الديمقراطية وأخواتها
آثار و ثمرات
أبو سيف
خليل بن إبراهيم العبيدي العراقي
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إنَّ الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (1).
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً ، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } (2) .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } (3) .
أما بعد :
فإنَّ أصدقَ الحديثِ كلام الله ، وخيرَ الهدي هدي محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، وشرَّ الأمور محدثاتها ، وكلَّ محدثةٍ بدعة ، وكل بدعةٍ ضلالة ، وكلَّ ضلالةٍ في النار .
وبعد :
لقد غزت الأمة الإسلامية في أواخر القرن التاسع عشر وخاصة بعد سقوط الدولة العثمانية بعض المفاهيم الخاطئة والمعتقدات الباطلة الدخيلة على ديننا الحنيف والتي تضاد وتصادم العقيدة الإسلامية من كل وجه وجانب.
__________
(1) 1 ) سورة آل عمران : 102.
(2) 2 ) سورة النساء : 1.
(3) 3 ) سورة الأحزاب : 71.(1/1)
ولهذا تصدى أهل العلم وطلابه لهذه المفاهيم الوافدة من مزابل الشرق والغرب وهتكوا سترها وكشفوا عوارها ، وبهذا لم أكن أول من أدلى بدلوه في هذا الشأن الخطير ، ولكن لما غزت هذه المفاهيم بلدنا العراق بشكل ملفت للنظر خاصة في السنوات الأخيرة التي أعقبت إحتلاله من قِبل الأمريكيين وحلفائهم وما جاءوا به في جعبتم من الديمقراطية وما تبعها من الانتخابات الفوضوية والتحالفات الحزبية إلى غير ذلك من المفاهيم الجديدة على المجتمع العراقي المسلم ، والتي تسببت في حدوث فوضى عارمة عمت البلاد وأرهقت العباد بعد أن كانت غائبة عن عالم الوجود بسبب تسلط الحزب الواحد والقائد الواحد على مقاليد الحكم ومؤسساته في العراق ، حيث كانوا لا يسمحون لفكر غير فكرهم ومفاهيم غير مفاهيمهم بالظهور والانتشار .
ولكن والحق يقال ـ من باب الأخذ بأخف الضررين وأدنى الشرين ـ أن حكم صدام كان أرحم بكثير من هذه الفوضى العارمة التي جاءت بها الديمقراطية الأمريكية والانتخابات الفوضوية ، وأنه كان كالباب المغلق أمام الكثير من الأمور التي جاءت تحت عباءة الإحتلال ، فوجب كشفها والتحذير منها ولهذا جاءت هذه الوريقات والتي أسميتها (( الديمقراطية وأخواتها آثار وثمرات )) كرسالة أردت من خلالها تأصيل المسائل وتأطيرها بأطرها الشرعية مبتعداً عن التفصيل والإسهاب لتكون صيحة نذير لا يمكن أن يخدع أبناء جلدته ، لاسيما ونحن نرى الكثير من أبناء المسلمين قد انخدعوا بهذه الأمور الوافدة حتى من بعض الأحزاب التي يقول أصحابها أنها أحزاب إسلامية .
أسأل الله تعالى أن ينفع بها ، وأن يجعل العمل خالصاً لوجهه الكريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحب
وكتبه ... ... حامداً شاكراً مسلماً مصلياً
أبو سيف خليل بن إبراهيم العبيدي العراقي
16 / 11 / 1427 هـ
الفصل الأول
أحوال الناس قبل وبعد بعثة النبي ( - صلى الله عليه وسلم - )(1/2)
لقد بعث الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً ( - صلى الله عليه وسلم - ) على حين فترة من الرسل وعلى حين غفلة من الناس ، و بُعث إلى أناس لم يكونوا يعرفون للحق أسماً ولا رسماً ، بل كانت الأهواء والميول تتقاذفهم ذات اليمين وذات الشمال ، وتسير بهم في طرق عديدة واتجاهات مختلفة أهمها :
الاتجاه الأول : ففيما يخص علاقتهم بالله عز وجل :فإنهم اتخذوا لأنفسهم آلهة شتى وراحوا يعبدونها من دون الله ، ويتقربون إليها بأنواع القربات التي لا يمكن أن تكون إلا لله تعالى وحده ، حيث يزعمون أنهم يريدون بهذا الفعل أن يجعلوهم وسائط بينهم وبين الله لنيل القربى والشفاعة ، ومن المعلوم أن هذه الخرافات والأباطيل قد دخلت عليهم من خلال ما توارثوه من الأباء والأجداد من عادات وتقاليد باطلة ، حتى صارت ديناً ومعتقداً لهم ، وحجة يحتجون بها على كل من أراد أن يخرجهم من هذه الدائرة الضيقة التي أدخلوا أنفسهم بها إلى دوائر أوسع وأرحب .
ولو نظرنا إلى مناظرة إبراهيم عليه السلام لقومه والتي بينها لنا القرآن الكريم لرأينا ذلك واضحاً أتم الوضوح ، قال تعالى { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ @ ذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ @ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ @ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ @ أوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ @ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } [الشعراء : 74] .(1/3)
الاتجاه الثاني : أما فيما يخص العلاقة فيما بينهم : فقد كانت العداوة والبغضاء قد فشت بينهم والتحزب للقبيلة قد أخذ مأخذاً عظيماً منهم . فلقد كانت والجزيرة العربية عند بعثة النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) تموج بالقوميات و العصبيات ، وكانوا وفق المصطلحات الحديثة ينقسمون إلى أحزاب وتكتلات منغلقة على نفسها فكل قبيلة تقدم ولائها و تحصر انتمائها ، و تخص بنصرتها أفراد تلك القبيلة ، حتى قال قائلهم :
وهل أنا إلا من غزية أنْ غوت غويت و إن ترشد غزية أرشد
و قال آخر :
لا يسألون أخاهم حين يسألهم في النائبات على ما قال برهان .
وفي ظل هذه الأحداث الجسيمة التي ألقت بظلالها على أرجاء الجزيرة العربية أشرقت شمس النبوة ، وبعث النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) بدين هو كما قال أبو طالب (( ... من خير أديان البرية ديناً )) ، دين ضمَّنه الله تعالى كل ما من شأنه أن يكفل السعادة للبشرية جمعاء ، دين يصلح بأحكامه الربانية لكل زمان ومكان ، دين أكمله الله وأتمه وارتضاه لعباده ، دين يخرج العباد من عبادة العباد والشجر والحجر والشمس والقمر إلى عبادة رب الأرض السموات.
وفي سبيل هذا كله نرى النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) قد شمّر عن ساعد الجد وربط الليل بالنهار وراح يدعو إلى ربه تعالى ، ولم يدخر جهداً في سبيل إيصال دعوته إلى عموم الناس كافة كما أمره الله تعالى .
ولكن لما عجزت الحجج الدامغات والبينات الواضحات من النفاذ إلى قلوب هؤلاء المشركين ، وإستمكن العناد والجحود منها صمتت الألسن وخشعت الأصوات وراحت السيوف والرماح تخطب على منابر الرقاب ، حتى استقام الأمر ورضخت النفوس وانتصرت إرادة الحق ، وراحت رايات الإسلام ترفرف عالياً على أرجاء دولة الإسلام الفتية التي أرسى النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) دعائمها على رمال صحراء كانت تموج بالكفر موجاً .(1/4)
ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هذه الدولة النبوية الفتية قد قامت على ركيزتين مهمتين عظيمتين هما :
الركيزة الأولى : توحيد الله تعالى .
الركيزة الثانية : توحيد الأمة .
وهاتان الركيزتان قد جمع الله تعالى بينهما في قوله { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء : 92].
أما الركيزة الأولى : فتوحيد الإله يعني أن نعبد إلهاً واحداً ونوحده في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته ، وأن ننبذ الشرك ووسائله وطرقه وعدم موالاة أهله ، وهذا كله لا يقوم ولا يستقيم إلا بمتابعة النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) وطاعته في كل ما جاء به من ربه عز وجل .
حيث أن توحيد الله ومتابعة النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) هما شقا كلمة التوحيد (( لا إله إلا الله محمد رسول الله )) .
وهذه الركيزة المهمة تنقض كل ما كان عليه المشركين خاصة فيما اتخذوه من آلهة ومعبودات من جميع النواحي والوجوه :
فمن ناحية اتخاذ الآلهة وسائط لنيل القربى من الله تعالى ـ كما يزعمون ـ قال تعالى { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } [الزمر : 3] .
وهذه حجة ساقطة و متهافتة بدليل أن الله تبارك وتعالى سمى أصحابها ومن يحتج بها كاذب كفَّار { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } .(1/5)
ومن ناحية اتخاذهم الأنداد والوسطاء شفعاء يشفعون لهم عند الله ـ كما يزعمون ـ قال تعال { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [يونس : 18] .
وأما من ناحية احتجاجهم بما كان عليه الأباء والأجداد فقد قال تعالى { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [الزخرف : 23] .
وقال تعالى { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [البقرة : 170] . وقال :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [المائدة : 104] .
وقال { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ } [لقمان : 21] .
ومن المعلوم أن إتباع الأباء والأجداد يكون محموداً إذا كانوا على الحق ، كما قال تعالى عن يوسف الصديق أنه قال { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } [يوسف : 38] .(1/6)
وأما الركيزة الثانية : فيجب علينا أن نعلم أن هذه الأمة أمة واحدة ، وأن الشارع الحكيم قد أمر عبر نصوص الوحي المتواترة بالوحدة والالتئام ونبذ كل أشكال الفُرقة والانقسام وسد كل الوسائل والذرائع التي يمكن أن تؤدي إلى التصدع والتفرق ولهذا حُرِّم ومنع التحزب (1)
__________
(1) 4 ) الحزب ـ كما عرفه أهل العلم ـ هو كل جماعة لها رأس ، سواء قلة أم كثرت ، توالي وتعادي على أساس الحزب وتنتصر لارادته ومقرراته . ومن المعلوم أن كلمة الحزب لم تحرم لذاتها وإنما يحرم ما يندرج تحتها من مضمون ، ولهذا نرى أن الله تعالى قد قسَّم الناس إلى حزبين أثنين لا ثالث لهما :
الأول : سماه بحزب الله وهم ممن تحزبوا واجتمعوا على ما يرضي الله تعالى ، حيث أكد سبحانه على نصرهم وغلبتهم في الدنيا فقال تعالى َ { مَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } [المائدة : 56] ، وأكد على فلاحهم في الآخرة فقال تعالى { لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [المجادلة : 22] .
الحزب الثاني : حزب الشيطان وهم ممن تحزبوا واجتمعوا على ما لا يرضي الله تعالى حيث أكد تعالى على خسارتهم وعدم فلاحهم في الدنيا والآخرة ، فقال تعالى { أسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [المجادلة : 19] .(1/7)
والانشطار .
قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد : ((وهذه التعددات القبلية والعصبيات الجاهلية كانت من أولويات الإسلام الذي سعى في علاجها ، وفي توفير المناخ الملائم لنشأتها نشأة جديدة ، حيث سعى ( - صلى الله عليه وسلم - ) بنقلها (( إلى وحدة الدولة الإسلامية ، تحت لواء الإسلام ، عليه يعقد الولاء و البراء ، وتحت سلطة شرعية عامة واحدة ، ذات شوكة و منعة ، تعقد لها البيعة ، و يدان لها بالسمع و الطاعة ، فلا يجوز لمسلم أن يبيت ليلته إلا وفي رقبته البيعة لها .
وعليه ذابت تلك الروابط ، و تصدعت العصبية القبلية ، وسدَّ النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) المنافذ الموصلة إليها ، وبقي الرابط الوثيق لواء التوحيد ، فعليه يُعقد الولاء والبراء ، والتعاون ، والإخاء ، ولهذا لما قال أحد الصحابة _ رضي الله عنهم _ وهم في غزوة بني المصطلق : يا للمهاجرين ! وقال الآخر يا للأنصار ! صرخ بهم النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) قائلاً : (( أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ، دعوها فإنها منتنة )) [ متفق عليه ] .
وهكذا كلما بدا مظهر من مظاهر التحزب والعصبية كبته النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) حتى لحق بالرفيق الأعلى ، ولا حزبية ولا طائفية ، كل مسلم يحتضن كل الإسلام ، ويحتضن جميع المسلمين )) (1) أ . هـ
إذن يجب علينا دائماً أن ننظر إلى هاتين الركيزتين المهمتين ، وأن نسعى بجد في تحقيقهما ، لأننا إن فرطنا في حق الله تعالى علينا أذلنا الله تعالى ، فقد روى أبو نعيم في (( حلية الأولياء : 1 / 216 )) : (( عن جبير بن نفير قال : لما فُتحت قبرص فُرِقَ بين أهلها ، فبكى بعضهم بعضاً ورأيت أبا الدرداء جالساً وحده يبكي ، فقلت : يا أبا الدرداء ! ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله ؟
__________
(1) 5 ) حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية : 21.(1/8)
قال : ويحك يا جبير ما أهون الخلق على الله إذا هم تركوا أمره ، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى )) .
وإن فرطنا في حق أنفسنا من خلال تفرقنا إلى فرق وأحزاب متناحرة طمَّع ذلك فينا أعداء الإسلام الذين يتربصون ويتحينون الفرص للانقضاض علينا ، فعن ثوبان ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) : (( يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها )) .
فقال قائل : ومن قِلّةٍ نحن يومئذٍ ؟
قال : (( بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعنَّ اللّه من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفنَّ اللّه في قلوبكم الوهن )) .
فقال قائل : يا رسول اللّه ، وما الوهن ؟
قال : (( حبُّ الدنيا وكراهية الموت )) [ صحيح بطرقه ] .
قال الشيخ أحمد بن يحيى النجمي : (( لما جاء الإسلام أمر بالوحدة والالتئام ، ومنع التفرق والانقسام ، لأنَّ التفرق والانقسام يؤدي إلى التصدع ، و الانفصام ، لذلك فهو يرفض التحزب ، و الانشطار في قلب الأمة المحمدية الواحدة ، التي تدين لربها بالوحدانية ، ولنبيها بالمتابعة ، شأنها شأن الأمم الماضية في الرسالات السابقة ...... والدليل قوله جل و علا { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } [سورة الشورى : 13 ].(1/9)
...... وقوله (( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ )) أي : وصى جميع الأنبياء على الائتلاف والجماعة ونهاهم عن الافتراق والاختلاف ..... ومن هنا نعلم أنَّ هذين الأصلين أتفقت عليهما جميع الشرائع و أمر بهما جميع الرسل من لدن أولهم نوح عليه الصلاة والسلام إلى أخرهم محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) وهذان الأصلان هما :
أولاً : توحيد الله عز وجل وهو أفراد الله بالعبادة دون سواه .
ثانياً : الحرص على وحدة الأمة و عدم التفرق في الدين بإقامة أسباب الائتلاف وترك أسباب الإختلاف ، و لهذا ذم الله عز و جل الفُرقة في غير آية من كتابه عز و جل كقوله تعالى { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } [ سورة البينة : 4 ]، و قوله تعالى { وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ } [سورة الشورى : 14] ، وقوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُون } َ [سورة الأنعام : 159 ]، وقوله تعالى : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ، وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [سورة الأنبياء : 92 ].
وقد أخبر الله عز وجل في الآية الأولى من هاتين الآيتين أنَّ وحدة الأمة من العمل الصالح الذي أمرت به الرسل في الآية التي قبلها ، حيث يقول تعالى { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [سورة المؤمنون : 51 ]، { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } .
فيستفاد من الثلاث الآيات معاً :
أنَّ العمل الصالح الذي أمرت به الرسل جميعاً ينبني على أمرين أثنين :
أولاً : توحيد الإله .(1/10)
ثانياً : وحدة الأمة .
فأما توحيد الإله فحقيقته أن تصرف العبادة إلى الواحد الأحد ، خالق هذا الكون و المتصرف فيه .
و أما وحدة الأمة فحقيقتها أن يعبد الله بما شرعت الرسل عقيدة و عبادة وان تكون الأمة كلها كذلك ، ربها واحد ، ودينها وعقيدتها واحدة ، ونبيها واحد وهو الإمام الذي يسيرون على شريعته ، وهدفها واحد وهو إعلاء كلمة الله في أنفسهم وفي غيرهم ، وغايتها واحدة وهو الحصول على رضا الله والجنة والنجاة من سخطه والنار .
ولكن الأمم فعلوا غير ما أُمروا به فتفرقوا قِطعاً وتشتتوا شيعاً ، وكانوا أحزاباً متعادين ، وفرقاً متباغضين ، كل حزب بما لديهم فرحون ...) ) (1).
الفصل الثاني
وجاءت القاصمة
وجاءت القاصمة وتفرقت الأمة وتباغضت وتنافرت القلوب ، ونسي الناس ما أمرهم الله سبحانه و تعالى من الاعتصام بحبله ، والاجتماع عليه ، فأصابهم ما أصاب الأمم السابقة ، وحلَّت العداوة والبغضاء محل الألفة والمودة ، قال تعالى { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [المائدة : 14] .
ومن المعلوم أنَّ أمر الاختلاف ، و الافتراق أمر مفروغ منه _ كما قلنا سابقاً _ وهو أمر كوني قدري أراده الله سبحانه وتعالى قدراً لحكمة علمها الله سبحانه ، ولكنه لم يرده شرعاً (2)
__________
(1) 6 ) المورد العذب الزلال فيما أنتقد على بعض المناهج الدعوية من العقائد والأعمال : 86 ))، للشيخ أحمد بن يحيى النجمي .
(2) 7 ) إرادة الله : تنقسم إلى قسمين : شرعية وكونية ، والفرق بينهما :
أولاً : من حيث المتعلق : فالإرادة الشرعية تتعلق بما يحبه الله - عز وجل ـ، سواء وقع أو لم يقع ، وأما الكونية : فتتعلق بما يقع ، سواء كان مما يحبه الله أو مما لا يحبه .
ثانياً : الفرق بينهما من حيث الحكم ، أي حصول المراد ، فالشرعية لا يلزم منها وقوع المراد ، أما الكونية، فيلزم منها وقوع المراد. فقوله تعالى: { والله يريد أن يتوب عليكم } [النساء: 27] هذه إرادة شرعية، لأنها لو كانت كونية لتاب على كل الناس ، وأيضاً متعلقها فيما يحبه الله وهو التوبة. وقوله: { إن كان الله يريد أن يغويكم } [هود: 34] هذه كونية، لأن الله لا يريد الإغواء شرعاً، أما كوناً وقدراً، فقد يريده . .[ أنظر : القول المفيد على كتاب التوحيد : 1 / 164 ] للإمام محمد بن صالح العثيمين _ رحمه الله تعالى _ .(1/11)
، بدليل أنه نهى عنه ، وحذَّر منه وتوعد أصحابه بالخسارة والهلاك والنار
قال الدكتور ناصر العقل : (( هذه المسألة محسومة بأمور :
أولها : الأخبار المتواترة عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - بوقوع الافتراق في هذه الأمة ، ومن ذلك حديث الافتراق : (( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة )) ، هذا حديث للنبي - - صلى الله عليه وسلم - - مشهور ، وقد رواه جمع من الصحابة ، وخرَّجه الأئمة العدول ، الحفاظ في السنن ، كالإمام احمد ، وكأبي داود ، و الترمذي ، وابن ماجة ، والحاكم ، وابن حيان ، وأبي يعلى الموصلي ، وأبن أبي عاصم ، وأبن بطة ، و الآجري ، و الدارمي ، و اللالكائي . كما صححه جمع من أهل العلم كالترمذي ، والحاكم ، والذهبي ، والسيوطي ، والشاطبي ، وأيضًا للحديث طرق حسنة كثيرة ، بمجموعها تصل إلى حد القول بصحته .
الثاني : أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أخبر بخبر آخر أن الأمة ستتبع الأمم السابقة ، وهو الحديث الصحيح المتفق عليه في الصحاح والسنن ، وهو حديث : (( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر ، وذراعًا بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموه )) ، قلنا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟! قال : (( فمن )) ؟! [ أخرجه البخاري ومسلم ](1/12)
وهذا الحديث أيضًا فسر بما يدل على أن المراد التشبه بنصوص وألفاظ كثيرة ، مثل قول النبي - - صلى الله عليه وسلم - - : (( حذو القذة بالقذة )) ، وغير ذلك من الألفاظ التي تدل على أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أخبر - على سبيل التحذير - أن الأمة ستقع في الافتراق حتمًا ، وأن وقوعها أمر واقع تبتلى به هذه الأمة ، وليس وقوع الافتراق ذمًا إلا للمفترقين ، وليس هو ذمًا على الإسلام ، ولا انتقاصًا ، ولا ذمًا لأهل السنة والجماعة وأهل الحق ، إنما هو ذم للمفترقين . والمفترقون ليسوا هم أهل السنة والجماعة ، بل أهل السنة هم الباقون على الأصل ، وهم الباقون على الإسلام ، وهم الذين أقام بهم الله الحجة على الناس ، إلى قيام الساعة .
إذًا فالافتراق واقع حتمًا ، وهو خبر صادق حتى لو لم يشهد به الواقع ، وتشهد به العقول ، فهو ثابت عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - من طرق وألفاظ عديدة ، لذلك ورد التحذير منه ، وإذا كثر التحذير دل على أن الأمر واقع أو سيقع .
الثالث : والنصوص الواردة في القرآن والسنة تتضمن التحذير من إتباع السبل وهي الأهواء والفرق ، من ذلك قوله تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تتفرقوا } [ آل عمران : 103 ] ، وقال تعالى : { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } [ الأنفال : 46 ] ، وقوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات } [ آل عمران: 105 ]، وقال تعالى : { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } [ الشورى: 13 ]، وقوله تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } [ الأنعام : 153 ] .(1/13)
وقد شرح النبي - - صلى الله عليه وسلم - - هذه الآيات شرحًا بينًا مفصلاً ، بأن خط خطًا طويلاً - مستقيمًا - ثم خط خطوطًا تتفرع عن هذا الخط وتخرج عنه ، فبيَّن أن هذا صراط الله ، وهذه السبل هي الجواد التي تخرج عن السبيل الأساسية ، وأنه سيكون على سبل الهلاك دعاة يدعون إلى سبل الشيطان فمن أطاعهم قذفوه في مهاوي الهلكة .
رابعًا : وكذلك نهانا الله سبحانه وتعالى عن التنازع فقال : { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } [ الأنفال : 46 ] ، والتنازع قد وقع في طوائف هذه الأمة ، وافترقت به الفرق .
خامسًا : كذلك توعد الله سبحانه وتعالى الذين يخرجون عن سبيل المؤمنين ، قال تعالى : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ، ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا } [ النساء : 115 ] ، وقد حصلت المشاقة لله ولرسوله واتباع غير سبيل المؤمنين من أهل النفاق والشقاق والافتراق ، نسأل الله العافية .
وسبيل المؤمنين هو سبيل أهل السنة والجماعة .
سادسًا : كما أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - رتب أحكامًا على المفارقة بدليل أنها ستقع ، فقد حذر من مفارقة الجماعة في مثل قوله - - صلى الله عليه وسلم - - : (( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة )) [ متفق عليه ] .
سابعًا : وقد أخبر النبي - - صلى الله عليه وسلم - - بالافتراق في هذه الأمة ، حين أخبر عن الخوارج ، وأنهم سيخرجون عن هذه الأمة ، وأنهم يمرقون من الدين ، والمروق قد لا يعني الكفر أو الخروج من الملة بالكلية ، إنما المروق قد يعني الخروج من أصل الإسلام ، أو عن حدوده ، أو بعض ذلك ، والخروج يكون بالكفر ، أو ما دون الكفر ، وقد يعني الخروج من أمة الإسلام وهي جماعته ، أو من السنة التي عليها أهل السنة وهم أهل الإسلام في الحقيقة .(1/14)
ثامنًا : والنبي - - صلى الله عليه وسلم - - أمر بقتل المفارق للجماعة ، كما مر في الحديث السابق ، وهذا تشريع في أمر لابد حاصل ، إذ لا يكون تشريع النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ترفًا أو افتراضًا .
تاسعًا : كذلك بين النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أن من مات مفارقًا للجماعة مات ميتة جاهلية ، وأن الفرقة عذاب ، وأن الشذوذ هلكة ، وغير ذلك من الأمور والمعاني التي تدل على أن الفرقة واقعة ، والتحذير منها لم يكن عبثًا ، إنما لأنها ستقع ابتلاءً ولا تقع إلا والناس على بصيرة ، يعرفون الحق وهو الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح ، والباحثون عن الحق يميزون بين الحق والباطل ، فمن أهتدى ، أهتدى على بصيرة ، ومن ضل بعد ذلك ضل على علم ، نسأل الله العافية من الضلالة .
وبعد : فإن هذه الأدلة القاطعة على صحة حدوث الافتراق في الأمة ، ابتلاءً وفتنة وأنه من سنن الله التي لا تتبدل ، وأن الافتراق كله مذموم ، وعلى المسلم أن يعرفه ، ويعرف أهله ، فيجنب مواطن الزلل )) (1) .
وطالما أنَّ الاختلاف والافتراق واقع لا محالة لإخبار النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) بذلك ، وشهود الواقع بهذا !! فهل يعني هذا أنه يجوز لنا أن نركن إلى هذا الواقع المرير ويختار كل واحد منا حزباً يتحزب به و ينتمي إليه ، و طائفة يتقوقع فيها ؟!! بحجة أنَّ النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) قد أخبر بذلك !!
الجواب : لا , فليس هذا هو مراد النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) من أخباره بحديث الافتراق ، ولا يدل عليه لا من قريب ولا من بعيد ، وإنما مراده ( - صلى الله عليه وسلم - ) تحذير أمته من إتباع سبيل الهالكين من الأمم السابقة وسلوك مسالك الإختلاف والافتراق الوعرة .
__________
(1) 8 ) الافتراق مفهومه أسبابه وسبل الوقاية منه : 12 ، للشيخ ناصر بن عبد الكريم العقل(1/15)
بدليل التهديد والوعيد الشديدين لمن يتبع طريقاً غير طريق النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) وطريق أصحابه ( رضوان الله عليهم ) ، قال تعالى { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً } [النساء : 115] .
فإذا كان الأمر على هذا النحو من الأهمية والخطورة فما علينا إذن إلا أن نبحث عن الفرقة الناجية من بين هذا الكم الهائل من الفرق الهالكة ، كالذي أيقن أنَّ العمر محدود وإذا جاء الأجل فإنه لا يقدم ولا يؤخر ، ولكنه في الوقت نفسه عليه البحث عن أسباب النجاة إن أُصيب بخطر يهدد حياته .
وإذا ما أردنا أن نعرف حكم الإسلام في التحزب والتفرق بأشكالهما المتنوعة وأنواعهما المختلفة فإنه يجب علينا النظر في أمرين هما :
الأمر الأول : ورود نصوص الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم في التحذير من التحزب والتفرق .
الأمر الثاني : من خلال النظر في المساوئ والمفاسد الناتجة عنهما .
أما الأمر الأول :: لقد مر بنا سابقاً أدلة شرعية عرفنا من خلالها حكم الإسلام في التفرق والتحزب ، ولا مانع أن نعيد ذكرها ثانية لمناسبة المقام ، وإليك البيان :
1 ) قال تعالى { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [آل عمران : 103] .
2) وقوله { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات } [ آل عمران: 105] .(1/16)
3 ) روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) : (( إن الله يرضى لكم ويكره لكم ثلاثاً ، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، ويكره لكم قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال )) .
4 ) قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد في (( حلية طالب العلم : 61 )) : (( وإن الحزبية ذات المسارات والقوالب المستحدثة التي لم يعهدها السلف من أعظم العوائق عن العلم ، والتفريق عن الجماعة ، فكم أوهنت حبل الاتحاد الإسلامي ، وغشيت المسلمين بسببها الغواشي .
فأحذر رحمك الله أحزاباً وطوائف طاف طائفها ، ونجم بالشر ناجمها ، فما هي إلا كالميازيب ؛ تجمع الماء كدراً ، وتفرقه هدراً ؛ إلا من رحمه ربك، فصار على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم )) .
5 ) وقال الشيخ أحمد بن يحيى النجمي : (( فهل ترى أن نهي الله عز وجل على التفرق والتحزب والتشنيع وذم أهل هذه الصفات والتحذير من طريقتهم كان عبثاً أو أنزله الله عز وجل وقاله رسوله ( - صلى الله عليه وسلم - ) ليكون ضرباً من ضروب التسلي ، أو ليكون حديثاً عابراً من أحاديث السمر ؟ كلا ثم كلا، إنًَّ القرآن كله عظات وعبر وأوامر ونواهي ......وقد تبين مما ذكر أنًَّ نهي الله عز وجل عن الحزبية والتحزب والفُرقة والتفرق لم يكن إلا ليُعَلِم عباده بما فيها من الشر المؤكد والفشل المرتقب والعداوة المنتظرة بين من
أمرهم أن يكونوا أمة واحدة وحزباً واحداً ، يعبدون رباً واحداً ، ويتبعون رسولاً واحداً ، ويتجهون إلى قبلة واحدة ، ويدينون بدين واحد ، وتربطهم رابطة واحدة ، وهي رابطة الدين ......(1/17)
وروى عبد الله بن أحمد بن حنبل عن عبد الله بن عباس ( رضي الله عنهما ) : (( قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجل فجعل عمر يسأله عن الناس فقال يا أمير المؤمنين قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا قال أبن عباس فقلت والله ما أحب أن يتسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة ، قال فزجرني عمر رضي الله عنه ثم قال مه فانطلقت إلى منزلي مكتئبا حزينا فبينا أنا كذلك إذ أتاني رجل فقال أجب أمير المؤمنين فخرجت فإذا هو بالباب ينتظرني فأخذ بيدي فخلا بي فقال ما الذي كرهت مما قال الرجل آنفا فقلت : يا أمير المؤمنين متى يتسارعوا هذه المسارعة يحتقوا ومتى يحتقوا يختصموا ، ومتى يختصموا يختلفوا ، ومتى يختلفوا يقتتلوا .
قال : لله أبوك إن كنت لأكتمها الناس حتى جئت بها .
قلت [ أي الشيخ النجمي ] : ما أشبه الليلة بالبارحة إن الاختلاف الذي خافه عبد الله بن عباس ووافقه عليه عمر ( رضي الله عنه ) على أمة محمد قد وقع ثم وقع وما تفرقت الأمة شيعاً وأحزاباً كمن سبقهم إلا بسبب الاختلاف ......
والشاهد من هذا الأثر أن المحاقة موجبة للاختلاف ، ومعنى المحاقة : أن كل واحد من المتخاصمين يقول الحق معي ، وهي معنى قوله (( يحتقوا )) ومتى يحتقوا يختلفوا ، ومتى اختلفوا اقتتلوا أما بالألسن والأقلام وأما بالأيدي والسيوف .... )) (1).
__________
(1) 9 ) المورد العذب الزلال فيما أنتقد على بعض المناهج الدعوية من العقائد والأعمال : 101 .(1/18)
وأما الأمر الثاني : فمن المعلوم أن معرفة أي عمل يقوم به فرد أو جماعة فإنما يكون ذلك من خلال النظر في نتائجه وثمراته التي تعقب حدوث الفعل وفق قاعدة (( من ثمراتهم تعرفونهم )) ، ولو أننا نظرنا في عاقبة التحزب والتفرق لرأينا بجلاء ووضوح نتائج و ثمرات هي عبارة عن مفاسد ومساوئ ظاهرة للعيان لا تكاد تخفى على أحد ، ـ والتي سنسلط عليها الضوء بعد قليل ـ ، أشار إليها أهل العلم كمفاسد لأحزاب وفرق سميت ظلماً وعدواناً بالأحزاب الإسلامية ، فإذا كان هذا هو حال التحزب المتمسلم فكيف يكون حال التحزب الذي يكون خارج إطار الإسلام كما نراه اليوم في الأحزاب والتكتلات العلمانية التي هي بعيدة كل البعد عن الإسلام ، فمن باب أولى يكون المنع والردع أشد وأقوى .
وإليك أبرز المفاسد والمساوئ للتحزب والتفرق :
أولاً : (( الفرقة في الإسلام لا تكون إلاَّ على أساس الاختلاف في الكتاب ، ونتيجتها تَمَزُّق الأُمَّة إلى أحزاب ، قال الله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ }
ثانياً : قولهم : لا عمل للإسلام إلاَّ بحزب ، إذاً فإلى أي حزب ينتمي الداعية ؟ أم يطلبون من المسلم أن يكون متحزِّباً مفرِّقاً لكلمة المسلمين ، وأن تكون له الحرِّية في الانتماء إلى ما شاء من الأحزاب ، حتَّى يكونوا سواء في الملامة والمؤاخذة ، كما كان يقول قوم لوط عن المؤمنين : { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } .
ثالثاً : الإذن بالأحزاب في الإسلام فيه فتح باب لا يرد بدخول أحزاب تتسمَّى بالإسلام ، وهي حرب عليه ، فكم تبع أناس القاديانية والبهائية وما إليها ، وكم التفَّ حولها من المسلمين ما لا يحصيهم إلاَّ الله فأخرجهم من نور الإسلام إلى الضلال البعيد .(1/19)
رابعاً : (( التعدُّد داعية الفرقة ، والفرقة سبب للمنازعة المورِّثة للفشل والضعف والوهن، قال الله تعالى : { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ... } (... فالحزبية مظنَّة الفرقة ، بل مئنّةٌ لها وللبغضاء بين أهل الإسلام ، قال الله تعالى : { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم } .
خامساً : (( كم كانت الحزبية - وبخاصَّة السياسية منها - سبباً لصرف الأنظار عن الأمراض الحقيقية التي تنخر في جسم الأُمَّة من داخل ، فتفرز فيها القابلية للتخلُّف والهزيمة )) .
سادساً : (( ومن أظهر مضارها أن تفتقد السير بالدَّعوة إلى الله تعالى في مراحلها على منهاج النبوة ، فهي لا تعنى [ بـ ] ترسيخ الاعتقاد ، ولا التفقه في الدين ، ولا نشر لسان العرب . فإن قيل : بلى ، قيل : أرونا هذا بأدلته المادية ، فأين الدعاة الذين صفتهم في هذه الأحزاب : رسوخ الاعتقاد في التوحيد خالصاً من البدع والأهواء في القدوة وفي العمل ، مبرِّزاً في فقهه ، متضلِّعاً بلغة العرب ونصاعة بيانها ؟.أين هؤلاء ؟ وأين آثارهم العلمية والشبابية ؟ وأين معاقل العلم التي صنعوا بها رجالاً ؟ )) .
سابعاً : (( وكم كانت الأحزاب المبنية على تصعيد النظرة السياسية الخالية من القاعدة الإسلامية الملتزمة ،سبباً في التسلُّط على الإسلاميين وحصدهم ، وتقهقر الدعوة ، وقهر الدعاة ، وكبت الانطلاقة في الدعوة إلى الله تعالى )) .
ثامناً : (( هل يسمح الحزب بتعدُّد الأحزاب في البلدة الواحدة ، وتوزع انتماءات أهلها ؟ … فمن قال : نعم ، فهو جواب مَن لا يعقل ولا يريد بالأُمَّة خيراً .(1/20)
وإن قال : لا ، فكيف يسمح لنفسه بحزبه دون بقية الأحزاب ؟ ... ليس أمامنا إلاَّ لزوم جماعة المسلمين السائرين على مدارج النبوة ، مَن كان على مثل ما عليه النَّبِيُّ ( وأصحابه - رضي الله عنهم - )) .
تاسعاً : (( بدعيتها ، ولو لم يكن من أمر الحزبية التي تنفرد باسم أو رسم عن منهاج النبوة ، إلاَّ أنَّها عمل مستحدث لم يُعْهَد في الصَّدر الأوَّل [ لكان كافياً في المنع منها ] فليسعنا ما وسعهم )) (1).
عاشراً : قال الشيخ بكر أبو زيد في (( حكم الانتماء : 153 )) : (( إنَّ إنشاء أي حزب في الإسلام يخالفه بأمر كلي أو بجزئيات لا يجوز ، ويترتب عليه عدم جواز الانتماء إليه ، ولنعتزل تلك الفرق كلها ، وعليه فلا يجوز الانصهار مع راية أخرى تخالف راية التوحيد بأي وجهٍ كان من وسيلة أو غاية . ومعاذ الله أن تكون الدعوة على سنن الإسلام مِظَلَّة يدخل تحتها أي من أهل البدع والأهواء ،:فيُغَض النَّظر عن بدعهم وأهوائهم على حساب الدعوة )) .
الحادي عشر : قال الشيخ صفي الرحمن المباركفوري : (( إنَّ الإسلام لا يتحمَّل في داخله تنظيماً آخر بحيث تكون أُسُس ذلك التنظيم وقواعده أساساً للولاء والبراء ... وذلك لأنَّ الإسلام لمَّا قضى على جميع المواد التي كانت أساس الولاء والبراء في الجاهلية ، وجعل الإسلام نفسه مادَّة الولاء والبراء ، وجعل جميع المسلمين سواسية في الحقوق ، لم يبق عنده مجال لتعدُّد الجماعات والكتلات المتفرقة ، بحيث لا يكون لإحداها حقوق وعلاقات بالأخرى حتى يحتاج إلى عقد التحالف بينها )) .
__________
(1) 10 ) أنظر ( التحذير من التفرق والحزبية : 23 ) أعداد : عثمان بن معلم وأحمد حاج محمد عثمان .(1/21)
وبما سبق يتبيَّن أنَّ الحزبية المفرِّقة بين الأُمَّة ضررها أكبر من نفعها ، وإذا كان المسلم مَن سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده ، والمؤمن مَن أمنه الناس على دمائهم وأموالهم ، فإنَّ التنظيم ذا التوجه الشمولي يعطي لنفسه الحق في الانفراد بقرارات تؤثِّر على مجموع الأُمَّة كتدبير الانقلابات ، وشنِّ الغارات بحيث لا يشعر الناس بالأمان من جانب ذلك التنظيم ويتوجسون منه الشر كل حينٍ وآن .
الثاني عشر : عقد الولاء والبراء على ما لم يعقده الله عليه من الكينونة داخل الحزب ، أو تأييده وإن لم ينتظم فيه . ...
مع أنَّ أصل الولاء يُعْطَى للمسلم لمجرَّد كونه مسلماً ، ويزاد فيه لحسن إيمانه وتقواه وصحة منهجه ، وبحسب علمه بالحق ونصرته له ، ويُعَادَى الشَّخْص لإخلاله بمقتضيات الإيمان وتعصُّبه للباطل وأهله .
فالمؤمن أخو المؤمن يواليه وينصره وإن تناءت الديار واختلفت الأجناس . فالإسلام أقام الأُخُوَّة بين المؤمنين على أساسٍ متينٍ ، وأحكمها بحيث لا تحتاج إلى عمادٍ من الحزبية .
قال الله تعالى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة : 71].... .(1/22)
قال صفي الرحمن المباركفوري في (( الأحزاب السياسية في الإسلام : 46 )) : (( إذا قلنا بتكوين الأحزاب السياسية في الإسلام ، فالحزب إمَّا أن يجعل الإسلام أساس الولاء والبراء أو يجعل أمراً آخر غيره ، فإنْ جَعَلَ الإسلام هو الأساس فإنَّ الإسلام لا يحتاج إلى إقامة حزب آخر ، أو تنظيم جماعة أخرى ، بل هو نفسه يكفي لذلك ، وإن جعل أساسهما أمراً آخر غير الإسلام فإنَّ هذا الأمر في معظم أحواله لا يخلو من أن يكون من أُمور الجاهلية من العنصر والقبيلة واللغة والوطن وغيرها ، ومعلوم أنَّ الإسلام قد نهى عن الدَّعوة إليها ، وعن الانضمام تحت لوائها ، روى مسلم عن أبي هريرة ( قال : سمعت رسول الله ( يقول : (( مَنْ قَاتَل تحت راية عمية يغضب لعصبية أو يدعو لعصبية أو ينصر عصبية فقتل فقتلة جاهلية )) [ رواه مسلم ].
وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ( : (( أبغض الناس إلى الله ثلاثة : مُلْحِد في الحرم ، ومبتغٍ في الإسلام سُنَّة الجاهلية ، ومطلب دم امرئ مسلم بغير حق ليهريق دمه )) [ رواه البخاري ] .إذن فلندع هذا الأساس المنتن للأحزاب ، ولا نلوِّث به الإسلام )) (1) .
أما حكم الانتماء إلى هذه الفرق والأحزاب : فيعرف ذلك من خلال معرفة مراد النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) من وراء إخباره بحديث افتراق أمته ، فكل عاقل لبيب يدرك أن مراد النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) من الإخبار بذلك هو التحذير والوعيد من الاختلاف والافتراق وكذلك وجوب اعتزال تلك الفرق والأحزاب عند وقوعها وخاصة عند عدم وجود جماعة للمسلمين تجمعهم ، وأمام يقودهم بدليل ما جاء في حديث حذيفة بن اليمان ( رضي الله عنهما ) .
فعن حذيفة ( رضي الله عنه ) قال : كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني .
__________
(1) 11 ) التحذير من التفرق والحزبية : 30 .[ بتصرف واختصار ] .(1/23)
فقلت : يا رسول الله ، إنا كنا في جاهلية وشر ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال : (( نعم )) .
قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير؟ .
قال : (( نعم ، وفيه دخن )) . قلت : وما دخنه ؟
قال : (( قوم يهدون بغير هديي ، تعرف منهم وتنكر )) .
قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر؟
قال : (( نعم ، دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها )). قلت : يا رسول الله، صفهم لنا ؟ . فقال : ((هم من جلدتنا ، ويتكلمون بألسنتنا )) .
قلت : فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ .
قال : (( تلزم جماعة المسلمين وإمامهم )) .
قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ .
قال : (( فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض بأصل شجرة ، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك )) [ رواه البخاري ومسلم ] .
ومما يستفاد من حديث حذيفة ( رضي الله عنه ) :
1) قال أبن حجر في فتح الباري : (( فتح الباري : 13/37 )) : (( قال الطبري في شرح حديث حذيفة الذي أورده البخاري تحت باب (( كيف الأمر إذا لم تكن جماعة )) قال : (( ... وفي هذا الحديث أنَّه متى لم يكن للناس إمام فافترق الناس أحزاباً ، فلا يتَّبع أحداً في الفرقة ، ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك ، خشيةً من الوقوع في الشر ))(1).
2) قال الشيخ الألباني في حديث حذيفة الذي فيه : (( فاعتزِل تلك الفرق كُلّها )) قال : (( في هذا الحديث أنَّ المسلم إذا أدرك مثل هذا الوضع ؛ فعليه حينذاك ألاَّ يتحزَّب ، وألاَّ يتكتَّل مع أي جماعة أو مع أي فرقة ، مادام أنَّه لا توجد الجماعة التي عليها إمام مبايع من المسلمين ))(2).
3 ) وقال الشيخ سليم الهلالي في (( لماذا اخترت المنهج السلفي : 26 )) : (( لقد أمر رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) حذيفة رضي الله عنه باعتزال جميع الفرق التي تدعو إلى جهنم أيام الشرور والفتن ، عندما لا يكون للمسلمين جماعة ولا إمام .
__________
(1) 2 ) المصدر السابق : 26 .
(2) 3 ) المصدر السابق : 30 .(1/24)
وقد تنوعت كلمات العلماء في شرح هذا الأمر النبوي ، والذي شرح الله صدري إليه أن هذا الأمر النبوي فيه وجوب إلتزام الحق ، ومناصرة أهله ، والتعاون على أساسه ، ودونك البيان :
1) هذا أمر بلزوم الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح ، يدل على ذلك قوله ( - صلى الله عليه وسلم - ) في حديث العرباض بن سارية ( رضي الله عنه ) : (( من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإنها ضلالة ، فمن أدرك ذلك منكم فعليكم بسنتي ، وسنة الخلفاء الراشدين ، عضوا عليها بالنواجذ )) . ففي حيث حذيفة أمره أن يعض على أصل شجرة عند الاختلاف معتزلاً فرق الضلالة .
وفي حديث العرباض : أمره أن يعض على السنة النبوية ، بفهم الصحابة بالنواجذ عند الاختلاف ، وأن يبتعد عن المحدثات فإنها ضلالة .
فإذا جمعنا بين الحديثين ظهر معنى رائق ، وهو : إلتزام السنة النبوية بفهم السلف الصالح رضوان الله عليهم عند ظهور فرق الضلالة ، وغياب جماعة المسلمين وأمامها .
2 ) يدلك على ذلك أن الأمر بأن يعض على أصل شجرة في حديث حذيفة ليس ظاهره المراد ، وإنما معناه : الثبات على الحق واعتزال فرق الضلالة التي جانبت الحق .
أو معناه : أن دوحة الإسلام الوارفة ستعصف بها الرياح الهوج ، فتحطم أغصانها فلا يبقى إلا أصلها الثابت الذي يقف متحدياً الأعاصير ، عندئذ يجب على المسلمين أن يحتضنوا هذا الأصل ويفدوه بالنفس والنفيس ، لأنه سينمو مرة أخرى رغم شدة رياح السموم .... )) أ . هـ
أقول : بعد أن فرغنا من ذكر النقولات السابقة أرى _ والله تعالى أعلم _ أن الأمر قد وضح وبان لمن مَنَّ الله عز وجل عليه بنعمتي التوفيق والفهم ، ولله وحده الحمد والمنة .(1/25)
ولكن هيهات !! فبالرغم من كل تلك التحذيرات النبوية الواضحة ولكن أبى الناس إلا الانحراف والميل عن صراط الله المستقيم ، وركبوا كل صعب وذلول وامتطوا حصان الفتنة ، بعد أن ركبوا رؤوسهم وأصموا آذانهم حتى لا يسمعوا نصيحة ناصح أو موعظة واعظ .
ولم يبق لهؤلاء الذين أصابتهم بذرة الطائفية والحزبية المقيتة ، ووقعوا فيما وقعت فيه الأمم السابقة وانحرفوا عن سواء السبيل إلا أن يدعوا إلى الله تبارك وتعالى وسلوك سبيل الحق بالحكمة والموعظة الحسنة أو هي درة عمر تهوي على رؤوسهم الخاوية أو هو سيف أبي بكر وعلى الباغي تدور الدوائر ، وما ربك بظلَّام للعبيد .
الفصل الثالث
المسلمون بين مرحلتين
لقد مرت الأمة الإسلامية بمرحلتين مهمتين خطرتين بالنسبة لمسألة ظهور الفرق والأحزاب والطوائف والجماعات والتكتلات ، وما نتج عن هاتين المرحلتين من إفرازات خطيرة ، ونتائج وخيمة ، كان لهما الأثر البالغ في أضعاف الأمة وتمزقيها وذهاب ريحها ، حتى طمع فيها أعداء الإسلام الذين ما برحوا يتحينون الفرص الملائمة للانقضاض عليها وتدميرها وسلب خيراتها ومقداراتها .
وهذه الفرق والأحزاب والتكتلات سواء كانت سياسية لبست لبوس الإسلام أو عقدية أحدثت في دين الله ما لم ينزل سلطاناً ، أو عسكرية سارت في درب المواجهة والعنف ، أو أحزاباً ذات أفكار ومفاهيم ومعتقدات وافدة من مزابل الشرق والغرب لم يعهدها المسلمون في سابق عهدهم ، فإننا يمكن أن نقسمها ونصنفها على حسب ظهورها وتكوينها وعلى حسب ما نتج عنها من إفرازات وثمرات إلى قسمين وأنها مرت بمرحلتين هما :
المرحلة الأولى : فرق وأحزاب قديمة الظهور .
المرحلة الثانية : فرق وأحزاب معاصرة .
ومن الفائدة بمكان القول : إننا عندما نقول بقدم هذه الفرق والأحزاب فإن هذا لا يعني أنها قد انتهت وانقرضت وولى عهدها ، لا ، بل ما زال البعض منها لها وجود وحضور بأفكاره وأصوله والتفاف الكثير من أبناء المسلمين من حوله .(1/26)
ولكننا لما رأينا أن الفرق والأحزاب والتكتلات المعاصرة بأفكارها ومعتقداتها الوافدة وما نتج عنها من إفرازات ونتائج جديدة على المسلمين وعقيدتهم ، تمثل إنقلاباً حقيقياً وخطيراً في مجتمعاتهم لجأنا إلى هذا التقسيم والتفريق في سبيل تصور الحال وتقريب فكرة الموضوع وتوضيحها وكذلك التنبيه على مخاطر هذه المرحلة وما تنذر به من شرر وخطر .
المرحلة الأولى : الفرق والأحزاب القديمة : فهي قديمة في ظهورها وتكوينها ، حيث يمكن القول فيها أنها تمتد منذ أواخر القرن الأول الهجري إلى وقت قريب من سقوط الدولة العثمانية ،حيث بدأت معطيات المرحلة الثانية تلوح بالأفق .
ومن أبرز فرق وأحزاب هذه المرحلة هي :
1 ) الخوارج : هم الذين خرجوا على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وخرجوا على الأمة الإسلامية .
ولذلك سموا بالخوارج لخروجهم على إمام المسلمين والأمة الإسلامية . وهم من أوائل الفرق خروجًا ، ويقال لهم : الحرورية نسبة إلى حروراء موضع بالعراق قرب الكوفة ، وهم يوصفون بأنهم من أشد الناس تدينًا كما قال - عليه الصلاة والسلام - : (( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم إلى يوم القيامة )) .(1/27)
وهم يستحلون قتل المسلمين ويجعلون ديارهم ديار حرب ، وهم يكفرون أهل التحكيم كعلي ، ومعاوية ، وعمرو بن العاص ، وأبي موسى الأشعري ، ومن شارك في القتال ورضي بالتحكيم ، وينكرون الأخذ بالسنة ، فلا يأخذون بها جملة وتفصيلاً ، ويكفرون مرتكب الكبيرة ، ويعتقدون أنه إن مات مصرًا عليها فهو خالد في النار أبدًا كخلود الكفار ، وينكرون الشفاعة في الآخرة ، ويقولون في كثير من الصفات كقول الجهمية ، فينكرون الرؤية ، ويقولون : إن القرآن مخلوق ، ويحرفون سائر الصفات ، وقد تفرقوا أحزابًا وتمزقوا شيعًا وصاروا طوائف كثيرة ، ومن أخبث فرقهم في هذا الزمان الإباضية ، فإنهم هم الخوارج ، والله أعلم )) (1).
2 ) الجهمية : هم أتباع الجهم بن صفوان الترمذي ، الذي أخذ مقالة التعطيل عن الجعد بن درهم ، وهو الذي أذاعها ونشرها ، فنسبت الفرقة إليه ، وقتل الجهم في خراسان سنة 128هـ ، وهم من أخبث الطوائف وأضلها وأبعدها عن الحق . ومذهبهم في الصفات والأسماء إنكارها وتعطيلها ، فهم في باب الأسماء والصفات معطلة ، بل هم رؤوس المعطلة . ومذهبهم في أفعال العباد الجبر ، أي أن العبد مجبور على فعله ، فيسلبون العبد مطلق القدرة والاختيار ، فهم في باب القدر جبرية . ومذهبهم في الوعد الوعيد الإرجاء ، أي أنه لا يضر مع الإيمان فعل الكبائر ما خلا الشرك ، فهم في باب أسماء الأحكام والدين يقال لهم المرجئة .
ولذلك فإن كثيرًا من أهل السنة المتأخرين يخرجونهم من جملة طوائف الأمة ؛ لأنهم كفار الكفر الأكبر ، وقد ذكر بعض أهل السنة الإجماع على ذلك ، ويعني به إجماع المتأخرين ، والله أعلم (2).
__________
(1) 14 ) أنظر : إتحاف أهل الألباب بمعرفة التوحيد في سؤال وجواب : (( 3 / 474 س : 365 )) للشيخ وليد بن راشد بن سعيدان
(2) 15 ) أنظر : إتحاف أهل الألباب بمعرفة التوحيد في سؤال وجواب : (( 3 / 473 س 395 )) للشيخ وليد بن راشد بن سعيدان .(1/28)
3 ) المعتزلة : هم أتباع واصل بن عطاء ، وهي فرقة ظهرت في أوائل القرن الثاني ، وسلكت منهجًا عقليًا متطرفًا في بحث العقائد الإسلامية وسموا بذلك : لأن رئيسهم واصل بن عطاء اعتزل حلقة الحسن البصري لما خالفه في حكم مرتكب الكبيرة ، فاعتزله وجلس عند سارية يقرر هذا المذهب ، فاجتمع معه بعض الأتباع كعمرو بن عبيد وغيره ، فسمي واصل ومن جلس إليه بالمعتزلة ، لاعتزالهم حلقة أهل السنة وأهل الحديث . ومذهبهم : مبني على خمسة أصول وهي التي يسميها أصحابها الأصول الخمسة :
الأصل الأول : التوحيد : ويقصدون به نفي صفات الله تعالى ، بحجة أنهم لو أثبتوا الصفات لاستلزم ذلك تعدد القدماء ، فلابد من توحيد الله بالقدم ، ولا يمكن ذلك إلا بإنكار الصفات وتحريفها ....
والأصل الثاني : عندهم العدل : ويقصدون به إخراج أفعال العباد أن تكون مخلوقة لله تعالى ؛ لأنهم يعتقدون أن العبد هو الذي يخلق فعله وأنه لا تعلق أبدًا لأفعال العباد بمشيئة الله تعالى.....
والأصل الثالث عندهم الوعد والوعيد ، ويعنون به أنه يجب على الله تعالى إنفاذ وعده ووعيده ، فلا يجوز على الله تعالى أن يخلف شيئًا مما وعد به ولا مما أوعد به ....
والأصل الرابع عندهم : المنزلة بين المنزلتين ، وهي من أوائل أصولهم ، وهي التي بسببها سموا معتزلة كما ذكرت آنفًا ، ويعنون به أن مرتكب الكبيرة خرج من مسمى الإيمان ، ولكنه لم يدخل في مسمى الكفر ، بل أصبح بفعل الكبيرة في منزلة بين الإيمان والكفر ، فلا هو مؤمن ولا هو كافر ، بل هو بين المنزلتين ....
والأصل الخامس والأخير عندهم : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويقصدون به استعمال السيف ، والخروج على الأئمة بسبب ضلالهم وطغيانهم ، فهم يجيزون الخروج على السلطان إذا فعل الكبيرة ووصف بالفسق ... (1).
4 ) المرجئة :
__________
(1) 16 ) المصدر السابق : 3 / 471 .(1/29)
قال الدكتور إبراهيم بن عامر الرحيلي في (( موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع : 1 / 33 )) : (( أسم فاعل من الإرجاء ، ويأتي الإرجاء في اللغة بمعنيين :
أحدهما : بمعنى التأخير كما في قوله تعالى { قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ } [الأعراف : 111] أي : أمهله وأخره .
الثاني : إعطاء الرجاء ، حيث تقول : أرجيت فلاناً ، أي : أنك أعطيته الرجاء .
ويمكن أن تكون تسمية هذه الفرقة مأخوذة من المعنى الأول ، لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن الإيمان وعقد القلب .
ويمكن أن تكون مأخوذة من المعنى الثاني لأنهم كانوا يقولون (( لا تضر مع الإيمان معصية )) وكانوا يعطون المؤمن العاصي الرجاء ، وكذلك يحكمون بأنَّ صاحب الكبيرة مؤمن لا يعذب ، لأنَّ العذاب للكفار .
أما المرجئة في الاصطلاح ، فقد عرفهم الإمام أحمد بن حنبل _ رحمه الله ـ تعريفاً جامعاً فقال : (( هم الذين يزعمون أنَّ الإيمان مجرد النطق باللسان ، وأنَّ الناس لا يتفاضلون في الإيمان ، وأنَّ إيمانهم ، وإيمان الملائكة والأنبياء ( صلوات الله وسلامه عليهم ) واحد ، وأنَّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص ، وأنَّ الإيمان ليس فيه استثناء ، وأنَّ من آمن بلسانه ، ولم يعمل فهو مؤمن حقاً )) أ . هـ
5) القدرية : وهم أتباع معبد الجهني وغيلان الدمشقي ، وأتباع واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد من المعتزلة ومن وافقهم هؤلاء هم القدرية .(1/30)
وقولهم بالقدر : إنَّ العبد مستقل بعمله في الإرادة والقدرة ، وليس لمشيئة الله تعالى وقدرته في ذلك أثر ، ويقولون : إنَّ أفعال العباد ليست مخلوقة لله ، وإنما العباد هم الخالقون لها ، ويقولون : إنَّ الواقعة ليست واقعة بمشيئة الله وغلاتهم ينكرون أنَّ يكون الله قد علمها ، فيجحدون مشيئته الشاملة ، وقدرته النافذة ، ولهذا سموا مجوس هذه الأمة ، لأنهم شابهوا المجوس الذين قالوا : إنَّ للكون إلهين : إله النور ، وهو خالق الخير ، وإله الظلمة وهو خالق الشر (1).
إذن القدرية هم الذين أنكروا علم الله بالأفعال قبل وقوعها ، وأنه لم يقدرها وقالوا (( لا قدر وأنَّ الأمر أنف )) أي : مستأنف لم يسبق به قدر ولا علم من الله تعالى وإنما يعلمه بعد وقوعه .
ومن هذا نعلم أنَّ بدعة القدر مركبة من أمرين :
الأول : إنكار علم الله تعالى السابق للحوادث .
الثاني : إنَّ العبد هو الذي أوجد فعله وأنَّ الله لم يقدره .
وهذا باطل من القول بل أثبت الله تعالى أنَّ للعبد مشيئة وقدرة على الفعل وأنَّ هذا الفعل مخلوق لله وأنه لا يقع إلا بأذنه ، قال تعالى { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } [الإنسان : 30] . وقال تعالى { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [الصافات : 96] .
وأول من تكلم بالقدر رجل من أهل البصرة أسمه سوسن فأخذ عنه معبد الجهني .
6 ) الرافضة : هم الذين يغلون في آل البيت ويرفعونهم عن مرتبة البشرية إلى مرتبة الإلهية ويضيفون عليهم من الصفات والأفعال ما لا يليق إلا برب الأرض والسماء ويفضلون علي بن أبي طالب على سائر الصحابة ، وبعضهم يعتقد أنه هو الرسول ولكن الملك أخطأ في الرسالة .
__________
(1) 17 ) الإيمان بالقضاء والقدر : 173 ، للشيخ محمد بن إبراهيم الحمد .(1/31)
وسموا رافضة لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - ، فإنهم قالوا له : ما قولك في أبي بكرٍ وعمر ؟ فقال : هما وزيرا جدي - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - - فانصرفوا عنه ورفضوه .ويقال لهم الشيعة وذلك لتشيعهم لآل البيت وغلوهم فيهم .
وأشهر طوائفهم الاثني عشرية وهم الذين يعتقدون أن الإمامة في الاثني عشر الذين أخرهم محمد بن الحسن العسكري صاحب السرداب أعني سرداب سامراء بالعراق (1).
7 ) الأشاعرة : هم أتباع أبي الحسن الأشعري ، وهذه الفرقة تنسب إليه ، وقد تاب وعاد إلى مذهب أهل السنة وألف في ذلك بعض الكتب ، ولكن لم يسلم من بعض الألفاظ الكلامية حتى ولو بعد توبته - فنسأل الله تعالى أن يعفو عنه ويغفر له - .
والأشاعرة في باب الأسماء والصفات معطلة ، فهم يثبتون الأسماء ، ولكن لا يثبتون من الصفات إلا الصفات السبع فقط ، وهي : الحياة ، والكلام ، والبصر ، والسمع ، والإرادة ، والعلم ، والقدرة فقط ، مع اختلاف مع أهل السنة في طريق إثباتها ، ويسمونها بالصفات العقلية .
وهم في باب القدر مرجئة ، لأنهم يخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان ، بل ويخرجون القول أيضًا ويزعمون أن الإيمان هو الاعتقاد القلبي فقط ، وأما القول والعمل فهما فضلة زائدة لا تأثير لوجودهما ، ولا لعدمهما في زيادة الإيمان ونقصه ، فالإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص ، وهم في باب القدر جبرية لاعتقاد أن العبد لا قدرة له ولا اختيار ، والله أعلم (2).
ولو أننا تأملنا في حال هذه الفرق والأحزاب لرأينا أنها قد أفرزت عدة إفرازات وأثمرت عدة ثمرات لم يأمر بها الكتاب ولم تأتِ بها السنة ، يشعر بخبثها ومرارتها كل مسلم رزقه الله تعالى العلم والفقه في الدين ووفقه إلى سبيل النجاة من مطب الفرق والأحزاب .
__________
(1) 18 ) أنظر : إتحاف أهل الألباب بمعرفة التوحيد في سؤال وجواب : 3 / 476 .
(2) 19 ) المصدر السابق : 3 / 475 .(1/32)
ومن أبرز وأهم هذه النتائج والإفرازات والتي برزت في هذه المرحلة بالذات هي :
1 ) الغلو في تكفير المسلمين واستحلال دماءهم .
2 ) تكفير أمراء وحكام المسلمين وإعلان الخروج عليهم .
3 ) التكلم في ذات الله تعالى وما يجب له من الأسماء والصفات وما لا يجب له بين مثبت ممثل ، ونافٍ معطل كالجهمية والمعتزلة والأشاعرة .
4 ) التنازع في القدر بين من غلا في إثباته وبين من غلا في نفيه كالقدرية والجبرية .
5 ) التكلم في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إنكاراً لحقهم وفضلهم وسابقتهم في الإسلام حتى غلا البعض في تكفيرهم ومقاتلتهم وقتلهم كالخوارج والرافضة .
أما المرحلة الثانية : فيمثلها أحزاب وجماعات وتكتلات معاصرة وتنقسم من حيث التوجهات والمقاصد والمسميات إلى قسمين :
القسم الأول : أحزاب وجماعات إسلامية : وأبرز من يمثل هذا التيار ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ جماعة الأخوان المسلمين .
جماعة الإخوان المسلمون: أسسها حسن البنا ( ت : 1949 ) ، وهي جماعة لا تدعو إلى توحيد الإلهية ، والتحذير من الشرك الأكبر ، والتحذير من البدع ، بل هي متلبسة ببدع مختلفة ، وذلك يتضح بما يلي :
1/ معرفة حال المؤسس الأول لهذه الجماعة وهو حسن البنا :
أ - أنه صوفي (1)بايع على الطريقة الحصفية ، ويرى شد الرحال إلى القبور.
ب- أنه موالي لليهود والنصارى بزعم أن الدين الإسلامي الحنيف لا يعاديهم ديناً ، وأنهم إخوان لنا . وأن عداوتنا مع اليهود عداوة أرض فحسب .
ج - أنه من دعاة القومية العربية .
__________
(1) 20 ) قال سعيد حوى : وهو أحد كبار منظري الإخوان يقول في كتابه ( جولات في الفقه الكبير و الأكبر) الجولة الثامنة ص: 154 ما نصه وحرفه : (( ثم إن حركة الإخوان المسلمين نفسها أنشأها ( صوفي ) وأخذت حقيقة التصوف دون سلبياته !!! )) [ أنظر كتاب (( وقفات مع كتاب للدعاة فقط : 21 )) للشيخ محمد بن سيف العجمي ] .(1/33)
د- أنه من دعاة التقريب مع الشيعة (1).
هـ - أنه كان يحضر الموالد وينشد هذا البيت في رسول الله صلى الله عليه وسلم :
هذا الحبيب مع الأحباب قد حضرا
وسامح الكل فيما قد مضى وجرى
نقله عنه أخوه عبد الرحمن البنا [كتاب: حسن البنا بأقلام تلامذته ومعاصريه: 71 ] .
وهذا البيت متضمن للشرك الأكبر، لأنه لا أحد يسامح فيما مضى وجرى إلا الله سبحانه ، ومع هذا فليس كافراً لأنه قد يكون جاهلاً .
2/ أنها جماعة نشأت في أرض يكثر فيها الشرك الأكبر ، فلا تراهم يحاربونه وينكرونه ، وكان المفترض لو كانوا سائرين على هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يؤلفوا المؤلفات الكثيرة في إنكار الشرك بدل المؤلفات الفكرية المليئة بالأخطاء العقدية ، لكن أنى لهم هذا ، وهم فاقدوه ، وفاقد الشيء لا يعطيه .
3/ أن الشيء يعرف بآثاره ، والأثر الذي خلفته امتلاء السجون بالشباب ، وكثرة الاعتقالات بسبب فكر الثورة الذي ربت الشباب عليه .
4/ أنها بنيت على أسس منها : القاعدة التي يرددها حسن البنا " نتعاون فيما اتفقنا عليه ، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه " .
__________
(1) 21 ) قال الأستاذ عمر التلمساني : المرشد العام للإخوان المسلمين كتب مقالاً في مجلة الدعوة العدد 105 يوليو 1985 بعنوان ( شيعة وسنة) قال فيه : " التقريب بين الشيعة والسنة واجب الفقهاء الآن " وقال فيه أيضاً :" ولم تفتر علاقة الإخوان بزعماء الشيعة فاتصلوا بآية الله الكاشاني واستضافوا في مصر نواب صفوي ، كل هذا فعله الإخوان لا ليحملوا الشيعة على ترك مذهبهم ( انظر!!) ولكنهم فعلوه لغرض نبيل يدعو إليه إسلامهم وهو محاولة التقريب بين المذاهب الإسلامية إلى أقرب حد ممكن . [ أنظر (( وقفات : 30 )) للعجمي .(1/34)
وهذه قاعدة فاسدة ، معناها تمييع الخلاف مع المبتدعة من الصوفية والرافضة والمعتزلة وغيرهم ؛ لذا أنكرها علماؤنا الإجلاء : كسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ، والشيخ محمد بن صالح العثيمين ، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني (1).
وقال الشيخ عبيد الجابري : (( أولا : حينما نشأت جماعة الإخوان المسلمين و التي أنشأها حسن البنا في مصر، في نهاية العشرينات من القرن الماضي الميلادي ، كيف أظهر حسن البنا هذه القافلة ، وأسَّسَ لها ، ودعا بها ؟ :
1 ) : أنشأ (دار التقريب بين السنة والشيعة) في مصر، وقال كلمات منها : أن مراكز الإخوان وبيوت الإخوان مفتوحة للشيعة ، وكان يستضيف كبار الرافضة مثل نواب صفوي ، وكان يَتَّصلُ بهم في الحج ويُدغدغ عواطفهم ويليِّنهم بمقولات منها : (ليس بيننا وبينكم اختلاف ، وبيننا وبينكم أمور بسيطة يمكن حلها كالمتعة ) ، فأين سبُّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، بل أين تكفيرهم ـ إلا ثلاثة أو عشرة أو سبعة ـ ؟، أين قولهم إن القرآن محرّف ؟ . فهم يتعاملون معه حتى يظهر المهدي المنتظر، وأين قولهم على عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين زوج سيد الخلْق صلى الله عليه وسلم بالبهتان ؟؛ هذه كلها من مقولات الرافضة تغافل عنها حسن البنا ، ولم يَرَها شيئا ؛ لأنه يجمع ويُقَمِّش ويُلَفِّق .
وثانيا : قال مقولة هي كفرية في الحقيقة ـ ولا تنقلوا عنِّي أني أكفر البنا ـ، لكن المقالة كفرية ، قال : (ليس بيننا وبين اليهود خصومة دينيّة ، وإنما بيننا وبينهم خصومة اقتصادية ، واللهُ أمرنا بمودتهم ومصافحتهم )، واستدل بقوله بهذه الآية : { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } ، وهذه رواها عنه محمود عبد الحليم ـ وهو من خواصه ـ في كتابه ((الإخوان أحداث صنعت التاريخ)) .
__________
(1) 22 ) أنظر : كشف الشبهات العصرية عن الدعوة الإصلاحية السلفية : 106 : للشيخ عبد العزيز بن ريس الريس .(1/35)
ثم بعد ذلك كلّ مَن كان على منهج فبنا ومنهج الإخوان المسلمين في الدعوة هو على هذه القاعدة ؛ فانطلقت منها الدعوة إلى وحدة الأديان، والحوار بين الأديان؛ فلا تجد إخوانيًّا جَلْدا إلاَّ وهو على التقريب ؛ وأجلد من عرفنا في هذه الدعوة : حسن بن عبد الله الترابي السوداني ، ويوسف القرضاوي المصري ؛ فيوسف القرضاوي ـ وعندي وثائق على ما أنقله عنه ـ يُسمي هذه القاعدة بالقاعدة الذهبية ، ويعلِّلُ بالدعوة إلى وحدة الأديان بأنَّ الحياة تتسع لأكثر من حضارة ، وتتَّسع لأكثر من دين ، بل الدين الواحد يتسع لأكثر من اتجاه ، فهي مطَّاطية ـ يعني دين مطّاط يتسع لعدة مشاريع ينشئها القرضاوي ومَن على شاكلته ، ليس هو دين الإسلام الذي جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام وهو (الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة ، والبراءة من الشرك وأهله ) لا، الإسلام مجرد دعوة تجميعية تلفيقية تضم مَن تضم ، هكذا عند القرضاوي ؛ فالرافضة ، والصوفية أصحاب وحدة الوجود ، والباطنية ، والحلولية ، والقبورية هم مسلمون حقًّا بناء على هذه القاعدة ؛ لأنهم مجتمعون مع سائر أهل الإسلام وأهل السنة على قول لا إله إلا الله، ومختلفون فيما عدا ذلك ؛ إذًا كلٌّ اجتهد فوصل إلى ما أدَّى به اجتهادُه )) (1).
القسم الثاني : أحزاب وتكتلات علمانية - : ( وهي ما يهمنا في هذا البحث ) : وهي أحزاب وتكتلات ذات أفكار ومعتقدات باطلة تختلف وتتباين في توجهاتها ومشاربها ، حيث يقود الكثير منها إلى الإلحاد والكفر بالله العظيم ، برزت قبل وبعد سقوط الدولة العثمانية وساعد في ظهورها وانتشارها عدة عوامل أهمها :
1 ) حملات الاستعمار التي كانت تقودها دول الكفر على الأمة الإسلامية بعد أن ضعفت وذهب ريحها حتى صارت أمة لا يحسب لها حساب في ميزان الأمم .
__________
(1) 23 ) أصول وقواعد في المنهج السلفي : 12 .(1/36)
2 ) حملات التنصير (1)التي كانت تدخل إلى أرض المسلمين متخفية أما تحت مظلة الإحتلال تارة ، أو كانت تمر من تحت مظلة غفلة المسلمين وسذاجة الكثير منهم تارة أخرى .
3 ) ظهور أجيال من أبناء المسلمين أظهرت الاستعداد في تلقف هذه الأفكار والمعتقدات والسعي في نشرها وترويجها بل المقاتلة في سبيل تحقيق ذلك .
ومن أبرز الأحزاب العلمانية ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ التي ظهرت في هذه المرحلة الخطيرة من عمر الأمة الإسلامية هي :
__________
(1) سنسلط الضوء على هذا القسم من الأحزاب وما ينتج عنها من إفرازات لأنه مدار هذه الرسالة المباركة ، أما القسم الأول من المرحلة الثانية وهو ما يخص الأحزاب والجماعات الإسلامية فإنها قد انخدعت ببعض إفرازات أحزاب القسم الثاني كالديمقراطية مثلاً ، بل الأدهى والأمر من ذلك راحت تفتش عن بعض النصوص والمخارج لها في سبيل ترويجها بين الناس مثل قولهم أن الديمقراطية والانتخابات يشبهان نظام الشورى الذي جاء به الإسلام ، ولله وحده الشكوى .
( 24 ) التنصير : هي حركة دينية سياسية استعمارية بدأت بالظهور إثر فشل الحروب الصليبية بغية نشر النصرانية بين الأمم المختلفة في دول العالم الثالث بعامة وبين المسلمين بخاصة بهدف إحكام السيطرة على هذه الشعوب. ويساعدهم في ذلك ثلاثة عوامل:
- انتشار الفقر والجهل والمرض في معظم بلدان العالم الإسلامي .
- النفوذ الغربي في كثير من بلدان المسلمين.
- ضعف بعض حكام المسلمين الذين يسكتون عنهم أو ييسرون لهم السبل رغباً ورهباً أو نفاقاً لهم.
ويعد ريمون لول : أول نصراني تولَّى التبشير بعد فشل الحروب الصليبية في مهمتها إذ إنه قد تعلم اللغة العربية بكل مشقة وأخذ يجول في بلاد الشام مناقشاً علماء المسلمين. [ الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة : 675 ] .(1/37)
1 ) حزب البعث العربي الاشتراكي :حزب البعث حزب قومي علماني، يدعو إلى الانقلاب الشامل في المفاهيم والقيم العربية لصهرها وتحويلها إلى التوجه الاشتراكي، شعاره المعلن (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة) وهي رسالة الحزب، أما أهدافه فتتمثل في الوحدة والحرية والاشتراكية (1) .
إذن (( حزب البعث العربي الاشتراكي حزب قومي علماني انقلابي له طروحات فكرية متعددة يتعذر الجمع بينها أحياناً فضلاً عن الإقناع بها، لقد كُتِبَ عنه كثيراً وتحدث زعماؤه طويلاً ، ولكن هناك بون واسع بين ممارسات وأقوال فترة ما قبل السلطة ، وممارسات وأقوال فترة ما بعدها.
و الرابطة القومية عنده هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدولة العربية التي تكفل الانسجام بين المواطنين وانصهارهم في بوتقة واحدة وتكبح جماح سائر العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية حتى قال شاعرهم :
آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثان (2) .
تأسيس الحزب :
في نيسان 1947م تم تأسيس الحزب تحت اسم (حزب البعث العربي)، وقد كان من المؤسسين: ميشيل عفلق ، صلاح البيطار ، جلال السيد ، زكي الأرسوزي كما قرروا إصدار مجلة باسم البعث.
سلوكيات الحزب :
ادّعت سياسة الحزب أن تحقيق الاشتراكية شرط أساسي لبقاء الأمة العربية ولإمكان تقدمها، مع أن النتيجة الحتمية للسياسة الاشتراكية التي طبقت في العراق لم تجلب الرخاء للشعب ولم ترفع مستوى الفقراء ولكنها ساوت الجميع في الفقر، وبعد أن كان العراق قمة في الثراء ووفرة الموارد والثروات أصبح بطيش حزب البعث عاجزاً عن توفير القوت الأساسي لشعبه. ....
__________
(1) 25 ) الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة : 474 .
(2) 26 ) المصدر السابق : 484 .(1/38)
ومن ثم قام الحزب بتجريد الدستور العراقي من كل القوانين التي تمت إلى الإسلام بصلة، وأصبحت العلمانية هي دستور العراق ومعتقدات البعث ومبادئه هي مصدر التشريع لقوانينه.
ـ ورد في التقرير المركزي للمؤتمر القطري التاسع والمنعقد في بغداد في شهر يونيو من عام 1982م ما يلي:
( وأما الظاهرة الدينية في العصر الراهن فإنها ظاهرة سلفية (1) ومتخلفة في النظرة والممارسة ) .
(ومن الأخطاء التي ارتكبت في هذا الميدان أن بعض الحزبيين صاروا يمارسون الطقوس الدينية وشيئاً فشيئاً صارت المفاهيم الدينية تغلب على المفاهيم الحزبية ) (2) .
الجذور الفكرية والعقائدية :
__________
(1) 27 ) السلفية نسبة إلى السلف الصالح ، قال الدكتور إبراهيم بن محمد البريكان في (( المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية : 14 )) : (( السلف في اللغة : المتقدم في الزمن على غيره .
وشرعاً : هم الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان إلى يوم الدين ، ممن أجمعت الأمة على عدالتهم وتزكيتهم ، ولم يرموا ببدعة مكفرة أو مفسقة ، وهم بهذا المعنى تعبير عن شخصية اعتبارية ومنهج متبع . ...... وبهذا يعلم عدم صحة دعوى أن السلفية مرحلة زمنية وكفى ، لأن منهج السلف يشتمل على جانبين :
الأول : جانب القدوة .
الثاني : جانب المنهج المتبع .
فالقدوة هم أصحاب العصور الثلاثة ، والمنهج هو الطريقة المتبعة في هذه العصور في الفهم العقدي والاستدلال والتقرير والعلم والإيمان .
وبهذا يعلم : أن الوصف بالسلفية مدح وثناء على كل من أتخذها قدوة ومنهجاً ، وأما الوصف بها دون تحقيق ما دلت عليه فليس فيه مدح وثناء ، لأن العبرة بالمعاني لا بالمصطلحات اللفظية )) أ . هـ
فالسلف هذا شأنه وهذه منزلته والبعث يذمه وينتقصه ويصفه بالمتخلف في النظرة والممارسة فماذا بعد الحق إلا الضلال .
(2) 28 ) الموسوعة الميسرة : 480 .(1/39)
1ـ يعتمد الحزب على الفكر القومي الذي ظهر وبرز بعد سقوط الدولة العثمانية في العالم العربي والذي نادت به أوروبا، والذي نادى به منظَّر القومية العربية في العالم العربي آنذاك ساطع الحصري .
2ـ يعتمد الحزب على الفكر العلماني إذ ينحي مسألة العقيدة الدينية جانباً ولا يقيم لها أي وزن سواء على صعيد الفكر الحزبي أو على صعيد الانتساب إلى الحزب أو على صعيد التطبيق العملي.
3ـ يستلهم الحزب تصوراته من الفكر الاشتراكي ويترسم طريق الماركسية رغم انهيارها، والخلاف الوحيد بينهما أن اتجاهات الماركسية أممية، أما البعث فقومي، وفيما عدا ذلك فإن الأفكار الماركسية تمثل العمود الفقري في فكر الحزب ومعتقده ، وهي لا تزال كذلك رغم انهيار البنيان الماركسي فيما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي .
4ـ لقد كان الحزب واجهة انضوت تحته كل الاتجاهات الطائفية (درزية ـ نصيرية ـ إسماعيلية ـ مسيحية ) وأخذ هؤلاء يتحركون من خلاله بدوافع باطينة يطرحونها ويطبقونها تحت شعار الثورة والوحدة والحرية والاشتراكية والتقدمية وقد كانت الطائفة النصيرية أقدر هذا الطوائف على استغلال الحزب لتحقيق أهدافها وترسيخ وجودها (1)ومن المعلوم إن حزب البعث يحكم بلدين عربيين مهمين هما سوريا والعراق ، وقد عجز الحزب عن تحقيق الوحدة بين فصائله ، بل إن الصراع بين شطري البعث مستمر وعلى أشده ، واتهامات الخيانة بين الطرفين لا تنقضي، وإذا كان هذا هو شأن الحزب في بلدين يخضعان له فهو من باب أولى عاجز عن تحقيق وحدة الأمة العربية بكاملها.
والبعثيون يتطلعون إلى استلام السلطة في جميع أرجاء الوطن العربي باعتبار ذلك جزءً لا يتجزأ من طموحاتهم البعيدة ، وقد أدت بهم هذه الرغبة العارمة إلى السقوط في حمأة الإنذار المقنع والتهديد السافر والعدوان الصريح وربما يكون حزب البعث في العراق أسوأ ما شهده التاريخ ويتضح مما سبق :
__________
(1) 29 ) المصدر السابق : 485(1/40)
وبالتالي فأن حزب البعث العربي الاشتراكي حزب قومي سلطوي يحاد الله ورسوله ويسعى إلى قلب الأوضاع في العالم العربي ويتخذ العلمانية وتحقيق الاشتراكية مطلباً يبرر سياسته القمعية، ورسالته التي يصفها على خلاف الحقيقة بالتقدمية ويجعل من الوحدة العربية هدفاً ينفذه بالضم والإرغام رغم إرادة الشعوب.
والعلاقة معه يجب أن يحكمها قول الله سبحانه : ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ) (1).
وبالمحصلة تبقى فترة حكم البعث للعراق فترة مظلمة وتجربة قاسية عانى منها العراقيون أشد المعاناة من حروب متتالية وحصار وتجويع ومن ثم الطامة الكبرى عندما جر برعونة وسفه الكفار إلى أرض العراق حتى احتلوا أرضه وأذلوا شعبه وضيعوا أمنه وهتكوا ستره ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
2 ) الحزب الشيوعي : والشيوعية هي : مذهب فكري يقوم على الإِلحاد وأن المادة هي أساس كل شيء ويفسر التاريخ بصراع الطبقات وبالعامل الاقتصادي، ظهرت في ألمانيا على يد ماركس وانجلز ، وتجسدت في الثورة البلشيفية التي ظهرت في روسيا سنة 1917م بتخطيط من اليهود، وتوسعت على حساب غيرها بالحديد والنار وقد تضرر المسلمون منها كثيراً، وتعرضت شعوب للاستئصال والانقراض بسبب هذه الدعوة ، ولكن الشيوعية أصبحت الآن في ذمة التاريخ، بعد أن تخلى عنها الاتحاد السوفيتي، الذي تفكك بدوره إلى دول مستقلة، تخلت كلها عن الماركسية، واعتبرتها نظرية غير قابلة للتطبيق .
التأسيس وأبرز الشخصيات:
وضعت أسسها الفكرية النظرية على يد كارل ماركس اليهودي الألماني 1818 – 1883م وهو حفيد الحاخام اليهودي المعروف مردخاي ماركس ، وكارل ماركس شخص قصير النظر متقلب المزاج، حاقد على المجتمع، مادي النزعة، ومن مؤلفاته:
- البيان الشيوعي الذي صدر سنة 1848م.
- رأس المال ظهر سنة 1867م.
__________
(1) 30 ) المصدر السابق : 487 .(1/41)
ساعده في التنظير للمذهب فردريك إنجلز 1820 – 1895م وهو صديق كارل ماركس الحميم وقد ساعده في نشر المذهب كما أنه ظل ينفق على ماركس وعائلته حتى مات ، ومن مؤلفاته:
- أصل الأسرة .
- الثنائية في الطبيعة .
- الاشتراكية الخرافية والاشتراكية العلمية .
ـ لينين: واسمه الحقيقي: فلاديمير أليتش بوليانوف، وهو قائد الثورة البلشفية الدامية في روسيا 1917م ودكتاتورها المرهوب، وهو قاسي القلب ، مستبد برأيه ، حاقد على البشرية. ولد سنة 1870م ، ومات سنة 1924م ، وهناك دراسات تقول بأن لينين يهودي الأصل، وكان يحمل اسماً يهوديًّا ، ثم تسمى باسمه الروسي الذي عرف به مثله مثل تروتسكي في ذلك.
- ولينين هو الذي وضع الشيوعية موضع التنفيذ وله كتب كثيرة وخطب ونشرات أهمها ما جمع في ما يسمى مجموعة المؤلفات الكبرى.
ـ ستالين: واسمه الحقيقي جوزيف فاديونوفتش زوجا شفلي 1879-1954م وهو سكرتير الحزب الشيوعي ورئيسه بعد لينين، اشتهر بالقسوة والجبروت والطغيان والدكتاتورية وشدة الإصرار على رأيه، يعتمد في تصفية خصومه على القتل والنفي كما أثبتت تصرفاته أنه مستعد للتضحية بالشعب كله في سبيل شخصه. وقد ناقشته زوجته مرة فقتلها.
ـ تروتسكي: ولد سنة 1879م واغتيل سنة 1940م بتدبير من ستالين، وهو يهودي واسمه الحقيقي بروشتاين ، له مكانة هامة في الحزب وقد تولى الشؤون الخارجية بعد الثورة ، ثم أسندت إليه شؤون الحزب.. ثم فصل من الحزب بتهمة العمل ضد مصلحة الحزب ليخلو الجو لستالين الذي دبر اغتياله للخلاص منه نهائيا ً.
أبرز اعتقاداتهم وأفكارهم :
1 ) إنكار وجود الله تعالى ، وكل الغيبيات والقول بأن المادة هي أساس كل شيء وشعارهم: نؤمن بثلاثة: ماركس ولينين وستالين ، ونكفر بثلاثة : الله ، الدين، الملكية الخاصة ، عليهم من الله ما يستحقون.(1/42)
2 ) يحاربون الأديان ويعتبرونها وسيلة لتخدير الشعوب وخادماً للرأسمالية والإمبريالية والاستغلال مستثنين من ذلك اليهود لأن اليهود شعب مظلوم يحتاج إلى دينه ليستعيد حقوقه المغتصبة!!.
3 ) يحاربون الملكية الفردية ويقولون بشيوعية الأموال وإلغاء الوراثة.
4 ) يعتقدون بأنه لا آخرة وعقاب ولا ثواب في غير هذه الحياة الدنيا (1) .
أما أبرز الإفرازات والنتائج التي ظهرت من أحزاب هذا القسم ـ والتي ستكون مدار البحث القادم ـ هي :
1 ـ الديمقراطية .
2 ـ العلمانية .
3 ـ الرأسمالية .
4 ـ الاشتراكية .
5 ـ القومية العربية .
6 ـ حركات التغريب .
7 ـ حركات تحرير المرأة .
وإذا ما أردنا أن نعقد مقارنة بين المرحلتين وما نتج عنهما من إفرازات ونتائج فإننا سنخرج بعدة فوائد أهمها :
1 ) لو نظرنا إلى مسيرة هاتين المرحلتين وما نتج عنهما من إفرازات ونتائج فإننا سنرى بجلاء ووضوح أن كلاً منهما يمثل خطراً على الإسلام وأهله وكل واحدة منهما أساءت للإسلام بقدر ما أفرزت من إفرازات خطيرة وثمار مرة ونتنة .
2 ) وسنرى ـ أيضا ـ أن أصحاب المرحلة الأولى لم يقصدوا معارضة الكتاب والسنة ، وأن اجتهادهم ـ مع قولنا بخطأ هذه الاجتهادات ـ قد قادهم إلى ما ذهبوا إليه حيث انهم أرادوا إصابة الحق فأخطأوه وخطأهم هذا ناتج عن :
أولاً : سوء فهمهم للنصوص الشرعية حيث اعتقدوا أنها توجب وتصحح ما ذهبوا إليه وهذا قد أدركه أهل العلم وأثبتوه لهم . قال شيخ الإسلام أبن تيمية في (( المجموع : 13 / 30 )) : (( وكانت البدع الأولى مثل [ بدعة الخوارج ] إنما هي من سوء فهمهم للقرآن، لم يقصدوا معارضته ، لكن فهموا منه ما لم يدل عليه ، فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب ؛ إذ كان المؤمن هو البر التقي ، قالوا : فمن لم يكن برًا تقيًا فهو كافر، وهو مخلد في النار .. )) .
__________
(1) 31 ) المصدر السابق : 974 .(1/43)
ثانياً : إن الغلو والتطرف جعلهم يأخذون بجانب من النصوص دون النظر والالتفات إلى الجانب الآخر ، حيث أن البعض منهم أخذ بجانب الوعد والرجاء وسارت أفعاله وأقواله في هذا الإتجاه ، والبعض الآخر أخذ بجانب الخوف والوعيد وسار فيه لا يخرج عنه أبداً ، فنتج عن هذا التباين والاختلاف في النظرة إلى النصوص الشرعية مقالات ونتائج عكسية أثَّرت في مسيرة الأمة الإسلامية . ولو تأملنا فيما سبق ذكره فسنرى أنه دائر في دائرة الإسلام ولهذا نرى أهل العلم لم يكفروا هذه المقالات ولا أصحابها إلا وفق شروط و ضوابط شرعية معتبرة .
أما إذا نظرنا إلى إفرازات المرحلة الثانية فإننا سنرى أن أصحابها قد عارضوا الكتاب والسنة وجاءوا بمفاهيم ومعتقدات استوردوها معهم من محاضن الشرق والغرب تصادم وتضاد الشريعة الإسلامية من كل الوجوه والجوانب ، فإذا كان الأولون أرادوا الحق فأخطأوه فهؤلاء أرادوا الباطل فأصابوه ومن ثَم جمَّلوه وزينوه وجاءوا به إلى أرض المسلمين .
3 ) إن الأولين لم يقصدوا غالباً معارضة الإسلام لذات الإسلام ولا لذات المعارضة وأنهم لم يعمدوا إلى تنحية الشريعة الإسلامية عن مسرح الوجود ، بل نرى البعض منهم ـ كالخوارج مثلاً ـ قاتلوا حتى يكون الحكم لله وحده ـ كما يزعمون ـ لأنهم يرون أن الصحابة قد أخفوه ولم يعملوا به .
أما المتأخرون فإنهم عارضوا الإسلام وعمدوا إلى تنحية الشريعة الإسلامية بحجة عدم صلاحيتها لهذا الزمان ، ومن ثّم رفعوا عقيرتهم بالصياح والعويل وملأوا الدنيا ضجيجاً لأجل إحلال مفاهيمهم ومعتقداتهم بدلاً عنها لأنها ـ كما يزعمون ـ الأصلح والأنفع والأكمل .(1/44)
4 ) إن الأولين نصروا أحكام الشريعة ودعوا إلى الفضيلة وحسن الخلق وباقي الأخلاق الحميدة التي جاء بها الإسلام ، حتى كفَّرت الخوارج من يخرج عن هذه الأحكام الشرعية مثلما كفَّرت شارب الخمر ومرتكب الزنا ، مع تثبيتنا لأخطاء كثيرة وقعوا بها هؤلاء من خلال إتباعهم وسائل وأساليب في النصر والإنكار لم يأمر بها الكتاب ولم تأتي بها السنة . أما المتأخرون فإنهم هدموا أحكام الإسلام وحاربوا الفضيلة والأخلاق الحميدة عبر دعوتهم إلى تحرير المرأة من القيود التي قيدها بها الإسلام ـ كما يزعمون ـ عبر مناداتهم المرأة بنزع الحجاب والسفور ومخالطة الرجال سواء كان في الدراسة أو العمل ، كما أشاعوا شرب الخمر وإرتكاب الزنا بأسم الحرية الشخصية التي ضمنتها لهم الديمقراطية والدساتير الكافرة .
5 ) ومن أوجه التشابه بين هذه الأحزاب أنهم لجأوا إلى نظام البيعة للحزب أو زعيمة ، حتى يقيدوا أتباعهم بقيود الحزبية والطائفية ليضمنوا بالتالي ولائهم بقائهم معهم .
قال الشيخ عثمان بن معلم في (( التحذير من التفرق والحزبية : 14 )) : (( أخذ البيعة - وهي العهد بالطاعة - للحزب أو لزعيمه بقصد الربط بين أفراد مجموعة الحزب وإحكام تنظيمهم ليُنطلَق بهم إلى تنفيذ أهداف الحزب ، فالمسلمون لا يخلو حالهم من أمرين :
1- أن يكون لهم إمام ثبتت ولايته بإحدى الطُّرق المعتبرة عند أهل السُنَّة ، فلا يجوز إحداث بيعة أخرى ، قال رسول الله ( : (( مَن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع ، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر )) . وقال ( : (( إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما )) [ رواه مسلم ].(1/45)
2 - أن يكونوا متفرقين متحزِّبين فلا يُتَّبع أحد هذه الأحزاب في الفرقة ، ولا يُبابع أحد المتنافسين من أهل الشوكة ، وهي الحال التي سأل عنها حذيفة حين قال : فإن لَمْ يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ فأجابه النبيُّ ( بقوله : (( فاعتزل تلك الفرق كلها )) .
وأمَّا مَن لا شوكة لهم ، ولا يحصل بهم مقصود الإمارة من إنصاف المظلومين ، وتأمين السُّبُل ، وإقامة الحدود ، وإيصال الحقوق والولايات إلى أهلها ، فهم أبعد من أن يُبَايَعُوا .
قال شيخ الإسلام أبن تيمية في (( منهاج السُنَّة النبوية :1/115 )) : (( إنَّ النبي ( أمر بطاعة الأئمة الموجودين المعلومين الذين لهم سلطان يقدرون به على سياسة الناس ، لا بطاعة معدوم ولا مجهول ، ولا مَن ليس له سلطان ولا قدرة على شيء أصلاً . كما أمر النَّبيُّ ( بالاجتماع والائتلاف ، ونهى عن الفرقة والاختلاف ، ولم يأمر بطاعة الأئمة مطلقاً ، بل أمر بطاعتهم في طاعة الله دون معصيته )).
فما هُوَ المقصود بالبيعة ؟ وكيف تكون ؟ ولمن تكون ؟
قال الشيخ محمد بن رمزان آل طامي في (( الكواشف الجلية : 58 )) : (( البيعة : اصطلاحًا : "هِيَ العهد عَلَى الطاعة ، كأن المبايع يُعاهد أميره عَلَى أن يُسلم النظر فِي أمر نفسه ، وأمور المسلمين ، لا يُنازعه فِي شيء من ذَلِكَ ، ويُطيعه فيما يُكلفه به من الأمر عَلَى المنشط والمكره وكانوا إذا بايعوا الأمير، وعقدوا عهده ، جعلوا أيديهم فِي يده تأكيدًا للعهد ، فأشبه فعل البائع والمشتري فسمي بيعة، مصدر باع...وصارت البيعة مُصافحة بالأيدي، وهذا مدلولَها فِي عُرف اللغة ومعهود الشرع .(1/46)
ولا يكون ذَلِكَ شرعًا وعُرْفًا إلا للحاكم المسلم الممكن الَّذِي يَمتلك من الصلاحية والمسئولية ما يَجعله قادرًا عَلَى إقامة الدين وإنفاذ الأحكام وتنفيذ العقوبات الشرعية وإعلان الحرب ، والجنوح إلى السلم وما إلى ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُختص بالحاكم المسلم فِي أي بلد من البلدان الإسلامية .
فالبيعة إذن تعني إعطاء العهد من المبايع عَلَى السمع والطاعة للأمير فِي المنشط والمكره والعسر واليسر وعدم مُنازعته الأمر ، وتفويض الأمور إليه .
وَقَالَ الشوكاني فِي السيل الجرار (4/480-481) : طريقها - أي البيعة - أن يَجتمع جَماعة من أهل الحل والعقد ، فيعقدون له البيعة... وأن المعتبر هُوَ وقوع البيعة له - يعني الإمام - من أهل الحل والعقد، فإنَّها هِيَ الأمر الَّذِي يَجب بعده الطاعة ، ويثبت به الولاية ، وتَحرم معه المخالفة ، وقد قامت عَلَى ذَلِكَ الأدلة وثبتت به الحجة ، وقد أغنى الله عن النهوض ، وتَجَشم السفر ، وقطع المفاوز ببيعة من بايع الإمام من أهل الحل والعقد فإنَّها ثبتت إمامته بذلك ، ووجبت عَلَى المسلمين طاعته ، وليس من شرط ثبوت الإمامة أن يُبايعه كل من يصلح للمبايعة ، ولا من شرط الطاعة عَلَى الرجل أن يكون من جُملة المبايعين فإنَّ الاشتراط فِي الأمرين مردود بإجماع المسلمين أوَّلُهم وأخرهم ، سابقهم ولاحقهم.أ هـ
الفصل الرابع
إفرازات وهموم
1 ) الديمقراطية :
تعريفها : الديمقراطية هي كلمة يونانية الأصل وهي مكونة من كلمتين، أضيفت إحداهما إلى الأخرى .
أولاهما : ديموس وهي تعني الشعب.
وثانيهما : كراتوس وهي تعني الحكم أو السلطة(1/47)
فصارت الكلمة المركبة من هاتين الكلمتين تعني: حكم الشعب أو سلطة الشعب، وعلى ذلك: فـ "الديمقراطية" هي ذلك النظام من أنظمة الحكم الذي يكون الحكم فيه أو السلطة أو سلطة إصدار القوانين والتشريعات من حق الشعب أو الأمة أو جمهور الناس. وإذا كان حكم الشعب للشعب هو أعظم خصيصة من خصائص الديمقراطية التي يلهج بذكرها الذاكرون الديمقراطيون، فإن التاريخ القديم والحديث يدلنا على أن هذه الخصيصة المذكورة لم تتحقق على مدار تاريخ الديمقراطية، وأن نظام الحكم الديمقراطي كان دوماً نظاماً طبقياً، حيث تفرض فيه طبقة من طبقات المجتمع إرادتها ومشيئتها على باقي طبقات المجتمع (1).
أقول : أن قولهم الحكم للشعب وأن الشعب هو مصدر التشريع هو بحد ذاته كفر بالله العظيم ، وإلا من منح الشعب هذه السلطة ، ومن الذي جعله مشرعاً يشرع لنفسه ما يشاء ، وأين ذهبت شريعة الله التي أقسم الله بذاته المقدسة أنه لا يؤمن من لم يتحاكم إليها عن رضى وتسليم قال تعالى { فلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } [النساء : 65] .
قال العلامة أبن عثيمين رحمه الله في (( شرح الثلاثة الأصول : 158 )) : (( الحكم بما أنزل الله تعالى من توحيد الربوبية ، لأنه تنفيذ لحكم الله الذي هو مقتضى ربوبيته ، وكمال ملكه وتصرفه ، ولهذا سمى الله تعالى المتبوعين في غير ما أنزل الله تعالى أرباباً لمتبعيهم فقال سبحانه { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [التوبة : 31] )) أ .هـ
__________
(1) 32 ) حقيقة الديمقراطية : 2 لمحمد شاكر شريف .(1/48)
ومن المعلوم أن (( الحكم بما أنزل الله فرض عين على كل مسلم فرداً كان أو جماعة ، أميراً كان أم مأموراً ، والحكم ثلاثة أنواع :
1 ) الحكم المنزل : وهو شرع الله في كتابه وسنة رسوله وكله حق ظاهر .
2 ) الحكم المؤول : وهو اجتهاد الأئمة المجتهدين وهو دائر بين الخطأ والصواب والأجر والأجرين .
3 ) الحكم المبدل : وهو الحكم بغير ما انزل الله وتردد الفاعل له بين الكفر والظلم والفسوق )) (1) .أ هـ
وأما فيما (( يخص قوله تعالى { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } وقوله تعالى { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } وقوله تعالى { َمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [المائدة : 47]
فإنَّ هذه الآيات الثلاث منزلة على أحوال ثلاث :
1 ) من حكم بغير ما أنزل الله مستبدلاً به دين الله فهذا كفر أكبر مخرج من الملة ، لأنه جعل نفسه مشرعاً مع الله عز وجل .
2 ) من حكم بغير ما أنزل الله لهوى في نفسه ، أو خوفاً عليها ، أو ما أشبه ذلك ، فهذا لا يكفر ، ولكنه ينتقل إلى الفسق .
3 ) من حكم بغير ما أنزل الله عدواناً وظلماً ، وهذا لا يتأتى في حكم القوانين ، ولكن يتأتى في حكم خاص ، مثل أن يحكم على إنسان بغير ما أنزل الله لينتقم من ، فهذا يقال إنه : ظالم .
فتنزل الأوصاف على حسب الأحوال (2) .
الديمقراطية في ميزان الإسلام :
__________
(1) 33 ) مجمل مسائل الإيمان لتلاميذ الإمام الألباني .
(2) 34 ) كيف نعالج واقعنا الأليم : 73 .(1/49)
قال العلامة مقبل بن هادي الوادعي في الديمقراطية : (( كفرنا بالديمقراطية الطاغوتية ، وبدا بيننا وبينها العداوة والبغضاء ، ويجب على المسئولين أن يكفروا بها ، بل يجب على جميع الشعب اليمني أن يكفر بها. ..... فإذا كان سلفيًا وهو يؤمن بالديمقراطية، فهذا ليس بسلفي ولا كرامة، وإن كان يؤمن بأن الله مستو على عرشه ويؤمن بأسماء الله وصفاته كما وردت في كتاب ربنا وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ... الأمر الذي أنصح به إخواني في الله أهل عدن ، وهو أن نعامل المخالفين معاملة المسلمين لأنّهم متأولون حتى وإن كانوا يقولون: نحن ديمقراطيون، إذا كان يعتقد أن الديمقراطية حق ويؤمن بها فهو كافر، لكن إذا كان متأولاً لأجل مطامع الدنيا فهو ضال. )) [أنظر : تحفة المجيب على أسئلة الحاضر والغريب : 72 ، 259 ، 273 ] .
مفاسد الديمقراطية :
1 ) الديمقراطية تفتح الباب على مصراعيه للردة والزندقة ، حيث يمكن –في ظل هذا النظام الطاغوتي- لكل صاحب ملة أو مذهب أو نحلة أن يكوّن حزباً وينشئ صحيفة تدعو إلى مروقه من دين الله ، بحجة إفساح المجال للرأي والرأي الآخر.
2 ) وكذلك تفتح الباب على مصراعيه للشهوات والإباحية ، من خمر ومجون وأغان وفسق وزنا ودور سينما ، وغير ذلك من الانتهاكات الصارخة لمحارم الله ، تحت شعار الديمقراطية المعروف: "دعه يعمل ما يشاء ، دعه يمر من حيث يشاء" وتحت شعار: "حماية الحرية الشخصية"!!
3 ) وتفتح الباب أيضاً للتفرق والاختلاف ، استجابة للمخططات الاستعمارية الرامية إلى تمزيق العالم الإسلامي إلى قوميات ووطنيات ودويلات وعصبيات وأحزاب ، وفي هذا مخالفة لقول الله تعالى: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون )، ولقول الله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)، ولقول الله تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).(1/50)
4 ) إن من يسلك ، أو يتبنى النظام الديمقراطي لابد له : من الاعتراف بالمؤسسات والمبادئ الكفرية ، كمواثيق الأمم المتحدة وقوانين مجلس الأمن الدولي وقانون الأحزاب وغير ذلك من القيود المخالفة لشرع الله ، وإن لم يفعل منع من مزاولة نشاطه الحزبي بحجة أنه متطرف وإرهابي وغير مؤمن بالسلام العالمي والتعايش السلمي!!
5 ) النظام الديمقراطي يعطل الأحكام الشرعية؛ من جهاد وحسبة وأمر بمعروف ونهي عن منكر وأحكام الردة والمرتد والجزية والرق؛ وغير ذلك من الأحكام.
يوصف المرتدون والمنافقون في ظل النظام الديمقراطي بأنهم وطنيون وقوى خيِّرة ومخلصة؛ وهم بخلاف ذلك شرعاً.
6 ) الديمقراطية والانتخابات تعتمد على الغوغائية والكثرة بدون ضوابط شرعية ، والله تعالى يقول: ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله )، ويقول الله تعالى: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون)، ويقول الله تعالى: ( وقليلٌ من عبادي الشكور ) .
7 ) الديمقراطية لا تفرق بين العالم والجاهل والمؤمن والكافر والذكر والأنثى، فالجميع أصواتهم على حد سواء، بدون أي اعتبار للمميزات الشرعية.
والله تعالى يقول : (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) ، ويقول الله تعالى: (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون )، ويقول الله تعالى: ( أم نجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون )، ويقول الله تعالى: ( وليس الذكر كالأنثى ). الآيات.
8 ) إن قضية الولاء والبراء تظل غامضة في ظل النظام الديمقراطي، ولذلك يصرح بعض السالكين في هذا الطريق بأن خلافهم مع الاشتراكيين والبعثيين وغيرهم من الأحزاب العلمانية من قبيل اختلاف البرامج لا المناهج ، ومن جنس اختلاف المذاهب الأربعة ، ويعقدون المواثيق والتحالفات بألا يكفر بعضهم بعضاً ولا يخون بعضهم بعضاً ، ولذا يقولون بأن الخلاف لا يفسد للود قضية!!(1/51)
هذا الطريق يؤدي إلى قيام التحالفات المشبوهة مع الأحزاب العلمانية؛ كما هو الحاصل اليوم.
9 ) الدخول في المهزلة الديمقراطية يؤدي غالباً إلى فساد المقاصد والنيات، بحيث يصبح كل حزب همه في نصرة حزبه ؛ واستعمال كافة الوسائل لجميع الناس حوله؛ وخاصة وسيلة التدين والخطابة والوعظ والتعليم والصدقات وغير ذلك .
يؤدي أيضاً إلى فساد الأخلاق الفاضلة؛ كالصدق والصراحة والوفاء ، ويحل محل ذلك الكذب والمداهنة والغدر.
10 ) وهو من أخطرها ، أن طريق الديمقراطية والانتخابات يؤدي إلى تمكين الكفار والمنافقين من الولاية على المسلمين، بطريقة يظنها بعض الجهلة شرعية، وقد قال الله تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين) ، وقال الله تعالى : (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً). فكم يحصل بهذا من التغرير والتدليس على عوام المسلمين وإيهامهم بأن طريقة الانتخابات شرعية ؟!!.
11 ) في ظل الديمقراطية تنتعش البدع والضلالات بشتى أنواعها ويظهر الداعون إليها باختلاف طرائقهم وفرقهم من شيعة ورافضة وصوفية ومعتزلة وباطنية وغير ذلك، بل إنهم يجدون في ظلها الدعم والتشجيع من المنافقين في الداخل ومن الأيادي الخفية في الخارج ، ولله في خلقه شؤون .
12 ) هذا الطريق يؤدي إلى الزعزعة الأمنية في البلاد ، وحدوث صراعات حزبية لا أول لها ولا آخر ؛ فما حلت الديمقراطية في بلد إلا وحل معها الخوف ، والقلق والنزاعات العقدية والمذهبية والعصبية والقبلية والسلالية والنفعية وغير ذلك من الاضطرابات المعلومة (1) .
2 ) العلمانية :
التعريف:
__________
(1) 35 ) أنظر : من مفاسد الديمقراطية : 1 لعبد المجيد الريمي(1/52)
العلمانية SECULArISM وترجمتها الصحيحة: اللادينية أو الدنيوية، وهي دعوة إلى إقامة الحياة على العلم الوضعي والعقل ومراعاة المصلحة بعيداً عن الدين . وتعني في جانبها السياسي بالذات اللادينية في الحكم، وهي اصطلاح لا صلة له بكلمة العلم SCIENCE وقد ظهرت في أوروبا منذ القرن السابع عشر وانتقلت إلى الشرق في بداية القرن التاسع عشر وانتقلت بشكل أساسي إلى مصر وتركيا وإيران ولبنان وسوريا ثم تونس ولحقتها العراق في نهاية القرن التاسع عشر. أما بقية الدول العربية فقد انتقلت إليها في القرن العشرين، وقد اختيرت كلمة علمانية لأنها أقل إثارة من كلمة لا دينية.
ومدلول العلمانية المتفق عليه يعني عزل الدين عن الدولة وحياة المجتمع وإبقاءه حبيساً في ضمير الفرد لا يتجاوز العلاقة الخاصة بينه وبين ربه فإن سمح له بالتعبير عن نفسه ففي الشعائر التعبدية والمراسم المتعلقة بالزواج والوفاة ونحوهما.
تتفق العلمانية مع الديانة النصرانية في فصل الدين عن الدولة حيث لقيصر سلطة الدولة ولله سلطة الكنيسة. وهذا واضح فيما يُنسب إلى السيد المسيح من قوله : " إعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله". أما الإسلام فلا يعرف هذه الثنائية والمسلم كله لله وحياته كلها لله {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام : آية: 162] (1) .
اثار المنهج العلماني :
1ـ إفساد العقائد الإسلامية : و أعظمها عقيدة التوحيد الألوهية ، وذلك من خلال اعتماد سلطة الشعب ، وتفويض أمر التشريع والحكم للشعب، وكذلك إفساد المفاهيم الإسلامية عن الكون ، واليوم الآخر ، والنبوات ، إذ تصور العلمانية هذه المعتقدات على إنها مرحلة بدائية من التفكير ، أو ترفضها مباشرة لأنها ليست ( بنت البحث ) العقلي .
__________
(1) 36 ) الموسوعة الميسرة : 689 .(1/53)
2ـ إفساد الشريعة الإسلامية : فالعلمانية تحصر صلاحية الشريعة الإسلامية في زوايا ضيقة ، وتفسح المجال للإنسان ليشاق ويحاد الشريعة الإلهية في المجالات الحيوية الواسعة التي تشكل نظام ـ دين ـ المجتمع ، والزوايا بل الزاوية المتروكة للدين ، في النظام العلماني خاضعة بدورها لتسلط الانسان : يضيقها إذا شاء ، ويوسعها إذا شاء ، ويصادرها إذا شاء .
3ـ إفساد أصل الولاء والبراء : عندما استبدلت العلمانية تصور الانسان وصلته بالدين. عقيدة وشريعة وحكما ، استبدلت بذلك مناط الولاء والبراء ، وسببه ومعتقده ، وغيرت اصل الرابطة الاجتماعية .
فلم تترك للعقيدة تأصيل المبادئ والمفاهيم التي يقوم عليها الولاء والبراء ، كالإيمان والكفر ، أو الطاعة والمعصية ، واليقين الشك ، و المعروف والمنكر ، والظلم والعدل . ولم تترك للشريعة أن تفصل وتحدد أسباب وتكليفات الولاء والبراء ، مثل جهاد الكفرة ، ووجوب إظهار الدين ، والأمر بالمعروف وإنكار المنكر ، ورعاية الأسرة : تربية و تعليما وتأديبا . بل تجعل الفاسقة في مفهوم الشرع : فنانة شهيرة . والملحد الذي يشك في عقيدة الإسلام : مفكرا عبقريا . وحجاب المرأة وحياءها ، واعتصامها بالقرار في بيتها: ذلا واستعبادا وتحجرا . وبغض الكافر والبراء منه وعداؤه : تعصبا وتطرفا . وإباحة ( الزنى ) والفجور : ترفيه وتسلية .
4ـ إقصاء التشريع الإسلامي من حياة الأمة والأفراد .
5ـ فرض الأنظمة والأحكام الصليبية في بلاد المسلمين تحت عباءة القانون والدستور أو سلطة الحزب الواحد ، والحاكم الفرد الذي لا يُسأل عما يفعل .
6ـ قتل روح الإسلام في أبنائه ، بتشجيع وترويج أخلاق الإباحية الغربية والطعن في أصول الشريعة الإسلامية ، بأقلام كتاب مأجورين .
7ـ محاربة الدعوة إلى الله بكل الوسائل الممكنة ، وسد طرقها وأبوابها ، وشن الحملات الإعلامية عليها وعلى أهلها .(1/54)
8ـ إفساد النظام التربوي والتعليمي : وذلك بنشر الاختلاط في المدارس ومحاربة الحجاب ، ودس الأفكار الجاهلية ، من قومية ووطنية وحزبية ، وإباحية وإلحادية في الكتب والمقررات المدرسية والجامعية .
9 ـ التسلط على بلاد المسلمين : وهذا التسلط ظاهر في التحكم في القرار في أكثر بلاد المسلمين ، وفي التسلط على الاقتصاد من خلال التحكم في العملات والتحكم في الثروات ، والتحكم في الحركات السياسية والدينية والاجتماعية ، وأخيراً في التواجد العسكري الجزئي أو الكلي .
10 ـ تثبيت الانقسامات : فمنذ سقوط الخلافة التركية انقسمت بلاد المسلمين إلى دويلات هي في تكوينها الاقتصادي والسياسي ضعيفة ، وزادت اللعبة السياسية الدولية من تأصيل فرقتها لتثبيت ضعفها ، وفي تشجيع روح العداء بين حكامها وزرع التعصب والكره المتبادل حتى وصلت إلى الشعوب وحتى وصلت بين الأمة الواحدة ومن أخطر هذه الحروب ما يسمى بالثورة الكبرى التي أدارها لورانس ، وحارب فيها المسلم التركي والمسلم العربي ، والحرب السعودية اليمنية المصرية خلال الثورة اليمنية ، والحرب الكردية العربية في العراق ، ومعارك الأردن ومنظمة التحرير ، ومعارك الحرب اللبنانية ، وحرب الخليج التي طحنت معاركها المسلمين (1) )) .
3 ) الرأسمالية :
التعريف :
الرأسمالية نظام اقتصادي ذو فلسفة اجتماعية وسياسية ، يقوم على أساس إشباع حاجات الإنسان الضرورية والكمالية ، وتنمية الملكية الفردية والمحافظة عليها ، متوسعاً في مفهوم الحرية ، معتمداً على سياسة فصل الدين نهائياً عن الحياة. ولقد ذاق العلم بسببه ويلات كثيرة نتيجة إصراره على كون المنفعة واللذة هما أقصى ما يمكن تحقيقه من السعادة للإنسان. وما تزال الرأسمالية تمارس ضغوطها وتدخلها السياسي والاجتماعي والثقافي وترمي بثقلها على مختلف شعوب الأرض.
الأفكار والمعتقدات:
أسس الرأسمالية :
__________
(1) 37 ) ما أنا عليه وأصحابي : 28 ـ 30 لأحمد سلام .(1/55)
البحث عن الربح بشتى الطرق والأساليب إلا ما تمنعه الدولة لضرر عام كالمخدرات مثلاً.
- تقديس الملكية الفردية وذلك بفتح الطريق لأن يستغل كل إنسان قدراته في زيادة ثروته وحمايتها وعدم الاعتداء عليها وتوفير القوانين اللازمة لنموها واطرادها وعدم تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية إلا بالقدر الذي يتطلبه النظام العام وتوطيد الأمن.
- المنافسة والمزاحمة في الأسواق Perfect Competition.
- نظام حرية الأسعار Price System وإطلاق هذه الحرية وفق متطلبات العرض والطلب، واعتماد قانون السعر المنخفض في سبيل ترويج البضاعة وبيعها.
عيوب الرأسمالية:
- الرأسمالية نظام وضعي يقف على قدم المساواة مع الشيوعية وغيرها من النظم التي وضعها البشر بعيداً عن منهج الله الذي ارتضاه لعباده ولخلقه من بني الإنسان، ومن عيوبها:
- الأنانية: حيث يتحكم فرد أو أفراد قلائل بالأسواق تحقيقاً لمصالحهم الذاتية دون تقدير لحاجة المجتمع أو احترام للمصلحة العامة.
- الاحتكار : إذ يقوم الشخص الرأسمالي باحتكار البضائع وتخزينها حتى إذا ما فقدت من الأسواق نزل بها ليبيعها بسعر مضاعف يبتز به المستهلكين الضعفاء .
- لقد تطرفت الرأسمالية في تضخيم شأن الملكية الفردية كما تطرفت الشيوعية في إلغاء هذه الملكية.
- المزاحمة والمنافسة: إن بنية الرأسمالية تجعل الحياة ميدان سباق مسعور إذ يتنافس الجميع في سبيل إحراز الغلبة، وتتحول الحياة عندها إلى غابة يأكل القوي فيها الضعيف، وكثيراً ما يؤدي ذلك إلى إفلاس المصانع والشركات بين عشية وضحاها.
- إبتزاز الأيدي العاملة : ذلك أن الرأسمالية تجعل الأيدي العاملة سلعة خاضعة لمفهومي العرض والطلب مما يجعل العامل معرضاً في كل لحظة لأن يُستبدَل به غيره ممن يأخذ أجراً أقل أو يؤدي عملاً أكثر أو خدمة أفضل.(1/56)
- البطالة : وهي ظاهرة مألوفة في المجتمع الرأسمالي، وتكون شديدة البروز إذا كان الإنتاج أكثر من الاستهلاك مما يدفع بصاحب العمل إلى الاستغناء عن الزيادة في هذه الأيدي التي تثقل كاهله.
- الحياة المحمومة: وذلك نتيجة للصراع القائم بين طبقتين إحداهما مبتزة يهمها جمع المال من كل السبل وأخرى محروقة تبحث عن المقومات الأساسية لحياتها، دون أن يشملها شيء من التراحم والتعاطف المتبادل.
- الاستعمار : ذلك أن الرأسمالية بدافع البحث عن المواد الأولية، وبدافع البحث عن أسواق جديدة لتسويق المنتجات تدخل في غمار استعمار الشعوب والأمم استعماراً اقتصاديّاً أولاً وفكريًّا وسياسيًّا وثقافيًّا ثانياً، وذلك فضلاً عن استرقاق الشعوب وتسخير الأيدي العاملة فيها لمصلحتها.
- الحروب والتدمير: فلقد شهدت البشرية ألواناً عجيبة من القتل والتدمير وذلك نتيجة طبيعية للاستعمار الذي أنزل بأمم الأرض أفظع الأهوال وأشرسها.
- الرأسماليون يعتمدون على مبدأ الديمقراطية في السياسة والحكم، وكثيراً ما تجنح الديمقراطية مع الأهواء بعيدة عن الحق والعدل والصواب، وكثيراً ما تستخدم لصالح طائفة الرأسماليين أو من يسمون أيضاً (أصحاب المكانة العالية).
- إن النظام الرأسمالي يقوم على أساس ربوي ، ومعروف أن الربا هو جوهر العلل التي يعاني منها العالم أجمع.
- إن الرأسمالية تنظر إلى الإنسان على أنه كائن مادي وتتعامل معه بعيداً عن ميوله الروحية والأخلاقية ، داعية إلى الفصل بين الاقتصاد وبين الأخلاق (1).
4 ) القومية العربية :
__________
(1) 38 ) الموسوعة الميسرة : 923 .(1/57)
تعريفها : حركة سياسية فكرية متعصبة، تدعو إلى تمجيد العرب، وإقامة دولة موحدة لهم، على أساس من رابطة الدم واللغة والتاريخ ، وإحلالها محل رابطة الدين . وهي صدى للفكر القومي الذي سبق أن ظهر في أوروبا ، يصفها سماحة الشيخ أبن باز بأنها: "دعوة جاهلية إلحادية تهدف إلى محاربة الإسلام والتخلص من أحكامه وتعاليمه ". ويقول عنها: "وقد أحدثها الغربيين من النصارى لمحاربة الإسلام والقضاء عليه في داره بزخرف من القول.. فاعتنقها كثير من العرب من أعداء الإسلام واغتر بها كثير من الأغمار ومن قلدهم من الجهال وفرح بذلك أرباب الإلحاد وخصوم الإسلام في كل مكان ". ويقول أيضاً : "هي دعوة باطلة وخطأ عظيم ومكر ظاهر وجاهلية نكراء وكيد سافر للإسلام وأهله".، ويقرر الفكر القومي أن الوحدة العربية حقيقة، أما الوحدة الإسلامية فهي حلم. وأن فكرة القومية العربية من التيارات الطبيعية التي تنبع من أغوار الطبيعة الاجتماعية، لا من الآراء الاصطناعية التي يستطيع أن يبدعها الأفراد.
كثيراً ما يتمثل دعاة الفكر القومي بقول الشاعر القروي:
هبوني عيداً يجعل العرب أمةً وسيروا بجثماني على دين بَرْهَمِ
سلام على كفرٍ يوحِّد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنمِ
يقول بعض دعاة الفكر القومي: إن العبقرية العربية عبرت عن نفسها بأشكال شتى، فمثلاً عبرت ذات مرة عن نفسها بشريعة حمورابي، ومرة أخرى بالشعر الجاهلي، وثالثة بالإسلام ، وقال أحد مشاهيرهم : لقد كان محمد كل العرب ، فليكن كل العرب محمداً. يقول بعض مفكري القومية العربية: إذا كان لكل عصر نبوته المقدسة، فإن القومية العربية نبوة هذا العصر [ أنظر (( نقد القومية العربية : 40 للشيخ أبن باز ، و (( الموسوعة الميسرة : 448 )) ] .
بدايات الفكر القومي :(1/58)
ظهرت بدايات الفكر القومي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين متمثلة في حركة سرية تألفت من أجلها الجمعيات والخلايا في عاصمة الخلافة العثمانية ، ثم في حركة علنية في جمعيات أدبية تتخذ من دمشق وبيروت مقرًّا لها، ثم في حركة سياسية واضحة المعالم في المؤتمر العربي الأول الذي عقد في باريس سنة 1912.
الأفكار والمعتقدات :
1 ) يعلي الفكر القومي من شأن رابطة القربى والدم على حساب رابطة الدين ، وإذا كان بعض كتاب القومية العربية يسكتون عن الدين ، فإن بعضهم الآخر يصر على إبعاده إبعاداً تامًّا عن الروابط التي تقوم عليها الأمة، بحجة أن ذلك يمزق الأمة بسبب وجود غير المسلمين فيها ويرون أن رابطة اللغة والجنس أقدر على جمع كلمة العرب من رابطة الدين ..
ويرى دعاة الفكر القومي ـ على اختلاف بينهم في ترتيب مقومات هذا الفكرـ أن أهم المقومات التي تقوم عليها القومية العربية هي: اللغة والدم والتاريخ والأرض والآلام والآمال المشتركة.
ـ ويرون أن العرب أمة واحدة لها مقومات الأمة وأنها تعيش على أرض واحدة هي الوطن العربي الواحد الذي يمتد من الخليج إلى المحيط.
ـ كما يرون أن الحدود بين أجزاء هذا الوطن هي حدود طارئة، ينبغي أن تزول وينبغي أن تكون للعرب دولة واحدة، وحكومة واحدة، تقوم على أساس من الفكر العلماني.
ـ يدعو الفكر القومي إلى تحرير الإنسان العربي من الخرافات والغيبيات والأديان كما يزعمون.
ـ لذلك يتبنى شعار: (الدين لله والوطن للجميع). والهدف من هذا الشعار، إقصاء الإسلام عن أن يكون له أي وجود فعلي من ناحية، وجعل أخوة الوطن مقدمة على أخوة الدين من ناحية أخرى .
الانتشار ومواقع النفوذ :(1/59)
يوجد كثير من الشباب العربي ومن المفكرين العرب الذين يحملون هذا الفكر، كما توجد عدة أحزاب قومية منتشرة في البلاد العربية مثل حركة الوحدة الشعبية في تونس، وحزب البعث بشقيه في العراق وسوريا ، وبقايا الناصريين في مصر وبلاد الشام ، وفي ليبيا.
وكثير من الحكام يتبارون في ادعاء القومية وكل منهم يفتخر بأنه رائد القومية العربية ويدعي أنه الأجدر بزعامتها !
و يلاحظ أن الفكر القومي الآن هو في حالة تراجع وانحسار (1).
5 ) التغريب
التعريف:
التغريب هو تيار فكري كبير ذو أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية وفنية، يرمي إلى صبْغ حياة الأمم بعامة، والمسلمين بخاصة، بالأسلوب الغربي، وذلك بهدف إلغاء شخصيتهم المستقلة وخصائصهم المتفردة وجعلهم أسرى التبعية الكاملة للحضارة الغربية .
أبرز الشخصيات :
أن جمال الدين الأفغاني 1838-1897م من أبرز شخصيات هذا التيار حيث تجول كثيراً في العالم الإسلامي شرقاً وغرباً، وقد أدخل نظام الجمعيات السرية في العصر الحديث إلى مصر، كما يقال بأنه انضم إلى المحافل الماسونية، وكان على صلة بالمستر بلنت البريطاني .
وكان الشيخ محمد عبده 1849-1905م من أبرز تلاميذ الأفغاني، وشريكه في إنشاء مجلة العروة الوثقى، وكانت له صداقة مع اللورد كرومر والمستر بلنت، ولقد كانت مدرسته – ومنها رشيد رضا – تدعو إلى مهاجمة التقاليد، كما ظهرت لهم فتاوى تعتمد على أقصى ما تسمح به النصوص من تأويل بغية إظهار الإسلام بمظهر المتقبل لحضارة الغرب، كما دعا الشيخ محمد عبده إلى إدخال العلوم العصرية إلى الأزهر لتطويره وتحديثه.
ومن ثم قاد قاسم أمين 1865 – 1908م وهو تلميذ محمد عبده، الدعوة إلى تحرير المرأة وتمكينها من العمل في الوظائف والأعمال العامة. وقد كتب تحرير المرأة – 1899م والمرأة الجديدة 1900م.
__________
(1) 39 ) المصدر السابق : 451 .(1/60)
كان سعد زغلول: الذي صار وزيراً للمعارف سنة 1906م شديد التأثر بآراء محمد عبده، وقد نفذ فكرة كرومر القديمة والداعية إلى إنشاء مدرسة للقضاء الشرعي بقصد تطوير الفكر الإسلامي من خلال مؤسسة غير أزهرية منافسة له.
وكان طه حسين 1889- 1973م من أبرز دعاة التغريب في العالم الإسلامي، حيث تلقى علومه على يد المستشرق دور كايم وقد نشر أخطر آرائه في كتابيه الشعر الجاهلي ومستقبل الثقافة في مصر.
يقول في كتابه الشعر الجاهلي ص 26: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدثنا أيضاً، ولكن ورود هذين الأسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي".
ويقول بعد ذلك: "وقد كانت قريش مستعدة كل الاستعداد لقبول هذه الأسطورة في القرن السابع للمسيح ". كما أنه ينفي فيه نسب النبي إلى أشراف قريش.
و لقد بدأ طه حسين محاضرة له في اللغة والأدب بحمد الله والصلاة على نبيه ثم قال: "سيضحك مني بعض الحاضرين إذا سمعني أبدأ هذه المحاضرة بحمد الله والصلاة على نبيه لأن ذلك يخالف عادة العصر". (مجلة الهلال، عدد أكتوبر ونوفمبر 1911م).
ازدهرت حركة التغريب بعد سيطرة الاتحاديين عام 1908م على الحكم في الدولة العثمانية وسقوط السلطان عبد الحميد.
وفي سنة 1924م ألغت حكومة مصطفى كمال أتاتورك الخلافة العثمانية مما مهد لانضمام تركيا إلى الركب العلماني الحديث، وفرض عليها التغريب بأقصى صورة وأعنفها (1) .
6 ) حركة تحرير المرأة
التعريف:
حركة تحرير المرأة. حركة علمانية، نشأت في مصر في بادئ الأمر ، ثم انتشرت في أرجاء البلاد العربية والإسلامية. تدعو إلى تحرير المرأة من الآداب الإسلامية والأحكام الشرعية الخاصة بها مثل الحجاب ، وتقييد الطلاق، ومنع تعدد الزوجات والمساواة في الميراث وتقليد المرأة الغربية في كل أمر … ونشرت دعوتها من خلال الجمعيات والاتحادات النسائية في العالم الغربي.
__________
(1) 40 ) المصدر السابق : 709 .(1/61)
التأسيس وأبرز الشخصيات :
قبل أن تتبلور الحركة بشكل دعوة منظمة لتحرير المرأة ضمن جمعية تسمى الاتحاد النسائي.. كان هناك تأسيس نظري فكري لها.. ظهر من خلال كتب ثلاث ومجلة صدرت في مصر.
ـ كتاب المرأة في الشرق تأليف مرقص فهمي المحامي، نصراني الديانة، دعا فيه إلى القضاء على الحجاب وإباحة الاختلاط وتقييد الطلاق، ومنع الزواج بأكثر من واحدة، وإباحة الزواج بين النساء المسلمات والنصارى.
ـ كتاب تحرير المرأة تأليف قاسم أمين، نشره عام 1899م، بدعم من الشيخ محمد عبده وسعد زغلول، وأحمد لطفي السيد. زعم فيه أن حجاب المرأة السائد ليس من الإسلام ، وقال إن الدعوة إلى السفور ليست خروجاً على الدين .
ـ كتاب المرأة الجديدة تأليف قاسم أمين أيضاً ـ نشره عام 1900م يتضمن نفس أفكار الكتاب الأول ويستدل على أقواله وادعاءاته بآراء الغربيين.
ـ مجلة السفور، صدرت أثناء الحرب العالمية الأولى، من قبل أنصار سفور المرأة، وتركز على السفور و الاختلاط.
ـ الشيخ محمد عبده ـ فقد نبتت أفكار كتاب تحرير المرأة في حديقة أفكار الشيخ محمد عبده. وتطابقت مع كثير من أفكار الشيخ التي عبر فيها عن حقوق المرأة وحديثه عنها في مقالات الوقائع المصرية وفي تفسيره لآيات أحكام النساء. (التفاصيل في كتاب المؤامرة على المرأة المسلمة د. السيد أحمد فرج ص 63 وما بعدها. دار الوفاء سنة 1985م كتاب عودة الحجاب الجزء الأول، د.محمد أحمد بن إسماعيل المقدم).
ـ سعد زغلول، زعيم حزب الوفد المصري، الذي أعان قاسم أمين على إظهار كتبه وتشجيعه في هذا المجال.(1/62)
ـ أمينة السعيد: وهي من تلميذات طه حسين، الأديب المصري الذي دعا إلى تغريب مصر.. ترأست مجلة حواء. وقد هاجمت حجاب المرأة بجرأة ـ ومن أقوالها في عهد عبد الناصر: " كيف نخضع لفقهاء أربعة ولدوا في عصر الظلام ولدينا الميثاق ؟ ". تقصد ميثاق عبد الناصر الذي يدعو فيه إلى الاشتراكية ـ وسخرت مجلة حواء للهجوم على الآداب الإسلامية.
ـ د. نوال السعداوي (1)
__________
(1) 41 ) هي نوال السيد السعداوي : أبرز داعيات تحرير المرأة في عالمنا اليوم .
ولدت عام 1931م بالقاهرة . تعلمت في مدرسة منوف الابتدائية 1939-1943م فمدرسة حلوان الثانوية 1943-1948م دخلت كلية الطب في قصر العيني بالقاهرة 1949-1954م
ثم في جامعة كولومبيا ، نيويورك، 1965-1966م .
أبرز انحرافاتها :
قال الخراشي في ( نظرات شرعية في فكر منحرف 69 ). : (( وهي –قبحها الله- من أشد المنحرفين والمنحرفات تصريحاً بكفرها وزندقتها ، فتجدها تطعن وتسخر من الله –عز وجل- بصراحة عجيبة، وتنتقد أحكام الإسلام المتعلقة بالمرأة وترفضها بوضوح ، وإليك شيئاً من كفرياتها وبذاءاتها :
1 ) تقول في مقال لها (طويل) في مجلة (إبداع!) (عدد شعبان 1419هـ) تحت عنوان (رواية السيرة الذاتية) :
(( منذ علمتني أمي الحروف ، عرفت تكوين كلمة ذات معنى هي اسمي، بدأت أكتبها كل يوم ، أربعة حروف متشابكة "نوال" ، أحببت شكل الاسم ومعناه النوال أو العطاء ، ارتبط بي أصبح جزءاً مني ، عرفت اسم أمي "زينب" كتبته إلى جوار اسمي فوق كراستي الصغيرة ، أحببت شكل الاسمين معاً ومعناهما كما أحببت نفسي وأمي. أكبر حب في حياتي منذ ولدت كان لنفسي ولأمي، بعد ذلك يأتي الآخرون ، منهم أبي ، شطب على اسم أمي ، وضع اسمه إلى جوار اسمي ، ثم وضع اسم أبيه "السعداوي"، رجل مات قبل أن أولد.
ودار في عقلي السؤال : لماذا يشطب أبي اسم أمي ؟ ولدتني أرضعتني علمتني الكتابة ترعاني كل يوم ؟! يضع مكانه اسم رجل غريب لم أره في حياتي مات قبل أن أولد ؟ كرهت اسم الرجل "السعداوي" يلغي اسم أمي من الوجود ، سألت أبي عن السبب فقال لي إنها إرادة الله .
كلمة "الله" سمعتها لأول مرة في حياتي من أبي ، عرفت أنه يسكن السماء، هو المسئول عن شطب اسم أمي، لم يكن لي أن أحب من يشطب أمي واسمها زينب ، أحبها باسمها ، جسمها ، شكلها ، أصابعها الحانية الدافئة تداعب وجهي كشعاع الشمس ، صوتها يناديني في الصبح ، كل يوم جديد تعلمني كلمات جديدة )) .
2 ) إن النبي نفسه محمد رسول الله لم يستطع أن يعدل بين زوجاته ، إذ كان يقضي منه أن يقسم ليله بالتساوي بين زوجاته ، بحيث لا تجور واحدة على ليلة الأخرى ، إلا أن محمداً كان بشراً ، ولم يكن في وسعه دائماً أن يحقق هذا التقسيم العادل ، فقد كان يفضل زوجته عائشة )) ( الوجه العاري 219 ).
((لم يكن محمد يُرغم الزوجة أن تعيش مع زوجها إذا رغبت الانفصال عنه. وقد أعطى محمد زوجاته حرية البقاء معه أو الانفصال عنه بعد أن حالت ظروف حياته في فترة من الفترات أن يوفي حاجتهن الجنسية ))
3 ) قدحها في النبي (لوط) عليه السلام:
حيث تتابع أحبابها اليهود في اتهامه بالزنا !! والعياذ بالله :
تقول – قاتلها الله - : ( برغم القيود على المرأة فقد كان الرجل متعدد الزوجات يمارس الجنس مع زوجاته وإمائه ، بل وبناته أحياناً ، فقد اضطجعت ابنتا "لوط" مع أبيهما نفسه، وحملتا منه ) ) !! (المصدر السابق 48)) .(1/63)
1 زعيمة الاتحاد المصري حاليًّا .
الأفكار والمعتقدات:
نجمل أفكار ومعتقدات أنصار حركة تحرير المرأة فيما يلي:
1 ـ تحرير المرأة من كل الآداب والشرائع الإسلامية وذلك عن طريق:
ـ الدعوة إلى السفور والقضاء على الحجاب الإسلامي.
ـ الدعوة إلى اختلاط الرجال مع النساء في كل المجالات في المدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية، والأسواق.
ـ تقييد الطلاق، والاكتفاء بزوجة واحدة.
ـ المساواة في الميراث مع الرجل.
2ـ الدعوة العلمانية الغربية أو اللادينية بحيث لا يتحكم الدين في مجال الحياة الاجتماعية خاصة.
3 ـ المطالبة بالحقوق الاجتماعية والسياسية.
4 ـ أوروبا والغرب عامة هم القدوة في كل الأمور التي تتعلق بالحياة الاجتماعية للمرأة: كالعمل، والحرية الجنسية، ومجالات الأنشطة الرياضية والثقافية.
ويتضح مما سبق: أن حركة تحرير المرأة هي حركة علمانية، نشأت في مصر، ومنها نُشرت في أرجاء البلاد العربية والإسلامية، وهدفها هو قطع صلة المرأة بالآداب الإسلامية والأحكام الشرعية الخاصة بها كالحجاب، وتقييد الطلاق ومنع تعدد الزوجات والمساواة في الميراث وتقليد المرأة الغربية في كل شيء. ويعتبر كتاب المرأة في الشرق لمرقص فهمي المحامي، وتحرير المرأة والمرأة الجديدة لقاسم أمين من أهم الكتب التي تدعوا إلى السفور والخروج على الدين، وتمتد أهداف هذه الحركة لتصل إلى جعل العلمانية واللادينية أساس حركة المرأة والمجتمع.
الخاتمة
لقد مررنا ـ آنفاً ـ بفصول عرفنا من خلالها مسائل بالغة الأهمية والخطورة يمكن أن نجملها بما يأتي :
1) نرى مما سبق ذكره وبيانه أن المرحلة التي سبقت الإسلام كانت ذات نتائج وإفرازات خطيرة فسعى الإسلام في معالجتها وفق الضوابط الشرعية المعتبرة .
2 ) أن الدولة الإسلامية التي أنشأها النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) على رمال الجزيرة العربية كانت تقوم على ركيزتين عظيمتين مهمتين هما :
الأولى : توحيد الإله .(1/64)
الثانية : توحيد الأمة .
وقد جمعهما الله تعالى في قوله { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء : 92].
3 ) ونعلم أيضا أن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) قد ألتحق بالرفيق الأعلى والأمة مجتمعة على الحق محبة له ، وأن الأحزاب والفرق لم تظهر في عصره المبارك ، بعد أن حذَّر منها وحث على الابتعاد عنها .
4 ) ونعلم أيضا أن الاختلاف والافتراق كله شر لم تجني الأمة منه إلا الويلات والمحن .
5 ) ونعلم أن المسلمين ممن أصابتهم بذرة التحزب قد مروا بمرحلتين :
المرحلة الأولى : وهي مرحلة الأحزاب والفرق التي تدور في دائرة الإسلام مع القول بتخطئة طرائق تلك الأحزاب والفرق .
أما المرحلة الثانية : فمرحلة الأحزاب العلمانية التي تسعى إلى تنحية الشريعة الإسلامية واستبدالها بأفكارهم ومعتقداتهم التي جاءوا بها من مزابل الشرق والغرب مع أنها الكفر والضلال بعينه .
6 ) و نعلم أن الناس كما أخبر الله تعالى ينقسمون ـ حصراً ـ إلى حزبين :
الأول : حزب الله .
الثاني : حزب الشيطان
وكذلك أخبر سبحانه عن الأوصاف التي يتحلى بها حزب الله وعن العطايا والمنح التي ستمنح له ، قال تعالى { َا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [المجادلة : 22] .
قال الشيخ محمد بن صالح الأسمري في (( مفتاح الوصول شرح الثلاثة الأصول : 47 )) : ((إن في هذه الآية عدة دلالات من :(1/65)
( لا تجدُ قوماً ) : ( قوماً ) نكرة في مساق النفي ؛ لأن كلمة تجد أتت مرفوعة فإذا أتت كذلك دل على أنه للنفي لا للنهي ، والنفي أبلغ من النهي في مثل ما نحن بصدده ، كما قرره اللغويون وأهل التفسير ، ( قوماً ) نكرة في مساق نفي فدلت على العموم أي : أي قوم سواءً أكانوا بعداء أم قرباء ، سواء أكانوا من المعروفين لديك أم من غير المعروفين .
( يؤمنون بالله واليوم الآخر.. ) إلى آخره : معناها ظاهر واضح بما سبق .
ثم بين الله سبحانه وتعالى ما يظفر به هؤلاء المؤمنون الذين يبغضون الكافرين ولو كانوا أباً أو أخاً أو ابناً أو عشيرةً أو قبيلةً يرفع الإنسان عقيرته فخراً بهم عند العرب فإنه يبغضهم ، بين الله سبحانه وتعالى فضل هؤلاء القوم في الدنيا ، وفي الآخرة وما يأتيهم من العطاء .
أما في الدنيا فيتحصلون على شيئين :
أما الشيء الأول : فقول الله تعالى { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } ( كتب ) من الكتب ، والكتب في اللغة هو الجمع على وجه صحة ، ولذلك يقال : اجتمعت كتيبة الإسلام لمقاتلة الكافرين ، ففيها معنى الجمع ؛ ولكن على وجه صحة أي : جمع الله في قلوبهم الإيمان وجعله راسخاً ثابتاً ، ولذاك عادوا الكفار وإن كانوا قرباء منهم .
وأما الشيء الثاني : الذي يظفر به هؤلاء في دنياهم : فقول الله تعالى : { وأيدهم بروح منه } بروح أي : بنور وهدى ، ومدد إلهي منه سبحانه وتعالى ، وإنما ذكر سبحانه قوله ( بروح ) أن هذا المدد والهدى والنور الذي يؤتاه صاحب هذه الحالة من موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين وإن كانوا أقرب الأقربين هو روح له ، فجسد لا روح فيه ، ولا نفع منه هو ميت ، ولذلك جعل ذلك في مقام الروح ، وهذا من أعظم التعبيرات وأحسنها وأدلها على المقصود .
وأما ما يأتيهم من العطاء في الآخرة : فبقية ما جاء في الآية .(1/66)
فأول العطاءات : قوله سبحانه { ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار } وهذا أول العطاء فيدخلون الجنات لا جنة واحدة .
وأما العطاء الثاني : فقوله سبحانه { خالدين فيها } أي : أنهم لا يخرجون من الجنة ، وهذا تثبيت للنعمة عند حيازها ؛ لأن المرء إذا حاز نعمة طلب تثبيتها ، فجاءت الآية مبينة حوز النعمة لأولئك الموصوفين ، ثم مبينة لثبات هذه النعمة بعد حوزتها .
وأما ثالث العطاءات : فقوله سبحانه { رضي الله عنهم } وهذا عطاء ثالث وهو رضا الله عن عبده ، وسبق معناه .
وأما العطاء الرابع : فقوله سبحانه { ورضوا عنه } ، وما ذلك إلا لتمام العطاء الذي أُعطوه حتى سبب القناعة ، وليس القناعة فقط بل أعلى منها وهو الرضى عن العطاء ، وهذه حالة تقع للإنسان عند وقوع تمام العطاء .
وأما العطاء الخامس : فوصفهم بأنهم ( المفلحون ) ، والفلاح يقع للإنسان في مسيرته في أولاه وفي أخراه ، فهو إن وصف الإنسان به في أخراه كان عطاء ، لأن الفلاح يوجب له العطاء ، والعطاء هو الذي لا عين رأته ولا أذن سمعت به ولا خطر على قلب صاحبه .
ثم وصف الله عز وجل أولئك الصنف بأنهم ( حزب الله ) فهؤلاء أصحاب حزب ، وهم من تحزبوا واجتمعوا على ما يرضي الله - سبحانه وتعالى - فيوصفون بأنهم حزب الله وأنهم تحزبوا على الإيمان وما يرضي الله - سبحانه وتعالى - .
وأكد الله فلاحهم بقوله (( إن حزب الله )) ثم قوله : ( المفلحون ) دخلت ( أل ) على معنى الفلاح ، وهذا من التأكيد العظيم لفلاح القوم نسأل الله عز وجل أن نكون من أولئك )) أ . هـ(1/67)
ويجب أن نعلم أن الله تعالى قد قسَّم الناس يوم القيامة على ضوء ما سبق ذكره وتقريره إلى فريقين وأخبر عن أحدهما أنه في الجنة والآخر في السعير قال تعالى { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ } [الشورى : 7] .
7 ) وعرفنا ـ أيضا ـ الخطأ الذي وقع فيه الكثير من الأحزاب التي سميت زوراً وبهتاناً بالأحزاب الإسلامية ـ كحزب الأخوان المسلمين مثلاً ـ كيف انخدعوا بما جاء به العلمانيون من مفاهيم ومعتقدات ـ كالديمقراطية والانتخابات ـ وسلوك مسالك السياسة الوعرة والمتعثرة .
والأدهى والأمر من ذلك أنهم راحوا يفتشون لهذه المفاهيم الوافدة عليهم من الأدلة التي يمكن ـ بظنهم ـ أن تسعفهم وتعضد توجهاتهم ومقاصدهم ، فصرنا نراهم وبكل جرأة ووقاحة يشبهون الديمقراطية والانتخابات الفوضوية والتي يعتريها غالباً الغش والتزوير وشراء الذمم بنظام الشورى الإسلامي ، كما أنهم استغلوا الجانب الديني الموجود عند الناس في الدعاية لهم في محاولة منهم لحصد أصواتهم ومزاحمة العلمانيين على السلطة ، حتى أنهم راحوا يرهبون الناس ويحذرونهم من مغبة إعطاء أصواتهم للغير وأنهم سيسألون يوم القيامة عن ذلك كما فعل الحزب الإسلامي العراقي في الانتخابات الأخيرة { َإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [الحج : 46]
8 ) كما عرفنا أيضا حجم الكارثة وعظم المصيبة التي حلت بالأمة الإسلامية نتيجة ما أفرزته الأحزاب والفرق من البلايا والطوام التي راحت تسري في جسد الأمة كما يسري السم في جسد اللديغ .(1/68)
لذا وجب على المسلمين التنبه لهذا الخطر الذي أحدق بهم وأن يتجنبوا هذه الفرق والأحزاب التي نَجَمَ بالشر ناجمها وطال الكل خطرها وشرها ، خاصة في هذا الزمان الذي لم يعد فيه للمسلمين جماعة تجمعهم ولا إمام يقودهم على حسب وصية النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) الغالية لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه .
فعن حذيفة ( رضي الله عنه ) قال : كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني .
فقلت : يا رسول الله ، إنا كنا في جاهلية وشر ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر ؟
قال : (( نعم )) .
قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير؟ .
قال : (( نعم ، وفيه دخن )) .
قلت : وما دخنه ؟
قال : (( قوم يهدون بغير هديي ، تعرف منهم وتنكر )) .
قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر؟
قال : (( نعم ، دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها )). قلت : يا رسول الله، صفهم لنا ؟ .
فقال : ((هم من جلدتنا ، ويتكلمون بألسنتنا )) .
قلت : فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ .
قال : (( تلزم جماعة المسلمين وإمامهم )) .
قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ .
قال : (( فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض بأصل شجرة ، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك )) [ رواه البخاري ومسلم ] .
وبه يتم ما أردنا كتابته في هذه التذكرة الوجيزة ، فما كان فيها من الصواب والحق فمن الله تعالى وحده ، ولله وحده الحمد والشكر والمنَّة .
وإن كان غير ذلك فمني والشيطان ، والله ورسوله منه بريئان ، وأنا راجع عنه وأتوب إلى الله تعالى منه .
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يوحد هذه الأمة على ما يحب ويرضى وأن يجنبها أسباب الخلاف والافتراق والتحزب ، وأن يلهمنا الرشد في القول والعمل ، وأن يكلل أعمالنا بالنجاح والفلاح إنه كريم جواد .(1/69)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلِّ اللهم على عبدك ورسولك الصادق الأمين ، وعلى آله وصحبه وسلم
وكتبه
أبو سيف العبيدي الأثري
فهرس الموضوعات
الموضوع الصفحة
المقدمة 1
الفصل الأول
أحوال الناس قبل وبعد بعثة النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) 3
الفصل الثاني
وجاءت القاصمة 11
الفصل الثالث
المسلمون بين مرحلتين 26
الفصل الرابع
إفرازات وهموم 49
الخاتمة 68
الفهرس 74(1/70)