الدين الخالص
أو
إرشاد الخلق إلى دين الحق
وهو آخر كتاب وضع أصله الشيخ الإمام محيي السنة ومميت البدعة
صاحب الفضيلة والإرشاد المرحوم السيد
محمود محمد خطاب السّبكى
المتوفى فى الرابع عشر من ربيع الاول سنة 1352هـ -7يوليو سنة 1933م
عمه الله تعالى بالرحمة والرضوان وأسكنه عالى الجنان
الجزء الأول
عنى بنتقيحه وتصحيحه وتنسيقه والتعليق عليه وضبط الآيات والأحاديث وترقيمها وبيان حالها وغريبها ومراجعها خليفة الشيخ الامام المرحوم السيد
أمين محمود خطاب
المتوفى فى السابع والعشرين من ذى القعدة 1387هـ - 26 فبراير 1968م رحمه الله رحمة واسعة وجعل قبره
روضة من رياض الجنة وحشره مع الصالحين
حقوق الطبع محفوظة له
الطبعة الرابعة 1406هـ/1986م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ، ومن اهتدى بهديه ( أما بعد ) فهذه قطرة من بحر ، للتعريف بالشيخ الإمام .
المؤلف – هو الفقيه المحدث المفسر الثقة الثبت ناصر السنة وقامع البدعة ، المرشد الإمام الكبير أبو محمد محمود بن محمد بن أحمد بن خطاب السبكى .
مولده – ولد الشيخ الإمام ببلدة سبك الأحد من قرى مركز أشمون بمحافظة المنوفية ، فى يوم الخميس التاسع عشر من شهر ذى القعدة عام أربع وسبعين ومائتين وألف من الهجرة النبوية ( 1274 هـ ) أول يوليو 1858 م .
نشأته – نشأ الشيخ الإمام بين أبوين طاهرين كريمين تعهداه بحسن التربية ، وغرس فيه والده منذ نعومة أظفاره روح السخاء والشجاعة والسؤدد وعلو الهمة وتلك مكارم أخلاق تحلى بها هذا الوالد العظيم ، وقد كان سيدا فى قومه ذا بسطة فى الرزق والجسم محببا بين عشيرته وعارفى فضله ونبله .(1/1)
ولقد أنجب والد المؤلف ستة ذكور كل اثنين من سيدة فضلى ، فكان يبعث واحدا للتعليم الأولى ثم تلقى العلم بالأزهر المعمور ، ويبقى الآخر يعمل معه فى مزرعته الفسيحة الخصبة ، ويعاونه على أعماله الأخرى . وكان من حظ المؤلف أن يبقى بجانب والده فى بحبوحة العز وعظيم الجاه ، ولكن غير خامل ولا كسل ، بل تراه فى حداثة سنة يكل إليه والده رعاية غنمه ليقظته النادرة وعزيمته الوثابة ، وحسن سياسته وكياسته فكان خير حارس لها ، وخير قائم على أمرها . ثم عهد إليه مراعاة خيل كان يملكها لما رآه شجاعا رابط الجأش " قوى القلب " فساس الجموح منها مرة بالشدة ، وآونه باللين فاستحال ذلولا منقادا .
وهل أحدثك عن آثار شجاعة المؤلف وهمته " وهو حدث(1) مراهق " حتى يتجلى لك أن عناية الله تعالى كانت تحوطه وترعاه من بدايته . كان لوالد الشيخ الإمام حديقة واسعة الأرجاء . مساحتها ستة أفدنه أو تزيد ، عدت عليها عوادى الدهر ، واستلبت ثمارها أيدى الناهبين فشوهت جمالها ، وأذهبت بهجتها ، فما كان من هذا الوليد الفتى وهو رابط الجأش شجاع ، له نفس أبيه تعاف الضيم ، ما خالطها خور(2)العزيمة ولا جبن النذلاء (3) كان لزاما عليه أن ينهض بتلك الحديقة يغرس أشجارها ويصلح أرضها ، ويروى أزهارها ويشذب غصونها (4) فإذا جن الليل واختلط ، تعهدها بالحراسة غير مستسلم إلى الكرى " النوم " الذى لم يغمض له جفنا .
__________
(1) حدث ) بفتحتين أى شاب .
(2) الخور ) بفتحتين ، الضعف . وفعله خور من باب طرب .
(3) النذلاء ) جمع نذيل أى خسيس .
(4) يشذب ) يقال : شذب الشجر من بابى نصر وضرب القى ما عليه من الاغصان حتى يبدو .(1/2)
شاء الله تعالى أن تصبح الحديقة روضة أريضة (1)، يانعة الثمر وارفة الظل(2) دانيه القطوف " تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها " وتجود بأطيب الثمرات .
وحذق المؤلف غير هذا . النجارة والحياكة وفن البناء ، وهو زراع ماهر صائد لا يخطئ الرماية ، يصيب الطائر السريع سابحا فى جو السماء فيخر صريعا وفى الليل البهيم يصيد طيورا معتمدا على سماع صوتها .
عبادة المؤلف
اتصل المؤلف بعد بلوغه الحلم بالشيخ العارف بربه أبى محمد أحمد بن محمد جبل السبكى الخلوتى ، فاشتغل بذكر الله كثيرا وجد فى الطاعة فكان يصوم النهار ويقوم من الليل مقبلا على مناجاة ربه علام الغيوب فى الأسحار . وربما صلى فى الليلة مائة ركعة مع كثرة ما لديه من أعمال النهار ، فلاحت عليه علائم السعادة فأذن له شيخه أن يرشد المريدين إلى الطريق القويم ، فدعا إلى طاعة الله تعالى ، وطاعة رسوله " صلوات الله وسلامة عليه وعلى آله " فألفى آذانا صاغية ، وقلوبا واعية جزاء إخلاصه ، وصفاء سريرته " .
المؤلف يكتب ويقرأ بعد أن كان أميا
وبينما هو جالس ذات يوم فى بستان أبيه إذ دخل عليه ابن عم له بيده لوح صغير به بعض حروف الهجاء ، فاشتاقت نفسه أن يتعلمها ، فاتصل بمعلم القرية فكتبها له فقلد الإمام كتابتها ، وما أعظم دهشة المعلم حينما رأى خط تلميذه اليافع(3) أحسن من خطه . وما هى إلا أيام تعد على الأصابع حتى صار المؤلف يجيد الكتابة والقراءة .
المؤلف يخطو إلى الجامعة الأزهرية
__________
(1) الاريضة ) الحسنة الزاهرة بكثرة المياه فيها .
(2) وارفة الظل ) أى كثيرته يقال : ورف الظل من باب ضرب اتسع وطال .
(3) أيفع الغلام : شب . ويفع الغلام بيفع مثله . واسم الفاعل من الثلاثى فقط وشذ من الرباعى .(1/3)
تاقت نفس المؤلف إلى الرحلة لتلقى العلم فى الجامع الأزهر المعمور . وبينما هو يناجى مولاه سحرا ، جد فى الدعاء طالبا أن يمن عليه المنعم الوهاب بمعرفة العلم ويسهل له طريقه . وما مضى على دعائه أسبوع إلا وقد أشيع بين الناس أن الحكومة التى كانت لا تجند أولاد العمد ، غيرت طريقتها . فأشار الشيخ خطاب "رحمه الله " أكبر أخوة المؤلف على أبيه ، أن يأخذه معه إلى الجامع الأزهر ، ليتمكن من الحصول على شهادة المعافاة من الخدمة العسكرية بانتسابه إلى الأزهر . وهو إذ ذاك الحرم المكين من دخله كان آمنا . وبعد أخذ ورد سافر المؤلف مع أخيه الشيخ خطاب العالم الجليل . وما كادت عينه تبصر السادة العلماء ، وبين أيديهم تلامذتهم حتى تملك هذا المنظر سويداء قلبه ، واستولى على مشاعره كلها وأخذت الآمال تملأ جوانحه(1) حتى فاضت على لسانه إذ فاتحه أخو الشيخ خطاب فى الذهاب إلى أستاذ كبير يشار إليه بالبنان ( المرحوم الشيخ حسن العدوى ) وكانت بينهما صداقة وثيقة ، ليسهل له شهادة المعافاة فيعود على جناح السرعة إلى والده مخففا عنه هذا العبء الثقيل من أعماله ، وهو يقوم بأوفر قسط منها . فقال المؤلف هيهات !! وكيف أترك هذه الضالة المنشودة ، وهل أضيع على نفسى مأربها وبغيتها ؟؟ لابد من الانضمام إلى هذه الأسرة الدينية لأكون فردا منها ولابد من الجلوس بين هذه الحلقات العلمية ردحا من الزمن(2)، مفارقا تلك الحلقات الريفية ، مترحما على الأيام الطويلة التى قضيتها بين ذويها وأترابها !!
__________
(1) الجوانح ) الاضلاع التى تحت الترائب ، وهى مما يلى الصدر كالضلوع مما يلى الظهر . والمفرد جانحه .
(2) يقال أقام ردحا من الدهر بفتحتين أى طويلا .(1/4)
دهش كل الدهش أخوه إذ يراه قد جاوز العقد الثانى من عمره ، فأصبح طلب العلم عليه غير هين أدرك المؤلف منه هذا فقال : قد تسبق العرجاء . والله يختص برحمته من يشاء . ثم أقبل المؤلف على مطلوبة أيما إقبال . فكنت تراه فى اليوم الواحد يحفظ قسطا من كتاب الله تعالى ، ومقدارا من المتون الأزهرية على الطريقة المألوفة إذ ذاك ، ويتردد على على حلقات العلم يتزود منها ما شاء الله . ومضى عليه نصف عام كامل فهل يدور بخلدك(1) أن هذا التلميذ الناشئ فى مكنته(2)أن يكون أستاذا لمبتدئين يتلقون عنه دروس العلم فى المساء ، ويشرف عليها بعض المعلمين المعجبين بذكاء ابن الريف المتقدم فى سنه !! ومازال مجدا مواصلا ليله بنهاره ، غير مقتصر على أن يملأ مخيلته بالمسائل العلمية يرددها لسانه ، بل وضع نصب عينيه العمل بما يتطلبه العلم ، موقنا أن الطالب لذلك هو الله تعالى ورسوله شاعرا أن وراءه أبناء الحلقات الريفية ، وهم الذين خيم الجهل عليهم فما يدرون حلال ولا حراما ، وما يفرقون بين ولى ولا نبى !!
وهؤلاء لابد أن تجمع الأيام بينه وبينهم فتنقلب هذه الحلقات الدينوية حلقات دينية يرى المجتمعون فيها من كان على شاكلتهم أضحى لهم معلما . ومعلم هذه الطبقات ترمقة عيونهم ، وتصغى إلى قوله آذانهم . فان عمل بما أرشدهم إليه التفوا حوله وقدسوه ، وان اعوج انفضوا من حوله ، واحترزوه .
__________
(1) الخلد ) بفتحتين البال يقال وقع ذلك بخلدى أى فى قلبى .
(2) المكنة ) بفتح فكسر القدرة .(1/5)
لبث المؤلف يتلقى عن أساتذته الأجلاء بالجامع الأزهر المنير ويلقى فى أوقات فراغه دروسا شتى على بعض الطلاب ، ويرشد أبناء الريف إذا ما رجع إليهم فكان أزهريا بين الأزهريين ، وواعظا مرشدا بين الريفيين وما رضى المؤلف أيام طلبه العمل أن يتناول جراية من أوقاف الأزهر ، ولا أن يدون اسمه بين دفاتره ، وما كان شغله الشاغل إلا التفانى فى العلم ، والتحللى بالعمل ، وهو ثمرة العلم !
المؤلف يطارد الراقصات وآلات الملاهى فى الأفراح
يتخذ فى بعض البلاد من لا خلاق لهم نسوة راقصات ، ورجالا بأيديهم آلات الملاهى من موسيقى وطبل ومزمار وغيرها ليالى الأفراح . وفى الجمع الحاشد الشاب والفتاة ، والشيخ والسيدة . وهؤلاء جميعا تثور شهواتهم وتفسد أخلاقهم ، وتتغير طباعهم بهذه المناظر المخزية التى يندى لها وجه الفضيلة . فقام المؤلف على قدم وساق يعظ ويرشد ويعلم هؤلاء الجاهلين ما يجب عليهم لخالقهم ورازقهم الغيور على دينه المنتقم الجبار . وبين لهم المفاسد والأضرار المترتبة على اتخاذ الراقصات واستعمال آلات الملاهى ، فهدى الله تعالى على يديه الكثير منهم ، فثابوا إلى رشدهم وأنابوا إلى ربهم وتابوا من ذنوبهم .
المؤلف ينهى عن منكرات المآتم(1/6)
فى كثير من بلدان القطر يأتى النساء منكرات فظيعة اذا ما زار الموت بيتا من البيوت ، فترى الصارخة واللاطمة وشاقة الثوب ومن لطخت وجهها بالطين أو صبغته بالنيلج (1) وتبصر نسوة متشحات بالسواد سائرات وراء الميت إلى المقبرة ، وعائدات إلى المنازل تقودهن النائحة ، وتظل تندب لهن وتنوح ، وتأتى ما حرم الله ورسوله ، وربما نطقت بما يخرجها عن الملة وهى المعلمة الملقنة من حولها تظل هى ومن معها ثلاثة أيام ، ثم يعدن سيرتهن الأولى كل خميس حتى ينتهى جناز الأربعين وتلك عادات مزرية ، وفعال مشينة ، ومنكرات عكف عليها هؤلاء النساء . والرجال القوامون عليهن ساكتون لاهون . وليس هناك الآمر الناهى قوى اليقين . فشمر المؤلف ساعد الجد ، وكشف ذراع الغيرة ونهى وزجر أهل كل بلدة يتنقل إليها وبين لهم ما يترتب على هذا الفعل الشينع من الضرر والفساد وغضب الواحد القهار ، فثاب إلى رشده كثير ممن كتب الله الهداية لهم ، وصلحت نفوسهم ، ونفوس نسائهم .
المؤلف ينحى باللائمة على أرباب الطرق
__________
(1) النيلج بكسر النون وفتح اللام ، دخان الشحم يعالج به الوشم ( معرب ) النؤور .(1/7)
منى القطر المصرى بالمتصوفة أرباب الطرق . وهم كثير تبلغ طرقهم ثلاثين أو تزيد . وقد كان المؤلف صوفيا خلوتيا قبل أن يخطو إلى الأزهر الميمون واختلط بكثيرين ممن ينتسبون إلى طرق أخرى فسمع الأذكار المحرفة ورأى الألعاب البهلوانية ، وشاهد من يتظاهر بأكل النار والحيات والزجاج ، وعاين الضرائب التى يجبيها مشايخ الطرق من مريديهم كأنها أموال أميرية وأبصر النذور والهدايا تقدم إليهم كأنها مسوقة إلى حرم الله تعالى ، أو مبذولة إلى عيال الله الفقراء والمحاويج ، فحمل عليهم الشيخ الإمام حملة شعواء ، وأبان للعامة أنهم على غير هدى وأن ما يقدم لهم من الضرائب حرام وسحت ، وكل لحم ودم نبتا من حرم فالنار أولى بهما ، وأن الطرق الصوفية ليست حرفا ولا مهنا بل هى بأذكارها المحرفة وضرائبها ونذورها ، شارة سوداء تشوه جمال الدين الإسلامي ، وتجعل الأجانب الغربيين أعداء الدين ينظرون إلينا نظرة السخرية والازدراء فى حين أن الدين منهم براء ، وأن سيدنا محمدا صلوات الله وسلامة عليه وعلى آله يمقت هؤلاء .
وكانت النتيجة أن تباعد كثير من هؤلاء المتصوفة ، فقلت أرزقهم وقطعت نذورهم ، فأخذوا يكيدون للمؤلف ، ويدبرون له المؤامرات من يومئذ ولا تنس أن المال شقيق الروح !!
المؤلف يحمل على قراء القرآن(1/8)
اعتاد بعض القراء تلاوة كتاب الله تعالى فى المقابر ، وفى الطرقات العامة ، وفى المنازل بحضرة النساء ، وأمام من لا يعرف للقرآن حرمة كشارب دخان ومهوش أثناء القراءة غير منصت ، كما اعتاد بعضهم التلاوة المحرفة غير المشروعة فنصح المؤلف للقراء أولا بالحسنى ثم أخذ يزجرهم ويبين لهم انهم آثمون وأن القرآن الكريم سيكون حجة عليهم لا لهم يوم الوقوف بين يدى ملك الملوك مذل الطغاة والعصاة . وبين للناس ما ينبغى أن يتحلى به القارئ والمستمع من الآداب والتدبر والاعتبار . فهدى الله على يديه كثيرا ممن أراد الله بهم الخير وألهمهم الرشد " لأن يهدى الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم "(1) أخرجه الشيخان عن أبى العباس سهل بن سعد الساعدى .
المؤلف يرى البدع فاشية فى الأزهر والمساجد الأخرى
__________
(1) حمر ) جمع أحمر ( والنعام ) الأنعام والمراد بها الأبل . وحمر النعم كانت أجود الأبل لذلك عناها الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم .(1/9)
رأى المؤلف البدع فاشيه فى الأزهر كعبة العلم ، وفى مساجد القطر وهو يعلم أن الناس تسير وراء العلماء شبرا بشبر ، وذراعا بذارع ، وأن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى حاجة إلى أدلة صحيحة صريحة تزيل الشبهات حتى يظهر الحق ناصعا ، وأنه لابد مع هذا من أخذ أقوال العلماء أرباب المذاهب عن تلك البدع والمنكرات التى شاعت وذاعت وحلت محل السنن والمأمورات حتى التبست على المتعلمين أنفسهم لسكوت فطاحل العلماء عنها فجاهد المؤلف جهاد الأبطال ، ورفع أسئلة بذلك إلى حضرات السادة العلماء ، فأجابوا بأن جميع بدع العبادات باطلة لا يجوز العمل بها كما هو مقتضى نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة، وأمضى بعضهم على هذه الفتاوى وختم آخرون . ولما تسلم المؤلف الفتاوى دونها فى كتاب أسماه (فتاوى أئمة المسلمين ) وقام بطبعه ونشره بين الناس ولا تزال صور هذه الفتاوى لمشايخ الأزهر وكبار علمائه محفوظة لمن يريد الاطلاع عليها فى أى وقت يشاء . ثم أخذ المؤلف ينشر كتبا ورسائل يبين فيها بالآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية ، ونصوص أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم ، أن الدين ما كان عليه رسول الله "صلوات الله وسلامة عليه وعلى آله " وأصحابه والأئمة المجتهدون رضوان الله تعالى عليهم ، وقد عرضت هذه المؤلفات على جهابذة العلماء فاطلعوا عليها وقرظوها تمام التقريظ ، واعترفوا أن ما فيها صواب وحكمة ، وأن من يخالف أحكامها يكون مبتدعا آثما ، وقد طبعت هذه الكتب والرسائل وتناولتها الأيدي ، فعمل بها الكثيرون بعد أن ظهر لهم أن البدع التى فى الأذان والصلاة والصيام والحج والأفراح والمآتم والأضرحة والملبس والمطعم وغيرها مضادة للدين ، أحدثها من لا خلاق لهم ، وتعودها الناس حتى اختلط الحابل بالنابل (1).
__________
(1) الحابل ) سدا الثوب ( والنابل ) لحمته .(1/10)
وماذا كان بعد هذا ؟ تبرم(1) الناس ممن سكت من السادة العلماء هذه السنين الطويلة على هذه البدع الطاغية حتى تركوها تفرخ كل يوم ، وتناولوا العلماء بالسنة حداد . عند ذلك شعر العلماء بما يحيط بهم من خطوب وأهوال فأخذوا يدبرون للمؤلف ما يدبرون ، ويشيعون بين الناس أنه يكفرهم ويكفر سواد الأمة ، وهذا منهم أمر طبيعى ألفته النفوس . وما أراد المؤلف للعلماء والعامة إلا خيرا دنيا وأخرى .
المؤلف يؤدى امتحان العالمية بتفوق
كان الأزهر يعنى أبناؤه العناية التامة بدراسة العلوم الشرعية والعربية ومن أراد أن ينال شهادة العالمية، وضع رسالة في مبادئ هذه العلوم يقدمها إلى شيخ الأزهر مرافقة لطلب الامتحان . والمؤلف لا طماعية عنده في نيل هذه الشهادة ، التي من ورائها الرواتب والمناصب ، إذ أن نفسه الطاهرة لها اتجاه غير هذا . ولكن أحد تلامذته أشار عليه أن يتقدم إلى الامتحان ، ونيته تعليم أبناء الأزهر ومن سواهم بعد نيله الشهادة كيما يساير الناس وهم يعتقدون أن العلم لا يؤخذ إلا ممن لديه هذه الشهادة ، فأنشرح صدره ووضع الرسالة وقدمها وبعد البحث اتضح أن اسمه غير مدرج في سلك الطلاب ، ولم تكن له مدة معلومة فلا يقبل طلبه ولكن الله القدير يسر له الصعاب !! وفي الأربعاء اليوم التاسع والعشرين من شهر رجب سنه ثلاث عشرة وثلاثمائة وألف (سنه 1313هـ) 15 يناير سنه 1896م أدى المؤلف الامتحان أمام اللجنة المكونة من حضرات أصحاب الفضيلة الأساتذة الأجلاء الشيخ حسونة النواوى شيخ الأزهر ومفتى الديار المصرية . والشيخ بكرى عاشور الصدفى والشيخ عمر الرافعى الحنفيين . والشيخ أحمد الرفاعى والسيد على الببلاوى المالكين . والشيخ محمد حسين الابريرى . والشيخ سليمان العبد الشافعيين . ولقد كان أعجاب اللجنة به عظيما وسرورها فائقا وجاوز المؤلف الميدان ظافرا منصورا !!
__________
(1) تبرم ) ضجر وتألم .(1/11)
وتصادف أن المؤلف قبل أن يؤدى الامتحان ألف كتابا أسماه ( الرسالة البديعة الرفعية . فى الرد على من طغى فخالف الشريعة ) وخطبته ملأى بإشارات التصوف فطلب منه الأستاذ الشيخ عمر الرافعى قبل أن يغادر اللجنة أن يروح أفئدتهم بطرفه من التصوف ، واستعان بالشيخ حسونة ليجاب الطلب . فقال المؤلف : " أن القلوب ممتلئة بحب الدنيا فلا تقبل شيئا من التصوف ، ولازال مصرا على هذا الامتناع بعد إلحاح الشيخ النواوى. فتألم جد الألم الشيخ الرافعى ظانا أن المؤلف شامخ بأنفه متكبر ، غير أن السيد الببلاوى أفهمه وأفهم الأعضاء أن الأستاذ محمودا صريح غير متكبر ، وهو رجل جاهد نفسه ، وتعلق بربه تبارك وتعالى !
المؤلف يشق للأمة طريقا فى الحياة عمليا
( وبعض الشيوخ يكيد له )
بعد نيله إجازة التدريس عنى جد العناية فى دروسه التى كان يلقيها فى الأزهر المعمور وغيره على مئات الطلاب ، ببيان البدع الفاشية والخرا فات المضلة ، محذرا الناس وبخاصة ذوى العلم من ارتكابها والسير فى طريقها المعوجة ، مرشدا إلى العمل بهدى الرسول الأمين . وصحبه الطيبين الطاهرين . وبهذا تبين لكثير من أهل العلم أن ما يرونه محيطا بهم من البدع والمنكرات فى المساجد وسواها ، لا يتفق ومبادئ الدين الحنيف ، وأنهم لابد مسئولون أمام الله تعالى بتفريطهم وسيرهم فى طرقاتها ، والعامة من ورائهم يعملون ويقدسون كما عملوا وقدسوا . ولما رأى فريق من شيوخ الأزهر أن دعوة المؤلف كل يوم تزداد . وأنهم لا يسلمون منه أخذوا يصطادون فى الماء العكر ، ويؤلبون عليه ويبيتون ما الله به عليم !!(1/12)
وأيم الله لقد عملوا كل ما فى وسعهم من تقديم شكاوى إلى أمير البلاد الخديو السابق فوضعت فى زوايا الإهمال ، وعادوا بخفى حنبن !! وياليتهم اكتفوا بهذا بل عمدوا إلى دار الحماية البريطانية يشكون . وماذا كانت شكايتهم ؟ أن السبكى قائد جيش عرمرم من التلاميذ والأتباع وهذا الجيش خطر على الأمن العام فى البلاد . ولكن بعد التحرى وبث العيون والأرصاد ، تبين أن الرجل برئ ، وأنه يدعو إلى الله تعالى والى العمل بدنيه ، والاعتصام بسنة حبيبة السيد الهادى الأمين " صلوات الله تعالى وسلامة عليه وعلى آله " وأن من حوله من هذه الجموع المحتشدة قوم أخيار يعملون لدينهم قبل دنياهم .
ولما فشل هذا الفريق فى مسعاه السياسي لجأ إلى شيخ الأزهر إذ ذاك المغفور له الإمام الوقور الشيخ سليم البشرى طالبا تشكيلي مجلس علمى يناظر المؤلف ويبحث معه فيما يدعيه من البدع الفاشية ، والسنن المتروكة ، فأرسل شيخ الأزهر إليه يدعوه فلبى مسرعا . وكانت المناظرة فى إدارة الأزهر فقارعهم بالحجة والدليل فهزمهم وولوا مدبرين !!
ولبث المؤلف يجاهد بقلمه كما جاهد بلسانه فتراه ينشر بين الناس المؤلفات القيمة تدعوهم إلى ما كان عليه النبى وأصحابه والسلف الصالح والأئمة المجتهدون ، والعلماء العاملون . وهذه المؤلفات ليست فى حاجة إلى إطراء وتقريظ . عرفها من اطلع عليها ، وسيعرفها من يطلع عليها بعد إن شاء الله تعالى . ويبلغ ما علمنا به منها ثمانية وعشرين مؤلفا . وفيما يلى أسماؤها :
1- أعذب المسالك المحمودية : فى التصوف والأحكام الفقهية . أربعة أجزاء .
2- حكمة البصير : على مجموع الأمير " فى فقه الإمام مالك " . أربعة أجزاء .
3- هداية الأمة المحمدية : فى الحكم المحمودية السنية . وهو ديوان خطب منبريه .
4- إصابة السهام : فى فؤاد من حاد عن سنة خير الأيام .
5- تحفة الأبصار والبصائر : فى بيان كيفية السير مع الجنازة إلى المقابر .(1/13)
6- الرسالة البديعة الرفيعة : فى الرد على من طغى فخالف الشريعة .
7- حاشية ديباجة الرسالة البديعة .
8- المقالة الشرعية للرآسة الإسلامية .
9- غاية التبيان : لما به ثبوت الصيام والإفطار فى شهر رمضان .
10- العهد الوثيق : لمن أراد سلوك أحسن طريق .
11- النصيحة النونية 0 فى الحث على العمل بالشريعة المحمدية .
12- تعجيل القضاء المبرم : لمحق من سعى سنة الرسول الأعظم .
13- فتاوى أئمة المسلمين 0 بقطع لسان المبتدعين .
14- سيوف إزالة الجهالة 0 عن طريق سنة صاحب الرسالة .
15- فصل القضية 0 فى المرافعات وصور التوثيقات والدعاوى الشرعية .
16- المقامات العلية 0 فى النشأة الفخيمة النبوية .
17- السم الفعال 0 لأي أمعاء فرق الضلال .
18- الصارم الرنان 0 من كلام سيد ولد عدنان .
19- العضب المنظوم 0 للذب عن سنة المعصوم .
20- الرياض القرآنية 0 فى الخطب المنبرية .
21- خلاصة الزاد 0 لمن أراد سلوك سبيل الرشاد .
22- رسالة البسملة 0
23- رسالة مبادئ العلوم 0
24- الحكم الإلهية بالدلائل القرآنية ( فى الخطب المنبرية ) .
25- اتحاف الكائنات 0 ببيان مذهب السلف والخلف فى المتشابهات .
26- المنهل العذب المورود 0 شرح سنن الإمام أبى داود ( طبع منه عشرة أجزاء ) انتهى إلى " باب الهدى " من كتاب الحج ، والأجزاء الأربعة من الحادى عشر إلى الرابع عشر تكملة المنهل العذب . ويظهر ما بعدها إن شاء الله تعالى .
27- الدين الخالص . أو إرشاد الخلق : إلى دين الحق . طبع منه ثمانية أجزاء تنتهى بانتهاء كتاب الصيام ( والتاسع ) إرشاد الناسك إلى أعمال المناسك وهو يجمع مناسك الحج باستفاضة وعلم غزير
28- محور الوصول . إلى حضرة الرسول .
أيها القارئ الكريم ....(1/14)
إن أمامك هذه الصحف المطهرة هى كتب قيمة تناديك من كل مكان فى ذهابك وإيابك ، وحلك وترحالك. فهل متعت بصرك بقراءتها؟وأنت ذو عقل سليم وتفكير صحيح . فلا يؤثر عليك سحر المؤلف. ولا طلاوة(1) أسلوبه ، بل يأخذ بلبك ساطع حجته ، وقوة منطقة ، ونور برهانه . فعليك بمطلعتها ، والزود منها . وما نريد إلا العمل بما فيها أن كنت منصفا رشيدا .
ولا تظن أيها القارئ أن المؤلف خارت(2) عزيمته ، وكلت همته إزاء هذه المناوشات . بل سار فى طريقه دائبا مجاهدا معتمدا على ربه ، مستعينا بحوله وقوته ومن استعان بربه رعاه ونصره نصرا مؤزرا . ولقد صدق الله تعالى إذ يقول : " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ، وان الله لمع المحسنين " نعم هداه الله تعالى إلى سبيله ، فلم يثنه شئ عن قيامه بالنصح والإرشاد ولم يتحول قيد(3) شعرة وما برح مثلا عاليا للثبات على المبدأ ونبراسا (4)وضاء للتضحية بنفسه وماله ووقته .
وهل يخطر بباك أن المؤلف وقفت همته عند التدريس والوعظ والتأليف ؟ معاذ الله !! وكيف تقف تلك الهمة الوثابة ؟ همة زعيم مصلح خطير ، نشأ متحركا وعاش متحركا . ومن كان هذا دأبه فهو مؤسس جماعة ، وواضع لها نظاما وقانونا يكفل بقاءها ودوامها .
المؤلف ينشئ الجمعية الشرعية
__________
(1) طلاوة ) بالضم . والفتح لغة أى بهجة .
(2) خارت ) أى ضعفت : يقال : خار الرجل يخور : ضعف ، فهو خوار . اهـ مصباح ومن ذلك تعلم أن خار أصله خور بفتح فكسر مثل خاف أصله فقلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها .
(3) قيد أى قدر ) ففى المصباح : وقيد رمح بالكسر وقاد رمح أى قدره .
(4) النبراس ) المصباح .(1/15)
أن جهادا فى سبيل الله ، وفى سبيل نصرة دينه ، واحياء العمل بسنة حبيبه المصطفى سيد المصلحين وإمام المتقين " صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم " – يلبث زهاء(1) عشرين عاما ( من سنة 1313 إلى سنة 1331 هـ ) لابد أن يحاط بسياج(2) متين ، وسور منيع يكفلان راحة من انصووا (3) تحت راية هذا الجهاد ولا شئ أبقى لوحدة الأفراد من تكوين جماعة . وفى الحديث " ويد الله على الجماعة " أخرجه الترمذى عن ابن عباس والبزار عن سمرة بن جندب .
عنى المؤلف فى الأربعاء غرة المحرم سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة وألف ( سنة 1331 هـ) 11 من ديسمبر سنة 1912م بتكوين جمعية أسماها ( الجمعية الشرعية : لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية ) ووضع لها قانونا محكما منظما . مواده ترشد إلى عملى الدنيا والآخرة وتدعو إلى الحسنيين . وقد سارت عليه الجمعية بإشراف مجلس إدارتها تحت رياسة المؤلف زهاء ربع قرن ( من سنة 1331 إلى سنة 1352 هـ ) وهى تتقدم باطراد كل عام بفضل رجالها الذين صفت نفوسهم ، واعتمدوا على بارئهم فى جميع شئونهم ، يفرون من الكسالى المتعطلين والخاملين فرار السليم من الأجرب ، وإذا فتشت بين صفوفهم فلا ترى متسولا ، ولا متسكعا بل ترى كل من انضم إلى هذه الجماعة . قد شق لنفسه طريقا فى الحياة يسلكه إلى عمل مشروع . شأن المسلمين فى صدر الإسلام ، ومن بعدهم أيام عزتهم وصولتهم .
آثار الجمعية
( الوعاظ , إنشاء المساجد . شركة المنسوجات الوطنية )
__________
(1) زهاء ) كغراب : أى قدر .
(2) السياج ) ككتاب : ما أحيط به على شئ .
(3) انضووا ) أى انضموا ودخلوا .(1/16)
فى مقدمة آثار هذه الجمعية الناهضة وعاظها الذين يبلغ عددهم أكثر من مائتى واعظ اختارتهم من بين أفرادها المثقفين المدربين للقيام بتعليم العامة أصول الدين وفروعه فى دروسهم ومحاضراتهم . لا يفترون عن غرس مبادئ الدين الصحيحة فى نفوس اخوتهم المؤمنين واللين رائدهم . والرفق حليفهم والموعظة الحسنة ديدنهم . والحكمة وسداد الرأى قبلتهم . سمحاء حنفاء ، لا مشددين ولا معسرين ولا متنطعين ولا رجعيين .
ولقد وضعت لهم الجمعية منشورا عاما يسيرون على ضوئه . لا يلى أحدهم هذا المنصب الإسلامي الرفيع إلا بعد أن يتعهد كتابيا بالسير على مقتضاه . والمنشور كله خير مما يدل على أن الجمعية جد حريصة على المحافظة على الوحدة الإسلامية ، بعيدة كل البعد عما يوجب تفريقا وانشقاقا وصدعا وانثلاما . واليكم هذا المنشور العام بنصه . وهو والجمعية الشرعية توءمان ولدا عام التكوين ( سنة 1331 هـ ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمد من وعظ نفسه قبل أن يعظ سواه ، والصلاة والسلام الدائمان الأتمان على كوكب الإرشاد ومنار الهداة ، وعلى آله وأصحابه الذين بذلوا نفوسهم وأموالهم ابتغاء مرضاة الله .
((1/17)
أما بعد ) فقد رأت الجمعية الشرعية فى حضرة الأستاذ الفاضل ................ من المكانة الأخلاقية والعلمية ما يؤهله لأن يجوب فدافد (1) الأرض شرقا وغربا وجنوبا وشمالا يعظ المسلمين ، ويرشد الحائرين ، ويذب عن دين الله شبه الضالين والمارقين . لذلك أسندت إليه هذا المنصب السامى مع علمها بخطورته ووعورة مسالكه . والجمعية ترجو منك أيها الأستاذ أن تتقى الله فيها وفى نفسك وفى المسلمين . فانك قد أصبحت أمينا على دين الله ، مالكا زمام من ترشدهم تقودهم إلى حيث تريد . فجنتهم ونارهم بين لحييك(2). فيجب إذا أن تجعل مركزك فوق مركز ذلك الطبيب الحاذق الذى يعطى من الأدوية لكل مريض ما يناسبه بمقادير خاصة لا ينقص ولا يزيد عليها شيئا . يعرف أن التباب فى طرفى الإفراط والتفريط . وان الجمعية تبيح لك أن تغدو وتروح فى تعليمك ، واضعا نصب عينيك إفادة المسلمين ، متدليا فى ذلك من أهم إلى مهم فتبتدئ بغرس العقائد فى نفوس من تباشر تعليمهم ، مراعيا مذهب أهل السنة والجماعة ، بعيدا عن المشاغبات الكلامية والبراهين المنطقية لصعوبتها على أفكار العامة من الناس . وتردف ذلك بتعليم ما لابد منه أحكام الصلاة والصيام والزكاة والحج ، وتتبع هذا نهيهم عما هو فاش فى البلاد من المنكرات كترك أركان الإسلام وكالربا والزنا وشرب الخمر والقتل وتعاطى كل مسكر من الأنبذة والحشيش والمنازيل . وتنهاهم أيضا عن السرقة والغش والإيمان الفاجرة والنميمة والغيبة وسم البهائم وشق بطونها وحرق المزروعات وتقليعها ، والحسد والحقد والكبر والعجب والرياء والمراء .
__________
(1) جمع فدفد بوزن مكتب وهو الفلاة والمكان الصلب الغليظ والارض المستوية .
(2) اللحى ) عظم الحنك وهو الذى عليه الاسنان . وهو من الانسان حيث ينبت الشعر . وهو أعلى وأسفل . ويجمع على الح ولحى مثل فلس وأفلس وفلوس .(1/18)
وتنهاهم أيضا عن لعب الكاب المعروف والسيجة والطاولة والكتشينة وغير ذلك من كل فعلى باطنى أو ظاهرى قبيح . ثم تعرج بهم إلى رياض الآداب النبوية والأخلاق المحمدية كالحلم والصبر والتوضع والكرم والرغبة عن الدنيا وفى الآخرة وحب الخير للمسلمين والسعى فيما يزيل الأحقاد من نفوسهم ، والتزاور فى الله، وإفشاء السلام ، والتعاون على البر والتقوى ، وتعلمهم لباس النبى صلى الله وعلى آله وسلم وآكله وشر به وغير ذلك من كل خلق نبوى يتعلق بعادة أو عبادة تمنحهم منه ما يطيقون . ثم تنحدر إلى ما يخالف ذلك من البدع فتنبه عليه حاثا على اجتنابهم إياها ، اقتداء بنبيهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحبا فى أدب المصطفي صلى الله عليه وسلم ، وبغضا لما سواه بعبارة يفهمها العام والخاص يصحبها التأنى ، فان فى الناس الغبى والذكى .
كل ذلك وأنت رحب الصدر ، حلو اللسان ، طلق الوجه ، أزهد الناس وأبعدهم عن الفحش فى القول ، تسع السفيه والجاهل والمتعنت جاعلا محورك الذى يدور حوله الكلام ، قوله تعالى على لسان سيدنا لقمان رضى الله عنه إذ يقول لابنه { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } وقوله تعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } .(1/19)
وإياك ثم إياك أن يخطر ببالك أن تتكلم فى موضوع سياسى ، فان ذلك ليس من شأنك . وحسبنا فى ذلك حكومتنا السنية ( حفظها الله وقواها ) . ومعلوم أن الدين دين الله ، والهداية لدينه بيده لا يملكها سواه . وليس علينا سوى أن نعرف ، والحمل على الأمور والتعب لتنفيذها خارج عن الواجب علينا ، فلا تتعرض له فمن سمع وعمل فالخير أراد لنفسه . ومن أعرض عنا وتركنا وما نأمر به ، فالخير أردنا ، وما علينا إلا البلاغ اتباعا لسيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ووقوفنا على ما حده الله له إذ يقول : { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاغُ } .
إنشاء المساجد(1/20)
ومن آثار الجمعية التى تغتبط عليها ، إنشاؤها المساجد العديدة فى مدن الجمهورية وقراها . وفى مقدمتها المسجد الكبير بالقاهرة ( فى عطفة الشيخ السبكى بشارع الخيمية على مقربة من باب زويلة " بوابة المتولى " وجامع الوزير طلائع بن رزيك الأثرى ) وكان الفراغ من بنائه وتنسيقه سنة 1342هـ . هذا المسجد الكبير أنشأته الجمعية فى حياة المؤلف " أمام داره الفسيحة التى يؤمها القاصى والدانى " على قطعة أرض تبلغ مساحتها ثلاثة أمتار ومائتين ( 203 من الأمتار المربعة ) وفيه تصلى الجمعة ، والصلوات الخمس كصلاة الرسول وخلفائه ومن استقوا من شرعة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وكم كنت تسر وينشرح صدرك حينما ترى الأستاذ المؤلف المرحوم بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع متربعا على كرسيه فى تلك الرقعة البسيطة من الأرض يحتف به حزب الله وجنود الله ، كأنما على رءوسهم الطير . والشيخ ينثر بينهم الدرر والجواهر من عظاته البالغة ، ونصائحه الحكيمة بأسلوب واضح جلى تصل آثاره إلى النفوس قبل الرءوس ، فيهذبها ويحييها . وفى المجلس الحاشد العالم وغيره ، فيأخذ كل بغيته وفوق ما يتمنى . وما اقتصر المؤلف ( تغمده الله برحماته ) على موعظة هذا اليوم الأسبوعي . بل كان يلقى درسين فى هذا المسجد بعينه ليلة الجمعة وليلة السبت من كل أسبوع فى الحديث النبوى . فدرس سنن الإمام النسائى كلها . وجزءا غير قليل من سنن الإمام أبى داود . وما عاقه عن إتمامه إلا المنية أسبغ الله عليه الرحمة وعمه بالإحسان والرضوان .
وانك لتعجب العجب كله وأنت متعلم مثقف حينما ترى الأمى الساذج يجلس بجوارك جنبا إلى جنب يتفهم أحكام الدين بسهولة من غير تكلف ومن غير ما حرج ! .
ألا أن هذا المسجد المؤسس على تقوى من الله ورضوان ، ينادى المسلمين أن يفدو إليه ليروا صورة مكبرة لعهد أول الإسلام غير مشوبة بما يبرأ منه الإسلام !(1/21)
والله تعالى يعلم أن الجمعية ما أرادت بإنشاء مساجدها المتعددة فى القاهرة وسواها من بلدان القطر ضرارا ولا تفريقا بين المؤمنين ، بل ما قصدت إلا إرشاد المسلم إلى عبادة نقية نائية عن الجلبة والضوضاء والتهويش ، عبادة ملؤها الخشوع والخضوع لله الملك الدوس ، الذى يعلم خائنه الأعين وما تخفى الصدور .
هذا ، وان مساجدها مفتحة الأبواب من مطلع الفجر إلى ساعة متأخرة من الليل ، يتردد إليها المسلمون على اختلاف طبقاتهم فيجدون إخوانا لهم رحماء فرحين مستبشرين !
المنسوجات الشرعية
ومن آثار الجمعية الميمونة تلك المنسوجات الشرعية الوطنية . التى كانت تصنع بمصنع الجمعية ، وتباع فى مركزها الرئيسى وفى الفروع التابعة لها . وهذه المنسوجات حسنة من حسنات المرحوم الإمام ، ورمز منه للنهوض بالمسلم الوطنى فى مصاف أبناء الغرب ، من يأخذون نبات التربة المصرية من قطن وكتان وغيرهما بأبخس ثمن ويردونه إلينا منسوجا ، الدرهم منه بعشرات الدنانير ! .
ومنسوجات الجمعية الشرعية من قطنك وكتانك أيها المسلم الوطنى . فلا ترى فيها حريرا فى حين أنها أجود من الثياب الحريرية ، ولا تقل عنها نعومة . وهى تنأى بلابسها عن الحرام والمكروه وما فيه ريبة واشتباه فالبس منها يا ذا العقل الراجح ، وترحم على الإمام المؤلف الراحل . ومن خرج فى المدرسة الشرعية المحمدية مسلمين عمليين . عبادتهم ومساجدهم وملابسهم يضارع ما كان عليه سلف الأمة "رضى الله عنهم ورضوا عنه". ظلت هذه المنسوجات سنوات طوالا ، وما استغنت عنها الجمعية وعن مصنعها إلا بمزاحمة المنسوجات الأخرى الوطنية الكثيرة .
المؤلف يودع الأزهر(1/22)
لبث الشيخ يدرس بالأزهر بعد نيله العالمية سبعا وثلاثين سنة من ( 1313 إلى 1350 هـ ) وما ترك الأزهر زهادة فيه ، بل حال بينه وبين مواصلة جهاده فيه ، إحالة مجلس الأزهر الأعلى له على التعاقد بجلسة يوم الخميس الخامس من جمادى الأولى سنة 1350هـ الموافق 17 من سبتمبر سنة 1931م وإنها لجلسة صارخة روعت فداحتها العالم الإسلامي أجمع ، إذ بلغ فيها عدد المحالين إلى المعاش والمفصولين من الأزهر والمعاهد الدينية سبعين عالما . كثير منهم فى مقتبل العمر ، ونضرة الشباب ، وبذا نكل المجلس بسبعين أسرة ، وسامها سوء العذاب !! وكان ذلك فى عهد حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدى الظواهرى شيخ الأزهر ورئيس مجلسه الأعلى . وفى عهد رئيس الوزراء حضرة صاحب الدولة إسماعيل صدقى باشا .
ولا تحدثك نفسك أن الشيخ مال إلى الراحة بعد نصب وطول سهاد(1) كما مال غيره من المعمرين . بل ما زال عاكفا على العمل ، فى داره بين مسجده الزاهر ، ومكتبته العامرة ، ومؤلفاته القيمة ، وجمعيته الشرعية الميمونة ، وتلامذته العديدين الوافدين إليه يغترفون من منهله العذاب ، ويحيطون به إحاطة الهالة بالقمر فى مجلسه الخاص بعد عصر كل يوم ، ويعلوهم جميعا حياء وأدب جم من هيبة الشيخ وجلاله . وما يمنعهم حياؤهم السؤال عن مهمة دينية أو دنيوية . ومن جلس منهم لا يفك حبوته إلا مؤذن المغرب ، يدعوه إلى الوقوف بين يدى الحى القيوم !!
المؤلف يودع الحياة
وما طالت حياة الشيخ بعد وداعه الأزهر ، إنها لمدة قصيرة : سنتان إلا نحو شهرين . فى نهايتها يزوره الموت الزوام . وما اشتكى ألما ، وما انقطع عن عمله الموصول ، ولا عن مجلسه الخاص إلا بعد عصر الخميس الثالث عشر من شهر ربيع الأول عام اثنين وخمسين وثلاثمائة وألف (13من ربيع الأول سنة 135هـ)
__________
(1) السهاد ) بضم السين الارق . وبابه طرب .(1/23)
وفى صبيحة يوم الجمعة الرابع عشر منه ، أطل على بعض تلامذته من نافذة حجرته ، فناوله آخر ملزمة من الجزء السادس من شرحه لسنن الإمام أبى داود ( المنهل العذب المورود ) كان يصححها لترسل إلى مطبعة الاستقامة . ولما حان وقت صلاة الجمعة ، أخذ القوم يلتفتون يمنه ويسرة ، علهم يحظون بطلوع الشيخ عليهم متقدما إلى الصف الأول ، يستمع إلى الخطيب ،ويؤدى صلاة الجمعة ويعظهم بعدها كعادته . فما حظوا ، وارتد البصر منهم وهو كليل !! وما حسبوا أن فقدانهم الشيخ هذه الساعات ، يكون فقدانا لا رجعة بعده ، ولا لقاء إلا يوم اللقاء !!
ساعة الوداع :(1/24)
وفى منتصف الساعة الثانية بعد الظهر ( الجمعة 14 من ربيع الأول سنة 1352 هـ ) ، ( 7 من يوليه سنة 1933) لفظ الشيخ آخر نفس من أنفاسه الطاهرة ، وجاد بروحه العظيمة الوثابة المتفانية فى نصره الدين والسنة المطهرة ، ولا ينبغى شهرة ولا أثرة(1) وكان النبأ مروعا ، وكانت الفاجعة أليمة ، والكارثة عظمى ، والخسارة غير هينة وليست على مسلمى مصر فحسب ، بل على مسلمى الشعوب التى عرفت مكانته ، وانطوت قلوبهم على محبته ، وعلى العمل بما كان يدعو إليه من خير العمل . وكم كانت دهشة الناس وحيرتهم بهذا النبأ المزعج إذ فقدوا أمامهم ومحط آمالهم ، من كانوا إليه يهرعون . وبدعوته إلى العمل بالدين الحق يسارعون . وكم كانت آلامهم التى تفتت الأكباد ، وتصدع الأفئدة ، وتحز حنايا(2) الضلوع ، حينما وثقوا أن الشيخ ينتزع من بينهم انتزاعا إلى مقره الأخير ، إلى روضته الندية إلى جدثه مهبط الرحمة والرضوان ، بعد أن صلى عليه أكبر أنجاله الكرام الأستاذ السيد أمين ، يؤم الجم الغفير ممن وصل إليه النبأ من سكان القاهرة ، وهم قل من كثر من تلامذته ومحبيه المنتشرين فى القاهرة وضواحيها وبلدان القطر وغيره من الأقطار العربية .
تشييع الإمام الراحل إلى قبره :
صلى عليه هذا الجم الغفير فى ساحة داره الواسعة بجوار مسجده المعمور . ثم أخذ الناس يتهافتون على حمل سريره كلما مر عليهم وكنت ترى الشوارع مكتظة تموج بهم موجا . حتى أن السرير كانت لا تبصره العيون من ازدحام الجموع المشيعة ، وكلهم تبدو على وجوههم علائم الأسى والحزن !!
__________
(1) الأثرة ) بفتحتين ، اسهم من استأثر بالشئ استبد به .
(2) تحز ) أى تقطع الضلوع الشبيهة بالحنايا جمع حنية كفنية وهى القوس .(1/25)
واخترقت الجنازة فى سيرها شوارع الخيمية ، والغورية ، والسكة الجديدة ، والمشهد الحسينى ، والدراسة ، وقرافة المجاورين ، وخوند طولباى والسلطان أحمد ثم شارع قرافة باب الوزير . وفيه مدفن المرحوم إبراهيم باشا حليم . ثم انعطف السائرون يمنة مخترقين شارع حسن بك حسنى . وفيه على يسارهم المقبرة الشرعية ، للعاملين بالكتاب والسنة المحمدية والمقبرة فى منطقة قرافة المجاورين حسب التخطيط الجغرافى ، رسم مصلحة المساحة المصرية . وفيها لحد شرعى بنى فى عهد الإمام الراحل ، واختاره مسكنا له فى أخرته أسلمه مشيعوه إليه وعادوا بعد المغرب ما بين ذاهل وواجم !!
طريقان آخران للمقبرة الشرعية(1/26)
الطريق الأول يبتدئ سالكه السير من المنشية مارا بسكة المحجر على مسجد المحمودية(1) وعلى يمينه أسوار قلعة محمد على باشا(2). ثم يتجه إلى الشمال مخترقا شارع المحجر حتى يصل إلى حارة باب التربة . وهى عن يمينه ، وبها سبيل ومسجد طراباى عن يساره . ثم ينفذ من باب الوزير الأثرى إلى شارع قرافه باب الوزير متجها إلى الشمال الشرقى ، فيلتقى عن يمينه بثلاثة قبور داخل مستطيل من أعواد حديدية لا سقف له . هذه القبور الثلاثة أنشأتها مصلحة التنظيم المصرية لحفظ رفات بعض الأولياء الذين عثرت عليهم ، وهى تهدم بعض الشوارع لتجديدها وتوسيعها ( أما القبر الأول ) ففيه ( أ ) ولى الله الشيخ محمد العراقى المنقولة رفاته(3) يوم الأربعاء 30 من ربيع الآخر سنة 1346 هـ . ومعه ولى الله الشيخ محمد أبو قوطة ، وجثة أخرى نقلا يوم الأحد 18 من رمضان سنة 1351 هـ ( ب ) سيدى محمد الخواص نقلت رفاته يوم الثلاثاء 11 من رمضان سنة 1351 هـ وكان أولا بحارة الخواص . بشارع الانبانى تبع قسم باب الشعرية ( والقبر الثانى ) به ولى الله الشيخ محمد الشافعى الرفاعى الشهير بالأربعين . نقلت رفاته يوم الأربعاء 2 من شعبان سنة 1343 هـ . وكان أولا بجنبينة قاميش بشارع الخليج المصرى تبع قسم السيدة زينب ( والقبر الثالث ) به السيدة غنيا بنت نور الدين أبى بكر المتوفاة أول ذى الحجة سنة 664 هـ . نقلت رفاتها من شارع عاكف بالعباسية يوم الاثنين 29 من رجب سنة 1343 هـ .
__________
(1) نسبة الى الامير محمود كان حاكما على مصر سنة 1556 م وأنشاء مسجده عام 975 هـ وقتل بمقذوف نارى يوم الاربعاء آخر جمادى الاول سنة 975هـ ودفن بتربته فى جامعة المطل على ميدان الرملية .
(2) أنشأ مسجده بالقلعة سنة 1246 هـ .
(3) المراد بالرفات الجثة .(1/27)
والمسافة من باب الوزير إلى مقبرة مصلحة التنظيم تقدر بكيلو متر تقريبا وتقطع فى عشر دقائق . وأمام هذه المقبرة قناطرة باب الوزير تعلوها سكة حديدية قديمة معطلة الآن . ينفذ السائر من القناطر متجها إلى الشمال مسافة تسعين مترا فى شارع قرافة باب الوزير نفسه . ثم ينعطف عن يمينه فيجد شارع حسن بك حسنى فيسلكه متجها إلى الجنوب الشرقى ، قاطعا مسافة قدرها 245 مترا فى نهايتها المقبرة الشرعية المذكورة . وعلى مسافة ثمانين مترا من باب المقبرة يرى الناظر سكة حديد الحكومة المصرية ( خط المحاجر ) كما يرى جامع التنكزية الأثرى فى الجنوب الشرقى ، ويبعد عن السكة الحديدية بمقدار سبعين مترا ( انظر المصور الجغرافى شكل ( 1 ) المبتدأ من منتصف شارع قرافة باب الوزير ) .
الطريق الثانى :
يبدأ سالكه من باب زويلة (1) الأثرى ( الشهير بباب المتولى(2)) مارا بشارع الدرب الأحمر ، وعن يمينه نقطة بوليس الدرب الأحمر ، وأمامه مسجد أبى حريبة ثم ينعطف ذات اليمين فيلتقى بشارع التبانة . وبه مسجد الماردانى . وعلى مسافة خمسين ومائة متر يجد زاوية عارف باشا . وهى فى ملتقى شارعى سوق السلاح وباب الوزير . ثم يسلك شارع باب الوزير متجها إلى الجنوب حتى يصل إلى حارة باب التربة وبها سبيل ومسجد طراباى ، كما تقدم فى وصف الطريق الأول .
وصف المقبرة الشرعية
قبل أن أصف لك المقبرة الشرعية ، أبين لك الغرض الذى من أجله أنشأها المرحوم الشيخ الإمام " تغمده الله برحماته " .
__________
(1) انشأه بدر الجمالى وزير المنتصر بالله الفاطمى سنة 484 هـ . وأنشأ قبله بابى النصر والفتوح سنة 480 هـ . ومات الوزير بدر والخليفة بالله عام 487هـ .
(2) للعامة خرافات كثيرة بباب المتولى اذ بعتقدون ان وليا اسمه المتولى يسكنه وهو غير صحيح .(1/28)
أن مقابر المسلمين ليست كلها على النظام الدينى المشروع ، فان منها أضرحة مرتفعة مكسوة تعلوها القباب أعدوها للأولياء والصالحين ، وهم منها براء ( ومنها ) مدافن الأثرياء والوجهاء و العظماء يبذلون فى تشييدها القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ( ومنها ) مقابر الطبقات الأخرى وهى قليلة النفقات ، غير أن ارتفاعها عن سطح الأرض اكثر من ذراع في حين أن القبر الشرعي لا يزيد ارتفاعه عن ذراع كما بينته كتب السنة المطهرة ، وقد بين السلف الصالح والقادة من العلماء والأئمة كيف تكون القبور الشرعية . ولقد رأى المرحوم الشيخ الإمام قبور زمانه مخالفة قبور السلف، فملأ الحزن قلبه، ورأى لزاما عليه أن يبين للناس عمليا صورة القبور الشرعية التى تضم أجساد المسلمين بعد مفارقتهم قصور الدنيا وما فيها من زخارف حتى يمكنهم أن يجعلوها لهم مثالا يحتذونه ، فأمر رحمة الله عليه فى سنة 1339 هـ باستصدار إذن من محافظة مصر باتخاذ قطعة أرض مربعة الشكل طول ضلعها أربعة وعشرون مترا فى منطقة قرافة المجاورين ، لإقامة مقابر شرعية عليها ، وما جاءت سنة 1346 هـ إلا وقد بنى بها ثمانية وثلاثون قبرا شرعيا تكون منها ثلاثة صفوف وكانت هذه المقبرة هى الأولى ، ولما امتلأت ، سعى خليفة الإمام ( أمد الله فى أجله ) إلى تشييد المقبرتين الثانية والثالثة ، وهما فى الشارع الأخير يسلكه المار عن يمينه إلى الجنوب ( الجهة القبلية ) وبجوارهما مقبرة آل طعيمة ، ومقبرة النوبيين .
الوصف
للمقبرة الشرعية باب حديدى مرتفع فى الجنوب والمقبرة مكونة من ثلاثة صفوف : الصف الأول تجاه الباب به ستة عشر قبرا : ثمانية قبور متجهة إلى الشمال وثمانية تتجه إلى الجنوب ، والصف الثانى به أربعة عشر ، سبعة اتجاهها شمالي ، وسبعة اتجاهها جنوبي . والصف الثالث به ثمانية فقط تمتد إلى الجنوب مرقومة من الرقم ( 1 ) إلى الرقم ( 8 ) .
أين قبر الإمام ؟(1/29)
يمر الزائر على القبور بالصف الثالث من ( 1 ) إلى ( 6 ) فإذا ما جاوز السادس وجد قبر المرحوم الشيخ الإمام مرقوما بالرقم ( 7 ) وهو المشار إليه بعلامة (*) بالشكل رقم (2) المنظور الطبعى من عمل تلميذ محب مخلص من تلامذته ، وهو الرسام الماهر السيد الأستاذ أحمد يوسف الموظف بمصلحة الآثار ، وقد رقى إلى وكيل مصلحة الآثار ، وأسندت إليه أعمال فنية هامة فى منطقة أهرام الجيزة " أجزل الله تعالى له الثواب " .
والقبر الثامن : لزوج الإمام وهى أول من دفن بهذه المقبرة ( رحمة الله عليها ) وقد لحقت بها الزوجة الثانية الصالحة للمرحوم الإمام ، وعاشت بعده تسع سنوات ثم لحقت بهما السيدة التقية زوج خليفة الإمام ، وشريكته فى الحياة بعد معاشرة طال مداها . وكان ذلك فى صفر سنة 1375هـ - سبتمبر 1955م ( طيب الله ثراهن ونور لهن روضتهن ) . وان ضريح الإمام الراحل تعلوه الهيبة ، والسكينة ، والرحمة ، ونور الجهاد لا نور القباب . وان كان فى رأى العين غير مرفوع فهو عند الله مرفوع . وان الناظر إليه تستولى على مشاعره الخشية ، يحوطها الاتعاظ ، ويبدو له ضريح متواضع لا يزيد عن مترين فى متر قد ضم جثمان إمام ذائع الصيت ، لو وضع فيه جهاده مجسما وإرشاده كذلك ما وسعه !!
شيوخ الأزهر الذين عاصرهم الشيخ الإمام طالبا ومدرسا
أدرك من شيوخ الأزهر عشرة :
1- المرحوم الشيخ محمد المهدى العباسى الحنفى ، الذى استقال من مشيخة الأزهر سنة 1304 هـ .
2- ثم المرحوم الشيخ شمس الدين محمد الانبابى الشافعى ، الذى استقال لمرضه يوم 25 من ذى الحجة سنة 1312 هـ .(1/30)
3- والمرحوم الشيخ حسونة بن عبد الله النواوى(1)الحنفى 0 أسندت إليه الرياسة فى المحرم سنة 1313 هـ - وفى رجب من هذه السنة ، نال المؤلف شهادة العالمية بعد أن أدى الامتحان إمام أعضاء اللجنة السالفة أسماؤهم – وبقى الشيخ النواوى رئيسا للأزهر إلى أن فصل فى 25 من المحرم سنة 1317 هـ .
4- والمرحوم الشيخ عبد الرحمن القطب النواوى الحنفى . وتوفى فجأة بعد شهر واحد .
5- ثم تولى شيخ الإسلام المرحوم الشيخ سليم البشرى(2) المالكى يوم الخميس 28 من صفر من هذه السنة . واستقال فى ذى الحجة سنة 1320 هـ .
6- فخلفه المرحوم السيد على بن محمد الببلاوى(3) المالكى ، واستقال فى المحرم سنة 1323 هـ .
7- فخلفه المرحوم الشيخ عبد الرحمن الشربينى الشافعى ، واستقال فى ذى الحجة سنة 1324 هـ . ثم عاد للرياسة المرحوم الشيخ حسونة النواوى واستقال سنة 1327 ( وتوفى يوم 24 من شوال سنة 1343هـ ) . ثم عاد للرياسة المرحوم الشيخ سليم البشرى ولبث إلى أن توفى ظهر يوم الجمعة 4 من ذى الحجة سنة 1335 هـ .
8- فأسندت الرياسة إلى الشيخ محمد أبى الفضل الوراقى الجينزاوى المالكى يوم 14 من ذى الحجة من هذه السنة . وتوفى ( رحمة الله عليه ) فى المحرم سنة 1346 هـ .
9- وفى غرة ذى الحجة من هذه السنة أسندت الشيخ محمد مصطفى المراغى(4) الحنفى وقد استقال يوم الثلاثاء 6 من جمادى الأولى سنة 1348هـ .
__________
(1) نسبة الى نوامى مركز ديروط محافظة اسيوط .
(2) نسبة الى محلة بشر مركز شبراخيت محافظة البحيرة .
(3) نسبة الى ببلاو مركز ديروط .
(4) نسبة الى الراغة مركز من محافظة سوهاج .(1/31)
10- فأسندت للشيخ محمد الأحمدى الظواهرى بعد ذلك بيومين واستقال يوم الجمعة 23 من المحرم سنة 1354هـ . ( 26 من أبريل سنة 1935م ) وتوفي بمنزله في الزيتون مساء السبت 20 من جمادي الأولى 1363هـ .( 13 مايو 1944م ) ودفن فى مقبرته بقرافه المجاورين على مقربة من قبر المرحوم شمس الدين الانبابى . وفى عهده أحيل الشيخ الإمام إلى المعاش ، ولحق بجوار ربه العلى الأعلى .
الشيوخ الذين تلقى عنهم المؤلف
هم كثيرون . ومن بينهم حضرات أصحاب الفضيلة شمس الدين الأنبابى الشافعى والشيخ سليم البشرى المالكى ، والشيخ أحمد الرفاعى المالكى . والشيخ إبراهيم الظواهرى الشافعى – من عين آخر حياته شيخا للجامع الأحمدى قبل النظام الحديث سنة 1312هـ . وتوفى سنة 1314 هـ - 1906 م .
أنجال الشيخ الإمام :(1/32)
أعقب رحمه الله خمسة أشبال حاطهم برعايته ، وأدبهم فأحسن تأديبهم ، وغذاهم بروحه الوثابة المجدة الجريئة غير الهيابة . فكانوا فى مقدمة النابغين الذين يشار إليهم بالبنان تلامذة ومدرسين ( أولهم ) المرحوم الشيخ محمد . التحق بمدرسة دار العلوم بعد إتمام دراسته بالأزهر . وتخرج فيها سنة 1326 هـ الموافقة ( 1908م ) وعين مدرسا بمدارس الحكومة ثم بالمدرسة الثانوية بطنطا التابعة حينئذ لمجلس المديرية . ثم بالمدرسة الثانوية بشبين الكوم التابعة وقتئذ لجمعية المساعى المشكورة ثم اشتغل محاميا شرعيا . فكان مثال الجد والنشاط والصدق والنزاهة والدفاع عن الحق حتى يظهر ويزهق الباطل . ثم توفى ( رحمة الله عليه ) فى حياة والده فى السادس عشر من شعبان سنة 1335 هـ الموافق 4 يونيو سنة ( 1917 م ) . وقد كان معروفا بين أقرانه بسيبويه زمانه ( وثانيهم ) الأستاذ الشيخ أمين . ولد بسبك الأحد سنة 1304 هـ وفى شوال سنة 1314 هـ التحق بالأزهر . وبعد إتمام الدراسة به تخرج فيه يوم السبت التاسع عشر من شهر رجب سنة 1329 هـ - 15 من يوليه سنة 1911 م . وفى شوال سنة 1331 هـ - سبتمبر سنة 1913 م أدى امتحانا فى العلوم الرياضية ، فجازه بتفوق فعين مدرسا للجغرافية والتاريخ بالقسم النظامى بالأزهر . ثم أسند إليه دراسة العلوم الشرعية والعربية بالأزهر والمعاهد . وهو قائم بما يسند إليه خير قيام ، مثال الجد والنشاط والذكاء . ولما اكتمل السبعين عاما أحيل إلى التقاعد يوم الثلاثاء 22 من رجب سنة 1372 هـ 7 من أبريل سنة 1953 م ( أمد الله تعالى فى أجله المبارك ) .
((1/33)
وثالث ) الأنجال الشيخ شرف الدين . التحق بالأزهر فى شوال سنة 1314 هـ وهو ابن تسع سنين فتغذى فيه بلبان العلوم الأزهرية ثم التحق بمدرسة دار العلوم فى الثامنة عشرة من عمره وتخرج فيها سنة 1328 هـ سنة 1910 م وكان أول فرقته فى كل السنين فاختير للبعثة الأوربية فسافر بعد إذن والده رغابا فى الثقافة العربية وعاد محافظا على دينه وأخلاقه فزاول التدريس بمدارس الحكومة ثم اختير مدرسا بكلية دار العلوم . ثم عين مفتشا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف سنة 1354 هـ . وفى أبريل سنة 1947 أحيل إلى المعاش لبلوغه الستين . ثم لحق بربه مساء الخميس 6 من ذى القعدة سنة 1370 هـ 9 من أغسطس سنة 1951 م . وصلى عليه أخوه خليفة الإمام ووراءه الجم الغفير قبل صلاة الجمعة 7 من ذى القعدة سنة 1370 هـ . وأودع مقره الأخير فى القبر رقم 9 من مقبرة المرحوم والده الإمام .
((1/34)
ورابع ) الأنجال الأستاذ الشيخ عبد الحليم . التحق بالأزهر فى شوال سنة 1314 هـ وهو ابن تسع سنين . ولما أخذ قسطا وافرا من العلوم الأزهرية التحق بمدرسة دار العلوم فى التاسعة عشرة من عمره . وتخرج فيها سنة 1329 هـ الموافق سنة 1911 م فعين مدرسا بمدارس الحكومة . ومنها المدرسة التوفيقية الثانوية بشبرا ثم نقل مدرسا بدار العلوم سنة 1354 هـ . ثم مدرسا فى كلية البنات بالزمالك . ثم لحق بربه مساء الثلاثاء وصلى على جثمانه الجم الغفير آخر ظهر الأربعاء 9 من رمضان سنة 1373 هـ - 12 من مايو سنة 1954م وأوداع مقرة الأخير بجوار أخيه المرحوم الشيخ شرف الدين . ( وخامس الأنجال ) الأستاذ عبد الحكيم. التحق بالأزهر فى السنة الثانية عشرة من عمره ومكث به حتى نال الشهادة الأولية والتحق بالقسم الثانوى به ثم التحق بدار العلوم وتخرج فيها سنة 1344 هـ . فعين مدرسا بمدارس الحكومة . ثم اختير للتدريس بمعهد التربية بالجيزة وأخذ يرقى حتى كان ناظر مدرسة الفسطاط الثانوية بمصر القديمة . وأحيل إلى التعاقد فى مارس سنة 1962 م .
تلامذة المرحوم الشيخ الإمام :(1/35)
طوال تلك المدة التى قضاها الشيخ الإمام مدرسا بالأزهر المعمور تخرج على يديه فيها الجم الغفير من تلامذته الأفذاذ النجباء ومن مشاهيرهم حضرات أصحاب الفضيلة الأساتذة الأجلاء : الشيخ عبد المجيد سليم . وقد أسندت إليه رياسة الأزهر لأول مرة يوم السبت 24 من ذى الحجة سنة 1369 هـ . 7 من أكتوبر سنة 1950 م . ثم أعفى منها ثم عاد لرياسة الأزهر يوم السبت 13 من جمادى الأولى سنة 1371 هـ – 9 من فبراير سنة 1952 م . واستقال في يوليو سنة 1952 . ولزم داره حتى وافته منيته يوم الخميس 9 من صفر سنة 1374 هـ – 7 من أكتوبر سنة 1954 م . أجزل الله له المثوبة ومنهم المرحوم الشيخ فتح الله سليمان رئيس المحكمة الشرعية العليا سابقا . والمرحوم الشيخ عبد السلام البحيرى كان عضوا بالمحكمة الشرعية العليا. وتوفى عام 1354هـ – 1935م ( رحمة الله عليه ) والمرحوم الشيخ على محفوظ كان مدرسا بكلية أصول الدين(1) والشيخ سليمان نوار ( عميد كلية اللغة العربية سابقا ) والشيخ محمود الغمراوى ( المفتش بالجامعة الأزهرية ) وغير هؤلاء كثير ممن يدرس بالأزهر والمعاهد الدينية ومدارس الحكومة ، وممن يلى مناصب القضاء الشرعى ومن تلامذته غير الموظفين كثير من العلماء الأجلاء القائمين بالوعظ والإرشاد على سنن أستاذهم الراحل .
خليفة الإمام :
__________
(1) وتوفى رحمه الله مساء الأربعاء 2 ذى القعدة 1361 هـ – 11 نوفمبر سنة 1942م .(1/36)
كثيرا ما تحدثك نفسك – إذا ما وقفت على سيرة الإمام – بمن كان يخلف هذه الشخصية البارزة لم يمهلها الزمان . وان السرور ليملأ جوانحك والبشر لينير وجهك إذا ما علمت أن خليفة الإمام هو شبل الإمام ثانى الأنجال فضيلة الأستاذ الشيخ أمين . وهو بحق خير من يخلف أباه ( ومن يشابه أبه فما ظلم ) و ( أن هذا الشبل من ذاك الأسد ) ولقد أجمع تلامذة الإمام كلمتهم من ثانى يوم الوفاة على اختياره للقيام لأعباء هذه المنزلة السامية . فكان قائدا لعشرات الألوف من المتمسكين بدينهم ، سائرا على النهج المحمودى الذى كان يسير عليه والده ، متمما بعض المؤلفات التى بدأها ، محافظا جد المحافظة على من كان يرعاهم والده ، وهو في ذلك كله الحليم الحازم ذو الهمة التى لا تعرف سآمة ولا مللا ، ويشرف على الأمور دقيقها وجليلها بأمانة ونزاهة . يتنقل في العاصمة وضواحيها والبلاد النائية لإرشاد الناس إلى التمسك بمبادئ دينهم الحنيف حتى يعود إليهم مجد إسلافهم ، وعزة آبائهم الأقدمين .
وختاما أسأل الله الرحيم أن يتغمد المرحوم الشيخ الإمام برحماته ، ويصب على رمسه شآبيب رضوانه ، ويسكنه فسيح جناته . وان يبارك في خليفته ويمد في أجله ممتعا بوافر العافية ، ودائم التوفيق . والحمد لله أولا وأخر والصلاة والسلام على خاتم النبيين .. وآله وصحبه والتابعين .
الدين الخالص
أو
إرشاد الخلق إلى دين الحق
وهو آخر كتاب وضع أصله الشيخ الإمام
محيى السنة ومميت البدعة صاحب الفضيلة والإرشاد المرحوم السيد
محمود محمد خطاب السبكى
المتوفى في الرابع عشر من
ربيع الأول سنة 1352 هـ – 7 يوليو سنة 1933م
عمه الله تعالى بالرحمة والرضوان وأسكنه فسيح الجنان
عنى بتنقيحه وتصحيحه وتنسيقه والتعليق عليه خليفة الشيخ الإمام
أمين محمود خطاب
من علماء الأزهر
الجزء الأول
الطبعة الرابعة سنة 1397هـ – سنة 1977م
تمتاز بضبط الآيات والأحاديث وترقيمها برقم مسلسل بالأصل(1/37)
والهامش وبيان غريبها وحالها ومراجعها ومراجع
النصوص العلمية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين الأحد الصمد ، الذى لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، الذى ليس كمثله شئ وهو السميع البصير ، المنفرد بتشريع الأحكام ، فليس لغيره تعالى تشريع حتى سيد الأنام ، عليه وعلى آله الصلاة والسلام . وأشهد أن لا اله إلا الله القائل في حق رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : { وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } الأعراف عجز آية 158 { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } الحشر عجز آية 7 واشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله القائل " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين(1) "{1} والقائل " بعثت بالحنيفية السمحة ومن خالف سنتى فليس منى(2) "{2} صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه .
__________
(1) صدر حديث أخرجه أحمد والشيخان عن معاوية بن أبى سفيان . ص 93 ج 4 مسند أحمد . وص 121 ج 1 فتح البارى ( من يرد الله به خيرا يفقهه ) .
(2) أخرجه الخطيب من جابر . وفى سنده لكن له طريق ترفعه إلى درجة الحسن انظر رقم 3150 ص 203 ج 3 فيض القدير .(1/38)
أما بعد : فيقول محمود بن محمد بن أحمد بن خطاب السبكى ( سبك الأحد : مركز أشمون منوفية ) قد فشا في الأزمنة الأخيرة الزيغ في العقائد التوحيدية ، والتعبد بالبدع المضادة لسنة خير البرية ، صلى الله عليه وعلى آله وسلم ( فيعتقد ) أحدهم عقيدة زائفة ( فإذا ) نهيته عنها يقول لا أرجع عنها اذهى العقيدة السلفية ( ويتعبد ) ببدع الملحدين "وإذا " نهاه مؤمن عن ذلك وأرشده إلى العمل بالشرع الذى شرعه رب العالمين على لسان رسوله الأمين " قابله " بقوله : هى بدع استحسنها الشيخ فلان والشيخ فلان ،ويذكر أشخاصا من المتساهلين في دينهم من متأخري المقلدين" والسبب " في ضلال أولئك الجهلة " زلة " بعض المنسوبين للعلم المتعرضين للتأليف ، حيث سطروا في تأليفهم بعض العقائد الزائفة ، واستحسنوا بعض البدع المضادة لشرع الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم . وينسب نفسه إلى مذهب أحد الأئمة رضى الله تعالى عنهم ، فيعتقد الجاهل أن تلك العقائد والبدع قالها هذا الإمام . ولم يفقه أن جميع الأئمة المجتهدين متبرئون من كل عقيدة فاسدة وبدعة في العبادة ، وقد قالوا لأصحابهم : خذوا العلم من حيث أخذنا . أى من الكتاب والسنة . وقالوا : نحن بريئون ممن يخالف الكتاب والسنة . وقالوا : ليس لأحد كلام مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، لأن الله لم يجعل لأحد معه كلاما ، وجعل قوله يقطع كل قول . وقال الشافعى في رسالته : إذا وجدتم قولى يخالف قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاعلموا بقول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم واضربوا بقولى عرض الحائط . وقال مالك رحمه الله : من استحسن بدعة فقد زعم أن محمدا خان الرسالة . وقال : ما لم يكن في زمان النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم دينا لم يكن اليوم دنيا وغير ذلك . ((1/39)
و الأدهى ) أنك لو أرشدت أحد أولئك المقلدين – التقليد الأعمى – إلى العمل بالشرع الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وترك البدع ، هاج وماج وأشاع وأذاع أنك تريد أبطال المذهب الذى نسب نفسه إليه بهتانا وزورا . وصاح أمثاله بذلك معه ويشتد مهم الجدال والنزاع الذى يناسب حالهم ويتعصبون تعصب الجاهلية الأولى ، فإنا لله وأنا إليه راجعون " ومن شدة " عمى البصيرة "دعواهم " على من تمسك في قوله وعمله بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجانب البدع " أنه ضل وأضل " وخرج على مذاهب المسلمين ، وأحدث الفتن و الشحناء بين المؤمنين .
( فدعانى ) ذلك إلى وضع كتاب أبين فيه عقيدة وكيفية العبادة التى شرعها رب العالمين أمرا ونهيا وتقريرا وعليها الأئمة المجتهدون ، ذاكرا دليل كل مسألة من الكتاب أو السنة أو إجماع الأئمة ، ليكون المتعبد على بصيرة تامة من دينه ، ويخلع ربقة التلقيد من عنقة . وقد ذكرت بعد كل حديث من أخرجه من الأئمة ، وبينت حالة من صحة وحسن وضعف غالبا ، وأردت بالشيخين البخارى ومسلما ، وبالثلاثة أبا داود والترمذى والنسائى ، وبالأربعة الثلاثة وابن ماجه ، وبالخمسة الشيخين والثلاثة ، وبالستة الشيخين والأربعة ، وبالسبعة أحمد والستة . وبالجماعة مالكا والسبعة ، وسميته " الدين الخالص " أو " إرشاد الخلق إلى دين الحق " والله أسأل أن ينفع به النفع العميم . وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم . وسببا للنجاة والفوز " يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم " وهو حسبى ونعم الوكيل .
مقدمة(1/40)
على العاقل أن يعلم أن جميع أئمة المسلمين على هدى من ربهم ، ولا هم لأحدهم إلا الوصول إلى الحق الصحيح ، وبيانه بالدليل الصريح ، وإرشاد الناس إليه وحثهم على التمسك به والاعتصام بحبله . وتنفيرهم من البدع التى حذر منها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فيما رواه العرباض بن سارية رضى الله تعالى عنه قال:صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذات يوم.أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون.ووجلت منها القلوب.فقال قائل يا رسول الله:كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟فقال:أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وان عبدا حبشيا ، فانه من يعش منكم بعدى فسيرى اختلافا كثيراً،فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ واياكم ومحدثات الأمور،فان كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه والدرامى والترمذى وقال:حسن صحيح(1){3} .
__________
(1) ص 188 ج 1 – الفتح الربانى . وص 10 و 11 ج 1 سنن ابن ماجه ( اتباع سنة الخلفاء الراشدين ) وص 97 ج 1 مستدرك ( كل محدثة بدعة . ) وص 44 ج 1 سنن الدرامى ( اتباع السنة ) وص 24 ج 1 تيسير الوصول ( الاستمساك بالكتاب والسنة ) .(1/41)
وما إلى ذلك من الأحاديث الصحيحة الواردة في ذم البدع وأنها ضلالة " فمن " زعم أن بعض البدع في العبادة قد تكون حسنة " فقد أخطأ " وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن كل بدعة ضلالة ولفظ " كل " موضوع للأفراد . فمعنى الحديث : أن كل فرد من أفراد البدع ضلالة . وموضوعه العبادة كما علمت " ومن أدعى " أن الحديث دخله التخصيص بحديث " من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شئ . ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شئ " أخرجه أحمد ومسلم وابن ماجه عن جرير بن عبد الله (1){4} .
__________
(1) ص 357 ج 4 مسند أحمد . وص 226 ج 16 نووى مسلم ( العلم ) وص 46 ج 1 – سنن ابن ماجه ( من سن سنة حسنة أو سيئة ) .(1/42)
" فدعواه " باطلة لأن الحديث إنما ورد في الحث على مكارم الأخلاق العادية التى بها ارتباط القلوب واتفاق الكلمة والقضاء على أسباب التباغض والنفور ، وأيضا فان الاستنان فيه ليس المراد به الاختراع . وإنما المراد به العمل بما ثبت بالكتاب والسنة النبوية . وذلك لأن سبب الحديث هو الحث على الصدقة المشروعة . فقد قال جرير بن عبد الله : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في صدر النهار فجاءه قوم حفاة عراة مجتابى النمار متقلدى السيوف عامتهم بل كلهم من مضر فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما رأى بهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى ثم خطب فقال : (يأيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة) الآية ، والآية التى في الحشر:(اتقوا الله ولتنظر نفس ما تقدمت لغد) تصدق رجل من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره،حتى قال ولو بشق تمرة. فجاءه رجل من الأنصار بصرة كادت كفة تعجز عنها بل عجزت.ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب،حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتهلل كأنه مذهبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم:من سن في الإسلام ( الحديث ) أخرجه أحمد ومسلم والنسائى(1){5} . ( قال ) الشاطبى : فتأملوا أين قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : من سن سنة حسنة ؟ تجدوا ذلك فيمن عمل بمقتضى المذكور على أبلغ ما يقدر عليه حتى أتى بتلك الصرة فانفتح بسببه باب الصدقة على الوجه الأبلغ ، فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى قال " من سن في الإسلام " الحديث .
__________
(1) ص 358 ج 4 مسند أحمد ، وص 102 ج 7 نووى مسلم ( الحث على الصدقة ) وص 250 ج 2 تيسير الوصول . و ( مجتابى ) أى لابيى ( النمار ) جمع نمرة بفتح فكسر وهى كساء من صوف مخطط . و ( كومين 9 بفتح الكاف وضمها : أى صبرتين من طعام . و (مذهبه ) كمرسلة : أى مستنيرة صافية .(1/43)
فدل على أن السنة هاهنا مثل ما فعل ذلك الصحابى . وهو العمل بما ثبت كونه سنة (1).
( وأما ) البدعة التى قسموها إلى حسنة وغيرها فهى اللغوية ( ومن المعلوم ) أن البدع ليست من الدين ، فكيف يتقرب بها إلى الله عز وجل . وهل يصح من عاقل أن يعبد الله تعالى بغير ما شرع ؟ وأن سنة النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم هى فعله وقوله وتقريره . وأن ما ترك مع قيام المقتضى فرتكه سنة وفعله بدعة . كالأولى والثانية يوم الجمعة تركهما النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع قيام المقتضى وهو التشريع . فتركهما سنة ( وكذا ) الترقية بين يدى الخطيب ورفع الصوت حال السير مع الجنازة وسائر البدع في العبادة . وتركها مطلوب شرعا لأنها ضلالة يجب البعد عنها 0 ( وقد ) أجمعوا على أن كل بدعة حدثت رفع مثلها من السنة ، لحديث غضيف بن الحارث أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة " أخرجه أحمد بسند جيد(2) {6} .
( وقال ) عبد الله بن الديلمى " بلغنى أن أول ذهاب الدين ترك السنة يذهب الدين سنة سنة كما يذهب الحبل قوة قوة " أخرجه الدارمى(3){1} .
(
__________
(1) ص 239 ج 1 – الاعتصام ( ليس المراد بالحديث الاستنان بمعنى الاختراع ) .
(2) ص 194 ج 1 – الفتح الربانى ( التحذير من الابتداع في الدين ) .
(3) ص 45 ج 1 سنن الدرامى ( اتباع السنة ) .(1/44)
فالمطلوب ) ممن يريد حفظ دينه من الضياع وسلامة عقيدته من الفساد ، ألا يركن إلى أى كتاب ادعي صاحبه استحسان أي بدعه في العبادة أو مال إلى عقيدة فاسدة ، وإلا ضل وخاب ، وغرق في غياهب التباب . هذا ، والمعلوم أن الدين هو ما أوحاه الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : وأنه مأمور بتبليغه من غير تغيير ولا زيادة ولا نقص قال الله تعالى " وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى " (3) " إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى " (4) النجم . وقال : " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ " (67) المائدة . وقال : " فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرَْ " ( 112 ) هود . وقال " َيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ " (12) آل عمران . وقال : " وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ " (44) لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ (46) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ" (47) الحاقة (1) وما إلى ذلك من الآيات الناطقة بأنه لا مشرع إلا الله تعالى . ( ولو أدرك ) المتعرضون للتأليف ذلك ما قالوا بتحسين أى بدعة سيما وأن كل بدعة مردودة بقول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " أخرجه الشيخان وأبو داود عن عائشة . وفى رواية لمسلم : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد(2) " {7}.
(
__________
(1) أى لو ادعى علينا شيئا لم نقله لقتلنا ه كما يفعل الملوك بمن يكذب عليهم ، أو المعنى انتقمنا منه بالحق ، فليمين على هذا بمعنى الحق كقوله تعالى ( انكم كنتم تأتوننا عن اليمين ) أى من قبل الحق . والوتين ، عرق بالقلب يتصل بالرأس إذا انقطع مات صاحبه .
(2) ص 25 ج 1 تسير الوصول ( الاستمساك بالكتاب والسنة ) .(1/45)
ولو عقلوا ) أن الأحكام لا تثبت إلا بدليل من الكتاب أو السنة ( ما أثبتوا ) شيئا من هذه المخالفات فى كتبهم . ( وإذا ) كانت البدع ليست من الدين فما الدليل على حسنها ؟ ( وهل ) الدين كان ناقصا فكمل بالبدع التى ليست منه ؟ ألم يبلغهم قول الله عز وجل : { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً } (3) المائدة(1) ؟ أم بلغهم ولم يفقهوه ؟ أم أعتقدوا أن الدين الذى شرعه الله سبحانه وتعالى كامل ولكن البدع أكمل منه ؟ فلذا تركوا العمل بالكثير منه وعكفوا على العمل ببدعهم ، وغفلوا عن قول بن مسعود رضى الله عنه " اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم " أخرجه الطبرانى فى الكبير بسند رجاله رجال الصحيح(2){3} .
الدين
__________
(1) قال طارق بن شهاب : قالت اليهود لعمر بن الخطاب رضى الله عنه : انكم لتقرءون آية لو أنزلت فينا لاتخذناها عيدا . فقال عمر : انى لاعلم حين أنزلت وأين أنزلت أنزلت يوم عرفة وأنا والله بعرفة فى يوم جمعة يعنى (اليوم أكملت لكم دينكم) أخرجه الخمسة الا أبا داود [2] ص 115 ج 1 تيسير الوصول ( سورة المائدة ) .
(2) ص 181 ج 1 مجمع الزوائد ( الاقتداء بالسلف ) .(1/46)
يجب على كل مكلف أن يعتقد اعتقاد جازما أن الله تعالى أرسل جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام وهو الدين الذى لا يقبل الله تعالى غيره . قال تعالى حكاية عن سيدنا إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } (128) البقرة . وقال : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِياًّ وَلاَ نَصْرَانِياًّ وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ } (67) آل عمران . وقال حكاية عن سيدنا سليمان { أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } (31) النمل . وقال : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ } ( 19) آل عمران . وقال : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ } (85) آل عمران . أى ومن يطلب غير دين النبى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فهو فى الآخرة من الخاسرين ، ولا يخرج من النار أبد الآبدين ، لأن الله تعالى جعل شرعه ناسخا لجميع الشرائع .(1/47)
هذا . والدين يطلق على الطاعة وعلى الطريقة الثابتة والملة المتبعة ، فهو يشمل الشرائع كلها . فذا صدق العبد بكل ما جاء به النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو مؤمن ( والإيمان ) لغة : التصديق القلبى ، قال تعالى حكاية عن اخوة يوسف ( وما أنت بمؤمن لنا ) أى بمصدق ، وشرعا التصديق بكل ما جاء به النبى صلى الله عليه وعلى آله واعتقاده اعتقادا جازما ، كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر ، والتصديق بالأوامر والنواهى كافتراض الصلاة وتحريم قتل النفس المعصومة وأنا ( روى ) أبو ذر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " ما من عبد قال لا اله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة قلت : وان زنى وان سرق ؟ قال : وان زنى وان سرق ؟ قلت : وان زنى وان سرق ؟ قال : وان زنى وان سرق ، قلت : وان زنى وان سرق ؟ قال : وان زنى وان سرق على رغم أنف أبى ذر " أخرجه أحمد والشيخان والترمذى(1)
(
__________
(1) ص 53 ج 1 – الفتح الربانى . وص 219 ج 10 فتح البارى ( الثياب البيض وص 94 ج 2 نوى مسلم ( من مات لا يشريك بالله دخل الجنة ) وذكره تيسير الوصول بلفظ آخر ، ص 11 ج 1 .(1/48)
والإسلام ) لغة الانقياد والاستسلام . ومنه إيمان الأعراب الذين قال الله تعالى فيهم { قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } (14) الحجرات ، لأنهم تلفظوا بكلمة الشهادة بلا تصديق ( وشرعا ) انقياد ظاهرى مع اعتقاد باطنى بكل ما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم ، وعلم من الدين بالضرورة كالصلاة والزكاة والصوم والحج . فكل من الإيمان والإسلام المنجيين لا ينفك عن الآخر . وكل مؤمن مسلم وكلم مسلم مؤمن ، لأن المصدق ذلك التصديق للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، لابد أن يكون خاضعنا لما جاء به صلى الله عليه وعلى آله وسلم . والخاضع هذا الخضوع لابد أن يكون مصدقا ذلك التصديق .(1/49)
هذا . وقوام الدين ثلاثة الإسلام والإيمان والإحسان . وقد بينها النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم فى حديث عمر رضى الله عنه قال : " بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخديه وقال : يا محمد أخبرنى عن الإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : الإسلام أن تشهد أن لا اله إلا الله وأن محمد رسول الله ، وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت أن استطعت إليه سبيلا . قال : دقت . فعجبنا له يسأله ويصدقه . قال : فأخبرنى عن الإيمان . قال : أ، تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره . قال : صدقت . قال : فأخبرني عن الإحسان . قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فان لم تكن تراه فانه يراك . قال : فأخبرنى عن ساعة . قال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل . قال : فأخبرنى عن إماراتها . قال: أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون فى البنيان . ثم انطلق . فلبثت مليا ، ثم قال : يا عمر أتدرى من السائل ؟ قلت : الله ورسوله أعلم . قال : فانه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم . أخرجه أحمد والخمسة إلا البخارى(1){
__________
(1) ص 62 ج 1 – الفتح الربانى . وص 13 ج 1 تيسير الوصول ( حقيقة الايمان والاسلام ) و ( القدر ) بفتحتين ، هو ايجاد الله تعالى الاشياء على قدر مخصوص وتقدير معين فى ذواتها واحوالها طبق ما سبق به علم الله ، بخلاف القضاء فانه تعلق الارادة بالاشياء ازلا . وقيل فيهما غير ذلك . قال الأجهورى :
ارادة الله مع التعليق ... ... ... فى ازال قضاؤه فحقق
والقدر الايجاد للأشياء على ... ... وجه معين ارده علا
وبعضهم قد قال معنى الاول ... ... العلم مع تلق فى الأزل
والقدر الايجاد للأمور ... ... على وفاق علمه المذكور
هذا . ولما كان الايمان بالقدر مستلزما الايمان بالقضاء ، لم يتعرض له فى الحديث . و ( أن تلد الأمة ربتها ) أى سيدتها . وهو كتابة عن كثرة اتخاذ الجوارى . وتلد الجارية بنتا او ابنا من سيدها . والولد بمنزلة ابيه فى السيادة . و ( العالة ) بفتح اللام المخففة جمع عائل وهم الفقراء . و ( رعاء ) بكسر الراء جمع راع وبجمع على رعاه بضمها ، ( والشاء ) جمع شاة ، ( ويتطاولون فى البنيان ) أى يتفاخرون بطوله وارتفاعه . والمراد أن الأسفل يصيرون اصحاب ثروة ظاهرة .(1/50)
9} .
دل الحديث على أن الأحكام الشرعية علمية وعملية . فالعلمية ستة :
( الأول ) الإيمان بالله ، وهو اعتقاد وجود الله تعالى متصفا بكل كمال يليق بجلاله ، منزها عن كل نقص . وأنه قادر على إيجاد الممكن وإعدامه .
( الثانى ) الإيمان بالملائكة ، وهو أ، تؤمن بوجودهم ، وأنهم عباد مكرمون لا يتصفون بذكورة ولا أنوثة ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .
( الثالث ) الإيمان بالكتاب ، وهو أن تصدق بان الله كتبا أنزلها على بعض رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام منها : القرآن وهو أفضلها أنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم . والإنجيل أنزل على سيدنا عيسى . والتوراة أنزلت على سيدنا موسى . والزبور أنزل على سيدنا داود . وصحف سيدنا إبراهيم وموسى عليهم الصلاة والسلام .
( الرابع ) الإيمان بالرسل ، وهو أن تؤمن بأن الله تعالى أرسل رسلا من البشر مبشرين الطائعين بالجنة، ومنذرين بالعذاب الأليم . متصفين بما يليق بهم من صدق وأمانة وتبليغ وفطانة ومالا يؤدى إلى نقص فى مراتبهم العلية ، ولا إلى نفرة الناس عنهم ، منزهين عما لا يليق بمقامهم من كذب وخيانة وكتمان وبلادة .
( الخامس ) الإيمان باليوم الآخر . وهو يوم القيامة . وسيأتى أن أوله من الموت أو البعث ، وبما اشتمل عليه من سؤال القبر وعذابه ونعيمه وبعث وحشر وميزان ونشر كتب الأعمال وتعليقها فى الأعناق وأخذها باليمين لقوم وبالشمال لآخرين ، وقراءة كل كتابه قال تعالى : { وكل إنسان ألزمناه طائرة فى عنقة ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا * أقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا (1)) وما إلى ذلك مما يأتى بيانه إن شاء الله تعالى .
(
__________
(1) الاسراء : 13 و 14 ( وطائره ) عمله .(1/51)
السادس ) الإيمان بالقدر كله ، أى التصديق والإذعان بان كل ما قدر الله فى الأزل لابد من وقوعه وما لم يقدره يستحيل وقوعه ، وبأنه تعالى قدر الخير والشر قبل خلق الخلق . " روى " ابن عمرو أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء " أخرجه مسلم والترمذى(1) {10} .
وأن جميع الكائنات بقضائه وقدره . قال الله تعالى : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } (49) القمر . وقال : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } ( 2) الفرقان وقال : { وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ } ( 30) الدهر . وعن ابن عمر رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " كل شئ بقدر حتى العجز والكيس " أخرجه أحمد ومسلم(2){12} .
وقد تكفل بتفصيل هذه الأحكام :
علم التوحيد
__________
(1) ص 203 ج 16 نووى مسلم . وص 174 ج 3 تيسير الوصول ( ذم القرية ) .
(2) ص 122 ج 1 – الفتح الربانى ، وص 204 ج 16 نووى مسلم ( كل شئ بقدر ) و ( العجز ) بالرفع عطفا على كل أو بالجر عطفا على شئ . والمراد به البلادة والتسويف فى الأمور ، والكيس ضده ، وهو الحذق والنشاط فى الأمور .(1/52)
التوحيد لغة العلم بأن الشئ واحد . وشرعا أفراد المعبود بالعبادة مع اعتقاد وحدته ذاتا وصفاتا وأفعالا ويعرف بمعنى الفن المدون بأنه علم يبحث فيه عن معرفة العقائد الدينية . وهى التى يجب على كل مكلف ذكر أو أنثي حر أو رقيق أن يعتقدها . فيجب عليه أن يعرف الصفات الواجبة لله تعالى والمستحيلة و الجائزة فى حقه تعالى . وأن يعرف الصفات الواجبة للأنبياء والرسل والمستحيلة عليهم والجائزة فى حقهم عليهم الصلاة والسلام. وأن يعرف ما جاء فى الكتاب والسنة من أحوال الموت والقبر وما بعدهما . ومن لم يعرف ذلك فليس بمسلم ويخلد فى نار جهنم ( والمعرفة ) هى الإدراك الجازم المطابق للواقع عن دليل ( والواجب ) الأمر الثابت الذى لا يقبل الانتفاء ككون الجسم متحركا أو ساكنا وكونه صغيرا أو كبيرا وكونه ناعما أو خشنا . ونحوه ما لابد للجسم متحركا ساكنا أو طويلا قصيرا ، أو حيوانا جمادا فى آن واحد ( والجائز ) ما يقبل الثبوت والانتفاء ككون الجسم صغيرا فى وقت كبيرا فى وقت آخر ، وكونه قصيرا فى وقت طويلا فى آخر ، وكونه حيا فى وقت ميتا فى آخر .
هذا . والكلام هنا فى ثلاثة أصول : إلهيات ، ونبويات ، وسمعيات .
( أ ) الاليهات هى ما يتعلق بالله تعالى
من واجب ومستحيل وجائز
( أ ) الواجب فى حقه تعالى : يجب على المكلف أن يعتقد أن الله تعالى متصف بالصفات الجليلة القديمة الثابتة بالأدلة التفصيلية وهى ثلاث عشرة :(1/53)
1- الوجود – فهو تعالى موجود بلا ابتداء قبل وجود جميع الحوادث من عرش وكرسى وسموات وسائر العالم ( والدليل ) على ذلك خلقه تعالى السموات وما فيها من الكواكب والملائكة ، والأرض وما فيها من الجبال والرمال والأشجار والأحجار والبحار والأنهار والحيوانات والجمادات ، لأن الصنعه لابد لها من صانع موجود . وقد قال الله عز وجل { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } (62) غافر . وقال تعالى { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ } (1) الأنعام . وقال { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } أى خلق كل شئ فسوى خلقه . وقال { أقرأ باسم ربك الذى خلق * خلق الإنسان من علق } وقال { وخلق كل شئ فقدره تقديرا } (2) الفرقان . ومن البدهى أن موجد الشئ لا يكون معدوما ، لأن المعدوم لا يعطى الوجود .(1/54)
2- القدوم – ومعناه انه لا لأول لوجوده تعالى ، وأنه لم يسبقه عدم ، لقوله تعالى { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } (62) الزمر . إذ معناه أن كل شئ غير الله مخلوق لله ، فلا يجوز أن يكون غيره خالقا له ، لأنه لو كان مخلوقا لكان محتجا لغيره كيف وهو ذو الغنى غيره خالقا له ، لأنه لو كان مخلوقا لكان محتاجا لغيره كيف وهو ذو الغنى المطلق . وفقر كل شئ إليه محقق ؟ ( وعن عمران ) بن حصين رضى الله عنه قال : انى عند النبى صلى الله عليه وآله وسلم اذ جاءه قوم من من بنى تميم فقال " اقبلوا البشرى يا بنى تميم " قالوا بشرتنا فأعطنا ، فدخل ناس من أهل اليمن . فقال : " اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم " قالوا : قبلنا . جئناك لنتفقه فى الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان ؟ قال قال : كان الله ولم يكن شئ قبله وكان عرشه على الماء ، ثم خلق السموات والأرض وكتب فى الذكر كل شئ " أخرجه البخارى (1){13} .
__________
(1) ص 317 ج 13 فتح البارى ( وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم ) و ( أقبلوا البشرى ) المراد بها أن من أسلم نجا من الخلود فى النار ثم يجازى على وفق عمله . وذكر بعضهم فى هذا الحدث " كان الله ولا شئ معه وهو الأن على ما عليه كان " وهى زيادة ليست فى شئ من كتب الحديث . ذكره العينى على البخارى . فى بدء الخلق ( وكان عرشه على الماء ) أى لم يكن تحت العرش الا الماء الذى خلق قبله ( وكتب فى الذكر كل شئ ) . أى قدر كل الكائنات وأثبتها فى اللوح المحفوظ .(1/55)
3- البقاء – ومعناه أنه لا انتهاء لوجوده تعالى ، وانه لا يلحقه عدم ، لقوله تعالى : ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) (27) الرحمن ، وقوله : ( كل شئ هالك إلا وجهه ) (88) القصص ، ولأن من ثبت قدمه استحال عدمه . فهو الأزلى القديم بلا بداية والأبدى الباقى بلا نهاية ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم ) (3) الحديد .
4- مخالفته تعالى للحوادث – ومعناها عدم مماثلته لشئ منها لا فى الذات ولا فى الصفات ولا فى الأفعال ، لقوله تعالى : ( ليس كمثله شئ وهو السميع البصير ) (11) الشورى ، ولأنه لو ماثل شيئا منها لكان حادثا مثلها . والحدوث مستحيل فى حق الخالق عز وجل .
5- قيامه تعالى بنفسه – ومعناه أنه تعالى موجود بلا موجد وغنى عن كل ما سواه ، وانه متصف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص ، لقوله تعالى : ( يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنى الحميد ) (15) فاطر ، وقوله تعالى : ( والله الغنى وأنتم الفقراء ) ( 38) محمد ، ولأنه لو احتاج إلى شئ لكان حادثا وحدوثه محال لما تقدم فاحتياجه محال .(1/56)
6- الوحدانية فى الذات والصفات والأفعال – ومعناها أن ذاته ليست مركبة ، وليس لغيره ذات تشبه ذاته، وانه ليس له صفتان من جنس واحد كقدرتين وعلمين ، وليس لغيره صفة كصفته ، وأن الأفعال كلها خيرها وشرها اختياريها واضطراريها مخلوقة لله وحده بلا شريك ولا معين . قال الله تعالى : { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } (163) البقرة ، وقال : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا } (22) الأنبياء ، وقال : { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } (96) الصافات ، وقال : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } (3) فاطر ، وقال تعالى : ( قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد ) أى قل يأيها النبى – لمن سألك عن صفة ربك جل وعلا – هو المعبود بحق المتصف بكل صفات الكمال ، الواحد فى ذاته وصفاته وأفعاله ، المقصود فى قضاء حوائج الخلق على الدوام ، الذى ليس بوالد ولا مولود ولا شبيه له ولا نظير .
( دلت ) السورة على أمور :
( أ ) إثبات ألوهية الله تعالى المستلزمة لا تصافه بكل صفات الكمال كالعلم والقدرة والإرادة .
(ب ) إثبات أحديته الموجبة تتنزهه تعالى عن التعدد والتركيب وما يستلزم أحدهما كالجسمية و التحيز والمشاركة فى الخلقه وخواصها كوجوب الوجود والقدرة الذاتية والحكمة التامة .
( جـ ) إثبات صمديته تعالى المقتضية استغناءه عن كل ما سواه وافتقار كل ما عداه إليه فى الوجود والبقاء وسائر الأحوال .
( د ) إبطال زعم من زعم أن له ولدا كاليهود والنصارى بقوله : ( لم يلد ) لأن الولد من جنس أبيه ، والله لا يجانسه أحد ولا يجانس أحدا ، ولا يفتقر إلى من يعينه أو يخلفه لا متناع احتياجه وفنائه .
((1/57)
هـ ) إثبات قدمه بقوله : ( لم يولد ) أى لم يفصل عن غيره . وهذا لا نزاع فيه . وإنما ذكر لتقرير ما قبله إذ المعهود أن ما لا يولد لا يلد .
( و ) نفى مماثلة شئ له تعالى فى أى زمان كان " ومن زعم " أن نفى الكفء فى الماضى لا يدل على نفيه فى الحال والكفار يدعونه " فقد غفل " لأن ما لم يوجد فى الماضى لا يكون فى الحال ضرورة أ، الحادث لا يكون كفئا للقديم .
7- الحياة – وهى صفة قديمة قائمة بالذات العلية تصحح لموصوفها الاتصاف بالعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر ، وما إلى ذلك من الصفات الأئقة به تعالى ( وحياته ) ليست بروح . ودليلها قوله : { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ } (2) آل عمران ، وقوله : { وَعَنَتِ الوُجُوهُ لِلْحَيِّ القَيُّومِ } (111) طه ، وقوله : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ } (58) الفرقان .(1/58)
8- العلم – وهو صفة وجودية قديمة قائمة بذاته تعالى تحيط بكل موجود : واجبا كان أو جائزا ، وبكل معدوم : مستحيلا كان أو ممكنا . فهو تعالى يعلم وجود ذاته وصفاته وأنها قديمة لا تقبل العدم . ويعلم أنه لا شريك له ، وأن وجود الشريك محال . ويعلم جواز حدوث الممكن وعدمه . ويعلم فى الأزل عدد من يدخل الجنة ومن يدخل النار جملة واحدة فلا يزاد فى ذلك العدد ولا ينقص منه . ويعلم أفعالهم وكل ما يكون منهم . ويعلم أنه عالم بكل الأمور لا تخفى عليه خافية . قال تعالى : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ } (14) الملك ، وقال : { إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } (98) طه . وقال : { لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً } (12) الطلاق ، وقال : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } (255) البقرة ، وقال : { هو الله الذى لا اله إلا هو عالم الغيب والشهادة } (22) الحشر ، وقال : { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } (19) غافر ، وقال : { إن الله بكل شئ عليم } (75) الأنفال .
((1/59)
وعن ) ابن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفى يده كتابان ، فقال : " أتدرون ما هذان الكتابان " فقلنا : لا يا رسول الله إلا أن تخبرنا . فقال للذى فى يده اليمنى : " هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثم أجمل على أخرهم ، فلا يزاد منهم ولا ينقص منهم أبدا " وقال للذى فى شماله : " هذا كتاب من رب العالمين . فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم اجمل على أخرهم فلا يزاد منهم ولا ينقص منهم أبدا " فقال أصحابه : ففيم العمل يا رسول الله أن كان الأمر قد فرغ منه ؟ قال : " سددوا وقاربوا فان صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وان عمل أى عمل . وان صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وان عمل أى عمل " ثم قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم " بيديه فنبذهما " ثم قال : " فرغ ربكم من العباد فريق فى الجنة وفريق فى السعير " أخرجه أحمد والترمذى وقال : حديث حسن غريب صحيح (1){14} .
ولأنه تعالى لو لم يكن عالما لكان جاهلا ، ولو كان جاهلا لكان حادثا ، وحدوثا محال لما سبق . فالجهل عليه تعالى محال .
هذا . وعلم الله تعالى ليس كسبيا ولا يوصف بكونه ضروريا أو نظريا أو بديهيا أو يقينيا أو تصوريا أو تصديقيا ، لأنه صفة قديمة لا تعدد فيها ولا تكثر .
__________
(1) ص 138 ج 1 – الفتح الربانى . وص 169 ج 3 تيسير الوصول ( العمل مع القدر ) و ( اجمل ) الحساب جمع آحاده وكمل أفراده . والمراد احصاهم حتى اتى على آخرهم فلا زيادة ولا نقصان . و " السداد " الصواب فى القول والعمل . والمقاربة القصد فيهما .(1/60)
9- الإرادة – وهى صفة وجودية قديمة قائمة بذاته تعالى تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه كوجود المخلوق فى زمن دون غيره . وفى مكان دون آخر وهكذا ، لقوله تعالى: { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } (68) القصص ، وقوله تعالى : { لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ } (49) الشورى ، وقوله تعالى: ( فعال لما يريد ) (16) البروج،وقوله تعالى : { فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ } (25) الأنعام . وقوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْر } (185) البقرة .
10- القدرة – وهى صفة وجودية قديمة قائمة بذاته تعالى يتأتى بها إيجاد كل ممكن وإعدامه ، لقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ } (58) الذاريات . وقوله تعالى : { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيٍْ قَدِيرٌ } (عجز50) الروم . وقوله تعالى : (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً) (45) الكهف . ولأنه لو لم يكن قادرا لكان عاجزا ، وعجزه محال ، كيف وهو خالق كل شئ .
( تنبيه ) علم أن الإرادة والقدرة يتعلقان بكل ممكن من أفعالنا الاختيارية . وما له سبب كالإحراق عند مماسة النار . وما لا سبب له كخلق السماء . وتعلق القدرة فرع تعلق الإرادة الذى هو فرع تعلق العلم إذ لا يوجد الله تعالى شيئا ولا يعدمه إلا إذا أراد وجوده أو إعدامه وقد سبق فى علمه انه يكون أولا يكون .
11-السمع – وهو صفة وجودية قديمة قائمة بذاته تعالى تحيط بكل موجود واجبا أو ممكنا صوتا أو لونا أو ذاتا أو غيرها ، فهو يسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الملساء فى الليلة الظلماء بلا أذن ول صماخ .(1/61)
12- بصر – وهو صفة وجودية قديمة قائمة بالذات العلية تحيط بكل موجود – واجبا أو جائزا جسما أو لونا أو صوتا أو غيرها بلا حدقة – إحاطة غير إحاطة العلم والسمع . والدلي على انه تعالى سميع بصير قوله تعالى : { فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } (56) غافر . { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } عجز 57 الحج و28 لقمان، ولأنه تعالى لو لم يكن سميعا بصيرا لكان أصم أعمى وهو نقص . تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .(1/62)
13- الكلام – وهو صفة وجودية قديمة قائمة بذاته تعالى تدل على كل موجود واجبا أو جائزا ، وعلى كل معدوم محالا أو جائزا . وليس كلامه تعالى بحرف ولا صوت ، ولا يوصف بجهر ولا سر ولا تقديم ولا تأخير ولا وقف و لاسكوت ولا وصل ولا فصل ، لأن هذا كله من صفات الحوادث ، وهى محالة علية تعالى . ودليله قوله تعالى : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } (164) النساء ، ولأنه تعالى لو كان غير متكلم لكان . أبكم ، والبكم نقص محال فى حقه تعالى لو كان غير متكلم لكان . أبكم ، والبكم نقص محال فى حقه تعالى . والقرآن والتوراة والإنجيل والزبور وباقى الكتب المنزلة ، تدل على بعض ما يدل عليه الكلام القديم ، قال تعالى : { قُل لَّوْ كَانَ البَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } (109) الكهف . وقال: { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } (27) لقمان . وله تعالى صفات غير ذلك كالجلال والجمال والعزة والعظمة والكبرياء والقوة وهى القدرة ، والوجه والنفس والعين واليد والأصابع والقدم(1) والمحبة والرضا والفرح والضحك والغضب والكراهة والعجب والمكر ونحو ذلك مما ورد فى الكتاب والسنة . فيجب الإيمان به بلا كيف فنقول : له تعالى يد لا كالأيدى .
__________
(1) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فيزوى الى بعض (الحديث) أخرجه الشيخان والترمذى عن أنس [15] ص 240 ج 3 تسير الوصول . وفيه ( وقدم رب العزة ) كفاية عن اهل النار الذين قدمهم الله لها من شرار خلقه و ( فيزوى ) اى يضم ويجمع .(1/63)
ونفوض معرفة ذلك ، وتفصيله إلى الله تعالى ولا نؤول أن يده تعالى قدرته أو نعمته وأمثال ذلك ، لأن فيه إبطال الصفة التى دل عليها الكتاب والسنة ، ولكن نقول يده صفة له بلا كيف وهكذا . وغضبه ومكره واستهزاؤه غير انتقامه وغير إرادة الانتقام . بل من صفاته بلا كيف . وهذا مذهب السلف فى المتشابهات . وبه نقول . وسيأتى لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى .
هذا ما يلزم اعتقاده ومعرفته تفصيلا من الواجب فى حقه تعالى .
( وأما الواجب معرفته إجمالا فهو أن يعتقد المكلف أن الله تعالى . متصف بكمالات موجودة تليق به تعالى لا نهاية لها يعلمها الله تعالى تفصيلا ويعلم أنها لا نهاية لها ، لأنه لو انتفى عنه تعالى شئ من الكمال الذى يليق به لكان ناقصا والنقص محال فى حقه لا ستلزامه الحدوث المحال عليه تعالى .
((1/64)
ب ) المستحيل فى حق الله تعالى : يستحيل فى حقه تعالى بالأدلة التفصيلية السابقة ثلاث عشرة صفة مقابلة للصفات الواجبة له تعالى على الترتيب السابق . وهى العدم والحدوث " وهو الوجود بعد عدم " والفناء ، ومماثلته تعالى للحوادث " فى الذات " بأن يكون جسما مركبا أو حالا له شبيه " وفى الصفات " بأن يكون حياته كحياة الحوادث وعلمه كعلمهم وهكذا " وفى الأفعال " بألا يكون مؤثرا فى شئ ، وإنما له مجرد الكسب . تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا . فهو لا يماثل موجودا ولا يماثله موجود ، ولا يحده مقدار ولا تحويه أقطار ، لقوله تعالى : ( ليس كمثله شئ ) ( ومن المستحيل ) فى حقه تعالى احتياجه لموجد أو ذات يقوم بها . والتعدد " فى ذات " بأن يكون مركبا يقبل الانقسام أو يكون هناك ذات كذاته " وفى الصفات " بأن يكون له صفتان من جنس واحد كقدرتين وعلمين ، أو يكون لغيره صفة كصفته " وفى الأفعال " بأن يكون لغيره تأثير فى شئ من الأشياء بطبعه أو بقوة مودعه فيه . فليست النار محرقة بطبعها ولا بقوة خلقت فيها . وإنما الخالق للإحراق هو الله تعالى عند خلقه النار . ولو شاء خلق النار دون الإحراق لكان . كما حصل لخليله سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام . وليس الماء مرويا بطبعه ولا بقوة خلقت فيه وإنما الخالق للرى الله تعالى عند شرب الماء . وليس الملبوس ساترا وواقيا البرد أو الحر بنفسه ولا بقوة خلقت فيه . بل الخالق لما ذكر هو الله تعالى عند لبس الثياب . فمن يعتقد تأثير شئ من الأسباب فى مسببه بطبعه فهو كافر أو بقوة خلقها الله فيه فهو فاسق . ومن اعتقد عدم تأثيرها وأن الله هو المؤثر ولكن يستحيل خلق السبب بدون مسببه أو عكسه فهو مؤمن يخشى عليه إنكار معجزات الأنبياء فيكفر ، أو إنكار كرامات الأولياء فيفسق .(1/65)
والاعتقاد الصحيح اعتقاد أن المؤثر فى السب والمسبب هو الله تعالى مع إمكان تخلف أحدهما عن الآخر خرقا للعادة ( ومن المستحيل ) فى حقه تعالى الموت وما فى معناه كالنوم والإغماء . قال الله تعالى : { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } ( ومنه ) الجهل وما فى معناه كالظن والشك والوهم والغفلة والذهول والنسيان ، ( ومنه ) وجود شئ من الحوادث بلا إرادته تعالى بأن يكون بطريق الطبع أو العلة . فلا يقع فى الملك والملكوت قليل أو كثير صغير أو كبير خير أو شر إلا بقضائه وقدره . ( ومنه ) العجز عن ممكن ما والصمم وما فى معناه كسمعه الجهر دون السر ، وكاختصاصه بالأصوات دون الذوات وسائر الموجودات ( ومنه ) العمى وما فى معناه كالعشى – بفتحتين مقصورا – وهو عدم الإبصار ليلا – والجهر – بفتحتين وهو عدم الإبصار نهارا ( ومنه ) البكم وهو الخرس وما فى معناه كالفهاهه والعى والسكوت ، وكون كلامه تعالى بحروف وأصوات . هذا ما دلت على استحالة فى حق الله تعالى الأدلة التفصيلية، وهى أدلة الواجب التفصيلى ويجب على كل مكلف أن يعتقد بعد ذلك أن الله تعالى منزه عن كل نقص كما أنه متصف بكل كمال .
((1/66)
جـ ) الجائز فى حق الله تعالى : يجوز فى حقه تعالى فعل كل ممكن أو تركه فهو متفضل بالخلق والاختراع والتكليف والأنعام والإحسان لا عن وجوب ولا إيجاب . فلا يجب عليه شئ مما ذكر . ولا يستحيل عليه تعالى فعل ما يضر عباده ، بل يجوز أن يفعله بهم بطريق العدل ، إذ للمالك أن يتصرف فى ملكه بما يشاء. فهو الخالق للإيمان والطاعة والسعادة والعافية ، وسائر النعم فضلا منه وإحسانا(1) . وهو الخالق للكفر والمعاصى والشقاوة والأمراض والفقر ونحو ذلك عدلا منه فى مملوكه ، قال تعالى : { وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ } عجز آية (105) البقرة . وقال : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } (68) القصص . وقال : ( فعال لما يريد ) (16) البروج . وقال : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ } (93) النحل . وقال : { من يضلل الله فلا هادى له } (86) الأعراف . وقال : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } (23) الأنبياء . فيجوز فى حقه تعالى عقلا ( تعذيب ) المطيع عدلا منه لأنه الخالق للطاعة مع تنزهه عن الانتفاع بها . وإنما ينتفع بها العبد الذى وفقه الله لكسبها ، ( وإثابة ) العاصى فضلا منه لأنه الخالق للمعصية مع تنزهه عن التضرر بها . وإنما يتضرر بها من خذله الله باكتسابها عدلا منه .
__________
(1) قال تعالى ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) عجز ( 185 ) البقرة وقال تعالى ( وما الله يريد ظلما للعباد ) عجز آية 31 غافر . وفى الحديث القدسى " يا عبادى انما هى اعمالكم احصيها لكم ثم اوفيكم اياها فمن وجد خيرا فليحمد الله تعالى . ومن وجد غير ذلك فلا يلومن الا نفسه " أخرجه مسلم عن أبى ذر [16] عجز حديث 782 ص 163 - الاتحافات السنية .(1/67)
قال تعالى : { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } (49) الكهف . وقال : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } (46) فصلت (1) وقال : { وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } عجز (384) البقرة . وقال : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } (17) فاطر . وفى الحديث القدسى " يا بنى آدم ما خلقتكم لأستكثر بكم من قلة ، ولا لأستأنس بكم من وحشة ، ولا لأستعين بكم من وحدة على أمر عجزت عنه ، ولا لجر منفعة ، ولا لدفع مضرة . بل خلقتكم لتعبدونى طويلا وتشكرونى كثيرا وتسبحونى بكرة وأصيلا . ولو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنكم وحيكم وميتكم وصغيركم وكبيركم وحركم وعبدكم ، اجتمعوا على طاعتى مازاد فى ذلك ملكى مثقال ذرة . ولو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنكم وحيكم وميتكم وصغيركم وكبيركم وحركم وعبدكم ، أجتمعوا على معصيتى ما نقص ذلك من ملكى مثقال ذرة(2) " {17} وقال تعالى : { وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ العَالَمِين } (6) العنكبوت . وهم الفقراء إليه وهو الغنى الحميد ( ومن الجائز ) رؤيته تعالى بالأبصار وغيرها خرقا للعادة بلا اتصال الأشعة به تعالى ولا كيفية ولا انحصار فى جهة .
__________
(1) و ( ظلام ) صيفة تدل على النسب كتمار ، ولبان أى ليس منسوبا للظلم . وليس المراد انتفاء كثرة الظلم عن الله تعالى فحسب بل المراد انتفاء الظلم عنه تعالى وأبلغ منه انتفاء ارادته عنه تعالى كما قال سبحانه ( وما الله يريد ظلما للعباد ) عجز 31 غافر .
(2) لم أقف على من أخرجه بهذا اللفظ .(1/68)
قال الله تعالى: { وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } (23) القيامة. وسيأتى تمامه فى بحث الرؤية إن شاء الله تعالى .
( ومن الجائز ) إنزال الكتب وإرسال الرسل مبينين للناس ما نزل إليهم مبشرين الطائعين بالجنة والنعيم، ومنذرين العاصين بالنار والعذاب الأليم . قال تعالى : ( نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه . وأنزل التوراة والإنجيل (3) من قبل هدى للناس ، وأنزل على عبده الكتاب ) وقال : ( تبارك الذى الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ) وقال : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } (89) النحل. وقال : { رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } (165) النساء .
هذا . ومما تقدم تعلم أنه يجب على كل مكلف أن يعتقد أن الله تعالى متصف بصفات الجلال والكمال التى تليق بعظمة تعالى الواردة فى الكتاب العزيز والسنة المطهرة . وأنه تعالى منزه عن كل نقص ، وعن مشابهة الحوادث ، تعالى الله عن ذلك .
المتشابه(1/69)
أما ما ورد من الآيات والأحاديث المتشابهة ، فقد أجمع السلف والخلف رضى الله عنهم على أنها مصروفه عن ظاهرها ، لقوله تعالى : ( قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد ) وقوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } (11) الشورى ( ثم اختلفوا ) فى بيان معانى تلك الآيات والأحاديث ( فالسلف ) يفوضون علم معانيها إليه تعالى . فيقولون أن الاستواء فى آية { الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى } (5) طه – لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى ، مع جزمهم بأنه جل جلاله يستحل عليه الاستقرار على العرش أو اتصاله به أو جلوسه عليه ، لأنه تعالى اله قديم موصوف باستوائه على العرش قبل خلق العرش ، لأن القرآن الذى منه هذه الآية موجود قبل إيجاد العرش ، فكيف يعقل أنه تعالى استقر على العرش غير موجود؟ ولما خلق الخلق لم يحتج الى مكان يحل فيه . بل هو غنى عنه . فهو تعالى لم يزل بالصفة التى كان عليها ( والخلف ) يقولون فيها : الاستواء لأنه معناه الاقتدار والتصرف أو نحو ذلك ، ومذهب السلف أسلم ، لأنه يحتمل أن الله عز وجل أراد معنى فى الآية غير ما فسرها به الخلف .
((1/70)
ووجه ) صحة مذهب الخلف أنهم فسروا الآية بما يدل عليه اللفظ العربى . والقرآن عربى ( وحملهم ) على التفسير المذكور ولم يفوضوا كما فوض السلف ( وجود ) المشبهة والمجسمة فى زمانهم زاعمين أن ظاهر الآيات يدل على أنه تعالى جسم ، ولم يفقهوا أنه مستحيل عليه عز وجل الجسمية والحلول فى الأمكنة . وقد اغتر بعض العوام بقولهم فاعتقدوا أن الله تعالى جالس على العرش وحال فى السماء . فكفروا والعياذ بالله تعالى، والنفس أمارة بالسوء ، والشياطين تحسن لها ارتكاب ما تخلد به فى النار ( فوجب ) عليهم أن يبينوا للعامة معنى تلك الآيات والأحاديث المتشابهة – حسب مدلولات القرآن والأحاديث النبوية – بما يصح اتصاف الله تعالى به ، ليعرفوا الحق فيعلموا عليه ويتركوا الباطل وأهله فلا يكفرون . فجزاهم الله تعالى خير الجزاء ( وقد ) نقل العلامة أحمد زروق عن أبى حامد أنه قال : لا خلاف فى وجوب التأويل عند تعين شبهة لا ترتفع إلا به أهـ ( والحاصل ) أن الخلف لم يخالفوا السلف فى الاعتقاد وإنما خالفوهم فى تفسير المتشابه للمقتضى الذى حدث فى زمانهم دون زمان السلف كما علمت . بل اعتقادهم واحد ، وهو أن الآيات والأحاديث المتشابهات مصروفه عن ظاهرها الموهم تشبيهه تعالى بشئ من صفات الحوادث وأنه سبحانه وتعالى مخالف للحوادث ، فليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا مستقر على عرش ولا فى سماء ولا يمر عليه زمان وليس له جهة إلى غير ذلك مما هو من نعوت المخلوقين ( فمن اعتقد ) وصفه تعالى بشيء منها فهو كافر بإجماع السلف والخلف . نسأل الله تعالى حسن الاعتقاد أن الله تعالى استقر على العرش وحل فى السماء وأنه فى جهة من الجهات ، وأن له مكانا ونحو ذلك مما هو من صفات المخلوق ( وجود ) بعض مؤلفات لبعض من ينتسبون إلى العلم مال وله جهة ويتصف بالتحول والانتقال إلى غير ذلك من الضلال والإضلال .(1/71)
تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ( واطلع ) عليها من لا علم عنده بأصول الدين الصحيحة فاعتقد أن ما ذكر فيها حق وعقائد صحيحة ، وأعانه على ذلك الاعتقاد المكفر من كفر قبله بسبب هذا الاعتقاد ( ويقولون ) لهم : هذه كتب أكابر العلماء المحققين . وهذه العقيدة عقيدة السلف، ومن لم يعتقدها يكون كافرا مخلدا فى النار معطلا لصفات الله غير ذلك من البهتان الفظيع(1) ( ومن ) جهلهم استدلالهم على دعواهم الباطلة أن الله تعالى استقر على العرش ، بقول بعض السلف كمالك بن أنس رضى الله تعالى عنه جوابا للسائل عن معنى ( الرحمن على العرش استوى ) الاستواء معلوم والكيف مجهول والايمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أظنك الا ضالا . ثم أمر به فأخرج . ولا دليل فيها ، فان معنى الاستواء معلوم أنه مصرح به فى القرآن . ففى رواية تأتى للشافعى عن مالك (2) : الاستواء مذكور وكيفيته مجهولة يعنى لا نعلم معناه ، لأنه لا يعلم معنى المتشابه الا الله تعالى . فهو ناطق بأنه لا يتعرض لبيان معناه لعدم علمه به . فكيف يدعى عليه أنه فسر الاستواء بالاستقرار والجلوس ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم ( والأدهى ) دعوى هذه الشرذمة أن من لم يعتقد أن لله تعالى جهة ، وأنه فى مكان ، فهو كافر لانكاره وجود الله عز وجل . ويقولون لمن حضرهم من العوام بسطاء العقول : اذا كان الله تعالى ليس فى جهة فوق ولا تحت ولا أمام ولا خلف ولا يمين ولا شمال ، فهو غير موجود . فيجب الكفر بالاله الذى لا جهة له ولا مكان . ( فهذه ) الدعوى ) ناطقة بأنهم يعتقدون أن الله تعالى جسم كالأجسام شبيه بالحوادث .
__________
(1) وقد نوه الشيخ الامام فى كتاب " اتحاف الكائنات " عن هذه الكتب وذكر نصوص بعض الائمة المحققين الذين تعرضوا للرد على أربابها وبيان فساد عقيدتهم الزائفة .
(2) يأتى ص 36 ان شاء الله تعالى ( عبارة الفقه الأكبر ) .(1/72)
وهو كفر صريح نعوذ بالله تعالى من الكفر وأهله ( فقد ) عكسوا الحقائق لانعكاس بصيرتهم وفظيع مركب جهلهم . قال الله تعالى ( ومن يضلل الله فما له من هاد ) عجز (33) الرعد ( اذ لو كانوا ) يسمعون أو يعقلون وتأملوا قليلا ( لعرفوا ) أن ( دعواهم ) أن الاله القديم يتوقف وجوده على كونه فى جهة من الجهات وله مكان ( صريحة ) فى اعتقادهم عدم وجود الله سبحانه وتعالى لأنه لا مكان له ولا جهة ، مع انه كان موجودا قبل خلق الجهات والأمكنة ، وكان موجودا ولا شئ معه كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم . وذلك من صفات الألوهية . كما أن الاحتياج الى المكان والجهة من صفات الأجسام الحادثة . ( وكيف ) يتوهم من عنده شائبه عقل أن وجود الاله القديم يتوقف على اتصافه8 بصفات المخلوق . أن هذا لمن أشنع الخبال والبهتان ( والأغرب ) أنهم يعتقدون أنهم سلفيون وهم كاذبون وبغيهم جاهلون .
( ومن خرافاتهم ) دعواهم أن من لم يعتقد أن الله عز وجل جالس ومستقر على العرش أو فى السماء ، معطل لصفات الإله ( مع العلم ) الضرورى أن ذلك ليس من صفات الله تعالى ، بل هو ضد صفاته سبحانه وتعالى ، ناف للألوهية بالكيلة كما علمت .
((1/73)
وأما ) السلف والخلف فانهم مجمعون على ثبوت صفات الله تعالى الواردة فى الكتاب العزيز والسنة المحمدية . وإنما خلافهم فى تفويض معنى المتشابه وهو مذهب السلف . وفى بيان معناه وهو مذهب الخلف ( قال الإمام ) السلفى الجليل ابن كثير فى تفسيره ما نصفه : أما قوله تعالى { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ } (54) الأعراف فلنا فى هذا المقام مقالات كثيرة جدا ليس هنا موضوع بسطها . وإنما نسلك فى هذا المقام مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعى والثورى والليث ابن سعد قديما وحديثا . وهو أمراها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطليل والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفى عن الله تعالى ، فإن الله لا يشبهه شئ من خلقه و { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } (11) الشورى . بل الأمر كما قاله الأئمة . منهم نعيم بن حماد الخزاعى شيخ البخارى قال : من شبه الله بخلقه كفر ، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر . وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه ( فمن أثبت ) لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى ( ونفى ) عنه تعالى النقائص ، فقد سلك سبيل الهدى أهـ ( وقال ) العلامة إسماعيل حقى فى تفسيره روح البيان : من قال أن الله فى السماء ، أن أراد به المكان كفر . وان أراد به الحكاية عما جاء فى الظاهر الأخبار لا يكفر ، لأنها مؤولة . والأذهان السليمة والعقول المستقيمة لا تفهم بحسب السليقة من مثل هذه التشبيهات إلا عين التنزيه أهـ ( ولذا ) لم يتعرض السلف لتأويل المتشابهات لكون العقول إذ ذاك كانت سليمة لا تفهم من المتشابه إلا تنزيه الله عز وجل عن صفات الحوادث . ( وتعرض ) الخلف للتأويل لفساد عقول كثير من أهل زمانهم ففهموا من ظاهر المتشابهات أن الله سبحانه وتعالى جسم يحل فى العرش أو السماء أو الجهة .(1/74)
وقد تقدم التنبيه على ذلك ( قال ) فى روح البيان : يقال لمن قال أن لله تعالى مكانا : أين كان قبل خلق هذه العوالم ؟ ألم يكن له وجود متحقق ؟ فان قالوا : لا ، فقد كفروا وان قالوا بالحلول والانتقال ، فكذلك ، لأن الواجب لا يقارن الحادث إلا بالتأثير والفيض وظهور كمالاته ، لكن لا من حيث انه حادث مطلقا بل من حيث أن وجوده مستفاض منه ، فافهم أهـ ( وقال ) أيضا : من يثبت له تعالى مكانا فهو من المجسمة . ومنهم جهلة المتصوفة القائلون بأنه تعالى فى كل مكان ، ومن يليهم من العلماء الزائغين عن الحق الخارجين عن طريق العقل والنقل والكشف أهـ .
( والعلماء ) الزائغون عن الحق هم الذين ذمهم الله تعالى بقوله { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ } (7) آل عمران . وأى فتنة أفظع من كونهم كفروا بالله تعالى لاعتقادهم أن الله تعالى جالس على العرش أو له مكان أو حل فى جهة زعما منهم أن ظاهر الآيات والأحاديث يدل على ذلك وكفر بسببهم كثير من جهلة العوام ضعفاء العقول كما شاع وذاع فى كثير من البقاع فلا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم .
( وقال ) البيضاوى فى تفسير قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ } (54) الأعراف : استوى أمره أو استولى وعن أصحابنا أن الاستواء على العرش صفة لله بلا كيف . والمعنى أن له تعالى استواء على العرش على الوجه الذى عناه منزهتا عن الاستقرار والتمكن ا هـ .
( وقال ) العلامة الخطيب : الله تعالى لا يتصف بالأماكن والجهات والحدود ، لأنها صفات الأجسام ولأنه تعالى خلق الأمكنة وهو غير متحيز ، وكان فى أزله قبل خلق المكان والزمان ولا مكان له ولا زمان وهو الآن على ما عليه كان ا هـ .
((1/75)
وقال ) العارف الصاوى فى تفسير قوله تعالى : { يخالفون ربهم من فوقهم } (5) النحل : المراد بالفوقية القهر لا الجهة لأنها مستحيلة عليه تعالى أهـ ( وقال ) الإمام القرطبى فى تفسير قوله تعالى { أمنتم من فى السماء } (16) الملك : المراد بها توقيره وتنزيه تعالى عن السفل والتحت ووصفه بالعلو والعظمة لا بالأماكن والجهات والحدود ، لأنها من صفات الأجسام ، ولأنه خلق الأمكنة وهو غير محتاج إليها ، وكان فى أزله قبل خلق المكان والزمان ولا زمان ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان أهـ .
( وقال ) : أبو حيان فى تفسيره : معتقد أهل الحق أن الله تعالى ليس بجسم ولا جارحة له ولا يشبه بشئ من خلقه ولا يكيف ولا يتحيز ولا تحله الحوادث أهـ . ( وقال ) فى تفسير قوله تعالى { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ } (3) الأنعام : إنما ذهب أهل العلم إلى الخروج عن ظاهر ( فى السموات وفى الأرض ) لما قام عليه العقل من استحالة حلول الله تعالى فى الأماكن ومماسة الأجرام ومحاذاته لها وتحيزه فى جهة أهـ .
( وقال ) الامام النيسابورى فى تفسير قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ } (54) الأعراف : يقطع بكونه تعالى متعاليا عن المكان والجهة أهـ .
( وقال ) عماد الدين الكندى فى تفسير قوله تعالى ( وهو الله فى السموات وفى الأرض ) : حلول الله تعالى فى الأماكن مستحيل ، وكذلك ممارسة الأجرام أو محاذاته لها ، أو تحيزة فى جهة ، لا متناع جواز التغير عليه تبارك وتعالى ، وقد استقرت القواعد على أن الله تبارك وتعالى لا يجوز عليه الجهة ولا الظرفية ا هـ . بتصرف ( وقال ) فى تفسير قوله تعالى { وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } (61) الأنعام : الفوقية تمثيل للقهر لا للقاهر. وما أغبى الحشوية وأجمدهم حيث الترموا فوقية الجهة والجسمية فيمن يستحيل عليه ذلك . فما بالحشوية الا مكايدة المعقول ومكابرة المنقول أهـ .
((1/76)
وقال ) العلامة ابن العادل الدلجى فى تفسير قوله تعالى { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ } (84) الزخرف : ابن الخطيب : وهذه الآية من أدل الدلائل على أنه تعالى غير مستقر فى السماء ، لأنه تعالى بين فى هذه الآية أن نسبته بالهية السماء كنسبته بالهية الأرض . فلما كان الها للأرض مع أنه غير مستقر فيها ، فكذلك وجب أن يكون الها للسماء مع انه لا يكون مستقرا فيها أهـ . ( وقال ) فى تفسير قوله تعالى (وهو معكم) : لابد فيه من التأويل . فاذا جوزنا التأويل فى موضع وجب تجويزه فى سائر المواضه ا هـ فيجب التأويل فى آية { الرحمن على العرش استوى } ( 5 ) طه – بصرفها عن ظاهرها . وهو الاستقرار والجلوس. وكذلك سائر المتشابهات من الآيات والأحاديث ( وقال ) أيضا فى تفسير قوله عز وجل ( ءأمنتم من فى السماء ) قال ابن الخطيب : هذه الآية لا يمكن اجرؤاها على ظاهرها باتفاق المسلمين ، لأن ذلك يقتضى احاطة السماء به من جميع الجوانب ، فيكون أصغر منها . والعرش أكبر من السماء بكثير . فيكون حقيرا بالنسبة الى العرش وهو باطل بالاتفاق . ولأنه قال { قل لمن ما فى السموات والأرض ؟ قل لله } ( 13) الأنعام . فلو كان فيهما لكان مالكا لنفسه . فالمعنى اما من فى السماء عذابه . واما من فى السماء سلطانه وملكه وقدرته ، كما قال الله تعالى { وهو الله فى السموات وفى الأرض } (3) الأنعام . فان الشئ الواحد لا يكون دفعه فى مكانين . والغرض من ذكره السماء تفخيم فى شرح صحيح البخارى فى تفسير الاستواء على العرش : قالت المجسمة : معناه الاستقرار. وهو قول فاسد ، لأن الاستقرار من صفات الأجسام . ويازم منه الحلول والتناهى وهو محال فى حق الله تعالى ولائق بالمخلوقات ا هـ .
((1/77)
وقال ) العلامة النووى فى شرح صحيح مسلم : مذهب السلف فى أحاديث الصفات أنه يجب علينا أن نؤمن بها ونعتقد لها معنى يليق بجلال الله تعالى مع اعتقادنا أن الله ليس كمثله شئ وأنه منزه عن التجسم والانتقال والتحيز فى جهة وعن سائر صفات المخلوق اهـ ( وقال ) القاضى عياض : لا خلاف بين المسلمين قاطبه فقيههم ومحدشهم ومتكلمهم ومجتهدهم ومقلدهم ، أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى كقوله تعالى : { ءأمنتم من فى السماء أن يخسف بكم الأرض } ونحوه ليست على ظاهرها بل متأولة عند جميعهم اهـ (وقال) العلامة الأبى فى شرح صحيح مسلم . قال القاضى عياض : لم يختلف المسلمون فى تأويل ما يوهم أنه أنه القاهرة فوق عباده ، وانه استوى على العرش " فالتمسك " بالآية الجامعة للتنزيه الكلى الذى لا يصح فى العقل غيره وهى قوله تعالى ( ليس كمثله شئ ) " عصمة " لمن وفقه الله تعالى اهـ .
( وقال ) العلامة أحمد زروق فى شرحه على رسالة ابن أبى زيد القيروانى . قال أبو حامد : انه تعالى مستو – على العرش على الوجه الذى قاله ، وبالمعنى الذى أراده – استواء منزها عن الممارسة هو الاستقرار والتمكن والحلول والانتقال لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بمحض قدرته ومقهورون فى قبضته أهـ . وهو مذهب السلف الصالح . ومنهم الأئمة المجتهدون أبو حنفية ومالك والشافعى وأحمد وغيرهم .
( وقال ) العلامة الكبير الشيخ زين الدين الحنفى فى كتابه البحر الرائق شرح كنز الدقائق ( ا ) ويكفر " بقوله " يجوز أن يفعل الله فعلا لا حكمة فيه ، وباثبات المكان لله تعالى فان قال : الله فى السماء . فان قصد حكاية ما جاء فى ظاهر الخبار لا يكفر . وان أراد المكان كفر . وان لم يكن له نية ، كفر عند الأكثر وهو الأصح . وعليه الفتوى ( ب ) " وبقوله " الله جلس للانصاف أو قام له وبوصفه تعالى بالخوق أو بالتحت ا هـ بحذف .
((1/78)
وقال ) الامام الشافعى فى كتابه الأكبر : فصل واعلموا أن البارئ لا مكان له . والدليل عليه هو أن الله تعالى كان ولا مكان فخلق المكان وهو على صفته الأزلية كما كان قبل خلقه المكان . لا يجوز عليه التغيير فى ذاته والتبديل فى صفاته ، ولأن من له مكان وله تحت يكون متناهى الذات محدودا . والمحدود مخلوق . تعالى الله عن ذلك . ولهذا المعنى استحال عليه الزوجة والولد ، لأن ذلك لا يتم الا بالمباشرة والاتصال والانفصال . فكذلك الزوجة والولد فى صفته تعالى محال ( فان قيل ) قال الله تعالى ( الرحمن على العرش استوى ) ( يقال ) له ان هذه الآية من المتشابه التى يحار فى الجواب عنها وعن أمثالها من لا يريد التبحر فى العلم ، أى يمر بها كما جاءت ولا يبحث عنها ولا يتكلم فيها ، لأنه لا يأمن الوقوع فى الشبة والورطة اذا لم يكن راسخا فى العلم . ويجب أن يعتقد فى صفة البارئ ما ذكرناه . وأنه لا يحويه مكان ولا يجرى عليه زمان منزه عن الحدود والنهايات ، مستغن عن المكان والجهات ليس كمثل شئ . ويتخلص عن هذه المهالك ( ولهذا ) زجر مالك السائل حين سأله عن هذه الآية فقال : الاستواء مذكور وكيفيته مجهولة ، والايمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة . ثم قال : فان عدت الى مسألتك أمرت بضرب رقبتك . أعذانا الله تعالى واياكم من التشبيه ا هـ كلام الامام الشافعى رضى الله تعالى عنه ( ونحوه ) للامام أبى حنيفة فى الفقه الأكبر وشرحه ( وقال ) العلامة الجليل سعد الدين التفتازانى فى كتابه تهذيب الكلام ( والقول ) بانه تعالى جسم على صورة انسان أو غيره وفى جهة العلو مماسا للعرش أو محاذيا له تمسكا بأن كل موجود جسم أو جسمانى ومتحيز أو حال فيه ومتصل بالعلم أو منفصل عنه ( جهالة ) والنصوص مؤولة ا هـ .
((1/79)
قال ) محشية محمد وسيم : وأما ما تقرر فى فطرة العقلاء مع اختلاف آرائهم من التوجه الى العلو فى الدعاء ورفع الأيدى الى السماء فليس من جهة اعتقادهم أنه فى تلك الجهة بل من جهة أن السماء قبلة الدعاء ، منها تتوقع الخيرات والبركات وهبوط الأنوار ونزول الأمطار المحيى للأقطار ا هـ .
( وقال ) المحقق الدوانى على العقائد العضدية : ويستحيل عليه تعالى التحيز والجهة ولا يصح عليه الحركة والانتقال أ.هـ (قال) القدوة السنوسي في عقيدة أهل التوحيد الكبرى : ومن هنا – يعنى من وجوب قدمه تعالى وبقائه – تعلم وجوب تنزهه تعالى عن أن يكون جرماً أو قائماً أو محاذياً له أو في جهة له أو مرتسماً في خياله ، لان ذلك كله يوجب مماثلته للحوادث ، فيجب له ما وجب لها . وذلك يقدح في وجوب قدومه وبقائه ، بل وفي كل وصف أوصاف ألوهيته أهـ . ( وقال ) العلامة الدسوقي في حاشيته على أم البراهين : أنه يستحيل عليه تعالى أن يكون له جهة ، لأن الجهات من عوارض الجسم ، والله تعالى يستحيل أن يكون جسماً أهـ . ( وقال ) العلامة الهدهدي في شرحه على السنوسية : وكذا يستحيل عليه أن يكون في جهة ، لأنه لو كان في جهة لزم أن يكون متحيزا أهـ . أي وكونه تعالي متحيزا محال عليه عز وجل .
( وقال ) اعلامة الفخر الرازي في كتابه اساس التقديس : ظاهر قوله تعالي : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ } (16) ق . وقوله : { وهو معكم اينما كنتم } (4) الحديد . وقوله : { وهو الذي في السماء اله وفي الارض اله } (84) الزخرف . ينفي كونه مستقرا علي العرش وليس تأويل هذه الايات اولي من الايه التي تمسكوا بها يعني ( الرحمن علي العرش استوي ) أهـ .
((1/80)
وقال) أيضا في كتابه المذكور : ان الدلائل العقلية القاطعة التي قدمنا ذكرها تبطل كونه تعالي مختصا بشئ من الجهات . واذا ثبت هذا ظهر انه ليس المراد من الاستواء الاستقرار . فوجب ان يكون المراد هو الاستيلاء والقهر ونفاذ القدر وجريان الاحكام الالهية . وهذا مستقيم علي قانون اللغة ، وتمامه فيه .
( وقال ) العلامة جمال الدين عبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي في كتابه " دفع شبهة التشبيه " : الحق سبحانه وتعالي لا يوصف بالتحيز ، لانه لو كان متحيزا لم يخل اما ان يكون ساكنا في حيزه او متحركا عنه ، ولا يجوز ان يوصف بحركة ولا سكون ولا اجتماع ولا افتراق ، ومن جاور او بين فقد تناهي ذاتا ، والتناهي اذا اختص بمقدار استدعي مخصصا ، وكذا ينبغي ان يقال ليس بداخل في العالم وليس بخارج منه ، لان الدخول والخروج من لوازم المتحيزات . فهما كالحركة والسكون وسائر الاعراض التي تخص الاجرام اهـ . ( وقال ) ايضا : قال القاضي ابو يعلي في كتابه المعتمد : ان الله عز وجل لا يوصف بالمكان اهـ . (وقال) ومن الايات قوله تعالي ( ءامنتم من في السماء ) قد ثبت قطعا ان الاية ليست علي ظاهرها لان لفظة " في " للظرفبة . والحق سبحانه وتعالي غير مظروف . واذا منع الحس ان ينصرف الي مثل هذا بقي وصف العظيم بما هو عظيم عند الحق أهـ .
(وقال )المحقق الجليل علي القاري في شرح المشكاة : قال جمع من السلف والحلف : ان معتقد الجهة كافر كما صرح به العراقي انه قول لابي حنيفة ومالك والشافعي والاشعري والباقلاني اهـ . ومحل الخلاف في كفره ان اعتقد جهة العلو لله تعالي مع اعتقاد انه تعالي لا مكان له ولا تحيز ولا اتصال بعرش ولا سماء ولا غيرهما من الحوادث ، والا فهو كافر باجماع عقلاء المسلمين .
((1/81)
وجملة القول ) ان الادلة القطعية والبراهين النقلية ناطقة بانه تعالي ليس له جهة وليس في جهة ، وليس جالسا علي العرش ولا حالا السماء ولا غيرها ، ولا يتصف بالتحول والانتقال ، وليس جسما ولا جوهرا ولا عرضا ، ولا غير ذلك من صفات الحوادث(1)
__________
(1) وقد افتي الشيخ سليم البشري رحمه الله بان من اعتقد الجهة لله تعالي من التجسيم فهو كافر ومن اعتقدها مع التنزيه فهو فاسد العقيدة ضال فيها . قال :الي حضرة الفاضل الشيخ احمد علي بدر ببلصفورة : قد ارسلتم بتاريخ 22 محرم سنه 1325 هـ مكتوبا مصحوبا بسؤال عن حكم من يعتقد ثبوت الجهة له تعالي . فحررنا لكم الجواب الاتي وفيه الكفاية لمن اتبع الحق وانصف : اعلم ان مذهب الفرقة الناجية وما عليه اجمع السنيون أن الله تعالى منزه عن مشابهة الحوادث مخالف لها فى جميع سمات الحدوث ومن ذلك تنزهه عن الجهة والمكان دلت على ذلك البراهين القطعية فان كونه فى جهة يستلزم قدم الجهة أو المكان وهما من العالم – وهو ما سوى الله تعالى – وقد قام البرهان القاطع على حدوث كل ما سوى الله تعالى باجماع من أثبت الجهة ومن نفاها ولأن المتمكن يستحيل وجود ذاته بدون المكان مع أن المكان يمكن وجوده بدون المتمكن لجواز الخلاء فيلزم امكان الواجب ووجوب الممكن وكلاهما باطل ولأنه لو تحيز لكان جوهرا لاستحالة كونه عرضا ولو كان جوهرا فاما أن ينقسم واما الا ينقسم وكلاهما باطل فان غير المنقسم هو الجزء الذى لا يتجزأ وهو أحقر الأشياء – تعالى الله عن ذلك علوال كبيرا – والمنقسم جسم وهو مركب ..والتركيب ينافى الوجوب لذاته غنى عن كل ما سواه مفتقر اليه كل ما عداه سبحانه ليس كمثله شئ وهو السميع البصير هذا وقد خذل الله أقواما أغواهم الشيطان وأذلهم اتبعوا أهواءهم وتمسكوا بما لا يجدى فاعتقدوا ثبوت الجهة تعالى الله عن ذلك هلوا كبيرا واتفقوا على أنها جهة فوق الا أنهم افترقوا ( فمنهم ) من اعتقد أنه جسم مماس للسطح العلى من العرش. وبه قال الكراميةاليهود وهؤلاء لا نزاع فى كفرهم ( ومنهم ) من أثبت الجهة مع التنزية وأن كونه فيها ليس ككون الاجسام وهؤلاء ضلال فساق فى عقيدتهم واطلاقهم على الله ما لم يأذن به الشارع . ولا مرية أن فاسق العقيدة أقبح وأشنع من فاسق الجارحة بكثير سيما من كان داعية أو مقتدى به ( وممن نسب ) اليه القول بالجهة من التأخرين أحمد بن عبد الحليم ابن عبد السلام بن تيمية الحنبلى . وقد انتدب بعض تلامذته للذب عنه وتبرئته مما نسب اليه وساق له عبارات أوضح معناها وأبان غلط الناس فى فهم مراده واستشهد بعبارات له أخرى صريحة فى دفع التهمة عنه وأنه لم يخرج عما عليه الاجماع وذلك هو المظنون بالرجال لجلالة ورسوخ قدمه . وما تمسك به المخالفون عليه وما تمسكوا به ظواهر آيات وأحاديث موهمة كقوله تعالى ( الرحمن على العرش استوى ) وقوله (اليه يصعد الكلم الطيب) وقوله ( تعرج الملائكة والروح اليه ) وقوله ( ءأمنتم من فى السماء أن يخسف بكم الأرض ) وقوله ( وهو القاهر فوق عباده ) وكحديث " أنه تعالى ينزل الى سماء الدنيا كل ليلة فيقول : هل من تائب فأتوب عليه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ " وكقوله للجارية الخرساء (1) أين الله ؟ " فأشارت فى السماء " حيث سأل بأين التى للمكان ولم ينكر عليها الاشارة الى السماء بل قال : انها مؤمن ( ومثل ) هذه يجاب عنها بأنها ظواهر ظنية لا تعارض الأدلة القطعية اليقينية الدالة على انتفاء المكان والجهة . فيجب تأويلها وحملها على محامل صحيحة لا تاباها الدلائل والنصوص الشرعية اما تأويلا اجماليا بلا تعيين للمراد منها كما هو مذهب السلف ، واما تأويلا تفصيليا بتعيين محاملها وما يراد منها كما هو مذهب الخلف كقولهم : ان الاستواء بمعنى الاستيلاء كما فى قول القائل :
قد استوى بشر على العراق ... ... من غير سيف ودم مهراق
وصعود الكلم الطيب اليه قبوله اياه ورضاه به لأن الكلم عرض يستحيل صعوده . وقوله من فى السماء أى أمره وسلطانه أو ملك من ملائكته موكل بالعذاب ، وعروج الملائكة والروح اليه صعودهم الى مكان يتقرب اليه فيه ، وقوله : فوق عبادة أى بالقدرة والغلبة فان كل من قهر غيره وغلبيه فهو فوقه أى عال عليه بالقهر والغلبة كما يقال : أمر فلان فوق فلان أى أنه أقدر منه وأغلب . ونزوله على سبيل التمثيل وخص الليل لانه مظنة الخلوة والخضوع وحضور القلب ، وسؤاله للجارية ( بأين ) استكشاف لما يظن به اعتقاده من أينية المعبود كما يعتقده الوثنيون . فلما أشارات الى السماء فهم أنها أرادت خالق السماء فاستبيان أنها ليست وثنية وحكم بايمانها . وقد بسط العماء فى مطولاتهم تأويل كل ما ورد من أمثال ذلك عملا بالقطعى وحملا للظنى عليه فجزاهم الله عن الدين وأهله خير الجزاء وان العجيب أن يدع مسلم قو جماعة المسلمين وأئمتهم ويتمشدق بترهات المبتدعين وضلالتهم . أما سمع قول الله تعالى ( ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ) فليتب الى الله تعالى من تلطخ بشئ من هذه القاذورات ولا يتبع خطوات الشيطان فانه يآمر بالفحشاء والمنكر ولا يحملنه العناد على التمادى والاصرار عليه فان الرجوع الى الصواب عين الصواب والتمادى على الباطل يفضى الى أشد العذاب ( من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ) نسأل الله تعالى أن يهدينا جميعا سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وصحبه أجمعين ومن تبعهم باحسان الى يوم الدين .
ــــــــــــــــــــــ
(1) كذا قال العلامة عضد الدين عبد الرحمن فى المواقف . ولم تر كونها خرساء لغيره وظاهر الحديث يرده أنها قالت ( فى السماء ) وقالت : أنت رسول الله .(1/82)
( ومن الآيات المتشابهات ) قوله تعالى : ( ان الذين يبايعونك انما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم )(10) الفتح ( والسماء بنيناها بأيد ) (7) الذرايات . ( وقد ) اتفق علماء السلف والخلف المعول عليهم على أن اليد فى هذه الآيات ونحوها مصروفه عن ظاهرها ، لأن الله تعالى منزه عن الجارحة لقوله تعالى : ( ليس كمثله شئ ) (11) الشورى . ( واختلفوا ) فى بيان المراد منها ( فالسلف ) يفوضون علم المراد منها الى الله تعالى . لقوله عز وجل ( وما يعلم تأويله الا الله ) ( والخلف ) يقولون : المراد منها القدرة والنعمة ، بناء على أن الوقف فى الآية على قوله تعالى : ( والراسخون فى العلم ) ولكل وجهة .
( ومن الايات ) المتشابهات ( ويبقى وجه ربك ) (27) الرحمن . و ( لا اله الا هو كل شئ هالك الا وجهه ) (88) القصص . ( فالسلف ) يقولون : له وجه لا كوجوهنا لا يعلمه الا هو سبحانه وتعالى (1)(والخلف) يقولون : المراد بالوجه الذات . وعبر عنها بالوجه على عادة العرب الذين نزل القرآن بلغتهم . يقول أحدهم : فعلت لوجهك أى لك ، وقس على هذا باقى الآيات المتشابهة .
( ومن ) الأحاديث المتشابهة حديث أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة الى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : من يدعونى فأستجب له ؟ من يسألنى فأعطيه ؟ من يستغفرنى فأغفر له ؟ أخرجه مالك والخمسة الا النسائى(2){18} .
__________
(1) أثبتوا الوجه لله تعالى وقوفا مع كلامه الذى لا ريب فيه كما صرح به فى الآيتين المذكورتين – وقالوا له تعالى وجه لا كالوجوه فرارا من تشبيهه بالحوادث التى يتنزه – الله تعالى عن مماثلتها واتباعا لقوله تعالى ( ليس كمثله شئ وهو السميع البصير ) وكذلك القول فى المتشابه من اليد والرجل والساق والذات وغيرها من بقية المتشابهات الواردة كتابا وسنة .
(2) ص 3 ج 2 تيسير الوصول ( فضل الدعاء ووقته ) .(1/83)
وهو مصروف عن ظاهره باجماع السلف . ( قال ) العلامة ابن جماعة فى كتابه " ايضاح الدليل " ما ملخصه : اعلم أن النزول الذى هو الانتقال من علو الى سفل لا يجوز حمل الحديث عليه لوجوه : ( الأول ) أن النزول منصفات المحدثات ، ويتوقف على ثلاثة أجسام . منتقل . ومنتقل عنه . ومنتقل اليه . وذا محال على الله تعالى . ( الثانى ) لو كان النزول لذاته حقيقة لتجددت له كل يوم وليلة حركات عديدة تستوعب الليل كله ، لأن ثلث الليل يتجدد على أهل الأرض شيئا فشيئا . فيلزم انتقاله فى سماء الدنيا ليلا ونهارا من قوم الى قوم ، عوده الى العرش فى كل لحظة على رأى المجسمة القائلين بأنه تعالى ينزل بذاته ونزوله من العرش الى سماء الدنيا . ولا يقول ذلك ذو لب . ( الثالث ) أن القائل بأنه تعالى فوق العرش ، وأنه ملأه ، كيف يرى أن سماء الدنيا تسعه تعالى ؟ وهى بالنسبة الى العرش كحلقة فى فلاة . فيلزم عليه أحد أمرين اما اتساع سماء الدنيا كل ساعة حتى تسعه ، أو تضاؤل الذات المقدسة عند ذلك حتى تسعها السماء ونحن نقطع بانقاء الأمرين . ولذا ذهب جماعة من السلف الى عدم بيان المراد من النزول مع قطعهم بأن الله منزه عن الحركة والانتقال . وذهب المؤولن الى أن المراد بالنزول هنا الاقبال بالرحمة والاحسان واجابة الدعاء ( وقيل ) فى الكلام مضاف مقدر والمعنى ينزل أمر ربنا أو ملك ينزل بأمره . وهو فى القرآن كثير منه قوله تعالى : ( قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد ) (26) النحل . ومعلوم أن حامد الحنبلى المجسم : فى الحديث ما يتعالى الله عنه . وهو أنه ينزل من مكانه الذى هو فيه وينتقل . وأحمد ابن حنبل رحمه الله تعالى برئ منه ، ولقد تأذى الحنابلة بسوء كلامه واعتقاده أهـ . ((1/84)
فأنت ) ترى أن اعتقاد ابن حامد الحنلى وأحزابه دليل واضح على أنهم ما عرفوا أن الله سبحانه وتعالى اله قديم لا يتصف بالجسمية ولا التحول والانتقال ، لأن ذلك كله من صفات الحوادث . وأن الامام أحمد رضى الله تعالى عنه برئ منهم ( ولو كانوا ) يسمعون أو يعقلون ، لعرفوا أن الله تبارك وتعالى اله قديم موجود قبل خلق العالم يستحيل عليه الحركة والسكون وغيرهما من صفات المخلوق . قال الله تعالى : { وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } (23) غافر (وقال ) الامام فخر الدين الرازى فى كتابه أساس التقديس ص 134 ما حاصله : فاما الحديث المشتمل على النزول الى سماء الدنيا فالكلام عليه أن النزول قد يستعمل فى غير الانتقال . وذلك لوجوه ( منها ) قوله تعالى : { وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } (6) الزمر . ونحن نعلم بالضرورة أن الجمل أو البقر ما نزل من السماء الى الأرض على سبيل الانتقال . وقوله تعالى: { فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ } (6) الفتح . والانتقال على السكينة محال ( ومنها ) أنه ان كان مقصود من النزول من العرش الى سماء الدنيا أن يسمع نداؤه فهذا لم يحصل . وان كان المقصود مجرد النداء وان نسمع فهذا مما لا حاجة فيه الى النزول . وهذا عبث غير لائق بحكمة الله تعالى . ( ومنها ) أن من يقول بظاهر الحديث يرى أن كل السموات بالنسبة للكرسى كقطرة فى بحر والكرسى بالنسبة للعرش كذلك . ثم يقول ان العرش مملوءه منه والكرسى موضع قدمه . فاذانزل الى سماء الدنيا فكيف تسعه ؟ فاما أن يقال بتداخل أجزائه فى بعض ، وهذا يقتضى أنها قابلة للتفرق ويقتضى جواز تداخل جملة العالم فى خردلة واحدة وهو محال . واما أن يقال ان تلك الأجزاء فنيت عند النزول الى سماء الدنيا . وهذا مما لا يقوله عاقل فى حق الله تعالى ( فثبت ) أن القول بالنزول على الوجه الذى قالوه باطل .(1/85)
وانه يتعين حمل هذا النزول على نزول رحمته الى الأرض فى ذلك الوقت . وخص هذا الوقت بذلك لوجوه ( منها ) أن التوبة التى يؤتى بها فى جوف الليل شأنها أن تكون خالية عن شوائب الدنيا خالصة لوجه الله تعالى ، لأن الأغيار لا يطلعون عليها ، فتكون أقرب الى القبول ( ومنها ) أن الغالب على الانسان فى جوف الليل الكسل والنوم ، فلولا الرغبة الشديدة فى نيل الثواب العظيم لما تحمل مشاق السهر ، ولما أعرض عن اللذات الجسمانية ، ولذا احتيج فى الترغيب فى الطاعة والعبادة بالليل الى مزيد أمور تؤثر فى تحريك دواعى الاشتغال بالطاعة والتهجد لتكون الدواعى اليه أتم وأوفر ، ويكون الثواب أكمل . ولذا أثنى الله تعالى على من تحلى بالطاعة فى الليل . قال تعالى { كانوا قليلا من الليل ما يهجعون (17) وبالأسحار هم يستغفرون ) (18) الذرايات . وقال : ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون (16) فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } (17) السجدة . ( وقيل ) النزول فى الحديث كناية عن المبالغة فى الاكرام والاحسان . وذلك أن نزل من الملوك عند انسان لاصلاح شأنه والاهتمام بأمره يكون وجوده عنده مبالغة فى اكرامه فلما كان النزول مستلزما لغاية الاكرام وكمال الاحسان ، اطلق اسم النزول على الاكرام المذكور . ( وقيل ) ان " ينزل " فى الحديث بضم الياء من الانزال ، أى أن جمعا من أشراف الملائكة ينزلون فى ذلك الوقت بأمر الله تعالى ا هت . ( وقال ) الامام ابن الجوزى الحنبلى فى كتابه " دفع شبهة التشبيه " ص 46 : روى حديث النزول عشرون صحابيا وقد تقدم انه يستحيل على الله عز وجل الحركة والنقلة والتغير فيبقى الناس رجلين ( أحدهما ) المتأول بمعنى أنه يقرب رحمته . وقد وصف أشياء بالنزول فقال : { وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } (25) الحديد. وان كان معدنه فى الأرض .(1/86)
وقال: { وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } (6) الزمر ومن لم يعرف الجمل فكيف يتكلم فى نزوله(1) ( والثانى ) الساكت عن الكلام فى ذلك مع اعتقاد التنزيه . والواجب على الخلق اعتقاد التنزيه وامتناع تجويز النقلة ، وأن النزول الذى هو انتقال من مكان الى مكان يحتاج الى ثلاثة أجسام : جسم عال هو مكان لساكنه ، وجسم سافل ، وجسم منتقل من علو الى سفل . وهذا لا يجوز على الله عز وجل ( قال ) ابن حامد : هو على العرش بذاته مماس له وينزل وينزل من مكانه الذى هو فيه وينتقل . وهذا رجل لا يعرف ما يجوز على الله ( وقال ) أبو يعلى : النزول صفة ذاتية ولا نقول نزوله انتقال ، وهذا مغالط ( ومنهم ) من قال يتحرك اذا نزل . وما يدرى أن الحركة لا تجوز على الله تعالى . وقد حكوا عن الامام أحمد ذلك . وهو كذب عليه . ولو كان النزول صفة ذاتية لذاته لكانت صفته كل ليلة تتجدد . وصفاته قديمة كذاته أهـ .
(
__________
(1) الجمل من الأنعام وهى فى الأرض فالانزال بمعنى الخلق .(1/87)
وقال ) العلامة ابن أبى جمرة فى كتابه " بهجة النفوس " ص 39 ردا على المجسمة ( وأما ) ما زعموا من الجسمية وتعلقوا فى ذلك بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام " ينزل ربنا كل ليلة الى سماء الدنيا " الى غير ذلك من الأحاديث التى جاءت فى هذا المعنى ( فليس ) لهم فى ذلك حجة أيضا ، لأن ذلك فى اللغة محتمل لأوجه عديدة كقولهم : جاء زيد ، يريدون ذاته ويريدون غلامه ويريدون كتابه ويريدون خبره . والنزول مثله كقولهم : نزل الملك ، يريدون ذاته ويريدون أمره ويريدون كتابه ويريدون نائبه . فاذا ارادوا أن يخصصوا الذات قالوا : نفسه ، فيؤكدونه بذلك أو بالمصدر . وحينئذ ترتفع تلك الاحتمالات ولذلك قال عز وجل فى كتابه ( وكلم الله موسى تكليما ) فأكده بالمصدر رفعا للمجاز ( فلو قال ) الشارع عليه الصلاة والسلام هنا : ينزل ربنا نفسه أو ذاته أو أكده بالمصدر ( لكان) الأمر ما ذهبوا اليه . ولكن لما أن ترك اللفظ على عمومه ولم يؤكده ، دل على أنه لم يرد الذات ، وانما أراد نزول رحمة ومن فضل وطول على عباده وشبه هذا معروف عند الناس ، لأنهم يقولون : تنازل الملك لفلان ، وهم يريدون كثرة احسانه وافضاله اليه لا أنه نزل اليه بذاته وتقرب اليه بجسده . فهذا مشاهد فى البشر ، فكيف بمن ليس كمثله شئ ؟ لقد أعظموا على الله الفرية ا هـ ( ومما تقدم ) تعلم بطلان ما زعمه المجسمة كابن حامد وأبى يعلى وأضرابهما من انه تعالى على العرش بذاته ويزنل منه وينتقل الى سماء الدنيا ( وأن ) ما فى مختصر الصواعق لابن القيم من أن جماعة من أهل الحديث منهم أبو الفرج ابن الجوزى صرحوا بأ،ه تعالى ينزل الى سماء الدنيا بذاته ( كذب ) وافتراء عليهم . فقد تقدم لك قول ابن الجوزى أنه يستحيل على الله تعالى الحركة والنقلة والتغير . والواجب على الخلق اعتقاد التنزيه وامتناع تجويز النقلة . وأن النزول الذى هو انتقال من مكان الى مكان لا يجوز على الله سبحانه وتعالى .(1/88)
وقد رد ما ذهب اليه ابن حامد وأبو يعلى قال ومن نسب ذلك الى الامام أحمد فقد كذب عليه ( ومنه ) تعلم أيضا كذب ما نسب فى مختصر الصواعق الى حماد بن زيد من قوله : ان الله فى مكانه يقرب من خلقه كيف يشاء . وعلى فرض ثبوته عنه فيحرم التمسك به لمنافاته صريح الآيات القرآنية كقوله تعالى ( ليس كمثله شئ ) واجماع سلف الأمة وخلفها على أن الله تعالى يستحيل عليه أن يكون له مكان لأنه يستلزم المماثلة والاحتياج وهما محالان فى حقه تعالى ( وكذا ) ما نسبه الى ابن عبد البر من أن أهل السنة مجمعون على حمل المتشابهات على الحقيقة لا على المجاز، فهو كذب وافتراء . فهاهى ذى كلمتهم متفقة على انه يجب صرف المتشابه عن ظاهرة لقيام الأدلة القطعية عقلية ونقلية على استحالة ظاهرها فى حق الله تعالى .
((1/89)
ومن ) هذا القبيل ما زعمه ابن تيمية فى كتابه " شرح حديث النزول " من أن اسحاق بن راهوية وعبد الله بن طاهر وجمهور المحدثين وأحمد بن حنبل يقولون : ان الله ينزل الى سماء الدنيا ولا يخلو منه العرش ( فانه ) علاوة على ما فيه من التناقض يلزم عليه اثبات المكان لله تعالى . وقد ثبت بالدليل القاطع والنقلى استحالة كون الاله سبحانه وتعالى فى مكان والا لزم احتياجه تعالى وانقسامه ، وكل منقسم مركب وكل مركب ممكن ، وكل ممكن حادث . فكيف ينسب ذلك الى قادة الأمة . سبحانك هذا بهتان عظيم ( ومن هنا ) تزداد علما ببطلان قول ابن تيمية أيضا فى كتابه المذكور : والصواب المأثور عن سلف الأمة وأئمتها أنه لا يزال فوق العرش ولا يخلو العرش منه مع دنوه ونزوله الى سماء الدنيا ولا يكون العرش فوقه أهـ . ( فانه ) مع كونه افتراء على سلف الأمة وأئمتها خرفات ومناقضات لا يصح صدورها ممن عنده شائبه تمييز . وهل يتصور من عنده أدنى عقل أن الله سبحانه وتعالى يكون فى سماء الدنيا بذاته مع بقاء ذاته على العرش ؟ فضلا عن علماء المسلمين سلفا وخلفا على انه تعالى يستحيل عليه المكان والتحول والانتقال . وعلى انه يجب صرف المتشابهات عن ظاهرها ( ومن ) تمسك بظاهرها فهو مخالف للمعقول والمنقول مارق من الدين قائل بالتشبيه والتجسيم مبتغ سبيلا غير سبيل المؤمنين . قال الله تعالى { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ } (7) آل عمران ( ومن غفلتهم ) اعتقادهم أن الله سبحانه وتعالى يتصف بالتحول والانتقال والنزول الى سماء الدنيا . ويستدلون على معتقدهم الفاسد بأحاديث الآحاد . مع أنها لا يصح ان يستدل بها فى العقائد .(1/90)
وانما يستدل بها فى الفروع باجماع أئمة الدين ( قال ) الامام الرازى فى كتابه اساس التقديس : ( أما ) التمسك بخبر الواحد فى معرفة الله تعالى فغير جائز لوجوه ( الأول ) أن أخبار الآحاد مظنونة ، فلا يجوز التمسك بها فى معرفة الله تعالى وصفاته . وانما قلنا انها مظنونة لأنا أجمعنا على أن الرواة ليسوا معصومين . وانما لم يكونوا معصومين كان الخطأ عليهم جائزا والكذب عليهم جائزا . فحينئذ لا يكون صدقهم معلوما بل مظنونا فثبت أن خبر الواحد مظنون ووجب ألا يجوز التمسك بع فى العقائد لقوله تعالى فى شأن الكفار { ان يتبعون الا الظن وان الظن لا يغنى من الحق شيئا } (28) النجم . وقوله تعالى : { وان تقولوا على الله مالا تعلمون } (169) البقرة . فترك العمل بهذه العمومات فى فروع الشريعة ، لأنه يكتفى فيها بالدليل الظنى. ووجب ان يبقى العمل بتلك العمومات فى العقائد فقط . والعجب من الحشوية أنهم يقولون : الاشتغال بتأويل الآيات المتشابهة غير جائز ، لأن تعيين ذلك التأويل مظنون ، والقول بالظن فى القرآن لا يجوز . ثم انهم يتكلمون فى ذات الله تعالى وصفاته بأخبار الآحاد مع أنها فى غاية البعد من القطع واليقين . واذا لم يجوزوا تفسير ألفاظ القرآن بالطريق المظنون ، فلأن يمتنعوا عن الكلام فى ذات الحق تعالى وفى صفاته بمجرد الروايات الضعيفة أولى اهـ . ( ومن هذا ) القبيل استدلالهم على دعواهم الباطلة " أن الله تعالى فىالسماء " بحديث معاوية بن الحكم قال : كانت لى جارية ترعى غنما لى قبل أحد ، فاطعت ذات يوم فاذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها ، وأنا رجل من بنى آدم فصككتها صكة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فعظم ذلك على فقلت افلا أعتقها ؟ قال ائتنى بها . فأتيته بها فقال لها أين الله ؟ قالت : فى السماء ، قال : من أنا ؟ قالت : أنت رسول الله . قال . أعتقها فانها مؤمنة .(1/91)
أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائى (1){19} .
( فمع ) كونه حديث آحاد لا يصح الاستدلال به على معرفة العقائد ( هو ) مصروف عن ظاهره باجماع السلف والخلف ( قال ) الامام ابن الجوزى الحنبلى فى كتابه " دفع شبهة التشبيه " ص 45 بعد أن روى الحديث ما نصه : قلت قد ثبت عند العلماء أن الله تعالى لا تحويه السماء ولا الأرض ولا تضمه الأقطار . وانما عرف باشارتها تعظيم الخالق جل جلاله عندها أهـ . ( وقال ) الامام أبو عبد الله الأبى فى شرح صحيح مسلم فى الكلام على حديث الجارية ص 241 ج 2 : أراد معرفة ما يدل على ايمانا ، لأن معبودات الكفار من صنم ونار بالأرض . وكل منهم يسأل حاجته من معبوده . والسماء قبلة دعاء الموحدين ، فأراد كشف معتقدها وخاطبها بما تفهمه فأشارت الى الجهة التى يقصدها الموحدون . ولا يدل ذلك على جهته ولا انحصاره فى السماء كما لا يدل التوجه الى القبلة على انحصاره فى الكعبة ( وقيل ) انما سألها باين عما تعتقده من عظمة الله تعالى . واشارتها الى السماء اخبار عن جلاله تعالى فى نفسها ( وقال ) القاضى عياض : لم يختلف المسلمون فى تأويل ما يوهم انه تعالى فى السماء كقوله ( ءأمنتم من فى السماء ) أهـ . ( فقد ) بين هذان الامامان معنى حديث الجارية بما يصح اطلاقه على الله تعالى . ونقلا الاجماع على تأويل كل ما يوهم أنه تعالى فى السماء أو جالس على العرش أو نحو ذلك من صفات الحوادث ، لقوله تعالى ( ليس كمثله شئ ) فمن اعتقد خلاف ذلك فهو ضال مضل هالك.
(
__________
(1) ص 447 ج 5 مسند أحمد . وص 23 ج 5 نووى مسلم ( تحرير الكلام فى الصلاة ) وهو عجز حديث ياتى صدره رقم 5 ص 3 ج 4 دين ( مبطلات الصلاة ) .(1/92)
وقال ) الامام النووى : هذا الح0ديث من أحاديث الصفات ، وفيها مذهبان ( أحدهما ) الايمان به من غير خوض فى معناه مع اعتقاد أن الله تعالى ليس كمثله شئ وتنزيهه عن سمات المخلوقات ( الثانى ) تأويله بما يليق . فمن قال بهذا قال : كأن المراد امتحان الجارية ( ا ) هل هى موحدة تقر بأن الخالق المدبر الفعال هو الله وحده ؟ وهو الذى اذا دعاه الداعى استقبل السماء ؟ كما اذا صلى المصلى استقبل الكعبة ، ليس ذلك لأنه منحصر فى السماء كما انه ليس منحصرا فى جهة الكعبة ، بل ذلك لأن السماء قبلة الداعين كما أن الكعبة قبلة المصلين ( ب ) أو هى من عبدة الأوثان التى بين أيديهم ؟ فلما قالت : فى السماء ، علم أنها موحدة وليست عابدة للأوثان اهـ ص 25 ج 5 شرح مسلم ( تحريم الكلام فى الصلاة ) .
وقد أفردت هذا المبحث بكتاب ( اتحاف الكائنات ، ببيان مذهب السلف والخلف فى المتشابهات . ورد شبه الملحدة و المجسمة وما يعتقدونه همن المفتريات ) فمن أراد استيفاء المقام بالأدلة الساطعة ، والبراهين القاطعة ، والنصوص الواضحة ، فلينظره . والله تعالى ولى الهداية والتوفيق .
( 2 ) الأنبياء والرسل(1/93)
يجب على كل مؤمن أن يعتقد أن الله تعالى قد أرسل لعباده أنبياء ورسلا مبشرين ومنذرين لا يعلم عددهم الا الله تعالى . قال { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } (78) غافر ( وأن ) سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم خاتم الأنبياء . أرسله الله تعالى للآنس والجن كافة قال تعالى { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبين } (40) الأحزاب . وقال : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } (28) سبأ . وقال { واذ صرفنا اليك نفرا من الجن يستمعون القرآن . فلما حضروه قالوا انصتوا فلما قضى ولوا الى قومهم منذرين } (29) قالوا يا قومنا انا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدى الى الحق والى طريق مستقيم (30) يا قومنا أجيبوا داعى الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم (31) الأحقاف وقال تعالى { قل أوحى الى أنه استمع نفر من الجن فقالوا انا سمعنا قرآنا عجبا (1) يهدى الى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا (2) الجن } .
((1/94)
وقال ) علقمة : قلت لابن مسعود : هل صحب النبى صلي الله عليه و علي اله وسلم ليلة الجن منكم احد ؟ قال ما صحبه منا احد ، ولكن قد افتقدباه ذات ليلة وهو بمكة فقلنا اغتيل او استطير ما فعل به ؟ فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فلما اصبحنا . فاذا هو جاء من قبل حراء . قال : فذكروا له الذي كانوا فيه . فقال اتاني داعي الجن فاتيتهم فقرات عليهم ، فانطلق بنا فأرانا اثارهم واثار نيرانهم . وسالوه الزاد فقال : لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في ايديكم اوفر ما يكون لحما . وكل بعرة او روثة علف لدوابكم . فقال صلي الله عليه وعلي اله وسلم : فلا تستنجوا بهما فانهما طعام اخوانكم من الجن . اخرجه احمد ومسلم وابو داود والترمذي . وقال حسن صحيح(1){20} .
وهو افضل الرسل لقوله تعالي { وما ارسلناك الا رحمة للعالمين } (107) الانبياء . ومنهم الانبياء والمرسلون . وقوله { لقد جاءكم رسول من انفسكم } (128) التوبة . وقرئ (من انفسكم ) بفتح الفاء وكسر السين . وقد نهي اصحابه عن خطابه كسائر الناس . قال تعالي { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } (63) النور . وكانت الامم تخاطب انبياءها باسمائهم ولم ينهوا عن ذلك { يا نوح قد جادلتنا } (32) هود { قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا اتنهانا ان نعبد ما يعبد اباؤنا } (62) هود { قالوا يا هود ما جئتنا ببينة } (53) هود { قال اراغب انت عن الهتي يا ابراهيم لن لم تنته لارجمنك } (46) مريم { اذقال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك ان ينزل علينا مائدة من السماء } (112) المائدة .
(
__________
(1) ص 163 ج 1 تيسير الوصول (سورة الأحقاف ) و( اغتيل ) مبني للمجهول أي قتل سرا ( واستطير ) أي طارت به الجن . و( ذكر اسم اله عليه ) هذا لمؤمنيهم . واما غيرهم فطعامه مما لم يذكر اسم الله عليه كما في رواية الترمذى .(1/95)
وعن ابي سعيد ) الخدري رضي الله عبه ان النبي صلي الله عليه و علي اله وسلم قال : انا سيد ولد ادم فمن سواه الا تحت لوائي ،وانا اول من ينشق عنه الارض ، وانا اول شافع واول مشفع . اخرجه احمد وابن ماجه والترمذي ، وقال حسن صحيح(1){21} .
(وعن ابن عباس ) ان النبي صلي الله عليه وعلي اله وسلم وقد سمع ناسا من اصحابه يتذكرون في تفاضل الأنبياء فقال : قد سمعت كلامكم وعجبكم . أن إبراهيم خليل الله وهو كذلك ، وموسي نجني الله وهو كذلك وعيسي روح الله وكلمته وهو كذلك ، ، وأدم اصطفاة الله وهو كذلك . إلا وأنا أول شافع وأول مشفع يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أول من يحرك حلق الجنة ، فيفتح اله لي فيدخلنيها ومعي فقراء الؤمنين ولا فخر ، وأنا أكرم الأولين والاخرين ولا فخر ، اخرجه الدارمي والترمذي وقال : هذا حديث غريب(2){22}.
(
__________
(1) ص 2 ج 3 مسند احمد . ورقم 2693 ص 42 ج 3 فيض القدير .
(2) ص 26 ج 1 سنن الدارمي (ما للنبي صلي الله عليه وسلم من الفضل ) و ص 294 ج 4 تحفة الاحوذي(1/96)
وأفضل الخلق ) بعد نبينا صلي الله عليه وعلي اله وسلم . سيدنا ابراهيم ، ثم سيدنا موسي ، ثم سيدنا عيسي ، ثم سيدنا نوح ، ثم سيدنا ادم ابو البشر ، ثم باقي الرسل علي تفاضل بينهم . ثم سائر الانبياء عليهم الصلاة والسلام ثم رؤساء الملائكة كجبريل واسرافيل . ثم رؤساء الامة المحمدية :ابو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم باقي العشرة(1) ثم اهل بدر ثم اهل احد ثم اهل بيعة الرضوان ثم عامه الملائكة . هذا . واعلم ان جميع الصحابة عدول لا يجوز الطعن في احدهم . وما جري بينهم من الحروب انما كان باجتهاد منهم فلا يجوز الخوض فيه ، لحديث ابن عباس ان النبي صلي الله عليه وعلي اله وسلم قال : " من سب أصحابي لعنه الله والملائكة والناس اجمعون . اخرجه الطبراني في الكبير . وفي سنده عبد الله بن خراش وهو ضعيف(2){23}
__________
(1) باقي العشرة )أي المبشرون بالجنة وهم الخلفاء الاربعة وطلحة والزبير وسعد ابن ابي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف . وابو عبيدة ابن الجراح .
(2) ص21 ج 1 مجمع الزوائد ( اثم من سب الصحابة ) ( وعن عبد الله بن مغفل ) ان النبي صلي الله عليه وعلي اله وسلم قال : الله الله في اصحبي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن احبهم فبحبي احبهم ومن ابغضهم فببغضي ابغضهم ومن اذاهم فقد اذاني ومن اذاني فقد اذي الله ومن اذي الله يوشك ان ياخذه . اخرجة احمد والترمذي وقال : هذا حديث حسن غريب ( 24 ) ص 54 ج 5 مسند اجمد . و ص 360 تحفة الاحوذي (من سب اصحاب النبي صلي الله عليه وسلم ) .(1/97)
هذا . وقد ايد الله تعالي كل رسول منهم بمعجزات(1) خارقه للعادة كناقة سيدنا صالح ونار سيدنا ابراهيم(2)، وعصا موسي ويده البيضاء (3)وفلق البحر وتفجير الماء من الحجر(4).
__________
(1) المعجزة هي المر الخارق لعادة يظهره الله تعالي علي يد من يشاء من عبادة مقرونة بالتحدي عند دعوي النبوة . وهي بمثابة تصديق منن الله تعالي لمن اظهر المعجزة علي يديه فان تايد الكاذب تصديق له وتصديق الكاذب كذب والكذب علي الله تعالي محال .
(2) قال ابن عباس رضي الله عنهما : حسبنا الله ونعم الوكيل قالها ابراهيم عليه السلام حين القي في النار وقالها محمد صلي الله عليه وسلم حين قالوا : ان الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادوهم ايمانا وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل . اخرجه البخاري (4)ص 195 ج 4 فتح الباري ( باب قوله الذين قال لهم الناس ان الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ) وقال ابن عباس : لو لم يقل وسلاما لمات ابراهيم من بردها ذكره البغوي (5) ص 498 ج 5 معلم التنزيل (قوله تعالي يا نار كوني بردا وسلاما علي ابراهيم ) .
(3) عصا موسي عليه السلام ذكرها الله تعالي في غير اية قال تعالي : واذ استسقي موسي لقومه لومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثني عشرة عينا قد علم كل اباس مشربهم (60) البقرة . وقال تعالي : فالقي عصاه فاذا هي ثعبان مبين (107) ونزع يده فاذا هي بيضاء للناظرين (108) الاعراف . وقال تعالي : واوحينا الي موسي ان الق عصاك فاذا هي تلقف ما يافكون (117) فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون (118) – الاعراف .
(4) قال تعالي ك واذ فرقنا بكم البحر فانجيناكم واغرقنا ال فرعون وانتم تنظرون (50) – البقرة . وقال تعالي : فاوحينا الي موسي ان اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم (64 ) – الشعراء .(1/98)
كاحياء الموتي وابراء الاكمة والابرص لسيدنا عيسي(1) ، وكانشقاق القمر لسيدنا محمد(2) ونبع الماء من يده الشريفة . وتكثير القليل من الطعام والشراب وتكليم الجمادات له صلوات الله وسلامه عليهم احمعين . (قال) انس رضي الله عنه : رايت رسول الله صلي الله عليه وعلي اله وسلم بوضوء فوضع يده فيه وامر الناس ان يتوضئوا منه فرايت الماء ينبع من تحت اصابعه فتوضأ الناس عن اخرهم . اخرجه الشيخان(3)
(
__________
(1) قال تعالي ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل (48) ورسولا الي بني اسرائيل اني قد جئتكم باية من ربكم اني اخلق لكم من الطير كهيئه الطير فانخ فيه فيكون طير باذن الله وابرئ الاكمه والابرص واحي الموتي باذن الله وائنباكم بما تاكلون وما كنتم تدخرون في بيوتكم وان في ذلك لاية لكم ان كنتم مؤمنين (49 ) ال عمران .
(2) قال تعالي : اقتربت الساعة وانشق القمر (1) وان يرو اية يعرضون ويقولوا سحر مستمر (2) وكذوا واتبعوا اهوائهم وكل امر مستقر (3) ولقد جائهم من الانباء ما فيه مزدكر (4) حكمهبالغة فما تغني النظر (5) القمر ( وقال ابن مسعود ) انشق القمر علي ععد رسول الله صلي الله عليه وعلي اله وسلم بشقين فقال صلي الله عليه وسلم : اشهدوا . أخرجه الشيخان والترمذي ( 25) ص 335 ج 3 تيسير الوصول ( معجزات متفرقه ) .
(3) ص 330 ج 3 تيسير الوصول ( زيادة الطعام والشراب ) .(1/99)
وقال ) جابر رضي الله عنه : عطش الناس يوم الحديبية فاتوا رسول الله صلي الله عليه وعلي اله وسلم وبين يديه ركوة وقالوا ليس عندنا ما نتوضا به ولا نشرب الا ما في ركوتك ، فوضع صلي الله عليه وعلي اله وسلم يده في الركوة ، فجعل الماء يفور من بين اصابعة كامثال العيون فتؤضانا وشربنا . قيل لجابر : كم كنتم يومئذ ؟ قال : لو كنا مائة الف لكفانا ، كنا خمس عشرة مائة . أخرجه الشيخان (1) {27} .
وقال ابي هريرة رضي الله عنه كنا مع النبي صلي الله عليه وعلي اله وسلم في مسير فنفدت ازواد القوم حتي هموا بنحر بعض حمائلهم فقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله لو جمعت ما بقي من ازواد القوم فدعوت الله عليها ، ففعل . فجاء ذو البر ببره ،وذو التمر بتمره ، وذو النواه بنواته . قيل : ما كاموا يصنعون بالنوي ؟ قال كانوا يمصونه ويشربون عليه ماء . فدعا عليها حتي ملاء القوم مزوادهم فقال عند ذلك " اشهد ان لا اله الا الله واني رسول الله ، لايلقي الله بهما عبد غير شاك فيهما الا دخل الجنه . اخرجه مسلم(2){28} .
(
__________
(1) ص 330 ج 3 تيسير الوصول ( زيادة الطعام والشراب ) و ( الركوة ) بفتح فسكون ما يعد للماء وجمعها ، ركاء وركوات بفتحات .
(2) ص 331 ج 3 تيسير الوصول ( زيادة ا=-0 لطعام والشراب – المعجزات )و (المزاود ) جمع مزود بكسر فسكون ، ما يجعل فيه الزاد .(1/100)
وقال) جابر رضي الله عنه : كنا في حفر الخندق فرأيت برسول الله صلي الله عليه وعلي اله وسلم خمصا شديدا فانكفات الي امراتي فقلت هل عندك شئ ؟ فاني رايت برسول الله صلي الله عليه وعلي اله وسلم خمصا شديدا فاخرجت الي جرابا فيه صاع من شعير ، ولنا بهيمة دواجن فذبحتها وطحنت الشعير ، ففرغت الي فراغي وقطعتها في برمتها . ثم وليت الي رسول الله صلي الله عليه وعلي اله وسلم . فقالت لا تفضحني برسول الله صلي الله عليه وعلي اله وسلم وبمن معه . فجئته فساررته فقلت يا رسول ذبحنا بهيمة لنا وطحنا صاعا من شعير كان عندنا .فتعال انت ونفر معك ، فصح رسول الله صلي الله عليه وعلي اله وسلم فقال : " يا اهل الخندق، أن جابرا قد صنع سورا فحيهلا بكم " ثم قال صلي الله عليه وعلي اله وسلم : لاتنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينتكم حتي اجئ وجاء رسول الله صلي الله عليه وعلي اله وسلم يقدم الناس حيث جئت امراتي فقالت : بك وبك . فقلت : قد فعلت الذي قلت الذي فاخرجت له العجين فبصق فيه وبارك . ثم عمد الي برمتنا فبصق فيها وبارك . ثم قال : ادعي خابزة فلتخبز معك ، واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها ، فاقسم بالله لاكلوا حتي تركوه وانحرفوا ، وان برمتنا لتعظ كما هي ، وان عجيننا ليخبز كما هو . أخرجه الشيخان(1){
__________
(1) ص 331 ج 3 تيسير الوصول . و (الخمص) بضم فسكون او بفتحتين او بفتح فسكون الجوع . " فانكافات" أي رجعت الي امراتي واسمها سهيله و ( البهيمة ) تصغير بهمة وهى ولد الضان ذكراًكان او انثى 0 (والداجن ) الشاة التى تالف البيت وتتربى فية (ففرغت )اى فرغت امراتى من طحن الشعير مع فراغى من ذبح البهيمة 0 و(البرمة )بضم الباء القدر 0و(لا تفضحنى برسول الله )تعنى تحزيرة من ان ياتى بمن لا يكفيهم الطعام القليل الذى عندها . ( والسور ) بالضم غير مهموز – كلمة فارسية – معناها الوليمه والطعام الذي يدعي اليه ..قال الازهري : فيه ان النبي صلي الله عليه وعلي اله وسلم قد تكلم بالفارسية . وقد يهمز اشارة الي القلة كانه بقيه . وحيهلا أي تعالوا وعجلوا. و( بك وبك) أي فعل الله بك كذا وفعل بك كذا . وهذا كنايه عن الكلام الذي عاقبت به زوجها حيث خالف قولها : لا تفضحني برسول الله . و ( بارك) أي دعا بالبركه وغطت القدر ، غلت . وغطيتها ، صوتها . ...(1/101)
29} .
(وقال) ابو هريرة رضي الله عنه : اتيت النبي صلي الله عليه وعلي اله وسلم يوما بتمرات فقلت : يا رسول الله ، ادع الله بالبركة ، فضمهن ثم دعا لي فيهن بالبركة . فقال خذهن واجعلهن في مزودك هذا ، وكلمااردت ان تاخذ منه شيئا فادخل فيه يدك فخذ ولا تنثره نثرا ، ففعلت فقد حملت منه كذا وكذا من وسق في سبيل الله ، فكنا ناكل منه ونطعم. وكان لا يفارق حقوى حتي كان يوم مقتل عثمان رضي الله عنه فانه انقطع فسقط فحزنت عليه . اخرجه الترمذي وقال : هذا حديث غريب(1){30}
(وقال ) علي رضي الله عنه : كنا مع رسول الله صلي الله عليه وعلي اله وسلم : بمكه فخرجنا معه في بعض نواحيها ، فما استقبله جبل ولا شجر الا وهو يقول السلام عليك يا رسول الله . اخرجه الدارمي والترمذي وقال : هذا حديث حسن غريب لكنه روى من عدة طرق(2) {31}
( وقال ) جابر بن سمرة رضي الله عنه : قال رسول الله صلي الله عليه وعلي اله وسلم : ان بمكة حجرا كان يسلم علي ليالي بعثت ، اني لاعرفه الان . اخرجه احمد ومسلم والترمذي وقال : هذا حديث حسن غريب(3) {32}
(
__________
(1) ص 332 ج 3 تيسير الوصول ( زيادة الطعام والشراب ) و(المزود) القربه و (الحقو) بفتح فسكون ، موضع شد الازار وهو الخاصرة .ثم سمي به الازار .
(2) ص 12 ج 1 سنن الدارمي (ايمان الشجر به صلي الله عليخ وعلي اله وسلم )وص 329 ج 3 تيسير الوصول (تكليم الجمادات له ) .
(3) ص 329 منه . و ص 95 ج 5 مسند احمد .(1/102)
وقال) ابن عباس رضي الله عنهما : جاء اعرابي الي رسول الله صلي الله عليه وعلي اله وسلم فقال بم اعرف انك رسول الله ؟ قال ان ادعوا هذا العذق من النخله فا شيهد لى أنى رسول الله،فده فجعل العذق ينزل من النخله حتى سقط الى رسول الله صلى الله عليه وعلى أله وسلم وقال: السلام عليك يا رسول الله. ثمقال له رسول الله صلى الله عنيه ولى اله وسلم : ارجع الى موضعك فعاد الى موضعه والتأم فاسلم الأعربى. اخرجه الترمذي وقال:هذا حسن غريب صحيح (1){33} .
( وقال ) معن بن عبد الرحمن : سمعت أبى رحمه الله يقول : سآلت مسرقا : من آذن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالجن لينا استمعوا القرآن ؟ فقال : حدثنى أبوك يعنى ابن مسعود أنه قال : آذنت بهم شجرة. أخرجه الشيخان(2) {34} .
( وقال ) أنس رضى الله عنه : خطب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الى لزق جذع . فلما صنعوا له المنبر فخطب عليه حن الجذع حنين الناقة ، فنزل النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم فمسه فسكن . أخرجه الترمذى وقال هذا حديث حسن صحيح(3) {35} .
(
__________
(1) ص 330 ج 3 تيسير الوصول ( تكليم الجمادات له صلى الله عليه وسلم ) و ( العذق ) بكسر فسكون : السباطة . و ( الى لزق ) بكسر فسكون أى الى جنبه .
(2) ص 330 ج 3 تيسير الوصول ( تكليم الجمادات له صلى الله عليه وسلم ) و ( العذق ) بكسر فسكون : السباطة . و ( الى لزق ) بكسر فسكون أى الى جنبه .
(3) ص330ج3 تيسير الوصول(تكليم الجمادات له صلى الله عليه وسلم)و(العذق)بكسر فسكون:السباطة.و(الى لزق)بكسر فسكون أى الى جنبه.(1/103)
وله) صلى الله عليه وعلى آله وسلم معجتزات كثيرة غير ما ذكر . أهمها وأفضلها القرآن : فانه المعجزة المستمرة الى قرب القيامة وقد تحدى النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم العرب الى معارضته وأحدهم بالاتيان بمثل أقصر سورة منه . فاستولى عليهم العجز وبلغ منهم العى مبلغه وخرست ألسنتهم فلم تحر جوابا قال تعالى : { قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } 88 – الاسراء . وقال : ( أم يقلون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله ان كنتم صادقين ) 13 – هود . وقال : { وان كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } 23 – البقرة .
((1/104)
وانما ) كان القرآن معجزا لأنه فى أعلى طبقات الفصاحة والبلاغة(1) ، وهى توخى معانى الألفاظ وأسرار التركيب وترتيب الكلام حسبما تقتضيه المقاصد والأغراض . وهذه هى المزية التى امتاز بها عن سائر الكلام . فعجز المعاندون من العرب عن معارضته مع شهرتهم وامتيازهم عن غيرهم وتفوقهم فى الفصاحة . ولا يلتفت الى ما قاله بعض الكفرة المعاندين من انه شعر وكهانة وأساطير . فانهم قوم لا يعقلون ولا يفقهون . ولو عقلوه وتدبروه ما وسعهم الا الايمان به : ( غانها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور ) (46) الحج . وقال : ( ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ) 46- النور . وقد رد الله عليهم فى أكثر من آية . قال تعالى : ( انه لقول رسول كريم (40) وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون (41) ولا يقول كاهن قليلا ما تذكرون (42) تنزيل من رب العالمين ) (43) – الحاقة .
__________
(1) قال القاضى عياض فى الشفاء : اعلم أن القرآن منطو على وجوه مكن الاعجاز كثيرة أهمها اربعة : ( أولها ) حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته ووجوه وبلاغته الخارقة ( اى المتجاوزة ) عادة العرب الذين هم فرسان الكلام وأرباب هذا الشأن ( الثانى ) صورة نظمه العجيب والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب وكل من هذين النوعين الايجاز والبلاغة بذاتها والاسلوب الغريب بذاته نوع اعجازه على التحقيق . لهم تقدر العرب على الاتيان بواحد منهما ( الثالث ) ما انطوى عليه من الاخبار بالمغييات وما لم يكن فوجد كما ورد ( الرابع ) ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة والأمم البادية والشرائع الداثرة مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة الا اللفذ من أحبار أهل الكتاب الذى قطع عمره فى تعلم ذلك فيورده صلى الله عليه وعلى آله وسلم على وجهه ويأتى به على نصه وهو أمى لا يقرأ ولا يكتب : فهذه الوجه الأربعة من اعجازه بينه لا نزاع فيها . انظر ص 542 وما بعدها ج 1 شرح الشفاء للقارى .(1/105)
صفات الرسل
يجب فى حقهم عليهم الصلاة والسلام أربع صفات .
( أ ) الصدق فى كل الأقوال ولو عادية " لأن ما ظهر على أيديهم من المعجز – وهى امر خلقه الله تعالى " مخالف للعادة مقرون بالتحدى اى واقع عند دعوى الرسالة مع عدم امكان معارضته بمثله " منزل " منزلة قول الله تعالى : صدق عبدى فى كل ما بلغه عنى . كتظليل الغمام وانشقاق القمر وغيرهما مما تقدم .
((1/106)
ب ) ويجب فى حقهم العصمة – أى الأمانة – وهى حفظ الله تعالى ظواهرهم وبواطنهم من المعاصى كبيرها وصغيرها(1) ، لأن الله تعالى أمرنا بالاقتداء بهم فى أقوالهم وأفعالهم غير الخاصة بهم . قال تعالى : { قل ان كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } (31) – آل عمران . وقال { فآمنوا باللله ورسوله النبى الأمى الذى يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون } 158 – العراب . وقال : { الذين يتبعون الرسول النبى الأمى } 157 – الأعراف . وقال : { لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة } 21 – الأحزاب . وقال : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } 90 – النعام . وقال : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم هعنه فانتهوا } 7 – الحشر . والله سبحانه وتعالى لا يأمنر بمعصية . قال تعالى : { ان الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون } 28 – الأعراف .
(
__________
(1) قال فى العقد الثمين : ان الله تعالى قد نزههم عن كل وصمة ونقص فهم معصومون عن الصغائر والكبائر قبل النبوة وبعدها على المختار . وما وقع فى قصص بعضهم من بعض المفسرين لا يلتفت اليه ( وما جاء ) فى القرآن من اثبات العصيان لآدم ومن معاتبه جماعة منهم على أمور فعلوها ( فانما ) هو من باب أن للسيد أن يخاطبل عبده بما يشاء وأن يعاتبه على خلاف الأولى معاتبة غيره على المعصية كما قيل : ان حسنات الأبرار سيئات المقربين . ولا خلاف بين العلماء فى عصمتهم عن تعمد الكبائر وانما الخلاف فى أن عصمتهم عن ذلك بدليل السمع أو بدليل العقل ( فالأول ) مذهب أهل السنة ( والثانى ) قول المعتزلة . واما وقوع الصغائر فجوزه البعض . والمحققون من المحدثين لم يجوزا الا وقوع الصغائر سهوا . و ما الكبار مطلقا الصئغائر عمدا فلا وعلى ذلك الكثير .(1/107)
جـ ) ويجب فى حقهم عليهم الصلاة والسلام تبليغ كل ما لأمروا بتبليغه الى الخلق قال الله تعالى { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك ، وان لم تفعل فما بلغت رسالته } 67 – المائدة .
( وعن معاوية ) رضى الله عنه أن النبى صلى عليه وعلى آله وسلم قال : انما أنا مبلغ والله يهدى وانما أنا قاسم والله يعطى . أخرجه الطبرانى فى الكبير بسندين أحدهما حسن(1){36} .
( د ) ويجب فى حقهم الفطانة وهى ملكة يقتدر بها على اقامة الحجة على الخصم واقناعه بالحق ، لأن الله تعالى اختارهم للنبوة والرسالة وتعليم الخلق فلا بد أن يكونوا أهلا لذلك .
( ويستحيل ) فى حقهم عليهم الصلاة والسلام أضداد هذه الصفات للأدلة السابقة ، فيستحيل فى حقهم الكذب ، والعصيان بارتكاب كبيرة أوة صغيرة ظاهرية أو باطنية(2)( ويستحيل ) عليهم البلادة ، وكتمان شئ مما أمروا بتبليغه للخلق ، قال تعالى : { ان الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس فى الكتاب ، أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } (159) – البقرة.
(
__________
(1) ص 263 ج 8 مجمع الزوائد يهدى ( حديث أنا مبلغ والله يهدى ) .
(2) قال فى العقد الثمين : ويستحيل عليهم الكذب والا لم يكونوا أمناء ونحية سبحانه . وقد علم الله سبحانه منهم الصدق والأمانة فاختارهم لتبليغ رسالته وحفظ أمانته وأمرنا بالاقتدار بهم فى أقوالهم وأفعالهم . ومن المعلوم أن علمه تعالى محيط بما لا نهاية له فلزم أن تصديقه تعالى لهم لما علمه منهم وأن جميع أقوالهم وأفعالهم على وفق مات يختاره سبحانه وتعالى ويرضاه .(1/108)
ويجوز ) فى حقهم عليهم الصلاة والسلام كل وصف بشرى لا يؤدى الى نقص فى مراتبهم العلية : كالأكل والشرب والمشى فى الأسواق والنوم والجوع والعطش والجماع الحلال والمرض غير المنفر والبيع والشراء والسهو للتشريع وبيان ما يترتب عليه كما وقع للنبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم فى الصلاة . وكذا النسيان فى غير الأحكام التى لم تبلغ . قال تعالى ( وما أرسلنا قبلك من المرسلين الا انهم ليأكلون الطعام ويمشون فى الأسواق ) (20) الفرقان . وقال عز وجل { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً } (38) – الرعد ( وفى حديث ) عائشة رضى الله عنها . قلت : يا رسول الله أتنام قبل أن توتر ؟ فقال : يا عائشة ان عينى تنامان ولا ينام قلبى . أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائى(1){37}
( وقال ) ابن عباس رضى الله عنهما : كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يبيت الليالى
المتتابعة طاويا وأهله لا يجدون عشاء وكان أكثر خبزهم خبز الشعير . أخرجه أحمد وابن ماجه والترمزى وصححه (2){38} .
( وفى حديث ) ابن مسعود رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : انه لو حدث فى الصلاة شئ أنبأتكم ولكن " انما أنا بشر أنسى كما تنسون ، فاذا نسيت فذكرونى " أخرجه السبعة الا الترمذى(3) {39} .
(
__________
(1) ص 22 ج 3 فتح البارى ( قيام النبى صلى الله عليه وسلم بالليل ) وص 17 ج 6 نووى مسلم ( صلاة الليل والوتر ) وص 269 ج 7 – المنهل العذب ( صلاة الليل ) .
(2) رقم 6960 ص 99 ج 5 فيض القدير شرح الجامع الصغير .
(3) ص 128 ج 4 – الفتح الربانى . و ص 341 ج 1 فتح البارى ( التوجه نحو القبلة و ص 61 ج 5 نووى مسلم ( السيهو فى الصلاة ) فى ص 146 ج 6 – المنهل العذب . و ص 184 ج 1 مجتبى . و ص 189 ج 1 سنن ابن ماجه ( من شك فى صلاته ) .(1/109)
وعن ) ابى أيوب الانصارى أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " أربع من سنن المرسلين : التعطر والنكاح والسواك والحياء " أخرجه أحمد والترمذى والبيهقى(1) {40} .
( وحكمة ) اتصافهم بما ذكر ، التشريع لأممهم واظهار فضلهم والتنبيه على خسة الدنيا عند الله تعالى وعدم رضاه بها دار جزاء لأنبيائه وأوليائه (2) .
__________
(1) ص 421 ج 5 مسند أحمد . ورقم 919 ص 465 ج 1 فيض القدير .
(2) قال فى العقد الثمين : وفى حصول الأعراض لهم رفع لدرجاتهم من غير قدح فى رسالتهم اذ لا يخل شئ من الاعراض البشرية بمنصبهم ولا يمتنع فى حقهم الا ما يقدح فى ثبوت الرسالة . وليس فى ذلك الا مضاعفة الاجور ( وفيه ) أيضا أعظم دليل على صدقهم عليهم الصلاة والسلام وأنهم مبعوثون من عند الله تعالى وأن تلك الخوارق التى ظهرت على أيديهم هى بمحض خلق الله تعالى تصديقا لهم عليهم الصلاة والسلام اذ لو كانت لهم قوة على اختراعها لدفعوا عن أنفسهم ما هو أيسر منها من الأمراض والجوع وألم الحر والبرد وغير ذلك مما سلم منه كثير ممن لم يتصف بالنبوة ( وفيه ) أيضا رفق بضعفاء العقول لئلا يعتقدوا فيهم الألوهية بما يرون لهم من الخوارق والخواص التى اختصهم الله تعالى بها ، ولهذا رد سبحانه وتعالى على النصارى قولهم بألوهية عيسى وأمة بافتقارهما الى الأغراض البشرية من أكل الطعام وغيره . هذا والحق أن أفعال الرسل دائرة بين الايجاب والندب لا غير ، لأن المباح لا يقع منهم عليهم الصلاة السلام بمقتضى الشهوة فقط كما يقع من غيرهم . بل لا يقع منهم الا مصاحبا لنية يصير بها قربة . وأقل ذلك أن يقصدوا التشريع . وذلك من قربة التعليم . والمؤمن اذا نوى بمباحات جميعا مثل ذلك من النيات أنقلبت طاعات كما اذا نوى بنومه وأكله وشربه التقوى على طاعة الله فانه يكون عبادة ..فكيف بسيد المرسلين الذى فاق يالقيام بحقوق العبودية جميع البرية ( وقد ) ثبت أنه تورمت قدماه من كثرة قيامه لمولاه مع ما حباه وأولاه ( وأعلم ) أنه وان جاز لحوق الامراض بهم فهى لا تتعدى أبدانهم الشريفة الى قلوبهم باعتبار ما فيها من المعارف فلا يخل المرض بشئ منها ولا يكدر عليها صفوها ولا يوجب لهم ضجرا ولا ضعفا لقواهم الباطنة . وكذلك النوم والجوع لا يستوليان على قلوبهم . ولهذا كانت تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم . وكان النبى صلى الله عليه وسلم ينهى غيره عن الوصال فى الصوم مع أنه كان يفعله قائلا : " أنى لست مثلكم انى أبيت يطعمنى ربى ويسقينى " . أخرجه أحمد والشيخان عن أبى هريرة [41] يأتى بالصوم رقم 92 ( وصال الصوم ) ص 312 ج 8 دين . وانما تصاب ظواهرهم بالأمراض تعظيما لاجرهم والله تعالى قادر على أن يكون ثواب من غير ذلك . ولكنه اختار ذلك سبحانه لحمة لو لم يكن منها الا زيادة تصديقهم والرفق بضعفاء العقول من تابعيهم لكفى ( وفيه ) أيضا تشريع للأمة ليكون لهم قدوة فلا يضجروا عند نزول الحوادث وليصبروا كما صبر من هو أفضل وأعلى منهم ( الأنبياء ) وليعلموا قيمة الدنيا وأنها حقيرة عند الله تعالى . ففى الحديث : " لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء " أخرجه الترمذى عن سهل بن سعد [42] ص 261 ج 3 تحفة الأحوذى ( هو ان الدنيا على الله – الزهد ) .(1/110)
3 – السمعيات
هى أمور لا تعرف الا من طريق النقل من كتاب أو سنة ، لا يقبل ايمان عبد حتى يصدق بها تصديقا
جازما . المذكور منها هنا ستة :
ا – الملائكة : وهم عالم غيبى لا يعلم حقيقته الا الله تعالى . لا يأكلون ولا يشربون ولا ينامون ولا يتصفون بذكورة ولا أنوثة . خلقوا من نور ( لحديث ) ابن عمرو أن النبى صلى الله عليه وسلمن قال : ان الملائكة قالت : يا ربنا أعطيت بنى آدم الدنيا يأكلون ويشربون ويركبون ويلبسون ونحن نسبح بحمدك ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو ، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة . قال لا أجعل صالح ذرية من خلقته بيدى كمن قلت له كن فكان . أخرجه الطبرانى فى الكبير(1){43} .
( وعن ) عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار . وخلق آدم مما وصف لكم . أخرجه أحمد ومسلم(2) {44} .
__________
(1) قال الشهاب الالوسى : ثبت فى الصحيح أنه سبحانه قال فى جواب الملائكة : " اجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة " وعزتى وجلالى لا أجعل من خلقته بيدى كمن قلت له كن فكان . ص 374 ج 7 روح المعانى . و ( قال يا ابليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى ) وأخرج البغوى نحوه عن جابر . انظر ص 230 ج 2 مصابيح السنة ( بدء الخلق وذكر الأنبياء ) .
(2) ص 123 ج 18 نووى مسلم ( أحاديث متفرقة – الزهد ) . و ( المارج ) لهب النار الخالص من الدخان .(1/111)
وهم كما وصفهم الله تعالى ( عباد مكرمون (26) لا يسبقونه بالقول وهم بأمره ويعلمون ) (27) الأنبياء. وقال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) (6) التحريم . لهم القدرة على التشكل بالصور الجميلة كما فى حديث جبريل(1) ولقوله تعالى ( قالوا يا لوط انا رسل ربك لن يصلوا إليك ) (81) هود . أى قالت الملائكة لسيدنا لوط عليه السلام حين جاءوه على هيئة رجال حسان الوجوه فى صفة أضياف لأجل اهلاك قومه . وقوله تعالى ( فأرسلنا اليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا (2)) جردهم الله تعالى من الشهوات وجبلهم على الطاعات .
" وقوله " تعالى فى حق سيدنا آدم عليه السلام حكاية عن الملائكة ( قالوا أتجعل فيها من يفسد ويسفك الدماء ) (30) البقرة " ليس من الغيبة بل القصد التعجب والاستفسار لعدم علمهم بحكمة خلقه " وتعليم " هاروت وماروت الناس السحر على القول بأنهما من الملائكة " انما كان " ابتلاء من الله عز وجل ولئلا يغتر أحد بعمل المبطلين . وذلك أن السحرة كثرت فى ذلك الزمان . ومنهم من ادعى النبوة . فبعث الله هذين الملكين ليعلما الناس السحر ليتمكنوا من معارضة الكذابين { وما يعلمان من أحد حتى يقولا انما نحن فتنة فلا تكفر } (102) البقرة .
__________
(1) تقدم بالحديث رقم 9 ص 11 – أن جبريل جاء الى مجلس النبى صلى الله عليه وسلم فى صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر. ثم قال النبى صلى الله عليه وسلم هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم .
(2) مريم : آية 17 – أى أرسل الله الى مريم جبريل ( فتمثل لها بشرا سويا ) مستوى الخلق لم يفقد من صفات الانسان شيئا .(1/112)
فمن عمل بما تعلم منه واعتقد حقيقته كفر . ومن توقى عن العمل به واتخذخ ذريعة للاتقاء عن الاغترار بمثله ، بقى على الايمان ولا يكفر باعتقاد حقيقته وجواز العمل به ( فائدة ) مستقر الملائكة فى الدنيا السموات ، وينزلزن الى الأرض بأمر الله تعالى . ومستقرهم فى الآخرة الجنات ، وهم أنواع : منهم المسبح والمكبر والمهلل والراكع والساجد والقائم وحملة العرش والحافون حوله ، وأمنا الوحى ، والسياحون فى الجهات ، والموكلون بالأرواح والأرزاق والأمطار ( ومنهم الحفظة وهم ملائكة تتعاقب على الانسان ليحفظوه بأمر الله تعالى ، ويدفعون عنه كل مكروه ، واذا جاء القدر تخلو عنه ، والراجح أنهم عشرة بالليل وعشرة بالنهار . قال تعالى ( وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة ) (61) الأنعام . وقال : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) (11) الرعد . أى بأمره ( وعن ) أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار . ويجتمعون فى صلاة الفجر وصلاة العصر . ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم . كيف تركتم عبادى ؟ فيقولون تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون . أخرجه الشيخان والنسائى(1) {45} .
( فعليك ) ايها العاقل أن تتذكر نعمة ربك عليك ، وتديم شكره على ما أولاكم وأن تجتهد فى طاعته ليديم عليك نعمته ، وأن تكرم حفظتك بالبعد عن معصية ربك ، ففى الحديث " ان معكم من لا يفارقكم الا عند الخلاء، وعند الجماع فاستحيوهم وأكرموهم " ذكره ابن هكثير (2){46} .
(
__________
(1) ص 23 ج 2 فتح البارى ( فضل صلاة العصر ) . وص 133 ج 5 نووى مسلم .
(2) ص 503 ج 4 تفسير ابن كثير ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) .(1/113)
ومنهم ) الكتبة وهم ملكان عن اليمين والشمال صاحب اليمين يكتب الحسنات وصاحب الشمال يكتب السيئات . قال تعالى : ( اذ يتلقى المتلقيات عن اليمين وعن الشمال قعيد ) (17) ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد ) (18) ق . وقال تعالى : ( وان عليكم لحافظين (10) كراما كاتبين (11) يعلمون ما تفعلون ) (12) الانفطار . فاتق الله أيها العاققل وخف ربك واعمل بما يرضيه ، واردع نفسك عن شهواتها حيث علمت أن عليها شاهدين على عملها يسطران عليك ما يصدر منك خيرا أو شرا . وتذكر يوم يقال لك ( اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) (14) الاسراء .
هذا . والأنبياء أفضل من الملائكة عقلا ونقلا ، لأن الانبياء ركبت فيهم الشهوة البشرية ، وقد تغلبت عليها عقولهم الشريفة ، فعصموا من الوقوع فى المخالفة بخلاف الملائكة فانهم جردوا من الشهوات وجبلوا على الخيرات وقد أمرهم الله بالسجود لآدم عليه الصلاة والسلام . وقال تعالى : { ان الله اصطفى آدم ونوحا وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين } (33) آل عمران والملائكة من العالمين .
((1/114)
ب ) الجن : هم عالم غيبى لا يعلم حقيقتهم الا خالقهم . خلقوا من النار يأكلون ويشربون وينامون . ومنهم الذكور والاناث ، والصالح والطالح ، والمؤمن والكافر . وهم فى التكليف كالآدميين . لا يرون على فطرتهم . قال تعاغلى : ( انه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ) (27) الأعراف . حضر فى بدء البعثة وفد منهم وسموعوا القرآن من النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولم يرهم وقت حضورهم ، ولم يعلم بوجودهم ( قال ) ابن عباس رضى الله عنهما : ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على الجن ولا رآهم . انطلق صلى الله عليه وعلى آله وسلم فى طائفة من أصحابه عامدين الى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت السياطين الى قومهم فقالوا مالكم ؟ قالوا حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب . قالوا ما ذلك الا من شئ حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها . فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يصلى بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن استمعوا له ، وقالوا : هذا الذى حال بيننا وبين خبر السماء ، فرجعوا الى قومهم ( فقالوا انا سمعنا قرآنا عجبا (1) يهدى الى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ) (2) الجن . فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ( قل أوحى الى آنه استمع نفر من الجن ) أخرجه الشيخان والترمذى(1){47} .
__________
(1) ص 176 ج 1 تيسير الوصول ( سورة الجن ) .(1/115)
وهذا الذى حكاه ابن عباس رضى الله عنهما ، انما هو أول ما سمعت الجن قرءاة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعلمت حاله وفى ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم . ثم بعد ذلك أتاه داعى الجن فقرأ عليهم القرآن ودعاهم الى الله عز وجل (1) ويشهد له ماتقدم عن ابن مسعود رضى الله عنه(2).
(
__________
(1) انظر ابن كثير فى تفسير ( واذ صرفنا اليك نفرا من الجن ) .
(2) تقدم رقم (20) ص 51 ( الأنبياء والرسل ) .(1/116)
جـ ) الأجل : يجب الايمان بأن الانسان وسائر الحيونات والجن والملائكة لايموت احد منهم حتي احد منهم حتي يتم اجله الذي قدره الله له ( فاذا جاء اجلهم لا يستاخرون ساعة ولا يستقدمون ) (61) النحل. وان ملك الموت هو الذي يقبض الارواح بامر الله تعالي ، وله اعوان من الملائكة لكرام ، وأن كل إنسان يشاهد حال احتضاره مكانه الذي سيصير اليه ويخلد فيه من الجنه أو النار ، (قال) البراء بن عازب : خرجنا مع النبي صلي الله عليه وعلي اله وسلم في جنازه رجل من الانصار فانتهينا الي القبر ولما يلحد ، فجلس رسول الله صلي الله عليه وعلي اله وسلم وجلسنا حولهوكان علي رؤسنا الطير ، وفي يده عود ينكت به في الارض فرفع راسه فقال استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين او ثلاثا ، ثم قال ان العبد المؤمن اذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الاخره ،نزل اليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كان وجوههن الشمس معهم كفن من اكفان الجنه وحنوط(1) من حنوط الجنة حتي يجلسوا منه مد البصر . ثم يجئ ملك الموت عليه السلام حتي يجلس عند راسه ، فيقول ايتها النفس الطيبة اخرجي الي مغفرة من الله ورضوان .
__________
(1) حنوط ) كرسول ، طيب يخلط للميت خاصة . وكل ما طيب به الميت من مسل وغيره(1/117)
قال : فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فياخذها، فاذا اخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتي ياخذها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ، ويخرج منها كاطيب نفحه مسك وجدت علي وجه الارض ، قال : فيصعدون بها فلا يمرون علي ملامن الملائكة الا قالوا : ما هذا الروح الطيب ؟ فيقولون فلان بن فلان باحسن اسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتي ينتهوا بها الي السماء الدنيا حتي ينتهوا بها الى السماء الدنيا فيستفتحون له , فيفتح لهم فيشيعه من كل سماء مقربها الى السماء التى تليها حتى ينتهى به الى السماء السابعة فيقول الله عز و جل : اكتبوا كتاب عبدى فى عليين و أعيدوه الى الارض , فأنى منها خلقته , و فيها اعيدوه و منها اخرجهم تارة اخرى . قال : فتعاد روحه فى جسده فيأتيه ملكان فيجلسان فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : ربى الله فيقولان له وما دينك ؟ فيقول دينى الاسلام , فقولان له ما هذا الرجل الذى بعث فيكم ؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه و على آله وسلم , فيقولان له : وما علمك؟ فيقول قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت ، فينادى مناد في السماء أن صدق عبدي فافر شوه من الجنة، وألبسوه من الجنة ، وافتحوا له بابا إلي الجنة . قال فيأتيه من روحها (1) وطيبها ويفسح له فلا قبرة مد بصره . قال ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب ويفسح الريح فيقول : أبشر بالذي يسرك ، هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول : له : من أنت فوجهك الوجه يجئ بالخير ؟ فيقول : أنا عملك الصالح ، فيقول : رب أقم الساعة حتى أرجع إلي أهلي ومالي . قال : وان العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل أليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح(2)
__________
(1) الروح ) بفتح الراء وسكون الواو . الرحمة . ( الروح ) بفتح الراء وسكون الواو . الرحمة .
(2) المسوح ) جمع مسح كحمل وحمول ، الثوب الخشن ..(1/118)
فيجلسون منه مد البصر ، ثم يجئ ملك الموت حتى يجلس عند رأسه ، فيقول : أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلي سخط من الله وغضب قال : فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود(1) من الصوف المبلول ، فيأخذها . فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفه عين حتى يجعلوها في تلك المسوح ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض ، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة آلا قالوا : ما هذا الروح الخبيث ؟ فيقولون فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا ، حتى ينتهي به إلي السماء الدنيا ، فيستفتح له فلان يفتح له ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم " لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط(2) " فيقول الله عز وجل : اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلي ، فتطرح روحه طرحا ، ثم قرأ : ( ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق ) (31) الحج . فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : هاه هاه لا أدرى ، فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول :هاه هاه لا أدرى ؟ فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هاه هاه لا أدرى ، فينادى مناد من السماء أن كذب فافرشوا له من النار ، وافتحوا له بابا إلي النار ، فيأتيه من حرها وسموها هو يضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول : أبشر بالذي يسوءك ، هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول من أنت فوجهك الوجه يجئ بالشر ؟ فيقول : أنا عملك الخبيث ، فيقول : رب لا تقم الساعة . أخرجه أحمد واخرج أبو داود صدره(3){48} .
(
__________
(1) السفود ) بوزن التنور ، الحديدة التي يشوى بها اللحم .
(2) الأعراف آية 40 . وسم الخياط ثقب الابرة .
(3) ص 287 ج 4 مسند أحمد . وص 62 ج 9 – المنهل العذب ( كيف يجلس عند القبر ) .(1/119)
د ) سؤال القبر ونعيمه وعذابه يجب الإيمان بأن أول ما ينزل بالميت بعد موته سؤال منكر ونكير بأن يرد الله عليه روحه وسمعه وبصره ، ثم يسألانه عن دينه وربه ونبيه ، فأما أن ينعم أو يعذب ، لما ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة التي بلغت حد الشهرة " منها " ما تقدم عن البراء " ومنها " حديث عثمان رضى الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال : استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فانه الآن يسأل . أخرجه أبو داود والبيهقى والحاكم وصححه(1){49} .
( وحديث ) أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : أن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وانه ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ لمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم . فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله . فيقال له انظر إلي مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة ، فيراهما جميعا ويفسح له في قبره سبعون ذراعا وتملأ عليه خضرا إلي يوم يبعثون . وأمام الكافر أو المنافق فيقال له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول لا أدرى كنت أقول ما يقول الناس . فيقال له لا دريت ولا تليت ويضرب بمطارق من حديد ضربة بين أذنيه فيصبح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين ويضيق عليه قبره تختلف أضلاعه . أخرجه وأحمد والشيخان وأبو داود والنسائي(2){50} .
(
__________
(1) ص 73 منه ( الاستغفار عند القبر ) وص 56 ج 4 بيهقى ( ما يقال بعد الدفن ) .
(2) ص 308 ج 3 تيسير الوصول ( سؤال منكر ونكير ) ( ولا تليت ) آي ولا اتبعت من يعرف فقلت مثل قوله .(1/120)
وعن عائشة ) رضى الله عنا قالت : سألت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن عذاب القبر فقال : إن عذاب القبر حق وانهم يعذبون في قبورهم عذابا تسمعه البهائم ( الحديث ) أخرجه الشيخان والنسائي(1){51} .
( وعن ) ابن مسعود رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : أن الموتى ليعذبون فى قبورهم حتى أن البهائم لتسمع أصواتهم . أخرجه الطبرانى في الكبير بسند حسن(2){52} .
هذا . والمنعم والمعذب عند أهل السنة الجسد والروح جميعا .
( واعلم ) أنه وردت أحاديث دالة على اختصاص هذه الأمة بالسؤال في القبر دون المم السابقة . قال العلماء : السر فيه أن الأمم كانت تأتيهم الرسل فان أطاعوهم فالمراد . وان عصوهم اعتزلوهم وعوجلوا بالعذاب . فلما أرسل الله النبي محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ، أمسك عنهم العذاب وقبل الإسلام ممن أظهره سواء أخلص أم لا ، وقيض لهم من يسألهم في القبور ليخرج الله سرهم بالسؤال ، وليميز الله الخبيث من الطيب . وذهب ابن القيم إلي عموم المسألة(3){54} .
__________
(1) ص 306 ج 3 تيسير الوصول ( عذاب القبر ) .
(2) ص 56 ج 3 مجمع الزوائد ( العذاب في القبر ) .
(3) انظر ص 160 ج 2 سبل السلام طبعة صبيح .(1/121)
ومما تقدم يستفاد أن لأهل القبور حياة بها يدرك أثر النعيم والعذاب ، ولو تفتت أجسادهم . وهو أمر غيبي لا نبحث عن كيفيته . وحال صاحبه كحال النائم يرى الملاذ والمؤلمات ، ولا يرى من بجواره شيئا . وإنما ستر عنا رحمة بنا " روى " أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر . أخرجه أحمد والنسائي(1){53} .
هذا . ولا يسألا الأنبياء والصالحون والصبيان والشهداء . لحديث راشد بن سعد عن صحابي أن رجلا قال: يا رسول الله ، ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم ألا الشهيد ؟ فقال : كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة . أخرجه النسائي (2){54}
( هـ ) اليوم الآخر : هو يوم القيامة . وأوله من الموت ، لحديث هانئ مولى عثمان بن عفان قال : كان عثمان رضى الله عنه إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته فقيل له تذكر الجنة والنار فلا تبكى وتذكر القبر فتبكى؟ فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " القبر أول منزل من منازل الآخرة . فان نجا منه فما بعده أيسر . وان لم ينج منه فما بعده أشد منه " وقال صلى الله عليه وسلم : " ما رأيت منظرا قط إلا والقبر أفظع منه " أخرجه الترمذى وقال : هذا حديث حسن غريب . وأخرجه رزين وزاد : قال هانئ : سمعت عثمان ينشد :
__________
(1) ص 103 ج 3 مسند أحمد . وص 307 ج 3 تيسير الوصول ( عذاب القبر ) و ( إن لا تدافنوا ) لا يحتمل أن تكون زائدة والمعنى لولا الخوف من الموت والدفن بسبب سماع ذلك لدعوت . ويحتمل أن تكون زائدة والمعنى لولا الخوف ترك دفن موتاكم لما يحصل لكم من الفزع والأهوال لدعوت . . الخ .
(2) ص 289 ج 1 مجتبى ( الشهيد ) و ( يفتنون ) أي يمتحنون بالسؤال في القبر و ( كفى ببارقة السيوف .. ) أي بالسيوف البارقة ، والمعنى أن ثباتهم فى الصف وبذلهم أرواحهم لله تعالى دليل أيمانهم فلا حاجة إلي سؤالهم .(1/122)
فان تنج منها من ذي عظيمة وآلا فإني لا أخالك ناجيا(1) {55}
وقيل أوله من النشر " الخروج من القبور " وآخر دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار . ولا يعلم وقت مجيئه إلا الله تعالى ، ليكون الإنسان منه على وجل . قال تعالى ( أن الله عنده علم الساعة ) (34) لقمان . أي لا يعلم وقت مجيء القيامة ألا الله تعالى ، وقال : ( يسألونك عن الساعة أيان مرسها قل إنما علمها عند ربى لا يجليها لوقتا ألا هو ، ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم ألا بغتة : يسألونك كأنك حفى عنها قل أنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون(2) ) .
( وعن بريدة ) قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : خمس لا يعلمهن إلا الله عز وجل : ( أن الله عنده علم الساعة ، وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام . وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا ، وما تدرى نفس بآي أرض تموت ، إن الله عليم خبير ) أخرجه أحمد بسند صحيح(3) {56} .
والكلام بعد ينحصر في أشراط الساعة ومشتملات القيامة :
( أ ) أشراط الساعة
للقيامة علامات صغرى وكبرى ( أ ) ( فمن الصغرى ) ما في حديث جبريل قال : فأخبرني عن إماراتها ،
__________
(1) ص 306 ج 3 تيسير الوصول ( عذاب القبر ) .
(2) العراف 187 . و ( ايان مرساها ) اى متى يكون منتهاها ( لا يجليها ) اى لا يكشفها ولا يظهرها فى وقتها الا الله تعالى . ( ثقلت ) اى ثقل علمها وخفى أمرها و ( عنها ) متعلق بيسألونك ، اى يسألونك عنها كانك عالم بها . يقال : أخفيت فى المسألة بالغت فيها حتى علمتها .
(3) ص 230 ج 18 – الفتح الربانى .(1/123)
قال : أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البينيان(1)( ومنها ) ما في حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " أن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ، ويظهر الجهل، ويفشو الزنا ، ويشرب الخمر ، ويكثر النساء ، ويقل الرجال حتى يكون لخمسين امرأة قيم واحد . أخرجه السبعة إلا أبا داود وقال الترمذى : حسن صحيح (2){57} .
( وما في ) حديث أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " لا تقوم الساعة حتى يفيض المال ، وتظهر الفتن ، ويكثير الهرج قالوا : وما الهرج يا رسول الله ؟ قال : القتل القتل القتل " . أخرجه ابن ماجة بسند صحيح(3){58} .
( وعنه ) أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان وتظهر الفتن ويكثر الهرج– وهو القتل– حتى يكون فيكم المال فيفيض " أخرجه الشيخان(4){59}.
( ومنها ) عدم البركة في الوقت وإضاعته في اللهو واللعب ، وهو المراد بما في حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان ، فتكون السنة كالشهر ، والشهر كالجمعة ، والجمعة كاليوم ، واليوم كالساعة ، والساعة كالضرمة من النار " . أخرجه أحمد والترمذى وقال هذا حديث غريب(5){60} .
(
__________
(1) تقدم رقم 9 ص 11 ( قوام الدين ثلاثة ) .
(2) انظر رقم 7424 ص 532 ج 2 فيض القدير شرح الجامع الصغير .
(3) ص 258 ج 2 سنن ابن ماجه ( أشراط الساعة ) و ( الهرج ) بفتح فسكون .
(4) ص 355 ج 2 فتح البارى ( ما قيل فى الزلازل والآيات ) .
(5) ص 221 ج 3 تيسير الوصول متفرقة ... ) و ( الضرمة ) ففتحتين ، احتراق السعفة ( ورقة الجريدة اليابسة ) والضرام – بالكسر : اشتعال النار فى الحلفاء ونحوها .(1/124)
ومنها ) إسناد الأمور لغير أهلها " روى " أبو هريرة أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم " متى الساعة ؟ فقال : إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قال وكيف إضاعتها ؟ قال إذا أسند الأمر لغير أهله فانتظر الساعة " . أخرجه البخاري (1){61} .
( ومنها ) ما في حديث أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من ارض الحجاز تضئ أعناق الإبل ببصري " . أخرجه الشيخان(2){62} .
( قال النووي ) هذه النار آية من أشراط الساعة ، وقد خرجت في زماننا نار بالمدينة سنة أربع وخمسين وستمائة ، وكانت نارا عظيمة جدا ، خرجت من جنب المدينة الشرقي وراء الحرة ، تواتر العلم بها عند جميع اهل الشام وسائر البلدان(3).
( ومنها ) ما في حديث أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر:يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفى فتعال فاقتله آلا الغرقد فانه من شجر اليهود". أخرجه الشيخان وهذا لفظ مسلم(4){63}
(
__________
(1) ص 263 ج 11 فتح البارى ( رفع الأمانة – الرقاق ) .
(2) ص 219 ج 3 تيسير الوصول ( خروج النار قبل الساعة ) . و ( بصرى ) بضم فسكون : مدينة بالشام .
(3) ص 28 ج 18 شرح مسلم ( الفتن وأشراط الساعة ) .
(4) ص 44 ج 18 نووى مسلم ( الفتن وأشراط الساعة ) و ( الغرقد ) بفتح فسكون نوع من الشجر له شوك عظيم معروف ببلاد بيت المقدس . وهناك يكون قتل اليهود . وكلام الحجر والشجر حقيقى بان ينطقه الله تعالى وهو على كل شئ قدير . ويحتمل ان يكون كناية عما يكون من عدم تمكن اليهود من الفرار والاختباء بأن يدركهم المقاتلون فى يتمكن أحد من الفرار .(1/125)
ب ) علاماتها الكبرى : ( روى ) حديقة بن أسيد أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : لن تقوم الساعة حتى يكون عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة ، وخروج يأجوج ومأجوج والدجال وعيسى بن مريم والدخان وثلاثة خسوف خسف بالمغرب وخسف بالمشرق وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن من فعر عدن تسوق الناس إلي المحشر . أخرجه أحمد ومسلم والأربعة والطيالسى(1){64} .
وأهمها ست هاك بيانها :
1 – طلوع الشمس من المغرب : هي أول الآيات الكبرى ظهورا ، روى عبد\ الله بن عمرو بن العاصي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " أن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدابة على الناس ضحى ، وآيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى عى أثرها قريبا " . أخرجه أحمد وأبو داود ومسلم وزادا: قال عبد الله – يعنى ابن عمرو – وأظن أولهما خروجت طلوع الشمس من مغربها(2){65} .
( وعن أبى هريرة ) رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعوا . وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ، أو كسبت في إيمانها خيرا . أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود(3){66} .
(
__________
(1) ص 27 ج 18 نووى مسلم ( الفتن وأشراط الساعة ) . و ص 260 ج 2 سنن ابن ماجه ( الآيات ) . وص 124 ج 4 سنن أبى داود (إمارات الساعة ) . و 214 ج 3 تحفة الأحوذى ( ما جاء فى الخسف ) . وص 143 مسند الطالسى . و ( ثلاثة خسوف ) قد وجد الخسف فى مواضع لكن يحتمل أن يكون المراد بالخسوف هنا قدرا زائدا على ما وجد كأن يكون أعظم مكانا وقدرا ، وقعر عدن : أى أقصى أرضها .
(2) ص 164 ج 2 مسند أحمد . وص 114 ج 4 سنن أبى داود ( إمارات الساعة وص 222 ج 3 تيسير الوصول ( أشراط متفرقة ) .
(3) ص 219 ج 3 تيسير الوصول ( طلوع الشمس من مغربها ) .(1/126)
قيل ) يكون ذلك في يوم أو ثلاثة ، ثم تطلع من المشرق كعادتها ، وإذا طلعت من المغرب غربت في المشرق ، وحينئذ يغلق باب التوبة إلى يوم القيامة ، لقوله تعالى : ( يوم يأتى بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا(1)) .
( المعنى ) لا ينفع الإيمان نفسا كافرة لم تكن آمنت من قبل ، ولا ينفع نفسا مؤمنة توبتها من المعاصي . وعليه فاغلاق باب التوبة عام فى الكافر والمؤمن العاصي . ( وقيل ) المعنى : أو نفسا منافقة كسبت في إيمانها خيرا ، أى تصديقا باطنا . وعليه فاغلاق باب التوبة خاص بالكافر . وصحح بعضهم أن عدم قبول التوبة خاص بمن شاهد طلوع الشمس من مغربها وهو مميز . أما من كان حينئذ غير مميز صبيا كان أو مجنونا ثم ميز بعد ذلك، فانه تقبل منه التوبة(2).
2 – نزول الدخان من السماء : قال تعالى : ( فارتقب يوم تأتى السماء بدخان مبين ) (11) الدخان . قال ابن عباس وابن عمر والحسن وغيرهم : انه دخان يأتى قبل يوم القيامة فيأخذ المؤمن كهيئة الزكام ويدخل مسامع الكافر والمنافق حتى يكون كالرأس الحنيذ " أى المشوى " وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه النار .
(
__________
(1) الأنعام : 158 ( وبعض آيات الرب ) طلوع الشمس من المغرب كما فى الحديث رقم 65 .
(2) والذى دلت عليه الأحاديث الصحيحة أن قبول التوبة ملغيا بطلوع الشمس من مغربها فلا تقبل بعد ( روى ) عبد الله بن عمر وغيره أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " لا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت طبع الله على كل قلب بما فيه وكفى الناس العمل " . أخرجه أحمد والطبرانى {67} ص 282 ج 11 فتح البارى . الشرح ( باب طلوع الشمس من مغربها ) .(1/127)
وعن ) أبى مالك الأشعرى رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " ان ربكم أنذركم ثلاثا : الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة ، ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه . والثانية الدابة : والثالثة الدجال " . أخرجه ابن جرير الطبرى والطبرانى بسند جيد(1){68} .
( وقال ) على رضى الله عنه : لم تمض آية الدخان بعد تأخذ المؤمن كهيئة الزكام وتنفخ الكافر حتى ينفد : أخرجه بن أبى حاتم وابن كثير(2){6} .
( وقال ) عبد الله بن أبى ملكية : غدوت على ابن عباس ذات يوم قال : مانمت الليلة حتى أصبحت ، قلت: لم ؟ قال : قالوا طلع الكوكب ذو الذنب فخشيت ان يكون الدخان قد طرق ، فما نمت حتى أصبحت . اخرجه ابن جرير وابن كثير وقال : وهذا اسناد صحيح(3){7} .
(
__________
(1) ص 68 ج 5 جامع البيان . و ( الزكمة ) بفتح فسكون ، نزول فضلات رطبة من الدماغ إلى الأنف .
(2) ص 422 ج 7 تفسير ابن كثير . و ( ينفد ) أى ينفى . وروى ابن جرير نحوه من ابن عمر .
(3) ص 68 ج 25 جامع البيان . وص 423 ج 7 – تفسير ابن كثير .(1/128)
وقال ) ابن مسعود : انه ليس من الآيات الكبرى ، بل هو عبارة عما أصاب قريشا من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة ، وجعلوا يرفعوا أبصارهم الى السماء ، فلا يرون الا الدخان اجابة لدعاء النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعليهم بسنين كسنى يوسف لابائهم اتباعه . ولكن الراجح الاول للاحاديث المرفوعة الصحاح والحسان التى فيها مقنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة ، وهو ظاهر القرآن . قال تعالى : ( فارتقب يوم تأتى السماء بدخان مبين ) أى بين واضح يراه كل أحد . وعلى ما فسر به ابن مسعود رضى الله عنه انما هو خيال رأوه فى اعينهم من من شدة الجوع والجهد ، وهكذا قوله تعالى : ( يغشى الناس ) أى يتغشاهم ويعيهم ولو كان امرا خياليا يخص أهل مكة المشركين ، لما قيل فيه ( يغشى الناس(1)) .
( وقال النووى ) فى شرح حديث " لن تقوم الساعة حتى يكون عشر آيات " ( تقدم رقم 64 ) : هذا الحديث يؤيد قول من قل : ان الدخان دخان يأخذ بأنفاس الكفار ، ويأخذ المؤمن منه كهيئة الزكام ، وانه لم يأت بعد ، وانما يكون قريبا من قيام الساعة ، وبه قال حذيفة وابن عمر والحسن ، وراوه حذيفة عن النبى صلى الله عليه وعلى سلم، وانه يمكث فى الارض اربعين يوما . ويحتمل أنهما دخانان ، للجمع بين الآثار .
3 – خروج الدابة قال الله تعالى : ( واذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الرض تكلمهم ان الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ) (82) النمل ، وهى دابة عظيمة تخرج من صدع فى الصفا أو من غيره فى آخر الزمان عند فساد الناس وتركهم أوامر الله تعالى وتعاليم الدين ، فتكلمهم ببطلان الاديان . ( وقيل ) تقول : يا فلان انت من هاهل الجنة ، ويا فلان أنت من اهل النار . ( وقيل ) تقول ما قاله اله تعالى ( ان الناس ) أى الكفار الموجودين وقت خروجها كانوا لا يؤمنون بالقرآن والبعث والحساب والعقاب .
(
__________
(1) ص 423 ج 7 تفسير ابن كثير طبع المنار .(1/129)
وبخروجها ) ينقطع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر(1) ، ولا يبقى منيب ولا تائب ، ولا يؤمن كافر كما قال تعالى : ( واوحى الى نوح انه لن يؤمن من قومك الا من قد آمن ) (36) هود .
وهذه الدابة هى الجساسة المذكورة في حديث الدجال آلاتي (رقم71) (وقد ورد ) فيها أحاديث (منها) حديث أبى هريرة : ان النبي صلي الله عليه وعلي اله وسلم قال : " تخرج دابة الأرض ومعها عصا موسي وخاتم سليمان عليهما السلام فتخطم انف الكافر بالعصا وتجلوا وجه المؤمن بالخاتم ، حتي يجتمع الناس علي الخوان يعرف المؤمن من الكافر " اخرجه ابو داود الطيالسي والترمذي والحاكم(2){69} .
(
__________
(1) أى لعدم فائدة ذلك ، لأنه حينئذ يظهر المؤمن والكافر عيانا بوسم الدابة ، فمن وسمته بالكفر لا يمكن تغييره .
(2) ص 334 مسند الطيالسى ( أوس بن خالد عن أبى هريرة ) . وص 152 ج1 تيسر الوصول ( سورة النمل ) . و ( تخطم ) بخاء معجمة وطاء مهملة كتضرب لفظا ومعنى ، وقبل تسمه ( وتجلو ) بالجيم أى تغيير . و ( الخوان ) بالكسر ما يؤكل عليه والضم لغة .(1/130)
وحديث) حذيفة بن اسيد الغفاري ان النبي صلي الله عليه وعلي اله وسلم قال : " يكون للدابه ثلاث خرجات من الدهر .فتخرج من الدهر . فتخرج خرجه بأقصى اليمن فيفشو ذكرها في البادية ، ولا يدخل ذكرها القرية – يعني مكة –ثم تكمن زمنا طويلا ، ثم تخرج خرجة اخري قريبا ن مكة فيفشوا ذكرها في البادية ، ويدخل ذكرها القرية . فبينما الناس يوما في اعظم المساجد علي الله حرمة – يعني المسجد الحرام – ولم يرعهم الا وهي في ناحية المسجد تدنوا ما بين الركن والمقام ، تنفض عن راسها التراب ، فارفض الناس عنها وثبت لها عصابة فعرفوا انهم لم يعجزوا الله ، فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب فمرت بهم فجلت وجوههم حتي تركتها كانها الكواكب الدرية ، ثم ولت في الارض لايدركها طالب ولا يفوتها هارب ، حتي ان الرجل ليتعوذ منها بالصلاة ، فتاتيه من خلفه فتقول من يا فلان الان تصلي ؟ فيقبل عليها فتسمه في وجهه ثم تنطلق ويشترك الناس في الاموال ، ويصطحبون في الاسفار ، فيعرف المؤمن من الكافر ، فيقال للمؤمن يا مؤمن ، وللكافر يا كافر "اخرجه ابو داود الطاليسي وابن كثير(1){70} .
4- خروج المسيح الدجال : الدجال : الكذاب . وسمي المسيح – بالحاء علي الصحيح – لانه يمسح الارض ويقطعها في اربعين يوما . ولانه ممسوح العين اليمني .
(
__________
(1) ص 144 مسند الطيالسى . وص 306 – ج6 – تفسير ابن كثير .(1/131)
روي) عامر بن شرحبيل الشعبي عن فاطمة بنت قيس : قالت : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : أن تميما الداري كان رجلا نصرانيا فجاء فبايع واسلم ، وحدثني حديثا وافق الذي كنت احدثكم عن المسيح الدجال : حدثني انه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلا من لخم وجذام ، فلعب بهم الموج شهرا في البحر ، ثم أرفئوا(1) إلى جزيرة في البحر حين مغرب الشمس فجلسوا في اقرب السفينة فدخلوا الجزيرة فلقيتهم دابة أهلب كثيرة الشعر لا يرون ما قبله من دبره من كثرة الشعر . فقالوا : ويلك ما انت ؟ فقالت : اناالجساسة ؟ قالوا وما الجساسة ؟ قالت ايها القوم انطلقوا الي هذا الرجل في الدير ،فاذا فيه اعظم انسان رايناه قط خلقا واشده وثاقا ، مجموعة يداه الي عنقه ما بين ركبته الي كعبيه بالحديد قلنا : يلك ما انت ؟ قال : قد قدرتم علي خبري ، ثم ارفانا الي جزيرتك هذه، فلقيتنا دابة اهلب كثيرة الشعر ، لا يدى ما قبله من دبره من كثرة الشعر . فقلنا : ويلك ما انت ؟ فقالت : انا الجساسة . قلنا : وما الجساسة ؟ قالت اعمدوا الي هذا الرجل في الدير فانه الي خبركم بالاشواق ، فاقبلنا اليك سرعا . فقال : اخبرونيعن نخل (بيسان) قلنا : عن أي شانها تستخبر؟ قال اسالكم عن نخلها هل يثمر ؟ قلنا له : نعم . قال : اما انه يوشك الا يثمر . :
__________
(1) و(ارقئوا) بفتح الهمزة وسكون الراء مهموزا : أي التجئوا إليها ، و (اقرب) بضم الراء : جمع قارب علي غير قياس ، وهو سفينة صغيرة تكون إلى جانب الكبيرة . أي غليظة الشعر كثيرة ، و(الجساسة) من التجسس، وهو الفحص عن بواطن الأمور ، واكثر ما يقال ذلك في الشر.(1/132)
اخبروني عن بحيرة (طبرية)هل فيها ماء ؟ قلنا :نعم هي كثيرة الماء قال : اما ان مائها يوشك ان يذهب قال: اخبروني عن (زغر) هل في العين ماء ؟ وهل يزرع اهلها بماء العين ؟ قلنا : نعم هي كثيرة الماء ، واهلها يزرعون من مائها قال : اخبروني عن نبي الاميين ما فعل ؟ قلنا قد خرج من مكة ونزل يثرب . قال اقاتله العرب ؟ قلنا : نعم . قال كيف صنع بهم ؟ فاخبرناه انه قد ظهر علي من يليه من العرب ، واطاعوه . قال : ذاك خير لهم ان يطيعوه ، واني مخبركم عني ، انا المسيح الدجال ، واني اوشك ان يؤذن لي في الخروج ، فاسير في الخروج ، فاسير في الارض فلا ادع قرية الا بطما في اربعين ليلة غير مكة وطيبة ، فهما محرمتان علي كلتاهما ، كلما اردت ان ادخل واحدة منهما ، استقبلني ملك بيده سيف (صلتا) يصدني عنها ، وان علي كل (نقب) منهما ملائكة يحرسونها(1) . ثم قال رسول الله صلي الله عليه وسلم وعلي اله وسلم – وطعن (بمخصرته) في المنبر – هذه طيبة ،هذه طيبة ، الا هل كنت حدثتكم ذلك ؟ فقال الناس : نعم قال : فانه اعجبني حديث تميم الداري ، انه وافق الذي كنت احدثكم عنه وعن المدينة ومكة (الحديث) اخرجه ابو داود والترمذي ، وقال : حسن صحيح ، واخرجه ايضا مسلم واللفظ له وابن ماجه(2){71} .
(
__________
(1) اغتلم ) أي هاج وجاوز حده المعتاد . و (بيسان) بفتح فسكون : قرية بالشام . و(طبريه) بفتحتين : بلدة بالأردن بالشام . و( زغر ) بزاي مضمومة وغين معجمة مفتوحة : بلدة جنوبي الشام . و(صلنا) بفتح الصاد وضمها : أي مسلولا ، و(النقب)بفتح فسكون : الطريق في الجبل .
(2) ص 214 ج 3 تيسير الوصول (الدجال) . و ص 263 ج 2 – ابن ماجه( فتنة الدجال) . و(مخصرة) بكسر فسكون : عصا او قضيب او سوط يكون بيد الخطيب وغيره إذا تكلم .(1/133)
وقد) وصفه النبي صلي الله عليه وعلي اله وسلم وصفا كافيا ، لنكون منه علي حذر ، وننجو من فتنه (فعن النواس ) بن (سمعان) قال : ذكر رسول الله صلي الله عليه وعلي اله وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتي ظنناه في طائفة النخل ، فلما رحنا اليه فعرف ذلك فينا . فقال : ما شانكم ؟ قلنا يا رسول الله ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ورفعت ، حتي ظنناه في طائفة النخل . فقال : غير الدجال (اخوفني)عليكم . ان يخرج وانا فيكم فانا حجيجة دونكم . وان يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه والله خليفتي علي كل مسلم : انه شاب (قطط عينه طافية) كاني اشبهه بعبد العزي بن قطن ، فمن ادركه منكم فليقراعليه ( فواتح سورة الكهف ، انه خارج خلة ) (1)
__________
(1) سمعان) بكسر أو بفتح فسكون . و ( خفض ورفع ) بالتشديد فيهما ، أي حقر شانه بكونه اعور مكتوب بين عينيه كافر ، وعظم فتننته لشتمالها علي خوارق العادات والمشهور تخفيف الفاء فيهما ، والمعني أن النبي صلي الله عليه وسلم بالغ في تقريب وقت خروجه ، واستعمل فيه كل فن من خفض ورفع ( حتي ظننا ) للمبالغة في تقريبه ( انه فيه طائفة )أي ناحية وجانب (النخل )بالمدينة 0 و(اخوفنى)افعل تفضيل قرن بنون الوقاية تشبيها له بالفعل ، وأضيف لياء المتكلم ،وفى الكلم حذف مضاف 0 والأصل غير الدجال أخوف مخوفاتى عليكم 0 و (قطط) بفتحتين أي شعرة شديد الجعودة . و(طائفة )روى بالهمزة ،وهى التى ذهب نورها ،وبغير الهمزة ، وهي التي نتات وبروزت مرتفعة وفيها ضوء . و (فواتح الكهف) أي لوائلها . وفي راوية (وأخرها) وعليه فيجمع بين الأول والأخر . والكل افضل . ولعل حكمه قراءة ذلك : التسلي بما وقع لأصحاب الكهف من الشدة ثم النجاة بعد الصبر . و(خلة) بالخاء المعجمة وتشديد اللام المفتوحتين ، هو الطريق بين البلدتين . قال القرطبي : وقد جاء انه يخرج من خرسان ومن اصبهان ..ووجه الجمع ان مبدأ خروجه من خرسان من ناحية اصبهان ثم يخرج الي الحجاز فيما بين العراق والشام .(1/134)
بين الشام والعراق ، فعاث يمينا وعاث شمالا . يا عباد الله فاثبتوا . قلنا يا رسول الله وما لبثه في الأرض؟ قال : اربعون يوما ، يوم كسنة ، ويوم كشهر ، ويوم كجمعة ، سائر ايامه كايامكم قلنا : يا رسول الله ، فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم ؟ قال لا ، اقدروا له قدره . قلنا : يا رسول الله وما إسراعه في الأرض؟ قال : كالغيث استدبرته الريح ، فياتي علي القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له ، فيامر السماء فتمطر والارض فتنبت ، فتروح عليهم سارحتهم اطول ما كنت ذرا واسبغه ضروعا ، وامده خواصر ثم ياتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله ، فينصرف عنهم ، فيصبحون ممحلين ليس بايديهم شئ من اموالهم ويمر بالخربه فيقول لها : اخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا ، فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك ،فبينما هو كذلك اذ طاطا راسه قطر ، واذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ ، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه الامات ، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفة فيطلبه حتي يدركه باب لد فيقتله ، ثم ياتي عيسي بن مريم قوم قد عصمهم الله منه ،فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة ، فبينما هو كذلك اذ اوحي الله الي عيسي اني قد أخرجت عبادا لي لايدان لاحد بقتالهم فحرز عبادي الي الطور ، ويبعث الله ياجوج وماجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمر اوائلهم علي بحيرة طبرية ، فيشربون ما فيها ، ويمر آخرهم فيقولون : لقد كان بهذه مرة ماء ، ويحصر نبى الله عيسى واصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لاحدكم اليوم ، فيرغب نبى الله عيسى وأصحابه الى الله فيرسل الله عليهم النغف فى رقبابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة .(1/135)
ثم يهبط نبى الله عيسى واصحابه الى الارض فلا يجدون فى الأرض موضع شبرا الا ملأه زهمهم ونتنهم ، فيرغب نبى الله عيسى واصحابه الى الله ، فيرسل الله طيرا كأعناق البخت (1)
__________
(1) المنارة ) بفتح الميم ، قال ابن كثير : هذا هو أشهر فى موضوع نزوله ، وقد وجدت منارة شرقى دمشق سنة أحدى وأربعين وسبعمائة بالحجارة البيض ، وهذا من دليل النبوة الظاهرة ، وقد ورد انه عليه وسلم ينزل بيت المقدس وهذا أرجح ، ولا ينافيه سائر الروايات ، لان بيت المقدس شرقى دمشق . و ( مهرودتين ) روى بالدال المهملة والذال المعجمة : أى حال كونه لابسا ثوبين مصبوغين بورس ثم بزعفران، و ( جمان ) بضم ففتح : حبات من الفضة ، يعنى يتحدر منه الماء على هيئة اللؤلؤ فى صفائه . و ( نفسه ) بفتحتين . و ( طرفه ) فتح فسكون : أى بصره . ( فيطلبه ) أى يطلب عيسى الدجال . و ( لد ) بضم الام وشد الدال ، بلدة قريبة من بيت المقدس . و (يدان ) تثنية يد ، أى لا قدرة ولا طاقة ( فحزر ) أمر من التحريز ، أى ضمهم الى الطور وأجلعه لهم حرزا .و ( الحد ) بفتحتين ، المكان المرتفع . و(ينسلون) أى يمشون مسرعين . و( النغف ) بنون وغين مفتوحتين : دود يكون فى أنوف الإبل والغنم . و ( فرسى ) بفتح فسكون مقصورا أى قتلى . و ( زهمهم ) بفتح الزاى والهاء : أى دسمهم ورائحتهم الكريهة . و ( البخت ) بضم فسكون : الابل ..(1/136)
فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله ، ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر ، فيغسل الارض حتى يتركها كالزلقة ثم يقال للارض : أنبتى ثمرتك ، وردى بركتك ، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ، ويستظلون بقحفها ويبارك فى الرسل حتى أن اللقحة من الابل لتكفى الفئام من الناس ، واللقحة من البقر لتكفى القبيلة من الناس واللقحة من الغنم لتكفى الفخذ من الناس ، فبينما هم كذلك اذ بعث الله ريحا طيبة ، فتأخذهم تحت آباطهم ، فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها ، تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة : أخرجه أحمد ومسلم وابن ماجه والترمذى وقال : غريب حسن صحيح(1) {72} .
(
__________
(1) ص 181 ج 4 مسند أحمد . وص 63 ج 3 تحفة الأحوذى ( فتنة الدجال ) . و ( لا يكن ) بفتح فضم أى لا يستر ولا يمنع من نزول الماء بيت من طين أو غيره . و ( المدر ) بفتحتين ، الطين الصلب . و ( الزلقة ) بفتحتين وقاف ، أوفاء : المرآة ، وروى بضم الزاى وسكون اللام . و ( العصابة ) الجماعة من الناس من عشرة إلى أربعين . و ( القحف ) بكسر فسكون ، مقعر قشر الرمانة ، شبهها بقحف الرأس وهو ما فوق الدماغ . و ( الرسل ) بكسر فسكون . البن . و ( اللحقة ) بكسر اللام أو فتحها : القريبة العهد بالولادة . و ( الفئام ) بكسر فهمز : الجماعة الكثيرة . و ( الفخذ ) بفتح فسكون : الجماعة من الاقارب ، وهم دون البطن ، والبطن دون القبيلة . و ( يتهارجون ) أى بجامع الرجال النساء بحضرة الناس بلا اكتراث كما كما يفعل الحمير . و ( الهرج ) باسكان الراء : الجماع .(1/137)
وقال ) ابو سعيد الخرى : حدثنا صلى الله عليه وعلى آله وسلم حديثا طويلا عن الدجال فكان فيما حدثنا قال : يأتى الدجال وهو محرم عليه ان يدخل نقاب المدينة ، فينتهى الى بعض السباخ التى تلى المدينة ، فيخرج اليه يومئذ رجل هو خير الناس أو من خير الناس ، فيقول له : أشهد انك الدجال الذى حدثنا رسول الله صلى اللله عليه وعلى آله وسلم حديثه فيقول الدجال : أرأيتم ان قتلت هذا ثم احييه : والله ما كنت فيك قط اشد بصيرة منى الآن . فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه أخرجه احمد والشيخان(1) {73} .
(
__________
(1) ص 215 ج 3 تيسير الوصول ( الدجال ) . و ( نقاب ) جمع نقيب وهو الطريق . و ( السباخ ) جمع سبخة وهى أرض بجوار المدينة تعلوها اللوحة لا تنبت الا قليلا . و ( رجل ) هو الخضر عليه السلام كما فى مسلم . ( ثم يحييه ) . ( أن قيل ) كيف ظهرت هذه الخوارق على يد الكذاب ، وإنما تكون معجزة لنبى ؟ ( يقال ) هذا الكذاب يدعى الربوبية ، وأدلة الحدوث الظاهرة تكذبه ، أما النبى فانما يدعى النبوة وليست مستحيلة فى البشر ، فاذا أتى بدليل لم يعارضه شئ صدق .(1/138)
وعن ابن عمر ) أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : ما بعث الله من نبى الا انذر أمته ، الدجال ، وأنه يخرج فيكم فما خفى عليكم من شأنه ، فليس يخفى عليكم ان ربكم ليس بأعور ، وانه اعور العين اليمنى كأن عينيه عنبة طافية . أخرجه الشيخان(1) {74} .
( وعن حذيفة ) أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " ان مع الدجال اذا خرج ماء ونار ، فأمام الذى يرى الناس انه نار فماء عذب ، وأما الذى يرى الناس أنه ماء فنار تحرق . فمن ادرك ذلك منكم فليقع فى الذى يرى انه نار فانه ماء بارد عذب . أخرجه الشيخان وأبو داود(2){75} .
هذه الأحاديث التى ذكرت فى قصة الدجال حجة لمذهب أهل الحق أنه شخص موجود معين ابتلى الله به عباده ، واقدره على أمور من احياء الميت الذى يقتله ، واظهار زهرة الدنيا وخصبها ، وجنته وناره واتباع كنوز الأرض له ، وأمره السماء ان تمطر فتمطر ، والارض أن تنبت فتنبت ، فيقع كل ذلك بقدره الله تعالى ومشيئته ، ثم يعجزه الله تعالى ، فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره ، ويبطل أمره ، ويقتله عيسى صلى الله عليه وسلم . و " يثبت الله الذين آمنوا " .
(
__________
(1) ص 216 ج 3 تيسير الوصول ( الدجال ) . و ( اليمنى ) وفى رواية اليسرى ، وكلاهما صحيح ، والعور فى اللغة العيب . وعيناه معيبتان : أحدهما طافئة بالهمز أى لا ضوء فيها . والأخرى طافية بلا همز أى ظاهرة ناتئة . وقوله صلى الله عليه وسلم : " ان ربكم ليس بأعور والدجال أعور " بيان لعلامة بينه على كذب الدجال دلالة قطعية يدركها كل أحد ، ولم يقتصر على كونه ما وغيره من الدلائل القطعية ، لكون بعض العوام لا يهتدى إليها . أنظر ص 60 ج 18 شرح مسلم .
(2) ص 215 ج 3 تيسير الوصول ( الدجال ) .(1/139)
وقال ) بعض المعتزلة : انه صحيح الوجود ، ولكن الذى يدعى مخارف وخيالات لا حقائق لها . وزعموا أنه لو كان حقا لم يوثق بمعجزات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم . وهذا غلط ، لأنه لم يدع النبوة ، فيكون ما معه كالتصديق له ، وانما يدعى الالهية ، وهو فى نفس دعواه مكذب لها بصورة حالة ، ووجود دلائل الحدوث فيه ، ونقص صورته ، وعجزه عن ازالة العور الذى فى عينيه ، وعن ازالة الشاهد بكفره المكتوب بين عينيه ، ولهذه الدلائل وغيرها لا يغتر به الا رعاع من الناس لسد الحاجة والفاقة ، رغبة فى سد الرمق ، أو تقية وخوفا من اذاه ، لأن فتنته عظيمة جدا ، تدهش العقول ، وتحير الألباب مع سرعة مروره فى الأمر ، فلا يمكث بحيث يتامل الضعفاء حاله ، ودلائل الحدوث فيه والنقص ، فيصدقه من صدقه فى هذه الحال ، ولهذا حذرت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين من فتنته ، ونبهوا على نقصه ، ودلائل ابطاله . وأما أهل التوفيق ، فلا يغترون به ، ولا يخدعون لما معه لما ذكر من الدلائل المكذبة له مع ما سبق لهم من العلم بحاله . ولهذا يقول له يقتله ثم يحييه : ما أزددت فيك الا بصيرة(1).
5 – نزول سيدنا عيسى عليه السلام وقتله الدجال
دلت السنة وأجمعت الأمة على ان سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام ينزل قرب الساعة ، ويقتل الدجال ، ويحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ويمكث فى الأرض ما شاء الله أن يمكث ، ثم يموت ويصلى عليه المسلمون .
(
__________
(1) ص 58 ج 18 شرح مسلم .(1/140)
فعن أبى هريرة ) رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : والذى نفسى بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا ، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها . أخرجه أحمد والخمسة الا النسائى(1){
__________
(1) ص 213 ج 3 تيسير الوصول ( المسيح عيسى بن مريم ) . و ( ليوشكن ) بكسر المعجمة . أى ليقربن سريعا نزول عيسى عليه والسلام ، حاكما بهذه الشريعة المحمدية ، فإنها باقية لا تنسخ ، فلا ينزل نبيا بشريعة مستقلة ناسخة ، بل هو حاكم من حكام هذه الأمة . و ( مقسطا ) أى عادلا ، اسم فاعل من أقسط ضد القاسط وهو الجائز ، وعند أحمد من حديث عائشة ( ويمكث فى الأرض أربعين سنة ) وللطبرانى من حديث عبد الله بن مغفل : " ينزل عيسى بن مريم مصدقا بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم على ملته " . ( فيكسر الصليب ) حقيقة ، ويبطل ما تزعمه النصارى من تعظيمه ( وقيل ) : المراد من كسره إظهار كذب النصارى حيث ادعوا أن اليهود صلبوا عيسى عليه الصلاة والسلام على خشب ، فأخبر الله فى كتابه العزيز بكذبهم وافترائهم فقال : ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ) وذلك انهم لما نصبوا له خشبة ليصلبوه عليها ، ألقى الله شبه عيسى على الشخص الذى دلهم عليه واسمه يهوذا ، وصلبوه مكانه وهم يظنون أنه عيسى ، ورفع الله عيسى إلى السماء ثم تسلطوا على أصحابه بالقتل والصلب والحبس حتى بلغ أمرهم ملك الروم فقيل له : أن اليهود قد تسلطوا على أصحاب رجل كان يذكر لهم أنه رسول ، وكان يحيى الموتى ويبرئ الأكمة والأبرص ، ويفعل العجائب ، فعدواه عليه وقتلوه وصلبوه فأرسل الى المصلوب فوضع عن جذعه وجئ بالجذع الذى صلب عليه فعظمه صاحب الروم وجعلوا منه صلبانا . فمن ثم عظمت النصارى الصلبان . ومن ذلك الوقت دخل دين النصرانية فى الروم ..ثم يكون كسر عيسى الصليب حين ينزل ، إشارة إلى كذبهم فى دعواهم أنه قتل وصلب ، والى بطلان دينهم ، وأن الدين الحق هو دين الإسلام الذى عيسى لإظهاره وإبطال بقية الأديان بقتل النصارى واليهود وكسر الأصنام وقتل الخنزير وغير ذلك . أنظر ص 35 ج 12 عمدة القارى طبع منير ( ويقتل الخنزير ) إنما قتله لحرمه اقتنائه وأكله ، لأنه نجس العين لا ينتفع به شرعا ( ويضع الجزية ) أي يسقطها عن أهل الكتاب ولا يقبل منهم الا الإسلام ، فان قبول الجزية منهم فى شريعتنا ملغيا بنزول سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام ( فقد ) أخبر النبى صلى الله عليه وسلم فى هذا الحديث الصحيح وأشباهه بنسخ قبول الجزية بنزول عيسى عليه السلام . وليس عيسى هو الناسخ . و ( يفيض ) بفتح المثناة التحتية : أى يكثر . وتنزل البركات وتكثر الخيرات ، بسبب العدل وعدم الظلم ، وحينئذ تخرج الأرض كنوزها . وتقل الرغبات فى اقتناء المال ، لقصر الآمال ، وعلمهم بقرب الساعة . فان نزول عيسى عليه الصلاة والسلام ، علم من أعلام الساعة الكبرى ، ولذا تكثر رغبتهم فى الصلاة وسائر الطاعات .(1/141)
76} .
( وعن جابر ) رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : لا تزال طائفة من أمتى يقاتلون على الحق ظاهرين الى يوم القيامة ، فينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم : تعال لنا . فيقول لا ، ان بعضككم على بعض أمراء ، تكرمة الله تعالى لهذه الأمة . أخرجه أحمد ومسلم(1) {77} .
(
__________
(1) ص 345 ج 3 مسند أحمد . و ص 213 ج 3 تيسير الوصول ( المسيح عيسى ابن مريم ) .(1/142)
وعنه ) أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " يخرج الدجال فى خفقه من الدين وادبار من العلم فله أربعون ليلة يسيحها فى الأرض . اليوم منها كالسنة ، واليوم منها كالشهر واليوم منها كالجمعة . ثم سائر أيامه كأيامكم هذه ، وله حمار يركبه عرض ما بين أذنيه أربعون ذراعا . فيقول للناس ، أنا ربكم ، وهو أعور " وان ربكم ليس بأعور " مكتوب بين عينيه " كافر " يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب . يرد كل ماء ومنهل إلا المدينة ومكة . حرمهما اله عليه ، وقامت الملائكة بأبوابهما ، ومعه جبال من خبز ، والناس في جهد إلا من تبعه . ومعه نهران أنا أعلم بهما منه : نهر يقول الجنة ونهر يقول النار . فمن أدخل الذى يسميه الجنة فهو النار . ومن أدخل الذى يسميه النار فهو الجنة . ويبعث الله معه شياطين تكلم الناس ، ومعه فتنة عظيمة ، يأمر السماء فتمطر فيما يرى الناس(1) ويقتل نفسا ثم يحييها فيما يرى الناس . لا يسلط على غيرها من الناس . ويقول : أيها الناس ، هل يفعل مثل هذا إلا الرب عز وجل . فيفر المسلمون إلى جبل الدخان بالشام ، فيأتيهم فيحاصرهم فيشتدد حصارهم ويجهدهم جهدا شديدا ، ثم ينزل عيسى بن مريم فينادى من السحر فيقول : يأيها الناس : ما يمنعكم أن تخرجوا إلى الكذاب الخبيث ؟ فيقولون : هذا رجل جنى . فينطلقون ، فإذا هم بعيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم ، فتقام الصلاة . فيقال له : تقدم يا روح الله . فيقول : ليتقدم امامكم فليصل بكم .
__________
(1) خفقة ) فسكون ، أى في حال ضعف ( من الدين ) وقلة لأهله . و ( المنهل ) بفتح الميم والهاء مكان ورود الماء . و ( معه جبال ... ) أى معه قدر الجبال من الخبز ، وفى رواية لمسلم ومعه جبال من خبز ولحم . و ( الجهد ) بفتح الجيم ، المشقة ( فيما يرى ) ظاهرة أن ما يظهر على يد الدجال من الخوارق خيالات وظاهر الروايات السابقة أنها حقائق ، وهى أكثر وأقوى اسنادا ، وعليها أهل السنة والجماعة كما تقدم .(1/143)
فإذا صلوا صلاة الصبح ، خرجوا إليه ، فحين يراه الكذاب ينماث كما ينماث الملح في الماء ، فيمشى إليه فيقتله ، حتى أن الشجرة والحجر ينادى يا روح الله هذا يهودى . فلا يترك ممن كان يتبعه أحد إلا قتله " . أخرجه أحمد بسند رجاله رجال الصحيح(1){78} .
والأحاديث في هذا كثيرة صحيحة ( قال ) القاضى عياض : نزول عيسى عليه السلام وقتله الدجال حق وصحيح عند أهل السنة للأحاديث الصحيحة في ذلك . وليس في العقل ولا في الشرع ما يبطله . فوجب اثباته . وأنكر ذلك بعض المعتزلة ومن وافقهم ( وزعموا ) أن الأحاديث مردودة بقوله تعالى : ( وخاتم النبيين ) وبقوله صلى الله عليه وسلم " لا نبى بعدى(2) " وبإجماع المسلمين على أنه لا نبى بعد نبينا صلى الله عليه وسلم ، وأن شريعته مؤيدة إلى يوم القيامة لا تنسخ ( وهذا ) استدلال فاسد ، لأنه ليس المراد بنزول عيسى عليه السلام أنه ينزل نبيا بشرع ينسخ شرعنا ، وليس في هذه الأحاديث ولا في غيرها شئ من هذا . بل صحت الأحاديث أنه حكما مقسطا يحكم بشرعنا ويحيى من اموره هجره الناس (3).
__________
(1) ص 367 ج 3 مسند أحمد . و ( ينماث ) . يقال : ماث الشئ – من بابى قال وباع – ذاب . وسمى عيسى روحا ، لأنه مخلوق من الريح ، وهو نفس جيريل .
(2) روى أبو أمامه الباهلى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال في خطبه حجة الوداع " أيها الناس انه لا نبى بعدى ولا أمة بعدكم " . ( الحديث ) أخرجه الطبرانى في الكبير بسندين رواه أحدهما ثقات [78] ص 263 ج مجمع الزوائد ( لا نبى بعده صلى الله عليه وسلم ) .
(3) ص 75 ج 18 شرح مسلم ( ذكر الرجال ) .(1/144)
6 – يأجوج ومأجوج : قال الله تعالى : { قَالُوا يَا ذَا القَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَداًّ * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً * آتُونِي زُبَرَ الحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً * فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقاًّ (1) }
(
__________
(1) الكهف : 94 – 98 . و ( خرجا ) أى أجرا عظيما . و ( ردما ) أى سدا . و ( زبر ) كغرف جمع زبرة أى قطعة. و ( ساوى ... ) أى سوى بين طرفى الجبلين و ( القطر ) بكسر فسكون . النحاس المذاب .(1/145)
ذو القرنين ) كان ملكا عدلا لا نبيا على الصحيح . قال أبو الطفيل : سئل على رضى الله عنه عن ذى القرنين : أكان نبيا أم ملكا ؟ قال : لم يكن نبيا ولا ملكا ولكن كان عبدا أحب الله وأحبه الله ، وناصح الله ، فناصحه الله . أخرجه البغوى وسفيان بن عيينه في جامعه بسند صحيح(1){8} .
وقد أثنى الله عليه بالعدل ، وأنه بلغ المشارق والمغارب وملك الأقاليم وسار في أهلها بالعدالة التامة والسلطان المؤيد ( قال ابن عباس ) كان ذو القرنين ملكا صالحا أثنى الله عليه في كتابه . وكان منصورا وكان الخضر وزيره {10} وذكر الأزرقى وغيره أنه أسلم على يدى إبراهيم الخليل ، وطاف معه الكعبة المكرمة(2) (واختلف) في اسمه والصحيح أنه اسكندر بن فيلبس بن بطريوس(3) وهو بانى الإسكندرية وسماها باسمه .
(
__________
(1) ص 322 ج 5 معالم التنزيل . وص 240 ج 6 فتح البارى . وعن أبى الطفيل أن ابن الكواء سأل على بن أبى طالب عن ذى القرنين . أنبيا كان أم ملكا ؟ قال لم يكن نبيا ولا ملكا ولكن كان عبدا صالحا أحب الله فأحبه الله ونصح الله فنصحه الله بعثه الله إلى قومه فضربوه على قرنه فمات ثم أحياه الله لجهادهم وبعثه إلى قومه فضربوه على قرنه الآخر فمات فأحياه الله لجهادهم ، فلذلك سمى ذا القرنين . أخرجه ابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردويه [9] ص 299 ج 3 تفسير الشوكانى وقيل لقب بذلك لأنه بلغ قرنى الشمس مشرقها ومغربها . وقيل لأنه كان له ذؤ ابتان حسنتان .
(2) ص 103 ج 2 – البداية والنهاية .
(3) انظر ص 105 ج 3 هامش البداية والنهاية .(1/146)
ويأجوج ومأجوج ) بالهمز وعدمه ، اسمان أعجميان لقبيلتين من ولد يافث ابن نوح فهما من بنى آأدم وعلى أشكالهم وصفتهم ، ( لحديث ) أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله : يا آدم . فيقول : لبيك وسعديك والخير في يديك . فيقول أخرج بعث النار . قال وما بعث النار ؟ قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون . فعنده يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها (1) وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد . قالوا يا رسول الله وأينا ذلك الواحد ؟ فقال : أبشروا فان منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج ألف . ثم قال : والذى نفسى بيده انى لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة . فكبرنا . فقال : أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة . فكبرنا . فقال أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة . فكبرنا فقال : ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض ، أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود . أخرجه أحمد والشيخان(2){80} .
( وعن ) عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أن يأجوج ومأجوج من ذرية آدم ، ووراءهم ثلاث أمم ، ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا . أخرجه الحاكم الحاكم وابن مردويه(3){81} .
(
__________
(1) رقم 207 ص 32 – الاتحافات السنية ( يشيب السنية ( يشيب الصغير ... ) ( أن قلت ) ليس في الآخرة شيب ولا حمل ولا وضع ( نقول ) يحتمل أن يكون ذلك عند زلزلة الساعة قبل الخروج من الدنيا فهو حقيقة ، ويحتمل أنه كناية عن الهول والشدة يعنى لو تصور حمل هناك لوضع هذا الحمل . انظر ص 239 ج 15 عمدة القارى ( طبع منير ) .
(2) أنظر ص 243 ج 6 فتح البارى . ( باب قول الله تعالى : ويسألونك عن ذى القرنين ) .
(3) انظر ص 134 راموز الأحاديث .(1/147)
وأما السد ) فهو حاجز حصين بناه ذو القرنين بين الصدفين ، وهما جبلان عاليان جدا أملسان ، الفتحة التى بينهما مائة فرسخ(1) والفرسخ يسار في ساعة ونصف ، فتكون مدة سيرها مائة وخمسين ساعة " أى اثنى عشر يوما ونصف يوم " وبناه بقطع من الحديد كالصخر(2) وهى المراد بقوله تعالى : ( ءاتونى زبر الحديد ) وجعل بين القطع المذكورة الحطب والفحم ، ووضع المنافخ والنار حول ذلك وقال : انفخوا حتى صار الحديد نارا، ثم دعا بالنحاس المذاب فأفرغه على الحديد ، فدخل بين قطعه فصار شيئا واحدا . فما استطاع يأجوج ومأجوج أن يظهروه، أى يصعدوه لارتفاعه وملاسته . وقد كان ارتفاعه مائتى ذراع " وما استطاعوا له نقبا " أى خرقا لصلابته وعظم سمكه . وهم يعلمون على خرقه دائما فلم يقدروا . ( روى ) أبو هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : أن يأجوج ومأجوج يحفرون كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس ، قال الذى عليهم " أى رئيسهم " ارجعوا فسنحفره غدا ، فيعيده الله أشد ما كان ، حتى إذا بلغت مدتهم واراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا ، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس ، قال الذى عليهم : ارجعوا فستحفرونه غدا أن شاء الله تعالى واستثنوا فيعودون إليه وهو بهيئته حين تركوه ، فيحفرونه ويخرجون على الناس ، فينشفون الماء وتتحصن الناس منهم فى حصنهم ، فيرمون بسهامهم إلى السماء فيرجع عليها الدم ن فيقولون قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث الله نغفا في أقفائهم فيقتلهم بها .
__________
(1) الفرسخ 3 أميال والميل 4 آلاف ذراع فلكى وهو 8/3 64 سنتيا ، فيكون الميل 1855 متر ، والفرسخ 5565 متر . والمائة فرسخ 556500 متر أى 2/1 556 كيلو متر .
(2) قال في البداية والنهاية : وقد ذكر أن الخليفة الواثق بعث رسلا ليكشفوا له عن خبره وكيف بنى ؟ فلما رجعوا أخبروه أنه بناء محكم شاهق منيف جدا . وأنه في زاوية الأرض الشرقية الشمالية . انظر ص 111 ج 2 .(1/148)
والذى نفسى بيده أن دواب الأرض لتسمن وتشكر شكرا من لحومهم . أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم وصححه(1){82} .
وبالسد حجز يأجوج ومأجوج حتى إذا جاء وقت خروجهم قرب القيامة ، صار دكا " أى مستويا بالأرض" وخرجوا مسرعين . قال تعالى : ( حتى إذا فتحت يأجوج وماجوج وهم من كل حدب ينسلون ) أى حتى إذا فتح السد عنهم خرجوا مسرعين من الآكام والتلال .
(
__________
(1) انظر ص 268 ج 2 – ابن ماجه ( خروج يأجوج ومأجوج ) ( فينشفون الماء ) أى يشربونه – من نشفة الثوب ينشفه من باب تعب – شربه ، ونشف الماء من بابا ضرب نزحه . و ( النغف ) بفتحتين دود في أنوف الإبل والغنم . و ( الأقفاء ) جمع قفا مقصورا مؤخر العنق . ( تسمن) يقال " سمن " يسمن من باب تعب وفى لغة من باب قرب ، إذا كثر لحمه . و ( تشكر ) بفتح الكاف ، أى تسمن وتمتلئ شحما . ( وشكرا ) بفتحتين .(1/149)
وعن ) ابن مسعود رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : لقيت ليلة أسرى بى إبراهيم وموسى وعيسى فتذاكروا الساعة ، فبدأوا بابراهيم فسألوه عنها ، فلم يكن عنده منها علم ، ثم سألوا موسى فلم يكن عنده منها علم . فرد الحديث إلى عيسى بن مريم فقال : قد عهد إلى فيما دون وجبتها . فأما وجبتها فلا يعلمها إلا الله . فذكر خروج الدجال وقال : فأنزل فأقتله ، فيرجع الناس إلى بلادهم ، فيستقبلهم يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون ، فلا يمرون بماء إلا شربوه ، ولا بشئ إلا أفسدوه ، فيجأرون إلى الله فأدعو الله أن يميتهم ، فتنتن الأرض من ريحهم ن فيجأرون إلى الله فأدعو الله فيرسل السماء بالماء فيحملهم فيلقيهم في البحر ، ثم تنسف الجبال وتمد الأرض مد الأديم ( الحديث ) أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم وصححه(1) {83} .
والأحاديث في ذلك كثيرة . وفيما ذكر مقنع لمن عقل . والله ولى التوفيق .
( ب ) مشتملات اليوم الآخر
يشتمل أمورا ، المذكور منها اثنا عشر :
1 – البعث : وهو إحياء الموتى . قال تعالى: { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } (104) الأنبياء . وقال : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } (27) الروم . وأهون أى هين . وقال تعالى : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ } (79) يس .
(
__________
(1) انظر ص 268 ج 2 – ابن ماجه ( خروج يأجوج ومأجوج ) . وجبتها ، أى قيامها . ويجأرون ، أى يرفعون أصواتهم ويستغيثون . ( فتنتن ) مثلث التاء الثانية من باب قرب وضرب وتعب . وتنسف : أى تفتت . و ( الأديم ) الجلد المدبوغ .(1/150)
وعن ) كعب بن مالك رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " انما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه " . أخرجه مالك وأحمد والنسائى وابن ماجه والبيهقى بسند صحيح(1) {84} .
( وعن ) أبى رزين العقيلى قال : " قلت يا رسول الله كيف يعيد لالله الخلق وما آية ذلك ؟ فقال : اما مررت بوادى قومك جدبا . ثم مررت به يهتز خضرا ؟ قلت نعم . قال : فتلك آية الله في خلقه . كذلك يحيى الله الموتى " . أخرجه أحمد وأبو الحسن رزين بن معاوية والطبرانى(2){85} .
والمعنى : أما مررت بوادى قومك حال خلوه من النبات ثم مررت به بعد أن أخضر بالنبات ؟ كذلك يحيى الله الموتى يوم القيامة .
2 – الحشر : وهو سوق الناس إلى مكان الحساب فتجتمع الوفود في هذا اليوم المشهود ليسأل كل عن عمله { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ(3) } وقال تعالى : { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } (4)
وقال : { أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي القُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ } (5).
(
__________
(1) انظر ص 85 ج 7 – الفتح الربانى و ص 223 ج 3 تيسير الوصول ( النفخ في الصور والنشور ) . و ( النسمة ) الروح . ( يعلق ) بضم اللام أى يأكل .
(2) أنظر ص 11 ج 4 مسند أحمد ( حديث أبى رزين العقيلى ) . وص 223 ج 3 تيسير الوصول .
(3) الزلزلة : 7 ، 8 .
(4) الطور : 21 . و ( رهين ) أى مرهون بعمله . فان وفق للأعمال الصالحة نجا والا وقع في الردى .
(5) العاديات : 9 و 10 . و ( بعثر ما في القبور ) اى أثير وأخرج من كان فيها من الموتى . ( وحصل ما في الصدور ) أى بين وأظهر ما كان كامنا في القلوب من الايمان وغيره .(1/151)
وعن ) ابن عباس رضى الله عنهما قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يأيها الناس انكم محشورون إلى الله تعالى حفاة عراة غرلا " ( كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا أنا كنا فاعلين ) ألا وأن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ألا وانه سيجاء برجال من أمتى فيؤخذ بهم ذات الشمال . فأقول : يا رب أصحابى . فيقال انك لا تدرى ما أحدثوا بعدك . فأقول كما قال العبد الصالح " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم .. إلى قوله العزيز الحكيم " قال " فيقال لى انهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ، فأقول سحقا سحقا " . أخرجه الشيخان والنسائى والترمذى(1){86} .
( وعن ) ابى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف صنف مشاة ، وصنف ركبان . وصنف وجوههم ، قيل يا رسول الله : كيف يمشون على وجوههم قال : أن الذى أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم . أما انهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك . أخرجه أحمد وأبو داود والترمذى(2){87} .
__________
(1) انظر ص 198 ج 8 فتح البارى ( وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم .. ) وص 293 ج 3 تحفة الأحوذى . وصدره : يحشر الناس . و (غرلا) بضم فسكون أى غرلا غير مختونين . أى كما بدأ الله تعالى الخلق في بطون امهاتهم حفاة عراة كذلك يعيدهم يوم القيامة . و ( العبد الصالح ) سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام ( وانهم لم يزالوا الخ ) بيانه لقوله ( ما أحدثوا بعدك ) والمراد بهم أصحاب الكبائر الذين ماتوا على التوحيد، وأصحاب البدع الذين كفروا ببدعتهم . وقيل المراد المنافقون والمرتدون .
(2) انظر ص 224 ج 3 تيسير الوصول . ( الحشر ) . و ( الحدب ) بفتحتين ما ارتفع من الأرض .(1/152)
3 – الحساب : وهو توقيف الله تعالى عباده قبل الانصراف من المحشر على أعمالهم أقوالا وأفعالا واعتقادات تفصيلا بعد أخذهم كتبهم إلا من استثنى . وكيفية التوقيف أمر غيبى . والناس فيه متفاوتون (فمنهم ) من يحاسب حسابا يسيرا يعرض عمله عليه . فيطلعه الله على سيئاته سرا بحيث لايطلع عليها أحد ثم يعفو عنه ويأمر به إلى الجنة ( ومنهم ) من يناقش الحساب . بأن يسأل عن كل جزئية ويطالب بالعذر والحجة ، فلا يجد عذرا ولاحجة فيهلك مع الهالكين . ويأمر الله تعالى مناديا ينادى عليه بسيئات أعماله ، فيفتضح بين الخلائق (فعليك) أيها العاقل أن تحاسب نفسك قبل أن تحاسب ، وتبادر بالأعمال الصالحة قبل الفوات ، وتصل ما بينك وبين ربك بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وتؤمن بالحساب وتستعد له .
قال الله تعالى { وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } (47) الأنبياء . وقال { وَوُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } (49) الكهف . وقال { أَلاَ لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ } (62) الأنعام . وقال { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } (14) الإسراء .
( وعن ) أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شىء منه فليتحلله منه اليوم من قبل ألا يكون دينار ولادرهم . أن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته . وان لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه " أخرجه أحمد والبخارى والترمذى(1){88} .
(
__________
(1) ص 224 ج 3 تيسير الوصول ( الحساب ) .(1/153)
وعنه ) رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه ووعلى آله وسلم : " لتؤدن الحقوق الى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ، ويسأل الحجر لم انكلب على الحجر ولم نكأ الرجل الرجل ؟ قال : وكنا نسمع أن الرجل يتعلق بالرجل يوم القيامة وهو لا يعرفه فيقول : كنت ترانى على الخطا وعلى المنكر ولا تنهانى " أخرجه مسلم والترمذى ورزين(1){89} .
( وعن ) عائشة رضى الله عنها قالت : قال رسول الله صلى عليه وسلم " من نوقش الحساب عذب . فقلت أليس يقول الله : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (2) } ؟ فقال إنما ذلك العرض ، وليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك " . أخرجه الشيخان والترمذى وأبو داود(3){90} .
( وعن ) أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " ان أول ما يحاسب به العبد يومك القيامة من عمله صلاته . فان صلحت فقد أفلح وأنجح . وان فسدت فقد خاب وخسر . فان انتقص من فريضته شئ، قال الرب تبارك وتعالى : انظروا هل لعبدى من تطوع ؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة . ثم يكون سائر عمله على ذلك " . أخرجه النسائى وابن ماجه والترمذى وقال : هذا حديث حسن غريب (4){91} .
(
__________
(1) انظر ص 225 ج 3 تيسير ( الحساب ) . والجلحاء التى لا قرن لها وبقال ذكأ الرجل الرجل إذا جرحه .
(2) الانشقاق 8 ، 9 .
(3) انظر ص 225 ج 3 تيسير الوصول ( الحساب ) .
(4) انظر ص 81 ج 1 مجتبى ( المحاسبة على الصلاة ) . وص 224 ج 1 – ابن ماجه ( أول ما يحاسب به العبد الصلاة ) .(1/154)
وعن ) أبى برزة الأسلمى رضى الله عنه قال . قال : رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيم أفناه ؟ وعن علمه فيم فعل فيه ؟ وعن ماله من أين اكتسبه ؟ وفيم أنفقه ؟ زعن جسمه فيم ابلاه؟ " أخرجه الترمذى وقال : هذا حديث حسن صحيح والطبرانى وأبو نعيم فى الحلية (1){92}.
( وعن ) أبى سعيد وأبى هريرة رضى الله عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول الله تعالى لهع : ألم أجعل لك سمعا وبصرا ومالا وولدا وسخرت للك الأنعام والحرث وتركتك ترأس وترتع ؟ أكنت تظن أنك ملاقى يومك هذا ؟ فيقول لا . فيقول له اليوم أنساك كما نسيتنى " . أخرجه الترمذى وقال : هذا حديث صحيح غريب(2){93} .
هذا ( واعلم ) أنه سيشهد على العاصى أحد عشر شاهدا فى هذا اليوم المشهود : اللسان ، والأيدى ، والأرجل ، والسمع ، والبصر ، والجلد ، والأرض ، والليل ، والنهار ، والحفظة الكرام ، والمال . قال تعالى : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (24) النور . وقال تعالى : { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ( 19 ) فصلت . وقال : { وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } (3).
__________
(1) انظر ص 225 ج 3 تيسير الوصول ( الحساب ) .
(2) انظر ص 225 ج 3 تيسير الوصول (الحساب) . و والرؤس التقدم على القوم بأن يصير رئيسهم . وترتع من الرتع وهو التنعم . و (أنساك) أى أتركك فى العذب .
(3) سورة ق : 21 . و ( سائق ) ملك يسوقها الى المحشر ( وشهيد ) عليها بما عملت قاله عثمان بن عفان فيما رواه الحاكم وابن المنذر .(1/155)
وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم { يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا } فقال : " أتدرون ما أخبارها ؟ قالوا : الله ورسول أعلم . قال : فان أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها ، أن تقول عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا . قال فهذه أخبارها " . أخرجه أحمد والترمذى وصححه (1){94} .
( وعن ) الحارث بن يزيد قال : سمعت ربيعة الجرشى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " تحفظوا من الأرض فانها أمكم ، وانه ليس من أحد عامل عليها خيرا أو شرا الا وهى مخبرة " . أخرجه الطبرانى(2){95} .
( وعن ) أنس رضى الله عنه قال : " ضحك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال : هل تدرون ممم أضحك ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : من مخاطبة العبد ربه فيقول يا رب ألم تجربنى من الظلم ؟ يقول : بلى ، فيقول : أنى لا أجيز اليوم على نفسى شاهدا الا منى . فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا والكرام الكاتبين شهودا . فيختم على فيه ويقول لأركانه : انطقى فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول : بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل " أخرجه مسلم(3){96} .
وفى الحديث " ما من يوم يأتى على ابن آدم الا ينادى فيه : يا ابن آدم أنا خلق جديد وانا فيما تعمل عليك شهيد فاعمل خيرا أشهد لك به غدا فانى لو مضيت لن ترانى أبدا ، ويقول الليل مثل ذلك " . أخرجه أبو نعيم(4){97} .
(
__________
(1) انظر ص 183 ج 1 تيسير الوصول ( سورة الزلزلة ) وص 333 ج 18 – الفتح الربانى .
(2) رقم 3260 ص 234 ج 3 فيض القدير شرح الجامع الصغير .
(3) انظر ص 229 ج 3 تيسير الوصول ( الحساب ) .
(4) لم نقف على هذا الحديث بهذا اللفظ .(1/156)
وعن ) أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال " ان هذا المال خضر حلو ، ونعم هو لم أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل ، وانه من يأخذه بغير حقه كان كالذى يأكل ولا يشبع ، ويكون عليه شهيدا يوم القيامة " أخرجه مسلم(1){98} .
( والحكمة ) فى ذلك أن يعلم المرء أن لا ظلم فى ذلك اليوم ، واظهار مراتب أصحاب الكمال ، فيزدادون سرورا على سرورهم ، واظهار فضائح أصحاب الشمال فيزدادون حسرة وندامة . نسال الله السلامة .
4 – الميزان : وهو ذو كفتين ولسان ( كالميزان المعهود ) توزن فيه أعمال من يحاسب بقدرة الله تعالى دفعة واحدة . والصنج مثاقيل الذر والخردل ، تحقيقا لاظهار تمام العدل . قال تعالى { وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } (47) الأنبياء . وقال { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } (9) الأعراف وقال { فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَاهِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ } (11) القارعة.
(
__________
(1) هذا عجز الحديث بص 144 ج 7 نووى مسلم ( التحذير من الاغترار بزينة الدنيا ) .(1/157)
وقالت ) عائشة رضى الله عنها ذكرت النار فبكيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك ؟ قلت : ذكر النار فبكيت . فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما فى ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحدا . عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل ، وعند الكتاب حين يقال " هاؤم اقرءوا كتابيه " حتى يعلم أين يقع كتابه ، أفى يمينه أم فى شماله أم من وراء ظهره ؟ وعند الصراط اذا وضع بين ظهرى جهنم حتى يجوز " أخرجه أبو داود(1){99} .
( وعن ) ابن عمرو بن العاص رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ان الله عز وجل يستخلص رجلا من أمتى على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعين سجلا ، كل سجل مد البصر . فيقول : أتنكر من هذا شيئا ؟ فيقول لا يارب فيقول : أظلمك كتبتى الحافظون ؟ فيقول : لا يارب فيقول أفلك عذر أو حسنة ؟ فيقول . لا يارب : فيقول الله عز وجل : بلى ان لك عندنا حسنة ، وانه لا ظلم عليك اليوم . فيخرج له بطاقة فيها : أشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله . فيقول : احضر وزنك فيقول : يارب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقول : انك لن تظلم . فتوضع السجلات فى كفة والبطاقة فى كفة . فطاشت السجلات وثقلت البطاقة . و لا يثقل مع اسم الله تعالى شئ " . أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذى وقال : هذا حديث حسن غريب والبيهقى والحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم (2){100} .
(
__________
(1) انظر ص 231 ج 3 تيسير الوصول ( الحوض والميزان ) .
(2) انظر ص 213 ج 2 مسند أحمد . و ص 367 ج 3 تحفة الأحوذى ( فيمن يموت وهو يشهد أن لا اله الا الله ) .(1/158)
وقالت ) عائشة رضى الله عنها : جاء رجل فقال يا رسول الله : إن لى مملوكين يكذبوننى ويخونوننى ويعصوننى وأشتمهم وأضربهم فكيف أنا منهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا كان يوم القيامة يحسب ما خانوك وكذبوك وعصوك ، وعقابك إياهم ، فان كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا ، لا لك ولا عليك . وان كان عقابك إياهم دون ذبوبهم ، كان فضلا لك وان كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم . اقتص لهم منك اللفضل . قال فتنحى الرجل يبكى ويهتف . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما تقرأ كتب الله عز وجل { وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } (47) الأنبياء . فقال الرجل : والله يا رسول الله ما أجدلى ولهؤلاء شيئا خيرا من مفارقتهم . أشهدكم أنهم كلهم أحرار " أخرجه أحمد والترمذى وقال : حديث غريب(1){101}
( وعن ) أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان فى الميزان حبيبتان الى الرحمن : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله عظيم " أخرجه أحمد والشيخان والترمذى وابن ماجه(2) {102}
( ومما ) تقدم يعلم أنه يوزن عمل كل من يحاسب حتى من لا حسنة له ليزداد خزيا على رءوس الأشهاد . وبالوزن يظهر العدل فى العذاب والعفو عن الآثام .
__________
(1) انظر ص 147 ج 4 تحفة الاحوذى ( سورة الأنبياء ) .
(2) انظر ص 32 ج 2 تيسير الوصول (الاستغفار والتسبيح ) وص 220 ج 2 – ابن ماجه .(1/159)
5 – الصراط : وهو جسر ممدود على ظهر جهنم يمر عليه الأولون والآخرون كل بحسب عمله . فمنهم من يمر كلمح البصر ، ومنهم من يمر كالبرق ، ومنهم من يمر كالريح العاصف ، وناس كالجواد ، وناس هرولة، وناس حبوا ، وناس زحفا ، وناس يتساقطون فى النار . وعلى جوانبه كلاليب لا يعلم عددها الا الله تخطف بعض الخلائق . قال تعالى : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِياًّ * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِياًّ } (1) .
( قال ) ابن مسعود : " الصراط على جهنم مثل حد السيف . فتمر الطبقة الأولى كالبرق ، و الثانية كالريح، والثالثة كأجود الخيل ، والرابعة كأجود البهائم . ثم يمرون والملائكة يقولون : اللهم سلم سلم " أخرجه ابن جرير(2){11} .
( وقال ) السدى : سألت مرة الهمدانى عن قوله تعالى ( وان منكم الا واردها ) فحدثنى عن ابن مسعود أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : يرد الناس النار ثم يصدرون عنها بأعمالهم فأولهم كلمح البرق ثم كالريح ثم كحضر الفرس ثم كالراكب المسرع ثم كشد الرجل ثم كمشية . أخرجه الترمذى وحسنة(3){103} .
ولشدة الهول حينئذ يقول المؤمنون : رب سلم سلم . ( روى ) المغيرة بن شعبة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " شعار المؤمنين على الصراط يوم القيامة:رب سلم سلم".أخرجه الترمذى والحاكم وصححاه(4){104}.
(
__________
(1) سورة مريم 72 ، 72 . ونذر الظالمين أى نتركهم فى جهنم جاثين على ركبهم – فجثى بكسر أوله جمع جاث .
(2) انظر ص 83 ج 16 جامع البيان ( وان منكم الا واردها ) .
(3) انظر ص 145 ج 4 تحفة الأحوذى ( سورة مريم ) و ( الحضر ) ضم فسكون العدو الشديد . و ( الشد ) العدو .
(4) رقم 4884 ص 161 ج 4 فيض القدير شرح الجامع الصغير .(1/160)
وعن ) ابن مسعود رضى الله عنه فى قوله تعالى : ( يسعى نورهم بين أيديهم ) قال : على قدر أعمالهم يمرون على الصراط . منهم من نوره مثل الجبل ، ومنهم من نوره مثل النخلة ، ومنهم من نوره مثل الرجل القائم. وأدناهم نورا : من نوره فى ابهامه يتقد مرة ويطفأ مرة " . أخرجه ابن ابى حاتم وابن جرير(1){12} .
6 – الحوض : يجب الايمان بأن لكل رسول حوضا يرده الطائعون من أمته ، وأن حوض النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم أكبرها وأعظمها . طوله مسيرة شهر ، مربع الشكل . له ميزابان يصبان فيه من الكوثر . ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل . كيزانه أكثر من نجوم السماء . ومن شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا ظمأ ألم . ولم دخل النار يعذب بغير العطش . ويكون شربه منه أو من غيره كالتسنيم(2) بعد ذلك لمجرد اللذة. يرده الخيار ، وهم المؤمنون بالنبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، الآخذون بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، وكل من تعامل بالربا ، أو جار فى الأحكام ، أو أعان ظالما ، أو جاوز حدا من حدود الله تعالى .
( وما ذكر ) ثابت بأحاديث مشهورة تفيد التواتر المعنوى ( منها ) حديث سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " ان لكل نبى حوضا ، وانهم يتباهون أيهم أكثر واردة . وانى أرجو أن أكون أكثرهم واردة " . أخرجه الترمذى وقال حديث حسن غريب ، وفيه سعيد بن بشير ضعيف(3){105} .
(
__________
(1) انظر ص 227 ج 8 تفسير ابن كثير ( سورة الحديد ) .
(2) قال تعالى ( ومزاجه من تسنيم (27) عينا يشرب بها المقربون ) (28) المطففين و ( التسنيم ) أرفع شراب الجنة .
(3) انظر ص 230 ج 3 تيسير الوصول ( الحوض ... ) .(1/161)
وحديث ) ابن عمرو أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " حوضى مسيرة شهر ، وزواياه سواء ، وماؤه أبيض من اللبن ، وريحه أطيب من المسك ، وكيزانه كنجوم السماء ، من يشرب منه فلا يظمأ أبدا " . أخرجه الشيخان(1){106} .
( وقال ) أنس رضى الله عنه : بينا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فى المسجد ، اذ أغفى اغفاءة ثم رفع رأسه صاحكا . فقيل : ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال : نزلت على سورة آنفا فقرأ ( بسم الله الرحمن الرحيم ، انا أعطيناك الكوثر ) حتى ختما ، قال : اتدرون ما الكوثر ؟ قلنا : الله ورسوله اعلم ، قال : انه نهر وعدنيه ربى عز وجل عليه خير كثير . وهو حوض ترد عليه أمتى يوم القيامة . آنيته عدد نجوم السماء فيختلج العبد منهم فأقول : ربى انه من أمتى . فيقول : ما تدرى ما أحدث بعدك " . أخرجه أحمد والخمسة(2){107} .
( فائدة ) صحح الغزالى أن الحوض قبل الصرط . وكذا القرطبى وقال : المعنى يقتضيه ، فان الناس يخرجون من قبورهم عطاشا فناسب تقديم الحوض ، وأيضا فان من جاز الصراط لا يتأتى طرده عن الحوض فقد كلمت نجاته .
(
__________
(1) انظر ص 377 ج 11 فتح البارى . وص 55 ج 15 نووى مسلم ( الحوض ) .
(2) انظر ص 183 ج 1 تيسير الوصول ( سورة الكوثر ) وص 33 ج 18 – الفتح الربانى . ( وأغفى ) أى نام نومه . ولا يقال غفا . ( فيختلج ) مبنى للمفعول أى يجتذب ويقطع .(1/162)
ورجح ) القاضى عياض انه بعد الصراط ، وأن الشرب منه يقع بعد الحساب والنجاة من النار . ويؤيده من جهة المعنى أن الصراط يسقط منه يسقط من المؤمنين ويخدش فيه من يخدش ، ووقوع ذلك للمؤمن بعد شربه من الحوض بعيد فناسب تقديم الصراط حتى اذا خلص من خلص شرب من الحوض . وقيل : يشهد له ما تقدم من ان للحوض ميزابين يصبان فيه من الكوثر . ولو كان قبل الصراط لحالت النار بينه وبين وصول ماء الكوثر اليه ، ولكن وصول ذلك ممكن . والله على كل شئ قدير ( ويمكن ) الجمع بأن يكون الشرب من الحوض قبل الصراط لقوم ، وبعده لآخرين بحسب ما عليهم من الذنوب حتى يهذبوا منها على الصراط .
هذا ، ولم يقم دليل صريح على شئ مما ذكر . فالواجب اعتقاده هو أن النبى صلى الله عليه وسلم حوضا تعدجد أو اتحد ، تقدم على الصراط أو تاخير . ولا يضرنا جهل ذلك . وقد جاء فى رواية لأحمد عن الحسن عن أنس أن فيه من الأباريق أكثر من عدد نجوم السماء(1) . وهذا إشارة إلى غاية الكثرة . والله الموفق .
7 – الكوثر : قيل : هو الحوض . والخبار فيه مشهورة . والمعروف المستفيض عند السلف والخلف أنه نهر فى الجنة أعطاه الله النبى صلى الله عليه وسلم .
( روى ) ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : "الكوثر نهر فى الجنة، حافتاه الذهب(2)، والماء يجرى على اللؤلؤ ، وماؤه أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل " . أخرجه أحمد والبخارى والترمذى ، وقال : هذا حديث حسن صحيح(3){108} .
(
__________
(1) انظر ص 379 ج 11 فتح البارى ( باب فى الحوض ) .
(2) حافتاه جانباه .
(3) انظر ص 337 ج 18 – الفتح الربانى . و ص 219 ج 4 تحفة الأحوذى ( سورة الكوثر ) .(1/163)
وعن ) أنس رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " دخلت الجنة فاذا أنا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ ، فضربت بيدى الى ما يجرى فيه الماء ، فاذا مسك أذفر ، فقلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا الكوثر الذى أعطاكه الله عز وجل " . أخرجه أحمد ومسلم والنسائى والترمذى ,وكذا البخارى بلفظ : لما عرج بالنبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم الى السماء قال : أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ محوف ، فقلت : ما هذ1ا يا جبريل ؟ قال : هذا الكوثر (1){109} .
( وعنه ) أيضا أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما الكوثر ؟ قال : هو نهر فى الجنة أعطانيه ربى ، جلهو أشد بياضا من اللبن واحلى من العسل ، فيه طيور أعناقها كاعناق الجزر . قال عمر : يا رسول الله ، انها لناعمة . قال : أكلتها أنعم منها يا عمر . أخرجه أحمد والترمذى وحسنه ابن جرير(2){110} .
( وقال ) ابن العباس ومجاهد : الكوثر الخير الكثير فى الدنيا والآخرة . ذكره ابن جرير {13} وقال : هذا التفسير يعم النهر وغيره ، لأن الكوثر من الكثرة . وقال عطاء بن السائب : قال لى محارب بن دثار : ما قال سعيد بن جبير فى الكوثر ؟ قلت : حدثنا عن ابن عباس أنه قال : هو الخير الكثير . فقال : صدق والله أنه للخير الكثير (3).
8 – الشفاعة : وهى لغة الوسيلة والطلب ، وعرفا سؤال الخير للغير . وهى تكون من الأنبياء والعلماء والعاملين والشهداء والصالحين .
(
__________
(1) انظر ص 338 ج 18 – الفتح الربانى . مختصر . وص 219 ج 4 تحفة الاحوذى . وص 517 ج 8 فتح البارى ( سورة الكوثر ) (وأذفر) . أى بين الذفر – بفتحتين : وهو كل ريح ذكية طيب أو نتن .
(2) انظر ص 329 ج 3 تحفة الأحوذى ( صفة طير الجنة ) وص 209 ج 30 جامع البيان ( سورة الكوثر ) و ( الجزر ) بضمتين جمع جزور : وهو الواحد من الابل ذكرا كان أو أنثى .
(3) انظر ص 208 ج 30 جامع البيان .(1/164)
روى ) عثمان بن عفان رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء " . أخرجه ابن ماجه(1){111} .
يشفع كل لأهل الكبائر على قدر منزلته عند الله تعالى . ولايلهم أحد ممن ذكر الشفاعة فى اخراج أحد من النار الا بعد انقضاء المدة المحتمة عند الله تعالى .
( والحق ) أن الشفاعة من باب القضاء المعلق فنفعها ظاهرى .
هذا ، واعلم أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو أول فاتح لباب الشفاعة يفتحه بالشفاعة فى فصل القضاء . وهى الشفاعة العظمى المختصة به يغبطه بها الأولون والآخرون : وهى المقام المحمود المشار إليه بقوله تعالى { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مُّحْمُوداً } (79) الإسراء .
( قال ) أبو هريرة رضى الله عنه : سئل النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن المقام خالمحمود فى الآية . فقال : " هو المقام الذى أشفع لأمتى فيه " أخرجه أحمد والترمذى وحسنة (2){112} .
( وعن ) ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " ان الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن . فبينما هم كذلك ، استغاثوا بآدم فيقول : لست بصاحب ذلك ثم بموسى فيقول كذلك ثم بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم . فيشفع ليقضى بين الخلق ، فيمشى حتى يأخذ بحلقه باب الجنة . فيومئذ يبعثة الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم " أخرجه البخارى وابن جرير(3){113} .
(
__________
(1) انظر ص 303 ج 2 – ابن ماجه ( الشفاعة ) .
(2) انظر ص 195 ج 18 – الفتح الربانى . و ص 137 ج 4 تحفة الاحوذى ( ومن سورة بنى إسرائيل ) .
(3) انظر ص 217 ج 3 فتح البارى ( من سأل الناس تكثرا – الزكاة ) .(1/165)
وعن ) أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " لكل نبى دعوة مستجابة فتجعل كل نبى دعوته وانى أختبئ دعوتى شفاعة لأمتى يوم القيامة فهى نائلة ان شاء الله تعالى من مات من أمتى لا يشرك بالله شيئا " اخرجه مالك والشيخان والترمذى وابن ماجه (1){114} .
( وعن ) جابر رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " شفاعتى لأهل الكبائر من أمتى " أخرجه أحمد وابن ماجه وأبو داود والترمذى وقال : غريب ، وزاد : قال جابر : " من لم يكن من أهل الكبائر فماله وللشفاعة " (2){115} .
(
__________
(1) انظر ص 231 ج 3 تيسير الوصول ( الشفاعة ) وص 301 ج 2 – ابن ماجه .
(2) انظر ص 232 ج 3 تيسير الوصول ( الشفاعة ) . وص 302ج 2 – ابن ماجه . وأما حديث " لا تنال شفاعتى أهل الكبائر من أمتى " فموضوع .(1/166)
وعن ) أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى اللهعليه وعلى آله وسلم قال : " انا سيد الناس يوم القيامة هل تدرون مم ذلك ؟ يجمع الله الأولين والآخرين فى صعيد واحد فينظرهم الناظر ويسمعهم الداعى وتدنو منهم الشمس ، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون . فيقول الناس ألا ترون الى ما أنتم فيه ؟ ألا تنظرون من يشفع لكم اللا ربكم ؟ فيقول بعضهم لبعض : عليكم بآدم ، فيأتونه فيقولون له : أنت أبو البشر خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأسجد لك ملائكته ، وأسنكك الجنة . اشفع لنا الى ربك . ألا ترى الى ما نحن فيه وما بلغنا ؟ فيقول آدم عليه السلام : ان ربى غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله (1). وأنه نهانى عن الشجرة فعصيته (2) نفسى نفسى نفسى ، اذهبوا الى غيرى ، اذهبوا الى نوح . فيأتون نوحا عليه السلام فيقولون : يا نوح انت اول الرسل الى أهل الأرض ، وقد سماك الله عبد شكورا (3) ،
__________
(1) من روحه ) الإضافة لتعظيم المضاف أى أن الله تعالى نفخ فى آدم روحا خلقها بلا أب ولا أم . والمراد بغضب الله تعالى لازمة وهو إيصال العقوبة إلى المستحق .
(2) " فعصيته " تقدم أن مثل هذا مخالفة وقعت قبل النبوة سهوا . قال الله تعالى ( فنسى ولم نجد له عزما ) غير أن الأمر عظم لدية نظرا لعلو فعد نفسه عاصيا من باب " حسنات الأبرار سيئات المقربين " . فالعصيات صورى لا حقيقى لأن العصيان ملابسة الكبيرة قصدا والقصد هنا منتف لقوله " فنسى " .
(3) قال الله تعالى ( ذرية من حملنا مع نوح انه كان عبدا شكورا ) آية 3 .. الإسراء ..(1/167)
اشفع لنا الى ربك ، ألا ترى الى ما نحن فيه ؟ فيقول : ان ربى غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ، وانى قد كانت لى دعوة دعوتها على قومى(1) نفسى نفسى نفسى ، اذهبوا الى غيرى اذهبوا الى ابراهيم عليه السلام . فيأتون ابراهيم عليه السلام فيقولون : أنت نبى الله وخليله من أهل الأرض ، اشفع لنا الى ربك ، ألا ترى الى ما نحن فيه؟ فيقول : ان ربى قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله .وانى قد كنت كذبت ثلاث كذبات(2) فذكرها ، نفسى نفسى نفسى ، اذهبوا الى غيرى ، اذهبوا الى موسى عليه السلام . فيأتون موسى عليه السلام فيقولون أنت رسول الله ، فضلك برسالته وبكلامه على الناس (3) اشفع لنا الى ربك ، ألا ترى الى ما نحن فيه ؟ فيقول : ان ربى قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله . وانى قتلت نفسا(4) لم أومر بقتلها نفسى نفسى نفسى ، اذهبوا الى غيرى ، اذهبوا الى عيسى عليه السلام .
__________
(1) يرد أن له دعوة واحدة محققة الاجابة وقد استوفاها بدعائه على قومه فى الدنيا بقوله ( رب لاتذر على الأرض من الكافرين ديارا ) أى ( أحدا) بعض آية 26 – نوح .
(2) كذبات : اى فى الصورة لا فى الحقيقة لتنزه الرسل عن الكذب والمخلفات ، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم : أنى سقيم ، وقوله : بل فعله كبيرهم هذا ، وقوله فى شأن سارة : هى أختى ، وهى من المعاريض . والمعاريض ذكر لفظ يفهم منه السامع خلاف ما يريده المتكلم .
(3) على الناس ) أى أهل زمانه ( والكليم ) وصف غالب عليه كالحبيب لنبينا صلى الله عليه وسلم وان شارك الكليم فى التكليم والخليل فى الخلة على وجه أكمل وأعلى .
(4) قتلت ) قال تعالى فى آية 15 – القصص " فوكزه موسى فقضى عليه " استعظمه لكونه لم يؤمر به ومثله لا يقدح فى العصمة لأنه خطأ .(1/168)
فيأتون عيسى عليه السلام فيقولون : أنت رسول الله وكلمته ألقاها الى مريم وروح منه ، وكلمت الناس فى المهد(1) اشفع لنا الى ربك، ألا ترى الى ما نحن فيه ؟ فيقول : ان ربى قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله . ( ولم يذكر ذنبا ) (2) نفسى نفسى نفسى ، اذهبوا الى غيرى ، أذهبوا الى محمد صلى الله عليه و على اله و سلم . فيأتوننى فيقولون : أنت رسول الله و خاتم الأنبياء ، و قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر(3) ، اشفع لنا الى ربك ، ألا ترى الى ما نحن فيه ؟ فأنطلق الى تحت العرش فأقع ساجدا لربى ، ثم يفتح الله على من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلى . ثم يقال : يا محمد ارفع رأسك وسل تعطه ، وأشفع تشفع ، فأرفع رأسى فأقول : أمتى يارب ، أمتى يارب (4) ،
__________
(1) وكلمته ) : اى وجد عيسى عليه السلام بقوله تعالى " كن " لا بتوسط ما يجرى مجرى الزوجين ، وسمى روحا لأنه حدث عن نفخة جبريل فى درع مريم بأمر الله تعالى .
(2) ولم يذكر ذنبا ) فى رواية احمد و النسائى . أنى اتخذت الها من دون الله . " اتخذت " مبنى للمجهول .
(3) المراد بالذنب : ما فرط من خلاف الأولى بالنسبة إلى مقامه صلى الله عليه وسلم وليس بذنب حقيقة لمنافاته العصمة .
(4) ان قيل ) أن الحديث فى الشفاعة العظمى وهى عامة فكيف يخصها بقوله : ( أمتى ) ؟ ( فالجواب ) ان فيه حذفا تقد=يره أنه أذن له فى الشفاعة العظمى فشفع . ثم خص أمته بشفاعة أخرى . يدل عليه ما فى حديث حذيفة وابى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : يجمع الله الناس ... ( الحديث ) وفيه ..فيأتون محمدا صلى الله عليه وسلم فيقوم فيؤذن له ( يعنى فى الشافعة ) وترسل المانة والرحم ( لعظم امرهما تصوران مشخصتين كما يريد الله ) فتقومان جنبتى ( بفتحات : أى جانبى ) الصراط يمينا وشمالا فيمر أو لهم كالبرق ثم كمر الريح ثم كمر الطير وشد الرجال – بالجيم : جمع رجل . وفى رواية بالحاء المهملة : جمع رحل . وشدها : جريها البالغ – تجرى بهم أعمالهم . ونبيكم قائم على الطراط يقول : رب قائم سلم سلم ( الحديث ) أخرجه مسلم . ص 70 ج 3 نووى . وبهذا يتصل الحديث لأن الشفاعة التى لجأ اليه الناس فيها هى الشفاعة العظمى ثم حلت الشفاعة فى أمته فقال صلى الله عليه وسلم " أمتى أمتى " .(1/169)
فيقال : يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم منن الباب الأيمن من أبواب الجنة . وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب . ثم قال : والذى نفسى بيده ان ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة ةهجر . أو كما بين مكحة وبصرى " أخرجه أحمد والشيخان والترمذى (1){116} .
فعلى المكلف أن يعتقد أن نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم شافع مقبول الشفاعة ، وانه أول شافع وأول من يقضى بين أمته . وأنه أول من يجوز على الصراط بأمته .
( روى ) أبو هريرة أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " انا سيد ولد آدم يوم القيامة ، أول من ينشق عنه القبر ، وأول شافع وأول مشفع " أخرجه مسلم وأبو داود(2){117} .
( وللنبى ) صلى الله عليه وعلى آله وسلم شفاعات أخرى ( منها ) ادخال قوم من آمته الجنة بغير حساب . ( ومنها ) أنه يشفع فى أقوام قد أمر بهم الى النار فيردون عنها ( ومنها ) اخراج الموحدين من النار . ويشفع لقوم فى رفع درجاتهم ، ولمن مات بالحرمين مؤمنا ، ولمن سأل له الوسيلة بعد اجابة المؤذن (3) ، ولعمه ابى طالب فى اخراجه من غمرات النار الى ضحضاح يصل الى كعبيه .
(
__________
(1) انظر ص 276 ج 8 فتح البارى ( ذرية من حملنا مع نوح – سورة بنى إسرائيل ) وص 232 ج 3 تيسير الوصول ( الشفاعة ) من حديث أنس وكذا عند أحمد ص 116 ج 3 مسند أحمد وهجر ) بفتحتين : بلد قرب المدنية ( وبصرى ) بضم فسكون : بلد بالشام . والمراد تقرير اتساع ما بين جانبى أبواب الجنة لا تقديره على التحقيق .
(2) انظر ص 37 ج 15 نووى مسلم ( تفصيله صلى الله عليه وسلم على جميع الخلق ) .
(3) انظر الحديث رقم 218 ص 77 ج 2 – الدين الخالص طبعه ثانية . ( الصلاة على النبى ) .(1/170)
روى ) أبو سعيد الخدرى أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال : لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة فيجعل فى ضحضاح من نالر يبلغ كعبيه يغلى منه دماغه . أخرجه مسلم(1){118} .
( 9 ) النار : وهى دار العذاب ومخلوقة الآن فيها الزقوم والغسلين والمهل (2) ومقامع من حديد . ومن أنواع العذاب ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بلال انسان . جاء بهال الكتاب والسنة . قال تعالى : { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً } (29) الكهف . وقال : ( هذان خصمان اختصموا فى ربهم ، فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم ، يصهر به ما فى بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد ) (3).
__________
(1) انظر 85 ج 3 نووى مسلم ( شفاعة النبى صلى الله عليه وسلم لأبى طالب ) .
(2) الزقوم ) شجرة من أخبث الشجر المر بتهامة تنبت فى أصل الجحيم طلعها كرءوس الحيات اذا أكل أهل النار منه يغلى فى بطونهم كغلى الحميم . قال تعالى " أنها شجرة تخرج فى أصل الجحيم (64) – طلعهاغ كانه رءوس الشياطين " 65 – الصافات و ( الغسلين ) صديد أهل النار ، او شجر فيها ( والمهل ) ماء عكر كدردى الزيت الأسود يغلى فى البطون كغلى الحميم . وقيل : هو النحاس المذاب .
(3) الحج : 19 و 20 و ( الحميم ) الماء البالغ نهاية الحرارة يذاب به أحشاؤهم وشحومهم . ( روى ) أبو هريرة مرفوعا " أن الحميم ليصب على رءوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما فى جوفه حتى يبلغ قدميه وهو الصهر ..ثم يعاد كما كان " أخرجه ابن جرير والترمذى وقال : حسن صحيح غريب ( 119 ) انظر ص 565 ج5 تفسير ابن كثير ( هذان خصمان ) . و ( المقامع ) سياط من حديد . ( روى ) أبو سعيد أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " لو أن مقمعا من حديد وضع فى الأرض فاجتمع له الثقلان ما أقلوه من الأرض " أخرجه أحمد ( 20 ) انظر ص 566 ج5 تفسير ابن كثير .(1/171)
وقال : { فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } ( 24 ) البقرة . وقال : { وَبُرِّزَتِ الجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ } ( 91 ) الشعراء .
( وعن ) أبى هريرة رضى الله عنه أنم النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : ناركم هذه التى توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم " قالوا : والله إن كانت لكافية يا رسول الله . قال : " فإنها فضلت بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها " أخرجه مالك والشيخان والترمذى ، وقال : حسن صحيح(1) {121} .
( وعن ) الحسن عن عتبة بن غزوان أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " ان الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوى فيها سبعين عاما . ما تفضى إلى قرارها ، وقال : وكان عمر رضى الله عنه يقول : أكثروا ذكر النار فإن حرها شديد ، وأن قعرها بعيد ، وأن مقامها حديد " أخرجه الترمذى وقال : لا نعرف للحسن سماعا من عتبة(2) {122} .
( وعن ) ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " لو أن قطرة من الزقوم قطرات فى دار الدنيا ، لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم ، فكيف بمن يكون طعامه " أخرجه أحمد والنسائى وابن ماجه والحاكم والترمذى وقال حسن صحيح(3) {123} .
( وعن ) أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " تخرج عنق من النار يوم القيامة لها عينان تبصران ، وأذنان تسمعان ، ولسان ينطق يقول : إنى وكلت بثلاثة : بكل جبار عنيد ، وبكل من دعا مع الله الها آخر ، وبالمصورين " أخرجه الترمذى وقال حسن صحيح غريب(4){124} .
(
__________
(1) انظر ص 238 ج3 تيسير الوصول ( صفة النار ) .
(2) انظر ص 238 ج3 تيسير الوصول ( صفة النار ) .
(3) انظر ص 238 ج3 تيسير الوصول ( صفة النار ) .
(4) انظر ص 239 منه . و ( عنق ) بضمتين : أى قطعة . و ( الجبار ) القهار المتكبر ( والعنيد ) الحائد من الحق كالمعاند له .(1/172)
وعن ) النعمان بن بشير أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " أن أهون أهل النار عذابا من له نعلان وشراً كان من نار ، يغلى منهما دماغه كما يغلى المرجل ، ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا ، وأنه لأهونهم عذابا " أخرجه الشيخان والترمذى(1){125} .
(
__________
(1) انظر ص 86 ج3 نووى مسلم ( شفاعة النبى صلى الله عليه وسلم لأبى طالب ) وص 243 ج3 تيسير الوصول ( أهل النار ) .(1/173)
وعن ) أبى الدرداء رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " يلقى على أهل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من العذاب ، فيستغيثون فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغنى من جوع . فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذى غصة ، فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص فى الدنيا بالشراب فيستغيثون بالشراب ، فيدفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد فإذا دنت من وجوهم شوت وجوههم ، فإذا دخلت بطونهم قطعت ما فى بطونهم فيقولون : أدعوا خزنة جهنم يخففون عنا ، فيدعونهم ، فيقولون : ألم تك تأتيكم رسلكم بالبينات . قالوا : بلى قالوا : فادعوا وما دعاء الكافرين إلا فى ضلال . فيقولون ادعوا مالكا فيقولون : يا مالك ليقض علينا ربك . فيجيبهم أنكم ماكثون . فيقولون : نبئت أن بين دعائهم وبين اجابة مالك إياهم ألف عام فيقولون : ادعوا ربكم فلا أحد خير من ربكم ، فيقولون : ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ، ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون . قال : فيجيبهم ( اخسئوا فيها ولا تكلمون ) قال : فعند ذلك يئسوا من كل خير ، وعند ذلك يأخذون فى الزفير والشهيق ويدعون بالحسرة والويل ، والثبور " أخرجه البيهقى والترمذى وقال : والناس لا يرفعون هذا الحديث(1){126}.
(
__________
(1) انظر ص 44 ج3 تحفة الأحوذى ( صفة طعام أهل النار ) و ( الضريع ) نبت بالحجاز له شوك ( ويجيزون ) من الأجازة بالزاى أى بسيغون من الاساغة ( والكلاليب ) جمع كلوب بفتح فشد حديدة لها شعب يعلق بها اللحم . و ( اخسئوا ) أى اسكتوا سكوت ذل وهوان ( والزفير ) اخراج النفس بشدة ( والشهيق ) رده . و ( لا يرفعون ) بل برونه موقوفا على أبى الدرداء وهو فى حكم المرفوع .(1/174)
ولهذه ) الأدلة أجمعت الأمة . على أن النار موجودة الآن والحقيقة ممكنة فلا وجه للعدول عنها . هذا ، واعلم انه لا يخلد فى النار موحد ، ولو ارتكب الكبائر ، وفاء بوعده تعالى بقوله : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ } (48) النساء . وقوله : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ) " واحتمال " دخوله الجنة أولا جزاء لمال عمله من الخير . ثم يدخل النار عقابا لما عمله من الشر " يبطله " قوله تعالى : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (47) لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ } (48) الحجر وقوله تعالى : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ } (185) آل عمران. فهذا يدل على أن استيفاء الأجر بالنسبة لمن يدخل النار لا يكون الا بعد الخروج منها . ( وأدل ) منه حديث أبى سعيد الخدرى أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، ثم يقول الله تعالى : أخرجوا من كان فى قلبه مثقال حبة من خردل من ايمان ، فيخرجون منها قد اسودوا ، فيلقون فى نهر الحياة . فينبتون كما تنبت الحبة فى جانب السيل . ألم تر أنها صفراء ملتوية " أخرجه الشيخان والنسائى(1){127}
(
__________
(1) انظر ص 55 ج 1 فتح البارى ( تفاضل أهل الايمان فى الأعمال ) و ص 35 ج 3 نووى مسلم وصدره : يدخل الله أهل الجنة الجنة ( أخراج الموحدين من النار ) و ( نهر الحياة ) نهر يحيا به من انغمس فيه .(1/175)
وحديث ) أنس رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم قال " يخرج من النار من قال لا اله الا الله وفى قلبه وزن شعيرة من خير . ويخرج من النار من قال لا اله الا الله وفى قلبه وزن برة من خير . ويخرج من النار من قال لا اله الا الله وفى قلبه وزن ذرة من خير " أخرجه أحمد والشيخان والنسائى وابن ماجه والترمذى وقال : حسن صحيح(1){128} .
10 – الجنة وهى دار الثواب ، والنعيم المقيم . فيها الحور العين ، والولدان ، ولحم الطير ، والفواكه ، والأنهار الجارية من الماء واللبن والعسل والخمر ، والسرر ، والحرير ، والذهب ، وما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . جاء بها الكتاب والسنة . قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } (2). وقال تعالى : { وَأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ } (90) الشعراء . أى قربت لهم بحيث يشاهدونا فى الموقف . ويعرفون ما فيها فتحصل لهم البهجة والسرور . وقال: { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فان الجنة هى المأوى } (3) وقال : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } (123) آل عمران .
(
__________
(1) انظر ص 77 ج 3 فتح البارى ( زيادة الايمان ونقصانه ) وص 59 ج 3 نووى مسلم ( الشفاعة ) وص 346 ج 3 تحفة الأحوذى . و (يخرج) بفتح أوله وضم الراء ويروى بالعكس ويؤيده ما فى رواية الترمذى " اخرجوا " .
(2) الكهف : 107 و 108 . و ( الفردوس ) وسط الجنة وأعلاها ( والنزل ) المنزل أو ما يهيأ للضيف . و ( لا يبغون عنها حولا ) أى لا يطلبون عنها تحولا وانتقالا الى غيرها .
(3) النازعات : 40 و 41 ( ومقام الرب ) الوقوف للحساب .(1/176)
وعن ) أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قال الله تعالى : " أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ، ولآ أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " . قال أبو هريرة : اقرءوا ان شئتم : ( فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين ) أخرجه الشيخان والترمذى وابن ماجه وزاد البخارى فى رواية : وقال محمد ابن كعب : انهم أخفوا لله عملا فأخفى لهم ثوابا . فلو قدموا عليه ، أقر تلك العين(1){129} .
( وعنه ) قال : قلت يا رسول الله : الجنة ما بناؤها ؟ قال لبنه من فضة ولبنة من ذهب وملاطها المسك الأذفر وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت . وترابها الزعفران . من يدخلها ينعم ولا يبؤس ، ويخلد ولا يموت ، لا تبلى
ثيابهم ، ولا يفنى شبابهم ( الحديث ) أخرجه أحمد والدرامى والبزار وابن حبان والترمذى (2){130} .
(
__________
(1) انظر ص 235 ج 3 تيسير الوصول . وص 305 ج 2 – ابن ماجه ( صفة الجنة ) .
(2) ص 333 ج 2 سنن الدرامى ( بناء الجنة ) و ص 323 ، 324 ج 3 تحفة الأحوذى ( صفة الجنة ونعيمها ) و ( الملاط ) بكسر الميم : الطين يصلح به الحائط ( ولا يبؤس ) أى لا يحزن يقال بؤس يبؤس بالضم فيهما : اذا اشتد حزنه ، ويقال بئس كسمع أشتدت حاجته .(1/177)
وعنه ) أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : ان أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة للبدر ، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب درى فى السماء اضاءة لا يبولون ، ولا يتغوطون ، ولا يتفلون ولا يمتخطون ، أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الالوة أزواجهم الحور العين على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم . ستون ذراعا فى السماء . أخرجه أحمد والشيخان والترمذى وابن ماجه (1){131} .
( وعن ) ابى سعيد الخرى أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : المؤمن اذا اشتهى الولد فى الجنة كان حمله ووضعه وسنة فى ساعة كما يشتهى . أخرجه أحمد وابن ماجه والدرامى والترمذى وقال : حسن غريب(2){132} .
وقد اختلف أهل العلم فى هذا . فقال بعضهم : فى الجنة جماع ولا يكون ولد ( وقال ) محمد يعنى البخارى . وقد روى عن أبى رزين العقيلى عن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " أن أهل الجنة لا يكون لهم فيها ولد " .
(
__________
(1) انظر ص 240 ج 3 تيسير الوصول ( أهل الجنة ) وص 306 ج 2 – ابن ماجه ( صفة الجنة ) و ( الرشح ) العرق ( والمجامر ) جمع مجمرة بكسر فسكون : وهو ما يوضح فيه النار والبخور . ( والألوة ) بفتح الهمزة وضمها وبضم اللام وتشديد الواو : العود الذى يتبخر به . والظاهر أنها تفوح بغير نار . فان الجنة لا نار فيها .
(2) انظر ص 338 ج 3 تحفة الاحوذى ( ما لأهل الجنة من الكرامة ) وص 337 ج 2 سنن الدرامى ( ولد أهل الجنة ) وص 308 ج 2 – ابن ماجه ( صفة الجنة ) ( وسنة ) أى كمال سنة وهو 30 سنة .(1/178)
وعن ) أسامة بن زيد أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال ذات يوم لأصحابه : ألا مشمر للجنة ؟ فان الجنة لا خطر لها هى ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانه تهتز ، وقصر مشيد ، ونهر مطرد ، وفاكهة كثيرة نضيجة ، وزوجة حسناء جميلة ، حلل كثيرة فى مقام أبدا فى حبرة ونضرة فى دور عالية سليمة بهية ، قالوا : نحن المشمرون لها يا رسول الله . قال قولوا إن شاء الله . ثم ذكر الجهاد وحض عليه . أخرجه ابن ماجه وابن حبان (1) {133} .
(
__________
(1) انظر ص 306 ج 2 – ابن ماجه ( صفة الجنة ) و ( لا خطر ) بخاء معجمة وطاء مهملة مفتوحين ( لها ) أى لا مثل لها . و ( تهتز ) أى تتحرك بهبوب الريح . وهو من باب التشبيه البليغ : أى هى كالريحانة فى الاهتزاز . وكالزوجة الجميلة . أو الكلام على التقدير . والمعنى : الجنة فيها النور والأزواج الحسان الى غير ذلك . و ( مقام ) بفتح الميم وضمها : أى خالدين فيها أبدا . و ( الحبرة ) بفتح الحاء وسكون الباء : النعمة وسعة العيش ( والنضرة ) البهجة والحسن .(1/179)
وعن ) سعيد بن المسيب أنه لقى أبا هريرة فقال أبو هريرة : أسأل الله أن يجمع بينى وبينك فى سوق الجنة قال سعيد : أو فيها سوق ؟ قال : نعم . أخبرنى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم ، فيؤذن لهم فى مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا . فيزورون الله عز وجل . ويبرز لهم عرشه ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة، فتوضع لهم نابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من ياقوت، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، ويجلس أدناهم- وما فيهم دنئ- على كثبان المسك والكافور، ما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا. قال أبو هريرة: قلت يا رسول الله: هل نرى ربنا؟ قال نعم هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر؟ قلنا لا. قال كذلك لا تتمارون في رؤية ربكم عز وجل. ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره الله عز وجل محاضرة حتى أنه يقول للرجل منكم: ألا تذكر يا فلان يوم عملت كذا وكذا؟ يذكره بعض غدارته في الدنيا(1) فيقول يا رب أفلم تغفر لي؟ فيقول: بلى فبسعة مغفرتب بلغت منزلتك هذه.
__________
(1) المراد بالسوق مكان يجتمعون فيه فقي كل مقدار أسبوع. وليس هناك أسبوع حقيقة، لفقد الشمس والنهار والليل (فيزورون الله.. الخ) هو من المتشابه المصروف عن ظاهره باتفاق السلف والخلف لقوله تعالى "ليس كمثله شيء" و(أدناهم) أي أقلهم منزلة بالنسبة إلى غيره. و(كثبان) بضم فسكون جمع كثيب. وهو ما اجتمع من الرمل كالتل. و(هل تتمارون) أي هل تشكون؟ والمراد أن المؤمنين يرون الله تعالى في الجنة رؤية لا شك فيها من غير كيفية ولا انحصار ولا مقابلة ولا يعلم حقيقتها إلا الله عز وجل (والمراد بالمحاضرة) كشف الحجاب عن أهل الجنة كلهم للرؤية بدون واسطة. وهو من المتشابه أيضا. (غدرات) بفتحات- جمع غدرة: أي يذكره بعض معاصيه في الدنيا.(1/180)
فبينما هم كذلك غشيتهم سحابة من فوقهم، فأمطرت عليهم طيبا لم يجدوا مثل ريحه شيئا قط. ثم يقول: قولوا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا ما اشتهيتم قال: فنأتي سوقا قد حفت به الملائكة. فيه ما لم تنظر العيون إلى مثله، ولم تسمع الآذان ولم يخطر على القلوب قال. فيحمل لنا ما اشتهينا، ليس يباع فيها شيء ولا يشتري. وفي ذلك السوق يلقي أهل الجنة بعضهم بعضا. فيقبل الرجل ذو المنزلة المرتفعة فيلقي من هو دونه- وما فيهم دنئ- فيروعه ما يرى عليه من اللباس فما ينقضي آخر حديثه حتى يتخيل عليه ما هو أحسن منه وذلك أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها. ثم ننصرف إلى منازلنا، فتتلقانا أزواجنا فيقلن: مرحبا وأهلا لقد جئت وإن بك من الجمال والطيب أفضل مما فراقتنا عليه. فنقول: أنا جالسنا اليوم ربنا الجبار عز وجل ويحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا. أخرجه ابن ماجه والترمذي وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وفيه عبد الحميد كاتب الأوزاعي مختلف فيه وبقية رجاله ثقات(1) {134}.
(وعن) أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم واثنان وسبعون زوجة. وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية إلى صنعاء. أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد "لكن أخرجه ابن حبان من حديث ابن وهب وهو من الأعلام الثقات الأثبات" عن عمرو ابن الحارث(2) {135}.
(
__________
(1) انظر ص 307 ج 2- ابن ماجه (صفة الجنة) وص 231 ج 2 تحفة الأحوذي (سوق الجنة) (فيروعه) أي فيعجبه، مضارع راعه الشيء: أعجبه و(بتخيل) مبنى للفاعل: أي يظهر عليه أن لباسه أحسن من لباس صاحبه (وبحقنا..) أي بحق ننا أن نرجع بمثل ما رجعنا حيث كنا في كرامة ربنا.
(2) انظر ص 338 ج 3 تحفة الأحوذي (مالأدنى أهل الجنة من الكرامة) و(الجابية) بكسر الباء وتخفيف الياء: قربة قرب دمش.(1/181)
وعن) ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "أخر من يدخل الجنة رجل فهو يمشي مرة ويكبو مرة. وتسفعه النار(1) مرة. فإذا جاوزها التفت إليها، فقال: تبارك الله الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله تعالى شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين والآخرين فترفع له شجرة فيقول: يارب أدنني من هذه الشجرة لأستظل بها وأشرب من مائها. فيقول الله: يا بن آدم لعلي أن أعطيتكها تسألني غيرها. فيقول: لا يارب، ويعاهده ألا يسأله غيرها. وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها فيستظل بظلها، ويشرب من مائها. ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى. فيقول: يا رب أدنني من هذه لأستظل بظلها وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها. فيقول: يابن آدم: ألم تعاهدني ألا تسألني غيرها؟ لعلي أن أدنيتك منها تسألني غيرها. فيعاهده ألا يسأله غيرها، وربه يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه. فيدنيه منها فيستظل بظلها، ويشرب من مائها. ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين. فيقول: يا رب أدنني من هذه لأستظل بظلها وأشرب من مائها. لا أسألك غيرها. فيقول: يا بن آدم ألم تعاهدني ألا تسألني غيرها؟ قال: بلى يا رب هذه لا أسألك غيرها وربه يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه منها. فإذا أدنى منها سمع أصوات أهل الجنة، فيقول أي رب أدخلني الجنة. فيقول: يا بن آدم ما يصريني منك أيرضيك أن أعطيتك قدر الدنيا ومثلها معها؟ فيقول: يا رب أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟ فضحك ابن مسعود فقال: ألا تسألوني مم ضحكت؟ فقيل مم تضحك؟ فقال هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وعلى ىله وسلم فقيل مم تضحك؟ فقال من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟ فيقول أني لا أستهزئ بك، ولكني على ما أشاء قادر". أخرجه أحمد ومسلم(2) {
__________
(1) تسعفه: أي تلفحه لفحا يسيرا يغير لون البشرة.
(2) انظر ص 246 ج 3 تيسير الوصول. (.ما اشتركتا- الجنة والنار- فيه) و(ما يصريني) بضم ففتح فشد الراء. أي ما الذي يرضيك ويقطع مسألتك من التصرية، وهي الجمع والقطع. ومنه المصراة التي جمع لبنها وقطع حلبها.(1/182)
136}.
(وعن) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "ما منكم من أحد إلإ له منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار. فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله. فذلك قوله تعالى: (أولئك هم الوارثون). أخرجه ابن ماجه(1) {137}.
11- الخلود: يجب على كل مكلف أن يعتقد أن الجنة والنار خالدتان وأهلهما مخلدون لا يفنون. وهذا ثابت بالكتاب والسنة واجماع الأمة. قال الله تعالى: "إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية * إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية * جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه، ذلك لمن خشى ربه(2)).
(
__________
(1) انظر ص 308 ج 2- ابن ماجه (صفة الجنة).
(2) سورة البينة آية 6 إلى 8. و(جنات عدن) أي دار إقامة (رضي الله عنهم) بطاعتهم أياه (ورضوا عنه) بما أعطاهمو من الثواب والنعيم المقيم.(1/183)
وعن) ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى ىله وسلم قال: "إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار، جئ بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار ثم يذبح ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة لا موت، يأهل النار لا موت. فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم. ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم". أخرجه أحمد والشيخان واللفظ للبخاري. وفي رواية "خلود فلا موت(1)" {138}.
__________
(1) انظر ص 333 ج 11 فتح الباري (صفة الجنة والنار) و"ذبح الموت" كناية عن اليأس من مفارقة الحالتين في الجنة والنار والخلود فيهما. ويحتمل أن يكون الذبح على حقيقته لحديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يؤتي بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد: يأهل الجنة فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه. ثم ينادي: يأهل النار فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت وكلهم قد رآه. فيذبح ثم يقول يأهل الجنة خلومد فلا موت. ويأهل النار خلود فلا موت. ثم قرأ "وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر وهم في غفلة" وهؤلاء في غفلة أهل الدنيا. وهم لا يؤمنون أخرجه البخاري {139} انظر ص 299 ج 8 فتح الباري (وأنذرهم يوم الحسرة).
... (قال) القرطبي: الحكمة في كون الكبش أملح. أن بجمع بين صفتي أهل الجنة والنار السواد والبياض.(1/184)
12- رؤية الله تعالى: أعلم أن أهل السنة أجمعوا على أن رؤية الله تعالى ممكنة عقلا واجبة نقلا واقعة في الآخرة للمؤمنين دون الكافرين بلا كيف ولا انحصار. فيرى سبحانه وتعالى لا في مكان ولا جهة من مقابلة أو اتصال شعاع أو ثبوت مسافة بين الرائي وبين الله تعالى. فإن الحق أن الرؤية قوة يجعلها الله تعالى في خلقه ولا يشترط فيها اتصال الأشعة ولا مقابلة المرئي ولا غير ذلك. فلا يلزم من رؤيته تعالى إثبات جهة له. بل يراه المؤمنون لا في جهة كما يعلمونه لا في جهة (وقد) تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع الأمة على ذلك. قال الله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة(1)) وقال: (كلا أنهم عن ربهم يؤمئذ لمحجوبون(2)).
(وقال) جرير بن عبد الله: نظر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال: "إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر لا تضامون فلي رؤيته. فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم ثرأ: وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب. أخرجه السبعة إلا النسائي(3) {140}.
(
__________
(1) سورة القيامة آية 22 و23 أي وجوه المؤمنين يوم القيامة حسنة مضيئة ناظرة إلى ربها بلا جهة ولا كيفية.
(2) سورة المطففين آية 15- أي أن الكفار ممنوعون عن رؤية الله تعالى.
(3) انظر ص 247 ج 3 تيسير الوصول (رؤية الله تعالى) وص 360 ج 4 مسند أحمد و(لا تضامون) بضم أوله وتخفيف الميم. أي لا ينالكم ضيم ولا ظلم في رؤيته. أو بتشديد الميم. أي لا ينضم بعضكم إلى بعض. كما يكون ذلك عند رؤية الشيء الخفي. ومرجع التشبيه بالقمر إلى الوضوح لا للجسمية ولا للجهة ولا للإضاءة، لأن هذا كله مستحيل. بل المعنى أنكم ترون ربكم رؤية لإخفاء ولا شك فيها كرؤيتكم القمبر ليلة تمامه.(1/185)
وعن) صهيب أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى تريدون شيئا أزيدكم؟ قال فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة؟ ألم تنجنا من النار؟ فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم. ثم تلا:(للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) أخرجه مسلم والترمذي(1){141}.
(وأما) رؤيته تعالى في الدنيا فهي ممكنة، ولذا طلبها سيدنا موسى عليه السلام، فعلق الله تعالى حصولها له على استقرار الجبل حين يتجلى الله تعالى عليه، فلم يستقر الجبل حينئذ ولم تحصل له عليه السلام مع إمكانها كما أشير إلى ذلك بقوله تعالى: "قال رب أرني أنظر إليك، قال لن تراني، ولكن أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني، فلما تجلي ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا، فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين(2)) ولم تقع إلا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليلة أسرى به على الراجح (روى) ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليلة أسرى به، والشجرة الملعونة في القرآن، قال: هي شجرة الزقوم. أخرجه البخاري والترمذي(3) {142}.
__________
(1) انظر ص 247 ج 3 تيسير الوصول (رؤية الله تعالى) (فيكشف الحجاب) أي عن أهل الجنة لا عن الله فإنه تعالى لا يحجبه شيء. و(للذين أحسنو) لأنفسهم بالإيمان والعمل الصالح. و(الحسنى) الجنة. والزيادة نظر أهل الجنة إلى الله تعالى.
(2) سورة الأعراف آية 143 علق الله رؤيته على جائز وهو استقرار الجبل والمعلق على الجائز جائز. وفي هذا رد على من زعم أن (لن) تفيد تابيد النفي. فالرؤية مستحيلة.
(3) انظر ص 137 ج 1 تيسير الوصول (سورة بني إسرائيل).(1/186)
وبالرؤية قال ابن عباس وأبو هريرة وأحمد وأبو الحسن الأشعري وجماعة. وأنكرتها عائشة رضي الله عنها. قال مسروق: قلت لعائشة رضي الله عنها: يا أمتاه هل رأى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ربه؟ فقالت: لقد قف شعري مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب، من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) {103} الأنعام. ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب. ثم قرأت (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا) من آية (34) لقمان. ومن حدثك أنه كتم شيئا من الوحي فقد كذب. ثم قرأت: (يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) (الآية 67 المائدة). ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين. أخرجه الشيخان والترمذي(1) {14}.
(والمختار) ما ذهب إليه ابن عباس والجمهور: والحجج في هذه المسألة كثيرة ولكنا لا نتمسك إلا بالأقوى منها وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما ومن وافقه.
__________
(1) انظر ص 247 ج 3 تيسير الوصول (رؤية الله) و(قف) بفتح القاف وشد الفاء أي قام شعر رأسي وبدني فزعا.(1/187)
والأصل في الباب حديث ابن عباس حبر الأمة، والمرجع إليه في المعضلات، وقد راجعه ابن عمر في هذه المسألة وراسله، هل رأى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ربه؟ فأخبره أنه رآه (ولا يقدح) في هذا أثر عائشة رضي الله عنها، لأنها لم تخبر أنها سمعت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول لم أر ربي. وإنما ذكرت متأوله لقول الله تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا، أو من وراء حجاب، أو يرسل رسولا) {51} الشورى. ولقول الله تعالى: (لا تدركه الأبصار). (والصحابي) إذا قال قولا وخالفه غيره منهم، لم يكن قوله حجة. فإذا صحت الروايات عن ابن عباس في إثبات الرؤية، وجب المصير إلى إثباتها، فإنها ليست مما يدرك بالعقل ويؤخذ بالظن، وإنما يتلقى بالسماع ولا يستجيز أحد أن يظن بابن عباس أنه تكلم في هذه المسألة بالظن والاجتهاد ثم أنه أثبت شيئا نفاه غيره، والمثبت مقدم على النافي. (فالحاصل) أن الراجح عند أكثر العلماء أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأى ربه بعيني رأسه ليلة الإسراء لما تقدم. ثم أن عائشة رضي الله عنها لم تنف الرؤية بحديث ولو كان معها فيه حديث لذكرته. وإنما اعتمدت الاستنباط من الآيات (فأما احتجاجها) بآية "لا تدركه الأبصار" "فجوابه" أن الإدراك هو الحاطة. والله لا يحاط به، ولا يلزم من نفى الإحاطة نفي الرؤية بلا إحاطة "وأما احتجاجها" بآية (وما كان لبشر أن يكمه الله إلا وحيا) "فجوابه" أنه لا يلزم من الرؤية وجود الكلام حال الرؤية. فيجوز حصول الرؤية بلا كلام، أو أنه عام مخصوص بما تقدم من الأدلة(1). وكل ما تقدم أخبر به الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم. والعقل يجوزه. فيجب الإيمان به من غير بحث في حقيقته. ومن أخل بشيء مما ذكر، فيسري جزاء تفريطه يوم الحساب، والعرض على رب الأرباب.
(و) القضاء والقدر
__________
(1) انظر ص 5 ج 3 شرح مسلم للنووي المطبعة المصرية(إثبات رؤية الله تعالى).(1/188)
القضاء (لغة) الخلق والأمر والحكم. قال تعالى: "فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها" (12) فصلت. أي خلقهن. وقال تعالى: (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه) (23) الإسراء أي أمر (وعرفا) هو الحكم الكلي الإجمالي في الأزل، أي وجود الأشياء في أم الكتاب مجملة (والقدر) لغة التقدير وهو جعل كل شيء بمقدار يناسبه بلا تفاوت "وعرفا" جزئيا حكم القضاء وتفاصيله التي تقع فيما لا يزال(1) قال تعالى: (وأن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) (21) الحجر. ومعناه أن الله تعالى قدر الأشياء في القدم وعلم أنها ستقع في أوقات معلومة عنده، وعلى صفات مخصوصة. فهي تقع على حسب ما قدرها سبحانه وهو بهذا المعنى يعم القضاء بالمعنى السابق.
(وقال) الخطابي: قد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله تعالى العبد على ما قدره وقضاه، وليس الأمر كما يتوهمونه، وإنما معناه الأخبار عن تقدم علم الله تعالى بما يكون من اكتسابات العبد وصدورها عن تقدير من الله تعالى وخلقه لها خيرها وشرها. والقدر اسم لما صدر مقدرا عن فعل القادر(2) الفرقان. وقوله: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) (49) القمر ولقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حديث جبريل: "وأن تؤمن بالقدر خيره وشره(3)".
__________
(1) الأزل القدم والأزلي القديم أصله يزلي نسبة ليزل من قولهم للقديم لم يزل ثم أبدلت ألياء همزة لأنها أخف (ومالا يزال) زمن وجود الحوادث.
(2) انظر ص 154 ج 1 شرح مسلم (إثبات القدر).
(3) حديث جبريل تقدم رقم 9 صفحة 11.(1/189)
ولحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، أحرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان". أخرجه أحمد ومسلم وابن ماجه(1) {143}.
(هذا) ما عليه أهل السنة والجماعة (فيجب) على المكلف أن يعتقد أن جميع أفعال العباد بقضاء الله وقدره، وأن الله تعالى يريد الكفر من العبد ويشاؤه، ولا يرضاه ولا يحبه له. فيشاؤه كونا ولا يرضاه دينا وأن كل إنسان ميسر لما خلق له وأن الأعمال بالخواتيم فالسعيد من سعد بقضاء الله وقدره، فيوفقه تعالى للعمل بالشريعة الغراء إلى أن يموت على ذلك. والشقي من شقى بقضاء الله وقدره، فيموت على الكفر والعياذ بالله تعالى.
(قال) على بن أبي طالب رضي الله عنه: كنا في جنازة ببقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى عليه وعلى ىله وسلم فقعد وقعدنا حوله وبيده مخصرة فجعل ينكت بها الأرض ثم قال: ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار، ومقعده من الجنة. فقالوا يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال: أعملوا فكل ميسر لما خلق له. أما من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل السعادة وأما من كان من أهل الشقاء فسيصير إلى عمل الشقاء. ثم قرأ (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى) الآية. أخرجه الخمسة إلا النسائي(2) {144}.
(
__________
(1) انظر ص 172 ج 3 تيسير الوصول (الرضا بالقدر) وص 22 ج 1- ابن ماجه (القدر).
(2) انظر ص 170 ج 3 تيسير الوصول (العمل مع القدر) و(الغرقد) بفتح الغين المعجمة وإسكان الراء. مقبرة أهل المدينة. سميت بذلك لأنها كان فيها غرقد وهو شجر له شوك. و(المخصرة) بكسر فسكون. ما يمسكه الإنسان بيده من عصا ونحوها.(1/190)
وعن) جابر رضي الله عنه قال: جاء سراقة بن مالك بن جعشم رضي الله عنه فقال: يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيم العمل اليوم؟ فيما جفت الأقلام وجرت به المقادير أم فيما يستقبل؟ قال: فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير. قال: ففيم العمل؟ قال: أعملوا فكل ميسر لما خلق له وكل عامل بعمله. أخرجه مسلم(1){145}.
(وعن) سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيبدو للناس وهو من أهل الجنة". أخرجه الشيخان. وزاد البخاري: وإنما الأعمال بالخواتيم(2) {146}.
(
__________
(1) انظر ص 170 ج 3 تيسير الوصول (العمل مع القدر) و(الغرقد) بفتح الغين المعجمة وإسكان الراء، مقبرة أهل المدينة. سميت بذلك لأنها كان فيها غرقد وهو شجر له شوك. و(المخصرة) بكسر فسكون. ما يمسكه الإنسان بيده من عصا ونحوها.
(2) انظر ص 333 ج 7 فتح الباري (غزوة خيبر) وص 124 ج 2 نووي مسلم (تحريم قتل الإنسان نفسه- الإيمان).(1/191)
والأحاديث) والآثار في هذا الباب كثيرة. وفيها رد على القدرية الذين يزعمون أن أفعال العباد مقدرة لهم واقعة منهم استقلالا بواسطة الأقدار والتمكين (وقد) اتفق لشخص منهم أنه رفع رجله بحضرة رجل من أهل السنة وقال: أني رفعت رجلي عن الأرض بقدرتي. فقال له السني: فإذا ارفع رجلك الأخرى فلم يدر له جوابا (وفيها) رد عليهم أيضا في زعمهم أن الله يخلق الخير ولا يخلق الشر كالمعاصي والكفر. وهو زعم باطل. إذ لو كان العبد يخلق الشر والمخالفات وهي أكثر وقوعا من الطاعات لكان أكثر ما يجري في الوجود من أفعال العباد لا يكون بخلق الله وإيجاده، بل بخلقهم وإيجادهم وذلك جلى البطلان، لأن الله تعالى هو المنفرد بالخلق والتأثير على وفق علمه. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدهم. أخرجه أبو داود والحاكم من حديث أبي حازم عن عمر. وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين أن صح سماع أبي حازم عن ابن عمر(1) {147}.
(وشبههم) صلى الله عليه وسلم بالمجوس حيث فرقوا بين أفعال الله عز وجل فجعلوا بعضها له وبعضها لغيره (قال) الخاطبي: إنما جعلهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم مجوسا، لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلين النور والظلمة. يزعمون أن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلمة، فصاروا ثنوية.
(
__________
(1) انظر ص 222 ج 4 سنن أبي داود (في القدر) ولم يسمع أبون حازم من أبن عمر فالحديث منقطع.(1/192)
وكذلك) القدرية يضيفون الخير إلى الله تعالى والشر إلى غيره. والله خالق الخير والشر جميعا، لا يكون شيء منهما إلا بمشيئته فهما مضافان إليه خلقا وإيجادا، وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلا واكتسابا (وفيها) رد أيضا على المعتزلة الذين زعموا أن الله تعالى شاء الإيمان من الكافر فشاء الكافر الكفر. وهو زعم باطل فإنه يلزمه وقوع مشيئة الكافر دون مشيئة الله عز وجل. وهذا من أقبح الاعتقاد، إذ هو مخالف للأدلة القطعية وفيه تعطيل لإرادة الله تعالى، وقد قامت الأدلة العقلية والنقلية على وجوب الإرادة لله تعالى، وأنه لا يقع في الكون إلا ما أراده رب العالمين وكيف وهو الذي يقول (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة) (68) القصص. وتقدم أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يقول "ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن"(1) (ومنشأ) خطئهم التسوية بين المشيئة والإرادة وبين المحبة والرضا.
(فقالت) الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره، فهو محبوب مرضي.
(
__________
(1) تقدم بالحديث رقم 12 ص 14، وصدره: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت.(1/193)
وقالت) القدرية: ليست المعاصي محبوبة ولا مرضية الله تعالى، فليست مقدرة ولا مقضية فهي خارجة عن مشيئته وخلقه (وقد دل) على الفرق بين الإرادة والرضا الكتاب والسنة والفطرة الصحيحة. قال تعالى (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) (13) سورة السجدة. وقال تعالى (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟) (99) سورة يونس وقال (وما تشاءون إلا أن يشاء الله، إن الله كان عليما حكيما) (30) سورة الإنسان. وقال (من يشاء) الله يضلله، ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم) (39) سورة الأنعام. وقال (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يردن أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء) (125) سورة الأنعام. وقال (ذو العرش المجيد (15) فعال لما يريد) (16) سورة البروج وقال (والله لا يحب الفساد) (205) البقرة. وقال (ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم) (7) سورة الزمر.
(وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأدت البنات ومنعا وهات. وكره لكم ثلاثا : قيل وقال ، وإضاعة المال ، وكثرة السؤال. أخرجه مسلم(1){148}.
(وقال) ابن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "إن الله تعالى يحب ان تؤتي رخصه كما يحب أن تؤتي عزائمه" أخرجه أحمد والبيهقي وابن خزيمة وابن حبان(2) {149}.
(
__________
(1) انظر ص 11ن 12 ج 11 نووي مسلم (النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة).
(2) انظر رقم 1879 ص 292 ج 2 فيض القدير شرح الجامع الصغير.(1/194)
وقالت) عائشة رضي الله عنها. فقدت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الفراش فوقعت يدي على بطن قدميه وهو ساجد يقول: "اللهم أني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" أخرجه مسلم والأربعة(1) {150}.
(
__________
(1) انظر رقم 1521 ص 139 ج 2 فيض القدير.(1/195)
فتأمل) استعاذته صلى الله عليه وعلى آله وسلم بصفة الرضا من صفة السخط وبفعل المعافاة من فعل العقوبة. فالأول للصفة، والثاني لأثرها المترتب عليها. ثم ربط ذلك كله بذاته سبحانه وتعالى، وأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إلى غيره فهو يقول: ما أعوذ منه واقع بمشيئتك وغرادتك ، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك، هو بمشيئتك وإرادتك إن شئت أن ترضى عن عبدك وتعافيه، وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه، فأعذني مما أكره وامنعه أن يحل بي، وهو بمشيئتك أيضا. فالمحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك (فإن قيل) كيف يريد الله أمرا ولا يرضاه (قيل) أن المراد نوعان: مراد لنفسه ومراد لغيره. (فالمراد) لنفسه مطلوب ومحبوب لذاته وما فيه من الخير. والمراد لغيره قد لا يكون مقصودا لمن يريد ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته، وإن كان وسيلة إلى مقصوره ومرادهن فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته، مراد له من حيث أنه وسيلة إلى مراده، فيجتمع فيه الأمران: بغضه وإرادته ولا يتنافيان لاختلاف متعلقهما. وهذا كدواء الكريه إذا علم المتناول له أن فيه شفاءه، وقطع العضو المتاكل إذا علم أن في قطعة بقاء جسده، وكقطع المسافة الشاقة إذا علم أنها توصل إلى مراده ومحبوبه. بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه واردته بالظن الغالب وإن خفيت عنه عاقبته، فكيف بمن لا يخفي عليه خافية. فهو سبحانه يكره الشيء وقد يريده لكونه سببا إلى أمر هو محبوب إليه. (من ذلك) أنه خلق إبليس الذي هو سبب فساد الأعمال والاعتقادات، وسبب لشقاوة كثير من العباد وعملهم بما يغضب الرب سبحانه وتعالى، وهو السعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه ، ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة الله تعالى ترتبت على خلقه، ووجودها أحب إليه من عدمها (منها) أنه يظهر للعباد قدرة الله تعالى على خلق المتضادات المتقابلات. فخلق هذه الذات التي هي أخبث الذوات وأطهرها وأزكاها، وهي سبب كل خير.(1/196)
كما ظهرت في خلق الليل والنهار والدواء والدراء، والحياة والموت، والحسن والقبيح، والخير والشر، وذلك من أدل دليل على كمال قدرته وعزته وسلطانه، فإنه خلق هذه المتضادات وقابل بعضها ببعض وجعلها محال تصرفه وتدبيره، فخلو العالم عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته وكمال تصرفة وتدبير ممتلكته (ومنها) ظهور آثار أسمائه القهرية. مثل القهار، والمنتقم، والضار، والشديد العقاب، والسريع الحساب، وذي البطش الشديد، والخافض، والرافع، والمعز، والمذل، فإن هذه الأسماء والأفعال كمالات لابد من وجود متعلقها ولو كان الجن والأنس على طبيعة الملائكة لم يظهر أثر هذه الأسماء (ومنها) ظهور آثار أسمائه المتضمنة كلأه وعفوه ومغفرته وستره وتجاوزه عن حقه وعتقه لمن شاء من عبيده، فلولا خلق ما يكرهه من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء، لتعطلت هذه الحكم والفوائد. وقد أشار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى هذا بقوله: والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم. أخرجه مسلم عن الأسباب المفضية على ظهور آثار هذه الأسماء، لتعطلت هذه الحكم والفوائد. وقد أشار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى هذا بقوله: والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم. أخرجه مسلم عن أبي هريرة(1) {151}.
(ومنها) ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة، فإنه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه ولا ينزل في غير منزلته التي قتضيها كمال علمه وتمام حكمته، فهو أعلم حيث يجعل رسالاته وأعلم بمن يصلح لقوبها ويشكر له جميل صنعه، وأعلم بمن لا يصلح لذلك.
__________
(1) انظر ص 65 ج 17 نووي مسلم (سقوط الذنوب بالاستغفار).(1/197)
فلو قدر عدم الأسباب المكروهة لتعطلت حكم كثيرة، ولفاتت مصالح عديدة. ولو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر لتعطيل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب. وهذا كالشمس والمطر والرياح التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر (ومنها) حصول الطاعات المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت. فإن طاعة الجهاد من أحب أنواع الطاعة، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه الطاعة. وتوابعها من الموالاة الله تعالى والمعاداة فيه، وطاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومخالفة الهوى، وإيثار محاب الله تعالى والتوبة والاستغفار والصبر، والاستعاذة بالله أن يجيره من عدوه ويعصمه من كيده واذاه إلى غير ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن إدراكها.
(هذا) وأعلم أن الله تعالى لم يخلق شرا محضا من جميع الوجوه فإن حكمته تابى ذلك، فلا يمكن في جانبه تعالى أن يريد شيئا يكون فاسدا من كل وجه لا مصلحة في خلقه بوجه ما. فإنه تعالى بيده الخير كله، والشر ليس إليه، بل كل ما إليه فخير. والشر إنما حصل لعدم النسبة إليه، فلو كان غليه لم يكن شرا وهو من حيث نسبته إليه تعالى خلقا ومشيئة ليس بشر، والشرب الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه. والعدم ليس بشيء حتى ينسب إلى من بيده الخير. وبهذا يظهر رد الله تعالى على المشركين بقوله (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا ءاؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا) (148) سورة الأنعام. وإيضاح ذلك أن أسباب الخير ثلاثة: الأبجاد والإعداد والإمداد. فإيجاد الشيء خير وهو إلى الله، وكذلك إعداده وإمداده. فإذا لم يحدث فيه إعداد ولا إمداد، حصل فيه الشر. وهذا يسمى بالتخلية أي أن خلى الله بين العبد وبين نفسه ولم يمده بأسباب الوقاية من الشر وقع فيه.
((1/198)
فإن قيل) كيف يرضى لعبده شيئا ولا يعينه عليه (قيل) لأن إعانته عليه قد تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها له. وقد يكون وقوع تلك الطاعة منه يتضمن مفسدة هي أكره إليه تعالى من محبته لتلك الطاعة، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم) (46) سورة التوبة. أخبر سبحانه أنه كره انبعاثهم إلى الغزو مع رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو طاعة، فلما كرهه منهم ثبطهم عنه. ثم ذكر سبحانه بعض المفاسد التي تترتب على خروجهم مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال (لو خرجوا فيكم ما زادكم إلا خبالا) أي فسادا وشرا (ولأوضعوا خلالكم) أي سعوا بينكم بالفساد والشر (بيعونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم) أي قابلون منهم مستجيبون لهم فيتولد من سعي هؤلاء وقبول هؤلاء من الشر ما هو أعظم من مصلحة خروجهم فاقتضت الحكمة والرحمة أن أقعدهم عنه.
(ولا يقال) إذا كان الكفر بقضاء الله وقدره ونحن مأمورون أن نرضى بقضاء الله، فكيف ننكره ونكرهه؟ (لأنا) نقول "أولا" نحن غير مأمورين بالرضا بكل ما يقضيه الله ويقدره، ولم يرد بذلك كتاب ولا سنة. بل من المقضي ما يرضي به، ومنه ما يسخط ويمقت "ثانيا" هنا أمران: قضاء الله وهو فعل قائم بذات الله تعالى. ومقضي وهو المفعول المنفصل عنه المتعلق بالعبد المنسوب إليه. فالقضاء كله خير وعدل وحكمة نرضى به كله. والمقضي قسمان: منه ما نرضى به، ومنه ما لا نرضى به، فمثلا: قتل النفس له اعتباران "فمن حيث" قدرة الله وقضاه وكتبه وشاءه وجعله أجلا للمقتول ونهاية لعمره نرضى به "ومن حيث" صدر من القاتل وباشره وكسبه وأقدم عليه باختياره وعصى الله بفعله "نسخطه" ولا نرضى به.
((1/199)
فهذا جملة) ما يحتاج إليه- في القضاء والقدر- من نور الله قلبه من المؤمنين الراسخين في العلم فإن العلم علمان: معروف للخلق، وغير معروف لهم (فالمعروف) علم الشريعة الذي جاءت به الرسل جملة وتفصيلا أصولا وفروعا. فمن أنكره كان من الكافرين (وغير المعروف) علم القدر الذي أخفاه الله عن خلقه ونهاهم عن البحث فيه، فمن أدعى معرفته وترك العمل بظاهر الشريعة اعتمادا على ذلك فهو من الخاسرين (فالمؤمن) الصادق هو الذي يعمل بما جاء به الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويفوض علم القضاء والقدر إلى الله عز وجل.
(وإنما أطلت) الكلام في هذا لمزيد فائدته، وهلاك كثير من الناس بسبب الجهل به والخوض فيه والله الهادي إلى سواء السبيل.
كلمة التوحيد
هي "لا إله لا الله، محمد رسول الله" ويتعلق بها خمسة أمور:
(أ) ضبطها: ينبغي ترقيق حروفها ما عدا لام الله. وأن تمد "لا" مدا طبيعيا إلى ست حركات. وتحقيق همزة إله. وتمد لأمها مدا طبيعيا. وتفتح هاؤها فتح أبينا بلا إشباع. وتحقيق همزة إلا بلا إشباع وتشدد لأمها ويفخم لفظ الجلالة. وتضم الهاء وصلا، وتسكن وقفا، وحينئذ يجوز مد لفظ الجلالة إلى ست حركات.
(ب) فضل لا إله لا الله: قد ورد في فضلها أحاديث كثيرة (منها).
1- حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "عبد الله بن عمرو" أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة. وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. أخرجه مالك والتعرمذي واللفظ له، وقال: حديث غريب(1) {152}.
__________
(1) انظر ص 27 ج 2 تيسير الوصول (دعاء يوم عرفة).(1/200)
2- حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: افضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله. أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وقال: حسن غريب وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه(1) {153}.
3- حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى ىله وسلم قال: قال موسى عليه الصلاة والسلام: يا رب علمني ما اذكر: به وأدعوك به. فقال: يا موسى قال: لا إله إلى الله. قال موسى عليه الصلاة والسلام: يا رب كل عبادك يقولون هذا. قال: قل لا إله إلا الله. قال: لا إله إلا أنت. إنما أريد شيئا تخصني به. قال: يا موسى لو أن السموات السبع، والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، لمالت بهن لا إله إلا الله. أخرجه النسائي وابن حبان(2) {154}.
4- حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: التسبيح نصف الميزان، والحمد لله تملؤه، ولا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب حتى تخلص إليه. أخرجه الترمذي(3) {155}.
(جـ) حكم النطق بكلمة التوحيد: يجب على من نشأ مؤمنا، أن يذكرها في العمر مرة ناويا أداء الواجب، وإلا فهو عاص. ثم ينبغي له الإكثار من ذكرها عارفا معناها مستحضرا ما احتوت عليه لينتفع بذكرها دنيا وأخرى. فتتفجر ينابيع الحكم من قلبه، ويرى لها من الأسرار والعجائب إن شاء الله تعالى مالا يدخل تحت حصر.
(
__________
(1) انظر رقم 1253 ص 33 ج 2 فيض القدير شرح الجامع الصغير.
(2) انظر رقم 9 ص 75 ج 3- الترغيب والترهيب طبعة الحلبي (الترغيب في التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد) وأطلق على الحمد دعاء على سبيل التجوز. لأن الحمد يتضمن الدعاء لقوله تعالى "لئن شكرتهم لأزيدنكم" أي فمن حمد الله تعالى كأنه يقول رب أدم على نعمتك وزدني منها.
(3) انظر رقم 3403 ص 282 ج 3 فيض القدير. و(تخلص إليه) من المتشابه المصروف من ظاهره باتفاق السلف والخلف.(1/201)
وأما الكافر) الذي يريد الدخول في الإسلام، فذكره لها ليس شرطا في صحة إيمانه ولا جزءا من مفهومه "وإنما جعل" الشرع النطق بالشهادتين "شرطا" لازما لإجراء الأحكام الدنيوية على المؤمن كالصلاة خلفه، والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، وتزوجه مسلمة "فإذا لم ينطق" بهما لعذر كالخرس، أو لم يتمكن من النطق بهما، بأن مات عقب إيمانه بقلبه، أو اتفق له عدم النطق بهما بعد الإيمان بقلبه "فهو مؤمن" عند الله وناج في الآخرة "وأما من أمتنع" عن النطق بهما عنادا بعد أن عرض عليه ذلك "فهو كافر" والعياذ بالله تعالى ولا عبرة بتصديقه القلبي مع هذا الامتناع.
(د) ما تضمنته من العقائد: كل ما تقدم من العقائد يندرج في كلمة التوحيد. وذلك أن معنى لا إله إلا الله "لا معبود بحق إلا الله" (ويلزم) هذا المعنى أن يكون غنيا عن كل ما سواه، وأن يفتقر إليه كل ما عداه.
(ويلزم) كونه غنيا عن كل ما سواه، (أ) وجوب الوجود له والقدم والبقاء والمخالفة للحوادث والقيام بالنفس والسمع والبصر والكلام، وعدم الغرض في فعل ما أو حكم ما، وعدم التأثير بالقوة المودعة، وعدم وجوب فعل عليه تعالى (ب) واستحالة العدم والحدوث. والفناء. والمماثلة للحوادث، والاحتياج لموجد أو ذات يقوم بها. والصمم. والعمي. والبكم. والتأثير بالقوة المودعة، والغرض في فعل أو حكم ما. واستحالة وجوب فعل عليه تعالى.
فهذه اثنتان وعشرون عقيدة. منها الواجب له تعالى. ومنها المستحيل في حقه تعالى.
(ويلزم) كونه مفتقرا إليهم كل ما عداه (أ) وجوب الوحدانية له تعالى في الذات والصفات والأفعال، والحياة والعلم والإرادة والقدرة، وحدوث العالم، وعدم التأثير بالعلة والطبع والتولد (ب) واستحالة التعدد في الذات والصفات والأفعال اتصالا وانفصالا على ما تقدم، والموت والجهل والكراهية والعجز وقدم العالم والتأثير بالعلة والطبيعة والتولد.(1/202)
فهذه أربع عشرة عقيدة ما بين واجب له تعالى ومستحيل عليه تعالى .
(ومعنى) محمد رسول الله : ثبوت الرسالة له صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ويندرج تحته(أ) وجوب الأمانة والتبليغ والصدق ، واتصافه بما لا نقص فيه سواء أكان واجبا كالفانة وعدم دناءة الآباء والأمهات ، أم جائزا كالمرض والجوع .
(ب) وإيماننا بجميع الأنبياء والكتب والملائكة واليوم الآخر ،والقضاء والقدر .
(جـ) واستحالة الخيانة والكتمان والكذب ،واتصافه بما فيه نقص كالبلادة والجنون والعمى، فهذه أربع عشرة عقيدة (1) تضم لما تقدم تكون جملتها خمسين عقيدة.
(هـ) كيفية الذكر وفضله : قد علمت أن هذه الكلمة من أفضل الأذكار وأشرفها عند الله تعالى . فينبغى للعاقل أن يعنى بها. ويحسن أن يكون حالة الذكر على طهارة متطيبا متجملا مستقبلا القبلة ، ويتحرى الانفراد عن الخلق ما استطاع ،ويستحضر المعنى بقدر الإمكان . ولا يترك الذكر عند عدم حضور قبله . بل يذكر متحليا ببقية الآداب راجيا أن تغشاه نفحة إلهية تنقله من الغفلة إلى الحضور ومن الحضور إلى المشاهدة. وألا يتصرف فى شئ من حروفها بزيادة أو نقصان بل يقتصر على الوارد شرعا . وليحذر مما عليه غالب الناس اليوم من تحريف الذكر والإلحاد فى أسمائه تعالى فإنه حرم بالإجماع ولا سند لهم فى ذلك إلا قولهم : وجدنا أشياخنا هكذا يذكرون : وهذا لا يصدر إلا من الجهلة الذين لا يميزون الغث من لسمين . فعلى المؤمن ألا يخرج فى ذكره وكل أعماله عما جاء به الكتاب العزيز ،ونطقت به السنة المطهرة (2) .
__________
(1) أربع برقم (أ) وست برقم (ب) وأربع برقم (ج).
(2) وقد بسط الشيخ الامام رحمه الله الكلام فى هذا وبين بطلان ما عليه متصوفة الزمان فى بعض كتبه " الرسالة البديعة" و" العهد الوثيق" وغيرهما.(1/203)
هذا .واعلم أن الذكر حقيقة هو ما يجرى على اللسان والقلب، وأكمله ما كان فيه استحضار معنى الذكر وما اشتمل عليه من تعظيم الله تعالى ونفى النقائض عنه، والمراد به ما يشمل التسبيح والتحميد وتلاوة القرآن والاستغفار والصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم وغير ذلك( قال) الفخر الرازى: المراد بذكر اللسان الألفاظ الدالة على التسبيح والتحميد والتمجيد( والذكر) بالقلب التفكر فى أدلة الذات والصفات والتكاليف من الأمر والنهى ،وفى أسرار مخلوقات الله (والذكر) بالجوارح : هو أن تصير مستغرقة بالطاعة ،ولذا سمى الله تعالى الصلاة ذكرا فى قوله (فاسعوا إلى ذكر الله).
هذا والذكر سبعة أقسام : ذكر العينين البكاء. وذكر الأذنين الاصغاء . وذكر اللسان الثناء. وذكر اليدين العطاء. وذكر البدن الوفاء ،وذكر القلب الخوف والرجاء ،وذكر الروح التسليم والرضا (واعلم) أن الذكر أفضل الأعمال (فعن )أبى الدرداء أن النبى صلى الله عليه وسلم قال" ألا أنبئكم بخير أعمالكم ،وأذكارها عند مليككم ،وأرفعها فى درجاتكم ،وخير لكم من انفاق الذهب والورق ، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضبوا أعناقكم؟ قالوا: بلى . قال: ذكر الله تعالى ،أخرجه مالك وأحمد والترمذى وابن ماجه والحاكم وصححه(1) [156].
(وعن) معاذ بن جبل أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال" ما عمل ابن آدم عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله " أخرجه أحمد والترمذى والطبرانى بسند صحيح (2) {157}.
(
__________
(1) انظر ص225 ج4 تحفة الأحوذى (فضل الذكر) . وص 2180 ج2 – ابن ماجه (فضل الذكر ).
(2) انظر ص225 ج4 تحفة الأحوذى (فضل الذكر) . وص 2180 ج2 – ابن ماجه (فضل الذكر ).(1/204)
وعن) الأغر ابى مسلم أنه قال: أشهد على أبى هريرة وأبى سعيد الخدرى أنهما شهدا على النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال " لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل ألا حفتهم الملائكة ،وغشيتهم الرحمة،ونزلت عليهم السكينة،وذكرهم الله فيمن عنده "أخرجه أحمد ومسلم والترمذى وقال: حديث حسن صحيح (1) {158}.
(وعن) ابى سعيد الخدرى: خرج معاوية على حلقة فى المسجد فقال ما أجلسكم؟ قالوا : جلسنا نذكر الله . قال الله ما أجلسكم إلا ذاك ؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذلك ،قال: أما أنى لم استحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتى من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهلى آله وسلم، أقل عنه حديثا منى، وأن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم خرج على حلقة من أصحابه ،فقال" ما أجلسكم؟ قالوا : جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا. قال : الله ما أجلسكم إلا ذاك ؟ قالوا: والله ما جلسنا إلا ذاك . قال: أما إنى لم أستحلفكم تهمة لكم ،ولكنه أتانى جبريلا فأجقبرنى ان الله عز وجل يباهى بكم الملائكة .اخرجه مسلم والنسائى والترمذى وقال حسن غريب (2) {159}.
(
__________
(1) انظر ص44 ج2 تيسير الوصول(الذكر).
(2) انظر ص22 ج17 نووى مسلم (فضل الاجتماع على الذكر ). وص225 ج4 تحفة الأحوذى (القوم يجلسون فيذكرون الله ما لهم من فضل ). و( حلقة) بفتح فسكون ، القوم يجتمعون مستديرين . (آلله )بالمد والجر.(1/205)
وعن) أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال" من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير - فى يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب ،وكتبت له مائة حسنة،ومحيت عنه مائة سيئة ،وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسى ،ولم يأت أحد بأفضل مما جاء إلا رجل عمل أكثر من ذلك" أخرجه مالك والشيخان والترمذى وابن ماجه (1) {160}.
(وعنه) أن النبى صلى الله عليه وسلم قال" من قال سبحان الله وبحمده فى يوم مائة مرة ، حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر" أخرجه مالك وأحمد والشيخان والترمذى وابن ماجه (2) {161}.
(وعن) مكحول عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال" أكثروا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله – فإنها كنز من كنوز الجنة " قال مكحول: فمن قالها ثم قال ولا منجى من الله إلا إليه ،كشف الله عنه سبعين بابا من الضر أدناها الفقر ،أخرجه الترمذى ،وقال: إسناده ليس بمتصل لأن مكحولا لم يسمع من ابى هريرة ،وأخرجه النسائى مطولا بسند رجاله ثقات :ورفع إلى النبى قوله: ولا منجى من الله إلا إليه (3) {162}.
(وعن) أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: استكثروا من الباقيات الصالحات : لا إله إلا الله، وسبحان الله،والله أكبر،والحمد لله،ولا حول ولا قوة إلا بالله .
أخرجه النسائى وأحمد وابن حبان والحاكم وصححاه (4) {163}.
فضل الدعاء
__________
(1) انظر ص32 ج2 تيسير الوصول(الاستغفار والتسبيح والتهليل..) وص219 ج2- ابن ماجه(فضل لا إله إلا الله).
(2) انظر ص160 ج11 فتح البارى (فضل التسبيح) ورقم 8898 ص190 ج6 فيض القدير . وص 250 ج4 تحفة الأحوذى .
(3) انظر ص32 ج2 تيسير الوصول (الاستغفار والتسبيح التهليل والتكبير والتحميد والحوقلة).
(4) انظر ص87 ج10 مجمع الزوائد (الباقيات الصالحات ). ورقم 30 ص248 ج2- الترغيب والترهيب طبعة منير.(1/206)
"(اعلم) أن الدعاء ذكر وزيادة . وقد ورد الأمر به. قال تعالى (وقال ربكم أدعونى أستجب لكم) (60) سورة غافر (وعن) أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال" من لم يسأل الله يغضب عليه "أخرجه الترمذى وكذا ابن ماجه بلفظ : من لم يدع الله سبحانه غضب عليه (فضل الدعاء) والحاكم وصححه(1) {164}.
وقد ورد فى فضله أحاديث( روى) النعمان بن بشير رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال" الدعاء هو العبادة " ثم قرأ (وقال ربكم أدعونى استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنم داخرين ) أخرجه أحمد والأربعة. وقال الترمذى حسن صحيح ،وابن حبان والحاكم وصححاه(2) {165}.
(وعن) أنس مرفوعا "الدعاء مخ العبادة "اخرجه الترمذى وفيه ابن لهيعة ،فيه مقال (3) {166}. (وعنه) مرفوعا" لا يرد الدعاء بين الأذان والاقامة " أخرجه أحمد والثلاثة وحسنه الترمذى وزاد : قالوا فما نقول يا رسول الله ؟قال: سلوا الله العفو والعافية فى الدنيا والآخرة (4) {167}.
(
__________
(1) انظر ص224 ج4 تحفة الأحوذى (فضل الدعاء ). وص223 ج2- ابن ماجه .
(2) انظر ص2 ج2 تيسير الوصول(فضل الدعاء ووقته ) وص223 ج2- ابن ماجه (فضل الدعاء).
(3) انظر ص223 ج4 تحفة الأحوذى (باب ما جاء فى فضل الدعاء ).
(4) يأتى رقم 121 ص78 ج2- الدين الخالص (الدعاء بين الأذان والاقامة).(1/207)
وعن) شداد بن أوس رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "سيد الاستغفار أن تقول : اللهم أنت ربى لا إله إلا أنت ،خلقتنى وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت. أعوذ بك من شر ما صنعت ،أبوء لك بنعمتك على، وأبوء لك بذنبى ، فاغفر لى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها من النها موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسى ، فهو من أهل الجنة. ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح ،فهو من أهل الجنة " أخرجه أحمد والبخارى والدارمى والثلاثة (1){168}.
(وعن) ابن عمر رضى الله عنهما قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يمسى وحين يصبح: "اللهم إنى أسألك العفو والعافية فى الدنيا والآخرة . اللهم إنى أسألك العفو فى دينى ودنياى وأهلى ومالى. اللهم استر عوراتى وآمن روعاتى واحفظنى من بين يدى ومن خلفى وعن يمينى وعن شمالى ومن فوقى وأعوذ بك أن أغتال من تحتى " أخرجه النسائى وابن ماجه واللفظ له والحاكم وصححه(2) {169}.
(وعن) عائشة رضى الله عنها أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم علمها هذا الدعاء : " اللهم إنى أسألك من الخير كله عاجله وأجله ما علمت منه وما لم أعلم. وأعوذ بك من الشر كله عاجله
__________
(1) انظر رقم 4743 ص119 ج4 فيض القدير شرح الجامع الصغير وص77 ج11 فتح البارى (أفضل الاستغفار).
(2) انظر ص230 ج2- ابن ماجه (دعاء الصباح والمساء). (العفو) محو الذنوب (والعافية) السلامة من الأسقام والبلايا (والعورات) العيوب ( الروعات) الفزعات . فالمعنى : ادفع عنى خوفا يقلقنى ويزعجنى وأن أغتال .(1/208)
وأجله ،ما علمت منه وما لم ألم. اللهم إنى أسألك من خير ما سألك عبدك ونبيك. وأعوذ بك من شر ما عاذ به عبدك ونبيك. اللهم إنى أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل . وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل. وأسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لى خيرا " أخرجه ابن ماجه وأحمد وابن حبان والحاكم وصححاه(1) {170}.
إلى هنا تم بيان الأحكام العلمية " الاعتقادية". وأما الأحكام العملية فيبحث عنها .
علم الفقه
وهو (لغة) الفهم. و(اصطلاحا) العلم بالأحكام الشرعية الفرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية(وموضوعه) فعل المكلف من حيث أنه مكلف. وخطاب صاحب البهية بما أتلفته لتفريطه . وأمر الصبى بالصلاة ليعتادها . وثوابه على الطاعة لعموم قوله تعالى : (إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا) (30) سورة الكهف . وفى حديث ابن عباس : رفعت امرأة صبيا لها فقالت : يا رسول الله ألهذا حج ؟ قال: نعم ولك أجر. أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائى(2) {1}.
__________
(1) انظر ص226 ج2- ابن ماجه(جوامع الدعاء) . ورقم 1497 ص128 ج2 فيض القدير شرح الجامع الصغير..
(2) انظر ص99 ج9 نووى مسلم (صحة حج الصبى) وص277 ج10= المنهل العذب (اصبى يحج) وص5 ج2 مجتبى (الحج الصغير )و(نعم) أى للصبى ثواب الحج (ولك أجر) يعنى لحملها الصبى وتحملها المشاق من أجله. وهذا كالصلاة والصوم يؤمر بهما الصبى إذا أطاقهما ويكتب له الأجر. ويكتب لمن يأمره بالطاعة ويرشده إليها أجر .(1/209)
وعدم مؤاخذة غير المكلف5 بالمعصية لعدم تكليفه (روى) على رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ ،وعن النائم حتى يستيقظ ،وعن الصبى حتى يحتلم .أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه(1) {2}.
(واستمداده) من الكتاب والسنة والإجماع والقياس المستنبط من هذه الثلاثة . (وثمرته) الفوز بسعادة الدارين لمن تعلمه وعمل به ( وواضعه) الإمام أبو حنيفة النعمان رضى الله عنه ،فإنه أول من دون الفقه ورتب أبوابه، وتبعه الامام مالك رضى الله تعالى عنه فى موطئه.
والذى دعت الحاجة إلى بيانه من مباحثه ،العبادات : الصلاة والزكاة والصيام والحج. أما الصلاة فهى ثانية أركان الإسلام الخمسة ،وأفضل العبادات . ولها شروط لا تصح إلا بها ،أولاها بالتقديم:
الطهارة
وهى بفتح الطاء لغة النظافة والتنزه عن الأدناس ولو معوية كالعيوب والذنوب ،وبالكسر ما يتطهر به من الماء ونحوه ،وبالضم اسم لما بقى من الماء بعد التهطر. وشرعا النظافة من النجاسة حقيقة كالخبث،وحكمية وهى الحدث أو يقال : هى صفة حكمية يستباح بها ما منعه الحدث أو حكم الخبث.
( ووسائلها كثيرة ) منها الماء،والدابغ ،والتراب، والاستحالة ، والدلك ، والفرك،وغيرها . ثم الكلام هنا فى سبعة مباحث.
1- الماء
هو جسم لطيف سيال يتلون بلون إنائه (وهو قسمان ) ما تصح به الطهارة وما لا تصح
(
__________
(1) يأتى بالزكاة رقم 19 ص94 ج8 – الدين الخالص (الزكاة فى مال غير المكلف) والمراد برفع القلم عن الصبى عدم كتابة الشر عليه دون الخير .أما المجنون والنائم فلا يكتب لهما . الخير ايضا لأنهما ليسا أهلا للعبادة لعدم التمييز.(1/210)
أ) فتصح بالماء الطاهر المطهر قليلا أو كثرا مستعملا أو غير مستعمل ، عذبا أو ملحا ،ماء آبار أو عيون أو مطر أو ندى لا يخرجه عن الطهورية إلا ما غير ريحه أو طعمه أو لونه من نجس يحل فيه. (لحديث) ابى سعيد الخدرى قال: قيل يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة وهى بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم :الماء طهور لا سنجسه شئ.اخرجه الشافعى وأحمد والثلاثة والحاكم وصححه وحسنه الترمذى (1) [3].
(وعن) أبى أمامة أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "أن الماء طهور إلا أن تغير ريحه أو لونه أو طعمه بنجاسة تحدث فيه "أخرجه البيهقى (2) [4].
وقد اتفق أهل الحديث على ضعف هذه الزيادة ،لكن أجمع العلماء على مضمونها . قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت له طعما أو لونا أو ريحا فهو نجس(3) .
__________
(1) انظر ص20 ج1 بدائع المنن ، وص214 ج1- الفتح الربانى ولفظه : إن الماء . وص 290 ج2 تيسير الوصول (أحكام المياه ) و( بضاعة) بتثليث الموحدة ، والمحفوظ الضم وبالضاد المعجمة . وحكى بالصاد المهملة . و( الحيض) بكسر الحاء المهملة وفتح المثناة التحتية- الخرق التى يمسح بها دم الحيض (والنتن) بفتح فسكون . او بفتحتين- ماله رائحة كريهة. و(طهور) بفتح الطاء المهملة. أى طاهر فى نفسه مطهر لغيره .
(2) انظر ص260 ج1 سنن البيهقى (نجاسة الماء الكثير إذا غيرته النجاسة ).
(3) انظر ص237 ج1- المنهل العذب المورود (باب ما جاء فى بئر بضاعة).(1/211)
فالاحتجاج على نجاسة المتغير بالإجماع لا بتلك الزيادة(1) (ومعلوم) أن الإجماع حجة ودليل من أدلة الشريعة المطهرة ،وإن لم يظهر لنا مأخذه ،لأنه لا ينعقد إلا عن دليل كما هو مقرر. فلا ينجس الماء بما لا قاه من النجاسة ولو كان قليلا إلا إذا تغير(وبه) قال ابن عباس وأبو هريرة والحسن البصرى وابن المسيب والثورى وداود الظاهرى والنخعى ومالك والغزالى وهو الراجح( وقال) أكثر الشافعية والحنفية وأحمد وإسحاق : ينجس القليل بما لاقاه من النجاسة وإن لم تتغر أوصافه ،إذ تستعمل النجاسة باستعماله ، ولحديث أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده فى الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات ، فإن أحدكم لا يدرى أين باتت يده " أخرجه الشافعى وأمد ومسلم والأربعة (2) [5].
(وحديث) ابى هريرة أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: " إذا ولغ الكلب فى الاناء فاغسلوه سبع مرات، السابعة بالتراب " أخرجه أبو داود وابن ماجه (3) [6].
(وعنه) أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: " لا يبولن أحدكم فى الماء الدائم ثم يغسل فيه "
__________
(1) لم يحتج بهذه الزيادة الجمهور وإن تعددت طرقها لأنها شديدة الضعف جدا ومعظم رجالها متروك . ومن العلماء من قال: أنها تعتض وتأخذ قوة فتصير من قبيل الحسن لغيره- وبذا تقوى وتصلح للاحتجاج بها فتكون دليل الاجماع .
(2) ص17 ج1 بدائع المنن . وص23 ج2 – الفتح الربانى . وص178 ج3 نووى مسلم (كراهة غمس اليد المشكوك فى نجاستها فى الماء)وص 80 ج1- ابن ماجه وص332 ج1- المنهل العذب (الرجل يدخل يده فى الاناء قبل غسلها ) وص4 ج1 مجتبى (الطهارة) وص36 ج1 تحفة الأحوذى .
(3) انظر ص260 ج1 – المنهل العذب (الوضوء بسؤر الكلب) وص76 ج1 ابن ماجه (غسل الاناء من ولوغ الكلب).(1/212)
أخرجه الشيخان وأبو داود وابن ماجه والنسائى(1) [7].
(وحديث) ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "إذا ان الماء قلتين لم يجعل الخبث" أخرجه الشافعى وأحمد والأربعة والبيهقى (2) [8].
(
__________
(1) انظر ص240 ج1 فتح البارى (البول فى الماء الدائم) وص187 ج3 نووى مسلم (البول فى الماء الراكد) وص 243 ج1 – المنهل العذب . وص73 ج1- ابن ماجه . (النهى عن البول فى الماء الراكد).
(2) انظر ص19 ج1 بدائع المنن (أحكام المياه..) وص216 ج1- الفتح الربانى وص223 ج1- المنهل العذب . (ما ينجس الماء ) وص63 ج1 مجتبى . وص7 ج1 تحفة الأحوذى . وص96 ج1- ابن ماجه (مقدار الماء الذى لا ينجس ).(1/213)
قالوا) فحديث " الماء طهور لا ينجسه شئ" فخصص بهذه الأدلة (واختلفوا) فى حد القليل الذى يجب اجتنابه عند وقوع النجاسة فيه (فقال) الحنفيون : ما ظن استعمال النجاسة باستعماله (وقال) الشافعى وأحمد : ما كان دون القلتين على اختلاف فى قدرهما (وأجاب) القائلون بأن القليل لا يتنجس بملاقاة النجاسة إلا أن تغير (1) بأن ما استدلوا به ليس صريحا فى مدعاهم. (2) أو أنه محمول على ما إذا تغير أحد أوصاف الماء جمعا بين الأدلة (3) وبأن الظن لا ينضبط بل يختلف باختلاف الأشخاص وايضا جعل ظن الاستعمال مناطا يستلزم استواء القليل والكثير . (4) وبأن حديث القلتين مضطرب الإسناد والمتن. وعلى تسليم صحته فلا معارضة بينه وبين حديث " الماء طهور لا ينجسه شئ" لأن ما بلغ مقدار القلتين فصاعدا لا يحمل الخبث ولا ينجس بملاقاة النجاسة إلا أن تغير أحد أوصافه ، فيتنجس بالاجماع فيخص به حديث القلتين ،وحديث لا ينجسه شئ. وأما ما دون القلتين (فإن) تغير خرج عن الطهارة بالاجماع لمفهوم حديث القلتين فيخص بذلك عموم حديث لا ينجسه شئ(وإن) لم يتغير بنجاسة وقعت فيه (فحديث) لا ينجسه شئ، يدل بعمومه على عدم خروجه عن الطهارة لمجرد ملاقاة النجاسة (وحديث) القلتين يدل بمفهومه على خروجه عن الطهورية بملاقاتها . والمنطوق مقدم على المفهوم.
(ومما) يدل على جواز التطهير بماء البحر الملح قول أبى هريرة : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء. فإن توضأنا به عطشنا ، افنتوضأ بماء البحر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " أخرجه مالك وأحمد والأربعة ،وقال الترمذى : حسن صحيح (1) [9].
(
__________
(1) انظر ص290 ج2 تيسير الوصول (أحكام المياه) . وص21 ج1- الفتح الربانى . وص79 ج1- ابن ماجه (الوضوء بماء البحر).(1/214)
ويدل) على جواز التطهير بماء الثلج والبرد حديث عائشة أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يقول فى دعائه " اللهم اغسل خطاياى بماء الثلج والبرد ،ونق قلبى من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس " أخرجه النسائى (1) [10].
(ووجه) الدلالة أنه من باب التشبيه ،فدل على أن المشبه به طهارة شرعية حاصلة بماء الثلج والبرد .
ب- (ويجوز) التطهير بفضل طهارة المرأة أو الرجل ،لقول عائشة رضى الله عنها: كنت أغتسل أنا والنبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم من إناء واحد ،من قدح يقال له الفق.أخرجه الشيخان(2) [11].
(وعن) عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: كان الرجال والنساء يغتسلون على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من إناء واحد. أخرجه مالك والبخارى وأبو داود والنسائى(3) [12].
( وعن ) ميمونة رضى الله عنها قالت : كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من اناء واحد من الجنابة . أخرجه الترمذى وقال : حسن صحيح . وهو قول عامة الفقهاء أن لا بأس أن يغتسل الرجل والمرأة من اناء واحد(4)[13] .
(
__________
(1) انظر ص63 ج1 مجتبى (الوضوء بماء الثلج ).
(2) انظر ص252 ج1 فتح البارى (غسل الرجل مع امرأته )وص4 ج4 نووى مسلم. و(الفرق) بفتح الراء ثلاثة آصع ووزنة من البر نحو ستة عشر رطلا.
(3) انظر ص 292 ج 2 تيسير الوصول ( أحكام المياه ) .
(4) انظر ص 64 ج 1 تحفة الأحوذى ( وضوء الرجل والمرأة من اناء واحد )(1/215)
وعن ) ابن عباس رضى الله عنهما قال : اغتسل بعض أزواج النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم فى جفنة فأراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتوضأ منه . فقالت : يا رسول الله ، انى كنت جنبا . قال : " ان الماء لا يجنب " . أخرجه أحمد والثلاثة . وقال الترمذى : حديث حسن صحيح . وهو قول سفيان الثورى ومالك والشافعى(1)[14] .
وكره بعض الفقهاء الوضوء بفضل طهور المرأة . وهو قول أحمد واسحاق .
واستدلا بحديث الحكم بن عمرو الغفارى أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة . أخرجه أبو داود وابن ماجه والترمذى وزاد : أو قال بسؤرها ، وحسنه(2)[15] .
ولكن فيه مقال . وعلى فرض حسنة خ، فالحسن لا يعارض الأحاديث الصحيحة السابقة . وعلى فرض المساواة يحمل النهى على التنزيه ( وبذا ) تزداد علما بجواز التطهير بماء البرك ونحوها بالطريق الأولى .
(
__________
(1) انظر ص 211 ج 1 – الفتح الربانى . وص 240 ج 1 – المنهل العذب ( الماء لا يجنب ) وص 62 ج 1 مجتبى ( المياه ) . د ص 65 ج 1 تحفة الاحوذى . و ( الجفنة ) بفتح فسكون ، القصعة الكبيرة .
(2) انظر ص 273 ج 1 – المنهل العذب ( النهى عن ذلك ) أى عن تطهر الرجل بفضل طهور المرأة والعكس . وص 78 ج 1 – ابن ماجه . و ص 65 ج 1 تحفة الأحوذى ( كراهية فضل طهور المرأة ) .(1/216)
فائدة ) لم يقم دليل على طلب نية الاغتراف اذا كان الوضوء أو الغسل من اناء مفتوح خلافا لمن زعم ذلك وقال : ان لم ينو الاغتراف أو الغسل وبعد غسل الوجه فى الوضوء ، صار الماء مستعملا لا يتطهر به ( بل يدل ) على عدم طلبها حديث عبد الله بن زيد بن عاصم أنه قيل له : توضأ لنا وضوء رسول الله صلى الله عليه وعلى له وسلم ،فدعا باناء فأكفأ منه على يديه ثلاثا فغسلهما ، ثم أدخل يده واستخرجها غمضمض واستشق من كف واحدة ، ففعل ذلك ثلاثا . ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل وجهه ثلاثا . ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل يديه الى المرفقين مرتين مرتين . ثم أدخل يده فاستخرجها فمسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر . ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثم قال : هكذا كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم . أخرجه الشيخان وأحمد ، وهذا لفظه(1).[16].
(فترى) رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كرر الاغتراف من الإناء ، فأتم وضوءه . وكذلك أصحابه رضى الله عنهم . ولم ينقل عنهم أن إدخال اليد فى الإناء بلا نية اغتراف يصيره مستعملا لا يصح التطهير به ،لما تقدم أن الماء لا ينجسه شئ، ولا تسلب طهورته إلا إذا تغير طعمه أو لونه أو ريحه بنجاسة.
جـ- (ويصح) التطهير بالماء المستعمل فى طهارة بلا كراهة عند الظاهرية لأنه يصدق عليه اسم الماء المطلق.(وقالت) المالكية: يكره التطهر به عند وجود غيره، ولم يضف إليه ماء مطلق لضعفه باستعماله فى الطهارة الأولى. ولا يجوز التيمم مع وجوده . أما إذا لم يوجد غيره أو أضيف إليه ماء مطلق فلا يكره التطهر به (وقال) أبو حنيفة والشافعى : لا تجوز الطهارة به على كل حال لأنه لا يتناوله اسم الماء المطلق (وشذ) أبو يوسف فقال: إنه نجس.
(
__________
(1) انظر ص203 ج1 فتح البارى (مسح الرأس كله ) وص 121 ج 3 نووى مسلم ( صفة الوضوء ) وص 4 ج 2 – الفتح الربانى .(1/217)
والحق) أن الماء المستعمل طاهر مطهر عملا بالأصل وبالأدلة الدالة على أن الماء طهور . وهو مذهب جماعة من السلف والخلف .
د – ولا تصح الطهارة بما تغير بطاهر كماء الورد والزعفران والصابون والأشنان (1) ، فهو طاهر غير مطهر عند الأئمة الثلاثة ، لزوال اسم الماء المطلق عنه . ( وقال ) الحنفيون : انه طاهر مطهر وان تغير بعض أوصافه ما دام باقيا على رقته وسيلانه ، لقول عائشة رضى الله قعنها : كان النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم يغسل رأسه بالخطمى وهو جنب فيجتزئ بذلك ولا يصب عليه الماء أخرجه أبو داود والبيقهى بسند حسن (2) [17].
ومعناه أنه كان يكتفى بالماء الذى يزيل به الخطمى ، ولقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم – فيمن سقط عن راحلته فمات – " اغسلوه بماء وسدر " . أخرجه السبعة من حديث ابن عباس (3) [18] .
والميت لا يغسل الا بما يصح التطهير به للحى . أما ما تغيرت كل أوصافه أو خرج عن رقته وسيلانه ، فلا يصح التطهير به اتفاقا .
2 – السؤر
__________
(1) الأشنان ) بضم الهمزة وكسرها وسكون الشين ، دقاق الترمس نافع للحكة والجرب .
(2) انظر ص 33 ج 3 – المنهل العذب ( الجنب يغسل رأسه بالخطمى ) وص 182 ج 1 سنن البيهقى . ( الخطمى ) بكسر أو فتح فسكون . نبت طيب الرائحة ينظف به الرأس وغيره .
(3) انظر ص 88 ج 3 فتح البارى ( الحنوط للميت ) وهو بعض حديث يأتى بالجنائز رقم 407 ص 227 ج 7 – الدين الخالص ( غسل الميت) و ( السدر ) بكسر فسكون ، ورق النبق .(1/218)
هو بالهمز فى الأصل ما بقى فى الإناء بعد شرب الحيوان وهو المراد هنا . ثم عم استعماله فى الباقى من كل شئ ( وقد اتفق ) العلماء على طهارة سؤر المسلم وبهيمة الأنعام . واختلفوا فيما عدا ذلك ( فقال ) مالك والأوزاعى وداود الظاهرى بطهارة سؤر كل حيوان . وعن ماتلك أنه استثنى الخنزير فقط ( واستثنى ) الشافعى وأحمد سؤر الكلب والخنزير . واستثنى ابن القاسم المالكى سؤر السباع عامة ( وقال ) الحنفيون : سؤر كل شئ كعرقة . وهو أربعة أقسام :
( الأول ) طاهر غير مكروه استعماله . وهو سؤر الآدمى الطاهر الفم ولو كافرا أو جنبا ، وما يؤكل لحمه من الدواب والطيور التى تتوفى النجاسة غالبا ، لقول عائشة رضى الله عنها : كنت أشرب وأنا حائض فأناوله النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيضع فاه على موضع فى فيشرب . أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائى وابن ماجه (1) [19] .
ولأن لعاب مأكول اللحم متولد من لحم طاهر فأخذ حكمه .
( الثانى ) نجس وهو سؤر الكلب والخنزير وسباع البهائم ، وهى كل ناب يعدو به كالأسد والذئب والثعلب والهر البرى ، لما سيأتى عن أبى هريرة وابن عمر .
( الثالث ) طاهر يكره استعماله تنزيها عند وجود غيره . وهو سؤر الهرة الأهلية والدجاجة التى تجول فى القاذورات ولم تعلم حال منقارها ، وسباع الطير . وهى كل ذى مخلب يصيد به كالحدأة والصقر ، اذا لم يعلم طهارة منقارها وسواكن البيوت مما له دم سائل كالحية والفأرة ، لحديث أبى قتادة الآتى .
(
__________
(1) انظر ص 210 ج 3 نووى مسلم ( طهارة سؤر الحائض ) و ص 23 ج 1 مجتبى ( سؤر الحائض ) .(1/219)
الرابع ) متوقف فى طهوريته ، وهو سؤر البغل والحمار الأهلى ، فان لم يجد ماء غيره تطهر به ، وتيمم احتياطا ( وأما ) سؤر المشرك ( فقيل ) انه نجس ( وقيل ) مكروه اذا كان يشرب الخمر . وهو قول ابن القاسم ومثله عنده جميع آسار الحيوانات التى لا تتوقى النجاسة غالبا مثل الدجاج والابل والجلالة والكلاب ( وسبب ) اختلافهم الآثار بعضها بعضا ( اما القياس ) فهو أنه لما كان الموت من غير ذكاة سبب نجاسه عين الحيوان بالشرع ، وجب أن تكون الحياة سبب طهارة عين الحيوان ، وحيث كان كذلك فكل حى طاهر العين ، وكل طاهر العين سؤره طاهر ( وأما ) ظاهر الكتاب فانه عارض هذا القياس فى الخنزير والمشرك . وذلك أن الله تعالى (قال) فى الخنزير : ( فانه رجس ) أى نجس ، وما هو رجس فى عينه فهو نجس لعينه ، ولذلك استثنى قوم من الحيوان الخنزير فقط ، ومن لم يستثنه حمل قوله رجس على جهة الذم ( وقال ) الله تعالى فى المشرك : ( انما المشركون نجس ) (28) سورة التوبة . فمن حمل هذا أيضا على ظاهرة استثنى من مقتضى القياس المشركين . ومن أخرجه مخرج الذم لهم وأن المراد نجاسه العقيدة ، طرد قياسه ( وأما ) الأحاديث فانها عارضت هذا القياس فى الكلب والهر والسباع ( أما) فى الكلب فقد تقدم عن أبى هريرة أنه روى أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " اذا ولغ الكلب فى الاناء فاغسلوه سبع مرات " أخرجه أبو داود وابن ماجه (1) [20] .
( وأما ) فى الهر فقد روى قرة عن ابن سيرين عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين " . أخرجه الطحاوى (2) [21] .
(
__________
(1) تقدم رقم 6ص 159 ( الماء ) .
(2) انظر ص 11 ج 1 شرح معانى الاثار ( سؤر الهر ) .(1/220)
وأما ) فى السباع فقد تقدم عن ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال " اذ كان الماء قلتين لم يحمل الخبث " أخرجه الشافعى وأحمد والأربعة (1) [22] .
( فهذا الحديث ) يدل على نحاسه سؤر السباع ، والا لكان التحديد بالقلتين " فى جواب السؤال عن ورودها على الماء " عبثا . ( وأما ) تعارض الأحاديث ( فمنها ) حديث أبى هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الحياض التى تكون بين مكة والمدينة ، فقيل ان الكلاب والسباع ترد عليها فقال : لها ما أخذت فى بطونها ولنا ما بقى شراب وطهور . أخرجه الدار قطنى (2) [23] .
( ومنها ) حديث كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت ابن أبى قتادة أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءا فجاءت هرة تشرب منه ، فأصغى لها الإناء حتى شربت منه ، قالت كبشة : فرآنى أنظر اليه فقال : أتعجبين يابنة أخى ؟ فقلت نعم . فقال ان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : انها ليست بنجس ، انها من الطوافين عليكم والطوافات . أخرجه مالك وأحمد والدارمى والأربعة ، وقال الترمذى : حسن صحيح . وصححه البخارى وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطنى (3) [24] .
( ومنها ) حديث عائشة أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يصغى الى الهرة الاناء حتى تشرب . ثم يتوضأ بفضلها . أخرجه الدارقطنى والطحاوى (4) [25] .
(
__________
(1) تقدم رقم 8 ص 159 ( الماء ) .
(2) انظر ص 11 سنن الدارقطنى ( باب الماء المتغير ) .
(3) انظر ص 26 منه ، وص 222 ج 1 – الفتح الربانى . وص 187 ج 1 سنن الدرامى ( الهرة اذا ولغت فى الاناء ) وص 264 ج 1 – المنهل العذب ( سؤر الهرة ) وص 63 ج 1 مجتبى .
(4) انظر ص 25 سنن الدارقطنى ( باب سؤر الهرة ) . وص 11 ج 1 شرح معانى الاثار ( سؤر الهر ) .(1/221)
وقد ) اختلف العلماء فى تأويل هذه الأحاديث ووجه جمعها مع القياس المذكور . فذهب مالك فى الأمر باراقة سؤر الكلب وغسل الاناء منه ، الى أن ذلك أمر تعبدى لم تعقل علته . وأن الماء الذى يلغ فيها الكلب فى المشهور عنه . وقال : لا يفهم منه أن الكلب نجس العين ، والا عارضه ظاهر قوله تعالى : ( فكلوا مما أمسكن عليكم ) ( 4 ) سورة المائدة . قال : لو كان نجس العين لنجس الصيد بماسته . وأيد هذا التأويل بما جاء فى غسله من العدد والنجاسات لا يشترط فى غسلها العدد بل المدار فى ذلك على ازالتها . فالقياس عنده باق على عمومه . ولم يعول على سائر هذه الأحاديث لضعفها عنده .
( قال ) ابن رشد : قال القاضى : قد ذهب جدى الى أن هذا الحديث معلل معقول المعنى ، ليس من سبب النجاسه ، بل من سبب ما يتوقع أن يكون الكلب الذى وله فى الإناء كلبا فيخاف من ذلك السم ، ولذلك جاء هذا العدد الذى هو السبع فى غسله ، فان هذا العدد قد استعمل فى الشرع فى مواضع كثيرة فى العلاج والمداواة من الأمراض وهذا وجه حسن فانه إذا قلنا : أن ذلك الماء غير نجس ، فبيان علة غسله أولى من أن يقال أنه غير معلل(1) .
( هذا ) والذى يشهد له الدليل ( ا ) أن سؤر الكلب نجس وهو قول الحنفيين والشافعى وأحمد ومالك فى رواية ابن وهب عنه ، لما تقدم أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر بغسل الإناء سبعا من ولوغه فيه . فالحديث يقتضى نجاسة سؤره وأن لعابه نجس ، وأنه يجب أن يغسل الصيد منه ومثله الخنزير عند الشافعى وأحمد لقوله تعالى : ( فانه رجس ) .
(
__________
(1) انظر ص 24 ج 1 بداية المجتهد . و ( كلب ) بفتح الكاف وكسر اللام أى عقور .(1/222)
ب ) وأن سؤر السنور وباقى السباع والحيوان غير هالكلب والخنزير طاهر ويؤيده قول جابر : سئل النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنتوضأ بما أفضلت الحمر ؟ قال : نعم ، وبما أفضلت السباع كلها . أخرجه الشافعى والدارقطنى . وقال البيهقى فى المعرفة : له أسانيد اذا ضم بعضها الى بعض كانت قوية (1) [26].
( ولعل ) الأرجح أن يستثنى من طهارة أسار الحيوان " الكلب والخنزير والمشرك " لصحة الآثار الواردة فى الكلب ، ولأن ظاهر الكتاب أولى أن يتبع فى القول بنجاسه عين الخنزير والمشرك ، من القياس . وكذلك ظاهر الحديث نجاسه سؤر الكلب . وعليه أكثر الفقهاء ، فان الأمر باراقة ما ولغ فيه الكلب مناسب فى الشرع لنجاسه الماء الذى ولغ فيه . أعنى أن المفهوم بالعادة فى الشرع من الأمر باراقة الشئ وغسل الاناء منه هو لنجاسة الشئ "وما اعترضوا به " من أنه لو كان ذلك لنجاسة الاناء ، لما اشترط فيه العدد " فغير نكير " أن يكون الشرع يخص نجاسه دون نجاسة بحكم دون حكم تغليظا لها (2) .
3 – الدباغ
__________
(1) انظر ص 21 ج 1 بدائع المنن ( أسآر السباع .. ) وص 23 سنن الدارقطنى .
(2) انظر ص 23 ج 1 ( بداية المجتهد ) .(1/223)
بكسر الدال مصدر دبغ- من بابي نصر وكتب- ويطلق على ما يدبغ به. والمراد هنا تطهير الجلد بما يزيل منه النتن والرطوبة ويمنع عود الفساد له إذا استعمل في الماء. هذا وجلد الميتة يطهر بالدبغ وينتفع به عند الجمهور لحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "أيما أهاب دبغ فقد طهر" أخرجه الشافعي والسبعة إلا البخاري، وقال الترمذي: حسن صحيح(1) {27}.
والإهاب: الجلد إذا لم يدبغ (وفيما يطهر) بالدبغ ستة أقوال.
1- (قال) الحنفيون: كل جلد دبغ بما يمنع النتن والفساد يطهر ظاهرا وباطنا، فيصح الوضوء منه والصلاة فيه وعليه.
(واستثنوا) من ذلك (أ) مالا يحتمل الدباغ كجلد الحية والفأرة والطيور، فلا يطهر بالدبغ لعدم إمكانه. (ب) وجلد الخنزير لأنه نجس العين. لقوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس) (145) سورة الأنعام، بناء على عود الضمير إلى المضاف إليه. فإذا لم تقده الحياة الطهارة، فالدباغ أولى.
(وما يطهر به) يطهر بالذكاة الشرعية وهي الصادرة من ذي دين سماوي غير محرم ولا متعمد ترك التسمية، فذكاة المجوسي والمحرم بحج أو عمرة وتارك التسمية عمدا، غير مطهرة.
2- وقالت الشافعية: كل جلد يطهر بالدباغ، لما تقدم.
"واستثنوا" من ذلك (أ) جلد الخنزير، لما تقدم (ب) جلد الكلب قياسا عليه بجامع النجاسة في كل (جـ) جلد ما تولد من أحدهما مع حيوان آخر(2).
__________
(1) انظر ص 23 ج 1 بدائع المنن. وص 230 ج 1- الفتح الرباني. وص 53 ج 4 نووي مسلم (طهارة جلود الميتة بالدباغ) وص 191 ج 2 مجتبي (جلود الميتة) وص 66 ج 4 سنن أبي داود (أهب الميتة) ولفظه إذا دبغ الإهاب. وص 198 ج 2- ابن ماجه (ليس جلود الميتة إذا دبغت) وص 45 ج 3 تحفة الأحوذي (جلود الميتة إذا دبغت).
(2) انظر ص 217 و221 ج 1 مجموع النووي.(1/224)
3- والمشهور عن مالك أن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ لكن يجوز استعماله في اليابس والماء دون غيره من المائعات، لأن الماء طهور لا يضره إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه.
4- والمشهور عند الحنبلية أن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ ولا يستعمل. واستدل المالكية والحنبلية بحديث عبد الله بن عكيم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كتب إلى جهينة: اني كنت رخصت لكم في جلود الميتة. فإذا جاءكم كتابي هذا، فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب. أخرجه الدار قطني(1) {28}.
(وعنه) قال: كتب إلينا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قبل وفاته بشهر ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب . أخرجه أحمد والأربعة ولم يذكر الشهر إلا أحمد وأبو داود (وذكر) الترمذي في رواية قبل وفاته بشهرين وقال هذا حديث حسن(2) {29}.
(وقال) كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا الحديث لما ذكر فيه قبل وفاته بشهرين وكان يقول: كان آخر أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ثم ترك أحمد هذا الحديث لما اضطربوا في إسناده حيث روى بعضهم وقال عن عبد الله ابن عكيم عن أشياخ من جهينة.
(
__________
(1) انظر ص 78 ج 1 نيل الأوطار (نسخ تطهير الدباغ) و(الأهاب) الجلد ما لم يدبغ (والعصب) بفتحتين، العروق التي تشد المفاصل.
(2) انظر ص 237 ج 1- الفتح الرباني. وص 67 ج 4 سنن أبي داود (من روى أن لا ينتفع باهاب الميتة) وص 192 ج 2 مجتبي (ما يدبغ به جلود الميتة) وص 198 ج 2 سنن ابن ماجه (لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب) وص 45 ج 3 تحفة الأحوذي (جلود الميتة إذا دبغت- أبواب اللباس).(1/225)
قالوا) هذا الحديث ناسخ للأحاديث السابقة لأنه كان قبل الموت بشهر أو شهرين (وأجاب) الجمهور عنه (أ) بأنه حديث ضعيف لأن ابن عكيم لم يلق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وليس بصحابي فهو مرسل لعدم سماع ابن عكيم من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ومنقطع لعدم سماع عبد الرحمن بن أبي ليلى من ابن عكيم. ومضطرب سندا ومتنا(1). وروى عن مشيخة مجهولين لم تثبت صحبتهم. وتحسين الترمذي له غير مسلم فقد بين هو وغيره وجه ضعفه فلا يقاوم الأحاديث السابقة لصحتها واشتهارها. (ب) وبأنه لا نسخ لإمكان الجمع بأن الإهاب الجلد قبل دباغة (قال) أبو داود: فإذا دبغ لا يقال له أهاب إنما يسمى شنا وقربة فلا يعارض الأحاديث السابقة فإن النهي فيه لما قبل الدباغ، والإباحة في غيره لما بعد الدباغ.
5- (وقال) الأوزاعي وابن المبارك وإسحاق بن راهويه وبعض الحنبلية: يطهر بالدباغ جلد ميتة مأكول اللحم دون غيره. لحديث ابن عباس أن داجنا لميمونة ماتت، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ألا انتفعتم باهابها؟ ألا دبغتموه؟ فإنه ذكاته. اخرجه أحمد(2) {30}.
__________
(1) فقد رواه الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن ابن عكيم. ورواه خالد الحذاء عن الحكم وقال: أنه لم يسمعه من ابن عكيم ولكن من أناس دخلوا عليه ثم خرجوا وأخبروه كما في سند لأبي داود. وتارة رواه عن مشيخة من جهينة وتارة عمن قرأ الكتاب. (أما) اضطراب المتن فرواه الأكثر من غير تقييد بمدة. ومنهم من رواه بتقييد شهر أو شهرين أو أربعين يوما أو ثلاثة أيام. أنظر ص 79 ج 1 نيل الأوطار (ما جاء في نسخ تطهير الدباغ).
(2) انظر ص 232 ج 1- الفتح الرباني. و(الدواجن) في الأصل، المقيم بالمكان، ومنه الشاة إذا ألفت البيت.(1/226)
6- (وقال) داود والظاهري وسحنون وابن الحكم: يطهر جلد الميتة مطلقا بالدبغ وروى عن أبي يوسف لعموم الأحاديث السابقة. فيجوز استعماله في اليابسات والمائعات، لا فرق بين ماء وغيره. وهذا هو الراجح، لأن الأحاديث لم يفرق بين مأكول اللحم وغيره.
هذا (واحتجاج) الشافعية بقوله تعالى: "أو لحم خنزير فإنه رجس" على إخراج الخنزير، وقياس الكلب عليه (لا يتم) إلا بعد تسليم أن الضمير يعود إلى المضاف إليه دون المضافن وهو محل نزاع، ولا أقل من الاحتمال أن لم يكن رجوعه إلى المضاف راجحا. والمحتمل لا يكون حجة على الخصم. وأيضا لا يمتنع أن يقال رجسية الخنزير- على تسليم شمولها لجميعه لحما وشعرا وجلدا وعظما- مخصصة بأحاديث الدباغ(1).
(مسائل): 1- لو دبغ الجلد بنجس أو بمجتنس أو بماء نجس فهل يحصل به الدباغ؟ فيهوجهان أصحهما الحصول، لأن الغرض تطيب الجلد وإزالة الفضول وهذا حاصل بالنجس كالطاهر ويجب غسله بعد الدباغ ولو دبغه بطاهر لا يجب غسله على الأصل.
2- لا يفتقر الدباغ إلى نية ولا إلى فاعل فلو أطارت الريح جلد ميتة فألقته في مدبغة فاندبغ صار طاهرا.
3- لو أخذ شخص جلد ميتة لغيره فدبغه طهر. ولمن يكون؟ "قيل" يكون لدبغ "وقيل" لصاحب الميتة لتقدم حقه. والأصح أنه إن كان صاحبها رفع يده عنها ثم أخذه الدابغ فهو له وإن كان غصبه للمغصوب منه(2).
4- أجمع العلماء على أنه لا يجوز الانتفاع بجلد الميتة إذا لم يدبغ. وعليه يحمل النهي في حديث أبي المليح بن أسامة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم "نهى عن جلود السباع" أخرجه أحمد والثلاثة والحاكم. وزاد الترمذي: أن تفترش(3) {31}.
(
__________
(1) انظر ص 76 ج 1 نيل الأوطار (ما جاء في تطهير الدباغ).
(2) انظر ص 235 ج 1 مجموع النووي.
(3) انظر ص 69 ج 4 سنن أبي داود (جلود السباع) وص 192 ج 2 مجتبي (النهي عن الانتفاع بجلود السباع) وص 66 ج 3 تحفة الأحوذي (في النهي عن جلود السباع).(1/227)
وعن) المقدام بن معد يكرب أنه قال لمعاوية: أنشدك الله هل تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن لبس جلود السباع والركوب عليها؟ قال نعم. أخرجه أبو داود والنسائي بسند صالح(1) {32}.
(دل) الحديثان على أن جلود السباع لا يجوز الانتفاع بها (وقد) اختلف في حكمة النهي (فقال) البيهقي: يحتمل أن النهي وقع لما يبقى عليها من الشعر، لأن الدباغ لا يؤثر فيه. وقال غيره: يحتمل أن النهي عما لم يدبغ منها، لأجل النجاسة، أو أن النهي لأجل أنها مراكب أهل السرف والخيلاء (وأما) الاستدلال بهما على أن الدباغ لا يطهر جلود السباع بناء على أنها مخصصة للأحاديث القاضية بأن الدباغ مطهر على العموم (فغير ظاهر) لأن غاية ما فيها مجرد النهي عن الركوب عليها وافتراشها، ولا ملازمة بين ذلك وبين النجاسة كما لا ملازمة بين النهي عن الذهب والحرير ونجاستهما فلا معارضة، بل يحكم بالطهارة بالدباغ مع منع الركوب عليها ونحوه(2).
4- الآتية
هي جمع إناء وهو مباح وغيره.
(أ) فيباح اتخاذ واستعمال كل إناء طاهر سواء أكان ثمينا كالبلور والياقوت والزمرد، أو ليس ثمينا كالعقيق والخشب والحجارة والنحاس والحديد والجلد. وهو قول الجمهور لقول عبد الله بن زيد: أتانا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأخرجنا له ماء في تور من صفر فتوضأ أخرجه البخاري(3) {33}.
(
__________
(1) انظر ص 68 ج 4 سنن أبي داود (جلود النمور والسباع) وص 192 ج 2 مجتبي.
(2) انظر ص 72 ج 1 نيل الأوطار. وسيأتي لهذا البحث زيادة بيان في بحث (ليس الجلود) ص 312 ج 6- الدين الخالص إن شاء الله تعالى.
(3) انظر ص 211 ج 1 فتح الباري (الوضوء والغسل في المخضب..) و(تور) بفتح فسكون، أي إناء. و(الصغر) كقفل- النحاس.(1/228)
وقالت) عائشة: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في تور من شبه. أخرجه أبو داود(1) {34}.
(ب) ولا يجوز استعمال إناء الذهب أو الفضة في شيء عند الجمهور لقول حذيفة: سمعت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: "لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة" أخرجه السبعة(2) {35}.
(وعن) أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "من شرب في إناء من دهب أو فضة فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم" أخرجه مسلم(3) {36}.
(فهذه) الأحاديث تدل على تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة وهو مجمع عليه. وشذ ذاود الظاهري في تحريم الشرب فقط، ولعله لم يبلغه حديث تحريم الأكل. ويقاس على تحريم الأكل والشرب فيها سائر الاستعمالات عند الجمهور (قال) الشافعي في الأم: ولا أكره إناء توضئ فيه من حجارة ولا حديد ولا نحاس ولا شيء إلا آنية الذهب والفضة فإني أكره الوضوء فيها.
وقال: فإن توضأ أحد فيها أو شرب كرهت ذلك له ولم آمره يعيد الوضوء ولم أزعم أن الماء الذي شرب ولا الطعام الذي أكل فيها محرم عليه وكان الشرب فيها معصية(4).
(
__________
(1) انظر ص 367 ج 1- المنهل العذب (الوضوء في آنية الصفر) و(الشبة) بفتحين ما يشبه الذهب في لونه. وهو النحاس الجيد.
(2) انظر ص 385 ج 5 مسند أحمد ولفظه: نهى صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير وص 441 ج 9 فتح الباري (الأكل في إناء مفضض) وص 37 ج 14 نووي مسلم وص 337 ج 3 سنن أبي داود (الشرب في آنية الذهب والفضة) ولفظه كأحمد والديباج ثوب سداه ولحمته من حرير (والصحاف) بكسر أوله جمع صفحة وهي إناء كالقصعة. والضمير للفضة ومنه يعلم حكم الذهب (والحديث) عند أبي داود والترمذي وابن ماجه في الأشربة. وعند النسائي في الزينة.
(3) انظر ص 30 ج 14 نووي مسلم.
(4) انظر ص 8 ج 1 من الأم. طبع بولاق.(1/229)
وقول) الشوكاني في نيل الأوطار: والقياس على الأكل والشرب. قياس مع الفارق "مردود" بما ذكره النووي من أن العلة السرف والخيلاء. وهذا موجب للتحريم. ولا مانع من أن يضم إلى هذا التشبه بأهل الجنة الذي ذكره هو. فيكون مجموع هذه الأمور قاضيا بصحة القياس "وقوله" أما حكاية النووي الإجماع على تحريم الاستعمال، فلا تتم مع مخالفة داود الظاهري والشافعي وبعض أصحابه "مدفوع" بما ذكره النووي من ان كلام الشافعي وداود معارض بالأحاديث الصحيحة وقد قال الشافعي وغيره من الأئمة: إذا صح الحديث فهو مذهبي. ففي الحقيقة لا مخالفة والإجماع قائم (أما اتخاذ) أواني الذهب والفضة بدون استعمال، فالجمهور على منعه. (قال) أبو الفرج عبد الرحمن بن قدامة: المذهب تحريم اتخاذ آنية الذهب والفضة. وعن الشافعي إباحته لتخصيص النهي بالاستعمال ولا يلزم من تحريم الاستعمال تحريم الاتخاذ كما لو اتخذ الرجل ثياب الحرير وذكره بعض أصحابنا وجها من المذهب. ولنا ان ما حرم استعماله مطلقا حرم اتخاذه على هيئة الاستعمال كالملاهي. وأما الثياب الحرير فإنها تباح للنساء والتجارة فحصل الفرق(1).
(
__________
(1) انظر ص 8 ج 1 من الأم. طبع بولاق.(1/230)
وعلى) الجملة فيحرم على الرجل وغيره، استعمال شيء من الذهب والفضة ولو قليلا أو صغيرا كالمورد للمكحلة، والخلال، والأبرة والملعقة، والمشط، والمبخرة، والسكين، والمرآة، وظروف وفناجين القهوة، والساعات وريش القلم (ويحرم) على البالغ إلباس الصغير الحرير، أو الذهب، أو غير خاتم الفضة، أو يطعمه أو يسقيه في إنائهما أو يمكنه من استعمالها، لأنه بحرمة اللبس والأكل والشرب، يحرم الإلباس والإطعام والسقي. ولقول عبد الله بن يويد كنا عند عبد الله ابن مسعود فجاء ابن له قميص من حرير قال: من كساك هذا؟ قال أمي فشقه وقال: قل لأمك تكسوك غير هذا. أخرجه الطبراني بسندين رجال أحدهما رجال الصحيح(1) {1}.
(وقال) بعضهم: إنما دلت الأحاديث على تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة. وأما سائر الاستعمالات فلا والأصل الحل فلا تنبت الحرمة إلا بدليل (وقد) علمت أن الجمهور قاسوا سائر الاستعمالات على الأكل والشرب. فالاحتياط الاحتزار عن استعمال آنية الذهب والفضة مطلقا ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه.
5- المضبب والمحلي بالذهب أو الفضة
__________
(1) انظر ص 144 ج 5 مجمع الزوائد (لبس الصغير الحرير) وانظر تمام الكلام في هذا في بحث (منع الصغير مما لا يحل للكبير) ص 261 ج 6- الدين الخالص طبعة أولى.(1/231)
المضبب "المربوط كسره أو شقه بذهب، أو فضة" ويحرم استعماله عند الشافعي وأحمد إلا ما كان مضببا بيسير الفضة (وقال) أبو يوسف بكراهته لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى ىله وسلم قال: "من شرب في إناء ذهب، أو فضة، أو إناء فيه شيء من ذلك، فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم". أخرجه الدار قطني والبيهقي من طريق يحيى بن محمد الجاري عن زكريا ابن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع عن أبيه(1). {37} قال ابن القطان: هذا الحديث لا يصح. زكريا وأبوه لا يعرف فهما حال(2)، وقال الحاكم: لم نكتب هذه اللفظة "أو إناء فيه شيء من ذلك" إلا بهذا الإسناد . وقال البيهقي : المشهور عن ابن عمر في المضبب موقوف عليه.
(وعن) نافع عن ابن عمر أنه كان لا يشرب في قدح فيه حلقة فضة ولا ضبة فضة. أخرجه البيهقي بسند على شرط الصحيح(3).
ولأن في ذلك السرف والخيلاء، فأشبه إناء الذهب والفضة.
(ويدل) على جواز استعمال المضيف بيسير الفضة قول عاسم الأحول: رأيت قدح النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند أنس ابن مالك، وكان قد انصدع فسلسله بفضة، قال: وهو قدح جيد عريض من نضار. قال أنس: لقد سقيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في القدح أكثر من كذا وكذا. أخرجه البخاري(4) {38}.
(
__________
(1) انظر ص 29 ج 1 بيهقي (النهي عن الإناء المفضض).
(2) انظر ص 29 ج 1- الجوهر النقي (النهي عن الإناء المفضض).
(3) انظر ص 29 ج 1 بيهقي (النهي عن الإناء المفضض).
(4) انظر ص 79 ج 10 فتح الباري (الشرب من قدح النبي صلى الله عليه وسلم) و(النضار) بضم النون: أجود الخشب. وقال في المحكم: النضار التبر والخشب.(1/232)
وبه) استدل أبو حنيفة على جواز استعمال المضبب بأحدهما. وكذا يحل عنده استعمال المصحف المحلي بالذهب أو الفضة واستعمال إناء أو سرج أو كرسي او سكين أو سرير أو سيف أو لجام أو ركاب مزوق بالذهب أو الفضة، متقيا موضع الفضة والذهب، مستدلا بحديث أنس رضي الله تعالى عنه، قال: كانت قبيعة سيف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فضة. أخرجه أبو داود والترمذي(1) {39}.
(وأطلقت) المالكية حرمة استعمال المضبب بأحدهما. ولعله لم يبلغهم حديث أنس المذكور. وعلى هذا الخلاف المموه بذهب أو فضة إذا كان يخلص منه شيء بعرضه على النار. أما التمويه الذي لا يخلص فلا بأس به اتفاقا، لأنه مستهلك، فلا عبرة ببقائه لونا.
6- اتخاذ الأنف والسن من ذهب أو فضة وشد السن بهما
قال أبو حنيفة: لو جدع أنف إنسان لا يتخذه من ذهب ويتخذه من فضة.
(وقال) مالك ومحمد بن الحسن: يتخذه من الفضة والذهب. لحديث عرفجة ابن أسعد أنه أصيب أنفه فاتخذ أنفا من الفضة، فأنتن، فأمره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فاتخذ أنفا من الذهب. أخرجه الثلاثة بسند جيد، وحسنه الترمذي(2) {40}.
(
__________
(1) انظر ص 30 ج 3 سنن أبي داود (السيف يحلي) و(قبيعة) كطبيعة ما على طرف مقبض السيف يعتمد الكف عليها.
(2) انظر ص 92 ج 4 سنن أبي داود (ربط الأسنان بالذهب) وص 286 ج 2 مجتبي (من أصيب أنفه هل يتخذ أنفا من ذهب؟).(1/233)
وقالت) الشافعية والحنبلية: لا يجوز اتخاذ أنف أو سن من فضة أو ذهب إلا للضرورة للحديث المذكور (قال النووي) في المجموع: أن اضطر إلى الذهب جاز استعماله، فيباح له الأنف والسن من الذهب والفضة، وكذا شد السن العليلة بهما جائز. ويباح أيضا الأنملة منهما. وفي جواز الأصبع واليد منهما وجهان: أشهرهما لا يجوز، لأن الأصبع واليد منهما لا تعمل عمل الأصلية، بخلاف الأنملة (وإذا سقطت) سنة كره عند أبي حنيفة إعادتها وشدها بذهب أو فضة ولكن يأخذ سن شاة مذكاة فيجعلها مكانها (وقال) أبو يوسف يشدها مكانها بالذهب أو الفضة. وأما السن المتحركة فيحل شدها بالفضة لا بالذهب عند أبي حنيفة، لأن استعمالهما حرام إلا للضرورة. وقد زالت بالأدنى فبقى الأعلى على الأصل وهو الحرمة (وقال) مالك ومحمد بن الحسن : يحل بالذهب أيضا لاستوائهما.
(تغطية الأواني) يستحب تغطية الأواني، وربط القرب، وذكر اسم الله تعالى عند ذلك، لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "غطوا الإناء وأوكئوا السقاء وأغلقوا الباب وأطفئوا السراج فإن الشيطان لا يحل سقاء ولا يفتح بابا ولا يكشف إناء. فإن لم يجد أحدكم إلا أن يعرض على إنائه عودا ويذكر اسم الله فليفعل فإن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم" أخرجه مسلم وابن ماجه(1) {41}.
(وعن جابر) رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: أغلق بابك، وأذكر اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا، وأطفئ مصباحك، وأذكر اسم الله، وخمر إناءك ولو بعود تعرضه عليه، وأذكر اسم الله، وأوك سقاءك وأذكر اسم الله. أخرجه الثلاثة واللفظ لأبي داود(2) {42}.
7- سنن الفطرة
__________
(1) انظر ص 183 ج 13 نووي مسلم (تغطية الإناء...) و(الفويسقة) تصغير فاسقة، وهي الفأرة. و(تضرم) بضم فسكون أي تحرق سريعا.
(2) انظر ص 339 ج 3 سنن أبي داود (إيكاء الأنية).(1/234)
الفطرة: هي السنة القديمة والخلقة المبتدأة ، ومنه فاطر السموات والأرض. أي المبتدئ خلقهن. وسنن الفطرة كثيرة (منها) ما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم "الفطرة خمس" الاستحداد، والختان، وقص الشارب، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر" أخرجه السبعة(1) {43}.
(ومنها) ما في حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال "عشر من الفطرة: قص الشارب واعفاء اللحية والسواك والاستنشاق بالماء وقص الأظافر وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء (يعني الاستنجاء بالماء) والمضمضة". أخرجه أحمد ومسلم والأربعة وحسنه الترمذي(2) {44}.
(وعن) ابن عباس "وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال: ابتلاه بالطهارة خمس في الرأس وخمس في الجسد، في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء" أخرجه عبد الرازق بسند صحيح(3) {3}.
ذكر في الحديثين والأثر اثنتا عشرة من سنن الفطرة وهاك بيانها:
(
__________
(1) انظر ص 272 ج 10 فتح الباري (تقليم الإظفار) وص 146 ج 3 نووي مسلم (خصال الفطرة) وص 275 ج 2 مجتبي (الزينة).
(2) انظر ص 147 ج 3 نووي مسلم. وص 183 ج 1- المنهل العذب (السواك من الفطرة) وص 274 ج 2 مجتبي (كتاب الزينة).
(3) انظر ص 197 ج 1- المنهل العذب. الشرح (السواك من الفطرة).(1/235)
أ) هو سنة بالاتفاق، ويكون بالحلق، والقص، والنتف، والنورة (قال) نافع كنت أطلى ابن عمر فإذا بلغ عانته نورها هو بيده. ذكره الخلال. وقد روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم(1) والأفضل الحلق. (والمراد) بالعانة: الشعر فوق ذكر الرجل وحواليه، والشعر الذي حول فرج المرأة (وقيل) أنه الشعر النابت حول حلقة الدبر. وعليه فيستحب حلق جميع ما على القبل والدبر وحولهما(2) وحلق العانة مطلوب ولو للمرأة كما اقتضاه الإطلاق. لكن قيده كثيرون بالرجل، وقالوا: الأولى للمرأة النتف، لأنه أنظف ولنفرة الحليل من بقايا أثر الحلق، ولأن شهوة المرأة أضعاف شهوة الرجل، فقد ورد أن لها تسعة وتسعين جزءا منها. وللرجل جزء واحد. فالنتف يضعفها والحلق يقويها. فأمر كل بما هو الأنسب به.
(ب) والمختار في وقته أنه يضبط بالحجة والطول فإذا طال حلق وكذا قص الظفر والشارب ونتف الإبط.
(وينبغي) ألا يتجاوز في تركه أربعين يوما لقول أنس بن مالك: وقت لنا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الأبط وحلق العانة ألا تترك أكثر من أربعين ليلة. أخرجه السبعة إلا البخاري(3) {45}.
معناه أنه لا يترك تركا يتجاوز به الأربعين لا أنه وقت لهم الترك أربعين.
2- الختان: بكسر المعجمة وتخفيف المثناة (وهو) في حق الذكر قطع جميع الجلدة التي تغطي الحشفة حتى تنكشف. وفي حق الأنثى قطع جزء من الجلدة التي في أعلى الفرج فوق مدخل الذكر كالنواة أو كعرف الديك والكلام في حكمه ووقته.
(
__________
(1) انظر ص 71 ج 1 مغنى ابن قدامة (الاستحداد).
(2) انظر ص 148 ج 3 نووي مسلم (خصال الفطرة).
(3) انظر ص 146 ج 3 نووي مسلم (خصال الفطرة) وص 84 ج 4 سنن أبي داود (أخذ الشارب) وص 65 ج 1 سنن ابن ماجه (الفطرة).(1/236)
أ) هو واجب عند الشافعي وكثير من العلماء في حق الرجال والنساء (وواجب) على الرجال ومكرمة للنساء عند أحمد (وسنة) في حق الرجال والنساء عند الحنفيين ومالك وأكثر أهل العلم (والمشهور) عند المالكية أنه سنة في حق الذكور مندوب في حق الإناث محتجين بحديث شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: الختان سنة للرجال مكرمة للنساء. أخرجه الطبراني وفي سنده حجاج بن أرطأة لا يحتج به. وله شاهد أخرجه الطبراني والبيهقي من طريق سعيد بن بشر إلى ابن عباس، وسعيد مختلف فيه. وقال البيهقي في المعرفة: لا يصح رفعه، ورواته موثقون إلا أن فيه تدليسا. وأخرجه أيضا من حديث أبي أيوب(1) {46}.
" والحديث" وأن تقوى بكثرة طرقه وبالشاهد (فهو) أعم من مدعاهم، لأن لفظة السنة فى لسان الشارع أعم من السنة فى اصطلاح الأصوليين.
(واحتج) منقال بالوجوب بأدلة (منها) حديث ابن جريح قال: أخبرت عن عثيم بن كليب عن أبيه عن جده أنه جاء إلى النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: قد أسلمت . فقال له النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ألق عنك شعر الكفر يقول احلق قال وأخبرنى آخر معه أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لآخر معه : ألق عنك شعر الكفر واختتن .أخرجه أحمد والطبرانى وأبو داود بسند ضعيف ،لأن عثيما واباه مجهولان . وفيه انقطاع(2) {47}.
(والحق) انه لم يقم دليل صحيح يدل على الوجوب، والمتيقن السنة كما فى حديث " خمس من الفطرة ". والواجب الوقوف على المتقين إلى أن يقوم ما يفيد خلافه. هذا والرجل إذا أسلم ولم يطق الختان يترك وكذا من مات بلا ختان وهو الصحيح عند الشافعية .
(
__________
(1) أنظر رقم 4129 ص 503 ج 3 فيض القدر شرح الجامع الصغير.
(2) انظر رقم 1580 ص161 ج2 فيض القدير شرح الجامع الصغير .(1/237)
ب) (واختلف) فى وقت الختان. فروى ابن حبيب عن مالك أنه من سبع سنين إلى عشر ،وأنه يكره يوم الولادة . فإن بلغ الشخص ولم يختن ، فإن أمكنه أن يختن نفسه فعل ،وإلا سقط وسقوطه عن الأنثى أولى حينئذ.
(وقالت) الحنبلية: يستحب الختان من بعد السابع إلى التمييز.
أما من السابع فمكروه ،فإن بلغ وجب عليه ما لم يخف على نفسه (وقال) أبو حنيفة لا علم لى بوقته . ولذا اختلف فى وقته عند الحنفيين فقيل سبع سنين أو تسع ،أو عشر، أو اثنتا عشرة،أو حين البلوغ (والصحيح) عند الشافعى أنه فى حال الصغر جائز،وفى وجه أنه يجب على الولى أن يختن الصغير قبل بلوغه . وعلى الصحيح يستحب أن يختن يوم السابع من ولادته ،لحديث جابر رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم ختن الحسن والحسين لسبعة أيام . أخرجه أبو الشيخ والبيهقى(1) {48}.
(وقال الماوردى) للختان وقتان وقت وجوب ووقت استحباب .
فوقت الوجوب البلوغ ووقت الاستحباب قبله. والمختار كونه قى اليوم السابع وقبل يوم الولادة فإن أخر ففى الأربعين يوما فإن أخر ففى السنة السابعة فإن بلغ وكان نحيفا يعلم من حاله أنه إذا اختتن تلف سقط الوجوب ويستحب ألا يؤخر عن وقت الاستحباب إلا لعذر وفى ختان الصغير مصلحة فإن الجلد بعد التمييز يغلظ يزداد الم قطعه (ونقل) ابن المنذر عن الحسن ومالك كراهة الختان يوم السابع لأنه فعل اليهود (ويرده) ما تقدم من ختن الحسن والحسين يو م السابع ويختن ويماط عنه الأذى وتثقب أذنه ويعق عنه ويحلق رأسه ويلطخ من عقيقته ويتصدق يوزن شعر رأسه ذهبا أو فضة. أخرجه الطبرانى فى الأوسط وفى سنده ضعف(2) {4}.
(
__________
(1) انظر ص266 ج10 فتح البارى الشرح( قص الشارب).
(2) انظر ص466 ج9 فتح البارى الشرح (تسمية المولود.) (وتثقب اذنه) هذا فى الأنثى . و(يلطخ من عقيقته) أى يصبغ شعر رأسه بعد حلقه بدم العقيقة ثم يدفن.(1/238)
وعن) موسى بن على عن أبيه "أن إبراهيم عليه السلام ختن إسحاق وهو ابن سبعة أيام".أخرجه البيهقى (1) {5}.
هذا ووليمة ختان الذكر مشروعة وتجاب الدعوة اليها بخلاف ختان الأنثى وعليه يحمل ما روى عن عثمان بن أبى العاص أنه دعى إلى ختان فقال : ما كنا نأتى الختان على عهد النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا ندعى له " . أخرجه أحمد (2) {49}.
(ولذا) قال ابن الحاج فى المدخل : السنة إظهار ختان الذكر والخفاء ختان الأنثى وإذا ولد مختونا لا يختن إلا إذا كان شئ يوارى بعض الحشفة.
(واختلف) فى ختان الخنثى . فعند الشافعية يختن فى فرجيه قبل البلوغ. وقيل لا يختن حتى يتبين. وهو لحق عند المالكية .
(وقال) الحنفيون: تشترى له أمه تختنه. ويكره أن يختنه رجل أو إمرأة .
(وقالت) الحنبلية: يختن فى فرجيه عند البلوغ.
3- قص الشارب : هو سنة عند الأكثر، ويستحب أن يبدأ بالجانب الأيمن ، لحديث التيامن . والقاص مخير بين أن يتولى ذلك بنفسه أو يوليه غيره ، لحصول المقصود من غير هتك مروءة بخلاف الابط، ولا ارتكاب حرمة بخلاف العانة( واختلف) فى حد ما يقص من الشارب، فذهب كثير من السلف إلى استئصاله وحلقه، لظاهر حديث ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: " احفوا الشوارب وأعفوا اللحى" أخرجه مسلم والنسائى والترمذى وصححه (3) [50].
(
__________
(1) انظر ص266 ج10 فتح البارى الشرح( قص الشارب ).
(2) انظر ص217 ج4 مسند أحمد ( حديث عثمان بن أبى العاص الثقفى).
(3) انظر ص147 ج3 نووى مسلم ( خصال الفطرة). وص276 ج2 مجتبى (اخفاء الشرب) . و( احفوا) بقطع الهمزة ووصلها من أحفى الشرب وحفاه إذا استأصل أخذ شعره.(1/239)
وقال) الحنفيون: قص الشارب حسن والحلق أحسن . وقال أحمد: الاحفاء اولى من القص . (وقال) مالك والشافعى : احفاء الشرب مثله . والمراد بالاحفاء فى الحديث المبالغة فى أخذ الشارب حتى يبدو حرف الشفة (وقال) أشهب: سألت مالكا عمن يحفى شاربه فقال: أرى أن يوجع ضربا . وقال لمن يحلق شاربه : هذه بدعة ظهرت فى الناس، واحتج من لم ير الاحفاء بكثرة روايات القص. (واحتج) المحفون بأحاديث الأمر بالاحفاء ،وهى صحيحة . (والحاصل) أن السنة دلت على جواز الأمرين، ولا تعارض فإن القص يدل على أخذ البعض، والأحفاء يدل على اخذ الكل وكلاهما ثابت. فيختار المكلف أيهما شاء. وينبغي لمن يريد المحافظة على السنن أن يستعمل هذا مرة وهذا مرة، ليكون قد عمل بكل ما ورد (وقد ذهب) بعض الحنفية وابن حزم إلى وجوب أخذ الشارب.
(لحديث) زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "من لم يأخذ من شاربه فليس منها". أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وصححه(1) {51}.
"أما قول" ابن دقيق العيد: لا أعلم أحد قال بوجوب قص الشارب من حيث هو "فأكانه" لم يقف على ما ذكر (هذا) ولا باس بترك سباليه(2) ما لم يفحش طولهما لما روى عامر بن الزبير ان عمر كان إذا غضب فتل شاربه ونفخ. أخرجه الطبراني بسند رجاله ثقات غير أن عامرا لم يدرك عمر(3) {6}.
__________
(1) انظر ص 368 ج 4 مسند أحمد. وص 276 ج 2 مجتبي (إحفاء الشارب).
(2) السبالان) بكسر السين طرفا الشارب.
(3) انظر ص 166 ج 5 مجمع الزوائد (الشارب واللحية). و(شاربه) أي سباله لأن الشارب لا يفتل.(1/240)
4- نتف الإبط: بكسر الهمزة والموحدة وتسكن. وقد اتفق العلماء على أن نتفه سنة وهو أفضل أن قوى عليه. ويحصل أيضا بالحلق والنورة. وعن يونس بن عبد الأعلى قال: دخلت على الشافعي وعنده المزين يحلق إبطه(1) فقال الشافعي: علمت أن السنة النتف، ولكن لا أقوى على الوجع. ويستحب أن يبدأ بالإبط الأيمن(2) لحديث التايمن "والحكمة" في طلب إزالة شعر الإبط أنه محل للرائحة الكريهة وإزالته تخففها. والنتف فيه أبلغ، بخلاف الحلق، فإنه يقوي الشعر ويهيجه فتكثر الرائحة. ولذا قال ابن دقيق العيد: من نظر إلى اللفظ وقف مع النتف. ومن نظر إلى المعنى أجازه بكل مزيل.
5- تقليم الأظافر: هو سنة اتفاقا ولا توقيت فيه، فمتى استحق القص فعل ويستحب أن يبدأ باليدين قبل الرجلين. والأفضل القص يوم الجمعة قبل الصلاة لقول أبي هريرة: كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقص شاربه ويقلم أظافره يوم الجمعة قبل أن يروح إلى الصلاة. أخرجه البيهقي والبزار والطبراني في الأوسط تفرد به إبراهيم بن قدامه وليس بحجة فيما تفرد به(3) {52}.
والضعيف يعمل به في فضائل الأعمال. ولم يرد في ترتيب تقليم الأظافر خبر صحيح. وما اشتهر من قصها على وجه مخصوص لا أصل له في الشريعة. ولا يجوز اعتقاد استحبابه لأن الاستحباب حكم شرعي لابد له من دليل. وليس استسهال ذلك بصواب. والأولى دفن الأظافر والشعر.
(
__________
(1) الإبط بسكون الباء ما تحت الجناح بذكر ومؤنث والجمع آباط.
(2) أنظر ص 149 ج 3 شرح مسلم (باب خصال الفطرة).
(3) يأتي رقم 134 ص 133 ج 4- الدين الخالص طب 3 (ما يطلب ليلة الجمعة ويومها).(1/241)
فائدة) يستحب نتف الإبط، وحلق العانة وقص الأظافر وتنظيف البدن بالاغتسال في كل أسبوع مرة، فإن لم يفعل ففي كل أسبوعين مرة، ولا عذر في تركه وراء الأربعين، لحديث أنس قال: وقت لنا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في قص الشارب، وتقليم الأظفار، وتنف الإبط وحلق العانة، ألا يترك أكثر من أربعين ليلة. أخرجه أحمد ومسلم والثلاثة(1) {53}.
معناه ألا يترك ما ذكر تركا يتجاوز الأربعين. فلا يجوز تجاوزها. ولا يعد مخالفا للسنة من ترك القص ونحوه بعد الطول إلى انتهاء الأربعين.
6- إعفاء اللحية: هو إرسالها وتوفيرها حتى تعفو وتكثر، من عفا الشيء إذا زاد وكثر، وعفاه وأعفاه إذا كثره. ويجب توفير اللحية ويحرم على الرجل حلقها، لحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال جزوا الشوارب، وأرخوا اللحي، وخالفوا المجوس. أخرجه أحمد ومسلم(2) {54}.
(وعن ابن عمر) أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: خالفوا المشركين وفروا اللحي، وأحفوا الشوارب . أخرجه أحمد ومسلم والبخاري، وزاد "وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه(3)" {55}.
__________
(1) تقدم رقم 45 ص 174 (وقت إزالة العانة).
(2) انظر ص 147 ج 3 نووي مسلم (خصال الفطرة).
(3) انظر ص 147 ج 3 نووي مسلم. وص 272 ج 10 فتح الباري (تقليم الأظفار).(1/242)
والأحاديث الصحيحة الصريحة في أمره صلى الله عليه وعلى آله وسلم بتوفير اللحية كثيرة والأصل في الأمر الوجوب ولا يصرف عنه إلا لدليل ولا دليل. وأمر يتضمن النهي عن حلقها وقصها. والأصل في النهي التحريم ولا يصرف عنه إلا لدليل ولا دليل. وأخبر صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن عدم إعفائها من فعل المجوس والمشركين. وكفي بذلك زجرا عن حلقها وعدم توفيرها. ومن القواعد المجمع عليها أن كل قول أو رأى أو هوى لا يوافق كتابا ولا سنة ولا إجماعا ولا قياسا صحيحا، فهو باطل. وليس بعد حكم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حكم. قال الله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) (65) سورة النساء، وقال: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) عجز (7) سورة الحشر "وقوله" صلى الله عليه وعلى آله وسلم: خالفوا المشركين، خالفوا المجوس "دليل" على حرمة حلق اللحية (وروى ابن عمر) أن رسول الله صلى الله عليه وعلى ىله وسلم قال: من تشبه بقوم فهو منهم. أخرجه أبو داود. ورواه الطبراني في الأوسط عن حذيفة وقال: وفيه على ابن غراب وثقه غير واحد وضعفه جمع وبقية رجاله ثقات(1) {56}.
__________
(1) انظر رقم 8593 ج 6 فيض القدير شرح الجامع الصغير.(1/243)
وهو دال على أن من تشبه بالفساق كان منهم، أو بالكفار أو بالمبتدعة في أي شيء مما يختصون به من ملبوس أو مركوب أو هيئة. فإذا تشبه بالكفار في زي واعتقد أن يكون بذلك مثله كفر فإن لم يعتقد، ففيه خلاف بين الفقهاء: منهم من قال يكفر وهو ظاهر الحديث. ومنهم من قال لا يكفر ولكن يؤدب(1). هذا، وقد نص أئمة المذاهب على حرمة حلق اللحية. قال العلامة السفاريني: "قال" في الإقناع وشرح المنتهى وغيرهما: لا يكره أخذ ما زاد على القبضة من لحيته(2)، ولا أخذ ما تحت. وأخذ الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه من حاجبيه وعارضيه لفعل ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، لكن إنما فعله إذا حج أو اعتمر. رواه البخاري(3). (والمعتمد) في المذهب حرمة حلق اللحية(4).
(وقال) في شرح العباب (فائدة) قال الرافعي والنووي: يكره حلق اللحية. واعترضه ابن الرفعة في حاشية الكافية بأن الشافعي رضي الله عنه نص في الأم على التحريم (قال) الزركشي وكذا الحليمي في شعب الإيمان وأستاذه القفال الشاشي في محاسن الشريعة: وقال الأذرعي: الصواب تحريم حلقها جملة لغير علة بها(5).
__________
(1) انظر ص 237 ج 4 سبل السلام (يحرم التشبه بالكفار في زي وغيره).
(2) القبضة بضم القاف ما قبضت عليه من شيء وربما جاء بالفتح.
(3) تقدم رقم 55 ص 189.
(4) انظر ص 376 ج 1 غذاء الباب (إعفاء اللحي).
(5) انظر ص 376 ج 9 حاشيتي الشرواني وابن قاسم على شرح التحفة. قبيل كتاب الأطعمة.(1/244)
وقال العلامة النفرواي: وفي قص الشوارب وإعفاء اللحي مخالفة لفعل الأعاجم فإنهم كانوا يحلقون لحاهم ويعفون الشوارب فما عليه الجند في زماننا من امر الخدم بحلق لحاهم دون شواربهم لا شك في حرمته عند جميع الأئمة(1). وقال العلامة العدوي في حاشيته على شرح أبي الحسن على رسالة ابن أبي زيد (تتمة) نقل عن مالك كراهة حلق ما تحت الحنك حتى قال: أنه من فعل المجوس. ونقل عن بعض الشيوخ أن حلقه من الزينة، فتكون إزالته من الفطرة ويجمع بحمل كلام الإمام علي ما لم يلزم على بقائه تضرر الشخص ولا تشوبه خلقته. وكلام غيره على ما يلزم على بقائه واحد من الأمرين. واختار ابن عرفة جواز إزالة شعر الخد وندب قص شعر الأنف لا نتفه، لأن بقاءه أمام من الجذام، ونتفه يورث الأكله(2). (ويحرم) إزالة شعر العنفقة كما يحرم إزالة شعر اللحية. وإزالة الشيب مكروهة كما يكره تخفيف اللحية والشارب بالموس تحسينا وتزيينا(3).
(
__________
(1) انظر ص 218 ج 3- الفواكه الدواني (باب الفطرة).
(2) الأكلة بفتح فكسر، داء في العضو يأتكل منه بكسر الكاف.
(3) انظر ص 290 ج 2 حاشية العدوى. والعنفقة الشعيرات بين الشفة السفلى والذقن.(1/245)
وقال) في الدر المختار شرح تنوير الأبصار للسادة الحنفية في "باب الحظر والإباحة" ويحرم على الرجل قطع لحيته(1) يعني حلقها (وقال) في كتاب الصوم: وأما الأخذ منها "يعني اللحية" وهي دون ذلك "يعني دون القبضة" كما يفعله بعض المغاربة ومخنثة الرجال، فلم يبحه أحد. وأخذ كلها فعل يهود الهند ومجوس الأعاجم(2) (وقال) العلامة الحاج رجب في شرح الطريقة المحمدية (مسألة) هل يجوز حلق اللحية كما يفعله الجوالفيون؟ الجواب: لا يجوز. وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أحفوا الشوارب وأعفوا اللحي(3) أي قصوا الشوارب واتركوا اللحي كما هي، ولا تحلقوها ولا تنقصوها عن القدر المسنون. وهو القبضة(4).
(ومما تقدم) تزداد علما بفساد رأي بعض المتأخرين الذين ي قولون: لا شيء في حلق اللحية لا حرمة ولا كراهة. ينعون على الملتحين والمعممين. وبصرحون بأن الدين ليس عمامة ولا لحية إلى غير ذلك. وهذا حق. لكنهم لم يريدوا به إلا تحقير شان اللحية والعمامة والمتحلين بهما. ولا جرم أن هؤلاء ينطبق عليهم ما في حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: من رغب عن سنتي فليس مني. أخرجه مسلم والنسائي(5) {57}.
__________
(1) انظر ص 269 ج 5 رد المحتار.
(2) انظر ص 116 ج 2 رد المحتار.
(3) تقدم رقم 50 ص 177.
(4) انظر ص 208 ج 4 الوسيلة الأحمدية.
(5) انظر رقم 15 ص 46 ج 1- الترغيب والترهيب (الترهيب من ترك السنة) والمعنى أن من رغب عن السنة أعراضا عنها معتقدا أرجحية عمله فليس على ملتي لأن اعتقاد ذلك كفر وأن كانت الرغبة عنها بنوع من التأويل فمعناه ليس على طريقتي السمحة.(1/246)
ومنهم من زاد الطين بلة فزعم إباحة حلقها أن لم ترض النساء بإعفائها وبعضهم يزعم أن إعفاء اللحية من القوميات والعادات ولا مدخل لدين فيه. "ولئن سلمنا" جدلا أنه من العادات فقط "فلم" لا نتأسى بعادة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والخلفاء الراشدين، والصالحين من الأمة المحمدية.
(وقد) روى العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور. فإن كل محدثة بدعة (الحديث). أخرجه الأربعة إلا النسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح(1) {58}.
وقال تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين، نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) (115) سورة النساء. فهؤلاء الذين يشاقون الشريعة وينبذونها، قد توعدهم الله تعالى "فهم" وإن مد الله لهم في الدنيا ولم يعجل فيها عقوبتهم "سينالهم" في أخراهم ما هم به جديرون من عذاب. قال تعالى: (والذين كذبوا بأياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملي لهم أن كيدي متين) (182، 183) سورة الأعراف، نسأل الله تعالى السلامة من الفتن.
هذا، وأما المرأة إذا نبت لها لحية فيجب عليها إزالتها عند الحنفيين ومالك. وقال الشافعي: يستحب لها إزالتها. ويتصل بإعفاء اللحية ثلاثة أمور:
(أ) نتف الشيب: هو مكروه عند الأئمة الأربعة والجمهور لحديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: لا تنتفوا الشيب فإنه نور المسلم ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كتب الله له بها حسنة، ورفعه بها درجة، وحط عنه خطيئة. أخرجه أحمد والأربعة وابن حبان بأسانيد حسنة، وحسنه الترمذي(2) {59}.
(
__________
(1) هذا بعض الحديث رقم 3 بالتوحيد ص 4.
(2) انظر ص 85 ج 4 سنن أبي داود (نتف الشيب). وص 278 ج 2 مجتبي. وص 480 راموز الأحاديث.(1/247)
وقال) أنس بن مالك: يكره أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء من رأسه ولحيته ولم يختضب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم (الأثر). أخرجه مسلم(1) {70}. وهذا متفق عليه.
(وعن طارق) بن حبيب أن حجاما أخذ من شارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرأى شيبة في لحيته. فأهوى بيده إليها ليأخذها، فأمسك صلى الله عليه وعلى آله وسلم يده وقال: من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة. أخرجه الخلال في جامعه(2) {60}.
(وذهبت) الظاهرية إلى تحريم نتف الشيب، لأنه مقتضى النهي حقيقة.
(قال النووي) لو قيل يحرم النتف للنهي الصريح لم يبعد، ولا فرق بين نتفه من اللحية والرأس والشارب والحاجب والعذار، ومن الرجل والمرأة "وفي تعليله" بأنه نور المسلم، ترغيب بليغ في إبقائه، وترك التعرض لإزالته "وتعقيبه" بقوله: ما من مسلم يشيب في الإسلام "والتصريح" بكتب الحسنة، ورفع الدرجة، وحط الخطيئة "نداء" بشرف الشيب وأهله، وأنه من أسباب كثرة الأجور، وإيماء إلى أن الرغبة عنه ينتفه أعراض عن الثواب العظيم.
(قال) ابن العربي: وإنما نهى عن النتف دون الخضب، لأن فيه تغييرا للخلقة من أصلها بخلاف الخضب، فإنه لا يغير الخلقة على الناظر إليه(3).
(ب) تغيير الشيب: يستحب خضاب شعر الراس واللحية بالصفرة والحمرة عند الأئمة الأربعة. ويحرم بالسواد عند أبي حونيفة ومحمد، وهو الصحيح عند الشافعية. وصوبه النووي قال: يمنع المحتسب الناس من خضاب الشيب بالسواد إلا المجاهد(4).
__________
(1) انظر ص 96 ج 15 نووي مسلم (شيبه صلى الله عليه وسلم).
(2) انظر ص 75 ج 1 مغنى ابن قدامة (نتف الشيب).
(3) انظر ص 293 ج 1 مجموع النووي.
(4) انظر ص 294 منه.(1/248)
ودليل تحريمه حديث جابر بن عبد الله قال: أتى بأبي قحافة يوم الفتح ورأسه ولحيته كالثغامة بياضا، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد . أخرجه أحمد والأربعة إلا الترمذي(1){61}.
(وعن أبي الدرداء) أن النبي صلى الله عليه وعلى ىله وسلم قال: من خضب بالسوداء، سود الله وجهه يوم القيامة. أخرجه الطبراني في الكبير وفي سنده الوضين بن عطاء وثقه أحمد وابن معين وابن حبان وضعفه من هو دونهم في المنزلة وبقية رجاله ثقات(2) {62}.
(وعن) ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: يكون في آخر الزمن قوم خضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة. أخرجه أبو داود والنسائي(3) {63}.
(وقالت) المالكية والحنبليةك يكره الخضاب بالسواد. وهو قول للشافعية مالم يكن لغرض شرعي كإرهاب العدو. وإلا فلا كراهة بل يؤجر عليه. لحديث صهيب أن النبي صلى الله عليه وعلى ىله وسلم قال: أن أحسن ما اختضبتم به لهذا السواد أرغب لنسائكم فيكم وأهيب لكم في صدور عدوكم. أخرجه ابن ماجه بسند حسن(4) {64}.
__________
(1) انظر ص 85 ج 4 سنن أبي داود (الخضاب). وص 278 ج 2 مجتبي (النهي عن الخضاب بالسواد). وص 199 ج 2 سنن ابن ماجه. و(ابو قحافة) هو عثمان والد أبي بكر الصديق رضي الله عنهاغ. و(الثغامة) بثاء مفتوحة وغير معجمة مخففة: نبت أبيض الزهر والثمر، يشبه به بياض الشيب.
(2) انظر ص 163 ج 5 مجمع الزوائد (الشيب والخضاب).
(3) انظر ص 87 ج 4 سنن أبي داود (في خضاب السواد). ص 278 ج 2 مجتبي و(لا يريحون) بفتح الباء، أي لا يشمون، من راح يريح ويراح، أو بضم الباء من أراح.
(4) انظر ص 199 ج 2- ابن ماجه (الخضاب بالسواد). و(لهذا) بفتح اللام. و(أرغب الخ) بيان لكون السواد أحسن فإنه يصير المرء به كالشاب الجميل فترغب فيه امرأته ويهابه العدو.(1/249)
ولإطلاق الحديث قال أبو يوسف: يجوز الخضاب بالسواد مطلقا، وروى عن عثمان.
واتفق الأئمة على جواز خضاب الشعر بالحناء والصفرة والكتم(1)، وهل الأفضل الترك أو الفعل؟ روايتان عن مالك، وقال غيره: الفعل أفضل لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: أن اليهود والنصارى لا يصبغون "يعني شهورهم" فخالفوهم . أخرجه الستة ، ولفظ الترمذي: غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود(2) {65}.
(وحديث أبي ذر) رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: أن أحسن ما غير به هذا الشيب الحناء والكتم. أخرجه أحمد والأربعة وحسنه الترمذي(3) {66}.
(قال) القاضي عياض: اختلف السلف من الصحابة والتابعين في الخضاب وفي جنسه. فقال بعضهم: ترك الخضاب أفضل. وروى حديثا عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في النهي عن تغيير الشيب(4).
__________
(1) الكتم بفتحتين، نبت بخلط بالوسمة يختضب به.
(2) يأتي رقم 19 ج 5 (المواسم الأجنبية). طب 3.
(3) انظر ص 147 ج 5 مسند أحمد. وص 85 ج 4 سنن أبي داود (الخضاب). وص 279 ج 2 مجتبي (الخضاب بالحناء والكتمر) والكتم بفتحتين نبات يمني يخرج صبغا بين السواد والحمرة.
(4) لعله حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يكره عشر خصال: الصفرة يعني الخلوق بفتح الخاء (طيب مركب من زعفران وغيره تغلب عليه الحمرة) وتغيير الشيب (الحديث) أخرجه أبو داود ص 89 ج 4 "خاتم الذهب" والنسائي ص 279 ج 2 (الخضاب بالصفرة) من كتاب الزينة {67}. (وحمل) بعضهم تغيير الشيب على تغييره بالسواد جمعا بين الأحاديث.
... ولو فرض عدم اختضابه لما كان قادحا في سنية الخضاب لورود الإرشاد إليه بالقول في الأحاديث الصحيحة.(1/250)
ولأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يغير شيبه. روى هذا عن عمر وعلي وأبي بكر وآخرين. (وقال) آخرون: الخضاب أفضل. وخضب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، للأحاديث الواردة في ذلك (ثم اختلف) هؤلاء فكان أكثرهم يخضب بالصفرة. منهم علي وابن عمر وأبو هريرة وآخرون. وخضب جماعة منهم بالحناء والكتم، وبعضهم بالزعفران، وخضب جماعة بالسواد.
(قال) الطبراني: الصواب أن الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بتغيير الشيب وبالني عنه كلها صحيحة وليس فيها تناقض. بل الأمر بالتغيير لمن شيبه كشيب ابي قحافة. والنهي لمن له شمط فقط. واختلاف السلف في فعل الأمرين بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك، مع أن الأمر والنهي في ذلك ليس للوجوب بالإجماع ولهذا لم ينكر بعضهم على بعض خلافه(1).
وما تقدم من النهي عن التخضيب بالسواد، عام في الرجال والنساء وحكى عن إسحاق بن راهوية أنه رخص فيه للمرأة، لتتزين به لزوجها.
هذا. وللخضب فائدتان: أحداهما تنظيف الشعر مما يعلق بهن الثانية: مخالفة أهل الكتاب.
(جـ) ما يكره في اللحية: يكره فيها ثماني خصال بعضها اشد قبحا من بعض:
1- خضابها بالسواد إلا لغرض الجهاد إرهابا للعدو بإظهار الشباب والقوة فلا بأس إذا كان بهذه النية كما تقدم.
2- تبييضها بالكبريت أو غيره استعجالا للشيخوخة وطلب الرياسة والتعظيم والمهابة والتكريم وإيهام أنه من المشيخ.
3- خضابها بصفرة أو حمرة تشبها بالصالحين ومتبعي السنة لا بنية اتباع السنة.
4- نتفها في أول طلوعها وتخفيفها بالموسى إيثرا للمرودة واستصحابا للصبا وحسن الوجه. وهذا حرام من أقبح الخصال.
5- نتف الشيب وتقدم بسطه.
6- الزيادة فيها عن القبضة وعدم الأخذ من طولها العارضين ونتف جانبيهما من جهة الوجه.
7- النقص منها بالقص ونتف جانبي العنفقة وحلق أعلى العارضين ونتف جانبيهما من جهة الوجه.
__________
(1) انظر ص 80 ج 14 نووي مسلم (خضاب الشيب)..(1/251)
8- عقدها في الحرب لأنها من زي الأعاجم ومنه معالجة الشعر حتى يتجعد. لحديث رويفع أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال له: يا رويفع لعل الحياة ستطول بك فأخبر الناس أنه من عقد لحيته أو تقلد وترا أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدا منه برئ. أخرجه أبو داود والنسائي بسند جيد(1) {68}.
(فائدة) خضاب اليدين والرجلين بالحناء مستحب للمتزوجة من النساء، وحرام على الرجال إلا لحاجة كالتداوي لحديث عائشة قالت: أومأت امرأة من وراء ستر- بيدها كتاب- إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقبض رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يده فقال: ما أدري أيد رجل أم يد امرأة؟ قالت: بل ارمأة قال: لو كنت امرأة لغيرت أظفارك بالحناء. أخرجه النسائي وأبو داود(2) {69}.
وعن أبي هريرة قال: أتى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء فقال: ما بال هذا؟ فقيل يتشبه بالنساء. فأمر به فنفى إلى النقيع فقيل: ألا نقتله يا رسول الله؟ فقال: أني نهيت عن قتل المصلين. أخرجه أبو داود وفيه أبو يسار القرشي مجهول(3) {70}.
7- السواك : كان من الفطرة لأنه مطهرة للفم وهو بكسر السين يطلق على الفعل وعلى العود الذي يتسوك به.
(والمراد به) استعمال عود أو نحوه في الأسنان، لتذهب الصفرة وغيرها عنها. والكلام ينحصر في ستة مباحث:
(
__________
(1) انظر ص 133 ج 1- المنهل العذب (ما ينهي عنه أن يستنجى به). وص 277 ج 2 مجتبي (عقد اللحية). و(الوتر) بفتحتين ما يشد بين طرفي القوس. كانت العرب تزعم أن التقلد بالوتر يرد العين ويدفع المكاره فنهوا عن ذلك. وقد طالت الحياة برويفع حتى مات سنة ثلاث وخمسين بغفريقية، وهو آخر من مات بها من الصحابة.
(2) انظر ص 77 ج 4 سنن أبي داود (الخضاب للنساء).
(3) انظر ص 438 ج 4 عون المعبود (حكم المخنثين). و(النقيع) بالنون موضع على عشرين فرسخا من المدينة بأرض مزينة.(1/252)
أ) حكمه: هو مستحب عند الوضوء والصلاة مطلقا في المسجد وغيره وعند القيام من النوم: وعند تغير الفم، وعند دخول البيت، لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة. أخرجه الجماعة(1) {71}.
(وعنه) أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء. أخرجه مالك والبيهقي والحاكم وصححه(2) {72}.
(وعن عائشة) رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب". أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وابن حبان والحاكم والبيهقي والدارمي(3) {73}.
(وقالت) كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يرقد من ليل ولا نهار فيستيقظ ألا يتسوك قبل أن توضأ. أخرجه أحمد وأبو داود(4) {74}.
والسواك مستحب في جميع الأوقات لكن في خمسة أوقات أشد استحبابا. (الأول) عند الصلاة سواء أكان متطهرا، أو غير متطهر كمن لا يجد ماء ولا ترابا. (الثاني) عند الوضوء. (الثالث) عند قراءة القرآن. (الرابع) عند الاستيقاظ من النوم. (الخامس) عند تغير الفم. وقد قامت الأدلة على استحبابه في جميع هذه الحالات.
(ب) آلته: (ويحصل) الاستياك بكل طاهر خشن يزيل الوسخ والأفضل أن يكون بالأراك والزيتون.
(
__________
(1) انظر ص 274 ج 2- الفتح الرباني. وص 309 ج 2 تيسير الوصول.
(2) انظر ص 309 ج 2 تيسير الوصول. وص 35 ج 1 سنن البيهقي (السواك سنة) (السواك).
(3) انظر ص 29 ج 1- الفتح الرباني. وص 310 ج 2 تيسير الوصول وص 34 ج 1 سنن البيهقي (فضل السواك). وص 174 ج 1 سنن الدارمي.
(4) انظر ص 297 ج 1- الفتح الرباني. وص 200 ج 1- المنهل العذب (السواك لمن قام من الليل).(1/253)
قال ) معاذ بن جبل : سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول : " نعم السواك الزيتون من شجرة مباركه يطجيب الفم ، ويذهب بالحفر . وهو سواكي وسواك الأنبياء من قبلي " . أخرجه الطبراني في الأوسط(1){75}.
ويحصل فضله بالأصبع عند فقد السواك، أو فقد أسنانه ، أو ضرر بفمه ، لحديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " الأصبع تجزئ من السواك " . أخرجه البيهقي والضياء في المختار وقال : إسناد لا بأس به(2) {76}.
(وعن عائشة) رضي الله عنها قالت: يا رسول الله الرجل يذهب فوه أيستاك؟ قال نعم. قلت كيف يصنع؟ قال يدخل اصبعه في فيه فيدلكه. أخرجه الطبراني في الأوسط. وفي سنده نبيت بن كثير وهو ضعيف(3) {77}.
ويطلب أن يكون الاصبع نظيفا غير ملوث بما يضر بالصحة.
(جـ) كيفيته: يستحب أن يستاك في اللسان طولا، وفي الأسنان عرضا، لحديث أبي بردة عن أبيه "أبي موسى" قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نستحمله فرأيته يستاك على لسانه وهو يقول آه آه يعني يتهوع. أخرجه أبو داود(4) {78}.
والسنة إمساكه باليمين وخنصرها تحت طرفه الأسفل، والثلاثة الباقية فوقه، والإبهام أسفل راسه كما رواه ابن مسعود.
(
__________
(1) انظر ص 100 ج، مجمع الزوائد (بأي شيء يسناك). و(الحفر) بفتح لمن قام من الليل).
(2) انظر ص 41 ج 1 سنن البيهقي (الاستياك بالأصابع).
(3) انظر ص 100 ج 2 مجمع الزوائد (السواك لمن ليست له أسنان) ويذهب فوه كتابة عن أنه لا أسنان له.
(4) انظر ص 177 ج 1- المنهل العذب) كيف يستاك (. و(تستحمله) أي نطلب أن يحملنا إلى غزوة تبوك. و(أه) بهمزة مكسورة أو مفتوحة أو مضمومة وهاء ساكنة يقول أع أع. و(يتهوع) يتقيأ.(1/254)
د) الاستياك بسواك الغير: اتفق العلماء على جواز الاستياك بسواك الغير بإذنه (لحديث) ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: أراني أتسوك بسواك فجاءني رجلان أحدهما اكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر منهما، فقيل لي كبر فدفعته للأكبر منهما. أخرجه أحمد والشيخان والبيهقي(1) {79}.
(هـ) تنظيفه: يسن غسل السواك بعد استعماله، لقول عائشة: كان نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يستاك فيعطيني السواك لأغسله، فأبدأ به فأستاك. ثم أغسله وأدفعه إليه. أخرجه أبو داود والبيهقي بسند جيد(2){80}.
(و) السواك للصائم: يستحب للصائم أن يستاك أول النهار وآخره لحديث عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مالا أحصى يتسوك وهو صائم. أخرجه أحمد وأبو داود والبيهقي والدارقطني وقال: عاصم بن عبد الله غيره أثبت منه والترمذي وقال حسن(3) {81}.
والعمل على هذا عند أهل العلم لا يرون بالسواك للصائم بأسا. إلا أن بعضهم كرهوا السواك للصائم بالعود الرطب وكرهوا له السواك آخر النهار ولم ير الشافعي بالسواك بأسا أول النهار وآخره. وكره أحمد وغسحاق السواك أخر النهار.
(
__________
(1) انظر ص 248 ج 1 فتح الباري (دفع السواك إلى الأكبر). وص 21 ج 15 نووي مسلم (الرؤيا). و(أراني) بفتح الهمزة وفي رواية مسلم أراني في المنام فهو من الرؤيا.
(2) انظر ص 182 ج 1- المنهل العذب (غسل السواك). وص 39 ج 1 سنن البيهقي.
(3) انظر ص 298 ج 1- الفتح الرباني وص 9 ج 10- المنهل العذب (السواك للصائم). وص 248 الدارقطني. وص 46 ج 2 تحفة الأحوذي.(1/255)
وباستحبابه) للصائم مطلقا قال الحنفيون ومالك والثوري (ومشهور) مذهب الشافعية وأحمد أنه يكره السواك للصائم بعد الزوال مستدلين بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. أخرجه مالك وأحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه(1) {82}.
قالوا: وجه الاستدلال أنه إذا استاك يزول هذا الخلوف. لكنه غير مسلم. فإن المراد من الحديث مدح الصائم من حيث صيامه، حتى أن رائحة فمه التي من شأنها أن تكون كريهة، مرضية عند الله عز وجل، يثاب عليها أكثر ما يثاب من تطيب برائحة المسك المحبوبة شرعا (وقول) علي: إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي. أخرجه البيهقي(2) {8}. (ضعيف) فإن في سنده كيسان أبو عمر عن يزيد بن بلال وكيسان ليس بالقونى وضعفه يحيى بن معين والساجي. ويزيد بن بلال حديثه منكر. وقال ابن حبان: لا يحتج به "وقول" أبي هريرة: لك السواك إلى العصر، فإذا صليت فألقه. أخرجه الدارقطني والبيهقي(3) {9}. "ضعيف" أيضا، فإن في سنده عمر بن قيس، وهو متروك. ولذا نقل الترمذي عن الشافعي أنه قال: لا باس بالسواك للصائم أول النهار وآخره. واختاره جماعة من أصحابه منهم أبو شامة والنووي والمزني.
8 و9- المضمضة والاستنشاق: سيأتي بيانهما وافيا في سنن الوضوء إن شاء الله تعالى.
__________
(1) انظر ص 132 ج 1 نيل الأوطار. و(لخلوف فم الصائم) أي تغير رائحته يقال خلف فم الصائم خلوفا من باب قد تغيرت ريحه.
(2) انظر ص 274 ج 4- سنن البيهقي. (من كره السواك بالعشي للصائم).
(3) انظر ص 274 ج 4- سنن البيهقي. (من كره السواك بالعشي للصائم).(1/256)
10- غسل البراجم: بفتح الموحدة وكسر الجيم جمع برجمة بضم الموحدة والجيم وهي عقد الأصابع ومفاصلها. وغسلها سنة مستقلة غير خاصة بالوضوء ويلحق بها ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن والصماخ فيزيله بالمسح لأن الغسل ربما أضر بالسمع وكذلك ما يجتمع داخل الأنف وكل وسخ اجتمع على أي موضع من البدن بالعرق والغبار ونحوهما.
11- انتقاص الماء: بالقاف والصاد المهملة وهو لغة رش الماء على الذكر وفسره وكيع بن الجراح بالاستنجاء بالماء المتنجي به. وكان الاستنجاء من الفطرة لما فيه من تطهير المحل وتنظيفه والكلام فيه ينحصر في سبعة مباحث.
(أ) تعريفه: هو لغة غسل موضع الخارج من أحد السبيلين، أو مسحه بحجر أو نحوه. وشرعا إزالة ما على السبيل من النجاسة بنحو الماء، وتقليلها بنحو الحجر (ومن لوازمه) الاستبراء. وهو طلب البراءة من اثر الخارج. فيلزم الرجل الاستبراء حسب عادته بنحو مشي أو تنحنح أو ركض أو اضطجاع. ولا يصح الشروع في الوضوء حتى يطمئن بزوال الرشح، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: عامة عذاب القبر في البول فاستنزهوا من البول. أخرجه البزار والطبراني في الكبير(1) {83} وفيه أبو يحيى القتات وثقه ابن معين وضعفه غيره.
(وعن عيسى) بن يزداد اليماني عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إذا بال أحدكم فينتر ذكره ثلاثا. أخرجه أحمد وابن ماجه وأبو داود في المراسيل(2) {84} ويزداد ذكره ابن منده في معرفة الصحابة. وأبو عمر ابن عبد البر في الاستيعاب وفيه زمعة ابن صالح ضعيف.
ولا تحتاج المرأة إلى استبراء بل تصبر قليلا ثم تستنجى (ولابد) من الاستنقاء أيضا. وهو طلب النقاوة بدلك المقعدة بالأحجار حال الاستجمار، أو بالأصابع حال الاستنجاء بالماء حتى تذهب الرائحة.
(
__________
(1) انظر ص 207 ج 1 مجمع الزوائد (الاستنزاه من البول).
(2) انظر ص 207 منه (فلينتر) من النتر وهو جذب فيه قوة.(1/257)
ب) حكمه: هو واجب عند الأئمة الثلاثة على من راد الصلاة (وقال) الحنفيون: هو سنة مؤكدة من نجس خارج من أحد السبيلين ولو غير معتاد ما لم يتجاوز المخرج. وإن تجاوز النجس المخرج وجب الغسل إن كان المتجاوز درهما فأقل. ويفترض الغسل إن كان المتجاوز أكثر من الدرهم. وغسل ما عدا المخرج من باب إزالة النجاسة.
(جـ) آلته: يكون بالماء والحجر ونحوه (1) فيغسل المحل بالماء حتى يعلم أنه طهر لقول أنس بن مالك: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي أداوة من ماء فيستنجى به. أخرجه أحمد والخمسة إلا الترمذي(1) {85} (2) ويجزئ فيه الحجر ونحوه من كل عين طاهرة قالعة غير محترمة. يمسح به المحل حتى ينقى. (ويستحب) فيه التثليث عند الحنفيين ومالك لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: من أكتحل فليوتر. من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج ومن استجمر فليوتر. من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج (الحديث) أخرجه أبو داود وابن ماجه والدارمي والح وابن حبان في صحيحه(2) {86}.
والمعنى: من فعل ما قلته كله فقد أحسن، ومن لم يفعل فلا حرج.
(وقال) الشافعي وأحمد: لابد من التثليث لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثا. أخرجه أحمد والبيهقي(3) {87}.
(
__________
(1) انظر ص 301 ج 2 تيسير الوصول (ما يستنجى به).
(2) انظر ص 127 ج 1- المنهل العذب. وص 169 ج 1 سنن الدارمي (التستر عند الحاجة). وص 276 ج 1- الفتح الرباني بلفظ: من استجمر.
(3) انظر ص 277 ج 1- الفتح الرباني. وص 104 ج 1- بيهقي (الإيتار في الاستجمار).(1/258)
وقال) عبد الرحمن بن يزيد: قيل لسلمان علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟ أجل. نهانا أن نستقبل القبلة يغائط أو بول، أو أن نستنجى باليمين أو أن يستنجى أخدنا بأقل من ثلاثة أحجار، أو يستنجى برجيع أو بعظم. أخرجه الستة إلا البخاري(1) {88}.
(دل) ما ذكر على أنه لا يجزئ في الاستنجاء أقل من ثلاثة أحجار ولو حصل به الإنقاء. فإن حصل بها الإنقاء، وإلا وجبت الزيادة عليها يحصل الإنقاء (وأجاب) الحنفيون بأن ذكر الثلاثة في هذه الأحاديث محمول على الندب جمعا بين الأحاديث (ويؤيده) قول ابن مسعود: أتى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجد فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة. وقال هذه ركس. أخرجه البخاري واللفظ له وابن ماجه والترمذي والنسائي(2) {89}.
(ووجه الاستدلال) أنه لو كان العدد شرطا لطلب ثالثا لكنه لم يطلبه ومن أنعم النظر في أحاديث الباب ودقق ذهنه في معانيها، علم وتحقق أن المراد الإنقاء لا التثليث (ورد) بأن حديث سلمان نص في أنه لا يقتصر على ما دون الثلاث. وهو قول، وحديث ابن مسعود فعل. وإذا تعارضا قدم القولي لا سيما وقد ورد الأمر بالاستنجاء بثلاثة أحجار في غير حديث كما تقدم.
(وقالت) المالكية: يتعين الماء ولا يكفي الحجر ونحوه في خمس صور:
1- في إزالة المنى لمن فرضه التيمم أو الوضوء كخروجه بلا لذة أو بلذة غير معتادة.
2- وفي إزالة دم الحيض أو النفاس، وكذا دم الاستحاضة إن لم يلازم كل يوم ولو مرة، وإلا فهو معفو عنه كسلس البول الملازم لذكر أو أنثى، فلا تجب إزالته.
3- وفي إزالة بول المرأة بكرا أو ثيبا، لتعديه المخرج إلى جهة المقعدة عادة.
__________
(1) انظر ص 68 ج 1- ابن ماجه (الاستنجاء بالحجارة..) و ص 200 ج 2 تيسير الوصول (أداب الاستنجاء).
(2) انظر ص 302 منه (ما يستنجى به). وص 68 ج 1- ابن ماجه. و(الركس) بكسر الراء الرجس.(1/259)
4- وفي بول أو غائط انتشر عن المخرج انتشارا كثيرا كأن يصل إلى المقعدة أو يعم الحشفة.
5- وفي مذي خرج بلذة معتادة بنظر أو ملاعبة أو بتذكر مع وجوب غسل جميع الذكر بنية طهارته من الحدث (وهذه النية) واجبة غير شرط على المعتمد. فلذا لو تركها وغسل ذكره بلا نية وتوضأ وصلى له تبطل صلاته على الراجح. وأما غسل جميع الذكر فقيل واجب شرطا، فلو اقتصر على غسل جميع الذكر فقيل واجب غير شرط. فلا تبطل الصلاة بغسل البعض ولو محل النجاسة فقط، وعلى الثاني يجب غسل جميعه لما يستقبل من الصلاة لأنه أمر واجب.
(وقال) ابن حبيب المالكي: لا يجزئ الحجر إلا لمن عدم الماء. وهو خلاف ما ثبت في السفة، وما عليه الإجماع من جواز الاقتصار على الحجر ونحوه مطلقا، لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وعلى ىله وسلم قال: (إذا ذهب أحدكم لحاجة، فليستطب بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه) أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه وأبو داود والدارقطني. وقال: إسناده صحيح حسن(1) {9}.
(د) كيفية الاستجمار: ينبغي أن يجعل المستجمر حجرين للصفحتين وحجرا للمخرج، لحديث سهل بن سعد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وعلى آل وسلم سئل عن الاستطابة فقال: أولا لا يجد أحدكم ثلاثة أحجار: حجرين للصفحتين وحجرا للمسربة. أخرجه البيهقي والطبراني والدارقطني باسناد حسن(2) {91}.
(هـ) أنواع الاستنجاء- هي ثلاثة:
(
__________
(1) انظر ص 278 ج 1- الفتح الرباني. وص 18 ج مجتبي (الإجتزاء في الاستطابة بالحجارة). وص 146 ج 1- المنهل العذب (الاستنجاء بالأحجار).
(2) أنظر ص 114 ج 1 سنن البيهقي (كيفية الاستنجاء). وص 211 ج 1 مجمع الزوائد (الاستجمار بالحجر). و(الاستطابة) الاستنجاء. و(الصفحة) الجانب. و(المسربة) بفتح الراء مجرى الغائط ومخرجه.(1/260)
1)- مسح المحل بالحجر ونحوه ثم غسله بالماء على أن يقع في قلبه أنه طهر (لحديث) ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت هذه الآية (فيه رجال يحبون أن يتطهروا، والله يحب المطهرين) في أهل قباء، فسألهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالوا: أنا نتبع الحجارة الماء. أخرجه البزار(1) {92}. وفيه محمد بن عبد العزيز ابن عمر الزهري. ضعفه البخاري والنسائي وغيرهما.
وهذا أفضل إذا أمكنه الغسل بلا كشف عورة على من يحرم عليه نظر عورته، وإلا لزم الاستجمار من تحت الثياب. ولا يستنجي بالماء.
(2و 3)- (ويلي) الاستنجاء بهما، الاقتصار على الماء. وبعده الاقتصار على الحجر. والسنة تحصل بالكل. هذا، وأحاديث الباب ترد على من كره الاستنجاء بالماء وعلى من نفي وقوعه من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(و) مالا يستنجى به: يكره تحريما عند الحنفيين الاستنجاء بعظم وروث وفحم وطعام لأدمي كالخبز أو بهيمة كالحشيش (لقول) ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: قدم وفد الجن على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالوا: يا رسول الله أنه أمتك أن يستنجوا بعظيم أو روث أو حممة فإن الله جعل لنا فيها رزقا فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. أخرجه أبو داود والبيهقي. وفيه إسماعيل ابن عياش وهو ثقة(2) {93}.
(وكذا) يكره الاستنجاء بخرقة حرير وبالورق سواء ورق الكتابة والشجر والقطن. ولو فعل يجزئه لحصول المقصود.
(وحكمة) النهي في الروث النجاسة، وفي العظم، كونه زاد الجن. ولا يستنجى بطعام لأنه إسراف وإهانة.
(
__________
(1) انظر ص 212 ج 1 مجمع الزوائد (الجمع بين الماء والحجر).
(2) انظر ص 141 ج 1- المنهل العذب (ما ينهي عنه أن يستنجى به). و(حممة) كرطبة ما أحرق من خشب ونحوه.(1/261)
وقالت) الشافعية والحنبلية وإسحاق والثوري: لا يجوز الاستنجاء بعظم ولا بعر ولا محترم، ولا يجزئ، لحديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: أتاني داعي الجن فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن. قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم. وسألوه الزاد. فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه. يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما. وكل بعرة أو رويثة علف لدوابكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام أخوانكم من الجن. أخرجه أحمد ومسلم(1) {94}.
وتقدم في حديث سلمان: نهانا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن نستنجى برجيع أو عظم(2).
(نبه) النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالرجيع على جنس الجنس، فإن الرجيع هو الروث، وأما العظم فلكونه طعاما للجني فنبه به على جميع المطعومات، وتلحق به المحترمات كأجزاء الحيوان وأوراق كتب العلم. ولا فرق في النجس بين المائع والجامد. فإن استنجى بنجس لم يصح استنجاؤه ووجب عليه الاستنجاء بالماء. ولا يجزئه الحجر، لأن الموضع صار نجسا بنجاسة أجنبية. ولو استنجى بمطعوم أو غيره من المحترمات الطاهرات، فالأصح أنه لا يصح استنجاؤه، ولكن يجزئه الحجر بعد ذلك إن لم يكن نقل النجاسة من موضعها. وقيل: أن استنجاءه الأول يجزئه مع المعصية(3).
(وقالت) المالكية: لا يجوز الاستنجاء بالنجس كأرواث الخيل والحمير وعظم الميتة والعذرة، ولا بمحترم لكونه مطعوما لآدمي كخبز أو مكتوبا، لحرمة الحروف ولو بخط غير عربي، أو مشرفا لذاته كذهب وفضة، او حقا للغير كجدار مملوك للغير ولو وقفا. وأجزأ الاستنجاء بما ذكر مع الحرمة إن حصل الإنقاء. قالوا: ويكره الاستنجاء بعظم وروث طاهرين.
(
__________
(1) تقدم الحديث رقم 20 ص 73 (الأنبياء والرسل) بأتم من هذا.
(2) تقدم بالحديث رقم 88 ص 194 (هل يذم التثليث في الاستنجاء بالحجر).
(3) انظر ص 157 ج 3 نووى مسلم (الاستطابة).(1/262)
وحديث) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى أن يستنجى بروث أو بعظم، وقال: إنهما لا يطهران. أخرجه الدارقطني وصححه(1) {95}.
(يرد) على من زعم أن الاستنجاء بهما يجزئ وإن كان منهيا عنه.
(ز) آداب قضاء الحاجة- يعني البول والغائط. يندب لمن يريد قضاء الحاجة أمور، ذكر منها سبعة وعشرون.
1- أن يقول جهرا عند دخوله محل قضائها: باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث.
2- ثم يدخل باليسرى.
3- ولا يكشف عورته قبل أن يدنو إلى العقود.
4- ويوسع بين رجليه ويميل على اليسرى.
5- ولا يرد سلاما، ولا يجيب مؤذنا، فإن عطس حمد الله بقلبه.
6- ولا ينظر إلى عورته، ولا إلى ما يخرج منه.
7- ولا يبزق في البول.
8- ولا يطيل العقود فإنه يولد الناسور(2).
9- ولا يكثر الالتفات.
10- ولا يعبث ببدنه.
11- ولا يرفع بصره إلى السماء.
12- فإذا فرغ من قضاء حاجته، عصر ذكره من أسفله إلى الحشفة.
13- ثم يغسل يديه ثلاثا.
14- ثم يفيض الماء باليمنى على فرجه ويغسله باليسرى بادئا بالقبل ويرخى مقعدته، يفعل ذلك ثلاثا، ويدلك كل مرة ويبالغ مالم يكن صائما.
15- ثم يقوم وينشف فرجه بخرقة نظيفة إن أمكنه، وإلا مسحه بيده مرارا.
16- ويستر عورته قبل أن يستوى قائما.
17- ثم يخرج برجله اليمنى ويقول: غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني الاذى وعافاني، الحمد لله الذي اذاقني لذته، وأبقى في قوته، وأذهب عني أذاه، اللهم حصن فرجي، وطهر قلبي، ومحص ذنوبي.
(
__________
(1) انظر ص 21- سنن الدارقطني.
(2) الناسور) بالسين والصاد. ملة تحدث حول المقعدة أو عرق في باطنه فساد.(1/263)
وقد ورد) في ذلك أحاديث (منها) حديث أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم أني أعوذ بك من الخبث والخبائث. أخرجه البخاري والأربعة(1) {96}.
وهذا في الأمكنة المعدة لذلك، أما في غيرها كالصحراء فيقوله عند تشمير الثياب.
(وقال) ابن عمر رضي الله عنهما: كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض. أخرجه أبو داود والبيهقي(2) {97}.
(وقالت) عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك. أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه(3) {98}.
(قيل) أنه استغفر لتركه الذكر في تلك الحالة، لما ثبت أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يذكر الله على كل أحواله إلا في حال قضاء الحاجة، فجعل ترك الذكر في هذه الحالة تقصيرا يستغفر منه. (وقيل) استغفر لتقصيره في شكر نعمة الله تعالى عليه بإقداره على إخراج ذلك الخارج.
(وقال) أنس رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله الذي أذهب عني الاذى وعافني. أخرجه ابن ماجه(4) {99}.
(
__________
(1) انظر ص 171 ج 1 فتح الباري (ما يقول عند الخلاء). وص 29 ج 1- المنهل العذب. وص 9 ج 1 مجتبيز وص 14 ج 1 تحفة الأحوذي. وص 65 ج 1 ابن ماجه. و(الخبث) بضم الخاء المعجمة والباء الموحدة كما في الرواية (وقد) صرح جماعة بأن الباء هنا ساكنة، وهو جمع خبيث، والمراد ذكور الشياطين. و(الخبائث) جمع خبيثة. والمراد إناث الشياطين.
(2) أنظر ص 59 ج 1- المنهل العذب. كيف التكشف عند الحاجة).
(3) انظر ص 116 منه (ما يقول إذا خرج من الخلاء). وص 16 ج 1 تحفة الأحوذي. وص 158 ج 1 مستدرك. وص 65 ج 1- ابن ماجه.
(4) أنظر ص 66 ج 1- ابن ماجه (ما يقول إذا خرج من الخلاء).(1/264)
وفي حمده) صلى الله عليه وعلى آله وسلم إشعار بأن هذه نعمة جليلة ومنه جزيلة، فإن انحباس ذلك الخارج من أسباب الهلاك، فخروجه من النعم التي لا تتم الصحة بدونها "وحق" وعلى من أكل ما يشتهيه من الأطعمة فسد به جوعته، وحفظ به صحته وقوته. ولما لم يبق فيه نفع واستحال إلى تلك الصفة الخبيثة المنتنة التي بقاؤها في الجوف مهلك، خرج بسهولة من مخرج معد لذلك بعيد عن الحواس التي تتأذى بخروجه "أن يكثر" من محامد الله تعالى.
18- (ويطلب) ممن أراد قضاء الحاجة، ترك استصحاب مافيه ذكر الله تعالى، (لقول) أنس رضي الله عنه: إن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لبس خاتما نقشه: محمد رسول الله. فكان إذا دخل الخلاء وضعه. أخرجه الحاكم(1) {100}.
وهو دليل على أنه يندب لمن يريد التبرز أن ينحي عنه كل ما عليه معظم من اسم الله تعالى أو اسم نبي أو ملك.
(وبهذا) قالت الأئمة الأربعة: فإن خالف كره له ذلك إلا لحاجة. كأن يخاف عليه الضياع، وهذا في غير القرآن. أما القرآن فقالوا: يحرم استصحابه في تلك الحالة كلا أو بعضا إلا أن خيف عليه الضياع، أو كان حرزا، فله استصحابه. ويجب ستره حينئذ ما أمكن.
19- (ويطلب) ممن يريد قضاء الحاجة، البعد والاستتار عن الناس، لقول جابر: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سفر، فكان لا يأتي البراز حتى يغيب فلا يرى. أخرجه ابن ماجه بسند رجاله رجال الصحيح(2) {101}.
فالحديث يدل على مشروعية الأبعاد لمن يريد قضاء الحاجة، لإخفاء ما يستقبح سماعه أو رائحته.
(
__________
(1) انظر ص 98 ج 1 سبل السلام (آداب قضاء الحاجة).
(2) انظر ص 72 ج 1 ابن ماجه (التباعد للبراز في القضاء). و(البراز) بفتح الباء الموحدة، اسم للفضاء الواسع من الأرض، كني به عن حاجة الإنسان كما كنى عنها بالغائط والخلاء.(1/265)
وعن أبي هريرة ) أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : من أتى الغائط فليستتر، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم . من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج . أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم والبيهقي(1){102}.
(وفي الحديث) الأمر بالتستر معللا بأن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم. وذلك أن الشيطان يحضر مكان قضاء الحاجة لخلوه عن الذكر الذي يطرد به. فإذا حضر أمر الإنسان بكشف العورة، وحسن له البول في المواضع الصلبة التي هي مظنة رشاش البول. فأمر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قاضي الحاجة بالتستر حال قضائها، مخالفة للشيطان ودفعا لوسوسته التي يتسبب عنها النظر إلى سوءة (عورة) قاضي الحاجة المفضي إلى أثمة.
__________
(1) انظر ص 261 ج 1- الفتح الرباني. وص 94 ج 1- بيهقي (الاستتار عند قضاء الحاجة). وص 127 ج 1- الفتح الرباني. وص 94 ج 1- المنهل العذب. وهو عجز حديث صدره: "من اكتحل فليوتر" (الاستثار في الخلاء). وص 72 ج 1- ابن ماجه (الارتياد للغائط). وصدر الحديث عنده: "من استجمر فليوتر". و(الكثيب) بالمثلثة: قطعة مستطيلة تشبة الربوة، أي فإن لم يجد ستره، فليجمع من التراب أو الرمل قدرا يكون ارتفاعه بحيث يستره.(1/266)
20- (ويطلب) من المتخلى ألا يستقبل القبلة ولا يستدبرها (لحديث) أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الغائط، فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، ولا يستطب بيمينه . وكان يأمر بثلاثة أحجار، وينهى عن الروثة والرمة . أخرجه مالك وأحمد والأربعة إلا الترمذي(1) {103}.
(وهو) يدل على المنع من استقبال القبلة واستدبارها بالبول والغائطز (وبه) قال الأوزاعي والثوري وأحمد في رواية (قالوا) لا يجوز فذلك في الصحراء ولا في البنيان، أخذا بالحديث.
(وقال) مالك والشافعي وأحمد في رواية: يحرم استقبال القبلة عند قضاء الحاجة في الصحرا. ولا يحرم ذلك في البنيان، حملا للنهي في الحديث على الصحراء، لقول ابن عمر: لقد ارتقيت على ظهر البيت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبرر القبلة. أخرجه السبعة والبيهقي، وقال الترمذي: حسن صحيح(2) {104}.
__________
(1) انظر ص 272 ج 1- الفتح الرباني. (النهي عن استقبال القبلة واستدبارها وقت قضاء الحاجة) وص 43 ج 1- المنهل العذب (كراهية استقبل القبلة عند قضاء الحاجة). وص 16 ج 1 مجتبي (النهي عن الاستطابة بالروث). وص 67 ج 1- ابن ماجه. و (لا يستطب) من الاستطابة أي لا يستنجى. و(الرمة) بكسر الراء وتشديد الميم، العظم اليالي.
(2) انظر ص 274 ج 1- الفتح الرباني. وص 298 ج 2 تيسير الوصول (أداب الاستنجاء).(1/267)
هذا، وإنما يجوز الاستقبال والاستدبار في البنيان بشرط أن يكون بينه وبين الجدار ونحوه ثلاثة أذرع فما دونها، ويكون الجدار ونحوه مرتفعا نحو نصف متر فإن زاد ما بينهما على ثلاثة أذرع أو قصر الحائل عن نصف متر، فهو حرام، إلا إذا كان في بيت بني لذلك فلا حرج فيه ولو كان في الصحراء وتستر بشيء على ما ذكرناه من الشرطين، زال التحريم، فالاعتبار بالساتر وعدمه. فحيث وجد الساتر بالشرطين، حل في البنيان والصحراء. وحيث فقد أحد الشرطين، حرم في الصحراء والبنيان(1).
(ويدل) لجوازه في الصحراء بساتر قول مروان الأصفر: رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليها فقلت: أبا عبد الرحمن أليس قد نهى عن هذا؟ قال: بلى، إنما نهى عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس. أخرجه أبو داود(2) {105}.
وفي سنده الحسن بن ذكوان مطعون فيه طعنا لا تقوم به معه حجة.
(وقال) الحنفيون: يكره استقبال القبلة واستدبارها في الصحراء والبنيان. وهو رواية عن أحمد وأبي ثور. وحملوا النهي في حديث أبي هريرة السابق ونحوه على كراهة التنزيه، لما تقدم عن ابن عمر وغيره. ولحديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا. قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، فننحرف عنها ونستغفر الله تعالى. أخرجه الشيخان(3) {106}.
__________
(1) انظر ص 78 ج 2 مجموع النووي.
(2) انظر ص 298 ج 2 تيسير الوصول (آداب الاستنجاء).
(3) انظر ص 298 ج 2 تيسير الوصول (آداب الاستنجاء).(1/268)
فما انحرف أبو أيوب وغيره، إلا لأن في عدم الانحراف مخالفة- وقوله كنا- يشعر بتقرر الحكم عند الصحابة. وله قوة المرفوع إذ مثله لا يصدر عن الرأي. وفي المسألة مذاهب بسطنا الكلام عليها في "النهل العذب المورود: شرح سنن الغمام أبي داود(1)".
هذا. وقد دل قوله في حديث أبي أيوب: ولكن شرقوا أو غربوا على جواز استقبال الشمس والقمر واستدبارهما حال قضاء الحاجة بلا كراهة إذ لابد أن يكونا في الشرق أو الغرب (وبه) قال الحنفيون ومالك والجمهور. (وقال) أحمد وبعض الشافعية: يكره استقبالهما بفرجه. (قال) النووي قال كثير من أصحابنا: يستحب ألا يستقبل الشمس ولا القمر واستأنسوا به بحديث ضعيف بل باطل(2) ولهذا لم يذكره الشافعي ولا كثيرون وهذا هو المختار لأن الحكم بالاستحباب يحتاج إلى دليل ولا دليل في المسألة (3). أقول: قد علم أن حديث أبي أيوب دليل صريح في جواز استقبال القمرين واستدبارهما.
21- ويطلب من المتخلي ألا يستقبل الريح فيكره استقبالها لئلا ترد عليه رشاش البول فينجسه(4).
22- (ويطلب) من قاضي الحاجة الكف عن الكلام (لحديث) المهاجر ابن قنفد أنه أتى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يبول فسلم فلم يرد عليه حتى توضأ. أخرجه أبو داود والنسائي(5) {107}.
__________
(1) انظر ص 39 وما بعدها ج 1- المنهل العذب المورود.
(2) هو ماقيل عن الحسن البصرى حدثني رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يبول الرجل وفرجه باد على الشمس والقمر. ونسب للترمذي ولم نعثر عليه فيه.
(3) انظر ص 94 ج 2 مجموع النووي.
(4) انظر ص 157 ج 1 مغنى ابن قدامة.
(5) انظر ص 68 ج 1- المنهل العذب (أيرد السلام وهو يبول). وص 16 ج 1 مجتبي (رد السلام بعد الوضوء).(1/269)
وهو يدل على كراهة ذكر الله حال قضاء الحاجة ولو كان واجبا كرد السلام. ولا يستحق المسلم في تلك الحال جوابا (قال) جابر: إن رجلا مر على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يبول فسلم عليه فقال له: إذا رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تسلم على فإنك إن فعلت ذلك لم ارد عليك. أخرجه ابن ماجه. وفي سنده سويد بن سعد. وهو ضعيف(1) {108}.
وهذا متفق عليه. ولا ينافي الكراهة قول أبي سعيد سمعت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول : لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان فإن الله يمقت على ذلك. أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه(2) {109}.
فإنه "وإن كان" بظاهره يفيد تحريم الكلام حال قضاء الحاجه لأنه علل النهي عنه بمقت الله تعالى الذي هو أشد الغضب "فقد" صرف النهي عن التحريم، الإجماع على عدم تحريم الكلام حال قضاء الحاجة. وربط النهي بتلك العلة لا يبعد حمله على الكراهة، فإن سياق الحديث يدل على أن المقت على مجموع الكلام والنظر على العورة لا على مجرد الكلام. وذكر النظر في الحديث لزيادة التقبيح، ضرورة أن النظر إلى عورة الغير حرام مع قطع النظر عن الكلام والتخلي. ومحل النهي عن الكلام حال قضاء الحاجة ما لم تدع إليه ضرورة، كإرشاد أعمى يخشى ترديه في نحو حفرة، أو رؤية نحو عقرب يقصد إنسانا، فإن الكلام حينئذ جائز، وربما كان واجبا.
__________
(1) انظر ص 75 ج 1- ابن ماجه (من يسلم عليه وهو يبول).
(2) انظر ص 163 ج 1- الفتح الرباني. وص 61 ج 1- المنهل العذب (كراهية الكلام عند الخلاء). وص 73 ج 1- ابن ماجه (النهي عن الاجتماع على الخلاء والحديث عنده). و(يضربان) أي يقصدان الخلاء. و(الرجلان) في الحديث لا مفهوم لهما، بل مثلهما المراتان والرجل والمرأة، بل ذلك اقبح.(1/270)
"ولا ينافي" الأحاديث المذكورة "حديث" عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله رب العالمين. وليقل له يرحمك الله وليقل هو يغفر الله لنا ولكم. أخرجه الطبراني والحاكم والبيهقي(1) {110}. "فإنها مخصصة لعمومه" وإن العاطس في هذه الحالة يحمد الله في نفسه ولا يحرك به لسانه (وفي الحديث) أيضا دلالة على أنه ينبغي لمن سلم عليه في تلك الحال أن يدع الرد حتى يتوضأ أو يتيمم، ثم يرد، وهذا إذا لم يخش فوته. أما إذا خشى فوته فله أن يرد بعد قضاء الحاجة، وقبل الطهارة، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إنما أخر الرد عن الوضوء أو التيمم طلبا للأكمل. وهو الرد حال الطهارة.
23- (ويطلب) من المتخلي أن يختار المكان اللين الذي لا صلابة فيه، أو المنخفض ليأمن من رشاش البول ونحوه، لقول أبي موسى: إني كنت مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذات يوم، فأراد أن يبول فأتي دمثا في أصل جدار فبال ثم قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله موضعا" أخرجه أبو داود(2) {111}.
(والحديث) وإن كان ضعيفا، لأن في سنده مجهولا، فإن أحاديث الأمر بالتنزه عن البول تفيده قوة.
__________
(1) انظر رقم 757 ص 403 ج 1 فيض القدير، شرح الجامع الصغير.
(2) انظر ص 26 ج 1- المنهل العذب (الجرل يتبوأ لبوله). و(الدمث) يفتح فكسر أو سكون، الأرض السهلة. و(فليرتد) من الارتياد وهو الاختبار، أي فليختر مكانا سهلا لينا أو متخفضا.(1/271)
24- (ويطلب) من قاضي الحاجة أن يتقي الجحر لئلا يكون فيه شيء يؤذيه لحديث قتادة عن عبد الله بن سرجس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى ىله وسلم ان يبال في الجحر. قالوا لقتادة: ما يكره من البول في الجحر؟ قال: يقال أنها مساكن الجن. أخرجه أحمد والنسائي وأبو داود والحاكم والبيهقي(1) {112}.
(والحديث) يدل على كراهة البول في الحفر التي تسكنها الهوام والسباع. إما لأنها مساكن الجن. أولا لأنه يؤذي ما فيها من الحيوانات أو تؤذيه. ومثل البول الغائط.
25- (ويطلب) ممن أراد قضاء الحاجة أن يتجنب طريق الناس وظلهم، لما فيه من أذيتهم بالتنجيس والرائحة الكريهة (ولحديث) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: اتقوا اللاعنين. قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم. أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود(2) {113}.
__________
(1) انظر ص 257 ج 2 تيسير الوصول (آداب الاستنجاء). و(سيرجس) يفتح فسكون فكسر ممنوع من الصرف للعامية والعجمة. و(الجحر) بضم فسكون الشق في الحائط أو في الأرض.
(2) انظر ص 256 ج 1- الفتح الرباني. وص 297 ج 2 تيسير الوصول (آداب الاستنجاء). والمراد باللاعنين الأمران اللذان يحملان الناس على اللعن، وذلك أن من فعلهما لعن وشتم عادة، فلما صار سببا للعن أسند اللعن إليهما على طريق المجاز العقلي ويحتمل أن يكون اللاعن بمعنى الملعون، أي الملعون فاعلهما.(1/272)
26- ويطلب من قاضي الحاجة ألا يبول في مستحمه، لأنه جالب للوسواس ولحديث عبد الله بن مغفل أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "لا يبولن أحدكم في مستحمه ثم يغتسل فيه. فإن عامة الوسواس منه". أخرجه أحمد والأربعة وفي رواية "ثم يتوضأ فيه(1)" {114}.
27- ويطلب من المتخلي البول قاعدا. ويكره قائما، لقول جابر رضي الله عنه: نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يبول الرجل قائما أخرجه ابن ماجه(2) {116}.
والنيه فيه محمول على الكراهة لقول حذيفة: أتى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم سباطة قوم فبال قائما، ثم دعا بماء فمسح على خفيه. أخرجه السبعة والبيهقي(3) {116}.
فعل ذلك بيان الجواز وأنه ليس بحرام وكانت عادته المستمرة البول قاعدا (وقول) عائشة رضي الله عنها: من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بال قائما فلا تصدقوه وما كان يبول إلا جالسا. أخرجه أحمد والأربعة إلا أبا داود وقال الترمذي: هو أحسن شيء في الباب وأصح(4) {117}.
(يحمل) على ما وقع منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في البيت. وقد بال قائما في غيره فلم تطلع عليه عائشة وقد حفظه حذيفة والمثبت مقدم على النافي.
(
__________
(1) انظر ص 258 ج 1- الفتح الرباني. وص 297 ج 2 تيسير الوصول (آداب الاستنجاء). و(الوسواس) بكسر الواو الأولى، حديث النفس والشيطان بما لا نفع فيه، أو بما فيه شر، وإما بفتحها فاسم للشيطان.
(2) انظر ص 67 ج 1- ابن ماجه (في البول قاعدا).
(3) انظر ص 382 ج 5 مسند أحمد، وص 298 ج 2 تيسير الوصول (آداب الاستنجاء) و(البساطة) الكناسة بالضم وزنا ومعنى.
(4) انظر ص 260 ج 1- الفتح الرباني. وص 299 ج 2 تيسير الوصول. وص 66 ج 1- ابن ماجه (في البول قاعدا).(1/273)
وبكراهة) البول قائما قال الحنفيون والشافعي وأحمد (وقال مالك) إن كان البول في مكان لا يتطاير عليه منه شيء فلا بأس به قائما، وإلا كره(1) (وأباح) البول قائما طائفة وثبت عن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وابن عمر وسهل بن سعد أنهم بالوا قياما (قال) ابن المنذر: البول جالسا أحب إلى وقائما مباح، وكل ذلك ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وعلى ىله وسلم (قالوا) وأحاديث النهي لم يثبت منها شيء (ورد) بأنها معتضدة بما تقدم عن عائشة من أنه صلى الله عليه وعلى أله وسلم ما كان يبول إلا جالسا. وقد علمت أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم إنما بال قائما، لبيان الجواز.
(وقال الشافعي) إن العرب كانت تستشفي لوجع الصلب بالبول قائما، فلعله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان به إذ ذاك. وقيل فعل ذلك لجرح كان في باطن ركبته، أو لامتلاء السباطة بالنجاسة، فلم يجد مكانا للجلوس. (قال النووي) وقد روى في النهي عن البول قائما أحاديث لا تثبت. ولكن حديث عائشة رضي الله تعالى عنها ثابت. ولهذا قال العلماء: ويكره البول قائما إلا لعذر. وهي كراهة تنزيه لا تحريم(2).
(ولا ريب) أن البول من قيام من الجفاء والغلظة والمخالفة للهيئة المستحسنة، مع كونه مظنة لانتضاح البول وترشرشه على البائل وثيابه. فأقل أحوال النهي مع هذه الأمور أن يكون البول من قيام مكروها.
(
__________
(1) تفصيل مذهب مالك (أ) إن كان المكان طارها رخوا جاز البول قائما والجلوس أولي لأنه استر (ب) وإن كان رخوا نجسا بال قائما مخافة التنجس (جـ) وإن كان صلبا نجسا لا يبول فيه قائما ولا جالسا خشية التنجس (د) وإن كان صلبا طاهرا تأكد الجلوس خشية التنجيس.
(2) انظر ص 166 ج 3 شرح مسلم.(1/274)
هذا) وقد أجمع العلماء على أنه يجوز للشخص أن يتخذ ليلا إناء يبول فيه، لقول أميمة بنت رقيقة: كان للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قدح من عيدان تحت سريره يبول فيه بالليل. أخرجه النسائي وأبو داود وحسنه الحافظ(1) {118}.
12- شعر الرأس: الشعر بسكون العين وفتحها وهو في الرأس زينة والكلام في إعفائه وفرقه وترجيله وحلقه كلا أو بعضا ووصله ونمصه.
(أ) إعفاؤه: هو سنة (قال) في شرح المصابيح: لم يحلق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم راسه في سني الهجرة إلا في عام الحديبية وعمرة القضاء وحجة الوداع ولم يقصر شعره إلا مرة واحدة كما في الصحيحين(2). وسئل الإمام أحمد عن الرجل يتخذ الشعر،فقال سنة حسنة لو أمكننا اتخذناه. كان للنبي صلى الله عليه وسلم جمة(3).
(وقالت) عائشة: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من إناء واحد وكان له شعر فوق الجمة ودون الوفره. أخرجه أبو داود والترمذي في الشمائل(4) {119}.
(ويستحب) أن يكون شعر الإنسان على صفة شعر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إذا طال فالي منكبيهز وإن قصر فالي شحمة أذنيه.
(
__________
(1) انظر ص 297 ج 2 تيسير الوصول (آداب الاستنجاء). و(عيدان) بفتح فسكون اسم لطوال النخل، الواحد عيدانة.
(2) انظر ص 39- المواهب اللدنية على الشمائل المحمدية.
(3) انظر ص 73 ج 1 مغنى ابن قدامة. و(الجمة) مجتمع شعر الناصية.
(4) انظر ص 41 الشمائل المحمدية. وص 82 ج 4 سنن أبي داود (ما جاء في الشعر). و(الجمة) يضم الجيم وشد الميم شعر الراس يصل إلى المنكبين. و(الوفرة) بفتح فسكون الشعر يصل إلى الأذنين لأنه وفر على الأذن أي اجتمع عليها.(1/275)
ب) فرقه: هو بفتح فسكون قسم الشعر نصفين من جانب اليمين واليسار وهو ضد السدل الذي هو الإرسال من سائر الجوانب والفرق مستحب (لحديث) ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يسدل شعره وكان المشركون يفرقون رءوسم وكان أهل الكتاب يسدلون رءوسهم وكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء ثم فرق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم راسه. أخرجه الترمذي في الشمائل والشيخان وأبو داود والنسائي(1) {120}.
(وإنما) أحب موافقة أهل الكتاب دون المشركين لتمسك أولئك ببقايا شرائع الرسل، والمشركون لا مستند لهم إلا ما وجدوا عليه آباءهم. (وحكمة) عدوله عن موافقتهم في السدل أن الفرق أنظف وأبعد عن الإسراف في غسله وعن مشابهة النساء. والحديث يدل على جواز الأمرين وأن الفرق أفضل لأنه آخر الأمرين من فعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(جـ) ترجيله: الترجل والترجيل تسريح الشعر وتحسينه. ويستحب تسريح شعر الرأس واللحية ودهنه بطيب وزيت ونحوهما (وقالت) عائشة كنت أرجل رأس رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأنا حائض. أخرجه الترمذي في الشمائل(2) {121}.
(وقال) أنس بن مالك: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته ويكثر القناع حتى كأن ثوبه ثوب زيات. أخرجه الترمذي في الشمائل(3) {122}.
__________
(1) انظر ص 42- الشمائل المحمدية (شعره صلى الله عليه وسلم). وص 80 ج 2 تيسير الوصول (السدل والفرق).
(2) انظر ص 43- الشمائل المحمدية (ترجله صلى الله عليه وسلم).
(3) انظر ص 44 منه. و(الدهن) بفتح فسكون استعمال الدهن بالضم وهو ما يدهن به من زيت وغيره. و(القناع) بكسر القاف وتخفيف النون خرقه توضع على الرأس حين استعمال الدهن لتقى العمامة منه وهي المراد بالثوب في قوله: كأن ثوبه ثوب زيات.(1/276)
وإكثاره الدهن والتسريح كان في وقت دون وقت (لقول) عبد الله ابن مغفل: نهى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الترجل إلا غبا أخرجه الثلاثة(1) {123}.
والغب مرة في أسبوع (وقال) عطاء بن يسار: أتى رجل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثائر الرأس واللحية فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كأنه يأمره بإصلاح شعره ولحيته، ففعل ثم رجع، فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: اليس هذا خيرا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان؟. أخرجه مالك وابن حبان وصححه(2) {124}.
(د) حلق الرأس: يباح للرجل حلق كل رأسه عند الجمهور لحديث عبد الله بن جعفرب أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمهل آل جعفر حين أتى نعيه ثلاثا. ثم أتاهم فقال: "لا تبكوا على أخي بعد اليوم. ثم قال: ادعوا لي بني أخي. فجيء بنا كأننا أفرخ فقال: أدعوا لي بالحلاق فحلق رؤوسنا" أخرجه أبو داود والنسائي بسند حسن وفي شيخه مقال(3) {125}.
(وقال) وائل بن حجر (أتيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولي شعر طويل فلما رآتي قال: ذباب ذباب فرجعت فجزرته ثم أتيته من الغد فقال: أتى لم آعنك، وهذا أحسن. أخرجه أبو داود والنسائي وأبو ماجه. وفيه عاصم بن كليب أحتج به مسلم. وقال أحمد: لا بأس بحديثه(4) {126}.
(
__________
(1) انظر ص 80 ج 2 تيسير الوصول (الترجل).
(2) انظر ص 79 منه. و(الثائر) الشعث بعيد العهد بالدهن والترجيل.
(3) انظر ص 80 ج 2 تيسير الوصول (الحلق). و(أفرخ) جمع فرخ، وهو صغير ولد الطائر، شبههم، بذلك لأن شعرهم يشبه زغب الطير وهو أول ما يطلع من ريشه.
(4) انظر ص 82 ج 4 سنن ابي داود (تطويل الجمة). (الذباب) بضم ففتح الشؤم أو الشر الدائم.(1/277)
وعن) أحمد وبعض المالكية أنه يكره حلقه إلا للضرورة، لقول النبي صلى الله وعلى آله وسلم: "لا توضع النواصي إلا في حج أو عمرة" أخرجه الدارقطني في الأفرارد. ذكره ابن قدامة(1) {127}.
(وقال) أحمد: إنما كرهوا الحلق بالموسى. أما بالمقراض فليس به باس، لأن أدلة الكراهة تختص بالحلق وما استدلوا به لا يقوي على معارضة الأحاديث الصحيحة الدالة على إباحة الحلق بلا كراهة (وقوله) لا توضع النواصي، ليس نصا في الحلق. بل يحتمله والقص (والراجح) ما ذهب إليه الجمهور من جواز حلق جميع الراس أو تركه بلا كراهة. وهذا كله في حق الرجال.
(وأما النساء) فيحرم عليهن حلق رءوسهن (لقول) على رضي اله عنه: "نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أن تحلق المرأة رأسها" أخرجه النسائي والترمذي وقال: فيه اضطراب(2) {128}.
ولأن في حلقها رأسها تشبها بالرجال، وهو حرام (لما روى) ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال:لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء،والمتشبهات من النساء بالرجال. أخرجه السبعة إلا مسلما(3){129}.
(هـ) حلق بعض الرأس: أجمع العلماء على أنه يكره تنزيها حلق بعض الرأس وترك بعضه (لحديث) نافع عن ابن عمر قال: نهى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن القزع فقيل لنافع ما القزع؟ قال: أن يحلق بعض رأس الصبي ويترك بعضه. أخرجه السبعة إلا الترمذي(4) {130}.:
(
__________
(1) انظر ص 74 ج 1 مغني ابن قدامة.
(2) انظر ص 80 ج 2 تيسير الوصول (الحلق).
(3) انظر رقم 7265 ص 271 ج 5 فيض القدير شرح الجامع الصغير.
(4) انظر ص 80 ج 2 تيسير الوصول (الحلق) و(القزع) بفتح القاف والزاي جمع قزعة. وهي الأصل القطعة من السحاب. سمي شعر الرأس إذا حلق بعضه وترك بعضه قزعا، تشبيها بالسحاب المتفرق.(1/278)
ففي الحديث) النهي عن القزع. وأصل النهي للتحريم. لكن قال النووي: أجمع العلماء على كراهة القزع تنزيه وكرهه مالك في الجارية والغلام مطلقا. وقال بعض اصحابه لا بأس به في القصة والقفا للغلام. ومذهبنا كراهته مطلقا للرجل والمرأة لعموم الحديث (والحكمة) في كراهته أنه يشوه الخلقة. وقيل لأنه زي أهل الشر. وقيل لأنه زي اليهود(1) وقد جاء هذا مصرحا به في رواية عن الحجاج بن حسان قال: دخلنا على أنس بن مالك "فحدثتني اختي المغيرة" قالت وأنت يؤمئذ غلام ولك قرنان أو قصتان فمسح رأسك وبرك عليك، قال: احلقوا هذين أو قصرهما، فإن هذا زي اليهود. أخرجه أبو داود(2) {10}.
(و) وصل الشعر: هو أن يضاف إليه شعر آخر يكثر به وهو حرام (لقول) أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالت يا رسول الله: أن لي ابنة عريسا أصابتها حصبة فتمرق شعرها أفأصله؟ فقال: لعن الله الواصلة والمستوصلة. أخرجه الشيخان والنسائي(3) {131}.
(الواصلة) من تصل شعر المرأة بشعر آخر (والمستوصلة) من تطلب وصل شعرها. والحديث صريح في تحريم الوصل. ولعن الواصلة والمستوصلة مطلقا على الظاهر المختار (وقد) فصل الفهاء. فقال الحنفيون ومالك وكثيرون: الوصل ممنوع سواء وصلته بشعر أو صوف أو خرق (لقول) جابر: زجر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن تصل المرأة برأسها شيئا. أخرجه مسلم(4) {132}.
(
__________
(1) انظر ص 101 ج 14 شرح مسلم.
(2) انظر ص 84 ج 4 سنن أبي داود (الرخصة في الذؤاية).
(3) انظر ص 80 ج 2 تيسير الوصول (الوصل) و(عريسا بضم ففتح فشد الياء مكسورة تصغير عروس. ويطلق على الرجل والمرأة عند الدخول بها (والحصبة) بفتح فسكون، بثر تخرج في الجلد (وتمرق) بالراء المشددة وروى بالزاي المعجمة بمعنى تساقط.
(4) انظر ص 108 ج 14 نووي مسلم (تحريم فعل الواصلة).(1/279)
وقالت) الشافعية: إن وصلت شعرها بشعر آدمي فهو حرام اتفاقا لعموم الأحاديث. ولأنه يحرم الإنتفاع بشعر الآدمي احتراما وإكراما (وكذا) إن وصلته بشعر نجس من غير آدمي وهو شعر الميتة وشعر ما لا يؤكل لحمه إذا انفصل في حياته للحديث ولأنه حمل نجاسة عمدا (وإن) وصلته بشعر طاهر من غير الآدمي ولم يكن لها زوج فهو حرام ايضا وإن كانت ذات زوج فثلاثة أوجه. أصحها إن فعلته بإذن الزوج جاز وإلا فهو حرام لما تقدم (ولحديث) حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع معاوية عام حج وهو على المنبر وتناول قصة من شعر كانت في يد حرسي يقول: يأهل المدينة أين علماؤكم سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ينهي عن مثل هذه ويقول: "إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذها نساؤهم". أخرجه الجماعة(1) {133}.
(وقال) أحمد والليث: الوصل الحرام مختص بوصل الشعر بالشعر لما فيه من التدليس واستعمال المختلف في نجاسته. وغيره لا يحرم لما فيه من تحسين المرأة لزوجها من غير مضرة ولا مخالفة (أما ربط) خيوط الحرير الملونة وغيرها مما لا يشبه الشعر فليس بمنهى عنه اتفاقا لأنه ليس بوصل وإنما هو للتجميل والتحسين(2).
(ز) نمص الشعر : وهو إزالة شعر الوجه والحاجبين وهو حرام إلا إذا نبت للمرأة لحية أو شارب فلا تحرم الإزالة بل تستحب أو تجب كما تقدم(3) وأصله حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله . أخرجه السبعة(4){134}.
(
__________
(1) انظر ص 8 ج 2 تيسير الوصول (الوصول) و(القصة) بضم القاف وشد الصادر الخصلة من الشعر تؤخذ من الناصية حذاء الجبهة (والحرسي) بفتحتين وأحد الحرس. وهم خدم السلطان المرتبون لحراسته.
(2) انظر ص 104 ج 14 شرح مسلم.
(3) تقدم ص 183.
(4) انظر رقم 7272 ص 272 ج 5 فيض القدير.(1/280)
1) أما الواشمة: فهي التي تشم غيرها بأن تغرز أبرة أو نحوها في ظهر الكف أو غيره من البدن حتى يسيل الدم ثم تحشو ذلك الموضع بالكحل أو النورة فيخضر وهو حرام على الفاعل والمفعول به باختياره والطالب له. وموضع الوشم يصير نجسا عند الشافعية فإن أمكن إزالته وجبت وإن لم يمكن إلا بالجرح بلا مشقة ولا خوف تلف لزم إزالته فورا (وإن خاف منه) تلفا أو فوات عضو أو شيئا فاحشا لم تجب إزالته.
(2) والمستوشمة التي تطلب الوشم وهو حرام أيضا.
(3) والنامصة بالصاد المهملة هي التي تزيل الشعر من الوجه والحاجبين والمتنمصة التي تطلب ذلك وهو حرام كما تقدم.
والمتفلجة بالجيم التي تفعل الفلج (بفتحتين) في أسنانها بأن ترقق أسنانها بمبرد أظهارا للصغر وحسن الأسنان ويقال له الوشر "بفتح فسكون" ومنه: لعن الله الواشرة والمستوشرة. وهذا الفعل حرام على الفاعل والمفعول به ذلك للحسن. أما أن فعل علاجا أو لعيب في السن فلا باس به(1).
و(المغيرات خلق الله) صفة لازمة لمن تصنع الوشم وما بعده. فلا يجوز للمرأة تغيير شيء من خلقتها بزيادة ولا نقص التماسا للحسن لزوجها أو غيره كمقرونة الحاجبين تزيل ما بينهما توهم البلج (بفتحتين) وهو الوضوح والظهور وهو حرام بالإجماع، لأن الله خلق الصورة فأحسنها وفاوت في الجمال بينها. فمن أراد أن يغير خلق الله فيها ويبطل حكمته فيها فهو جدير بالإبعاد والطرد لأنه ارتكب أمرا ممنوعا غير مأذون فيه.
(ومنه) تغيير الوجه والشفتين والحواجب والأظافر بالألوان المختلفة أما المأذون فيه كالسواك والاكتحال فغير داخل في المنع(2) والله تعالى ولي الهداية والتوفيق.
هذا. ومقاصد الطهارة أربعة: الوضوء والغسل والتيمم وإزالة النجاسة.
(أ) الوضوء
__________
(1) انظر ص 106 ج 14 شرح مسلم (تحريم فعل الواصلة).
(2) انظر ص 273 ج 5 مناوي الجامع الصغير.(1/281)
هو بضم الواو ( لغة ) مأخوذ من الوضاءة . وهي الحسن والنظافة. وبفتح الواو أسم لما يتوضأ به ويقال بالفتح وبالضم فيها (وشرعا) طهارة مائية تتعلق بالأعضاء الأربعة وهي: الوجه، واليدان، والرأس، والرجلان (وهو مشروع) بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ } {6} المائدة (وعن أبي هريرة) أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ . أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي(1) {135}.
... وعليه انعقد الإجماع فصار معلوما علما ضروريا للعام والخاص . فمن أنكر مشروعيته كفر (والمعتمد) أنه ليس من خصائص هذه الأمة ، لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قال : من توضأ واحدة فتلك وظيفة الوضوء التي لابد منها . ومن توضأ اثنين فله كفلان . ومن توضأ ثلاثا فلك وضوئي ووضوء الأنبياء قبلى . أخرجه أحمد وابن حبان وفيه زيد العمي ضعيف وقد وثق وبقية رجاله رجال الصحيح(2) {136}.
... وإنما المختص بهذه الأمة ، الغرة والتحجيل ، لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: أن أمتي يأتون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء. فمن استطاع أن يطيل غرته فليفعل . أخرجه أحمد والشيخان(3) [137] ويأتي بيان الغرة والتحجيل في متسحبات الوضوء. هذا . وسبب وجوب الوضوء، وجوب الصلاة أو إرادة ما لا يحل إلا بالطهارة كصلاة ولو نافلة أو سجدة تلاوة . ثم الكلام ينحصر في اثنى عشر فرعا.
__________
(1) انظر رقم 9979 ص 452 ج 6 فيض القدير.
(2) انظر ص 49 ج 2- الفتح الرباني.
(3) انظر ص 30 ج 2- الفتح الرباني. وص 167 ج 1- فتح الباري (فضل الوضوء) وص 135 ج 3 نووي مسلم (استحباب أطالة الغرة والتحجيل في الوضوء).(1/282)
1- شروط الوضوء
... شروطه ثلاثة أقسام. (أ) شروط وجوب : وهي التي لو فقد واحد منها لا يجب الوضوء وإن كان صحيحا. وهي أربعة.
1-
البلوغ. فلا يجب على صبي ولو مميزا، لكن أن توضأ صح منه وأجزأه عن الواجب إذا بلغ وهو متوضئ.
2- الحدث. فلا يجب على متطهر قبل الوقت تجديده بعد دخول الوقت.
3- القدرة على استعمال المطهر. فلا يجب على فاقد الماء ولو حكما، بأن احتاجه لشرب ونحوه ولا على من لم يقدر على استعماله كمريض يضره استعماله ، وأقطع لا يجد من يؤضئه ومكره على تركه.
4- ضيق الوقت . فلا يجب ما دام في الوقت سعة . فإن ضاق وجب الوضوء وجوبا مضيقا ، كما لو أراد الدخول في الصلاة ولو نفلا (وهذه) الشروط يجمعها شرط واحد هو قدرة المكلف بالوضوء عليه.
(ب) شروط صحة:- وهي التي لو عدم واحد منها لا يصح الوضوء ، وإن كان واجبا. وهي أربعة:
(1) عدم الحائل المانع من وصول الماء إلى البشرة كشمع ودهن وعجين. ومنه قذى العين والأوساخ المتجمدة على العضو. (2) عدم حصول ناقض حال الوضوء في حق غير المعذور. فلا يصح الوضوء حال حصول ما يبطله إلا في حق صاحب العذر كالاستحاضة وسلس البول على ما يأتي بيانه إن شاء الله في (وضوء المعذور). (3) أن يكون الماء طهورا على ما تقدم بيانه. (4) ويشترط أيضا عند الشافعية تمييز الفرض من غيره في حق من اشتغل بالعلم حتى عرف ذلك. أما العامي فيشترط في حقه ألا يعتقد الفرض نفلا.
((1/283)
جـ) شروط وجوب وصحة معا: وهي التي إذا فقد واحد منها لا يجب الوضوء ولا يصح . وهي خمسة . (1) الإسلام عند الشافعية والحنابلة، فلا يجب على الكافر لأنه لا يطالب به إلا بعد الإسلام. وإن عوقب على تركه. ولا يصح منه الوضوء لتوقفه على النية. وهي لا تصح من الكافر (وعند) الحنفيين الإسلام شرط وجوب فقط . فلا يجب الوضوء على الكافر، لأنه غير مخاطب بفروع الشريعة على المشهور عندهم. ويصح وضوءه قبل إسلامه لعدم توقفه على النية (وعند) المالكية الإسلام شرط صحة فقط، فيجب على الكافر لأنه مخاطب بفروع الشريعة على المعتمد عندهم. ولا يصح منه إلا بعد الإسلام لتوقفه على النية ومن شرطها الإسلام. (2) العقل، فلا يجب الوضوء على مجنون ومصروع ومغمي عليه ومعتوه وصبي غير مميز ولا يصح منهم. (3) عدم المنافي من حيض ونفاس وجنون وصرع وإغماء. (4) عدم النوم والغفلة. فلا يجب على حائض ولا نفساء ولا نائم ولا غافل. ولا يصح منهم.
(5) بلوغ دعونة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فمن لم يبلغه أن الله أرسل رسولا يدعو الناس إلى عبادة الله وحده، لا يجب عليه الوضوء، ولا يصح منه عند غير الحنفيين. ويصح وضوءه عندهم وإن لم يجب عليه.
2- فروض الوضوء
هي جمع فرض. وهو لغة التقدير. وشرعا المطلوب فعله طلبا جازما، فيثاب على فعله ويعاقب على تركه عند غير الحنفيين. وعندهم الفرض ما ثبت لزومه بدليل قطعي وهو قسمان. (أ) فرض قطعي. وهو ما ثبت بدليل قطعي الثبوت والدلالة "أي لا يحتمل التأويل" ويكفر منكره كأصل الغسل والمسح في الوضوء. (ب) فرض اجتهادي. وهو ما ثبت بدليل قطعي الثبوت ظني الدلالة "أي يحتمل التأويل" ولا يكفر منكره كغسل المرفقين والكعبين، ومسح ربع الرأس في الوضوء. (وفرائضه) منها المتفق عليه والمختلف في فرضيته. وهي ثمانية.(1/284)
1- النية: وهي لغة القصد. وإصطلاحا قصد الشيء مقترنا بفعله (ووقتها) عند غسل الوجه ويغتفر تقديمها عليه بزمن يسير خلافا للشافعية حيث قالوا: لابد من مقارنتها لأول غسل الوجه. ولا يغتفر تقدمها ولو يسيرا. ولابد عندهم من استصحابها إلى فراغ الوضوء (ومحلها) القلب (وكيفيتها) أن ينوى المتوضئ طاعة لا تصح إلا بالطهارة، أو ينوي الوضوء، أو رفع الحديث، ولا يسن التلفظ بها. "لأنه" لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا عن أصحابه "التلفظ" بها لا في حديث صحيح ولا ضعيف، ولا عن الأئمة الأربعة(1).
(وشرطها) الإسلام والتمييز والعلم بالمنوى والجزم. فلا تصح من كافر ولا مجنون ولا صبي غير مميز ولا من متردد كأن يقصد الوضوء أن كان قد أحدث.
ومن شروطها عدم الإتيان بمناف للمنوي بينه وبينها، إلا في حق المعذور كما تقدم.
ويشترط عند الشافعية ألا ينوي نحو تبرد أو نظافة فقط . أما لو نوي الوضوء مع التبرد والنظافة ، فإنه يصح (وحكمها) أنها ركن من أركان الوضوء عند المالكية والشافعية . وشرط صحة عند الحنابلة، لحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى " (الحديث) أخرجه السبعة(2) {138}.
(وقال) الحنفيون : النية سنة مؤكدة في الضوء بغير سؤر الحمار ونبيذ التمر . وشرط في صحة الوضوء بهما احتياطان كما أنها شرط في كون الوضوء عبادة . فإذا قصد التبرد أو النظافة بدون نية الوضوء ، فله أن يصلي به وأن لم يثب عليه ، لأنه لا ثواب إلا بالنية . وقد واظب عليها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم . فمن تركها بلا عذر مع الإصرار أثم أثما يسيرا .
(
__________
(1) انظر ص 80 ج 1 رد المحتار على الدر المختار (محل النية).
(2) أنظر ص 136 راموز الأحاديث.(1/285)
وأجابوا) عن الحديث بأنه حديث آحاد يقبل التأويل ، فيفيد السنية لا الوجوب (وقد) اختلف العلماء في تأويله. فذهب القائلون بلزوم النية، كمالك والشافعي وأحمد على أن المعنى: إنما صحة الأعمال بالنية. ومن لم يجعلها شرطا كالحنفيين والثوري، قالوا: المعنى إنما ثواب الأعمال وكمالها بالنية (ورجح) الأول بأن الصحة أكثر لزوما للحقيقة، لأن ما كان ألزم للشيء، كان أقرب إلى خطورة بالبال (وسبب) اختلافهم تردد الوضوء "بين" أن يكون عبادة محضة، أعني غير معقولة المعنى. وإنما يقصد بها القربة فقط كالصلاة وغيرها "وبين" أن يكون عبادة معقولة المعنى كغسل النجاسة. ولا خلاف في أن العبادة المحضة مفتقرة إلى النية، والعبادة المفهومة المعنى غير مفتقرة إلى النية. والوضوء فيه شبه من العبادتين. وذلك أنه يجمع عبادة ونظافة. والفقة أن ينظر بأيهما هو أقوى شبها فيلحق به(1). وفي قوله في الحديث "وإنما لا مرئ ما نوى" تحقيق لاشتراط النية والإخلاص في الأعمال فهون مؤكد لما قبله (وقيل) معناه أن العامل لا يحصل له إلا ما نواه. ومعنى الجملة الأولى. أن العمل يتبع النية ويصاحبها، فالثانية مؤسسة.
__________
(1) انظر ص 6 ج 1 بداية المجتهد (شروط الوضوء).(1/286)
2- غسل الوجه: هو فرض في الوضوء ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } أي إذا أردتم القيام لها وأنتم محدثون حدثا أصغر، بقرينة قوله تعالى. (وإن كنتم جنبا فاطهروا) (وعن ابن عباس) أنه توضأ فغسل وجهه. فأخذ غرفة من ماء فتمضمض بها واستنشق. ثم أخذ غرفة من ماء فجعل بها هكذا أضافها على يده الأخرى فغسل بها وجهه. ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى. ثم مسح برأسه. ثم أخذ غرفة من ماء فرض بها على رجله اليمنى حتى غسلها. ثم أخذ غرفة من ماء مغسل بها رجله اليسرى ، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتوضأ. أخرجه البخاري(1)[139].
(هذا) وحد الوجه طولا ما بين منبت شعر الرأس المعتاد واسفل الذهن، وعرضا ما بين شحمتي الأذنين. (اختلفوا) في البياض الذي بين الأذن والعذار من الوجه (فعند) الشافعية وأكثر الحنفية يجب غسله مطلقا. وهو مشهور مذهب المالكية. (وقال) أبو يوسف: يجب غسله على الأمرد دون الملتحي وهو قول للمالكية. هذا ويطلب عند غسل الوجه تتبع المواضع التي ينبو عنها الماء كالغضون أو تكون محلا للقذى كموق العين(2)، لحديث أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم توضأ فمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا وغسل وجهه ثلاثا وكان يمسح الماقين من العين (الحديث) أخرجه أحمد(3) {140}.
"والغضون" وهي ما تعطف من الوجه "تقاس" على الماقين.
__________
(1) انظر ص 170 ج 1 فتح الباري (غسل الوجه باليدين من غرفة واحدة).
(2) الموق) مجرى الدمع من العين، أو مقدمها أو مؤخرها الذي يلي الأنف.
(3) انظر ص 28 ج 2- الفتح الرباني.(1/287)
3- غسل اليدين مع المرفقين: هو فرض في الوضوء بالإجماع، لقوله تعالى: { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ (1) } فيفترض غسل المرفقين بالإجماع.
(وقال) نعيم بن عبد الله: رأيت أبا هريرة يتوضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم اليسرى حتى أشرع في العضد ، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتوضأ. أخرجه مسلم(2) {141}.
(قال) الشافعي رضي الله عنه: فلم أعلم مخالفا في أن المرافق مما يغسل(3).
وعليه "فمن" قال بعدم فرضية غسلهما، وهو زفر وأبو بكر ابن داود الظاهري "محجوج" بالإجماع قبله. وبأن "إلى" في الآية بمعنى "مع" كما في قوله تعالى: { وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ } {25} سورة هود. وقال زفر: إنها للغاية وما بعدها لا يدخل فيما قبلها (ورد) بأن محله إذا لم يكن ما بعدها من جنس ما قبلها. أما إذا كان كما هنا فإنه يدخل اتفاقا. واليد عند أهل اللغة من المنكب على أطراف الأصابع.
وإذا كان المتوضئ مقطوع بعض اليد غسل ما بقى مع المرفقين، فإن كان مقطوعا من فوقهما غسل ما بقى منهما، وإن كان مقطوعا ولم يبق شيء من المرفقين فلا غسل عليه.
__________
(1) المرافق) جمع مرفق بكسر الميم وفتح القاف وعكسه وهو المفصل الذي بين العضد والساعد. وإنما جمع لأن العرب إذا قابلت جمعا بجمع حملت كل مفرد من هذا على كل مفرد من هذا. وعليه قوله تعالى "فاغسلوا وجوهكم" أي فليغسل كل شخص وجهه.
(2) انظر ص 134 ج 3 نووي مسلم (إطالة الغرة والتحجيل).
(3) انظر ص 22 ج 1- الأم.(1/288)
هذا. وإذا كان المتوضئ لابسا خاتما ضيقان لزمه تحريكه ليصل الماء إلى ما تحته عند الثلاثة (وقالت) المالكية: لا يجب تحريك الخاتم المباح وإن كان ضيقا لا يصل الماء إلى ما تحته. فإن نزعه بعد الطهارة، لزمه غسل ما تحته أن ظن أن الماء لم يصل إليه. أما المحرم أو المكروه الضيق(1) فيجب نقله من موضعه ليتمكن من ذلك ما تحته. ويكفي تحريك الواسع وإن لم تصل اليد إلى ذلك ما تحته اكتفاء بالدلك به. ومثل الخاتم في ذلك حلي المرأة من أساور وخلاخل ونحوها.
4- مسح الرأس: هو فرض في الوضوء بالإجماع لوروده في القرآن وثبوته من فعله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قال الله تعالى: { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ }
(ومن) عبد الله بن زيد بن عاصم أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر. بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه أخرجه الجماعة(2) {142}.
والمعنى أنه بدأ بمقدم الرأس الذي يلي الوجه وذهب بيديه إلى القفا. ثم ردهما إلى المكان الذي بدا منه وهو مبتدأ الشعر. ويؤيد هذا قوله "بدأ بمقدم رأسه" ولا يشكل عليه قوله "فأقبل بهما وأدبر" لأن الواو لا تقتضي الترتيب. وعند البخاري من حديث عبد الله بن زيد بلفظ: فأدبر بيديه وأقبل.
والحديث يدل على مشروعية مسح جميع الرأس، والمسح شرعا إصابة بلل غير مستعمل عضوا أو شعرا، سواء أكانت الإصابة بيد أم غيرها، حتى لو أصاب المطر قدر المفروض من رأسه أجزأه وإن لم يمسحه باليد.
__________
(1) المباح) للرجل خاتم واحد من فضة لا يزيد عن درهمين، ومثله في الحكم الحلي المباح للمرأة (والمحرم) للرجل ما كان من ذهب، أو من فضة زائدا على درهمين، أو متعددا (والمكروه) وما كان من نحاس أو حديد أو رصاص.
(2) انظر ص 306 ج 2 تيسير الوصول (صفة الوضوء) وص 34 ج 2- الفتح الرباني.(1/289)
هذا. والآية لا تقتضي تعميم الرأس بالمسح، لأن الباء في قوله "وامسحوا برءوسكم" للإلصاق. فالمعني ألصقوا المسح بها. وماسح الكل والبعض كلاهما ملصق المسح بها. ولذا اختلف العلماء في قدر المفروض مسحه. (فأخذ) مالك وأحمد والمزني بالاحتياط، فأوجبوا مسح كل الرأس عملا بالحديث، وعن بعض المالكية أنه يكفي مسح الثلث والثلثين. (وأخذ) الشافعيون باليقين. فأوجبوا أقل ما يطلق عليه أسم المسح. وقالوا: يكفي مسح شعرة أو بعضها بحد الرأس "لما صح" من مسحه صلى عليه وعلى آله وسلم على ناصيته وعمامته. وهو يدل على الاكتفاء بمسح البعض ، ولأن الباء الداخلة على متعدد كما في قوله "وامسحوا برءوسكم" للتبعيض.
(وقال) الحنفيون: المفروض في مسحها قدر الربع، لأن باء الإلصاق إذا دخلت على المحل تعدي الفعل إلى الألة ، فيكون التقدير: وامسحوا أيديكم برءوسكم. وهذا يقتضي استيعاب اليد دون الرأس واستيعابها ملصقة بالرأس لا يستغرق غالبا غير الربع، فتعين مرادا من الآية. ويؤيده قول أنس: رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية، فأدخل يده من تحت العمامة ومسح مقدم رأسه. أخرجه أبو داود وابن ماجه والبيهقي. وفي سنده أبو معقل مجهول(1) {143}.
__________
(1) انظر ص 98 ج 2- المنهل العذب (المسح على العمامة) و ص 61 ج 1 بيهقي (إيجاب المسح بالرأس..) و(قطرية) بفتح فسكون، أي من حلل جياد تصنع بالقطرية ناحية اليمامة.(1/290)
فإن ظاهرة استيعاب مقدم الرأس وهو لا ينقص عن الربع. وأما استيعاب مسح الوجه في التيمم، فليس من الآية بل من السنة كحديث أبي جهيم بن الحارث قال: أقبل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عليه السلام حتى أتى على جدار فمسح بوجهه ويديه ثم رد عليه السلام. أخرجه أبو داود والبخاري(1) {144}.
هذا. والاحتياط مسح جميع الرأس. ولم يصح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة، ولكن كان إذ مسح بناصيته كمل على العمامة(2).
المسح على العمامة: اختلف العلماء في جواز الاقتصار على مسح العمامة بلا ضرورة (فقال) بجوازه الأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور . قال الترمذي : وهو قول غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. منهم أبو بكر وعمر وأنس(3)، وهو مروي عن الحسن وقتادة ومكحول . ( واستدلوا ) بحديث أبي أمامة قال: مسح رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على الخفين وعلى العمامة في غزوة تبوك . أخرجه الطبراني(4){145}.
(وقال) المغير بن شعبة: توضأ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومسح على الخفين والعمامة. أخرجه الترمذي وصححه(5) {146}.
وعند الأكثر: لا يشترط لبسها على طهارة، ولا توقيت في مسحها، لاطلاق الأدلة.
(
__________
(1) أنظر ص 168 ج 3- المنهل العذب "التيمم في الحضر" وص 302 ج 1 فتح الباري (التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء) 0فلقيه رجل) وهو أبو الجهيم الراوي.
(2) انظر ص 49 ج 1 زاد المعاد (هديه صلى الله عليه وسلم في العبادات).
(3) انظر ص 105 ج 1 تحفة الأحوذي "المسح على الجوربين والعمامة".
(4) انظر ص 257 ج 1 مجمع الزوائد (المسح على الخفين).
(5) انظر ص 104 و106 ج تحفة الأحوذي المسح على الجوربين والعمامة).(1/291)
وقال) الجمهور: لا يجوز الاقتصار على مسح العمامة بلا ضرورة. قل الترمذي: وقال غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والتابعين: لا يمسح على العمامة إلا أن يمسح برأسه مع العمامة وهو قول سفيان الثوري ومالك بن أنس وابن المبارك والشافعي(1). وكذا الحنفيون (واحتجوا) بأن الله فرض المسح على الراس، والمسح على العمامة ليس بمسح على الرأس. (وبحديث) أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قالك سألت جابر ابن عبد الله عن المسح على الخفين فقال: السنة يلبن أخر. وسألته عن المسح على العمامة فقال: مس الشعر بالماء. أخرجه الترمذي(2) {147}.
(وسئل جابر) عن المسح على العمامة. فقال: لا حتى يمسح الشعر بالماء. أخرجه مالك(3) [11].
(وأجابوا) عن أدلة الفريق الأول، بأنها أحاديث آحاد لا تعارض الكتاب الموجب مسح الرأس، أو أنه حكاية حال فيجوز أن تكون العمامة صغيرة مسح عليها بعد مسح مقدم الرأس (ويدل) لهذا حديث المغيرة بن شعبة أن
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين. أخرجه مسلم(4) [147].
(وقال) بعضهم: أن أحاديث المسح على العمامة منسوخة. فقد روي ملك عن نافع أنه رأى صفية بنت أبي عبيد تتوضأ وتنزع خمارها، وتمسح على رأسها بالماء. أخرجه مالك(5) [12].
__________
(1) انظر ص 104 و106 ج تحفة الأحوذي المسح على الجوربين والعمامة).
(2) انظر ص 105 منه (المسح على الجوربين والعمامة) ومس بضم فشد أمر من المس يعني لا يجوز المسح على العمامة وحدها فعليك أن تمس الشعر.
(3) انظر ص 69 ج 1 زرقاني الموطأ (المسح بالرأس والأذنين).
(4) انظر ص 174 ج 3 نووي مسلم (المسح على الخفين ومقدم الرأس).
(5) انظر ص 69 و 70 ج 1. زرقاني الموطأ (المسح بالرأس والأذنين).(1/292)
وسئل مالك عن المسح على العمامة والخمار. فقال: لا ينبغي أن يمسح الرجل ولا المرأة على عمامة ولا خمار وليمسحا على رؤوسهما. أخرجه مالك(1) [13].
وقال محمد بن الحسن: بهذا نأخذ. لا مسح على خمار ولا على عمامة. بلغنا أن المسح على العمامة كان فترك(2).
(5) غسل الرجلين مع الكعبين: هو فرض في الوضوء باتفاق الأئمة وأكثر أهل العلم والصحابة والتابعين ومن بعدهم، لقوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) بنصب الأرجل عطفا على الوجوه، أي واغسلوا أرجلكم مع الكعبين وهما العظمن الناتئان عند مفصل الساق والقدم (ولما) ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فعلا وقولا. (أما) الفعل فقد ثبت بالنقل المستفيض المتواتر أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم غسل رجليه في الوضوء (قال) النووي: ذهب جمع من الفقهاء من أهل الفتوى إلى أن الواجب غسل القدمين مع الكعبين ولا يجزئ مسحهما. ولا يجب المسح مع الغسل. ولم يثبت خلاف هذا عن أحد يعتد به في الإجماع(3).
(وقال) الحفظ: لم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك إلا عن علي وابن عباس وأنس. وقد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك.
(قال) عبد الرحمن بن أبي ليلى: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على غسل القدمين(4).
(وأما) القول فمنه قول عبد الله بن عمرو: تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سفرة فأدركنا وقد أرهقنا العصر، فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا، فنادي بأعلى صوته: "ويل للأعقاب من النار" مرتين أو ثلاثا. أخرجه الشيخان(5) [149].
__________
(1) انظر ص 69 و 70 ج 1. زرقاني الموطأ (المسح بالرأس والأذنين).
(2) انظر ص 109 ج 1 شرح العناية على الهداية هامش فتح القدير.
(3) انظر ص 129 ج 3 شرح مسلم (وجوب غسل الرجلين).
(4) انظر ص 187 ج 1 فتح الباري الشرح (غسل الرجلين).
(5) انظر ص 187 فتح الباري: وص 131 ج 3 نووي مسلم (وجوب غسل الرجلين).(1/293)
"أما" من قال: أن الواجب مسح الرجلين. ومن قال بالتخيير بين الغسل والمسح "فقد خالفوا" الكتاب والسنة، ولم يأتوا بحجة ناهضة "وأما حديث" رفاعة بن رافع أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: لا تتم صلاة لأحد حتى يسبغ كما أمره الله. وفيه: ويمسح برأسه ورجليه الك الكعبين. أخرجه الدار قطني(1) [150]. "فهو ضعيف" لأن في سنده يحيى بن علي بن خلاد. قال ابن القطان مجهول.
"وحديث" أوس بن أبي أوس الثقفي أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أتى كظامة قوم "يعني الميضأة" فتوضأ ومسح على نعليه وقدميه. أخرجه أحمد وأبو داود والبيهقي(2) [151]. "لا يصلح" للاحتجاج به لأن فيه اضطرابا في السند والمتن(3).
والرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قد بين للأمة أن المفروض عليهم هو غسل الرجلين لا مسحهما. فتواترت الأحاديث عن الصحابة في حكاية وضوئه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكلها مصرحة بالغسل، ولم يأت في شيء منها المسح إلا في مسح الخفين (فإن) كانت الآية مجملة في الرجلين باعتبار احتمالها للغسل والمسح، فالواجب الغسل بما وقع منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من البيان المستمر جميع عمره. وإن كانت غير مجملة، فقد ورد في السنة الأمر بالغسل ورودا ظاهرا. ومنه الأمر بتخليل الأصابع، فإنه يستلزم الأمر بالغسل، لأنه المسح لا تخليل فيه، بل يصيب ما أصاب ويخطئ ما أخطأ.
(
__________
(1) انظر ص 35 سنن الدارقطني (باب وجوب غسل القدمين والعقبين).
(2) انظر ص 8 ج 4 مسند أحمد. وص 139 ج 2- المنهل العذب و(كظامة) بكسر ففتح الظاء المخففة، آبار تحفر متناسقة ويباعد ما بينها. ثم يخرق ما بين كل بئرين بقناة "وتفسيبرها" بالميضأة (بكسر فسكون وبهمز مقصورة وقد تمد) لم نقف عليه في كتب اللغة. ولعل الراوي فسرها بها لقرينة علمها.
(3) انظر ص 142 ج 2- المنهل العذب المورود.(1/294)
فالحق) ما ذهب إليه الجمهور من وجوب الغسل وعدم أجزاء المسح. (قال) في حجة الله البالغة: ولا عبرة بقوم تجارت بهم الأهواء فأنكروا غسل الرجلين متمسكين بظاهرة الآية. فإنه لا فرق عندي بين من قال بهذا القول، وبين من أنكر غزوة بدر وأحد مما هو كالشمس في رابعة النهار(1).
(6) الترتيب في الوضوء: (قال) الشافعي وأحمد: الترتيب في الوضوء كما في الآية فرض لأن الله تعالى أدخل ممسوحا بين مغسولين، والعرب لا تقطع النظير عن نظيره إلا لفائدة، وهي هنا الدلالة على الترتيب. والآية ما سيقت إلا لبيان الواجب، ولأن كل من حكى وضوء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حكاه مرتبا، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه توضأ إلا مرتبا.
(وقال) الحنفيون ومالك والثوري: الترتيب في الوضوء سنة مؤكدة على الصحيح وليس بواجب وروى عن أحمد واختاره ابن المنذر، لأن الله تعالى أمر بغسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس. وعطف بعضها على بعض بالواو، وهي لا تقتضي الترتيب، فكيفما غسل كان ممتثلا. ووضع الممسوح بين مغسولين، لا يدل على أن الترتيب فرض بل فائدته الدلالة على استحباب الترتيب. وعن علي وابن مسعود: ما أبالي بأي أعضائي بدأت وقال ابن مسعود: لا بأس أن تبدأ برجليك قبل يديك في الوضوء. ذكره ابن قدامة(2) [14]. (وأجاب) أحمد عنه بأن المراد به تقديم اليسرى على اليمني. وقال حدثنا جرير عن قابوس عن أبيه أن عليا سئل: أحدنا يستعجل فيغسل شيئا قبل شيئ؟ قال لا حتى يكون كما أمر الله تعالى. ذكره ابن قدامة [15] وقال: والرواية الأخرى عن ابن مسعود لا يعرف لها أصل(3) (والظاهر) من الأدلة وجوب الترتيب بين الأعضاء المذكورة في الآية.
(
__________
(1) انظر ص 175 ج 1- حجة الله البالغة "صفة الوضوء".
(2) انظر ص 127 ج 1 مغنى ابن قدامة (وجوب الترتيب في الوضوء).
(3) انظر ص 128 ج 1 مغنى ابن قدامة.(1/295)
ويؤيده) حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم طاف سبعا رمل ثلاثا ومشي أربعا ثم استلم الركن ثم خرج فقال: إن الصفا والمروة من شعائر الله فابدءوا بما بدأ الله به. أخرجه النسائي والدار قطني من عدة طرق وصححه ابن حزم(1) [152].
وهو بعمومه شامل للوضوء وأن ورد في الحج فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ولأن العرب إذا ذكرت متعاطفات بدأت بالأقرب فالأقرب. فلما ذكر في الآية الوجه ثم اليدين ثم الرأس ثم الرجلين دلت على الأمر بالترتيب.
(7) الموالاة في الوضوء: وهي التتبع بأن يطهر العضو اللاحق قبل جفاف السابق مع اعتدال الهواء والزمان والمكان والبدن بلا عذر. وقد اختلف العلماء في حكمه (قال) الأوزاعي ومالك وقتادة والليث وأحمد في رواية والشافعي في القديم: الموالاة في الوضوء فرض (لحديث) خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأى رجلا يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة. أخرجه أحمد وأبو داود والحكم والبيهقي بسند فيه بقية في الوليد. مدلس غير أنه صرح بالتحديد عنه أحمد والحاكم(2) [153].
(وقال) الحنفيون وسفيان الثوري وأحمد في رواية والشافعي في الجديد: الموالاة سنة لأن الله تعالى أمر بغسل الأعضاء ولم يوجب موالاة.
(
__________
(1) يأتي رقم 166 ص 103 ج 9- الدين الخالص طب 3 (شروط السعي).
(2) انظر ص 46 ج 2- الفتح الرباني. وص 173 ج 2- المنهل العذب (تفريق الوضوء) و(اللمعة) الموضع الذي لا يصيبه الماء.(1/296)
وعن) نافع أن ابن عمر توضأ في السوق، فغسل يديه ووجهه وذراعيه ثلاثا ومسح برأسه، ثم دعى إلى جنازة فدخل المسجد ومسح على خفيه بعد ما جف وضوءه وصلي. أخرجه مالك والبيهقي. وقل: هذا صحيح عن ابن عمر، ومشهور عن قتيبة. وكان عطاء لا يرى بتفريق الوضوء بأسا(1) [16]. وهذا دليل حسن، فإن ابن عمر فعله بحضره حاضري الجنازة ولم ينكر عليه(2).
(وعن) عبيد بن عمير الليثي أن عمر بن الخطاب رأى رجلا وبظهر قدمه لمعة لم بصبها الماء، فقال له عمر: أبهذا الوضوء تحضر الصلاة؟ فقال يا أمير المؤمنين البرد شديد وما معي ما يدفئني، فرق له بعد ما هم به، فقل له أغسل ما تركت من قدمك وأعد الصلاة وأمر له بخميصة. أخرجه البيهقي(3) [17].
(وعن) عمر بن الخطاب أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: أرجع فأحسن وضوءك فرجع ثم صلى. أخرجه أحمد ومسلم(4) [154].
فلو كانت الموالاة فرضا، لقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أرجع فأعد وضوءك وإنما قال: أحسن وضوءك. وإحسان الشيء لكماله. وهذا هو الراجح لقوة أدلته.
(8) الدلك: وهو امرار اليد على العضو مع الماء أو بعده، وهو فرض في الوضوء والغسل عند المالكية والمزني لحديث عبد الله ابن زيد بن عاصم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم توضأ فجعل يقول هكذا يدلك. أخرجه أحمد وأبو داود الطيالسي وأبو يعلي وابن حبان(5) [155].
(
__________
(1) انظر ص 73 ج 1 زرقاني الموطأ (المسح على الخفين). وص 84 ج 1 سنن البيهقي (تفريق الوضوء).
(2) انظر ص 455 ج 1 مجموع النووي.
(3) انظر ص 84 ج 1 سنن البيهقي.
(4) أنظر ص 45 ج 2- الفتح الرباني. وص 132 ج 3 نووي مسلم/ استيعاب جميع أجزاء محل الطهارة).
(5) انظر ص 31 ج 2- الفتح الرباني. وص 148 مسند الطيالسي.(1/297)
وقال) الحنفيون والشافعي وأحمد: الدلك سنة لعدم التصريح به في الأحاديث الكثيرة الواردة في صفة الوضوء والغسل فهو قرينة على صرف الأمر بالدلك للندب. ودعوى أنه من مسمى الغسل أو شرط فيه محل نظر. والمقرر أن مجرد فعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يفيد الفرضية.
(تنبيه) علم مما تقدم أن أركان الوضوء عند الحنفيين أربعة. غسل الأعضاء الثلاثة ومسح ربع الرأس (وعند) الشافعية ستة: النية، وغسل الأعضاء الثلاثة ومسح بعض الرأس، والترتيب (وعند) الحنبلية ستة: غسل الوجه ومنه المضمضة والاستنشاق، وغسل اليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين إلى الكعبين، والترتيب، والموالاة. وأما النية فشرط صحة (وعند) المالكية سبعة: النية، وغسل الأعضاء الثلاثة، ومسح الرأس، والدلك والموالاة للذكر القادر فلو كان ناسيا بني على ما فعل مع تجديد النية. وكذا العاجز غير أنه لا يلزمه تجديد النية، لعدم ذهابها.
3- سنن الوضوء
السنن جمع سنة وهي لغة الطريقة. وشرعا الطريقة المسلوكة في الدين بقول أو فعل من غير لزوم ولا إنكار على تاركها، وليست خصوصية. وهي قسمان:
(أ ) مؤكدة. وهي ما واظب عليها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بلا إنكار على تاركها.
(ب ) غير مؤكدة. وهي ما تركها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحيانا.
وسنن الوضوء كثيرة. المذكورة منها هنا عشرة:
1- التسمية في أوله: بأن يقول: باسم الله والحمد لله (لحديث) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "إذا توضأت نقل: باسم الله والحمد لله، فإن حفظتك لا تبرح تكتب لك الحسنات حتى تحدث من ذلك الوضوء" أخرجه الطبراني في الصغير بسند حسن(1) [ 156].
(
__________
(1) أنظر ص 220 ح 2 مجمع الزوائد (التسميه عند الوضوء).(1/298)
وقد) اختلف العلماء في حكمها (قال) الحنفيون والشافعية: أنها سنة مؤكدة وهو المشهور عن أحمد (لحديث) ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "من توضأ وذكر اسم الله عليه، كان طهورا لجميع بدنه، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه، كان طهورا لأعضاء وضوئه" أخرجه الدار قطني والبيهقي من عدة طرق في كل منها مقال(1) [157].
ومشهور مذهب مالك أن التسميه في الوضوء مندوبة.
(وقال) إسحاق بوجوبها في حق العالم الذاكر وروي عن أحمد. فإن تركها عمدا لم تصح طهارته. وإن تركها سهوا أو جهلا فوضوءه صحيح. وإن ذكرها في أثنائه سمي وبني (ودليله) حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والبيهقي بسند ضعيف(2) [158].
وأخرج الترمذي الجملة الأخيرة من طريق رباح بن عبد الرحمن عن سعيد بن زيد وقال: قال أحمد بن حنبل: لا أعلم في هذا الباب حديثا له إسناد جيد. وقال إسحاق: أن ترك التسمية عامدا أعاد الوضوء، وإن كان ناسيا أو متأولا أجزأه. وقال البخاري: أحسن شيء في هذا الباب، حديث رباح بن عبد الرحمن(3).
(
__________
(1) انظر ص 44 ج 1 سنن البيهقي (التسمية على الوضوء). و(طهورا...) أي مطهرا من صغائر الذنوب.
(2) انظر ص 19 ج 2- الفتح الرباني. وص 320 ج 1- المنهل العذب (التسمية على الوضوء). وص 81 ج 1- ابن ماجه. وص 43 ج 1 سنن البيهقي.
(3) انظر ص 39 ج 1 تحفة الأحوذي (التسمية عند الوضوء).(1/299)
والراجح) أنها سنة مؤكدة "والنفي" في حديث: لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه "محمول" على نفي الكمال، جمعا بين الأحاديث. ويؤيده قول ابن سيد الناس في شرح الترمذي: قد روى في بعض الروايات: لا وضوء كاملا. فإن ثبتت هذه الزيادة من وجه معتبر فلا أصرح منها في إفادة مطلوب القائل بعدم وجوب التسمية(1).
2- غسل اليدين إلى الرسغين: الرسغ، بضم فسكون أو بضمتين: مفصل الكف بين الكوع والكرسوع. وأما البوع فهو عظم يلي إبهام الرجل. قال بعضهم:
وعظم يلي الإبهام كوع وما يلي
... ... ... لخنصره الكرسوع والرسغ ما وسط
وعظم يلي إبهام رجل ملقب
... ... ... ببوع فخذ بالعلم وأحذر من الغلط
... والكلام في حكم غسلهما وكيفيته:
... (1)الحكم ذهب الجمهور إلى أنه يسن غسل الكفين الطاهرتين ثلاثا في ابتداء الوضوء قبل المضمضة وإن لم يكن مستيقظا من نوم، لأن من حكى وضوء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ذكر أنه غسل كفيه ثلاثا أولا من غير تقييد بكونه عن نوم (روي) حمران أن عثمان دعا بماء فأفرغ على كفيه ثلاث مرات فغسلهما. ثم أدخل يديه في الإناء فمضمض واستنثر ثم غسل وجهه ثلاثا (الحديث) وفيه. ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم توضأ نحو وضوئي هذا. أخرجه الشيخان وكذا أبو داود بلفظ: "أفرغ بيده اليمنى على اليسرى ثم غسلهما إلى الكوعين"(2) [159].
... وهو في حق من استيقظ من نوم ليلا أو نهارا، أكد (لحديث) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قل: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا، فإنه لا يدري أين باتت يده". أخرجه الجماعة(3) [160].
__________
(1) انظر ص 168 ج 1 نبل الأوطار (غسل اليدين قبل المضمض).
(2) انظر ص 205 ج 2 تيسير الوصول (صفة الوضوء).
(3) انظر ص 22 ج 2- الفتح الرباني. وص 310 ج 2 تيسير الوصول (غسل اليدين).(1/300)
... (ويدل) على عدم الوجوب حديث رفاعة بن رافع أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويسمح برأسه ورجلين إلى الكعبين" (الحديث). أخرجه أبو داود والبيهقي(1) [161] ولم يذكر فيه غسل اليدين قبل المضمضة.
... (وقالت) الحنبلية: يسن غسل الكفين في ابتداء الوضوء لغير قائم من نوم ليل ناقض للوضوء، بأن لم يكن نائما، أو كان نائما بالنهار أو بالليل نوما لا ينقض الوضوء، كنوم يسير من جالس أو قائم "أما للقائم" من نوم ليل ناقض للوضوء "فيجب" عليه غسل كفيه ثلاثا في ابتداء وضوئه تعبدا، لحديث الاستيقاظ فإن تركه عامدا عالما فوضوءه صحيح مع الإثم. ويسقط بالنسيان، لأنه طهارة مفردة لا من الوضوء، ومقتضاه أنه لا يستأنف ولو تذكر في الأثناء، بل ولا يغسلهما بعد. بخلاف التسمية في الوضوء لأنها منه(2).
... (فقد حمل) الحنبلية الأمر في الحديث على الوجوب في نوم الليل خاصة، "لكن" التعليل بقوله: فإنه لا يدري أين باتت يده "يقتضي" الحاق نوم النهار بنوم الليل. وذكر البيات نظرا للغالب.
(
__________
(1) انظر ص 304 ج 5- المنهل العذب (صلاة من لا يقيم صلبه). وص 44 ج 1 سنن البيهقي (التسمية على الوضوء).
(2) انظر ص 67 ج 1 كشاف القناع (صفة الوضوء).(1/301)
وحمل) الجمهور الأمر في الحديث على الندب، لما تقدم، ولأن التعليل بأمر يقتضي الشك قرينة صارفة عن الوجوب، ولأن التقييد بالثلاث في غير النجاسة العينية، يدل على الندبية. وهذه الأمور إذا ضمت إليها البراءة الأصلية لم يبق الحديث منتهضا للوجوب ولأن التعليل بأمر يقتضي الشك قرينة صارفة عن الوجوب، ولأن هذا. ومحل الخلاف إذا شك في طهارتهما كما إذا استيقظ من النوم ليلا أو نهارا. أما إذا تيقن طهارتهما فيكون غسلهما سنة اتفاقا (وينوب) عن فرض غسل الكفين بعد غسل الوجه عند الحنفيين بل قيل: هو فرض وتقديمه سنة وإن تيقن نجاستهما، وجب غسلهما اتفاقا.
(ب) كيفية غسل الكفين: هي أنه- إذا كان يصب عليه- أن يغسلهما مع الدلك وتخليل الأصابع ثلاثا. وإن كان يغسلهما من إناء صغير كالكوز أو كبير ومعه إناء صغير، فإنه يصب منه على اليمنى ويغسلها ثلاثا مع دلك الأصابع، ثم يفعل باليسرى كذلك، وهذا مستحب مراعاة للتيامن. فلو غسلهما معا ثلاثا أجزأه بلا كراهة. وإن كان الإناء كبيرا لا يمكن رفعه وليس معه إناء صغير، أدخل أصابع يده اليسرى مضمومة ورفع الماء بها وصبه على يده اليمنى حتى يغسلها ثلاثا مع الدلك. ثم يدخل يده اليمنى فيصب بها على اليسرى حتى يغسلها ثلاثا مع الدلك. فإن خالف ما ذكر بأن أدخل يده في الإناء الصغير أو الكبير ومعه إناء صغير، أو أدخل كفه اليسرى مع الأصابع عند عدم الإناء الصغير، كره تنزيها عند بعض الفقهاء.
(3، 4) المضمضة والاستنشاق: المضمضة لغة التحريك. وإصطلاحا استيعاب الماء جميع الفم ولو بلا إدارة ولا مج. والأكمل مجه.
(والاستنشاق) لغة جذب الماء ونحوه بريح الأنف إليه. واصطلاحا إيصال الماء إلى ما لأن من الأنف. ثم الكلام ينحصر في أربعة مباحث.
((1/302)
أ) حكمها: فيهما ثلاثة مذاهب (1) هما سنة في الوضوء عند الحنفيين ومالك والشافعي والأوزاعي والليث والحسن البصري وسفيان الثوري وغيرهم لقوله تعالى: "فاغسلوا وجوهكم" الآية، ولما في حديث رفاعة بن رافع من قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فتوضأ كما أمرك الله. أخرجه أبو داود وهو حديث صحيح(1)[162].
وموضع الدلالة أن الله إنما أمر بغسل الوجه دون باطن الفم والأنف. وهذا الحديث من أحسن الأدلة، لأن الأعرابي المخاطب به، صلي ثلاث مرات فلم يحسنها، فعلم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه لا يعرف الصلاة التي تفعل بحضرة الناس وتشاهد أعمالها، فعلمه واجباتها وواجبات الوضوء فقال: توضأ كما أمرك الله. ولم يذكر له سنن الصلاة والوضوء. فلو كانت المضمضة والاستنشاق واجبين لعلمه أياهما، فإن حكمهما مما يخفي لا سيما في حق هذا الرجل الذي خفيت عليه الصلاة التي تشاهد، فكيف الوضوء الذي يخفي(2).
(وقال) عبد الله بن زيد بن عاصم رأيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مضمض واستنشق من كف واحد فعل ذلك ثلاثا. أخرجه الترمذي(3) [163].
وتقدم أن المضمضة والاستنشاق من سنن الفطرة وقد حمل الجمهور فيهما على السنية جمعا بين الأدلة.
__________
(1) انظر ص 306 ج 5- المنهل العذب المورود (صلاة من لا يقيم صلبه...).
(2) انظر ص 164 ج 1 مجموع النووي.
(3) انظر ص 41 ج 1 تحفة الأحوذي (المضمضة والاستنشاق من كف واحد). وتقدم مطولا عند أحمد والشيخين رقم 16 ص 158 (الماء).(1/303)
2- (وقال) أحمد في رواية وداود الظاهري وابن المنذر: المضمضة سنة في الوضوء لما تقدم (أما الاستنشاق) فواجب لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إذا توضأ أحدكم، فليجعل في أنفه ماء، ثم ليستنثر. أخرجه مالك وأحمد والشيخان وأبو داود والنسائي(1) [164].
وفرقوا بينهما، لأن المضمضة ثابتة بفعله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا بأمره بخلاف الاستنشاق فإنه ثابت بهما. ومجرد فعله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يفيد الوجوب (ورد) بورود الأمر بالمضمضة أيضا. ففي حديث لقيط بن صبرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إذا توضأت فمضمض. أخرجه أبو داود والبيهقي بسند صحيح(2) [165].
فلا وجه للتفرقة بين المضمضة والاستنشاق، وقد علمت أن الأمر بهما محمول على الندب.
3- (وقال) إسحاق بن راهوية: إنهما فرض في الوضوء والغسل. وهو المشهور عند أحمد لأنهما من تمام غسل الوجه، فالأمر بغسله أمر بهما (ولحديث) لقيط بن صبرة المذكور.
(والظاهر) ما ذهب إليه الجمهور من أن الأمر في هذه الأحاديث محمول على الندب (ومن المقرر) أن المواظبة لا تفيد الوجوب إلا إذا صاحبها إنكار على التارك. وهو لم يثبت هنا.
(
__________
(1) انظر ص 310 ج 2 تيسير الوصول (الاستنثار والاستنشاق والمضمضة). وص 25 ج 2 الفتح الرباني (المضمضة والاستنشاق).
(2) انظر ص 92 ج 2- المنهل العذب (الاستنثار). وص 52 ج 1 سنن البيهقي (تأكيد المضمضة والاستنشاق).(1/304)
ب) الترتيب بينهما: اتفق العلماء على أن المضمضة مقدمة على الاستنشاق. وهل هو شرط أو مستحب؟ ذهب إلى الأول أحمد وبعض الشافعية. وإلى الثاني الحنفيون ومالك والأوزاعي والثوري وغيرهم (أما) تقديمهما على غسل الوجه، فقد اتفق الأئمة الأربعة على أنه ليس بواجب، لأنهما من أجزائه (ويستحب) تقديمهما عليه لأن كل من وصف وضوء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذكر أنه بدأ بهما (وكذا) يستحب تقديمهما على سائر الأعضاء غير والوجه عند الأئمة الثلاثة والجمهور وهو رواية عن أحمد (لحديث) المقدام بن معد يكرب قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بوضوء فتوضأ، فغسل كفيه ثلاثا، وغسل وجهه ثلاثا. ثم غسل ذراعية ثلاثا. ثم مضمض واستنشق ثلاثا. ثم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما. أخرجه أبو داود بسند صالح وأحمد بزيادة: وغسل رجليه ثلاثا(1) [166].
فهو يدل على جواز تأخير المضمضة والاستنشاق عن غسل الوجه واليدين (وعن أحمد) أنه يجب تقديمهما على غسل اليدين لأنهما من الوجه. لكنه تعليل في مقابلة النص فلا يعول عليه. والأحاديث الكثيرة الدالة على تقديمهما على غسل الوجه، تدل على أنه سنة، وهو متفق عليه (والحكمة) في تقديمهما على الفروض، اختيار أوصاف الماء لأن لونه يدرك بالبصرن وطعمه بالفم وريحة بالأنف. وقدمت المضمضة لشرف منافع الفم.
(
__________
(1) انظر ص 35 ج 2- الفتح الرباني. وص 48 ج 2- المنهل العذب (صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم).(1/305)
جـ) كيفيتهما: المضمضة والاستنشاق يحصلان بإيصال الماء على أي صفة إلى الفم والأنف. والأفضل عند غير الحنفيين أن يتمضمض ويستنشق بثلاث غرفات يتمضمض من كل واحدة ثم يستنشق منها، لما تقدم عن عبد الله ابن زيد(1) والأفضل عند الحنفيين أن يتمضمض بثلاث غرفات ثم يستنشق بثلاث غرفات (لحديث) كعب بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم توضأ فمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا يأخذ لكل واحدة ماء جديدا. أخرجه الطبراني في الكبير. وفيه ليث بن أبي سليم ضعيف. ومصرف بن عمرو فيه مقال(2) [167].
(ويؤيده) ما في حديث ابن عباس قال: أتيت خالتي ميمونة فبت عندها فصلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم العشاء ثم دخل بيته فوضع رأسه على وسادة فجئت فوضعت رأسي على ناحية منها فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقضى حاجته ثم جاء إلى قربة على مشجب فيها ماء فمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا وغسل وجهه ثلاثا (الحديث) أخرجه أحمد(3) [168].
هذا وأحاديث الوصل أقوى من أحاديث الفصل بين المضمضة والاستنشاق.
(د) ما يسن فيهما: يسن في المضمضة والاستنشاق أمور ستة:
(1) أن يكونا باليمين. (2) أن يكونا ثلاثا. (3) الاستنثار باليسرى (لحديث) علي رضي الله عنه أنه دعا بوضوء فمضمض واستنشق ونثر بيده اليسرى ثم قال: هكذا طهور النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أخرجه النسائي(4) [169].
(
__________
(1) تقدم رقم 163 ص 234 (حكم المضمضة والاستنشاق).
(2) انظر ص 17 ج 1 نصب الراية (أحاديث المضمضة والاستنشاق).
(3) انظر ص 369 ج 1 مسند أحمد. و(المشجب) بكسر فسكون، خشبة منصوبة.
(4) انظر ص 311 ج 2 تيسير الوصول (تخليل اللحية والاصابع).(1/306)
4 و5) مج الماء في المضمضة واستنثاره في الاستنشاق. (6) المبالغة فيهما لغير الصائم (لحديث) لقيط بن صبرة أنه قال: أخبرني يا رسول الله عن الوضوء فقال "أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما" أخرجه الشافعي وأحمد والأربعة والبيهقي(1) [170].
والمبالغة في المضمضة ترديد الماء في الحلق وفي الاستنشاق جذب الماء بالنفس إلى أعلى الأنف.
(5) السواك عند المضمضة: قد تقدم الكلام عليه في بحث خاص(2).
(6) تخليل اللحية: وهو تفريق شعرها من أسفل إلى فوق بعد تثليث غسل الوجه "واللحية" أما خفيفة، ترى البشرة تحتها، فحينئذ يجب إيصال الماء على ما تحتها اتفاقا، لأنه من مسمى الوجه "وأما كثيفة" وهي التي لا ترى منها البشرة (وقد) اختلف العلماء في حكم تخليلها حينئذ (فقالت) المالكية: يجب تحريكها ليصل الماء بين ظاهر الشعر وإن لم يصل للبشرة (وقالت) الشافعية والحنبلية وأبو يوسف: أنه سنة (وقال) أبو حنيفة ومحمد: أنه مستحب.
والأدلة ترجح أنه سنة (أمثلها) حديث عصمان أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يخلل لحيته. أخرجه ابن ماجه والترمذي وصححه والحاكم والدار قطني(3) [171].
(وعن) أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكة فخلل به لحيته. وقال: هكذا أمرني ربي عز وجل. أخرجه أبو داود والبيهقي والحاكم(4) [172].
(
__________
(1) انظر ص 31 ج 1 بدائع المنن (مسح الرأس وإسباغ الوضوء..) وص 25 ج 2- الفتح الرباني. وص 311 ج 2 تيسير الوصول (تخليل اللحية والأصابع).
(2) انظر ص 188 وما بعدها إلى ص 191 وفيه ستة مباحث.
(3) انظر ص 85 ج 1 ابن ماجه (تخليل اللحية). وص 43 ج 1 تحفة الأحوذي.
(4) انظر ص 311 ج 2 تيسير الوصول (تخليل اللحية). وص 54 ج 1 بيهقي.(1/307)
وقال) إسحاق بن راهوية وأبو ثور والحسن بن صالح والظاهرية: يجب تخليلها أخذا بظاهر قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حديث أنس : هكذا أمرنى ربى ( وأجاب ) الجمهور بأن الأمر فيه وفى نحوه للندب . نعم، الاحتياط والأخذ بالأوفق أولى، لكن بدون مجارأة على الحكم بالوجوب.
(7) تخليل الأصابع (قال) الجمهور: يسن في الوضوء تخليل أصابع اليدين والرجلين (لحديث) ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إذا توضأت فخلل أصابع يديك ورجليك. أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب حسن. وحسنه البخاري(1) [173].
(وعن) لقيط بن صبرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إذا توضأت فخلل الأصابع. أخرجه أحمد والترمذي والحاكم وصححاه(2) [174].
(وقالت) المالكية: يجب في أصابع اليدين، ويندب في أصابع الرجلين لأن أصابع اليدين مفرقة. فكل إصبع بمنزلة عضو مستقل. وهم يوجبون التدليك في كل عضو. أما أصابع الرجلين فلشدة اتصالها، اعتبرت كعضو واحد، فلا يلزم تخليلها. ومحل الخلاف إذا وصل الماء إلى ما بين الأصابع بلا تخليل. أما إذا لم يصل إلا به، فإنه يجب التخليل لا لذاته، بل لأداء فرض الغسل.
(والأكمل) في تخليل أصابع اليدين أن يكون بالتشبيك بينهما جاعلا ظهر أحدهما لبطن الأخرى. وفي أصابع الرجلين يكون بخنصر اليد اليسرى بادئا بخنصر رجله اليمين خاتما بخنصر رجله اليسرى (لقول) المستورد بن شداد: رأيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخلل أصابع رجليه بخنصره. أخرجه البيهقي والأربعة إلا النسائي. وفي سنده ابن لهيعة. وقال الترمذي: حسن غريب. وصححه ابن القطان(3) [175].
__________
(1) انظر ص 50 ج 1 تحفة الأحوذي (تخليل الأصابع).
(2) أنظر ص 49 ج 1 تحفة الأحوذي. وص 31 ج 2- الفتح الرباني.
(3) انظر ص 77 ج 1 سنن البيهقي (كيفية التخليل) وص 311 ج 2 تيسير الوصول (تخليل اللحية والأصابع).(1/308)
وإنما كان تخليل الرجلين بخنصر اليسرى، لأنهما محل الوسخ. وكان بالكيفية المذكورة، لما فيها من السهولة والمحافظة على التيامن.
(8) التيامن في الوضوء: وهو البدء بغسل اليمين قبل غسل اليسار من كل عضوين لا يسن تطهيرهما معا كاليدين والرجلين. وهو سنة عند الشافعية وأحمد ومستحب عند المالكية. وهو مشهور مذهب الحنفيين. لكن حقق الكمال ابن الهمام أنه سنة، لثبوت المواظبة (قالت) عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يحب التيامن ما استطاع في طهوره وتنعله وترجله وفي شأنه كله. أخرجه السبعة بألفاظ متقاربة(1) [176].
(فهو) يدل على مشروعية الابتداء باليمين في لبس النعال وفي تسريح الشعر، وفي الوضوء والغسل. وأن التيامن سنة في كل ما كان من باب التكريم والتزيين وما كان بضدها استحب فيه التياسر. وأجمع أهل السنة على أن تقديم اليمين في الوضوء سنة من خالفها فاته الفضل وتم وضوءه (وقالت) الشيعة: يجب تقديم غسل اليمين قبل اليسار في الطهارة (لحديث) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إذا لبستم وإذا توضأتم فابدءوا بميامنكم. أخرجه أحمد وأبو داود والبيهقي(2) [177].
(
__________
(1) ص 5 ج 2- الفتح الرباني. وص 189 ج 1 فتح الباري (التيمن في الوضوء والغسل) وص 161 ج 3 نووي مسلم (حبه صلى الله عليه وسلم للتيامن) ورقم 6995 ص 207 ج 5 فيض القدير شرح الجامع الصغير.
(2) انظر ص 5 ج 2- الفتح الرباني. ورقم 843 ص 436 ج 1 فيض القدير. وص 86 ج 1 سنن البيهقي (البداءة باليمين).(1/309)
وأجاب) الجمهور بأن الأمر فيه محمول على الندب. فقد استمل الحديث على الأمر بالتيامن في اللبس. والشيعة لا يقولون بوجوبه. فهذا يصلح قرينة لصرف الأمر إلى الندب. ودلالة الاقتران وإن كانت ضعيفة، لكنها لا تقتصر عن الصلاحية للصرف (ويعضدها) ما روى عن علي رضي الله عنه أنه قال: ما أبالي لو بدأت بالشمال قبل اليمين إذا أكملت الوضوء. أخرجه الدار قطني والبيهقي(1) [18] ونحوه عن ابن مسعود.
(9) تثنية الغسل وتثليثه: اتفق العلماء على أن الغسلة الأولى المستوعبة فرض في الأعضاء الثلاثة "الوجه واليدين والرجلين" وأن الثانية والثالثة سنتان (لحديث) ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم توضأ مرة مرة وقال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به، وتوضأ مرتين مرتين وقال: هذا وضوء من يضاعف الله له الأجر مرتين، وتوضأ ثلاثا ثلاثا وقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي. أخرجه البيهقي(2) [178].
__________
(1) انظر ص 87 ج 1 بيهقي (البداءة باليسار). وص 23 سنن الدارقطني.
(2) انظر ص 80 ج 1 سنن البيهقي (فضل التكرار في الوضوء).(1/310)
وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بالغسل مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثا ثلاثا. وبعض الأعضاء ثلاثا وبعضها مرتين. والاختلاف دليل على جواز ذلك وأن الثلاث هي الكمال. والواحدة تجزئ. (والأحاديث) الصحيحة في هذا كثيرة. وكلها تدل على ثبوت التوضؤ ثلاثا ثلاثا عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بلا خلاف (وخرج) بالغسل المسح. فلا يسن تكريره عند الحنفيين ومالك وأحمد والجمهور بل السنة مسح الرأس، مرة واحدة. لقول أبي حية: رأي عليا توضأ فغسل كفيه حتى أنقاهما. ثم مضمض ثلاثا، واستنشق ثلاثا، وغسل وجهه ثلاثا وذراعيه ثلاثا، ومسح برأسه مرة، ثم غسل قدميه إلى الكعبين. ثم قال: أحببت أن أريكم كيف كان طهور النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أخرجه الترمذي وصححه(1) [179].
(وعن عبد الله) بن أبي أوفى قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا ومسح رأسه مرة. أخرجه ابن ماجه(2) [180].
(وعن ابن عباس) أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتوضأ فذكر الحديث كله ثلاثا ثلاثا قال: ومسح برأسه وأذنيه مسحة واحدة. أخرجه أحمد وأبو داود(3) [181].
(وقال) الشافعي وعطاء: يستحب تثليث مسح الرأس (لقول) عثمان رضي الله عنه: ألا أريكم وضوء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تم توضأ ثلاثا ثلاثا. أخرجه مسلم(4) [182].
__________
(1) انظر ص 53 ج 1 تحفة الأحوذي (وضوء النبي صلى الله عليه وسلم).
(2) انظر ص 83 ج 1- ابن ماجه (الوضوء ثلاثا ثلاثا).
(3) انظر ص 66 ج 2- المنهل العذب المورود (صفة وضوء النبي).
(4) انظر ص 113 ج 3 نووي مسلم (فضل الوضوء والصلاة عقبه).(1/311)
ولم يستثن الرأس (وأجيب) بأن المطلق يحمل على المقيد فلا ينتهض للاحتجاج به على طلب تثليث مسح الرأس (وقال أبو داود) أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة، فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثا وقالوا فيها: ومسح برأسه. ولم يذكروا عددا كما ذكروا في غيره(1).
(والإنصاف) أن أحاديث الثلاث لم تبلغ درجة الاعتبار حتى يلزم التمسك بها لما فيها من الزيادة "فالوقوف" على ما صح من الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما من حديث عثمان وعبد الله بن زيد وغيرهما "هو المتعين" لا سيما بعد تقييده في تلك الروايات بالمرة الواحدة (وقال) الحافظ في الفتح يحمل ما ورد من الأحاديث في تثليث المسح ابن صحت على إرادة الاستيعاب بالمسح، لا أنها مسحات مستقلة لجميع الرأس جمعا بين الأدلة(2). وعن الربيه بنت معوذ أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مسح برأسه مرتين بدأ بمؤخر رأسه ثم بمقدمه (الحديث) أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن وحديث عبد الله بن زيد أصح من هذا وأجود(3) [183] وقد قال بهذا الحديث بعض الكوفيين منهم وكيع بن الجراح "وما" تقدم في حديث عبد الله ابن زيد(4) من قوله: مسح صلى الله عليه وسلم رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر "لا يعد" تكرارا للمسح ، لأن الرد لم يكن بماء جديد اتفاقا.
__________
(1) انظر ص 23 ج 2- المنهل العذب المورود (صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم).
(2) انظر ص 208 ج 1 فتح الباري (مسح الرأس مرة).
(3) انظر ص 45 ج 1 تحفة الأحوذي (باب ما جاء في مسح الرأس).
(4) تقدم رقم 142 ص 241 (مسح الرأس).(1/312)
10- مسح الأذنين: الأذنان من الرأس عند الحنفيين ومالك وأحمد والجمهور (لقول) أبي أمامة: توضأ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فغسل وجهه ثلاثا ويديه ثلاثا ومسح برأسه وقال "الأذنان من الرأس" أخرجه الترمذي. وأخرجه ابن ماجه بلفظ: الأذنان من الرأس، وكان يمسح رأسه مرة(1) [184].
(وقال) الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن بعدهم. وبه يقول سفيان وابن المبارك وأحمد وإسحاق (ويسن) عند الحنفيين مسحهما ولو بماء الرأس (لما تقدم) عن ابن عباس من قوله: ومسح "يعني النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم" برأسه وأذنيه مسحة واحدة(2).
(وقالت) الحنبلية: يجب مسح الأذنين ظاهرهما وباطنهما لأنهما من الرأس ويسن مسحهما بماء جديد (لحديث) عبد الله بن زيد الآتي.
(ومن) الرأس البياض فوق الأذنين فيجب مسحه مع الرأس(3) وعن أحمد أنه لا يجب مسح الآذنين وهو ظاهر المذهب لأنهما من الرأس على وجه التبع(4).
(وقال) المالكية والشافعية: يسن مسح ظاهرهما وباطنهما بعد مسح الرأس بماء جديد (لحديث) عبد الله بن زيد أنه رأى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتوضأ فأخذ لأذنيه ماء خلاف الماء الذي أخذه لرأسه. أخرجه البيهقي وقال: هذا إسناد صحيح(5) [185].
(وأجاب) الحنفيون بأنه إنما أخذ لهما ماء جديدا لعدم بقاء بلل على اليد بعد مسح الرأس، جمعا بينه وبين الروايات الكثيرة الدالة على أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم مسح الرأس والأذنين بماء واحد.
(
__________
(1) انظر ص 47 ج 1 تحفة الأحوذي. وص 87 ج 1- ابن ماجه (الاذنان من الرأس).
(2) تقدم رقم 181 ص 241 (مسح الأذنين).
(3) انظر ص 73 ج 1 كشاف القناع (فصل ثم يمسح جميع ظاهر رأسه).
(4) انظر ص 138 ج 1- الشرح الكبير لابن قدامة (فصل ويجب مسح الاذنين).
(5) انظر ص 65 ج 1 سنن البيهقي (مسح الأذنين بماء جديد).(1/313)
ومنه) تعلم ما في قول ابن القيم في الهدى: ولم يثبت عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه أخذ لهما ماء جديدا. وإنما صح ذلك عن ابن عمر(1).
هذا. والسنة عند الجمهور مسح باطنهما بالسبابتين وظاهرهما بالإبهامين (لحديث) ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مسح برأسه وأذنيه ظاهر ما وباطنهما. أخرجه الترمذي وصححه، والنسائي بلفظ "ثم مسح برأسه وأذنيه باطنهما بالسباحتين وظاهرهما بإبهاميه"(2) [186].
(وعن) المقدام بن معديكرب أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم توضأ ومسح برأسه وأنيه ظاهرهما وباطنهما وأدخل أصبعيه في ضماخي أذنيه. أخرجه أبو داود وابن ماجه والطحاوي بسند حسن(3) [187].
4- مستحبات الوضوء
هي جمع مستحب. وهو لغة المحبوب. وشرعا ما لم يواظب عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم سواء فعله مرة وتركه أخرى، أو رغب فيه. وهو المندوب سواء. وللوضوء مستحبات كثيرة المذكور منها سبعة عشر.
1- استقبال القبلة: يستحب عند الحنفيين ومالك استقبال القبلة حال الوضوء. ويسن عند غيرهم (لحديث) ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: خير المجالس ما استقبل به القبلة. أخرجه ابن جرير(4)[188].
2- تقديمه على الوقت لغير المعذور.
3- ترك لطم الوجه وغيره من الأعضاء. وهو مستحب عند الجمهور، لأن كل من وصف وضوء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يذكر أنه ضرب وجهه بالماء (وقال) إبراهيم النخعي: لم يكونوا يلطمون وجوههم بالماء في الوضوء. أخرجه سعيد بن منصور [19].
(
__________
(1) انظر ص 49 ج 1 زاد المعاد (هدية صلى الله عليه وعلى آله وسلم في العبادة).
(2) انظر ص 47 ج 1 تحفة الأحوذي (باب مسح الأذنين ظاهرهما وباطنهما).
(3) انظر ص 52 ج 2- المنهل العذب. و86 ج 1- ابن ماجه (مسح الأذنين).
(4) انظر ص 281 راموز الأحاديث.(1/314)
وقال) بعضهم: يستحب للمتوضئ ضرب الوجه بالماء، لما في حديث على رضي الله عنه قال: يا بن عباس ألا أريك كيف كان يتوضأ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (الحديث) وفيه: ثم تمضمض واستنثر. ثم أدخل يديه في الإناء جميعا فأخذ بهما حفنة من ماء فضرب بها وجهه (الحديث) أخرجه أبو داود والبيهقي. وفي رواية أحمد وابن حبان: فصك بها على وجهه(1) [189].
وذكره ابن حبان تحت ترجمة "استحباب صك الوجه بالماء للمتوضئ عند غسل الوجه" (وأجاب) الجمهور بأن الحديث متكلم فيه. وعلى فرض صحته فيحمل الضرب أو الصك فيه على صب الماء وإفاضته على الوجه جمعا بين الأحاديث. ولأن لطم الوجه بالماء لا يتفق والكمال.
4- عدم التكلم حال الوضوء: هو مستحب إلا لحاجة تفوته، كأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد ضال ورد سلام "وأما حديث" عبد الرحمن ابن البيلماني قال: رأيت عثمان بن عفان جالسا بالمقاعد(2) يتوضأ فمر به رجل فسلم عليه فلم يرد عليه حتى فرغ من وضوئه ثم دخل المسجد فوقف على الرجل فقال: لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني سمعت رسول الله صلى اله عليه وعلى آله وسلم يقول: من توضأ فغسل يديه، ثم مضمض ثلاثا، واستنشق ثلاثا، وغسل وجهه ثلاثا، ويديه إلى المرفقين، ومسح برأسه، ثم غسل رجليه، ثم لم يتكلم حتى يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، غفر له ما بين الوضوءين . أخرجه أبو يعلي "فهو شعيف" لأن في سنده محمد بن عبد الرحمن بن البيلمانى وهو مجمع على ضعفه . قال الهيثمي(3) [190].
__________
(1) انظر ص 35 ج 2- المنهل العذب. وص 54 ج 1 بيهقي (التكار في غسل الوجه).
(2) المقاعد، بفتح الميم والقاف، موضع مرتفع قرب مسجد المدينة اتخذه عثمان للقعود فيه لقضاء مصالح الناس.
(3) انظر ص 239 ج 1 مجمع الزوائد (ما يقول بعد الوضوء).(1/315)
"وكذا" حديث سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن حضين ابن المنذر عن المهاجر بن قنقذ قال: أتيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يتوضأ فسلمت عليه. فلم يرد علي، فلما فرغ قال : أنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت على غير وضوء. أخرجه النسائي وابن ماجه والحاكم ، وقال صحيح على شرط الشيخين(1)[191].
"ورد" بأنه معلول. فقد قال ابن دقيق العيد: سعيد بن أبي عروبة كان قد اختلط في آخره. ورواه حماد بن سلمة عن حميد وغيره عن الحسن عن مهاجر منقطعا. وعلى فرض صحته، فهو لا يدل على عدم مشروعية رد السلام من المتوضئ، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لم ينه من سلم عليه حال الوضوء عن السلام بل أخر الرد على ما بعد الوضوء اختيارا للأكمل، ولأنه لم يخش فوات رد السلام.
5- تحريك الخاتم: يستحب عند الحنفيين ومالك للمتطهر تحريك الخاتم الواسع إذا علم وصول الماء إلى ما تحته بدون تحريك. ويسن عند الشافعية والحنبلية (لحديث) أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا توضأ حرك خاتمه. أخرجه ابن ماجه والدار قطني. وفي سنده معمر بن محمد بن عبيد الله عن أبيه. وهما ضعيفان(2) [192].
ومثل الخاتم في ذلك ما يشبهه من الأساور والخلاخل ونحوها.
6- البداءة بتطهير مقدم الأعضاء: قالت المالكية وبعض الحنفيين: يستحب للمتوضئ البداءة بأعلى الوجه، وبأصابع اليدين والرجلين، وبمقدم الرأس.
(
__________
(1) انظر ص 15 ج 1 مجتبي (رد السلام بعد الوضوء) وص 74 ج 1- ابن ماجه (الرجل يسلم عليه وهو بيول).
(2) رقم 6622 ص 114 ج 5 فيض القدير شرح الجامع الصغير.(1/316)
وقالت) الحنبلية وبعض الحنفيين: أنه سنة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولأن الله تعالى جعل المرافق والكعبين غاية الغسل فتكون منتهى الفعل (وقالت) الشافعية: يسن ما ذكر في الوجه والرأس مطلقا، وفي اليدين والرجلين أن اغترف الماء بيده، أما أن توضأ من حنفية أو إبريق أو وضأه غيره بدأ في اليدين من المرفق، وفي الرجلين من الكعبين. ولم نقف لهذا التفصيل على دليل.
7- إطالة الغرة والتحجيل: (الغرة) في الأصل بياض في جبهة الفرس. والمراد بها هنا غسل شيء من مقدم الرأس وما يجاوز الوجه زائدا على المفروض غسله . ( والتحجيل ) في الأصل بياض في رجل الفرس. والمراد به هنا غسل ما فوق المرفقين والكعبين بان يغسل الذراعين لنصف العضدين، والرجلين لنصف الساقين. هذا. وقد اتفق الأئمة على أنه يفترض غسل جزء زائد من محل الفرض إذا لم يتم الفرض إلا به. أما الزيادة على ما ذكر فمستحبة عند غير المالكية ( لحديث ) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أن أمتي يأتون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل . أخرجه أحمد والشيخان(1)[193].
(وقال) أبو حازم: كنت خلف أبي هريرة وهو يتوضأ وهو يمر الوضوء إلى إبطه. فقلت يا أبا هريرة ما هذا الوضوء؟ قال أني سمعت خليلي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: تبلغ الحلية من المؤمن إلى حيث يبلغ الوضوء. أخرجه أحمد ومسلم(2) [194].
(
__________
(1) تقدم رقم 137 ص 317 ص 216 (الوضوء) و(غرا محجلين) أي على وجوههم وفي أيديهم وأرجلهم نور. سمي غرة وتحجيلا تشبيها له بغرة الفرس.
(2) انظر ص 30 ج 2- الفتح الرباني. ص 140 ج 3 نووي مسلم (إطالة الغرة والتحجيل) و(تبلغ الحلية..) يعني أن حلية المؤمن في الجنة تبلغ منه حيث يبلغ الوضوء.(1/317)
وقالت) المالكية: يكره غسل ما زاد عما لا يتم الواجب إلا به. وتأولوا إطالة الغرة والتحجيل بإدامة الوضوء (ويرده) فعل أبي هريرة مستدل بقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: تبلغ الحلية من المؤمن إلى حيث يبلغ الوضوء والمراد بالحلية التحجيل.
8- كونه في مكان طاهر: اتفق العلماء على أنه يستحب كون الطهارة في محل طاهر شأنا وفعلا. فتكره في موضع متنجس بالفعل، وفي موضع شأنه النجاسة ولو لم يتنجس كبيت الخلاء، صونا للعبادة عن محل القذارة (ولحديث) عبد الله بن مغفل أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى أن يبول الرجل في مستحمه وقال: أن عامة الوسواس منه. أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي(1) [195] فالنهي عن البول في المغتسل يتضمن أن تكون الطهارة في مكان طاهر.
9- البدء ببعض السنن: (قالت) المالكية: يستحب تقديم غسل اليدين إلى الكوعين، والمضمضة والاستنشاق على غسل الوجه. وقال غيرهم: أنه سنة.
10- الاقتصاد في الماء: (قال) الحنفيون ومالك: يستحب تقليل ماء الطهارة بحسب الأماكن بعد تعميم العضو بالماء. (وهو) سنة عند الشافعي وأحمد (وقد) أجمعوا على عدم التقدير في ماء الوضوء والغسل، لأنه لم يرد في ذلك تحديد صريح. ولأنه يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص. ولكن يطلب التوسط والاعتدال. فلا يقتر ولا يزيد على قدر الكفاية اقتداء بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (وقد ورد) في ذلك أحاديث (فعن) أنس بن مالك أن النبي صلى الله وعلى آله وسلم قال: يجزئ في الوضوء رطلان من ماء. أخرجه أحمد والترمذي وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث شريك(2) [196].
(
__________
(1) انظر ص 84 ج 1- الترغيب والترهيب (الترهيب من البول في الماء والمغتسل والحجر).
(2) انظر ص 4 ج 2- الفتح الرباني. و(شريك) أبو عبد الله النخعي صدوق يخطئ كثيرا تغير حفظله، وشيخه عبد الله بن عيسى ضعيف.(1/318)
وعنه) أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يتوضأ برطلين، ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال. أخرجه الدار قطني وقال: تفرد به موسى بن نصر. وهو ضعيف الحديث(1) [197].
(وعن) عبيد الله بن أبي يزيد أن رجلا قال لابن عباس كم يكفيني من الوضوء؟ قال مد. قال كم يكفيني للغسل؟ قال صاع. فقال الرجل لا يكفيني. فقال: لا أم لك قد كفى من هو خير منك، رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أخرجه أحمد والبزار والطبراني في الكبير. ورجاله ثقات(2) [198].
(وعن) أم عمارة بنت كعب أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم توضأ بنحو ثلثي مد. أخرجه أبو داود والنسائي. وصححه أبو زرعة(3) [199].
11- مسح الصدغين : هما تثنية صدغ بضم فسكون . وهو ما بين العين والأذن . ويطلق على الشعر المتدلي على هذا الموضع . ومسحة مشروع تكميلا لمسح الرأس لا أنه منه ، بل هو من الوجه . وفرضه الغسل ( ودليله ) حديث الربيع بنت معوذ قالت : رأيت رسول الله صلى الله علبيه وعلى آله وسلم يتوضأ فمسح رأسه ومسح ما أقبله منه وما أدبر وصدغيه وأذنيه مرة واحدة . أخرجه أحمد وأبو داود والبيهقي والترمذي . ومال : حسن صحيح(4) [200]. وفى سنده عبد الله بن محمد بن عقيل وفيه مقال. لكن وثقه أحمد والنسائي. وللحديث عدة طرق يقوي بعضها بعضا.
__________
(1) انظر ص 35 سنن الدارقطني (ما يستحب للمتوضئ والمغتسل).
(2) انظر ص 3 ج 2- الفتح الرباني وص 218 ج 1 مجمع الزوائد (ما يكفي للوضوء والغسل) و(لا أم لك) هو ذم وسب، أي أنت لقيط لا تعرف لك أم.
(3) انظر ص 307 ج 1- المنهل العذب (ما يجزئ من الماء في الوضوء).
(4) انظر ص 45 ج 1 تحفة الأحوذي (مسح الراس مرة) وص 359 ج 6 مسند أحمد. وص 59 ج 2- المنهل العذب المورود (صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم).(1/319)
12- مسح الرقبة: (قال) الحنفيون وبعض الشافعية : يستحب للمتوضئ مسح الرقبة بظهر يديه، لعدم استعمال بلتهما (لقول) وائل بن حجر: حضرت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقد أتى بإناء فيه ماء فأكفأ على يمينه ثلاثا (الحديث) وفيه: ثم مسح على رأسه ثلاثا ومسح ظاهر أذنيه ومسح رقبته وباطن لحيته بفضل ماء الرأس. أخرجه الطبراني في الكبير والبراز. وفيه سعيد ابن عبد الجبار. قال النسائي: ليس بالقوى وذكره ابن حبان في الثقات. وفيه محمد بن حجر وهو ضعيف(1) [201].
(وروى) طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده عمرو بن كعب قال: رأيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يمسح رأسه مرة واحدة حتى بلغ القذال وما يليه من مقدم العنق. أخرجه أحمد وأبو داود وقال: سمعت أحمد يقول: ابن عيينة كان ينكره، ويقول: أيش هذا طلحة عن أبيه عن جده، وليث بن أبي سليم ضعيف تركه يحيى بن القطان وابن معين وأحمد، لكن أخرج له مسلم(2) [202].
(
__________
(1) انظر ص 232 ج 1 مجمع الزوائد (ما جاء في الضوء).
(2) انظر ص 35 ج 2- الفتح الرباني. وص 62 ج 2- المنهل العذب (صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم) و(القذال) بفتحتين، مؤخر الراس. و(أيش) بفتح فسكون فكسر. اصله أي شيء وهو استفهام إنكاري أي لا شيء هذا الحديث لأنه من رواية طلحة عن أبيه عن جده وهما مجهولان.(1/320)
وقال) الجمهور: لا يستحب مسح الرقبة لأنه لم يثبت فيه حديث صحيح ولا حسن (وتعقبه) ابن الرفعة بأن لا مأخذ لاستحبابه إلا خبر أو أثر، لأن هذا لا مجال للقياس فيه. والأحاديث السابقة وإن كان في بعضها مقال، إلا أنها لكثرتها يقوي بعضها بعضا. وبها تعلم أن "قول" النووي: مسح الرقبة بدعة وأن حديثه موضوع "مجازفة" وأعجب من هذا قوله: لم يذكره الشافعي، ولا جمهور الأصحاب، وإنما قاله ابن القاص وطائفة يسيرة. فقد قال الروياني من أصحاب الشافعي في كتابه البحر: قال أصحابنا هو سنة(1). أما مسح الحلقوم وهو مقدم العنق فيدعة اتفاقا.
13- عدم الاستعانة بالغير: اتفق العلماء على أنه يستحب للقادر أن يتولى تطهير الأعضاء بنفسه من غير معاونة (لقول) ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يكل طهوره إلى أحد، ولا صدقته التي يتصدق بها، يكون هو الذي يتولاها بنفسه. أخرجه ابن ماجه والدار قطني. وفي سنده علقمة ابن أبي جمرة مجهول. ومظهر ابن الهيثم وهو ضعيف متروك(2) [203].
(أما الاستعانة) لإحضار الماء وصبه فقد اتفق الأئمة وعلماء السنة على إباحته (لقول) المغيرة بن شعبة: كنت مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سفر فقال: يا مغيرة خذ الإداوة، فأخذتها ثم خرجت معه، وانطلق حتى توارى عني فقضى حاجته ثم جاء وعليه جبة شامية ضيقة الكمين فذهب يخرج يده من كمها فضاقت عليه فأخرج يده من أسفلها فصببت عليه فتوضأ وضوءه للصلاة ثم مسح على خفيه ثم صلى. أخرجه الشيخان والنسائي(3) [204].
(
__________
(1) انظر ص 204 ج 1 نيل الأوطار (مسح العنق).
(2) انظر ص 219 ج 1 نيل الأوطار (المعاونة في الوضوء).
(3) انظر ص 323 ج 1- فتح الباري (الصلاة في الجبة الشامية) وص 169 ج 3 نووي مسلم (المسح على الخفين) و(الإداوة) بالكسر إناء صغير من جلد يتخذ للماء.(1/321)
وأما) ما قيل: بادر عمر ليصب الماء على يدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: أنا لا استعين في وضوئي بأحد (فباطل) لا أصل له(1).
(هذا) ويستحب كون المعين عن يسار المتطهر ليسهل تناول الماء عند الصب، وجعل الإناء الذي يصب منه عن يساره ليصب بها على يمينه، وجعل الإناء الكبير الذي يعترف منه عن يمينه ليغترف منه بها.
(14) الدعاء بعد الوضوء: اتفق العلماء على أنه يستحب لمن توضأ (أن يدعو) بعد الوضوء- مستقبلا القبلة رافعا بصره إلى السماء- (بما) في حديث عمر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء، أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وزاد: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين(2) [205].
(
__________
(1) انظر ص 239 ج 1 مجموع النووي.
(2) انظر ص 310 ج 1- الفتح الرباني. وص 118 ج 3 نووي مسلم (الذكر المستحب عقب الوضوء) وص 55 ج 2- المنهل العذب (ما يقول الرجل إذا توضأ) وص 58 ج 1 تحفة الأحوذي (ما يقال بعد الوضوء) وقوله "هذا في إسناده اضطراب ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كثير شيء" رده الحافظ في التلخيص قال: لكن رواية مسلم سالمة من هذا الاعتراض والزيادة التي عنده (أي الترمذي) رواها البزار والطبراني في الأوسط عن ثوبان. أنظر ص 59 ج 1 تحفة الأحوذي. وروى الحديث ابن ماجه عن أنس. أنظر ص 90 ج 1 (ما يقال بعد الوضوء).(1/322)
ويختم الدعاء) بما في حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: من توضأ فقال: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، كتب في رق ثم طبع بطابع فلا يكسر إلى يوم القيامة" أخرجه ابن السني والطبراني في الأوسط ورواته رواة الصحيح . والحاكم والنسائي وصحح وقفه(1)[206].
(وهذا) الدعاء هو الوارد عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم "أما ما اعتاده" بعض الناس وذكره بعض الفقهاء من الدعاء عند كل عضو كقولهم عند غسل الوجه: اللهم بيض وجهي يوم تبيض وجوه وتسود وجوه. وعند غسل اليد اليمني: اللهم أعطني كتابي بيميني لا تعطني كتابي بشمالي. وعند غسل اليد اليسرى: اللهم يسر ولا تعسر "فلم يثبت" فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(قال) النووي في الروضة: هذا الدعاء لا أصل له ولم يذكره الشافعي ولا الجمهور. وقال ابن الصلاح: لم يصح فيه حديث(2).
وقد روى فيه عن علي كرم الله وجهه من طرق ضعيفة جدا أوردها علاء الدين على المتقي في كنز العمال وبين ضعفها(3).
(
__________
(1) انظر ص 414 راموز الأحاديث. وص 105 ج 1- الترغيب والترهيب (الترغيب في كلمات يقولها بعد الوضوء) و(الرق) بالفتح جلد رقيق يكتب عليه.
(2) انظر ص 59 ج 1 تحفة الأحوذي الشرح.
(3) هي (أ) حديث رقم 2263 ص 112 ج 5 كنز العمال ذكر فيه عن علي هذه الاذكار وقال: فيه خارجة بن مصعب تركه الجمهور وكذبه ابن معين. وقال ابن حبان: كان يدلس عن الكذابين (ب) وحديث 2364 ص 113 وقال: في سنده غير واحد يحتاج إلى معرفته. وفيه أحمد بن مصعب قال في اللسان: متهم بوضع الحديث (جـ) وحديث رقم 2365 ص 112 وقال: وفيه أصرم بن حوشب كان يضع الحديث.(1/323)
والحكمة) في ختم الوضوء والصلاة وغيرهما بالاستغفار، أن العباد مقصرون عن القيام بحقوق الله وأدائها على الوجه اللائق بجلاله وعظمته. وإنما يؤدونها على قدر ما يطيقونه. فالعارف يرى أن قدر الحق أعلى وأجل من ذلك فيستحي من عمله ويستغفر من تقصيره فيه كما يستغفر غيره من ذنوبه وغفلاته(1).
(فائدة) ذكر بعض الفقهاء أنه يندب قراءة سورة القدر ثلاثا بعد الوضوء ( لحديث ) أنس أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: " من قرأ في أثر وضوئه: أنا أنزلناه في ليلة القدر واحدة، كان من الصديقين . ومن قرأها مرتين كتب في ديوان الشهداء . ومن قرأها ثلاثا يحشره الله محشر الأنبياء " أخرجه الديلمي في مسند الفردوس(2)[207]. لكن قال الحافظ السخاوي في المقاصد الحسنة: حديث قراءة (إنا أنزلناه) عقب الوضوء، لا أصل له، وقال السيوطي: في سنده أبو عبيدة مجهول.
(15) الشرب من فضل الوضوء- قال الحنفيون وأحمد والشافعية: يستحب الشرب من فضل ماء الوضوء قائما أو قاعدا مستقبلا القبلة، لأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم شرب قائما من فضل وضوئه ومن ماء زمزم. (وعن عبد خير) أن عليا أتى بوضوء أو أتى بإناء فيه ماء فأفرغ على يديه من الإناء فغسلهما ثلاثا (الحديث) وفيه: ثم صب بيده اليمنى على قدمه اليسرى ثم غسلها بيده اليسرى ثلاث مرات. ثم أدخل يده اليمنى في الإناء فغرف بيده فشرب. وفي رواية: وشرب فضل وضوئه، ثم قال: هذا طهور. أخرجه أحمد والدار قطني بسند جيد(3)[208].
(
__________
(1) انظر ص 80 ج 1 كشاف القناع (سنن الوضوء).
(2) انظر ص 438 راموز الأحاديث.
(3) انظر ص 8 ج 2- الفتح الرباني. وص 33 سنن الدارقطني.(1/324)
16) التنشيف بعد الطهارة: قال الحنفيون والثوري ومالك وأحمد: لا بأس بالتمسح بمنديل ونحوه بعد الطهارة، بل عده في الدر المختار من الآداب (لقول) معاذ: رأيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه. أخرجه البيهقي والترمذى وقال: هذا حديث غريب وإسناده ضعيف ورشدين بن سعد وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي يضعفان في الحديث(1) [209].
(وعن) أياس بن جعفر عن صحابي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان له منديل أو خرقة يمسح بها وجهه إذا توضأ. أخرجه البيهقي والنسائي في الكني بسند صحيح(2) [210].
والأحاديث في ذلك كثيرة. وهي وإن كان في بعضها مقال إلا أنها لكثرتها يقوي بعضها بعضا.
(والمشهور) عند الشافعية أن المستحب ترك تنشيف الأعضاء، وقيل أنه مباح وقيل مستحب لما فيه من الأحتراز عن الأوساخ ولما تقدم. وقيل: يكره في الصيف دون الشتاء. وهذا كله ما لم تكن هناك حاجة إلى التنشيف كبرد أو التصاق نجاسة، وإلا فلا كراهة قطعا(3).
(
__________
(1) انظر ص 57 ج 1 تحفة الأحوذي (المنديل بعد الوضوء).
(2) انظر ص 57 ج 1 تحفة الأحوذي الشرح.
(3) انظر ص 461 ج 1 مجموع النووي.(1/325)
وقال) بعض الشافعية وسعيد بن المسيب: يكره التمسح بمنديل ونحوه (لحديث) أنس أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم له يكن يمسح وجهه بالمنديل بعد الوضوء، ولا أبو بكر ولا عمر ولا علي ولا ابن مسعود. أخرجه ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ بسند ضعيف(1) [211]. وهو لضعفه لا يحتج به (وعلى) فرض صحته، فهو محمول على أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يكن يعتاد المسح به (ويؤيده) حديث الأعمش عن سالم عن كريب حدثنا ابن عباس عن خالته ميمونة قالت: وضعت للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم غسلا يغتسل به من الجنابة (الحديث) وفيه فناولته المنديل فلم يأخذه وجعل ينفض بيده. أخرجه السبعة والبيهقي. وزاد أحمد وأبو داود: "قال الأعمش" فذكرت ذلك لإبراهيم "يعني التيمي" فقال : كانوا لا يرون بالمنديل بأسا. ولكن كانوا يكرهون العادة(2)[212].
(وقال) ابن عباس: أنه مكروه في الوضوء دون الغسل.
__________
(1) انظر ص 57 ج 1 تحفة الأحوذي. الشرح. و(ضعيف) لأن فيه سعيد بن ميسرة البصري. قال البخاري: منكر الحديث. وقال ابن حبان يروي الموضوعات.
(2) أنظر ص 136 ج 2- الفتح الرباني. وص 266 ج 1 فتح الباري (تفض اليدين من غسل الجناية) وص 230 ج 3 نووي مسلم (صفة غسل الجناية) وص 89 ج 1- ابن ماجه (المنديل بعد الوضوء) وص 12 ج 3- المنهل العذب (الغسل من الجنابه.(1/326)
17- صلاة ركعتين بعد الوضوء- يندب عند الحنفيين ومالك وأحمد صلاة ركعتين بعد الوضوء في غير وقت كراهة(1). ويسن عند الشافعية في أي وقت (لقول) عثمان: رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: من توضأ مثل وضوئي هذا ثم أتى المسجد فركع فيه ركعتين غفر له ما تقدم من ذنبه. لا تغتروا. أخرجه أحمد والبخاري(2) [213].
(وقال) أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: "من توضأ فأسبغ الوضوء ثم صلي ركعتين يتمهما أعطاه الله ما سأل معجلا أو مؤخرا" أخرجه أحمد(3) [214].
5- مكروهات الوضوء
جمع مكروه، وهو لغة ضد المحبوب. واصطلاحا ما طلب تركه طلبا غير جازم وهو عند الحنفيين قسمان (أ) مكروه تحريما. وهو ما ثبت النهي عنه بدليل ظني. وهو إلى الحرام أقرب، كالإسراف في الماء غير الموقوف، وكل ما أدى إلى ترك سنة مؤكدة. (ب) ومكروه تنزيها. وهو ما طلب تركه بلا نهي. وهو إلى الحلال أقرب. كالوضوء إلى غير القبلة، وكل ما أدى إلى ترك سنة غير مؤكدة (وقالت) المالكية: ترك أي سنة من سننه مكروه تنزيها. (وقالت) الشافعية ترك السنة المختلف في وجوبها أو المؤكدة مكروه. وترك غيرهما خلاف الأولى (وقالت) الحنبلية: ترك سنة من سنن الوضوء خلاف الأولى ما لم يرد فيه نهي، وإلا كان مكروها (هذا) ومكروهات الوضوء كثيرة.
(
__________
(1) أوقات الراهة ثلاثة: بعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس، وعند الاستواء حتى تزول، وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس.
(2) انظر ص 308 ج 1- الفتح الرباني. وص 183 ج 1 فتح الباري (الوضوء ثلاثا) و(لا تغتروا) أي لا تخدعوا بغفران ما تقدم من الذنوب فترتكبوا غيرها معتمدين على المغفرة بالوضوء، فإنها بمشيئة الله تعالى.
(3) انظر ص 443 ج 6 مسند أحمد (ومن حديث أبي الدرداء رضي الله عنه).(1/327)
منها) الإسراف في الماء: وهو أن يستعمل منه فوق الحاجة الشرعية. وقد اتفق العلماء على أنه مكروه تحريما لو توضأ من ماء مباح أو مملوك "أما الموقوف" على من يتطهر به، ومنه ماء المساجد "فالإسراف فيه حرام" (لحديث) عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مر بسعد وهو يتوضأ فقال ما هذا السرف يا سعد؟ قال أفي الوضوء سرف؟ قال نعم وإن كنت على نهر جار. أخرجه أحمد وابن ماجه. وفي سنده ابن لهيعة وهو ضعيف، لكن قال في المرقاة: سنده حسن(1) [215].
(ولحديث) عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "عبد الله بن عمرو" قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يسأله عن الوضوء. فأراه ثلاثا ثلاثا وقال: هذا الوضوء، من زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم. أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة من طرق صحيحة. وصححه ابن خزيمة وغيره. أخرجه أبو داود بلفظ "فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم(2) [216].
(ففيه) دلالة على أن الزيادة في الغسل عن الثلاث اعتداء وفاعله مسيء بتركه المطلوب، ومتعد حد السنة، وظالم بوضع الشيء في غير موضعه ولا خلاف في كراهته (قال) ابن المبارك: لا آمن إذا زاد في الوضوء على الثلاث أن يأثم (وقال) أحمد وإسحاق: لا يزيد على الثلاث إلا رجل مبتلي(3).
(
__________
(1) انظر ص 3 ج 2 الفتح الرباني. وص 84 ج 1- ابن ماجه (القصد في الوضوء) و(السرف) بفتحتين، التجاوز عن الحد في الماء وغيره.
(2) انظر ص 50 ج 2- الفتح الرباني. وص 84 ج 1- ابن ماجه (القصد في الوضوء) وص 72 ج 2- المنهل العذب (الوضوء ثلاثا ثلاثا).
(3) انظر ص 216 ج 1 نيل الأوطار (كراهة ما جاوز الثلاث).(1/328)
ومنها) التقتير في الماء: وهو ترك المسنون في الغسل، فلو اقتصر على ما دون الثلاث، قيل يأثم أن اعتاد ذلك. وقيل يأثم مطلقا، لما تقدم في رواية أبي داود من قوله عليه الصلاة والسلام: من زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم. وقيل لا يأثم لما تقدم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم توضأ مرتين وقال: هذا وضوء من يضاعف الله له الأجر مرتين (الحديث) أخرجه البيهقي(1).
وهذا هو المختار. وزيادة: أو نقص ضعيفة أو شاذة لأن ظاهرها ذم النقص عن الثلاثة وهو جائر فعله النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فكيف يعبر عنه بأساء أو ظلم. (قال) ابن المواق: إن لم يكن اللفظ شكا من الراوي فهو من الأوهام البينة فإنه لا خلاف في جواز الوضوء مرة ومرتين. والآثار بذلك صحيحة(2).
(ومنها) مبالغة الصائم في المضمضة والاستنشاق مخافة أن يفسد صومه، لما تقدم من قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حديث لقيط بن صبرة. وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما. ولفظه عند أحمد "إذا توضأت فأسبغ وخلل الأصابع، وإذا استنشقت فأبلغ إلا أن تكون صائما"(3). وعلى الجملة فيكره للمتوضئ كل ما يؤدي إلى ترك سنة أو مستحب على ما تقدم بيانه.
(
__________
(1) تقدم رقم 178 ص 240 (تثنية الغسل وتثليثه).
(2) انظر ص 74 ج 2- المنهل (الوضوء ثلاثا ثلاثا).
(3) تقدم رقم 170 ص 237 (ما يسن في المضمة والاستنشاق).(1/329)
فائدة) قال بعض الفقهاء: يكره استعمال الماء المشمس أي الساخن بالشمس في إناء منطبع غير الذهب والفضة كالنحاس والرصاص في بلد حار. (لقول) عائشة أسخنت ماء في الشمس فأتيت به النبي صلى الله عليه وعلى ىله وسلم ليتوضأ به فقال: لا تفعلي يا عائشة، فإنه يورث البرص. أخرجه الطبراني في الأوسط. وفيه محمد بن مروان السدى مجمع على ضعفه. وأخرجه البيهقي من طريقق خالد بن إسماعيل وقال: وهذا لا يصح. خالد بن إسماعيل متروك(1) [217].
(والمشهور) عند مالك والشافعيةك أنه لا يكره إلا ما قصد تشميسه في قطر حار كالحجاز وفي الأواني النحاسية ونحوها لأنها تورث البرص. أما أواني الفخار والمغشي من النحاس والرصاص والقصدير بما يمنع الزهومة فلا كراهة في استعمال المشمس فيها. (وقالت) الحنبلية: لا يكره استعماله. وبه قال بعض الحنفيين والشافعية وهو المختار، لأن الأصل الإباحة (وأجابوا) عن حديث عائشة بأنه ضعيف باتفاق المحدثين. وقد رواه البيهقي من طرق وبين ضعفها كلها. ومنهم من يجعله موضوعا.
(وقال عمر) بن الخطاب لا تغتسلوا بالماء المشمس فإنه يورث البرص.أخرجه البيهقي وهو ضعيف(2)[20].
(فإن) فيل إسماعيل بن عياش متكلم فيه (فحصل) من هذا أن المشمس لا أصل لكراهته. ولم يثبت فيه عن الأطباء شيء. (فالصواب) الجزم بأنه لا كراهة فيه، لأنه الموافق للدليل ولنص الشافعي، فإنه قال في الأم: لا أكره المشمس إلا أن يكره من جهة الطب. ونقله البيهقي عن الشافعي في معرفة السنن والآثار(3).
6- فضل الوضوء
__________
(1) انظر ص 214 ج 1 مجمع الزوائد (الوضوء بالشمس) وص 6 ج 1 بيهقي (كراهة التطهير بالماء المشمس).
(2) انظر ص 6 ج 1 بيهقي (كراهة التطهير بالماء المشمس).
(3) انظر ص 87 ج 1 مجموع النووي (المياه).(1/330)
قد ورد في فضله أحاديث كثيرة (منها) حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه، خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعنه مع الماء. أو مع آخر قطر الماء. فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب" أخرجه مالك وأحمد ومسلم والترمذي وقال حسن صحيح(1) [218].
(وحديث) عبد الله الصنابحي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "إذا توضأ العبد المؤمن فتمضمض خرجت الخطايا من فيه، فإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه. فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفار يديه، فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه. فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من تحت أظفار رجليه. ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة له" أخرجه مالك وأحمد والنسائي والحاكم وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين. وليس له عله(2) [219].
(وعن) أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "ألا أدلكم على ما يكفر الله به الخطايا ويزيد به في الحسنات؟ قالوا بلى يا رسول الله قال: اسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة" أخرجه أحمد وابن حبان(3) [220].
7- هدى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الوضوء
__________
(1) انظر ص 303 ج 2 تيسير الوصول (فضل الوضوء) وص 305 ج 1- الفتح الرباني.
(2) انظر ص 304 ج 2 تيسير الوصول، وص 302 ج 1- الفتح الرباني و(الصنابحي) بضم الصاد وكسر الباء، نسبة إلى صنابح، بطن من مراد. و(الأشجار) جمع شفر بضم فسكون، أصل منبت الشعر في الجفن.
(3) انظر ص 306 ج 1 الفتح الرباني (فضل الوضوء والمشي إلى المساجد).(1/331)
كان صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتوضأ لكل صلاة في غالب أحيانه، وربما صلى الصلوات بوضوء واحد (وكان) يتوضأ بالمد تارة، وبثلثيه تارة، وبأزيد منه تارة (وكان) من أيسر الناس صبا لماء الوضوء (وكان) يحذر أمته من الإسراف فيه. وصح عنه أنه توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثا ثلاثا. وفي بعض الأعضاء مرتين وبعضها ثلاثا (وكان) يتمضمض ويستنشق تارة بغرفة وتارة بغرفتين، وتارة بثلاث (وكان) يصل بين المضمضة والاستنشاق، فيأخذ نصف الغرفة لفمه ونصفها لأنفه. ولا يمكن في الغرفة إلا هذا وأما الغرفتان والثلاث، فيمكن فيهما الفصل والوصل، إلا أن هده صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان الوصل بينهما كما تقدم عن عبد الله ابن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تمضمض واستنشق من كف واحدة. فعل ذلك ثلاثا. وفي لفظ تمضمض واستنثر بثلاث غرفات(1). فهذا أصح ما روى في المضمضة والاستنشاق (وكان) يستنشق بيده اليمني ويستنثر باليسري (وكان) يمسح راسه كله. وتارة يقبل بيديه ويدبر. والصحيح أنه لم يكرر مسح رأسه، بل كان إذا كرر غسل الأعضاء، أفرد مسح الرأس. هكذا جاء عنه صريحا. ولم يصح عنه في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض راسه ألبته. ولكن كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة (ولم يتوتضأ) صلى الله عليه وعلى آله وسلم ألا تمضمض واستنشق. ولم يحفظ عنه أنه أخل به مرة واحدة (وكذلك) كان وضوءه مرتبا متواليا لم يخل به مرة واحدة ألبته (وكان) يمسح على راسه تارة، وعلى العمامة تارة وعلى الناصبة والعمامة تارة (وأما) اقتصاره على الناصية مجردة، فلم يحفظ عنه كما تقدم (وكان) يغسل رجليه إذا لم يكونا في خفين ولا جوربين. ويمسح عليهما إذا كانا في الخفين (وكان) يمسح أذنيه مع رأسه.
__________
(1) تقدم رقم 163 ص 234 (حكم المضمضة والاستنشاق).(1/332)
وكان يمسح ظاهرهما وباطنهما (ولم) يحفظ عنه أنه كان يقول على وضوئه شيئا غير التسمية في أوله وقوله: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين" في آخره. ومما يقال بعد الوضوء أيضا: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك (ولم) يكن يقول في أوله نويت رفع الحدث ولا استباحة الصلاة. ولا هو ولا أحد من أصحابه ألبته. ولم يرو عنه في ذلك حرف واحد لا باسناد صحيح ولا ضعيف (ولم) يتجاوز الثلاث قط(1).
8- كيفية الوضوء
أجمع حديث في هذا ما روى عن سيدنا عثمان وعلي رضي الله عنهما:
(أ) قال حمران بن أبان: دعا عثمان رضي الله عنه بماء فسكب على يمينه فغسله. وفي رواية "فأفرغ على يديه ثلاثا فغسلهما" ثم أدخل يمينه في الإناء فغسل كفية ثلاثا. ثم غسل وجه ثلاث مرار، ومضمض واستنشق واستنثر. وغسل ذراعيه إلى المرفقين ثلاث مرات. ثم مسح رأسه. وأمر بيديه على ظهر أذنيه. ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثلاث مرات. ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلي ركعتين لا يحدث نفسه فيهما، غمر له ما تقدم من ذنبه". وفي روايه "غفر له ما كان بينهما وبين صلاته بالأمس" أخرجه أحمد والشيخان(2) [221].
(
__________
(1) انظر ص 48 ج 1 زاد المعاد.
(2) انظر ص 6 ج 2- الفتح الرباني. وص 182 ج 1 فتح الباري (الوضوء ثلاثا ثلاثا). وص 109 ج 3 نووي مسلم (صفة الوضوء وكماله).(1/333)
ب) (وقال عبد خير): جلس علي رضي الله عنه بعد ما صلى الفجر، ثم قال لغلامه ائتني بطهور، فأتاه الغلام بإناء فيه ماء وطست ونحن جلوس ننظر إليه. فأخذ بيمينه الإناء فأكفأه على يده اليسرى، ثم غسل كفيه. ثم أخذ بيده اليمنى فأفرغ على يده اليسرى ثم غسل كفيه فعله ثلاث مرار، كل ذلك لا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث ثم أدخل يده اليمنى في الإناء فمضمض واستنشق ونثر بيده اليسرى. فعل ذلك ثلاث مرات وفي رواية: فتمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا من كف واحدة، ثم أدخل يده اليمنى في الإناء فغسل وجهه ثلاث مرات، ثم غسل يده اليمنى ثلاث مرات إلى المرفق، ثم غسل يده اليسرى ثلاث مرات إلى المرفق، ثم أدخل يديه اليمنى في الإناء حتى غمرها الماء، ثم رفعها بما حملت من الماء، ثم مسحها بيده اليسرى ثم مسح رأسه بيديه كلتيهما مرة. وفي رواية "ثبدأ بمقدم راسه إلى مؤخره"، ثم صب بيده اليمنى على قدمه اليمنى، ثم غسلها بيده اليسرى، ثم صب بيده اليمنى على قدمه اليسرى ثم غسلها بيده اليسرى ثلاث مرات، ثم أدخل يده اليمنى فغرف بكفه فشرب فضل وضوئه . ثم قال : هذا طهور نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم. أخرجه أحمد وهذا لفظه ، وأبو داود ، والنسائي بسند جديد(1)[222].
9- نواقض الوضوء
نواقض جمع ناقض، والمراد به ما يخرج الوضوء عن إفادة المقصود منه، وهو استباحه ما لا يحل بدونه (والناقض) قسمان: حقيقي وهو ما كان حدثا بنفسه وحكمي وهو ما يعد سببا للحدث غالبا.
(
__________
(1) انظر ص 7 ج 2- الفتح الرباني. وص 26 ج 2- المنهل العذب (صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم). و(الطست) بفتح الطاء فسكون السين المهملتين.(1/334)
فالأول) كل ما خرج من السبيلين على وجه الصحة، سواء أكان معتادا كالبول، أم غير معتاد كالحصاة، نجسا أو غيره كريح من الدبر، لقوله تعالى (أو جاء أحد منكم من الغائط) (1)، وذلك أن الغائط في الأصل المطمئن من الأرض يقصد للحاجة، والمجئ منه ليس ناقضا، فهو كناية عما يلزمه من الخارج (ولحديث) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ" فقال رجل من حضرموت: ما الحدث يا ابا هريرة قال: فساء أو ضراط. أخرجه أحمد والشيخان(2) [223].
والحدث يشمل كل خارج من السبيلين، وإنما فسره أبو هريرة بأخص من ذلك، تنبيها بالأخف على الأغلظ، ومنه:
(أ ) "الودي" بسكون الدال المهملة. وهو ماء أبيض ثخين يخرج عقب البول غالبا.
(ب ) "والمذي" بسكون الذال المعجمة: وهو ماء أبيض رقيق يخرج عند ملاعبة من يشتهي أو النظر إليه والفكر ونحوهما من كل من يؤدي إلى نزول المذي فهما ناقضان للوضوء (لقول) ابن عباس: المني والودي والمذي. أما المني فهو الذي منه الغسل، وأما الودي والمذي فقال: اغسل ذكرك، أو مذاكيرك، وتوضأ وضوءك للصلاة. أخرجه البيهقي(3) [21].
(وقال) على كرم الله وجهه: كنت رجلا مذاء، فسألت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: "من المذي الوضوء، ومن المني الغسل" أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح(4) [224].
وما تقدم ناقض للوضوء اتفاقا (واختلفوا) في القيء والقلس والدم يخرج من الجسد.
(
__________
(1) سورة المسائدة: آية 6.
(2) انظر ص 75 ج 2- الفتح الرباني (الوضوء من الربح). وص 166 ج 1- فتح الباري (لا تقبل صلاة بغير طهور). وص 104 ج 3 نووي مسلم (وجوب الطهارة للصلاة).
(3) انظر ص 169 ج1 سنن البيهقي (المذي والودي لا يوجبان الغسل). و(المذاكير) الذكر والأنثيان.
(4) انظر ص 76 ج 2- الفتح الرباني. وص 94 ج 1- ابن ماجه (الوضوء من المذي). وص 112 ج 1 تحفة الأحوذي (في المني والمذي).(1/335)
أ) (أما القيء) فقال الحنفيون وأحمد وإسحاق: أنه ينقض الوضوء إذا كان ملء الفم، بأن لم يقدر على إمساكه، سواء أكان ماء أم طعاما لم يتغير أو مرة صفراء أو علقا وهو ما اشتدت حمرته وجمد. وأما ما نزل من الرأس فإن كان علقا لم ينقض، وإن كان سائلا نقض ولو قل (لحديث) معدان ابن أبي طلحة عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قاء فتوضأ. قال معدان: فلقيت ثوبان في مسجد دمشق، فذكرت ذلك له، فقال: صدق أنا صببت له وضوءه. أخرجه أبو دواد والترمذي وقال: قد رأى غير واحد من أهل العلم الوضوء من القيء والرعاف، وهو قول الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق. وقال بعض أهل العلم: ليس في القيء والرعاف وضوء. وهو قول مالك والشافعي، وقد جود حسين المعلم هذا الحديث وهو أصح شيء في هذا الباب(1) وقال ابن مندة: هذا إسناد متصل صحيح(2) [225].
(
__________
(1) انظر ص 315 ج 2 تيسير الوصول (القيء). وص 89 ج 1 تحفة الأحوذي (الوضوء من القيء والرعاف).
(2) انظر ص 143 ج 1- الجوهر النقي على البيهقي.(1/336)
ب)- (والقلس) بفتحتين أو بفتح فسكون، ما خرج من الجوف ملء الفم أو دونه ولم يعد فإن عاد فهو القيء(1)، وهو ناقض للوضوء كالقيء عند الحنفيين (لحديث) إسماعيل بن عياش عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "من إصابة قيء أو رعاف أو قلس أو مذي: فلينصرف فليتوضأ ثم ليبن على صلاته. وهو في ذلك لا يتكلم". أخرجه الدارقطني(2) [226] وأعله غير واحد، بأنه من رواية إسماعيل بن عياش عن ابن جريج وهو حجازي ورواية إسماعيل عن الحجازيين ضعيفة. وقد خالفه الحفاظ من أصحاب ابن جريج فرووه مرسلا. قال أحمد: الصواب عن ابن جريج عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولذا ضعفه ابن معين.
(وقال) أحمد: القلس لا ينقض الوضوء لضعف الحديث (وقالت) المالكية والشافعية: القيء والقلس لا ينقضان الوضوء عملا بالبراءة الأصلية (ولقول) معاذ ابن جبل: ليس الوضوء من الرعاف والقيء ومس الذكر وما مست النار بواجب. أخرجه البيهقي. وفيه مطرف ابن مازن تكلموا فيه وهو ضعيف(3) [22].
(وأجابوا) عما استدل به الأولون بأنه ضعيف (ومنه) تعلم أن الأدلة لا تنهض للزوم الوضوء من القيء والقلس ولا لعدمه، ولكن يطلب الوضوء خروجا من الخلاف.
(
__________
(1) كذا في النهاية ص 272 ج 3، وقال في المصباح: القلس طعام أو شراب خرج إلى الفم- سواء ألقاه أو أعاده إلى بطنه- إذا كان ملء الفم أو دونه فإذا غلب فهو قيء.
(2) انظر ص 56 الدارقطني (في الوضوء من الخارج من البدن كالرعاف والقيء والحجامة).
(3) انظر ص 141 ج 1 سنن البيهقي (ترك الوضوء من خروج الدم).(1/337)
جـ) (الدم الخارج من الجسد) هو ناقض للوضوء إذا سال إلى ظاهر الجسد عند الحنفيين والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق، لحديث ابن جريج المتقدم (ولقول) عائشة: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش فقالت: يا رسول الله إني ارماة استحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة، قال: لا إنما ذلك عرق وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم توضئ لكل صلاة حتي يجيء ذلك الوقت.أخرجه السبعة(1)[227].
وجه الدلالة أنه علل وجوب الوضوء بأنه دم عرق وكل الدماء كذلك.
(وعن) ابن عمر أنه كان إذا رعف انصرف فتوضأ ثم رجع فبني على ما صلى ولم يتكلم. أخرجه مالك والبيهقي وصححه(2) [23].
(وقال) مالك والشافعي: الدم الخارج من الجسد لا ينقض الوضوء (لحديث) أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم احتجم وصلى ولم يتوضأ ولم يزد على غسل محاجمه. أخرجه الدارقطني والبيهقي. وفيه صالح بن مقاتل ضعيف(3) [228].
(وعن) ابن عباس أنه كان يرعف فيخرج فيغسل الدم ثم يرجع فيبني على ما قد صلى.أخرجه مالك(4)[24].
__________
(1) انظر ص 76 ج 2- الفتح الرباني. وص 230 ج 1 فتح الباري (باب غسل الدم) وص 16 ج 4 نووي مسلم (المستحاضة وغسلها) وص 78 ج 3 المنهل العذب (المرأة تستحاض) وص 64 ج 1 مجتبي (ذكر الاستحاضة...) . وص 118 ج 1 تحفة الأحوذي (في المستحاضة).
(2) انظر ص 75 ج 1- الزرقاني على الموطأ (الرعاف). ص 141 ج 1 الجوهر النقي على البيهقي (ترك الوضوء من خروج الدم).
(3) انظر ص 141 ج 1 سنن البيهقي (ترك الوضوء من خروج الدم من غير مخرج الحدث).
(4) انظر ص 75 ج 1- الزرقاني الموطأ الرعاف.(1/338)
وقد تواترت الأخبار على أن المجاهدين كانوا يذوقون آلام الجراحات فلا يستطيع أحد أن ينكر سيلان الدم من جراحاتهم. وأنهم كانوا يصلون على حالهم ولم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه أمرهم بإعادة وضوئهم للصلاة من أجل ذلك. وهذا هو الراجح (وحديث) ابن جريج الذي استدل به الأولون (ضعيف) باتفاق الحفاظ كما علمت (وحديث) فاطمة بنت أبي جيش خاص بأرباب الأعذار كسلس البول.
والناقض الحكمي ثمانية أمور:
(أ) النوم- وقد اختلف فيه على سبعة مذاهب:
(الأول) لا ينقض الوضوء على أي حال كان، وهو قول ابي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب. واستدلوا (أ) بحديث أنس قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى ىله وسلم ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رءوسهم ثم يصلون ولا يتوضئون.أخرجه مسلم وابو داود وقال: زاد شعبة عن قتاده على عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وأخرجه الترمذي وقال:هذا حديث حسن صحيح، والبيهقي والدارقطني وقال صحيح(1)[229].
(قال) ابن المبارك هذا عندنا وهم جلوس، وعلى هذا حمله الجمهور.
(ب) وبحديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم شغل عنها ليلة فأخرها حتى رقدنا في المسجد ثم استيقظنا، ثم رقدنا ثم استيقظنا، ثم رقدنا، ثم خرج علينا فقال: ليس أحد ينتظر الصلاة غيركم. أخرجه الشيخان وأبو داود(2) [231].
(
__________
(1) انظر ص 317 ج 2- تيسير الوصول (النوم والإغماء..) وص 242 ج 2- المنهل العذب (الوضوء من النوم). وص 119 ج 1 سنن البيهقي (ترك الوضوء من النوم قاعدا).
(2) انظر ص 34 ج 2 فتح الباري (النوم قبل العشاء لمن غلب). وص 139 ج 5 نووي مسلم (وقت العشاء). وص 237 ج 2- المنهل العذب (الوضوء من النوم). و(شغل) بالبناء للمفعول (عنها) أي عن صلاة العشاء الأخرة.(1/339)
قالوا) أمر بالوضوء من النوم، ولم يفرق فيه بين قليل النوم وكثيره (ورد) بأن الحديث ضعيف، لأنه من رواية بقية عن الوضين ابن عطاء، قال الجوزجاني: واه. وعلى فرض صحته فهو محمول على نوم غير المتمكن.
(الثالث) أن النوم الثقيل ينقض مطلقا، وبه قال الزهري والأوزاعي ومالك وأحمد في رواية، لمفهوم قوله في حديث أنس المتقدم: "حتى تخفق رءوسهم" فإن خفقان الرأس يكون في النوم الخفيف، ومعه يشعر الناعس بالخارج منه، بخلاف الثقيل (ومشهور) مذهب مالك أن النوم الثقيل الطويل ينقض اتفاقا، وكذا القصير على المشهور، أما الخفيف فغير ناقض إلا أنه يستحب الوضوء من طويله.
(الرابع) إذا نام على هيئة من قيئات المصلي كالراكع والساجد والقائم والقاعد لا ينقض وضوء. وسواء أكان في الصلاة أم لم يكن. وإن نام مضطجعا أو مستلقيا على قفاه، أنتقض. وهو مذهب الحنفيين وداود الظاهرى وقول للشافعي (لحديث) يزيد الدلاني عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "لا يجب الوضوء على من نام جالسا أو قائما أو ساجدا حتى يضم جنبه فإنه إذا وضع جنبه استرخت مفاصله". أخرجه البيهقي وقال: تفرد بهذا الحديث على هذا الوجه يزيد بن عبد الرحمن أبو خالد الدالاني. قال الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقال: هذا لا شيء. ورواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن عباس من قوله، ولم يذكر فيه أبا العالية. ولا أعرف لأبي خالد الدالاني سماعا من قتادة(1) [232].
__________
(1) انظر ص 121 ج 1 سنن البيهقي (نوم الساجد).(1/340)
"ورده" في الجوهر النقي بأن صاحب الكمال ذكر أنه "أي الدالاني" سمع عن قتادة، وصحح الحديث ابن جرير الطبري وقال الدالاني: لا ندفعه عن العدالة والأمانة. والأدلة تدل على صحة خبره، لنقل العدول من الصحابة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "من نام وهو جالس فلا وضوء عليه. ومن اضطجع فعليه الوضوء(1). (وعن) يزيد بن قسيط قال سمعت أبا هريرة يقول: ليس على المحتبي النائم ولا على القائم النائم ولا على الساجد النائم وضوء حتى يضطجع إذا اضطجع توضأ. أخرجه البيهقي بسند جيد وقال هذا موقوف(2) [25].
(الخامس) أنه لا ينقض إلا بنوم الراكع والساجد. وهو رواية عن أحمد. ولعل وجهه أن هيئة الركوع والسجود مظنة للانتقاض (السادس) أنه لا ينقض إلا نوم الساجد. ويروي أيضا عن أحمد. ولعل وجهه أن مظنة الانتقاض في السجود أكثر منها في الركوع (السابع) أنه إذا نام جالسا ممكنا مقعدته من الارض لا ينقض، سواء أقل أم كثر، وسواء أكان في الصلاة أم خارجها. وهذا مذهب الشافعية لا فرق في نوم القاعد الممكن بين قعوده متربعا أو مفترشا أو متوركا أو غيرها من الحالا، بحيث يكون مقعده لاصقا بالأرض أو بغيرها متمكنا. وسواء القاعد على الأرض وراكب السفينة والبعير وغيره من الدواب، فلا ينقض الوضوء بشيء من ذلك(3) (واستدلوا).
(أ ) بحديث أنس السابق في المذهب الأول(4).
(ب ) وبحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "من نام وهو جالس فلا وضوء عليه فغذا وضع جنبه فعليه الوضوء". أخرجه الطبراني في الأوسط. وفيه الحسن بن أبي جعفر الجفري ضعفه البخاري وغيره. وقال ابن عدى له أحاديث صالحة ولا يتعمد الكذب(5) [233].
__________
(1) انظر ص 121 ج 1 سنن البيهقي (نوم الساجد).
(2) أنظر ص 122 منه.
(3) انظر ص 17 ج 2 مجموع النووي.
(4) تقدم رقم 229 ص 265 (النوم).
(5) انظر ص 247 ج 1 مجمع الزوائد (في الوضوء من النوم).(1/341)
وقال النووي: حديث ضعيف جدا(1).
وهذا أقرب المذاهب وبه يجمع بين الأدلة. والأحوط لمن نام على أي هيئة كانت أن يتوضأ خروجا من الخلاف (فوائد) (الأولى) خرج بالنوم النعاس وهو قسمان ثقيل وهو كالنوم. وخفيف وهو لا ينقض الوضوء اتفاقا (لقول) ابن عباس: قام رسول الله صلى الله عليه وعلى ىله وسلم يصلي في الليل فقمت إلى جنبه الأيسر فجعلني في شقة الأيمن فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمه أذني، فصلي احدى عشرة ركعة. أخرجه الشيخان(2) [234].
(والفرق) بين النوم والنعاس أن النوم فيه غلبة على العقل وسقوط حاسة البصر وغيرها. والنعاس لا يغلب على العقل، وإنما تفتر به الحواس بغير سقوط حاسة. ومن علامات النعاس أن يسمع كلام من بجواره وغن لم يفهم معناه، ومن علامات النوم الرؤيا. (الثانية) لوشك أنام أم نعس؟ فلا وضوء عليه ويستحب أن يتوضأ (ولو) تيقن النوم وشك أنام متمكنا أم لا؟ لم ينتقض وضوءه ويستحب الوضوء (ولو) نام جالسا ثم زالت أليتاه أو إحداهما عن الارض فإن زالت قبل الانتباه انتقض وضوءه لمضي لحظة وهو نائم غير متمكن (وإن) زالت بعد الانتباه أو معه أو شك في وقت زوالها لم ينتقض وضوءه حتى ولو نام متمكنا مستندا على حائط أو غيره لم ينتقض وضوءه ولو كان بحيث لو أزيل المستند لسقط. ولو نام محتبيا(3) لا ينتقض وضوءه كالمتربع وقيل ينتقض كالمضطجع وقيل أن كان نحيف البدن بحيث لا تنطبق أليتاه على الأرض انتقض وضوءه وإن كان سمينا بحيث ينطبقان لم ينتقض(4).
(
__________
(1) انظر ص 13 ج 2 مجموع النووي.
(2) انظر ص 242 ج 1 نيل الأوطار (الوضوء من النوم). و(أغفى) أي نام نوما خفيفا.
(3) الاحتياط) وضع الاليتين على الأرض ونصب الساقين منضمين إلى البطن.
(4) انظر ص 74 ج 4 شرح مسلم (نوم الجالس).(1/342)
الثالثة) ثبت أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم. ولذا لا ينتقض وضوءهم بالنوم على أي حال. (قالت) عائشة: ما كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن. ثم صلي ثلاثا، قالت فقلت يا رسول الله: أتنام قبل أن توتر؟ فقال يا عائشة: إن عيني تنامان ولا ينام قلبي. أخرجه الجماعة(1)[235]. وأخرجه البيهقي وقال: قال أنس وكذلك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم(2) (وعن ابن عباس) أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نام حتى نفخ ثم قام فصلي ولم يتوضأ. أخرجه أحمد والشيخان(3) [236].
(وعن) عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نام حتى سمع له غطيط، فقام فصلى ولم يتوضأ. فقال عكرمة: كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم محفوظا. أخرجه أحمد والبيهقي وصححه النووي(4) [237].
(وقد) نقل منلا على قارئ في شرح الشفاء الإجماع على أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في نواقض الوضوء كالأمة إلا ما صح من استثناء النوم. "وأما ما قيل" من أنه لا نقض من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مطلقا، وإنما وضوءهم تشريع للأمم "فلم نقف" له على دليل.
2- غياب العقل: بإغماء أو جنون أو سكر ولو بمباح (كينج أو دواء) وهو ناقض للوضوء اتفاقا قل أو كثر متمكنا أو غير متمكن.
(
__________
(1) انظر ص 221 ج 1 زرقاني الموطأ (صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الوتر). وص 16 ج 5- الدين الخالص طب 3 عدد ركعات التراويح).
(2) انظر ص 122 ج 1 سنن البيهقي (نوم المساجد).
(3) انظر ص 80 ج 2- الفتح الرباني (نوم النبي صلى الله عليه وسلم لا ينقض وضوءه).
(4) انظر ص 81 ج 2- الفتح الرباني (نوم النبي صلى الله عليه وسلم لا ينقض وضوءه).(1/343)
أ) أما الإغماء فهو مرض يزيل القوى ويستر العقل وهو أشد من النوم، فلذا كان ناقضا مطلقا بالإجماع (لقول) عائشة: ثقل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: أصلي الناس؟ قلنا: لا، وهم ينتظرونك يا رسول الله. قال: ضعوا لي ماء في المخضب. ففعلنا فاغتسل فذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق فقال: أصلي الناس؟ فقلنا: لا وهم ينتظرونك يا رسول الله. قال: ضعوا لي ماء في المخضب ففعلنا فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمى عليه ثم أفاق فقال: أصلي الناس؟ فقلنا: لا وهم ينتظرونك يا رسول الله، قالت والناس عكوف في المسجد ينتظرون النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لصلاة العشاء الآخرة. فأرسل إلى أبي بكر بأن يصلي بالناس (الحديث). أخرجه الشيخان(1)[238].
(ب) والجنون مرض يزيل العقل ويزيل القوى وهو ناقض للوضوء اجماعا لأنه أشد من الإغماء.
(جـ) والسكر بالخمر أو النبيذ أو البنج أو الدواء، وهو سرور يغلب على العقل بمباشرة ذلك ولا يزيله، ويظهر أثره بالتمايل وتلعثم الكلام، وهو كالإغماء اتفاقا.
__________
(1) انظر ص 318 ج 2 تيسير الوصول (النوم والإغماء). و(ثقل) اشتد مرضه. و(المخضب) بكسر فسكون ففتح، إناء واسع. و(ينوء) أي ينهض بجهد كيقوم وزنا.(1/344)
3- لمس المرأة: قال ابن مسعود وابن عمر والزهري والشافعية وغيرهم: لمس المرأة غير المحرم ينقض الوضوء لقوله تعالى: (أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) من آية (6) سورة المائدة. (قالوا) صرحت الأية بأن اللمس من جملة الأحداث الموجبة للوضوء، وهو حقيقة في لمس اليد وألحق به الجس بباقي البشرة. ويؤيد بقاءه على معناه الحقيقي، قراءة "أو لمستم" فإنها ظاهرة في مجرد اللمس من دون جماع (ولحديث) عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل أنه كان قاعدا عند النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فجاءه رجل وقال: يا رسول الله، ما تقول في رجل أصاب من امرأة لا تحل له فلم يدع شيئا يصيبه الرجل من امرأته إلا وقد أصابه منها، إلا أنه لم يجامعها؟ فقال: توضأ وضوءا حسنا ثم قم فصل (الحديث). أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي(1) [239].
وفيه انقطاع لأن ابن أبي ليلي لم يسمع من معاذ. فقد أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم السائل بالوضوء من لمسه المرأة .
(وعن) سالم بن عبد الله عن ابن عمر أنه كان يقول: قبلة الرجل ارمأته وجسها بيده من الملامسة، فمن قبل امرأته أو جسها بيده، فعليه الوضوء. أخرجه مالك والشافعي والبيهقي. ورواه عن ابن مسعود بلفظ: "القبلة من اللمس وفيها الوضوء واللمس مادون الجماع(2)" [26].
(
__________
(1) انظر ص 49- الدارقطني. وص 125 ج 1 سنن البيهقي (الوضوء من الملامسة).
(2) انظرص 81 ج 1- الزرقاني على الموطأ (الوضوء من قبلة الرجل امرأته). وص 34 ج 1 بدائع المنن. وص 124 ج 1 سنن البيهقي (الوضوء من الملامسة).(1/345)
وقال) الحنفيون: لا ينقض من اللمس إلا المباشرة الفاحشة. وهي أن يتماس الفرجان بلا حائل مع الانتشار ولو كانت بين رجلين أو امرأتين أو رجل وغلام فيبطل وضوءهما وإن لم يوجد بلل عند أبي حنيفة وابي يوسف لأنها لا تخلوا غالبا عن خروج مذي (وعن) محمد: لا تنقص ما لم يظهر شيء. أما لمس الرجل امرأة ولو غير محرم بلا مباشرة قاحشة فلا ينقض الوضوء عند الحنفيين (لحديث) عروة بن الزبير عن عائشة أن النبي صلى الله وعلى آله وسلم قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ. قال عروة: قلت لها من هي إلا أنت؟ فضحكت. أخرجه أحمد والأربعة والدارقطني بسند رجاله ثقات. وأخرجه الزار بسند حسن(1) [240].
وقال ابن عبد البر: صححه الكوفيون وأثبتوه لرواية الثقات من أئمة الحديث له.
(
__________
(1) انظر ص 89 ج 2- الفتح الرباني. وص 316 ج 2 تيسير الوصول (لمس المرأة). وص 93 ج 1- ابن ماجه (الوضوء من القبلة) والحديث صحيح "وأما قول الترمذي" سمعت محمد بن إسماعيل- يعني البخاري- يضعف هذا الحديث.
... وقال: حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة. انظر ص 88 ج 1 تحفة الأحوذي (ترك الوضوء من القبلة) "فغير مسلم" فإن سماع حبيب من عروة ثابت. قال أبو داود: وقد روى حمزة الزيات عن حبيب عن عروة بن الزبير عن عائشة حديثا صحيحا.. انظر ص 189 ج 2 المنهل العذب (وحديث) حمزة عن حبيب هو ما رواه عن عروة أن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: اللهم عافني في جسدي وعافني في بصري واجعله الوارث مني، لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين. أخرجه الترمذي في الدعوات وقال: حسن غريب [241](1/346)
وأجابوا) (أ) عن الأية بأن المراد بالملامسة فيها الجماع مجازا بقرينة هذه الأحاديث الصريحة في عدم النقض باللمس. وهو تفسير على وابن عباس الذي علمه الله تأويل كتابه (ب) (وعن حديث) معاذ، بأن أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الرجل بالوضوء يحتمل أنه لأجل المعصية. فإن الوضوء من مكفرات الذنوب، أو لأن الحالة التي وصفها مظنة خروجد المذي فهي من مكفرات الذنوب، أو لأن الحالة التي وصفها مظنة خروج المذي فهي من المباشرة الفاحشة (جـ) وعما روى عن ابن عمر وبان مسعود، بأنه لا حجة فيه، لأنه قول صحابي لا سيما وأنه وقع معارضا لما ثبت عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(وقال) مالك والليث بن سعد وأحمد في المشهور عنه: إن اللمس إن كان بشهوة نقض وإلا فلا، جمعا بين الأية والأحاديث. فحملوا اللمس في الآية على ما إذا كان بشهوة، وفي الأحاديث على ما إذا كان بدونها، فإنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد لمس عائشة وهو في الصلاة وهي ليست حال شهوة.
(وهذا) التفصيل عند مالك في غير القبلة في الفم. أما القبلة فيه فتنقض مطلقا ما لم تكن لوداع أو رحمة. واللامس والملموس عند مالك في ذلك سواء. وللشافعي في الملموس قولان: أشهرهما نقض الوضوء (وعلى الجملة) ففي نقض الوضوء وعدمه باللمس خلاف. والقول بعدم النقض أقوى دليلا، فهو الراجع.
4- مس الذكر- قال مالك والشافعي وأحمد واسحاق: مس الذكر ناقض للوضوء، لا فرق بين مسه عمدا أو نسيانا (لحديث) بسرة بنت صفوان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "من مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ أخرجه مالك وأحمد والأربعة، وصححه الترمذي والدارقطني، وقال البخاري: هو اصح شيء في الباب(1) [242].
(
__________
(1) انظر ص 86 ج 2- الفتح الرباني. وص 317 ج 2 تيسير الوصول (لمس الذكر) وص 91 ج 1- ابن ماجه. وص 53 سنن الدارقطني (ما روى في لمس القبل والدبر).(1/347)
وعن) عائشة أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ويل للذين يمسون فروجهم ثم يصلون ولا يتوضئون. أخرجه الدارقطني(1) [243].
والدعاء بالشر لا يكون إلا على ترك واجب (وقالت) أم حبيبة: سمعت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: من مس فرجه فليتوضأ. أخرجه ابن ماجه وكذا أحمد عن زيد بن خالد (وقال) ابن السكن: لا أعلم له علة(2)[244].
ولفظ (من) يشمل الذكر والأنثى، ولفظ (الفرج) يشمل القبل والدبر من الرجل والمرأة. وهو حجة على المالكية حيث خصصوا نقض الوضوء بمس الرجل ذكره وأنه لا ينقض بمسه الأنثيين والدبر، ولا بمس المرأة فرجها على الصحيح(3)، ويرده أيضا حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده "عبد الله بن عمرو" أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قالك أيما رجل مس ذكره فليتوضأ. وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ. أخرجه أحمد والبيهقي والدارقطني والترمذي في العلل وقال عن البخاري: وهذا عند صحيح(4) [245].
(وقد اختلفوا) فيما يكون به المس الناقض (فقالت) المالكية: المس الناقض يكون بباطن الكف أو جنبه، أو بباطن الأصابع أو بجنبها أو برءوسهاز لا بظفر ولا بظهر كف، ولا ذراع (وقالت) الحنبلية: يكون بباطن الكف وظاهرها وجوانبها، لا بظفر (وقالت) الشافعية: يكون بباطن الكف فقط، لا برءوس الاصابع ولا بجوانبها ولا بظهر الكف (لحديث) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: من افضى بيده على ذكره ليس دونه ستر، فقد وجب عليه الوضوء. أخرجه أحمد والبيهقي والطبراني في الأوسط(5) [246].
__________
(1) انظر ص54 منه (ما روي في لمس القبل والدبر..).
(2) انظر ص 91 ج 1- ابن ماجه (الوضوء من مس الذكر). وص 84 ج 2- الفتح الرباني.
(3) انظر ص 136 ج 1- الفواكه الدوانب.
(4) انظر ص 85 ج 2- الفتح الرباني. وص 54 سنن الدارقطني.
(5) انظر ص 85 ج 2- الفتح الرباني. وص 131 ج 1 سنن البيهقي (الالوضوء من مس الذكر).(1/348)
وفي سندهيزيد بن عبد الملك ضعيف. لكن أخرجه ابن حبان من طريق نافع بن أبي نعيم ويزيد بن عبد الملك، كلاهما عن سعيد المقبري عن أبي هريرة وقال: احتججنا في هذا بنافع دون يزيد. ولذا صحح الحديث وصححه أيضا الحاكم وابن عبد البر من هذا الوجه.
(قال) الحافظ في التلخيص: احتج أصحابنا بهذا الحديث في أن النقض إنما يكون إذا مس الذكر بباطن الكف، لما يعطيه لفظ الأفضاء، ومفهوم الشرط يدل على أن غير الإفضاء لا ينقض، فيكون تخصيصا لعموم المنطوق. لكن نازع في دعوى أن الإفضاء لا يكون إلا بباطن الكف غير واحد (قال) ابن سيده في المحكم: أفضى فلان إلا فلان وصل إليه. والوصول أعم من أن يكون بظاهر الكف وباطنها(1).
(وقال) علي وابن مسعود والثوري والحنفيون: إن مس الذكر غير ناقض للوضوء. (لقول) طلق بن علي: جاء رجل كأنه بدوى فقال: يا نبي الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعدما توضأ؟ فقال: هل هو إلا مضغة منه، أو قال بضعة منه. أخرجه أحمد والبيهقي والطحاوي والثلاثة. وقال الترمذي: هذا الحديث أحسن شيء يروي في هذا الباب. وقال علي بن المديني: هو أحسن من حديث بسرة. وصححه أيضا ابن حبان والطبراني وابن حزم(2)[247].
(
__________
(1) انظر ص 46- التلخيص الجير.
(2) انظر ص 88 ج 2- الفتح الرباني بلفظ: إنما هو بضعة. وص 134 ج 1 سنن البيهقي (ترك الوضوء من مس الفرج) وص 316 ج 2 تيسير الوصول (لمس الذكر). و(مضغة) بضم فسكون (وبضعة) بفتح فسكون، أي قطعة لحم منه، فكما لا ينقض الوضوء بمس الجسد، لا ينتقض بمس الذكر، لأنه جزء منه.(1/349)
ورد) بأنه قد ضعفه الشافعي وأبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني والبيهقي وابن الجوزي لأن فيه قيس بن طلق مجهول ولا تقوم به حجة (وادعي) نسخة ابن حبان والطبراني وغيرهما. (وقال) البيهقي: يكفي في ترجيح حديث بسرة على حديث طلق أن حديث طلق لم يحتج الشيخان بأحد من رواته، وحديث بسرة احتجا بجميع رواته. (ويؤيد) حديث بسرة أن حديث طلق موافق لما كان عليه الأمر من قبل. وحديث بسرة ناقل عنه فيصار إليه وبأنه أرجح، لكثرة طرقه وصحتها، وكثرة من صححه من الائمة، وكثرة شواهده، ولأن بسرة حدثت به في دار المهاجرين والأنصار وهم متوفرون. (وقد روى) طلق بن علي نفسه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: من مس فرجه فليتوضأ أخرجه الطبراني في الكبير وقال: لم يرو هذا الحديث عن أيوب بن عتبة الأحماد بن محمد(1) [248].
وقد روى الحديث الآخر حماد بن محمد وهما عندي صحيحان ويشبه أن يكون طلق سمع الحديث الأول من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قبل هذا، ثم سمع هذا بعد، فوافق حديث بسرة(2). (فالظاهر) ما ذهب إليه الأولون.
__________
(1) انظر ص 245 ج 1 مجمع الزوائد (من مس فرجه).
(2) انظر ص 245 ج 1 مجمع الزوائد (من مس فرجه).(1/350)
5- أكل لحم الإبل: (قال) إسحاق بن راهويه وابن خزيمة وابن المنذر وأحمد: ينتقض الوضوء بأكل لحم الإبل ولو نيئا أو تناوله جاهلا. وروى عن الشافعي واختاره البيهقي (لحديث) جابر بن سمرة أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وعلى ىله وسلم: أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتعوضأت، وإن شئت فلا تتوضأ قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم توضأ من لحوم الإبل (الحديث). أخرجه أحمد ومسلم. وهذا لفظه(1) [249].
(وقال) الجمهور: أن الوضوء لا ينقضه أكل لحم الإبل. وبه قال الحنفيون ومالك والشافعي (لقول) جابر: كان آخر الأمرين للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار. أخرجه أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان بأسانيد صحيحة. ولذا صححه النووي(2) [250].
(ويشهد) له حديث محمد بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أكل آخر أمريه لحما ثم صلى ولم يتوضأ. أخرجه الطبراني في الكبير، قال الهيثميك وفيه يونس بن أبي خالد ولم أر من ذكره(3) [251].
(
__________
(1) انظر ص 93 ج 2- الفتح الرباني. وص 48 ج 4 نووي مسلم) الوضوء من لحوم الإبل (والسر في إيجاب الوضوء من أكلها على قول من قال به، إنها كانت محرمة في التوراة. واتفق جمهور أنبياء بني إسرائيل على تحريمها. فلما أباحها الله لنا شرح الوضوء منها لمعنيين (أحدهما) أن يكون الوضوء شكرا لما أنعم الله علينا من إباحتها بعد تحريمها على من قبلنا. و(ثانيهما) أن يكون الوضوء علاجا لما عسى أن يختلج في بعض الصدور من أباحتها بعد ما حرمها الأنبياء من بني إسرائيل، فإن النقل من التحرم إلى كونه مباحا يناسبه إيجاب الوضوء منه ليكون أقرب لاطمئنان نفوسهم. أنظر ص 141 ج 1 حجة الله البالغة (موجبات الوضوء).
(2) انظر ص 218 ج 2- المنهل العذب (ترك الوضوء مما مست النار). وص 40 ج 1 مجتبي (ترك الوضوء مما غيرت النار).
(3) انظر ص 252 ج 1 مجمع الزوائد (ترك الوضوء مما مست النار).(1/351)
وهو) عام في لحم الإبل وغيرها. والأصل البراءة فلا يصار إلى غسرها إلا بناقل صريح ولم يوجد. وهذا هو الراجح لقوة أدلته (وأجابوا) عن أدلة المخالف بأن المراد بالوضوء فيها الوضوء اللغوي لا الشرعي (قال الخطابي) وأما عامة الفقهاء فمعنى الوضوء عندهم متأول على الوضوء الذي هو النظافة ونفي الزهومة. كما روى: توضئوا من لحوم الإبل فإن له دسما. ومعلموم أن في لحوم الإبل من الحرارة وشدة الزهومة ما ليس في لحوم الغنم. فكان معنى الأمر بالوضوء منه منصرفا إلى غسل اليد، لوجود سببه دون الوضوء الذي هو من أجل رفع الحدث، لعدم سببه أهـ بتصرف(1).
6- القهقهة في الصلاة: (قال) مالك والشافعي وأحمد وإسحاق ودواد الظاهرى والجمهور: ان القهقهة في الصلاة تبطلها دون الوضوء (لقول) أبي سفيان الواسطي: سئل جابر بن عبد الله عن الرجل يضحك في الصلاة، فقال: يعيد الصلاة ولا يعيد الوضوء. أخرجه البيهقي من عدة طرق(2) [27].
(وقال) الحسن البصري وإبراهيم النخعي وسفيان الصوري والحنفيون: أن الوضوء ينقضه قهقهة بالغ يقظان في صلاة ذات ركوع وسجود إذا سمعه جيرانه وإن لم تبد أسبابه (لقول) معبد بن أبي معبد الخزاعي: بينما النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الصلاة إذ أقبل أعمى يريد الصلاة فوقع في زبية، فاستضحك القوم حتى قهقهوا، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "من كان منكم قهقه فليعد الوضوء والصلاة". أخرجه أبو حنيفة في مسنده والدارقطني وأبو يوسف في الآثار(3) [252].
__________
(1) انظر ص 67 ج 1 معالم السنن (الوضوء من لحوم الآبل).
(2) انظر ص 144 ج 1 سنن البيهقي (ترك الوضوء من القهقهة في الصلاة).
(3) انظر ص 51 ج 1 نصب الراية. وص 65 سنن الدارقطني. و(زبية) كحفرة وزنا ومعنى.(1/352)
"وما قيل" من أن معبدا لا صحبة لا فالحديث مرسل "رد" بأن معبدا الذي لا صحبة له هو معبد الجهني. ومعبد هذا خزاعى ذكره ابن مندة وأبو نعيم في الصحابة(1) (وقال) عطية بن بقية: حدثني أبي حدثنا عمرو بن قيس السكوني عن عطاء عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "من ضحك في الصلاة قهقة فليعد الوضوء والصلاة". أخرجه البيهقي وابن عدى في الكامل(2) [253].
(وقول) ابن الجوزى فى العلل المتناهية : هذا حديث لا يصح فإن بقية من عادته التدليس وكأنه سمعه من بعض الضعفاء فحذف اسمه ( مردود ) بأن بقية صدوق قد صرح بالتحديث . والمدلس الصدوق إذا صرح بذلك زالت تهمة تدليسة (3) قال فى الجوهر النقى ثم ذكر البيهقى عن الشافعى أنه لو ثبت حديث الضحك فى الصلاة لقلنا به . (قلت) مذهبه أن المرسل إذا أرسل من وجه آخر أو أسند يقول به . الحديث أرسل من وجوه ، وأسند كما مر فيلزمه أن يقول به . (قال) ابن حزم : كان يلزم المالكيين والشافعيين لشدة تواترة عن عدد أرسله .
(قلت) ويلزم الحنبلية أيضا لأنهم يحتجون بالمرسل . وعلى تقدير أنهم لا يحتجون به ، فأقل أحواله أن يكون ضعيفا . والحديث الضعيف عندهم مقدم على القياس الذى اعتمدوا عليه فى هذه المسألة (فإن قيل) القياس يقضى ألا نقض بالقهقهة ، لأنها ليست حدثا ولا سبب حدث (قلنا) لزم الوضوء بها بالنص عقوبة وزجرا وهو موافق للقياس .
__________
(1) ولو سلم أنه معبد الجهني فلا نسلم أنه لا صحبة له فقد قال ابن عبد البر في الاستيعاب ذكره الواقدي في الصحابة وقال: أسلم قديما وهو أحد الأربعة الذين حملوا ألوية جهينة يوم الفتح. أنظر ص 146 ج 1- الجوهر النقي (الوضوء من القهقهة).
(2) انظر ص 147 منه. وص 48 ج 1 نصب الراية.
(3) انظر ص 48 منه . وص 147 ج1 – الجوهر النقى .(1/353)
لأنها ليست حدثا . وعليه يجوز مس المصحف بعدها بلا طهارة . وينبغى ترجيحه لموافقته والأحاديث (1) . ومنه تعلم رد قول النووى : أما ما نقلوه عن أبى العالية ورفقته فكلها ضعيفة واهية باتفاق أهل الحديث ولم يصح فى هذه المسالة حديث (2).
7- الشك فى الحدث : (قالت) المالكية فى المشهور عنهم : أن الوضوء ينتقض بالشك فى الحدث قبل الدخول فى الصلاة . ولا يجوز له الدخول فيها إلا بطهارة متيقنة . أما من شك فى أثناء الصلاة ، فإنه يتمادى ولا يقطعها لحرمتها ما لم يتبين حدثه . فإن تبين طهره بعد فلا شئ عليه . وأن دام على شكه أو تبين حدثه ، أعاد الوضوء والصلاة ، لظاهر حديث عبد الله بن زيد بن عاصم قال : شكى إلى النبى صلى الله عليه وآله وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشئ " أى الحدث " فى الصلاة . قال : لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا . أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود (3) {254} .
(
__________
(1) انظر ص 42 ج1 – البحر الرائق ( نواقض الوضوء ) .
(2) انظر ص 61 ج2 – مجموع النووى .
(3) انظر ص 78 ج2 – الفتح الربانى . وص 168 ج1 فتح البارى ( لا يتوضأ من الشك حتى يستقين ) وص 49 ج4 نووى مسلم ( من تيقن الطهارة ثم شك فى الحدث فله أن يصلى بطهارته ) . وص 175 ج2 – المنهل العذب ( إذا شك فى الحدث ) .(1/354)
قالوا) ولافرق بين من كان فى الصلاة وغيره أن من دخل الصلاة دخل بوجه جائز فلا تبطل الصلاة التى دخل فيها إلا بيقين ، وهو ما نص عليه فى الحديث بخلاف من كان خارج الصلاة فلا يدخلها إلا بطهارة متيقنة (وقالت) الحنفية والشافعية والحنبلية والجمهور : أن الشك فى الحدث لا ينقض الوضوء . ولو كان الشك خارج الصلاة ( لحديث ) أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال : " إذا وجد أحدكم فى بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شئ أم لا ؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا " . أخرجه مسلم والترمذى(1){255}.
(
__________
(1) انظر ص 151 ج4 نووى مسلم ( من تيقن الطهارة ثم شك فى الحدث له أن يصلى بطهارته ) .(1/355)
والمراد) بسماع الصوت ووجدان الريح ، تيقن وجود أحدهما ولا يشترط السماع والشم بالإجماع (والحديث) يدل على طرح الشكوك العارضة لمن فى الصلاة والوسوسة التى أخبر عنها صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأناه من تسويل الشيطان ، وعدم الانصراف من الصلاة إلا بناقض متيقن كسماع الصوت وشم الريح ورؤية الخارج (قال) النووي: وهذا الحديث أصل من أصل الإسلام وقاعدة عظيمة من قواعد الدين. وهي أن الأشياء يحكم ببقائها على أصولها حتى يتيقن خلاف ذلك. ولا يضر الشك الطارئ عليها. فمن ذلك ما ورد فيه الحديث وهو أن من تيقن الطهارة وشك في الحدث حكم ببقائه على الطهارة. ولا فرق بين حصول هذا الشك في نفس الصلاة وحصوله خارجها. هذا مذهب الجمهور. وعن مالك روايتان. أحدهما أنه يلزمه الوضوء أن كان شكه خارج الصلاة، ولا يلزمه إن كان في الصلاة. الثانية يلزمه الوضوء مطلقا ولا فرق في شكه بين أن يستوي الاحتمالان في وقع الحدث وعدمه، أو يترجح أحدهما أو يغلب على ظنه، فلا وضوء عليه بكل حال. ويستحب له أن يتوضأ احتياطا (وأما) إذا تيقن الحدث وشك في الطهارة فإنه يلزمه الوضوء بإجماع المسلمين (ومن) مسائل القاعدة المذكورة، أن من شك في طلاق زوجته، أو عتق عبده، أو نجاسة الماء الطاهر أو طهارة النجس، أو نجاسة الثوب أو الطعام أو غيره، أو أنه صلى ثلاث ركعات أو أربعا أم أنه ركع وسجد أم لا، أو أنه نوي الثلاة أو الصوم أو الوضوء أو الاعتكاف وهو في أثناء هذه العبادات. وما اشبه هذه الأمثلة. فكل هذه الشكوك لا تاثير لها والأصل عدم هذا الحادث(1). (والراجح) مذهب الجمهور: وهو أن الطهارة لا تبطل بالشك مطلقا (وأجابوا) عن حديث عبد الله بن زيد التقييد فيه بالصلاة، إنما وقع في سؤال السائل فلا مفهوم له.
__________
(1) انظر ص 49 و50 ج 4 شرح مسلم (من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث).(1/356)
8- الردة: (قال) الأوزاعي ومالك في المشهور عنه وأحمد: يبطل الوضوء بالردة. وهي الاتيان بما ينافي الإسلام (أ) "نطقا" بإجراء كلمة الكفر على اللسان مختارا. (ب) "أو اعتقادا" مخالفا لما علم من الدين بالضرورة. (جـ) "أوشكا" في عقيدة من العقائد (فمن ارتد) وعاد إلى الإسلام، فليس له الصلاة حتى يتوضأ وإن كان متوضئا قبل ردته لقوله تعالى: (لئن أشركت ليحبطن عملك) من آية 65- الزمر وقوله تعالى: (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله) من آية 5- المائدة. والطهارة عمل باق حكما فيجب أن تبطل بالردة، ولأنها عبادة يفسدها الحدث فيفسدها الشرك كالصلاة والتيمم ولأن الردة حدث (لقول) ابن عباس: الحدث حدثان: حدث اللسان وحدث الفرج وأشدها حدث اللسان. ذكر ابن قدامة(1) {28} وإذا أحدث لا تقبل صلاته بغير وضوء (لما تقدم) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ". أخرجه أحمد والشيخان(2) {256}.
(وقال) الحنفيون والشافعي: لا ينتقض الوضوء بالردة، لأنه يصح من الكافر ابتداء، فلا ينافيه الكفر بقاء. (ولحديث) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "لا وضوء إلا من حدث أو ريح". أخرجه أحمد وهذا لفظه وابن ماجه والترمذي: وقال: هذا حديث حسن صحيح. روى من عدة طرق(3) {257}.
__________
(1) انظر ص 172 ج 1 مغنى ابن قدامة (نقض الردة للوضوء).
(2) تقدم رقم 223 ص 261 (نواقض الوضوء).
(3) انظر ص 75 ج 2- الفتح الرباني (في الوضوء من الربح) وص 79 ج 1 تحفة الأحوذي (في الوضوء من الربح).(1/357)
ولأنه طهارة فلا يبطل بالردة كالغسل من الجنابة (وأجابوا) عن الآية بأن الاحباط فيها مقيد بالموت على الردة، لقوله تعالى: (ومن يرتدد منكم عن دينه. فيمن وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم) 217- البقرة (أما الكافر) الأصلي إذا توضأ أو تيمم ثم أسلم، فعليه إعادة الوضوء أو التيمم للصلاة عند مالك والشافعي وأحمد، لأن الطهارة عبادة متوقفة على النية، فلا تصح من مشرك (وقال) الحنفيونك يعيد التيمم دون الوضوء. لأن التيمم مفتقر إلى النية. ونية العبادة لا تصح من مشرك والوضوء غير متوقف صحته على نية. فإذا وجد من المشرك حكم بصحته.
9- تغسيل الميت: (قال) أكثر الحنبلية: يجب الوضوء من غسل الميت. سواء أكان المغسول صغيرا أو كبيرا ذكرا أو أنثى مسلما أو كافرا. وهو قول اسحاق. وروى عن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يأمران غاسل الميت بالوضوء (وقال) أبو هريرة أقل ما فيه الوضوء ولا نعلم لهم مخالفا في الصحابة، ولأن الغالب فيه أنه لا يسلم أن تقع يده على فرج الميت، فكان مظنة ذلك قائما مقام حقيقته، كما أقيم النوم مقام الحديث(1). (وقال) الجمهور: لا وضوء لتغسيل الميت. وهو الصحيح لأن الوجوب من الشرع ولم يرد في هذا نص، ولا هو في معنى المنصوص عليه. فبقى على الأصل، ولأنه غسل آدمي فأشبه فأشبه غسل الحي. وما روى عن أحمد في هذا، يحمل على الاستحباب دون الإيجاب. فإن كلامه يقتضي نفي الوجوب. فإنه ترك العمل بحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "من غسل ميتا فليغتسل". أخرجه أحمد والثلاثة وزاد الترمذي ومن حمله فليتوضأ(2){258}.
__________
(1) انظر ص 190 ج 1 مغني ابن قدامة (الوضوء من غسل الميت).
(2) انظر ص 145 ج 2- الفتح الرباني. وص 337 ج 2 تيسير الوصول (غسل الميت والغسل منه).(1/358)
وفيه صالح مولي التوءمة وهو ضعيف قال البيهقي: والصحيح أنه موقوف. وعلل أحمد ذلك بأن الصحيح أنه موقوف على أبي هريرة، وإذا لم يوجب الغسل بقول أبي هريرة مع احتمال أن يكون من قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلأن لا يوجب الوضوء بقوله مع عدم ذلك الاحتمال أولي وأحرى(1).
(تنبيه) علم أن مجمل نواقض الوضوء (أ) عند الحنفيين سبعة: كل ما خرج من أحد السبيلين حال الصحة. وكل نجس خرج من البدن أن سال على مكان يلزم تطهيرة. والقئ ملء الفم. والنوم مضطجعا أو متكئا أو مستندا إلى ما لو أزيل لسقط. وغلبة العقل بالإغماء أو الجنون أو السكر. وقهقهة بالغ يقظان في صلاة ذات ركوع وسجود. ومباشرة فاحشة (ب) وعند المالكية نواقضه ستة: الخارج المعتاد من أحد السبيلين حال الصحة ومنه الريح والهادي على المعتمد "وهو ماء أبيض يخرج قرب الولادة" وغيبة العقل بجنون أو إغماء أو سكر أو نوم ثقيل. ولمس مشتهاة أن قصد اللذة أو وجدها على ما تقدم بيانه. ومس الذكر بشرطه والشك في الحدث أو سببه. والردة. (جـ) وعند الشافعية نواقضه أربعة: كل ما خرج من أحد السبيلين إلا المني. وغلبة العقل بجنون أو إغماء أو سكر أو صرع أو نوم لم تتمكن فيه المقعدة. ولمس رجل يشتهي امرأة أجنبية تشتهي بلا حائل. ومس قبل أو دبر آدمي بلا حائل. (د) وعند الحنبلية نواقضه ثمانية: كل ما خرج من أحد السبيلين. وكل نجس كثير خرج من سائر الجسد. وغلبة العقل بما تقدم عند الشافعية. ومس فرجه أو فرج آدمي بلا حائل. ولمس ذكر أو أنثى بشرة الآخر على ما تقدم بيانه. والردة وأكل لحم الإبل. وتغسيل الميت على ما تقدم.
10- وضوء المعذور
__________
(1) انظر ص 191 ج 1 مغنى ابن قدامة (الوضوء من غسل الميت).(1/359)
تقدم أن الوضوء ينتقض بالخارج من أحد السبيلين حال الصحة "أما الخارج لمرض" كاستحاضة، وسلس بول أو غيره، واستطلاق بطن، وانفلات ريح ورعاف دائم، وجرح لا يسكن دمه ولم يمكن حبسه بحشو من غير مشقة ولا بجلوس وكذا بإيماء في الصلاة عند الحنفيين "فصاحبه معذور" لا يبطل وضوءة به. بل بدخول الوقت عند أبي حنيفة ومحمد وأحمد وكذا بخروجه عند أبي يوسف إذا كان العذر موجودا وقت الوضوء او بعده. أما لو توضأ المعذور مع الانقطاع ودام إلى خروج الوقت فلا يبطل وضوءه بخروج الوقت ما لم يحدث حدثا آخر.
(ودليله) ما تقدم في حديث عائشة من قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم للمستحاضة فإذا أقبلت الحيضة فدعى الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي وتوضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت(1).
(
__________
(1) تقدم رقم 227 ح 263 (الدم الخارج من الجسد).(1/360)
واللام) في قوله لكل صلاة للتوقيت كما في قوله تعالى: "أقم الصلاة لدلوك الشمس) من آية 78- الإسراء. وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى في بحث الاستحاضة (وإلى هذا) ذهب الحنفيون والحنبليون فقالوا: إن المعذور بسلس ونحوه يتوضأ لوقت كل صلاة، ويصلي به ما شاء من فرض ونقل، ما لم يطرأ حدث غير العذر. فلو طرأ آخر في الوقت لا تبقى الطهارة كما إذا سال الدم من أحد منخريه فتوضأ ثم سال من الآخر فعفليه الوضوء، لأنه حدث جديد. هذا (ويشترط) في ثبوت العذر استمراره وقتا كاملا بغير انقطاع زمنا يسع الطهارة والصلاة. بأن لم ينقطع أصلا أو انقطع زمنا لا يسعهما (ويشترط) لدوامه عند الحنفيين وجوده في كل وقت بعد ذلك ولو مرة واحدة ويشترط لانقطاعه خلو وقت كامل عنه وبه يخرج الشخص عن كونه معذورا (وشرطه) عند الحنبلية. (أ) دخول الوقت. فلو توضأ قبل دخوله لم يصح وضوءه عندهم إلا إذا توضأ لفائتة أو صلاة جنازة. فإنه يصح. (ب) وداوم الحدث وعدم انقطاعه زمنا يسع الطهارة والصلاة. أما إذا اعتاد انقطاع حدثه زمنا يسع ذلك، لزمه تأدية الصلاة فيه ولا يعد معذورا. (ولو) عرض هذا الانقطاع في أثناء الوقت، بطل الوضوء أن استمر الانقطاع، لأن الحدث مبطل للطهارة وقد عفى عنه للعذر. فإذا زالت الضرورة. وإن عاد العذر فظاهر كلام أحمد أنه لا عبرة بهذا الانقطاع. فإذا توضأت المستحاضة وقد انقطع الدم ثم سال قبل الصلاة لا تعيد الوضوء لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمرها بالوضوء لكل صلاة من غير تفصيل والعذر يجري وينقطع. واعتبار مقدار الانقطاع فيما يمكن فعل العبادة فيه يشق. وإيجاب الوضوء بسببه حرج لم يرد الشرع به. قال الله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) من ىية 78- الحج. ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا عن أحد من أصحابه هذا التفصيل(1) (
__________
(1) انظر ص 361 ج 1 مغنى ابن قدامة (المستحاضة التي انقطع دمها)..(1/361)
وقالت) المالكية: السلس. (أ) ان تمكن صاحبه من التداوي منه لزمه التداوي ولا تغتفر له الصلاة بلا طهارة منه إلا مدة التداوى. (ب) وإن لم يتمكن من الداوي منه والعمل على قطعه ففليه تفصيل.
1- إن استمر كل أقوات الصلاة أو استمر غالبه أو نصفه ولم ينضبط وقت انقطاعه، لا ينقض الوضوء. ولكن يستحب الوضوء منه لكل صلاة فيما إذا استمر غالب الزمن أو نصفه (ودليله) حديث عروة ابن الزبير: أن فاطمة بنت أبي حبيش أتت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فشكت إليه الدم فقال: إنما ذلك عرق فانظري إذا اتى قرؤك فلا تصلي. فإذا مر القرء تطهري ثم صلي ما بين القرء إلى القرء. أخرجه أحمد وابن ماجه بسند جيد(1){259}.
(وجه) الدلالة أنه لم يأمرها بالوضوء، ولأن مثل هذا العذر لم ينص على الوضوء منه، ولا هو في معنى المنصوص، لأن المنصوص عليه الخارج المعتاد. وهذا ليس بمعتاد. وأيضا فإن إيجاب الوضوء منه لكل صلاة فيه مشقة وحرج لم يرد به الشرع (وأجاب) الأولون بأن الحديث مطلق يحمل على المقيد وهو ما رويناه ففيه "ثم صلي وتوضئ لكل صلاة(2)" وللمالكية أن يقولوا أن الأمر بالوضوء فيه للاستحباب دفعا للحرج وجمعا بين الأدلة.
2- وإن انضبط انقطاع السلس "بأن كان في أول الوقت أو آخره، لزم الوضوء منه. وكذا ينقض الوضوء أن استمر أقل من نصف أوقات الصلاة لعدم الحرج وصيرورته كالمعتاد حينئذ وعلى صاحبه أن يتطهر ويصلي وقت الانقطاع.
(وقالت) الشافعية: ما خرج على وجه السلس كالاستحاضة والبول والمذي والودي يجب على صاحبه التحفظ والتحرز من خروج شيء بأن يحشو محل الخروج ويعصبه ثم يتوضأ، فإن خرج منه شيء لا يمنع الصلاة وغيرها ان استوفى ما يأتي.
(أ) تقدم الاستنجاء على الوضوء.
(
__________
(1) انظر ص 170 ج 2- الفتح الرباني. وص 110 ج 1- ابن ماجه (المستحاضة).
(2) تقدم رقم 227 ص 263 (الدم الخارج من الجسد).(1/362)
ب) الموالاة بين الاستنجاء والتحفظ وبين التحفظ والوضوء، وبين أفعال الوضوء، وبين الوضوء والصلاة.
(جـ) أن تكون هذه الأعمال كلها بعد دخول الوقت، ولا يضر تأخير الصلاة عن الوضوء لمصلحتها كالذهاب إلى المسجد وانتظار الجماعة. ويصلي بهذا الوضوء فرضا واحدا وما شاء من النوافل قبله أو بعده. وينوي به الاستباحة لا رفع الحديث، لأنه لا يرفعه بل تباح به العبادة وعليه أن يكرر هذه الأعمال لكل فريضة (ودليل) ذلك حديث حبيب ابن ابي ثابت عن عروة عن عائشة قالت: أتت فاطمة بنت أبي حبيش النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالت: أني استحضت فقال دعى الصلاة أيام حيضك ثم اغتسلي وتوضئ لكل صلاة وأن قطر الدم على الحصير. أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والبيهقي وابن حبان(1) {260} وحبيب مدلس وقد عنعن (فظاهر) قوله وتوضئ لكل صلاة، يقتضي أن لا يصلي به أكثر من فريضة واحدة مؤداة أو مقضية. وقد تقدم أن الحنفيين والحنبلية، قالوا: اللام في قوله لكل صلاة للتوقيت. قال الطحاوي: فقد ثبت بما ذكرنا صحة الرواية في المستحاضة أنها تتوضأ في حال استحاضتها لوقت كل صلاة(2) ورد بأنك عرفت من الحديث السابق أن الرواية: لكل صلاة لا لوقت كل صلاة. فالحق أنه يجب على المعذور بسلس ونحوه الوضوء لكل فرض.
1- أقسام الوضوء
هي أربعة عند الأئمة الثلاثة، وخمسة عند أبي حنيفة (الأول) فرض على المحدث للصلاة ومس المصحف ونحوهما مما لا يصح إلا بالطهارة وهو.
(
__________
(1) انظر ص 171 ج 2- الفتح الرباني. وص 115 ج 3- المنهل العذب المورود (من قال تغتسل من طهر إلى طهر) وص 111 ج 1- ابن ماجه. وص 344 ج 1 بيهقي (المستحاضة تغسل عنها أثر الدم..).
(2) انظر ص 62 ج 1 شرح معاني الآثار.(1/363)
أ) الطهارة للصلاة: يشترط لصحة الصلاة الطهارة من الحدث إجماعا لقوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة) الآية- 6- المائدة (وعن ابن عمر) أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول. أخرجه مسلم والأربعة وقال الترمذي: هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب(1) {261}.
(قال) القاضي عياض: واختلفوا متى فرضت الطهارة للصلاة (فذهب) ابن الجهم إلى أن الوضوء كان في أول الإسلام سنة ثم نزل فرضه في آية التيمم.
(وقال الجمهور) بل كان قبل ذلك فرضا (واختلفوا) في الوضوء. أهو فرض على كل قائم إلى الصلاة أم على المحدث خاصة؟ (فقال) جماعة من السلف: الوضوء لكل صلاة فرض لقوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة) الآية (وقال) الجمهور: إن ذلك كان ثم نسخ وبقى لأمر فيه على الندب وعلى هذا أجمع أهل الفتوى بعد ذلك ولم يبق بينهم خلاف. ومعنى الآية عندهم إذا قمتم محدثين (لحديث) عبد الله بن حنظلة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر، فلما شق ذلك عليه أمر بالسلوك عند كل صلاة ووضع عنه الوضوء إلا من حدث. أخرجه أحمد والدارمي بسند جيد. وصححه ابن خزيمة(2) {262}.
(
__________
(1) انظر ص 102 ج 3 نووي مسلم (وجوب الطهارة للصلاة) وص 8 ج 1 تحفة الأحوذي. وص 60 ج 1- ابن ماجه (لا يقبل الله صلاة بغير طهور). وص 207 ج 1- المنهل العذب المورود (فرض الوضوء) عن ابي الملح عن أبيه. وص 33 ج 1 مجتبي كذلكز و(الغلول) بضم المراد به غير الحلال أخذ خفية أو جهرا.
(2) انظر ص 54 ج 2- الفتح الرباني. وص 168 ج 1 سنن الدارمي (قوله إذا قمتم إلى الصلاة..) و(أمر بالسواك) فكان واجبا في حقه صلى الله عليه وسلم وسنة في حقنا.(1/364)
وقال بريدة) كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتوضأ عند كل صلاة. فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد. فقال له عمر: إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله فقال عمدا فعلته. أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وقال حسن صحيح والدارمي(1) {263}.
وقال: فدل فعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن معنى قول الله تعالى: (إذا قمتم على الصلاة فاغسلوا وجوهكم) الآية لكل محدث ليس للطاهر. ومنه قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "لا وضوء إلا من حدث".
(ب) الطهارة لمس المصحف: (قال) الأئمة الأربعة والجمهور: تجب الطهارة لمس المصحف. لظاهر قوله تعالى: (إنه لقرآن كريم (77) في كتاب مكنون (78) لا يمسه إلا المطهرون) (79) الواقعة. (ولقول) حكيم ابن حزام: لما بعثني النبي صلى الله عليه وعلى ىله وسلم إلى اليمن قال: لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر. أخرجه الدارقطني والحاكم وقال صحيح الإسناد والطبراني في الكبير والأوسط. وفيه سويد أبو حاتم ضعفه النسائي ووثقه ابن معين في رواية(2) {264}.
(فيحرم) على المحدث مس القرآن أو بعضه بيد أو غيرها ولو في لوح أو درهم أو حائط، أو كان كتوبا بغير العربية من غير حائل منفصل، لأن النهي إنما ورد عن مسه. ومع الحائل إنما يكون المس له دون المصحف.
(
__________
(1) انظر ص 177 ج 3 نووي مسلم (جواز الصلوات بوضوء واحد). وص 165 ج 2 المنهل العذب (الرجل يصلي الصلوات بوضوء واحد). وص 63 ج 1 تحفة الأحوذي. وص 169 ج 1 سنن الدارمي (ما جاء في الطهور).
(2) انظر ص 276 ج 1 مجمع الزوائد (مس القرآن) . وص 45 سنن الدارقطني (نهى المحدث عن مس القرآن).(1/365)
ومثل) القرآن في ذلك باقي الكتب السماوية (ويكره) تحريما مسه بالكم ونحوه على الصحيح عند الحنفيين (ويحل) تقليب أوراق المصحف بعود ونحوه واختلفوا في مسه بما غسل من الأعضاء والصحيح عدم الجواز إلا بطهارة كاملة (وكذا) يحرم على المحدث حمل القرآن إلا بغلاف منفصل عن القرآن والماس كالكيس والمنديل والصندوق، لأن الحمل أبلغ من المس. نعم يجوز مسه وحمله لضرورة كخوف عليه من حرق أو غرق أو نجاسة أو وقوعه في يد كافر ولم يتمكن من الطهارة (ويحل) حمله في متاع تبعا إذا لم يكن مقصودا بالحمل (ولا يحرم) توسد حقيبة فيها مصحف ولا ركوب عليها في السفر إذا كان للحفظ، والإحرام (ورخص) مالك في مس المصحف للمعلم والمتعلم إذا خشيا النسيان (وقال) داود الظاهري وابن حزم: يجوز مسه بدون طهارة (لحديث) ابن عباس أن أبا سفيان أخبره أنه كان عند هرقل فدعا هرقل بكتاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصري فدفعه إلى هرقلف فقرأه فإذا فيه "بسم الله الرحمن الرحيم" من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم* سلام على من اتبع الهدى (أما بعد) فإني أدعوك بدعاية الإلام أسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين. فإن توليت فإن عليك أثم الاريسيين (ويأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم إلا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضا بعضا أربابا من دون الله. فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون). أخرجه البخاري(1){
__________
(1) انظر ص 28 ج 1 فتح الباري (بدء الوحي) والآية 64- آل عمران. واولها قل يا أهل الكتاب تعالوا و(الأريسيين) بفتح فكسر وشد الياء الأولى جمع أريسي وهو الفلاح. وفي رواية البريسيين. والمراد بهم رعيته لأن كل من يزرع فهو فلاح وإن لم يل ذلك بنفسه، أي أن عليه مع اثمه اثم رعاياه إذا لم يسلموا تبعا له ولا ينافيه قوله تعالى (ولا تزر وازرة وزرة أخرى) لأن وزر الاثيم لا يتحمله غيره..ولكن الفاعل المتسبب يتحمل أثم فعله وتسببه.(1/366)
265}.
(قال) ابن حزم في المحلي: فهذا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد بعث كتابا وفيه هذه الآية إلى النصارى. وقد أيقن أنهم يمسون ذلك الكتاب(1) (ورد) بأن الذي كان في الخطاب آية واحدة فلا تسمى مصحفا على أن الحالة ضرورة، فلا يقاس عليها. وقياس المس على القراءة قياس مع الفارق. فإن القراءة يشق معها الطهارة دائما. فالاحتياط عدم مس المصحف إلا على طهارة.
(الثاني) من أقسام الوضوء الواجب- يجب الوضوء للطواف بالكعبة ولو نفلا عند الحنفيين ورواية عن أحمد. ويفترض عند غيرهم (لحديث) ابن عباس أن النبي صلي الله عليه وعلى آله وسلم قال: "الطواف صلاة إلا أن الله تعالى أحل فيه الكلام، فمن تكلم فلا يتكلم فيه إلا بخير". أخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد والبيهقي. وصححه ابن السكن وابن خزيمة وابن حبان(2) {266}.
(وعن) طاوس عن صحابي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إنما الطواف بالبيت صلاة، فإذا طفتم فأقلوا الكلامز أخرجه أحمد والنسائي(3) {267}.
(فيحرم) الطواف مع الحديث اتفاقا، ولا يصح عند الثلاثة، لأن شرطه الطهارة، ويصح عند الحنفيين، وروى عن أحمد ويلزمه شاة أو بدنة على ما بين في الحج(4).
(تنبيه) علم أنه يحرم على المحدث حدثا أصغر أربعة أشياء (أ) الصلاة ولو صلاة جنازة أو سجدة تلاوة أو شكر، فلا تصح ويحرم أداؤها مع الحدث إجماعا (ب، ج) مس شيء من القرآن وباقي الكتب السماوية، وحمله إلا بغلاف منفصل من القرآن على ما تقدم بيانه (د) الطواف بالكعبة ولو نفلا على ما تقدم تفصيله.
(
__________
(1) انظر ص 83 ج 1- المحلي (مس المصحف).
(2) انظر رقم 5346 ص 293 ج 4 فيض القدؤر شرح الجامع الصغير.
(3) انظر ص 68 ج 12- الفتح الرباني (ما يقال في الطواف). وص 36 مجتبي (إباحة الكلام في الطواف).
(4) انظر ص 101 (إرشاد الناسك) (شروط الطواف) وص 265 منه (الجناية على الطواف) طبعة ثانية.(1/367)
الثالث) من أقسام الوضوء المندوب- يندب الوضوء في مواضع، المذكور منها عشرة:
1- الوضوء لكل صلاة: اتفق العلماء على أنه يندب تجديد الوضوء لكل صلاة (لقول) أنس: كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتوضأ عند كل صلاة، قيل له: فأنتم كيف تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصوات بوضوء واحد ما لم نحدث. أخرجه الجماعة إلا مسلما وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح(1) {268}.
(وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: من توضأ على طهر كتب الله له به عشر حسنات. أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه بسند ضعيف(2) {269}.
(وإنما) يندب تجديده عند الحنفيين إذا صلى بالأول أو تبدل المجلس. وعند المالكية إذا صلى بالأول أو طاف. وعند الشافعية إذا صلى بالأولى غير سنة الوضوء (ففي) الحديثين دليل على استحباب الوضوء لكل صلاة. ويحمل عليه حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى ىله وسلم قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء ومع كل وضوء بسواك" أخرجه أحمد بسند صحيح(3) {270}.
__________
(1) انظر ص 54 ج 2- الفتح الرباني. وص 269 ج 1 فتح الباري (الوضوء من غير حدث) وص 162 ج 2- المنهل العذب (يصلي الصوات بوضوء) وص 62 ج 1 تحفة الأحوذى (الوضوء لكل صلاة) وص 95 ج 1- ابن ماجه.
(2) انظر ص 220 ج 1- المنهل العذب (الرجل يجدد الوضوء) وص 62 ج 1 تحفة الأحوذي. وص 95 ج 1- ابن ماجه (الوضوء على الطهارة) و(بسند ضعيف) لأن فيه (أ) عبد الرحمن بن زياد الأفريقي ضعيف مدلس (ب) وأبا غطيف (بالتصغير) الهذلي مجهول.
(3) انظر ص 56 ج 2- الفتح الرباني (الوضوء لكل صلاة وجواز الصلوات بوضوء واحد).(1/368)
2- الوضوء لذكر الله تعالى: أجمع المسلمون على أنه يجوز للمحدث أن يذكر الله تعالى بكل أنواع الذكر ما عدا القرآن للمحدث حدثا أكبر. وفي كل الأماكن والأحوال ما عدا محل القاذورات وحال الجماع. فإنه يكره فيهما. واصل ذلك (قول) عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يذكر الله على كل أحيانه. أخرجه أحمد ومسلم وابو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه. وقال في العلل: سألت عنه البخاري فقال صحيح(1) {271}.
(وقال) على رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن ويأكل معنا اللحم ولم يكن يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة. أخرجه أحمد والأربعة وصححه الترمذي وابن السكن(2) {272}.
(واتفقوا) على أنه يندب الوضوء لذكر الله تعالى "لما روى" المهاجر ابن قنفذ: أنه سلم على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يتوضأ فلم يرد عليه حتى توضأ فرد عليه وقال: أنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كرهت أن أذكر الله إلا على طهارة. أخرجه أحمد وابن ماجه. وكذا أبو داود والنسائي بلفظ: وهو يبول بدل "وهو يتوضأ(3)" {273}.
__________
(1) انظر ص 71 ج 1- المنهل العذب (الرجل يذكر الله تعالى على غير طهر). وص 95 ج 1 سبل السلام (حديث 12 بنواقض الوضوء) (وهو يبول) فمعنى قوله في الرواية الأولى (وهو يتوضأ) أي وهو في مقدمات الوضوء.
(2) انظر ص 121 ج 2- الفتح الرباني. وص 120 ج 1 سبل السلام (حديث 8 بالغسل).
(3) انظر ص 264 ج 1- الفتح الرباني. وص 171 ج 3- المنهل العذب عن ابن عمر (التيمم في الحضر) والحديث تقدم مطولا منسوبا للنسائي وابن ماجه رقم 191 ص 245 (عدم التكلم حال الوضوء).(1/369)
3- الوضوء لتناول ما مسته النار: (قال) الأئمة الأربعة والجمهور: لا ينتقض الوضوء بتناول ما مسته النار. وعليه أجمع العلماء بعد الصدر الأول (لقول) ميمونة: أكل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من كتف شاة ثم قام فصلى ولم يتوضأ. أخرجه أحمد والشيخان(1) {274}.
(وقال) جابر: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار. أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والنووي(2) {275}.
(هذا) وقد اتفق الائمة الأربعة والجمهور على أنه يندب الوضوء مما مست النار. وعليه تحمل الأحاديث الواردة بالأمر بالوضوء منه جمعا بين الأحاديث (كحديث) إبراهيم بن عبد الله بن قارظ قال: مررت بأبي هريرة وهو يتوضأ فقال: أتدري مم أتوضأ؟ من أثوار أقط أكلتها، لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى أله وسلم يقول: توضئوا مما مست النار. أخرجه السبعة إلا البخاري(3) {276}.
(وحديث) أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "توضئوا مما غيرت النار لونه" أخرجه أحمد والطبراني في الأوسط بسند رجاله ثقاب(4) {277}.
__________
(1) انظر ص 106 ج 2- الفتح الرباني، وص 216 ج 1 فتح الباري عن ابن عباس (من لم يتوضأ من لحم الشاة).
(2) انظر ص 218 ج 2- المنهل العذب (ترك الوضوء مما مست النار) وص 319 ج 2 تيسير الوصول (في ترك الوضوء) أي من أكل ما مسته النار.
(3) انظر ص 95 ج 2- الفتح الرباني. وص 318 ج 2 تيسير الوصول (أكل ما مسته النار) وص 44 ج 4 نووي مسلم عن ابن عباس (الوضوء مما مست النار) و(الأثوار) جمع ثور وهو القطعة من الأقط. وهو لبلن مخيض يطبخ ويترك حتى يجمد.
(4) انظر ص 96 ج 2 الفتح الرباني. وص 248 ج 1 مجمع الزوائد (الوضوء ما مست النار).(1/370)
4- الوضوء للنوم- يستحب عند الأئمة الأربعة والجمهور لمن أراد النوم أن ينام على طهارة كاملة (لحديث) البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم أضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك. وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك. اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت. فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة. واجعلهن آخر ما تتكلم به. قال فرددتها على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فلما بلغت: اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، قلت ورسولك. قال لا. ونبيك الذي أرسلت. أخرجه السبعة(1) {278}.
(والحديث) وإن كان خطابا للبراء، فالمراد منه العموم فيشمل جميع المكلفين.
(فقد) قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب غسل فرجه وتوضأ وضوءه للصلاة أخرجه السبعة(2) {279}.
(وقالت) الظاهرية وابن حبيب المالكي: يجب على الجنب الوضوء إذا أراد النوم لظاهر الأمر بذلك. ورد بأنه محمول على الندب (والحكمة) في الوضوء أنه يخفف الحدث ولا سيما على القول بجواز تفريق الغسل (ويؤيده) قول شداد ابن أوس الصحابي: إذا أجنب أحدكم من الليل ثم أراد أن ينام فليتوضأ فإنه نصف غسل الجنابة. أخرجه ابن أبي شيبة {29} (وقيل) الحكمة في الوضوء أنه ينشط إلى العودة، أو إلى الغسل.
__________
(1) انظر ص 57 ج 2- الفتح الرباني. وص 248 ج 1 فتح الباري (فضل من بات على وضوء) وص 18 ج 2 تيسير الوصول (أدعية النوم) مقتصرا على الدعاء.
(2) انظر ص 141 ج 2- الفتح الرباني. وص 271 ج 1 فتح الباري (الجنب يتوضأ ثمن ينام) وص 332 ج 2 تيسير الوصول (غسل الجناية).(1/371)
5- وضوء الجنب للأكل أو الشرب- (قالت) الشافعية وجماعة: بستحب للجنب الوضوء إذا أراد أن يأكل أو يشرب (لقول) عائشة. كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا كان جنبا فأراد أن يأكل أو ينام توضأ. أخرجه أحمد ومسلم(1) {280}.
(وعن) عمار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رخص للجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أن يتوضأ وضوءة للصلاة. أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه(2) {281}.
(ولذا) يكره للجنب النوم والأكل والشرب والجماع قبل الوضوء الكامل. ولا يستحب هذا الوضوء للحائض والنفساء لأنه لا يؤثر في حدثهما ولا يصح الوضوء مع استمراره. أما إذا انقطع حيضها فتصير كالجنب يستحب لها الوضوء في هذه المواضع(3) (وقال) الحنفيون ومالك وأحمد لا يستحب الوضوء لمن اراد أن يأكل أو يشرب وإنما يغسل يديه فقط (لقول) عائشة: كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة، وإذا أراد أن يأكل أو يشرب غسل يديه، ثم يأكل أو يشرب. أخرجه أحمد والنسائي. وهو حديث صحيح رجاله ثقات(4) {282}.
(وقال) سعيد بن المسيب: إذا أراد الجنب أن يأكل غسل يديه ومضمض فاه (وأجابوا) عن حديث عمار بأن فيه الترخيص بالوضوء للجنب إذا أراد الأكل وهو لا يفيد الاستحباب (ويمكن) الجمع بين الروايات بأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان تارة يتوضأ وضوءه للصلاة وتارة يقتصر على غسل اليدين ولا يخفي حسن التأسي بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. د
__________
(1) أنظر ص 142 ج 2- الفتح الرباني. وص 332 ج 2 تيسير الوصول (غسل الجنابة).
(2) انظر ص 291 ج 2- المنهل العذب (من قال الجنب يتوضأ) وص 271 ج 1 نيل الأوطار (مشروعية الوضوء للجنب).
(3) انظر ص 156 ج 2 مجموع النووي.
(4) انظر ص 141 ج 2- الفتح الرباني. وص 50 ج 1 مجتبي (اقتصار الجنب على غسل يديه إذا اراد أن يشرب).(1/372)
6- الوضوء لمعاودة الجماع- (قال) الحنفيون والشافعي وأحمد والجمهور: يستحب لمن جامع أهله واراد المعاودة أن يتوضأ (لحديث) أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ بينهما. أخرجه الخمسة(1) {283} (والأمر) عند الجمهور محمول على الاستحباب (لقول) عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا كان له حاجة إلى أهله أتاهم ثم يعود ولا يمس ماء. أخرجه أحمد. ولأبي داود والترمذي عن عائشة "كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ينام وهو جنب ولا يمس ماء"(2) {284} قال أحمد: ليس بصحيح وقال أبو داوود: هو وهم(3).
(وقالت) الظاهرية وابن حبيب: يجب الوضوء على المعاود إبقاء للأمر على ظاهره. لكن قد علمت أنه محمول على الاستحباب (وحمله) أبو يوسف على الإباحة (وحمله) المالكية على الوضوء اللغوي وهو غسل الفرج. والأظهر قول الجمهور.
7- الوضوء قبل الغسل- اتفق العلماء على أنه يستحب الوضوء قبل الغسل ولو مسنونا. غير أن الأفضل عند الحنفيين اكماله إن كان يغتسل في محل لا يجتمع فيه الماء كأن يغتسل على مرتفع أو بالوعة (وعليه) يحمل قول عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة (الحديث) أخرجه الجماعة(4) {285}.
(
__________
(1) انظر ص 330 ج 2 تيسير الوصول (غسل الجناية).
(2) انظر ص 273 ج 1 نيل الأوطار (جواز وطء نسائه بلال غسل).
(3) انظر ص 273 ج 1 نيل الأوطار (جواز وطء نسائه بلا غسل).
(4) انظر ص 128 ج 2- الفتح الرباني. وص 328 ج 2 تيسير الوصول (غسل الجناية).(1/373)
وإن كان) يغتسل في مكان يجتمع فيه الماء كطشت فالأفضل تأخير غسل القديمن (وعليه) يحمل قول ميمونة: سترت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يغتسل من الجنابة فغسل يديه ثم صب بيمينه على شماله فغسل فوجه وما أصابه ثم مسح بيده على الحائط أو الأرض ثم توضأ وضوءه للصلاة غير رجليه ثم أفاض عليه الماء ثم نحي رجليه فغسلهما. أخرجه السبعة والبيهقي(1) {2086}.
(وقال) مالك: والأفضل تقديم غسل الرجلين إلا إذا كان المكان غير نظيف فالأفضل التأخير (وقالت) الشافعية والحنبلية: الأفضل تتميم الوضوء على الأصح المختار عندهم عملا بظاهر الروايات المستفيضة عن عائشة في تقديم وضوء الصلاة فإن ظاهره كمال الوضوء والأمر في هذا واسع فإنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يقدم غسل رجليه تارة ويؤخره أخرى.
8- الوضوء من حمل الميت- (قال) الحنفيون والشافعي وأحمد: يندب الوضوء من حمل الميت. وقال ابن حزم بوجوبه (لحديث) عمرو بن عمير عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ. أخرجه أحمد والثلاثة والبيهقي وقال: عمرو بن عمير إنما يعرف بهذا الحديث وليس بالمشهور. وأخرجه عن صالح مولى التوءمة عن أبي هريرة. وقال: صالح مولى التوءمة: ليس بالقوى ثم قال: والروايات المرفوعة في هذا الباب عن أبي هريرة غير قوية لجهالة بعض رواتها وضعف بعضهم. والصحيح عن أبي هريرة من قوله موقوفا(2) {287}.
(
__________
(1) انظر ص 129 ج 2- الفتح الرباني. وصدره: وضعت النبي صلى الله عليه وسلم غسلا. وص 329 ج 2 تيسير الوصول (غسل الجنابة) وص 303 ج 1 بيهقي (الغسل من غسل الميت).
(2) انظر ص 145 ج 2- الفتح الرباني. وص 337 ج 2 تيسير الوصول (غسل الميت والغسل منه).(1/374)
ولذا) قال المزني: الوضوء من مس الميت وحمله غير مشروع لأنه لم يصح فيهما شيء (ورد) بأن الحديث قد روى من عدة طرق يقوى بعضها بعضا. ولذا حسنه الترمذي وصححه ابن حبان وابن حزم معترض. قال الذهبي: هو أقوى من عدة أحاديث احتج بها الفقهاء.
9- الوضوء للغضب- (قال) الأئمة الأربعة والجمهور: يستحب الوضوء للغضب (لحديث) عطية العوفي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ان الغضب من الشيطان وأن الشيطان خلق من النار. وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ. أخرجه أحمد وأبو داود(1) {288}.
(وقال) بعض الحنفيين: لو كان متوضئا واشتد غضبه ندب له الغسل.
10- الوضوء للخروج من خلاف العلماء- (يندب) للحنفي أن يتوضأ إذا لمس امرأة أو مس ذكره أو أكل لحم جزور وغير ذلك مما ينقض الوضوء عند بعض العلماء (ويندب) للمالكي وغيبره أن يتوضأ من القيء وحروج نجس من غير السبيلين وقهقهة في الصلاة، وغير ذلك مما ينقض الوضوء عند غيرهم على ما تقدم بيانه.
(الرابع) من أقسام الوضوء- الوضوء الحرام، كالوضوء من ماء مغصوب وموقوف لغير الطهارة.
(الخامس) الوضوء المكروه كالوضوء على الوضوء قبل الصلاة أو الطواف أو تبدل المجلس على ما تقدم بيانه.
12- المسح على الخفين
المسح لغة امرار اليد على الشيء. وإصطلاحا: إصابة اليد المبتلة أو ما يقوم مقامها أعلى الخف في المدة الشرعية(2). والخف الشرعي هو الساتر للكعبين الممكن تتابع المشي فيه عادة (والمسح) على الخفين من خصائص هذه الأمة. وهو رخصة قد أجمع من يعتد به على جوازه للمتوضئ في السفر والحضر ولو بغير حاجة فيجوز ولو للمرأة الملازمة بيتها والزمن والذي لا يمشي(3).
(
__________
(1) انظر رقم 2080 ص 377 ج 4 فيض القدير شرح الجامع الصغير.
(2) المدة الشرعية، سيأتي أنها يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر.
(3) الزمن) بفتح فكسر: المريض مرضا طال زمنه.(1/375)
قال) الحسن البصري: حدثني سبعون رجلا من الصحابة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مسح على الخفين. أخرجه ابن المنذر وغيره(1) {289}. (وقال) أبو حنيفة رحمة الله: ما قلت بالمسح حتى جاءني فيه مثل ضوء النهارز وأخاف الكفر على من لم ير المسح على الخفين، لأن الآثار التي جاءت فيه في حيز التواتر(2).
(ومما) ورد فيه حديث إبراهيم عن همام النخغي قال: بال جرير بن عبد الله ثم توضأ ومسح على خفيه، فقيل له: تفعل هذا وقد بلت؟ قال: نعم رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه. قال إبراهيم: فكان يعجبهم هذا الحديث، لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة. أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي. وقال حسن صحيح(3) {290}.
(وقال) ابن المبارك: ليس في المسح على الخفين عن الصحابة اختلاف، لأن كل من روى عنه منهم إنكاره فقد روى عنه إثباته "وما روى" عن عائشة أنها قالت: لأن اقطع رجلي أحب إلى من أن أمسح عليهما {30} "ففيه" محمد بن مهاجر. قال ابن حبان: كان يضع الحديث(4) (وقال أحمد) لا يصح حديث أبي هريرة في إنكار المسح.
هذا، وسبب المسح ليس الخف (وثمرته) الدنيوية حل مالا يصح إلا بالطهارة في مدة المسح. والأخروية الثواب ان قصد به اتباع السنة.
ثم الكلام ينحصر في عشرة مباحث:
__________
(1) انظر ص 162 ج 1 نصب الراية (المسح على الخفي).
(2) انظر ص 99 ج 1 فتح القدير لابن الهمام.
(3) انظر ص 57 ج 2- الفتح الرباني. وص 321 ج 2 تيسير الوصول (المسح على الخفين).
(4) انظر ص 223 ج 1 نيل الأوطار (المسح على الخفين).(1/376)
1- حكمه- هو رخصة للمتوضئ ولو امرأة لما تقدم، وغسل الرجلين أفضل من المسح عند الأئمة الثلاثة، لأن الغسل عزيمة وقد واظب عليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في معظم الأوقات (والمشهور) عن أحمد أن المسح أفضل (لحديث) ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إن الله يحب أن تؤتي رخصه كما يجب أن تؤتى عزائمه. أخرجه أحمد والبيهقي وابن خزيمة وابن حبان وصححاه(1) {291}. ولأن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ولأن فيه مخالفة أهل البدع. وأحياء ما طعن فيه المخالفون من السنن أفضل من تركه (وأجاب) الأولون بأن محبة فعل الرخصة وكونها أيسر لا يقتضي تفضيلها على العزيمة (وقد) يجب المسح في مواضع (منها) إذا كان معه ماء لو غسل به رجليه لا يكفي وضوءه. لو مسح على الخفين يكفيه (ومنها) ما لو خالف خروج الوقت لو غسل رجليه، أو خاف فوات فرض آخر كالوقوف بعرفه.
2- شروط المسح على الخفين- يشترط لجواز المسح على الخف ثمانية شروط:
1- لبسه على وضوء تام قبل حصول حدث بعده عند الحنفيين وسفيان الثوري والمزني وأبي ثور وداود الظاهري (لقول) المغيرة ابن شعبة: كنت مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذات ليلة في مسيرة فأفرغت عليه من الأداوة فغسل وجهه وذراعيه ومسح برأسه ثم أهويت لأنزع خفيه فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما. أخرجه أحمد والشيخان والترمذي وحسنه وأبو داود(2) {292}.
(
__________
(1) انظر رقم 1879 ص 292 ج 2 فيض القدير شرح الجامع الصغير.
(2) انظر ص 63 ج 2- الفتح الرباني وص 320 ج 2 تيسير الوصول (المسح على الخفين).(1/377)
فلو بدأ) بغسل رجليه ثم لبس الخفين ثم كمال الوضوء، أو توضأ فغسل رجلا ولبس خفها ثم غسل الأخرى ولبس خفها (صح له المسح) إذا تمم الوضوء قبل الحدث (وقال) مالك والشافعي وأحمد في أصح الروايتين عنه وإسحاق: يشترط للمسح على الخفين لبسهما على طهارة كاملة وقت اللبس (لحديث) أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أرخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوما وليلة إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما. أخرجه الدارقطني وابن خزيمة بسند صحيح(1) {293}.
(فلو) غسل وجهه ويديه ومسح رأسه ثم لبس الخف أو لبسه قبل غسل عضو ثم أكمل الوضوء أو غسل إحدى رجليه ثم لبس قبل غسل عضو ثم أكمل الوضوء او غسل إحدى رجليه ثم لبس خفها ثم غسل الأخرى ولبس خفها لم يصح المسح على الخف حتى ينزعه ويلبسه بعد كمال الطهارة(2).
2- أن يكون الخف طاهرا، فلا يصح المسح على نجس أو متنجس.
3- أن يكون ساترا للرجلين مع الكعبين من الجوانب فلا يضر نظرهما من أعلى خف واسع أو قصير الساق. ومالا يستر الكعبين كالمركوب إذا خيط به ثخين يسترهما كجوخ، صح المسح عليه (لقول) راشد بن نجيح: رايت أنس بن مالك دخل الخلاء وعليه جوربان أسفلهما جلود وأعلاهما خز فمسح عليهما. أخرجه البيهقي(3){31}.
4- استمساكه على الرجل بلا شك لثخاذته، فلا يصح المسح على رقيق لا يستمسك على الرجل بنفسه كجورب من قطن أو صوف.
5- منعه وصول الماء إلى الرجل لئلا يشف الماء.
6- خلو الخف من خرق كبير يمنع المسح عليه، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
__________
(1) انظر ص 71 الدارقطني (المسح على الخفي).
(2) انظر ص 512 ج 1 مجموع النووي.
(3) أنظر ص 285 ج 1 بيهقي (ما ورد في الجوربين).(1/378)
أن يكون الخف قويا يمكن متابعة المشي فيه عادة فرسخا(1) فأكثر. فلا يصح المسح على متخذ من زجاج أو خشب أو حديد (والمراد) كونه صالحا لقطع المسافة من غير لبس حذاء.
8- أن يبقى بكل رجل من مقدم القدم قدر المفروض مسحه عند الحنفيين، وهو مقدار ثلاثة أصابع من أصغر أصابع اليد، فإذا قطعت رجله فوق الكعب صح مسح خف الأخرى وإن قطعت من تحت الكعب ولم يبق من مقدم القدم قدر المفروض مسحه لا يمسح خف الأخرى.
4- مدة المسح على الخفين- (قال) الحنفيون والشافعي وأحمد وسفيان الثوري والجمهور: مدة المسح على الخفين للمقيم والمسافر سفرا لا تقصر فيه الصلاة يوم وليلة، وللمسافر سفر قصر ثلاثة أيام ولياليها. فيستبيح بالمسح ما يستبيحه بالغسل في هذه المدة (لحديث) خزيمة ابن ثابت أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام، وللمقيم يوما وليلة. أخرجه أحمد وأبو داود والبيهقي والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. وصححه ابن حبان(2) {294}.
(وقال) شريح بن هانئ: سألت عليا عن المسح على الخفين فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوم وليلة. أخرجه أحمد ومسلم والنسائي، وأخرجه البيهقي وقال: هو أصح ما روى في هذا الباب(3) {295].
(
__________
(1) الفرسخ ثلاثة أميال أو 5565 مترا خمسة وستون وخمسمائة وخمسة آلاف متر.
(2) انظر ص 66 ج 2- الفتح الرباني. وص 323 ج 2 تيسير الوصول (المسح على الخفين) وص 276 ج 1 بيهقي (التوقيت في المسح على الخفين).
(3) انظر ص 64 ج 2- الفتح الرباني. وص 322 ج 2 تيسير الوصول. وص 275 ج 1 بيهقي.(1/379)
وقال) صفوان بن عسال: أمرنا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثا إذا سافرنا، ويوما وليلة إذا قمنا. ولا نخلعهما من غائط ولا بول ولا نوم ولا نخلعهما إلا من جناية. أخرجه أحمد والنسائي بسند صحيح وصححه الترمذي(1) {296}.
(وقال) الشعبي وربيعة والليث ومالك: لا يوقت المسح على الخفين، بل يمسح عليهما ما شاء (لقول) أبي بن عمارة: يا رسول الله أمسح على الخفين؟ قال: نعم. قال يوما، قال يوما، قال: يومين قال: ويومين، قال: وثلاثة، قال: نعم وما شئت. أخرجه أبو داود والبيهقي والحاكم(2) {297}.
وقد اتفق أهل السنن على أنه ضعيف مضطرب لا يحتج به وسننه
(4- 6) فرض المسح وسنته وكفيته- (قال) الحنفيون: فرضه مسح قدر ثلاثة أصابع من أصغر أصابع اليد على ظاهر أعلى الخف من كل رجل. فلا يصح على اسفله وعقبه وساقه وجوانبه (لقول) على رضي الله عنه: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يمسح على ظاهر خفيه. أخرجه أبو داود والبيهقي والدارقطني بسند صحيح(3) {298}.
(
__________
(1) انظر ص 65 ج 2- الفتح الرباني. وص 322 ج 2 تيسير الوصول (المسح على الخفين).
(2) انظر ص 130 ج 2- المنهل العذب. وص 279 ج 1 بيهقي (ترك التوقيت في المسح على الخفي).
(3) انظر ص 145 ج 2- المنهل العذب (كيف المسح) وص 292 ج 1 بيهقي. (المسح على ظاهر الخفين).(1/380)
وسننه) مد الأصابع مفرجة بادئا من رءوس اصابع القدم إلى الساق (لقول) جابر: مر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم برجل يتوضأ، فغسل خفيه، فنخسه برجله وقالك ليس هكذا السنة، أمرنا بالمسح على الخفين هكذا وأمر بيديه على خفيه. أخرجه الطبراني في الأوسط وقال: تفرد به بقية. وهو متكلم فيه، وأخرج ابن ماجه نحوه، وفيه: وقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بيده هكذا من أطراف الأصابع إلى أصل الساق وخطط بالاصابع(1) {299}.
(وكيفية) المسح المستحبة عندهم أن يضع أصابع يمينه على مقدم خفه الأيمن وأصابع يساره على مقدم خفه الأيسر ويمدهما إلى أصل الساق فوق الكعبين مفرفا أصابعه. وإن وضع الكف مع الأصابع كان أحسن (لقول) الممغيرة بن شعبة: رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على الخفين. أخرجه البيهقي وابن أبي شيبة(2){300}.
(ويستحب) الجمع بين الظاهر والباطن في المسح (لحديث) المغيرة ابن شعبة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مسح أعلى الخف وأسفله. أخرجه أحمد والثلاثة والبيهقي وابن ماجه وقال الترمذي: هذا حديث معلول لم يسنده غير الوليد بن مسلم(3) عدم مسح الأسفل بقول على: لو كان الدين بالرأي الخ "غير ظاهر" لأنه لنفي الافتراض على معنى لكان أسفل الخف أولي بفريضة المسح إذ المقصود أنه لو كان بالرأي لأعطى وظيفة ظاهر الخف للباطن، ووظيفة الظاهر فريضة المسح أ هـ.
(
__________
(1) انظر ص 256 ج 1 مجمع الزوائد (المسح على الخفين) و ص 101 ج 1- ابن ماجه (مسح أعلى الخف وأسفله).
(2) انظر صفحة 292 ج 1 بيهقي (الاقتصار بالمسح على ظاهر الخفين).
(3) انظر ص 71 ج 2- الفتح الرباني. وص 100 ج 1 تحفة الأحوذي (المسح على الخفين أعلاه) وص 322 ج 2 تيسير الوصول، وص 290 ج 1 بيهقي (كيف المسح على الخفين) وص 101 ج 1- ابن ماجه (مسح أعلى الخف وأسفله).(1/381)
والمشهور) عند المالكية أن يجب مسح جميع أعلى الخف إلى الكعبين. ويسن مسح أسفله (وقال) أشهب: الفرض مسح أسفل الخف وأن مسحه دون ظاهره أجزأه (وكيفية) المسح المندوبة عندهم أن يضع يده اليمنى على أطراف أصابع رجله اليمنى، ويده اليسري تحت أطراف الأصابع ويمرهما إلى الكعبين وفي اليسرى يضع اليد اليمنى تحت القدم من أطراف الأصابع اليسرى من فوقها (والمشهور) عند الشافعية أنه يجب مسح جزء من ظاهر أعلى الخف من محل الفرض. وقالوا يسن مسح أعلاه وأسفله خطوطا (والأفضل) أن يضع كفه اليسرى تحت عقب الخف، وكفه اليمنى على أطراف أصابعه ثم يمر اليمنى إلى ساقه واليسرى إلى أطراف أصابعه (وقالت) الحنبلية: الواجب مسح أكثر أعلاه، فلا يجزئ الاقتصار على مسح أسفله وعقبه. ولا يسن مسحهما مع الأعلى، ويسن أن يكون المسح باليد اليسرى مفرجة الاصابع مبتدئا من رءوس أصابع الرجل منتهيا إلى الساق.
7- مكروهات المسح- يكره تكرار المسح على الخف وترك سنة من سننه، وعن عطاء يسن مسحه ثلاثا ونلا دليل عليه. وسكره غسل الخفين، ويكفي عن المسح وإن لم ينوه عند الحنفيين. وقال غيرهم لا يكفي إلا إذا نوى بالغسل رفع الحدث.
8- ما يبطل المسح على الخفين- يبطل بواحد من ثلاثة:
(أ) ما يبطل به الوضوء اتفاقا لأن المسح على الخف بعض الوضوء.
(ب) "ويبطل" أيضا عند القائلين فيه بالتوقيت بمضي المدة للمقيم والمسافر إن لم يخف بغلبة الظن تلف رجله من البرد ونحوه إذا نزعه. فإن خاف ذلك لا يلزمه النزع، ويمسح دائما بلا توقيت حتى يأمن، دفعا للحرج. وحينئذ يصيري الخف كالجبيرة فيستوعبه أو أكثره بالمسح.
((1/382)
جـ) "ويبطل أيضا" عند الحنفيين والشافعي والجمهور بنزع الخف أو انتزاعه ولو بخروج أكثر القدم إلى ساق الخف في الأصح. ولا عبرة بخروج عقبه ودخوله. وهو رواية عن أحمد (لما روى) سعيد بن ابي مريم عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عيه وعلى آله وسلم في الرجل يمسح على خفيه ثم يبدو له فينزعهما قال: يغسل قدميه. أخرجه البيهقي(1) {32}.
(وقال) عبد الرحمن بن أبي بكرة: كان أبي ينزع خفيه ويغسل رجليه. أخرجه البيهقي(2) {33}.
(وعليه) فإذا مضت المدة أو نزع الخف وهو متوضئ غسل رجليه فقط لسراية الحدث إليهما فإن صلى قبل غسلهما لم تصح صلاته لنقصان طهارته (وقال) الحسن وقتادة والظاهرية: نزع الخف لا يبطل المسح فلا يلزم منه غسل القدمين قياسا على من حلق رأسه أو قلم أظفاره بعد الطهارة، فإنه لا يلزمه إعادة مسح الرأس ولا غسل مكان تقليم الأظفار (ورد) بأنه قياس مع الفارق لأن شعر الرأس والأظفار متصلة بموضع الطهارة بخلاف الخف.
(وقالت) الحنبلية والأوزاعي متصلة بموضع الطهارة بخلاف الخف.
(
__________
(1) انظر صفحة 289 ج 1 بيهقي (خلع الخف).
(2) انظر صفحة 289 ج 1 بيهقي (خلع الخف).(1/383)
وقالت) الحنبلية والأوزاعي وإسحاق: نزع الخف يبطل الوضوء وهو أحد قولي الشافعي ومالك (وهذا) الاختلاف مبنى على وجوب الموالاة في الوضوء. فمن أجاز التفريق جوز غسل القدمين لأن سائر أعضائه مغسولة. ولم يبق إلا غسل قدميه، فإذا غسلهما كمل وضوءه. ومن منع التفريق أبطل وضوءه لفوات الموالاة، فعلى هذا لو خلع الخفين قبل جفاف الماء عن يديه أجزأه غسل قدميه وصار كأنه خلعهما قبل مسحه عليهما(1) (ومشهور) مذهب المالكية أنه إذا خلع خفيه لزمه غسل قدميه فورا. وإن أخره استأنف الطهارة لأن الطهارة كانت صحيحة في كل الأعضاء إلى حين نزع الخف. وإنما بطلت في القدمين خاصة فإذا غسلهما عقب النزع لم تفت الموالاة، لقرب غسلهما من الطهارة الصحيحة في بقية الأعضاء، بخلاف ما إذا تراخى غسلهما (وفيه) نظر فإن المسح قد بطل حكمه بالنزع. والاعتبار في الموالاة إنما هو بقرب الغسل من الغسل لا من حكمه فإنه متى زال حكم الغسل بطلت الطهارة ولا يفيد قرب الغسل شيئا لكون الحكم لا يعود بعد زواله إلا بسبب جديد(2).
__________
(1) انظر صفحة 295 ج 1 مغنى ابن قدامة (خلع الخفين الممسوحين).
(2) انظر صفحة 296 ج 1 مغنى ابن قدامة.(1/384)
9- الخف المخرق: اتفق العلماء على جواز المسح عليه ما لم يكن الخرق مانعا (وقال) الثوري: كانت خفاف المهاجرين والأنصار لا تسلم من الخروق كخفاف الناس فلو كان في ذلك حظر لورد ونقل عنهم(1) (وقد) اختلفوا في الخرق المانع من صحة المسح على الخف (فقال) الحنفيون: يجوز المسح عليه ما دام خاليا من خرق كبير. وهو ما يبدو منه قدر ثلاث أصابع من أصغر أصابع الرجل إذا كان الخرق على غير الأصابع والعقب. أما إذا كان على الأصابع فالمعتبر ظهور ذات ثلاث الأصابع. فلا يضر كشف الإبهام مع جاره. وإذا كان على العقب لا يمنع ما لم يظهر أكثره (وتجمع) الخروق في خف لا في خفين حتى لو بلغ مجموع ما فيهما قدر ثلاث أصابع لا يمنع (وأقل) خرق يجمع ما تدخل فيه المسلة (وقال) الشافعي وأحمد: أن ظهر من القدم شيء من الخرق لم يجز المسح على الخفين وإلا جاز.
(وقالت) المالكية: يمسح عليه إذا كان الخرق يسيرا بأن كان أقل من ثلث القدم ولم ينفتح أو انفتح وكان يسيرا جدا بحيث لا يصل بلل حال المسح لما تحته من الرجل. ولا يصح المسح عليه إذا كان الخرق ثلث القدم سواء أكان منفتحا أم ملتصقا بأن فتقت خياطته مع التصاق الجلد بعضه ببعض. وكذا إذا كان الخرق دون الثلث وانفتح بأن ظهرت الرجل منه (وقال) قوم منهم الثوري وداود الظاهري واسحق ابن راهويه: يجوز المسح على الخف المتخرق ما دام يسمى حفا وإن تفاحش خرقه.
__________
(1) انظر صفحة 16 ج 1 بداية المجتهد (صفة الخف).(1/385)
10- المسح على الجوربين- (الجورب) بفتح الجيم ما يصنع من قطن أو كتان أو صوف على هيئة الخف (وقد) اختلف العلماء في المسح على الجوربين. (قال) الحنفيون وأحمد: يجوز المسح عليهما سواء أكان (أ) "مجلدين" وهما ما وضع الجلد أعلاهما وأسفلهما (ب) "أم منعلين" وهما ما وضع الجلد أسفلهما كالنعل. (جـ) "أم ثخينين" يمكن المشي فيهما فرسخا فأكثر، ويثبتان على الساق من غير ربط ولا يرى ما تحتهما، ولا ينفذ إليه الماء. وهو الصحيح عند الشافعية (لقول) المغيرة بن شعبة: توضأ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومسح على الجوربين والنعلين. أخرجه أحمد والطحاوي والبيهقي والأربعة إلا النسائي(1) {302}. وفيه (أ) (أبو قيس) عبد الرحمن الأودي وثقه ابن معين والعجلي وقال ثبت (ب) (وهذيل) بن شر حبيل وثقه العجلي وأخرج لهما البخاري في صحيحه ولذا صحح ابن حبان الحديث وقال الترمذي: حسن صحيح. وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد واسحق قالوا: يمسح على الجوربين وأن لم يكونا نعلين إذا كانا ثخينين. "وقولهوالنعلين" أي مسح عليهما والجوربان تحتهما قاصدا مسح الجوربين لا النعلين، فكان تطهره بالمسح على الجوربين (وعن) عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة عن بلال قال: كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يمسح على الخفين والجوربين. أخرجه الطبراني وابن أبي شيبة. وابن أبي ليلى مستضعف صدوق(2){303}.
(
__________
(1) انظر ص 71 ج 2- الفتح الرباني. وص 100 ج 1 تحفة الأحوذي (المسح على الجوربين والنعلين) وص 134 ج 2- المنهل العذب وصفحة 102 ج 1- ابن ماجه.
(2) انظر ص 185 ج 1 نصب الراية (المسح على الجوارين).(1/386)
وكان) أبو حنيفة لا يجوز المسح على الجورب الثخين، ثم رجع إلى الجواز قبل موته بثلاثة أيام أو بسبعة ومسح على جوربيه الثخيني في مرضه وقال لعواده: فعلت ما كنت أني عنه (وقالت) المالكية: يجوز المسح عليهما بشرط أن يكونا مجلدين من أعلاهما وأسفلهما، لأنهما حينئذ كالخف.
(ب) الغسل
الغسل بفتح الغين مصدر غسل. وبالضم أسم مصدر لا غتسل وهو تعميم الجسد بالماء. وبالكسر اسم لما يغسل به من صابون وأشنان (3) ونحوهما. والمشهور في اسعمال الفقهاء "الفتح" إذا أضيف إلى المغسول كغسل الثوب والإناء "والضم" إذا أضيف إلى السبب كغسل الجنابة والجمعة. وهو لغة: الإسالة وشرعا إيصال الماء إلى جميع الجسد. ودليله قوله تعالى: (وإن كنتم جنبا فاطهروا) من آية 6 المائدة. والكلام ينحصر في عشرة مباحث:
1- شروطه- هي كشروط الوضوء غير أنه (أ) لا يشترط الإسلام في صحة غسل الكتابية بعد انقطاع دم الحيض أو النفاس عند من يرى لزوم النية في الطهارة المائية وهو غير الحنفيين (فيجوز) لزوجها وطؤها بعد غسلها ولو بلا نية عند المالكية والحنبلية (وعند) الشافعية لا يصح غسلها إلا بالنية وإن لم تكن أهلا لها بالضرورة (وعند) الحنفيين يحل للزوج وطء امرأته ولو مسلمة بلا غسل إذا انقطع الدم لأكثر مدة الحيض أو النفاس كما سيأتي في أحكام الحيض إن شاء الله. (ب) لا يشترط التمييز في صحة غسل المجنونة عند الشافعية. ولذا يحل لزوجها وطؤها بعد غسلها من حيض أو نفاس. وينوي عنها من يغسلها.
موجبات الغسل (أسبابه(1))- يفترض الغسل لأمور ستة:
(
__________
(1) الموجبات) هي في الواقع مبطلات للغسل. عبر عنها الفقهاء بالموجبات أو الأسباب توسعا لسهولة التعليم. وإلا فسببه إراداة ما لا يحل مع الحدث الأكبر إلا بالغسل.(1/387)
الأول) خروج المني وبرزوه من حشفة الرجل. وإلى فرج المرأة الظاهر بلذة ولو حكما كمحتلم رأى بللا ولم يدرك الشهوة "لما تقدم" عن علي رضي الله عنه قال: كنت رجلا مذاء فسألت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: فقال: من المذي الوضوء. ومن المني الغسل. أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وقال: حديث صحيح(1){304}.
وفي رواية لأحمد فقال: إذا حذفت الماء فاغتسل من الجنابة فإذا لم تكن حاذفا فلا تغتسل. (وحذف) يروي بالحاء والخاء ومعناه رمي. وهو لا يكون بهذه الصفة إلا لشهوة (وعن) عائشة أن أم سليم سألت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على المرأة الغسل إذا احتملت؟ قال نعم إذا رأت الماء فقالت عائشة تربت يداك فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم دعيها يا عائشة وهل يكون الشبه إلا من قبل ذلك إذا علا ماؤها ماء الرجل أشبه الرجل أخواله. وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه الرجل أعمامه. أخرجه مالك وأحمد ومسلم وأبو داود والنسائي(2){305}.
وقوله "إذا رأت الماء" أي المني بعد الاستيقاظ فإن لم تره فلا شيء عليها (لحديث) خولة بنت حكيم أنها سألت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل. فقال ليس عليها غسل حتى تنزل، كما أن الرجل ليس عليه غسل حتى ينزل. أخرجه أحمد وابن ماجه وفي سنده على بن زيد بن جدعان. ضعيف(3){306}.
(
__________
(1) تقدم رقم 224 صفحة 295 (نواقض الوضوء).
(2) انظر ص 119 ج 2- الفتح الرباني. وص 328 ج 2 تيسير الوصول (غسل الجنابة). و(تربت يداك) أي افتقرت والصقت بالتراب. والمراد به الزجر لا الدعاء.
(3) انظر ص 119 ج 2- الفتح الرباني. وص 108 ج 1- ابن ماجه (المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل).(1/388)
وعن) أنس أن أم سليم سألت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن ارمأة ترى في منامها ما يرى الرجل. فقال من رأت ذلك منكن فأنزلت فلتغتسل. قالت أم سلمة: أو يكون ذلك يا رسول الله؟ قال نعم. ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر فأيهما سبق أو علا أشبه الولد. أخرجه أحمد ومسلم وابن ماجه والبيهقي(1){307}.
وهذا موجب للغسل اتفاقا. واختلفوا في أمور:
(
__________
(1) انظر ص 108 منه. وص 119 ج 2 الفتح الرباني. وص 168 ج 1 سنن البيهقي. وص 221 ج 3 نووي مسلم (وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها).(1/389)
أ) إذا خرج المني بلا شهوة بأن خرج لمرض أو برد مثلا (قالت) الشافعية أنه موجب للغسل أيضا (وقال) الأكثرون: أنه غير موجب له (وعلى) الأول لو خرج من الرجل منيه بعد اغتساله بدون لذة وجب عليه إعادة الغسل وما صلاة بالغسل الأول (أما) لو خرج مني من المرأة بعد غسلها فإن كانت أنزلت قبل الغسل لزمها إعادته لاختلاط منيها بمني الرجل. وإن لم تكن أنزلت قبل الغسل فلاى يلزمها إعادته، لأن هذا مني الرجل لا منيها (ب) إذا انفصل المني عن مقره "صلب الرجل وترائب المرأة(1)" بلذة ولم يخرج إلى ظاهر فلا غسل عليه عند الجمهور وهو رواية عن أحمد والمشهور عنه وجوب الغسل لأن الجنابة تباعد الماء عن محله وقد وجد فيجب الغسل (وللجمهور) أن النبي صلى الله عليه وعلى أله وسلم علق الاغتسال على الرؤية أو الحذفل كقوله "إذا رأيت الماء وقوله إذا حفت الماء فاغتسل" فلا يثبت الحكم بدونه وفي إيجابه بمجرد الإنفصال حرج. والحرج مرفوع. وما ذكره من الاشتقاق لا يصح لأنه يجوز أن يسمى جنبا لمجانبته الماء ولا يحصل إلا بخروجه منه(2). (جـ) هل يشترط استمرار اللذة إلى خروج المني إلى ظاهر الجسد؟ (فعند) الجمهور لا يشترط (وعند) أبي يوسف يشترط (وثمرة) الخلاف تظهر في أمور (منها) ما لو احتلم فوجد اللذة ولم ينزل حتى توضأ وصلى يلزمه الغسل عند الجمهور خلافا لأبي يوسف. ولا يعيد الصلاة إلا عند أحمد فقد قال يعيدها لوجوب الغسل عليه بمجرد انفصال المني عن مقره بشهوة (وكذا) لو احتلم في الصلاة ولم ينزل حتى أتمها أو احتلم فأمسك ذكرة حتى سكنت شهوته ثم خرج المني.
(
__________
(1) الصلب) بضم فسكون عظام ظهر الرجل. و(الترائب) عظام صدر المرأة.
(2) انظر صفحة 202 ج 1 مغنى ابن قدامة (خروج المني).(1/390)
ومنها) ما لو اغتسل بعد الجماع قبل النوم أو البول أو المشي الكثير ثم سال منه بقية المني بلا شهوة، فإنه يلزمه إعادة الغسل عند أبي حنيفة ومحمد والشافعي ورواية عن أحمد (وقال) مالك وأبو يوسف: لا غسل عليه وهو المشهور عن أحمد (أما) لو خرج بقية المني بعد البول أو النوم أو المشي فلا يعاد الغسل عند الحنفيين ومالك (وقالت) الشافعية: يلزمه إعادة الغسل لعموم قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: الماء من الماء. ولأنه نوع حدث فنقضمطلقا كالجماع وسائر الأحداث(1) (وقالت) المالكية: إذا خرج المني بعد لذة معتادة بلا جماع لزمه إعادة الغسل (وإن) كانت اللذة ناشئة من جماع بأن أولج ولم ينزل ثم أنزل بعد ذهابها، فلا يزلمه إعادة الغسل(2) (وقالت) الحنبلية. إذا نزل المني بلذة بعد الغسل لزمه إعادته وإن نزل المني بلا لذة بعده نقض الوضوء فقط.
(
__________
(1) انظر صفحة 139 ج 2 مجموع النووي.
(2) وللمالكية تفصيل يأخذ من قول الشيخ الدردير في الصغير: يجب على المكلف الغسل (أ) يخروج مني بنوم ولو بلا لذة وبخروجه يقظة إن كان بلذة معتادة من نظر او نكر في جماع أو مباشرة وإن حصل الخرج بعد ذهاب اللذة فإنه يجب الغسل. (ب) وإن لم يكن خروج المني بلذة معتادة بأن خروج لمرض أو طربة أو كان بلذة غير معتادة كحكة لجرب أو هزة دابة- ففيه الوضوء فقط. كمن غيب الحشفة في الفرج فاغتسل ثم خرج منه مني بعد الغسل فعليه الوضوء فقط لأنه اغتسل للجنابة. أنظر صفحة 52 و53 ج 1- الشرح الصغير (فصل الغسل).(1/391)
فائدة) من قام من نومه فوجد بللا (أن تيقن) أنه مني لزمه الغسل اتفاقا وإن لم يتذكر احتلاما. (وإن شك) في كونه منيا أو مذيا يلزمه الغسل عند أبي حنيفة ومحمد ومالك وأن لم يتذكر احتلاما (لقول) عائشة: سئل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما. قال يغتسل. وعن الرجل يرى أنه قد احتلم ولم يجد بللا. قال لا غسل عليه. فقالت أم سليم هل على المرأة ترى ذلك غسل؟ قال نعم إنما النسائ شقائق الرجال. أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: وإنما روى هذا الحديث عبد الله بن عمر (يعني العمري) عن عبيد الله بن عمر حديث عائشة في الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما. وعبد الله ضعفه يحيى بن سعيد من قبل حفظه لكن وثقه أحمد ويحيى ابن معين(1) {308}.
(
__________
(1) انظر صفحة 116 ج 2- الفتح الرباني. وصفحة 324 ج 2- المنهل العذب (الرجل يجد البلة في منامه). – وصفحة 112 ج 1 تحفة الأحوذي (فيمن يستيقظ ويرى بللا ولا يذكر احتلاما). و(الحديث) معلول بعلتين: ضعف عبد الله العمري وتفرده به لذا قصر عن درجة الحسن. انظر صفحة 327 ج 3- المنهل العذب.(1/392)
وقال) أبو يوسف: لا غسل على من شك في البلل ولم يتذكر احتلاما، لأن الأصل براءة الذمة فلا يجب الغسل إلا بيقين (ومشهور) مذهب الشافعية أن من شك بعد النوم في البلل لا يلزمه الغسل وأن تذكر احتلاما. بل له أن يحمله على المني فيغتسل أو أن يحمله على المذي فيغسل محله ويتوضأ(1) ويرده إطلاق الحديث (وقالت) الحنبلية: إن انتبه بالغ أو مراهق ووجد بللا جهل كونه منيا (فإن تقدم) نومه سبب لهذا البلل كبرد أو نظر أو فكر أو ملاعبة فلا يلزمه الغسل. لاحتمال أنه مذي وقد وجد سببه ولا يجب مع الشك. ويلزم غسل ما أصابه من ثوب وبدون (وإن) لم يتقدم نومه سبب لهذا البلل، لزمه الغسل (لحديث) عائشة رقم 308 لأن الظاهر أنه احتلام. ويلزمه غسل ما أصابه من ثوب وبدن احتياطا(2).
(الثاني) من موجبات الغسل، التقاء. الختانين، ويتحقق (أ) عند الحنفيين بتوارى حشفة آدمي حي غير خنثى مشتهى أو قدرها من مقطوعها في قبل أو دبر آدمي حي يطيق الجماع بلا حائل يمنع اللذة وحرارة الفرج، فيلزمهما الغسل لو كان مكلفين ولو بلا إنزال (ويلزم) بوطء صغيرة لا تشتهي وإن لم يفضها على الصحيح (ولو لف) ذكره بخرقة وأولجه ولم ينزل، فإن وجد حرارة الفرج واللذة لزمه الغسل وإلا فلا على الأصل. والأحوط لزومه.
(ب) (وعند) المالكية يتحقق بتغييب الحشفة بلا حائل يمنع اللذة في قبل أو دبر آدمي أو بهيمة ولو الموطء ميتا. فيجب الغسل على الفاعل المكلف إن كان المفعول مطيقا، وعلى المفعول إن كان الفاعل مكلفا، فمن وطئها صبي لا يلزمها غسل إلا إذا أنزلت.
(
__________
(1) انظر ص 146 ج 2 مجموع النووي (الوجه الثالث).
(2) انظر ص 104 ج 1 كشاف القناع (ما يوجب الغسل).(1/393)
جـ) (وعند) الشافعية يتحقق بتواري حشفة أو قدرها ولو بحائل يمنع حرارة المحل من آدمي مميز واضح في قبل غير خنثى أو دبر آدمي أو بهيمة ولو كان المفعول به ميتا. فيجب الغسل على الفاعل والمفعول، ولو غير بالغين أو كان المفعول غير مطيق، فعلى ولي الصبي أن يأمره بالغسل. ولا يجب بإيلاج الخنثى ولا بالوطء في قبله إلا بالانزال.
(د) (وعند) الحنبلية يتحقق بتوارى حشفة أو قدرها بلا حائل ولو رقيقا من آدمي غير خنثى مطيق الجماع في قبل أو دبر آدمي مطيق أو بهيمة ولو كان المفعول به ميتا. فيجب الغسل على الفاعل والمفعول، إذا كانا بالغين أو مراهقين. (ولا يجب) بإيلاج الخنثى ولا بالوطء في قبله إلا بالإنزال لعدم تغييب الحشفة الأصلية بيقين (وأن) تواطأ رجل وخنثى في دبريهما فعليهما الغسل (وأن) وطيء خنثى امرأة وجامعه رجل في قبله، فعلى الخنثى الغسل وعلى الرجل والمرأة أن يتطهرا احتياطا.
(والدليل) على لزوم الغسل بالتقاء الختانين (حديث) عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إذا قعد بين شعبها الأربع ثم مس الختان الختان فقد وجب الغسل. أخرجه أحمد ومسلم(1) {309}.
(وقالت) عائشة: إذا التقى الختانان وجب الغسل. فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم واغتسلنا. أخرجه الشافعي والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان وابن القطان. وأعله البخاري بأن الأوزاعي أخطأ فيه(2) {310}.
(
__________
(1) انظر صفحة 113 ج 2- الفتح الرباني. وص 41 ج 4 نووي مسلم (ما يوجب الغسل). و(الشعب) جمع شعبة وهي القطعة من الشيء والمراد يداها ورجلاها. وقيل رجلاها وفخذاها. وقبل فخذاها وشفراها. و(الختان) موضع الختن. والختن في المرأة قطع جلدة في أعلى الفرج مجاورة لمخرج البول كعرف الديك ويسمى الخفاض. وفي الرجل قطع الجلدة الكاسية للحشفة.
(2) صفحة 36 ج 1 بدائع المنن. وص 109 ج 1 سنن ابن ماجه (وجوب الغسل إذا التقى الختانان).(1/394)
والمراد) بالتقاء الختانين ومسهما، تغييب الحشفة في الفرج. وليس المراد حقيقة اللمس ولا حقيقة الملاقاة. لأن ختان المرأة في أعلى الفرج ولا يمسه الذكر في الجماع (وقد) أجمع العلماء على أنه لو وضع ذكره على ختانها ولم يولجه لم يجب الغسل على أحد منهما. فلابد من قدر زائد على الملاقاة وهو ما وقع مصرحا به في حديث عبد الله ابن عمرون بن العاص بلفظ: إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة فقد وجب الغسل: أخرجه أحمد وابن أبي شيبة وابن ماجه. وفي سنده حجاج ابن أرطأة. قال الحافظ صدوق كثير الخلط والتدليس(1) {311}.
(والأحاديث) صريحة في أن إيجاب الغسل لا يتوقف على الإنزال، بل يجب بمجرد الإيلاج (ففي) حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى أله وسلم قال: إذا جلس بين شعبها الأربع ثم أجهد نفسه فقد وجب الغسل أنزل أو لم ينزل. أخرجه أحمد ومسلم وابن ماجه(2) {313}.
أي إنما يجب الغسل من نزول المني (ورد) بأن الحديث محمول على حالة النوم كما فسره ابن عباس وغيره جمعا بين الروايات. وعلى فرض عمومه فهو منسوخ بحديث أبي هريرة السابق (ويؤيده) قول أبي بن كعب: أن الفتيا التي كانوا يقولون الماء من الماء رخصة، كان رسول الله صلى الله عليه وعلى ىله وسلم رخص بها في أول الإسلام، ثم أمرنا بالاغتسال بعدها. أخرجه أحمد وهذا لفظه وأبو داود والترمذي وصححه(3){314}.
(
__________
(1) انظر ص 113 ج 2- الفتح الرباني. وص 110 ج 1- ابن ماجه.
(2) انظر ص 114 ج 2- الفتح الرباني. وص 39 ج 4 نووي مسلم (الغسل يجب بالجماع). وص 109 ج 1- ابن ماجه (وجوب الغسل إذا التقى الختانان).
(3) انظر صفحة 110 ج 2- الفتح الرباني. وصفحة 327 ج 2 تيسير الوصول (غسل الجنابة).(1/395)
الثالث) انقطاع دم الحيض والنفاس- أجمع الصحابة ومن بعدهم على وجوب الغسل لانقطاع دم الحيض والنفاس (لما تقدم) عن عائشة أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض فسألت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: ذلك عرق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي. أخرجه الشيخان وغيرهما(1) {315}.
(وعن) معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا مضى للنفساء سبع ثم رأت الطهر فلتغتسل ولتصل. أخرجه البيهقي(2) {316}.
(الرابع) الولادة بلا دم (قالت) الحنفية والمالكية والشافعية: يجب الغسل على من ولدت ولم تر دما احتياطا، لأنها لا تخلو من أثر دم (وقال) أبو يوسف ومحمد والحنبلية: لا غسل عليها لعدم الدم، ولأنه لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص.
(الخامس) الموت- أجمع العلماء على أنه يفترض على الأحياء فرض كفاية تغسيل الميت المسلم الذي لم يقع به ما يمنع الغسل كالشهادة في المعركة والبغي والقتل ظلما (لما يأتي) عن ابن عباس قال: فبينما رجل واقف مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعرفة فوقصته ناقة فمات. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه. أخرجه السبعة(3) {317}.
__________
(1) تقدم مطولا رقم 227 صفحة 296 (نواقض الوضوء الدم الخارج من الجسد).
(2) انظر ص 342 ج 1 سنن البيهقي (النفاس).
(3) يأتي رقم 407 صفحة 227 ج 7- الدين الخالص طب 2 (غسل الميت).(1/396)
هذا، وسبب لزومه عند الحنفيين الحدث على الأصح، لأن الموت سبب للاسترخاء وزوال العقل (وهو) عند الشافعية للنظافة، وروى عن مالك فلا تلزم فيه النية. ويصح من الكافر والمجنون. و(عند) الحنبلية سببه الموت تعبدا. لا عن حدث، لأن لو كان عنه لم يرتفع مع بقاء سببه كالحائض لا تغتسل مع جريان الدم ولا عن نجس، لأنه لو كان عنه لم يطهر مع بقاء سبب التنجيس وهو الموت(1). وهو المشهور عن مالك.
(السادس) إسلام الكافر- يجب الغسل على كافر ولو مرتدا أسلم ولو صبيا مميزا، وإن اغتسل قبل إسلامه، أو لم يوجد من حال كفره ما يوجب الغسل عند أحمد وروى عن مالك (لقول) قيس بن عاصم: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أريد الإسلام فأمرني أن أغتسل بماء وسدر. أخرجه أحمد والثلاثة وصححه ابن السكن(2) {318}.
(وقالت) الشافعية: يجب الغسل على من أجنب حال كفره اغتسل أم لا، لعدم صحة غسله وقتئذ لتوقف صحة الغسل على النية المتوقفة على الإسلام. ويستحب لمن لم يأمر كل من أسلم بالغسل، ولو كان واجبا لما خص بالأمر به بعضا دون بعض فيكون ذلك قرينة صرف الأمر إلى الندب (وأما) وجوبه على من أجنب فللأدلة القاضية بوجوبه لأنها لم تفرق بين كافر ومسلم (وقال) الحنفيون: يجب على من أجنب ولم يغتسل حال كفره. فإن اغتسل لا يجب لما تقدم من الأدلة، ولا يصح قياسه على الصلاة والزكاة، لأنهما لا يصحان بدون النية لعدم الغيمان. بخلاف اغتساله، لأن الماء مطهر بنفسه فلا يحتاج إلى النية (والظاهر) الأول، لأن ظاهر الأحاديث وجوب الغسل على كافر أسلم مطلقا.
(
__________
(1) انظر ص 108 ج 1 كشاف القناع (الرابع من موجبات الغسل الموت).
(2) انظر ص 148 ج 2- الفتح الرباني. وص 338 ج 2 تيسير الوصول (غسل الإسلام).(1/397)
فائدة) إذا اجتمع شيئان موجبان للغسل كالحيض والجنابة وتغيب الحشفة والإنزال، يكفيه عنهما غسل واحد عند الأئمة الأربعة والجمهور لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يكن يغتسل من الجماع إلا غسلا واحدا وهو يتضمن شيئين إذ هو لازم للإنزال غالبا.
3- ما لا يوجب الغسل- لا يلزم الغسل لأربعة أنواع (أ) لا يفترض الغسل اتفاقا لمذي ولا لودي ولا لاحتلام بل بلل. لا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة، فإذا احتلمت بلذة ولم يخرج ماؤها إلى فرجها الظاهر، فلا غسل عليها.
(ب) ولا يفترض بتغيب بعض الحشفة ولا بوطء في غير قبل ودبر، ولا بسحاق- وهو اتيان المرأة المرأة بلا إنزال- ولا بالتصال الختانين بلا إيلاج.
(جـ) ولا يفترض عند غير الشافعية بخروج مني بلا لذة ولو حكما على ما تقدم.
(د) ولا يجب عند المالكية بمني خرج بلذة غير معتادة كأن خرج لنزوله في ماء حار ولحك جرب وتحريك دابة إن لم يتماد فيهما. فإن تمادى بعد شعوره باللذة من حك الجرب وتحريك الدابة ويجب الغسل.
4- فرائض الغسل- هي عند المالكية خمسة- النية وتعميم الجسد بالماء، والدلك، وتخليل الشعر، والموالاة مع الذكر والقدرة (وعند) الشافعية: النية وتعميم الشعر والبشرة بالماء (وعند) الحنفيين- غسل الفم والأنف وتعميم سائر الجسد بالماء (وعند) الحنبلية- تعميم الجسد بالماء حتى داخل الفم والأنف وظاهر الشعر وباطنه وحشفة أغلف أن أمكن تشميرها بلا مشقة (وأما) النية فشرط صحة إلا في غسل المجنونة والذمية فلا تشترط. وينوي عن المجنونة من يغسلها. ويلزم عند الكل إزالة ما على الجسد من نجاسة وغيرها مما يمنع وصول الماء إلى البشرة.
وهاك بيان الفرائض مفصلة:
((1/398)
أ) النية- تكون عند غسل أول جزء من الجسد، ولا يضر عند غير الشافعية تقدمها بزمن يسير. وعند الشافعية: يشترط مقارنتها لأول مغسول، فلا يجزي تقدمها بزمن يسير. ومحلها القلب. والتلفظ بها غير مشروع. وتقدم تمام الكلام عليها في فرائض الوضوء(1).
(ب) تقميم الجسد بالماء- اتفق العلماء على أنه يفترض في الغسل إيصال الماء إلى جميع ما يمكن وصوله إليه بلا حرج كظفر وأذن وسرة وبشرة لحية وفرج خارج- وهو ما يظهر عند قعود المرأة لقضاء الحاجة- حتى لو بقيت لمعة لو يسيرة لم يصلها الماء لا يكفي الغسل، لقوله تعالى: (وإن كنتم جنبا فاطهروا) من آية 6- المائدة. وهو أمر بتطهير جميع الجسد فيدخل كل الماء إلى ما تحته كعجين وطين وشمع ودهن متجمد وقذي عين (وكذا) يلزم عند غير المالكية نزع خاتم ضيق لا يصل الماء إلى ما تحته إلا بنزعه. وعلى المرأة تحريك قرطها الضيق (وقالت) المالكية: لا يلزم المغتسل نزع خاتمه الضيق المبالح استعماله ومثله حلي المرأة على ما تقدم بيانه في الوضوء (وإذا) كان بأذن المرأة أو الرجل ثقب لزم إيصال الماء إلى داخله خلافا للشافعية حيث قالوا لا يلزم غيصال الماء داخل الثقب الذي لا قرط فيه، لأن الواجب عندهم غسل البدن فقط. واختلفوا في أمور:
__________
(1) انظر صفحة 218 (النية- فروض الوضوء).(1/399)
1- نقض الشعر في الغسل- (قال) الحنفيون: لا يجب على المرأة نقض ضفيرتها إن بل أصلها (لحديث) أم سلمة أنها قالت " يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه للجنابة؟ قال: إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء ثم تفيضي على سائر جسدك فإذا أنت قد طهرت. أخرجه أحمد ومسلم والأربعة. وقال الترمذي حسن صحيح(1) {319}.
(وعن) عبيد بن عمير قال: بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن. فقالت: يا عجبا لابن عمرو وهو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقض رءوسهن أفلا يأمرهن أن يحلقن رءوسهن؟ لقد كنت أغتسل أن ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من إناء واحد فما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات. أخرجه أحمد ومسلم(2) {320}.
أما الرجل فيلزمه نقض ضفائره ولو وصل الماء أصول الشعر على الصحيح، (لحديث) ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنهم استفتوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الغسل من الجنابة، فقال: أما الرجل فينثر رأسه فليغسله حتى يبلغ أصول الشعر وأما المرأة فلا عليها أن لا تنقضه لتغرف على رأسها ثلاث غرفات بكفهاز أخرجه أبو داود(3) {321}.
(والحكمة) في التفرقة بين الرجل والمرأة أن عليها في النقض حرجا. وفي الحلق مثلة. فسقط عنها النقض بخلاف الرجل فيجب عليه النقض مطلقا لعدم الحرج.
(
__________
(1) انظر صفحة 135 ج 2- الفتح الرباني. وصفحة 11 ج 4 نووي مسلم (حكم ضفائر المغتسلة) وصفحة 52 ج 3- المنهل العذب (المرأة هل تنقض شعرها عند الغسل؟). وصفحة 108 ج 1 تحفة الأحوذي. وصفحة 108 ج 1 سنن ابن ماجه (غسل النساء من الجنابة).
(2) انظر صفحة 135 ج 2- الفتح الرباني. وصفحة 12 ج 4 نووي مسلم (حكم ضفائر المغتسلة).
(3) انظر صفحة 31 ج 3- المنهل العذب (المرأة هل تنقض شعرها عند الغسل؟).(1/400)
وقالت) المالكية: إن الشعر إذا كان مضفورا بنفسه واشتد وجب نقضه في الغسل دون الوضوء (وإن) كان مضفورا بخيوط ثلاثة فأكثر وجب نقضه في الغسل والوضوء اشتد أم لا (وإن) شد بخيط أو خيطين واشتد نقض وإلا فلا. لا فرق بين الرجل والمرأة ولا بين غسل الجنابة وغيرها (لحديث) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إن تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وأنقوا البشرة. أخرجه أبو داود والبيهقي والترمذي. وفي سنده الحارث بن وجيه ضعيف منكر الحديث. وقال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه غلا من حديثه وهو شيخ ليس بذاك(1) {322}.
(وقالت) الشافعية والنخعي: إن وصل الماء إلى باطن الشعر بدون نقض لو يجب وإلا وجب. لا فرق بين الرجل والمرأة ولا بين الجنابة والحيض والنفاس، مستدلين بما استدل به المالكية. وقد علمت أنه ضعيفن فلا يعارض أحاديث وعائشة وثوبان.
(وقالت) الحنبلية: يجب نقضه في الحيض والنفاس دون الجنابة إن بلت أصوله (لحديث) أنس أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إذا اغتسلت المرأة من حيضها نقضت شعرها نقضا وغسلته بخطمى وأشنان. وإن اغتسلت من جنابة صبت الماء على رأسها صبا وعصرته. أخرجه الدارقطني والطبراني وكذا البيهقي وفيه: وإذا اغتسلت من الجنابة لم تنقض رأسها ولم تغتسل بالخطمي والأشنان وقد تفرد به مسلم بن صبيح عن حماد بن سلمة(2) {323}.
(ولكن) الأمر فيه محمول على الندب لأن الغسل بالخطمى والأشنان لم يقل بوجوبه أحد، فهو قرينة على أن الأمر بالنقض للندب، بخلاف حديث أم سلمة فإنه محمول على الإيجاب، لقوله إنما يكفيك. ولذا ذهب بعض الحنبلية إلى أنه لا يجب على المرأة نقض الشعر في الغسل مطلقا وهو الراجح لقوة أدلته.
__________
(1) انظر صفحة 228 ج 2 تيسير الوصول (غسل الجنابة).
(2) انظر صفحة 182 ج 1 سنن البيهقي (ترك المرأة نقض قرونها). وصفحة 273 ج 1 مجمع الزوائد (الغسل من الجنابة).(1/401)
2- المضمضة والاستنشاق في الغسل- (قال) مالك والشافعي والليث بن سعد: إنهما سنتان فيه كالوضوء (لقول) ميمونة: سترت النبي صلى عليه وعلى آله وسلم وهو يغتسل من الجنابة فغسل يديه ثم صب بيمينه على شماله فغسل فرجه وما أصابه ثم مسح بيده على الحائط أو الأرض ثم توضأ وضوءه للصلاة غير رجليه ثم أفاض عليه الماء ثم نحي رجليه فغسلهما. وهذا غسله من الجنابة. أخرجه الشيخان والثلاثة(1) {324}.
(وهو) لا يدل على وجوب المضمضة والاستنشاق لأن مجرد فعله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يقتضي الوجوب (وقال) الحنفيون والحنبلية والثوري: إنهما فرضان في الغسل، لقوله تعالى: (وإن كنتم جنبا فاطهروا) من آية 6 المائدة فإنه أمر بتطهير جميع البدن إلا ما تعذر إيصال الماء إليه، وداخل الفم والأنف لا يتعذر إيصال الماء إليه (ورد) بأن الآية مجملة بينت (بحديث) أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين. فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك. أخرجه أبو داود(2) {325}.
قال أهل اللغة: البشرة ظاهر الجلد. وداخل الأنف والفم من الباطن لا من الظاهر.
__________
(1) انظر صفحة 329 ج 2 تيسير الوصول (غسل الجنابة).
(2) انظر صفحة 175 ج 3- المنهل العذب (الجنب بتيمم).(1/402)
3- الدلك في الغسل- هو سنة عند الأئمة الثلاثة والجمهور وفرض عند المالكية والمزني كما تقدم في الوضوء(1) (والسبب) في اختلافهم، اشتراك أسم الغسل ومعارضة ظاهر الأحاديث- الواردة في صفة الغسل- لقياس الغسل في ذلك على الوضوء. وذلك أن الأحاديث الثابتة التي وردت في صفة غسله عليه الصلاةة والسلام من حديث عائشة وميونة الآتية(2) ليس فيها ذكر التدلك، وإنما فيها إفاضة الماء فقط. وفي حديث أم سلمة السابق(3) "إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضي على سائر جسدك. فإذا أنت قد طهرت" (وهو) أقوى في أسقاط التدلك من الأحاديث الأخر. لأنه يمكن هنالك أن يكون الواصف لطهره قد ترك التدلك. وأما ها هنا فإنما حصر لها شروط الطهارة.
(فذهب) قوم كما قلنا إلى ظاهر الأحاديث. وغلبوا ذلك على قياس الغسل على الوضوء فلم يوجبوا التدلك (وغلب) آخرون قياس هذه الطهارة على الوضوء على ظاهر هذه الأحاديث. فأوجبوا التدلك كالحال في الوضوء. فمن رجح القياس صار إلى إيجاب التدلك. ومن رجح ظاهر الأحاديث على القياس صار إلى أساقط التدلك(4) وهذا هو الظاهر.
4- سنن الغسل: للغسل سنن كثيرة المذكور منها هنا ثلاث عشرة:
1- التسمية في أوله- بأن يقول باسم الله والحمد لله. كما تقدم في الوضوء (وهي) سنة عند الحنفيين والشافعي ومندوبة عند مالك، وواجبة على العالم الذاكر عند الحنبلية فإن تركها عندا لم يصح غسله قياسا لإحدى الطهارتين على الأخرى غير أن حكمها هنا أخف، لأن حديث التسمية إنما يتناول بصريحه الوضوء لا غير(5).
__________
(1) أنظر صفحة 229 (الدلك) الثامن من أركان الوضوء.
(2) الآتية) في (كيفية الغسل) رقم: 348، 349، 350.
(3) تقدم رقم 319 ص 313 نقض الشعر في الغسل).
(4) انظر صفحة 34 ج 1 بداية المجتهد (الغسل).
(5) انظر صفحة 115 ج 1 كشاف القناع (الغسل المجزئ).(1/403)
2- غسل الكفين- يسن للمغتسل أن يبدأ بغسل كفيه ثلاثا كالوضوء (لقول) عائشة : كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يغتسل من جنابة يغسل يديه ثلاثا قبل أن يدخلها فى الماء ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة .أخرجه السبعة(1) .[236].
والحكمة فى ذلك أنهما آلة التنظيف فيطهران أولا.
3- غسل الفرج- يسن لمريد الاغتسال أن يبدأ بغسل قبله ودبره وإن لم يكن عليهما نجاسة(لما) فى حديث ميمونة قالت: توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوءه للصلاة غير رجليه وغسل فرجه وما أصابه من الأذى ثم أفاض عليه الماء ثم نحى رجليه فغسلهما .أخرجه البخارى(2) [237].
4- إزالة ما على جسده من نجاسة- يسن للمغتسل أن يبدأ بإزالة ما على جسده من نجاسة ولو قليلة. أما أصل إزالتها فلابد منه لأنه لا يرتفع حدث ما تحتها حتى تزال .
5- السواك: يسن للمغتسل التسوك كما يستحب للمتوضئ(3) .
6- الوضوء: يستحب لمريد الاغتسال الوضوء قبل الغسل كما تقدم بيانه فى الوضوء قبل الغسل (4) .
7و8- إفاضة الماء والتيامن: يسن للمغتسل بعد الوضوء أن يفيض الماء على رأسه ثلاثا يروى بها أصول الشعر . ثم يفيضه على سائر جسده بادئا بشقه الأيمن (لما) يأتى فى حديث عائشة قالت: حتى إذا رأى أن قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حفنات ثم افاض على سائر جسده(5) وقد كان صلى الله عليه وسلم يحب التيامن فى شأنه كله .
__________
(1) انظر صـ126 ج2- الفتح الربانى. وصفحة 328 ج2 تيسير الوصول (غسل الجنابة).
(2) انظر صفحة 251 ج1 - فتح البارى(الوضوء قبل الغسل).
(3) انظر صفحة 188 (حكم السواك).
(4) انظر صفحة 292 (الوضوزء قبل الغسل)
(5) انظر رقم 348 صفحة 326 (كيفية الغسل).(1/404)
9- تخليل اللحية والشعر - يلزم المعتسل إيصال الماء إلى أصول شعره على ما تقدم في بحث نقض الشعر(1) وإيصاله إلى ما تحت لفحيته الخفيفة. ويسن له تخليل شعر اللحية والرأس أن وصل الماء إلى أصول الشعر بلا تخليل. والإلزم عند الحنفيين (وعند) الشافعية والحنبلية: يسن تخليل الشعر إن وصل الماء إلى البشرة بدونه والالزم (والمعتمد) عند المالكية أنه يجب تخليله مطلقا ولو كثيفا وصل الماء على ما تحته (لحديث) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إن تحت كل شرعة جنابة فاغسلوا الشعر وأنقوا البشرة أخرجه أبو داود والترمذي(2) {327}.
وقال: حديث الحارث بن وجيه حديث غريب لا نعرفه إلا من حديثه وهو شيخ ليس بذلك. وقال أبو داود: الحارث بن وجيه حديثه منكر وهو ضعيف. والتخليل الواجب عندهم تخليل الشعر وتحريكه حتى يصل الماء للبشرة (لما) يأتي في حديث عائشة قالت: ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل الشعر وتحريكه حتى يصل الماء للبشرة (لما) يأتي في حديث عائشة قالت: ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول الشعر(3).
__________
(1) انظر صفحة 213 (نقص الشعر في الغسل).
(2) انظر صفحة 20 ج 3- المنهل العذب (الغسل من الجناية). وصفحة 109 ج 1 تحفة الأحوذي (إن تحت كل شعرة جنابة).
(3) يأتي رقم 348 صفحة 326 (حديث عائشة في كيفية الغسل).(1/405)
10- تخليل الأصابع: يسن للمغتسل تخليل أصابع الدين والرجلين عند غير المالكية. وهو فرض عند المالكية في أصابع اليدين والرجلين على ما تقدم بيانه في الدلك (لحديث) ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: خلل أصابع يديك ورجليك يعني إسباغ الوضوء. أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب وفيه صالح مولي التوءمة وهو ضعيف لكن حسنه البخاري لأنه من رواية موسى ابن عقبة عن صالح وسماع موسى عنه قبل أن يختلط(1) {329}.
11- التثليث- يسن في الغسل تثليث غسل الرأس اتفاقا لما تقدم وكذا باقي الجسد عند غير المالكية (لحديث) أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إذا اغتسل أحدكم فليغتسل كل عضو ثلاثا. أخرجه الديلمي {330}.
(ومنه) تعلم رد قول المالكية: لا يطلب تثليث غير الرأس لعدم وروده.
12- التستر حال الغسل- يطلب من المغتسل ستر العورة حال الاغتسال وأن يغتسل بمكان لا يراه فيه من لا يحل له النظر إلى عومرته (لحديث) يعطي بن أمية أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأى رجلا يغتسل بالبراز فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال "إن الله عز وجل حيى ستير يحب الحياء والستر. فإذا أراد أحدطم أن يغتسل فليستتر. أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي بسند صحيح(2) {331}.
(
__________
(1) انظر صفحة 44 ج 7- الفتح الرباني (تخليل الأصابع).
(2) انظر صفحة 123 ج 2- الفتح الرباني. وصفحة 39 ج 4 سنن أبي داود (النهي عن التعري). وصفحة 70 ج 1 مجتبي (الاستتار عند الاغتسال. و(بسند صحيح) رد بأن فيه عبد الملك بن أبي سليمان قال أحمد: ثقة يخطئ. و(البراز) بفتح الباء وقد تكسر، الفضاء الواسع.(1/406)
وظاهره) وجوب التستر حال الغسل ولو في الخلوة. وإليه ذهب ابن أبي ليلى وبعض الشافعية (وقال) الجمهور: أنه سنة وتركه مكروه لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى ىله وسلم أم عليا فوضع له غسلا ثم أعطاه ثوبا فقال استرني وولني ظهرك. أخرجه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح(1) {332}.
(وقالت) أم هانئ: ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة تستره بثوب. أخرجه أحمد والشيخان(2) {333}.
فيجمع بين الأحاديث بحمل الأمر بالتستر في بعضها على الأفضل. قال البخاري: باب من اغتسل عريانا وحده في خلوة. ومن تستر فلتستر أفضل(3).
3- استعمال السدر ونحوه- يسن في الغسل استعمال سدر ونحوه كأشنان وصابون (لحديث) عائشة أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله أخبرني عن الطهور من الحيض فقال: نعم لتأخذ أحداكن ماءها وسدرتها فتطهر، (الحديث) أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود(4) {334}.
والنفاس كالحيض. وعلى الجملة يسن في الغسل ما يسن في الوضوء.
5- مندوباته- يندب في الغسل ما يندب في الوضوء سوى استقبال القبلة، لأنه يكون غالبا مع كشف العورة.
6- مكروهاته: يكره فيه ما يؤدي إلى ترك سنة من سننه، وما يكره في الوضوء على ما تقدم بيانه. د
7- أقسام الغسل- هي ثلاثة: فرض وسنة ومندوب.
(أ) فيفترض في حالتين:
__________
(1) انظر صفحة 269 ج 1 مجمع الزوائد (التستر عند الاغتسال).
(2) انظر صفحة 123 ج 2- الفتح الرباني. وصفحة 267 ج 1 فتح الباري (التستر في الغسل).
(3) انظر صفحة 266 منه. وصفحة 167 ج 2- الفتح الرباني. وصفحة 140 ج 3- المنهل العذب (الاغتسال من الحيض).
(4) انظر صفحة 166 ج 2- الفتح الرباني. وصفحة 334 ج 2 تيسير الوصول بلفظ: خذي فرصة ممسكة فتطهري بها (الحديث) (في غسل الحائض والنفساء).(1/407)
1- لواحد من الاسباب المتقدمة. وهي إنزال المنى بشهوة ولو حكما، وتغييب حشفة في قبل أو دبر ولو من كافر ثم أسلم وانقطاع حيض أو نفاس ولو من كافرة ثم أسلمت، وولادة ولو بلا دم، وموت فيفترض تغسيل الميت على ما تقدم بيانه.
2- يلزم الغسل لإزالة نجاسة أصابت كل البدن أو بعضه وخفي مكانها.
(ب) ويسن الغسل لخمسة أشياء:
1- غسل الجمعة- يطلب الغسل ممن يريد صلاة الجمعة وإن لم تلزمه (لحديث) أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم. أخرجه مالك وأحمد ومسلم والأربعة إلا الترمذي(1) {335}.
(وعن عمر) رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إذا أتى أحدكم إلى الجمعة فليغتسل. أخرجه الجماعة وهذا لفظ أبي داود(2) {336}.
(ولظاهر الحديثين) قالت الظاهرية بوجوب غسل الجمعة. وحكاه الخطابي عن الحسن البصري (وقال) جمهور العلماء: أنه سنة وهو المعروف من مذاهب الأئمة الأربعة. وقالوا: المراد بالوجوب في الحديث الأول تأكد الاستحباب. والأمر في بعض الأحاديث مصروف عن الوجوب لحديث الحسن عن سمرة ابن جندب أن النبي صلى الله عليه وعلى ىله وسلم قال: من توضأ للجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل. وأخرجه أحمد وابن خزيمة والأربعة بسند جيد لكن اختلف في سماع الحسن من سمرة(3)
(
__________
(1) انظر صفحة 235 ج 2 تيسير الوصول (غسل الجمعة). وصفحة 48 ج 6- الفتح البرباني. وصفحة 132 ج 6 نووي مسلم (غسل الجمعة).
(2) انظر صفحة 198 ج 3- المنهل العذب (الغسل يوم الجمعة). وصفحة 235 ج 2 تيسير الوصول (في غسل الجمعة والعيدين).
(3) انظر صفحة 336 ج 2 تيسير الوصول (غسل الجمعة). وص 50 ج 6- الفتح الرباني. و(اختلف في سماع الحسن..) قال النسائي: لم يسمع الحسن من سمرة إلا حديث العقيقة. أنظر صفحة 205 ج 1 مجتبي (الرخصضة في ترك الغسل يوم الجمعة).(1/408)
ويعضده) حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت، غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام. أخرجه مسلم(1) {338}.
(وهذا) من أقوى ما استدل به على عدم فرضية الغسل يوم الجمعة.
(وهو) الراجح. والأحوط المحافظة على غسل الجمعة كالمحافظة على اداء الواجبات (ومحل) الخلاف إذا لم يترتب على تركه أذى، وإلا فالغسل واجب اتفاقا، لأن الضرر حرام بالكتاب والسنة وإجماع الأئمة (وفي) وقت غسل الجمعة ثلاثة أقول:
(أ) (قال) مالك والليث والأوزاعي: يدخل وقته عند إرادة الرواح إلى المسجد (لحديث) ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل" أخرجه مسلم(2) {339}.
(ب) وقال الجمهور: وقته يدخل بطلوع الفجر، ولا يشترط اتصاله بالرواح، بل يستحب. وينتهي وقته بصلاة الجمعة. للأحاديث التي أطلق فيها يوم الجمعة. ولأن الغسل لإزالة الروائح الكريهة. والمقصود عدم تأذي الحاضرين. وذلك لا يتأتى بعد إقامة الجمعة.
(جـ) وقال الحسن بن زياد ومحمد بن الحسن والظاهرية: وقته كل اليوم. فلا يشترط تقديمه على صلاة الجمعة. بل لو اغتسل قبل الغروب أجزأه للأحاديث المطلقة (واستبعده) ابن دقيق العيد وقال: يكاد يجزم ببطلانه. وأدعى ابن عبد البر الإجماع على أن من اغتسل بعد الصلاة لم يغتسل للجمعة. ووجهه أن الغسل للصلاة لا لليوم (لحديث) عمر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: من أتى الجمعة فليغتسل. أخرجه ابن حبان وابن خزيمة والبيهقي وزاد: من لم يأتها فلا يغتسل(3) {340}.
__________
(1) انظر صفحة 146 ج 6 نووي مسلم (فضل من استمع وأنصت للخطبة).
(2) انظر صفحة 130 منه (غسل الجمعة).
(3) انظر صفحة 295 ج 1 سنن البيهقي (الغسل يوم الجمعة سنة اختيار).(1/409)
2- غسل العيدين: اتفق العلماء على أنه سنة (لحديث) ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يغتسل يوم الفطر ويوم الأضحى. أخرجه ابن ماجه والبيهقي. وفيه جبارة بن المغلس وحجاج ابن تميم ضعيفان(1) {341}.
(وقال) في البدر المنير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير: أحاديث غسل العيدين ضعيفة. وفيه آثار عن الصحابة جيدة (ومنها) ما روى نافع أن عبد الله بن عمر كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو إلى المصلي أخرجه مالك والبيهقي(2) {34}.
(واختلفوا) في وقته وفي أنه للصلاة أو اليوم.
(أ) قال أبو يوسف والحنبلية: هو سنة للصلاة. ويدخل وقته بطلوع الفجر فلا يجزئ قبله ولا بعد صلاة العيد. وعن أحمد أنه يصح قبل الفجر وبعده.
(ب) وقالت المالكية والشافعية: هو سنة اليوم. وهو رواية الحسن بن زياد عن أبي حنفية. فيطلب ممن يحضر الصلاة ومن لا يحضرها، لأن الغرض منه إظهار الزينة، ويجوز قبل الفجر وبعده. والأفضل أن يكون بعده (ويدخل) وقته عند المالكية بالسدس الأخير من الليل وينتهي بغروب شمس يومه (وعند) الشافعية يدخل وقته بنصف ليلة العيد إلى غروب شمس يومه.
(فائدة) يكفي غسل واحد لعيد وجمعة اجتمعا مع جنابة إذا نوي الكل ويحصل للمغتسل ثواب ما نوى، لحديث "وإنما لا مرئ ما نوى".
3- غسل من غسل ميتا- يطلب ممن غسل ميتا أن يغتسل.
(لما تقدم) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى أله وسلم قال: من غسل ميتا فليغتسل. ومن حمله فليتوضأ. أخرجه أحمد والثلاثة والبيهقي(3) {342}.
(
__________
(1) انظر صفحة 204 ج 1- ابن ماجه (الاغتسال في العيدين).
(2) انظر صفحة 336 ج 2 تيسير الوصول (غسل العيدين). وصفحة 299 ج 1 سنن البيهقي (الاغتسال للأعياد).
(3) تقدم رقم 87 (الوضوء من حمل الميت).(1/410)
وبظاهره) أخذ على وأبو هريرة والإمامية فقالوا: إن من غسل ميتا وجب عليه الغسل (وقالت) الشافعية والحنبلية: هو سنة (وقال) الحنفيون والمالكية يندب لمن غسل ميتا أن يغتسل (وحملوا) الأمر في الحديث على الندب (لحديث) ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه أن ميتكم يموت طاهرا فحسبكم أن تغسلوا أيديكم". أخرجه البيهقي وقال: هذا ضعيف(1) {343}.
(ولقول) عمر: كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل. أخرجه الخطيب بسند صحيح(2) {35}.
(وقال) الليث: لا يجب ولا يستحب لحديث ابن عباس.
(والقول) باستحباب الغسل هو الراجح، وفيه الجمع بين الأدلة.
4- غسل الإحرام: يطلب الغسل ممن أراد الإحرام بحج أو عمرة أو بهما ولو حائضاً أو نفساء، لأنه للنظافة (وهو) سنة عند الأئمة الأربعة والجمهور (لحديث) زيد بن ثابت أنه رأى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تجرد لاهلاله واغتسل. أخرجه الدار قطني والترمذي وحسنه(3){344}.
(ويأتي) أن عائشة قالت: نفست أسماء بنت عميس بمحمد ابن أبى بكر بالشجرة فأمر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أبا بكر أن يأمرها أن تغتسل وتهل. أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه(4){345}.
__________
(1) انظر صفحة 306 ج 1 سنن البيهقي (الغسل من غسل الميت).
(2) انظر صفحة 298 ج 1 نيل الأوطار (الغسل من غسل الميت).
(3) انظر صفحة 256 سنن الدارقطني (الحج). وصفحة 85 ج2 تحفة الاحوذي (الاغتسال عند الإحرام).
(4) يأتي في الحج رقم 59 صفحة 44 (إرشاد الناسك).(1/411)
5- غسل الوقوف بعرفة – يطلب من الحاج ان يغتسل للوقوف بعرفة (وهو) سنة عند الثلاثة مندوب عند مالك (لحديث) الفاكه بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الجمعة ويوم عرفة ويوم الفطر ويوم النحر أخرجه ابن أحمد في زوائد المسند(1){346} وفي سنده يوسف بن خالد كذبه غير واحد (ويدخل) وقته بالزوال عند الحنفيين ومالك. وبطلوع الفجر عند الشافعية والحنبلية (جـ) ويندب الغسل لأمور المذكور منها أحد عشر:
1- دخول مكة : يستحب الغسل من أراد دخول مكة (وهو) للنظافة عند الحنفيين ( ونسك ) لا فدية في تركه عند الشافعي وأحمد فيستحب ولو للحائض والنفساء (لما روي) عن ابن عمر أنه كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوي حتى يصبح ويغتسل ثم يدخل مكة نهاراً ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله . أخرجه مسلم(2){347}
(وقد) أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة لما حاضت أن تفعل ما يفعل الحاج إلا الطواف (وقالت) المالكية: يطلب هذا الغسل لدخول المسجد والطواف فلا يطلب من الحائض والنفساء (والظاهر) قول الجمهور. قال ابن المنذر: الاغتسال عند دخول مكة مستحب عند جميع العلماء وليس في تركه فدية ويجزيء منه الوضوء (وقال) ابن التين: لم يذكر أصحابنا الغسل لدخول مكة. وإنما ذكروه للطواف. والغسل لدخول مكة هو في الحقيقة للطواف ملخص من شرح العسقلاني(3).
__________
(1) انظر صفحة 144 ج2- الفتح الرباني.
(2) انظر صفحة 5 ج9 نووي مسلم(استحباب الاغتسال لدخول مكة). وذو طوي بضم الطاء وفتحها، موضع قرب مكة في طريق التنعيم على فرسخ من مكة.
(3) انظر صفحة 281 ج3 فتح الباري (الاغتسال عند دخول مكة).(1/412)
2- الأفاقة: ويستحب الغسل لمن أفاق من جنون أو إغماء أو سكر ولم يجد بللاً (لما) تقدم في حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أغمى عليه في مرض موته. ثم أفاق فقال أصلى الناس؟ فقلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله فقال: ضعوا لي ماء في المخضب. فقعد فاغتسل (الحديث) (1). أما من أفاق مما ذكر فوجد بللاً (فإن) تيقن أنه منى لزمه الغسل اتفاقاً (وكذا) إن شك في أنه مني أو مذي عند الحنفيين ومالك (وعند) الشافعية والحنبلية تفصيل تقدم فيما إذا قام من نومه ووجد بللاً (2)(وان) شك أنه مذي أو ودي فلا غسل عليه اتفاقاً.
(3-11) ويستحب الغسل للمبيت بالمزدلفة ولرمي جمار وطواف زيارة وطواف وداع، ولصلاة كسوف واستسقاء وفزع وظلمة نهاراً وريح شديدة، لأن هذه عبادات يجتمع لها الناس مزدحمين فيعرقون فيؤذي بعضهم بعضاً، فاستحب الغسل للنظافة ودفع الأذى كالجمعة.
(فائدة) اختلفوا في أنه هل يقوم التيمم عند العذر مقام ما ذكر من الغسل المسنون والمندوب؟ (قال) الحنفيون: لا يقوم لأن المقصود منها غالباً النظافة (وقالت) الشافعية والحنبلية: يقوم التيمم مقام ما ذكر عند العذر كما يقوم مقام الغسل المفروض للضرورة (قال) الشيخ منصور ابن إدريس: ويسن التيمم- لعذر يبيحه- لما يسن له الوضوء كالقراءة والذكر والآذان، ورفع الشك والكلام المحرم (3) .
8- كيفية الغسل – الغسل مجزئ وكامل (أ) فالجزيء هو المشتمل على الفرائض والواجب وهو التسمية عند الحنبلية. وكيفيته: أن يزيل ما على جسده من نجاسة أو غيرها مما يمنع وصول الماء إلى البشرة إن كان، ويعمم جسده بالماء على ما تقدم ناوياً لزوماً عند غير الحنفيين ومسمياً عند الحنبلية.
(
__________
(1) تقدم رقم 238 صفحة 269 (غلبة العقل).
(2) تقدم صفحة 307 (فائدة من قام من نومه فوجد بللاً).
(3) انظر صفحة 113 ج1 كشاف القناع (الاغسال المستحبة).(1/413)
ب) والكامل. هو المشتمل على الفرائض والسنن والمندوبات. وكيفيته: أن ينوي المغتسل بقلبه رفع الحدث الأكبر أو استباحة الصلاة ونحوها. ثم يقول باسم الله والحمد لله. ثم يغسل كفيه ثلاثاً قبل إدخالهما الإناء ثم يغسل ما على فرجه وسائر بدنه من الأذى. ثم يتوضأ وضوءه للصلاة على ما تقدم. ثم يدخل أصابعه كلها في الماء فيغرف غرفة يخلل بها أصول شعره من رأسه ولحيته.ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات.ثم يفيض الماء على سائر جسده يبدأ بالشق الأيمن.ثم الأيسر.يتوعاهد معاطف بدنه كالإبطين وداخل الأذنين والسرة وما بين الآليين(1) وأصابع الرجلين وعكن البطن وغير ذلك- فيوصل الماء إلى جميع ذلك- ويدلك ما تصل إليه يداه من بدنه (وإن) كان يغتسل في نهر أو نحوه انغمس حتى يصل الماء إلى جميع بشرته وشعره ظاهره وباطنه وأصول منابته (ويستحب) أن ينوي الغسل من أول شروعه فيه ويستصحب النية إلى الفراغ منه. ويكفي الظن في تعميم الجسد بالماء. ثم يتحول من مكان غسله فيغسل قدميه إن لم يكن غسلهما أولاً.
(ودليل) ذلك حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ثلاثاً ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول الشعر حتى إذا رأى أن قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حفنات ثم أفاض على سائر جسده ثم غسل رجليه. أخرجه الشيخان. وفي رواية لهما: ثم يخلل بيده شعره حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات(2){348}.
(
__________
(1) الآليين) بحذف التاء على غير قياس وبإثباتها في لغة على القياس.
(2) انظر صفحة 328 ج2 تيسير الوصول (غسل الجنابة). و (استبرأ) أي أوصل الماء إلى البشرة وكذا (أروى).(1/414)
وعن) ميمونة قالت: وضعت للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم غسلاً يغتسل به من الجنابة فأكفأ الإناء على يده اليمنى فغسلها مرتين أو ثلاثاً. ثم صب على فرجه فغسل فرجه بشماله، ثم ضرب بيده أرض فغسلها، ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه، ثم صب على رأسه وجسده، ثم تنحى ناحية فغسل رجليه فناولته المنديل فلم يأخذه وجعل ينفض الماء عن جسده فذكرت ذلك لإبراهيم (الحديث) أخرجه أبو داود والبيهقي(1){349}.
(
__________
(1) انظر صفحة 12 ج3- المنهل العذب (الغسل من الجنابة). وصفحة 177 ج1 بيهقي (إفاضة الماء على سائر الجسد) (ثم ضرب بيده الأرض..) فيه دليل على استحباب مسح اليد بالتراب عقب الاستنجاء باناء لكمال الانقاء (فذكرت ذلك لإبراهيم) في رواية البيهقي قال الاعمش: فذكرت ذلك لإبراهيم فقال: إنما كره ذلك مخافة العادة ا هـ أي قال سليمان الاعمش ذكرت لإبراهيم التيمي رد النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنديل. فقال: لا بأس بالتمسح بالمنديل، وإنما رده صلى الله عليه وآله وسلم مخافة أن يصير عادة.(1/415)
وأجمع) حديث في كيفية غسل الحائض والنفساء "حديث عائشة" أن أسماء بنت شكل سألت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن غسل المحيض فقال: تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكاً شديداً حتى يبلغ شئون رأسها ثم تصب عليها الماء ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها. قالت أسماء وكيف تطهر بها؟ قال سبحان الله تطهري بها. فقالت عائشة كأنها تخفي ذلك تتبعي أثر الدم. وسألته عن غسل الجنابة. قال: تأخذ إحداكن ماءها وسدرها فتطهر فتحسن الطهور أو تبلغ الطهور. ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكاً شديداً حتى يبلغ شئون رأسها ثم تفيض عليها الماء. فقالت عائشة نعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحساء أن يتفقهن في الدين. أخرجه مسلم(1){350}.
(وفي) الحديث دليل على أنه يسن في حق المغتسلة من الحيض أن تأخذ شيئاً من مسك وتضعه في قطنة أو خرقة وتدخله فرجها بعد الغسل، ومثلها النفساء. فإن لم تجد مسكاً استعملت أي طيب وجدت (والحكمة) في ذلك تطيب المحل ودفع الرائحة الكريهة.
__________
(1) انظر صفحة 334 ج2 تيسير الوصول (غسل الحائض والنفساء) (فتطهر) أي تتوضأ. و (شئون رأسها) أصول شعرها. و (فرصة) بكسر فسكون، أي قطعة من صوف أو قطن أو خرقة. و (ممسكة) أي مطيبة بالمسك. و (تخفي ذلك) أي تسربه إليها.(1/416)
9- مقدار ماء الغسل: لم يرد في ذلك تحديد صريح، لأنه يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص ولكن يطلب التوسط والاعتدال (والمقدار) المجزئ في ذلك ما يحصل به تعميم أعضاء الوضوء والبدن في الغسل على الوجه المعتبر شرعاً. وذلك بإفاضة الماء على العضو وسيلانه عليه. فمتى حصل ذلك تأدى الواجب. وذلك يختلف باختلاف الناس فلا يقدر الماء الذي يغتسل به أو يتوضأ به بقدر معلوم (ويستحب) ألا ينقص في الغسل عن صاع ولا في الوضوء عن مد. وقد دلت الأحاديث على مقادير مختلفة. وذلك لاختلاف الأوقات والحالات. (روي) أنس أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد ويتوضأ بالمد. أخرجه الشيخان وأبو داود(1){351}.
(وعن) عائشة أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من إناء يسع ثلاثة أمداد أو قريباً من ذلك. أخرجه مسلم(2){352}.
(وفي هذا) رد علي ابن شعبان المالكي وبعض الحنفيين في تقديرهم الوضوء بالمد والغسل بالصاع تمسكاً بظاهر حديث سفينة مولى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد. أخرجه أحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي وصححه(3){353}.
(وحمل) الجمهور هذا على الاستحباب لأن أكثر من قدر وضوءه وغسله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الصحابة قدرهما بذلك (وهذا) إذا لم تدع الحاجة إلى الزيادة وهو أيضاً في حق من يكون خلقه معتدلاً.
(
__________
(1) انظر صفحة 312 ج2 تيسير الوصول (مقدار الماء).أي في الغسل والوضوء.
(2) انظر صفحة 5 ج4 نووي مسلم (القدر المستجب من الماء في الغسل).
(3) انظر صفحة 125 ج2- الفتح الرباني. وصفحة 312 ج2 تيسير الوصول.(1/417)
فائدتان) (الأولى) الصاع مكيال يسع أربعة امداد بمد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (والمد) مختلف فيه (فقال) مالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف: هو رطل وثلث رطل عراقي فيكون الصاع خمسة أرطال وثلثاً (وقال) أبو حنيفة ومحمد: المد رطلان فيكون الصاع ثمانية أرطال (والرطل) العراقي عند الحنفيين ثلاثون ومائة درهم بالدرهم المتعارف. وبه يقول الرافعي من الشافعية (وقالت) الحنبلية: هو ثمانية وعشرون ومائة درهم وأربعة أسباع درهم. ورجحه النووي (وقالت) المالكية هو ثمانية وعشرون ومائة درهم(1) .
(الثانية) دلت أحاديث المبحث على كراهة الإسراف في الغسل والوضوء واستحباب الاقتصاد (وقد) أجمع العلماء على النهي عن الإسراف في الماء. ولو كان على شاطئ النهر (والأظهر) عند الشافعية أنه مكروه كراهة تنزيه ما لم يؤد إلى ضرر أو ضياع مال وإلا فيحرم (وقال) الحنفيون: الإسراف مكروه تحريماً لو تطهر بماء مباح أو مملوك. أما الموقوف على الطهارة ومنه ماء المساجد، فالإسراف فيه حرام كما تقدم(2). هذا ويتصل بالغسل أمران:
1- ما يحرم على الجنب
__________
(1) انظر أدلة كل وبيان أن الخلاف لفظي في "باب ما يجزيء من الماء في الوضوء" من المنهل العذب المورود ص 303 ج1.
(2) تقدم ص254.(1/418)
يحرم على الجنب (أ) ما يحرم على المحدث حدثاً أصغر وهو الصلاة والطواف ومس القرآن وحمله الا بغلاف منفصل (ب) ويحرم عليه أيضاً قراءة شيء من القرآن بقصده ولو بعض آية (لقول) عبد الله بن سلمة: دخلت على علي رضي الله عنه أنا ورجلان ثم دخل المخرج فقضى حاجته ثم خرج فأخذ حفنة من ماء فتمسح بها ثم جعل يقرأ القرآن قال فكأنه رآنا أنكرنا ذلك ثم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقضي حاجته ثم يخرج فيقرأ القرآن ويأكل معنا اللحم ولم يكن يحجبه عن القرآن شيء ليس الجنابة. أخرجه أحمد والنسائي وأبو داود(1) {354}.
(وعن) ابن عمر أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئاً من القرآن. أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي(2) {355}.
وفي سنده إسماعيل بن عياش. وروايته عن الحجازيين ضعيفة. وهذا منها.
(
__________
(1) انظر رقم 9983 صفحة 453 ج6 فيض القدير شرح الجامع الصغير. من قراءة القرآن. وصفحة 301 ج2- المنهل العذب (الجنب يقرأ القرآن) و (المخرج) موضع قضاء الحاجة. و (الجنابة) خبر ليس واسمها ضمير يعود على البعض المفهوم من شيء أي ليس بعض الشيء الجنابة.
(2) انظر صفحة 120 ج2- الفتح الرباني. وصفحة 52 ج1 مجتبي (حجب الجنب).(1/419)
وبهذا) قال جمهور الصحابة والتابعين والائمة الأربعة إلا أن الأصح عند الحنفيين جواز القراءة بقصد الذكر أو الثناء أو الدعاء أو افتتاح أمر إن اشتمل على ذلك (وجوز) المالكية القراءة للجنب للتعوذ والرقية والاستدلال (وجوز) الشافعية القراءة بقصد الذكر لا بقصد التلاوة (وجوز) أحمد قراءة بعض آية غير طويلة ومثل الجنب في ذلك الحائض، إلا أن المالكية أجازوا لها قراءة القرآن ما لم ينقطع الدم مخافة النسيان لطول مدة الحيض بخلاف الجنابة (وذهب) ابن عباس وابن المنذر والظاهرية إلى جواز قراءة الجنب والحائض (لقول) عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يذكر الله تعالى على كل أحيانه. أخرجه مسلم والأربعة إلا النسائي وصححه الترمذي في العلل(1) {356}.
(والقرآن) ذكر ولأن الأصل عدم التحريم (لكن) هذا مردود بما تقدم من الأدلة (والمراد) بالذكر في حديث عائشة ما عدا القرآن، جمعاً بين الروايات.
(
__________
(1) انظر رقم 7026 صفحة 214 ج5 فيض القدير شرح الجامع الصغير.(1/420)
جـ) ويحرم على الجنب دخول المسجد ولو عبورا بلا مكث إلا لضرورة (لقول) عائشة: جاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال: وجهوا هذه البيوت عن المسجد. ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم يصنع القوم شيئاً رجاء أن ينزل فيهم رخصة، فخرج إليهم فقال: وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب. أخرجه أبو داود والبخاري في التاريخ(1) {357}. وفي سنده (أ) أفلت بن خليفة وثقه ابن حبان وقال أحمد لا بأس به. وروي عنه سفيان الثوري وعبد الواحد بن زياد. وهو مشهور ثقة (ب) وجسرة بنت دجاجة قال العجلي تابعية ثقة وذكرها ابن حبان في الثقات. وإذا صحح الحديث ابن خزيمة وحسنه ابن القطان وسكت عليه أبو داود فلا حجة لابن حزم في رده.
(وبهذا) قال الحنفيون والمالكية، لإطلاق الأحاديث (ومحله) إن لم يكن ثمة ضرورة. فإن كانت كأن يكون باب البيت إلى المسجد ولم يمكن تحويله ولا السكنى في غيره، فلا مانع من دخوله دفعاً للحرج (ولقول) يزيد بن أبي حبيب: إن رجالاً من الأنصار كانت أبوابهم إلى المسجد فكانت تصيبهم جنابة فلا يجدون الماء ولا طريق إليه إلا من المسجد فأنزل الله تعالى: (ولا جنباً إلا عابري سبيل). أخرجه ابن جرير الطبري(2) {36}.
(
__________
(1) انظر صفحة 309 ج2- المنهل العذب (الجنب يدخل المسجد).و (شارعة) أي أبوابها مفتحة (في المسجد).
(2) انظر صفحة 64 ج5 تفسير الطبري (القول في تأويل قوله: ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا).(1/421)
ولو أجنب) في المسجد تيمم وخرج من ساعته إن لم يقدر على استعمال الماء. وكذا لو دخله جنباً ناسياً ثم تذكر. وإن خرج مسرعاً بلا تيمم جاز. وإن لم يقدر على الخروج تيمم ومكث، ولكنه لا يصلي به ولا يقرأ. وقالوا في قوله تعالى (ولا جنباً إلا عابري سبيل) من آية 43- النساء. معناه ولا عابري سبيل على حد قوله تعالى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ) من آية – 92- النساء. أي ولا خطأ (وقال) ابن مسعود وابن عباس والشافعية والحنبلية يجوز المرور للجنب في المسجد بوضوء وبغيره ولو لغير حاجة لقوله تعالى: (ولا جنباً الا عابري سبيل) والعبور إنما يكون في محل الصلاة. وحملوا الاحاديث السابقة على منع المكث فقط، للاية المذكورة (ولقول) جابر: كنا نمر في المسجد ونحن جنب. أخرجه ابن المنذر(1) {37}.
(وعن) زيد بن أسلم قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمشون في المسجد وهم جنب. أخرجه ابن المنذر(2) {38}.
(ومثل) الجنب في ذلك الحائض ان امن التلويث بمرورها (وأجاب) الاولون عن الاية بما تقدم او بحملها هي وحديث عائشة على حالة الضرورة كما يدل أثر يزيد بن ابي حبيب جمعاً بين الادلة (وقالت) الحنبلية واسحاق يجوز للجنب المكث في المسجد بالوضوء (لقول) زيد ابن اسلم: كان اصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتحدثون في المسجد على غير وضوء. وكان الرجل يكون جنباً فيتوضأ ثم يدخل فيتحدث. أخرجه حنبل بن اسحاق من أصحاب أحمد(3) {39}.
__________
(1) انظر صفحة 137 ج1 مغنى ابن قدامة (منع الجنب والحائض من المسجد).
(2) انظر صفحة 137 ج1 مغنى ابن قدامة (منع الجنب والحائض من المسجد).
(3) انظر صفحة 138 ج1 مغنى ابن قدامة (منع الجنب والحائض من المسجد).(1/422)
وهذا اشارة الى أن هذا كان من الكل فكان اجماعاً (وقال) عطاء بن يسار: رأيت رجالاً من اصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون اذا توضئوا وضوء الصلاة. أخرجه سعيد بن منصور والاثرم بسند صحيح(1){40}.
(ورد) بأن الأثرين ضعيفان فإن في سنديهما هشام بن سعيد. قال أبو حاتم: لا يحتج به. وضعفه ابن معين وأحمد والنسائي. وعلى تسليم الصحة لا يكون ما وقع من الصحابة حجة "ولا سيما إذا خالف الممنوع" إلا أن يكون اجماعاً.
(فائدة) ذكر أبو العباس بن القاص وبعض الفقهاء: أن من خصائص النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جواز مكثه في المسجد مع الجنابة ومثله سيدنا علي كرم الله وجهه (لما روي) على بن المنذر بالسند إلى أبى سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لعلي: يا علي لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك. قال علي بن المنذر: قلت لضرار بن صرد: ما معنى هذا الحديث؟ قال: لا يحل لأحد يستطرقه جنباً غيري وغيرك. أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وسمع مني محمد بن إسماعيل هذا الحديث واستغربه(2){358}.
(ورد) بأنه ضعيف لا يحتج به ولا تثبت به الخصوصية. وتحسين الترمذي له غير مسلم، لأن مداره على سالم بن أبى حفصة وعطية العوفي وهما ضعيفان جداً شيعيان متهمان في رواية هذا الحديث. وقد أجمع العلماء على تضعيف سالم وغلوه في التشيع(3).
2- دخول الحمام
__________
(1) انظر صفحة 111 ج1 كشاف القناع (فصل: من لزمه الغسل حرم عليه الاعتكاف).
(2) انظر صفحة 330 ج4 تحفة الاحوذي (مناقب علي).
(3) انظر صفحة 162 ج2 مجموع النووي (مكث الجنب في المسجد).(1/423)
الحمام- بشد الميم- مؤنث وقد يذكر وهو مكان معد للغسل يجوز دخوله للرجال إذا أمن النظر إلى العورة وكشفها، ولا يجوز للنساء الا للضرورة مع غض البصر وستر العورة (لحديث) عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر. ومن كانت تؤمن بالله واليوم الأخر، فلا تدخل الحمام. أخرجه أحمد وفيه أبو خيرة قال الذهبي لا يعرف(1){359}.
(وقالت عائشة): نهى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الرجال والنساء عن دخول الحمام. ثم رخص للرجال أن يدخلوه في المازر ولم يرخص للنساء. أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وفي سنده أبو عذرة مجهول وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث حماد ابن سلمة، وإسناده ليس بذاك القائم(2) {260}.
(وقالت) لنسوة دخلن عليها من نساء الشام: لعلكن من الكورة التي يدخل نساؤها الحمام؟ قلن نعم. قالت أما اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما من امرأة تخلع ثيابها في غير بيت زوجها الا هتكت ما بينها وبين الله من حجاب. أخرجه أبو داود والترمذي بسند رجاله رجال الصحيح وحسنه الترمذي(3){361}.
(
__________
(1) انظر صفحة 150 ج2- الفتح الرباني (حكم دخول الحمام).
(2) انظر صفحة 149 ج2 – الفتح الرباني (حكم دخول الحمام). وصفحة 338 ج2 تيسير الوصول (الحمام). وصفحة 20 ج4 تحفة الاحوذي (دخول الحمام).
(3) انظر صفحة 338 ج2 تيسير الوصول (الحمام). و (الكورة) بضم الكاف البلد او الناحية. وفي رواية ابن ماجه من أهل حمص وهي بلدة في الشام (والا هتكت) لأنها مأمورة بالتستر والتحفظ من ان يراها اجنبي فليس لهن ان يكشفن عورتهن حتى في الخلوة الا عند ازواجهن فاذا كشفت عورتها في الحمام من غير ضرورة فقد هتكت الستر التي أمرها الله به. انظر صفحة 69 ج4 عون المعبود.(1/424)
وشدد) في أمر النساء، لأنه مبني على المبالغة في الستر (وعن) عبد الله ابن عمرو ان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إنها ستفتح لكم أرض العجم وستجدون فيها بيوتاً يقال لها الحمامات فلا يدخلنها الرجال إلا بالإزار. وامنعوا النساء إلا مريضة أو نفساء. أخرجه أبو داود. وفي سنده عبد الرحمن ابن زياد بن أنعم تكلم فيه غير واحد(1) {362}.
(وقال) المنذري: أحاديث الحمام كلها معلولة. وإنما يصح منها عن الصحابة أي إنما صح منها الموقوف. ومنه ما روي عن علي وابن عمر قالا: بئس البيت الحمام يبدي العورة ويذهب الحياء هذا والمعول عليه أن دخوله في زماننا حرام للرجال وللنساء، لتحقق كشف العورة منهن ومن فسقة الرجال، ولما فيه من كثير من المفاسد. فقد خلعن برقع الحياء لدخولهن الحمام مكشوفات العورات. وإن قدر أن امرأة منهن سترت شيئاً من عورتها عيب ذلك عليها وأسمعنها قوارص الكلام حتى تزيل السترة. (وهناك) محرم آخر أشد وهو رؤية اليهودية والنصرانية عورة المسلمة. ونظر الذمية إلى بدن المسلمة حرام كنظر الأجنبي لها. فلا يجوز لمسلم أن يأذن لأحد من أهله في دخول الحمام إلا إذا كانت خلوة لا ترى فيها المرأة ولا يدخل عليها أحد. وهذا متعسر بلا متعذر. وبيت المرأة هو الحصن والستر المنيع المانع لها من المفاسد "روي" ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان وإنها "أقرب ما تكون إلى الله تعالى وهي في قعر بيتها". أخرجه الطبراني في الكبير. ورجاله موثقون(2) {363}.
(
__________
(1) انظر صفحة 39 ج4 سنن أبي داود (الحمام).
(2) انظر صفحة 35 ج2 مجمع الزوائد (خروج النساء إلى المساجد).(1/425)
والمرأة) إذا أرادت دخول الحمام تأخذ أفخر ثيابها وأنفس حليها وتتبرج وتتزين بعد الغسل. فإذا ما رأتها امرأة أخرى اقل منها شأناً في ذلك طالبت زوجها بمثله وقد يكون معسراً لا قدرة له على إجابة طلبها، فتتولد المفاسد والشحناء وتتزايد البغضاء (وليحذر) الرجل أيضاً من دخول الحمام، لأن الفسقة- وكثير ما هم- لا يتورعون عن كشف العورة داخل الحمام. ولا يجوز اجتماع مستور العورة مع مكشوفها تحت سقف واحد (فمن) علم أو ظن شيئاً من هذه المفاسد حرم عليه دخوله ومن توهم كره له (أما) من أمكنه غض بصره بحيث لا يرى عورة أحد ولا يكشف عورته لأحد ولا يقر منكراً، فيباح له دخوله. (ويجوز) للحمامي أخذ أجرة الحمام وان لم يعلم مقدار ما يستعمل من الماء ولا مقدار المكث فيه، لأن جهالة المنفعة في مثل هذا مغتفرة للتعارف وإن كان القياس يأباه، لوروده على إتلاف العين مع الجهالة.
(جـ) التيمم
هذا هو المقصد الثالث من مقاصد الطهارة. أخر عن الوضوء والغسل اقتداء بالكتاب، ولأنه بدل عنهما، لذا لا يصار إليه إلا عند العجز.
وهو لغة: القصد. وشرعاً القصد إلى الصعيد الطاهر لمسح الوجه واليدين بضربة او ضربتين بنية استباحة ما منعه الحدث لمن لم يجد الماء او خشي الضرر من استعماله. (وهو) مشروع بالكتاب والسنة والإجماع. قال تعالى: (وإن كنتم مرضى او على سفر او جاء أحد منكم من الغائط او لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وايديكم منه) من آية 6- المائدة (وعن) ابي إمامة ان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: جعلت الأرض كلها لي ولامتي مسجداً وطهوراً: فأينما أدركت رجلاً من أمتي الصلاة فعنده مسجده وعنده طهوره. أخرجه أحمد بسند رجاله ثقات الا سيار الاموي. وهو صدوق(1){364}.
(
__________
(1) انظر صفحة 187 ج2- الفتح الرباني (اشتراط دخول الوقت للتيمم).(1/426)
والتيمم) من خصائص هذه الأمة (لحديث) جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر. وجعلت لي الأرض – وفي رواية "ولأمتي" مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل. وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي. وأعطيت الشفاعة. وكان النبي يبعث لقومه خاصة وبعثت للناس عامة. أخرجه أحمد والشيخان(1){365}.
(وهو) رخصة في المحل حيث اقتصر فيه على مسح الوجه واليدين. وفي الالة حيث اكتفى فيه بالصعيد- ثم الكلا. ينحصر في عشرة مباحث.
(أ) أسباب التيمم- هي ثلاثة أقسام- (1) سبب مشروعيته ما في حديث عائشة قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في بعض إسفاره حتى إذا كنا بالبيداء انقطع عقد لي، فأقام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على التماسه، وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء. فأتى الناس إلى أبى بكر فقالوا: الا ترى الى ما صنعت عائشة؟ فجاء ابو بكر والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام، فعاتبني وقال ما شاء الله ان يقول وجعل يطعن بيده في خاصرتي، فما يمنعني من التحرك الا مكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على فخذي فنام حتى أصبح على غير ماء. فأنزل الله تعالى آية التيمم "فتيمموا" قال اسيد بن حضير: ما هي أول بركتكم يا آل ابي بكر. قالت فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته. أخرجه مالك والخمسة الا الترمذي(2) {366}.
(ب) وسبب وجوبه ما تقدم في الوضوء والغسل(3).
(جـ) وسبب اباحته فقد الماء حقيقة او حكماً، بأن وجده ولكنه عجز عن استعماله لعذر من الاعذار الاتية في بحث الفقد الحكمي.
(
__________
(1) انظر صفحة 187 منه. وصفحة 298 ج1 فتح الباري (التيمم).
(2) انظر صفحة 323 ج2 تيسير الوصول (التيمم).
(3) انظر صفحة 217 (سبب وجوب الوضوء) وصفحة 304 (موجبات الغسل).(1/427)
أما الفقد الحقيقي) فيتحقق عند الحنفيين ببعد الماء مقدار ميل(1)(2).
(وعند) المالكيين ببعده ميلين. وعند الشافعيين ببعده عنه أكثر من نصف فرسخ أي اكثر من ميل ونصف ميل (وعند) الحنبلية ببعده عرفاً.
(فيتيمم) المحدث حدثاً أكبر أو اصغر – إذا فقد الماء الكافي لطهارته من حدث وخبث- لكل ما يتوقف على الطهارة المائية (لحديث) عمران بن حصين رضي الله عنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم رجلاً معتزلاً لم يصل مع القوم فقال يا فلان ما منعك أن تصلي؟ قال أصابتني جنابة ولا ماء قال. عليك بالصعيد فإنه يكفيك. أخرجه الشيخان والنسائي(3){367}.
(والصعيد) التراب الطاهر او ما على وجه الأرض من تراب وغيره على ما يأتي بيانه أن شاء الله تعالى (ودل) قوله "يكفيك" على ان المتيمم في مثل هذه الحال لا يلزمه القضاء. (ويحتمل) ان يكون المراد يكفيك للأداء. فلا يدل على ترك القضاء. والأول أظهر (والحديث) يدل على مشروعية التيمم عند عدم الماء للجنب وغيره بالأولى. وعليه الإجماع (ولم يخالف) فيه أحد إلا ما حكى عن إبراهيم النخعي من عدم جوازه للجنب (وإذا) صلى الجنب بالتيمم ثم وجد الماء، وجب عليه الاغتسال بإجماع العلماء، للأحاديث الصحيحة المشهورة في أمره صلى الله عليه وسلم "الجنب يغسل بدنه إذا وجد الماء".
__________
(1) الميل) اربعة الاف ذراع فلكي. والذراع 46 سنتيمتراً. ستة واربعون وثلاثة اثمان سنتيمتر، فيكون الميل 1855 خمسة وخمسين وثمانمائة والف متر.
(2) الميل) أربعة آلاف ذراع فلكي. والذراع 46 سنتيمتراً. ستة واربعون وثلاثة اثمان سنتيمتر، فيكون الميل 1855 خمسة وخمسين وثمانمائة والف متر.
(3) انظر صفحة 325 ج2 تيسير الوصول (التيمم). ورواه البخاري صفحة 305 ج1 فتح الباري (الصعيد الطيب وضوء المسلم).(1/428)
هذا. ولا يجوز التيمم لفاقد الماء الا بعد طلبه وتبين عدم وجوده (لقول) عائشة: سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلو المدينة فأناخ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ونزل فثنى رأسه في حجري راقداً وأقبل أبي فلكزني لكزة شديدة وقال: أحبست الناس في قلادة؟ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الناس الماء فلم يوجد. فنزلت: (يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم) الآية 6- المائدة. فقال أسيد بن حضير: لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبى بكر. ما أنتم إلا بركة لهم. أخرجه البخاري والبيهقي(1){368}.
__________
(1) انظر ص189 ج8 فتح الباري (قوله فان لم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً).(1/429)
"وبوجوب" طلب الماء في العمران وما قرب منه قبل التيمم "قالت" الأئمة الأربعة ظن قربه ام لا (اما المسافر) فيجب عليه عند الحنفيين طلبه ولو برسوله ان ظن قربه دون ميل بإمارة كرؤية خضرة او طير او بأخبار عدل مكلف من الامن (وإن) كان مع رفيقه ماء وظن أو شك ان سأله أعطاه، لزمه طلبه منه قبل التيمم. فإن منعه ولو دلالة بأن استهلكه تيمم وصلى (وكذا) لو غلب على ظنه أنه لا يعطيه يتيمم بلا طلب (وإن) لم يعطه الا بالثمن، لزمه شراؤه بثمن المثل في ذلك الموضع او في أقرب موضع اليه او بزيادة يسيرة ان كان قادراً عليه ولو بمال غائب اذا امكنه الشراء نسيئه وكان فاضلاً عن حاجته (فإن) لم يعطه الا بغبن فاحش "وهو ضعف القيمة" او لم يكن قادراً على الثمن، او ليس فاضلاً عن حاجته، لا يلزمه شراؤه ويتيمم (وقالت) المالكية: اذا ظن او شك وجود الماء في مكان اقل من ميلين، لزمه طلبه ان لم يشق عليه (ويلزمه) طلبه من رفقته ان اعتقد او ظن او شك او توهم انهم لا يبخلون به (فإن) تيمم حينئذ ولم يطلبه، أعاد الصلاة في الوقت وبعده ان اعتقد او ظن انهم يعطونه الماء. وأعاد في الوقت فقط ان شك في ذلك. ولا يعيد مطلقاً ان توهم (ومحل) لزوم الاعادة ان لم يتبين عدم الماء معهم، فإن تبين عدمه فلا اعادة مطلقاً. ويلزمه شراء الماء بثمن معتاد لم يحتج اليه ولو بدين ان كان غنياً ببلده (وقالت) الشافعية: يجب على فاقد الماء طلبه من رفقته ولو بمن يثق به ان كان في الوقت سعة. والا تيمم وصلى بلا طلب. وان لم يجده في رفقته.
(أ) فإن كان في حدث الغوث "بأن يكون في مكان لا يبعد عن رفقته بحيث لو استغاث بهم أغاثوه" وتيقن وجوده، لزمه طلبه ان امن على نفسه وماله وان لم يأمن بقاء الوقت (وكذا) يلزمه طلبه ان توهم وجوده وأمن على نفسه وماله وأمن من الانقطاع عن رفقته ومن خروج الوقت.
((1/430)
ب) وإن كان الماء في حد القرب "بأن يكون بينه وبين الماء نصف فرسخ فأقل" لا يجب عليه طلبه الا ان تيقن وجوده وأمن على نفسه وماله وإن لم يامن بقاء الوقت (وقالت) الحنبلية: يجب على فاقد الماء طلبه في رحله وما قرب منه عادة ومن رفقته ما لم يتيقن عدمه (وكيفية) طلب الماء ان يطلبه اولاً في رحله ورفقته ثم إن رأى خضرة او شيئاً يدل عليه قصده. وإن كان بقربه مكان مرتفع طلبه عنده. وإن كان بمستو من الأرض نظر أمامه وخلفه وعن يمينه وعن يساره. وإن وجد من له خبرة بالمكان سأله عن مياهه. وإن دل على ماء قصده وجوباً إن كان قريباً ما لم يخف على نفسه او ماله، او يخشى فوات رفقته او فوات الوقت. وإن تيقن عدم الماء لا يلزمه طلبه.
(فائدة) من كان على بدنه نجاسة وعنده ماء لا يكفي الا لرفع الحدث او ازالة النجاسة أزالها وتيمم اتفاقاً ومن كان محدثاً وعنده ماء لا يكفي للطهارة، فهو في حكم المعدوم عند الحنفيين ومالك والثوري والاوزاعي (وقالت) الشافعية في المشهور عنهم وداود الظاهري: يجب استعماله فيما يفي به ويتيمم للباقي. وهو رواية عن أحمد (لحديث) أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". أخرجه أحمد والشيخان(1){369}.
(وهذا) الحديث أصل من الأصول العظيمة وقاعدة من القواعد النافعة. ويؤيده قوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) من اية 16- التغابن. فيصح الاستدلال بالحديث على العفو عن كل ما خرج عن الطاقة وعلى وجوب الاتيان بما دخل تحت الاستطاعة من المأمور به وأنه ليس مجرد خروج بعضه عن الاستطاعة موجباً للعفو عن جميعه. (وأما الفقد الحكمي) فأسبابه خمسة:
__________
(1) انظر ص157 ج1- الفتح الرباني. وصدره: ذروني ما تركتكم. و ص 329 ج1 نيل الأوطار (من وجد ما يكفي بعض طهارته يستعمله).(1/431)
1- خوف الضرر: "فمن خاف" من استعمال الماء- بغلبة الظن او تجربة او اخبار طبيب مسلم حاذق – حدوث مرض او زيادته او تأخير برء "تيمم" (وعند) الشافعية يكفي كون الطبيب حاذقاً ولو كافراً إن صدقه المتيمم. ولا تكفي التجربة على الراجح (ودليل) اباحة التيمم لخوف الضرر حديث الزبير بن خريق عن عطاء عن جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: قتلوه قتلهم الله. ألا سألوا اذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال. إنما كان يكفيه ان يتيمم ويعصر او يعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده. أخرجه أبو داود والبيهقي والدارقطني وقال: لم يروه عن عطاء عن جابر غير الزبير وليس بالقوى وخالفه الاوزاعي فرواه عن عطاء عن ابن عباس(1){370}.
(
__________
(1) انظر ص190 ج3- المنهل العذب (المجروح يتيمم) و ص 227 ج1 سنن البيهقي. و ص 69 سنن الدار قطني. و (العي) بكسر العين وشد الياء الجهل. وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث الاوزاعي عن عطاء عن ابن عباس الى قوله صلى الله عليه وسلم: ألم يكن شفاء العي السؤال؟ وهو الصواب. انظر ص160 ج1- الفتح الرباني. وص 192 ج3- المنهل العذب (المجروح يتيمم). وص 104 ج1 سنن ابن ماجه (المجروح تصيبه الجنابة فيخاف على نفسه ان اغتسل). و (أخرجه) البيهقي من عدة طرق وضعفه وقال: لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء لكن صح عن ابن عمر فعله. انظر ص228 ج1 سنن البيهقي (المسح على العصائب).(1/432)
وعن ) ابن عباس في قوله تعالى : ( وإن كنتم مرضى او على سفر ) قال صلى الله عليه وسلم: إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله او القرح او الجدري فيجنب فيخاف ان اغتسل ان يموت فليتيمم. أخرجه البيهقي والحاكم(1) {371}.
(وإلى هذا) ذهب عامة العلماء الا ما روي عن الحسن وعطاء من عدم جواز التيمم للمريض الا عند عدم الماء لظاهر قوله تعالى: (فلم تجدوا ماءً فتيمموا) (ورد) بأن الاية مصروفة عن ظاهرها بالاحاديث السابقة. فمعناها والله أعلم. وإن كنتم مرضى وعجزتم او خفتم من استعمال الماء ضرراً او كنتم على سفرٍ فلم تجدوا ماءً فتيمموا (فائدة) من لم يضره استعمال الماء ولكنه لا يقدر على استعماله بنفسه ولم يجد من يوضئه تيمم. أما لو وجد من تلزمه طاعته كخادمه وولده وضأه ولا يتيمم اتفاقاً. وكذا إن وجد غيره ممن لو استعان به لأعانه عند غير أبي حنيفة. (وقال) ابو حنيفة: يتيمم لأن القادر بالغير لا يعد قادراً.
2- خوف البرد: فمن خاف من استعمال الماء ان يهلكه البرد او يلحق به ضرر، تيمم (لقول) عمرو بن العاص: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت ان اغتسلت ان اهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح. فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكروا ذلك له. فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فقلت ذكرت قول الله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً) عجز اية 29- النساء فتيممت ثم صليت. فضحك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم يقل شيئاً. أخرجه أحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم(2){372}.
(
__________
(1) انظر ص224 ج1 بيهقي (الجريح والقريح والمجدور يتيمم اذا خاف التلف). و (القرح) بفتح فسكون، الجرح. وقيل: بالفتح الجرح وبالضم ألمه. و (الجدري) بضم الجيم وفتحها وفتح الدال، قروح تنفط عن الجلد ممتلئة ماء، ثم تنفتح. وصاحبها مجدور.
(2) يأتي رقم 114 ص82 ج3- الدين الخالص (اقتداء متوضيء بمتيمم). طبعة ثانية(1/433)
دل) على جواز التيمم عند شدة البرد ومخافة الهلاك، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يقر باطلاً. والتبسم والاستبشار أقوى دلالة على الجواز من السكوت "وإلى جواز" التيمم لمن خاف من البرد تلفاً او مرضاً ان تطهر بالماء، "ذهب" جمهور السلف والخلف بشرط ألا يقدر على تسخين الماء او اجرة حمام ولم يجد ثوباً يدفئه ولا مكاناً يأويه.
(ومن) صلى بالتيمم لا اعادة عليه إذا وجد الماء، لأنه أتى بما قدر عليه وأمر به. ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر عمرو بن العاص بالاعادة. ولو كانت واجبة لأمره بها. (وبهذا) قال ابو حنيفة ومالك والثوري وابن المنذر. عملاً بحديث عمرو بن العاص وبحديث عمران بن حصين السابق(1).
(وقالت) الشافعية: اذا تيمم للبرد او لنسيان الماء في رحله او اضلاله فيه، اعاد الصلاة (واذا) تيمم للمرض او لفقد آلة او الخوف نحو سبع او لخوف غرق او لحاجة ضرورية الى الماء او ثمنه فلا اعادة عليه. (واذا) تيمم لفقد الماء. اعاد ان كان عاصياً بسفره "ولو في مكان يغلب فيه فقد الماء" او كان في مكان يغلب فيه الماء وهو حاضر او مسافر مطلقاً (وان) كان في مكان يندر فيه الماء وهو غير مسافر سفر معصية فلا اعادة عليه، ولا دليل على هذا التفصيل. وحديث عمرو بن العاص يرده.
3- الخوف من عدو: يباح التيمم لمن (أ) خاف عدواً حال بينه وبين الماء انساناً كان او غيره كالحية والسبع. وسواء أخاف على نفسه ام ماله. وقدر بدرهم ولو وديعة. (ب) او خاف فوات مطلوبه باستعمال الماء كعدو خرج في طلبه او ابق او شارد يريد تحصيله، لأن في فوته ضرراً وهو منفي شرعاً(2)(ثم ان) نشأ الخوف لوعيد عبد أعاد الصلاة عند الحنفيين والا فلا (وقالت) المالكية والشافعية والحنبلية: لا يعيد مطلقاً، لأنه ادى الصلاة بوجه مشروع.
__________
(1) تقدم رقم 367 ص336 (أما الفقد الحكمي).
(2) انظر ص121 ج1 كشاف القناع (التيمم).(1/434)
4- الاحتياج للماء: يباح التيمم لمن خاف حالاً او مآلاً عطش نفسه او رفيقه او دابته او دابة رفيقة، ولو كلباً غير عقور. وهذا اذا تعذر حفظ الغسالة لها (وكذا) الماء المحتاج اليه لعجن او ازالة نجاسة غير معفو عنها، يباح التيمم مع وجوده. بخلاف ما احتيج اليه لطبخ ما لا ضرورة اليه (ودليل) ذلك قول علي رضي الله عنه: اذا اصابتك جنابة فأردت ان تتوضأ- او قال تغتسل- وليس معك من الماء الا ما تشرب وانت تخاف فتيمم. أخرجه البيهقي(1){41}.
ولأنه لما خاف الضرر على نفسه أشبه المريض بل أولى (وقال) أحمد: عدة من الصحابة تيمموا وحبسوا الماء لشفاههم. ولا فرق في الرفيق بين الملازم وغيره من أهل الركب، ويلزم من معه الماء بذله لعطشان يخشى تلفه.
5- فقد الالة: يباح التيمم لفقد آلة طاهرة يخرج بها الماء كحبل ودلو ولو لم يخف فوت الوقت عند الثلاثة (وكذا) عند المالكية ان يئس من وجود الماء او الته اخر الوقت (أما) المتردد في وجود ذلك فإنه يتيمم وسط الوقت (ومن) قدر على اخراج الماء بثوب يرسلها فيه لزمه ولا يتيمم ان لم تنقص قيمة الثوب بذلك قدر درهم عند الحنفيين وأكثر من ثمن ما يستخرجه بها عند غيرهم. والا تيمم ولا اعادة عليه اتفاقاً. (وعلى الجملة) أنه متى أمكنه استعمال الماء بوجه من الوجوه من غير أن يلحقه ضرر في نفسه او ماله، لزمه استعماله والا فلا.
2- شروط التيمم: يشترط له ما يشترط في الوضوء والغسل. ويزاد له هنا (أ) في شروط الصحة فقد الماء حقيقة او حكماً وطلبه على ما تقدم. ويشترط أيضاً عند الحنفيين.
1- النية على ما يأتي بيانه.
2- وكون المسح باليد او بأكثرها او بما يقوم مقامها كتحريك وجهه ويديه في الغبار. فلو مسح بأصبعين لا يكفي ولو كرر حتى استوعب بخلاف مسح الرأس.
__________
(1) انظر ص234 ج1 بيهقي (الجنب او المحدث يجد ماء لغسله وهو يخاف العطش فيتيمم).(1/435)
3- وتعميم الوجه واليدين بالمسح على الصحيح المفتي به فينزع الخاتم ويخلل الاصابع.
4- وكون التيمم بضربتين او ما يقوم مقامهما كما لو حرك رأسه ويديه في موضع الغبار بنية التيمم. وهذا هو الاصح. واختار شمس الائمة السرخسي ان الضرب ركن لما سياتي في بحث الاركان.
(ب) ويزاد في شروط الصحة والوجوب عند الحنفيين.
1- الاسلام فلا يجب التيمم على الكافر، لأنه غير مخاطب بفروع الشريعة ولا يصح منه، لأنه ليس أهلاً للنية.
2- وجود الصعيد المطهر، لقوله تعالى: (فتيمموا صعيداً طيباً) فلا يجب التيمم على فاقده ولا يصح منه بغيره ولو كان طاهراً كالأرض المتنجسة اذا جفت فإنها طاهرة تصح الصلاة عليها دون التيمم كما سيأتي في بحث ما يتيمم به إن شاء الله. (جـ) ويزداد في شروط الصحة والوجوب عند غير الحنفيين دخول الوقت فلا يجب ولا يصح التيمم قبل الوقت عند مالك والشافعي وأحمد وداود الظاهري وغيرهم، لقوله تعالى: (إذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا) الاية. ولا قيام قبل دخول الوقت "والوضوء خصه الاجماع والسنة" (وتقدم) عن أبي أمامة ان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: جعلت الارض كلها لي ولأمتي مسجداً وطهوراً. فأينما أدركت رجلاً من أمتي الصلاة فعنده مسجده وعنده طهوره. أخرجه أحمد بسند رجاله ثقات(1){373}.
(فهو) يدل بظاهره على أن دخول الوقت شرط للتيمم (وقال) الحنفيون وابن شعبان المالكي: يجوز التيمم قبل الوقت وبعده لاطلاق النصوص الواردة في التيمم، ولأنه بدل الوضوء فيجوز قبل الوقت كالوضوء. وهذا هو الظاهر. وما ذكره المخالف لا يدل على مدعاه. أما الحديث فظاهر. وأما قوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة) فمعناه أردتم القيام لها. وإرادته تكون في الوقت وقبله. فلا دليل على اشتراط الوقت في الطهارة مطلقاً حتى يقال خصص الوضوء بالاجماع.
__________
(1) تقدم رقم 364 ص335 (التيمم).(1/436)
3- ما يتيمم به: اتفق العلماء على صحة التيمم بالتراب الطاهر. واختلفوا فيما عداه (فقال) أبو حنيفة ومحمد: يصح بكل طاهر من جنس الارض وهو ما لا يصير رماداً بالحرق ولا يلين بالنار كالتراب والرمل والحجر والجص والنورة(1) والكحل والزرنيخ (أما) ما يصير رماداً اذا احترق كالحطب والخشب وما يلين بالنار كالحديد والرصاص، فلا يصح التيمم عليه اذا لم يكن عليه غبار ( وقال ) ابو يوسف: لا يصح الا بالتراب والرمل (وقال) مالك: يصح بكل ما كان من جنس الأرض اذا لم يحرق. وجوزه بعض أصحابه بكل ما اتصل بالارض حتى الثلج والنبات الذي لا يمكن قلعه ولم يوجد غيره وضاق الوقت ( وقال ) الشافعي وأحمد وداود الظاهري وابن المنذر: لا يجوز التيمم بالا بتراب طاهر له غبار يعلق بالعضو لقوله تعالى: ( فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ) وما لا غبار له كالصخر لا يمسح بشيء منه ( وقال ) ابن عباس الصعيد تراب الحرث. ( ويؤكده ) حديث علي رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " أعطيت ما لم يعط أحد من الانبياء. فقلنا يا رسول الله ما هو؟ قال نصرت بالرعب. وأعطيت مفاتيح الارض. وسميت أحمد. وجعل التراب لي طهوراً . وجعلت امتي خير الأمم. أخرجه أحمد والبيهقي في دلائل النبوة . وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل وهو سييء الحفظ قال الترمذي : صدوق وقد تكلم فيه من قبل حفظه واحتج به أحمد وغيره . فالحديث حسن(2){374}.
(
__________
(1) النورة ) بضم النون حجر يحرق ويخلط بزرنيخ وغيره يزال به الشعر.
(2) انظر ص260 ج1 مجمع الزوائد (التيمم).(1/437)
وعن) حذيفة ان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة. وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً. وجعلت تربتها لنا طهوراً اذا لم نجد الماء وذكر خصلة أخرى. اخرجه مسلم(1){375}.
(وجه) الدلالة أنه خص التراب بحكم الطهارة وهو يقتضي نفي الحكم عما عداه [وقال] الاوزاعي والثوري: يجوز بالثلج وكل ما علا الأرض (والأصح) قول ابي حنيفة ومالك، لقول الزجاج: الصعيد اسم لوجه الأرض تراباً كان او غيره. (ولحديث) عمار بن ياسر ان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال له: إنما كان يكفيك ان تصنع هكذا وضرب بيديه على الارض ثم نفخهما ثم مسح بهما وجهه ويديه. أخرجه ابو داود من عدة طرق ومسلم(2) {376}.
4- أركان التيمم: هي (أ) عند المالكية النية، والضربة الاولى، ومسح الوجه والكفين، والموالاة. (ب) وعند الحنبلية مسح الوجه مع اللحية سوى ما تحت شعره ولو خفيفاً وسوى الفم والانف ومسح الكفين، والترتيب، والموالاة في حدث أصغر. (جـ) وعند الشافعية: النية، ومسح الوجه واليدين مع المرفقين، والترتيب وايصال التراب الطهور الى الاعضاء قصداً. (د) وعند الحنفيين: مسح الوجه واليدين مع المرفقين.
__________
(1) انظر ص4 ج5 نووي مسلم (المساجد) وكون الأرض مسجداً وطهوراً خصلة واحدة. والخصلة الأخرى قوله صلى الله عليه وسلم: "وأوتيت هذه الآيات من آخر البقرة من كنز تحت العرش".
(2) انظر ص164 ج3- المنهل العذب (التيمم). وص 61 ج4 نووي مسلم (التيمم).(1/438)
1- (النية) هي ركن عند المالكية والشافعية. وشرط صحة عند الحنفيين وأحمد. وتكون عند وضع يد المتيمم على ما يتيمم به عند الحنفيين والمالكيين (وعند) الشافعية يشترط مقارنتها لنقل التراب ومسح شيء من الوجه. وعند أحمد يصح تقدمها على المسح بزمن يسير دفعاً للحرج (وكيفيتها) عند الحنفيين ان ينوي استباحة الصلاة، او رفع الحدث القائم به، او الطهارة منه. ولا يشترط تعيينه حتى لو كان جنباً ونوى الطهارة من الحدث الاصغر، أجزأه او ينوي عبادة مقصودة. وهي ما شرعت ابتداء تقرباً الى الله تعالى لا تصح بدون طهارة كالصلاة وسجدة التلاوة. وهذا شرط لصحة الصلاة به. فلا يصلي به اذا نوى التيمم فقط، او نواه الجنب او المحدث لقراءة القرآن (وكيفيتها) عند المالكية والشافعية والحنبلية: ان ينوي فرض التيمم او استباحة ما منعه الحدث ويتوقف على الطهارة كالصلاة والطواف. ولا يصح نية رفع الحدث، لأن التيمم لا يرفعه عندهم كما تقدم (ومحلها) القلب. والتلفظ بها غير مشروع بل بدعة. وتقدم تمام الكلام عليها في الوضوء(1) .
2- (استعمال الصعيد) يلزم استعمال الصعيد المطهر بالمسح او الضرب او بأي حال اتفاقاً. واختلفوا في كيفيته (فقال) أبو حنيفة والثوري والشافعي وأكثر الفقهاء. التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين الى المرفقين (لحديث) جابر ان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين الى المرفقين. أخرجه الحاكم والبيهقي والدار قطني ، وقال : رجاله ثقات ، والصواب وقفه . وقال الحاكم والذهبي : اسناده صحيح(2){377}.
(
__________
(1) انظر ص268 (فروض الوضوء).
(2) انظر ص180، ج1 مستدرك (أحكام التيمم). وص 207 ج1 بيهقي (كيف التيمم). و ص 66 سنن الدار قطني.(1/439)
وعن) نافع عن ابن عمر أنه كان يقول: التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة للكفين الى المرفقين. أخرجه الدار قطني والحاكم والبيهقي وقال: الصواب بهذا اللفظ عن ابن عمر موقوف(1){42}.
(وقال) عطاء ومكحول وداود الظاهري والاوزاعي واحمد واسحاق وابن المنذر وعامة أصحاب الحديث: الواجب في التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين وهو رواية عن مالك والزهري (لقول) عمار بن ياسر: سألت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن التيمم فأمرني ضربة واحدة للوجه والكفين. أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه(2){378}.
(والمشهور) عند المالكية ان الضربة الاولى فرض والثانية سنة.
3- (مسح الوجه) هو ركن اتفاقاً لقوله تعالى: "فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم" فيفترض مسح جميع بشرة وشعر الوجه. ومنه العذار وهو الشعر النازل على اللحيين والبياض الذي بينه وبين الاذن والوترة "بفتحات" وهي الفاصل بين طاقتي الانف. والاجفان وما فوق العينين ولو ترك شعرة او طرف أنفه او أي جزء من وجهه لا يصح تيممه.
__________
(1) انظر ص66 سنن الدارقطني. و ص 180 ج1 مستدرك. و ص 207 ج1 سنن البيهقي (كيفية التيمم).
(2) انظر ص185 ج2- الفتح الرباني. وص 166 ج3- المنهل العذب (التيمم). و ص 133 ج1 تحفة الاحوذي (ما جاء في التيمم).(1/440)
4- (مسح اليدين) هو ركن اتفاقاً، لقوله تعالى: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) واختلفوا فيما يفترض مسحه من اليدين (فعند) الحنفية والشافعية يفترض مسح اليدين مع المرفقين، لما تقدم عن جابر وابن عمر(1) ويلزم نزع الخاتم والسوار او تحريكهما عند الحنفيين لأن الفرض هو المسح لا وصول الغبار. والتحريك مسح لما تحته (وعند) الشافعية يلزم نزعهما ولا يكفي التحريك. (وعند) المالكية والحنبلية: الفرض مسح الكفين، لحديث عمار المتقدم(2)ففيه دلالة على أنه يكفي ضربة واحدة للوجه والكفين جميعاً (وللاخرين) ان يجيبوا عنه بأن المراد هنا صورة الضرب للتعليم. وليس المراد بيان جميع ما يحصل به التيمم. فقد أوجب الله تعالى غسل اليدين الى المرفقين في الوضوء ثم قال في التيمم (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) والظاهر أن اليد المطلقة هنا هي المقيدة بالمرفقين في الوضوء في أول الآية. فلا يترك هذا الظاهر إلا بصريح (4) (ويؤيده) حديث ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين الى المرفقين. أخرجه الطبراني في الكبير. وفيه على بن ظبيان ضعفه يحيي بن معين وقال ابو علي النيسابوري لا بأس به(3){379}.
ولم يختلف أحد من أهل العلم أنه لا يلزم المتيمم أن يمسح بالتراب ما وراء المرفقين(4)هذا. والأخذ بأحاديث الضربتين والمرفقين أخذ بالاحتياط وعمل بأحاديث الطرفين، لاشتمال الضربتين على ضربة ومسح الذراعين الى المرفقين على مسح الكفين دون العكس(5).
__________
(1) حديث جابر تقدم رقم 377 ص345 (استعمال الصعيد) وأثر ابن عمر تقدم رقم 42 ص345.
(2) تقدم رقم 378 ص346 (استعمال الصعيد).
(3) انظر ص262 ج1 مجمع الزوائد (التيمم).
(4) انظر ص99 ج1 معالم السنن (التيمم).
(5) انظر ص150 ج3- المنهل العذب (صفة التيمم).(1/441)
5- (الموالاة) وهي ألا يفصل بين مسح العضوين بقدر ما يقطع التتابع في الوضوء. وهي ركن عند المالكية في التيمم مطلقاً. وكذا عند الحنبلية في التيمم عن حدث أصغر لا أكبر، لأن التيمم بدل عن الطهارة المائية والموالاة فرض في الوضوء دون الغسل. فكذا في التيمم القائم مقامه (وقالت) الحنفية والشافعية: الموالاة سنة في التيمم مطلقاً كالطهارة المائية.
6- (الترتيب) هو ركن عند الشافعية في التيمم مطلقاً، وكذا عند الحنبلية في التيمم عن حدث أصغر، لما تقدم في الموالاة (وقالت) الحنفية والمالكية: الترتيب سنة في التيمم مطلقاً.
7- (إيصال التراب الطهور إلى أعضاء التيمم) هو ركن عند الشافعية وشرط عند الحنبلية (وقال) أبو حنيفة ومالك: إنه ليس بشرط، لما تقدم في بحث ما يتيمم به (وسبب) اختلافهم الاشتراك الذي في حرف "من" في قوله تعالى (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) وذلك أن "من" قد ترد للتبعيض وقد ترد لتنويع الجنس (فمن) ذهب الى إنها للتبعيض، أوجب نقل التراب إلى أعضاء التيمم (ومن) رأى أنها لتنويع الجنس قال: ليس النقل واجباً (والشافعي) إنما رجح محلها على التبعيض من جهة قياس التيمم على الوضوء لكن يعارضه.
(أ) تيمم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على الحائط(1)
(ب) وحديث عمارة وفيه: إنما كان يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب ثم تمسحهما ثم تمسح بهما وجهك وكفيك. أخرجه الدار قطني(2){380}.
5- سنن التيمم- للتيمم سنن كثيرة المذكور منها هنا ثنتا عشرة:
__________
(1) انظر ص55 ج1 بداية المجتهد (صفة هذه الطهارة).
(2) انظر ص66 سنن الدار قطني.(1/442)
1- التسمية في أوله بأن يقول: باسم الله والحمد لله (وهي) سنة عن الحنفيين والشافعية. (ومندوبة) عند المالكية، لما تقدم في الوضوء (وواجبة) على الذاكر القادر عند الحنبلية. فمن تركها عمداً بطل تيممه. 2- السواك بعد التسمية وقبل نقل التراب 3- 5- إقبال اليدين بعد وضعهما في التراب وإدبارهما، ونفضهما بقدر ما يتناثر التراب من يده، منعاً من تلويث الوجه واتباعاً للسنة.
6- تفريج الأصابع حال الضرب مبالغة في التطهير 7 - 8- تخليل اللحية والأصابع قبل مسح اليدين أو بعده وهذا إذا فرق أصابعه حال الضربة الثانية، وإلا كان التخليل واجباً عند الشافعية 9 و 10 – التيامن واستقبال القبلة كالوضوء.
11- كونه بالكيفية الآنية 12- تأخيره إلى الوقت المستحب(1) لمن رجا وجود الماء ظناً أو شكاً، ليقع أداء العبادة بأكمل الطهارتين في أكمل الوقتين. فإن انتظر ووجد الماء توضأ وإلا تيمم لثبوت العجز. وإن لم ينتظر وتيمم أول الوقت وصلى، صحت صلاته ولا إعادة عليه وإن وجد الماء في الوقت (لحديث) أبي سعيد الخدري قال: خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معها ماء فتيمما صعيداً طيباً فصليا ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الوضوء والصلاة ولم يعد الآخر ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فذكرا ذلك له. فقال للذي لم يعد: أصبت السنة وأجزأتك صلاتك. وقال للذي توضأ وأعاد: لك الأجر مرتين. أخرجه النسائي وأبو داود والدارمي والحاكم والدار قطني(2){381}.
وبهذا قال أبو حنيفة ومالك وأحمد (وقالت) الشافعية: إن تيمم في مكان يغلب فيه وجود الماء لزمه الإعادة وإلا فلا. ولا دليل على هذا التفصيل.
(
__________
(1) بحيث يدرك الصلاة قبل خروج الوقت التي يندب تأخيرها إليه على ما يأتي بيانه في أوقات الصلاة.
(2) انظر ص326 ج2 تيسير الوصول (التيمم). و ص 190 ج1 سنن الدارمي.(1/443)
ويؤيد) القول بعدم لزوم الإعادة وإن وجد الماء في الوقت حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال:لا تصلوا صلاة في يوم مرتين. أخرجه وأبو داود والنسائي وابن حبان وصححه ابن السكن(1){382}.
"فالحق" الذي دلت عليه النصوص كحديث "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم(2) " وقوله في حديث أبي سعيد "أصبت السنة وأجزأتك صلاتك(3) " "أنه لا إعادة" لا في الوقت ولا بعده (أما) من وجد الماء قبل الصلاة وبعد التيمم لزمه الوضوء عند الائمة الاربعة والجمهور (وقال) داود الظاهري: لا يلزمه الوضوء، لقوله تعالى: (ولا تبطلوا أعمالكم) عجز آية 33 محمد (ورد) بأن التيمم شرع للضرورة بدلاً عن الوضوء وقد تمكن منه قبل الدخول في الصلاة (وأما) من وجد الماء في أثناء الصلاة، فيلزمه الخروج منها وإعادتها بالوضوء عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد والأوزاعي والثوري والمزني (وقال) مالك وداود الظاهري: يستمر في صلاته وجوباً، لقوله تعالى: (ولا تبطلوا أعمالكم) ولا إعادة عليه، لأنه دخلها بوجه مشروع.
6- مكروهات التيمم- يكره في التيمم تكرير المسح وترك سنة من السنن المتقدمة (ويكره) أيضاً عند الحنبلية نفخ تراب خفيف. لئلا يذهب فيحتاج الى إعادة الضرب، فإن ذهب ما على اليدين بالنفخ أعاد الضرب ليحصل المسح بتراب(4).
__________
(1) انظر ص343 ج5- الفتح الرباني. وص 138 ج1 مجتبي ولفظه: لا تعاد الصلاة (سقوط الصلاة عمن صلى مع الامام). و ص 292 ج4- المنهل العذب.
(2) تقدم رقم 369 ص338 (من وجد ماء يكفي بعض الطهارة).
(3) تقدم رقم 381 ص348 (تأخير التيمم الى الوقت المستحب).
(4) انظر ص130 ج1 كشاف القناع (صفة التيمم).(1/444)
7- كيفية التيمم- هي أن ينوي استباحة ما يتيمم له، ثم يسمى ويستاك ويضرب يديه على الصعيد مفرجتي الأصابع وينفضهما ثم يمسح وجهه وكفيه، او يعيد الضرب ثانياً ثم ينفضهما ثم يمسح بكل كف ذراع الاخرى ظاهرها وباطنها إلى المرفقين (لما) في حديث عمار أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إنما كان يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب، ثم تنفخ فيهما ثم تمسح بهما، وجهك وكفيك. أخرجه الدار قطني(1){383}.
(وبهذا) أخذ المالكية والحنبلية كما تقدم (وعن) ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال في التيمم بالصعيد أن يضرب بكفيه على الثري ثم يمسح بهما وجهه ثم يضرب ضربة أخرى فيمسح بهما ذراعيه إلى المرفقين. أخرجه البزار. وفي سنده سليمان بن داود الجزري وهو متروك(2){384}.
(وبهذا) أخذت الحنفية والشافعية والمالكية.
8- ما يباح بالتيمم – التيمم يرفع الحدث الأصغر والأكبر ويباح به كل ما لا يصح الا بالطهارة كدخول المسجد للجنب وحمل القرآن. ويصلى به ما شاء من فرض ونفل ما لم يحدث او يجد الماء، لأنه بدل عن الطهارة المائية ( ولحديث ) أبي ذر ان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : إن الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين . فإذا وجد الماء فليمسه بشرته فإن ذلك خير . أخرجه الثلاثة وحسنه الترمذي والحاكم وصححه(3){385}.
(فقد) جعله وضوءاً عند عدم الماء مطلقاً. فوجب أن يكون حكمه حكم الوضوء (وبهذا) قال الحنفيون وابن المسيب والزهري والليث ابن سعد.
(
__________
(1) انظر ص67 سنن الدارقطني (التيمم لكل صلاة).
(2) انظر ص262 ج1 مجمع الزوائد التيمم (والثري) كالحصى، التراب الندى.
(3) انظر ص326 ج2 تيسير الوصول (التيمم). و (وضوء) بفتح الواو أي مطهر. وقيل بضم الواو أي كوضوء المسلم.(1/445)
قال) البخاري: وقال الحسن يجزئه التيمم ما لم يحدث(1){43} (وقالت) المالكية والشافعية والحنبلية: التيمم مبيح فقط لا يرفع الحدث (لظاهر) ما تقدم عن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت ان اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح. فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ذكروا ذلك له. فقال يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ (الحديث). أخرجه أحمد وأبو داود والدارقطني(2){386}.
(وعليه) فلا يصلي به عند المالكية الا فرض واحد وما شاء من نفل بعده (ويباح) به عند الشافعية فرض واحد وما شاء من نوافل قبله وبعده (ويباح) به عند الحنبلية ما شاء من فرض ونفل في الوقت (لقول) ابن عمر "يتيمم لكل صلاة وإن لم يحدث". أخرجه البيهقي بسند صحيح وقال: وقد روي عن علي وابن عباس وعمرو بن العاص(3){44}.
(وقال) ابن عباس: من السنة الا يصلي الرجل بالتيمم الا صلاة واحدة ثم يتيمم للصلاة الأخرى. أخرجه البيهقي والطبراني في الكبير والدار قطني(4){45} وفي سنده الحسن بن عمارة. ضعفه شعبة وسفيان الثوري وأحمد.
(
__________
(1) انظر ص305 ج1 فتح الباري (الصعيد الطيب وضوء المسلم).
(2) تقدم رقم 372 ص340 (خوف البرد) من أسباب التيمم.
(3) انظر ص221 ج1 بيهقي (التيمم لكل فريضة). و ص 264 ج2 مجمع الزوائد (كم يصلي بالتيمم؟).
(4) انظر ص221 ج1 بيهقي. و ص 264 ج2 مجمع الزوائد.(1/446)
وإذا) كان الراجح القول الأول (ويؤيده) أيضاً حديث ابي ذر قال: اجتويت المدينة فأمر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بابل فكنت فيها فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: هلك أبو ذر. قال ما حالك؟ قال كنت أتعرض للجنابة وليس قربى ماء. فقال: إن الصعيد طهور لمن لم يجد الماء عشر سنين. أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح(1){387}.
(فهو) دليل على (1) جواز التيمم للجنب، وإن تسبب في الجنابة وهو متفق عليه. (2) وعلى أن الصعيد مطهر يباح لمن تطهر به ما يباح لمن تطهر بالماء من صلاة وقراءة ودخول مسجد ومس مصحف وغيرها (3) وعلى أنه يجوز لفاقد الماء التيمم ما دام فاقده وإن تطاول العهد واستمر على ذلك الدهر (وذكر) العشر فيه ليس للتقييد بل للمبالغة قال ابن القيم: ولم يصح عنه صلى الله عليه وسلم التيمم لكل صلاة ولا أمر به، بل أطلق وجعله قائماً مقام الوضوء. وهذا يقتضي أن يكون حكمه حكم الوضوء الا فيما اقتضى الدليل خلافه(2).
(فائدتان) (الاولى) اعلم ان البدلية في التيمم بين الآلتين: الماء والتراب عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومالك وأحمد. وبين الفعلين أي الوضوء والتيمم عند محمد. وعليه يجوز اقتداء المتوضيء بالمتيمم عند الأولين غير أنه يكره عند مالك وقال محمد: لا يجوز الا في الجنازة.
(
__________
(1) انظر ص192 ج2- الفتح الرباني. و ص 181 ج3- المنهل العذب (الجنب يتيمم). و (اجتويت المدينة) بالجيم أي وجدت هواءها وخيما لا يوافقني.
(2) انظر ص50 ج1 زاد المعاد (هدية صلى الله عليه وسلم في التيمم).(1/447)
الثانية) من وجد الماء لكنه خاف باستعماله خروج الوقت (فعند) المالكية: يتيمم لغير جمعة وجنازة ويصلي ولا اعادة عليه. أما الجمعة إذا خاف خروجها باستعمال الماء، فالمشهور أنه لا يتيمم لها. وأما الجنازة فلا يتيمم لها الا فاقد الماء ان تعينت عليه (وقال) الحنفيون: يتيمم ولو كان الماء قريباً في حالين (1) لخوف فوت صلاة عيد كلها لو اشتغل بالطهارة المائة بأن خاف فراغ الامام او زوال الشمس. أما لو رجا إدراك بعضها مع الامام بعد الطهارة المائية فإنه لا يتيمم. (2) ولخوف فوت كل تكبيرات صلاة الجنازة لو اشتغل بالطهارة المائية ولو جنباً او نفساء (لقول) ابن عباس: إذا فجأتك الجنازة وأنت على غير وضوء فتيمم. أخرجه ابن عدي في الكامل وابن أبي شيبة والطحاوي والنسائي في كتاب الكني(1){46}.
(وعن) ابن عمر رضي الله عنهما أنه أتى الجنازة وهو على غير وضوء فتيمم وصلى عليها. أخرجه البيهقي في المعرفة. وهو في حكم المرفوع(2){47}.
(ولو) حضرت جنازة أخرى. فإن أمكنه الوضوء بينهما ثم فات التمكن أعاد التيمم اتفاقاً (وإن) لم يمكنه الوضوء بينهما صلى عليها بتيممه للأولى خلافاً لمحمد (ولا يصح) التيمم مع القدرة على استعمال الماء لخوف فوت وقتيه ولو وتراً وجمعة، لأن لها بدلاً (وقال) زفر: يصح التيمم لخوف فوت الوقتية احتراماً للوقت. ولذا فقالوا: الأحوط أن يتيمم ويصلى ثم يعيد (وقالت) الشافعية: لا يتيمم لخوف الفوات مع وجود الماء مطلقاً (وقالت) الحنبلية: لا يجوز ذلك الا لمسافر ضاق عليه الوقت او على وجود الماء في مكان قريب وخاف خروج الوقت إن قصده فإنه يتيمم ويصلي ولا إعادة عليه.
(
__________
(1) انظر ص157 ج1 نصب الراية (التيمم للجنازة). و ص 52 ج1 شرح معاني الاثار (ذكر الجنب والحائض والنفساء وقراءتهم القرآن).
(2) انظر ص230 ج1- الجوهر النقي الصحيح المقيم يتوضأ للمكتوبة والجنازة والعيد ولا يتيمم.(1/448)
9) أقسام التيمم- أقسامه فرض ومندوب عند الثلاثة. وفرض وواجب ومندوب عند الحنفيين (فيفترض) لما يفترض له الوضوء والغسل ومنه الطواف عند الثلاثة. وقال الحنفيون: التيمم له واجب كالطهارة المائية. ويسن لما يسن له الوضوء والغسل.
(10) نواقض التيمم- اتفق العلماء على ان التيمم ينقضه (أ) كل ما ينقض الوضوء والغسل، فلو تيمم لجنابة وأحدث حدثاً أصغر، بطل تيممه بالنسبة للحدث الأصغر دون الجنابة. ولو أحدث حدثاً أكبر بطل بالنسبة لهما.
(ب) وينقضه أيضاً عند الحنفيين، القدرة على استعمال ماء كاف للطهارة زائد عن حاجته سواء أقدر على ذلك حال الصلاة أم خارجها (لما تقدم) عن أبي ذكر الغفاري أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته. أخرجه الثلاثة وحسنه الترمذي(1){388}.
(وقالت) المالكية: يبطله أيضاً أمران (أ) وجود ماء كاف قبل الدخول في الصلاة ان اتسع الوقت لاستعماله مع إدراكها. أما وجود الماء فيها فلا يبطلها الا اذا كان ناسياً لما معه من الماء فتيمم وأحرم بها ثم تذكره فيها، فإنها تبطل إن اتسع الوقت (ب) طول الفصل بين التيمم والصلاة. (وقالت) الشافعية والحنبلية: ينقضه ايضاً (أ) وجود الماء وإن قل ولو في اثناء الصلاة مطلقاً عند أحمد. وكذا عند الشافعي إن كان في صلاة تجب إعادتها (ب) ويبطل بالردة عند المالكية والشافعية والحنبلية وزفر (جـ) ويبطله ايضاً عند الحنبلية (1) خروج الوقت سواء أكان التيمم عن حدث أكبر أم أصغر أم نجاسة على بدنه ما لم يكن في صلاة جمعة وخرج الوقت وهو فيها فلا تبطل بل يتمها لأنها لا تقضي (2) وخلع ما يجوز المسح عليه كعمامة او جبيرة او خف لبسه على طهارة ثم تيمم. هذا ويتصل بالتيمم أمران:
الأول – المسح على الجبيرة
__________
(1) تقدم رقم 385 ص350 (ما يباح بالتيمم).(1/449)
الجبيرة هي عيدان من جريد ونحوه تشد على العظام المكسورة. ومثلها الخرقة يربط بها الجرح والدواء يوضع عليه (واعلم) أنه إن تيسر غسل الجراحة ولو بماء حار بلا ضرر لصاحبها، لزمه غسلها والا لزمه مسحها. وإن ضره المسح او الحل "ومنه عدم تمكنه من ربطها بنفسه ولم يجد من يربطها" انتقل الى المسح على الجبيرة. وإن ضره المسح عليها سقط. ثم الكلام هنا في ثلاثة مباحث.
(أ) حكم المسح – (المسح) على الجبيرة عند الإمكان فرض في الوضوء والغسل بدلاً من تطهير العضو المجروح بالغسل او المسح عند الائمة الثلاثة وأبي يوسف ومحمد. وواجب عند أبي حنيفة تصح الصلاة بدونه مع الاثم ووجوب الاعادة إن تركه عمداً (لقول) علي رضي الله عنه:انكسرت إحدى زندي فسألت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: امسح على الجبائر. أخرجه البيهقي بسند فيه عمرو بن خالد وهو متروك(1){389}.
لكن يقويه (أولاً) حديث أبي أمامة قال: لما رمى ابن قميئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد. رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا توضأ حل بن عصابته ومسح عليها بالوضوء. أخرجه الطبراني في الكبير. وفي سنده حفص بن عمر العدني وهو- ضعيف(2){390}.
(وثانياً) قول ابن عمر: من كان له جرح معصوب عليه توضأ ومسح على العصائب وغسل ما حولها. أخرجه البيهقي(3){48}.
والموقوف في هذا كالمرفوع ولم يعرف أن أحداً من الصحابة خالف ابن عمر في هذا.
(
__________
(1) انظر ص228 ج1 بيهقي (المسح على العصائب والجبائر). و (زندي) تثنية زند بفتح فسكون وهو موصل طرف الذراع بالكف- وهما الكوع والكرسوع.
(2) انظر ص264 ج1 مجمع الزوائد (المسح على الجيرة). و (ابن قميئة) بفتح فكسر، رمي النبي صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر أنفه (وسمح عليها بالوضوء) أي بالماء.
(3) انظر ص228 ج1 سنن البيهقي (المسح على العصائب والجبائر).(1/450)
ب) الفرق بين مسح الخف والجبيرة- المسح على الجبيرة ونحوها كالغسل لما تحتها ما دام العذر باقياً. وليس بدلاً. ولذا يفارق مسح الخف في أمور. (أ) أنه لا يجوز المسح عليها الا لضرورة بخلاف الخف (2) أنه يجب استيعابها بالمسح عند غير الحنفيين ويكفي مسح أكثرها عندهم، لأنه لا ضرر في تعميمها او مسح أكثرها بخلاف الخف، فإن تعميمه بالمسح يتلفه. (3) أنه لا توقيت في مسحها اتفاقاً، لأنه للضرورة فيقدر بقدرها. (4) أن المسح عليها مشروع في الطهارة الصغرى والكبرى بخلاف المسح على الخف فإنه خاص بالوضوء. (5) أنه لا يشترط شدها على طهارة عند الحفنية والمالكية ومشهور مذهب أحمد. لإطلاق الأحاديث السابقة (فقد) أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم علياً ان يمسح على الجبائر ولم يشترط الطهارة. وكذا من أصابته الشجة. (وقالت) الشافعية: يشترط شدها على طهارة كالخف. وهو رواية عن أحمد. وعلى هذا ان لبسها على غير طهارة ثم خاف من نزعها، تيمم لها. وكذا اذا تجاوز بالشد عليها موضع الحاجة وخاف من نزعها، تيمم فقط. ولا يصح منه المسح (وقالت) الحنفية والمالكية: متى ضره نزعها أو المسح على الجرح اكتفى بالمسح عليها وغسل الصحيح مطلقاً(1) ان كان اكثر الأعضاء، وان كان أكثرها جريحاً تيمم. (وقالت) الحنبلية: يغسل الصحيح ويتيمم عن الجريح مطلقاً (وقالت) الشافعية: يغسل الصحيح ويمسح الجبيرة ويتيمم ويقضي الصلاة إن كانت الجبيرة في عضو من أعضاء التيمم او أخذت من الصحيح زيادة قدر الاستمساك، أو شدت على غير طهارة. ولا دليل على هذا. بل فيه حرج وهو مرفوع بالنص. ولذا قال غيرهم: من أدى صلاة على وجه مشروع لعذر من الأعذار، لا إعادة عليه بعد زوال هذا العذر.
(
__________
(1) أي وان شدها على غير طهارة وجاوز بالشد موضع الحاجة.(1/451)
جـ) ما يبطل المسح على الجبيرة- يبطل مسحها عند الحنفيين بسقوطها عن موضعها او نزعها عن براء. وكذا ان برأ موضعها(1)ولم تسقط ان لم يضره إزالتها وعليه ان كان متطهراً غسل موضعها. وان لم تسقط عن براء لا يبطل مسحها ولو في الصلاة (وقالت) المالكية: ان سقطت عن برء مسحها ولزمه تطهير موضعها فوراً. وإن سقطت عن غير برء، ردها ومسحها فوراً (وقالت) الشافعية ان سقطت في الصلاة عن برء بطلت الصلاة والطهارة. وان سقطت عن غير برء بطلت الصلاة فقط. ويرد الجبيرة ويمسح عليها (وقالت) الحنبلية: ينتقض الوضوء كله بسقوط الجبيرة مطلقاً.
الثاني – فاقد الطهورين
"الممنوع" من الطهارة وفاقد الطهورين "وهما الماء والتراب" بأن حبس في مكان نجس ولا يمكنه إخراج تراب مطهر، او عجز عن استعمالها لمرض "يؤخر الصلاة" عند أبي حنيفة والثوري والاوزاعي وأصبغ المالكي (لحديث) أسامة بن عمير ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يقبل الله صدقة من غلول ولا صلاة بغير طهور. أخرجه أبو داود والنسائي والبيهقي(2){391}.
(
__________
(1) برأ من المرض من بابي نفع وتعب. وبرؤ كقرب، لغة.
(2) انظر ص207 ج1- المنهل العذب (فرض الوضوء). و ص 33 ج1 مجتبي. و ص 230 ج1 بيهقي (الصحيح المقيم يتوضأ للمكتوبة وغيرها ولا يتيمم). والمراد بالغلول – بضم الغين المعجمة- المال الحرام أخذ خفية ام جهراً.(1/452)
وقال) أبو يوسف ومحمد: يتشبه بالمصلين احتراماً للوقت..مكاناً يابساً والا يؤمي قائماً. وقيل يؤمي وإن تمكن من السجود لأنه لو سجد صار مستعملاً للنجاسة ثم يقضي الصلاة متى قدر على الطهارة (وقال) مالك في المشهور عنه: لا يصلي ولا يقضي (وقال) أحمد في المشهور عنه وجمهور المحدثين والمزني وسحنون وابن المنذر: يصلي ولا إعادة عليه. (لحديث) عائشة أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت فبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجالاً في طلبها فوجدوها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء فصلوا بغير وضوء فلما أتوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم شكوا ذلك إليه فأنزل الله عز وجل آية التيمم. أخرجه الجماعة إلا الترمذي(1){392}.
(وجه) الدلالة أنهم صلوا معتقدين وجوب الصلاة عليهم وأقرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك. ولو كانت غير واجبة أو ممنوعة حينئذ، لأنكر عليهم ولو كانت الإعادة واجبة، لبينها لهم، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة (ورد) بأن الإعادة لا تجب على الفور، فلم يتأخر البيان عن وقت الحاجة (وقال) الشافعي وبعض المالكية: على فاقد الطهورين ان يصلي، لحديث عائشة. وعليه الإعادة، لأنه عذر نادر فلا يسقط الإعادة. والراجح من جهة الدليل مذهب الأولين (وأجابوا) عن حديث عائشة (أ) باحتمال أنه صلى الله عليه وآله وسلم أنكر عليهم صلاتهم بلا طهارة وعدم ذكر الإنكار في الحديث، لا يستلزم عدمه في الواقع. فتكون صلاتهم تلك اجتهاداً والمجتهد يخطئ ويصيب. والبيان يجوز تأخيره إلى وقت الحاجة ولا يجوز تأخيره عن وقتها. (ب) وبأن حديث "لا يقبل الله صلاة بغير طهور" صريح في عدم جواز الصلاة عند عدم الطهارة "وحديث" عائشة لو سلم عدم إنكاره صلى الله عليه وآله وسلم صلاتهم بلا طهارة "يدل" على جوازها احتمالاً. فهو لا يعارض حديث المنع.
(
__________
(1) انظر ص195 ج2- الفتح الرباني. وص 337 ج1 نيل الاوطار (الصلاة بلا ماء ولا تراب للضرورة).(1/453)
فائدة) مقطوع اليدين والرجلين من فوق المرفقين والكعبين إذا كان بوجهه جراحة، يصلي بغير طهارة ولا يعيد على الأصح عند الحنفيين وقيل لا صلاة عليه. وقيل يلزمه غسل موضع القطع. وعلى الأول فالفرق بينه وبين فاقد الطهورين أن فاقدهما يرجو إدراك المطهر بعد ذلك، وهذا أعضاؤه لا تعود، وللأكثر حكم الكل.
الأنجاس
هي جمع نجس بكسر الجيم(1) وهو لغة كل مستقذر. وشرعاً كل عين مستقذرة شرعاً. ويقال هو قدر مخصوص يمنع جنسه الصلاة كالبول والدم. وهو قسمان: مشترك بين الرجال والنساء وخاص بالنساء.
1- النجس المشترك
هو متفق على نجاسته ومختلف فيها. فالمتفق على نجاسته عشرة أنواع:-
1- الدم المسفوح- هو من الحيوان البري نجس عند الأئمة الأربعة لا فرق بين قليله وكثيره، لقوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحى الى محرماً على طاعم يطعمه الا ان يكون ميتة او دماً مسفوحاً او لحم خنزير فإنه رجس) صدر آية 145- الانعام- والرجس النجس. والضمير في قوله (فإنه رجس) راجع إلى كل ما تقدم في الآية.
2- لحم الخنزير- أجمع العلماء على نجاسته، لقوله تعالى (فإنه رجس) أي نجس.
3 و 4- غائط الإنسان وبوله- اتفق العلماء على نجاسة غائط الآدمي وبوله غير الأنبياء وغير بول الصبي الرضيع الذي لم يتناول الطعام للأدلة الصحيحة المفيدة للقطع بذلك بل نجاستهما من باب الضرورة الدينية، ولا يقدح في ذلك التخفيف في تطهيرهما في بعض الأحوال. (أ) أما في الغائط فكما في حديث أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إذا وطئ أحدكم الأذى بنعله أو خفيه فظهورهما التراب..أخرجه الطحاوي والحاكم وصححه(2) {393}.
__________
(1) يقال نجس الشيء نجساً من باب تعب فهو نجس، إذا كان قذراً غير نظيف. ونجس ينجس من باب قتلن لغة.
(2) انظر ص31 ج1 شرح معاني الاثار.. و ص 166 ج1 مستدرك.(1/454)
فإن جعل التراب مع المسح مطهر، لا يخرجه عن كونه نجساً بالضرورة، إذ اختلاف وجه التطهير لا يخرج النجس عن كونه نجساً. (ب) وأما التخفيف في تطهير البول، فكما في حديث أبى هريرة قال: بال أعرابي في المسجد فتناوله الناس فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: دعوه وأهريقوا على بوله سجلاً من ماء (الحديث) أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي(1){394}.
(فائدة) فضلات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ودماؤهم طاهرة قبل النبوة وبعدها تشريفاً لمقامهم (روي) أبو مالك النخعي عن الأسود بن قيس عن نبيح العنزي عن ام ايمن قالت: قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الليل إلى فخارة له في جانب البيت فبال فيها، فقمت من الليل وأنا عطشي فشربت ما فيها وأنا لا أشعر، فلما أصبح النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا أم أيمن قومي فأهريقي ما في تلك الفخارة. قلت قد والله شربت ما فيها. فضحك صلى الله عليه وآله وسلم حتى بدت نواجذه. ثم قال: أما انك لا يفجع بطنك بعده أبداً. أخرجه الدار قطني والطبراني والحاكم. وأبو مالك ضعيف. ونبيح لم يدرك أم أيمن(2){395}.
(
__________
(1) انظر ص224 ج1 فتح الباري (صب الماء على البول في المسجد). و ص 255 ج3 – المنهل العذب (الارض يصيبها البول). و (السجل) بفتح فسكون، الدلو العظيمة.
(2) انظر ص271 ج8 مجمع الزوائد (باب منه) في الخصائص. و ص 63 ج4 مستدرك (ذكر ام ايمن). و (يفجع) بالفاء والجيم مبني للمفعول من الفجع، وهو الوجع.(1/455)
وعن) عبد الله بن الزبير أنه أتى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يحتجم، فلما فرغ قال: يا عبد الله اذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يراك أحد، قال: فلما برزت عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، عمدت إلى الدم فحسوته، فلما رجعت الى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ما صنعت يا عبد الله؟ قلت جعلته في مكان ظننته أنه خاف على الناس. قال: فلعلك شربته؟ قلت: نعم. قال: ومن أمرك أن تشرب الدم، ويل لك من الناس، وويل للناس منك. أخرجه البزار والطبراني والحاكم والبيهقي في الدلائل(1){396} وقال أبو عاصم: فكانوا يرون أن القوة التي به من ذلك الدم(2).
5 و6- روث وبول غير الآدمي- اتفق العلماء على نجاسة روث وبول ما لا يؤكل لحمه (لحديث) ابن مسعود رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجد، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: إنها ركس. أخرجه أحمد والبخاري والترمذي والنسائي. وفي رواية: إنها روثة حمار(3){397}.
7- الودي – بفتح فسكون، وهو ماء ابيض ثخين يخرج بعد البول. وهو نجس من كل حيوان عند الأئمة الثلاثة، وكذا عند الحنبلية من غير مأكول اللحم، أما من مأكوله فطاهر كبوله وروثه.
وخروجه موجب للوضوء دون الغسل اتفاقاً (قال) ابن عباس: المني والودي والمذي. أما المني ففيه الغسل. وأما المذي والودي ففيهما إسباغ الطهور. أخرجه الأثرم(4){49}.
__________
(1) انظر ص270 ج8 مجمع الزوائد (باب منه). و (حسوته) أي شربته.
(2) انظر ص70 ج4- الاصابة في تمييز الصحابة.
(3) انظر ص279 ج1- الفتح الرباني. و ص 302 ج2 تيسير الوصول (ما يستنجي به) والركس النجس.
(4) انظر ص166 ج1 مغنى ابن قدامة (نواقض الوضوء) وتقدم نحوه أثر 21 صـ 261.(1/456)
8- المذي – بفتح الميم واسكان الذال المعجمة. وبفتح الميم مع كسر الذال وتشديد الياء. وبكسر الذال مع تخفيف الياء، ماء رقيق أبيض لزج يخرج من القبل عند ملاعبة من تشتهي، او عند تذكر الجماع وإرادته، وقد لا يشعر بخروجه ويكون من الرجل والمرأة، ومن المرأة أكثر. وهو من الآدمي وما لا يؤكل لحمه نجس باتفاق العلماء(1) (لقول) سهل بن حنيف: كنت ألقى من المذي شدة وعناء وكنت أكثر منه الاغتسال، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: إنما يجزئك من ذلك الوضوء. فقلت: يا رسول الله فكيف بما يصيب ثوبي منه؟ قال: يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء فتنضح بها ثوبك حيث ترى أنه أصاب. أخرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي. وقال: حديث حسن صحيح(2) {398}.
(وعن) علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت رجلاً مذاء فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله فقال: فيه الوضوء. أخرجه الشيخان. ولمسلم "يغسل ذكره ويتوضأ" ولأحمد وأبي داود "يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ" (3) {399}.
(
__________
(1) وكذا من مأكول اللحم خلافاً لأحمد، فانه قال بطهارته منه كبوله وروثه.
(2) انظر ص315 ج2 تيسير الوصول (المذي). و ص94 ج1- ابن ماجه (لوضوء من المذي). و (ترى) بضم التاء أي تظن.
(3) انظر ص314 ج2 تيسير الوصول (المذي). وتقدم نحوه رقم 224 ص 262 (نواقض الوضوء).(1/457)
وفي) الحديثين دلالة على أن المذي لا يوجب الغسل وهو مجمع عليه. (وقد) اختلف العلماء في المذي إذا أصاب الثوب (فقال) الشافعي واسحاق: لا يجزيه الا الغسل أخذاً برواية النضح مراداً به الغسل. ولكن في رواية الأثرم: يجزئك أن تأخذ حفنة من ماء فترش عليه فيكفي فيه الرش، وإن كان الغسل أولى وأحوط على أن رواية الغسل إنما هي في الفرج لا في الثوب الذي هو محل النزاع. ولم يعارض رواية النضح المذكورة معارض فالاكتفاء به صحيح مجزيء (وفي) رواية أحمد وأبي داود لحديث على دلالة على وجوب غسل كل الذكر والانثيين على المذي. وبه قال الاوزاعي. وهو رواية عن أحمد (وقالت) المالكية: يجب غسل الذكر كله أخذاً بظاهر قوله في رواية علي: يغسل ذكره ويتوضأ فإن الذكر اسم للعضو كله (وهل) غسل كل الذكر معقول المعنى او هو حكم تعبدي؟ وعلى الثاني تجب النية. وقيل: أمر بغسله لينكمش الذكر فلا يخرج المذي (وقال) الحنفيون والشافعي والجمهور: الواجب غسل المحل الذي أصابه المذي من البدن. ولا يجب تعميم الذكر والانثيين بالغسل، وروي عن أحمد لقوله في حديث سهل: إنما يجزئك من ذلك الوضوء. (ولقول) سعيد بن جبير: إذا أمذى الرجل غسل الحشفة وتوضأ وضوءه للصلاة. أخرجه الطحاوي(1) {50}.
__________
(1) انظر ص29 ج1 شرح معاني الآثار (المذي).(1/458)
9- لحم مالا يحل أكله من الحيوان- ذهب جمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم الى ان لحم الحيوان الذي لا يؤكل نجس ولو ذكي ذكاة شرعية وهو الأصح عند الحنفيين (لحديث) سلمة بن الأكوع قال: لما أمسى اليوم الذي فتحت عليهم فيه خيبر أوقدوا نيراناً كثيرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ما هذه النار؟ على أي شيء توقدون؟ قالوا: على لحم. قال: على أي لحم؟ قالوا: على لحم الحمر الإنسية. فقال: أهريقوها واكسروها فقال رجل: يا رسول الله او نهريقها ونغسلها؟ فقال: أو ذاك. أخرجه أحمد والشيخان(1){400}.
( وعن ) أنس قال : أصبنا من لحم الحمر يعني يوم خيبر، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس او نجس . أخرجه أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه (2) {401}.
(وفيهما) دلالة على تحربم الحمر الأهلية، لأن الأمر بكسر الآنية "أولاً" ثم بالغسل "ثانياً" ثم قوله فإنها رجس او نجس "ثالثاً" يدل على النجاسة، ولكنه نص في الحمر الإنسية وقياس في غيرها مما لا يؤكل بجامع عدم الأكل.
__________
(1) انظر ص48 ج4 مسند احمد. و ص327 ج7 فتح الباري (غزو خيبر) و ص 93 ج13 نووي مسلم (تحريم أكل لحم الحمر الانسية- الصيد). و (اهريقوها) أي أريقوها والهاء زائدة. (او ذاك) أي او الغسل.
(2) انظر ص80 ج17- الفتح الرباني. و ص 328 ج7 فتح الباري (غزوة خيبر). و ص 94 ج13 نووي مسلم (تحريم أكل الحمر الانسية).(1/459)
10- ما فصل من حي- هو كميتته، ولذا اتفقوا أن "ما فصل" من آدمي حي "طاهر" وأن ما فصل من حيوان آخر حي نجس (لحديث) أبي واقد الليثي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة. أخرجه أحمد والحاكم وأبو داود والترمذي وقال: حديث غريب لا نعرفه الا من هذا الوجه والعمل على هذا عند أهل العلم(1) {402}.
والميتة نجسة لقوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحى الى محرماً على طاعم يطعمه الا ان يكون ميتة او دماً مسفوحاً او لحم خنزير فإنه رجس) (أول آية 145 – الأنعام). والرجس: النجس.
(واستثنى) من الميتة ميتة السمك والجراد، فإنها طاهرة (لحديث) ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "أحل لنا ميتتان ودمان. أما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال". أخرجه الشافعي وأحمد وابن ماجه والدار قطني والبيهقي(2){403}.
"وهو" وإن كان في سنده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف "يقويه" حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال – حين سئل عن التوضؤ بما البحر – هو الطهور ماؤه الحل ميتتة. أخرجه مالك وأحمد والثلاثة وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح(3){404}.
(الثاني) ما اختلف في نجاسته – وهو سبعة عشر نوعاً.
(
__________
(1) انظر ص218 ج5 مسند أحمد. و ص 346 ج2 تحفة الاحوذي (ما قطع من الحي فهو ميت).
(2) انظر ص425 ج2 بدائع المنن (السمك والجراد- الاطعمة) و ص 255 ج1- الفتح الرباني. و ص 163 ج2 – ابن ماجه (الكبد والطحال).
(3) انظر ص290 ج2 تيسير الوصول (أحكام المياه) وص 201 ج1- الفتح الرباني.(1/460)
1، 2) – بول وروث ما يحل أكل لحمه – (قال) أحمد ومحمد بن الحسن وزفر من الحنفيين وابن المنذر والاصطخري والروياني من الشافية: بول وروث ما يؤكل لحمه طاهران (لقول) أنس رضي الله عنه: قدم أناس من عكل او عرينة فاجتووا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بلقاح وأن يشربوا من أبوالها وألبانها (الحديث) أخرجه أحمد والشيخان(1){405}.
"ولا يقال" هذا لا يدل على طهارة أبوالها، لأن الحالة حالة ضرورة كالمضطر يأكل الميتة "لأنه" لو كان كذلك، لأمرهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بغسل أيديهم وأفواههم وما أصابهم منها عند إرادة الصلاة ونحوها. وأيضاً لو كانت أبوال الابل نجسة، لما أمرهم صلى الله عليه وسلم بالتداوي بها (فقد) روي وائل بن حجر ان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم. أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود(2){406} وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي عن وائل أن طارق بن سويد سأل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن التداوي بالخمر فنهاه وقال أنه ليس بدواء ولكنه داء(3){407}.
__________
(1) انظر ص246 ج1 الفتح الرباني و ص 233 ج1 فتح الباري (أبوال الابل والدواب "عكل" بضم فسكون، وعرينه، بالتصغير، قبيلتان. و (اجتووا) أي اصابهم الجوى وهو المرض وداء الجوف اذا تطاول، اذ لم يوافقهم هواؤها. و (لقاح) جمع لقحة بكسر اللام وسكون القاف، وهي الناقة ذات اللبن.
(2) انظر ص60 ج1 نيل الاوطار (الرخصة في بول ما يؤكل لحمه) وانظر رقم 1773 ص252 ج2 فيض القدير شرح الجامع الصغير. منسوباً للطبراني عن أم سلمة.
(3) انظر ص368 ج2 تيسير الوصول (الطب والرق).(1/461)
فإنه وإن وقع جواباً لمن سأل عن التداوي بالخمر، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (وعن) ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "إن في أبوال الابل شفاء للذربة بطونهم" أخرجه ابن المنذر(1){408}.
وقال: من زعم أن هذا خاص بأولئك الاقوام لم يصب، إذ الخصائص لا تثبت الا بدليل(2)وما ورد أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن الصلاة في أعطان الابل "لا يستلزم" نجاسة أزبالها وأبوالها. وإنما نهى عن ذلك لضررها ونفارها حيث علل النهي بقوله: إنها من الشياطين.
( قال ) البراء بن عازب : سئل صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الابل فقال : لا تصلوا في مبارك الابل فإنها من الشياطين وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال : صلوا فيها فإنها بركة. أخرجه أحمد وأبو داود(3) {409}.
(ويقاس) على الابل والغنم غيرهما مما يؤكل لحمه من بقية الحيوانات.
(
__________
(1) انظر ص235 ج1 فتح الباري. الشرح (أبوال الابل والدواب) و (الذربة بطونهم) الذين فسدت معدتهم. يقال ذربت معدته فهي ذربة من باب تعب إذا فسدت.
(2) انظر ص235 ج1 فتح الباري. الشرح (أبوال الابل والدواب) و (الذربة بطونهم) الذين فسدت معدتهم. يقال ذربت معدته فهي ذربة من باب تعب إذا فسدت.
(3) انظر ص200 ج2- المنهل العذب (الوضوء من لحوم الابل) وجعل الابل من الشياطين لتمردها ونفارها. والشيطان كل عاد متمرد من انس او جن او دابة. وقيل المراد أنها تعمل عمل الشياطين لأنها كثيرة النفار والتشويش.(1/462)
وبهذا) قالت المالكية فيما لم يتغذ بالنجس. والا فبوله وروثه نجس كغير مأكول اللحم(1)(وقال) أبو حنيفة وأبو يوسف والشافعية: روث وبول جميع الحيوانات نجس.
(لحديث) ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بقبرين فقال: "انهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول. وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة". أخرجه السبعة(2){410}.
(وجه) الدلالة أنه عمم في البول ولم يخصه ببول الإنسان، ولا أخرج منه بول ما يؤكل لحمه (وقاسوا) ما ذكر على غائط الإنسان وبوله قياساً أولوياً، فإن الإنسان طاهر حياً وميتاً. وقد حكم بنجاسة غائطه وبوله. فبول وروث غيره من الحيوانات نجس بالأولى (وأجاب) الاولون (أ) عن الحديث، بأن المراد بالبول فيه بول الإنسان فقط، لما في رواية للبخاري من قوله صلى الله عليه وسلم: كان لا يستتر من بوله. فلا دلالة فيه على نجاسة الابوال كلها. (ب) وعن القياس بأن فضلة الإنسان مستقذرة بالطبع بخلاف فضلة بهيمة الأنعام فليست كذلك. وبأنه قياس في مقابلة النص، فلا يعول عليه.
(
__________
(1) قال الشيخ الدردير في صغيره: ومن الطاهر فضلة المباح (أكله) من روث وبعر وبول وزبل ودجاج وحمام وجميع الطيور ما لم يستعمل النجاسة فإن استعمالها أكلاً او شرباً ففضلته نجسة والفأرة من المباح ففضلتها طاهرة إن لم تصل للنجاسة ولو شكاً لأن شأنها استعمال النجاسة كالدجاج بخلاف نحو الحمام فلا يحكم بنجاسة فضلته الا اذا تحقق او ظن استعمالها للنجاسة. انظر ص17 ج1 (الأعيان الطاهرة والنجسة).
(2) انظر ص127 ج8- الفتح الرباني. و ص307 ج3 تيسير الوصول (عذاب القبر).(1/463)
فالظاهر) طهارة الابوال والازبال من كل حيوان يؤكل لحمه تمسكاً بالأصل واستصحاباً للبراءة الأصلية. والنجاسة حكم شرعي ناقل عن الحكم الذي يقتضيه الأصل والبراءة، فلا يقبل قول مدعيها الا بدليل يصلح للنقل عنهما. ولم نجد للقائلين بالنجاسة دليلاً كذلك. وغاية ما جاءوا به حديث القبر وهو مع كونه مراداً به الخصوص كما سلف، عمومه ظني الدلالة لا ينتهض على معارضة تلك الأدلة المعتضدة(1).
3- لعاب الكلب- (قال) الحنفيون والشافعي وأحمد والجمهور: ان لعاب الكلب نجس. ورواه ابن وهب عن مالك (لحديث) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب ان يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب". أخرجه مالك والخمسة(2){411}.
(وقال) عبد الله بن مغفل: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتل الكلاب ثم قال: "مالهم ولها". فرخص في كلب الصيد وفي كلب الغنم. وقال: "إذا ولغ الكلب في الإناء، فاغسلوه سبع مرار، والثامنة عفروه بالتراب". أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي(3){412}.
__________
(1) انظر ص61 ج1 (نيل الاوطار) الرخصة في بول ما يؤكل لحمه).
(2) انظر ص295 ج2 تيسير الوصول (الكلب وغيره من الحيوان).
(3) انظر ص220 ج1- الفتح الرباني. وص 183 ج3 نووي مسلم (حكم ولوغ الكلب)ز وص 261 ج1- المنهل العذب (الوضوء بسؤر الكلب) و(مالهم ولها) أي شيء ثبت للناس وحملهم على اقتناء الكلاب.(1/464)
فما ذكر صريح في نجاسة لعاب الكلب (وقال) مالك في المشهور عنه: ان الكلب طاهر، فلعابه طاهر، لقوله تعالى: "فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه" (من آية 4- المائدة) ولا يخلو الصيد من التلوث بريق الكلب ولم نؤمر بالغسل (وأجاب) الجمهور بأن إباحة الأكل مما أمسكن، لا تنافي وجوب تطهير ما تنجس من الصيد، وعدم الأمر بالغسل للاكتفاء بعموم أدلة تطهير النجس (فالراجح) القول بنجاسته وأنه يشترط في تطهير ما ينجس بلعابه الغسل سبعاً إحداهن بالتراب عند الشافعي وأحمد ويقوم الأشنان والصابون ونحوهما مقام التراب ولو مع وجوده عند أحمد وهو قول للشافعي وصححه صاحب المهذب لأنه تطهير نجاسة بجامد فلا يختص بالتراب كالاستنجاء والدباغ وقيل لا يقوم غير التراب مقامه للنص عليه فاختص به كالتيمم(1).
(وقال) الحنفيون: يطهر ما ينجس بلعاب الكلب بالغسل ثلاثاً كغيره من النجاسات غير المرئية ولا يشترط التتريب لما روي عطاء عن أبي هريرة في الإناء يلغ فيه الكلب او الهر قال: "يغسل ثلاث مرات". أخرجه الدار قطني والطحاوي(2){51}.
وأبو هريرة هو الراوي للغسل سبعاً فدل ذلك على نسخ السبع فيجب العمل بتأويل الراوي(3).
__________
(1) انظر ص132 ج1 كشاف القناع. و ص 593 ج2 مجموع النووي.
(2) انظر ص24 سنن الدار قطني. و ص13 ج1 شرح معاني الآثار (سؤر الكلب).
(3) انظر ص254 ج1- المنهل العذب (الوضوء بسؤر الكلب).(1/465)
4- المني – بتشديد الياء وقد تسكن. وهو "من الرجل" ماء ابيض ثخين ينكسر الذكر بخروجه، يشبه رطباً رائحة الطلع، ويابساً رائحة البيض "ومن المرأة" ماء رقيق أصفر (لحديث) ام سليم ان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إن ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر فمن أيهما علا او سبق يكون منه ألشبه. أخرجه مسلم(1){413}.
(وهو) نجس عند الحنفيين ومالك والثوري والجمهور وأحمد في رواية (لقول) عائشة: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يغسل المني ثم يخرج الى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر الى أثر الغسل فيه. أخرجه مسلم(2){414}.
(وعن عائشة) أنها كانت تغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قالت ثم أرى فيه بقعة او بقعاً. فيخرج الى الصلاة وان بقع الماء في ثوبه. أخرجه الستة(3){415}.
(وقال) الشافعي وداود الظاهري وآخرون: المني طاهر وهو أصح الروايتين عن أحمد (لقول) عائشة: كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يذهب فيصلي به. أخرجه أبو داود والطحاوي(4){416}.
(وجه) الدلالة أنه لو كان نجساً لم يكف فركه كالدم وغيره (وأجاب) الأولون بأن ما ذكر لا يلزم طهارة المني، وإنما يدل على كيفية تطهيره، وأنه كما يطهر بالغسل، يطهر بالفرك إذا كان يابساً فقد خفف في تطهيره بغير الماء.
(
__________
(1) انظر ص222 ج3 نووي مسلم (وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها والمراد بالعلو السبق وقيل المراد به الكثرة والقوة بحسب كثرة الشهوة.
(2) انظر ص197 ج3 نووي مسلم (حكم المني).
(3) انظر ص231 ج1 فتح الباري (غسل المني وفركه) و ص 244 ج3- المنهل العذب (المني يصيب الثوب) و ص 65 ج1 نيل الأوطار (في المني).
(4) انظر ص64 ج1 نيل الأوطار. و ص 30 ج1 شرح معاني الآثار (حكم المني).(1/466)
ومنه) تعلم أن القول بنجاسة المني هو الراجح "وأما قول" ابن عباس: سئل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن المني يصيب الثوب فقال: إنما هو بمنزلة المخط والبزاق، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة او باذخرة "فقد" رواه الدار قطني وقال: لم يرفعه غير إسحاق الأزرق عن شريك(1){417}. والصحيح أنه موقوف كما قاله البيهقي فلا يحتج به.
(وقد) اختلف من قال بنجاسة المني في كيفية تطهير ما أصابه (فقال) الحنفيون: يلزم غسل محله إذا كان رطباً او يابساً خالطه نجس خارج المخرج، كما لو بال وانتشر البول. ويطهر بالفرك يابساً إن لم يخالطه نجس خارج المخرج، كما لو بال ولم ينتشر البول او انتشر لكن خرج المني دفقاً بلا انتشار، عملاً بالأدلة السابقة. وهو رواية عن أحمد (وقال) مالك والأوزاعي: لابد من غسل محله رطباً ويابساً (وهذا كله) في مني الآدمي. أما مني غيره (فقال) الحنفيون ومالك بنجاسته ولو من مباح الأكل، ولا يطهر محله الا بالغسل رطباً ويابساً (وقالت) الشافعية بنجاسة مني الكلب والخنزير دون سائر الحيوانات (وقال) أحمد: مني ما لا يؤكل لحمه نجس. أما مني ما يؤكل فطاهر كمذيه.
__________
(1) انظر ص46 سنن الدارقطني (ما ورد في طهارة المني).(1/467)
5- عظم الميتة – عظم الميتة وعصبها وقرنها وظلفها وظفرها وسنها نجس عند مالك وهو المشهور عن الشافعي وأحمد سواء ميتة ما يؤكل وما لا يؤكل ولا يطهر بحال لقوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة) وما ذكر من جملتها وتحله الحياة لقوله تعالى: (قال من يحيي العظام وهي رميم (عجز 78) قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم) (79 يس) وما يحيا يموت ولأن دليل الحياة الإحساس والألم وهو في العظم ونحوه أشد منه في اللحم (وقال) الحنفيون والثوري: ما ذكر لا تحله الحياة فهو طاهر لا ينجس بالموت كالشعر (لقول) ابن عباس: إنما حرم من الميتة ما يؤكل منها وهو اللحم فأما الجلد والسن والعظم والشعر والصوف فهو حلال. أخرجه الدارقطني وفي سنده أبو بكر الهذلي ضعيف(1){52}.
ولأن علة التنجس في اللحم والجلد اتصال الدماء والرطوبات به ولا يوجد ذلك في العظم وما ذكر (وهذا) هو الذي يشهد له الدليل. والمراد بالإحياء في الآية الإعادة (كما بدأنا اول خلق نعيده) (من آية 104- الأنبياء).
(
__________
(1) انظر ص17 سنن الدارقطني. وصره عن ابن عباس في قوله تعالى (قل لا أجد فيما أوحى الى محرماً على طاعم يطعمه) الى قوله: إنما حرم من الميتة.(1/468)
6) شعر الميتة وصوفها – المشهور عند الشافعية القول بنجاستهما ونجاسة كل من ريشها ووبرها لأن ما ذكر متصل بالحيوان اتصال خلقة فينجس بالموت كالأعضاء (وذهب) الحنفيون ومالك إلى طهارة كل مالا تحله الحياة من الميتة – غير الخنزير(1) – كشعرها وصوفها وريشها والبيض الضعيف القشر وهو المشهور عن أحمد في شعر مأكول اللحم وصوفه (لحديث) ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال في شاة: هلا أخذتم اهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟ فقالوا يا رسول الله انها ميتة. فقال إنما حرم أكلها. وفي رواية: إنما حرم عليكم لحمها، ورخص لكم في مسكها. أخرجه مالك وأحمد والخمسة إلا أبا داود(2){418}.
(دل) على أن ما عدا اللحم لا يحرم وأن الشعر ونحوه طاهر (وعن) أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ ولا بأس بصوفها وشعرها وقرونها إذا غسل بالماء. أخرجه الدار قطني(3){419} وفي سنده يوسف بن السفر متروك ولأن كلا من الصوف والشعر لا تفتقر طهارة المنفصل منهما إلى ذكاة أصله فلم ينجس بموته، ولأنه لا تحله الحياة، فلا يحله الموت. ومثل الشعر في ذلك الوبر وزغب الريش بخلاف قصبه(4) فإنه نجس لأنه تحله الحياة.
(وأما) ما جزء من الشعر والصوف من الحيوان حال حياته، فإن كان مأكول اللحم، فطاهر بالإجماع وإن كان غير مأكول اللحم، فقالت الشافعية والحنبلية بنجاسته وقالت الحنفية والمالكية بطهارته.
(
__________
(1) أما الخنزير) (فإنه بكل أجزائه نجس العين حياً وميتاً عند الجمهور. وقال مالك بطهارته حياً وطهارة شعره ولو بعد موته.
(2) انظر ص296 ج2 تيسير الوصول (الجلود) و ص 233 ج1 – الفتح الرباني بلفظ: ومر بشاة ميتة فقال: هلا استمتعتم باهابها (الحديث) و (المسك) بفتح فسكون: الجلد.
(3) انظر ص18 سنن الدارقطني (باب الدباغ).
(4) الزغب) بفتحتين. الريش أول ما يبدو (والقصب) بفتحتين منبت الزغب.(1/469)
7) لبن الميتة وأنفحتها- (قال) مالك والشافعي: هما نجسان وهو المشهور عن أحمد (وقال) أبو يوسف ومحمد بن الحسن: هما متنجسان لأنه مائع ملاق لنجاسه فهو كما لو حلب اللبن في إناء نجس. وعلى هذا فإن كانت الأنفحة جامدة تطهر بالغسل والا تعذر تطهيرها (وقال أبو حنيفة): هما طاهران وهو رواية عن أحمد لأن الصحابة رضي الله عنهم أكلوا الجبن لما دخلوا المدائن وهو يعمل بالأنفحة وذبائح أهلها ميتة لأنهم مجوس ولا أثر للتنجس شرعاً ما دامت النجاسة في الباطن (وأجاب) الأولون بأنهم ما كانوا يذبحون بأنفسهم وكان جزاروهم اليهود والنصارى وذبائحهم ليست ميتة والاحتمال في هذا كاف والأصل الحل فلا يزول بالشك(1).
(8) بيض الميتة- وإن ماتت الدجاجة وفيها بيضة صلب قشرها فهي طاهرة عند الحنفيين وأحمد وبعض الشافعية (وقال) مالك والليث وبعض الشافعية: بيض الميتة نجس لأنه جزء منها (وأجاب) الأولون بأنه ليس جزءاً منها فأشبه الولد إذا خرج حياً من الميتة. وإن لم تكمل البيضة فهي طاهرة عند الحنفيين وبعض الحنبلية لأن البيضة عليها غشاء رقيق وهو القشر قبل ان يقوي فلا يتنجس منها الا ما لاقى النجاسة (وقال) مالك والشافعي: بنجاستها وهو مشهور مذهب الحنبلية لأن ما عليها ليس حائلاً حصيناً(2).
(
__________
(1) انظر ص61 ج1 مغنى ابن قدامة (لبن الميتة وأنفحتها).
(2) انظر ص61 ج1 مغنى ابن قدامة (لبن الميتة وأنفحتها).(1/470)
9) ميتة ما لا دم له سائل- كالذباب والنمل والصرصار والزنبور والعقرب والبرغوث(1). ذهب الجمهور الى طهارتها (لحديث) أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء. أخرجه البخاري وأبو داود بسند حسن وزاد: وأنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء فليغمسه كله(2){420}.
( وجه ) الاستدلال ان الطعام قد يكون حاراً فيموت الذباب بالغمس فيه، فلو كان نجساً يفسده، لما أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بغمسه ( وعن ) سلمان رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا سلمان كل طعام وشراب وقعت فيه دابة ليس لها دم فماتت فيه فهو حلال، أكله وشربه ووضوءه. أخرجه الترمذي والدار قطني وقال : لم يروه غير بقية عن سعيد بن أبي سعيد. وهو ضعيف وأعله ابن عدي بجهالة سعيد(3){421}.
(
__________
(1) اما القمل فميتته نجسة خلافاً لسحنون حيث قال: أنه كالبرغوث لا نفس له سائلة انظر ص18 ج1 صاوي صغير الدردير.
(2) انظر ص195 ج1 فتح الباري (إذا وقع الذباب في الاناء – الطب).
(3) انظر ص14 سنن الدارقطني (كل طعام وقعت فيه دابة ليس لها دم فهو طاهر).(1/471)
ورد) ابن الهمام دعوى الضعف والجهالة وقال: والحديث مع هذا لا ينزل عن درجة الحسن(1)(قال) بن المنذر: لا أعلم خلافاً في طهارة ما ذكر الا ما روي عن الشافعي أنه نجس، ويعفي عنه إذا وقع في المائع ما لم يغيره، وما ذكر من الادلة حجة عليه(2) هذا. وحديث الذباب دليل ظاهر في جواز قتل الذباب دفعاً لضرره. وأنه يطرح ولا يؤكل. وأن الذباب إذا مات في مائع لا ينجسه، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بغمسه ومعلوم أنه يموت من ذلك ولاسيما إذا كان الطعام حاراً فلو كان ينجسه لكان أمراً بافساد الطعام. وهو صلى الله عليه وسلم إنما أمر بإصلاحه. ويتعدى هذا الحكم الى كل مالا نفس له سائلة، كالنملة والزنبور – ومنه النحل – والعنكبوت وأشباه ذلك، إذ الحكم يعم بعموم علته، وينتقي بانتفاء سببه. فلما كان سبب التنجس هو الدم المحتقن في الحيوان بموته، وكان ذلك مفقوداً فيما لا دم له سائل، انتفى الحكم بالتنجيس لانتفاء علته.
__________
(1) قال ابن الهمام: بقية هذا هو ابن الوليد. روي عنه الحمادان وابن المبارك وابن عيينة ووكيع والاوزاعي وشعبة. وناهيك بشعبة واحتياطه. قال يحيي: كان شعبة مبجلاً لبقية وقد روي له الجماعة الا البخاري (وأما) سعيد هذا فذكره الخطيب وقال: اسم أبيه عبد الجبار وكان ثقة فانتفت الجهالة. انظر ص57 ج1 فتح القدير (وموت ما يعيش في الماء لا يفسده).
(2) ولذا صوب النووي قول الجمهور فقال: والصواب الطهارة وهو قول جمهور العلماء عوام (قال) ابن المنذر قال عوام أهل العلم: لا يفسد الماء بموت الذباب والخنفساء ونحوهما فيه ولا أعلم فيه خلافاً الا أحد قولي الشافعي (فإذا) قلنا بالصحيح أنه لا ينجس الماء فلو كثر هذا الحيوان فغير الماء فهل ينجسه؟ فيه وجهان: أصحهما أنه ينجسه سواء أكان الماء قليلاً ام كثيراً (وإن) قلنا لا ينجس الماء المتغير به كان طاهراً غير طهور (وقال) أمام الحرمين يكون كالمتغير بورق الشجر. انظر ص129 ج1 مجموع النووي.(1/472)
والأمر بغمسه، ليخرج الشفاء منه كما خرج الداء منه (وقد علم) أن في الذباب قوة سمية كما يدل عليه الورم والحكة الحاصلة من لسعه، وهي بمنزلة السلاح، فإذا وقع فيما يؤذيه اتقاه بسلاحه كما قال صلى الله عليه وسلم "فإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء" ولذا أمر صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أن تقابل تلك السمية بما أودعه الله تعالى فيه من الشفاء في جناحه الآخر بغمسه كله، فتقابل المادة السمية المادة النافعة فيزول ضررها (وقد) ذكر غير واحد من الأطباء ان لسعة العقرب والزنبور إذا دلك موضعها بالذباب، نفع منه نفعاً بيناً ويسكن أثرها، وما ذلك إلا للمادة التي فيه من الشفاء(1).
(
__________
(1) انظر ص30 و 31 ج1 سبل السلام. (شرح حديث الذباب).(1/473)
والحاصل) أن هذا الحديث الصحيح ناطق بأن الذباب فيه شفاء، فهل بعد ذلك يتخيل من عنده شائبة تمييز إنكار ذلك، ويحكم برد الحديث مستدلاً على زعمه بدعوى بعض الأطباء، أن الذباب لا شفاء فيه. ولو كان عند هذا الزعم مثقال ذرة من إيمان، ما توهم رد قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي لا ينطق عن الهوى ولم يفقه أن قول بعض الاطباء حدس وتخمين، فكيف يرد به ما كان وحياً من رب العالمين. فإنا لله وإنا اليه راجعون(1) .
__________
(1) وقد أثبت الطب الحديث صحة هذا الحديث وصدق ما جاء به (فقد ألقى) الدكتور ابراهيم مصطفى عبده يوم الخميس 29 شوال سنة 1349هـ في جمعية الهداية الاسلامية محاضرة جاء فيها ما ملخصه: يقع الذباب على لمواد القذرة المملوءة بالجراثيم التي تنشأ منها أمراض مختلفة فينتقل بعضها بأطرافه ويأكل بعضاً فيتكون في جسمه مادة سامة تسمى مبعد البكتيريا وهي تقتل كثيراً من جراثيم الامراض ولا يمكن بقاء تلك الجراثيم حية ولا يكون لها تأثير في جسم الانسان حال وجود مبعد البكتيريا. وفي أحد جناحي الذباب خاصية تحويل البكتيريا الى ناحيته. فإذا سقط الذباب في شراب او طعام وألقى الجراثيم العالقة بأطرافه في ذلك الطعام او الشراب فأول مبيد لتلك الجراثيم وأقرب واق منها هو مبعد البكتيريا الذي يحمله لذباب في أحد جناحيه فإذا كان هناك داء فداؤه قريب منه وغمس الذباب كله وطرحه كاف في أبطال عملها. (انظر) المجلد الثالث من مجلة الهداية: عدد ذي الحجة سنة 1349هـ (وفي) مجلة التجارب الطبية الانجليزية عدد [1037] سنة 1927 ما ترجمته. لقد أطعم الذباب من زرع ميكروبات بعض الأمراض وبعد حين من الزمن ماتت تلك الجراثيم واختفى أثرها وتكونت في الذباب مادة مفترسة للجراثيم تسمى بكتريوناج. ولو وضعت خلاصة من الذباب في محلول ملحي لاحتوت.
(أ) على البكتريوناج وهي تبيد أربعة أنواع من الجراثيم المولدة للامراض.
(
ب) وعلى مادة أخرى نافعة للمناعة ضد أربعة أنواع أخرى من الجراثيم.
(وبهذا) ثبت صحة الحديث الذي عده بعض المتسرعين كذباً وخدشاً في الدين. وصار معجزة علمية خالدة فلعلهم بعد هذا لا يتسرعون في تكذيب ما لم يحيطوا به علماً ومن أين للنبي الأمي هذه المسائل الدقيقة الطبية لولا أن الله تعالى يوحي إليه (وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4) علمه شديد القوى (5) النجم).(1/474)
(10) دم السمك – اختلفوا فيه فالمشهور عن المالكية والشافعية نجاسته وهو قول للحنبلية . والمشهور عنهم طهارته وهو قول لبعض المالكية والشافعية ( وقال ) الحنفيون : السمك لا دم له سائل لأنه يبيض إذا يبس. وعلى أنه دم فالظاهر طهارته لأنه لو كان نجساً لتوقفت إباحة السمك على اراقته بالذبح كحيوان البر ولأنه يستحيل ماء (1) .
(11) الآدمي- أجمع العلماء على أن المسلم لا ينجس بالموت، وكذا شعره وجزؤه المنفصل منه (لحديث) حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لقيه وهو جنب فحاد عنه فاغتسل ثم جاء فقال: كنت جنباً فقال: إن المسلم لا ينجس. أخرجه أحمد ومسلم والأربعة إلا الترمذي(2)[422].
وهو عام في الحي والميت (وقال) ابن عباس: المسلم لا ينجس حياً ولا ميتاً. ذكره البخاري معلقاً(3) [53].
(وعن) أنس بن مالك ان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما رمى الجمرة ونحر نسكه وحلق، ناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إياه، ثم ناوله الشق الأيسر فقال احلقه، فحلقه فأعطاه أبا طلحة وقال أقسمه بين الناس. أخرجه أحمد ومسلم(4) {423}.
__________
(1) انظر ص137 ج1 كشاف القناع (ولا يعفي عن يسير نجاسة).
(2) انظر ص253 ج1- الفتح الرباني. و ص 67 ج4 نووي مسلم (المسلم لا ينجس). و ص306 ج2 – المنهل العذب (الجنب يصافح) و ص99 ج1 – ابن ماجه (مصافحة الجنب).
(3) انظر ص82 ج3 فتح الباري (غسل الميت).
(4) انظر ص186 ج12- الفتح الرباني. و ص54 ج9 نووي مسلم (السنة يوم النحر أن يرمي ثم ينحر ثم يحلق).(1/475)
"وقول" جماعة من الشافعية: إن شعر الآدمي نجس "يرده" أحاديث الباب "وقولهم" إن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلا يقاس عليه غيره "غير مسلم" لأن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل. والأصل عدمه. فلا يلتفت إلى ما وقع في كثير من كتب الشافعية مما يخالف القول بالطهارة، فقد استقر القول من أئمتهم على القول بها(1) (وقال) الجمهور: الآدمي المشرك طاهر أيضاً حياً وميتاً، لقوله تعالى "ولقد كرمنا بني آدم" أول آية 70- الإسراء. ومن التكريم طهارته حياً وميتاً. وأما قوله تعالى "إنما المشركون نجس" من آية 28- التوبة. فالمراد به الزجر والتنفير مما هم عليه.
(والأصل) في الأشياء الطهارة، فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لم يعارضه مساو له أو أقوى "فما لم يرد" فيه يدل على نجاسته "فليس" لأحد أن يحكم بها بمجرد رأي فاسد أو غلط في الاستدلال، كما يدعيه البعض من نجاسة ما حرمه الله تعالى، زاعماً أن النجاسة والتحريم متلازمان، وهو زعم باطل، إذ تحريم الشيء لا يستلزم نجاسته، ولو كان كذلك للزم نجاسة ما دل الدليل على تحريمه، كالأنصاب والأزلام، وما يسكر من النبات والثمرات بأصل الخلقة ولم يقل بهذا أحد.
(فالواجب) على المنصف أن لا يحكم بنجاسة شيء ولا بتحريمه إلا بحجة شرعية.
(
__________
(1) انظر ص191 ج1 فتح الباري (الماء يغسل به شعر الإنسان).(1/476)
والحق) أن الأصل في الأعيان الطهارة، وأن التحريم لا يلازم النجاسة، فإن الحشيشة محرمة وهي طاهرة. وكذا المخدرات والسموم القاتلة لا دليل على نجاستها (وأما) النجاسة فيلازمها التحريم، فكل نجس محرم ولا عكس وذلك لأن الحكم في النجاسة هو المنع عن ملابستها على كل حال فالحكم بنجاسة العين حكم بتحريمها. بخلاف الحكم بالتحريم، فإنه يحرم لبس الحرير والذهب وهما طاهران إجماعاً (إذا) عرفت هذا فتحريم الحمر والخمر الذي دلت عليه النصوص، لا يلزم منه نجاستهما، بل لابد من دليل آخر عليه، وإلا بقيا على الأصول المتفق عليها من الطهارة. فمن ادعى خلافه فالدليل عليه(1) .
(12) القيء- هو نجس مطلقاً لأنه طعام استحال في الجوف إلى النتن والفساد سواء قيء الآدمي وغيره، وسواء خرج القيء متغيراً أو غير متغير عند الثلاثة (وقال) مالك وبعض الشافعية: القيء غير المتغير طاهر(2)كالقلس والصفراء ومرارة غير محرم الأكل.
(
__________
(1) انظر ص43 ج1 سبل السلام (حديث النهي عن لحوم الحمر الأهلية).
(2) انظر ص551 ج2 مجموع النووي والقلس (بفتحتين ماء تقذفه المعدة عند امتلائها فهو طاهر عند المالكية ما لم يصل في التغيير إلى أحد أوصاف العذرة. فلا تضر حموضته لخفته وتكرره. انظر ص17 صاوي صغير الدردير (الأعيان الطاهرة والنجسة).(1/477)
13) الرطوبة تخرج من المعدة – هي نجسة عند الشافعي وأحمد لخروجها من محل النجاسة (وعن) أبي حنيفة ومحمد أنها طاهرة(1) (وقالت) المالكية: المعدة طاهرة، فما خرج منها فهو طاهر ما لم يستحل إلى فساد كالقيء المتغير. (وأما) رطوبة الفرج وهي ماء ابيض متردد بين المذي والعرق، فهي نجسة عند الحنفيين ومالك ورجحه بعض الشافعية لأنها رطوبة متولدة في محل النجاسة. (ولحديث) زيد بن خالد أنه قال لعثمان بن عفان: رأيت إذا جامع الرجل امرأته ولم يمن؟ قال عثمان: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره. سمعته من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أخرجه الشيخان(2){424}.
وهذا الحديث ونحوه منسوخ في جواز الصلاة بالوضوء بلا غسل إذا جامع ولم ينزل كما تقدم في التقاء الختانين من موجبات الغسل(3) وأما الأمر بغسل الذكر وما أصابه منها فغير منسوخ (وقال) أحمد: رطوبة الفرج طاهرة وهو الأصح عند الشافعية للحكم بطهارة المني فلو حكمنا بنجاسة رطوبة الفرج لزم الحكم بنجاسة المني وحملوا الأمر بالغسل في الحديث على الاستحباب لكن مطلق الأمر للوجوب عند الجمهور(4).
__________
(1) انظر ص551 ج2 مجموع النووي.
(2) انظر ص273 ج1 فتح الباري (غسل ما يصيب- الرجل- من رطوبة فرج المرأة) و ص 39 ج4 نووي مسلم (الجماع كان لا يوجد إلا أن ينزل وبيان نسخة) "ولا يقال" إذا كان منسوخاً كيف يصبح الاستدلال به "لأنا" نقول المنسوخ عدم وجوب الغسل وناسخه الأمر بالغسل وأما الأمر بالوضوء فهو باق لأنه مندرج تحت الغسل. انظر ص199 ج1 فتح الباري الشرح (من لم ير الوضوء إلا من المخرجين).
(3) انظر ص304 (الثاني من موجبات الغسل).
(4) انظر ص751 ج2 مجموع النووي. و ص 140 ج1 كشاف القناع.(1/478)
14- ما يسيل من فم الإنسان- المختار أنه طاهر لا يجب غسله إلا إذا علم أنه عن المعدة ومتى شك فلا يجب غسله لكن يستحب احتياطاً وعلى القول بنجاسته إذا عمت بلوى إنسان به وكثر فالظاهر أنه يعفي عنه في حقه(1).
15- الجرة – بكسر فشد هي ما يخرجه البعير ونحوه من جوفه إلى فمه للاجترار وهي نجسة عند الجمهور. وقال مالك انها طاهرة(2) .
16- العلقة والمضغة- العلقة بفتحات مني استحال في الرحم فصار دماً عبيطاً(3) فإذا استحال بعده فصار قطعة لحم فهو مضغة. والعلقة نجسة عند الثلاثة وهو قول للشافعية لأنها دم خارج من الرحم (وقال) بعضهم: هي طاهرة لأنها دم غير مسفوح كالكبد والطحال. وأما المضغة فهي طاهرة عند الجمهور كالولد ومشيمته(4)(وقال) بعض الشافعية بنجاستها كالعلقة(5) .
17- اللبن- هو أربعة أقسام (أ) لبن مأكول اللحم وهو طاهر بالكتاب والسنة وإجماع الأمة (ب) لبن الكلب والخنزير والمتولد من أحدهما وهو نجس بالإجماع (جـ) لبن الآدمي وهو طاهر بالإجماع "وما نقل" عن بعض الشافعية من أنه نجس حل شربه للطفل للضرورة "فهو" خطأ ظاهر.
(
__________
(1) انظر ص551 ج2 مجموع النووي.
(2) انظر ص552 منه.
(3) الدم العبيط الطري الخالص لا خلط فيه.
(4) مشيمة) كفعليه هي كيس الولد.
(5) انظر ص559 ج3 مجموع النووي.(1/479)
د) لبن باقي الحيوانات الطاهرة غير ما ذكرنا. وهو نجس عند مالك وأحمد وهو الصحيح عند الشافعية لأنه يتناول كما يتناول اللحم المذكي. ولحم ما لا يؤكل نجس فكذا لبنه (وقال) الحنفيون وبعض الشافعية: هو طاهر لأنه من حيوان طاهر فكان طاهراً كلبن الشاة. فإن قلنا بالطهارة فهل يحل شربه؟ فيه وجهان أصحهما جواز شربه لأنه طاهر. والثاني تحريمه لأنه متقذر ويؤذي فأشبه المخاط (وحكى) الدارمي في كتاب السلم في لبن الأتان ونحوها ثلاثة أوجه: الصحيح أنه نجس لا يجوز بيعه وشربه والثالث طاهر لا يجوز بيعه ولا شربه(1).
(فوائد) (الأولى) النجاسة المستقرة في الباطن لا حكم لها ما لم يتصل شيء من الظاهر مع بقاء حكم الظاهر عليه كما إذا ابتلع بعض خيط فاستقر بعضه في المعدة وبعضه خارج في الفم او دخل أصبعه او عوداً في دبره وبقي بعضه خارجاً فوجهان أصحهما الحكم بنجاسة ما ذكر فلا تصح صلاته ولا طوافه (عند من يشترط في الطواف الطهارة) لأنه مستحب بمتصل بالنجاسة. والثاني لا يثبت حكم النجاسة(2)(الثانية) الولد الخارج من الرحم طاهر لا يحتاج الى غسله بالاجماع وكذلك البيض لا يجب غسله ظاهره. والنجاسة الباطنة لا حكم لها فإن اللبن يخرج من بين فرث ودم وهو طاهر حلال(3)(الثالثة) الوسخ المنفصل من بدن الآدمي طاهر، لأنه عرق متجمد. والوسخ المنفصل من حيوان آخر حكمه حكم ميتته(4)(الرابعة) إذا أكلت البهيمة حباً وخرج منها صحيحاً فإن كان صلباً بحيث لو زرع نبت فهو طاهر لكن يجب غسل ظاهره لملاقاة النجاسة كما لو ابتلع نواة وخرجت فباطنها طاهر ويطهر ظاهرها بالغسل. وإن كان الحب قد زالت صلابته بحيث لو زرع ينبت فهو نجس(5).
(
__________
(1) انظر ص569 ج2 مجموع النووي.
(2) انظر ص572 ج2 مجموع النووي.
(3) انظر ص572 ج2 مجموع النووي.
(4) انظر ص573 ج2 مجموع النووي.
(5) انظر ص573 ج2 مجموع النووي.(1/480)
الخامسة) الزرع النابت على السرجين ونحوه ليس نجساً لكن يتنجس منه ما لاقى النجاسة. ويطهر بالغسل وحبه الخارج منه طاهر قطعاً وكذا القثاء والخيار ونحوهما يكون طاهراً وكذا الشجرة إذا سقيت ماء نجساً فأعصانها وأوراقها وثمرها طاهرة(1) (السادسة) الزباد- كسحاب: طيب معروف فهو طاهر يصح بيعه كالمسك وفأرته- وهي الجلدة المتكون فيها- لاستحالته الى صلاح (وغلط) من قال انه لبن سنور بحري. وإنما هو رشح يجتمع تحت ذنب السنور ثم يسلت بسكين او خرقه(2) (وقيل) الزباد عرق سنور بري فهو طاهر عند الحنفيين ومالك والشافعية- لكن يغلب فيه اختلاطه بما يتساقط من شعره فينبغي أن يحترز عما فيه شيء من شعره لأنه نجس عند الشافعية(3) – وعلى هذا فهو نجس عند الحنبلية لأنه من حيوان بري غير مأكول(4) .
2- النجس المختص بالنساء
هو دم الحيض والنفاس والاستحاضة . وهو نجس بالاجماع، لا فرق بين قليلة وكثيرة ( لحديث ) أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت : احدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة فكيف تصنع به. قال: تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه . أخرجه مالك والخمسة(5) {425}.
(
__________
(1) انظر ص573 ج2 مجموع النووي.
(2) انظر مادة زبد بالقاموس.
(3) انظر ص574 ج2 مجموع النووي.
(4) انظر ص137 ج1 كشاف القناع (ولا يعفي عن يسير نجاسة ولو لم يدركها الطرف).
(5) انظر ص294 ج2 تيسير الوصول (دم الحيض). و (تحته) بفتح الفوقية وضم الحاء المهملة وتشديد المثناة الفوقية، أي تحكه. والمقصود من ذلك إزالة عينه. و (تقرصه) بفتح أوله وسكون القاف وضم الراء والصاد المهملة (وحكى) القاضي عياض، ضم المثناة الفوقية وفتح القاف وتشديد الراء المكسورة، أي تدلك موضع الدم بأطراف أصابعها، ليتحلل ويخرج ما يشربه الثوب منه. و (تنضحه) أي تغسله (وقيل) المراد بالنضح الرش. وفي رواية تغسله مكان تقرصه.(1/481)
وعن أم قيس) بنت محصن أنها سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن دم الحيض يكون في الثوب. فقال: حكيه بضلع واغسليه بماء وسدر. أخرجه أبو داود(1){426}. قال ابن القطان: اسناده في غاية الصحة ولا أعلم له علة. وهاك بيان أحكام هذه الدماء.
(أ) الحيض – هو لغة السيلان. يقال حاضت المرأة تحيض إذا سأل دمها، وعرفاً على أنه حدث. صفة شرعية مانعة مما لا يحل بسبب الدم من الرحم لغير ولادة. وعلى أنه خبث: الدم الخارج من قبل امرأة لاداء بها ولا حبل. ثم الكلام ينحصر في سبعة مباحث.
1- الوانه – هي ما تراه المرأة من ألوان الدم في مدة الحيض. وهي ستة: السواد والحمرة والصفرة والكدرة والخضرة والتربية . فالسواد والحمرة حيض اتفاقاً ( لحديث ) عروة عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض فقال لها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف فإذا كان ذلك فأمسكى عن الصلاة فإذا كان الآخر فتوضئ وصلى . أخرجه أبو داود . وهذا لفظه والنسائي وابن حبان والحاكم وصححاه(2){427}.
"أما الصفرة" وهي ماء تراه المرأة كالصديد يعلوه اصفرار "والكدرة" بضم الكاف وسكون الدال. المراد بها دم يكون بلون الماء الوسخ (والتربية) وهي دم لونه كلون التراب "فقد اختلفوا" فيها (فقال) الحنفيون والشافعي: هي حيض في أيام الحيض. وهي عشرة عند الحنفيين وخمسة عشر عند الشافعية.
(
__________
(1) انظر ص234 ج3- المنهل العذب (المرأة تغسل ثوبها الذي تلبسه في حيضها). (الضلع) بكسر الضاد المعجمة وفتح اللام في لغة الحجاز وسكونها في لغة تميم وهي عظام الجنين. وروي بصلع بفتح الصاد وسكون اللام وهو الحجر بفتحات.
(2) انظر ص126 ج3- المنهل العذب (من قال توضأ لكل صلاة). و ص 64 ج1 مجتبي (ذكر الاستحاضة واقبال الدم وادباره).(1/482)
والمشهور) عند المالكية أنها حيض في أيام عادتها وثلاثة أيام بعدها استظهاراً (وقالت) الحنبلية: هي في أيام العادة حيض. ولا اعتداد بها في غير أيام العادة (ودليل) ذلك أثر علقمة بن أبي علقمة عن أمه مولاة عائشة قالت: كانت النساء يبعثن الى عائشة بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة من دم الحيض يسألنها عن الصلاة فتقول لهن: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء تريد بذلك الطهر من الحيض. أخرجه مالك ومحمد بن الحسن والبيهقي. وعلقه البخاري(1){54}.
"ولا تنافي" بينه وبين قول أم عطية: كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً. أخرجه أبو داود والبيهقي والحاكم وصححه(2){55}. "لحمل هذا" على ما إذا رأت الصفرة والكدرة في غير أيام الحيض "وحمل" أثر عائشة على ما إذا رأتهما في أيام الحيض (قال) محمد بن الحسن: وبهذا نأخذ لا تطهر المرأة ما دامت ترى حمرة او صفرة او كدرة حتى ترى البياض خالصاً.
(
__________
(1) انظر ص104 ج1 زرقاني الموطا (طهر الحائض). و ص 336 ج1 سنن البيهقي (الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض). (الدرجة) بكسر الدال وفتح الراء: وعاء صغير تضع المرأة فيه طيبها ومتاعها (وقيل) الدرجة بضم فسكون ففتح: خرقة ونحوها تدخلها المرأة في فرجها لتعرف هل زال الدم؟ (والكرسف) القطن و (القصة) بفتح القاف وتشديد الصاد، الجص. والمعنى هنا على التشبيه. والمراد أن تخرج المرأة القطنة او الخرقة التي تختشي بها كأنها قصة لا يخالطها صفرة.
(2) انظر ص128 ج3- المنهل العذب (المرأة ترى الصفرة والكدرة بعد الطهر). و ص 337 ج1 سنن البيهقي.(1/483)
وقال) أبو يوسف: الكدرة لا تعتبر حيضاً الا بعد الدم (وقال) ابن حزم والثوري والأوزاعي: الكدرة والصفرة ليستا بحيض مطلقاً. وهو مروي عن علي، لأنهما ليستا بدم بل هما من الرطوبات التي تخرج من الرحم، ولحديث "إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف(1) " (ورد) بأنه إنما خص بالذكر لأنه الأصل والغالب في دم الحيض، فلا ينافي أن غيره من الصفرة والكدرة حيض في أيامه (وأما الخضرة) فالصحيح أن المرأة إن كانت من ذوات الحيض تكون الخضرة حيضاً. وتحمل على فساد الغذاء. وإن كانت المرأة كبيرة لا ترى غير الخضرة لا تكون حيضاً. هذا واتفقوا على أن أقل سن تحيض فيه المرأة تسع سنين قمرية(2).
2- مدة الحيض – أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة عند الحنفيين والثوري (لحديث) واثلة بن الأسقع ان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام. أخرجه الدارقطني وضعفه بجهالة محمد بن منهال، وضعف محمد بن أحمد بن أنس. وأخرجه هو والطبراني في الكبير والأوسط عن أبي أمامة (قال) الهيثمي: وفيه عبد الملك السكوفي عن العلاء بن كثر لا ندري من هو؟(3) {428}.
(وعن) أنس أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: الحيض ثلاثة أيام وأربعة وخمسة وستة وسبعة وثمانية وتسعة وعشرة. فإذا جاوزت العشرة فهي مستحاضة. أخرجه ابن عدي في الكامل وأعله بالحسن بن دينار مجمع على ضعفه(4){429}.
(
__________
(1) تقدم رقم 427 ص378 (ألوان الحيض).
(2) السنة القمرية 354 أربعة وخمسون وثلثمائة يوم تقريباً.
(3) انظر ص81 سنن الدارقطني. وحديث أبي أمامة بص 80 منه. و ص 280 ج1 مجمع الزوائد (الحيض والمستحاضة).
(4) انظر ص192 ج1 نصب الراية (الحيض).(1/484)
فهذه) عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم متعددة الطرق وذلك يرفع الضعيف الى الحسن. والمقدرات الشرعية مما لا تدرك بالرأي فالموقوف فيها حكمه الرفع(1).
(وعن) الربيع بن صبيح عمن سمع أنساً يقول: لا يكون الحيض أكثر من عشرة. أخرجه الدارقطني(2){56}. والربيع وثقه ابن معين وقال أحمد لا بأس به رجل صالح.
وقال ابن عدي له أحاديث صالحة مستقيمة. ولم أر له حديثاً منكراً. وشيخه وإن كان مجهولاً. فالأظهر أنه معاوية بن قرة لأنه هو الذي روي ذلك عن أنس(3) .
(وعن عثمان) بن أبي العاص رضي الله عنه أنه قال: الحائض إذا جاوزت عشرة أيام فهي بمنزلة المستحاضة تغتسل وتصلي. أخرجه الدارقطني. وقال البيهقي هذا الأثر لا بأس بإسناده(4){57}.
(ولا يخفى) أنه لا يشترط امتداد الدم ثلاثة أيام او عشرة بدون انقطاع. بل المعتبر وجوده في أول المدة وآخرها على ظاهر الرواية. فلو رأت الدم عند طلوع فجر يوم السبت مثلاً وانقطع عند غروب شمس يوم الاثنين لا يكون حيضاً.
(
__________
(1) انظر ص112 ج1 فتح القدير لابن الهمام.
(2) انظر ص77 سنن الدارقطني.
(3) انظر ص322 ج1- الجوهر النقي على البيهقي.
(4) انظر ص77 سنن الدارقطني. و ص 322 ج1- الجوهر النقي.(1/485)
وقال) المالكيون: أقل الحيض في العبادة قطرة وفي العدة والاستبراء يوم أو أكثره. وأكثره لمبتدأة نصف شهر ولمعتادة عادتها ثلاثة أيام بعدها ما لم تجاوز خمسة عشر يوماً. فلو كانت عادتها اثنى عشر يوماً تستظهر بثلاثة. وإن كانت عادتها ثلاثة عشر يوماً تستظهر بيومين. وهكذا (وقالت) الشافعية والحنبلية أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوماً على الأصح عندهم (قالوا) لأنه لم يرد فيه تحديد من الشارع ولا حد له في اللغة، فوجب الرجوع فيه الى العرف والعادة (ورد) بأن العادة مختلفة فلا تعتبر. وأنه قد ورد ما يقوى المذهب الأول فللتحديد بثلاثة أيام في الأقل وعشرة أيام في الأكثر أصل في الشرع. بخلاف قولهم "خمسة عشر يوماً" لم نعلم فيه حديثاً حسناً ولا ضعيفاً وإنما تمسكوا فيه بما رووا أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال في صفة النساء: تمكث إحداكن شطر عمرها لا تصلي. قال البيهقي: لم أجده. وقال ابن الجوزي في التحقيق: هذا حديث لا يعرف. وأقره صاحب التنقيح(1).
هذا ما قاله الفقهاء (وقال) بعضهم: الصحيح أنه لم يأت في تقدير أقل الحيض وأكثره ما تقوم به الحجة، لأن ما ورد في تقديرها إما موقوف ولا تقوم به الحجة، او مرفوع ولا يصح. فلا تعويل على ذلك ولا رجوع إليه. بل المعتبر – لذات العادة المتقررة – العادة. وغير المعتادة تعمل بالقرائن المستفادة من الدم (فقد) صح في ذات العادة أحاديث كثيرة فيها اعتبار الشارع للعادة. (كحديث) عائشة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي" أخرجه البخاري وأبو داود(2){430}.
(
__________
(1) انظر ص322 ج1- الجوهر النقي على البيهقي.
(2) انظر ص288 ج1 فتح الباري (إقبال المحيض وأدباره). وص 83 ج3 المنهل العذب (المرأة تستحاض).(1/486)
وعن) أم سلمة أنها استفتت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في امرأة تهراق الدم فقال: لتنتظر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر فإذا خلفت ذلك فلتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصل. أخرجه مالك وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه بسند على شرط الشيخين وحسنه المنذري(1){431}.
(وقد) صح رجوع غير المعتادة الى القرائن ففي (حديث) فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا كان دم المحيض فإنه أسود يعرف فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة. وإذا كان الآخر فتوضئ وصلى فإنما هو عرق. أخرجه أبو داود والنسائي. وصححه ابن حبان والحاكم(2){432}.
3- سبب الحيض – سببه ابتلاء الله تعالى لبنات آدم ففي (حديث) عائشة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال في الحيض: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم. أخرجه الشيخان(3){433}.
4- ركنه – ركن الحيض بروز الدم من الرحم في وقته.
5- شرطه – هو (أ) تقدم نصاب الطهر حقيقة او حكماً كالمستحاضة. (ب) وعدم نقصان الدم عن أقله.
__________
(1) انظر ص109 ج1 زرقاني الموطا (المستحاضة) و ص 171 ج2- الفتح الرباني. و ص 61 ج3- المنهل العذب (المرأة تستحاض..) و ص 65 ج1 مجتبي (المرأة يكون لها أيام معلومة تحيضها كل شهر). و (خلفت) بشد اللام وفتح الفاء أي إذا تركت قدر الليالي والأيام التي كانت تحيضها. و (لتستفر) بسكون اللام والسين والثاء وفتح التاءين وكسر الفاء أي لتشد على فرجها خرقة عريضة بعد حشوها قطناً وتوثق طرفيها في شيء تشده على وسطها ليمتنع سيلان الدم.
(2) تقدم رقم 427 ص278 (ألوان الحيض).
(3) انظر ص276 ج1 فتح الباري (الأمر بالنفساء إذا نفسن). ص 146 ج8 نووي مسلم (وجوه الاحرام).(1/487)
6- مدة الطهر بين الحيضتين: أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوماً عند الحنفيين ومالك والشافعي وروي عن أحمد (لحديث) أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة. وأقل ما بين الحيضتين خمسة عشر يوماً. أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية(1){434}.
وهو وإن كان ضعيفاً، لكنه ارتفع إلى درجة الحسن لتعدد طرقه. والصحيح عند الحنبلية أن أقل الطهر ثلاثة عشرة يوماً (ولا حد) لأكثره اتفاقاً إلا عند نصب العادة في زمن الاستمرار كما لو بلغت مستحاضة فيكون حيضها عشراً وطهرها عشرين عند أبي حنيفة ومحمد. وعند أبي يوسف يوقت لها في الصلاة والصوم والرجعة بأقل الحيض. وفي الوطء والتزوج بأكثره. وهذا في المبتدأة (وأما) المعتدة فترد إلى عادتها في الطهرة ما لم تكن ستة أشهر فأكثر، وإلا جعل طهرها ستة أشهر إلا ساعة (وقالت) الشافعية: المبتدأة غير المميزة ومن في حكمها يعتبر حيضها يوماً وليلة وطهرها تسعة وعشرين يوماً (وقال أحمد) في البكر تستحاض: تنظر حيض قريباتها فيعتبر حيضاً لها. ثم تغتسل وتصلي باقي الشهر بالوضوء لوقت كل صلاة.
__________
(1) انظر ص192 ج1 نصب الراية (الحيض).(1/488)
7- وطء المرأة بعد انقطاع الدم: (قال) الجمهور: يحرم وطء المرأة إذا انقطع دم حيضها ولو لأكثره قبل أن تغتسل. لقوله تعالى: "ولا تقربوهن حتى يطهرن" (من آية 222- البقرة) (وقال) الحنفيون: إذا مضى على الحائض زمن أكثر الحيض "وهو عشرة أيام" حل وطؤها قبل الانقطاع والغسل. لكن يستحب الغسل قبل الوطء. (وإن) انقطع لتمام عادتها قبل الأكثر، لا يحل وطؤها حتى تغتسل أو تتيمم عند فقد الماء وتصلي به على الصحيح، أو تصير الصلاة ديناً في ذمتها (بأن يمضي عليها أدنى وقت صلاة من آخر الوقت. وهو قدر ما يسع الغسل واللبس والتحريمة) سواء أكان الانقطاع قبل الوقت أم في أوله أم قبيل آخره بهذا القدر. فإذا انقطع قبل الظهر مثلاً او في أول وقته أو في آخره وقد بقي من وقته ذلك القدر، لا يحل الوطء بلا غسل حتى يدخل وقت العصر. لقوله تعالى: "ولا تقربوهن حتى يطهرن، فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله" (وجه) الدلالة أن المراد بالطهر في قوله: "حتى يطهرن" انقطاع الدم، وفي قوله: "فإذا تطهرن" الاغتسال. فعملاً بهما حملوا الأول على ما إذا انقطع دمها لأكثر الحيض. فيجوز وطؤها وإن لم تغتسل. وحملوا الثاني على ما إذا انقطع لأقل من الأكثر ولتمام العادة فلا يجوز وطؤها حتى تغتسل أو تصير الصلاة ديناً في ذمتها (وإن) انقطع الدم لأقل من عادتها لا يحل وطؤها وإن اغتسلت حتى تمضي العادة، لأن عود الدم غالب (وقال) الأوزاعي وابن حزم: إن غسلت فرجها بالماء جاز وطؤها (والأحوط) عدم قربان الحائض إلا بعد أن تغتسل وإن انقطع دمها لأكثر الحيض، تغليباً للحاظر على المبيح.
((1/489)
ب) النفاس – هو بكسر أوله لغة: الولادة. واصطلاحاً على أنه حدث صفة مانعة شرعاً مما لا يحل بسبب خروج الدم من رحم عقب الولد. وعلى أنه خبث، هو الدم الخارج من قبل المرأة حال الولادة أو بعدها(1)ثم الكلام ينحصر في أربعة مباحث:
__________
(1) الدم) فلو لم ترد دماً لا تكون نفساء ولا يلزمها الا الوضوء ولا يبطل صومها عند أبي يوسف ومحمد واحمد لعدم النفاس (وقال) أبو حنيفة ومالك والشافعي: هي نفساء = يلزمها الغسل احتياطاً لأن الولادة لا تخلو من دم. و (من قبل المرأة) فلو ولدت من السرة او غيرها بأن كان ببطنها جرح فانشقت وخرج الولد تكون ذات جرح سائل لا نفساء إلا إذا سال الدم من الاسفل فهي نفساء. و (حال الولادة) أو حال الطلق عند الثلاثة (وقال) الحنفيون: لا يعد نفاساً الا ما كان بعد خروج أكثر الولد ولو منقطعاً او سقطاً استبان بعد خلقه. فإن نزل برأسه فالعبرة بصدره. وإن نزول برجليه فالعبرة بسرته. وبخروج اقل الولد لا تكون نفساء عند الحنفيون فلا تسقط عنها الصلاة فتتوضأ إن قدرت والا تتيمم وتوميء في الصلاة إن لم تقدر على الركوع والسجود ولا تؤخرها، فإن لم تصل فهي عاصية، فما عذر الصحيح القادر؟(1/490)
1- مدة النفاس – لا حد لأقله عند الأئمة الثلاثة. وكذا عند الحنفيين بالنسبة للعبادة أما بالنسبة للعدة (فقال) أبو حنيفة: أقله خمسة وعشرون يوماً. وقال أبو يوسف: أقله أحد عشر يوماً. وقال محمد: أقله ساعة(1).
(وأكثر مدته) أربعون يوماً عند الحفيين وابن المبارك وسفيان الثوري وأحمد وحكاه الترمذي عن الشافعي (لحديث) أبي سهل كثير ابن زياد الأسلمي عن مسة عن أم سلمة قالت: كانت النفساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تقعد بعد نفاسها أربعين يوماً، أو أربعين ليلة. أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والبيهقي والدار قطني والحاكم وقال: صحيح الإسناد والترمذي وقال: لا نعرفه إلا من حديث أبي سهل عن مسة عن ام سلمة. قال محمد بن إسماعيل: وأبو سهل ثقة. وقال عبد الحق: أحاديث هذا الباب معلولة، وأحسنها حديث مسة الأزدية وأثنى البخاري على حديثها(2) {435}.
(
__________
(1) فإذا قال رجل لامرأته: إذا ولدت فأنت طالق، فولدت ثم قالت مضت عدتي، فأقل مدة تصدق فيها عند الامام خمسة وثمانون يوماً (خمسة وعشرون نفاساً، وخمسة عشر طهراً، ثم ثلاث حيضة، كل حيضة خمسة أيام، وطهران بين الحيض ثلاثون يوماً) وقال أبو يوسف: أقل مدة تصدق فيها خمسة وستون يوماً (أحد عشر نفاساً، وخمسة عشر طهراً بعده وثلاث حيض كل حيضة ثلاثة أيام، بينها طهران ثلاثون يوماً) وقال محمد: تصدق في أربعة وخمسين يوماً وساعة (ساعة للنفاس وخمسة عشر يوماً طهراً بعده، ثم ثلاث حيض بتسعة أيام بينها طهران ثلاثون يوماً).
(2) انظر ص180 ج2- الفتح الرباني. و ص 133 ج3- المنهل العذب (وقت النفساء). و ص 115 ج1 ابن ماجه (النفساء كم تجلس). و ص 129 ج1 تحفة الاحوذي. و (مسة) بضم الميم وتشديد السين المهملة.(1/491)
وقال) الترمذي: قد أجمع أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوماً إلا أن ترى الطهر قبل ذلك. فإنها تغتسل وتصلي. فإذا رأت الدم بعد الأربعين، فإن أكثر أهل العلم قالوا: لا تدع الصلاة بعد الأربعين (وقالت) المالكية والشافعية: أكثره ستون يوماً وروي عن الشعبي وعطاء. (وقال) الحسن البصري أكثره خمسون يوماً (والراجح) الأول. والحديث الوارد فيه له شواهد تقويه (منها) حديث عثمان ابن أبى العاص قال : وقت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم للنفساء في نفاسهن أربعين يوماً . أخرجه الحاكم والدار قطني والطبراني في الكبير وأخرجه في الأوسط من حديث جابر(1) {436}. وفي سند حديث (عثمان) إسماعيل ابن موسى المكي وهو ضعيف. وفي سند حديث (جابر) أشعث بن سواد وثقة ابن معين (وحديث) أبي الدرداء وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تنتظر النفساء أربعين يوماً إلا أن ترى الطهر قبل ذلك فإن بلغت أربعين يوماً ولم تر الطهر فلتغتسل وهي بمنزلة المستحاضة. أخرجه ابن عدي في الكامل(2) {437}.
__________
(1) انظر ص176 ج1 مستدرك. و ص281 ج1 مجمع الزوائد (النفساء).
(2) انظر ص206 ج1 نصب الراية (النفاس).(1/492)
2- نفاس أم التؤمين: وهما ولدان من بطن واحد بين ولادتهما أقل من ستة أشهر- "يعتبر" نفاسها من الأول عند أبي حنيفة وأبي يوسف وأحمد علي الصحيح. والمرئي عقب الثاني إن كان في مدة النفاس فنفاس وإلا فاستحاضة. لما روي أن أبا يوسف قال للامام أبي حنيفة: أرأيت لو كان بين الولدين أربعون يوماً؟ قال هذا لا يكون. قال فإن كان؟ قال: لا نفاس لها من الثاني. ولكنها تغتسل عقب وضع الثاني وتصلي (وقالت) المالكية: إذا كان بين التوءمين أقل من شهرين فنفاسها من الأول على المعتمد وقيل من الثاني. وقيل تستأنف للثاني نفاساً آخر. وهذا إن لم يتخلل بين الدمين أقل الطهر وإلا كان الثاني نفاساً جديداً اتفاقاً. وكذا إذا كان بين التوءمين شهران فأكثر (وقال محمد) وزفر والشافعي: يعتبر نفاسها من الأخير والدم النازل قبله استحاضة. وانقضاء العدة بوضع الأخير اتفاقاً.
3- الطهر بين الدمين: (قال) الحنفيون: الطهر المتخلل بين الدمين في مدة الحيض حيض. فلو رأت مبتدأة يوماً دماً وثمانية أيام طهراً ويوماً دماً، فالكل حيض. ولو رأت يوماً دماً وتسعة طهراً ويوماً دماً، لا يكون شيء منها حيضاً. وكذا الطهر المتخلل في مدة النفاس يعتبر نفاساً عند أبي حنيفة (وقال) صاحباه: إذا بلغ الطهر في مدة النفاس خمسة عشر يوماً، فهو فاصل بين النفساء والحيض. فيكون المرئي بعده حيضاً إن صلح، وإلا فهو استحاضة (والمشهور) من مذهب الشافعية: أن الطهر المتخلل في مدة الحيض حيض وفي مدة النفاس نفاس (وقالت) المالكية والحنبلية: إنه طهر. فيجب عليها الغسل في اليوم الذي ينقطع فيه الدم، وتصوم وتصلي وتوطأ (ويعتبر) الدم المنقطع حيضاً عند المالكية ما لم يتجاوز مجموعه خمسة عشر يوماً. وكذا عند الحنبلية ما لم ينقص مجموع الدم عن يوم وليلة، ولا يتجاوز مجموع الطهر والحيض خمسة عشر يوماً.
(4) – ما يحرم بالحيض والنفاس: يحرم بهما ثمانية أمور:(1/493)
1- الصلاة مطلقاً ولو صلاة جنازة أو سجدة تلاوة أو شكر، فلا تصح. ويحرم على الحائض والنفساء أداؤها ولا تجب مع الحيض والنفاس وعليه الإجماع.
2- (الصوم) ولو نفلاً، فلا يصح ويحرم مع الحيض والنفاس إجماعاً (لقول) أبي سعيد الخدري: خرج رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلي فمر على النساء فقال يا معشر النساء تصدقن، فإني أريتكن أهل النار. فقلن ولم يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن وتكفر العشير. ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن. وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن بلى. قال: فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟؟ قلن بلى، قال فذلك من نقصان دينها. أخرجه أحمد والبخاري(1)وأخرجه مسلم عن ابن عمر(2){437}.
(
__________
(1) انظر ص279 ج1 فتح الباري (ترك الحائض الصوم) و ص 65 ج2 نووي مسلم (نقصان الإيمان بنقص الطاعات).
(2) انظر ص279 ج1 فتح الباري (ترك الحائض الصوم) و ص 65 ج2 نووي مسلم (نقصان الإيمان بنقص الطاعات).(1/494)
وهو) يدل أيضاً على أن العقل والإيمان يقبلان الزيادة والنقصان. وليس المراد من ذكر نقصان عقول النساء لومهن على ذلك، لأنه لا مدخل لاختيارهن فيه. بل المراد التحذير من الاقتنان بهن (وليس) نقص الدين منحصراً فيما يحصل به الإثم بل في أعم من ذلك. لأنه أمر نسبي فالكامل مثلاً ناقص عن الأكمل ومن ذلك الحائض لا تأثم بترك صلاتها زمن الحيض لكنها ناقصة عن المصلي. قال الحافظ ابن حجر (وهل) تثاب على هذا الترك لكونها مكلفة به كما يثاب المريض على النوافل التي كان يعملها في صحته وشغل بالمرض عنها؟ قال النووي: الظاهر أنها لا تثاب. والفرق بينها وبين المريض أنه كان يفعلها بنية الدوام عليها مع أهليته. والحائض ليست كذلك بل نيتها ترك العبادة زمن الحيض. وعندي في كون هذا الفرق مستلزماً لكونها لا تثاب وقفة(1).
(واعلم) أن الحيض والنفاس لا يمنعان وجوب الصوم. ولذا يلزم الحائض قضاؤه على التراخي دون الصلاة (لقول) معاذة البدوية: سألت عائشة فقلت ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت كان يصيبنا ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فتؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة. أخرجه السبعة والبيهقي(2){439}.
(
__________
(1) انظر ص280 ج1 فتح الباري الشرح (ترك الحائض الصوم).
(2) انظر المراجع بهامش 2ص 276 ج8- الدين الخالص طب2 (القدوة على الصوم- السادس من شروط وجوب الصوم).(1/495)
وقد) أجمع المسلمون على أنه يجب على الحائض قضاء الصوم ولا يجب عليها قضاء الصلاة. "والحكمة" في وجوب قضاء الصوم دون الصلاة أن الصلاة تتكرر دون الصوم فإيجاب قضائها مفض إلى حرج ومشقة- (وما جعل عليكم في الدين من حرج) من آية 78- الحج وأولها: وجاهدوا في الله حق جهاده- بخلاف الصوم فإنه يجب في السنة مرة واحدة، وربما لا يأتيها فيه إلا أقل الحيض والنفاس. (وقضاء) الحائض والنفساء الصلاة ينبغي ان يكون خلاف الأولى عند الحنفيين. والصحيح أنه مكروه عند الشافعية (وقد اختلفوا) فيمن طهرت من الحيض والنفاس بعد العصر وبعد العشاء (فقالت) الشافعية والحنبلية والفقهاء السبعة(1) وغيرهم: يلزمها صلاة الظهر والعصر في الأول والمغرب والعشاء في الثاني (وقال) الحسن وقتادة والثوري والحنفيون: لا تجب عليها الظهر ولا المغرب (وقالت) المالكية: لو انقطع الحيض ونحوه من الأعذار بعد العصر أو العشاء وقد بقي من الوقت بعد الطهارة ما يسع الصلاة الأولى وركعة من الثانية وجبت الصلاتان وإلا – بأن بقي من الوقت ما يسع الثانية فقط أو ركعة منها – لا تقضي الأولى.
__________
(1) الفقهاء السبعة) سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد والخارجة ابن زيد وأبو بكر بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة.(1/496)
3- (الطواف بالكعبة) ولو نفلاً (لما تقدم عن) ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: الطواف صلاة إلا أن الله تعالى أحل فيه الكلام. فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير. أخرجه الحاكم وقال صحيح الإسناد(1) {440} (وقالت) عائشة رضي الله عنها: دخل على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأنا أبكي فقال: أنفست يعني الحيضة. قلت: نعم. قال: إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم فاقضي ما يقضي الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي. أخرجه مسلم(2){441}.
(فيحرم) الطواف ولا يصح مع الحدث الأكبر عند مالك والشافعي والجمهور وهو المشهور عن أحمد. ويصح عند الحنفيين مع الحرمة وهو رواية عن أحمد.
4- (دخول المسجد) ولو للعبور من غير مكث ولا ضرورة عند الحنفيين والمالكية (لما) تقدم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب. أخرجه أبو داود وصححه ابن خزيمة(3){442}.
(وجوز) الشافعي وأحمد للحائض والنفساء عبور المسجد إن لم يتلوث بالدم، لقوله تعالى (ولا جنباً إلا عابري سبيل) من آية 43- النساء (وأجاب) الأولون بأن معناه ولا عابري سبيل. ومحل الخلاف إن لم يكن هناك ضرورة. فإن كانت- كأن يكون باب البيت إلى المسجد ولم يمكن تحويله ولا السكنى في غيره- فلا يحرم العبور اتفاقاً.
5- (قراءة شيء من القرآن) بقصده ولو بعض آية عند الحنفيين (لما تقدم) عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئاً من القرآن. أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي(4){443}.
(
__________
(1) تقدم رقم 266 ص287 (الثاني من أقسام الوضوء الواجب- يجب للطواف).
(2) انظر ص146 ج8 نووي مسلم (وجوه الإحرام).
(3) تقدم رقم 357 ص330 (ويحرم على الجنب دخول المسجد).
(4) تقدم رقم 355 ص329 (ويحرم عليه قراءة شيء من القرآن).(1/497)
وهو) بعمومه يشمل الآية وما دونها (وقالت) المالكية: يجوز للحائض والنفساء قراءة القرآن وإن لم تخش نسيانه (وأجابوا) عن حديث ابن عمر بأنه ضعيف، لأنه من رواية ابن عياش عن موسى بن عقبة وهو حجازي. وروايته عن الحجازيين ضعيفة لا يحتج بها (ومحل) الخلاف إذا قرأت بقصد القرآن. أما لو قرأت بقصد الذكر أو الثناء أو الدعاء أو التحصن أو افتتاح أمر فلا بأس بذلك اتفاقاً على الأصح إن اشتمل المقروء على ما قصدت.
6- (مس شيء من القرآن) ولو في لوح أو درهم أو حائط أو مكتوباً بغير العربية.
7- (وحمله) لغير ضرورة عند الأئمة الأربعة (لحديث) حكيم ابن حزام أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال له: لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر. أخرجه الطبراني والدار قطني والحاكم وقال: صحيح الإسناد(1){444}.
نعم يجوز مسه وحمله لضرورة كخوف عليه من حرق او غرق او نجاسة. وتقدم تمام الكلام في بحث الطهارة لمس المصحف(2).
8- (مباشرة الحائض والنفساء) بالوطء وغيره فيما بين السرة والركبة. أما حرمة الوطء فبالكتاب والسنة والإجماع: قال الله تعالى: (ولا تقربوهن حتى يطهرن) من آية 222- البقرة. وأولها: ويسألونك عن المحيض (وعن أنس) أن اليهود كانوا إذا حاضت منهم المرأة أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيت، فسئل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن ذلك فأنزل الله (ويسألونك عن المحيض، قل هو أذىً فاعتزلوا النساء في المحيض) الاية فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: اصنعوا كل شيء غير النكاح. أخرجه الخمسة الا البخاري(3){445}.
__________
(1) انظر رقم 9866 ص421 ج6 فيض القدير شرح الجامع الصغير.
(2) انظر ص285 (ب) (الطهارة لمس المصحف).
(3) انظر ص339 ج2 تيسير الوصول (الحائض وأحكامها).(1/498)
"ووطء" الحائض والنفساء في الفرج عامداً مختاراً عالماً بالحرمة "كبيرة" يجب التوبة منها اتفاقاً (ويستحب) له عند الحنفيين ومالك والزهري والجمهور أن يتصدق بدينار إذ كان الدم أسود وبنصفه إن كان اصفر. وهو أصح الروايتين عن الشافعي وأحمد (لحديث) ابن عباس ان النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قال في الذي يأتي امرأته وهي حائض: يتصدق بدينار او نصف دينار. أخرجه أحمد والأربعة والحاكم وصححه. وقال أبو داود: هكذا الرواية الصحيحة(1){446}.
وفي رواية للترمذي: إذا كان دماً أحمر فدينار. وإن كان دماً أصفر فنصف دينار (وقال) ابن عباس والاوزاعي وإسحاق وأحمد في رواية والشافعي في القديم: يجب التصدق بما ذكر (وإن) وطئها ناسياً أو جاهلاً وجود الحيض أو مكرها، فلا إثم عليه ولا كفارة (ولو) أخبرته بالحيض وهي فاسقة ولم يغلب على ظنه صدقها، لا يقبل قولها. وإن غلب على ظنه صدقها، حرم وطؤها (وأما) المباشرة فيما بين السرة والركبة بغير الوطء، ففيها ثلاثة أقوال:
(الأول) أنها حرام، وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومالك وسعيد بن المسيب وطاوس وعطاء. وهو الصحيح عند الشافعية (لقول) معاذ: قلت يا رسول الله ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: ما فوق الازار والتعفف عن ذلك أفضل. أخرجه أبو الحسن رزين ابن معاوية(2){447}.
(وعن) زيد بن أسلم أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ فقال لتشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها. أخرجه مالك والدارمي(3){448}.
(
__________
(1) انظر ص156 ج2- الفتح الرباني، و ص 177 ج1 تحفة الاحوذي. و ص 114 ج1 سنن ابن ماجه (كفارة من أتى حائضاً) و ص45 ج3- المنهل العذب (اتيان الحائض).
(2) انظر ص340 ج2 تيسير الوصول (الحائض وأحكامها).
(3) انظر ص103 ج1 زرقاني الموطا (ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض وص 241 ج1 سنن الدارمي (مباشرة الحائض).(1/499)
وإذا) حرم على الرجل مباشرة ما تحت أزار امرأته، حرم عليها تمكينه منها وأن تباشره بما تحت إزارها بالأولى (الثاني) الجواز مع الكراهة التنزيهية وبه قال الثوري والأوزاعي وأحمد وداود الظاهري ومحمد بن الحسن وأصبغ المالكي، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أنس السابق "اصنعوا كل شيء غير النكاح"(1) (وأجاب) الأولون بأن هذا مبيح وما استدلوا به مانع، والمانع مقدم على المبيح (الثالث) التفصيل فإن كان المباشر يضبط نفسه عن الفرج ويثق باجتنابه لضعف شهوته أو لشدة ورعه، جازت المباشرة وإلا فلا (أما) مباشرة ما فوق السرة وتحت الركبة بالقبلة أو المعانقة او اللمس ولو بالذكر، فهي حلال بالإجماع كالاستمتاع بالنظر ولو بشهوة، والاستمتاع بما بين السرة والركبة بغير الوطء مع الحائل.
(جـ) الاستحاضة: هي لغة السيلان. واصطلاحاً الدم الخارج لعلة من الفرج دون الرحم في غير أيام الحيض والنفاس. وعلامته ألا يكون منتناً. ثم الكلام ينحصر في خمسة مباحث.
1- أنواع الاستحاضة: هي ستة أنواع: ما نقص عن أقل الحيض وما زاد على أكثره. وما زاد على أكثر النفاس. وما زاد على العادة في الحيض والنفاس وجاوز أكثرهما وإلا فهو حيض أو نفاس. وما تراه الحامل عند الحنفيين وأحمد لانسداد فم الرحم وسيأتي تمامه.
2- حكمها: الاستحاضة حدث دائم لا يمنع صلاة ولا صوماً ولا غيرهما مما يمنعه الحيض والنفاس (لما تقدم) من قوله صلى الله عليه وسلم للمستحاضة دعي الصلاة أيام حيضك ثم اغتسلي وتوضئ لكل صلاة(2). فقد أمرها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالصلاة فجواز غيرها أولى.
__________
(1) تقدم رقم 425 ص384 (مباشرة الحائض والنفساء).
(2) تقدم رقم 260 ص283 (أحكام طهارة المعذور).(1/500)
3- أقسام المستحاضة: هي ستة أقسام تفصيلاً: معتادة ذاكرة عادتها مع التمييز وعدمه. ومعتادة نسيت عادتها كذلك. ومبتدأة مميزة وغير مميزة. وثلاثة أقسام إجمالاً: معتادة ذاكرة عادتها أو ناسيتها أو مبتدأة.
(أ) فإن كانت معتادة ذاكرة عادتها تعتبر أيام عادتها حيضاً، ميزت بين القوى وغيره أم لم تميز فتترك فيها الصلاة والصيام وغيرهما مما يمنعه الحيض. فإذا انقضت أيام عادتها، اغتسلت وصلت وصار حكمها حكم الطاهرة، لكنها تتوضأ لوقت كل صلاة عند الحنفيين وأحمد. فتصلي في الوقت ما شاءت من فرائض ونوافل. فإذا خرج الوقت بطل وضوءها.
(وقال) الشافعي: تتوضأ المستحاضة ونحوها من المعذورين لكل فرض على حدته ويصلون النوافل تبعاً، لما تقدم من قوله صلى الله عليه وآله وسلم للمستحاضة: دعي الصلاة أيام حيضك ثم اغتسلي وتوضئ لكل صلاة(1) (وقال) مالك: لا يجب عليهم الوضوء وإنما هو مستحب لكل صلاة، لما تقدم في حديث أم سلمة من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لتنتظر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر. فإذا خلفت ذلك فلتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصل(2).
(وهو) يدل على أن المستحاضة المعتادة ترد لعادتها ميزت أم لا وافق تمييزها عادتها أم خالفها. وبه قال الحنفيون والشافعي في رواية وأحمد في المشهور عنه، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يسألها أهي مميزة ام لا؟ وترك الاستفصال منزل منزلة العموم.
(وقالت) المالكية: ترد لعادتها إذا لم تميز بين دم الحيض ودم الاستحاضة وإلا ردت إلى تمييزها وهو أصح قولي الشافعي بشرط ألا يزيد القوى عنده عن خمسة عشر يوماً ولا ينقص عن يوم وليلة.
(
__________
(1) تقدم رقم 260 ص283 (أحكام طهارة المعذور).
(2) تقدم رقم 431 ص388 (وقد صح في ذات العادة اعتبار الشارع للعادة).(2/1)
ب) وإن كانت معتادة نسيت الوقت والعدد (فقال) الحنفيون: تتحرى، ومتى ترددت بين حيض وطهر تتوضأ لوقت كل صلاة. وإن ترددت بينهما والدخول في الطهر، تغتسل لوقت كل صلاة، وتترك السنن غير المؤكدة، ولا تدخل مسجداً ولا تجامع. وإن لم يكن لها رأي فهي متحيرة لا يحكم لها بشيء من الحيض والطهر على التعيين بل تأخذ بالأحوط في الأحكام. فتجتنب ما تجتنبه الحائض كالقراءة في غير الصلاة ومس المصحف وقربان الزوج وتغتسل لوقت كل صلة وتصلي به الوتر والفرض، وتقرأ ما تجوز به الصلاة فقط، وقيل الفاتحة والسورة لأنهما واجبتان (وإن حجت) تطوف طواف الإفاضة لأنه ركن ثم تعيده بعد عشرة أيام. ثم تطوف طواف الوداع لأنه واجب. وتصوم رمضان. ثم تقضي خمسة وعشرين يوماً لاحتمال أنها حاضت عشرة من أوله وخمسة من آخره أو بالعكس ثم يحتمل أنها حاضت في القضاء عشراً فسلم لها خمسة عشر يوماً. والفتوى على أن طهرها في العدة مقدر بشهرين (وقال) الشافعي: المعتادة الناسية للعدد والوقت، لها حكم الحائض في كل ما لا يتوقف على نية غير الطلاق كمباشرة ما بين السرة والركبة وقراءة القرآن في غير الصلاة ومس المصحف والمكث في المسجد لغير عبادة متوقفة عليه وعبوره إن خافت تلويثه. ولها حكم الطاهر في الطلاق وكل عبادة تفتقر إلى نية كالصلاة والصوم والاعتكاف وعليها أن تغتسل لكل فرض في وقته ان جهلت زمن انقطاع الدم. أما إذا علمت في زمن الصحة وقت انقطاعه كعند الغروب، لزمها الغسل كل يوم وقته فتصلي به المغرب، وتتوضأ لباقي الصلوات.
((2/2)
جـ) وإن بلغت مستحاضة (فعند) الحنفيين: يعتبر حيضها عشرة من كل شهر ثم تغتسل وتصلي باقي الشهر بوضوء لوقت كل صلاة (وقال) الشافعي: المستحاضة المبتدأة إن لم تميز تدع الصلاة وغيرها مما يحرم على الحائض من وقت رؤيتها الدم فإذا انقطع لخمسة عشر يوماً فأقل اعتبر الكل حيضاً. وإن استمر أكثر من خمسة عشر يوماً، اعتبر حيضها يوماً وليلة وباقي الشهر طهراً، فتقضي الصلاة فيما عدا اليوم والليلة. وفيما عدا الشهر الأول يعتبر حيضها يوماً وليلة، وطهرها تسعة وعشرين. وكذا المبتدأة المميزة ان نقص القوى عن يوم وليلة او زاد عن خمسة عشر، أو نقص الضعيف عن خمسة عشر يوماً (وقال) أحمد: المستحاضة المبتدأة والمعتادة الناسية لعادتها ولم تميز دمها – بأن كان كله أسود أو احمر مثلاً – أو كانت مميزة – بأن تراه تارة أسود ثخيناً منتناً وتارة تراه رقيقاً أحمر أو اصفر أو لا رائحة له ولم يصلح الأسود أن يكون حيضاً – بأن نقص عن يوم وليلة او جاوز خمسة عشر – تترك الصلاة وغيرها من كل ما يمنعه الحيض ستة أيام او سبعة من كل شهر وهي غالب الحيض باجتهادها فيما يغلب على ظنها أنه أقرب إلى عادتها او عادة نساء قومها او ما يكون أشبه بكونه حيضاً ثم تغتسل وتصلي ثم تتوضأ لوقت كل صلاة (وقال) مالك: المستحاضة المبتدأة والمعتادة الناسية لعادتها غير المميزة، يعتبر حيضها خمسة عشر يوماً ثم تغتسل، وتصلي باقي الشهر أما المميزة مبتدأة او معتادة فترد الى التمييز، فيكون الدم القوي حيضاً والضعيف استحاضة.
4- وطء المستحاض- يجوز وطؤها في غير أيام حيضها عند الجمهور (لما روي) عكرمة عن حمنة بنت جحش أنها كانت مستحاضة وكان زوجها يجامعها. أخرجه أبو داود والبيهقي وقال: ويذكر عن ابن عباس أنه أباح وطأها(1){58}.
(
__________
(1) انظر ص131 ج3- المنهل العذب (المستحاضة يغشاها زوجها). و ص 329 ج1 سنن البيهقي (صلاة المستحاضة واعتكافها في حال استحاضتها ولزوجها ان يأتيها).(2/3)
وقال) عكرمة: كانت أم حبيبة تستحاض فكان زوجها يغشاها. أخرجه أبو داود والبيهقي بسند حسن(1){59}.
(وقال) أحمد: لا يجوز وطء المستحاضة إلا أن يطول ذلك بها (وعنه) لا يجوز وطؤها مطلقاً. وكره ابن سيرين لقول عائشة: المستحاضة لا يغشاها زوجها. أخرجه الخلال(2){60}. ولأن بها أذى فلا توطأ كالحائض (ورد) بأن الأصل الإباحة، والمنع لا يكون إلا بدليل من كتاب او سنة. ولم نعلم لذلك دليلاً. ولذا روي عن أحمد إباحة وطئها مطلقاً.
(5) الدم تراه الحامل – اختلف الفقهاء فيه أهو حيض أم استحاضة؟ (قال) الحنفيون وأحمد والثوري وجماعة: الحامل لا تحيض وأن ما تراه من الدم هو دم فساد إلا أن يصيبها الطلق فهو دم نفاس عند غير الحنفيين (وقال) مالك: الدم الذي تراه الحامل حيض. وأكثره فيما بعد الشهرين إلى ستة أشهر عشرون يوماً، وفي ستة أشهر فأكثر ثلاثون يوماً فإن زاد على ذلك فهي مستحاضة تصلي وتصوم وتوطأ وإن تقطع الدم. وهذا بالنسبة للعبادة. أما بالنسبة للعدة فالمعتبر وضع الحمل (وقالت) الشافعية: ما تراه الحامل حيض إن كان لا ينقص عن يوم وليلة ولا يزيد عن خمسة عشر يوماً، لأنه دم لا يمنعه الرضاع فلا يمنعه الحمل. وهذا بالنسبة لغير العدة. وأما هي فتعتبر بوضع الحمل. والله الموفق للصواب.
د- تطهير محل النجاسة
هذا هو المقصد الرابع من مقاصد الطهارة: وتطهير محل النجاسة بالماء من خصائص هذه الأمة. والكلام ينحصر في خمسة مباحث.
(
__________
(1) انظر ص329 منه (صلاة المستحاضة واعتكافها). و ص 130 ج3- المنهل العذب (المستحاضة يغشاها زوجها).
(2) انظر ص357 ج1 مغنى ابن قدامة (حكم وطء المستحاضة).(2/4)
الأول) صفة التطهير- (قال) أكثر العلماء يشترط: لصحة الطهارة طهارة ثوب المصلي ومكانه وبدنه من كل نجاسة غير معفو عنها عند القدرة من غير ارتكاب ما هو أشد منعاً فإن لم يتمكن من تطهير جسده مثلاً- الا بإبداء عورته لمن لا يحل له نظرها- صلى بالنجاسة ولا إعادة عليه لأن من ابتلى بأحد محظورين لزمه ارتكاب الأخف وكشف العورة أشد منعاً من الصلاة بالنجاسة (ودليل) لزوم تطهير ما ذكر أمر به في الكتاب والسنة (أما الثوب) فقد قال تعالى (وثيابك فطهر) (4- المدثر) أي طهر ثيابك الملبوسة من النجاسة على الأرجح في تفسيرها.
(وعن) أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه" أخرجه الدار قطني وقال: المحفوظ مرسل(1){449}.
وتقدم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال للمستحاضة: فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم توضئي لكل صلاة(2). (وقال) جابر بن سمرة: سمعت رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أصلي في الثوب الذي آتي فيه أهلي؟ قال نعم إلا ان ترى فيه شيئاً فتغسله. أخرجه أحمد وابن ماجه ورجاله ثقات(3){450}.
(وقال) معاوية: قلت لأم حبيبة هل كان يصلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الثوب الذي يجامع فيه؟ قالت نعم إذا لم يكن فيه أذى. أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه ورجاله ثقات(4){451}.
__________
(1) انظر ص47 سنن الدارقطني (نجاسة البول والأمر بالتنزه منه).
(2) تقدم رقم 227 ص263 (الدم الخارج من الجسد- نواقض الوضوء).
(3) انظر ص112 ج3- الفتح الرباني. و ص 236 ج3- المنهل العذب (الصلاة في الثوب يصيب أهله فيه).
(4) انظر ص112 ج3- الفتح الرباني. و ص 236 ج3- المنهل العذب (الصلاة في الثوب يصيب أهله فيه).(2/5)
والمراد بالشيء في حديث جابر والأذى في حديث معاوية، النجس (فهما) يدلان على عدم صحة الصلاة في الثوب المتنجس وهو مذهب غير مالك في حق القادر. (أما) من عجز عما يزيل النجاسة الحقيقية ولو حكماً بأن وجد المزيل لكنه لم يقدر على استعماله لمانع فإنه يصلي مع النجاسة ولا يعيد الصلاة إذا وجد المزيل ولو في الوقت (وعن مالك) ثلاث روايات (الأولى) أن إزالتها شرط في صحة الصلاة مطلقاً كالجمهور (الثانية) أن إزالتها شرط في صحة الصلاة مع الذكر والقدرة. وهي أشهرها. فإن صلى عالماً بها قادراً على إزالتها لم تصح صلاته. ووجب عليه إعادتها أبداً. وهو قول قديم للشافعي (لقول) عائشة: كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلينا شعارنا وقد ألقينا فوقه كساء فلما أصبح رسول الله أخذ الكساء فلبسه ثم خرج فصلى الغداة ثم جلس فقال رجل يا رسول الله: هذه لمعة من دم فقبض رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على ما يليها فبعث بها إلى مصرورة في يد الغلام فقال: اغسلي هذه وأجفيها وأرسلي بها إلى فدعوت بقصعتي فغسلتها ثم أجففتها فأحرتها إليه. (الحديث) أخرجه أبو داود(1){452}.
(
__________
(1) انظر ص269 ج3- المنهل العذب (الإعادة من النجاسة تكون في الثوب). و (مصرورة أي مجموعة مشدودة (فأحرتها) بالحاء المهملة والراء أي رددتها.(2/6)
ففيه) أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالنجاسة غير عالم بها. فلما علم بها أزالها ولم يستأنف الصلاة (الثالثة) أن إزالتها سنة مع الذكر والقدرة وليست بشرط(1).
(وأجابوا) عن الأدلة السابقة بأنها لا تقتضي الشرطية، لأن الأمر بالشيء نهى عن ضده. والنهي يقتضي الفساد "لأن ها هنا" مانعاً يمنع من الاستدلال بها على الشرطية، وهو عدم إعادته صلى الله عليه وعلى آله وسلم الصلاة التي صلاها في الكساء المتنجس بالدم، "فبناؤه" صلى الله عليه وعلى آله وسلم على ما فعله من الصلاة "دليل" على عدم الشرطية وهذا هو الراجح.
(
__________
(1) حاصل مذهب مالك ما قال العلامة الدردير في الصغير: يجب شرطاً إزالة النجاسة بالماء عن محمول المصلي من ثوب أو عمامة أو نعل أو حزام أو منديل وعن بدنه وعن مكان قدميه وركبتيه وجبهته فلا يضر نجاسة ما تحت صدره وما بين ركبتيه ولو تحرك بحركته. (ومحل) كون الإزالة شرط صحة للصلاة إن ذكر وقدر. فإن صلى بنجاسة ناسياً لها أو لم يعلم بها حتى فرغ من صلاته فهي صحيحة. ويندب له إعادتها في الوقت. (وكذا) من عجز عن إزالتها ولم يجد ثوباً غير متنجس فإنه يصلي بالنجاسة وصلاته صحيحة. (وهذا) أحد المشهورين في المذهب. وعليه فإن صلى بالنجاسة عامداً قادراً على إزالتها أعاد الصلاة أبداً وجوباً لبطلانها (والمشهور) الثاني أن إزالتها سنة إن ذكر وقدر فإن لم يذكرها أو لم يقدر على إزالتها أعاد بوقت كالأول. وأما العالم القادر فيعيد ندباً على الثاني. انظر ص22 ج1- الشرح الصغير (إزالة النجاسة).(2/7)
وأما) المكان فلأمره عليه الصلاة والسلام بصب دلو من ماء على بول الأعرابي الذي بال في المسجد (قال) أنس بن مالك: بينما نحن في المسجد مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: مه مه. فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لا تزرموه دعوه. فتركوه حتى بال، ثم دعاه، فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن، فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه . أخرجه مسلم(1){453}. ومنه يعلم لزوم تطهير جسد المصلي بالأولى.
(
__________
(1) انظر ص193 ج3 نووي مسلم (الأرض تطهر بالماء). و (مه) اسم فاعل مبني على السكون معناه اكفف. و (لا تزرموه) بضم التاء الفوقية واسكان الزاي بعدها راء، أي لا تقطعوا عليه بوله (فشنه) يروي: بالشين المعجمة والسين المهملة ومعناه صبه. وفرق بعض العلماء بينهما فقال: هو بالمهملة الصب بسهولة. وبالمعجمة التفريق في صبه.(2/8)
ب) أقسام النجاسة- هي عند الحنفيين مغلظة ومخففة فما ورد النص بنجاسته بلا معارض ولا حرج في اجتنابه كالدم وفضلة الإنسان وما لا يؤكل لحمه ولعاب الكلب والخنزير فهو مغلظ عند الإمام، وإن عارض نصان في نجاسته وطهارته كبول ما يؤكل لحمه والفرس وخرء طير لا يؤكل لحمه فهو مخفف عنده (وقال) الصاحبان: ما اتفق على نجاسته ولم يكن في إصابته بلوى فهو مغلظ كالمتفق على نجاسته فيما تقدم وإلا فمخفف كالمختلف في نجاسته ما عدا المني. فالتخفيف عند الإمام كما يكون بالتعارض يكون بعموم البلوى بالنسبة إلى جنس المكلفين وإن ورد نص واحد في نجاسته من غير معارض، وكذا عندهما كما يكون التخفيف بالاختلاف يكون بعموم البلوى في إصابته وإن اتفق على نجاسته. وإذا كان النص الوارد في نجاسة شيء يضعف حكمه باختلاف العلماء في عندهما فيثبت به التخفيف فضعفه بما إذا ورد نص آخر يخالفه أولى فيكون التخفيف بتعارض النصين اتفاقاً، وإنما الخلاف في ثبوت التخفيف بالاختلاف في النجاسة.
ولا يظهر خلاف بينهم إلا في فضلة ما يؤكل لحمه لثبوت الخلاف فيها مع عدم تعارض النصين ويرد على قول الإمام سؤر الحمار والبغل فقد تعارض النصان مع أنه لم يقل بنجاسته أصلاً بل قال: إنه مشكوك في طهوريته. وعلى ولهما المني فإنه مغلظ اتفاقاً مع ثبوت الخلاف في نجاسته.
هذا، وخفة النجاسة تظهر في الثياب إلا في الماء(1).
(
__________
(1) انظر ص240 وما بعدها ج1- البحر الرائق (الأنجاس).(2/9)
جـ) ما يعفي عنه من النجاسة- يعفي عند الحنفيين (1) عن قدر الدرهم الكبير (وزناً) في الثخينة كالعذرة وهو ما يبلغ وزنه مثقالاً(1) (ومساحته) في الرقيقة، وهو قدر مقعر الكف من نجاسة مغلظة كالدم المسفوح غير دم الشهيد والمراد أن يكون شأن السيلان، فلو جمد المسفوح ولو على اللحم فهو نجس، ومنه ما يبقى في المذبح ودم الحيض والنفاس والاستحاضة وكل دم ينقض الوضوء وإنما عفي عن قدر الدرهم مما ذكر لعدم إمكان التحرز عن القليل فقدر به اعتباراً لموضع الاستنجاء.
(2)يعفي عما دون ربع الثوب الكامل والجسد كله على الصحيح من نجاسة مخففة كبول ما يؤكل لحمه. والعفو إنما ظهر في غير المائع. أما المائع فيتنجس متى أصابته نجاسة وإن قلت أو خفت.
هذا. وما زاد على الدرهم في الغليظة أو بلغ الربع في الخفيفة لا يعفي عنه لعدم الضرورة.
(3) ويعفي عن دم السمك لأنه ليس بدم عندهم حقيقة، وإنما هو دم صورة لأنه إذا يبس يبيض والدم يسود.
(4) ويعفي عن لعاب البغل والحمار على القول بنجاسته. وظاهر الرواية طهارته ويعفي عن بول انتشر قدر رؤوس الابر للضرورة وإن امتلأ الثوب.
(وقال) غير الحنفيين: يعفي عن يسير دم وقيح وصديد وماء قروح في الصلاة لأن الإنسان غالباً لا يسلم منه ولأن يشق التحرز منه فعفي عن يسيره. كأثر الاستجمار وإنما يعفي عن ذلك إذا كان من حيوان طاهر او آدمي من غير سبيل.
(
__________
(1) المثقال درهم وثلاثة أسباع درهم.(2/10)
5) ويعفي عن يسير طين شارع تحققت نجاسته، وعن يسير سلس بول مع كمال التحفظ منه للمشقة وعن يسير دخان نجاسة وغبارها وبخارها ما لم تظهر له صفة في الشيء الطاهر، وقيل: ما لم يتكاثف لعسر التحرز عن ذلك(1)ويعفي عن يسير ماء تنجس بما عفي عن يسيره لأن كل نجاسة نجست الماء فحكم هذا الماء المتنجس بها حكمها، ويعفي عن نجاسة أصابت العين للتضرر بغسلها، وعن حمل نجس كثير في صلاة الخوف، ويعفي عن أثر دم على جسم صقيل بعد المسح لأن الباقي بعده يسير وإن كثر محله(2) ، ولا يعفي عن يسير مذي وقي وودي وبول وغائط من آدمي وما لا يؤكل وعرق بغل وحمار وسباع البهائم وجوارح الطير وأبوالها وأرواثها وبول الخفاش والخطاف والجلالة، لأن الأصل عدم العفو عن النجاسة إلا ما خصه الدليل. وعن أحمد في المذي والقيء ولعاب البغل والحمار وسباع البهائم والطير وعرقها وبول الخفاش أنه كالدم يعفي عن يسيره لمشقة الاحتراز عنه(3).
(د) المطهرات – كل نجاسة يطهر محلها ثوباً وجسداً وإناء وغيرها. ولو مأكولاً أمكن تطهيره بأمور.
(1) بالماء المطلق اتفاقاً. وكذا المستعمل عند غير الشافعية.
(
__________
(1) هذا على مذهب الشافعي وأحم من نجاسه ما ذكر (وقال) الحنفيون ومالك: دخان النجاسة وغبارها طاهر لأن النار مطهرة عندهم.
(2) انظر ص138 ج1 كشاف لقناع. (ولا يعفي عن يسير نجاسة) وما ذكر في العفو عن أثر المسح مبني على أن مسح الصقيل لا يطهره وهو مذهب الشافعي وأحمد.
(3) انظر ص139 ج1 كشاف القناع.(2/11)
2) وبكل مائع طاهر مزيل للنجاسة كالخل وماء الورد والريق عند الحنفيين. ورواية عن أحمد فإذا قاء الولد على الثدي. يطهر إذا رضعه حتى زال أثر القيء. ولو تنجس الأصبع ونحوه يطهر بلحسة حتى يذهب الأثر (لحديث) مجاهد أن عائشة قالت: ما كانت لإحدانا الا ثوب واحد تحيض فيه، فإن أصابه شيء من دم بلته بريقها فمصعته بظفرها. أخرجه البخاري وأبو داود(1){454}.
ولكن تكره إزالة النجاسة عندهم بنحو الخل لغير ضرورة.
(3-12) ومن المطهرات الدبغ والذكاة والدلك والفرك والمسح والجفاف والاستحالة والنار والنحت والتراب وغيرها.
(هـ) كيفية تطهير المتنجس- النجاسة قسمان مرئية وهي ما ترى بعد الجفاف وغير مرئية وهي ما لا ترى بعده. والكلام ينحصر في ستة وعشرين بحثاً.
(1) كيفية التطهير بالماء – يلزم غسل المتنجس بنجاسة مرئية كالدم حتى تزول عينها فلو زالت بمرة طهر عند الجمهور (وقال) الطحاوي: لا يطهر الا بالغسل مرتين بعد زوال العين ويعفي عن لون او ريح شق زواله بأن احتاج في إزالته الى نحو صابون او ماء حار. أما طعم النجاسة فلابد من زواله (والمتنجس) بنجاسة غير مرئية كبول يطهر بالغسل حتى يغلب على الظن أنه قد زال ولا يشترط عدد على المفتي به عند الحنفيين وهو مذهب مالك والشافعي والراجح عند أحمد (لقول) ابن عمر: كانت الصلاة خمسين والغسل من الجنابة سبع مرار وغسل البول من الثوب سبع مرار فلم يزل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمساً والغسل من الجنابة مرة وغسل البول من الثوب مرة. أخرجه أحمد وأبو داود وهذا لفظه. والبيهقي (2){455} وفي سنده أيوب ابن جابر وعبد الله بن عصم ضعيفان.
(
__________
(1) انظر ص283 ج1 فتح الباري (هل تصلي المرأة في ثوب حاضت فيه؟). و ص 227 ج3- المنهل العذب (المرأة تغسل ثوبها الذي تلبسه في حيضها). (المصع) التحريك والفرك.
(2) انظر ص198 ج2 الفتح الرباني. و ص 18 ج3- المنهل العذب (الغسل من الجنابة).(2/12)
وعليه) لو جرى الماء على ثوب نجس وغلب على الظن أنه قد طهر جاز استعماله وإن لم يحصل غسل ولا عصر.
(ولو) كان الماء غير جار فلابد من العصر في كل مرة عند أحمد هو ظاهر الرواية عند الحنفيين (وقيل) يكفي العصر مرة وهو أرفق (وعن) أبي يوسف: العصر ليس بشرط وهو الأصح عند الشافعي.
(2-6)تقدم كيفية تطهير جلد الميتة بالدباغ.وتطهير ما تنجس بدم الحيض ونحوه والمذي ولعاب الكلب والمني(1).
(
__________
(1) جلد الميتة تقدم ص166. ودم الحيض قدم ص377 والمذي ص360. ولعاب الكلب ص365. والمني ص366.(2/13)
7) تطهير الماء النجس- الماء ثلاثة أقسام (أ) أن يكون قليلاً (أقل من قلتين) فيطهر بماء كثير طاهر يصب عليه او ينبع فيه يجري اليه فيزيل تغيره إن كان متغيراً وإلا طهر بمجرد صب الماء الكثير لأن الماء الكثير لا يحمل الخبث ولا ينجس الا بالتغيير فكذا إذا ورد على النجاسة ولم يتغير فيحكم بطهارة ما خالطه (ب) أن يكون قلتين غير متغير بالنجاسة فيطهر بمجرد صب الماء الكثير وإن كان متغيراً يطهر بالمكاثرة إن زالت تغيره او بتركه حتى يزول تغيره بطول المكث (جـ) أن يكون زائداً عن قلتين متنجساً بغير التغير فيطهر بالمكاثرة وإن كان متغيراً يطهر بالمكاثرة او بزوال تغيره بالمكث او ينزح منه ما يزول به التغير ويبقى قلتان فأكثر فإن بقي أقل منهما قبل زوال تغيره ثم زال تغيره لم يطهر لأن التنجس في القليل لمجرد ملاقاة النجاسة فلم تزل العلة بزوال التغير فلا يطهر إلا بالمكاثرة ولا يعتبر فيها صب الماء دفعة واحدة بل تكون بالمتابعة من ساقية او دلو فدلو او ماء المطر او النبع قليلاً قليلاً حتى يبلغ قلتين فيحصل به التطهير. وإن كوثر بقليل فزال تغيره أو طرح فيه تراب او مائع غير الماء فزال تغيره فقيل لا يطهر بذلك لأنه لا يدفع النجاسة عن نفسه فعن غيره أولى ولأنه ليس بطهور فلا يطهر غيره (وقيل يطهر) لأنه علة النجاسة التغير وقد زال كما لو زال بمكثه واختار بعضهم هذا لأنه أيسر(1).
(
__________
(1) انظر ص34 و 35 ج1 مغنى ابن قدامة (تطهير الماء النجس).(2/14)
8) تطهير المائع غير الماء- لا يطهر غير الماء من المائعات عند مالك والشافعي على الأصح وهو المشهور عن أحمد الا الزئبق فإنه لقوته وتماسكه يجري مجرى الجامد (لحديث) سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا وقعت الفأرة في السمن فإن كان جامداً فألقوها وما حولها وإن كان مائعاً فلا تقربوه. أخرجه أحمد وأبو داود(1){456}.
(ولو) كان إلى تطهيره سبيل لم ينه النبي صلى الله عليه وسلم عن قربانه.
(وقال) الحنفيون: يطهر الزيت ونحوه بصب الماء عليه سواء أكان قدره ام لا على المختار ورفعه عنه ثلاثاً او يوضع في إناء ذي ثقب يصب عليه الماء فيعلو الزيت ويحركه ثم يفتح الثقب إلى ان ينزل الماء (واختار) ابن سريج الشافعي وأبو الخطاب الحنبلي أن ما يتأتى تطهيره كالزيت يطهر بالماء لأنه أمكن غسله فيطهر كالجامد وطريق تطهيره جعله في ماء كثير ويخاض فيه حتى يصيب الماء جميع أجزائه ثم يترك حتى يعلو على الماء فيؤخذ وإن تركه في جرة فصب عليه ماء فخاضه به وجعل لها ثقباً ليخرج معه الماء جاز (قالوا) والحديث ورد في السمن والظاهر أنه لا يمكن تطهيره لأنه يجمد في الماء ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ترك الأمر بتطهيره لمشقة ذلك وقلة وقوعه(2).
(9) تطهير السمن والدهن – ما ذكر أما أن يكون جامداً او مائعاً.
(
__________
(1) انظر ص239 ج1- الفتح الرباني. وص 429 ج3 عون المعبود (الفأرة تقع في السمن- الأطعمة).
(2) انظر ص35 ج1 مغنى ابن قدامة.(2/15)
أ) فإن كان جامداً يطهر برفع النجاسة وما حولها اتفاقاً (لحديث) ابن عباس عن ميمونة ان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سئل عن فأرة سقطت في سمن فقال: ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم. أخرجه البخاري والثلاثة وأحمد وزاد هو والنسائي في سمن جامد(1) {457}.
(ب) وإن كان مائعاً لا يطهر عند الجمهور ولا يستصبح به ولا يباع لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في
حديث أبي هريرة: وإن كان مائعاً فلا تقربوه(2)(وقال) مالك والشافعي وأحمد: يجوز الاستصباح به في غير مسجد والانتفاع به في كل شيء الا الأكل والبيع. اما الأكل فمجمع على تحريمه وأما حرمة البيع فلقول ابن عباس: بلغ عمر أن سمرة باع خمراً فقال: قاتل الله سمرة الم يعلم ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها. أخرجها الشيخان وابن ماجه(3) {458}.
(وقال) الحنفيون والليث: يجوز بيعه والانتفاع به في غير الأكل لقول ابن عمر: إن كان السمن مائعاً انتفعوا به ولا تأكلوه. أخرجه البيهقي(4){61}.
(
__________
(1) انظر ص239 ج1 فتح الباري (ما يقع من النجاسات في السمن). و ص 429 ج2 عون المعبود (الفأرة تقع في السمن). و ص 80 ج3 تحفة الاحوذي (الفأرة تموت في السمن). و ص 240 ج1 – الفتح الرباني.
(2) تقدم رقم 456 ص402 (تطهير المائع غير الماء).
(3) انظر ص281 ج4 فتح الباري (لا يذاب شحم الميتة ولا يباع ودكه). و ص 7 ج11 نووي مسلم (تحريم بيع الخمر والميتة). و ص 172 ج2- ابن ماجه (التجارة في الخمر). (وجملوها) بفتحتين أي أذابوها.
(4) انظر ص530 ج9 فتح الباري الشرح (إذا وقعت الفأرة في السمن). (والادم) بضمتين جمع أديم وهو الجلد.(2/16)
وعن) نافع عن ابن عمر في فأرة وقعت في زيت قال: استصبحوا به وادهنوا به أدمكم. أخرجه البيهقي بسند على شرط الشيخين إلا أنه موقوف(1){62}.
(وأما قوله) في حديث ابن المسيب: وإن كان مائعاً فلا تقربوه، فيحتمل أن يراد به الأكل. وقد أجرى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم التحريم في شحوم الميتة من كل وجه ومنع الانتفاع بها وقد أباح في السمن تقع فيه الميتة الانتفاع به فدل على جواز وجوه الانتفاع به غير الأكل. وأيضاً فإن شحوم الميتة محرمة العين والذات.
وأما الزيت ونحوه تقع فيه الميتة فإنما ينجس بالمجاورة وما ينجس بها فبيعه جائز كالثوب تصيبه النجاسة من الدم وغيره(2)(ويطهر) مائع السمن عند الحنفيين وابن سريج وأبي الخطاب كما يطهر الزيت المتنجس.
10- تطهير العسل والربس- (بكسر فسكون) عسل الرطب والعنب- وما ذكر يكون جامداً ومائعاً فإن كان جامداً يطهر- اتفاقاً كالسمن- بإلقاء النجاسة وما حولها. وإن كان مائعاً لا يطهر عند الجمهور (وقال) الحنفيون: يطهر بصب الماء عليه وغليه ثلاثاً حتى يعود كما كان.
11- تطهير اللحم- اللحم المطبوخ بنجس حتى نضج لا يطهر أبداً عند مالك والنعمان وأحمد (وقال) أبو يوسف: يغلي ثلاثاً كل مرة بماء طاهر ويجفف كل مرة بتبريده ومرقته تراق لا خير فيها. وعلى هذا الدجاج وغيره المغلي قبل إخراج أمعائه أما لو وضعه بقدر انحلال المسام لنتف الريش فيطهر بالغسل اتفاقاً.
(وقال) الشافعي: يطهر اللحم المطبوخ بنجس بالغسل ولو بماء غير مغلي ثم العصر. وقيل يشترط ان يغلي اللحم مرة أخرى بماء طهور(3).
__________
(1) انظر ص530 ج9 فتح الباري الشرح (إذا وقعت الفأرة في السمن). (والادم) بضمتين جمع أديم وهو الجلد.
(2) انظر ص162 ج3 عمدة القاري (ما يقع من النجاسة في السمن والماء).
(3) انظر ص60 ج2 مجموع النووي (النجاسة).(2/17)
12- تطهير الحبوب- لو طبخ البر والذرة ونحوهما في نجس لا يطهر عند النعمان ومالك إلا إذا جعل في خل (وقال) أحمد: لا يطهر باطن حب تشرب النجاسة ولا عجين تنجس لأنه لا يمكن غسله ولا لحم تنجس وتشرب النجاسة(1).
(وقال) أبو يوسف: يطهر بالطبخ ثلاثاً في الماء والتجفيف في كل مرة. (وقال) الشافعي: يطهر بالغسل بماء ولو غير مغلي ثم العصر. وقيل يشترط أن يغلي مرة أخرى بماء طهور.
13- تطهير السكين ونحوها- السكين ونحوها من كل صقيل لا مسام له كالسيف والمرآة والظفر والزجاج والأواني المدهونة والخشب المخروج إذا تنجس يطهر بالغسل اتفاقاً وكذا بالمسح عند الحنفيين ومالك لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقاتلون بسيوفهم ثم يمسحونها ويصلون بها (وقال) الشافعي وأحمد: لا يطهر ما ذكر ولو صقيلاً فلا يطهر إلا بالغسل اتفاقاً. وإذا سقيت السكين ونحوها ماء نجساً ثم غسلت طهر ظاهرها لا باطنها عند الحنفيين وهو قول الشافعي وعنه أنه يطهر باطنها أيضاً (وقال) أحمد: لا يطهر إناء تشرب نجاسة ولا سكين سقيت ماء نجساً او بولاً او نحوه من النجاسات(2). وإن سقيت بعد بماء طاهر طهرت ظاهراً وباطناً عند الحنفيين والشافعي (قال) في الأم: ولو أحمى حديدة ثم صب عليها شيئاً نجساً او غسلها فيه فتشربته الحديدة ثم غسلت بالماء طهرت لأن الطهارات كلها إنما جعلت على ما يظهر ليس على الأجواف(3) وإذا غسل السكين طهر ظاهره دون باطنه ويجوز استعماله في الأشياء الرطبة كما يجوز في اليابسة لكن لا تصح الصلاة وهو حامله وإنما جاز استعماله في الرطب مع قولنا بنجاسة باطنه لأن الرطوبة لا تصل باطنه إذ لو وصلت لطهرت بالماء(4).
(
__________
(1) انظر ص136 ج1 كشاف القناع (وتطهر أرض متنجسة بمائع).
(2) انظر ص136 ج1 كشاف القناع (وتطهر ارض متنجسة بمائع).
(3) انظر ص195 ج1- الأم (صلاة الخوف).
(4) انظر ص600 ج3 مجموع النووي (النجاسة).(2/18)
وقال) العلامة منصور بن إدريس: ولا يكفي مسح المتنجس ولو كان صقيلاً كسيف ومرآة لعموم الأمر بغسل الأنجاس والمسح ليس غسلاً فلو قطع بالسيف المتنجس ونحوه قبل غسله ما فيه بلل كبطيخ ونحوه نجسه لملاقاة البلل للنجاسة فإن كان ما قطعه به رطباً لا بلل فيه كجبن ونحوه فلا بأس به كما لو قطع به يابساً لعدم تعدي النجاسة إليه(1).
14- تطهير الخف ونحوه- يطهر الخف والنعل ونحوهما- إذا أصابته نجاسة ولو رطبة لا جرم لها كالبول – بالدلك بالأرض عند الأوزاعي واسحق والظاهرية والشافعي في القديم (وروي) عن أحمد لعموم حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصل فيهما. أخرجه أحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم بسند جيد(2){459}.
وهو بعمومه يتناول الرطب واليابس. وما لا جرم له يصير باختلاطه بالتراب ونحوه ذا جرم.
(وقال) أبو يوسف: إذا تنجس الخف ونحوه بنجاسة ذات جرم ولو مكتسباً كتراب أصاب الخف قبل جفافه من نجاسة مائعة يطهر- ولو قبل الجفاف- بدلكه بالأرض او التراب حتى يذهب أثر النجاسة لعموم حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إذا وطئ أحدكم الأذى بنعله او خفيه فطهورهما التراب. أخرجه الطحاوي وابن حبان والحاكم وصححه(3) {460} وفي سنده محمد بن كثير ضعيف ومحمد بن عجلان ضعفه ووثقه الأكثر.
__________
(1) انظر ص134 ج1 كشاف القناع (إزالة النجاسة).
(2) يأتي رقم 207 ص162 ج3- الدين الخالص طب2 (الصلاة في النعل والخف).
(3) انظر ص31 ج1 شرح معاني الآثار. و ص 166 ج4 مستدرك (ومحمد ابن كثير ضعيف) لكن تابعه غير واحد من الثقات.(2/19)
فهو يتناول الرطب واليابس (وخص) أبو حنيفة ذلك بالنجاسة الجافة لأن الرطبة تزداد بالدلك انتشاراً وتلوثاً (وعلى) قول أبي يوسف أكثر العلماء وهو المختار لعموم البلوى ونعلم أن الحديث يفيد طهارتها بالدلك مع الرطوبة إذ ما بين المسجد والمنزل ليس مسافة تجف في مدة قطعها ما أصاب الخف رطباً فلإطلاق الحديث مساعد بالمعنى وأما مخالفته في الرقيق فقيل هو مأخوذ من قوله "فإن التراب له طهوره" أي مزيل نجاسته ونحن نعلم أن الخف إذا تشرب البول ونحوه مما لا جرم له لا يزيله المسح ولا يخرجه من أجزاء الجلد فإطلاق الحديث مصروف الى الأذى الذي يقبل الإزالة بالمسح. ولا يخفي ما فيه إذ معنى طهور مطهر واعتبر ذلك شرعاً بالمسح المصرح به في حديث أبي سعيد وكما لا يزيل ما تشربه من الرقيق كذلك لا يزيل ما تشربه من الكثيف حال الرطوبة على المختار للفتوى..والحاصل فيه بعد إزالة الجرم كالحاصل قبل الدلك في الرقيق فإنه لا يشرب إلا ما في استعداده قبوله وقد يصيبه من الكثيفة الرطبة مقدار كثير يشرب من رطوبته مقدار ما يشربه من بعض الرقيق(1).
(وقال) مالك ومحمد بن الحسن والشافعي في الجديد وأحمد في المشهور عنه: لا يطهر الخف والنعل ونحوهما إلا بالغسل كسائر النجاسات. وحملوا الأذى في الحديثين على النجاسة اليابسة التي تزول بالدلك. وهو تأويل بعيد لا يتفق وإطلاق الحديث. وحمل النووي الأذى على ما يستقذر ولا يلزم منه النجاسة كمخاط ونخامة ونحوهما مما هو طاهر أو مشكوك فيه(2) وحمله بعض الحنبلية على يسير النجاسة يكون على أسفل الخف والحذاء بعد الدلك فإنه يعفي عنه(3).
(
__________
(1) انظر ص136 ج1 فتح القدير لابن الهمام (الأنجاس).
(2) انظر ص599 ج2 مجموع النووي.
(3) انظر ص137 ج1 كشاف القناع (ولا يعفي عن يسير نجاسة).(2/20)
والراجح) القول بعدم الفرق بين النجاسة الرطبة واليابسة والمرئية بعد الجفاف وغيرهما لعموم الأحاديث ودعوى التخصيص بالجافة أو المرئية لا دليل عليها.
(والظاهر) أن الحديثين محمولان على الأرض الرملية الصحراوية والجبلية كجزيرة العرب فإن النعال بها لا تتشرب النجاسة وإذا علقت بها يزيلها الدلك وإن بقي منها أثر كان يسيراً يعفي عنه. أما النعال والأحذية يوطأ بها أرض المدن والأمصار والقرى غير الرملية فتتشرب النجاسة وتعلق بها فلا يزيلها الدلك وإن أزال بعض ما علق بها لا يزيل ما تشربته بحال فلا تطهر به.
(ويؤيده) صدر حديث أبي سعيد قال: بينما النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره فلما رأى القوم ذلك ألقوا نعالهم فلما قضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاته قال: ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ قالوا رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم إن جبريل عليه السلام أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً (الحديث(1)).
(فهو) صريح في أنه لا تصح الصلاة بالنعل وفيه قذر.
15- الأواني- هي ثلاثة: خزف وخشب وحديد ونحوها.
وتطيرها على أربعة أوجه: حرق ونحت ومسح وغسل. فإذا كان الإناء من خزف او حجر وكان جديداً ودخلت النجاسة في أجزائه يحرق. وإن كان عتيقاً يغسل وإن كان من خشب وكان جديداً ينحت وإن كان قديماً يغسل. وإن كان من حديد او نحاس او رصاص او زجاج وكان صقيلاً يمسح وإن خشنا يغسل(2).
__________
(1) الحديث) تقدم تمامه رقم 459 ص406 (تطهير الخف ونحوه) ومما ذكر يعلم بطلان ما يقع من بعض الناس يدخلون بيوت الخلاء ويسيرون في الطرقات الممتلئة بالقاذورات وقد تلوثت نعالهم وتشربت النجاسات ثم يأتي أحدهم مكان الصلاة ويدلك أسفل النعل ثم يصلي به زاعماً أنه يعمل بالحديث وصاحب الحديث منه بريء فحسبنا الله ونعم الوكيل.
(2) انظر ص186- حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح.(2/21)
16- تطهير ما أصابه بول الغلام – (قال) الشافعي وأحمد واسحاق والثوري وداود الظاهري: يكفي رش ما أصابه بول الصبي الذي لم يأكل الطعام، ولابد من غسل ما أصابه بول الصبية وإن لم تأكل الطعام. وروي عن مالك (لحديث) علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: بول الغلام الرضيع ينضح وبول الجارية يغسل. أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه بسند صحيح والترمذي وحسنه(1) {461} وفي رواية لأحمد وأبي دود (قال قتادة) أحد رجال السند وهذا ما ل يطعما، فإذ طعما غسلا جميعاً. وعن أبي السمح خادم رسول لله صلى الله عليه وسلم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام. أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم(2) {462}.
(والأحاديث) في ذلك كثيرة. والمراد بالطعام ما عدا اللبن الذي يرضعه والتمر الذي يحنك به، والعسل الذي يلعقه للمداواة (وعند) أحمد يلحق ببول الغلام- الذي لم يأكل الطعام- قيئة فيكفي نضحه لأنه أخف من البول ولا يكفي نضح قيء الأنثى(3).
(
__________
(1) انظر ص244 ج1- الفتح الرباني. و ص 253 ج3 المنهل العذب (بول الصبي يصيب الثوب). و ص 97 ج1- ابن ماجه (بول الصبي الذي لم يطعم) و (الرضيع) صفة للغلام. وهو قيد أيضاً للفظ الصبي والصغير والذكر الواردة في بقية الأحاديث (وقد شذ ابن حزم) فقال أنه يرش من بول الذكر أي ذكر كان وهو إهمال للقيد الذي يجب مل المطلق عليه كما تقرر في الأصول.
(2) انظر ص251 ج3- المنهل العذب (بول الصبي يصيب الثوب). و ص 57 ج1 مجتبي (بول الجارية). و ص 97 ج1 ابن ماجه (بول الصبي الذي لم يطعم).
(3) انظر ص126 ج1 كشاف القناع (إزالة النجاسة).(2/22)
وقال) الحنفيون ومالك: بول الغلام والجارية سواء في وجوب الغسل (لحديث) عمار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما تغسل ثوبك من الغائط والبول والمذي والمني والدم والقيء. أخرجه البيهقي والدار قطني والبزار وأبو يعلي(1){463} وفي سنده ثابت بن حماد متهم بالوضع. وهو عام يشمل كل بول. لكن الحديث ضعيف.
(قال) البيهقي فهذا باطل لا أصل له وإنما رواه ثابت بن حماد عن علي بن زيد وهذا غير محتج به. وثابت متهم بالوضع وعلى فرض صحته، فهو مخصوص بالأحاديث الدالة على أنه ينضح من بول الصبي.
17- تطهير الأرض- (قالت) المالكية والشافعية والحنبلية: الأرض المتنجسة رخوة أو صلبة، تطهر بصب ماء كثير عليها (لقول) أبي هريرة: قام أعرابي فبال في المسجد. فتناوله الناس فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: دعوه وأريقوا على بوله سجلاً من ماء أو ذنوباً من ماء. فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعوا معسرين. أخرجه أحمد والبخاري والأربعة(2){464}.
(وتقدم) نحوه عن أنس(3) (وقال) الحنفيون: تطهر الأرض:
(أ) بأن يصب عليها الماء ثلاث مرات وتجفف في كل مرة بخرقة طاهرة.
(ب) يصب ماء كثير عليها يزيل لون النجاسة وريحها (لحديث) أبي هريرة.
(
__________
(1) انظر ص14 ج1 سنن البيهقي (إزالة النجاسة بالماء). و ص 47 سنن الدارقطني. و ص 283 ج1 مجمع الزوائد (ما يغسل من النجاسة).
(2) انظر ص224 ج1 فتح الباري (صب الماء على البول في المسجد). و ص 255 ج3- لمنهل العذب (الأرض يصيبها البول). و ص 98 ج1 – ابن ماجه (الأرض يصيبها البول..) و (السجل) بفتح السين المهملة وسكون الجيم، هي والذنوب، الدلو العظيمة ملأى.
(3) تقدم رقم 453 ص397 (دليل لزوم تطهير مكان المصلي).(2/23)
جـ) وتطهر الأرض أيضاً وما اتصل بها اتصال قرار كالشجر والبناء بالجفاف، أي ذهاب الندوة ولو بريح، وذهاب أثر النجاسة كلون وريح، بالنسبة للصلاة لا للتيمم، عند الحنفيين وبه قال الشافعي في التقديم(1) فتصح الصلاة عليها ولا يصح التيمم منها (لقول) أبي قلابة: جفاف الأرض طهورها. أخرجه عبد الرازق(2){63}.
(وقال) ابن عمر: كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك. أخرجه البخاري وأبو داود(3){465}.
(فلولا) اعتبارها تطهر بالجفاف، لكان ذلك إبقاء لها على وصف النجاسة، وهو ينافي الأمر بتطهير المسجد. فلزم كونها تطهر بالجفاف (وقال) مالك وأحمد والشافعي في الجديد: لا تطهر الأرض ولا غيرها بشمس ولا ريح ولا جفاف لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسل أمر بغسل بول الأعرابي ولو كان يطهر بذلك لاكتفى به(4) (وأجابوا) عن الحديث باحتمال أن الكلاب كانت تبول في غير المسجد ثم تقبل وتدبر فيه وعلى فرض أنها كانت تبول فيه ، فيحتمل أن عدم الرش لخفاء محل بولها، أو لكونه معفواً عنه لعلة.
18- تطهير اللبن- هو بكسر الباء الطوب النيء وهو قسمان:
(
__________
(1) انظر ص596 ج2 مجموع النووي.
(2) انظر ص52 ج1 نيل الاوطار (تطهير الأرض النجسة بالمكاثرة).
(3) انظر ص196 ج1 فتح الباري (إذا شرب الكلب في إناء أحدكم). و ص 260 ج3- المنهل العذب (طهور الأرض إذا يبست).
(4) انظر ص135 ج1 كشاف القناع (وتطهير أرض متجسة بمائع). و ص 596 ج2 مجموع النووي.(2/24)
أ) مختلط بنجاسة جامدة كالروث والعذرة وعظام الميتة فهو نجس لا طريق إلى تطهيره عند مالك والشافعي وأحمد لأن الأعيان النجسة لا تطهر بالغسل وإن أحرق لا يطهر عند الجمهور (وقال) بعض الشافعية: يطهر ظاهره بالغسل وتصح الصلاة عليه مع الكراهة ويكره أن يبنى به مسجد. وعلى الأول لا يجوز بناء مسجد به ولا يصلي عليه فإن بسط عليه شيء صحت صلاته مع الكراهة. ولو حمله مصل ففي صحة صلاته الوجهان فيمن حمل قارورة فيها نجاسة وسد رأسها بنجاس ونحوه. الصحيح أنه لا تصح صلاته(1) (وقال) الحنفيون: يطهر الطوب النجس بالإحراق وبه قال بعض الشافعية بناء على أن الأرض تطهر بالشمس. والنار أبلغ. (ب) وغير المختلط بنجاسة جامدة كالمعجون ببول او بماء نجس فيطهر ظاهره بإفاضة الماء عليه ويطهر باطنه بأن ينقع في الماء حتى يصل الى جميع أجزائه عند الحنفيين وبعض الشافعية ولا يطهر عند مالك وأحمد والشافعي في الجديد. ولو أحرق هذا اللبن طهر ظاهره وباطنه عند الحنفيين وبعض الشافعية (وقال) غيرهم: يطهر ظاهره بالغسل بعد الحرق ولا يطهر باطنه إلا أن يدق حتى يصير تراباً ثم يفاض عليه الماء. ولو كان بعد الحرق رخواً لا يمنع نفوذ الماء فهو كما قبل الحرق أي يطهر باطنه بأن ينقع في الماء حتى يصل إلى جميع أجزائه عند بعض الشافعية(2).
__________
(1) انظر ص597 ج2 مجموع النووي (اللبن النجس ضربان).
(2) انظر ص597 ج2 مجموع النووي (مسائل تتعلق بالباب).(2/25)
19- الاستحالة – هي تحول الشيء إلى شيء آخر مخالف له في اللون والطعم والريح كصيرورة العذرة رماداً. وهي مطهرة عند محمد بن الحسن وعليه الفتوى. فيطهر زيت نجس أو متنجس بجعله صابوناً. ويطهر حيوا ألقى في مملحة حتى صار ملحاً او ترابا أو أطروناً أو احترق بالنار حتى صار رماداً لأن زوال الحقيقة يستتبع زوال الوصف ولا بأس بالخبز في تنور رش بماء نجس. ويطهر طين تنجس صنع منه كوز او قدر ثم أحرق ولم يظهر فيه أثر النجاسة بعد الحرق. ويطهر قذر وقع في بئر فصار طيناً لانقلاب العين (وقال) أبو يوسف ومالك والشافعي وأحمد: الاستحالة لا تطهر إلا جلد الميتة يطهر بالدبغ، والخمرة إذا تخللت بنفسها كما يأتي، والدم إذا استحال مسكاً، والعلقة إذا صارت حيواناً فإنها تصير طاهرة كالماء المتغير بالنجاسة إذا زال تغيره بالمكاثرة (وزاد) مالك وأبو يوسف النجس إذا استحال رماداً بالإحراق فإن النار مطهرة عندهما.
20- تطهير التراب- إذا اختلطت عين النجاسة بتراب نجس ولم يتميز لا يطهر بصب الماء عليه لأن العين النجسة لا تطهر بالغسل وطريقه أن يزال التراب الذي وصلت اليه النجاسة او يطرح عليه تراب طاهر يغطيه فلو طرح على النجاسة تراب طاهر جازت الصلاة عليه مع الكراهة كما لو دفن ميتة وسوى فوقها التراب الطاهر تصح الصلاة مع الكراهة لأنه مدفن النجاسة(1) ولو وقع بول او نحوه على أرض فرفع التراب الذي أصابه البول حتى ظهر ما لم يصبه البول طهر الموضع وصحت الصلاة عليه(2).
21- تطهير الفم- إذا غسل شخص فمه النجس فليبالغ في الغرغرة ليغسل كل ما هو في حد الظاهر ولا يبتلع طعاماً ولا شراباً قبل غسله لئلا يكون أكل نجاسة(3).
__________
(1) انظر ص600 ج2 مجموع النووي (مسائل تتعلق بالباب).
(2) انظر ص601 و 603 ج2 مجموع النووي (مسائل تتعلق بالباب).
(3) انظر ص601 و 603 ج2 مجموع النووي (مسائل تتعلق بالباب).(2/26)
22- تطهير المصبوغ- لو غمس شخص يده في دهن نجس أو اختصبت المرأة بالحناء النجس أو صبغ الثوب بنجس يطهر كل بالغسل ثلاثاً حتى تزول العين ولا يضر بقاء اللون على الصحيح لأنه لا يضر بقاء لون شق زواله (وقال) بعض الحنفيين: ينبغي غسله حتى يصفو الماء. وأثر الوشم يطهر بالغسل ثلاثاً عند الحنفيين (وقيل) يغسل حتى يسيل الماء صافياً ولا يضر بقاء اللون لأنه يشق زواله وكذا المصبوغ بالدم.
23- ويطهر المتنجس بالتصرف في بعضه كما لو بالت دواب على نحو حنطة تدوسها فقسم أو غسل بعضه أو ذهب بهبة أو أكل أو بيع فإنه يطهر الباقي والذاهب لاحتمال أن تكون النجاسة في الباقي أو الذاهب فلم يحكم على احدهما بعينه ببقاء النجاسة(1).
24- تطهير السكر- هو أن تنجس قبل أن ينعقد بأن تنجس مائعاً ثم طبخ سكراً لا يطهر عند الثلاثة (وقال) أبو يوسف: يطهر كالعسل بالغلي ثلاثاً حتى يعود كما كان وإن تنجس بعد أن انعقد طهر بغمره في الماء عند الحنفيين والشافعي فإن تنجس مائعاً لم يطهر عند الثلاثة (وقال) أبو يوسف: يطهر بالغلي ثلاثاً حتى يصير كما كان.
25- تطهير الدقيق- هو إذا عجن بماء نجس يجفف او يضم إليه دقيق حتى يجمد ثم ينقع في الماء فيطهر وإن كان جامداً فأصابته نجاسة يغمر في الماء فيطهر.
26- تخلل الخمر- الخمر ما اتخذ من عصير العنب وشرعاً كل مسكر ولو متخذاً من نبيذ التمر أو القصب أو العسل او غيرهما (لحديث) ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: كل مسكر خمر وكل خمر حرام. أخرجه مالك والخمسة(2){446}.
وهي قسمان (أ) محترمة وهي ما عصرها غير المسلم او عصرها مسلم لا بقصد الخمرية (ب) وغير محترمة وهي ما عصرها مسلم بقصد الخمرية. وهي بقسميها تطهر بالتخلل أي بصيرورتها خلا بنفسها فيجوز الانتفاع بها اجماعاً.
(
__________
(1) انظر ص602 ج2 مجموع النووي (مسائل تتعلق بالباب).
(2) انظر ص103 ج2 تيسير الوصول (تحريم المسكر).(2/27)
وإن) صارت خلال بطرح شيء فيها كالماء والخبز والبصل او بنقلها من شمس إلى ظل وعكسه، او بفتح رأس الدن تطهر عند الحنفيين والأوزاعي والليث بن سعد، لأن العصير غالباً لا يتخلل الا بعد التخمر. فلو لم نقل بالطهارة لتعذر اتخاذ خل من الخمر وهو حلال اجماعاً. ولعموم حديث جابر ان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: نعم الادام الخل. أخرجه السبعة الا البخاري(1){467}.
وهو بعمومه يتناول أنواع الخل ولأن التخليل إصلاح كدبغ الجلد بإزالة صفة الاسكار فلا يكره لأن التطهير لا فرق فيه بين ما حصل بفعل الله تعالى وفعل الآدامي كتطهير الثوب والبدن والأرض وغيرها. ويطهر دنها معها للضرورة. ولو صب ماء في خمر او بالعكس ثم صار خلا كان طاهراً على الصحيح عند الحنفيين اما لو وقعت فيها فأرة ثم أخرجت بعد ما تخللت فهو نجس على الصحيح لأنها تنجست بعد التخلل بخلاف ما لو أخرجت قبله وقبل التفسخ. وكذا لو وقعت في العصير او ولغ فيه كلب ثم تخمر ثم تخلل لا يطهر في المختار.
( وقال ) الشافعي وأحمد والجمهور : لا يجوز تخليل الخمر ولا تطهر به ( لقول ) أنس : سئل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الخمر تتخذ خلا ؟ فقال : لا . أخرجه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي وقال : حسن صحيح(2) {468}.
(
__________
(1) انظر ص9266 ص285 ج6 فيض القدير شرح الجامع الصغير.
(2) انظر ص152 ج13 نووي مسلم (تحريم تخليل الخمر). و ص 263 ج2 تحفة الاحوذي (بيع الخمر) ولفظه عند أبي داود: عن أنس ان ابا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً قال: أهرقها قال: أفلا أجعلها خلا؟ قال لا. انظر ص317 ج3 عون المعبود (الخمر تخلل).(2/28)
وهذا) نهى يقتضي التحريم ولو كان إلى إصلاحها سبيل لأرشد إليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سيما وهي لأيتام يحرم التفريط في أموالهم كما صرح به في رواية أبي داود. (أما) إذا نقلت من الشمس إلى الظل او العكس، ففي طهارتها وجهان عند الشافعي وأحمد أصحهما تطهر. وإن نقلها بقصد التخلل لم تطهر عند أحمد. ودنها يطهر بطهارتها (وعن) مالك في تخليلها ثلاث روايات أصحها أن التخليل حرام ولو خللها أثم وطهرت.
(عشر فوائد) (الأولى) قد يصير العصير خلا من غير تخمر في ثلاث صور:
(أ) أن يصب العصير في الدن المعتق في الخل فينقلب خلاً.
(ب) أن يصب عليه خل أكثر منه او مساو له فيصير الجميع خلا.
(جـ) أن تجرد حبات العنب من عناقيده ويملأ منها الدن ويغطي رأسه بغطاء محكم حتى يصير خلا.
(الثانية) يجوز إمساك ظروف الخمر والانتفاع بها إذا غسلت وإمساك ظروف الخمرة المحترمة لتصير خلا وغير المحترمة يجب إراقتها فلو لم يرقها فتخللت لأن النجاسة للشدة وقد زالت(1).
(الثالثة) (قال) الحنفيون وأحمد في رواية "العصير" والخل وماء الورد ونحوها من كل مائع مزيل للنجاسة "حكمه" حكم الماء في أنه تزال به النجاسة الحقيقية وأنه إذا كان كثيراً لا ينجس الا بظهور أثر النجاسة فيه.
(
__________
(1) انظر ص577 ج2 مجموع النووي (الرابعة متى عادت الطهارة بالتخلل طهرت اجزاء الظرف للضرورة).(2/29)
الرابعة) لو طرح شخص في العصير بصلاً او ملحاً واستعجل به الحموضة قبل الاشتداد فصار خمراً ثم انقلبت بنفسها خلاً، والبصل فيها يطهر عند الحنفيين. وبه قال غيرهم لأنه لاقاه في حال طهارته كأجزاء الدن. والأصح عند غيرهم أنه لا يطهر لأن المطروح ينجس بالتخمر فتستمر نجاسته بخلاف أجزاء المدن للضرورة(1). (الخامسة) التصرف في الخمر حرام على أهل الذمة عند مالك لأنهم مخاطبون عنده بفروع الشريعة على المعتمد. وكذا عند الشافعي لأنهم معذبون على تركها وإن لم يخاطبوا بأدائها في الدنيا (وقال) الحنفيون: يجوز لهم التصرف فيها لأنهم غير مخاطبين بفروع الشريعة.
(
__________
(1) انظر ص577 و 578 ج2 مجموع النووي. (وقال النووي): أما الكافر الاصلي فاتفق اصحابنا في كتب الفروع على أنه لا يجب عليه الصلاة والزكاة وغيرهما من فروع الاسلام. وفي كتب الاصول قال جمهورهم: هو مخاطب بالفروع كأصل الايمان. وقيل: لا يخاطب بالفروع. وقيل: يخاطب بالمنهي عنه كتحريم الزنا والخمر والربا دون المأمور به كالصلاة. الصحيح الاول وليس هو مخالفاً لما في الفروع لأن مرادهم أنهم لا يطالبون بها في الدنيا. والمراد بما في كتب الاصول انهم يعذبون في الاخرة زيادة على عذاب الكفر. انظر ص4 ج3 مجموع النووي.(2/30)
السادسة) الاستحالة إلى فساد لا توجب النجاسة، فإن سائر الأطعمة تفسد بطول المكث ولا تنجس، لكن يحرم الأكل في هذه الحالة للإيذاء لا للنجاسة كاللحم إذا أنتن يحرم أكله ولا يصير نجساً، بخلاف السمن واللبن والدهن والزيت إذا أنتن. وكذا الأشربة لا تحرم بالتغير، ويتفرع على حرمة أكل اللحم إذا أنتن للإيذاء لا للنجاسة حرمة أكل الفسيخ لما ذكر. وفي تذكرة داود عند ذكر السمك قال: والمقدد الشهير بالفسيخ رديء يولد السداد والقوالنج والخصي والبلغم الحصى وربما أوقع في الحميات الربعية والسل ويهزل(1).
والفسيخ أيضاً حرام عند مالك والشافعي للضرر والنجاسة (فقد) سئل العلامة الشيخ محمد عليش المالكي: ما قولكم في حكم أكل الفسيخ المعروف. (فأجاب) بقوله: الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله. حكمه الحرمة لنجاسته بشربه من الدم المسفوح الذي يسيل منه حال وضع بعضه على بعض (قال) في المجموع: ودم مسفوح وإن من سمك فما شربه من المملح بعد انفصاله نجس(2).
(
__________
(1) انظر ص22 حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (الاستحالة الى فساد لا توجب نجاسة- فصل في مسائل الابار).
(2) انظر 134 ج1 فتح العلي المالك على مذهب الامام مالك.(2/31)
وقال) العلامة أحمد الحلواني الشافعي: قد أجمع المسلمون على طهارة ميتة السمك. نعم الفسيخ المعروف متنجس لختلاطه بدمه وصديده وما في جوفه فلو أخرج ما في جوفه قبل تفسيخه وغسل ثم فسخ فمتنجس، إذ مجرد اختلاطه بصديد نفسه المنبث فيه كاف في التنجس، فلا يجوز أكله ولا بيعه ولا التصرف فيه لا فرق بين الفسيخة الواحدة تفسخ وحدها وبين الأكثر ولا بين الطبقة العليا والطباق السفلى. فألف سيخ في عين من يحلل الفسيخ عندنا (وكذا) عند الحنفية فإنهم حرموه لكونه يضر. وقيل: إذا اشتد تغيره تنجس وعليه فحرمة الفسيخ عندهم للضرر والنجاسة فإنه شديد التغير والنتن. وظاهر قولهم لكونه يضر أن المعتبر فيه الشأن فيحرم ولو على من لا يضره مس اعتاده كالأصحاء الأقوياء الذين لا يظهر لهم ضرره. وهذه العلة وحدها ناهضة بالتحريم عندنا (وأما) المالكية فقد ذكروا أنه إن تحقق ضرر ميتة البحر حرمت للضرر. وأما مذهبهم في خصوص الفسيخ فالمشهور أنه نجس (وأما) بطارخ الفسيخ فالمعتمد عندنا فيها الحل لأن غلافها ولو رقيقاً يمنع الصديد والدم وهو مذهب المالكية أيضاً كما نص عليه العلامة الأمير(1).
(السابعة) البيضة الطاهرة إذا استحالت دماً ففي نجاستها وجهان. الأصح النجاسة كسائر الدماء. والثاني الطهارة كاللحم وغيره من الأطعمة إذا تغيرت. ولو صارت مذرة وهي التي اختلط بياضها بصفرتها فطاهرة اتفاقاً وكذا
اللحم اذا انتن فطاهر على الصحيح(2).
(الثامنة) إزالة النجاسة التي لم يعص الشخص بالتطلخ بها في بدنه واجبة لا على الفور بل عند إرادة الصلاة ونحوها. لكن يستحب تعجيل إزالتها(3).
(
__________
(1) انظر ص36 و 37 – الوسم في الوشم.
(2) انظر ص556 ج2 مجموع النووي (البيضة اذا استحالت دماً ففي نجاستها وجهان...).
(3) انظر ص599 منه (مسائل تتعلق بالباب).(2/32)
التاسعة) لا ينجس الماء بوروده على محل النجاسة بل يبقى مطهراً فلو صبه على موضع النجاسة من الثوب فانتشرت الرطوبة فيها لا يحكم بنجاسة موضع الرطوبة ولو صب الماء في إناء نجس ولم يتغير بالنجاسة فهو طهور فإذا إدارة على جوانبه طهرت وهذا قبل الانفصال فلو انفصل الماء متغيراً وقد زالت النجاسة عن المحل. فالماء نجس وكذا المحل على الصحيح لأن الماء المنفصل نجس. وقد بقيت منه أجزاء في المحل. ولو وقع بول على ثوب فغسل بماء موزون فانفصل زائد الوزن. فالزيادة بول والماء نجس كما لو تغير ولا يطهر المحل على الصحيح(1).
(العاشرة) لو رأى شخص في ثوب غيره نجاسة مانعة فإن غلب على ظنه أنه لو أخبره أزالها وجب أخباره وإلا فلا. والأمر بالمعروف على هذا. وإن علم انه لا يتعظ ولا ينزجر بالقول ولا بالفعل ولو بإعلام سلطان أو زوج او والد له قدرة المنع لا يلزمه ولا يأثم بتركه. لكن الأمر والنهي افضل وإن غلب على ظنه أنه يضربه أو يقتله لأنه يكون شهيداً قال تعالى (أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور) (2)(17- لقمان).
(تنبيهات) (الأول) اشتمل (التوحيد) بهذا الجزء – أصل وهامش- على 184 – أربعة وثمانين ومائة دليل من السنة (منها) 170 سبعون ومائة حديث (ومنها) 14- أربعة عشر أثراً.
(الثاني) اشتمل (الفقه) بهذا الجزء- أصل وهامش – على 531 أحد وثلاثين وخمسمائة دليل من السنة (منها) 468 ثمانية وستون وأربعمائة حديث المكرر منها 15 خمسة عشر حديثاً (ومنها) 63 ثلاثة وستون أثراً.
(
__________
(1) انظر ص600 ج2 مجموع النووي (للماء قوة عند الورود على النجاسة).
(2) انظر ص257 ج1 رد المختار على الدر المختار (باب الانجاس) (وعزم) مصدر بمعنى المفعول أي الامر بالمعروف من مفروضات الامور.(2/33)
الثالث) قد بين بالهامش أهم المراجع التي استعين بها في تخريج أحاديث هذا الجزء ومراجع النصوص العلمية فلينظر بيانها بصفحتي 375، 376 من الجزء السابع من الدين الخالص. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات والصلاة والسلام على سيد السادات وآله الأطهار وصحابته الأخيار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تم بعون الله تعالى الجزء الأول من الدين الخالص
ويليه الجزء الثاني إن شاء الله تعالى
وأوله (الصلاة)
دليل ترجمة الشيخ الإمام
ص ... الموضوع ... ص ... الموضوع
المؤلف . مولده . نشأته . ... آثارها ، وعاظها ، نموذج وضعه المؤلف نبراسا يستضئ به الوعاظ
شجاعته . تفوقه فى أعمال الزراعة والتجارة ، والحياكة والبناء ، والصيد ، جده فى الطاعة والعبادة ... كيف يسير المرشد فى إرشاده
أحكامه الكتابة والقراءة بعد أن كان أميا . رحلته إلى الأزهر ... مسجد الجمعية الشرعية بالخيمية
تعلقه بطلب العلم واجتهاده فيه ... السبب لحامل للجمعية على إنشاء المساجد ، المنسوجات الشعرية
تنفيره الناس مما يرتكبونه فى الأفراح والمآتم من المنكرات ... وصف منسوجات الجمعية ، حال المؤلف بعد توديعه الأزهر
حملته على أرباب الطرق وبيان حالهم ... وفاة الشيخ الإمام ، ساعة الوداع
بيانه للقراءة آداب القراءة وحثهم على احترام القرآن . بعد نظره فى طريق الدعوة إلى الخير إعداده العدد لذلك ... وقع نعيه على النفوس ، تشييعه
عرضه مؤلفاته على السادة العلماء ثمرة نشر كتبه بين الناس تأديته امتحان العالمية ... كيف الوصول إلى قبر الشيخ الإمام ؟
متى نال شهادة العالمية ؟ ما كان منه بعد ... طريق آخر إلى المقبرة الشرعية
قيامه بواجب الدعوة والإرشاد انتصاره على من ناواه ... السبب الداعى لإنشائها ، وصفها
مؤلفاته ... مصور جغرافى يبين موقع المقبرة الشرعية
وصفها . ثباته ودابه فى الدعوة على الخير ... قبر الشيخ الإمام
انشاؤه الجمعية الشرعية ... منظور طبعى يبين ضريح الشيخ الإمام
شيوف المؤلف . انجاله
تلامذته
خليفته(2/34)
دليل موضوعات الجزء الأول
ص ... الموضوع ... ص ... الموضوع
الخطبة . فشو جهل العامة . شبب ضلالهم ... ( الإلهيات ) . ( الواجب فى الوجود لله تعالى )
تبرؤ الأئمة من مخالفة الكتاب أو السنة . سبب تأليف الكتاب ... دليل القدم
طريقة المؤلف فى تخريج الأحاديث ... دليل البقاء والمخالفة للحوادث والقيام بالنفس والوحدانية
( مقدمة ) الحث على التمسك بأحكام الدين . التحذير من المحدثات ... مدلول سورة الإخلاص
رد دعوى تخصيص حديث : كل بدعة ضلالة ... الحث على العمل والاعتدال
حديث من سن فى الإسلام ورد للحث على الصدقة ... الإرادة
البدع ليست من الدين . ما ترك مع قيام المقتضى فتركه سنة ... القدرة
رفع السنة بأحداث البدعة البدعة
الدين لا يكون إلا عن وحى . الأحكام لا تثبت إلا بدليل ... السمع . البصر
( الدين ) . الإسلام هو الدين الذى جاء به كل الرسل ... الكلام . مدلول الكتب النزلة
تلازم الإيمان والإسلام . قوام الدين . الإسلام والإيمان والإحسان ... الواجب معرفته إجمالا . ( المستحيل ) فى حقه تعالى
مجمل العقائد التوحيدية ... امكان تخلف المسبب عن السبب الجائز فى حقه تعالى
القدرة والقضاء ... جواز تعذيب المطيع واثابة العاصى
الإيمان بالكتب والرسل واليوم الآخر والقدر ... رؤية الله تعالى . انزال الكتب إرسال الرسل
دعاء رفع المصائب ( علم التوحيد ) تعريفه ... ( المتشابه ) مذهب السلف والخلف فيه
ما يجب على المكلف معرفته ... الحامل للخلف على بيان معنى المتشابه . المتشابه مصروف عن ظاهره اجماعا
أقسام الحكم العقلى
حق الله تعالى دليل وجوب
لزوم صرف المتشابه عن ظاهره ... قول مالك : الاستواء معلوم ، لا يدل على أن معناه الاستقرار
كفر من يقول أن الله مكانا ... الرد على من زعم أن وجود الله تعالى يستلزم أن له جهة
قول الشافعى : إن الله تعالى منزه عن المكان ونحوه ... بيان أن الله تعالى منزه عن الجهة والمكان
حكمة رفع الأيدى إلى السماء حال الدعاء ... بيان أنه تعالى ليس بجسم ولا يشبه شيئا من خلقه(2/35)
الله تعالى منزه عن التحيز والحركة والسكون وسائر صفات الحوادث ... حديث الجارية . كلام العلماء فيه
تنزيه الله تعالى عن التحول والجهة فتوى المرحوم الشيخ سليم البشرى فى المتشابهات (هامش) ... ( الأنبياء والرسل ) أدلة بعث النبى صلى الله عليه وسلم للأنس والجن
حكمه بكفر من اعتقد أن الله جسم . رد ما تمسك به معتقد الجهة ( هامش ) ... دليل أنه صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق
تأويل المتشابه فى اليد والوجه ... تفاضل الخلق بعده . العشرة المبشرون بالجنة
وجوه تنزيه الله تعالى عن التحول ... معجزة سيدنا إبراهيم وموسى
الرد على من زعم أن نزول الله تعالى تحول وانتقال ... انشقاق القمر لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وآله وسلم . نبع الماء من بين أصابه صلى الله عليه وسلم
حكمة تخصيص النزول بثلث الليل الأخير . كلام ابن الجوزى فيه ... زيادة الطعام معجزة له صلى الله عليه وسلم
رد ابن أبى جمرة على المجسمة فى أخذهم بظاهر حديث النزول ... سلام الحجر والشجر عليه وانقياد العذق له صلى الله عليه وسلم
الرد على من زعم أن ابن الجوزى وحماد بن زيد يحملان المتشابه على ظاهره ... حنين الجذع له صلى الله عليه وسلم . القرآن معجزة خالدة
بيان حال من تمسك بظاهر المتشابه لا يحتج بخبر الآحاد فى العقائد ... ( صفات الرسل ) الصدق العصمة
قصة هاروت وماروت . مستقر الملائكة ... تبليغهم ما أمروا بتبليغه . فظنتهم
الحفظة . الكتبة ... المستحيل فى حق الرسل
النبى أفضل من الملك ( الجن ) سماعهم القرآن من النبى صلى الله عليه وسلم وايمانهم ... الجائز فى حق الرسل
( الأجل ) حال المؤمن وقت الاحتضار وبعد الموت ... حكمة اتصافهم بالأغراض البشرية
سؤال المؤمن فى القبر ... ( السمعيات )
حال الكافر وقت الاحتضار وبعد الموت ... الملائكة
( سؤال القبر ونعيمه وعذابه ) ... ( خروج الدابة )
سؤال القبر خاص بهذه الأمة . حياة أهل القبور ... عملها مع المؤمن وغيره(2/36)
من لا يسأل فى القبر ( اليوم الأخر ) ... كم مرة تخرج ؟ ( خروج المسيح الدجال ) حديث النبى صلى الله عليه وسلم عن تميم الدارى
مفاتيح الغيب ... حديث وصف الدجال
أشراط الساعة . العلامات الصغرى . منها قبض العلم وعدم البركة فى الوقت ... من أين يخرج ؟ أيام إقامته فى الأرض ؟
متى خرجت نار الحجاز ؟ ... تقدير أوقات الصلاة فيها
أخبار النبى صلى الله عليه وسلم بقتل المسلمين اليهود ( علامات الساعة الكبرى ) ( طلوع الشمس من المغرب ) ... مكان نزول سيدنا عيسى عليه السلام . بعث يأجوج ومأجوج موتهم
غلق باب التوبة به ... الحق أن ما يظهر على يد الدجال من الخوارق حقائق لا خيالات
( نزول الدخان من السماء ) الراجح أنه من العلامات الكبرى ... نزول سيدنا عيسى عليه السلام وقتله الدجال
سد ذى القرنين . نقيه ... حديث جابر فى نزول سيدنا عيسى عليه السلام وفتنة الدجال
خروج يأجوج ومأجوج موتهم ... قتل الدجال ومن تبعه
( مشتملات اليوم الآخر ) ( لبعث ) ... الرد على من أنكر نزول سيدنا عيسى عليه السلام
( الحشر ) ... ( يأجوج ومأجوج )
أبعاد أهل الكبائر والبدع عن السير مع الصالحين . تفاوت الناس فى الحشر (الحساب) ... وصف ذى القرنين
يقاد للمظلوم من الظالم يوم الحساب ... وصف يأجوج ومأجوج . بعث النار
محاسبة العبد على الصلاة وغيرها ... الشفاعة فى فصل القضاء ، حديث لا تنال شفاعتى أهل الكبائر موضوع ( هامش )
يشهد على الفاجر يوم القيامة أحد عشر شاهدا ... تخصيص النبى صلى الله عليه وسلم أمته بشفاعة بعد الشفاعة العامة
حكمة الحساب والشهادة ( الميزان ) ... شفاعات أخرى له صلى الله عليه وسلم . حال أبى طالب فى النار ، النار
رجحان كلمة الشهادة على كتب السيئات . حال المملوك والمالك يوم الحساب ... نار الدنيا جزء من سبعين من نار الآخرة . حال أهلها
حكمة الوزن . ( الصراط ) ... استغاثة أهلها مما هم فيه
أحوال الناس فى المرور عليه دعاء المؤمنين عليه ... النار موجودة الآن . لا يخلد فيها مؤمن
((2/37)
الحوض ) . وصفه ، دليله ... يستوفى العاصى حظه من العذاب أولا ثم يدخل الجنة
هو قبل الصراط أم بعده ؟ ... ( الجنة ) وصفها . دليلها . نعيم أهلها دائم . خلودهم
( الكوثر ) . وصفه . دليله ... ليس فيها ولادة . الترغيب فى العمل لها
( الشفاعة ) ... سوق الجنة . زيارة أهلها الله تعالى
من يستحقها . أول شافع ... أدنى أهلها منزلة . آخر من يدخلها
الراجح ثبوتها . حديث ابن عباس فيها أقوى ، رد شبهة عائشة فى انكارها ... ( الخلود ) دليله
( القضاء والقدر ) الإيمان بهما ... ( رؤية الله تعالى ) دليل أن المؤمنين يرون ربهم فى الجنة بلا كيف ولا إحاطة
الأفعال كلها بقضاء وقدر ... إمكان الرؤية فى الدنيا . وقوعها للنبى صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء
السعادة والشقاء ازليان . الرد على القدرية ... ( الطهارة ) ( الماء ) أقسامه . الماء المطهر
الرد على المعتزلة فى زعمهم أن الله تعالى يشاء مالا يقع ... هل ينجس الماء القليل بوقوع نجاسة فيه ؟
منشأ خطأ الجبرية والقدرية أدلة الفرق بين الإرادة والرضا ... الجمع بين حديث القلتين وحديث الماء طهور لا ينجسه شئ
المراد نوعان ، بعض الآثار المترتبة على خلق إبليس ... حكم تطهر الرجل بفضل طهور المرأة وعكسه
بعض الآثار المترتبة على خلق الشر ... ما قيل فى نية الاغتراف
أسباب الخير ، حكمة عدم إعانة العبد أحيانا ... هل الماء المستعمل مطهر
القضاء كله خير . أقسام المقضى والعلم ... تغير الماء بطاهر ( السؤر )
( كلمة التوحيد ) ( ضبطها ) ( فضلها ) ... أقسامه
( حكم النطق بها ) ... ما ورد فى سؤر الكلب والهر
( تضمنها العقائد ) ... ما ورد فى سؤر السباع وغيرها
العقائد المندرجة تحت كلمة محمد رسول الله (كيفية الذكر وفضله) ... الحق أن سؤر الكلب نجس السؤر الطاهر وغيره
أكمله . أقسامه ... ( الدباغ ) مذهب النعمان فيما يطهر به
مباهاة الله الملائكة بالذاكرين فضل التهليل والتسبيح والحوقلة ... مذهب غيره فيما يطهر بالدباغ(2/38)
الباقيات الصالحات ( فضل الدعاء ) ... الراجح أن الدباغ يطهر جلد الميتة مطلقا . الدبغ بغير الطاهر
سيد الاستغفار . دعاء الصباح والمساء ... لا يفتقر الدبغ إلى نية . دبغ جلد للغير
دعاء جامع ( علم الفقه ) موضوعه ... ( الآنية ) المباح منها
المذاهب فى حكم استعماله ... حرمة استعمال إناء الذهب والفضة
( اتخاذ الآنف والسن من ذهب أو فضة وشد السن بهما ) المذاهب فى هذا ... الرد على من أباح استعمالهما فى غير الأكل والشرب . منع غير المكلف مما لا يحل للمكلف
( سنن الفطرة ) ... ( المضبب والمحلى بالذهب أو الفضة )
الاستحداد ( حلق العانة ) ... ( السواك ( حكمه )
( الختان ) المذاهب فى حكمه ... الأحوال التى يتأكد فيها الاستياك ( آلته ) هل يحصل فضله بالإصبع عند فقد السواك ؟
المذاهب فى وقته ... ( كيفيته ) ( الاستياك بسواك الغير )
وليمته . ختان الخنثى ... ( تنظيفه )
قص الشارب ... ( السواك للصائم )
المذاهب فيما يؤخذ منه . احفاؤه ... المختار استحبابه ولو بعد الزوال
( نتف الأبط ) ( تقليم الأظافر ) لم يرد فيه ترتيب ... رد ما يدل على عدم استياك الصائم بعد الزوال
هل لنتف الأبط ونحوه من سنن الفطرة مدة ؟ (اعفاء اللحية ) دليل حرمه حلقها ... ( غسل البراجم )
نص فقهاء المذاهب على ذلك ... ( انتقاص الماء ) ( تعريفه )
الرد على من زعم كراهة حلقها ... الاستبراء
التنديد بمن رغب عن الاهتداء بهدى النبى صلى الله عليه وسلم ... الاستنقاء ( حكم الاستنجاء ) آلته
حكم إزالة لحية المرأة ( نتف الشيب ) حكمه ... هل يلزم التثليث فى الاستنجاء بالحجر . دليل من قال بلزومه وعدم لزومه
النهى عن تغييره بالسواد ... متى يتعين الماء فى الاستنجاء عند المالكية
جوازه بالحناء ونحوها . الخلاف فى أن الخضاب أفضل أم تركه ... ( كيفية الاستجمار ) ( أنواع الاستنجاء ) ( مالا يستنجى به ) العظم والروث ونحوهما
الجمع بين ما ورد فى تغيير الشيب أمرا ونهيا. حكمه خضاب الشعر ( ما يكره فى اللحية ) ... حكمة النهى عن الاستنجاء بها(2/39)
حكم خضاب اليد والرجل بالحناء ... حكم الاستنجاء بالنجس ( آداب قضاء الحاجة )
النهى عن استقبال القبلة واستدبارها حينئذ ... ما يقال لدخول الخلاء
دليل جواز الاستقبال وضده فى المحل المعد للتخلى . دليل كراهى ذلك مطلقا ... ما يقال للخروج منه . حكمة الاستغفار والحمد بعده
جواز استقبال الشمس والقمر حال التخلى . حكم استقبال الريح ، الكف عن الكلام ... ترك استصحاب معظم حال قضاء الحاجة البعد والاستتار عن الناس حينئذ
النهى عنه حال التخلى ليس للتحريم ... الوضوء هو غير خاص بنا
دليل جواز الاستقبال وضده فى المحل المعد للتخلى . دليل كراهة ذلك مطلقا ... شروط وجوب الوضوء ( شروط صحته )
جواز استقبال الشمس والقمر حال التخلى . حكم استقبال الريح ، الكف عن الكلام ... شروط الوجوب والصحة
النهى عنه حال التخلى ليس للتحريم ... ( فروض الوضوء ) النية . التلفظ بها بدعة . شرطها
اختيار المتخلى المكان اللين أو المنخفض ... المذاهب فى حكمها . معنى حديث إنما الأعمال بالنية
اتقاؤه الحجر والطريق والظل ... غسل الوجه حده
اتقاؤه المستحم ... غسل اليدين مع المرفقين
النهى عن البول قائما . المذاهب فيه ... غسل المرفقين فرض اجماعا
رد القول باباحته مطلقا ... تحريك المتوضئ خاتمة . مسح الرأس
اتخاذ الشخص إناء يبول فيه ليلا ... دليل الاكتفاء بمسح بعضها
( شعر الرأس ) ( اعفاؤه ) حكمه
( فرقه ) حكمة موافقة أهل الكتاب . ترجيله ... المسح على العمامة
دهنه ( حلق الرأس ) ... الراجح أنه لا يجوز الاقتصار على مسحها بلا ضرورة
دليل اباحته ، القول بالكراهية ... غسل الرجلين مع الكعبين ، عدم الاكتفاء بمسحهما فى الوضوء
حرمة حلقها على النساء ( حلق بعض الرأس ) حكمة النهى عن القزع ... الرد على من يرى ذلك
( وصل الشعر ) المذاهب فيه ... الترتيب فى الوضوء . حكمه
( نمص الشعر ) ... الموالاة فى الوضوء . حكمه
الواشمة . النامصة . المتفلجة المغيرات خلق الله ... الدلك . مجمل أركان الوضوء
ما يسن فيهما ... سنن الوضوء . التسمية فى أوله(2/40)
السواك عند المضمضة ، تخليل اللحية . حكمه ... غسل اليدين إلى الرسغين
تخليل الأصابع . حكمه كيفيته ... مذهب الحنبلية فيه
التيامن فى الوضوء . رد القول بوجوبه ... ( كيفية غسل الكفين )
تثنية الغسل وتثليثه ... ( المضمضة و الاستنشاق ) حكمهما
الراجح أه لا يسن تثليث المسح ... القول بأن المضمضة سنة والاستنشاق واجب
مسح الأذنين . المذاهب فيه ... الترتيب بينهما وسائر الأعضاء
هل يسن مسحهما . مستحبات الوضوء . استقبال القبلة حال الوضوء ... حكمة تقديمهما . ( كيفيتهما )
عدم التكلم حال الوضوء ... التنشيف بعد الطهارة
السلام على المتوضئ ورده . تحريك الخاتم ونحوه ... صلاة ركعتين بعد الوضوء
البداءة بتطهير مقدم الأعضاء إطالة الغرة والتحجيل ... ( مكروهاته ) تعريف المكروه أقسامه . الإسراف فى الماء
يستحب كون الطهارة فى مكان طاهر ... الزيادة على الثلاث فى الوضوء إسراف . التقتير فى ماء الطهارة
الترتيب بين غسل الكفين وما بعده . الاقتصاد فى الماء ... مبالغة الصائم فى المضمضة والاستنشاق
مسح الصدغين فى الوضوء مسح الرقبة ... المذاهب فى استعمال الماء المشمس المختار أباحته
رد دعوى أن مسحها بدعة ... فضل الوضوء
عدم الاستعانة فى الوضوء . دليل إباحتها بصب الماء ... هدى النبى صلى الله عليه وسلم فى الوضوء
موقف المعين فيه . الدعاء بعده ... كيفية الوضوء
الدعاء المتبدل حال الوضوء ... حديث على رضى الله عنه فى كيفيته
الحكمة فى ختمه وغيره بالاستغفار ... ( نواقض الوضوء ) أقسام الناقض ، الناقض الحقيقى . الودى . المذى
ما قيل فى قراءة سورة القدر بعد الوضوء . الشرب من فضله ... دليل أن القئ ينقض الوضوء
( غياب العقل ) الاغماء ناقض للوضوء ... دليل أن القلس ينقض الوضوء
الجنون والسكر ناقضان ... الراجح أنهما لا ينقضان الوضوء هل الدم الخارج من الجسد ناقض ؟
دليل أن لمس المرأة ناقض ... دليل أنه لا ينقض وهو الراجح النوم
دليل أنه لا ينقض منه إلا المباشرة الفاحشة ... دليل أنه لا ينقض الوضوء القول بأنه ناقض(2/41)
التفرقة بين اللمس بشهوة وغيره ... التفرقه بين ثقيل النوم وخفيفه وبين النوم على هيئة المصلى وغيره
( مس الذكر ) ... التفرقة بين نوم الراكع والساجد وغيرهما وبين نوم الممكن مقعده وغيره
دليل أنه ناقض . بم يكون المس ؟ ... وضوء الأنبياء لا ينقضه النوم مطلقا
دليل أنه لا ينقض ... ( وضوء المعذور ) ما يباح به ما يبطله
الراجح أنه ناقض ... شرط ثبوت العذر ودوامه
شرط طهارة المعذور عند أحمد
( أكل لحم الإبل ) الراجح أنه غير ناقض للوضوء ... مذهب مالك فيها
( القهقهة فى الصلاة ) المذاهب فيما يترتب عليها ... أحكامها عند الشافعى
رد الطعن فى حديث نقض الوضوء بها . الزام غير الحنفيين بإيجاب الوضوء بها ... ( أقسام الوضوء ) ( الطهارة للصلاة ) متى فرضت ؟
( الشك فى الحدث ) هو أثناء الصلاة لا يبطلها ... هل الوضوء فرض لكل صلاة ؟
الاجماع على أنه لا يجب إلا من حدث
قاعدة طرح الشك . بعض مسائلها ... ( الطهارة لمس المصحف )
المذاهب فى حكم مسه وحمله للمحدث
( الردة ) اتبطل الوضوء ؟ ... ( الوضوء لذكر الله تعالى ) السلام على المتوضئ . متى يرد ؟
تغسيل الميت ... ( الوضوء لتناول ما مسته النار ) الجمع بين ما ورد فيه
الراجح عدم وجوب الوضوء من غسله . مجمل نواقض الوضوء ... ( الوضوء للنوم ) دعاء النوم
( الوضوء للغضب ) ( الوضوء للخروج من خلاف العلماء ) الوضوء الحرام والمكروه ... ( وضوء الجنب للأكل والشرب )
( المسح على الخفين ) هو خاص بنا . دليل مشروعيته ... الوضوء لمعاودة الجماع
سببه . ثمرته . حكمه ... ( الوضوء قبل الغسل )
( مدة المسح على الخفين ) ... ( الوضوء من حمل الميت )
( مدة المسح على الخفين ) ... التقاء الهتانين . ما يتحقق به
فرض المسيح وسننه وكيفيته عند الحنفيين ... دليل لزوم الغسل به ولو بلا انزال
فرضه وسننه وكيفيته عند غيرهم مكروهاته ما يبطله . هل يبطل بنزع الخف أو انتزاعه ؟ ... رد القول بأنه لا يلزم الغسل فيه إلا بالانزال . انقطاع دم(2/42)
الخف المخرق . المذاهب فى حد الخرق المانع من مسح الخف ... الحيض والنفاس
المسح على الجوربين . المذاهب فى حكمه وشروطه ... الولادة والموت والإسلام موجبات للغسل
( الغسل ) ... المذاهب فى غسل الكافر إذا أسلم . مالا يوجب الغسل
( شروطه ) ( موجباته ) ... فرائض الغسل . النية
خروج المنى . المرأة فيه كالرجل ... تعميم الجسد بالماء . نزع الخاتم ونحوه فيه . نقض الشعر فيه
هل خروج المنى بلا شهوة موجب للغسل ؟ ... مذهب غير الحنفيين فى نقض الشعر فيه
ثمرة الخلاف فى اشتراط استمرار اللذة إلى خروج المنى وعدم اشتراطه ... ( المضمضة والاستنشاق فى الغسل )
ماذا يلزم من قام من نومه فوجد بللا ؟ ... ( الدلك فيه ) ( سننه ) ( التسمية فى أوله )
مندوباته . مكروهاته . أقسام الغسل ما يسن له ... غسل الكفين والفرج . إزالة ما على الجسد من النجاسة
( غسل الجمعة ) ... السواك . الوضوء . إفاضة الماء والتيامن . تخليل اللحية والشعر
المذاهب فى وقته ... تخليل الأصابع . التثليث
( غسل العيدين ) أهو للصلاة أم لليوم ؟ ... التستر حال الغسل
غسل من غسل ميتا ... استعمال السدر ونحوه
غسل الإحرام ... جواز أخذ أجرته
غسل الوقوف بعرفة . الغسل لدخول مكة ... ( التيمم ) تعريفه . دليله . هو خاص بنا
الغسل للافاقة من جنون ونحوه ... أسبابه . التيمم لفقد الماء
يستحب الغسل للميت بمزدلفة ونحوه . هل يقوم التيمم لعذر مقام الغسل المسنون والمستحب ؟ كيفية الغسل . الغسل مجزئ وكامل ... المذاهب فيمن يلزمه طلب الماء وهو مسافر
حديث عائشة وميمونة فى كيفية الغسل ... كيفية طلب الماء . من وجد ماء يكفى بعض الطهارة يستعمله
حديث لعائشة فى كيفية غسل الحائض والنفساء ... خوف الضرر عذر يبيح التيمم
مقدار ماء الغسل ... تيمم من لم يقدر على استعمال الماء
مقدار الصاع والمد ... متى يتيمم لخوف البرد ؟
ما يحرم على الجنب ... من صلى بالتيمم ثم وجد الماء هل يعيد الصلاة؟
قراءته القرآن . ما يباح لاجله قراءته ... من تيمم لخوف عدو أيعيد الصلاة ؟ الاحتياج للماء(2/43)
منعه من دخول المسجد ولو مرورا لغير ضرورة ... التيمم لفقد الألة . شروط التيمم
رد دعوى أنه يجوز للجنب المكث فى المسجد بالوضوء . القول بأنه يجوز للنبى صلى الله عليه وسلم وسيدنا على المكث فى المسجد جنبا ورده ... الراجح صحة التيمم قبل دخول الوقت ما يتيمم به . الراجح جوازه بكل ما كان من جنس الأرض
( دخول الحمام ) منع النساء من دخوله وكذا الرجال فى هذا الزمان ... ( أركان التيمم ) النية . حكمها كيفيتها
المفاسد المترتبة على دخوله ... ( استعمال الصعيد ) كيفيته
( مكروهات التيمم ) ... ( مسح الوجه واليدين ) ما يمسح من اليدين
كيفيته المسنونة ( ما يباح بالتيمم ) ... الاحتياط كون التيمم بضربتين ومسح اليدين إلى المرفقين
الراجح أنه يباح به ما يباح بالطهارة المائية ... الموالاة . الترتيب
يجوز للجنب التيممم وأن تسبب فى الجنابة ... ( ايصال التراب إلى أعضاء التيمم ) ( سننه ) التسمية . السواك
من خاف باستعمال الماء خروج الوقت هل له التيمم ؟ ... من تيمم وصلى ثم وجد الماء فى الوقت هل يلزمه إعادة الصلاة ؟
( أقسام التيمم ) ... ما يلزم من تيمم ثم وجد الماء قبل الدخول فى الصلاة أو بعده
( نواقضه ) ... تطهير ما أصابه لعاب الكلب
( المسح على الجبيرة ) ... دليل نجاسة المنى
( حكمه ) ( الفرق بين مسحها والخف ) ... الراجح أنه نجس تطهير ما أصابه المنى
ما يبطل المسح على الجبيرة ... هل عظم الميتة ونحوه وشعرها وصوفها نجس؟
( فاقد الطهورين ) . ما يلزمه ... لبنها وأنفحتها
الراجح أنه يؤجر الصلاة حتى يقدر على المطهر . ما يلزم من لم يتمكن من الطهارة لعذر ... ( بيضها ) . ( ميتة مالا دم له سائل )
( الأنجاس ) ... ما دل عليه حديث الذباب طهارة ميتة ما لادم له سائل
من النجس الدم المسفوح ولحم الخنزير وفضلة الإنسان ... فى الذباب داء وشفاء
دليل طهارة دم النبى صلى الله عليه وسلم وفضلاته ... الطب الحديث يثبت صحة حديث الذباب
دليل نجاسة فضلات غير الآدمى ... هل دم السمك نجس ؟ الآدمى طاهر حيا وميتا(2/44)
دليل نجاسة المذى وأنه لا يوجب الغسل ... رد دعوى نجاسة شعر الآدمى تحريم الش لا يستلزم نجاسته
تطهير ما أصابه المذى . دليل نجاسة لحم ما لا يحل أكله ... هل القئ نجس أو طاهر ؟ الرطوبة تخرج من المعدة ومن الفرج نجسة أو طاهرة
ما قطع من حى فهو كميتته ... ما يسيل من فم الإنسان طاهر الجرة
ميتة السمك والجراد . ما اختلف فى نجاسته ... العلقة والمضغة . اللبن . أقسامه
دليل طهارة فضلة ما يؤكل لحمه ... الولد يخرج من الرحم طاهر الحب تأكله الدابة. الزباد طاهر
دليل القول بنجاسة فضلة ما يؤكل لحمه ... ( النجس المختص بالنساء )
تطهير ما أصابه دم الحيض ونحوه
الراجح طهارتها . لعاب الكلب نجس وأحمد ... ( الحيض ) ألوانه . المذاهب فى الصفرة والكدرة
سبب الحيض . ركنه ... هل الخضرة تراها المرأة تعتبر حيضا ؟ مدة الحيض عند الحنفيين
شرطه . مدة الطهر بين الدمين مدة الطهر للمستحاضة ... مدة الحيض عند المالكية
هل يباح وطء المرأة إذا انقطع دمها ولم تغتسل؟ النفاس ... مدة الحيض عند الشافعى
مدته . حكم من ولدت بلا دم أو من السرة ... تطهير الزيت والسمن والدهن ونحوها
المذاهب فى أكثر مدة النفاس الراجح أنها أربعون يوما ... المذاب فى حكم الانتفاع بالسمن والدهن المتنجسين وبيعهما
نفاس أم التوءمين . الطهر بين الدمين ... تطهير العسل والدبس واللحم والحبوب
ما يحرم بالحيض والنفاس . الصلاة والصوم ... تطهير السكين ونحوها
هل تثاب المرأة على ترك الصلاة زمن الحيض ؟ ... تطهير الخف ونحوه
يحرم على الحائض الطواف ودخول المسجد ... من قال يطهر الخف ونحوه بالدلك
يحرم عليها قراءة شئ من القرآن ومسه ... الظاهر أنه إنما يطهر به فى الأرض الصحراوية
يحرم عليها حمل القرآن . حرم وطء الحائض . كفارته ... تطهير الأوانى وما أصابه بول الغلام
الاستحاضة . أنواعها . حكمها ... تطهير الطوب النئ المختلط بنجاسة
أقسام المستحاضة . المعتادة الذاكرة والناسية عادتها ... تطهير غير المختلط بها . الاستحالة(2/45)
من بلغت مستخاضة ... تطهير التراب والفم والمصبوغ بنجس
وطء المستحاضة ... تطهير السكر والدقيق
الدم تراه الحامل ... تطهير الخمر بالتخلل
تطهير محل النجاسة . صفة التطهير ... تخلل العصير قبل تخمره . الانتفاع بظروف الخمر.هل المائع المزيل للنجاسة له حكم الماء؟
مذهب مالك أن إزالة النجاسة شرط لصحة الصلاة أو سنة ... هل يجوز للذمى التصرف فى الخمر ؟ حرمة أكل الفسيخ
دليل تطهير مكان المصلى وبدنه ... أسباب حرمته
النجاسة مغلظة ومخففة ... حرمة بيعه والتصرف فيه . يحلل أكل البطارخ. متى تزال النجاسة ؟
ما يعفى عنه منها ... جملة ما اشتمل عليه الأول الدين الخالص من الأدلة
المطهرات . كيفية تطهير المتنجس ... دليل ترجمة الشيخ الإمام
كيفية التطهير بالماء ... دليل موضوعات هذا الجزء
تطهير الماء النجس
تطهير المائع غير الماء
تصويب الخطأ
ص ... سطر ... خطأ ... صواب
6 ... 13 ... سنة ... سنه
7 ... نطفت ... نطقت
7 ... فتاب إلى ... فثاب إلى
10 ... ؤدى ... يؤدى
11 ... حنين ... حنين
12 ... الأيام ... الأنام
13 ... بمطلعتها ... بمطالعتها
14 ... انصروا ... انضروا
18 ... يفدو ... يفدوا
20 ... الزوام ... الزؤام
21 ... الوزير ... الوزير
22 ... ـن ... من
23 ... حامع ... جامع
25 ... ( أمد الله فى أجله ) ... (رحمة الله رحمة واسعة)
29 ... ( أمد الله تعالى فى أجله المبارك ) رحمه الله تعالى
36 ... البى ... النبى
36 ... ( ؤ الأدهى ) ... ( والأدهى )
36 ... حالة ... حاله
37 ... أقبل ... ثم أقبل
42 ... التعليق ... التعلق
45 ... السطر قبل الأخير ... مكرر ... يحذف
53 ... تبدو ... تبدوا
53 ... ( 384 ) ... ( 284 )(2/46)
الدين الخالص
أو
إرشاد الخلق إلى دين الحق
وهو آخر كتاب وضع أصله الشيخ الإمام محيي السنة ومميت البدعة
صاحب الفضيلة والإرشاد المرحوم السيد
محمود محمد خطاب السّبكى
المتوفى فى الرابع عشر من ربيع الاول سنة 1352هـ -7يوليو سنة 1933م
عمه الله تعالى بالرحمة والرضوان وأسكنه عالى الجنان
الجزء الثاني
عنى بنتقيحه وتصحيحه وتنسيقه والتعليق عليه وضبط الآيات والأحاديث وترقيمها وبيان حالها وغريبها ومراجعها خليفة الشيخ الامام المرحوم السيد
أمين محمود خطاب
المتوفى فى السابع والعشرين من ذى القعدة 1387هـ - 26 فبراير 1968م رحمه الله رحمة واسعة وجعل قبره
روضة من رياض الجنة وحشره مع الصالحين
حقوق الطبع محفوظة له
الطبعة الرابعة 1406هـ/1986م
بسم الله الرحمن الرحيم
الصلاة
قدمت على باقى العبادات ، لأنها عماد الدين ، وللإجماع على أفضليتها ، (روى ) ابن مسعود أنّ رجلا سأل النبى صلى الله عليه وسلم : أىُّ الأعمالِ أفضلُ ؟ قال : الصلاةُ لوقتها . أخرجه الشيخان(1) ... ... { 1 }
وهى لغة الدعاء . وشرعا عبادة ذات أقوال وأفعال مخصوصة ، مفتتحة بالتكبير ، مختتمة بالتسليم ، وهى مشتقة من الصلة ، لأنها توصل البعد وتقرّبه من رحمة ربه .
__________
(1) انظر ص 393ج 13 فتح البارى ( وسمى النبى صلى الله عليه وسلم الصلاة عملا – التوحيد ) وص 73 ج2 نووى ( الإيمان بالله افضل الأعمال ) والسائل ابن مسعود كما فى رواية للشيخين . وتمام الحديث : وبر الوالدين ثم الجهاد فى سبيل الله . وكما يأتى رقم 13 ص 10(1/1)
وهى ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة ، قال الله تعالى : { وَأقيمُوا الصَّلاَةَ } وقال : { إنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِين كَتاَباً مَوْقُوتاً }(1)، أى مفروضاً مقدّراً وقتها فلا تؤخر عنه ( وعن ابن عباس ) رضى الله عنهما أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال لمعاذٍ حين أرسلَه إلى اليمن : " إيك ستأتى قوما أهلَ كتابٍ فادْعُهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسولُ اللهِ ، فإِنْ هُم أطاعوك لذلك فأعْلِمهم أنّ الله تعالى قد افْترض عليهم خمسَ صلواتٍ فى كل يوم وليلة " ( الحديث ) أخرجه السبعة وقال الترمذى حسن صحيح(2) ... ... ... ... { 2 }
( وقد فرضت ) ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة ونصف . ... ... ... ... ... ... ...
( قال ) أنس بن مالك رضى الله عنه : " فُرِضَتْ على النبى صلى الله عليه وسلم ليلة أُسِرىَ به الصلاة خمسين ، ثم نُقِصتْ حتى جُعِلتْ خمسا .
ثم نودِى يا محمد : إنه لا يُبدَّل القول لدىّ ، وإن لك بهذا الخمس خمسين " أخرجه أحمد والنسائى والترمذى وقال حسن صحيح وهذا لفظه(3) ... ... ... ... ... ... ... ... { 3 }
أى أنها خمس فى العدد وخمسون فى الأجر : { مَنْ جاَء بِالْحَسْنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمثَالِهاَ }(4)
( وحكمة مشروعيتها ) القيام بشكر المنعم وتكفير الذنوب بأدائها .
(
__________
(1) سورة النساء : عجز آية 103 وصدروها " فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا " .
(2) انظر رقم 5ص 83 ج8 – الدين الخالص ( دليل الزكاة ) .
(3) انظر ص 197ج2 – الفتح الربانى . وص 77ج1 مجتبى ( فرض الصلاة ) وص 186ج1 تحفة الأحوذى ( كم فرض الله على عباده من الصلاة )
(4) الأنعام : آية 160(1/2)
روى ) أبو هريرة أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال : " أرأيتُم لو أنّ نهراً بباب أحدِكم يغتسلُ فيه كلَّ يوم خمسَ مرات ما تقولون ؟ هل يَبقى من دَرَنه ؟ قالوا : لا يبقى من درَنه شئ ، قال " فدّلك مثَلُ الصلوات الخمسِ يمحو الله بها الخطايا " أخرجه أحمد والشيخان(1) ... ... ... ... ... ... { 4 }
والإجماع على أنّ المفروض منها خمس ( قال ) طلحة بن عُبيد الله : جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم من قِبَل نْجدٍ ثائرَ الرأس يسألُ عن الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خمسُ صلوات فى اليوم والليلة . قال : هل علّى غيرهنّ ؟ قال لا ، إلا أن تطوّع " ( الحديث ) أخرجه مالك وأحمد والشيخان .(2)
( وثمرة أدائها ) سقوط الطلب والبعد عن المخالفات فى الدنيا ، ونيل الثواب في العقبى ، قال تعالى { وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ }(3). ( وعن أبى أُمامة ) أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : "اتقوا الله ربكم وصلُّوا خمسَكم ، وصوموا شهرَكم ، وأدّوا زكاةَ أمواِلكم ، وأطيعوا ذا أمْرِكم ، تدخلوا جنة ربكم " أخرجه البيهقى والترمذى وقال حسن صحيح(4) ... ... ... ... ... ... {6}
__________
(1) انظر ص202ج2 – الفتح الربانى ، وص8ج2 فتح البارى ( الصلوات الخمس كفارة ) وص170ج5 نووى ( فضل المشى إلى الصلاة – المساجد ) .
(2) انظر ص68ج1 – الفتح الربانى . ومن 78ج1 فتح البارى ( الزكاة من الإسلام – الإيمان ) = وص 166ج نووى ( الصلوات الخمس أحد أركان الإسلام ) وتطوع : بتشديد الطاء والواو، أصله تتطوع بتاءين أدغمت ثانيتهما فى الطاء ، ويجوز تخفيف الطاء بحذف إحدى التاءين .
(3) سورة العنكبوت : آية 45
(4) انظر ص 416 ج 1 تحفة الأحوذى ( فضل الصلاة ).(1/3)
هذا . وقد اختلفوا فى صلاته صلى الله عليه وسلم قبل الإسراء . فقال جماعة : إنّ النبى صلى الله عليه وسلم لم يكن عليه الصلاة مفروضة قبل الإسراء إلا ما كان أُمر به من صلاة الليل على نحو قيام رمضان من غير توقيت ولا تحديد ركعات معلومات . وكان صلى الله عليه وسلم يقوم أدنى من ثلثى الليل ونصفَه وثلثَه ، وقام معه المسلمون نحواً من حول حتى شقّ عليهم ذلك فأنزل الله التخفيف فى ذلك . فنسخه فضلا من رحمة . فلم يبق فى الصلاة فريضة إلا الخَمس . قال ابن عبد البر( وقال ) ابن عباس رضى الله عنهما فى تفسيره : قم الليل يعنى قم الليل كله إلا قليلا منه ، فاشتدّ ذلك على النبى صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه ، وقاموا الليل كله ولم يعرفوا ما حدّ القليل ، فأنزل الله تعالى : { نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً } فاشتدّ ذلك أيضاً عليهم وقاموا حتى انتفخت أَقدامهم . ففعلوا ذلك سنة فأنزل الله ناسختها فقال : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } يعنى قيام الليل من الثلث والنصف . وكان هذا قبل فرض الصلوات الخمس . فلما فرضت نسخت هذه كما نَسَخَت الزكاةُ كلَّ صدقة ، وصومُ رمضان كلَّ صوم أهـ(1).
( وقال ) الحربى : إنّ الصلاة قبل الإسراء كانت صلاة قبل الغروب وصلاة قبل طلوع الشمس(2).
__________
(1) انظر ص 223ج7 – المنهل العذب ( نسخ قيام الليل ) والمراد بالنسخ فى قوله " فلما فرضت نسخت " الانتقال من حكم إلى حكم فإن الناسخ لفرضية قيام الليل إنما هو الحديث رقم 5 فقوله فيه : " لا إلا أن تطوع " ينفى وجوب أى صلاة كانت غير الخمس فينفى وجوب قيام الليل كثيراً كان أو قليلا . انظر ص 224ج7 المنهل العذب .
(2) انظر ص 317ج1 فتح البارى – الشرح ( كيف فرضت الصلاة فى الإسراء ) .(1/4)
هذا . وقد فرضت الصلاة الرباعية أولا ركعتين ثم أربعاًً ( قالت ) عائشة رضى الله عنها : " فُرِضَت الصلاة ركعتين ثم هاجر فُفرِضت أربعاً وتُرِكتْ صلاةُ السفر على الأولى " أخرجه البخارى وأحمد وزاد من طريق ابن كيسان إلا المغرب فإنها كانت ثلاثا(1). ... ... ... ... ... ... ... { 7 }
ويأتى تمامه فى مبحث ( صلاة المسافر ) إن شاء الله تعالى . ثم الكلام بعد ينحصر فى أربعة عشر بحثاً :
( الأول ) أقسام الصلاة
هى ثلاثة عند الحنفيين : فرض وواجب ونفل . وهو يشمل المسنون والمندوب وعند غيرهم فرض ونفل (فالفرض) قسمان : ( أ ) عينى وهو ما يُلَزُم بتحصيله كلُّ من كُلِّف به كالصلوات الخمس والجمعة . (ب) فرض كفائى وهو ما يَلزم تحصيلُه فى ذاته . فإن أدّاه البعض سقط الطلب عن الجميع كصلاة الجنازة وإلا أثم الكل (والواجب ) قسمان : (أ) واجب لعينه وهو مالا يتعلق وجوبه بعارض كالوتر وصلاة العيدين وسجدة التلاوة .
(ب) واجب لغيره وهو ما يتعلق وجوبه بعارض كسجدتى السهو وركعتى الطواف وقضاء نفل أفسده والمنذور ( والنفل ) قسمان : مؤكد كركعتى الفجر . وغير مؤكد كأربع قبل العصر .
( الثانى ) سببها ( وقتها )
__________
(1) انظر ص 190ج7 منه ( التاريخ – الهجرة ) و ص 317ج1 منه ( الشرح ) .(1/5)
السبب الحقيقى لافتراض الصلاة ، إيجاب الله تعالى فى الأزل . لكن لما كان غيبيا عنا جعل الله تعالى لها أسبابا ظاهرية تيسيرا وهى الأوقات . قال تعالى : { أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ }(1)، أى زوالها ، وقال : { أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ }(2)، وقد جاء بيان أوقات الصلاة المكتوبة فى حديث ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " أمّنى جبريلُ عليه السلام عند البيتِ مرتين : فصلّى بىَ الظهرَ حين زالت الشمس وكانت قدرَ الشِّراك . وصلى بىَ العصرَ حين كان ظِلُّ كلِّ شئ مثله . وصلّى بى المغربَ حين أفطر الصائمُ . وصلى بى العشاءَ حين غاب الشفقُ . وصلى بى الفجرَ حين حرُم الطعامُ والشرابُ على الصائم . فلما كان الغدُ صلى بى الظهرَ حين كان ظلّ كل شئ مثلَه . وصلى بى العصرَ حين كان ظلُّه مِثْليه . وصلى بى المغربَ حين أفطر الصائم . وصلى بى العشاءَ إلى ثُلثِ الليل . وصلى بى الفجر فأسفرَ . ثم التفت إلىّ وقال : يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك والوقت ما بين هذين الوقتين " أخرجه أحمد وأبو داود والبيهقى وابن حبان والحاكم بسند صحيح والترمذى وقال : حديث حسن وصححه ابن عبد البر(3). ... ... ... ... { 8 }
وهناك بيان الأوقات على ترتيب الحديث :
(
__________
(1) سورة الإسراء آية : 78 .
(2) سورة هود آية : 114 .
(3) انظر ص 239ج2 – الفتح الربانى . وص 282 ج3 – المنهل العذب ( المواقيت ) و ص 140ج1 تحفة الأحوذى . و ( أمنى ) أى صلى بى إماما عند الكعبة . وكان ذلك صبيحة ليلة الإسراء . و ( الشرك ) بكسر أوله أحد سيور النعل و ( أسفر ) أى أخره على وقت الإسفار وهو ظهور نور الصبح جليا .(1/6)
أ) وقت الظهر: دل الحديث على أن أول وقت الظهر زوال الشمس عن وسط السماء فى رأى العين ، و متفق عليه ، وأن آخره أن يصير ظل كل شئ مثله ( وقد اختلف ) العلماء فى هذا ( فقال ) مالك وطائفة: إن وقت الظهر يبقى بعد أن يصير ظل الشئ مثله قدر أربع ركعات ، ويدخل وقت العصر به ، لقوله فى الحديث "فلما كان الغد صلّى بىَ الظهر حين كان ظلّ الشئ مثلّه " وقد صلى العصر فى اليوم الأوّل حين صار ظل كل شئ مثله. فظاهره اشتراكهما فى قدر أربع ركعات ( وقال ) النعمان : آخر وقت الظهر إذا صار ظل الشئ مثليه سوى ظل الزوال . لكنه خلاف ظاهر الحديث . ولذا قال أبو يوسف ومحمد والشافعى والجمهور : إنه لا اشتراك بين الظهر والعصر فى الوقت ، بل متى خرج وقت الظهر بمصير ظل الشئ مثلَه – غير ظل الزوال – دخل وقت العصر (لحديث) عبد الله بن عمرو أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال : " وقتُ الظهر إذا زالت الشمسُ وكان ظلّ الرجلِ كطوله ما لم يحضُر العصرُ " أخرجه أحمد ومسلم والنسائى وأبو داود(1). ... ... ... { 9 }
(
__________
(1) انظر ص 242ج2 – الفتح الربانى . وص 112ج5 نووى ( أوقات الصلوات ) وص90ج1 مجتبى ( آخر وقت المغرب ) وص302ج3 – المنهل العذب ( المواقيت )(1/7)
وأجابوا ) عن حديث ابن عباس بأن معناه فرغ من الظهر فى اليوم الثانى حين صار ظل الشئ مثله وشرع فى العصر فى اليوم الأوّل حينذاك . فلا اشتراك بينهما . فهذا التأويل متعين للجمع بين الأحاديث ، ولأنه إذا حمل على الاشتراك يكون آخر وقت الظهر مجهولا ، لأنه إذا ابتدأ بها حين صار ظل كل شئ مثله ، لم يعلم متى فرغ منها . وحينئذ لا يحصل بيان حدود الأوقات . وإذا حمل على ذلك التأويل حصل معرفة آخر الوقت وانتظمت الأحاديث(1)وهذا تأويل حسن لو لم يعارضه ما فى حديث جابر أن جبريل أتى النبى صلى الله عليه وسلم يُعلّمه مواقيتَ الصلاة ، فتقدّم جبريل ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم خلفَه والناسُ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم. فصلى الظهر حين زالت الشمس . وأتاه حين كان الظلّ مثلَ شخْصه فصنع كما صنع . فتقدّم جبريل ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم خلفه والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى العصر ( الحديث ) وفيه : ثم أتاه فى اليوم الثانى حين كان ظلُّ الرجل مثل شخصه فصنع كما صنع بالأمس فصلى الظهر . ثم أتاه جبريل حين كان ظل الرجل مثلى شخصه فصنع كما صنع بالأمس فصلى العصر " أخرجه النسائى(2). ... ... { 10 }
فهذا صريح فى أنه تقدم للظهر فى اليوم الثانى بعد صيرورة ظل الرجل مثل شخصه كما صنع فى العصر فى اليوم الأول .
( فائدة ) طريق معرفة الزوال أن يُنصَب عود مستقيم على أرض مستوية ويجعل عند منتهى الظل علامة ، فما دام ظل العود ينقص فالشمس لم تزل ومتى وقف فهو وقت الاستواء . وحينئذ تجعل علامة على رأس الظل . فما بين العلامة وأصل العود هو المسمى فئ الزوال . وإذا أخذ الظل فى الزيادة ، علم أن الشمس زالت ، فتوضع علامة على رأس الزيادة . فإذا صار ظل العود مثله من العلامة – لا من العود – جاء وقت العصر .
__________
(1) انظر ص110ج5 شرح مسلم .
(2) انظر ص89ج1 مجتبى ( التشديد فى آخر العصر ) .(1/8)
هذا . ويستحب الإبراد بظهر الصيف ( أى تأخير صلاته عن أوّل وقتها إلى أن تنكسر شدة الحر ) بشرط أن يُصَلَّى قبل أن يصير الظل مثله . ويستحب تعجيل ظهر الشتاء عند الجمهور ومنهم الحنفيّون ( لحديث ) أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " إذا اشتد الحر فأبرِدوا بالصلاة ( وفى رواية بالظهر ) فإن شدة الحر من فيح جهنم " أخرجه مالك وأحمد الشيخان(1). ... ... ... ... ... { 11 }
(وقال) أبو خلْدة خالد بن دينار: صلى بنا أميرنا الجمعة ثم قال لأنس : كيف كان النبى صلى الله عليه وسلم يصلى الظهر ؟ قال: " كان إذا اشتد البرد بكّر بالصلاة . وإذا اشتد الحر أبرد الصلاة " أخرجه البخارى(2).{ 12 }
__________
(1) انظر ص 252ج2 – الفتح الربانى . وص 12ج2 فتح البارى الإبراد ( الإبراد بالظهر فى شدّة الحر ) وص118ج5 نووى . و ( فيح جهنم ) بفتح الفاء وسكون الياء : شدّة حرها وغليانها قال القاضى عياض : اختلف فى معناه . فقيل هو على ظاهره . وقيل بل هو من باب التشبيه . وتقديره إن شدة الحر تشبه نار جهنم فاحذروه واجتنبوا ضرره . والأوّل أظهر . قال النووى وهو الصواب ، لأنه ظاهر الحديث ولا مانع من حملة على حقيقته . انظر ص120ج5 شرح مسلم. = ويدل له حديث : شكت النار إلى ربها فقالت : رب أكل بعض بعضاً ، فأذن لها بنفسين نفس فى الشتاء ونفس فى الصيف فأشدها ما تجدون من الحر . واشد ما تجدون من الزمهرير . أخرجه البخارى عن أبى هريرة . انظر ص 210ج6 فتح البارى ( صفة النار – بدء الخلق ) .
(2) انظر ص 265ج2 منه ( إذا اشتد الحر يوم الجمعة ) .(1/9)
والجمعة كالظهر . والأمر فى الحديث للندب عند الجمهور وقيل للإرشاد . والقرينة الصارفة له عن الوجوب : الأحاديث الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالهاجرة ( شدة الحر ) وأيضاً لما كانت الحكمة فى الإبراد دفع المشقة عن المصلى ، كان ذلك من باب النفع له ، فلو كان الأمر للوجوب لكان حرجاً وتضييقاً عليه ، فيعود الأمر عليه بالضرر ( وظاهر ) الأحاديث يدل على أنه لا فرق فى الإبراد بظهر الصيف بين الجماعة والمنفرد والبلاد الحارة وغيرها . وبه قال الحنفيون وأحمد وإسحاق ( وقال ) أكثر المالكية : الأفضل للمنفرد التعجيل . لكن مقتضى التعليل الذى يتسبب عنه ذهاب الخشوع أنه لا فرق بين المنفرد وغيره ( وخصه ) الشافعى بالبلد الحار لظاهر التعليل . وقيد الجماعة بما إذا كانوا يأتون المسجد من بعيد . أما إذا كانوا مجتمعين أو يمشون فى ظل ، فالأفضل التعجيل . لكن ظاهر الأحاديث عدم الفرق ( وقال ) الهادى والقاسم وغيرهما : تعجيل الظهر أفضل مطلقاً متمسكين بأحاديث أفضلية أول الوقت كحديث ابن مسعود قال : " سألت النبى صلى الله عليه وسلم أى العمل أفضل ؟ قال : الصلاة فى أول وقتها " أخرجه الدار قطنى والحاكم وقال : هو صحيح على شرط الشيخين(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 13 }
وبحديث خباب قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء فلم يشكنا . أخرجه أحمد ومسلم والنسائى والبيهقى وابن المنذر ، وزاد : وقال إذا زالت الشمس فصلوا(2). ... ... { 14 }
(
__________
(1) انظر ص 91 – الدار قطنى . وص 188ج1 مستدرك .
(2) انظر ص 251ج2 – الفتح الربانى ( وقت الظهر وتعجيلها ) وص 121ج5 نووى 3 . وص 86 .ج1 مجتبى ( المواقيت ) و ( الرمضاء ) الرمل إذا اشتدت حرارته ( فلم شكنا ) بضم فسكون فكسر – أى لم يعذرنا ولم يزل شكوانا .(1/10)
وتأولوا حديث ) الإبراد بأن معنى أبردوا : صلوا أول الوقت أخذا من برد النهار وهو أوله . وهو تأويل بعيد يرده التعليل بشدة الحر ( ويجاب ) (أ) بأن الأحاديث الواردة فى تعجيل الظهر وأفضلية أول الوقت عامة أو مطلقة وحديث الإبراد خاص أو مقيد ، ولا تعارض بين عام وخاص ولا بين مطلق ومقيد . فتأخير الظهر عن أول وقتها مطلوب فى شدة الحر .ويطلب التعجيل فيما عدا ذلك . (ب) عن حديث خباب بأنه منسوخ بحديث المغيرة بن شعبة قال : صلى بنا النبى صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر بالهجير ثم قال : إن شدة الحر من فيح جهنم فأبردوا بالصلاة . أخرجه أحمد وابن ماجه بسند صحيح وابن حبان فى صحيحه والطحاوى(1). ... ... { 15 }
وقال : فأخبر المغيرة أن أمر النبى صلى الله عليبه وسلم بالإبراد بالظهر بعد أن كان يصليها فى الحر فثبت بذلك نسخ تعجيل الظهر فى شدة الحر أهـ أو يحمل حديث خباب على أن القوم طلبوا تأخيرا زائدا على قدر الإبراد . لأن الإبراد أن يؤخر بحيث يصير للحيطان ظل يمشون فيه ويتناقص الحر ( وقال ) النووى : اختلف العلماء فى الجمع بين هذين الحديثين فقال بعضهم : الإبراد رخصة والتقديم أفضل . واعتمدوا حديث خباب ،
وحملوا حديث الإبراد على الترخيص والتخفيف فى التأخير ( وبهذا قال ) بعض أصحابنا وغيرهم أهـ(2)( أقول) والظاهر أن حديث الإبراد خباب منسوخ . ولو سلمنا جهل التاريخ وعدم معرفة المتأخر فأحاديث الإبراد أرجح ، لأنها فى الصحيحين وغيرهما بطرق متعددة . وحديث خباب فى مسلم فقط . ولا شك أن المتفق عليه مقدم. وكذا ما جاء من طرق .
(
__________
(1) انظر ص 252ج2 – الفتح الربانى . وص 120ج1 – ابن ماجه ( الإبراد بالظهر فى شدة الحر ) وص 111ج1 شرح معانى الآثار .
(2) انظر ص 117 ج5 شرح مسلم .(1/11)
ب) وقت العصر : يدخل وقته بصيرورة ظل الشئ مثله بعد الزوال لحديث جبريل السابق وهو مذهب مالك والشافعى وأحمد وأبى يوسف ومحمد وزفر والطحاوى . ورواية الحسن بن زياد عن النعمان . وبه يفتى عند الحنفيين .
( وروى ) محمد عن النعمان أن وقت العصر إنما يدخل بصيرورة ظل الشئ مثليه مستدلا بقول النبى صلى الله عليه وسلم : أبردوا بالظهر بمعنى صلوها إذا سكنت شدة الحر . واشتداد الحر فى بلادهم يكون وقت صيروة ظل الشئ مثله ولا يفتر الحر إلا بعد المثلين ( ورد ) بأن هذا غير مسلم ( قال ) أبو ذر : كنا مع النبى صلى الله عليه وسلم فى سفر فأراد المؤذن أن يؤذن الظهر فقال أبرد ثم أراد أن يؤذن فقال : أبرد مرتين أو ثلاثا حتى رأينا فئ التلول ( الحديث ) أخرجه الشيخان وأبو داود(1). ... ... ... ... ... { 16 }
__________
(1) انظر ص 14ج2 فتح البارى ( الإبراد بالظهر فى السفر ) وص 118ج5 نووى . وص313ج3 – المنهل العذب ( وقت صلاة الظهر ) والفئ: الظل بعد الزوال سمى بذلك لأنه ظل فاء من جانب إلى جانب أى رجع . والفئ الرجوع والمراد أنه أخر الظهر حتى صار للتلول ظل وهى منبطحة لا يصير لها ظل فى العادة إلا قرب العصر .(1/12)
فقوله : حتى رأينا فئ التلول يدل على أن نهاية الإبراد مجرد ظهور الظل لا صيرورة ظل الشئ مثله . على أن الأحاديث الكثيرة الصحيحة صريحة فى أن وقت العصر يدخل بصيرورة ظل الشئ مثله وأحاديث المثلين ليست صريحة فى أنه لا يدخل وقت العصر إلا بصيرورة ظل الشئ مثليه . وإنما استنبط منها ما ذكر . والمستنبط لا يعارض الصريح . ولذا روى رجوع النعمان إلى قول الجمهور ( واختلف ) فى آخر وقت العصر ( فقال ) الجمهور آخر وقته غروب الشمس ( لحديث ) أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : من أدرك ركعة من العصر قبل أن ترعب الشمس . فقد أدرك العصر . أخرجه الستة وقال الترمذى : حسن صحيح(1) ... { 17 }
( وقال ) الاصطخرى : آخره مصير ظل الشئ مثليه ويكون قضاء بعده ، مستدلا بحديث جبريل أنه صلى العصر فى اليوم الأول عند مصير ظل الشئ مثله ، وفى اليوم الثانى عند مصير ظل الشئ مثليه ثم قال " الوقت ما بين هذين الوقتين ( وأجاب ) الجمهور بحمل قوله فى حديث جبريل " الوقت ما بين هذين(2)" على الوقت غير المكروه . ولذا قالوا تأخير المغرب مطلقا مكروه . وكذا تأخير العشاء إلى ما بعد نصف الليل . وليس المراد فى حديث جبريل استيعاب وقت الاضطرار والجواز ، وهذا التأويل لابد منه جمعا بين الأحاديث . فمن كان مضطرا امتد وقت العصر فى حقه إلى الغروب . وغير المعذور يصلى ما دامت الشمس بيضاء نقية . فإن أخر العصر إلى ما بعد الاصفرار كره .
(
__________
(1) انظر ص 38ج2 فتح البارى ( من أدرك من الفجر ركعة ) وص 106ج5 نووى ( من أدرك ركعة من الصلاة ) وص330ج3 – المنهل العذب ( الصلاة الوسطى ) وص 90ج1 مجتبى ( من أدرك ركعتين من العصر ) وص 165ج1 تحفة الأحوذى وص 123ج1 – ابن ماجه (وقت الصلاة فى العذر ) .
(2) تقدم رقم 8ص 6 .(1/13)
قال ) العلاء بن عبد الرحمن : دخلنا على أنس بن مالك فقام يصلى العصر فلما فرغ ذكرنا تعجيل الصلاة فقال : سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول : تلك الصلاة المنافقين ثلاثا . يجلس أحدهم حتى إذا اصفرت الشمس فكانت بين قرنى شيطان ، قام فنقر أربعا لا يذكر الله عز وجل فيها إلا قليلا . أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذى وقال : حديث حسن صحيح(1) ... ... ... ... ... ... ... { 18 }
( وفى الحديث ) التنفير من الإسراع فى الصلاة ، وعدم إكمال الاطمئنان والخشوع والأذكار المطلوبة فيها.
(
__________
(1) انظر ص265ج2 – الفتح الربانى ( وعيد من أخر العصر عن وقتها ) وص 123ج5 نووى ( التكبير بالعصر ) وص 334ج3 – المنهل العذب ( التشديد فى تأخير العصر ) وص 149ج1 تحفة الأحوذى ( تعجيل العصر ) . ( واختلفوا ) فى المراد من قوله بين قرشى شيطان . فقيل هو على حقيقته فالمراد أنه يحاذيها بقرينه عند غروبها وكذا عند طلوعها ، لأن الكفار يسجدون لها حينئذ فيقارنها الشيطان ، ليكون الساجد حينئذ كأنه ساجد له ( وقيل ) إنه من باب المجاز والمراد بقرينه علوه وارتفاعه وغلبه أعوانه ( قال الخطابى ) هو تمثيل ، لأن تأخيرها إنما هو بتزيين الشيطان ومدافعته لهم عن تعجيلها كمدافعة ذوات القرون لما تدفعه والصحيح الأول . انظر ص 124ج5 شرح مسلم .(1/14)
فائدة ) قال النووى : للعصر خمسة أوقات : وقت فضيلة وهو أول وقتها . ووقت اختيار يمتد إلى أن يصير ظل الشئ مثليه . ووقت جواز بلا كراهة إلى الاصفرار . ووقت جواز مع كراهة حال الاصفرار إلى الغروب ووقت عذر وهو وقت الظهر لمن جمع بين الظهر والعصر جمع تقديم لسفر أو مطر . ويكون فى هذه الأوقات أداء . فإذا فاتت كلها بغروب الشمس صارت قضاء(1)( والمشهور ) عند المالكية أن تأخير العصر إلى وقت الاصفرار وما بعده إلى الغروب لا يجوز إلا لذى عذر كحائض ونفساء فهو وقت ضرورة . و ( جملة ) القول عندهم أن للظهر وقتين : ( أ ) وقت اختيارى من الزوال إلى ما يسع أربع ركعات بعد صيرورة ظل كل شئ مثله (ب) وقت ضرورة لذى العذر وهو ما بعد ذلك إلى ما قبل الغروب بما يسع خمس ركعات . وللعصر وقتان :
(أ) وقت اختيار من صيرورة ظل كل شئ مثله إلى الاصفرار . (ب) وقت ضرورة لذى العذر من الاصفرار إلى الغروب ( وقال ) الحنفيون : يستجب تأخير العصر صيفا وشتاء فى غير يوم الغيم إلى ما قبل اصفرار الشمس . ويكره تأخيرها إلى الاصفرار وما بعده ، ( لقول ) على بن شيبان : قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يؤخر العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية . أخرجه أبو داود . وفى سنده يزيد بن عبد الرحمن بن على بن شيبان . وهو مجهول(2) ... ... ... ... ... ... ... ... { 19 }
(ج) وقت المغرب : يدخل وقت صلاة المغرب بغروب الشمس وهو مجمع عليه ، لحديث سلمة بن الأكوع أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يصلى المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب . أخرجه السبعة إلا النسائى وقال الترمذى حسن صحيح(3). ... ... ... ... ... ... ... { 20 }
(
__________
(1) انظر ص110 منه ( أوقات الصلوات ) .
(2) انظر ص 320ج3 المنهل العذب ( وقت العصر ) .
(3) انظر ص266ج2 – الفتح الربانى . وص29ج2 فتح البارى ( وقت المغرب ) وص 25ج5 نووى وص 340ج3 – المنهل العذب . وص151ج3 تحفة الأحوذى . وص121ج1 ابن ماجه .(1/15)
واختلفوا ) فى آخره : فمشهور مذهب المالكية أن وقتها المختار ينتهى بمضى ما يسعها بعد الأذان والإقامة وتحصيل شروطها . وهى الطهارة من الحد والخبث ، وستر العورة ، واستقبال القبلة . وبه قال الأوزاعى والشافعى فى الجديد ، لحديث جبريل السابق . ففيه أنه عليه السلام صلى بالنبى صلى الله عليه وسلم المغرب فى اليومين حين أفطر الصائم ( ومشهور ) مذهب الشافعية أنه يمتد وقتها إلى قبيل مغيب الشفق الأحمر . وبه قالت الحنبلية وأبو يوسف ومحمد . وهو قول للمالكية ورواية عن النعمان ، لحديث ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: الشفق الحمرة فإذا غاب الشفق وجبت العشاء .أخرجه الدار قطنى وابن خزيمة وصححه والبيهقى(1){21}
وفى حديث ابن عمرو أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ووقت المغرب ما لم يسقط فور الشفق(2)(والمشهور ) عن النعمان أنه يمتد إلى مغيب الشفق الأبيض ( لما فى ) حديث أبى هريرة : وإن أول وقت المغرب حين تغرب الشمس . وإن آخر وقتها حين يغيب الأفق . أخرجه أحمد والنسائى والترمذى والدار قطنى والطحاوى والحاكم وقال : صحيح الإسناد وصححه ابن السكن(3). ... ... ... ... ... { 22 }
والمراد بالأفق الشفق ففى رواية الترمذى " وإن آخر وقتها حين يغيب الشفق . فلا يدل على الدعوى لأن الشفق الحمرة . ولا تنافى بين أحاديث الشفق وحديث جبريل ، لأنها محمولة على وقت الجواز . وهو محمول على وقت الفضيلة . والراجح القول بانتهاء وقت المغرب بمغيب الشفق الأحمر ، لقوة أدلته .
__________
(1) انظر ص 100 – الدار قطنى . وص 373ج1 بيهقى ( دخول وقت العشاء بغيبوبة الشفق ) .
(2) هذا بعض حديث تقدم صدوره رقم 9ص07 و ( فور الشفق ) بالفاء مفتوحة بقية حمرة الشمس بعد الغروب . وفى رواية مسلم ( ثور الشفق ) بالثاء أى انتشاره .
(3) انظر ص 292ج2 – الفتح الربانى . وص 141ج1 تحفة الأحوذى ( مواقيت الصلاة ) وص 97 – الدار قطنى . وص 89ج1 شرح معانى الآثار .(1/16)
واتفقوا على استحباب تعجيل المغرب ، لحديث جبريل ، ولحديث أبى أيوب أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " بادروا بصلاة المغرب قبل طلوع النجوم " أخرجه أحمد والطبرانى بسند رجاله ثقات(1){ 23 }
( قال ) النووى : إن تعجيل المغرب عقيب غروب الشمس مجمع عليه ( وأما ) الأحاديث الواردة فى تأخير المغرب إلى قرب سقوط الشفق فكانت لبيان جواز التأخير وأحاديث التعجيل المذكورة فى هذا الباب وغيره إخبار عن عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتكررة التى واظب عليها إلا لعذر فالاعتماد عليها أهـ بتصرف(2).
(
__________
(1) انظر ص 266ج2 – الفتح الربانى . وص 310ج1 مجمع الزوائد ( وقت المغرب ) .
(2) انظر ص 136 ج5 شرح مسلم ( أول وقت المغرب ) .(1/17)
د) وقت صلاة العشاء : أول وقت العشاء من مغيب الشفق الأحمر أو الأبيض على الخلاف السابق . والراجح الأول ( قال ) ابن سيد الناس فى شرح الترمذى : وقد علم كل من له علم بالمطالع والمغارب أن البياض لا يغيب إلا عند ثلث الليل الأول . وهو الذى حدّ عليه السلام خروج أكثر الوقت به . فصح يقيناً أن وقتها داخل قبل ثلث الليل الأول بيقين . فقد ثبت بالنص أنه داخل قبل مغيب الشفق الذى هو البياض . فتبين بذلك يقيناً أنّ الوقت داخل بالشفق الذى هو الحمرة(1)وأما الآخر وقتها الاختيارى فثلث الليل الأول عند الشافعى فى أحد قوليه . وهو مشهور مذهب المالكية ، لما فى حديث جبريل(2)( وقال ) الشافعى فى أحد قوليه : إن آخر وقتها الاختيار نصف الليل وهو رواية عن مالك . لقوله فى حديث عبد الله بن عمرو " ووقت العشاء إلى نصف الليل(3)" (ولقول) أنس : أخَّر النبى صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل ثم صلى ثم قال : قد صلى الناس وناموا . أَمَا إنكم فى صلاة ما انتظرتموها . قال أنس : كأنى أنظر إلى وبيص خاتمه لَيْلَتَئِذٍ " أخرجه الشيخان(4){ 24 }
( ولحديث ) أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " لولا أن أشُقَّ على أمتى لآمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه " أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذى وصححه(5) ... ... ... ... { 25 }
__________
(1) انظر ص 411 ج1 نيل الأوطار ( وقت صلاة العشاء ) .
(2) تقدم رقم 8 ص 6 .
(3) هذا بعض حديث تقدم صدره رقم 9 ص 7 .
(4) انظر ص 35ج2 فتح البارى . وص 139ج5 نووى ( وقت العشاء ) و ( الوبيص ) بالباء الموحدة والصاد المهملة : البريق ، والخاتم بكسر التاء وفتحها .
(5) انظر ص 274ج2 الفتح الربانى . وص 121ج1 ابن ماجه ( وقت العشاء ) و ص 152ج1 تحفة الأحوذى ( تأخير العشاء ) .(1/18)
وهو نص فى أن ترك التأخير إنما هو للمشقة ( قال ) النووى التأخير المذكور فى الأحاديث كلُّه تأخير لم يخرج به عن وقت الاختيار . وهو نصف الليل أو ثلث الليل(1)( وقد ) اختلف العلماء فى أن الأفضل تقديمها أو تأخيرها . وهما قولان لمالك والشافعى . فمن فضل التأخير احتج بهذه الأحاديث ، ومن فضل التقديم ، احتج بأن العادة الغالبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هى التقديم . وإنما أخرها فى أوقات يسيرة لعذر أو لبيان الجواز . ولو كان تأخيرها أفضل مطلقاً لواظب عليه وإن كان فيه مشقة(2).
وينبغى للإمام أن يعجل بها إذا اجتمع الناس فى أول الوقت وأن يؤخرها إذا تأخروا ( لقول ) جابر : " كان النبى صلى الله عليه وسلم يُصلى الظهر بالهاجِرة والعصرَ والشمسُ نقّية . والمغربَ إذا وجبت الشمسُ . والعشاء أحيانا يؤخّرها وأحياناً يعِّجلُ . كان إذا رآهم اجتمعوا عجَّل . وإذا رآهم أبطئوا أخّر . والصبح كانوا أو كان النبى صلى الله عليه وسلم يصليها بغلٍَس " أخرجه أحمد والشيخان(3) ... ... ... ... ... { 26 }
( فالحديث ) يدل على استحباب تأخير صلاة العشاء إذا لم يجتمع المصلون . والمبادرة بالصلاة عند اجتماعهم .
( وأما ) وقت الجواز والاضطرار فهو ممتدّ إلى الفجر ، لما فى حديث أبى قتادة من قوله صلى الله عليه وسلم : " أمَا إنه ليس فى النوم تفريط ، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجئ وقت الصلاة الأخرى " أخرجه مسلم(4) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 27 }
__________
(1) انظر ص 137ج5 شرح مسلم .
(2) ص 136 ، 138 منه .
(3) ص 244ج2 الفتح الربانى ( جامع الأوقات ) وص 28ج2 فتح البارى ( وقت المغرب ) و 144ج5 نووى ( التبكير بالصبح ) و ( الهاجرة ) شدة الحرّ نصف النهار . و ( جبت ) أى غابت . و ( الغلس ) محرّك : ظالمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح .
(4) هذا بعض حديث طويل ذكره مسلم فى ( قضاء الفائتة ) ص 184ج5 نووى .(1/19)
فإنه ظاهر فى امتداد وقت كل صلاة إلى دخول وقت الصلاة الأخرى ، إلا أن صلاة الصبح مخصوصة من هذا العموم ، لإجماعهم على أن وقتها ينتهى بطلوع الشمس ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : " ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس(1)" وتقدم الجواب عن حديث جبريل .
( فائدتان ) ( الأولى ) قالت المالكية : للمغرب وقتان :
(أ) وقت اختيار ، من الغروب إلى ما يسع أداء المغرب بعد تحصيل شروطه من الطهارة وغيرها كما تقدم. وقيل إلى مغيب الشفق الأحمر .
(ب) وقت ضرورة – لذى العذر كالحائض والنفساء – يكون بعد الاختيارى إلى أن يبقى ما يسع أربع ركعات قبل الفجر . وللعشاء وقتان :
( أ ) وقت اختيار ، من مغيب الشفق الأحمر إلى ثلث الليل . وقيل إلى نصفه .
( ب ) وقت ضرورة – لذى العذر – من ثلث الليل أو نصفه إلى الفجر .
( الثانية ) يكره النوم قبل صلاة العشاء والكلام بعدها إلا فى مصلحة ، ( لحديث ) أبى بَرْزة الأسلَمىِّ : "أنِّ النبى صلى الله عليه وسلم كان يَستحِب أن يُؤَخِّرَ العشاءَ التى يسمونها العتَمة . وكان يكره النومَ قبلها والحديثَ بعدها " أخرجه السبعة وقال الترمذى : حسن صحيح(2). ... ... ... ... ... ... { 28 }
(
__________
(1) هذا عجز حديث تقدم صدره رقم 9 ص 7 .
(2) ص 272ج2 – الفتح الربانى . وص 34ج2 فتح البارى . وص 91ج1 مجتبى وص 153ج1 تحفة الأحوذى ( كراهية النوم قبل العشاء والسمر بعدها ) وص 123 ج1 – ابن ماجه .(1/20)
وقال ) ابن سيد الناس فى شرح الترمذى : وقد كرهه جماعة وأغلظوا فيه : منهم عمر وابنه وابن عباس. وإليه ذهب مالك ( ورخص ) فيه بعضهم . منهم علىّ وأبو موسى وهو مذهب الكوفيين ( وشرط ) بعضهم أن يجعل معه من يوقظه لصلاتها . وروى عن ابن عمر مثله . وإليه ذهب الطحاوى ( وقال ) ابن العربى : إنّ ذلك جائز لمن علم من نفسه اليقظة قبل خروج الوقت بعادة أو يكون معه من يوقظه ( والحكمة ) فى كراهة النوم قبلها ، لئلا يذهب النوم بصاحبه ويستغرقه فتفوته أو يفوته فضل وقتها المستحب ، أو يترخص فى ذلك الناس فينامون عن إقامة جماعتها(1)( واحتج ) من قال بالجواز بلا كراهة ( بحديث ) عائشة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعْتَمَ بالعشاء حتى ناداه عمر : نام النساء والصبيان ( الحديث ) أخرجه أحمد والشيخان والنسائى(2){29}
__________
(1) ص 416ج1 نيل الأوطار .
(2) ص 276ج2 الفتح الربانى ( تأخير العشاء ) وص 34ج2 فتح البارى ( النوم قبل العشاء لمن غلب ) وص 137ج5 نووى . وص 93ج1 مجتبى ( آخر وقت العشاء ) .(1/21)
وجه الدلالة أنهم ناموا قبل العشاء ولم ينكر عليهم ( لكن ) قال ابن سيد الناس : وما أرى هذا من هذا الباب ولا نعاسهم فى المسجد وهم فى انتظار الصلاة من النوم المنهى عنه . وإنما هو من السِّنَة التى هى مبادئ النوم(1)( وقد ) أشار الحافظ إلى الفرق بين هذا النوم والنوم المنهى عنه قال : ( باب النوم قبل العشاء لمن غُلِب ) فى الترجمة إشارة إلى أن الكراهة مختصة بمن تعاطى ذلك مختاراً(2)( ومما ) يدل على كراهة الحديث بعدها (حديث) ابن مسعود أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " لا سمَر بعد الصلاة يعنى العشاء الآخرة إلا لأحد رجلين مصلّ أو مسافر " أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبرانى فى الكبير بسند رجاله ثقات(3) ... ... { 30 }
( وقالت ) عائشة : " السمَر لثلاثة : لعروس أو مسافر أو متهجد بالليل " أخرجه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح(4) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 31 }
__________
(1) ص 416ج1 نيل الأوطار .
(2) ص 34ج2 فتح البارى .
(3) ص 271ج2 الفتح الربانى . وص 314ج1 مجمع الزوائد ( النوم قبلها والحديث بعدها ) و ( مصل ) أى متهجد .
(4) ص 314 ج1 مجمع الزوائد .(1/22)
وكان عمر يضرب الناس على الحديث بعد العشاء لغير مصلحة ويقول : أسمَراً أول الليل ونوما آخره ؟ (وحكمه الكراهة ) أنه يؤدّى إلى السهر فيخشى منه إذا نام أن يفوته قيام الليل أو صلاة الصبح فى وقتها المختار أو الجائز . ولأنّ السهر فى الليل سبب للكسل فى النهار عما يطلب من الطاعات والمصالح ( ويدل ) على جواز الحديث بعد العشاء لمصلحة ، قول عمر ابن الخطاب رضى الله عنه : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسُمر مع أبى بكر فى الأمر من أمر المسلمين وأنا معهما " أخرجه أحمد النسائى والترمذى . ورجاله رجال الصحيح . وفيه انقطاع بين علقمة وعمر . ولذا حسنه الترمذى . ولم يصححه(1) ... ... ... ... { 32 }
وقال : وقد اختلف أهل العالم فى السمر بعد العشاء الآخرة ( فكرهه ) قوم منهم بعد صلاة العشاء . ورخص فيه بعضهم إذا كان فى معنى العلم وما لابُدَّ منه من الحوائج . وأكثر أهل الحديث على الرخصة أهـ (وهذا ) الحديث يدل على عدم كراهة السمر بعد العشاء إذا كان لحاجة دينية عامّة أو خاصة . وحديث أبى برزة وابن مسعود وغيرهما ، يدل على الكراهة. وهى محمولة على الكلام المباح الذى ليس فيه فائدة تعود على صاحبه.
(
__________
(1) ص 272ج2 الفتح الربانى وص 153 ج1 تحفة الأحوذى ( الرخصة فى السمر بعد العشاء ) ويسمر ، كينصر من السمر وهو الحديث ليلا .(1/23)
هـ ) وقت صلاة الصبح : اتفق العلماء على أنّ أوّل وقت الصبح طلوع الفجر الصادق . وآخره طلوع الشمس إلا ماروى عن ابن القاسم وبعض أصحاب الشافعى من أنّ آخر وقتها الإسفار ( واختلفوا ) فى وقتها المختار ( فقال ) مالك والشافعى وأحمد وإسحاق : يستحب المبادرة بصلاة الصبح أوّل الوقت ( لقول ) عائشة رضى الله عنها : " إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيُصلى الصبح فينصرف النساء متلفِّعاتٍ بمروطهن ما يُعْرَفْن من الغَلَس " أخرجه مسلم والثلاثة . وقال الترمذى : حسن صحيح(1) ... ... ... { 33 }
ولقوله تعالى : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } وتعجيل الصلاة من باب المسارعة إلى الخير ( وفى حديث أبى مسعود ) وصلى – يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم – الصبح مرة بغلس . ثم صلى مرة أخر فأسْفَر . ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات ، ولم يعد إلى أن يُسْفِر " أخرجه أبو داود(2){ 34 }
__________
(1) ص 44ج5 نووى ( التبكير بالصبح ) وص 348ج3 المنهل العذب ( وقت الصبح ) وص 194ج1 مجتبى ( التغليس فى الحضر ) وص 142ج1 تحفة الأحوذى ( ومتلفعات ) بالعين المهملة بعد الفاء ، أى متلففات بأكسيتهن ( والمروط ) بضم الميم جمع مرط بكسر فسكون ، الأكسية المعلمة من صوف أوخز ( وأما ) حديث ابن عمر مرفوعا : الوقت الأول من الصلاة رضوان الله . والوقت الآخر عقو الله . فقد أخرجه الترمذى ( ص 154ج1 تحفة الأحوذى ) والبيهقى وقال : هذا حديث يعرف بيعقوب ابن لويد المدنى . منكر الحديث ضعفه يحيى بن معين وكذبه أحمد بن حنبل وسائر الحفاظ ونسبوه إلى الوضع ( ص 435ج1 بيهقى . التعجيل بالصلوات ) .
(2) هذا عجز حديث طويل صره : نزل جبريل فأخبرنى بوقت الصلاة . انظر ص 290ج3 – المنهل العذب ( المواقيت ) .(1/24)
وما إلى ذلك من الأحاديث الصحيحة الصريحة فى أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلى الصبح بغلس (وقال) الحنفيون والثورى وأكثر العراقيين : الإسفار بالصبح أفضل ( لحديث ) رافِع بن خَديج أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " أسفروا بالفجر فإنه أعظُم للأجر " أخرجه أحمد والنسائى والترمذى وقال : حسن صحيح وابن ماجه وابن حبان والطبرانى وصححه غير واحد(1) ... ... ... ... ... ... { 35 }
وأيضاً فإن الإسفار يؤدىّ إلى كثرة الجماعة واتصال الصفوف ( وجمع ) الطحاوى بين أحاديث التغليس وأحاديث الإسفار ، بأنه يدخل فى الصلاة مغلساً ويطوّل القراءة حتى ينصرف منها سفراً ولعل حديث عائشة(2)مبنى على بعض أحوال . فإن الظاهر من الأدلة أنه كان يبتدئ بغلس وهو الغالب من أحواله صلى الله عليه وسلم ، وينصرف منها بغلس كما فى حديث عائشة ، وتارة بإسفار كما فى حديث أبى برزة قال : " وكان يَنفَتِلُ من صلاة الغداة حين يَعْرف الرجلُ جَليسَه ، وكان يقرأ بالستين إلى المائة . أخرجه النسائى(3)وكان ذلك على حسب طول القراءة وقصرها . فقد كان يقرأ فيها من الستين إلى المائة ( قال ) أنس بن مالك : " صلّى بنا أبو بكر صلاةَ الصبح فقرأ بسورة آل عِمْران فقالوا كادت الشمسُ تطلعُ فقال : لو طلعت لم تّجدْنا غافلين " أخرجه الطحاوى(4){36}
(
__________
(1) ص 279ج2 – الفتح الربانى ( وقت صلاة الصبح ) وص 49ج1 مجتبى ( الإسفار ) وص 144ج1 تحفة الأحوذى . وص 119ج1 – ابن ماجه . ولفظه : أصبحوا .
(2) تقدم رقم 33ص 22 .
(3) هذا عجز الحديث رقم 28 ص 19 عند النسائى ( كراهية النوم بعد صلاة المغرب ) .
(4) ص 107ج1 شرح معانى الآثار ( وقت الفجر ) .(1/25)
وقال ) عبدُ الله بنُ الحارث بنِ جَزْى الزَّبيدى : " صلى بنا أبو بكر صلاة الصبح فقرأ سورةَ البقرة فى الركعتين جميعا فقال له عمر : كادت الشمسُ تطلُعُ . فقال : لو طلَعَت لم تجدنا غافلين " أخرجه الطحاوى(1){37}
وقال : فهذا أبو بكر قد دخل فيها فى وقت غير الإسفار ثم مدّ القراءة فيها حتى خيف طلوع الشمس . وهذا بحضرة أصحاب رسول الله صلى الله لعيه وسلم ، وبقرب عهدهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعلِه ، لا ينكر عليه منهم منكر . فذلك دليل على متابعتهم له . ثم فعل ذلك عمر من بعده فلم ينكره عليه من حضره منهم أهـ ( إذا ) علمت هذا تبين لك أنّ الراجح القول بأن التغليس أفضل لصحة أدلته وقوّتها .
( الثالث ) الصلاة الوسطى
... هى صلاة العصر عند الحنفيين وأحمد ( لحديث ) على رضى الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق : " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا " أخرجه أحمد
ومسلم وأبو داود(2) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 38 }
و ( لحديث ) ابن مسعود رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " صلاةُ الوسطى صلاةُ العصر " أخرجه مسلم الترمذى وقال حديث صحيح(3) ... ... ... ... ... ... ... { 39 }
(
__________
(1) ص 107ج1 شرح معانى الآثار ( وقت الفجر ) .
(2) ص 261ج2 الفتح الربانى . وص 128ج5 نووى ( الصلاة الوسطى ) = وص 322ج3 – المنهل العذب . ولفظه : حبسونا . وغزوة الخندق كانت فى شوال سنة أربع من الهجرة . انظر بيانها بهامش ص 12ج7 الدين الخالص .
(3) ص 160ج1 تحفة الأحوذى .(1/26)
وهذا ) مذهب الحسن البصرى والجمهور ( قال ) الماوردى : هذا مذهب الشافعى رحمه الله لصحة الأحاديث فيه. وإنما نص على أنها الصبح لأنه لم يبلغه الأحاديث الصحيحة فى العصر ومذهبه اتباع الحديث أهـ(1)(وقال) ابن عباس وابن عمر رضى الله عنهم . الصلاة الوسطى صلاة الصبح . وله قال مالك والشافعى ( قال ) ابن عباس رضى الله عنهما " أدْلج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عرّس فلم يستيقظ حتى طلعت الشمس أو بعضُها ، فلم يُصلِّ حتى ارتفعت الشمسُ . وهى الصلاة الوسطى " أخرجه النسائى(2) ... ... ... ... { 40 }
( وهو ) معارض ( بما روى ) ابن عباس قال : قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عدوّا فلم يفرغ منهم حتى أخر العصر عن وقتها . فلما رأى ذلك قال : " اللهم من حبَسنا عن الصلاة الوسطى فاملأ بيوتهم نارا ، أو قبورهم نارا أو نحو ذلك " أخرجه أحمد والطبرانى فى الكبير والأوسط ورجاله موثقون(3)
( وبما روى ) أيضا أنً النبى صلى الله عليه وسلم قال : " صلاة الوسطى صلاة العصر " أخرجه البزار ورجاله موثقون(4) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 42 }
وقد تقرر أنه عند مخالفة الراوى روايته ، فالعبرة بما روى لا بما رأى .
( قال ) النووى : الذى تقتضيه الأحاديث الصحيحة أنها العصر وهو المختار ( قال ) صاحب الحاوى : نص الشافعى رحمه الله تعالى أنها الصبح . وصحت الأحاديث أنها العصر فمذهبه اتباع الحديث . فصار مذهبه أنها العصر . ولا يكون فى المسألة قولان كما وهم بعض أصحابنا أهـ(5)
(
__________
(1) ص 128ج5 شرح مسلم .
(2) ص 395ج1 نيل الأوطار ( بيان أنها الوسطى ) وأدلج ، أى سار الليل كله . و( عرس ) من التعريس ، أى نزل آخر الليل ليستريح .
(3) ص 261ج2 – الفتح الربانى . وص 309ج1 مجمع الزوائد ( الصلاة الوسطى ) ( والعدو ) كفار غزوة الأحزاب ( الخندق ) .
(4) ص 309ج1 مجمع الزوائد .
(5) ص 61ج3 . شرح المهذب .(1/27)
وعن سعيد بن جبير ) وشريح القاضى ونافع أنها واحدة من الخمس غير معينة واختاره إمام الحرمين . فقد روى أن رجلا سأل زيد بن ثابت عن الصلاة الوسطى فقال : حافظ على الصلوات تصبها فهى مخبوءة فى جميع الصلوات خبء ساعة الإجابة فى ساعات يوم الجمعة ، وليلة القدر فى ليالى رمضان ، والاسم الأعظم فى جميع الأسماء .
( الرابع ) ما تدرك به الصلاة
... من أدرك ركعة من الصلاة قبل خروج الوقت فقد أدركها ، ( لحديث ) أبى هريرة رضى الله عنه أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال : " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " أخرجه السبعة(1) ... { 43 }
__________
(1) ص 284ج2 – الفتح الربانى . وص 38ج2 فتح البارى ( من أدرك من الصلاة ركعة ) وص 104ج5 نووى . وص 290ج6 – المنهل العذب ( من أدرك من الجمعة ركعة ) .(1/28)
وهو صادق بالصلوات الخمس لا فرق بين عصر وصبح وغيرهما : فهو أعم من حديث أبى هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس ، فقد أدرك الصبح . ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس ، فقد أدرك العصر " أخرجه السبعة(1)( قال النووى ) أجمع المسلمون على أن هذا ليس على ظاهره ، وأنه لا يكون بالركعة مدركا لكل الصلاة وتكفيه وتحصل الصلاة بهذه الركعة ، بل هو متأوّل وفيه إضمار تقديره فقد أدرك حكم الصلاة أو وجوبها أو فضلها(2)أهـ . والحديث بعمومه يشمل من كان معذوراً بجنون أو حيض أو نفاس أو إغماء أو صبا وزال عذره وقد بقى من الوقت قدر ما يسع ركعة وعليه فتلزمه تلك الصلاة . وبهذا قال الجمهور ( وقال ) الحنفيون : تبطل صلاة الصبح إذا أدرك منها ركعة قبل الشمس وركعة بعدها . وقيل تقع كلها قضاء . وقيل ما وقع فى الوقت أداء وما بعده قضاء ، والحديث ظاهر فى أن الكل أداء ( ومفهومه ) أنّ من أدرك اقل من ركعة لا يكون مدركا للوقت وأنّ صلاته تكون قضاء وهو مذهب الجمهور ( وقيل ) تقع أداء . والحديث يردّه ( واختلفوا ) فيمن أدرك من الوقت دون ركعة وهو ممن لا تجب عليه الصلاة لعذر – كالحائض تطهر ، والمجنون يعقل ، والمغمى عليه يفق ، والكافر يسلم – أتجب عليه الصلاة ؟ فيه قولان للشافعى ( أحدهما ) لا تجب وروى عن مالك عملا بمفهوم الحديث . وأصحهما أنها تلزمه وبه قال الحنفيون ، لأنه أدرك جزءا من الوقت فاستوى قليله وكثيره ( وأجابوا ) عن مفهوم الحديث بأن التقييد بركعة خرّج مخرج الغالب ولا يخفى ما فيه من البعد ( وأما ) إذا أدرك أحد هؤلاء ركعة وجبت عليه الصلاة اتفاقا (ومقدار) هذه الركعة قدر ما يكبر ويقرأ أمّ القرآن ويركع ويرفع ويسجد سجدتين . قال النووى : هل يشترط مع التكبيرة أو الركعة إمكان الطهارة ؟ فيه وجهان لأصحابنا .
__________
(1) انظر المراجع رقم 17ص 13 .
(2) ص 105ج5 – شرح مسلم .(1/29)
أصحهما أنه لا يشترط(1)( وقالت ) المالكية يشترط فى حق المعذور غير الكافر أن يدرك من الوقت زمناً يسع الطهر المحتاج إليه وركعة كاملة . أما الكافر فلا يقدّر له الطهر ، لأنّ إزالة عذره بإسلامه فى وسعه ( وقال ) الحنفيون : يشترط فى وجوب الصلاة على من طرأ عليه سبب الوجوب أن يدرك فى آخر الوقت زمناً يسع الطهارة وستر العورة وتكبيرة الإحرام . وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز تعمد التأخير إلى هذا الوقت .
( الخامس ) الأوقات المنهى عن الصلاة فيها
هى ثمانية أوقات يجمعها خمسة أنواع :
(1) الصلاة بعد صلاة الصبح والعصر : نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس . وعن الصلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس ( روى ) أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال : " لا صلاةَ بعد الصبح حتى ترتفعَ الشمس . ولا صلاة بعد العصر حتى تغيبَ الشمس " أخرجه أحمد والشيخان(2) ... ... ... ... ... ... ... ... { 44 }
__________
(1) ص 105ج5 شرح مسلم .
(2) ص 291ج2 – الفتح الربانى وص 41ج2 فتح البارى ( لا تتحرى الصلاة قبل الغروب ) وص 112ج6 نووى ( الأوقات التى نهى عن الصلاة فيها ) .(1/30)
وقد اختلف العلماء فى الصلاة فى هذين الوقتين ( فقال ) الحنفيون : يكره فيهما التنقل ولو كان له سبب . وله قال مالك والحسن البصرى وجماعة من الصحابة . منهم على وابن مسعود وأبو هريرة . وكان عمر يضرب على الركعتين بعد العصر بمحضر من الصحابة من غير نكير ( وقال ) الشافعى : يجوز أن يصلى فى هذين الوقتين ماله سبب . واستدل بصلاته صلى الله عليه وسلم سنة الظهر بعد صلاة العصر ( وأجاب ) الجمهور عنه بأنه من خصوصيات النبى صلى الله عليه وسلم ( وقالت ) الحنبلية : يحرم التطوّع مطلقاً ولو له سبب فى هذين الوقتين ، لظاهر النهى إلا ركعتى الطواف ( لحديث ) جُبير ابن مُطعم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " يا بنى عبدِ منافٍ لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيتٍ وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار " أخرجه أحمد والثلاثة وصححه ابن خزيمة والترمذى والحاكم وابن حبان(1) ... ... ... ... ... ... { 45 }
ومشهور مذهب الظاهرية المنع من الصلاة مطلقا ولو فرضا بعد الصلاة الصبح وبعد صلاة العصر ، لعموم النهى فى الأحاديث . ويردّه أن النبى صلى الله عليه وسلم أقرّ قيس بن عمرو على صلاته ركعتى الفجر بعد صلاة الصبح ( قال ) قيس بن عمرو : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقيمت الصلاة فصليتُ معه الصبح ثم انصرف فوجدنى أصلى فقال : مهْلا ياقيسُ ، أصلاتان معا ؟ قلت يا رسول الله إن لم أكن ركعتُ ركعتى الفجر قال: فلا إذاً " أخرجه أبو داود وابن ماجه والترمذى . وهذا لفظه(2) ... ... ... ... { 46 }
(
__________
(1) ص 54ج12 . الفتح الربانى . وص 36ج2 مجتبى ( إباحة الطواف فى كل الأوقات ) وص 180ج2 سنن أدبى داود ( الطواف بعد العصر ) ولفظه : لا تمنعوا أحدا يطوف .. وص 94ج2 تحفة الأحوذى .
(2) ص 157ج7 – المنهل العذب ( من فاتته – سنة الفجر – متى يقضيها ) وص 324ج1 تحفة الأحوذى ( من تفوته الركعتان قبل الفجر يصليهما بعد صلاة الصبح ) ( فلا إذا ) أى فلا حرج عليك حيث إنهما ركعتا الفجر .(1/31)
وقد أجمع ) العلماء على جواز قضاء الفوائت فى هذين الوقتين لعموم حديث أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " من نسِىَ صلاة فلْيُصلِّها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك " أخرجه الشيخان وأبو داود(1){ 47 }
وحديث " إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفَل عنها فلْيصلها إذا ذكرها " أخرجه مسلم عن أنس(2){ 48}
( وقال ) جماعة من السلف : تباح الصلاة مطلقا فى جميع الأوقات . وحكى عن داود . وبه جزم ابن جزم ( لحديث ) : لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار(3)( وزعموا ) أن أحاديث النهى منسوخة بهذا الحديث وحديث أبى هريرة : " من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح . ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر(4)" وردّ استدلالهم ( أ ) بأن حديث جُبير ابن مُطْهِم خاص بالصلاة فى الحرم المكى ودعواهم عامّة . فلا يصلح الاستدلال به عليها . ولا يصلح لنسخ الأحاديث الدالة على النهى عن الصلاة فى أوقات المذكورة ( ب ) وحديث أبى هريرة خاص بالمكتوبة صاحبة الوقت . وأحاديث النهى فى غير صاحبة الوقت . فلا يصح دعوى نسخها به على فرض تأخره ( وروى ) عن ابن عمر تحريم الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، لظاهر الأحاديث المذكورة ، وإباحتها بعد العصر حتى تصفر الشمس ، ( لحديث ) على رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر إلا والشمس مرتفعة " أخرجه أبو داود(5) ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 49 }
(
__________
(1) ص 47ج2 فتح البارى ( من نسى صلاة فليصل إذا ذكر ) وص 193ج5 نووى ( قضاء الفائتة ) وص 37ج4 – المنهل العذب ( من نام عن صلاة أو نسيها )
(2) ص 193ج5 نووى .
(3) تقدم رقم 45ص 29 .
(4) تقدم أول ص 27 .
(5) ص 168ج7 . المنهل العذب ( من رخص فيهما إذا كانت الشمس مرتفعة ) .(1/32)
2) الصلاة وقت طلوع الشمس واستوائها وغروبها : نهى النبى صلى الله لعيه وسلم عن الصلاة وقت طلوع الشمس حتى ترتفع كرمح ، ووقت استوائها وسط السماء – إلا يوم الجمعة – حتى تزول ، ووقت اصفرارها حتى يتم الغروب ( قال ) عقبة بن عامر : " ثلاثَ ساعاتٍ كان النبى صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نُصلىّ فيهن أو نقُبرَ فيهن موتانا : حين تطلعُ الشمس بازغة حتى ترتفع ، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميلَ الشمس ، وحين تَضَيَّفُ الشمسُ للغروب حتى تغربَ " أخرجه الجماعة إلا البخارى(1) ... ... ... ... { 50 }
وقد اختلف الفقهاء فى الصلاة فى هذه الأوقات ( فقال ) الحنفيون : لا تصح فى هذه الأوقات صلاة مطلقا مفروضة أو واجبة أو نافلة قضاء أو أداء مستدلين بعموم النهى عن الصلاة فى هذه الأوقات ، بناء على أن النهى يقتضى الفساد ( واستثنوا ) من ذلك عصر اليوم ، لحديث أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرُبَ الشمس فقد أدرك العصر(2)" فيصح أداؤه وقت الغروب ، لأنه أدّاة كما وجب . ويكره تحريما تأخيره إلى هذا الوقت ( واستثنوا ) أيضا صلاة الجنازة إن حضرت فى وقت من هذه الأوقات فإنها تصلى فيها بلا كراهة ، لحديث علىّ رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاث لا يؤخَّرن : الصلاةُ إذا أتت ، والجنازةُ إذا حضرت ، والأيِّم إذا وجدت كفئاً " أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم والترمذى وقال غريب ليس بمتصل(3) ... ... ... ... ... ... ... ... { 51 }
(
__________
(1) انظر رقم 497ص 282ج7 الدين الخالص ( وقت صلاة الجنازة ) و ( تضيف ) بتاء وضاد مفتوحتين فياء مشدّدة . أى تميل .
(2) تقدم رقم 17ص 13 .
(3) انظر رقم 364ص 205ج7 . الدين الخالص ( المبادرة بتجهيز الميت ) و ( الأيم ) بفتح الهمزة وكسر الياء مشدّدة من لا زوج له ذكرا أو أنثى .(1/33)
واستثنوا ) أيضا سجدة تلاوة تليت آيتها فى وقت من هذه الأوقات ، فإنه يصح تأديتها فيه ، لأنها أدّيت كما وجبت . لكنه يكره تنزيها ، لنقصان الوقت بالنهى عن الصلاة فيه . والأفضل تأخيرها لتؤدى فى الوقت المستحب ، لأنها لا تفوت بالتأخير ( وقد فرقوا ) بين الصبح والعصر حيث قالوا بعدم صحة أداء الصبح وقت الطلوع ، وبصحة أداء العصر وقت الغروب ( ويرده ) قول النبى صلى الله عليه وسلم : " من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر(1)" فقد ستوى بينهما ( واستثنى ) أبو يوسف أيضا التنفل يوم الجمعة وقت الاستواء لحديث أبى قتادةَ رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم كَرِه الصلاةَ نصف النهار إلا يومَ الجمعة ، وقال : " إن جهنم تُسَجّر إلا يوم الجمعة " أخرجه أبو داود(2) ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 52 }
وفيه انقطاع . لأنه من رواية مجاهد عن أبى الخليل عن أبى قتادة قال أبو داود : وهو مرسل مجاهد أكبر من أبى الخليل . وهذا لم يَسمع من أبى قتادة وفى سنده ليث بن أبى سليم وهو ضعيف وقد ذكر له البيهقى شواهد ضعيفة يقوى بها وبحديث أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة نصفَ النهار حتى تزولَ الشمس إلا يوم الجمعة " أخرجه الشافعى فى مسنده(3) ... ... ... ... ... ... { 53 }
(
__________
(1) تقدم رقم 17ص 13 ، 27 .
(2) ص 239ج6 المنهل العذب ( الصلاة يوم الجمعة قبل الزوال ) .
(3) ص 52ج1 بدائع المنن ( الأوقات المنهى عن الصلاة فيها ) .(1/34)
وقالت ) الحنبلية : لا ينعقد النفل مطلقا فى هذه الأوقات الثلاثة حتى ماله سبب كسجود تلاوة وشكر وصلاة كسوف وتحية مسجد ، لعموم أدلة النهى . ولا فرق فى ذلك بين مكة وغيرها ولا يوم الجمعة وغيره إلا تحية المسجد يوم الجمعة . فإنهم قالوا بجواز فعلها بلا كراهة وقت الاستواء وحال الخطبة ، لحديث أبى قتادة(1)( وردّ ) بأنه يفيد إباحة الصلاة مطلقا وقت الاستواء يوم الجمعة . وهم لا يقولون إلا إباحة تحية المسجد حينئذ (ويحرم) عندهم أيضا صلاة الجنازة فى هذه الأوقات إلا إن خيف عليها التغير ، فتجوز للضرورة ، ويجوز بلا كراهة قضاء الفوائت فى هذه الأوقات لحديث أنس مرفوعا : "من نسى صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها " أخرجه أحمد ومسلم(2). ... ... ... ... ... ... ... ... { 54 }
__________
(1) تقدم رقم 52 ص 32 .
(2) ص300 ج2 – الفتح الربانى ( قضاء الفوائت ) وص 193 ج5 نووى .(1/35)
جعلوه مخصصا لأحاديث النهى ( وجوّزوا ) أيضا فى هذه الأوقات الصلاة المنذورة ولو نذر أن يوقعها فيها – بأن قال لله علّى أن أصلى ركعتين عند طلوع الشمس مثلا – لأنها صلاة واجبة فأشبهت الفرائض (وأباحوا) تأدية ركعتى الطواف ولو نفلا فى كل وقت ، لحديث خبير بن مطعم(1)( وقالت ) المالكية : تحرم النوافل ولو لها سبب والمنذورة وسجدة التلاوة وقت الطلوع والغروب لأحاديث النهى ، وكذا تحرم صلاة الجنازة فى هذين الوقتين إلا إن خيف تغيرها فتجوز ، وأباحوا الفرائض العينية قضاء أو أداء فى هذين الوقتين ( وأباحوا ) الصلاة مطلقا فرضا أو نفلا وقت الاستواء ( قال الزرقانى ) فى شرح الموطأ : قال الجمهور والأئمة الثلاثة بكراهة الصلاة عند الاستواء . وقال مالك بالجواز مع روايته هذا الحديث(2)( قال ) ابن عبد البر : فإما أنه لم يصح عنده ، أورده بالعمل الذى ذكره بقوله : ما أدركت أهل الفضل إلا وهم يجتهدون ويصلون نصف النهار أهـ . والثانى أولى أو متعين فإن الحديث صحيح بلا شك إذ رواته ثقات مشاهير . وعلى تقدير أنه مرسل فقد تقوّى بحديثى عقبة وعمرو بن عَبَسَة وقد صححهما مسلم أهـ(3)( أقول ) وحيث ثبتت صحة الحديث فهو مذهب مالك ولا وجه للتفرقة بين أجزائه بعمل الناس .
__________
(1) تقدم رقم 45 ص29 . ... ... ... ... ... ...
(2) يعنى حديث أبى عبد الله الصنابحى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان ، فإذا ارتفعت فارقها . ثم إذا استوت قارنها . فإذا زالت فارقها . فإذا دنت للغروب قارنها ، فإذا غربت فارقها . ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فى تلك الساعات . أخرجه مالك واحمد والنسائى وابن ماجه . انظر ص 395 ج1 زرقانى . وص 288ج2 – الفتح الربانى ( أوقات النهى ) .
(3) انظر ص 395ج1 زرقانى ( النهى عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر ) وحديث عقبة تقدم رقم 50ص 31 . وحديث عمرو يأتى رقم 57 ص 35 .(1/36)
فإنه لا كلام لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . على أن عمل الناس إنما هو فى الصلاة وقت الاستواء يوم الجمعة . وقد تقدّم ما يدل على استثنائه . ولذا قال الباجى فى شرح الموطأ : وفى المبسوط عن ابن وهب . سئل مالك عن الصلاة نصف النهار فقال أدركت الناس وهم يصلون يوم الجمعة نصف النهار . وقد جاء فى بعض الحديث نهى عن ذلك ، فأنا لا أنهى عنه الذى أدركتُ الناس عليه ، ولا أحبه للنهى عنه أهـ(1)وقول مالك لا أحبه للنهى عنه ، محمول على أنه لم يثبت عنده الحديث الدال على إباحة الصلاة وقت الاستواء يوم الجمعة . وقد تقدّم ما فيه ( وقالت ) الشافعية : يكره النفل الذى لا سبب له فى هذه الأوقات . أما الفرض مطلقا والنفل الذى له سبب ، فلا يكرهان لحديث : من نسى صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها . أخرجه أحمد ومسلم عن أنس(2)( وأباحوا ) أيضا التنفل فى الحرم المكى فى هذه الأوقات ، لحديث جبير بن مطعم(3)( وأباحوا النفل ) أيضا وقت الاستواء يوم الجمعة ، لحديث أبى قتادة(4).
هذا والمعوّل عليه أن الصلاة مطلقا ممنوعة فى هذه الأوقات الثلاثة إلا أداء الصبح وقت الطلوع ، والعصر وقت الغروب والنفل وقت الاستواء يوم الجمعة .
(3) الصلاة بعد طلوع الفجر : تكره الصلاة بعد طلوع الفجر وقبل صلاة الصبح بأكثر من سنته عند الحنفيين وهو المشهور عن أحمد ( لحديث ) ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : لا تُصلوا بعد الفجر إلا سجدتين أخرجه أبو داود والترمذى(5) ... ... ... ... ... ... ... { 55 }
(
__________
(1) انظر ص 362ج1 – المنتقى شرح مسلم .
(2) تقدم رقم 54 ص 33 .
(3) تقدم رقم 45 ص 29 .
(4) تقدم رقم 52 ص 32 .
(5) انظر ص 178ج7 – المنهل العذب . وص 321ج1 تحفه الأحوذى ( لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتين ) .(1/37)
ولقول ) حفصة رضى الله عنها : كان النبى صلى اله عليه وسلم إذا طلع الفجر لا يصلى إلا ركعتين خفيفتين . أخرجه مسلم(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 56 }
( وقال ) الحسن البصرى والشافعى : يجوز التنفل مطلقا بلا كراهة بعد طلوع الفجر قبل صلاة الصبح ، لما فى حديث عمرو بن عبسة قال : قلت يا رسول الله أى الليل أسمع ؟ قال جوف الليل الآخر ، فصل ما شئت ، فإن الصلاة مشهودة مكتوبة حتى تصلى الصبح ( الحديث ) أخرجه أبو داود(2) ... ... ... { 57 }
فهو يدل بظاهرة على إباحة التطوّع بعد طلوع الفجر بأكثر من ركعتيه . ولكن ينافيه ما فى رواية عن عمرو بن عَبَسَة قال : قلتُ أىّ الساعاتِ أفضل ؟ قال : جوف الليل الآخر ثم الصلاة مكتوبة مشهودة حتى يطلع الفجر . فإذا طلع الفجر فلا صلاة إلا ركعتين حتى تُصَلِّىَ الفجر ( الحديث ) أخرجه أحمد(3) ... { 58 }
__________
(1) انظر ص 2ج6 نووى ( استحباب ركعتى الفجر ) .
(2) انظر ص 172ج7 – المنهل العذب ( من رخص فيهما ) = أى الركعتين بعد العصر – إذا كانت الشمس مرتفعة ، و ( أسمع ) أى أقرب إلى إجابة الدعاء وقبول العمل . و ( جوف الليل الآخر ) أى ثلثه الأخير أقرب للإجابة . فجوف مبتدأ خبره محذوف . و ( مشهودة مكتوبة ) أى تحضرها الملائكة وتكتب ثوابها .
(3) انظر ص 385ج4 مسند أحمد .(1/38)
فهو صريح فى كراهة التطوع بعد طلوع الفجر بغير ركعتى الفجر ، ولعله وقع اختصار فى رواية أبى داود ( وقال ) مالك : يجوز ذلك لمن فاتته صلاة الليل لعذر ، لقول سعيد بن جبير : إن عبد الله بن عباس رقد ثم استيقظ ثم قال لخادمه أنظر ما صنع الناس وهو يومئذ قد ذهب بصره . فذهب الخادم ثم رجع فقال : قد انصرف الناس من الصبح . فقام عبد الله بن عباس فأوتر ثم صلى الصبح ( وعن هشام ) بن عروة عن أبيه أن عبد الله بن مسعود قال:ما أُبالى لو أقيمت صلاة الصبح وأنا أوتِر(وقال) يحيى بن سعيد:كان عبادة بن الصامت يؤمّ قوما فخرج يوما إلى الصبح فأقام المؤذن صلاة الصبح فأسكته عُبادة حتى أو تر ثم صلى بهم الصبح.أخرج هذه الآثار مالك(1).
(4) التنفل بعد الإقامة : التطوّع بعد الشروع فى إقامة الصلاة غير مشروع ( لحديث ) أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أقيمت فلا صلاة إلا المكتوبة " أخرجه أحمد ومسلم والأربعة . وذكره البخار ترجمة(2) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 59 }
__________
(1) انظر ص 234ج1 زرقانى الموطأ ( الوتر بعد الفجر ) .
(2) انظر ص 221ج5 نووى ( كراهة الشروع فى نافلة بعد الشروع فى الإقامة ) وص154ج7 – المنهل العذب ( إذا أدرك الإمام ولم يصل ركعتى الفجر ) وص 323 ج1 – تحفة الأحوذى . وص181ج1 – ابن ماجه ( إذا أقيمت الصلاة ... ) وص 102 ج2 فتح البارى .(1/39)
" والنفى " فيه " بمعنى النهى " وهو متوجه إلى الشروع فى غير المكتوبة المقامة . أمّا تمام ما شرع فيه قبل الإقامة، فلا يشمله النهى بل يتمّه . وإلا لزم إبطاله وهو منهى عنه بقوله تعالى : { وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } ويحتمل إبقاء النفى على أصله ، أى فلا صلاة صحيحة أو كاملة . وحمله على نفى الصحة أولى ، لأن نفيها أقرب إلى نفى الحقيقة . لكنه معارض بحديث عبد الله بن سَرْجِسَ قال : " جاء رجل والنبى صلى الله عليه وسلم يصلى الصبح فصلى الركعتين ثم دخل مع النبى صلى الله عليه وسلم فى الصلاة فلما انصرف قال يا فلانُ : أيتُهما صلاتُك التى صلّيتَ وحدَك ، أو التى صليتَ معنا ؟ أخرجه مسلم والنسائى وابن ماجه وأبو داود(1){ 60 }
فقد أنكر النبى صلى الله عليه وسلم على الرجل صلاتَه بعد الإقامة ولم يأمره بإعادة ركعتى الفجر . فدل ذلك على أن المراد نفى الكمال لا ننفى الصحة .
وحكمه النهى عن التنفل بعد الإقامة ، التفرغ للفريضة من أوّلها والمحافظة على إكمالها مع الإمام ، وعلى أسباب الاتفاق والبعد عما يؤدّى إلى الخلاف على الأئمة والطعن فيهم .
هذا . وقد دل الحديث على أنه لا ينبغى لمن حضر حال الإقامة أن يشرع فى غير الصلاة المقام لها لا فرق بين سنة الصبح وغيرها ( وللعلماء ) فى ذلك أقوال :
( أولا ) قال ابن المبارك والشافعى وأحمد إسحاق : يكره لأن المراد بالنفى فى الحديث النهى ، وهو محمول على الكراهة . أو أن النفى فيه باقى على حقيقته والمراد به نفى الكمال .
( ثانيا ) قال ابن عبد البر والظاهرية : لا يجوز صلاة شئ من النوافل إذا أقيمت المكتوبة لا فرق بين ركعتى الفجر وغيرها ولو خارج المسجد ، حملا للنفى فى الحديث على نهى التحريم .
(
__________
(1) انظر ص 223ج6 نووى . وص 139ج1 مجتبى ( من يصلى ركعتى الفجر والإمام فى الصلاة ) وص 182ج1 – ابن ماجه . وص 151ج7 – المنهل العذب ( إذا أدرك الإمام ولم يصل ركعتى الفجر ) .(1/40)
ثالثا ) قال الحنفيون والثورى :لا بأس بصلاة سنة الصبح خارج المسجد أو فيه والإمام فى الفريضة إذا تيقن إدراك الركعة الأخيرة مع الإمام . وروى عن ابن مسعود وابن عمر ، وابن عباس والأوزاعى وغيرهم لحديث أبى هريرة أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة إلا ركعتى الفجر" أخرجه البيهقى من طريق حجاج بن نُصَير عن عبّاد بن كثير وقال : هذه الزيادة لا اصل لها . وحجاج وعباد ضعيفان(1). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 61 }
(
__________
(1) انظر ص 483ج2 بيهقى ( كراهية الاشتغال بهما بعدما أقيمت الصلاة ) .(1/41)
وقال ) أبو عثمان الأنصارى : جاء عبد الله بن عباس والإمام فى صلاة الغداة ولم يكن صلى الركعتين فصلى الركعتين خلف الإمام ثم دخل معهم ( وعن ) أبى الدرداء أنه كان يدخل المسجد والناس صفوف فى صلاة الفجر فيصلى الركعتين فى ناحية المسجد ثم يدخل مع القوم فى الصلاة . أخرجهما الطحاوى(1)( وقال ) أبو موسى : " أقيمت الصلاة فتقدم عبد الله بن مسعود إلى أُسْطُوانة فى المسجد فصلى ركعتين ثم دخل يعنى فى الصلاة" أخرجه الطبرانى فى الكبير ورجاله ثقات(2)( رابعاً ) قال مالك : يركعهما خارج المسجد إذا لم يخف فوات الركعة الأولى مع الإمام وإلا تركهما ودخل معه . لما روى زيد بن أسلم عن ابن عمر أنه جاء والإمام يصلى الصبح ولم يكن صلى الركعتين قبل صلاة الصبح فصلاهما فى حُجْرة حفصةَ وصلى مع الإمام . أخرجه الطحاوى(3)( قالوا ) ويبعد أن يكون حديث عبد الله بنِ سَرْجِسَ على إطلاقه ويفعلَ خلافهَ هؤلاء الصحابةُ الأجلاء (وفيه نظر)لأن ظاهر الحديث الإنكار على من دخل فى النافلة والإمام فى الفريضة.ويؤيد بقاءه على ظاهره، حديث أبى هريرة المذكورة(4).فإن فيه النهى عن ابتداء صلاة أخرى بعد إقامة الصلاة الحاضرة . ويؤيده أيضاً (حديث)أبى موسى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا صلَّى ركعتى الغداة حين أخذ المؤذن يقيم فغمز النبى صلى الله عليه وسلم منكبه وقال:"ألا كان هذا قبل هذا"أخرجه الطبرانى فى الكبير والأوسط ورجاله موثقون(5){ 62 }
__________
(1) انظر ص 219ج1 شرح معانى الآثار ( الرجل يدخل المسجد والإمام فى صلاة الفجر ولم يكن ركع أيركع ؟ ) .
(2) انظر ص 75ج2 مجمع الزوائد ( إذا أقيمت الصلاة هل يصلى غيرها ؟ ) .
(3) انظر ص 220ج1 شرح معانى الآثار .
(4) تقدم رقم 59 ص 36 .
(5) انظر ص 75ج2 مجمع الزوائد ( إذا أقيمت الصلاة هل يصلى غيرها ) .(1/42)
" وما ذكروه " من أن ما ذهبوا إليه فيه الجمع بين الفضيلتين " متعقَّب " بأنه يمكن الجمع بين الفضيلتين بصلاة الركعتين بعد الفراغ من الفريضة قبل الشمس أو بعدها ( لقول ) قيس بن عمرو : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُقيمت الصلاةَ فصليتُ معه الصبحَ ثم انصرف النبى صلى الله عليه وسلم فوجدنى اصلى فقال " مهلا يا قيسُ ، أصلاتان معاً ؟ قلت : يا رسول الله إنى لم أكن ركعت ركعتى الفجر قال فلا إذاً(1)" ولحديث أبى هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من لم يصل ركعتى الفجر فَليُصلها بعد ما تطلع الشمس " أخرجه الترمذى وقال : لا نعرفه إلا من هذا الوجه . وفى سنده قتادة وهو مدلس رواه عن النضر بن أنس بالعنعنة(2). ... { 63 }
( وما ذكروا ) من الآثار معارض بالمثل فقد ثبت عن عمر وابنه وأبى هريرة وغيرهم أنهم كانوا يمنعون الشروع فى النافلة بعد إقامة الصلاة ( فعن عمر ) رضى الله عنه أنه كان إذا رأى رجلا يصلى وهو يسمع الإقامة ضربه ( وعن ) نافع عن ابن عمر أنه أبصر رجلا يصلى الركعتين والمؤذن يقيم فحصبه وقال : أتصلى الصبح أربعا ؟ أخرجهما البيهقى(3)وعلى تقدير عدم ما يعارضها فهى لا تقوى على معارضة الأحاديث المرفوعة إلى النبى صلى الله عليه وسلم ( قال ) ابن عبد البر وغيره : الحجة عند التنازع السنة . فمن أدلى بها فقد أفلح . وتَرْكَ التنفل عند إقامة الصلاة وتداركها بعد قضاء الفرض أقربُ إلى أتباع السنة .ويتأيد ذلك من حيث المعنى ، بأن قوله فى الحادث حىّ على الصلاة معناه هلموا إلى الصلاة التى يقام لها ، فأسعد الناس بامتثال هذا الأمر من لا يتشاغل عنه بغيره أهـ .
(
__________
(1) تقدم رقم 46ص 29 .
(2) انظر ص 326ج1 تحفة الأحوذى ( ما جاء فى إعادتها بعد طلوع الشمس ) .
(3) انظر ص 483ج2 بيهقى ( كراهية الاشتغال بهما بعد الإقامة ) .(1/43)
5) الصلاة وقت خطبة الجمعة : يمنع التنفل وقت الخطبة ولو لداخل المسجد عند الحنفيين ومالك. لأن استماع الخطبة فرض والأمر بالمعروف حرام وقتها ( لحديث) أبى هريرة أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال : "إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنْصِت فقد لغوت " أخرجه الجماعة إلا الترمذى(1).{64}
فالتنفل أولى . ولا يصلى من الفرض حينئذ إلا صبح اليوم عند المالكية . وله قضاء فائتة يتوقف على تأديتها صحة الجمعة عند الحنفيين ( وقالت ) الحنبلية : له صلاة التحية وقضاء الفوائت وقت الخطبة ( وقالت ) الشافعية : لا يصلى إلا تحية المسجد لمن دخل والإمام يخطب . وهذا الذى يشهد له الدليل كما سيأتى فى بحث تحية المسجد إن شاء الله .
( السادس ) جاحد الصلاة وتاركها
من أنكر فرضية الصلاة أو استخف بها ولو مع أدائها فهو كافر بالإجماع لإنكاره أو استخفافه بأمر معلوم من الدين بالضرورة ( وحكمه ) حكم المرتد – إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام ، أو لم يخالط المسلمين مدّة يبلغه فيها فرضية الصلاة – وعليه يحمل عند الجمهور ( حديث ) جابر بن عبد الله أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال : "إن بين الرجل وبين الشرك والفكر تركَ الصلاة " أخرجه مسلم(2). ... ... ... ... { 65 }
( وحديث ) بريدة أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال : إن العهد الذى بيننا وبينهم الصلاة . فمن تركها فقد كفر " أخرجه أحمد والنسائى والحاكم(3). ... ... ... ... ... ... ... { 66 }
(
__________
(1) انظر رقم 54 ص 83 فتاوى أئمة المسلمين .
(2) انظر ص 70ج2 نووى ( إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة الإيمان ) .
(3) انظر ص 232ج2 – الفتح الربانى ( حجة من كفر تارك الصلاة ) ولفظه : العهد . وص 81ج1 مجتبى ( الحكم فى تارك الصلاة ) .(1/44)
ومن تركها ) عمداً كسلا مع اعتقاده فرضيتها كما هو حال كثير من الناس . فقد اختلف العلماء فيه (فقال) جمهور السلف والخلف : إنه لا يكفر بل يفُسق فإن تاب وإلا قتل حدا بالسيف . وبه قالت المالكية إلا أنهم قالوا يؤخر إلى آخر الوقت الضرورى . فإن أدَّاها خلى سبيله وإلا قتل ( وقالت ) الشافعية : يؤخر إلى آخر وقت العذر ثم يستتاب ندباً أو وجوبا . فإن تاب وصلى خُلّىَ سبيله وإلا قتل . ولا يقتل لترك الظهر والعصر حتى تغرب الشمس . ولا لترك المغرب والعشاء حتى يطلع الفجر . ويقتل فى الصبح بطلوع الشمس بشرط مطالبته بالأداء فى الوقت إذا ضاق ، ويتوعد بالقتل إن أخرها عنه ( واستدلوا ) على عدم كفره بقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ(1)} وبحديث عبادة ابن الصامت أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال : " خمس صلوات كتبهُنّ الله على العباد ، فمن جاء بِهن لم يُضيِّع منهنّ شيئا استخفافا بحقهن ، كان له عند الله عهُد أن يدخله الجنة . ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة " أخرجه مالك وأحمد والنسائى وأبى داود(2) ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 67 }
(
__________
(1) سورة النساء الآية : 46
(2) انظر ص 234ج2 – الفتح الربانى . وص 80ج1 مجتبى ( المحافظة على الصلوات الخمس ) وص 46ج8 – المنهل العذب ( من لم يوتر )(1/45)
واستدلوا ) على قتله بقوله تعالى : { فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ(1)} وبحديث ابن عمر أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال : " أُمِرْت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة . فإذا فعلوا ذلك عصموا نمى دماءهم وأموالهم إلا بحقها " أخرجه الشيخان(2) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 68 }
وتأوّلوا قوله صلى الله عليه وسلم : " بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة " ونحوه ، على معنى أنه مستحق بترك الصلاة عقوبة الكافر وهى القتل ، أو أنه محمول على المستحل تركها ، أو على أنه قد يؤول به إلى الكفر ، أو على أن فعله فعل الكفار ( وقال ) الحنفيون والمزنى : تارك الصلاة كسلا لا يكفر لما تلونا ولما روينا . ولا يقتل ، ( لحديث ) ابن مسعود أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال : " لا يَحِل دم امرئ مسلم يشهد أنْ لا إله إلا الله وأنى رسول الله إلا بإحدى ثلاثٍ : النفس بالنفُس ، والثيُب الزانى ، والمفارقُ لدينه التارك للجماعة " أخرجه الشيخان والنسائى(3). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 69 }
__________
(1) التوبة أية : 12 .
(2) انظر ص 57ج1 فتح البارى ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة .... – الإيمان ) وص 212ج1 نووى ( الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ... – الإيمان ) .
(3) انظر ص 162ج12 – فتح البارى ( قول الله إن النفس بالنفس – الديات ) وص 164ج11 نووى ( ما يباح به دم المسلم – القسامة ) وص 166ج2 مجتبى ( ما يحل به دم المسلم ) .(1/46)
وجه الدلالة : أنه لم يذكر فيه تارك الصلاة . بل هو فاسق يضرب ضربا شديداً حتى يسيل دمه ويحبس ويتفقد بالوعظ والزجر والضرب حتى يصلى أو يموت. فإن مات مسلماً ولم يتب لقى الله وهو عليه غضبان محروم من كامل الثواب ( روى ) ابن عباس أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال : " من ترك صلاة لقى الله تعالى وهو عليه غضبان " أخرجه البزار والطبرانى فى الكبير بسند حسن(1). ... ... ... ... ... { 70 }
ويعذب عذاباً أليما فى واد فى جهنم أشدّها حرا وأبعدها قعرا ، فيه آبار يسيل إليها الصديد والقيح . أُعِدّت لتارك الصلاة . قال تعالى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياًّ(2)} .
( والغى ) قال ابن مسعود : نهر فى جهنم بعيد القعر خبيث الطعم ، أخرجه الحاكم وصححه(3). والمراد باللقّى الاجتماع والملابسة مع الرؤية ( وعن ) أبى أمامة أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال : " لو أنّ صخرة زنة عشرة أواق قُذِف بها من شَفير جهنم ما بلغت قعرها خمسين خريفا . ثم تنتهى إلى غىّ وأثام . قلت : وما غىّ وما أثام ؟ قال : بئران فى أسفل جهنم يسيب فيهما صديد أهل النار ، وهما اللتان ذكر الله فى كتابه : { أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياًّ } وقوله فى الفرقان : { وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً } أخرجه الطبرى(4)
(
__________
(1) انظر ص 295ج1 مجمع الزوائد ( تارك الصلاة ) .
(2) سورة مريم آية : 60 .
(3) انظر ص 374ج2 مستدرك .
(4) انظر ص 75ج16 جامع البيان . وقال ابن كثير : حديث غريب ورفعه . منكر . و ( شفير جهنم ) حرفها .(1/47)
وقال ) جماعة من السلف : إنّ تارك الصلاة كسلا كافر . وبه قال عبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه وبعض أصحاب الشافعى ( وقالت ) الحنبلية : من ترك الصلاة كسلا دعاه الإمام أو نائبه إلى فعلها . فإن امتنع حتى ضاق وقت التى بعدها وجب استتابته ثلاثة أيام كالجاحد لها . فإن تاب وأدّاها خلى سبيله وإلا ضرب عنقه كفرا ، لما تقدّم ( ولقول ) عبد الله ابن شقيق العُقيلى : " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرَوْن شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة " أخرجه الترمذى والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين(1) ... { 72 }
( قال ) الشوكانى : والحق أنه كافر يقتل ( أما كفره ) فلأن الأحاديث قد صحت أنّ الشارع سمى تارك الصلاة بذلك الاسم . وجعل الحائل بين الرجل وبين جواز إطلاق هذا الاسم عليه هو الصلاة . فتركها مقتض لجواز الإطلاق .
__________
(1) انظر ص 372ج1 نيل الأوطار ( حجة من كفر تارك الصلاة ) .(1/48)
ولا يلزمنا شئ من المعارضات التى أوردها الأوّلون . لأنا نقول لا يمنع أن يكون بعض أنواع الكفر غير مانع من المغفرة واستحقاق الشفاعة ككفر أهل القبلة ببعض الذنوب التى سماها الشارع كفراً . فلا ملجئ إلى التأويلات التى وقع الناس فى مضيقها ( وأما ) أنه يقتل فلأن حديث : أمرت أن أقاتل الناس ونحوه ، يقضى بوجوب القتل لاستلزام المقاتلة له . ولا أوضح من دلالتها على المطلوب . وقد شرط الله – فى القرآن – التخلية بالتوبة وإقامة الصلاة وإبتاء الزكاة . فقال { فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } فلا يخلى سبيل من لم يقم الصلاة . وعن أم سلمة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون . فمن أنكر فقد برئ. ومن كره فقد سلم . ولكن من رضى وتابع . فقالوا ألا نقاتلهم ؟ قال : لا ما صلوا " أخرجه مسلم(1) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 73 }
__________
(1) انظر ص 242ج12 نووى ( وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع ) ( ولكن ) الإثم ( على من رضى ) بالمنكر ( وتابع ) مرتكبه .(1/49)
فجعل الصلاة هى المانعة من مقاتلة أمراء الجور ( وحديث ) لا يحل دم أمرى مسلم ، لا يعارض مفهومه المنطوقات الصحيحة الصريحة . والمراد بقوله فى حديث جابر "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر تركَ الصلاة(1)" كما قال النووى – أن الذى يمنع من كفره كونه لم يترك الصلاة . فإن تركها لم يبق بينه وبين الكفر حائل (واختلف) القائلون بوجوب قتل تارك الصلاة . قال الجمهور يضرب عنقه بالسيف . وقيل يضرب بالخشب حتى يموت ( واختلفوا ) أيضا فى وجوب الاستتابة . فالهادوية توجها ، وغيرهم لا يوجبها ، لأنه يقتل حدّا . ولا تسقط التوبة الحدود كالزانى والسارق ( واختلفوا ) هل يجب القتل لترك صلاة واحدة أو أكثر ؟ ( قال ) الجمهور : يقتل لترك صلاة واحدة . والأحاديث قاضية بذلك . والتقييد بالزيادة على واحدة لا دليل عليه . وهكذا حكم تارك ما يتوقف صحة الصلاة عليه من وضوء أو غسل أو استقبال قبلة أو ستر عورة وكل ما كان ركنا أو شرطا أهـ بتصرف(2). إذا علمت ذلك عرفت أن ترك الصلاة جريمة كبرى تفضى بمرتكبها إلى وقوع فى مهاوى العطب دنيا وأخرى . وقد ورد فى زجر تارك الصلاة أحاديث كثيرة ( منها ) حديث ابن عباس أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال : " عُرى الإسلاِم وقواعُد الدينِ ثلاثة عليهنّ أسُس الإسلاِم . من ترك واحدةً منهنّ فهو بها كافُر حلالُ الدم: شهادةُ أن لا إله إلا الله ، والصلاةُ المكتوبةُ ، وصوم رمضان " أخرجه أبو يعلى والديلمى بسند حسن وقال الذهبى : حديث صحيح(3) ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 74 }
(
__________
(1) تقدم رقم 65ص 41 .
(2) انظر ص 370 إلى 372ج1 نيل الأوطار ( حجة من كفر تارك الصلاة ) .
(3) انظر رقم 53ص 390ج8 – الدين الخالص ( التفريط فى رضمان ) .(1/50)
وحديث ) عبد الله بن عمرو بن العاصى أنّ النبى صلى الله عليه وسلم ذكر الصلاة يوما فقال : " من حافظ عليها كانت له نورا وبُرهانا ونجاة يوم القيامة . ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة . وكان يوم القيامة مع قارونَ وفرعونَ وهامانَ وأبىِّ بنِ خلَف " أخرجه أحمد والطبرانى فى الكبير والأوسط بسند رجاله ثقات(1) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 75 }
وفيه أنه لا ينتفع المصلى بصلاته إلا إذا كان محافظا عليها ، لأنه إذا انتفى كونها نورا وبرهانا ونجاة مع عدم المحافظة ، انتفى نفعها .
( فالواجب ) على كل مكلف أن يحافظ على تأدية الصلاة فى أوقاتها ، ولا يشغله عن أدائها شاغل مهما كان ، لينجو من ورطة دخول النار مع الكفرة ويخلص من عذاب الله عز وجل وغضبه . نسأله سبحانه وتعالى أن يحفظ عباده المؤمنين من المخالفات ويوفقنا جميعا لخالص الطاعات .
( السابع ) الأذان والإقامة
الأذان لغة الإعلام . وشرعا إعلام مخصوص للصلاة وقتية أو فائتة بألفاظ مخصوصة على وجه مخصوص بأن يكون على مكان مرتفع لأذان الجماعة من جهير الصوت مترسلا فيه عالما بالوقت .
__________
(1) انظر ص 232ج2 – الفتح الربانى . وقوله ( وكان يوم القيامة مع قارون الخ ) يدل على أن تركها كفر . لأن هؤلاء المذكورين أشد أهل النار عذابا . وعلى تخليد = تاركها فى النار كتخليد من جعل معهم فى العذاب فيكون هذا الحديث – مع صلاحيته للاحتجاج – مخصصا لأحاديث خروج الموحدين من النار . وقد يقال مجرد المعية لا يدل على الاستمرار والتأييد ، لصدق المعنى اللغوى بلبثه معهم مدة . لكن مقام المبالغة يأبى ذلك ( انظر ص 338ج1 نيل الأوطار )(1/51)
وهو مشروع بالكتاب والسنة وإجماع الأمة . قال تعالى { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً(1)} وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّه(2)ِ } . ( وعن ) ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " ليؤذن لكم خياركم . وليؤمكم قراؤكم " أخرجه أبو داود وابن ماجه . وفى سنده حسين بن عيسى الحنفى . فيه مقال(3) ... ... ... ... { 76 }
( وعن ) ابن عمر رضى الله عنهما قال : " كان النبى صلى الله عليه وسلم مؤذنان : " بلالُ وابنُ أم مكتوم الأعمى " أخرجه مسلم وأبو داود(4) ... ... ... ... ... ... ... ... { 77 }
وشرع فى السنة الأولى من الهجرة على الراجح ( لقول ) ابن عمر رضى الله عنهما : " كان المسلمون حين قدمِوا المدينةَ يجتمعون فيتحيّنون الصلاة وليس يُنادِى بها أحد ، فتكلموا يوما فى ذلك . فقال بعضهم : اتخِذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى . وقال بعضهم اتخِذوا قَرْناً مثل قرن اليهود . فقال عمر : أوَلا تبعثون رجلا ينادى بالصلاة ؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم : " يا بلالُ قم فنادِ بالصلاة " أخرجه أحمد والشيخان والنسائى والترمذى وقال حسن صحيح(5) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 78 }
ثم الكلام هنا فى عشرين عاماً :
(
__________
(1) سورة المائدة آية : 58 .
(2) سورة الجمعة آية : 9 .
(3) انظر ص 309 ج4 – المنهل العذب ( من أحق بالإمامة ) وص 128ج1 ابن ماجه ( فضل الأذان ) .
(4) انظر ص 82ج4 نووى ( اتخاذ مؤذنين لمسجد الواحد ) .
(5) انظر ص 13ج3 – الفتحر الربانى . وص 53ج2 – فتح البارى ( بدء الأذان ) وص 75ج4 نووى . وص 102ج1 مجتبى . وص 169ج1 – تحفة الأحوذى .(1/52)
1) حكم الأذان والإقامة : هما من خصائص هذه الأمة ، وسنة مؤكدة على سبيل الكفاية فى حق الرجل ولو منفرداً أو مسافراً للفرائض أداء وقضاء . ومنها الجمعة لما تقدم ( ولقول ) أبى الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما مِن ثلاثة فى قرية فلا يؤذَّن ولا تُقام فيهم الصلاةُ إلا اْستحوذَ عليهم الشيطان (الحديث ) أخرجه أحمد والنسائى وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال صحيح الإسناد(1) ... { 79 }
( وقال ) مالك بن الُحوَيْرَث : قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ابنُ عّمٍ فى فقال لنا : " إذا سافرتما فأذِّنا وأقيما . ولْيؤمّكما أكبركما ، أخرجه النسائى والترمذى وقال حسن صحيح(2) ... { 80 }
فهما من شعائر الدين يأثم تاركهما عند الحنفيين وهو مشهور مذهب الشافعية . لأنّ ترك السنة المؤكدة بمنزلة ترك الواجب العملى فى الإثم ( ولا يطلبان ) لغير الفرائض كصلاة الجنازة والتطوع والعيدين والوتر (لقول) جابر بن سَمُرة رضى الله عنه : " صليت مع النبى صلى الله عليه وسلم العيدين غيرَ مرة ولا مرتين بلا أذان إقامة " أخرجه مسلم(3) ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 81 }
( وقالت ) المالكية : الأذان سنة مؤكدة على سبيل الكفاية فى كل مسجد وجماعة طلبت غيرها . وفرض كفاية فى المصر . والإقامة سنة عين لذكر بالغ منفرد أو مع نساء أو صبيان يصلِّى بهم . وسنة كفاية لجماعة الذكور البالغين . ومندوبة لصبى .
( وقالت ) الحنبلية : الأذان فرض كفاية للفرائض المؤداة دون غيرها لجماعة الرجال فى الحضر ويشرع للمسافر والراعى ونحوه .
(
__________
(1) انظر ص 3ج3 – الفتح الربانى ( الأمر بالأذان ) .
(2) انظر ص 104ج1 مجتبى ( أذان المنفردين فى السفر ) وص 181ج1 – تحفة الحوذى .
(3) انظر ص 176ج6 نووى ( صلاة العيدين ) . ... ... ... ( م4 – ج2 – الدين الخالص )(1/53)
وقال ) داود . الأذان فرض لصلاة الجماعة وليس شرطا لصحتها . والسبب فى الاختلاف ، جعل الأمر فى الأحاديث للوجوب أو الندب فحمله جماعة على الوجوب عملا بالأصل . ويؤيده مواظبة النبى صلى الله عليه وسلم على الأذان والإقامة حضرا وسفرا . وحمله آخرون على الندب لأن الغرض من الأذان الدعاء إلى الاجتماع للصلاة ، ولما روى أنه صلى الله عليه وسلم ترك الأذان ليلة المزمنة . وهذا فى حق الرجال ( وأما النساء ) فليس لهنّ أذان ولا إقامة ، لأن الأصل فى الأذان الإعلام برفع الصوت وهو غير مشروع للمرأة . ومن لا يشرع له الأذان لا تشرع له الإقامة ( وقال ) ابن عمر : ليس على النساء الأذان ولا إقامة . أخرجه البيهقى بسند صحيح(1)وقال : ورويناه عن أنس بن مالك موقوفا ومرفوعا . ورفعه ضعيف . وهو قول الحسن وابن المسيب وابن سيرين والنخعى أهـ و به قالت الحنبلية .
( وقال ) الحنفيون يكره أذان المرأة تحريما ، لأن المؤذن يستحب له رفع الصوت ، وأن يكون على مكان مرتفع مُشْهرا نفسه . والمرأة منهية عن ذلك . والإقامة فى حقها كالأذان ، لقول عائشة : كنا نصلى بغير إقامة . أخرجه البيهقى(2)( ولا ينافيه ) ما رواه عطاء عن عائشة أنها كانت تؤذن وتقيم وتؤم النساء وتقوم وسَطَهن . أخرجه البيهقى(3)( لاحتمال ) أنها أذَّنَت وأقامت بلا رفع صوت أو أنها فعلته مرة وتركته لما تقدم . قال البيهقى : هذا إن صح مع الأول فلا يتنافيان ، لجواز فعلها ذلك مرة وتركها أخرى(4).
( وقالت ) المالكية : يحرم أذان المرأة ، لأن صوتها عورة ، ويندب لها الإقامة سرا .
( وقالت ) الشافعية : يكره أذانها ويستحب لها الإقامة .
(
__________
(1) انظر ص 408ج1 بيهقى ( ليس على النساء الأذان ولا إقامة ) .
(2) انظر ص 408ج1 بيهقى .
(3) انظر ص 408ج1 بيهقى .
(4) انظر ص 408ج1 بيهقى .(1/54)
2) فضل الأذان : فضله عظيم وثوابه جزيل وقد ورد فى ذلك عدّة أحاديث ( منها ) حديث معاوية رضى الله عنه أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال : " المؤذنونَ أطولُ الناس أعناقا يومَ القيامة " أخرجه أحمد ومسلم وابن ماجه والبيهقى(1) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 82 }
( وحديث ) عبد الله بن الرحمن أن أبا سعيد الخدرى قال له : " إذا كنتَ فى غنمك أو باديتك فأذّنتَ بالصلاة فارفع صوتَك بالنداء فإنه لا يَسمع مَدَى صوتِ المؤذن جنّ ولا إنس ولا شئ إلا شهد له يومَ القيامة سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم " أخرجه مالك وأحمد والبخارى والنسائى(2) ... ... { 83 }
( وحديث ) أبى هريرة أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال : " المؤذن يُغفَر له مدَى صوتِه ويشهد له كلُّ رطب ويابس " أخرجه أحمد وأبو داود والنسائى وابن ماجه وان خزيمة وابن حبان(3) ... { 84 }
وعلى الجملة فقد صحت أحاديث كثيرة فى بيان فضل الأذان والمؤذنين ، وأنه من أجلّ الطاعات التى يتنافس فيها المتنافسون .
(
__________
(1) انظر ص 9ج3 – الفتح الربانى ( فضل الأذان ... ) وص 89ج4 نووى . وص 128ج1 – ابن ماجه . وص 432ج1 بيهقى ( الترغيب فى الأذان ) و ( أطول الناس أعناقا ) أى يعرفون يوم القيامة بطول أعناقهم . فهو على حقيقته . ويحتمل أن يكون كناية عن رفعة شأنهم .
(2) انظر ص 128ج1 . زرقانى الموطأ ( النداء للصلاة ) وص 11ج3 – الفتح الربانى . وص 59ج2 . فتح البارى ( رفع الصوت بالنداء ) وص106ج1 . مجتبى .
(3) انظر ص 8ج3 – الفتح الربانى . وص 173ج4 – المنهل العذب ( رفع الصوت بالأذان ) وص 106ج1 مجتبى . وص 128ج1 – ابن ماجه ( فضل الأذان ) .(1/55)
3) أخذ الأجدة على الأذان : ينبغى للمؤذن ألاّ يأخذ أجراً على الأذان ( لقول ) عثمان بن أبى العاص : قلت يا رسول الله اجْعلنى إمامَ قومى قال : " أنت إمامُهم واقْتدِ بأضعفهم واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا " أخرجه النسائى وأبو داود وحسنه الترمذى(1) ... ... ... ... ... ... { 85 }
وقال : والعمل على هذا عند أهل العلم . كرهوا أن يأخذ على الأذان أجرا . واستحبوا للمؤذن أن يستحب فى أذانه ( وقال ) يحيى البكّاء : سمعت رجلا قال لابن عمر : إنى لأحِبُّك فى الله ، فقال له ابن عمر : إنى لأبغَضك فى الله . فقال سبحان الله أحِبك فى الله ، وتُبْغُِضنى فى الله ؟ قال نعم . إنك لتسأل على أذانك أجرا . أخرجه ابن حبان(2)( وقال ) ابن مسعود : أربع لا يؤخذ عليهن أجر : الأذان ، وقراءة القرآن ، والمقاسم ( قسمة الغنائم ) والقضاء . أخرجه ابن حزم(3).
(
__________
(1) انظر ص 109ج1 مجتبى ( اتخاذ مؤذن لا يأخذ على أذانه أجرا ) وص 208ج4 – المنهل العذب ( أخذ الأجرة على التأذين ) وص 184ج1 – تحفة الأحوذى .
(2) انظر ص 44ج2 . نيل الأوطار ( النهى عن أخذ الأجرة على الأذان ) .
(3) انظر ص 44ج2 . نيل الأوطار ( النهى عن أخذ الأجرة على الأذان ) .(1/56)
وقد اختلف العلماء ) فى أخذ الأجر على الأذان . فعند الجمهور يكره أخذه ( وقال ) النعمان : يحرم إن كان الأجر مشروطا لما تقدم . والصحيح عند المالكية جوازه ( قال ) ابن العربى : الصحيح جواز أخذ الأجرة على الأذان والصلاة والقضاء ، وجميع الأعمال الدينية . فإن الخليفة يأخذ أجرة على هذا كله . فكذا نائبه(1)قاس ابن العربى المؤذن على العامل وهو قياس فى مقابلة النص ( والأصح ) عند الشافعية أنه يجوز للإمام أو نائبه أن يعطى للمؤذن أجرة من بيت المال أو من مال نفسه . ويجوز لآحاد الناس أن يعطوه من مالهم ( وقالت ) الحنبلية : لا يجوز أخذ الأجرة على الأذان إن وجُد متبرع به ، وإلا رزُق من بيت المال . وللناس أن يجعلوا للمؤذن جُعلا على الأذان .
(4) لإقامة أفضل أم الأذان ؟ : الإمامة أفضل عند الحنفيين وبعض المالكية والشافعية وهو المختار عند أحمد لأنّ النبى صلى الله عليه وسلم وخلفاءه تولّوْها ولم يتولَّوا الأذان ( ولحديث ) أبى هريرة رضى الله عنه أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال : " الإمام ضامن : " والمؤذن مُؤتَمن ، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين " أخرجه الشافعى وأحمد وأبو داود وصححه ابن حبان(2) ... ... ... ... ... { 86 }
__________
(1) انظر ص 44ج2 . نيل الأوطار ( النهى عن أخذ الأجرة على الأذان ) .
(2) انظر ص 57ج1 بدائع المنن ( الأمر بالأذان وفضله ) وص 8ج3 – الفتح = الربانى . وص 177ج4 – المنهل العذب ( ما يجب على المؤذن من تعاهد الوقت ) .(1/57)
وجه الدلالة ما فيه من أن الإمام متكفل بأركان الصلاة وكل أعمالها . والمؤذن متكفل بالوقت فحسب وأن الدعاء بالمغفرة يؤذن بالتقصير بخلاف الدعاء بالرشاد ( وقال ) الشافعى وأكثر أصحابه وبعض الحنبلية : الأذان أفضل ، لما روينا فى فضله ، ولحديث أبى هريرة السابق . فإن الأمانة أعلى من الضمان ، والمغفرة أعلى من الرشاد . وإنما لم يؤذِّن النبى صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه ، لاشتغالهم بالأهم . ولذا قال عمر : لولا الخلافة لأذنت . هنا . والراجح القول الأوّل فإن الإمام كفيل بأعمال الصلاة وهى المقصودة .والأذان ونحوه وسيلة إليها .
(5) شروط الأذان والإقامة : يشترط كون الأذان باللفظ العربى مرتباً موالى بين كلماته عرفا والجهر به لجماعة بحيث يسمعه واحد منهم . وكون المؤذن والمقيم عاقلين مميزين مسلمين . ودخول الوقت فى غير الصبح . فلا يصح مجنون وسكران وكافر ولو مرتداً . ويحكم بإسلامه إذا أذن ، لإتيانه بالشهادتين . ولا يؤذَّن لصلاة – غير الصبح – قبل دخول وقتها . فلو وقع كله أو بعضه قبل دخول الوقت فهو غير صحيح ، ويعاد فى الوقت كما سيأتى بيانه ، ويشترط عند غير الحنفيين كون المؤذن ذكراً ، فلا يصح أذان الأنثى والخنثى ، لأنه من مناصب الرجال كالقضاء والإمامة ، وزادت الحنبلية كونه عدلا ولو مستورا ، فلا يعتدّ بأذان ظاهر الفسق ، لأنه عليه الصلاة والسلام وصف المؤذنين بالأمانة . والفاسق غير أمين .
( تنبيه ) علم مما تقدم :
( أ ) اتفاق الأئمة الأربعة على صحة أذان الصبى المميز ، غير أن المالكية يشترطون فى صحة أذانه أن يعتمد فى دخول الوقت على بالغ عدل ( وقال ) داود : لا يصح أذانه . وكرهه جماعة من الشافعية .
((1/58)
ب ) اتفق العلماء على جواز أذان الأعمى بلا كراهة إذا كان معه من يُعْلِمُه بدخول الوقت ( لقول ) عائشة:"كان ابنَ أم مكتوم يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعمى" أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود(1){87}
( فائدة ) الأكمل أن يكون المؤذن حرّاً فيصح أذان العبد . فإن أذن لنفسه لم يلزمه استئذان سيده ، لأن ذلك لا يضر بخدمته . وإن أذن الجماعة لزمه استئذانه ، لأنه يحتاج إلى مراعاة الأوقات فيضر بخدمة سيده .
(6) كيفية الأذان : للأذان ثلاث كيفيات مشهورة ( الأولى ) تثنية التكبير وترجيع الشهادتين بأن يأتى بكل واحدة منهما مرتين بصوت منخفض أوّلا . ثم يرفع بهما صوته مثنى كبقية الأذان . ما عدا لا إله إلا الله فإنه متفق على إفرادها ( روى ) عبد الله بن مُحيريٍز عن أبى مَحذورةَ أن نبى الله صلى الله عليه وسلم علمه هذا الأذانَ : " الله أكبر . الله أكبر . أشهد أن لا إله إلا الله . أشهد أن لا إله إلا الله . أشهد أن محمداً رسول الله . أشهد أن محمداً رسول الله . ثم يعودُ فيقول : أشهد أن لا إله إلا اللهُ مرتين . أشهد أنّ محمداً رسولَ الله مرتين . حىَّ على الصلاة مرتين . حىَّ على الفلاح مرتين . الله أبكر . الله أبكر . لا إله إلا الله " أخرجه مسلم(2) ... ... { 88 }
واختار هذه الكيفية مالك وأهل المدينة وأبو يوسف .
(
__________
(1) انظر ص 83ج4 نووى ( اتخاذ مؤذنين للمسجد ) وص 216ج4 – المنهل العذب ( الأذان الأعمى ) .
(2) انظر ص 80ج4 نووى ( صفة الأذان ) وهو هكذا فى أكثر أصول مسلم بتثنية التكبير فى أوله . والذى فى غير مسلم تربيعه . قال القاضى عياض : ووقع فى بعض طرق الفارسى فى صحيح مسلم أربع مرات . وكذلك اختلف فى حديث عبد الله بن زيد فى التثنية والتربيع . والمشهور فيه التربيع ( وحىّ ) اسم فعل أمر بفتح الياء المشدّدة ، أى أقبلوا وهاموا إلى الفوز والنجاة .(1/59)
الثانية ) تربيع التكبير الأوّل وتثنية باقى الأذان بلا ترجيع ( قال ) عبد الله بن زيد : لما أَمر رسول الله صلى الله لعيه وسلم بالنّاقوس يُعملُ ليُضْربَ به للناس لِجْمع الصلاة طاف بى وأنا نائم رجل يحمِل ناقوساً فى يده ، فقلت يا عبد الله أتبيع الناقوسَ ؟ فقال : وما تصنع به ؟ فقلت ندعو به إلى الصلاة . قال : أفلا أدلّك على ما هو خير من ذلك ؟ فقتل له بلى . فقال تقول : الله أكبر . الله أكبر . الله أكبر . الله أكبر . أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله . أشهد أنّ محمداً رسول الله . أشهد أنّ محمداً رسول الله . حىَّ على الصلاة . حىَّ على الصلاة . حىَّ على الفلاح . حىَّ على الفلاح . الله أكبر . الله أكبر . لا إله إلا الله . ( الحديث ) أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان وابن خزيمة صححه . وكذا الترمذى مختصراً وقال حسن صحيح(1) ... ... { 89 }
واختار هذه الكيفية النعمان والثورى ومحمد بن الحسن . وهى رواية عن احمد والشافعية .
(
__________
(1) انظر ص 14ج3 – الفتح الربانى. وص 129ج4 – المنهل العذب ( كيف الأذان ) وص 124ج1 – ابن ماجه ( بدء الأذان ) وص 168ج1 – تحفة الأحوذى و ( طاف ) أى ألم ونزل ( بى ) طائف حال النوم .(1/60)
الثالثة ) تربيع التكبير الأوّل وترجيع كل من الشهادتين وتثنية باقى الأذان ( قال) أبو محذورة : قلتُ يا رسول الله علّمنى سنةَ الأذانِ ، فمسح مُقدّم رأسى قال : تقول الله أكبر . الله أكبر . الله أكبر . الله أكبر . ترفع بها صوتَك ثم تقول : أشهد أن لا إله إلا الله . أشهد أن لا إله إلا الله . أشهد أنّ محمداً رسول الله . أشهد أنّ محمداً رسول الله . تخفِض بها صوتَك . ثم ترفع صوتك بالشهادة أشهد أن لا إله إلا الله . أشهد أن لا إله إلا الله . أشهد أنّ محمداً رسول الله . أشهد أنّ محمداً رسول الله . حىَّ على الصلاة . حىَّ على الصلاة . حىَّ على الفلاح . حىَّ على الفلاح . فإن كان صلاةَ الصبح ، قلتَ : الصلاةُ خير من النوم . الصلاةُ خير من النوم . الله أكبر . الله أكبر. لا إله إلا الله . أخرجه أحمد وأبو داود والبيهقى . وفى سنده محمد بن عبد الملك بن أبى محذورة غير معروف والحراث بن عُبيد ، فيه مقال . لكن رواه النسائى والطحاوى من طرق أخرى يقوى بها(1) ... { 90 }
واختار هذه الكيفية الشافعى واحمد وكثيرون .
وهذه الكيفيات ثابتة بالروايات الصحيحة كما ترى . فمن شاء ربّع التكبير ومن شاء ثنّاه . ومن شاء رَجَّع فى الشهادتين ومن شاء ترك الترجيع .
(
__________
(1) انظر ص 22ج3 – الفتح الربانى ( صفة الأذان ) وص 135ج4 – المنهل العذب ( كيف الأذان ) وص 394ج1 – بيهقى ( الترجيع فى الأذان ) وهو هكذا بتربيع التكبير فى أوله فى رواية أبى داود والبيهقى . وفى رواية أحمد بتثنيته ( فإن كان ) ما يؤذن له ( صلاة الصبح ) .(1/61)
7) التثويب : هو لغة الترجيع فى القول مرة بعد أخرى . وشرعا أن يقول فى أذان الصبح بعد الحيعلتين . الصلاة خير من النوم مرتين ، لما فى حديث أبى محذورة المذكور . ولا يشرع التثويب إلا فى الصبح ( لقول ) عائشة : جاء بلال إلى النبى صلى الله عليه وسلم يُؤْذنِه بصلاة الصبح فوجده نائما فقال : " الصلاة خير من النوم فأقِرت فى أذان الصبح " أخرجه الطبرانى فى الأوسط.وفيه صالح بن أبى الأخضر مختلف فى الاحتجاج به(1){91}
( وقال ) مجاهد : " كنتُ مع عبد الله بن عمر فثوب رجل فى الظهر أو العصر ، فقال أخرج بنا فإن هذه بدعة " أخرجه أبو داود ( وقال ) الترمذى : وروى عن مجاهد قال : دخلت مع عبد الله بن عمر مسجداً وقد أُذِّن فيه ونحن نريد أن نصلّىَ فيه فثوب المؤذن فخرج عبد الله بن عمر من المسجد وقال اخرج بنا من عند هذا المبتدع ولم يصل فيه . وإنما كَرِه عبد الله ابن عمر التثويبَ الذى أحدثه الناُس بعدُ(2)أهـ . أى وهو التثويب فى غير الصبح . وذلك لأنّ كل حدَث فى الدين مردود على صاحبه غير مقبول منه . لقوله عليه الصلاة والسلام : " من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " أخرجه الشيخان عن عائشة(3) ... ... { 92 }
(8) كيفية الإقامة : لها ثلاث كيفيات .
(
__________
(1) انظر ص 330ج1 مجمع الزوائد ( كيف الأذان ) .
(2) انظر ص 220ج4 – المنهل العذب ( التثويب ) وص 177ج1 تحفة الأحوذى .
(3) انظر رقم 23ص 37 فتاوى أئمة المسلمين .(1/62)
الأولى ) أنها سبعَ عشرةَ كلمة ( روى ) أبو مَحْذورة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم علّمه الأذانَ تِسعَ عشْرة كلمة ، والإقامةَ سبعَ عشرة كلمة . ثم قال : والإقامةُ الله أكبر الله أكبر ، الله أكبر الله أكبر . أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، أشهد أنّ محمداً رسول الله . حىَّ على الصلاة حىَّ على الصلاة . حىَّ على الفلاح حى على الفلاح . قد قدمت الصلاة قامت الصلاة . الله أكبر الله أبكر. لا إله إلا الله" أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وكذا النسائى والترمذى مختصراً . وقال الترمذى حسن صحيح(1){93}
واختار هذه الكيفية الحنفيون والثورى وابن المبارك .
( الثانية ) أنها عشر كلمات ( قال ) أنس : " أُمِر بلال أن يشَفْع الأذان وُيوِترَ الإقامة ، أخرجه أحمد وابن ماجه النسائى والترمذى وقال حسن صحيح(2) ... ... ... ... ... ... ... { 94 }
" ويوتر الإقامة " أى يقول كلمات الإقامة مفردة مرة مرة إلا التكبير أوّلها وآخرها . فإنه مَثْنَى كما صرح بذلك فى روايات كثيرة . وصورتها أن يقول : الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، حىّ على الصلاة ، حىّ على الفلاح ، قد قامت الصلاة ، الله أكبر الله أكبر . لا إله إلا الله ، وبها أخذ مالك وعليها أعمل أهل المدينة المستفيض . وهو قول للشافعى فى القديم .
(
__________
(1) انظر ص 24ج3 – الفتح الربانى ( صفة الأذان والإقامة ... ) وص 142ج4 – المنهل العذب ( كيف الأذان ) وص 125ج1 – ابن ماجه (الترجيع فى الأذان ) وص 103ج1 مجتبى ( كم الأذان من كلمة ) وص 171ج1 تحفة الأحوذى ( الترجيع فى الأذان ) .
(2) انظر ص 24ج3 – الفتح الربانى ( صفة الأذان والإقامة ) وص 128ج1 ابن ماجه ( إفراد الإقامة ) وص 103ج1 مجتبى ( تثنية الأذان ) وص 171ج1 تحفة الأحوذى ( إفراد الإقامة ) .(1/63)
الثالثة ) أنها إحدى عشْرة كلمة بتكرير قد قامت الصلاة مرتين ( قال ) أنس : " أُمِرَ بلال بشفع الأذان ووتر الإقامة إلا قد قامت الصلاة " أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود(1) ... ... ... { 95 }
أى فإنه يقولها مرتين كالتكبير أوّلها وآخرها ( وصورتها ) أن يقول : الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، حىّ على الصلاة ، حىّ على الفلاح ، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة ،الله أكبر الله أبكر ، لا إله إلا الله . كما فى حديث عبد الله بن زيد(2).
( وبهذه الكيفية ) قال الشافعى وأحمد والزهرى والأوزاعى . وهو قول للمالكية .
( فتحصل ) أن الإقامة ورد فيها :
( أ ) تربيع التكبير مع تثنية جميع كلماتها ما عدا لا إله إلا الله .
( ب ) إفراد جميع كلماتها إلا التكبير أوّلها وآخرها وقد قامت الصلاة فإنها مثناة .
( ج ) وردت منفردة أيضاً ما عدا التكبير أوّلها وآخرها كما عليه عمل أهل المدينة .
( فهذه الوجوه ) كلها ثابتة عن النبى صلى الله عليه وسلم . فمن فعل أى وجه منها فقد أصاب السنة .
(9) سنن الأذان والإقامة : هى سبع عشرة :
( 1 ، 2 ، 3 ، 4 ) يسنّ أن يكون المؤذن والمقيم رجلا صالحاً ثقة طاهراً من الحدثين الأصغر والأكبر (لقول) أبى هريرة : " لا ُينادِ بالصلاة إلا متوضى " أخرجه الترمذى والبيهقى مرفوعا وموقوفا . وقال الترمذى وحديث أبى هريرة لم يرفعه ابن وهب وهو أصح(3) ... ... ... ... ... { 96 }
(
__________
(1) انظر ص 24ج3 – الفتح الربانى . وص 55 ج2 فتح البارى ( الأذان مثنى ) وص 77ج4 نووى ( الأمر بشفع الأذان ... ) وص 163ج4 – المنهل العذب ( ما جاء فى الإقامة ) .
(2) تقدم رقم 89 ص 55 .
(3) انظر ص 178ج1 تحفة الأحوذى ( كراهة الأذان بغير وضوء ) وص 397 ج1 بيهقى ( لا يؤذن إلا طاهر ) .(1/64)
5 ، 6 ، 7 ) ويسنّ أن يكون المؤذن مستيقظا قائما على مرتفع ارتفاعا ظاهراً عن احتيج إليه كمئذنة وسطح مسجد أو غيره لما فى حديث ابن عمر أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال : " يا بلال قم فناد بالصلاة(1)" وكان مؤذنوه عليه الصلاة والسلام يؤذنون قياما ( قال ابن المنذر ) الإجماع على أنّ القيام فى الأذان من السنة ، لأنه أبلغ فى الإسماع ( وقالت ) امرأة من بنى النجار : " كان بيتى من أطولِ بيت كان حول المسجد فكان بلال يؤذن عليه الفجر فيأتى بسَحَرٍ فيجلس على البيت ينظر على الفجر ، فإذا رآه تمطّىِ ثم قال : اللهم إنى أحَمدُك وأستعينك على قريش أن يُقيموا دينك . ثم يؤذن " أخرجه أبو داود والبيهقى(2) ... ... { 97 }
وفيه : قال أ**بو برزة الأسلمى : من السنة الأذان فى المنارة والإقامة فى المسجد .
( هذا ) وينبغى ألا يكون مكان الأذان مرتفعاً ارتفاعا متفاحشاً كما يفعل الآن فى المآذن ، لما فيه من السرَف وفقد حكمة الأذان التى هى الإعلام . فإن صوت المؤذن عليها قلّ من يسمعه لفًحْش ارتفاعها ( قال ) ابن الحاج : من السنة الماضية أن يؤذن المؤذن على المنار . فإن تعذر فعلى سطح المسجد.** فإن تعذر فعلى بابه . وكان المنار عند السلف بناء يبنونه على سطحه المسجد مدوّراً وكان قريباً من البيوت خلافاً لما أحدثوه اليوم من تعليه المنار . وذلك يمنع لوجوه .
( الأول ) : مخالفة السلف .
( الثانى ) : أنه يكشف على حريم المسلمين .
(
__________
(1) هذا عجز الحديث رقم 78 ص 48 .
(2) انظر ص 180ج4 – المنهل العذب ( الأذان فوق المنارة ) وص 425ج1 بيهقى .(1/65)
الثالث ) : أن صوته يبعد عن أهل الأرض . ونداؤه إنما هو لهم . وهذا إذا كان المنار تقدّم وجوده على بناء الدار . وأما إذا كانت الدور مبنية ثم جاء بعض الناس يريد أن يعمل المنار ، فإنه يمنع من ذلك لأنه يكشف عليهم . اللهم إلا أن يكون بين المنار والدور سكك وبُعْد بحيث إنه إذا طلع المؤذن على المنار ورأى الناس على أسطح بيوتهم لا يميز بين الذكر والأنثى منهم . فهذا جائز على ما قاله علماؤنا أهـ(1).
(8) ويسن رفع الصوت بالأذان ( لحديث ) أبى سعيد الخدرى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال له : " إذا كنتَ فى غنمك أو بأديتك فأذْنتَ بالصلاة فارفع صوتك بالنداء . فإنه لا يَسْمع مَدَى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شئ إلا شهد له يوم القيامة(2)" ( ولحديث ) أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " المؤذن يغفر له مَدَى صوته ، ويشهد له كل رطب ويابس(3)" " يغفر له مدى صوته " أى أن المؤذن يستكمل مغفرة الله تعالى إذا بذل جهده فى رفع الصوت بالأذان . وقيل إن الكلام على التمثيل والتشبيه . والمعنى أن المكان الذى ينتهى إليه صوت المؤذن لو قدّر أنه ارتكب ذنوبا لو حسمت تملأ ذلك المكان يغفرها الله له . والغرض من الأذان الإعلام بدخول وقت الصلاة ، فطلب فيه رفع الصوت لتتحقق ثمرته .
(9) ويسن أن يستقبل بالأذان والإقامة القبلة . لأنّ مؤذنى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كانوا يؤذنون مستقبلى القبلةِ .
(
__________
(1) انظر ص 102ج2 – المدخل ( موضع الأذان ) .
(2) تقد رقم 83ص51 . و ( مدى صوت المؤذن ) أى غاية صوته .
(3) تقدم رقم 84ص51 .(1/66)
10) ويسن عند الحنفيين وإسحاق أن يلتفت برأسه وعنقه وصدره يمينا عند حىَّ على الصلاة ويسارا عند حىَّ على الفلاح ولا يستدير ، وروى عن أحمد ، لقول أبى جُحَيْفةَ : وأذّن بلال فجعلتُ أتتبع فاه هاهنا وهاهنا يقول يمينا وشمالا : حىَّ على الصلاة حىَّ على الفلاح . أخرجه مسلم(1) ... ... ... ... { 98 }
من حديث طويل . ولأبى داود عن أبى جُحَيفة : رأيتُ بلال خرج إلى الأبْطح فأذَّن فلما بلغ حىَّ على الصلاة حىَّ على الفلاح . لوَى عُنقه يمينا وشمالا ولم يستدر(2). والالتفات المذكور مقيد بوقت الحيعلتين . ولا يدورعند الحنفيين إلا أن يكون على منارة فيدور ( وقال ) الشافعى والثورى والأوزاعى : يستجب الالتفات بالعنق فى الأذان يمينا وشمالا بلا تحوُّل عن القبلة بصدره وقدميه ولا دوران سواء أكان المؤذن على الأرض أم على غيرها وروى عن أحمد ( وقال ) مالك : لا يدور ولا يلفت يمينا ولا شمالاً إلا أن يريد الإسماع . هذا وقد اختلفت الروايات فى الاستدارة ففى بعضها أنه كان يستدير وفى بعضها ولم يستدر . ولكنها لم ترو الاستدارة إلا من طريق حجاج بن أرطاة وإدريس الأودىّ ومحمد العرزمى وهم ضعفاء وقد خالفهم من هو مثلهم أو أمثل وهو قيس بن الربيع فرواه عن عون قال فى حديثه ولم يستدر . أخرجه أو داود ( قال ) الحافظ : ويمكن الجمع بأن من أثبت الاستدارة عَنى بها استدارة الرأس . ومن نفاها عنى بها استدارة الجسد كله(3).
( وفى كيفية ) الالتفات أوجه ( الأصح ) أنه يلتفت عن يمينه فيقول : حى على الصلاة حى على الصلاة . ثم يلتفت عن يساره فيقول : حى على الفلاح حى على الفلاح .
(
__________
(1) هذا بعض حديث انظر ص 219ج4 نووى ( سترة المصلى ) .
(2) هذا عجز حديث انظر ص 182ج4 – المنهل العذب ( المؤذن يستدير فى أذانه ) .
(3) انظر ص 78ج2 فتح البارى ( هل يتتبع المؤذن فاه هاهنا وهاهنا ) ؟(1/67)
الثانى ) أنه يلفت عن يمينه فيقول : حى على الصلاة ثم يعود إلى القبلة . ثم يلتفت عن يمينه فيقولها ثانية. ثم يلتفت عن يساره فيقول : حى على الفلاح . ثم يعود إلى القبلة . ثم يلتفت عن يساره فيقولها ثانية .
( الثالث ) يقول حى على الصلاة مرة عن يمينه ومرة عن يساره ، ثم يقول حى على الفلاح كذلك(1)(وقال ) ابن سيرين : يكره الالتفات ويرده الحديث . هذا ولم يرد التفات فى الإقامة . ولذا رجح البغوى القول بعد استجابه فيها ، والأصح عند الشافعية استجابه ، وقيل لا يلفت إلا أن يكون المسجد كبيرا(2).
(11) ويسن المؤذن وضع طرف أصبعيه فى أذنيه حال الأذان ( لقول ) أبى جُحيفة : رأيتُ بلالا يؤذن ويدور وأتتبّع فاه هاهنا هاهنا يعنى يمينا وشمالا وأُصبعاه فى أنيه . أخرجه أحمد الترمذى وقال : حسن صحيح وعليه العمل عند أهل العلم . يستحبون أن يدخل المؤذن أصبعيه فى أذنيه فى الأذان . وقال الأوزاعى : وفى الإقامة أيضا(3) ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 99 }
( قال ) الحافظ : فى ذلك فائدتان : ( إحداهما ) أنه قد يكون أرفع لصوته وفيه حديث ضعيف . أخرجه أبو الشيخ من طريق سعد القَرْظ عن بلال .
( ثانيتهما ) أنه علامة للمؤذن ليَعرف مَنْ يراه على بعد أو مَن كان به صمم أنه يؤذن ، ثم قال : لم يرد تعين الأصبع التى يستحب وضعها ، وجزم النووى بأنها المسبحة . وإطلاق الأصبع مجاز عن الأنملة(4).
(
__________
(1) انظر ص 106ج3 شرح المهذب .
(2) انظر ص 107 منه .
(3) انظر ص 24ج3 – الفتح الربانى ( صفة الأذان ... ) وص 176ج1 – تحفة الأحوذى ( إدخال الأصبع الأذن عند الأذان ) .
(4) انظر ص 78ج2 فتح البارى .(1/68)
12) ويسنّ المبادرة بالأذان فى أول الوقت ( لقول ) جابر بن سَمُرة : " كان بلال يؤذن إذا زالت الشمسُ لا يَخْرُم ثم لا يقيم حتى يخرُج النبىُّ صلى الله عليه وسلم . فإذا خرج أقام حين يراه . أخرجه أحمد وابو داود والنسائى(1) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 100 }
( 13 و 14 ) ويسنّ التأنى فى الأذان بأن يفصل بين كل كلمتين بسكتة . والإسراع فى الإقامة . بألاّ يفصل بين كلماتها ( لحديث ) جبار أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال : " يا بلالُ إذا أذّنت فترسل فى أذانك . وإذا أقمت فاحدر ، ( الحديث ) أخرجه البيهقى وابن عدى والترمذى(2) ... ... { 101 }
وضعفوه ، لأن فى سنده : ( أ ) عبد المنعم صاحب السقاه ضعفه الدار قطنى . وقال أبو حاتم منكر الحديث جدا لا يجوز الاحتجاج به .
(ب) يحبى بن مسلم مجهول . وقال الترمذى : لا نعرفه إلا من حديث عبد المنعم وهو إسناد مجهول أهـ (وقد) روى من عدة طرق لا تخلو من مطعن ( ويقويه ) قول أبى الزبير مؤذن بيت المقدس : قال لى عمر بن الخطاب : " إذا أَذّنْتَ فترسّلْ وإذا أقمت فاحدُر " أخرجه البيهقى(3)( قال ) محمد بن عبد الرحمن فى شرح الترمذى : الحديث يدل على أنّ المؤذنّ يقول كل كلمة من كلمات الأذان بِنفَس واحد . فيقول التكبيرات الأربع فى أول الأذان بأربعة أنفاس(4). وهذا ما اختاره أئمة المذاهب .
(
__________
(1) انظر ص 35ج3 – الفتح الربانى ( الأذان فى أول الوقت ) وص 219 ج4 المنهل العذب ( المؤذن ينتظر الإمام ) و ( لا يخرم ) كينصر أى لا يترك شيئاً من ألفاظه ، أو لا يؤخره عن أول الوقت .
(2) انظر ص 428ج1 بيهقى . وص 175ج1 تحفة الأحوذى ( الترسل فى الأذان ) والترسل التمهل ( فاحدر ) بضم الدال وكسرها ، أى أسرع .
(3) انظر ص 428ج1 بيهقى .
(4) انظر ص 175ج1 تحفة الأحوذى .(1/69)
قال ) الكمال ابن الهمام : قوله ويترسل فى الأذان . هو أن يفصل بين كل كلمتين من كلماته بسكته(1)(وقال ) ابن نجيم : ويترسل فيه ويحدر فيها أى يتمهل فى الأذان ويسرع فى الإقامة ، وحده أن يفصل بين كل كلمتى الأذان بسكتة بخلاف الإقامة للتوارث ، ولحديث الترمذى أنه صلى الله عليه وسلم قال لبلال : إذا أذنت فترسل فى أذانك . وإذا أقمت فاحدر . فكان سنة . فيكره تركه(2)( وقال ) ابن عابدين : رأيت لسيدى عبد الغنى رسالة فى هذه المسألة سماها " تصديق من أخبر بفتح راء الله أكبر " حاصلها أن السنة أن يسكن الراء من الله أكبر الأولى ، أو يصلها بالله أكبر الثانية .
__________
(1) انظر ص 170ج1 فتح القدير ( الأذان ) .
(2) انظر ص 157ج1 – البحر الرائق شرح كنز الدقائق .(1/70)
فإن سكنها كفى . وإن وصلها نرى السكون فحرك الراء بالفتحة . فإن ضمها خلاف السنة ، لأن طلب الوقف على أكبر الأول صيره كالساكن أصالة فحرك بالفتح(1)( وقال ) العمة الدردير فى صغيره : التكبير مجزوم أى ساكن الجمل لا معرب ( قال ) محشيه الصاوى : نقل البنانى عن أبى الحسن وعياض وابن يونس وابن راشد والفاكهانى أن جزم الأذان من الصفات الواجبة(2). وفى الرهونى على شرح عبد الباقى قال النخعى :الأذان والتكبير كل ذلك جزم ، وقال غيره : عوام الناس يضمون الراء من الله أكبر والصواب جزمها ، لأن الأذان سمع موقوفا ومن أعرب الله أكبر لزمه أن يعرب الصلاة والفلاح بالخفض(3)( وقال ) ابن حجر الهيثمى الشافعى : يسن الوقف على أواخر الكلمات من الأذان لأنه روى موقوفا ولا ينافيه ما مر من ندب قرن كل تكبيرتين فى صوت لأنه يوجد مع الوقف على الراء الأولى بسكتة لطيفة جدا ( قال ) محشيه : " قوله يسن الوقف على أواخر الكلمات " أى مطلقاً سواء التكبير وغيره " وقوله روى موقوفا " أى ورد موقوفا على أواخر الكلمات . ومبنى العبادات على الاتباع(4)( وقال ) الكردى : وعبارة الإمداد : السنة تسكين راء التكبير الثانية وكذا الأولى(5)(وقالت ) الحنبلية : يسن الوقف على كل كلمة من كلمات الأذان والإقامة ( قال ) الشيخ منصور الحنبلى : " ولا يعربهما " أى الأذان والإقامة " بل يقف على كل جملة " منهما . قال إبراهيم النخعى : شيئان مجزومان كانوا لا يعربونهما : الأذان والإقامة(6).
__________
(1) انظر ص 284ج1 رد المحتار ( الأذان ) .
(2) انظر ص 79ج1 – بلغة السالك ، لأقرب المسالك ( الأذان ) .
(3) انظر ص 93ج2 موهبة ذى الفضل على شرح مقدمة بأفضل .
(4) انظر ص 93ج2 موهبة ذى الفضل على شرح مقدمة بأفضل .
(5) انظر ص 242ج1 – إعانة الطالبين على فتح المعين .
(6) انظر ص 165ج1 – كشاف القناع . ... ... ... ( م50- ج2 – الدين الخالص )(1/71)
ولا دليل على هذه التسوية(وقول) النووى : يستحب للمؤذن أن يقول كل تكبيرتين بنفس واحد . فيقول فى أول الأذان : الله أكبر الله أكبر بنفس واحد،ثم يقول الله أكبر الله أكبر بنفس آخر أهـ .
( رده ) الحافظ فى الفتح بأن هذا إنما يتأتى فى أول الأذان لا فى التكبير الذى فى آخره . وعلى ما قاله النووى ينبغى للمؤذن أن يفرد كل تكبيرة من اللتين فى آخره بنفس(1).
( ولا يستدل ) لما قاله النووى بحديث عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قال المؤذن : الله أكبر الله أكبر . فقال أحدكم : الله أكبر الله أكبر . فإذا قال : أشهد أن لا إله إلا الله . قال : أشهد أن لا إله إلا الله . فإذا قال : أشهد أن محمداً رسول الله . قال : أشهد أن محمداً رسول الله . ثم قال : حى على الصلاة ، قال لا حول ولا قوة إلا بالله . ثم قال : حى على الفلاح ، قال : لا حول ولا قوة إلا بالله . ثم قال : الله أكبر الله أكبر ، قال : الله أكبر الله أكبر . ثم قال : لا إله إلا الله ، قال : لا إله إلا الله من قلبه ، دخل الجنة " أخرجه مسلم وأبو داود(2) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 102 }
لاحتمال أن التكبير فيه موقوف لا معرب . وذكر الجملة الثانية بعد الأولى لا يستلزم عدم الوقف عليها . ولم يثبت فى الرواية أن الراء فى الجملة الأولى مضمومة.ويؤيده أن سائر جمل الأذان موقوفة بالاتفاق ، لاسيما أن الأصل الوقف على كل جملة من الكلام فلا يصح الاستدلال–بحديث عمر المذكور–على أن الجملة الأولى معربة.
(
__________
(1) انظر ص 56ج2 – فتح البارى ( الأذان مثنى ) .
(2) انظر ص 85ج4 نووى ( استحباب القول مثل قول المؤذن .. ) وص 199 ج4 – المنهل العذب ( ما يقول إذا سمع المؤذن ) .(1/72)
15) ويستحب – عند الحنفيين والشافعى وأحمد – إجابة المقيم بأن يقول السامع كما يقول المقيم إلا فى الحيعلتين فيقول بدلهما لا حول ولا قوة إلا بالله . وإلا قد قامت الصلاة فيقول بدلها أقامها الله وأدامها ( لحديث ) أبى أمامة أن بلالا أخذ فى الإقامة فلما أن قال قد قامت الصلاة ، قال النبى صلى الله عليه وسلم : " أقامها الله وأدامها ، وقال فى سائر الإقامة كنحو حديث عمر فى الأذان " أخرجه أبو داود والبيهقى(1) ... { 103 }
وقال : وهذا إن صح شاهد لما استحسنه الشافعى رحمه الله من قولهم : اللهم أقمها وأدمها واجعلنا من صالحى أهلها عملا .
( وقالت ) المالكية : الإقامة لا تحكى . والراجح ، القول الأول ، للحديث المذكور . وهو " إن كان ضعيفاً " لأن فى سنده محمد بن ثابت وهو ضعيف . وشهر بن حوشب وهو مختلف فى عدالته " فضعفه " لا يضر فإن الضعيف يعمل به فى فضائل الأعمال باتفاق العلماء .
(16) ويستحب لمن سمع الإقامة أن يقول : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة صل على محمد وآته سؤله يوم القيامة . فقد كان أبو هريرة يقوله إذا سمع المؤذن يقيم . أخرجه ابن السنى { 104 }
وهو فى حكم المرفوع لأنه لا يقال من قبل الرأى .
(17) ويستحب ألا يفصل بين كلمات الأذان بكلام أجنبى أو فعل . فإن حصل فصل يسير بذلك لا يبطل الأذان . وإن طال بطل . كما إذا سكت أو نام طويلا أو أغمى عليه أو جن جنونا يقطع الموالاة . ولا يتكلم سامع الأذان والإقامة ولا يشتغل بشئ سوى الإجابة .
(
__________
(1) انظر ص 203ج4 – المنهل العذب ( ما يقول إذا سمع الإقامة ) وص 411ج1 بيهقى . وحديث عمر تقدم رقم 102 .(1/73)
10) أذان المرأة والمحدث : يكره أذان المرأة وإقامتها عند الحنفيين . وعند غيرهم لا يصح أذان المرأة كما تقدم . ويكرهان من الفاسق والجنب والقاعد لغير عذر من مرض ونحوه ( قال ) ابن القاسم : قال مالك لم يبلغنى أن أحدا أذن قاعدا . وأنكر ذلك إنكاراً شديداً وقال إلا من عذر به فيؤذن لنفسه إن كان مريضاً(1)(وتكره) إقامة المحدث حدثا أصغر اتفاقا ( واختلفوا ) فى أذانه فالصحيح عند الحنفيين أنه لا يكره أذانه . وهو مذهب أحمد وسفيان وابن المبارك ، ورواية عن مالك ( وكرهه ) الشافعى والحسن البصرى وداود وقتادة ( قال ) البدر العينى. قال صاحب الهداية : وينبغى أن يؤذن ويقيم على طهر ، لأن الأذان والإقامة ذكر شريف فيستحب فيه الطهارة . فإن أذن على غير وضوء جاز ، وبه قال الشافعى وأحمد وعامة أهل العلم . وعن مالك أن الطهارة شرط فى الإقامة دون الأذان .
( وقال ) عطاء والأوزاعى وبعض الشافعية تشترط فيهما(2)أهـ . والمعتمد عند المالكية صحة إقامة المحدث مع الكراهة . ويؤيد القول بالكراهة فيهما حديث عبد الجبار بن وائل عن أبيه قال : حق وسنة مسنونة ألا يؤذن الرجل إلا وهو طاهر ، ولا يؤذن إلا وهو قائم . أخرجه البيهقى والدار قطنى(3).
وفيه انقطاع . فإن عبد الجبار لم يسمع من أبيه . ولكن له شاهد من حديث ابن عباس بلفظ : يا بن عباس إن الأذان متصل بالصلاة ، فلا يؤذن أحدكم إلا وهو طاهر . أخرجه أبو الشيخ ابن حبان(4){ 105 }
(
__________
(1) انظر ص 63ج1 – مدونة مالك ( الأذان والإقامة ) .
(2) انظر ص 148 ج5 – عمدة القارى ( هل يتبع المؤذن فاه .. ) .
(3) انظر ص 397ج1 بيهقى ( لا يؤذن إلا طاهر ) .
(4) انظر ص 292ج1 نصب الراية ( الطهارة فى الأذان ) .(1/74)
11 ) أذان المنفرد : يستحب الأذان المنفرد سفرا وحضرا ، لقوله صلى الله عليه وسلم فى حديث أبى سعيد فإذا كنت غنمك أو باديتك ، فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء(1). وبه قال الحنفيون وأحمد . وهو الراجح عند الشافعية . ومحله عندهم إذا لم يسمع أذان الجماعة ويريد الصلاة معهم ( قالت ) المالكية : يندب لمن كان فى فلاة . ويكره للحاضر .
(12) الأذان قبل الوقت : قد اتفق العلماء على أنه لا يؤذن للصلوات قبل وقتها ما عدا الصبح . فإنهم اختلفوا فيها ( فقال ) النعمان ومحمد والثورى وزيد بن على : لا يجوز الأذان لها قبل وقتها كبقية الصلوات (لحديث) نافع عن ابن عمر أن بلالا أذن قبل طلوع الفجر فأمره النبى صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادى : ألا إن العبد قد نام . فرجع فنادى : ألا إن العبد قد نام . أخرجه أبو داود والترمذى وفى سنده حماد بن سلمة . ضعفه غير واحد . قال ابن المدينى : حديث حماد بن سلمة غير محفوظ ، وأخطأ فى رفعه والصواب وفقه(2). { 106 }
( وقال ) الجمهور : يجوز الأذان قبل الفجر مطلقا فى رمضان وغيره خلافات لابن القطان فإنه خصه برمضان ( واستدلوا ) بحديث ابن عمر وعائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال : " إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم " أخرجه أحمد والخمسة ، زاد البخارى فى رواية " فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر " وقال الترمذى : حسن صحيح(3) ... ... ... ... ... ... ... ... { 107}
(
__________
(1) تقدم رقم 83ص51 .
(2) انظر ص 210ج4 – المنهل العذب ( الأذان قبل دخول الوقت ) و ( قد نام ) أى غلب النوم على عينيه فمنعه من تبين الفجر فوقع الأذان قبله.
(3) انظر ص 36ح3 – الفتح الربانى . وص 71ج2 فتح البارى ( الأذان قبل الفجر ) وص 97ج4 منه . وص 203ج7 نووى ( الدخول فى الصوم بطلوع الفجر ) وص 105 ج1 مجتبى ( المؤذنان للمسجد الواحد ) وص 179ج1 تحفة الأحوذى ( الأذان بالليل ) .(1/75)
وبحديث ) ابن مسعود : أنه صلى الله عليه وسلم قال . " لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن أو قال ينادى بليل ، ليرجع قائمكم وينبه نائمكم " أخرجه السبعة إلا الترمذى(1) ... ... { 108 }
(
__________
(1) انظر ص 35ج3 – الفتح الربانى . وص 71ج2 فتح البارى . وص203ج7 نووى . وص 68ج10 – المنهل العذب ( وقت السحور ) وص 105ج1 مجتبى ( الأذان فى غير وقت الصلاة ) وص 266ج1 – ابن ماجه ( تأخير السحور ) و ( السحور ) بضم أوله ، تناول طعام السحر . وبفتحه اسم يؤكل فى السحر . و ( يرجع ) بفتح الياء وكسر الجيم ( وينبه ) بضم الياء وفتح الباء مشددة أى ليرجع المتهجد إلى النوم ليستريح ويتنبه النائم ليستعد لصلاة الصبح .(1/76)
وأجابوا ) عن حديث ابن عمر بأنه ضعيف كما تقدم وعلى تقدير صحته فيحمل على أن ذلك كان قبل مشروعية الأذان الأول . فإن بلالا كان المؤذن الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم اتخذ ابن أم مكتوم مؤذنا معه . فكان بلال يؤذن أولا ، إرجاع القائم وإيقاظ النائم . فإذا طلع الفجر أذن ابن أم مكتوم ( قال ) فى الموطأ وشرحه ( لم تزل صلاة الصبح ينادى لها قبل الفجر ) فى أول السدس الأخير من الليل ( فأما غيرها من الصلوات فإنا لم نرها ينادى لها إلا بعد أن يحل وقتها ) لحرمته قبل الوقت فى غير الصبح ( قال ) الكرخى من الحنفية : كان أو يوسف يقول بقول أبى حنيفة لا يؤذن لها " يعنى قبل الفجر " حتى أتى المدينة فرجع إلى قول مالك وعلم أنه علمهم المتصل(1)( واختلف ) القائلون بجواز الأذان قبل الفجر فى الوقت الذى يكون فيه ( فقيل ) وقت السحر ورجحه جماعة من أصحاب الشافعى . وهو ظاهر مذهب المالكية . وقيل نصف الليل الأخير ، ورجحه النووى (والظاهر ) أنه يكون وقت السحر ، ويؤيده حديث عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ."إذا أذن بلال فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم قلت:ولم يكن بينهما إلا ينزل هذا ويصعد هذا"أخرجه النسائى والطحاوى(2){109}
وهل يكتفى بالأذان قبل الفجر للصلاة أم يعاد بعده ؟ ( قالت ) الشافعية والحنبلية : يكتفى به للصلاة . وعند المالكية قولان أرجحهما عدم الاكتفاء .
(
__________
(1) انظر ص 135ج1 زرقانى ( الندءا للصلاة ) .
(2) انظر ص 105 مجتبى ( هل يؤذنان جميعا ؟ ... ) وص 82ج1 شرح معانى الآثار .(1/77)
13) حكاية الأذان : ويطلب ممن سمع الأذان المسنون الإجابة . وهى أن يقول كما قال المؤذن إلا الحيعلتين . فللسامع أن يقولهما مثله . وله أن يقول بدل كل واحدة منهما . لا حول ولا قوة إلا بالله ، لحديث عمر السابق(1)ولقول علقمة بن وقاص : " إنى عند معاوية إذا أذن مؤذنه فقال معاوية كما قال المؤذن حتى إذا قال : حى على الصلاة ، قال لا حول ولا قوة إلا بالله فلما قال حى على الفلاح قال لا حول ولا قوة إلا بالله . وقال بعد ذلك ما قال المؤذن ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مثل ذلك " أخرجه البخارى وأحمد والنسائى وهذا لفظهما(2) ... ... ... ... ... ... { 110 }
( وعن ) أبى سعيد : أن النبى صلى الله عليه وسلم : " إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن " أخرجه الجماعة والشافعى(3) ... ... ... ... ... ... { 111 }
__________
(1) تقدم رقم 102 ص 66 .
(2) انظر ص 63ج2 فتح البارى ( ما يقول إذا سمع المنادى ) وص 32ج3 – الفتح الربانى . وص 109ج1 مجتبى ( القول إذا قال المؤذن حى على الصلاة حى على الفلاح ) .
(3) انظر ص 124ج1 زرقانى ( النداء للصلاة ) وص 31ج3 – الفتح الربانى وص 61ج2 فتح البارى ( ما يقول إذا سمع المنادى ) وص 84ج4 نووى . وص 188ج4 – المنهل العذب . وص 109ج1 مجتبى . وص 183ج1 تحفه الأحوذى . وص 127ج1 – ابن ماجه ( فقولوا مثل ما يقول المؤذن ) قال القارى : إلا فى قوله : الصلاة خير من النوم فإنه يقول : صدقت وبررت وبالحق نطقت . وبرر كعلم أو فتح أى صرت ذا بر وخير كثير . انظر ص 423ج1 مرقاة المفاتيح ( فضل الأذان ) ولم نقف على ما يدل على هذا . قال الصنعانى : وهذا استحسان من قائلة وليس فيه سنة تعتمد . انظر ص 202ج1 سبل السلام .(1/78)
هذا وظاهر قوله فى الحديث إذا سمعتم اختصاص الإجابة بمن سمع حتى لو رأى المؤذن على المنارة مثلا فى الوقت وعلم أنه يؤذن لكن لم يسمع أذانه لبعد أو صمم ، لا تشرع له الإجابة(1)( والظاهر ) أيضاً من قوله فقولوا التعبد بالقول وعدم كفاية إمرار الإجابة على القلب ( واختلف ) العلماء فى ذلك فذهب الجمهور إلى أنه يحكى الأذان كالمؤذن فى جميع ألفاظه إلا فى الحيعلتين فإنه يقول بدل كل واحدة منهما : لا حول ولا قوة إلا بالله حملا للعام على الخاص جمعا بينهما . وهو رواية عن مالك . وهذا ليس بمتعين طريقا للجمع . بل يمكن الجمع بأن يجيب المؤذن تارة فى جميع الكلمات على وفق الراويات الثانية . وتارة يجيب على حسب الروايات الأولى . وعلى هذا جرى ابن حزم ( قال ) ابن المنذر : يحتمل أن يكون هذا من الاختلاف المباح . فيقول : تارة مثل قول المؤذن حتى فى الحيعلتين وتارة يبدلهما بالحوقلتين(2)( ومشهور ) مذهب المالكية : أن السامع يحكى الأذان لمنتهى الشهادتين ، وما زاد تكره حكايته حتى التكبير الأخير والتهليل ، وقيل يخير فى حكايته لظاهر قول عبد الله بن ربيعه السلمى . كان النبى صلى الله عليه وسلم فى سفر فسمع مؤذنا يقول : أشهد أن لا إله إلا الله . قال النبى صلى الله عليه وسلم أشهد أن لا إله إلا الله . قال : أشهد أن محمداً رسول الله : قال النبى صلى الله عليه وسلم :
أشهد أنى محمد رسول الله . وقال : تجدونه راعى غنم أو عازبا عن أهله ( الحديث ) أخرجه أحمد والطبرانى فى الكبير بسند رجاله رجال الصحيح(3) ... ... ... ... ... ... ... { 112 }
__________
(1) انظر ص 61ج2 فتح البارى .
(2) انظر ص 61ج2 فتح البارى .
(3) انظر ص 28 ج3 – الفتح الربانى ( ما يقول عند سماع الأذان ) وص 335ج1 مجمع الزوائد ( الأذان فى السفر ) و ( عازب ) أى بعيد .(1/79)
ورد بأنه لا دليل فيه على كراهة حكاية ما بعد الشهادتين ، لأن الظاهر أنه صلى الله عليه وسلم حكى كل الأذان كما أمر فعند النسائى عن عبد الله ابن ربيعة أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سفر فسمع صوت رجل يؤذن فقال مثل قوله ( الحديث )(1)واقتصار الراوى على الإخبار بحكاية الشهادتين ، لا يدل على عدم حكاية غيرهما ، والراجح الذى يشهد له الدليل أنه يطلب حكاية الأذان لآخره إلا أنه يدل الحيعلة فى كل مرة بالحوقلة .
( قال ) العلامة الدسوقى : والحاصل أن الأذان قيل تندب حكايته لآخره إلا أنه يبدل الحيعلة بحوقلة . ورجحه فى المجموع(2)وظاهر الأحاديث يدل على وجوب إجابة المؤذن فى جميع الحالات ، وبه قال الحنفيون وابن وهب المالكى والظاهرية ( وقال ) مالك والشافعى وأحمد وجمهور الفقهاء : الأمر فى الأحاديث للاستحباب وهو اختيار الطحاوى . قالوا والصارف له عن الوجوب ما فى قوله أنس بن مالك : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر . وكان يستمع الأذان ، فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار . فسمع رجلا يقول : الله أكبر الله أكبر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم على الفطرة ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجت من النار . فنظروا فإذا هو راعى معزى ، أخرجه مسلم(3) ... ... { 113 }
__________
(1) انظر ص 108ج1 مجتبى ( أذان الراعى ) .
(2) انظر ص 161ج1 حاشية كبير الدردير ( الأذان ) .
(3) انظر ص 84ج4 – نووى ( ترك الإغارة على من سمع فيهمن الأذان ) و ( على الفطرة ) أى على الإسلام .(1/80)
وأخرج الطحاوى نحوه عن ابن مسعود وقال : فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سمع المنادى ينادى فقال غير ما قال . فدل ذلك على أن قوله " إذا سمعتم المنادى فقولوا مثل الذى يقول " ليس على الإيجاب . وأنه على الاستحباب والندبة إلى الخير وإصابة الفضل كما علم الناس من الدعاء الذى أمرهم به أن يقولوه فى دبر الصلوات وما أشبه ذلك(1).
( قال ) الحافظ : وتعقب بأنه ليس فى الحديث أنه لم يقل مقل ما قال . فيجوز أن يكون قاله ولم ينقله الراوى اكتفاء بالعادة ، ونقل القول الزائد وبأنه يحتمل أن يكون ذلك وقع قل صدور الأمر ، يعنى بإحالة المؤذن(2)وللجمهور أيضاً أن الأذان الذى هو الأصل ليس بواجب كما عليه الأكثر ، فالإجابة لا تكون واجبة بالطريق الأولى.
( فوائد ) :
( الأولى ) أيحكى الترجيع أم لا ؟ ظاهر قوله فقولوا مثل ما يقول أنه يحكيه لن الترجيع مما يقوله . وهذا أظهر وأحوط .
( الثانية ) روى سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه أن النبى صلى الله لعيه وسلم قال : " من قال حين يسمع الأذان وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله رضيت بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا ، غفر له " أخرجه أحمد ومسلم والأربعة وقال الترمذى : حسن صحيح(3) ... ... { 114 }
وظاهر هذه الرواية يدل على أنه يقول هذا الذكر حال الأذان عقب سماعه الشهادتين . ويحتمل أنه يقول بعد تمام الأذان ، إذ لو قال ذلك حال الأذان لفاته إجابة المؤذن فى بعض كلمات الأذان .
(
__________
(1) انظر ص 87ج1 – شرح معانى الآثار .
(2) انظر ص 62ج2 – فتح البارى ( ما يقول إذا سمعه المنادى ) .
(3) انظر ص 29ج3 – الفتح الربانى . وص 86ج4 – نووى . وص 110ج1 مجتبى ( الدعاء عند الأذان ) وص 123ج1 – ابن ماجه . وص 197ج4 – المنهل العذب ( ما يقول إذا سمع المؤذن ) وص 184ج1 تحفة الأحوذى ( ما يقول إذا أذن المؤذن )(1/81)
الثالثة ) هل باشر النبى صلى الله عليه وسلم الأذان بنفسه ؟ ( قال ) علاء الدين الحصنى : وفى الضياء أنه عليه الصلاة والسلام أذن فى سفر بنفسه وأقام وصلى الظهر(1)( وروى ) يعل ابن مرة نه صلى الله عليه
وسلم أذن فى سفر وهو على راحلته وأقام فتقدم على راحلته فصلى بهم " أخرجه الترمذى وقال : حديث غريب تفرد به عمر بن الرماح البلخى(2) ... ... ... ... ... ... ... { 115 }
( قال ) الحافظ : وجزم به النووى وقواه . ولكن وجدناه فى مسند أحمد من هذا الوجه فأمر بلالا فأذن فعلم أن فى رواية الترمذى اختصارا ، وأن معنى قوله أذن أمر بلالا به ، كما يقا أعطى الخليفة العالم الفلانى كذا ، وإنما باشر العطاء غيره(3)" لكن قال السندى وفى السراج ( قال ) عقبة بن عامر ، " كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سفر فلما زالت الشمس أذن بنفسه وأقام صلى الظهر ( وقال ) السيوطى فى شرح البخارى ، ظفرت بحديث آخر مرسل " أخرجه سعيد بن منصور فى سننه عن ابن أبى ملكية قال : " أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة فقال : حى على الفلاح(4)" ... ... ... ... ... ... ... { 116 }
وهذه رواية لا تقبل التأويل .
(
__________
(1) انظر ص 295ج1 – الدر المختار .
(2) انظر ص 317ج1 – تحفة الأحوذى ( الصلاة على الدابة فى الطين ) وهذا بعض حديث يأتى تاما . فى بحث ( صلاة الفرض على الدابة ) إن شاء الله تعالى .
(3) انظر ص 52ج2 فتح البارى ( بدء الأذان ) .
(4) انظر ص 124ج1 زرقانى .(1/82)
14) الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم : يسن لمن سمع الأذان أن يصلى على النبى صلى الله لعيه وسلم بعد حكاية الأذان وأن يسال له الوسيلة "لحديث " عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم يقول : " إذ سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا على فإن م صلى على صلاة صلى الله عليه بها عشرا . ثم سلوا الله لى الوسيلة فإنها منزلة فى الجنة ل تنبغى إلا لعبد من باد الله . وأرجو أن أكون أنا هو . فمن سأل الله لى الوسيلة حلت له الشفاعة " أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائى(1) ... ... { 117 }
ومثل السامع فيما ذكر المؤذن ، لدخوله فى عموم قوله " من صلى على الصلاة " وقوله " فمن سأل الله لى الوسيلة " ( قال ) النووى : فيه استحباب الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من متابعة المؤذن . واستحباب سؤال الوسيلة له صلى الله عليه وسلم وأنه يستحب أن يقول السامع كل كلمة بعد فراغ المؤذن منها ولا ينتظر فراغه من كل الأذان(2). والأمر فى الحديث للندب عند الجمهور . وحمله الطحاوى على الوجوب . وظاهر الحديث جواز إفراد الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم عن السلام بلا كراهة . وبه قال الجمهور ، ولا وجه لمن قال بالكراهة ( روى ) جابر أن النبى صلى الله لعيه وسلم قال : " من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محموداً الذى وعدته ، حلت له شفاعتى
__________
(1) انظر ص 30ج2 – الفتح الربانى . وص 85ج4 نووى ( القول مثل قول المؤذن ) وص 191ج4 – المنهل العذب . وص 110ج1 مجتبى ( الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم بعد الأذان ) .
(2) انظر ص 87ج4 شرح مسلم .(1/83)
يوم القيامة " أخرجه أحمد والبخارى والأربعة(1) ... ... ... ... ... { 118 }
__________
(1) انظر ص 31ج3 – الفتح الربانى . وص 64ج23 فتح البارى ( الدعاء عند النداء ) وص 204ج4 – المنهل العذب . وص 110ج1 مجتبى (الدعاء عند الأذان ) وص 185ج1 تحفة الأحوذى . وص 127ج1 – ابن ماجه ( ما يقال إذا أذن المؤذن ) و ( الدعوة ) بفتح الدال المراد بها الأذان . سمى بذلك لاشماله عل كلمة التوحيد والدعوة إلى الصلاة . و ( التامة ) أى التى لا يدخلها تغيير ولا تبديل إلى يوم القيامة ( والوسيلة ) ما يتوصل به إلى الشئ ويتقرب به . والمراد بها هنا أعلى منزلة فى الجنة ( والفضيلة ) المرتبة الزائدة على سائر مراتب الخلق . ويحتمل أن تكون مرادفة للوسيلة أو مغايرة لها ( وقوله مقاما محموداً ) بالتنكير . وفى رواية : المقام المحمود بالتعريف أى الذى يحمده عليه الأولون والآخرون . وهو مقام الشفاعة فى فصل القضاء المشار إليه بقوله تعالى : " عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا " والحكمة فى سؤال ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم مع تحقق وقوعه ، إظهار شرفه صلى الله عليه وسلم وبيان عظم منزلته عليه الصلاة والسلام ( حلت له شفاعتى ) أى من قال هذه الكلمات عقب الأذان ، وجبت له شفاعة النبى صلى الله عليه وسلم واستحقها يوم القيامة وهى تختلف باختلاف المقامات ، والشفاعة طلب الخير للغير .(1/84)
هذا . وقد ورد فى الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم بعد الأذان ( أفضلها ) ما فى حديث كعب بن عجرة : " قيل : يا رسول الله أما السلام عليك فقد علمناه . فكيف الصلاة عليك ؟ قال قولوا : اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم حميد مجيد . اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد . أخرجه السبعة . ولفظ أبى داود قولوا : اللهم صلى على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم . وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد(1){ 119 }
( وقال ) أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه : " قلنا هذا السلام يا رسول الله قد علمناه فكيف الصلاة عليك ؟ قال قولوا : اللهم صلى على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم . وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم " أخرجه أحمد والبخارى والنسائى(2) ... ... ... ... { 120 }
والمطلوب فيها الإسرار من المؤذن والسامع .
(15) الدعاء بين الأذان والإقامة : يسن الدعاء بينهما . وهو مجاب لحديث أنس بن مالك أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة " أخرجه أحمد والثلاثة وحسنة الترمذى(3){ 121 }
(
__________
(1) انظر ص 23ج4 – الفتح الربانى ( الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم عقب التشهد ) وص 377ج8 – فتح البارى ( قوله إن الله وملائكته يصلون على النبى ) وص 126ج4 – نووى . وص 190ج1 – مجتبى ( كيف الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم )
(2) انظر ص 24ج4 – الفتح الربانى . وص 377ج8 – فتح البارى . وص 191 ج1 – مجتبى .
(3) انظر ص 12ج3 – الفتح الربانى . وص 186ج1 – تحفة الأحوذى . وص 186ج4 – المنهل العذب ( الدعاء بين الأذان والإقامة ) ولفظه : لا يرد الدعاء .(1/85)
وعن ) أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " عند أذان المؤذن يستجاب الدعاء . فإذا كانت الإقامة لا ترد دعوته " أخرجه الخطيب وضعفه السيوطى(1) ... ... ... ... ... ... { 122 }
ويستحب أن يقال بعد أذان المغرب فما فى حديث أم سلمة قالت : علمنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول عند أذان المغرب " اللهم إن هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك ، وأصوات دعاتك فاغفر لى " أخرجه أبو داود والبيهقى والترمذى ، وقال حديث غريب والحاكم وصححه(2) ... ... ... ... ... { 123 }
وإجابة الدعاء عامة فى الأمور الدينية والدنيوية ما لم يكن بإثم أو قطعية رحم وللإجابة شروط ( منها ) ألا يستعجل الداعى الإجابة ، لحديث أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطعية رحم ما لم يستعجل . قيل يا رسول الله ما الاستعجال ؟ قال : يقول قد دعرت وقد دعوت فلم أن يستجاب لى . فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء . أخرجه مسلم(3) ... ... ... ... { 124 }
__________
(1) انظر رقم 5629 ص 365ج4 – فيض القدير .
(2) انظر ص 206ج4 – المنهل العذب ( ما يقول عند أذان المغرب ) وص 199ج1 – مستدرك . وص 410ج1 – بيهقى ( الدعاء بين الأذان والإقامة ) .
(3) انظر ص 52ج17 – نووى ( يتجاب للداعى ما لم يعجل – كتاب الذكر ) ( فيستحسر ) أى ينقطع عن الدعاء .(1/86)
ومنها ( إقبال ) العبد على ربه حال دعائه . وأن يكون موقنا بالإجابة . لكن تكون على حسب مراد الله تعالى وفى الوقت الذى يريده . لا على حسب مراد الداعى ، ولا فى الوقت الذى يريده ، إذ قد يدعو بما تكون عاقبته وبالا عليه كما وقع لثعلبة بن حاطب(1).
__________
(1) قال ) أبو أمامة الباهلى : جاء ثعلبة بن حاطب الأنصارى إلى رسول الله = صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أدع الله أن يرزقنى مالا قال " ويحك يا ثعلبة قليل تؤدى شكره ، خير من كثير لا تطيقه " : أمالك فى رسول الله أسوة حسنة ؟ والذى نفسى بيده لو أردت أن تيسر الجبال معى ذهبا وفضة لسارت . ثم أتاه بعد ذلك فقال : يا رسول الله أدع الله أن يرزقنى مالا فوالذى بعثك بالحق لئن رزقنى الله مالا ، لأعطين كل ذى حق حقه . فقال رسول الله صلى الله لعيه وسلم : " اللهم أرزق ثعلبة مالا . ثلاثا فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود . فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل واديا من أوديتها وهى تنمو كالدور . فكان يصلى مع النبى صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر . ويصلى فى غنمه سائر الصلوات . ثم كثرت ونمت حتى تباعد بها عن المدينة . فصار لا يشهد إلا الجمعة . ثم كثرت فنمت فتباعد أيضاً حتى كان لا يشهد جمعة ولا جماعة . فكان إذا كان يوم الجمعة خرج يتلقى الناس يسألهم عن الأخبار . فذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : ما فعل ثعلبه ؟ قالوا يا رسول الله اتخذ ثعلبة غنما ما يسعها واد . فال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا ويح ثعلبة . يا ويح ثعلبة . يا ويح ثعلبة . فأنزل الله آية الصدقات . فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بنى سليم ورجلا من بنى جهينة . وكتب لهما أسنان الصدقة كيف يأخذانها . وقال لهما: مرآ على ثعلبه بن حاطب ورجل بنى سليم فخذا صدقاتهما . فخرجا إلى ثعلبة حتى أتياه فسألاه الصدقة وأقرأاه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ..فقال ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إلى . فانطلقا وسمع بهما السلمى فنظر على خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهما بها . فلما رأياها قالوا ما هذه عليك قال خذاها فإن نفسى بذلك طيبة . فمرا على الناس فأخذا الصدقة ثم رجعا إلى ثعلبة فقال : أرونى كتابكما فقرأة ثم قال : ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية اذهبا حتى رأى رأنى فاقبلا . فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكلماه قال : يا ويح ثعلبة . يا ويح ثعلبة . يا ويح ثعلبة . ثم دعا للسلمى بخير . فأخبراه بالذى صنع ثعلبة . فأنزل الله تعالى فيه {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لتصدقن ولتكونن من الصالحين * فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون * فأعقبهم نفاقا فى قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة فسمع = ذلك فخرج حتى أتاه فقال : يا ويحك يا ثعلبة . لقد أنزل الله فيك كذا وكذا . فخرج ثعلبة حتى أتى النبى صلى الله لعيه وسلم فسأله أن يقبل منه الصدقة . فقال عن الله عزوجل منعنى أن أقبل منك صدقتك . فجعل يحثو التراب على رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا عملك وقد أمرتك فلم تطعنى . فلما أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم أتى أبا بكر فقال : أقبل صدقتى فقال أبو بكر : لم يقبلها منك رسول الله صلى الله عليه ولم فأنا لا أقبلها فقبض أبو بكر ولم يقبلها . فلما ولى عمر أتاه فقال : اقبل صدقتى . فقال لم يقبلها منك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر : فأنا لا أقبلها منك . فلم يقبلها منك رسول الله صلى الله علهي وسلم ولا أبو بكر . فأنا لا اقبلها منك . فلم يقبلها . فلما ولى عثمان أتاه فلم بقبلها منه. وهلك ثعلبة فى خلافه عثمان . أخرجه البغوى وابن جرير والبطرانى . وفيه على بن يزيد الألهانى وهو متروك . انظر ص 208ج4 – تفسير البغوى . وص 130ج10 – جامع البيان . ص 31ج7 – مجمع الزوائد – ( سورة براءة ) ولإخبار الله تعالى بموت ثعلبة على النفاق وعدم الإخلاص ، لم تكن توبته صادقة . فلاذ لم يقبل النبى صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه منه الزكاة .(1/87)
(16) الأحق بالإقامة : اتفق العلماء على أنه يجوز إقامة غير المؤذن واختلفوا فى الأولوية ( فقال) الشافعى وأحمد : الأولى أن يكون المؤذن هو المقيم ( لقول ) زياد بن الحارث الصدائى : " أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أؤذن فى صلاة الفجر فأذنت . فأراد بلال أن يقيم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أخا صداء قد أذن ومن أذن فهو يقيم " أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذى وقال : إنما نعرفه من حديث الإفريقى وهو ضعيف ضعفه يحيى بن سعيد القطان وغيره . قال أحمد لا أكتب حديث الإفريقى ورأيت محمد بن إسماعيل " يعنى البخارى"يقوى أمره ويقول: هو مقارب الحديث . والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم أن من أذن فهو يقيم(1){125}
( وقال ) الحنفيون وأكثر أهل الكوفة ومالك وأكثر أهل الحجاز وأبو ثور : لا فرق بين أن يقيم المؤذن أو غيره . فإن الأمر واسع ( لحديث ) عبد الله بن زيد أنه أرى الأذان قال : "فجئت إلى النبى صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال ألقه على بلال فألقيته فأذن . فأراد أن يقيم فقلت : يا رسول الله أنا رأيت أريد أن أقيم** . قال : فأقم أنت . فأقام هو وأذن بلال " أخرجه أبو داود وأحمد واللفظ له وفى سنده محمد بن عمرو الواقفى الأنصارى البصرى . وهو ضعيف ضعفه القطان وابن نمير ويحيى بن معين ( وقال ) ابن عبد البر إسناده أحسن من حديث الإفريقى(2) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 126 }
(
__________
(1) انظر ص 41ج3 – الفتح الربانى . وص 169ج4 – المنهل العذب ( من أذن فهو يقيم ) وص 126ج1- ابن ماجه ( السنة فى الأذان ) وص 178ج1 – تحفة الأحوذى .
(2) انظر ص 41ج3 – الفتح الربانى . وص 167ج4 – المنهل العذب ( الرجل يؤذن ويقيم آخر ) .(1/88)
لكن ) الأخذ بحديث الصدائى أولى ، لأن حديث عبد الله بن زيد كان أول ما شرع الأذان فى السنة الأولى من الهجرة ، وحديث الصدائى بعده بلا شك . وقوى حديث الصدائى البخارى والعقيلى وابن الجوزى وحسنه الحازمى(1). والظاهر أن إقامة عبد الله بن زيد كانت خصوصية له حيث قال للنبى لى الله عليه وسلم : أنا رأيته وأريد ان أقيم . فلا يلحق به غيره .
(17) متى تقام الصلاة ؟ : يطلب من المؤذن ألا يقيم إلا إذا أراد الإمام الصلاة ( لقول ) جابر بنم سمرة : " كان بلال يؤذن ثم يمهل فإذا رأى انبى صلى الله عليه وسلم قد خرج أقام الصلاة " أخرجه أبو داود والترمذى ومسلم . وفى رواية له : فلا يقيم حتى يخرج النبى صلى الله عليه وسلم(2) ... ... ... { 127 }
(ولا منافاة)بين هذا وبين حديث موسى بن عقبة عن سالم أبى النصر"أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يخرج بعد النداء على المسجد، فإذا رأى أهل المسجد قليلا جلس حتى يجتمعوا ثم يصلى" أخرجه البيهقى(3){128}
( لأنه ) كان يفعل ذلك أحيانا .
(
__________
(1) انظر ص 178ج1 – تحفة الأحوذى .
(2) انظر ص 219ج4 – المنهل العذب ( المؤذن ينتظر الإمام ) وص 179ج1 = تحفة الأحوذى ( الإمام أحق بالإقامة ) وص 102ج5 – نووى ( متى يقوم الناس للصلاة ) .
(3) انظر ص 20ج2 – بيهقى ( الإمام يخرج فإن رأى جماعة أقام ) .(1/89)
18) الخروج من المسجد بعد الأذان : يكره تحريماً – عند الحنفيين والشافعى – الخروج من مسجد أذن فيه قبل الصلاة إلا لعذر ( لقول ) أبى الشعثاء : " كنا مع أبى هريرة فى المسجد فخرج رجل حين أذن المؤذن بالعصر ، فقال أبو هريرة : أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم " أخرجه مسلم والأربعة وأحمد وزاد: ثم قال أبو هريرة : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا كنتم فى المسجد فنودى بالصلاة ، فلا يخرج أحدكم حتى يصلى . ورجاله رجال الصحيح . وقال الترمذى : حسن صحيح(1) ... ... { 129 }
( وقالت ) المالكية : يكره الخروج بعد الأذان وقبل الإقامة ويحرم بعدها ( وقالت ) الحنبلية : يحرم الخروج بعد الأذان .
( عبرة ) قال الإمام مالك : بلغنى أن رجلا قدم حاجاً وأنه جلس إلى سعيد ابن المسيب وقد أذن المؤذن وأراد أن يخرج من المسجد واستبطأ الصلاة .
فقال له سعيد : لا تخرج فإنه بلغنى أنه من خرج بعد الأذان – خروجا لا يرجع إليه – أصابه أمر سوء . قال فقعد الرجل ثم إنه استبطأ الإقامة . فقال : ما أراه إلا قد حبسنى فخرج فركب راحلته فصرع فكسر فبلغ ذلك ابن المسيب فقال : قد ظننت أنه سيصيبه ما يكره .
( قال ) ابن رشد : قول ابن المسيب ( بلغنى ) معناه عن النبى صلى الله عليه وسلم إذ لا يقال مثله بالرأى. وهى عقوبة معجلة لمن خرج بعد الأذان من المسجد على أنه لا يعود إليه . لإيثاره تعجيل حوائج دنياه على الصلاة التى أذن لها وحضر وقتها(2).
__________
(1) انظر ص 157ج5 – نووى ( النهى عن الخروج من المسجد إذا أن المؤذن ) وص 217ج4 – المنهل العذب . وص 111ج1 – مجتبى (التشديد فى الخروج من المسجد بعد الأذان ) وص 181ج1 – تحفة الأحوذى . وص 129ج1 – ابن ماجه . وص 43ج3 – الفتح الربانى .
(2) انظر ص 218ج4 – المنهل العذب ( الخروج من المسجد بعد الأذان ) .(1/90)
هذا . والنهى عن الخروج بعد الأذان مقيد عند الحنفيين بما إذا لم يكن صلى وليس ممن تنتظم به جماعة أخرى . بأن كان إماما أو مؤذنا تتفرق الناس بغيبته فله الخروج ولو عند الشروع فى الإقامة . وكذا لا يكره الخروج بعد الأذان لمن صلى منفرداً فى كل الصلوات إلا فى الظهر والعشاء فإنه يكره الخروج عند الشروع فى الإقامة لا قبله ( قال ) أبو عمر بن عبد البر : أجمعوا على القول بهذا الحديث لمن لم يصل وكان على طهاره ، وكذا إن كان قد صلى وحده – إلا ما لا يعاد من الصلوات – فلا يحل له الخروج من المسجد بالإجماع إلا أن يخرج للوضوء وينوى الرجوع(1)وكذا يباح الخروج لعذر آخر كمدافعة الأخبثين أو الريح أو حصول رعاف ، وما أحدث فى المساجد من البدع كرفع صوت بقراءة أو ذكر على وجه يشوش على المتعبدين ، والتبليغ لغير حاجة، وفسق الإمام بارتكاب محرم ، ومنه نقر الصلاة وعدم الاطمئنان فيها ، لما تقدم عن مجاهد بن جبر قال : كنت مع ابن عمر رضى الله عنهما فثوب رجل " أى قال الصلاة خير من النوم " فى الظهر أو العصر فقال ابن عمر : اخرج بنا فإن هذه بدعة . أخرجه أبو داود والترمذى(2).
(
__________
(1) انظر ص 218ج4 – المنهل العذب ( الخروج من المسجد بعد الأذان ) .
(2) تقدم ص 56 ( التثويب ) .(1/91)
19) الأذان والإقامة للفائتة : يستحب الأذان والإقامة للفائتة ، عند الحنفيين وأحمد وهو مشهور مذهب الشافية ( لقول ) أبى هريرة ، " عرس بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من خبير فقال : من يحفظ علينا الصلاة ؟ فقال بلال أنا . فناموا حتى طلعت الشمس . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تحولوا عن مكانكم الذى أصابتكم فيه الغفلة يا بلال نمت ؟ فقال : أخذ بنفسى الذى أخذ بأنفاسكم . فأمر بلالا فأذن وأقام ( الحديث ) أخرجه البيهقى وقال : والأذان فى هذه القصة صحيح ثابت قد رواه غير أبى هريرة . وأخرج الحديث أبو داود مختصراً عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " تحولوا عن مكانكم الذى أصابتكم فيه الغفلة قال : فأمر بلالا فأذن وأقام صلى(1)" ... ... ... ... ... ... ... { 130 }
( وقال ) مالك والأوزاعى والشافعى فى الجديد " لا يستحب الأذان للفائتة ، لحديث أبى هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل من غزوة خيبر فسار ليلة حتى إذا أدركنا الكرى عرس وقال لبلال : اكلأ لنا الليل فغلبت بلالا عيناه وهو مستند إلى راحلته . فلم يستيقظ النبى صلى الله عليه وسلم ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم استيقاظا – إلى أن قال – فاقتادوا رواحلهم شيئاً .
__________
(1) انظر ص 403ج1 بيهقى ( الأذان والإقامة للفائتة ) وص 27ج4 – المنهل العذب ( من نام عن صلاة أو نسيها ) و ( عرس ) من التعريس وهو نزول المسافر آخر الليل للراحة .(1/92)
ثم توضأ النبى صلى الله عليه وسلم وأملا بلالا فأقام لهم الصلاة وصلى لهم الصبح " ( الحديث ) أخرجه مسلم وأبو داود(1) ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 131 }
ففيه انه اقتصر على الإقامة للفائتة ولم يؤذن لها ، ( ولقول ) أبى سعيد الخدرى : " حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هوىّ من الليل فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأقام الظهر فصلاها كما كان يصلى فى وقتها ، ثم أقام العصر فصلاها كذلك . ثم أقام المغرب فصلاها كذلك ، ثم أقام العشاء فصلاها كذلك " ، أخرجه أحمد والشافعى والنسائى بسند رجاله رجال الصحيح وصححه ابن السكن(2) ... ... ... ... { 132 }
__________
(1) انظر ص 181ج5 نووى ( قضاء الفائتة .. ) وص 20ج4 – المنهل العذب ( من نام عن صلاة أو نسيها ) والكرى – بفتحتين – النعاس (ولا يقال ) كيف نام النبى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة حتى طلعت الشمس مع قوله فى حديث عائشة : إن عينى تنامان ولا ينام قلبى . أخرجه البخارى ص 22ج3 فتح البارى ( قيام النبى صلى الله عليه وسلم ) ( لأنا نقول ) لا منافاة بينهما . لأن القلب إنما يدرك الحسيات المتعلقة به كالحدث والألم ونحوهما ولا يدرك طلوع الفجر وغيره مما يتعلق بالعين . وإنما يدرك ذلك بالعين . والعين نائمة وإن كان القلب يقظان . انظر ص 184ج5 شرح مسلم .
(2) انظر ص 309ج2 – الفتح الربانى ( تأخير الصلاة لعذر ) وص 55ج1 بدائع المنن ( قضاء الفوائت ) وص 107ج1 – مجتبى ( الأذان للفائت من الصلوات ) و ( هوى ) كغنى أى زمن طويل .(1/93)
وقالوا الأذان إنما هو إعلام بدخول الوقت ودعاء للناس إلى الجماعة . ووقت القضاء ليس وقت إعلام بدخول الوقت ، ولا دعاء للجماعة . وفى الأذان فى غير أوقات الصلاة تخليط على الناس . ,إذا اختص بأوقات الصلاة لم يكن مشروعا فى الفوائت ، لأنها لا تختص بوقت كالنوافل " وما ورد " فى بعض الروايات من أنه أذن للفائتة " فهو " محمول على الإعلام بالصلاة ، لا الألفاظ المخصوصة ف الإعلام بدخول الوقت ( والظاهر ) الأول لما تقدم عن أبى هريرة من الجمع بين الأذان والإقامة " وحمل الأذان " فيه على مجرد الإعلام " خلاف الظاهر " "وأما ترك " الأذان فى رواية أبى هريرة الأخيرة ، وفى حديث أبى سعيد " فلا يستلزم " عدم حصوله . فيتحمل أنه حصل وتركه الراوى اختصارا . ويؤيده ما جاء فى رواية النسائى لحديث أبى سعيد : ثم أذن للمغرب فصلاها فى وقتها . وفيه قال أبو عبيدة : وقال عبد الله : " إن المشركين شغلوا النبى صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق فأمر بلالا فأذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ثم أقام فصلى المغرب ثم أقام فصلى العشاء " أخرجه النسائى(1) ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 133 }
( ودعوى ) أن الأذان للوقت والدعاء للجماعة " غير مسلمة " قال الله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ }(2)، وقال : { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً }(3)، ولذا أمر النبى صلى الله عليه وسلم بالأذان للفائتة . وأمر به المنفرد(4)" وقولهم " إن فى الأذان للفائتة تخليطا " مردود " بأنه إنما يؤذن لها على وجه لا تخليط فيه .
(
__________
(1) انظر ص 107ج1 مجتبى ( الاجتزاء لذلك كله بأذان واحد والإقامة لكل واحدة ) .
(2) صورة الجمعة أية : 9 .
(3) سورة المائدة أية : 58 .
(4) تقدم ص 69 ( أذان المنفرد ) .(1/94)
وعلى الراجح ) إذا تعددت الفائتة فهل يؤن لكل ؟ ( قال ) النعمان وأبو يوسف : يؤذن للأولى ويقيم لها وللباقى . ويخير فيه بين الأذان وعدمه ( وقالت ) الشافعية ومحمد بن الحسن : يؤذن ويقام للأولى ، ويقتصر فى الباقى على الإقامة .
(20) بدع الأذان : هى كثيرة المذكور منها هنا تسع :
1) رفع الصوت بالصلاة السلام على النبى صلى الله عليه وسلم بعده كما جرت به عادة غالب مؤذنى الزمان . فهو بدعة مخالفة لهدى النبى صلى الله عليه وسلم حدثت سنة إحدى وثمانين وسبعمائة وقيل سنة إحدى وتسعين وسبعمائة . وجمع بينهما علاء الدين الحصنى ( قال ) التسليم بعد الأذان حدث فى ربيع الآخر سنة إحدى وثمانين وسبعمائة فى عشاء ليلة الاثنين ، ثم يوم الجمعة . ثم بعد عشر سنين حدث فى الكل إلا المغرب(1)فينبغى ترك هذه البدعة والاقتصار على الوارد . فإن كل محدث فى الدين مردود على صاحبه لا ثواب فيه بل إذا فعله على أنه قربة كان آثما ، لأن الله تعالى إنما يعبد بما شرع لا بما ابتدع ( وفى الحديث ) " من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " أخرجه الشيخان والنسائى وأبو داود وابن ماجه عن عائشة(2)– وفى رواية لأحمد ومسلم " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد "(3) ... ... ... ... ... ... ... { 134 }
( وعن ) جابر رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله . وإن أفضل الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها . وكل محدثة بدعة . وكل بدعة ضلالة " أخرجه مسلم . وكذا أحمد من حديث عمرو بن ثعلب . وزاد فيه " وكل ضلالة فى النار "(4) ... ... ... { 135 }
__________
(1) انظر ص 287ج1 – الدر المختار ( الأذان ) .
(2) انظر رقم 22 و 23 ص 37 فتاوى أئمة المسلمين ( الفتوى التاسعة ) .
(3) انظر رقم 22 و 23 ص 37 فتاوى أئمة المسلمين ( الفتوى التاسعة ) .
(4) انظر رقم 101 ص 160 فتاوى أئمة المسلمين ( الفتوى 22 ) .(1/95)
ومنه تعلم أن رفع الصوت بالصلاة والتسليم على النبى صلى الله عليه وسلم من المؤذن بعد الأذان بالكيفية المتعارفة فى زماننا بدعة مكروهة ( ومن قال ) باستحسانها من متأخرى المقلدين ( فقوله ) مردود عليه بهذه الأحاديث الصحيحة ، لأن شرط الاستحسان ألا يكون مصادرا لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فضلا عن كون المقلد لا يصح منه التحسين . ولذا حذر علماء المذاهب من ارتكاب هذه البدعة ونحوها .
( قال ) ابن الحاج : يطلب من إمام المسجد أن ينهى المؤذنين عما أحدثوه من صفه الصلاة والتسليم على النبى صلى الله عليه وسلم عند الأذان وإن كانت الصلاة والتسليم على النبى صلى الله عليه وسلم من أكبر العبادات. فينبغى أن يسلك بها مسلكها ، فلا توضع إلا فى مواضعها التى جعلت لها . ألا ترى أن قراءة القرآن من أعظم العبادات ومع ذلك ل يجوز للمكلف أن يقرأه فى الركوع ولا فى السجود ولا فى الجلوس فى الصلاة ، لأن ذلك لم يرد ، والخير كله فى الاتباع . وهى بدعة قريبة الحدوث جدا(1).
( وقال ) ابن حجر الهيثمى : وقد استفتى مشايخنا وغيرهم فى الصلاة والسلام على النبى صلى الله عليه وسلم بعد الأذان على الكيفية التى يفعلها المؤذنون فأفتوا بأن الأصل سنة والكيفية بدعة أهـ(2).
( وقال ) الشعرانى : قال شيخنا لم يكن التسليم الذى يفعله المؤذنون فى أيامه صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء الراشدين ، بل كان فى أيام الروافض بمصر(3).
( وقد سئل ) الأستاذ المرحوم الشيخ محمد عبده مفتى الديار المصرية بإفادة من مديرية المنوفية فى 24 مايو سنة 1904 نمرة 765 عن ست مسائل ( منها ) ما اشتهر من الصلاة والسلام على النبى صلى الله عليه وسلم عقب الأذان فى الأوقات الخمس إلا المغرب .
(
__________
(1) انظر ص 109ج2 مدخل الشرع الشريف ( النهى عما أحدثوه بالليل ) .
(2) انظر ص 131ج1 – الفتاوى الكبرى الفقهية ( الأذان ) .
(3) انظر ص 80ج1 كشف الغمة .(1/96)
فأجاب ) بقوله : أما الأذان فقد جاء فى الخانية أنه ليس لغير المكتوبات وأنه خمس عشرة كلمة ، وآخره عندنا لا إله إلا الله . وما يذكر بعده أو قبله كله من المستحدثات المبتدعة ابتدعت للتحلين لا لشئ آخر . ولا يقول أحد بجواز هذا التلحين ولا عبرة بقول من قال إن شيئاً من ذلك بدعة حسنة ، لأن كل بدعة فى العبادات على هذا النحو فهى سيئة . ومن ادعى أن ذلك ليس فيه تلحين فهو كاذب(1).
( وقال ) العلامة المقريزى فى كتابة الخطط : وأما مصر فلم يزل الأذان بها على مذهب القوم إلى أن استبد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بسلطنة ديار مصر سنة سبع وستين وخمسمائة فأبطل من الأذان قول حى على خير العمل . وصار يؤذن فى مصر والسام بأذان أهل مكة وفيه تربيع التكبير وترجيع الشهادتين إلى أن انتشر مذهب أبى حنيفة رضى الله عنه فى مصر .
فصار يؤذن بأذان أهل الكوفة إلا أنه فى ليلة الجمعة إذا فرغ المؤذنون من التأذين ،سلموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شئ أحدثه صلاح الدين عبد الله بن عبد الله البرلسى بعد سنة ستين وسبعمائة .
وفى شعبان سنة إحدى وتسعين وسبعمائة فى عهد الملك الصالح المنصور أمير حاج ، سمع بعض الفقراء الحلاطين سلام المؤذنين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ليلة جمعة ، وقد استحسن ذلك طائفة من إخوانه .
__________
(1) هذه بعض فتوى منقولة من دفاتر دار إفتاء الديار المصرية رقم 311 جزء ثالث بتارخي 22 ربيع الأول سنة 1322 هـ . انظرها تامة ص 357 ج4- الدين الخالص ( بدع الجمعة ) وهامش ص 85 فتاوى أئمة المسلمين ( طبعة ثالثة ) .(1/97)
فقال لهم : أتحبون أن يكون هذا السلام فى كل أذن ؟ قالوا نعم فبات وأصبح متواجداً يزعم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى منامه وأنه أمره أن يذهب إلى المحتسب ويبلغه عنه أن يأمر المؤذنين بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كل أذان . فمضى إلى محتسب القاهرة نجم الدين محمد الطنبدى – وكان شيخاً جهولا سيئ السيرة متهافتاً على الدرهم لا يحتشم من أخذ البرطيل والرشوة ولا يراعى فى مؤمن إلا(1)ولا ذمة – وقال له : رسول الله صلى الله لعيه وسلم يأمرك أن تتقدم لسائر المؤذنين بأن يزيدوا فى كل أذان " الصلاة والسلام عليك يا رسول الله " كما يفعل فى ليالى الجمع فأعجب الجاهل هذا القول . وجهل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمر بعد وفاته إلا بما يوافق ما شرعه الله على لسانه فى حياته وقد نهى الله تعالى عن الزيادة فيما شرعه حيث يقول : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ }(2)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إياكم ومحدثات الأمور "(3). ... ... ... ... ... ... ... { 136 }
فأمر بذلك فى شعبان من السنة المذكورة . وعمت هذه البدعة واستمرت فى مصر والشام . وصارت العامة وأهل الجهالة ترى أن ذلك من جملة الأذان الذى لا يحل تركه . وأذى ذلك إلى أن زاد بعض أهل الإلحاد فى الأذان ببعض القرى السلام بعد الأذان على شخص من المعتقدين الذين ماتوا . فإنا لله وإنا إليه راجعون(4)أهـ .
(
__________
(1) إلا بكسر الهمزة وشد اللام مونا أى عهداً .
(2) سورة الشورى آية : 21 .
(3) هذا بعض الحديث رقم 13 ص 22 فتاوى أئمة المسلمين ( الفتوى 3 ) .
(4) انظر ص 172ج2 – الخطط طبعة بولاق ( ذكر الأذان بمصر ) .(1/98)
وقال ) العلامة ابن حجر : لم نر فى شئ من الأحاديث ولا فى كلام أئمتنا التعرض للصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم قبل الأذان ولا إلى محمد رسول الله بعده فحينئذ كل واحد من هذين ليس سنة فى محله المذكور فمن أتى بواحد منهما فى ذلك معتقداً سنيته فى ذلك المحل ، ينهى ويمنع منه ، لأنه تشريع بغير دليل . ومن شرع بغير دليل يزجر ويمنع أهـ(1).
2) ومنه يتبين لك أن من البدع المذمومة قول كثير من المؤذنين عقب أذان الفجر . ورضى الله تبارك وتعالى عنك يا شيخ العرب ونحوه من الألفاظ بأعلى صوت . ومع ذلك لا تجد منكراً عليهم بل لو نهى شخص عن ذلك رموه بألسنة حداد . فإنا لله وإنا إليه راجعون .
3) ومن البدع المذمومة . التلحين فى الأذان والتغنى فيه بما يؤدى إلى تغيير الحروف والحركات والسكنات والنقص والزيادة محافظة على توقيع النغمات . فهذا لا يحل فى الأذان كما لا يحل فى قراءة القرآن . ولا يحل سماعه ، لأن فيه تشبهاً بفعل الفسقة حال فسقهم ، وفيه خروج عن المعروف شرعا فى الأذان .
__________
(1) انظر ص 131ج1 – الفتاوى الكبرى الفقهية .(1/99)
4) ومنها ، أذان الجماعة المسمى بالأذان السلطانى ، فإنه مذموم ومكروه اتفاقا ، لما فيه من التلحين والتغنى وإخراج كلمات الأذان عن وضعها العربى وكيفيتها الشرعية بصورة قبيحة تقشعر منها الجلود وتنفطر لها القلوب وأول من أحدثه هشام بن عبد الملك(1).
5) ومنها : الإتيان بالسيادة فى الشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة من الأذان والإقامة ، لأنه لم يثبت أن أحداً ممن أذن فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين قال فى الأذان أو الإقامة : أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله ، ولو كانت السيادة هنا مشروعة ما تركها أحد منهم .
وما أقر على تركها . وما ترك مع قيام المقتضى فتركه سنة وفعله بدعة .
6) ومنها : ما يقع من الجهلة من تقبيل ظفرى الإبهامين ومسح العينين بهما عند قول المؤذن أشهد أن محمدا رسول الله معتقدين أن فاعله لا يرمد .
__________
(1) أمر بإبطال هذا الأذان يوم الجمعة 3 من رجب سنة 1355 هـ . 12 من أكتوبر سنة 1934 م . وفى العاشر من رجب المذكور والتاسع عشر من أكتوبر – أمر بعدم رفع الصوت والتصفيق فى المسجد حال دخوله للصلاة احتراما للمساجد ، حفظا لها مما لم تبن له = ( روى ) نافع أن عمر بينما هو فى المسجد عشاء إذ سمع ضحك رجل فأرسل إليه . فقال من أنت ؟ فقال أنا رجل من ثقيف . فقال أمن أهل البلد أنت ؟ فقال بل من أهل الطائف فتوعده فقال : لو كنت من أهل البلد لنكلت بك . إن مسجدنا هذا لا ترفع فيه الأصوات .(1/100)
قال الشيخ إسماعيل العجلونى : مسح العينين بباطن أنملتى السبابتين بعد تقبيلهما عند سماع قول المؤذن : أشهد أن محمداً رسول الله مع قوله أشهد أن محمداً عبده ورسوله ، رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيا . رواه الديلى عن أبى بكر أنه لما سمع قول المؤذن أشهد أن محمداً رسول الله قاله . وقبل باطن الأنملتين السبابتين وسمح عينيه فقال صلى الله عليه وسلم : من فعل فعل خليلى فقد حلت له شفاعتى ، قال فى المقاصد : لا يصح . وكذا ل يصح ما رواه أبو العباس بن أبى بكر الرداد اليمانى المتصوف فى كتابه " موجبات الرحمة وعزائم المغفرة " بسند فيه مجاهيل مع انقطاعه عن الخضر عليه الصلاة والسلام أنه قال : من قال حين يسمع المؤذن يقول أشهد أن محمداً رسول الله : مرحبا بحبيبى وقرة عينى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم . ثم يقبل إبهاميه ويجعلهما على عينيه لم يعم ولم يرمد أبدا . ونقل غير ذلك ثم قال : ولم يصح فى المرفوع من كل هذا شئ أهـ(1).
7) وكذا : قولهم بعد الأذان بصوت مرتفع : اللهم صل أفضل صلاة على أسعد مخلوقاتك .
8) ومن البدع المكروهة جهر بعضهم بقراءة شئ من القرآن بعد الأذان وهو تشويش منهى عنه ( قال ) أبو سعيد الخدرى : " اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال : ألا إن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا،ولا يرفع بعضكم على بعض فى القراءة " أخرجه أبو داود(2). ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {137}
(
__________
(1) انظر ص 206ج2 – كشف الخفاء .
(2) انظر رقم 17- ص 25 فتاوى أئمة المسلمين .(1/101)
وقال ) علاء الدين الحصنى : ويحرم فى المسجد رفع الصوت بذكر إلا للمتفقهة(1)( وقال ) فى مختصر خليل وشروحه : يكره رفع الصوت بالقرآن أو ذكر فى المسجد خشية التشويش على المصلين أو الذاكرين. فإن شوش حرم اتفاقا(2)( وقال ) ابن العماد الشافعى : تحرم القراءة على وجه يشوش على نحو مصل أهـ(3).
9) ومن البدع المكروهة ؛ التسبيح والاستغفار وغيرهما مما يأتى به غالب المؤذنين قبل أذان الصبح ، لمخالفته الحق المتلقى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه لم يفعل فى عهده ولا فى عهد خلفائه والسلف الصالح ( قال ) ابن الحاج : يطلب من إمام المسجد أن ينهى المؤذنين عما أحدثوه من التسبيح بالليل وإن كان ذكر الله تعالى حسنا سرا وعلنا ، لكن فى المواضع التى تركها الشارع صلوات الله عليه وسلامه ولم يعين فيها شيئا معلوماً وقد رتب الشارع صلوات الله عليه وسلامه للصبح أذاناً قبل طلوع الفجر وأذاناً عند طلوعه(4)ثم قال ومع ذلك ترتب عليه مفاسد ( ومنها ) ارتكاب نهيه عليه الصلاة والسلام بقوله : " لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن "(5) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 138 }
(
__________
(1) انظر ص 488ج1 – الدر المختار ( رفع الصوت بالذكر ) .
(2) انظر ص 74ج4 – الدسوقى على كبير الدردير .
(3) انظر ص 5 – ابن العماد .
(4) انظر ص 108ج2 مدخل .
(5) هذا عجز حديث أخرجه مالك وأحمد عن فروة بن عمرو . انظر هامش رقم 7 ص 16 فتاوى أئمة المسلمين .(1/102)
فإذا نهى ) صلى الله عليه وسلم عن الجهر بالقرآن وتلاوته من أكبر العبادات . وما ذاك إلا لما يدخل من التشويش على من فى المسجد ممن يتعبد إذا جهر به " فما بالك " بما يفعلونه فيه من هذه الطرق التى يعملونها فى التسبيح وما يفعلونه فيه ما يشبه الغناء فى وقت ، والنوح فى وقت . وندب الأطلال(1)فى وقت ، وينشدون فيه القصائد وفى المسجد من المتهجدين ما هو معلوم . فلا يبقى أحد منهم إلا وقد وصل له من التشويش ما لا خفاء فيه. فيتفرق أمرهم وتتشوش خواطرهم . ولو قدرنا أن المسجد ليس فيه أحد لمنع أيضا ، لأنه بصدد أن يأتى الناس إليه . فأين هذا مما روى عن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى حين كان فى المسجد آخر الليل يتهجد ثم دخل عمر بن عبد العزيز ، وكان إذ ذاك خليفة . وكان حسن الصوت فجهر بالقراءة . فلما سمعه سعيد بن المسيب قال لخادمه : أذهب إلى هذا المصلى فقل له إما أن تنخفض من صوتك وإما أن تخرج من المسجد . ثم أقبل على صلاته . فجاء الخادم فوجد المصلى عمر بن عبد العزيز فرجع ولم يقل له شيئا . فلما سلم سعيد بن المسيب قال لخادمه .
ألم أقل لك تنهى هذا المصلى عما يفعل ؟ فقال هو الخليفة عمر بن عبد العزيز .
قال أذهب إليه وقل له ما أخبرتك به . فذهب إليه فقال له : إن سعيداً يقول لك : إما أن تخفض من صوتك وإما أن تخرج من المسجد . فخفف فى صلاته . فلما سلم منها أخذ نعليه وخرج من المسجد(2).
ولا يخفى عليك تحريفهم لأسماء الله تعالى ، وهو من الإلحاد فى الدين ، وتهويشهم على من كان نائماً إلى يغر ذلك . ومع هذا يعطون أجراً من مال الوقف لمن يقوم بهذه التهويشات . فإنا لله وإنا إليه راجعون .
(
__________
(1) جمع طلة – بفتح وشد اللام – والمراد بها العجوز والبذية .
(2) انظر ص 111ج2 – مدخل الشرع الشريف ( النهى عما أحدثوه بالليل ) .(1/103)
قال ) أبو الفضل الألوسى فى تفسير آية { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ } : يطلب صيانة المساجد مما لم تبن له فى نظر الشارع كحديث الدنيا . ومن ذلك الغناء على مآذنها كما هو معتاد الناس اليوم . لاسيما بالأبيات التى غالبها هجر من القول . وقد روى عنه عليه الصلاة والسلام : " الحديث فى المسجد يأكل الحسنات كما تأكل الهيمة الحشيش(1)" وهذا فى الحديث المباح فما ظنك بالمحرم مطلقاً أو المرفوع فوق المآذن(2)( وقال ) الحافظ ابن حجر : ما أحدث من التسبيح قبل الصبح وقبل الجمعة ومن الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم ليس من الأذان لا لغة ولا شرعا(3)( وقال ) فى الإقناع وشرحه : وما سوى التأذين قبل الفجر من التسبيح والنشيد ورفع الصوت بالدعاء ونحو ذلك فى المآذن أو غيرها ، ليس بمسنون . وما أحد من العلماء قال إنه يستحب بل هو من جملة البدع المكروهة ، لأنه لم يكن فى عهده صلى الله عليه وسلم ولا عهد أصحابه . وليس له أصل فيما كان على عهدهم يرد إليه فليس لأحد أن يأمر به ولا ينكر على من تركه ، ولا يعلق استحقاق الرزق به لأنه إعانة على بدعة. ولا يلزم فعله ولو شرطه الواقف لمخالفته السن ( وقال ) عبد الرحمن بن الجوزى فى كتاب تلبيس إبليس : قد رأيت من يقوم بليل كثيراً على المنارة فيعظ ويذكر ويقرا سورة من القرآن بصوت مرتفع فيمنع الناس من نومهم ويخلط على المتهجدين قراءتهم وكل ذلك من المنكرات(4).
( الثامن ) شروط الصلاة
__________
(1) كذا فى الكشاف وهو كذب وذكره القارى فى الموضوعات . وقال العلامة العجلونى : والمشهور على الألسنة . الكلام المباح فى المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب انظر ص 354 ج1 – كشف الخفاء .
(2) انظر ص 284 ج3 روح المعانى .
(3) انظر ص 92ج2 – فتح البارى ( ما يقول إذا سمع المنادى ) .
(4) انظر ص 168ج1 كشاف القناع ( الأذان ) .(1/104)
... هى جمع شرط . وهو لغة العلامة . وشرعا ما يتوقف عليه الشئ ولم يكن داخلا فيه ، وهى قسمان : شروط فرضية ، وشروط صحة .
( أ ) فشروط الفرضية ستة : ( الأول ) الإسلام . فلا تفترض على كافر افتراض أداء على الصحيح عند الحنفيين، والشافعى وأحمد ، لأنه غير مخاطب بأداء الشرائع كالصلاة والصوم لأن الإيمان شرط فيه . ولا يجوز أمر الكافر بالأداء بشرط تقديم الإيمان لأنه أصل فلا يكون تبعاً ، وعليه فلا يعذب على تركها عذابا زائدا على عذاب الكفر عند الحنفيين .
((1/105)
وقال ) الشافعى وأحمد : يعذب على تركها وإن لم يطالب بأدائها فى الدنيا ( وقالت ) المالكية : الإسلام شرط صحة بناء على المعتمد عندهم من أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة . وأما على القول بأنهم غير مخاطبين بها ، فالإسلام شرط وجوب وصحة معاً ( واتفق ) العلماء على أن الكافر إذا أسلم لا يكلف قضاء ما فاته من الصلوات وغيرها من أعمال الإسلام ، لقوله تعالى : { قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ }(1)، (ولحديث ) عمرو بن العاص أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " الإسلام يجب ما قبله " أخرجه أحمد والطبرانى. وكذا مسلم بلفظ : " أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وأن الحج يهدم مكان كان قبله ؟ "(2) ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 139 }
... فمن أسلم فقد فحيت عنه جميع الخطايا ، وكان بإسلامه كيوم ولدته أمه .
__________
(1) سورة الأنفال آية : 38 .
(2) انظر رقم 363 ص 127ج1 – كشف الخفاء . وص 138ج2 نووى ( الإسلام يهدم ما قبله ... ) وانظر تمام الحديث بهامش ص 371ج7 – الدين الخالص ، ولا ينافيه ما فى حديث ابن مسعود رضى الله عنه : قال : قال رجل . يا رسول الله نؤاخذ بما عملنا فى الجاهلية ؟ قال : من أحسن فى الإسلام لم يؤاخذ بما عمل فى الجاهلية ، ومن أساء فى الإسلام أوخذ بالأول والآخر . أخرجه الشيخان . انظر ص 216ج12 – فتح البارى ( استتابة المرتدين ) وص 136ج2 – نووى ( هل يؤاخذ بأعمال الجاهلية ) " فإن المراد " بالإساءة فى قوله ومن أساء " الكر بعد لإيمان " أو من دخل فى الإسلام منافقا . لا مطلق الإساءة ، للإجماع على أن من أسلم ل يؤاخذ بما عمله فى الجاهلية .(1/106)
... وأما الطاعات التى أسلفها قبل إسلامه ، فلا يقطعها الإسلام لحديث حكيم ابن حزام أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيتَ أموراً كنتُ أتَحَنّث بها فى الجاهلية هل لى فيها من شئ ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمتً على ما أسلفت من خير . أخرجه مسلم(1) ... ... ... ... ... { 140 }
( وقال ) المازرى : الكافر لا يصح منه التقرب ، فلا يثاب على العمل الصالح الصادر منه فى شركة ، لأن من شرط المتقرِّب أن يكون عارفا بمن تقرّب إليه . والكافر ليس كذلك . وتابعة القاضى عياض وأستضعف ذلك النووى فقال : الصواب الذى عليه المحققون بل نقل بعضهم الإجماع فيه أنّ الكافر إذا فعل أفعالا جميلة كالصدقة وصلة الرحم ثم أسلم ومات على الإسلام يكتب له ثواب ذلك(2)( الثانى ) العقل ، فلا تلزم الصلاة المجنون لعدم تكليفه وهو شرط وجوب صحة عند المالكية .
__________
(1) ص 140ج2 – نووى ( عمل الكافر إذا أسلم ) ، ( أتحنث ) أتعبد .
(2) ص 74ج1 – فتح البارى ( حسن إسلام المرء ) .(1/107)
... ( الثالث ) النقاء من دم الحيض والنفاس ،فلا تلزم الحائض ولا النفساء إذا كان كل من الحيض والنفاس مستغرقا للوقت أو لآخره . وهو عند المالكية شرط وجوب وصحة ( الرابع ) بلوغ دعوة النبى صلى الله عليه وسلم، فلا تلزم من نشأ فى جهة لم تبلغه فيها الدعوة ، وهو شرط وجوب وصحة عند المالكية ( الخامس ) القدرة على تأديتها . فلا تلزم العاجز عن تأديتها ولو بالإيماء . ويتحقق العجز عند الشافعية بفقد الحواس . فالقدرة عندهم تكون بسلامة الحواس ولو السمع والبصر . وعند المالكية تكون بِعدَمِ الإكراه على تركها فلا تجب على مُكْرَهٍ حال إكراهه بقتل أو ضرب أو سجن أو قيد أو صفع(1)لذى مروءة بملإ ، لقوله صلى الله عليه وسلم " رفع عن أمّتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " أخرجه الطبرانى عن ثوبان وفيه يزيد بن ربيعة الرحى وهو ضعيف وأنكره أحمد(2) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 141 }
__________
(1) الصفع بفتح فسكون ، الضرب الكف مبسوطة .
(2) انظر رقم 4461 ص 34ج4 فيض القدير . وفيه : ونقل الخلال عن أحمد : من زعم أن الخطأ والنسيان مرفوع فقد خالف الكتاب والسنة . وقال ابن نصر : هذا الحديث ليس له سند يحتج بمثله .(1/108)
... والذى لا يجب على المكره عندهم إنما هو فعلها بهيئتها الظاهرة . وإلا فمتى تمكن من الطهارة ، وجب عليه فعل ما يقدر عليه من نية وإحرام وقراءة وإيماء . فهو كالمريض العاجز يجب عليه فعل ما يقدر عليه ، ويسقط عنه ما عجز عن فعله ( السادس ) البلوغ ، فلا تلزم الصغير لعدم تكليفه ولكن يجب على ولىّ أمره أبا أو جدّا أو وصيا من جهة القاضى ذكرا أو أنثى أن يأمره بها لتمام سبع سنين ويضربه عليها لتمام عشر ، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه ( عبد الله بن عمرو ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر . وفرّقوا بينهم فى المضاجع " . أخرجه أحمد أبو داود والحاكم بسند حسن ورمز السيوطى لصحته(1) ... ... ... ... ... ... { 142 }
__________
(1) ص 83ج3 – الفتح الربانى . وص 121ج4 – المنهل العذب ( متى يأمر الغلام بالصلاة ) والتفريق بينهم فى المضاجع ، يكون لعشر سنين إذا جعل معطوفا على قوله واضربوهم ، ولسبع سنين إذا جعل معطوفا على قوله مروهم . ويؤيد هذا قول أبى رافع : وجدنا صحيفة فى قراب سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته فيها مكتوب : بسم الله الرحمن الرحيم فرّقوا بين مضاجع الغلمان والجوارى والإخوة والأخوات لسبع سنين واضربوا أبناءكم على الصلاة إذا بلغوا تسع سنين . أخرجه البزار وفيه غسان بن عبيد الله عن يوسف بن نافع قال الهيثمى : ولم أجد من ذكرهما انظر ص 294ج1 – مجمع الزوائد ( أمر الصبى بالصلاة ) .(1/109)
والأمر فى الحديث للوجوب عند الجمهور القائلين بأن الأمر بالأمر بالشئ ليس أمراً به . فيكون الصبى غير مكلف فى هذه الحالة ، لا يمنع من وجوب الأمر على الولىّ ( وقالت ) المالكية : الأمر للندب لأن الأمر بالأمر بالشئ أمر بذلك الشئ فالصبى عندهم مأمور بالصلاة ندبا وتكتب له الحسنات ولا تكتب عليه السيئات . والضرب يكون بيد لا بنحو جريدة ولا يتجاوز الثلاث ( قال ) النووى : قال الشافعى فى المختصر : على الآباء والأمهات أن يؤدّبوا أولادهم ويعلموهم الطهارة والصلاة ويضربوهم على ذلك إذا عقلوا . قال أصحابنا : ويأمره الولىّ بحضور الصلوات فى جماعات ، وبالسواك وسائر الوظائف الدينية . ويعرّفه تحريم الزنا واللواط والخمر والكذب والغيبة وشبهها(1).
(
__________
(1) ص 11ج3 – شرح المهذب .(1/110)
ب) يشترط لصحة الصلاة خمسة شروط : ( الأول ) طهارة بدن المصلى من الحدث إجماعا ( الثانى ) طهارة ثوبه المصلى من الحدث إجماعا ( الثانى ) طهارة ثوبه ومكانه وبدنه من الخبث كما تقدم(1)( الثالث ) العلم بدخول الوقت . وهو شرط وجوب وصحة ( الرابع ) ستر العورة . وهو شرط عند القدرة عليه اتفاقا وكذا عند الذكر على الراجح عند المالكية . فلو كشف عورته مع القدرة على سترها ، لا تصح صلاته ولو كان منفرداً فى مكان مظلم للإجماع على أنه فرض فى الصلاة ، ولقوله تعالى : { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِد(2)} فإن المراد بالزينة محلها وهو الثوب . وبالمسجد الصلاة . أى البسوا ما يوارى عورتكم عند كل صلاة، ولحديث أبى قتادة أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقبل الله من امرأة صلاة حتى توارىَ زينتَها ، ولا من جارية بلغت الحيض حتى تَخْتمِرَ " أخرجه الطبرانى فى الصغير والأوسط وقال : تفرّد به إسحق بن إسمعيل بن عبد الأعلى الأُبُلِّى . قال الهيثمى : ولم أجد من ترجمة وبقية رجاله موثقون(3) ... ... ... { 143 }
(
__________
(1) انظر ص 268ج1 – الدين الخالص ( أقسام الصلاة ) وص 387 منه ( تطهير محل النجاسة ) .
(2) سورة الأعراف أية : 31 .
(3) ص 52ج2 – مجمع الزوائد ( ما تلبس المرأة فى الصلاة ) .(1/111)
ويشترط ) فى الساتر أن يكون كثيفا . فلا يجزئ الساتر الرقيق الذى يصف لون البشرة ، ولا يضر التصاق الكثيف بالعورة بحيث يحدّد جرمها ( وكذا يجب ) سترها خارج الصلاة ( لقول ) معاوية بن حَيْدَةَ : قلت يا رسول الله : عوراتُنا ما نأتى منها وما نذَرُ ؟ قال : احفَظ عورتَك إلا مِن زَوجتك أو ما ملكت يمينُك . قلت فإذا كان القوم بعضهم فى بعض ؟ قال إن استطعتَ أن لا يراها أحد فلا يَرَيَنَّها . قلت فإذا كان أحدنا خاليا ؟ قال : فاللهُ أحقّ أن يُستحْيا منه " أخرجه أحمد والأربعة ، وحسنة الترمذى وصححه الحاكم(1) ... ... ... { 144 }
__________
(1) ص 87ج3 – الفتح الربانى ( وجوب ستر العورة ) وص 40ج4 سنن أبى داود ( ما جاء فى التعرى ) و ( ما ناتى ) أى ما يجوز النظر إليه منها وما لا يجوز ( أو ما ملكت يمينك ) من الإماء ملكا شرعيا ، كسبايا حرب الكفار . أما من بيعت لفقر ، أو سرقت أو اغتصبت فلا يجوز شراؤها ولا التمتع بها إلا بعقد شرعى . و ( فى بعض ) أى من بعض كما فى رواية : كأصل وفرع ، أو المراد الجنس مع جنسه كالرجال والإناث ( فلا يرينها ) بفتحات ثم ون التوكيد مشدّدة أو مخففة . أى اجتهد فى حفظها ما استطعت و ( يستحيا ) مبنى للمفعول .(1/112)
ومفهوم قوله إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك ، يدل على أنه يجوز لهما النظر إلى ذلك منه . وقياسه أنه يجوز له النظر إلى عورة نفسه وعورتيهما . ويدل أيضاً على أنه لا يجوز النظر لغير من استثنى . ومنه الرجل للرجل والمرأة للمرأة . وفى الحديث دليل على انه لا يجوز التعرّى فى الخلاء مطلقا . وقد استدل البخارى على جوازه فى الغسل ( بحديث ) أبى هريرة أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال: " بينا أيوبُ يغتسلُ عُرياناً فخرّ عليه جراد من ذهب فجعل يحتَثىِ فى ثوبه فناداه ربه يأَيوبُ ألم أكن أغنيتُك عما ترى ؟ قال بلى وعزتِك ولكنْ لا غنىِ بى عن بركتك " أخرجه البخارى(1) ... ... ... ... ... ... ... ... { 145 }
( وقال ) ابن بطال : إنّ الله تعالى عاتب أيوب على جمع الجراد . ولم يعاتبه على الاغتسال عريانا فدل على جوازه(2)( وقد ورد ) فى التحذير من كشف العورة أحاديث ( منها ) حديث أبى سعيد الخدرى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا ينظرُ الرجلُ إلى عَورةِ الرجُلِ . ولا المرأةُ إلى عورة المرأة . ولا يُفْضى الرجلُ إلى الرجل فى الثوب الواحد . ولا تُفْضى المرأةُ إلى المرأة فى الثوب الواحد " أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذى وحسنه(3) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 146 }
(
__________
(1) ص 267ج1 – فتح البارى ( من اغتسل عرياناً وحده ) والحثية : الأخذ باليد .
(2) ص 267ج1 – فتح البارى .
(3) ص 87ج3 – الفتح الربانى ( ستر العورة ) وص 30ج4 نووى ( تحريم النظر إلى العورات – الحيض ) وص 141ج4 سنن أبى داود (التعرى – الحمام ) ( ولا يفضى ... ) من أفضيت إلى الشئ وصلت إليه . والمراد هنا نوم شخص مع آخر فى لحاف واحد ليس بينهما ما يمنع تماس جسديهما .(1/113)
وقول ) جَرْهَدٍ : " مر بى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلىّ بُردة وقد انكشفَتْ فخذِى فقال : غطّ فخذك فإن الفخذ عورة " أخرجه أحمد والترمذى وحسنه وابن حبان وصححه . وذكره البخارى معلقا بلفظ : الفخذ عورة(1) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 147 }
ثم الكلام فى ثلاثة فروع :
(أ) حد العودة : اختلف العلماء فى القدر الواجب ستره من الرجل والمرأة خارج الصلاة وداخلها (قال) الحنفيون وعطاء : عورة الذكر وإن كان صغيراً بلغ سبعاً أو رقيقاً – فى الصلاة وخارجها – من تحت السرة إلى ما تحت الركبة وهو قول للشافعى فالسرة ليست من العورة بخلاف الركبة .
( لقول ) عُمير بن إسحاق : " كنتُ أمشى مع الحسن نِ علىّ فى بعض طُرُق المدينة فَلَقِيَناَ أبو هريرة فقال: أرِنى منك حيث رأيتُ النبى صلى الله عليه وسلم يقبل . فقال بقميصه فقبل سؤتَه " أخرجه أحمد والبيهقى وفى عُميرٍ مقال(2) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 148 }
( وعن ) عبد الله بن عمرو أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " وإذا زوّج أحدُكم عبدَه أمتَه أو أجيرهَ ، فلا تنظر الأمة إلى شئ من عورته فإن ما تحت السرة إلى الركبة من العورة " أخرجه أحمد والدار قطنى والبيهقى(3) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 149 }
(قالوا) : والغاية داخلة وإلى بمعنى مع ، كما فى قوله تعالى : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِق(4)ِ } .
(
__________
(1) ص 84ج3 – الفتح الربانى ( حد العورة ) وص 325ج1 فتح البارى ( ما يذكر فى الفخذ – ستر العورة ) و ( جرهد ) بفتح فسكون ففتح كجعفر .
(2) ص 86ج3 – الفتح الربانى . وص 232ج2 – بيهقى ( فقال ) أى فعل .
(3) ص 83ج3 – الفتح الربانى ( حد العورة ) وص 85 الدار قطنى . وص 229ج2 – بيهقى . وهذا عجز حديث وصدره : مروا صبيانكم بالصلاة لسبع .
(4) سورة المائدة آية : 6 .(1/114)
وعورة ) الأمة ولو مكاتبة أو مبعَّضة كعورة الرجل مع زيادة البطن والظهر على الصحيح . وما سوى ذلك من جسدها ليس بعورة ، لما روى أنس عن عمر أنه ضرب أمة مُتَقنعِّةُ وقال : اكشِفى رأسك لا تتشبّهى بالحرائر أخرجه عبد الرازق بسند صحيح(1).
( وعورة ) الحرّة – ولو صغيرةَ بلغت سبعا – داخل الصلاة وخارجها جميعُ بدنها حتى شعرهَا النازلَ من الرأس فى الأصح ، ما عدا الوجه والكفين ، لقوله تعالى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } (قال) ابن عباس وعائشة رضى الله عنهم : هو الوجه والكفان .ولا فرق فى ذلك بين باطن الكف وظاهره ( لحديث ) خالد بن دُرَيكٍ عن عائشة أن أسماءَ بنتَ أبى بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق ، فأعرَض عنها ثم قل : " ما هذا يا أسماء ؟ إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلُح أن يُرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه " أخرجه البيهقى وأبو داود ، وقال : هذا مرسل . خالد بن دُريك لم يدرك عائشة(2) ... { 150 }
( وقال ) البيهقى : مع المرسل قول من مضى من الصحابة فى بيان ما أباح الله من الزينة الظاهرة . فصار القول بذلك قويا أهـ . فالقدمان عورة داخل الصلاة وخارجها فى الأصح . وقيل إنهما عورة خارج الصلاة فقط . والراجح الأوّل ( لحديث ) أمّ سلمة أنها سألت النبى صلى الله عليه وسلم أنصلى المرأة فى دِرعْ وخِمار وعليها إزار ؟ فقال : إذا كان الدِّرع سابغا يُغطى ظهور قدميها " أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقى(3){ 151 }
__________
(1) ص 300ج1 – نصب الراية .
(2) ص 62ج4 – سنن أبى داود ( ما تبدى المرأة من زينتها – اللباس ) و ص 226 ج2 بيهقى ( عورة المرأة الحرة ) .
(3) ص 27ج5 – المنهل العذب ( فى كم تصلى المرأة ) وص 250ج1 مستدرك . وص 233ج2 بيهقى .(1/115)
هذا وعورة كل من الرجل والمرأة فى الخلوة ما بين السرة والركبة . وأعلم أن العورة عند الحنفيين غليظة وهى القبل والدبر ما حولهما . وخفيفة وهى ما عدا ذلك . ولابد من دوام ستر العورة من ابتداء الدخول فى الصلاة إلى الفراغ منها . فلو انكشف ربع عضو من العورة فى أثناء الصلاة زمنا يؤدىَّ فيه ركن بلا صنعه " كأن انكشف بنحور ريح " بطلت الصلاة ، لأنّ للربع حكم الكل . أما إذا انكشف ذلك أو أقل منه بصنعه فإنها تفسد ولو كان زمن الانكشاف أقل من أداء الركن .
هذا . وشعر المرأة والبطن والفخذ والقبل والدبر والأنثيان والألية كل واحد مما ذكر عضو بانفراده .
((1/116)
وقالت ) المالكية : عورة الرجل التى يجب سترها خارج الصلاة ما بين السرة والركبة بالنسبة للرجل والَمْحرَم والأمِة . ومثله الأمة . وكذلك الحّرة مع امرأة مثلها . وأما الحرّة مع محرمها فجميع بدنها ما عدا الأطراف وهى الرأس واليدان والرجلان ، وأما مع أجنبى فجميع بدنها ماعدا الوجهَ والكفين وأماهما فليسا بعورة . ويجب عليها سترهما لخوف الفتنة على المشهور . وأما بالنسبة للصلاة فهى ما بين السرة والركبة أيضا إلا أنها مغلظة ومخففة . فالمغلظة للرجل السوءتان وهما القبل والأنثيان وحلقة الدبر . والمخففة ما زاد على ذلك مما بين السرة والركبة . وما حاذى ذلك من الخلْف والمخففة من الأمة كالرجل . أما المغلظة منها فهى الأليتان وما بينهما والفرج والعامة . والمغلظة للحرّة جميع بدنها ماعدا الأطراف والصدر وما حاذاه من الظهر . والمخففة لها هى الصدر وما حاذاه من الظهر والذراعين والعنق والرأس من الركبة إلى آخر القدم . فمن صلى مكشوف العورة المغلظة كلا أو بعضا مع القدرة على الستر ولو بشراء أو استعارة أو قبول إعارة ، بطلت صلاته إن كان قادرا ذاكرا . وأعادها وجوبا أبدا ولو بعد خروج الوقت . وأما المخففة من الرجل فإن انكشف منها الأليتان أو العائلة كلا أو بعضا ، فصلاته صحيحة مع الكراهة . وندب إعادتها فى الوقت . أما إذا انكشف الفخذان كلا أو بعضا فيكره ذلك ولا إعادة عليه . وأما الأمة فتعيد أبدا بالنسبة لكشف الأليتين والعانة والقبل والدبر . وتعيد فى الوقت إن انكشف فخذها كلا أو بعضا. ولا تعيد فيها عدا ما بين السرة والركبة .
((1/117)
وأما الحرة ) فإن صلت مكشوفة الرأس أو العنق أو الكتف أو الذراع أو النهد أو الصدر أو ما حاذاه من الظهر أو الركبة أو الساق إلى آخر القدم ظهراً لا بطنا ، فتعيد فى الوقت ندبا . وأن صلت مكشوفة السرة أو الركبة أعادت أبدا ، ويندب لكل من الرجل والمرأة فى غير الصلاة ، ستر العورة المغلظة بخلوة ولو بظلام (وقالت) الشافعية : عورة الرجل فى الصلاة وخارجها مع الرجال ومع النساء المحارم ، ما بين السرة والركبة . ومع النساء الأْجانب جميع بدنه . وفى الخلوة السوءتان . وعورة الآمة فى الصلاة وخارجها مع النساء ومع الرجال المحارم وفى الخلوة ما بين سرتها وركبتها ، ومع الرجال الأجانب جميع بدنها . وعورة الحرّة فى الصلاة جميع بدنها ماعدا الوجه والكفين . ومع النساء والرجال المحارم وفى الخلوة ما بين السرة والركبة . ومع الرجال الأجانب جميع بدنها . ووافقهم الحنبلية إلا أنهم يرون أنّ الكفين عورة من الحرّة (ومما تقدم ) يعلم أنّ السرة والركبة ليستا من العورة بالنسبة للرجل عند المالكية والشافعية والحنبلية ( لقول ) عبد الله بن عمرو : صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب فَرجع من رَجَع وعقَّبَ من عقّب . فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعا قد حفَرَه النفَسُ قد حسَر عن رُكبتيه فقال : " أبشِروا هذا ربُّكم قد فتح باباً من أبواب السماء يُباهى بكم يقول : انظروا إلى عبادى قد صلُّوا فريضة وهم ينتظرون أخرى " أخرجه ابن ماجه بسند صحيح رجاله ثقات(1) ... ... { 152 }
(
__________
(1) ص 138 ج1 ابن ماجه ( لزوم المساجد وانتظار الصلاة ) و ( عقب ) من = التعقيب ، أى أقام فى مصلاه بعد ما فرغ من الصلاة و (حفزه) بفتح الحاء والفاء من باب ضرب ، أعجله .(1/118)
وعن ) ابن عمرو أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال : " إذا زوّج أحدكم خادمَه عبدهَ أو أجيرَه ، فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة " أخرجه أبو داود(1) ... ... ... ... ... ... { 153 }
( وعن ) أبى أيوب رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " ما فوق الركبتين من العورة . وما أسفل من السرة من العورة " أخرجه البيهقى(2) ... ... ... ... ... ... ... { 154 }
والسبب فى اختلافهم فى عورة المرأة ، الاحتمال فى المستثنى فى قوله تعالى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } ( فمنهم ) من فهم منه الوجه والكفين والقدمين ( ومنهم ) من فهم منه الوجه والكفين فقط ( ومنهم ) من فهم أن جميع بدن المرأة عورة ماعدا ما يبدو منه قهراً عند هبوب ريح مثلا أو ما تدعو الحاجة إلى النظر إليه كشهادة ومعالجة طبيب ( وقالت ) الظاهرية وابن أبى ذئب : عورة الرجل فى الصلاة القبل والدبر ، وهو رواية عن أحمد ( لحديث ) أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم غزا خَيبر ثم حسَر الإزار عن فخِذه حتى إنى لأنظر إلى بياض فخذ النبى صلى الله عليه وسلم " أخرجه البخارى(3) ... ... ... ... ... { 155 }
لكنه معارض بما تقدم عن جَرهدٍ(4)( وبحديث ) علىّ كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تبْرِزْ فَخِذك ولا تنظُر إلى فخِذ حتّى ولا ميت " أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم والبيهقى وفيه حبيب بن ثابت لم يسمع م عاصم بن ضَمرة(5) ... ... ... ... ... ... ... { 156 }
(
__________
(1) ص 64ج4 - سنن أبى داود ( فى قوله : غير أولى الإربة – لباس النساء ) و ( خادمه ) أى أمته .
(2) ص 229ج2 – بيهقى .
(3) ص 326ج1 – فتح البارى ( ما يذكر فى الفخذ ) .
(4) تقدم رقم 147 ص 103 .
(5) انظر رقم 427 ص 244ج7 – الدين الخالص ( كيفية غسل الميت ) .(1/119)
لقول ) محمد بن جحش : " مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على مَعْمَر وفخذاه مكشوفتان فقال : يا معمرُ غِّط فخذيك ، فإن الفخذين عورة " أخرجه أحمد والبخارى فى تاريخه وعلقه فى الصحيح . ورجاله رجال الصحيح إلا أبا كثير(1) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 157 }
وأيضا فإن حديث جَرْهَد وعلىّ أمر من النبى صلى الله عليه وسلم للأمة . وحديث أنس ونحوه فعل من صلى الله عليه وسلم . وإذا تعارض الأمر والفعل قدّم الأمر ، لاحتمال أن يكون الفعل خاصا به صلى الله عليه وسلم(2)( وقالت ) الظاهرية عورة الحرّة والأمة جميع بدنها ماعدا الوجه والكفين . فسوّوا بين لحرّة والأمة (ويردّه ) ما تقدم عن عمر وغيره من التفرقة بينهما .
(
__________
(1) ص 84ج3 – الفتح الربانى ( حد العورة ) وص 325ج1 – فتح البارى ( ما يذكر فى الفخذ ) .
(2) قال القرطبى . حديث أنس وما معه إنما ورد فى قضايا معينة يتطرق إليها من احتمال الخصوصية أو البقاء على أصل الإباحة مالا يتطرق إلى حديث جرهد وما معه لأنه يعطى حكما كلما وشرعا عاما فكان العلم به أولى . ولذا قال البخارى : وحديث جرهد أحوط . انظر ص 327ج1 – فتح البارى .(1/120)
ب) العجز عن السائر : م لم يجد ما يستر به عورته ولو بإعارة ، صلى عريانا وصحت صلاته والأفضل عند الحنفيين وأحمد أن يصلى قاعدا مادّا رجليه إلى القبلة مضمومتين موميا بالركوع والسجود ( روى ) أن قوما انكسرت مراكبهم فخرجوا عراة فقال ابن عمر يصلون جلوسا يومئون إيماء برءوسهم. أخرجه الخلال(1)ويليه فى الفضل صلاته قائما موميا بالركوع والسجود . ودونهما صلاته قائما يركع ويسجد . ولو كان عريانا ووعده صاحبه أن يعطيه الثوب إذا صلى ، لزمه انتظاره ما لم يخف فوت الوقت على الراجح عند الحنفيين . ومن وجد ثوبا ربعه طاهر ولم يجد ما يطهره به لزمه الصلاة فيه فلا تصح صلاته عريانا خلافا للشافعية . وكذا إن كان كله تجسا ، أو طهر اقل من ربعه عند المالكية والحنبلية ولا يعيد . وعند الحنفيين يخير بين الصلاة فيه والصلاة عريانا والأفضل الصلاة فيه ، لما فيه من الإتيان بالركوع والسجود مع ستر العورة .
(ج) الصلاة فى ثوب غير حلال : تحرم الصلاة فى ثوب غير خالص الحل ، لحديث ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " من اشترى ثوبا بعشرةِ دراهم وفيه دِرهْم حرام ، لم يقبل الله له صلاةً مادام عليه " أخرجه أحمد بسند ضعيف جدا وقال : هذا الحديث ليس بشئ(2){ 158 }
__________
(1) ص 634ج1 – مغنى ابن قدامة ( صلاة العراة ) .
(2) انظر رقم 8444ص 64ج6 – فيض القدير .(1/121)
وإذا صلى فى ثوب مغصوب ( قال ) أحمد فى المشهور عنه : لا تصح الصلاة فيه ، أخذا بظاهر الحديث ، بخلاف ما لو صلى بعمامة مغصوبة أو بخاتم من ذهب ، فإن الصلاة تصح لأنه لا يتوقف عليهما صحتها بخلاف الثوب ( وقال ) الحنفيون ومالك والشافعى وكثيرون : تصح الصلاة فى الثوب المغصوب مع الحرمة . وهو رواية عن أحمد . لأن التحريم لا يختص بالصلاة . والنهى عن المغصوب ، فإنه لا يعود إليه فلم يمنع صحتها ، كما لو غسل ثوبه من النجاسة بماء مغصوب ، فإنه يطهر اتفاقا ( وأجابوا ) عن حديث ابن عمر بأنه ضعيف لا يحتج به . وعلى فرض صحته ، فنفى القبول لا يستلزم نفى الصحة ، لأنه قد يراد به نفى الكمال والفضيلة ( واختلفوا ) أيضا فى صلاة الرجل فى الثوب الحرير ( فقال ) الجمهور : يحرم عليه وتجزئه صلاته ( وقال ) مالك : يعيد فى الوقت ومحل هذا إذا وجد ما يستر عورته من غير الحرير . فإن لم يجد إلا هو صلى فيه وجوباً عند الأكثر ( وقال ) أحمد فى المشهور عنه : لا يجوز له ذلك . ولو صلى فيه لا تصح صلاته . ولو لم يجد إلا هو صلى عاريا .
( الخامس ) من شروط صحة الصلاة استقبال القبلة . وهو شرط بالكتاب والسنة والإجماع . قال الله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ(1)} والمراد بالمسجد الحرام الكعبة ( وعن ) أبى هريرة أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال للمسئ صلاته : إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة " ( الحديث ) أخرجه الشيخان وأبو داود(2) ... ... ... ... { 159 }
(
__________
(1) سورة البقرة : آية 144 ( وأولها : قد نرى تقلب وجهك فى السماء ) .
(2) ص 29ج11 فتح البارى ( من رد فقال عليك السلام – الاستئذان ) وص 107 ج4 نووى ( واجبات الصلاة ) وص 299ج5 – المنهل العذب ( صلاة من لا يقيم صلبه فى الركوع والسجود )( الحديث ) يأتى تاما فى ( ترتيب الأركان ) إن شاء الله تعالى .(1/122)
وقد اتفق ) المسلمون على أنّ التوجه نحو الكعبة حال الصلاة فرض عند القدرة والأمن ، وعلى أنّ من كان قريباً منها بحيث يمكنه رؤيتها يجب عليه استقبال عينها . واختلفوا فيمن كان بعيداً عنها . فالمشهور عند الشافعية أنه يلزم استقبال عينها أيضا ، لظاهر قوله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } إلا أنه يكفى فى هذه الحالة الظن بخلاف القرب فلابُدَّ فيه م اليقين ( وقال ) الحنفيون ومالك وأحمد وكثيرون : يجب فى هذه الحالة استقبال الجهة لا العين وهو قول للشافعى (لحديث) أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " ما بين المشرق والمغرب قِبْلَة " أخرجه ابن ماجه والترمذى ، وقال حسن صحيح(1) ... ... ... ... ... ... ... ... { 160 }
ولأنه لو كان الفرض استقبال العين لما صحت صلاة أهل الصف الطويل على خط مستو . فإنه لا يمكن أن توجه إلى الكعبة كلُّ مَنْ بالصف الطويل مع اتفاقهم على صحة صلاة الكل " ولا ينافيه " قوله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } " فإنه " على تقدير مضاف أى فولوا وجوهكم جهة شطر المسجد الحرام . أو يراد بالشطر الجهة جميعاً بين الأدلة ، وهذا هو الظاهر . فإن فى استقبال عين الكعبة فى هذه الحالة حرجا ومشقة : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } فقبلة غير المشاهد ولو بمكة جهة الكعبة وهى التى إذا توجه إليها الإنسان يكون مسامتا للكعبة أو لهوائها تحقيقا أو تقريبا . فلا يضر انحراف لا تزول به المقابلة بالكعبة بأن يبقى شئ من سطح الوجه مقابلا لها أو لهوائها .
هذا . وتُعْرَفُ القبلة فى هذه الحالة فى الأمطار والقرى :
(
__________
(1) ص 164ج1 – ابن ماجه ( القبلة ) وص 279ج1 – تحفة الأحوذى وهذا بالنسبة لأهل المدينة ومن كانت قبلته على سمتها .(1/123)
أ ) بالأدلة التى نصبها الصحابة والتابعون فى المساجد . ولا يجوز الاجتهاد مع وجودها . فإن لم تكن لزمه السؤال ممن يعلمها من أهل ذلك الموضع ولو واحدا فاسقا إن صدقه عند الحنفيين (وقالت) الشافعية يجب عليه أن يسأل ثقة ولو عبدا أو امرأة ولا يكفى سؤال الصبى والفاسق وإن صدقهما ( وقالت ) الحنبلية يلزمه السؤال ولو بقرع الأبواب ويكفى إخبار عدل الرواية كالأنثى والعبد ( وقالت ) المالكية : يلزمه التحرى ولا يسأل إلا إذا خفيت عليه علامات القبلة ، فيلزمه سؤال عدل مكلف عارف بالأدلة ولو أنثى أو عبدا (ب) وتعرف أيضاً بالشمس والنجم القطبى والفجر والشفق وغير ذلك ( فالشمس ) يستدل بها على القبلة فى كل جهة بحسبها : فإن مطلعا يُعَيِّن جهة الشرق ، ومغربها يعين جهة الغرب . ومتى عُرِف المشرف أو المغرب عُرِف الشمال أو الجنوب . وبهذا يتيسر لأهل كل جهة معرفة قبلتهم . فمن كان فى مصر فقبلته الجنوب الشرقى ، لأن الكعبة بالنسبة لمصر واقعة بين الشرق والجنوب وهى للشرق أقرب .
( والنجم القطبى ) نجم صغير فى بنات نعش الصغرى لا يبرح مكانه . وهو أقوى الأدلة . ففى مصر يجعله المصلى خلف أذنه اليسرى قليلا وكذا فى أسيوط وفوّة ورشيد ودمياط والإسكندرية وتونس والأندلس ( أسبانيا ) ونحوها . وفى العراق وما وراء نهر دجلة والفرات ، يجعله المصلى خلف أذنه اليمنى . وفى المدينة المنوّرة والقدس وغزة وبعلبك وطرسوس ونحوها ، يجعله مائلا إلى نحو الكتف الأيسر . وفى الجزيرة وأرمينية والموصل ونحوها ، يجعله المصلى على فقرات ظهره . وفى بغداد والكوفة وخوارزم والرىّ ببلاد العجم ونحوها يجعله المصلى على خدّه الأيمن . وفى البصرة وأصبهان وفارس ونحوها ، يجعله فوق أذنه اليمنى . وفى الطائف وعرفات والمزدلفة ومنى، يجعله على كتفه الأيمن . وفى اليمن يجعله أمامه مما يلى جانبه الأيسر . وفى الشام يجعله وراءه مما يلى جانبه الأيسر . وفى نجران يجعله وراء ظهره .
((1/124)
ج) وتعرف ببيت الإبرة المسمى ( بالبوصلة ) متى كان منضبطاً وغير ذلك ( أما المحاريب) المجوّفة جهة القبلة فى كثير من المساجد ، فإنها وإن كانت تدل على القبلة ، فلا ينبغى اتخاذها ، لأنها من البدع المنهى عنها (قال) السيوطى فى رسالته " إعلام الأريب . بحدوث بدعة المحاريب " : إنّ قوماً خفى عليهم كون المحراب فى المساجد بدعة وظنوا أنه كان فى مسجد النبى صلى الله عليه وسلم فى زمنه . ولم يكن فى زمانه قط محراب ولا فى زمن الخلفاء فمن بعدهم إلى آخر المائة الأولى . وقد ورد الحديث بالنهى عن اتخاذه وأنه من شأن الكنائس وأن اتخاذه فى المساجد من أشرط الساعة ( روى ) عبد الله بن عمرو أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال : " اتقوا هذه المذابح يعنى المحاريبَ " أخرجه البيهقى(1) ... ... ... ... ... ... ... ... { 161 }
( قال ) السيوطى : هذا حديث ثابت صحيح . ولهذا احتج به البيهق مشيراً إلى كراهة اتخاذ المحاريب . وهو من كبار الحفاظ ومن كبار أئمة الشافعية الحاملين للفقه والأصول والحديث (وعن) ابن مسعود أنه كره الصلاة فى المحراب وقال : " إنما كانت للكنائس ، فلا تَشَبَّهوا بأهل الكتاب يعنى أنه كره الصلاة فى الطاق " أخرجه البزار بسند رجاله موثقون(2)( وقال ) ابن بى شيبة : ثنا وكيع ثنا إسرائيل عن موسى الجهنى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تزال هذه الأمة أو ال أمتى بخير ما لم يتخذوا فى مساجدهم مذابح كمذابح النصارى " قال السيوطى : هذا مرسل صحيح الإسناد ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 162 }
__________
(1) ص 439ج2 – بيهقى ( كيفية بناء المساجد ) .
(2) ص 51ج2 – مجمع الزوائد ( الصلاة فى المحراب ) .(1/125)
والمرسل حجة عند الأئمة الثلاثة مطلقا . وكذا عند الإمام الشافعى إذا اعتُضِد بمرسَل آخر أو مسند ضعيف أو قول صحابى أو فتوى أكثر أهل العلم بمقتضاه . وقد عضّده قول ابن مسعود وأحاديث أخر مرفوعة وموقوفة وفتوى جماعة من الصحابة والتابعين بمقتضاه ( قال ) أبو ذرّ : إنّ من أشراط الساعة أن تُتّحذ المذابح فى المساجد . أخرجه ابن أبى شيبة ، وهو فى حكم المرفوع ، لأنه لا مدخل للرأى فيه ( وقال ) عُبيد بن أبى الجَعْد : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقولون : إنّ من أشراط الساعة أن تُتّخذ المذابح فى المساجد . يعنى الطاقات . أخرجه ابن أبى شيبة. وهو بمنزلة عدة أحاديث مرفوعة ( وقال ) ابن مسعود : اتقوا فى هذه المحاريب . أخرجه ابن أبى شيبة وأخرج عبد الرازق عن الثورى عن منصور بن المعتمر والأعمش عن إبراهيم النخعى أنه كان يكره أن يصلى فى طاق الإمام . قال الثورى : ونحن نكره ذلك . وأخرج عن الحسن أنه اعتزل الطاق أن يصلى فيه(1).
(
__________
(1) ص 239ج4 – المحل لان حزم . وفيه : وتكره المحاريب فى المساجد وروينا عن على بن أبى طالب أنه كان يكره المحراب فى المسجد . وهو قول محمد بن جرير الطبرى وغيره .(1/126)
فائدة ) روى الطبرانى فى الوسط عن جابر بن أسامة الجهنى قال : لقيت النبى صلى الله عليه وسلم فى أصحابه بالسوق فقلت : أين يُريد رسوبُ الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا يُريد أن يَخُط لقومك مسجدا ، فأتيتُ وقد خَطّ لهم مسجداً وغرز فى قبلته خشبة فأقامها قبلة(1)أهـ كلام السيوطى ملخصا(2)( وقال ) القضاعى : أوّل من أحدث ذلك عمر بن عبد العزيز وهو عامل للوليد بن عبد الملك على المدينة حينما جدّد المسجد وزاد فيه أهـ ( وقال ) الألوسى : الصلاة فى المحاريب المشهورة ف المساجد قد كرهها جماعة من الأئمة . وهى من البدع التى لم تكن فى العصر الأوّل(3)( وقال ) السمهودى فى تاريخ المدينة : أسند يحيى عن عبد المهيمن بن عباس عن أبيه قال : مات عثمان وليس فى المسجد شرفات ولا محراب . فأوّل من أحدث المحراب والشرفات عمر ابن عبد العزي أهـ ( وقال ) النووى : إذا صلى فى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم فمحراب الرسول فى حقه كالكعبة ، فمن يعاينه يعتمده . ولا يجوز العدول عنه بالاجتهاد بحال . ويعنى بمحراب الرسول مصلاه وموقفه ، لأنه لم يكن هذا المحراب المعروف موجوداً فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم . وإنما أحدثت المحاريب بهده أهـ(4)( وقال ) العلامة البجرمىّ : والمحراب لغة صدر المجلس سمى المحراب المعهود بذلك ، لأن المصلى يحارب فيه الشيطان . ولم يكن فى زمانه صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده إلى آخر المائة الأولى محراب .
__________
(1) قال الهيثمى ) وفيه معاوية بن عبد الله بن حبيب ولم أجد من ترجمة . انظر ص 15ج2 – مجمع الزوائد ( علامة القبلة ) .
(2) انظر رقم 521 مجاميع بدار الكتب المصرية ضمن مجموعة رسائل للسيوطى .
(3) ص 571ج1 – روح المعانى ( فنادته الملائكة وهو قائم يصلى فى المحراب ) .
(4) ص 203ج3 – شرح المهذب .(1/127)
وإنما حدثت المحاريب فى أوّل المائة الثانية ، مع ورود النهى عن اتخاذها لأنها بدعة ولأنها من بناء الكنائس أهـ(1). ثم الكلام فى ثلاثة فروع :
( أ ) اشتباه القبلة : قد علمت أن القبلة تختلف باختلاف البقاع . فإن فقدت الأدلة واشتبهت على مريد الصلاة ولم يجد بحضرته من يسأله ، اجتهد وصلى . وليس له الاجتهاد قبل السؤال . ولا يلزمه طلب من يسأله خلافا للحنبلية كما تقدم(2). والأصل فى ذلك قول عامر بن ربيعة : " كنا فى سفر مع النبى صلى الله عليه وسلم فى ليلة مُظْلمة ، فلم ندر أين القبلةُ ؟ فصلى كلُّ رجل منا على حِياله . فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فنزلت { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } أخرجه ابن ماجه والترمذى وقال حديث ليس إسناده بذاك لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان وأشعث يُضَعَّف فى الحديث(3) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 163 }
ويؤيده قول معاذ بن جبل : " صلينا مع النبى صلى الله عليه وسلم فى يوم غيم فى سفر إلى غير القبلة فلما قَضى الصلاةَ تجلّت الشمس فقلنا يا رسولَ الله صلّينا إلى غير القبلة فقال : قد رفُعت صلاتكم بحقها إلى الله عز وجل " أخرجه الطبرانى فى الأوسط . وفيه شْمر بن يقظان . ذكره ابن حبان فى الثقات(4) ... { 164 }
__________
(1) ص 164ج1 – حاشية البجرمى على شرح المنهج (التوجه شرط ) .
(2) تقدم ص 112 .
(3) ص 165ج1 – ابن ماجه ( من يصلى لغير القبلة وهو لا يعلم ) وص 280ج1 – تحفة الأحوذى ( الرجل يصلى لغير القبلة فى الغيم ) .
(4) ص 15ج2 – مجمع الزوائد ( الاجتهاد فى القبلة ) .(1/128)
ولو سأل قوما فلم يخبروه حتى صلى بالتحرّى ثم أخبروه بعد فراغه أنه لم يصل على القبلة فلا إعادة عليه . فإن اجتهد فى القبلة وأخطأ ففى ذلك خلاف ( قال ) الحنفيون وأحمد : إن تبين خطؤه بعد الفراغ من الصلاة لم يعدها ، لأنّ الطاعة على حسب الطاقة لما ذكر . وإن علم بالخطأ فى أثناء الصلاة استدار إلى القبلة وبنى على ما مضى من صلاته . وهو قول للشافعى ( لقول ) ابن عمر رضى الله عنهما : " بينما الناس بقُباه فى صلاة الصبح إذْ جاءهم أُمِر أن يستقبل الكعبة فاستقبِلوها.وكانت وُجوهُهم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة " أخرجه الشيخان(1){165}
( وعن ) أنس : " أنّ النبى صلى الله عليه وسلم كان يصلى نحو بيت المقدس فنزلت: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ } فمرّ رجل من بنى سلمة وهم ركوع فى صلاة الفجر وقد صلوا ركعة فنادى:ألا إنّ القبلة قد حُوّلت.فمالوا كما هم نحو البيت"أخرجه مسلم وأبو داود(2){166}
__________
(1) ص 343ج1 فتح البارى ( ما جاء فى القبلة ) وص 10ج5 – نووى ( تحويل القبلة ... ) و ( قباء ) بضم القاف – يقصر ويمد ، مصروف وغير مصروف – موضع على نحو ميلين جنوب المدين ة( فاستقبلوها ) روى بكسر الياء وفتحها والكسر أصح .
(2) ص 11ج5 – نووى . وص 178ج5 – المنهل العذب ( من صلى لغير القبلة ثم علم ) .(1/129)
ومثل هذا لا يخفى على النبى صلى الله عليه وسلم . فكان ما مضى من صلاتهم بعد تحويل القبلة إلى الكعبة صحيحا ، ولأن المجتهد أتى بما أُمِر به فخرج عن العهدة كالمصيب ، ولأنه صلى إلى غير الكعبة للعذر فلم تجب عليه الإعادة كالخائف يصلى إلى غيرها إذا تعذر عليه استقبالها . ولأنه شَرْطً عَجَزَ عنه فأشبه سائر الشروط ( وقالت ) المالكية : إن تبين خطؤه فى أثناء الصلاة يقيناً أو ظنا ، قطعها البصير المنحرف كثيراً بأن كان مستديراً للقبلة أو مشرِّقا عنها أو مغرِّباً وابتدأها بإقامة ، وغن كان الانحراف من البصير يسيراً أو كان من أعمى مطلقا ، تحوّل إلى القبلة وأتم صلاته ، وإن تبين الخطأ بعد تمام الصلاة ، أعاد البصير المنحرف كثيرا بوقت . ولا إعادة على غيره .
( ومشهور ) مذهب الشافعية أنه إن تبين خطؤه فى أثناء الصلاة بأن كان مستدبرا لها أو منحرفا يَمَنةً أو يَسْرة استأنفها ، وكذا إذا تبين له الخطأ بعد الفراغ منها ، لأنه بأن له الخطأ فى شرط من شروط الصلاة ، فلزمه الإعادة ، كما لو بأن له صلى قبل الوقت أو بغير طهارة ، بخلاف ظنّ الخطأ فإنه لا يؤثر فى صحة الصلاة .
(ب) سقوط الاستقبال : يسقط الاستقبال فى ثلاث حالات :
((1/130)
الأولى ) صلاة شدّة الخوف من عدوّ أو سبع أو لصّ ، سواء أخاف على نفسه أم دابته ، وسواء أكانت الصلاة فرضاً أم نفلا ، فليس الاستقبال بشرط حينئذ . لقوله تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً(1)} ولقوله تعال : : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ(2)} ولحديث نافع عن ابن عمر أنه كان إذا سُئِل عن صلاة الخوف وصفَها ثم قال : فإن كان خوفً هو أشدُّ من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم أو ركباناً مستقبلى القبلة أو غيرّ مستقبليها . قال نافع : لا أرى ابنَ عمر ذكر ذلك إلا عن النبى صلى الله عليه وسلم " أخرجه مالك والبخارى وابن خزيمة والبيهقى(3) ... ... ... ... ... ... ... ... { 167 }
( الثانية ) يجوز للمسافر التنفل على راحلته حيث توجهت ( لقول ) ابن عمر : " كان النبى صلى الله عليه وسلم يُسبِّح على الراحة قِبَلَ أىِّ وجه توجّه . ويوُتِر عليها غير انه لا يصلى عليها المكتوبة " أخرجه البخارى وأبو داود(4) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 168 }
( وقال ) جابر : رأيت النبى صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته النوافل فى كل جهة ، ولكنه يخفض السجود من الركعة ويومئ إيماء " أخرجه أحمد(5) ... ... ... { 169}
__________
(1) سورة البقرة : أية 239 .
(2) سورة التغابن : أية 16 .
(3) ص 139 ج8 – فتح البارى ( فإن خفتم فرجالا أو ركبانا ) .
(4) ص 389ج2 – فتح البارى ( ينزل للمكتوبة ) وص 82ج7 – المنهل العذب ( التطوع على الراحلة ) .
(5) ص 123ج3 – الفتح الربانى .(1/131)
هذا . وجواز تطوّع المسافر على الراحلة مجمع عليه ، غير أنه يلزم التوجه إلى القبلة حال التحريمة عند الشافعى وابن حبيب المالكى ، وروى عن أحمد ولا يلزم عند غيرهم ، وسواء فى ذلك قصير السفر وطويله عند الأكثر ( وعن ) مالك : لا يجوز ذلك إلا فى سفر القصر ( وقال ) الحنفيون : لا يشترط السفر بل تجوز صلاة النافلة خارج العمران – فى محل يجوز للمسافر القصر فيه ولو مقيما خرج لحاجة – على الراحلة مومياً بالركوع والسجود فرادى لا جماعة إلا على دابة واحدة على الصحيح ( لقول ) عامر بن ربيعة : " رأيت النبى صلى الله عليه وسلم وهو على الراحلة يسِّبح يومئ برأسه قِبَل أىّ وجه توجه ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك فى الصلاة المكتوبة " أخرجه البخارى(1) ... ... ... ... ... ... ... ... { 170 }
(
__________
(1) ص 389ج2 – فتح البارى ( ينزل للمكتوبة ) .(1/132)
وعن ) أبى يوسف : جواز النافلة على الراحلة فى المصر أيضا . وبه قال أبو سعيد الاصطخرى الشافعى والظاهرية مستدلين بالأحاديث المطلقة التى لم يصرح فيها بذكر السفر . وبما روى منصور بن المعْتَمِر عن إبراهيم** النخعى قال : كانوا يصلون على رحالهم ودوابّهم حيثما توجهت . ذكره ابن حزم قال: وهذه حكاية عن الصحابة والتابعين عموما فى الحضر والسفر أهـ(1)وهو مبنى على عدم حمل المطلق على المقيد . لكن الجمهور يقولون بحمل الروايات المطلقة على المقيدة بالسفر ( وظاهر ) الأحاديث أنّ جواز التنفل على الراحلة إلى الجهة التى قصدها ، مختص بالراكب . وهو مذهب الحنفيين وأحمد والظاهرية ( وقال ) الشافعى والأوزاعى : يجوز للماشى التنفل إلى الجهة التى يقصدها قياساً على الراكب بجامع التيسير للمتطوّع ، إلا أنه قيل لا يعفى له عدم الاستقبال فى الركوع والسجود وعدم إتمامهما ، وأنه لا يمشى إلا فى قيامه وتشهده 0وهل يمشى حال الاعتدال من الركوع؟ قولان . ولا يمشى** فى الجلوس بين السجدتين . ودلت الأحاديث أيضا على جواز الوتر على الراحلة فى السفر . وهو مذهب الجمهور ومالك والشافعى وأحمد ( وقال ) الحنفيون : لا يجوز الوتر على الدابة كالفرض إلا العذر ( لما روى ) نافع أنّ ابن عمر كان يصلى على راحلته ويُوتِر بالأرض ، ويزعُم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يفعل " أخرجه البخارى(2) ... ... ... ... ... ... ... { 171 }
(
__________
(1) ص 58ج3 – المحلى ( مسألة 297 ) .
(2) ص 249ج1 – شرح معانى الآثار .(1/133)
وروى ) سعيد بن جبير أن ابن عمر كان يصلى على راحلته تطوّعا ، فإذا أراد أن يوتر نزل فأوتر على الأرض . أخرجه أحمد والطحاوى بسند جيد(1)( وأجابوا ) عن إيتار النبى صلى الله عليه وسلم على الدابة ، بأن ذلك كان قبل إحكام أمر الوتر وتأكيده . فلما أحكم وأكد أمره ، كان يصليه على الأرض ، أو أن إيتاره صلى الله عليه وسلم** على الدابة كان من خصوصياته . لكن ما استدلوا به لا يستلزم عدم جواز الوتر على الدابة . وما أجابوا به عن حديث ابن عمر مردود بأنه تفرقة لم يدل عليها دليل صريح . وبأن الأصل عدم الخصوصية ، لاسيما وأن ابن عمر كان يوتر على الدابة وأنكر على من كان يوتر على الأرض ( قال ) سعيد بن يسار : كنت مع ابن عمر بطريق مكة فلما خَشِيت الصبحَ نزلتُ فأوترتُ . فقال ابن عمر : أليس لك فى رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسوَة حسنة ؟ قلت بلى . قال : فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُوتِر عل البعير " أخرجه مالك والشيخان والبيهقى(2) ... ... ... ... ... ... ... { 172 }
( وقال ) جرير بن حازم : قلت لنافع أكان ابنُ عمر يُوتِر على الراحلة ظ قال وهل للوتر فضيلة على سائر التطوّع ؟ إى والله لقد كان يوتر عليها . أخرجه البيهقى(3)( فالراجح ) جواز الوتر على الدابة ( ودلت ) الأحاديث أيضا على أن المكتوبة لا تصح إلى غير القبلة ، ولا على الدابة. وهو مجمع عليه إلا حال العذر . وهى :
(
__________
(1) ص 312ج4 – الفتح الربانى.
(2) ص 333ج2 – فتح البارى ( الوتر على الدابة ) وص 210ج5 نووى ( صلاة النافلة على الدابة ) وص 5ج2 بيهقى .
(3) ص6ج2 - بيهقى .(1/134)
الثالثة ) لا تجوز صلاة الفرض على الدابة إلا لعذر يتعذر معه النزول كخوف مرض أو زيادته وخوف عدوّ وسبع ونِفار دابة لا يقدر على ركوبها إلا بمعين ، وكثرة طين ووحَل وفوات رُفقة . فيجوز حينئذ عند الحنفيين أن يصلى على الدابة بإيماء للسجود أخفض من الركوع . وقبلتُه حيث توجهت دابته . ولا تضر نجاسة السرج والركابين والدابة . وكالفرص فيما ذكر صلاة الجنازة والواجب كقضاء نفل أفسده ومنذورة ، وسجدة التلاوة إذا تلا آيتها أو سمعها على الأرض . فلا تجوز على الدابة لغير ضرورة ، لأنها وجبت كاملة فلا تتأدّى بما هو ناقص . وكذا يسقط الاستقبال عن العاجز عنه لمرض وإن وّجد من يُوجهه إلى القبلة عند النعمان ( وقال ) الصاحبان : يلزمه التوجه إن وجد موجِّها ولو بأجر مثله إذا كان له مال . ولو خاف إنسان أن يراه العدوّ إن قام أو قعد صلى مضطجعا بالإيماء . وكذا الراكب الهارب من العدوّ يصلى على دابته ولا إعادة علا من ذكر ، لأنّ الطاعة بحسب الطاقة ( وقالت ) المالكية : لا يصح فرض على الدابة ولو كان مستقبل القبلة إلا فى حرب جائز لا يمكن النزول فيه عن الدابة ، أو خوف من نحو سبعُ إن نزل عن دابته . ويعيد الخائف فى الوقت إن أمن ، أو كان راكبا فى طين رقيق لا يمكنه النزول فيه . فله أن يصلى على الدابة إيماء . سواء أكان مسافرا أم حاضرا ، أو كان به مرض لا يطيق النزول معه وأمكنه أن يؤدّيها على الدابة كما يؤدّيها على الأرض . فإن أمكنه أن يؤدّيها على الأرض كاملة الأركان ، وجب عليه أن يؤدّيها على الأرض . ويجب عليه استقبال القبلة فى هذه الأحوال كلها متى أمكنه ذلك وإلا صلى حيثما اتجه .
((1/135)
وقالت ) الشافعية : لا تجوز صلاة الفرض على الدابة إلا إذا أمكنه استقبال القبلة والقيام والركوع والسجود والدابة واقفة . فإن كانت سائرة لم تصح على الصحيح . وقيل تصح كالسفينة فإنها تصح فيها الفريضة بالإجماع . ولو كان فى ركب وخاف لو نزل للفريضة انقطع عنهم ولحقه الضرر يصلى الفريضة على الدابة حسب قدرته . وتلزمه إعادتها لأنه عذر نادر وتجوز عند أحمد وإسحاق صلاة الفريضة على الدابة إذا لم يجد موضعا يؤدّيها فيه نازلا ورواه العراقى فى شرح الترمذى عن الشافعى رحمه الله(1).
( وحكى ) النووى الإجماع على عدم جواز صلاة الفريضة على الدابة من غير ضرورة . والأصل فى ذلك حديث يعلى بن مرة أمن النبى صلى الله عليه وسلم انتهى إلى مضيق هو وأصحابه والسماءُ من فوقهم والبِلّة من أسفَل منهم وحضَرت الصلاةُ فأمر المؤذنّ فأقام . فتقدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على راحلته ، فصلى بهم يومئ إيماءً يجعل السجود أخفض من الركوع " أخرجه أحمد والدار قطنى والبيهقى وقال فى إسناده ضعف ، والترمذى وقال غريب . تفرّد به عمر بن الرماح . والعمل على هذا عند أهل العلم . وبه يقول أحمد وإسحاق(2) ... ... ... ... { 173 }
(
__________
(1) ص 317ج1 – تحفة الأحوذى .
(2) ص 126ج3 – الفتح الربانى = ( صلاة الفرض على الراحلة لعذر ) و ص 146 – الدار قطنى . وص 7ج2 – بيهقى ( النزول للمكتوبة ) وص 317ج1 – تحفة الأحوذى وفيه : أنه صلى الله عليه وسلم أذن فى سفر وهو على راحلته وأقام كما تقدم رقم 115ص75 ( هل أذن النبى صلى الله عليه وسلم بنفسه ؟ ) والمراد بالسماء المطر . وبالبلة – بكسر الباء وسد اللام – الوحل .(1/136)
وأما حديث ) النعمان بن المنذر عن عطاء بن أبى رباحٍ أنه سأل عائشة هلى رُخِّص للنساء أن يُصلِّينَ على الدواب ؟ قالت لم يُرخَّصْ لهنَ فى ذلك فى شدة ولا رَخاء . قلا محمد بن شعيب هذا فى المكتوبة . أخرجه أبو داود والبيهقى والدار قطنى وقال : تفرّد به النعمان بن المنذر(1){174}
" فالمراد " بالشدّة فيه العذر الذى لا حرج معه فى الصلاة على الأرض . أما العذر الشديد فيباح معه أداء الفريضة على الراحلة للرجال والنساء إجماعا ، لعموم ما تقدم من الأدلة .
(ج) الصلاة فى السفينة ونحوها : اتفق الأئمة الأربعة على جواز الصلاة فرضا وغيره فى السفينة والقاطرة والطائرة ونحوها ( فإن كانت ) واقفة أو مستقرة على الأرض ، صحت الصلاة فيها وغن أمكنه الخروج منها اتفاقا ، لأنها إذا استقرّت كان حكمها حكم الأرض . ولابد من الركوع والسجود والتوجه إلى القبلة فى كل الصلاة . ويلزم أيضا القيام فى الفرض للقادر عليه ( وإن كانت ) سائرة فغن لم يمكنه الخروج إلى الشط وصلى قائماً بركوع وسجود ، أو قاعداً لعجزه عن القيام – بأن كان يعلم أنه يدور رأسه لو قام – صحت صلاته اتفاقا ( وإن كان ) قادر على القيام أو على الخروج إل ىالشط فصلى فيها قاعدا بركوع وسجود صحت صلاته عند النعمان ( لقول ) ابن سيرين: صلى بنا أنس رضى الله عنه فى السفينة قعودا ، ولو شئنا لخرجنا إلى الجدّ(2)
(
__________
(1) ص 86ج7 – المنهل العذب ( الفريضة على الراحلة من عذر ) وص 7ج2 – بيهقى .
(2) الجد بضم الجيم ، شاطئ النهر . وكذا الجدة ، وبه سمى ثغر مكة " جدة " .(1/137)
وقال ) مالك والشافعى وأحمد وأبو يوسف ومحمد : لا تصح الصلاة فى السفينة من قعود إلا لمن تعذر عليه الخروج وعجز عن القيام ( لحديث ) عِمْران بن حُصَين أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال : " صَلِّ قائما . فإن لم تَسْتَطِعُ فقاعدا . فإن لم تستطع فعلى جنب " أخرجه البخارى والنسائى وزاد : فغن لم تستطع فمستلقياً لا يكلف الله نفسا إلا وسعها(1) ... ... { 175 }
وخذا مستطيع القيام ( وقال ) ابن عمر : " سئل النبى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فى السفينة قال : صلِّ قائما غلا أن تَّخافَ الغرَقَ " أخرجه الدار قطنى والحاكم وقال صحيح الإسناد على شرط مسلم(2) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 176 }
__________
(1) ص 3969ج2 – فتح البارى ( إذا لم يطق قاعدا صلى على جنب ) .
(2) ص 152 – الدار قطنى . وص 275ج1 مستدرك .(1/138)
وهذا هو الراجح لقوّة أدلته . هذا . وإذا دارت السفينة ونحوها فى أثناء الصلاة استدار إلى القبلة حيث دارت إن أمكنه ، لأنه قادر على تحصيل هذا الشرط بغير مشقة . فيلزمه تحصيله اتفاقا . فغن عجز عن الاستقبال صلى إلى جهة قدرته ولا إعادة عليه عند الأئمة الثلاثة ( وقالت ) الشافعية : إن هبت اريح وحوّلت السفينة فتحوّل صدره عن القبلة ، وجب ردّه إلى القبلة ويبنى على صلاته ، بخلاف ما لو كان فى البر وحوّل إنسان صدره عن القبلة قهرا فإنها تبطل صلاته . والفرق أن هذا ف البر نادر وفى البحر غالب ، وربما تحوّلت ف ساعة واحدة مرارا(1). وما تقدّم م التفصيل والبيان يجرى فى الصلاة فى القاطرة والطائرة " وما قيل " من أنه لا تصح الصلاة فى الطائرة ، لأنه يشترط فى السجود أن يكون على الأرض أو متصل بها " غير صحيح " لأن هذا بالنسبة لمن وقف بمكان وسجد على مرتفع أمامه ( قال ) العلامة الدسوقى : وأما السجود على غير المتصل بالأرض كسرير معلق ، فلا خلاف فى عدم صحته ، أى والحال أنه غير واقف فى ذلك السرير وإلا صحت كالصلاة فى المحمل(2).
( التاسع ) أركان الصلاة
هى جمع ركن . وهو لغة الجانب القوى . ومنه قوله تعالى حكاية عن سيدنا لوط عليه الصلاة والسلام : { أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ(3)} واصطلاحا ما تتوقف عليه صحة الماهية وكان جزءا ذاتيا لها . وللصلاة أركان . المذكور منها هنا ستة عشر :
(
__________
(1) ص 242ج3 – شرح المهذب .
(2) ص 200ج1 حاشية الدسوقى على كبير الدردير ( مكروهات الصلاة ) .
(3) سورة هود : أية 80 .(1/139)
1 ) النية : هى لغة العزم . وشرعا العزم على الشئ مقترناً بفعله .وصحت فى الصوم مع عدم المقارن للضرورة . فإنه يشق على الصائم مراقبة الفجر وهى ركن فى الصلاة عند المالكية والشافعية . وشرط عند الحنفيين وأحمد لقوله تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ(1)} فإن الإخلاص هو النية ، لأنه علم من أعمال القلب ، ولحديث : " إنما الأعمال بالنيات " أخرجه الشيخان عن عمر(2) ... ... { 177 }
أى صحتها بالنية . وقد أجمع العلماء على أنها فرض فى الصلاة وغيرها من مقاصد العبادات . ولابد من التعيين فى الفرض اتفاقا . كأن ينوى ظهرا أو عصرا وكذا الواجب عند الحنفيين كوتر وعيد وركعتى الطواف (وعند الشافعية ) لابد من تعيين الفرض بنية الفرضية ، وقصد الفعل وتعيين الصلاة ، بأن يقصد إيقاع صلاة فرض الظهر مثلا . ولابد أن يكون ذلك مقارنا لجزء من تكبيرة الإحرام ( وعند ) الحنفيين يشترط لصحة النية أن تكون سابقة تكبيرة الإحرام بلا فاصل أجنبى من الصلاة كالأكل والشرب والكلام . أما غير الأجنبى من الصلاة كالوضوء والمشى لها ، فلا يضر الفصل به ( وعند ) المالكية والحنبلية : يصح تقدم النية على التحريمة بزمن يسير عرفا .
( ويكفى ) مطلق النية فى صلاة النفل ولو راتبة أو تراويح عند الحنفيين إلا أن الأحوط فى صلاة التراويح أن ينوى التراويح أو سنة الوقت أو قيام الليل .
( وقالت ) المالكية : يلزم التعيين فى السنة المؤكدة كالوتر والعيدين والكسوف والاستسقاء . وكذا فى الرغيبة " وهى صلاة فجر " ويكفى مطلق النية فى المندوبات كالرواتب والضحى والتراويح والتهجد .
(
__________
(1) سورة البينة : أية 5 .
(2) انظر رقم 29ص 106ج8 – الدين الخالص ( شروطه صحة الزكاة ) .(1/140)
وقالت ) الشافعية : إن كانت النافلة لها وقت معين كالرواتب والضحى ، أولها سبب كصلاة الاستسقاء والكسوف ، فلابد من قصدها وتعيينها بأن ينوى سنة الظهر القبلية أو البعدية . ولابدّ من مقارنة ذلك لجزء من التحريمة . أما النفل المطلق فيكفى فيه مطلق قصد الصلاة حال النطق بأي جزء من أجزاء التحريمة ( وقالت ) الحنبلية : يشترط التعيين فى الرواتب وصلاة التراويح . ويكفى فى النفل المطلق نية مطلق الصلاة .
هذا . ولا يشترط نية الفرضية فى الفرض عند غير الشافعية . ولا نية النفلية فى النفل ، ولا نية عدد الركعات ، ولا الأداء لقضاء اتفاقا . ولا يضر الغلط فى عدد الركعات عند الحنفيين ومالك فمن نوى الظهر مثلا خمس ركعات ، فإن كان متعمدا بطلت صلاته عند غير الحنفيين وكذا عندهم إن لم يقعد على راس الرابعة ثم يسلم. وإن قعد وسلم صحت صلاته ولغت نية الخامسة .وإن كان غالطا وصلاها أربعا ، صحت عند الحنفيين ومالك .(1/141)
هذا . ويشترط أيضا فى حق المأموم أن ينوى الاقتداء بأن ينوى متابعة الإمام فى أوّل الصلاة . فلو أحرم شخص بالصلاة منفردا ثم وجد إماما فنوى الاقتداء به لا تصح صلاته عند الحنفيين ومالك ( وقالت ) الشافعية : إذا نوى الاقتداء فى أثناء الصلاة صحت إلا فى صلاة الجمعة ، وما جمعت جمع تقديم للمطر . فإنه لابد أن ينوى الاقتداء فيهما أول صلاته . وإلا فلا تصح ( وقالت ) الحنبلية : يشترط فى صحة صلاة المأموم أن ينوى الاقتداء بالإمام أول الصلاة غلا إذا كان مسبوقا ، فله أن يقتدى بعد سلام إمامه بمسبوق مثله فى غير الجمعة . وكذا إذا اقتدى مقيم بمسافر يقصر الصلاة ، فله أن يقتدى بمقيم مثله بعد فراغ الإمام ( وأما ) نية الإمام الإمامة فشرط فى كل صلاة عند الحنبلية وتكون فى أول الصلاة إلا فى الصورتين السابقتين ( وقال ) الحنفيون : نية الإمام الإمامة شرط لحصول الثواب له . ولا يلزمه نيتها إلا إذا كان إماما للنساء ، فإنه يشترط لصحة اقتدائهن به أن ينوى إمامتهن ( وقالت ) المالكية : يشترط نية الإمامة فى كل صلاة تتوقف صحتها على الجماعة وهى : الجمعة ، والمغرب والعشاء المجموعتان جمع تقديم ليلة المطر ، وصلاة الخوف ، وصلاة الاستخلاف . فلو ترك نية الإمامة فى الأوليين بطلتا . وإن تركها فى صلاة الخوف بطلت على الطائفة الأولى لمفارقتها فى غير محل المفارقة . وصحت فى حق الإمام والطائفة الثانية . والخليفة إن نوى الإمامة صحت له وللمأمومين . وإن لم ينوها صحت صلاته وبطلت صلاة المأمومين ( وقالت ) الشافعية : يجب على الإمام أن ينوى الإمامة فى أربع مسائل :
((1/142)
أ) الجمعة (ب) الصلاة المجموعة للمطر جمع تقديم ، فإنه يلزمه أن ينوى الإمامة فى الثانية منهما دون الأولى ، لأنها وقعت فى وقتها (ج) الصلاة المعادة فى القوت فلابد للإمام فيها من نية الإمامة (د) الصلاة التى نذر أن يصليها جماعة ، فيلزمه أن ينوى فيها الجماعة . فإن لم ينوها صحت ، ولا يزال آثما حتى يعيدها جماعة ناوياً الإمامة .(1/143)
هذا ما قاله الفقهاء . والثابت بالدليل أن شرط النية ، عمله بقلبه أىّ صلاة يصلى . هذا . والنية محلها القلب. ولم يرد التلفظ بها عن أحد ممن يقتدى بهم ، ولا عبرة باللسان وغن خالف القلب ( قال ) ابن الهمام : قال بعض الحفاظ : لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق صحيح ولا ضعيف ، أنه كان يقول عند الافتتاح : أصلى كذا ، ولا عن أحد من الصحابة والتابعين . بل المنقول أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة كبر . وهذه بدعة أهـ(1)( وقال ) ابن نجيم : وزاد فى شرح المنية أنه لم ينقل عن الأئمة أيضا أهـ(2)(وقال ) الشيخ منصور الحنبلى : والتلفظ بالنية فى الوضوء والغسل وسائر العبادات بدعة . ويكره الجهر بها وتكريرها . قال الشيخ تقى الدين : اتفق الأئمة على أنه لا يشرع الجهر بها وتكريرها ، بل من اعتاده ينبغى تأديبه. والجهر بها مستحق للتعزير بعد تعريفه لاسيما إذا آذى به أو كرره . والجهر بها منهى عنه عند الشافعى وسائر أئمة المسلمين . وفاعله مسئ . ويجب نهيه ويعزل عن الإمامة عن لم ينته(3)( وقال ) العلامة أبو بكر العامرى : ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم منطوقاً ولا مفهوما أنه تلفظ بالنية ولا بالمنوى ولا دَخَلَ فى الصلاة بغير التكبير. وأما ما اعتاده الناس أمام التكبير من الشغل بالأشياء التى تشترط نيتها كقصد فعل الصلاة وتعيينها ومفروضها فلا بأس به . ولا كلام أنه إن تكلم بلسانه من غير نية لم يجزه . وإن نوى بقلبه وتكلم بالتكبير فقط كما هو المنقول عنه صلى الله عليه سلم ، أجزأه وبعض الناس يزيد فى التحريم ألفاظا .
__________
(1) ص 186ج1 – فتح القدير ( شروط الصلاة ).
(2) ص 278ج1 – البحر الرائق .
(3) ص 63ج1 – كشاف القناع ( الوضوء ) .(1/144)
فيذكر النية واستقبال القبلة وعدد الركعات فى تطويل وتهويل أحدثوه ، لم يد به كتاب ولا سنة ولا أثر عمن تصح به القدوة " ومما أحدث " أيضاً وعم العلم به حتى توهم كثير من الناس أنه سنة أو واجب " ما اعتاده " المأمومون بأجمعهم من التكبير لتكبير إحرام إمامهم . ثم يعودون ينظمون الألفاظ ويكررونها لإحرام أنفسهم حتى يطول الفصل وتفوته فضيلة إدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام وما أحسن تلك التكبيرة الزائدة لو كانت عقب إحرامهم وأدركوا بها الفضيلة أهـ بتصرف(1)( وقال ) ابن الحاج : لا يجهر إمام ولا مأموم ولا فذّ بالنية ، فإنه لم يرو أنّ النبى صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء ولا الصحابة رضوان الله عليهم ، جهروا بها فكان بدعة(2)( وقال ) ابن القيم : كان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة قال : الله أكبر ولم يقل شيئا قبلها ولا تلفظ بالنية ألبتة ، ولا قال أصلى لله صلاة وكذا مستقبل القبلة أربع ركعات إماماً أو مأموماً أداء أو قضاء ولا فرض الوقت . وهذه عشر بدع . لم ينقل عنه أحد قط بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مُسنّد ولا مرسَل ، لفظة واحدة منها ألبتة بل و لا عن أحد من أصحابه ولا استحسنه أحد من التابعين ولا الأئمة الأربعة وإنما غرّ بعضَ المتأخرين قولُ الشافعى رضى الله عنه فى الصلاة : إِنها ليست كالصيام ولا يدخل فيها إلا بذكر . فظنّ أن الذكر تلفظ المصلى بالنية . وإنما أراد الشافعى رحمه الله بالذكر تكبيرة الإحرام ليس إلا . وكيف يستحب الشافعى أمراً لم يفعله النبى صلى الله عليه وسلم فى صلاة واحدة ولا أحد من خلفائه وأصحابه . وهذا هديهم وسيرتهم . ولا هَدّىَ أكمل من هديهم . ولا سُنة إلا ما تلقوه عن صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم(3).
(
__________
(1) ص 309ج2 – بهجة المحافل ( صلاة سلف الصالحين ) .
(2) ص103ج2 مدخل ( دخوله فى الصلاة ) .
(3) ص 51ج1 – زاد المعاد ( هديه صلى الله عليه وسلم فى الصلاة ) .(1/145)
2) التحريمة : هى ركن عند الجمهور . وشرط صحة فى غير جنازة للقادر عليها – وليست ركنا على الصحيح – عند الحنفيين " وإنما اشترط لها " ما اشترط للصلاة من الطهارة وستر العورة والاستقبال وغيرها " لا تصالها " بالقيام الذى هو ركن . وقد ثبتت فرضيتها بالكتاب والسنة وإجماع الأمّة .
قال الله تعالى : { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ }(1)أجمع العلماء على أنّ المراد به تكبيرة الإحرام ، لأن الأمر للوجوب وغيرها ليس بواجب ( وعن ) على بن أبى طالب رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " مِفْتاح الصلاة الطُّهورُ وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم " أخرجه الشافعى وأحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه والترمذى وقال : هذا أصح شئ فى هذا الباب وأحسن(2) ... ... { 178 }
__________
(1) سورة المدثر : أية 3 .
(2) انظر رقم 139 ص 68ج1 – بدائع المنن ( صفة الصلاة ) وص 159ج3 – الفتح الربانى ( افتتاح الصلاة ) وص 211ج1 - المنهل العذب ( فرض الوضوء ) وص 5ج5 منه ( تحريم الصلاة وتحليلها ) وص 60ج1 – ابن ماجه ( مفتاح الصلاة الطهور ) وص 132ج1 – مستدرك وص 12 = ج1 تحفة الأحوذى . والمعنى أن الطهور أوّل شئ يبتدأ به من أعمال الصلاة لكونه شرطا ن شروط صحتها ( والطهور ) بضم الطاء اسم الفعل وهو التطهر بالماء أو التراب . ويحتمل أن يكون بفتح الطاء اسما لما يتطهر به .(1/146)
وبقوله ( وتحريمها التكبير ) استدل الجمهور على أن افتتاح الصلاة إنما يكون بالتكبير دون غيره من الأذكار ( ويتعين ) فيه لفظ الله أكبر عند مالك وأحمد واكثر السلف ، لأن أل فى التبكير للعهد . والمعهود هو التكبير الذى نقلته الأمة خلفا عن سلف عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوله فى كل صلاة ولم يقل غيره ولا مرة واحدة ( ولحديث ) رفاعة بن رافع أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " إنه لا تتمّ صلاة لأحد من الناس حتى يتَوضأَ فيَضعَ الوُضوءَ مواضعه ثم يكبرُ " (الحديث) أخرجه أبو داود(1) ... ... ... ... ... ... ... { 179 }
( وقال ) الشافعى : يتعين أحد اللفظين الله أكبر أو الله الأكبر ، لأن المعرّف ف معنى المنكّر. فاللام لم تخرجه عن موضوعه . بل هى زيادة فى اللفظ غير مخلة بالمعنى ( وقال ) أبو يوسف : يتعين ألفاظ التكبير وهى الله الكبير ، والله أكبر ، والله الأكبر ، والله كبير ، والله الكُبَّّار كرمّان ويخفف لدخول ذلك كله تحت قوله : وتحريمها التكبير ( وقال ) النعمان ومحمد : يصح الشروع فى الصلاة بكل ذكر خالص دال على تعظيم الله تعالى لقوله : { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى(2)} المراد ذكر اسم الرب لافتتاح الصلاة لأنه عطف صَلىّ على ذكَرَ بالفاء الدال على التعقيب بلا فاصل . والذكر الذى تعقبه الصلاة بلا فاصل هو التحريمة . ولإطلاق الآية قالا : يصح الشروع بما ذكر . فلو شرع بغير التبكير ، بأن قال الله أجل أو أعظم ، أو الرحمن أكبر أو تبارك الله أو سبّح او هلّل ، صح مع الكراهة التحريمية ، لحديث " وتحريمها التبكير" ونحوه . وهو حديث آحاد يفيد الوجوب . ولمواظبة النبى صلى الله عليه وسلم على الافتتاح بالله أبكر .
(
__________
(1) ص 303ج5 – المنهل العذب ( صلاة م يقيم صلبه فى الركوع ) .
(2) سورة الأعلى : أية 15 .(1/147)
وجملة القول ) أنّ الثابت بالنص عندهم الافتتاح بذكر خالص يدل على التعظيم . ولفظ التكبير ثبت الدليل ظنى يفيد الوجوب . فيكره تحريما الافتتاح بغيره لن يحسنه . وخرج بالذكر الخالص غيره . فلا يصح الشروع فى الصلاة بنحو اللهم أغفر لى ، لأنه مشوب بالدعاء ، ولا بالتعوّذ والحوقلة ، لنهما فى معنى الدعاء . ولا البسملة لأنهما للتبرك .
هذا . ويشترط لصحة التحريمة تسعة شروط : ( 1 ) أن تكون متصلة بالنية حقيقة أو حكما كما لو وجد فاصل غير أجنبى من الصلاة كالوضوء على ما تقدم بيانه فى النية (2) الإتيان بها قائما أو منحنيا قليلا فيما يلزم فيه القيام . فإن أتى بها منحنياً قليلا ل يضر ، خلافاً للمالكية حث قالوا ببطلانها إذا أتى بها غيرُ المسبوق منحنياً ولو قليلا . أما المسبوق إذا ابتدأ التكبير من قيام حال الانحناء بلا فصل فصلاته صحيحة . ويعتد بالركعة على القول الراجح . وإن ابتدأ التكبير حال الانحناء صحت صلاته ولا يعتدّ بالراكعة .
وإن أتى بالتحريمة منحنياً وهو إلى الركوع أقرب ، لا تصح صلاته خلافاً للحنبلية حيث قالوا تصح ما لم يكن راكعاً أو قاعدا . فإن أتى بها من قعود أو ابتدأها قائما وأتمها راكعا انعقدت نفلا واستأنف الفرض .
((1/148)
3) النطق بها بحيث يسمع نفسه إن أمكن ( وقالت ) المالكية : لا يشترط إسماع نفسه ولو لم يكن مانع كصمم وضوضاء . ولا يلزم الأخرس ولا الأمى تحريك اللسان بها . بل يكفيهما مجّرد النية عند المالكية والحنبلية وهو الصحيح عند الحنفيين وكذا إن كان الخرس أصليا عند الشافعية . وإن كان طارئا فلا بد عندهم من تحريك لسانه وشفتيه بالتكبير ... (4) أن تكون بجملة عربية صحيحة إن كان قادرا عليها عند الأئمة الثلاثة وهو المشهور عند الحنفيين . لكن قال العلامة ابن عابدين : ولو كبر بالفارسية أو بأى لسان – سواء أكان يسحن العربية أم لا – جاز بالاتفاق(1)(5) ألاّ يمدّ همزا فيها ولا باء أكبر . فإن فعل بطلت صلاته عند الجمهور وعند المالكية لا يضر مدّ الهمزة إلا إذا قصد الاستفهام ، ولا مدّ باء أكبر إلا إذا قصد به جمع كَبَر بفتحتين . وهو الطبل له وجه واحد .
(6) عدم حذف الهاء من لفظ الجلالة .
(7) ألاّ يأتى لا بواو متحركة بين الكلمتين بأن يقول الله وأكبر ، أما زيادة واو ساكنة ناشئة م إشباع الهاء فلا يضر خلافا للحنبلية ( وقالت ) الشافعية : يغتفر للعامى زيادة واو متحركة أو ساكنة ولو بلا عذر .
(8) ألاّ يشرع فيها المأموم قبل فراغ إمامه منها عند الجمهور ( لحديث ) أبى هريرة أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال : " إنما جّعِل الإمامُ لِيؤتمّ به . فإذا كبر فكبروا ولا تكبروا حتى يكبر " (الحديث) أخرجه أحمد وأبو داود(2) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 180 }
( وقالت ) المالكية : يشترط أن يبدأ التحريمة بعد بدء الإمام وألاّ يختمها قبله .
(
__________
(1) ص 358ج1 – رد المحتار .
(2) ص 197ج3 – الفتح الربانى ( قراءة المأموم وإنصاته ) وص 330ج4 المنهل العذب ( الإمام يصلى من قعود ) .(1/149)
9) الموالاة فى النطق بين لفظى التحريمة عند من يرى تعين لفظ الله أكبر بحيث لا يفصل بين لفظى الله وأكبر بكلام طويل أو قصير أو سكوت طويل عرفا عند المالكية ( وقالت ) الشافعية : يضر الفصل بسكوت زائد على سكتة النفس والعىّ ، وبكلام أجنبى أو بذكر ليس وطبقاً لله ولو قصيرا . أما الفصل بوصف للفظ الجلالة ، فلا يضر إن لم يزد على كلمتين ، كأن يقول : الله الرحمن الرحيم أبكر . ولا يضرك الفصل بأداة التعريف .
((1/150)
فائدة ) يسن للمأموم والمنفرد الاقتصار فى التكبير على ما يسمع نفسه فقط . ويسن للإمام رفع صوته به بقدر ما يسمع المأمومين . ويكره له الجهر أزيد من ذلك ( ومن البدع ) السيئة ما يفعله كثير ممن استحكم عليهم تلبيس إبليس من الجهر بالتكبير والتهويش على المصلين . فقد عدلوا فى ذلك عن المشروع وجانبوا المنقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وصاروا يرفعون أصواتهم بالتكبير ويردد أحدهم التحريمة ويلتوى حتى كأنه يحاول أمراً فادحا ، أو يتسوغ أُجاجا مالحا . ويكرر التكبير حتى تفوته الفتحة بل الركعة بل الصلاة جملة . فيقع فى الخيبة والحرمان ، ويبلغ الشيطان منه مراده ويؤذى من حوله بالجهر بالتكبير وترديده . ويظن أنه لا يسمع نفسه إلا بذلك فيتضاعف وزره . وقد بلغ الشيطان منهم أن أغواهم وأخرجهم عن سلوك طريق نبيهم صلى الله عليه وسلم . فصاروا من المتنطعين الغالين فى الدين الذين ضل سعيهم فى العقل أو جهل بالسنة. وفيه اقتدى الجاهلون بالمهملين ( قال ) عماد الدين يحيى العامرى : قلا السيد الجليل أحمد بن عطاء الرُّوذَبارى(1): كنت أستقصى فى أمر الطهارة حتى ضاق صدرى ليلة لكثرة ما صببن من الماء ولم يسكن قلبى . فقلت : يارب عفوَك عفوَك . فسمعت هاتفاً يقول : العفو فى العلم . فزال عنى ذلك. وَنَعَم لقد صدق " فلو تأمل " الموسوسون أحوال النبى صلى الله عليه وسلم وتعرفوها ، وعلموا تيسيره وأنه لم ينقل عنه أنه تردّد فى التكبير ولا تلفظ بقول أصلى ولا غيره سوى التكبير " لرأوا " ما هم فيه من ضلال وخروج عن حدّ الاعتدال . وقد أوجب الله علينا اتباعه صلى الله عليه وسلم فى الأفعال والأقوال .
__________
(1) الروذبارى ، بضم الراء وفتح الذال المعجمة والباء الموحدة : نسبة إلى روذبار ، مدينة بالشام .(1/151)
قال تعالى: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(1)} وقال : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ(2)} وأخبر تعالى أن الشيطان واقف لما بالمرصاد ، يمنع عن الطاعات ، ويرغِّب فى المخالفات : { قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ . ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ(3)} وقد أمرنا الله تعالى بالرجوع على الكتاب والسنة عند التنازع فقال : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً(4)} وقال : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً(5)} وقال : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا(6)} فقد حتم الله على الخلق اتباعه صلى الله عليه وسلم فى أحكام الشريعة وإن لم تكن على هوى الأنفس . ففى الحديث " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئتُ به " ذكره النووى فى كتاب الحجة بسند صحيح(7)
__________
(1) سورة آل عمران : أية 31 .
(2) سورة الأنعام : أية 153 .
(3) سورة الأعراف : أية 16 ، 17 .
(4) سورة النساء : أية 59 وأولها : ( يأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) .
(5) سورة النساء . أية 65
(6) سورة الحشر : أية 7 .
(7) وأخرجه الحاكم وغيره عن ابن عمرو . انظر رقم 46 ص 73 فتاوى أئمة المسلمين ..(1/152)
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 181 }
( وقال ) السيد الجنيد بن محمد البغدادى : الطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفى أثر النبى صلى الله عليه وسلم . إذا علمت أيها الموسوس ما ذكر ، ثبت عندك أن الصلاة النبى صلى الله عليه وسلم وصلاة أصحابه والسلف الصالح ، كانت خالية عن مثل ما استحدثه جهلك أو سوء رأى من اقتديت به . فتخل عنه وتحل بهدى النبى صلى الله عليه وسلم فإنه ليس بعد الحق إلا الضلال . ولا خير فى صلاة اشتملت على بدعة أو ترك فيها سنة. قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً(1)} هذا . وقد علمت أن هذه الوساوس من من تلبيس إبليس . وطريق دفعها أن يذكر الله تعالى ويتعوذ بالله من الشيطان ويتفل عن يساره ثلاثا ( قال ) عثمان بن أبى العاص رضى الله عنه : يا رسول الله إن الشيطان قد حال بينى وبين صلاتى وقراءتى يَلْبسها علّى . فقال صلى الله عليه وسلم : ذاك شيطان يقال له خَنْزَبُ فإذا أحسته فتعوذ بالله منه واتْفل عن يسارك ثلاثا ، ففعلتُ ذلك فأذهبه الله عنى " أخرجه أحمد ومسلم(2) ... ... ... { 182 }
(
__________
(1) سورة الأحزاب : أية 21 أهـ ملخصا من ص 311 – 315ج2 – بهجة المحافل .
(2) ص 139ج4 – الفتح الربانى ( وسوسة الشيطان للمصلى .. ) وص 189 ج14 – نووى ( التعوذ من شيطان الوسوسة فى الصلاة ) و (يلبسها) بفتح فسكون فكسر : أى يخلطها علّى ويشككنى و ( خنزب ) بتثليث الخاء وسكون النون وفتح الزاى ، لقب للشيطان . والخنزب فى الأصل قطعة لحم منتنة .(1/153)
وقال ) أبو زُمَيل : قلت لابن عباس ما شئ أجده فى صدرى ؟ قال : ما هو ؟ قلت والله لا أتكلّم به . فقال لى أشئ من شك ؟ إذا وجدت فى نفسك شيئاً فقل : { هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أخرجه أبو داود(1)( وقال ) النووى : يستحب قول لا إله إلا الله لمن ابتلى بالوسوسة فى الوضوء والصلاة وأشباههما ، فإن الشيطان إذا سمع الذكر خنَس . ويؤيده حيدث الحارث الأشعرى : أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال : " إنّ الله أمرَ يحيى بنَ زكريا بخمس كلمات ، أن يعمل بها ويأمر بنى إسرائيل أن يعملوا بها (الحديث) وفيه : وأمرَكم بذكر الله كثيرا . فإن مثَل ذلك كمثَل رجل طلبه العدوّ سِراعا فى أثره ، فأتى حِصْناً حصينا فتحصن فيه . وإن العبدَ أحصنُ ما يكون من الشيطان إذا كان فى ذكر الله " أخرجه أحمد والنسائى والترمذى . وقال : حسن غريب صحيح(2) ... ... ... ... ... ... { 183 }
ومما يدفع الوَسواس ، قراءة المعوذتين . فإن لهما تأثيرا عجيبا فى دفع شر الشيطان والتحصن منه ( قال ) أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوّذ من الجانّ وعينِ الإنسان حتى نزلت المعوذتان . فأخذ بهما وترك ما سواهما " أخرجه الترمذى وحسنه(3) ... ... { 184 }
__________
(1) انظره تاما ص 309ج4 – سنن أبى داود ( ردّ الوسوسة – أبواب النوم ) و ( أبو زميل ) بالتصغير – سماك بن الوليد .
(2) ص 130ج4 – مسند أحمد . وص 37ج4 – تحفة الأحوذى ( مثل الصلاة والصيام والصدقة ) ويأتى الحديث تاما بهامش ص 225ج3 – الدين الخالص ( الالتفات فى الصلاة ( إن شاء الله .
(3) ص 165ج3 – تحفة الأحوذى ( الرقية بالمعوّذتين ) .(1/154)
ومما يدفع الوسواس . قراءةُ آية الكرسى . ففى حديث أبى هريرة : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آيةَ الكرسى. فإنه لن يزالَ عليك من الله حافظ ولا يقربُك شيطان حتى تُصبِحَ(الحديث)أخرجه البخارى مطولا(1){185}
(3) القيام : هو ركن فى الفرض للقادر عليه إجماعا ، لقوله تعالى : { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ(2)} أى مطيعين . والمراد القيام فى الصلاة بإجماع المفسرين ( ولقول ) عمِران بن حُصيْن رضى الله عنه : " كانت بى بَواسيرُ فسألتُ النبى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال : صل قائماً . فإن لم تستطع فقاعدا . فإن لم تستطع فعلى جَنْب " أخرجه البخارى والنسائى وزاد : فغن لم تستطع فمستلقيا " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها(3)" وهو ركن أيضاً عند الحنفيين فى الواجب وما ألحق به كسنة الفجر للقادر عليه وعلى الركوع والسجود .
وحدّه أن يقف منتصباً بحيث لو مدّ يديه لا ينال ركبتيه . وهو فرض من التحريمة إلى الركوع عند الجمهور ( وقالت ) المالكية : هو فرض فى صلاة الفرض للتحريمة وقراءة الفاتحة والهوىّ للركوع . وسنة حال قراءة السورة . فلو استند حال قراءتها إلى ما لو أزيل لسقط ، لا تبطل. لكنه إذا جلس وقت قراءتها بطلت صلاته، لإخلاله بهيئة الصلاة .
__________
(1) ص 212ج6 = فتح البارى ( صفة إبليس وجنوده –بدء الخلق ) وسيأتى تاما إن شاء الله تعالى فى بحث ( الدعاء والاستغفار بعد الصلاة ) .
(2) سورة البقرة عجز أية : 238 وأولها : حافظوا على الصلوات .
(3) تقدم رقم 175 ص 125 ( الصلاة فى السفينة ) .(1/155)
هذا . ومن قدر على القيام دون الركوع والسجود ، لزمه القيام عند الجمهور ( وقال ) الحنفيون : يخير بين القيام والقعود وهو أفضل . ومن ضعُف عن القيام ، لزمه القيام معتمدا على نحو عصا ، عند الحنفيين وأحمد وجماعة من الشافعية ( لحديث ) أم قيس بنت فُحْصَنٍ أنّ النبى صلى الله عليه وسلم لما أسَنَ وحمَل اللحم اتخذ عمودا فى مُصلاّه يعتِمد عليه " أخرجه أبو داود .
وفى سنده عبد الرحمن بن صخر . قال فى التقريب مجهول(1) ... ... ... { 186 }
ولا يلزمه القيام مستندا عند المالكية والقاضى حسين الشافعى بل يستحب . وإن كان الاعتماد لغير عذر ، فالصلاة صحيحة مع الكراهة عند الحنفيين ( وقالت ) المالكية وجمهور الشافعية والحنبلية : تبطل الصلاة لو كان الاستناد إلى ما لو أزيل لسقط المصلِّى وهذا كله فى المكتوبة . وأما التطوّع فيجوز الاعتماد فيه بلا كراهة عند الجمهور . وحكى عن ابن سيرين كراهته . وهو قول للحنفيين .
(
__________
(1) ص 53ج6 – المنهل العذب ( الرجل يعتمد فى الصلاة على عصا ) .(1/156)
فائدة ) اختص النبى صلى الله عليه وسلم بجواز صلاة الفرض قاعدا بلا عذر(1). وبأن تطوّعه قاعدا بلا عذر كتطوّعه قائما فى الأجر ( لقول ) ابن عمرو رضى الله عنهما : " حُدِّثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : صلاةُ الرجل قاعدا نصفُ الصلاة فأتيتُه فوجدتُه يصلى جالسا فوضعتُ يدى على رأسه فقال : مالك يا عبد الله بن عمرو ؟ قلت : حُدّثت يا رسول الله أنك قلت : صلاة الرجل قاعدا نصف الصلاة وأنت تصلى قاعدا . قال أجَلْ ولكنى لست كأحد منكم " أخرجه مسلم وأبو داود والنسائى(2) ... ... ... { 187 }
وهو محمول على صلاة النفل قاعدا مع القدرة على القيام . أما صلاة الفرض قاعدا مع القدرة على القيام ، فلا تصح . ويكون آثما . وإن استحله كفر وجرى عليه أحكام المرتدين . وإذا صلى الفرض أو النفل قاعدا لعجزه عن القيام ، فثوابه كثواب القائم ( لحديث ) أبى موسى رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " إذا مرض العبد أو سافر ، كتب الله له ما كان يعمله وهو صحيح مقيم " أخرجه البخارى(3) ... ... { 188 }
(
__________
(1) ذكره المناوى فى شرح الخصائص .
(2) ص 14ج6 – نووى ( جواز النافلة قامئا وقاعدا ) وص 56ج6 – المنهل العذب ( صلاة القاعد ) وص 245ج1 – مجتبى ( فصل صلاة القائم على القاعد ) ( فوضعت يدى ... ) أى بعد فراغه صلى الله عليه وسلم من الصلاة قال القارى : وإنما وضعها ليتوجه إليه ، وكأنه كان هناك مانع من أن يحضر بين يديه . ومثل هذا لا يسمى خلاف الأدب عند العرب ، لعدم تكلفهم وكمال تألفهم أهـ وفى رواية أبى داود : فوضعت يدى على رأسى . فعله تعجبا وليلتفت إليه و ( أجل ) كنعم وزنا ومعنى .
(3) ص 83ج6 – فتح البارى ( يكتب للمسافر ما كان يعمل فى الإقامة – الجهاد ) .(1/157)
4) القراءة : هى فرض على من قدر عليها بالعربية إماما ومنفردا اتفاقا ، وفى أحكامها تفصيل عند الأئمة ( قال ) الحنفيون : هى فرض على غير أمىّ وأخرس ومأموم فى ركعتين غير معينتين من الفرض . وفى كل ركعات النفل والوتر . وفرضها عند النعمان آية لو قصيرة مركبة من كلمتين كآية " ثمَّ نظَرَ " أما المركبة من كلمة "كَمُدْهَاَّمتَان(1)" فالأصح أنها لا تكفى ( وقال ) أبو يوسف ومحمد : فرضها ثلاث آيات قصار أو آية طويلة تعِدلها. والمفروض عندهم مطلق القراءة لا قراءة الفاتحة بخصوصها،لقوله تعالى: { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآن(2)ِ } ( ولحديث ) أبى هريرة أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال : " لا صلاةَ إلا بقراءة " أخرجه أبو الحسن رزين بن معاوية(3) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 189 }
( ولحديث ) أبى هريرة أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال للمسئ صلاته :
__________
(1) تثنية مدهامّة ، من الداهمة وهى السواد ، أى خضراوان تضربان إلى السواد لكثرة بساتينهما .
(2) المراد القراءة فى الصلاة ، لأنها المكلف بها .
(3) ص 144ج2 – تيسير الوصول ( القراءة ) ذكره رواية فى حديث أبى هريرة(1/158)
" إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن(1)( وقالت ) الحنبلية : تفترض القراءة على غير مأموم فى كل ركعات الفرض والنفل . وهو الصحيح عند المالكية ( لقول ) جابر رضى الله عنه : " من صلّى ركعةً لم يقرأْ فيها بأمّ القرآن فلم يُصلِّ إلا أن يكون وراءَ الإمام " أخرجه الترمذى وقال حسن صحيح(2)قال أحمد : فهذا صحابى تأوّل قول النبى صلى الله عليه وسلم : لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب أنّ هذا إذا كان وحده . واختار أحمد مع هذا القراءة خلف الإمام(3)( وقالت ) الشافعية : تفترض القراءة على كل مصلى فى كل ركعة ، لقوله صلى الله عليه وسلم للمسئ صلاته–من حديث أبى هريرة -: " ثم أفعل ذلك فى صلاتك كلها(4)" وفى رواية لأحمد والبيهقى " ثم أفعل ذلك فى كل ركعة " ( وعن ) مالك بن الحُويرث أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قلا : " صلوا كما رأيتمونى أصلى " أخرجه البخارى(5) ... ... { 190 }
وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يقرأ الفاتحة فى كل ركعة ( قال ) أبو قتادة رضى الله عنه : " كان النبى صلى الله عليه وسلم يقرأ فى الركعتين الأولَييْنِ من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورةٍ ويُسمِعُنا الآية أحيانا، ويقرأ فى الركعتين الآُخْرَيْين بفاتحة الكتاب " أخرجه مسلم(6) ... ... ... ... { 191 }
__________
(1) تقدم رقم 159 ص 111 ( استقبال القبلة ) .
(2) ص 261ج1 – تحفة الأحوذى ( ترك القراءة خلف الإمام إذا جهر بالقراءة ) .
(3) ص 257منه .
(4) تقدم رقم 159 ص 111.
(5) هذا بعض حديث ص 76ج2 – فتح البارى ( الأذان للمسافرين ) .
(6) ص 172ج4 – نووى ( القراءة فى الظهر والعصر ) .(1/159)
هذا . وتتعين الفتحة للقادر عليها عند مالك والشافعى وأحمد والجمهور لحديث عُبادةَ بن الصامت أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال : " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " أخرجه أحمد والشيخان والنسائى(1){ 192 }
وجه الدلالة أنّ النفى فى قوله : لا صلاة ، متوجه إلى ذات الصلاة ، لأنّ المراد الصلاة الشرعية . وهى تنتفى بفقد جزء منها كما تنتفى بإنتفاء الكل . ويحتمل توجه النفى إلى صحة الصلاة أو إجرائها – لا إلى كمالها – لأنّ نفيتهما أقرب إلى نفى الحقيقة ، ولأنّ نفيهما يستوجب نفى الكمال من غير عكس ، ( ولحديث ) عبادة بن الصامت رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قلا : " لا تجزئ صلاة لا يقرأ الرجل فيها بفاتحة الكتاب " أخرجه الدار قطنى وقال إسناده صحيح(2) ... ... ... ... ... ... ... ... { 193 }
( وأجابوا ) عن أدلة الحنفيين بأنها مجملة بينتها الأحاديث المفصلة .
( وقال ) الحنفيون : قراءة الفاتحة واجبة ، لأن هذه الأحاديث منها ما هو قطعى الثبوت ظنى الدلالة كحديث عبادة بن الصامت الأوّل . والباقى ظنى الثبوت فتفيد الوجوب لا الفرضية .
ويشترط فى القراءة أن تكون صحيحة شرعا مسموعة للقارئ حيث لا مانع عند الجمهور . ويكفى عند المالكية أن يحرّك بها لسانه . والأولى أن يُسمع بها نفسه مراعاة للخلاف . هذا . ومن عجز عن القراءة كأمىّ وأخرسَ ، لا تكون ركنا فى حقه اتفاقا ، واختلفوا فيما يطلب منه ( قال ) الحنفيون : يقف ساكنا ولا يجب عليه الذكر بل يندب . وعلى الأمىّ أن يجتهد فى تعلم القراءة ( وقالت ) المالكية : يلزمه الاقتداء بمن يحسن القراءة إن أمكنه .
__________
(1) ص 193ج3 – الفتج الربانى . وص 163ج2 – فتح البارى ( وجوب القراءة للإمام والمأموم ) . وص 100ج4 – نووى . وص 145ج1 – مجتبى ( إيجاب قراءة الفاتحة فى الصلاة ) .
(2) ص 122 الدار قطنى .(1/160)
وإلا سقطت القراءة عنه . فيكون فرضه الذكر عند محمد بن سحنون . ومعتمد المذهب أنه لا يجب عليه تسبيح ولا تحميد . بل يندب له أن يفصل بين التحريمة والركوع بذكر الله تعالى ( وقالت ) الحنبلية : من عجز عن الفاتحة ، لزمه قراءة قدرها فى عدد الحروف والآيات من غيرها . فإن لم يسحن إلا آية من الفاتحة أو من غيرها ، كرّرها بقدرها . وإن كان يحسن شيئاً آيه منها وآية من غيرها ، كرّر آيتها بقدرها دون الأخرى . فإن لم سحن شيئاً من القرآن ، لزمه أن يقول : سبحان لله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، لما فى حديث رِفاعةَ بن رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمسئ صلاته : " فإن كان معك قرآن فاقرأ . وإلا فاحْمدَ الله وكبّره وهلّله ثم أرجع " أخرجه أبو داود(1) ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 194 }
(
__________
(1) ص 306ج5 – المنهل العذب ( صلاة من لا يقيم صلبه فى الركوع والسجود ) .(1/161)
وقال ) عبد الله بن أبى أوفى : " جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال : إن لا أستطيعُ أن آخُذَ من القرآن شيئاً فعلِّى ما يجزئنى منه . فقال قل : سبحانَ اللهِ والحمدُ للهِ ولا إله إلا اللهُ والله أكبرُ ولا حولَ ولا قوّةَ غلا بالله . قال يا رسول الله هذا لله فما لى ؟ قال قل : اللهم ارحمنى وارزقنى وعافِنى واهِدنى . فلما قام ، قال هكذا بيده . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمّا هذا فقد ملأ يَده من الخير : أخرجه النسائى وأبو داود والدار قطنى والحاكم(1) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 195 }
فإن لم يُحْسنْ إلا بعض هذا الذكر كرّره بقدره فى الحروف والجمل . فإن لم يحسن شيئاً من الذكر وقف بقدر الفاتحة كالأخرس . زلا يلزمه الاقتداء بالقارئ بل يستحب خروجا من خلاف من أوجبه .
__________
(1) ص 146ج1 – مجتبى ( ما يجزئ مم القراءة لمن لا يحسن القرآن ) وص 265ج5 المنهل العذب ( ما يجزئ الأمى والأعجمى من القراءة ) وص 118 الدار قطنى ( فقال ) أى أشار ( بيده ) ضاما لبيان أنه حفظ ما سمعه من النبى صلى الله عليه وسلم . ويؤيده قوله : عند الدار قطنى – بعد ولا حول ولا وقة إلا بالله – قال : فضم عليها بيده وقال : هذا لربى : فما لى ؟ قال ل : اللهم اغفر لى وارحمنى واهدنى وارزقنى وعافنى . فضم بيده الأخرى وقام .(1/162)
وكذا قالت الشافعية إلا أنهم اختلفوا فى الذكر . فقال بعضهم : يجب ان يقول : سبحان الله والحمد لله الخ ما فى الحديث . ولا يزيد عليه . والصحيح أنه لا يتعين شئ من الذكر . بل يِجزئه التهليل والتسبيح والتكبير وغيرها. ويجب سبعة أنواع من الذكر . ويشترط ألاّ ينقص ما أتى به عن حروف الفاتحة . هذا ( واختلف ) فيمن عجز عن القراءة بالعربية فى الصلاة ، هل يقرأ بغير العربية ؟ ( قال ) الجمهور : لا تجوز القراءة بغير العربية ولو فى غير الصلاة . وإن قرأ فيها بطلت ، لأن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام ، لم يقرءوا القرآن بغير العربية ولو خارج الصلاة . وغير العربىّ لا يكون قرآنا . وقد قال تعالى : { قُرْآناً عَرَبِياًّ غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(1)} وقال تعالى : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ . بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ(2)} (وقال) النعمان : تجوز القراءة بغير العربية حتى لمن يُحسنها ، لقول الله تعالى : { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا القُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ(3)} قال : ولا يُنْذّركم قوم إلا بلسانهم ( وأجيب ) بأن الإنذار يحصل بنقل معناه . ولا يتوقف على قراءته بغير لفظة المنزل ( قال ) النووى : مذهبنا أنه لا يجوز قراءة القرآن بغير لسان العرب ، سواء أمكنه العربية أم عجز عنها ، وسواء أكان فى الصلاة أم فى غيرها . فإن أتى بترجمته فى صلاة لم تصح صلاته وغن لم يسحن القراءة .
__________
(1) سورة الشعراء : أية 193 – 195 .
(2) سورة الأنعام من أية : 19 وأولها : ( قل أى شئ أكبر شهادة ) أى لأنذركم بهذا القرآن ومن سيبلغه من بعدى فكأنى أنذرته وبلغته .
(3) سورة الأنعام من أية : 19 وأولها : : ( قل أى شئ أكبر شهادة ) أى لأنذركم بهذا القرآن ومن سيبلغه من بعدى فكأنى أنذرته وبلغته .(1/163)
وبه قال الجمهور منهم مالك وأحمد وداود(1)( ثم قال ) " وإذا علم " أنّ الترجمة ليست قرآنا ، وقد ثبت أنه لا تصح صلاة إلا بقرآن " حصل " أنّ الصلاة لا تصح بالترجمة . والصلاة مبناها على التعبد والاتباع لا على الرأى والاختراع " وإذا نظرنا " فى أصل الصلاة أعدادها واختصاصها بأوقاتها وما اشتملت عليه من عدد ركعاتها وإعادة ركوعها فى كل ركعة وتكرر سجودها إلى غير ذلك من أفعالها ، وأن مدارها على الاتباع ولم يفارقها جملة وتفصيلا " لوجدنا هذا " يسدّ باب القياس . حتى لو قال قائل : مقصود الصلاة الخضوع فيقوم السجود مقام الركوع ، لم يقبل ذلك منه وإن كان السجود أبلغ فى الخضوع . ثم عجبت من قولهم : إن الترجمة لا يكون لها حكم القرآن فى تحريمها على الجنب ، ويقولون لها حكمه فى صحة الصلاة التى مبناها على التعبد والاتباع ، وهذا بخلاف تكبيرة الإحرام التى قلنا يأتى بها العاجز عن العربية بلسانه ، لأن مقصودها المعنى مع اللفظ . وهذا بخلافه أهـ بتصرف(2).
(
__________
(1) ص 379ج3 – شرح المهذب .
(2) ص 381 منه .(1/164)
5) الركوع : هو لغة مطلق الانحناء والميل . وشرعا الانحناء بالظهر والرأس جميعاً فى الصلاة . وهو فرض فى كل صلاة – غير الجنازة – للقادر عليه بالكتاب والسنة وإجماع الأمة . قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا(1)} أى فى الصلاة ( وعن ) أبى هريرة فى حديث المسئ صلاتَه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " ثم اركع حتى تطمئن راكعاً " أخرجه السبعة(2)( وأقله ) بالنسبة للقائم – عند الحنفيين والشافعى وأحمد والجمهور – انحناؤه بالرأس بحيث لومدّ يديه لمس ركبتيه إذا كان معتدل الخلقة لا طويل اليدين ولا قصيرهما . وبالنسبة لغير الوسط الانحناء بحيث يمكنه مس ركبتيه بيديه لو كان وسطا ( وقالت ) المالكية : أقله أن ينحنى حتى تقرُب راحتاه من ركبتيه إن كان متوسط اليدين ، بحيث لو وضعهما لكاننا على رأس الفخذين مما يلى الركبتين ( وأكمله ) عند الكل : يكون بتسوية الرأس والعجز والاعتماد بيديه على ركبتيه وتفريج أصابعه وبسط ظهره ( لقول ) أى حُميد الساعدى رضى الله عنه : " كان النبىّ صلى الله عليه وسلم إذا ركع اعتدل ولم يُصَوّبْ رأسه ولم يُقْنِعْه ووضَع يديه على ركبتيه " أخرجه النسائى(3) ... ... ... ... ... { 196 }
__________
(1) سورة الحج : أية 77 .
(2) ص 155ج3 – الفتح الربانى . وص 141ج1 – مجتبى ( فرض التكبيرة الأولى ) وص 249ج1 – تحفة الأحوذى ( وصف الصلاة ) وتقدم باقى المراجع رقم 159 ص 111 ( استقبال القبلة ) .
(3) ص 159ج1 – مجتبى (الاعتدال فى الركوع ) و ( لم يصوّب رأسه .. ) أى لا يميل بها إلى أسفل ، ولا يرفعها أعلى من ظهره . فالتصويب انخفاض الرأس إلى أسفل ( ويقنع ) من أقنع إذا رفع رأسه حتى تكون أعلى من ظهره .(1/165)
" وأقله " بالنسبة للقاعد – عند الحنفيين – يحصل بطأطأة الرأس مع انحناء الظهر . وأكمله أن تحاذى جبهتُه قدّام ركبتيه ( وعند ) الشافعية وأحمد : أقله للقاعد مقابلة وجهه ما أمام ركبتيه . وأكمله عند الشافعية أن تحاذى جبهته موضع سجوده بحيث تكون قريباً منه . وعند أحمد أن تتم مقابلة وجهه لما قدّامَ ركبتيه .
(6) السجود : هو فرض بالكتاب والسنة وإجماع الأمّة . وتكريره فى كل ركعة فرض بالسنة والإجماع . قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } ( وعن ) أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال للمسئ صلاتّه : ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا . ثم ارفع حتى تطمئن جالسا . ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ( الحديث ) أخرجه أحمد والخمسة(1).
وهو لغة الخضوع . ويتحقق عند النعمان وابن القاسم المالكى بوضع الجبهة أو الأنف على الأرض أو على متصل بها بشرط أن يكون ثابتاً لا يلين بالضغط كالحصير والبساط ، بخلاف القطن الندوف والتبن والأرز ونحوها مما لا تستقرّ الجبهه عليه . فإنه لا يصح السجود عليه . وتمامه يكون بالإيتان بالواجب فيه . وهو وضع جميع الكفين والركبتين والقدمين والجبهة والأنف فى مكان السجود . فإن اقتصر على أحدهما بلا عذر صح السجود مع الكراهة . ولو لعذر فلا كراهة ( لحديث ) العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " إذا سجدا العبدُ سجد معه سبعةُ آرابٍ : وجهُه وكفاه وركبتاه وقدماه " أخرجه أحمد ومسلم والأربعة(2){197}
__________
(1) انظر المراجع ص 111 و 147 .
(2) ص 285ج3 – الفتح الربانى ( أعضاء السجود .. ) وص 207ج4 – نووى . وص 343ج5 – المنهل العذب وص 165ج1 مجتبى . وص 232ج1 – تحفة الأحوذى ( السجود عل سبعة أعضاء ) وص 149ج1 – ابن ماجه ( السجود ) و ( آراب ) بالمدّ جمع أرب بكسر فسكون ، العضو :(1/166)
وهو خير بمعنى الأمر . أى فليسجد معه سبعة أعضاء . والمراد بالوجه الجبهة والأنف ، لحديث ابن عباس رضى الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أّمِرْتُ أن أسجدَ على سبْع ولا أكْفِتَ الشعْرَ ولا الثياب الجبهِة والأنفِ واليدين ( الحديث ) أخرجه مسلم(1) ... ... ... ... ... { 198 }
( وقال ) أبو يوسف ومحمد : يتحقق السجود بوضع الجبهة . ويجب عليها وعلى الأنف . فلو اقتصر فى سجوده عليها بلا عذر صح مع الكراهة . وإن اقتصر على الأنف بلا عذر بالجهة لا يصح لما تقدم ، ولأنه لم يثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم الاقتصار على الأنف ، ولإجماع الصحابة على أنه لا يجزئ السجود على الأنف فقط . نقله ابن المنذر . ( ويشترط ) لصحة السجود عند الحنفيين عدم ارتفاع مكان الجبهة عن موضع القدمين بأكثر م نصف ذراع إلا لعذر كالزحام . ( وقالت ) المالكية : فرض السجود يتحقق بوضع جزء من الجهة . ويندب السجود على أنفه . ويعيد الصلاة من تركه فى الوقت مراعاة للقول بوجوبه . فلو سجد على أنفه دون جبهته لم يكف. وإن عجز عن السجود على الجبهة ففرضه الإيماء له . ويسنّ السجود على اليدين والركبتين وأطراف أصابع القدمين ( ويندب ) إلصاق جميع الجبهة بالأضر وتمكينها ( ويشترط ) عندهم ألاّ يكون موضع السجود مرتفعاً عن الأرض ارتفاعا كثيراً ككرسىّ متصل بها . فإن سجد عليه بطلت صلاته عل المعتمد . أما السجود على أرض مرتفعة فمكروه فقط .
( وقالت ) اشافعية : فرض السجود يتحقق بوضع كل عضو من الأعضاء السبعة ، ويندب السجود على الأنف لقول جابر بن عبد الله : رأيتُ النبى صلى الله عليه وسلم يسجد فى أعلى جبهته على قُصاص الشعْر . أخرجه الدار قطنى وقا ل: تفرد به بعد العزيز بن عُبيد الله عن وهب ، وليس بالقوى(2) ... ... { 199 }
__________
(1) ص 207 ج4 – نووى .
(2) ص 133 – الدار قطنى . و ( قصاص الشعر ) بتثليث القاف منتهى منبته فوق الجبهة .(1/167)
وجه الدلالة أن من سجد على أعلى الجبهة لا يسجد على الأنف .
( ويشترط ) عندهم : كون السجود على بطون الكفين والركبتين وبطون أصابع القدمين . ورفع العجيزة على الرأس والكتفين حال السجود . فلو رفع رأسه على عجيزته بطلت صلاته . وكذا إن تساويا على الأصح إلا لعذر كالحبَل . فلا يلزم الحبلى رفع عجيزتها إذا خافت الضرر . ( وقال ) أحمد والأوزاعى وإسحاق وابن حبيب المالكى . يفترض السجود على اليدين والركبتين والقدمين والجبهة والأنف . فلو سجد على أحدهما لم يجزه ، لحديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلى لا يصيبُ أنفُه الأرضَ فقال : لا صلاةَ لمن لا يصيبُ انفُه الأرضَ . أخرجه ابن أبى شيبة ، وكذا الدار قطنى بلفظ : لا صلاةَ لمن لا يصيبُ أنفُه م الأرض ما يصيبُ الجبينُ وقال : الصواب أنه مرسل عن عكرمة ورواته ثقات(1) ... ... ... ... ... { 200 }
هذا . والراجح القول بوجوب السجود على كل من الجبهة والأنف ( وعند ) الحنبلية يشترط لصحة السجود ألاّ يكون موضع الجبهة مرتفعاً عن موضع القدمين ارتفاعا يخرج المصلى عن هيئة الصلاة .
هذا . وظاهر الأدلة أنه لا يجب كشف شئ من أعضاء السجود ، لأنّ مسماه يحصل بوضعها دون كشفها . وهو متفق عليه فى الركبتين والقدمين وأما اليدان فقال الجمهور لا يجب كشفهما ، لقول عبد الله بن عبد الرحمن : جاءنا النبىُّ صلى الله عليه وسلم وصّى بنا فى مسجد بنى عبِد الأشْهِل ، فرأيتُه واضعاً يدَيه فى ثوبه إذا سجد . أخرجه أحمد وابن ماجه(2) ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 201 }
__________
(1) ص 133 – الدار قطنى .
(2) ص 288ج3 – الفتح الربانى ( سجود المصلى على ثوبه لحاجة ) وص 166ج1 – ابن ماجه ( السجود على الثياب فى الحر والبرد )(1/168)
وعن الشافعى قول بوجوب كشفهما ( وقالت ) الحنبلية : يكره سترهما وأما الجبهة فقد قال بوجوب كشفها داود والشافعية وأحمد فى رواية . فلا يجوز السجود على كور العمامة ، لحديث صالح بن خَيوانَ السَّبائى أنّ النبى صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسجدُ إلى جنبه وقد اعْتمّ على جبهته فحسَر عن جبهته . أخرجه البيهقى وأبو داود فى المراسيل . وصالح لا يحتج به(1) ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 202 }
( وقال ) مالك الحنفيون والأوزاعى وإسحاق والجمهور : لا يجب كشف الجبهة وهو رواية عن أحمد لكن يكره سترها . واستدلوا على عدم وجوب كشفها بحديث ابن عباس رضى الله عنهما أنّ النبى صلى الله عليه وسلم كان يسجد على كَور عمامته . أخرجه أبو نُعَيم فى الحلية . ورواه الطبرانى عن ابن أبى أوفى . وابن عدىّ عن جابر . لكن كان طرقه ضعيفة . بل قال أبو حاتم : هو حديث باطل(2) ... ... ... ... { 203 }
( وقال ) البيهقى : وأما ماروى عن النبى صلى الله عليه وسلم من السجود على كور العمامة فلا يثبت شئ من ذلك(3). وعلى تقدير ثبوته يحمل على حالة العذر . وما تقدم يحمل على غير العذر .
هذا . ويشترط فى السجود ألا يضع جبهته على كفه . فإن وضعها عليه بطلت صلاته ، خلافا للحنفيين حيث قالوا بكراهته فقط .
( فائدة ) يجوز لعذر – عند الحنفيين ومالك وأحمد – سجود المصلى على ثوبه المتصل به وغيره ، وعلى كور العمامة لعذر بلا كراهة . ويكره عند عدمه ( قال ) انس بن مالك : " كنا نصلى مع النبى صلى الله عليه وسلم فى شدة الحر فإذا لم يستطع أحدنُا أن يُمكِّنَ وجهه من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه"أخرجه أحمد والأربعة(4){204}
(
__________
(1) ص 105ج2 – بيهقى ( الكشف عن الجبهة فى السجود ) .
(2) ص 384ج1 – نصب الراية .
(3) ص 106ج2 . بيهقى ( من بسط ثوبا فسجد عليه ) .
(4) ص 288ج3 – الفتح الربانى ( سجود المصلى على ثوبه ... ) وص 49ج5 – المنهل العذب . وص 167ج1 – مجتبى . وص 166ج1 – ابن ماجه .(1/169)
وقال ) الحسن البصرى : " كان أصحابُ النبى صلى الله عليه وسلم يسجدون وأيديهم فى ثيابهم . ويسجدُ الرجلُ على عمامته " أخرجه البيهقى(1).
( وعن ) ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى فى ثوبٍ واحد متوشحاً به يتقى بفُضوله حرّ الأرض وبردَها . أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبرانى فى الأوسط والكبير بسند : رجاله رجال الصحيح(2){205}
ففى هذه الأحاديث دلالة على أن الأفضل السجود على الأرض ، وأنه يجوز على الثياب ونحوها سيما عند الضرورة . وبه قال الجمهور ( وقالت ) الشافعية : لا يجوز للمصلى السجود على طرف ثوبه المتحرك بحركته ، ولا على كور عمامته ، ولا على متصل بالجبهة . فإن سجد عليه عامداً عالما بالتحريم بطلت صلاته ( لقول ) خَبّاب:"شكَوْنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّ الرمْضاءِ فى جِباهِنا وأكُفِّنا فلم يُشْكِنا"أخرجه البيهقى(3){206}
( وقال ) عياض بن عبد الله : " رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يسجد على كور عمامته فأومأ بيده ارفع عمامتَك وأومأ إلى جبهته " أخرجه ابن أبى شيبة والبيهقى(4) ... ... ... ... { 207 }
(
__________
(1) ص 106 ج2 بيهقى .
(2) ص 287ج3 – الفتح الربانى .
(3) ص 105ج2 – بيهقى ( الكشف عن الجبهة فى السجود ) ( فلم يكشنا ) بضم فسكون فكسر ، أى لم يجبنا إلى ما طلبناه ولم يزل شكوانا . يقال أشكيت الرجل إذا أزلت شكايته ( وكور العمامة ) بفتح فسكون دورها :
(4) ص 105ج2 – بيهقى ( الكشف عن الجبهة فى السجود ) ( فلم يكشنا ) بضم فسكون فكسر ، أى لم يجبنا إلى ما طلبناه ولم يزل شكوانا . يقال أشكيت الرجل إذا أزلت شكايته ( وكور العمامة ) بفتح فسكون دورها :(1/170)
وأما ) إن سجد عليه ساهيا أو جاهلا فيلزمه إعادة تلك السجدة ولا تبطل الصلاة ( وأجاب ) الجمهور عن حديث خباب بأنه ليس نصا فى منع السجود على الحائل المتصل إذا يجوز أن يكون المراد فى قوله ، فلم يُشْكِنا ، أن ذلك كان لأجل تأخير الصلاة حتى يذهب حرّ الشمس ، لا لأجل السجود على الحائل إذ لو كان كذلك ، لأذن لهم بالسجود على الحائل المنفصل ، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلى على الخُمرة(1)وعلى الفَرُوة المدبوغة .
( وقال ) المغيرة بن شعبة : " كان النبى صلى الله عليه وسلم يصلى على الحصيرة والفروة المدبوغة " أخرجه أحمد وأبو داود والبيهقى(2) ... ... ... ... ... ... ... ... { 208 }
وقد ورد فى هذا عدة أحاديث ( وحديث عياض ) بن عبد الله لم يثبت مرفوعاً ، وعلى فرض ثبوته فيحمل على عدم العذر من حرّ أو برد . وتحمل الأحاديث الدالة على جواز السجود على الحائل المتصل على العذر . والراجح القول الأول لقوة أدلته .
( 7-11 ) الرفع من الركوع ، والاعتدال ، والرفع من السجود ، والجلوس بين السجدتين ، والطمأنينة فى الأركان .
هذه الخمسة قال بفرضيتها مالك وأبو يوسف والشافعى وأحمد والجمهور .
( أما ) الرفع من الركوع ، فيتحقق عند المالكية بالخروج عن حالة الركوع ( والاعتدال ) ركن مستقل للفصل بين الأركان . فيجب حال التحريمة وبعد الركوع وبعد السجود وحال السلام ( والطمأنينة ) ركن مستقل أيضاً فى جميع أركان الصلاة . وتحصل باستقرار الأعضاء زمنا مّا زيادة على ما يحصل به الفرض من الاعتدال والانحناء . ( وعند ) الشافعية يتحقق الرفع بالعود إلى الحالة التى كان عليها قبل أن يركع من قيام أو قعود مع طمأنينة فاصلة بين رفعه من الركوع ونزوله للسجود . وهذا هو الاعتدال عندهم .
(
__________
(1) الخمرة ، كغرفة ، الحصيرة الصغيرة .
(2) ص 111ج3 – الفتح الربانى ( الصلاة على الحصير .. ) . وص 48ج5 – المنهل العذب . وص 420ج2 – بيهقى ( الصلاة فى الجلد المدبوغ ) .(1/171)
وأما ) الرفع من السجود الأول ، فهو عندهم الجلوس بين السجدتين . ويتحقق بالجلوس مستويا مع طمأنينة بحيث يستقر كل عضو فى موضعه . فلو لم يستو لم تصح صلاته وإن كان إلى الجلوس أقرب . ويشترط عندهم ألاّ يقصد بالرفع من الركوع أو السجود غيره . فلو رفع من أحدهما لِفَزَعِ أو نحوه ، وجب عليه أن يعود إلى الحالة التى كان عليها من ركوع أو سجود ثم يعيد الاعتدال ، وإلا بطلت صلاته . ( ويتحقق ) الرفع من الركوع عند الحنبلية بمفارقة القدر المجزئ فى الركوع بحيث لا تصل يداه إلى ركبتيه ( والاعتدال ) بعده يتحقق بالاستواء قائما بحيث يرجع كل عضو إلى موضعه ( والرفع ) من السجود يتحقق بمفارقة جبهته الأرض (والاعتدال) فيه يتحقق بالجلوس مستويا بحيث يرجع كل عضو إلى موضعه . ودليل فرضية ما ذكر قوله صلى الله عليه وسلم للمسئ صلاته : ثم أركع حتى تطمئن راكعا . ثم أرفع حتى تعتدل قائما . ثم أسجد حتى تطمئن ساجدا . ثم أرفع حتى تطمئن جالسا . ثم أسجد حتى تطمئن ساجدا ثم أفعل ذلك فى صلاتك كلها(1)( وحديث ) أبى مسعود البدرى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " لا تجزئ صلاة يقيم الرجل فيها صلبه فى الركوع والسجود " أخرجه الأربعة والبيهقى وقال إسناده صحيح وقال الترمذى حسن صحيح . وفى رواية أبى داود ولا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيمَ ظهره فى الركوع والسجود(2) ... ... ... ... ... ... ... { 209 }
(
__________
(1) انظر المراجع هامش ص 111 ( استقبال القبلة ) و ص 147 ( الركوع ) .
(2) ص 158ج1 – مجتبى ( إقامة الصلب فى الكوع ) وص 298ج5 – المنهل العذب ( صلاة من لا يقيم صلبهن فى الركوع ) وص 226ج1 – تحفة الأحوذى . وص 88ج2 – بيهقى ( الطمأنينة فى الركوع ) و ( صلبه ) أى ظهره كما فى رواية أبى داود .(1/172)
وحديث ) رفاعة بن رافع أن النبى صلى الله عليه وسلم قال للمسئ صلاته : " إذا أردتَ أن تصلىَ فتوضأ فأحسن وضوءَك ثم استقبل القبلة ثم كبر ثم اقرأ ثم أركع حتى تطمئن راكعا ثم أرفع حتى تطمئن قائما ثم أسجد حتى تطمئن ساجدا ثم أرفع حتى تطمئن جالسا ثم أسجد حتى تطمئن ساجدا ثم قم فإذا أتممت صلاتك على هذا فقد أتممتها وما انتقصت من هذا من شئ فإنما انتقصته من صلاتك " أخرجه أحمد وهذا لفظه وأبو داود والترمذى وحسنه(1) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 210 }
( وعن ) أبى عبد الله الأشعرى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا لا يتم ركوعَه وينقُر فى سجوده وهو يصلى . فقال : " لو ماتَ هذا على حاله هذه ، مات على غير ملة محمد صلى الله عليه وسلم " (الحديث) أخرجه الطبرانى فى الكبير وأبو يعلى بسند حسن وابن خزيمة فى صحيحه(2) ... { 211 }
( وقال ) زيد بن وهب : " رأى حذيفة رجلا لا يتم الركوع والسجود فقال : ما صليت ، ولو مُتَّ مُتَّ على غير الفِطْرة التى فطَر اللهُ عليها محمداً صلى الله عليه وسلم " أخرجه أحمد والبخارى وهذا لفظه(3).
__________
(1) ص 156ج3 – الفتح الربانى ( حديث المسئ فى صلاته ) وص 303ج5 – المنهل العذب ( صلاة من لا يقيم صلبه فى الركوع ) وص 247 ج1 – تحفة الأحوذى ( وصف الصلاة ) .
(2) ص 121ج2 – مجمع الزوائد ( من لا يتم صلاته ) .
(3) ص 260ج3 – افتح الربانى . ص 186ج2 – فتح البارى ( إذا لم يتم الركوع ) و ( الفطرة ) بكسر فسكون ، الملة والدين .(1/173)
والأحاديث والآثار فى ذلك كثيرة . وفيها الوعيد الشديد لمن لا يتم ركوعه وسجوده وفيها عظات وعبر لمن ألقى السمع وهو شهيد . فليتنبه الغافل وليعتبر المضلل فهى تدل على وجوب الطمأنينة فى الركوع والسجود والرفع منهما ، وعلى أنّ الإخلال بشئٍ منها يبطل الصلاة ( وقال ) النعمان ومحمد : الرفع من الركوع والاعتدال والجلوس بين السجدتين والطمأنينة فيها وفى الأركان ، من واجبات الصلاة لا من فرائضها ( والواجب ) فى الرفع من الركوع القدر الذى يتحقق به معنى الرفع ، وما زاد عليه إلى أن يستوى قائما هو الاعتدال ( أما ) الرفع من السجود بحيث يكون إلى القعود أقرب فهو فرض . وما زاد على ذلك إلى أن يستوى جالسا ، فهو واجب بمقتضى الدليل وقيل إنه سنة ( والطمأنينة ) تسكين الجوارح حتى تطمئن المفاصل ويستقرّ كل عضو فى مقتره ، وأدناها قدر تسبيحة . ودليل وجوب ما ذكر ، قول النبى صلى الله عليه وسلم للمسئ صلاته : " فإذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك وما انتقصت من هذا شيئا فإنما انتقصته من صلاتك " أخرجه السبعة من حديث أبى هريرة(1)( وجه ) الاستدلال أنه صلى الله عليه وسلم وصفَها بالنقص والباطلة إنما توصف بالانعدام ، وأيضا قد سماها صلاة . والباطلة ليست صلاة . يدل على هذا ما فى حديث رفاعة بن رافع من قوله : وكان هذا أهونَ عليهم من الأوّل ، أنه من انتقص من ذلك شيئا انتقص من صلاته ولم تذَهب كلُّها . أخرجه الترمذى(2)( وإنما أمر ) صلى الله عليه وسلم المسئ بإعاة الصلاة ، ليوقعها على غير كراهة لا الفساد " ويحمل " قوله صلى الله عليه وسلم له : فإنك لم تصل على " الصلاة " الخالية من الإثم ، ويصح حمل قول أبى يوسف بفرضية ما ذكر على الفرض العملى . وهو الواجب .
__________
(1) انظر المراجع بهامش ص 111 ، 147 .
(2) ص 248ج1 – تحفة الأحوذى ( وصف الصلاة ) .(1/174)
فيرتفع الخلاف بين الحنفيين ( وقال ) الجمهور : المراد بالصلاة فى قوله : فإنما انتقصته من صلاتك ، الصلاة المطلوب تأديتها ، لا الصلاة التى تلبس بها وترك شيئا من أركانها " فإن ظاهر " قو النبى صلى الله عليه وسلم للمسئ صلاته : فإنك لم تصل " فساد " تلك الصلاة . فإنّ النفى أصل لنفى الحقيقة ، ولا مقتضى للعدول عنه . فالراجح ما ذهب إليه الجمهور .
( فائدة ) ذكر كثير من الشافعية أنّ كلا من الاعتدال والجلوس بين السجدتين ،ركن قصير تفسد الصلاة بإطالته . ولا دليل على ذلك بل يردّه الثابت عن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام من إطالتهما كباقى أركان الصلاة ( قال ) أنس رضى الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما حتى يقولَ الناسُ قد نَسِىَ . وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى يقول الناسُ قد نَسِى . أخرجه أحمد والشيخان(1) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 212 }
ولذا صحح النووى فى التحقيق أنّ الاعتدال ركن طويل ( قال ) الشوكانى :
والحديث يدل على مشروعية تطويل الاعتدال من الركوع والجلسة بين السجدتين ، وقد ذهب بعض الشافعية إلى بطلان الصلاة بتطويل الاعتدال والجلوس بين السجدتين محتجا بان طولهما ينفى الموالاة . وما أدرى ما يكون جوابه عن حديث الباب ؟ وعن حديث البراء أنه قال : كانت الصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى فركع وإذا رفع رأسه من الركوع وإذا سجد وإذا رفع رأسه من السجود وبين السجدتين قريبا من السواء . أخرجه أحمد والشيخان(2) ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 213 }
(
__________
(1) ص 269ج3 – الفتح الربانى ( وجوب الرفع من الركوع .. ) وص 204 ج2 – فتح البارى ( المكث بين السجدتين ) ( قد نسى ) أىنسى الهوىّ إلى السجود ، أو أنه فى صلاة .
(2) ص 256ج3 – الفتح الربانى ( مقدار الركوع .. ) وص 196ج2 – فتح البارى ( الطمأنينة حين يرفه رأسه من الركوع ) .(1/175)
قال ) ابن دقيق العيد : هذا الحديث يدل عل أن الاعتدال ركن طويل وحديث أنس أصرح فى الدلالة على ذلك بل هو نص فيه . فلا ينبغى العدول عنه الدليل ضعيف ، وهو قولهم لم يسنّ فيه تكرير التسبيحات كالركوع والسجود ، ووجه ضعفه أنه قياس فى مقابلة النص فهو فاسد أهـ ( على ) أنه قد ثبتت مشروعية أذكار فى الاعتدال أكثر من التسبيح المشروع فى الركوع والسجود كما سيأتى ( وأما ) القول بأن طولهما ينفى الموالاة ، فباطل ، لأن معنى الموالاة ألاّ يتخلل فصل طويل بين الأركان مما ليس فيها . وما ورد به الشرع من أذكارها لا يعقل نفى كونه منها ( وقد ) ترك الناس هذه السنة الثابتة بالأحاديث الصحيحة ، محدّثهم وفقيههم ومجتهدهم ومقلدهم . فليت شعرى ما الذى عوّلوا عليه فى ذلك ؟ والله المستعان أهـ(1).
(12) القعود الأخير : هو ما يكون آخر الصلاة وإن لم يتقدمه أول ، وهو شرط للخروج من الصلاة عند الحنفيين والصحيح أنه ليس ركناً أصليا عندهم ، لعدم توقف الماهية عليه شرعا . فغن من حلف لا يصلى ، يحنث بمجرّد الرفع من السجود الثانى فى الركعة الثانية . ويشترط تأخيره عن الأركان . فيعاد لسجدة صلبية تذكرها أو تلاوية لا لسهوية ، فإنها ترفع التشهد لا القعود ( ويلزم ) أن يكون قدر أدنى قراءة التشهد إلى عبده ورسوله وهو فرض بالإجماع وقد روى الشيخان وغيرهما من طرق عديدة أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال للمسئ صلاته : فإذا رفعتَ رأسَك من آخرِ سجدة وقعدتَ قدر التشهد ، فقد تّمت صلاتك . ذكره ابن نُجَيْم وقال : قد وردت أدلة كثيرة بلغت مبلغ التواتر على أنّ القعدة الأخيرة فرض(2).
(
__________
(1) ص 293ج2 – نيل الأوطار ( الجلسة بين السجدتين ) .
(2) ص 294ج1 – البحر الرائق ( صفة الصلاة ) .(1/176)
وقالت ) المالكية : إنه فرض بقدر السلام المفروض ( وقالت ) الشافعية : هو فرض بقدر التشهد والصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم ، والتسليمة الأولى ، لأنه محل للفرائض الثلاثة المذكورة . فهو كالقيام للفاتحة .
( وقالت ) الحنبلية : هو فرض بقدر التشهد والتسليمتين ، لأن النبى صلى الله عليه وسلم فعله وداوم عيه وقال : صلوا كما رأيتمونى أصلى(1).
(13) التشهد الأخير : هو ركن – عند الشافعى وأحمد والحسن البصرى – لأن النبى صلى الله عليه وسلم فعله وداوم عليه وأمر به ( قال ) ابن مسعود رضى الله عنه : " كنا نقول فى الصلاة قبل أن يُفْرضَ التشهدُ : السلام على الله السلام على جبريل وميكائيل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقولوا هكذا ، فإن اللهَ هو السلامُ ، ولكنْ قولوا : " التحيات والصلوات والطيبات " أخرجه النسائى والدار قطنى . وقال : هذا إسناد صحيح . وقال ابن عبد البر تفرد ابن عيينة بقوله : قبل أن يفرض(2) ... ... ... ... ... { 214 }
( وقال ) أيضا : " كان النبى صلى الله عليه وسلم يُعلِّمنا التشهد كما يعلِّمنا السورةّ من القرآن . ويقولُ تعلّموا فإنه لا صلاة إلا بتشهدٍ " أخرجه الطبرانى فى الأوسط . وفى سنده صفَدى بن سنان . ضعفه ابن مَعيٍ . ورواه البزار برجال موثقين . وفى بعضهم خلاف لا يضر(3) ... ... ... ... ... { 215 }
( وقال ) الحنفيون إنه واجب لا فرض ( روى ) ابن مسعود : أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله عز وجل هو السلام فإذا قعد أحدُكم فلْيقُل التحياتُ لله ، والصلواتُ والطيباتُ " ( الحديث ) أخرجه أحمد والنسائى بسند جيد(4) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... { 216 }
__________
(1) تقدم رقم 190ص142 ( القراءة ) .
(2) ص 187ج1 – مجتبى ( إيجاب التشهد ) . وص 133 – الدار قطنى .
(3) ص 140ج2 مجمع الزوائد ( التشهد والجلوس ... ) .
(4) ص 4ج4 – الفتح الربانى . وص 188ج1 – مجتبى ( كيف التشهد ) .(1/177)
وهو سنة عند المالكية كالتشهد الأول . لأنه لم يُذكر فى حديث المسئ صلاتَه ( وأجابوا ) عن الأمر به فى أحاديث التشهد ، بأنه محمول على الندب لما ذكر . وعن قول ابن مسعود – قبل أن يفرض التشهد – بأن المراد بالفرض فيه التقدير ( وردّ ) بأن عدم ذكره فى حديث المسئ صلاته ، لا يدل على عدم وجوبه ، لاحتمال أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يذكره له لأنه لم يره تركه حتى يعلّمه إياه ، وبأن حمل الفرض على التقدير خلاف الظاهر من اللفظ ، لو ورده فى مقام بيان حقيقة شرعية لا لغوية .
هذا . وأقل التشهد عند الشافعية الحنبلية التحيات لله ، سلاُم** عليك أيُّها النبى ورحمة الله وبركاته . سلاُم** علينا** وعلى عباد الله الصالحين . أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .
( ويشترط ) فى صحته عندهم ، كونه بالعربية للقادر عليها ، وإسماعُ نفسه حيث لا مانع ، والموالاةُ بين كلماته ، وترتيبُها . فإن لم يرتبها وتغير المعنى لعدم الترتيب، بطلت صلاته إن كان عامداً . وإلا فلا .
( قال ) ابن قدامة : ولا يجوز لمن قدر على العربية التشهد والصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم بغيرها كالتكبير . فإن عجز عن العربية تشهد بلسانه ( وقال ) القاضى : لا يتشهد . وحكمه كالأخرس . ومن قدر على تعلم التشهد والصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم ، لزمه ذلك . فإن صلى قبل تعلمه مع إمكانه لم تصح صلاته . وإن خاف فوت الوقت أو عجز عن التعلم ، أتى بما يمكنه وأجزأه للضرورة . وإن لم يحسن شيئاً سقط . والسنة ترتيب التشهد وتقديمه على الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم . وإن أتى به منكّساً من غير تغيير للمعنى ولا إخلال بشئ من الواجب فيه ، فالأصح أنه لا يصح ، لإخلاله بالترتيب فى ذكْر ورد الشرع به مرتبا فلم يصح كالأذان . وقيل يجزئه ، لأن المقصود المعنى وقد حصل أهـ(1).
(
__________
(1) ص 586 مغنى .(1/178)
وأكمله ) عند الشافعية تشهد ابن عباس قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلِّمنا التشهد كما يُعلِّمنا القرآن . وكان يقول : التحيات المباركاتُ الصلواتُ الطيباتُ لله . السلام عليك أيها النبىّ ورحمةُ الله وبركاتُه. السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين . أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً رسول الله " أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه والترمذى وقال : حسن صحيح غريب والشافعى(1)
__________
(1) ص 8ج4 – الفتح الربانى . وص 118ج4 نووى ( التشهد فى الصلاة ) وص 81ج6 – المنهل العذب . وص 151ج1 – ابن ماجه . وص 239ج1 – تحفة الأحوذى . وص 89ج1 – بدائع المنن ( التحيات ) جمع تحية . وهى فى الأصل الدعاء بطول الحياة والمراد بها هنا كل عبادة قولية وأنواع = التعظيم وصفاته . وجمعها لأنّ كل واحد من الملوك يُحياَّ بتحية مخصوصة . فقيل هنا جميع تحياتهم لله تعالى وهو المستحق لها حقيقة . و ( المباركات ) جمع مباركة ، أى كثيرة الخير ( الصلوات الطيبات ) بحذف حرف العطف اختصارا . و " الصلوات " العبادات البدنية . وقيل المراد بها الرحمة ، أى أن العبادات البدنية مستحقة لله تعالى . والرحمات هو المتفضل بها دون سواه . و " الطيبات " العبادات المالية ، أو ك قول وعمل ووصف صالح خالص لله تعالى . ولذا كان طيبا . " وأما " قوله ( السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته ) " فهو " حكاية سلام الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم ردا لما أثنى به النبى صلى الله عليه وسلم على ربه جل شأنه ليلة الإسراء .
هذا والسلام معناه الأمان من سلم الله عليه أى أ‘طاه الأمان وسلمه من الآفات . وقيل السلام أسم من أسمائه تعالى ، أى السلام حافظ لك من الآفات. والمراد بالرحمة الإحسان منه تعالى . والبركة النماء والزيادة من الخير . وجمع البركة دون السلام والرحمة ، لأنهما مصدران . ثم أن النبى صلى الله عليه وسلم أعطى سهما من هذه التحية الإلهية لإخوانه الأنباء والملائكة والصالحين من الإنس والجن ، لأنه قوله ( السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ) يعمهم ، لقوله عليه الصلاة والسلام فى حديث ابن مسعود " فإنكم إذا قلتم ذلك أصاب كل عبد صالح فى السماء والأرض " فينبغى للمصلى أن يستحضر بذلك جميع الأنبياء والملائكة والمؤمنين ، ليتوافق لفظه وقصده .
( قال ) الحكيم الترمذى : من أراد أن يحظى بهذا السلام الذى يسلمه الخلق فى الصلاة فليكن عبداً صالحاً ، والإحرام هذا الفضل العظيم . انظر ص 213ج2 – فتح البارى . والمراد بقوله ( السلام علينا ) الحاضرون من الإمام والمأموم والملائكة . و " الصالحون " القائمون بحقوق الله تعالى وحقوق العباد . هذا . والحديث أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه بتعريف السلام فيهما . ورواه الشافعى والترمذى بالتنكير فيهما كرواية لأحمد. وفى رواية الدار قطنى بتعريف الأول وتنكير الثانى . وأخرجه الطبرانى بالعكس ولا خلاف فى جواز الأمرين وأن التعريف أفضل .
هذا . وقد علمنا النبى صلى الله عليه وسلم أن نفرد بالذكر لشرفه ومزيد حقه علينا ، وأن نخص أنفسنا بعده بالسلام للاهتمام . ثم نعممه على الصالحين إرشادا إلى أنه ينبغى التعميم فى الدعاء ( أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمداً رسول الله ) أى = أقر بسلانى وأتيقن بجنانى بأنه لا يستحق العبادة يغر الله سبحانه وتعالى ، كما أقر أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .(1/179)