كتعب :أى رضى .
(2) ص374 ج2 العقد الفريد (خطب معاوية)(1/249)
وأخرجوا من الدنيا قلوبكم قبل أن تخرج منها ابدانكم ،ففيها حييتم ولغيرها خلقتم .إن الرجل إذا هلك قال الناس : ما ترك ؟ وقال الملائكة : ما قدم لله؟ قدموا بعضاً يكون لكم ،ولا تخلفوا كلا يكون عليكم. (84).
(44) خطبة لعبد الملك بن مروان فى الرغبة والرهبة
خطب سنة 86هـ فقال بعد أن حمد الله واثنى عليه:
أيها الناس: اعملوا الله رغبة ورهبة؛ فإنكم نبات نعمته ،وحصيد نقمته ،ولا تغرس لكم الآمال إلا ما تجتنيه الآجال. وأقلوا الرغبة فيما يورث العطب، فكل ما تزرعه العاجلة تقلعه الآجلة .واحذروا الجديدين فهما يكران عليكم ،وعلى أثر من سلف يمضى من خلف ،فتزودوا فإن خير الزاد التقوى . (85).
(45) خطبة لعمر بن عبد العزيز فى النصيحة والتوبة
خطب يوماً فقال بعد حمد الله والثناء عليه :
أيها الناس: إنما الدنيا أمل مخترم ،وأجل منتقض ،وبلاغ إلى دار غيرها،وسير إلى الموت ليس فيه تعريج ،فرحم الله امرأً فكر فى أمره ، ونصح لنفسه ،وراقب ربه،واستقال ذنبه ،ونور قلبه .
أيها الناس: قد علمتم أن أباكم قد خرج من الجنة بذنب واحد(1) وإن ربكم وعد على التوبة ،فليكن أحدكم من ذنبه على وجل ،ومن ربه على أمل . (81).
(46) خطبة له فى الاتباع
خطب يوماً فحمد الله وأثنى عليه ،ثم قال:
(أما بعد) أيها الناس: إنه ليس بعد نبيكم صلى الله عليه وسلم نبى ، وليس بعد الكتاب الذى أُنزل عليه كتاب،فما أحل الله على لسان نبيه فهو حلال إلى يوم القيامة ،وما حرم الله على لسان نبيه فهو حرام إلى يوم القيامة.
ألا إنى لست بقاض ولكنى منفذ لله،ولست بمبتدع ولكنى متبع.ألا إنه ليس لأحد أن يطاع فى معصية الله عز وجل .ألا إنى لست بخيركم،وإنما أنا رجل منكم،غير أن الله جعلنى اثقلكم حملا.
__________
(1) هو أكله من الشجرة بعد النهى عنه ،وقد تقدم أنه أكل منها متأولا فتسميته ذنباً باعتبار منزلته ،فهو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين .(1/250)
أيها الناس : إن أفضل العبادة أداء الفرائض ،واجتناب المحارم ،أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. (87).
(47) آخر خطبة لعمر بن عبد العزيز
آخر خطبة خطبها أن حمد الله وأثنى عليه ثم قال :
أيها الناس: إنكم لم تخلقوا عبثاً ولم تخلقوا سدى ،وإن لكم معاداً يحكم الله بينكم فيه . فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التى وسعت كل شئ ، وحرم جنة عرضها السموات والأرض . واعلموا أن الأمان غداً لمن خاف اليوم ،وباع قليلا بكثير وفانياً بباق ،ألا ترون أنكم من أصلاب الهالكين ، وسيخلفها من بعدكم الباقون حتى يرد إلى خير الوارثين ،ثم إنكم فى كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله قد قضى نحبه وبلغ أجله ،ثم تغيبونه فى صدع (1) من الأرض ،ثم تدعونه غير موسد ولا ممهد ،قد خلع الأسباب ،وفارق الأحباب وواجه الحساب ،غنياً عما ترك ،فقيراً إلى ما قدم ،وايم الله إنى لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد منكم أكثر مما عندى ،فاستغفر الله لى ولكم ،وما تبلغنا حاجة يتسع لها ما عندنا إلا سددناها ،ولا أحد منكم إلا وردت أنيده مع يدى ولحمتى (2) الذين يلوننى حتى يستوى عيشنا وعيشكم ،وايم الله إنى لو أردت غير هذا من عيش او غضارة (3) لكان اللسان به ناطقاً ذلولا عالماً بأسبابه ،ولكنه مضى من الله كتاب ناطق وسنة عادلة،دل فيها على طاعته ،ونهى عن معصيته ،ثم بكى فتلقى دموع عينيه بردائه ونزل، فلم يعد بعدها على تلك الأعواد حتى قبضه الله تعالى . (88).
(48) خطبة جامعة للحسن البصرى
قال بعد حمد الله والثناء عليه:
__________
(1) الصدع بفتح فسكون : الشق .
(2) اللحمة بضم فسكون : القرابة .
(3) الغضارة بفتح الغين :النعمة والسعة .(1/251)
يا بن آدم بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعاً،ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعاً . يا بن آدم إذا رأيت الناس فى الخير فنافسهم فيه ،وإذا رايتهم فى الشر فلا تغبطهم عليه ،الثواء (1) ههنا قليل ،والبقاء هناك طويل ، أُمتكم آخر الأمم وأنتم آخر أُمتكم ،وقد أسرع بخياركم ،فماذا تنتظرون ؟ هيهات هيهات، ذهبت الدنيا بحاليها ،وبقيت الأعمال قلائد فى أعناق بنى آدم،فيالها موعظة لو وافقت من القلوب حياة .أما إنه والله لا أُمة بعد أُمتكم ،ولا بنى بعد نبيكم ،ولا كتاب بعد كتابكم ،أنتم تسوقون الناس والساعة تسوقكم ،وإنما ينتظر بأولكم أن يلحقه أخركم .من رأى محمداً صلى الله عليه وسلم فقد رآه غادياً رائحاً ،لم يضع لبنة على لبنة،ولا قصبة على قصبة . فالوحاء الوحاء (2) ،والنجاء النجاء ،علام تعرجون ؟ (3) أُوتيتم ورب الكعبة . قد أسرع بخياركم أنتم فى كل يوم ترذولون (4) فماذا تنتظرون ؟ إن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم على علم منه ،اختاره لنفسه ، وبعثه برسالته ،وأنزل عليه كتابه ،وكان صفوته من خلقه ،ورسوله إلى عباده ،ثم وضعه من الدنيا موضعاً ينظر إليه أهل الأرض ، وآتاه منها قوتاً وبلغة(5) .
__________
(1) الثواء بالفتح والمد : الإقامة.
(2) ويقال :الوحاك الوحاك فى الحث على الاستعجال ،وتوحى أسرع .
(3) تعرجون بضم ففتح فشد الراء : من التعريج وهو الميل والانعطاف .
(4) ترذلون بفتح فسكون فضم : من الرذل وهو العيب والقبح ،أى ترتكبون ما لا يرضى.
(5) البلغة ،بضم فسكون :ما يبلغ به من العيش ولا يفضل.(1/252)
ثم قال: { وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ(1) فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً ، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك . خذوا صفا الدنيا ،وذروا كدرها ،فليس الصفو ما عاد كدراً،ولا الكدر ما عاد صفواً ،دعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم.
ظهر الجفاء ،وقلت العلماء ،وعفت السنة ،وشاعت البدعة .
لقد صحبت أقواماً ما كانت صحبتهم إلا قرة العين وجلاء الصدور . مالي اسمع حسيساً ،ولا أرى أنيساً . ذهب الناس وبقى النسناس(2) . قال ابن الخطاب : رحم الله امرأ أهدى إلينا مساوينا. اعدوا الجواب فإنكم مسئولون.المؤمن من لم يأخذ دينه عن رأيه ،ولكنه أخذه من قبل ربه. إن الحق قد جهد أهله ، وحال بينهم وبين شهواتهم ،وما يصبر عليه إلا من عرف فضله ،ورجا عاقبته . فمن حمد الدنيا دم الآخرة ،وليس يكره لقاء الله إلا مقيم على سخطه .
__________
(1) طائرة: عمله وما قدر عليه من خير وشر فإنه يلزمه ويجزى به .وقال مجاهد : ما من مولود إلا وفى عنقهورقة مكتوبة فيها شقى أو سعيد .ذكره البغوى (11) ص158 ج5 هامش تفسير ابن كثير .
(2) النسناس ،بفتح النون وتكسر: خلق على ورة الناس وخالفوهم فى أشياء وليسوا منهم.(1/253)
يا بن آدم : الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني ،ولكنه ما وقر فى القلوب وصدقه العمل (1) . (89).
(49)خطبة لخالد بن عبد الله القسيرى فى المكارم
خطب بواسط (2) سنة 126هـ، فحمد الله وصلى الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ،ثم قال:
أيها الناس: نافسوا في المكارم ،وسارعوا إلى المغانم ، واشتروا الحمد بالجود ، ولا تكسبوا بالمطل(3) ذماً ، ولا تعتدوا بالمعروف ما لم تعجلوه ، ومهما يكن لأحد منكم عند أحد نعمة فلم يبلغ شكرها ،فالله أحسن لها جزاءً وأجزل عليها عطاءً . واعلموا أن حوائج الناس إليكم نعمة من الله عليكم، فلا تملوا النعم فتحولوها نقماً . واعلموا أن أفضل المال ما أكسب أجراً ، وأورث ذكراً ،ولو رأيتم المعروف رجلا رأيتموه حسناً جميلا يسر الناظرين . ولو رأيتم البخل رجلا رأيتموه مشوهاً قبيحاً تنفر عنه القلوب وتغضي عنه الأبصار.
أيها الناس: إن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه ،وأعظم الناس عفواً من عفا عن قدرة ،وأوصل الناس من وصل من قطعه ، ومن لم يطب حرثه لم يزك نبته ،والأصول عن مغارسها تنمو ،وبأولها تسمو. أقول قولي هذا واستغفر الله لى ولكم . (90).
(50)خطبة جامعة لواصل بن عطاء
__________
(1) التحلي : التزين . و التمني : التشهي . والصحيح أنه من كلام الحسن وسنده جيد (وأما) حديث أنس بن مالك أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ليس الإيمان بالتمني ، ولا بالتحلى ،ولكن هو ما وقر فى القلب وصدقه العمل .أخرجه ابن النجار وكذا البخاري فى تاريخه وزاد : وإن قوماً غرتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم ،وقالوا نحن نحسن الظن بالله تعالى وكذبوا ،لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل (35) (فهو) حديث منكر تفرد به عبد السلام بن الح العابد . قال النسائى : متروك وقال ابن عدى مجمع على ضعفه . رقم 7570 ص355 ج5 فيض القدير .
(2) واسط : بلد بالعراق .
(3) المطل، بفتح فسكون: التسويف بالعمل وبالوفاء مرة بعد أخرى .(1/254)
في سنة 131 هـ خطب خطبة خالية من الراء فقال:
الحمد لله القديم بلا غاية ،والباقي بلا نهاية ،الذي علا في دنوه ،ودنا في علوه ،فلا يحويه زمان ،ولا يحيط به مكان ،ولا يئوده حفظ ما خلق (1) ،ولم يخلقه على مثال سبق ،بل أنشأه ابتداعاً ،وعدّ له اصطناعاً ،فأحسن كل شئ خلقه ،وتمم مشيئته ،وأوضح حكمته ،فدل على ألوهيته ، فسبحانه لا معقب لحكمه ،ولا دافع لقضائه ،تواضع كل شئ لعظمته ، وذل كل شئ لسلطانه ،ووسع كل شئ علماً ،لا يعزب عنه مثقال حبة وهو السميع العليم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، إلهاً تقدست أسماؤه ،وعظمت آلاؤه، وعلا عن فات كل مخلوق ،وتزه عن شبيه كل مصنوع ،فلا تبلغه الأوهام ،ولا تحيط به العقول ولا الإفهام ،يُعصى فيحلم ،ويُدعى فيسمع ، ويقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون .
وأشهد شهادة حق ،وقول صدق ، بإخلاص نية وصحة طوية ،أن محمد ابن عبد الله عبده ورسوله ، ونبيه وصفيه ، ابتعثه إلى خلقه بالبينة والهدى ودين الحق ، فبلغ مألكته (2) ونصح لأمته ،وجاهد في سبيل الله ، لا تأخذه في الحق لومة لائم ،ولا يصده عنه زعم زاعم ماضياً على سنته ،موفياً على قصده (3) حتى أتاه اليقين ،فصلى الله على محمد وعلى آل محمد ،أفضل وأزكى وأتم وأنمى وأجلّ وأعلى صلاة صلاها على صفوة أنبيائه ،وخالصة ملائكته ،وأضعاف ذلك ،إنه حميد مجيد.
__________
(1) لا يئوده :أي لا يثقله تدبير خلقه .
(2) مألكة بفتح فسكون فضم اللام وتفتح : اسم للرسالة . ويقال مألك- بلا تاء .
(3) أي مشرفاً على مقصودة وما كلف من التبليغ والإرشاد .(1/255)
أُوصيكم عباد الله مع نفسي بتقوى الله ،والعمل بطاعته ،والمجانبة لمعصيته ،وأحضكم على ما يدنيكم منه، ويزلفكم لديه ، فإن تقوى الله أفضل زاد ،وأحسن عاقبة فى معاد ،ولا تلهينكم الحياة الدنيا بزينتها وخدعها وفواتن لذاتها ، وشهوات آمالها . فإنها متاع قليل ومدة إلى حين ،وكل شئ منها يزول ،فكم عاينتم من أعاجيبها ؟ وكم نبت لكم من حبائلها ؟ و أهلكت من جنح إليها واعتمد عليها ، أذاقتهم حلواً ،ومزجت لهم سماً . أين الملوك الذين بنوا المدائن ،وشيدوا المصانع ،وأوثقوا الأبواب ، وكاثفوا الحجاب (1) وأعدوا الجياد ،وملكوا البلاد ،واستخدموا التلاد؟ (2) قبضتهم بمحملها ، وطحنتهم بكلكلها(3) وعضتهم بأنيابها ،وعاضتهم من السعة ضيقاً ،ومن العزة ذلا ،ومن الحياة فناء ، فسكنوا اللحود ،وأكلهم الدود ،واصبحوا لا ترى إلا مساكنهم ،ولا تجد إلا معالمهم ،ولا تحس منهم من أحد ولا تسمع لهم نبساً (4) ، فتزودوا عافاكم الله ، فإن أفضل الزاد التقوى ،واتقوا الله يا أولى الألباب لعلكم تفلحون . جعلنا الله وإياكم ممن ينتفع بمواعظه ،ويعمل لحظه وسعادته ،ومنن يستمع القول فيتبع أحسنه .
__________
(1) وكاثفوا ..إلخ) أى جعلوا الستر كثيفاً متيناً.
(2) التلاد بكسر التاء وفتحها : المال القديم عند الإنسان من خيل وعبيد،وهو ضد الطارف.
(3) المحمل) كمجلس فى الأصل : شقان على البعير يحمل فيهما العديلان . والمراد به هنا القبر لأنه يشق فى الأرض ،و(الكلكل) بفتح فسكون ففتح فى الأصل : الصدر ،والمراد به هنا الشدة .
(4) تحس بضم التاء : من الإحساس وهو فىالأصل الإبصار ثم استعمل فى العلم بأى حاسة . و(النبس) بفتح فسكون :الكلام والحركة .(1/256)
أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب . إن أحسن قصص المؤمنين ،وابلغ مواعظ المتقين ،كتاب الله الزكية آياته ، الواضحة بيناته ، فإذا تلى عليكم فأنصتوا له واسمعوا لعلكم تفلحون .أعوذ بالله القوى من الشيطان الغوى ، إن الله هو السميع العليم { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } . نفعنا الله وغياكم بالكتاب الحكيم ، والوحى المبين ،وأعادنا وإياكم من العذاب الأليم ،وأدخلنا وإياكم جنة النعيم .(91).
(51)خطبة جامعة للمهدى
خطب سنة 169هـ فقال:
الحمد لله الذي ارتضى الحمد لنفسه ،ورضى به من خلقه . أحمده على آلائه ،وأمجده لبلائه ، واستعينه وأومن به وأتوكل عليه توكل راض بقضائه ، وصابر لبلائه ،واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ وأن محمداً عبده المصطفى ، ونبيه المجتبى ،ورسوله إلى خلقه وأمينه على وحيه . أرسله بعد انقطاع الرجاء ، وطموس العلم ، واقتراب من الساعة ، إى أمة جاهلية مختلفة أمية ، أهل عداوة وتضاغن ،وفرقة وتباين . قد استهوتهم شياطينهم ، وغلب عليهم قرناؤهم ؛ فاستشعروا الردى(1) وسلكوا العمى ، يبشر من أطاعه بالجنة وكريم ثوابها ،وينذر من عصاه بالنار وأليم { عقابها لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَة(2)ٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
__________
(1) فاستشعروا )أى جعلوه كالشار وهو اللباس يلى الجسد.
(2) ليهلك إلخ : أي إنما جمعكم الله مع عدوكم على غير معاد لينصركم عليهم ، فيستمر فى الكفر من استمر فيه على بصيرة من أمره أنه مبطل لقيام الحجة عليه ،ويؤمن من آمن عن حجة وبصيرة ،فالهلاك الكفر والحياة الإيمان . قال تعالى: " أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشى به فى الناس " (الآية) 122- الأنعام .(1/257)
أوصيكم عباد الله بتقوى الله ، فإن الاقتصار عليها سلامة ،والترك لها ندامة ،وأحثكم على إجلال عظمته ،وتوقير كبريائه وقدرته ،والإنهاء إلى ما يقرب من رحمته ،وينجى من سخطه ،وينال به ما لديه من كريم الثواب ،وجزيل المآب . فاجتنبوا ما خوفكم الله من شديد العقاب ،واليم العذاب ،ووعيد الحساب ،يوم توقفون بين يدي الجبار ،وتعرضون فيه على النار { يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } (1) { يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيه } ِ (2) { وَاتَّقُوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } (3) { وَاخْشَوْا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ } (4)، فإن الدنيا دار غرور وبلاء وشرور ، واضمحلال وزوال ،وتقلب وانتقال . قد أفنت من كان قبلكم ،وهى عائدة عليكم وعلى من بعدكم. من ركن إليها رعته ،ومن وثق بها خانته ، ومن أملها كذبته ،ومن رجاها خذلته . عزها ذل ، وغناها فقر،والسعيد من تركها ،والشقى فيها من آثرها ،والمغبون فيها من باع حظه من دار آخرته بها.
__________
(1) سورة هود ،الآية 105.
(2) سورة عبس ،الآيات من 34- 37.
(3) سورة البقرة ،الآية 123 ،و(العدل) الفدية .
(4) سورة لقمان من آية 33 وصدرها : " يا أيها الناس اتقوا ربكم " و( الغرور) بفتح الغين :الشيطان.(1/258)
فالله الله عباد الله ،والتوبة مقبولة ،والرحمة مبسوطة ،وبادروا بالأعمال الزكية فى هذه الأيام الخالية قبل أن يؤخذ بالكظم(1) ،وتندموا فلا تنالون الندم ، فى يوم حسرة وتأسف وكآبة وتلهف ،يوم ليس كالأيام ،وموقف ضنك المقام .
إن أحسن الحديث وأبلغ الموعظة كتاب الله ،يقول الله تبارك وتعالى :
{ وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (2) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . بسم الله الرحمن الرحيم . { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ،حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ } .إلخ السورة (3) .
__________
(1) الكظم بفتحتين : الحلق أو الفم أو مخرج النفس.
(2) سورة الأعراف ،الآية 204 .
(3) قال ابن بريدة : نزلت فى قبيلتين من قبائل الأنصار فى بنى حارثة وبنى الحارث ، تفاخروا وتكاثروا فقالت إحداهما : فيكم مثل فلان بن فلان وفلان ؟ وقال الآخرون مثل ذلك . تفاخروا بالأحياء ثم قالوا : انطلقوا بنا إلى القبور ،فجعلت إحدى الطائفتين تقول: فيكم مثل فلان ومثل فلان ؟ يشيرون إلى القبور ،وفعل الآخرون مثل ذلك فأنزل الله : " ألهاكم التكاثر . حتى زرتم المقابر " .أخرجه ابن أبى حاتم (12) ص283 ج9 تفسير ابن كثير. (والمعنى) شغلكم حب الدنيا والتباهى بكثرة المال والولد والتفاخر بالأحساب والأنساب ،عن طاعة رب الأرباب ،والتزود ليوم المعاد ، يوم توفى كل نفس ما كسبت وتجنى ثمرة ما قدمت ،حتى جاءكم الموت وصرتم إلى المقابر،ولم تقدموا من العمل ما ينفعكم فى رمسكم ،ويؤنسكم فى وحشتكم ،وينجيكم من عذاب أليم (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم : إلهاكم التكاثر عن الطاعة حتى زرتم المقابر حتى يأتيكم الموت .أخرجه ابن أبى حاتم عن زيد بن أسلم (36). ص282 ج9 تفسير ابن كثير.
وقد زجر الله تعالى آل التفاخر والتكاثر وحذرهم عاقبة تفريطهم وجزاء لهوهم فقال( كلا) ليس الأمر بالتكاثر والاعتزاز بالأهل والعشائر (سوف تعلمون) عاقبة تفاخركم وسوء صنيعكم حين تقومون من القبور ،وتساقون إلى مكان يحاسبكم فيه الرب الغيور، فتسألون عن أعماركم وعلومكم وأموالكم وأجسامكم( ففى الحديث) لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع :عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم عمل فيه ؟ وعن ماله من أين أكتسبه وفيم أنفقه ؟ وعن جسمه فيم أبلاه ؟ أخرجه الترمذي وصححه عن أبى برزة السلمي (37) ص225 ج3 تيسير الوصول (الحساب) (ثم كلا سوف تعلمون ) وعيد بعد وعيد تأكيداً للردع والتهديد . وقال الضحاك : (كلا سوف تعلمون) يعنى أيها الكفار (ثم كلا سوف تعلمون ) يعنى أيها المؤمنون :وكان يقرأ الأولى بالتاء والثانية بالياء( كلا لو تعلمون علم اليقين)أى لو علمتم حق العلم أنكم مبعوثون ليسوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين ويحاسبون على ما قدمت أيديهم لشغلكم ما تعلمون عن التكاثر والتفاخر . فجواب لو محذوف . ثم توعدهم الله بما هم فيه شاكون مفسراً الوعيد السابق فقال( لترون الجحيم) بفتح التاء أي ترونها بأبصاركم من بعيد . وقرئ بضم التاء (ثم لترونها عين اليقين )أي لتشاهدن النار من قرب مشاهدة يقين لا مجال للشك معه . فالرؤية الأولى هي المشار إليها بقوله تعالى : " إذا رأتهم من مكان بعيد" والرؤية الثانية هى التي تكون عند ورود جهنم " وإن منكم إلا واردها" أو الرؤية الأولى رؤية علم ومعرفة .والثانية رؤية عيان ومشاهدة (ثم لتسألن يومئذ) يوم الحساب والجزاء (عن) شكر النعيم الذي أنعم الله به عليكم من الصحة والأمن والرزق وغيرها ،ماذا قابلتم به نعمة من شكره وعبادته ؟ 0روى) ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لتسألن يومئذ عن النعيم) قال: الأمن والصحة . أخرجه البغوى(38) ص285 ج9 هامش تفسير ابن كثير (وعن) أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له: ألم نصح جسمك ،ونروك من الماء البارد ؟ أخرجه الترمذي وابن حبان والحاكم والبغوى (39) ص183 ج1 تيسير الوصول( التكاثر) (وقال) الزبير: لما نزلت (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) قلت: يا رسول الله وأي نعيم نسأل عنه؟ وإنما هما الأسودان : التمر والماء . قال: أما إنه سيكون .أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه (40) ص260 ج18 الفتح الرباني . وص 183 ج1 تيسير الوصول (التكاثر) (وقال) زيد بن أسلم عن رسول الله : ( ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) يعنى شبع البطون ،وبارد الشراب ،وظلال المساكن ،واعتدال الخلق ولذة النوم .أخرجه ابن أبى حاتم (41) ص288 ج9 تفسير ابن كثير(وقال) ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ.أخرجه البخاري والأربعة إلا ابا داود (كتاب الرقاق الصحة والفراغ) والمعنى أنهم مقصرون فى شكر هاتين النعمتين لا يقومون بواجبهما .ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه فهو مغبون . وقد تضمنت السورة :
(أ) التحذير من الركون إلى الدنيا ،والانغماس فى نعيمها ،والتنافس فى حطامها الزائل ومتاعها القليل .
(ب) أن الحرص على جمع المال والتفاخر بكثرته مما يلهى عن طاعة الله ،وينسى الناس التزود ليوم المعاد .وقد ورد فى غير حديث ما يؤيد ذلك .روى مطرف عن أبيه عبد الله بن الشخير قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ "ألهاكم التكاثر" قال يقول ابن آدم : مالي مالي . وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت او لبست فأبليت ،أو تصدقت فأمضيت ؟أخرجه أحمد ومسلم والنسائي والترمذي (42) ص24 ج4 مسند احمد 0حديث مطرف بن عبد الله عن أبيه ...) وص94 ج18 نووي مسلم الزهد(والمعنى9 لا ينبغي لابن آدم التفاخر بكثرة المال ،والاهتمام بتحصيله وهو لا ينتفع به إلا فى أكل أو لبس أو صدقة ،وما بقى بعد ذلك سيتركه ويحاسب عليه من أين اكتسبه ؟ وفيم أنفقه ؟ ويكون زاده إلى النار . نسأل الله السلامة (وعن أبى هريرة ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول العبد : مالي مالي ،وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فاقتنى ،أو لبس فأبلى ،أو أعطى فاقتنى (أي ادخر) وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس.أخرجه أبو مسلم (44) . وص94 ج18 نووي مسلم.
(حـ) أن عذاب القبر حق ،والبعث حق ،والحساب حق، والجنة والنار حق (قال) علىّ : ما زلنا نشك فى عذاب القبر حتى نزلت (إلهاكم التكاثر, حتى زرتم المقابر )أخرجه ابن أبى حاتم والترمذي وقال غريب (13) ص284 ج9 تفسير ابن كثير (وقال) ميمون بن مهران : كنت جالساً عند عمر بن عبد العزيز فقرأ: (إلهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر ) فلبث هنيهة ثم قال: يا ميمون ما أرى المقابر إلا زيارة ، وما للزائر بدمن أن يرجع إلى منزله ،يعنى إلى جنة أو إلى نار .أخرجه ابن أبى حاتم (14) ص284 ج9 تفسير ابن كثير.
(د) الترغيب في شكر ذي الفضل والإنعام ،على ما أسبغ علينا من فضل وإحسان (وفى هذا) يقول النبي صلى الله عليه وسلم :يقول الله يوم القيامة : يا بن آدم حملتك على الخيل والإبل ، وزوجتك النساء ،وجعلتك ترتع (من الرتع وهو التنعم) وترأس ( من الترأس وهو التقدم على الغير بأن يصير رئيساً عليه )فأين شكر ذلك ؟ أخرجه أحمد عن أبى هريرة (45) ص289 ج9 تفسير ابن كثير.(1/259)
أُوصيكم عباد الله بما أوصاكم الله به ،وأنهاكم عما نهاكم عنه ،وأرضى لكم طاعة الله ،وأستغفر الله لى ولكم . (92).
( 52 ) خطبة جامعة لهارون الرشيد
خطب سنة 193هـ فقال:
الحمد لله نحمده على نعمه، ونستعينه على طاعته، ونستنصره على أعدائه، ونؤمن به حقاً، ونتوكل عليه مفوضين إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. بعثه على فترة من الرسل، ودروس(1) من العلم ، و أدبار من الدنيا،وإقبال من الآخرة.
بشيراً بالنعيم المقيم، ونذيراً بيم يدي عذاب أليم، فبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وجاهد في الله، فأدى عن الله وعده ووعيده حتى أتاه اليقين. فعلى النبي من الله صلاة ورحمة وسلام.
__________
(1) فترة ) بفتح فسكون :أى انقطاع . و(دروس) كقعود مصدر درس المنزل: عفا وخفيت آثاره.(1/260)
أًوصيكم عباد الله بتقوى الله، فإن في التقوى تكفير السيئات، وتضعيف الحسنات، وفوزاً بالجنة، ونجاة من النار، وأُحذركم يوماً تشخيص فيه الأبصار ،وتعلن فيه الأسرار ،يوم البعث ويوم التغابن(1)،ويوم التلاق ،ويوم التناد(2) ،يوم لا يستعتب فيه من سيئة (3) ولا يزداد من حسنة ،يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين . ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ،يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور(4) ،
__________
(1) قال تعالى : " يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن " والتغابن من الغبن وهو أخذ الشئ من صاحبع باقل من قيمته ولا يكون إلا فى عقد معاوضة ،ولا معاوضة فى الآخرة ،فهو مستعار لنزول السعداء منازل الأشقياء التى كانوا يمزلونها لو كانوا سعداء وبالعكس (ففى الحديث) لا يدخل أحد الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ، ليزداد شكراً . ولا يدخل النار أحد إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن، ليكون عليه حسرة .أخرجه البخارى عن أبى هريرة (46) ص354 ج11 فتح البارى (صفة الجنة والنار – الرفاق) فالمغابنة ليست بين اثنين بل بين الشخص ونفسه على سبيل التجريد .
(2) يوم التلاق والتناد : يوم القيامة ،سمى بذلك لتلاقى من تقدم ومن تأخر ،وأهل السماء والأرض ،وملاقاة كل واحد لعمله الذى قدمه ،ولأنه ينادى فيه على الخلائق .
(3) لا يستعتب) مبنى للمجهول ،يقال : استعتب إذا طلب الرضا ،يعنى أنه ليس يوم استرضاء ،لأنه يوم جزاء لا يوم عمل.
(4) الآزفة :القيامة ،سميت لقربها كما قال تعالى : " أزفت الآزفة " أى قربت القيامة . و( لدى الحناجر) أى أن القلوب من شدة الخوف انتقلت إلى الحناجر ووقفت فيها ،فلا تخرج ولا تعود إلى أماكنها . و( كاظمين) أى ساكتين ،لا يتكلم أحد إلا بإذن الله تعالى . ومكروبين : ممتلئين خوفاً وحزناً ..والكظم : تردد الخوف والغيظ والحزن فى القلب حتى يضيق به ( ما للظالمين ) أنفسهم بالشرك والمعاصى (من حميم ) أى قريب ينفعهم (ولا شفيع يطاع) فيشفع فيهم . و( خائنة الأعين) أى خيانتها بمسارقة النظر إلى ما لا يحل (وما تخفى الصدور) من السرائر والوساوس والنوايا.(1/261)
واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
عباد الله : إنكم لم تخلفوا عبثاً ،ولن تتركوا سدى . حصنوا إيمانكم بالأمانة ،ودينكم بالورع ،وصلاتكم بالزكاة ،فقد جاء فى الخبر أن النبى صلى اله عليه وسلم قال : " لا إيمان لمن لا أمانة له(1) ولا دين لمن لا عهد له(2) ،
__________
(1) أى لا إيمان كامل . فالأمانة لب الإيمان . وهى منه بمنزلة القلب من البدن . وهى ثلاثة أقسام :
(أ) الأمانة فى العبادة بفعل المأمورات واجتناب المنهيات . وهى لازمة فى كل عبادة حتى الوضوء والغسل.
(ب) والأمانة فى الأعضاء السبعة : اللسان والعين والأذن واليد والرجل والبطن والفرج ، يحفظهما عما لم تخلق له ، بأن يحفظ لسانه من الكذب والغيبة والنميمة ونحوها .
ويغض بصره عن المحرم ،ولا يستمع اللهو والقحش والكذب ونحوها ، ويكف باقى الأعضاء عن المحرم.
(جـ) والأمانة مع العباد برد الودائع والعوارى إلى أربابها بقوله : " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها "، فمن ضيع جزءاً منها ضعف إيمانه بقدره ،ومن ضيع الكل خرج عن الإيمان .
(2) المراد بالدين : الخضوع لأوامر الله ونواهيه . والمعنى أن من جرى بينه وبين غيره وعد ثم لم يف لغير عذر شرعى ،فدينه ناقص. هذا والحديث أخرج الجملتين الأوليين منه أحمد وابن حبان عن أنس بسند قوى . انظر رقم 9704 ج6 فيض القدير.
وأما الجملة الثالثة فلم أقف عليها مرفوعة ،بل أخرج معناها ابن كثير عن ابن مسعود قال: أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ،ومن لم يزك فلا صلاة له (15) (وقال) عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ابى الله يقبل الصلاة إلا بالزكاة (16).(1/262)
ولا صلاة لمن لا زكاة له" . إنكم سفر مجتازون ،وأنتم عن قريب تنتقلون من دار فناء إلى دار بقاء . فسارعوا إلى المغفرة بالتوبة ،وإلى الرحمة بالتقوى، وإلى الهدى بالإنابة ،فإن الله تعالى ذكره أوجب رحمته للمتقين ،ومغفرته للتائبين ،وهداه للمنيبين .قال الله عز وجل : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } (1). وقال : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى } (2) .وإياكم والأمانى ،فقد عزت وأردت وأوبقت كثيراً حتى أكذبتهم مناياهم ،فتناشوا التوبة(3) من مكان بعيد، وحيل بينهم وبين ما يشتهون .فأخبركم ربكم عن المثلات فيهم(4) ،وصرف الآيات(5) ،وضرب الأمثال ؛ فرغب بالوعد ،وقدم إليكم الوعيد ،وقد رأيتم وقائعه بالقرون الخوالى جيلا فجيل ،وعهدتم الآباء والأبناء والأحبة والعشائر باختطاف الموت إياهم من بيوتكم وبين أظهركم ،لا تدفعون عنهم ولا تحولون دونهم ،فزالت عنهم الدنيا ،وانقطعت بهم الأسباب ،فأسلمتم إلى أعمالهم عند المواقف والحساب والعقاب { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا } . إن أحسن الحديث وابلغ الموعظة كتاب الله . يقول اللع عز وجل : { وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (6) .أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. إنه هو السميع العليم .
__________
(1) سورة الأعراف ،عجز آية 156 وصدرها :واكتب لنا.
(2) سورة طه ،الآية 82..
(3) التناوش : التناول.
(4) المثلات : جمع مثلة بفتح فضم ،وهى العقوبة.
(5) أى بينها ووضحها مرة بعد أخرى، قال تعالى : " انظر كيف نصرف الايات لعلهم يفقهون " .سورة الأنعام ،عجز ىية 56 وصدرها : " قل هو القادر على أن يبعث عليكم ...".
(6) سورة الأعراف ،الآية 204.(1/263)
بسم الله الرحمن الرحيم { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } .آمركم بما أمركم الله به ،وأنهاكم عما نهاكم عنه ،وأستغفر الله لى ولكم . (93).
(53) خطبة جامعة للمأمون
خطب سنة 218 هـ فقال:
الحمد لله مستخلص الحمد لنفسه ،ومستوجبه على خلقه ،أحمده وأستعينه ،وأومن به وأتوكل عليه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ،أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون . أًوصيكم عباد الله بتقوى الله وحده ، والعمل لما عنده والتنجز لوعده ؟ والخوف لوعيده ،فإنه لا يسلم إلا من اتقاه ورجاه ،وعمل له وأرضاه . فاتقوا الله عباد الله ،وبادروا آجالكم بأعمالكم ، وابتاعوا ما يبقى بما يزول عنكم ،واستعدوا للموت فقد أظلكم (1) ،وكونوا قوماً صيح بهم فانتبهوا ،واعلموا أن الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا(2) فإن الله لم يخلقكم عبثاً ،ولم يترككم سدى ،وما بين أحدكم وبين الجنة والنار إلا الموت أن ينزل به ،وأن غاية تنقصها اللحظة ،وتهدمها الساعة الواحدة، لجديرة بقصر المدة، وإن غائباً يحدوه الجديدان(3) الليل والنهار ،لحرى بسرعة الأوبة ،وإن قادماً يحل بالفوز أو بالشقوة ،لمستحق لأفضل العدة، فاتقى عبد ربه ونصح نفسه ، وقدم توبته وغلب شهوته ،فإن أجله مستور عنه، وأمله خادع له ،والشيطان موكل به،يزين له المعصية ليركبها ،ويمينه التوبة ليسوفها حتى تهجم عليه منيته أغفل ما يكون عنها ، فيالها حسرة على ذى غفلة أن يكون عمره عليه حجة ،أو تؤديه أيامه على شقوة . نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن لا تبطره نعمة(4) ،
__________
(1) أظله الشئ : غشيه أو دنا منه .
(2) أى استبدلوا الآخرة بالدنيا.
(3) حداه يحدوه حدواً : حثه على السير.
(4) تبطره) أى تطغيه ،من مبطر وهو الطغيان بالنعمة..(1/264)
ولا تقصر به عن طاعته غفلة ،ولا تحل به بعد الموت فزعة. إنه سميع الدعاء وبيده الخير. وإنه فعال لما يريد .(94).
مغزى الخطب السابقة
(فهذه) ثلاث وخمسون خطبة،منها سبع عشرة خطبة للنبى صلى الله عليه وسلم ،وهى كما ترى تدور على بيان أصول العقائد من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ،وما فيه من الجنة والنار وغيرهما، وعلى ما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته ، وما أعده لعدائه وأهل معصيته ، وعلى ما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته ، وما أعده لعدائه وأهل معصيته؛ فتملئ القلوب من خطبته صلى الله عليه وسلم –إيماناً وتوحيداً ومعرفة بالله تعالى –فهى لا كخطب غيره التى إنما تفيد أموراً مشتركة بين الخلائق ، وهى النوح على الحياة ،والتخويف بالموت،فإن هذا أمر لا يحصل فى القلب إيماناً بالله ،ولا توحيداً له، ولا معرفة خاصة ،ولا تذكيراً بأيامه ،ولا بعثاً للنفوس على محبته ،والشوق إلى لقائه ،فيخرج السامعون ولم يستفيدوا فائدة غير أنهم يموتون . وتقسم أموالهم ،ويبلى التراب أجسامهم . فياليت شعرى أي إيمان حصل بهذا؟ وأى توحيد ومعرفة وعلم نافع حصل به؟(1/265)
ومن تأمل خطب النبى صلى الله عليه وسلم وخطب أصحابه ،وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد ،وذكر صفات الله جل جلاله ،وأصول الإيمان الكلية ،والدعوة إلى الله ،وذكر آلائه تعالى التى تحببه إلى خلقه، وايامه التى تخوفهم من بأسه ،والأمر بذكره وشكره الذى يحببهم إليه ، فيذكرون من عظمة الله وصفاته واسمائه ما يحببه إلى خلقه ، ويأمرون من طاعته وشكره وذكره ما يحببهم إليه ،فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم، ثم طال العهد وخفى نور النبوة ،وصارت الشرائع والأوامر رسوماً تقام من غير مراعاة حقائقها ومقاصدها ،فأعطوها صورها وزينوها بما زينوها به؛ فجعلوا الرسوم والأوضاع سنناً لا ينبغى الإخلال بها ،وأخلوا بالمقاصد التى لا ينبغى الإخلال بها ،فرصعوا الخطب بالتسجيع والفقر؛ فنقص بل عدم حظ القلوب منها ،وفات المقصود بها(1) .
هدى الصدر الأول فى الخطابة
كانت الخطب فى الصدر الأول لها المكانة العالية والمقام الأسمى .كانوا ينتقون من جواهر الألفاظ أعذبها وأظرفها أحلاها ،ومن المعانى ارقها وأدقها وأغلاها ،وكانوا يضمنونها آيات من كتاب الله تعالى لتزداد حلاوة وطلاوة ،حتى إنه ليعاب على خطبة ليس فيها آية من القرآن الكريم .بلغت زمن الخلفاء الراشدين عنفوان شبابها(2) ،فإن القرآن بما اشتمل عليه من أبدع الأساليب ،أعانهم على الخوض فى عباب التفنن فى دائرة الإرشادات الجاذبة بمغناطيسها الأفئدة . وكانوا لا يتقيدون بوقت ،بل كلما دعت الحاجة اجتمعوا ، فألقيت عليهم استشارة أو وعظ أو تذكير أو إعلان أمر...إلخ .
__________
(1) ص116 ج1 زاد المعاد ( وكذلك كانت خطبه صلى الله عليه وسام )، (والفقر) جمع فقرة كسدرة : وهى آخر السجعة.
(2) عنفوان الشئ : أوله.(1/266)
كان الخطيب إذا قام لأمر ما سحر الألباب ،وملك بمرصعات المواعظ ما لا يملك بمرهفات السيوف والرماح(1) يؤلف بين من تفرق ،ويسكن الفتن ،ويزيل المخاصمات، ويقطع المنازعات ،يقيمهم إن شاء الله ، ويقعدهم إن أراد بقوة اقتداره وشدة تأثيره .وكانت الخطابة يقوم بها الخلفاء الراشدون والرؤساء العظام ،وكانت موضع احترام .كان يخطب الخطيب قائماً إلا خطبة النكاح ،آخذاً بيده عصاً أو مختصرة أو قناة(2) أو غير ذلك .
فلما جاءت الدولة المروانية واستولى الترف(3) وعمّ ،وتولى كرسى المملكة الوليد بن عبد الملك بن مروان ،بدأ يخطب- وااسفاه- جالساً ،ترفعاً منه واستهانة بهذا الموقف الجليل.
ومن هذا أخذت الخطابة فى الاضمحلال والتلاشى ،فكان آخر خطيب آجاد من أئمة الإسلام المأمون بن هارون الرشيد من خلفاء الدولة العباسية ، وترك الملوك الخطابة ووكلوا أمرها كغيرها من الأمور لغيرهم ،فصارت منحطة القدر بعد الرفعة ،وموضع الاستهانة بعد التجلة ،تولاها أناس ما قدروها حق قدرها ،وما دروا المقصود منها بجهالتهم المطبقة ،حتى إنك لو طالبت أحدهم بتغيير الخطة المتبعة بما يستدعيه الزمان ،ما أجابك إلا بقوله: لا يمكن للنفوس الآن أن تتزحزح هن غيها ،وإن الخطب الآن هى من قبيل الرسوم ،فلا حول ولا قوة إلا بالله(4) .
(4) الجماعة فى الجمعة
__________
(1) رهف السيف أرهفه :رققه ،ورهف ككرم :دق ولطف.
(2) المخصرة ،بكسر الميم: قضيب ونحوه. والقناة : الرمح.
(3) الترف بفتحتين : النعم.
(4) من ص188 إلى هنا كان الكلام فى الشرط الثالث من شروط صحة الجمعة وهو الخطبة.(1/267)
يشترط لصحة الجمعة أن تكون فى جماعة ، وعليه أجمع العلماء ،إلا أنهم اختلفوا فىالعدد الذى تنعقد به الجمعة (فقال) ابو حنيفة ومحمد والأوزاعى والثورى : أقله ثلاثة سوى الإمام ،واختاره المزنى والسيوطى ،لأن الجمع الصحيح إنما هو الثلاث ،لأنه جمع تسمية ومعنى ،ولأن قوله تعالى فى الآية :"فاسعوا" يقتضى ساعين. وأقل الجمع ثلاثة . وقوله " إلى ذكر الله " يقتضى ذاكراً يسعى إليه وهو الإمام . ويؤيده ما روى عن طارق بن شهاب أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: الجمعة حق واجب على كل مسلم جماعة إلا أربعة : عبد مملوك ،أو صبى ،أو مريض ،أو امرأة .أخرجه أبو داود والبيهقى والدارقطنى ،وصححه غير واحد(1) . [226].
قال أبو داود : طارق قد رأى النبى صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئاً . وقال البيهقى : هذا الحديث مرسل جيد . وقال النووى : هذا على شرط الشيخين .
(وجه) الدلالة منه أنه أطلق الجماعة ،فشمل كل ما يسمى جماعة، وذلك صادق بثلاثة غير الإمام . ويشترط أن يكونوا ممن تصح إمامتهم .
(وقال) أبو يوسف والليث : أقل الجماعة اثنان سوى الإمام ،لأن فى المثنى اجتماع واحد بآخر ،والجمعة مشتقة من الجماعة ،وفى اثنين اجتماع لا محالة .
(
__________
(1) ص209 ج6 المنهل العذب (الجمعة للمملوك والمرأة )وص 172 ج3 سنن البيهقى (من تجب عليه الجمعة )وص 164 سنن الدارقطنى.(1/268)
وقالت) المالكية : أقل الجماعة التى تنعقد بهم الجمعة اثنا عشر رجلا سوى الإمام ممن تجب عليهم الجمعة،بأن يكونوا ذكورا بالغين أحراراً مقيمين مستوطنين بنية التأييد ،لحديث جابر : ان النبى صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً يوم الجمعة ،فجاءت عير من الشام ،فانفتل الناس غليها حتى لم يبق غلا اثنا عشر رجلا( الحديث) أخرجه أحمد و الشيخان والترمذى وصححه ،وهذا لفظ مسلم (1) . [227].
(وجه) الدلالة أن العدد المعتبر فى الابتداء يعتبر فى الدوام، فلما لم تبطل الجمعة بانفضاض الزائد على اثنى عشر ،دل على أن هذا العدد كاف .
(ورد) بأنه إنما يدل على صحتها باثني عشر ،ولا يدل على أنها لا تصح بدون هذا العدد ،فإن هذه واقعة عين أكثر ما فيها أنهم انفضوا وبقى اثنا عشر رجلا وتمت بهم الجمعة ،وليس فيها انه لو بقى اقل من هذا العدد لم تتم بهم. أفاده السيوطى (2)
(وقالت) الشافعية والحنبلية وإسحاق : اقل عدد تنعقد به الجمعة أربعون بالإمام .
(واحتجوا) بأحاديث ضعيفة . وأقرب ما يحتج به ما تقدم عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال: أسعد بن زرارة أول من جمع بنا فى نقيع الخضمات . قلت : كم أنتم يومئذ ؟ قال: أربعون(3) .
(
__________
(1) ص105 ج6 الفتح الربانى . وص 288 ج2 فتح البارى (إذا نفر الناس عن الإمام فى صلاة الجمعة..) وص 150 ج6 نووى مسلم (قوله تعالى : وإذا رأوا تجارة أو لهواً ..) وص 200 ج4 تحفة الأحوذى (سورة الجمعة). و(العير) بالكسر : الإبل تحمل الطعام ،ثم غلب على كل قافلة .
(2) ص90 ج1 الحاوى للفتاوى (ضوء الشمعة فى عدد الجمعة)..
(3) تقدم أثر رقم 37 ص158.(1/269)
وجه) الدلالة أن الأمة أجمعت على اشتراط العدد فى الجمعة ،فلا تصح إلا بعدد ثبت فيه التوقيف . وقد ثبت جوازها بأربعين ،فلا يجوز بأقل منه إلا بدليل صريح . وتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صلوا كما رأيتموني أُصلى (1) . ولم تثبت صلاته بأقل من أربعين .
(ورد) بأنه لا دلالة فيه على اشتراط الأربعين ،لأن هذه واقعة عين ، وذلك أن الجمعة فرضت على النبى صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قبل الهجرة ، فلم يتمكن من إقامتها هناك من أجل الكفار ؛ فلما هاجر من هاجر من أصحابه إلى المدينة كتب إليهم يأمرهم أن يجمعوا فجمعوا ،واتفق أن عدتهم إذ ذاك كانت أربعين . وليس فيه ما يدل على أن من دون الأربعين لا تنعقد بهم الجمعة.
وقد تقرر فى الأصول أن الأعيان لا يحتج بها على العموم . وقولهم : لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى الجمعة بأقل من أربعين ،يرده :
( أ ) حديث الانفضاض السابق ،فإنه أتمها باثنى عشر . فدل ذلك على أن تعيين الربعين لا يشترط.
( ب ) ما تقدم عن أبى مسعود الأنصارى قال: أول من قدم من المهاجرين إلى المدينة مصعب بن عمير ،وهو أول من جمع بها يوم الجمعة، جمعهم قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وهم اثنا عشر رجلا (2) .
(واغرب) من ذلك استدلال البيهقى بقول ابن مسعود : جمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت آخر من أتاه ونحن أربعون رجلا ،فقال: إنكم مصيبون ومنصورون ومفتوح لكم ،فمن أدرك ذلك فليتق الله ، وليأمر بالمعروف ،ولينه عن المنكر ،وليصل الرحم (3) . [228].
(
__________
(1) تقدم رقم 23 ص27 (صلاة الخوف).
(2) تقدم اثر 36 ص157.
(3) ص180 ج3 سنن البيهقى (عدد الأربعين له تاثير فيما يقصد منه الجماعة ).(1/270)
فاستدلاله ) بهذا فى غاية العجب ،لان هذه واقعة قصد فيها النبى صلى الله عليه وسلم ان يجمع أصحابه ليبشرهم ، فاتفق أن اجتمع له منهم هذا العدد ، فهل يظن انه لو حضر اقل منهم لم يفعل ما دعاهم لأجله ؟ وتمامه فى الحاوى(1) .
(وروى) عن أحمد وعمر بن عبد العزيز أنها لا تصح إلا بخمسين (لحديث) أبى أمامة أن نبى الله صلى الله عليه وسلم قال : الجمعة على الخمسين رجلا وليس على ما دون الخمسين جمعة . أخرجه الدارقطنى والطبرانى(2) . [229].
وفيه جعفر بن الزبير متروك ضعيف جداً . فالحديث ضعيف . وعلى فرض صحته فهو محتمل للتأويل ،لأن ظاهره أن هذا العدد شرط للوجوب لا شرط للصحة . ولا يلزم من عدم وجوبها على ما دون الخمسين عدم صحتها منهم.
(وقال) ابن حزم وداود والنخعى : تنعقد بواحد مع الإمام .
(وحكى) عن المازرى انها لا تنعقد إلا بثمانين .ولا مستند لهذا.
(قال) السيوطى: أما اشتراط ثمانين أو ثلاثين او عشرين أو تسعة أو سبعة ،فلا مستند له ألبتة .وأما الذى قال باثنين ،فإنه رأى العدد واجباً بالحديث والإجماع ،رأى أنه لم يثبت دليل فىاشتراط عدد مخصوص ، ورأى أن أقل العدد اثنان ،فقال به قياساً على الجماعة .وهذا في الواقع دليل قوى لا ينقصه إلا نص صريح من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الجمعة لا تنعقد إلا بكذا أو بذكر عدد معين .وهذا لا سبيل إلى وجوده.
وأما من قال بثلاثة ،فإنه رأى العدد واجباً في حضور الجمعة كالصلاة ، فشرط العدد في المأمومين المستمعين للخطبة، فإنه لا يحسن عد الإمام منهم وهو الذى يخطب ويعظ(3) .
وأما من قال بأربعة ،فمستنده ما تقدم عن طارق بن شهاب(4) .
__________
(1) ص92 ج1 الحاوى للفتاوى.
(2) ص164 سنن الدارقطنى . وص 176 ج2 مجمع الزوائد (عدة من يحضر الجمعة ).
(3) ص89 ج1 الحاوى للفتاوى.
(4) تقدم رقم 226 ص275.(1/271)
ثم قال السيوطى :والحاصل أن الأحاديث والآثار دلت على اشتراط إقامتها في بلد يسكنه عدد كبير بحيث يصلح أن يسمى بلداً ،ولم تدل على اشتراط ذلك العدد بعينه في حضورها لتنعقد ،بل أى جمع أقاموها به صحت بهم .وأقل الجمع ثلاثة غير الإمام ، فتنعقد بأربعة أحدهم الإمام .هذا ما أدانى الاجتهاد إلى ترجيحه .وقد رجح هذا القول المزنى(1) .
(فائدة) الجماعة في الجمعة شرط انعقاد عند ابى يوسف ومحمد وهو يتحقق بالتحريمة .وشرط اداء عند أبى حنيفة والشافعى نوهو لا يتحقق إلا بإدراك ركعة ،وشرط بقاء عند مالك وأحمد ،وهو لا يتحقق إلا بتمام وثمرة الخلاف انه إن انصرف المأمومون أو بعضهم- ولم يبق مع الإمام ما تنعقد به الجماعة في الجمعة- قبل التحريمة ،صلى الإمام الظهر اتفاقاً .
وإن انصرفوا بعد التحريمة وقبل سجود الإمام لا تبطل جمعته ،بل يتمها عند ابى يوسف ومحمد .وتبطل عند الأئمة الأربعة ويستأنفها ظهراً .وإن انصرفوا بعد سجود الإمام لا تبطل ويتمها جمعة عند ابى حنيفة وصاحبيه ،وكذا عند الشافعية إن نووا المفارقة بعد تمام الركعة الأولى .وتبطل عند مالك وأحمد .
(
__________
(1) ص95 ج1 الحاوى للفتاوى.(1/272)
قال) الشيخ إبراهيم الحلبى: ويشترط بقاؤهم إلى السجدة الأولى عند ابى حنيفة ،فلو نفروا قبلها او نقصوا يستقبل من بقى الظهر . وعندهما (يعنى الصاحبين ) يشترط بقاؤهم إلى التحريمة ،فلو نفروا بعدها يتم من بقى الجمعة. وعند زفر يشترط بقاؤهم إلى تمامها بالقعود قدر التشهد ،فلو نفروا قبل ذلك يستأنف من بقى الظهر . للإمام(1) أن الجماعة شرط فلابد من دوامه كالوقت . وللصالحين(2) أنها شرط للانعقاد ،فلا يشترط دوامها كالخطبة .وأبو حنيفة يقول : نعم هى شرط للانعقاد ،لكن انعقاد الصلاة وتحقق تمامه موقوف على وجود تمام الأركان ،لأن دخول الشئ في الوجود بدخول جميع أركانه ،فما لو يسجد فيها لا تسمى صلاة، ولذا لا يحنث بها لو لف لا يصلى ،فكان ذهاب الجماعة قبل السجود كذهابهم قبل التكبير من جهة أنه عدمت الجماعة قبل تحقق مسمى الصلاة ،بخلاف الخطبة ،لأنها تنافى الصلاة ،فلا يشترط دوامها إلى تحقق الصلاة .ولا عبرة ببقاء النسوان والصبيان ،لأنها لا تنعقد بهم ابتداء ،فكذا بقاء بخلاف العبيد وغيرهم من سائر من لا تجب عليه لما تقدم(3) .
(7) إمام الجمعة(4)
__________
(1) يعنى الدليل لبى حنيفة.
(2) الصاحبان: أبو يوسف ومحمد.
(3) ص558 غنية المتملى في شرح منية المصلى( الجمعة).
(4) هذا الفصل السابع من فصول الجمعة.(1/273)
يصح عند الحنفيين للذكر المكلف أن يكون إماماً في الجمعة وإن لم تفترض عليه لمرض أو سفر او رق،لأنه من أهل الإمامة .وسقوط الفرضية عنه رخصة (قال) الشيخ إبراهيم الحلبى : ويشترط كونهم- اى من تنعقد بهم الجمعة- رجالا عقلاء ،فلا تنعقد بالنساء والصبيان .ولا يشترط كونهم أحراراً مقيمين ،بل تنعقد بالعبيد والمسافرين ،وتصح إمامتهم فيها أيضا، وكذا المرضى ونحوهم من المعذورين ،خلافاً لزفر،فإنه قال: لا تصح إمامة من لا تجب عليه الجمعة فيها لسقوط وجوبها عنهم( ورد) بأن عدم الوجوب فهم كغيرهم ،فتجوز إمامتهم كما تجوز إمامة غيرهم(1) .
وقال ابن نجيم : لا يشترط في الإمام أن يكون هو الخطيب،فلو خطب صبى بإذن السلطان وصلى الجمعة رجل بالغ جاز(2) ،ويشترط عندهم أن يكون الإمام فيها ولى الأمر أو من أذن له في إقامتها كالقاضى والخطباء ،لما تقدم عن أبى سعيد الخدرى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: إن الله قد كتب عليكم الجمعة في مقامى هذا ... إلى أن قال : من تركها من غير عذر –مع إمام جائر او عادل- فلا جمع الله شمله ،ولا بورك له في أمره (الحديث) (3) وجه الدلالة أنه اشتراط في لزومها الإمام.
(وقال) الحسن البصرى : أربع إلى السلطان ،وذكر منها الجمعة والعيدين .ذكره الكمال ابن الهمام(4) .(95) .
(
__________
(1) ص557 غنية المتملى .
(2) ص147 ج2 البحر الرائق(والخطبة قبلها).
(3) تقدم رقم 161 ص156 (صلاة الجمعة).
(4) ص412 ج1 فتح القدير(ولا يجوز إقامتها إلا للسلطان).(1/274)
وقال ) ابن المنذر ك مضت السنة أن الذى يقيم الجمعة السلطان أو من أمره بها، فإذا لم يكن ذلك صلوا الظهر،ولأنها تقام بجمع عظيم ،إذ هى جامعة للجماعات المتفرقة في المساجد وفى غيرها ،وقد تقع المنازعة في التقديم وفى التعجيل والتأخير،فلابد ممن له الولاية العامة والكلمة الفاصلة ،حسماً للمنازعة المفضية إلى العداوة والفتنة ،وإلى تفويت الجمعة غالباًَ.وعلى هذا كان السلف من الصحابة ومن بعدهم ،حتى إن علياً إنما جمع أيام محاصرة عثمان بأمره(1) .
(وقالت) المالكية يشترط في الإمام شرطان:
(الأول) أن يكون ممن تجب عليه الجمعة،ولو كان مسافراً نوى الإقامة أربعة أيام فلا قصد الخطبة ؛ فإن أقام بقصد الخطبة فلا يصح أن يكون إماماً.
(الثانى) أن يكون هو الخطيب ،فلو صلى بهم غير الخطيب بلا عذر يبيح له الاستحلاف فالصلاة باطلة ، فإن رعف أو سبقه حدث فله أن يستخلف غيره إن لم يزل عذره في زمن قريب مقدار صلاة ركعتين بفاتحة وسورة ،وإلا وجب انتظاره .
(وقالت) الشافعية والحنبلية : يشترط في الإمام أن يكون ذكراً تصح إمامته بالقوم مكلفاً وإن لم تجب عليه الجمعة،ولا يشترط أن يكون هو الخطيب عند الحنبلية ،وهو الصحيح عند الشافعية ،فلا تصح إمامة الصبى عند غير الشافعية مطلقاً ،وكذا عند الشافعية إذا كان من العدد الذى تصح به الجمعة،وهذا التفصيل لا دليل عليه كما تقدم في بحث "إمامة الصبى"(2) .
(8) كيفية صلاة الجمعة
__________
(1) ص533 غنية المتملى 0 الشرط الثانى كون الإمام فيها السلطان..).
(2) تقدم بص 54 ج3 الدين الخالص (الثالث البلوغ).(1/275)
إذا فرغ الإمام من الخطبة أقيمت الصلاة وصلى بالناس ركعتين نيقرا فيهما جهراً بفاتحة الكتاب وسورة ، ويستحب أن يقرأ بسورتى الجمعة والمنافقين ،أو سبح اسم ربك الأعلى والغاشية ،أو يقرأ في الأولى بالجمعة ،وفى الثانية بالغاشية ،لما روى عبيد الله بن أبى رافع عن أبى هريرة أنه قرأ في الجمعة بسورة الجمعة،وإذا جاءك المنافقون .قال عبيد الله : فقلت له: قد قرأت بسورتين كان علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه يقرأ بهما في الجمعة.
فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهما.اخرجه الشافعى وأحمد ومسلم والأربعة إلا النسائى نوقال الترمذى ك هذا حديث حسن صحيح(1) [230]
(روى ) سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرا في صلاة الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى ،وهل أتاك حديث الغاشية .اخرجه الشافعى وأحمد وأبو داود والنسائى والبيهقى(2) . [231].
(ولقول) الضحاك بن قيس : سألت النعمان بن بشير الأنصارى : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ يوم الجمعة على أثر سورة الجمعة؟قال: كان يقرأ بهل أتاك حديث الغاشية .أخرجه مالك والشافعى وابن ماجه والدارمى والبيهقى(3) . [232].
وكان صلى الله عليه وسلم يقرا السورتين كاملتين ،وأما الاقتصار على قراءة آخر السورتين فلم يفعله قط،وهو مخالف لهديه صلى الله عليه وسلم الذى كان يحافظ عليه.
(
__________
(1) ص78 ن166 ج1 بدائع المنن. وص111 ج6 الفتح الربانى. وص 166 ج6 نووى مسلم (ما يقرأ في صلاة الجمعة) وص262 ج6 المنهل العذب .وص 270 ج1 تحفة الأحوذى . وص178 ج1 سنن ابن ماجه.
(2) ص78،167 ج1 بدائع المنن.وص 113 ج6 الفتح الربانى. وص 293 ج6 المنهل العذب 0ما يقرأ في الجمعة) . وص210 ج1 مجتبى . وص201 ج3 سنن البيهقى.
(3) ص208 ج1 زرقانى الموطأ (القراءة في الجمعة) وص79 ج1 بدائع المنن. وص 178 ج1 سنن ابن ماجه. وص363 ج1 سنن الدارمى. وص 299 ج3 سنن البيهقى.(1/276)
والحكمة )في قراءة سورة الجمعة والمنافقين في الجمعة،ما في الأولى من الحث على حضورها والسعى إليها نوبيان فضيلة وحكمة بعثته صلى الله عليه وسلم المشار إليها بقوله تعالى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } (1) ،والحث على ذكر الله تعالى .وما فىالثانية من توبيخ المنافقين ،وحثهم على التوبة ،ودعائهم إلى طلب الاستغفار من رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وهم يكثر اجتماعهم في صلاتها،ولما في آخرها من المواعظ البليغة ،والحث على الصدقة.والحكمة في القراءة فيها بسبح والغاشية ،ما فيهما من التذكير بأحوال الآخرة، والوعد والوعيد ،فناسب قراءتهما في تلك الصلاة الجامعة.
(9) ما تدرك به الجمعة
لا تدرك الجمعة- عند مالك والشافعي وأحمد ومحمد بن الحسن وإسحاق – إلا بإدراك ركعة مع الإمام فيضيف لها ركعة ،لمفهوم ما تقدم عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة .أخرجه أحمد والأربعة والبيهقى .وفى رواية للنسائي ك فقد أدرك الصلاة كلها،إلا انه يقضى ما فاته(2) . [233].
وبهذه الزيادة ظهر معنى الحديث (قال) الشافعى ك معناه لم تفته تلك الصلاة ،وما لم تفته الجمعة صلاها ركعتين (3) .
(وقال) ابن مسعود ك من أدرك من الجمعة ركعة،فليضيف غليها أخرى ،ومن فاتته الركعتان فليصل أربعا .أخرجه الطبرانى في الكبير بسند حسن(4) .(96).
(وقال) ابن عمر: إذا أدركت من الجمعة ركعة فأضف إليها اخرى، وإن أدركتهم جلوسا فصل أربعاً . أخرجه البيهقى(5) .(97).
(
__________
(1) سورة الجمعة،الاية 2.
(2) تقدم رقم 73 ص46 ج3 الدين الخالص (ما تدرك به الجمعة).
(3) انظر ص182 ج1 كتاب الأم (من أدرك ركعة من الجمعة).
(4) انظر ص192 ج2 مجمع الزوائد (من أدرك من الجمعة ركعة).
(5) ص204 ج3 سنن البيهقى.(1/277)
وقال) النعمان وابو يوسف والحكم وحماد : الجمعة تدرك بإدراك التشهد،فمن أدرك مع الإمام التشهد فقد ادرك الجمعة،فيصلى بعد سلام الإمام ركعتين وتمت جمعته ،لعموم ما تقدم عن ابى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: إذا اقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ،وأتوها تمشون وعليكم السكينة ،فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا .اخرجه الشافعى والسبعة(1) . [234].
وهو لعمومه يتناول الجمعة ،فيشمل ما إذا أدرك الإمام في التشهد أو في سجود السهو.
(وأجاب) الأولون بأن عمومه مخصوص بما تقدم عن ابى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى،فإن أدركهم جلوساً صلى أربعاً.أخرجه البيهقى والدارقطنى(2) .[235].
(وأجاب) النعمان ومن معه بأن في سنده يحيى بن المتوكل وصالح بن أبى الأخضر ،ضعيفان فلا يقبل ما زيد في روايتهما من قوله : فإن أدركهم جلوسا ... إلخ.
(واختلف) فيمن أدرك من الجمعة دون ركعة ،هل يدخل مع الإمام بنية الجمعة ويتمها بعد سلامه جمعة؟ وبه قال النعمان وابو يوسف ومن معهما.
(وقال) مالك والشافعى ومحمد بن الحسن : ينوى جمعة ويتمها ظهراً.
(وقالت) الحنبلية: إن نواها ظهراً وكان بعد الزوال أتمها ظهراً وإلا بأن نواها جمعة أو كانت قبل الزوال حسبت له نافلة وصلى الظهر بعد(3) .
(قال) أبو محمد عبد الله بن قدامة: وإذا صلى الإمام الجمعة قبل الزوال فأدرك المأموم معه دون الركعة لم يكن له الدخول معه،لأنها في حقه ظهراً ؛ فلا يجوز قبل الزوال نفإن دخل معه كانت نفلا في حقه ولم تجزئه عن الظهر(4) .
(
__________
(1) تقدم رقم 71 ص45 ج3 الدين الخالص (ما تدرك به الجماعة).
(2) تقدم رقم 72 ص46 ج3 الدين الخالص.
(3) ص208 ج1 زرقانى الموطأ (القراءة في الجمعة) وص79 ج1 بدائع المنن. وص 178 ج1 سنن ابن ماجه. وص363 ج1 سنن الدارمى. وص 299 ج3 سنن البيهقى.
(4) انظر ص163 ج2 مغنى (من أدرك مع الإمام أقل من ركعة).(1/278)
فائدتان) :
(الأولى) من أحرم مع الإمام ثم فاته الركوع أو السجود حتى سلم الإمام- لزحام أو غفلة أو نوم أو نسيان – كان مدركا للجمعة عند الحنفيين.
وهو رواية عن أحمد ،وعنه أنه يستأنفها ظهراً،وهو قول الشافعي.
(قال) ابو الفرج عبد الرحمن بن قدامة : اختلفت الرواية عن أحمد فيمن أحرم مع الإمام ثم زحم فلم يقدر على الركوع حتى سلم الإمام ،فروى أنه يكون مدركاً للجمعة،وهو قول الحسن وأصحاب الرأى ح لأنه أحرم بالصلاة مع إمامه في أولها ؛ فأشبه ما لو ركع وسجد معه . ونقل عنه أنه يستقبل الصلاة اربعاً وهو قول الشافعى وابن المنذر ،لأنه لم يدرك ركعة كاملة فلم يكن مدركاً للجمعة كالمسبوق(1) .
(وحاصل) مذهب المالكية أن من أدرك الركعة الأولى مع الإمام وغفل عن الركوع أو زوحم عنه حتى سلم الإمام قضى ركعة ثانية وأتمها جمعة،ومن لم يدرك الأولى وغفل عن الركوع او زوحم عنه حتى سلم الإمام يتم الصلاة ظهراً،و من غفل عن السجود أو زوحم عنه حتى سلم الإمام سجد وأتمها جمعة.
(الثانية) إذا اشتد الزحام في الجمعة وتمكن من السجود على ظهر غيره أو رجله لزمه ذلك،وأجزأه عند غير مالك (لقول) سياد بن المعرور: سمعت عمر وهو يخطب يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى هذا المسجد ونحن معه المهاجرون والأنصار .فإذا اشتد الزحام فليسجد الرجل منكم على ظهر أخيه ورأى قوماً يصلون في الطريق فقال: صلوا في المسجد .أخرجه أحمد والبيهقى بسند صحيح(2) .(98).
(
__________
(1) انظر ص179 ج2 الشرح الكبير(الزحام المانع من الركوع والسجود).
(2) انظر ص108 ج6 الفتح الربانى . وص182 ج3 سنن البيهقى (الرجل يسجد على ظهر من بين يديه في الزحام).(1/279)
قال) ابو محمد عبد الله بن قدامة : ومتى قدر المزحوم على السجود على ظهر إنسان أو قدمه لزمه ذلك وأجزأه .قال أحمد في رواية : يسجد على ظهر الرجل والقدم ،ويمكن الجبهة والأنف في العيدين والجمعة،وبهذا قال الثورى وأبو حنيفة والشافعى وأبو ثور وابن المنذر .وقال عطاء والزهرى ومالك: لا يفعل .قال مالك: وتبطل الصلاة إن فعل ،لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ومكن جبهتك من الأرض (1) .
(ولنا) ما روى عن عمر رضى الله عنه وذكر الثر السابق وقال:
وهذا قاله بمحضر من الصحابة وغيرهم في يوم جمعة ولم يظهر له مخالف فكان إجماعاً ،ولأنه أتى بما يمكنه حال العجز فصح، كالمريض يسجد على المرفقة ، والخبر لم يتناول العاجز ،لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها ،ولا يأمر العاجز عن الشيء يفعله . (وإن زحم) في الأول ولم يتمكن من السجود على ظهر ولا قدم ،انتظر حتى يزول الزحام ثم يسجد ويتبع إمامه .فإذا قضى ما عليه وأدرك الإمام في القيام أو في الركوع اتبعه فيه وصحت له الركعة.
وكذا إذا تعذر عليه السجود مع إمامه بمرض أو نوم او نسيان ،لأنه معذور
فى ذلك فأشبه المزحوم ،فإن خاف أنه إن تشاغل بالسجود فاته الركوع مع الإمام فى الثانية ،لزمه متابعته ،وتصير الثانية أولاه ،وهذا قول مالك.
__________
(1) هو بعض حديث ذكره الشيرازى عن ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: إذا سجدت فمكن جبهتك من الأرض ولا تنقر نقراً .قال النووى : غريب ضعيف (47) ص422 ج3 شرح المهذب(ويسجد على الجبهة..).(1/280)
وقال أبو حنيفة : يشتغل بقضاء السجود ،لأنه قد ركع مع الإمام فيجب عليه السجود بعده كما زال الزحام والإمام قائم ،والشافعى كالمذهبين، ولنا قول النبى صلى الله عليه وسلم : إنما جعل الإمام ليؤتم به ،فإذا ركع فاركعوا(1) .
(فإن قيل) فقد قال: فإذا سجد فاسجدوا( قلنا) قد سقط الأمر بالمتابعة فى السجود عن هذا لعذره ،وبقى الأمر بالمتابعة فى الركوع متوجهاً فمكانه ، ولأنه خائف فوات الركوع فلزمه متابعة إمامه فيه كالمسبوق .فأما إذا كان الإمام قائماً فليس هذا اختلافاً كثيراً ،وقد فعل النبى صلى الله عليه وسلم مثله بعسفان .إذا تقرر هذا فإنه إن اشتغل بالسجود معتقداً تحريمه ،لم تصح صلاته ،لأنه ترك واجباً عمداً ،وفعل ما لا يجوز له فعله . وإن اعتقد جواز ذلك فسجد ،لم يعتد بسجوده ،لأنه سجد فى موضع الركوع جهلا،فأشبه الساهى . ثم إن أدرك الإمام فى الركوع ركع معه صحت له الثانية دون الأولى، وتصير الثانية أولاه ،فإن فاته الركوع سجد معه ،فإن سجد السجدتين معه ، فقال القاضى : يتم بهما الركعة الأولى، وهذا مذهب الشافعى ،وقال أبو الخطاب : إذا سجد معتقداً جواز ذلك اعتد له به وتصح له الركعة كما لو سجد وإمامه قائم .ثم إن أدرك الإمام فى ركوع الثانية صحت له الركعتان ،وإن أدرك بعد رفع راسه من ركوعه فينبغى أن يركع ويتبعه ،لأن هذا سبق يسير ،ويحتمل أن تفوته بفوات الركوع،وإن أدركه فى التشهد تابعه وقضى ركعة بعد سلامه كالمسبوق.
__________
(1) هو بعض حديث أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه ،فإذا كبر فكبروا ن ولا تكبروا حتى يكبر،وإذا ركع فاركعوا ،ولا تركعوا حتى يركع ،وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا ولك الحمد ،وإذا سجد فاسجدوا ولا تسجدوا حتى يسجد (48) . تقدم ص69 ج3 الدين الخالص (متابعة مأموم الإمام).(1/281)
وقال أبو الخطاب : ويسجد للسهو،ولا وجه للسجود ههنا ،لأن المأموم لا سجود عليه لسهو. وإن زوحم عن سجدة واحدة أو عن الاعتدال بين السجدتين أو بين الركوع والسجود أو عن جميع ذلك ،فاحكم فيه كالحكم في الزحام عن السجود ،فإما إن زوحم عن السجود في الثانية فزوال الزحام قبل سلام الإمام ،سجد واتبعه وصحت الركعة ، وإن لم يزل حتى سلم ، فلا يخلو من أن يكون أدرك الركعة الأولى أو لم يدركها ،فإن أدركها فقد أدرك الجمعة بإدراكها ،ويسجد الثانية بعد سلام الإمام،ويتشهد ويسلم وقد تمت جمعته،وإن لم يدرك أدرك الأولى فإنه يسجد بعد سلام إمامه وتصح له الركعة،وهل يكون مدركاص للجمعة بذلك ؟ على روايتين.أهـ.ملخصاً (1) .
(10) ما يقال بعد صلاة الجمعة
يسن من الذكار بعد الجمعة ما يسن بعد غيرها من الصلوات ،ويستحب الإكثار من ذكر الله تعالى بعدها . ويندب قراءة "قل هو الله أحد " والمعوذتين سبعاً قبل أن يثنى رجله (لحديث) عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ بعد صلاة الجمعة : " قل هو الله أحد " ،و" قل أعوذ برب الفلق"، و" قل أعوذ برب الناس" سبع مرات ،أعاذه الله بها من السوء إلى الجمعة الأخرى. اخرجه ابن السنى وابن شاهين بسند ضعيف (2) . [236].
قال المناوى : وفى رواية قبل أن يتكلم .وفى أخرى : وهو ثان رجله ، وقال الحافظ بن حجر . ينبغى تقييده بما بعد الذكر المأثور فى الصحيح،وله شاهد من مرسل مكحول.أخرجه سعيد بن منصور فى سننه عن فرج بن فضالة عن مكحول .وزاد فى أوله فاتحة الكتاب وقال فى آخره : كفَّر الله عنه ما بين الجمعتين ،وكان معصوماً .وفرج ضعيف (3) .
__________
(1) انظر من ص160 – 162 ج2 مغنى( من زوحم عن شئ من الصلاة).
(2) انظر رقم 6954 ص203 ج6 فيض القدير.
(3) ص203 ج6 فيض القدير.(1/282)
ويستحب ان يقول بعد قراءة السور المذكورة وهو رافع يديه :اللهم يا غنى يا حميد يا مبدئ يا معيد يا رحيم ياغ ودود ،أغننى بحلالك عن حرامك ،وبطاعتك عن معصيتك ،وبفضلك عمن سواك (1) . [237].
أقول التزام هذا الدعاء بخصوصه ،ودعوى أن المواظبة عليه سبب الغنى لا دليل عليه.
(11) متى يصلى الظهر من لم تلزمه الجمعة
من لم تلزمه الجمعة كالمسافر والعبد والمريض والمرأة والمعذور ،له أن يصلى الظهر ولو جماعة قبل صلاة الإمام عند الجمهور ،لكن يندب له تأخير الظهر إذا رجا زوال عذره عند الأئمة الثلاثة.
(وقال) الحنفيون: يكره للمعذور ومنه المسجون صلاة الظهر يوم الجمعة بجماعة فى مكان تقام فيه الجمعة ،لما فى ذلك من تقليل جماعة الجمعة، فقد يقتدى بهم غيرهم.وكذا يكره صلاته بلا جماعة قبل صلاة الإمام الجمعة رجاء ان يزول عذره فيؤدى الجمعة.
(قال) أبو محمد عبد الله بن قدامة : ولا يكره لمن فاتته الجمعة أو لم يكن من أهل فرضها ،أن يصلى الظهر فى جماعة إذا أمن من أن ينسب إلى مخالفة الإمام والرغبة عن الصلاة معه،أو أنه يرى الإعادة إذا صلى معه،وهو قول الشافعى وإسحاق ،وكرهه الحسن وأبو قلابة ومالك وأبو حنيفة ،لأن زمن النبى صلى الله عليه وسلم لم يخل من معذورين ،فلم ينقل أنهم صلوا جماعة.
__________
(1) ص270، 271 ج3 شرح الإحياء ملخصاً ،وكان عمر رضى الله عنه إذا صلى الجمعة انصرف فقال: " اللهم إنى أجبت دعوتك وصليت فريضتك وانتشرت كما أمرتنى ،فارزقنى من فضلك وأنت خير الرازقين (17) وقال ابن عباس : لم يؤمروا بشئ من الدنيا ،إنما هو عيادة المرضى وحضور الجنائز وزيادة أخ فى الله تعالى (18).
ذكره العلامة ابن علان الصديقى .انظر ص2345 ج4 – الفتوحات الربانية على الأذكار النووية (الذكر بعد صلاة الجمعة).(1/283)
ولنا قول النبى صلى الله عليه وسلم : صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة(1) . [238]. وروى عن ابن مسعود أنه فاتته الجمعة فصلى بعلقمة والأسود . (99).
واحتج به أحمد وقال : ما أعجب الناس ينكرون هذا .فأما زمن النبى صلى الله عليه وسلم فلم ينقل إلينا أنه اجتمع جماعة معذرون يحتاجون إلى غقامة جماعة إذا ثبت هذا ،فإنه لا يستحب صلاة الظهر جماعة فى المسجد الذى أُقيمت فيه الجمعة،لأنه يفضى إلى النسبة إلى الرغبة عن الجمعة ،أو أنه لا يرى الصلاة خلف الإمام وربما افضى إلى فتنة أو لحوق ضرر به وبغيره، وإنما يصليها فى منزله أو موضع لا تحصل هذه المفسدة بصلاتها فيه (2) .
(أما) من لزمته الجمعة ولا عذر له فى التخلف عنها،فلا يصح له صلاة الظهر قبل صلاة الإمام الجمعة- عند مالك وأحمد والشافعى فى الجديد- ويلزمه السعى إن ظن أنه يدركها ،لأنها المفروضة عليه؛ فإن ادركها معه صلاها ،وإن فاتته فعليه صلاة الظهر،وإن ظن أنه لا يدركها ،انتظر حتى يتيقن أن الإمام قد صلى ثم يصلى الظهر.
(وقال) الحنفيون والشافعى فى القديم : من صلى الظهر يوم الجمعة قبل صلاة الإمام ولا عذر له ،تصح صلاته مع الحرمة ،لتركه الفرض القطعى وهو الجمعة بلا عذر . ثم إن بدا له الرواح وخرج إليها والإمام فيها وقت خروجه بطل الظهر عند أبى حنيفة وإن لم يدركها ،لأن السعى من خصائص الجمعة ، فينزل منزلة الشروع فيها.
(وقال ) الحنفيون والشافعى فى القديم : من صلى الظهر يوم الجمعة قبل صلاة الإمام ولا عذر له ، تصح صلاته مع الرحمة ،لتركه الفرض القطع7ى وهو الجمعة بلا عذر . ثم إن بدا له الرواح وخرج إليها والإمام فيها وقت خروجه بطل الظهر عند أبى حنيفة وإن لم يدركها ،لأن السعى من خصائص الجمعة،فينزل منزلة الشروع فيها.
(
__________
(1) أخرجه الشافعى والسبعة إلا ابا داود عن ابن عمر بلفظ تقدم فى بحث " الجماعة" رقم 54 ص33 ج3 دين.
(2) ص199 ج2 مغنى.(1/284)
وقال) أبو يوسف ومحمد : لا يبطل الظهر حتى يدخل فى صلاة الجمعة مع الإمام ،لأن السعى دون الظهر لأنه وسيلة لغيره فلا ينقضه بعد إتمامه .
(12) ترك الجمعة
من وجبت عليه الجمعة وتركها لغير عذر فهو آثم إثماً كبيراً يستحق مرتكبه العذاب الأليم (لحديث) ابم مسعود رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة : لقد همت أن آمر رجلا يصلى بالناس ثم أُحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم .أخرجه أحمد والطيالسى والحاكم ،وقال صحيح على شرط الشيخين(1) . [239].
(ولحديث) أبى الجعد الضمرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من ترك ثلاث جمع تهاوناً من غير عذر،طبع الله على قلبه .أخرجه الشافعى والأربعة والبيهقى والحاكم وقال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ،وحسنه الترمذى ،وصححه ابن السكن(2) . [240].
والأحاديث فى هذا كثيرة . وظاهرها أن من ترك ثلاث جمع تهاوناً ، أى بلا عذر ، يُطيع على قلبه ويكون من المنافقين ،ولو كان الترك متفرقاً . وبه قال بعضهم ،حتى لو ترك كل سنة جمعة لطبع على قلبه بعد الثالثة. ويحتمل أن يكون المراد ثلاث جمع متواليات.
(
__________
(1) ص22 ج6 الفت حالربانى ،وص 42 مسند الطيالسى ،وص 292 ج1 مستدرك.
(2) ص153 ج1 بدائع المنن. وص 22 ج6 الفتح الربانى . وص 194 ج6 المنهل العذب (التشديد فى ترك الجمعة ). وص202 ج1 مجتبى (التشديد فى التخلف عن الجمعة ) وص359 ج1 تحفة الأحوذى (ترك الجمعة من غير عذر ) وص179 ج1 سنن ابن ماجه . وص280 ج1 مستدرك . وص247 ج3 سنن البيهقى . و( الطبع) بفتح فسكون : الختم على القلب فيكون ذا جفاء لا يصل إليه شئ من الخير .وقال العراقى : المراد بالتهاون الترك بلا عذر . وبالطبع أن يصير قلبه قلب منافق . وهذا يقتضى أن تهاوناً مفعول مطلق مبين النوع.(1/285)
ويؤيده) : (أ) حديث جابر بن عبد الله أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: من ترك الجمعة ثلاثاً متواليات من غير ضرورة طبع الله على قلبه .
أخرجه البيهقى (1) . [241]
( ب ) (وقول) ابن عباس : من ترك الجمعة ثلاث جمع متواليات فقد نبذ الإسلام وراء ظهره .أخرجه ابو يعلى بسند رجاله رجال الصحيح(2) . (100).
واعتبار الثلاث إمهال من الله تعالى للعبد ورحمة به ،لعله يتوب من ذنبه ،ويثوب إلى رشده ،ويؤدى الجمعة ولا يتركها بلا عذر .وأما من تخلف عن حضور الجمعة لعذر من الأعذار المبيحة للتخلف عنها وعن الجماعة، كالمطر والبرد الشديد والريح وغيرها مما تقدم فى بحث " أعذار ترك الجماعة"(3) فلا إثم عليه .
( 13 ) اجتماع العيد والجمعة
__________
(1) ص247 ج3 سنن البيهقى (التشديد فى ترك الجمعة).
(2) ص193 ج2 مجمع الزوائد (فيمن ترك الجمعة).
(3) تقدم بص117 ج3 دين .وأنها أحد عشر عذراً .(1/286)
ومن الأعذار المبيحة للتخلف عن الجمعة اجتماعها مع العيد فى يوم واحد ،فيرخص لمن صلى العيد مع الإمام ترك الجمعة (لقول) إياس بن أبى رملة الشامى : شهدت معاوية بن أبى سفيان وهو يسأل زيد بن أرقم قال: اشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيدين اجتمعا فى يوم واحد ؟ قال : نعم .قال : فكيف صنع ؟ قال: صلى العيد ثم رخص فى الجمعة فقال: من شاء أن يصلى فليصل .اخرجه أحمد والطيالسى والبيهقى والحاكم وقال: هذا حديث صحيح الإسناد والأربعة إلا الترمذى(1) . [242].
(ولحديث) ابى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قد اجتمع فى يومكم هذا عيدان ،فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون .أخرجه ابو داود والبيهقى وابن ماجه والحاكم .وقال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم .وقال الذهبى : صحيح غريب. وأخرجه ابن ماجه أيضاً عن ابن عباس (2) . [243].
دل ما ذكر على جواز التخلف عن صلاة الجمعة إذا صادفت يوم عيد لمن صلى العيد مع الإمام ،فلا يلزمه ظهر ولا جمعة.
(
__________
(1) ص32 ج6 الفتح الربانى ،وص 94 مسند الطيالسى ،وص 317 ج3 سنن البيهقى (اجتماع العيدين) ،وص 288 ج1 مستدرك ، ص219 ج6 المنهل العذب( إذا وافق يوم الجمعة يوم عيد) وص235 ج1 مجتبى( الرخصة فى التخلف عن الجمعة لمن شهد العيد ) وص203 ج1 سنن ابن ماجه ( إذا اجتمع العيدان فى يوم ) والمارد بالعيدين الجمعة والعيد ،وسميت الجمعة عيداً لحديث ابى هريرة ان النبى صلى الله عليه وسلم قال فى جمعة من الجمع : معاشر المسلمين هذا يوم جعله الله عز وجل لكم عيداً ، فاغتسلوا وعليكم بالسواك . أخرجه البيهقى (49) انظر ص243 ج3 سنن البيهقى (التنظيف يوم الجمعة)، ولأنها تعود فى الشهر مرات.
(2) انظر ص222 ج6 المنهل العذب . وص318 ج3 سنن البيهقى . وص203 ج1 سنن ابن ماجه.(1/287)
وبه قال) عمر وعثمان وعلى وابن عمر وابن عباس وابن الزبير وعطاء بن أبى رباح والشعبى والنخعى والأوزاعى . ورواه مطرف وابن وهب وابن الماجشون عن مالك (لما تقدم).
(ولقول) عطاء بن أبى رباح: صلى بنا ابن الزبير فى يوم عيد يوم جمعة أول النهار ،ثم رحنا إلى الجمعة فلم يخرج إلينا فصلينا وحداناً ،وكان ابن عباس بالطائف ،فلما قدم ذكرنا ذلك له،فقال: أصاب السنة. أخرجه أبو داود بسند حسن أو صحيح على شرط مسلم (1) .(101).
(وقال) ابو عبيد مولى ابن أزهر: شهدت العيد مع عثمان رضى الله عنه، فجاء يصلى ثم انصرف فخطب فقال: إنه قد اجتمع لكم فى يومكم هذا عيدان ،فمن أحب من أهل العالية أن ينتظر الجمعة فلينتظرها ، ومن أحب أن يرجع فليرجع فقد اذنت له .أخرجه الشافعى والبخارى والبيهقى (2) .(102).
قال عثمان هذا فى جمع من الصحابة ولم ينكروا عليه فكان إجماعاً .
(وقالت) الحنبلية: تسقط الجمعة عمن حضر العيد مع الإمام ، لما تقدم .أما الإمام فلا تسقط عنه الجمعة ،لقوله صلى الله عليه وسلم : وإنا مجمعون ،ولأنه لو تركها لامتنع فعل الجمعة فى حق من تجب عليه ومن يريدها ممن سقطت عنه ،بخلاف غيره من الناس (ورد) بأن قوله صلى الله عليه وسلم : وإنا مجمعون ،اختيار بأنه سيأخذ بالعزيمة . وأخذه بها لا يدل على أنه لا رخصة فى حقه .ولا يكفى بمجرده فى الدلالة على الوجوب (ويدل) على عدم الوجوب،وأن الترخيص عام لكل أحد (ترك) ابن الزبير للجمعة وهو الإمام إذ ذاك (وقول) ابن عباس: أصاب السنة،وعدم الإنكار عليه من أحد الصحابة.
(
__________
(1) ص220 ج6 المنهل العذب (إذا وافق يوم الجمعة يوم عيد).
(2) ص178 ج1 بدائع المنن . وص 20 ج10 فتح البارى (ما يؤكل من لحوم الأضاحى)وص318 ج3 سنن البيهقى (اجتماع العيدين) و( العالية) بعين مهملة: قرية شرقى المدينة.(1/288)
وقالت) الشافعية: تجب الجمعة على أهل البلد .واختلفوا فى سقوطها بالعيد عن أهل القرى الذين يسمعون نداء الجمعة. ومشهور المذهب أنها تسقط عنهم ويصلون الظهر ،لقول عثمان السابق .ورُدَّ بأن إذنه رضى الله عنه لأهل العالية بالرجوع صريح فى انه لا ظهر عليهم.
(والذى) تفيده الأدلة أن الجمعة إذا وافقت يوم عيد تسقط عن أهل القرى الذين يسمعون الدناء من بلد الجمعة إذا صلوا فيها العيد . وتستحب الجمعة لأهل البلد ،لقوله صلى الله عليه وسلم : وإنا مجمعون.
( 14 ) كفارة ترك الجمعة لغير عذر
يطلب ممن وجبت عليه الجمعة وتركها لغير عذر أن يصلى الظهر ويتصدق بدينار ،فإن لم يجد قبنصف دينار (لحديث) سمرة بن جندب أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: من ترك الجمعة متعمداً فليتصدق بدينار ،فإن لم يجد فبنصف دينار .اخرجه ابن ماجه والبيهقى بسند جيد(1) . [244].
(وقال) بعضهم : الأمر نا للاستحباب ،لأن الجمعة لها بدل وهو الظهر.
(والظاهر) أن الأمر هنا للوجوب كما هو الأصل فيه ،وكون الجمعة لها بدل ، لا يدل على صرفه عن الوجوب ،لاحتمال أن يكون وجوب الكفارة مع صلاة الظهر عقاباً له عن تخلفه عن الجمعة بلا عذر ( المقصود) من هذه الكفارة محو الذنب كله ،لأن الحسنات يذهبن السيئات وإن كانت من الكبائر،خلافاً لمن قال إنها لتخفيف الذنب لا محوه كله ،لأن ترك الجمعة بلا عذر من الكبائر كما تقدم ،والكبيرة لا تمحى إلا بالتوبة أو عفو الله (ورد) بأن الكفارة إنما شرعت لتكفير الذنب وإن كان من الكبائر لا سيما إذا كان حقاً لله؛ فمن أداها قبلت منه وعفا الله عنه بفضله ،ومن لم يؤدها استحق العقاب الوارد فى ذلك . نعم إن أدى الكفارة مستحقاً لها ، مصراً على ترك الجمعة،فهذا هو الذنب الذى لا يمحى إلا بالتوبة .
(
__________
(1) ص179 ج1 سنن ابن ماجه( فيمن ترك الجمعة بغير عذر) وص248 ج3 سنن البيهقى.س(1/289)
وأما) القول بالاكتفاء فى كفارة ترك الجمعة بدرهم أو نصف درهم أو صاع حنطة أو نصف صاع حنطة أو نصف صاع .أخرجه أبو داود والبيهقى مرسلا(1) . [245].
( فضعيف ) لإرسال دليله فلا يعارض الأحاديث الصحيحة المتصلة الدالة على طلب التصدق بدينار أو نصف دينار.
( 15 ) راتبة الجمعة
للجمعة راتبة بعدية وهى ركعتان أو أربع( لقول) ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى بعد الجمعة ركعتين فى بيته ،أخرجه السبعة، وهو عند البخارى عجز حديث بلفظ : وكان لا يصلى بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلى ركعتين(2) . [246].
(ولحديث) ابى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا صليتم الجمعة فصلوا بعدها أربعاً .وأخرجه السبعة إلا البخارى (3) . [247].
دل ما ذكر على أنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بعد الجمعة وأمر الأمة بصلاة أربع .ولا تعارض بينهما ،لما تقرر فى الأصول من أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض القول الخاص بالأمة .فالمشروع فى حق الأمة أربع ركعات بعد الجمعة. ويجوز الاختصار على ركعتين اقتداء بفعله صلى الله عليه وسلم .
(
__________
(1) ص197 ج6-المنهل العذب(كفارة من تركها) وص348 ج2 بيهقى .
و(من فاتته الجمعة) أى تركها كما تقدم .وعبر هنا بالفوات حملا لحال المسلم على الصلاح ،وأن شأنه ألا يتعمد ترك الجمعة بلا عذر. و( الصاع) مكيال يسع أربعة أمداد ، وقد حان بالكيل المصرى ،وفى المد خلاف تقدم بيانه فى بحث "مقدار ماء الغسل " ص314 ج1 دين.
(2) ص114 ج6 الفتح الربانى . وص 170 ج6 نووى مسلم (الصلاة بعد الجمعة) وص302 ج6 المنهل العذب (الصلاة بعد الجمعة) وص 210 ج1 مجتبى ابن ماجه . وص 290 ج2 فتح البارى.
(3) ص115 ج6 الفتح الربانى . وص 169 ج6 نووى مسلم . وص 302 ج6 المنهل العذب . وص 371 ج1 تحفة الأحوذى . وص210 ج1 مجتبى . وص179 ج1 سنن ابن ماجه.(1/290)
ولأمر) فى هذه الأحاديث للاستحباب لا للوجوب (لحديث) أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: من كان منكم مصلياً بعد الجمعة فليصل أربعاً .أخرجه مسلم وأبو داود والترمذى وقال: هذا حديث حسن صحيح(1) . [248].
نبه بقوله: " من كان منكم مصلياً " على أنها سنة ليست بواجبة . وذكر الأربع لفضلها . وفعل الركعتين فى أوقات بياناً لأن أقلها ركعتان . وحكمة أمره صلى الله عليه وسلم بصلاة أربع بعد الجمعة لئلا يخطر على بال جاهل أنه صلى ركعتين لتكملة الجمعة ،أو يتطرق أهل البدع إلى صلاتها ظهراً .
(وقالت) الحنبلية: أقل السنة بعد الجمعة ركعتان ،وأكثرها ست .
(لما روى) عطاء عن ابن عمر أنه كان إذا كان بمكة فصلى الجمعة تقدم فصلى ركعتين ،ثم تقدم فصلى أربعاً ،وإذا كان بالمدينة صلى الجمعة، ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين ولم يصل فى المسجد . فقيل له. فقال: كان رسول اله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ،أخرجه أبو داود(2) . [249].
وقوله : " كان يفعل ذلك " أى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى بعد الجمعة ستاً بمكة فى المسجد وركعتين فى بيته بالمدينة،وكانت صلاته صلى الله عليه وسلم الجمعة بمكة عام الفتح فإنه لم يصلها بمكة قبله.
(وقال) الترمذى : وروى عن علىّ بن أبى طالب أنه أن يصلى بعد الجمعة ركعتين ثم أربعاً. أ.هـ. وأخرجه أحمد بن الحسن البغدادى .وزاد:جعل التسليم فى آخرهن(3) .(103).
(
__________
(1) انظر ص169 ج6 نووى مسلم . وص 202 ج6 المنهل العذب . وص 271 ج1 تحفة الأحوذى (الصلاة قبل الجمعة وبعدها).
(2) انظر ص301 ج6 المنهل العذب (الصلاة بعد الجمعة).
(3) انظر ص371 ج1 تحفة الأحوذى.(1/291)
تنبيه) دلت الأحاديث السابقة على جواز صلاة سنة الجمعة البعدية فى المسجد وفى البيت وهو الأفضل ،لأحاديث الترغيب فى النافلة فى البيوت، وقد تقدم بعضها فى بحث " مكان التطوع"(1) ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يصل الركعتين بعد الجمعة فى المسجد ، خشية أن يظن أن هاتين الركعتين هما اللتان تركتا من الجمعة (وإن صلاها) فى المسجد فيسن تأديتها فى غير مكان الفرض ، لما تقدم فى حبث (كراهة التنفل فى مكان الفرض) (2) .
وأما سنة الجمعة القبلية فلم تثبت من طريق صحيح ،بل الثابت أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا زالت الشمس يوم الجمعة خرج من حجرته ودخل المسجد وسلم وصعد المنبر واذن المؤذن خارج المسجد ، فإذا انتهى المؤذن شرع النبى صلى الله عليه وسلم فى الخطبة من غير فصل ، ولذا قال أكثر العلماء ومنهم المالكية والحنبلية وكثير من الشافعية : ليس للجمعة سنة قبلية.
(وقال) الحنفيون وبعض الشافعية : يسن أربع ركعات قبل الجمعة، وهو قول لأحمد (لقول) نافع : كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلى بعدها ركعتين فى بيته ،ويحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك .اخرجه ابو داود (3) .[250].
(ولما تقدم) عن عبد الله بن مغفل أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: بين كل اذانين صلاة . بين كل أذانين صلاة . ثم قال فى الثالثة : لمن شاء . أخرجه السبعة ،وقال الترمذى : حسن صحيح (4) . [251].
(ولقول) ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى قبل الجمعة أربعاً لا يفصل فى شئ منهن.اخرجه ابن ماجه بسند واه(5) . [252].
(
__________
(1) تقدم ص309 ج2 دين.
(2) تقدم بص 360 منه.
(3) ص295 ج6 المنهل العذب (الصلاة بعد الجمعة).
(4) تقدم رقم 440 ص307 ج2 دين (راتبة العشاء).
(5) ص179 ج1 سنن ابن ماجه (الصلاة قبل الجمعة).(1/292)
ولما) روى أن عبد الله بن مسعود كان يصلى قبل الجمعة أربعاً وبعدها أربعاً .اخرجه الترمذى (1) (104) ،ولقياس الجمعة على الظهر.
(وأجاب) الجمهور:
(أولا) أن قول ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك.أى كان يطيل الصلاة قبل الجمعة قبل الزوال لا بعده (لما تقدم) من أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يصلى بعد الزوال وقبل الخطبة شيئاً ،ولقول ابن المنذر : روينا أن ابن عمر كان يصلى قبل الجمعة اثنتى عشرة ركعة. (105).
وعن ابن عباس أنه كان يصلى ثمان ركعات. (106).
ولم يقل أحد إن سنة الجمعة القبلية اثنتا عشرة ركعة ،أو ثمان . فتعين أن المراد بقوله : كان يطيل الصلاة .أنه كان يطيلها قبل الزوال . ويحتمل أن اسم الاشارة فى قوله : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ،عائد إلى صلاة الركعتين بعد الجمعة فى بيته فقط (فقد) روى الليث عن نافع أن ابن عمر كان إذا انصرف من الجمعة إلى منزله فسجد سجدتين ،وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك. اخرجه أحمد ومسلم والأربعة إلا أبا داود(2) . [253].
(وثانياً) بأن (حديث) بين كل أذانين صلاة . ونحوه(من العام) المخصوص بغير الجمعة،لما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لم يصلّ بين اذانها وإقامتها.
(وثالثاً) بأن (حديث) ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلى قبل الجمعة أربعاً،فى سنده : (أ) بقية ابن الوليد مدلس. (ب) مبشر بن عبيد كذاب منكر الحديث . (حـ) حجلج بن أرطاة مدلس . (د) عطية العوفى متفق على ضعفه . فلا يصح الاحتجاج بحديثهم . ولذا قال النووى فى الخلاصة : إنه حديث باطل ،وعلى فرض صحته فيحمل على ما قبل الزوال.
(ورابعاً) بأن اثر ابن مسعود يحمل على النفل المطلق قبل دخول وقت الجمعة.
(
__________
(1) انظر ص371 ج1 تحفة الأحوذى.
(2) ص114 ج6 الفتح الربانى . وص169 ج6 – روى مسلم . وص 210 ج1 مجتبى . وص371 ج1 تحفة الأحوذى . وص 179 ج1 سنن ابن ماجه.(1/293)
وخامساً) بأن قياس الجمعة على الظهر قياس فى مقابلة النص ،فلا يعول عليه ،وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى الجمعة ولم يصلّ قبلها راتبة .
فكان تركها سنة وفعلها بدعة (ولا يقال) لعله صلى الله عليه وسلم صلاها فى بيته بعد زوال الشمس ثم خرج (لأنا نقول) لو كان كذلك لنقله أزواجه صلى الله عليه وسلم إلينا ،كما نقلن سائر صلواته فى بيته ليلا ونهاراً . وحيث لم ينقل أنه صلى راتبة قبلية للجمعة،دل على أنها غير مشروعة.
(قال) الإمام أبو شامة الشافعى : جرت عادة الناس أنهم يصلون بين الأذانين يوم الجمعة متنفلين بركعتين أو أربع ونحو ذلك إلى خروج الإمام.
وذلك جائز ومباح وليس بمنكر من جهة كونه صلاة . وإنما المنكر اعتقاد العامة ومعظم المتفقهة منهم أن ذلك سنة للجمعة قبلها ،كما يصلون السنة قبل الظهر ،يصرحون فى نيتهم بأنها سنة الجمعة. وكل ذلك بمعزل عن التحقيق .
والجمعة لا سنة لها قبلها ؛ لأن المراد من قولنا الصلاة المسنونة أنها منقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا . والصلاة قبل الجمعة لم يأت منها شئ عن النبى صلى الله عليه وسلم يدل على أنها سنة،ولا يجوز القياس فى شرعية الصلوات(1) . ثم الدليل على صحة ذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يخرج من بيته يوم الجمعة فيصعد منبره ثم يؤذن المؤذن . فغذا فرغ اخذ النبى صلى الله عليه وسلم فى خطبته . ولو كان للجمعة سنة قبلها ،لأمرهم بعد الذان بصلاة السنة وفعلها هو صلى الله عليه وسلم ،ولم يكن فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم غير هذا الأذان ،وعلى ذلك مذهب المالكية إلى الآن(2) .
ثم قال: وذكر صاحب شرح السنة رواية غير معروفة قال: وروى عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: صلى رسول الله صلى الله عليهوسلم قبل الجمعة ركعتين وبعدها ركعتين.[254].
(
__________
(1) ص83- الباعث على إنكار البدع والحوادث.
(2) انظر ص85- الباعث.(1/294)
قلت) هذا غير محفوظ ،وإنما هو قبل الظهر ،فوهم منقال قبل الجمعة. والذى فى الصحيحين عن ابم عمر رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يصلى بعد الجمعة ركعتين (1) ولم يزد على ذلك .
(فإن قلت) ففى سنن أبى داود بالسند إلى نافع قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلى بعدها ركعتين فى بيته ويحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك(2) .
(قلت) اراد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلى الركعتين بعد الجمعة فى بيته ولا يصليهما فى المسجد ،وذلك هو المستحب .وأرشد إلى هذا التأويل ما تقدم من الأدلة على أنه لا سنة للجمعة قبلها .وأما غطالة ابن عمر الصلاة قبل الجمعة فقد سبق الكلام عليه .وأن ذلك منه ومن أمثاله تطوع من عند أنفسهم ، لأنهم كانوا يبكرون إلى حضور الجمعة فيشتغلون بالصلاة (3) وذكر الحافظ حديث ابن عمر(وقال) احتج به النووى على إثبات سنة الجمعة قبلها . وتعقب بأن قوله : وكان يفعل ذلك ،عائداً على قوله : ويصلى
بعد الجمعة ركعتين فى بيته . ويدل عليه رواية الليث عن نافع عن ابن عمر انه كان إذا صلى الجمعة انصرف فسجد سجدتين فى بيته ،ثم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك .أخرجه مسلم(4) .وأما قوله : كان يطيل الصلاة قبل الجمعة . فإن كان المراد بعد دخول الوقت ،فلا يصح أن يكون مرفوعاً ،لأنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج إذا زالت الشمس فيشتغل بالخطبة ثم بصلاة الجمعة. وإن كان المراد قبل دخول الوقت ، فذلك نافلة لا صلاة راتبة ، فلا حجة فيه لسنة الجمعة التى قبلها ، بل هو تنفل مطلق ، وقد ورد الترغيب فيه كما تقدم(5) .
(
__________
(1) تقدم رقم 246 ص297 (راتبة).
(2) تقدم رقم 250 ص299.
(3) انظر ص87 - الباعث.
(4) تقدم عند مسلم وغيره رقم 253 ص300 (راتبة الجمعة).
(5) ص291 ج2 فتح البارى الشرح (الصلاة بعد الجمعة).(1/295)
وقد سئل) شيخ الإسلام تقى الدين عن الصلاة بعد الأذان الأول يوم الجمعة( فأجاب) بقوله : أما النبى صلى الله عليه وسلم فإنه لم يكن يصلى قبل الجمعة بعد الأذان شيئاً ، ولا نقل هذا عنه أحد ، فإن النبى صلى الله عليه وسلم كان لا يؤذن على عهده إلا غذا قعد على المنب، ويؤذن بلال ، ثم يخطب النبى صلى الله عليه وسلم الخطبتين ، ثم يقيم بلال ،فيصلى صلى الله عليه وسلم بالناس. فما كان يمكن أن يصلى بعد الأذان لا هو ولا أحد من المسلمين الذين يصلون معه صلى الله عليه وسلم . ولا نقل عنه أحد أنه صلى فى بيته قبل الخروج يوم الجمعة،ولا وقّت بقوله صلاة مقدّرة قبل الجمعة، بل ألفاظه صلى الله عليه وسلم فيها الترغيب فى الصلاة إذا قدم الرجل المسجد يوم الجمعة من غير توقيت ،كقوله : من بكر وابتكر ومشى ولم يركب وصلى ما كتب له(1) ، وهذا هو المأثور عن الصحابة ،كانوا إذا أتوا المسجد يوم الجمعة يصلون من حين يدخلون ما تيسر . فمنهم من يصلى عشر ركعات . ومنهم من يصلى اثنتى عشرة ركعة . ومنهم من يصلى ثمانى ركعات.
ومنهم من يصلى أقل من ذلك . ولهذا كان جماهير الأئمة متفقين على أنه ليس قبل الجمعة سنة مؤقتة بوقت ،مقدرة بعدد،لأن ذلك إنما يثبت بقول النبى صلى الله عليه وسلم أو فعله ،وهو لم يبين فى ذلك شيئاً لا بقوله ولا فعله (وهذا) مذهب مالك والشافعى وأكثر أصحابه ،وهو المشهور من مذهب أحمد.
(وذهب) طائفة من العلماء إلى أن قبلها سنة. منهم من جعلها ركعتين كما قاله طائفة من أصحاب الشافعى وأحمد . ومنهم من جعلها أربعاً كأبى حنيفة وطائفة من أصحاب أحمد . وهؤلاء منهم من يحتج بحديث ضعيف . ومنهم من يقول هى ظهر مقصورة ،وتكون سنة الظهر سنتها . وهذا خطأ من وجهين :
(
__________
(1) هذا بعض حديث تقدم رقم 143 ص137 (التبكير إلى صلاة الجمعة) وليس به : وصلى ما كتب له .(1/296)
أحدهما) أن الجمعة مخصوصة بأحكام تفارق بها ظهر كل يوم باتفاق المسلمين ، فإن الجمعة يشترط لها الوقت فلا تقضى والظهر تقضى ،والجمعة يشترط لها العدد ،والاستيطان ،والإمام ،وغير ذلك ،والظهر لا يشترط لها شئ من ذلك . فلا يجوز أن تتلقى أحكام الجمعة من أحكام الظهر مع اختصاص الجمعة بأحكام تفارق بها الظهر ، فإنه إذا كانت الظهر تشارك الجمعة فى حكم وتفارقها فى حكم ، لم يمكن إلحاق مورد النزاع بأحدهما إلا بدليل،فليس جعل السنة من موارد الاشتراك بأولى من جعلها من موارد الافتراق .
(الوجه) الثانى: أن يقال هب أنها ظهر مقصورة ، فالنبى صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلى فى سفره سنة للظهر المقصورة لا قبلها ولا بعدها، وإنما كحان يصليها إذا أتم الظهر فصلى أربعاً ، فإذا كانت سنته التى قبلها فى الظهر المقصورة خلاف التامة، كان ما ذكروه حجة عليهم لا لهم ، وكان السبب المقتضى لحذف بعض الفريضة أولى بحذف السنة الراتبة كما قال بعض الصحابة : لو كنت متطوعاً لأتممت الفريضة (1) فإ،ه لو استحب للمسافر أن يصلى أربعاً لكانت صلاته للظهر أربعاً أولى من أن يصلى ركعتين فرضاً وركعتين سنة(2) .
(والنصوص) فى ذلك كثيرة ،صريحة فى أن الحق أن الجمعة لا سنة لها قبيلية وليس بعد الحق إلا الضلال . نسأله تعالى أن يهدينا جميعاً إلى معرفة الدين ، وأن يوفقنا للعمل به مخلصين له الدين.
( 16 ) بدع الجمعة
تقدم أن يوم الجمعة أفضل ايام الأسبوع ،وله مزايا وفضائل ليست لغيره ،فكان ينبغى أن يحترم ولا يرتكب فيه ولا فى صلاته ما لا يرضاه عقل ولا يقره نقل ،ولكن وللأسف قد ارتكب فيه المسلمون بدعاًَ ومخالفات كثيرة .
(
__________
(1) هو عبد الله بن عمر،فقد قال فى حديث طويل تقدم رقم 70 ص70 : لو كنت مسبحاً أتممت صلاتى.
(2) ص136 ج1 فتاوى ابن تيمية (مسألة 126).(1/297)
منها) ما تقدم ، كرفع الصوت بقراءة سورة الكهف فى المسجد ، والتذكير المعروف بالأولى والثانية ، والأذان داخل المسجد ،وحديث الدنيا فيه ،وعلو المنبر،وفرشه بسجاد ونحوه،ووضع العلمين بجانيه والستارة على بابه،ودق درجه حال صعود الخطيب،ورفع الصوت بالدعاء وغيره حال الخطبة ،وتخطى الرقاب ،والجهر بالنية ،والتبليغ عند عدم الحاجة.
(ومنها) إفراد يومها بصيام وليلتها بقيام (لما يأتى) عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالى ، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام ،إلا أن يكون فى صوم يصومه أحدكم .اخرجه مسلم والبيهقى (1) .[255].
(والمراد) بالقيام كل طاعة يتحقق بها إحياء الليل.وحكمة النهى عن ذلك أنه يقلل مننشاط الإنسان لليام بوظائف الجمعة من الغسل والتبكير وغيرهما مما تقدم بيانه فى " فصل ما يطلب ليلة الجمعة ويومها "(2) ولأن الجمعة عيد الأسبوع ، والعيد لا يصام مخالفة لليهود ،فإنهم يفردون عيدهم بالصوم ، فنهينا عن التشبيه بهم فى ذلك ،وأذن لنا فى صيامه إذا وصل بصيام قبله أو بعده ،والله الموافق.
(ومنها) الدكة يصعد عليها المؤذنون والمبلغون وقارئ سورة الكهف يوم الجمعة .أما الأذان ورفع الصوت بقراءة السورة ،فقد علمت أنهما يمنعان داخل المسجد ،فلا تضع لهما دكة فيه ،لما فيه من شغل موضع من المسجد وهو وقف على المصلين (ومن ذلك) وضع كرسى فى المسجد للتشويش بالقراءة عليه كما تقدم فى " بدع المساجد".
(ومنها) الترقية بعد أذان الجمعة أمام المنبر،وهى قراءة " إن الله وملائكته يصلون على النبى" وما تقدم من قوله صلى اللهعليه وسلم : إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت(3) .
(
__________
(1) يأتى رقم 79 ص307 ج8(صوم يوم الجمعة).
(2) تقدم ص126.
(3) تقدم رقم 26 ص30 (هل تقضى الفائتة فى وقت النهى)؟(1/298)
قال) العلامة ابن نجيم : اعلم أن ما تعورف من أن المرقى للخطيب يقرأ الحديث النبوى ،وأن المؤذنين يؤمنون عند الدعاء ،ويدعون للصحابة بالرضا ،وللسلطان بالنصر ،إلى غير ذلك ،فكله حرام على مقتضى مذهب ابى حنيفة رحمه الله، وأغرب منه أن المرقى ينهى عن الأمر بالمعروف بمقتضى الحديث الذى يقرؤه ثم يقول: أنصتوا رحمكم الله (1) .
(وقال) العلامة ابن عابدين فى " منحة الخالق على البحر الرائق " : نقل الخير الرملى عن الرملى الشافعى أن والده افتى بأنه ليس له اصل فى السنة وأنه لم يفعل بين يديه صلى الله عليه وسلم ،بل كان يمهل حتى يجتمع الناس،فإذا اجتمعوا خرج إليهم وحده من غير شاويش يصيح بين يديه ،وكذلك الخلفاء الثلاثة بعده(2) .
(وقال) العلامة الشيخ على العدوى فى حاشيته على الخرشى : ومن البدع المكروهة التى ابتدعها أهل الشام وهم بنو أمية ،الترقية (وما) يقوله المرقى من صلوا عليه ،وآمين ،ورضى الله عنهم (فهو) مروه وكذا قوله الحديث عند فراغ المؤذن قبل الخطبة ،إنما تبعوا فى ذلك أهل الشام ،وخالفوا أهل المدينة من عدم فعلهم ذلك ،وهو من أعجب العجاب (3) .
(
__________
(1) انظر ص156 ج2 البحر الرائق (وإذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام ).
(2) انظر هامش ص156 ج2 البحر الرائق .
(3) ص103 ج2 حاشية العدوى هامش شرح الخرشى على مختصر خليل.(1/299)
وما قيل) من أنها بدعة حسنة،لأن فى قراءة الاية ترغيباً فى الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ،وفى قراءة الحديث تبسيطاً لاجتناب الكلام ، ولتوافر الأمة وتظاهرها عليه (رده) العلامة ابن عابدين بان كون ذلك متعارفاً لا يقتضى جوازه عند الإمام القائل بحرمة الكلام ولو أمراً بمعروف أو رد سلام استدلالا بما مر . ولا عبرة بالعرف الحادث غذا خالف النص ، لأن التعارف إنما يصلح دليلا على الحل إذا كان عاماً من عهد الصحابة والمجتهدين كما صرحوا به . وقياس خطبة الجمعة على خطبة منى ، قياس مع الفارق ،فإن الناس فى يوم الجمعة قاعدون فى المسجد ينتظرون خروج الخطيب متهيئون لسماعة بخلاف خطبة منى (1) .
(وقد) سئل الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده مفتى مصر بإفادة من مديرية المنوفية فى 24 مايو سنة 1904 نمرة 765 عن مسائل:
(منها) ما اشتهر من الترقية قبل الخطبة مع مراعاة فى الآداب فى الإقلاء ، وحديث إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب ...إلخ (ومنها) ما يحصل من الأذان قب الوقت يوم الجمعة بما يشتمل على استغاثات وصلوات علىالنبى صلى الله عليه وسلم لتنبيه الفلاحين الموجودين بالغطيان الغافلين عن مكان الجمعة (ومنها) الأذان داخل المسجد بين يدى الخطيب(ومنها) الذكر جهراً أمام الجنازة بكيفية معتدلة خالية عن التلحين...هل ذلك كله جار على السنن القويم ،أو فيه إخلال بالدين ؟
(
__________
(1) ص606 ج1 رد المحتار 0حكم المرقى بين يدى الخطيب) وهو يرد بذلك قول ابن حجر الهيثمى فى التحفة . يستدل لذلك أيضاً بأنه صلى الله عليه وسلم أمر من يستنصت له الناس عند إرادته خطبة منى فى حجة الوداع ، فقياسه أنه يندب للخطيب أمر غيره بالاسنصات .وهذا هو شأن المرقى ،فلم يدخل ذكره للخير فى حيز البدعة أصلا.أهـ .ص460 ج1 تحفة المحتاج لشرح المنهاج (اتخاذ مرق للخطيب).(1/300)
فأجاب) بقوله : إن كل عبادة لم يرد بها نص عنالنبى صلى الله عليه وسلم ،ولم تأت فى عمله صلى الله عليهوسلم ،ولا فى عمل اصحابه اقتداء به ، وإن لم نعرف وجه الاقتداء فهى بدعة وكل بدعة ضلالة ،وكل ضلالة فى النار ،فهى ممقوتة للشارع يجب منعها.
(وهذه) الأمور صور عبادات محدثة لم تكن على عهد النبى صلى اللهعليه وسلم ،ولا أصحابه ولا التابعين ولا تابعيهم،ولا يعرف بالتحقيق من أحدثها .
(وما ينقل) عن بعض العلماء فى الترقية مثلا من أنها بدعة مستحسنة (لا يصح) التعويل عليه ،لأنه لم يفرق بين ما يستحدث فى العادات كالأكل والشرب واللباس والمسكن وما يستحدث فى العبادات . فكل ما يحدث منالنوع الأول مما لا ضرر فيه بالدين ولا بالبدن ،وكان مما يخفف مشقة أو يدفع اذى أو يفيد منفعة ،فهو مستحسن ولا مانع منه إذا لم يكن ممنوعاً بالنص ، كاستعمال الذهب والفضة والحرير للرجال ،ونحو ذلك .
(وأما) ما يحدث من القسم الثانى ،أعنى قسم العبادات ، فالحديث فيه على عمومه ،أعنى كل ما حدث منه بدعة،والبدعة ضلالة ،والضلالة فى النار بلا شبهة.
ونقل عن ابن نجيم ما تقدم عنه فى الترقية ( وقال )وما قاله بعضهم من حمل الرتقية على الكلام بأخروى عند محمد (لا يصح) الالتفات إليه ،لأن الترقية عمل وقت بوقت مخصوص يؤدى على نحو مخصوص . فهو ليس من قبيل الكلام الذى يعرض لقائله فى أمر بمعروف أو نهى عن منكر ،أو ذكر الله ، خصوصاً والترقية على حالها المعهودة فى القرى والمدن ،لا يقول أحد من الأئمة بجوازها ، لما فيها من التلحين والتغنى ،ولو زعم السائلون أنه لا يلحن فيها ،لأنها لم تخترع إلا للتلحين ؛ فإذا ذهب منها لم تعد تسمى ترقية ولم تبق لهم بها حاجة؛ فالصواب منعها على كل حال؛ لأنها بدعة.
(أما) الذكر جهراً أمام الجنازة ففى الفتح والأنقروية من باب الجنائز : يكره للماشى أمام الجنازة رفع الصوت بالذكر ، فإن أراد أن يذكر الله فليذكره فى نفسه.
((1/301)
وعلى ذلك) فجميع الشياء التى سألتم عنها مما يلزم منعه ولا يصح الإبقاء عليه ،لأن جميعه من مخترعات العام ولا يتمسك به إلا جهالهم ،وليس من الجائز أن يؤخذ فى الدين بشئ لم تتقدم فيه اسوة حسنة معروفة ،ولا سنة مقررة منقولة . وكيف يجوز اتباع مخترعين مجهولين لا يمكن الثقة بهم فى غير عبادة الله ، فضلا عن شئ فى دين الله . والله أعلم(1) .
( ومنها ) رفع الصوت بالصلاة والسلام على النبى صلى الله عليه وسلم ، وبالترضى عن الصحابة ، والتأمين حال الخطبة ، وبالدعاء بين الخطبتين ، وقول جهلة الأئمة حينئذ : ادعو الله وأنتم موقنون بالإجابة (2) . [256].
وقولهم : التائب من الذنب كمن لا ذنب له (3) . [257].
والدعاء للسلطان عند دعاء الخطيب له .
(
__________
(1) صورة بعض فتوى منقولة عن مضبطة دار إفتاء الديار المصرية رقم 31 جزء ثالث ،بتاريخ 22 ربيع الأول سنة 1322هـ. " وتقدم" تمامها:
(أ ) ... حكم الجهر بالصلاة والسلام عقب الأذان ، ص 90 ج2 دين :
(ب ) ... حكم الجهر بقراءة الكهف فى المسجد ، ص128 ج4 .
(2) هو مصدر حديث. وتمامه : واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه . أخرجه الترمذى والحاكم عن أبى هريرة : انظر رقم 316 ص228 ج1 فيض القدير. تفرد به صالح المزى وهو ضعيف تركه أبو داود والنسائى . وقال البخارى : منكر الحديث.
(3) أخرجه ابن ماجه من طريق أبى عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه . انظر رقم 2358 ص276 ج3 فيض القدير . وهو حديث ضعيف . فقد رواه ابن أبى سعيد عن يحيى بن خالد ،وهما مجهولان . وعزاه المنذرى لابن ماجه والطبرانى وقال : رواه الطبرانى رواه الصحيح ،لكن أبو عبيدة لم يسمع منأبيه وحسنه ابن حجر باعتبار شواهده .(1/302)
قال) المرحوم الشيخ محمد سعيد الحنفى : وما نراه اليوم من ترقية وصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم ،وترديد اذان ،ورفع صوت بالدعاء بين الخطبتين ،وترض عن الصحابة ،ودعاء للسلطان من المرقى : كل هذا من محدثات الأمور،وكل محدثة بدعة،وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار،ولأنه يخل بالسماع المطلوب (1) .
(وقال) العلامة الدرديرى فى شرح أقرب المسالك : ومن البدع المحرمة ما يقع بدكة المبلغين بالقطر المصرى من الصريخ على صورة الغناء والترنم ، ولا ينكر عليهم أحد من أهل العلم ز ومن البدع المذمومة أن يقول الخطيب الجهول فى آخر الخطبة الأولى : ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة . ثم يجلس فتسمع من الجالسين ضجة عظيمة يستمرون فيها حتى يكاد الإمام أن يختم الثانية ،وعلى دكة التبليغ جماعة يرفعون أصواتهم جداً بقولهم : آمين آمين يا مجيب السائلين ،إلى آخر كلام طويل،وهكذا . فإنا لله وإنا إليه راجعون(2) .
(وكتب) عليه العلامة الصاوى ما نصه : ( قوله الخطيب الجهول) صيغة مبالغة،لأن جهله مركب لزعمه أنه يأمر بالمعروف ،وهو يأمر بالمنكر ، لأن اصل قراءة الحديث لم يكن مأموراً بها فى الخطبة أصلا ،فهو منالبدع كما تقدم . والإنصات ولو بين الخطبتين واجب . ورفع الأصوات الكثيرة ولو بالذكر حرام. فهذا الخهطيب ضل فى نفسه وأضل غيره(3) .
(وقد سئل) الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتى الديار المصرية عن الترقية والدعاء عند جلوس الخطيب والدعاء للسلطان عند دعاء الخطيب .
(
__________
(1) ص129- أحسن الغايات (آخر صلاة الجمعة).
(2) ص155 ج1 صغير الدردير وحاشية الصاوى عليه.
(3) انظر ص155 ج1 صغير الدردير وحاشية الصاوى عليه.(1/303)
فأجاب) بقوله : صرحوا بكراهة ما يفعله المؤذن ( وهو المعروف بالترقية) من الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم عند صعود الخطيب ، وما يفعله من الدعاء حال جلسته ،والدعاء للسلطان بالنصر ونحو ذلك بأصوات مرتفعة ،وصرحوا بأن الإمام يجهر وجوباً بحسب الجماعة ، فإن زاد عليه أساء . وقال الزاهدى : لو زاد على الحاجة فهو أفضل . وصرح فى الفتح عن الخلاصة بأنه إذا كان رجل يكتب الفقه وبجانبه رجل يقرأ القرآن ولا يمكن للكاتب استماع القرآن ، فلإثم على القارئ ،وعلى هذا لو قرأ على السطح والناس نيام يأثم . أهـ . لأن ذلك يكون سبباً لإعراضهم عن استماعه ، أو لأنه يؤذيهم بإيقاظهم . وقالوا : إنه يجب على القارئ احترام القرآن بألا يقرأ فى الأسواق ومواضع الاشتغال ، فإذا قرأه فيها كان هو المضيع لحرمته ، فيكون الإثم عليه دون أهل الاشتغال ، دفعاً للحرج (1) .
__________
(1) هذا بعض فتوى صادرة من المفتى بتاريخ 2 رجب سنة 1319 هـ مسجلة بسجل رقم 2 نمرة 380 مسلسلة : وتقدم تمامها :
(أ ) ... حكم الجهر بقراءة الكهف فى المسجد.
(
ب ) ... حكم التبليغ خلف الإمام بهامش ص262 ج2 دين (وقال) العلامة القاسمى فى كتاب إصلاح المساجد : من المقرر أن الخطيب إذا ارتقى المنبر فلا تبتدأ صلاة ولا يجهر بدعاء تأهباً لسماع الخطبة وإجلالا للمقام وتخشعاً لهذه العبادة الأسبوعية . وقد اتفق الفقهاء على الحظر من الجهر بالذكر أو الاستغفار أو الدعاء أو النداء فى تلك الحالة استدلالا بما صح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت "50" (تقدم رقم 26 ص30) فاثبت له اللغو بذلك مع أنه ينهى عنمنكر ، فكيف بمن لا يكون قوله كذلك ؟ لا جرم أنه اشد منه لغواً وإثماً . إذا تحقق ذلك تبين أن ما يقوله بعض المؤذنين يوم الجمعة بين يدى الخطيب إذا جلس من الخطبة الأولى غفر الله لك ولوالديك ولنا ولوالدينا والحاضرين ..إلخ ، منكر يلزم إنكاره ،لأنه ذكر غير مشروع فى وقت هو وقت الصمت أو التفكر القلبى للاتعاظ . فتفريق جمعية قلوب الحاضرين برفع الصوت بذلك والجراءة على الجهر به فى هذا الموضع الرهيب،لا يختلف فقيه فى نكارته ،فلذلك يلزم للخطيب ومن قدر على إزالته أن ينهى عنه أسوة بكل منكر . أ.هـ.(1/304)
(ومن البدع) جلوس من دخل المسجد حال الخطبة الأولى ،وإذا شرع الخطيب فى الثانية قام وصلى التحية ، فإنه جهل ومخالف لما تقدم عن جابر ابن عبد الله قال: جاء سليك الغطفانى يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ،فجلس ،فقال به: يا سليك قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما ، ثم قال: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما.أخرجه مسلم(1) . [258].
(ومنها) تمسح بعض العوام بالخطيب بعد نزوله منالمنبر ، فإنه لا يشرع التمسح إلا بالحجر الأسود فى الكعبة ، والتمسح بغيره بدعة.
(ومن البدع) المنكرة كتب بعض الناس أوراقاً يسمونها حفائظ فى آخر جمعة منرمضان حال الخطبة، لما فيه من الاشتغال عن استماعها والاتعاظ بها، ولما فيه من التهويش على الخطيب وغيره، وهذا ممنوع شرعاً وقد يكتب فيها ما لا يعرف معناه كعسبلوان،وقد يكون دالا على ما ليس صحيح ولا مشروع ولم ينقل ذلك عن أحد منأهل العلم . أفاده فى كشاف القناع(2) .
(ومن) أفظع المنكرات قيام الحرس- حال صلاة الأمير أو السلطان أو الرئيس أو الملك الجمعة- حاملى السلاح يحرسونه ولا يصلون مع المصلين ، كأنهم ما خلقوا إلا لحراسة عبد من العبيد، وما كلفوا بطاعة الرب المجيد، ولم يسمعوا قول النبى صلى الله عليه وسلم : لا طاعة لأحد فى معصية الله، إنما الطاعة فى المعروف.أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائى عن على رضى الله عنه(3) . [259].
فليتق الملوك والرؤساء ربهم فى رعيتهم ،وليقفوا بهم عند حدود الواحد المعبود، لينجو يوم العرض على العزيز الجبار،يوم ينادى المنادى: لمن الملك اليوم ؟ فيقال : لله الواحد القهار(4) .
__________
(1) تقدم رقم 335 ص234 ج3 دين (تحية المسجد).
(2) ص357 ج1 كشاف القناع.
(3) انظر رقم 9902 ص432 ج6 فيض القدير.
(4) وفى عهد الملكالسابق( فاروق) أبطلت هذه البدعة المنكرة التى ترتب عليها ترك بعض المصلين لصلاة الجمعة التى فرضها الله عليهم .
(
وقد) أبان فضل ذلك حضرة الفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ عبد الجليل عيسى ناصر عميد كلية اللغة العربية السابق فى كلمة بليغة نشرت فى الأهرام يوم السبت 24 منذى القعدة 1355هـ. تحت عنوان:
إحياء السنن الدينية
قالك لو يعلم الناس ما فى هذا الصنيع الحسن لشكروا الله تعالى إذ فيه القضاء على بدع أحدثتها المماليك فأخذت تنخر فى عظام الدين من أمد بعيد ،وبه صار جميع الحرس فى المسجد عند أمر الله لا عند أمرغيره : فإن المساجد لله وحده فيصلون مع المصلين ، ويعبدون مع العابدين ،ويتضرعون مع المتضرعين ،إن هذا لهو الفوز العظيم ،ولمثل هذا فليعمل العاملون . وكم كان جميلا رهيباً أن يسمع الناس اذان الجمعة خالصاً مما كان يشوبه من التغنى والتمطيط الذى جعله بالموسيقى أشبه منه بالأذان ،فأصبح خالصاً لله تتجلجل فيه عظمة الله، فتبعث فى النفوس الخشية منه تعالى . فيقبل العبد على الصلاة ممتلثاً رهبة وخشوعاً لتنجح صلاته ويفلح فى عبادته (قد أفلح المؤمنو الذين هم فى صلاتهم خاشعون).(1/305)
(ومن) البدع) : اعتياد المصافحة بعد الجمعة وسائر الصلوات،فإنه لم يرد عن النبى صلى الله عليه وسلم ،ولا عن أصحابه ولا السلف الصالح ، ولو كان خيراً ما تركوه .
(قال) العلامة الحاج رجب الحنفى :واعلم أم ما يفعله اللناس فى هذا الزمان من المصافحة بعد أداء الصلوات والجمعة والعيدين ،بدعة مكروهة ، لأنها مافعلها الصحابة ولا التابعون.
قال النووى فى شرح مسلم : مصافحة الناس بعد العصر والفجر لا أصل لها(1) .
وقال ابن الحاج فى المدخل : وينبغى له- أى لإمام المسجد- أن يمنع ماأحدثوه منالمصافقحة بعد صلاة الصبح وصلاة العصر ،وبعد صلاة الجمعة ، بل زاد بعضهم فى هذا الوقت فعل ذلك بعد الصلوات الخمس، وذلك كله منالبدع .والمصافحة فى الشرع إنما تكون عند لقاء المسلم لأخيه ، لا فى أدبار الصلواتنفينهى عن ذلك ويزجر صاحبه لما أتى من خلاف السنة(2) .
(ومنها) قول بعض العوام بعد الجمعة:الفاتحة لأن هاشم ،أو لسيدنا الحسين،أو لشيخ العرب السيد البدوى ، أو الولى العلانى ،أو الفاتحة علىهذه النية.
(ومنها) قراءة سورة الإخلاص ألف مرة يومالجمعة، فإنه لا دليل عليه( وأما حديث) من قرأ قل هو الله أحد ألفمرة ،فقد اشترى نفسه من الله( فقد) أخرجه الخيارى فىفوائد عن حذيفة (3) . [260].
وفى سنده مجاشع الكذاب وحجاج بن ميمون البصرى منكر الحديث.
فلا يعول عليه ولا يعمل به.
(وقد) تقدم بيان ما ورد من طريق ثابت فيما يُقرأ يومها وليلتها وبعدها (ومن) خرافات العامة: اعتقاد بعضهم أن فى يوم الجمعة ساعة نحس (شؤم) واعتقاد بعضهم تحريم الخياطة يوم الجمعة أو يوم عرفة ومنعهم إعارة الإبرة والمنخل ليلا.
(
__________
(1) ص86 ج1 الوسيلة الأحمدية هامش بريقة محمودية( بيان البدع).
(2) انظر ص84 ج2 مدخل( المصافحة عفب الصلوات).
(3) رقم 8962 ص203 ج6 فيض القدير.(1/306)
ومنها) إدخال طفل من باب المسجد وإخراجه من نافذة أخرى سبع مرات وقت آذان الجمعة بزعم أن ذلك يبرئه من مرضه .
(ومنها) ربط الطفل المقعد بقيد فى رجليه ووضع بعض المأكولات فى حجره وإجلاسه على باب المسجد ،ويفك قيده ويأخذ ما فى حجره أول خارج من المسجد،ويعتقدون أن ذلك يفك إقعاده.
(وعلى) الجملة فالبدع الواقعة فى يوم الجمعة وسكت عن إنكارها العلماء كثيرة.والميزان الذى يعرف به الغث من السمين هو الوارد عن الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم.
(الثامن) صلاة العيدين
العيدان تثنية عيد مشتق من العود ،سمى به يوم الفطر والأضحى لعود السرور بعودهما ،أو لكثرة عوائد الله تعالى فيهما على عباده . ومنها غفر الذنوب.
(قال) أوس الأنصارى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان يوم عيد الفطر وقفت الملائكة على أبواب الطريق فنادوا : اغدوا يا معشر المسلمين إلى رب كريم ،يمن بالخير ثم يثيب عليه الجزيل،لقد أُمرتم بقيام الليل فقمتم وأُمرتم بصيام النهار فصمتم ،وأطعمتم ربكم ، فاقبضوا جوائزكم .
فإذا صلوا نادى منادٍ :ألا إن ربكم قد غفر لكم فارجعوا راشدين إلى رحالكم ،فهو يوم الجائزة .أخرجه الطبرانى فى الكبير. وفى سنده جابر الجعفى وثقه الثورى ،وروى عنه هو وشعبة. وضعفه غيرهما وهو متروك(1) . [261].
هذا. ويوم النحر أفضل ايام السنة بعد يوم عرفة (لحديث) عبد الله ابن قرط أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: إن أعظم الأيام عند الله تعالى يوم النحر ،ثم يوم النفر.اخرجه ابو داود (2) . [262].
والكلام هنا ينحصر فى عشرين فصلا:
( 1 ) مشروعية صلاة العيد
__________
(1) انظر ص201 ج2 مجمع الزوائد (فضل يوم العيد).
(2) ص114 ج3 تيسير الوصول (فضل العيد). و( يوم النفر) يوم 12 من ذى الحجة.(1/307)
شرعت صلاة العيد فى السنة الأولى منالهجرة (قال) أنس بن مالك : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فى الجاهلية ، فقال: إن الله تبارك وتعالى قد أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الفطر ويوم النحر. أخرجه أحمد وأبو داود والنسائى والبيهقى والحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم(1) . [263].
ويروى أن أول عيد صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عيد الفطر فى السنة الثانية من الهجرة .قاله الرافعى (2) . قال الحافظ: هذا لم أره فى حديث، ولكن اشتهر فىالسير أن أول عيد شرع عيد الفطر ،وأنه فى السنة الثانية من الهجرة (3) .
(
__________
(1) ص118 ج6 الفتح الربانى. وص305 ج6- المنهل العذب(صلاة العيدين) وص231 ج1 مجتبى. وص277 ج3 سنن البيهقى . وص294 ج1 مستدرك .
و(يومان) هما يوم النيروز والمهرجان . والأول يوم الاعتدال الربيعى وهو يوم 22 من مارس من الأشهر الإفرنجية الموافق 13 برمهات من الأشهر القبطية ،والمهرجان يوم الاعتدال الخريفى وهو يوم 22من سبتمبر ،الموافق 12 توت. وهما يومان يعتدل فيهما الهواء ويستوى فيهما الليل والنهار ، و(خيراً منهما) أى أنه تعالى أبطل ما كان يعمل فى هذين اليومين من أعمال الجاهلية ،وجعل للمسلمين يومى عيد وسرور غيرهما يعقبان أداء ركنين من أركان الإسلام هما الصيام والحج وفيهما يغفر الله للصائمين والحجاج وينشر رحمته على عباده الطائعين . هذا وفى الحديث التنفير من التشبه بالمشركين فى أعيادهم وتعظيمها . ولذا قال ابو حفص الكبير الحنفى : من أهدى فى النيروز بيضة إلى مشرك تعظيماً لليوم،فقد كفر بالله تعالى ،وأحبط عمله . وسيأتى بيانه وافياً فى بحث " المواسم الأجنبية " إن شاء الله تعالى.
(2) ص2 ج5 فتح العزيز شرح الوجيز( صلاة العيدين ).
(3) ص3 ج5 تلخيص الحبير أسفل فتح العزيز.(1/308)
وهى) مشروعية بالكتاب والسنة وإجماع الأمة .قال الله تعالى : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (1) . وقال تعالى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } .
ففى الآية الأولى إشارة إلى صلاة عيد الفطر . وفى الثانية غشارة إلى صلاة عيد النحر.
(وقد) ثبت بالتواتر أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يصلى العيدين (قال) ابن عباس : شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع ابى بكر وعمر وعثمان ،فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة.أخرجه أحمد والشيخان(2) . [264].
وأجمع المسلمون على مشروعيتها .
( 2 ) حكم صلاة العيدين
اختلف العلماء فى حكم صلاة العيدين( فمشهور) مذهب الحنفيين أنها واجبة على من تفترض عليه صلاة الجمعة ،لقوله تعالى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } . ولمواظبة النبى صلى الله عليه وسلم عليها من غير ترك . وقد أمر بالخروج إليها.
(
__________
(1) عجز الآية 185 من سورة البقرة ،وصدرها : " .....شهر رمضان".
(2) ص134 ج6 الفتح الربانى . وص209 ج2 فتح البارى (الخطبة بعد العيد ) وص171 ج6 نووى مسلم (صلاة العيدين).(1/309)
قال) أبو عمير بن أنس : حدثنى عمومتى من الأنصار قالوا: أغمى علينا هلال شوال واصبحنا صياماً فجاء ركب منالآخر النهار فشهدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس ،فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفطروا ،وأن يخرجوا إلى عيدهم من الغد .أخرجه أحمد وابن ماجه وأبو داود والنسائى والبيهقى وقال: هذا إسناد صحيح. والصحابة كلهم ثقات (1) . [265].
(وقال) بعض الحنفيين: إنها سنة مؤكدة . ولا خلاف فى الحقيقة، لأن السنة المؤكدة بمنزلة الواجب . ولذا كان الأصح أنه يأثم بتركها ، (وقالت) الحنبلية ) وبعض الشافعية والكرخى الحنفى: صلاة العيد فرض كفاية، إذا قام بها بعضهم سقط الطلب عن الباقين . وإذا اتفق أهل بلد على تركها قاتلهم الإمام وكانت فرض كفاية ،لأنها شعيرة من شعائر الدين ، كغسل الميت والصلاة عليه ودفنه.
(
__________
(1) ص265 ج9 الفتح الربانى . وص261 ج1 سنن ابن ماجه (الشهادة على رؤية الهلال) وص338 ج6 المنهل العذب( إذا لم يخرج الإمام للعيد منيومه ...) وص231ج1 مجتبى( الخروج للعيد منالغد ) وص316 ج3 سنن البيهقى ( الشهود على رؤية الهلال...) وصياماً جمع صائم ، فإنه يأتى جمعاً كما يأتى مصدراً لصام .
ويحتمل أنه بضم الصاد وشد الياء . قال فى القاموس : صائم جمعه صوام وصيام وصوم وصميم (بالضم والتشديد فيها ) وصميم (بكسر فشد) وصيام( بكسر ففتح).(1/310)
وقالت) المالكية وأكثر الشافعية والجمهور: صلاة العيد سنة مؤكدة لما تقدم عن طلحة بن عبيد الله قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل نجد ، ثائر الرأس ، يسأل عن الإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خمس صلوات فى اليوم والليلة . قال: هل علىّ غيرهن؟ قال: لا ،إلا أن تطوع (الحديث) أخرجه الأئمة والشيخان والنسائى وابو داود (1) . [266].
(وأجاب) الأولون عنه بأن الرجل كان من أهل البادية ،وصلاة العيد لا تجب عليهم . فالحق القول بوجوب صلاة العيد .
( 3 ) من تطلب منه صلاة العيد
تطلب ممن تطلب منه الجمعة . وللفقهاء فى هذا تفاصيل:
(قال) الحنفيون : تجب صلاة العيد على من تفرض عليه الجمعة، فتجب على الذكر الحر المكلف المقيم
الصحيح الخالى منالأعذار . ولا تجب على امرأة وعبد ومسافر ومريض وأعمى ومقعد . ولو صلاها هؤلاء صحت منهم ولهم ثوابها . وشرائط صلاة العيد كشرائط وجوب الجمعة وصحتها ، سوى الخطبة ، فإنها ليست بشرط فى العيد ، لتأخرها عن الصلاة . والشرط لا يتأخر عن المشروط ،بل هى سنة ،وكذا تأخيرها ؛ فلو لم يخطب أصلا أو قدمها على الصلاة صحت واساء ،لترك السنة .
(وقالت) المالكية: صلاة العيد سنة مؤكدة فى حق من تجب عليه الجمعة.
(وقالت) الشافعية: تسن صلاة العيد جماعة وفرادى من كل شخص ولو مسافراً وجراً وعبداً وخنثى وامرأة.
(وقالت) الحنبلية: هى فرض كفاية ممن تفترض عليه الجمعة.
(
__________
(1) ص46 ج1 بدائع المنن. وص 79 ج1 مجتبى (كم فرضت فى اليوم واللسلة) وص276 ج3 المنهل العذب( كتاب الصلاة) وباقى المراجع بهامش 4 ص3 ج2 الدين الخالص.(1/311)
قال) أبو الفرج عبد الرحمن بن قدامة : يشترط لوجوب صلاة العيد ما يشترط لوجوب صلاة الجمعة من الاستيطان ،لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يصلها فى سفره ولا خلفاؤه ،وكذلك العدد المشترط لصلاة الجمعة،لأنها صلاة عيد فأشبهت الجمعة. وفى اشتراط غذن الإمام روايتان ،اصحهما أنه لا يشترط كما قلنا فى الجمعة. ولا يشترط شئ من ذلك لصحتها ،لأن أنساً كان إذا لم يشهد العيد مع الإمام جمع أهله ومواليه ،ثم قام عبد الله ابن أبى عتبة مولاه فصلى بهم ركعتين يكبر فيهما . ولأنهما فى حق منانتفت فيه شروط الوجوب تطوع ،فلم يشترط لها ذلك كسائر التطوع ،وكلام أحمد يقتضى ان فى اشتراط ذلك روايتين :
(إحداهما) لا يقام العيد إلا حيث تقام الجمعة ، وهذا مذهب أبى حنيفة ،إلا أنه لا يرى ذلك إلا فى المصر لقوله : لا جمعة ولا تشريق إلا فى مصر جامع(1) .
(والثانية) يصليها المنفرد والمسافر والعبد والنساء. وهذا قول الحسن والشافعى ،لما ذكرنا ،إلا أن الإمام إذا خطب مرة ثم أرادوا أن يصلوا لم يخطبوا ثانياً . وصلوا بلا خطبة كى لا يؤدى إلى تفريق الكلمة (2) .
( 4 ) خروج النساء إلى العيد
يجوز عند الحنبلية للنساء الخروج إلى العيد ولو بكراً شابة ،فإذا خرجن متسترات غير متبرجات ولا متطيبات ولا متحليات بما يثير الفتنة (لقول) عائشة: قد كانت تخرج الكعاب من خدرها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى العيدين . أخرجه أحمد وابن أبى شيبة بسند رجاله الصحيح (3) . [267].
(
__________
(1) تقدم أثر 41 ص166 عن على رضى الله عنه بأتم من هذا.
(2) انظر ص2324 ج2 الشرح الكبير(مايشترط لصلاة العيد).
(3) انظر ص124 ج6 الفتح الربانى . و0 الكعاب) بفتح الكاف : المرأة حين يأخذ ثديها فى الارتفاع . ويقال لها كاعب ايضاً.(1/312)
ولقول ) أم عطية : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج العواتق وذوات الخدور والحيض يوم الفطر ويوم النحر . فأما الحيض فيعتزلن المصلى ويشهدن الخير ودعوة المسلمين . قلت : يا رسول الله فإن لم يكن لإحداهن جلباب ؟ قال : تلبسها أختها من جلبابها . أخرجه السبعة والبيهقى والدارمى (1) . [268].
دل ما ذكر على مشروعية خروج النساء فى العيدين إلى المصلى ولو حائضاً ،لكن هذه لا تصلى . ومحله إذا أمن من خروجهن الفتنة.
(وقال) غير النبلية : يجوز خروج العجائز اللاتى لا يُشتهين فى العيد ، لا الشواب( قال) العلامة على بن سلطان القارى : وهو قول عدل،لكن لابد أن يقيد بأن تكون غير مُشتهاة فى ثياب بذلة بإذن حليلها مع الأمن من المفسدة بأن لا يختلطن بالرجال ،ويكن خاليات من الحلى والحلل والبخور والتبخر والتكشف ونحوها مما أحدثن فى هذا الزمان من المفاسد . وقد قال أبو حنيفة : ملازمات البيوت لا يخرجن(2) .
قال النووى: فإن قيل هذا مخالف حديث أُم عطية المذكور ،قلنا : ثبت فى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها قالت : لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء بعده لمنعهن المسجد كما منعه نساء بنى إسرائيل(3) . (107).
ولأن الفتن وأسباب الشر فى هذه الأعصار كثيرة بخلاف العصر الأول.
__________
(1) انظر ص125 ج6 الفتح الربانى . وص316 ج2 فتح البارى (خروج النساء والحيض إلى المصلى ) وص179 ج6 نووى مسلم . وص309 ج6 المنهل العذب . وص321 ج1 مجتبى ولفظه : ليخرج العواتق . وص 379 ج1 تحفة الأحوذى ولفظه : ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج الأبكار).
وص202 ج1 سنن ابن ماجه . وص306 ج3 سنن البيهقى . وص377 ج1سنن الدارمى.
(2) انظر ص248 ج2 مرقاة المفاتيح .
(3) تقدم أثر 29 ص43 ج3 الدين الخالص(حضور النساء المساجد).(1/313)
وقال الشافعى فى الأم : أحب شهود النساء العجائز وغير ذوات الهيئات الصلاة والأعياد وأنا لشهودهن الأعياد أشد استحباباً منى لشهودهن غيرها من الصلوات المكتوبات(1) .
(ولا يخفى) ما يترتب فى هذا الزمان على خروج النساء إلى المصلى وغيره من المفاسد التى تقدم بعضها فى بحث" حضور النساء المساجد(2) " فيتعين منعهن من حضور العيد وغيره.
( 5 ) ما يطلب للعيد
يطلب ليلة العيد ويومه أمور ينبغى للعاقل أن يحرص على التحلى بها ، المذكور منها هنا عشرة:
(1) يسن إحياء ليلة العيد بأنواع الطاعة (روى) عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من أحيا ليلة الفطر وليلة الأضحى لم يمت قلبه يوم تموت القلوب .اخرجه الطبرانى فى الكبير والأوسط. وفى سنده عمر بن هارون البلخى ، أثنى عليه ابن مهدى وغيره،وضعفه جماعة .قاله الهيثمى(3) . [269].
(وقال) معاذ بن جبل : قال رسول الله صلى الله عليهوسلم : من أحيا الليالى الخمس وجبت له الجنة : ليلة التروية ،وليلة عرفة ،وليلة النحر، وليلة الفطر،وليلة النصف من شعبان .أخرجه الأصبهانى ،وأخرجه ابن عساكر بلفظ : من أحيا الليالى الأربع .وأسقط ليلة النصف من شعبان .
__________
(1) ص9 ج5 شرح المهذب(حضور غير ذوات الهيئات العيدين).
(2) انظر ص43 ج3 الدين الخالص.
(3) ص198 ج2 مجمع الزوائد (إحياء ليلتى العيد) . وموت القلوب يكون بشغلها بحب الدنيا فتعرض عن الطاعة.(1/314)
وفى سنده عبد الرحيم بن زيد العمى . متروك . وقال يحيى بن معين : كذاب ، وقال ابن الجوزى : حديث لا يضح . وهو يرد رمز السيوطى بتصحيحه(1) . [270].
والحديث الضعيف يعمل به فى فضائل الأعمال ،وتختص ليلة العيد بالإكثار من التكبير لورود ذلك ؛ فإن كان حاجاً فليكثر من التلبية فى ليلة الأضحى . ويستحب- عند الشافعى وأحمد- رفع الصوت بالتكبير ليلة العيدين فى المنازل والطرق ،لقوله تعالى : { وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (2) ،ولما فيه من إظهار شعائر الإسلام وتذكير الغير بنعم الله على عباده.
قال أحمد: كان ابن عمر يكبر فى العيدين جميعاً،ويعجبنا ذلك وهو فى عيد الفطر آكد ،لورود النص فيه ، فقد قالوا فى تفسير الآية : لتكملوا عدة رمضان ولتكبروا الله عند إكماله لهدايتكم وتوفيقكم لصومه .أفاده ابن قدامة(3) . وروى نافع عن ابن عمر أنه كان يكبر ليلة الفطر حتى يغدو إلى المصلى .أخرجه البيهقى وقال : ذكر الليلة فيه غريب (4) . (108).
(
__________
(1) ص100 ج2 (الترغيب فى إحياء ليلتى العيدين )وانظر رقم 8342 ص38 ج6 فيض القدير . و( ليلة التروية) ليلة الثامن من ذى الحجة . وتقدم أن إحياء ليلة نصف شعبان بالعبادة منفرداً مستحب . قال الإمام أبو شامة : قيام الليل مستحب فى جميع الليالى ،وهذه بعض الليالى التى كان يصلى فيها ويحييها النبى صلى الله عليه وسلم .
وإنما المحذور المنكر تخصيص بعض الليالى بصلاة مخصوصة على صفة مخصوصة .انظر ص29- الباعث.
(2) تعجز الآية 185 من سورة البقرة ،وصدرها : " شهر رمضان ...".
(3) ص325 ج2 مغنى.
(4) انظر ص279 ج3 سنن البيهقى (التكبير ليلة الفطر...).(1/315)
وقال) الحنفيون ومالك والجمهور : إنما التكبير عند الغدُوّ لصلاة العيد على ما يأتى بيانه(1) ،ومنشأ الخلاف الاختلاف فى المراد بالتكبير فى قوله : { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } .فقال الجمهور : المراد التكبير عند الخروج لصلاة العيد ،لأنه الثابت منفعله صلى الله عليه وسلم على ما يأتى.
(وقالت) الشافعية والحنبلية وجماعة: المراد التكبير ليلة العيد عند رؤية هلال شوال ،(لقول) ابن عباس رضى الله عنهما : حق على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال أن يكبروا الله تعالى حتى يفرغوا من عيدهم ، لأن الله تعالى يقول: { وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ.أخرجه ابن جرير(2) . (109).
وإطلاق الآية يدل على التوسعة فى الأمر.
(2) قد اتفق العلماء على أنه يُسن الغسل للعيدين على ما قتدم بيانه فى بحث (اقسام الغسل) (3) .
(3و4) ويُسن التطيب والاستياك للعيد كالجمعة(لقول) الحسن بن على رضى الله عنهما : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى العيدين أن نلبس أجود ما نجد وأن نتطيب بأجود ما نجد (الحديث) اخرجه الطبرانى فى الكبير والحاكم(4) . [271].
وفى سنده: (أ) عبد الله بن صالح ،قال عبد الملك بن شعيب : ثقة مأمون ،وضعفه أحمد وجماعة . (ب) إسحق بن برز. قال الحاكم : مجهول وضعفه الأسدى ،وذكره ابن حبان فى الثقات.
(
__________
(1) يأتى ص327 (المطلوب رقم 10).
(2) ص92 ج2 جامع البيان.
(3) تقدم ص308 ج1 (غسل العيدين).
(4) ص20 ج4 مجمع الزوائد (اللبس وغيره فى العيد) . وص230 ج4 مستدرك.(1/316)
5) ويُسن أن يلبس احسن ثيابه وأجملها وإن لم يكن أبيض (لحديث) جعفر بن محمد عن أبيه عن جده (على بن الحسين) أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يلبس برد حبرة فى كل عيد .أخرجه الشافعى والبيهقى مرسلا، وفى سنده إبراهيم بن محمد لا يحتج بما تفرد به ،ولكن تابعه سعيد بن الصلت عن جعفر بن ممد عن أبيه عن جده عن ابن عباس ،كما أخرجه الطبرانى بسند رجاله ثقات(1) . [272].
(ولحديث) جابر أنالنبى صلى الله عليه وسلم كان يلبس برده الأحمر فى العيدين والجمعة.أخرجه البيهقى وابن خزيمة(2) . [273].
(ولقول) على بن ربيعة : شهدت على بن أبى طالب رضى الله عنه يوم عيد فرأيته معتماً قد أرخى عمامته منخلفه والناس مثل ذلك .أخرجه البيهقى (3) . (110).
وهذا يدل على أن لبس العمامة وإرخاء طرفها بين الكتفين من الزينة التى ينبغى التحلى بها ،ولا سيما فى مثل هذا اليوم.
(6) ويستحب أن يأكل فى عيد الفطر قبل الخروج إلى المصلى تمراً وتراً، وأن يؤخر الأكل عن الصلاة يوم الأضحى (لقول) بريدة : كان النبى صلى الله عليه وسلم يوم الفطر لا يخرج حتى يطعم ،ويوم النحر لا يطعم حتى يرجع فيأكل من كبد اضحيته .اخرجه أحمد والترمذى والبيهقى والدارقطنى والحاكم وقال هذا حديث صحيح الإسناد ،وأخرج الدارمى نحوه(4) . [274].
(
__________
(1) ص169 ج1 بدائع المنن. وص 280 ج3 سنن البيهقى (الزينة فى العيد) وص 198 ج2 مجمع الزوائد (اللباس يوم العيد) و(حبرة) كعنبة : نوع من برود اليمن .
(2) ص280 ج3 سنن البيهقى ، و0 يلبس برده الأحمر) أى ذا خطوط حمر وخضر ، لا أنه أحمر بحت ، فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن لبس الأحمر .
(3) انظر ص281 ج3 –سنن البيهقى.
(4) ص129 ج6 الفتح الربانى ،وص 381 ج1 تحفة الأحوذى (الأكل يوم الفطر قبل الخروج ) وص1 و283 سنن البيهقى (يترك الأكل يوم النحر حتى يرجع ) وص294 ج1 مستدرك . وص375 ج1 سنن الدارمى(الأكل قبل الخروج يوم العيد ).(1/317)
ولقول ) أنس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الفطر لم يخرج حتى يأكل تمرات يأكلهن أفراداً ، وفى لفظ : وتراً . أخرجه أحمد والبخارى والترمذى وقال : هذا حديث حسن صحيح(1) . [275].
والحكمة فى استحباب الأكل يوم الفطر قبل صلاة العيد ألا يظن ظانّ لزوم الصوم حتى يصلى العيد ، فكأنه صلى الله عليه وسلم اراد سد هذه الذريعة .
وقيل: حكمته أنه لما وقع وجوب الفطر عقب وجوب الصوم ، استحب تعجيل الفطر مبادرة إلى امتثال امر الله تعالى .
(والحكمة) فى استحباب التمر فيه ، ما فى الحلو من تقوية البصر الذى يضعفه الصوم،ولذا استحب الفطر على الحلو مطلقاً كالرطب والعسل.
(والحكمة) فى تأخير الفطر يوم الأضحى أنهيوم تشرع فيه الأضحية والأكل منها ، فشرع له أنه يكون فطره على شئ منها . ويستحب أن يكون من الكبد ،لما فى حديث بريدة عند البيهقى : وكان غذا رجع أكل من كبد اضحيته (2) .
(وهذا) متفق عليه،غير أن أحمد بن حنبل خص استحباب تأخير الأكل فى يوم الضحى بمنله اضحية .
(7) ويستحب أن تؤدى زكاة الفطر قبل الخروج إلى المصلى لما يأتى عن ابن عمر : أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة .اخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والنسائى (3) . [276].
(8) ويسن لمن كان من أهل البلد التوجه إلى المصلى ماشياً بسكينة ووقار، ويخير فى الرجوع بين المشى والركوب.
(ولما روى ) سعد بن أبى وقاص أن النبى صلى الله عليه وسلم كانيخرج إلىالعيد ماشياً ويرجع فى طريق غير الطريق الذى خرج منه . أخرجه البزار.
__________
(1) ص129 ج6 الفتح الربانى وص305 ج3 فتح البارىوص 385 ج1 تحفة الأحوذى .
(2) تقدم رقم 274.
(3) يأتى رقم 133 ص197 ج8 الدين الخالص (وقت أداء زكاة الفطر).(1/318)
وفى سنده خالد بن إلياس ليس بالقوى . وقال أحمد والنسائى : متروك (1) . [277].
(وعن) عبد الله بن العلاء بن زبير أنه سمع عمر بن عبد العزيز على المنبر يوم الجمعة يقول : الفطر غداً فامشوا إلى مصلاكم فإن ذلك كان يفعل ،ومن كان من أهل القرى فليركب ، فإذا جاء المدينة فليمش إلى المصلى . ذكره ابو ممد عبد الله بن قدامة(2) . (111).
(وما روى) عن الحسن البصرى أنه كان يأتى صلاة العيد راكباً (لعله) كان لضرورة .
(9) ويستحب التبكير بعد صلاة الصبح إلىالمصلى ،إلا الإمام فإنه يتأخر إلى وقت الصلاة، لأن النبى صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك (روى) أبو سعيد الخدرى : أنالنبى صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر فيبدأ بالصلاة (الحديث) أخرجه مسلم (3) . [278].
(وقال) مالك: مضت السنة فى وقت الفطر والأضحى ان يخرج الإمام من منزله قدر ما يبلغ مصلاه وقد حلت الصلاة(4) . (112).
فأما غير الإمام فيستحب له التكبير والدنو من الإمام ليحصل له أجر ذلك (وروى) عن ابن عمر أنه كان لا يخرج حتى تخرج الشمس . ذكره أبو محمد عبد الله بن قدامة(5) . (113).
(10) يستحب عند الشافعى والصاحبين وأحمد التكبير جهراً حال السير إلىالمصلى وفى المصلى إلى الشروع فى الصلاة . وروى عن مالك وإسحاق لما روى نافع عن ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يخرج فى العيدين رافعاً صوته بالتهليل والتكبير حتى يأتى المصلى .أخرجه البيهقى وقال: ضعيف ،والصحيح وقفه على ابن عمر(6) [279].
(
__________
(1) ص200 ج2 مجمع الزوائد (الخروج إلى العيد فى طريق والرجوع فى غيره ).
(2) ص231 ج2.
(3) ص177 ج6 نووى مسلم ( لا أذان ولا إقامة للعيدين).
(4) ص329 ج2 زرقانى الموطأ ( غدو الإمام يوم العيد).
(5) ص230 ج2 مغنى( التبكير إلى العيد).
(6) انظر ص279 ج3 سنن البيهقى (التكبير إذا غدا لصلاة العيدين).(1/319)
ولقول) نافع : كان ابن عمر يغدو إلى المصلى يوم الفطر إذا طلعت الشمس كبر فرفع صوته بالتكبير حتى يأتى المصلى ،ثم يكبر بالمصلى حتى غذا جلس الإمام ترك التكبير.اخرجه الشافعى عن إبراهيم بن محمد ،وفيه مقال (1) . (114).
(وقال) أبو حنيفة : يجهر بالتكبير فى الأضحى ويسر فى الفطر(لقوله) تعالى : { وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ } (2) .
(وعن) ابن عباس أنه سمع الناس يكبرون ،يعنى يوم الفطر ،فقال لقائده : أكبَّر الإمام ؟ قيل : لا . قال : أجنّ الناس ؟ أدركنا مثل هذا اليوم مع النبى صلى الله عليه وسلم فما كان أحد يكبر قبل الإمام . ذكره ابن الهمام(3) . (115).
ولأن الأصل فى الذكر الإخفاء (لحديث) سعد بن مالك أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: خير الذكر الخفى .وأخرجه أحمد والبيهقى بسند صحيح(4) . [280].
وخص منهيوم الأضحى لورود الجهر فيه (وأجاب) الأولون:
(أ) بأنه ورد الجهر ايضاً فى عيد الفطر كما تقدم ،ولقول نافع : كانابن عمر يكبر يوم العيد فى الأضحى والفطر،يكبر ويرفع صوته. ذكره ابن قدامة(5) . (116) .
(ب) وعنقول ابن عباس بأنه محمول على رفع الصوت رفعاً منكراً .
وإذا وصل المصلى قطع التكبير على الصحيح عند الحنفيين . قال أبو جميلة : رأيت علياً رضى الله عنه خرج يوم العيد فلم يزل يكبر حتى انتهى إلى الجبانة . ذكره ابن قدامة (6) . (117).
__________
(1) انظر ص172 ج1 بدائع المنن. و(حتى إذا جلس الإمام)أى حضر الإمام بالمصلى ،إذ بحضوره ينتهى وقت التكبير صباح العيد.
(2) سورة الأعراف ،الآية 205.
(3) انظر ص424 ج1 فتح القدير.
(4) انظر ص206 ج14 الفتح الربانى.
(5) انظر ص 231 ج2 مغنى (التكبير فى طريق العيد).
(6) انظر ص 231 ج2 مغنى (التكبير فى طريق العيد).(1/320)
وقال الإمام مالك : لا يقطع التكبير إلا إذا شرع الإمام فى الصلاة ، وهو قول للحنفيين ، وهو الأصح عند الشافعية . وعن أحمد : يكبر جهراً حتى يأتى المصلى. وفى رواية : حتى يخرج الإمام . هذا وقد ورد فى كيفية التكبير صيغ يأتى بيانها فى فصل (تكبير التشريق) إن شاء الله تعالى . وأصححها ما ورد عن سلمان الفارسى قال: كبروا : الله أكبر ،الله أكبر،الله أكبر كبيراً. أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح(1) . (118).
( 6 ) وقت صلاة العيد
يدخل وقت صلاة العيد من ارتفاع الشمس كرمح أو رمحين (2) إلى ما قبل الزوال (لقول) يزيد بن خمير : خرج عبد الله بن يسر رضى الله عنه مع الناس فى يوم عيد فطر أو أضحى ،فأنكر غبطاء الإمام ، فقال : إنا كنا مع النبى صلى الله عليه وسلم قد فرغنا ساعتنا هذه، وذلك حين التسبيح .اخرجه ابو داود وابن ماجه والبيهقى والحاكم وصححه(3) . [281].
أى أن أول وقت صلاة العيد هو أول وقت حل النافلة وعليه الإجماع، ولم يصل النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه العيد إلا بعد حل النافلة . وبه يعلم أنه لا وجه لقول منقال: إن أول وقت صلاة العيد منحين ظهور جزء من الشمس.
(
__________
(1) .ص216 ج2 فتح البارى الشرح (التكبير ايام منى).
(2) قدر الرمح باثنى عشر شبراً ،أى بنحو ثلاثة أمتار
(3) ص307 ج6 المنهل العذب (وقت الخروج إلىالعيد) وص204 ج1 سنن ابن ماجه(وقت صلاةالعيد) وص282 ج3 سنن البيهقى( الغدو إلى العيدين)، وص295 ج1 مستدرك . و(خمير) بالخاء المعجمة مصغراً.(1/321)
ويسنّ) عند الحنفيين والشافعى وأحمد تعجيل صلاة الضحى وتأخير صلاة الفطر،فتصلى الضحى حين ارتفاع الشمس قدر رمح فى رأى العين ، ويؤخر صلاة الفطر إلى ارتفاعها قدر رمحين( لقول) أبى الحويرث الليثى: غن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى عمرو بن حزم وهو بنجران أن عجل الأضحى وأخر الفطر وذكر الناس.أخرجه الشافعى والبيهقى وقال : هذا مرسل(1) . [282].
وفى سنده إبراهيم بن محمد (شيخ الشافعى) ضعفه الجمهور.
وحكمة ذلك ما تقدم من استحباب الإمساك عن الأكل فى الأضحى حتى يفرغ منم الصلاة ،فلو أخرت الصلاة لتضرر بذلك الناس لطول الإمساك .
وأيضاً فإنه يشتغل فى الأضحى بعد الصلاة بنحر الأضحية ،بخلاف عيد الفطر فإنه لا إمساك فيه ولا ذبح ، فاستحب فيه تأخير الصلاة ليتسع وقت إخراج صدقة الفطر .
( وقالت ) المالكية : تستحب صلاة الفطر والأضحى إذا ارتفعت الشمس قدر رمح ،لظاهر حديث عبد الله بن بسر(2) ( ورد ) بأنه لا يدل على التسوية بينهما،فإنه ليس فيه إلا أنه أنكر إبطاء الإمام عن أول وقتها المجمع عليه.
( 7 ) مكان صلاة العيد
تسنّ- عند الجمهور- صلاة العيد فى الصحراء إلا لعذر كمطر وضعف (لقول) أبى سعيد الخدرى : كان النبى صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والضحى إلى المصلى ، فأول شئ يبدأ به الصلاة (الحديث) أخرجه الشيخان (3) . [283].
(
__________
(1) انظر ص173 ج1 بدائع المنن. وص 282 ج3 سنن البيهقى (الغدو إلى العيدين).
(2) تقدم رقم 281.
(3) ص306 ج2 فتح البارى (الخروج إلى المصلى) . وص 177 ج6 نووى مسلم . (المصلى) موضع المدينة على بابها الشرقى بينه وبين المسجد النبوى ألف ذراع ،أى نحو 464 متر.(1/322)
وقال) علىّ رضى الله عنه: من السنة أن يمشى الرجل إلى المصلى، والخروج يوم العيد من السنة ،ولا يخرج إلى المسجد إلا ضعيف أو مريض. أخرجه البيهقى ،وفيه الحارث الأعور ضعيف (1) .(119).
(وقال) بعض الشافعية : الأفضل صلاة العيد فى المسجد إذا كان يسع الناس، لأن الأئمة لم يزالوا يصلون العيد بمكة فى المسجد ،ولأن المسجد أشرف وأنظف ؛ وإن ضاق المسجد فالأفضل صلاتها فى الصحراء (وهذا) تفصيل لا دليل عليه. وكون العلة الضيق والسعة ،مجرد تخمين لا ينتهض للاعتذار بمواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وكون المسجد أشرف وانظف مسلم،لكن لا يقتضى ترك ما واظب عليه النى صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من صلاة العيد فى المصلى . ولا يترك النبى صلى الله عليه وسلم الشرف مع قربه ويتكلف الصلاة فى غيره مع بعده إلا لمزية،كما فى مسجد مكة كما يأتى . وإن كان عذر يمنع الخروج من مطر أو خوف أو غيره،صلوا فى الجامع(روى) أبو هريرة أنه اصابهم مطر فى يوم عيد فصلى بهم النبى صلى الله عليه وسلم صلاة العيد فى المسجد . أخرجه أبو داود وابن ماجه والبيهقى والحاكم وصححه (2) .[284].
(ورد) بأن فى سنده عيسى بن عبد الأعلى بن أبى فروة ،قال الذهبى:
لا يكاد يعرف ،وهذا حديث منكر . وقال الحافظ فى التقريب : مجهول.
(قال) ابن الحاج : السنة الماضية فى صلاة العيدين أن تكون فى المصلى ، لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال: صلاة فى مسجدى هذا افضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام(3) . [285].
__________
(1) انظر ص311 ج3 سنن البيهقى (الإمام يأمر من يصلى بالضعفة فى المسجد).
(2) ص342 ج6 المنهل العذب (يصلى بالناس العيد فى المسجد يوم مطر ) وص204 ج1 سنن ابن ماجه . وص310 ج3 سنن البيهقى (صلاة العيد فى المسجد إذا كان عذر ...) وص295 ج1 مستدرك .
(3) أخرجه الشيخان عنأبى هريرة . وتقدم رقم 349 ص241 ج3 الدين الخالص (أفضل المساجد).(1/323)
ثم هذه الفضيلة العظيمة خرج صلى الله عليه وسلم إلى المصلى وتركه .
فهذا دليل واضح على تأكيد أمر الخروج إلىالمصلى لصلاة العيدين ،فهى السنة وصلاتهما فى المسجد بدعة،إلا أن تكون ثم ضرورة داعية إلى ذلك فليس ببدعة(1) .
(وهذا) فى غير مسجد مكة ،أما هو فقد اتفق العلماء على أن صة العيد فيه أفضل (قال) الشافعى : بلغنا أن رسول الله عليه وسلم كان يخرج فى العيدين إلى المصلى بالمدينة ، وكذلك من كان بعده وعامة أهل البلدان إلا أهل مكة فإنه لم يبلغنا أن أحداً من السلف صلى بهم عيداً إلا فى مسجدهم(2) .
(قال) الحافظ: وأشار الشافعى إلى أن سبب ذلك سعة المسجد وضيق أطراف مكة(3)وقيل : الحكمة فى كونها أفضل فى مسجد مكة ما فيه من المزايا التى لم توجد فى غيره من الطواف والنظر إلى البيت الحرام.
( 8 ) ليس لصلاة العيد نداء
لا يطلب لصلاة العيد اذان ولا إقامة عند العلماء كافة 09لقول) ابن عباس وجابر: لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى . ويعنى لصلاة العيد . أخرجه الشيخان(4). (120).
(ولقول) جابر بن سمرة: صليت مع النبى صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين العيدين بغير اذان ولا إقامة .أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والبيهقى والترمذى وقال: هذا حديث حسن صحيح (5) . [286].
(
__________
(1) ص136 ج2 مدخل (خروج الإمام لصلاة العيد).
(2) ص207 ج1 كتاب الأم (الخروج إلى الأعياد).
(3) ص308 ج2 فتح البارى الشرح (الخروج إلى المصلى...).
(4) ص309 منه( المشى والركوب إلى العيد) . وص176 ج6 نووى مسلم (لا أذان ولا إقامة للعيدين).
(5) ص132 ج6 الفتح الربانى . وص 176 ج6 نووى مسلم (لا اذان ولا إقامة للعيدين ) وص324 ج6 المنهل العذب (ترك الذان فى العيد). وص 284 ج3 سنن البيهقى ،وص 375 ج1 تحفة الأحوذى.(1/324)
وعن) مالك أنه سمع غير واحد من علمائهم يقول: لم يكن فى الفطر ولا فى الأضحى نداء ولا إقامة منذ زمن رسول الله صلى اللهعليه وسلم إلى اليوم . قال مالك : وتلك السنة لا اختلاف فيها عندنا (1) . (121).
(وما روى) عن ابن الزبير من أنه أذن للعيد وأقام (قد تركه) لما أرسل له ابن عباس بعدم مشروعيتهما فى العيد . قال عطاء : أرسل ابن عباس غلى ابن الزبير اول ما بويع له أنه لم يكن يؤذن للصلاة يوم الفطر فلا تؤذن لها فلم يؤذن لها ابن الزبير يومه (الأثر) أخرجه مسلم (2) .(122).
(وقال) بعض الشافعية والحنبلية : يستحب أن يقال فىالعيد : الصلاة جامعة(لقول) الشافعى: أخبرنا الثقة عن الزهرى أنه قال : لم يؤذن للنبى صلى الله عليه وسلم ولا لأبى بكر ولا لعمر ولا لعثمان فى العيدين حتى أحدث ذلك معاوية بالشام ،وأحدثه الحجاج بالمدينة حين أُمِّر عليها .قال الزهرى : وكان النبى صلى الله عليه وسلم يأمر فى العيدين المؤذن فيقول : الصلاة جامعة(3) . [287].
قال النووى: وهو مرسل ضعيف ،يعنى فلا يحتج به(4) . ومنهم من قاس العيد على الكسوف ، فقد ثبت قول" الصلاة جامعة" فيها كما يأتى:
(ورد) بأنه لا قياس مع النص (فقد) صلى النبى صلى الله عليه وسلم العيد مراراً فى مجمع
من الصحابة ،ولم ينقل أنه أمر باذان ولا نداء ىخر للعيد، بل قال عطاء : أخبرنى جابر أنه لا اذان للصلاة يوم الفطر حين يخرج الإمام ولا بعد ما يخرج ولا إقامة ولا نداء ولا شئ . أخرجه مسلم (5) .(123).
(
__________
(1) ص323 ج1 زرقانى الموطأ (العمل فى غسل العيدين...).
(2) ص176 ج6 نووى مسلم . و" يومه" يعنى من يومه.
(3) ص208 ج1 كتاب الأم (من قال لا اذان للعيدين).
(4) ص14 ج5 شرح المهذب.
(5) ص176 ج6 نووى مسلم.(1/325)
وهو) بعمومه يشمل نفى قولهم: الصلاة جامعة ،ونحوه( قال) أبو محمد عبد الله بن قدامة : وقال بعض اصحابنا : ينادى لها ، يعنى للعيد :الصلاة جامعة ، وهو قول الشافعى ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع (1) .
( 9 ) التكبير فى صلاة العيد
ورد فى عددالتكبير فى صلاة العيد وموضعه عدة روايات :
(الأولى) ان يكبر قبل القراءة فىالركعة الأولى سبع تكبيرات بعد تكبيرةالاحرام ،وفى الثانية خمس تكبيرات بعد تكبيرة القام (لحديث) عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده(عبد الله بن عمرو) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر فى العيدين الأضحى والفطر ثنتى عشرة تكبيرة ،فى الأولى سبعاً ،وفى الآخرة خمساً ،سوى تكبيرة الإحرام .اخرجه الدارقطنى(2) . [288].
(وبهذا) قال أكثر العلماء منهم الشافعى والأوزاعى وإسحاق ،وروى عن عمر وعلى وابى هريرة وغيرهم .اختاره ابن عبد البر قال: روى عن النبى صلى الله عليه وسلم من طرق حسان أنه كبر فى العيدين ، سبعاً فى الأولى ، وخمساً فى الثانية ،من حديث عبد الله بن عمر ،وابن عمرو وجابر ،وعائشة وابى واقد وعمرو بن عوف المزنى ،ولم يرد عنه من وجه قوى ولا ضعيف خلاف هذا ،وهو أولى ما عمل به (3) .
(الثانية) أن يكبر قبل القراءة فى الأولى سبعاً بتكبيرة الإحرام ، وفى الثانية خمسة بعد تكبيرة القيام (لقول) عائشة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر فى العيدين ، سبعا فىالركعة الأولى ، وخمسا فى الآخرة ،سوى تكبيرتى الركوع .أخرجه أحمد وابن ماجه والدار قطنى (4) . [289].
وفى سنده ابن لهيطة متكلم فيه .قال البيهقى : ضعيف جداً لا يحتج به، وذكر الترمذى فى كتاب العلل أن البخارى ضعف هذا الحديث.
__________
(1) ص236 ج2 مغنى.
(2) ص181 سنن الدارقطنى.
(3) ص331 ج6 المنهل العذب (التكبير فى العيدين ).
(4) ص141 ج6 الفتح الربانى ،وص 200 ج1 سنن ابن ماجه (كم يكبر الإمام فى صلاة العيد ) وص181 سنن الدارقطنى.(1/326)
وهو يفيد أن تكبيرة الإحرام معدودة من السبع حيث لم يستثنها مع تكبيرتى الركوع (ورد) بأنه رواه الحاكم من طريق غسحق بن عيسى ثنا ابن لهيعة عن خالد بن يزيد عن الزهرى عن عروة عن عائشة قالت: كان النبى صلى الله عليه وسلم يكبر فى العيدين اثنتى عشرة سوى تكبيرة الافتتاح (الحديث) وقال الحاكم : تفرد به ابن لهيعة،وقد استشهد به مسلم (1) .
(وبهذه) الكيفية قال مالك وأحمد (قال) ابن قدامة : قال أبو عبد الله (يعنى أحمد) يكبر فى الأولى سبعاً مع تكبيرة الإحرام ،ولا يعتد بتكبيرة الركوع ،لأن بينهما قراءة ،ويكبر فى الركعة الثانية خمس تكبيرات ولا يعتد بتكبيرة النهوض ، ثم يقرأ فى الثانية ،ثم يكبر ويركع ،وروى ذلك عن الفقهاء السبعة وعمر بن عبد العزيز والزهرى ومالك والمزنى(2) .
(
__________
(1) ص298 ج1 مستدرك .
(2) ص238 ج2 مغنى (تكبير صلاة العيد) زو(الفقهاء السبعة) سعيد ابن المسيب ،وعروة بن الزبير،والقاسم بن محمد ،وخارجة بن زيد ،وأبو بكر بن عبد الرحمن ،وسليمان بن يسار ،وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة.(1/327)
الثالثة) أن يكبر فى الأولى ثلاث تكبيرات بعد تكبيرة الإحرام وفى الثانية ثلاثاً بعد القراءة (لقول) مكحول: حدثنى أبو عائشة الأموى أن سعيد بن العاص سأل ابا موسى الأشعرى وحذيفة بن اليمان : كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر فىالفطر والأضحى ؟ قال ابو موسى : كان يكبر أربع تكبيرات تكبيرة على الجنائز،وصدّقه حذيفة .أخرجه أحمد والبيهقى وأبو داود والمنذرى وسكتا عليه ،وهو منهما تصحيح أو تحسين للحديث (1) . [290].
(وتضعيف) ابن الجوزى له بعبد الرحمن بن ثوبان نقلا عن أحمد وابن معين (معارض) بقول صاحب التنقيح :وثقه غير واحد ،وقال ابن معين : ليس به بأس (2) (وقول) ابن القطان فى أبى عائشة : لا أعرف حاله (معارض) بقول الحاكم : أبو عائشة هو مولى سعيد بن العاص ،سمع ابا هريرة ،وابا موسى الأشعرى ،وحذيفة بن اليمان . وروى عنه مكحول (3) .
(
__________
(1) انظر ص141 ج6 الفتح الربانى . وص 279 ج3 سنن البيهقى ( الخبر الذى روى فى التكبير أربعاً ) وص328 ج6 المنهل العذب (التكبير فىالعيدين ) و(تكبيره علىالجنائز) أى كان النبى صلى الله عليه وسلم يكبر فى الأولى أربع تكبيرات كتكبيره على الجنازة منها تكبيرة الإحرام ،وكان يكبر فى الثانية اربع تكبيرات منها تكبيرة الركوع .
(2) ص215 ج2 نصب الراية.
(3) ص567 غنية المتملى (صلاة العيد).(1/328)
وقال) كردوس بن العباس : أرسل الوليد بن عقبة إلى عبد الله بن مسعود وحذيفة وابى موسى الشعرى وابو مسعود بعد العتمة فقال : إن هذا عيد للمسلمين فكيف الصلاة ؟ فقالوا : سل ابا عبد الرحمن ، فسأله ، فقال : يقوم فيكبر أربعاً ، ثم يقرا بفاتحة الكتاب وسورة من المفصل، ثم يكبر أربعاً يركع فى آخرهن ، فتلك تسع فى العيدين ، فما أنكره أحد منهم .اخرجه الطبرانى فى الكبير بسند رجاله موثقون (1) . (124).
(وعن) أبى حنيفة عن حماد عنإبراهيم انهقال :خرج الوليد بن عقبة إلى ابن مسعود وحذيفة وابى موسى فقال : إن غداً عيدكم فكيف اُصلى ؟ فقال: (أى أبو موسى ): يا أبا عبد الرحمن أخبره . فقال: ابدأ بالصلاة بلا اذان ولا إقامة . وكبر فى الأولى خمساً : أربعة قبل القراءة ثم قرأ وكبر الخامسة فاركع بها، ثم قم فاقرأ ووال ما بين القراءتين ،ثم كبر اربعاً واركع بآخرهنّ .وأمره أن يخطب على راحلته بعد الصلاة .أخرجه ابو يوسف (2) . (125).
(وهذه) آثار صحيحة قالها ابن مسعود بحضرة جماعة من الصحابة . ومثل هذا يحمل علىالرفع لأنه كنقل اعداد الركعات . وبهذا قال الحنفيون والحسن البصرى والثورى ،وروى عن ابن عباس وأحمد .
(والرابعة) أن يكبر فى الأولى سبعاً قبل القراءة ،والثانية خمساً بعدها . قال ابو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : التكبير فى العيدين سبعاً قبل القراءة وخمساً بعد القراءة .اخرجه أحمد وفى سنده ابن لهيعة ضعيف (3) (291).
وبهذا قال القاسم والناصر ،وروى عن أحمد .
(
__________
(1) ص204 ج2 مجمع الزوائد (التكبير فى العيد) و(العتمة) (بفتحات: العشاء) . و( أبو عبد الرحمن) كنية عبقد الله بن مسعود (فتلك تسع) بينت فى الأثر . (125) ص336.
(2) انظر رقم 88 ص59 كتاب الاثار (صلاة العيدين).
(3) ص141 ج6 الفتح الربانى.(1/329)
وفى الباب) روايات أخرى لكنها ضعيفة جداً . قال الإمام أحمد : ليس فى تكبير العيدين عن النبى صلى الله عليه وسلم حديث صحيح.
هذا. وقد اختلف العلماء فى حكم هذا التكبير( فقال) الجمهور إنه سنة (طومشهور) مذهب الحنفيين أنه واجب يأثم المصلى بتركه عمداً ويسجد بتركه سهواً ،للمواظبة عليه من غير ترك ،وألحقوا به تكبير ركوع الركعة الثانية لاتصاله بتكبير العيد (ورد) ةبأن المواظبة لا تدل على الوجوب ما لم تقترن بإنكار على التارك كما فى المضمضة والاستنشاق فى الوضوء ،فقد ثبت المواظبة عليهما ولم يقل الحنفيون بوجوبهما (وقال) الناصر والهادوية: التكبير فىالعيد فرض لقوله تعالى : { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } (1) وقوله : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } (2) (ورد) بأن الآيتين ليستا نصاً فى تكبير صلاة العيد ،فلا يصح لاستدلال بهما على وجوبه .
{ فوائد } :
(الأولى) يستحب الفصل بين كل تكبيرتين من تكبير العيد بقدر مايكبر المأموم دفعاً للاشتباه . وليس بينهما ذكر مشروع عند الحنفيين ومالك والأوزاعى ،لأنه لو كان مشروعاً لنقل إلينا كما نقل التكبير.
(وقال) الشافعى وأحمد : يستحب الذكر بينها بأن يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر،أو يقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير ،ويصلى على النبى صلى الله عليه وسلم بين كل تكبيرتين ،وإن أحب قال : الله أكبر كبيراً، وسبحان الله بكرة واصيلا . واستجلوا باثر مضطرب عن ابن مسعود ،ولذا لم يقل بمقتضاه الجمهور.
(
__________
(1) سورة البقرة : عجز الآية 185.
(2) سورة البقرة : الآية 203.(1/330)
الثانية) يسن رفع اليدين فى تكبير العيد عند أبى حنيفة ومحمد بن الحسن والأوزاعى والشافعية والحنبلية ،وروى عن مالك ،لما روى بكر بن سوادة ان عمر رضى الله عنه كان يرفع يديه مع كل تكبيرة فى الجنازة والعيدين . أخرجه البيهقى وقال : وهذا منقطع (1) . (126).
وفى سنده ابن لهيعة ضعيف . ولعموم ما تقدم عن وائل بن حجر أنه رأى النبى صلى الله عليه وسلم يرفع يديه مع التكبير .أخرجه أبو داود والبيهقى(2) . [292].
(وقال) أبو يوسف والثورى : لا يرفع يديه غلا فى تكبيرة الإحرام .
روى عن مالك ،لأنه لم يثبت عندهم ما يدل عليه . قال الكمال بن الهمام : فما روى عنأبى يوسف أنه لا ترفع الأيدى فى تكبير العيد يكفى فيه كون المتحقق من الشرع ثبوت التكبير ،ولم يثبت الرفع فيبقى على العدم الأصلى(3) .
(ورد) بأنه ثبت الرفع عن عمر وابنه مع ترحيمهما للاتباع ،ولم يعرف لهما مخالف. وتكبير العيد داخل فى عموم حديث وائل بن حجر.
(الثالثة) من نسى تكبير العيد وذكره بعد أن قرأ بعض الفاتحة أو كلها ، يكبر ويعيد الفاتحة . وإذا تذكر بعد ما قرأ السورة يكبر ولا يعيد القراءة ، لأنها تمت وصحت فلا تقبل النقض،بخلاف الوجهين الأولين ،لأنها لم تتم ، فكأنه لم يشرع فيها فيعيدها رعاية لترتيب . وإن تذكر المأموم فى الركوع أنه لم يكبر كبر راكعاً ،لأن الركوع قيام من وجه. أما لو تذكر الإمام فى الركوع أنه ترك التكبيرات فإنه يأتى بها قائماً ثم يركع . وإن تذكره بعد الرفع من الركوع لا يأتى به ويسجد للسهو ،وهذا مذهب الحنفيين .
(وقالت) المالكية: إن نسيه حتى فرغ من القراءة عاد إليه واستأنف القراءة وسجد بعد السلام . وإن تذكر بعد الركوع لا ياتى به وسجد الإمام والمنفرد قبل السلام .
(
__________
(1) انظر ص293 ج3 سنن البيهقى . (رفع اليدين فى تكبير العيد).
(2) تقدم رقم 273 ص210 ج2 الدين الخالص (رفع اليدين).
(3) ص427 ج1 فتح القدير(ويرفع يديه فى تكبيرات العيد).(1/331)
ومشهور) مذهب الشافعية والحنبلية: أنه غذا نسى التكبير وشرع فى القراءة لا يعود إليه ولا سجود عليه.
(10) القراءة فى صلاة العيد
اتفق العلماء على أنه يقرأ فى العيد بعد الفاتحة جهراً أى سورة ،ولكن يستحب انيقرأ بعد الفاتحة :سبح اسم ربك الأعلى ، أو : ق والقرآن المجيد ، أو : عم يتساءلون ،فى الركعة الأولى ،وهل أتاك حديث الغاشية ، أو: اقترتب الساعة وانشق القمر ،أو: والشمس وضحاها ،فى الركعة الثانية (لقول) أبى واقد الليثى: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فى العيدين بق واقتربت .أخرجه الأئمة ومسلم والأربعة وصححه الترمذى (1) .[293].
(ولقول) سمرة بن جندب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فى العيدين بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية.أخرجه أحمد والطبرانى فى الكبير بسند رجاله ثقات (2) . [294].
(ولقول) ابن عباس: كان النبى صلى الله عليه وسلم يقرأ فى صلاة العيدين بعمّ يتساءلون ،والشمس وضحاها أخرجه البزار. وفى سنده أيوب ابن يسار وهو ضعيف (3) . [295].
(
__________
(1) ص327 ج1 زرقانى الموطأ ( التكبير والقراءة فى صلاة العيدين ) ،وص 76 ج1 بدائع المنن . وص 146 ج6 الفتح الربانى . وص 181ج6 نووى مسلم .وص235 ج6المنهل العذب(ما يقرأ فى العيدين) . وص 232 ج1 مجتبى .وص376 ج1 تحفة الأحوذى . وص 200 ج1 سنن ابن ماجه.
(2) انظر ص145 ج6 الفتح الربانى . وص 203 ج2 مجمع الزوائد( القراءة فى صلاة العيد).
(3) ص204 ج2 مجمع الزوائد.(1/332)
وحكمة قراءة) هذه السور أن سورتى (ق) واقترتب ، اشتملنا على اخبار البعث والقرون الماضية وإهلاك المكذبين ،وتشبيه خروج الناس فى العيد بخروجهم منالقبور كأنهم جراد منتشر ،واجتماعهم فى المصلى باجتماعهم فى الحشر،وأن فى سورة " سبح" الحث على الصلاة وزكاة الفطر بقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } . وفى { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ } التذكير بأحوال القيامة ودلائل التوحيد . وكذا فى سورتى عمّ يتساءلون ،والشمس وضحاها.
(وقد) ورد الاقتصار فى قراءة صلاة العيد على الفاتحة ،فعله النبى صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز(قال) ابن عباس : صلى اللهعليه وسلم العيد ركعتين لا يقرأ فيهما إلا بأم الكتاب لميزد عليها شيئاً . اخرجه أحمد وفى سنده مشهر بن حوشب ،وفيه كلام وقد وثق(1) . [296].
(ويسنٌ) الجهر في قرآن العيد (لقول) علي رضي الله عنه : الجهر في صلاة العيدين من السنة . أخرجه البيهقي والطبراني في الكبير . وفي سنده الحارث الأعور وهو ضعيف(2) . (127).
لكن يقويه إخبار الصحابة بأن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقرأ هذه السور بعينها ، فإنه يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها .
(11) كيفية صلاة العيد
صلاة العيد ركعتان قبل الخطبة بلا نداء اتفاقاً لما تقدم فى حديث عمر قال: وصلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان(3) و(لقول) ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة.أخرجه الشافعى والستة إلا أبا داود(4) . [297].
(
__________
(1) ص 203 منه.
(2) ص204 ج2 .وص295 ج3 سنن البيهقى (الجهر بالقراءة فى العيدين).
(3) تقدم رقم 54 (قصر الصلاة).
(4) ص174 ج1 بدائع المنن ،وص 309 ج2 فتح البارى (الخطبة بعدالعيد)، وص177 ج6 نووى مسلم ،وص 232 ج1 مجتبى (صلاة العيد قبل الخطبة)، وص374 ج1 تحفة الأحوذى ،وص200 ج1 سنن ابن ماجه (صلاة العيدين).(1/333)
ولقول) ابن عباس : صلى نبى الله صلى الله عليه وسلم بالناس يوم فطر ركعتين بغير أذان ولا إقامة ،ثم خطب بعد الصلاة (الحديث) أخرجه أحمد(1) . [298].
(قال) ابو محمد عبد الله بن قدامة : خطبتا العيدين بعد الصلاة لا نعلم فيه خلافاً بين المسلمين إلا عن بنى أُمية ،ولا يعتد بخلافهم ،لأنه مسبوق بالإجماع قبلهم ،ومخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة. وقد أنكر عليهم فعلهم ،وعُدَّ بدعة(2) .
(وما روى) عن عمر وعثمان أنهما خطبا قبل الصلاة (لم يصح ) . وعلى تقدير صحته فلا يعارض ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم وعن خلفائه منطرق صحيحة أنهم كانوا يصلون قبل الخطبة ،وانعقد عليه الاجماع ،وتقدم أن ابن الزبير رجع عما كان يراه من تقديم خطبة العيد(3) .
(
__________
(1) ص133 ج6 الفتح الربانى.
(2) ص243 ج2 مغنى . و(إلا عن بنى أمية) ، (روى) عن عبد الله بن يزيد الخطمى أن النبى صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يبدأون بالصلاة قبل بدائع المنن (وعن ابى حنيفة) عن حماد عن إبراهيم أن معاوية رضى الله عنه كان رجلاً بادناً فكان إذا صعد المنبر قعد ،فكان أول من خطب يوم الجمعة وهو قاعد ، وكان أول من بدأ بالخطبة قبل الصلاة فى العيد ،وأول منأذن فى العيدين .أخرجه أبو يوسف فى الآثار (19) انظر رقم 290 ص59 (صلاة العيدين).
(3) تقدم اثر 122 ص332 (ليس لصلاة العيد نداء).(1/334)
هذا) وكيفية صلاة العيد أنه متى دخل وقتها يصلى الإمام ركعتين فيكبر تكبيرة الإحرام ناوياً بقلبه صلاة عيد الفطر أو الأضحى ،ثم يضع يديه على سرته قابضاً اليسرى باليمنى ،ويأتى بدعاء الاستفتاح ،ثم يكبر سبع تكبيرات أو ستاً أو ثلاثاً رافعاً يديه مع كل تكبيرة ،ويفصل بين كل تكبيرتين بسكتة مقدار ثلاث تسبيحات على ما تقدم ،ثم يتعوذ ثم يبسمل ثم يقرأ الفاتحة وسورة كما تقدم فى فصل "القراءة فى صلاة العيد "(1) ،ثم يركع ويطمئن جالساً ،ويسجد ويطمئن ساجداً ،ثم يبتدئ الركعة الثانية بخمس تكبيرات غير تكبيرة القيام إن كان كبر فى الأولى سبعاً أو ستاً ،أو يبتدئ بالقراءة ، ثم يكبر بعد ثلاثاً إن كان كبر فى الأولى ثلاثاً على ما تقدم بيانه فى فصل التكبير" فى صلاة العيد "(2) ثم يركع ويتم الركعة كسائر الصلوات .
( 12 ) خطبة العيد
وإذا فرغ الإمام من صلاة العيد قام مستقبلا الناس وخطب خطبتين كالجمعة يجلس بينهما (لحديث) أبى الزبير عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو اضحى فخطب قائماً ،ثم قعد قعدة ثم قام. أخرجه ابن ماجة (3) . [299].
وفى سنده: (أ) أبو بحر ضعيف : (ب) إسماعيل بن مسلم الخولانى . أجمعوا على ضعفه ( ولقول ) عبيد الله بن عبد الله بن عتبة : السنة أن يخطب افمام فى العيد خطبتين يفصل بينهما بجلوس . أخرجه الشافعى (4) (128).
(والعمل) على هذا ،ولكن لم يثبت من طريق صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم كرر الخطبة فى العيد (وقول) التابعى كعبيد الله بن عبد الله : السنة ليس ظاهراً فى سنة النبى صلى الله عليه وسلم وليس بحجة (قال) الكمال ابن الهمام : لا شك فى ورود النقل مستفيضاً بالخطبة .أما بالتنصيص على الكيفية المستمرة فلا ،إلا ما روى ابن ماجه عن جابر.
(
__________
(1) انظر فصل 10 ص239.
(2) تقدم فصل 9 ص333.
(3) ص201 ج1 سنن ابن ماجه (الخطبة فى العيدين).
(4) ص176 ج1 بدائع المنن.(1/335)
قال) النووى فى الخصلاة (وماروى) عن ابن مسعود انه قالك السنة أن يخطب فى العيد بخطبتين يفصل بينهما بجلوس (ضعيف ) غير متصل ولم يثبت فى تكرير الخطبة شئ(1) (129).
يعنى صحيحاً وقد علمت أن حديث جابر ضعيف.
(ويسنّ) افتتاح الخطبة بحمد الله والثناء عليه ثم الوعظ والأمر بالطاعة اقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم (قال) جابر بن عبد الله : شهدت الصلاة مع النبى صلى الله عليه وسلم فى يوم عيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ،فلما قضى الصلاة قام متوكئاً على بلال ،فحمد الله وأثنى عليه ووسط الناس وذكرهم وحثهم على طاعته . ثم مضى إلى النساء ومعه بلال ، فأمرهنّ بتقوى الله ووعظهنّ،وحمد الله وأثنى عليه وحثهنّ على طاعته ، ثم قال : تصدقن فإن أكثركنّ حطب جهنم . فقالت امرأة من سفلة النساء سفعاء الخدين : لم يا رسول الله ؟ قال: لأنكنّ تكثرن الشكاة وتكفرن العشير . فجعلن ينزعن حليهنّ وقلائدهنّ وخواتمهنّ يقذفن به فى ثوب بلال يتصدقن به .أخرجه أحمد ومسلم والنسائى والبيهقى (2) . [300].
(
__________
(1) ص428 ج1 فتح القدير(ثم يخطب خطبتين).
(2) ص147 ج6 الفتح الربانى ،وص 175 ج6 نووى مسلم (صلاة العيدين ) وص233 ج1 مجتبى (قيام الإمام فى الخطبة متوكئاً على إنسان) . وص 296 ج3 سنن البيهقى (يبدأ بالصلاة قبل الخطبة) و(سفلة) بفتح فكسر . و( سفعاء) بفتح فسكون (الخدين) أى فيهما تغير وسواد . و( الشكاة) بفتح الشين : الشكوى . و(العشير) المعاشر وحمله الأكثر على الزوج وقيل هو كل مخالط . والمعنى انهن يجحدن الإحسان لضعف عقلهن وقلة معرفتهن . (وقرطهن) بكسر ففتحتين ،جمع قرط بضم القاف وسكون الراء ،وهو كل ما علق فى شحمة الأذن من الحلى .(1/336)
وقال) ابن عباس : شهدت الصلاة يوم الفطر مع النبى صلى الله عليه وسلم وابى بكر وعمر وعثمان ،فكلهم كان يصليها قبل الخطبة ثم يخطب بعد ، فنزل النبى صلى الله عليه وسلم كأنى أنظر إليه يجلس الرجال بيده ،ثم أقبل يشقهم حتى جاء النساء ومعه بلال فقال : " يا ايها النبى إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ألا يشركن بالله شيئاً " ، فتلا هذه الآية حتى فرغ منها ،ثم قال: أنتن على ذلك ؟ فقالت امرأة واحدة- لم يجبه غيرها منهن- " نعم يا نبى الله .
قال : فتصدقن . فبسط بلال ثوبه ، فجعلن يلقين الفتح والخواتم فى ثوب بلال . اخرجه أحمد والشيخان(1) . [
__________
(1) ص148 ج6 الفتح الربانى . وص 319 ج2 فتح البارى ( موعظة الإمام النسائى يوم العيد ) وص 171 ج6 نووى مسلم (صلاة العيدين) . و( يجلس) بضم الياء وتشديد اللام المكسورة : أى يأمرهم بالجلوس . و" يا ايها النبى إذا جاءك المؤمنات يبايعنك " الاية ،نزلت يوم فتح مكة لما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء على ما ذكر بالقول عند الصفا وكن 457 سبعاً وخمسين وأربعمائة امرأة . فآمن ولم يصافح واحدة منهن.
(قالت) عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الاية : " ألا يشركن بالله شيئاً " وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط لا يملكها ،وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن يقول : (انطلقن فقد بايعتكن)، لا والله ما مست يده يد امرأة قط ،غير أنه بايعهن بالكلام .
أخرجه الشيخان والترمذى (52) انظر ص172 تيسير الوصول (سورة الممتحنة) وقد نهاهن أيضاً عن النياحة والتبرج وغيرهما مما هو داخل فى قوله : ولا يعصينك معروف .
روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (عبد الله بن عمرو) قال: جاءت أميمة بنت رقيقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبايعه على الإسلام ،فقال: ابايعك على ألا تشركى بالله شيئاً ولا تسرقى ولا تزنى ولا تقتلى ولدك ولا تأتى ببهتان تفترينه بين يديك ورجليك ولا تنوحى ولا تبرجى تبرج الجاهلية الأولى .اخرجه أحمد (53) انظر ص329 ج8 تفسير ابن كثير.
(وعن) اسيد بن أبى اسيد البزار عن امرأة من المبايعات قالت : كان فيما اخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نعصيه فى معروف ،وألا نخمش وجهاً ،ولا ننشر شعراً ،ولا نشق جيباً ،ولا ندعو ويلا .اخرجه ابن أبى حاتم (54) انظر صص323 ج8 تفسير ابن كثير.
(وقد) عاهد النبى صلى الله عليه وسلم الرجال فى بيعة العقبة على ما فى الاية (قال) عبادة بن الصامت : كنت فيمن حضر العقبة الأولى وكنا اثنى عشر رجلا ،فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء وذلك قبل أن يفرض الحرب على ألا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزنى ولا نقتل أولادنا ولا نأتى ببهتان نفتريه بين ايدينا وارجلنا ولا نعصيه فى معروف . وقال : فإن وفيتم فلكم الجنة .اخرجه ابن أبى حاتم (55) انظر ص329 ج8 تفسير ابن كثير.
(ولا يسرقن) مال الغير ولو زوجاً قائماص بما يلزمها .أما إذا كان مقصراً فى نفقتها فلها ان تأخذ منم ماله بالمعروف على ما جرت به عادة أمثالها ولو بلا علم زوجها (روت) عائشة ان هند بنت عتبة قالت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف .اخرجه الشيخان (56) انظر ص408 ج9 فتح البارى.
(إذا لم ينفق الرجل للمرأة أن تأخذ ما يكفيها )، ( خشيت ) هند أن تقتصر على ما يعطيها زوجها فتضيع ،أو تأخذ بلا علمه فتكون مناقضة للعهد . فسألت النبى صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تأخذ بالمعروف بلا غذن زوجها ،ومحل جواز الأخذ بغير غذن عند مالك إذا كان المال غير محجور ،وأما إذا حجره بقفل أو نحوه فيحرم الأخذ ،فإن أخذت تعد سارقة وتقطع يدها.
=(والحنفيون) : لا تقطع يد أحد الزوجين بسرقته من الآخر لشبهة الاختلاط والإذن شرعاً لكل من الزوجين بدخول حرز الآخر (وفى الحديث) : ادفعوا الحدود ما ودتم لها مدفعاً . أخرجه ابن ماجه عن أبى هريرة (57) انظر ص59 ج2 سننابن ماجه (دفع الحدود بالشبهات ) وفى سنده غبراهيم بن الفضل المخزومى ،ضعفه ابن معين والبخارى وغيرهما.
وقوله (ولا يقتلن أولادهن) يشمل : (أ) قتله بعد وجوده كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق (الفقر) ويئدون البنات (يدفنونهن حيات) خوف العار والفبر. (ب) وقتله جنيناً كما قد يفعله بعض جهلة النساء تسقط لغرض فاسد .
(وليس) منه العزل بإذن الزوجة فإنه جائز شرعاً عند الأئمة الأربعة (لحديث) أنس: أن رجلا سأل عن العزل . فقال النبى صلى الله عليه وسلم :لو أن الماء الذى يكون منه الولد أهرقته على صخرة لخرج الله منها ولداً . اخرجه أحمد والبزار بسند حسن وصححه ابن حبان (58) انظر ص 2296 ج4 مجمع الزوائد (فى العزل).
(وقال) جابر: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لى جارية أطواف عليها وأنا أكره أن تحمل . فقال: اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتها ما قدر لها. أخرجه أبو داود ومسلم (59) انظر ص252 ج2 سنن أبى داود (العزل) وص13 ج10 نووى (حكم العزل).
(ويترتب) عند غير المالكية على جواز العزل حل معالجة المرأة لإسقاط النطفة قبل نفخ الروح ،وتعاطى المرأة ما يقطع الحبل من أصله . وقال اللخمى من المالكية : يجوز غسقاط ما فى الرحم من النطفة قبل الأربعين . ومنعه غيره من المالكية ،كما يمنع غسقاطها بعد الأربعين اتفاقاً .
(ولا يأتين ببهتان يفترينه إلخ) أى لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم. كانت المرأة العاقر إذا خافت مفارقة زوجها التقطت ولداً ونسبته له ليبقيها عنده ،وهو من الكبائر (لحديث) ابى هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أيما امرأة ادخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله فى شئ ،ولن يدخلها الله الجنة ،وايما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رءوس الأولين والآخرين يوم القيامة .اخرجه ابو داود والنسائى والحاكم وقال: ص3حيح على شرط مسلم (60) انظر ص279 ج2 سنن أبى داود (التغليظ فى الانتفاء) وص107 ج2 مجتبى .وص 202 ج2 مستدرك .
(هذا) و(الفتح) بفتحتين جمع فتحة كقصبة ،وهى الخواتيم العظام . و(الخواتم) جمع خالتم بكسر التاء وفتحها ،المراد بها ما له فص او خواتم صغيرة تختص باصابع اليد.(1/337)
301].
ويسنّ الإكثار من التكبير اثناء الخطبة ( لقول) سعد المؤذن: كان النبى صلى الله عليه وسلم يكبر بين أضعاف الخطبة ،يكثر التكبير فى خطبة العيدين .اخرجه ابن ماجه ،وفى سنده عبد الرحمن بن سعد بن عمار ، ضعيف(1) . [302].
وقد ذكر الفقهاء أنه يطلب افتتاح الخطبة الأولى بتسع تكبيرات والثانية بسبع تكبيرات (لقول) عبيد الله بن عبد الله بن عتبة : السنة أن تفتتح الخطبة الأولى بتسع تكبيرات تترى ،والثانية بسبع تكبيرات تترى .أخرجه البيهقى وابن ابى شيبة(2) (130) لكن عبيد الله المذكور تابعى ،وقول التابعى: السنة كذا ،ليس ظاهراً فى سنة النبى صلى الله عليه وسلم فلا يحتج به. أما إذا قاله الصحابى فيحتج به على الراجح(قال ابن القيم) وكان النبىصلى الله عليه وسلم يفتتح خطبه كلها بالحمد لله ولم يحفظ عنه فى حديث واحد أنه كان يفتتح خطبتى العيد بالتكبير.
(وقد) اختلف الناس فى افتتاح خطبة العيدين والاستسقاء ،فقيل : يفتتحان بالتكبير ،وقيل : تفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار وقبل: يفتتحان بالحمد . قال شيخ الإسلام تقى الدين : هو الصواب ،لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال: كل أمر ذى بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو اجذم (3) وكان صلى الله عليه وسلم يفتتح خطبه كلها بالحمد لله (4) .
(ويسنّ) وقوف الخطيب فى العيد على الأرض متكئاً على قوس أو عصاً (لما روى) البراء بن عازب أن النبى صلى الله عليه وسلم نُوِّل يوم العيد قوساً فخطب عليه. أخرجه أبو داود . وعند أحمد : وأعطى قوساً أو عصاً فاتكأ عليه (5) . [303].
__________
(1) ص201 ج1 سنن ابن ماجه (الخطبة فى العيدين).
(2) ص299 ج3 سنن البيهقى (التكبير فى خطبة العيدين).س
(3) تقدم رقم 188 ص197 (اركان خطبة الجمعة).
(4) ص133 ج1 زاد المعاد (هدية فى العيدين).
(5) ص322 ج6 منهل (يخطب على قوس) ،وص 153 ج6 الفتح الربانى. و(نول) بضم فكسر وشد ،أى أعطى .(1/338)
وله أن يخطب على راحلة ( لحديث ) أبى سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم العيد على راحلته .اخرجه أبو بعلى بسند رجاله رجال الصحيح (1) . [304].
هذا، وإن خطب قاعداً فلا بأس ،لأن الخطبة غير واجبة فأشبهت صلاة النافلة .أما خطبة العيد على منبر فخلاف السنة (لقول) ابى سعيد الخدرى : أخرج مروان المنبر فى يوم عيد فبدأ بالخطبة قبل الصلاة ،فقام رجل فقال: يا مروان خالفت السنة ،أخرجت المنبر فى يوم عيد ولم يكن يخرج فيه ، وبدأت بالخطبة قبل الصلاة ولم يكن يبدأ بها. فقال أبو سعيد الخدرى: من هذا ؟ قالوا : فلان بن فلان . فقال أبو سعيد : أما هذا فقد قضى ما عليه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من رأى منكم منكراً فإن استطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده ،فإن لم يستطع فبلسانه ،فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان .أخرجه أحمد وأبو داود والبيهقى (2) . [
__________
(1) ص205 ج2 مجمع الزوائد (الخطبة للعيد على الراحلة ).
(2) ص151 ج6 – الفتح الربانى . وص 315 ج6 – المنهل العذب (الخطبة يوم العيد ) وص 196 ج3 سنن البيهقى (يبدأ بالصلاة قبل الخطبة ) وذلك أضعف الإيمان : أى هذا الفريق من المنكرين اهل الإيمان قوة وأعجزهم عن تغيير المنكر ،وليس المراد أن المنكر بقلبه ضعيف افيمان ،لأنه أدى ما فى وسعه ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها .
(والمقصود) من الحديث بيان مراتب المنكرين من جهة قوتهم . فأقواهم العلماء المسلطون الذين ينصحون فإن لم يغن النصح لجأوا على القوة ،ويليهم العلماء الذين لا سلطان لهم ومن يستطيعون النصح فإن لم يغن النصح لجأوا إلى القوة ،ويليهم العلماء الذين لاسلطان لهم ومن يستطيعون النصح بما أوتوا من الحكمة ومعرفة كيف يدعون إلى سبيل ربهم بالموعظة الحسنة ،وأضعفهم الذين يجهلون طرق الإنكار بالحسنى ،والذين لا يستطيعون إذ يرون المعصية إلا أن يقولوا فى أنفسهم : اللهم إن هذا منكر لا يرضيك .
(
وليس) مراده صلى الله عليه وسلم أن يلجأ المنكر إلى القوة بلا إنذار من القول (وفى سنته) صلى الله عليه وسلم فى دعوته إلى الاسلام ،وسنة اصحابه رضى الله عنهم فى مكافحة عصاة المسلمين (دليل) على ذلك . فقد عرض صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل ،وأرسل الكتب إلى القياصرة والأكاسرة داعياً هؤلاء وهؤلاء إلى الاسلام ، فأثمرت هذه الدعوة ما أثمرت ،ومن لم يقبل عولج بالقوة . (وفى الحديث) من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف .اخرجه البيهقى عن ابن عمرو (61) انظر رقم 31 وص 688 فيض القدير.
(وسمع) عمر رضى الله عنه برجل بالشام يرتكب منكراً فلم يجلب عليه عمر بخيله ورجله وقد كان ذلك بيده وهو عليه هين ،وإنما كتب : بسم الله الرحمنالرحيم "حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذى الطول".
فكف الرجل عن العصيان من فوره .
فينبغى التدرج فى الإنكار فيكون باللسان قبل اليد وباللين قبل الشدة وبالإسرار قبل الإعلان ،وليس من الحزم فى شئ أن يلجأ مسلط إلى القوة فى موضع تغنى فيه العظة ولا من العقل أن يشتد المنكر فى القول واللين ممكن مثمر والإسرار بالإنكار نصيحة والإعلان فضيحة ،فقدم الأولى ما أمكنت ،ولا تلجأ إلى الأخرى إلا مضطراً.
هذا ولا يسقط عن المكلف الأمر والنهى لظنه عدم الإفادة ، وإنما عليه الأمر والنهى لا القبول . قال تعالى : " ما على الرسول إلا البلاغ " ولا يشترط فى الأمر والناهى كونه ممتثلا ما يؤمر به بل يلزم العاصى النهى عما هو مرتكبه لأن عليه تركه وإنكاره فلا يسقط إحداهما بترك الآخر . وفى الحديث : مروا بالمعروف وإن لم تفعلوه ،وانهوا عن المنكر وإن لم تجتنبوه كله .أخرجه الطبرانى فى الصغير عن أنس (62) انظر رقم 8177 ص 622 ج5 فيض القدير.
(ويشترط) فىالآمر والناهى كونه عالماً بما يأمر به وينهى عنه ،ولا ينكر إلا ما أجمع على إنكاره .
=(وعلى الجملة) فباب الأمر والنهى باب عظيم به قوام الأمر وملاكه . فينبغى للعاقل ان يهتم به مع الإخلاص لله تعالى ،وليحذر من تركه لما يترتب على تركه من الضرر العام، فإن المعاصى إذا فشت ولم ينه عنها عم العذاب الصالح والطالح وحرم الناس غجابة دعائهم .
(ففى) الحديث : والذى نفسى بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ،ثم تدعون فلا يستجاب لكم .أخرجه البيهقى والترمذى وحسنه عن حذيفة (63) انظر ص 169 ج3 الترغيب (ولا يهاب) مؤمن سطوة من ينكر عليه لعلو مرتبته فإن الله ناصره .
قال تعالى : " يا ايها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم" سورة محمد آية 7،وقال : " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " آخر سورة العنكبوت .
(وفى )الحديث : إن أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر .أخرجه ابو داود والترمذى عن أبى سعيد (64) انظر ص 33 ج1 تيسير الوصول (الأمر بالمعروف ..) (وقوله) تعالى : " عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " (لا ينافى) لزوم الأمر والنهى ،لأن معناه إذا فعلتم ما كفلتم به ومنه الأمر والنهى فلا يضركم تقصير غيركم .
(قال) أبو بكر رضى الله عنه : إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير موضعها " يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ..إلخ" وإنا سمعنا النبى صلى الله عليه وسلم يقول : إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب .أخرجه الأربعة وقال الترمذى : حديث حسن صحيح (65) انظر ص32 ج1 تيسير الوصول .(1/339)
305].
هذا . وقد اتفق الأئمة على أنخطبة العيد واستماعها سنة ،لما روى عطاء عن عبد الله بن السائب قال: شهدت مع النبى صلى الله عليه وسلم العيد، فلما قضى الصلاة قال: إنا نخطب فمن أحبق أن يجلس للخطبة فليجلس ،ومن أحب أن يهذب فليذهب .اخرجه النسائى وابن ماجه وأبو داود والبيهقى والدارقطنى والحاكم ،قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين (1) . [306].
هذا، وإنما أُخرت الخطبة عن الصلاة ،لأنها لما كانتغير واجبة جعلت فى وقت يتمكن من أراد تركها من تركها ،بخلاف خطبة الجمعة ، والاستماع لها أفضل (وقد) روى عن الحسن وابن سيرين أنهما كرها الكلام يوم العيد والإمام يخطب .
(وقالت) إبراهيم النخعى : يخطب الإمام يوم العيد قدر ما يرجع النساء إلى بيوتهن ،وهذا يدل على أنه لا يستحب لهنّ الجلوس لاستماع الخطبة لئلا يختلطن بالرجال.
(وحديث) النبى صلى الله عليه وسلم فى موعظته النساء بعد فراغه من خطبته (دليل) على أنهنّ لم ينصرفن قبل فراغه . وسنة صلى الله عليه وسلم أحق بالاتباع . قاله أبو محمد بن قدامة (2) .
(تنبيه) علم أن المشروع في خطبة العيد تأخيرها عن الصلاة ، فلو قدمت عليها لا يعتد بها عندالشافعية والحنبلية وتعاد بعد الصلاة .
(وقال) الحنفيون ومالك : يعتد بالخطبة معالكراهة وتعاد ندباً .
( 13 )الجماعة فى صلاة العيد
__________
(1) ص233 ج1 مجتبى (التخيير بين الجلوس فى الخطبة للعيدين )وص 336 ج6 المنهل العذب (الجلوس فى الخطبة) وص201 ج1 سنن ابن ماجه (انتظار الخطبة بعد الصلاة) وص 301 ج3 سنن البيهقى (الاستماع للخطبة) وص 172 سنن الدارقطنى . وص 295 ج1 مستدرك .
(2) ص246 مغنى ،وحديث وعظه صلى الله عليه وسلم النساء تقدم رقم 298، 299.(1/340)
الجماعة شرط فى صحة صلاة العيد كالجمعة عند الحنفيين ، وهو رواية عن أحمد ،فمن لم يدركها مع الإمام لا يصليها وحده ولو فى الوقت عند الحنفيين ، لأنها لم تعرف قربة إلا بالجماعة، فلا تتم بالمنفرد ،ويأثم إن فاتته بلا عذر .
(وعن) أبى حنيفة : أن من حضر المصلى ولم يدرك صلاة العيد مع الإمام فله أن يصلى ركعتين أو أربعاً( روى) أبو حنيفة عن حماد قال: سألت إبراهيم : إذا لم أخرج مع الإمام فى العيد اُصلى فى بيتى كما يصلى الإمام ؟ قال: لا . قلت : فإذا اتيت الجبانة وقد فاتنى كم أُصلى ؟ قال: إن شئت فصل ركعتين ،وإن شئت اربعاً ،وإن شئت فلا شئ.أخرجه أبو يوسف فى الآثار (1) .(131).
(وقالت) الحنبلية : لا يجب قضاؤها بل يستحب ،لما روى عن أنس أنه كان إذا لم يشهد العيد معالإمام بالبصرة جمع أهله ومواليه ،ثم قام عبد الله ابن أبى عتبة مولاه فيصلى بهم ركعتين يكبر فيهما (132) ولأنها قضاء صلاة فكانت على صفتها كسائر الصلوات . وهو مخير : إن شاء صلاها فىجماعة كما ذكرنا عن أنس ،وإن شاء صلاها وحده.
(وعن أحمد) أنه يقضيها أربعاً،إما بسلام واحد أو بسلامين . وهو قول النووى ،لما روى عن عبدالله بن مسعود أنه قال:من فاته العيد فليصل أربعاً (2) .
(وروى) عن على رضى الله عنه أنه قال: إن أمرت رجلا أن يصلى بضعفة الناس أمرته أن يصلى أربعاً .رواهما سعيد بن منصور (134) ذكره أبو الفرج عبدالرحمن بن قدامة(3) .
(وقالت) المالكية : الجماعة فىالعيد سنة مؤكدة لمن تلزمه الجمعة وأمكنه تأديتها مع الإمام . ومن فاتته مع الإمام يندب له صلاتها منفرداً فى وقتها ولا تقضى بعد الزوال.
(
__________
(1) انظر رقم 291 ص59 كتاب الآثار (صلاة العيدين) و( الجبانة) المصلى فى الصحراء .
(2) وأخرجه ايضاً الطبرانى فى الكبير بسند رجاله ثقات ،ص 205 ج3 مجمع الزوائد (من فاتته صلاة العيد).
(3) ص250 ج2- الشرح الكبير(حكم من فاتته صلاة العيد ).(1/341)
وقال) الحسن البصرى والشافعية : الجماعة مندوبة فى العيد فتصح من المنفرد والمسافر والعبد والنساء. وتقضى لو فاتت . وهو رواية عنأحمد .
ومن أدرك إمام العيد فى التشهد فقد أدرك العيد، فإذا سلم الإمام قام المسبوق فصلى ركعتين يأتى فيهما بتكبير العيد اتفاقاً ،لعموم ما تقدم عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: إذا أُقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها تمشون وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا ،وما فاتكم فأتموا (1) . وهو بعمومه يتناول العيد ،ولأنه أدرك بعض الصلاة التى ليست بدلا من أربع فقضاها على صفتها كسائر الصلوات .
( 14 ) تأخير صلاة العيد لعذر
إذا منع عذر من صلاة عيد الفطر فى أول شوال ،كأن حصل مطر شديد ،أو غم الهلال وشهد قوم بعد زوال يوم العيد بأنهم رأوه أمس ، صلوها فى وقتها من اليوم الثانى عند الحنفيين والأوزاعى والثورى وأحمد وإسحق ،لما تقدم عن أبى عمير بن أنس قال: حدثنى عمومتى من الأنصار قالوا: أغمى علينا هلال شوال وأصبحنا صباحاً فجاء ركب من ىخر النهار فشهدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفطروا وأن يخرجوا على عيدهم من الغد (2) .
(وقالت) المالكية: إن تبين العيد قبل الزوال صلوا ،وإلا لم يصلوا يومهم ولا من الغدو . رواه الخطابى عن الشافعى . والحديث حجة عليهم .
(قال) الخطابى .سنة النبى صلى الله عليه وسلم أولى بالاتباع . وحديث ابى عمير صحيح ، فالمصير إليه واجب (3) .
(ولا) يصلى عيد الفطر بعد اليوم الثانى ولو بعذر عند الحنفيين ،لأن الأصل فى صلاة العيد ألا تقضى ،لكن ورد الحديث بتأخير عيد الفطر إلى الغد لعذر فبقى ما عداه على الأصل.
(وقالت) الحنبلية: يقضى ولو بعد ايام قياساً على ما فى حديث ابى عمير.
(
__________
(1) تقدم رقم 234 ص284 (ما تدرك به الجمعة).
(2) تقدم رقم 265 ص317 (حكم صلاة العيد).
(3) انظر ص252 ج1 معالم السنن.(1/342)
والصحيح) عند الشافعية ان صلاة العيد تقضى فى أى وقت كسائر النفل المؤقت (أما) صلاة الأضحى فيجوز عند الحنفيين تأخيرها إلى اليوم الثانى أو الثالث ولو بلا عذر . ولا تصلى بعد ذلك ،لتقييدها بايام النحر وتأخيرها عن اليوم الأول بلا عذر مكروه .
(والفرق) بين الفطر والأضحى ان عيد الفطر الذى اثضيفت إليه الصلاة يوم واحد ،وعيد الأضحى ثلاثة ايام ؛ لأنها كلها ايام الأضحى بالإجماع ،فالصلاة فيما سوى ذلك من الأيام لا تسمى صلاةالعيد ،إلا ان النقل ورد بها عند العذر فى اليوم الذى يلى يوم الفطر – مع أنه ليس عيد الفطر- على خلاف القياس فاقتصر عليه،قاله العلامة الحلبى (1) .
(وقالت) الحنبلية : صلاة عيد الأضحى كعيد الفطر تقضى إن أخرت لعذر وغيره ولو مضى أيام .
وقالت المالكية: وقت صلاة العيدين من ارتفاع الشمس قدر رمح إلى الزوال فلا تقضى بعده لأن النوافل لا تقضى . والصواب ما دل عليه الحديث.
هذا. ويسنّ قيام الإمام للناس بعد العيد ونظره إليهم (لقول) عبد الرحمن ابنعثمان التيمى : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً فى السوق يوم العيد ينظر والناس يمرون .أخرجه أحمد وأبو يعلى .وكذا الطبرانى فى الكبير والأوسط بلفظ : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من العيدين أتى وسط المصلى فقام فنظر إلىالناس كيف ينصرفون وكيف سمتهم ثم يقف ساعة ثم ينصرف ز رجال الطبرانى موثقون (2) . [307].
( 15 ) التهنئة بالعيد(3)
__________
(1) انظر ص571 غنية المتملى (صلاة العيد).
(2) ص127 ج6 الفتح الربانى . وص 206 ج2 مجمع الزوائد (النظر إلى الناس) و( السمت) بفتح فسكون ك الهيئة والسكينة والوقار .
(3) التهنئة : الدعاء بالهناءة لمن فاز بخير دينى أو دنيوى لا يضره فى دينه .(1/343)
يباح- عند الجمهور- الهنئة يوم العيد بنحو: تقبل الله منا ومنك (لقول) حبيب بن عمر الأنصارى : حدثنى أبى قال: لقيت وائلة يوم عيد فقلت : تقبل الله منا ومنك ،فقال تقبل الله منا ومنك .أخرجه الطبانى فى الكبير . قال الهيثمى : وحبيب قال الذهبى : مجهول . وقد ذكره ابن حنان فى الثقات ،وأبوه لم أعرفه (1).(135).
وعن مالك أنه كره قول الرجل لغيره: تقبل الله منا ومنك ،وقال هو من فعل الأعاجم . وعن الأوزاعى أنه بدعة . والأظهر أنه لا بأس به لما فيه من الأثر . قاله العلامة الحلبى (2) .
__________
(1) ص306 ج2 مجمع الزوائد (التهنئة بالعيد).
(2) ص573 غنية المتملى . وقد ألف العلامة السيوطى فى التهانى رسالة خاصة سماها (وصول الأمانى باصول التهانى) ذكر فيها إحدى عشرة تهنئة غير التهنئة بالعيد .
وهاك ملخصها:
1- يسن تهنئة من حصل على درجة عالية ومنزلة رفيعة (لقول) أنس بن مالك : نزل على النبى صلى الله عليه وسلم ك " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " مرجعه من الحديبية. فقال النبى صلى الله عليه وسلم : لقد أنزلت على آية أحب إلى مما على وجه الأرض ،ثم قرأها عليهم . فقالوا : هنيئاً لك مريئاً يا رسول الله (الحديث) أخرجه الشيخان والترمذى . وهذا لفظه (66) انظر ص164 ج1 تيسير الوصول (سورة الفتح )وص 15 ج4 تحفة الأحوذى .
(ولقول) أسامة بن زيد : تبعت رسول اللهصلى اللهعليه وسلم إلى بيت حمزة فلم نجده نفقالت إمرأته : جئت يا رسول الله وأنا أريد أن آتيك وأهنئك ،أخبرنى أبو عمارة (تعنى حمزة) أنك أعطيت نهراً فى الجنة يدعى الكوثر .أخرجه الحاكم (67) انظر ص105 ج1 الحاوى للفتاوى .
(ولحخديث) البراء بن عازب ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من كنت مولاه فلى مولاه . فقال عمر بن الخطاب : هنيئاً لك يا على أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة .أخرجه أحمد (68) انظر ص281 ج4 مسند أحمد (حديث الباء بن عازب رضى الله عنه).
2- ويسن التهنئة بالتوبة ونحوها كالراءة من عيب نسب إليه (لقول) كعب بن مالك فى قصة توبته : وانطلقت أتأت (أى أقصد ) رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقانى الناس فوجاً فوجاً يهنئونى قبتوبتى ويقولون : ليهنك (بكسر ففتح فسكون فكسر، أى ليكن هنيئاً لك ) توبة الله عليك حتى دخلت المسجد ، فإذا رسول الله صلىالله عليه وسلم حوله الناس،فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحنى هنأنى ،فكان كعب لا ينساها لطلحة . قال كعب : فلما سلمت علىرسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور : أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك (الحديث) أخرجه الشيخان والثلاثة (69) انظر ص33 ج1 تيسير الوصول( سورة التوبة).
3-ويسن التهنئة بالبرء من المرض (لقول) خوات بن جبير: مرضت فعادنى النبىصلى الله عليه وسلم ،فلما برئت قال: صح جسمك يا خوات .أخرجه الحاكم (70) انظر ص106 ج1 الحاوى(ولقول) مسلم بن يسار : كانوا يقولون للرجل إذا برأ من مرضه ليهنئك الطهر .أخرجه ابن أحمد فى زوائد الزهد (20) انظر ص106 ج1 الحاوى .
4- ويسن التهنئة بالحج بنحو: برنسكك،وقبل الله حجك ،وكفر ذنبك . لما يأتى :
(أ ) ... رقم 1 ص 17 ج9 (إرشاد الناسك ).
(ب ) ... رقم 33 ص349 منه .
5- ويسن تهنئة القادم من الجهاد والعمل الصالح والسفر بنحو :الحمد لله الذى سلمك ،الحمد لله الذى جمع الشمل بك (لقول) عروة بن الزبير: لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه من بدر استقبلهم المسلمون بالروحاء (موضع بين مكة والمدينة) يهنئونهم .اخرجه الحاكم مرسلا بسند صحيح (71) انظر ص107 ج1 الحاوى .
(ولقول) عائشة : كان رسول اللهصلى الله عليه وسلم فى غزوةفلما دخل استقبلته فأخذت بيده فقلت : الحمد لله الذى نصرك وأعزك وأكرمك .اخرجه ابن السنى (72) انظر ص107 ج1- الحاوى للفتاوى .
6-ويسن التهنئة بالنكاح (لحديث) أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا تزوج الإنسان قال له :بارك الله لك ،وبارك عليك ،وجمع بينكما فى خير.
أخرجه أبو داود والترمذى وقال : حديث حسن صحيح وابن ماجه (73) انظر ص 241 ج2 سنن أبى داود (ما يقال للمتزوج) وص 171 ج2 تحفة الأحوذى .وص 301 ج1 سنن ابن ماجه (تهنئة النكاح).
ولما تزوج عقيل بن ابى طالب قيل له:بالرفاء والبنين . فقال : لا تقولوا هكذا ولكن قولوا كماقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم بارك لهم وبارك عليهم" .
أخرجه ابن ماجه (74) انظر ص302 ج1 سنن ابن ماجه . و(الرفاء) بكسر الاء والمد: الالتئام وجمع الشمل .
7-ويسن التهنئة بالمولود (لقول) كلثوم بن جوشن : جاء رجل عند الحسن وقد ولد له مولود فقيل له: يهنيك الفارس . فقال الحسن : وما يدريك أفارس هو؟ قالوا : كيف نقول يا ابا سعيد ؟ قال: تقول: بورك لك فى الموهوب وشكرت الواهب ورزقت بره وبلغ أشده . أخرجه ابن عساكر (21) انظر ص108 ج1 الحاوى .وكلثوم ابن جوشن ضعيف كما فى التقريب .
(ولقول) السرى بن يحيى : ولد لرجل ولد فهنأه رجل فقال : ليهنك الفارس .
قال الحسن البصرى : وما يدريك ؟ قل : جعله الله مباركاً عليك وعلى أمة محمد . أخرجه الطبرانى فى الدعاء (22) انظر ص108 ج1- الحاوى.
8-ويسن للتهنئة بشهر رمضان (لقول) سلمان الفارسى :خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى آخر يوم من شعبان فقال: يا ايها الناس غنه قد أظلكم شهر عظيم مبارك ،شهر فيه ليلة خير من ألف شهر (الحديث) أخرجه الأصبهانى فى الترغيب (75) وتقدم تاماً رقم 221 ص225 قال ابن رجب : هذا الحديث اصل فى التهنئة بشهر رمضان .
9-ويسن التهنئة بالثوب الجديد( لقول) ام خالد بنت خالد : إن رسول الله صلى اللهعليه وسلم كساها خميصة فألبسها بيده وقال : أبلى وأخلقى ،مرتين .أخرجه البخارى (76) انظر ص235 ج10 فتح البارى (ما يدعى لمن لبس ثوباً جديداً).
(ولقول) ابن عمر: إن رسول الله صلى الله عليهوسلم رأى على عمر قميصاً ابيض فقال: ثوبك هذا غسيل ام جديد ؟ قال: لا بل غسيل قال: ألبس جديداً ،وعش حميداً ومت شهيداص .أخرجه ابن ماجه بسند صحيح (77) انظر ص (192) ج2 (ما يقول الرجل إذا لبس ثوباً جديداً ).
(ولقول) أبى نضرة : كان اصحاب رسول الله صلىالله عليه وسلم إذا لبس احدهم ثوباً جديداً قيل له : تبلى ويخلف الله عز وجل .اخرجه سعيد بن منصور فى سنته (23) انظر ص 110 ج1 الحاوى.
10- ... ويستحب التهنئة بالصباح والمساء (لحديث) ابنعمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل : كيف اصبحت يا فلان ؟ قال: أحمد الله إليك يا رسول الله .
فقال صلى الله عليه وسلم : ذلك الذى أردت منك .اخرجه الطبرانى بسند حسن (78).
(ولقول) ميسرة بن حبس : لقيت وائلة بن الأسقع فسلمت عليه فقلت : كيف أنت يا ابا شداد اصلحك الله ؟ قال : بخير يا بن أخى . أخرجه الطبرانى بسند جيد (24) انظر ص110 ج1 الحاوى للفتاوى.
11-قال الغزالى فى الإحياء : فى أدب الحمام : لا بأس بقول الرجل لغيره : عافاك الله. انظر ص108 ج1 الحاوى ،وقال النووى فى الأذكار : لو قال إنسان لصاحبه على سبيل المودة والمؤانسة : دام لك النعيم ونحوه من الدعاء فلا باس به. انظر ص37 ج1 كشف الخفاء .
(وأما) ما ذكر فى الفردوس عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لأبى بكر وعمر وقد خرجا من الحمام : طاب حمامكما (فغير)صحيح .قال السخاوى : لم يصح شئ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن اصحابه فى الحمام ،لأنه لم يكن فى عهدهم حمام على ما يعرفه الناس (79) . انظر رقم 1647 ص36 ج2 كشف الخفاء .
(وعلى الجملة) فالتهنئة كالتعزية من حق المسلم على المسلم ،والجار على جاره (لحديث) معاوية بن حيدة قال قلت : يا رسول الله ما حق جارى ؟ قال : إن مرض عدته ،وإن مات شيعته ،وإن استقرضك أقرضته ،وإن أعوز سترته ،وإن اصابه خير هنأته ،وإن اصابته مصيبة عزيته ،ولا ترفع بناءك فوق بنائه لتسد عليه الريح ،ولا تؤذه بريح قدرك إلا أن تغرف له منها .اخرجه الطبرانى . وفى سنده ابو بكر الهذلى وهو ضعيف (80) انظر ص165 ج8 مجمع الزوائد ( حق الجار والوصية به).(1/344)
(وقال )العلامة بهرام : روى مطرف وابن كنانة عن مالك أنه سئل عن قول الرجل لأخيه : تقبل اللمه منا ومنك وغفر الله لنا ولك . فقال : ما أعرفه ولا أنكره .
(وفى ) شرح العلامة محمد الحطاب للمختصر : قال ابو جعفر النحاس وغيره: لا اتفاق على كراهة قول الرجل لصاحبه : أطال الله بقاءك . وقال بعضهم : هى تحية الزنادقة.
( وفى ) الاستيعاب لابن عبد البر : أن عمر قال لعلى رضى الله عنهما : صدقت أطال الله بقاءك (136) فإن صح ابطل الاتفاق المذكور(1) .
(وقال) ابن الحاج فى المدخل :لقد اختلف علماؤنا فى قول الرجل لأخيه يوم العيد : تقبل الله منا ومنك ،وغفر الله لنا ولك ،على أربعة أقوال: جائز لأنه قول حسن . مكروه لأنه من فعل اليهود . مندوب إليه لأنه دعاء . ودعاء المؤمن لخيه مستحب (الرابع) لا يبتدئ به غيره . فإن قال له أحد رد عليه مثله.
وإذا كان اختلافهم فى هذا الدعاء الحسن مع تقدم حدوثه ؛ فما بالك بقول القائل : عيد مبارك . مجرداً عن تلك اللفاظ ،مع أنه متأخر حدوثه.
فمن باب أولى ان يكرهوه. وهو مثل قولهم: يوم مبارك. وليلة مباركة ، وصبحك الله بالخير ،ومساك بالخير. وقد كره علماؤنا رحمة الله عليهم كل ذلك .وأما المعانقة فقد كرهها مالك وأجازها ابن عيينة،أعنى عند اللقاء من غيبة كانت.
(وأما) فى العيد لمن هو حاضر معك فلا .وأما المصافحة فإنها وضعت فى الشرع عند لقاء المؤمن لخيه ،وأما فى العيدين على ما اعتاده بعضهم عند الفراغ من الصلاة يتصافحون فلا اعرفه . لكن قال الشيخ الإمام ابو عبد الله النعمان رحمه الله : إنه ادرك بمدينة فاس – والعلماء العاملون بعلمهم بها متوافرون- انهم كانوا إذا فرغوا من صلاة العيد صافح بعضهم بعضاً ،فإن كان يساعدهم نقل عن السلف ، فيا حبذا ،وإن لم ينقل عنهم فتركه اولى (2).
(
__________
(1) ص199 ج2 مواهب الجليل لشرح مختصر خليل آخر (صلاة العيد).
(2) انظر ص140 ج2 المدخل( فى سلام العيد).(1/345)
16 ) الرجوع بعد صلاة العيد
يستحب الرجوع من طريق غير طريق الذهاب (لقول) جابر: كان النبى صلى الله عليه وسلم : إذا كان يوم عيد خالف الطريق .اخرجه البخارى (1) . [308].
(ولقول) ابن عمر: إن النبى صلى الله عليه وسلم اخذ يوم العيد فى طريق ثم رجع فى طريق آخر. اخرجه ابو داود والبيمقى والحاكم بسند رجاله ثقات (2) .[309].
والحكمة فى ذلك ان يشهد له الطريقان وسكانهما من الإنس والجن ولإظهار شعائر الإسلام ،وأن تعم البركة الطريقين والسلام على أهل الطريقين وتعليمهم وإرشادهم ،ولو رجع فى الطريق الذى ذهب فيه جاز (لقول) بكر بن مبشر الأنصارى : كنت اغدو مع اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى يوم الفطر ويو الأضحى فنسلك بطن بطحان حتى نأتى المصلى فصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ثم نرجع من بطن بطحان إلى بيوتنا .اخرجه أبو داود والحاكم والبيهقى (3) . [310].
( 17 ) هل للعيد راتبة ؟
لا راتبة للعيد قبلها ولا بعدها عند كافة العلماء (لقول) ابن عباس : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم العيد فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما .أخرجه السبعة وقال الترمذى : هذا حديث حسن صحيح (4) . [311].
واختلفوا فى النفل المطلق ،فقال الحنفيون والثورى وإسحاق وأحمد :
__________
(1) انظر ص322 ج2 فتح البارى( من خالف الطريق إذا رجع يوم العيد).
(2) انظر ص337 ج6 المنهل العذب( الخروج إلى العيد فى طريق ويرجع فى طريق ) وص309 ج3 سنن البيهقى . وص 296 ج1 مستدرك .
(3) ص339 ج6 المنهل العذب ،وص 296 ج1 مستدرك ،و3ص 309 ج3 سنن البيهقى . و( بطحان) بفتح أو ضم فسكون : واد بالمدينة.
(4) ص158 ج6 الفتح الربانى ،وص 325 ج2 فتح البارى (الصلاة قبل العيد )وص 180 ج6 نووى مسلم (ترك الصلاة قبل العيد وبعدها فى المصلى ) وص340 ج6 المنهل العذب ،وص 325 ج1 مجتبى ،وص 201 ج1 سنن ابن ماجه ،وص 378 ج1 تحفة الأحوذى .(1/346)
يكره التنفل قبلها وبعدها فى مكان الصلاة ،ولا يكره التنفل بعدها فى المنزل (لقول) ابى سعيد الخدرى: كان النبى صلى الله عليه وسلم لا يصلى قبل العيد شيئاً ، فغذا رجع على منزله صلى ركعتين .اخرجه ابن ماجه والحاكم وصححه وحسنه الحافظ ابن حجر . لكن فى سنده عبد الله بن محمد بن عقيل ضعفه بعضهم(1) . [312].
(وروى) أبو حنيفة عن حماد قال : سألت إبراهيم وسعيد بن جبي عن الصلاة قبل العيد فقالا : لا صلاة قبلها. وقال إبراهيم : صل بعدها أربعاً .
وقال سعيد بن جبير : صل بعدها كم شئت . أخرجه ابو يوسف فى الآثار (2) .(137).
(ومشهور) مذهب المالكية : أنه يكره التنفل قبلها وبعدها إن أديت فىالصحراء لعموم ما تقدم عنابن عباس (وأما) إن أديت فى المسجد فلا يكره لإمام ولا مأموم تنفل قبلها ولا بعدها ،لأن الحديث إنما كان فى الصحراء.
(وقالت) الشافعية : يكره التنفل قبلها وبعدها فى المصلى وغيره للإمام لظاهر حديث ابن عباس . ولا يكره لغير الإمام لعدم ما يدل على المنع شرعاً .
(قال الشافعى) ما معناه : وهكذا أحب للإمام أن لا يتنفل قبلها ولا بعدها . وأما المأموم فمخالف له فى ذلك(3) .
وقال الحافظ : والحاصل أن صلاة العيد لم تثبت لها سنة قبلها ولا بعدها خلافاً لمن قاسها على الجمعة (وأما) مطلق النفل فلم يثبت فيه منع بدليل خاص إلا إن كان ذلك فى وقت الكراهة فى جميع الأيام (4).
(
__________
(1) ص203 ج1 سنن ابن ماجه (الصلاة قبل العيد وبعدها)وص 297 ج1 مستدرك.
(2) انظر رقم 289 ص59 (صلاة العيدين).
(3) ص207 ج1 كتاب الأم (الصلاة قبل العيد وبعده).
(4) ص325 ج2 فتح البارى (الصلاة قبل العيد وبعده).(1/347)
وقال) الشوكانى كط ليس فى الباب ما يدل على منع مطلق النفل ولا على منع ما ورد فيه دليل يخصه كتحية المسجد إذا أقيمت صلاة العيد فى المسجد 0نعم) فى التلخيص ما لفظه: وروى أحمد من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً : لا صلاة يوم العيد قبلها ولا بعدها (1) . [313].
فإن صح هذا كان دليلا على المنع مطلقاً ،لأنه نفى فى قوة النهى (2) أقول (النفى) بعدها فى هذا الحديث وحديث ابن عباس (محمول) على عدم التنفل فى المصلى ،جمعاً بينها وبين حديث أبى سعيد (وعليه) فالراجح ما قاله الحنفيون ومن معهم .
( 18 )تكبير التشريق(3)
اتفق العلماء على أن التكبير مشروع عقب الصلوات وغيرها فى الأضحى (قال) البخارى : وكان عمر رضى الله عنه يكبر فى قبته بمنى فيسمعه اهل المسجد فيكبرون ويكبر اهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيراً (138) وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه وفى فسطاطه ومجلسه وممشاه تلك اليام جميعاً (4) . (139).
(وعن) أبى هريرة ان النبى صلى الله عليه وسلم قال" زينوا أعيادكم بالتكبير" .اخرجه الطبرانى فى الصغير والأوسط . وفى سنده عمر بن راشد ، ضعفه أحمد وابن معين والنسائى . وقال العجلى : لا بأس به . قاله الهيشمى(5) . [314].
هذا . ويتعلق بتكبير التشريق أمور:
بيان حكمه ،ووقته ،ومحل أدائه ،وكيفيته.
(
__________
(1) انظر هامش 3ص44 ج5 شرح المهذب وهذا الحديث لم نقف عليه فى مسند أحمد فلعله فى كتاب له غير المسند .
(2) ص373 ج3 نيل الأوطار (لا صلاة قبل العيد ولا بعدها).
(3) الإضافة فيه بيانية اى تكبير هو التشريق . والتشريق يطلق لغة على رفع الصوت بالتكبي ،كما يطلق على تجفيف لحوم الضحايا فى الشرقة( أى الشمس).
(4) ص315 ج2 فتح البارى( التكبير ايام منى...) و(الفسطاط) خيمة من الشعر.
(5) ص198 ج2 مجمع الزوائد (التكبير فى العيدين).(1/348)
1 ) فحكمه أنه واجب على الأصح عند الحنفيين ، لقوله تعالى : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } (1) على القول بأن المراد بها ايام التشريق (2) ولم يكن فرضاً ،لاحتمال أن المراد ذكر الله تعالى عند رمى الجمار ،لقوله تعالى : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } (3) فلم تكن الاية قطعية الدلالة.
... ... (قال) العلامة الحلبى : وتكبير التشريق عقب الصلوات قيل سنة عندنا،والأكثر على أنه واجب لمواظبته عليه الصلاة والسلام عليه- من غير ترك . وكذا الخلفاء الراشدون والصحابة بشرط الإقامة والحرية والذكورة .
وكون الصلاة فريضة بجماعة مستحبة . هذا كله عند أبى حنيفة . فلا يجب على مسافر ولا عبد ولا امرأة إلا إذا اقتدوا بمن يجب عليه(4) .
وقال الجمهور : تكبير التشريق لن مجرد المواظبة لا يفيد الوجوب .
(2) ووقته من صبح يوم عرفة إلى عصر آخر ايام التشريق الثلاثة وهى الحادى عشر والثانى عشر والثالث عشر من ذى الحجة(روى) أبو الطفيل عن على بن أبىطالب وعمار بن ياسر انهما سمعا النبىصلى الله عليه ويلم يكبر فى دبر الصلوات المكتوبات من صلاة الفجر غداة عرفة إلى صلاة العصر آخر ايام التشريق .اخرجه الدارقطنى من رواية عمرو بن شمر عن جابر الجعفى وقد ضعفا(5) . [325].
(وروى) شقيق عن على رضى الله عنه أنه كان يكبر بعد صلاةالفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر منآخر ايام التشريق .اخرجه ابن أبى شيبة .
__________
(1) سورة البقرة ،الآية 203.
(2) روى ابو حنيفة عن حماد عن إبراهيم قال: ايام معلومات : ايام العشر ، وايام معدودات : ايام التشريق .اخرجه ابو يوسف فى الاثار (25) انظر رقم 289 ص60 .
(3) سورة البقرة ،الآية 203.
(4) ص574 غنية المتملى (فروع).
(5) ص181 سنن الدارقطنى.(1/349)
وهذا لفظه والحاكم والبيهقى ومحمد بن الحسن وابو يوسف فى الاثار بسند صحيح (1) (140).
وقال أبو حنيفة : يكبر عقب كل فرض عينى – بلا فاصل يمنع البناء- أدى بجماعة مستحبة من صبيح يوم عرفة إلى بعد عصر يوم العيد (ل4قول) الأسود: كان عبد الله بن مسعود رضى الله عنه يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر يقول : الله أكبر الله أكبر ،لا إله إلا الله والله أكبر ،الله أكبر ولله الحمد . أخرجه ابن أبى شيبة بسند جيد (2) . (141).
(وعن) أبى حنيفة أنه يكقبر من ظهر يوم النحر إلى عصر آخر ايام التشريق (روى الهيثم) عن ابن عباس أنه قال فى التكبير: من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق .أخرجه أبو يوسف فى الآثار (3) (142).
(وقالت) المالكية : يكبر من ظهر يوم النحر إلى صبح آخر ايام التشريق (لقول) ابن عمر: التكبير أيام التشريق بعد الظهر من يوم النحر،وآخره فى الصبح من آخر أيام التشريق .أخرجه الدارقطنى (4) . (143).
(والراجح) القول الأول(قال) الحافظ : ولم يثبت فى شئ عن ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم حديث. وأصح ما ورد فيه عن الصحابة قول على وابن مسعود : إنه من صبح يوم عرفة إلى عصر آخر أيام منى .أخرجه ابن المنذر وغيره (5) . (144).
(3) ومحل التكبير- عند مالك وأبى يوسف- عقب كل فرض عينى حتى الجمعة ،ولو صلى بلا جماعة أو فى سفر ،وعليه الفتوى عند الحنفيين .
فخرج النفل والوتر وصلاة الجنازة والعيد.
(
__________
(1) ص222 ج2 نصب الراية (تكبير التشريق) ،وص 299 ج1 مستدرك ،وص314 ج3 سنن البيهقى ،وانظر رقم 295 ص90 كتاب الآثار (صلاة العيدين ).
(2) ص223 ج2 نصب الراية (تكبير التشريق).
(3) انظر رقم 296 ص60 كتاب الآثار (صلاة العيدين).
(4) ص182 سنن الدارقطنى.
(5) ص316 ج2 فتح البارى (التكبير ايام منى).(1/350)
وعن )أحمد فى صلاة العيد روايتان ،الظاهر أنه يكبر عقبها ،لأنها صلاة مفروضة فى جماعة فأشبهت الصبح (وقيل) لا يسن التكبي بعدها ،لأنها ليست من الصلوات الخمس فأشبهت النوافل.
(وقال) أبو حنيفة والثورى وأحمد : يكبر عقب كل فرض عينى أدى بجماعة مستحبة من مقيم وكذا من مسافر عند الحنبلية .
(قال) الأثرم : قلت لأبى عبد الله (يعنى أحمد) أذهب إلى فعل ابن عمر أنه كان لا يكبر إذا صلى وحده .قال أحمد : نعم . وقال ابن مسعود : التكبير إنما على من صلى فى جماعة (ذكره أبو محمد بن قدامة (1) ) (145).
(وقال) الشافعى: يكبر عقب كل صلاة مفروضة أو نافلة منفرداً أو فى جماعة واختاره البخارى.
(قال) الحافظ : وفى التكبير اختلاف بين العلماء فى مواضع : فمنهم من قصر التكبير على أعقاب الصلوات ،ومنهم من خص ذلك بالمكتوبات دون النوافل ،ومنهم من خصه بالرجال دون النساء ، وبالجماعة دون المنفرد ، وبالمؤاداة دون المقضية ،وبالمقيم دون المسافر ،وبساكن المصردون القرية .
وظاهر اختيار البخارى شمول ذلك للجميع ،والآثار التى ذكرها تساعده (2) .
هذا والمسبوق يكبر إذا فرغ من قضاء ما فاته ، لأنه ذكر شرع بعد السلام فلا يؤتى به فى أثناء الصلاة ، وإن كان على المصلى سجود سهو بعد السلام سجده ثم يكبر . وهذا متفق عليه (3) .
(
__________
(1) ص257 ج2 مغنى (يكبر دبر كل صلاة مكتوبة ...).
(2) انظر ص315 ج2 فتح البارى (التكبي) أيام منى .
(3) انظر ص257 ج2 مغنى .(1/351)
وقال) الحنفيون : لو كبر المسبوق مع الإمام بلا سلام لا تفسد ،لأنه ذكر ،ولا يتركه المؤتم إن تركه الإمام ،لأنه يؤدى بعد الصلاة فلا يعد المأموم بالإتيان به مخالفاً لإمامه (قال) العلامة الحلبى: له إمام نسى التكبير فقام وذهب ،فما لم يخرج من المسجد يعود ويكبر،لأن حرمة الصلاة قائمة ، وإن خرج لا يعود ولا يكبر ولكن يكبر القوم وحدهم . وكذا إن كان الإمام لا يرى التكبير والمقتدى يراه يكبر وحده(1) .
(4) وكيفيته أن يقول مرة : الله أكبر الله أكبر . لا إله إلا الله والله أكبر . الله أكبر ولله الحمد . لما تقدم عن ابن مسعود(2) (وقال) شريك : قلت لأبى إسحاق : كيف كان تكبير على وعبد الله بن مسعود ؟ قال: كانا يقولان : الله أكبر الله أكبر . لا إله إلا الله والله أكبر . الله أكبر ولله الحمد .أخرجه ابن أبى شيبة (3) (146).
واختاره الحنفيون وأحمد والثورى . واختار مالك لما تقدم عن سلمان الفارسى قال: كبروا،الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيراً(4) .
(واختار ) الشافعى ما فى حديث جابر بن عبد الله قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح من غداة عرفة أقبل على أصحابه فيقول : على مكانكم ويقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر ،لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد .فيكبر من غداة عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق أخرجه الدارقطنى (5) . [316].
وفى سنده عمرو بن شمر عنجابر الجعفى ،وقد ضعفا .لكن رواه شعبة والثورى عنجابر الجعفى ووثقاه ،وقال أحمد :لم يتكلم فى حديثه إنما تكلم فيه لرأيه . وعلى الجملة فقد ورد فى التكبير كيفيات كثيرة ،وهو يدل على التوسعة فى الأمر .
(
__________
(1) انظر ص575 غنية المتملى.
(2) تقدم أثر 141 ص363.
(3) انظر ص224 ج2 نصب الراية (تكبير التشريق).
(4) تقدم أثر 118 ص329.
(5) انرظ ص182 سنن الدارقطنى.(1/352)
فائدة) أطلقوا فى التكبير عقب هذه الصلوات فشمل الأداء والقضاء والمسألة ذات أوجه (1) فائتة هذه الأيام قضاها فيها من هذا العام : يكبر عند غير المالكية لبقاء الوقت . وعندهم لا يكبر،لأنه لم يشرع التكبير إلا عقب الحاضرة (2) وفائتتها قضاها فيها من عام آخر : يكبر عند أبى يوسف والشافعى وأحمد.
وقال أبو حنيفة ومحمد ومالك : لا تكبير فيها لفوات وقته(3) وفائتة غير هذه الأيام إذا قضاها فيها :كبر بعدها عند الشافعى وأحمد ،لأنها صلاة فعلت فى أيام التشريق (وقال) الحنفيون ومالك : لا يكبر،لأن التكبير خاص بما يؤدى فى أيام التشريق (4)
__________
(1) انظر ص224 ج2 نصب الراية (تكبير التشريق).
(2) تقدم أثر 118 ص329.,
(3) انظر ص183 سنن الدارقطنى.
(4) انظر ص161 ج6 الفتح الربانى . وص 185 ج6 نووى مسلم (الرخصة فى اللعب يوم العيد ) وص236 ج1 مجتبى( اللعب فى المسجد يوم العيد ..) فجعلت أنظر إليهم : فى الحديث دليل على جواز نظر المرأة إلى الرجل وهو يلعب .
(ولذا) قال الحنفيون والحنبلية : يجوز للمرأة أن تنظر من الرجل ولو أجنبياً ما فوق السرة وتحت الركبة ،لأن ما ليس بعورة يستوى فيه الرجل والمرأة ،فلها أن تنظر منه ما ليس بعورة منه إن أمنت الشهوة ،فإن خافتها أو شكت يستحب لها غض بصرها.
وقال بعض الحنفيين : لا يجوز للمرأة أن تنظرظهر وبطن الرجل .والأول هو الأصح وعليه المعول ،وقالت المالكية : يجوز لها أن تنظر الوجه والعين من الرجل الأجنبى عند أمن الفنة وإلا حرم النظر ،والأصح عند الشافعية أنه لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى وجه الرجل الأجنبى ولو بلا شهوة فإن كان بشهوة فحرام اتفاقاً .
(
قال) النووى: وأما نظر المرأة إلى وجه الرجل الأجنبى : فإن كان بشهوة فحرام بالاتفاق ،وإن كان بغير شهوة ولا مخافة فتنة ففى جوازه وجهان : أصحهما تحريمه لقوله تعالى : { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } . ولقوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة وأم حبيبة : احتجبا عنه (أى عن ابن أم مكتوم ) فقالتا : إنه أعمى لا يبصرنا . فقال صلى الله عليه وسلم : أفعمياوان أنتما ؟ أليس تبصرانه ؟ أخرجه أحمد والترمذى وقال: هذا حديث حسن (81).
(وأجابوا) عن حديث عائشة بجوابين :
(أقواهما) أنه ليس فيها أنها نظرت إلى وجوههم وابدانهم ،وإنما نظرت لعبهم وحرابهم .ولا يلزم من ذلك تعمد النظر إلى البدن وإن وقع النظر بلا قصد صرفته فى الحال (والثانى) لعل هذا قبل نزول الآية فى تحريم النظر وأنها كانت صغيرة قبل بلوغها ، فلم تكن مكلفة على قول منيقول إن للصغير المراهق النظر. ص 184 ج6 شرح مسلم.
(و) يرد جوابه الثانى ما فى رواية ابن حبان أن ذلك وقع لما قدم وفد الحبشة وكان قدومه سنة سبع فيكون عمرها 15 سنة . واستظهر الحافظ أن ذلك وقع بعد بلوغها .(1/353)
وفائتتها إذا قضاها فى غير أيام التشريق فلا تكبير اتفاقاً ؛ لأن التكبير مقيد بالوقت .
( 19 ) اللعب والغناء يوم العيد
يباح اللعب بالحراب ونحوها يوم العيد فى المسجد وغيره للتدرب على أعمال الجهاد والبر ،ولترويح النفس (لقول) عائشة رضى الله عنها: إن الحبشة كانوا يلعبون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فى يوم عيد فاطلعت من فوق عاتقه فطأطأ لى منكبيه فجعلت أنظر إليهم منفوق عاتقه حتى شبعت ثم انصرفت . أخرجه أحمد وأخرج مسلم والنسائى نحوه (1) . [317].
(
__________
(1) تقدم ص319 ج3 الدين الخالص.(1/354)
وتقدم ) فى بحث " ما يباح فى المسجد" رد دعوى أن اللعب فيه بالحراب ونحوها منسوخ (1) ويجوز الضرب بالدف يومالعيد والغناء الخالى عن التكسر والغزل ونحوه مما يثير النفوس (لحديث) عائشة أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان فى أيام منى تغنيان وتضربان بدفين ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى عليه بثوبه ، فانتهرهما ،فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه فقال: دعهما يا أبا بكر فإنها ايام عيد .أخرجه أحمد ومسلم (2) .[
__________
(1) ص162 ج6 الفتح الربانى وص183 ج6 نووى مسلم . والمراد بالدف دف العرب ،وهو مدور لا خروق فى جلده ولا جلاجل فيه . وأما دف الملاهى فهو مدور جلده من رق أبيض ناعم وفيه جلاجل تسمى بالطار ،صوته مطرب لنغمته .
(2) ص304 ج2 فتح البارى (سنة العيدين لأهل الإسلام ) وص182 ج6 نووى مسلم . و(بعاث) بضم ففتح غير مصروف على الأشهر : اسم حصن للأوس على ميلين منالمدينة ،كانت به حرب عظيمة بينهم وبين الخزرج سنة سبع من البعثة قتل فيها خلق من أشرافهم وكبرائهم وكانت الغلبة فيه للأوس . وكان الأوس والخزرج أخوين فوقعت بينهما عداوة بسبب قتيل وتطاولت فتنتهم عشرين ومائة سنة . وآخر وقعة بينهم يوم بعاث . وهو مما قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم فى أسباب دخولهم فى الإسلام . قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وقد افترق ملؤهم وقتلت ثراتهم ، وتأسست الضغائن والعداوة بينهم ،فألف الله بينهم ببركة النبى صلى الله عليه وسلم .
وفى هذا نزل قوله تعالى : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } آل عمران الاية 103 ، وقوله تعالى : { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } الأنفال 63 (وقالت) عائشة : كان يوم بعاث يوماً قدمه الله لرسوله قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد افترق ملؤهم وقتل ثراتهم .أخرجه البخارى (72) انظر ص188 ج7 فتح البارى ( مقدم النبى صلى الله عليه وسلم واصحابه المدينة).(1/355)
318].
(ولقول) عائشة : دخل ابو بكر وعندى جاريتان من جوارى الأنصار تغنيان بما تقاوت به الأنصار يوم بعاث وليستا بمغنيتين ،فقال أبو بكر : أبمزاميرالشيطان فى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وذلك فى يوم عيد . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر إن لكل قوم عيداً ،وهذا عيدنا. أخرجه الشيخان(1).[319].
(قال) الحافظ :واستدل جماعة من اصوفية بحديث الباب على إباحة الغناء وسماعه بآلة وبغير آلة . ويكفى فى رد ذلك تصريح عائشة فىالحديث بقولها: وليستا بمغنيتين ،فنفت عنهما منطريق المعنى ما أثبتته لهما باللفظ ، لأن الغناء يطلق على رفع الصوت وعلى الترنم الذى تسميه العرب النصب بفتح النون وسكون المهملة ،وعلى الحداء(2) ولا يسمى فاعله مغنياً ،وإنما يسمى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير تهييج وتشويق بما فيه تعريض بالفواحش أو تصريح .
قال القرطبى: قولها : ليستا بمغنيتين .أى ليستا بمن يعرف الغناء كما يعرفه المغنيات المعروفات بذلك . وهذا منها تحرز عن الغناء المعتاد عند المشتهرين به، وهو الذى يحرك الساكن ويبعث الكامن . وهذا النوع إذ كان فى شعر فيه وصف محاسن النساء والخمر وغيرهما منالأمور الحرمة لا يختلف فى تحريمه .
وأما ما ابتدعته الصوفية فى ذلك فمن قبيل ما لا يختلف فى تحريمه . لكن النفوس الشهوانية غلبت على كثير ممن ينسب إلى الخير حتى لقد ظهرت منكثير منهم فعلات المجانين والصبيان حتى رقصوا بحركات متطابقة وتقطيعات متلاحقة .
__________
(1) الحداء كغراب : الغناء للإبل حثاً لها على السير.
(2) الحداء كغراب : الغناء للإبل حثاً لها على السير.(1/356)
وانتهى التواقح بقوم منهم إلى أن جعلوها من باب القرب صالح الأعمال، وأن ذلك يثمر سَنىّ الأحوال (1) . وهذا على التحقيق من آثار الزندقة وقول أهل المخرفة(2) .
(وقال) النووى: واختلف العلماء فى الغناء ،فأباحه جماعة منأهل الحجاز،وهىرواية عنمالك . وحرمه أبو حنيفة وأهل العراق . ومذهب الشافعى كراهته ،وهو المشهور من مذهب مالك . واحتج المجوزون بهذا الحديث.
(وأجاب) الآخرون بأن هذا الغناء إنما كان فى الشجاعة والقتل والحذق فى القتال ،ونحو ذلك مما لا مفسدة فيه ،بخلاف الغناء المشتمل على ما يهيج النفوس على الشر ويحملها على البطالة والقبيح (3) .
( 20 ) بدع العيد
(تقدم) أن يوم العيد من أفضل الأيام ،تكثر فيه عوائد الله تعالى ونفحاته على عباده ، تقف فيه الملائكة على أبواب الطريق منادين : اغدوا يا معشر المسلمين إلى رب كريم يمن بالخير ثم يثيب عليه الجزيل . والله تعالى إذا رضى عن عبده هداه طريق الخير ووفقه- ولا سيما فى هذه الأوقات الفاضلة- للاهتداء بهدى النبى صلى الله عليه وسلم ، ليجزيه أحسن الجزاء ، ويثيبه أكمل الثواب.
(
__________
(1) السنى : بفتح السين وسر النون وشد الياء : الكامل.
(2) ص303 ج2فتح البارى (الحراب والدرق يوم العيد ) و( المخرقة) يقال: خرف الرجل خرفاً فهو خرف ،من باب تعب : فسد عقله لكبره .
(3) انظر ص182 ج6 شرح مسلم.(1/357)
وقد تقدم) بيان هديه صلى الله عليه وسلم وما ينبغى للعاقل أن يتحلى به فى هذه الأيام من صالح الأعمال وأفضل الخصال التى يرجى لمن تحلى بها كمال الرضوان ونهاية الإحسان ،ولكن الشيطان للإنسان عدو مبين ،قد آلى على نفسه أن يغوى الناس ويصدهم عن طريق الهداية ،ويحسن لهم سبل الضلال ، ليحول بينهم وبين رحمة الله وغفرانه ،ويقذف بهم فى مهاوى الخزى والحرمان فحسن لهم البدع والعادات التى ما أنزل الله بها من سلطان ، فارتكبوا فى هذه الأيام الفاضلة بدعاً كثيرة تعرضوا بها لغضب الله تعالى ومقته – نسأل الله السلامة والهداية – ويزدادزن يوماً بعد يوم فى إحياء البدع والإكثار منها ، وإماتة السنن ،حتى فشت البدع وصار المنكر معروفاً ،والمعروف منكراً .
وتحقق (قول) ابن عباس رضى الله عنهما : ما أتى علىالناس عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة، حتى تحيا البدع وتموت السنن . أخرجه الطبرانى فى الكبير بسند رجاله موثوقون(1) . (148).
وحديث غضيف بن الحارث الشمالى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة .اخرجه أحمد (2) . [320].
وقول عبد الله بن الديلمى : بلغنى أن أول ذهاب الدين ترك السنة يذهب الدين سنة سنة ،كما يذهب الحبل قوة قوة . (149).
(وقول) حسان: ما ابتدع قوم بدعة فى دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها،ه ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة .اخرجهما الدارمى (3) . (150).
هذا وبدع العيد كثيرة (منها) السهو ليلتى العيد فى غير طاعة ، بل الاشتغال بزخارف الدنيا واللهو واللعب وغيرهما مما يؤدى إلى ترك إحياء الليلتين الشريفتين بأنواع الطاعة كما تقدم فى بحث " ما يطلب للعيد "(4) .
(
__________
(1) ص188 ج1 مجمع الزوائد (البدع والأهواء).
(2) ص105 ج4 مسند أحمد (حديث غضيف بن الحارث...).
(3) ص45 ج1 سنن الدارمى (اتباع السنة).
(4) انظر ص322.(1/358)
ومنها) خروج النساء والرجال إلى المقابر ليلة العيد ويومه والبيات فيها ، ويرتكبون فى ذلك ما تأباه المروءة . ولا يرضاه عقل ولا نقل (1) .
(ومن) البدع المنكرة : اجتماع بعض الجهلة فى المساجد وغيرها ، يذكرون ويرقصون ويحرفون أسماء الله تعالى ،وهو إلحاد فيها يترتب عليه مفاسد وأضرار لا تخفى على ذى لب .
(قال) الإمام القرطبى : سئل الإمام أبو بكر الطرطوشى : ما يقول سيدنا الفقيه فى مذهب الصوفية أنه اجتمع جماعة من الرجال يكثرون من ذكر الله وذكر محمد صلى الله عليه وسلم ،ثم إنهم يوقعون – أشعاراً مع الطقطقة – بالقضيب على شئ من الأديم ،ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشياً عليه ،ويحضرون شيئاً يأكلونه ،هل الحضور معهم جائز ؟ افتونا يرحمكم الله ،وهذا القول الذى يذكرونه :
يا شيخ كف عن الذنوب ... ... قبل التفرق والزلل
واعمل لنفسك صالحاً ... ... ... ما دام ينفعك العمل
أما الشباب فقد مضى ... ... ... ومشيب رأسك قد نزل
(
__________
(1) وقد) أصدرت وزارة الداخلية بمصر فى 11 رمضان سنة 1344هـ. الموافق 25 مارس سنة 1926 م(قراراً) خاصاً بالمقابر فيه ما يأتى:
مادة 10- ممنوع منعاً باتاً المبيت بالجبانات والمكث بها بعد الغروب بساعتينسواء أكان ذلك داخل الحيشان أو بجانب القبور الفدية ،إلا للحرس الخصوصيين المعترف بهم من البوليس.
مادة15 – ممنوع منعاً باتاً التكفف فى الطرق داخل حدود الجبانات.
مادة16 – ممنوع منعاً باتاً داخل حدود الجبانات، الندب واللطم والعويل،وكذا الزار والملاهى.
مادة17- يمنع داخل حدود الجبانات سير النساء فى الجنازات أو تعقبهن لها ،وكذا يمنع سير الكفارات والموسيقات وحملة القماقم والمباخر والمولوية ونحوهم.(1/359)
فأجاب) بقوله: مذهب هؤلاء بطالة وجهالة وضلالة ،وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السمرى لما اتخذ لهم عجلا جسداً له خوار،قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون،فهو دين الكفار وعباد العجل ،وأما القضيب فأول من أحدثه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى ،وإنما كان يجلس النبى صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كأنما على رءوسهم الطي من الوقار.
فينبغى للسلطان ونوابه أن يمنعوهم من الحضور فى المساجد وغيرها،ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم ولا يعينهم على باطلهم . هذا مذهب الئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين (1) وقد تقدم نحوه فى بحث " بدع المساجد"(2) .
(ومنها) إيقاد المصابيح على المآذن وزيادة النور فى المساجد ليلة العيد وغيره من المواسم ،وهو إسراف وحرام لا سيما إن كان منمال الوقف (روى) أبو هريرة أنالنبى صلى الله عليه وسلم قال: " آمركم بثلاث وأنهاكم عن ثلاث : آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ،وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ،وتسمعوا وتطيعوا لمن ولاه الله أمركم .وأنهاكمم عن قيل وقال، وكثرة السؤال ،وإضاعة المال" . اخرجه ابو نعيم فى الحلية وابن ماجه(3) . [321].
وتقدم بأتمّ من هذا فى بحث " بدع المساجد"(4) .
(
__________
(1) انظر ص237 ج11 الجامع لأحكام القرآن . و( الخوار) كغراب : الصوت .
(2) انظر ص282 ج3 الدين الخالص.
(3) ص4 راموز الأحاديث.
(4) انظر ص289 ج3 الدين الخالص .(1/360)
ومن البدع) الشنيعة تجديد الحزن على الموتى واجتماع النساء لذلك ليلة العيد يصحن على من لم يحل عليه الحول من الأموات،ويندبنه ويرتكبن ما يغضب الرب الغيور ،ويشاققن الله ورسوله والمؤمنين ويخالفن سنن الدين ، فيبوؤن بغضب رب العالمين (قال) تعالى : { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً } (1) .
(ومنها) صلاةغير أهل مكة العيد فى المسجد إلا لضرورة تدعو على ذلك على ما تقدم بيانه فى بحث " مكان صلاة العيد " . أما مسجد مكة فقد اتفق العلماء على أن صلاة العيد فيه أفضل كما تقدم (2) .
(ومنها) ترك التكبير فى الأوساق والطرق ليلة العيد وحال الذهاب إلى المصلى ،وعدم التكبير إلى المصلى من غير الإمام ،وتأخير الأكل عن صلاة العيد يوم الفطر وتقديمه عليها يوم الأضحى ،وترك الغسل للعيد والتطيب وغيرها مما تقدم بيانه فى بحث " ما يطلب للعيد"(3) .
(ومنها) زيادة رفع الصوت بتكبير التشريق عقب الصلاة ،زيادة على ما يسمع نفسه ومن يليه وجعله على وتية واحدة وصوت واحد ،واختصاص المؤذنين بالتكبير دون غيرهم (واما ما يفعله) بعض المؤذنين من أنه إذا سلم الإمام،كبر المؤذنون على صوت واحد دون غيرهم رافعين أصواتهم بالتكبثير مطولين فيه والناس يستمعون لهم ولا يكبرون ،كأن التكبير ما شرع إلا لهم ، وإن كبر أحد منهم يمشى على أصواتهم (فذلك) كله بدع محدثة ،لأن المشروع إنما هو أن يكبر كل إنسان لنفسه ولا يمشى على صوت غيره . افاده ابن الحاج (4) .
(ومنها) ما اعتاده بعض الناس منزيادة الأولياء والقبور بعد صلاة العيد قبل الرجوع إلى منازلهم.
(
__________
(1) سورة النساء ،الأية 115.
(2) اتقدم من ص 330- 332.
(3) تقدم ص322.
(4) انظر ص142 ج2 مدخل (التكبير إثر الصلوات أيام العيد ).(1/361)
ومنها) رجوعهم من طريق الذهاب ، فإنه خلاف السنة ، فقد تقدم أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يذهب فى طريق ويرجع من أخرى . ولم يثبت أنه زار قبراً فى ذهابه او غيابه . وهذا منتلبيس إبليس حيث يلقى لمن يقبل وسوسته حجباً يترك بها السنة ويستعمل غيرها مما يظهر له أنه عبادة وقربة.
وهو فى الواقع محرم أو بدعة . ألا ترى أن السنة فى العيد إسراع الأوبة بعد الصلاة إلى الأهل لذبح الأضحية وفرحهم بذلك. فعوض هم عن ذلك زيادة القبور وزين لهم أنها فى هذا اليوم من الب لأهلها .
(ومن البدع) المنكرة مصافحة النساء الأجنبيات لا سيما إذا كان بغير حائل ، غذ لم يثبت أن النبى صلى الله عليه وسلم صافح امرأة أجنبية (1) .
(وإذا) كان النبى صلى الله عليه وسلم – وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو المعصوم بلا نزاع – لم يضع يده فى يد امرأة اجنبية مع عصمته وأمن الفتنة ،فكيف بغيره؟
(ومن البدع) انصراف الناس عن العبادة فى هذه الأيام الفاضلة كأنها أيام لهو ولعب وتفريط وإهمال فى الواجبات ،وغقبال على المخازى والمخالفات ، فقد أطلقوا العنان فيها ،وساروا مع النفس والهوى فى سبيل الغىّ والفساد ، وعكفوا على أماكن اللهو والزور والضلال ،وصاروا يستعدون لذلك قبل العيد بايام ،ونسوا أن النبى صلى الله عليه وسلم يجعلها قاصرة على المباحات التى يتقوى بها على الطاعات ،بل أخبر أنها مع ذلك ايام يذكر الله تعالى فيها (ولذكر الله أكبر).
(
__________
(1) تقدم دليله بهامش 1 صفحة 334 فى الكلام على بيعة النساء.(1/362)
ومن) العوائد الذميمة التكلف فى اتخاذ طعام خاص يوم العيد ، والاستعداد له ولو بالتداين وغرهاق النفس كأنه سنة يستن بها (قال) ابن الحاج: والسنة فى عيد الفطر التوسعة فيه على الأهل بأى شئ كان من المأكول ،غذ لم يرد الشرع فيه بشئ معلوم . ويجوز أن يتخذ فيه طعاماً معلوماً غذ هو من المباح لكن بشرط عدم التكلف فيه ،بشرط ألا يجعل ذلك سنة يستن بها. فمن خالف ذلك فكأنه ارتكب كبيرة . وغذا وصل الأمر إلى هذا الحد ففعل ذلك بدعة، غذ أنه بسبب ذلك ينسب إلى السنة ما ليس منها(1) .
تنبيهات :
(الأول) اشتمل اصل هذا الجزء الرابع:
(أ)على ست واربعين دليلا من الكتاب منها المكرر.
)ب)على 512 اثنى عشر وخمسمائة دليل من السنة 354 (اربعة وخمسون وثلاثمائة حديث المكرر منها 23 ،ومنها 158 ثمانية وخمسون ومائة ) اثر ،المكرر منها تسعة آثار.
( الثانى ) اشتمل هامش هذا الجزء على 107 ( سبعة ومائة ) دليل من السنة منها 82 حديثاً و25 أثراً .
(الثالث) قد بين بهامش هذا الجزء أهم المراجع التى استعين بها فى تخريج أحاديثه ومراجع النصوص العلمية . فلينظر بيانها بصفحتى 375و376 من الجزء السابع من الدين الخالص.
والله تعالى ولى التوفيق. والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تم بحمد الله تعالى وحسن توفيقه الجزء الرابع من (الدين الخالص).
ويليه الجزء الخامس إن شاء الله تعالى ،وأوله (الأضحية).
دليل موضوعات الجزء الرابع من الدين الخالص
ص ... الموضوع ... ص ... الموضوع
( الأول ) مبطلات الصلاة ... رد القول بأن تارك الصلاة عمداً لا يقضيها
دليل عدم بطلانها بكلام الناسى والجاهل ... ( ب ) وقت القضاء
هل الدعاء فى الصلاة بما يشبه كلام الناسى يبطلها ؟ ... حكم التنفل ممن عليه فوائت والتراخى فى قضاء الفائتة لعذر
الجواب عما يدل على عدم بطلانها بكلام الناسى والجاهل ... لا يلزم قضاؤها فوراً
__________
(1) انظر: ص338 ج1 المدخل.(1/363)
المقتول ببدر ذو الشمالين لا ذو اليدين ... ( جـ ) القضاء لا يتكرر
هل التنحنح يبطل الصلاة ؟ ... ما يطلب ممن عليه فوائت لا يدرى عددها
حكم تنبيه المصلى بالنحنحة ... ( د ) ترتيب الفوائت
تشميتة العاطس . فتحه على غير إمامه . سلامة على غيره . رده السلام ... ما يسقطه
الأذان فى الصلاة وحكايته ... ( هـ ) كيفية القضاء . هل تقضى الفائتة فى أوقات النهى
ما يفعله المصلى إذا سمع اسم الله أو النبى صلى الله عليه وسلم
هل تفسد الصلاة بالقراءة من مصحف ؟ التنفير من النفخ فيها ؟ ... ( الثالث ) صلاة المريض
حكم الأنين والتأوه فيها ... ( 1 ) قيامه
الضحك والأكل والشرب فيها ... أحوال القيام فى الصلاة
ضابط العمل الكثير فيها ... ( 2 ) عجز المريض عن الركوع
التحول عن القبلة . ترك شرط أو ركن فيها ، سبق المأموم إمامه ... ( 3 ) عجزه عن القيام
صور زوال مسقط الركن أو الشرط ... ( 4 ) عجزه عن السجود
الاقتداء فى موضع الانفراد الانتقال من صلاة إلى أخرى ... ( 5 ) عجزه عن القعود
الانتقال من صلاة إلى أخرى ... ( 6 ) عجزه عن الاضطجاع
حكم التفكير حالها فى غيرها ... ( 7 ) عجزه عن الإيماء
( الثانى ) قضاء الفوائت ... من عجز عنه تؤخر عنه الصلاة
( أ ) حكمه . يلزم قضاء المكتوبة ولو فاتت بغير عذر ... ( 8 ) تركه القيام للتداوى
( الرابع ) الأعذار المسقطة للصلاة ( 1 ) الحيض ( 2 ) النفاس ... ( 9 ) المرض والصحة فى أثناء الصلاة
( 3 – 5 ) سقوطها بالردة والجنون والإغماء ... ( 10 ) من صلى جالساً لعذر
( 6 ) السكر بالحلال ... ( 11 ) كفارة الصلاة
( الخامس ) صلاة المسافر ... هل يكفر عن الميت وليه عما ترك بالإطعام
( 1 ) مسافة السفر
مسافته بالفرسخ والمتر ... ( 6 ) ما يوجب إتمام الصلاة
المأثور فى تقدير مسافة القصر ... أقسام الوطن
دليل جواز القصر فيما دون أربعة برد ... ما يبطله
لم يقم دليل صحيح على تحديد مسافة القصر ... ( 7 ) التطوع فى السفر
لا تسافر المرأة إلا مع محرم أو زوج ... من قال لا تصلى الرواتب فيه
((1/364)
2 ) قصر الصلاة فى السفر ... ( 8 ) الجمع بين الصلاتين فى السفر
هو واجب عند الحنفيين ... الجمع فى أحاديث جمع التأخير صورى
هو سنة مؤكدة عند مالك ... دليل عدم جواز جمع التقديم فى السفر
هو رخصة عند الشافعى وأحمد ... لا يجمع المسافر عند مالك إلا إذا جد به السير
جواب الحنفيين عما يفيد أنه رخصة ... هل يختص الجمع بين الصلاتين بالسفر الطويل
( 3 ) أقسام السفر ... ( 9 ) الجمع فى الحضر لمطر أو غيره
هل تشد الرحال لغير المساجد الثلاثة ... جواب من لم يقل بالجمع لذلك عن جمع النبى صلى الله عليه وسلم فى المدينة بلا خوف ولا مطر
( 4 ) شروط القصر ... ( 10 ) الأذان والإقامة للمجموعتين
من أين القصر ... ( 11 ) السفر يوم الجمعة
( 5 ) مدة القصر ... ( 12 ) آداب الرجوع من السفر
نية الإقامة التى تقطع السفر ... ( 13 ) سفر المرأة
المسافر يقصر مدة انتظاره قضاء حاجته ... هل لها السفر مع عبدها ؟
المذكور يقصر الصلاة عند الشافعى إلى ثمانية عشر يوماً ... القرعة بين النساء للسفر
( 7 ) كيفيتها والعدو جهة القبلة غزوة عسفان ... ( السادس ) صلاة الخوف
( 1 – 4 ) سببها . دليلها . حكمها
غزوة بنى سليم ... الحق أنها ليست خاصة بزمنه صلى الله عليه وسلم . ( 5 ) شروطها
الكيفية الثانية لصلاة الخوف والعدو فى غير جهة القبلة ... هل تجوز للبغاة وقطاع الطريق ( 6 ) أنواعها
كيف تصلى الرباعية فى الخوف ... ( السابع ) الجمعة . من لا يموت بالنفخة الأولى
بيان حديث أبى بكرة فى صلاة الخوف . هل تصلى المغرب فى الخوف ... أفضل أيام الأسبوع والسنة والأيام مطلقاً
حكم حمل السلاح فى صلاة الخوف ... ( 1 ) فضل يوم الجمعة
( 8 ) صلاة شدة الخوف . ما يغتفر فيها ... هو يوم المزيد
رد القول بتأخير الصلاة إذا اشتد الخوف ... ( 2 ) مزايا يوم الجمعة . من مات يومها لا يفتن فى قبره .
هل تبطل الصلاة بالكلام المحتاج إليه فى شدة الخوف ... الراجح أن ساعة الإجابة يوم الجمعة بعد عصرها(1/365)
الجماعة فى صلاة الخوف . طرو الأمن والخوف أثناء الصلاة . ... ( 3 ) ما يطلب ليلة الجمعة ويومها
( 1 ) القراءة والذكر
( 9 ) صلاة الطالب والمطلوب ... فضل قراءة الكهف يومها . كلام الفقهاء فى منع الجهر بالقراءة فى المسجد
جواب من لم يبح للطالب صلاة الخوف عن حديث عبد الله بن أنيس ... ( 2 ) يندب الإكثار من الصلاة والسلام على النبى يوم الجمعة
حرمة الكلام حال الخطبة ... ( 3 – 6 ) يطلب الغسل والسواك والتطيب ولبس أحسن الثياب
الكلام الأخروى لا يكره قبلها . حكم الكلام قبلها ممن لم يسمعها ... ( 7 ، 8 ) يندب الأخذ من الشعر وقص الشارب يوم الجمعة
هل يؤمر بالمعروف حال الخطبة ويرد السلام ويشمت العاطس ؟ ... ( 9 ) ما يقرأ فى صبح الجمعة
( 14 ) يندب التنفل قبل وقت الجمعة ... هل سجد النبى صلى الله عليه وسلم سجدة التلاوة فى صبح الجمعة ؟
( 15 ) من سبق إلى مكان فى المسجد أو غيره فهو أحق به
( 16 ) يندب لمن بالمسجد إذا غلبه النعاس التحول من مكانه ... ( 10 ) يندب التبكير إلى صلاة الجمعة
المراد بالساعات فى أحاديث التبكير
( 17 ) التحذير من تخطى الرقاب يوم الجمعة ... ( 11 ، 12 ، 13 ) فضل المشى للجمعة والقرب من الإمام والإنصات للخطبة
( 18 ) حكم الاحتباء فى المسجد يوم الجمعة ... ( أ ) شروط افتراضها
( 19 ) أذان الجمعة ... من لا تفترض عليهم
التذكار يوم الجمعة بدعة ... صحتها ممن لا تجب عليهم
ليس للجمعة إلا أذان واحد خارج المسجد ... هل تلزم من كان خارج بلدها ؟
الأذان داخل المسجد بدعة ... ( ب ) شروط صحتها . ( 1 ) مكانها
( 20 ) السعى إلى الجمعة . حكم البيع وقت أذانها . ( 4- صلاة الجمعة ) ... أدلة صحتها فى القرى
أدلة فرضيتها ... هل يشترط المسجد لصحتها ؟
متى فرضت ؟ أول من صلاها بالمدينة ... لم تقم فى عهد السلف إلا فى المكان واحد
أول من صلاها فى الجاهلية ... المذاهب فى حكم تعددها
الجمع بين ما ورد فى أوليتها ... رد القول بعدم تعددها مع الحاجة(1/366)
وقت فرضيتها . حكمة مشروعيتها والجماعة والعيد والحج ... لا ظهر بعدها . ما يترتب على صلاته بعدها
( 5- شروطها ) ... نصوص الشافعية على أنه لا يسن الظهر بعدها
الراجح أنها لا تصح قبل الزوال . آخر وقتها ... أمر والى مصر بعدم صلاة الظهر بعد الجمعة
ما يفعل إذا خرج وقتها وهم فيها ... ( 2 ) وقت الجمعة . مبنى ابتدالع الظهر بعدها ، ورده .
( 3 ) خطبة الجمعة . حكمها ... لم يصل الإمام الشافعى الظهر بعدها مع تعددها
رد القول باستحبابها ... كلمة لعالم شافعى فى أنه لا ظهر بعدها
شروطها ... الحاجة المبيحة لتعددها
هل يشترط فيها كونها عربية والطهارة لها ؟ ... وقتها عند أحمد
هل يشترط نيتها . لا تكفى خطبة تسمع من مذياع فى غير المسجد ... القول بأن وقتها من الضحوة الكبرى
شبهة من أقر بصحة صلاتها اعتماداً على خطبة المذياع خارج المسجد ... دليله
حكم القيام فى خطبة الجمعة ... الجواب عنه
الجلوس بين الخطبتين . قصة من انفضوا والنبى صلى الله عليه وسلم يخطب ... كم الدعاء للسلطان فيها . بدع المؤذنين حالها
أركان الخطبة ... ( 6 ) منهاج الخطابة
حكم الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم فيها ... ( 1 ) أول خطبة له صلى الله عليه وسلم
( سنن الخطبة ) ما تبدأ به ... ( 2 ) خطبة أخرى له فى الحث على التقوى
استقبال الناس الخطيب ... ( 3 ) خطبة له صلى الله عليه وسلم فى فضل القرآن ( 4 ) خطبة له فى التوبة والعمل الصالح
مكان الخطبة ، مكان المنبر . ما يعتمد عليه الخطيب ... (5) خطبة له صلى الله عليه وسلم فى الحث على العمل
الاهتمام بالخطبة ، رفع الصوت بها وتقصيرها ... ( 6 ) خطبة له صلى الله عليه وسلم
تطويل صلاة الجمعة بالنسبة للخطبة ... ( 7 ) خطبة له صلى الله عليه وسلم
آداب الخطيب مكروهات الخطبة ... ( 8 ) خطبة له صلى الله عليه وسلم
منها دعاء الخطيب قبل جلوسه على المنبر والتفاته فى الخطبة الثانية ... ( 9 ) خطبة له صلى الله عليه وسلم
حقوق الزوجين . المسلمون إخوة . ... ( 10 ) خطبة له صلى الله عليه وسلم
((1/367)
17 ) آخر خطبة له صلى الله عليه وسلم ... ( 11 ) خطبة له فى الحث على نشر العلم والإخلاص فى العمل
التخلص من التبعات ... ( 12 ) خطبة له فى تذكر الموت
( 1 ) خطبة الصديق يوم موت النبى صلى الله عليه وسلم ... ( 13 ) خطبة له صلى الله عليه وسلم فى فضل رمضان
( 2 ) خطبة له بعد البيعة ... ( 14 ) خطبة له صلى الله عليه وسلم فى وصف الدنيا . ( 15 ) خطبة له فى التنفير من الدنيا
( 3 ) خطبة له فى يوم غد البيعة ... ( 16 ) خطبة حجة الوداع
( 4 ) خطبة له فى الإخلاص ... ( 4 ) خطبة جامعة لسيدنا على رضى الله عنه
( 5 ) خطبة له فى التقوى والامتثال ... ( 5 ) خطبة له فى الرجاء والخوف والتعليم والصبر
( 6 ) خطبة جامعة له رضى الله عنه ... كلمة له فى الرضا والتوبة ووصف الرب تعالى
( 7 ) خطبة له فى الحث على العمل والإخلاص ... وصيتان جامعتان له رضى الله عنه
( 1 ) خطبة للفارق فى التقوى والأمر بالمعروف ... آخر خطبة لسيدنا الحسين . وصية لوالده رضى الله عنهما
( 2 ) خطبة جامعة له ... الحث على التقوى والتحذير من الدنيا . قتل الحسين رضى الله عنه
( 3 ) خطبة جامعة له أيضاً ... خطبة لابن مسعود رضى الله عنه
( 4 ) خطبة له فى وصف الدنيا ... خطبة لمعاوية فى التقوى
( 1 ) خطبة لعلى رضى الله عنه ... خطبة لابن الزبير فى الحث على العمل
( 2 ) خطبة له فى الحث على العمل ... خطبة لسحبان بن زفر فى العمل للآخرة
( 3 ) خطبة له فى التقوى ... خطبة لعبد الله بن مروان
التحذير من الابتداع والكذب ... ( 1 ) خطبة لعمر بن عبد العزيز فى النصيحة والتوبة
التنفير من الغيبة والحث على التراحم والتعاون والتقوى ... ( 2 ) خطبة له فى الاتباع
خطبة لهارون الرشيد ... ( 3 ) آخر خطبة له
الحث على التقوى . يوم التغابن ... خطبة للحسن البصرى
يوم التلاق والتناد . أقسام الأمانة ... خطبة لخالد القشيرى فى المكارم
الحث على الوفاء بالوعد وإقام الصلاة وأداء الزكاة ... خطبة لواصل بن عطاء
خطبة للمأمون ... خطبة للمهدى(1/368)
مغزى الخطب السابقة ... وعيد المفرطين المتكاسلين . النعيم المسئول عنه يوم الحساب
هدى الصدر الأول فى الخطابة ... ما تضمنته سورة التكاثر من النصائح والأحكام
( 4 ) الجماعة فى الجمعة ... ( 11 ) متى يصلى الظهر من لم تلزمه الجمعة ؟
دليل أن أقل عددها ثلاثة سوى الإمام أو اثنى عشر ... التحذير من تركها
رد القول بأنها لا تصح إلا باثنى عشر أو أربعين ... ( 13 ) اجماع العيد والجمعة
رد القول بأنها لا تصح إلا بخمسين ... الراجح سقوط الجمعة عمن صلى العيد يومها ولو إماماً
الراجح أنها تنعقد بثلاثة غير الإمام ... ( 14 ) كفارة ترك الجمعة لغير عذر
المذاهب فى انصراف المأمومين فى الجمعة قبل الصلاة وفى أثنائها ... ( 15 ) راتبة الجمعة
( 7 ) إمام الجمعة ... عدد راتبتها البعدية
شرطه عند غير الحنفيين ... المذاهب فى أنه هل للجمعة سنة قبلية ؟
( 8 ) كيفية صلاة الجمعة ... رد أدلة من قال للجمعة راتبة قبلية
دليل ما يقرأ فيها ... رد ما روى أنه صلى الله عليه وسلم صلى قبل الجمعة ركعتين
( 9 ) ما تدرك به الجمعة ... كلام الفقهاء فى سنة الجمعة القبلية الرد على من أثبتها
كيف ينوى من أدرك دون ركعة منها ... ( 16 ) بدع الجمعة
ما يفعل من لم يتمكن من الجسود على ظهر ولا على غيره ... منها الترقية
ما يفعل من زوحم عن شئ من الصلاة ... رد دعوى استحسانها
( 10 ) ما يقال بعد الصلاة الجمعة ... فتوى الشيخ محمد عبده فى بعض بدع الجمعة
قراءة الإخلاص يوم الجمعة ألف مرة بدعة ... فتوى أخرى له
( الثامن ) صلاة العيدين ... من البدع تأخير داخل المسجد التحية والتمسح بالخطيب
فضل العيد ( 1 ) مشروعية صلاته ... إبطال بعض بدع الجمعة
( 2 ) حكم صلاة العيدين ... اعتياد المصافحة بعد الجمعة وباقى الصلوات بدعة
( 3 ) من تطلب منه صلاة العيد ... ما يطلب فى خطبة العيد
( 4 ) خروج النساء إلى العيد ... بايع صلى الله عليه وسلم النساء بلا مصافحة . بيعة العقبة
( 5 ) ما يطلب للعيد ... متى يجوز للمرأة أخذ شئ من مال زوجها بلا عمله ؟(1/369)
حكم التكبير ليلة العيد ... ما ورد فى العزل . حكم إسقاط الحمل
غسل العيد . التطيب والاستياك فيه ... لا تبتدأ خطبة العيد بالتكبير
لبس أحسن الثياب فيه ... مراتب تغيير المنكر
الفطر على تمر يوم الفطر . تأخيره يوم الأضحى ... التدرج فى إنكاره . شروط الآمر والناهى
التبكير إلى المصلى . التكبير يوم العيد حال الذهاب إلى المصلى ... ( 13 ) الجماعة فى صلاة العيد
( 6 ) وقت صلاة العيد ... ( 14 ) تأخير صلاة العيد لعذر
( 7 ) مكان صلاة العيد ... حكم قضاء صلاة العيد
صلاة العيد فى المسجد لعذر ... ( 15 ) التهنئة بالعيد ، التهنئة بدرجة عالية
صلاة العيد فى مكة بالمسجد ... التهنئة بالتوبة والبرء من المرض
( 8 ) ليس لصلاة العيد نداء ... التهنئة بالحج والنكاح والمولود
( 9 ) التكبير فى صلاة العيد ... التهنئة برمضان والثوب الجديد والصباح والمساء
كيفية صلاة العيد عند الحنفيين ... رد ما قيل إنه صلى الله عليه وسلم قال : طاب حمامكما
حكم تكبير صلاة العيد ... تكره التهنئة بعيد مبارك يوم مبارك
الفصل بين تكبيراته . حكم رفع اليدين حال التكبير ... ( 16 ) الرجوع بعد صلاة العيد
( 10 ) القراءة فى صلاة العيد ... ( 17 ) هل للعد راتبة ؟
( 11 ) كيفية صلاة العيد ... الجمع بين ما ورد فى التنفل بعد صلاة العيد
تقديمها عل الخطبة ... ( 18 ) تكبير التشريق : ( 1 ) ( حكمه )
( 12 ) خطبة العيد ... ( 2 ) وقته
( 3 ) محله ... الاجتماع للرقص واللهو ليلة العيد بدعة منكرة
متى يأتى به المسبوق . ( 4 ) كيفيته ... من البدع زيادة نور المساجد فى المواسم وتجديد الحزن ليلة العيد
( 19 ) اللعب والغناء يوم العيد ... من البدع رفع الصوت تكبير التشريق وزيارة القبور بعد صلاة العيد
حكم نظر المرأة إلى غير عورة الرجل ... التحذير من التكلف فى العيد . جملة أدلة هذا الجزء من الكتاب والسنة
ضرب الدف والغناء فى العيد وقعه بعاث ... دليل موضوعات الجزء الرابع من الدين الخالص
الرد على من أباح الغناء وسماعه
( 20 ) بدع العيد(1/370)
الخروج ليلة العيد إلى المقابر بدعة
الدين الخالص
... كتاب جليل له من اسمه أكبر نصيب . جمل الشيخ الإمام رحمه الله على تأليفه ما فشا فى الناس من تقليد المتأخرين والتشبث بآرائهم . بين الناس فيه طريق عبادتهم مع بيان أدلة كل حكم ، معتمداً على كتاب الله تعالى وعلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وعلم السلف الصالح . بدأ الكتاب بنبذة بين فيها ما يجب على المكلف معرفته من علم التوحيد حتى تكون صلاته وعبادته قائمة على أساس قويم من الإيمان والتوحيد . وعلى الملم بشئ من الفقه أن يقرأ بحثاً من أبحاث هذا الكتاب ليرى التدقيق العلمى والتحقيق العملى ، ويجد نفسه أمام الأحكام تأتى فى سهولة ويسر . وقد تم طبع تسعة أجزاء من هذا الكتاب وأعيد طبعها مراراً بالإضافة إلى مؤلفات الإمامين الراحلين الأخرى . نسأل الله تعالى أن يجعل ذلك خالصاً لوجهه الكريم . وهو ولى الهداية والتوفيق وله الحمد أولا وآخراً . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ىله وصحبه ومن اهتدى بهديه .(1/371)
الدين الخالص
أو
إرشاد الخلق إلى دين الحق
وهو آخر كتاب وضع أصله الشيخ الإمام محيي السنة ومميت البدعة
صاحب الفضيلة والإرشاد المرحوم السيد
محمود محمد خطاب السّبكى
المتوفى فى الرابع عشر من ربيع الاول سنة 1352هـ -7يوليو سنة 1933م
عمه الله تعالى بالرحمة والرضوان وأسكنه عالى الجنان
الجزء الخامس
عنى بنتقيحه وتصحيحه وتنسيقه والتعليق عليه وضبط الآيات والأحاديث وترقيمها وبيان حالها وغريبها ومراجعها خليفة الشيخ الامام المرحوم السيد
أمين محمود خطاب
المتوفى فى السابع والعشرين من ذى القعدة 1387هـ - 26 فبراير 1968م رحمه الله رحمة واسعة وجعل قبره
روضة من رياض الجنة وحشره مع الصالحين
حقوق الطبع محفوظة له
الطبعة الرابعة 1411هـ - 1991 م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله الذى أَنزل على عبده الكتاب ، والصلاة والسلام على سَيَّد الأَحباب وعلى آله والأَصحاب . هذا والكلام هنا في أَربعة أَصول وبعض الخامس .
(الأول) الأضحية
... هي بضَمّ الهمزة وكَسْرها وتخفيف الياءِ وتشديدها (1) . وهى لُغة اسْمُ لِمَا يُذْبح أَيام الأَضْحَى . وشَرْعاً اسْمُ لِمَا يُذْبح أَيام الأَضْحَى . وشَرْعاً اْسمُ لِمَا يُذْبح من الإِبل أَو البقر أَو الغنم في أَيام النَّحْر تَقَرُّباً إلى تعالى بِنِيَّة الأُضْحِية ، وشروط يأْتى بيانها .
(
__________
(1) أصله أضحوية ، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما ساكنة ، فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء ، وكسرت الحاء لمناسبة الياء . ويقال : ضحية بفتح الضاد وكسرها مع شد الياء . وأضحاة بفتح الهمزة وكسرها ، ففيها ثماني لغات .(1/1)
شُرعَتْ ) فى السنة الثانية من الهجرة . وهى ثابتة بالكتاب والسُّنة وإِجماع الأُمَّة . قال الله تعالى : " فَضَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ " . على أَنَّ المراد بالصلاة صلاة العيد ، وبالنَّحْر نَحرِ الأُضْحِيَة . ( وقال ) أَنَس بن مالك : ضَحَّى النبىّ صلى الله عليه وسلم بكَبْشَيْن أَمْلَحَيْن أَقْرَنَيْن ذبحهما بيده وسَمَّى وكَبَّر ووضع رِجْله على صِفَاحهما . أَخرجه السبعة والدارمى . وقال الترمذى : هذا حديث حَسَنُ صحيح (1) { 1 } .
(
__________
(1) ص 62ج 13 الفتح الربانى ، وص 17ج 10 فتح البارى ( التكبير عند الذبح ) وص 19ج 13 نووى مسلم ( استجباب الضحية .. ) وص 11 ج 3 تكملة الالمنهل ( ما يستحب من الضحايا ) وص 204ج 2 مجتبى ، وص 353ج 2 تحفة الأحوذى ، وص 140ج 2 سنن ابن ماجه، وص 75ج2 سنن الدارمى (السنة في الأصحية) . و(أملحين) تثنية أملح ، وهو الذي بياضه أكثر من سواده ، وقيل هو النقى البياض ( وسمى وكبر ( أى قال باسم الله والله أكبر قبل الذبح . و(الصفاح) بكسر ففتح : جمع صفح بفتح فسكون وهو الجانب . و اتفقوا على أنه يسن إضجاعها على الجانب الأيسر فيضع رجله اليمنى على الجانب الأيمن ليكون أسهل عليه في أخذ السكين باليمين وإمساك رأس الذبيحة بيده اليسرى .(1/2)
وحِكْمة ) مشروعيتها شُكْر الله ومُوَاساةِ الغنىّ للفقير وإِحياءِ سُنَّة سِيِّدنا إِبراهيم عليه وعلى نبينا الصَّلاة والسلام . والتذكِير بنعمة فِدَاءِ وَلَدِه بِذِبحٍ عظيم ( وإِلى ) هذا يُشِير حديث زَيْدُ بن أَرْقَم قال : قال أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسولَ الله ، ما هذه الأَضَاحِى ؟ قال : سُنَّة أَبيكُم إِبراهيم . قالوا : فما لنا فيها يا رسول الله ؟ قال : بِكٌلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَة . قالوا : فالصُّوف يا رسول الله . قال : بكلَّ شَعْرَةٍ من الصُّوف حَسَنة . أَخرجه أَحمد وابن ماجه والحاكم . وقال : صحيح الإِسناد(1) { 2 } .
( ورد ) بأَنَّ في سنده عائذ الله المجاشعى . قال البخارى : لا يَصِحّ حديثه ووثقه ابن حبان . وفيه أَيضاً أَبو داود نُفَيْع بن الحارث ، متروك ضعيف متهم بالوضع .
هذا . والكلام فى الأُضْحِيَة ينحصر في ستة عشر فرعاً .
1 – فضلها :
__________
(1) ص 57 ج 13 الفتح الربانى ، وص 142ج 2 سنن ابن ماجه ( ثواب الأضحية ) ، وص 389ج 2 مستدرك .(1/3)
قد وَرَدَ فى فَضْل الأُضْحِية عدة أَحاديث ( منها ) حديث عائشة : أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال : ما عَمِلَ آدمىَّ من عمل يوم النَّحْرِ أَحَبَّ إِلى الله من إِهْرَاقِ الدم ، إِنه ليأْتى يوم القيامة بقرونها وأَشعارِها وأَظلافِها وإِنَّ الدَّمَ ليٌَعُ من الله بمكانٍ قبل أَن يقع من الأَرضِ ، فَطِيبُوا بها نَفْساً . أَخرجه ابن ماجه والحاكم . وقال : صحيح الإِسناد . وردّ بأَنَّ فيه سُليمان ابن يزيد . قال الذهبى : واهٍ وبعضهم تركه . وأَخرجه الترمذى وقال : ها حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث هشام بن عُروة إِلاَّ من هذا الوجه(1) { 3 }
( وحديث ) ابن عباس أَ نَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال فى يوم أَضْحَى : ما عَمِلَ آدمىّ فى هذا اليوم أَفْضَلَ من دَمٍ يُهْرَاق إِلاَّ أَنْ يكون رَحِماً تُوصَل . أَخرجه الطبرانى في الكبير . وفى سنده يحي بن حسن الخشنى ، وهو ضعيف وقد وثقه جماعة (2) { 4 } .
(
__________
(1) ص 141 ج 2 سنن ابن ماجه ( ثواب الأضحية ) وص 221 ج 4 مستدرك . ولفظه : ما تقرب إلى الله يوم النحر بشئ هو أحب ... وص 352 ج 2 تحفة الأحوذى ( فضل الأضحية ) و ( إنه ليأتى ) أى الحيوان المذبوح . وأنث الضمير في قرونها وما بعده باعتبار أن المذبوح أضحية ( وإن الدم ليقع من الله .. إلخ ) كناية عن قبول الله تعالى عمل المضحى . والمعنى أنه يؤتى بالأضحية يوم القيامة كما كانت في الدنيا ، فتوضع في ميزان حسنات صاحبها فيكون له بكل عضو منها أجر ( وعن ) على كرم الله وجهه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : أيها الناس ضحوا واحتسبوا بدمائها ، فإن وقع في الأرض فإنه الدم وقع الأرض فإنه يقع في حرز الله عز وجل . أخرجه الطبرانى في الأوسط ، وفى سنده عمرو بن الحصين العقيلى وهو متروك الحديث [ 5 ] ص 17 ج 4 مجمع الزوائد ( فضل الأضحية ) .
(2) ص 18 منه .(1/4)
والأَحاديث ) فى هذا كثيرة ، وهى وإِنْ كانت ضعيفة (1) يُقَوِّى بعضها بعضاً ، وهى تدل على فَضْل التَّضْحِية ، وأَنها أَحَبُّ الأَعمال إلى الله يوم النَّحْر ، وأَنها تأْتى يوم القيامة على الصِّفَة التى ذُبحت عليها ، ويقَعُ دَمُها بمكانٍ من القبول أَن يقَعَ على الأَرض ، وأَنها سُنَّة سيِّدنا إِبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وأَنَّ للمُضَحِّى بكل شَعَرَاتِ أُضْحِيَتِه حَسَنة .
2 – حكم التضحية :
هى سُنَّة مؤكَّدَة فى حق الموسِر عند الجمهور ( منهم ) مالك والشافعى وأَحمد وإِسحاق . وروى عن أَبى يوسف ، لما تَقَدَّم " ولحديث " أُمّ سَلَمة : أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال : إِذا دَخَلَت العشر وأَراد أَحَدكُم أَن يُضَحَّى فلآ يمسّ من شَعْره وبَشَره شيئاً . أَخرجه الشافعى وأَحمد والنسائى ومسلم وابن ماجه(2){ 6 } ، وأَخرجه الترمذى بلفظ : مَنْ رَأَى هِلآل ذِى الحِجَّة وأَن يُضَحَّى فلآ يأْخُذَنَّ من شَعْره ولا من أَظفاره . وقال : هذا حديث حسن (3) {7} . قال الشافعى : هذا دليل على أَن التَّضْحية ليست بواجبة ، لقوله صلى الله عليه وسلم ( وأراد ) فجعله مفوضاً إِلى إِرادته ، ولو كانت واجبة لقال : فلآ يمسّ من شَعْره حتى يُضَحِّى .
(
__________
(1) قال ابن العربى فى شرح الترمذى : ليس فى فضل الأضحية حديث صحيح . اه .
(2) ص 83 ج 2 بدائع المنن ، وص 289 ج مسند أحمد ( حديث أم سلمة زوج النبى صلى الله عليه وسلم ) وص 138 ج 13 نووى مسلم ، وص 202 ج 2 مجتبى ( الضحايا ) ، وص 144 ج 2 سنن ابن ماجه .
(3) ص 365 ج 2 تحفة الأحوذى ( باب ) آخر الأضاحى .(1/5)
وعن ) حَجَّاج عن جَبلة بن سُحَيم أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ ابن عٌمر عن الأُضْحية أَوَاجِبَةُ هى ؟ فقال : ضَحَّى رسول الله عليه وسلم والمسلمون ، فأَعادها عليه . فقال أَتعقل ؟ ضَحَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون. أَخرجه الترمذى وقال : هذا حديث حسن . والعمل على هذا عند أَهل العِلْم أَنَّ الأُضْحِيَة ليست بواجبة ولكنها سُنَّة
من سُنن النبىّ صلى الله عليه وسلم يُسْتَحَبَّ أَنْ يُعْمَل بها (1) {8} .
( وقال ) أَبو حنيفة ومحمد والأَوْزاعى والليث : الأُضْحِية عملاً لا اعتقاداً على المسِر . وروى عن مالك: ورخَّص للحاجّ فى تركها بمنى . واستدلوا على وجوبها :
( ا ) " بحديث " أَبى هريرة أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال : مَنْ كان له سعة ولم يُضَحّ فلآ يَقْرَبَنَّ مصلانا . أَخرجه أحمد وابن ماجه والدار قطنى والحاكم وصححه . ورد بأَنَّ فى سنده عبد الله بن عياش تَكَلَّم فيه بعض الحفَّاظ (2) {9} . وقال الترمذى : الصَّحيح أَنه موقوف على أَبى هريرة ( وقال ) الحافظ : رجاله ثقات ، لكن اختلف فى رفعه ووقفه . والموقوف أَشبه بالصواب ، ومع ذلك فليس صريحاً فى الإِيجاب(3) .
(
__________
(1) ص 358 منه ، وأخرجه ابن ماجه عن محمد بن سيرين قال : سألت ابن عمر عن الضحايا أواجبة هى ؟ قال : ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من بعده وجرت به السنة . وتحسين الترمذى للحديث مردود بأن فى سنده الحجاج بن أرطاة وهو مدلس وقد رواه بالعنعنة .
(2) ص 58 ج 13 الفتح الربانى ، وص 141 ج 2 سنن ابن ماجه ( الأضاحى واجبة هى أم لا ؟ ) وص 541 سنن الدارقطنى ، وص 389 ج 2 مستدرك .
(3) ص 2 ج 10 فتح البارى . الشرح ( سنة الأضحية ) .(1/6)
ب ) " بحديث " أَبى رملة عن مِخْنَف بن سُلَيم قال : كٌنَّا وُقُوفاً عند النبىِّ صلى الله عليه وسلم بعرفة ، فقال : يأَيُّهَا الناس إِنَّ على كل أَهل بَيْتٍ فى كل عام ضحية ( الحديث ) أَخرجه أَحمد والأََربعة . وقال الترمذى : هذا حديث حسن غريب(1){10} . وقال الخطابى : هذا الحديث ضعيف ، وأَبو رملة مجهول . وقال الحافظ : لا حُجَّة فيه لأَنَّ الصيغة ليست صريحة فى الوجوب المطلق . وقد ذكر مع الضحية العتيرة . وليست بواجبة عند مَنْ قال بوجوب الأُضْحِية (2) .
(جـ )" بحديث " جُنْدب بن عبد الله بن سفيان البجلى قال : شَهِدْتُ النبىَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم النَّحْر فقال : مَنْ ذَبَحَ قبل أَن يُصَلَّى فليعد مكانها أُخْرَى ، ومَنْ لم يَذْبَح فَلْيَذْبَح . أَخرجه الشيخان (3){11} . ( وجه ) الدلالة أَنه أَمْر . والأَمْر للوجوب .
(وأَجاب ) الجمهور بأَنَّ الحديثين الأَوَّلين ضعيفان ، فلا يحتج بهما ، والأَمر في الحديث الشيخين محمول على الاستحباب جمعاً بين الأَدِلَّة .
( قال ) الإِمام محمد الصَّنعانى : ولضعف أَدِلَّة الوجوب قال الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاءِ : إِنها سُنَّة مؤكَّدَة ، بل قال ابن حزم : لا يصحّ عن أَحد من الصحابة أَنها واجبة (4) .
3 – شروط الأضحية :
هى قسمان : شرط طلب ، وشرط صحة :
(
__________
(1) ص 116 ج 13 الفتح الربانى ، وص 2 ج تكملة المنهل ( إيجاب الأضاحى ) ، وص 189 ج مجتبى ( الفرع والعتيرة ) ويأتى بيانهما إن شاء الله تعالى ، وص 141 ج 2 سنن ابن ماجه ، وص 363 ج 2 تحفة الأحوذى .
(2) ص 3 ج 10 فتح البارى .
(3) ص 15 منه ( من ذبح قبل الصلاة أعاد ) ، وص 111 ج 13 نووى مسلم ( وقت الأضاحى ) .
(4) ص 122 ج 4 سبل السلام ( باب الأضاحى ) .(1/7)
ا ) فشروط طلبها المتفق عليها : الإِسلام والحرية واليسار ، فلا تطلب من كافر ، لأَنها قربة وهو ليس من أَهْلها ، ولا من رقيق ولو مكاتباً ، لأَنه ليس أَهلاً للملك ، وهى قربة مالية لا تتأَدَّى إِلاَّ بالملك ، ولا تطلب من غير مُسِر ، لأَنَّ العبادة لا تُطْلَب إِلاَّ من قادِرٍ عليها :
" لآ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُ سْعَهَا " .
هذا ، والموسِر الذى تُطْلَب منه التَّضْحِية ، هو عند الحنفيين مَنْ يملك نِصَاباً من أَنْصِبة الزكاة أَو قيمته فاضِلاً عن حوائجه الأَصلية من مسكن وملبس ومحوهما . ولو كان له عقار يستغلَّه ، فَقِيلَ : تلزمه التَّضْحِية لو قيمته نِصَاباً . وقيل : لو يدخل منه قوت سَنَة . وقيل : لو فضل منه نِصَاب بعد قوتِ شهر . وإِن كان العقار وقفاً تلزمه الأُضْحية إِنْ دخل له منه قيمة النصِّاب وقت التَّضْحية .
( وقالت ) المالكية : الموسِر الذى تُطْلَبُ منه التَّضْحِية هو الذى لا يحتاج إِلى ثمنها فى ضَرُوريَّاته فى عامِه . فإِذا احتاجَ إِلى ثمنها فى عامِه فلا تُسَنَّ . و إِن استطاع أَن يستدين استدان . وقيل : لا يَسْتَدِين .
( وقالت ) الشافعية : الموسِر هو مَنْ يَقْدِر على ثمنها فاضِلاً عن مئُونَتِه ومئُونة مَنْ تلزمه نفقتهم يوم الْعِيد وأَيام التشريق .
( وقالت ) الحنبلية : الموسِر هو مَنْ يَقْدِر على ثمنها ولو بالدَّيْن إِذا كان يقدر على وفاءِ دَيْنِه .
( ويشترط ) لوجوبها عند الحنفيين أَيضاً الإِقامة ، فلا تَجِبُ على المسافر دفعاً للمشقة ، وإِن تَطَوَّع بها أَجْزَأَتْهُ ، وإِذا اشتراها ثم سافر قبل العيد فله بَيْعها . وكذا لو سافر بعد دخول وقتها قبل أَن يذبح . وتَجِبُ على الحاجّ المكى .
((1/8)
وقال ) غير الحنفيين : لآ يُشْتَرَط لِسُنيتها الإِقامة ، لكن يُشْتَرط عند المالكية أَلاَّ يكُون حَاجَّا ، فلا تُسَنّ للحاجّ عندهم ولو كان مكِّيًّا ، واستدل مَنْ لم يشترط الإِقامة بأَدِلَّة ( منها ) ما روى جبير بن نفير عن ثوبان قال : ذَبَحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ضَحِيَّته ، ثم قال : يا ثوبان أَصْلِحْ لحم هذه ، فلم أَزَلْ أُطْعمه منها حتى قَدِمَ المدينة . أَخرجه أَبو داود وأَحمد ومسلم (1) {12} .
( ويشترط ) لطلبها عند الشافعية ومحمد بن الحسن التكليف ، فلا تُطْلَب فى مال الصَّغير والمجنون .
( وقال ) غيرهم : تُطْلَبُ فى ما لهما إِن كان وإِلاَّ فلا تُطْلَب من وليهما . قال أَبو الفرج عبد الرحمن بن قدامة : روى عن أَحمد في اليتيم يُضَحَّى عنه وَلِيِّه إِذا كان موسِراً . وهذا على وجه التَّوسِعَة عليه لا على سبيل
الإِيجاب ، فإِنْ نَذرَها وَجَبَتْ لقول النبىّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ نَذرَ أَن يُطِيع الله فَلْيُطِعْه وهذا نذر طاعة (2){13}.
(
__________
(1) ص 39 ج 3 تكملة المنهل ( المسافر يضحى ) وباقى المراجع بهامش (1) ص 40 منه .
(2) ص 581 ج 3 الشرح الكبير ( الأضحية سنة مؤكدة لا تجب إلا بالنذر ) والحديث أخرجه السبعة إلا مسلماً عن عائشة . وتمامه : ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه ص 36 ج 6 مسند أحمد ، وص 464 ج 11 فتح البارى ( النذر فى الطاعة ) وص 232 ج 3 سنن أبى داود ( النذر فى المعصية ) وص 142 ج 2 مجتبى ، وص 33 ج 1 – ابن ماجه .(1/9)
وعن ) أَبى حنيفة أَن الأُضْحِية تَجِبُ على الوالد لولده غير المكلف وكذا وَلَد ولده عند فَقْد أَبيه . والفَتْوَى على الأَوَّل . ولو ضَحَّى عن أَولاده المكلفين وزوجته لا يجوز إِلاَّ بإِذنهم ( وعن ) أَبى يوسف أَنه يَجُوز استحسانً ، لجريان العادة بتضْحِية الأَب عنهم ( قال النووى ) فى المجموع : مذهبنا أَنه لا يجوز لولىّ اليتيم والسَّفيه أَن يُضَحِّى عنهما من مالهمَا ، لأَنه مأْمور بالاحتياط لمالهما ، ممنوع من التبرع به . والأُضْحِية تبرع ( وقال ) أَبو حنيفة : يُضَحّى من مال اليتيم والسّفِيه . ( وقال ) مالك : يُضَحّى عنه – إِن كان له ثلاثون دِيناراً – بشاة بنصف دينار ونحوه ( وأَنكر ) ابن المنذر على أَبى حنيفة فقال : يَمْنع خروج الزكاة التى فرَضَها الله من مال اليتيم ، ويأْمُر بإِخراج الأُضْحِية التى ليست بفرض . اهـ .
( ب ) ( ويُشْتَرط ) لصِحة الأُضَحِية خمسة شروط :
((1/10)
الأَوَّل ) النِّيَّة لقوله تعالى : " وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ " . " ولحديث " إِنمَا الأَعمال بالنيات ( قال ) النووى فى المجموع والنِّيَّة شرط لصِحَّة التضَّحِية ، والأَصَحّ جواز تقديمها على وقت الذَّبح كما فى الصَّوْم والزكاة . واوقال : جعلت هذه الشاة ضَحِيَّة ، فلا يكفيه هذا التعيين عن النِّيَّة عند الأَكْثر ، لأَنَّ التَّضْحِية قُربة فى نفسها فوجبت فيها النِّيَّة ( ورجح ) إِمام الحرمين والغزالى الاكتفاءَ لتضمن التعيين النِّية ، حتى لو ذبحها يعتقدها شاةَ لحم ، أَوْ ذبحها لِصّ ، وقعت الموقع . والمذهب الأَول . اهـ بتصرف (1) ، ( ثم قال ) : إِذا اشترى شاة ونواها أُضْحِية ملكها ولا تَصِير أُضْحِية بمجرد النِّيَّة ، بل لا يلزمه ذبحها حتى ينذره بالقول . هذا مذهبنا وبه قال أَحمد وداود ( وقال ) أَبو حنيفة ومالك : تَصِير أُضْحِية ويلزمه التَّضْحية بها بمجرد النِّية (2) .
(
__________
(1) ص 405 ج 8 شرح المهذب .
(2) ص 425 منه .(1/11)
الثانى ) يُشْتَرط أَن يكون المضَحَّى به من النَّعَم ( أَى الإِبل والبقر والغنم ) لقوله تعالى : " وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُروا اسْمَ اللهِ عَلَى مَارَزَقَهُمْ مِنْ بَهيمَةِ اْلأَنْعَام " (1) . ولقول ابن شهاب : ما نَحَرَ النبىّ صلى الله عليه وسلم عنه وعن أَهل بيته إِلاَّ بَدَنة واحدة ، أَوْ بقَرَة واحدة . أَخرجه مالك(2){14} . ولحديث أَبى سعيد الخدرىّ أضنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم كان يُضَحَّى بكَبْش أَقْرَنَ فَحِيل ، يأْكُل فى سَوَاد ويمشِى فى سَوَاد وينظر فى سَوَاد . أَخرجه الأَربعة . وقال الترمذى : هذا حديث حسن صحيح غريب(3) {15} .
(
__________
(1) سورة الحج : الآية 34 . و ( منسكاً ) بفتح السين مصدر ، أى ذبحاً ، وقرئ بكسر السين ، يعنى مذبحاً وهو مكان الذبح .
(2) ص 350 ج 2 زرقانى الموطإ ( الشركة فى الضحايا وعن كم تذبح البقرة ؟ ) .
(3) ص 13 ج 3 تكملة المنهل ( ما يستحب من الضحايا ) وباقي المراجع بهامش (1) ص 14 منه . و ( فحيل ) أى كريم منجب كامل الخلقة لم تقطع أنثياه ( يأكل فى سواد ) أى فمه أسود ( ويمشى فى سواد ) أى قوائمه سود مع بياض سائره ( وينظر فى سواد ) أى حوالى عينية سواد .(1/12)
فلا تجزئُ ) التَّضْحِية بغير النَّعم عند الجمهور ( قال النووى ) أَجمع العلماءُ على أَنه لا تُجزئ الضحية بغير الإِبل والبقر والغنم ، إِلاَّ ما حكاه ابن المنذر عن الحسن بن صالح أنه قال : تَجُوزُ التضحية ببقرة الوحش عن سبعة وبالظَّبى عن واحد . وبه قال داود فى بقرة الوحش(1) . ( روى ) عُبيد الله بن عُمير عن ابن عباس أَنه أَعطى مَوْلًى له دِرْهَمَيْن فقال : اشْتَرِ بِهما لحماً ومَنْ لَقِيَكَ فقُلْ له هذه أُضْحِية ابن عباس(2) {1} . ( وقال ) سويد بن غفلة قال لى بلال : ما كنت أُبالى لو ضحيت بديك . ( الأَثر ) أَخرجهما سعيد بن منصور(3) {2} ومثله روى عن أَبى هريرة . والروايات عن الصحابة فى هذا المعنى كثيرة .
( الثالث ) يُشترط فى المضَحَّى به اَلاَّ يكون جذعاً من غير الضأْن ، فيجزئُ فيها الجذع من الضأْن وهو ما تم له ستة فأَكثر وكان سميناً بحيث لو خلط بالثنايا لا يمكن تمييزه من بُعد " لقول " عقبة بن عامر الجهنى : ضَحَّيْنَا مع النبى صلى عليه وسلم بجذع من الضَّأْن . أَخرجه النسائى بسند قوى(4) {16} " ولحديث " أَبى هريرة أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم قال : نعمت الأُضْحِية الجِذْع من الضَّأْن . أَخرجه أَحمد والترمذى وقال : هذا حديث غريب . وقال الحافظ : فى سنده ضعف(5) . {17}
( ويجزئُ ) فيها أَيضاً الثنى من الكل وهو ابن خمس من الإِبل اتفاقاً وابن حولين من البقر والجاموس عند الثلاثة ( وقالت ) المالكية : الثنى من البقر ماله ثلاث سنين ودخل فى الرابعة .
(
__________
(1) ص 117 ج 13 شرح مسلم ( سن الأضحية ) .
(2) ص 358 ج 7 المحل لابن حزم ( الأضاحى ) .
(3) ص 358 ج 7 المحل لابن حزم ( الأضاحى ) .
(4) ص 204 ج 2 مجتبى ( المسنة والجذعة ) .
(5) ص 72 ج 13 الفتح الربانى ، وص 355 ج 2 نحفة الأحوذى ( الجذع من الضأن فى الأضاحى ) .(1/13)
والثنى ) من الضَّأْن ماله سنة ودخل فى الثانية اتفاقاً ، وكذا من المعز عند الثلاثة خلافاً للشافعية حيث قالوا فى المشهور عنهم : الثنى من من المعز ماله سنتان ودخل فى الثالة .
( ودليل ) ذلك حديث جابر بن عبد الله أَنَّ النبى صلى الله عليه وسلم قال : لا تَذْبَحُوا إِلاَّ مُسِنَّة إِلاَّ أَنْ يُعْسَر عليكُم فتذبحوا جذعة من الضَّأْن . أَخرجه أَحمد ومسلم والأَربعة إِلاَّ الترمذى(1) {18} . وفى سنده أَبو الزبير مدلس.
( وظاهره ) أَن الجذع مِنَ الضَّأْن لا يُجْزئُ إِلاَّ إِذا تَعَسَّرَت المسِنَّة . وليس كذلك ، بل الجذع من الضأْن مجزئُ مع وجود المسنَّة ، لإِطلاق قوله صلى الله عليه وسلم : نعمت الأُضْحِية الجذع من الضَّأْن(2) " ولحديث " أُمّ بلال بنت هلال عن أَبيها أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يجوز الجذع من الضَّأْن ضَحِيَّة . أَخرجه الشافعى وأَحمد وابن ماجه (3) {19} . وفى سنده أُمّ محمد بنت أَبى يحي مجهولة .
( ولقول ) عقبة بن عامر : قَسَم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أَصحابه ضحايا فصارت لعقبة جذعة . فقلت : يا رسول الله أَصابنى جذع . فقال : ضَحّ به . أَخرجه أَحمد والشيخان والنسائى(4) {20} . ولذا قال عامة العلماءِ : الجذع من الضَّأْن يجزئُ مع تيسر الثنى .
(
__________
(1) ص 14 ج 3 تكملة المنهل وباقى المراجع بها مش 2 ص 16 منه .
(2) تقدم رقم 17 ص 12 .
(3) ص 84 ج 2 بدائع المنن ، وص 75 ج 13 الفتح الربانى ، وص 143 ج 2 ابن ماجه ( ما يجزئ من الأضاحى ) .
(4) ص 72 ج 13 الفتح الربانى ، وص 3 ج 10 فتح البارى ( قسمة الأضاحى بين الناس ) ، وص 119 ج 3 نووى مسلم ( سن الأضحية ) ، وص 204 ج 2 مجتبى ( المسنة والجذعة ) .(1/14)
وأَجابوا ) عن حديث جابر بأَنه محمول على الأَفْضَل والاستحباب . ويكون تقديره مُستحب لكُم اَىَّ تذبحوا إِلاَّ مُسِنَّة ، فإِنْ عجزتُم فجذعة ضأْن . هذا ( وقال ) الجمهور : لا يُجْزِئُ من غير الضأَن إِلاَّ الثنى ، لظاهر حديث جابر .
( ولقول ) البراءِ بن عازب : ضَحَّى خالى أَبو بُرْدَة قبل الصلاة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : شَاتُكَ لَحْم . فقال : يا رسول الله ، إِنَّ عندى داجنا جذعة من المعز . قال : اذبحها ولا تصلح لغيرك (0 الحديث ) أَخرجه أَحمد وأَبو داود والبخارى والدارمى(1) {21} .
( فوائد ) :
( الأُولى ) اختلف العلماءُ فى أَفضل الضحايا . والأصَل فيه عند الحنفيين أَن أَفضلها أَطيبها لحماً إِن استويا فى اللحم والقيمة ، وإِذا اختلفا فيهما فالأَكثر قيمةً أَوْ لحماً أَفْضَل . ولذا قالوا : الشاة أَفْضَل من سُبع البدنة إِذا استويا فى القيمة واللحم . وكذا الشاه السمينة التى تُسَاوى البقرة قيمةً ولحماً أَفْضَل منها . والكبش أَفْضَل مممن النَّعْجَة إِذا استويا فيهما . والأُنثى من المعز والإِبل والبقر أَفضل من الذكَر إِذا استويا قيمة . وقاله فى الدر المختار (2) ( وقال ) ابن وهبان : الذكَر من المعز أَفْضَل من الأُنثى إِذا كان خصياً .
( ومشهور ) مذهب مالك : أَنَّ الأَفْضَل التَّضْحية بالضأْن ، لما تقدم عن أَنَس أَنَّ صلى عليه وسلم ضَحَّى بكَبْشَيْن أَمْلَحَيْن أَقْرَنَيْن(3) . ولأَنَّ الضأْن أَطْيَب لحماً . ويلى الضأْن المعز ثم البقر ثم الإِبل . وذكر كل نوع أَفْضَل من أُنثاه .
(
__________
(1) ص 90 ج 13 الفتح الربانى ، وص 20 ج 3 تكملة المنهل ( ما يجوز فى الضحايا من السن ) وباقى المراجع بهامش 5 ص 22 منه ، و (قبل الصلاة ) أى صلاة العيد . و ( الداجن ) ما يعلف فى البيت من الغنم و المعز .
(2) ص 223 ج 5 هامش رد المحتار .
(3) تقدم رقم 1 ص 3 .(1/15)
وقالت ) الشافعية والحنبلية : الأَفْضَل الإِبل ثم البقر ثم الضأْن ثم المعز ، لما تقَدَّم عن أَبى هريرة أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال :ك مَن اغْتَسَل يَوْمَ الْجُمْعَةِ غُسْلَ الْجَنَابة ثم راحَ فى الساعةِ الأُولَى فَكَأَنما قَرَّب بَدَنَةِّ ، ومَنْ راحَ فى الساعة الثانية فكَأَنما قَرَّبَ بقرةً ، ومَنْ راحَ فى الساعة الثالثة فكَأَنما قَرَّبَ كَبْشاً أَقْرَنَ ( الحديث ) (1) {22} .
قال أَبو الفرج عبد الرحمن بن قدامة : والشَّاة أَفْضل من شرْك فى بَدَنَةَ لأَنَّ إِراقةَ الدَّم مقصود فى الأُضْحِية .ز والمنفرد يتقرب بأَراقته كله . والذكَر والأُنثى سواء ، لأَنَّ الله تعالى قال : "ط لِيَذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَى مَارَزَقَهُمْ مِنْ بَهيمَةِ الأَنْعامِ " . وقال : "ط وَ البُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائر اللهِ " . ولم ويقل ذكَراً ولا أُنثى ، ولأَنَّ القصد اللحم ، ولحم الذكر أَوْفَر ، ولحم الأُنثى أَرْطَب فتساويا . وقال أَحمدد : الخصى أَحَبّ إِلينا من النَّعْجَة ، لأَنَّ لحمه أَوْفَر وأَطْيب . والكبش فى الأُضْحِية أَفْضَل النعم ، لأَنَّهَا أُضْحِيَة النبىَّ صلى اله عليه وسلم . والضَّأْن أَفْضَل من المعز لأَنه أَطيب لحماً ( وقال ) القاضى : جذع الضَّأْن أَفْضَل من ثنى المعز لذلك ، ولما روى أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال : نعمت الأُضْحِية الجذع من الضَّأْن . ويتحمل أَن يكون الثنى من المعز أَفْضَل من الجذع ، لأَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال : لا تَذْبَحُوا إِلاَّ مُسِنَّة ، فإِنْ عسر عليكُم فاذبحوا الجذع من الضَّأْن . رواه مسلم(2) .
(
__________
(1) تقدم رقم 142 ص 136 ج 4 الدين الخالص .
(2) تقدم عن جابر رقم 18 ص 13 .(1/16)
وهذا ) يدل على فَضْل الثنى عى الجذع ، لكونه جعل الثنى أَصلاً والجذع بدلاً لا ينتقل إِليه عند عدم الثنى . اهـ بحذف (1) .
( الثانية ) البقر والجاموس فى التضحية سواءُ ، والضَّأْن ولمعز سواءُ ، والمتولد بين الأَهلىّ والوحشىّ العبرةَ فيه للأُم ، عند الحنفيين ، لأَنها الأَصْل وقال غيرهم : لا تُجْزئُ التضحية بالمتولد من الظباءِ والغنم ، لأَنه ليس من الأَنعام .
( الثالثة ) تجوز التََّضْحِِية بالخصى ، بل هو أَفْضَل ، لأَنَّ لحمه أَلَذَّ وأَطْيَب " ولقول " جابر بن عبد الله : ذَبَح النبىُّ صلى الله عليه وسلم يوم النَّحْر كَبْشَيْن أَقْرَنَيْن أَمْلَحَيْن مَوْجُوءَيْن ( الحديث ) أَخرججه أَحمد وأَبو داود وابن ماجه والدارمى(2) {23} . وفى سنده ( ا ) محمد بن إِسحاق مدلس ، وقد رواه بالعنعنة . ( ب ) أَبو عياش . ضعيف .
وهذا متفق عليه . ( ولا عبرة ) بما شَذَّ به ابن كج حيث حكى فى الخصى قولين ، وجعل المنع من إِجزائه قول الشافعى فى الجديد ( قال النووى ) فى المجموع : وهذا ضعيف منابذ للحديث الصحيح .
(
__________
(1) ص 532 ج 3 لشرح الكبير ( أفضل الأضحية ) .
(2) ص 12 ج 3 تكملة المنهل ( ما يستحب من الضحايا ) وباقى المراجع بهامش (3) ص 13 منه . وموجوءين : مشى موجوء وهو المخصى .(1/17)
الرابع ) يُشْترط أَن تكون الأُضْحِية سليمة من عَيْبٍ ينقص اللحم أَو الشحم أَو غيرهما ، كالْعور والعرج لبَيَّنَيْن ، والمرض الشديد ، فلا يجزئُ فيها لمعيب بما ذكر " لحديث " لبراءِ بن عازب أَنَّ لنبىَّ صلى الله عليه وسلم قال : أَربع لا يحزن فى الأَضاحى : العوراء البَيَّن عورها ، والمريضة البَيَّن مرضها ، والعرجاء البين ظلعُها ، والكَسِيرة التى لا تنقى . أَخرجه مالك وأَحمد والأَربعة ، وقال الترمذى : هذا حديث حسن صحيح ، والدارمى والحاكم وقال : صحيح الإسناد(1) {24} .
( قال ) الخطابى فى الحديث دلالة على أَنَّ الْعَيْب الخفيف فى الضَّحَايا مَعْفُوُّ عنه ، أَلآ تراه يقول :ك بَيَّن عورها ، وبَيِّن مرضها ، وبَيِّن ظلعُهَا . وفالقليل غير بَيِّن ، فكان مَعْفُوًّا عنه . اهـ . ( وقال ) النووى : أَجمعوا على أَنَّ العيوب الأَربعة المذكورة فى حديث البراءِ ، وهى المرض والْعَجَف والْعَوَر والْعَرَج الْبَيِّن ، لا تُجْزئُ التَّضْحِية بها . وكذا ما كان فى معناها أَوْ أَقْبَح ، كالْعَمَى وقطع الرِّجْل (2) .
(
__________
(1) ص 22 ج 3 تكملة المنهل ( ما يكره من الضحايا ) وباقى المراجع بهامش (3)9 ص 24 منه . ( ولا يحزن ) من الجواز . والمراد به الإجزاء . و ( الظلع ) بفتح فسكون وبفتحتين : العرج (0 والكسيرة ) المنكسرة الرجل التى لا تقدر على المشى . و ( لا تنقى ) ممن الإنقاء، أى التى لا نقى لها بكسر فسكون ، أى لا مخ لعظمها لضعفها .
(2) ص 120 ج 13 شرح مسلم ( استحباب الضحية وذبحها مباشرة .. ) .(1/18)
وكذا ) لا يُجْزئُ فى التَّضْحِية مقطوع الأُذن أَو الذنب أَو الأَلية والذاهب أَكثر نُور عَيْنه (1) " لحديث " قتادةَ عن جُرَى بن كُليب قال : سمعتُ عَلِيًّا يحدِّثُ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى أَن يُضَحَّى بأَعْضَب القرن والأُذن ، أخرجه أَحمد وأَبو داود وابن ماجه والطحاوى والنسائى . وزاد : قال قتادة : فذكرتُ ذلك لسعيد بن المسيب قال : نعم الأَعْضَب النصف وأَكثرَ من ذلك(2) {25} ، وقال أَحمد : العضباءُ : ما ذهب أَكثر أُذنها أَوْ قَرْنها " ولقول " عتبة بن عبد السلمى : إِنما نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المصْفَرَّرةِ وَالمسْتَأْصَلةِ وَالبَخْقَاءِ وَالمشَيَّعَةِ وَالكَسْراءِ . فالمصْفَرَّةُ التى تُسْتَأْصَلُ أُذُنها حتى يَبْدُوَ صِماخها . والمستأْصَلةُ التى يُسْتَأْصَلُ قَرْنها من أَصله . والبخْقاءً التى تُبْخَق عَيْنُهَا . والمشَيَّعةُ التى لا تتبع الغنم عَجَفاً وضَعْفًا . والكَسْرَاءُ الكَسِيرة . أَخرجه أَحمد وأَبو داودد والحاكم وقال : هذا حديث صحيح الإِسناد (3) {
__________
(1) يعرف مقدار الذاهب من نور العين بأن تشد العين المعيبة بعد ترك علف الشاة ونحوها يوماً أو يومين ، ثم يقرب إليها العلف قليلا قليلا . فإذا رأته من مكان يعلم عليه ، ثم ينظر إلى تفاوت ما بينهما . فإن كان ثلثاً فالذاهب الثلث وإن كان نصفاً فالنصف .
(2) ص 27 ج 3 تكملة المنهل ( ما يكره من الضحايا ) وباقى المراجع بهامش 3 ص 28 منه . و ( جرى ) مصغر جرو . وأعضب القرن : مكسوره . وأعضب الأذن : مقطوعها . و ( الأعضب ) المقطوع . و ( النصف ) مفعول به .
(3) ص 24 ج 3 تكملة المنهل ( ما يكره من الضحايا )9 وباقى المراجع بهامش 1 ص 25 منه . و ( المصفرة ) اسم مفعول ، المقطوعة الأذن من أصلها . وسميت بذلك لأن صماخها صار صفراً ، أى خلواً من الأذن ، وقيل : هى المهزولة لخلوها عن السمن ..و ( تبخق عينها ) أى يذهب بصرها وتبقى العين قائمة ( قال ) فى القاموس : البخق محركة ، أقبح العور ( والمشيعة ) بفتح الياء مشددة : التى تحتاج إلى من يتبعها الغمّ لضعفها . وروىى بكسر الياء على صيغة اسم الفاعل . وهى التى تمشى وراء الغنم لضعفها ( والكسيرة ) فعيلة بمعنى مفعولة ، أى المنكسرة الرجل .(1/19)
26} .
( وبهذا ) قال أَبو يُوسُف ومحمد ، وعليه الفتوى عند الحنفيين . وإِليه رجع الإِمام . وفى مقطوع نصف الأُذن وما بعدها روايتان عندهم . والاجتياط إِلحاقه بالأَكثر .
( وقالت ) المالكية : لا تَصِحّ التضحية بمقطوعة ثلث الذنب فأَكْثر ، ولا مقطوعة أَو مشقوقة أَكثر من ثلث الأُذن ، ولا بذاهبة جزءٍ منها وَلَوْ خِلْقياً غير الخصية .
( وقالت ) الشافعية : لا تَصِحّ بمقطوعة بعض الأُذن ولا مقطوعة الأَلية غير طرفها .ز
( وقالت ) الحنبلية : لا تَصِحّ بمقطوع أَكثر أَلْيَتِه أَوْ أُذُنِهِ أَوْ قَرْنِه أَوْ مُنْكَسِر غلاف ٌَرْنِه وهو الأَعْصَم . ولا يضرّ قطع الذنب .
( قال ) أَبو الفرج عبد الرحمن بن قدامة : وأَما العضب فهو دَهاب أَكثر من نِصْفِ القَرْن أَو الأُذُن ، وذلك يمنعُ الإِجزاءَ أَيضاً . وبه قال النخعىّ وأَبو يُوسُف ومحمد .
((1/20)
وقال ) أَبو حنيفة والشافعى : تُجْزِئُ مكسورة القْرن . وروى نحو ذلك عن علىّ وعمار وابن المسيَّب والحسن ( وقال ) مالك : إِنْ كان قَرْنها يُدْمى لم تُجْزِئ ، وإِلاَّ أَجْزَأَت . وعن أَحمد : لا تُجْزِئ ما ذَهَبَ ثلث أُذنها . وهو قول أَبى حنيفة ( وقال ) عطاءُ ومالك : إِذا ذهبت الأُذن كلها لم تُجْزِئ ، وإِن ذهب يَسِيرها أَجْزَأَت ، واحتجوا " بأَنَّ قول " النبىِّ صلى الله عليه وسلم : أَربع لا تجوز فى الأَضَاحِى " يدل " على أَن غيرها يُجْرِئ ، ولأَنَّ فى حديث البراءِ عن عَبيد بن فيروز قال : قلت للبراءِ : فإِنى أَكْرَه النقص من القرن والذنب . قال : اكْرَهُ لنفسك ما شِئُتَ ولا تضيِّق على الناس ، ولأَنَّ المقصود اللحم . وهذا لا يؤثر فيه ( ولنا ) ما تقدم عن علىّ رضى الله عنه قال: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أََن يُضَحَّى بأَعُضَبُ الأُدُن والقرْن . قال قتادة : فسأُلْتُ سعيد بن المسيب فقال : نعم الأَعْضَبُ النصفَ وأَكثرَ من ذلك(1) ( وعن ) علىّ رضى الله عنه قال : أَمَرَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم أَن نستشرف العَيْن والأُذُن . رواه أَبو داود والنسائى (2) {27}.
وهذا منطوق يقدم على المفهوم(3).
(
__________
(1) تقدم رقم 25 ص 17 . وقتادة هو راوى الحديث عن جرى بن كليب عن على .
(2) هذا صدر حديث أخرجه أيضاً أحمد وباقى الأربعة والدارمى وصحة الترمذى والحاكم انظر ص 26 ج 3 تكملة المنهل ( ما يكره من الضحايا) ، وباقى المراجع بمامش 6 ص 27 منه .
(3) ص 544 ج 3 الشرح الكبير ( مالا يجزئ فى الأضحية ) .(1/21)
وقالت ) الظاهرية : لا يَضُرّ قطع الأَلية ولا الذنب مطلقاً " لقول " أَبى سعيد الخدرى : اشتريْتُ كبشاً لأُضَحِّى به ، فعدا الذئب فأَخَذَ منه الأَلية ، فسأَلْتُ النبى صلى الله عليه وسلم . فقال : ضَحّ به . أَخرجه أَحمد وابن ماجه والبيهقى(1) {28} ، وفى سنده جابر الجعفى وهو ضعيف . وشيخه محمد بن قرَظة فيه مقال " ولقول " يزيد ذى مِصْرٍ : أَتَيْتُ عُتْبة بن عبد السلمى فقلت : يا أبا الوليد ، إِنى خرجت أَلتمسُ الضَّحايا فلم أَجِدْ شيئاً يعجبنى غير ثرْمَاءَ فكرهتها ، فما تقول ؟ فقال : أَفلا جئتنى بها ؟ قلت : سُبحان الله ، تجوز عنك ولا تجوز عنِّى ؟ قال : نعم ، إِنك تَشُكُّ ولا أَشُكَّ ، إِنما نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المصْفرَّرة ( الحديث ) أَخرجه أَحمد وأَبو داود والحاكم وصححه(2) .
هذا . ولا تَصِحّ التَّضْحِية بالهتْماءِ التى ذهب أَكثر أَسْنَانها عند الثلاثة وقال مالك : لا تُجْزِئُ التضحية بمكسورةِ السنين ، ولا بالسكاءِ وهى التى لا أُذُن لها خِلْقة عند الثلاثة . وقال أَحمد : تصحّ بالسكاءِ فلولها أُذُن صغيرة أَجْزَأَتْ عند الثلاثة خلافاً لمالكِ وهى الصمعاءِ ولا بالجذاءِ وهى مقطوعة الضَّرْع ، ولا بالجدعاءِ وهى مقطوعة الأَنف ، ولا بالتى لا أَلية لها خلقة عند الحنفيين ومالك .
وقال الشافعى وأَحمد : تَصِحّ بالبتراءِ كالمخلوقة بلا أَلية ولا ضِرْع لها خلقة ، ولا بالمصَرَّمة وهى التى لا تستطيع أَن تُرْضع فصيلها ، ولا بالحداءِ بالحاءِ المهملة وهى التى تأْكُلْ العذرة ولا تأْكُل غيرها . ولا بالخنثى عند الحنفيين لأَنَّ لحمها لا يَنْضُج ، وقال غيرهم : تَصِحّ بالخنثى بل هى أَوْلى من الأُنثى عند مالك .
__________
(1) ص 80 ج 13 الفتح الربانى ، وص 144 ج 2 سنن ابن ماجه ( من اشترى أضحية صحيحة فأصابها عنده شئ ) .
(2) هذا صدر الحديث رقم 26 ص 17 . وذو مصر : لقب ليزيد .(1/22)
هذا . وجُمْلة القول فيما لا يجزئُ فى الأُضْحِية ما ذكره النووى بقوله : أجمعوا على أَن العمياءَ لا تجزئَ وكذا العوراءَ البَيِّن عورها ، والعرجاءَ البَيِّن عرجها ، والمريضة البَيِّن مرضها ، وَ العجفاءَ ( وَاختلفوا ) فى ذاهِبة القرْن وَمكسورته . فمذهبنا أَنها تجزئ . وَقال مالك : إِنْ كُسِر قرْنها وَهُوَ يدمى لم تجزْ وَ إِلاَّ فتجزئه . ( وقال ) أَحم : إِنْ ذهب أَكثر من نِصْف قَرْنها لم تجزه سواءُ دميت أَمْ لا . وإِنْ كان دُونَ النِّصْف أَجْزَأَتْه .
( وأَما ) مقطوعة الأُذُن ، فمذهبنا أَنها لا تجزئ سواءُ أَقطع كلها أَمْ بعضها ، وبه قال مالك وداود ( وقال ) أَبو يُسُف ومحمد وأَحمد : إِنْ قُطِع أَكثر من النِّصْف لم تجزه وإِلا فتجزئه ( وقال ) أَبو حنيفة : إِن قُطِع أَكثر من الثلث لم تجزه .
( وأَما ) مقطوعة بعض الأَلية ، فلا تجزئ عندنا ، وبه قال مالك وأَحمد ( وعن ) أَبى حنيفة : إِنْ بقى الثلث أَجْزَأَت ( وقال ) صاحباه : إِنْ بقى أَكثرها أَجْزَأَت . وقال داود : تجزئ بكل حال . اهـ بتصرف(1).
وهذا إِذا كانت هذه العيوب وَقْتَ الشِّرَاءِ ، فلو اشتراها سليمة ثم تعيبتْ بعيبٍ مانع إَنْ كان غَنِيًّا فعليه غيرها. وإِنْ كان فقيراً أَجْزَأَتْه التَّضْحية بها ، لأَنَّ الوجوب على الغَنّى بالشرع ابتداءً فلم تتعَيَّن بالشِّرَاءِ ، نقصانها كما فى نِصَابِ الزكاة .
( وعن ) هذا الأَصْل قالوا : إِذا ماتَت المشتراة للتَّضْحِية ، فَعَلَى الموسِر أُخرى ولا شَئَْ على الفقير ، ولو ضَلَّتْ أَوْ سُرِقَتْ فاشترى أُخرى ثم ظهرت الأُولى فى أَيام النحر فَعَلَى الموسِر ذَبْح إحداهما وعلى الفقير ذبحهما .
(
__________
(1) ص 404 ج 8 شرح المهذب ( المذاهب فى عيوب الأضحية ) .(1/23)
ولا يَضُرّ ) تعيبها من اضطرابها عند الذبح ، فلو أَضجعها فاضطربت فانكَسَرْت رِجْلَهَا فذبحها أَجْزَأَتْهُ استحساناً ، لأّنَّ حالة الذبح ومقدماته ملحقة به ، فكأَنّض العيْبَ حَصَل بالذبح ، وكذا لو تعيبَتْ فى هذه الحالة فانفلتَتْ ثم أَخذت من فوره وكذا بعد فوره عند محمد ، لأَنَّهُ حَصَلَ بمقدماتِ الذبح . وهذا مذهب الحنفيين والحنبلية .
( وقالت ) الشافعية والمالكية : حُدوث العيب وقت الذبح يمنع من إِجزائها ، لأَنها عرجاءَ عند الذبح فأَشبه مالو انكَسَرَت رِجْل شاةٍ فبادَرَ إِلى التَّضْحية بها فإِنها لا تجزئ.
4 – ما يكره التضحية به :
تُكْرَه التَّضْحِية بمعيبٍ عيباً غير بَيِّن كالْجَمم بفتحتين وهو عدم القرْن . والجرَب اليسير . والثوَل وهو استرخاء فى أَعصاب الشاة أَو جنونٍ لا ينعها من العلف ( فتكره ) بالجمّاءِ بشد الميم وهى التى لا قَرْن لها خِلْقة ، وكذا العظماءَ التى كُسِرَ قرْنها ، فإِذا ذهب الكَسْر إلى المخ لم تجزئ ( وتُكْرَه ) بالجرباءِ السمينة التى لم يُتْلِفَ اجرب جِلْدها ، لأَنَّهُ حينئذٍ لا يخل بالمقصود وهو كثرة اللحم . أَما المهزولة فلا تجزئ ، وكذا ما أَتْلَفَ الجرب جلدها ( وتُكْرَه ) بالثولاءِ أَى المجنونة إِذا منعها عن العلف تجزئ ( وهذا ) مذهب الحنفيين والحنبلية ، والمستحب أَن تكون الأُضْحِية سليمة عن العيوبِ الظاهرة . فما جُوِّزَ ههنا جُوِّزَ مع الكراهة .
((1/24)
وقالت ) الشافعية : لا تجزئ الجرباءَ ولو سمينة . والجرب عندهم يمنع الإِجزاءَ كثيرة وقليلة وما يُرْجَى زواله وَما لا يُرْجَى ، لأَنَّهُ يفسد اللحم والشحم ( وتُكْرَه ) التَّضْحِية بمشقوقة الأُذُن ومخروقتها وما تَسَاَقَطَ بعض أَسنانها(1) ونحوها " لقول " عبيد بن فيروز : قلت للبراءِ : إِنِّى أَكْرَهُ أَن يكون فى القرن نَقْصُ أَو فى الأُذُن نقص أَو فى السِّن نقص . قال : ما كرِهْتَهُ فَدَعْهُ ولا تحرمه على أَحد . أَخرجه أَحمد والدارمى والنسائى(2) {3} .
(
__________
(1) هذا مذهب الثلاثة . وتقدم عن مالك أنها لا تجوز بمكسورة سنين فأكثر .
(2) هذا أثر ذكره أحمد ومن معه بعد الحديث المتقدم رقم 23 ص 16 .(1/25)
قال ) أَبو محمد عبد الله بن قدامة : ويُكْرَهُ أَن يُضَحَّى بمقشوقة الأُذن أَو بما قُطِعَ منها شَئّْ ، أَو ما فيها عَيْبٌ من هذه العيوب التى لا تمنع الإِجزاءَ " لقول " علىّ رضى الله عنه : أَمَرَنَا رسول الله أَن نَسْتَشْرِفَ العَيْن والأُذُن ولا نُضَحَّى بمقابلة ولا مدابرة ولا خرقاءَ ولا شرقاءَ . قال زهير : قُلْتُ لأَبى إِسحاق : ما المقابلة ؟ قال : يقطع طرف الأُذُن . قلت : فما المدابرة ؟ قال : يقطع من مؤخر الأُذُن . قلت : فما الخرقاءُ ؟ قال : تُخْرَق أُذُنها للسِّمة . قلت : فما الشَّرْقاءُ ؟ قال : تُشَقَّ أُذُنها . أَخرجه أَبو داود والنسائي (1) {29} . قال القاضى : الخرقاءُ التى انثقبت أُذُنها . والشرقاءُ التى تشق أُذُنها . وهذا نَهْى تنزيه ويحصل الإِجزاءُ بها ، لا نعلم فى هذا خلافاً (2).
5 – وقت التضحية :
__________
(1) انظر باقى من الله عليه وسلم أن نختار فى الأضحية ذات العين والأذن الكاملتين ( والمقابلة ) بفتح الياء : هى التى قطع من مقدم أّنها شئ وترك معلقاً ( والمدابرة ) ما قطع من مؤخر أذنها شئ وترك معلقاً ( والخرقاء ) المثقوبة الأذن ثقباً مستديراً ( والشرقاء ) مشقوقة الأذن . و(زهير ) هو ابن معاوية بن حديج بالحاء مصغراً ، رواى الحديث عن أبى إسحاق ( عمرو بن عبد الله السبيعى بفتح السين ) عن شريح بن النعمان عن على . و ( السمة ) العلامة .
(2) ص 585 ج 3 مغنى ( ما يكره أن يضحى به ) .(1/26)
ويُشْترط لِصحَّتها أَن تَكُون فى أَيَّام النحر ، وهى يوم العيد ويمان بعده لما روى ابن حزم عن وكيع عن شُعْبه عن قتادة عن أَنَس قال : الأَضْحَى يوم النحر ويومان بعده (1) {4} " ولقول " ابن عُمر رضى الله عنهما : الأَضْحَى يومان بعد يوم الأَضْحَى . رواه ابن أَبى شيبة ومالك وقال : بلغنى عن علىّ رضى الله عنه مثله(2){5} .
( فَوَقْتها ) ينتهى بغروب شمس اليوم الثانى عشر من ذِى الحجَّة .
( وبهذا ) قال الحنفيون ومالك وأَحمد والثَّوْرى .
( وقالت ) الشافعيةُ وعطاءٌ والحسن : أَيام النَّحْرِ أَربعة : يوم العيد وأَيام التشريق الثلاثة ( فآخر ) وقت الذبح عندهم : غُروب شمس آخر أَيامَ التشريق " لحديث " جُبير بن مُطعم أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال : كُلَّ عرفات موقف وارفعوا عن عُرَنة ، وكُلَّ مزدلفة موقف وارفعوا عن مُحَسِّر ، وكُلّ فجاج منى منْحَر وكُلّ أَيام التشريق دَبْح . أَخرجه أَحمد والبزار والطبرانى فى الكبير بسند رجاله ثقات(3) {30}.
(
__________
(1) ص 377 ج 7 ، المحلى ( مسألة 982 ) .
(2) ص 350 ج 2 زرقانى الموطإ ( الضحية عما فى بطن المرأة ) .
(3) ص 122 ج 12 الفتح الربانى ، وص 25 ج 3 مجمع الزوائد ( الخروج إلى منى وعرفة ) و ( عرنة ) بضم ففتح : واد غرب عرفة (ومحسر) يضم ففتح فكسر مشدداً : موضع بين منى ومزدلفة ، سمى بذلك لأن الفيل حسر فيه ، أى منع عن عن الذهاب إلى الكعبة .(1/27)
وقال ) ابن سِيرين : لا يجوزُ الذَّبْح إِلاَّ فى يوم النَّحْر خاصَّة ، أَنه وظيفة عيد ، فاختص بيوم العيد كالصلاة وأَداءِ زكاة الفطر يوم الفطر ( وعن ) أَبى سَلَمة بن عبد الرحمن وعطاءِ بن يسار : تجوزُ التَّضْحِية إِلى هلال المحرم" لما روى " أِبو أُمامة سهل بن حنيف رضى الله عنه قال : كان الرَّجُل من المسلمين يَشْتَرِى أُضْحِيته فيسمنها حتى يكون آخر ذِى الحجة فيُضَحَّى بها . أَخرجه أَحمد {6} . وقال : هذا أَثر عجيب . وقال : أَيام الأَضْحَى التى أَجمع عليها ثلاثة أَيام . ذكَرَهُ أَبو الفرج عبد الرحمن ابن قدامة (1) هذا . ولا تُذْبَح الأُضْحِية قبل طلوع فجر يوم النَّحْر إِجماعاً ولا تُذْبَح عند الحنفيين فى بَلَدٍ تُقَامُ فيه الجُمعة ، قبل صلاة العيد أَو قبل مُضِىّ وقتها بزوال الشمس إِنْ لم تُصَلّ لِعُذْر " لحديث " أَنَس أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال : مَنْ كان ذَبَح قبل الصلاة فَلْيُعدْ. أَخرجه الشيخان (2) {31} .
( وتُذْبَح ) فى القُرَى التى لا تَصِحّ فيها الجُمْعة بعد طلوع فجر يوم النَّحْر ، لعدم وجُوبِ صلاةِ العيد عليهم، فلا يفوتهم بالاشتغالِ بالذبح واجب .
(
__________
(1) ص 555 ج 3 الشرح الكبير ( آخر وقت الذبح ) .
(2) ص 15 ج 10 فتح البارى ( من ذبح قبل الصلاة أعاد ) وص 116 ج 13 نووى مسلم ( وقت الأضاحى ) .(1/28)
وقالت ) المالكية : لا تُذْبَح الأُضْحِية إِلاَّ بعد صلاة الإِمام العيدِ وذَبْحِه إِنْ ذَبَح ، وإِلاَّ فبعد مُضِىَّ مقدار الذَّبْح " لقول " البراءِ بن عازب : خَطَبَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأَضْحَى بعد الصلاة فقال : مَنْ صَلَّى صلاتنا ونَسَكَ نُسُكَنَا فقد أَصَابَ النُّسُك ، ومَنْ نَسَكَ قبل الصَّلاة فتلك شَاةٌ لَحْم ( الحديث ) أَخرجه أَبو داودد والشيخان (1) {32} " ولقول " أَنَس : قال النبى صلى الله عليه وسلم : مَنْ ذَبَحَ قبل الصلاة فإِنما ذَبَحَ .
( وإِذا ) لم يكُن فى البلد إِمام فالظاهر أَنه يعتبر لكل مُضَحّ صلاته .
( السادس ) ويُشْترط أَن يكون ذَبْح الأُضْحِية نهاراً عند مالك ، وهو رواية عن أَحمد ، فلا يجزئ ذبحها ليلاً " لحديث " ابن عباس أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَن يُضَحّى ليلاً . أَخرجه الطبرانى فى الكبر . وفى سنده سليمان بن أَبى سلمة الجنايزى وهو متروك . قاله الهيثمى(2) {35} . وفى سنده أَيضاً مبشر بن عبيد وهو ضعيف متهم بالْوَضْع . ولأَنَّ ليالى التشريق تُشْبهُ ليلَةَ النَّحْر ، وأَيامها تُشْبه يومه ، فكما أَنه لا يجزئ الذبح فى ليلة النحر لا يجزئ فى لياليها .
( وقال ) الحنفيون والشافعيون والجمهور : يَصِحّ ذبحها ليالى التشريق مع الكراهة . وروى عن أَحمد ( أَما الجواز ) فلأَنَّ الليل زمن يَصِحّ فيه الرمى فأَشْبه النهار ، ولأَنَّ الليل داخل فى مدة الذَّبْح ، فجاز الذَّبْح فيه كالأَيام .
( وأَما ) الكراهة ، فلا حتمال الغلط ليلاً .
(
__________
(1) ص 18 ج 3 تكملة المنهل ( ما يجوز فى الضحايا من السن ) وباقى المراجع بهامش 4 ص 20 منه . و ( نسك نسكنا .. إلخ ) أى من ضحى مثل ضحيتنا ، فقد وافق طريقتنا ،ن ومن ذبح قبل صلاة العيد فلا يعتد به .
(2) ص 23 ج 4 مجمع الزوائد ( النهى عن التضحية بالليل ) .(1/29)
وأَجابوا ) عن الحديث بأَنه ضعيف فلا يحتجّ به . فالراجح قول الجمهور .
( فائدتان ) :
( الأُولى ) من ضَحَّى بعددٍ من الماشية ، فالسُّنة ذبحها فى اليوم الأَول مُسَارَعةً إِلى الخير " وما قيل " من أَنه يُسْتَحَبّ تفريقها على أَيام النحر ، لأّنه أَرْفَق بالمساكين " فهو " ضعيف مخالف للسُّنة الصحيحة ( فقد ) ثبت أَنَّ النبى صلى الله عليه وسلم نَحَرَ مائَةَ بدنة أَهْدَاها فى يوم واحد وهو يوم النحر ، فَنَحَرَ بيده ثلاثاً وسِتِّينَ ، وأَمَرَ عَلِيًّا رضى الله عنه ينحَرُ عنه تمام المائة .
( الثانية ) التَّضْحِية فى أَيام النَّحْر أَفْضَل من التَّصَدُّق بثمن الأُضحية عند الأَئِمة الأَربعة ، لأّنَّ القربة فى هذه الأَيام إِنما تكون بإِراقة الدم .
6 – مكان التضحية :
( قال ) النووى فى المجموع : محل التَّضْحِية موضع المضَحِّى ، سواءٌ أَكَانَ بلده أَمْ مَوْضِعه من السفر . وفى نقل الأَضْحِية وَجْهان ، حكاهما الرافعىّ وغيره تخريجاً من نقل الزكاة . اهـ .
( وقال ) الحنفيون : يجوزُ نقلها بلا كراهة لقريبٍ أوْ أَخْوَج كالزكاة .
7 – الأشترك قى الأضحية :(1/30)
تُجزئ الشاُه من الضَّأْن أَو المعز عن واحد اتفاقاً . وتُجزئ عنه وعن أَهْل بيتِه وإِن كَثُروا عند مالك والليث والشافعى وأَحمد وإٍحاق " لقول " أَبى أَيوب الأَنصارىّ : كُنَّا نُضَحِّى بالشَّاةِ يذبحها الرَّجُل عنه وعن أَهل بَيْتِه ، ثم تَبَاهَى الناس بعد فصارت مُبَاهَاةً . أَخرجه مالك وابن ماجه . وكذا الترمذى وصححه عن عطاءِ بن يسار قال : سأَلْتُ أَبا أَيوب : كيف كانت الضَّخَايا على عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : كان الرَّجُل يُضَحِّى بالشَّاةِ عنه وعن أَهل بيته يأْكُلُون ويُطْعمون حتى تَبَاهَى الناس فصارت كما تَرى(1) {36} .
" ولحديث " أَبى عقيل زهرة بن معبد عن جَدِّه عبد الله بن هشام قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُضَحِّى بالشَّاةِ الواحدة عن جميع أَهْله . أَخرجه أَحمد والطبرانى فى الكبير والحاككم وقال : هذا حديث صحيح الإسناد (2) {37} .
__________
(1) ص 349 ج 2 زرقانى الموطإ ( الشركة فى الضحايا ) وباقى المراجع بهامش 7 ص 32 ج 3 تكملة المنهل ( الشاة يضحى بها جماعة ) .
(2) ص 85 ج 13 الفتح الربانى . وباقى المراجع بهامش 2 ص 33 ج 3 تكملة المنهل .(1/31)
" ولقول " عائشة : أَمَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكَبْش أَقْرَن يَطَأُ فى سوادٍ ويبرك فى سوادٍ وينظر فى سوادٍ ، فأَتى به لِيُضَحِّى به ، فقال : يا عائشة ، هَلُمِّى المدية ، ثم قال : اشْحِذيِها بحَجَر ، ففعلَتُ ، ثم أَخذها وأَخذ الكَبْش فأَضْجَعَةُ ثم ذَبَحَهُ ، ثم قال : باسْم الله ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ من محمدٍ وآل محمدٍ ومن أُمَّةِ محمدٍ ، ثم ضَحَّى به. أَخرجه أَحمد ومسلم وأَبو داود(1){38} .
( وقال ) الحنفيون والثورى : لا تُجزئ الشَّاةُ إِلاَّ عن نَفْس واحدة ، ولا تُجزئ عن أَهل بَيْتٍ ، لآَنّض الاشتراك فى الأُضْحِية خلاف القياس ، لأَنَّ القربة فيها إِراقة الدم وهى لا تحتمل التجزئة لأَنَّهَا ذبح واحد . وإِنما جَازَ الاشتراك فى الإِبل والبقر بالنص ، فبقى الأَمر فى الغَنَم على القياس .
( وأَجابوا ) عن الأَحاديث السابقة ونحوها ( بأَنها ) محمولة على الاشتراك فى الثواب ( وردّ ) بأَنه لا دليلَ على هذا الحمل ، ولذا قال الزَّيْلعى : ويُشكَّل على المذهب فى منعهم الشَّاة لأَكثر من واحد بالأَجاديث المتقدمة أَنَّ النبى صلى الله عليه وسلم ضَحَّى بكَبْش عنه وعن أُمَّتِه (2) .
( ومنه ) يعلم أَنَّ النص وَرَدَ فى اشتراك أَهل البيت وإِن كَثُروا فى شاةٍ واحدة ، فلم يبق الأَمْر فى الغنم
__________
(1) ص 9 ج 3 تكملة المنهل . وباقى المراجع بهامش 3 ص 10 منه ( ما يستحب من الضحايا ) و ( يطأ فى سواد .. إلخ ) يعنى أَن قوائمه وبطنه وما حول عينيه أسود ، وإشحاذها : تقوية حدها ليسهل الذبح بها ( وأخذ الكبش فأضجعه .. إلخ ) فيه تقديم وتأخير . والأصل : فأضجعه ثم أخذ فى ذبحه قائلا : باسم الله ، اللهم تقبل من محمد .. إلخ .
(2) ص 210 ج 4 نصب الراية ( كتاب الأضحية ) .(1/32)
على القياس " وما قاله " الطحاوى من أَنَّ هذه الأَحاديث مخصوصة أَو منسوخة " فمسلم " أَن تَضْحِيَته صلى الله عليه وسلم عن أُمَّتِه وإِشراكهم فى أُضْحِيَتِه مخصوصٌ به صلى الله عليه وسلم . وأَمَّا تَضْحِيَته عن نَفْسِه وآلِه فليس مخصوصاً به صلى الله عليه وسلم ولا منسوجاً ، لأَنَّ الصحابةَ رضى الله عنهم كانوا يُضَحُّون بالَّةِ الواحدة يَذْبَحُهَا الرَّجُل عنه وعن أَهْل بَيْتِهِ كما تقَدَّم .
ولم يثبت عن أَحَدٍ منهم التَّضْحِية عن الأُمَّة وإِشراكها فى أُضْحِيته أَلبتة ( فالراجح ) القول بإجزاءِ الشَّاةِ عن أهل بَيْتٍ واحِدٍ لقوة أَدِلَّتِه .
( قال ) الخطابى : قوله صلى الله عليه وسلم : تقَبّضل من محمدٍ وآل محمدٍ دليلُ على أَنَّ الشَّاةَ الواحدةَ تُجزئ عن الرَّجُل وعن أَهله وإِن كَثُروا . وروى عن أَبى هريرة وابن عمر أَنَّهما كانا يفعلان ذلك(1) .
هذا . وتُجزئ الْبَدَنَةُ وهى ناقَةٌ عن سبعةٍ فَأَقَلُ " لقول " جابر : نَحَرْنَا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالْحُدَيبية الْبَدَنَةَ عن سبعةٍ والبقرةَ عن سبعةٍ . أَخرجه الجماعة إِلاَّ البخارى . وقال الترمذى : هذا حديث حسن صحيح(2) {39} .
__________
(1) ص 228 ج 2 معالم السنن ( ما يستحب من الضحايا ) .
(2) ص 30 ج 3 تكملة المنهل ( البقر والجزور عن كم تجزئ ) وباقى المراجع بهامش 3 ص 31 منه . والحديبية : بئر قرب مكة ، سمى به الموضع ، وهو أبعد أطراف الحرم عن البيت .(1/33)
وهو مذهب الحنفيين ( فالبدنة ) تُجزئ عندهم عن سبعة إِذا كان كل منهم يُريد بِنَيبه – الذى لا ينقص عن السُّبْع – القربة وهو من أَهلها بالإسلام ، فلو أَراد أَحدهم بنَصِيبه اللَّحم أَو كان كافراً ، أَو نقص نَصِيبه عن سُبْع ، لآ تُجزئ عن واحد . ويُقَّم اللَّحم بينهم وَزْناً لا جُزَافاً إِلاَّ إِذا كان معه شَئٌْ مِنَ الأَكارع أَو الْجِلْد ( ولو ) اشترى بدنة ثم أَشْرَك معه ستة صَحّ استحساناً . ويندب كون الاشتراك قبل الشِّرَاءِ ، فإِن الاشتراك بعده مَكْرُوه .
( وقالت ) الشافعية والحنبلية والجمهور وبعض المالكية : يجوزُ اشتراكَ سبعة فى البدنة ، سواءٌ أَكَاُنوا كلهم أَهل بيت أَم متفرِّقين ، أَو بعضهم يُريد اللَّحم ، فيجزئُ عن المتقرب ، وسواءٌ أَكَانَتْ أُضْحِية مَنْذُورَة أَمْ تَطَوُّعاً .
((1/34)
ومشهور ) مذهب المالكية أَن البدنة لا تُجزئُ إِلاَّ عن واحدٍ كالشَّاةِ ، ولا يجوز أَن يُشْرك المضَحِّى غيره معه فى الأُضْحِية إِلاَّ فى الأَجْر ، فيجوز مهما بلغ العدد بشرط أَن يكون المقصود تَشْريكه قريباً أَوزَوْجاً ساكِناً معه فى نَفقَتِه ، سواءٌ أَكَانتْ واجبة كالابن والأَبَوَيْن الفقيرين ، أَم غير واجبة كالأَخ وابن العم . فتسقُطُ الأُضْحِية عنه ولو كان غَنِيًّا . وفى اشتراط إِعلامِه بالتشريك قَوْلآن ( وردّ ) بأَنَّ الدَّليل صريح فى جواز التَّشْريك ولو فى الثمن ( فقد قال ) ابن عباس : كُنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سَفَرٍ فَحَضَرَ الأَضْحَى فاشتركْنَا فى البقرةِ عن سبعة ، وفى البَعِير عن عشرة . أَخرجه أَحمد والأَربعة إِلاَّ أَبا داود . وقال الترمذى : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إِلاَّ من حديث الفضل بن موسى (1) {40} .
( ولهذا ) قال إِسحاق بن راهويه وابن حزيمة : تُجزئُ البقرةُ عن سبعة والبدنة عن عشرة فى الضَّحِية
( وأَجابوا ) عن حديث جابر بأَنه إِنما ورد فى الهدايا . وقياس الضَّحِية على الهدْى قياس فى مقابلة النَّص ، وهو حديث ابن عباس ، فلا يعول عليه ( وهذا ) هو الحق فى الضحايا ، لحديث ابن عباس .
8 – مصرف الأضحية :
__________
(1) ص 205 ج 13 الفتح الربانى ، وص 84 ج 2 مجتبى ( ما تجزئ عنه البدنة فى الضحيات ) وص 142 ج 2 سنن ابن ماجه ( عن كم تجزئ البدنة والبقرة ؟ ) وص 356 ج 2 تحفة الأحوذى ( الاشتراك فى الأضحية ) .(1/35)
يُسَنُّ للمُضَحِّى أَنْ يأْكُلَ من لحم أُضْحِيَتِه ويُطْعِم منها غَنِيًّا إِنْ لم تكُن منذورة ، ويُبَاح أَنْ يدَّخِر " لقول " جابر بن عبد الله : كُنَّا لا نَأْكُلُ من لُحوم بُدُنِنَا فوق ثلاث ، فأَرْخَصَ لنا صلى الله عليه وسلم فقال : كُلُوا وتَزَوَّدُوا . أَخرجه أَحمد ومسلم والنسائى ، وزاد : وادَّخِروا (1) {41} .
" ولحديث " سُليمان بن بُريدة عن أَبيه أَنَّ النبى صلى الله عليه وسلم قال : كُنْتُ نَهَيْتُكُم عن لُحوم الأَضَاحِى فوق ثلاث ليتَّسع ذَوُو الطول على مَنْ لا طول له ، فكُلُوا ما بَدَا لَكُم ، وأّطْعِمُوا وادَّخِرُوا . أَخرجه أَحمد ومسلم والترمذى وقال : حديث حسن صحيح (2) {42} .
" ولحديث " نُبَيْشَة أَنَّ النبىَّ صلى عليه وسلم قال : إِنَّا كُنَّا نَهَيْنَاكُم عن لٌحومها أَنْ تأْكُلُوا وادَّخِرُوا ، أَلآ وإِنَّ هذه الأَيام أَكْل وشْرْب وذِكْر الله تعالى . أَخرجه الشافعى وأَحمد وأَبو داود . وأَخرج صدره ابن ماجه والدارمى(3) {43} .
( والأَمر ) فى هذه الأَحاديث للإِباحة ، لأَنه وَقَع بعد النَّهْى عن الادَّخَار فوق ثلاث ، لجهدٍ أَصاب الناس كما ترى فى الأَحاديث ( ولهذا ) قال الأَئِمَّة الأَربعة والجمهور : يُسَنّ الأَكل من الأُضْحِية غير المنذورة ، ويُبَاح الادَّخار منها بعد ثلاث .
__________
(1) ص 106 ج 13 الفتح الربانى ، وص 131 ج 13 نووى مسلم ( النهى عن أكل لحوم الأضاحى بعد ثلاث ونسخة ) وص 208 ج 2 مجتبى
(2) ص 106 ج 13 الفتح الربانى ، وص 134 ج 13 نووى مسلم ، وص 360 ج 2 تحفة الأحوذى ( الرخصة فى أكلها بعد ثلاث ) .
(3) ص 37 ج 3 تكملة المنهل ( حبس لحوم الأضاحى ) وباقى المراجع بهامش 4 ص 39 منه ( وأتجروا ) بالهمزة ، أى وتصدقوا طالبين من الله الأجر .(1/36)
" وما روى " عن علىّ وابن عُمر وجماعة من الظاهرية من تحريم إِمساك لُحُوم الأَضَاحِى فوق ثلاث " مَرْدُود " بالأَحاديث السابقة . وكذا القول بأَنَّ الأَكل والادخار فوق ثلاث مَكْرُوه . والصحيح أَنه لم يبق تحريم ولا كراهة ، فيباح اليوم الادخِّار فوق ثلاث والأَكْل مَتَى شَاءَ ، لصريح حديثِ بُريدة وغيره . ولعل عَلِيَّا وابن عُمر رضى الله عنهما لم يبلغهما الناسخ . ومَنْ حَفِظَ حُجَّة على مَنْ لم يَحْفّظ .
هذا . والأَفْضَل عند الحنفيين أَن يَتَصَدَّق بالثُّلُث ويأْكُل الثُّلُث ، ويَدَّخِر الثُّلُث ، لِمَا تَقَدَّم فى حديث بُريدة من قوله عليه الصلاة والسلام : فكُلُوا ما بَدَا لكُم وأَطْعِمُوا وادَّخِروا(1) ، " ولحديث " سَلَمة بن الأَكْوع أَنَّ النبىَّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال : مَنْ ضَحَّى مِنْكُم فلا يُصْبِحَنَّ بعد ثالثة ويقى فى بَيْتِه منه شَئُْ ، فلمَّا كان العام المقبل قالوا : يا رسول الله ، نفعل كما فَعَلْنَا العام الماضى ؟ فقال : كُلُوا وأَطْعِمُوا وادَّخِرُوا فإِنَّ ذلك العام كان بالناس جَهْدٌ فَأَرَدْتُ أَن تعينوا فيها . أَخرجه الشيخان(2) {44} .
ولو حبس الكُلّ لنفْسِه جاز ، لأَنَّ القربة فى الإراقة . والتَّصَدُّق بالَّحم تطوع ، ويُنْدَب ترك التَّصَدَُق لذِى
عِيالٍ تَوْسِعَةً عليهم ( وقالت ) الحنبلية : يُستحبُّ أَن يأْكُل ثُلُثها . ويَتَصَدَّق بثُلُثها ، وإِنْ أَكَلَ أَكْثَر جازَ .
(
__________
(1) تقدم رقم 42 ص 33 .
(2) ص 18 ج 10 فتح البارى (ما يؤكل من لحوم الأضاحى ) وص 133 ج 13 نووى مسلم ( النهى عن أكل لحوم الأضاحى بعد ثلاث ونسخه).(1/37)
قال ) أَبو الفرج عبد الرحمن بن قدامة : قال أَحمد : نحن نذهب إِلى حديث عبد الله " يعنى ابن مسعود " يَأْكُل هُوَ الثُّلُث ، ويُطْعِم مَنْ أَراد الثُّلُث ، ويتَصَدَّق على المساكين بالثُّلُث ( قال ) علقمة : بَعَثَ معى عبد الله بهديه فأَمرنى أَن آكُلَ ثُلُثها ، وأَن أُْسِل إِلى أَهل أَخيه بثُلُث ، وأَن أَتَصدَّق بِثُلُث {7} . ( وعن ) ابن عُمر قال : الضحايا والهدايا ، ثُلُث لك ، وثُلُث لأَهلك ، وثُلُث للمساكين {8} . وهذا قول إِسحاق وأَحد قولى الشافعى . وقال فى الآخر : يجعلها نِصْفَيْن يأْكُل نِصْفها ويتَصَدَّق بنصف " لقول " الله تعالى : " فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِير " (1)( ولنا ) ما روى ابن عباس فى صفة أُضْحِية النبىِّ صلى الله عليه وسلم قال : ويُطْعم أَهل بيته الثُلُث ويُطْعم فقراءَ جِيرانِه الثُّلُث ، ويتَصَدَّق على السُّؤَّالى بالثُّلُث . رواه الحافظ أَبو موسى فى الوظائف . وقال : حديث حسن(2){45} .
__________
(1) سورة الحج ، من آية 28 ، وصدرها : " ليشهدوا منافع لهم " .
(2) ص 582 ج 3 الشرح الكبير ( يستحب أن يأكل ثلثها .. ) .(1/38)
ولأَنَّ الله تعالى قال: " فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرّ " (1) ، والقانع : السائل . والمعتر : الذى يعتَرِيك، أَى يتعرض لك لتطعمه ولا يسأَل . فذكر ثلاثة أَصناف ، فينبغى أَن يقسم بينهم أَثلاثاً ( وأَما الآية ) التى احتجَّ بها أَصحاب الشافعى فإِنَّ الله تعالى لم يُبَيِّن قَدْر المأْكُول منها والمتصدق به ، وقد نُبِّه عليه فى آيتنا وفسره النبى صلى الله عليه وسلم بفِعْله وابن عُمر بقوله . (والأَمر) فى هذا واسع . فلو تَصَدَّق بها كُلها أَوْ بأَكثرها جاز. وإِنْ أَكلها كُلها إِلاَّ أُوقية تصَدَّقَ بها ، أَجْزَأَ ، لأَنَّ الله تعالى أَمر بالأَكْل والإِطعام منها ولم يقيده بشئٍ . فمتَى أَكَل وأَطْعَم فقد أَتَى بما أُمر (وقال) بعض أَهل العلم : يجب الأَكْل منها ولا تجوز الصدقة بجميعها للأَمر بالأَكْل (ولنا) أَنَّ النبى صلى الله عليه وسلم نَحَرَ خمس بَدَنَاتٍ وقال : مَنْ شَاءَ فليقتطع ولم يأْكُل منهنَّ {46} ولأَنها ذَبِيحة يُتَقَرَّب بها إِلى الله تعالى فلم يجب الأَكْل منها كالعقيقة،فيكون الأَمر للاستحباب أَو للإِباحة ، كالأَمر بالأَكل من الثَّمار والزٌّرُوع (2).
(وقالت) المالكية : يُستحبُّ أَن يأْكُل المضَحِّى من أُضْحِتهِ ويَتَصَدَّق ويُهْدِى من غير تحديد بثُلُثٍ ولا غيره.
( وقالت ) الشافعية : يُسَنُّ الأَكْل منها وإطعام أَغنياءَ ، ويجب التَّصَدُّق بِشَئٍْ من لحمها . وقيل : لا يجب التَّصَدُّق ، بل يُستحبّ .
(
__________
(1) سورة الحج ، من آية 36 ، وصدرها : " والبدن جعلناها لكم " .
(2) ص 582 ج 3 الشرح الكبير ( يستحب أن بأكل ثلثها ... ) .(1/39)
وجملة ) القول فى هذا ما قاله النووى : الأَكْل من أُضْحِية التَّطَوُّع سُنَّة ليس بواجب . هذا مذهبنا ومذهب مالك وأَبى حنيفة والجمهور ، وأَوْجَبَهُ بعض السَّلَف ، وهو وجه لنا . ومَنْ أَكَلَ بعض الأُضْحِية وتَصَدَّق ببعضها ، هل يُثَاب على جميعها أَمْ على ما تصدَّقَ فقط ؟ وجهان كالوجين فيمن نَوَى صَوْم التطوع ضَحْوَة ، هل يُثَاب من أَول النهار أَمْ من وقت النِّيَّة فقط ؟ قال الرافعىّ : ينبغى أَن يقال : له ثواب التَّضْحِية بالجميع وثواب التَّصَدُّق بالبعض . وهذا هو الصوَّاب الذى تَشْهَد به الأَحاديث والقواعد (1).
( وهذا ) كله فى أُضْحِية التَّطَوُّع وكذا الواجبة بلا نَذْر عند الحنفيين . ( أَمَّا ) المنذورة فقد اختلف العلماءُ فى حُكْم أَكْل المضَحّى منها ( قال ) الحنفيون : لا يأْكُل منها شيئاً ولا يُطْعِم غَنِيًّا ، سواءٌ أَكَانَ النَّاذِر غَنِيَّا أَمْ فقيراً ، ولا يَدَّخِر ، بل يجب عليه التَّصَدُّق بجميعها ، لأَنه سبيلها وليس للمتَصَدِّق أَن يأْكُل من صدقَتِه ، ولا أَنْ يُطْعِم منها غَنِيًّا ، فلو فعل ذلك لَزِمَهُ قيمة ما أَكَله أَوْ أَطْعَمه . وروى عن الشافعى وأَحمد ( ومشهور ) مذهبهما أَنَّ له أَنْ يأْكُلَ منها ، لأَنَّ النذر محمول على المعهود و المعهود ذبحها والأَكْل منها . والنذر لا يغير من المنذور إِلاَّ الإِيجاب ، بخلاف الهدْى الواجب فإِنه لا يجوزُ الأَكْل منه ، لأَنَّ أَكْثر الهدايا لا يجوزُ الأَكْل منها فحمل النذر عليها
(
__________
(1) ص 419 ج 8 شرح المهذب ( الأكل من الأضحية ) والمراد بأضحية التطوع عند الحنفيين أَحية المسافر والفقير الذي لم يوجد منه نذر ولاشراء للأضحية ، لعدم سبب الوجوب وشرطة . ثم ظاهر كلام بعضهم أن الواجبة على الفقير بالشراء له الأكل منها . وذكر أبو السعود أن شراء ولها بمنزلة النذر ، فعليه التصدق بها كلها .(1/40)
فائدة ) يجوز عند الجمهور إِطعام الفقير الذمىّ من أُضْحِية التطوع .
( قال ) النووى : قال ابن المنذر : أَجمعت الأُمة على جواز إِطعام فقراءِ المسلمين من الأُضْحِية . واختلفوا فى إِطعام فقراءِ أَهْل الذمة . فرخَّص فيه الحسن البصرىّ وأَبُو ثَوْر . وقال مالك : غيرهم أَحَبّ إِلينا . وكَرِهَ مالك أَيضاً إِعطاءَ النَّصْرَانىّ جِلْدَ الأُضْحِية أَوْ شَيْئاً من لحمها ، وكَرِهَهُ الليث قال : فإِنْ طُبخ لحمها فلا بأْس بأَكْل الذمىّ مع المسلمين منه ، ومقتَضَى المذهب أَنه يجوزُ إِطعامه من أُضْحِية التَّطَوَُع دون الواجبة (1) .
( وقال ) أَبو الفج عبد الرحمن بن قدامة : ويجوز أَن يُطْعِمَ منها كافراً . وبهذا قال الحسن وأَبُو ثَوْر وأَصحاب الرأْى ، وكَرِه مالك والليث إِعطاءَ النَّصْرانىّ جِلْدَ الأُضْحِية ( ولنا ) أَنَّهُ طعام له أَكله فجاز إَطعامه الذمى كسائر طعامه ، ولأَنه صدقة تَطَوُّع فأُشبه سائر صدقة التَّطَوُّع ، وأَمَّا الصَّدقة الواجبة منها ، فلا يُجزئُ دفعها إلى كَافِر ، لأَنَّها واجبة فأُشْبهت الزكاة وكَفَّارة اليمين(2) .
9 – التصرف فى الأضحية :
__________
(1) ص 425 ج 8 شرح المهذب ( المسألة التاسعة ) وص 583 ج 3 الشرح الكبير .
(2) ص 425 ج 8 شرح المهذب ( المسألة التاسعة ) وص 583 ج 3 الشرح الكبير .(1/41)
يُنْدَبُ التَّصَدُّق بِجِلْدِها وجلالها وخطامها . ولا يجوز أَن يُعْطَى الجزَّار منها أُجْرته عند الأَئِمَّة الأَربعة والجمهور " لحديث " قتادةَ بن النعمان أَنَّ النبى صلى الله عليه وسلم قام فى حجَّة الوداع فقال : إِنِّى كُنْتُ أَمَرْتُكُم ألاَّ تَأْكُلُوا الأَضَاحى فوق ثلاثة أَيام لتسعكُم ، وإنِّى أُحِلَّه لَكُمْ ، فَكُلُوا منه ما شِئْتُم ، ولا تَبِيعُوا لُحوم الهدْى والأَضَاحى ، فكُلُوا وتَصَدَّقٌوا واستمتعوا بجلودِها . وإِنْ أُطْعِمّم من لُحومها شيئاً فكُلُوه إِنْ شِئْتُم . أَخرجه أَحمد . وفى سنده رَاوٍ لم يُسَمّ . قاله الهيثمى(1) {47} . ولقول علىّ رضى الله عنه : أَمَرَنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أَن أَقوم على بُدُنِه ، وأَنْ أَتَصَدَّقَ بلحمِها وجُلودها وأَجِلَّتها . وأَلَّ أُعْطى الجزَّار منها شيئاً ، وقال : نحن نُعْطِيه من عِنْدِنا . أَخرجه أَحمد والشبخان وأَبو داود وابن ماجه (2) {48} .
( وهذا ) الحديث وإِن كان فى الهدْى فالأُضْحِية مثله فى الحكم .
وظاهر حديث علىّ أَنه لا يُعْطِى الجزَّار شيئاً منها أَلبتة . وليس هذا مراداً ، بل المراد أَنه لا يُعْطى منها لأَجْل الجزارة ، لأَنَّ ذلك فى حُكْم البيع .
__________
(1) انظر المراجع بهامش 1 ص 38 ج 3 تكملة المنهل ( حبس لحوم الأضاحى ) و ( لتعكم ) أى لتسع فقراءكم ( وإنى أحله لكم ) أى فوق ثلاثة أيام ، وهو من أدلة نسخ تحريم الادخار فوق ثلاثة أيام ( فكلوا ما شئتم ) أى فكلوا من الأضحية ما بدا لكم فى أى وقت وإن كنتم أعنياء .
(2) ص 29 ج 1 تكملة المنهل ( كيف تنحر البدن ) وباقى المراجع بهامش 2 صفحة 31 منه .(1/42)
ويجوز أَن ينتفع بجِلْد الأُضحية بجميع وُجُوه الانتفاع ، فيتَّخِذَ منه خُفَّا أَوْ نَعْلاً أَوْ فَرْواً أَوْ دَلْواً أَوْ سِقَاءً أَوْ غُرْبَالاً أَوْ نحو ذلك . وله أضن يعيره . وليس له أَنْ يُؤَجِّره . وهذا فى جِلْدِ الأُضْحِية المتطوع بها ، وكذا الواجبة على القول بجواز أَكْل المضَحّى منها . وأَمَّا على القول بعدم الجواز فيجب التَّصَدَُق به كاللحم .
هذا . وقد دَلَّت الأَحاديث المتَقَدِّمة على أَنه لا يجوز بَيْع شَئٍْ من الأُضْحِية ولو تطوعاً حتى جِلْدِها لأَنَّها تعينَتْ بالذبح . و " لحديث " أَبى هريرة أَنَّ النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : مَنْ باع جِلْدَ أُضْحِيَتِه فلا أُضْحِيَةَ له . أَخرجه الحاكم وقال : هذا حديث صحيح (1){49} ورد بأَنَّ فى سنده عبد الله بن عياش وقد ضعف .
هذا وبَيْع الجلد باطل عند أَحمد وأَبى يوسف وحرام عند مالك والشافعى .
( قال ) النووى : مذهبنا أضنه لا يجوز بَيْع جِلْدِ الأُضْحِية ولا غيره من أَجزائِهَا ، لا بما يُنْتَفَعُ به فى البيت ولا بغَيْره ، وبه قال عطاءٌ ومالك ، وأَحمد . ورخَّص فى بيْعِه أَبُو ثَوْر ، وقال النخعى والأَوزاعى : لا بَأْس أَنْ يُشْتَرى به الغربال والمنخل والفأْس والميزان ونحوها . وكان الحسن وعبد الله بن عُمير لا يريان بأْساً أَن يُعْطَى الجزَّار جِلْدَها . وهذَا غَلَطٌ مُنَابذ للسُّنة (2) .
( وقال ) أَبو حنيفة ومحمد : يجوز مع الكراهة بَيْع جِلْد الأُضْحِية ولحمها إِذا اشْتَرَى بثمنه ما يُنْتَفَعُ به مع بقاءٍ عَيْنِه كغربال ومنخل وقِرْبة ولا يجوز أَن يُشْتَرى به ما يُستهلك كاللحم والخبز . ولا يجوز بيعها بدراهم ليصرفها على نفسه وأَهله . ويجوز ذلك إَذا صرفها للفراءٍ .
__________
(1) ص 390 ج 2 مستدرك ( بيع جلد الأضحية ) .
(2) ص 420 ج 8 شرح المهذب ( فرع لا يجوز بيع جلد الأضحية ) .(1/43)
ورِخَّصَ الحسَن والنخعىّ فى الجلد أَن يَبِيعَهُ ويَشْتَرِى به الغربال والمنخل وآلة البيت . وروى نحو ذلك عن الأَوزاعى ، لأَنه ينتفع به هو وغيره ، فجرى مجرى تفريق لحمها .
10 – ولد لأضحية :
إِنْ ولدت الأُضْحِية ولداً حَيًّا قبل ذبحها أو بعده وفيه حياة مستقرة ذبح وفُعل به ما يفعل بأُمِّه . فإِنْ لم يذبحه حتى مضت أَيام النحر تَصَدَّقَ به حَيًّا عند الحنفيين . فإِنْ ضَاع أَو ذبحه وأَكله ، تصدق بقيمته ، وإِنْ لم يَذْبَحْه فى عامه ، بل تركه حتى جاءَ عامٌ آخر وذبحه أُضْحِية ، لا يُجزئُ بل يتصدق به مذبوحاً مع قيمة ما نقص من الذبح ، وعليه أُضْحية أُخرى على المفتى به عندهم .
( وقالت ) المالكية : ولد الأُضحية إِن خرج حَيًّا قبل ذبح أُمِّه أَوْ بعده وبه حياة مستقرة ، ندب ذَبْحَه ، وفُعِل به ما يُفْعَل بأُمه ، وإِنْ لم يُذْبَح وبقى لعام قابل ، صَحّ أَنْ يُضَحّى به .
( وقالت ) الشافعية والحنبلية : إِنْ كانت الأُضْحِية معينة بنَذْرٍ أَوْ بقوله هذه أُضْحِية وولدت قبل الذبح أَو بعده وفى وَلَلَدِها حياة مستقرة ، ذبح معها وفعل به ما يفعل بها لأَنه صار أُضْحِية تبعاً لأُمه . ولا يجوز ذَبْحه قبل وقت ذبح أُمه ولا تأْخيره عن آخر الوقت كأُمه ( وقد ) رَوَى المغيرة العبسىّ أَنَّ رَجُلاً سَأَل عَلِيًّا رضى الله عنه عن رَجُل اشترى بقرةً ليُضَحِّى بها فنتجتْ فقال له : لا تَشْرَب لبنها إِلاَّ فضْلاً . وإِذا كان يوم النَّحر فاذبحها وولدها عن سبعة . أَخرجه البيهقى(1){9} .
(
__________
(1) ص 237 ج 5 سنن البيهقى ( لبن البدنة لا يشرب إلا بعد رى فصيلها ) .(1/44)
أَما الجنين ) الذى وجد بعد الذبح ميتاً أَو فيه حياة غير مستقرة ، فيحل بذكاة أُمه . ويندب ذبحه ليخرج دمه ، ويؤكَل إَن تم خلقه ونبت شعره عند مالك وأَبى عُمر : إَذا نُحِرَت الناقة فذكاة ما فى بطنها فى ذكاتها إِذا كان قد تم خلقه ونبت شعره . فإِذا خرج من بطن أُمه ذبح حتى يخرج الدم من جوفه . أَخرجه مالك ومحمد بن الحسن فى الآثار (1) {10} .
" ولحديث " أَبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه قُلْنَا : يا رسول الله ، ننحر الناقةَ وتذبح البقرة والشاة فنجد فى بطنها الجنين أَنُلْقِية أَمْ نأْكُلُه ؟ فقال : كُلُوه إِن شئتم ، فإِن ذكاته ذكاة أُمه . أَخرجه أَحمد والدارقطنى والحاكم وأَبو داود وابن ماجه والترمذى وحسنه ، وابن حبان وصححه (2) {50} وضعفه عبد الحق وقال : لا يحتج بأَسانيده كلها ، لأَنفى بعضها مجالداً ( ورَدَ ) بأَن أَقل أَحواله أَن يكون حسناً لغيره لكَثْرة طرقه . وقد أَخرجه أَحمد والدارقطنى من طريق ليس فيها مجالد .
(وقال) الشافعى وأَحمد : يؤكَل جَنِين الذبيحة وإِن لم يتم خلقه ، لما روى البيهقى عن ابن عُمر مرفوعاً وموقوفاً : ذكاة الجنين ذكاة أُمه أَشعر أَو لم يشعر ، وفى سنده مبارك بن مجاهد ضعيف. ذكره الزرقانى(3){51}.
( وقال ) أَبو حنيفة : لا يحل جنين الذبيحة إِلاَّ إِن خرج حَيًّا وذكى .
( وحمل ) الحديث على التشبيه ، فالمعنى ذكاة الجنين إِذا خرج حَيًّا كذكاة أُمه .
(
__________
(1) 353 ج 2 زرقانى الموطإ ( ذكاة ما فى بطن الذبيحة ) .
(2) ص 63 ج 3 تكملة المنهل ( ذكاة الجنين ) وباقى المراجع بهامش 4 ص 65 منه .
(3) ص 354 ج 2 زرقانى الموطإ ( ذكاة ما فى بطن الذبيحة ) .(1/45)
وهذا ) التأُويل بعيد ، لما تقَدَّم عن ابن عُمر رضى الله عنهما ، ولما رواه البيهقى بلفظ : ذكاة الجنين بذكاة أُمه . فالحجَّة مع الأَولين ( قال ) ابن المنذر : لم يَرِد عن أَحد من الصحابة ولا من العلماءِ أَنّض الجنين لا يؤكَل إِلا باستئناف ذكاة فيه إِلاَّ ما يُرْوَى عن أَبى حنيفة (1).
11 – ذبح أضحية الغير :
لَوْ غَلط اثنان فذَبَحَ كُلٌّ أَضْحِيَةَ الآخر عن نفْسِه ، صَحَّ استحساناً عند الحنفيين والحنبلية . وتقَعُ كُلّ أُضْحِية عن مالِكِها ، لأَنَّهَا تعينَتْ للذَّبح بتعيينها للأُضْحِيَة . ولا ضمان بعد العِلْم بالغَلَط إِنْ رَضِىَ كُلٌّ بفِعْل صاحِبِه ، وإِلاَّ وَقَعَتْ ذَبِيحة كُلٍّ عن نفسه وضَمِنَ لصاحبه قيمةَ لحمه فيتصَدَّقَ بها ، لأَنها بدل عن اللحم فصار كما لَوْ بَاعَه . وكذا لو تَعَمَّدَ فَذّبَح أُضْحِيَةَ رَجُل عن نفْسِه بلا إِذْنِه عند الحنفيين . فإِنْ أَخَذَهَا المالك مذبوحة ولم يُضَمِّنه القيمة وقعت عنه ، لأَنَّهُ نَوَاها فلا يَضُرّه ذَبْح غيره وإِنْ ضَمَْنه قيمتها وقعت عن الذابح ، لأَنه ظهر أَنَّ الإِراقة حصلت على مُلْكِه. وإِذا ذبحها عن المالك بغير إِذْنِه وقعت عن المالك ول ضمان لوجود الإِذن بذبحها دلالة حيث نَوَى ذبحها عند الشراءِ فتعينَتْ للأُضْحِية ( وحاصله ) ما ذكَرَهُ ابن عابدين بقوله : لو غَلط فذبح أُضْحِية غيره عن نفسِه فالمالك بالخيار إِنْ ضَمَّنه قيمتها وقعت عن الذابح وإِلاَّ فَعَن المالك وكذا لو تَعَمَّدَ وذبحها عن نفسه . وأَمَّا لو ذبحها عن المالك وَقَعَتْ عن المالك ، وهل له الخيار أَيضاً ؟ لم أَرَه . والظاهر نعم(2) .
(
__________
(1) ص 282 ج 4 معالم السنن ( باب ذكاة الجنين ) .
(2) ص 229 ج 5 رد المختار ( أما إذا ذبحها عن مالكها ) .(1/46)
وقال ) الشيخ منصور بن إِدريس : لو ضَحَّى اثنان كُلٌّ بأُضْحِِية الآخر عن نفسه غلطاً كَفَتْهُمَا ولا ضمان استحساناً . والقياس ضمانهما . ونقل الأَثْرَم وغيره فى اثنين ضَحَّى هذا بأُضْحِيَة هذا يترادان اللحم ويُجْزئ . ولو فرق كُلٌّ منهما لحم ما ذبحه صَحَّ لإِذْنِ الشرع فى ذلك ، وإِنْ ذَبَح أُضْحِيَةً معينةً فى وقتها بغير إِذْنِ رَبِّها ونواها عن ربها أَوْ أُطلق ، أُجْزأَتْ ولا ضمان على الذابح ، لأَنَّ الذَّبح لا يفتقر إِلى النِّيَّة ، فإِذا فعله غير صاحبه أَجْزأَ عن صاحبه . ولأَنها وقعَتْ موقعها بذبحها فى وقتها فلم يضمن ذابحها حيث لم يكُن مُتَعَدِّياً . وإِنْ نَوَى الذابح التَّضْحة عن نفْسِه مع عِلْمِه أَنَّهَا أُضْحِية الغير لم تُجزئ عن مالِكِها ويضمن الذابح قيمتها إِنْ فرق لحمها وأرش الذبح إِنْ لم يفرقها لغصبه ، واستيلائه على مال الغير وإِتلافه أَو تنقيصه عُدْوَاناً . وإِنْ ذبحها عن نفْسِه غير عالم أَنها أُضْحِية الغير لا شتباهِها عليه ، أَجزأَت عن ربها إِنْ لم يفرق الذابح لحمها . وإِنْ أَتْلَفَ الأُضْحِية صاحبها ضَمِنَهَا بقيمتِها يوم التلف فى محله وصرف قيمتها فى مثلها . وإِنْ فضل من القيمة شئٌْ عن شراءِ المثل لنحو رخص ، اشترى به شاة أَوْ سُبع بدنة أَوْ بقرة إِن اتَّسَع لذلك وإِلاَّ اشْتَرى به لحماً فتصَدَّقَ به أَوْ يتصدَّق بالفضل . اهـ ملخصاً (1).
(
__________
(1) ص 641 ج 1 كشاف القناع ( تتمة ) .(1/47)
وحاصل ) مذهب المالكية أَنَّ مَنْ ذبح أُضْحِية غيره لعادة وكان قريباً أَوْ صديقاً أَجْزَأَت اتفاقاً . وفى إِجزاءِ ذبح الأَجنبى لعادة خلاف . وأَمَّا إِنْ ذبحها لغير عادة بغير أَمره فلا تُجزئ عن واحد منهما . فإِنْ أَخَذَ المالك قيمتها فليس للذابح إِلاَّ أَكْل اللحم أَو التَّصَدُّق به ، لأَنه ذبحه على وَجْه التَّضْحِية . وإِنْ أَخَذَ المالك اللحم ، تَصَرَّف فيه بالْبَيْع وغيره لأَنه لم يقصد بذبحه التَّضْحِية وعليه بدلها .
( وقالت ) الشافعية : إِنْ ذَبْحَ رَجُل أُضْحِيَةَ غيره فى وقتها بغير إِذْنِه ، أَجْزأت عن المالك . وله على الذبح فرق ما بين قيمتها صحيحة وذبوحة ، لأَنَّ الذبح أضحد مقصودى التَّضْحِيَة ، فإِذا فعله فاعل بغير إِذْنِ المضَحّى ضَمِنَهُ كتفرقة اللحم .
12 – قضاء الأضحية :
لَوْ لم يُضَحّ حتى مَرَّت أَيامها ( فإِنْ كان ) أَوْجَبها على نَفْسِه بالنَّذْر أَو اشتراها ولو غَنِيًّا ، وَجَبَ عليه التَّصَدُّق بها حَيَّة أَو بقيمتها ، لأَنَّهَا تعينَتْ بالنَّذْر أَو بالشَّرَاءِ بنيتها فلا يُجْزئه غيرها . ولذا لَوْ ذَبَحها ونقصها الذبح بأَن كانت قيمتها بعده أَقَلّ منها قبله ، تَصَدَّقَ بقدر النقص ، ولا يَأْكُلِ منها لانتقال الواجب من إِراقة الدم إِلى التَّصَدُّق ، فإِنْ أَكَلَ تَصَدَّق بقيمة ما أَكَل ( وإِنْ كان ) غَنِيًّا ولم يوجب على نَفْسِه ذبيحة بعينها ، لَزِمَهُ التَّصَدُّق بقيمة شَاةٍ تُجزئ فى الأُضْحِية لوجوبها فى ذِمَّتِه بإِيجاب الله تعالى . وهذا مذهب الحنفيين .
( وقال ) غيرهم : إِنْ كانت تَطَوُّعاً لا تقضى . أَما الواجبة بنَذْرٍ أَو تعيين بقوله هذه أُضْحِيَة فتقضى .
((1/48)
قال ) أَبو الفرج عبد الرحمن بن قدامة : إِذا فاتَ وقْت الذبح ، ذبح الواجب قضاءً وصَنَعَ به ما يُصْنَع بالمذبوح فى وقته ، لأَنَّ حُكْم القضاءِ حكم الأَداءِ ( فأَمَّا ) التطوع فهو مُخَيَّر فيه ، فإِنْ فرق لحمها كانت القربة بذلك دون الذبح ، لأَنها شَاةَ لحم وليست أُضْحِية . وبهذا قال الشافعى . وقال أَبو حنيفة : يُسَلِّمها إِلى الفقراءِ ولا يذبحها ، فإِنْ ذبحها فرق لحمها وعليه أَرش ما نقصها الذبح ، لأَنَّ الذبح قد سقط بفواتِ وقته كالوقوف والرمى ( ولنا ) أَن الذبح أَحد مقصودى الأُضْحِية فلم يسقط بفوات وقته كتفرقة اللحم ، ولأَنه لأَوْ ذبحها فى الوقت ثم خرج " الوقت " قبل تفرقتها فرقها بعد ذلك . وبهذا فارق الوقوف والرمى ، ولأَنَّ الأُضْحِية لا تسقط بفواتها بخلاف ذلك . " فإِن ضَلَّت " الأُضْحِية التى وجبت بإِيجابه لها أَوْ سُرِقت بغير تفريط منه " فلا ضمان " عليه ، لأَنَّهَا أَمانة فى يده ، فإِنْ عادت بعد الوقت ذبحها على ما ذكرناه (1) .
13 – التضحية عن الميت :
يجوز إِشراكُ المِّيت فى أَجْر التَّضْحِية اتفاقاً " لحديث " أَبى رافع أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم كان يُضَحِّى بكَبْشَيْن أَقْرَنَيْن أَحَدُهما عن أُمَّتِه مَنْ شَهِدَ لله بالتوحيد وشَهِدَ له بالبلاغ . والثانى عن نَفْسِه وأَهل بيته . أَخرجه أَحمد والبزار بسند حسن مختصراً (2) {25} .
(
__________
(1) ص 557 ج 3 الشرح الكبير ( فإن فات الوقت ) .
(2) انظره تاماً ص 61 ج 13 الفتح الربانى ، وص 21 ج 4 مجمع الزوائد ( أضحيته صلى الله عليه وسلم ) .(1/49)
ومعلوم ) أَنَّ كثيراً منهم كانوا قد مَاتُوا فى عهده صلى الله عليه وسلم فدخل فى أُضْحِيَتِه صلى الله عليه وسلم الأَحياءُ والأَمواتُ كلهم . والكَبْشُ الواحدُ الذى يُضَحِّى به عن أُمَّتِه كما كان للأَحْيَاءِ من أُمَّتِه كذلك كان للأَمواتِ منهم بلا تفرقة . وكذا تَجُوز التَّضْحِية عن المِّيت إِذ أَوْصَى بها فى حياته عند بعضهم ( رَوَى ) حنش عن علىّ رضى الله عنه أَنه كان يُضَحِّى بكَبْشَيْن أَحَدُهُمَا عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم والآخر عن نَفْسِه ، فقيل له ، فقال : أَمَرنى به – يعنى النبى صلى الله عليه وسلم – فلا أَدَعَهُ أَبداً . أَخرجه الترمذى وقال : هذا حديث غريب لا نعرفه إِلاَّ من حديث شريك . وقد رَخَّصَ بعض أَهْل العِلْم أَن يُضَحّى عن المّيت . ولم يَرَ بعضهم أَن يُضَحّى عنه . وقال عبد الله بن المبارك : أَحَبّ إِلىّ أَن يتصدق عنه ولا يُضَحّى ، وإِنْ ضَحَّى فلا يأْكُل منها شيئاً ويتصدَّق بها كُلها . وأَخرج نحوه أَحمد وأَبو داودج والحاكم وصححه(1) {53} .
( وممن ) قال بهذا الحنفيون وأَبو بكر بن العربى المالكى والقفَّال الشافعى .
(
__________
(1) ص 353 ج 2 تحفة الأحوذى ( الأضحية بكبشين ) وص 109 ج 13 الفتح الربانى ، وص 6 ج 3 تكملة المنهل ( الأضحية عن الميت ) وباقى المراجع بهامش 4 ص 7 منه .(1/50)
قال ) النووى : وأَمَّا التَّضْحِية عن الميت فقد أَطلق أَبو الحسن العبادى جوازها ، لأَنها ضَرْب من الصدقة تَصِحّ عن الميت وتنفعه وتَصِل إِليه بالإِجماع ( وقال ) صاحب العدة والبغوى : لا تَصِحّ التَّضْحِية عن الميت إِلاَّ أَن يُوصِى بها ، وبِه قَطَعَ الرافعى ( وقال ) أَصحابنا : وإِذا ضَحَّى عن غيره بغير إِذْنِه فإِنْ كانت الشَّاة معينة بالنَّذْر وقعت عن المضَحّى وإِلَّ فلا . وأَطلق الشَّيْخ إِبراهيم الْمَرْوَزِىّ أَنها تقَعُ عن المضَحّى . ولو ذَبَح عن نَفْسِه وأَشْرَكَ غيره فى ثوابها جاز . قالوا : وعليه يُحْمَل الحديث المشهور عن عائشة أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم ذَبّحَ كَبْشاً وقال : باسْم الله ، اللَّهم تقَبَّلْ من محمدٍ وآل محمدٍ وعن أُمَّة محمدٍ . ثم ضَنحَّى به . رواه مسلم (1){54} ( واحتج ) العبادى وغيره فى التَّضْحية عن الميت(2).
هذا ، وهؤُلاءِ قالوا كابن المبارك : لا يجوز للمضَحِّى عن الميت أَنْ يَأْكُل منها شيئاً ، لأَنَّ الذابح لم يتقرب بها عن نفْسِه وإِنما يتقرب بها عن غيره ، فلا يجوز له أَن يأْكُل من حق الغير شيئاً .
(
__________
(1) هذا عجز حديث ص 121 ج 13 نووى مسلم ( استجباب الضحية وذبحها مباشرة ) .
(2) ص 406 ج 8 شرح المهذب ( فرع لوضحى عن غيره بغير إذنه لم يقع عنه ) .(1/51)
وقال ) الحنفيون : إِنْ ضَحِّى عن الميت بأَمره لا يأْكُل منها . إِنْ كان مُتَبَرِّعاً فله الأّكْل منها ( قال ) العلامة ابن عابدين : لَوْ ضَحَّى عن مَيِّت وارثُه بأَمْره لَزِمَهُ التَّصَدُّق بها وعدم الأَكْل منها . وإِنْ تبرَّع بها عنه ، له الأَكْل ، لأَنه يقَعُ على ملك الذابح والثواب للميت . ولهذا لو كان على الذابح واحدة سقطت عنه أُضْحِيَته . وقد صرح فى فح القدير فيمن حج عن الغير بلا أَمره أضنه يقع عن الفاعل فيسقط به الفرض عنه وللآخر الثواب(1).
( وقال ) بعض الفقهاء : لا تجوز التَّضْحِية عن الميت منفرداً ( وأَجابوا ) عن حديث علىّ بأَنه ضَعِيف . فإِنَّ فى سنده شريك بن عبد الله القاضى ، فيه مقال ، وأَبو الحسناءِ شَيْخه مجهول ، وحنش الكنانى تكلم فيه غير واحد ، وكان كثير الوهم فى الأَخبار ينفرد عن علىّ بأَشياءِ لا تُشبه حديث الثقات حتى صار ممن ل يحتجّ به .
( قال ) محمد بن عبد الرحمن : لم أَجِدْ فى التَّضْحِية عن الميت منفرداً حديثاً مرفوعاً صحيحاً . وأَمَّا حديث علىّ المذكور فضعيف كما عرفت ، فإِذا ضَحَّى الرَّجُل عن الميت منفرداً فالاحتياط أَن يتَصَدَّق بها كلها(2) .
(
__________
(1) ص 236 ج 5 رد المحتار ( آخر كتاب الأضحية ) وص 354 ج 2 تحفة الأحوذى ( الأضحية بكبشين ) .
(2) انظر المراجع بهامش 3 ص 7 ج 3 تكملة المنهل ( الَحية عن الميت ) .(1/52)
أَمَّا ) إِذا أَشْرَك الميت مع الحىّ فله الأَكْل منها ، فإِنه لم يُنْقَل عنه صلى الله عليه وسلم فى الأُضحِية الى كان يُضَحِّى بها عن نفسه وأهْل بَيْتِه وعن أُمَّتِه الأَحياء والأَموات أَنه تَصَدَّق بجميعها ، أَو تَصَدَّق بجزءِ مُعَيَّنِ بقدر حِصَّة الأَموات ، بل قال أَبو رافع : إِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إِذا ضَحَّى اشترى كَبْشَيْن سَمِينَيْن أَقْرَنَيْن أَمْلَحَيْن ، فإِذا صَلَّى وخطَبَ الناس أُتِيَ بأَحدهما وهو قائم فى مُصَلاَّه فذَبَحَهُ بنَفْسِه بالمدية ، ثم يقول: اللَّهم هذا عن أُمَّتى جميعاً ، مَنْ شَهِدَ لك بالتَّوْحِيد وشَهِدَ لى بالبلاغ . ثم يُؤْتَى بالآخر فيذبحه بنفسِه ويقول : هذا عن محمد وعن آل محمدٍ ، فَيُطْعِمهما جميعاً المساكين ويأْكُل هُوَ وأَهْله منهما ، فمكَثْنَا سِنِين ليس الرَّجُل من بنى هاشم يُضَحِّى ، قد كَفَاهُ الله المئونةَ برسول الله صلى الله عليه وسلم والغُرْمَ . أَخرجه أَحمد والبزار والطبرانى فى الكبير بسند حسن (1){55} .
( فعلم ) منه أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم كان دَأْبُهُ أَنْ يأْكُلَ مِنَ الأًضْحِية هُوَ وأَهْله ويُطْعِمَ منها المساكين، وأَمَرَ بذلك أُمِّتَهُ ، ولم يُحفظ عنه خلافه .
14 – ما يطلب من المضحى :
يُطْلَبُ ممنْ أَرَادَ التَّضْحِيةَ عِدَّة أُمور :
( 1 ) أَلاَّ يأْخُذُ من شَعْر ولا من أَظفاره شيئاً إِذا دَخَلَ شَهْر ذِى الحجَّة ، لما تقَدَّمَ عن أُمّ سَلَمة أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال : مَنْ رَأَى هِلآ ذِى الحجَّة وأَراد أَن يُضَحَّى فلا يأْخَذَنَّ من شَعْره وأَظْفَاره . أَخرجه الترمذى(2){56} .
__________
(1) انظر المراجع بهامش 3 ص 7 ج 3 تكملة المنهل ( الَحية عن الميت ) .
(2) تقدم رقم 7 ص 6 ( حكم التضحية ) .(1/53)
" وعن أُمّ سَلَمة " أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال : مَنْ كانَ لَهُ ذِبْحٌ يذبحه فإِذا أَهَلَّ هلال ذِى الحجَّة فلا يأْخُذَنَّ من شَعْره وأَظْفَاره شيئاً حتى يُضَحِّى . أَخرجه مسلم وأَبو داود(1) {57} .
( ولهذا ) قال سعيد بن المسّيب وأَحمد وإِسحاق وداود الظاهرى وبعض أَصحاب الشافعى : يحرم على مُرِيد التَّضْحِية أَخْذ شَئٍْ من شَعْر وأَظْفَاره إِذا هَلَّ ذُو الحجَّة حتى يُضَحِّى ( وقال ) مالك : حرم ذلك فى أُضْحِية التطع دون الاجبة .
( وقال ) الحنفيون : يُكْرَه ذلك كراهةَ تنزيه ، وهو مشهور مذهب الشافعى ورواية عن مالك ، وحملوَا النَّهْى فى الحديث على التنزيه " لقول " عائشة : فتّلت قلاند بُدُن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدى ، ثم أَشْعَرها وقَلَّدَها ، ثم بعث بها إِلى البيت وأَقام بالمدينة ، فما حرُم عليه شَئُْ كان له حلالاً. أَخرجه السبعة والطحاوى(2){58}
والأُضْحِية كالهدْى ، فيحمل النَّهْى فى حديث أُم سَلَمةَ على كَرَاهة التنزيه جمعاً بينه وبين حديث عائشة ( قال ) النووى : قال أَصحابنا المراد بالنَّهْى عن أَخْذ الظُّفر والشَّعر النَّهْى عن إِزالة الظُّفر بقَلم أَوْ كَسْر أَو غيره ، والمنع من إِزالة الشَّعر بحلقٍ أَو تَقْصِيرٍ أَوْ نَتْفٍ أَوْ إِحراقٍ أَوْ أَخْذه بنوره أَو غير ذلك ، وسواءٌ الإِربط والعانَةِ والرَّأْس وغير ذلك ذلك من شُعور البدن .
__________
(1) ص 139 ج 13 نووى مسلم ، وص 7 ج 3 تكملة المنهل ( الرجل يأخذ من شعره فى العشر وهو يريد أن يضحى ( والذبح بكسر فسكون : الحيوان يراد ذبحه . فهو فعل بمعنى مفعول ، ومنه قوله تعالى : " وفديناه بذبح عظيم " .
(2) ص 14 ج 1 تكملة المنهل ( من بعث بهدية وأقام ) وباقى المراجع بهامش 5 ص 15 منه .(1/54)
وقال بعض أَصحابنا : حُكْم أَجزاءِ البدن كحُكْم السَّعر والظُّفر ، لقوله فى الرواية السابقة : فلا يمسّ من شعره وبشره شيئاً . والحكمة فى النَّهْى بقاءِ أَجزاءِ المضَحّى كاملة للعِتْق من النار(1) .
(2) ويُسَنّ للمضَحّى قَصّ الأَظافر والشَّارِب وحَلْق الْعَانَة يوم التَّضْحِية " لحديث " عمرو بن العاص أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لِرَجُل – سأَلة عن الضَّحِيَّة وأَنه قد لا يجدها – تأْخُذُ من شَعْرك وأَظْفَارِك وتَقُصّ شَارِببك وتحلق عانَتَك ، فذلك تمام أُضْحِيَتِكَ عند الله عَزَّ وجلَّ أَخرجه أَحمد وأبو داود والنسائى(2){59} .
(
__________
(1) ص 38 ج 13 شرح مسلم ( نهى مريد التضحية أن يأخذ من شعره أو أظفاره شيئاً ) .
(2) ص 69 ج 13 الفتح الربانى ، وص 5 ج تكملة المنهل ( ايجاد الأضاحى ) وص 202 ج 2 مجتبى ( من لم يجد الأضحية ) .(1/55)
3) ويُطْلَب من المضَحَّى التَّسْمِية عند الذبح لقوله تعالى : " فاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ " (1). والمنقول فيها باسْم الله والله أَكْبر " لحديث " جابر أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وعلى آله ويلم لَمَّا وجه الأُضْحِية قال : إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِى للذى فَطَرَ السَّمواتِ والأَرض على مِلَّةِ إِبراهيم حَنِيفاً وما أَنَا مِنَ المشْرِكِين ، إِنَّ صَلآنى ونُسُكِى وَمَحْيَاى ومماتى لله رَبً العالمين ، لا شرِيكَ له وبِذَلِكَ أُمِرْتُ وأَنَا مِنَ المسلمين . اللَّهُمَّ مِنْكَ وإِلَيْكَ اللَّهُمَّ عن محمدٍ وأُمَّتِه . باسْم اللهِ والله أَكْبر . ثم ذَبَح . أَخرجه أَحمد وأَبو داود وابن ماجه والدارمى (2){60} . وفى سنده : ( ا ) محمد بن إِسحاق وقد عَنْعَن . ( ب ) أبو عياش ضعيف " ولقول " أَنِس : كان النبى صلى الله عليه وسلم يُضَحِّى بكَبْشَيْن أَمْلَحَيْن أَقْرَنَيْن ويقول : باسْم الله والله أَكْبر . أَخرجه السبعة والدارمى . وهذا لفظ مسلم(3) {61} .
( فإِن ) ترك التَّسْمية عَمْداً مع القدرة لا تؤكَل الذبيحة عند الحنفيين ومالك وأَحمد ، لقوله تعالى : " وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ "(4) .
( وقالت ) الشافعية : تحل مع الكَراهة ، لأَنَّ التَّسْمية عندهم سُنَّة لا شرط .
(
__________
(1) سورة الحج ، من آية 36 ، وصدرها : " والبدن جعلناها " . و ( صواف ) أى قائمات على ثلاث .
(2) ص 12 ج 3 تكملة المنهل ( ما يستحب من الضحايا ) وباقى المراجع بهامش 3 ص 13 منه . و ( حنيفاً ) أى مائلا عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق .
(3) ص 121 ج 13 نووى مسلم ، وص 11 ج 3 تكملة المنهل . وباقى المراجع بهامش 2 ص 12 منه .
(4) سورة الأنعام ، الآية 121 .(1/56)
وإِنْ ) تُركَتْ سهواً تحل اتفاقاً " لحديث " ابن عباس أَنَّ النبىَّ صَلى الله عليه وسلم قال : المسلم يكْفِية اسمه فإِنْ نَسِىَ أَنْ يُسَمِّى حين يذبح فلْيُسَمّ ثم يأْكُل . أَخرجه الدارقطنى(1) {62} . وفى سنده محمد بن يزيد ابن سنان ، وهو صدوق ضعيف الحفظ " ولقول " ابن عباس رضى الله عنهما : مَنْ نَسِىَ التَّسْمِية فلا بَأْس ، ومَنْ تَعَمَّدَ فلا تؤكَل . أَخرجه أَبو الحسن رزين بن معلوية وعبد الرازق بسند صحيح(2) {12}.
(4) ويُسَنُّ لمنْ يُحْسِن الذبح أَنْ أَنْ يذبح أُضْحِيَته بيده ويقول : باسْم الله والله أَكْبر ، اللَّهمَّ هذا عن فُلن ويُسَمِّى نفسه " لحديث " المطلب ابن عبد الله عن جابر رضى الله عنه قال : شَهِدْتُ مع النبىِّ صلى الله عليه وسلم الأَضحَى بالمصَلَّى ، فلَمَّا قَضَى خُطْبته نَزَلَ عن مِنْبَره وأُتِىَ بكَبْش فذَبَحَهُ بيده ، وقال : باسْم الله والله أَكْبر ، اللَّهمَّ هذا عَنِّى وعَمِّنْ لم من هذا الوجه (3) {63} . والمطلب يُقَال إِنه لم يسمع من جابر ، لكن قال أَبو حاتم الرازى : يُشْبه أَن يكون أَدركه .
(
__________
(1) ص 549 سنن الدارقطنى ( باب الصيد والذبائح .. ) و ( يكفيه اسمه ) الضمير للمسلم ، وقد فسره ابن عباس بقوله : فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله . أخرجه البيهقى والدارقطنى [11] ص 549 منه .
(2) ص 45ج 2 تيسير الوصول ( آداب الذبح ومنهياته ) .
(3) ص 31 ج 3 تكملة المنهل ( الشاة يضحى بها عن جماعة ) وباقى المراجع بهامش 5 ص 33 منه .(1/57)
5) ويُنْدَب لمن لم يُحسِن الذبح أَنْ يَأْمُر غيره بالذبح ويشهده " لحديث " عمران بن حُصَين أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال : يا فاطمةَ قُومى فاشْهَدِى أُضْحِيَتِك فإِنه يغفر لك عند أَوَّل قطرةٍ من دمها كُلَّ ذَنْبٍ عَمَلْتِه ، وقولى : إِنَّ صَلآتِى وَنُسُكِى وَمَحْياىَ وَمَمَاتِى ِللهِ رَبِّ الْعَالَمينَ . لآ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمينَ ( قال ) عمران : يا رسول الله ، هذا لَكَ ولأَهْل بَيْتِكَ خاَّصة – فأَهل ذلك أَنتم – أَوْللمسلمين عاَّمةً قال : بَلْ للمسلمين عامَّةً. أَخرجه الطبرانى فى الكبير والأَوسط والحاكم وصححه. ورد بأَن فى سنده أَبا حمزة الثمالى وهو ضعيف(1){64}
( 6 ) ويُنْدَب – عند مالك والجمهور – للإمام إِبراز الأُضْحِية وذبحها فى المصَلَّى ، لما تقَدَّم فى حديث أَبى رافع أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك(2) ، ولما تقَدَّم عن جابر (3) ( وقال ) النووى : الأَفْضَل أَنْ يُضَحِّى فى داره بمشْهَدِ أَهْلِهِ . وذكَرَ الماوردى أَنه يختار للإِمام أَن يُضَحِّى للمسلمين كافة من بيت المال ببدنة فى المصَلَّى م ماله ضَحَّى حيثُ شاءَ (4) . وعن ابن عُمر أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم كان يذبح أُضْحِيَتَهُ بامصَلَّى . أَخرجه أَحمد وأَبو داود والبخارى والنسائى وابن ماجه(5) {65} .
(
__________
(1) ص 17 ج 4 مجمع الزوائد ( فضل الأضحية وشهود ذبحها ) وص 222 ج 4 مستدرك .
(2) تقدم رقم 52 ص 44 ( التضحية عن الميت ) .
(3) هو الحديث رقم 60 ص 49 .
(4) ص 425 ج 8 شرح المهذب ( السادسة ) من مسائل الأضحية .
(5) ص 34 ج 3 تكملة المنهل ( الإمام يذبح بالمصلى ) وباقى المراجع بهامش 3 منه .(1/58)
7) و (8) ويُنْدَب حَدّ السكِّين وإِراحة الذَّبيحة " لحديث " شَدَّاد ابن أَوْس أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّ تعالى كَتَبَ الإِحسانَ على كُلِّ شَئٍْ ، فإِذا قَتَلْتُم فأَحْسِنُوا الْقِتْلَة ، وإِذا ذَبَحْتُم فأَحْسِنُوا الذبح ،ولْيُحِدَّ أَحدكُم شَفْرَتَه ولْيرُحْ ذَبِيحَتَه . أَخرجه الشافعى والسبعة إِلاَّ البخارى والترمذى(1) {66} .
(9) إِلى ( 16 ) ويُنْدَب إِضْجَاع غير الإِبل برفقٍ على اليسار ، وتوجيه مذبحها إِلى الْقِبْلَة ليتمكِّن الذابح من استقبال أَيضاً ، والدعاءِ بالقبولِ ، وأَن يقول : إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِى للذى فَطَرَ السَّمَواتِ والأَرض على مِلَّةِ إِبراهيم حَنِيفاً وما أَنَا مِنَ المشركين ، إِلى آخر ما فى حديث جابر(2) ، والذبح باليمين ، وإِسراع الذبح ، وإِجراءِ المدية على الحلق ، وعدم ذَبْحِها أَمام ذَبِيحَةٍ أُخرى ، لما تقدَّم ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : يا عائشةَ هَلُمِّى المدية ، ثم قال : اشْحَذِيها بحَجَر ، ففعَلَتْ ، ثم أَخَذَها وأَخَذَ الكَبْش وأَضْجَعَهُ ثم ذَبَحَهُ ، ثم قال : باسْم الله ، اللَّهمَّ تقَبَّلْ من محمدٍ وآل محمدٍ ، ومن أُمَّة محمدٍ . ثم ضَحَّى به (3){67} .
(
__________
(1) ص 42 ج 3 تكملة المنهل . وباقى المراجع بهامش 1 ص 43 منه .
(2) تقدم رقم 60 ص 49 ( ويطلب من المضحى التسمية ) .
(3) تقدم بالحديث رقم 38 ص 29 ( الاشتراك فى الأضحية ) .(1/59)
قال ) النووى : فيه دليلٌ لا ستحباب قول المضَحِّى حال الذبح مع التَّسْمِية والتَّكبير : اللَّهمَّ تَقَبَّلْ مِنِّى . قال أَصحابنا : ويُسْتَحَبّ معه : اللَّهمَّ منك وإِليك تقَبَّلْ مِنِّى . فهذا مُسْتَحَبّ عندنا وعند الحسن وجماعة ، وكَرِهَهُ أَبو حنيفة وكره مالك اللَّهمَّ منك وقال : بِدْعَة (1) والحديث يردّه . وفيه دليل على استحباب إِضْجَاع الغَنَم وكذا البقر ، لأَنه أَرْفَق بها ، وعليه أَجْمَع المسلمون .
فإِن اقتصر على التَّسْمِية أَوْ وَجَّهَ الذبيحة إِلى غير الْقِبْلة ترك الأَفْضَل وأَجْزَأَهُ عند الجمهور . وكَرِهَ ابن عُمر وابن سِيرين الأَكْل من الذَّبيحة إِذا وُجِّهَتْ إِلى القبلة . والصَّحيح أَنه غير واجب ، لأَنَّهُ لم يَقُمْ عليه دليل .
(
__________
(1) ص 122 ج 13 شرح مسلم ( استحباب الضحية وذبحها مباشرة ) .(1/60)
17) و(18) ويُسَنّ نَحْر الإِبل قائمةً معقولة الرِّجْل الْيُسْرى الأَمامية عند الأَئِمة الأَربعة والجمهور " لقوله " تعالى : " فاذكُرُوا اسْم اللهِ عَليْها صوَافَّ " . ( قال ابن عباس ) : إِذا أَردْتَ أَنْ تَنْحَر البدَنَة فأَقمها ثم قُل : اللهُ أَكْبر، اللهُ أَكْبر منك ولك ، ثم سَمّ وانْحَرْها . أَخرجه الحاكم(1){13} . وقال عطاءٌ : يُسْتَحبُّ ذَبْحها وهى بارِكَة . وجَوَّز الثورىّ كِلآ الأَمْريْن " قال " أَبو الفرج عبد الرحمن بن قدامة : ولنا ما رَوَى زياد بن جُبير قال : رأَيْتُ ابن عُمر أَتى على رَجُل أَناخَ بدنَتهُ لِينْحرها فقال : ابْعثْها قياماً مُقَيَّدَة ، سُنَّةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، متفق عليه {68}. ورَوَى أَبو داود بإِسناده عن عبد الرحمن بن سابط أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم وأَصحابه كانوا ينْحَرُونَ الدَنَة معقولةَ الْيُسْرَى قائمةً على ما بقى من قوائمها {69} . وفى قول الله تعالى : " فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا " (2) دليل على أَنها تُنْحر قائمة . وقِيلَ فى تفسير قوله تعالى : " فاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ " أَىْ قياماً وكَيْفَمَا نحر أَجْزَأَهُ (قال) أَحمد : وينحر الإِبل معقولة على ثلاثِ قوائم ، فإِنْ خَشِىَ عليها أَن تنفر أَنَاخَها(3) . ويُسَنُّ ذبْح البقر والغنم . وقال الله تعالى : " إِنَّ يأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبحُوا بَقَرَةً " (4) ، وتقَدَّمَ عن أَنَس أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم ضَحَّى بكَبْشَيْن ذبَحهُما بيده(5) .
__________
(1) ص 389 ج 2 مستدرك ( تفسير سورة الحج ) .
(2) وجبت جنوبها ، أى سقطت على الأرض ، وهو كناية عن الموت .
(3) ص 548 ج 3 الشرح الكبير ( السنة فى النحر والذبح ) .
(4) سورة البقرة من الاية 67 ، وصدرها : وإذا قال موسى لقومه " .
(5) تقدم رقم 1 ص 3 ( الأضحية ) .(1/61)
فإِنْ ذَبح ما يُنْحر أَوْ نَحَرَ ما يُذْبح جازَ ، لأَنه لم يتجاوز محل الذبح .
( 19 ) ويُنْدَبُ للوَارِثِ ذَبْح أُضْحِيَة مُورّثة إِنْ عَيَّنها قبل مَوْتِه ما لم تكن منذُورَة وإِلاَّ وَجَب ذَبْحها . وكَذَا إِن اشترطها فى وَقْفٍ له . وبهذا قالت الحنفية والمالكية .
وعند الحنبلية المعينة كالمنذُورَة . ولَوْ أَوْجَبَها بنَذْرٍ أَوْ تَعْيين ثم ماتَ قبل الذبح أَو بعده ، قام وَارِثَهُ مقامه فى الأَكُل والإِهداءِ والصَّدَقة .
( 20 ) و ( 21 ) ويُسْتَحَبُّ التَّضْحِية بالأَسْمَن وتَسْمِين الأُضْحِية ، فالتَّضْحِية بشاةٍ سَمِينَةٍ أَفْضَل من شاتَيْن دونها ( قال ) النووى : قال أَصحابنا : كَثْرَةُ اللَّحم أَفْضَل من كَثْرَةِ الشَّحْم إِلاَّ أَنْ يكُون لحماً رديئاً . وأَجمع العلماءُ على استحبابِ السَّمين فى الأُضْحِية ، واختلفوا فى استحبابِ تَسْمِينها . فمذهبنا ومذهب الجمهور استحبابه .
( وقال ) بعض المالكية : يُكْرَهُ لِئَلاَّ يَتَشَبَّةَ باليهود ، وهذا قول باطل وقد ثبت فى صحيح البخارى عن أَبى أُمامة ، قال : كُنَّا نُسَمِّن الأُضْحِية ، وكان المسلمون يُسَمِّنُون(1) {14} .
15 – ما يكره فى الأضحية :
يُكْرَه فيها ترك سُنَّة مَّما تقَدَّم ( ويُكْرَه ) جَزّ صُوفها قبل الذبح لا بعده لحصول المقصود ، فإِنْ جَزَّهُ تصَدَّقَ به( ويُكْرَه ) ركُوبها والحمل عليها بلا ضرورة . ويُكْرَه تَأْجِيرها والانتفاع بلبَنِها ، فإِنْ كانَ ذبحها قريباً نَضَح ضرعها بالماءِ البارِد ، وإِلاَّ حلَبَهُ وتَصدَّقَ به . فإِنْ فَعَلَ شيئاً من ذلك تَصَدَّقَ بالثمن أَو الأُجرة أَو ما نقص ، لأَنه بشِرائِها تعينَتْ للقربة بجميع أَجزائِهَا ، فلا يحلّ الانتفاع بها ( ويُكْره ) إِبدالها بغيرها . وهذا مذهب الحنفيين .
(
__________
(1) ص 396 ج 8 شرح المهذب ( يستحب التضحية بالأسمن ) .(1/62)
وقالت ) المالكية : يُكْرَهْ جَزّ صُوف أُضْحِية التَّطَوُّع قبل الذبح إِنْ لم ينْو جزّه عند شرائِهَا لينتفع به بغير البيع ، وإِنْ لم ينبت مثله أَوْ قريب منه قبل الذبح . وإِلاَّ فلا كَراهة . أَما المنذورة فيحرم جَزّ صُوفها مطلقاً لتعينها للقربة ، وقِيلَ : هى كغيرها . ويجوز ركُوبها لغير حاجة .
((1/63)
وقالت ) الشافعية والحنبلية : لا يُكْرَه جَزّ صُوفِها وَوَبرِها إِذا كان أَنْفَع لها ، بقاءُ صُوفِها أَنْفَع لها لكُونِه يَقِيها الحرَ والبرد ، فلا يجوز جزّه . ويحرم شُرْب لَبنِها المحتاج إِليه وَلَدها لا الزَّائد عنه . وله ركوبها عند الضرورة إِنْ لم يضُرها عند الأَربعة ( لحديث ) جابر بن عبد الله أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال : اركَبْها بالمعروف إِذا أُلجئت إِليها حتى تجد ظهراً . أَخرجه أَبو داود وأَحمد ومسلم والنسائى(1){70} ، ولأَنه تعلَّقَ بها حق المساكين فلم يَجُزْ ركُوبها من غير ضرورة ، فإِن نقصها الركوب ضمن النقص ، لأَنه تعلَّق بها حق الير . فأَمَّا ركُوبها م عدم الحاجة ، فلا يجوز عند الحنفيين والشافعى ، وروى عن مالك وأّحمد لقوله صلى الله عليه وسلم : إِذا أُلجت إِليها . وعن مالك وأَحمد : أَنه يجوز ركُوب الضَّحِية ولو بلا حاجة لإِطلاق ما روى أَبو هريرة أَنَّ النبىَّ صلى اله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً يَسُوق بدنَة ، فقال : اركَبْها ، فقال : إِنَّهَا بَدَنَة ، فقال : اركَبْها ويلك . أَخرجه الشافعى والسبعة ، غير أَن الترمذى أَخرجه من حديث أَنس(2) {71} ( وأَجاب ) الأَوَّلون بأَنَّ الإِطلاق هُنا مُقَيَّد بما فى الحديث السابق . والراجح أَنه لا يركَب المضحى به إِلاَّّ عند الحاجة ( ويُكْرَه ) عند مالك والشافعى والجمهور شُرْب لَبن الأُضْحِية بعد رى فصيلها . وتَقَدَّمَ تَفْصِيل مذهب الحنفيين فى هذا . وإِنْ نقصها الركّوب والشُّرْب فعليه قيمة النقص عند الحنفيين والشافعى ، وقال مالك : لا يغرم شيئاً ولا يَحمل على الأُضْحِية مَتَاعه عند الحنفيين ومالك . وأَجازه الجمهور عند الحاجة .
__________
(1) ص 18 ج 1 تكملة المنهل ( ركوب البدن ) وباقى المراجع بهامش 2 ص 19 منه .
(2) ص 16 منه . وباقى المراجع بهامش 1 ص 18 منه .(1/64)
وقال أَحمد : لا يُكْرَه شُرْب لبنها الفاضِل عن وَلَدِها لما تقدَّم أَنَّ عَلِيًّا رضى الله عنه قال : لا تشرب لبنها إِلاَّ فَضْلاً (1) ( قال ) أَبو الفرج عبد الرحمن بن قدامة : ولأَنه انتفاع لا يَضُرّ بها ولا بولدا أُشْبه الركوب . وإَنْ تَصَدَّق به كان أَفْضَل خروجاً من الخلاف . وإِن احتلب ما يضُرّ بها أَوْ بولدها لم يجُزْ له وعلي لتَّصَدُّق به . وإِنْ شَرِبَهُ ضمنه لأَنه تَعَدَّى بأَخْذِه . وهكذا الحكم فى الهدْى ( فإِنْ قِيلَ ) فَصُوفها وشَعرها إِذا جزَّه تَصَدَّق به ولم ينتفع به ، فلم جَوَّزْتُمْ له الانتفاع باللَّبن ؟ ( قلنا ) الفرق بينهما من وجهين :
( أَحدهما ) أَنَّ لبنها يتولَّد من غذائِهَا وعَلَفِهَا وهو القائم به فجاز صرفه إِليه ، كما أَنَّ المرتهن إِذا علف الرَّهن كان له أَن يركَب ويحلب وليس له أَنْ يَأْخُذ الصُّوف ولا الشَّعْر . ( الثانى ) أَنَّ الصُّوف والشَّعْر ينتفع به على الدوام فجرى مجْرَى جِلْدِها وأَجزائِهَا . واللَّبن يُشْرب ويؤخَذ شيئاً فشيئاً فجَرَى مجْرَى جِلْدِها وأَجزائِهَا . واللَّبن يَشرْب ويؤخَذ شيئاً فشيئاً فجَرَى مجرَى منافعها وركُكوبها ، ولأَنَّ اللَّبن يتجدَّد كل يوم . والصُّوف والشَّعْر عين موجودة دائمة فى جميع الحوْل(2).
( ويُكْرهُ ) ذبح الكتابى لها بلآ أَمْر من المضَحّى ، لأَنه ليس من أَهل القربة ، أَمَّا لو ذَبَح بأَمره فلآ يُكْرَه ، لأَنَّ القربة أُقيمت بالإِنابة والأَمر ، بخلاف ما لو أَمَر مجوسِيًّا ، لَنه ليس من أَهل الذكاة . وهذا مذهب الحنفيين .
( وقال ) الشافعى وأَحمد : يُكْرَه ذبح الكتابى ولو بأَمْر المضَحّى .
(
__________
(1) تقدم بأثر 9 ص 40 ( ولد الأضحية ) .
(2) ص 566 ج 3 الشرح الكبير ( ولا يشرب منم لبنها إلا الفاضل عن ولدها ) .(1/65)
قال ) النووى : أَجمعوا على أَنه يجوز أَن يستنيبَ فى ذبح أُضْحِيتِه مسلماً . وأَما الكتابى فمذهبنا ومذهب جماهير العلماءِ صحة استنابتِه وتقعِ ذبيحته ضَحِيتَّه عن الموكل مع أَنه مكروه كَراهةَ تَنْزِيه .
( وقال ) مالك : لا تَصِحّ إِنابة الكتابى وتكون شاة لحم . دليلنا أَنه من أَهْل الذكاة كالمسلم(1).
16 – بدع الأضحية :
قد علمت فَضْل التَّضْحِية والطريق المشروع فيها ، ومع ذلك نرى الناس يَتَنَكَّبُون الطريق ويرتَكِبُون بِدَعاً ومخالفات ، تقَدَّم بعضها فى بحث المكروهات .
( ومنها ) التهاون فى أَمْر الأُضْحِية " بتركها " وقد قِيلَ بوجُوبها " أَو بعدم " ذَبْحها فى وقتها المشروع . كأَنْ تُذْبَح يوم عرفة أَوْ ليلة العيد أَوْ يومه قبل صلاة العيد " أَوْ لآ يُرَاعَى " فيها السِّنّ المجزِئَه والشروط المعتبرة والآداب المشروعة على ما تَقَدَّمَ بيانُه ( قال ) ابن الحاج فى المدخل : عِيدُ الأَضْحى هو أَعظم مواسم المسلمين ، ترك بعضهم فيه سُنَّة الأُضْحِية التى سَنَّا صاحب الشَّرْع صلوات الله وسلامة عليه ، ورَغَّب فيها ( بقوله ) إِنَّ أَوَّلَ ما نَبْدَأُ به فى يومنا هذا أَنْ نُصَلِّى ثم نرجع فَنَنْحَرَ ، فَمَنْ فَعَلَ ذلك فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا ، ومَنْ ذَبَحَ قبل الصَّلآةِ هُوَ لَحْمٌ قَدّمَُ لأَهْلِه ليس مِنَ الُّسُك فى شَئِْ (2) {72} .
( ثم ) إِنَّ بعضَهُم يتركون الأُضْحية ويَشْتَرُون اللحم ويطبخون أَلوان الأَطْعِمة التى تكُومن الأُضحِية المشروعة ببعض ثمن ما أَنفقوه أَو مثله ، فقد حرمهم إِبليس اللَّعِين هذه البركة العُظْمَى والحير الشامل بتَسْوِيله وتَزْيِينِه تركه لهم .
(
__________
(1) ص 407 ج 8 شرح المهذب ( الاستنابة فى ذبح الأضحية ) .
(2) أخرجه أحمد والشيخان عن البراء بن عازب . انظر ص 88 ج 13 الفتح الربانى ، وص 309 ج 2 فتح البراى ( الخطبة بعد العيد ) وص 114 ج 13 نووى مسلم ( وقت الأضاحى ) .(1/66)
ثم ) إِنَّ مَنْ يُضَحِّى منهم يذْبَحْ ليلةَ العيد ، فإِن نَوَى الأُضْحِية وقد عَيَّنَها فهو آثِمٌ فى ذَبْحها قبل وَقْتِها ويلزمه بَدَلها فى وَقْتِها ، وكَذَا إِنْ لم يُعَيِّنها . وإِنْ لم يَنْوِ بها الأُضْحِيَة فق أَسَاءَ فى فِعْلِه بارتِكابِه خلآف المشروع ، لأَنَّ السُّنَّةَ فى حق القادر على الأُضْحِيَة أَن يُضَحِّى بها فى وقْتِهَا ( يعنى بعد صلاة العيد ) ويفطر على زيادة الكَبد منها .
( ثم ) إِنَّ بعض مَنْ يُضَحِّى يعمل الطعام لَيْلاً حتى إِذا جاءُوا من صلاة الْعِيدِ أَكَلُوا منه هُمْ ومَنْ يختارون ، ثم يَشْتَغِلُونَ بذبح الأُضْحِية . ولهذه الْعِلَّة قَدَّمَ بعضهم الذبح لَيْلاً فوقع فيما تقَدَّم . وهذا كُلُّه بِدْعَة .
( وانظر ) إِلى مَكِيدَةِ إِبليس اللَّعين وما أَدْخَلَ من سُمُومِه على بعض المسلمين بتَسْوِيلهِ لهم ترك هذه السُّنة فحرمهم جزيلَ ثوابِهَا بما وَسْوَسَ إِليهم مِن الْعِلَل القَبِيحة الشَّنِيعَة ، فَزَيَّنَ لِكُلِّ أَهل إِقليم ما يقبلونه منه . فإِذا قُلْتَ لبعض مَنْ لم يُضَحّ من أَهل مِصْر : لِمَ لآ تُضَحِّى ؟ يقول : لىِ مَعَارِف كَثيرة و خرُوف وَاحِد لآ يَكْفِيهم ، فمنْ بقى منهم يَلُومنى ولا يلزمنى أَكْثر من خَرُوف . وإِذا قُلْتَ للفقير : لِمَ تَتَكَلَّف الأُضْحِية وهى لآ تُطْلَب منك ؟ يقول : قَبِيحٌ من الْجِيران والأَهل والمعارف أَن يقولوا فُلآنٌ لم يُضَحّ ( فصارت ) هذه القربة بالنظر إِلى فعلها وتركها مَشُوبة بالنظر إِلى الخلق وتحسينهم وتَقْبِيحِهم . فإِنَّا لله وإِنَّا إِليه راجعون .
((1/67)
ثم انظر ) كَيف تركُوا السُّنة فى هذا الموسم العظيم ، فإِن السُّنة فى هذا اليوم ما فعله النبىُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أَنه لَمَّا انصرف من صلاة العِيد ذَبَح أُضْحِيَتَه بيده الكريمة وأَمَرَ بزيادةِ الكَبد فَصُنِعَ له ثم أَفطر عليه تَشَبُّهاً منه عليه الصلاة والسلام وتفاؤلاً بأَهْل الجنة ، لأَنَّهم أَول ما يفطرون فيها على زيادة كَبِد الْحُوت(1) وتَشْرِيعاً لأُمَّتِه صلى الله عليه وسلم لينَبِّههم إِلى هذا المعنَى الجليل .
( ثم ) إِنَّ بعض مِنْ يُضَحِّى يبيع جِلْد الأُضْحِية ، وذلك محرّم أَوْ مَكْرُوه على ما تقَدَّمَ بياُنه(2).
( الثانى ) الفرع والعتيرة
الفَرَع : بفتحتين ، ويقال الفَرَعة بالهاءِ ، هو أَول ما تَلِدَهُ الْبَهِيمة ، كانوا يذبحونه لآلهتهم رجاءَ البركةِ فى الأُم وكثرة نَسْلِها . وقال فى النهاية : كان الرَّجُل فى الجاهلية إِذا تَمَّتَ إِبِله مائة قَدَّم بَكْراً فَنَحَرَهُ لِصَنَمِه وهو الفَرَع. والعَتِيرَة : بِفَتْح فكَسْر : ذبيحة كانوا يَذْبَحونها فى رجب ويُسَمُّونَها الرَّجَبِيَّة ، تعظيماً له ، لأَنه أَول الأَشْهُر الحُرُم .
هذا . وقد اختلفت الأَحاديث فى حُكْم الفَرعَ والعَتِيرَة ( رَوَى ) الحارث ابن عمرو أَنه لَقِىَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حجَّة الوداع وهو على نَاقَتِه العَضْبَاءَ ، فقال رَجُل : يا رسول الله ، العتائر والفرائع . فقال : مَنْ شَاءَ عَتَر ومنْ شاءَ لم يَعْتِر ، ومَنْ شَاءَ فَرَّع ومِنْ شَاءَ لم يُفَرّع . ( الحديث ) أَخرجه النسائي والبيهقى(3) {73} .
(
__________
(1) زيادة الكبد : قطعة منفردة متعلقة به ، وهى فى غاية اللذة .
(2) ص 235 ج 1 مدخل الشرع الشريف ( عيد الأضحى ) .
(3) ص 190 ج 2 مجتبى ( الفرع والعتيرة ) وعتر كضرب ، أى ذبح . وفرع من التفريع ، أى ذبح الفرع .(1/68)
وقال ) أَبو المليح قال نُبَيْشَة : نَادَى رَجُل وهو بمنى فقال : يا رسول الله ، إِنَّا كُنَّا نَعْتِرُ عتِيرَةً فى الجاهلية فى رَجَب ، فما تَأْمُرنا يا رسول الله ؟ قال : اذْبَحُوا لله فى أَىِّ شَهْرٍ كان ، وبِرُّوا اللهَ عَزَّ وجَلَّ وأَطْعِمُوا . قال : إِنَّا كُنَّا نُفْرَع فْرَعاً فما تَأْمُرنا ؟ قال : فى كل سائمةٍ فَرع تَغْذُوهُ ما شِيَتُكَ حتى إِذا اسْتَجْمَلَ ذَبَحْتهُ وتَصَدَّقْتَ بلَحْمهِ عل ابْنِ السَّبِيل ، فإِنَّ ذلك خَيْر . أَخرجه الشافعى وأَحمد والأَربعة إِلاَّ الترمذى(1) {74} .
( فما ذُكر ) يدلُّ على إِباحة الفرع والعتيرة ( وبه ) قالت الشافعية والحنبلية .
( وقال ) الحنفيون والمالكية بكَراهة الفرع والعتيرة " لحديث " أَبى هريرة أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا فَرَع ولا عَتِيرَة . أَخرجه السبعة إِلاَّ الترمذى(2){75} .
(
__________
(1) ص 69 ج 3 تكملة المنهل ( العتيرة ) وباقى المراجع بهامش 4 ص 71 منه ( واذبحوا لله ) أى اذبحوا إن شئتم فى رجب وغيره . والأمر للندب . و ( بروا الله ) بكسر الباء وفتحها ، أمر من بر من بأبى ضرب وعلم ، أى أطيعوا الله . و ( نفرع ) بضم فسكون من أفرع ، أو بضم ففتح فراء مكسورة مشددة ، من التفريغ . و ( السائمة ) الماشية المرسلة فى كلأ مباح ( تغذوه ما شيتك ) بفتح أوله ، أى تغذية ماشيتك بلبنها ، أو تغذية أنت مع ماشيتك أو مثل ما شيتك . وعليه فماشية منصوبة . و (استجمل) بالجيم ، أى صار جملا . وبالحاء ، أى قوى للحمل وصار مستطاب اللحم مرغوباً فيه فيذبح حينئذ ويتصدق به بخلاف ما كانت عليه الجاهلية فإنهم كانوا يذبحونه وقت ولادته شعره بلحمه فتعافه النفوس.
(2) ص 71 ج 3 تكملة المنهل ( العتيرة ) وباقى المراجع بهامش 1 ص 72 منه .(1/69)
وهو ) نفى فى معنى النَّهْى ، يدل عليه ما فى رواية النسائى عن أَبى هريرة قال : نَهَى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الفَرَع والعَتِيرَة .
( قال ) القاضى عياض والحازمى : هذا الحديث ناسخ للأَحاديث الدَّالة على إِباحة الفرع والعتيرة . وعلى هذا جماهير العلماءِ . قالوا : حديث أَبى هريرة مُتَأَخِّر فإِنه أَسْلَم فى السَّنة السابعة من الهجرة ( وردّ ) بما تقَدَّم عن الحاث بن عمرو من قوله صلى الله عليه وسلم فى حجَّة الوداع : مَنْ شاءَ عَتَر ومَنْ شَاءَ فَرّع ومَنْ شَاءَ لم يُفَرِّع (1)
( فهذا ) كان فى حَجَّة الوداع . وقد كانت بعد إِسلام أَبى هريرة . وهو صريح فى الإِباحة ( قال ) النووى: الصَّحِيح عند أَصحابنا استحباب الفرع والعتيرة . وأَجابوا عن حديث : لا فرع ولا عتيرة ، بثلاثة أَوْجُه : (أَحدها) أَن المراد نفى الوجوب . ( والثانى ) أَن المراد نفى ما كانوا يذبحونه لأَصنامهم ، ( والثالث ) أَنَّ المراد أَنهما ليستا كالأُضحية فى الاستحباب أَو ثواب إِراقّةِ الدم . فأَمَّا تفرقة اللَّحم على المساكين فَبِرٌّ وصدقَةٌ ، وق نَصّ الشفعى أَنَّها إِنْ تَيَسَّرَتْ كُلّ شَهْر كان حَسَناً (2) .
( الثالث ) المواسم
هى جمع موسم ، من الوسم ، بمعنى العلاقة والمجتمع . والمواسم شرعية ومنسوبة إِلى الشرع منه ، وأَجنبية .
( ا ) فالمواسم الشرعية هى الجمعة والعيدان ، وتَقَدَّمَ الكلام فيها ، وعاشوراءَ ، ورمضان ، ويوم عرفة والثمانية الأَيام قبله . والكلام عليها فى الصَّيام .
( ب ) والمواسم المنسوبة إِلى الشرع وليست منه أَربعة :
1 – مولد النبى صلى الله عليه وسلم
__________
(1) تقدم رقم 72 ص 59 ( الفرع والعتيرة ) .
(2) ص 137 ج 13 شرح مسلم ( الفرع والعتيرة ) .(1/70)
وُلِدَ صلى الله عليه وسلم عام الْفِيل(1)
__________
(1) كانت قصة الفيل فى المحرم سنة 882 اثنتين وثمانين وثمانمائة من عهد ذى القرنين فى زمن كسرى أنو شروان ، بفتح الهمزة وكسر الشين وسكون الراء ( وحاصلها ) أن أبرهة أمير اليمن من قبل النجاشى بنى كنيسة بصنعاء رفيعة البناء مزخرفة الأرجاء ليحج إليها العرب دون الكعبة ، فسمع بذلك مالك بن كنانة فخرج ليلا ودخلها فقعد فيها ولطخ بالعذرة قبلتها ، فبلغ ذلك أبرهة ، وقيل له : إنما صنع هذا بعض قريش غضباً لبيتهم ، فحلف أ[رهة ليسيرن إلى الكعبة وليهدمنها حجراً حجراً ، وسار فى جيش عرمرم ، واستصحب معه فيلا عظيما يقال له محمود ، ومعه اثنا عشر فيلا غيره ، فلما سمعت العرب بمسيرة أعظمووا ذلك ورأوا جهاده حقاً عليهم ، فخرج إليه ملك من ملوك اليمن يقال له : ذو نفر ، بمن أطاعهمنالعرب وقاتلوا أبرهة ، فهزمهم وأسر ذا نفر فأخذه معه ، ثم سار حتى إذا كان بأرض خثعم ، خرج إليهم نفيل بن حبيب الخثعمى فى قومه فقاتوه ، فهزمهم أبرهة وأسر نفيلا واستصحبه معه . ولما مر بالظائف خرج إليه أهلها وصانعوه فأكرمهم وبعثوا معه أبا رغال دليلا . فلما وصل الغمس " كمحمد ومحدث " موضوع قرب مكة مات أبو رغال ، وبعث أبرهة جيشه فأغار على إبل أهل مكة ، وكان فيها مائتا بعير لعبد المطلب . وبعث أبرهة حناطة الحميرى إلى مكة ، وأمره أن يأتيه بأشرف قريش ، وأن يخبرهم أنه لم يجئ لقتالهم إلا إن صدوه عن البيت ، فجاء حناطة إلى عبد المطلب بن هاشم وأخبره بما قال أبرهة . فقال عبد المطلب : والله ما نريد حربه ومالنا بذلك من طاقة ، هذا بيت الله وبيت خليله إبراهيم ، فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه ، وإن يخل بيته وبيته فما عندنا دافع عنه . فقال له حناطة : توجه معى إلى أبرهة . فذهب معه ، فلما رآه أبرهة أجله ونزل عن سريره وجلس معه وقال لترجمانه : سله عن حاجته . فقال : حاجتى أن يرد إلى الملك إبلى ..فقال أبرهة : تكلمنى فى مائتى بعير لك وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك – قد جئت لهدمه – لا تكلمنى فيه . فقال عبد المطلب : أنا رب الإبل ، وإن للبيت رباً سيمنعه . قال :ما كان ليمتنع منى . قال : أنت وذاك . فرد أبرهة : تكلمنى فى مائتى بعير لك وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك – قد جئت لهدمه – لا تكلمنى فيه . فقال عبد المطلب : أنا رب الإبل ، وإن للبيت رباً سيمنعه . قال : ما كان ليمتنع منى . قال : أنت وذاك . فرد أبرهة لعبد المطلب إبلة ، فرجع إلى قريش وأمرهم بالخروج من مكة والتحصن فر رءوس الجبال ، ثم أخذ عبد المطلب بحلقه باب الكعبة فقال :
لا هم إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك
انصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك
لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبداً محالك
قصدوا حماك بكيدهم جهلوا وما رقبوا جلالك
إن كنت تاركهم وكعبتنا فأمر ما بدا لك
ثم خرجوا إلى رءوس الجبال ، وتهيأ أبرهة لدخول مكة . فلما وجهوا الفيل نحوها برك ، وضربوه ليقوم فأبى ، فوجهوه راجعاً إلى اليمن ، فقام يهرول . ووجهوه إلى الغرب ففعل مثل ذلك . ووجهوه إلى الشرق ففعل مثل ذلك . ووجهوه إلى مكة فبرك . وأرسل الله عليهم طيراً أبابيل ، أى جماعات بعضها إثر بعض ، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار من سجيل ( أى طين محرق ) حجر فى منقاره ، وحجران فى رجليه لا يصيب الحجر أحداً منهم إلاهلك ، وحرجوا هاربين يبتدرون الطريق ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق ، ونفيل على رأس الجبل مع قريش ينظرون ما أنزل الله بأصحاب الفيل ، وجعل نفيل يقول :
أين المفر والإله الطالب ... ... والأشرم المغلوب ليس الغالب
وأصيب أبرهة فى جسده بداء تساقطت به أنامله أنملة بعد أنملة ، فانتهى إلى صنعاء وهو مثل فرخ الطير ، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ، وانفلت وزير أبرهة أبو يكسوم وطائره فوق رأسه حتى وقف بين يدى النجاشى وأخبره الخر ، فسقط عليه الحجر فمات بين يديه . وقد فشا فى جيش أبرهة داء الجدرى والحصبة ، وهو أول ظهورهما فى بلاد العرب . فعل فيهم ذلك الوباء فعلا شنيعاً ، فكان لحمهم يتناثر ويتساقط قطعة قطعة .
(قال) الأستاذ الشيخ محمد عبده فى تفسير جزء عم : وقد بينت لنا هذه السورة أن ذلك الجدرى أو تلك الحصبة نشأت من حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش بواسطة فرق عظيمة من الطير . فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض ، وأن تكون هذه الحجارة من المسموم اليابس الذي تحمله الرياح ، فيعلق بأرجل هذه الحيوانات . فإذا اتصل بجسد دخل فى مسامه فأثار فيه تلك القروح التى تنتهى بإفساد الجسم وتساقط لحمه ، وهذه الطيور الضعيفة تعد من أعظم جنود الهه فى إهلاك من يريد إهلاكه.
وفى كل شئ له آية ... ... تدل على أنه الواحد
( فهذا ) الطاغية الذى أراد أن يهدم البيت أرسل الله عليه طيراً أهلكته وقومه ، وهى نعمة من لله غمر بها أهل حرمه حفظاً لبيته حتى يرسل من يحميه بقوة دينه صلى الله عليه وعلى آله وسلم . اهـ . ملخصاً(1/71)
صبِيحة يوم الاثنين الثانى عشر من ربيع الأَوَّل على المشهور ( 20 أُغسطس سنة 570 ميلادية ) فى دار عقيل ابن أَبى طالب التى صارت بعد لمحمد بن يوسف الثقفى .
( قال ) أَبو جعفر الباقر : كان قُدُوم الفيل للنِّصْف من المحرَّم ، ومولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده بخمس وخمسين ليلة . ذكَره ابن كَثير(1) .
( وعن ) أَبى قتادة أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن صَوْم يوم الاثنين فقال : " فِيهِ وُلِدْتُ وفِيهِ أُنْزِلَ علىّ " أَخرجه مسلم (2){76} .
( وقال ) جابر وابن عباس : وُلِدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الْفِيل ، يوم الاثنين ، الثانى عَشَر من شهر ربيع الأَول ، وفيه بُعِثَ ، وفيه عُرِج به إِلى السَّماءِ وفيه هاجرَ ، وفيه ماتَ . أّخرجه ابن أَبى شيبة (3){15}.
( وُلِدَ ) صلى الله عليه وسلم مُسْتقبل القِبْلَة وَاضِعاً يَدَءُ على الأَرْض ، رافِعاً رأْسَهُ إِلى السَّماءِ ، ليس عليه شَئٌْ من أَقذار الولادَة .
(
__________
(1) ص 262 ج 2 البداية والنهاية ( مولده صلى الله عليه وسلم ) وقال أبو بكر محمد بن موسى الخوارزمى : كان قدوم الفيل مكة لثلاث عشرة بقيت من المحرم ، وولد رسول الله نيسان ( أغسطس ) وبعث نبينا يوم الاثنين لثمان خلت من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين من عام الفيل . فيها من مولده إلى أن بعثه الله أربعون سنة ويوم ومن مبعثه إلى أول المحرم من السنة التى هاجر فيها اثنتا عشرة سنة وتسعة أشهر وعشرون يوماً . وذلك ثلاث وخمسون سنة تامة من عام الفيل . ذكره ابن سيد الناس فى عيون الأثر .
(2) ص 52 ج 8 نووى مسلم ( صيام ثلاثة أيام من كل شهر ) .
(3) ص 360 ج 2 البداية والنهاية ( مولده صلى الله عليه وسلم ) .(1/72)
تولَّتْ ) ولادتَهُ الشِّفا(1) أُمّ عبد الرحمن بن عَوْف ، وقالت : لأَمَّا سَقَطَ صلى الله عليه وسلم على يَدَىّ واستهل ، سمعتُ قائلاً يقول : رَحِمَك الله . وأَضَاءَ لى ما بين المشْرِق والمغْرِب حتى نَظَرْتُ إِلى قُصُور الرُّوم . ذكره القاضى عِياض .
( وعن ) عُثمان بن أَبى العاص عن أُمِّه فاطمةَ بنت عبد الله أَنَّهَا شَهِدَتْ ولادةَ النبىِّ صلى الله عليه وآله وسلم لَيْلاً ، قالت : فما شَئّْ أَنْظُرُ إِليه من البيت إِلاَّ نوّر ، وإِنِّى لأَنْظُرُ إِلى النجوم تَدْنُو حتى إِنِّى لأَقُول لتقَعَنّ علىَّ. أَخرجه ابن السَّكَن وابن سيد الناس(2) {16} .
( وقد ) وَقَعَ لمولِدِه صلى الله عليه وسلم من الآياتِ الباهِرَة ، والعلامات السَّاطِعة ، ما فيه عِبْرَةً لمن اعتبر، وعِظَةً لمن اتَّعَظَ .
(
__________
(1) الشفا بكسر المعجمة بعدها فاء فألف مقصورة ، وضبطه بعضهم بفتح المعجمة وشد الفاء .
(2) ص 27 ج ... عيون الأثر ( مولده صلى الله عليه وسلم )(1/73)
من ذلك ) ما ذكَرَهُ مخزوم بن هانئٍ عن أَبيه قال : لَمَّا كانت الليلةُ التى وُلِدَ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارْتَجَسَ إِيوانُ كِسْرَى ، وسقَطَتْ منه أَرْبَعَ عشرة شُرْفة وخمدَتْ نارُ فارِس ، ولم تُخْمُدْ قبل ذلك بأَلْفِ عامٍ ، وغاضَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَة ، ورَأَى الموبَذَانُ إِبِلاً صِعَاباً تَقُودُ خَيْلاً عِرَاباً قد قطعت دَجْلَة وانتشَرَتْ فى بلادِهم . فلا أَصْبَحَ كِسْرَى أَفْزَعَهُ ذلك . ثم بَعثَ إِلى مَرازِبَتِهِ ، فَلَمَّا اجتمعوا عنده قال : أَتَدْرُونَ فِيمَ بَعَثْثُ إِليكُم ؟ قالوا : ل ، إِلاَّ أَن يُخبر الملك ، فبَيءنَمَا هُمْ كذلك إِذْ وَرَدَ عليهم كِتَابَ خُمُودِ النِّيرَان ، فازداد غَمًّا إِلى غَمِّه ، ثم أَخبرهم بما رأَى وما هَالَهُ فقال الموبَذَانِ : أَىّ شَئٍْ يكُون هذا ياموبَذَان ؟ قال : حَدَثٌ يكُون فى ناحيةِ العرب . ذكره الحافظ الخرائطىّ فى كتاب هَواتِف الجان ، وتمامه فى البداية والنهاية (1) .
(
__________
(1) ص 268 ج 2 البداية ( ارتجاس الإيوان ) . و ( ارتجس ) اضطرب ، و ( الشرفة ) كغرفة : أعلى القصر . وفى ( سقطت منه أربع عشرة شرفة ) إشارة إلى عدد من ملك الروم بعد ذلك إلى أن زال ملكهم فى خلفة عمر . و ( ساوة ) مدينة بين الرى وهمدان . أضيفت البحيرة إليها لقربها منها . وكانت بحيرة واسعة بعراق العجم ، كانت تسير فيها السفن ، فأصبحت ليلة مولده صلى الله عليه وسلم يابسة كأن لم يكن بها ماء. و ( الموبذان ) بضم الميم وفتح الباء : فقيه الفرس وحاكم المجوس . و ( الخيل العراب ) بكسر العين خلاف البراذين . والبرذون التركى من الخيل . و ( أفزعه ذلك ) أى ارتجاس الإيوان وسقوط الشرفات . و ( المرازبة ) جمع مرزبان بفتح فسكون فضم وهو الرئيس ، والمرزبة كمرحلة ، رياسة الفرس .(1/74)
ومن ذلك ) تَنْكِيسُ الأَصْنَام فى آفاقِ الأَرض ، وكَثْرَة رَمْى الشياطين – الذين يَأْتُون الكَهَنة (1) بأَخبار السَّماء – بالشُّهُب .
( ومن ذلك ) ما قاله أَبو الحكم التنّوخى : كان المولود إِذّا وُلِدَ فى قُرَيْش دَفَعُوهُ إِلى نِسْوَةٍ منهم يكْفَأْنَ عليه بُرْمةً إِلى الصُّبْح . فَلَمَّا وُلِدَ رَسُلُ الله صلى الله عليه وسلم دفعه عبد المطلب إِلى نِسْوَةً فكَفَأْنَ عليه بُرْمَة ، فلَمَّا أَصْبَحْنَ وَجَدْنَ البرمة قد انْفَلَقَتْ باثْنَتَيْن ، وَوَجَدْنَهُ مفتوحَ العينَيْن شاخِصاً ببصَرِه إِلى السَّماءِ ، فأَتَاهُنَّ عبد المطلب ، فَقُلْنَ ه : ما رَأَيْنَا مَوْلُوداً مثله ، وَجَدْنَاهُ قد انفلقَتْ عنه البرمة ، ووجَدْنَاهُ مفتوحة عَيْنَاه شاخِصاً ببصَرِه إِلى السَّماءِ . فقال : احفْظْنَهُ فإِنى أَرْجُو أَن يكُونَ له شَأْنٌ أَوْ أَنْ يُصِيبَ خَيْراً . أَخرجه البيقى(2) {17} .
(
__________
(1) جمع كاهن وهو من يدعى معرفة الشئ ويخبر به قبل وقوعه أو يخبر عن طالع أحد بسعد أو نحس. وقد كانت الكهنة فى العرب ثلاثة أصناف:
( الأول ) من يكون له ولى من الجن يخبره بما يسترقه من السمع ، وقد منعوا من ذلك من وقت بعثه النبى صلى الله عليه وسلم .
(الثانى) من يكون له ولى من الجن يخبره بما يقع فى أقطار الأرض ، وهم يصدقون فى ذلك ويكذبون . وقد ورد النهى عن تصديقهم ( ففى ) الحديث : من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد . أخرجه أحمد والحاكم عن أبى هريرة بسند صحيح [77] أنظر رقم 8285 ص 23 ج 6 فيض القدير .
( الثالث ) المنجمون ، ومنهم العراف وهم الذين يدعون معرفة الأمور بأسباب ومقدمات يعرفونها ، وقد كذبهم الشارع .
(2) ص 265 و 266 ج 2 البداية ( صفة مولده صلى الله عليه وسلم ) .(1/75)
وفى اليوم ) السَّابع من ولادَتِه صلى الله عليه وسلم ، ذَبَحَ عنه جَدّه عبد المطلب ، ودَعَا قُرَيْشاً ، فلَمَّا أَكَلُوا ، قالوا : يا عبد المطلب ، أَرَأَيْتَ ابنك الذى أَكْرَمْتَنَا على وَجْهه ما سَمَّيْتَهُ ؟ قال : سَمَّيْتُهُ مُحَمَّداً . قالوا : فما رغِبْتَ به عن أَسماءِ أَهْل بيته ؟ قال : أَردتُ أَنْ يحمده اللهُ فى السَّماءِ ، وخلقُه فى الأَرْض(1) ، فقد أَلْهَمَ الله جدّه فسَمَّاه مُحَمَّداً لما فيه من الصِّفَاتِ الحميدةِ والخِصَالِ الجليلة ، ليتطابقَ الاسم والمسَمَّى فى الصُّورة والمعنَى ، كما قال عمه أَبو طالب ، ويُرْوَى لحسَّان :
وشَقَّ له من اسمه لِيُجِلَّه ... ... ... فَذُو العرش محمودٌ وهذا مُحَمَّد
هذا . والاحتفالُ بالموالد أَمْر محدث ، أَحْدَثَهُ الفاطِمِيُّون فى القرن الرابع ، فابْتَدَعُوا سِتَّة موالد : المولد النبوىّ ، ومولد سيدنا علىّ ، ومولد السَّيدَة فاطِمة الزهراء ، ومولد الحسَن والْحُسَيْن رضِىَ الله عنهم ، ومولد الخليفة الحاضر .
(
__________
(1) وروى ابن إسحاق : أن آمنة أتاها حين حملت به صلى الله عليه وسلم من قال لها : إنك قد حملت بسيد هذه الأمة ، فإذا وقع إلى الأرض فقولى: أعيذه بالواحد ، من شر كل حاسد . ثم سميه محمداً ( وقال ) أبو الربيع بن سالم : ويروى أن عبد المطلب إنما سماه محمداً لرؤيا رآها، زعموا أنه رأى فى منامه كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهره لها طرف فى السماء ، وطرف فى الأرض ، وطرف فى المشرق ، وطرف فى المغرب ، ثم عادت كأنها شجرة على كل ورقة منها نور ، وإذا أهل المشرق والمغرب يتعلقون بها . فقصها فعبرت له بمولود يكون من صلبه يتبعه أهل المشرق والمغرب ، ويحمده أهل السماء والأرض ، فلذلك سماه محمداً . ذكره ابن سيد الناس . انظر ص 30 ج 1 عيون الأثر ( تسميته صلى الله عليه سلم ) .(1/76)
كانوا ) فى تلك الموالد يأْدِبُونَ المآدِب الجامِعَة لكُلِّ الطبقات ، فتُقَدَّم الموائدِ مُزَخْرَفة بالذهب والفِضَّة وأَلون الصِّباغ ، عليها من الأَطعمة الفاخِرة وأَنواع الْحلْوَى اللذيذة مالا يكاد يُصَدِّقه العقل كَثْرَةً وتنوُّعاً . وكانوا يرتَكِبُونف هذه الموالد من المفاسِد والمنكَرَات ما لا يقبله عَقْل ، ولا يَرْضَى به ذُو لُبّ .
( وأَول ) مَنْ أَحْدَثَ المولد النبوىّ – بمدينة إِربل(1) فى القرن السابع – الملك المظفَّر أَبو سعيد ، أَلف له الحافظ بن دحْيَة تَأْليفاً أَسْماهُ ( التنوير . فى مَوْلد البَشِير النَّذِير ) فأَجازه الملك المظفر بأَلْف دِينار ، وصَارُوا يحتفلُون المولد فى ربيع الأَول بإِطعام الطَّعام وتوزيع الصَّدَقات وقراءَةِ قِصَّة المولْد .
( وهذا ) الذى قال فيه الإِمام أَبو شامة فى الباعث : ومِنْ أَحْسَن ما ابْتَدَعَ فى زماننا ، ما كان يُفْعَلُ بمدينة إِربل كُلّ عام فى اليوم الموافق ليوم مَوْلد النبىِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الصَّدَقات والمعرف ، وإِظهار الزِّينة والسُرُور ، فإِنَّ ذلك مع ما فيه من الإحْسَانِ إِلى الفقراءِ ، مُسْعِرٌ بمحَبَّةِ النبىِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتعظيمه وجلالَتِه فى قلب فاعِله ، وشُكْر الله تعالى على ما مَنَّ به مِنْ إيجاد رَسُوله الذى أَرسله رَحْمَةً للعالمين ، صلى الله عليه وسلم وعلى جميع المرسَلِين .
(
__________
(1) إربل ، بكسر فسكون فكسر : قلعة حصينة ومدينة كبيرة من أعمال الموصل بينهما مسيرة يومين .(1/77)
ولكن ) قَدْ تَقَدَّم فى بحث " بِدَع المساجد " أَنَّ اتخاذَ مَوْسِم غير المواسم الشرعية كلَيْلَةِ المولد مِنَ الْبِدَع التى لم يَسْتَحْسِنُها السَّلَف ولم يفعلوها ، ومع ذلك فقَدْ خَلَفَ من بَعْدِهم خَلْفٌ اتبعوا الشَّهَوَات ، وحَسَّن لهم اللَّعِين إِرْتِكَابَ الْبِدَع والمخالفات فصاروا يقيمُونَ للمولد النبوىّ وغيره حَفْلاَ جامِعاً سنويًّا يشتملُ على كَثِيرٍ من أَنواع المفاسِد والمنكراتِ الفظِيعة ، والبِدَع الذَّمِيمَة ، والخرافاتِ الشائِنة ، والضَّلال البعيد ، ظنًّا منهم أَنَّهَا مِنَ الدَّين منها برَاءٌ .
( أَلِفَ ) الناس هذه العادات القَبِيحَةَ فخافَظُوا عليها وعَضُّوا عليها بالنواجذ ، حتى شَقَ على نفوسهم ترْكها والتَّحَلُّل منها كأَنَّهَا منْ هَدْى الرسول الأَعظم صلى الله عليه وسلم ، ولم يذكُرَوا قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : لا تجْعَلُوا بيُوتكُم قُبُوراً ، ولا تجعلوا قبرى عِيداً ، وصَلُّوا علىَ أَيْنَمَا كُنْتُم ، فإِنَّ صلاتكُم تبلغى حيثُ كُنْتُم . أَخرجه . أَحمد وأبو داود بسند حسن عن أَبى هريرة (1) {78} .
( والأحاديث ) فى هذا كثيرة تقَدّم بعضُها وبيان المفاسِد والمنكراتِ التى تقع فى الاحتفال بالمولد فى المساجد وغيرها ، ولذا اتفق العلماءُ على إِنكارها(2) .
(
__________
(1) تقدم رقم 404 ص 285 ج 3 دين . وانظر بحث ( الاحتفال بالموالد ) ص 384 منه .
(2) تقدم رقم 404 ص 285 ج 3 دين . وانظر بحث ( الاحتفال بالموالد ) ص 384 منه .(1/78)
والذى ) يؤسَفُ له أَشَدَّ الأَسف أَنَّ الحكومة وهى حكومة إِسلامية ظاهرت أَرباب الطرق وأَذنتْ لهم فى إِقامة تلك الحفلات الشائنة التى يعمّ فيها الفساد وينتشِرُ الضَّلآل ، وعاونَتْهُم على نَشْر بُهْتَانِهِم ، ورضِيَتْ إِفكَهُمْ وباطِلَهُمْ ، بل شاركتهم فيه بإِقامةِ سرادقاتٍ للوزارات فى ساحة العباسية حيث يكون هناك الاحتفال رَسْمِيًّا حتى عَمَّ الفسا ، وسُدَّت المسالك أَمام المصْلِحِين الذين يَدْعُونَ النَّاس إِلى الرجوع إِلى هَدْى النبىّ صلى الله عليه وعلى آله وأَصحابه وسلم والسَّلَف الصَّالح رضى الله عنهم ، ولاُقوا الشَّئَْ الكَثير من عَنَت أَنهم يُحْسِنُون صُنْعاً وقد خلَطُوا عملاً صالحاً وآخر سَيِّئاً ، بل كل أَعمالهم سيئة .
((1/79)
والأَدْهَى ) من ذلك كُلِّه سُكُوت بعض العلماءِ على تلك الأْبِدَع وعدم إِنكَارِهِم إِيَّاها وعدم مطالبة الحكومةِ بإِزالَتِهَا ، غافِلينَ عن قوله صلى الله عليه وسلم : إِذا ظهرت الْبِدَع ولعن آخرُ هذه الأُمة أَوَّلَهَا ، فمن كان عنده عِلْمٌ فليَنْشُرْهُ ، فإِنَّ كاتِمَ العِلْم يومئِذٍ كَكَاتِم ما أُنْزِلَ على محمد صلى الله عليه وسلم . أَخرجه ابن عساكر عن معاذ بن جبل (1) {79} . وعنه أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال : إِذا ظَهَرت الْبِدَعُ فى أُمَّتى وشُتِم أَصحابى ، فلْيُظْهِرَ العَلِمُ عِلْمَهُ ، فإِنْ لم يَفْعَلْ فَعَلًيْهِ لَعْنَةُ الله . أَخرجه الديلمى فى مسند الفردوس(2) {80} ( وعن ) سلمةَ بن الأَكْوَع أَنَّ النبى صلى الله عليه وسلم قال : إِذا ظَهَرت المعاصِى فى أُمَّتى ، عَمَّهُم الله تَعَالَى بعذابٍ من عنده . قِيل : أَمَا فى الناس يومئذٍ صَالِحُون ؟ قال : بَلَى ، يُصِيبُهُمْ ما أَصاب الناس ، ثم يَصِيروُنَ إِلى مغفرةِ اللهِ ورِضْوَانِه . أَخرجه أَحمد والطبراني(3) {81} .
( فمسئولية ) العلماءِ كبيرة ، ومسئولية رجالِ الحكومةِ أَكْبَر ، إِنَّ اللهَ يَزَعُ بالسُّلْطَانِ مالا يَزَعُ بالقُرْآنِ .
( فعلَى ) السَّادة العلماءِ أَن يُبَيِّنُوا الحقَّ واضحاً جَلِيًّا ، وعلى وُلاةِ الأُمُور تنفيذَ أَوَامِرَ الله تعالى ، والضَّرْبَ على أَبْدِى هؤُلاءِ المفْسِدِين المضِلِّين الذين ضَلُّوا وأَضَلُّوا وهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً .
(
__________
(1) رقم 751 ص 401 ج 1 فيض القدير .
(2) ص 402 منه بالشرح ، وص 54 راموز الأحاديث .
(3) ص 402 منه بالشرح ، وص 54 راموز الأحاديث .(1/80)
فبذا ) يكون قد قامَ كُلٌّ من العَالِمِ والحاكمِ بما يجبُ عليه ممن سَدِّ أَبوابِ الفَسَادِ وفتح أَبوابِ الخير ، والسَّعْى فى أَسباب النصر " إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامكُمْ " ، " وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ من يَنْصُرُهُ " .
( وإِذا ) أَرَادُوا الخيرَ لأَنفسهم والبراءَة لِدِينهم , فليقوموا بإِحياءِ ذِكْرَى نبيهم عليه الصلاة والسلام بنَشْرِ سِيرَتِه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبَيَانِها للناس , ليتعَرَّفُوا نَوَاحِى العَظَمَة والفَخْرِ من نَبِيِّهم الأَعْظَم ورسوله الأَكْرَم صلى الله عليه وسلم , فيعملوا عمله ويهتَدُوا بهَدْيِهِ ويَتَخَلَّقوا بخُلُقِه , حتى يكُونوا ممن عَزَّرُوهُ ونَصَرُوه , واتَّبَعُوا النور الذى أُنْزِلَ معه صلى الله عليه وسلم .
( أَما ذَلِكُم ) التَّكَلُّف الْمُمِلّ , وهذا الإِسراف المخلّ , فضَرَرُهَ أَكْبَرَ من نَفْعِه وإِثْمُه عائِدٌ على فاعِلهِ والراضِى به , ولا خَيْرٌ فيه أَلبتة , بل الخير كلّ الخير في اتِّبَاع هَدْى النبىِّ صلى الله عليه وسلم والوقوف عند تعاليمه : " وَاتَّبعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ *وَأَنَّ هذَا صِرَاطِى مُسْتَقِيماً فاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ , ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقونَ " .
((1/81)
ومن ) المخالفاتِ – التى تقَعُ في الموالِد وغيرها مِنَ المواسِم – صُنْع صُوَر حيواناتٍ مُجَسَّمة من الحلْوَى وغيرها , فإِنَّ تَصْوِيرَ ذِى الرُّوح والنَّظَر إِلى الصُّوَر المجسَّمة حَرَامٌ كما تقَدَّم(1)وشِرَاؤها إِعانة على ذلك ( قال) ابن الحاج فى المدخل : مِنَ المواسِمَ التى نَسَبُوها إِلى الشَّرْع وليست منه ، أَوَّل لَيْلَةٍ من رجب فيتكَلَّفُون فيه النفقات والحلْوَى المحتَوِية على الصُّوَر المحرَّمة شَرْعاً ، لقوله عليه الصَّلاة والسلام : مَنْ صَوَّر صُورَةً فإِنَّ اللهَ يُعَذِّبَهُ حتى ينفخَ فيها الرُّوح وليس بنافخ فيها أَبَداً (2) {82} .
( فهذا ) دليلٌ على تحريم الصُّوَر التى لها رُوح ، وعلى عذابِ مَنْ صَوَّرَها . فمن اشتراها منهم فهو مُعِين لهم على تَصْويرها ، وكذا الوقوف للنظر إِليها والتعَجُّب مع العِلْم بالتَّحْرِيم . ومَنْ فَعَلَ ذلك ففى قبول شهادته نَظَر ، فلا ينعَقِدُ النِّكَاح بشهادته حتى يَتُوبَ تَوْبة بشروطها ، ولو كَسَرَ صُوَرَ الحلْوَى وبَاعَها مكْسُورةً جازَ بَيْعُهَا وشِرَاؤها. لَكِنْ يُكْرَهُ لأَهْل الفَضْل المقْتَدَى بهم شِرَاؤها . ليَكُونَ أَبْلَغَ فى زَجْر فاعِلها على الصِّفَة المنهىّ عنها .
(
__________
(1) ص 208 ج 3 دين ( التنفير من تصوير الحيوان ) .
(2) أخرج الشيخان عن ابن عباس ، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : من صور صورة فى الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ . تقدم رقم 295 ص 208 ج 3 دين . والمراد أنهم يعذبون ويقال لهم : لا تزالون فى عذاب حتى تحيوا ما خلقتم . وهو محال .(1/82)
فانظر ) إِلى هذه المفاسِد وكَثْرَتِها وهم يَزْعُمونَ أَنَّهَا مِنَ المواسِم الشرعية ، وأَنَّ ذلك تَعْظِيمٌ لهذا المؤْسِم. ثم زَادُوا فيه من التكَلُّفِ مُهَادَاةِ الأَقارِبِ والأَصْهَار ، وتكليفِ النِّسْوَةَ أَزواجَهُنِّ بهذه التكاليف التى أَحْدَثُوها ورما يؤول أَمْرهم – إِن قَصَّرَ فى التَّوْسِعَة – إِلى الفراق أَو ما يَقْرُب منه ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : أَنا وأُمَّتى بَرَاءٌ مِنَ التكَلُّف (1) {83} .
( والتكَلُّف ) مذمُومٌ فى المواسِم الشرعية والعبادات الدينية ، فكيف به فى موسِم محدث غير شَرْعِىّ .
وما كان السَّلَفُ رضوان الله عليهم يُعَظِّمُون رجب ويحترمونه إِلاَّ بزيادَةِ العبادة فيه والتَّشْمير لأَدائِ حُقُوقَهُ الشرعية ، لا بالأَكْل والرَّقْص ، ولا بالمفاخَرة بالطعام والهدايا (2) .
2 – ليلة الاسراء
( هى ) ليلة السَّابع والعِِشْرِين من رَجَب ليلة المعراج التى شُرِعَتْ فيها الصَّلوات الخمس جعلها الله بخَمْسِينَ صلاة إِلى سبعمائة ضِعْف على قدر إِخلاص العبد فى صلاتِهِ ، والله يُضَاعِفُ لمنْ يَشَاءُ .
(
__________
(1) ذكره الشيخ إسماعيل العجلونى فى كشف الخلفاء بلفظ : أنا و الأتقياء من أمتى بريئون من التكلف . وقال : قال النووى : ليس بثابت ، وأخرجه الدارقطنى فى الأفراد بسند ضعيف عن الزبير بن العوام . انظر رقم 620 ص 205 ج 1 .
(2) ص 242 ج 1 مدخل الشرع الشريف ( المواسم المنسوبة إلى الشرع ) .(1/83)
كان ) السَّلَف الصَّالح يُحْيُونَهَا بِلْعِبادة وإِطالةِ الْقِيَام فى الصَّلآةِ والتَّضَرُّع والبكاءِ ، شُكْراً منهم لمولاهم على ما مَنَحَهُمْ وأَوْلآهُم ، ولكن خَلف من بَعْدِهم خَلْفٌ اتَّبَعُوا الشَّهَوَات ، وارتَكَبُوا كثيراً مِنَ الْبِدَع والمخالفات ، كالاجتمع فى المساجد وزيادةِ النُّور فيها وعلى المآذن ، واختلاط الرجال والنِّسَاءِ ، والاجتماع فى المساجد لقراءَةِ قِصَّةِ الإِسراءِ والمعراج(1)
__________
(1) الإسراء : مصدر أسريت الشئ ، جعلته يسرى ليلا ، كما تقول : أمضيته ، أى جعلته يمضى . فالنعنى فى قوله تعالى : " سبحان الذى أسرى بعبده ليلا " ، أى جعل البراق يسرى به ليى . والمعراج : من العروج ، وهو الصعود .
( والإسراء ) هنا رحلة أرضية من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى .
( والمعراج ) رحلة سماوية من بيت المقدس إلى السموات العلا إلى مالا يعلمه إلا الله ( وحكمة ) ذلك إطلاع النبى صلى الله عليه وسلم على عجائب الملكوت . قال تعالى : " لنريه من آياتنا " ، وإلا فالله تعالى لا يحويه زمان ولا مكان ، فقد كان ولا زمان ولا مكان ( كلم ) الله تعالى النبى صلى الله عليه وسلم فى هذه الرحلة ، فأوحى إليه ما أوحى ، وأتحفه بأنواع التحف والزلفى ، ورأى ربه سبحانه وتعالى بلا إدراك ولا إحاطة ولا تكييف بحد ولا انتهاء . ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير .
وتقدم بيانه وافياً فى بحث ( رؤية الله تعالى ) من قسم التوحيد .
( والإسراء ) والمعراج : وقعا سنة 621 ميلادية فى السنة الثانية عشرة من البعثة قبل الهجرة بسنة ، ليلة الاثنين لسبع وعشرين خلت من ربيع الأول عن ما صححه بعضهم ، وقيل فى رجب . وعليه عمل الناس . وقيل كانا فى رمضان .
(
وقد خص الله بهما نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم . وهما ثابتان بالكتاب والسنة الصحيحة ثبوتاً لا مطمع بعده لمنكر أو متأول . قال تعالى فى الإسراء : "سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذى باركنا حوله لنريه من آياتنا ، إنه هو سميع البصير " . وقال تعالى فى المعراج : " ثم دنا فتدلى * فكان قارب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى * ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى * لقد رأى من آيات ربه الكبرى " .
( ذكر ) أن النبى صلى الله عليه وسلم رأى ربه تعالى أو جبريل على اختلاف السلف فى معنى ذلك . وذكر سبحانه وتعالى أن هذه الرؤية لم تكن حلماً ولا خيالا ، بل كانت رؤية شهود واستيقان ، فقال : " ما كذب الفؤاد ما رأى " . وقال : " ما زاغ البصر وما طغى " أى ما طاش وما اضطرب .
( وقد أجمع المسلمون على وقوع الإسراء والمعراج ، ونص عليهما القرآن ، وجاءت بتفصيلها وشرح عجائبهما أحاديث كثيرة ( منها ) :
1 – حديث أبى صالح باذان مولى أم هانئ بنت أبى طالب عن أم هانئ : قالت : دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلس ( بفتح الغين واللام : الظلمة آخر الليل ) وأنا على فراشى فقال : شعرت أنى نمت الليلة فى المسجد الحرام ، فأتانى جبريل عليه السلام ، فذهب بى إلى باب المسجد ، فإذا دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل مضطرب الأذنين ، فركبته فكان يضع حافره مد بصره ، إذا أخذ فى هبوط طالت يداه وقصرت رجلاه ، وإذا أخذ فى صعود طالت رجلاه وقصرت يداه ، وجبريل عليه السلام لا يفوتنى حتى انتهينا إلى بيت المقدس ، فأوثقته بالحلقة التى كانت الأنبياء توثق بها فنشر ( أى بعث ) لى رهط من الأنبياء فيهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ، فصليت بهم وكلمتهم ، واتيت بإناءين : أحمر وأبيض ، فشربت الأبيض . فقال لى جبريل عليه السلام : شربت اللبن وتركت الخمر ، لو شربت الخمر لارتدت أمتك . ثم ركبته ( يعنى البراق ) فأتيت المسجد الحرام فصليت به الغداة ( قالت ) أم هانئ : فتعلقت بردائه وقلت أنشدك الله ابن عم ألا تحدث بها قريشاً فيكذبك من صدقك ، فضرب بيده على ردائه فانتزعه من يدى فارتفع عن بطنه ، فنظرت إلى عكنه ( بضم ففتح جمع عكنة كغرفة وهى الطى فى البطن من السمن ) فوق ردائه وكأنه طى القراطيس ، وإذا نور ساطع عند فؤاده كاد يخطف بصرى ، فخررت ساجدة . فلما رفعت رأسى إذا هو قد خرج فقلت لجاريتى نبعة : ويحك ، اتبعيه فانظرى ماذا يقول ؟ وماذا يقال له ؟ فلما رجعت نبعه أخبر تنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى نفر من قريش فى الحطيم ( هو قوس من البناء شمال الكعبة محيط بحجر إسماعيل ) فيهم المطعم بن عدى بن نوفل ، وعمرو بن هشام ( أبو جهل ) والوليد بن المغيرة . فقال : إنى صليت الليلة العشاء فى هذا المسجد وصليت به الغداة ، وأتيت فيما بين ذلك بيت المقدس فنشر لى رهط من الأنبياء منهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ، فصليت بهم وكلمتهم . فقال عمرو بن هشام كالمستهزئ : صفهم لى . فقال : أما عيسى ففوق الرابعة ( بفتح فسكون : المعتدل ) ودون الطويل ، عريض الصدر ، ظاهر الدم ، جعد ( بفتح فسكون ، أى غير مترسل ) الشعر ، يعلوه صهبة ( بضم فسكون ، أى احمرار الشعر ) كانه عروة بن مسعود الثقفى . وأما موسى عليه السلام فضخم آدم ( أى أسمر ) طويل كأنه من رجال شئوءة ( قبيلة من اليمن ) ، كثير الشعر ، غائر العينين ، متراكب الأسنان ، مقلص ( أى منزوى ) الشفتين ، خارج اللثة عابس . وأما إبراهيم عليه السلام فوالله لأشبه الناس بى خلقاً وخلقاً ، فضجوا وأعظموا ذلك . فقال المطعم بن عدى بن نوفل : كل أمرك قبل اليوم كان أمماً ( بفتحات ، أى يسيراً ) غير قولك اليوم ، أشد أنك كاذب ، نحن نضرب أكياد الإبل إلى بيت المقدس مصعداً شهراً ومنحدراً شهراً ، نزعم أنك أتيته فى ليلة ، واللات والعزى لا أصدقك ، وما كان هذا الذى تقول قط . وكان للمطعم بن عدى حوض على زمزم أعطاه إياه عبد المطلب فهدمه فأقسم باللات والعزى= = لا يسقى منه قطرة أبداً . فقال أبو بكر رضى الله عنه : يا مطعم ، بئس ما قلت لابن أخيك جبهته ( أى استقبلته بالمكروه ) وكذبته ، أنا أشد أنه صادق ) فقال : يا محمد ، صف لنا بيت المقدس . قال : دخلته ليلا وخرجت منه ليلا ، فاتاه جبريل عليه السلام فصوره فى جناحه ، فجعل يقول : باب منه فى موضع كذا ، وباب منه فى موضع كذا . وأبو بكر رضى الله عنه يقول : صدقت ، صدقت ( قالت ) نبعة : فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يومئذ : يا أبو بكر ، إن الله عز وجل قد سماك الصديق . قالوا : يا مطعم ، دعنا نسأله عما هو أغنى لنا من بيت المقدس ، يا محمد أخبرنا عن عيرنا . فقال : أتيت على غير بنى فلان بالروحاء قد أضلوا ناقة لهم وانطلقوا فى طلبها ، فانتهيت إلى رحالهم ليس بها منهم أحد ، وإذا قدح ماء فشربت منه ، فسلوهم عن ذلك فى ، فقالوا : هذه واللات والعزى آية . ثم انتهيت إلى عير بنى فلان فنفرت منى الإبل وبرك منها جمل أحمر عليه جوالق مخطط ببياض ، لا أدرى أكسر البعير أم لا ؟ فسلوهم بعد ذلك ، فقالوا هذه والإله آية . ثم انتهيت إلى عير بنى فلان بالأيواء يقدمها جمل أوراق ( أى أسمر ) ها هى تطلع عليكم من الثنية ، فقال الوليد بن المغيرة : فيما قال ، وأنزل الله تبارك وتعالى : " وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة فى القرآن " . قلت ( أى قال أبو صالح ) : يا أم هانئ ، ما الشجرة الملعونة فى القرآن ؟ قالت : الذين خوفوا فلم يزدهم التخويف إلا طغياناً كبيراً . ذكره ابن سيد الناس [84] ص 140 ج 1 عيون الأثر ( الحديث عن الإسراء والمعراج ) .
2 - وحديث ثابت البنانى عن أنس بن مالك رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أتيت بالبراق وهو دابة طويل فوق الحمار ودون البغل ، يضع حافره عند منتهى طرفه ( بسكون الراء ، النظر والعين ) قال : فركبته حتى أتيت المقدس فربطته بالحلقة التى يربط بها الأنبياء ، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ، ثم خرجت ، فجاءنى جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن ، فاخترت اللبن ، فقال : أخترت الفطرة . ثم عرج بنا إلى السماء ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد بعث إليه ؟ ( أى قد بعث إليه بالبراق للعروج إلى السماء ) ولم يرد بعثه صلى الله عليه وسلم إلى الخلق لأنه لم يبعد أن يخفى على الملائكة بعثه إلى الخلق ، فلا يعلمون به إلا ليلة الإسراء ) قال : قد بعث إليه ففتح لنا ، فإذا أنا بآدم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فرحب بى ودعا لى بخير . ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل عليه السلام ، فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد بعث إليه . قال : قد بعث إليه ، ففتح لنا فإذا أنا بابنى الخالة عيسى بن مريم ويحيى بن زكرياء صلوات الله عليهما ( وذلك أن أم يحيى إيشاع بنت فاقوذ ، وهى أخت حنة بنت فاقوذ أم مريم . فتكون إيشاع خالة مريم وأخت حنة ، يعنى يحيى وعيسى ابنا خالة بهذا الاعتبار ) فرحبا بى ودعوا لى بخير ، ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة ( فذكر مثل ما ذكر فى السماء الأولى والثانية ) ، ففتح لنا ، فإذا أنا بيوسف صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو قد أعطى شطر الحسن ، فرحب بى ودعا لى بخير . ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة ( وذكر مثله ) ففتح لنا ، فإذا أنا بإدريس ، فرحب ودعا لى بخير . قال الله تعالى : " ورفعناه مكاناً علياً " . ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة ( فذكر مثله ) ، ففتح لنا ، فإذا أنا بهارون صلى الله عليه وسلم ، فرحب ودعا لى بخير . ثم عرج بنا إلى السماء السادسة ( فذكر مثله ) ، ففتح لنا ، فإذا أنا بموسى صلى الله عليه وسلم ، فرحب ودعا لى بخير . ثم عرج بنا إلى السماء السابعة ( فذكر مثله ) ، ففتح لنا ، فإذا أنا بإبراهيم صلى الله عليه وعلى آله وسلم مسنداً ظهره إلى البيت المعمور [ (لا يقال ) كيف يرى النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، الأنبياء فى السموات وأجسادهم فى قبورهم فى الأرض ( لأنا ) نقول : تشكلت أرواحهم بصور أجسادهم ، أو أحضرت أجسادهم لملاقاة النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم فى هذه الليلة تشريفاً له وتكريماً ] وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ، ثم ذهب بى إلى سدرة المنتهى ( أى ينتهى إليها ما يعرج من الأرض ) فإذا ورقها كأذان الفيلة ، وإذا ثمرها كالفلال ( جمع قلة وهى الجرة العظيمة ) فلما غشيها من أمر الله ما غشى ، تغيرت ، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها ، فأوحى الله إلى ما أوحى ، ففرض على خمسين صلاة فى كل يوم وليلة ، فنزلت إلى موسى صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما فرض ربك على أمتك ؟ قلت : خمسين صلاة . قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا يطيقون ذلك ، فإنى قد بلوت بنى إسرائيل وخبرتهم ، فرجعت إلى ربى فقلت : يارب خفف على أمتى ، فحط عنى خمساً ، فرجعت إلى موسى ، فقلت : حط عنى خمساً . قال إن أمتك لا يطيقون ذلك فارجع إلى ربك واسأله التخفيف . فلم أزل أرجع بين ربى وبين موسى حتى قال : يا محمد ، إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر ، فذلك خمسون صلاة ، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشراً ، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئاً فإن عملها كتبت سيئة واحدة ، قال : فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته ، فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فقلت : قد رجعت إلى ربى حتى استحييت منه . أخرجه أحمد ومسلم [85] ص 251 ج 20 الفتح الربانى . وص 209 و 210 ج 2 نووى مسلم ( الإسراء ) .
3 – وحديث أبى هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فاتى على قوم يزرعون فى يوم ويحصدون فى يوم ، كلما حصدوا عاد كما كان ، فقال : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء المجاهدون فى سبيل الله ، تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف ، وما أنفقوا من شئ فهو يخلفه .
ثم أتى على قوم على أدبارهم رقاع وعلى أقبالهم رقاع ، يسرحون كما تسرح الأنعام إلى الضريع ( نبت بالحجاز ، له شوك كبار ) والزقوم ( نبات فى البادية ، له زهر ) ورضف جهنم ( أى حجارتها المحماة ) فقال : ما هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم وما ظلمهم الله وما الله بظلام للعبيد .
ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم فى قدر نضيج ، ولحم آخر نئ خبيث ، فجعلوا يأكلون الخبيث ويدعون النضيج الطيب . قال : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : الرجل من أمتك يقوم من عند امرأته حلالا فيأتى المرأة الخبيثة معها حتى يصبح ، والمرأة تقوم من عند زوجها حلال طيباً فتأتى الرجل الخبيث فتبيت عنده حتى يصبح .
ثم أتى على رجل قد جمع حزمه عظيمة لا يستطيع حملها وهو يريد أن يزيد عليها . فقال : يا جبريل ، من هذا ؟ قال : هذا رجل من أمتك عليه أمانة الناس لا يستطيع أداءها وهو يزيد عليها .
ثم أتى على قوم تقرض شفاهم وألسنتهم بمقارض من حديد ، كلما قرضت عادت كما كانت ، لا يفتر عنهم من ذلك شئ قال : يا جبريل ما هؤلاء ؟ قال : خطباء الفتنة .
ثم أتى على جحر صغير يخرج منه ثور عظيم فيريد الثور أن يدخل من حيث خرج فلا يستطيع فقال : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا يتكلم الرجل بالكلمة العظيمة فيندم عليها فيريد أن يردها فلا يستطيع .
ثم أتى على واد فوجد ريحاً طيبة ووجد ريح مسك مع صوت ، فقال : ما هذا ؟ قال : صوت الجنة تقول : يارب ائتنى بأهلى وبما وعدتنى فقد كثر غرسى وحريرى وسندسى وإستبرقى وعبقرى ومرجانى وتصبى وذهبى وأكوايبى وصحافى وأباريقى وفواكهى وعسلى وثيابى ولبنى وخمرى ، ائتنى بما وعدتنى . قال : لك كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة ، ومن آمن بى وبرسلى وعمل صالحاً ولم يشرك بى شيئاً ولم يتخذ من دونى أنداداً ، فهو آمن ، ومن سألنى أعطيته ، ومن أقرضنى جزيته ، ومن توكل على كفيته ، إنى أنا الله لا إله إلا أنا لا خلف لميعاد ، قد أفلح المؤمنون ، تبارك الله أحسن الخالقين . فقالت : قد رضيت .
ثم أتى على واد فسمع صوتاً منكراً فقال : يا جبريل ما هذا الصوت ؟ قال : هذا صوت جهنم تقول : يارب ائتنى بأهل وبما وعدتنى فقد كثر سلاسلى وأغلالى وسعيرى وحميمى وغساقى وغسلينى ، وقد بعد قعرى واشتد حرى ، ائتنى بما وعدتنى . قال : لك كل مشرك ومشركة ، وخبيث وخبيثة ، كل جبار لا يؤمن بيوم الحساب . فقالت : قد رضيت .
( ثم ) سار حتى أتى بيت المقدس فنزل فربط فرسه إلى صخرة فصلى مع الملائكة ، فلما قضيت الصلاة قالوا : يا جبريل من هذا معك ؟ قال : محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم خاتم النبيين . قالوا : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم . قالوا : حياة الله من أخ وخليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة . ثم لقوا أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم تعالى . فقال إبراهيم صلى الله عليه وسلم : الحمد لله الذى اتخذنى خليلا ، وأعطانى ماكاً عظيماً ، وجعلنى أمة قانتاً ، واصطفانى برسالاته ، وأنقذنى من النار وجعلها على برداً وسلاماً .
( ثم ) إن موسى عليه السلام أثنى على ربه فقال : الحمد لله الذى كلمنى تكليماً ، واصطفانى ، وأنزل على التوراة ، وجعل هلاك فرعون على يدى ، ونجاة بنى إسرائيل على يدى .
( ثم ) إن داود عليه السلام أثنى على ربه فقال : الحمد لله الذى جعلى لى ملكاً وأنزل على الزبور ، وألان لى الحديد ، وسخر لى الجبال يسبحن معى والطير ، وآتانى الحكمة وفصل الخطاب .
( ثم ) إن سليمان عليه السلام أثنى على ربه تبارك وتعالى فقال : الحمد لله الذى سخر لى الرياح والجن ، والإنس ، وسخر لى الشياطين يعلمون ما شئت من محاريب ( جمع محراب وهو البناء الحسن ، وأشر ف شئ فى المكسن وصدره ، وقال الضحاك : هو المسجد ) وتماثيل وجفان كالجوابى ( جمع جابية وهى الحوض الذى يجبى فيه الماء ) وقدور راسيات ، وعلمنى منطق الطير ، وأسال لى عين القطر ( بكسر فسكون : النحاس ) وأعطانى ملكاً لا ينبغى لأحد من بعدى .
( ثم ) إن عيسى صلى الله عليه وسلم أثنى على ربه فقال : الحمد لله الذى علمنى التوراة والإنجيل وجعلنى أبرئ الأكمه والأبرص وأحيى الموتى بإذنه ، ورفعنى وطهرنى من الذين كفروا ، وأعاذنى وأمى من الشيطان الرجيم ، ولم يجعل للشيطان علينا سبيلا .
( وإن ) محمداً صلى الله عليه وسلم أثنى على ربه فقال : كلكم أثنى على ربه وأنا مثن على ربى : الحمد لله الذى أرسلنى رحمة للعالمين ، وكافة للناس بشيراً ونذيراً ، وأنزل على القرآن فيه الأولون وهم الآخرون ، وشرح لى صدرى ، ووضع عنى وزرى ، ورفع لى ذكرى ، وجعلنى فاتحاً وخاتماً .
( فقال ) إبراهيم صلى الله عليه وسلم : بهذا فضلكم محمد صلى الله عليه وسلم . ثم أتى بآنية ثلاثة مغطاة ، فدفع إليه إناء فيه ماء . فقيل له اشرب ، فشرب ، ثم دفع إليه إناء آخر فيه لبن ، فشرب حتى روى ، ثم دفع إليه إناء آخر فيه خمر ، فقال : قد رويت لا أذقه . فقيل له : أصبت ، أما إنها ستحرم على أمتك ، ولو شربتها لم يتبعك من أمتك إلا قليل . ... ... ... ... ... ... ...
= ثم صعد به إلى السماء فاستفتح جبريل ، فقيل : من هذا ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد صلى الله عليم وسلم . قالوا : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم . قالوا : حياه الله من أخ وخليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجئ جاء ، فدخل فإذا بشيخ جالس تام الخلق لم ينقص من خلقه شئ كما ينقص من خلق البشر ، عن يمينه باب تخرج منه ريح طيبة ، وعن شماله باب تخرج منه ريح خبيثة ، إذا نظر إلى الباب الذى عن يمينه ضحك ، وإذا نظر إلى الباب الذى عن يساره بكى وحزن . فقال : جبريل ، من هذا الشيخ ، وما هذان البابان ؟ قال : هذا أبوك آدم ، وهذا الباب الذى عن يمينه باب الجنة ، إذا رأى من بدخله من ذريته ضحك واستبشر . والباب الذى عن شماله باب جهنم ، إذا نظر من يدخله من ذريته بكى وحزن . ثم صعد إلى السماء الثانية ( الحديث ) أخرجه البزار بسند رجاله موثقون إلا أن ربيع ابن أنس قال عن أبى العالية أو غيره فتابعية مجهول . قاله الهيثمى [86] ص 67 ج 1 مجمع الزواءد ( الإسراء ) .
4 – وحديث سمرة بن جندب : أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : رأيت الليلة رجلين أتيانى فأخذا بيدى فأخر جانى إلى الأرض المقدسة ، فإذا رجل جالس ورجل قائم على رأسه بيده كلوب من حديد فيدخلهفى شدقه فيشقه حتى يخرجه من قفاه ، ثم يخرجه فيدخله فى شدقه الآخر ، ويلتئم هذا الشدق ، فهو يفعل ذلك به . قلت : ما هذا ؟ قالا : انطلق . فانطلقت معهما ، فإذا رجل مستلق على قفاه ورجل قائم على رأسه بيده فهر ( بكسر فسكون ، أى حجر ) أو صخرة فيشدخ بها رأسه فيتدهور الحجر ، فإذا ذهب ليأخذه عاد رأسه كما كان ، فيصنع مثل ذلك . فقلت : ما هذا ؟ قالا : انطلق ، فانطلقت معهما فإذا بيت مبنى على بناء التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع ، يوقد تحته نار ، فيه رجال ونساء عراة ، فإذا أوقدت ارتفعوا حتى يكادوا أن يخرجوا ، فإذا أخمدت رجعوا فيها . فقلت : ما هذا ؟ قالا : انطلق ، فانطلقت فإذا نهر من دم فيه رجل على شاطئ النهر ، ورجل بين يديه حجارة ، فيقبل الرجل الذى فى النهر ، فإذا دنا ليخرج رمى فى فيه حجراً فرجع إلى مكانه غهو يفعل ذلك به . فقلت : ما هذا ؟ قالا : انطلق ، فانطلقت فإذا روضة خضراء ، وإذا شجرة عظيمة وإذا شيخ فى أصلها حوله صبيان ، وإذا رجل قريب منه بين يديه نار يوقدها ، فصعدا بى فى شجرة ، فأدخلانى داراً لم أر داراً قط أحسن منها ، فإذا فيها رجال وشيوخ وشباب وفيها نساء وصبيان ، فأخرجانى منها فصعدا بى الشجرة فأدخلانى داراً هى أحسن وأفضل ، فيها شيوخ وشباب . فقلت لهما : إنكما قد طوفتمانى منذ الليلة ، فأخبرانى عما رأيت . قالا : نعم .
( أما ) الرجل الأول الذى رأيت فإنه رجل كذاب يكذب الكذبة فتحمل عنه فى الآفاق ، فهو يصنع به ما رأيت إلى يوم القيامة ، ثم يصنع تعالى به ما شاء .
( وأما ) الرجل الذى رأيت مستلقياً على قفاه فرجل آتاه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل بما فيه بالنهار ، فهو يفعل به ما رأيت إلى يوم القيامة .
( وأما ) الذين فى التنور فهم الزناة .
( وأما ) الذى رأيت فى النهر ، فذاك آكل الربا .
( وأما ) الشيخ الذى رأيت فى أصل الشجرة فذاك إبراهيم عليه السلام .
( وأما ) الصبيان الذين رأيت فأولاد الناس .
( وأما ) الرجل الذى رأيت يوقد النار فذاك مالك خازن النار وتلك النار .
( وأما ) الدار التى دخلت أولا فدار عامة المؤمنين .
( وأما ) الدار الأخرى فدار الشهداء ، وأنا جبريل وهذا ميكائيل . ثم قالا لى : ارفع رأسك ، فرفعت فإذا كهيئة السحاب ، فقالا لى : ودارك . فقلت لهما : دعانى أدخل دارى . فقالا : إنه قد بقى لك عمر لم تستكمله ، فلو استكملته ، دخلت دارك . أخرجه أحمد والشيخان [87] ص 8 ج 5 مسند أحمد ( حديث سمرة بن جندب ) وص 92 كتاب الروح ( عذاب القبر هو عذاب البرزخ ) .
5 – وحديث ابن المسعود أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : لقيت إبراهيم ليلة أسرى بى فقال : يا محمد أقرئ أمتك السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة ، عذبه الماء وأنها قيعان ( جمع قاع وهو المكان المستوى الواسع النقى ) وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله . أخرجه الطبرانى والترمذى وحسنه [88] ص 265 ج 7 رياض الصالحين ( فضل الذكر ) .
6 – وحديث أنس : أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : رأيت ليلة أسرى بى على باب الجنة مكتوباً : الصدقة بعشر أمثالها ، والقرض بثمانية عشر . فقلت : يا جبريل ، ما بال القرض أفضل من الصدقة ؟ قال : لأن السائل يسأل وعنده ، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة . أخرجه ابن ماجه ، وفى سنده خالد بن يزيد الدمشقى ، ضعفه جماعة [89] ص 43 ج 2 سنن ابن ماجه ( القرض ) .
7 – وحديث أنس بن مالك قال : كان ابو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : فرج عن سقف بيتى وأنا بمكة ، فنزل جبريل ففرج صدرى ثم غسله بماء زمزم ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً فأفرغه فى صدرى ثم أطبقه ، ثم أخذ بيدى فعرج بى إلى السماء ، فلما جئت إلى السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء افتح . قال : من هذا ؟ قال : جبريل . قال : هل معك أحد ؟ قال : نعم معى محمد . فقال : أرسل إليه ؟ قال نعم . فلما فتح علونا السماء الدنيا فإذا رجل على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة ، إذا نظر قبل يمينه ضحك ، وإذا نظر شماله بكى . فقال : مرحباً بالنبى الصالح ، والابن الصالح . قلت لجبريل : من هذا ؟ قال : هذا آدم ، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه ، فأهل اليمين منهم أهل الجنة ، والأسودة التى عن شماله أهل النار . فإذا نظر عن يمينه ضحك ، وإذا نظر قبل شماله بكى . حتى عرج إلى السماء الثانية ، فقال لخازنها : افتح . فقال له خانها مثل ما قال الأول ففتح ( الحديث ) أخرجه البخارى [90] ص 313 ج 1 فتح البارى ( كيف فرضت الصلاة فى الإسراء ) .
هذا . وقد تواترت الروايات فى حديث الإسراء .
( وهذه ) الروايات وإن لم تكن كلها صحيحة ، فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون ، وأعرض عنه الزنادقة والملحدون ، يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون .
( وقد ) اختلف العلماء أكان الإسراء والمعراج ببدنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وروحه أم بروحه فقط ؟ والأكثر على أنهما كانا ببدنه وروحه يقظة ، لقوله تعالى : " سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذى باركنا حوله " .
( فالتسبيح ) إنما يكون عند الأمور العظام ، فلو كان مناماً لم يكن فيه كبير شئ ولم يكن مستعظماً ، ولما بادر كفار قريش إلى تكذبيه ، ولما ارتدت جماعة ممن كانوا قد أسلموا ، ( وأيضاً ) فإن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد ، وقد قال تعالى : " أسرى بعبده ليلا " . وقال تعالى : " وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس " . قال ابن عباس : هى رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به . والشجرة الملعونة هى شجرة الزقوم . رواه البخارى والترمذى [18] ص 138 ج 1 تيسير الوصول ( سورة الإسراء ) ( وقال ) تعالى : تعالى : " ما زاغ البصر وما طغى " . والبصر من خواص الذات لا الروح ( وأيضاً ) فإنه حمل على البرق وهو دابة بيضاء براقة لها لمعان ، وإنما يكون هذا للبدن للروح ، لأنها لا تحتاج فى حركتها إلى مركب تركب عليه . قاله ابن كثير .
هذا . وحمة الإسراء والمعراج أن الله تعالى شرع الشرائع بواسطة إلهام الرسول أو كلامه من وراء حجاب ، أو إرسال الملك ، أو الرؤيا الصادقة . قال الله تعالى : " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشاء ، إنه على ٌّ حكيم " الشورى : 51 .
( فهذه ) مقامات الوحى بالنسبة إلى الله تعالى ، وهو أنه تارة يقذف فى روع النبى صلى الله عليه وسلم شيئاً لا يتمارى فيه أنه من الله عز وجل ، كما جاء فى صحيح ابن حبان عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال : إن روح القدس نفث فى روعى ( بضم الراء ، أى قلبى وخاطرى ) أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها ، فاتقوا الله وأخملوا فى الطلب [91] ص 383 ج 7 تفسير ابن كثير (سورة الشورى ) . وقوله تعالى : " أو من وراء حجاب " كما كلم موسى عليه الصلاة والسلام . فإنه سأل الرؤية بعد التكلم فحجب عنها . وفى الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن عبد الله رضى الله عنهما : ما كلم الله أحداً من وراء حجاب ، وإنه كلم أباك كفاحاً [92] ص 384 ج 7 تفسير ابن كثير . و (كفاحاً) أى مواجهة ليس بينهما حجاب ولا رسول . كذا جاء الحديث ، وكان أبو جابر قد قتل يوم أحد
ولكن هذا فى عالم البرزخ . والآية إنما هى فى الدار الدنيا . وقوله عز وجل : " أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشاء " ، كما ينزل جبريل عليه الصلاة والسلام وغيره من الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . قاله ابن كثير .
( وقالت ) عائشة رضى الله عنها : أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الوحى الرؤيا الصادقة فى النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ( الحديث ) أخرجه البخارى [93] ص 17 ج 1 فتح البارى ( كيف بدء الوحى ) .
( ولما ) كانت الصلاة عماد الدين ، من أقامها فقد أقام الدين ، ومن تركها فقد هدم الدين وهى الركن الأول من أركان الإسلام بعد الشهادتين ، والمحافظة عليها أول واجب يتحلى به المؤمن لما لها من الأثر الطيب فى الدنيا والآخرة ، لذا أوفد الله عز وجل جبريل ومعه ميكائيل يستدعيان حبيبه وصفيه ، ليلقى عليه وحيه فى ذلكم المقام الأعلى ، ويفرض عليه وعلى أمته الصلوات الخمس بلا واسطة .
( ففريضة ) هذا شأنها حقيق بالمؤمن أن يعنى بها ويهتم بشأنها ، ويحافظ عليها خاشعاً خاضعاً مطمئناً فى ركوعها وسجودها متذكراً :
( أ ) " قول " النبى صلى الله عليه وسلم : إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته ، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح ، وإن فسدت فقد خاب وخسر ، فإن انتقص من فريضته شيئاً ، قال الرب تبارك وتعالى : انظروا هل لعبدى من تطوع ؟ فيكمل به ما انتقص من الفريضة . ثم يكون سائر عمله على ذلك . أخرجه النسائى وأبو داود وابن ماجه والترمذى ( وهذا لفظه ) عن أبى هريرة [94] . انظر رقم 412 ص 293 ج 2 دين ( الرواتب ) .
( ب ) " وقول " الله عز وجل فى حديث قدسى : إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتى ، ولم يتكبر على خلقى ، ولم يبت مصراً على خطييئته ، وقطع النهار فى ذكرى ، ورحم المكسين وابن السبيل والأرملة ورحم المصاب ، ذلك نوره كنور الشمس ، أكلؤه بعزتى ، وأستحفظه ملائكتى ، أجعل له فى الظلمة نوراً ، وفى الجهالة حلماً ، ومثله فى خلق كمثل الفردوس فى الجنة . أخرجه الدارقطنى فى الأفراد عن على كرم الله وجهة عن النبى صلى الله عليه وسلم [95] رقم 244 ص 38 الإتحافات السنية فى الأحاديث القدسية . = ... ...
= ( ويعجبنى ) أيما إعجاب قول بعض الفضلاء : وإذا كان للمؤمنين أن ينتفعوا بذكرى الإسراء ، فليذكروا بها فضل الله على نبيه الذى جاهد فى تثبيت هذا الدين ونشره والعمل على إسعاد الإنسانية به ، وينتهجوا خطته فى ذلك ، حتى يكونوا من المؤمنين حقاً بهذا الفضل ، وحتى يحوزوا رضاء الله وإسعاده . وليذكروا بها أن الله فرض عليهم فى ليلتها على لسان نبيه – وقد ارتفع ما بينهما من حجب – خمس صلوات فى اليوم والليلة ، فيها يناجون ربهم ، وبها يشعرون بواجب العبودية التى خلعت على نبيهم فى تلك الليلة تكريماً وتشريفاً ، لم يفرضها كما فرض غيرها من الواجبات والأركان وإنما فرضها فى كوكبه من الملإ الأعلى وفى جذوة من الإشراق والأنوار ، تنويهاً ورمزاً لمكانتها . وليذكروا أن الرسول الذى نال فخر الإسراء كان يحن دائماً إلى مناجاة ربه والوقوف بين يديه ، حتى كان لا يجد له لذة إلا فى تلك المناجاة ( وجعلت قرة عينى فى الصلاة ) وفى الحق إن الصلاة التى أمر بها المؤمنون طهرة للقلوب ومعراج للرب وإسراء إلى ساحة الفضل والإنعام ، فمن شاء أن يسرى به ربه وأن تعرج به ملائكة الرحمة فليدم مناجاة ربه ، وليحسن وقوفه بين يديه " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين " .(1/84)
والقراءَة والذكر بالتَّحْرِيف والتَّلْحِين فى أَسماءِ الله تعالى ، وغير ذلك من المنكراتِ والمفاسِد التى تقَدَّمَ شَرْحها فى بحث المولد .
( وقد ) ذكَرَ ابن الحاج فى المدخل بعض ما أُحْدِثَ فى هذه الليلة من الْبِدَع ، فقال : فمنها إِتْيَانِهم المسجد واجتماعهم فيه ( ومنها ) زيادة وَقُود القناديل فيه. وقد تقَدَّمَ ما فى ذلك من المفاسِد ( ومنها ) فَرْش البُسُط والسجَّادات وغيرها ( ومنها ) السَّقَّاءُون ، وفى ذلك من المفاسِد جُمْلة كالْبَيْع والشِّرَاءِ فى المسجد ، والضَّرْبِ بالطَّاسَاتِ فيه ، وَرَفْع الصِّوْت بقوله عَطْشَان سَبِيل ونحوه ، وتَخَطِّى رِقَابِ الناس ، وتَلْوِيثِ المسجد بالماءِ ، والأَقْدَام المتَنَجِّسَة ، وحَمْل النَّعْل تحت إِبطِه ، أَوْ خلف ظَهْره دُونَ شَئٍْ يَشُدّه ، لأَنه يتحرَّك بحركَتِه فيقَعُ ما فيه من أَذَى فى المسجد ( ومنها ) اجتماعهم حلقات ، كُلّ حلقه لها كَبِير يَقْتَدُونَ به فى الذكْر والقراءَة ، ولَيْتَ ذلك لو كان كان ذِكْراً أَو قراءَةً ( يعنى مَشْرُوعَيْن ) لكنهم يَلْعَبُونَ بدِين الله تعالى ، فالذَّاكِر منهم فى الغالب لا يقول : لا إِله إِلاَّ الله ، بل يُحَرِّقها فيقول : لإِيلآهِ يِ لله ، فيجعلون عِوَض الهمزة ياءً ، وهى همزة قطع جعلوها همزة وصل ، وإِذا قالوا " سُبْحَان الله " يمطِّطُونها ويرجعونها حتى لا تكاد تُفْهَم ، والقارئُ يقرأْ القرآن فيزيد فيه ما ليس منه ، وينقص منه ما هُوَ فيه بحسَبِ تلك النغمات والترجيعات التى تُشْبه الغناءَ وغيره مما عُلِمَ من أَحوالهم الذَّمِيمَة ( ثم فيها ) مِنَ الأَمْر العظيم أَنَّ القارئ يبتدئ بقراءّةِ القرآنِ ، والآخر يُنْشِدُ الشِّعْر أَوْ يُريد أَن يُنْشِدّهُ فَيُسْكِتُونَ القارئ أَوْ يَهُمُّونَ بذلك ، أَوْ يتركُونَ هذا فى شِعْره ، وهذا فى قِرَاءَتِهِ . لتشوف بعضهم لسماع الشِّعْر وتلك النغمات المرذولة .(1/85)
وهذه الأَحوال لو كانت خارج المسجد لمنعَتْ ، فكَيْفَ بها فى المسجِد ، وفى هذه الليلة الشَّرِيفة (1) .
3 – ليلة النصف من شعبان
قد تقَدَّم الكلام فيها وَافِياً فى بِدَع المساجد (2) ، ويأْتى كلمة فى صَوْم نِصْف شعبان ، وأَنَّ الاحتفالَ بليلَتِه محدث (3) .
4 – ليلة القدر
__________
(1) اهـ ملخصاً من ص 245 – 247 ج 1 المخل ( بدع ليلة المعراج ) .
(2) انظر من ص 294 – 303 ج 3 الدين الخالص طبعة ثانية ، ص 340 و 341 ج 8 دين .
(3) انظر من ص 294 – 303 ج 3 الدين الخالص طبعة ثانية ، ص 340 و 341 ج 8 دين .(1/86)
ليلةُ القَدْرِ وما أَدْرَاكَ ما ليلةُ القَدْر ؟ ليلةُ القَدْر لها فَضْلٌ عظيم ، والطاعة فيها مُضَاعفة ، قال الله تعالى : " لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلآمٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ". ( وإِحياؤها ) بأَنواع العِبادَةِ مُسْتَحَبّ كباقى لبالى رمضان ولا سِيمَّا العَشْر الأَوَاخِر منها (روى ) أَبُو هريرةَ أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال : مَنْ قام ليلةَ القَدْرِ إِيماناً واحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ ما تقَدَّمَ من ذَنْبِه . عجز حديث أَخرجه أَحمد والشيخان وأَبو داود والترمذى . وقال : هذا حديث صحيح(1) {96} . ( وعنه ) أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال : مَنْ قام رمضان إِيماناً واحْتِسَاباً فُفِرَ له ما تَقَدَّم من ذَنْبِهِ . أَخرجه السبعة إِلا الترمذى ، وزاد النسائى : وما تأَخَّر (2) {97} . (
__________
(1) ص 221 ج 9 الفتح الربانى ( فضل قيام رمضان وليلة القدر ) و ص 81 ج 4 فتح البارى ، وص 40 ج 6 نووى مسلم ، وص 308 ج 7 المنهل العذب ( قيام رمضان ) ، وص 31 ج 2 تحفة الأحوذى ، والمراد بقيام ليلتها إحياء معظمها بالطاعة . وأقله صلاة العشاء والصبح فى جماعة . و ( إيماناً ) أى تصديقاً بوعد الله تعالى بالثواب عليه ( واحتساباً ) أى طلباً للأجر لا رياء ولا لأخذ أجرة . وظاهره أنه يتناول غفران الصغائر والكبائر وبه جزم ابن المنذر ( وقال ) النووى : المعروف أنه يختص بالصغائر . وبه جزم إمام الحرمين ، وقد يخفف من الكبائر إذا لم توجد صغيرة .
(2) يأتى رقم 41 ص 283 ج 8 دين ( فضل صيام رمضان ) ، ( وما تأخر ) لا يقال : كيف يغفر ما تأخر والمغفرة تستدعى سبق ما يغفر ، لأنا نقول : هو كناية عن أن يحفظ من الكبائر فلا تقع منه كبيرة بعد ذلك . وقيل : معناه أن الذنب يقع مغفوراً .(1/87)
وعن عائشة ) أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم كان إّذا دخل العشر شَدَّ مِئْزَره وأَحْيَا لَيْلَهُ وأَيْقَظ أَهْلَهُ . أَخرجه أَحمد والشيخان وابن ماجه والبيهقى(1){98} .
( أَما اتخاذ ) الناس لها مَوْسماً وشِعَاراً والاحتفال بإِحيائِها فى المساجد ، فبِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ ، فيه مِنَ المفاسِد ما تقَدَّم فى الاحتفال بليلةِ المعراج ونصْف شعبان .
المواسم الأجنبية
ابتلى المسلمون بتقليد غيرهم فى كثير من مواسمهم وعوائدهم ، وقد نُهُوا عن ذلك ( روى ) ابن عُمر أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : مَنْ تَشَبَّه بقومٍ فَهُوَ مِنْهُمْ . أَخرجه أحمد وأبو داود والطبرانى فى الكبير بسندٍ صحيح (2) {
__________
(1) يأتى رقم 272 ص 439 ج 8 دين ( إحياء العشر الأواخر من رمضان ) والمئزر بكسر فسكون : الإزار . وشده كناية عن الاجتهاد فى الطاعة واعتزال النساء .
(2) انظر رقم 8593 ص 104 ج 6 فيض القدير ، وص 39 اقتضاء الصراط المستقيم وص 237 ج 4 سبل السلام ( يحرم التشبه بالكافر ) والمعنى أن من تشبه بالصالحين يكرم ، ومن تشبه بالفساق لا يكرم ، وفيه إشارة إلى جواز قتل من تشبه من الجان بالحيات المؤذية ، وظهر فى صورتها . وأنه لا يجوز للمسلم التشبه بالفساق أو الكفار أو المبتدعة فى شئ مما يختصون به من ملبوس أو هيئة ( فمن ) تشبه بالكافر فى زى واعتقد أن يكون بذلك مثله كفر . فإن لم يعتقد فقيل : يكفر وهو ظاهر الحديث ، وقيل : لا يكفر ولكن يؤدب ( ولذا ) قال العلماء : من لبس القبعة ميلا إلى دينهم واستخفافاً بدينه فهو كافر اتفاقاً ، وكذا من لبسها تشبهاً واقترن به ما هو من شعائرهم كدخول كنيسة ، وإن لم يقترن به ذلك فهو مسلم آثم .
(
قال ) تقى الدين ابن تيمية فى اقتضاء الصراط المستقيم * مخالفة أصحاب الجحيم – بعد تخريج الحديث وبيان أن سنده جيد - : وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضى تحريم التشبه بهم ، وإن كان ظاهره يقتضى كفر المتشبه بهم . كما فى قوله تعالى : " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " فقد يحمل على التشبه المطلق فإنه يوجب الكفر ، وقد يحمل على أنه منهم فى القدر المشترك الذى شابههم فيه . فإن كان كفراً أو معصيه أو إشعاراً لها ، كان حكمة كذلك ، وبكل حال يقتضى تحريم التشبه بعلة كونه تشبهاً والتشبه يعم ( من فعل الشئ ) لأجل أنهم فعلوه وهو نادر (ومن تبع غيره ) ، فى فعل لغرض له فى ذلك إذا كان أصل الفعل مأخوذاً عن ذلك الغير ( فأما ) من فعل الشئ واتفق أن الغير فعله أيضاً ولم يأخذه أحدهما عن صاحبه ، ( ففى كون ) هذا تشبهاً نظر ، لكن قد ينهى عن هذا لئلا يكون ذريعة إلى التشبه إلى التشبه . انتهى بحذف ص 39 و 40 ( وقد اتفقت ) كلمة العلماء على تحريم لبس القبعة .
( وقال ) الشيخ عبد الرحمن شيخ زاده فى مجمع الأنهر : ويكفر بوضع قلنسوة المجوس على رأسه على الصحيح إلا لتخليص الأسير أو لضرورة دفع الحر والبرد عند البعض . وقيل : إن قصد به التشبه يكفر ، وكذا شد الزنار فى وسطه . انظر ص 637 ج 1 مجمع الأنهر (الخامس فى التفرقات – باب المرتد ) .
( وقال ) أبو البركات الشيخ أحمد الدردير فى الشرح الكبير على مختصر خليل : الردة كفر المسلم بصريح من القول . كقوله أشرك أو أكفر بالله ، أو لفظ يقتضيه ، كقوله : الله جسم متحيز ، وجحده حكماً علم من الدين بالضرورة ، كوجوب الصلاة وحرمه الزنا ، أو فعل يتضمن الكفر ، كإلقاء مصحف بقذر ، وشد زنار ، بضم الزاى وشد النون : حزام ذو خيوط ملونة يشد به الذمى وسطه ليميز به عن المسلم ، والمراد به ملبوس الكافر الخاص به ، أى فيشمل برنيطة النصرانى وطرطور اليهودى إذا فعله حباً فيه وميلا لأهله وإن لم يسع به للكنيسة ونحوها ، سواء أفعله فى بلاد الإسلام أم بلاد غيره ، فالمدار فى الردة على فعله حباً فيه وميلا لأهله .
( وأما ) إن لبسه لعباً فحرام وليس بكفر ، وإن فعله لضرورة كأسير عندهم يضطر إلى استعمال ثيابهم فلا حرمة عليه . اهـ بزيادة من حاشية الشيخ الدسوقى ، ص 269 ج 4 ( الردة وأحكامها ) .
( وفى فتاوى ) العلامة الرملى الشافعى : سئل عن التزيى بزى الكفار أهو ردة أم لا ؟ فيحرم فقط ( فأجاب ) بأن الراجح أنه ليس بردة بل يأثم العامد العالم بتحريمه . اهـ ص 31 ج 4 هامش الفتاوى الكبرى لابن حجر الهيتمى ( كتاب الردة ) ( وهو ) محمول على لبسه بلا نية الرضا أو الميل إلى دينهم . أما إن لبسه راضياً أو ميلا إلى دينهم أو تهاوناً بالإسلام فإنه يكفر ( قال ) العلامة ابن الحجر الهيتمى الشافعى فى كتاب الإعلام بقواطع الإسلام : وحيث لبس زى الكفار ، سواء دخل دار الحرب أم لا بنية الرضا بدينهم أو الميل إليه أو تهاوناً ، كفر . اهـ .
( وقال ) الشيخ منصور البهوتى الحنبلى : ومن تزيا بزى الكافر من لبس غيار وشد زنار وتعليق صليب بصدره ، حرم ولم يكفر . اهـ ص 153 ج 4 شرح المنتهى ( حكم المرتد ) ( ومال ) بعض الحنبلية إلى الكفر ( والغيار ) بالكسر : علامة خاصة بأهل الذمة كالزتار ( فترى ) هذه النصوص متفقة على تحريم لبس القبعة ونحوها مما هو خاص بالكفار عند عدم الاستخفاف بالإسلام ، وعدم الميل إلى دين الكفرة وإلا كان كفراً ، فكيف يستبيح من يؤمن بالله واليوم الآخر لبس ما ذكر ويترك زيه القومى العربى إلى زى قوم يؤدى تقليدهم إلى ذهاب قوميتنا ، وفناء شخصيتنا التى حث الشارع على المحافظة عليها واحترامها ، حفظاً لكياننا ( روى ) أبو المليح بن أسامة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اعتموا تزدادوا حلماً . قال : وقال على رضى الله عنه : العمائم تيجان العرب . أخرجه أبو دادود [100] ص 261 3 تيسير الوصول ( العمائم – اللباس ) .
وسيأتى مزيد بيان لهذا فى بحث اللباس إن شاء الله تعالى .(1/88)
99} . وقال الإِمام الصَّنْعانى : الحديث فيه ضَعْف ، وله شَوَاهِد تخرجه عن الضَّعْف : ( منها ) حديث ابن مسعود أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال : مَنْ رَضِىَ عَمَلَ قَوْمٍ كان منهم . أَخرجه أَبو يعلى(1) {101} ( وَرَىَ ) أَبو هرِيرةَ أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال : إِنَّ اليهودَ والنَّصارَى لا يَصْبُغُون فخالِفُوهم . أَخرجه الستة، ولفظ الترمذى : غيِّرُوا الشيب ولا تشبهوا باليهود (2){102} ( وقال ) عطاءُ ابنُ دينار : قال عُمر رضى الله عنه: لا تَعلموا رَطانة الأَعاجِم ولا تَدْخُلُوا على المشركين فى كنائِسهم يوم عِيدهم ، فإِن السخطة تَنْزِلُ عليهم . أَخرجه البيهقى بسندٍ صحيح وأَبو الشَّيْخ الأَصبهانى(3){19} ( وقال ) ابن عمرو : منْ بَنَى فى بلاد الأَعَجِم وصنع نَيْروزَهم ومهرجانهم وتَشَبَّهَ بهم حتى يموت وهو كذلك ، حُشِرَ معهم يوم القيامة . أَخرجه البيهقى(4) {20} وقال : وفى هذا الكراهة لتخصيص يوم بذلك لم يجعله الشرع مخصوصاً به . اهـ .
__________
(1) ص 237 ج 4 سبل السلام ( يحرم التشبه بالكافر ) .
(2) ص 175 ج 10 فتح البارى ( الخضاب – اللباس ) وص 80 ج 14 نووى مسلم ( خضاب الشيب ) وص 278 ج 2 مجتبى ، وص 85 4 سنن أبى داود ، وص 199 ج 2 سنن ابن ماجه ( الخضاب بالحناء ) و ( لا يصبغون ) أى لحاهم وشعورهم ( فخالفوهم ) واصبغوها بغير السواد . أما تغييرها بالسواد فحرام أو مكروه على ما تقدم بيانه فى بحث ( تغييير الشيب ) ج 1 دين .
(3) ص 94 و 95 اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم . و ( والرطانة ) بكسر الراء وفتحها : التكلم بلغة العجم .
(4) ص 94 و 95 اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم . و ( والرطانة ) بكسر الراء وفتحها : التكلم بلغة العجم .(1/89)
هذا ، وإِنَّهُ لَيَسُوءُنا ويَسُوءُ كُلّ غَيُور على دِينِه ، أَنْ نرَى المسلمين يخالفون هذه الأَحاديث والآثار ، فقد تركُوا أَعمالهم ومصالحهم فى مواسِم أَهل الكتاب، واتَّخَذُوهَا أَيَّام فرَحٍ وسُرُور ، وشارَكُوا أَهلها فى التَّوْسِعَة بكَثْرَةِ الطَّعَامِ والَّرَابِ ولبْس أَجْمل الثَّيَاب وصَبْغ البَيْض فيها للأَوْلاد .
وبهذا تحقَّقَ ( قول ) النبىَّ صلى الله عليه وسلم : لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ الذين من قبلِكُم شِبْاً بشِبْرٍ وذِرَاعٍ ، حتى لو سَلكُوا جُحْرَ ضَبّ لَسَلكْتُمُوه قُلْنَا : يا رسول الله ، اليهود والنَّصَارَى ؟ قال فمنْ غيرهم . أَخرجه أَحمد والشيخان عن أَبى سعيد الخدرىّ (1) {103} ولنبيِّن هُنَا سِتَّةً من هذه المواسِم ليتبيَّنَ العاقل الأَمْرَ وليقِفَ عند حَدِّ الشَّرْع .
1 – عيد النيروز
النَّيْرُوز ، بفتح فسكون ، معرّب نوروز بالفارسية . ومعناه يوم جديد ، وعيده يكون فى أَوائل تُوث وفى النِّصْف الثانى من سبتمبر أَوَّل فَصْل الخريف . احْتَفَلَ بهِ قُدَمَاءُ المصريين عندما جعل العلامة المصرى تُوث رأْس سَنَتِهم المالية موافقةً لظهور الشَّعرى(2) مع الشمس .
ومعنى تُوث : ظهور أَول الفيضان . وقد عرفوا لَهُ هذا الجميل فَسَمُّوا الشهر الأَوَّل من سَنَتِهم باسْمِه . ولم يُسَمّ رأْس السنة المصرية نَيْروزاً إِلاَّ بعد دخول العرب مصر ، وشاركَ المسلمون الأَقباط فى الاحتفالِ به من عهد الفاطميين باعتبار أَنه فاتحةَ بابِ الخير على المصريين بإِرواءِ أَراضيهم بفَيَضَان النِّيل السعيد .
__________
(1) ص 197 ج 1 الفتح الربانى ، وص 319 ج 6 فتح البارى ( ماذكر عن بنى إسرائيل – أحاديث الأنبياء ) وص 219 ج 16 نووى مسلم (كتاب العلم ) .
(2) الشعر هى أنور النجور الثوابت ، تبعد عنا 13433000 ثلاثة عشر مليوناً وأربعمائة وثلاثة وثلاثين ألف ميل . وجرمها يكاد يكون أكبر من جرم الشمس مائتى مرة .(1/90)
2 – شم النسيم
ويُسَمَّى عيد المهرجان أَوْ عيد البشارة (1) . كان قدماءُ المصريين يَبْدَءُونَ سَنَتَهُمْ بالاعتدال الربيعىّ الموافق 29 برمهات و25 مارس . وتُعْرَف بالسَّنَة الفَلكِيَّة ، لا عتقادِهم بأَنَّ بَدْءَ الخليقَةِ كان فى هذا اليوم ، ولتخلص الإِسرائيليين من ربقة العبودية فى هذا الوقت بخُروجِهم من مِصْرَ على يد سَيِّدِنا مُوسَى عليه السَّلام ، فاعتَبَرُوهُ رَأْساً لِسَنَتِهم الدِّينية . ثم لَمَّا اتفق الأَقباط واليهود على جَعْل سَنَتِهم الأَصْلِيَّة شمسية تبتدئُ فى أَول حُلُول الشَّمس فى بُرْج الحمل ، أَى زمان الاعتدال الربيعىّ ، جَعَلُوا الاحتفالَ به لا يَقِلّ أَهمية عن الاحتفال برأْس سَنَتِهم المالية .
( وهذان ) الْعِيدانِ من أَعْيَادِ الجاهلية . تَقَدَّمَ أَنَّ أَنَس بن مالك قال : قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، ولَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فيهما . فقال : ما هَذَانِ الْيَوْمَانِ ؟ قالوا : كُنَّا نَلْعَبُ فيهما فى الجاهلية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إِنَّ الله قد أَبْدَلَكُم بهِما خَيْراً مِنْهُمَا : يَوْمَ الأَضْحَى ويَوْمَ الْفِطْر . أَخرجه أَحمد والبيهقى وغيرهما(2) {104} .
( واليومان ) هُمَا يَؤْمَا النيروز والمهرجان . والحديث يَتَضَمَّن النَّهْى عن اللَّعِبِ والفرح فيهما ، وأَنه لا ينبغى للمؤْمِن موافَقَةَ الكُفَّار فى تَعْظِيم هَذَيْن اليَوْمَيْن وغيرهما من أَعيادِهم حِفْظاً لدِينِه .
(
__________
(1) سمى بذلك لزعمهم أن جبرائيل بشر مريم البتول بالحمل بسيدنا عيسى عليه السلام وكان ذلك سنة 5500 خمسة آلاف وخمسمائة من مبدإ الخليقة .
(2) تقدم رقم 263 ص 316 ج 4 دين ( مشروعية صلاة العيد ) .(1/91)
قال ) الشيخ زاده الحنفى : ويَكْفُر بخُروجِه إِلى نَيْروزِ المجُوس ، والموافقة معهم فيما يَفْعَلُونه فى ذلك اليوم ، وبشِرَائِه يوم شَيْئاً لم يكن يَشْتَرِيه قبل ذلك تعظيماً للنيروز ، لا للأَكْل والشَُرْب ، وبإِهْدَائِه فى ذلك اليوم للمُشْرِكِين ولو بيْضَةً تعظيماً له . ولا يَكْفُر بإِجابته دعوةَ مَجُوسىّ وحَلْق رَأْس وَلَدِه (1) ( ونقل ) فى المرقاة عن الحسن بن منصور الحنفىّ أَنه قال : مَن اشْتَرَى شيئاً لم يكُن ليَشْتَرِيه فى غير النيروز أَوْ أَهْدَى فيه هَدِيَّة إِلى غيره، فإِنْ أَراد بذلك تَعْظِيمَ اليوم كما يُعَظِّمَهُ الكَفرَة ، فقد كَفر ، وإِنْ أَرادَ بالشِّرَاءِ التَّنَعَُمَ والتَّنَزُّه ، وبالإِهداءِ التَّحَابُبِ جَرْياً على العادةِ ، لم يَكُنْ كُفْراً ، لكنه مَكْرُوه للتَّشَبُّه بالكَفرَة حينئذٍ ، فينبغى التَّحَرُّزَ عنه . اهـ .
__________
(1) ص 637 ج 1 مجمع الأنهر ( الخامس فى التفرقات – المرتد ) .(1/92)
" وقد سُئِلَ " العلاَّمة ابن حجر الهيثمى : هَلْ يَحِلَُ اللَّعِبُ بالْقِسىّ الصِّغار التى لا تنفَعُ ولا تقتل صيداً ، بل أُعِدَّت للعب الكُفَّار ، وأَكْل الموْز الكَثير المطْبُوخ بالسكَّر ، وإِلْبَاس الصِّبْيَان الثِّياب الملَوَّنة بالصُّفْرة تبعاً لاعتناءِ الكَفرَة بهذه فى بعض أَعيادِهم ، وإِعطاءِ الأَثواب والمصروف لهم فيه إِذا كان بينه وبينهم تَعَلُّق من كون أَحدهما أَجِيراً للآخر من قبيل تَعْظِيم النيروز ونحوه ، فإِنَّ الكَفرَةَ صَغِيرهم وكَبِيرهم ، وضِيعهم ورَفِعهم حتى ملُوكهم ، يَعْتَنُونَ بهذه القِسىّ الصَّغار واللعب بها ، وبأَكْل الموْزِ الكَثِير المطْبُوخ بالسكَّر اعتناءً كثيراً . وكذا بإِلْبَاس الصِّبْيَان الثِّيَاب المصْفرَّة وإِعطاءِ الأَثواب والمصروف لمنْ يَتَعَلَّقَ بهم . وليس لهم فى ذلك اليوم عِبَادَةَ صَنَم ولا غيره . وجماعةً مِنَ المسلمين إِذا رأَوْا أَفعالهم يفْعَلُونَ مِثْلهم . فَهَلْ يَكْفُر أَوْ يَأْثم المسلم إِذا عَمِلَ مثل عَمَلِهم من غير اعتقادِ تَعْظِيم عِيدِهم ولا اقتداءً بهم أَو لا ؟
( فأَجاب ) بقوله : لا كُفْرَ بفِعْل شَئٍْ من ذلك ، فقد صَرَّحَ أَصحابنا بأَنَّهُ لو شَدّ الزِّنَار على وسطه أَوْ وَضَعَ على رأْسه قلنْسُوة المجوس ، لم يَكْفُر بمجَرَّدِ ذلك . اهـ ( فعَدَمَ ) كُفْره بما فى السُّؤال أَوْلى ، وهو ظاهر ، بل فِعْل شَئٍْ مَّما ذُكِر فيه لا يَحْرم إِذا قُصِدَ به التَّشَبُّه بالكُفَّار لا من حيثُ الكُفْر ، وإِلاَّ كَانَ كُفْراً قطعاً ( فالحاصل ) أَنه إِنْ فَعَلَ ذلك بقَصْد التَّشَبُّه بهم فى شِعَار الكُفْر ، كَفرَ قطعاً ، أَوْ فى شِعَارِ العيد مع قطع النظر عن الكُفْر لم يَكْفُر ، ولكنه يأْثم ، وإِن لم يقصد التَّشَبُّه بهم أَصْلاً فلا شَئَْ عليه .(1/93)
قال بعض أَئِمَّتنا : ومن أَقْبَح الْبِدَع موافقةَ المسلمين النَّصارَى فى أَعيادِهم بالتَّشَبُّه بأَكْلهم ، والهدِيَّة لهم ، وقبول هَدِيَّتهم فيه . وأَكثر الناس اعتناءً بذلك المصْرِيُّون . وقد قال صلى الله عليه وسلم : مَنْ تَشَبَّه بقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُم.
(بل قال) ابن الحجاج : لا يَحِلّ لمسْلم أَنْ يَبِيعَ نَصْرَانِيًّا شيئاً من مصلحة عيده ، لا لحماً ولا أَدْماً ولا ثَوْباً ، ولا يُعَارُونَ شيئاً ولو دَابَّة ، إِذْ هُوَ معاونةً لهم على كُفْرِهم . وعلى وُلاَةِ الأَمْر مَنْعَ المسلمين من ذلك ( ومنها ) اهتمامهم فى النَّيْرُوز بأَكْل الهريسة واستعمال البخُور فى خَمِيس العِيدَيْن سبع مرَّات ، زاعِمينَ أَنه يَدْفَعُ الكَسَل والمرض ، وصَبْغ البَيْض أَصْفر وأَحْمَر وبَيْعِه ، والأَدْوِية فى السَّبْت الذى يُسَمُّونَه سَبْت النُّور ، وهو فى الحقيقة سَبْتُ الظَّلام ، ويَشْتَرُونَ فيه الشِّبث (1) ويقولون : إِنه للبَرَكة ويَجْمَعُونَ وَرَقَ الشَّجَر ويلتُّونَها ليلةَ السَّبْت بماءِ يَغْتَسِلُونَ به فيه لِزَوَالِ السِّحْر ، ويكْتَحِلُون فيه لزيادَةِ نُور أَعْيُنِهم ، ويَدَّهِنونَ فيه بالكبريت والزَّيت ، ويجلسون عَرَايَا فى الشمس لدفع الجَرَب والحكَّة ويطبخُون طعامَ اللبن ويأْكُلُونَهُ فى الحمام ، إِلى غير ذلك من البِدَع التى اخْتَرَعُوها . ويجب مَنْعهم من التَّظَاهُر بأَعْيَادِهم(2) .
( وقد ) ذكر ابن الحاج فى المدخل فى هذا بحثاً طويلاً يُشْفى غَلِيلَ المستَرْشِدِينَ لَخَّصْنَاهُ فى المنهل العذب المورُود فى شرح حديث الْعِيدَيْن(3) .
(
__________
(1) الشبث بكسر فسكون : بقلة .
(2) ص 238 ج 4 الفتاوى الكبرى ( باب الردة ) .
(3) ص 306 ج 6 المنهل العذب . وانظر أثر 19 و 20 ص 90 .(1/94)
وقال ) الحافظ تقىّ الدين فى كتابه اقتضاءِ الصراطِ المستقيم بعد ذِكْر قَوْل عُمَر وابن عمرو السابقين(1). وهذا عُمر رضى الله عنه نَهَى عن لِسَانِهم ( أَى عن تَعَلُّم لُغَتِهم ) وعن مجرَّدِ دُخُول الكَنِيسَة عليهم يوم عِيدِهم ، فكَيْفَ بفِعْل بعض أَفعالهم ؟ أَو بِفِعْل ما هُوَ من مُقْتَضَيَات دِينِهم ؟ أَلَيْسَتْ موافقتهم فى العمل أَعظم من موافقتهم فى اللُّغة ؟ أَو ليس بعض أَعمال عِيدِهم أَعظم من مجرَّدِ الدخُول عليهم فى عِيدِهم ؟ وإِذا كان السُّخْط ينزل عليهم يوم عِيدِهم بسببِ عملهم ، فمنْ يَشْرَكهم فى العمل أَو بعضه أَليس قد يعرض لعقوبة ذلك ؟
( وأَمَّا عبد الله ) بن عمرو فَصَرَّح أَنه مَنْ بَنَى ببلادِهم وصَنَعَ نَيْرُوزَهُم ومهرجانهم ، وتَشَبَّه بهم حتى يموت ، حُشِرَ معهم . وهذا يَقْتَضِى أَنه جعله كافراً بمشاركَتِهم فى مجموع هذه الأُمور ، أَوْ جَعَلَ ذلك مِنَ الكَبائر الموجِبَة للنّار . وإِنْ كانَ الأَوَّل ظاهر لفظه ، فتكون المشاركَة فى بعض ذلك مَعْصِيَة ، لأَنه لو لم يكُنْ مؤثراً فى استحقاقِ العقوبة ، لم يَجُزْ جعله جزءًا من المقتضِى للعقوبة ، إِذ المباح لا يُعَاقب عليه ، وليس الذَّم على بعض ذلك مشروطاً ببعض ، لأَنَّ أَبعاض ما ذكره يقتَضِى الذَّم مفرداً وإِنما ذكر مَنْ بَنَى ببلادِهم ، أَنَّهُمْ على عَهْدِ عبد الله بن عمرو وغيره من الصَّحَابة كانوا ممنوعِينَ من إِظهارِ عِيدِهم بدار الإِسلام ، وما كان أَحَدٌ من المسلمين يَتَشَبَّه بهم فى عِيدِهم ، وإِنما كان يَتَمَكَّن من ذلك بكَوْنِه فى أَرْضِهم(2) .
(
__________
(1) ص 306 ج 6 المنهل العذب . وانظر أثر 19 و 20 ص 90 .
(2) مقتبس من ص 95 – اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم .(1/95)
وقال ) الإِمام أَبو الحسن الآمدى المعروف بابن البغدادى فى كتابه عمدة الحاضر وكفاية المسافر : (فصل) لا يَجُوز شُهود أَعيادِ النَّصَارَى واليهود . نص عليه أَحمد . واحْتَجَّ بقوله تعالى : " وَالَّذِينَ لآ يَشْهَدُونَ الزُّورَ" أَىْ أَعْيَادِهم (1) ، فأَمَّا ما يبيعون فى الأَسواق فى أَعْيادِهم فلا بأْسَ بحُضُوره . نص عليه أَحمد . وقال : إِنما يمنعُونَ أَنْ يَدْخُلُوا عليهم بِيَعهم وكنائِسَهم . فأَمَّا ما يُبَاع فى الأَسْوَاق من المأْكَل فلا . وإِنْ قصد إِلى توثير ذلك وتحسِينِه لأَجْلهم . وإِنما رَخَّصَ أَحمد رحمه الله فى شهود السُّوق بشرْط أَلاَّ يَدْخُلوا عليهم بِيَعهم ، فعلم مَنْعُه من دُخُول بِيَعهم . وكذلك أَخَذَ الخلاَّل من ذلك المنْعَ من خروج المسلمين فى أَعْيَادِهم ( فقد ) نص أَحمد على مثل ما جاءَ عن عُمر رضى الله عنه من المنْع من دخُول كنائِسِها فى أَعْيَادِهم . وهو كما ذكرْنا من باب التَّنْبِيه على المنْع من أَن يفْعَلَ كفِعْلِهم .
(
__________
(1) فقد قال طاوس وابن سيرين وغيرهما : الزور فى الآية ، هو أعياد المشركين وقيل مجالس السوء والخنا ، وقيل غير ذلك .(1/96)
وأَمَّا ) الرطانة وتَسْمِية شُهُورِهم بالأَسماءِ العَجَمِيَّة ، فقال أَبو محمد الكِرْمانى : ( باب تسمية الشُّهُور بالفارسِيَّة ) قُلْتُ لأَحمد : فإِن للفُرْس أَيَّاماً وشُهُوراً يُسَمُّونها بأَسماءٍ لا تُعْرَف ؟ فكِهَ ذلك أَشَدَّ الكراهة . قُلْتُ : فإِن كان اسم رَجُل أُسميه به ؟ فكرِهَهُ . وقال : وسأَلْتُ إِسحاق : قُلْتُ : تاريخ الكتاب يُكْتَب بالشهور الفارسية مثل آذرماه وذى ماه . قال : إِنْ لم يكُن فى تلك الأَسامى اسم يُكْرَه فأَرْجُو " أَنْ لآ بَأْس به " . وكذلك الأَسماءِ الفارسية . قال : وسأَلت إِسحاق مرةً أُخرى : قُلْتُ : الرَّجُل يتعلَّم شهور الرُّوم والفُرْس ؟ قال : كُلّ اسْمٍ معروف فى كلامِهم فلا بأْس ، ( فما قاله ) أَحمد من كرَاهَةِ هذه الأَسماءِ له وَجْهَان :
( أَحَدُهُما ) إِذا لم يُعْرَف معنَى الاسم جازَ أَن يكُون معْنًى محرماً ، فلا يَنْطِق المسلم بما لا يعرف مَعْنَاه . ولهذا كُرِهَت الرقى العجمية كالعبرانية أَو السريانية أَو غيرها ، خوفاً أَن يكون فيها معانٍ لا تجوز . وهذا المعنى هو الذى اعتبره إِسحاق . لكن إِذا علم أَنَّ المعنى مكروه فلآ رَيْبَ فى كرَاهَتِه ، وإِنْ جَهِلَ معناه فأَحمد كرِهَهُ .
( والوجه ) الثانى : كراهةَ أَن يَتَعَوَّدَ الرَّجُل النُّطْق بغير العربية ، فإِن اللِّسان العربىّ شِعَارُ الإِسلام وأَهله . واللُّغات من أَعظم شعائر الأُمم التى بها يتميزون .ولهذا كان كثير من الفقهاءٍ أَو أَكثرهم يكرهون فى الأَدْعِيَةِ التى فى الصلاة والذكر ، أَن يُدْعَى الله أَوْ يُذْكر بغَير العربية .
( وقد اختلف ) الفقهاءُ فى أَذكار الصَّلآة هَلْ تُقَال بغير العربية ؟ وهى ثلاث درجات : أَغلاها القرآن ، ثم الذِّكْر الواجب غير القرآن ، كالتحريمة بالإِجماع ، وكالتحليل والتَّشَهُّد عند مَنْ أَوْجَبَهُما . ثم الذِّكْر غير الواجب من دعاءٍ أَو تَسْبِيحٍ أَوْ تكْبِير .
((1/97)
فأَما ) القرآن فلا يقرؤه بغير العربية ، سواءٌ قدر عليها أَو لم يقدر عند الجمهور ، وهو الصَّواب الذى لا رَيْبَ فيه ، بل قد قال غيره واحد : إِنه يمتَنع أَن يترجم سُورةً أَو ما يقوم به الإِعجاز ( واختلف ) أَبو حنيفة وأَصحابه فى القادِر على العربية (1) .
( وأَما ) الأَذكار الواجبة فاختلف فى ترجمة غير القرآن ، هل يُتَرْجَم للعاجز عن العربية وعن تَعَلُّمها ؟ وفيه لأَصحاب أَحمد وجهان ، أَشبههما بكلام أَحمد أَنه لا يُتَرْجَم ، وهو قول مالك وإسحاق ، والثانى يُتَرْجَم ، وهو قول أَبى يوسف ومحمد (2) والشافعى .
( وأَما ) سائر الأَذكار فالمنصوص أَنه لا يُترجمها ، ومتى فعل بطلَتْ صلاته ، وهو قول مالك وإِسحاق وبعض أَصحابِ الشافعىّ ، والمنصوص عن الشافعىّ أَنه يُكْرَه ذلك بغير العربية ولا يُبطل ، ومن أَصحابنا مَنْ قال : له ذلك إِذا لم يُحْسِن العربية .
(
__________
(1) فقال النعمان : تجوز القراءة بغير العربية ولو قادراً عليها . وقال الصاحبان : لا تجوز القراءة بغير العربية إلا لمن عجز عنها . وقد تقدم بيانه فى بحث ( من عجز عن القراءة بالعربية ) ، ص 145 ج 2 دين ، طبعة ثانية .
(2) تقدم فى ( بحث شروط التحريمة والتشهد الأخير ) أنهما يصحان عند الحنفيين بغير العربية ولو من قادر عليها .(1/98)
وأَما ) التَّكَلُّم بالْعَجَمِيَّة من غير حاجةٍ فى أَسماءِ الناس والشُّهُور ، كالتواريخ ونحو ذلك ، فهو مَنْهِىٌّ عنه مع الجهل بالمعنَى بلا ريب ، وأَمَّا مَعَ العِلْم به فكلام أَحمد بَيِّن فى كرَاهَتِه أَيضاً ، فإِنه كرِهَ آذرماه ونحوه ومعناه ليس محرماً ، وأَظُنّه سُئِلَ عن الدعاءِ فى الصَّلاة بالفارَسِيَّة فكرِهَهُ وقال : لِسَان سُوءٍ ، وهو أَيضاً قد أَخذ بقول عُمر رضى الله عنه الذى فيه النَّهْى عن رطانَتِهم وعن شُهُودِ أَعْيَادِهم ، وهذا قَوْل مالك أَيضاً ، فإِنه قال : لا يُحْرِم بالعجمية ولا يَدْعُو بها ولا يَدْعُو بها ولا يَحْلِف بها ، وقال : نَهَى عُمر رضى الله عنه عن رطانة الأَعاجم وقال : إِنَّهَا خَب . فقد استَدَلَّ بنَهْى عُمر عن الرطانة مطلقاً . اهـ ملخصاً (1) .
( أَما ) شَمّ النَّسِيم وما أَدْرَاك ما شَمّ النَّسِيم ؟ فهو عادة ابْتَدَعَها الأَقْبَاط لتعظيم يوم البشارة ، وليتذكَّرُوا الحوادِث المهِمَّة التى جَرَتْ وتَجْرِى فيه .
__________
(1) من صفحة 95 إلى 97 اقتضاء الصراط المستقيم . و ( الخبء ) بفتح الخاء وكسرها : الخداع .(1/99)
وقد اتخذه وللأَسَف المصْرِيُّون عُمُوماً حُكُومةً وشَعْباً ( إِلاَّ مَنْ عَصِمَهُ الله ) عِيداً وشِعَراً قوميًّا ، تُعَطَّلُ فيه مصالح الحكُومة والمدارس والمعاهد ، ويُقْفَل كَثِيرٌ من المحالّ التِّجارية فيه والصِّناعية ، وتُفْتَحُ أَبوابُ الحاناتِ ودور الملاهى والفُسُوق ، ويُرْتكَبُ فيه ما يُرْتكَبُ مَّما يزْرِى بالفَضِيلة ، وتأْبَاهُ المرُوءَة ، ويَأْبَاهُ الذوق السَّليم ، ويَغْضَبُ له الحليم . يخرج كَثِيرٌ من سُكَّان المدُنِ والقُرَى إِلى المتنَزَّهات الوَاسِعَة ، والحدائق النَّضِرَة ، فَتَرَى الطرقات قد ثَارَ غُبَارُها وعَلآ ضَجِيج المارة بها ، ومنهم السَّفَلَة (1) الفَسِدُو الأَخْلاَق ، يفُوهُون بما تَمُجُّه الأَسماع ، وتَأْنَفُ منه الطِّبَاع ، وتَأْبَاهُ الكرَامة . وترَى السَّيَّارات والقُطُر قد مُلِئَتْ بأْنَاسٍ تَبَايَنَتْ أَخْلآقُهم ، واخْتَلَفَتْ أَحْوَالُهُم ، يَمُوجُ بعضُهم فى بعض بين شِيبٍ وشُبَّان ، ونِسَاءٍ وَوِلْدَان ، جَلِسينَ وواقِفِينَ ومُسْتَمسِكِين بقوائم المركَّبات ، والجميع يَئِنُّ من هَوْل الزِّحام .
__________
(1) يقال للأراذل سفلة بفتح فكسر ، ويجوز التخفيف فيقال سفلة بكسر فسكون .(1/100)
وترَى السُّفُن صَغِيرة وكَبِيرة تَجْرِى فى النِّيل مملوءَةً بالشُّبَّان والكُهُول والنِّساءِ مختلطاتٍ بأَهْل الفُسُوق يَفْسُقُون ويَفْجُرُون ، وَيُفْرِطون فى الشَّهَوَات واللَّذَّات ، وتَنَوُل المسْكِرَات ، ويُهْمِلُون الطَّاعَات كأَنَّ هذا الْيَوْمَ قد أُبِيحَتْ لهم فيه الخبائِث ، ورُفِعَتْ فيه عنهم التَّكَالِيف وكَثِيراً ما يَقَعُ فى هذا اليوم من مُنْذِرَاتِ الإِغراقِ والإِحراقِ والصَّدَمات والسَّرِقات ، ما به يتَّعِظُ المتَّعِظ ، ويَعْتَبر ، فيَثُوبَ إِلى رُشْدِه ، ويَتُوبَ من ذَنْبِه ، ويُنِيبَ إِلى رَبَّه ، ولكن لا مُعْتَبِر ولا مُتَّعِظ ولا ثَائِب ولا تَائِب ولا مُنِيب ، بل هُم قَوْمٌ غَلَبَتْ عليهم الشِّقْوَة : " أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ، أَلآ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِروُنَ " ، وسَيَنْدَمُونَ ويقولون : لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فى أَصْحَابِ السَّعِيرِ . وَأُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَروا الضَّلالةَ بالْهُدَى ، والجَحِيم بالنَّعِيم ، والْغِوَاية بالرَّشاد ، والْعِمَايَة بالسَّداد ، فما رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وما كَانُوا مُهْتَدِين .
( أَمَّا أَنْتُم ) أَهْلُ الَّمْع والعَقْل والطَّاعة ، وطَالِبى التوفيق والْهِدَاية ، فالْزَمُوا أَنْتُم وأَهْلكُم وذَوُوكُم مَسَاكِنَكُم فى هذا اليوم المشْئُوم ، واسْلُكُوا سبيلَ الْبَرَرَة المتَّقِين ، واهْتَدُوا بِهَدْى رسُول رَبِّ العالمين ، تَسْعَدُوا وتَفُوزُوا بالرِّضْوان وتَبْلُغُوا الآمال ، ولا تُشَارِكُوا المفْرِطِين والأَجانب فى مواسمهم ، ولا الفَاسِقين فى فُسُوقِهِم وفُجُورِهم . وَلآ ترْكَنُوا إِلى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ .(1/101)
ولكُم من أَعْيادِ المسْلمين التى شرَعَها لكُم رَبُّ العالمين على لِسَان نَبِيِّهِ الأَمِين ، نِعْمَ الْبَدَل ، تَبْلُغُونَ فيها حَاجَتَكُم مِنَ الرَّاحة والسُّرُور والْهِدَاية والتوفيق .
3 – ميلاد المسيح عليه السلام
يحتفلُ الأَقباط بميلادِ سيدنا عيسَى عليه الصلاة والسلام فى 29 كيهك الموافق 7 يناير ، ويشاركهم فيه بعض المسلمين ولا سيما جَهَلَةَ النِّساءِ وهو مِنَ الْبِدَع المنْكرَة والعوائد المستَقْبَحَة فى تعظيم مواسِم أَهل الكِتَابِ ومشاركَتِهم فيها وإِعانَتِهم على باطِلهم .
( قال ) ابن الحاج : ومن ذلك ما يَفْعَلَهُ النِّسَاءُ موافقةً للنَّصَارَى فى مَوْلد عِيسَى عليه الصلاة والسلام ، وهو أَنَّهُنَّ يَعْمَلْنَ صَبِيحةَ ذلك اليوم عَصِيدةً يَرَى الكَثيؤ مِنْهُنَّ أَنه لآبُدّض من فِعْلِها ، ويَزْعُمْنَ أَنَّ مَنْ لم يَفْعَلْها أَوْ يَأْكُل منها فى ذلك اليوم يَشْتَدُّ عليه البرد فى سَنَتِه ولا يَحْصُل له فيها دِفْءٌ ولو لَبِسَ مِنَ الثِّيَابِ ما لَبِسَ ، ومع كَوْنِ اعتيادِ هذا بِدْعَة فالشَّاهِد يُكَذِّب ما افْتَرَيْنَهُ ، وكأَنَّهُنَّ يُشرِّعْنَ من تلقاءِ أَنفسهن . نَعُوذَ باللهِ مِنَ الضَّلال . اهـ ملخصاً (1) .
4 – ليلة الغطاس
ومن مواسمهم عِيد الْعِماد ( الْغِطَاس ) يحتفلُ به الأَقباط فى 11 طوبة ، الموافق 9 يناير ، تذكاراً لِعماد السيِّد المسيح فى نهر الأُردن على يد يُوحَنَّا المعمدان . هكذا يَزْعُم بعضُهم . ومنهم مَنْ يَزْعُم أَنَّ مريم اغتْتَسَلَتْ فيه من النِّفَاس ، ويُشَارِكَهُمْ فيه بعض جَهَلَةِ المسلمين . وهُوَ مِنَ العوائد المسْتَهْجَنَة ، وفيه ما فى غيره من المفاسِد والخروج عن جَادَّةِ الصَّواب .
(
__________
(1) ص 308 ج 1 مدخل الشرع الشريف ( مولد عيسى عليه الصلاة والسلام ) .(1/102)
قال ) ابن الحاج : ومن ذلك ما يَفْعَلُونَهُ فى مَوْسِم الْغِطَاس ، وهو اليوم الذى تَزْعم النَّصَارَى أَنَّ مريم عليها السلام اغْتَسَلَتْ فيه من النِّفَاس ، فاتخذ النِّصَارَى ذلك سُنَّةً لهم فيغْتَسِلُونَ فى تلك الليلة كَبِيرهم وصَغِيرهم وذكرهِم وأُنْثَاهُم حتى الرَّضِيع ، فَتَشَبِّهَ بهم بعض المسلمين واتخذوا ضلك مَوْسِماً يَزِيدُونَ فيه النفقةَ ويُدْخِلُون فيه السُّرُورَ على أَوْلآدِهم بأَشياءَ يَفْعَلُونَهَا فيه . وفى هذا من التَّعْظِيم لمواسِم أَهْل الكِتَابِ ما سَبَقَ فى غيره ، وبعض مَِن انْغَمَسَ فى الجهل من المسلمين يَغْطَسُ فى تلك اللَّيلة كما يَغْطَسُون ، ومن أَشْنَع ما فيه أَنَّهُم يَزُفُّونَ فيه بعض عِيدَانِ القَصَبِ وعليها الشُّمُوع الموقّدَة والفاكهة وغير ذلك . وبعضُهم يُهْدِى ذلك للقَابِلة ( الدَّاية )ويتَهَادُون فيه بأَطْنَانِ القَصَب وغيره . اهـ بتصرف (1)
5 – خميس العدس
ومنها عِيد خَمِيس الْعَهْد أَو الْعَدَس ، يحتفلُ به الأَقباط فى 17 برمودة ، الموافق 25 إِبريل ، تذكاراً لشهادةِ يعقوب الرَّسُول ابن زبدى سنة 36 ميلادية . ويُشَارِكَهُمْ فيه بعض المسلمين . وفى هذا العار والَّنَار وغَضَبِ العَزِيز الجبَّار ، فقد ارتُكِبَتْ فيه منكرات تَبْرَأُ منها الإِنسانية وتَأْباها المروءَة .
(
__________
(1) ص 309 منه ( موسم الغطاس ) .(1/103)
قال ) ابن الحاج : وقد اتخذت فيه أِشياءَ لا تنبغى ( فمنها ) خروج النِّسَاءِ فى ذلك اليوم لِشرَاءِ البخُور والخواتم وغيرها . فمنْ يمُرّ بالسُّوق يَرَى مشَقَّةً عظيمةً لزحمةِ النِّسَاءِ ، وقد يُزاحمهن مَنْ لا خَيْرَ فيه . ولا يَخْفَى ما فى خُرُوجِهنَّ واجتماعهن بالرجال من المفاسِد التى لا دَوَاءَ لها فى الغالب ، ولو أَنَّ رَجُلاً منَعَ أَهْله من الخروج فى ذلك اليوم ، لَوَقَعَ التَّشْوِيش بينهما ، وقد َؤُول الأَمر إِلى الفراق . وقد قال مالك رحمة الله : ينبغى أَن يُرْفَع إِلى السلطان ما أَحْدَثَهُ النِّسَاءَ من جِلُوسهِنَّ عند الصَّوَّاغِينَ حتى يمتنعْنَ من ذلك . اهـ ( وإِنما ) خَصَّ مالك الصَّوَّاغِين لأَنَّ النِّسَاءَ فى زَمَنِه لم يكُنَّ يفْعَلْنَ ذلك إِلاَّ عندهم ، وقد كانُوا فى القُرُون المشهود لهم بالخيرية ، ونحنُ فى هذا الزمان فى الغالب النِّسَاءَ ، حتى إِنَّ المرأة تَشْتَرى لِزَوْجِهَا ما يحتاجه من لباسِه الخاصّ . وهذا سببه تَسَاهُل الرِّجال وترك النِّسَاءَ يرتكِبْنَ ما تَهْوَاهُ نُفوسِهِنَّ ، مهملين بقوله تعالى : " الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ " ، ومما أَحْدَثُوه فيه استعمالَ البخُور لهنَّ وللرِّجال ، فيبخرون به ، ثم يتخطونه سَبْع مَرَّات ، ثم ينفضُون عليه أَيْدِيهم وأَرْجُلَهم ويتفلُون عليه ، ويزعمون أَنَّ ذلك يَصْرِفُ عنهم الْعَيْنَ والكَسَلَ ، والوعْكَةَ من الجسَد ، ويتكَلَّم مِنْ يرقى البخُور بكلام لا يُعْرَف ، ولعلَّهُ كُفْر . ((1/104)
ومن ) ذلك استعمالهم فيه العَدَس المصَفَّى ، وإِنْ كان جائزاً ، فالْبِدْعَة تَحَرِّيهم له فى ذلك اليوم أَلواناً يَلْعَبُ به الأَولاد وغيرهم ، وتَعَدَّى ذلك إِلى أَنْ صر المقامِرُونَ وغيرهم يَلْعَبُونَ به جَهَاراً ولا أَحَد يُنْكِر عليهم ( ومن ) ذلك شراؤهم فيه السَّلاحِفَ يزعمون أَنَّهَا تَطْرُد بالابتداع ، وإِنما يَنْطرِد بالاِّتباع ، فكُلّ ما يفْعَلُونه من ذلك ونحوه من البِدَع المسْتَهْجَنة والعوائد الذَّمِيمَة ، وفيه تعظيم مواسم أَهْل الْكتِاب وتَشْجِيعِهِم على باطِلهم ، لأَنهم إِذا رأَوا المسلمين يتَشَبَّهُون بهم فى تعظيم مواسمهم يقوى ظَنّهم بأَنَّ ما هُمْ عليه هو الحق . وقد تقَدَّم قُبْح ما أَحْدَثُوه فى النَّيْرُوز ، فأَغنى عن ذِكْر مثله هنا ، إِذ المعنى فيهما واحد ، وهو تعظيم مواسِم أَهْل الكِتَاب وارْتِكاب الْبِدَع . نسأَل الله السلامة . اهـ بتصرف(1) .
6 – سبت النور
__________
(1) ص 305 ج 1 مدخل الشرع الشريف ( خميس العدس ) .(1/105)
زمنها مَوْسِم سَبْتُ النُّور ، يحتفلُ به الأَقباط يوم 19 برمودة ، الموافق 27 إِبرايل ، تذكاراَ لشهادة سمعان الأَرْمنى أَسقف الفُرْس . ويُشاركهم فيه بعض جَهَلَةِ المسلمين فى كَثِير من العوائد المستَقْبَحَة ( قال ) ابن الحاج : اليوم الذى يَزْعُمون أَنه سَبْتُ النُّور ، هو لعمر الله بِضِدِّ هذه التَّسْمِية أَلْيَق ، لَيْتَ ذلك لو كان فى عَوَامّ النَّاس ، لكن تجد بعض الخاصَّة ممن ينسب إِلى عِلْمٍ أَوْ صلاحٍ يُسَمُّونَهُ بهذه التَّسمِية تعظيماَ له ، ويُشَارِكُونَهُمْ فى أَفعالهم الذَّمِيمَة ( ومنها ) أَنهم يَجْمَعُونَ فى أَمْسِه ورق الشَّجر فيبيِّتُونَهُ فى إِناءٍ فيه ماءٍ ويَغْتَسِلُونَ به ، ثم يأْخُذُون ما اجتمع من غُسْلِهم ويُلْقُونَهُ فى طريق المسلمين وفى مفرق الطُّرُق ، ويَزْعُمون أَنَّ ذلك يُذْهِب عنهم الأَمراض والأَسْقام والكَسَل والعَيْن والسِّحْر وغير ذلك ، وأَنَّ مَنْ يمرّ به تُصِيبه تلك الْعِلَل ، وينتقل ما كان عليه إِلى مَنْ تَخَطَّاه من المارِّين ، وهذا لو كان صحيحاً لكَانَ قَصْدهم لذلك محرماً ، إِذ فيه قَصْد أَذِيَّة المسلمين ( وقد ) وَرَدَ فى الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أَنه قال : المؤمن يُحِبّ لأَخِيه المؤمن ما يُحِبّ لِنَفْسِه (1) . ومن ذلك " قوله " عليه الصلاة والسلام : مَنْ حَفرَ لأَخِيه المؤمن حُفْرَةً أَوْقَعَهُ الله فيها (2).
__________
(1) هو معنى " حديث " لا يؤمن أ؛دكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه . أخرجه السبعة إلا أبا داود عن أنس (105) ص 18 ج 1 تيسير الوصول، وص 43 ج 1 فتح البارى ( من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) وص 19 ج 1 سنن ابن ماحه ( الإيمان ) .
(2) هذا مثل وليس بحديث ..وقد ورد بلفظ : من حفر لأخيه قليباً ( أى بئراً ) أوقعه الله فيه قريباً ( قال ) الحافظ ابن حجر : لم أجد له أصلا (وعن) كعب الأحبار أنه سأل ابن عباس : من حفر مهواة كبه الله فيها ( فقال ) ابن عباس : إنا نجد فى كتاب لله : " ولا يحيق لمكر السيئ إلا بأهله ". ذكره العجلونى فى كشف الخلفاء ص 245 ج 2 ( وقد ورد ) فى معناه عدة أحاديث ( منها ) حديث : المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده. ولمؤمن من أمنه للناس على دمائهم وأموالهم . أخرجه أحمد والترمذى والنسائى والحاكم وابن حبان عن أبى هريرة (106) ص 18 ج 1 تيسير الوصول . وزاد الحاكم : والمجاهد بن جاهد نفسه فى طاعة الله . والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب .(1/106)
" وقوله " عليه الصلاة والسلام : مَنْ غَشَّنَا فليس مِنَّا (1){107} .
( ومن ) ذلك اكْتِحَالهم فى صَبِيحة ذلك اليوم بالسَّذاب أَو الكحْل أَو الكحْل الأَسْود أَو غيرهما ، ويَزْعُمونَ أَنَّ مَن اكْتَحَلَ من ذلك يَكْتَسِب نُوراً زائداً فى بَصَرِه يَرَى به الخِشَاش(2) فى طول سَنَتِه ولا يخفى عليه منه شَىْءٌ ، وذلك تَحَكُّم منهم ، والشاهد يكذب ذلك حِسًّا ومَعْنًى .
( ومن ذلك ) ما يفعلونه مِن شُرْبِ الدَّوَاءِ فى ذلك اليوم ويَزْعُمونَ أَنَّ شُرْبَ الدواء فيه ليس كَغَيْره مِنَ الأَيام . وفى ذلك تَعْظِيمٌ له كما تَقَدَّم (3) . ولهم أَعْيَادٌ أُخرى كلها من هذا الْقَبِيل .
( الرابع ) النوافل
هى جَمْع نَافِلة ، وهى لُغَةً الزِّيادة . وشرعاً الْعِبَادَة التى ليست بفرْض ولا واجب ، فهى تشمل الرواتب التابعة للفرائض الخمس – وقد تقَدَّمَنْ فى سُنن الصَّلاة – وغير الرواتب ، ومنها المؤقت وغيره ، وآكدها صلاة الكُسُوفِ ثم الاستسقاءِ ثم التَّرَاويح ثُمَّ قِيَام الليل . وهى كَثِيرة المذكُور منها ثمانى عَشَرة وبحْثَان .
1 – صلاة الكسوف
__________
(1) أى ليس على طريقتنا التى هى الزهد فى الدنيا وعدم الشره والطمع الباعثين على الغش ( والحديث ) أخرجه الطبرانى فى الصغير والكبير وأبو نعيم فى الحلية عن ابن مسعود بسند رجاله ثقات . انظر رقم 8881 ص 186 ج 6 فيض القدير . وفى سنده عاصم بن بهدلة سيئ الحفظ ، ولذا ضعفه السيوطى الله : وما الغش ؟ قال : أن يبتدع لهم بدعة فيعمل بها . أخرجه الدارقطنى عن أنس (108 ) ص 431 راموز الأحاديث .
(2) السذاب ) بفتح السين : بقل معروف . و ( الخشاش ) بكسر الخاء وقد تفتح الحشرات .
(3) ص 306 ج 1 مدخل الشريف ( اليوم الذى يزعمون أنه سبت النور ) .(1/107)
الكُسُوف لُغَةً : التَّغَيُّر إِلى السَّوَاد ، يقال : كسفت الشَّمْس إِذا اسْوَدَتْ . وسببه حَيْلُولة القَمَر بين الأَرْض والشَّمْس . والخُسوف لُغَةً : الذهاب . يقال : خسف القمر إِذا ذَهَبَ ضَوْءُه . وسببه حَيْلُولة الأَرْض بين القَمَر والشَّمْس .
( وقد ) وَرَدَ ذِكْر الكُسُوف والخسُوف للشَّمْس والقَمَر ، فروى فيهما بالكافِ وبالخاءِ . وروى فى الشَّمْس بالكافِ وفى القَمَر بالخاءِ ، وهو الكَثِير فى اللغة هذا . وصلاة الكسُوف سببها كُسُوف الشَّمس وخُسُوف القَمَر . وهى مَشْرُعة بالسُّنَّة وإِجماع الأُمة ( رَوَتْ ) عائشةَ رضى الله عنها أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عند كُسُوف الشَّمْس ثم قال : إِنَّ الشْمْس والقَمَر لا ينكَسِفَانِ لموْتِ أَحَدٍ ولا لحياتِه ، ولكِنَّهُما آيتان من آياتِ اللهِ تعاى يُرِيهما عِبَاده ، فإِذا رَأَيتم ذلك فافْزَعُوا إِلى الصَّلاة أَخرجه السبعة مطولاً إِلاَّ الترمذى (1) {109} ثم الكَلام فىتِسْعة فرُوع .
__________
(1) ص 200 ج 6 الفتح الربانى ، وص 360 ج 2 فتح البارى وفيه : فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا ( الصدقة فى الكسوف) وص 201 ج 6 نووى مسلم ( الكسوف ) وص 2 ج 7 المنهل العذب ( صلاة الكسوف ) وص 215 ج 1 مجتبى ( نوع آخر عن عائشة ) وص 197 ج 1 سنن ابن ماجه ( باب ما جاء فى صلاة الكسوف ) .(1/108)
1 – حكمها : هىا سُنّة عند الجمهور حملاً للأَمر الوارد بها على السُّنِّية لانحصار المفروض مِنَ الصّلواتِ فى الخمس " قال " طلحة بن عبيد الله : جاءَ أَعرابيّ إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ما الإِسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خَمْسُ صلواتٍ فى اليوم واللَّيْلَة . قال : هَلْ علىَّ غَيْرَهُنَّ ؟ قال : لا ، إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ . وذكر له النبىَّ صلى الله عليه وسلم صِيَامَ رمضانَ . قال : هَلْ علىِّ غَيْره ؟ قال : لا ، إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ . وذكرَ له النبىُّ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ . قال : هَلْ علىَّ غيرها ؟ قال : لا ، إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ . قال : فأَدبر الرَّجُل وهو قول : والله لا أَزِيدُ على هذا ولا أَنْقُص . فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلمم : أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ . أَخرجه أَحد والبخارى وأبو داود(1) {110} .
( وقال ) أَبو عوانة : إِنَّهَا واجبةٌ حملاً للأَمر على الْوُجُوب . وروى عن أَبى حنيفة . والمشهور عنه أَنَّهَا سُنَّة . وحَكَى النَّوَوِى الإِجماع عليه .
__________
(1) ص 68 ج 1 الفتح الربانى ، وص 78 ج 1 فتح البارى ( الزكاة من الإسلام ) وص 276 ج 3 المنهل العذب ( الصلاة ) .(1/109)
2 – شروطها : يُشْتَرَطُ لها ما يُشْتَرَطُ لغيرها مِنَ الصَّوات ، إِلاَّ أَنَّهَا لآ وَقْتَ لها مُعَيَّن ، لأَنَّ سبَبَها الكُسُوف وهو يقَعُ فى أَىِّ وَقْتٍ ولو وقت النَّهْى عن الصلاة . وبه قال الشافعى ( وقال ) الحنفِيُّون والحنبلِيُّون : لا تُصَلَّى فى أَوقاتِ الكَرَاهة ، فإِذا كسَفَت الشَّمْس وقت الاستواءِ أَو بَعْدَ العَصْر ، دعوا بلا صلاة ( قال ) أَبو القاسم عمر الخرقى الحنبلى : وإِذا كان الكُسُوف فى غير وقت الصلاة (1) جَعَل " النَّاس " مكانَ الصَّلاةِ تَسْبِيحاً ، لأَنَّ النافلة لا تفعل فى أَوقات النَّهْى ، سواءٌ أَكَان لها سبب أَمْ لم يكُنْ عند غير الشافعى ( قال ) أَبو محمد عبد الله بن قدامة : روى ذلك عن الحسَن وعطاءٍ ومالك وأَبى حنيفة خلافاً للشافعى . ونص عليه أَحمد ( قال ) الأَثْرَم : سمعتُ أَبا عبد الله يُسْأَلُ عن الكُسُوف يكُون فى غير وقت الصلاة كَيْفَ يَصْنَعُون ؟ قال : يذكُرونَ الله ولا يُصَلُّونَ إِلاَّ فى وقت صلاة . قِيلَ له : وكذلك بعد
الفجر ؟ قال : نعم لا يُصَلُّون . ( قال ) قتادة : انكَسَفَتِ الشَّمْسُ بعد العصر ونحنُ بمكة فقامُوا قياماً يَدْعُون، فسأَلْتُ عن ذلك عطاءَ . قال : هكذا يَصْنَعُون . فَسَأَلْتُ عن ذلك الزُّهرى . قال : هَكَذَا يَصْنَعُون {21} ، وروى عن أَحمد أَنهم يُصَلُّونَ للكُسُوف فى أَوقات النَّهْى ( قال ) أَبو بكر عبد العزيز : وبالأَول أَقُول . وهو أَظهر القَوْلَيْن عِنْدِى(2) .
(
__________
(1) فى غير وقت الصلاة ) يعنى فى غير وقت حل النافلة .
(2) ص 282 ج 2 مغنى ( الكسوف إذا وقع فى غير وقت الصلاة ) .(1/110)
وقالت ) المالكية : وَقْتَها من وقت حِلّ النافلة إِلى الزَّوَال ، وقِيلَ إِلى صلاة العصر ( والراجح ) أَنه لا وَقْتَ لها مُعَيَّن ، لأَنَّ المقصود فِعْلَ هذه الصَّلاة قبل الانجلاءِ، وقد اتفقوا على أَنَّهَا لا تُقْضىَ بعده ، فلو انحصرت فى وقتٍ لأَمْكَنْ الانجلاءَ قبله فيفُوت المقصود ( قال ) الحافظ : وَلم أَقف على شَىْءٍ من الطرق مع كثرتها أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم ما صَلاَّها إِلاَّ ضُحًى ، لكِنَّ ذلك وقَع اتفاقاً ، فلا يدل على منع ما عَدَاه ، واتفقت الطرق على أَنه صلى الله عليه وسلم بادَرَ إِليها(1) .
3 – عددها : هى ركْعَتَان بلا زِيادة عند الجمهور . وهو ظاهر الرِّوَاية عند الحنفيين . فإِنْ فرغوا منها قبل انجلاءِ الشَّمْس دَعُوا الله تعالى حتى تَنْجِلى " لقول " أَبى بَكْرة : كَسَفَتِ الشَّمْس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقَامَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ مُسْتَعْجِلاً حتى أَتَى المسجدَ وثَابَ النَّاس فَصَلَّ ركعَتَيْن فَجُلِّى عنها ، ثم أَقبل علينا فقال : إِنَّ الشَّمس والقَمَر آيتانِ من آياتِ الله تعالى يُخَوِّف بهما عبادَهُ ولا ينكَسِفَانِ لموْتِ أَحَدٍ – وكان ابنه إِبراهيم عليه السَّلام مَاتَ – فإِذا رَأَيْتُم منهما شيئاً فَضَلُّوا وادْعُوا حتى إِبراهيم يَنْكَشِفَ منهما ما بِكُم . أَخرجه أَحمد والبخارى والنسائى (2) {111} .
(
__________
(1) ص 359 ج 2 فتح البارى . الشرح ( الصلاة فى كسوف الشمس ) .
(2) ص 192 ج 6 الفتح الربانى ، وص 358 ج 2 فتح البارى ( الصلاة فى كسوف الشمس ) وص 22 ج 1 مجتبى . ولم يبين فى الحديث كيفية صلاة الكسوف وفى رواية للنسائى عن ابن بكرة أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين مثل صلاتكم هذه . وذكر كسوف الشمس .(1/111)
وبه ) قال جماعة من الصَّحابة ( وعن ) أَبى حنيفة أَنَّ أَقَلَّهَا ركعتان وإِنْ شَاءَ صَلَّى أَرْبَعاً أَو أَكْثر ، كل شفع أَو أَربع بتَسْليمة " لقول " جابر ابن عبد الله : سمعتُ النبىَّ صلى اتلله عليه وعلى آله وسلم يقول : " إِنَّ الشَّمْسَ والقمَرَ إِذا خَسَفَا أَو أَحدهما ، فإِذا رَأَيتم ذلك فَصَلُّوا حتى يَنْجِلى خُسُوف أَيهما خَسَفَ " . أَخرجه أَحمد(1) {112} . " ولقول " المغيرة بن شعبة : انْكَسَفَتِ الشَّمْس على عَهْدَ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يَوْمَ ماتَ إِبراهيم، فقال الناس: انْكَسَفَتْ لموْتِ إِبراهيم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ آيتانِ من آياتِ الله لا يُنْكَسِفَانِ لموتِ أَحَدٍ ولا لحياتِه ، فإِذا رَأَيْتُمُوه فادْعُوا اللهَ وَصَلُّوا حتى تَنْكَشِفَ " . أَخرجه أَحمد والشيخان (2) {113} " ولقول " النُّعْمان بن بَشِير : كَسَفَتِ الشَّمْسُ على عَهْدَ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وكان يُصَلِّى ركعتين ، ثم يسأَل ، ثم يُصَلِّى ركعتين ، ثم يسأل حتى انْجَلَت الشمس . (
__________
(1) ص 176 ج 6 الفتح الربانى . ولم أقف عليه اللفظ لغير الإمام أحمد ، وفى سنده ابن لهيعة .
(2) ص 173 ج 6 الفتح الربانى ، وص 359 ج 2 فتح البارى ( الصلاة فى كسوف الشمس ) وص 218 ج 6 نووى مسلم . وإبراهيم ابن النبى صلى الله عليه وسلم ، ولد فى جمادى الأولى سنة 9 من الهجرة ، وتوفى فى 29 شوال سنة عشر ، الموافق 27 يناير سنة 632 م على ما ذكره المرحوم محمود باشا الفلكى فى نتائج الأفهام ، فى تقويم العرب قبل الإسلام ، وضعها الفرنسية ، وترجمها العلامة أحمد باشا زكى " أما رواية " أنه ولد فى ذى الحجة سنة ثمان ، وتوفى فى ربيع الأول سنة عشر " فقد " رواها الواقدى بسند منقطع لا تقوم به حجة ، والواقدى متكلم فيه ( فإذا رأيتموه ) أى الكسوف للشمس والقمر .(1/112)
الحديث ) أَخرجه أَحمد وأَبو داود والحكم وقال : هذا صحيح على شرط الشيخين (1) {114} .
( فهو ) دَلِيلٌ على جواز صلاةِ الكُسُوف ركعتَيْن ركعتَيْن كصلاةِ النوافل حتى تَنْجَلى الشَّمْس ( قال ) الشيخ إِبراهيم الحلبى : وعن أَبى حنيفة رضى الله عنه : إِنْ شاءُوا صَلُّوا ركعتين ، وإِنْ شاءُوا أَربعاً ، وإِنْ شاءُوا أَكثر (لحديث) النعمان ابن بَشِير . ولكنَّ هذا غير ظاهِر الرواية . وظاهِر الرواية هو الركْعَتَان ثم الدعاءَ إِلى أَنْ تَنْجَلى الشَّمْس.وهو مُخَيَّر إِنْ شَاءَ دَعَا مُسْتقبلاً جالساً أَو قائماَ أَو يستقبل القوم بوجهه يَدْعُو ويؤمنون . وهذا أَحسن (2).
(
__________
(1) ص 194 ج 6 الفتح الربانى ، وص 41 ج 7 المنهل العذب ( من قال يركع ركعتين ) وص 332 ج 1 مستدرك .
(2) ص 426 غنية المتملى ( تتمات من النوافل ) .(1/113)
وأَجاب ) الأَوَّلُون باحْتِمال أَن يكُون معنى قوله : ركعتين ، أَى ركُوعَيْن وأَن يكون السؤال بالإِشارة (ورَدّ) بأَنَّ هذا احتمال فاسِد يَرُدّه قول النعمان بن بَشِير : كان يُصَلِّى ركعتين ثم يَسْأَل حتى انْجَلَت الشمس ( قال ) البدر العينى : تَأْوِيل ركعَتَيْن بركُوعَيْن تَأْوِيلٌ فاسِد باحتمال غير نَشِئٍ عن دليل وهو مَرْدُود ( فإِنْ قُلْت ) فعلى ما ذكرت فَقَدْ دَلَّ الحديث على أَنه يُصَلَّى للكُسُوف ركعتان بعد ركعتَيْن . ويُزَاد أَيضاً إِلى وَقْتَ الانجلاءِ . فأَنتم ما تقُولًون به ( قلت ) لا نسلم ذلك . قد رَوَى الحسن عن أَبى حنيفة : إِنْ شَاءُوا صَلُّوا ركعتين . وإِنْ شَاءُوا صَلُّوا أَرْبَعاً ، وإِنْ شَاءُوا صَلُّوا أَكْثر من ذلك . ذكر فى المحيط وغيره ( فَدلَّ ) ذلك على أَنَّ الصلاةَ إِنْ كانت بركعتَيْن يُطَوّل ذلك بالقراءَةِ والدعاءِ فى الركُوع والسُّجود إِلى وقت الانجلاءِ . وإِنْ كانت أَكْثَرَ من ركعتَيْن فالتَّطْويل يكُون بتكْرَار لركعات دون الركُوعات " وقولهم " وأَن يكُونَ السؤال وقع بالإِشارة " يَرُدّه " ما أَخرجه عبد الرزاق بإِسناد صحيح ن أَبى قلابة أَنه صلى الله عليه وسلم كُلَّما ركَعَ ركعتَيْن أَرْسَلَ رَجُلاً لينظر هَل انْجَلَتْ ؟ {155} ( فهذا ) يَدُلُّ على أَنَّ السؤال فى حديث النعمان كان بالإِرسال لا بالإِشارة ، وأَنه كُلَّما كان يُصَلَّى ركعتَتَيْن على العادة يُرْسِلُ رَجُلاً يكْشِفُ عن الانجلاءِ (1) .
__________
(1) ص 65 ج 7 عمدة القارى " استنباط الأحكام " من حديث أبى بكرة السابق رقم 111 ص 107 ( عددها ) .(1/114)
4 – النداء لصلاة الكسوف : تُؤَ ... دَّى صلاة الكُسُوفِ بلا أَذَانٍ ولا إِقامة ويُسَنُّ أَن يُنَادَى لها : الصَّلآةُ جامِعَة (1) ، وهذا مُتَّفَقٌ عليه " لقول " عائشةَ رضى الله عنها : كَشَفَت الشَّمْس فأَمَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم رَجُلاً فَنَاَى : إِنَّ الصَّلاةَ جامِعة . أَخرجه أَبو داود(2) {116} .
"ولقول " عبد الله بن عُمر : لَمَّا كَسَفَت الشمس على عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم نُدِىَ : أَنَّ الصَّلآة جامِعَة . أَخرجه الشيخان(3) {117} .
5 – القراءة فى صلاة الكسوف : يُسَنُّ أَن تُطَالَ فيها القراءَة وأَن تكون سِرًّا " لقول " ابن عباس : خَسَفَت الشَّمْس فَصَلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم والنَّاس معه فقَامَ قياماً طويلاً بنحو من سورة البقرة ، ثم ركَعَ ركوعاً طويلاَ . ( الحديث ) أَخرجه الأَئِمة والنسائى والبيهقى(4) {188} .
__________
(1) " الصلاة جامعة " بالنصب فيهما على الحكاية . والصلاة فى الأصل منصوبة على الإغراء ، وجامعة حال ، أى احضروا الصلاة حال كونها جامعة . وروى برفعهما على أن الصلاة مبتدأ وجامعة خبر ، أى ذات جماعة .
(2) ص 39 ج 7 المنهل العذب ( أينادي فيها بالصلاة ؟ ) .
(3) ص 362 ج 2 فتح البارى ( النداء بالصلاة جدامعة فى الكسوف ) وص 214 ج 6 نووى مسلم ( ذكر النداء بصلاة الكسوف الصلاة جامعة )
(4) ص 335 ج 1 زرقانى الموطإ ( العمل فى صلاة الكسوف ) وص 184 ج 1 بدائع المنن ، وص 203 ج 6 الفتح الربانى ، وص 367 ج 2 فتح البارى ( صلاة الكسوف جماعة ) وص 212 ج 6 نووى مسلم ، وص 38 ج 7 المنهل العذب ( القراءة فى صلاة الكسوف ) وص 321 ج 3 سنن البيهقى ( كيف يصلى فى الخسوف ؟ ) .(1/115)
" ولقول " عائشة رضى الله عنها : كَسَفَت الشمس على عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فَصَلَّى بالنَّاس فقَامَ فحزرت قراءَتَهُ فرأَيْتُ أَنَّهُ قَرَأَ سورة البقرة ، ثم سَجَدَ سجدتَيْن فقَامَ فحزرت قراءَتَهُ فرأَيْتُ قَرَأَ بسورة آل عمران . أَخرجه أَبو داود والبيقى والحاكم وقال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم (1) {119} .
( وبهذا ) قال أَبو حنيفة ومالك والشافعى واللَّيْثِ بن سعد وجمهور الفقهاءِ.
( وقال ) أَحمد وأَبو يوسف ومحمد وابن المنذر : يُجَهَرُ بالقراءَةِ فى صلاةِ الكُسُوف . وهو مروىّ عن علىَّ وزد بن أَرْقَم والبراءِ بن عازِب " لحديث " عائشة أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَرَأَ قراءَةً طويلةً فَجَهَرَ بها ، يعنى فى صلاةِ الكُسُوف . أَخرجه أَبو دادو والبيقى والحاكم . وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين(2) {120} " ولقولها " خَسَفَتِ الشَّمْسُ على عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأَتى المصلَّى فكَبَّر وكَبَّر الناس ، ثم قَرَأَ فَجَهَرَ بالقراءَةِ وأَطَالَ الْقِيَامَ ( الحديث ) أَخرجه أَحمد والشيخان والترمذى(3) {121} .
(
__________
(1) ص 37 ج 7 المنهل العذب ( القراءة فى صلاة الكسوف ) وص 335 ج 3 سنن البيهقى ( من قال يسر بالقراءة فى خسوف الشمس ) ، وص 333 ج 1 مستدرك .
(2) ص 38 ج 7 المنهل العذب ، وص 336 ج 3 سن البيهقى ( من اختار الجهر بها وص 334 ج 1 مستدرك .
(3) ص 182 ج 6 الفتح الربانى ، وص 382 ج 2 فتح البارى ( الجهر بالقراء فى الكسوف ) وص 203 و 204 ج 6 نووى مسلم ، وص 393 ج 1 تحفة الأحوذى ( كيف القراءة فى الكسوف ) والمراد بالمصلى المكان الذى كان يصلى فيه النبى صلى الله عليه وسلم فى المسجد كما صرح بذلك فى رواية لمسلم .(1/116)
ولا منافاةَ ) بين رواياتِ الجهْرِ بالقراءَةِ والسِّرِّ فيها ، لثبوتِ كُلِّ عنه صلى الله عليه وسلم بناءً على أَنَّ صلاَةَ الكُسُوف تَعَدَّدَتْ . أَمَّا على أَنَّها لم تتعَدَّد فترجح رواياتِ الجَهْر لثبوتِها فى الصَّحِيحَيْن ، ولكونها متضمنة للزيادةِ فيعمل بها ، ولكونها مثبتة فتقدم على النافية ( قال ) ابن العربى : الجَهْر عِنْدِى أَوْل لأَنَّهَا صلاةٌ يُنَادَى لها ويخطب . فاَشْبَهَت العيد والاستسقاءَ والتراويح .
وعن مالك : يُخَيَّر فى القراءَة بين السَّرَّ والجهْرِ ( قال ) أَبو مُحمد عبد الله بن قُدَامَة : ومهما قَرَأَ به جازَ ، سواءٌ أَكانت القراءَة طويلة أَمْ قصيرة . وقد روى عن عائشة أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُصَلِّى فى كُسُوف الشَّمْس والقَمَر أَرْبَع ركعاتٍ سجداتٍ ، وقرأَ فى الأُولى بالعنكَبوت والرُّوم ، وفى الثانية بيَس . أَخرجه الدارقطنى(1) {122} .
6 – الجماعة فى صلاة الكسوف : دَلَّتْ أَحاديثُ الباب على أَنَّ الجماعة مشروعةٌ فى صلاةِ الكُسُوف . ويُسَنُّ فِعْلُهَا جماعةً وفُرَادَى عند مالك والشافعى وأَحمد ، لما تقَدَّمَ من قوله صلى الله عليه وسلم : فإِذا رَأَيْتُمْ منهما شيئاً فَصَلُّوا وادْعُوا (2) ولأَنَّهَا نافلة فجازتْ فى الانفرادِ كَسَائر النَّوَافِل . وفِعْلُهَا فى الجماعةِ أَفْضَلَ ، لأَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم صَلاَّها جماعة .
(
__________
(1) ص 278 ج 2 مغى ( الجهر فى صلاة الكسوفين جميعاً ) .
(2) تقدم فى الحديث رقم 111 ص 107 ( عددها ) .(1/117)
والسُّنة ) أَنْ تُصَلَّى فى المساجد ، لأَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وعلى آلأه وسلم فَعَلَها فيه ( قالت ) عائشة رضى الله عنها : خَسَفَتِ الشَّمْسُ فى حياةِ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فخرجَ إِلى المسجد فَصَفَّ النَّاسُ وَرَاءَه . ( الحديث ) رواه البخارى (1){123} ولأَنَّ وقت الكُسُوفِ يَضِيقُ فلَوْ خَرَجَ إِلى المصَلَّى احتمل التَّجَلِّى قبل فِعْلها . وتُشْرَع فى الحضَر والسَّفَر بإِذْنِ الإِمام وغير إِذْنِه .
( قال ) النَّوَوى : ويُسْتَحَبُّ أَنْ تُصَلَّى فى المسجد جماعةً وتَجُوزُ فى مواضِعَ من البلد . وتُسنُّ للمرأَةِ والعَبْدِ والمسافِر والمنفَرِد . وحَكَى الرافعىّ أَنه يُشْتَرَطَ فى صِحَّتها الجماعة وأَنَّهَا لا تُقَامُ إِلاَّ فى جماعةٍ واحدةٍ كالجمُعَة ، وهما شَاذَّانِ مَرْدُودَانِ ، ولا تتوقف صِحَّتها على صلاةِ الإِمام ولا إِذْنِه . فِنْ لم يخرجْ طَلَبُوا إِمامً يُصَلِّى بهم ،فإِنْ لم يَجِدُوا صَلُّوا فَرَادَى . فإِنْ خافُوا الإِمام لو صَلُّوا علانيةً صَلُّوها سِرًّا . وبهذا قال مالك وأَحمد وإِسحاق . وقال الثورى : إِذا لم يَصِل الإِمام صَلُّوا فُرَادَى . اهـ ملخصاً (2) .
( وقال ) الحنفيون : تُصَلَّى جماعةً بإِمام الجمعة وإِن امتنع فلهم أَن يُصَلُّوها فُرَادَى فى المنازل أَو فى المساجد ركعتيْن أَوْ أَرْبَعاً . وهو أَفْضَل فلا يُصَلِّيها بالجماعة غيره على الصَّحِيح . وعن أِبى حنيفة أَن كل إِمام يُصَلِّى بجماعة فى مَسْجِده .
7 – حضور النساء صلاة الكسوف :
__________
(1) ص 363 ج 2 فتح البارى ( خطبة الإمام فى الكسوف ) .
(2) ص 44 ج 5 شرح المهذب ( صلاة الكسوف ) .(1/118)
هو مشروع إِنْ أَمِنَت الفتنة وخَرَجْنَ مُتَسَتِّرات غير مُتَبَرِّجات ولا مُتَعَطِّرات ( لقول ) أَسماءَ بنت أَبى بكر : فَزِعَ يوم كَسَفَت الشَّمْس رسولُ الله صلى الله عليه وسلم . فَأَخَذَ دِرْعاً حتى أُدْرِك برِدَائِه فقَامَ بالناس قِيَاماً طويلاً يقوم ثم يركَع ، فلو جاءَ إِنسانٌ بعد ما رَكَعَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم لم يعلم أَنه ركَع ، ما حَدَّث نفسه أَنه ركَع من طول القيام ، فجعلْتُ أَنْظُرُ إِلى المرأَةِ التى هى أَكبر مِنِّى ، وإِلى المرأَةِ التى هى أَسْقَمَ مِنِّى قائمةً وأَنا أَحَقُّ أَنْ أَصْبِرَ على طُولِ القيام منها . أَخرجه أَحمد ومسلم والبيهقى (1) {124} .
( فهو ) يَدُلُّ على جوازِ حُضُورِ النِّسَاءِ صلاة الكُسُوف فى المسجد مع الجماعة بالشُّرُوطِ المتَقَدِّمة وإِلاَّ صَلَّيْنَها فى بُيُوتِهِنَّ .
( ورَخَّصَ ) أَبو حنيفة ومالك للعجائِز فى حُضُورها وكَرِهَاه للشَّابَّة .
( وقال ) الشافعىّ فى الأُمّ : لا أَكْرَه لمنْ لا هيئةَ لها مِنَ النِّسَاءِ لا لِلعَجُوز ولا للصَّبِيَّة شُهود صلاة الكُسُوف مع الإِمام ، بل أُحِبّها لهنَّ وأَحَبُّ إِلىّ لذواتِ الهيئة أَن يُصَلِّينها فى بُيُوتِهِنَّ ،ن وإِن كَسَفَت وهناك رَجُل مع نِسَاءٍ فيهن ذوات مَحْرَم منه ، صَلَّى بِهِنَّ ، وإِنْ لم يَكُنْ فِيهِنَّ ذوات مَحْرَم منه كَرِهْتُ ذلك له. وإِنْ صَلَّى بِهِنَّ فلآ بأْسَ (2)
8 – كيفية صلاة الكسوف
قد وَرَدَ فى صَلاَتِهَا كيفيات :
((
__________
(1) ص 218 ج 6 الفتح الربانى ،ن وص 212 ج 6 نووى مسلم ، وص 342 ج 3 سنن البيهقى ( النساء يحضرون المسجد لصلاة الخسوف ) و ( رسول ) فاعل فزع ، أى خاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوع أمر بسبب الكسوف فخرج مسرعاً فأخذ درعاً غير درعه ثم أدرك بردائه .
(2) ص 59 ج 5 شرح المهذب ( مسائل تتعلق بالكسوف ) .(1/119)
الأُولى )) أَنها تُصَلَّى ركعَتَيءن كبقيةِ النَّوَافِل سِرًّا فى غير وقت النَّهْى فى جماعة بلآ أَذَانٍ ولا إِقامةٍ . ويُطِيل فيها القراءَة والركُوعَ والسُّجُود ،، " لقوله " قبيصة الهلالى : انْكَسَفَت الشمس فخَرَجَرسول الله صلى الله عليه وسلم فصَلَّى ركعتين فأَطَالَ فيهما القراءَةَ فانْجَلَت ، فقال : إِنَّ الشَّم}سَ والقَمَر آيتان من آياتِ الله يُخَوِّف بهما عِبَادَه، فإِذا رَأَيْتُم ذلك فَصَلُّوا كأَحْدَثِ صلاةٍ صَلَّيْتُمُوها مِنَ المكْتُوبة . أَخرجه أَحمد وأَبو دادود والنسائى والحاكم والبيهقى بسند صحيح(1) {125} .
(
__________
(1) ص 193 ج 6 الفتح الربانى ، وص 33 ج 7 المنهل العذب ، وص 219 ج 1 مجتبى ( نوع آخر ) ، وص 333 ج 1 مستدرك ، وص 334 ج 3 سنن البيهقى ( من صلى فى الخسوف ركعتين ) .(1/120)
وكان ) ذلك بعد صلاةِ الصُّبْح " لقول " ثعلبةَ بن عَبَّادِ الْعَبْدِىّ : شَهِدْتُ يوماً خطبة لسَمُرَة بن جُندب فقال: بينما أَنا وغُلام مِنَ الأَنصار نَرْمِى غَرَضَيْن لنا حتى إِذا كانت قَيْدَ رُمْحَيْن أَوْ ثلاثة فى عَيْن النَّاظِر من الأُفُق ، اسْوَدَّتْ حتى آضت كأَنَّهَا تَنُّومة ، فقال أَحَدُنا لصاحِبه : انْطَلِقْ بِنَا إِلى المسجد ، فَوَالله لَيُحْدِثَنَّ شَأْنَ هذه الشمس لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فى أُمَّتِه حَدَثاً ، فَدَفَعْنَا فإِذا هُوَ بارِز ، فاستقدم فصَلَّى فَقَامَ بنا كأَطْوَل ما قامَ بنا فى صَلاةٍ قَط ، لآ نَسْمَعُ له صَوْتاً . ثم ركَعَ بنا كأَطْوَل ما ركَعَ بنا فى صَلاةٍ قَط ، لآ نَسْمَعُ له صَوْتاً . ثم سَجَدَ بنا كأَطْوَل ما سَجَدَ بنا فى صلاةٍ قَط ، لآ نَسْمَعُ له صَوْتاً . ثم فَعَلَ فى الرَّكْعَةِ الأُخرى مثل ذلك ، فوافق تَجَلِّى الشمس جُلُوسَهُ فى الركعةِ الثانية ، سَلَّم ( الحديث ) أَخرجه الشافعى وأِحمد والبيهقى والطبرانى والأَبعة . وقال الترمذى : هذا حديث حسن صحيح (1) {126} .
(
__________
(1) ص 182 ج 1 بدائع المنن ، وص 189 ج 6 الفتح الربانى ، وص 339 ج 3 سنن البيهقى ( الخطبة بعد صلاة الكسوف ) ، وص 209 ج 2 مجمع الزوائد ( باب الكسوف ) ، وص 218 ج 1 مجتبى ( نوع آخر ) ، وص 29 ج 7 المنهل العذب ، وص 197 ج سنن ابن ماجه ( صلاة الكسوف ) ، وص 393 ج 1 تحفة الأحوذى ( كيف القراءة فى كسوف ) . وقد ذكره مختصراً بلفظ : عن سمرة بن جندب قال : صلى بنا النبى صلى الله عليه وسلم فى كسوف لا نسممع له صوتا . و ( حتى آضت ) أى صارت " كأنها تنومة " بفتح فشد ، نوع من البنات فيه وفى ثمره سواد قليل " فدفعنا " أى أسرعنا ‘لى المسجد ( فإذا هو ) أى رسول الله صلى الله عليه وسلم " بارز " أى خارج " فاستقدم " أى تقدم للصلاة .(1/121)
وبهذه ) الكَيْفِيَّة قال الحنفيون والثورى وكَثِير من الصَّحابة .
( الكَيْفِيَّة الثانية ) أَنْ تُصَلَّى ركعتَيْن فى كُلِّ ركعةٍ ركُوعان " لقول " ابن عباس : كَسَفَت الشمس فقَامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم واَصحابه فَقَرَأَ سورةً طويلةً ثم ركَع ، ثم رفع رَأْسَهُ ، فَقَرَأَ ، ثم ركَعَ وسَجَد سَجْدَتَينْ ثم قام فَقَرَأَ وركَعَ ، ثم رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَرَأَ ، ثم ركَعَ وسَجَدَ سَجْدَتَيْن ، أَربع ركَعاتٍ وأَربع سَجَدَاتٍ فى ركعتَيْن . أَخرجه أَحمد بسند جيد(1) {127} " ولقول " ابن عباس : انْخَسَفَتِ الشمسُ على عَهْدِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى رسول الله صلى لله عليه وسلم والناس معه فَقَامَ قِيَاماً طويلاً نَحْواً من قراءَةِ سورة البقرة ، ثم ركَعَ ركُوعاً طويلاً ، ثم رفَعَ فَقَامَ قِيَاما طويلاً وهو دون القيام الأَوَّل ، ثم ركَعَ ركُوعاً طويلاً وهو دون الرُّكُوع الأَوَّل ، ثم سَجَدَ ، ثم قام قِيَاماً طويلاً وهو دون الركُوع الأَوَّل ، ثم سَجَدَ ، ثم انصرف وقد تَجَلَّت الشمس . فقال صلى الله عليه وسلم : إِنَّ الشَّمْسَ والقَمَر آيتانِ من آياتِ اللهِ لا يَخْسِفَانِ لموْتِ أَحَدٍ ولا لحياتِه ، فإِذا رَأَيْتُم ذلك فاذكُرُوا لله .
__________
(1) ص 203 ج 6 الفتح الربانى ( من روى انها ركعتان فى كل ركعة ركوعان ) و ( أربع ركعات ) أى أربع ركوعات .(1/122)
قالُوا : يا رسول الله ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شيئاً فى مقامك ثم رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ ، فقال : إِنِّى رَأَيْتُ الجنةَ فتناولْتُ منها عُنْقُوداً ولو أَخَذْتَهُ لأَ كَلْتُم منه ما بَقِيَت الدنيا ( الحديث ) أَخرجه الشافعى والجماعة إِلاَّ ابن ماجه ، وهو عند أَبى داود والترمذى مختصر (1) {128} .
( وبهذه ) الكَيْفِيَّة قال مالك والشافعى وأَحمد والليث بن سعد . ولاُبدَّ عندهم من قراءَةِ الفاتحِة فى كل قِيَام ، لما تقَدَّم فى بحث " القراءَة " من أَركان الصَّلاة ، من أَنه لا تَصِحُّ ركعة بدون فاتحة ( قال ) النووى : واتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنه يقرأُ الفاتحة فى القيام الأَوَّل من كُلّ ركعة . واختلفوا فى الْقِيَام الثانى ، فمذهبنا مالك وجمهور أَصحابه أَنَّهَا ل تَصِحُّ الصلاة إِلاَّ بقراءَتها فيه ( وقال ) محمد بن مسلمة الملكىّ : لآ تَتَعَيَّنُ الفاتحةُ فى الْقِيَام الثانى(2)( ووجهة ) أَنَّهَ ركعة واحدة ولا تتكَرّر افاتحة فى رَكْعَةٍ واحدة ( وردّ ) بأَنَّ صلاة الكُسُوف وَرَدَتْ بكيفيةٍ خاصَّة فى كُلِّ قيم قراءَة كما تقدَّم فى بحث ( القرءَة فى صلاة الكُسُوف ) وأَنَّ هَذَا صِرَطِى مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ .
__________
(1) ص 184 ج 1 بدائع المنن ، وص 335 ج 1 زرقانى الموطإ ، وص 203 ج 6 الفتح الربانى ، وص 367 ج 2 فتح البارى ( صلاة الكسوف جماعة ) وص 212 ج 6 نووى مسلم ، وص 221 ج 1 مجتبى " قدر القراءة فى صلاة الكسوف وص 38 ج 7 المنهل العذب ( القراءة فى صلاة الكسوف ) وص 391 ج 1 تحفة الأحوذى . و " تكعكعت " أى تأخرت .
(2) ص 199 ج 6 شرح مسلم ( الكسوف ) .(1/123)
" وأَمَّا " قول حُذيفة : إِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صَلَّى عند كُسُوف الشمس فقَامَ فكَبَّر ثم قَرَأَ ، ثم ركَعَ كما قَرَاَ ، ثم رفَعَ كما ركَع ثم ركَعَ كما قَرَاَ ، فصَنَعَ ذلك أَرْبَع ركَعَاتٍ قبل أَن يَسْجُدَ سَجْدَتَيْن ، ثم قام إِلى الثانية فصَنَعَ مثل ذلك ولم يَقْرَاْ بين الركُوع " فَقَدْ " أَخرجه البزار وفى سنده محمد بن أَبى ليلى . وفيه كلام (1) {129} فلا يحتجّ به على عدم القراءَة فى غير الْقِيَام الأَوَّل .
(( الكيفية الثالثة )) : أَنْ تُصَلَّى ركعَتَيْن فى كُلِّ ركْعة ثلاثة ركُوعاتٍ " لحديث " عطاءِ بن أَبى رباح عن عُبيد بن عُمير أَنَّ عائشةَ قالت : كَسَفَت الشمس على عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقَامَ قِيَاماً شدِداً يقُومُ بالناس ثم يَرْكَع ، ثم يَقُوم ، ثم يَرْكَع ، ثم يَقُوم ، ثم يَرْكَع ، فركَعَ ركعتَيْن فى كُلِّ ركعةٍ ثلاث ركعاتٍ ، يَرْكَعُ الثالثة ثم يَسْجُد ، حتى إِنَّ رجالاً يومئذٍ ليُغْشَى عليهم مَّما قام بهم ، حتى إِنَّ سِجَالَ الماءِ لينصب عليهم ، يقول إِذا ركَعَ : اللهُ أَكْبر ، وإِذا رفع : سَمِعَ اللهُ لمنْ حَمِدَه ، حتى تَجَلَّت الشمس ( الحديث ) أَخرجه أَبو داود والبيقى ، والنمسائى ، وأَخرج سلم نحوه (2) {130} .
(
__________
(1) ص 28 ج 2 مجمع الزوائد ( باب الكسوف ) .
(2) ص 20 ج 7 المنهل العذب ( صلاة الكسوف ) وص 325 ج 3 سنن البيهقى ، وص 215 ج 1 مجتبى ( نوع آخر من صلاة الكسوف ) ، وص 204 ج 6 نووى مسلم . و ( كسفت ) بفتحتين ، من باب ضرب ، يقال : كسفت الشمس إذا ذهب ضوءها . وكان ذلك فى السنة العاشرة من الهجرة . و ( ثلاث ركعات ) أى ركوعات . و ( السجال ) بكسر السين جمع سجل بفتح فسكون ، وهو الدلو العظيمة ماء . وهو كناية عن شدة ما أصابهم من العرق لطول القيام .(1/124)
وبهذه ) الكَيْفِيَّة قال إِسحاق وابن خزيمة وابن المنذر والخطابى ، وحذيفة وابن عباس وقتادة وعطاءُ بن أَبى رباح . وروى عن أَحمد .
(( الكيفية الرابعة )) : أَنْ تُصَلَّى ركعتَيْن فى كُلِّ ركعةٍ أَربعة ركُوعاتٍ " لحديث " حنش عن علىّ رضى الله عنه قال : كَسَفَت الشمس فصَلَّى علىّ للناس فَقَرَأَ يَس أَوْ نحوها ، ثم ركَع نَحْواً من قدر السُّورة ، ثم رَفَعَ رَأْسَه فقال : سَمِعَ اللهُ لمنْ حَمِدَه ، ثم قام قَدْرَ السُّورة يَدْعُو ويُكَبِّر ، ثم ركَعَ قَدْرَ قراءِته أَيضاً ، ثم قال : سَمِعَ اللهُ لمنُ حَمِدَه ، ثم قام أَيضاً قَدْرَ السُّورة ، ثم رَكَعَ قَدْرَ ذلك أَيضاً حتى صَلَّى أَرْبَع ركَعَاتٍ . ثم قال : سَمِعَ اللهُ لمنْ حَمِدَه ، ثم سَجَدَ ، ثم قام فى الركعةِ الثانيةِ فَفَعَلَ كَفِعْله فى الركْعة الأُولى ، ثم جَلَسَ يَدْعُو ويُرَغّب حتى انْكَشَفَت الشمس . ثم حَدَّثَهُمْ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كَذَلِكَ فَعَلَ . أَخرجه أَحمد والبيهقى بسند رجاله ثِقَاب(1) {131} .
( وبهذه ) الكَيْفِيَّة قال أَحمد وابن خُزَيمة وابن المنذر والخطابى . وروى عن علىّ وابن عباس وحُذَيفة .
(
__________
(1) ص 215 ج 6 الفتح الربانى ( من روى أنها ركعتان فى كل ركعة أربعة ركوعات وص 330 ج 3 سنن البيهقى ( من أجاز أن يصلى فى الخسوف ركعتين فى كل ركعة أربع ركوعات ) .(1/125)
الكيفية الخامسة ) : أَن تُصَلَّى ركعَتَيْن فى كُلِّ ركْعة خمسة ركُوعاتٍ " لقول " أُبىّ بن كعب : انْكَسَفَت الشمس على عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بهم فَقَرَاَ بسورةٍ من الطُّوَل وركَع خمس ركعاتٍ وسَجَدَ سَجْدَتَيْن ، ثم جَلَسَ كما هُوَ مُسْتَقْبل الْقِبْلَة يَدْعُو حتى انْجَلَى كُسُوفها . أَخرجه ابن أَحمد فى زوائد المسند وأَبو داود والبيهق والحاكم وقال : رواته صَادِقون(1) {132} . وفى سَنَدِه أَبو جعفر عيسى بن عبد الله الرازى . وثقة ابن معين وقال لكنه يخطئ ، وضعفه كثيرون .
( وبهذه ) الكَيْفِيَّة قالت العترة ، لكن حديث أُبىّ ضعيف لما تقَدَّم .
( وعلى الجملة ) فقد قال بكل كيفية مَّما ذكر جماعة من الصَّحابة وغيرهم ( قال ) النووى : قال جماعة من العلماءِ منهم إِسحاق بن راهوية وابن جرير وابن المنذر : جَرَتْ صلاةُ الكُسُوف فى أَوْقات . واختلاف صِفَاتِها محملٌ على بيان جواز جميع ذلك ، فتجوز صلاتها على كلِّ واحِدٍ من الأَنواع الثابتة ، وهذا قوى(2) .
(
__________
(1) ص 217 ج 6 الفتح الربانى ( من روى أنها ركعتان فى كل ركعة فى ركعة خمسة ركوعات ) ، وص 27 ج 7 المنهل العذب ، وص 329 ج 3 سنن البيهقى ، وص 33 ج 1 مستدرك . و ( الطول ) بضم ففتح ، جمع الطولى ، أى أنه صلى الله عليه وسلم قرأ بسورة من السبع الطول ، وهى البقرة وآل عمران والنساء والمائدة و الأنعام والأعراف والتربة ( وعن ) عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قرأ فى الأولى بالعنكبوت ، وفى الثانية بالروم أو لقمان . أخرجه الطبرانى والبيهقى ( 133 ) ص 336 ج 3 سنن البيهقى ( من اختار الجهر بها ) .
(2) ص 199 ج 6 شرح مسلم ( كتاب الكسوف ) .(1/126)
وصحح ) ابنُ القَيِّم أَحَادِيث الركُوعَيْن فى كلِّ ركْعَة ، لأَنها أَصَحّ إِسناداً وأَسْلَم من العِلَّة والاضطراب ، ولأَنَّ رُوَاتها أَكْثر وأَحْفَظ وأَجَلَّّ من رواة غيرها . ( وقال ) أَبو الطيب صديق بن حَسَن : قد رُوِيَتْ هذه الصلاة على أَنواع ، ركعتَيْن كسائر الصَّلوات فى كُلِّ ركعةٍ ركُوعٍ واحد ، وركُوعَيْن فى كُلِّ ركعة ، وثلاثة وأَرْبَعة وخمسة . والكُل سُنَّة أَيها فَعَلَ المكلف فقَدْ فَعَل ما شُرع له . واختيار الأَصَحّ منها على الصحيح دأْب الراغبين فى الفضائل (1).
9 – خطبة الكسوف
__________
(1) ص 103 الروضة الندية ( باب صلاة الكسوفين ) .(1/127)
يُسَنُّ بعد صلاة الكُسُوف أَن يَخْطُب الناس خُطْبة يَحُثُّهُمْ فيها على الطاعات والصَّدقات ، ويُحَذَّرَهُم من المعاصِى عند الشافعى وإِسحاق " لقول " أَسماءَ بنت أَبى بكر : خَسَفَت الشمس على عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَدَخَلْتُ على عائشة رضى الله عنها فقُلْتُ : ما شَأْن الناس يُصَلُّون ؟ فأَشَارَتْ برأْسها إِلى السَّماءِ فقلت : آية ؟ قالت : نَعَم فأَطَالَ رسول الله صلى عليه ونسلم القيام جِدًّا حتى تَجَلاَّنى الغَشْى فأَخَذْتُ قِرْبة إِلى جَنْبى ، فجلعت أَصُبّ على رأْسى الماءَ ، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تَجَلَّت الشمس . فخطب فحَمِدَ الله وأَثْنَى عليه ثم قال : أَمَّا بعد ، ما من شَىْءٍ لم أَكُن رأَيته إِلاَّ قد رأَيته فى مقامى هذا حتى الجنة والنار . إِنه قد أُوحى إِلىّ أَمنَّكم تفتنن فى القبور قريباً أَو مثل فتنة المسيح الَّجَّال . يؤْتى أَحَدكُم فيقال له : ما عِلْمك بهذا الرجل؟ فأَمَّا المؤمن أَو الموقن يقول : هُوَ مُحَمَّدٌ هُوَ رسول الله جاءَنَا بالبَيِّنَات والهُدَى فأَجَبْنَا واتَّبَعْنَا ثلاث مراتٍ ، فيقال له : قد كُنَّا نعلم إِنْ كُنْتَ لَتُؤْمِنَ فَنَم صالحاً . وأَمَّا المنافق أَو المرتاب فيقول : ما أَدرى سَمِعْت الناس يقولون شيئاً فَقُلْت . أَخرجه مالك وأَحمد والشيخان(1) {
__________
(1) ص 329 ج 1 زرقانى الموطإ ( ما جاء فى صلاة الكسوف ) ، وص 220 ج 6 الفتح اربانى ، وص 369 ج 2 فتح البارى ( صلاة النساء مع الرجال فى الكسوف ) ، وص 210 ج 6 نووى مسلم ..و ( تجلانى ) بشد اللام ، أى غطانى ( الغشى ) بفتح فسكون ، وهو نوع قريب من الإغما ، وصبها الماء على رأٍها لم يكن متوالياً ، وإنما قيل للمقبور ( ما علمك بهذا الرجل ) امتحاناً وإبهاماً عليه لئلا يفهم من قولهما رسول الله إكرام النبى ورفع رتبته فيعظمه تقليداً لا اعتقاداً ( والهدى ) بضم ففتح : الدلالة الموصلة ( والحكمة ( فى تكرير الجواب التلذذ بذكر النبى صلى الله عليه وسلم والفرح بالإجابة . ويحتمل أن يتكرر السؤال والجواب للتأكد من صحة قوله ولإظهار شرفه ( فنم صالحاً ) المراد بالنوم العود لما كان ليه من الموت . وسمى نوماً لما فيه من الراحة وصلح الحال .
( وقد تقدم ) فى بحث " سؤال خالقبر " ص 62 ج 1 دين طبعة ثانية فى حديث أنس : فأما المؤمن فيقول : أِهد أنه عبد الله ورسوله ، فيقال له : انظر إلأى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة ، فيراهما جميعاً ويفسخ له فى قبرة سبعون ذراعاً . وأما الكافر أو المنافق فيقال له : ما كنت قول فى هذا الرجل ؟ فيقول : لا أدرى ، كنت أقول ما يقول الناس ، فيقال له : لا دريت ولا تليت ، ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح يحة يسمعها من يليه غير الثقلين . أخرجه الشيخان ( 135 ) ص 308 ج 3 تيسير الوصول ( سؤال منكر ونكير ) .(1/128)
134} .
" ولحديث " عائشةَ رضى الله عنها تَصِفُ صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الكُسُوف بطول القيام وأَنه صًلاَّها ركعَتَيْن فى كُلِّ ركعةٍ ركُوعانِ ، وفيه قالت : فانْصَرَف رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقد تَجَلَّت الشمس فخطَبَ الناس ، فَحَمِدَ الله وأَثْنَى عليه ، ثم قال : إِنَّ الشَّمْسَ والقَمَر من آياتِ الله وإِنَّهُما لا يَخْسِفان لموتِ أَحَدٍ ولا لحياتِه ، فإِذا رَأَيْتُمُوهُما فكَبِّرُوا وادْعُوا اللهَ عَزَّ وجَلَّ وتَصَدَّقُوا ، يا أُمَّة مُحمدٍ ما م أَحَدِ أَغْيَرَ مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ أَن يَزْنى عبده أَوْ تَزْنى أَمَته ، يا أُمَّةَ مُحمدٍ والله لو تَعْلَمُون ما أَعْلَم لَبَكَيْتُم كَثِيراً ولَضَحِكْتُم قليلاً ، أَلآهَلْ بَلَّْغْت ؟ أَخرجه مالك وأَحمد والشيخان والنسائى والبيهقى(1) {136} .
(
__________
(1) ص 332 ج 1 زرقانى الموطإ ( العمل فى صلاة الكسوف ) وص 225 ج 6 الفتح الربانى ، وص 360 ج 2 فتح البارى ( الصدقة فى الكسوف ) ، وص 198 ج 6 نووى مسلم ( الكسوف ) ، وص 216 ج 1 مجتبى ، وص 338 ج 3 سنن البيهقى ( الخطبة بعد صلاة الكسوف) ( وتصدقوا ) أمر صلى الله عليه وسلم بالصدقة لأنها تدفع البلاء والعذاب ، والكسوف من الآيات المنذرة بالعذاب . فينبغى عند حصوله المبادرة إلى طاعة الله تعالى ليكشفة عن عباده . و ( أغير ) أفعل تفضيل من الغيرة بفتح فسكون ، وهى تغير يحصل من الحمية والأنفة لارتكاب ما يعاب ينشأ عنه العتاب والجزاء . والتغير محال على الله تعالى ، فالمراد لازمة من الزجر و العقاب وأغير منصوب على أنه خبر ما ومن زائد . ويصح رفعه على لغة هتميم . و ( أن يزنى عبده .. إلخ ) متعلق بأغير على تقدير من . وخص الزنا بالذكر لأنه أعظم المعاصى التى تسبب البلاء وتوجب الغضب الشديد .(1/129)
قال النوى ) اتفقت نُصُوص الشَّافعىّ على اسْتحبابِ خُطْبَتَيْن بعد صلاةِ الكُسُوف ، وهُما سُنَّة للجماعة . وصِفتها كخطْبتى الجمعة فى الأَركان والشٌّروط وغيرهما . ولا يخطب من صَلاَّها منفرداً ، وَيَحُثَّهم فى هضه الخطبة على الَّوْبة من المعاصِى وعلى فِعْل الخير والصَّدَقة و العتاقة ، ويُحَذَّرهم مِنَ الغَفْلَة والاغترار ، ويَأْمُرَهم بإِكْثَارِ ادعاءِ والاستغفارِ والذِّكْر ، ويجلس قبل الخطبة الأُولى كما فى الجمعة ، فإِن صَلَّى النساءَ فليس شَأْنهِنَّ الخطبة ، لَكِن لو ذَكَّرَتْهُنَّ كانَ حَسَناً (1).
( وقال ) الحنفيُّون ومالك وأَحمد : لا خُطبة للكُسُوف ، لأَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بالصَّلاةِ والتَّكْبير والصَّدَقة والاسْتِغْفَار والذِّكْر والدُّعاءِ ، ولم يأْمُرْ بالخطبة ، ولو كانت سُنَّة لأَمَرَهُم بها ، عَمَّا وَرَدَ من أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَطَبًَ ( بأَنه ) صلى الله عليه وسلم قَصَدَ به الرَّدَّ على مَن اعْتَقَدَ أَنَّ الشَّمس كَسَفَتْ لموْتِ ابْنِهِ إِبراهيم لا لخطبة ، ولذا قاله بعد الإِنْجِلآءِ .
( قال ) الشَّيْخ إِبراهيم الحلَبى : ولا خُطْبة فيها عِنْدَنا ، وبه قال مالك وأَحمد ، لأَنه لم يُنْقَل عنه عليه الصلاة والسَّلام أَنه خَطَبَ خُطبتين على الهيئة المعهودة ، وإِنما فَعَلَ ذلك لرَدِّهم عن قولهم : إِنَّ الشَّمْس كَسَفَتْ لموْتِ إِبراهيم ابْن رسول الله صلى الله عليه وسلم(2).
(
__________
(1) ص 52 ج 5 شرح المهذب ( الخطبة بعد صلاة الكسوف ) .
(2) ص 426 غنية المتملى ( صلاة الكسوف ) .(1/130)
قال ) الحافظ : وتُعُقِّبِ ما ذكر بأَنَّ الأَحاديث ثبتت فى الخطبة وهى كَثِيرة . والمشْهُور عند المالِكِيَّة أَنه لا خُطْبة لها ، مَعَ أَنَّ مَالِكاً رَوَى الحديث وفيه ذكر الخطبة ، ولم يقتصر صلى الله عليه وسلم فيها على الإِعلام بسبب الكُسُوف ، والأَصل مشْرُوعِيَّة الاتباع والخصائص لا تثبت إِلاَّ بدَلِيل . وقد استضعفت ابن دقيق العيد التأْوِيل المذكُور ( أى تأْويل مَنْ لمْ يَقُلْ بالخطبة ) وقال إِن الخطبة لا تنحصر مَقَاصِدها فى شَىْءٍ مُعَيَّن بعد الإِتيان بما هُوَ المطلوب منها مِنَ الحمدِ والثَّنَاءِ والموْعِظَة . وما ذكر من سبب الكُسُوف وغيره هو من مَقَاصِد خُطْبة الكُسوف . فينبغى التَأَسِّى بالنبىِّ صلى الله عليه وسلم . فيذكر الإِمام ذلك فى خُطْبة الكُسُوف . نَعَم نازَع ابن قدامة فى كون خطبة الكُسُوف كخطبتى الجمعة والعِيدَيْن ، إِذ ليس فى الأَحاديث المذكُورة ما يَقْتَضِى ذلك ، وإِلى ذلك نَحَا ابن المنير ورَدّ عى مَنْ أَنْكَرَ أَصْل الخطبة الثبوت ذلك صريحاً فى الأَحاديث(1) .
2 – صلاة الخسوف
__________
(1) ص 363 ج 2 فتح البارى . الشرح ( الخطبة الإمام فى الكسوف ) .(1/131)
دلَّتْ أَحاديثُ الباب على أَنَّ صلآةَ الخُسُوف مأْمورٌ بها كصلاِة الكُسُوف ( ولذا ) قال الشافعىّ وأَحمد وإِسحاق وأَبُو ثور وأَهْل الحديث : يُسَنّ لخسُوف القمر صلاة ركعتَيْن فى جماعة فى كلِّ ركْعة ركوعان كصلاةِ كُسُوف الشمس ، لما ذكر من الأَحاديث " ولحديث " حبيب ابن أَبى ثابت عن طاوُس عن ابن عباس أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فى كُسُوفِ الشَّمْس والقَمَر ثمانى رَكَعَات فى أَرْبَعِ سجداتٍ يقراُ فى كلَّ ركعةٍ . أَخرجه الدارقطنى (1) {137} وهو حديث ضَعِيف ، لأَنَّ حبب بن أَبى ثابت مُدلس وقد عَنْعَن . وقد أَخْرَج أَحمد ومُلسم والثلاث حديث ابن عباس ولم يذكُرُوا فيه القَمَر .
( وروى ) الحَسَن البصرىّ أَنَّ القمر كسَف وابن عباس بالْبَصْرَة ، فخرج ابن عباس فَصَلَّى بنا ركْعتَيْن فى كُلِّ ركعةٍ ركعتان . ثم ركب فَخطَبنا فقال : إِنما صَلَّيْتُ كما رَأَيْتُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّى ، وقال : إِنما الشَّمْسُ والقَمَرُ آيتانِ من آياتِ الله لا تَخْسِفَانِ لمْوتِ أَحَدٍ ولا لحياتِهِ ، فإِذا رَأَيْتُم شيئاً منها خَاسِفاً فليكُن فزعكُم إِلى الله . أَخرجه الشافعى والبيهقى(2) {138} وإبراهيم بن مُحَمَّد شَيْخ الشَّافعىّ ضعيف . وقول الحسَن ( فَخَطَبنا ) يَعْنى بن عباس لا يَصِحّ ، فإِن الحَسَن لم يكُن بالبصرة لما كان ابن عباس بها .
__________
(1) ص 188 سنن الدارقطنى ( صلاة الخسوف والكسوف ) . و ( ثمانى ركعات .. إلخ ) يعنى ركع ثمانى مرات ، فى كل ركعة أربعة ركوعات وسجدتان .
(2) ص 193 ج 1 بدائع المنن ( خسوف القمر ) ، وص 338 ج 3 سنن البيهقى ( الصلاة فى خسوف القمر )(1/132)
" ولحديث عائشة " أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم كان يُصَلِّى فى كُسُوف الشمس والقمر أَربع ركعاتٍ وأَربع سجداتٍ وقرأَ فى الركعة الأُولى بالعَنْكَبُوت أَو الرُّوم ، وفى الثنية بيسن ، أَخرجه الدارقطنى(1) {139} قال فى التلخيص وذكر القمر فيها مُسْتغرب ..
" وعن " أَبى بَكْرَةَ أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى ركعتَيْن مثل صلاتِكُم هذه فى كُسُوفِِ الشمس والقمر. أَخرجه البيهقى وكذا البخارى بلفظ : انْكَسَفَت الشمس على عَهْدِ البنىِّ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى ركعتين(2) {140} .
( قال ) الحافظ : وفى ذلك رَدّ على مَنْ قال لا تُنْدَب الجماعة فى كُسُوفِ القمر ، وفَرَّقَ بوجودِ المشَقَّة فى الليل غالباً دون النَّهَار . ووقَعَ عند ابن حبان من وَجْهِ آخر أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فى كُسُوف القمر . ولفظه من طريق النَّضْر بن شميل عن أَشْعَثَ بإِسناده فى هذا الحديث – يَعْنى حديث أَبى بَكْرَة – صَلَّى فى كُسُوفِ الشمس والقمر ركعتَيْن مثل صلاتِكُم . وأَخرجه الدارقطنى أَيضاً . وفى هذا رَدّ على مَنْ أَطلق كابن رشيد أَنه صلى الله عليه سلم لم يُصَلّ فيه . ومنهم مَنْ أَوَّلَ قوله : صَلَّى ، أَى أَمَرَ باصَّلآة جماً بين الرواتين ( وقال ) صاحب الهدى : لم يُنْقَل أَنَّهُ صَلَّى فى كُسُوفِ القمر فى جماعة ، لكن حكَى ابن حبان فى السِّيرة : أَنَّ القمر خَسَف فى السنة الخامسة فَصَلَّى النبى صلى الله عليه وسلم بأَصحابه صلاةَ الكُسُوف ، وكانت أَوَّل صلاةِ كُسُوفٍ فى الإِسلام . وهذا إِنْ ثبت انتفى التَّأْويل المذكُور(3) .
(
__________
(1) ص 188 سنن الدارقطبى ( صفة صلاة الكسوف والخسوف ) .
(2) ص 338 ج 3 سنن البيهقى ( الصلاة فى الخسوف القمر ) ، وص 371 ج 2 فتح البارى ( الصلاة فى كسوف القمر ) .
(3) ص 381 ج 2 فتح البارى . الشرح ( الصلاة فى كسوف القمر ) .(1/133)
وقالت ) الحنفية والمالكية : تُسَنُّ صلاةُ الخُسوفِ ركْعَتَيْن جَهْرًا فرادَى فى المنازل بركُوع واحدٍ فى كُلِّ ركعة كبقيةِ النوافل . وتُكَرَّر حتى يَنْجَلى القَمَر أَوْ يَغِيب أَوْ يطلع الفجر ( فقد ) خَسَف القَمَر فى عَهْدِهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم مِرَاراً ولم يُنْقَل إِلينا من طريق صحيح أَنه جمع النَّاس لها . فَيُصَلِّى وتضَرَّع كل وحده ( قال ) الشَّيْخ إِبراهم الحلبى : ولا جماعة فى خُسُوف القمر للحَرَج فيها ، وكذا فى كُلِّ أَمْرٍ مُفْزع كالرِّيح والظُّلمة الشديدتين والزّلْزَلة واستمرار المطَرَ والثَّلْج ونحو ذلك ، للحَرَج فى الاجتماع فى جميع ذلك(1).
( وقال ) البدر العينى : لم ينف أَبو حنيفة الجماعة فى خُسُوفِ القمر ، وإِنما قال الجماعة فيه سنة بل هى جائزة . وذلك لتعَذّثر اجتماع الناس من أَطرافِ البلد بالليل ، وكيف وقد وَرَدَ قوله صلى الله عليه وسلم : أَفْضَلُ صلاةِ المرءِ فى بَيْتِه إِلاَّ المكْتُوبة (2) ، وقال مالك : لم يبلغنا ولا أَهل بلدنا أَنه صلى الله عليه وسلم جمع لِكُسُوفِ القمر ، ول نقل عن أَحَدٍ من الأَثمة بعده أَنه جمع فيه(3) .
(
__________
(1) ص 427 غنية المتملى ( تتمات من النوافل ) .
(2) أخرجه أحمد والخمسة عن زيد بن ثابت أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : أفضل الصلاة صلاة المرء .. إلخ . وأخرجه الثلاثة بلفظ : صلاة المرء فى بيته أفضل من صلاته فى مسجدى هذا إلا المكتوبة . وحسنة الترمذى وصححه السيوطى . انظر رقم 447ص310 ج2 دين ( مكان صلاة التطوع ) ( 411) .
(3) ص 66 ج 7 عمدة القارى ( الصلاة فى سوف القمر ) .(1/134)
وهذا ) الخلاف سببه الاختلاف فى الأَمر بالصلآةِ عند الكُسُوف الواردة فى أَحاديث الباب . فمن فهم منه مَعْنًى واحدًا فى كُسُوفِ الشمس وخُسُوفِ القمر كالشافعية والحنبيلة ، جعل صلاة خُسُوف ِ القمر كصلاةِ كُسُوفِ الشمس . ومن فهم أَنَّ فى الأَمر اختلافاً قال : المفهوم من الصَّلآة أَقَلَّ ما يُطْلَق عليه اسْمُ الصلاةِ فى الشَّرْع وهى النافلة منفردًا ، إِلاَّ أَن يَدُلَّ الدَّليل على غير ذلك . ولما دَلَّ فِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم فى كُسُوفِ الشَّمْس على غير هذا المعْنَى ، بقى المفهوم فى خُسُوفِ القمر على حالة . أَفاده ابن رشد (1) .
3 – الصلاة عند الظلمة ونحوها
__________
(1) ص 169 ج 1 بداية المجتهد ( المسألة الخامسة ) من مسائل صلاة الكسوف .(1/135)
تُسَنُّ الصَّلاة فرادَى فى المنازل والمساجد لِكُلِّ أَمْرِ مُفْزع كالظُّلْمة الشديدة نهارًا والرِّيح الشديدة والضَّوْءِ اقَوىّ لَيْلاً . والفَزَع منِ عَدُوّ والزلزال والصَّواعِق والثلج والمطَر الدائمين وعَموم الأَمْرَاض وغيرها من الأَهوال ، لأَن ذلك كله من الآياتِ المخوِّفة . والله تعالى يُحَوَّف عَبِيدَهُ ليتركُوا المعاصِى ويَرْجِعُوا إِلى الطاعة التى فيها فَوْزُهم وخَلآصهم" ولقول " النَّضْرِ بن عبد الله بن مطر : كانت ظُلْمة على عَهْدِ أَنَس بن مالك فأَتَيْتُ أَنَساً فَقُلْتُ : يا أَبا حمزة ، هل كان يُصِيبُكُم مثل هذا على عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسل ؟ قال : مَعَاذَ اللهُ ، إِن كانت الرِّيح لتَشْتَدّ فَتُبَادِ إِلى المسجد مخافةَ القيامة . أَخرجه أَبو داود والبيهقى والحاكم وصححه(1) {22} أى كُنَّا نُسَارع إِلى المسجد للصلاة الدعاءِ مخافَة أَن تَقُومَ السَّاعَة " ولقول " ابن مسعود : إِذا سَمِعْتُم هاداً مِنَ السماءِ فافْزَعُوا إِلى الصَّلاة . أَخرجه البيهقى(2) {23} وهذا وإن كان موقوفاً فهو فى حُكْم المرفُوع ، لأَنَّ لا يُقَال من قبل الرأْى .
(
__________
(1) ص 45 ج 7 المنهل العذب ( الصلاة عند الظلمة ونحوها ) وص 342 ج 3 سنن البيهقى ( الفزع إلى الصلاة فرادى عند الظلمة وغيرها ) وص 334 ج 1 مستدرك . و ( معاذ الله ) أى نتعوذ بالله من أن يقع فى زمنه صلى الله عليه وسلم مثل هذه الظلمة . و ( معاذ ) بفتحتين مصدر أقيم مقام فعله المحذوف وأضيف إلى المفعول بعد حذف الجار .
(2) ص 343 ج 3 سنن البيهقى ( الفزع إلى الصلاة فرادى عند الظلمة وغيرها ) و ( هاداً ) أى صوتا .(1/136)
وعن ) عِكْرمة قِيلَ لابن عباس : ماتَتْ فُلانة بعض أَزْوَاج النبىَّ صلى الله عليه وسلم فخرَّ ساجِداً ، فقيل له : تَسْجُد هذه السَّاعة ؟ فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إِذا رأَيْتُم آيةً فاسْجُدُوا . وأَىّ آية أَعْظَم من ذَهابِ أَزواج النبىِّ صلى الله عليه وسلم ؟ أَخرجه البيهقى وأَبو داود (1) {142} .
( وقوله ) فاسْجُدُوا ، أَىْ صَلُّوا من إِطلاق الجزءِ على الكُلِّ . والأَقْرَب أنَّهُ باقٍ على أَصْله كما فَعَلَ ابن عباس ( ويُؤيد ) الأَوْلَ عُموم ما وَرَدَ أَنَّهُ كانَ صلى الله عليه وسلم إِذا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى . أَخرجه أَحمد وأَبو داود عن حُذَيفة (2) {143} ( وبهذا ) قال الحنفيون والشاعى وأَشْهَب والقاضِى عِياض المالِكِيَّان وهُو روايةً عن أَحمد .
(
__________
(1) ص 343 ج 3 سنن البيهقى ( الفزع إلى الصلاة فرادى عند الظلمة والزلزلة ) . وص 46 ج 7 المنهل العذب ( السجود عند الآيات ) و ( ماتت فلانة ؟ ) هى صفية بنت حيى كما فى رواية البيهقى .
(2) ص 207 ج 2 الفتح الربانى ، وص 247 ج 7 المنهل العذب ( وقت قيامه صلى الله عليه وسلم من الليل ) و ( حزبه ) بفتحتين ، أى هجم عليه أو غلبه أو نزل به هم أو غم . وفى رواية : حزنه بالنون ، أى أوقعة فى الحزن .(1/137)
ومَشْهُور ) مذهب الحنبلية أَنه لا يُصَلَّى لِشَىْءٍ من الآياتِ إِلاَّ الزَّلزلة الدائمة ، فَيُصَلًَّى لها كالكُسُوف " لما روى " عبد الله بن الحارث : أَنَّ ابنَ عباس رضى الله عنهما صلَّى فى زَلْزَلة بالبصرة فأَطَالَ القُنُوتَ ، ثم رَكَعَ ثم رَفَعَ رَأْسَهُ فَأَطَالَ القُنُوتَ ، ثم ركَعَ ثم رَفَعَ رَأْسَهُ فأَطَالَ القُنُوتَ ، ثم رَكَعَ فَسَجَدَ ثم قامَ فى الثانية فَعَلَ كذلك . فصات صَلآتُهُ سِتَّ ركعاتٍ وأَرْبَع سَجدات . ثم قال ابن عباس : هَكَذَا صلاةُ الآياتِ . أَخرجه البيهقى(1) {24} ( وجه ) الدلالة أَنه صَلَّى صلاةَ الزلزال كإِحْدَى كيفياتِ صلاةِ الكُسُوف المتقَدِّمة .
( قال ) أَبو مُحمد عبد الله بن قُدَامة : قال أَصحابنا : يُصَلَّى للزلزلة كصلاةِ الكُسُوفِ ، وهو مذهب إِسحاق وأَبى ثَوْر . قال القاضى : ولا يُصَلَّى للرَّجْفَة والرِّيح الشديدة والظُّلمة ونحوها (2) .
( ومشهور ) مذهب مالك أَنه لا يُصَلَّى لآيةٍ ما عَدَا الكُسُوف ، لأَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم لم يُصَلِّ لغيره وكَذَا خلفاؤه ، وقد وَقَعَ فى عَصْرِهم بعضْ هذه الآيات . وحكَى اللخمىّ عن أَشْهَب الصَّلاة . واختاره .
الفزع الى الطاعات عند نزول الآيات
__________
(1) ص 343 ج 3 سنن البيهقى ( من صلى فى الزلزلة بزيادة عدد الركوع والقيام كصلاة الخسوف ) والقنوت : القيام . و ( ست ركعات .. إلخ ) أى صلى ركعتين ، فى كل ركعة ثلاث ركوعات وسجدتان .
(2) ص 282 ج 2 مغنى ( لا صلاة لشئ من الآيات إلا الزلزلة ) .(1/138)
قد عَلِمْت أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم بَيَّن أَنَّ الكٍُُوفَ والخسُوفَ مِنَ الآياتِ التى يُخَوِّف الله بها عِبَاده ، وأَمَرَ الأُمَّةَ إِذا حَدَثَ ما ذكر ونحوه أَن تَفْزَع إِلى الصَّلاة والذِّكْر والدُّعَاءِ والاستِغْفَار والصَّدَقَة والْعِتْق ( قال ) أَبو مُوسَى الأَشْعَرىّ : خَسَفَتِ الشَّمْس فى زَمَن النبىِّ صلى الله عليه وسلم ، فَقَامَ فَزِعاً يَخْشَى أَنْتَكُونَ السَّاعة حتى أَتى المجد فَقَامَ يُصَلِّى بأَطْوَل قيام وركُوع وسُجُود ، ما رأَيته يفعله فى صلاة قَطَّ . ثم قال : إِنَّ هذه الآيات التى يُرْسِل الله لا تكُون لموْتِ أَحَدٍ ولا لحياتِه ، ولكنَّ الله يُرْسِلها يُخَوَّف بها عِبَاده ، فإِذا رأَيْتُم منها شيئاً فافْزَعُوا إِلى ذِكْره ودُعَائِه واستِغْفَارِه . أَخرجه اشيخان(1){144} ( وقالت ) أَسماءُ بنت أَبى بَكْر رضى الله عنهما : لقد أَمَرَ النبىُّ صلى اله عليه وعلى آله وسلم بالْعِتَاقَه فى كُسُوفِ . أَخرجه أَحمد والبخارى وأَبو داود(2) {145} .
__________
(1) ص 380 ج 2 فتح البارى ( الذكر فى الكسوف ) وص 215 ج 6 نووى مسلم ( ذكر النداء بصلاة الكسوف الصلاة جامعة ) .
(2) ص 224 ج 6 الفتح الربانى ، وص 369 ج 2 فتح البارى ( من أحب العتاقة فى الكسوف ) وص 40 ج 7 المنهل العذب . و ( العتاقة ) بفتحتين ، مصدر عتق العبد ، من باب ضرب ، عتقاً وعتاقة وعتاقاً.(1/139)
وفى الكُسُوف تخويف من الله تعالى ، فينبغى أَن يُبَادِرَ إِلى طاعَتِه ليَكْشِفه عن عِبَادِه . ومع هذا نَرَى الكَسُوفَ والخُسُوفَ يَقَعَانِ كُلَّ عام ولا نَرَى أَحَداً مِنَ العامَّة ولا مِنَ ذُكِر ، ولا يَدْعُو غيره إِلى ذلك ، إِحياءً لهذه السُّنة الدارسة وإِماتةً للبِدْعَه التى شَاعَتْ بين العامَّة . فهم يَأْمُرُونَ الأَوْلآدَ عند خُسُوفِ القمر بالطَّوافِ بالبلد ودَقّ الطُّبول وقَرْع النُّحاس بالصُّفِيح ، ويصِيحُون بكلماتٍ تُشْعِر بالْجَهْل والْخِزْى والعار (1) ، ويَزْعُمُون أَنَّ سبب كُسُوفِ الشمس جَرّ الملائكَة لها على عَجَل لإِغراقها فى البحر فيبتلعها الْحُوت . ولا مَنْشَأَ لهذا إِلاَّ الْجَهْل الفَضِح ، وإِهمال تَعَلُّم أَحكام الدَّين ، وعدم الاهتداءِ بهَدْى النبىِّ الأَمِين صلى الله عليه وسلم ، وعَدَم قيام أَهْل العِلْم بالأَمْر والنَّهْى وإِرشادِ لعامَّة إِلى طرق السَّعادة .
اجتماع الكسوف وغيره
__________
(1) من هذا قولهم : ... ... ... يا قمرنا يا هادى ... * يا لباس البغدادى
وقولهم : ... ... ... يا لطيف الطف بنا ... * واحنا عبيدك كلنا
وقولهم : ... ... ... يا بنات الحور ... * سيبوا قمرنا ينور
وقولهم : ... ... يا بنات الحور سيبوا القمر ... * القمر مكسوف ما معناش خبر
( وأما ما يحكى ) أن فلكياً أنبأ أحد الأمراء بخسوف القمر فى سنة معينة ، فلم يعتقد نبأه خسف القمر كان الأمير نائماً ، فأراد الفلكى حيلة لإيقاظه ليشهد الحال بنفسه ، فقال للناس : إن الحوت يبتلع القمر فاضربوا الطبول ، وأحدثوا ضجة شديدة ليفر الحوت ويترك القمر ، فلما فعلوا ذلك أستيقظ الأمير وشاهد القمر مخسوفاً فكافأ الفلكى ( فخرافة ) وعلى فرض أنها حقيقة فعلى من أحدثها وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة .(1/140)
إِذا اجْتَمَعَ صلاتَانِ كَكُسُوفٍ وعِيدٍ بُدِئَ بما يُخَاف فَوْته ، فإِنْ خِيفَ فَوْتهما بدأَ بالصَّلاة الواجبة . وإِنْ لم يَكُن فيهما صلاة واجبة كالكُسُوف والتراويح بدأَ بآكدهما كالكُسُوف .
( قال ) أَبو مُحمد عبد الله بن قدامة : والصَّحِيح أَنَّ الصلوات الواجبة التى تُصَلَّى فى جماعة مقدمة على الكُسوف مطلقاً ، لأَنَّ تَقْدِيمَ الكُسُوفِ عيها يُفْضِى إِلى المشَقَّة لإِلزام الحاضرين بفعلها مع كونها ليست واجبة، وكذلك إِذا اجتمعت مع التراويح قُدِّمَت التراويح لذلك . وإِن اجتمعت مع الوتر فى أَوَّل وقته قُدِّمَت ، لأَنَّ الوتر لا يَفُوت . وإِنْ خِيفَ فَوَاته قُدِّم . وإِن اجتمع الكُسُوف وصلاة الجنازة قُدَّمت الجنازة(1).
4 – الاستسقاء
هو لُغَةً : طَلَب السُّقْيَا . وشَرْعاً : طَلَب السَّقْى مِنَ الله تعالى عند حُصُول الْجذْب بالثناءِ عليه والفَزَع إِليه والاستغفار والصلاة .
( وسبب ) الجدب ارْتِكَاب المخالفات ، كما أَنَّ الطَّاعةَ سبب للبركات قال تعالى : " وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ "(2) .
( وعن ) ابن عُمَر أَنَّ النبىّض صلى الله عليه وسلم قال : لم يَمْنَعْ قَوْمٌ زكاة أَمْوَالهم إلاَّ مُنِعُوا القطر مِنَ السَّماءِ . ولو لا البهائم لم يمطروا . أَخرجه الطبرانى فى الكبير ورَمز السيوطى لضعفه(3) {146} .
(
__________
(1) ص 281 ج 2 مغنى ( إذا اجتمع صلاتان الكسوف وغيره ) .
(2) سورة الأعراف ، الآية 96 .
(3) رقم 7369 ص 297 ج 5 فيض القدير .(1/141)
وعن ) أَبى هُرَيْرَةَ أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال : قال ربُّكُم عَزَّ وجَلَّ : لو أَنَّ عِبَادِى أَطَاعُونى لَسْقَيْتهم المطر بالليل وأَطلعت عليهم الشمس بالنهار ، ولما أَسمعتهم صَوْت الرَّعْد . أَخرجه أَحمد والبزار . وقال : لا يُرْوَى إِلاَّ بهذا الإِسناد ( وقال ) الهيثمى : مداره على على صدقة بن موسى الدقيقى ، ضعفه ابن معين وغيره . وقال مسلم بن إِبراهيم : حدثنا صدقة الدقيقى وكان صدوقاً (1) {147} .
( وعن بريدة ) الأَسْلَمى أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : ما نَقَضَ قَوْمٌ الْعَهْدَ قَطٌّ إِلاَّ كَانَ القتل بينهم ، وما ظهرت فاحشة فى قوم قط إِلاَّ سلط الله عزَّ وجَلَّ عليهم الموْت ، ولا مَنَعَ قَوْمٌ الزكاةَ إِلاَّ حَبَس اللهُ عنهم القطر . أَخرجه البيهقى والحاكم (2) {148} .
هذا . الاستسقاءُ مشروعٌ فى مكانٍ ليس لأَهله أَنْهَار أَوْ لهم ولكِنَّها لا تَفِى بمصالحهم كَسَقْىِ الزَّرْع والدَّوَابّ ( وهو ) مشروعٌ بالكِتَابِ والسُّنة وإِجماع الأُمَّة ( قال ) الله تعالى حكايةً عن سيدنا نُوح عليه الصلاة والسلام : " فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِل السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً " .
والكلام هنا يَنْحَصِرُ فى سبعة مباحث :
1 – حكم الاستسقاء :
__________
(1) ص 230 ج 6 الفتح الربانى ، وص 211 ج 2 مجمع الزوائد ( الاستسقاء ) أٌفاد أن فى نزول المطر ليلا رحمة بالعباد لعدم المشقة ونزوله بالنهار يعطل عليهم بعض المصالح ويمنع طلوع فلا ينتفعون بها .
(2) ص 346 ج 3 سنن البهقى ( الخروج من المظالم والتقرب إلى الله تعالى ) .(1/142)
اتفق العماءُ على أَنَّهُ يُسَنُّ الخروج إِلى الصَّحراء – فى غير المساجد الثلاثة – ثلاثةَ أَيَّام متتابعات يَدْعُونَ الله ويَتَضَرَّعُونَ إِليه فى نُزُولِ المطر . ويُسْتَحَبُّ للإِمام أَن يَصُوم ويأْمُرَهُم بصِيام ثلاثةِ أَيَّام مُتَتَابعة قبل الخروج ويأْمُرَهُم بالتَّوْبه من جميع الذُّنُوب ، ثم يَخْرُج بهم فى اليوم الرابع مُشَاةً فى ثِيَابٍ خَلِقَة مُتَذَلِّلِينَ خَاشِعِين لله تعالى نَاكِسِينَ رُءُسَهْم . ويَتَصَدَّقُونَ على المحتاجين فى كُلِّ يوم قبل خُرُوجهم ، ويُجَدَّدُونَ التَّوْبةَ بشُرُوطِهَا ( ومنها ) رَدّ المظالم إِلى أَهْلها ، ويُكْثِرُونَ الاستغفارَ ويَتَسَامَحُونَ فيما بينهم ، ويُقَدَّمُونَ الضُّعَفَاءَ والشُّيوخ والصِّبْيان يَدْعُونَ والناس يُؤَمِّنُونَ على دُعَائِهم ، لأَنه أَقْرَب للإِجابة .
( قال ) ابن عباس : إِنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خرَج مُتَخَشِّعاً مُتَضَرِّعاً مُتَوَاضِعاً مُتَبَذِّلاً مُتَرَسِّلاً ، فَصَلِّى بالناس ركْعَتَيْن كما يُصَلِّى فى الْعِيد ، فلم يَخْطُب خُطْبَتَكُم هذه . أَخرج أَحمد والأَربعة والبيهقى والدارقطنى والحاكم وقال الترمذى : هذا حديثُ حَسَنٌ صحيح(1) {149} .
(
__________
(1) ص 235 ج 6 الفتح الربانى ، وص 6 ج 7 المنهل العذب ( صلاة الاستسقاء ) ، وص 224 ج 1 مجتبى ، وص 198 ج 1 سنن ابن ماجه ، و 390 ج 1 تحفة الأحوذى ، مستدرك . و ( متبذلا ) أى لابساً ثياب البذلة بكسر فسكون ، وهى ما يلبس حال العمل والخدمة و( مترسلا ) أى متأنياً فى مشيه .(1/143)
وقالت ) عائِشَةُ : شَكَا النَّاسُ إِلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قُحُوطَ المطَر ، فَأَمَرَ بمِنْبَرٍ فَوُضِعَ له فى المصَلَّى ، وَوَعَدَ الناس يوماً يَخْزُجُون فيه . فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ بَدَا حاجِب الشمس ، فَقَعَدَ على المنْبَر فكَبَّرَ وحَمِدَ اللهَ عَزَّ وجَلَّ ، ثم قال : إِنَّكُم شَكَوْتُم جَدْبَ دِيَارِكُم واسْتِئْخَارَ المطَر عن إِبَّانِ زَمَانِه عَنْكُم ، وقد أَمَرَكُم اللهُ عَزَّ وَجَلِّ أَنْ تَدْعُوهُ وَوَعَدَكُم أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُم . ثم قال : الحمدُ لله رَبِّ العالمين ، الرَّحمن الرَّحِيم ، مَالِكِ يَوْم الدِّين ، لآ إِلهَ إِلاَّ الله يفعلُ ما يُريد . اللَّهُمَّ أَنْتَ لآ إِله إِلاَّ أَنْتَ الغنىّ ونحنُ الفقراءُ ، أَنْزِلْ علينا الغَيْثَ واجعل ما أَنْزَلْتَ علينا قُوَّةً وبلاغاً إِلى حِين ، ثم رَفَعَ يَدَيْهِ فلم يَزَل فى الرفع حتى بَدَا بياض إِبطَيْه ، ثم حَوَّل إِلى الناس ظهره وقلب أَوْ حَوَّل ردَاءَهُ وهو رَافِعٌ يَدَيْه . ثم أَقبل على الناس ونَزَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْن ، فأَنْشَأَ اللهُ سحابةً فرعَدَتْ وبَرَقَتْ ثم أَمطرت بإِذْنِ الله ، فلم يَأْتِ مسجده حتى بَدَتْ نَوَاجِذَهُ ، فقال : أَشْهَدُ أَنَّ الله على كُلِّ شَىْءٍ قَدِير وأَنِّى عَبْدُ اللهِ ورَسُوله . أَخرجه أَبو داود والبيهقى والحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين(1) {150} .
(
__________
(1) ص 13 ج 7 المنهل العذب ( رفع اليدين فى الاستسقاء ) ، و ص 349 ج 3 سنن البيهقى ، و ص 238 ج 1 مستدرك . و ( قحوط ) بضمتين ، مصدر قحط كخضع ، يقال : و ( إبان ) الشئ بكسر الهمزة وشد الباء : أوله ( واجعل ما أنزلت علينا .. إلأخ ) يعنى اجعل المطر سبباً لحياة الزرع وغيره الذى به نقوى . واجعله كافياً لنا مدة احتياجنا له .(1/144)
ويُسْتَحَبُّ ) التنظُّفَ بالماءِ واستعمال ِ السِّوَاك وما يقطع الرَّائِحَة . ويُسْتَحَبُّ الخروج لكَافَّةِ الناس . وخروج الشُّيوخ ومَنْ كان ذَا دِينٍ وصلاح أَشَدً استحباباً ، لأَنه أَسْرَع للإِجابة . فأَمَّا النِّسَاءَ فلآ بأْسَ بخروج العجائز ومَنْ لا هيئةَ لها . فأَمَّا الشَّوَابّ وذَوَاتِ الهيئة فلا يُسْتَحَبُّ لهنَّ الخروج ، لأَنَّ الضَّرَرَ فى خروجهنَّ أَكْثَر مِنَ النَّفْع . ولا يُسْتَحَبُّ إِخراجَ البهائم ، لأَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم لم يَفْعُله . وإِذا عَزَمَ الإِمامُ على الخروج اسْتُحِبَّ له أَنْ يَعِدَ الناس يَوْماً يخرجُونَ فيه ، وبَأْمُرَهُم بالتَّوْبة مِنَ المعاصِى والخروج مِن المظالم ، والصَّيَام والصَّدَقة ، وترك التَّشَاحُن ليّكُونَ أَقْرَبَ لإِجابَتِهم ، فإِنَّ المعاصِى سَبَبُ الجدب ، والطَّاعَةُ تَكُون سبباً للبركات . قال الله تعالى : " وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ " . قاله أَبو محمد عبد الله بن قدامة(1) .
(
__________
(1) ص 284 ج 2 مغنى ( صلاة الاستسقاء ) .(1/145)
وما قاله ) مِنْ عَدَم استحبابِ إِخراج البهائم روايةً عن أَحمد . وهو مَذْهَب المالكِيَّة . ومَشْهُور مذهب الحنبلية أَنَّهُ يُبَاح إِخراجها ، وهو مَذْهَب الحنفية والشافعية ، ولا يحضر الاستسقاءَ معنا أَهْلُ الكُفْر عند الحنفيين وأَصْبَغ المالكى والزهرى ، لأَنَّ الاستسقاءَ لاستنزالِ الرَّحمة . وإِنما تنزل عليهم اللَّعنة . كذا قالوا . وأَوْرَدَ عليه أَنَّهَ ليس المراد إِلاَّ الرَّحمة العامَّة الدنيوية وهُو المطَر والرِّزْق ، وهُم مِنْ أَهْلها . ولذا قالوا : الصَّوَاب أَن يمنَعُوا من الاستسقاءَ وَحْدَهم ، لاحتمال أَن يسقوا فيفتتن ضُعَفَاءُ العوامّ . أَفاده الشيخ الحلبى(1) .
(
__________
(1) ص 430 غنية المتملى ( صلاة الاستسقاء ) .(1/146)
وقالت ) المالِكِيَّة والحنبلية : لا يُسْتَحَبُّ إِخراج أَهْلُ الذِّمة ولا يمنعون مِنَ الخروج ، ولكن لا يختلطون بالمسلمين ، ولا يمكَّنُونَ مِنَ الخروج فى يوم وَحْدَهُم ( قال ) الشَّيْح منصور بن إِدريس : ويُكْرَهُ لنا أَن نُخْرج أَهل الذِّمة ومَنْ يُخَالِف دِينَ الإِسلام ، لأَنهم أَعداءَ الله فهم بَعِيدُونَ مِنَ الإِجابة وإِنْ أُغِيثَ المسلمون فربما ظَنُّوهُ بدُعائِهم ، وإِنْ خَرَجُوا من تلقاءِ أَنْفُسِهم لم يُكْرَه ولم يمنعوا ، لأَنه خروج لطَلَبِ الرِّزْق ، واللهُ ضَمِنَ أَرزاقهم كما ضَمِنَ أَرْزَاق المسلمين ، وأُمِرُوا بالانفرادِ عن المسلمين فى يختَلِطُونَ بهم ، لقوله تعالى : " وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً " (1) . ولأَنه لآ يُؤمَن أَن يُصِيبهم عذاب فَيَعُمَّ مَنْ حَضَر ، ولا يَنْفَردُونَ بيوم لِئَلاَّ يَتَّفِقَ نُزُولَ غَيْث يوم خروجهم وَحْدَهُم ، فيكون أَعْظَمَ لفِتْنَتِهم ، وربما افتتن بهم غيرهم ، وحُكْم نِسَائِهِم ورقيقهم وصِبيْانهم وعجائزهم حُكْمهم فى حواز الخروج مُنْفَرِدِين لا بيوم ، ولا تخرج منهم ولا مِنَ المسلمين حَسْنَاءَ ولو عَجُوزاً (2).
2 – وقت الاستسقاء :
__________
(1) سورة الأنفال ، الآية 25 .
(2) ص 368 ج 1 كشاف القناع ( باب صلاة الاستسقاء ) .(1/147)
الاستسقاءُ بالدعاءِ ليس له وقت مُعَيَّين اتفاقاً ، وكذا صلاته لا تختَص بوَقْتٍ عند الجمهور فَتَجُوزُ فى كُلِّ وَقْتٍ لَيْلاً أَوْ نَهَاراً إِلاَّ أَوقاتَ النَّهْى ( قال ) أَبو مُحمد عبد الله بن قدامة : وليس لصلاة الاستسقاءِ وَقْتٌ مُعَيَّن ، إِلاَّ أَنَّهَا لا تفعل فى وَقْت النَّهْى بغير خِلاف ، لأَنَّ وقتها مُتَّسع فلا حاجةَ إِلى فِعْلِها فى وَقْتِ النَّهْى . والأَوْلى فِعْلها وَقْتَ الْعِيد ، لما رَوَتْ عائشةَ أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خَرَجَ حِينَ بَدَا حاجِب الشمس . رواه أَبو داود . ولأَنَّهَا تُشْبِهها فى الموْضِع والصِّفَة ، فكذلك فى الوقت ، إِلاَّ أَنَّ وَقْتَها لآ يَفُوتُ بزَوَالِ الشمس ، لأَنَّهَا ليس لها يَوْمٌ مُعَيَّن فلا يكُونُ لها وَقْتٌ مُعيَّن(1) .
3 – أنواع الاستسقاء – هى أربعة :
(
__________
(1) ص 286 ج مغنى ( ليس لصلاة الاستسقاء وقت معين ) وما نسبه لأبى داود هو جملة من الحديث السابق رقم 150 ص 132 ( حكم الاستسقاء ) .(1/148)
ا ) الاستسقاءُ فى خطبةِ الجمعةِ : يَدْعُو الإِمام على المنبر ويُؤَمِّن الناس ( روى ) شَرِيك بن أَبى نمر عن أَنَس بن مالك أَنَّ رَجُلاً دخل المسجد يومَ الجمعةِ ورسولُ الله صلى الله عليه وعلى آلأه وسلم قائم يَخْطُبُ ، فقال : يا رسول الله ، هَلَكَتِ الأَمْوَالُ وانْقَطَعَتِ السُّبُلُ ، فَادْعُ الله يغيثنا ، فَرَفَعَ رسولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يَدَيْه ثم قالَ : اللَّهُمَّ أَغِثْنَا ، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا ، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا . قال أَنَس : ولا والله ما نَرَى فى السماءِ من سَحَابٍ ولا قَزَعَةٍ – وما بيننا وبين سَلْع من بَيْتٍ ولا دار – فَطَلَعَتْ من ورائِه سَحَابةٌ مثل التُّرس ، فَلَمَّا تَوَسَّطَت السَّماءَ انتشرت ثم أَمْطَرَتْ ، المقبلة ورسولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قائم يَخْطُبُ ، فاسْتَقْبَلَهُ قائماً ، فقال : يا رسولَ الله ، هَلَكَتِ الأَمْوَال وانْقَطَعَْتِ السُّبُل ، فَادْعُ اللهَ يمسكها عَنَّا ، فَرَفَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ ثم قال : اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا ولا عَلَيْنَا . اللَّهُمَّ على الإِكام والظراب وبُطُونِ الأَوْديةِ ومَنَابِتِ الشجر ، فأَقْلَعت وخرجْنَا نمشِى فى الشمس . أَخرجه الشيخان(1) {
__________
(1) ص 34 ج 2 فتح البارى ( الاستسقاء فى خطبة الجمعة ) و ص 191 ج 6 نووى مسلم ( الدعاء فى الاستسقاء ) و ( القزعة ) بفتحات : السحاب المتفرق . و ( سلع ) بفتح فكون : جبل بالمدينة . و ( مثل الترس ) أى مستديراً مثله . و ( سبتاً ) أى أسبوعاً . وفى رواية : ستاً . وفى رواية : فمطرنا من جمعة إلى جمعة . ( وانقطعت السبل ) لتعذر سلوك الطريق من كثرة الماء . و ( الإكام ) بكسر الهمزة وقد تفتح ممدودة ، جمع أكمة بفتحات ، وهى ما ارتفع عن الأرض قليلا ( والظراب ) بكسر أوله ، جمع ظرب بفتح فكسر أو سكون ، وهى الرابية الصغيرة ( فأقلعت ) أى أمسكت السحابة عن المطر ..(1/149)
151} .
( ففى ) هذا الحديث دلالةٌ على أَنه إِذا وَقَعَ الاستسقاءُ يوم جُمُعَةٍ يُكْتَفَى بالدُّعَاءِ حال خُطْبَةِ الجمعة وًَلآتِها .
( ب ) الاستسقاءُ بالدعاءِ على المنبر بلا صلاةٍ فى غير يوم الجمعة ( قال ) ابن عباس : جاءَ أَعرابىٌ إِلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، لقد جِئْتُكَ من عند قَوْمٍ لآ يَتَزَوَّد لهم رَاعٍ ولا يَخْطِر لهم فحل ، فَصَعِدَ اللنبىُّ صلى الله عليه وسلم المنبر فَحَمِدَ الله ثم قال : اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثاً مُغِيثاً مَرِيئاً مريعاً طبقاً غدقاً عاجلاً غير رائِثٍ ، ثم نزل فما يَأْتِيه أَحَدٌ من وَجْهٍ من الوجوه إِلاَّ قالوا قَد أَحْيَيْنَا . أَخرجه ابن ماجه بسند صحيح رجاله ثقات(1) {152} .
(
__________
(1) ص 199 ج 1 سنن ابن ماجه ( الدعاء فى الاستسقاء ) و ( لا يتزود لهم راع ) أى لا يجد ما يأكله لقلة الزاد بسبب الجدب والقحط . وخص الراعى بالذكر ، لأنه يعتنى طعامه أكثر من غيره لما يتحمله من المشاق والبعد عن المساكن ( ولا يخطر لهم فحل ) أى لا يحرك ذنبه لما لحقه من لضعف لقلة المرعى . يقال : خطر الفحل بذنبه يخطر بالكسر إذا ضرب به يميناً وشمالا ( والغيث ) المطر . ( والمغيث ) بضم فكسر : المنقذ من الشدة ( والمرئ ) المحمود العاقبة المنمى للحيوان . و ( المربع ) بضم الميم وفتحها وكسر الراء : الذى يأتى بالريع وهو الزيادة ، ( والطبق ) بفتحتين :المطر العام . ( والغدق ) الماء الكثير . ( والرائث ) المبطئ .(1/150)
جـ ) الاستسقاءُ بالدعاءِ فى غير المسجد بلا صلاة ( قال ) جابر بن عبد الله : أَتَت النبىَّ صلى الله عليه وسلم بواكى فقال : اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثاً مُغِيثاً مَرِيئاً مَرِيعاً عاجِلاً غير آجل نافعاً غير ضار ، فأَطْبَقت عليهم السمَّاء . أَخرجه أَبو داود والحاكم وقال : هذا حديثٌ صحيحٌ على شَرْطِ الشَّيْخَين (1) {153} ( وعن ) عُمَيْر مَوْلى آبى اللحم أَنَّهُ رأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَسْتَسْقى عند أَحجار الزَّيت قريباً من الزَّوْرَاءِ يَسْتَسْقى رافِعاً يَدَيْهِ قِبَلَ وَجْهه لا يُجَاوِزُ بهما رَأْسَهُ . أَخرجه أحمد والثلاثة بسَنَدٍ رجاله موثقون (2) {154} .
(
__________
(1) ص 10 ج 7 المنهل العذب ( رفع اليدين فى الاستشقاء ) وص 326 ج 1 مستدرك ( كتاب الاستسقاء ) .
(2) ص 247 ج 6 الفتح الربانى ، وص 8 ج 7 المنهل العذب ( رفع اليدين فى الاستسقاء ) وص 225 ج 1 مجتبى ( كيف يرفع ) ، وص 390 ج 1 تحفة الأحوذى . و ( آبى اللحم ) بالمد اسم فاعل من أبى ، أى امتنع ، لقب بذلك لأنه كان لا يأكل مما ذبح للأصنام . و ( أحجار الزيت ) موضع بالمدينة ، سمى بذلك لسواد أحجاره . و ( والزوراء ) بفتح فسكون : موضوع عند سوق المدينة .(1/151)
ولذا ) قال أَبُو حنيفة : لا صلاةَ فى الاستسقاءِ بجماعةٍ مسنونةٍ بل مَنْدُوبة ، لعدم المواظَبَةِ عليها ، ولا خُطْبَةَ لأَنها تبع الجماعة ، بل الاستسقاءُ دعاءٌ واستغفارٌ بأَنْ يقُومَ الإِمامُ مُستقبل القِبْلَة يَدْعُو رافعاً يَدَيْه والناس قُعُود مُسْتَقْبلون يُؤَمِّنُون على دُعَائِه بما تَقَدَّم . وبما فى حديث عَمْرو ابن شُعيب عن أَبيه عن جَدِّه قال : كانَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم إِذا اسْتَسْقَى قال : اللَّهُمَّ اسْق عِبَادَك وبَهَائِمكَ وانْشُرْ رَحْمَتَكَ وأَحْى بلَدَكَ الميِّت . أَخرجه مالك وأَبو داود والبيهقى بسَنَدٍ جيد(1) {155} .
(
__________
(1) ص 344 ج 1 زرقانى الموطإ ، وص 18 ج 7 المنهل العذب ( رفع اليدين فى الاستسقاء ) .(1/152)
قال ) البدر العينى : اعْلَمْ أَنَّ أَبا حَنِيفَة قال : ليس فى الاستسقاءِ صلاةٌ مسنونةٌ فى جماعة ، فإِنْ صَلَّى الناس وحداناً جَازَ ، إِنما الاستسقاءُ الدعاءُ والاستغفار ، لقوله تعالى : اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِل السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً " . علق نزول الغَيْثِ بالاستِغْفَار لا بالصَّلآةِ . فكانَ الأَصْلُ فيه الدعاءُ والتَّضَرُّع دُونَ الصَّلاة، ويَشْهَدُ لذلك أَحَادِيث ( وذكَر الأَحاديث السابقة وآثاراً أُخرُى ) ثم قال : فهذه الأَحاديث والآثار كلها تشهد لأَبى حنيفةَ أَنَّ الاستسقاءَ استغفارٌ ودعاءٌ ( وأُجِيبَ ) عن الأَحاديث التى فيها الصَّلاة أَنه صلى الله عليه وسلم فَعَلَها مَرَّةً وتكَها أُخرى . وذا لا يَدُلُّ على السُّنية ، وإِنما يَدُلُّ على الجواز(1) ( وقال ) الشَّيْخ الحلبى : فالحاصل أَنَّ الأَحادِيثَ لما اختلفت فى الصلاة بالجماعة وعَدَمِها على وَجْه لآ يَصْلُح به إِثبات السُّنية ، لم يقل أَبو حنيفة بسُنِّيتها . ولا يلزم من عَدَم قوله بِسُنِّيتها ، قوله بأَنها بدعة كما نقله عنه بعض المشنعين بالتعصب بل هو قائل بالجواز(2) .
(
__________
(1) ص 35 و 36 ج 7 عمدة القارى ( وقت الاستسقاء ) .
(2) ص 429 غنية المتملى ( صلاة الاستسقاء ) .(1/153)
د ) الاستسقاءُ بصلاةِ ركعَتَيْن وخُطبةٍ ودعاءٍ ( رَوَى ) عَبَّاد بن تميم عن عبد الله بن زيد المازنى أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خرج بالناس يَسْتَسْقى فَصَلَّى بهم ركعَتَيْن جَهَرَ بالقراءَةِ فيهما ، وحَوَّلَ رِدَاءَهُ ورَفَعَ يَدَيْه فَدَعَا واسْتَسْقَى واستقبل الْقِبْلَة . أَخرجه أَحمد والبخارى والثلاثة (1) {156} .
(
__________
(1) ص 234 ج 6 الفتح الربانى ، وص 350 ج 2 فتح البارى ( الجهر بالقراءة فى الاستسقاء ) وص 2 ج 7 المنهل العذب ، وص 388 ج 1 تحفة الأحوذى ، وص 224 ج 1 مجتبى ( تحويل الإمام ظهره عند الدعاء فى الاستسقاء ) ، وص 347 ج 3 سنن البيهقى ( الدليل على أن السنة فى صلاة الاستسقاء كالسنة فى صلاة العيدين ) .(1/154)
وقال ) أَبو هُريرة : خرجَ نبىُّ الله صلى الله عليه وسلم يَوْماً يَسْتَسْقى وصَلَّى بِنَا ركعَتَيْن بلآ أَذَانٍ ولا إِقامة ، ثم خَطَبَنَا ودَعَا الله وحَوَّلَ وَجْهَهُ نحو القِبْلة رافِعاً يَدَيْه ، ثم قَلَبَ رِدَاءَهُ فجعل الأَيمن على الأَيْسَر والأَيْسَر على الأَيمن . أَخرجه أَحمد وابن ماجه والبيهقى بسَنَدٍ رجاله ثِقَات(1) {157} . وقد تَفَرَّدَ به النَُعْمَان بن راشد . والأَحاديث هنا كَثِيرة وهى تَدُلُّ على أَنه يُسَنُّ للإِمام أَو نائبه إِذا أَجْدَبَت الأَرض واحتَبَسَ المطر أَوْ قَلَّ مَاءُ النَّهْر ، أَنْ يُصَلِّى بالناس ركْعَتَيْن كصلاةِ الْعِيد بلا أَذانٍ ولا إِقامة ، يَجْهَرُ فيهما بالقراءَةِ ثم يَخْطُب ويُكْثر مِنَ الدُّعاءِ والاستغفار والتَّضَرُّع إِلى الله تعالى ، مُستقبلاً القِبلة رافِعاً يَدَيْهَ مُحَوِّلاً ملابسَهُ ظَهْراً لِبَطْن عند الدعاءِ ( وبهذا ) قال مالك والشافعىّ وأَحمد وأَبو يُوسُف ومُحمد وجُمهور السَّلَف والخلف ( أَمَّا الصلاة ) فقد اتفقوا على أَنَّهَا ركْعَتَانِ وعلى الْجَهْر كما فى الكُسُوف ( واختلفوا ) فى صِفَتِها ، فروى أَنه يُكَبَّر فيها ويُقْرَاُ كتَكْبير الْعِيد وقراءَتِه " لقول " ابن عباس : خَرَجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للاستسقاءِ مُتَوَاضِعاً مُتَضَرِّعاً حتى أَتى المصَلَّى فرقى المنْبَر فلم يَخْطُب خُطْبتكُم هذه ولكن لم يَزَلْ فى الدعاءِ والتَّضَرُّع ، والتَّكْبير ثم صَلَّى ركعتَيْن كما يُصَلِّى فى الْعِيد .
__________
(1) ص 233 ج 6 الفتح الربانى ، وص 198 ج 1 سنن ابن ماجه ( صلاة الاستسقاء ) وص 347 ج 3 سنن البيهقى ( السنة فى الصلاة الاستسقاء كالسنة فى العيدين ) .(1/155)
أَخرجه أَحمد والأَربعة وقال الترمذى : هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيح (1) {158} .
( وقال ) طلحة بن يَحْيى : أَرْسَلَنى مروان إِلى ابن عباس أَسْأَله عن سُنَّة الاستسقاءِ ، فقال : سُنَّةُ الاستسقاءِ سُنَّة الصلاةِ فى العِيدَيْن ، إِلاَّ أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَلَبَ رِدَاءَهُ فجعل يمينَهُ على يَسَارِه ، وجعل يَسَارَهُ على يمينِه وصَلَّى ركعتَيْن كَبَّر فى الأُولى سَبع تَكْبيراتٍ وقَرَاَ بسَبِّح اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ، وقَرَاَ فى الثانية هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَة ، وكَبَّر فيها خمس تَكْبيراتٍ . أَخرجه الحاكم وقال : حديثٌ صحيحُ الإِسناد (2) {159} ورد بأَنَّ فى سَنَدهِ عبد العزيز بن عبد الملك ، قال الذهبى : عبد العزيز ضعيف .
( وبهذا ) قال الشافعىّ وداود الظاهرى . وروى عن مُحمد بن الحسنَ . والمشْهُور عنه أَنه لا يُكَبر فيها تَكْبِير الْعِيد . وبه قال الجمهور ومنهم مالك وأَحمد وإِسحاق ، لأَنه لم يُذْكَر فى الأَحاديث الصحيحة .
( وأَجَابُوا ) عن قول ابن عباس فى الحديث الأَوَّل : كما يُصَلَّى الْعِيد ( بأَنَّ ) المراد كصلاة الْعِيد فى عَدَدِ الركعاتِ والْجَهْر بالقراءَة ، وكون الصلاة قبل الْخُطْبة ( وعن ) حديثِ طلحة بن يَحْيى ، بأَنه ضَعِيف كما علمت .
(
__________
(1) ص 235 ج 6 الفتح الربانى ، وص 6 ج 7 المنهل العذب ، وص 224 ج 1 مجتبى ( الحال التى يستحب للإمام أن يكون عليها ) ، وص 390 ج 1 تحفة الأحوذى وص 198 ج 1 سنن ابن ماجه ( فلم يخطب فى الاستسقاء كخطبة العيد و الجمعة بل خطب خطبة خاصة بطلب السقى وما يتعلق به كما تقدم .
(2) ص 326 ج 1 مستدرك ( تقليب الرداء والتكبيرات والقراءة فى صلاة الاستسقاء ) .(1/156)
وأَمَّا الْخُطْبة ) فقد اتفق القائلونَ بِسُنِّية الجماعة فى الاستسقاءِ على أَنَّهَا سُنَّة . واختلفوا فى عَدَدِها وَوَقْتِهَا ( فقال ) أَبو يُسُف وأَحمد : هى خُطْبة وَاحِدَة ( وقال ) مالك والشافعىّ ومحمد : يخطب خُطْبَتين . ولا صريح فى المرويات يَدُلُّ عليه ( وهى ) بعد الصَّلاةِ عند مالك والشافعى وأَحمد والجمهور " لقول " عبد الله بن زيد المازنى : خَرَجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلى المصَلَّى واسْتَسْقَى وحَوّلَ رِدَاءَهُ حِينَ استقبل ، وبَدَاَ بالصلاة قبل الْخُطْبة ثم استقبل القِبْلَةَ فَدَعَا . أَخرجه أَحمد(1) {160} .
" ولما " تَقَدَّمَ عن أَبى هريرة من قوله : وصَلَّى بِنَا ركعتَيْن بلا أَذَانٍ ولا إِقامة ، ثم خطبنَا (2) .
( وعن ) أَحمد أَنه يخطب قبل الصَّلاة . وروى عن عُمر وابن الزُّبَيْر وعُمر بن عبد العزيز . وبه قال اللَّيْثُ بن سعد " لما " تقَدَّم عن عائشةَ قالت : شَكَا الناس إِلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قُحُوطَ المطر فأَمَرَ بمنْبَرٍ فَوُضِعَ له فى المصَلَّى ( الحديث ) وفيه : ثم أَقْبَلَ على الناس ونَزَلَ فَصَلَّى ركعتَيْن (3) .
" ولقول " عبد الله بن يزيد الخطيمى : إِنَّ ابْنَ الزُّبير خرج يَسْتَسْقى بالناس فَخَطَب ثم صَلَّى بغير أَذَانٍ ولا إِقامةٍ ، وفى الناس يَوْمَئِذٍ البراءُ ابن عازب وزيد بن أَرْقَم . أَخرجه الطبرانى فى الكبير بسَنَدٍ رجاله رجال الصحيح (4) {25} .
(
__________
(1) ص 233 ج 6 الفتح الربانى ( صفة الاستسقاء والخطبة لها والجهر بالقراءة فيها ) .
(2) تقدم تاماً رقم 157 ص 138 ( الاستسقاء بالصلاة والخطبة والدعاء ) .
(3) تقدم تاماً رقم 150 ص 132 ( استسقاء النبى صلى الله عليه وسلم ) .
(4) ص 216 ج 2 مجمع الزوائد ( باب الاستسقاء ) .(1/157)
ولا مُنَافَاةَ ) بين أَحادِيث تَقْدِيم الصلاة على الْخُطْبة ، وأَحادِيث تَقْدِيم الْخُطْبة على الصَّلاة ، لأَنَّ الكُلّ جائِز. وقد رُوِى عنه صلى الله عليه وسلم أَنه خَطَبَ قبل الصلاة وخَطَبَ بَعْدَها ، فالكُلّ سُنَّة ( وأَمَّا ) استقبالُ القِبْلة ورَفْع الأَيْدِى حالَ الدُّعاءِ وتحويل الملابس فهى سُنَّة عند الجمهور لما تَقَدَّم " ولقول " أَنَس : إِنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم اسْتَسْقَى فأَشَارَ بظَهْرِ كَفَّيْة إِلى السَّماءِ . أَخرجه أَحمد ومسلم والبيهقى (1) {161} " ولقوله " إِنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم كان يَسْتَسْقِى هكذا ، ومَدَّ يَدَيْهِ وجعل بُطُونهما مَّمِا يَلِى الأَرْض حتى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبطَيْه . أَخرجه أَبو داود والبيهقى(2) {162} .
( وفى هذه ) الأَحادِيث دَلِيلٌ على أَنَّ السُّنة فى كُلِّ دعاءٍ لرفع بلاءٍ كالقَحْطِ ونحوه أَنْ يرفع يَدَيْهِ جاعِلاً ظهر كَفَّيْه إِلى السَّماءِ .
(
__________
(1) ص 246 ج 6 الفتح الربانى ، وص 190 ج 6 نووى مسلم ( رفع اليدين بالدعاء فى الاستسقاء ) و ص 357 ج 3 سنن البيهقى ( رفع الناس أيديهم فى الاستسقاء ) .
(2) ص 12 ج 7 المنهل العذب ( رفع اليدين فى الاستسقاء ) وص 357 ج 3 سنن البيهقى وقد ثبت بالأحاديث الكثيرة الشهيرة أنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه عند الدعاء فى غير الاستسقاء كما تقدم فى بحث " رفع اليدين حال الدعاء " ص 350 ج 2 دين طبعة ثانية ( ولا يقال ) كيف يرى بياض إبطيه وهو لابس ثيابه ( لاحتمال ) ألا يكون لابساً ثوبه حينئذ ، بل كان مرتدياً ، من خصوصياته صلى الله عليه وسلم . فإن آباط غيره مفمور بالشعر ، متغيرة اللون .(1/158)
وحكمته ) الإِشارة إِلى تَحَوُّل الحال من الشِّدَّةِ والقَحْطِ إِلى الرَّخاءِ " لحديث " ابن عباس أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال : سَلُوا اللهَ بِبُطُونِ أَكُفِّكُم ، ولا تَسْأَلُوه بظُهُررِها ، فإِذا فَرَغْتُم فامْسَحُوا بها وجُوهَكُم . أَخرجه أَبو داود . وقال : روى هذا من غير طريق عن ابن عباس يرفعه . وكلها وَاهِية . وهذا الطريق أَمثلها وهو ضعيف (1) {163} أَى لأَنَّ فيه أَبا المقدام هشام بن زياد . ضعفه غير واحد من الحفَّاظ(2) .
(
__________
(1) تقدم رقم 518 ص 350 ج 2 دين ( رفع اليدين حال الدعاء ) وهذا عجز الحديث وصدره عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : لا تستروا الجدر . من نظر فى كتاب أخيه بغير إّنه فإنما ينظر فى النار . وسلوا الله ... إلخ .
(2) فالحديث ضعيف . وتصحيح السيوطى له غير مسلم . ولكن له شواهد تقوية منها ما تقدم فى بحث " رفع اليدين حال الدعاء " صفحة 351 ج 2 دين طبعة ثانية .(1/159)
واختلفوا فى كيفيةِ تحويل الرداءِ ( فقال ) أَبو يُوسُف ومُحمد : يُحَوَّل الإِمام دون القَوْم . بأَن يجعل طرف ردائه الأَيمن على عاتقه الأَيْسَر وبالعَكْس إِنْ كانَ الرِّداء مُدَوَّراً ، وإِنْ كان مُرَبَّعاً جَعَلَ أَعْلآه أَسْفَل وبالعكس " لقول" محمد بن مُسْلم الزُّهرى : أَخْبَرَنى عَبَّاد بن تميم المازنىّ أَنه سَمِعَ عمه ( عبد الله بن زيد ) يقول : خَرَجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوماً يَسْتَسْقى ، فَحَوَّل إِلى الناس ظَهْرَهُ يَدْعُو الله عَزَّ وجَلَّ ، واستقبل القِبْلَةَ وحَوَّل رِدَاءَهُ فجعل عِطافه الأَيمن على عاتقِه الأَيْسَر وجعل عِطافه الأَيْسَر على عاتقِه الأَيمن ثم دَعَا الله عَزَّ وجَلَّ . أَخرجه أَبو داود والبيهقى(1) {164} .
( وروى ) سفيان الثورى عن أَبى بكْر بن مُحمد بن عَمْرو بن حزم أَنه سمع عَبَّاد بن تميم عن عمه أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلى المصَلَّى واستقبل القِبْلةَ وقَلَبَ رِدَاءَهُ وصَلَّى ركعتَيْن . قال سفيان : قَلْبُ الرِّدَاءِ : جَعْل اليمين الشَّمال والشَّمال اليمين . أَخرجه أَحمد(2) {165} .
(
__________
(1) ص 4 ج 7 المنهل العذب ( صلاة الاستسقاء ) وص 350 ج 3 سنن البيهقى ( كيفية تحويل الرداء ) ، و ( العطاف ) بكسر العين فى الأصل : الرداء ، سمى بذلك لوقوعه على عطفى الرجل بكسر العين المهملة ، أى ناحيتى عنقه .
(2) ص 243 ج ؟ الفتح الربانى ، وص 244 منه ( تحويل الإمام والناس أرديتهم فى الدعاء ) .(1/160)
وقال ) مالك وأَحمد : يُحَوِّل الإِمام والْقَوْم الملابس بجَعْل ما على العاتِق اليمين على اليَسَار وبالْعِكْس . وبه قَلَت الشافعية : إِذا كانَ الرِّداءُ مُدَوَّراً ، فإِنْ كان مُرَبَّعاً فَعَل به ذلك ، وجعل أَعْلآهُ أَسْفَله وأَسْفَله أَعْلآه " لقول " عبد الله بن زيد : رأَيْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حين اسْتَسْقَى لنا ، أَطَالَ الدُّعاءَ وأَكْثَر المسأَلة . ثم تَحَوَّلَ إِلى القِبْلَة وحَوَّل رِدَاءَهُ فَقَلَبَهُ ظَهْراً لِبَطْن وتَحَوَّلَ النَّاس معه . أَخرجه أَحمد هكذا (1) {166} واسْتَشْهَدَ به الحافظ ابن حجر ، لكن ذكره بلفظ : وحَوَّل النَّاس معه . وأَخرجه السِّتة مُقتصرين عل قوله : وحَوَّل رِدَاءَهُ . وهو الحديث الآتى .
هذا . والتَّحْوِيل يكون عند استقبال القِبْلَة للدُّعاءِ " لحديث " عَبَّاد ابن تميم أَنَّ عبد الله بن زيد أَخبره أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إِلى المصَلَّى ليَسْتَسْقى ، وأَنه لما أَرَادَ أَنْ يَدْعُو استقبل القِبْلَةَ ثم حَوَّل رِدَاءَهُ أَخرجه الشيخان وأَبو داود(2) {167} . وفى رواية : خَرَجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلى المصَلَّى فاسْتَسْقَى وحَوَّلَ رِدَاءَه حين اسْتَقْبَلَ القِبْلَة .
(
__________
(1) ص 243 ج ؟ الفتح الربانى ، وص 244 منه ( تحويل الإمام والناس أرديتهم فى الدعاء ) .
(2) ص 351 ج 2 فتح البارى ( استقبال القبلة فى الاستسقاء ) ، وص 189 ج 6 نووى مسلم ( رفع اليدين بالدعاء فى الاستسقاء ) ، وص 8 ج 7 المنهل العذب ( فى أى وقت يحول رداءه إذا استسقى ) .(1/161)
وحِكْمة ) التَّحْويل التَّفَاؤل بأَنَّ الله تعالى يُحَوِّلُ الحالَ من الجدبِ والقَحْطِ إِلى الرخاءِ والْخِصْب " فقد " رَوَى جعفر بن مُحمد عن أَبيه قال : اسْتَسْقَى رسولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحَوَّل رِدَاءَهُ ليتَحَوَّل القَحْطُ. أَخرجه الدارقطنى مرسلاً ، والحاكم عن جابر بن عبد الله وقال هذا حديثٌ صحيحٌ الإِسناد (1) {168} .
( قال ) أَبو مُحمد عبد الله بن قدامة : ويُسْتَحَبُّ تحويل الرِّدَاءِ للإِمام والمأْموم فى قول أَكثر أَهل الْعِلم ( وقال ) أَبو حنيفة ، لا يُسَنَّ لأَنَّهُ دعاءٌ ، فلا يُسْتَحَبُّ تحويل الرِّدَاءِ فيه كسائر الأَدْعِية . وسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أَحَقَّ أَنْ تُتَّبَع ( وحكى ) عن سعيد بن المسيب وعروة والثورى أَنَّ تحويل الرِّدَاءِ مختصٌّ بالإِمام دون المأْموم . وهو قول الليث وأَبى يوسف ومُحمد بن الحسن ، لأَنَّهُ نقِلَ عن النبىَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم دون أَصحابه ( ولنا ) أَنَّ ما فعله النبى صلى الله عليه وسلم يَثْبُت فى حَقِّ غيره ما لم يَقُمْ على اخْتِصَاصِه به دَلِيلٌ . كيف وقد عُقِلَ المعْنَى فى ذلك وهو التفاؤل بقَلْبِ الرِّدَاءِ ليقلب الله ما بِهم من الجدْبِ إِلى الخِصْبِ ، وقد جاءَ ذلك فى بعض الحديث(2) .
4 – تكرير الاستسقاء :
__________
(1) ص 189 سنن الدارقطنى ( الاستسقاء ) وص 326 ج 1 مستدرك ( الاستسقاء ) .
(2) 289 ج 2 مغنى ( تحويل الرداء ) و ( بعض الحديث ) هو حديث جابر رقم 168 ( حكمة تحويل الرداء فى الاستسقاء ) .(1/162)
إِذا خَرَجَ القوم للاستسقاءِ فسُقُوا فَبِهَا ، وإِلاَّ عادُوا فى اليوم الثانى والثالث عند الأَئِمة الأَربعة والجمهور ( وقال ) إِسحاق : لا يَخْرُجُونَ إِلاَّ مَرَّةً واحدةً ، لأَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم لم يَخْرُجْ إِلاَّ مَرَّةً واحدةً . ولكن يجتمعون فى المساجد ويذكُرُونَ الله تعالى ويَدْعُونَ ويستغفرون بعد الصلاة ويَدْعُو الإِمام يوم الجمعة على المنبر ويُؤَمِّن النَّاسُ .
( وأَجاب ) الجمهور بأَنَّ الخروج أَبلغ فى الدعاءِ فى الدعاءِ والتَّضَرُّع .
( والنبى ) صلى الله عليه وسلم لم يخرج ثانياً لا ستغنائِه عن الخروج بإِجابتِه أَوَّل مَرَّة . وإِنْ تَأَهَّبُوا للخروج فسُقُوا قبل خروجهم لم يَخْرُجُوا وشَكَرُوا الله على نِعَمِه ، وسأَلُوه المزيد من فَضْلهِ . وإِنْ خرجوا فسُقُوا قبل أَن يُصَلُّوا صَلُّوا شُكْراً لله وحمدوا وَدَعُوا . أَفاده ابن قدامة .
5 – الاستسقاء بالأحياء الصالحين :
يُسْتَحَبّ الاستسقاءَ بأَهْل الصَّلاح والتقوى " روى " أَنَس أَنَّ عُمَر ابن الخطاب كان إِذا قُحِطُوا اسْتَسْقَى بالعباس ابن عبد المطلب فقال : اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِليك بنبينا فتسْقِينا ، وإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِليك بعَمِّ نَبِيِّكَ فاسْقِنَا ، فَيُسْقَوْن. أَخرجه البخارى(1) {26} .
(
__________
(1) ص 339 ج 2 فتح البارى ( سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا ) وقحطوا بضم فكسر ، أى أصابهم القحط .(1/163)
وروى ) أَنَّ معاوية خرج يَسْتَسْقِى ، فَلضمَّا جَلَسَ على المنبر قال : أَيْنَ يَزِيد بن الأَسْوَد الجرشى ؟ فقَامَ يَزِيدُ ، فدعاهُ مُعاوية فأَجْلَسَهُ عند رِجْلَيْهِ ثم قال : اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَشْفِعُ إِليك بخَيْرِنا وأَفْضَلِنَا ، يزيد بن الأَسْوَد . يا يَزِيد ارْفَعْ يَدَيْكَ ، فرفَعَ يَدَيْهِ ودَعَا الله تعالى ، فَثَارَتْ فى الغرب سَحَابةٌ مثل الترس وهَبّ لها رِيحٌ فَسُقُوا حتى كادُوا لا يبلغوا منازلهم . واسْتَسْقَى به الضَّحَّاك مرة أُخرى . ذكَرَهُ ابن قدامة (1) {27}.
6 – هدى النبى صلى الله عليه وسلم فى الاستسقاء :
قال العلامة ابن القيم : ثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْقَى على وُجُوه :
( أَحَدُها ) يَوْمَ الجُمْعة على المنْبَر فى اَثْنَاءِ خُطْبَتِه وقال : اللَّهُمَّ أَغِثْنَا . اللَّهُمَّ اسْقِنَا . اللَّهُمَّ اسْقِنَا .
( الثانى ) أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلى المصَلَّى وصَلَّى بالناس ركعَتَيْن وخَطَبَ .
( الثالث ) أَنَّهُ اسْتَسْقَى على مِنْبَرِ المدينةِ اسْتِسْقَاءً مجرَّداً فى غَيْرِ يَوْم الجمعة . ولم يحْفَظْ عنه صلى الله عليه وسلم فى هذا الاسْتِسْقَاءِ صلاة .
... (الرابع) أنَّهُ اسْتسْقَى وهو جَالِسٌ في المسجد فَرَفَعَ يَدَيْهِ ودَعَا الله عَز وجل فحفظ من دعائه حينئذٍ: اللهمَّ اسقنا غيثاً مغيثاً مريعاً طبقاً عاجلاً غير رائِثٍ، نافعاً غير ضارّ.
(الخامس) أنه استسقَى عِنْدَ أحجار الزَّيت قريباً من الزَّوراءِ، وهي خارج باب السلام نَحْوَ قَذْفة حَجَر ينعطفُ عن يمين الخارج من المسجد.
(
__________
(1) ص 295 ج 2 مغنى ( يستحب أن يستسقى بمن ظهر صلاحه ) والترس بضم فسكون وجمعه تروس .(1/164)
السادس) أنَّهُ اسْتسقَى في بعض غَزَواتِه لما سبقه المشركُون إلى الماءِ فأصَابَ المسلمين العطَشَ، فشَكَوْا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضُ المنافقين: لو كَانَ نبَّياً لاسْتسقَى لقومِهِ كما استسقى مُوسَى لِقَوْمِهِ، فبلَغَ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: أَوَقَدْ قالُوها؟ عَسَى ربكم أن يسقيكُم، ثم بَسَطَ يديهِ ودعَا، فما ردّ يديْه من دعائِه حتى أظلتهم السحاب وأمطروا فأفْعَم السيْل الوادي فشرب الناس فارتووا (وحفظ) من دعَائِه في الاستسقاء: اللهمَّ اسْق عِبَادَك وبهائمك، وانشرْ رحمتك وأحْي بَلَدَك الميت. اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريعاً نافعاً غير ضارّ، عاجلاً غير آجل، وأغيثَ صلى الله عليه وسلم في كلِّ مرةٍ استسقى فيها (1) .
"وقال" أبو لبابة بن عبد المنذر: استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو لبابة: إن التمر في المرابِد يا رسولَ الله. فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم اسقِنَا حتى يقوم أبو لبابة عُرياناً فيسدُّ ثعلب مِرْبَدِه بإزارِه. وما نرَى في السماء سحاباً، فأمطرتْ، فاجتمعُوا إلى أبي لبابة فقالوا: إنها لن تقلع حتى تقوم عرياناً فتسد ثعلب مربدك بإزارك، ففعَلَ، فأصحت. أخرجه الطبراني في الصغير. وفيه من لا يعرف(2) {169}.
وقد تقدَّم تفصيل ذلك وما وَرَدَ فيه في بحث "أنواع الاستسقاءِ".
7- ما يطلب لرؤية المطر والريح :
__________
(1) ص126 ج1 زاد المعاد (هديه صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء).
(2) ص215 ج2 مجمع الزوائد (الاستسقاء) و (المربد) كمنبر: موضع تجفيف التمر ونحو. وثعلبه: ثقبه الذي يسيل منه ماء المطر.(1/165)
يستحب الدعاء عندئذٍ "لقول" عائشةَ: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا رَأَى المطَرَ قال: اللهمَّ صبياً نافعاً. أخرجه أحمد والبخاري والنسائي والبيهقي(1) {170} "ولقولها" كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى ناشئاً في أفق السماء ترك العمل، وإن كان في صلاةٍ خفَّفَ، ثم يقول: اللهم إني أعُوذُ بِكَ من شرِّها، فإن مَطر قال: صَيِّباً هنيئاً. أخرجه أبو داود(2) {171} "ولقول" المطلب بن حنطب: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند المطرَ: اللهم سُقْياً رحمةٍ ولا سُقْيَا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرقٍ. اللهمَّ على الظِّرَابِ ومنابِتِ الشَّجَر. اللهم حواليْنَا ولا علينا. أخرجه البيهقي(3) {172}.
"ولقول" أبي هريرة: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: الريح من روح الله تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبوها وسلُوا الله خيرها واستعيذوا باللهِ من شَرِّها. أخرجه أبو داود والحاكم وصححه(4) {173}.
"ولحديث" أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تسبوا الرياح فإنها من روح الله تعالى تأتي بالرحمة والعذاب، ولكن سلوا الله من خيرها وتعوذوا بالله من شرها. أخرجه أحمد وابن ماجه(5) .
(
__________
(1) ص254 ج6 الفتح الرباني، و ص 353 ج2 فتح الباري (ما يقال إذا مطرت).
(2) ص26 ج2 تيسير الوصول (دعاء الرعد والريح والسحاب). (والناشيء): السحاب، يقال: نشأت السحابة ارتفعت. و (مطر) من باب طلب. و (الصيب) المدرار.
(3) ص256 ج3 سنن البيهقي (الدعاء في الاستسقاء). و (الظراب) الحجارة الثابتة.
(4) رقم 4549 ص60 ج4 فيض القدير. ونسبه أيضاً الى النسائي في اليوم والليلة.
(5) رقم 9787 ص399 ج4 فيض القدير، و ص 211 ج2 سنن ابن ماجه (النهي عن سب الريح).(1/166)
ويُسْتَحَبُّ) أن يقف الانسان في أول المطَرَ ويكشفَ بعض بَدَنِه ليصيبه المطرَ تبرُّكاً. قال أنس: مُطِرنَا على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج فحسرَ ثوبهُ عنه حتى أصابهُ المطر. قلنَا: يا رسول الله، لِمَ صنعت هذا؟ قال: لأنه حديث عهدٍ بربه. أخرجه أحمد ومُسلم والبيهقي(1) {175}. ومعناه أن المطر رحمة وهو قريب العهد بخلق الله تعالى فيتبرك به.
(خاتمة) يجبُ على كل مكلف أن يعتقد أن المطر من عند الله ومن خلقه لا يقدر على حبسه وإنزاله إلا الله تعالى، ولا تأثير للكواكب في شيء من ذلك، قال تعالى: "وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلَ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَته وَهُوَ الْوَلِيُّ الحَمِيد" (2) .
(
__________
(1) ص253 ج6 الفتح الرباني، و ص 195 ج6 نووي مسلم، و ص 359 ج3 سنن البيهقي (البروز للمطر).
(2) سورة الشورى، الآية 28 .(1/167)
أما ) من اعتقد أن للنجوم تأثيراً في ذلك فهو مشرك "قال زيد" ابن خالد الجهني: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثرِ سماءٍ كانت من الليلِ. فلما انصرف أقبلَ على النَّاس فقال: هل تدرون ماذا قالَ ربكُم؟ قالوا: الله ورسولهُ أعلم. قال: أصبح من عبادي مؤمن بي كافر بالكوكب، ومؤمن بالكوكب كافرٌ بي. فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافرٌ بالكوكب. وأما من قال مطرنا بنوءٍ كذا وكذا فذلك كافرٌ بي مؤمنٌ بالكوكبِ. أخرجه أحمد والبخاري والبيهقي وكذا النسائي نحوه (1) .
__________
(1) ص252 ج6 الفتح الرباني (اعتقاد أن المطر بيد الله....)، و ص 355 ج2 فتح الباري، و ص 357 ج3 سنن البيهقي (كراهية الاستمطار بالانواء)، و ص 227 ج1 مجتبي. و (الحديبية) بالتصغير وتخفيف الياء الاخيرة وتشدد؛: قرية صغيرة على مرحلة من مكة وعلى تسع مراحل من المدينة، سميت باسم بئر هناك (وهي) من الحرم. وقال ابن القصار: بعضها في الحرم وبعضها في الحل (وفيها) صدت قريش النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه عن مكة، وصالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما طلبوا، وبايع أصحابه بيعه الرضوان، وذلك أنه في أول ذي القعدة سنة ست من الهجرة (في إبريل سنة 628م) خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمراً في 1400 أربعمائة وألف، وساق معه الهدى سبعين بدنة، وأحرم من المدينة..ولما كان بثنية المرار (طريق مشرف على الحديبية) بركت ناقته، فزجروها فلم تقم، فقالوا: خلأت القصوى (أي أعيت حتى ألقت خلاءها، أي عنقها) فقال عليه الصلاة والسلام: ما خلأت وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة (خصلة) يعظمون فيها حرمات الله إلا أجبتهم اليها، ثم زجرها فوثبت، فعدل حي نزل بأقصى الحديبية على ثمد (بفتحتين وبفتح فسكون، أي بئر) قليل الماء فنزح، وشكا الناس العطش، فانتزع صلى الله عليه وسلم سهماً من كنانته فوضعوه فيه، فما زال يجيش (يفور) لهم بالري حتى صدروا عنه. فجاء بديل بن ورقاء الخزاعي، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن القوم قد خرجوا لقتالك وصدك عن البيت. فقال صلى الله عليه وسلم: إنما جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد أضرت بهم الحرب، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا ما بيني وبين الناس، فإن أظهر اطاعوني إن شاءوا، وإلا فقد جموا (بشد الميم، أي استراحوا وكثروا) وإن أبوا فلأقاتلنهم حتى تفرد سالقي (صفحة عنقي) ولينفذن الله أمره. فقال بديل: سأبلغهم ما قلت. فلما بلغهم أرسلوا اليه صلى الله عليه وسلم عروة بن مسعود الثقفي، فأتاه فكلمه. فقال له مثل قوله لبديل. فقال عروة: أي محمد، أرأيت إن استأصلت قومك هل سمعت أن أحداً اجتاح أهله؟ وإن تكن الاخرى فإني لأرى و باشاً (أي أخلاطاً) من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك. فقال ابو بكر رضي الله عنه: امصص بظر اللات، انحن نفر وندعه؟ ثم رجع عروة وقد رأى آداب الصحابة مع النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام، إذا أمر ابتدروا أمره، واذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، واذا تكلم خفضوا أصواتهم ولا يحدون النظر اليه تعظيماً له. فقال: لقد وفدت (من باب وعد) على قيصر وكسرى والنجاشي، فوالله ما رأيت ملكاً في قومه مثل محمد في أصحابه، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.
(ثم) بعث صلى لله عليه وسلم عثمان بن عفان الى قريش يخبرهم أنه صلى الله عليه وسلم ما جاء الا معتمراً، فدخل عثمان مكة في جوار أبان بن سعيد، فبلغ ما أرسل به، فقالوا له: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف، فقال: لا اطوف ورسول الله صلى الله عليه وسلم ممنوع. فحبسوه وأشيع أنه قتل....فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الى البيعة، فبايعوه تحت الشجرة على الموت. وضرب صلى الله عليه وسلم إحدى يديه على الاخرى وقال: هذه لعثمان، فخافت أمرهم قريش، فأرسلوا اليه صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو طالباً الصلح على شروط هي:-
(أ) أن ينصرف عامه هذا ويأتي من قابل معتمراً ويدخل كة والسيوف في القراب فيقيم ثلاثاً.
(ب) مد الصلح ووضع الحرب بين الفريقين عشرة أعوام.
(جـ) من جاء من قريش الى النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً يرده الى قومه، ومن جاء قريشاً من المسلمين لا يردونه.
(د) من أراد من غير قريش الدخول في عهد النبي صلى الله عليه وسلم دخل، ومن أراد الدخول في عهد قريش دخل.
فدعا النبي صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه فأملاه كتاب الصلح، فكتب نسختين. (وفي) أثناء الكتابة أتى أبو جندل بن سهيل يرسف في قيوده. فرده صلى الله عليه وعلى آله وسلم الى ابيه وقال له: اصبر واحتسب فإن الله جاعلاً لك ولمن معك فرجاً ومخرجاً (فقال) أبو جندل: يا معشر المسلمين، أرد وقد جئت مسلماً، ألا ترون ما لقيت! (فقال) عمر: يا رسول الله، ألست نبي الله حقاً؟ قال: بلى. قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه. قال: أو ليس كنت تحدثنا انا سناتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى. أفأخبرتك أنا ناتيه العام؟ قال: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به (وسأل) عمر أبا بكر أيضاً، فأجبه بمثل ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم.
(ولما) ختم كتاب الصلح وشهد عليه رجال من الفريقين، قال صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم لأصحابه، قوموا فانحروا ثم احلقوا. فما قام منهم احد حتى قال ذلك ثلاثاً. فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس وقال: أمرتهم فلم يأتمروا. فقالت له: يا نبي الله، أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج صلى الله عليه وعلى آله وسلم فنحر ودعا حالقه. فلما رأوا ذلك قاموا ونحروا وحلقوا لبعضهم حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً من التزاحم، ثم جاءت نسوة مؤمنات، فأنزل الله عز وجل: "يأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن (أي فاختبروهن بما يغلب على ظنكم به صدق إيمانهن، بأن يحلفن أنهن ما خرجن من بلاد الكفر الا رغبة في الاسلام، لا يغضاً لازواجهن الكفار، ولا عشقا لرجال مسلمين) الله اعلم بايمانهن فان علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن الى الكفار" حتى بلغ ولا "تمسكوا بعصم (جمع عصمة) الكوافر" (أي بما يعتصم به الكافرات من عقد سابق، والمراد نهي المؤمنين عن البقاء على نكاح المشركات). ولذا طلق عمر رضي الله عنه امراتين كانتا تحته مشركتين، تزوج احداهما معاوية بن ابي سفيان، والاخرى صفوان بن امية.
(خفي) سر هذا الصلح على المسلمين وكبر عليهم، وتكلم فيه بعضهم. واهتدى صلى الله عليه وسلم لهذا الصلح. وعلم من ربه أنه سبب لأمن الناس وظهور الاسلام وأن فيه الفرج القريب.
(عظم) عليهم صد المسلمين عن الطواف بالبيت مع أنه صلى الله عليه وسلم أخبرهم أنه رأى أنهم دخلوا البيت آمنين (وأعجب) منه رد من جاءنا مسلماً ولا يردون من ذهب اليهم مرتداً.
(خفي) عليهم سر ذلك ولم يدركوا أن رد المسلم سبب لانتشار الدين بين العرب، لأن قلبه مطمئن بالايمان.
(ثم) رجع صلى الله عليه وسلم الى المدينة ومعه عثمان فجاءه ابو بصير الثقفي او القرشي، مسلماً فأرسلوا في طلبه رجلين فدفعه اليهما. ولما بلغا ذا الحليفة عدا على احدهما فقتله، وفر الاخر الى المدينة. ثم جاء ابو بصير فقال: يا رسول الله، قد أوفى الله ذمتك، رددتني ثم أنجاني الله. فقال له: اذهب ولا تقم بالمدينة. فذهب الى ساحل البحر الاحمر فلحق به أبو جندل واجتمع معهما جمع ممن فر من مكة مسلماً. وقطعوا الطريق على تجارة قريش فأرسلوا الى النبي صلى الله عليه وسلم يستغيثون به ويطلبون منه إمساك من جاءه مسلماً، فأجابهم الى ذلك، فنزل قوله تعالى: "وهو الذي كف أيديهم عنكم وايديكم عنهم ببطن مكة من بعد ان اظفركم عليهم، وكان الله بما تعملون بصيراً، هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي (أي ما يهدي الى الحرام) معكوفا (أي محبوساً) ان يبلغ محله (أي مكانه الذي يذبح فيه) ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات" حتى بلغ قوله تعالى: "اذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية (أي الانفة حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت وشددوا في شروط الصلح وقالوا: قد قتلوا أبناءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا فتتحدث العرب أنهم دخلوا رغم أنوفنا، واللات والعزى لا يدخلون مكة هذا العام فهذه) حمية الجاهلية (التي دخلت قلوبهم) فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين (فلم يدخلهم ما دخل الكفار من الحمية، واطمأنوا بالصلح الذي اطمأن له رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان فتحاً مبيناً) وألزمهم كلمة التقوى (وهي لا اله الا الله محمد رسول الله) وكانوا احق بها وأهلها (لأن الله تعالى اختار لدينه وصحبة نبيه أهل الفضل والخير) وكان الله بكل شيء عليماً"(1/168)
5- صلاة التراويح
التراويح جمع ترويحة، وهي في الأصل الجلسة بعد أربع ركعاتٍ للاستراحةِ ثم سمي كل أربع ركعات ترويحة مجازا لما يعقبها من الترويحة (قالت) عائشةُ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي أربع ركعات في الليل ثم يتروح، فأطال حتى رحمته، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: أفلا أكونُ عبداً شكوراً. أخرجه البيهقي وقال: تفرد به المغيرة بن زياد وليس بالقوي. وقولها: ثم يتروح إن ثبت فهو أصل في تروح الإمام في صلاة التراويح(1) {177} ويؤيده (قول) زيد بن وهب: كان عمر ابن الخطاب يروحنا في رمضان- يَعْني بين الترويحين- قَدْر ما يذهب الرجل من المسجد الى سلع. أخرجه البيهقي وقال: كذا قال. ولعله أَرَادَ مَنْ يُصَلِّي بهم التراويح بأمْرِ عُمَر(2) {28}.
هذا. وتسمى التراويح قيامَ رمضان. والكلام هنا في ثمانية فروع.
1- وقتها :
هو بعد صلاة العشاء إلى آخر الليل قبل الوتر وبعده. والأفضل أن تصلي قبل الوتر وبعد سنة العشاء. وهو قول الجمهور.
(وقال) بعض الحنفيين: وقتها ما بين صلاة العشاء والوتر. لأن السلف ما صلوها الا بعد العشاء قبل الوتر. وعليه العمل إلى اليوم. فلو صلاها قبل العشاء لا تجوز عند الكلّ. وكذا لو صلاها بعد الوتر على القول الثاني.
__________
(1) ص 497 ج2 سنن البيهقي ( عدد ركعات القيام في رمضان ). و ( سلع ) بفتح فسكون : جبل شمال المدينة. ( انظر رسم 10 ص322- ارشاد الناسك).
(2) ص 497 ج2 سنن البيهقي ( عدد ركعات القيام في رمضان ). و ( سلع ) بفتح فسكون: جبل شمال المدينة. ( انظر رسم 10 ص322- ارشاد الناسك).(1/169)
والراجح الأول (قال) العلامة الحلبي: وقال القاضي أبو علي النسفي: الصحيح أن وقتها بعد العشاء لا تجوز قبلها، سواءٌ أكانت بعد الوتر ام قبله وهو المختار، لأنها نافلة سنت بعد العشاء بفعل الصحابة وهو المنقول من فعله عليه الصلاة والسلام، فكانت تبعاً لها كسنتها. وتقديم الصحابة لها على الوتر لا يفيد عدم جوازها بعده لاحتمال أنه بناءً على استحباب تأخيره مطلقاً لمن يأمن فواته، واستحباب جعله آخر صلاة الليل. فيجوز أداؤها بعده كما يجوز أداء غيرها من قيام الليل.
(ثم) المستحب تأخيرها الى ثلث الليل او نصفه كما في العشاء (واختلف) في ادائها بعد النصف، فقيل يكره لكونها تبعاً للعشاء. والصحيح أنه لا يكره لأنها من صلاة الليل، والأفضل فيها التأخير، وينبني على أنها تبع للعشاء لا تجوز قبلها، أنه لو صلى العشاء مع إمامٍ وصلى التراويح مع إمامِ آخر، ثم علم أن الإمام الأول قد صلى العشاءَ على غير وضوءٍ، أو علم فسادها بوجهٍ من الوجوه، فإنه يعيد العشاءَ لفسادها ويعيدُ التراويح تبعاً لها كما يعيد سنتها. ولا يلزمه إعادة الوتر في مثل هذه الصورة عند أبي حنيفة لاستقلاله وعدم تبعيته للعشاء عنده.
وإنما يلزم تقديمها عليه للترتيب. فإذا فاتَ الترتيب من غير قَصْدٍ لا يلزمه الإعادةَ (وقال) أبو يوسُف ومُحمد: الوتر أيضاً تَبَع للعشاءِ فتلزمه إعادتِه بإعادتِها كسُنَّتها، وهو مبنيّ على وُجُوبِ الوتر عندهُ لا عندهما(1) وبقولهما قال الجمهور.
(
__________
(1) ص403 غنية المتملي (التراويح) و ص277 ج1 كشاف القناع.(1/170)
قال) الشيخ منصور بن إدريس: فمنْ صلى العشاءَ ثم التراويح ثم ذَكَر أنه صَلَّى العشاءَ محدثاً أعَادَ التراويح، لأنها سُنَّة تفعل بعد مكتوبة فلا تصحّ قبلها كسُنَّة العشاءِ، وإنْ طَلَعَ الفجرُ فاتَ وقتها. وظاهر كلامهم أنها لا تُقْضَى. وإن صلى التراويح بعد العشاءِ وقبل سنتها صحَّ جزماً، ولكنَّ الأفضل فعلها بعد السنة قبل الوتر(1) .
2- حكم صلاة التراويح :
هي سنة مؤكدة اتفاقاً للرجال والنساء "لقول" أبي هريرة: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمر فيه بعزيمة فيقول: من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه. أخرجه السبعة(2) {
__________
(1) ص403 غنية المتملي (التراويح) و ص 277 ج1 كشاف القناع.
(2) يأتي الصيام رقم 41 ص283 ج8 دين. وإيماناً: أي تصديقاً بأنه حق، واحتساباً: أي قاصدا بعمله وجه الله تعالى دون غيره (وقد) ورد في غفران ما تقدم من الذنوب وما تأخر احاديث كثيرة. أفردها الحافظ ابن حجر برسالة سماها (الخصال المكفرة، للذنوب المتقدمة والمتأخرة) وذكر فيها ست عشرة خصلة، وهي الحج، وإسباغ الوضوء، وإجابة المؤذن، وموافقة الملائكة في التأمين بعد الفاتحة، وصلاة الضحى، وقراءة الاخلاص والمعوذتين سبعاً سبعاً بعد سلام الإمام من الجمعة قبل أن يثني رجله، وقيام ليلة القدر، وقيام رمضان وصيامه، وصوم عرفة، والحج والعمرة من المسجد الأقصى الى المسجد الحرام، ومن جاء حاجاً يريد وجه الله، ومن قضى نسكه وسلم المسلمون من لسانه ويده، ومن قرأ آخر الحشر، ومن قاد أعمى أربعين خطوة، ومن سعى لأخيه المسلم في حاجة، ومن التقيا فتصافحا وصليا على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن اكل او لبس فحمد الله وتبرأ من الحول والقوة. ذكره المناوي في فيض القدير.
(
وظاهر) الحديث يشمل الصغائر والكبائر. وبه جزم ابن المنذر. وقال الأكثر: المراد الصغائر فقط. وبه جزم إمام الحرمين (وقال) النووي: هو المعروف عند الفقهاء، وهو مذهب أهل السنة (ومعنى) غفران الذنوب المتأخرة أنه يحفظ من الوقوع في الذنب، او انه ان وقع يقع مغفوراً.(1/171)
178}. والمراد بقيام رمضان إحياء لياليه بالصلاة، ويحصل بمطلق الطاعة فلا يشترط فيه استغراق جميع الليل بالصلاة.
(روى) إبراهيم النخعي عن عائشة أنها كانت تؤم النساء في رمضان تطوعاً وتقومُ في وسط الصف. أخرجه أبو يُوسُف في الآثار(1) {29}.
وقال العلامة ابن نجم: وذكر في الاختيار أن أبا يوسف سأل أبا حنيفة عن التراويح وما فعله عُمَر. فقال: التراويح سنة مؤكدة ولم يتخرصه عُمَر من تلقاء نفسه، ولم يكُنف يه مبتدعاً ولم يَأْمُر به إلا عن أَصْل لَدَيْه وعهدٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم(2) .
وقال النووي: اجتمعت الامة على أن قيام رمضانَ ليسَ بواجبٍ، بل هُوَ مَنْدُوبٌ. ويَحْصُل بصلاةِ التراويح، أي أنه يحصل بها المطلوب من القيام، لا أن قيام رمضان لا يكون الا بها.
(وقد) سنه النبي صلى الله عليه وسلم وأقامه في بعض الليالي ثم تركه خَشْيَةَ أن يفرضَ على أمتِه (قالت) عائشةُ رضي الله عنها: صلى النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فصلى بصلاته ناسٌ كثير، ثم صلى من القابلة فكثروا، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة فلم يخرج اليهم. فلما أصبح قال: قد رأيت صنيعكم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تُفْرَض عليكم، وذلك في رمضان. أخرجه مالك والسِّتة الا الترمذي(3) {179}.
(
__________
(1) تقدم أثر رقم 27 ص40 ج3 دين (جماعة النساء).
(2) ص66 ج2 البحر الرائق (وسن في رمضان عشرون ركعة).
(3) ص214 ج2 تيسير الوصول (صلاة التراويح) و (عبد) منون، و (القاريء) مشدد الياء، نسبة الى القارة قبيلة سميت باسم أبيها القارة بن الديش.(1/172)
ثم وقعت) المواظبة عليه في خلافةِ عُمر ووافَقَهُ عامَّة الصحابة رضي الله تعالى عنهم (قال) عبد الرحمن بن عَبْدٍ القاريّ: خرجتُ مع عُمَر ابن الخطاب ليلةً في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاعٌ متفرقون، يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط. فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قاريء واحدٍ لكان أمثل. ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب. ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاةِ قارئِهم. فقال عمر: نِعْمَت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله. أخرجه مالك والبخاري والبيهقي وعبد الرازق(1) {30}.
(وهو) صريح في أن الصلاة آخر الليل أفضل من أوله. وأراد عمر رضي الله عنه بالبدعة الأمر البديع الجميل، وهو احياء سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وهي صلاة التراويح جماعةً على قاريءٍ واحدٍ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وتركه خشية الافتراض، لا البدعة في العبادة؛ لأن كل بدعة فيها ضلالة "لقوله" صلى الله عليه وسلم: وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار(2) خلافاً لما يزعمه بعض المجازفين الجاهلين من أن البدعة في العبادة قد تكون مستحسنة، ويستدلون على زعمهم بقول سيدنا عمر رضي الله عنه: نعمت البدعة هذه. وكيف يتوهم من عنده أدنى إلمام بشيء من أحكام الدين وأحوال الصحابة رضي الله عنهم أن العبادة يدخلها شيءٌ من البدع، او يقول أحد الصحابة بحسنها بعد ( قول ) النبي صلى الله عليه وسلم المذكور ونحوه من الأحاديث الصحيحة الصريحة في ذم البدعة والعاملين بها، وأن دخولها في العبادة يبطلها.
3- عدد ركعات التراويح :-
__________
(1) ص214 ج1 زرقاني الموطأ (قيام رمضان) و ص 179 ج4 فح الباري (صلاة التراويح) وص 493 ج2 سنن البيهقي (قيام رمضان).
(2) هو بعض حديث، أخرجه مسلم وغيره، تقدم تاماً رقم 135 ص88 ج2 دين (بدع الاذان) ورقم 194 ص202 ج4 دين طبعة ثانية (سنن الخطبة).(1/173)
هي عشرون ركعة، المسنون منها ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وهو ثماني ركعاتٍ، والزائد مستحب (أما) أنها عشرون ركعة "فلقول" السائب بن يزيد: كانوا يقومون على عهد عمر في شهر رمضان بعشرين ركعة، قال: وكانوا يقرءون بالمئين من القرآن، وكانوا يتوكئون على عصيهم في عهد عثمان من شدة القيام. أخرجه البيهقي(1) {31} "ولقول" يزيد بن رومان: كان الناس يقومون في زمن عمر بن الخطاب بثلاثٍ وعشرين ركعة. أخرجه مالك في الموطإِ ومحمد بن نصر والبيهقي(2) {32} ( وقال ) السائب بن يزيد: أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوموا للناس بإحدى عشرة ركعة، وكان القاريء يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمدُ على العصيّ من طولِ القيام ( الأثَر ) أخرجها مالك والبيهقي(3) {33} وقال : يجمع بين الروايتين بأنهم كانُوا يقُومُون بإحدَى عشرة ثم قاموا بِعِشرينَ وأوترُوا بثلاثٍ. اهـ. وقال الترمذيك وأكْثر أهل العلم على ما رُوي عن عمر وعليّ وغيرهما من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّها عشرون ركعة. وهو قول الثوري وابن المبارك والشافعي وقال: هكذا أدركت النَّاس بمكَّةَ يُصَلَّون عشرين ركعة. اهـ. وبه أيضاً قال الحنفيون وأحمد وداود الظاهري.
(
__________
(1) ص496 ج2 سنن البيهقي (عدد ركعات القيام في رمضان).
(2) ص216 ج1 زرقاني الموطإ (قيام رمضان) و ص496 ج2 بيهقي.
(3) ص215 ج1 زرقاني الموطإ (قيام رمضان) و ص496 ج2 بيهقي (عدد ركعات القيام في رمضان).(1/174)
وأمَّا) أنَّ المسنُون منها ثماني ركعات "فلقَوْل" جابر: صَلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضانَ ليلةً ثماني ركعاتٍ وأوتَر. فلَمَّا كانت القابِلَة اجتمعْنَا في المسجد ورَجَوْنَا أن يخرُج إلينا، فلم نَزَلْ فيه حتى أصبحنا. ثم دخلنا فقلنا : يا رسول الله اجتمعنا في المسجد ورجونا أن تصلي بنا. فقال: إني كرهت أو خشيت ان يكتب عليكم الوتر. أخرجه مُحمد بن نصر وأبو يعلي والطبراني في الصَّغير. وفي سَنَدِه عِيسَى ابن جارية، وثَّقَهُ ابن حبان وغيره . وضَعَّفَهُ ابن معين. قاله الهيثمي(1) {180} " ولقول " عائشةَ : ما كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَزِيدُ في رمضانَ ولا في غيره على إحْدَى عشرة ركْعة يُصَلِّي أَربعاً فلا تسأَل عن حُسْنِهنَّ وطُولِهنَّ ، ثم يُصَلِّي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي ثلاثاً . ( الحديث ) أخرجه الجماعة(2) {181}. والثلاث هي الوتر.
(وبهذا) قال المحدثون والمحققون من الفقهاء (قال) ابن نجيم الحنفي: ذَكَرَ المحقق (يَعْني الكمال ابن الهمام) في الفَتْح ما حاصِله أنَّ الدليل يقتضي أن تكون السنة من العشرين ما فعله صلى الله عليه وسلم ثم تركه خشية أن يكتب علينا، والباقي مستحب. وقد ثبتَ أن ذلك كان إحدى عشرة ركْعة بالوتر كما في الصحيحين. فإذن يكون المسنون على أصول مشايخنا ثمانية منها والمستحب اثنتى عشرة (3) .
(
__________
(1) ص90 قيام الليل (صلاة النبي صلى الله عليه وسلم جماعة ليلاً في رمضان)، ص 172 ج3 مجمع الزوائد (قيام رمضان).
(2) ص221 ج1 زرقاني الموطإ (صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الوتر)، و ص 16 ج5 الفتح الرباني، و ص 181 ج4 فتح الباري (فضل من قام رمضان)، و ص 248 ج1 مجتبي (كيف الوتر بثلاث؟)، و ص 269 ج7 المنهل العذب (صلاة الليل)، و ص 332 ج1 تحفة الاحوذي (وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل).
(3) ص66 ج2 البحر الرائق (وسن في رمضان عشرون ركعة).(1/175)
وقال) العلامة محمد الصنعاني: وأما الكمية وهي جعلها عشرين ركعة فليس فيه حديث مرفوع الا ما رواه عبدٌ بن حميد والطبراني من طريق أبي شيبة إبراهيم بن عثمان بسنده إلى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في رمضان عشرينَ ركْعة والوتر {182} ( وقال ) في سُبل الرشاد: أبو شيبة ضعفه أحمد وابن معين والخمسة وغيرهم. وكَذَّبه شُعْبة. وقال ابن معين ليس بثقة. وعُدّ هذا الحديث من منكراتِه ( وقال ) الأذرعي في المتوسط "وأما" ما نُقِلَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بهم في تلك الليلة عشرين ركعة لم تصحّ، بل الثَّابت في الصَّحِيح الصَّلاة مِنْ غير ذِكْر الْعَدَد(1) ( ثم قال ) إذا عرفت هذا علمتَ أنهُ ليس في العشرين روايةً مرفوعة، بل الثابت حديث عائشةَ المتفق عليه أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم ما كانَ يزيدُ في رمضانَ ولا غيره على إحدى عشرةَ ركعة ( فعرفت ) من هذا كله أنَّ صلاة التراويح على هذا الأسلوب الذي اتفق عليه الأكثر بدعة. نعم قيام رمضان سنة بلا خلاف. والجماعة في نافلتِه لا تنكر. وقد ائتمَّ ابن عباسٍ رضيَ الله عنهما وغيره بِهِ صلى الله عليه وسلم في صلاةِ الليل (لكن) جعل هذه الكيفية والكمية سُنَّة والمحافظة عليها، هو الذي نقول: إنَّه بدعة ( وهذا ) عُمَر رضي الله عنه خَرَجَ أولاً والناس أوزاعٌ متفرقون، منهم من يصلي منفرداً، ومنهم من يصلي جماعةً على ما كانوا في عصره صلى الله عليه وسلم، وخيرُ الأُمُورِ ما كَانَ على عهدِهِ عليه الصلاة والسلام(2) .
(
__________
(1) ص12 ج2 سبل السلام (تعيين قيام رمضان بعشرين بدعة).
(2) ص13 منه (ما ورد أنه صلى الله عليه وسلم صلى القيام عشرين ركعة غير صحيح).(1/176)
وقال) بعضهم: عدد ركعات التراويح عشر غير الوتر "لقول" السائب بن يزيد: كنا نصلي في زمن عمر بن الخطاب في رمضان ثلاث عشرة ركعة، ولكن واللهِ ما كنا نخرج الا في وجاه الصبح، كان القاريءُ يقرأ في كلِّ ركعة بخمسين آية، ستين آية. أخرجه مُحمد بن نصر ومُحمد بن إسحاق وقال: وما سمعتُ في ذلك حديثاً هو أثبتُ عِندِي ولا أحْرَى بأَن يكُون من حَديثِ السائب. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانَتْ له من الليل ثلاث عشرة ركعة(1) {34}.
(وعن) مالكٍ أن عددها ستٌّ وثلاثون ركعة غير الوتر ( قال ) نافع مولى ابن عمر: لم أدرك الناس إلا وهم يصلون تسعاً وثلاثين ركعة ويوترون منها بثلاثٍ. ذكره محمد بن نصر. وذكره في المدونة (2) {35}.
( قال ) الزرقاني : وذَكَر ابن حبيب أن التراويح كانتْ أولاً إحْدَى عشرة ركعة، كانُوا يُطيلون القراءةَ فثقل عليهم فخففوا القراءةَ وزادوا في عدد الركعات، فكانوا يصلون عشرين ركعة غير الشفع والوتر بقراءةٍ متوسطة، ثم خففوا القراءة وجعلوا الركعات ستاً وثلاثين غير الشفع والوتر . ومضى الأمر على ذلك(3) .
والسبب في أن أهل المدينة كانوا يصلونها ستاً وثلاثين أن أهل مكة كانوا يطوفون بالكعبة بين كل ترويحتين، ولا يطوفون بعد الترويحة الخامسة، فأراد أهلُ المدينة مساواتهم فجعلوا مكانَ كل طوافٍ أربع ركعات، فزادوا على العشرين سِتّ عشرة ركعة.
(
__________
(1) ص 91 و 92 قيام الليل ( عدد الركعات التي يقوم بها الامام للناس في رمضان ) و ( وجاه ) بكسر الوار، وتضم، أي ما كنا نخرج الا في مقابل ( الصبح ).
(2) ص 91 و 92 قيام الليل (عدد الركعات التي يقوم بها الامام للناس في رمضان) و (وجاه) بكسر الوار، وتضم، أي ما كنا نخرج الا في مقابل (الصبح).
(3) ص216 ج1 شرح الموطإ (قيام رمضان).(1/177)
قال) الحافظ: والجمع بين هذه الروايات مُمْكِن باختلافِ الأحْوَال ويُحْتَمَلُ أَنَّ ذلك الاختلاف بحَسبِ تَطْويل القراءَةِ وتخفيفها. فَحَيْثُ يُطِيلُ القراءة تقل الركعات وبالعكس. قال: والاختلاف فيما زاد عن العشرين راجعٌ إلى الاختلاف في الوتر. فكأنه كان تارةٌ يُوتِرُ بواحدة وتارةً بثلاثٍ (وقال) الشافعي: رأيتُ الناس يقُومُون بالمدينة بتِسْع وثلاثين وبمكَّةَ بثلاثٍ وعشرين (يعني بالوتر وهو ثلاث ركعات) قال: وليس في شيء من ذلك ضَيْق(1) .
(هذا) مُجْمل ما قِيلَ في عَدَدِ التراويح. والعمل بما كَانَ في زَمَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وأَوَّل خلافةِ عُمَر، أَوْلَى وأَفْضَل. فتصلي ثماني ركعات أو عشراً غير الوتر. ويليه في الفضل صلاتها عشرين عملاً بما كان في آخر زمن عمر وزمن عثمان وعليّ، فإنَّ قيام الليل مرغب فيه ولم يرد فيه تحديد من الشارع (وقد) قال النبي صلى الله عليه وسلم: فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ (الحديث) أخرجه أحمد والأربعة إلا النسائي عن العرباض ابن سارية. وصحَّحه الحاكم وقال: على شرط الشَّيْخين، وقال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ صحيح(2) {183}. (وقال) صلى الله عليه وسلم: اقتدوا باللذين من بعدي أبو بكر وعمر. أخرجه أحمد وابن ماجه وابن حبان والترمذي وحسّنه عن حذيفة(3) {184}. وله طُرُق فيها مَقَال إلا أنه يقوي بعضها بعضاً.
4 و 5 – مكان التراويح والجماعة فيها :
__________
(1) ص180 ج4 فتح الباري (فضل من قام رمضان).
(2) ص188 ج1 الفتح الرباني، و ص24 ج1 تيسير الوصول (الاستمساك بالكتاب والسنة)، و ص10 و 11 ج1 سنن ابن ماجه (اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين)، و ص96 ج1 مستدرك.
(3) ص383 ج5 مسند أحمد، و ص 74 ج3 تيسير الوصول (ما اشترك فيه جماعة منهم) أي من الصحابة.(1/178)
الأفضل صلاتها في المسجد جماعةً، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه صَلُّوها به جماعةً ( قالت ) عائشة رضِيَ الله عنها: خَرَجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليلةً من جَوْفِ الليل فَصَلَّى في المسجد فَثَابَ رِجَالٌ فَصَلُّوا معه بصَلاتِه، فلما أصبح الناس تحدثوا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد خرج فَصَلَّى في المسجد من جَوْفِ الليل، فاجتمعَ الليلةَ المقبلة أكثر منهم. قالت: فخرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم فصلى وصلوا معه بصلاته. ثم أصبح فتحدثوا بذلك، فاجتمع الليلة الثالثةَ ناسٌ كثيرٌ حتى كَثُر أهل المسجد، فخرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم من جَوْفِ الليل فَصَلى فصلوا معه. فلما كانت الليلة الرابعة اجتمعَ الناس حتى كادَ المسجدُ يعجزُ عن أهلهِ، فجلس النبيُّ صلى الله عليه وسلم فلمْ يخرجْ حتى سمعتُ ناساً منهم يقولون: الصلاة الصلاة، فلم يخرج إليهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم. فَلَمَّا صلى صلاة الفجر سلم ثم قام في الناس فتشهد ثم قال: أما بعد فإنه لم يخفَ علىَّ شأنكُم الليلة، ولكني خشيتُ أن تفرضَ عليكُم فتعجزوا عنها. أخرجه البيهقي وأحمد والشيخان(1) {185}.
(
__________
(1) ص493 ج2 سنن البيهقي (قيام رمضان)، و ص 6 ج5 الفتح الرباني. و ص 181 ج4 فتح الباري (فضل من قام رمضان)، و ص 42 ج6 نووي مسلم (الترغيب في صلاة التراويح). و (ثابوا) أي رجعوا الى المسجد بعد خروجهم منه.(1/179)
وَرَوَى) مُسْلم بن خالد عن العلاءِ بن عبد الرحمن عن أَبيه عن أَبي هُريرةَ قال: خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فإذا أُنَاسٌ في رمضانَ يُصَلُّون في ناحيةِ المسجد. فقال: ما هؤلاءِ؟ فقيل: هؤلاءِ ناسٌ ليس معهم قرآن وأُبيّ بن كَعْب يُصَلّي وهم يصلون بصلاته. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أصابوا ونعم ما صنعوا. أخرجه محمد بن نصر وأبو داود وقال: ليس هذا الحديث بالقويّ، مسلم بن خالد ضعيف. اهـ. لكن وثقه ابن حبان وابن معين والدار قطني(1) {186}.
(
__________
(1) ص316 ج7 المنهل العذب (قيام شهر رمضان) و ص 90 قيام الليل.(1/180)
وقالت) عائشة: كانَ الناسُ يصلون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان بالليل أوزاعاً يكونُ مع الرجل شيءٌ من القرآن فيكون معه النفر الخمسة أو الستة أو أقل من ذلك أو أكثر، فيصلون بصلاته، فأمرني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليلة من ذلك أن أنصب له حصيراً على بابِ حُجْرَتي. ففعلتُ، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعد أنْ صلى العشاء الآخرةَ، فاجتَمَعَ إليه من في المسجد فَصَلَّى بهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليلاً طويلاً ثم انصَرفَ فدخل وترك الحصِير على حالِه. فلَمَّا أصْبَحَ النَّاسُ تحدثوا بصلاةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بمن كان معه في المسجد تلك الليلة، وأمسى المسجد راجا بالناس فصلى بهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم العشاءَ الآخِرَة. ثم دخل بينه وثبت الناس، فقال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ما شَأْنُ الناس يا عائشة؟ فقلت له: سَمِعَ الناس بصلاتك البارِحَةَ بمن كان في المسجد فحشَدُوا لذلك لتصلي بهم. فقال: اطوِي عنا حصيرك يا عائشة، ففعلت وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم غير غافِل وثبت الناس مكانهم حتى خرج إلى الصبح فقال: يأيها الناس، أما والله ما بِتُّ والحمد لله ليلتي هذه غافلاً، وما خَفِيَ عليَّ مكانكُم، ولكن تخوفت أن يفترض عليكم فاكفلوا مِنَ الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لا يملّ حتى تملُّوا. أخرجه أحمد ومحمد بن نصر وكذا أبو داود مختصراً (1) {187}.
(
__________
(1) ص7 ج5 الفتح الرباني، و ص 312 ج7 المنهل العذب (قيام شهر رمضان)، و ص 88 قيام الليل. و (راجاً) بالراء والجيم المشددة، أي غاصاً بالناس ذا حركة شديدة وفي رواية: زاخاً، بالزاي والخاء المعجمة، أي ممتلئاً بالناس ودافعاً لهم لكثرة ازدحامهم (فاكفلوا) أمر من كلف به من باب تعب إذا ولع به وأحبه، يعني إذا أحببتم شيئاً من عمل الخير فراعوا فيه جانب الاقتصاد خوفاً من الملل.(1/181)
فقد دلَّت) هذه الأحاديث على أَنَّ عدَم خُرُوجِه صلى الله عليه وسلم إليهم، إنما كان لخَشْيَة افتراض قيام رمضان. وليس في عَدَم خُروجه دلالةً على المنْع من إِقامة التراويح في المسجد جماعةً (فقد) فَعَلَهُ صلى الله عليه وسلم وأَقَرَّ أَصحابه عليه. وإِنما تركه لمعنى قد أَمِن بوفاتِه صلى الله عليه وسلم، وهو خَشْية الافتراض.
(ولهذا) قال الجمهور ومنهم الحنفيون والشافعي وأَحمد وبعض المالكية: الأفْضَل صلاةُ التراويح جماعةً في المسجد. وروي عن عليّ، وابن مسعود وأُبيّ بن كَعْب وغيرهم ( قال ) زيد بن وَهْب: كان عبد الله ابن مسعودٍ يُصَلِّي بنا في شهر رمضان فننصَرِف بِليل. أخرجه الطبراني في الكبير بسَنَدٍ رجاله رجال الصَّحيح(1) {36}.
(وقد) أمَرَ به عُمَر رضي الله عنه واسْتَمَرَّ عليه عملُ الصَّحابة وسائر المسلمين، وصَارَ مِنَ الشَّعَائر الظاهرة كصلاةِ العِيد (قال) ابن عبد البر: وهذا كُله يدل على أنَّ قيام رمضان جائز أنْ يُضافَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم لِحَضِّه عليه وعمله به، وأنَّ عُمَر إنما سنَّ منه ما قَدْ سَنَّهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم اهـ.
(
__________
(1) ص172 ج3 مجمع الزوائد (قيام رمضان).(1/182)
والمشهور) عن مالك وأبي يوسف وبعض الشافعية أنَّ الأفضل صلاتها فُرَادَى في البيت إِنْ لم تُعَطَّل المساجد، لما تَقَدَّم عن زيد بن ثابت أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: صلاةُ المرْءِ في بَيْتِه أَفْضَلُ من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة. أخرجه أحمد والثلاثة(1) {188} ، ولأنه صلى الله عليه وسلم وَاظَبَ على صلاتها فرادى في بيته ولم يخرج إلا بعض ليالٍ لبيان الجواز. وتوفي والأمر على ذلك. ثم كانَ كَذلِكَ في خلافةِ أبي بكر وصدراً من خلافةِ عُمَر. وإنما وَقَعَ التغيير في خلافته سنة أربع عشرة من الهجرة ( واعترف ) عُمَر بأَنَّ صَلاتها في المسجد جماعة مفضُولة، لما تقَدَّم عن عبد الرحمن بن عَبْدٍ القاريّ من قول عُمَر: والتي ينامون عنها أفضل مِنَ التي يقومون. أخرجه البخاري وغيره(2) .
( وعن ) زيد بن ثابت : أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم اتخذ حجرةً في المسجد مِنْ حصيرٍ فَصَلَّى صلى الله عليه وسلم فيها ليَالي حتى اجتمع إليه الناس ، ثم فَقَدُوا صَوْتَهُ ليلةً فظَنُّوا أَنه قد نامَ ، فَجَعَلَ بعضُهم يتنحنحُ ليخرج إليهم، فقال : ما زال بِكُم الذي رأيتُ من صَنِيعكم حتى خشيتُ أَنْ يُكْتَبَ عليكُم، ولو كُتِبَ عليكُم ما قُمتم به، فَصَلُّوا أيها الناس في بيوتكم ، فإن أفضل صلاة المرءِ في بيته إلا الصلاة المكتوبة . أخرجه أحمد والشيخان والنسائي(3) {189}.
(
__________
(1) تقدم رقم 141 هامش 2 ص125 (سبب الخلاف في سنية الجماعة في صلاة الخسوف).
(2) تقدم بالأثر رقم 30 ص157 (قال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قاريء واحد).
(3) ص182 ج5 مسند احمد، وص 146 ج2 فتح الباري (صلاة الليل) و ص 69 ج6 نووي مسلم (صلاة النافلة في البيت) و ص 237 ج1 مجتبي ( قيام الليل ).(1/183)
وحكى) هذا القول الطحاوي عن ابن عمر وإبراهيم النخعي وعروة وسعيد بن جبير والقاسم وسالم ونافع وغيرهم وقال: فهؤلاءِ كًلُّهم يفضل صلاته وحده في شهر رمضان على صلاتِه مع الإمام. وذلك هو الصواب. اهـ. (وأَجَاب) الجمهور:
(أ) بأن حديث أفضلية صلاةِ النافِلة في البيت، مخصوصٌ بغير ما شرعت فيه الجماعة من النَّوافِل كالعِيد والتراويح. فقد صَلاَّها النبيُّ صلى الله عليه وسلم في المسجد جماعة ، وأَقَرّ الصَّحابة على ذلك كما تقَدَّم.
(ب) وبأَنَّ ترك المواظَبة على الجماعة في التراويح إِنما كان المعنى، وقد زالَ كما تقَدَّم.
(جـ) وبأَنَّ عُمَر رَضِيَ الله عنه لم يعترف بأَنَّ الجماعة مَفْضولة.
"وقوله" والتي ينامونَ عنها أفضل "ليس" فيه ترجيح الانفراد ولا ترجيح فعلها في البيت. وإنما فهي ترجيح آخر الليل على أوله كما صرح به الراوي بقوله: يريد آخر الليل (قال) الطحاوي: وكل من اختار التفرد فينبغي أن يكون ذلك على ألاَّ ينقطع معه القيام في المسجد. فأَمَّا الذي ينقَطِعُ معه القيام في المسجد فَلاَ.
(وفصل) بعضُ الشافعية فقال: إِنْ كانَ حافظاً للقرآن ولا يَخَافُ الكَسَلَ عنها ولا تختلُّ الجماعة في المسجد بتخلفه؛ فالانفراد أفضل، وإن فَقَدَ بعض هذا فالجماعة أفضل.
(فائدة) يُسْتَحَبُّ لمنْ يُوتِر قبل أن ينامَ أنْ يصلي الوتر في رمضان جماعة.
(وتقدم) بيانه وافياً في بحثي "الجماعة في الوتر" و "الجماعة في غير الصلوات الخمس"(1) .
6- القراءة في التراويح :
__________
(1) انظر ص20 و ص 38 ج3 دين. طبعة ثانية.(1/184)
الأفضلُ أن يَقْرَأَ فيها كُلّ القرآن في جميع الشهر، فيقرأُ في كُلِّ ليلةٍ نحو جُزْءٍ من ثلاثين، ولا يترك ذلك لِكَسَل القَوْم (قال) كمال الدين بن الهمام: قوله: ولا يترك لِكَسَل القَوْم، تأْكِيد في مطلوبية الختم وأَنه تخفيف على الناس لا تَطْوِيل كما صَرَّح به في النهاية. وإِذا كَانَ إِمام مسجد حَيِّه لا يختم فله أَن يتركَهُ إِلى غيره(1) .
( وقيل ) يقرأُ في كل ركْعة عِشْرِين آية إلى ثلاثين آية كما أَمَرَ عُمَر بن الخطاب الأَئِمَّة "قال" أَبو عثمان النهدي: دَعَا عُمَر بن الخطاب بثلاثة من القراءِ فاسْتَقْرَأَهُم ، فأَمر أَسْرَعَهُم قِرَاءَةً أَن يقرأَ ثلاثين آية، وأمرَ أوسطهم أن يقرأ خمساً وعشرين، وأمر أبطأهم أن يقرأ للناس في رمضان عشرين آية.رواه مُحمد بن نصر والبيهقي(2){37} ( والأَمر ) في ذلك وَاسِع فليفعل الإِمام ما لا يؤدي إِلى نُفُورِ القَوْم مع مراعاةِ ما يُطْلَب لها من سُنَن وآداب.
__________
(1) ص325 ج1 فتح القدير ( قيام رمضان ) .
(2) ص92 ( قيام الليل ) و ص 497 ج2 سنن البيهقي ( قدر قراءتهم في قيام شهر رمضان ) .(1/185)
" ومن " وقف على ما كان عليه السلف الصالح من الاهتمام بها وإطالةِ القراءَةِ فيها والاطمئنانِ في باقي الأَركان مع تمام الخشُوع حتى كانُوا لا يَنْصَرِفُون منها إلاَّ قُبَيْلَ الفَجْر "عرف" أَنه خَلَفَ مِنْ بَعْدِهم خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاة واتَّبَعُوا الشَّهَوَات ( وقد ) كان السَّلَف يُرَاعُونَ حَالَ القَوْم من النَّشَاطِ وعَدَمِه ( قال ) السائب بن يزيد : أَمَرَ عُمَر بن الخطاب أُبَىّ ابن كَعْب وتميماً الدارى أَن يَقُوما للناس فى رمضان ، فكان القارئُ يَقْرَأُ بالمائتين حتى كُنَّا نَعْتَمِدُ على العِصِىّ من طول القيام وما كُنَّا نَنْصَرِف إِلاَّ فى فروع الفجر . وفى نسخة : إِلاَّ فى بُزُوغ الفجر . أَخرجه مالك ، وعبد الرزاق وسعيد بن منصور والطحاوى والبيهقى ومحمد بن نصر (1) {38} .
... ( فانظر ) هذا وما اعْتَادَهُ أَئِمَّة زَمَانِنا فى صَلاتِهم التراويح وغيرها مِنَ الإِسراع فى القراءَةِ وتقليلها وتخفيف الأَركان ، وعدم الاطمئنان فيها ، وترك دعاءِ الاستفتاح وأَذكار الأَركان ، وترك الصَّلاةِ على النبىِّ صلى الله عليه وسلم وعلى الآلِ بعد التَّشَهُّدِ وإِسراعهم السَّلام وعَدَم الخشُوع .
__________
(1) ص 215 ج 1 زرقانى الموطإ ( قيام رمضان ) وص 496 ج 2 سنن البيهقى ( عدد ركعات القيام فى رمضان ) ، وص 92 قيام الليل ( مقدار القراءة فى قيام رمضان ) .(1/186)
... ( وسبب ) كُلّ هذا إِهمال السُّنن وانْدِرَاسِها ، لقِلَّة العمل بها حتى صَارَ العاملُ بها مُجَهَّلاً عند كَثِيرً مِنَ الناس بمخالفتِه ما عليه أَهْل عَصْره . فأَصبح المعروف لَدَيْهم مُنْكَراً ، والمنْكَر مَعْرُوفاً . فأَيْنَ هُم ( من قول ) اله تعالى : " قَد أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فىِ صَلآتِهِمْ خَاشِعُونَ " . ( وقول ) النبىِّ صلى الله عليه وعلى آلأه وسلم : صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونى أُصَلِّى . أَخرجه أَحمد والبخارى عن مالك بن الحويرث(1) {190} .
... ( وقال ) ميمون بن مهران : أَدركت الناس إِذا قرأَ – يعنى الإِمام – خمسين آية قالوا : إِنه ليخفف . وأَدركت القُرَّاءَ فى رمضان يقرءُون القصة كلها قَصُرَتْ أَوْ طَالَتْ . فأَمَّا اليوم فإِنى أَقْشَعِرُّ من قراءَة أَحَدهم ،ن يقرأُ : وإِذا قِيلَ لهم لا تُفْسِدُوا فى الأَرض قالوا : إِنما نَحْنُ مُصْلِحُون . ثم يقرأُ فى الركعة الأُخرى : غَيْر المغْضُوب عَلَيْهم ولا الضَّالِّين . أَلآ إِنَّهُم هَم المفْسِدُون . ذَكَرَه مُحمد بن نصر(2) .
(
__________
(1) ص 227 ج 5 الفتح الربانى ، وص 76 ج 2 فتح البارى ( الأذان للمسافرين ) والمذكور بعض الحديث .
(2) ص 93 قيام الليل ( مقدار القراءة فى قيام رمضان ) وأعجب من هذا ما أخبر به موظف بمصلحة المساحة أنه كان يصلى قيام رمضان مع مسجد شهير بالقاهرة ، فبلغ من شدة سرعة الإمام بهم أن قرأ فى الركعة الأولى من ركعات التراويح بعد الفاتحة ( الذين قالوا ) وركع . وفى الركعة الثانية بعد الفاتحة ( إنا نصارى ) وركع .(1/187)
فعَلَى العاقل ) أَنْ يَعَمَلَ بما كَانَ عليه النبىُّ صلى الله عليه وسلم وأَصحابه والسَّلَف الصَّالح ، وأَنْ يأْمُرَ غيره بذلك لِيُحشَر مع الفائِزين . ولا يَغْتَرّ بكَثْرَةِ المخالفين لذلك من أَهْل زمانه ، ولا بوقُوع ذلك فى كثيرٍ مِنَ المساجد بحُضُورِ من يَنْتَسِبُونَ إِلى العِلْم ( فقد ) قال الفُضَيْل بن عِيَاض : لا تَسْتَوْحِش طُرق الهدَى لِقِلَّةِ أَهْلها ، ولا تَغْتَرّ بكَثْرة الهالِكِين .
... 7 – كيفية صلاة التراويح :
... هى أَنْ يُصَلِّى كُلَّ ركعتَيْن بسلامٍ يأْتى بدعاءِ الاسفتاح فى أُولاهُما ويقرأُ الفاتحةَ وما تَيَسَّرَ مِنَ القرآن فى كُلِّ رَكْعة ، ويتم الركُوعَ والسُّجُودَ والتَّشَهُّدَ ويُصَلِّى على النبىِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويَدْعُو فى آخر كُلِّ ركعتَيْن كما هُوَ المتوارَث ( قال ) علاءُ الدِّين الحصكفى : ويَأْتى الإِمام والقوم بالثَّنَاءِ فى كُلِّ شَفْع ويزيد الإِمام على التَّشَهُّد إِلاَّ أَنْ يَمَلّ القوم فيَأْتى بالصَّلوات ، ويكتفى باللهمَّ صَلِّ على مُحمد ، لأَنه الفَرْض عند الشافعىّ . ويترك الدعوات ويَجْتَنِب المنْكَرَات ، هذرمةَ القراءَة وتركَ تَعَوُّذ وتَسْمِية وطمأْنينة وتَسْبِيح واستراحة (1) .
... ( ويُطْلَب ) السَّلام على رأْس كل ركعتَيْن ، فلَوْ صَلَّى أَرْبَعاً أَوء كْثر بتسليمةٍ واحدةٍ وقَعَدَ على رأْس كُلِّ ركعتَيْن ، صَحَّتْ صلاته مَعَ الكَرَاهة عند غير الشَّافِعية . ولا تَصِحّ عِنْدَهم ، لأَنّض السَّلام من كُلِّ ركعتَيْن فرض عندهم . وكذا إِذا لم يَقْعُد على رأْس كُلِّ ركعتَيْن فلا تَصِحّ عندهم بالأُولى . وبهِ مُحمد وزفر ، لأَنَّ القُعُودَ على رأْس كُلِّ ركعتَيْن فَرْضٌ فى التَّطَوُّع .
__________
(1) ص 523 ج 1 الدر المختار ( صلاة التراويح ) والهذرمة ، بفتح فسكون ففتح سرعة القراءة . وهو بدل من المنكرات ويجوز رفعه خبراً لبتدا محذوف .(1/188)
... ( وقال ) أَبُو حنيفة وأَبو يوُسُف : تَصِحّ صلاتُه وتَنُوب عن ركعَتَيْن فقط . وهو الصَّحِيح وعليه الفَتْوَى لبطلانِ الشَّفْع الأَوَّل بترك القُعُود للتَّشَهُّد . وصَحّ الشُّرُوع فى الشَّفْع الثانى لبقاءِ التَّحْريمة وقد أَتمة بالعُقُود للتَّشَهُّد.
... ( وقالت ) المالكيَّة والحنبليَّة : تَصِحّ صلاتُه مع الكَرَاهِة لِتَرْكِه سُنَّةَ التَّشَهُّد والسَّلام ويُحْسَب له ما صَلاَّة . هذا والأَفْضَل للقادِر صلاتُها قائماً . ويُكْرَه للمُقْتَدِى القادِر تَأْخِير القيام إِلى ركُوع الإِمام ، لما فيه مِنَ الكَسَل ونَقْص الأَجْر .
... ( ويُسْتَحَبُّ ) الانتظار بعد كُلِّ أَرْبَع بقدرها " لقول " زَيْد بن وَهْب : كان عُمَر بن الخطاب يُرَوِّحُنَا فى رمضان – يَعْنى بين الترويحَتَيْن – قَدْرَ ما يَذْهَبُ الرَّجُلُ مِنَ المسجدِ إِلى سّلْع . أَخرجه البيهقى . وقال كَذَا قال . ولعله أَراد مَنْ يُصَلِّى بهم التراويح بأَمْر عُمَر (1) {40} .
(
__________
(1) تقدم أثر 28 ص 153 ( الاستراحة بعد كل أربع من التراويح ) .(1/189)
وللقَوْم ) فى هذا الانتظار الصَّلاة فرادَى أَو التَّسْبِيح أَوْ قِرَاءَةِ القرآن . وبهذا قال الحنَفِيُّون ( قال ) العلاَّمة الحلبى: وأَمَّا الاستراحة فى أَثناءِ التراويح فيجلسُ بعد كُلِّ أَربع ركَعات مِقْدارها . وكَذَا قَبْل الوَتْر . ولي المرادُ حقيقة الجلوس ، بل المراد الانْتِظَار ، وهو مُخَيَّر فيه ، إِنْ شاءَ جَلَسَ سَاكِتاً ، وإِنْ شَاءَ هَلَّلَ أَوْ سَبَّحَ أَوْ قَرَأَ أَوْ صَلَّى نَافِلةً مُنْفَرِداً وهذا الانتظار مُسْتَحَبً لعادةِ أَهل الحَرَمَيْن ، فإِنَّ عادةَ أَهل مكة أَنْ يطوفوا بعد كُلِّ أَرْبَع ركَعاتٍ ويُصَلُّوا ركْعَتَى الطواف ، وعادةَ أَهل المدنية أَنْ يُصَلُّوا أَرْبَع ركَعاتٍ ( وقد ) رَوَى البيهقىّ بإِسنادٍ صحيح أَنَّهُم كانوا يَقُومُون على عَهْدِ عُمَر ، يَعْنى بين كُلِّ ترويحَتَيْن ومِقْدَار ذلك الفَصْل ، وهو مِقْدَار تَرْويحٍة ، فكان مُسْتَحَبًّا ، لأَنَّ ما رآهُ المؤمِنُونَ حَسَنَا فهو عند الله حَسَن(1) .اهـ .
__________
(1) ص 404 غنية المتملى ( ومن السنن التروايح ) وما ذكره بعض أثر عن ابن مسعود ، أخرجه أحمد والبزار والبيهقى فى الاعتقاد والطبرانى وأبو داود الطيالسى وأبو نعيم بلفظ : إن الله تعالى نظر فى قلوب العباد فاختار محمداً فبعثه برسالته ، ثم نظر فى قلوب الناس بعده فاختار له أصحاباً فجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيه . فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ، وما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح . أنظر ص 33 مسند أبى داود الطيالسى . وأثر رقم 49 ص 75 فتاوى أئمة المسلمين ، طبعة ثالثة . والمراد بالمسلمين الصحابة المذكورون فى قوله : فاختار له أصحاباً .(1/190)
... ( وقالت ) الشافعية والحنبلية : هذا الانتظار مَنْدُوبٌ ولم يَرِدْ فيه دُعَاءٌ ولا ذِكْرٌ ولا صلاةٌ ( قال ) أَبُو مُحمد عبد الله بن قُدَامة : وكَرِهَ الإِمام أحمد التَّطَوُّع بين التَّرَاويح وقال فيه عَنْ ثلاثةٍ من أَصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم : عُبَادَةَ وأَبُو الدرداءِ وعُقْبة بن عَامِر . فذُكِرَ لأَبى عبد الله فيه رُخْصَة عن بعض الصَّحابة . فقال : هذا باطِل ، إِنما فيه عن الحسَن وسَعِيد بن جُبير . وقال أَحمد : يَتَطَوَّع بعد المكْتُوبة ولا يتَطَوَّع بين التَّرَاويح . فأَمَّا التعقيب وهو أَنْ يُصَلِّى بعد التراويح نافلةً أُخرى جماعةَ أَوْ يُصَلِّى التراويح فى جماعةٍ أُخرى ، فَعَنْ أَحمد أَنه لا بَأْس به ، لأَنَّ أَنَس بن مالك قال : ما يَرْجِعُونَ إِلاَّ لخيْر يرجُونه أَوْ لِشَرٍّ يحذَرُونه ، وكان لآيَرَى بهِ بَأْساً (1){41} .
( وقالت ) المالِكِيَّة : إِذا أَطَال الْقِيَامَ فيها نُدِبَ له أَنْ يجلسَ للاستراحِة اقتداءً بالصَّحابة وإِلاَّ فَلاَ .
8 – بدع التراويح :
__________
(1) ص 805 ج 1 مغنى ( فروع فى صلاة التراويح ) .(1/191)
مِمَّا تَقَدَّم تَعْلَم أَنَّ أَكْثر أَئِمَّة الزَّمان قد خَرَجُوا بصلاةِ التراويح عن الحدّ المشْرُوع ، فقد خَفَّفُوها تخفيفاً مفرطاً ، يُسْرِعُونَ فى القراءَة ولا يَطْمَئِنُّون فى الأَركان ، بل ينقرونها نَقْراً حتى ذَهَبُوا بكُلِّ مَزَاياها ، وابْتَدَعُوا فيها بِدَعاً مُنْكرة لا تُرْضِى اللهَ ولا رَسُولَه ولا المؤْمِنِين الصَّادِقين ( منها ) قول المؤَذَّنين : الصَّلآةُ والسَّلاُم عليكَ يا أَوَّل خَلْق الله ، ورَفْع الصَّوْتِ بعد كُلِّ ركعتَيْن من التَّرَاويح بنَحْو : صلاةُ القيام أَثَابَكُم الله ، والصّلاة يَرْحَمكَم الله ، والتَّهْليل بعد كُلِّ تَرْويحه ، والتِّرَضِّى بعد الأُولى عن أَبى بكر الصِّدِّيق ، وبعد الثانية عَنْ عُمَر ، وبعد الثالثة عَنْ عُثْمان . وبعد الرَّابعة عَنْ علىّ رَضِىَ الله عنهم .
( وكُلّ ) ذلك ليس له أَصْل ولم يَرِدْ به شَرْع ، بل فيه تَهْوِيشٌ فى بُيُوتِ الله تعالى وتخايطٌ على المتَعَبِّدِين ( ولا يُقَال ) إِنه صلاةٌ وتَسْليم على النبىّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وترضٍّ عن أَصحابه ، وهذا مَشْرُوع لما فيه من التَّنْوِيه بعُلُوّ شَأْنِهم والتنبيه بفَضْلِهم ( لأَنَّا نَقُول ) إِنما يفعل ما ذكر على أَنه مَشْرُوعٌ لصلاةِ التراويح ولأَنه أَمْرٌ حَسَن . وهذا من تَلْبِيس إِبْلِيس ، فهو بدْعَةٌ وأَمْر مُحدث لا مُسْتَنَدَ له .
((1/192)
قال ) ابن الحاج : وينبغى له ( أَى لإِمام المسْجد ) أَنْ يَتَجَنَّبَ ما أَحْدَثُوه مِن الذَّكْر بعد كُلِّ تَسْلِيمَتَيْن من صلاةِ التراويح . ومن رفع أَصواتهم بذلك والمشْى على صَوْتٍ وَاحِد ، فإِنَّ ذلك كُله مِنَ الْبِدَع . وكذا ينهى عن قول المؤَذِّنين بعد ذِكْرهم بعد التسليمتَيْن من صلاةِ التراويح : الصَّلاةُ يَرْحَمكُم الله ، فإِنه محدث أَيضاً . والحدث فى الدِّين ممنوع . وخير الهدْى هَدْى سيدنا مُحمد صلى الله عليه وسلم ثم الخلفاء بعده ثم الصحابة . ولم يُذْكَر عن أَحَدٍ من السَّلَف فعل ذلك فليسعنا ما وَسِعَهم (1) .
( فَلْيَتَّق ) الله ربهم أَئِمَّة المساجد وليتذكَّرُوا الْوَعِيد الشَّدِيد لمنْ ينقر صلاته ، ولا يطمئن فى الركُوع والسُّجُود ولا يُرَتِّل القراءَة ( فعن ) أَبى عبد الله الأَشْعَرى رضِىَ الله عنه أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً لا يتمّ ركُوعه وينقر فى سُجُودِه وهو يُصَلِّى ، فقال : لَوْ ماتَ هذا على حاله هذِه ماتَ على غير مِلَّةِ مُحمد صلى الله عليه وسلم ( الحديث ) أَخرجه الطبرانى فى الكَبير وأَبْو يَعْلى بسَنَدٍ حَسَن وابن خُزَيمة فى صحيحه (2) {192} .
(
__________
(1) ص 145 ج 2 المدخل ( الذكر بعد التسليمتين من صلاة التراويح ) .
(2) تقدم رقم 91 بهامش 2 ص 169 ، وفيه التحذير من ترك الاطمئنان فى الصلاة .(1/193)
والأَحاديث ) والآثار فى هذا كَثِيرة تقَدَّم بَعْضُها فى بحث " الرفع من الركُوع إِلى الطمأْنينة فى الأَركان " (1) ( وقد ) قال الحسَن بن الجوزجانى : أَصَحّ الطُّرُق إِلى الله تعالى وأَعْمرها وأَبْعَدها عَن الشُّبَه ، اتباع السُّنة قَوْلاً وَفِعْلاً وعَزْماً وَقَصْداً وَنِيَّةً ، لأَنَّ الله تعالى يقول : " وَإِنْ تُطِيعُوه تَهْتَدُوا " . فَقِيلَ له : كَيف الطَّريق إِلى اتِّباع السُّنة ؟ فقال : مُجَنَبة الْبِدَع وَاتِّبَاع ما أَجمع عليه الصَّدر الأَوَّل من علماءِ الإسلام . ذكَره الشعرانى فى الطبقات .
6 – قيام الليل
كانَ قِيَامُ الليل فَرْضاً على النبىِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصحابه ، لقوله تعالى : " يأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُم اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَو انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً " . ثم نسخ بقوله تعالى : " عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّر مِنَ الْقُرْآنِ " (2) .
__________
(1) انظر من ص 153 إلى ص 158 ج 2 دين طبعة ثانية .
(2) " فتاب عليكم " أى خفف عنكم بإسقاط فرض قيام الليل ، فالمراد بالتوبة ، التوبة اللغوية وهى التخفيف " فاقرءوا " أى صلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل ولو ركعتين . وعبر عن الصلاة بالقراءة ، لأنها بعض أركانها . والأمر للندب ويحتمل إبقاء القراءة على حقيقتها ، أى اقرءوا فى الصلاة ، فالأمر للوجوب ، أو فى غيرها والأمر للندب . وبهذه القراءة تنالون ثواب القيام " روى " ابن عمرو بن العاص أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين . أخرجه أبو داود [193] ص 210 ج 2 تيسر الوصول ( صلاة الليل ) وأخرجه ابن حبان ، وفيه : ومن قام بمائتى آية كتب من المقنطرين ، أى ممن كتب لهم قناطير من الأجر .(1/194)
قال ابن عباس في تَفْسِيره : قُم الليل كله إلا قليلاً منه . فاشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه . وقاموا الليل كله ولم يعرفوا ما حد القليل ؟ فأنزل الله تعالى : " نصفه او انقص منه قليلاً ". فاشتد ذلك أيضاً عليهم وقاموا حتى انتفخت أقدامهم، ففعلوا ذلك سنة ، فأنزل الله تعالى ناسختها فقال : "علم أن لن تحصوه " ، يعني قيام الليل من الثلث والنصف ، وكان هذا قبل فرض الصلوات الخمس . اهـ.
(وعن) عكرمة أن ابن عباس قال في المزمل: "قم الليل إلا قليلاً نصفه" نسختها الآية التي فيها: "علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن". وناشئة الليل أوله (الأثر) أخرجه أبو داود والبيهقي(1) {42}.
(وعن) سماك الحنفي أن ابن عباس قال: لما نزل أول المزمل كانوا يقومون نحواً من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها. وكان بين أولها وآخرها سنة. أخرجه أبو داود والبيهقي ومحمد بن نصر(2) {43}.
(
__________
(1) ص 177 ج1 تيسير الوصول (سورة المزمل) و ص 500 ج2 سنن البيهقي (قيام الليل).
(2) ص 177 ج1 تيسير الوصول (سورة المزمل) و ص 500 ج2 سنن البيهقي (قيام الليل).(1/195)
وبهذا ) صار قيام الليل مندوباً في حق النبي صلى الله عليه وسلم وأمته ( ويؤيده ) قول سعد بن هشام: انطلقت إلى ابن عباس فسألته عن الوتر، فقال : ألا أدلك على أعلم أهل الارض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت: من ؟ قال : عائشة رضي الله عنها، فأتها فسلها، ثم أعلمني ما ترد عليك. فانطلقت إليها، فأتيت على حكيم بن أفلح فاستصحبته، فانطلقنا إلى عائشة ، فاستأذنا فدخلنا، فقالت : من هذا ؟ قال : حكيم بن أفلح. فقالت: من هذا معك ؟ قلت : سعد ابن هشام. قالت : ومن هشام ؟ قلت : ابن عامر. قالت : نعم المرء كان عامر أصيب يوم أحد. قلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت : ألست تقرأ القرآن ؟ قلت : بلى. قالت: فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن. ففهممت أن أقوم فبدا لي ، فقلت : أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أم المؤمنين. قالت: ألست تقرأ يأيها المزمل؟ قلت: بلى. قالت: فإن الله تعالى افترض القيام في أوله هذه السورة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً حتى انتفخت أقدامهم. وأمسك الله خاتمتها اثنى عشر شهراً في السماء، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة فصار قيام الليل تطوعاً بعد أن كان فريضة (الحديث) أخرجه البيهقي، ونحوه لمسلم(1) {194}.
(وبهذا) قال الجمهور (وقال) مالك: لم يزل قيام الليل فرضاً في حق النبي صلى الله عليه وسلم. وروي عن ابن عباس والشافعي لظاهر قوله تعالى: "ومن الليل فتهجد به نافلةً لك" أَىْ فريضةً زائدةً على الصَّلواتِ الخم خاصَّةً بِكَ دُونَ أُمَّتِكَ .
__________
(1) ص499 ج2 سنن البيهقي، و ص 25 ج6 نووي مسلم (صلاة الليل والوتر).(1/196)
" ولا يُقَال " إِن الخطاب لَهُ صلى الله عليه ولم خطاب لأُمَّتِه ، لأَنَّ محل هذا ما لم يَقُمْ دَلِيلٌ على الخصُوصية كما هنا . فإِن قوله : " نافِلةً لك " بعد قوله : " فَتَهَجَّد " دَلِيلٌ على أَنَّ الخطاب خاص به صلى الله عليه وسلم دون أُمَّتِه ( قال ) ابن عباس : " ومِنَ الليل فَتَهَجَّدْ لك " يَعْنى بالنافلة أَنَّهَا للنبىِّ صلى الله عليه وسلم خاصَّةً ، أُمِرَ بقيام الليل الليل وكُتِبَ عليه . أَخرجه ابن جَرِير وابن أَبى حاتم وابن مردويه(1) {44} .
( وأَجاب ) الجمهور بأَنَّ معنَى الآية : جعل الله التَّهَجُّدَ نَفْلاً فى حقك ، زيادةً لدرجاتك ، وشكراً منك لمولاك على ما أَوْلاك . أَمَّا في حقِّ الأُمة فشرع تكفيراً للسَّيئات .
هذا . والكلام هُنَا يَنْحَصِرُ في سِتَّة عشَر بحثاً .
1 – فضل قيام الليل :
هُوَ في الفَضْل في المرتبة الرابعة بعد المكْتُوبة والرَّوَاتِب وما تشرع فيه الجماعة كالْعِيد والكُسُوف والتَّرَاوِيح .
( وبهذا ) قال الجمهور . وعن أَحمد وبعض الشافعية أَنه يَلِى المكْتُوبة فى الفَضْل . وتَطَوُّع الليل أَفْضَل من تَطَوُّع النهار . ( روى ) أَبو هريرة أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال : أَفْضَلُ الصَّلاةِ بعد المكَتُوبة الصَّلاةُ فى جَوْف الليل ، وأَفْضَلُ الصِّيام بَعْدَ شهر رمضانَ شهر اللهِ المحَّرم . أَخرجه مسلم والثلاثة (2) {195} .
__________
(1) ص 96 ج 5 جامع البيان ( سورة الإسراء ) .
(2) ص 55 ج 8 نووى مسلم ( فضل صوم المحرم ) وص 183 ج 10 المنهل العذب ، وص 240 ج 1 مجتبى ( فضل صلاة الليل ) وص 331 ج 1 تحفة الأحوذى .(1/197)
فى الحديث دَلِيلٌ لما اتفق العلماءُ عليه أَنَّ تَطَوُّع اللَّيل أَفْضَلُ من تَطَوُّع النهار . وفيه حُجَّة لأَبى إِسحاق المروزى ومَنْ وَافَقَهُ على أَنَّ صلاةَ الليل أَفْضَلُ من السُّنَن الرَّاتبة ( وقال ) أَكْثر العلماءِ : الرَّوَاتِب أَفْضَل لأَنها تُشْبه الفَرَائض ( والأَوَّل ) أَقْوَى وأَوْفَق للحديث . قاله النَّوَوِى ( وقال ) الطِّيبى : ولَعَمْرِى إِنَّ صلاةِ التَّهَجُّد لو لم يكُنْ فيها فَضْلٌ سِوَى قوله تعالى : " وَمِنَ اللَّيْل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُوداً " (1) . وقوله تعالى : " تَتَجَافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِع يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ، وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلآ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِىَ لَهُمْ مِنْ قُرَّة أَعْيُنٍ " (2)
__________
(1) سورة الإسراء ، الآية 79 ، أى تهجد لنعطيك يوم القيامة مقاًما يحمدك فيه الخلائق وهو مقام الشافعة فى فضل القضاء ( قال ) أبو هريرة : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المقام المحمود ، فقال : هو الشافعة . أخرجه الترمذى [196] ص 38 ج 1 تيسر الوصول ( سورة الإسراء ) .
(2) سورة السجدة ، الآيتان 16 و 17 ، و ( تتجافى ) أى ترتفع جنوبهم عن مواضع النوم لتهدهم ليلا ( يدعون ربهم ) أى يعبدونه ( خوفاً ) من وبال عقابه ( وطمعاً ) فى جزيل ثوابه ، ويتصدقون مما أنعم الله عليهم ، وسيدهم فى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال عبد الله بن رواحة :
وفينا رسول الله يتلو كتابه ... ... إذا انشق معروف من الصبح ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... ... به موقنات أن ما قال واقع ...
يبيت يجافى جنبه عن فراشه ... ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
(
وعن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى : أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أّن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ثم قرأ : " فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين " . أخرجه الشيخان والترمذى . وزاد البخارى فى رواية : وقال محمد ابن كعب : إنهم أخفوا لله عملا فأخفى لهم ثواباً ، فلو قدموا عليه أقر تلك الأعين [197] ص 365 ج 8 فتح البارى ( سورة السجدة ) وص 66 ج 17 نووى مسلم ( كتاب الجنة ) وص 6 ج 4 تحفة الأحوذى . فالآية واردة فى قيام الليل . وهو قول الجمهور .(1/198)
وغيرهما من الآيات ، لَكَفَاه مِزْية .
( وقد ) وَرَدَ فى فََضْل قِيَامِ اللَّيل أَحَادِيثَ منها " حديث " بلال أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال : عليكُمْ بِقِيَام الليل فإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالحين قبلكُم ، وقُرْبَةٌ إِلى اللهِ تَعالى ، ومَنْهَاةٌ عن الإِثم ، وتَكْفِيرٌ للسَّيِّئَات ، ومَطْرَدَةٌ للدَّاءِ عَن الجَسَدِ . أَخرجه أَحمد والبيهقى والحاكم وقال : صَحِيحٌ على شَرْط البخارى . وفى سَنَدِه مُحمد القرشىّ ، قال البخارى : ترك حديثه(1) {198} .
( وحديث ) أَبى مالك الأَشْعَرِىّ أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال : إِنَّ فى الجنَّةِ غُرَفاً يُرَى بَطِنُها من ظَاهِرُها وظَاهِرُها مِنْ بَطِنها ، أَعَدَّها اللهُ لمنْ أَطْعَمَ الطَّعَام ، وأَلآنَ الكلاَم ، وتَابَعَ الصِّيامَ ، وقامَ باللَّيْل والنَّاسُ نِيَام. أَخرجه أَحمد وابن حبان والبيهقى فى الشعب والطبرانى فى الكَبير بسَنَدٍ رجاله ثِقَات (2) {199} .
__________
(1) ص 502 ج2 سنن البيهقى ( الترغيب فى قيام الليل ) وص 308 ج 1 مستدرك ورقم 5572 ص 531 ج 4 فيض القدير . و(منهاة ومطردة) بفتح فسكون ، أى حالة من شأنها النهى عن الإثم وإبعاد الداء عن الجسد وتكفير للسيئات .
(2) ص 343 ج 5 مسند أحمد ( حديث أبى مالك الأشعرى ) وص 254 ج 2 مجمع الزوائد ( صلاة الليل ) .(1/199)
" وحديث " أَبى هُريرةَ رضِىَ اللهُ عنهُ أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : رَحِمَ الله رَجُلاً قام مِنَ الليل فصَلَّى وأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّتْ ، فإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فى وَجْهِها الماءَ . ورَحِمَ الله امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ الليل فَصَلَّتْ وَأَيْقَظَتْ زَوْجَها فَصَلَّى ، فإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فى وَجْهِه الماءَ . أَخرجه أَحمد والأَربعة إِلاَّ الترمذى ، وأَخرجه البيهقى والحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم(1) {200} .
" وحديث " أَبى هُريرةَ قال : قُلْتُ : يا رسول الله ، أَنْبِئْنى عن أَمْرٍ إِذا أَخَذْتُ به دَخَلْتُ الجنَّة . قال : أَفْش السَّلام وأَطْعِم اطَّعَام ، وَصِل الأَرْحَام ، وصَلِّ بالليل والنَّاس نِيَام ، ثم ادْخُل الجنَّة بسَلام . أَخرجه أَحمد والترمذى والحاكم وصححه (2) {202} .
__________
(1) ص 233 ج 4 الفتح الربانى ، وص 211 ج 2 تيسير الوصول ( صلاة الليل ) وص 207 ج 1 سنن ابن ماجه ( من ايقظ أهله من الليل ) وص 501 ج 2 سنن البيهقى ، وص 309 ج 1 مستدرك ( فصلى ) أى ولو ركعتين أو ركعة فى حق من نام قبل أن يوتر . وعليه يحمل حديث : عليكم بصلاة الليل ولو ركعة ، أخرجه الطبرانى فى الكبير والأوسط عن ابن عباس . وفيه حسين ابن عبد الله وهو ضعيف [201] ص 252 ج 2 مجمع الزوائد . والمراد بالنضح الرش . وخص الوجه لأنه أفضل الأعضاء ، وينضحه يذهب النوم أكثر من بقية الأعضاء ، فإن فيه العينين وهما آلة النوم .
(2) ص 234 ج 4 الفتح الربانى . و ( أفش ) أمر من الإفشاء وهو الإظهار برفع الصوت والسلام على من عرف ومن لم يعرف . والمطلوب الإفشاء المتعارف ، فمن يمر فى الشوارع المطروقة يسلم على البعض فقط .(1/200)
" وحديث " يُونُس عن الحسَن أَبى هُريرةَ أَنَّ رَجُلاً جاءَ إِلى النبىَّ صلى الله عليه وسلم فقال : إِنَّ فُلآناً نَامَ البارِحَةَ ولم يُصَلِّ شيئاً حتى أَصْبَحَ فقال : بَالَ الشَّيْطَانُ فى أُذُنِه ، قال يُونُس وقال الحسَن : إِنَّ بَوْلَهُ واللهِ ثَقِيل . أَخرجه أَحمد . وأَخرج الشَّيْخان نحوه عن ابن مسعود (1) {203} .
__________
(1) ص 239 ج 4 الفتح الربانى ،ن وص 19 ج 3 فتح البارى ( إذا نام ولم يصل بال الشيطان فى أذنه ) .(1/201)
" وحديث " علىّ بن حُسَين عن أَبيه عن جَدِّه علىّ رضِىَ الله عنه قال : دَخَلَ علىَّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعلى فاطِمَةَ رضى الله عنها مِنَ الليل فَأَيْقَظَنَا للصَّلاة ، ثم رجَعَ إِلى بَيْتِهِ فَصَلَّى هَوِيًّا مِنَ الليل فلم يَسْمَعْ لنا حِسًّا ، فَرَجَعَ إِلينا فأَيْقَظَنَا وقال : قُومَا فَصَلِّيَا . فجلَسْتُ وأَنا أَعْرُكُ عَيْنَىّ وأَقول : إِنَّا واللهِ ما نُصَلِّى إِلاَّ ما كُتِبَ لنا ، إِنما أَنفسنا بِيَدِ اللهِ فإِذا شاءَ يَبْعَثُنَا بُعثْنَا . فوَلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو يَقُول – ويَضْرب على فَخِِذِه - : ما نُصَلِّى إِلاَّ ما كُتِبَ لنا . ما نُصَلِّى إِلاَّ ما كُتِبَ لنا . وكانَ الإِنسانُ أَكْثَر شَىْءٍ جَدَلاً . أَخرجه أَحمد والشيخان والبيهقى (1) {204} .
__________
(1) ص 240 ج 4 الفتح الربانى ، وص 6 ج 3 فتح البارى ( تحريض النبى على قيام الليل .. ) وص 50 ج 2 سنن البيهقى . وصدره عنده وعند الشيخين : ألا تصليان ، والمراد بالبعث الاستيقاظ من النوم . يريد على بذلك الاعتذار عن عدم القيام ، وأن النائم غير مكلف ، فإن أراد الله إيقاظه أيقظه . والمختار أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم : وكان الإنسان أكثر شئ جدلا ، التعجب من سرعة جوابة ، وعدم موافقته له على الاعتذار بهذا ، ولذا ضرب فخذه . وقيل : قاله صلى الله عليه وسلم تسليماً لعذرهما ، وأنه لا عتب عليهما .(1/202)
" وحديث " أَبى هُريرةَ أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال : إِذا نَامَ أَحدكُم عُقِدَ على رَأْسِه ثلاث عُقَدٍ بجَرير ، فإِنْ قام فَذَكَرَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أُطْلقَتْ واحدة ، وإِنْ مَضَى فَتَوَضَّأَ أُطْلِقَتْ الثانية ، فإِنْ مَضَى فَصَلَّى أُطْلِقَت الثالثة ، فإِنْ أَصْبَحَ ولم يَقُمْ شيئاً من الليل ولم يُصَلّ ، أَصْبَح وهُوَ عليه ، يَعْنى الجرير . أَخرجه الجماعة إِلاَّ الترمذى . وهذا لفظ أَحمد ولفظه عند الشْيْخين وأَبى داود عن أَبى هُريرةَ أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ على قافِيَةِ رأْس أَحَدِكُم إِذا هو نَامَ ثلاثَ عُقَدٍ ، يَضْرِبُ مكان كُلِّ عُقْدَةٍ عليك لَيْلٌ طويل فَارْقُدْ ، فإِن اسْتَيْقَظَ فَذَكَر الله انْحَلَّتْ عُقْدَة ( الحديث ) (1) {
__________
(1) ص 241 ج 4 الفتح الربانى ، وص 211 ج 2 تيسير الوصول ( صلاة الليل وص 206 ج 1 سنن ابن ماجه ( قيام الليل ) و ( عقد ) مبنى للمفعول . والفاعل الشيطان كما فى الرواية بعد . و ( الجرير ) بفتح فكسر : الحبل . و ( القافية ) مؤخر العنق . وخص القفا بذلك ، لأنه محل القوة الواهمة ، وهى أطوع القوى للشيطان . و ( عليك ليل طويل ) أى يضرب قائلا : باق عليك ليل طويل . ومقصود الشيطان بذلك التلبيس على النائم وتثبيطه عن القيام للطاعة ( وظاهره ) اختصاص ذلك بنوم الليل . ولا يبعد حصول مثله لمن نام نهاراً ( وظاهر الحديث أن من ترك واحداً من الثلاثة يصبح خبيثاً كسلان وإن أتى بالباقى . وهو كذلك لكنه متفاوت . فمن ذكر الله فقط كان أخف فى الخبث ممن لم يذكره . وهذا الذم مختص بمن لم ينو التهجد وضيعه ..أما من نواه أو كانت عادته التهجد فغلبته عينه فلا لوم عليه ، بل يكتب له ثواب ما كان يفعله من الطاعة ( روت ) عائشة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ما من امرئ تكون له صلاة بليل يغلبه عليها نوم أو وجع إلا كتب له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة . أخرجه مالك وأبو داود والنسائى والبيهقى [206] ص 217 ج 1 زرقانى الموطإ ، وص 211 ج 2 تيسير الوصل ( صلاة الليل ) .(1/203)
205} .
(واختلف) فى هذا العقد (فالظَّاهر) باق علي حقيقته وهو الربط لما في رواية ابن ماجه عن أَبي هُريرة أن النبيَّ صلي الله عليه وسلم قال : يَعْقِدُ الشَّيطَانُ علي قافِيَةِ رَأْس أَحَدِكُم بليل بحَبْل فيه ثلاث عُقَدٍ (الحديث)
(وقيل) إن العقد مجاز كأنه شبه فعل الشيطان بالنائم من منعه من الذكر والصلاة بفعل الساحر بالمسحور من منعه عن مراده؛ فهو من عقد القلب وتصميمه، فكأن الشيطان يوسوس في نفس النائم بأن عليه ليلاً طويلاً فيتأخر عن القيام. او المراد به تثقيل القلب في النوم وإطالته، فكأن الشيطان شد عليه شداً وعقده ثلاث عقد. (والمراد) بالشيطان الجنس وفاعل ذلك هو القرين أو غيره. ويحتمل أن يراد به رأس الشياطين وهو إبليس "ولا يقال" إن الغافلين عن قيام الليل كثيرون، فلا يستطيع أن يعقد عليهم "لأنا نقول" لا مانع من ذلك لجواز أن يعطيه الله القدرة على ذلك.
"وقول" ابن عمر: رأيت كأن بيدي قطعةً من استبرق وليس مكان أريده من الجنة إلا طارت بي إليه، فقصتها على النبي صلى الله عليه وسلم: فقال لها: إن أخاك رجل صالح لو كان يقوم من الليل، فما تركتُ قيام الليل بعد ذلك. أخرجه أحمد والشيخان والترمذي(1) {207}.
2- وقت قيام الليل:
اتفق العلماءُ على أن كل الليل وقت للتهجد، وأن أفضله الثلث الاخير، لأنه وقت الغفلة ونزول الرحمة واستجابة الدعاء. وقد ورد في هذا أحاديث منها:
__________
(1) ص5 ج2 مسند أحمد، و ص 92 ج3 تيسير الوصول ( عبد الله بن عمر ).(1/204)
"حديث" حميدٍ الطويل قال: سئل أنس عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فقال: ما كنا نشاء أن نراه من الليل مصلياً إلا رأيناه، وما كنا نشاء أن نراه نائماً إلا رأيناه، وكان يصوم من الشهر حتى نقول لا يفطر منه شيئاً ويفطر حتى نقول لا يصوم منه شيئاً. أخرجه أحمد والبخاري والنسائي(1) {208}.
"وعن" عمرو بن عبسة قال: قلتُ يا رسولَ الله، هلْ من دعوة أقرب من أخرى أو ساعة تبقى أو ينبغي ذكرها؟ قال: نعم إنَّ أقربَ ما يكون الربُّ منَ العبد جوف الليل الاخر، فإن استطعت أن تكون ممنْ يذكر الله في تلك الساعة فكنْ. أخرجه النسائي والحاكم وقال: هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلم، والترمذي وقال: حديثٌ حسنُ صحيحُ غريب(2) {209}.
يعني أن العبادة في آخر الليل أفضل منها في أوله.
(ويأتي عن) عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه. أخرجه السبعة إلا الترمذي(3) {210}.
والحكمة في أن قيام الثلث المذكور أفضل، أنه وقت الغفلة ونزول الرحمة ومناجاة الرب : هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له ؟ الخ. وحكمةُ نوم السدس أن يستريحَ من نصبِ القيام في بقيةِ الليل فيقومَ نشطاً لتأدية صلاة الصبح وما يتبعها من الأوراد إلى طلوع الشمس.
3- ركعات قيام الليل:-
__________
(1) ص104 ج3 مسند أحمد، و ص 16 ج3 فتح الباري ( قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل.. ) و ص 242 ج1 مجتبي ( صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل ).
(2) ص309 ج1 مستدرك ( إن أقرب ما يكون الرب ) أي أقرب حال تكون فيه رحمة الرب قريباً من العبد في آخر الليل.
(3) يأتي في الصيام رقم 141 ص334 ج8 دين ( صوم داود عليه السلام ) .(1/205)
اتفق العلماء على أنه ليس لصلاة الليل عددٌ مخصوص، وأنَّ العبدَ كلما زاد فيها زاد أجره. واختلفوا فيما فعله النبي صلى الله عليه وسلم واختاره لنفسه. والغالب من أحواله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعةً أو ثلاث عشرةَ ركعةً بالوتر. وقد صلى تسعاً وسبعاً لما كبر سنه. وقد روي في ذلك عدة أحاديث منها:
(حديث) عباس قال: كنت في بيت ميمونة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل، فقمت معه على يساره، فأخذ بيدي فجعلني عن يمينه، ثم صلى ثلاث عشر ركعة، حزرت قدر قيامه في كل ركعةٍ قدر يا أيها المزمل. أخرجه أحمد والبيهقي بسندِ جيد(1) {211}.
(وحديث) ابن عباس قال: بت عند خالتي ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ثم جاء فصلى أربعاً، ثم نام ثم قام فصلى أربعاً. قال: نام الغليم فجثت فقمت عن يساره فجعلني عن يمينهِ، ثم صلى خمس ركعاتٍ، ثم ركعتين، ثم نامَ حتى سمعتُ غطيطه أو خطيطه، ثم خرج إلى الصلاة أخرجه أحمد والبخاري والنسائي والبيهقي(2) {212}.
(وقوله) ثم صلى خمس ركعاتٍ، يحتمل أنه صلاها بسلامٍ واحدٍ وهي الوتر، أو أنه صلى ركعتين ثم أوتر بثلاثٍ ثم صلى ركعتي الفجر وعليه فقد صلى بعد النوم تسع ركعاتٍ. وقد كان يفعل هذا أحياناً (ويؤيده) قول مسروق: سألت عائشة عن صلاةِِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل، فقالت: سبعٌ وتسعٌ وإحدى عشرةَ ركعة سوى ركعتي الفجر. أخرجه البخاري(3) {213}.
(
__________
(1) ص255 ج4 الفتح الرباني (قدر القراءة في كل ركعة من صلاة الليل).
(2) ص251 منه، و ص 477 ج2 سنن البيهقي، وقال: رواه البخاري (من جعل بعد العشاء أربع ركعات، أو أكثر) (فصلى أربعاً) هي سنة العشاء.
(3) ص14 ج3 فتح الباري (كم كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل)؟(1/206)
وحديث) عروة أن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ما بين صلاة العشاء الاخرة إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم في كل اثنتين ويوتر بواحدةٍ ويسجد في سبحته بقدر ما يقرأ أحدكم بخمسين آية قبل أن يرفع رأسه. فإذا سكت المؤذن من أذانه قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن فيخرج معه. أخرجه البيهقي والسبعة إلا الترمذي(1) {214}.
__________
(1) ص486 ج2 سنن البيهقي (صلاة الليل مثنى مثنى) وص 257 ج4 الفتح الرباني، و ص 331 ج2 فتح الباري (أبواب الوتر) و ص 16 ج6 نووي مسلم (صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى الله ليه وسلم في الليل) وص 264 ج7 المنهل العذب (صلاة الليل)، و ص 212 ج1 ابن ماجه (كم يصلي بالليل؟) و (السبحة) بضم فسكون: النافلة (فإذا سكت المؤذن) أي فرغ من أذان الصبح.(1/207)
"وقول" زرارة بن أوفى: سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل. فقالت: كان يصلي العشاء ثم يصلي بعدها ركعتين ثم ينام. فإذا استيقظ وعنده وضوءه مغطى وسواكه استاك، ثم توضأ فقام فصلى ثماني ركعات يقرأ فيهن بفاتحة الكتاب وما شاء الله من القرآن ، فلا يقعد في شيء منهن إلا في الثامنة فإنه يقعد فيها فيتشهد ثم يقوم ولا يسلم، فيصلي ركعة واحدة ثم يجلس فيتشهد ويدعو ثم يسلم تسليمة واحدة: السلام عليكم، يرفع بها صوته حتى يوقظنا. ثم يكبر وهو جالس فيقرأ ثم يركع ويسجد وهو جالسٌ فيصلي جالساً ركعتين. فهذه إحدى عشرة ركعة. فلما كثر لحمه وثقل، جعل التسع سبعاً، لا يقعد إلا كما يقعد في الأولى ويصلي الركعتين قاعداً، فكانت هذه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبضه الله. أخرجه أحمد(1){215} ولم تكنْ هذه عادةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: بل كان يفعل ذلك أحياناً وغالبُ أحواله أنه كان يصلي ركعتين ركعتين ثم يوتر. وتقدم بيان أحواله صلى الله عليه وسلم في الوتر(2)
"وحديث" القاسم بن محمد أن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة. منها الوتر وركعتا الفجر. أخرجه البخاري(3) {216}
(
__________
(1) ص261 ج4 الفتح الرباني ( صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل ).
(2) انظر ص9 ج3 دين طبعة ثانية ( عدد ركعات الوتر ).
(3) ص14 ج3 فتح الباري ( كم كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل؟ )(1/208)
قال) ابن القيم: كان قيامه صلى الله عليه وسلم بالليل إحدى عشرةَ ركعة أو ثلاث عشرة. وقد حصل الاتفاق على إحدى عشرة ركعةً. واختلف في الركعتين الأخيرتين، هل هما ركعتا الفجر أو هما غيرهما؟ فإذا انضاف ذلك إلى عدد ركعاتِ الفرض والسنن الراتبة التي كان يحافظ عليها، جاء مجموعُ ورده الراتب بالليل والنهار أربعين ركعة، كان يحافظ عليها دائماً، سبعة عشر فرضاً، وعشر ركعاتٍ أو ثنتا عشرة سننه الراتبة(1) وإحدى عشرةَ أو ثلاث عشرةَ ركعة قيامه بالليل. والمجموع أربعون ركعة، وما زادَ على ذلك فعارض غير راتب كصلاةِ الفتح ثماني ركعاتٍ وصلاةُ الضحى إذا قدِم من سفرٍ(2) ، وصلاته عند مَنْ يزوره وتحية المسجد ونحو ذلك (فينبغي) للعبدِ أن يواظب على هذا الورد دائماً إلى الممات. فما أسرع الإجابة وأعجل فتح الباب لمن يقرعه كلَّ يوم أربعين مرة. والله المستعان(3) .
4- كيفية صلاة الليل:
الأفضل في صلاة الليل أن تكونَ مثنى مثنى. ويسنُّ أن تفتتح بركعتين خفيفتين لينشط بهما لما بعدهما، ثم يطيل القراءة والركوع والسجود. وهو مخيَّر في القراءةِ بين الأسرار والجهر، وهو أفضل ما لم يهوش على مصلٍّ أو نائِم.
__________
(1) الراتبة يعني المؤكدة كما تقدم في بحث "الرواتب المؤكدة" ص 294 ج2 دين طبعة ثانية.
(2) ظاهر ) كلام ابن القيم أن صلاة الفتح غير صلاة الضحى ( قال ) القاضي عياض وغيره: لعلها كانت صلاة شكر لله تعالى على فتح مكة. (ويرده) قول عبد الرحمن بن أبي ليلى: ما حدثنا أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى غير أم هانيء فإنها قالت: دخل على النبي صلى الله عليه وسلم بيتي يوم الفتح فاغتسل وصلى ثماني ركعات ( لحديث ) أخرجه مالك والخمسة [217] ص 212 ج2 تيسير الوصول ( صلاة الضحى ).
(3) ص84 و 85 ج1 زاد المعاد (هديه صلى الله عليه وسلم في قيام الليل).(1/209)
ودليلُ ذلك "ما تقدم" عن ابن عمر أن رجلاً قال: يا رسول الله، كيف صلاةُ الليل؟ قال: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدةٍ. أخرجه السبعة(1) {218}.
"وعن المطلب" بن ربيعة بن الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صلاةُ الليل مثنى مثنى، وإذا صلى أحدكم فليتشهد في كلِّ ركعتين ثم ليلحف في المسألة، ثم إذا دعا فليتساكن وليتبأس وليتضعف ، فمن لم يفعل ذلك فذاك الخداج. أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه(2) {219}.
(وعن) أبي هريرة أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: إذا قامَ أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين. أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والبيهقي(3) {220}.
(والأمر) في هذا الحديث محمولٌ على الاستحباب عند جميع العلماءِ. (وقال) زيد بن خالد الجهني: لأرمقن صلاةَ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الليلة. فصلى ركعتين خفيفتين ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم أوتر، فذلك ثلاث عشرة ركعة. أخرجه مسلم(4) {221}.
(
__________
(1) تقدم رقم 442 ص308 ج2 دين طبعة ثانية.
(2) ص267 ج4 الفتح الرباني، و ص 204 ج7 المنهل العذب (صلاة النهار) و ص 205 ج1 سنن ابن ماجه (صلاة الليل والنهار مثنى...) و (التساكن) إظهار السكون والخشوع (والتبؤس) إظهار البؤس والاحتياج (والتضعف) إظهار الضعف والعجز (والخداج) بكسر أوله: النقص في الأجر والفضيلة.
(3) ص268 ج4 الفتح الرباني، وص 54 ج6 نووي مسلم، وص 252 ج7 المنهل العذب (افتتاح صلاة الليل بركعتين).
(4) ص53 ج6 نووي مسلم (صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل).(1/210)
وتقدم عن) أبي قتادة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: مررت بك وأنت تصلي تخفض من صوتك. قال: أسمعت من ناجيت؟ قال: ارفع قليلاً. وقال لعمر: مررت بك وأنت تصلي رافعاً صوتك. فقال: إني أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان. قال: اخفض قليلاً. أخرجه أبو داود والترمذي والبيهقي والحاكم(1) {222}.
(وعلى) هذا اتفق العلماء (قال) أبو محمد عبد الله بن قدامة: ويستحب أن يقرأ المتهجد جزءاً من القرآن في تهجده، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله. وهو مخير بين الجهر بالقراءة والإسرار بها، إلا أنه إن كان الجهر انشط له في القراءة او بحضرته من يستمع قراءته أو ينتفع بها، فالجهر أفضل. وإن كان قريباً منه من يتهجد أو من يستضر برفع صوته؛ فالإسرار أولى وإن لم يكن لا هذا ولا هذا، فليفعل ما شاء (قال) عبد الله بن أبي قيس: سألت عائشة كيف كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالليل؟ فقالت: كل ذلك كان يفعل، ربما أسر بالقراءة وربما جهر. قال الترمذي: حديث حسن صحيح(2) {223}.
(وقال) أبو هريرة:كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم يرفع طوراً ويخفض طوراً{224} (وقال) ابن عباس:كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم على قدر ما يسمعه من في الحجرة وهو في البيت. رواهما أبو داود(3){225}.
5- هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل:-
قد ورد في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل عدة أحاديث غير ما تقدم منها:
__________
(1) ص334 ج1 تحفة الاحوذي (القراءة بالليل) وتقدم رقم 246 ص90 ج2 دين طبعة ثانية، وهو هنا مختصر.
(2) ص334 ج1 تحفة الاحوذي (القراءة بالليل).
(3) ص257 ج7 المنهل العذب (رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل) وص 777 ج1 مغنى (الجهر والاسرار في صلاة الليل).(1/211)
"حديث" كريب مولى ابن عباس أن ابن عباس أخبره أنه بات عند ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي خالته، قال: فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأهله في طولها ، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل، استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس يمسح النوم عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر الآيات خواتيم سورة آل عمران ، ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه ثم قام يصلي. قال ابن عباس: فقمت فصنعت مثل الذي صنع ، ثم ذهبت فقمت إلى جنبه فوضع يده على رأسي وأخذ أذني اليمنى ففتلها، فصلى ركعتين ثم ركعتين، ثم ركعتين ثم ركعتين، ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر، ثم اضطجع حتى أتاه المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خرج فصلى الصبح. أخرجه أحمد والشيخان والنسائي(1) {226} ، (وقد) تقدم بيان المذاهب في حكم الوتر وعدد ركعاته وكيفية صلاته(2) .
__________
(1) ص249 و 250 ج4 الفتح الرباني، و ص 45 ج6 نووي مسلم (صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل) و ص 241 مجتبي (ما يستفتح به القيام) و (الشن) بفتح الشين وشد النون: القربة الخلق.
(2) انظر ص2 و 9 و 10 ج3 دين طبعة ثانية.(1/212)
"وحديث" سعد بن هشام قال: قدمت المدينة فدخلت على عائشة فقلت: أخبريني عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالناس صلاة العشاء ثم يأوي إلى فراشه فينام، فإذا كان جوف الليل قام إلى حاجته وإلى طهوره فتوضأ، ثم دخل المسجد فصلى ثماني ركعات، يخيل إلى أنه يسوي بينهن في القراءة والركوع والسجود، ثم يوتر بركعة، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، ثم يضع جنبه فربما جاء بلال فآذنه بالصلاة، ثم يغفي حتى يؤذنه بالصلاة، فكانت تلك صلاته حتى أسن او لحم. أخرجه أبو داود والنسائي(1){227}.
(
__________
(1) ص287 ج7 المنهل العذب (صلاة الليل) و ص244 ج1 مجتنبي (كيف يفعل إذا افتتح الصلاة قائماً). و (لحم) ككرم، أي كثر لحمه. أما لحم بكسر الحاء فمعناه اشتهى اللحم. وألحمه بفتحها: أطعم اللحم.(1/213)
وحديث) زرارة بن أو في أن عائشة سئلت عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوف الليل. فقالت: كان يصلي صلاة العشاء في جماعة ثم يرجع إلى أهله فيركع أربع ركعات، ثم يأوي إلى فراشه وينام وطهوره مغطى عند رأسه وسواكه موضوع حتى يبعثه الله تعالى ساعته التي يبعثه من الليل، فيتسوك ويسبغ الوضوء، ثم يقوم الى مصلاة فيصلي ثماني ركعات يقرأ فيهن بأم الكتاب وسورة من القرآن وما شاء الله ولا يقعد في شيء منها حتى يقعد في الثامنة ولا يسلم، ويقرأ في التاسعة ثم يقعد فيدعو بما شاء الله أن يدعوه، ويسأله ويرغب إليه ويسلم تسليمةً واحدةً شديدةً يكاد يوقظ أهل البيت من شدة تسليمه، ثم يقرأ وهو قاعد بأم الكتاب ويركع وهو قاعد، ثم يقرأ الثانية فيركع ويسجد وهو قاعد، ثم يدعو بما شاء الله أن يدعو به، ثم يسلم وينصرف. فلم تزل تلك صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدن فنقص من التسع ثنتين فجعلها إلى الست والسبع وركعتيه وهو قاعد حتى قبض على ذلك صلى الله عليه وسلم. أخرجه أبو داود(1) {228}.
__________
(1) ص287 ج7 المنهل العذب (صلاة الليل) تقدم بلفظ آخر رقم 215 ص185 و (يبعثه الله) أي يوقظه من النوم. و (بدن) كقرب وقعد، أي عظم وكثر لحمه. ويروي بدن بفتح الدال مشددة، أي كبر سنه. و (ركعتيه) معطوف على ما قبله، أي صيرها إلى الست والسبع (يصليها بتشهدين وسلام واحد) وركعتيه اللتين كان يصليهما بعد الوتر.(1/214)
"وحديث" حذيفة أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل، فلما دخل الصلاة قال: الله أكبر ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة، ثم قرأ البقرة ثم ركع. وكان ركوعه نحواً من قيامه، وكان يقول: سبحان ربي العظيم، ثم رفع رأسه فكان قيامه نحواً من ركوعه، وكان يقول: لربي الحمد، لربي الحمد، ثم سجد فكان سجوده نحواً من قيامه، وكان يقول: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى. ثم رفع رأسه فكان ما بين السجدتين نحواً من السجود، وكان يقول: رب اغفر لي، رب اغفر لي. فصلى أربع ركعات فقرأ فيهن البقرة وآل عمران والنساء والمائدة أو الأنعام. أخرجه أحمد وأبو داود(1)
(وكان) النبي صلى الله عليه وسلم يطيل السجود في قيام الليل، للاجتهاد في الدعاء والتضرع إلى الله تعالى (ففي الحديث) أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء. أخرجه مسلم وأبو داود، والنسائي عن أبي هريرة(2) {230}.
6- أذكار صلاة الليل:-
يقال فيها ما يقال في غيرها من الأذكار والأدعية التي تقدم بيانها في واجبات الصلاة وسننها(3) . وقد ورد في صلاة الليل أذكار وأدعية أخرى في أحاديث منها:
__________
(1) ص243 ج4 الفتح الرباني، وص 320 ج5 المنهل العذب (ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده).
(2) ص200 ج4 نووي مسلم (ما يقال في الركوع والسجود) وص 322 ج5 المنهل العذب المورود (الدعاء في الركوع والسجود) وص 170 ج1 مجتبي .
(3) ص200 ج4 نووي مسلم (ما يقال في الركوع والسجود) و ص 322 ج5 المنهل العذب المورود (الدعاء في الركوع والسجود) وص 170 ج1 مجتبي.(1/215)
"حديث طاوس" عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل يقول: اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد أنت قيام السموات والأرض، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن ، أنت الحق وقولك الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق ، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، والنبيون حق ، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق. اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني ، أنت المقدم وأنت المؤخر أنت الذي لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله. أخرجه مالك والسبعة(1) {231}.
(
__________
(1) ص390 ج1 زرقاني الموطإ (في الدعاء) و ص 246 ج4 الفتح الرباني، وص 17 ج2 تيسير الوصول (الدعاء عند التهجد)، وص 211 ج1 سنن ابن ماجه (الدعاء إذا قام الرجل من الليل) و (قيام السموات) بالتشديد، أي قائم بشئون خلقه ومدبرها. وفي رواية: قيوم. وفي أخرى: قيم. و(بك خاصمت) أي بما وهبت من البراهين والحجج خاصمت من عاند وكفر بك (وإليك) حاكمت) أي جعلتك الحاكم بيني وبين من جحد الحق، أو جعلت محاكمتي معه إلى كتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، لا إلى غيرهما (فاغفر لي) سأل النبي صلى الله عليه وسلم المغفرة وهو مغفور له، تواضعاً وإجلالاً لله تعالى، وتعليماً لأمته.(1/216)
وحديث) عاصم بن حميد قال: سألت عائشة: بأي شيء كان يفتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام الليل؟ فقالت: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، كان إذا قام كبر عشراً وحمد الله عشراً واستغفر عشراً وسبح عشراً وهلل عشراً، وقال: اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني، ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة. أخرجه النسائي وابن ماجه وأبو داود. وهذا لفظه(1) {232}.
7- أذكار الليل:-
يسن الاكثار من الدعاء والذكر والاستغفار في كل ساعة من الليل، ولا سيما النصف الأخير "لقول" جابر بن عبد الله: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله تعالى خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه، وذلك في كل ليلة. أخرجه أحمد ومسلم(2) {233}.
وقد ورد في أذكار الليل أحاديث، منها:
"حديث" أبى مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلته كفتاه. أخرجه السبعة(3){234} وكفتاه بتخفيف الفاء، أي أغنتاه عن قيام تلك الليلة بالقرآن، ووقتاه من كل سوء ومكروه.
__________
(1) ص241 ج1 مجتبي (ما يستفتح به القيام) و ص211 ج1 سنن ابن ماجه (الدعاء إذا قام الرجل من الليل) وص 176 ج5 المنهل العذب (ما تستفتح به الصلاة من الدعاء).
(2) ص313 ج3 مسند أحمد، ورقم 2331 ص471 ج2 فيض القدير.
(3) ص99 ج18 الفتح الرباني، وص 46 ج9 فتح الباري (فضل سورة البقرة) وص 92 ج6 نووي مسلم (فضل خواتيم سورة البقرة) وص 87 ج1 تيسير الوصول (سورة البقرة) و (قرأ الآيتين) هما قوله تعالى: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون" إلى آخر السورة.(1/217)
"وحديث" أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسل قال لأصحابه: أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ فشق ذلك عليهم وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال: الله أحد، الله الصمد ثلث القرآن. أخرجه مالك والبخاري والنسائي وأبو داود(1) {235}
"وحديث" أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ في ليلة عشر آيات كتب من الذاكرين، ومن قرأ بمائة آية كتب من القانتين، ومن قرأ بخمسمائة آية إلى الألف أصبح وله قنطار من الأجر. قيل: وما القنطار؟ قال: ملء مسك الثور ذهباً. أخرجه الدارمي {236}.
"وحديث" الشعبي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ عشر آيات: أربعاً من أول البقرة إلى "وأولئك هم المفلحون" وآية الكرسي وآيتين بعدها، وخواتيمها، لم يدخل ذلك البيت شيطان حتى يصبح. أخرجه الطبراني بسند رجاله رجال الصحيح إلا أن الشعبي لم يسمع من ابن مسعود. قاله الهيثمي(2) {237}
(وأخرجه) الدارمي عن الشعبي قال: قال عبد الله: من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح، أربعاً من أولها، وآية الكرسي وآيتين بعدها، وثلاثاً خواتيمها أولها: لله ما في السموات(3){45} ، فهو موقوف على ابن مسعود ولكنه في حكم المرفوع لأنه لا مجال للرأي في مثل هذا.
__________
(1) ص184 ج1 تيسير الوصول (سورة الاخلاص) و (الصمد) السيد المقصود في الحوائج دائماً، وكانت ثلث القرآن، لأن المقصود منه بيان التوحيد والصفات، والأوامر والنواهي، والقصص والمواعظ. وهذه السورة قد تضمنت بيان التوحيد والصفات كما تقدم بصفة 15 ج1 دين طبعة ثانية (الوحدانية)
(2) ص7 هامش إشراق الضياء في أذكار الصباح والمساء.
(3) ص448 ج2 سنن الدارمي (فضل أول سورة البقرة وآية الكرسي).(1/218)
"وحديث" سهل بن سعد الدين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن لكل شيء سناماً وإن سنام القرآن سورة البقرة، من قرأها في بيته ليلاً لم يدخله الشيطان ثلاث ليال، ومن قرأها في بيته نهاراً لم يدخله الشيطان ثلاثة ايام. أخرجه البيهقي وأبو يعلي والطبراني وفي سنده سعيد ابن خالد الخزاعي المدني وهو ضعيف(1) {238}
"وحديث" أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له في تلك الليلة. أخرجه الدارمي(2) {239}
"وحديث" أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لكل شيء قلب وقلب القرآن يس، ومن قرأها كتب الله له بقراءتها القرآن عشر مرات دون يس. أخرجه الترمذي والدارمي(3) {240}
"وقول" أبي رافع. من قرأ الدخان في ليلة الجمعة أصبح مغفوراً له. وزوج من الحور العين . أخرجه الدارمي(4) {46} وهو موقوف له حكم الرفع.
"وقول" جابر: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الم تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده الملك. أخرجه أحمد والدارمي والنسائي والترمذي والحاكم وقال: صحيح على شرطهما(5) وقال المناوي فيه اضطراب {241}
"وحديث" ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ تبارك الذي بيده الملك كل ليلة منعه الله عز وجل بها من عذاب القبر. وكنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نسميها المانعة، لأنها في كتاب الله عز وجل سورة المانعة، من قراها في كل ليلة فقد أكثر وأطاب. أخرجه النسائي(6) {242}
__________
(1) ص311 ج6 مجمع الزوائد (سورة البقرة).
(2) ص457 ج2 سنن الدارمي (فضل يس).
(3) ص158 ج1 تيسير الوصول (سورة يس) و ص 456 ج2 سنن الدارمي.
(4) ص457 منه (فضل حم الدخان).
(5) ص154 ج1 تيسير الوصول (سورة السجدة) وص 455 ج2 دارمي.
(6) ص223 ج2 الترغيب طبعة منير (الترغيب في قراءة سورة تبارك الذي بيده الملك).(1/219)
"وحديث" أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ حم المؤمن إلى قوله: إليه المصير، وآية الكرسي حين يمسي، حفظ بهما حتى يصبح، ومن قرأهما حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي. أخرجه الترمذي(1) {243}
8- ما يقال عند النوم:
يسن النوم على طهارة وذكر وعلى الشق الأيمن "لحديث" معاذ ابن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم يبيت على ذكر الله تعالى طاهراً فيتعار من الليل فيسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه. أخرجه أحمد وأبو داود. وهو حديث حسن(2) {244}
"ولحديث" أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليأخذ داخله إزاره فلينفض بها فراشه وليسم الله وليضطجع على شقه الأيمن، وليقل: سبحانك اللهم ربي، بك وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فاغفر لها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ بها عبادك الصالحين، أخرجه الشيخان وأبو داود، وهذا لفظ مسلم(3) {245}
"ولحديث" البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : إذا أويت إلى فراشك فتوضأ ونم على شقك الأيمن وقل: اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت، فإن مت مت على الفطرة وإن أصبحت أصبت خيراً. أخرجه السبعة إلا النسائي(4) {246}.
وقد ورد فيما يقال عند النوم أحاديث اخر منها:
__________
(1) ص161 ج1 تيسير الوصول (حم المؤمن).
(2) ص235 ج5 مسند أحمد. وص 310 ج4 سنن أبي داود (النوم على طهارة (فيتعار من الليل) أي يستيقظ من نومه.
(3) ص99 ج11 فتح الباري. وص 37 ج17 نووي مسلم (الدعاء عند النوم) وص312 ج4 سنن أبي داود (ما يقال عند النوم).
(4) ص292 ج4 مسند أحمد، وص18 ج2 تيسير الوصول (أدعية النوم).(1/220)
"حديث" نوفل الأشجعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: اقرأ "قل يأيها الكافرون"، ثم نم على خاتمتها، فإنها براءة من الشرك. أخرجه أبو داود والحاكم وقال: صحيح الإسناد(1) {247}.
"وحديث" ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أراد أن ينام على فراشه فنام على يمينه ثم قرأ "قل هو الله أحد" مائة مرة. فإذا كان يوم القيامة يقول له الرب تبارك وتعالى: ادخل على يمينك الجنة. أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب من حديث ثابت. وقد روي من غير هذا الوجه أيضاً عن ثابت(2){248}. وفي سنده حاتم ابن ميمون وهو ضعيف.
"وحديث" البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه من الليل، وضع يده تحت خده ثم يقول: باسمك الله أحيا وباسمك أموت، وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور. أخرجه أحمد ومسلم والنسائي(3) {249}.
"وحديث" علي رضي الله عنه أن فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادماً ، فقال: ألا أخبرك بما هو خير منه؟ تسبحين الله عند منامك ثلاثاً وثلاثين، وتحمدين الله ثلاثاً وثلاثين، وتكبرين الله أربعاً وثلاثين. أخرجه البخاري(4) {250}.
__________
(1) ص313 ج4 سنن أبي داود (ما يقال عند النوم – الأدب) وص 565 ج1 مستدرك.
(2) ص185 ج1 تيسير الوصول (سورة الإخلاص).
(3) 302 ج4 مسند أحمد، وص 35 ج17 نووي مسلم (الدعاء عند النوم).
(4) ص407 ج9 فتح الباري (خادم المرأة- النفقات) وص 51 منه (فضل المعوذات).(1/221)
"وحديث" عائشةَ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ونفث فيهما وقرأ: قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس. ثم مسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات. أخرجه البخاري(1){251}. والنفث شبيه بالنفخ، ويكون بعد جمع الكفين وقبل القراءة. وفائدته التبرك بالهواء والنفس.
"وحديث" حفصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يرقد وضع يده اليمنى تحت خده ثم يقول: اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك، ثلاث مرات. أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والبزار وحسنه الحافظ ابن حجر. وأخرجه الترمذي عن حذيفة وقال: هذا حديث صحيح حسن(2) {252}
"وحديث" أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أوى إلى فراشه: اللهم رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغننا من الفقر. أخرجه مسلم وأبو داود(3) {253}
"وحديث" عليّ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند مضجعه: اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم وكلماتك التامة من شر ما أنت آخذ بناصيته. اللهم أنت تكشف المغرم والمأثم. اللهم لا يهزم جندك، ولا يخلف وعدك ولا ينفع ذا الجد منك الجد. سبحانك اللهم وبحمدك. أخرجه أبو داود والنسائي بسند صحيح(4) {254}
__________
(1) المرجع السابق.
(2) ص287 ج6 مسند أحمد، وص 310 ج4 سنن أبي داود (ما يقال عند النوم).
(3) ص313 ج4 سنن أبي داود، وص 36 ج17 نووي مسلم (الدعاء عند النوم).
(4) ص312 ج4 سنن أبي داود (ما يقال عند النوم).(1/222)
"وحديث" أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا، وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي. أخرجه أحمد ومسلم والثلاثة وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح(1) {255}.
"وحديث" أبي الأزهر الأنماري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه من الليل قال: باسم الله وضعت جنبي، اللهم اغفر ذنبي، وأخسيء شيطاني، وفك رهاني، وثقل ميزاني، واجعلني في الندي الأعلى. أخرجه أبو داود والنسائي وصححه(2) {256}
"وحديث" ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أخذ مضجعه: الحمد لله الذي كفاني وآواني، وأطعمني وسقاني، والذي من علي فأفضل، والذي أعطاني فأجزل، الحمد لله على كل حال. اللهم رب كل شيء ومليكه وإله كل شيء، أعوذ بك من النار. أخرجه أبو داود والنسائي(3){257}
(والأحاديث) والآثار في هذا كثيرة. وفيما ذكر كفاية لمن وفق للعمل بكل ما ذكر او ببعضه حسب التوفيق والهداية.
(وحكمة) الدعاء بما ذكر عند النوم أن يكون خاتمة أعماله التوحيد والكلم الطيب.
9- ما يقال عند الاستيقاظ من النوم:
المستيقظ بالليل نوعان: من لا ينام بعده، ومن يريد النوم.
(أ)يستحب للأول أن يذكر الله ويتوضأ ويصلي لتحل عقد الشيطان التي عقدها على قافية العبد عند نومه ويصبح نشيطاً طيب النفس كما تقدم في حديث أبي هريرة (4) وقد ورد في هذا أدعية وأذكار منها:"ما تقدم"في حديث البراء(5).
__________
(1) ص37 ج17 نووي مسلم (الدعاء عند النوم) وص 18 ج2 تيسير الوصول.
(2) ص313 ج4 سنن أبي داود (ما يقال عند النوم) وص 440 ج1 مستدرك. و (الندى) بفتح فكسر وشد الياء: الملأ (الأعلى) من الملائكة.
(3) ص313 ج4 سنن أبي داود (ما يقال عند النوم).
(4) هو الحديث رقم 205 ص180 (فضل قيام الليل).
(5) هو الحديث رقم 249 ص198 (أذكار الليل).(1/223)
"وما في حديث" أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إذا استيقظ أحدكم فليقل: الحمد لله الذي رد علي روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره. أخرجه الترمذي والنسائي وابن السني بسند حسن(1) {258}
"وما في حديث" أبي هريرة أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من رجل ينتبه من نومه فيقول: الحمد لله الذي خلق النوم واليقظة. الحمد لله الذي بعثني سالماً سوياً. أشهد أن الله يحيي الموتى وهو على شيء قدير، إلا قال الله تعالى: صدق عبدي. أخرجه ابن السني(2) {259}
"وما في حديث" عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا هب من الليل كبر عشراً وحمد عشراً، وقال: سبحان الله وبحمده عشراً، وقال: سبحان الملك القدوس عشراً، واستغفر عشراً وهلل عشراً، ثم قال: اللهم إني أعوذ بك من ضيق الدنيا وضيق يوم القيامة عشراً، ثم يفتتح الصلاة. أخرجه أبو داود. وأخرجه أحمد والطبراني في الأوسط بلفظ آخر. ورجاله ثقات(3) {260}
(وما في حديثها) أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ من الليل قال: لا إله إلا أنت سبحانك، الله وبحمدك، أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمتك، اللهم زدني علماً، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمةً إنك أنت الوهاب. أخرجه أبو داود والحاكم. وقال: صحيح على شرط الشيخين(4) {261}
(ب) ويستحب لمن استيقظ وهو يريد النوم أن يذكر الله تعالى حتى يغلبه النوم. وقد ورد فيه أذكار منها: ما تقدم.
__________
(1) رقم 437 ص280، ج1 فيض القدير، وص 11 الأذكار النووية (ما يقول إذا استيقظ من منامه).
(2) ص11 الأذكار النووية (ما يقول إذا استيقظ من منامه).
(3) ص322 ج4 سنن أبي داود (ما يقول إذا أصبح) وص 263 ج2 مجمع الزوائد (ما يفعل إذا قام من الليل) (ثم يفتتح الصلاة) أي التهجد.
(4) ص314 ج4 سنن أبي داود (ما يقول الرجل إذا تعار من النوم) وص 540 ج1 مستدرك (وتعار بتشديد الراء: أي استيقظ).(1/224)
"وما في حديث"عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:من تعار من الليل فقال:لا إله إلا الله وحده لا شريك له،له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير،الحمد لله، وسبحان الله،ولا إله إلا الله،والله أكبر،ولا حول ولا قوة إلا بالله.ثم قال:اللهم اغفر لي أو دعا استجيب له،فإن توضأ قبلت صلاته.أخرجه البخاري وأبو داود(1) {262}
(فينبغي) لكل مؤمن أن يغتنم العمل بهذا الحديث ونحوه ويسأل ربه مخلصاً له أن يرزقه حظاً من قيام الليل، وأن يوفقه لعمل الأبرار ويرزقه الحسنى وزيادة.
"وما في حديث" عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تضور من الليل قال: لا إله إلا الواحد القهار، رب السموات والأرض وما بينهما العزيز الغفار. أخرجه النسائي وابن السني والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين(2) {263}
10- ما يقول من قلق في فراشه:
قد وقع هذا لبعض الصحابة فأرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدواء الكافي، والبلسم الشافي وهو ذكر الله تعالى. وقد ورد فيه أحاديث منها.
(ما روي) محمد بن يحيي بن حبان أن الوليد بن المغيرة قال: يا رسول الله، إني أجد وحشة. فقال: إذا أخذت مضجعك فقل: أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ومن شر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون،
فإنه لا يضرك. أخرجه أحمد(3) {264}.
__________
(1) ص26 ج3 فتح الباري (فضل من تعار من الليل فصلى) وص 314 ج4 سنن أبي داود.
(2) ص540 ج1 مستدرك، وص 46 الأذكار النووية (ما يقول إذا استيقظ في الليل وأراد النوم بعده) و (التضور) التقلب في الفراش.
(3) ص57 ج4 مسند أحمد (حديث الوليد بن الوليد رضي الله عنه) والكلمات التامة، أي الشاملة الكاملة وهي أسماء الله تعالى وصفاته وآيات كتبه (وهمزات الشياطين) وساوسهم (وأن يحضرون) بكسر نون الوقاية وحذف ياء المتكلم. وهو مقتبس من قوله تعالى: "وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين (97) وأعوذ بك رب أن يحضرون" (98) سورة المؤمنون.(1/225)
"وحديث" علقمة عن عبد الرحمن بن سابط قال: أصاب خالد ابن الوليد أرق، فقال الله النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أعلمك كلماتٍ إذا قلتهن نمت؟ قل: اللهم رب السموات السبع وما أظلت، ورب الأرضين وما أقلت، ورب الشياطين وما أضلت، كن لي جاراً من شر خلقك أجمعين أن يفرط عليَّ أحد منهم، أو أن يطغى، عز جارك، وتبارك اسمك، وجل ثناؤك، ولا إله غيرك، ولا إله إلا أنت، فقالهن فنام. أخرجه الطبراني في الأوسط أبي شيبة في مصنفه بسند جيد، رجاله رجال الصحيح، إلا أن عبد الرحمن بن سابط لم يسمع من خالد بن الوليد(1) {265}. وضعفه الترمذي وقال: ليس إسناده بالقوي. وضعف إسناده المنذري والنووي.
11- ما يقول من يفرغ في نومه:
__________
(1) ص126 ج10 مجمع الزوائد (ما يقول إذا أرق أو فزع).(1/226)
فزع بعض الصحابة في النوم فأرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما وقاهم منه (روى) عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا فزع أحدكم في النوم فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عقابه، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، فإنها لن تضره. قال: وكان عبد الله بن عمرو يلقنها من عقل من ولده أن يقولها عند نومه، ومن لم يعقل كتبها في صك ثم علقها في عنقه. أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وقال: صحيح الإسناد(1){
__________
(1) ص81 ج2 مسند أحمد، وص 263 ج2 الترغيب والترهيب (الترغيب فيما يقوله من يأرق او يفزع بالليل) وبعمل ابن عمرو استدل من قال بجواز تعليق التمائم والتعاويذ التي من القرآن وأسماء الله تعالى وصفاته. وهو مروي عن ابن عمرو وعائشة. وبه قال أحمد في رواية. (وقال) ابن مسعود وابن عباس وحذيفة وعقبة بن عامر وغيرهم: لا يجوز تعليق التمائم والتعاويذ مطلقاً. وبه قال الحنفيون وأحمد في رواية اختارها كثير من أصحابه (لما) ثبت عن ابن مسعود أنه دخل على امرأته وفي عنقها شيء معقود، فجذبه فقطعه ثم قال: لقد أصبح آل عبد الله أغنياء أن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً، سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: إن الرقي والتمائم والتولة (بكسر التاء وفتح الواو، شيء شبيه بالسحر تفعله المرأة ليحبها زوجها) شرك فقالت امرأته: لم تقول هذا؟ والله لقد كانت عيني تقذف وكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيني. فإذا رقاني سكنت. فقال عبد الله: إنما ذاك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده فإذا رقاها كف عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أذهب الباس رب الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً. أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه [267] ص186 ج17 الفتح الرباني، وص 372 ج2 تيسير الوصول (النهي عن ذلك) أي الرقي والتمائم.
"ولحديث" عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: من علق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة الله له. أخرجه أحمد وأبو يعلي والطبراني بسند رجاله ثقات [268] ص187 ج17 الفتح الرباني.
"ولقول" عيس بن عبد الرحمن بن أبي ليلى: دخلت على عبد الله بن عكيم (بالتصغير) أبي معبد الجهني أعوده وبه حمرة (ورم بالوجه والجسد) فقلت:ألا تعلق شيئاً؟ قال: الموت أقرب من ذلك، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: من تعلق شيئاً وكل إليه. أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم والترمذي وقال:إنما نعرفه من حديث ابن أبي ليلى [269] ص88 ج1 الفتح الرباني، وص 273 ج2 تيسير الوصول (النهي عن ذلك).
"والحديث" عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أبصر على عضد رجل حلقة من صفر (بضم فسكون، أي نحاس) فقال: ويحك، ما هذه؟ قال: من الواهنة (وهي مرض يأخذ في العضد، او عرق يأخذ في المنكب واليد كلها فيرقي منها، وربما علق عليها خرز يقال له خرز الواهنة). قال: أما إنها لا تزيدك إلا وهناً، انبذها عنك، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً. أخرجه أحمد [270] ص187 ج17 الفتح الرباني.
(وأجاب) الأولون بان هذه الأحاديث محمولة على التمائم التي فيها شرك وما لا يعرف ما فيها، وعلى خرزات كانت العرب تعلقها على أولادها اتقاء العين (أما) تعليق التمائم على شيء من كتاب الله تعالى واسم من أسمائه أو دعوات رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بأس به "لقول" عوف بن مالك: كنا نرقي في الجاهلية فقلنا: يا رسول الله، كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا على رقاكم، ثم قال: لا بأس بما ليس فيه شرك. أخرجه مسلم وأبو داود [271] ص369 ج2 تيسير الوصول (جواز الرقي والتمائم).
"ولقول" جابر: أرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في رقية الحية، ولدغت رجلاً منا- ونحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- عقرب، فقال رجل: يا رسول الله، أأرقى؟ فقال: من استطاع منكم ان ينفع أخاه فليفعل. أخرجه مسلم [272] ص370 ج2 تيسير الوصول (جواز الرقي والتمائم). (والأفضل) ترك تعليق التمائم والتعاويذ ولاسيما للمتوكلين.
(روى) عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب. قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: الذين لا يكتوون ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون. فقام عكاشة رضي الله عنه فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: أنت منهم. فقام آخر (هو سعد بن عبادة) فقال: يا نبي الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة. أخرجه أحمد ومسلم. وأخرجه البخاري عن ابن عباس [273] ص436 ج4 مسند أحمد، وص 371 ج3 تيسير الوصول (النهي عن ذلك).
(أما) الاستشفاء بالرقي والتحصن بها من العين وغيرها فهو جائز اتفاقاً (قال) أنس بن مالك: أرخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من الحمة (بضم ففتح: السم) والعين والنملة. أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي [274] ص370 ج2 تيسير الوصول (والنملة بفتح فسكون: قروح تخرج في الجنب وغيره).
(وعن) بريدة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: لا رقية إلا من عين أو حمة. أخرجه أحمد ومسلم وابن ماجه، وأخرجه أحمد وأبو داود والترمذي عن عمران بن حصين [275] ص185 ج17 الفتح الرباني. ورقم 9885 ص426 ج6 فيض القدير. ومعناه: لا رقية أولى وأنفع من رقية العين والحمة. وليس معناه أنه لا تجوز الرقية من غيرهما. فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رقي بعن الصحابة من غيرهما (قال) ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم رقي الحمى والأوجاع كلها أن يقولوا: باسم الله الكبير، أعوذ بالله العظيم من شر كل عرق نعار (بشد العين، أي يخرج منه الدم بقوة) ومن شر حر النار. أخرجه أحمد والترمذي وقال: حديث غريب والحاكم وصححه [276] ص370 ج2 تيسير الوصول. ورقم 7111 ص233 ج5 فيض القدير.(1/227)
266}. وقال مالك: بلغني أن خالد بن الوليد قال لرسول الله إني أروع في منامي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قل: أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون(1) {277}
12- ما يقول من تحرك في الليل:-
(روى) عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قال حين يتحرك من الليل: باسم الله عشر مرات، وسبحان الله عشراً، آمنت بالله وكفرت بالطاغوت عشراً، وقي كل شيء يتخوفه ولم ينبغ لذنب أن يدركه إلى مثلها. أخرجه الطبراني في الأوسط(2) {278}.
وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تضور من الليل قال: لا إله إلا الله الواحد القهار، رب السموات والأرض وما بينهما العزيز الغفار. أخرجه النسائي والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين(3) {279}
13- ما يقول إذا رأى في منامه ما يحب أو يكره:
يستحب لمن رأى رؤيا صالحة أن يحمد الله تعالى وأن يستبشر بها ويخبر بها من يحبه دون من يكرهه. ويستحب لمن رأى رؤيا يكرهها أن يتعوذ من شرها وشر الشيطان، وأن يتفل حين يستيقظ من نومه على يساره ولا يذكرها لأحد أصلاً، وأن يتحول من جنبه الذي كان عليه، وأن يقوم فيصلي.
(وقد) ورد في هذا أحاديث، منها:
"حديث" أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها وليحدث بها. وإذا رأى غير ذلك مما بكره فإنما هي من الشيطان، فليستعذ بالله من شرها ولا يذكرها لأحدٍ فإنها لا تضره. أخرجه أحمد والبخاري والترمذي(4) {280}
(
__________
(1) ص19 ج2 تيسير الوصول (أدعية النوم والانتباه).
(2) ص213 ج1 الترغيب والترهيب (الترغيب في كلمات يقولهن إذا استيقظ من الليل).
(3) رقم 6615 ص112 ج5 فيض القدير. والتضور: التقلب في الفراش.
(4) ص300 ج12 فتح الباري (الرؤيا من الله) ورقم 621 ص350 ج1 فيض القدير.(1/228)
وحديث) جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثاً وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثاً، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه. أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه(1) {281}
"وقول أبي سلمة" لقد كنت أرى الرؤيا تمرضني، فلقيت أبا قتادة، فقال: وأنا كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الرؤيا الصالحة من الله، فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث بها إلا من يحب، وإن رأى ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثاً وليتعوذ بالله من شرها وشر الشيطان ولا يحدث بها أحداً فإنها لا تضره. أخرجه مسلم(2){282}. (وحكمة) أنه لا يحدث بها إلا من يحب، أنه إذا قصها على من لا يحبه فقد يعبرها بما يكره (فائدة) الرؤيا المكروهة هي تكون من حديث النفس وشهواتها ورؤيا التهويل والتخويف. وقد يجتمع هم النفس وأحزان الشيطان. وهذا النوع من المأمور بالاستعاذة منه، لأنه من تخيلاته. فإذا فعل المأمور به صادقاً أذهب الله عنه ما أصابه من ذلك. قاله في نزل الأبرار.
14- ما يقول من قصت عليه الرؤيا:
__________
(1) ص20 ج15 نووي مسلم (الرؤيا) ورقم 619 ص349 ج1 فيض القدير.
(2) ص19 ج15 نووي مسلم (كتاب الرؤيا).(1/229)
قال أبو موسى الأشعري: رأيت في المنام كأني في ظل شجرة ومعي دواة وقرطاس وأنا أكتب من أول ص حتى بلغت السجدة، فسجدت الدواة والقرطاس والشجرة وسمعتهن يقلن في سجودهن: اللهم احطط بها وزراً، وأحرز بها شكراً، وأعظم بها أجراً، فاستيقظت وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته الخبر، فقال: خيراً رأيت، وخيراً يكون، نمت ونامت عيناك نومة نبيّ عندها مغفرة، ونحنُ نترقب ما ترقب. أخرجه ابن السني(1) {283}
15- قضاء قيام الليل:
من اعتاد القيام وغلبه نوم أو طرأ عليه عذر منعه من القيام، فله أجر ما نؤي غير مضاعف، واستحب له قضاؤه نهاراً "لحديث" عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من امريء تكون له صلاة بليل يغلبه عليها نوم إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة. أخرجه مالك وأبو داود والنسائي(2) {284}
" ولحديث " عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر ، كتب له كأنما قرأه من الليل . أخرجه أحمد والأربعة وقال الترمذي : حديث
حسن صحيح(3) {285}
(والحزب) بكسر فسكون: ما اعتاده الشخص من قراءة أو صلاة أو ذكرٍ.
(
__________
(1) قال النووي في الأذكار: روينا في كتاب ابن السني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال- لمن قال له رأيت رؤيا-: خيراً رأيت وخيراً يكون. وفي رواية: خيراً تلقاه وشراً تقاه. خيراً لنا وشراً على أعدائنا والحمد لله رب العالمين. ص74 الأذكار النووية.
(2) ص211 ج2 تيسير الوصول (صلاة الليل).
(3) ص53 ج1 مسند أحمد ولفظه: من فاته شيء من ورد. وص 237 ج7 المنهل العذب (من نام عن حزبه) وص 255 ج1 مجتبي (متى يقضي من نام عن حزبه) وص 209 ج1 سنن ابن ماجه. و (كتب له......الخ) أي أعطى أجره كاملاً كما لو أداه ليلاً، تفضلاً من الله تعالى.(1/230)
وعن) عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فاتته الصلاة من الليل من وجعٍ أو غيره، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة. أخرجه مسلم(1) {286}.
(ففي) هذه الأحاديث دليل على استحباب اتخاذ الأوراد ليلاً، وقضائها إذا فاتت بنوم أو غيره من الأعذار فيما بين صلاة الصبح والظهر.
(وبهذا) قال أبو حنيفة وأبو يوسف ، لحديث عمر.
(وقالت) الشافعية ومحمد بن الحسن: يستحب قضاؤها في النهار مطلقاً، وهو روايةً عن أحمد، لحديث مسلم بن عائشة.
(وقالت) المالكية: من فاتته صلاة الليل لعذر فإن تذكرها قبل صلاة الصبح صلاها قبله وإلا فليس له قضاؤها. والأحاديث حجة عليهم.
16- بدع قيام الليل:
قد خرج بعض المتعبدين في قيام الليل عن الجادة والطريق القويم، طريق سيد الأوابين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله.
(وقد) بين بعض ذلك الحافظ ابن الجوزي، قال: وقد لبس إبليس على جماعة من المتعبدين، فأكثروا من صلاة الليل، وفيهم من يسهره كله ، ويفرح بقيام الليل وصلاة الضحى أكثر مما يفرح بأداء الفرائض، ثم يقع (أي ينام) قبيل الفجر فتفوته الفريضة أو يقوم فيتهيأ لها فتفوته الجماعة، أو يصبح كسلان، فلا يقدر على الكسب لعائلته.
(ولقد) رأيت شيخاً من المتعبدين يمشي كثيراً من النهار في جامع المنصور، فسألت عن سبب مشيه؟ فقيل لي: لئلا ينام. فقلت: هذا جهلٌ بمقتضى الشرع والعقل.
__________
(1) ص356 ج6 دليل الفالحين (كيف يتدارك من فاته شيء من حزبه).(1/231)
أما الشرع فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن لنفسك عليك حقاً فقم ونم(1) . وكان يقول: عليكم هدياً قاصداً فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه(2).
(وعن) أنس بن مالك، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وحبلٌ ممدودٌ بين ساريتين، فقال: ما هذا؟ قالوا: لزينب تصلي، فإذا كسلت أو فترت أمسكت به. فقال: حلوه. ثم قال: ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر فليقعد. أخرجه الشيخان(3) {289}.
(
__________
(1) هو بعض حديث أخرجه أبو داود عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى عثمان بن مظعون، فجاءه فقال:يا عثمان أرغبت عن سنتي؟ قال: لا والله يا رسول الله، ولكن سنتك أطلب.قال:فإني أنام وأصلي وأصوم وأفطر وأنكح النساء،فاتق الله يا عثمان،فإن لأهلك عليك حقاً، وإن لضيفك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، فصم وأفطر وصل ونم [287] ص303 ج7 المنهل العذب(ما يؤمر به من القصد في الصلاة).
(2) هو بعض حديث أخرجه أحمد والبيهقي والحاكم وصححه عن بريدة قال: خرجت ذات يوم أمشي فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي، فأخذ بيدي فانطلقنا جميعاً، فإذا برجل يصلي يكثر من الركوع والسجود. فقال: أترى هذا مرائياً؟ قلت: الله ورسوله أعلم. فأرسل يده وطبق بين يديه ثلاث مرات يرفع يديه ويضربهما ويقول: عليكم هدياً قاصداً (أي طريقاً معتدلاً. والمعنى: الزموا القصد في العمل وهو الأخذ بالأرفق بلا غلو ولا تقصير) فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه (أي من يقاومه ويكلف نفسه من الطاعات فوق طاقته يؤدي به ذلك إلى التقصير في العمل وترك الواجبات) [288]، ص350 ج5 مسند احمد، وص 18 ج3 سنن البيهقي (القصد في العبادة).
(3) ص24 ج3 فتح الباري (ما يكره من التشديد في العبادة) وص 72 ج6 نووي مسلم (فضيلة العمل الدائم).(1/232)
وعن) عائشة قالتْ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإنه إذا صلى وهو ينعس لعله يذهب ليستغفر فيسب نفسه. أخرجه الشيخان(1) {290}
(وأما) العقل فإن النوم يجدد القوي التي كلت بالسهر، فمتى دفعه الإنسان وقت الحاجة إليه أثر في بدنه وعقله، فنعوذ بالله من الجهل.
(فإن قال) قائل: فقد روي لنا أن جماعةً من السلف كانوا يحيون الليل، (فالجواب) أن أولئك تدرجوا حتى قدروا على ذلك ، وكانوا على ثقةٍ من حفظِ صلاةِ الفجر في الجماعة. وكانوا يستعينُون بالقائلةِ مع قلة المطعم، فصح لهم ذلك. ثم لم يبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهر ليلة لم ينم فيها فسنته هي المتبوعة.
(وقد) لبس إبليس على جماعةٍ من قوام الليل ، فيحدثوا بذلك بالنهار، فربما قال أحدهم: فلان المؤذن أذن بوقت ليعلم الناس أنه كان منتبهاً. فأقل ما في هذا- إن سلم من الرياء- أن ينقل من ديوان السر إلى ديوان العلانية فيقلّ الثواب.
(وقد) لبّس على آخرين انفردوا في المساجد للصلاة والتعبُّد، فعرفوا بذلك واجتمع إليهم ناسٌ فصلُّوا بصلاتهم، وشاع بين الناس حالهم، وذلك من دسائس إبليس، وبه تقوى النفس على التعبد لعلمها أن ذلك يشيع ويوجب المدح.
(وعن) زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صلاةُ المرءِ في بيتِه أفضلُ من صلاتِه في مسْجِدِي هذا إلا المكتوبة. أخرجه أحمد والثلاثة(2) {291}
(وقد) لبّس على جماعة من المتعبدين فتراهم يصلون الليل والنهار ، ولا ينظرون في إصلاح عيبٍ باطن ولا في مطعم. والنظر في ذلك أولى بهم من كثرةِ التنفُّل(3).
7- صلاة الضحى
__________
(1) ص218 ج1 فتح الباري (الوضوء من النوم) وص 74 ج6 نووي مسلم (أمر من نعس في صلاته أن يرقد).
(2) تقدم رقم 447 ص310 ج2 دين (مكان صلاة التطوع).
(3) ص150 تلبيس إبليس (نقد مسالك العباد في العبادات).(1/233)
الضحى بالضم والقصر، وقت ارتفاع الشمس أول النهار . وبه سميت صلاةُ الضحى (وهي) مشروعة مرغب فيها، نفعها عظيم، وفضلها عميم، قد ورد فيه عدة أحاديث منها :
"حديث" أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مَنْ حَافَظَ على شفعة الضحى، غفرت له ذنوبه وإن كانت مثلَ زبدِ البحْر. أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي، وقال : قد روى غير واحدٍ هذا الحديث عن نهاس بن قهم، ولا نعرفه إلا من حديثه. اهـ. والنهاس ضعيف(1) {292}
"وحديث" عقبة بن عامر أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فجلس رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوماً يحدث أصحابه فقال : من قام إذا استقلت الشمس فتوضأ فأحسن الوضوءَ ثم قام فصلى ركعتين، غفر له خطاياه، فكان كما ولدته أمه. أخرجه أحمد وأبو يعلي. وفي سنده رجل مبهم(2) {293}
"وحديث" أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة وكل تسبيحة صدقة وتهليلة صدقة، وتكبيرة صدقة، وتحميدة صدقة، وأمر بمعروفٍ صدقة، ونهي عن منكرٍ صدقة ويجزيء أحدكم من ذلك كله ركعتان يركعهما من الضحى. أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي(3){
__________
(1) ص20 ج5 الفتح الرباني، وص 215 ج1 سنن ابن ماجه (صلاة الضحى)، وص347 ج1 تحفة الاحوذي. والمراد بالذنوب الصغائر، اما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة الصحيحة أو عفو الله تعالى.
(2) ص21 ج5 الفتح الرباني، وص 236 ج2 مجمع الزوائد (صلاة الضحى) و (استقلت الشمس) أي ارتفعت (فكان كما ولدته أمه) كناية عن تطهيره من الصغائر فتكون صحيفته بيضاء.
(3) ص22 ج5 الفتح الرباني، وص 233 ج5 نووي مسلم (صلاة الضحى)، وص189 ج7 المنهل العذب. والسلامي، بضم السين وتخفيف اللام وفتح الميم: عظام الجسد ومفاصله. والمعنى: يصبح على كل عظم من عظام ابن آدم صدقة شكراً لمن صوره وحفظه عما يغيره ويؤذيه.
(
وفي الحديث) في الإنسان ستون وثلاثمائة مفصل فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منها صدقة. قالوا: ومن يطيق ذلك يا رسول الله؟ قال: النخاعة في المسجد تدفنها، والشيء تنحيه عن الطريق، فإن لم تقدر فركعنا الضحى تجزيء عنك. أخرجه أحمد وأبو داود عن بريدة [295] ص359 ج5 مسند أحمد وص188 ج7 المنهل العذب- الشرح. وفي سنده الحسين بن وافد. ضعفه أبو حاتم، وقواه غيره.(1/234)
294}
"وحديث" نعيم بن همار الغطفاني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال ربكم عز وجل: صل لي يا ابن آدم أربعاً في أول النهار أكفك آخره. أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والدارمي بسند جيد(1) {296}
(وفي) الباب أحاديث أخرى تدلُّ على عظيم فضل صلاة الضحى(2) والحث عليها وكثرة فوائدها، وأنها أعظم غنيمة يغتنمها المسلم، وينتصر بها على الشيطان، ويرضى بها عنه الرحمن، ويعمه بالإحسان.
(ومن) فوائدها أن مصليها يكون في حفظ الله ورعايته طول يومه. ومنها أنها تكفر صغائر الذنوب وتحفظ مصليها من ارتكاب الكبائر. ومنها أنها تجزيء عن ستين وثلثمائة صدقة المطلوبة على مفاصل البدن. فعلى العاقل أن يهتم بتأديها ويواظب عليها. ويكثر من التسبيح، والتحميد والتهليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر أنواع الطاعة، ليؤدي بذلك ما عليه من الصدقات المطلوبة على أعضائه. ثم الكلام فيها ينحصر في ستة مباحث:
1- وقت صلاة الضحى:
__________
(1) ص287 ج5 مسند احمد. وص 192 ج7 المنهل العذب (صلاة الضحى)، وص 238 ج1 سنن الدارمي (ولعل) تخصيص الضحى بذلك، أنه وقت غفلة أكثر الناس عن الطاعة لاشتغالهم فيه بأعمالهم الدنيوية. و (أكفك) أي أكفك شر (آخره من الهموم والبلايا).
(2) منها: حديث أبي أمامة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة، فأجره كأجر الحاج المحرم (في أنه يكتب له بكل خطوة أجر)، ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه (أي لا يتعبه شيء) إلا إياه (أي الخروج إليها) فأجره كأجر المعتمر. وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما، كتاب (أي مكتوب) في عليين. أخرجه أحمد وأبو داود والبيهقي [297] ص268 ج5 مسند أحمد بلفظ: من مشى إلى صلاة، وص 250 ج4 المنهل العذب (فضل المشي إلى الصلاة).(1/235)
وقتها من ارتفاع الشمس قدر رمح أو رمحين إلى الزوال "لقول" عليّ رضي الله عنه: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الضحى حين كانت الشمس من المشرق من مكانها من المغرب من صلاة العصر. أخرجه ابن أحمد في زوائد المسند ابن ماجه(1) {498}.
(والمعنى) أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي الضحى ومقدار ارتفاع الشمس بالمشرق كمقدار ارتفاعها بالمغرب عند صلاة العصر.
"ولقول" سعيد بن نافع: رآني أبو بشير الأنصاري وأنا أصلي صلاة الضحى حين طلعت الشمس فعاب عليّ ذلك ونهاني. ثم قال: إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تصلوا حتى ترتفع الشمسُ، فإنها تطلع بين قرني الشيطان. أخرجه أحمد بسند جيد(2){299}.
(والأفضل) تأخيرها حتى بمضي ربع النهار "لقول" زيد بن أرقم: خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على أهل قباءٍ وهم يصلون الضحى. فقال: صلاةُ الأوابين إذا مضت الفصال من الضحى. أخرجه أحمد ومسلم(3){300}
(
__________
(1) ص25 ج5 الفتح الرباني، وهو بعض حديث عند ابن ماجه ص 183 ج1 (ما يستحب من التطوع بالنهار).
(2) ص26 ج5 الفتح الرباني، وص 30 ج6 نووي مسلم (صلاة الأوابين) وقباء بضم القاف ممدوداً وهو مذكر مصروف، وهي قرية جنوب المدينة على نحو ميلين، بها مسجد قباء، وهو أول مسجد أسس على التقوى، أسسه النبي صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه إلى المدينة. و (رمض) كعلم (والرمضاء) شدة الحر، ويظهر أثرها على الرمل وغيره (والفصال) جميع فيصل، وهو ولد الناقة إذا فصل عن أمه.
(3) ص26 ج5 الفتح الرباني، وص 30 ج6 نووي مسلم (صلاة الأوابين) وقباء بضم القاف ممدوداً وهو مذكر مصروف، وهي قرية جنوب المدينة على نحو ميلين، بها مسجد قباء، وهو أول مسجد أسس على التقوى، أسسه النبي صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه إلى المدينة. و (رمض) كعلم (والرمضاء) شدة الحر، ويظهر أثرها على الرمل وغيره (والفصال) جميع فيصل، وهو ولد الناقة إذا فصل عن أمه.(1/236)
وبهذا) قالت الأئمة الأربعة والجمهور (قال) الماوردي: وقتها المختار إذا مضى ربع النهار، وجزم به النووي في التحقيق (وحكى) في الروضة أن وقتها يدخل بطلوع الشمس.
(ويرده) ما تقدم عن سعيد بن نافع.
2- حكم صلاة الضحى:
هي سنة مؤكدة في حق النبي صلى الله عليه وسلم وحق أمته عند الأئمة والجمهور لما تقدم "ولقول" أبي هريرة: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاثٍ لستُ بتاركهن: ألا أنام إلا على وتر، وألا أدع ركعتي الضحى فإنها صلاةُ الأوابين، وصيام ثلاثةِ أيامٍ من كلِّ شهر. أخرجه السبعة والبيهقي(1) {301}.
__________
(1) ص20 ج5 الفتح الرباني، وص 38 ج3 فتح الباري (صلاة الضحى) وص 71 ج8 المنهل العذب (الوتر قبل النوم) وبقية المراجع بهامش 1 ص331 ج8 دين (صوم ثلاثة أيام من كل شهر).(1/237)
"ولقول" انس: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر صلى سبحة الضحى ثماني ركعاتٍ، فلما انصرف قال: إني صليت صلاةَ رغبةٍ ورهبةٍ سألت ربي عزَّ وجلَّ ثلاثاً فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة: سألته ألا يبتلى أمتي بالسنين، ففعل، وسألته ألا يظهر عليهم عدوهم، ففعل، وسألته ألا يلبسهم شيعاً، فأبى عليَّ. أخرجه أحمد والنسائي والحاكم وابن خزيمة وصححاه(1) {302}
(وقيل) لا تشرع صلاةُ الضحى إلا لسبب كالقدوم من سفرٍ والتعليم والتبرك والشكر "لقول" عائشة: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الضحى إلا أن يقدم من سفرٍ فيصلي ركعتين. أخرجه أحمد(2) {303}
"ولقول" عبد الله بن رواحة: سمعت أنس بن مالك يقول: لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى إلا أن يخرج في سفرٍ أو يقدم من سفرٍ. أخرجه أحمد(3) {304}
__________
(1) ص35 ج5 الفتح الرباني، وص 314 ج1 مستدرك؟ والمراد بالسنين الجدب والقحط (وسألته ألا يظهر عليهم؟) أي دعوته أن لا يسلط عليهم الكفار، فأجاب دعائي. "ولا يقال" كيف هذا؟ مع أن معظم المسلمين الآن تحت سيطرة غيرهم "لأنا" نقول: ذلك لأنهم لم يقيموا الذين كما أمروا، فلم يتخلوا عن النواهي، ولم يتحلوا بالأوامر، بل أفرطوا في تقليد الأجنبي في الضار دون النافع. قلدوه في أكل الربا وشرب الخمر وإباحة الزنا والتبرج وخروج النساء واستحمامهن في البحار. قلدوهم في الحكم بالقانون الوضعي ونبذ القانون السماوي ولم يرتدعوا بقول الله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" المائدة عجز الآية 44؛ وتركوا ما أمرهم به مولاهم بقوله: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم" الأنفال، الآية 60، فخذلهم الله وسلط عليهم من لا يرحمهم، لأنهم تركوا الدين وراء الظهور، فتركوا إلى الذل والهوان.
(2) ص38، 34، 27 ج5 – الفتح الرباني.
(3) ص38، 34، 27 ج5 – الفتح الرباني.(1/238)
"ولحديث" عتبان بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في بيته سبحة الضحى فقاموا وراءه فصلوا بصلاته. أخرجه أحمد(1) {305}
"ولقول" أنس بن مالك: كان رجلٌ ضخمٌ لا يستطيعُ أن يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أستطيع أن أصلي معك، فلو أتيت منزلي فصليت فأقتدي بك. فصنع الرجل طعاماً ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم فنصح طرف حصير لهم. فصلى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين. فقال رجل من آل الجارود لأنس: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قال: ما رأيته صلاها إلا يومئذٍ. أخرجه أحمد والبخاري(2) {306}
(وأجاب)الأولون بأن هذه الأحاديث لا تنافي استحباب صلاةِ الضحى مطلقا لسببِ ولغيره،فإن رواتها إنما نفوا الرؤية.وهذا لا ينافي أنه صلى الله عليه وسلم كان يصليها في أوقاتٍ أخرى لم يطلعْ عليها فيها أنس وغيره ممن رووا هذه الأحاديث.فإن هذه الأحاديث الواردة بإثباتها مطلقاً،قد بلغت مبلغاً لا تقصر معه عن إفادة استحبابها مطلقاً.
(وقيل) إنها كانت واجبةٌ في حق النبي صلى الله عليه وسلم دون الأمة "لحديث" ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كتب عليَّ النحر ولم يكتب عليكم، وأمرت بركعتي الضحى ولم تؤمروا بها. أخرجه أحمد والطبراني وأبو يعلي وابن عدي والبزار والحاكم وصححه(3) {307}
(
__________
(1) ص38، 34، 27 ج5 – الفتح الرباني.
(2) ص33 ج5 الفتح الرباني ، وص 38 ج3 فتح الباري (صلاة الضحى في الحضر). و (رجل) قيل: هو عتبان بن مالك.
(3) ص23 ج5 الفتح الرباني، ورقم 6223 ص549 ج4 فيض القدير. و (كتب على النحر) أي فرض على نحر الأضحية دونكم، فإنه سنة في حقكم، وأمرت بصلاة الضحى أمر إيجاب دونكم.(1/239)
ورد) بأنه حديثٌ ضعيفٌ "فإنَّ" في سنده جابراً الجعفي وهو ضعيف جداً، بل كذاب رافضي خبيث. وقال الحافظ: حديثٌ ضعيف من جميع طرقه وصححه الحاكم فذهب. اهـ. لكن قال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح. اهـ. "وفي سند" البزار وابن عدي والحاكم، ابن جنان الكلبي، وهو متكلم فيه. ويعارضه حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى حتى نقول: إنه لا يدعها ويدعها حتى نقول: إنه لا يصليها. أخرجه أحمد والترمذي وحسنه(1) {308} (فلو كانت) واجبة عليه صلى الله عليه وسلم ما تركها أحياناً.
(وقيل) إنها مستحبة لكن الأفضل عدم المواظبة عليها، بل تفعل تارة وتترك أخرى "لحديث" أبي سعيد السابق "ورد" بأنه صلى الله عليه وسلم قد حث عليها ورغب في المواظبة عليها بالأحاديث السابقة. وأنه كان يحب العمل ويتركه أحياناً مخافةً أن يفرض على أمته (روى) عروة أن عائشة قالت: ما سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يترك العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم. أخرجه الإمامان والشيخان وأبو داود والبيهقي(2) {309}. وعند مسلم: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى قط .
(
__________
(1) ص28 ج5 الفتح الرباني، وص 347 ج1 تحفة الأحوذي (صلاة الضحى).
(2) ص273 ج1 زرقاني الموطإ (صلاة الضحى)، وص 36 ج5 الفتح الرباني، وص 228 ج5 نووي مسلم (استحباب صلاة الضحى)، وص 198 ج7 المنهل العذب (صلاة الضحى)، وص 49 ج3 سنن البيهقي.(1/240)
وقال) الهادي والقاسم وأبو طالب المكي: صلاة الضحى بدعة. وروي عن ابن عمر "قال" مجاهد: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا نحن بعبد الله بن عمر فجالسناه، فإذا رجال يصلون الضحى. فقلنا يا أبا عبد الرحمن ما هذه الصلاة؟ قال: بدعة. ثم قال له (يعني عروة) كم اعتمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربع (الأثر) أخرجه أحمد والبخاري(1) {47}.
(وقال) مورق العجلي: قلت لابن عمر: أتصلي الضحى؟ قال لا. قلت: صلاها عمر؟ قال: لا قلت: صلاها أبو بكر؟ قال: لا. قلت: أصلاها النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا إخاله. أخرجه أحمد والبخاري(2) {48}
(وقال) عبد الرحمن بن أبي بكرة: رأى أبو بكرة ناساً يصلون الضحى فقال: إنهم ليصلون صلاةً ما صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عامة أصحابه رضي الله عنهم. أخرجه أحمد بسند جيد(3) {49}
(وعن) عروذ أن عائشة قالت: ما سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى في سفر ولا حضر. أخرجه أحمد(4) {310}.
(
__________
(1) ص30 ج5 الفتح الرباني، وص 388 ج3 فتح الباري (كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم).
(2) ص29 ج5 الفتح الرباني، وص 34 ج3 فتح الباري (صلاة الضحى في السفر). و (لا إخاله) بكسر الهمزة وتفتح، أي لا أظنه صلاها. وسبب توقف ابن عمر في ذلك أنه بلغه عن غيره أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها، لكنه لم يثق بمن أخبره.
(3) ص29 و 37 ج5 الفتح الرباني (حجة النافين لمشروعية صلاة الضحى).
(4) ص29 و 37 ج5 الفتح الرباني (حجة النافين لمشروعية صلاة الضحى).(1/241)
ورد ) بأنه ليس في هذه الأدلة ما يدفع مشروعية صلاة الضحى "لأن" نفى ابن عمر وأبي بكرة وعائشة لها "محمولٌ" على عدم رؤيتهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صلوها . وعدم رؤيتهم وعدم علمهم بذلك لا يستلزم عدم الوقوع "أو أنهم" نفوا صفةً مخصوصةً كالمواظبة عليها في المساجد وصلاتها جماعة ( قال ) القاضي عياض: إنما أنكر ابن عمر ملازمتها وإظهارها في المساجد وصلاتها جماعةً ولا يقول : إنها مخالفة للسنة . ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة أن ابن مسعود رأى قوماً يصلونها فأنكر عليهم وقال : إن كان ولابد ففي بيوتكم . ذكره الحافظ(1) {50}.
كيف وقد ثبت عن كثير من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلاها وأنهم صلوها. ومن حفظ حجة على من لم يحفظ.
(ومما تقدم) تعلم أن الراجح ما ذهب إليه الجمهور من أن صلاة الضحى سنة مؤكدة وإن لم يكن لها سبب. هذا وقد روي عن عائشة رضي الله عنها في صلاة الضحى روايات مختلفة:
(أ) (روتْ) عنها معاذة أنها قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي الضحى أربع ركعاتٍ. أخرجه أحمد(2) {311}.
(ب) روى عنها عبد الله بن شقيق أنها قالت: ما رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى إلا أن يقدم من سفرٍ فيصلي ركعتين. أخرجه أحمد(3) {312}
(جـ) تقدم عنها أنها قالت: ما سبح النبيُّ صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى في سفرٍ ولا حضر. أخرجه أحمد(4) {313}
(ويجمع) بين هذه الروايات بأن قولها: كان يصليها، لا يدل على المواظبة، لأن كان لا تستلزم المداومة، وإنما تدل على مجرد الوقوع. ولا يلزم من هذا أنها رأته يصليها، لجواز أن تكون روت ذلك عن غيرها.
(وقولها) إلا أن يقدم من سفرٍ، يفيد تقييد ذلك المطلق بوقت مجيئه من السفر.
(
__________
(1) ص35 ج3 فتح الباري. الشرح (صلاة الضحى في السفر).
(2) ص38 ج5 الفتح الرباني.
(3) ص38 ج5 الفتح الرباني.
(4) ص38 ج5 الفتح الرباني.(1/242)
وقولها) ما سبح سبحة الضحى قط، نفى لرؤيتها كما يدل عليه ما تقدم عند مسلم من قولها: ما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى قط(1) ولا يستلزم هذا عدم ثبوتها عندها بغير الرؤية ، أو هو نفي لما عدا فعلها وقت القدوم من السفر. وغاية الأمر أنها أخبرت عما بلغها. وغيرها من الصحابة أخبر بما يدل على المواظبة وتأكد المشروعية ومن حفظ حجة على مَنْ لم يحفظْ.
هذا. وقد علمت أن صلاة الضحى سنة مؤكدة ثابتة بالأحاديث الصحيحة والحسنة وما يقاربها من قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفِعْلِهِ وفعل أصحابه.
(ومنه) تعلم رَدّ قول ابن القيِّم: وعامَّة أحاديث الباب في أسانيدها مقال وبعضها منقطع، وبعضها موضوع لا يحلّ الاحتجاج به(2) .
هذا. وحكمة مشروعية صلاةِ الضحى ألا يخلو كل ربع من النهار عن عبادة.
3- عدد ركعات الضحى:
أقلها ركعتان وأكثرها ثنتا عشرة ركعة عند الحنفيين وبعض الشافعية "لحديث" أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من صلى الضحى ركعتين لم يُكتب من الغافلين، ومن صلى أربعاً كتب من العابدين، ومن صلى ستاً كفي ذلك اليوم، ومن صلى ثمانياً كتبه الله من القانتين، ومن صلى ثنتى عشرةَ ركعةً بنى الله له بيتاً في الجنة. وما منْ يومٍ وليلةٍ إلا لله من يمنّ به على عباده، وصدقةٍ يمن بها على من يشاء من عباده، وما من الله على أحدٍ من عباده أفضل من أنْ يلهمه ذكره. أخرجه الطبراني في الكبير بسندٍ فيه موسى بن يعقوب الزمعي، وثقه ابن معير وابن حبان، وضعفه ابن المديني وغيره، وبقية رجاله ثقات. قاله الهيثمي(3) {314} ورويَ نحوه عن ابن عُمَر عن أبي ذَرّ.
(
__________
(1) تقدم بالحديث رقم 309 ص220 (حديث عائشة رضي الله عنها).
(2) ص94 ج1 زاد المعاد (هديه صلى الله عليه وسلم في صلاة الضحى)
(3) ص237 ج2 مجمع الزوائد (صلاة الضحى).(1/243)
وقالت ) المالكية والحنبلية وكثير من الشافعية : أكثر صلاةِ الضحى ثماني ركعات ٍ، لأنه أكثر ما ورد من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ( روى ) كريب مولى ابن عباس عن أم هانيء بنت أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح صلى سبحة الضحى ثماني ركعات يسلم من كل ركعتين . أخرجه أبو داود والبيهقي(1) {315}
(وعن) عكرمة بن خالد عن أم هانيءٍ قالت: ذهبتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته يغتسل، فلما فرغ من غسله صلى ثماني ركعاتٍ وذلك ضحىً. أخرجه الشيخان(2) {316}. وفي الحديثين رد على من قال : إن هذه صلاة الفتح لا صلاة الضحى.
(والحكمة) في اختلاف عدد ركعاتها التخفيف على الأمة، ليفعل كل ما استطاع ، فليتنافس في ذلك المتنافسون.
4- القراءة في صلاة الضحى :
يقرأ في كل ركعة منها بالفاتحة وسورة. والأفضل قراءة "والشمس وضحاها" "والضحى والليل إذا سجى"(3) " لقول " عقبة بن عامر : أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي الضحى بسورٍ منها: والشمس وضحاها والضحى. أخرجه الحاكم(4) {317}
5- ما يقال بعد صلاة الضحى:
يستحب أن يقول بعدها ما في حديث عائشةَ قالت: صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الضحى ثم قال: اللهم اغفر لي وارحمني وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم، حتى قالها مائة مرة. ذكره الفقيه مجد الدين الشيرازي ولم يذكر مخرجه(5) {318}.
6- الموضوع في الضحى :
قد علمت أن صلاة الضحى سنة مؤكدة، فمن صلاها تال ثوابها، ومن تركها حرمه. وقد تبين الثابت فيها. وقد قيل فيها ما لم يثبت: (أولاً) قال السيوطي في ذيل اللآليء:
(
__________
(1) ص193 ج7 المنهل العذب (صلاة الضحى) و ص 48 ج3 سنن البيهقي (من رواها ثماني ركعات).
(2) ص6 ج116 دليل الفالحين (فضل صلاة الضحى).
(3) سجى، أي غطى بظلامه كل شيء، أو سكن أهله.
(4) ص37 ج3 فتح الباري. الشرح (آخر باب صلاة الضحى في السفر).
(5) ص32 سفر السعادة (صلاة الضحى).(1/244)
1) من صلى الفجر في جماعةٍ ثم اعتكفَ إلى طلوع الشمس ثم صلى أربع ركعاتٍ يقرأُ في الأولى آية الكرسي ثلاثاً والإخلاص، وفي الثانية "والشمس"، وفي الثالثة "والسماء والطارق"، وفي الرابعة آية الكرسيّ والإخلاص ثلاث مراتٍ، وذكر ثوابه. فيه نوح بن أبي مريم المشهور بالوضْع.
(2) ما مِنْ أحدٍ صلى الغداة في مسجده، ثم جلس يذكر الله إلى أنْ تطلع الشمس، فإذا طلعت حمدَ الله وقام فَصَلَّى ركعتين، إلا أعطاه الله....الخ. فيه إبراهيم بن حيان السالط. وقيل َ: ضعيف يحدث عن الثقات بالموضوعات. اهـ.
(3) من صلى الضحى كتب الله له ألف ألف حسنة. فيه نوح بن أبي مريم كذاب وضاع.
(4) عن عليّ مرفوعاً: من صلى سبحة الضحى ركعتين إيماناً واحتساباً كتب له مائتا حسنة، ومحيَ عنه مائتا سيئة، ورفع له مائتا درجة، وغفر له ذنوبه كلها ما تقدم منها وما تأخر إلا القصاص والكبائر....الخ. ما ذكر في ثواب الأربع والست إلى اثنى عشر بقدر ذلك (قال) ابن حَجَر: هذا كذب مختلق وإسناده مظلم مجهول. اهـ.
(ثانياً) قال العلامة محمد طاهر بن علي الهندي في تذكرة الموضوعات:
(1) من دوام علي الضحى ولم يقطعها إلا لعلةٍ: كنت وهو في زورق من نور في بحرٍ من نور حتى يزور رب العالمين. موضوع.
(2) من صلى الضحى يوم الجمعة أربع ركعاتٍ يقرأُ في كلِّ ركعةٍ الفاتحةَ والمعوذتين والإخلاص والكافرون وآية الكرسي عشراً عشراً، فله كذا كذا، ويولد له ولو كان عقيماً. موضوع اهـ.
(ثالثاً) قال الشيخ إسماعيل العجلوني في كشفِ الخفاءِ: ومن الموضوع: من صلى الضحى كذا وكذا ركعة أعطيَ ثواب سبعين نبياً. اهـ.
(رابعاً) اشتهر بين العوامّ أن من فعلها ثم تركها يصاب في نفسِه وأولادِه، ولا تعيشُ له ذُرِّيَّة. وهو مَحْض كَذِب واختلاق منابذ للسنة.
((1/245)
قال) العراقي في شرح الترمذي: اشتهر بين كثير من العوام أنَّ من صلى الضحى ثم قطعها يحصل له عمى، فصار كثيرٌ لا يصلونها خوفاً من ذلك. وليس لهذا أصل ألبتة، لا من السنة ولا عن أَحَدٍ مِنَ الصحابة والتابعين ومن بعدهم. والظاهر أن هذا مما ألقاه الشيطان على ألسنة العوام ليتركوا صلاة الضحى دائماً، فيفوتهم بذلك خيرٌ كثير، فإنَّ ركعتيها تجزئانِ عن سائر أنواع التسبيح والتكبير والتهليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي ذر. اهـ. (1)
8- الصلاة عقب الطهارة
تقدم أنه يسن صلاة ركعتين بعد الوضوء والغسل وبعض ما ورد في فضلهما(2) ، وقد ورد في ذلك أحاديث أخر (منها) حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال عند صلاة الفجر: يا بلال حدثني بأرجى عملٍ عملته في الإسلام، فإني سمعتُ دفّ نعليك بين يديّ في الجنة. قال: ما عملتُ عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر طهوراً في ساعةٍ من ليلٍ أو نهارٍ، إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي. أخرجه البخاري(3) {319}.
(
__________
(1) انظر الحديث رقم 294 ص214 (صلاة الضحى).
(2) انظر بند 17 من مستحبات الوضوء ص234 ج1 دين.
(3) ص23 ج3 فتح الباري (فضل الصلاة عند الطهور). و (بلال) بن رباح المؤذن وفي الحديث دليل على أن ذلك وقع في المنام، لأن عادته صلى الله عليه وسلم أنه كان يعبر ما رآه أصحابه بعد صلاة الفجر كما وردت الأحاديث بذلك. و (كتب لي) أي قدر. وهو يشمل الفريضة والنافلة، وإنما اعتقد بلال ذلك، لأنه علم من النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلاة أفضل الأعمال، وأن عمل السر أفضل من عمل الجهر (قال) الحافظ: والظاهر أن المراد بالأعمال التي سأله عن أرجاها، الأعمال المتطوع بها، وإلا فالمفروضة أفضل قطعاً.(1/246)
وحديث) بريدة قال: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بلالاً فقال: يا بلال، بم سبقتني إلى الجنة؟ ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي، إني دخلت البارحة الجنة فسمعت خشخشتك أمامي، فأتيت على قصرٍ من ذهبٍ مشرف، فقلت: لمنْ هذا القصر؟ قالوا: لرجلٍ منَ العرب. قلت: أنا عربيّ، لمن هذا القصْر؟ قالوا: لرجلٍ من قريش، فقلت: أنا قرشي، لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجلٍ من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قلت: فأنا محمد، لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر بن الخطاب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لولا غيرتك يا عمر لدخلت القصر، فقال: يا رسول الله، ما كنت لأغار عليك، وقال لبلال: بم سبقتني إلى الجنة؟ قال: ما أحدثت إلا توضأت وصليت ركعتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا أخرجه أحمد والترمذي بسند جيد(1) {
__________
(1) ص41 ج5 الفتح الرباني (الصلاة عقب الطهور) وص 316 ج4 تحفة الأحوذي (مناقب عمر) و (بهذا) أي بسبب هذا العمل سبقتني إلى الجنة (ولا معارضة) بينه وبين حديث: لن يدخل أحداً عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا انا، إلا أن يتعمدني الله بقضل ورحمة، فسددوا وقاربوا (أي اطلبوا السداد وهو الصواب واعملوا به، فإن عجزتم عنه فقاربوا (أي اقربوا منه) ولا يتمنى أحدكم الموت إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب. أخرجه البخاري عن أبي هريرة [321] ص100 ج10 فتح الباري (تمنى المريض الموت) ويستعتب، من الاستعتاب وهو طلب زوال العتب، أو من العتبي وهو الرضا. والمقصود أن يطلب رضا الله بالتوبة ورد المظالم (لأن) أصل دخول الجنة إنما يكون برحمة الله واقتسام الدرجات بحسب الأعمال، (والحديث) ظاهر في أنه صلى الله عليه وسلم رأى بلالاً داخل الجنة..ويؤيده حديث جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رأيتني دخلت الجنة فسمعت خشفة، فقلت: من هذا؟ فقال: هذا بلال، ورأيت قصراً بفنائه جارية، فقلت: لمن هذا؟ فقال: لعمر (الحديث) أخرجه البخراي [322] ص31 ج7 فتح الباري (مناقب عمر).
هذا . وكان بلال يمشي بين يدي النبي صلي الله عليه وسلم في اليقظة ، فاتفق مثله في المنام ، ولا يلزم من ذلك دخول بلال الجنة قبل النبي صلي الله عليه وسلم ، لأنه في مقام التابع ، أفاده الحافظ في الفتح.(1/247)
320}.
( ولعموم ) قوله في الحديث رقم 319 ص227: في ساعةٍ من ليلِ أو نهارٍ، قالت الشافعية: تسنُّ الصلاةُ عقبِ الطهارةِ في أي وقتٍ، ولو وقت كراهةٍ، وهي سنةٌ مؤكدةٌ.
(وقال) الجمهور: هذه الصلاة مندوبة لا مؤكدةٌ، ولا تؤدي في أوقات النهي، حملاً لأحاديث النهي على إطلاقها كما تقدم بيانه(1)
9- صلاة الاستخارة :
الاستخارة: هي طلب الخير من الله تعالي فيما يقصد من الأمور ، يقال خار الله لك ، أي أعطاك ما هو خير لك.
(وقد ورد) في الحث عليها والترغيب فيها أحاديث منها :
((حديث)) سعد بن أبى وقاص أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : من سعادة بن آدم استخارته الله ، ومن سعادة ابن آدم رضاه بما قضاه الله ، ومن شقوة ابن آدم تركة استخارة الله ، ومن شقوة ابن آدم سخطه بما قضاة الله عز وجل . أخرجه احمد والحاكم وأبو يعلي والبزار بسند جيد والترمذى . وقال حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد ابن أبى حميد . وليس بالقوي عند أهل الحديث (2) {323}.
هذا والاستخارة مشروعة وغير مشروعة .
(أ) الاستخارة المشروعة
ينحصر الكلام فيها في أربع فروع:
1- حكمها :
يستحب لمن عزم علي أمر لا يدرى وجه الصواب فيه كسفر وتجارة وزواج وشركة، أن يشاور فيه من يعلم منه حسن النصيحة وكمال الشفقة والخبرة ويثق بدينه ومعرفته ((لقوله)) تعالي: ((وشاورهم في الأمر)) (3) وقوله : ((وأمرهم شوري بينهم)) (4) .
(
__________
(1) تقدم ص28 ج2 دين (الأوقات المنهي عن الصلاة فيها).
(2) رقم 8252 ص 15 ج 6 فيض القدير ، وص 279 ج 2 مجمع الزوائد (الاستخارة ) و(السخط) بفتحتين او بضم فسكون : عدم الرضا بقضاء الله ،كان يقول : ما فعلت شيئا استحق به ما نزل بي ، وغيري فعل كذا وكذا كان اصلح لي .
(3) من الآية 159 سور ة عمران ، ومن الآية 38 سورة الشوري .
(4) من الآية 159 سور ة عمران ، ومن الآية 38 سورة الشوري .(1/248)
وإذا) شاور وظهر انه مصلحة استخارة الله فيه ، فيصلي ركعتين تطوعا ويدعو بالدعاء الآتي ونحوه . أما المعروف خيره كالعبادة وعمل المعروف فيفعل بلا استخارة ، والمعروف شره كالمحرم والمكروه ، فيترك بلا استخارة ودليل صلاة الاستخارة :
(حديث ) جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القران . يقول : إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ، ثم ليقل اللهم إني استخيرك بعلمك واستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ، أو قال عاجل أمري واجله ، فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه . وان كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشى وعاقبه أمري ، أو قال في عاجل أمري واجله ، فاصرفه عني واصرفني عنه ، واقدر لي الخير حيث كان ، ثم رضني به . أخرجه السبعة إلا مسلماً وقال : حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبى الموالي ، وهو شيخ مدني ثقة(1) {324}
(
__________
(1) ص46 ج 5 الفتح الرباني ، وص 223 ج 2 تيسير الوصول (لاستخارة ). وفي قوله : ( ثم ليقل : اللهم إني استخيرك ....... الخ ) دليل علي انه لا يضر تأخر دعاء الاستخارة عن الصلاة ، وانه لا يضر الفصل بكلام يسير ، وعلي انه لا يجزئ الإتيان به في أثناء الصلاة .وفي رواية أبى داود : وليقل ، وعليه فيحتمل إجزاء الدعاء في أثناء الصلاة قبل السلام . ( إن كنت تعلم ؟ )أي إن كان في علمك أن هذا الأمر الذي أريد خير لي ...الخ . فالشك في متعلق العلم لا في اصله، الشك من الراوى وفي روايه احمد : فإن كنت تعلم هذا الأمر خيراً لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ، بلا شك ، ( ومع هذا ) يستحسن الجمع بين الكل فيقول : ومعاشي وعاقبة أمري وعاجله واجله ، ليتحقق موافقة الوارد .(1/249)
وحديث ) أبى أيوب الأنصاري أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال له: اكتم الخطبة ثم توضأ فأحسن الوضوء ثم صل ما كتب الله لك ، ثم احمد ربك ومجده ، ثم قل: اللهم انك تقدر ولا اقدر وتعلم ولا اعلم وأنت علام الغيوب ، فإن رأيت لي في فلانة – تسميها باسمها– خيراً لي في دنياي وآخرتي، فاقض لي بها، أو قال فاقدرها لي، وان كان غيرها خيرا لي منها في ديني ودنياي وآخرتي فاقض لي بها، أو قال فاقدرها لي. أخرجه احمد والطبراني وابن حبان. وفي سنده ابن لهيعة متكلم فيه. وأخرجه احمد من طريق آخر رخاله كلهم ثقات(1) {325}
(وفي الباب) أحاديث آخر كلها تدل علي استحباب صلاة الاستخارة والترغيب فيها، وبه قال جميع العلماء (قال) العراقي: لم أجد من قال بوجوب الاستخارة، ومما يدل علي عدم وجوبها الأحاديث الصحيحة الدالة علي انحصار فرض الصلاة في الخمس من قوله: هل علي غيرها ؟ قال: لا، إلا أن تطوع(2)
__________
(1) ص 49 ج 5 الفتح الرباني ، وص 280 ج 2 مجمع الزوائد ( الاستخارة ) ، و( الخطبة ) بكسر فسكون: طلب زواج المرأة من وليها . والمعني : إذا أردت خطبة امرأة فكتمه في نفسك ثم توضأ واستخر ويحتمل أن المعني : اكتم خطبتها ولا تفشها للناس ، ثم توضأ واستخر ( وحكمة ) عدم الإقدام علي الخطبة قبل تعرف الخير فيها ، انه إن خطب ثم استخار قد يبد\و له الرجوع عن الخطبة.
(2) هو بعض الحديث رقم 5 تقدم بص 3 ج2 دين ( الصلاة ) .
(
1) (كحديث ) خمس صلوات افترضهن الله عز وجل ، من احسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن ، واتم ركوعهن وخشوعهن ، كان له علي اللع عهد ان يغفر له ، ومن لم يفعل فليس له علي الله عهد ن ان شاء غفر له وان شاء عذبه . اخرجه ابو داود والبيهقي عن عبادة بن الصامت ( 326 ) ص 2 ج 4 المنهل العذب ( المحافظة علي الصلاة ) . ( وحديث ) خمس صلوات من حافظ عليهن ، كانت له نورا وبرهان ونجاة يوم القيامة ، ومن لم يحافظ عليهن لم تكن له نورا يوم القيامة ولا برهانا ولا نجاة ، وكان يةم القيانة مع فرعون وقارون وهامان وابي بن خلف . اخرجه احمد والطبراني وابن نصر . وهذا لفظه عن ابن عمرو بسند رجاله ثقات ( 327 ) تقدم رقم 75 ص 46 ج دين ، وليس فيه : خمس صلوات.(1/250)
وغير ذلك . اهـ.
(وقال) النووي في الأذكار: تستحب الاستخارة بالصلاة والدعاء، وتكون الصلاة ركعتين من النافلة. والظاهر أمها تحصل بركعتين من السنن الرواتب وبتحية المسجد وغيرها من النوافل. اهـ. يعني إذا نوي بها الاستخارة (وقال) العراقي: إن كان همه بالأمر قبل الشروع في الراتية ونحوها ثم صلي من غير نية الاستخارة وبدا له بعد الصلاة الإتيان بدعاء الاستخارة فالظاهر حصول ذلك . اهـ.
(فائدة) من تأمل دعاء الاستخارة الوارد عن رسول الله عليه وسلم وجد فيه من البلاغة والأسرار والفوائد ما لا يوجد في أي دعاء يختاره الإنسان لنفسه .
(قال) ابن الحاج: ثم انظر إلى تلك الالفاظ الجليلة التي شرعها عليه الصلاة والسلام لأمته ليرشدهم إلى مصالحهم الدنيوية والأخروية، وهي (اللهم) أي أسألك بجميع ما سئلت به، ويؤيده ما نقل أنه اسم الله الأعظم الذي ترجع إليه جميع الاسماء (انني استخيرك بعلمك) القديم الكامل لا بعلمي أنا المخلوق القاصر، فمن فوض الأمر إلى ربه اختار له ما يصلح (وأستقدرك بقدرتك) القديمة الأزلية، لا بقدرتي أنا المخلوقة المحدثة القاصرة، فمن تعرى عن قدرة نفسه وكانت قدرته منوطة بقدرة ربه عز وجل مع السكون والضراعة إليه، فلا شك في وجود الراحة له، إما عاجلاً أو آجلاً أو هما معاً، وأي راحةٍ أعظم من الانسلاخ من عناء التدبير والاختيار والخوض بفكرة عقله فيما لا يعلم عاقبته، (وأسألك من فضلك العظيم) فمن توجه بالسؤال إلى مولاه دون مخلوقٍ واستحضر سعة فضل ربه عز وجل وتوكل عليه ونزل بساحة كرمه، فلا شك في نجح سعي من هذا حاله، اذ فضل المولى سبحانه وتعالى أجل وأعظم من ان يرجع إلى قانون معلوم وتقدير (فإنك تقدر ولا أقدر،(1/251)
وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب) فمن تبرأ وانخلع من تدبير نفسه وحوله وقوته ورجع بالافتقار إلى مولاه الكريم الذي لا يعجزه شيء، فلا شك في قضاء حاجته وبلوغ ما يؤمله وقع الراحة (أو قال في عاجل أمري وآجله) الشك هنا من الراوي في أيهما قال عليه الصلاة والسلام. وإذا كان كذلك فينبغي للمكلف أن يختاط لنفسه في تحصيل بركة لفظه عليه الصلاة والسلام على القطع فيأتي بهما معاً (فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه) فمن رضي بما اختاره له سيده العالم بعواقب الأمور كلها وبمصالح الأشياء جميعها بعلمه القديم الذي لا يتبدل ولا يتحول، فقد سعد السعادة العظمى (فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به) فمن سكن إلى ربه عز وجل وتضرع إليه ولجأ في دفع جميع الشر عنه، فلاشك في سلامته من كل ما يتوقع من المخاوف (فأي دعاء) يجمع هذه الفوائد ويحصلها مما اختاره المرء لنفسه مما يخطر بباله من غير الألفاظ الجليلة التي احتوت على ما وقعت الإشارة إليه وأكثر منه؟ ولو لم يكن فيها من الخير والبركة إلا أن من فعلها كان ممتثلاً للسنة المطهرة محصلاً لبركتها لكفى. ثم مع ذلك تحصل له بركة النطق بتلك الألفاظ التي تربو على كل خير يطلبه الإنسان لنفسه ويختاره لها، فيا سعادة من رزق هذا الحال. أسأل الله أن لا يحرمنا ذلك بمنه (وينبغي) أن لا يفعلها المكلف إلا بعد أن يمتثل ما مضى من السنة في أمر الدعاء وهو أن يبدأ أولاً بالثناء على الله سبحانه وتعالى. ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم. ثم يأخذ في دعاء الاستخارة المتقدم. ثم يختمه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
((1/252)
والجمع) بين الاستخارة والاستشارة من كمال الامتثال للسنة. فينبغي للمكلف أن لا يقتصر على إحداهما، فإن كان ولابد من الاقتصار فعلى الاستخارة، لما تقدم من قول الراوي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن(1).
2- القراءة في صلاة الاستخارة:
يقرأ في كل ركعة منها الفاتحة وسورة ما. والأفضل أن يقرأ في الأولى بعد الفاتحة: "قل يأيها الكافرون". وفي الثانية: "قل هو الله أحد". (وقيل) يقرأ في الأولى: "وربك يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة، سبحان الله وتعالى عما يشركون، وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون"(2) .
__________
(1) ص92 ج3 مدخل الشرع الشريف (الاستخارة والمشاورة)
(2) سورة القصص، الآيتان 68 و 69. وسبب نزولها أن كفار مكة استبعدوا نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: " لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم": 31 الزخرف – (يريدون الوليد بن المغيرة بمكة، وعروة بن مسعود الثقفي بالطائف. وقد أسلم هذا وحسن إسلامه) فنزل قول الله تعالى: "وربك يخلق ما يشاء ويختار" أي أنه هو المنفرد بالخلق والاختيار، وأن الأمور كلها، خيرها وشرها، منه وإليه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن "ما كان لهم الخيرة" بفتح الياء وإسكانها، أي ما كان للخلق جميعاً الاختيار في شيء ما، بل الخيرة لله تعالى (ففي) الحديث القدسي: يا عبدي، أنت تريد وأنا أريد، ولا يكون إلا ما أريد. فإن سلمت لي ما أريد، أعطيتك ما تريد، وإن لم تسلم لي ما أريد، أتعبتك فيما تريد، ولا يكون إلا ما أريد) [328] ذكره العلامة الصاوي في حاشيته على تفسير الجلالين ص224 ج3 (سورة القصص)
قال الزجاج: الوقف على "يوختار" تام، وما نافية، وهو الصحيح عن ابن عباس وغيره، فإن الآية سيقت لبيان انفراده تعالى بالخلق والاختيار، ولذا قال: "سبحان الله" أي تنزه عن أن ينازعه منازع أو يشاركه مشارك "وتعالى عما يشركون" أي تعاظمت ذاته تعالى عن إشراكهم أو عن مشابهة ما جعلوهم شركاء له من الأصنام والأنداد، فإنها لا تخلق ولا تختار شيئاً "وربك يعلم ما تكن صدورهم" أي تخفيه من الشرك وغيره "وما يعلنون" أي يظهرونه من ذلك، فهو يعلم ما تكنه الضمائر وما تنطوي عليه السرائر، كما يعلم ما تبديه الظواهر، قال الله تعالى: "سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار" سورة الرعد، الآية 10.(1/253)
وفي الثانية: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم. ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً"(1)
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية 36، وسبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب زينب بنت جحش بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب لمولاه زيد بن حارثة، فأبت وأبي أخوها عبد الله بن جحش. فنزل: "وما كان لمؤمن" كعبد الله بن جحش "ولا مؤمنة" كزينب "إذا قضى الله ورسوله أمراً" من الأمور، كنكاح زينب لزيد وغيره مما ترضاه نفوسهم أو تأباه "أن يكون لهم الخيرة" أي الاختيار "من أمرهم" فإن أمر الله هو المتبع وقضاه رسوله هو الحق. فعلى العقلاء أن يجعلوا آراءهم تبعاً لرأيه واختياره صلى الله عليه وسلم، ولا يترددوا في تنفيذ ما أر الله به ورسوله. قال تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً" آية 65- النساء (وفي) الحديث: لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به. ذكره النووي في الأربعين عن ابن عمرو، وقال: الحديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بسند صحيح [329] رقم 41 منها. "ومن يعص الله ورسوله" بمخالفة الأمر "فقد ضل" عن طريق الهدى "ضلالاً مبينا" أي بيناً ظاهراً. لأن المقصود هو الله. والهادي هو النبي صلى الله عليه وسلم. فمن ترك المقصود وخالف الدليل: ضلى ضلالاً لا يرعوى بعده. قال تعالى: "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب اليم" عجز آية 63- النور. فما نزلت الآية قال عبد الله بن جحش وأخته زينب: رضيا يا رسول الله ، فأنكها زيداً، ودفع عنه المهر عشرة دنانير وستين درهماً وملحقة وخماراً ودرعاً وإزاراً وخمسين مداً من طعام وثلاثين صاعاً من تمر.
(
قال) ابن عباس: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على فتاة زيد بن حارثة فدخل على زينب بنت جحش فخطبها، فقالت: لست بناكحته. فقال صلى الله عليه وسلم: فانكحيه. قالت: يا رسول الله، أؤامر نفسي، فبينما هما يتحدثان، أنزل الله هذه الآية على رسوله: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إلى قوله "ضلالاً مبيناً"...
قالت: قد رضيه لي يا رسول الله منكحاً؟ قال: نعم. قالت: إذن لا اعصي رسول الله، قد أنكحته نفسي، أخرجه ابن جرير وابن مردويه [330] ص9 ج22 جامع البيان، هذا والعبرة بعموم الفظ لا بخصوص السبب، فالآية عامة في كل الأمور تدل على انه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته.
(ولما) تزوج زيد زينب وأقام معها سنة، أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن زيداً سيطلقها وأنها ستكون من أزواجه. وزينب ما زالت تشمخ بأنفها وتؤذي زوجها وتفخر عليه بنسبها، فاشتكى منها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المرة بعد المرة. وجاء يستشيره في طلاقها، والنبي عليه الصلاة والسلام يغلبه الحياء قيتئذ ويتأنى في تنفيذ حكم الله ولا يعجل، فكان يقول لزيد: "أمسك عليك زوجك واتق الله"
وفي ذلك نزل قوله تعالى: "وإذ تقول للذي أنعم الله عليه" بالإسلام وهو زيد بن حارثة "وأنعمت عليه" بالعتق "أمسك عليك زوجك" يعني زينب "واتق الله " في أمرها ولا تفارقها "ونخفي في نفسك ما الله مبديه" من أنها ستكون من أزواجك "وتخشى الناس" أي تخاف من تعييرهم بأن يقولوا أمر مولاه بطلاق امرأته ثم تزوجها وهي زوجة ابنة المتنبي "والله أحق أن تخشاه" في كل حال دون سواه، ولا تنظر إلى ما يقولون، لأنك ما بعثت إلا لإخراجهم من الظلمات إلى النور "فلما قضي زيد منها وطراً" أي حاجة وأرباً ولم يبق له رغبة ولا ميل إليها طلقها راغباً مختاراً. فلما انقضت عدتها "زوجناكها" بلا ولي ولا عقد ولا مهر ولا شهود من البشر، خصوصية له صلى الله عليه وسلم وتشريفاً له ولها.
(قال) أنس: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد رضي الله عنه: اذهب قاذكرها على، فانطلق زيد، قال: فلما رأيتها عظمت في صدري، فقلت: يا زينب، ابشري، أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك. قالت ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن. وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليها بغير إذن. ولقد رأيتنا حين دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا عليها الخبز واللحم، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم واتبعته، فجعل يتتبع حجر نسائه ويسلم عليهن ويقلن له: يا رسول الله، كيف وجدت أهلك؟ فما أدري أنا أخبرته أو غيري أن القوم قد خرجوا، فانطلق حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه، فألقي الستر بيني وبينه ونزل الحجاب، ووعظ القوم مما وعظوا به "يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي" (الآية). أخرجه احمد ومسلم والنسائي [331] ص338 ج3 تيسير الوصول (زينب رضي الله عنها).
(قال) العلامة الشيخ محمد عبده: هذه هي الرواية الصحيحة والقولة الراجحة. ذكر الله نبيه بما وقع منه ليزيده تثبيتاً على الحق، وليدفع عنه. ما حاك في صدور ضعاف العقول ومرضى القلوب، فقال: "وإذ تقول للذي أنعم الله عليه" بالإسلام "وأنعمت عليه" بالعتق والحرية والاصطفاء بالولاية والمحبة وتزويجه بنت عمتك ووعظه- عندما كان يشكو إليك من إيذاء زوجه- بقولك "أمسك عليك زوجك واتق الله" واخشه في أمرها، فإن الطلاق يشينها وقد يؤذي قلبها، وارع حق الله في نفسك أيضاً أمره فربما لا تجد بعدها خيراً منها. تقول ذلك وأنت تعلم أن الطلاق لابد منه بما أهلمك الله أن تمتثل أمره بنفسك لتكون أسوة لمن معك ولمن يأتي بعدك. وإنما غلبك في ذلك الحياء وخشية أن يقولوا تزوج محمد مطلقة متبناه، فأنت في هذا "تخفي في نفسك ما الله مبديه" من أنها ستكون زوجك "وتخشى الناس والله" الذي أمرك بذلك كله "أحق أن تخشاه"، فكان عليك أن تمضي في الأمر من أول وهلة تعجيلاً بتنفيذ كلمته وتقرير شرعه. ثم زاد بياناً بقوله: "فلما قضي زيد منها وطراً" أي حاجة بالزواج "زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً" لترتفع الوحشة من نفوس المؤمنين ولا يجدوا في أنفسهم حرجاً من أن يتزوجوا نساء كانت من قبل زوجات لأدعيائهم "وكان أمر الله مفعولاً" اهـ.(وهذا) البيان هو اللائق بمقام النبي صلى الله عليه وسلم، والظاهر من الآيات والأحاديث الصحيحة.
(قالت) عائشة رضي الله عنها: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كأتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية: "وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك" إلى قوله: "وكان أمر الله مفعولاً"، وان النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوجها قالوا: تزوج حليلة ابنه، فأنزل الله: "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين"، وكان النبي صلى الله عليه وسلم تبناه وهو صغير فلبث حتى صار رجلا يقال له زيد بن محمد، فأنزل الله تعالى: "أدعوهم لآبائهم" الآية. فلان ابن فلان وفلان أخو فلان. أخرجه الترمذي وصححه [332] ص155 ج1 تيسير الوصول (سورة الأحزاب).
"وأما" ما قاله بعض المفسرين من أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على بيت زيد وهو غائب، فرأى زينب فاستحسنها، فقال: سبحان مقلب القلوب. فسمعت التسبيحة، فنقلتها إلى زيد، فوقع في قلبه أن يطلقها..الخ ما زعموا "فهو" باطل لا يعول عليه.
(قال) الإمام ابن العربي: (فأما قولهم)إن النبي صلى الله عليه وسلم رآها فوقعت في قلبه (فباطل) فإنه كان معها في كل وقت وموضع ولم يكن حينئذ حجاب، فكيف تنشأ معه وينشأ معها ويلحظها في كل ساعة ولا تقع في قلبه إلا إذا كان لها زوج وقد وهبته نفسها وكرهت غيره فلم تخطر بباله، فكيف يتجدد له هوى لم يكن؟ حاشا لذلك القلب المطهر من هذه العلاقة الفاسدة. وقد قال الله له: "ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهن زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه" آية 131 سورة طه. والنساء أفتن الزهرات وأنشر الرياحين. ولم يخالف هذا في المطلقات، فكيف في المنكوحات المحبوسات.
(وإنما) كان الحديث أنها لما استقرت عند زيد جاءه جبريل وقال: إن زينب زوجك ولم يكن بأسرع أن جاءه زيد يتبرأ منها، فقال له: اتق الله وأمسك عليك زوجك، فأبى زيد إلا الفراق وطلقها، وانقضت عدتها وخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على يدي مولاه زوجها، وانزل الله هذه الآيات فقال: "و" اذكر يا محمد "إذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه امسك عليك زوجك واتق الله" في فراقها "وتخفي في نفسك ما الله مبديه" يعني من نكاحك لها وهو الذي أبداه لا سواه، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى إذ أوحى إليه أنها زوجته، لابد من وجود هذا الخبر وظهوره لوجوب صدقة في خبره. وهذا يدلك على براءته من كل ما ذكره بعض المفسرين.
(فإن قيل) فلأى معنى قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك زوجكم. وقد أخبره الله أنها زوجته لا زوج زيد (قلنا) هذا لا يلزم، ولكن لتطيب نفوسكم نفسر ما خطر من الإشكال فيه. وهو أنه أراد أن يختبر منه ما لم يعلمه الله به من رغبته فيها أو رغبته عنها، فأبدى له زيد من النفرة عنها والكراهية فيما ما لم يكن علمه منه في أمرها.
(فإن قيل) فكيف يأمره بالتمسك بها وقد علم أن الفراق لابد منه؟ وهذا تناقض (قلنا) بل هو صحيح للمقاصد الصحيحة ٌلإقامة الحجة ومعرفة العاقبة، ألا ترى أن الله يأمر العبد بالإيمان وقد علم انه لا يؤمن، فليس في مخالفة متعلق الأمر لمتعلق العلم ما يمنع من الأمر به عقلاً وحكماً. وهذا من نفيس العلم فيتقنوه وتقبلوه انظر ص169 ج2 كتاب أحكام القرآن (سورة الأحزاب).
وقد بين الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله حكمة ما وقع من تزويج زيد زينب مع كراهتها لذلك وعلم النبي صلى الله عليه وسلم بأنها ستكون من أمهات المؤمنين، فقال: نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الرؤوف الرحيم لم يبال بإباء زينب وغربتها عن زيد، وقد كان لا يخفى عليه أن نفور قلب المرأة من زوجها مما تسوء معه العشرة وتفسد به شئون المعيشة، فما كان له- وهو سيد المصلحين- أن يرغم امرأة على الاقتران برجل وهي لا ترضاهن مع ما في ذلك من الضرر الظاهر بكل من الزوجين. لا ريب أننا نجد من ذلك هادياً إلى وجه الحق في فهم الآية التي نحن بصدد تفسيرها. ذلك أن التصاق الأدعياء بالبيوت واتصالهم بأنسابها كان أمراً تدين به العرب وتعده أصلاً يرجع إليه في الشرف والحسب. وكانوا يعطون الدعي جميع حقوق الابن ويجرون عليه وله جميع الأحكام التي يعتبرونها للابن حتى في الميراث وحرمة النسب، وهي عقيدة جاهلية رديئة، أراد الله محوها بالإسلام، حتى لا يعرف من النسب إلا الصريح، ولا يجري من أحكامه إلا ما له أساس صحيح، لهذا أنزل الله: "وما جعل ادعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل أدعوهم لآبائهم هو اقسط عند الله" الخ.
(فهذا) هو العدل الإلهي أن لا ينال حق الابن إلا من يكون ابناً، أما المتنبي اللصيق فلا يكون له إلا حق المولى والأخ في الدين. فحرم الله على المسلمين أن ينسبوا الدعى لمن تبناه. وحظر عليهم أن يقطعوا له شيئاً من حقوق الابن لا قليلاً ولا كثير اً، وشدد الأمر حتى قال: "وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم، وكان الله غفوراً رحيماً"، فهو يعفو عن اللفظة تصدر من غير قصد بأن يقول الرجل لآخر: هذا ابني أو ينادي شخص آخر بمثل ذلك لا عن قصد التبني، ولكنه لا يعفو عن العمد من ذلك الذي يقصد منه الإلصاق بتلك اللحمة كما كان معروفا من قبل.
(مضت) سنة الله في خلقه أن ما رسخ في النفس بحكم العادة لا يسهل عليها التقصي منه ولا يقدر على ذلك إلا من رفعه الله فوق العادات، وأعتقه رق الشهوات وجعل همته فوق المألوفات، فلا يستميله إلا الحق، ولا تحكم عليه عادة، ولا يغلبه عرف، ذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم ومن يختصه الله بالتأسي به.
(ولهذا) كان الأمر إذا نهى الله عن مكروه كانت الجاهلية عليه أو أحل شيئاً كانت الجاهلية تحرمه. بادر النبي صلى الله عليه وسلم إلى امتثال النهي بالكف عن المنهي عنه والإتيان بضده، وسارع إلى تنفيذ الأمر بإتيان المأمور به حتى يكون قدوة حسنة ومثالاً صالحاً تحاكيه النفوس، وتحتذيه الهمم، وحتى يخف وزر العادة، وتخلص العقول من ريب الشبهة.
(نادى) صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بحرمة الربا. وأول ربا وضعه ربا عمه العباس حتى يرى الناس صنيعه بأقرب الناس إليه وأكرمهم عليه، فيسهل عليهم ترك مالهم، وتنقطع وساوس الشيطان من صدورهم.
(على هذا) السنن الإلهي كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم في أمر زينب، كبر على العرب أن يفصلوا عن أهلهم من ألصقوه بأنسابهم من أدعيائهم، كما دل عليه قوله تعالى: "ولا تخشى الناس" الخ. فعمد النبي صلى الله عليه وسلم عن سنته إلى خرق العادة بنفسه، وما كان ينبغي له ولا من مقتضى الحكمة أن يكلف أحد الأدعياء الأباعد عنه أن يتزوج ثم يأمره بالطلاق ثم يأمر من كان قد تبناه أن يتزوج مطلقته، ففي ذلك من المشقة مع تحكم العادة وتمكن الاشمئزاز من النفوس مالا يخفي على أحد. فألهمه الله أن يتولى الأمر بنفسه في أحد عتقائه، لتسقط العادة بالفعل كما ألغى حكمها بالقول الفصل، (لهذا) أرغم النبي صلى الله عليه وسلم زينب أن تتزوج بزيد وهو مولاه وصفيه، والنبي صلى الله عليه وسلم نجد في نفسه أن هذا الزواج مقدمة لتقرير لشرع وتنفيذ حكم الهي. اهـ.
[فائدتان]:
(الأولى) زينب بنت جحش الأسدية، أسلمت قديماً وكانت من المؤمنات المهاجرات، تزوجها زيد بن حارثة، ولما طلقها تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في صفر سنة خمس من الهجرة (يونية 626م) وعمرها خمس وثلاثون سنة. كان اسماً (برة) فسماها النبي صلى الله عليه وسلم زينب، وكانت صالحة صوامة قوامة كثيرة لخير، تعمل بيدها وتتصدق.
(قال) أنس: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وحبل ممدود بين ساريتين، فقال: ما هذا؟ قالوا: لزينب تصلي، فإذا كسلت أو فترت أمسكت به، فقال: حلوه ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر فليقعد. أخرجه الشيخان [333] تقدم رقم 289 ص212.
(وأرسل) إليها عمر اثنى عشر ألف درهم كما فرض لأمهات المؤمنين، فأخذتها وفرقتها في قرابتها وقالت: اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعد هذان فماتت سنة عشرين من الهجرة وعمرها خمسون أو ثلاثة وخمسون سنة وصلى عليها عمر، رضي الله عنهما.
(وهي) أول من مات بعد النبي صلى الله عليه وسلم من أزواجه (قالت) عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً، فكن يتطاولن أيتهن أطوال يداً؟ فكانت أطوالنا يداً زينب، لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق. أخرجه مسلم [334] ص8 ج16 نووي مسلم (فضل زينب أم المؤمنين).
(والمراد) بطول اليد: كثرة الكرم والصدقة.
(وقالت) عائشة: كانت زينب بنت جحش تساميني في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت امرأة قط خيرا في الدين من زينب، وأتقي الله وأصدق حديثاً وأوصل للرحم وأعظم صدقة (أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب. [51] ص733 ج2 (زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم).
(وعن عبد الله) بن شداد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن زينب بنت جحش أواهة، فقال رجل: يا رسول الله، ما الأواه؟ قال: الخاشع المتضرع، وإن إبراهيم لحليم أواه منيب. أخرجه ابن عبد البر [335] ص734 ج2 الاستيعاب.
(وعن) محمد بن عبد الرحمن بن الحارث أن عائشة رضي الله عنها ذكرت زينب بنت جحش فقالت: ولم تكن امرأة خيراً منها في الدين واتقي الله تعالى وأصدق حديثاً وأوصل للرحم وأعظم صدقة وأشد تبذلاً لنفسها في العمل الذي تتصدق به وتتقرب به إلى الله عز وجل. أخرجه ابن عبد البر [53] ص733 و 734 ج2 الاستيعاب (زينب بنت جحش).
"الثانية" زيد بن حارثة بن شراحيل أشهر موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبي في الجاهلية وأتى به سوق عكاظ، فاشترته خديجة رضي الله عنها وهو ابن ثماني سنين، ووهبته للنبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، فأعتقه.
(وقد) حزن لفقاه أبوه حزناً شديداً، فلما علم أنه بمكة قدم ليفديه، فدخل هو وخوه كعب بن شراحيل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن عبد المطلب، يا ابن هاشم، يا ابن سيد قومه، جئناك في ابننا عندك، فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه. فقال: من هو: قال: زيد بن حارثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلا غير ذلك؟ قال: ما هو: قال: ادعوه وخيروه، فإن اختاركم فهو لكمن وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي اختار على من اختارني أحداً. قالا: قد زدتنا على النصف وأحسنت.
(فدعاه) رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل تعرف هؤلاء: قال نعم، هذا أبي، وهذا عمي. قال: فأنا من قد عرفت ورأيت صحبتي لك. فاخترني أو اخترهما. قال: ما أريدهما، وما أنا بالذي اختار عليك أحداً، أنت مني مكان الأب والعم. فقالا: ويحك يا زيد، أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك واهلك؟ قال: نعم، وقد رأيت من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً أبداً. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أخرجه عند الكعبة فقال: يا من حضر اشهدوا أن زيداً ابني يرثني وأرثه. فلما رأى ذلك أبوه وعمه، طابت نفوسهما وانصرفا.
(وهاجر) زيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وشهد بدراً وأحداً والخندق والحديبية وخير. وكان هو البشير إلى المدينة بنصر المؤمنين يوم بدر.
(وزوجه) رسول الله صلى الله عليه وسلم مولاته أم أيمن، فولدت له أسامة وتزوج زينب بنت جحش أم المؤمنين كما تقدم. وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين حمزة.
(وكان) ابيض مشرباً بحمرة، وكان رضي الله عنه سيداً كبير الشأن، جليل القدر، حبيباً إلى النبي صلى الله عليه وسلمن يقال له الحب، ولابنه أسامة: الحب ابن الحب.
(وهو) أو من أسلم من الموالي. (قال) ابن عمر رضي الله عنهما: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً وأمر عليهم أسامة بن زيد رضي الله عنهما، فطعن بعض الناس في إمارته، فقال: إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله إن كان لحليفاً للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلى، وإن هذا لمن أحب الناس إلى بعده. أخرجه الشيخان والترمذي [336] ص86 ج3 تيسير الوصول (زيد بن حارثة وابنه أسامة).
(وقال) ابن عمر: فرض عمر (أي قدر وظيفة) لأسامة بن زيد رضي الله عنهما في ثلاثة آلاف وخمسمائة (من بيت المال) وفرض لي في ثلاثة آلاف. فقلت: لم فضلت أسامة على؟ فوالله ما سبقني إلى مشهد، فقال: يا بني، كان زيد رضي الله عنه احب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك، وكان أسامة رضي الله عنه أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، فآثرت حب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حبي (بكسر الحاء وقد تضم، أي محبوبي). أخرجه الترمذي وحسنه [53] ص87 ج3 تيسير الوصول (زيد بن حارثة وابنه أسامة رضي الله عنهما).
(ولم يذكر) الله تعالى في القرآن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام باسمه العلم إلا زيداً. قال تعالى: "فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها".
(وأمره) رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجيش في غزوة مؤتة، فقاتل حتى قتل رضي الله عنه في جمادي الأولى سنة ثمان من الهجرة، وعمره خمس وأربعون سنة.(1/254)
(قال) الحافظ في الفتح: والأكمل أن يقرا في كل منهما السورة والآية الأوليين في الأولى يعني بعد الفاتحة والآخرتين في الثانية. اهـ. لكن ظاهر الأحاديث عدم التقييد بشيء مما ذكر، فله أن يقرأ فيهما ما شاء.
هذا "وقول" النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أيوب رقم 325 ص 230: ثم صل ما كتب الله لك "ظاهر" في جواز صلاة الاستخارة بأكثر من ركعتين، فله أن يصلي أربعاً أو أكثر بتسليمةٍ.
"ومفهوم" العدد في قوله في حديث جابر (رقم 324 ص230):
فليركع ركعتين. "ليس" بحجة عند الجمهور، غير أنهم اتفقوا على أنه لا تجزيء الركعة الواحدة.
هذا. وحكمة تقديم الصلاة على الدعاء أن المراد من الاستخارة الجمع بين خيري الدنيا والآخرة، فيحتاج إلى قرع باب الملك، ولا شيء لهذا أنجع من الصلاة، لما فيها من تعظيم الله تعالى والثناء عليه، وإظهار الافتقار إليه حالاً ومآلً.
3- وقت صلاة الاستخارة:
لم يعين لها في الأحاديث وقت، ولذا قالت الشافعية: يجوز تأديتها في كل وقت حتى وقت النهي عن الصلاة، لأنها صلاة لها سبب.
(وقال) الجمهور: تؤدي في غير أوقات النهي، تقديماً للحاظر على المبيح.
4- الاستخارة بالدعاء:(1/255)
إذا تعذرت صلاة الاستخارة، استخار بالدعاء. ويستحب افتتاحه بالحمد لله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا استخار فعل ما ينشرح له صدره، ولا يعتمد على انشراح كان له قبل الاستخارة، بل ينبغي له ترك اختياره رأساً وإلا فلا يكون مستخيراً لله، بل يكون مستخيراً لهواه فإن لم ينشرح صدره لشيء (فقيل) يكرر الاستخارة ثلاثاً، لأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا دعا كرر الدعاء ثلاثاً (وقيل) يكررها سبعاً (لما روي) عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات ثم انظر إلى الذي يسبق إلى قلبك فإن الخيرة فيه. أخرجه ابن السني في عمل يوم وليلة والديلمي في مسند الفردوس(1) {337}
وفي سنده: (أ) إبراهيم بن البراء ضعيف جداً. (ب) البراء بن النضر ابن أنس ضعفه العقيلي وابن حبان وابن عدي. وعليه فالحديث ساقط لا يحتج به (قال) الحافظ في الفتح: هذا الحديث لو ثبت لكان هو المعتمد، لكن إسناده واه جداً.
وقال النووي في الأذكار: إسناده غريب. فيه من لم أعرفهم.
(ب) الاستخارة غير الشرعية :
قد جهل كثير من الناس الاستخارة الشرعية المرغب فيها بالأحاديث السابقة وهجروها، او قل من يعمل بها، وابتدعوا لها أنواعاً كثيرة لم يرد شيء منها في الكتاب ولا في السنة، ولم ينقل عن أحد من السلف والخلف (وجهلوا) قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة. أخرجه أحمد والبزار عن غضيف بن الحارث اليماني. وفي سنده أبو بكر ابن أبي مريم منكر الحديث(2) {338}
(
__________
(1) رقم 882 ص450 ج1 فيض القدير شرح الجامع الصغير.
(2) ص188 ج1 مجمع الزوائد (البدع والأهواء) ووجه ما في الحديث أن الناس إذا أنسوا البدعة واطمأنوا غليها، استهانوا بالسنة وأضاعوها، وما كذب أحد يحق إلا عوقب بتصديقه بباطل، وما ترك سنة إلا أحب بدعة.(1/256)
وغفلوا) عن قوله صلى الله عليه وسلم: من تمسك بسنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيدٍ. أخرجه البيهقي عن ابن عباس من طريق الحسن بن قتيبة. وأخرجه الطبراني عن أبى هريرة بسند لا بأس به، إلا أنه قال: فله أجر شهيدٍ(1) {339}
(ولذا) نكبوا أخيراً بترك كل شيء ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعكفوا على بدع ومحدثات الصقوها بالدين، والدين منها براءة براءة الذئب من دم ابن يعقوب "ولو قدر" لعاقل أن يترك ما عكفوا عليه ويسلك طريق الرسول صلى الله عليه وسلم ويهتدي بهديه "سلقوه" بألسنة حداد، واعتبروه خارجاً على الدين، بل عدوه مبتدعاً متنطعاً مشدداً جامداً، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
هذا. والاستخارات المبتدعة كثيرة المذكور منها هنا سبع.
1- استخارة النوم:
يعلمها صاحب الحاجة أو يعملها له غيره بأن يقرأ الشخص شيئاً من القرآن ويدعو الله أن يريه في منامه أو يريه خضرة أو بياضاً إن كان ما يقصده خيراً، ويريه حمرة أو سواداً إن كان ما يقصده لا خير فيه.
(فمنهم) من يقرأ الفتحة عشر مرات إن كان متوضئاً وإلا قرأها إحدى عشرة مرة على أي حال كان، ثم يهب ثواب ما قرأ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: اللهم إن كان هذا الأمر- ويسمى ما يريد- خيراً فأرني ابيض أو اخضر أو ماء جارياً. وإن كان شراً- ويسمى الأمر- فأرني أسود أو أحمر، ثم يشغل باله بهذا الأمر الذي يبيت له ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم حتى يأخذه النوم.
(ومنهم) من يتوضأ ثم يقرأ "قل هو الله أحد" إحدى عشرة مرة على أي حال كان، أو الفاتحة عشر مرات، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ما شاء، ثم يقول: اللهم إن كان هذا الأمر- ويسمى حاجته- خيراً فأرني ما يدل عليه، وإن كان غير ذلك فأرني ما يصرف عنه، ويشتغل بذكر الله حتى يأخذه النوم.
(
__________
(1) رقم 5 ص41 ج1- (الترغيب في اتباع الكتاب والسنة).(1/257)
ومنهم) من يقرأ قبل النوم: "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير"، تسع مرات، فيرى ما يرى.
(وقد) عكف على هذه الاستخارة خاصة الناس فضلاً عن عامتهم (ورؤيا) المؤمن الصادق وإن كانت لا تكاد تخطيء، فالاستخارة بواسطتها لم تشرع، وفيها عدول عن تعليم الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وعن الدعاء الجامع لخيري الدنيا والآخرة. وهذا يتنافى مع كمال الإيمان وحسن اليقين الذي يقتضي التخلي عن البدع، والتحلي بالسنن.
(وقد ذكر) العلامة الصاوي في تفسير آية: "وربك يخلق ما يشاء ويختار" صلاة الاستخارة ودعاءها، ثم قال: فإن لم يكن يحفظ هذا الدعاء فليقل: اللهم خر لي واختر لي، كما روي عن عائشة عن أبي بكر رضي الله عنهما. واعلم أن هذه الكيفية هي الواردة في الحديث الصحيح وأما الاستخارة بالمنام أو بالمصحف أو السبحة، فليس وارداً عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولذا كرهه العلماء وقالوا: إنه نوع من الطيرة.
(وقال) ابن الحاج في المدخل: وليحذر مما يفعله بعض الناس ممن لا علم عنده أو عنده علم وليس عنده معرفة بحكمة الشرع الشريف في ألفاظه الجامعة للأسرار العلية، لأن بعضهم يختارون لأنفسهم استخارة غير الاستخارة المتقدمة الذكر. وهذا ما فيه من اختيار المرء لنفسه غير ما اختاره له من هو أرحم به وأشفق عليه من نفسه ووالديه، العالم بمصالح الأمور (يعني الدينية)، المرشد لما فيه الخير والنجاح والفلاح، صلى الله عليه وسلم.
((1/258)
وبعضهم) يستخير الاستخارة الشرعية ويتوقف بعدها حتى يرى مناماً يفهم منه فعل ما استخار فيه أو تركه أو براه غيره له. وهذا ليس بشيء، لأن صاحب العصمة صلى الله عليه وسلم قد أمر بالاستخارة والاستشارة، لا بما يرى في المنام. ولا يضيف إلى الاستخارة الشرعية غيرها، لأن ذلك بدعة ويخشى من أن البدعة إذا دخلت في شيء، لا ينجح أو لا يتم، لأن صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالاستخارة والاستشارة فقط. فينبغي ألا يزاد عليها ولا يعرج على غيرهما فيا سبحان الله، صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم اختار لنا ألفاظاً منقاةً جامعةً لخير الدنيا والآخرة، حتى قال الراوي للحديث في صفتها على سبيل التخصيص والحض على التمسك بألفاظها وعدم العدول إلى غيرها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن. والقرآن قد علم أنه لا يجوز أن يغير ولا يزاد فيه ولا ينقص منه. وإذا نص فيه على الحكم نصاً لا يحتمل التأويل لا يرجع لغيره. وإذا كان ذلك كذلك، فلا يعدل عن تلك الألفاظ المباركة التي ذكرها صلى الله عليه وسلم في الاستخارة إلى غيرها من الألفاظ التي يختارها المرء لنفسه، ولا غيرها من منامٍ يراه هو أو يراه له غيره، أو انتظار فألٍ أو نظر في اسم الأيام (قال) مالك رحمه الله: الأيام كلها أيام الله، او انتظار من يدخل عليه فينظر في اسمه فيشتق منه ما يوجب عنده الفعل أو الترك (ومن الناس) من هو أسوأ حالاً من هذا، وهو ما يفعله بعضهم من الرجوع إلى قول المنجمين والنظر في النجوم، إلى غير ذلك مما يتعاطاه بعضهم.(1/259)
فمن فعل شيئاً مما ذكر، او غيره وترك الاستخارة الشرعية، فلاشك في فساد رأيه، ولو لم يكن فيه من القبح إلا أنه من باب قلة الأدب مع صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم (يعني لكفى في تركه) لأنه صلى الله عليه وسلم، اختار للمكلف ما جمع له فيه بين خير الدنيا والآخرة بلفظ يسير وجيز واختار هو لنفسه غير ذلك. فالمختار في الحقيقة إنما هو ما اختاره المختار صلى الله عليه وسلم. فعلى هذا فلا يشك ولا يرتاب في أن من عدل عن تلك الألفاظ المباركة إلى غيرها، فإنه يخاف عليه من التأديب أن يقع به- وأنواعه مختلفة- إما عاجلاً وإما آجلاً في نفسه أو ولده أو ماله، إلى غير ذلك.
(ثم انظر) رحمنا الله تعالى وإياك إلى حكمة أمره صلى الله عليه وسلم المكلف بأن يركع ركعتين من غير الفريضة. وما ذاك إلا صاحب الاستخارة يريد أن يطلب من الله تعالى قضاء حاجته. وقد مضت الحكمة أن من الأدب قرع باب من تريد حاجتك منه. وقرع باب المولى سبحانه وتعالى إنما هو بالصلاة "لقوله" صلى الله عليه وسلم: إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه(1) .
ولأنها جمعت بين آداب جمة (فمنها) الخروج عن الدنيا كلها وأحوالها بإحرامه بالصلاة، ألا ترى إلى الإشارة برفع اليدين عند الإحرام إلى أنه خلف الدنيا وراء ظهره وأقبل على مولاه يناجيه، ثم ما فيها من الخضوع والندم والتذلل بين يدي المولى الكريم بالركوع والسجود، إلى غير ذلك مما احتوت عليه من المعاني الجليلة، ليس هذا موضع ذكرها. فلما أن فرغ من تحصيل هذه الفضائي الجمة، حينئذٍ أمره صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم بالدعاء (2) .
2- استخارة السجة:
__________
(1) هو صدر حديث أخرجه الشيخان عن انس وتمامه: فلا يبزقن بين يديه ولا عن يمينه ولكن عن يساره أو تحت قدمه [240] ص343 ج1 فتح الباري (حك البزاق باليد من المسجد) وص 40 ج5 نووي مسلم (النهي عن البصاق في المسجد).
(2) ص90 ج3 المدخل (الاستخارة والمشاورة).(1/260)
يعملها صاحب الحاجة أو تعمل له. وطريقتها أن يأخذ الشخص مسبحة فيتمتم عليها بحاجته، ثم يحصر بعض حباتها بين يديه وبعدها. فإن كانت فردية عدل عما نواه. وإن كانت زوجية اعتبر ما نواه خيراً وسار فيه. ولعمري ما الفرق بين هذه الطريقة وما كان يتبع في الجاهلية الأولى من إطلاق الطير في الجو وهو ما سماه الشرع الشريف بالطيرة ونهى عنها.
3- استخارة الفنجان:
يعملها عادةً غير صاحب الحاجة ويقوم بعملها رجلٌ أو امرأةٌ. وطريقتها أن يشرب صاحب الحاجة القهوة المقدمة غليه ثم يكفي الفنجان وبعد قليل يقدمه لقارئه فينظر فيه بعد أن أحدثت فضلات القهوة به رسوماً وأشكالاً مختلفة، شأنها في ذلك شأن كل راسب في أي إناءٍ إذا انكفأ، بل إن مجرد صب الماء على أرض متربة يحدث بها صوراً وأشكالاً هندسية وجغرافية يعجز عنها أصحاب الفن، فيتخيل ما يريد، ثم يأخذ في سرد حكاياتٍ كثيرةٍ لصاحب الحاجة، فلا يقوم من عنده إلا وقد امتلأت رأسه بهذه الأسطورة.
(وبعضهم) يعتمد في معرفة سارق الشيء على آخر يسمى صاحب المندل، وطريقته أن يوضع الفنجان مملوءاً ماءً على كف شخص مخصوص في كفه تقاطيع مخصوصة. ويكون ذلك في يوم معلوم من أيام الأسبوع، ثم يأخذ العراف في التعزيم والهمهمة بكلامٍ غير مفهوم، وينادي بعض الجن ليأتوا بالمتهم السارق. وبعد برهة تظهر خيالاتٍ في الفنجان ذاهبة وآيبة، فيوهم العراف من حوله أن المتهم قد ظهر.
((1/261)
وبعضهم) يضع القلة على كف آخر ويتمتم بما شاء فيسير حاملُ [القلة إلى مكان الشيء الضائع، فيتوهم الحاضرون أن عامل المندل يعلم ما خفي، وهو بهتان عظيم. ولعمري إن كان هذا حقا فلم أتعبت الحكومات أنفسهم في معرفة المسروق وتبين الظالم من المظلوم؟ ولم لم تلجأ في تبين حقائق الأمور إلى هؤلاء الدجالين الذين يأكلون أموال الناس بالباطل؟ مع أن سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم لم يدع هذا المقام لنفسه بل كان يحكم بالظاهر ويكل السرائر إلى الله: "ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخيرِ وما مسني السوء"(1) .
(وعن) أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعضن فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه شيئاً، فلا يأخذه، فإنما اقطع له قطعةً من النار. أخرجه مالك والخمسة(2) {341}.
4- استخارة الورق (الكوتشينة) :
وهي لا تخرج عن سابقتها، غير أن صاحب الحاجة يعطي ورقتين مصور فيهما رجل وامرأة، فيسر إليهما ما يريد ثم يأخذهما الدجال فيخلطهما بباقي الأوراق، ثم يأخذ في رصها بطريقةٍ فنيةٍ، فيصادف وجود رجلٍ بجوار امرأةٍ أو وجود رجلٍ أو امرأةٍ في طريق أو وجود واحدٍ منهما بجوار أوراقٍ يرمز إليها بالمال أو الفرح أو القضاء أو ما إلى ذلك، فيأخذ في سردِ ما يمليه عليه خياله، فلا يقوم الشخص من مقامه هذا إلا مقتنعاً بحقيقة ما يقول. وما هو إلا رجمٌ بالغيب.
5- استخارة الرمل:
__________
(1) سورة الأعراف من الآية 188، وص 183 ج3 تيسير الوصول (كيفية الحكم).
(2) سورة الأعراف من الآية 188، وص 183 ج3 تيسير الوصول (كيفية الحكم)(1/262)
وطريقتها أن يخطط الشخص في الرمل خطوطاً متقطعة ثم يعدها بطريقة حسابية معروفة لديهم، فينتهي منها إلى استخراج برج الشخص فيكشف عنه في كتابٍ استحضره لهذا الغرض، فيسرد عليه حياته الماضية والمستقبلة. وهذا الكلام بعينه الذي قيل له يقال لغيره ما دام برجاهما قد اتفقا.
6- استخارة الودع:
لا تقوم بها إلا امرأة، وهي تسمى في العرف (بالغجرية)، يخرج الإنسان من حافظته شيئاً من النقود ويسر بحاجته إلى ذكر الودع ثم يطرحه على الودع فتأخذه بيديها وتلقيه على الأرض بعد خلطه. وهي في الغالب تكون امرأةً ذكيةً نهابة، لها فراسة خاصة في ذوي الحاجات، فتسلك سبيلاً في الكلام يتفق مع مزاجِ الشخص، فيجيبها بالموافقةِ، فتستمر في طريقها؛ فلا يقوم من عندها غلا وهو مقتنع بصدقها، وبينها وبين الصدق كما بين السماء والأرض.
7- استخارة الكف:
وهي لا تخرج عن سابقتيها من جهة قوة فراسة قارئ الكف، يساعده على ذلك اختلاف خطوط باطن الكف وما يستخلصه من ميول الشخص وموافقته له على بعض الأشياء.
ولاشك عند العقلاء أن جميع هذه الطرق من استخارة الفنجان حتى النهاية، لا تخرج عن أنها نوع من التعريف المنهي عنه والذي يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيه: من أتى عرافاً فسأله عن شيءٍ لم تقبل له صلاة أربعين ليلةً. أخرجه أحمد ومسلم عن حفصة(1) {342} ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. أخرجه احمد والحاكم عن أبى هريرة بسند صحيح(2) {343}.
ولا ادري بعد ذلك كيف يعكف الناس على أمثال تلك التراهات وهذه الأباطيل، معرضين عن هدي محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به.
10- صلاة التوبة :
__________
(1) رقم 8284 ص22 ج6 فيض القدير. ورقم 8285 ص23 منه.
(2) رقم 8284 ص22 ج6 فيض القدير. ورقم 8285 ص23 منه.(1/263)
يسن لمن ارتكب ذنباً أن يتطهر ويصلي ركعتين ثم يستغفر الله مما جنت يداه ليغفر الله له (قال) عليّ كرم الله وجهه: حدثني أبو بكر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما من رجل يذنب ذنباً ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له. ثم قرأ: "والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله ... " الآية. أخرجه احمد والأربعة وأبو داود الطيالسي بلفظ: ما من عبد يذنب(1)
__________
(1) ص9 ج1 مسند احمد (مسند أبى بكر رضي الله عنه) وص 183 ج8 المنهل العذب (الاستغفار)، وص 246 ج2 تفسير ابن كثير، وص 29 ج1 سنن ابن ماجه.
(الصلاة كفارة)، وص 2 مسند الطيالسي. و (الآية) تمامها: "فاستغفروا لذنوبهم. ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون" سورة آل عمران، الآية 135 نزلت لما قال المؤمنون: يا رسول الله، كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا، كان أحدهم إذا أذنب اصبح وكفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه: اجدع انفك أو اذنك، افعل كذا وكذا. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية. قاله ابن مسعود.
"وقال" عطاء: نزلت في أبى معبد التمار:، أتته امرأة حسناء تبتاع تمرا ًفقال: أن هذا التمر ليس بجيد، وفي البيت أجود منه، فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبلها. فقالت له: اتق الله. فتركها وندم على ذلك. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له أمره، فنزلت الآية. ص245 ج2 معالم التنزيل للبغوي " والذين إذا فعلوا فاحشة" أي فعلة قبيحة لم يأذن الله بها. والفاحشة في الأصل تطلق على كل معصية. والمراد بها هنا الزنا "أو ظلموا أنفسهم" باقتراف ذنب آخر. وقيل: الفاحشة الكبيرة، وظلم النفس الصغيرة "ذكروا الله" أي ذكروا وعيده وانه سائلهم ومحاسبهم. أو ذكروا الله باللسان "فاستغفروا لذنوبهم" أي طلبوا مغفرتها من الله "ومن يغفر الذنوب إلا الله ؟ " استفهام إنكاري بمعنى النفي، أي لا يغفرها أحد سواه.
"روى" الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بأسير فقال: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عرف الحق لأهله. أخرجه أحمد [345] ص435 ج3 مسند أحمد.
"ولم يصروا على ما فعلوا" أي لم يستمروا على المعصية ولم يعزموا على الرجوع إلى الذنب "وهم يعلمون" قبحه. وأن من تاب قبل الله توبته، فهم كلما ارتكبوا ذنباً تابوا منه.
روي" أبو بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة. أخرجه أبو داود وأبو يعلي [346] ص178 ج8 المنهل العذب (الاستغفار).
وفي سنده عثمان بن واقد. وثقه يحيي بن معين وضعفه أبو داود. ويقويه حديث: لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار. أخرجه الديلمي في مسند الفردوس عن ابن عباس [347] رقم 9920 ص436 ج6 فيض القدير. وفي سنده أبو شيبة الخراساني. قال البخاري: لا يتابع على حديثه.
(وقد) تضمنت الآية:
(أولاً): مدح المستغفرين والترغيب في التوبة وطلب المغفرة، وحث المذنبين على أن يقفوا مواقف الخضوع والتذلل والخشية والندم، وأن الاستغفار من الذنب ينفع المذنبين. قال الله تعالى: "وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى" سورة طه من الآية 82
(وقد) ورد في ذلك أدلة منها:
"قول" عطاف بن خالد: بلغني أنه لما نزل قوله تعالى: "ومني غفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا"، صاح إبليس بجنوده وحثا على رأسه التراب، ودعا بالويل والثبور حتى جاءته جنوده من كل بر وبحر. فقالوا: مالك يا سيدنا؟ قال: آية نزلت في كتاب الله لا يضر بعدها أحداً من بني آدم ذنب. قالوا: وما هي؟ فأخبرهم. قالوا: نفتح لهم باب الأهواء فلا يتوبون ولا يستغفرون، ولا يرون إلا أنهم على الحق، فرضي نتع بذلك. أخرجه الحكيم الترمذي [54]. ص 349 ج1 تفسير الشوكاني.
"وحديث" عثمان بن مطر قال: حدثنا عبد الغفور عن أبي نضرة عن أبي رجاء عن أبى بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار. فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء، فهم يحسبون أنهم مهتدون. أخرجه أبو يعلي وابن كثير. وقال: عثمان بن مطر وشيخه ضعيفان [348] ص247 ج2 تفسير ابن كثيرن وص 207 ج10 مجمع الزوائد (الاستغفار).
"وحديث" أبى سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أن إبليس قال لربه: بعزتك وجلالك لا ابرح اغوى بني آدم ما دامت الأرواح فيهم. فقال الله تعالى: فبعزتي وجلالي لا أبرح اغفر لهم ما استغفروني. أخرجه احمد وأبو يعلي [349] ص29 ج3 مسند احمد وص 27 ج10 مجمع الزوائد (الاستغفار).
"وحديث أبى ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تبارك وتعالى: يا ابن ادم انك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك. ابن آدم انك أن تلقني بقراب الأرض (بضم القاف وكسرها، أي ما يقارب ملئها أو بما يملؤها) خطايا، لقيتك بقرابها مغفرة بعد ألا تشرك بي شيئاً، ابن آدم انك أن تذنب حتى تبلغ ذنوبك عنان السماء ثم تستغفرني اغفر لك. أخرجه احمد وأبو عوانة [350] ص147 ج5 مسند احمد (حديث أبى ذر الغفاري رضي الله عنه).
"وقول" ابن مسعود: إن في كتاب الله لآيتين ما أذنب عبد ذنباً فقرأهما فاستغفر الله إلا غفر له: "والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم..." الآية. وقوله: "ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفاراً رحيماً". أخرجه الطبراني والبيهقي بسند رجاله رجال الصحيح [55] ص11 ج7 مجمع الزوائد (سورة النساء).
"وحديث" أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من تاب قبل ان تطلع الشمس من مغربها، تاب الله عليه. أخرجه مسلم [351] ص25 ج7 نووي مسلم (التوبة).
"وحديث" انس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون. أخرجه احمد والترمذي وابن ماجه والحاكم [352] رقم 6292 ص16 ج5 فيض القدير شرح الجامع الصغير.
"وحديث" أبى هريرة انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أن عبداً أذنب ذنبا فقال: رب إني أذنبت ذنباً فاغفره. فقال ربه: اعلم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي. ثم مكث ما شاء الله. ثم أصاب ذنباً، وربما قال أذنب ذنباً آخر. فقال: يارب إني أذنبت ذنباً آخر فاغفره لي.قال ربه: اعلم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به ، غفرت لعبدي. ثم مكث ما شاء الله. ثم أصاب ذنباً آخر (وربما قال: ثم أذنب ذنباً آخر) فقال: يارب إني أذنبت ذنباًً فاغفر لي. فقال ربه: اعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به. فقال ربه: غفرت لعبادي ثلاثاً فليعمل ما شاء. أخرجه الشيخان [353] ص362 ج13 فتح الباري (قول الله تعالى: يريدون أن يبدلوا كلام الله) وص 75 ج17 نووي مسلم (قبول التوبة من الذنوب وان تكررت) قوله: (فليعمل ما شاء) معناه- والله اعلم- انه ما دام كلما أذنب ذنباً استغفر وتاب منه ولم يعد إليه بدليل قوله: ثم أصاب ذنباً آخر، فليفعل- إذا كان هذا دأبه- ما شاء. لأنه كلما أذنب كانت توبته واستغفاره كفارة لذنبه فلا يضره، لا انه يذنب الذنب فيستغفر منه بلسانه من غير إقلاع ثم يعاوده فان هذه توبة الكذابين. قاله المنذري، ص74 ج4 الترغيب والترهيب (التوبة والزهد).
(ثانياً) ذم المذنبين المصرين على المعاصي: (روى) عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر: ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون. أخرجه احمد والبخاري في الادب والبيهقي والطبراني بسند جيد [354] رقم 942 ص474 ج1 فيض القدير.
"وفي رواية": ويل لأقماع الآذان. والأقماع جمع قمع كضلع بكسر ففتح أو سكون، وهو الإناء الذي يترك في رؤوس الظروف لتملأ بالمائعات، شبه أسماع الذين يستمعون القول ولا يعونه ويحفظونه ولا يعملون به بالأقماع التي لا تعي شيئاً مما يفرغ فيها، يمر عليها كما يمر الشراب في القمع.(1/264)
( وعن ) أبى الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل شيء يتكلم به ابن آدم مكتوب عليه ، فإذا اخطأ خطيئة أو أذنب ذنباً فأحب أن يتوب إلى الله ، فليمد يديه إلى الله عز وجل ثم يقولك اللهم إني أتوب إليك منها لا أرجع إليها أبداً، فإنه يغفر له ما لم يرجع في عمله ذلك. أخرجه الطبراني في الكبير والحاكم وقال : صحيح على شرطهما(1) {355}
هذا. وينبغي الجمع بين الاستغفار والتوبة والعزم على عدم العود. هذا بعض ما ثبت في صلاة التوبة. وقد قيل فيها ما لم يثبت(2)
(
__________
(1) رقم 6325 ص25 ج5 فيض القدير شرح الجامع الصغير.
(2) من ذلك ما قيل عن زيد بن وهب عن أبى ذر قال: يا رسول الله كيف للمذنب أن يتوب من الذنب؟ قال: يغتسل ليلة الاثنين بعد الوتر ويصلي اثنتى عشرة ركعة يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب، وقل يأيها الكافرون، وعشر مرات "قل هو الله أحد". ثم يقوم ويصلي أربع ركعات ويسلم ويسجد ويقرأ في سجوده آية الكرسي مرة. ثم يرفع رأسه ويستغفر مائة مرة ويقول مائة مرة: لا حول ولا قوة إلا بالله. ويصبح من الغد صائماً. ويصلي عند إفطاره ركعتين بفاتحة الكتاب وخمس مرات "قل هو الله أحد". ويقول: يا مقلب القلوب تقبل توبتي كما تقبلت من نبيك داود، واعصمني كما عصمت يحيي بن زكريا، وأصلحني كما أصلحت أولياءك الصالحين. اللهم إني نادم على ما فعلت فاعصمني حتى لا أعصيك. ثم يقوم نادماً فإن رأس مال التائب الندامة. فمن فعل ذلك تقبل الله توبته وقضي حوائجه ويقوم من مقامه وقد غفر الله له الذنوب كما غفر لداود، ويبعث الله إليه ألف ملك يحفظونه من إبليس وجنوده إلى أن يفارق الروح جسده. وذكر أنواعاً من الجزاء ما انزل الله بها من سلطان (قال) اليوطي في اللاليء: موضوع في إسناده مجاهيل ص23 ج2.(1/265)
فائدة) التوبة من الذنب صغيرا أو كبيراً فرض "لقوله" تعالى: "يأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً"(1) . وقوله "وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون"(2) .
__________
(1) سورة التحريم، الآية 8؛ والتوبة النصوح: هي التوبة الصادقة الخالصة بأن يتوب عن الذنب فلا يعود إليه أبداً (قال) أبى بن كعب: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التوبة النصوح، فقال: التوبة النصوح. الندم على الذنب حين يفرط منك وتستغفر الله بندامتك منه، ثم لا يعود إليه أبداً. أخرجه ابن أبى حاتم وابن مردويه والبيهقي وضعفه [356] ص198 راموز الأحاديث.
(وعن) ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: التوبة من الذنب أن يتوب منه ثم لا يعود فيه. أخرجه احمد [357] ص198 راموز الأحاديث.
(هذا) وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم لأبي (في الحديث رقم 356): ثم لا تعود إليه أبداً، أن من شرط التوبة النصوح الاستمرار على ترك الذنب إلى الممات. وقيل: يكفي العزم على ألا يعود، فلو وقع منه ذلك الذنب بعد لا يضر في تكفير ما تقدم، لما ثبت في الصحيح: الإسلام يجب ما قبله. والتوبة تجب ما قبلها. ذكره ابن كثير [358] ص417 سورة التحريم.
(2) سورة النور، الآية 31، وسورة النساء، الآية 17.
والمعنى: إنما قبول التوبة مترتب عل فضل الله تعالى للذين يرتكبون المعصية جاهلين قدر قبحها وسوء عاقبتها. وكل عاص جاهل بذلك حال ارتكاب المعصية، لأنه حينئذ مسلوب كمال العلم به، لغلبة الهوى
(قال) قتادة: إجماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية فهي جهالة، عمداً كانت أو غيره. وكل من عصى الله فهو جاهل.
(وقال) الكلبي: لم يجهل انه ذنب لكنه جهل عقوبته (ثم يتوبون من قريب) أي قبل معاينة سبب الموت بقرينة قوله: حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن.
قال ابن عباس: القريب ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت. أخرجه ابن جرير وابن أبى حاتم [56] ص204 ج4 جامع البيان.
(وقال) الضحاك: كل شيء قبل الموت فهو قريب، له التوبة ما بينه وبين أن يعاين ملك الموت، فإذا تاب حين ينظر إلى ملك الموت فليس له ذلك. أخرجه ابن جرير [57] ص204 ج4 جامع البيان. وعد الزمن بين ارتكاب المعصية والاحتضار قريباً ولو كان سنين، لأن كل آت قريب، والعمر وان طال قليل.
(وقد) تضمنت الآية التنبيه على انه ينبغي للإنسان أن يتوقع في كل ساعة نزول الموت به. وفيها الدلالة على أن الله تعالى يقبل توبة العبد إلى ما قبل الغرغرة. وهي تردد الروح في الحلق "روي" ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر. أخرجه احمد والترمذي وحسنه. وابن ماجه والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب [359] رقم 1921 ص306 ج2 فيض القدير شرح الجامع الصغير.
(وقال) رجل من ملحان يقال له أيوب: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: من تاب قبل موته بعام تيب عليه، ومن تاب قبل موته بشهر تيب عليه، ومن تاب قبل موته يجمعه تيب عليه، ومن تاب قبل موته بيوم تيب عليه، ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه. فقلت له: إنما قال الله: "إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب". فقال: إنما أحدثك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه أبو داود الطيالسي [360] رقم 2284 ص301 مسند الطيالسي.(1/266)
وقوله: "إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب". فمرتكب الذنب جاهل وإن كان عالماً.
وقال ابن مسعود: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الندم توبة. أخرجه أحمد وابن ماجه(1){361}.
وهذا كله بفضل الله وتوفيقه للعبد؛ فمن أراد الله تعالى به خيراً، فتح له باب الذل والانكساء ودوام الرجوع إلى الله تعالى، ورأى عيوب نفسه وظلمها وجهلها، وشاهد فضل ربه وإحسانه.
(قال) سفيان بن عيينة: والتوبة نعمة من الله أنعم بها على هذه الأمة دون غيرها من الأمم. وكانت توبة بني إسرائيل القتل، فما أنعم الله على هذه الأمة نعمة بعد الإسلام هي افضل من التوبة (قال) تعالى: "إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين"(2) .
(وقال) صلى الله عليه وسلم: التائب من الذنب كمن لا ذنب له. وإذا أحب الله عبداً لم يضره ذنبٌ. أخرجه ابن أبى الدنيا والقشيري في الرسالة وابن النجار عن أنس(3) {362}.
(وقال) صلى الله عليه وسلم: إن التوبة تغسل الحوبة، وإن الحسنات يذهبن السيئات، وإذا ذكر العبد ربه في الرخاء أنجاه في البلاءٍ، ذلك بأن الله يقول: لا أجمع لعبدي أبداً أمنين ولا أجمع له خوفين، إن هو أمنني في الدنيا خافني يوم أجمع فيه عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع فيه عبادي في حظيرة القدس فيدوم له أمنه ولا أمحقه فيمن أمحق. أخرجه أبو نعيم في الحلية عن شداد بن أوس(4) {363}.
11- صلاة الطواف:
__________
(1) ص376 ج1 مسند احمد (مسند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه).
(2) سورة البقرة، عجز الآية 222، وصدرها: "ويسألونك عن المحيض".
(3) رقم 3386 ص376 ج3 فيض القدير شرح الجامع الصغير.
(4) ص96 راموز الاحاديث. و (الحوبة) الإثم.(1/267)
يطلب ممن طاف بالكعبة ولو تطوعاً أن يصلي ركعتين عند مقام إبراهيم أو حيث تيسر من المسجد الحرام. يقرأ في الأولى الفاتحة وقل يأيها الكافرون، وفي الثانية الفاتحة وقل هو الله أحد "لما" في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى مقام إبراهيم قرأ: "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. فصلى ركعتين فقرأ فاتحة الكتاب وقل يأيها الكافرون وقل هو الله أحد (الحديث) أخرجه النسائي(1) {364}.
(وهذه) الصلاة تصح في أي وقت وأي مكان، ولا تفوت إلا بالموت ولا تجبر بدم على الصحيح عند الحنفيين (وهي) واجبة عندهم بعد كل طواف. وكذا عند المالكية بعد طواف القدوم والإفاضة، وهو طواف ركن الحج، أما بعد طواف الوداع فقيل: بوجوبها وقيل بسنتيها.
(وقالت) الشافعية والحنبلية: صلاة الطواف سنة مطلقاً.
12- صلاة الشكر
يسن لمن أنعم الله عليه نعمة تسره أن يصلي ركعتين من غير الفريضة شكراً لمولاه على ما أولاه. قال الله تعالى: "وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم".
(وقال) عبد الرحمن بن عوف: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوجه نحو مشربته فدخل فاستقبل القبلة فصلى فأطال السجود حتى ظننت أن الله قد قبض نفسه فيها، فدنوت منه فرفع رأسه فقال: من هذا؟ فقلت: عبد الرحمن. قال: ما شأنك؟ قلل: يا رسول الله، سجدت سجدةً خشيت أن يكون الله قد قبض نفسك فيها. قال: إن جبريل صلى الله عليه وسلم أتاني فبشرني فقال: إن الله عز وجل يقول: من صلى عليك صليت عليه، ومن سلم عليك سلمت عليه. فسجدت لله شكراً. أخرجه احمد بسند رجاله ثقات(2){365}
13- صلاة المنزل
__________
(1) ص40 ج2 مجتبي (القراءة في ركعتي الطواف) ومقام إبراهيم هو الحجر الذي كان يقوم عليه وقت بناء الكعبة.
(2) ص287 ج2 مجمع الزوائد (سجود الشكر).(1/268)
يسن لمن نزل منزلاً سفراً أو حضراً أن يصلي فيه ركعتين حين نزوله وحين انصرافه "لحديث" أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخلت منزلك فصل ركعتين تمنعانك مدخل السوء، وإذا خرجت من منزلك فصل ركعتين تمنعانك مخرج السوء. أخرجه البزار بسند رجاله موثقون. وحسنه ابن حجر(1) {366}.
"ولحديث" أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا نزل أحدكم منزلاً فقال فيه فلا يرتحل حتى يصلي ركعتين. أخرجه ابن عدي(2) {367}.
14- صلاة السفر
يسن لمريد السفر والقادم منه أن يصلي ركعتين (قال) ابن مسعود: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أريد أن اخرج إلى البحرين في تجارة، فقال: صل ركعتين. أخرجه الطبراني في الكبير بسند رجاله ثقات(3) {368}.
(وقال) جابر بن عبد الله: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فلما قدمنا المدينة قال لي: ادخل المسجد فصل ركعتين. أخرجه البخاري(4) {369}
15- صلاة التسبيح
__________
(1) ص283 ج2 مجمع الزوائد (الصلاة إذا دخل منزله وإذا خرج منه).
(2) رقم 870 ص446 ج1 (فيض القدير) وضعفه السيوطي. (فقال) من القيلولة وليس ذلك خاصاً بالنزول لها.
(3) ص283 ج2 مجمع الزوائد (الصلاة إذا أراد سفراً).
(4) ص117 ج6 فتح الباري (الصلاة إذا قدم من سفر).(1/269)
هي أربع ركعات تؤدي بنية صلاة التسبيح في غير أوقات النهي بتشهدين وسلام، ويقرأ في كل ركعة الفاتحة وأي سورة شاء. وقال بعض الشافعية: الأفضل أن يقرأ فيها تارة من طول المفصل بأن يقرأ أربعاً من التسابيح وهي الحديد والحشر والصف والجمعة والتغابن، للمناسبة بينهن وبينها في الاسم، وتارة يقرأ بإذا زلزلت والعاديات والعصر والإخلاص، وتارةً بالتكاثر والعصر وقل يأيها الكافرون والإخلاص (وقد ورد) فيها عدة أحاديث لا تخلو من مقال أمثلها حديث عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن عبد المطلب: يا عباس يا عماه، ألا أعطيك؟ ألا أمنجك؟ ألا أحبوك؟ ألا أفعل لك(1) عشر خصال؟ إذا أنت فعلت ذلك غفر الله لك ذنبك، أوله وآخره، قديمه وحديثه، خطأه وعمده، صغيره وكبيره، سره وعلانيته. عشر خصال: أن تصلي أربع ركعات تقرأ في كل ركعة وأنت قائم قلت سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله اكبر، خمس عشرة مرة(2) ،
__________
(1) ألا افعل لك) أي لأجلك. و (عشر خصال) بالنصب مفعول تنازعه الأفعال السابقة. وفيه تقدير مضاف، أي ألا أعلمك مكفر عشرة أنواع من ذنوبك. و (خطأه) "لا يقال" الخطأ لا إثم فيه "لحديث" رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. أخرجه الطبراني عن ثوبان. وفيه يزيد بن ربيعة الرجي وهو ضعيف [370] رقم 4461 ص34 ج4 فيض القدير. فكيف يعد من الذنب؟ "لأنا نقول" المراد بالذنب ما فيه نقص أجر وإن لم يكن فيه إثم. ويحتمل أن المراد مغفرة ما ترتب على الخطأ من إتلاف ونحو. وعليه فالمراد بالمغفرة ترضيه الخصوم. و (عشر) بالرفع خبر لمحذوف، أي هذه عشر خصال، وهي أول الذنب وآخر. الخ. ويصح نصبه بفعل محذوب، أي خذ عسر خصال.
(2) وفي رواية الترمذي من حديث أبي رافع: فإذا انقضت القراءة فقل: الله اكبر، والحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله خمس عشرة مرة قبل أن تركع. اهـ. وفيه أن الترتيب بين هذه الكلمات غير لازم..(1/270)
ثم تركع فتقولها وأنت راكع عشراً (1) ، ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشراً، ثم تهوي ساجداً فتقولها وأنت ساجد عشراً، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشراً، ثم تسجد فتقولها عشراً. ثم ترفع رأسك(2) فتقولها عشراً. فذلك خمس وسبعون في كل ركعة(3) ، تفعل ذلك في أربع ركعات، إن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل، فإن لم تفعل ففي كل جمعة مرة، فإن لم تفعل ففي كل شهرة مرة، فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة، فإن لم تفعل ففي عمرك مرة. أخرجه النسائي وأبو داود وابن ماجه والطبراني والحاكم. وأخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي رافع(4) {371}.
(
__________
(1) و (أنت راكع) أي تقولها بعد تسبيح الركوع (ففي) الترمذي قال أبو وهب: واخبرني عبد العزيز بن أبي رذمة عن عبد الله (يعني ابن المبارك) انه قال: يبدأ في الركوع بسبحان ربي العظيم، وفي السجود بسبحان ربي الأعلى ثلاثاً، ثم يسبح التسبيحات. اهـ. وكذا التسبيح حال الاعتدال والجلوس بين السجدتين، يكون بعد الدعاء الوارد فيهما.
(2) ترفع رأسك) أي من السجدة الثانية فتقولها عشراً قبل قيامك كما صرح به في رواية لابن ماجه والترمذي.
(3) فذلك) أي ما ذكر من التسبيحات (خمس وسبون في كل ركعة) فإن سها ونقص عدداً من محله أتى به فيما بعد. أما إن سها في أثناء الصلاة وسجد للسهو فلا يسبح في سجدتي السهو غير تسبيح السجود المعلوم (قال) عبد العزيز بن أبي رذمة: قلت لعبد الله بن المبارك: أن سها فيها أيسبح في سجدتي السهو عشراً عشراً؟ قال: لا إنما هي ثلثمائة تسبيحة. أخرجه الترمذي [58] ص351 ج1 تحفة الاحوذي (صلاة التسبيح).
(4) ص206 ج7 المنهل العذب (صلاة التسبيح) ، وص 216 و 217 ج1 سنن ابن ماجه، وص 282 ج2 مجمع الزوائد، وص 318 ج2 مستدرك، وص 349 ج1 تحفة الاحوذي.(1/271)
وقد تكلم) ابن خزيمة وغيره في هذا الحديث. والصحيح أنه ثابت يطلب العمل به، فقد صححه الحاكم وحسنه جماعة. قال ابن حجر: لا بأس بإسناد حديث ابن عباس، وهو من شرط الحسن، فإن له شواهد تقويه، وقد أساء ابن الجوزي بذكره في الموضوعات.
وقال الدار قطني: أصح شيء ورد في فضائل الصلوات، فضل صلاة التسبيح. وقال عبد الله بن المبارك: صلاة التسبيح مرغب فيها يستحب أن يعتادها في كل حين ولا يتغافل عنها.
(وقال) المنذري: وقد روي هذا الحديث من طرق كثيرة وعن جماعة من الصحابة أبو بكر الاجرى، وشيخنا أبو محمد عبد الرحيم المصري، وشيخنا الحافظ أبو الحسن المقدسي (وقال) أبو بكر بن أبي داود: سمعت أبي يقول: ليس في صلاة التسبيح حديث صحيح غير هذا(1)
(ولهذا) الاختلاف في الحديث لم ير الإمام احمد استحبابها (قال) أبو محمد عبد الله بن قدامة: فأما صلاة التسبيح فإن أحمد قال: ما تعجبني. قيل له: لم؟ قال: ليس فيها حديث يصح ونفض يده كالمنكر. ولم يثبت احمد الحديث المروي فيها ولم يرها مستحبة؛ وإن فعلها إنسان فلا بأس، فإن النوافل والفضائل لا يشترط صحة الحديث فيها(2)
(تنبيه) علم من حديث عكرمة عن ابن عباس أن التسبيح بعد القراءة لا قبلها وأنه يسبح في جلسة الاستراحة. وبه قال جمهور الفقهاء.
(
__________
(1) ص238 ج1 الترغيب والترهيب (الترغيب في صلاة التسبيح).
(2) ص772 ج1 مغنى (صلاة التسبيح).(1/272)
واختار) الحنفيون وابن المبارك التسبيح قبل القراءة وبعدها، وترك التسبيح بعد السجدة الثانية (قال) أبو وهب محمد بن مزاحم: سألت عبد الله بن المبارك عن الصلاة التي يسبح فيها. قال: يكبر ثم يقول: سبحانك الله وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. ثم يتعوذ ويقرا بسم الله الرحمن الرحيم وفاتحة الكتاب وسورة. ثم يقول عشر مرات: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ثم يركع فيقولها عشراً، ثم يرفع رأسه فيقولها عشراً، ثم يسجد فيقولها عشراً ، ثم يرفع رأسه فيقولها عشراً، ثم يسجد الثانية فيقولها عشراً. يصلي أربع ركعات على هذا. فذلك خمس وسبعون تسبيحة في كل ركعة، يبدأ في كل ركعة بخمس عشرة تسبيحة(1) ، ثم يقرأ ثم يسبح عشراً، فإن صلى ليلاً فأحب إلى أن يسلم في كل ركعتين، وإن صلى نهاراً فإن شاء سلم وإن شاء الله لم يسلم. قال أبو وهب: أخبرني عبد العزيز ابن أبي رذمة عن عبد الله بن المبارك أنه قال: يبدأ في الركوع بسبحان ربي العظيم، وفي السجود بسبحان ربي الأعلى ثلاثاً، ثم يسبح التسبيحات. قال أحمد بن عبده ثنا وهب بن زمعة قال: أخبرني عبد العزيز بن أبي رذمة قال: قلت لعبد الله بن المبارك: إذا سها فيها أيسبح في سجدتي السهو عشراً عشراً؟ قال: لا إنما هي ثلثمائة تسبيحة. أخرجه الترمذي والحاكم وقال: رواة هذا عن ابن المبارك كلهم ثقات أثبات {59} قال المنذري قال البيهقي: وفيه تقوية للحديث المرفوع(2) .
(
__________
(1) ص350 ج1 تحفة الاحوذي (صلاة التسبيح)، وص 320 ج1 مستدرك وص 239 ج1 الترغيب والترهيب (الترغيب في صلاة التسبيح).
(2) ص350 ج1 تحفة الاحوذي (صلاة التسبيح)، وص 320 ج1 مستدرك وص 239 ج1 الترغيب والترهيب (الترغيب في صلاة التسبيح).(1/273)
وقال) الشيخ إبراهيم الحلبي: وهذه الصفة التي ذكرها ابن المبارك هي الموافقة لمذهبنا، لعدم الاحتياج فيها إلى جلسة الاستراحة، إذ هي مكروهة عندنا(1) .
(وقال) العلامة على القاري قال السبكي: وجلالة ابن المبارك تمنع من مخالفته، وإنما أحب العمل بما تضمنه حديث ابن عباس ولا يمنعني من التسبيح بعد السجدتين، الفصل بين الرفع والقيام، فإن جلسة الاستراحة
حينئذ مشروعة في هذا المحل. وينبغي للمتعبد أن يعمل بحديث ابن عباس تارة، وبحديث ابن المبارك أخرى(2) .
16- صلاة الحاجة
يستحب لمن همه أمر أو كانت له حاجة إلى الحق أو الخلق يريد قضاءها أن يتطهر ويصلي ركعتين ثم يدعو بدعاء الكرب أو غيره مما يأتي.
وقد ورد في ذلك أحاديث منها "حديث" ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم. أخرجه الشيحان والترمذي(3) {372}
"وحديث" أبى الدرداء: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من توضأ فأسبغ الوضوء ثم صلى ركعتين يتمهما أعطاه الله ما سأل معجلاً أو مؤخراً. أخرجه احمد بسند صحيح(4) {373}.
__________
(1) ص432 غنية المتملي، وص 193 ج2 مرقاة المفاتيح.
(2) ص432 غنية المتملي، وص 193 ج2 مرقاة المفاتيح.
(3) ص22 ج2 تيسير الوصول (ادعية الكرب والهم). و (العظيم والكريم) بالجر صفة للعرش، وهو الثابت في رواية الجمهور، او بالرفع صفة للرب، او خبر لمبتدأ محذوف.
(4) ص278 ج2 مجمع الزوائد (صلاة الحاجة).(1/274)
"وقال" عبد الله بن أبي أو في قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: من كانت له حاجة إلى الله تعالى أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ وليحسن الوضوء، ثم ليصل ركعتين ثم ليثن على الله عز وجل، وليصل على النبي صلى الله عليه وسلمن ثم ليقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، لا تدع لي ذنباً إلا غفرته، ولاهماً إلا فرجته، ولا حاجة هي لك رضاً إلا قضيتها يا أرحم الراحمين. أخرجه ابن ماجه والترمذي وقال: حديث غريب والحاكم(1) {374} وفي سنده فائد بن عبد الرحمن ضعيف وقال أحمد والذهبي: متروك. وقال ابن عدي: مع ضعفه يكتب حديث.
(قال) الشوكاني: وقد ذكرت هذا الحديث وذكرت ما قيل فيه بأطول من هذا في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة. استدركت على من قال: إنه موضوع (والحاصل) أن جميع طرق أحاديث هذه الصلاة لا تخلو عن ضعف إلا حديث أبى الدرداء كما ذكرناه وبعده حديث ابن أبي أوفى(2) .
__________
(1) ص216 ج1 سنن ابن ماجه (صلاة الحاجة)، وص 348 ج1 تحفة الاحوذي، وص 320 ج1 مستدرك. و(موجبات الرحمة) التوفيق والهداية الى الطريق المستقيم. و (العزائم) جمع عزيمة بمعنى معزومة، أي مقطوع بوقوعها، أو عازمة، أي قاطعة لأثر كل ذنب. فالمعنى: أسألك أنواعاً من المغفرة يتحتم حصولها بإرادتك، او تقطع عني كل تقصير مانع من استجابة الدعاء.
(2) ص139 تحفة الذاكرين (صلاة الضر والحاجة).(1/275)
"وحديث" عثمان بن حنيف أن رجلاً ضريراً أتى النبي صلى الله عليه تعالى عليه وعلى آله وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني. قال: إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لكز قال: فادعه . فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي. اللهم فشفعه في. أخرجه احمد وابن ماجه وقال: هذا حديث حسن صحيح، والحاكم وقال: هذا صحيح على شرط الشيخين، والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح(1) {375}.
(
__________
(1) ص138 ج4 مسند احمد، وص 26 ج1 سنن ابن ماجه (صلاة الحاجة) وص 313 ج1 مستدرك (دعاء رد البصر)، وص 281 ج4 تحفة الاحوذي (باب 8 من أحاديث شتى من أبواب الدعوات) وفي قول الداعي (يا محمد) جواز النداء باسمه صلى الله عليه وسلم في مقام التشفع به، لأن المقام يؤدي من التعظيم ما يؤدي ذكره بقول الداعي: يا رسول الله (وهذا) لا يعارض ما ورد من أن نداءه صلى الله عليه وسلم باسمه منهي عنه بقوله تعالى: "لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً". (قال) ابن عباس: كانوا يقولون: يا محمد يا أبا القاسم، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك إعظاماً لنبيه صلى الله عليه وسلم، قال: فقولوا: يا نبي الله، يا رسول الله. ذكره ابن كثير [60] ص152 ج6 (سورة النور) (لأنه) صلى الله عليه وعلى آله وسلم صاحب الحق، فله أن يتصرف كيف شاء؛ ولا يقاس به غيره. وتعليم بعض الصحابة ذلك لغيره يحتمل أنه مذهب له، أو أنه رأى أن ألفاظ الدعوات والأذكار يقتصر فيها على الوارد.(1/276)
قال) الشوكاني: والحديث صحيح وصححه أيضاً ابن خزيمة، وقد تفرد النسائي بذكر الصلاة ووافقه الطبراني في بعض الطرق التي رواها. وفي الحديث دليل على جواز التوسل برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الله عز وجل مع اعتقاد أن الفاعل هو الله تعالى، وأنه المعطي المانع، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن(1)
__________
(1) ص138 تحفة الذاكرين (صلاة الضر والحاجة) والتوسل لغة التقرب بالعمل. ويطلق شرعاً على معان ثلاثة:
(
الأول) التقرب إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة. وهذا جائز مشروع اتفاقاً، بل منه الواجب الذب لا يكمل الإيمان إلا به. قال تعالى: "يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة" المائدة، آية 35. وقال: "أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب" الإسراء، آية 57. اتفق المفسرون على أن الوسيلة في الآيتين هي التقرب إلى الله بالأعمال الصالحة كالصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر العبادات. وقد ورد في ذلك آيات وأحاديث. قال تعالى: "ولله الأسماء الحسنة فادعوه بها" الأعراف، آية 180. وقال في وصف عباده المتقين: "الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار" آل عمران، آية 16. وقال في وصف أولى الألباب السليمة: "ربنا إننا سمعنا مناديا (هو الرسول صلى الله عليه وسلم) ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار (193) ربنا وآتتا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد (194) فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى (195) آل عمران. (وعن) عبد الله بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً (هو أبو موسى الأشعري كما في رواية لأحمد) يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. فقال: لقد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب. أخرجه احمد وأبو داود والترمذي [376] ص350 ج5 مسند أحمد، وص 8 ج2 تيسير الوصول (اسم الله الأعظم). وقال تعالى: "وذا النون (أي صاحب الحوت وهو سيدنا يونس عليه السلام) إذ ذهب مغاضباً (قومه) فظن إن لن نقدر عليه (أي لن نضيق عليه) فنادى في الظلمات (أي ظلمة الليل والبحر وبطن الحوت) أن لا اله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين (87) (بذهابي من بين قومي بلا إذن) فاستحبنا له ونجيناه من الغم (أي أخرجناه من بطن الحوت وتلك الظلمات) وكذلك ننجي المؤمنين" (88) الأنبياء.
(وهذا) دعاء عظيم جداً، لاشتماله على التهليل والتسبيح والإقرار بالذنب.
(وقد) ورد: ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء، إلا استجيب له (روي) سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: "لا اله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"، لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط، إلا استجاب الله له. أخرجه احمد والترمذي والنسائي في اليوم والليلة، والحاكم [377] رقم 4203 ص526 ج3 فيض القدير، وص 22 ج2 تيسير الوصول (أدعية الكرب والهم)ز
(وعن) ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: انطلق ثلاثاً نفر ممن كان قبلكم حتى اواهم المبيت إلى غار فدخلوا فيه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة الا ان تدعوا الله بصالح أعمالكم.
فقال أحدهم: انه كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت أرعى عليهما ولا اغبق قبلهما (من بابي ضرب ونصر من الغبوق وهو الشرب آخر النهار) أهلاً ولا مالاً، وانه نأى بي طلب الشجر يوماً فلم أرح عليهما (من الإراحة وهي رد الإبل إلى مراحلها) حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما قد ناما، فكرهت أن اغبق قبلهما أهلاً ومالا وكرهت أن أوقظهما، والصبية يتضاغون (أي يضجون ويصيحون من الجوع) عند قدمي، والقدح على يدي انتظر استيقاظهما حتى برق الفجر. اللهم إن كنت تعلم إني فعلت ذلك ابتغاء لوجهك، ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج.
وقال الآخر: اللهم انه كانت لي ابنة عم هي احب الناس إلى فأردتها على نفسها (أي راودتها وطلبت منها أن تمكنني من نفسها) فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها مائة وعشرين ديناراً على أن تخلى بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: لا يحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلى وتركت الذهب. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة غير انهم لا يستطيعون الخروج.
فقال الثالث: اللهم إني كنت استأجرت إجراء بأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك أجره وذهب فثمرته له حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله، اد إلى اجري، فقلت: كل ما ترى من البقر والغنم والإبل والرقيق أجرك، اذهب فاستقه. فقال: يا عبد الله، لا تستهزئ بي. فقلت: إني لا استهزئ بي. فقلت: إني لا استهزئ بك. اذهب فاسقه، فأخذه كله. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون. أخرجه الشيخان وأبو داود [378] ص302 ج4 فتح الباري (من استأجر أجيراً فترك أجره..) وص 55 ج17 نووي مسلم (التوسل بصالح الأعمال)، وص 208 ج3 تيسير الوصول (قصة أصحاب الغار).
(فهذا) الحديث صريح في أنه يجوز للعبد أن يتوسل بعمله الصالح إلى الله تعالى، وأنه ينفعه عند الشدة.
(الثاني) التوسل إلى الله تعالى مستشفعاً بأحد من خلقه فيما يطلبه العبد من ربه. وهو جائز اتفاقاً، لما تقدم أن عمر بن الخطاب استسقى بالعباس وقال: اللهم أنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون. أخرجه البخاري [61] تقدم بالأصل اثر 26 ص145.
(واستسقى) معاوية بن أبى سفيان بالأسود بن يزيد من كبار التابعين (تقدم أثر 27 ص146) وقد كان توسلهم بمن ذكر أن يدعو المتوسل به ويدعو القوم معه فهو شفيع لهم وسائل لا مسئول.
(الثالث) التوسل إلى الله تعالى بالأقسام عليه بأحد من خلقه، وهو ممنوع عند الجمهور، لأنه لم يقع من الصحابة رضي الله عنهم في الاستسقاء ونحوه، لا في حال حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولا بعد موته، ولم يثبت في دعاء من الأدعية الصحيحة.
(وأفتى) العز بن عبد السلام بمنعه إلا في حق النبي صلى الله عليه وسلم، مستدلاً بحديث الضرير رقم 375 ص267. وتبعه الشوكاني وغيره. وعليه الجمهور قالوا:قوله:أسألك وأتوجه إليك بنبيك؛سؤال بالذات وقسم "ومنعه" ابن تيمية وغيره من الحنبلية مطلقاً وقالوا:الباء في قوله:أتوجه إليك بنبيك للسببية لا للقسم.والمعنى أسألك وأتوجه إليك بسبب محمد صلى الله عليه وسلم،فيرجع إلى الحالة الثانية وهي التوسل بمعنى الشفاعة.
(ومما تقدم) تعلم أن التوسل المشروع بالاتفاق هو التوسل بالعمل الصالح، وبالغير على أنه شفيع وسائل لا مسئول، بل المسئول والمقصود هو الله تعالى، لأنه هو النافع الضار المعطي المانع الفعال لما يريد.
(وأما) ما يقع من العوام وأشباههم مخالفاً لذلك، فغير مشروع. ترى أحدهم إذا نزل به أمر خطير، ترك دعاء الله تعالى ودعا غيره، فينادي بعض الأولياء كالشافعي والبدوي والدسوقي والسيدة زينب والرفاعي والبيومي، معتقداً أنهم أرباب التصريف ولا يخطر له على بال دعاء الواحد القدير، الفعال لما يريد، ناسياً قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. أخرجه أحمد والترمذي عن ابن عباس [379] وهو بعض الحديث التاسع عشر من الأربعين النووية، وأوله: يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت ( الحديث). وما نشا هذا إلا من الجهل وعمي البصائر. نسأل الله السلامة والوقاية.(1/277)
17 و 18- صلاة الضائع والآبق
يسن لمن ضاع له شيء أو أبق وأراد العثور عليه أن يتوضأ ويصلي ركعتين ويدعو بما ورد في ذلك (روى) ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إذا ضاع له شيء أو أبق يتوضأ ويصلي ركعتين يتشهد ويقول: باسم الله، يا هادي الضلال، وراد الضالة، اردد علي ضالتي بعزتك وسلطانك، فإنها من عطائك وفضلك. أخرجه ابن أبى شيبة والحاكم وقال: رواته موثقون مدنيون لا يعرف واحد منهم بجرح(1) {
__________
(1) ص135 تحفة الذاكرين (صلاة الأبق والضياع).
(قال) العلامة أبو الطيب صديق بن حسن القنوجي في كتابه (الدين الخالص) في الكلام على ما ورد في التعليق والتمائم: وتأمل هذه الأحاديث وما كان عليه السلف يتبين لك عظيم ما وقع فيه الكثير بعد القرون المفضلة من تعظيم القبور واتخاذها مساجد والإقبال عليها بالقلب والوجه، وصرف الدعوات والرغبات والرهبات وأنواع العبادات- التي هي حق الله تعالى- إليها من دونه كما قال تعالى: "ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك، فإن فعلت فإنك إذن من الظالمين (106) وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو، وإن يردك بخير فلا راد لفضله" (107) يونس. ونظائرها في القرآن أكثر من أن يحصر، ص 237 ج2 (معنى التمائم وحكم تعليقها).
(
وقال) الأستاذ الجليل الشيخ علي محفوظ رحمه الله: ولا ريب أن السبب الذي نشأ عنه هذا الاعتقاد وهذه الغفلة هو ما زينه الشيطان للناس من رفع القبور وبناء القباب وصنع المقاصير وعمل التوابيت ووضع الستور عليها وتزيينها بأبلغ زينة وتحسينها على أكمل وجه، فإن الجاهل إذا وقعت عينه على قبر من القبور قد بنيت عليه قبة فدخلها، ونظر على القبور الستور الرائعة، والسرج المتلألئة وقد وضعت حولها مجامير الطيب، فلا ريب أنه يمتلئ قلبه تعظيماً لصاحب هذا القبر، ويضيق ذهنه عن تصور ما لهذا الولي من المنزلة، ويدخله من الروع والمهابة له ما يغرس في قلبه من العقائد الوهمية التي هي من أعظم مكايد الشيطان للمسلمين، وأشد وسائله إلى إضلال العباد ما يزلزله عن الإسلام قليلاً قليلاً حتى يطلب من صاحب هذا القبر ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى. وهذا عين الضلال. وقد يجعل الشيطان طائفة من بني آدم (شياطين الإنس) يقفون على ذلك القبر يخدعون من يأتي إليه من الزائرين يهولون عليهم الأمر، ويصنعون أموراً من أنفسهم وينسبونها إلى صاحب الضريح على وجه يخفي على البسطاء، وقد يختلفون من حكايات الكرامات له ما الله اعلم به ويبثونها في الناس ويكررونها في مجالسهم فتشيع وتستفيض، ويتلقاها بقلب سليم من يحسن الظن بهم وبأصحاب الأضرحة، ويقبل عقله ما يروي عنهم من الأكاذيب فيرويها كما سعمها ويتحدث بها في مجالسه، فيقع البسطاء في بلية عظيمة من الاعتقاد، ويزعم كثير من قصار النظر أن الأولياء يتصرفون بعد وفاتهم بنحو شفاء المريض، وإنقاذ الغريق، والنصر على الأعداء، ورد الضائع، وغير ذلك مما يكون في عالم الكون، على معنى أن الله تعالى فوض إليهم ذلك لما لهم عنده من الجاه الأعلى والمقام الرفيع الأسمى. فلهم ما يشاءون، ومن قصدهم لا يخيب، وتراهم لهذا يرفعون لهم شكواهم في عرائض مكتوبة يضعونها في الأضرحة. وربما كان صاحب هذا الضريح في حال حياته لا يستطيع الأخذ بناصر المظلوم، ولكن الناس بعد الممات يجعلون له التصرف في الملك والملكوت. وقد قال عيسى عليه السلام: "وكنت عليهم شهيداً ما دمت فهيم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد" المائدة، عجز آية 117، وص 104 الإبداع في مضار الابتداع (غفلة العوام عن الله تعالى).(1/278)
380}. هذا ويتصل بالنوافل بحثان:
الأول: طول القيام وكثرة السجود
الأفضل في صلاة النفل طول القيام "لقول" جابر: قيل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الصلاة أفضل؟ فقال: طول القنوت. أخرجه أحمد ومسلم والترمذي وصححه(1) {380}. والقنوت: القيام "ولقول" المغيرة ابن شعبة: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه أو ساقاه، فقيل له: قد غفر الله لك. قال: أفلا أكون عبداً شكوراً. أخرجه السبعة إلا أبا داود(2) {381}.
(وبهذا) قال الحنفيون والشافعيون وجماعة (وقال) جماعة منهم ابن عمر: الأفضل كثرة الركوع والسجود. وهو الظاهر عند المالكية "لقول" معدان بن أبي طلحة اليعمري: لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقلت له: دلني على عمل ينفعني الله به ويدخلني الله الجنة، فسكت عني ملياً ثم التفت إليّ فقال: عليك بالسجود فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من عبدٍ يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجةً وحط عنه بها خطيئة. قال معدان: فلقيت أبا الدرداء فسألته عما سألت عنه ثوبان. فقال: عليك بالسجود، فأني سمعت رسول الله صلى عليه وسلم يقول: ما من عبدٍ يسجد سجدةً إلا رفعه الله بها درجة، وحط عنه بها خطيئةً. أخرجه أحمد وابن حبان والنسائي والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح(3) {382}.
(وقد) اختلف أهل العلم في هذا. فقال بعضهم: طول القيام في الصلاة أفضل من كثرة الركوع والسجود.
__________
(1) ص314 ج3 مسند احمد، وص 300 ج1 تحفة الاحوذي (طول القيام في الصلاة).
(2) ص251 ج4 مسند أحمد، وص 10 ج3 فتح الباري (قيامه صلى الله عليه وسلم الليل)، وص 210 ج2 تيسير الوصول (صلاة الليل)، وص 318 ج1 تحفة الاحوذي (الاجتهاد في الصلاة).
(3) ص276 ج5 مسند احمد. ورقم 860 ص486 ج5 فيض القدير، وص 301 ج1 تحفة الاحوذي (كثرة الركوع والسجود) و (اليعمري) بفتح الياء والميم بينهما مهملة ساكنة. ثقة.(1/279)
وقال بعضهم: كثرة الركوع والسجود أفضل من طول القيام. وقال احمد بن حنبل: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا حديثان ولم يقض فيه بشيء. وقال إسحاق: أما بالنهار فكثرة الركوع والسجود، وأما بالليل فطول القيام إلا أن يكون رجل له جزء بالليل يأتي عليه، وأما بالليل فطول القيام إلا أن يكون رجل له جزء بالليل يأتي عليه، فكثرة الركوع والسجود في هذا أحب إليَّ، لأنه يأتي على جزئه وقد ربح كثرة الركوع والسجود، وإنما قال إسحاق هذا، لأنهم وصفوا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل بطول القيام، وأما بالنهار فلم توصف صلاته بطول القيام ما وصفت بالليل. اهـ. كلام الترمذي بتصرف.
(وقال) العلامة الصاوي المالكي في حاشيته على الشرح الصغير: هل الأفضل في النفل "كثرة السجود" أي الركعات؟ لخبر: عليك بكثرة السجود، فإنك لم تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة ، وحط بها عنك خطيئة (1) " أو طول " القيام بالقراءة ؟ لخير: أفضل الصلاة طول القنوت(2) أي طول القيام ، ولفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه تورمت قدماه من القيام وما زاد في غالب أحواله على إحدى عشرة ركعة "قولان" محلهما مع اتحاد زمانهنا. ولعل الأظهر الأول لما فيه من كثرة الفرائض وما يشتمل عليه من تسبيح وتحميد وتهليل وصلاةٍ عليه صلاة الله عليه وسلم(3) .
(
__________
(1) عليك..الخ) أي الزم الإكثار من صلاة النافلة، يشير إلى حديث ثوبان وأبى الدرداء رقم (382).
(2) أي افضل أحوالها طول القيام. والحديث تقدم عن جابر رقم (380).
(3) ص178 ج بغية السالك لأقرب المسالك (آخر النوافل المطلوبة).(1/280)
واستدلّ) له أيضاً "بقول" ربيعة بن كعب الأسلمي: كنت أبيت مع النبي صلى الله عليه وسلم آتيه بوضوئه وبحاجته، فقال: سلني، فقلت: مرافقتك في الجنة. قال: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك. قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود. أخرجه احمد وأبو داود. وهذا لفظه(1) {383}.
(وأجاب) الأولون بأن هذه الأحاديث لا تعارض الأحاديث الدالة على فضل طول القيام؛ لأن صيغة أفعل الدالة على التفضيل، إنما وردت في فضل طول القيام ولا يلزم من فضل الركوع والسجود، أفضليتهما على طول القيام.
(فالحق) القول بأفضلية طول القيام (قال) العراقي: الظاهر أن أحاديث أفضلية طول القيام محمولة على صلاة النفل التي لا تشرع فيها الجماعة وعلى صلاة المنفرد. فأما الإمام في الفرائض والنوافل، فهو مأمور بالتخفيف المشروع. إلا إذا علم من حال المأمومين المحصورين إيثار التطويل ولم يحدث ما يقتضي التخفيف من بكاء صبي ونحوه فلا بأس بالتطويل. وعليه يحمل صلاته صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المغرب بالأعراف. اهـ.
الثاني: الجلوس في صلاة النقل
تقدم أن القيام في الصلاة للقادر عليه ركن في الفرض إجماعاً. أما النفل فيصح من جلوسٍ مع القدرة على القيام بلا كراهة إجماعاً.
"لحديث" عبد الله بن شقيق عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ليلاً طويلاً قائماً وليلاً طويلا قاعداً، فإذا صلى قائماً ركع قائماً، وإذا صلى قاعداً ركع قاعداً. أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي(2) {384}
هذا. ويجوز بلا كراهةٍ تأدية بعض صلاة التطوع من قعود وبعضها من قيامٍ، وبعض الركعة من قيامٍ وبعضها من قعودٍ، سواءٌ أقدم القيام أم أخره.
__________
(1) ص59 ج4 مسند احمد، وص 248 ج7 المنهل العذب (وقت قيامه صلى الله عليه وسلم من الليل).
(2) ص10 ج6 نووي مسلم (جواز النافلة قائماً وقاعداً) وص 62 ج6 المنهل العذب (صلاة القاعد) وص 244 ج1 مجتبي (كيف يفعل إذا افتتح الصلاة قائماً).(1/281)
"لحديث" عروة عن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في شيء من صلاة الليل جالساً قط حتى دخل في السن، فكان يجلس فيها فيقرأ حتى إذا بقي أربعون أو ثلاثون آية، قام فقرأها ثم ركع أخرجه الخمسة(1) {385}.
"ولحديث" أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي جالساً فيقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين أو أربعين آية قام فقرأها وهو قائم ثم ركع ثم سجد، ثم يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك.أخرجه أبو داود(2) {386}.
"ولقول" علقمة بن وقاص: قلت لعائشة: كيف كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الركعتين وهو جالس؟ قالت: كان يقرأ فيهما، فإذا أراد أن يركع قام فركع. أخرجه مسلم(3) {387}.
(وبهذا) قال الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة. (وقال) أبو يوسف ومحمد وأشهب المالكي: لا يصح القعود بعد القيام إلا لعذر، لأن الشروع في الطاعة على حال ملزم كالنذر، ولو نذر الصلاة قائماً لا تصح من قعود، فكذا هذا.
(
__________
(1) ص22 ج3 فتح الباري (قيامه صلى الله عليه وسلم بالليل) وص 11 ج6 نووي مسلم، وص 244 ج1 مجتبي، وص 60 ج6 المنهل العذب (صلاة القاعد).
(2) ص61 منه، وص 12 ج6 نووي مسلم (جواز النافلة قائماً وقاعداً).
(3) ص61 منه، وص 12 ج6 نووي مسلم (جواز النافلة قائماً وقاعداً).(1/282)
وأجاب) الأولون (أولاً) بأن القيام ليس مشروعاً بالذات في النقل، بل هو من صفاته (وثانياً) بأن المشروع ليس ملحقاً بالنذر مطلقاً، بل في إيجاب أصل الفعل، فلا يكون الشروع في الأولى قائماً موجباً للقيام في الثانية، بخلاف النذر لأنه التزمه نصا فيلزمه(1) .
هذا، ومن صلى التطوع قاعداً بلا عذر فله نصف أجر القائم.
"لحديث" عبد الله بن يريدة عن عمران بن حصين أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن صلاة الرجل قاعداً، فقال: صلاته قائماً أفضل من صلاته قاعداً، وصلاته قاعداً على النصف من صلاته قائماً، وصلاته نائماً على النصف من صلاته قاعداً. أخرجه السبعة إلا مسلماً. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح(2) {388}.
(
__________
(1) وأيضاً فعله صلى الله عليه وعلى آله وسلم دليل على جواز الصلاة من قيام ثم من قعود. والله تعالى يقول: "وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا" الحشر، عجز آية 7 ولا ريب أن فعله صلى الله عليه وعلى آله وسلم سنة. كما أن قوله وتقريره سنة، والحجة النيرة والسبيل المتبع هو فعل وقول المعصوم دون سواء. فلا يعدل عنه لهوى ورأى متبع، قال تعالى: "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً" النساء، آية 115.
(2) ص152 ج5 الفتح الرباني، وص 396 ج2 فتح الباري (صلاة القاعد بالإيماء) وص 58 ج6 المنهل العذب، وص 245 ج1 مجتبي (أفضل صلاة القاعد على صلاة النائم) وص 193 ج1 سنن ابن ماجه (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم) وص 292 ج1 تحفة الأحوذي.(1/283)
قال) الخطابي: أما قوله "وصلاته نائماً على النصف من صلاته قاعداً" فإني لا أعلم أني سمعته إلا في هذا الحديث. ولا أحفظ عن أحدٍ من أهل العلم انه رخص في صلاة التطوع نائماً (يعني مع القدرة على القعود) كما رخصوا فيها قاعداً، وإن صحت هذه اللفظة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم تكن من كلام بعض الرواة، فإن التطوع مضطجعاً للقادر على القعود جائز بهذا الحديث. اهـ. بتصرف(1) .
"وقول" ابن بطال: وأما قوله وصلاته نائماً على النصف من صلاته قاعداً، فلا يصح معناه عند العلماء، لأنهم مجمعون أن النافلة لا يصليها القادر على القيام إيماءً، وإنما دخل الوهم على ناقل الحديث. اهـ "رده" العراقي بأن في مذهب الشافعية وجهين الأصح منهما الصحة، وعند المالكية ثلاثة أوجه، أحدها الجواز مطلقاً في الاضطرار والاختيار للصحيح والمريض، وقد روى الترمذي بإسناده عن الحسن البصري جوازه فكيف يدعي مع هذا الخلاف الاتفاق(2) ؟
(وهذا) في حق غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم. أما هو فقد تقدم أنه اختص بان تطوعه قاعداً بلا عذر كتطوعه قائماً في الأجر(3) .
"فائدة" من صلى قاعداً لعذرٍ أو غيره فله أن يجلس على أي صفة شاء لإطلاق الأحاديث المتقدمة (واختلف) العلماء في الأفضل (فقال) مالك والثوري وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق: الأفضل التربع. وهو أحد قولي الشافعية "لقول" عائشة: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي متربعاً. أخرجه النسائي وابن حبان والحاكم(4) {389}. وفي سنده أبو داود الحفري. قال النسائي: وهو ثقة. ولا أحسب هذا الحديث إلا خطأ (وعن) أبي حنيفة والشافعي أن الافتراش أفضل.
(الخامس) سجود السهو
__________
(1) ص225 ج1 معالم السنن (صلاة القاعد).
(2) ص58 ج6 المنهل العذب (صلاة القاعد).
(3) تقدم دليله رقم 187 ص140 ج2 دين طبعة ثانية (اختص النبي صلى الله عليه وسلم بجواز صلاة الفرض قاعداً بلا عذر).
(4) ص245 ج1 مجتبي (كيف صلاة القاعد؟).(1/284)
السهو والنسيان لا فرق بينهما من حيث الحكم. ومعناهما عند اللغويين الغفلة عن الشيء وعدم احتضاره وقت الحاجة. وقيل: السهو زوال صورة الشيء من المدركة مع بقائها في الحافظة، والنسيان زوالها منهما معاً؛ فيحتاج في تحصيلها إلى سبب جديد (وقال) في النهاية: السهو في الشيء تركه من غير علم، والسهو عن الشيء تركه مع العلم به. اهـ.
(وبه) يظهر الفرق بين السهو في الصلاة الذي وقع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من مرة. والسهو عن الصلاة الذي ذم فاعله بقوله تعالى: "فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون".
هذا. وسجود السهو مشروع بالسنة وإجماع الأمة. قال الإمام أحمد: يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم خمسة أشياء: سلم من اثنتين فسجد؛ سلم من ثلاثٍ فسجد، وفي الزيادة والنقصان قام من اثنتين ولم يتشهد. قاله ابن قدامة في المغنى.
ثم الكلام هنا في فرعين.
1- حكم سجود السهو:(1/285)
هو واجب " لما روى" منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي عن علقمة قال: قال عبد الله بن مسعود: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال إبراهيم: فلا أدري زاد أم نقص؟- فلما سلم قيل له: يا رسول الله، أحدث في الصلاة شيءٌ؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صليت كذا وكذا. فثنى رجليه واستقبل القبلة فسجد سجدتين ثم سلم ثم أقبل علينا بوجهه، وقال: إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسلم ثم ليسجد سجدتين. أخرجه السبعة إلا الترمذي(1) {390}.
__________
(1) ص216 ج1 الفتح الرباني. وص 341 ج1 فتح الباري (التوجه نحو القبلة حيث كان) وص 61 ج5 نووي مسلم (السهو في الصلاة والسجود له) وص 145 ج6 المنهل العذب (إذا صلى خمساً) وص 184 ج1 مجتبي (التحري) وص 179 ج1 سنن ابن ماجه (من شك في صلاته فتحرى الصواب) (فلا أدري..إلخ) أي أن إبراهيم النخعي شك في سبب سجود السهو، أكان الزيادة أم النقصان؟ لكن في رواية الحكم عن إبراهيم انه صلى خمساً جازماً بالزيادة: ولعل إبراهيم شك حين حدث منصوراً وتيقن لما حدث الحكم. ويأتي حديث الحكم رقم 400 ص298 (من قام لزائدة تاركاً القعود الأخير).
(فثنى رجليه...إلخ): أي حولهما عن حالتهما إلى حالة صالحة للسجود، وفي الكلام تقديم وتأخير والأصل فاستقبل القبلة وثنى رجليه، وفي رواية أبى داود: فثنى رجله.(1/286)
"ولحديث" عبد الله بن جعفر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعد ما يسلم. أخرجه احمد وأبو داود والنسائي والبيهقي(1) {391} وفي سنده مصعب بن شيبة مختلف فيه، "ولحديث" علقمة عن عبد الله قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً، فلما انفتل توشوش القوم بينهم، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: يا رسول الله، أزيد في الصلاة؟ قال: لا. قالوا: فإنك قد صليت خمساً. فانفتل ثم سجد سجدتين ثم سلم ثم قال: إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسى أحدكم فليسجد سجدتين. أخرجه مسلم(2) {392}
(وللأمر) في هذه الأحاديث قال الحنفيون: سجود السهو واجب، يأثم المصلي بتركه ولا تبطل الصلاة بتركه، وعليه الإعادة خروجاً من الإثم (ومحل) وجوبه إذا كان الوقت صالحاً لأداء الصلاة وإلا فلا، كمن لزمه سجود في صلاة الصبح ولم يسجد حتى طلعت الشمس بعد السلام؛ فإنه يسقط عنه السجود. وكذا إذا احمرت الشمس قبل الغرب وقد سلم من العصر، أو طرأ بعد السلام منافٍ يقطع البناء؛ كأن أحدث عمداً أو تكلم أو خرج من المسجد بعد السلام ثم تذكر السهو، فيسقط عنه سجود السهو فيما ذكر. ولا تجب عليه إعادة الصلاة إلا إذا سقط السجود بتعمد عملٍ منافٍ للصلاة فتجب الإعادة.
(
__________
(1) ص157 ج4 الفتح الرباني، وص 160 ج6 المنهل العذب (من قال بعد التسليم) وص 185 ج1 مجتبي (التحري).
(2) ص65 ج5 نووي مسلم (السهو في الصلاة والسجود له) و (توشوش) روى بالمعجمة وبالمهملة، ومعناه تحركوا.(1/287)
وقالت) الحنبلية: سجود السهو واجبٌ ومندوبٌ ومباحٌ (فيجب) "لترك" واجبٍ من واجباتِ الصلاةِ سهواً "ولزيادة" فعليةٍ كقيامٍ وقعودٍ في غير محلهما سهواً "وللشك" في ترك ركن أو في عدد الركعات "والمحن" في القراءة يغير المعنى سهواً أو جهلاً. فلو ترك السجود حينئذ عمداً بطلت صلاته إن كان قبلياً ولا تبطل إن كان بعدياً، لأنه خارجٌ عن الصلاة جابر لها. وإن تركه سهواً قبل السلام أو بعده أتى به ما لم يطل الفصل عرفاً. ولو انحرف عن القبلة أو تكلم. وإن طال الفصل أو خرج من المسجد أو أحدث؛ لم يسجد وصحت صلاته. (ويندب) لزيادةٍ قوليةٍ كالقراءة في الركوع والسجود، والتشهد في القيام، وقراءة السورة في غير الأوليين من الرباعية والمغرب سهواً (ويباح) لترك سنة من سنن الصلاة سهواً.
(وقالت) الشافعية: سجود السهو سنة إلا لمأموم سجد إمامه فيجب عليه السجود تبعاً وإلا بطلت صلاته. وهو مشهور مذهب المالكية لا فرق عندهم بين السجود القبلي والبعدي. وقال بعضهم بوجوب القبلي.
2- سبب سجود السهو:
اختلف الفقهاء في أسباب سجود السهو (فأسبابه) عند الحنفيين ثلاثة: (الأول) ترك واجب أصليّ من واجبات الصلاة سهواً(1) "كترك" قراءة الفاتحة أو أكثرها في إحدى أولي الفرض، ومن إحدى ركعاتِ الواجب والنفل. وكذا إن ترك منها آية عند الإمام "وترك" قراءة السورة مما تجب فيه الفاتحة "وقراءة" آية في غير محلها كركوعٍ وقعودٍ "وركوع" قبل القراءة؛ فإن تقديم القراءة على الركوع واجبٌ لا فرضٌ "والجهر" في غير محله "والإسرار" في غير محله بقدر ما تصح به الصلاة على الأصح عندهم "وزيادة" فعل من جنس الصلاة كزيادة ركوع أو سجود أو قايم أو قعود، لأنه لا يخلو عن ترك واجبٍ أو تأخيره عن محله.
(
__________
(1) سهواً) أما إذا تركه عمداً فلا يجبر بالسجود بل بإعادة الصلاة، كما تقدم في بحث "واجبات الصلاة" وخرج بالواجب الأصلي غيره كترتيب السور فإنه لو تركه لا يلزمه سجود.(1/288)
الثاني) متابعة الإمام في السجود، فيلزم المأموم سجود السهو لسهو إمامه إذا سجد وإن لم يكن مقتدياً به وقت السهو، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سها فسجد وسجد الصحابة معه.
(الثالث) الشك في أثناء الصلاة على ما سيأتي بيانه (قال) علاء الدين أبو بكر بن مسعود الكاساني: سبب وجوبه ترك الواجب الأصلي ساهياً؛ لأن كل ذلك يوجب نقصاناً في الصلاة، فيجب جبره بالسجود. ويخرج على هذا الأصل مسائل.
(وجملة) الكلام فيه أن الذي وقع السهو عنه لا يخلو: إما أن يكون من الأفعال، وإما أن يكون من الأذكار؛ فإن كان من الأفعال بأن قعد في موضع القيام، أو قام في موضع القعود: سجد للسهو، لوجود تغيير الفرض وهو تأخير القيام عن وقته أو تقديمه على وقته مع ترك الواجب وهو القعدة الأولى.
(وكذا) إذا ركع في موضع السجود، أو سجد في موضع الركوع، أو ركع ركوعين، أو سجد ثلاث سجداتٍ؛ لوجود تغيير الفرض عن محله أو تأخير الواجب (وكذا) إذا ترك سجدة من ركعةٍ فتذكرها في آخر الصلاة، سجدها وسجد للسهو؛ لأنه أخرها عن محلها الأصليّ (وكذا) إذا قام إلى الخامسة قبل أن يقعد قدر التشهد أو بعد ما قعد، عاد وسجد للسهو لوجود تأخير الفرض عن وقته الأصليّ وهو القعدة الأخيرة، أو تأخير الواجب وهو السلام.
((1/289)
ولو زاد) على قراءة التشهد في القعدة الأولى وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذكر في أمالي الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أن عليه سجود السهو. وعند الصاحبين لا يجب، لأنه لو وجب عليه سجود السهو لوجب لجبر النقصان، لأنه شرع له، ولا يعقل تمكن النقصان في الصلاة بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو حنيفة يقول: لا يجب عليه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، بل بتأخير الفرض وهو القيام، إلا أن التأخير حصل بالصلاة، فيجب عليه من حيث إنه تأخير، لا من حيث إنه صلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم(1) ، ثم قال: وأما الأذكار التي يتعلق سجود السهو بها فأربعة: القراءة والقنوت، والتشهد وتكبيرات العيدين(2) وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
(وأسبابه) عند المالكية ثلاثة: زيادة ركن سهواً فأكثر على ما تقدم بيانه. والشك في الزيادة والنقصان على ما سيأتي بيانه. وترك سنة من السنن المؤكدة، وهي السورة بعد الفاتحة، والجهر فيما يجهر فيه، والسر فيما يسر، وسمع الله لمن حمده، والتشهد الأول أو الثاني، وثلاث من تكبيرات الانتقال.
(
__________
(1) ص164 و 166 ج1 بدائع الصنائع (سبب وجوب سجود السهو).
(2) ص164 و 166 ج1 بدائع الصنائع (سبب وجوب سجود السهو).(1/290)
وقالت) الشافعية: سبب سجود السهو زيادة ونقصان. فأما الزيادة فضربان: قول وفعل (فالقول) أن يسلم في غير موضع السلام ناسياً، أو يتكلم ناسياً، أو يقرأ في غير موضع القراءة (والفعل) ضربان: أحدهما ما لا يبطل عمده الصلاة فلا سجود فيه، والآخر ما يبطل عمده وهو ضربان: متحقق ومتوهم (فالمتحقق) أن يزيد ركعةً، أو يقعد للتشهد في غير موضع القعود، أو يطيل القيام بنية القنوت في غير موضعه، أو يزيد ركوعاً أو سجوداً أو قياماً سهواً (والمتوهم) أن يشك أصلي ركعةً أم ركعتين؟ (والنقصان) أن يترك سنة مقصودة وهي شيئان: ترك التشهد الأول وترك القنوت. أفاده النووي في المجموع. (وقالت) الحنبلية: سبب السجود زيادة ونقص سهواً، وشك في بعض صوره.
(فالزيادة) فعلية وقولية. فمتى زاد فعلاً من جنس الصلاة سهواً كقيام وركوع وسجود وجلوس ولو قدر جلسة الاستراحة، وجب السجود. وإن زاد قولاً سهواً كأن قرأ في غير محل القراءة، أو تشهد في غير محل التشهد، ندب له السجود.
(والنقص) يكون بترك ركن أو واجبٍ سهواً. فمنْ نسي ركناً غير التحريمة، فإن تذكره قبل الشروع في قراءة الركعة التي بعدها، عاد لزوماً وأتى به وبما بعده من الأركان والواجبات- لوجوب الترتيب- وسجد للسهو في آخر الصلاة، فإن لم يعد عمداً بطلت صلاته لتركه الواجب عمداً، وإن لم يعد سهواً أو جهلاً بطلت الركعة فقط، وإنْ لم يتذكره حتى شرع في قراءة الركعة التالية، بطلت الركعة التي تركه منها، وحلت ما بعدها محلها، وسجد للسهو وجوباً، ولا يرجع إلى ما تركه؛ فإن رجع إليه عالماً عامداً بطلت صلاته، لتركه الواجب عمداً وإن رجع سهواً أو جهلاً لم تبطل صلاته.
(ومن) نسي التشهد الأول وحده أو نسيه مع الجلوس له وقام، لزمه الرجوع والإتيان به ما لم يستتم قائماً، وسجد للسهو في آخر الصلاة. وإن استتم قائماً ولم يقرأ، فالأولى عدم الرجوع. فإن عاد كره، وغن قرأ لم يجز له الرجوع، ويلزمه السجود لذلك كله.
((1/291)
وأما) الشك، فسيأتي بيانه في بحثه إن شاء الله تعالى.
(تنبيه) علم مما تقدم أن أسباب سجود السهو: الزيادة والنقص ومتابعة الإمام والشك. وهاك بيانها بالتفصيل.
السبب الأول: الزيادة في الصلاة
ما يزاد فيها فعل وقول (أ) فزيادة الفعل ثلاثة أقسام:
(الأول) ليس من أعمالها ولا لإصلاحها، ولا لدفع الأذى كالحك والتروح والمشي لغير وضوء لمن سبقه الحدث. فهذا تبطل الصلاة بكثيرة دون يسيره عمداً أو سهواً وليس له سجود.
(الثاني) ما ليس من جنسها ولا يبطلها عمده كالالتفات والخطوة والخطوتين والضربة والإقعاء في الجلوس، ووضع اليد على الفم والخاصرة والتفكر في الصلاة، والنظر إلى ما يلهي، ورفع البصر إلى السماء، وكف الثوب والشعر، ومسح الحصا، والتثاؤب، والعبث بلحيته، ونحوه مما تقدم في مكروهات الصلاة(1) فهذا كله لا سجود لعمده ولا لسهوه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى أعلام الخميصة فقال: شغلتني أعلامها. وتذكر تبراً كان عنده في الصلاة، وحمل الحسن أو الحسين وأمامة بنت أبي العاص ووضعهم، وخلع نعليه في الصلاة(2) ، ولم يسجد لشيء من ذلك.
(
__________
(1) انظر ص169 وما بعدها ج3 دين طبعة ثانية.
(2) حديث الخميصة تقدم رقم 252 ص183 ج3 (مكروهات الصلاة) وحديث حمل الحسن أو الحسين تقدم رقم 198 ص157 وحديث حمل أمامة تقدم رقم 199 ص157 (ما يباح في الصلاة) وحديث خلع النعل تقدم رقم 208 ص161 ج3 دين (ما يباح في الصلاة).(1/292)
الثالث) ما كان من جنس الصلاة، كأن يركع قبل القراءة سهواً فيلزمه إعادة الركوع بعدها ثم يسجد للسهو، وكأن يقوم في موضع الجلوس أو يجلس في موضع القيام أو يزيد ركعةً. فهذا تبطل الصلاة بعمده ويسجد لسهوه "لحديث" إبراهيم النخعي عن علقمة بن قيس عن عبد الله بن مسعود قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإما زاد أو نقص- قال إبراهيم: وأيم الله ما جاء ذلك إلا من قبلي- قال: فقلنا: يا رسول الله، أحدث في الصلاة شيءٌ؟ قال: لا فقلنا له الذي صنع. فقال: إذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين، ثم سجد سجدتين. أخرجه مسلم(1) {393}.
"ولحديث" الأسود عن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلى الظهر أو العصر خمساً ثم سجد سجدتي السهو، ثم قال: هاتان السجدتان لمن ظن منكم أنه زاد أو نقص. أخرجه مسلم والنسائي والبيهقي وأحمد. وهذا لفظه(2) {394}.
(وهذا) يشمل عدة أمور (منها) الجلوس في غير موضعه سهواً قدر جلسة الاستراحة، فيجب السجود عند الحنفيين وكذا عند الحنبلية على المشهور.
(قال) ابن قدامة: وإذا جلس في غير موضع التشهد قدر جلسة الاستراحة. فقال القاضي: يلزمه السجود سواءٌ أقلنا جلسة الاستراحة مسنونة أم لم نقل ذلك، لأنه لم يردها بجلوسه، إنما أراد غيرها، وكان سهواً. ويحتمل ألا يلزمه لأنه فعل لو تعمده لم تبطل صلاته، فلا يسجد لسهوه كالعمل اليسير من غير جنس الصلاة(3) ، وبهذا قالت الشافعية. (ويسن) السجود عند المالكية.
__________
(1) ص67 ج5 نووي مسم (السهو في الصلاة والسجود له).
(2) ص154 ج4 الفتح الرباني، وص 66 ج5 نووي مسلم، وص 186 ج1 مجتبي (ما يفعل من صلى خمساً).
(3) ص687 ج1 مغنى (الجلوس في غير موضع التشهد).(1/293)
أما لو زاد الجلوس سهواً على قدر الاستراحة فإنه يسجد له اتفاقاً، وإذا جلس في موضع قيام بأن يجلس عقيب الأولى أو الثالثة يظن أنه موضع التشهد أو جلسة الفصل، فمتى ما تذكر قام، وإن لم يتذكر حتى قام، أتم صلاته وسجد للسهو، لأنه زاد في الصلاة من جنسها ما لو فعله عمداً أبطلها، فلزمه السجود إذا كان سهواً كزيادة ركعة.
(ومنها) القيام في غير موضعه سهواً فيطلب السجود عند الأئمة الأربعة والجمهور "لعموم" حديثِ علقمةَ بن قيس عن عبد الله قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فزاد أو نقص. فقيل: يا رسول الله، أزيد في الصلاة شيءٌ؟ فقال: إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيَ أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالسٌ. ثم تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد سجدتين. أخرجه مسلم(1) {395}.
"ولحديث" ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لكل سهوٍ سجدتان بعد ما يسلم. أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والبيهقي في، السنن، وقال: هذا إسنادٌ فيه ضعف. وقال في المعرفة: تفرد به إسماعيل ابن عياش وليس بالقوي(2) {396}.
(ورد) "أولاً" بأن أبا داود أخرجه فسكت عنه. فهو صالح عنده "وثانياً" أن إسماعيل بن عياش وثقه الإمام أحمد وابن معين وغيرهما. هذا. والقيام في موضع الجلوس تحته ثلاث صور:
(
__________
(1) ص66 ج5 نووي مسلم (السهو في الصلاة والسجود له).
(2) ص115 ج4 الفتح الرباني، وص 196 ج6 المنهل العذب (من نسي أن يتشهد وهو جالس) وص 190 ج6 سنن ابن ماجه (من سجدها بعد السلام).(1/294)
الأولى) القيام للثالثة بلا تشهد سهواً، فإن تذكر وهو للقعود أقرب بأن لم ينتصب النصف الأسفل، عاد ولا يسجد للسهو في الأصح عند الحنفيين. وإن تذكر وهو للقيام أقرب بانتصاب النصف الأسفل، لزمه العود والسجود للسهو. وإن لم يتذكر حتى استوى قائماً لا يعود، لاشتغاله بفرض القيام وسجد للسهو، لتركه القعود الأول، وإن عاد بعد ما استوى قائماً لا تفسد صلاته على الصحيح عندهم، لأن زيادة ما دون الركعة لا يفسد الصلاة ويسجد للسهو "لقول" قيس بن أبي حازم: صلى بنا المغيرة بن شعبة، فقام في الركعتين فسبح الناس خلفه، فأشار إليهم أن قوموا. فلما قضى صلاته وسجد سجدتي السهو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا استتم أحدكم قائماً فليصل ويسجد سجدتي السهو، وإن لم يستتم قائماً، فليجلس ولا سهو عليه. أخرجه الطحاوي. وكذا أحمد عن المغيرة قال: أمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر أو العصر، فقام. فقلنا: سبحان الله. فقال: سبحان الله. وأشار بيده، يعني قوموا، فقمنا. فلما فرغ من صلاته سجد سجدتين، ثم قال: إذا ذكر أحدكم قبل أن يستتم قائماً فليجلس، وإذا استتم قائماً فلا يجلس. وأخرجه أبو داود عن المغيرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قام الإمام في الركعتين فإن ذكر قبل أن يستوي قائماً فليجلس. وإن استوى قائماً فلا يجلس ويسجد سجدتي السهو. وأخرج نحوه ابن ماجه(1) {397} وفي سنده جابر الجعفي وهو ضعيف جداً. وقال شعبة: صدوق في الحديث. ووثقه وكيع.
(وبهذا) قال الحنفيون فيمن سها في الفرض والوتر. أما من سها في النفل فقام لثالثة بلا تشهدٍ فإنه بعود ما لم يقيد ما قام إليها بسجدة.
(
__________
(1) ص225 ج1 شرح معاني الآثار 0سجود السهو أهو قبل السلام أم بعده) وص 152 ج4 الفتح الرباني، وص 164 ج6 المنهل العذب (من نسي أن يتشهد وهو جالس) وص 88 ج1 سنن ابن ناجه (من قام من اثنتين ساهياً).(1/295)
وبه) قالت الشافعية في الفرض والنفل، إلا أنهم قالوا: إن عاد بعد أن استقل قائماً عامداً عالماً تبطل صلاته على الصحيح عندهم (قال) النووي في المجموع: سبق أن فوات التشهد الأول أو جلوسه يقتضي سجود السهو. فإذا نهض من الركعة الثانية ناسياً للتشهد أو جلس ولم يقرأ التشهد ثم نهض ناسياً ثم تذكر، فله حالان:
(أحدهما) أن يتذكر بعد الانتصاب قائماً فيحرم العود إلى القعود، هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور (ودليله) حديث المغيرة. وفيه وجه شاذ أنه يجوز العود ما لم يشرع في القراءة (والصواب) تحريم العود، فإن عاد معتمداً عالماً بتحريمه بطلت صلاته، وإن عاد ناسياً لم تبطل، ويلزمه أن يقوم عند تذكره ويسجد للسهو، ويكون سجود السهو هنا لزيادةٍ ونقصٍ، لأنه زاد جلوساً في غير موضعه وترك التشهد والجلوس في موضعه. وإن عاد جاهلاً بتحريمه فوجهان (أصحهما) أنه كالناسي، لأنه يخفى على العوام.
((1/296)
والثاني) أنه كالعامد، لأنه مقصر بترك التعلم. هذا حكم المنفرد والإمام في معناه، فلا يجوز العود بعد الانتصاب. ولا يجوز للمأموم أن يتخلف عنه للتشهد؛ فإنْ فعل بطلت صلاته؛ فإن نوى مفارقته ليتشهد جاز وكان مفارقاً بعذر. ولو انتصب مع الإمام فعاد الإمام للتشهد لم يجز للمأموم العود، بل ينوي مفارقته. وهل له أن ينتظره قائماً حملاً على أنه عاد ناسياً؟ فيه وجهان (أصحهما) له ذلك. فلو عاد المأموم مع الإمام عالماً بتحريمه، بطلت صلاته. وإن عاد ناسياً أو جاهلاً لم تبطل، ولو قعد المأموم فانتصب الإمام ثم عادَ، لزم المأموم القيام، لأنه توجه عليه بانتصاب الإمام. ولو قعد الإمام للتشهد الأول وقام المأموم ناسياً أو نهض فتذكر الإمام فعاد قبل الانتصاب وانتصب المأموم، فثلاثة أوجه (أصحهما) يجب على المأموم العود إلى التشهد لمتابعةِ الإمام، لأنها آكد، ولهذا سقط بها القيام والقراءةَ عن المسبوق إذا أدرك الإمام راكعاً، فإن لم يعد بطلت صلاتُه، ولو قام المأموم عمداً، حرم عليه العوْد كما لو رَكَعَ قبل الإمام أوْ رفع قبله فإنه يحرم العوْد؛ فإن عادَ بطلت صلاتُه، لأنه زاد ركناً عمداً فلو فعله سهواً بأن سمع صوتاً فظنَّ أنَّ الإمام ركعَ فركعَ فبانَ أنه لم يركع. ففي جواز الرجوع وجهان (أصحهما) لا يجب بل يتخير بين الرجوع وعدمه.
(الحال الثاني) أن يتذكر قبل الانتصاب قائماً (قال) الشافعي وأصحابه: يرجع إلى القعود. وإذا عام قبل الانتصاب لا يسجد للسهو على الأصح.(1/297)
"لحديث" ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا سهو إلا في قيامٍ عن جلوسٍ أو جلوسٍ عن قيامٍ. رواه الحاكم وادعى أن إسناده صحيح {398} وليس كما ادعى، بل هو ضعيف تفرد به أبو بكر العنسي "بالنون" وهو مجهول. وما ذكرناه في الحالين هو فيما إذا ترك التشهد ناسياً ونهض. فأما إذا تعمد ذلك ثم عاد بعد أن صار إلى القيام أقرب بطلت صلاته. وإن عاد قبله لم تبطل(1) اهـ ملخصاً.
(وقالت) المالكية: منْ قام تاركاً التشهد الأول ناسياً يرجع ما لم يفارق الأرض بيديه وركبتيه ولا سجود عليه. وإن فارق الأرض بما ذكَر لا يرجع ويسجد للسهو. وإن رجع ولو بعد أن قام وقرأ بعض الفاتحة؛ لا تبطل الصلاة على الراجح، أما إن رجع بعد قراءتها كلها، بطلت صلاته.
(
__________
(1) ص130- 135 ج14 شرح المهذب (فرع في سجود السهو فيه مسائل) وحديث ابن عمر أخرجه أيضاً الدارقطني والبيهقي قال الشوكاني: وهو ضعيف، ص 147 ج3 نيل الأوطار (من نسي التشهد الأول....)(1/298)
وقالت) الحنبلية: من قام ناسياً التشهد الأول، له الرجوع ما لم يشرع في القراءة. وقيل متى انتصب قائماً لا يرجع (قال) أبو محمد عبد الله بن قدامة: القيام في موضع الجلوس في ثلاث مسائل: (الأولى) أن يذكر التشهد الأول قبل اعتداله قائماً فيلزمه الرجوع إلى التشهد. وبه قال الاوزاعي والشافعي وابن المنذر. (وقال) مالك: إن فارقت أليتاه الأرض مضى. ولنا ما روى المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا قام أحدكم في الركعتين فلم يستتم قائماً فليجلس، فإذا استتم قائماً فلا يجلس ويسجد سجدتي السهو. رواه أبو داود وابن ماجه(1) ولأنه أخل بواجب ذكره قبل الشروع في ركن مقصود، فلزمه الإتيان به كما لو لم تفارق أليتاه الأرض. (الثانية) أن يذكر التشهد بعد اعتداله قائماً وقبل شروعه في القراءة. فالأولى له ألا يجلس، وإن جلس جاز. نص عليه أحمد. (الثالثة) ان يذكره بعد الشروع في القراءة فلا يجوز له الرجوع ويمضي في صلاته في قول أكثر أهل العلم (وقال) الحسن: يرجع ما لم يركع وليس بصحيح، لحديث المغيرة، ولأنه شرع في ركن مقصود فلم يجز له الرجوع كما لو شرع في الركوع. اهـ ملخصاً(2)
( وعن ) عبد الله بن مالك بن بحينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين: من الظهر لم يجلس فقام الناس معه، فلما قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس فسجد سجدتين قبل أن يسلم. أخرجه مالك والسبعة(3) {399}.
(
__________
(1) تقدم بالحديث رقم 389.
(2) ص680 – 682 ج1 مغنى (مواضع السجود السهو).
(3) ص175 ج1 تيسير الوصول (سجود السهو) وص 150 ج4 الفتح الرباني، وص 188 ج1 سنن ابن ماجه (من قام من اثنتين ساهياً) ولفظ النسائي تقدم رقم 245 ص185 ج2 دين و (بحينة) اسم أمه لا جده.(1/299)
ومما) تقدم تعلم أن الراجح ما دل عليه حديث المغيرة ونحوه من أنه متى انتصب قائماً لا يعود (وهذا) كله في حق الإمام والمنفرد. أما المأموم فلو ترك التشهد ناسياً وجلس إمامه، وجب عليه الرجوع مطلقاً لمتابعة إمامه.
(وبه) قالت الأئمة الثلاثة. وهو الراجح عند الشافعية على ما تقدم بيانه.
(الصورة الثانية) القيام من السجدة الأولى تاركاً الجلوس بين السجدتين سهواً. فإن تذكر قبل أن يسجد في الركعة الثانية، لزمه الرجوع لما تركه ثم يأتي بما بعده. فإن تذكر بعد السجود في ركعةٍ أخرى حسب عن الجلوس المتروك وأًُلغي ما بينهما وسجد للسهو في الحالين وهذا مذهب الشافعية ورواية عن أحمد.
(وقالت) المالكية: إنْ تذكر قبل الرفع من ركوع الركعة الثانية عاد لما تركه وألغي ما بعده، وإلا استمر في صلاته وألغي الركعة التي ترك سجودها وأتم صلاته ثم سجد للسهو. (وقال) الحنفيون: من قام من السجدة الأولى تاركاً الثانية سهواً قضاها متى تذكرها. ولا يلزمه إعادة ما فعله بعدها. ولو أخر قضاءها إلى آخر الصلاةِ ولو بعد السلام قبل أن يأتي بمنافٍ، صحَّ وأعاد القعدة وسجدَ للسهو.
((1/300)
قال) العلامة الحلبي: اعلم أن المشروع فرضاً في الصلاة أربعة أنواع: ما يتحد في كل صلاةٍ كالقعدةِ الأخيرة، أو في كل ركعةٍ كالقيام والركوع. وما يتعددُ في كلها كالركعات، أو في كل ركعةٍ كالسجود. فالترتيب شرطٌ بين ما يتحد في كل الصلاة وبين ما سواه، حتى لو تذكر – بعد القعدة الأخيرة قبل السلام أو بعده قبل أن يأتي بمنافٍ- ركعة أو سجدة صلبية أو سجدة تلاوة، فعلها وأعاد القعدة وسجد للسهو. وكذا لو تذكر ركوعاً قضاه وقضى ما بعده من السجود، أو قياماً أو قراءةً صلى ركعةً تامةً وأعادَ القعدةً. وكذا يشترط الترتيب بين ما يتحد في كل ركعةٍ كالقيام والركوع وبين ما بعده، ولذا قلنا آنفاً في ترك القيام وحده: يصلي ركعةً تامةً. وأما الترتيب بين ما يتكرر في كل الصلاةِ كالركعات، فواجب إلا لضرورةِ الاقتداء حيث يسقط به الترتيب، فإنَّ المسبوق يصلي بعض ما تأخر من الركعات قبل ما قبله(1) ، وكذا الترتيب بين ما يتكرر في كل ركعةٍ كالسجود وبين ما بعده واجب؛ حتى لو ترك سجدةً من ركعة ثم تذكرها فيما بعدها من قيامٍ أو ركوعٍ أو سجدةٍ، فإنه يقضيها ولا يقضي ما فعله قبل قضائها مما هو بعد ركعتها من قيامِ أو ركوعٍ أو سجودٍ، بل يلزمه سجود السهو فحسب، لكن اختلف في لزوم قضاء ما تذكر فقضاها فيه، كما لو تذكر وهو راكع أو ساجد أنه لم يسجد في الركعة التي قبلها فإنه يسجدها. وهل يعيد الركوع أو السجود المتذكر فيه؟ ففي الهداية: أنه لا يجب إعادته، بل تستحب معللاً بأن الترتيب ليس بفرض بين ما يتكرر من الأفعال.
__________
(1) بيانه أن ما أمركه المسبوق مع الإمام فهو آخر صلاته وما يقضيه فهو أولها عند أبي حنيفة. وعليه فقد صلى آخر الصلاة قبل أولها.(1/301)
وفي فتاوى قاضيخان أنه يعيده ولو لم يعده فسدت صلاته، معللاً بأنه ارتفض بالعود إلى ما قبله من الأركان، لأنه قبل الرفع منه يقبل الرفض بخلاف ما لو تذكر السجدة بعد ما رفع من الركوع؛ لأنه بعد ما تم بالرفع لا يقبل الرفض اهـ(1) .
(والمعتمد) ما في الهداية فقد جزم به في الكنز وغيره في آخر باب الاستخلاف، وصرح في البحر بضعف ما في الخانية. قاله ابن عابدين. (وقال) علاءُ الدين الكاساني: إذا سلم وهو ذاكر أن عليه سجدة صلبية فسدت صلاته وعليه الإعادة، وإن كان ساهياً لا تفسد. ثم إن سلم وهو في مكانه ولم يصرف وجهه عن القبلة ولم يتكلم، يعود إلى قضاء ما عليه. ولو اقتدى به رجل، صح اقتداؤه وتابعه في السجدة والتشهد دون السلام وبعد السلام يتابعه في سجود السهو. وإن لم يعد الإمام إلى قضاء السجدة فسدت صلاته وصلاة المقتدى. أما إذا صرف وجهه عن القبلة، فإن كان في المسجد ولم يتكلم. فكذلك الجواب استحساناً، لأن المسجد كله في حكم مكانٍ واحد، وصرف الوجه عن القبلة مفسدٌ في غير حالةِ العذر والضرورة بخلاف الكلام؛ لأنه مضاد للصلاة مطلقاً. وإن كان خرجَ من المجد ثم تذكر لا يعود وتفسد صلاته، لأن الخروج من مكان الصلاة مانعٌ من البناءِ، وقد بقي عليه ركن من أركان الصلاةِ فيلزمه استئنافها (وأما إذا كان) في الصحراء فإن تذكر قبل مجاوزة الصفوف من خلفه أو يمينه أو يساره، عاد إلى قضائه ما عليه وإلا فلا. وإن مشى أمامه سترة، عادَ ما لم يجاوز محل سجوده على الأصح، وإن سلم وعليه سجدة تلاوة ذاكراً لها، سقطت عنه ولا تفسد صلاته، لأنه لم يبق عليه ركن من أركانها، لكنها تنقص لترك الواجب (وإن سلم) ساهياً عنها، لا تسقط، لأن سلام السهو لا يخرجه من الصلاة. ثم الأمر في العود إلى قضاء سجدة التلاوة على التفصيل الذي ذكرناه في الصلبية.
__________
(1) ص297 غنية التملي (واجبات الصلاة).(1/302)
غير أن هنا لو تذكرها بعد ما خرج من المسجد أو جاوز الصفوف، سقطت عنه ولا تفسد صلاته.
هذا. والعود إلى السجدة الصلبية وسجدة التلاوة يرفع التشهد حتى لو أتى بمنافٍ للصلاة عمداً، فسدت صلاته بخلاف العود إلى سجدتي السهو. اهـ ملخصاً(1) .
(وحاصل) مذهب الحنبلية أنَّ منْ قام من السجدة الأولى ساهياً، فإن تذكر قبل الشروع في القراءة لزمه الرجوع للجلوس بين السجدتين ثم السجود. وإن لم يتذكر إلا بعد الشروع في قراءة الركعة التي تليها بطلت الركعة السابقة وحلت محلها اللاحقة (قال) أبو محمد عبد الله ابن قدامة (الصورة الثانية) قام من السجدة الأولى ولم يجلس للفصل بين السجدتين، فهذا قد ترك ركنين: جلسة الفصل والسجدة الثانية فلا يخلو من حالين: (أحدهما) أن يذكر قبل الشروع في القراءة فيلزمه الرجوع. وهذا قول مالك والشافعي ولا أعلم فيه مخالفاً. فإذا رجع فإنه يجلس جلسة الفصل ثم يسجد السجدة الثانية، ثم يقوم إلى الركعة الأخرى. فأما إن كان جلس للفصل ثم قام ولم يسجدن فإنه يسجد ولا يلزمه الجلوس. فإن كان يظن أنه سجد سجدتين وجلس جلسة الاستراحة لم يجزه عن جلسة الفصل، لأنها هيئة فلا تنوب عن الواجب كما لو ترك سجدةً من ركعةٍ ثم سجد للتلاوةِ، وهكذا الحكم في ترك ركن غير السجود مثل الركوع أو الاعتدال عنه، فإنه يرجع إليه متى ما ذكره قبل الشروع في قراءة الركعة الأخرى فيأتي به ثم بما بعده، لأن ما أتى به بعده غير معتد به لفوات الترتيب.
(
__________
(1) ص168 ج1 بدائع الصنائع (بيان المتروك ساهياً هل يقضي؟).(1/303)
الحال الثاني ) ترك ركناً إما سجدةً أو ركوعاً ساهياً ثم ذكره بعد الشروع في قراءة الركعة التي تليهن بطلت الركعة التي ترك الركن منها، وصارت التي شرع في قراءتها مكانها ( قال ) الأثرم : سألت أبا عبد الله عن رجل صلى ركعة ثم قام ليصلي أخرى فذكر أنه إنما سجد للركعة الأولى سجدةً واحدةً، فقال: إن كان أول ما قام قبل أن يحدث عمله للأخرى، فإنه ينحط ويسجد ويعتد بها. وإن كان أحدث عمله للأخرى ألغى الأولى وجعل هذه الأولى . قلت : يستفتح أو يجزيء الاستفتاح الأول ؟ قال : لا يستفتح ويجزئه الأول. قلت : فنسي سجدتين من ركعتين قال : لا يعتد بتينك الركعتين والاستفتاح ثابت. وهذا قول إسحاق ( وقال ) الشافعي : إذا ذكر الركن المتروك قبل السجود في الثانية، فإنه يعود إلى السجدة الأولى، وإن ذكره بعد سجوده في الثانية، وقعتا عن الأولى، لأن الركعة الأولى قد صح فعلها، وما فعله في الثانية سهواً لا يبطل الأولى ، كما لو ذكر قبل القراءةِ. وقد ذكر أحمد هذا القول عن الشافعيّ وقربه وقال : هو أشبه يعني من قول أصحاب أبى حنيفة، إلا أنه اختار القول الذي حكاه عنه الأثرم ( وقال ) مالك : إن ترك سجدةً فذكرها قبل رفع رأسه من ركوع الثانية ألغي الأولى ( وقال ) الأوزاعي : يرجع إلى حيث كان من الصلاة وقت ذكرها فيمضي فيها ( وقال ) أصحاب الرأي: فيمن نسي أربع سجداتٍ من أربع ركعاتٍ ثم ذكرها في التشهد سجدَ في الحال أربع سجداٍ وتمت صلاته ، فإنْ مضَى في موضع يلزمه الرجوع ، أو رجع في موضع يلزمه المضي عالماً بتحريم ذلك فسدت صلاته ؛ لأنه ترك واجباً في الصلاة عمداً. وإن فعل ذلك معتقداً جوازه لم تبطل ؛ لأنه تركه من غير تعمدٍ فأشبه ما لو مضى قبل ذكر المتروك، لكن إذا مضى في موضع يلزمه الرجوع ، فسدت الركعة التي ترك ركنها كما لو لم يذكره إلا بعد شروعه في قراءةِ غيرها فلم يعد إلى الصحة بحال(1) .
(
__________
(1) ص683 ج1 مغنى (من ترك ركناً من الصلاة).(1/304)
الصورة الثالثة) إذا قام في آخر الصلاة لزائدةٍ تاركاً القعود الأخير، رجع إليه متى ذكره وسجد للسهو "لحديث" الحكم عن إبراهيم عن علقمة بن قيس عن عبد الله بن مسعود قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر خمساًن فقيل له: أزيد في الصلاة؟ قال: وما ذاك ؟ قال : صليت خمساً. فسجد سجدتين بعد ما سلم. أخرجه السبعة(1) {400}
(وفيه) دلالة على أن من زاد في صلاته ركعةً ناسياً لا تبطل صلاته (وبهذا) قال مالك والشافعي وأحمد وجمهور السلف والخلف.
فإن علم بعد السلام فقد تمت صلاته ويسجد للسهو إذا تذكر عن قرب، وإن طال فالأصح عند الشافعية أنه لا يسجد للسهو إذا تذكر عن قرب، وإن طال فالأصح عند الشافعية أنه لا يسجد، وإن ذكر قبل السلام عاد إلى القعود وغن كان قائماً أو راكعاً أو ساجداً ويتشهد ويسجد للسهو ويسلم.
(وقالت) المالكية: إذا تذكر الزيادة بعد السلام يسجد للسهو، ولو طال الفصل.
(وقال) الحنفيون: من سها عن القعود الأخير فقام لركعةٍ أخرى، عاد إليه لزوماً ما لم يسجد فيما قام إليها وسجد للسهو لتأخيره فرض القعود فإن سجد فيما قام إليها ولو ناسياً بطل فرضه وتحول نفلاً على المفتي به، لاستحكام شروعه في النافلة قبل إتمام فرائض المكتوبة، ويضم إلى ما صلاه ركعة في غير المغرب إن شاء، فلو لم يضم صار الشفع الأول نفلاً وبطل الثاني، ولا يسجد للسهو، لأن ترك الفرض لا يجبر بالسجود. وفي المغرب يسلم على رأس الأربع ولا يزيد خامسة لكراهة التنفل بالوتر.
(
__________
(1) ص53 ج4 الفتح الرباني، وص 61 ج3 فتح الباري (إذا صلى خمساً) وص 64 ج5 نووي مسلم (السهو في الصلاة) وص 144 ج6 المنهل العذب (إذا صلى خمساً...) وص 185 ج1 مجتبي (ما يفعل من صلى خمساً) وص 304 ج1 تحفة الأحوذي (في سجدتي السهو بعد السلام والكلام) وص 188 ج1 سنن ابن ماجه (من صلى الظهر خمساً..)(1/305)
وإن قعد) القعود الأخير قدر التشهد ثم قام سهواً، عاد ندباً وسلم ما لم يسجد في الخامسة، وإن سلم قائماً صح مع الكراهة، لن السلام في الصلاة لم يشرع حال القيام، وينتظره القوم؛ فإن عاد قبل السجود تابعوه، وإن سجد لما قام لها سلموا، لأنه لم يبق عليه إلا السلام وتم فرضه وضم ركعةً أخرى ندباً لما زادها وسجد للسهو في الصورتين استحساناً لتأخير السلام عن محله (وجملة) القل وما ذكره ابن قدامة في المغنى بقوله: متى قام إلى الخامسة في الرباعية أو إلى الرابعة في المغرب أو إلى الثالثة في الصبح، لزمه الرجوع متى ما ذكر فيجلس، فإن كان قد تشهد عقيب الركعةِ التي تمت بها صلاته سجد للسهو ثم يسلِّم، وإن كان تشهد ولم يصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه ثم سجد للسهو وسلَّم، وإن لم يكن تشهَّد وسَجَدَ للسهو ثم سلم، فإن لم يذكر حتى فرغ من الصلاة سجَد سجدتين عقيب ذكره وتشهد وسلم وصلاته صحيحة (وبهذا) قال علقمة والحسَن ومالِك والليْث والشافعي.
((1/306)
وقال) أبو حنيفة: إنْ ذكر قبل أن يسجد جلسَ للتشهد، وإن ذكَر بعد السجودِ وكان جلس عقيب الرابعة قدْرَ التشهد، صحت صلاتُه ويضيف إلى الزيادة أخرى لتكون نافلةً، فإنْ لم يكن جلسَ في الرابعة بطل فرضه وصارتْ نافلةً ولزمه إعادة الصلاة (وقال) قتادة والأوزاعي فيمن صلى المغرب أربعاً يضيف إليها أخرى فتكون الركعتان تطوعاً "لقول"النبي- صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي سعيدٍ فيمن سجد سجدتين- فإن كانت صلاتُه تامة كانت الركعة والسجدتان نافلةً. رواه أبو داود وابن ماجه(1) .
__________
(1) هو بعض حديث، ولفظه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إذا شك أحدكم في صلاته فليلق الشك وليبين عل اليقين، فإذا استيقن التمام سجد سجدتين، فإن كانت صلاته تامة كانت الركعة نافلة والسجدتان (عطف على الركعة). وإن كانت ناقصة كانت الركعة تماماً لصلاته وكانت السجدتان مرغمتي الشيطان [401] ص150 ج6 المنهل العذب (إذا شك في الثنتين والثلاث) وص 189 ج1 سنن ابن ماجه (من شك في صلاته فرجع إلى اليقين) و (مرغمتي) من أرغم الله أنفه الصقه بالتراب أي أذله وأغاظه، لأنه لبس على المصلي صلاته شرع الله السجود جبراً للصلاة وتداركاً لما لبسه عليه، فرد خاسئاً مبعداً عن مراده وكملت صلاة العبد.
(
وفي رواية) لأبي داود عن عطاء بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا شك أحدكم في صلاته فلا يدري كم صلى ثلاثاً أو أربعاً؟ فليصل ركعة وليسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم، فإن كانت الركعة التي صلى خامسة شفعها بهاتين، وإن كانت رابعة فالسجدتان ترغيم للشيطان [402] ص154 ج6 المنهل العذب.(1/307)
وفي رواية: فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته. رواه مسلم(1) (ولنا) ما روى عبد الله بن مسعود وذكر الحديث(2) . ثم قال : والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجلس عقيب الرابعة(3) لأنه لم ينقل عنه ولأنه قام إلى الخامسة معتقداً أنه قام عن ثالثة ولم تبطل صلاته بهذا، ولم يضف إلى الخامسة أخرى. وحديث أبي سعيد حجة عليهم أيضاً فإنه جعل الزائدة نافلة من غير ان يفصل بينها وبين التي قبلها بجلوسٍ، وجعل السجدتين يشفعانها ولم يضم إليها ركعة أخرى. وهذا كله خلافٌ لما قالوه.
__________
(1) هو بعض حديث لفظه عند مسلم : عن أبى سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدركم صلى ثلاثاً أم أربعاً؟ فليطرح الشك وليبين على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماماً لأربع كأننا ترغيماً للشيطان [403] ص60 ج5 نووي مسلم (السهو في الصلاة والسجود له).
(2) الحديث) تقدم رقم 39 ص280 (حكم سجود السهو).
(3) والظاهر....إلخ) رده الحنفيون "بأن ظاهر" الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان قعد قدر التشهد في الرابعة، بدليل قول الراوي: صلى الظهر خمساً، والظهر اسم لجميع أركان الصلاة ومنها القعدة، وإنما قام إلى الخامسة على ظن أنها الثالثة، حملاً لفعله عليه الصلاة والسلام على ما هو أقرب إلى الصواب. "وبأن" عدم إضافته صلى الله عليه وسلم ركعة أخرى للخامسة لا يدفع مذهب الحنفيين. لأنهم لا يرون هذا الضم لازماً. ولو لم يضر لا شيء عليه، لأنه مظنون. والمظنون غير مضمون. قاله في العناية (وقال) الكمال ابن الهمام في فتح القدير: ولو لم يضم لا شيء عليه وإن كان الضم واجباً، لعدم التنفل بالتوتر، لأنه مظنون الوجوب اهـ. (وقال) في البدائع: والأولى أن يضيف إليها ركعة أخرى ليصيرا نفلاً إلا في العصر. اهـ.(1/308)
فقد خالفوا الخبرين جميعاً (1) وقولنا يوافق الخبرين جميعاً. (2)
( فائدة ) : قال النووي في شرح مسلم : مذهب الشافعي ومن وافقه أن الزيادة على وجه السهو لا تبطل الصلاة، سواءٌ قلت أو كثرت إذا كانت من جنس الصلاة . اهـ.
(ومشهور) مذهب المالكية: أنه إذا بلغت الزيادة في الثنائية ركعتين وفي الرباعية والثلاثية أربع ركعات، بطلت الصلاة. فإذا كانت أقل من ذلك سجد للسهو بعد السلام ولو كان الزائد سجدة.
(وقال) الحنفيون: إن بلغت الزيادة ركعة ولم يكن قعد القعود الأخير بطلت فرضية الصلاة وإلا فلا.
(ب) والزيادة القولية قسمان(3) :
(
__________
(1) رد بان الحنفيين لم يخالفوا الحديثين، بل لهم فيما قالوا مدارك:
(الأول) أن القعدة الأخيرة فرض عندهم وترك الفرض مبطل للصلاة.
(الثاني) أنه صلى الله عليه وسلم لما قام إلى الخامسة بعد القعود صار شارعاً في صلاة أخرى بناء على التحريمة الأولى، لأنها شرط عندهم وليست بركن.
(الثالث) أن الصلاة بركعة واحدة منهى عنها عندهم،وعليه فيطلب إضافة ركعة أخرى إليها ليخرج عن التنفل بالبتيراء.
(الرابع) أن التسليم في آخر الصلاة غير فرض عندهم كما تقدم في بحث "السلام" فبتركه لا تبطل الصلاة، فمن عرف هذه المدارك لا ينبغي له أن ينسب أهل الفضل إلى مخالفة السنة بعد العلم بها. أفاده البدر العيني على البخاري.
(2) ص688 ج1 مغنى ابن قدامة (من قام إلى خامسة أو رابعة او ثالثة).
(3) هذا مقابل زيادة الفعل بص 286.(1/309)
الأول) ما يبطل عمده الصلاة كالسلام والكلام، فإن سلم في غير موضع السلام ساهياً، أتم صلاته وسجد للسهو اتفاقاً. وكذا إن تكلم ساهياً "لحديث" عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاث ركعاتٍ من العصر ثم دخل الحجرة فقام إليه رجلٌ يقال له الخرباق وكان طويل اليدين، فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله؟ فخرج مغضباً يجر رداءه فقال: أصدق؟ قالوا: نعم. فصلى تلك الركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم. أخرجه السبعة إلا البخاري(1) {404}.
__________
(1) ص148 ج4 الفتح الرباني، وص 70 ج5 نووي مسلم (السهو في الصلاة)، وص 143 ج6 المنهل العذب (السهو في السجدتين) وص 183 ج1 مجتبي (الاختلاف على أبي هريرة في السجدتين) وص 305 ج1 تحفة الأحوذي (التشهد في سجدتي السهو) وص 190 ج1 سنن ابن ماجه (من سلم من ثنتين أو ثلاث ساهياً)و (الخرباق) بكسر الخاء وسكون الراء: هو اسم ذي اليدين أو لقب له، واسمه عمير.(1/310)
"ولحديث" أبي هريرة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي الظهر أو العصر، فصلى بنا ركعتين ثم سلم ثم قام إلى خشبةٍ في مقدم المسجد فوضع يده عليها وفيهم أبو بكر وعمر فهاباه أن يكلماه، فقال ذو اليدين: يا رسول الله أقصرت الصلاة، أم نسيت؟ فقال: لم أنس ولم تقصر، فقال: بل قد نسيت، فقال صلى الله عليه وسلم: أصدق ذو اليدين، فأومأوا أي نعم. فقام فصلى ركعتين ثم سلم ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر ثم سجد مثل سجوده أو أطول. أخرجه مالك والسبعة(1) {
__________
(1) ص40 ج4 الفتح الرباني، وص 176 ج2 تيسير الوصول (سجود السهو)، وص 189 ج1 سنن ابن ماجه (من سلم من ثنتين أو ثلاث ساهياً) و(صلى بنا) ظاهره أن أبا هريرة حضر القصة "فما قيل" إنه لم يشهدها وأن المراد صلى بالمسلمين "مردود" بهذه الرواية. وبقول أبي هريرة: بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر، سلم صلى الله عليه وسلم من ركعتين (الحديث) أخرجه أحمد ومسلم من طريق يحيي بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة [406] ص144 ج4 الفتح الرباني، وص 70 ج5 نووي مسلم (السهو في الصلاة) و (العشي) بفتح فكسر وشد الياء: ما بين الزوال والغروب. و (لم أنس ولم تقصر) أخبر بذلك على حسب اعتقاده صلى الله عليه وسلمن وفي رواية لمسلم: كل ذلك لم يكن (بل نسيت) "لما نفي" صلى الله عليه وعلى آله وسلم الأمرين، ومعلوم أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يجوز عليه السهو فيما أمر بتبليغه من الأحكام "جزم" ذو اليدين بوقوع النسيان لا بوقوع القصر، لأنه مما أمر بتبليغه فلا ينساه.
(وفي الحديث) دليل على جواز السهو عليه صلى الله عليه وسلم في الأفعال الشرعية. وهو مذهب عامة العلماء (وفائدته) بيان الحكم الشرعي إذا وقع مثله لغيره.
(
أما) الأقوال فنقل القاضي عياض والنووي الإجماع على عدم جواز السهو عليه فيما طريقه البلاغ منها. وأما ما ليس طريقه البلاغ من الأقوال الدنيوية والأخبار التي لا تستند الأحكام إليها ولا تضاف إلى وحي، فقال جماعة: يجوز النسيان عليه فيها، إذ ليست من باب التبليغ الذي يتطرق به إلى القدح في الشريعة.
(قال) القاضي عياض: والحق الذي لا مرية فيه ترجيح قول من لم يجز ذلك على الأنبياء في خبر من الأخبار كما لنم يجيزوا عليهم فيها العمد، فإنه لا يجوز عليهم خلف في خبر لا عن قصد ولا سهو، ولا في صحة ولا مرض، ولا رضا ولا غضب. اهـ.
(وهذا) كله مبني على أن النسيان والسهو بمعنى، وهو الذهول عن الشيء تقدمه ذكر أو لم يتقدمه. إما من فرق بينهما فاشترط في النسيان أن يتقدمه ذكر دون السهو، فقال: يمتنع السهو عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الأقوال البلاغية وغيرها ويجوز عليه في الأفعال مطلقاً بلاغية أم لا. أما النسيان فممتنع في البلاغيات مطلقاً فعلية أو قولية قبل تبليغهان وبعد التبليغ يجوز عليه ولكن يكون من الله تعالى لا من الشيطان، إذ ليس له عليه سبيل.
(وقال) النووي في شرح مسلم: في حديث ذي اليدين فوائد (منها) جواز النسيان في الأفعال والعبادات عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وأنهم لا يقرون عليه (ومنها) أن الواحد إذا ادعى شيئاً جرى بحضرة جمع كثير لا يخفى عليهم، سئلوا عنه ولا يعمل بقوله من غير سؤال. اهـ.(1/311)
405}.
(ففي) الحديثين دليلٌ على أن من تكلم في الصلاة سهواً لا تبطل ويسجد للسهو (وبه) قال مالكٌ والشافعيّ وأحمد (قال) في المهذب: الذي يقتضي سجود السهو أمران: زيادة ونقصان، فأما الزيادة فضربان قولٌ وفعلٌ، فالقول أن يسلم في غير موضع السلام ناسياًن أو يتكلم، ناسياًن فيسجد للسهو، والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم من اثنتين وكلم ذا اليدين وأتم صلاته وسجد سجدتين(1) .
(وقال) الجمهور ومنهم الثوري وابن المبارك والحنفيون: تبطل صلاةُ المتكلم ولو ناسياً أو جاهلاً، لعموم أحاديث النهي عن الكلام في الصلاة كما تقدم في بحث "مبطلات الصلاة" (2) ( قال ) النووي : فإن قيل : كيف تكلم ذو اليدين والقوم وهم بعد في الصلاة، فجوابه من وجهين :
(أحدهما) أنهم لم يكونوا على يقينٍ من البقاءِ في الصلاة، لأنهم كانوا مجوزين نسخ الصلاة من أربع إلى ركعتين، ولهذا قال: أقصرت الصلاة أم نسيت؟
(
__________
(1) ص124 ج4 شرح المهذب (الذي يقتضي سجود السهو أمران زيادة ونقصان).
(2) انظر ص2 و 3 ج4 دين (حكم الكلام في الصلاة).(1/312)
والثاني) أن هذا كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم وجوابً وذلك لا يبطل عندنا وعند غيرنا(1) .
وفي رواية لأبي داود بسند صحيح أن الجماعةَ أومأُوا، أي نعم. فعلى هذه الرواية لم يتكلموا (فإن قيل) كيف رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى قول الجماعة؟ وعندكم (عند الشافعية) لا يجوز للمصلي الرجوع في قدر صلاته إلى قول غيرهن إماماً كان أو مأموماً، ولا يعمل إلا على يقين نفسه (فجوابه) أن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم ليتذكر، فلما ذكروه تذكر فعلم السهو فبنى عليه، لا أنه رجع إلى مجرد قولهم. ولو جاز ترك يقين نفسه والرجوع إلى قول غيره، لرجع ذو اليدين حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: لم تقصر ولم أنس. وفي هذا الحديث دليل على أن العمل الكثير والخطوات إذا كانت في الصلاة سهواً لا تبطلها كما لا يبطلها الكلام سهواً. وفي هذه المسألة وجهان:
(
__________
(1) تقدم في بحث "قطع الصلاة" ص 143 ج3: أن الصلاة تبطل عن الحنبلية بإجابة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو الصحيح عند الحنفية، وأنها لا تبطل عند الشافعية إلا إذا زاد في الجواب على المطلوب. والمعتمد عند المالكية عدم البطلان (قال) في المهذب: فإن كلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابه لم تبطل صلاته "لما روي" أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بن كعب وهو يصلي فلم يجبه، فخفف الصلاة وانصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما منعك أن تجيبني؟ قال: يا رسول الله، كنت اصلي. قال: أفلم تجد فيما أوحى إلى: "استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم"؟ قال: بلى يا رسول الله لا أعود. ا هـ، ص 41 ج4 شرح المهذب (والحديث) أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه النسائي بمعناه. وأخرجه البخاري والدارمي والبيهقي وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد ابن المعلي بلفظ في بحث "قطع الصلاة" رقم 186 ص142 ج3 دين [407].(1/313)
أصحهما) لا يبطلها لهذا الحديث، فإنه ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم مشى إلى الجذع وخرج السرعان. وفي رواية: دخل الحجرة ثم خرج ورجع الناس وبنى على صلاته.
(والوجه) الثاني وهو المشهور في المذهب أن الصلاة تبطل بذلك.
وهذا مشكل. وتأويل الحديث صعبٌ على من أبطلها(1) .
(الثاني) من الزيادة القولية، ما لا يبطل عمده الصلاة(2) وهو مشروعٌ فيها كالقراءة والتشهد والجهر في غير محلها. وفيه خلافُ الأئمة. (فعند) الحنفيين أنَّ من واجب الصلاة عدم تأخير الفرض والواجب وعدم تغييرهما. وعليه "فمن" كرر الفاتحة كلها أو أكثرها، أو قرأ السورة في غير أولي الفرض أو قرأ ولو آية في الركوع أو الاعتدال أو السجود أو الجلوس بعده أو في القعود الأخير قبل التشهد لا بعده، أو تشهد بين الفاتحة والسورة، أو كرر التشهد في القعود غير الأخير، أو جهر في محل السرِّ "وجب" عليه سجود السهو. وكذا إذا صلى على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في القعود الأول عند الإمام، لعموم قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين. أخرجه مسلم عن ابن مسعود(3) .
(وقالت) المالكية: لا يطلب السجود فيما ذكر إلا لتكرير الفاتحة والجهرِ في غير محله.
(
__________
(1) ص 73 ج5 شرح مسلم (السهو في الصلاة والسجود له) و (السرعان) بفتح السين والراء: الناس يتسارعون إلى الشيء.
(2) هذا مقابل الأول في الزيادة القولية ص302.
(3) تقدم بالحديث رقم 392 ص281 (حكم سجود السهو).(1/314)
وقالت) الشافعية: لا يسجد فيما ذكر إلا إذا سلم أو قرأ في غير موضع السلام أو القراءة (قال) النووي: "وإذا سلم" في غير موضعه ناسياً، أو قرأ في غير موضع القراءةِ غير الفاتحةِ أو الفاتحة سهواً أو عمداً. إذا قلنا بالصحيح إن قراءتها في غير موضعها عمداً لا تبطل الصلاة "سجد للسهو" (ولنا) وجهٌ ضعيفٌ أن القراءة في غير موضعها لا يسجد لها. وبه قطع العبدري ونقله عن العلماء كافةً إلا أحمد في رواية عنه(1) .
(وعن) أحمد روايتان المشهور أنه يسن السجود لزيادةِ قولٍ مشروع.
(قال) أبو محمد عبد الله بن قدامة: ما لا يبطل عمده الصلاة نوعان: (أحدهما) أن يأتي بذكر مشروع في الصلاة في غير محله كالقراءةِ في الركوع والسجود، والتشهد في القيام؛ والصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم في التشهد الأول، وقراءة السورة في الأخريين من الرباعية أو الأخيرة من المغرب، وما أشبه ذلك إذا فعله سهواً. فعل يشرع له سجود السهو؟ على روايتين: (إحداهما) لا يشرع له سجود، لأن الصلاة لا تبطل بعمده، فلم يشرع السجود لسهوه، كترك سنن الأفعال (والثانية) يشرع له السجود "لقوله" عليه الصلاة والسلام: فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالسٌ . رواه مسلم(2) . فإذا قلنا: يشرع له السجود، فذلك مستحبٌّ غير واجب لأنه جبرٌ لغير واجب فلم يكن واجباً كجبر سائر السنن.
(
__________
(1) ص126 ج4 شرح المهذب (الذي يقتضي سجود السهو أمران).
(2) هذا بعض حديث عند مسلم عن ابن مسعود ص66 ج5 نووي مسلم (السهو في الصلاة والسجود لها).(1/315)
النوع) الثاني: أن يأتي فيها بذكرٍ أو دعاءٍ لم يرد الشرع به فيها، كقوله: آمين رب العالمين؛ وقوله في التكبير: الله أكبر كبيراً، ونحو ذلك، فهذا لا يشرع له السجود، لأنه روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه سمعَ رجلاً يقول في الصلاةِ: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى. فلم يأمرهُ بالسجود(1) .
(تنبيهات) : (الأول) اشتمل هذا الجزء على أدلة الأحكام من الكتاب مضبوطة مفسرة مبيناً مراجعها. (الثاني) اشتمل على: (أ) 407 سبعة وأربعمائة حديث، المكرر منها ثلاثة عشر حديثاً. (ب) على 62 اثنين وستين أثراً، المكرر منها أثران. (الثالث) قد بين بهامش هذا الجزء أهم المراجع التي استعين بها في تخريج أدلته ومراجع النصوص العلمية. فلينظر بيانها بصفحتي 375 و 376 من الجزء السابع من (الدين الخالص).
والله تعالى ولي التوفيق والهداية. والصلاة والسلام على من أنزل عليه الكتاب، وعلى آله والأصحاب، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
تم بحمد الله تعالى الجزء الخامس من الدين الخالص ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السادس، وأوله: (السبب الثاني) لسجود السهو – النقص في الصلاة.
دليل الأحاديث والأثار
التى بخامس الدين الخالص مرتبة حسب الحروف باعتبار النطق
ص ... الصدر ... ص ... الصدر
( الهمزة) ... إذا شك أحدكم فى صلاته فلم يدركم صلى
ابعثها قياماً مقيدة ... إذا ضاع له شئ أو أبق يتوضأ ويصلى
أتصلى الضحى ؟ قال : لا ... إذا ظهرت البدع فى أمتى وشتم أصحابى فليظهر العالم علمه
أتيت بالبراق ... إذا ظهرت البدع ولعن آخر هذه الأمة وأولها
أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود ... إذا ظهرت المعاصى فى أمتى عمهم الله بعذاب
__________
(1) ص676 ج1 مغنى (حكم الزيادة في الصلاة) والرجل الذي سمعه النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الصلاة: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه- هو رفاعة بن رافع تقدم حديثه رقم 268 ص206 ج2 الدين الخالص طبعة ثانية (ذكر الاعتدال).(1/316)
أدركت الناس إذا قرأ الإمام خمسين آية قالوا : إنه ليخفف ( أثر ) ... إذا فزع أحدكم فى النوم فليقل : أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه
إذا أخذت مضجعك فقل أعوذ بكلمات الله التامة ... إذا قام أحدكم من الليل فليفتح صلاته
إذا أردت أن تنحر البدنة فاقمها ( أثر ) ... إذا نام أحجكم عقد على رأسه ثلاث عقد
اذبحوا لله فى أى شهر ... إذا نحرت الناقة فذكاة ما فى بطنها فى ذكاتها ( أثر )
إذا استتم أحدكم قائماً فليصل ويسجد سجدتين ... إذا نعس أحدكم وهو يصلى فليرقد
إذا استيقظ أحدكم فليقل : الحمد لله ... إذا نزل أحدكم منزلا فقال فيه فلا يرتحل
إذا أوى أحدكم إلى فراشه ... إذا همت بأمر فاستخر ربك فيه
إذا أويت إلى فراشك فتوضأ ... اذهب فاذكرها على
إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحى فلا يمس من شعره ... أربع لا يجزن فى الأضاحى العوراء
إذا دخلت منزلك فصل ركعتين ... ارحموا ترحموا
إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فليحمد الله ... أرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فى رقية الحية
إذا رأى أحدكم رؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ... أرخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الرقية من الحمة
إذا رأيتم آية فاسجدوا ... اركبها بالمعروف إذا أجلئت إليها
إذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين ... اركبها ويلك
إذا سألت فاسأل الله ... استشقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحول رداءه
إذا سمعتم هاداً من السماء فافزعوا ( أثر ) ... استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس يمسح النوم عن وجهه
إذا سها فيها ( فى التسبيح ) أيسبح فى السهر عشراً ( أثر ) ... أسرعكن لحاقاً بى أطولكن يداً
إذا شك أحدكمك فى صلاته فليلف الشك ... اشتر بهما ( بالدرهمين ) لحماً ( أثر )
إذا شك أحدكم فى صلاته فلا يدرى ... إن ابن الزبير خرج يستسقى ( أثر )
أصدق . فصلى تلك الركعة ثم سلم ... إن التوبة تغسل الحوبة
أعددت لعبادى الصالحين مالا عين رأت ... إن أحدكم إذا قام فى صلاته فإنه يناجى ربه(1/317)
اعرضوا على رقاكم ، لا بأس بما لا شرك فيه ... أن أخاك ( ابن عمر ) رجل صالح لو كان يقوم من الليل
أفش السلام وأطعم الطعام ... إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشقى فأشار بظهر كفيه
أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة فى جوف الليل ... إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى واستقبل القبلة
أفلا أكون عبداً شكوراً ... إن رسول اله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى ليستسقى
اقتدوا باللذين من بعدى ... إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالناس يستسقى
اقرأ قل يا أيها الكافرون ... إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالناس يستسقى
أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ... إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج متخشعاً
أكان النبى صلى الله عليه وسلم يصلى الضخى ؟ ما رايته صلاها إلا يؤمئذ ... إن رسول الله صلى الله عليه صلى فى بيته سبحة الضحى
اكتم الخطبة ثم توضأ ... إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى عند كسوف الشمس
أما بعدما من شئ لم أكن رأيته إلا قدر رأيته ... إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح سبحة الضحى
أمرنا رسول اله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن ... إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ قراءة طويلة فجهر بها
أمر عمر أبىّ بن كعب وتميماً أن يقوما للناس بإحدى عشرة ( أثر ) ... إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلب رداءه فجعل يمينه على يساره
إن الله كتب الإحسان على كل شئ ... إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك فعل ( فى صلاة الكسوف )
إن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر ... إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلى بالناس صلاة العشاء
أنا وأمتى براء من التكلف ... إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلى فى الكسوف أربع ركعات
إن أول ما نبدأ به فى يومنا أن نصلى ... إن الر قى والتمائم والتولة شرك
إن أول ما يحاسب به العبد من عمله صلاته ... إن روح القدس نفث فى روعى
إن إبليس قال لربه بعزتك لا أبرح أغوى ... إنا هى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المصفرة(1/318)
إن زينب بنت جحش أواهة ... إن النبى صلى الله عليه وسلم اتخذ فى المسجد حجرة
إن شئت دعوت وإن شئت صبرت ... إن النبى صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين فى الكسوف
إن الشمس والقمر آيتان لا يخفسان لموت أحد ولا لحياته ... إن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر شد مئزره
إن الشمس والقمر أيتان لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ... إن النبى صلى الله عليه وسلم صلى فى الكسوف ثمانى ركعات
إن الشمس والقمر أيتان يخوف الله بهما عباده ولا ينكسفان لموت أحد ... إن النبى صلى الله عليه وسلم كان يستسقى هكذا
إن الشمس والقمر أيتان يخوف الله بهما عباده فإذا رأيتم ذلك ... إن النبى صلى الله عليه وسلم كان يصلى جالساً
إن الشمس والقمر إذا خسفا أو أحدهما ... إن النبى صلى الله عليه وسلم كان يذبح أضحيته
إن الشمس والقمر من آيات الله ... إن النبى صلى الله عليه وسلم كان يضحى بكبش أقرن
إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ... إن النبى صلى الله عليه وسلم كان يضحى بكبشين أحدهما عن أمته
إن تطعنوا فى إمارته فقد طعتنم فى أمارة أبيه ... إن النبى صلى الله عليه وسلم كان يصلى فى الكسوف أربع ركعات
انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم ... أنه ( عمير ) رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستسقى عند أحجار الزيت
إن عبداً أذنب ذنباً فقال : رب إنى أذنبت ... أنه صلى الله عليه وسلم قرأ فى الأولى بالعنكبوت
إن فى الجنة غرفاً ... أنه صلى الله علهي وسلم كلما ركع ركعتين أرسل رجلا لينظر
إن فى كتاب الله لآيتين ( أثر ) ... أن النبى صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى مقام إبراهيم قرأ واتخذوا
إن فى الليل لساعة ... إن هذه الآيات لا تكون لموت أحد
إن لكل شئ سناماً ... إنهم ليصلون صلاة ما صلاها النبى (أثر)
انكسفت الشمس على عهده صلى الله عليهوسلم فصلى بهم ... إنى أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ(أثر)
إنكم شكوتم جدب دياركم ... إنى كنت أمرتكم ألا تأكلوا الأضاحى فوق ثلاثة أيام
إن كان ولابد ففى بيوتكم ( أثر ) ... إنى وجهت وجهى للذى فطر السموات(1/319)
إنا كنا نهيناكم عن لحومها أن تأكلوها ... اللهم اغفقر لى وارحمنى
إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتى ... اللهم قنى عذابك يوم تبعث عبادك
إنما الشمس والقمر آيتان لا تحسفان لموت أحد ... اللهم إنا نستشفع إليك بخيرنا ( أثر )
إنما أنا بشر أنسى كما تنسون ... اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا ( أثر )
إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إلى ... اللهم إن اعوذ بك من شرها
إن لليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم ... اللهم إنى أعوذ بوحهك الكريم
ألا أخبرك بما هو خير منه تسبحين الله عند نومك ثلاثاً وثلاثين ... اللهم هذا عن أمتى جميعاً
ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن نمت ... المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده
أوصانى خليلى صلى الله عليه وسلم بثلاث ... المسلم يكفيه اسمه فإن نسى أن يسمى
أول ما بئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحى الرؤيا ... الندم توبة
أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن فى ليلة ... ( الباء )
أيها الناس ضحوا واحتسبوا بدمائها ... باسم الله والله أكبر
( المحلى بأل ) ... باسم الله اللهم تقبل من محمد
الله أكبر ذو الملكوت والجبروت ... باسم الله وضعت جنبى
الإسلام يجب ما قبله ... بال الشيطان فى أذنه
التائب من الذنب كمن لا ذنب له ... بعث معى عبد الله يهديه فأمرنى ( أثر )
التوبة النصوح الندم على الذنب ... بلغنى أنه لما نزل : ومن يغفر الذنوب ؟ صاح إبليس ( أثر )
التوبة من الذنب أن يتوب منه ولا يعود ... ( التاء )
الحمد لله الذى أطعمنا وسقانا ... تأخذ من شعرك وأظفارك
الحمد لله الذى كفانى وآوانى ... ( الحاء )
الرؤيا الصالحة من الله ... حلوه ليصل أحدكم نشاطه
الريح من روح الله تأتى بالرحمة ... ( الخاء )
الأضحى يومان بعد يوم الأضحى ( أثر ) ... خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى واستسقى
الضحايا والهدايا ثلث لك ( أثر ) ... خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أناس فى رمضان يصلون
القريب ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت ( أثر ) ... خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم للاستسقاء متبذلا متواضعاً(1/320)
اللهم اسق عبادك ... رأيتنى دخلت الجنة فسمعت خشفة
اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عرياناً ... رأيت الليلة رجلين أتيانى فأخذا بيدى
اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً طبقاً ... رأيت النبى صلى الله عليه وسلم يصلى متربعاً
اللهم سقياً غيثاً مغيثاً نافعاً ... رأيت ليلة أسرى بى على باب الجنة مكتوباص : الصداقة بعشرة أمثالها
اللهم سقياً رحمة ... رحم الله رجلا قام من الليل فصلى
اللهم رب السموات ورب الأرض ... رفع عن أمتى الخطأ والنسيان
اللهم صيباً نافعاً ... ( السين )
اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ... سألت عائشة عن صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل فقالت : سبع وتسع
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فصلى فى المسجد ... سلم صلى الله عليه وسلم من ركعتين ( فى الظهر )
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً يستسقى ... سلوا الله ببطون أكفكم
خرج نبى الله صلى الله عليه وسلم يوماً يستقى وصلى ركعتين بلا أذان ... سلنى .. فاعنى على نفسك بكثرة السجود
خسفت الشمس على عهده صلى الله عليه وسلم فأتى المصلى فكبر ... سنة أبيكم إبراهيم ( الأضاحى )
خمس صلوات افترضهن الله من أحسن ... ( الشين )
خمس صلوات فى اليوم والليلة ( قال السائل ) هل على غيرهن ؟ ... شاتك شاة لحم
خمس صلوات من حافظ عليهن كانت له نوراً ... شعرت أنى نمت الليلة فى المسجد الحرام
خيراً رأيت وخيراً يكون نمت ... ( الصاد )
( الدال ) ... صلاة الأوابين إذا مضت الفصال من الضحى
دخل على النبى صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فاغتسل وصلى ثمانى ركعات ... صلاة الليل مثنى مثنى . فإذا خفت الصبح
دعوة ذى النون إذا دعا : لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين ... صلاة الليل مثنى مثنى وإذا صلى أحدكم
دعا عمر بثلاثة من القراء ( أثر ) ... صلاة المر فى بيته أفضل من صلاته
( الذال ) ... فى مسجدى إلا المكتوبة
ذبح النبى صلى الله عليه وسلم يوم النحر كبشين أقرنين ... صلاته قائماً أفضل من صلاته قاعداً
ذكاة الجنين ذكاة أمه ... صلوا كما رأيتمونى أصلى
((1/321)
الراء ) ... صلى – صلى الله عليه وسلم – ثمانى ركعات وذلك ضحى
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استسقى أطال الدعاء ... صلى النبى صلى الله عليه وسلم بالمسجد فصلى بصلاته ناس
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سفر صلى الضحى ... فزع يوم كسفت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الضحى حين كانت الشمس ... فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ثم جاء فضلى أربعاً
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الضحى أربع ركعات ... فصلى النبى صلى الله عليه وسلم ركعتين خفيفتين
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر خمساً ... فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى رمضان ليلة ثمانى ركعات ... فقام النبى صلى الله عليه وسلم يصلى نم الليل
( الضاد ) ... فماشء أنظر إليه من البيت إلا نور (أثر)
ضحى النبى صلى الله عليه وسلم بكبشين ... فانكحيه ( أمر لزينب قالت قد رضيته ؟ قال صلى الله عليه وسلم : نعم )
ضح به . من حديثى رقم 2 ، 28 ... فى الإنسان 360 مفصل فعليه أن يتصدق عن كل مفصل
ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ... فيه ( الاثنين ) ولدت وفيه أنزل على
ضحينا مع النبى صلى الله عليه وسلم بجذع من الضأن ... ( القاف )
( الطاء ) ... قال ابن عمر : صلاة الضحى بدعة (أثر)
طول القنوت ... قال ربكم : صلى لى يا ابن آدم
( العين ) ... قام صلى الله عليه وسلم من اثنتين من الظهر
عرف الحق لأهله ... قل : أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه
عليكم بصلاة الليل ... قل لأبيك يصلى ثم يذبح
عليكم بقيام الليل ... " قم الليل إلا قليلا .. " الآية نسختها " علم أن لن تحصوه " ( أثر )
عليكم بـ ( لا إله إلا الله ) والاستغفار ... ( الكاف )
عليكم هدياً قاصداً فإن من يشاد الدين ... كان ابن مسعود يصلى بنا فى رمضان (أثر)
( الفاء ) ... كان الرجل يشترى أضحيته فيسمنها (أثر)
فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله ... كان الرجل يضحى بالشاة عنه وعن أخل بيته(1/322)
فإن خلقه صلى الله عليه وسلم كان القرآن ... كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحى بالشاة عن جميع أهله
فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله ( أثر ) ... كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى أربع ركعات فى الليل
فتلت قلائد بدن رسول الله صلى الله عليه سلم ثم أشعرها ... كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا تضور من الليل قال : ( لا إله إلا الله الواحد القهار )
فرج عن سقف بيتى وأنا بمكة ... كان صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الصلاة من الليل صلى من النهار
كان صلى الله عليه وسلم يصلى العشاء ثم يصلى بعدها ركعتين ... كان النبى صلى الله عليه وسلم يصلى الضحى حتى نقول : لا يدعها
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى ليلا طويلا ... كان صلى الله عليه وسلم يصلى العشاء فى جماعة ثم يرجع إلى أهله
كان المولود إذا ولد فى قريش دفعوه إلى نسوة ( أثر ) ... كان النبى صلى الله عليه وسلم يعلمهم رقى الحمى والأوجاع كلها
كان النبى صلى الله عليه وسلم يصلى من الليل ثلاث عشرة ركعة ... كان صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة
كان النبى صلى الله عليه وسلم يصلى ما بين العشاء والفجر 11 ركعة ... كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول عند الكرب : ( لا إله إلا الله العظيم الحليم )
كان صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه وضع يده تحت خده ثم يقول ... كان صلى الله عليه وسلم يصلى فى رمضان عشرين ركعة
كان النبى صلى الله عليه وسلم يضحى بكبشين أملحين أقرنين ... كان عمر بن الخطاب يروحنا فى رمضان ( الأثر )
كان صلى الله عليه وسلم يقرأ فيهما ( فى ركعتى النفل ) ... كتب على النحر ولم يكتب عليكم
كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى ... كل بنى آدم خطاء
كان صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر حتى نقول لا يفطر ... كل ذلك كان يفعل . روبما أسر بالقراءة
كان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى صلاة الليل يقول : اللهم لك الحمد ... كل شئ يتكلم به ابن آدم مكتوب عليه(1/323)
كان صلى الله عليه وسلم إذا قام كبر عشراً وحمد الله عشراً ... كسفت الشمس على عهده صلى الله عليه وسلم فخرج فصلى بالناس
كان النبى صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ : ألم تنزيل السجدة ... كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام قياماً شديداً
كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه قرأ : قل هو الله أحد ... كسفت الشمس فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ سورة طويلة
كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا هب من الليل كبر عشراً ... كسفت الشمس فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فنادى الصلاة جامعة
كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ من الليل قال : ( لا إله إلا أنت سبحانك ) ... كسفت الشمس على عهده صلى الله عليه وسلم كان يصلى ركعتين ثم يسأل
كانت زينب بنت جحش تسامينى ( أثر ) ... لم أدرك الناس إلا وهم يصلون 39 تسعاً وثلاثين ركعة ( أثر )
كانت قراءة النبى صلى الله عليه وسلم على قدر ما يسمعه من فى الحجرة ... لم أره صلى الله عليه وسلم يصلى الضحى إلا أن يخرج فى سفر
كانت عائشة تؤم النساء فى رمضان (أثر) ... لم أنس ولم تقصر
كانت قراءة النبى صلى الله عليه وسلم يرفع طوراً ... لما كسفت الشمس على عهده صلى الله عليه وسلم نودى الصلاة جامعة
كل شئ قبل الموت فهو قريب ( أثر ) ... لما نزل أول المزمل كانوا يقومون قيامهم فى رمضان حتى نزل آخرها ( أثر )
كل عرفات موقف ... لم يمنع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر
كلوا وتزودوا ... لن يدخل أحداً عمله الجنة
كلوه " الجنين " إن شئتم ... لو كان صلى الله عليه وسلم كاتماً شيباً لكتم : " وإذ تقول للذى أنعم الله عليه " (أثر)
كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سفر فحضر الأضحى فاشتركنا فى البقرة ... لو أن عبادى أطاعونى لأسقيتهم المطر بالليل
كنا نسمن الأضحية ( أثر ) ... لو مات هذا على حاله مات على غير
كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحى فوق ثلاث ... ملة محمد صلى الله عليه وسلم(1/324)
كنا نصلى فى زمن عمر فى رمضان 13 ثلاث عشرة ركعة ( أثر ) ... ( الميم )
كانوا يقومون على عهد عمر فى رمضان بعشرين ركعة ( أثر ) ... ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها فى السنة
كانوا يقولون : يا محمد يا أبا القاسم فنهاهم الله . قال : فقولوا : يا نبى الله (أثر) ... ما أصر من استغفر
( اللام ) ... ما رأيته صلى الله عليه وسلم يصلى الضحى إلا أن يقدم من سفر
لتتبعن سنن الذين من قبلكم ... ما رأيته صلى الله عليه وسلم يقرأ فى صلاة الليل جالساً حتى أسن
لقيت إبراهيم ليلة أسرى بى ... مررت بك ( أبى بكر ) . وأنت تصلى ارفع قليلا
لقد أمر النبى صلى الله عليه وسلم بالعتاقة فى الكسوف ... مطرنا على عهده صلى الله عليه وسلم فخرج فحسر ثوبه عنه حتى أصابه المطر
لقد سأل الله باسمه الأعظم ... معاذ الله إذا كانت الريح لتشتد فنبادر إلى المسجد ( أثر )
لكل سهو سجدتان ... من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه فقد كفر
لكل شئ قلب وقلب القرآن يس ... من أتى عرافاً فساله .. لم تقبل له صلاة
ما سبح صلى الله عليه وسلم سبحة الشحى قط ... من أراد أن ينام على فراشه فنام على يمينه
ما شأنكم .. إنما أنا بشر مثلكم أنسى ... من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح
ما شأن الناس يا عائشة ؟ اطوى عنا حصيرك ... من باع جلد أضحيته فلا أضحية له
ما عمل آدمى فى هذا اليومم أفضل من دم يراق ... من نبى فى بلاد الأعاجم حشر معهم (أثر)
ما عمل آدمى من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم ... من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه
ما كرهته فدعه ولا تحرمه على أحد (أثر) ... من تاب قبل موته بعام تيب عليه
ما كلم الله أحداً من وراء حجاب ... من تشبه بقوم فهو منهم
ما كنت أبالى لو ضحيت بديك ( أثر ) ... من توضأ فأسبغ الوضوء ثم صلى ركعتين
ما كان صلى الله عليه وسلم يزيد فى رمضان ولا فى غيره على إحدى عشرة ركعة ... من حافظ على شفعة الضحى غفرت له ذنوبه
ما يرجعون إلا لخير يرجونه ( أثر ) ... من ذبح قبل الصلاة فإنما ذبح لنفسه(1/325)
ما من امرئ تكون له صلاة بليل يغلبه ... من رأى هلال ذى الحجة وأراد أن
عليها نوم إلا كتب له أجر صلاته ... يضحى فلا يأخذن من شعره
ما من رجل يذنب ذنباً فيتظهر ثم يصلى ... من رضى عمل ثوم كان منهم
ما من رجل ينتبه من نومه فيقول : الحمد لله الذى خلق النوم واليقظة ... من سعادة ابن آدم استخارته الله
ما من مسلم يبيت على ذكر الله طاهراً فيسال الله خيراً إلا أعطاه إياه ... من شاء عتر .. ومن شاء فرع
ما من عبد يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة ... من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب
من منعك أن تجيبنى ... من صلى الضحى ركعتين لم يكتب من الغافلين
ما نحر النبى صلى الله عليه وسلم عنه وعن أهل بيته إلا بدنه ... من صور صورة فإن الله يعذبه
ما نصلى إلا ما كتب لنا ... من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة
ما نقض قوم العهد إلا كان القتل بينهم ... من غش أمتى فعليه لعنة الله
ما هذان اليومان .. إن الله قد ابدلكم بهما خيراً منهما : الأضحى والفطر ... من غشنا فليس منا
من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة فى ليلة كفتاه ... من قال حين يتحرك من الليل باسم الله
من قرأ تبارك الذى بيده الملك منعه الله من عذاب القبر ... من قام إذا استقلت الشمس فتوضأ
من قرأ الدخان ليلة الجمعة أصبح مغفوراً له ( أثر ) ... من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين
من قرأ عشر آيات أربعاً من أول البقرة ... من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له
من قرأ عشر آيات من البقرة لم يدخل ذلك البيت شيطان ( أثر ) ... من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له
من قرأ فى ليلة عشرى آيات كتب من الذاكرين ... نهى صلى الله عليه وسلم أن يحى ليلا
من قرأ يس فى ليلة ابتغاء وجه الله غفر له ... ( الهاء )
من كان له حاجة إلى الله فليتوضأ وليصل ... هاتان السجدتان لمن ظن أنه زاد أو نقص
من كان ذبح قبل الصلاة فليعد ... هكذا صلاة الآيات ( أثر )
من كان له ذبح يذبحه فإذا أهل ذو الحجة فلا يأخذون من شعره وأظفاره ... هكذا يصنعون ( اثر )(1/326)
من كان له سعة ولم يضح فلا ييقربن مصلانا ... هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ أصبح من عبادى مؤمن بى كافر بالكواكب
من نذر أن يطيه الله فليطعه ... هو ( المقام المحمود ) الشفاعة
من نى التسمية فلا بأس ( أثر ) ... هى رؤيا أريها صلى الله عليه وسلم (أثر)
من نام عن حزبه أو شئ منه فقرأه كتب له كأنما قرأه من الليل ... ( الواو )
( النون ) ... ولد النبى صلى الله عليه وسلم عام الفيل (أثر)
نحر النبى صلى الله عليه وسلم خمس بدنات ... ولم تكن امرأة خيراً منها ( أثر )
نحرنا مع النبى صلى الله عليه وسلم البدنة عن سبعة ... وما ذاك ؟ إنه لو حدث شئ ؟
نعمت الأضحية الجذع من الضأن ... ومن الليل فتهجد به نافلة لك ( أثر )
نعم إن أقرب ما يكون الرب من العبد جوف الليل الآخر ... ويحك ما هذه ؟ أما إنها لا تزيدك إلا وهناً
نهى صلى الله عليه وسلم أن يضحى بأعضب القرن ... ويطعم أهل بيته الثلث
( الياء ) ... ( لا )
يا أيها الناس إن على أهل كان بيت ضحية ... لا تجعلوا بيوتكم قبوراً
يا ابن آدم إنك ما دعوتنى غفرت لك ... لا تعلموا رطانة الأعاجم ( اثر )
يا بلال بما سبقتنى إلى الجنة ؟ ... لا رقية إلا من عين أو حمة
يا بلال حدثنى بأرجى عمل عملته ... لا سهو إلا من قيام عن جلوس
يا بنى كان زيد أحب إليه صلى الله عليه وسلم من أبيك ( أثر ) ... لا فرع ولا عتيرة
يا ثوبان أصلح لحم هذه ... لا كبيرة مع الاستغفار
يا جبريل من هؤلاء ؟ المجاهدون ... لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه
يجوز الجذع من الضأن ضحية ... لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به
لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم ... يدخل الجنة من أمتى 70 سبعون ألفاً بغير حساب
لا تسبوا الرياح فإنها من روح الله ... يا عبدى أنت تريد وأنا أريد لولا يكون إلا ما أريد
لا تشرب لبنها إلا فضلا ( أثر ) ... يا عباس يا عماه ألا أعطيك
لا تصلوا حتى ترتفع الشمس ... يا عثمان أرغبت عن سنتى .. فإنى أنام وأصلى
يا عائشة هلمى المدبة
يا فاطمة قومى فاشهدى أضحيتك
يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقه(1/327)
تم بحمد الله وعونه وحسن توفيقه دليل الأحاديث والآثار ، والصلاة والسلام
على حبيبه المصطفى ، وعلى آله اللآطهار وصحابته الأخيار
دليل موضوعات
الجزء الخامس من الدين الخالص
ص ... الموضوع ... ص ... الموضوع
( الأول ) الأضحية : تعريفها . دليلها ... الرخصة فى أكل لحمها بعد ثلاثة أيام
حكمتها : 1- فضلها ... كيفية صرفها عند أحمد
- حكمها ... كيفية صرفها عند عيره
دليل أنها سنة ... هل يأكل المضحى من أضحيته المندورة ؟
دليل وجوبها ... - التصرف فى الأضحية
الجواب عنه . 3- شروطها ... التصدق بجلدها لا يعطى الجزار اجر منها
هل تطلب من المسافر وغير المكلف ؟ ... - ( ولد الأضحية )
شروط صحتها . نيتها ... المذاهب فى حكم جنين الذبيحة
ما يكفى فيها ... - ذبح أضحية الغير
التضحية بالجذع من الضأن والثنى من الكل ... - قضاء الأضحية
لا يجزئ فيها الجذع من غير الضأن ... - التضحية عن الميت
المذاهب فى أفضل الضحايا ... هل لمن ضحى عن الميت أن يأكل منها ؟
هل جذع الضأن أفضل من ثنى المعز ؟ ... - ما يطلب من الضحى
العيوب المانعة من التضحية ... حكم قص مريد التضحية ظفره أو شعره فى عشر ذى الحجة
هل العيب الحادث يمنع من إجزائها ؟ ... التسمية عند الذبح
- ما يكره التضحية به ... من يحسن الذبح يذبح بيده
- وقت التضحية ... شهود المضحى ذبح أضحيته
مذهب الحنفيين ومالك فى أول وقت ذبح الأضحية ... بعض آداب التضحية
مذهب أحمد والشافعى فى ذلك ... نحر الإبل وذبح غيرها
النهى عن ذبحها ليلا ... - ما يكره فى الأضحية
- مكان التضحية ... حكم ركوبها وشرب لبنها
- الاشتراك فيها ... حكم ذبح الكتابى أضحية المسلم
التضحية بالبدنة عن سبعة ... - بدع الأضحية
- مصرف الأضحية ... ( الثانى ) الفرع والعتيرة
هلاك أصحاب الفيل . آية الله فى قصتهم ... حكمهما
تاريخ مولد النبى صلى الله عليه وسلم ... ( الثالث ) المواسم
بعض ما وقع لمولده صلى الله عليه وسلم من الآيات ... - مولد النبى صلى الله عليه وسلم قصة اصحاب الفيل
تنكيس الأصنام . رمى الشياطين الكهنة بالشهب ... - ليلة النصف شعبان(1/328)
نسيكه عبد المطلب عن البنى صلى الله عليه وسلم ... - ليلة القدر
متى أحدثت بدع الموالد ؟ ... المواسم الأجنبية
واجب العلماء وولادة الأمر نحو الموالد وغيرها من البدع ... حرمة التشبه بالكفار فى زى خاص ولبس القبعة ونحوها
حرمة تصوير ذى الروح وشراء صور الحيوان من حلوى وغيرها ... التنفير من مشاركة الأجانب فى أعيادهم
مفاسد الموالد . حرمة التكلف فيها وفى غيرها ... - عيد النيروز
- ليلة الإسراء ... - شم النسيم
صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء ليلتها ... تجنب ما يفعل فى النيروز وغيره
وصفه صلى الله عليه وسلم من رآه من الأنبياء ليلة الإسراء ... يمتنع التعامل مع الكفار فى أعيادهم
حديث أنس فى الإسراء والمعراج ... النهى عن دخول الكنيسة يوم عيد النصارى
فرض الصلوات الخمس ليلة المعراج ... وجه كراهة التسمى بأسماء الكفار
العبر التى رآهل صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء ... حكم ترجمة أذكار الصلاة بغير العربية
وصف الجنة . صلاته صلى الله عليه وسلم مع الملائكة . ثناء الرسل على ربهم ... بعض المخازى التى تفعل فى شم النسيم
ثناء النبى صلى الله عليه وسلم على ربه ليلة الإسراء ... - ميلاد المسيح عليه السلام
حديث سمرة فى الإسراء ... - ليلة الغطاس
حديث ابن مسعود وحديث أنس فى الإسراء ... - خميس العدس
الراجح أن الإسراء والمعراج كانا يقظة بالبدن والروح ... - سبت النور
- كيفية صلاة الكسوف ... من حفر لأخيه حفرة أوقعه الله فيها – مثل لا حديث
صلاتها ركعتان بركوعين فى كل ركعة ... ( الرابع ) النوافل
هل يقرا فى غير القيام الأول من صلاتها؟ الحق نعم ... ( 1 ) صلاة الكسوف
دليل أنها تصلى ركعتان فى كل ركعة ثلاثة ركوعات ... دليله : 1- حكمها 2- شروطها
صلاتها ركعتان فى كل ركعة أربعة ركوعات أو خمسة ... الراجح أنها تصلى فى أوقات النهى
الحث على الطاعة عند الشدائد . التحذير من الغفلة ... - عددها
المذاهب فى حكم خطبة الكسوف . الرد على من نفاها ... دليل جواز صلاتها أكثر من ركعتين
( 2 ) صلاة الخسوف ... - النداء لصلاة الكسوف(1/329)
هل تسن الجماعة فيها ؟ ... - كيفية القراءة فيها . قدرها
( 3 ) الصلاة عند الظلمة ونحوها ... المذاهب فى حكم الجهر فيها
المذاهب فى حكمها ... - الجماعة فيها
الفزع إلى الطاعات عند نزول الآيات ... - حضور النساء صلاة الكسوف
صلح الحديبية
بيعة الرضوان
امتحان المؤمنات
اجتماع الكسوف وغيره ... ( 5 ) صلاة التراويح
( 4 ) الاستسقاء ... - وقت صلاة التراويح
- حكمه ... - حكمها
استسقاء النبى صلى الله عليه وسلم ... هى سنة مؤكدة حتى للنساء
حكم خروج الذمى له . 2- وقته ... - عدد ركعات التراويح
- أنواعه الاستسقاء ... المسنون منها ثمانى ركعات
( أ ) الاستسقاء فى خطبة الجمعة ... رد ما قبل إنه صلى الله عليه وسلم صلاها عشرين ركعة
( ب ) الاستسقاء بالدعاء على المنبر بلا صلاة ... دليل أن قيام رمضان عشر ركعات وست وثلاثون
( جـ) الاستسقاء بالدعاء فى غير المسجد بلا صلاة ... الأولى العمل فى التراويح بما واظب عليه النبى صلى الله عليه وسلم
( د ) الاستسقاء بالصلاة والخطبة والدعاء ... و 5 – مكان التراويح والجماعة فيها
كيفية صلاته ... لم لم يواظب النبى صلى الله عليه وسلم على صلاتها جماعة ؟
الخطبة فيه ... دليل ان الأفضل صلاتها جماعة فى المسجد
كيفية تحويل الرداء فيه ... الجواب عما يدل على أن الأفضل صلاتها فرادى فى غير المسجد
نسخ فرضيته فى حق النبى صلى الله عليه وسلم والأمة ... - القراءة فى التراويح
يرى الإمام مالك أن فرضه إنما نسخ فى حق المة ... - كيفية صلاتها
- فضل قيام الليل ... ما يطلب حال الاستراحة بين الترويحتين
فضل التعاون على قيامه ... - بدع التراويح
المراد من عقد الشيطان على قفا النائم ... ( 6 ) قيام الليل
- وقت قيام الليل ... تلبيس إبليس على بعض المتبعدين
- ركعات قيامه ... ( 7 ) صلاة الأضحى
كم كان النبى صلى الله عليه وسلم يصلى بالليل ... صدقة مفاصل الإنسان
- كيفية صلاة الليل ... - وقت صلاة الضحى
- هدى النبى صلى الله عليه وسلم فى صلاة الليل ... - حكم صلاة الضحى
- أذكار صلاة الليل ... دليل من قال إنها لا تشرع إلا لسبب(1/330)
دعاء الاستفتاح فى صلاته ... رد ما قيل إنها واجبه على النبى صلى الله عليه وسلم دون الأمة
- أذكار الليل ... رد ما قيل الأفضل عدم المواظبة عليها وأنها بدعة
فضل سورة البقرة وآيات منها وسرة يس والدخان ... الجواب عن دليل النافين لمشروعيتها
- ما يقال عند النوم ... الجمع بين ما روى عن عائشة فى صلاة الضحى
قراءة الإخلاص والمعوذتين عند النوم ... - عدد ركعات الضحى
- ما يقال عند الاستيقاظ من النوم ... - القراءة فى صلاة الضحى
- ما يقول من قلق فى فراشه ... - ما يقال بعدها
- ما يقول من قلق فى نومه ... - الموضوع فى الضحى
جواز تعليق التمائم والتعاويذ . دليل من منع ذلك ... ( 8 ) الصلاة عقب الطهارة
دليل من أجاز لك . الأفضل عدم تعليقها ... ( 9 ) صلاة الاستخارة
- ما يقول من تحرك فى الليل ... ( أ ) الاستخارة المشروعة
- ما يقول إذا رأى فى منامه ما يحب أو يكره ... - حكمها
- ما يقول من قصت عليه الرؤيا ... أدلة استحباب صلاتها
- قضاء قيام الليل ... بيان أسرار دعاء الاستخارة
- بدع قيام الليل ... الجمع بين الاستخارة والاستشارة
حكمة تزويج زيد زينب مع كراهتها لذلك ... - القراءة فى صلاة الاستخارة
ترجمة زينب بنت جحش عبادتها كرمها ... تفسير آية ما كان لمؤمن ولا مؤمنة
ثناء النبى صلى الله عليه وسلم عليها ... تزوج النبى صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش
ترجمة زيد بن حارثة ... البيان الصحيح لقصة زيد بن حارثة وزينب أم المؤمنين
- وقت صلاة الاستخارة ... رد ما زعمه بعضهم فى قصة زينب مما لا يليق بمقام النبى صلى الله عليه وسلم
- الاستخارة بالدعاء ... ( 16 ) صلاة الحاجة
( ب ) الاستخارة غير الشرعية ... دعاء رد البصر
- استخارة النوم ... حديث الضرير صحيح . التوسل المشروع
هى بدعة مكروهة ... ( 17 و 18 ) صلاة الضائع والآبق . حديث أصحاب الغار
تفنن الناس فى الاستخارة المبتدعة ... التوسل إلى الله بالإقسام عليه بأحد من خلقه ممنوع عند الجمهور
- استخارة السبحة ... منشأ التوسل الممنوع(1/331)
- استخارة الفنجان ... ( الأول : طول القيام وكثرة السجود )
- استخارة الورق ( الكوتشينة ) ... لا تعارض بين أدلة فضل كثرة السجود وأفضلية طول القيام
- استخارة الرمل ... ( الثانى : الجلوس فى صلاة النفل )
و 7 – استخارة الودع والكف ... جواز صلاة النفل قائماً وقاعداً
( 10 ) صلاة التوبة : تفسير آية والذين إذا فعلوا فاحشة ... ثواب صلاة التطوع قاعداً بلا عذر . هل يصلى باضطجاع مع القدرة على القيام ؟
تغيظ إبليس من قبول الله تعالى توبة التائبين ... ( الخامس ) سجود السهو
بعض ما ورد فى الحث على التوبة والاستغفار ... (1) حكم سجود السهو
بعض ما ورد فى ذم المصريين على المعاصى ... هو واجب عند الحنفيين
التوبة من الذنب فرض . ما هى التوبة النصوح ؟ ... حكمه عند غيرهم ( 2 ) سببه
تفسير آية : " إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة " ... أسبابه عند الحنفيين
التوبة نعمة اختص الله بها الأمة المحمدية ... أسبابه عند مالك
( 11 ) صلاة الطواف ... أسبابة عند الشافعى وأحمد
( 12 ) صلاة الشكر ... ( السبب الأول ) الزيادة فى الصلاة
( 13 ) صلاة المنزل ... الجلوس فى غير موضع التشهد . القيام فى غير موضعه سهواً
( 14 ) صلاة السفر ... أحوال القيام لثالثة بلا تشهد
( 15 ) صلاة التسبيح ... مسائل فى سجود السهو
حديث ابن عباس فى صلاة التسبيح صحيح ... بعض ما ورد فى القيام لثالثة بلا تشهد
كيفية صلاتها عند الحنفيين وابن المبارك ... ما يطالب ممن قام من السجدة الأولى ساهياً
ما يطلب ممن ترك ركناً سهواً وتذكره ... حكم الترتيب بين ما يتكرر فى لاصلاة أو فى كل ركعة
ما يطلب ممن قام لزائدة تاركاً القعود الأخير ... أحوال من سلم وعليه سجدة
ما يطلب ممن قام سهواً تاركاً السلام ... شرح حديث ذى اليدين . حكم سهو النبى
المذاهب فيما يطلب ممن زاد فى الصلاة سهواً ... صلى الله عليه وسلم فى الأفعال والأقوال
المذاهب فى سجود السهو لزيادة قول سهواً
جملة ما بهذا الجزء من الأدلة
دليل الأحاديث والآثار التى بهذا الجزء(1/332)
دليل موضوعات هذا الجزء
الدين الخالص
كتاب جليل ، له من اسمه أكبر نصيب ، حمل الشيخ الإمام رحمه الله تعالى على تأليفه ما فشا فى الناس من تقليد المتأخرين والتشبت بآرائهم . بين للناس فيه طريق عبادتهم مع بيان أدلة كل حكم ، معتمداً على كتاب الله تعالى وعلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وعمل السلف الصالح . بدأ الكتاب بنبذة بين فيها ما يجب على المكلف معرفته من علم التوحيد حتى تكون صلاته وعبادته قائكة على أساس قويم من الإيمان والتوحيد . وعلى الملم بشئ من الفقه أن يقرأ بحثاً من أبحاث هذا الكتاب ليرى التدفيق العلمى والتحقيق العملى ، ويجد نفسه أمام الأحكام تأتى فى سهولة ويسر .
... وقد تم طبع تسعة أجزاء من هذا الكتاب ، منها سنة طبعت للمرة الثالثة .
نسأل الله تعالى أن يوفق لإتمامه . وهو ولى الهداية والتوفيق وله الحمد أولا وآخراً . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه .(1/333)
الدين الخالص
أو
إرشاد الخلق إلى دين الحق
وهو آخر كتاب وضع أصله الشيخ الإمام محيي السنة ومميت البدعة
صاحب الفضيلة والإرشاد المرحوم السيد
محمود محمد خطاب السّبكى
المتوفى فى الرابع عشر من ربيع الاول سنة 1352هـ -7يوليو سنة 1933م
عمه الله تعالى بالرحمة والرضوان وأسكنه عالى الجنان
الجزء السادس
عنى بنتقيحه وتصحيحه وتنسيقه والتعليق عليه وضبط الآيات والأحاديث وترقيمها وبيان حالها وغريبها ومراجعها خليفة الشيخ الامام المرحوم السيد
أمين محمود خطاب
المتوفى فى السابع والعشرين من ذى القعدة 1387هـ - 26 فبراير 1968م رحمه الله رحمة واسعة وجعل قبره
روضة من رياض الجنة وحشره مع الصالحين
حقوق الطبع محفوظة له
الطبعة الرابعة 1411هـ - 1991 م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب ، والصلاة والسلام على سيد الأحباب ، وعلى آله الأطهار ، وصحابته الأخيار . هذا والكلام هنا فى بيان بقية أسباب سجود السهو وثمانية أصول وخاتمة .
( السبب الثانى ) من أسباب سجود السهو . النقص فى الصلاة :
أعلم أن المتروك من الصلاة فرض وواجب وسنة وأدب وقد تقدم بيانها .
(1) ترك الفرض :
الفرض لا ينوب عنه سجود السهو إن تركه سهوا بل لابد من الإتيان به إن أمكن وتذكره قبل سلامه أو بعده ولم يطل الفصل ولم يأت بمناف للصلاة ( وذلك ) أنه إذا ترك سجده صلبية من ركعة ثم تذكرها ، قضاها ولو آخر الصلاة . ولا تلزمه إعادة ما بعدها . وإن أعادة كان أفضل .
(وإن ترك ) سجدتين قضاهما ويبدأ بالأولى ثم الثانية ، لأن القضاء على حسب الأداء ، ولو كانت إحداهما سجدة تلاوة تركها من الأولى ، والأخرى صلبية تركها من الثانية ، راعَى الترتيب أيضا ، وقد تقدم بيانه بأتم من هذا(1) 0
(
__________
(1) راجع صفحة 294،293 جزء 5 دين .(1/1)
ولو كان ) المتروك كوعا ، لا يتصور فيه القضاء ، وكذا إذا ترك سجدتين من ركعة . وذلك أنه إذا افتتح الصلاة فقرأ وسجد ولم يرجع ثم قام إلى الثانية فقرأ وركع وسجد ، فقد صلى ركعة واحدة ، وليس هذا الركوع قضاء عن الأول ، لأنه إذا لم يركع لا يعتد بالسجود ، فكان أداء هذا الركوع فى محله ، فإذا أتى بالسجود بعده صار مؤدياً ركعة تامة . وكذا إذا قرأ وركع ولم يسجد ثم رفع رأسه فقرأ ولم يركع ثم سجد ، فقد صلى ركعة. ولا يكون هذا السجود قضاء عن الأول ، لأن ركوعه وقع معتبرا لمصادفته محله ، إلا أنه توقف على أن تتقيد الركعة بالسجدة . فإذا قام وقرأ لم يعتد بهما . فإذا سجد صادف السجود محله لوقوعه بعد ركوع معتد به ، فقد انضم السجدتان إلي الركوع فصار مصلياً ركعة . وكذا إذا قرأ وركع ثم رفع رأسه وقرأ وركع وسجد ، فقد صلى ركعة ، لأن السجود تقدمه ركوعان فيلحق بإحدهما ويلغى الآخر ، والصحيح أن المعتبر الركوع الأول لأنه صادف محله دون الثانى . وكذا إذا قرأ وركع وسجد ثم قام فقرأ وركع ولم يسجد . ثم قام فقرأ ولم يركع وسجد ، فقد صلى ركعة ، لأن سجوده الأول لم يصادف محله ، لحصوله قبل الركوع ، فإذا قرأ وركع توقف هذا الركوع على أن يتقيد بسجود بعد ، فإذا سجد بعد القراءة تقيد ذلك الركوع به فصار مصليا ركعة . وكذا إن ركع فى الأولى ولم يسجد ، ثم ركع فى الثانية ولم يسجد وسجد فى الثالثة ولم يركع ، فلا شك أنه صلى ركعة واحدة لما مر ، غير أن هذا السجود يلتحق بالركوع الأول على الصحيح . وعليه سجود السهو فى هذه المواضع ، لإدخاله الزيادة فى الصلاة وهو نقص فيها ولا تفسد على الصحيح . ( ولو ترك ) القعدة الأخيرة من ذوات الأربع وقام إلي الخامسة ، فإن لم يقيدها بالسجدة يعود إلى القعدة . وإن قيد الخامسة بالسجدة لا يعود وفسد فرضه . هذا مذهب الحنفيين .
((1/2)
وقالت ) الحنبلية . من نسى ركنا غير التحريمة والنية . فإن تذكره قبل الشروع فى قراءة الركعة التالية ، لزمه الرجوع إليه . وإن لم يتذكره إلا بعد الشروع فى قراءتها بطلت الركعة التى ترك فيها الركن وحلت التالية محلها وسجد للسهو فى الحالين ( قال ) الشيخ منصور بن إدريس " من نسى " ركنا غير التحريمة – لعدم انعقاد الصلاة بتركها ، وكذا النية على القول بركمنيتها – فذكره بعد شروعه فى قراءة الركعة التى بعد المتروك منها الركن " بطلت " الركعة التى تركه منها ، لأنه ترك ركنا لم يمكنه استدراكه لتلبسه بالركعة التى بعدها ، فلغت ركعته وصارت التى شرع فيها عوضا عنها ، ولا يعيد الاستفتاح ، فإن كان الترك من الأولى صارت الثانية أولى، والثالثة ثانية ، والرابعة ثالثة وياتى بركعة فإن رجع إلى ما تركه عالما عامدا ، بطلت صلاته ، لأنه ترك الواجب عمداً ، وإن رجع سهوا أو جهلا ، لم تبطل صلاته ، لكنه لا يعتد بما بفعله فى الركعة التى ترك ركنها ، لأنها فسدت بشروعه فى قراءة غيرها ، وإن ذكر الركن المنسى قبل شروعه فى القراءة التى بعدها ، عاد لزوما فأتى بالمتروك ، لأنه ذكره فى موضعه ، كما لو ترك سجدة من الركعة الأخيرة فذكرها قبل السلام فإنه يأتى بها فى الحال وأتى بما بعد المتروك من الأركان والواجبات ، لوجوب الترتيب ، فلو ذكر الركوع وهو جالس بين السجدتين أو قائم قبل القراءة ، أتى به وبما بعده ، وإن سجد سجدة ثم قام قبل سجوده الثانية ناسيا فإن كان جلس بين السجدتين سجد الثانية ، ولم يجلس للفصل ، وإن لم يكن جلس للفصل جلس له ثم سجد الثانية تداركا لما فاته وإن كان جلس بعد السجدة الأولى للاستراحة ، لم يجزئه عن جلسته بين السجدتين ، فإن لم يعد إلي الركن المتروك وقد ذكره قبل شروعه فى قراءة الأخرى عمداً ، بطلت صلاته لتركه الواجب عمداً ، وإن لم يعد سهوا أو جهلا ، بطلت الركعة فقط ، لأنه فعل غير متعمد فأشبه ما لو مضى قبل ذكر المتروك(1/3)
حتى شرع فى القراءة فإن علم بالمتروك بعد السلام ، فهو كتركة ركعة كاملة ، لأن الركعة التى لغت بترك ركنها غير معتد بها ، فإذا سلم قبل ذكرها يأتى بالركعة مع قرب الفصل عرفا ولو انحرف عن القبلة أو خرج من المسجد ، ويسجد قبل السلام ، وإن طال الفصل أو أحدث بطلت الصلاة ، لفوات الموالاة ، فإن كان المتروك تشهدا أخيرا .
أتى به وسجد للسهو وسلم ، وإن كان المتروك سلاما أتى به وسجد للسهو وسلم(1).
( وإن نسى ) أربع سجدات من أربع ركعات من كل ركعة سجدة وذكر فى التشهد ، سجد فى الحال سجدة فصحت له ركعة تم أتى بثلاث ركعات وسجد للسهو وسلم ، لأن كل ركعة من الثلاث الأول بطلت بشروعه فى قراءة التى بعدها وبقيت الرابعة ناقصة فيتمها بسجدة فتصبح وتصير أولى ويأتى بالثلاث الباقية .
( وإن ذكر ) أنه ترك أربع سجدات من أربع ركعات بعد سلامه ، بطلت صلاته لأن الركعة الأخيرة بطلت أيضا بسلامه فلم يصح له شىء من صلاته يبنى عليه .
( وإن ذكر ) أنه ترك أربع سجدات وقد قرأ فى الخامسة ، فهى أولاه لبطلان كل ركعة مما قبلها بشروعه فى قراءة ما بعدها وجلوسه للتشهد قبل سجدتى الركعة الأخيرة زيادة فعلية ، يجب السجود لسهو ويبطل الصلاة عمدها ، لأنه ليس محلا للجلوس . وتشهده قبل السجدة الثانية زيادة قولية يسن السجود لها سهوا ولا يبطل عمدها الصلاة ، لأنه ذكر مشروع فى الصلاة فى الجملة والجلوس له ليس بزيادة ، لأنه بين السجدتين فهو محل جلوس . ( وإن نسى ) سجدتين أو ثلاثا من ركعتين جهلهما ، أتى بركعتين ، وإن نسى ثلاثا أو أربعا من ثلاث جهلها ، أتى بثلاث ( وإن نسى ) خمسا من أربع أو ثلاث أتى بسجدتين ثم بثلاث ركعات أو بركعتين(2).
(
__________
(1) كذا فى الإقناع . وصريحه أن السجود هنا بعد السلام مع أنه ليس من المسائل التى يسجد فيها بعد السلام . افادة فى الشرح .
(2) أى أنه يأتى بثلاث ركعات إن نسى خمس سجدات من أربع وبركعتين إن نسيها من ثلاث .(1/4)
وإن نسى) من الأولى سجدة ومن الثانية سجدتين ومن الرابعة سجدة ، أتى بسجدة ثم بركعتين أ هـ بتصرف(1).
( وهذا ) إذا علم عين المتروك وموضعه ، فإن جهله بنى على الأحوط .
( قال ) الشيخ ابن إدريس : وإن ترك ركنا كالركوع أو الطمأنينة فيه لا يعلم موضعه بأن جهل أهو من الأولى أو غيرها ؟ بنى على الأحوط ، ليخرج من العهدة بيقين ، فلو ذكر فى التشهد أنه ترك سجدة لا يعلم أهى من الأولى أم من الثانية ؟ جعلها من الركعة الأولى وأتى بركعة بدلها ( وإن ترك ) سجدتين لا يعلم أهما من ركعة أو من ركعتين ؟ جعلهما من ركعتين احتياطا . فإن ذكرهما قبل الشروع فى القراءة ، سجد سجدة وحصلت له ركعة . ثم يأتى بركعة ليخرج من العبادة بيقين ( وإن ذكر ) المتروك – وهو سجدتان لا يعلم أنهما من ركعة أو من ركعتين – بعد شروعه فى قراءة الثالثة – لغت الأوليان ، لأن الأحوط كونهما من ركعتين كما تقدم . وكل منهما تبطل بشروعه فى قراءة التى بعدها .
(
__________
(1) أنظر ص 263 أ كشاف القناع ( السجود عن نفس فى صلاته ) .(1/5)
وإن ترك ) سجدة لا يعلم من أى ركعة ؟ أتى بركعة كاملة ، لاحتمال أن تكون من غير الأخيرة ( ولو جهل ) عين الركن المتروك بأن ذكر أنه ترك ركنا وجهل عينه ، بنى على الأحوط أيضا . فإن شك هل المتروك قراءة أو ركوع ؟ جعله قراءة فيأتى بها ثم بالركوع للترتيب ، وإن شك فى الركوع والسجود ، جعله ركوعا فيأتى به ثم بالسجود . ( فإن ترك ) آيتين متواليين من الفاتحة ، جعلهما من ركعة عملا بالظاهر ، وإن لم يعلم تواليهما جعلهما من ركعتين احتياطا ، لئلا يخرج من الصلاة وهو شاك فيها فيكون مغررا بها . لقوله عليه الصلاة والسلام: لا غرار فى صلاة ولا تسليم ، رواه أبو داود (1) . ... ... ... ... ... ... { 1 }
( قال ) الأثرم : سالت أبا عبد الله عن تفسيره فقال : أما أنا فلا أراه يخرج منها إلا على يقين أنها قد تمت أهـ(2).
( وقالت ) المالكية : من ترك ركنا سهوا فإن تذكره قبل الرفع من ركوع الركعة التى تليها عاد إليه لزوما، وإن لم يتذكر إلا بعد الرفع من ركوعها ، لغت الركعة التى ترك ركنها فيتم الصلاة ويسجد للسهو بعد السلام فى الحالين .
(
__________
(1) واخرجه ايضا أحمد والحاكم عن ابى هريرة بسند صحيح ص 27 ج 6 - المنهل العذب ( رد السلام فى الصلاة ) وص 133،132 ج 4 – الفتح الربانى . والغرار بكسر الغين ، النقصان . وهو فى الصلاة على وجهين :
( أ ) ألا يتم الركوع والسجود .
( ب ) أن يشك هل صلى ثلاثا أو اربعا ؟ فيأخذ بالأكثر ويترك اليقين . والنقص فى التسليم الاقتصار فى البدء على السلام عليكم . وفى الرد على مثل ما ذكر البادىء أو اقل منه أو يقول على وعليك ( ولا تسليم ) بالنصب معطوفا على غرار . والمغنى لا نقص ولا سلام فى الصلاة للتحية ، لأنه كلام .
(2) انظر ص ج كشاف القناع ( السجود عن نقص فى صلاته ) .(1/6)
وقالت ) الشافعية : من ترك ركنا سهوا فإن تذكره قبل أن يأتي بمثله من الركعة التالية ، لزمه العود إليه، وإن تذكره بعد فعل مثله ، تمت الركعة السابقة ولغا ما بينهما وأتم الصلاة وسجد للسهو فى الحالين ، وهذا إذا عرف عين المتروك وموضعه . فإن لم يعرف لزم الأخذ بالأقل ويأتى بالباقى .
( قال ) النووى فى المجموع : الترتيب واجب فى أركان الصلاة اتفاقا ، فإن تركه عمدا بطلت صلاته ، وإن تركه سهوا لم يعتد بما فعله بعد الركن المتروك حتى يصل إلى الركن بعده فحينئذ يصح المتروك وما بعده فإن ذكر السهو قبل مثل المسبوق اشتغل بالمتروك وإن تذكر بعد فعل مثله فى ركعة أخرى تمت الركعة السابقة ولغا ما بينهما هذا إذا عرف عين المتروك وموضعه فإن لم يعرف وجب عليه أن يأخذ بأقل الممكن ويأتى بالباقى . وفى الأحوال كلها يسجد للسهو إلا إذا وجب الاستئناف بأن ترك ركناً وشك فى عينه وجوز أن يكون النية أو التحريمة ، وإلا إذا كان المتروك هو السلام ، فإنه إذا تذكره قبل طول الفصل سلم ، ولا يسجد للسهو ، هذا ضابط الفصل ، فلو تذكر فى قيام الثانية أنه ترك سجدة من الأولى ، وجب الإتيان بها ، وهل يجزئه أن يسجد من قيامه أم يجلس ثم يسجد ؟ الصحيح أنه إن لم يكن جلس عقب السجدة الأولى وجب الجلوس مطمئنا ، لأنه ركن مقصود ، وإن كان جلس كفاه السجود بلا جلوس سواء كان جلس بنية الجلوس بين السجدتين أم بنية جلسة الاستراحة ، كمن جلس فى التشهد الأخير يظنه الأول فإنه يجزئه ، ويقع فرضا ، ولو شك هل جلس فهو كما إذا لم يجلس ، لأن الأصل عدمه، أما إذا تذكر بعد سجوده فى الثانية أنه ترك سجدة من الأولى فينظر إن تذكر بعد السجدتين فى الركعة الثانية أو فى الثانية منهما ، فقد تمت ركعته الأولى ولغا ما بينهما . وهل يحصل تمامها بالسجدة الأولى أم الثانية ؟ ينبغى على ما تقدم ، فحيث قلنا لا يجب الجلوس يحصل تمامها بالسجدة الأولي .(1/7)
وإن أوجبنا الجلوس حصل التمام بالثانية ، وعليه فلو تذكر بعد السجدة الأولى فى الركعة الثانية وقبل السجدة الثانية . فإن أوجبنا الجلوس لم تتم ركعته الأولى حتى يجلس ثم يسجد . وإن نوجبه فقد تمت ركعته فيقوم إلى الثانية . ( وإذا تذكر ) فى جلوس الركعة الرابعة أنه ترك أربع سجدات فله ثلاثة أحوال :
( أ ) إذا تيقن أن المتروك ثنتان من الثالثة وثنتان من الرابعة ، صحت الركعتان الأوليان وحصلت الثالثة لكن بلا سجود فيها ولا فيما بعدها فيسجد سجدتين ليتمها ، ثم يأتى بركعة رابعة ، وكذا لو ترك سجدة من الأولى وسجدة من الثانية وسجدتين من الرابعة ، أو ترك سجدة من الثانية وسجدة من الثالثة . وسجدتين من الرابعة .
( ب ) وإذا ترك من كل ركعة سجدة ، حصل له ركعتان ، فقد تمت الأولى بالثانية ، والثالثة بالرابعة ، فيأتى بركعتين ، وكذا لو ترك سجدتين من الثانية وسجدتين من الأولى أو الثالثة ، أو سجدتين من الثانية وواحدة من الأولى وأخرى من الثالثة ، أو سجدتين من الثانية وسجدة من الثالثة وأخرى من الرابعة ، أو سجدة من الأولى وسجدة من الثانية وسجدتين من الثالثة . أو سجدة من الثانية وسجدة من الثالثة وسجدة من الرابعة ، فيحصل فى كل هذه الصور ركعتان ، فيأتى بركعتين ويسجد للسهو .
(جـ) وإذا ترك من الأولى سجدة ومن الثانية اثنتين ومن الرابعة سجدة حصل له ركعتان إلا سجدة ، فيسجدها ثم يأتى بركعتين ويسجد للسهو ، وكذا لو ترك من الأولى سجدتين ومن الثانية سجدة ومن الرابعة أخرى ، أو ترك سجدتين من ركعة وسجدتين من ركعتين غير متواليتين .
( وهذا ) إذا عرف مواضع السجدات ، فإن لم يعرفه أخذ بالأشد فيأتى بسجدة ثم ركعتين ، هذا مذهبنا ( وقال ) الليث بن سعد ، من ترك أربع سجدات من كل ركعة سجدة لا يحصل له إلا تكبيرة الأحرام .
( وقال ) الحسن والثورى والحنفيون : يسجد فى آخر صلاته أربع سجدات وقد تمت صلاته .
((1/8)
وقال ) مالك وأحمد فى أصح الروايتين عنهما : لا يحصل له إلا ما فعله فى الركعة الرابعة ، وفى رواية عنهما : يستأنف الصلاة أ هـ ملخصا (1) .
( تتميم ) من تيقن بعد السلام أنه ترك ركعة أو ركعتين أو ثلاثا أو ركوعا أو سجودا أو غيرهما من الأركان سوى النية وتكبيرة الإحرام . فإن تذكر قبل طول الفصل ، لزمه البناء على صلاته فيأتي بالباقى ويسجد للسهو ، وإن تذكر بعد طول الفصل ، لزمه استئناف الصلاة ، والمعتبر فى طول الفصل وقصره ، العرف ، فإن عده قليلا فقليل أو كثير فكثير ، وقيل قدر ركعة يقتصر فيها على الفاتحة ، طويل ، ودونها قليل ، وقيل القدر المنقول عن النبى صلى الله عليه وسلم فى قصة ذى اليدين – وهو أنه قام إلى ناحية المسجد وراجع ذا اليدين وسأل الصحابة فأجابوا – قليل ، والزيادة عليه طويل ، ومتى قصر الفصل جاز البناء ولو تكلم بعد السلام أو خرج من المسجد واستدبر القبلة عند الشافعية . أفاده النووى فى المجموع(2).
(ب) – ترك الواجب :
__________
(1) انظر الصفحات من 118 الى 123 ج 4 شرح المهذب ( حكم ترك الترتيب فى أركان الصلاة ) .
(2) انظر ص 163 ج 4 شرح المهذب ( حكم من تيقن بعد السلام أنه ترك ركعة أو أكثر أو ركنا ) .(1/9)
الواجب الأصلى من واجبات الصلاة إذا تركه سهوا ، سجد له سجدتين للسهو ، لعموم ، حديث : فإذا نسى أحدكم فليسجد سجدتين . أخرجه مسلم عن ابن مسعود "(1) (2) " وحديث " عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: سجدتا السهو تجزيان عن كل زيادة ونقص . أخرجه البيهقى والطبرانى فى الأوسط وأبو يعلى والبراز وفيه حكم بن نافع ضعفه أبو زرعة ووثقه ابن معين(2) (3)" وحديث " الأسود عن ابن مسعود أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى الظهر أو العصر خمسا ثم سجد سجدتى السهو ثم قال : هاتان سجدتان لمن ظن منكم أنه زاد أو نقص. أخرجه أحمد والبيهقى(3) (4) " وقوله " صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم : إذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين ، أخرجه مسلم عن علقمة عن ابن مسعود(4)(5) .
( وقد تقدم ) أن الحنفيين والحنبليين هم القائلون بأن للصلاة واجبات تجبر بسجود السهو إذا تركت سهوا ، وكذا إذا تركت جهلا عند الحنبلية وهى عشرون واجبا .
( 1 ) قراءة الفاتحة – هى واجبة عند الحنفيين فى كل ركعات النفل والوتر وفى أولي الفرض ، فإن تركها أو أكثرها سهوا ، لزمه سجود السهو عند الصاحبين وكذا إذا ترك منها أية عند الإمام أبى حنيفة ، وإن تركها فى أخريى الفرض فلا سجود عليه .
(وقال) الأئمة الثلاثة والجمهور : قراءة الفاتحة فرض فلا تجبر بسجود السهو .
(
__________
(1) تقدم بالحديث رقم 392 ج2 مجمع الزوائد ( حكم سجود السهو ) .
(2) انظر ص 151 ج2 مجمع الزوائد ( السهو فى الصلاة ) .
(3) انظر 154 ج4 – الفتح الربانى ( ما يفعل من صلى الرباعية خمسا )
(4) انظر ص 67 ج5 نووى مسلم ( السهو فى الصلاة والسجود له ) .(1/10)
2) قراءة السورة بعد الفاتحة – تقدم أنه يجب عند الحنفيين فيما تجب فيه الفاتحة ، أن يضم إليها سورة ولو قصيرة أو ثلاث آيات قصار أو ما يماثلها من آية طويلة . فلو ترك ما ذكر سهوا ، لزمه سجود السهو ، ولو قرأ الفاتحة وآيتين فركع ساهيا ثم تذكر فعاد وأتم ثلاث آيات ، فعليه سجود السهو ، ولو ترك السورة فذكرها قبل السجود ، عاد وقرأها ، ولو ترك الفاتحة فذكرها قبل السجود ، قرأها وأعاد السورة ، لآنها تقع فرضا بالقراءة ومتى عاد فى الكل ، أعاد الركوع لارتفاضه ويسجد للسهو ، عاد للقراءة أو لم يعد .
( وقالت ) المالكية والحنبلية : قراءة السورة سنة مؤكدة ، فإن تركها سهوا سن له سجود السهو ، ( قالت ) الشافعية : قراءة السورة سنة خفيفة " أى هيئة " لا يطلب لتركها سجود . فإن سجد لها قبل السلام بطلت صلاته ( قال) النووى فى المجموع : " وأما غير " الأبعاض من السنن كالتعوذ ودعاء الافتتاح ورفع اليدين والتكبيرات والتسبيحات والدعوات والجهر والإسرار والتورك والافتراش والسورة بعد الفاتحة ووضع اليدين على الركبتين وتكبيرات العيد الزائدة وسائر الهيئات " فلا يسجد لها " سواء تركها عمدا أو سهوا ، لأنه لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود لشىء منها . والسجود زيادة فى الصلاة فلا يجوز إلا بتوقيف ، وتخالف الأبعاض فإنه ورد التوقيق فى التشهد الأول وجلوسه وقسنا باقيها عليه لاستواء الجميع فى أنها سنن متأكدة(1).
( 3 ) تعيين الأوليين للقراءة – تقدم أنه يجب عند الحنفيين قراءة الفاتحة فى أوليى الفرض ولا تتعين فى الأخريين ، فلو ترك القراءة فى الأوليين أو إحداهما سهوا ، لزمه سجود السهو .
( وقالت ) الأئمة الثلاثة : القراءة فرض فى كل ركعات الصلاة فلا يجبر تركها بسجود السهو .
(
__________
(1) انظر ص 126،125 ج4 شرح المهذب ( وأما غير الأبعاض من السنن فلا يسجد لها ) .(1/11)
4) رعاية الترتيب فى فعل مكرر كالسجود – تقدم أنه يجب عند الحنفيين تقديم السجدة الثانية على ما بعدها . فلو ترك سجدة من ركعة فتذكرها ، سجدها ولو فى آخر الصلاة وسجد للسهو ، لترك الترتيب .
(وهو) فرض عند الأئمة الثلاثة على ما تقدم بيانه فلا ينوب عنه سجود السهو .
( 5 ) الرفع من الركوع (6) الجلوس بين السجدتين (7) الطمأنينة فيهما وفى الأركان حتى تسكن مفاصلة. تقدم أن ما ذكر واجب عند أبى حنيفة ومحمد . فيجب سجود السهو بتركها كلا أو بعضا ( وهى ) فرض عند أبى يوسف وباقى الأئمة ، فلا ينوب عنها سجود السهو (8) القعود غير الأخير – تقدم أنه واجب عند الحنفيين والحنبليين ولو فى نفل على غير مأموم قام إمامه عنه سهوا ، فيجب السجود بتركه سهوا .
( وقالت ) المالكية والشافعية والجمهور : إنه سنة يجبر بالسجود إن ترك سهوا . وكذا إن ترك عمدا على الصحيح عند الشافعية " لقول " عبد الله بن بحينة صلى بنا رسول الله صلى على آله وسلم صلاة نظن أنها العصر فقام فى الثانية ولم يجلس . فلما كان قبل أن يسلم ، سجد سجدتين وسجدهما الناس معه مكان ما نسى من الجلوس . أخرجه مالك والسبعة وهذا لفظ أحمد (1)
(9) قراءة التشهد – تقدم أنه واجب عند الحنفيين فى كل قعود . وعند الحنبلية فى القعود غير الأخير فلو ترك قراءته كلا أو بعضا وتذكر ولو بعد السلام ، لزمه السجود ( وقال ) أبو يوسف : لا يلزمه . وبقوله يعمل إمام القوم إذا كان فى السجود تهريش على العامة .
(
__________
(1) انظر ص 150ج4 – الفتح الربانى وص 175 ج2 ، تيسير الوصول ( سجود السهو )(1/12)
قال ) الكمال ابن الهمام فى الفتح : قد لا يتحقق ترك التشهد على وجه يوجب السجود إلا فى الأول . أما التشهد الثانى فإنه لو تذكره بعد السلام أتى به ثم سلم وسجد ، فإن تذكره بعد شىء يقطع البناء لم يتصور إيجاب السجود . ومن فروع هذا أنه لو اشتغل به بعد السلام والتذكر ، فلو قرأ بعضه وسلم بعد تمامه فسدت صلاته عند أبى يوسف ، لأن بعودة إلي التشهد إرتفاضا قعوده فإذا سلم قبل إتمامه فقد سلم قبل قعودة قبل التشهد ( وعند ) محمد لا تفسد ، لان قعوده ما ارتفض أصلا ، لأن محل قراءة التشهد القعدة فلا ضرورة إلي رفضها وعليه الفتوى أ هـ(1).
( وظاهره ) أنه لو تذكره بعد السلام ولم يقرأه لا يسجد لتركع ، لأنه لما تذكره وأمكنه فعله ولم يفعله فكأنه تركه عمدا فلا يلزمه السجود وإنما يكون مسيئا . وعليه فكل من ترك واجبا سهوا وأمكنه فعله بعد تذكره فلم يفعله لا سجود عليه كمن تركه عمدا .
( وقال ) ابن قدامة فى المغنى ، وإن نسى التشهد " يعنى غير الأخير " دون الجلوس له فحكمه فى الرجوع إليه حكم ما لو نسيه مع الجلوس ، لأن التشهد هو المقصود أ هـ(2).
( وقالت ) المالكية : التشهد سنة فى كل قعود ( وقالت ) الشافعية : هو سنة فى القعود غير الأخير ، فيجبر بسجود السهو إن ترك سهوا . وكذا إن ترك عمدا على الأصح عند الشافعية ( قال ) النووى فى المجموع : وأما إذا ترك التشهد الأول عمدا فالأصح عندنا أنه يسجد للسهو ( وقال ) النخعى وأبو حنيفة وابن القاسم لا يسجد . وقال أحمد : تبطل صلاته أ هـ (3) .
(
__________
(1) انظر ص 359 ، 360 ج 1 فتح القدير ( سجود السهو ) وص 683 ج 1 مغنى .
(2) انظر ص 359 ، 360 ج 1 فتح القدير ( سجود السهو ) وص 683 ج 1 مغنى .
(3) انظر ص 128 ج4 شرح المهذب ( يسجد للسهو للزيادة والنقص )(1/13)
10) السلام من الصلاة – تقدم أنه واجب عند الحنفيين ولا يتصور إيجاب السجود بتركه ، لأنه بعد القعود الأخير إذا لم يأت بمناف ، سلم ولا سجود عليه . لعدم تحقق سببه ، وإن أتى بمناف فلا سجود ، لفوات وقته . وإنما يتصور إيجاب السجود بتأخير السلام ( قال ) فى التجنيس : والسهو عن السلام يوجب السجود . والسهو عنه أن يطيل القعدة ويقع عنده أنه خرج من الصلاة ثم يعلم أنه لم يخرج فيسلم ويسجد ، لأنه أخر واجبا أو ركنا على الخلاف أهـ ( والواجب ) هو لفظ السلام، دون عليكم . ولو سلم عن يساره أولا لا سجود عليه لأنه ترك سنة ، وإذا سلم عن يمينه وسها عن التسليمة الثانية فما دام ولم يستدبر القبلة يأتى بها . وقيل يأتى بها مادام فى المسجد وإن استدبر .
( وقال ) الأئمة الثلاثة : السلام فرض فلا ينجبر بالسجود بل لابد من الإيتان به .
( 11و12) الجهر والإسرار – تقدم أنه يجب عند الحنفيين على الإمام الجهر فيما يجهر فيه بقدر ما يسمع المأمومين . ويجب الإسرار فمحله على كل مصل فإذا جهر الإمام سهوا فيما يسر فيه أو خافت فيما يجهر فيه لزمه سجود السهو . وكذا إذا جهر المنفرد فيما يسر فيه . أما إذا خافت فيما يجهر فيه فلا سجود عليه .
( وقالت ) المالكية والحنبلية : يسن الجهر فى محله للإمام والمنفرد .(1/14)
ويسن الإسرار فى محله لكل مصل فإذا جهر فى موضع السر أو خافت فى موضع الجهر سهوا ، يسن له السجود عند المالكية وعن أحمد روايتان فى مشروعيته السجود وعدمه ( قال ) ابن قدامة فى المغنى : الجهر والإخفات فى موضعهما من سنن الصلاة لا تبطل الصلاة بتركه عمدا . وإن تركه سهوا فهل يشرع له السجود من أجله ؟ فيه عن أحمد روايتان : إحداهما لا يشرع ( قال ) الحسن وعطاء وسالم ومجاهد والقاسم والشعبى والحكم : لا سهو عليه . وعن قتادة أن أنا جهز فى الظهر أو العصر فلم يسجد (1)(1) وهذا مذهب الأوزاعى والشافعى ، لأنه سنة " يعنى خفيفة " فلا يشرع السجود لتركه كرفع اليدين ( والثانية ) يشرع وهو مذهب مالك وأبى حنيفة "لقول" النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم : فإذا نسى أحدكم فليسجد سجدتين (2)ولأنه أخل بسنة قولية فشرع السجود لها كترك القنوت . فإذا قلنا بهذا فإن السجود مستحب غير واجب (قال) الأثرم:سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل سها فجهر فيما يخافت فيه فهل عليه سجدتا السهو ؟ قال : أما عليه فلا أقول عليه . ولكن إن شاء سجد(3).
( وقالت ) الشافعية : الجهر والإسرار فى محلهما سنة خفيفة فلا سجود بتركهما ( قال) النووى فى المجموع : مذهبنا أنه لا يسجد لترك الجهر والإسرار والتسبيح وسائر الهيئات أ هـ(4).
(
__________
(1) أخرجه الطبرانى فى الكبير عن قتادة بسند رجاله ثقات ومنهم سعيد بن بشير اختلط افاده الهيثمى . انظر ص 154 ج2 مجمع الزوائد ( مالا سجود فيه )
(2) هو بعض حديث اخرجه مسلم عن ابن مسعود وتقدم هنا رقم (2) ص 11
(3) انظر ص 687 ج1 مغنى ( الجهر والإخفات فى موضعهما ) وص 128 ج4 شرح المهذب
(4) انظر ص 687 ج1 مغنى ( الجهر والإخفات فى موضعهما ) وص 128 ج4 شرح المهذب(1/15)