…ومن الغريب تلك المبالغات التي أوردها البعض في تقدير نسبة القتلى من المدنيين فمثلاً هناك رواية الواقدي والتي أخذ بها غالب المتقدمين والمتأخرين قال الواقدي عن عبد الله بن جعفر قال: سألت الزهري: كم بلغ القتلى يوم الحرَّة؟ قال: أما من قريش والأنصار ومهاجرة العرب ووجوه الناس فسبعمائة، وسائر ذلك عشرة آلاف، وأصيب بها نساء وصبيان بالقتل3366 والسند عن الواقدي وهو متروك، ثم إنه عورض بسند أصح منه، وهي رواية مالك، فتعتبر رواية الواقدي رواية منكرة لا يعتمد عليها في تقدير عدد القتلى3367، ولقد أنكر ابن تيمية صحة ما ذكر الواقدي، واستبعد أن يصل العدد إلى هذا الحد3368.(2/241)
6 ـ نهب المدينة: لقد أشتهر أن مسلم بن عقبة المري، أمر بانتهاب المدينة، فمكثوا ثلاثة أيام من شهر ذي الحجة ينتهبون المدينة حتى رأوا هلال محرم، فأمر الناس فكفوا، وذلك لأن معركة كانت لثلاث يقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين للهجرة وتعتبر رواية نافع مولى بن عمر هي أصح رواية نصت على حدوث الإنتهاب فقد قال: .. وظفر ـ مسلم بن عقبة ـ بأهل المدينة وقتلوا وانتهبت المدينة ثلاثا3369. وقد وردت لفظة الاستباحة عند السلف لتعني النهب، كما ورد على لسان عبد الله بن يزيد بن الشخير حين قال: ولما استبيحت المدينةـ يعني الحرة ـ دخل أبو سعيد الخدري غاراً3370، ومن هنا يعلم أن الاستباحة والنهب جاءت بمعنى واحد حيث جاءت هاتان اللفظتان في غالب المصادر المتقدمة3371، وقرار انتهاب المدينة الذي اتخذه هو يزيد بن معاوية، وقد حمله الإمام أحمد مسؤولية انتهاب المدينة، فعند ما سأله مهنا بن يحيى الشامي السلمي عن يزيد قال: هو الذي فعل بالمدينة ما فعل. قلت: وما فعل؟ قال نهبها3372. وقال بن تميمة: فبعث إليهم ـ أي أهل المدينةـ جيشاً وأمره إذا لم يطيعوه بعد ثلاث أن يدخلها بالسيف ويبيحها ثلاثا3373وذهب إلى ذلك بن حجر3374ولا يشك أن انعدام الأمن والخوف في المدينة قد أدّى بالبعض إلى الهروب من المدينة والالتجاء إلى الجبال المجاورة، كما حدث لأبي سعيد الخدري رضي الله عنه، فقد هرب من المدينة ودخل غاراً والسيف في عنقه ودخل عليه شامي فأمره بالخروج، فقال: لا أخرج وإن تدخل قتلتك، فدخل عليه فوضع أبو سعيد السيف وقال: بؤ بإثمي وإثمك قال: أنت أبو سعيد الخدري قال نعم: قال: فاستغفر لي فخرج3375. وقد ذكر الواقدي أنّ أهل الشام نتفوا لحيته انتقاماً منه ولكن هذا لم يرد من طريق صحيحة3376. ولكن الشيء الذي يجب التنبه إليه هو أن النهب لم يمثل كل أهل المدينة، فلم نسمع أن ابن عمر قد انتهبت داره أو علي بن الحسين، أو غيره من الذين لم يقفوا بجانب المعارضين(2/242)
وإنما كان الانتهاب في الأماكن التي يدور فيها القتال وتعرف للمعارضة للحكم الأموي3377.
لقد أخطأ يزيد خطأ فاحشاً في قوله لمسلم بن عقبة أن يبيح المدينة ثلاثة أيام وهذا خطأ كبير، فإنه وقع في هذه الثلاثة أيام من المفاسد العظيمة في المدينة النبوية ما لا يُحَدُّ ولا يُوصَفُ، مما لا يعلمه إلا الله عز وجل وقد أراد بإرسال مسلم بن عقبة توطيد سلطانه وملكه ودوام أيامه، فعاقبه الله بنقيض قصده فقصمه الله قاصم الجبابرة وأخذه أخذ عزيز مقتدر3378، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع كما ينماع الملح في الماء3379ومن الأحاديث التي تدل على شناعة جريمة إخافة أهل المدينة وتبين سوء عاقبة فاعلها3380قوله صلى الله عليه وسلم: من أخاف أهل المدينة أخافه الله عز وجل، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً3381.
7 ـ ما قيل حول انتهاك الأعراض:(2/243)
لم نجد في كتب السنة أو في تلك الكتب التي ألفت في الفتن3382وكذلك لم نجد في المصدرين التاريخيين المهمين عن هذه الفترة وهما (الطبري والبلاذري) أي إشارة لوقوع شيء من ذلك، وهما قد اعتمد على روايات الإخبار بين المشهورين مثل عوانة بن الحكم وأبي مخنف الشيعي وغيرهما3383، وأول من أشار إلى انتهاك الأعراض، المدائني المتوفي سنة 225هـ حيث قال المدائني عن أبي قرة عن هشام بن حسان قال: وَلَدت بعد الحرة ألف امرأة من غير زوج، ويعتبر ابن الجوزي هو أول من أورد هذا الخبر في تاريخه3384، وفي رسالته الخاصة التي ألفها في الطعن على يزيد بن معاوية وإظهار مثالبه3385، وقد نقلها عن ابن الجوزي السمهودي مؤرخ المدينة المتوفي في القرن العاشر الهجري3386، ويبدو أن الطبري، والبلاذري وخليفة بن خياط وغيرهم، لم يقتنعوا بصحة هذا الخبر ، فإنهم قد أعرضوا عنه ولم يدخلوه في كتبهم ولا يوجد خبر صحيح الإسناد في حادثة الاغتصاب المزعومة وقد ورد في دلائل النبوة للبيهقي من طريق يعقوب بن سفيان قال: حدثنا يوسف بن موسى حدثنا جرير بن المغيرة قال: أنهب مسرف بن عقبة المدينة ثلاثة أيام، فزعم المغيرة أنه افتض فيها ألف عذراء3387، ومن الجدير بالذكر أن كل من أورد خبر انتهاك أعراض أهل المدينة في معركة الحرَّة قد اعتمد على رواية يعقوب أو رواية المدائني فقط3388، وكلاهما لا تصح ولا تثبت وقد ذكر العصامي فرية لم يسبق إليها حيث قال: وافتض فيها ألف عذراء وإن مفتضها فعل ذلك أمام الوجه الشريف، والتمس ما يمسح به الدم فلم يجد ففتح مصحفاً قريباً منه ثم أخذ من أوراقه ورقة فمسح بها، نعوذ بالله ما هذا إلا صريح الكفر وأنتنه3389، وقد أطلق العنان بعض الكتّاب لرغباتهم وأهوائهم ولم يستندوا إلى إي دليل والروايات المتعلقة بالاغتصاب لا يمكن الاعتماد عليها3390، ثم إن القرائن المصاحبة لمعركة الحرّة تنفي وجود أي نوع من الاغتصاب، وقد رأينا أن الروايات الحسنة التي(2/244)
ذكرت إنتهاب المدينة وأثبتناها في موضعها، لم يرد فيها ذكر لانتهاك الأعراض3391.
إن انتهاك أعراض نساء المدينة لا أساس لها من الصحة، وأنها روايات جاءت متأخرة، وبدافع حزبي بغيض، يتخذ من الكره والتعصب ضد التاريخ الأموي دافعاً له وتهدف إلى إظهار جيش الشام، الذي يمثل الجيش الأموي جيشاً بربرياً لا يستند لأسس دينية أو عقائدية أو أخلاقية، وهذا الاتهام لا يقصد به اتهام الجيش الأموي فقط، بل إنَّ الخطورة التي يحملها هذا الاتهام تتعدى إلى ما هو أعظم من مجرد اتهام الجيش الأموي، إلى اتهام الجيش الإسلامي الذي فتح أصقاعاً شاسعة في تلك الفترة3392، وقد ذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى إنكار ذلك مثل د.نبيه عاقل3393، ود.العرينان3394. ود. العقيلي3395، وكذلك فلها وزن3396، وقام الشيباني بدراسة عميقة حول الموضوع وأثبت بطلان هذه الأكاذيب3397.
8 ـ أخذ البيعة من أهل المدينة ليزيد بن معاوية:(2/245)
…تعتبر الكيفية التي تمّ بها أخذ البيعة من المدنيين من أكبر الأمور التي انتقد فيها يزيد معاوية، فقد وردت الروايات لتبين أن مسلم بن عقبة أخذ البيعة من أهل المدينة على أنّهم عبيد ليزيد بن معاوية، يتصرف في دمائهم وأموالهم كيفما يشاء، فهناك رواية مجملة تفيد بأن مسلم بن عقبة أخذ البيعة من أهل المدينة على أنّهم عبيد ليزيد بن معاوية، وذلك بعد انتهاء معركة الحرّة وتضيف الرواية: على أن البيعة تضمنت الحرية الكاملة ليزيد بن معاوية للتصرف في دمائهم وأمواله وأهلهم3398، وتضيف إحدى الروايات صيغة أخرى لأخذ البيعة من أهل المدينة، فتذكر الرواية: أنهم بايعوا كعبيد ليزيد في طاعة الله ومعصيته. وهذه الروايات أسانيدها ضعيفة جداً، ثم إن متونها يكتنفها الغموض، فليس هناك تفصيل وبيان عمن بايع على هذه الصفة، وهل كل المدنيين بايعوا هذه البيعة بمن فيهم ابن عمر وعلي بن الحسين وأبي سعيد الخدري وسعيد بن المسيب، وغيرهم من الذين لم يشتركوا في محاربة أهل الشام؟ والذي يبدو من خلال مجمل الروايات أنه فور انتهاء معركة الحرّة دعا مسلم بن عقبة الناس للبيعة، كما يبدو أن البيعة أخذت من جميع الناس3399، وحتى أن علي بن الحسين قد أتي به إلى مسلم بن عقبة فأكرمه مسلم، وذلك بسبب وصية يزيد لمسلم بوجوب حسن معاملة الحسين بن علي مما يدل عل أن أهل المدينة ـ الخارج على طاعة يزيد والمقر بطاعة يزيد كلهم قد دعوا إلى مسلم بن عقبة3400، ولقد وردت روايات أخرى تفصل وتبين هذه البيعة، وتجعل هذه البيعة لفئة مخصوصة، وكان الدافع لذلك هو غضب مسلم بن عقبة على هذه الفئة ومحاولته الخلاص إلى قتلهم بتلك البيعة3401، يقول الدكتور يوسف العش: وبعد انتهاء معركة الحرّة أحضر مسلم مدبري الفتن واستعرضهم، وطلب إليهم أن يبايعوه على أنّهم خول ليزيد، ويحكم في أهلهم ودمائهم وأموالهم ما يشاء، فلم يقبلوا بأن يبايعوا هذه البيعة فقتلهم، وكان يريد أن يقضي على فتنتهم(2/246)
بالصغار، والحط من منزلتهم والتحقير من شأنهم، بحيث يعتبرون عبيداً، هم وما يملكون3402. وهذا انحراف عظيم عن شرع الله تعالى، ودليل على عسف الدولة وظلمها وجبروتها وقسوتها وتجاوزنها الحدود المعقولة والمنقولة بسبب غضبها وحنقها على أهل المدينة.
9 ـ وفاة مسلم بن عقبة: 64هـ:
…نفذ مسلم وصية يزيد بحذافيرها، فلم يفاجيء أهل المدينة بالقتال، ولكنه أنذرهم وحذرهم، ولما مضت الثلاث، حاول إقناعهم وألحّ عليهم أن يقبلوا السلام، وأن يكفوا عن القتال، ولكنهم سبوه وشتموه وردوا عليه أمانه، ويا ليت مسلماً تروى واستمر في حصار المدينة المحرمة، ولكن غلبه حبه لسفك الدماء، فدخل المعركة وأنزل بأهل المدينة روعاً عظيماً، وأعمل فيهم السيوف وقتل خيارهم، وشتتوا شملهم ولم ينج منهم إلا أسير أو هارب إلى مكة لينضم إلى ابن الزبير وقد أسرف مسلم في قتل المسلمين حتى بعد انتهاء المعركة فقتل رجالاً خرجوا من المعركة سالمين، ولم يكن له ليقتلهم وقد انتهت المعركة، واستسلمت المدينة، ولكن غلب عليه طبعه، وجرى في عروقه دم الشر الذي فطر عليه، فكان يقتل الرجل لمجرد أن يقول إنه يبايع على كتاب الله وسنه رسوله، أو يبايع على سنة أبو بكر وعمر، وبالطبع لم يكن هذا أبداً مبرراً لسفك دماء وإزهاق أرواح3403، ولكنه الظلم والعسف والتجبر والطغيان.(2/247)
وفي أوّل المحرم من عام 64هـ بعد فراغ مسلم من حرب المدينةـ سار إلى مكة قاصداً قتال ابن الزبير، ولما بلغ ثنيَّة هرْش3404، بعث إلى رؤوس الأجناد فجمعهم فقال: إنّ أمير المؤمنين عهد إليَّ إن حدث بي حدث الموت أن أستخلف عليكم حصين بن نمير السَّكوني ووالله لو كان الأمر لي ما فعلت. ثم دعابه فقال: انظر يا بن بردعة الحمار فاحفظ ما أوصيك به. ثم أمره إذا وصل مكة أن يناجز بن الزبير قبل ثلاث، ثم قال: اللهم إني لم أعمل عملاً قط بعد شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله أحب إليّ من قتلي أهل المدينة ولا أرجى عندي في الآخرة، وإن دخلت النار بعد ذلك إني لشقيُّ. ثم مات قبحه الله ودفن بالمُشلل3405. انظر إلى شدة جهله وحماقته وكيف كان يعتقد أنه يتقرب بقتل هؤلاء إلى الله، وأنه يزداد بقتلهم قربى منه ـ سبحانه ـ والناظر في دعائه يستشعر الأسباب التي جعلت مسلماً يدير المعركة بشراسة، ويسرف في دماء المسلمين من غير وازع ولا رادع فقد كان مسلم يعتقد أن قتل أهل المدينة قربى إلى الله، فأسرف في القتلى وكان يؤمن بأن قتلهم هو السبيل إلى الجنة، فأمعن في سفك الدماء ولو أن الأحمق الجاهل الذي كان حريصاً أشد الحرص على طاعة أمير المؤمنين ولم يحرص قط على طاعة الله، وكان يكره معصية أمير المؤمنين عند الموت، بقدر ما كان يكره طاعة الله في عباده، لو أنه فقه أن زوال الدنيا عند الله أهون من سفك دم امرىء مسلم، ولو أنه علم أن ما فعله أهل المدينة لا يبيح دماءهم ولا تستباح أموالهم لو أنه علم ذلك لكان يكفيه من إدارة المعركة القدر الذي يخضع الناس ليزيد3406.
10 ـ كيف استقبل يزيد خبر موقعة الحرّة؟(2/248)
…ولما بلغ يزيد خبر أهل المدينة وما وقع بهم قال: واقوْماه ثم دعا الضّحَّاك بن قيس الفهري فقال له: ترى ما لقي أهل المدينة، فما الرأي الذي يجبرهم؟ قال الطعام والأعطية فأمر بحمل الطعام إليهم وأفاض عليهم أعطيته. وهذا خلاف ما ذكره كذبة ـ الشيعة ـ عنه من أنه شمت بهم وشقى بقتلهم3407، وأنه أنشد من شعر ابن الزِّبَعْرَي:
…………ليت أشياخي ببدر شهدوا
……………………جزِع الخزرج من وقع الأَسَلْ
…………حين حَكَّت بقُباء بَرْكها
……………………واستحر القتل في عبد الأَشَلْ
…………وقد قتلنا الضّعف من أشرافهم
……………………وعَدَلْنا ميل بدر فاعتدل
وقد زاد بعض ـ كذبة الشيعة فيها ـ:
…………لعبت هاشم بالملك فلا
……………………مَلَكُ جاء ولا وحي نزل3408
…قال ابن كثير: فهذا إن قاله يزيد بن معاوية فلعنة الله عليه ولعنة اللاَّعنين، وإن لم يكن قاله فلعنة الله على من وضعه عليه ليُشنِّع عليه به وعلى ملوك المسلمين3409، وقال ابن تيمية على أبيات الشعر: ويعلم بطلانه كل عاقل3410، لقد وقع يزيد في خطأ مرّوع، لا تهون منه الاعتذارات والمواساة، وهو الأمر باستباحة المدينة للمحاربين ثلاثة أيام ينهبون ويسرقون، مما أدى إلى فساد خطير وشر مستطير، وفتح على يزيد باباً أدى إلى تشويه سمعته، وبغض المسلمين في خلافته، وبخاصة أن المسلمين لم ينسوا بعد مقتل الحسين بن علي ـ رضي الله عنه ـ حيث لم تجف دماؤه على ثرى كربلاء3411.
رابعاً : أهم الدروس والعبر والفوائد:
1 ـ دواعي فشل أهل المدينة:(2/249)
…لقد كان محكوماً على حركة المدينة بالفشل، لأنهم لم يوحّدوا صفوفهم ولم يكن لهم قائد واحد، لأن تعدد القوّاد في المعركة من دواعي الهزيمة وهذا ما تنبأ به عبد الله بن عباس عندما سأل عن حالهم: فقيل استعملوا عبد الله بن مطيع على قريش، وعبد الله بن حنظله على الأنصار. فقال ابن عباس: أميران؟ هلك القوم3412، ولو حصل الانتصار، فدواعي اشتعال الفتنة موجودة ممن يكون الخليفة؟ هل يتولاها رجل من قريش أو من الانصار؟ فهم لم يعلنوا أنهم تبع لابن الزبير3413، ومن دواعي الفشل: قلت ما تحت أيديهم من الأرزاق ولو أستمر الحصار مدة طويلة لهلك الناس من الجوع، لأن ما بها من الميرة لا يكفيها لسد حاجتها أياماً وجل طعامها يأتيها من التجارة، أو من بساتين خارج حدود المدينة، فكيف يغادر هؤلاء في حرب ليس عندهم مؤونة لها، يقفون أمام جند الشام المدعمين بالسلاح والمال؟ ومن دواعي فشلهم: عدم بروز هدف يريدون تحقيقه بعد خلع يزيد والنصر: وإذا كان هدفهم خلع يزيد: هل كانوا يريدون أن تكون إمارة مستقلة؟ وهذا غير ممكن. وإذا كان هدفهم تولية ابن الزبير، لماذا لم يرفعوا راية واحدة باسم ابن الزبير ، ولماذا لم يطلبوا المدد منه؟ ولو ضم ابن الزبير جنده إلى جند المدينة، لتكونت قوة تستطيع أن تقف أمام جيش مسلم بن عقبة، ولكنهم عندما وزعوا قواتهم وعددوا معاركهم استطاع الأمويون أن ينتصروا عليهم وهم متفرقون3414.
2 ـ موقف زعامة المدينة المنورة:
لم تكن زعامة المدينة المنورة، راضية عن هذه الثورة، فهناك أسرتان كبيرتان من المهاجرين عارضتا أهل المدينة، وهما آل الخطاب، وآل هاشم وعلى رأس آل الخطاب، شيخ الصحابة في زمانه وفقيههم عبد الله بن عمر، ومن آل هاشم عبد الله بن العباس وعلى بن الحسين ومحمد بن الحنيفة3415.(2/250)
3 ـ رأي بن تيمية: .. وقلّ من خرج على إمام ذي سلطان إلا وكان ما تولد على فعله من الشرّ أعظم مما تولد من الخير، كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة فإنهم هزموا وهزم أصحابهم، فلا أقاموا دنيا، ولا أبقوا دينا، والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل فيه صلاح الدين ولا صلاح الدنيا.. وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة، كما كان عبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب وعلي بن الحسين، وغيرهم، ينهون عام الحرّة عن الخروج على يزيد3416.
4 ـ عناية المؤرخين بمعركة الحرّة:
لم تجد معركة الحرّة من المؤرخين، كما لاقى غيرهما من الحوادث التي حصلت أيام يزيد بن معاوية، ولم يفرد المؤرخون المحدثون عنها أبحاثا، كما أفردوا عن الحركات الأخرى، ولو قارنا بينها وبين حركة الحسين لوجدنا فرقاً كبيراً في النتائج، فمجموع ما قتل في معركة الحرّة أضعاف ما قتل مع الحسين، وقتل في معركة الحرّة رجال مشاهير لهم منزلة صحبة وجهاد من هؤلاء عبد الله بن زيد حاكي وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم3417، ومعقل بن سنان3418وفيه يقول الشاعر:
……وأصبحت الأنصار تبكي سراتها
……………وأشجع تبكي معقل بن سنان
وعبد الله بن حنظله الغسيل مع ثمانية من بنيه، وهؤلاء الرجال مكانتهم في الإسلام عالية ومصيبة المسلمين فيهم عظيمة وهي مصيبة تضاف إلى مصيبة المسلمين في الحسين رضي الله على مكانته وفضله وسيادته عند المسلمين وهذا ما يجعل معركة الحرّة فاجعة كبيره كما هي معركة كربلاء.
المبحث السادس: حركة عبد الله بن الزبير في عهد يزيد:
كان ابن الزبير رضي الله عنه قد عقد العزم على عدم البيعة ليزيد واختار الذهاب والاستقرار بمكة.
أولاً: أسباب اختيار ابن الزبير لمكة:
اجتمعت عدة أسباب جعلت مكة أنسب مكان يمكن أن يتجه إليه ابن الزبيرـ في نظره ـ ومن أهمها ما يلي:(2/251)
1 ـ أنها المكان الوحيد الذي يمكن اللجوء إليه في هذه الفترة وذلك لأن الأقاليم الأخرى ليست مناسبة، فالعراق ـ بمصريه الكوفة والبصرة لا يمكن ضمان ولاء أهلها لأي زعيم معارضة ضد بني أمية، وما فعلوه مع الحسين خير دليل على ذلك، وكان ابن الزبير يعي ذلك تماماً حينما نصح الحسين بعدم الذهاب إلى العراق3419، أين تذهب إلى قوم قتلوا أباك وطغوا أخاك؟ أما مصر واليمن فقد كانتا بعيدتين عن مسرح الأحداث، ولم يكن لابن الزبير في هذين الإقليمين أنصار ومؤيدون يمكن أن يعتمد عليهم وأما الشام فكما هو معروف كان معقل الأمويين.
2 ـ إن مكةـ لوجود بيت الله فيها ـ كانت بلداً حراماً ولا يجوز سفك الدماء بها، وهذا يكفل لمن يعتصم بها حماية من القتل إلا إذا ارتكب حدا يوجب ذلك، وعلى أقل تقدير فوجود هذا الحكم الخاص بمكة يجعل التفكير باستخدام القوة هو آخر حل يُلجا إليه.
3 ـ وكما أن مكة بلد له مكانته وقدسيته في نفوس المسلمين فإن من يتعرض له بالإيذاء سيواجه معارضة من قبل العديد من المسلمين الذين سيهبون للدفاع عن بيت الله الحرام بغض النظر عمن يعتصم به، وقد أفاد ابن الزبير من هذه النقطة كثيراً.
4 ـ أنه يجتمع بمكة في موسم الحج كل عام الألوف من المسلمين من مختلف الأقاليم، ويمكن من خلال هذا الموسم التأثير على الرأي العام وتوجيهه وهو ما لا يمكن توفره في أي إقليم.
5 ـ أن مكة بدأت منذ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ـ والصحابة إلى المدينة تفقد دورها السياسي وبالتالي فإن قبضة الأمويين عليها لم تكن قوية بعكس وضع المدينة.
6 ـ وأخيراً فإن معارضة ابن الزبير مرتبطة بأهل المدينة الذين يقفون معه الموقف نفسه ضد بني أمية، وبالتالي كان من المناسب أن يكون ابن الزبير قريباً من المدينة ليضمن استمرار تأييد أهلها له ولكي يتمكن من الاتصال المستمر بهم3420.
ثانياً أسباب خروج ابن الزبير ومن معه:(2/252)
كان مقصد ابن الزبير رضي الله عنه ومن معه ومن بينهم بعض الصحابة والتابعين كالمسور بن مخرمة، وعبد الله بن صفوان، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وغيرهم من فضلاء عصرهم هو تغيير الواقع بالسيف لما رأوا تحول الخلافة إلى وراثة ملك، ولما أشيع حول يزيد من إشاعات أعطت صورة سيئة للخليفة الأموي في دمشق والذي ينبغي أن يفهم أن ابن الزبير قام لله وليس كما يقول البعض، مثل محمد ماهر حمادة عندما قال: وعلى الرغم من أن حركة ابن الزبير لم تكن سوى مزيج عجيب، من عدد من العناصر، يحركها طموح شخصي، وصراع قلبي،التقتا في نفس ابن الزبير، وشخصيته3421. لقد كان رضي الله عنه يهدف من وراء المعارضة أن تعود الأمة إلى حياة الشورى ويتولى الأمة حينئذ أفضلها وكان يخشى من تحول الخلافة إلى ملك، وكان يرى رضي الله عنه أنه باستعماله للسيف وتغييره للمنكر بالقوة يتقرب إلى الله ويضع حداً لانتقال الخلافة إلى ملك ووراثة ولهذا لم يدع لنفسه حتى توفي يزيد بن معاوية3422. وكان ابن الزبير يخطب ويقول: والله لا أريد إلا الإصلاح وإقامة الحق، ولا التمس جمع مالاً ولا إدخاره3423 وكان يقول: اللهم إني قد أحببت لقاءك فأحبب لقائي، وجاهدت فيك عدوك فاثبني ثواب المجاهدين3424. وقال عبد الله بن صفوان بن أمية لابن الزبير: إني والله ما قاتلت معك إلا عن ديني3425، والروايات في هذا المجال كثيرة جداً وهي تدل على النظرة الحقيقية لمعارضة ابن الزبير وكذلك أهل المدينة حيث اعتبروها جهاداً في سبيل الله3426، إن الحسين بن علي وابن الزبير وأهل الحرَّة رضي الله عنهم كان خروجهم من أجل الشورى لأسباب مشروعة منها:
1 ـ دفاعاً عن حقهم الذي جعل الله لهم ((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ).
2 ـ أن هذا الاغتصاب منكر وظلم تجب إزالته .
3 ـ تمسكا بالسنة وهدى الخلفاء الراشدين في باب الخلافة3427.(2/253)
…وساعد في تحقيق أهداف ابن الزبير والتفاف الناس من حوله عدة أمور منها: ردة الفعل الذي أحدثته معركة كربلاء، سوء سيرة يزيد، سرعة يزيد في عزل ولاة الحجاز مركز الثقل السياسي كما كان زمن الرسول والخلفاء الراشدين3428.
ثالثاً : الجهود السلمية التي بذلها يزيد لاحتواء ابن الزبير:
…كان ابن الزبير يدرك الخطورة التي ستلحق بالحسين إذا خرج إلى الكوفة، ولذا ناشده عدم الذهاب إلى الكوفة قائلاً: أين تذهب إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك3429. وكان ابن الزبير يدرك أن الحسين إذا أصيب في العراق، فإن النتائج ستنعكس عليه وسيكون المنفرد في الساحة، وبالتالي يسهل القضاء عليه وقد حرص ابن الزبير على إشعار الحسين بمكانته وأن وجوده في مكة يحظى بالتأييد من أهلها وبالأخص من ابن الزبير نفسه، ولذا فقد بادره بفكرة جريئة فقال للحسين: إن شئت أن تقيم أقمت فوليت هذا فآزرناك وساعدناك ونصحنا لك، وبايعناك3430، ويبدو أن ابن الزبير رغب أن تكون القيادة العامة بيد الحسين نظراً لمكانته ووجاهته، واحترام المسلمين له. ويكون بيده التخطيط لمجابهة يزيد بن معاوية، وبالأخص أنه يملك رصيداً كبيراً من المشاركات الحربية الناجحة في عمليات الجهاد الإسلامي، وكان يرغب في جعل ركيزة الانطلاق في المعارضة هي بلاد الحجاز، وذلك نظراً لصدق أهلها، ووجود العباد والصالحين والعلماء من الصحابة وكبار التابعين بها، ثم وجود الحرمين ومكانتهما، فإذا تمت لهما السيطرة على بلاد الحجاز، فإن قضيتهما ستكسب بعداً كبيراً في الأقاليم الإسلامية، فالناس تؤم الحرمين للعمرة والحج والزيارة، وبالتأكيد سينقلون أخبار المعارضين ومكانتهما، مما سيؤدي إلى تعاطف وتأييد وأنصار تلك الأقاليم، ولما خرج الحسين رضي الله عنه إلى الكوفة وقتل يوم عاشوراء من سنة إحدى وستين بكربلاء كان لذلك وقع كبير على ابن الزبير، فالذي يخشاه ابن الزبير وهو انفراد الأمويين به قد حدث، ثم إن الرجل الذي(2/254)
كان يضفي مكانة ومنزلة على المعارضة قد قتل ومع ذلك لم يحدث تحرك من الناس ضد الأمويين بسبب قتل الحسين رضي الله عنه3431، ولعل إنفراده بالمعارضة ضد يزيد هي التي جعلت ابن خلدون يقول: ولم يبق في المخالفة لهذا العهد ـ الذي اتفق عليه الجمهور ـ إلا ابن الزبير، وندور المخالف معروف3432، وقد أحس ابن الزبير بخطورة موقفه، ولكنه حاول أن يستفيد من دوافع الكره والمقت التي تعتلج في نفوس الناس ضد الأمويين بسبب قتل الحسين3433.
1 ـ أول هجوم مباشر وصريح من ابن الزبير على يزيد:
…عندما سمع ابن الزبير مقتل الحسين رضي الله عنه قام خطيباً في مكة وترحم على الحسين وذم قاتليه وقال: أما والله لقد قتلوه طويلاً قيامه، وكثيراً في النهار صيامه، أحق بما هم فيه منهم، وأولى بما هم فيه منهم، وأولى به في الدين والفضل، أما والله ما كان يبدّل بالقرآن الغناء ولا البكاء من خشية الله الحداء، ولا بالصيام شراب الحرام، ولا بالمجالس في حلق الذكر ـ الركض في طلب الصيد ـ يعرّض بيزيد ـ فسوف يلقون غياً3434. ونظراً للمشاعر العاطفية التي أثرت على أهل الحجاز عموماً بسبب قتل الحسين رضي الله عنه فقد أبدى البعض استعداده لبيعة ابن الزبير3435، ولاحظ ابن الزبير مشاعر السخط التي عمّت أهل الحجاز بسبب قتل الحسين رضي الله عنه، فأخذ يدعو إلى الشورى وينال من يزيد ويشتمه3436، ويذكر شربه للخمر ويثبط الناس عنه، وأخذ الناس يجتمعون إليه فيقوم فيهم، فيذكر مساوئ بني أمية ويطنب في ذلك3437.
2 ـ مساعي يزيد السلمية :(2/255)
…لم يحاول يزيد في بداية الأمر أن يعمل عملاً من شأنه أن يعقّد النزاع مع ابن الزبير، ولهذا فلقد أرسل إليه رسالة يذكّره فيها بفضائله ومآثره في الإسلام، ويحذره في الفتنة والسعي فيها، وكان مما قال له: أذكرك الله في نفسك فإنك ذو سن من قريش وقد مضى لك سلف صالح، وقدم صدق من اجتهاد وعبادة، فأربب صالح ما مضى ولا تبطل ما قدمت من حسن، وأدخل فيما دخل فيه الناس، ولا تردهم في فتنة، ولا تحل ما حرم الله، فأبى أن يبايع3438.
3 ـ غضب يزيد على ابن الزبير:
…لم يستجب ابن الزبير لدعوة يزيد السلمية ورفض بيعته وأقسم يزيد على أنه لا يقبل بيعة ابن الزبير حتى يأتي إليه مغلولاً3439، ولقد حاول معاوية بن يزيد أن يثني والده عن هذا القسم، وذلك لمعرفته بابن الزبير، وأنه سيرفض القدوم على يزيد وهو في الغل، وكان معاوية بن يزيد صالحاً تقياً ورعاً يجنح للسلم ويخشى من سفك دماء المسلمين، وساند معاوية في رأيه عبد الله بن جعفر، ولكن يزيد أصر عل رأيه، وحتى يخفف يزيد من صعوبة الموقف على ابن الزبير، فقد بعث بعشرة من أشراف أهل الشام، وأعطاهم جامعة من فضة، وبرنس خز3440 وفي رواية أخرى: أن يزيد بعث لابن الزبير بسلسلة من فضة وقيد من ذهب، وجامعة من فضة3441. وعند وصول أعضاء الوفد إلى مكة تكلم ابن عضاة الأشعري، وقال: يا أبا بكر: قد كان من أثرك في أمر أمير الخليفة المظلوم ـ يعني عثمان بن عفان ـ ونصرتك إياه يوم الدار مالا يجهل، وقد غضب أمير المؤمنين بما كان من إبائك مما قدم عليك فيه النعمان بن بشير، وحلف أن تأتيه في جامعة خفيفة لتحل يمينه، فالبس عليها برنساً فلا ترى، ثم أنت الأثير عند أمير المؤمنين الذي لا يخالف في ولاية ولا مال3442.
4 ـ ابن الزبير يفكر ويستشير في عرض يزيد:(2/256)
استأذن ابن الزبير الوفد بضعة أيام يفكر ويستشير، فعرض الأمر على والدته أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها فقالت: يا بني عش كريماً ومت كريماً ولا تمكن بني أمية من نفسك، فتلعب بك، فالموت أحسن من هذا3443
…وكان مروان بن الحكم قد بعث ابنه عبد العزيز وقال له: قل لابن الزبير إن أبي أرسلني عناية بأمرك وحفظاً لحرمتك، فابرر يمين أمير المؤمنين ،فإنما يجعل عليك جامعة من فضة أو ذهب وتكسى عليه برنساً فلا تبدو إلا أن يسمع صوتها، فكتب ابن الزبير إلى مروان يشكره3444 وجاء رد ابن الزبير على الوفد بالمنع3445.
5 ـ تهديد الوفد لابن الزبير ورده عليهم:(2/257)
…بعدما أجاب بن الزبير على الوفد بالمنع قال لابن عضاة: إنما أنا بمنزلة حمام من حمام مكة أفكنت قاتلاً حماماً من حمام مكة؟ قال: نعم، وما حرمة حمام مكة: يا غلام ائتني بقوسي وأسهمي فأتاه بقوسه واسهمه، فأخذ سهماً فوضعه في كبد القوس ثمّ سدده نحو حمامة من حمام المسجد وقال: يا حمامة، أيشرب يزيد الخمر، قولي: نعم. فوالله: لئن فعلت لأرمينك. يا حمامة أتخلعين يزيد بن معاوية وتفارقين أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ وتقيمين في الحرم حتى يستحل بك؟ والله لئن فعلت لأرمينك. فقال ابن الزبير: ويحك أو يتكلم الطائر؟ قال: لا، ولكنك يا ابن الزبير تتكلم، أقسم بالله لتبايعن طائعاً أو مكرهاً أو لتعرفن راية الأشعريين في هذه البطحاء، ولئن أمرنا بقتالك ثم دخلت الكعبة لنهدمنها أو لنحرقنها عليك أو كما قال. فقال ابن الزبير: أو تحل الحرم البيت، قال: إنما يحله من ألحد فيه3446. ثم قال ابن الزبير: إنه ليست في عنقي بيعة ليزيد. فقال ابن عضاة: يا معشر قريش قد سمعتم ما قال: وقد بايعتم وهو يأمركم بالرجوع عن البيعة3447، وأخذ ابن الزبير يبسط لسانه في تنقص يزيد وقال: لقد بلغني أنه يصبح سكران ويمسي كذلك ثم قال: يا ابن عضاة: والله ما أصبحت أرهب الناس ولا البأس، وإني لعلى بينة من ربي، فإن أقتل فهو خير لي، وإن أمت حتف أنفي فلله يعلم إرادتي وكراهتي لأن يعمل في أرضه بالمعاصي، وأجاب الباقين بنحو جوابه3448. ثم قال ابن الزبير: اللهم إني عائد ببيتك3449، ولقب نفسه عائذ الله3450، وكان يسمى العائذ3451.
رابعاً: الجهود الحربية ضد بن الزبير:
1 ـ حملة عمرو بن الزبير:(2/258)
رأى يزيد أنه لابد من القيام بعمل عسكري، يكون الهدف منه القبض أو القضاء على ابن الزبير أو حمله على الامتثال لقسم يزيد ووضع الأغلال في عنقه ولما حج عمرو بن سعيد بن العاص والي المدينة في تلك السنةـ والمرجح سنة إحدى وستين ـ حج ابن الزبير معه، فلم يصل بصلاة عمرو، ولا أفاض بإفاضته3452، وهذا العمل من ابن الزبير يعني المفارقة الواضحة لسلطة الدولة، وعدم الاعتراف بها، وخصوصاً أن إقامة الحج تمثل الدليل الأقوى على شرعية الدولة وقوة سلطانها، مثله مثل إقامته الجهاد في سبيل الله3453، ثم منع ابن الزبير الحارث بن خالد المخزومي من أن يصلي بأهل مكة وكان الحارث بن خالد المخزومي نائب لعمرو بن سعيد على أهل مكة3454، وكان ابن الزبير يتصرف وكأنه مستقل عن الدولة، وكان لا يقطع أمراً دون المسور بن مخرمة3455، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وجبير بن شيبة، وعبد الله بن صفوان بن أمية، وكان يريهم أن الأمر شورى فيما بينهم، وكان يلي بهم الصلوات، والجمع ويحج بهم3456، فكتب يزيد إلى عمرو بن سعيد بن العاص واليه على المدينة أن يوجه له جُنداً، فعين عمرو بن سعيد بن العاص على قيادة هذه الحملة عمرو بن الزبير بن العوام أخو عبد الله بن الزبير، وكان عمرو بن الزبير قد ولي شرطة المدينة لعمرو بن سعيد، وكان شديد العداوة لأخيه عبد الله وقام بضرب كل من كان يتعاطف مع ابن الزبير، وكان ممن ضرب المنذر بن الزبير، وابنه محمد بن المنذر وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوت3457، وعثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام3458، وخبيب بن عبد الله بن الزبير3459، وفر منه عبد الرحمن بن عثمان، وعبد الرحمن بن عمرو بن سهيل وغيرهم إلى مكة فالتجأوا إلى ابن الزبير3460، وكان تعيين عمرو بن الزبير على قيادة الجيش المتجه لمحاربة ابن الزبير جاء بناءً عل طلب من عمرو بن الزبير نفسه3461، واتجه جيش عمرو بن الزبير إلى مكة وكان قوامه ألف رجل، وجعل على مقدمته أنيس بن(2/259)
عمرو الأسلمي في سبعمائة من الجند3462، فسار عمرو بن أنيس الأسلمي حتى نزل بذي طوى، وسار عمرو بن الزبير حتى نزل بالأبطح3463، وأرسل عمرو بن الزبير إلى أخيه (عبد الله) يطلب منه الامتثال ليمين يزيد بن معاوية وحذره من القتال في البلد الحرام3464 وكان عمرو بن الزبير يخرج من معسكره فيصلي بالناس خلال المفاوضات مع أخيه عبد الله. وكان عبد الله يسير معه ويلين له، ويقول: إني سامع مطيع وأنت عامل يزيد، وأنا أصلي خلفك، وما عندي خلاف، فأما أن تجعل في عنقي جامعة، ثم أقاد إلى الشام، فإني نظرت في ذلك، فرأيت أنه لا يحل لي أن أحله بنفسي فراجع صاحبك واكتب إليه ولكن عمرو بن الزبير اعتذر من الكتابة ليزيد، وذلك لأنه جاء في مهمة محددة مطلوب منه تنفيذها. وكان عبد الله بن الزبير قد أرسل عبد الله بن صفوان الجمحي ومعه بعض الجند، وأخذوا أسفل مكة، وأحاطوا بأنيس بن عمرو الأسلمي، ولم يشعر بهم أنيس إلا وقد أحاطوا به، فقتل أنيس وانهزم أصحابه، وفي الوقت الذي قتل فيه وانهزم جيش أنيس بن عمرو الأسلمي، كان مصعب بن عبد الرحمن بن عوف، يقود طائفة أخرى من الجند نحو عمرو بن الزبير، الذي كان معسكراً في الأبطح، فانهزم عمرو بن الزبير، ودخل دار رجل يقال له علقمة، فجاءه أخوه عبيدة بن الزبير فأجاره، فأخذه إلى عبد الله، وذكر له أنه أجاره، فقال عبد الله، أما حقي فنعم، وأما حق الناس فلأقتص منه لمن أذاه في المدينة3465، وأقام عبد الله عمرو بن الزبير ليقتص الناس منه، فكل من ادعى على عمرو بأنه فعل به كذا وكذا وكذا قال له عبد الله بن الزبير افعل به مثلما فعل بك وتذكر المصادر أن عمرو بن الزبير تعرض لتعذيب شديد من جراء ذلك ومات تحت الضرب3466، لقد أثبت ابن الزبير رضي الله عنه أنه يملك ذكاء ودهاء بارزين، الأمر الذي مكّنه من تحويل القضية لصالحه، بعدما كانت في يد يزيد بن معاوية، وكان ابن الزبير في بداية معارضته يعتمد على أن البيعة التي تمت(2/260)
ليزيد بن معاوية لم تكن بموافقة الناس، ولا بد من مشاركة الناس وكان يدعو إلى الشورى ولم تحقق معارضة ابن الزبير أي نجاح يذكر، فخلال سنتين أو أكثر من معارضته ليزيد لم يحدث أي تغير بشأن هيمنة الدولة على الحجاز، فضلاً عن غيره من الأقطار ولكن ابن الزبير كان يهدف من التحرش بالأمويين إلى إيقاع يزيد في مأزق المواجهة، لقد ارتكب يزيد خطأً فادحاً عندما أقسم يزيد أن يأتيه ابن الزبير إلى دمشق في جامعة، فكيف يعقل من صحابي جليل تجاوز الستين من عمره أن يرضخ لطلب يزيد بن معاوية، ولقد استطاع ابن الزبير أن يظهر يزيد أمام أهل الحجاز بأنه شخص متسلط ليس أهلاً لولاية المسلمين، وجعلت هذه الحادثة من ابن الزبير ـ في نظر الكثير من المتمردين في موقفهم من ابن الزبير، على أنه طالب حق يواجه خليفة يحمل الظلم في أحكامه والتعسف في قراراته والذي مكّن ابن الزبير وأكسبه الكثير من التعاطف هو موقف أمير المدينة ـ عمرو بن سعيد ـ فكان هذا الأمير ـ كما تذكر الروايات ـ شديداً على أهل المدينة معرضاً على نصحهم متكبراً عليهم3467. ثم ذلك الخطأ الكبير الذي وقع فيه عمرو بن الزبير، الذي تصنعه الروايات أيضاً بأنه: عظيم الكبر شديد العجب، ظلوماً قد اساء السيرة وعسف الناس وأخذ من عرفه بمولاة عبد الله والميل إليه، فضربهم بالسياط ويقال: عمرو لا يكلم من يكلمه يندم3468، ومن الأخطاء التي وقع فيها يزيد بن معاوية، وعمرو بن سعيد بن العاص والي المدينة، واستطاع ابن الزبير أن يوظفها لصالحه غزو مكة بجيش، فمكة لها حرمتها وخصوصيتها في الجاهلية ثم جاء الإسلام فزادها مكانة وقداسة على مكانتها تلك التي كانت في الجاهلية، وقام عمرو بن سعيد يتحدى مشاعر المسلمين في المدينة حين رقى المنبر في أول يوم من ولايته على المدينة، فقال عن ابن الزبير: تعوذ بمكة، فوالله لنغزونه، ثم والله لئن دخل الكعبة لنحرقنها عليه، على رغم أنف من رغم3469. ولما جهّز الحملة التي(2/261)
سيوجهها لابن الزبير في مكة، نصحه بعض الصحابة وحذّروه وذكّروه بحرمة الكعبة وبحديث رسول الله صلى اله عليه وسلم في بيان حرمتها ولكنه رفض السماع لنصحهم3470، وكان مروان بن الحكم وهو الأمير المحنك والسياسي الداهية قد حذّر عمرو بن سعيد من غزو البيت وقال له: لا تغزو مكة، واتق الله ولا تحل حرمة البيت، وخلوا ابن الزبير فقد كبر، هذا له بضع وستون سنة، وهو رجل لجوج، والله لئن لم تقتلوه ليموتن، فقال له عمرو: والله لنقاتلنّه، ولنغزونّه في جوف الكعبة على رغم أنف من رغم، فقال مروان: والله إن ذلك يسوؤني3471. وكان عبد الله بن الزبير قد اختار لقباً مؤثراً حين أطلق على نفسه ((العائذ بالله)) فأصبح المساس بحرمة مكة أمر لا يوافق عليه الصحابة والتابعون وكان لا بد من الدفاع عن مكة، في وجه جيش يريد استحلال حرمتها وحتى الذي لا يستطيع أن يدافع عن مكة فسوف يكون متعاطفاً مع ابن الزبير بصفته يدافع عن بيت الله3472، وتدافع الناس نحو ابن الزبير من نواحي الطائف يعاونونه ويدافعون عن الحرم3473، وهذه القضايا المعنوية والحسية كان لها الأثر البالغ في تعاظم مكانة ابن الزبير لدى أهل الحجاز الأمر الذي جعله يحقق نصراً ساحقاً وسهلاً على جيش عمرو بن الزبير3474.
2 ـ حملة الحصين بن نمير وحصار ابن الزبير وحريق الكعبة:(2/262)
هلك مسلم بن عقبة النميري في طريقه لابن الزبير وتولى القيادة من بعده الحصين بن نمير السكوني ووصل إلى مكة قبل انقضاء شهر محرم بأربع ليالي. وعسكر الحصين بن نمير بالحجون3475إلى بئر ميمون3476، وبذلك فقد عمل الحصين بن نمير على نشر جيشه على مسافة واسعة والذي دفعه إلى ذلك طبيعة الحرب التي ستدور في مكة وقام ابن الزبير يحث الناس على قتال جيش أهل الشام وانضم المنهزمون من معركة الحرّة إلى ابن الزبير، وقدم على ابن الزبير أيضاً نجدة بن عامر الحنفي في ناس من الخوارج، وذلك لمنع البيت من أهل الشام3477، وكان عدد المقاتلين الذين اشتركوا مع ابن الزبير أقل بكثير من المقاتلين الذين اشتركوا في معركة الحرّة، ولم تكن القوات متكافئة وتحول الوضع لصالح الحصين بن نمير، بعد أن مني ابن الزبير بفقد خيرة أصحابه، مثل أخواه المنذر وأبو بكر ابنا الزبير، ومصعب بن عبد الرحمن، وحذافة بن عبد الرحمن بن العوام، وعمرو بن عروة بن الزبير3478، وبعد ثلاثة أيام من ربيع الأول سنة 64هـ قام الحصين بن نمير بنصب المنجنيق على جبل أبي قبيس3479، وجبل قعيقعان3480 وفقد ابن الزبير أهم مستشاريه ومناصريه، وهو المسور بن مخرمة بعد أن أصابه بعض أحجار المنجنيق، وانكشفت مواقع ابن الزبير أمام الحصين بن نمير، ولم يبق مأمن لابن الزبير من أحجار المنجنيق سوى الحجر3481، وحوصر ابن الزبير حصاراً شديداً ولم يعد يملك إلا المسجد الحرام فقط بعد أن فقد مواقعه المتقدمة في الأبطح3482، وفي أثناء احتدام المعارك بين ابن الزبير والحصين بن نمير احترقت الكعبة وهذه مصيبة أضيفت إلى مصائب المسلمين التي نتجت عن استحلال القتال في البلد الحرام الذي حرم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم القتال فيه3483، وكان يزيد بن معاوية قد مات في منتصف شهر ربيع الأول3484، ولم يعلم أحد بموته نظراً لبعد المسافة بين مكة ودمشق، وقد جاء الخبر بموت يزيد إلى مكة لهلال شهر ربيع الآخر سنة(2/263)
أربع وستين3485.
…ولم تكن الكعبة مقصودة في ذاتها بالإحراق والدليل على ذلك ما أحدثه حريق الكعبة من ذهول وخوف من الله في كلا الطائفتين3486 جيش الحصين بن نمير، وجيش ابن الزبير، فقد نادى رجل من أهل الشام بعد أن احترقت الكعبة وقال: هلك الفريقان والذي نفس محمد بيده3487، وأما أصحاب ابن الزبير، فقد خرجوا كلهم في جنازة امرأة ماتت في صبيحة ليلة الحريق خوفاً من أن ينزل العذاب بهم، وأصبح ابن الزبير ساجداً ويقول: اللهم إني لم أتعمد ما جرى فلا تهلك عبادك بذنبي، وهذه ناصيتي بين يديك3488. وأهل الشام بالرغم من جهل بعضهم بابن الزبير ومكانته3489، إلا أنه من المستحيل أن يجهل أحد منهم مكانة الكعبة وأهميتها، كيف وهم يتجهون إليها في صلاتهم عندما كانوا يحاصرون ابن الزبير، فمن المستحيل أن يعمد أحدهم إلى حرق الكعبة، أو كان ذلك يدور في تفكير الحصين بن نمير، وقد وردت تصريحات لبعض اقارب ابن الزبير وبعض السلف والعلماء المتحققين بأنهم لم ينسبوا إلى أحد من الطائفتين قصد حريق الكعبة، فهذا هشام بن عروة يقول:.. فقاتلوا ابن الزبير واحترقت الكعبة أيام ذلك الحصار3490، وقال ابن عبد البر: وفي هذا الحصار احترقت الكعبة3491، وقال ابن حجر: ثم سارت الجيوش إلى مكة لقتال ابن الزبير، فحاصروه بمكة وأحرقت الكعبة3492. ولا شك أن أحداً من أهل الشام لم يقصد إهانة الكعبة، بل كل المسلمين معظمين لها، وإنما كان مقصودهم حصار ابن الزبير، والضرب بالمنجنيق كان لابن الزبير لا للكعبة/، ويزيد لم يهدم الكعبة، ولم يقصد إحراقها لا هو ولا نوابه باتفاق المسلمين3493. وهكذا كانت أحد نتائج تلك الحرب التي دارت بين ابن الزبير والحصين بن نمير إحراق البيت الحرام3494. ولما وصل الحصين خبر موت الخليفة بعث إلى ابن الزبير فقال: موعد ما بيننا الليلة الأبطح، وكان يريد أن يجتمع به ويفاوضه في الخلافة فالتقيا وتحادثا طويلاً واشتد بينهما الجدل وكان فيما قال(2/264)
الحصين لابن الزبير وهو يدعوه للخلافة: إن يك هذا الرجل قد هلك فأنت أحق الناس بهذا الأمر، هلم فلنبايعك ثم أخرج معي إلى الشام، فإن هذا الجند الذي معي هم وجوه أهل الشام وفرسانهم، فو الله لا يختلف عليك اثنان، وتؤمن الناس، وتهدر هذه الدماء التي كانت بيننا وبينك، والتي كانت بيننا وبين أهل هذه الحرة. فقال عبد الله: أنا أهدر تلك الدماء؟ أما والله لا أرضى أن أقتل كل رجل منهم عشرة منكم، وكان الحصين يكلمه سراً، وهو يجهر جهراً ويقول: لا والله لا أفعل. فقال له الحصين: قبح الله من يعدك بعد هذه داهياً قط أو أديباً، قد كنت أظن لك رأياً، ألا أراني أكلمك سراً وتكلمني جهراً وأدعوك للخلافة وتعدني للقتل والهلكة3495، بعد أن افترقا، أدرك عبد الله خطأه في موقفه مع الحصين عندما عرض عليه الخلافة ومرافقته إلى بلاد الشام، وأراد أن يصحح هذا الموقف وكان الحصين يستعد للعودة بجنده إلى دمشق، فأرسل إليه يقول: أما أن أسير إلى الشام فليس فاعلاً وأكره الخروج من مكة، ولكن بايعوا لي هناك فإني مؤمنكم وعادل فيكم، فرد الحصين بقوله: أرأيت إن لم تقدم بنفسك، ووجدت هناك أناساً كثيراً من أهل هذا البيت يطلبونها ويجيبهم الناس، فما أنا صانع3496؟ وذكر البلاذري: أن عبد الله بن الزبير طلب من الحصين مهلة لاستشارة أصحابه عندما عرض عليه الحصين الأمر، ولكن أصحابه رفضوا الخروج إلى الشام3497. ويصعب على المرء أن ينفذ إلى أعماق ابن الزبير ويعرف ما كان يدور في خلده والأسباب التي دفعته لرفض عرض الحصين ولكن هناك مؤشرات عديدة تؤخذ بعين الاعتبار من الواقع السياسي في بلاد الحجاز3498، منها:(2/265)
أ ـ…لم تكن للحصين صفة رسمية عندما عرض الخلافة على ابن الزبير، ولم يكن يمثل الأمويين كلهم، رغم أنه قال: إن الجند الذين معه هم وجوه أهل الشام وفرسانهم. فكيف يثق ابن الزبير بقائد حملة كان يقاتله قبل أيام ويريد أن يفتك به، وقد ظهرت المناقضة عند الحصين بقوله بعد ذلك: أرأيت إن لم تقدم بنفسك ووجدت هناك أناساً كثيراً من أهل هذا البيت يطلبونها ويجيبهم الناس3499.
ب ـ إن الذي عرض عليه الخلافة هو أحد قادة معركة الحرّة، وكان حول ابن الزبير عدد من أهل المدينة الذين هربوا من وحشية تلك المعركة، لذلك كان ابن الزبير يرد على الحصين بصوت جهوري، يسمعه من حوله من أنصاره ليدفع الشك عن نفوسهم، ويطمئنهم على موقفه من الحصين، فقال: إنه لا يرضى قتل عشرة من جيش الحصين بكل واحد من أهل المدينة3500.
جـ ـ عدم وجود أنصار ـ حتى الآن ـ له في بلاد الشام يمكن أن يعتمد عليهم وينصرونه كما هو الحال في بلاد الحجاز، فأهل الشام كانوا يدينون بالولاء والمحبة والتقدير للأمويين.
ر ـ عدم وجود جيش منظم حقيقي كالجيش الأموي عند ابن الزبير، وكل ما نستطيع أن نسمي المدافعين عن ابن الزبير عن مكة، بأنهم من المقاتلين الذين يجتمعون وقت الشدة ويتفرقون عند زوالها، وهل هناك شدة أكبر من غزو الكعبة؟ وأعتقد لو كان لابن الزبير جيش منظم حقيقي ومدرب مسلح بحيث يستطيع هذا الجيش نصرة ابن الزبير لتوجه مع حصين بن نمير، لتم له النجاح3501.
المبحث السابع : وفاة يزيد بن معاوية وخلافة معاوية بن يزيد:
أولاً : وفاة يزيد بن معاوية:(2/266)
في عام 64هـ هلك يزيد بن معاوية وكانت وفاته بقرية من قرى حمص يقال لها حوّارين من أرض الشام، لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة 64هـ وهو ابن 38سنة في قول بعضهم، وعن هشام بن الوليد المخزومي، أن الزهري كتب لجده أسنان الخلفاء، فكان فيما كتب من ذلك: ومات يزيد بن معاوية وهو ابن تسع وثلاثين، وكانت ولايته ثلاث سنين وستة أشهر في قول بعضهم، ويقال: ثمانية أشهر3502، وعن أبي معشر أنه قال: توفي يزيد بن معاوية يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وكانت خلافته ثلاث سنين وثمانية أشهر إلا ثمان ليالٍ، وصلى على يزيد ابنه معاوية بن يزيد3503، وقيل وكانت خلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر إلا أياماً3504، وكان نقش خاتمه: ربنا الله3505.
ثانياً : خلافة معاوية بن يزيد:
معاوية بن يزيد: هو ثالث الخلفاء الأمويين، وكنيته أبو يزيد أو عبد الرحمن، أبوه يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وأمه أم هاشم بنت أبي هاشم ابن عتبة بن ربيعة3506، ويسمى معاوية الأصغر3507. ولد سنة 44هـ ونشأ في بيت الخلافة، بويع له بالخلافة بعد موت أبيه، في رابع عشر ربيع الأول سنة أربع وستين هجرية، وكان رحمه الله ـ أبيض شديد البياض، كثير الشعر، كبير العينين، جعد الشعر، أقنى الأنف، مدور الرأس، جميل الوجه، كثير شعر الوجه، دقيقه، حسن الجسم، وكان رجلاً صالحاً ناسكاً3508.
1 ـ مدة حكمه: يختلف المؤرخون كثيراً في المدة التي حكمها معاوية بن يزيد، ويتراوح الخلاف بين عشرين يوماً وثلاثة أشهر، ويبدو أن مدة ثلاثة الأشهر هي الأرجح، ويرجع بعض المؤرخين مدة الأربعين يوماً3509وكان مريضاً مدة ولايته، ولهذا لم يؤثر له عمل ما مدة خلافته، حتى الصلاة، فإن الضحاك بن قيس هو الذي كان يصلي بالناس، ويسيّر الأمور، وظل الضحاك يصلي بالناس حتى بعد وفاة معاوية، حتى استقر الأمر لمروان بالشام3510.
2 ـ تنازله عن الخلافة وتركه للأمر شورى :(2/267)
…ولما أحس معاوية بن يزيد بالموت نادي في الناس الصلاة جامعة، وخطب فيهم، وكان مما قال: أيها الناس إني قد وليت أمركم وأنا ضعيف عنه، فإن أحببتم تركتها لرجل قوي، كما تركها الصديق لعمر، وإن شئتم تركتها شورى في ستة كما تركها عمر بن الخطاب، وليس فيكم من هو صالح لذلك وقد تركت أمركم، فولوا عليكم من يصلح لكم، ثم نزل ودخل منزله، فلم يخرج حتى مات رحمه الله تعالى3511، قد أراد معاوية بن يزيد أن يقول لهم: أنه لم يجد مثل عمر، ولا مثل أهل الشورى، فترك لهم أمرهم يولون من يشاءون وقد جاء ذلك صريحاً في رواية أخرى للخطبة عند ابن الأثير قال فيها: أما بعد فإني ضعفت عن أمركم فابتغيت مثل عمر بن الخطاب حين استخلفه أبو بكر فلم أجده، فابتغيت ستة مثل ستة الشورة فلم أجدهم، فأنتم أولى بأمركم، فاختاروا له من أحببتم، ثم دخل منزله وتغيب حتى مات3512. واعتبر هذا الموقف منه دليلاً على عدم رضاه عن تحويل الخلافة من الشورى إلى الوراثة3513، فقد رفض أن يعهد لأحد من أهل بيته حينما قالوا له أعهد إلى أحد من أهل بيتك، فقال: والله ما ذقت حلاوة خلافتكم، فكيف أتقلد وزرها، وتتعجلون أنتم حلاوتها، وأتعجل مرارتها، اللهم أني بريء منها، مُتخلِّ عنها3514، وجاء في رواية: قيل له ألا توصي؟ فقال: لا أتزوّد مرارتها واترك حلاوتها لبني أمية3515، وتعتبر حادثة تنازل معاوية بن يزيد عن الخلافة حادثة نادرة في التاريخ الإنساني لقد عرفت استقالات، فيها إكراه مادي أو معنوي. أما أن ملكاً استقال، لأن في أمته من هو خير منه، فهذا ما لم نقع عليه وأية محاسبة للنفس أرفع من هذه3516؟(2/268)
وإذا كان معاوية بن أبي سفيان أول الخلفاء الأمويين قد حول الخلافة من الشورى إلى الملك، فإن حفيده معاوية الثاني، ثالث خلفاء الأمويين أيضاً، قد أعاد الخلافة من الملك العضوض إلى الشورى الكاملة، وإنه لمما يستوجب الإنصاف أن تصاغ القضية على هذا النحو بدلاً من التركيز على الشق الأول الخاص بتوريث الخلافة فقط3517.
3 ـ كم كان عمره لما مات؟ ومن صلى عليه؟
مات معاوية بن يزيد عن إحدى وعشرين سنة وقيل: ثلاث وعشرين سنة وثمانية عشر يوماً. وقيل: تسع عشرة سنة. وقيل عشرين سنة. وقيل ثلاث وعشرين سنة. وقيل إنما عاش ثماني عشرة سنة وقيل: خمس عشرة سنة. فالله أعلم. وصلى عليه أخوه خالد؟ وقيل عثمان بن عنبسة. وقيل: الوليد بن عُتبة. وهذا هو الصحيح، فإنه أوصى إليه بذلك وشهد دفنه مروان بن الحكم3518، فلما فُرغ منه قال مروان: أتدرون من دفنتم؟ قالوا: نعم، معاوية بن يزيد. فقال مروان: هو أبو ليلى الذي قال فيه أَزْنَمُ الفزاري:
إني أرى فتنة تغلي مراجلها
……………… والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا3519
4 ـ أزمة خطيرة بعد وفاة معاوية بن يزيد:(2/269)
كان معاوية بن يزيد قد أحدث أزمة خطيرة، فقد كان أخوه خالد بن يزيد صبياً صغيراً. وكان أمر بن الزبير قد استفحل وبايع له الناس من أنحاء الدولة، فرأى فريق من جند الشام على رأسهم الضحاك بن قيس أمير دمشق أن يبايعوا لابن الزبير، وحتى مروان بن الحكم كبير بني أمية فكر في الذهاب إلى ابن الزبير ليبايعه ويأخذ منه الأمان ولكن سائر الجند والقادة بزعامة حسان بن مالك زعيم القبائل اليمنية ـ الذين كانوا أقوى المؤيدين لبني أمية وهم أخوال يزيد رفضوا أن يخرج الأمر عن بني أمية وأن يبايعوا لابن الزبير، فحدث خلاف شديد ولبث الشام ستة أشهر بدون إمام، وأخيراً اتفق القوم على أن يعقدوا مؤتمراً للشورى، يبحثون فيه عمن يصلح للخلافة ويصلوا في ذلك إلى قرار3520. ويعتبر معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان آخر خلفاء الفرع السفياني، وانتقلت الخلافة بعده إلى الفرع الثاني من بني أمية بالمروانيين، وأولهم مروان بن الحكم، ولا يُعد عند كثير من المحققين والمؤرخين خليفة، حيث يعتبرونه باغياً خرج على أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير، وكذلك ولده عبد الملك لا يعتبر خليفة إلا بعد موت ابن الزبير، واجتماع المسلمين عليه3521، وبوفاة معاوية بن يزيد انتهت الدولة السفيانية وظهرت الدولة الزبيرية ولكنها لم تستمر، فقد استطاع بنو مروان القضاء عليها وسيأتي التفصيل في الصفحات القادمة بإذن الله تعالى.
الفصل السادس
عهد أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير رضي الله عنه
المبحث الأول: اسمه ونسبه وكنيته ونشأته وبيعته
أولاً: اسمه ونسبه وكنيته:
هو عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة، أمير المؤمنين، أبو بكر، وأبو خبيب، القرشي الأسدي المكي، ثم المدني، أحد الأعلام، ولد حواري رسول الله وابن عمته3522.
ثانياً: مولده ومبايعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم:(2/270)
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: أنها حملت بعبد الله بن الزبير في مكة، قالت: فخرجت وأنا مُتمُّ فأتيت المدينة، فنزلت قباء، فولدت بقباء، ثم أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعته في حجره، ثم دعا بتمرة، فمضغها ثم تفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حنكه بالتمرة، ثم دعا له، فبرّك عليه، وكان أول مولود ولد في الإسلام، ففرحوا به فرحاً شديداً لأنهم قيل لهم: إن اليهود قد سحرتكم، فلا يولد لكم3523. وسماه عبد الله، ثم جاء بعد وهو ابن سبع، أو ابن ثمان سنين، يبايع النبي صلى الله عليه وسلم، أمره الزبير رضي الله عنه بذلك، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم حين رأه مقبلاً، وبايعه. وكان أول من ولد في الإسلام في المدينة بعد مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت اليهود تقول: قد أخذناهم، فلا يولد لهم بالمدينة ولد ذكر، فكبّر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولد عبد الله3524، وقد طاف به الصديق رضي الله عنه بالمدينة بعد ولادته ليشتهر أمر ميلاده على خلاف ما زعمت اليهود3525 وهذا أسلوب إعلامي عملي للقضاء على شائعات اليهود التي روجوا لها بالمدينة وكان ابن الزبير ملازماً للدخول على رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونه من آله، فكان يتردد إلى بيت خالته عائشة3526زوج الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: الزبير بن العوام والد عبد الله رضي الله عنهما:(2/271)
هو أبو عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي الأسدي3527، ويجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصي وهو حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته، وأمه صفية بنت عبد المطلب، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد أصحاب الشورى3528، أسلم وهو حدث وله ستة عشر سنة3529، ولم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم3530، وقد تعرض بعد إسلامه للتعذيب، فقد روي أن عم الزبير، كان يعلق الزبير في حصير ويدخن عليه بالنار وهو يقول: أرجع إلى الكفر، فيقول الزبير: لا أكفر أبداً3531، وقال في حقه رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكل نبي حواري، وحواري الزبير3532. أي خاصتي من أصحابي وناصري ومنه الحواريون أصحاب عيسى عليه السلام أي خلصاه وأنصاره فالحواري هو الناصر المخلص، فالحديث أشتمل على هذه المنقبة، العظيمة التي تميز بها الزبير رضي الله عنه، ولذلك سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رجلاً يقول: أنا ابن الحواري فقال: إن كنت من ولد الزبير، وإلا فلا3533، وكان الزبير بن العوام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل المهمات الصعبة وكان في عهد الراشدين من أعمدة الدولة وشارك في فتوحاتها الكبيرة3534 وقد عرض عليه عمر بن الخطاب ولاية مصر في عهده فقال الزبير: لا حاجة لي فيها، ولكني أخرج مجاهداً وللمسلمين معاوناً، فإن وجدت عمرو بن العاص فتحها (مصر) لم أعرض لعمله، وقصدت إلى بعض السواحل فرابطتُ به، وإن وجدته في جهاد كنت معه3535، وقد تحدثت عن سيرته في كتابي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فمن أراد المزيد فليرجع إليه مشكوراً3536.
رابعاً: أسماء بنت الصديق والدة بن الزبير رضي الله عنهم جميعاً:(2/272)
هي أسماء بنت عبد الله بن أبي قحافة بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة3537، وكانت من أوائل المسلمات حيث أسلمت وأختها عائشة وهي يومئذ صغيرة3538. ولها مواقف مشهودة، وآثار محمودة في تاريخنا الإسلامي المجيد ومن هذه المواقف:
1 ـ في الهجرة النبوية: قالت السيدة عائشة في حديث طويل منه: فبينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر، عند الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله متقنعاً3539 في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر إلى أن قالت: ..فجهزناهما أحث الجهاز (من الحثّ وهو الإسراع) وضعنا لهم سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت بذات النطاقين3540. فقد أسهمت السيدة أسماء رضي الله عنها في تموين الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار بالماء والغذاء، وكيف تحملت الأذى في سبيل الله، فقد حدثتنا عن ذلك فقالت:لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر رضي الله عنه أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت ليهم، فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت لا أدري والله أين أبي قالت: فرفع أبو جهل يده ـ وكان فاحشاً ـ فلطم خدّي لطمة، طرح منها قرطي، قالت: ثم انصرفوا3541، فهذا درس من أسماء والدة عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم، تعلّمه لنساء المسلمين جيلاً بعد جيل، كيف تخفي أسرار المسلمين عن الأعداء، وكيف تقف صامدة شامخة أمام قوى البغي والظلم، وأما درسها الثاني البليغ، فعندما دخل عليها جدها أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لا أراه قد فجعكم بماله ونفسه. قالت: كلا يا أبت ضع يديك على هذا المال، قالت: ووضع يده عليه فقال: لا بأس، إذا كان ترك لكم هذا، فقد أحسن. وفي هذا بلاغ لكم، قالت: ولا والله ما ترك لنا شيئاً ولكني أردت أن(2/273)
أسكت الشيخ بذلك3542، وبهذه الفطنة، والحكمة، سترت أسماء أباها، وسكنت قلب جدها الضرير، من غير أن تكذب، فإن أباها قد تركت لهم حقاً هذه الأحجار التي كومتها، لتطمئن لها نفس الشيخ! إلا أنه قد ترك لهم معها إيماناً بالله لا تزلزله الجبال، ولا تحركه العواصف الهوج، ولا يتأثر بقلة أو كثرة في المال، وورثهم يقيناً، وثقة بلا حدٍ لها، وغرس فيهم همة تتعلق بمعال الأمور ولا تلتفت إلى سفاسفها3543، فضرب بهم للبيت المسلم مثالاً عز أن يتكرر، وقل أن يوجد نظيره لقد ضربت أسماء رضي الله عنها بهذه المواقف لنساء وبنات المسلمين مثلاً هن في أمس الحاجة إلى الإقتداء به والنسج على منواله3544.
2 ـ صلة أسماء لأمها المشركة: عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى اله عليه وسلم، قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: نعم، صلي أمك3545، قال ابن حجر: وفي قولها وهي راغبة أقوال، والذي عليه الجمهور من هذه الأقوال أنها قدمت طالبة من بر ابنتها لها، خائفة من ردها إياها خائبة. وفي هذا الحديث من الفوائد ما ذكره الخطابي: إن الرحم الكافرة توصل بالمال ونحوه كما توصل المسلمة3546. وقد قال تعالى: ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولن يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)) (الممتحنة ، الآيتان 8 ، 9). وهذه الآيتان رخصة في الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين، وجواز برهم، وإن كانت الموالاة منقطعة3547.
3 ـ شجاعتها وجهادها في اليرموك مع زوجها:(2/274)
…وأما شجاعتها وجراءتها وجهادها في سبيل الله فأمر يفوق الخيال: فمن ذلك خروجها مع الجيش يوم اليرموك، فلقد شهدت اليرموك مع زوجها الزبير وابنها عبد الله3548، ومن شجاعتها استعدادُها التام لمواجهة اللصوص الذين كثروا في يوم من الأيام بالمدينة، عن فاطمة بنت المنذر أن أسماء بنت أبي بكر اتخذت خنجراً زمن سعيد بن العاص ـ أي في زمن إمارته المدينة وكانوا قد كثروا في المدينة، فكانت تجعله تحت رأسها3549.
4 ـ علاقتها بالقرآن الكريم :
…كانت رضي الله عنها قد تربت على كتاب الله وهدي النبي صلى الله عليه وسلم وإليك هذه الصورة المشرقة من حياتها مع القرآن الكريم فذات يوم دخل عليها ابنها وهي تُصلي فسمعها تقرأ هذه الآية ((فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ) (الطور ، الآية : 27). فبكت واستعاذت... فقام وهي تستعيذ. فلما طال عليه أتى السوق وقضى منه حاجته.. ثم رجع فوجدها ما تزال في بكائها تستعيذ3550. وكانت إذا أُصيبت بالصُّدَاع تضع يدها على رأسها وهي تقول: بذنبي وما يغفر الله أكثر3551. وهذا فهم عميق لقول الله تعالى: ((وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى: 30) وقد أفرد الدكتور محمد بن لطفي الصبّاغ رساله قيمة في حياة السيدة أسماء رضي الله عنها، وسيأتي الحديث عن بعض الدروس والعبر في حصار الحجاج لأبنها عبد الله بمكة بإذن الله.
خامساً: أولاد ابن الزبير وزوجاته:
كان له من الولد خُبيبُ وحمزة وعباد وثابت وأمهم تماضر بنت منظور الفزاري، وهاشم وقيس وعروة ـ قتل مع أبيه ـ والزبير، وأمهم أم هاشم بنت حلة بن منظور وعامر وموسى وأمّ حكيم وفاطمة وفاختة، وأمهم جثيمة بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وبكر ورقية وأمهم عائشة بنت عثمان بن عفان، وعبد الله ومصعب من أم ولد3552.
سادساً : ابن الزبير في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية رضي الله عنهم:(2/275)
1 ـ في اليرموك:
…لا نجد في كتب السيرة أي خبر عن اشتراك عبد الله بن الزبير في الحروب والغزوات رغم حضوره مع والده غزوة الأحزاب وفتح مكة، فقد كان في مقتبل العمر ولم يتجاوز عمره عند وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إحدى عشر سنة. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجيز أحداً من الغلمان لم يبلغ الخامسة عشر وأول ما يرد من أخبار تتعلق بخروجه مع الجيوش، ومرافقته لوالده في تحرير بلاد الشام وحضوره معركة اليرموك إذ يقول عبد الله: كنت مع أبي عام اليرموك، فلما تعبأ المسلمون للقتال، لبس الزبير لآمته ثم جلس على فرسه ثم قال لموليين له: أحبسا عبد الله بن الزبير معكما في الرحل، فإنه غلام صغير3553. وبعد انتهاء القتال شارك عبد الله في علاج الجرحى بعد انهزام المشركين3554 وإن لم يشارك في القتال لصغر سنه فإنه ألف القتال والعراك وصليل السيوف منذ نشأته مما زاد في شجاعته وخبرته العسكرية3555.
2 ـ ابن الزبير مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهم:
…مرّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن الزبير يلعب مع الصبيان، ففروا ووقف ابن الزبير فقال له عمر: مالك لم تفر معهم، فقال لم أجرم فأخافك، ولم تكن الطريق ضيقة فأوسع لك3556، وتروى المصادر حادثة أخرى تبين شجاعته منذ صباه الباكر، فقد ذكرت المصادر التاريخية إنه كان ذات يومٍ يلعب مع الصبيان وهو صبي، فمر بهم رجل فصاح عليهم ففروا، ومشى ابن الزبير القهقري وقال: يا صبيان أجعلوني أميركم وشّدوا بنا عليه ففعلوا3557.
3 ـ كتابة المصاحف في عهد عثمان :
…عن أنس: أن عثمان أمر زيداً، وابن الزبير، وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوا المصاحف، وقال: إذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم3558، ومن أراد التفصيل في جمع سيدنا عثمان رضي الله عنه للمصاحف فليراجع كتابي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه.(2/276)
4 ـ جهاده في شمال أفريقيا في عهد عثمان رضي الله عنه:
…انقطع خبر المسلمين في إفريقية عن عثمان بن عفان رضي الله عنه فسيّر إليهم عبد الله بن الزبير في جماعة ليأتيهم بأخبارهم، فسار مجداً ووصل إليهم، وأقام معهم، ولمّا وصل، كثر الصَّياح، والتكبير في المسلمين، فسأل جرجير عن الخبر، فقيل: قد أتاهم عسكر، ففتَّ ذلك في عضده، ورأى عبد الله بن الزبير قتال المسلمين كلّ يوم من بكرة إلى الظُّهر فإذا أُذِّن بالظهر عاد كل فريق إلى خيامه، وشهد القتال من الغد فلم ير ابن سعد معهم فسأل عنه فقيل: إنه سمع منادي جرجير يقول: من قتل عبد الله بن سعد، فله مئة ألف دينار، وأزوِّجه ابنتي وهو يخاف فحضر عنده، وقال له: تأمر منادياً ينادي: من أتاني برأس جرجير، نفّلته مئة ألف، وزوجّته ابنته واستعملته على بلاده ففعل ذلك فصار جرجير يخاف أشدَّ من عبد الله3559. ثمّ إن عبد الله بن الزبير قال لعبد الله بن سعد: إنَّ أمرنا يطول مع هؤلاء وهم في أمداد متصلة وبلاد هي لهم ونحن منقطعون عن المسلمين، وبلادهم، وقد رأيت أن نترك غداً جماعة صالحة من أبطال المسلمين في خيامهم متأهِّبين، ونقاتل نحن الرُّوم في باطن العسكر إلى أن يضجروا ويملُّوا فإذا رجعوا إلى خيامهم ورجع المسلمون، ركب من كان في الخيام من المسلمين، ولم يشهدوا القتال، وهم مستريحون ونقصدهم على غرّة فلعلَّ الله أن ينصرنا عليهم، فأحضر جماعة من أعيان الصّحابة، واستشارهم، فوافقوه على ذلك، فلمَّا كان الغد، فعل عبد الله ما اتفقوا عليه وأقام جميع شُجعان المسلمين في خيامهم، وخيولهم عندهم مُسَرَّجة مضى الباقون، فقاتلوا الرّوم بالانصراف على العادة فلم يمكنهم ابن الزٌّبير، وألح عليهم بالقتال، حتى أتعبهم، ثم عاد عنهم، والمسلمون، فكل الطائفتين ألقى سلاحه، ووقع تعباً فعند ذلك أخذ عبد الله بن الزير من كان مستريحاً من شجعان المسلمين وقصد الرّوم فلم يشعروا بهم حتى خالطهم، وحملوا حملة(2/277)
رجل واحد وكبَّروا فلم يتمكن الرّوم من لبس سلاحهم حتى غشيهم المسلمون وقتل جرجير قتله ابن الزبير، وانهزم الرّوم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأخذت ابنة الملك جرجير سبية، ونزل عبد الله بن سعد المدينة، وحاصرها حتى فتحها، ورأى فيها من الأموال ما لم يكن في غيرها، فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار، وسهم الرَّاجل ألف دينار، ولما فتح مدينة سبيطلة، بثَّ جيوشه في البلاد فبلغت قفصة، فسبوا، وغنموا وسيَّر عسكراً إلى حصن الأجم، وقد احتمى به أهل تلك البلاد، فحصره، وفتحه بالأمان، فصالحه أهل إفريقية ـ ونفّل عبد الله بن الزبير ابنة الملك، وأرسله ابن سعد إلى عثمان بالبشارة بفتح إفريقية3560. قال ابن كثير: فكان هذا أول موقف اشتهر فيه أمر عبد الله بن الزبير ـ رضي الله عنه وعن أبيه، وأصحابهما أجمعين3561، وكان الشاعر أبو ذؤيب الهذلي قد خرج مع ابن الزبير في مغزّى نحو المغرب ـ في عهد عثمان ـ فمات فدلاّه عبد الله بن الزبير في حفرته وقد قال الشاعر أبو ذؤيب في تلك الغزاة في عبد الله بن الزبير:
…………وصاحبِ صدق كسيد3562 الضَّرَاءِ3563
……………………ينهض في الغزو نهضاً نجيحا3564
…………وشيكِ الفصول بطيِّ القفول
……………………إلا مشاحاً به أو مُشِيحا3565(2/278)
5 ـ دفاعه عن عثمان يوم الدار: كان ابن الزبير من الذين كانوا مع عثمان بن عفان يوم حصر من قبل الغوغاء، وكان يلح على عثمان أن يسمح له بقتال الغوغاء ولكن عثمان كان يرفض ذلك3566، ولما أمر عثمان من في الدار بالخروج أصر ابن الزبير ومروان بن الحكم على البقاء معه والدفاع عنه3567، وقد أصيب ابن الزبير أثناء الحصار بإصابات بالغة كادت تودي بحياته، فقد روي المدائني أن كنانة ـ مولى صفية بنت حيي ـ أخرج أربعة محمولين وكان ابن الزبير منهم3568،وكان ابن الزبير يخطب بمكة ويقول في خطبته: فجرحت بضعة عشر جرحاً وإني لأضع يدي اليوم على تلك الجراحات التي جرحت مع عثمان، فأرجوا أن تكون خير أعمالي3569، وفي هذا وضوح موقف ابن الزبير من عثمان وأنه يراه إمام حق ورشد وأن المعتدين عليه مجرمون وأن قتالهم من أفضل الأعمال عند الله ومنها نستفيد أن الدفاع عن أولياء الصالحين بأي وسيلة شرعية من الذب عن أعراضهم وشدّ أزرهم من الأعمال الصالحة. ومما يدل على أهمية الدور الذي كان يقوم به ابن الزبير في الذود عن عثمان ما ذكرته الروايات من أن عثمان أمّر ابن الزبير يوم الدار وقال: من كانت لي عليه طاعة فليطع عبد الله بن الزبير3570. وفي رواية: أنه أمره أن يصلي بأهل داره فترة الحصار، وكان ابن الزبير يصلي بهم في صحن الدار3571.
6 ـ في معركة الجمل :
…كان ابن الزبير يوم الجمل على الرجّالة وجُرح يومئذ تسع عشرة جراحة، وقد تبارز يومئذ هو ومالك بن الحارث بن الأشتر، فاتَّحدا فصرع الأشتر ابن الزبير فلم يتمكن الأشتر من القيام عنه، بل احتضنه ابن الزبير وجعل ينادي ويقول: اقتلوني ومالكاً واقتلوا مالكاً معي3572.(2/279)
…فأرسلها مثلاً. ثم تفرَّقاً ولم يقدر عليه الأشتر وقد قيل: إنه جرح يومئذ بضعاً وأربعين جراحة ولم يوجد إلا بين القتلى وبه رمق، وقد أعطت عائشة لم بشَّرها أنه لم يقتل عشرة آلاف درهم وسجدت لله شكراً وقد كانت تحبه حباً شديداً، لأنَّه ابن أختها، وكان عزيزاً عليها وقد رُوِيَ عن عُروة أنّه قال: لم تكن عائشة تحب أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر مثل حُبِّها عبد الله بن الزبير وقال عروة: وما رأيت أبي وعائشة يدعوان لأحد من الخلق مثل دعائهما لابن الزبير3573.
7 ـ جهاده أيام معاوية رضي الله عنهما:
…تولى أمر إفريقية معاوية بن حديج، فكان عبد الله بن الزبير ساعده الأيمن بالفتح والجهاد وقد سار معاوية بن حديج في جيش قوامه عشرة آلاف مقاتل، وفتح بنزرت ـ سنة أحد وأربعين، كما دخل ((القيروان)) سنة خمس وأربعين، وبث السرايا في البلاد، وبعث إلى ((سوسة)) عبد الله بن الزبير ففتحها3574. وكان عبد الله بن الزبير كذلك في جيش يزيد بن معاوية الذي سار نحو القسطنطينية، وكان في ذلك الجيش عدد من الصحابة أيضاً منهم: أبو أيوب الأنصاري، والحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وابن عباس3575.
سابعاً: وصف ابن الزبير وأهم صفاته:
كان آدم3576نحيفاً ليس بالطويل، وكان بين عينيه أثر السجود، كثير العبادة مجتهداً شهماً فصيحاً، صوّاماً قوّاماً، شديد البأس ذا أنفة، له نفس شريفة وهمّة عالية، وكان خفيف اللحية ليس في وجهه من الشعر إلا قليلاً، وكانت له جُمة وكان له لحية صفراء3577، وكان عالماً عابداً مهيباً وقوراً، كثير الصيام والصّلاة شديد الخشوع قويَّ السياسية3578، وكان لأبيه الزبير وأمه أسماء وخالته عائشة وجده أبي بكر، وجدته صفية عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر الأثر على شخصيته من جميع النواحي وهذا ما نلمسه من صفات ابن الزبير التي أهمها:(2/280)
1 ـ فقهه وعلمه: كان عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أحد العبادلة الأربعة تفقهوا في أمور الدين في المدينة، المنورة وهم عبد الله بن الزبير وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، ولابن الزبير في الصحيحين أحاديث اتفقا له على حديث واحد وأنفرد البخاري بستة أحاديث، ومسلم بحديثين3579، حدث عن رسول الله وهو صغير وكذلك حدث عن أبيه الزبير وعن جده أبي بكر وعمر وعثمان وخالته أم المؤمنين عائشة وغيرهم رضي الله عنهم وروى عنه مشاهير التابعين منهم أخوة عروة، وطاووس بن كيسان وعمرو بن دينار، وابن أبي مليكة، وثابت البناني، وغيرهم كثير3580، وقد كان رضي الله عنه فقيهاً وقد قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما مات العبادلة عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمرو العاص صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي3581، وعرف ابن الزبير بأنه واسع المعرفة بالقرآن والسنة، وكان رضي الله عنه من العلماء المجتهدين، عالماً عابداً ولا غرور في ذلك إذ كان كثير الدخول على خالته عائشة، أم المؤمنين، رضي الله عنها، وهي العالمة الفقهية وكانت تحدثه وهو من أحب الناس إليها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أبيها أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، وعنها، وكانت مدة خلافة عبد الله بن الزبير تسع سنوات وقد حج خلالها ثمان مرات، وفي السنة الأخيرة كان محاصراً فلم يستطع الحج. خطب ابن الزبير مرة الحُجّاج فقال: يا معشر الحجاج سلوني فعلينا كان التنزيل ونحن حضرنا التأويل، فقال رجل من أهل العراق: انحلّ جرابي فدخلت فيه فأرة فقتلتها، وأنا محرم، فقال: اقتلوا الفويسقة، فقال: أخبرنا بالشفع والوتر والليالي العشر، فقال: العشر: الثمان وعرفة والنحر، والشفع من تعجّل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه، والوتر: هو هذا اليوم ((يعني عرفة))، ولم يكن أحد أعلم بالمناسك من ابن الزبير في عهده3582. وقال(2/281)
عنه ابن عباس رضي الله عنه: كان قارئاً لكتاب الله متبعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قانتاً لله صائماً في الهواجر من مخافة الله ابن حواري رسول الله وأمه بنت الصديق، وخالته عائشة حبيبة حبيب الله زوجة رسول الله صلى اله عليه وسلم، فلا يجهل حقه إلا من أعمى الله بصيرته3583وكتب في فقه رسالة علمية للطلب محمد عبد الرضا هادي بالعراق.
2 ـ عبادته وتقواه: تواترت الروايات التي تصور لنا حرص ابن الزبير على العبادة من صلاة وصيام وغيرها، حتى أنها أصبحت معالم شخصيته3584، قال عنه مجاهد: لم يكن أحد يطيق ما يطيقه ابن الزبير من العبادة3585 (رضي الله عنه) وقال: جاء سيل مرة فطبق أبنية الكعبة فجعل ابن الزبير يطوف سباحة3586، وكان ابن الزبير رضي الله عنه كثير العبادة إذا قام إلى الصلاة انقطع عن الدنيا ونسي مشاغلها وما فيها من حلو ومر وخرج من كل شيء إليها، فقد روي ابن الزبير كان يوماً يصلي فسقطت حية من السقف فطوقت بطن ابنه هاشم فصرخ النسوة وانزعج أهل المنزل واجتمعوا على قتل تلك الحية، فقتلوها وسلم الولد، فعلوا هذا كله وابن الزبير في الصلاة لم يلتفت ولا درى بما جرى حتى سلّم3587. وقال عنه ثابت البناني: كنت أمر بابن الزبير وهو خلف المقام يصلي كأنَّه خشبة منصوبة لا تتحرك3588، وقال يزيد بن إبراهيم عن عمرو بن دينار، قال: كان ابن الزبير يصلي في الحجر والمنجنيق يصيب ثوبه، فما يلتفت يعني: لما حاصروه3589، وعن ابن أبي مليكة: قال لي عمر بن عبد العزيز إن في قلبك من ابن الزبير: قلت: لو رأيته ما رأيت مناجياً ولا مصلياً مثله3590، وعن ابن أبي مليكة قال: كان ابن الزبير يواصل سبعة أيام، ويصبح في اليوم السابع وهو أليَثُنا3591. وعلق الذهبي على ذلك فقال: لعله ما بلغه النهي عن الوصال ونبيك صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رؤوف رحيم، وكل من واصل، وبالغ في تجويع نفسه، انحرف مزاجه وضاق خلقه، فاتباع السنة أولى، ولقد كان ابن(2/282)
الزبير مع مُلكه صِنفاً في العبادة3592.
3 ـ جرأته وشجاعته: كان عبد الله بن الزبير فارس قريش في زمانه، وكان يشتد بالسيف وقد ناهز السبعين كأنه فتى في ربيع العمر، قال عنه عثمان بن طلحة: كان ابن الزبير لا ينازع في ثلاثة لا شجاعة ولا عبادة ولا بلاغة3593، وعن هشام بن عروة قال: كان أول ما أفصح به عمي عبد الله بن الزبير وهو صغير السيف، فكان لا يضعه من فيه، فكان أبوه إذا سمع ذلك منه يقول: أما والله ليكونن لك منه يوم ويوم وأيام3594، وكان مشهود له بالشجاعة منذ كان صغيراً، وقد مرّت شجاعته في اليرموك وفي حصار القسطنطينية وفي فتح إفريقية، وفي دفاعه عن عثمان يوم الدار وفي قتاله في الجمل وسيأتي الحديث عن شجاعته أكثر بإذن الله في حصار الحجاج له بمكة وكان يقول: والله إني لا أبالي إذا وجدت ثلاث مئة يصبرون صبري لو أجلب عليَّ أهل الأرض3595، وكان يضرب بشجاعته المثل3596، وكان ابن الزبير متأثراً بشجاعة أبيه وإقدامه وشجاعة جده الصديق، وأمه وأخواله وعلى رأسهم عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق.(2/283)
4 ـ فصاحته وخطابته: كان ابن الزبير رضي الله عنه لا ينازع وكان من خطباء قريش المعدودين وكان إذا خطب يشبه بجده أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) في حركاته وإشاراته ونبرات صوته وكان صيتاً إذا خطب ويروي أن المسلمين عندما انتصروا على البربر فقتلوا منهم خلقاً كثيراً وغنموا أموالاً وغنائم كثيرة جداً فبعث ابن أبي سرح بالبشارة مع ابن الزبير إلى عثمان فقص على عثمان الخبر وكيف جرى، فقال له عثمان: إن استطعت أن تؤدي هذا للناس فوق المنبر، قال: نعم فصعد ابن الزبير فوق المنبر فخطب وذكر لهم كيفية ما جرى، قال عبد الله فالتفت فإذا أبي الزبير في جملة من حضر، فلما تبينت وجهه كاد يرتع عليّ في الكلام من هيبته في قلبي، فزبرني بعينه وأشار إلي ليحظنني، فمضيت في الخطبة كما كنت، فلما نزلت قال: والله لكأني أسمع خطبة أبي بكر الصديق حين سمعت خطبتك يا بني3597، وعن محمد بن عبد الله الثقفي قال: شهدت ابن الزبير بالموسم خرج علينا قبل التروية بيوم وهو محرم فلبى بأحسن تلبية سمعتها قط ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإنكم جئتم من آفاق شتى وفوداً إلى الله عز وجل فحق على الله أن يكرم وفده فمن كان منكم يطلب ما عند الله فإن طالب ما عند الله لا يخيب فاصدقوا قولكم بفعل فإن ملاك القول الفعل والنية النية، القلوب القلوب، الله الله في أيامكم هذه فإنها أيام تغفر فيها الذنوب، جئتم من آفاق شتى في غير تجارة ولا طلب مال ولا دنيا ترجون هاهنا، ثم لبى ولبى الناس، فما رأيت باكيا أكثر من يومئذ3598، وقال سعيد بن المسيب خطباء قريش في الإسلام: معاوية وابنه وسعيد وابنه وعبد الله بن الزبير3599، ومن خطبه المشهورة، خطبته في أهل مكة بعد مقتل الحسين رضي الله عنه، وخطبته في الخوارج حين ناظرهم وخطبته بعد مقتل أخيه مصعب في العراق3600، ومن مواعظه المشهورة ما كتبه لوهب بن كيسان حيث قال: كتب إليّ عبد الله بن الزبير بموعظة: أما بعد فإن لأهل(2/284)
التقوى علامات يُعرفون بها، ويعرفونها من أنفسهم، صدق الحديث، وأداء الأمانة، وكظم الغيظ، وصبر على البلاء ورضي بالقضاء، وشكر للنعماء، وذلّ لحكم القرآن، وإنما الأيام كالسوق ما نفق فيها حمل إليها، إن نفق الحق عنده حمل إليه وجاءه أهله وإن نفق الباطل حمل إليه وجاءه أهله3601. ولا شك: أن صفة الخطابة والقدرة على الإقناع من أهم الأمور التي يجب أن يتحلى بها أي زعيم، وقد أفاد ابن الزبير من ذلك كثيراً وكانت فصاحته وقدرته الخطابية عاملاً من عوامل نشر أفكاره والقيم التي آمن بها في حياته.
5 ـ عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وجوده:
…كان عبد الله بن الزبير كريماً يعطي حقوق الرعية كاملة، ويزيد إلى من يستحق، ولا يدفع إلا بطرق مشروعة، ولكن اتهمه بعضهم بالبخل إذ لم يكن مبذراً يعطي عن يمين وعن شمال من لا يستحق، ولم يكن مسرفاً فلا يدفع إلا قدر الحاجة، ولا يُقدّم للمدّاحين والمتزلّفين، وهم عادة أصحاب ألسنة حادة ومنها تخرج الشائعات الهادفة، غير أن ابن الزبير لم يكن يُبالي بما يُقال، ما دام أنه على الجادة3602، وقد إنساق كثير من الباحثين وراء روايات الخصوم واتهموا ابن الزبير بالبخل وهذا الوصف فيه تجني على حقيقة ابن الزبير، وللأسف أن أصحاب الدراسات الحديثة لم يلتفتوا إلى الروايات الأخرى التي تنفي صفة البخل عن ابن الزبير3603، والذي يظهر أن صفة البخل التي وصف بها ابن الزبير كانت بسبب سياسته المالية المتشددة، ذلك أن ابن الزبير كان يتأسى بالخلفاء الراشدين وينظر إلى ما بيده من مال أنه ليس ملكاً له وإنما هو للمسلمين ومن ثمّ لا ينفقه إلا في وجوهه الشرعية3604 فالذين عاشوا في ذلك العصر ورأوا سياسة ابن الزبير المتشددة وقارنوها بسياسة الأمويين في الإنفاق لكسب الأنصار والمؤيدين والشعراء اتهم بعضهم ابن الزبير بالبخل وهذه الآثار تدل على كرم وجود ابن الزبير رضي الله عنه حرصه على أموال المسلمين:(2/285)
أ ـ…شهادة السيدة عائشة في كرم ابن الزبير:
…قالت عائشة بنت طلحة خرجت مع أم المؤمنين عائشة وهي خالة عائشة بنت طلحة، فبينما نحن كذلك إذا براجز يقول:
……………أنشد من كان يعيد الهمّ
……………يدلني اليوم على ابن أمّ
……………له أب في باذخ أَشَمِّ
……………وأمه كالبدر ليل تمَّ
……………مقابل الخال كريم العمّ
……………جرّعه أكوسه بسمّ
قالت: فلما سمعت أم المؤمنين أبيات دعت به، فقالت له من وراء حجابها: يا عبد الله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الدّال على الخير كفاعله. فحاجتك رجل بين يديك، فسئل عن عبد الله بن الزبير، فإنه شرطك، فخرج الرجل حتى أدرك عبد الله بن الزبير فحمله على راحلة وصنع إليه معروفاً3605.
ب ـ شهادة معاوية بن أبي سفيان في ابن الزبير رضي الله عنهم:
…سمع معاوية رضي الله عنه رجلاً وهو يقول:
……………ابن رقاش ماجد سَمَيْدع
……………يأتي فيعطي عن يدٍ أو يمنع
…فقال: ذاك عبد الله بن الزبير3606.
جـ ـ نابغة بني جعدة وابن الزبير:
…عن عبد الله بن عروة قال: أقحمت السنة نابغة بني جعْدة فدخل على عبد الله بن الزبير المسجد الحرام فأنشده:
………حكيت لنا الصديق لما وليتنا
…………………وعثمان والفاروق فارتاح مُعْدِمُ
………وسوُيت بين الناس في الحق فاستووا
…………………فعاد صباحاً حَالك اللون مظلم
………أتاك أبو ليلى يجوب به الدٌّجى
…………………دُجى الليل جوّاب الفلاة عَثمثمُ
………لتجبر منه جانباً دعدعتْ به
…………………صُروف الليالي والزمان المُصَمّم(2/286)
فقال ابن الزبير: هوّن عليك أبا ليلى فإن الشعر أهون وسائلك عندنا، أمّا صفوة مالنا فلآل الزبير وأمّا عفوته فإن بني أسد تشغلها عنك، وتيماً، ولكن لك في مال الله حقان: حق برؤيتك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحق لشركتك أهل الإسلام في فيئهم، ثم أخذ بيده فدخل به دار النَّعَم، فأعطاه قلائص سبعاً وجملاً رحيلاً، وأوقر له الركاب براً وتمراً وثياباً فجعل التابغة يستعجل ويأكل الحب صِرْفاً، فقال ابن الزبير: ويح أبي ليلى، لقد بلغ الجهد3607. فهذا الخبر ينفي ما روى عن بخل ابن الزبير ففرق بين البخل والحفاظ على مال المسلمين، فقد بدا واصخاً من كلام عبد الله بن الزبير تبريره حق النابغة الجعدي فيما منحه إياه دون أي اعتبار لما مدحه به من شعر3608.
ش ـ عبد الله بن عروة ابن أخ ابن الزبير:
جاء في رواية للزبير بن بكار أن عبد الله بن الزبير زوّج ابنته أم حكيم ـ من ابن أخيه عبد الله بن عروة فأرسل عروة إلى أخيه عبد الله عشرين ألف درهم فردها عبد الله قائلاً: لو أردت المال لوجدته عند غيرك3609.
ر ـ حمزة بن عبد الله بن الزبير في سجن أبيه:
قدم حمزة بن عبد الله بن الزبير على أبيه بعد أن عزل من العراق فلما سأله أبوه عن المال أخبره بأنه وزعه على قومه فوصلهم به فقال له ابن الزبير: مال ليس لك ولا لأبيك ثم3610سجنه وهكذا يتضح حرص ابن الزبير على مال العام، وإنفاقه وكرمه الذي لا تجاوز فيه لشرع الله في الإنفاق.
ثامناً: بيعة ابن الزبير بالخلافة:(2/287)
بعد موت يزيد بن معاوية لم يكن هناك من خليفة وإذا كان يزيد قد أوصى لابنه معاوية فإن هذا لا يكفي للبيعة، إذ لا بيعة دون شورى، إضافة إلى أن الذين قد بايعوا معاوية بن يزيد لا يزيدون على دمشق وما حولها وأعيان بني كلب. هذا مع أن معاوية بن يزيد لم يعش طويلاً وترك الأمر شورى ولم يستخلف أحدا، ولم يوصي إلى أحد، وكان عبد الله بن الزبير، رضي الله عنهما قد بويع له في الحجاز، وفي العراق وما يتبعه إلى أقصى مشارق ديار الإسلام، وفي مصر وما يتبعها إلى أقصى بلاد المغرب، وبايعت الشام أيضاً إلا بعض جهات منها، ففي دمشق بايع الضحاك بن قيس الفهري لابن الزبير، وفي حمص بايع النعمان بن بشير، وفي قنسرين زفر بن الحارث الكلابي، وفي فلسطين بايع ناتل بن قيس، وأخرج منها روح بن زنباع الجذامي، ولم يكن رافضاً بيعة ابن الزبير في الشام إلا منطقة البلقاء وفيها حسان بن مالك بن بحدل الكلبي3611، وهكذا تمّت البيعة لعبد الله بن الزبير في ديار الإسلام وأصبح الخليفة الشرعي3612وعين ابن الزبير نوّابه على الأقاليم، وتكاد تجمع المصادر على أن جميع الأمصار قد أطبقت على بيعة ابن الزبير خليفة المسلمين، ولذلك صرّح العديد من العلماء والمؤرخين بأن بيعة ابن الزبير بيعة شرعية، وأنه أولى بها من مروان بن الحكم3613، فيروي ابن عبد البر عن مالك أنه قال: إن ابن الزبير كان أفضل من مروان وكان أولى بالأمر منه، ومن ابنه عبد الملك3614. ويقول ابن كثير: ثم هو ـ أي ابن الزبير ـ الإمام بعد موت معاوية بن يزيد لا محالة وهو أرشد من مروان بن الحكم حيث نازعه بعد أن اجتمعت الكلمة عليه وقامت البيعة له في الآفاق وانتظم له الأمر3615، ويؤكد كل ابن حزم3616والسيوطي3617 شرعية ابن الزبير ويعتبران مروان بن الحكم وابنه عبد الملك باغيين عليه خارجين على خلافته كما يؤكد الذهبي شرعية ابن الزبير ويعتبره أمير المؤمنين3618(2/288)
1 ـ بيعة ابن الزبير بالحجاز: كان من الطبيعي أن يكون الحجاز أول المناطق خضوعاً وولاء لبيعة ابن الزبير لكونه مركز المعارضة ضد بني أمية وقد سارع أهل الحجاز إلى مبايعة ابن الزبير، ويروي ابن سعد أن من الأوائل الذين سارعوا إلى مبايعة ابن الزبير عبد الله بن مطيع العدوي، وعبد الله بن رضوان بن أمية الجمحي والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وعبيد بن عمير، وعبيد الله بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن جعفر3619، وكان هناك بعض العناصر الذين امتنعوا عن بيعة ابن الزبير وعلى رأسهم ثلاث شخصيات لها مكانتها وتأثيرها لاسيما في الحجاز وهم عبد الله بن عمر بن الخطاب، وابن عباس، ومحمد بن الحنفية، وتكاد تجمع المصادر أن أياً من هؤلاء لم يبايع ابن الزبير طيلة حياته3620.
أ ـ …موقف ابن عمر من بيعة ابن الزبير :
…بايع ابن عمر يزيد بالخلافة، والتزم ببيعته، وحاول اقناع ابن الزبير بذلك، ونهاه عن إثارة الفتنة والخروج على خلافة يزيد3621، وبعد وفاة معاوية بن يزيد بويع ابن الزبير بالخلافة، وطلب من ابن عمر أن يبايع له فرفض ابن عمر البيعة معللاً ذلك بقوله: لا أعطي صفقة يميني في فرقة ولا أمنعها في جماعة3622. ولم يحاول ابن الزبير اجبار ابن عمر على البيعة، كما أن المصادر لم تشر إلى أي صدام أو مواجهة وقعت بين الاثنين3623، وكان لامتناع ابن عمر على بيعة ابن الزبير تأثير سلبي، فقد كان ابن عمر يتمتع بمكانة عالية وبالأخص في الحجاز وكان تأثيره على الناس، فامتناعه عن البيعة يجعل البعض يقتدي به ويتخذ نفس الموقف، ومما يزيد من تأثيره السلبي على حركة ابن الزبير أن ابن عمر كان يجبر من له طاعة عليهم أن يتخذوا الموقف نفسه الذي يتخذه ومع كل ذلك فلم يكن ابن عمر يشكل خطراً حقيقياً على ابن الزبير فهو لم يكن ذا طموح للخلافة، كما أنه لا يملك أتباعاً يستطيع أن يواجه بهم ابن الزبير كما هو الحال عند محمد بن الحنفية3624.(2/289)
ب ـ ابن عباس وبيعة ابن الزبير:
…كان ابن عباس يختلف عن ابن عمر في مواقفه إزاء الفتن التي جرت في عصره، حيث خاض فيها وشهد مع علي صراعه ضد خصومه في موقعتي الجمل وصفين، ولما جاء الأمويون للحكم واستخلف معاوية يزيد بادر ابن عباس إلى بيعته، والتزم بها ولم يعرف أنه أيّد ابن الزبير الذي رفض البيعة، وفي نفس الوقت لم يعلن عداءه لابن الزبير، وبدأت العلاقة بين الاثنين تدخل طوراً جديداً بعد وفاة يزيد بن معاوية حيث بويع ابن الزبير بالخلافة سنة 64هـ وعندما طلب ابن الزبير من محمد بن الحنفية وابن عباس المبايعة قالا: حتى تجتمع لك البلاد ويتسق لك الناس3625، ووعداه بعدم إظهار الخلاف له3626. لم يحاول ابن الزبير في بداية الأمر إجبارهما على البيعة، وبدأت العلاقة بين ابن الزبير وابن عباس في تحسن تلمس ذلك في العديد من الروايات التي تدلل على شعور ابن عباس تجاه ابن الزبير والمتمثل في تأييده لبعض مواقفه3627، أو في الثناء المباشر عليه3628، ويروي عبد الرزاق في مصنفه أن ابن عباس كان قاضياً لابن الزبير بمكة، إلا أن العلاقة بينهما تعكرت، وقد وردت عدة روايات تدل على مظاهر تردي العلاقة بين الاثنين وإن كانت في مجموعها لا تخرج عن نطاق المناقشات الحادة3629. ونظراً لتوافق ابن عباس مع محمد بن الحنفية في رفض بيعة ابن الزبير وتنامي خطر الأخير فقد انتهى الأمر بخروج ابن عباس إلى الطائف وبقي هناك إلى أن توفي3630. وكان ابن عباس يثني على ابن الزبير، فعندما ذكر عنده قال ابن عباس: قاريء لكتاب الله، عفيف في الإسلام، أبوه الزبير، وأمه اسماء وجده أبو بكر، وعمّتُه خديجة، وخالته عائشة وجدّته صفية3631.
جـ ـ ابن الحنفية وبيعة ابن الزبير :(2/290)
…كان المبدأ الذي صرح به ابن الحنفية بعد وفاة يزيد أن لا يبايع أحداً إلا في حالة اجتماع الناس عليه3632، لم يحاول ابن الزبير في بداية الأمر إكراه ابن الحنفية على البيعة ولم يستمر ابن الزبير في سياسته اللينة مع ابن الحنفية، فبعد أن علا شأن ابن الزبير وجاءته بيعة الأمصار، وكادت الأمة أن تجتمع عليه، أحس أن الوقت قد حان لأن يبايع ابن الحنفية بناء على وعده فعاود الكرّة مرّة أخرى ودعاه إلى البيعة سنة 65هـ ولكن ابن الحنفية أبى أن يبايع فلجأ ابن الزبير إلى حبسه في الشعب3633، ويبدو أن ابن الزبير تخوّف من دعوة المختار بن أبي عبيد الثقفي بالكوفة، فقد كان المختار من أشد المدافعين عن ابن الزبير أيام حوصر في مكة سنة 64هـ من قبل جيش الحصين بن نمير السكوني، وكان المختار بالإضافة إلى شجاعته وجرأته يتمتع بمكر ودهاء كبيرين ويحمل بين جنبيه طموحات عالية للزعامة3634، لم يجد المختار عند ابن الزبير ما يحقق طموحاته، فأخذ يبحث عن مكان آخر يمكن أن يحقق فيه ما تصبو نفسه إليه، فترك مكة بعد ستة أشهر من نهاية الحصار الأول ووصل العراق في رمضان 64هـ واستطاع عن طريق إدعائه نصرة آل البيت ورفع شعار الأخذ بثأر الحسين أن يجتمع حوله الأنصار والمؤيدون والناقمون على حكم بني أمية، واستطاع أن يستولي على الكوفة3635، وكان المختار على علم بما جرى بين ابن الزبير وابن الحنفية في أمر البيعة، وأراد أن يستغل هذا الموقف لصالحه وادعى أنه موفد من محمد بن الحنفية للأخذ بثأر آل البيت، والواقع أن ابن الحنفية تبرأ من المختار وأنكر أن يكون قد أرسله إلى العراق3636، ودعت الشيعة بالكوفة إلى ابن الحنفية، فخاف ابن الزبير أن تفتح بذلك جبهة جديدة عليه مما يزيد الأمر خطورة وتعقيداً3637، وأرسل المختار جيشاً في عام 66هـ إلى مكة في موسم الحج واستطاع أن يخلص ابن الحنفية من سجنه، ومنع ابن الحنفية الجيش من قتال ابن الزبير لكونه لا يستحل القتال في(2/291)
الحرم3638، والواقع إن ابن الحنفية أصبح يشكل خطراً على ابن الزبير بعد وصول نجدة العراق وتروي المصادر أنه كان لابن الحنفية لواء في الحج ينافس فيه لواء ابن الزبير3639، أما بالنسبة لابن الزبير فقد أحس أن مصدر قوة ابن الحنفية يكمن في مساندة المختار بن أبي عبيد له، ولذلك فكر في القضاء عليه، فأرسل أخاه مصعباً والياً على البصرة، وأمره أن يقاتل المختار وفعلاً استطاع مصعب بن الزبير أن يقصي على المختار في الرابع عشر من رمضان سنة 67هـ3640 أدى مقتل المختار إلى تضعضع موقف ابن الحنفية بمكة، ويروي ابن سعد أن ابن الزبير أرسل إلى ابن الحنفية أخاه عروة يطلب منه أن يبايع وهدده بالحرب إن هو أصر على رفض البيعة3641. ولاحت لابن الحنفية في هذه الأثناء فرصة رأى فيها مخرجاً من ضغوط ابن الزبير تمثلت في دعوة عبد الملك بن مروان له بأن يقدم إلى الشام، فاغتنم ابن الحنفية هذه الفرصة وتوجه إلى الشام هو وأتباعه، واختاروا المقام بأيلة3642، وهذه البلدة وإن كانت من بلاد الشام منطقة نفوذ عبد الملك بن مروان إلا أنها في أطرافها نحو الحجاز وأصبح تقريباً في منطقة بعيدة عن الاثنين معاً، ولكن إتضح أن نوايا عبد الملك لم تكن تختلف عن نوايا ابن الزبير، فعرض عليه البيعة مقابل أموال وأعطيات سخية أو الخروج من بلاد الشام، وآثر بن الحنفية الخروج على البيعة حيث اشترط ذلك على ابن الزبير من قبل. وأراد ابن الحنفية العودة إلى مكة ولكن ابن الزبير منعه من دخولها فتوجه بمن معه إلى الطائف وقيل المدينة وبقي بها إلى أن قتل ابن الزبير سنة 72هـ3643.
2 ـ بيعة ابن الزبير في العراق :(2/292)
…أدت وفاة يزيد بن معاوية إلى اضطراب الوضع في العراق ونشوب النزاع بين قبائله المختلفة حول السلطة، وهرب عبيد الله بن زياد إلى الشام، وخرج الخوارج قبل هروبه من السجن وبدأوا بإشاعة الفوضى والفساد، وبعد فتن وقتال اتفقت القبائل بالبصرة على أن يتولى عبد الله بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب الأمر3644، ثم شرع ابن الزبير في تعيين نوابه بعد بيعة أهل البصرة له إلى أن استقر على ولايتها أخوه مصعب وعين أهل الكوفة عامر بن مسعود بن خلف القرشي3645 وكتبوا بذلك إلى ابن الزبير فأقره. وهذا التصرف يعد في حقيقته إقرار أهل الكوفة بخلافة ابن الزبير3646، وتعامل أهل البصرة وأهل الكوفة مع ابن الزبير، كخليفة للمسلمين3647، وقد ساعدت عوامل عديدة على نشر بيعة ابن الزبير بالعراق، من أهمها، الفراغ السياسي في السلطة، بعد وفاة يزيد بن معاوية، وهروب عبيد الله بن زياد إلى الشام، كما أن التنافس القبلي على السلطة، واشتداد شوكة الخوارج وتهديدهم للأمن ساهم في حث أهل العراق على توحيد كلمتهم والانضواء تحت لواء ابن الزبير3648.
3 ـ بيعة ابن الزبير في الشام:(2/293)
…بعد وفاة معاوية بن يزيد وفي مناخ الشام المشوب بالفوضى والاضطراب وجدت بيعة ابن الزبير منفذاً لها في بلاد الشام، لاسيما وأن أخبار صمود ابن الزبير أمام جيش الحصين بن نمير في الحصار الأول، وبيعة أهل الحجاز له، قد تنامت إلى بلاد الشام، ويصور لنا البلاذري موقف أهل الشام من بيعة ابن الزبير في تلك الظروف فيقول: فلما مات معاوية بن يزيد ـ مال أكثر الناس إلى ابن الزبير وقالوا: هو رجل كامل السن، وقد نصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وهو ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه بنت أبي بكر بن أبي قحافة وله فضل في نفسه ليس لغيره، وتكاد تجمع المصادر على بيعة جميع أقاليم أهل الشام ما عدا الأردن، فقد بايع زمز بن الحارث الكلابي3649 بقنسرين، وبايع النعمان بن بشبر الأنصاري3650، بحمص، واستطاع نائل بن قيس الجذامي3651 أن يسيطر على فلسطين ويدعو فيها لابن الزبير، ودعا الضحاك بن قيس الفهري لابن الزبير في دمشق3652، وعين ابن الزبير الضحاك بن قيس والياً على الشام3653، هذه أهم الأقاليم التي بايعت ابن الزبير.
4 ـ موقف الخوارج من بيعة ابن الزبير:(2/294)
…تحالف الخوارج مع ابن الزبير في الدفاع عن مكة حتى وفاة يزيد، فلما زال الخطر، دخل عليه قادتهم فأرادوا معرفة رأيه في عثمان بن عفان رضي الله عنه، فأجابهم فيه بما يسوءهم وذكر لهم ما كان متصفاً به من الإيمان والتصديق، والعدل والإحسان والسِّيرة الحسنة والرُّجوع إلى الحق إذا تبين له، فعند ذلك نفروا منه وفارقوه وقصدوا بلاد العراق وخراسان، فتفرقوا فيها بابدانهم وأديانهم ومذاهبهم ومسالكهم المختلفة المنتشرة التي لا تنضبط ولا تنحصر لأنها مفرّعة على الجهل وقوة النُّفوس والاعتقاد الفاسد، ومع هذا استحوذوا على كثير من البُلدان3654، وتصدّى لقتالهم الفارس الهمام، البطل الكبير المهلب بن أبي صفرة، فقد كتب ابن الزبير له بأن يتولى حربهم فأستجاب لذلك، وكان على رأس الخوارج الأزارقة نافع بن الأزرق واستطاع المهلب أن يهزمهم وقتل أميرهم نافع بن الأزرق وانهزمت الخوارج نحو فارس3655، وتسربت شائعات إلى أهل البصرة بأن المهلب قتل، فاضطرب المصر وهمّ أميرهم الحارث بن أبي ربيعة أن يهرب، وأقبل البشير إلى أهل البصرة بسلامة المهلّب، فاستبشروا بذلك واطمأنّوا وأقام أميرها، بعد أن همّ بالهرب وبلغ عبد الله بن الزبير ما كان من عزم عامله بالبصرة من الهرب، فعزله وولى أخاه مصعباً، فسار مصعب حتى قدمها وتولَّى أمر جميع العراقين وفارس والأهواز ومما قيل من الأشعار في قتال المهلب للخوارج الأزارقه:
…………إنّ ربّا أنجى المهلَّب ذا الطول
……………………لأهلٌ أن تحمدوه كثيراً
…………لايزال المهلّب بن أبي صفرة
……………………ما عاش بالعراق أميراً3656
وقال رجل من الخوارج في قتل نافع بن الأزرق:
………إن مات غير مداهن في دينه
…………………ومتى يمر بذكر نار يصعق
………والموت أمر لا محالة واقع
…………………من لا يصبحه نهاراً يطرق
………فلئن منينا بالمهلب إنّهُ
…………………لاَءَخو الحروب وليث أهل المشرق3657
المبحث الثاني : خروج مروان بن الحكم على ابن الزبير:(2/295)
أولاً : اسمه ونسبه وحياته قبل خروجه على ابن الزبير:
…هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، الملك أبو عبد الملك القرشي الأموي3658، يكنى أبا القاسم وأبا الحكم ولد بمكة وهو أصغر من ابن الزبير بأربعة أشهر، روى عن عمر وعثمان وعلي وزيد وروى عنه سهل بن سعد، وسعيد بن المسيب، وعلي بن الحسين، وعروة، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وعبيد الله بن عمر، ومجاهد بن جبر، وأبنه عبد الملك. وكان كاتب ابن عمه عثمان ودافع عن عثمان يوم الدار، وسأل عنه علي بن أبي طالب يوم الجمل وقال: يعطفني عليه رحم ماسة، وهو مع ذلك سيد من شباب قريش3659، وكان يتتبع قضاء عمر3660، وتولى ولاية المدينة في عهد معاوية وكان الحسن والحسين يصليان خلف مروان ولا يعيدان3661، وكان إذا وقعت معضلة ـ أثناء ولايته على المدينة ـ جمع من عنده من الصحابة فاستشارهم فيها، وهو الذي جمع الصيعان فأخذ بأعدلها، فنسب إليه فقيل صاع مروان3662، وكان ذا شهامة وشجاعة ومكر ودهاء3663، وقد ذكرت شيء في سيرته في كتابي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه وكان شديد الحب لبني أمية، وكان متحمساً لبيعة يزيد بن معاوية ولما توفي يزيد خرج مروان وبنو أمية من المدينة إلى الشام بصحبة الجيش الأموي الراجع من حصار مكة الأول وكان خروج بني أمية برغبتهم3664، ولم يبايع مروان ابن الزبير والتف زعماء القبائل وبنو أمية الموجودين بالشام حوله وبايعوه وكان يحمل بين جنبيه طموحات للزعامة وكانت هذه الطموحات مع رغبته في بقاء الخلافة في البيت الأموي هو الدافع لخروجه على ابن الزبير، وخير دليل على ذلك إقدامه على مبايعة ابنيه من بعده عبد الملك، وعبد العزيز ـ بولاية العهد3665، وهناك روايات تذكر أن مروان بن الحكم كان قد عزم على مبايعة ابن الزبير لولا أن تدخل عبيد الله بن زياد وغيره في آخر لحظة وثنوه عن عزمه واقنعوه أن يدعو لنفسه3666، والواقع وإن كنا لا نستبعد أن يكون مروان(2/296)
قد فكر في ذلك الأمر لاسيما بعد انتشار بيعة ابن الزبير في معظم الأقاليم مع تفرق كلمة بني أمية في بلاد الشام، وضعف موقفهم إلا أننا لا نعتبر ذلك مناقضاً لما ذهبنا إليه، لأن العبرة ليست فيما عزم عليه مروان بن الحكم، وإنما في الموقف الذي اتخذه وهو رفض بيعته لابن الزبير ومحاربته3667 والخروج عليه، ولقد سار مروان في محاربته لابن الزبير على الخطوات التالية:
1 ـ القضاء على أنصار ابن الزبير بالشام وأهم الأحداث بالشام كان مؤتمر الجابية ومعركة مرج راهط.
2 ـ إعادة مصر إلى الأمويين.
3 ـ محاولة إعادة العراق والحجاز.
4 ـ تولية العهد لعبد الملك وعبد العزيز.
ثانياً : القضاء على أنصار ابن الزبير بالشام وأهمية مؤتمر الجابية ومعركة مرج راهط:
…بدأ مروان بن الحكم ـ بعد أن تزعم المعارضة الأموية بتوحيد صفوفه والدخول في صراع ضد ابن الزبير، ولم يبدأ مروان بمواجهة ابن الزبير في الحجاز وإنما لجأ إلى انتزاع الأقاليم البعيدة وذلك ليحسر نفوذه أولاً ومن ثم يتيسر له القضاء عليه3668، وجاء مروان بن الحكم إلى الحكم بعد عقد مؤتمر الجابية لأهل الشام ولأهمية مؤتمر الجابية إليك تفصيل ما جرى فيه.
1 ـ مؤتمر الجابية:(2/297)
…ظلت الأردن موطن الكلبيين على ولائها للأسرة الأموية وكان بعض زعماء الشام حريصاً على الاحتفاظ بالخلافة في الشام دون غيرها، ومثال ذلك الحصين بن نمير الذي عرض على ابن الزبير مبايعته بشرط الانتقال للشام، ويبدو أن تمسك بعض زعماء أهل الشام باستمرار دمشق مركزاً للخلافة لم يكن أمراً عاطفياً غير مبرر، بل كان يستند إلى قناعة أكيدة، أثبت الأيام صدقها، بمقدرة أهل الشام على تحقيق الحسم التاريخي، وبعمق الالتحام بين بنائها القبلي اليماني، والوجود الأموي بها، رغم ما تعرضت له الوحدة القبلية لأبناء الشام من هزات عنيفة، وتشقق مريع، حيث أفرزت الأحداث السياسية السريعة آنذاك صراعاً عنيفاً بين القبائل القيسية واليمانية ظل يرسل انعكاساته على الحياة السياسية بعد ذلك، فقد بايع القيسيون في شمال الشام ابن الزبير المرشح الوحيد الظاهر القوة والقبول في هذه المرحلة، وازدادت قوة القيسيين بانضمام الضحاك بن قيس الفهري إليهم، وهو الرجل الذي أمضى تاريخه كله في الشام وفي خدمة معاوية وابنه يزيد، والذي كان يُشرف آنذاك على شئون دمشق منذ وفاة معاوية الثاني ـ بينما تشبث الكلبيون ، رغم الضعف الظاهري لمواقفهم في ظل هذه البيعة الجماعية لابن الزبير حتى من إخوانهم الشماليين والمصاهرة بينهم وبين الأمويين منذ تزوج معاوية منهم3669 وتربى فيهم يزيد3670.. ولكن الكلبيين فيما عدا ذلك يختلفون فبينما يهوى بعضهم البيعة لخالد بن يزيد بن معاوية، وهو غلام صغير السن، يستنكف بعضهم من البيعة لغلام، في الوقت الذي يدعو فيه الآخرون إلى شيخ قريش عبد الله بن الزبير ـ ويفضل هذا الفريق البيعة لمروان بن الحكم، وبعد محاولات لرأب الصدع بين القيسية واليمنية اتفق الطرفان على الالتقاء في الجابية3671، للتشاور والاتفاق، فسار الكلبيون والأمويون إلى هناك، على حين غلب بعض أنصار ابن الزبير الضحاك بن قيس على رأيه فأطاعهم ومال نحو مرج راهط3672.(2/298)
أ ـ …الممارسة الشورية في مؤتمر الجابية:
…في الجابية عقد الكلبيون مؤتمرهم وتشاوروا في أمر البيعة والخلافة، وكان مؤتمر الجابية مؤتمرا تاريخياً يمكن أن يوصف بلغة السياسية بأنه كان مؤتمر دستورياً وقد حضره أصحاب الشوكة والقوة والرأي من أهل الشام وتمت الدعوة إليه بالرضا من عناصر أهل الشام المؤثرة في القرار المصيري ونستطيع أن نلاحظ صورة لهذه التجربة الشورية النادرة حين نتصور أن أسماء المرشحين الآخرين للخلافة غير بني أمية قد عرضت للبحث، ولكن رجحت كفة مروان لعوامل كما يصور ذلك روح بن زنباع الجذامي أحد زعماء الشام. حيث قال: أيها الناس إنكم تذكرون عبد الله بن عمر بن الخطاب وصحبته من رسول الله، وقدمه في الإسلام، وهو كما تذكرون، ولكن ابن عمر رجل ضعيف، وليس بصاحب أمه محمد الضعيف، وأما ما يذكر الناس من عبد الله بن الزبير، ويدعون إليه من أمره، فهو والله كما يذكرون، إنه لابن الزبير،، حواري رسول الله وابن أسماء ابنة أبي بكر الصديق، ذات الناطقين، وهو بعد كما تذكرون في قدمه وفضله ولكن ابن الزبير منافق قد خلع خليفتين، يزيد وابنه معاوية بن يزيد، وسفك الدماء وشق عصا المسلمين، وليس بصاحب أمر أمه محمد منافق، وأما مروان بن الحكم فوالله ما كان في الإسلام صدع قط إلا كان مروان بن الحكم ممن يشعب ذلك الصدع، وهو الذي قاتل عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان يوم الدار، وهو الذي قاتل علي بن أبي طالب يوم الجمل، وإنا نرى للناس أن يبايعوا الكبير، ويستشبّوا الصغير، يعني بالكبير مروان بن الحكم وبالصغير خالد بن يزيد بن معاوية، فاجتمع رأي الناس على البيعة لمروان ومن بعده لخالد بن يزيد، ثم لعمرو بن سعيد بن العاص بعد خالد3673، فكانت تلك المعادلة هي التي جمعت بين مختلف الآراء وأرضت جميع الاتجاهات3674، وقد دارت نقشات كثيرة، وكان العديد من زعماء القبائل وقادة بني أمية قد حضروا. ومن هؤلاء الزعماء، حسان بن مالك بن بحدل(2/299)
الكلبي والحصين بن نمير السكوني، وروح بن زبناع الجذامي3675، ومالك بن هبيرة السكوني وعبد الله بن مسعدة الفزاري، وعبد الله بن عضاة الأشعري، وغيرهم من الشخصيات المؤثرة3676 والمعارضة لابن الزبير، وقد قلبت آراء عديدة وكثيرة حتى استقر الرأي على مروان3677، ولم يمتنع مروان عن تقديم امتيازات لقبائل كلب وكندة لكي يستميلهم، وكانت له اتفاقات سرية وخاصة مع بعض الزعماء مما كان له الأثر الكبير في كسب المؤيدين له فمروان خطط واستطاع بشتى الطرق الوصول إلى الحكم في بلاد الشام رغم الظروف الصعبة آنذاك3678.
ب ـ أهم قرارات مؤتمر الجابية:
…كانت أهم قرارات مؤتمر الجابية، عدم مبايعة ابن الزبير، استبعاد خالد بن يزيد من الخلافة لأنه غلام والعرب لا تحب مبايعة الأطفال من ناحية ومن الناحية الأخرى هم الآن في أزمة وهم أحوج إلى الرجل المجرب الخبير علّه يقودهم إلى النصر وينقذهم من وضعهم المتدهور، مبايعة مروان بن الحكم وهو الشيخ المحنك، أن يتولى الخلافة بعد مروان على هذا الشرط شفوياً، الاستعداد لمجابهة وقتال المخالفين إتباع ابن الزبير في الشام بادي الأمر3679
جـ ـ زعامة مروان لمعارضي أهل الشام قامت على الشورى:(2/300)
…قامت زعامة مروان لمعارضي ابن الزبير على أساس الشورى، إذ انتخب بالاختيار الحر من الذين شهدوا المؤتمر وهم أهل الحل والعقد والشوكة والقوة في الشام، وبويع بإجماع الحاضرين، فكانت طريقة توليته، شورية دستورية اتخذتها المعارضة لتقوية صفها، وبذلك صار في العالم الإسلامي إذ ذاك خليفتان عبد الله بن الزبير الخليفة الشرعي والمنتخب من قبل الأغلبية الساحقة للأمة والزعيم المعارض لابن الزبير والمنتخب من أهل الشوكة والقوة في عاصمة الخلافة ولما كان لابد من توحيد الدولة الإسلامية فقد كان على أحدهما أن يتغلب على الآخر ويتم التوحيد ويجمع كلمة الأمة، فكانت الحروب والمعارك الطاحنة فيما بعد حتى استقر الأمر لعبد الملك بن مروان بعد مقتل الخليفة الشرعي عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، ويبدو أن أهل الشام الذين عارضوا ابن الزبير واجتمعوا بالجابية قد ذهبوا إلى أن بيعة أهل الشوكة والقوة من عاصمة الخلافة ملزم لبقية الأقطار والأمصار كلها وعلى الآخرين أن يسلموا لمن بايعوه لئلا ينتشر الأمر باختلاف الآراء وتباين الأهواء3680، وقد نسب ابن حزم هذا الرأي لأهل الشام قائلاً: كانوا قد ادعوا ذلك لأنفسهم حتى حملهم ذلك على بيعة مروان وابنه عبد الملك واستحلوا بذلك دماء أهل الإسلام3681(2/301)
…والصحيح بالنسبة لعهد ابن الزبير هو الأخذ بمبدأ الأكثرية أو الأغلبية، وإن كان حجية إقرار بيعة أهل عاصمة الخلافة أخذ به في بيعة الصديق والفاروق وذي النورين والحسن بن علي، إلا أن الأمور قد تغيرت كثيراً فالأخذ بمبدأ الأكثرية للترجيح في تنازع قد قرره الإمام الغزالي حيث قال: يتم الترجيح بينهم بتقديم من انعقدت له البيعة من الأكثر والمخالف للأكثر باغٍ يجب رده إلى الانقياد إلى الحق3682. وذلك هو الرأي الذي نؤيده، لأن حسم النزاع بترجيح أكثرهم حوزاً لرضا المسلمين هو ما يقضي به مبدأ حق الأمة الإسلامية في اختيار الخليفة3683، فضلاً عن الأدلة الشرعية المؤكدة لترجيح رأي الأكثرية أو الأغلبية نذكر منها: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخذ بما انعقد عليه رأي أغلبية المسلمين وإن بدا مخالفاً لرأيه وذلك حيث علم بتحريك قوات المشركين في اتجاه المدينة لحربهم، فاستشار المسلمين فرأى فريق منهم وكان أكثرهم الخروج إليهم، وفريق آخر رأى ما رأه الرسول نفسه وهو أن يظلوا بالمدينة، فلما رأى الرسول أن رأي الأغلبية مع الخروج أخذ برأيهم ووافق على الخروج للمشركين في أحد3684، وغير ذلك من الأدلة وقد أخذ مشروع الدستور الإسلامي الذي أعده مجمع البحوث الإسلامية والأزهر بفكرة الإلزام برأي الأغلبية حيث نصت المادة (46) منه على أن تكون البيعة بالأغلبية المطلوبة لأصوات المشتركين في البيعة3685.
2 ـ معركة مرج راهط:(2/302)
تمخض مؤتمر الجابية عن انتقال الخلافة الأموية من البيت السفياني إلى البيت المرواني وانعقدت البيعة لمروان وحل مؤتمر الجابية، مشكلة الخلافة بين بني أمية ـ وكانت هذه خطوة حاسمة ولكن لم يكن تثبيت هذا الأمر سهلاً فلا زالت تعترضه صعوبات كبيرة، فالضحاك بن قيس، زعيم القيسيين المناصر لابن الزبير قد ذهب إلى مرج راهط وأنضم إليه النعمان بن بشير الأنصاري والي حمص وزفر بن الحارث الكلابي، أمير قنسرين، وكان واضحاً أنهم يستعدون لمواجهة الأمويين فكان على مروان أن يثبت أنه أهل للمسئولية وحمل أعباء الخلافة، والدفاع عنها وقد حقق أنصار مروان أول نجاح لهم بالاستيلاء على دمشق وطرد عامل الضحاك عنها، وكان أول فتح على بني أمية على حد تعبير ابن الأثير3686 ولم يضيع مروان وقتاً، فقد عبأ أنصاره من قبائل اليمن في الشام كلب وغسان والسكاسك والسكون، وجعل على ميمنته، عمرو بن سعيد، وعلى ميسرته عبيد الله بن زياد, واتجه إلى مرج راهط، فدارت المعركة الشهيرة التي حسمت الموقف في الشام لبني أمية ومروان حيث هزم القيسيون، أنصار بن الزبير، وقتل الضحاك بن قيس، وعدد كبير من أشراف قيس في الشام، واستمرت المعركة حوالي عشرين يوماً، وكانت في نهاية سنة 64 هـ ، وقيل في المحرم سنة 65 هـ3687.
أ ـ نتائج مرج راهط:
ـ أعادت هذه المعركة الملك لبني أمية بعد أن كان مهدداً بالزوال، وحوّلت السلطة من الفرع السفياني إلى الفرع المرواني.
ـ تخلص الأمويين من الضحاك بن قيس الذي كان يعتبر معارضاً قوياً للأمويين، وتابعاً مخلصاً لابن الزبير.
ـ سقطت قنسرين في يد الأمويين وهرب واليها زفر بن الحارث فتوجه إلى قرقيسيا وكان عليها عياض الحرثي حسب قول ابن الأثير.
ـ سقطت فلسطين وهرب ناتل بن قيس الجذامي إلى ابن الزبير.
ـ سقطت حمص وقتل واليها النعمان بن بشير3688.(2/303)
ـ اندلع الصراع بين اليمنية والقيسية ودخلت العصبية القبلية مسرح السياسة العليا للدولة وإذا كان يوم مرج راهط قد انتصر فيه الكلبيين فقد كان نصراً مؤقتاً، وكان الصراع بين العصبتين القيسية واليمنية من أسباب انهيار الدولة الأموية3689.
بـ ـ أسباب هزيمة القيسيين:
لم يرم ابن الزبير بثقله في تلك المعركة وكان عليه أن يجيش الجيوش ويمد أتباعه بالرجال والأموال والسلاح ليقضي على المعارضين بالشام عندما كانت المعارضة لم توحد صفوفها بعد.
ـ اعتماد مروان على رجال دهاة خبراء في الحرب من أمثال حصين بن نمير وعمرو بن سعيد.
ـ عدم اشتراك أتباع ابن الزبير في الشام كلهم، فقد شارك ولاة الشام التابعين لابن الزبير بأعداد من الجنود فقط.
ـ ترك الضحاك مدينة دمشق بدون قوة تستطيع المحافظة عليها رغم أهميتها، وهذا سهل للأمويين الاستيلاء عليها وعلى ما فيها من أموال مكنت الأمويين من الاستفادة من هذا الخطأ3690.
جـ ـ بكاء مروان بن الحكم في مرج راهط:(2/304)
وروي أن مروان بن الحكم لما جيء برأس الضحاك إليه ساءه ذلك وقال: الآن حين كبرت سني ودق عظمي، وصرت في مثل ظمء الحمار3691، أقبلت بالكتائب أضرب بعضها ببعض3692 وروي أنه بكى على نفسه يوم مرج راهط3693: أبعد ما كبرت وضعفت صرت إلى أن أقتل بالسيوف على الملك3694 وفي رواية عن مالك قال: قال مروان: قرأت كتاب الله منذ أربعين سنة، ثم أصبحت فيما أنا فيه من إهراق الدماء، وهذا الشأن3695. إن ندم مروان في مثل هذا الموقف وبعد أن تحقق له، وتأكدت له طرق الحكم، وتمهدت له سبل الوصول إلى غايته لدليل قاطع على ما كان يجيش به قلب مروان من عامل الخير، لقد كان هذا النصر جديراً أن ينسيه كل منغصات الحياة، وكان فوزه بالخلافة حقيقاً بأن ينفي عنه كل ما يسبب له الندم، ويعكر له الصفو، فما بال مروان يندم وهو في هذه الظروف التي تزيل الهم عن النفس وتبعد الندم3696، لطالبي الملك والزعامة والسلطان وأغلب الظن أنه تورط في طلبه للخلافة، ودفعه إلى هذا المستنقع الآسن أناس لهم مصالح دنيوية لا تخفي، فشعر بوخز الضمير وخاف على نفسه من سوء الخاتمة بعد أن ولغت يده في دماء المسلمين من أجل الحطام الزائل.
ثالثاً : ضم مصر إلى الدولة الأموية ومحاولة إعادة العراق والحجاز:(2/305)
مكّن انتظار مروان في معركة مرج راهط لدولته في الشام فبسط نفوذه عليها، وكانت خطواته التالية المسير إلى مصر لاستردادها من عامل ابن الزبير، وكانت هذه خطوة تدل على ذكاء مروان، فلمصر أهميتها الكبيرة واستيلاؤه عليها يدعم موقفه في مواجهة ابن الزبير، ولم يكن استيلاؤه عليها صعباً، فمعظم المصريين هواهم مع بني أمية، وبيعتهم لابن الزبير لم تكن خالصة وإنما كانت بيعة ضرورة3697، ودعا مروان شيعة بني أمية بمصر سراً3698وهذا ما يفسر سهولة استيلاء مروان على مصر فقد سار إليها بجيشه، ومعه عمرو بن سعيد، وخالد بن يزيد بن معاوية وحسان بن مالك ومالك بن هبيرة وابنه عبد العزيز 3699، ودارت بين مروان وابن جحدم عدة معارك انتصر فيها مروان وهرب ابن جحدم، ثم جاء إلى مروان طالباً العفو على أن يخرج إلى مكة، فعفا عنه، وكان نجاح مروان في استرداد مصر من جمادي الآخرة سنة 65هـ3700، وأقام في مصر شهرين لترتيب الأوضاع والاطمئنان عليها، ولما عزم على العودة إلى الشام عين ابنه عبد العزيز والياً عليها، وأوصاه وصية تدل على حنكة سياسية، وخبرة واسعة، وكان عبد العزيز قد توجس وأخذته وحشة من بقائه في مصر فقال لأبيه: يا أمير المؤمنين كيف المقام ببلد ليس به أحد من بني أبي؟ فقال له: يا بني عمهم بإحسانك يكونوا كلهم بني أبيك واجعل وجهك طلقاً تصف لك مودتهم، وأوقع إلى كل رئيس منهم أنه خاصتك دون غيره، يكن لك عيناً على غيره، وينقاد قومه إليك وقد جعلت معك أخاك بشراً مؤنساً، وجعلت موسى بن نصير وزيراً ومشيراً وما عليك يا بني أن تكون أميراً بأقصى الأرض، أليس أحسن من إغلاق بابك وخمولك في منزلك3701؟ بعد رجوع مروان بن الحكم قافلاً من مصر أقدم على تجهيز حملتين ضد ابن الزبير في محاولة منه لإعادة العراق والحجاز، فكانت الحملة ضد العراق بقيادة عبيد الله بن زياد وكانت مهمتها الأولى هي محاصرة زفر بن الحارث الكلابي والتخلص منه ثم التقدم نحو العراق،(2/306)
حيث مصعب بن الزبير ولكن هذه الحملة لم تحقق شيئاً من أهدافها في عهد مروان إذ سارع إليه الأجل وتوفى وهي في طريقها لمحاصرة زفر بن الحارث في قرقيسيا وعند مجيء عبد الملك أقر هذه الحملة التي سوف نعرض للحديث عنها فيما بعد، أما ما يتعلق بالحجاز فقد جهز مروان جيشاً من فلسطين يقدر بستة آلاف وأربعمائة فارس بقيادة حبيش بن دلجة القيني، وكان في الجيش الحجاج بن يوسف ووالده، اتجه هذا الجيش نحو الحجاز ولما وصل إلى وادي القرى هرب عامل بن الزبير على المدينة3702، واستمرت الحملة إلى عهد عبد الملك بن مروان3703.
رابعاً : تولية العهد لعبد الملك ووفاة مروان بن الحكم:(2/307)
ختم مروان بن الحكم أعماله بعقد البيعة لولديه عبد الملك بن مروان وعبد العزيز بن مروان مجسداً لمبدأ التوريث، وكان ذلك قبل وفاته بأقل من شهرين3704، وبعد نجاحه بإعادة مصر إلى الحكم الأموي، بدأ مروان بالتخطيط لاستبعاد خالد بن يزيد وعمرو بن سعيد الأشدق من ولاية العهد الذي قرر في مؤتمر الجابية، فتزوج أم خالد بن يزيد وعمل للحصول على موافقة حسان بن مالك بن بحدل الكلبي بتولية العهد لولديه وإبعاد خالد بن يزيد وعمرو بن سعيد الأشدق فوافقه حسان على ذلك، وقد كان عمرو بن سعيد الأشدق هو الذي كان يطالب بولاية العهد بعد مروان وأعلن ذلك بعد رجوعه من قتال مصعب بن الزبير عندما حاول إعادة ناتل بن قيس الجذامي إلى فلسطين3705، مما دعا مروان بن الحكم إلى أن يعهد لابنيه عبد الملك وعبد العزيز وذلك سنة 65هـ مستعيناً بحسان بن مالك بن بحدل بعد أن أخبره بما يردده عمرو بن سعيد بن الأشدق بأن الأخير هو ولي العهد فقال حسان: أنا أكفيك عمرو. لهذا جمع الناس وخطبهم فبايع الجميع لعبد الملك ثم لعبد العزيز ولم يتخلف أحد3706، ويعتبر بعض المؤرخين أن من أهم أعمال مروان بن الحكم تولية ولديه ولاية العهد، لولديه وذلك لحفظ الخلافة في البيت المرواني من جهة ولوضع حداً للتنافس على الخلافة بين بني أمية من جهة ثانية، ولتفادي المشاكل التي ربما تحدث بشأن الخلافة، كما حدثت بعد موت معاوية الثاني3707، والملاحظ أن مروان بن الحكم نقض بعض مقررات مؤتمر الجابية المتعلقة بولاية العهد ولم يلتزم بعهوده وكان راغباً في حصر الخلافة في أبنائه، فآثر إسقاط وعوده ونقضها على المحافظة على طموحاته ورغباته وأوجد معادلة فيها مطامع ومصالح مشتركة مع المعارضين له مما جعلهم يستجيبون لدعوته إلى تولية أبنائه ولاية العهد من بعده، فقد عمل على التحرش بخالد بن يزيد وتعمّد أهانته أمام الآخرين، بغية تحجيمه وإعطاء صورة للناس بعدم صلاحيته للخلافة ثم خطا الخطوة(2/308)
التالية فأخذ البيعة لولديه عبد الملك وعبد العزيز في بداية سنة 65هـ3708، لقد استطاع مروان بدهائه ومكره وجهوده المتوالية الخروج بأزمة الحكم الأموي من حالة الضياع إلى مركز الصدارة والقيادة، وهذا لم يكن حدثاً عادياً محدود التأثير، وإنما هو عودة جديدة للحكم بعد تثبيته في الشام ومصر من جهة، وتجريد السفيانيين من الخلافة وتحويلها إلى المروانيين من جهة ثانية، ولم يكن ثمة ما يحول دون استمرار التقدم عند ابنه عبد الملك لنزع الخلافة من الخليفة الشرعي عبد الله بن الزبير ثم يتفرغ للقيام بالعديد من الإصلاحات التي جعلته المؤسس والمجدد الحقيق لمؤسسات الدولة الأموية، وتعميق الحكم العضوض بها مع وجود بعض الحسنات التي لا تنكر للملك الأموي الجديد.
توفي مروان بن الحكم بدمشق لثلاث خلون من شهر رمضان سنة 65هـ وهو ابن ثلاث وستين سنه، وصلى عليه ابنه عبد الملك وكانت مدة حكمه تسعة أشهر وثمانية عشر يوماً ودفن بين باب الجابية وباب الصغير3709، وكان آخر ما تكلم به مروان: وجبت الجنة لمن خاف النار. وكان نقش خاتمه: العزة لله وفي رواية : آمنت بالله العزيز الرحيم3710، وقد اختلف في سبب وفاته إذ وردت ثلاث روايات فيها الأولى ـ ترى أنه توفي بالطاعون3711؟، وتذهب الأخرى إلى أن زوجته أم خالد بن يزيد سقته سماً فمات أو وضعت وسادته على رأسه حتى مات3712، وثالثة ترى أنه توفي وفاة طبيعية3713، إن تناقض الروايات تدل على أن الحقيقة غير معروفة، وأما الرواية التي تتهم زوجته بالقتل تبدو كأنها أسطورة مختلقة ردّدتها الألسن، إما حباً في الثرثرة وإما طعناً في الأسرة الأموية وهذه الرواية غير مقبولة للأسباب الآتية:
1 ـ أنه لم يعرف عن نساء العرب مثل هذا الفعل فضلاً عن كونها سيدة حرة شريفة تلتقي وإياه في عبد شمس .(2/309)
2 ـ مكانة مروان بن الحكم من قومه وتوليته الخلافة يجعل من الصعوبة بمكان الإقدام على مثل هذا الفعل له وذلك للنتائج المترتبة عليه فيما بعد.
3 ـ لم يظهر أي أثر لهذا الاغتيال في الأسرة الأموية وخاصة بين خالد بن يزيد وعبد الملك بن مروان، مما يدل على أن هذه الرواية غير صحيحة أما الرواية التي تشير إلى موته الطبيعي وإصابته بالطاعون فأنها محتملة لأنه كان قد تجاوز الستين من العمر3714، فضلاً عن الجهد الذي بذله في أواخر أيامه مما جعل التعويل على موته الطبيعي3715
المبحث الثالث : عبد الملك بن مروان وصراعه مع ابن الزبير:
أولاً اسمه ونسبه وكنيته وشيء من حياته:
1 ـ اسمه ونسبه وكنيته: هو عبد الملك بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، أبو الوليد الأموي وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية3716.
2 ـ مولده ووصفه: كان مولده ومولد يزيد بن معاوية في سنة ستٍّ وعشرين، وقد كان عبد الملك قبل الخلافة من العباد الزهاد الفقهاء، الملازمين للمسجد، التالين للقرآن، وكان ربعة من الرجال أقرب إلى القصر، وكانت أسنانه مشبكة بالذهب، وكان أفوه مفتوح الفم، فربَّما غفل فينفتح فمه فيدخل فيه الذباب، فلهذا كان يقال له: أبو الذِّبان وكان أبيض ربعة ليس بالنحيف ولا البادن، مقرون الحاجبين، أشهل3717 كبير العينين، دقيق الأنف، مشرق الوجه، أبيض الرأس واللحية حسن الوجه لم يخضب ويقال: إنه خضب بعد ذلك3718.
3 ـ طلبه للعلم وعبادته قبل الإمارة وثناء الناس عليه:(2/310)
…قال نافع: لقد رأيت المدينة ما فيها شاب أشدُّ تشميراً، ولا أفقه ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك بن مروان3719. وقال الأعمش عن أبي الزناد: كان فقهاء المدينة أربعة، سعيد بن المسيِّب، وعروة، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك قبل أن يدخل الإمارة3720، وعن ابن عمر أنه قال: ولد الناس أبناء وولد مروان أبا ـ يعني عبد الملك3721 ـ ويقصد ابن عمر أن عبد الملك كان يفوق سنه، ويعلو فوق أقرانه3722، وعن يحي بن سعيد قال: أول من صلّى ما بين الظهر والعصر عبد الملك بن مروان وفتيان معه. فقال سعيد بن المسيب: ليست العبادة بكثرة الصلاة والصيام، إنما العبادة التفكر، في أمر الله، والورع عن محارم الله3723. وقد صدق رحمه الله. وقال الشعبي: ما جالست أحداً إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك ابن مروان، فإنِّني ما ذاكرته حديثاً إلا زادني فيه، ولا شعراً إلا زادني فيه3724.
4 ـ تعظيمه لاسم الله تعالى: روى البيهقي: أن عبد الملك وقع منه فلس في بئر قذرة، فاكترى عليه بثلاثة عشر ديناراً حتى أخرجه منها، فقيل له في ذلك، فقال: إنه كان عليه اسم الله عز وجل3725.
5 ـ التسبيح والتكبير في الأسفار: روى ابن أبي الدينا، أن عبد الملك كان يقول لمن يسايره في سفره إذا رفعت له شجرة سبِّحوا بنا حتى نأتي تلك الشجرة، وكبَّروا بنا حتى نأتي تلك الحجر، ونحو ذلك3726.
6 ـ هل يصح هجره للقرآن الكريم؟ قيل: إنه لمّا وضع المصحف من حجره قال: هذا آخر العهد منك3727. وهذه رواية ضعفها ابن كثير ورواها بصيغة التمريض قيل3728، كما أن عبد الملك قال لمؤدِّب أولاده وهو إسماعيل بن عبيد الله ابن أبي المهاجر:ـ علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن3729.
7 ـ ما آدب هذا الفتى وأحسن مرؤته:(2/311)
روى ابن سعد ما يدل على أن عبد الملك كان محبوباً مرغوباً من عمومته كبار بني أمية، فذكر أنه: كان معاوية بن أبي سفيان جالساً يوماً ومعه عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فمر بهما عبد الملك بن مروان فقال معاوية: ما آدب هذا الفتى وأحسن مرؤته فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، إن هذا الفتى أخذ بخصال أربع وترك خصالاً ثلاثاً: أخذ بحسن الحديث إذا حدّث، وحسن الاستماع إذا حُدِّث وبحسن البشر إذا لقي، وخفة المؤونة إذا خولف، وترك من القول ما يعتذر عنه، وترك مخالطة اللئام من الناس وترك ممازحة من لا يوثق بعقله ولا مروءته3730.
8 ـ وصيته لمؤدب أولاده: قال عبد الملك لمؤدِّب أولاده ـ وهو إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجرـ علمهم الصِّدق كما تعلمهم القرآن، وجنبهم السَّفِلَةَ فإنهم أسوأ الناس رِعة3731 ، وأقلهم أدباً، وجنِّبهن الحشم، فإنَّهم بهم مفسدة، وأحفِ شعورهم تغلظ رقابهم، وأطعمهم اللحم يقْوَوا وعلمهم الشعر يمجُدُوا وينجُدُوا ومُرْهم أن يستاكوا عَرْضاً ويمصوا الماء مصَّاً ولا يُعبُّوا عبّاً، وإذا احتجت أن تتناولهم بأدب فليكن ذلك في سرٍّ لا يعلم بهم أحد من الحاشية فيهونوا عليهم3732.
9 ـ موقفه من ابن الزبير قبل الإمارة وبعدها:(2/312)
…فقد كان له من ابن الزبير موقفان متناقضان: أما الأول: فكان قبل أن يتولى الخلافة يستعيذ بالله أن يبعث خليفة إلى مكة جيشاً ليقتل ابن الزبير ومن معه، وكان يرى في ذلك إثماً كبيراً3733، قال يحي الغساني: لما نزل مسلم بن عقبة المدينة، دخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست إلى جنب عبد الملك فقال لي عبد الملك: أمن هذا الجيش أنت؟ فقلت: نعم قال: ثكلتك أمك!! أتدري إلى من تسير؟ إلى أول مولود ولد في الإسلام (بعد الهجرة) وإلى ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى ابن ذات النطاقين، وإلى من حنّكه رسول الله صلى اله عليه وسلم، أما والله لو جئته نهاراً لوجدته صائماً، ولئن جئته ليلاً لوجدته قائماً، فلو أن أن أهل الأرض أطبقوا على قتله لأكبَّهم الله جميعاً في النار3734. وأما موقفه الثاني: فكان بعد الخلافة ويأتي عكس الأول تماماً، عندما جهز عبد الملك جيشاً يقوده الحجاج بن يوسف الثقفي، وبعث به إلى مكة حيث كان يتحصن ابن الزبير بالكعبة، وظل محاصراً مكة حتى قُتل عبد الله بن الزبير3735.
ثانياً : حياته السياسية قبل الأمارة :(2/313)
…كان أول حادث سياسي أثر في حياته عندما كان عمره عشر سنوات، فقد شهد مقتل عثمان رضي الله عنه، وكان لهذا الحادث اثر في سياسته لما تولى الإمارة فقد خطب في إحدى خطبه: أيها الناس أنا نحتمل لكم كل اللغوبة ما لم يكن رأيه أو وثوب على منبر3736. وأول منصب إداري تولاه في الدولة في عهد معاوية بن أبي سفيان، فقد كان عاملاً على هجر3737 ثم تولى ديوان المدينة بعد وفاة زيد بن ثابت3738، وشارك في الجهاد فقد خرج على رأس حملة إلى أرض الروم ويشتي هناك في سنة 42هـ3739،كما يذكر أنه غزا إفريقية مع معاوية بن حديج وكلفه بفتح جلولا في بلاد الشمال الإفريقي وفي عهد يزيد كان يقول على ابن الزبير ما على الأرض اليوم خيراً منه3740، كما أن علاقته بمصعب بن الزبير كانت حسنة، وأما عن دوره السياسي في عهد مروان بن الحكم، فقد تولى فلسطين وكان يبعث نائباً عنه روح بن زنباع3741 ، ويمكن أن يكون ذلك ليبقى في دمشق قريباً من إدارة الدولة لمساعدة والده هناك لاسيما أن الفترة التي تولى فيها والده الحكم كانت الدولة محاطة فيها بالأعداء من الداخل والخارج، وتولى أمرة دمشق عند ذهاب والده لفتح مصر3742، وهذه المهمة تدل على كفايته الإدارية وحزمه3743.
ثالثاً : العلماء الذين كانوا مع عبد الملك:
…بايع بعض العلماء لعبد الملك بن مروان بالشام وكانوا قلة لا يعدون شيئاً أمام العلماء الذين بايعوا ابن الزبير أو الذين اعتزلوا حتى تجتمع الأمة على خليفة، وانحصر وجود هؤلاء في إقليم الشام، وقد ذكر من هؤلاء العالم الجليل قبيصة بن ذؤيب ـ رحمه الله ـ فكان من المبايعين لعبد الملك وأحد المقربين إليه3744، ومنهم يزيد بن الأسود الجرشي ـ رحمه الله ـ فورد أنه كان مع عبد الملك في خروجه لقتال مصعب بن الزبير وروي عنه أنه حين رأى الجيشين قد التقيا قال: اللهم أحجز بين هذين الجبلين وول الأمر أحبهما إليك3745.
رابعاً : حركة التوابين ومعركة عين الوردة 65هـ:(2/314)
…عندما عمّ الاضطراب أنحاء البلاد بعد موت يزيد وفرار عبيد الله بن زياد، شرع أنصار الحسين يتصلون ببعضهم البعض بهدف وضع خطة للثأر لدمه، إذ بعد استشهاده هزتهم الفاجعة وندموا على تقاعسهم عن نصرته، والدفاع عنه، معترفين بخطيئتهم بحماسة شديدة، لذلك لم يجدوا وسيلة يكفرون بها عن هذا التقصير ويتوبون إلى الله بها من هذا الذنب الكبير سوى الثأر للحسين3746، وأخذ الشيعة يعقدون الاجتماعات برئاسة سليمان بن صرد الخزاعي لدراسة الموقف، وأسلوب العمل الذي سيتبعونه وغلب على هذه الاجتماعات موضوع التوبة والغفران، وثم شرعوا في تجييش الناس، وخرج التوابون من معسكرهم في النخيلة في شهر ربيع الأول 65هـ وهو الموعد الذي حددوه لخروجهم وكانت المحطة الأولى في مسيرتهم الانتقامية في كربلاء حيث بلغوا قبر الحسين فاسترحموا عليه وبكوا وتابوا عن خذلانهم له، وبعد يوم وليلة من البكاء كان الحماس قد أخذ منهم حق العمق، فقرروا السير إلى الشام لقتال عبيد الله بن زياد باعتباره الرجل الذي أصدر الأمر بقتل الحسين، لأنهم وجدوا أنه الطريق الأجدى لتحقيق الانتقام3747، ومرّ جيش التوابين ببلدة هيت على الفرات ثم صعد مع النهر إلى أن وصل إلى قرقيسياء3748. وكانت هذه المدينة هي أبعد المناطق في هذا الاتجاه التي اعترفت ولو اسمياً ببيعة ابن الزبير3749، واستقبل أمير قرقيسياء زفر بن الحارث الكلابي، جيش التوابين بحماسة خاصة وأنه قد جمعت الفريقين مصلحة مشتركة هي مقاتلة الأمويين واقترح زفر عليهم توحيد صفوفهم مع أنصار ابن الزبير، إلا أنهم اعتذروا عن قبول اقتراحه كما رفضوا نصيحته بالعدول عن قرارهم الانتحاري، واكتفوا بالتزود بما يحتاجون إليه من المدينة ثم مضوا إلى مصيرهم3750، والتقى التوابون بالجيش الأموي في عين الوردة من أرض الجزيرة إلى الشمال الغربي من صفين في عام 65هـ وخاضوا ضده معركة ضارية غير متكافئة بفعل قلة عددهم بالمقارنة مع عدد أفراد الجيش(2/315)
الأموي، أسفرت عن تدميرهم ومقتل زعمائهم باستثناء رفاعة بن شداد الذي تراجع بالبقية القليلة منهم إلى الكوفة3751وقد علق الذهبي على سليمان بن صرد زعيم جيش التوابين بقوله: كان ديناً عابداً، خرج في جيش تابوا إلى الله من خذلانهم الحسين الشهيد، وساروا للطلب بدمه، وسُمُّوا جيش التوابين3752. وعلق ابن كثير على جيش التوابين بقوله: لو كان هذا العزم والاجتماع قبل وصول الحسين إلى تلك المنزلة لكان أنفع له وأنصر من اجتماعهم لنصرته بعد أربع سنين3753، وكان عمر سليمان بن صرد رضي الله عنه يوم قتل ثلاثاً وتسعين سنة3754.
والحق أن الإنسان يقف مبهوراً أمام شجاعة التوابين وجرأتهم فقد كان عددهم لا يتجاوز أربعة الآف رجل، وخاضوا هذه المعركة بإيمان صادق، وعقيدة راسخة، وشجاعة نادرة، وصبر فائق، مع عشرين ألف جندي على اقل تقدير من أهل الشام، وأنزلوا بهم خسائر فادحة في الأرواح، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة حتى خاضوا في الدماء، ولولا كثرة جيش الشام، حتى استطاعوا أن يلتفوا حولهم، ويضربوا عليهم طوقاً، وأحاطوا بهم من كل جانب، ثم رموهم بالنُّبل لما استطاعوا الانتصار عليهم3755، ولكنا إزاء هذا الإعجاب بشجاعتهم، وإخلاصهم وتقانيهم في القتال، لا نملك إلا أن نتساءل، أين كانت هذه الشجاعة يوم تركوا الحسين رضي الله عنه ـ يواجه الموت هو وأهل بيته، دون أن يتحرك منهم أحد3756؟ وأما أهم أسباب فشل التوابين فهي:
1 ـ قلة عددهم إذا قورنوا بجيش الشام، فكان عدد التوابين أربعة الآف مقاتل بينما كان جيش خصمهم الذين اشتبكوا معهم عشرين ألفاً عدا من كان ينتظر مع عبيد الله بن زياد على سبيل الاحتياط.
2 ـ ضعف التوابين من الناحية العسكرية، فلا نستطيع أن نقارن أي واحد من قادة التوابين بقدرة ابن زياد أو حصين بن نمير من حيث الخبرة والقدرة العسكرية، وهذا يتفق مع وصف المختار الثقفي لسلمان بن صرد: إن سليمان رجل لا علم له بالحرب وسياسة الرجال3757.(2/316)
3 ـ تخاذل التوابين عن الاشتراك، فعندما أحصى ابن صرد من بايعوا وجدهم ستة عشر ألفاً عداً أهل المدائن والبصرة الذين لم يتم تنسيقهم مع الآخرين مع أن المشركين في القتال هم أربعة الآف .
4 ـ عدم اشتراك المختار الثقفي في القتال وليت الأمر كذلك ولكنه كان يثبط الناس عن سليمان بن صُرد3758.
خامساً: حركة المختار بن أبي عبيد الثقفي:
هو المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذَّاب، كان والده الأمير أبو عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة الثقفي، أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم نعلم له صحبة استعمله عمر بن الخطاب على جيشٍ، فغزا العراق، وإليه تنسب وقعة جسر أبي عبيد، ونشأ المختار، فكان من كبراء ثقيف، وذوي الرأي، والفصاحة، والشجاعة والدّهاء وقلة الدين3759، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: يكون في ثقيف كذاب ومبير3760، فكان الكذاب هذا، ادَّعى أنَّ الوحي يأتيه، وأنه يعلم الغيب، وكان المبير الحجاج، قبّحهما الله3761، ظهر المختار بن أبي عبيد الثقفي على مسرح الأحداث بعد موت يزيد بن معاوية سنة 64هـ، وهو من الشخصيات التي حفل بها العصر الأموي، والتي كانت تسعى لها عن دور، وتسعى إلى السلطان بأي ثمن، فتقلب من العداء الشديد لآل البيت إلى ادعاء حبهم والمطالبة بثأر الحسين3762. فقد مر بنا في كتابي عن الحسن بن علي بن أبي طالب بأنه أشار على عمه سعد بن مسعود الثقفي بالقبض على الحسن بن علي وتسليمه إلى معاوية، لينال بذلك الحظوة عنده3763، ثم حاول الاتصال بعبد الله بن الزبير والانضمام إليه، وشرط عليه شروطاً، منها أن يكون أول داخل عليه وألا يقضي الأمور دونه، وإذا ظهر استعان به على أفضل أعماله3764، وباختصار أراد أن تكون له كلمة في دولته، ولكنه لم يجد تجاوباً من ابن الزبير، فانصرف عنه إلى الكوفة3765، حيث كان الأمر فيها مضطرباً فأراد أن يصطاد في المياه العكرة، ولم يجد فيها ورقة رابحة سوى الادعاء بالمطالبة بدم(2/317)
الحسين وآل البيت وأدعى أن لديه تفويضاً بذلك من محمد بن على بن أبي طالب، الملقب بابن الحنفية، ولكنه لم يكن صادقاً في ذلك، بل قرر أن يركب تيار الشيعة ليصل إلى هدفه وهو الحكم والسلطان. وقد عبر هو نفسه عن ذلك في حواره مع رجال من رجاله الذين أخلصوا له، وكانوا يظنونه صادقاً في دعوته للثأر لآل البيت، وهو السائب بن مالك الأشعري. فقد قال له المختار عندما ضيق عليه وصعب الخناق واقتربت نهايته. ماذا ترى؟ فقال له السائب الرأي لك؟ قال: أنا أرى أم الله يرى: قال: الله يرى قال: ويحك أحمق أنت! إنما أنا رجل من العرب رأيت ابن الزبير انتزى على الحجاز، ورأيت نجدة انتزى على اليمامة ومروان على الشام، فلم أكن دون أحد من رجال العرب، فأخذت هذه البلاد، فكنت كأحدهم إلا أني قد طلبت وبالغت في ذلك إلى يومي هذا، فقاتل على حسبك إن لم تكن لك نية فقال السائب: إنا لله وإنا إليه راجعون3766. قال السائب ذلك لما تبين له أن المختار صنع كل ما صنع من أجل السلطان وحده، ولذلك يصف الذهبي المختار بالكذب وقلة الدين3767، ظهر المختار في الكوفة في الوقت الذي كان فيه سليمان بن صرد الخزاعي زعيم التوابين يستعد للذهاب إلى الشام، لقتال عبيد الله بن زياد، فحاول تثبيط الناس عنه، وقد نجحت دعايته وتجمع حوله نحو ألفين من الشيعة وبقيت غالبيتهم مع سليمان بن صرد، وكانت نتيجة معركة عين الوردة من مصلحة المختار، فقد جاءته مصدقة لتوقعاته كما أنه انفرد بزعامة الشيعة ولجأ إليه الفارون من المعركة، فقويت حركته وكثر أتباعه، ثم ازداد مركزه قوة بانضمام إبراهيم بن الأشتر النخعي إليه، وهو من زعماء الكوفة فثار على عبد الله بن مطيع العدوي، أمير الكوفة من قبل عبد الله بن الزبير فأخرجه منها وأحكم سيطرته عليها.
ـ قضاء المختار على قتلة الحسين:(2/318)
…ولكي يثبت دعواه في صحة دعوته في المطالبة بدم الحسين، فقد تتبع قتلته فقتل معظمهم في الكوفة3768، ثم أعد جيشاً جعل على قيادته إبراهيم الأشتر، وأرسله إلى قتال عبيد الله، فالتقى به عند نهر الخازر بالقرب من الموصل وحلت الهزيمة بجيش ابن زياد، الذي خرّ صريعاً في ميدان المعركة سنة 67هـ3769.
وقد قال ابن مفرّغ حين قتل ابن زياد:
…………إن المنايا إذا مازُرن طاغية
…………………هتّكن أستار حُجّاب وأبواب
…………أقول بُعداً وسحقاً عند مصرعه
…………………لابن الخبيثة وابنِ الكوْدن الكابي3770
…………لا أنت زُوحِمت عن مُلك فتمنعهُ
…………………ولا متَتَّ إلى قوم بأسباب3771
…وقد شرع المختار في تتبع قتلة الحسين ومن شهد الوقعة بكربلاء من ناحية ابن زياد، فقتل منهم خلقاً كثيراً، وظفر برؤوس كبار منهم، كعمر بن سعد بن أبي وقاص أمير الجيش الذين قتلوا الحسين، وشمر بن ذي الجوشن أمير الألف، الذين وَلُوا قتل الحسين، وسنان بن أبي أنس، وخوليّ بن يزيد الأصبحيِّ، وخلقاً غير هؤلاء3772. وكان مقتل عبيد الله بن زياد في يوم عاشوراء سنة سبع وستين، ثم بعث إبراهيم بن الأشر برأس بن زياد إلى المختار3773، وتعاظم نفوذ المختار بعد انتصار جيشه على جيش ابن زياد، وسيطر على شمال العراق والجزيرة وجعل يولي العمال من قبله على الولايات3774، ويجبي الخراج، وانضم إليه عدد كبير من الموالي لبغضهم لبني أمية من ناحية3775، ولأنه أغدق عليهم الأموال من ناحية ثانية3776. وبدا كما لو أنه أقام دولة خاصة به في العراق بين دولتي ابن الزبير في الحجاز، وعبد الملك بن مروان في الشام3777.
1 ـ أسباب نجاح حركة المختار في مرحلتها الأولى:
…نجحت حركة المختار في بداية الأمر للأسباب الآتية:(2/319)
أ ـ الأرضية الملائمة، حيث العواطف ثائرة والنفوس مشحونة في وقت كانت حركة التوابين تلقى مصيرها الذي اختارت، عبر عملية استشهادية في نظر التوابين كان لها صداها المأساوي في الكوفة، ومن ناحية أخرى، فإن ابن الزبير لم يدعم وجوده بالكوفة بالجيوش وإغداق الأموال والتلطف للأعيان والأشراف والزعماء، وكانت وجهة نظره معتمد على ترك تطاحن الأمويين مع أتباع المختار وما يترتب على ذلك من استنزاف لهما، بكون ابن الزبير هو المستفيد من نتائج ذلك التطاحن3778.
ب ـ تودد المختار لبني هاشم، فكان يرسل الهدايا لهم، وعمل على كسبهم3779.
جـ ـ الشخصية القيادية البارزة التي تمتع بها المختار في الوقت الذي غابت فيه عن الكوفة الزعامة السياسية المحورية، القادرة على توحيد اتجاهات الحركة الشيعية واستيعاب التطورات المتلاحقة، ولا نهمل المكر والدهاء والمرونة، والقدرة على استثمار الأحداث من مقتل الحسين، وحجر بن عدي، والتوابين وتوظيف ذلك، كما امتازت شخصية المختار بقدرتها على المناورة3780.
ت ـ البرنامج العملي الذي تقدم به، كان المدخل الاستقطابي لشريحة عريضة في المجتمع كانت مضطهدة ومسحوقة وهي شريحة الموالي التي وجدت في حركته المتنفس لتحقيق أهدافها في المساواة وتحسين أوضاعها الاجتماعية3781.
س ـ سوء اختيار ابن الزبير لعماله في الكوفة، ويبدو أنهم لم يكونوا على قدر المرحلة ولذلك انفلتت الأمور من أيديهم في الكوفة3782.
2 ـ نهاية المختار على يد مصعب بن الزبير:(2/320)
… كان من المتوقع أن تكون نهاية المختار على يد عبد الملك الذي وتره بقتل ابن زياد أبرز أعوانه ولكن عبد الملك كان من الدهاء بحيث أدرك أن ابن الزبير وإن كان قد اسعده ظهور المختار في البداية وقهره لجيش عبد الملك3783، إلا أنه لن يسمح لنفوذه أن يتسع ويهدد دولته، وأنه لا بد أن يتحرك للقضاء عليه، فآثر الانتظار وترك ابن الزبير يواجه المختار، لأن نتيجة المواجهة ستكون في صالحه، فسوف يقضي أحدهما على صاحبه، ومن يبقى، تكون قوته، قد ضعفت فيسهل له القضاء عليه، وقد حدث ما توقعه عبد الملك، فإن المختار لم يكتف بانتصاره على جيش عبد الملك وبسط نفوذه على شمال العراق والجزيرة، بل أخذ يعد نفسه للسير إلى البصرة لانتزاعها من مصعب بن الزبير الذي أصبح والياً عليها من قبل أخيه عبد الله بعد أن بايعه أهلها، وهنا أصبح الصدام محتوماً بين المختار وآل الزبير3784، فسار مصعب بن الزبير بنفسه إلى قتال المختار في جيش هائل فحاصره بالكوفة وضيق عليه ومازال حتى أمكن الله منه، فقتله واحتزَّ رأسه، وأمر بصلب كفِّه على باب المسجد، وبعث مصعب برأس المختار مع رجل من الشُّرَط على البريد إلى أخيه عبد الله بن الزبير، فوصل مكة بعدَ العشاءِ فوجد عبد الله يتنفَّل، فما زال يصلِّي حتى أسحر ولم يلتفت إلى البريد الذي جاء بالرأس فقال ألقه على باب المسجد، فألقاه ثم جاء فقال: جائزتي يا أمير المؤمنين. فقال: جائزتك الرأس الذي جئت به تأخذه معك إلى العراق. ثم زالت دولة المختار كأن لم تكن، وكذلك سائر الدول، وفرح المسلمون بزوالها وذلك لأنّ الرجل لم يكن في نفسه صادقاً، بل كان كاذباً، وكاهناً، وكان يزعم أن الوحي ينزل عليه على يد جبريل يأتي إليه3785، وعن رفاعة بن شدّاد قال: كنت أقوم على رأس المختار، فلمّا عرفت كذبه هممت أن أسُلَّ سيفي فأضرب عنقه، فذكرت حديثاً حدّثناه عمرو بن الحمق قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أمَّن رجلاً على(2/321)
نفسه فقتله، أعطي لواء غدر يوم القيامة3786، وقد قيل لابن عمر: إن المختار يزعم أن الوحي يأتيه. فقال: صدق، قال الله تعالى: ((وإنَّ الشياطين ليوحون إلى أوليائهم)) الأنعام ، الآية: 120). وعن عكرمة قال: قدمت على المختار، فأكرمني وأنزلني حتى كان يتعهد مبيتي بالليل، قال: فقال لي: اخرج فحدِّث الناس. قال: فخرجت فجاء رجل فقال: ما تقول في الوحي؟ فقلت: الوحي وحيان، قال الله تعالى: ((بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ)) (يوسف ، الآية : 3) وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا)) (الأنعام ، الآية : 112) قال: فهمُّوا بي أن يأخذوني، فقلت: ما لكم وذاك، إنِّي مفتيكم وضيفكم، فتركوني، وإنما أراد عكرمة، أن يعرّض بالمختار وكذبه في إدّعائه أن الوحيّ ينزل عليه3787قال ابن كثير: وذكر العلماء أن الكذَّاب هو المختار بن أبي عبيد، وكان يظهر التشيع ويبطن الكهانة ويُسّرُ إلى أخصّائه أنّه يوحى إليه. ولكن ما أدرى هل كان يدّعي النبوة أم لا؟، وكان قد وضِع له كرسي يُعَظَّمُ ويُحَقُّ بالرجال ويُسَترُ بالحرير، ويحمل على البغال، وكان يُضاهي به تابوت بني إسرائيل المذكور في القرآن، ولا شك أنَّه كان ضَالاًّ مضالاًّ، أراح الله المسلمين منه بعدما انتقم به من قوم آخرين من الظالمين3788، قال تعالى ((وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) (الأنعام ، الآية : 129)، وتسليط الظالم على الظالم سنة من سنن الله في حركة المجتمعات واضحة المعالم في دراسة تاريخ الإنسانية.
3 ـ أسباب فشل حركة المختار:
أ ـ نفور أشراف العرب في الكوفة وما يمثلون من حول وقوة وقتالهم له، ثم توجه من سلم إلى مصعب بن الزبير في البصرة واشتراكهم معه في القتال ضد المختار.(2/322)
ب ـ إصابته بالغرور بحيث أنه طرد عمر بن علي بن أبي طالب لأنه لم يحظر له كتاباً من ابن الحنفية حيث قال له: انطلق حيث شئت فلا خير لك عندي3789، فتركه وذهب إلى مصعب ليعود معه ليقاتله.
جـ ـ تجهيز مصعب جيشاً كبيراً وانضمام المهلب بن أبي صفرة واشتراكه معه في القتال. بينما لم يشترك قائد المختار إبراهيم بن الأشتر ولذلك لم يكن القتال متعادلاً
ح ـ اكتشاف كذب المختار، فقد قال الشعبي بأن ابن الحنفية لم يرسل مع المختار كتاباً لابن الأشتر3790، ولم تخف الرسالة عليه فقد شك فيها لولا من شهد مع المختار، وقد عرف أشراف العرب ذلك وقالوا: هذا كذاب3791.
س ـ تخلي ابن الحنفية عن المختار، فقد قام على باب الكعبة وقال: أنه كان كذاباً يكذب على الله ورسوله3792، بل أكثر من ذلك فقد روى الطبري إن ابن الحنفية كتب إلى شيعته: فاخرجوا إلى المجالس والمساجد فاذكروا الله علانية وسراً ولا تتخذوا من دون المؤمنين بطانة، فإن خشيتم على أنفسكم فاحذروا على دينكم الكذابين3793.
ش ـ ابتداع المختار لأمر غريب في الإسلام إلا وهو الكرسي، فقد جاء بكرسي ثم قال لأصحابه: إنه لم يكن في الأمم الخالية أمراً إلا وهو كائن في هذه الأمة مثله، وإنه كان في بني إسرائيل التابوت فيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وإن هذا فينا مثل التابوت، اكشفوا عنه، فكشفوا عنه أثوابه، وقامت السبئية فرفعوا أيديهم فكبّروا ثلاثاً3794.
ع ـ حاجة ابن الزبير الماسة إلى العراق فهي مصدر المال والرجال الوحيد بعد ضياع الشام ومصر، وبقاء المختار في العراق يهدد مكانته وتقطع عليه الوصول إلى بلاد فارس التي لاتزال على طاعته3795.
4 ـ الفرقة الكيسانية وعلاقتها بالمختار:(2/323)
…أما كيسان المنسوبة إليه3796 مختلف فيه، لكن الذي لا خلاف عليه أن المختار ابن أبي عبيد الثقفي تزعم الفرقة سنة 66هـ بالكوفة وكانت الفرقة الكيسانية من الشيعة الغلاة، وكان المختار الثقفي أول من أكد فكرة المهدية في شخص محمد بن الحنفية حيث أطلق عليه لقب المهدي، كما استخدم فكرة (البداء) وقد اشتهرت هذه المقولة قبيل قتل المختار 67هـ وكان المختار ـ أيضاً ـ يقول بالبداء الذي هو من أصول الرافضة الأولى، فإن المختار كان قد تكهن بنصر أصحابه، فلما انهزموا زعم أن الله بدا له3797، وبهذه الفكرة الشيطانية مكنته من تغيير آرائه من حين لآخر ـ هذا فضلاً عن إظهار نفسه بمظهر النبي وإقراره لفكرة الكرسي الذي ادعى أنه يعود للإمام علي رضي الله عنه إلى غير ذلك من الآراء المبتدعة3798، وقد تطورت معتقدات الكيسانية ودخلوا في النفق الشيطاني المظلم، وكانوا يقولون بإمامة ابن علي المعروف بابن الحنفية، لأنه دفع إليه الراية بالبصرة3799.وقالوا بالتناسخ ويزعمون أن الإمامة جرت في علي ثم في الحسن ثم في الحسين ثم في محمد بن الحنفية، ومعنى ذلك أن روح الله صارت في النبي صلى الله عليه وسلم، وروح النبي صلى الله عليه وسلم صارت في علي، وروح الحسين صارت في محمد بن الحنفية، وروح ابن الحنفية صارت في ابنه أبي هاشم3800. ويعتقدون في ابن الحنفية اعتقاد فوق حده ودرجته، من: احاطته بالعلوم كلها، واقتباسه من (السيدين) الأسرار بجملتها من علم التأويل والباطن وعلم الآفاق والأنفس3801. والحق أن ابن الحنفية لم يقر الغلو الذي قيل فيه، ولم يعترف بأنه المهدي المنتظر، وروى ابن سعد حديثاً رفعه إلى أبي العريان المجاشعي قال: فبلغ محمداً أنهم يقولون: إن عندهم شيئاً أي من العلم. قال: فقام فينا وقال: إنا والله ما ورثنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما بين هذين اللوحتين. ثم قال: اللهم خلا وهذه الصحيفة في ذؤابة سيفي فسألت وما كان في الصحيفة؟ قال:(2/324)
من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً3802. وقال محمد للرجل الذي قابله وسأله عن أشياء سرية نميت إلى الرجل عن محمد: أما بعد فإياكم وهذه الأحاديث فإنها عيب عليكم، وعليكم بكتاب الله، فإنه به هُدِي أولكم وبه يُهدي آخركم3803.. ويظهر أن المختار هو الذي روّج فكرة مهدية محمد لأسباب سياسية أي أنه أراد يحكم باسمه دون إشراكه بالسلطة الفعلية. وعندما هم ابن الحنفية أن يقدم إلى الكوفة، وبلغ ذلك المختار فثقل عليه قدومه فقال: إن في المهدي علامة، يقدم بلدكم هذه فيضربه رجل في السوق بالسيف لم تضره.. فبلغ ذلك ابن الحنفية فأقام3804
وقال كثير بن عزّة في ابن الحنفية:
…………ألا إن الأئمةَّ من قريش
…………………ولاة الحقِّ أربعة سواء
…………عليُّ والثلاثة من بنيه
…………………هم الأسباط ليس بهم خفاء
…………فسبط سبط إيمان وبرِّ
…………………وسبط غيَّبته كربلاء
…………وسبط لا تراه العين حتى
…………………يقود الخيل يقدمها لواء
…………تغيب ـ لا يُرى عنهم زمانا
…………………برضوى عنده عسل وماء3805.
سادساً : حركة عمرو بن سعيد بن العاص (الأشدق) ومقتله :(2/325)
…نصت مقررات مؤتمر الجابية كما اشرنا على أن تكون الخلافة لعمرو بن سعيد الأشدق بعد مروان بن الحكم وخالد بن يزيد بن معاوية، وتجاوز مروان عمراً وبايع لابنيه عبد الملك، وعبد العزيز، الأمر الذي آثار نقمة عمرو، بعكس خالد بن يزيد الذي انصرف إلى العلم لاسيما الكيمياء3806، وفي أول سنة 69 هـ خرج عبد الملك بجنوده يريد قرقيسيا، ليحاصر فيها زفر بن الحارث، واستخلف على دمشق عمرو بن سعيد بن أبي العاص ولم يكد عبد الملك يخرج بجيشه من دمشق، حتى تحصن بها عمرو بن سعيد، وأخذ ما في بيت المال من الأموال،، وتذكر رواية أخرى أن عمرو بن سعيد كان مع عبد الملك حين خرج إلى قرقيسيا ولكنه استغل فرصة الليل، وانخذل هو وجماعة معه من الجيش، ورجعوا إلى دمشق ففر والي دمشق من قبل عبد الملك عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي، ودخلها عمرو بن سعيد واستحوذ على ما فيها من الخزائن3807 وبعث عمرو إلى عبد الرحمن بن أم الحكم فلم يجده، فأمر بهدم بيته واجتمع الناس وصعد عمرو المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنه لم يقم أحد من قريش قبلي على هذا المنبر إلا زعم أن له جنة وناراً، يدخل الجنة من أطاعه، والنار من عصاه،، وإني أخبركم أن الجنة والنار بيد الله، وأنه ليس إليَّ من ذلك شيء غير أن لكم عليّ حسن المواساة والعطية3808، وأصبح عبد الملك فسأل عن عمرو بن سعيد فلم يجده، فكرّ راجعاً إلى دمشق، فوجد عمراً وقد تحصن بها، ودارت بينهما معركة استمرت ستة عشر يوماً3809، ويبدو أن عبد الملك قد رأى موقف عمرو قوياً حيث كان متحضاً بقلعة رومية منيعة، فعرض الصلح فتصالحاً على ترك القتال3810.
1 ـ شروط عمرو بن سعيد بن العاص:(2/326)
كانت شروطه كالآتي: على أن لعمرو بن سعيد الخلافة بعد عبد الملك3811، وأن يكون له عامل مع كل عامل لعبد الملك وأن يستشيره في كل صغيرة وكبيرة3812ويوليه الديوان وبيت المال3813، وتبرز كتب التاريخ أسباباً عديدة دعت عبد الملك بالقبول بهذه الشروط منها:
أ ـ انقسام قبيلة كلب ذات القوة والتأثير السياسي في الأحداث آنذاك بين عبد الملك وعمرو الأشدق مما جعل كسب المعركة بالقوة يؤدي إلى خسائر فادحة لكلا الطرفين، ولم يكن لصالح كلب التي فرضت الصلح3814.
ب ـ سيطرة عمرو الأشدق على مدينة دمشق التي تعد العاصمة آنذاك وفيها بيت المال وديوان الجند اللذان يعدان عصب الحياة وكسب المؤيدين آنذاك.
جـ ـ وقوف أكثر القبائل اليمانية الأخرى على الحياة وعدم تدخلها في الصراع مما يجعل القرار الفعلي للصلح بيد قبيلة كلب ذاتها3815.
د ـ قوة عمرو الأشدق في الشام وخاصة في دمشق فقد أيدته دمشق فضلاً عن زعيم بجيلة عبد الله بن كريز القسري الذي كان مع شرطته3816.
و ـ ويمكن أن يكون قبول الاتفاقية من قبل عبد الملك لحل النزاع سلمياً ثم القيام بقتل عمرو الأشدق بعد اتفاقه مع بعض زعماء الشام وبني أمية3817.
2 ـ غدر عبد الملك بابن عمه عمرو بن سعيد:(2/327)
…وبعد عقد الصلح ودخول عبد الملك دمشق بأربعة أيام، أرسل إلى عمرو أن إئتني.. فلما كان بعد الظهر لبس عمرو درعاً بين ثيابه، وتقلد سيفه فلما نهض عثر في البساط، فقالت امرأته وبعض من كان حاضراً عنده: إنا لا نرى أن تذهب إليه، فلم يعبأ بكلامهم، ومضى في مائة من عبيده، وكان عبد الملك قد أمر بني مروان بالحضور عنده، وأمر حاجبه أن يدخل ابن سعيد ويغلق الباب دون من معه.. ثم غُلقت الأبواب واقترب عمرو من عبد الملك، فرحب به وأجلسه معه على السَّرير، ثم جعل يحدثه طويلاً. ثم إن عبد الملك قال: يا غلام، خذ السيف عنه، فقال عمرو: إنا لله يا أمير المؤمنين فقال له عبد الملك: أو تطمع أن تتحدَّث معي متقلِّداً سيفك؟ فأخذ الغلام السيف عنه، ثم تحدَّثا ساعة، ثم قال له عبد الملك: يا أبا أمية. قال: لبيك يا أمير المؤمنين قال: إنك حيث خلعتني آليت بيميني إن ملأتُ عيني منك وأنا مالك لك أن أجمعك في جامعة. فقال بنو مروان: ثم تطلقه يا أمير المؤمنين؟ قال: ثم أُطلقه، وما عسيت أن أفعل بأبي أميّة؟ فقال بنو مروان: أبرَّ قسم أمير المؤمنين فقال عمرو: فأبرَّ قسمك يا أمير المؤمنين. فأخرج عبد الملك من تحت فراشه جامعه فطرحها إليه، ثم قال: يا غلام، قم فاجمعه فيها. فقام الغلام فجمعه فيها، فقال عمرو: أُذكِّرُك الله يا أمير المؤمنين أن تُخرجني فيها على رؤوس الناس فقال عبد الملك: أمكراً يا أبا أمية عند الموت؟ لاها اللهِ إذا، ما كنّا لنخرجك في جامعة على رؤوس الناس ولمّا نخرجها منك إلا صعدا3818. ثم اجتذبه اجتذابة أصاب فمه السرير فكسر ثنيَّته، فقال عمرو: أُذكِّرُك الله يا أمير المؤمنين أن يدعوك كسر عظمي إلى ما هو أعظم من ذلك. فقال عبد الملك والله لو أعلم أنّك إذا بقيت تفي لي وتصلح قريش لأطلقتك ولكن ما اجتمع رجلان قطّ في بلد على ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما صاحبه3819، وجاء في رواية: أن عبد الملك كلّف أخاه عبد العزيز بقتله. وخرج لصلاة(2/328)
العصر ولما رجع من صلاته وجد أخاه لم يقتله فلامه وسبّه وسبّ أمه ـ ولم تكن أم عبد العزيز أم عبد الملك ـ فقال: إنه ناشدني الله والرحم وكان ابن عمة عبد الملك بن مروان، ثم إن عبد الملك قال: يا غلام ائتني بالحربة، فأتاه بها فهزها وضربه بها فلم تغن شيئاً، ثم ثنى فلم تغن شيئاً، فضرب بيده إلى عضد عمرو فوجد مس الدرع فضحك وقال: ودارعٌ أيضاً، إن كنت لمُعِدّا، يا غلام ائتني بالصمّصامة، فأتاه بسيفه ثم أمر بعمرو فصُرع فجلس على صدره فذبحه وهو يقول:
يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي
أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
وانتفض عبد الملك بعد ما ذبحه كما تنتفض القصبة برعدة شديدة جدا بحيث إنهم ما رفعوه عن صدره إلا محمولا فوضعوه على سريره وهو يقول: ما رأيت مثل هذا قط قتلة، صاحب دنيا ولا طالب آخرة. ودفع الرأس إلى عبد الرحمن بن أمّ الحكم، فخرج به للناس فألقاه بين أظهرهم وخرج عبد العزيز بن مروان ومعه البدرُ3820من الأموال تحمل، فأُلقيت بين الناس فجعلوا يختطفونها، ويقال: إنها استرجعت بعد ذلك إلى بيت المال، ويقال: إن الذي ولي قتل عمرو بن سعيد مولى عبد الملك أبو الزُّعيزعة بعد ما خرج عبد الملك في الصلاة3821. وهكذا تخلص عبد الملك من منافس قوي له ولم يبالي بنقض العهود، وسفك الدماء فالطريق نحو الملك جعله يتخلص من ابن عمته عمرو بن سعيد، ومن أحب الأصدقاء إليه مصعب بن الزبير، ومن أفضل أهل الأرض في زمانه على حد تعبيره عبد الله بن الزبير،
سابعاً: مصالحة عبد الملك للروم والتضييق على الجراجمة:(2/329)
نظراً للاضطرابات الداخلية في دولة عبد الملك اضطر عبد الملك إلى مصالحة الروم على أن يدفع لهم 365 ألف قطعة ذهبية، 360 عبداً و330 جواداً أصيلاً سنوياً وأن تقسم الدولة البيزنطية والدولة الأموية خراج قبرص وأرمينيا3822، وارتهن منهم رهائن وضعهم في بعلبك3823في مقابل ذلك يسحب ملك الروم الجراجمة إلى وسط الإمبراطورية البيزنطية3824، ولم يمتنع عبد الملك عن مصالحة الجراجمة في جبل اللكام ووافق على أن يدفع لهم ألف دينار كل جمعة3825، ولكن سرعان ما سنحت الفرصة لعبد الملك للتخلص من الجراجمة فبعد أن عقد الصلح معهم أرسل أحد قادته الثقات سحيم بن المهاجر إلى القائد البيزنطي والذي كان على رأس الجراجمة ونجح في كسب ثقته، ثم كاده بقوات دبرها لهذا الشأن فقتل القائد البيزنطي وهرب أصحابه وأمّن الباقين فرجع العبيد إلى أسيادهم والأنباط إلى قراهم3826، كما أن الاتفاقية مع الدولة البيزنطية لم تدم طويلاً، لأن الروم نقضوا العهد كما أن عبد الملك استطاع القضاء على ابن الزبير وتوحيد الدولة تحت زعامته مما جعله يفكر بالرد على تحديات البيزنطيين المتكررة فعين أخاه محمد بن مروان سنة 73 هـ3827، فشرع في غزوهم سنة 74 هـ3828.
ثامناً: زفر بن الحارث الكلابي:(2/330)
ظل القيسيون الموتورون في مرج راهط على ولائهم لابن الزبير، وكان أحد كبار زعمائهم ـ زفر بن الحارث الكلابي ـ قد فر إلى قرقيسيا، وتحصن بها وثابت إليه قيس وأصبح تجمعه هناك مركزاً لشن الغارات على كلب في المناطق المجاورة له، مما كان يسبب إحراجاً بالغاً لعبد الملك الذي كان يطمح إلى استعادة بقية بلدان العالم الإسلامي تحت سيادته وسلطانه وكان في هذه الفترة يوجه كل جهوده لاستعادة العراق من سيطرة مصعب بن الزبير وكان لابد لعبد الملك إذا أراد أن يضم إليه العراق، وينهي سيطرة الزبيريين عليه، من أن ينهي اعتصام زفر بن الحارث في قرقيسيا، فسار إليه في جيشه الذي كان جهزه لحرب مصعب بن الزبير وبدأ بزفر أولاً فحاصره ولكن رجال زفر أبدوا بطولة عجيبة وانتزعوا إعجاب عبد الملك الذي قال: لا يبعد الله رجال مضر، والله إن قتلهم لذل، وإن تركهم لحسرة3829، ولجأ عبد الملك إلى المسالمة وكتب إلى زفر يدعوه إلى طاعته ويرغبه فيها ويهدده إن لم يقبل ذلك، وبعد جهود ومفاوضة أرسل إليه زفر يجيبه إلى طلبه، ويشترط عليه أن يبقى له الخيار في أن يظل مخلصاً لابن الزبير أو ينضم إلى عبد الملك، ورغم ذلك فقد وافق على شرطه، وأعطاه الأمان وابنه وقائده الهذيل بن زفر، وجميع أتباعهما، ولم يأخذ بمال أو دم أهدره، بل أعطى عبد الملك الزعيم القيسي مبلغاً من المال يوزعه بين أتباعه، ثم أختتم ذلك العمل بأن زوج ابنه مسلمة بن عبد الملك بالرباب بنت زفر بن الحارث، كما أمر زفر ابنه الهذيل أن ينضم إلى جيش عبد الملك المتجه إلى حرب مصعب بن الزبير، إذ لم يكن على ولده ما عليه هو من بيعة ابن الزبير3830، وحرص عبد الملك إلى تحقيق التوازن بين القبائل اليمانية والقيسية وجعل في أصحابه زفر بن الحارث الكلابي وابنيه الهذيل وكوثراً وعبد الله بن مسعدة الفزاري وغيرهم من زعماء قيس، كما كان في أصحابه حسان بن مالك الكلبي، وروح بن زنباع الجذامي ورجاء بن حيوه الكندي(2/331)
وغيرهم من زعماء اليمانية، وكما عدل بين الفريقين في مجلسه عدل بينهم في وظائفه فكان يختار ولاته على الأمصار من القيسية غالباً بينما يختار موظفي بلاطه من اليمانية وهكذا3831.
تاسعاً: ضم العراق والقضاء على مصعب بن الزبير:
بعد أن استعاد ابن الزبير نفوذه على العراق أصبحت المواجهة محتومة بينه وبين عبد الملك، الذي قرر أن يقود المعركة بنفسه بعد أن شاور خاصته في ذلك، فمنهم من أشار عليه أن يقيم في الشام، ويرسل واحداً من أهله ليقود الجيش، ومنهم من أشار عليه بأن يسير بنفسه، فمال هو على هذا الرأي. وقال: إنه لا يقوم بهذا الأمر إلا قرشي له رأي، ولعلي أبعث من له شجاعة ولا رأي له، وإني بصير بالحرب، شجاع بالسيف إن احتجت إليه، ومصعب شجاع من بيت شجاعة ولكنه لا علم له بالحرب.. ومعه من يخالفه، ومعي من ينصح لي3832. عزم عبد الملك إذن على السير إلى العراق لانتزاعه من ابن الزبير وكان ذلك في سنة 71 هـ أي بعد أربع سنين من القضاء على المختار ولعله أخر الصدام مع ابن الزبير إلى هذا الوقت متعمداً، فهو لم يشأ أن يسير إلى العراق إلا بعد أن يوطد دعائم حكمه في الشام، فقضى هذه السنين في تحقيق هذا الهدف فقد حل مشاكله مع زفر بن الحارث الكلابي الذي كان معتصماً في قرقيسيا3833، مهدداً بذلك إقليم الجزيرة كله، وقد عالج عبد الملك مشكلة زفر بالحكمة والسياسة، وأصطلح معه، وأنهى بذلك مسألة قرقيسياء التي استمرت حوالي سبع سنين كالشوكة في جنب دولته، واحكم سيطرته على إقليم الجزيرة3834، ثم تخلص من منافسه الخطير، وهو عمرو بن سعيد الأشدق3835 ولما أراد الخروج للعراق ودّع زوجته عاتكة بنت يزيد بن معاوية، فبكت وبكى جواريها لبكائها فقال:قاتل الله كثير عزة لكأنه يشاهدنا حين قال:
إذا ما أراد الغزو لم يثن همّهُ
حَصانٌ عليها عِقدُ دُرٍ يزينها
نهته فلما لم تر النّهي عاقه
بكت وبكى ممّا عناها قطينها3836(2/332)
وسارع عبد الملك إلى العراق بجيشه وجعل على مقدمته أخاه محمد بن مروان ونزل بمسكن وكان مصعب قد علم بمسيره، ونزل بمسكن مقدمته إبراهيم بن الأشتر، ونزل باجميرا3837، وأخذ عبد الملك يكاتب زعماء أهل العراق من جيش مصعب يعدهم ويمنيهم، وكان إبراهيم بن الاشتر قائد جيوش المختار الثقفي قد انضم إلى مصعب بعد مقتل المختار، قد كتب إليه عبد الملك أيضاً، فأخذ الكتاب مختوماً ودفعه إلى مصعب، فقال له: ما فيه فقال له: ما قرأته: فقرأه مصعب فإذا هو يدعوه إلى نفسه، ويجعل له ولاية العراق، فقال لمصعب: إنه والله ما كان من أحد آيس منه منى، ولقد كتب إلى أصحابك كلهم بمثل الذي كتب إلي، فأطعني فيهم فاضرب أعناقهم قال: إذا لا تنصحنا عشائرهم، قال: فأوقرهم حديداً، وابعث بهم إلى ابيض كسرى فاحبسهم هناك، ووكل بهم على عشائرهم، فقال: يا أبا النعمان إني لفي شغل عن ذلك، يرحم الله أبا بحرـ الأحنف بن قيس ـ إنه كان ليحذرني غدر أهل العراق، كأنه ينظر إلى ما نحن فيه3838. وهذا ليس غريباً على أهل العراق، فلهم في الغدر وتغيير المواقف سجل حافل. بل لقد صرح عبد الملك بأن كتبهم كانت تأتيه يدعونه إليهم قبل أن يكتب هو إليهم3839. ولم يكن هذا خافياً في معسكر مصعب، فعندما استدعى المهلب بن أبي صفرة ـ وكان من رجاله في ذلك الوقت ـ يستشيره، قال له: أعلم أن أهل العراق قد كتبوا عبد الملك وكاتبهم، فلا تبعدني عنك. فقال له مصعب: إن أهل البصرة قد أبوا أن يسيروا حتى أجعلك على قتال الخوارج، وهم قد بلغوا سوق الأهواز، وأنا أكره إذا سار عبد الملك إليّ أن لا أسير إليه، فاكفني هذا الثغر3840. في الوقت الذي كان عبد الملك يكاتب فيه زعماء أهل العراق من قواد مصعب والذين قبلوا التخلي عنه والانضمام إليه3841. كان حريصاً على ألا يقاتل مصعباً، للمودة والصداقة القديمة التي كانت بينهما فأرسل إليه رجلاً من كلب، وقال له: أقرى ابن أختك السلام ـ وكانت أم مصعب كلبيةـ(2/333)
وقل له يدع دعاءه إلى أخيه، وأدع دعائي إلى نفسي، ويجعل الأمر شورى فقال له مصعب: قل له السيف بيننا3842.
ثم حاول عبد الملك محاولة أخرى: فأرسل إليه أخاه محمد ليقول له: إن ابن عمك يعطيك الأمان، فقال مصعب إن مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا غالباً أو مغلوباً3843. ثم دارت المعركة فبدأت خيانات أهل العراق تظهر فقد أمد مصعب إبراهيم بن الأشتر بعتاب ابن ورقاء، وهو من الذين كانوا كاتبوا عبد الملك، فاستاء إبراهيم من ذلك وقال: قد قلت له لا تمدني بعتاب وضربائه، إنا لله وإنا إليه راجعون، فانهزم عتاب بالناس. فلما أنهزم صبر ابن الأشتر فقتل3844، فكان مقتله خسارة كبرى لمصعب، لأنه فوق شجاعته، كان مخلصاً له غاية الإخلاص، ولذلك لما أشتد القتال على مصعب وتحرج موقفه صاح قائلاً: يا إبراهيم ولا إبراهيم لي يوم3845، تخلى أهل العراق عن مصعب وخذلوه، حتى لم يبق معه سوى سبعة رجال3846ولكنه ظل يقاتل في شجاعة وبسالة، حتى أثخنته الجراح، وأخيراً قتله زياد بن ظبيان. وكان مقتله في المكان الذي دارت فيه المعركة على قصر دجيل عند دير الجاثليق3847في جمادى الآخرة سنة72هـ. فلما بلغ عبد الملك مقتله قال: واروه فقد والله كانت الحرمة بيننا قديمة ولكن هذا الملك عقيم3848، وبمقتل مصعب انتهت المعركة، فدخل عبد الملك الكوفة، وبايعه أهلها، وعادت العراق إلى حظيرة الدولة الأموية. وعين عبد الملك أخاه بشراً والياً عليها، وقبل أن يغادرها أعد جيشاً للقضاء على ابن الزبير بمكة.
1 ـ أسباب هزيمة مصعب بن الزبير:
هناك أسباب كثيرة ساهمت في هزيمة مصعب بن الزبير منها:(2/334)
أ ـ عدم اشتراك المهلب بن أبي صفرة، ومن معه من الجنود، وهو المقاتل العنيد والخبير في شؤون الحرب، وإصرار مصعب بن الزبير على بقائه في قتال الخوارج بناء على رغبة أهل البصرة، علماً بأن المهلب قال: لا تبعدن عنك3849، ولو لم يبعد مصعب المهلب لتمَّ الاستفادة من جيشه ومن قدرة وخبرة هذا القائد.
ب ـ خيانة قادة الفضائل من الجيش الزبيري من العراقيين بناء على الأماني التي مناهم إياها عبد الملك، وعدم قدرة مصعب على ثنيهم بعد اكتشاف خيانتهم.
جـ ـ عدم إغراق أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير الأموال، والأعطيات على أعيان وأشراف أهل العراق لما جاءوا إلى مكة مع مصعب.
ر ـ غضب بعض الشيعة لمقتل المختار، فلقد رأوا في المختار بأنه هو الذي انتقم من قتلة الحسين، بحيث لم يترك أحداً، ولهذا عبّر زائدة بن قدامة عندما طعن مصعب وقال:يالثارات المختار3850.
ز ـ قلة الخبرة العسكرية لدى مصعب على الرغم من شجاعته وإقدامه وبطولته التي اعترف بها خصمه.
س ـ أنهاك جيش الزبيريين فقد خاضوا معارك عدة في العراق بينما كان جيش الأمويين مرتاحاً، فلما رأوا جنود خصمهم تواكلوا وشملهم الرعب3851.
ش ـ عدم مد الخليفة"عبد الله بن الزبير" لأخيه بالقوات والجند، وكان الأجدر به أن يمده بكل ما يستطيع، لأن ضياع العراق من يديه يعني فقدان الموارد المالية وبداية الانهيار السياسي3852.
2 ـ أثر مقتل مصعب على ابن الزبير وخطبته:(2/335)
…ولما بلغ عبد الله بن الزبير قتل أخيه مصعب، قام فخطب في الناس، فقال: الحمد لله الذي له الخلق والأمر، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، ألا أنه لن يُذلل الله من كان الحق معه، وإن كان فرداً، ولم يعز من كان وليه الشيطان وحزبه وإن كان معه الأنام طُرّاً ألا وإنه قد أتانا من العراق خبر أحزننا وأفرحنا، أتنا قتل مصعب ـ رحمه الله ـ فأما الذي أفرحنا فعلمنا أنه قتله له شهادة، وأما الذي أحزننا فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه عند المصيبة، ثم يرعوي بعدها ذوي الرأي إلى جميل الصبر، وكريم العزاء ولئن أصبتم بمصعب لقد أصبت بالزبير قبله، وما أنا من عثمان بخلو مصيبة، وما مصعب إلا عبد من عبيد الله وعون من أعواني، إلا إن أهل العراق أهل الغدر والنفاق، أسلموه وباعوه بأقل الثمن، فإن يقتل فإنا والله ما نموت على مضاجعنا كما تموت بنو العاص، والله ما قتل منهم رجل في زحف في الجاهلية ولا الإسلام وما نموت إلا قعصاً3853 بالرماح وموتاً تحت ظلال السيوف. ألا إنما الدنيا عارية من الملك الأعلى الذي لا يزول سلطانه، ولا يبيد ملكه، فإن تقبل لا آخذها أخذ الأشِر البَطر، وإن تدبر لا أبك عليها بكاء الحَرِقَ المَهين. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم3854.
3 ـ رأي عبد الملك في مصعب بن الزبير:(2/336)
…لما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك، بكى وقال: ما كنت أقدر أن أصبر عليه ساعة واحدة من حبي له، حتى دخل السيف بيننا، ولكن الملك عقيم3855. لقد نسى عبد الملك كل ما كان بينه وبين مصعب ولم يذكر إلا الكرسي وسلطة الحكم، حتى إذا ما تم له الأمر، وخلص له الحكم، أخذ يتحدث عن ما كان بينهما من المودة والخُلة، وراح يذكر محاسنه في مجالسه، وهو يعلم أن ذلك لن يضر ملكه شيئاً3856. روى ابن كثير أن عبد الملك قال يوماً لجلسائه من أشجع العرب قالوا شبيب، قطرُّ بن الفجاءة فلان، فلان. فقال عبد الملك: إن أشجع العرب لرجل جمع بين سكينة بنت الحسين، وعائشة بنت طلحة، وأمة الحميد بنت عبد الله بن عامر بن كُريز وأمّه رباب بنت أُنيف الكلبي، سيد ضاحية العرب، وولي العراقين خمس سنين فأصاب ألف ألف، وألف ألف، وألف ألف، وأعطى الأمان فأبى ومشى بسيفه حتى مات ذلك مصعب بن الزبير، لا من قطع الجسور مرة هاهنا ومرّة هاهنا3857. إن مدح مصعب الآن لا يضر عبد الملك شيئاً، فقد مضى إلى ربه، وترك له الدنيا بزخارفها، فهو الآن، وبعد أن لم يعد مصعب يشكل خطراً على ملك عبد الملك، فلا بأس بأن يذكر محاسنه، ولا بأس بأن يؤبنه ولهذا لما جيء برأس مصعب إلى عبد الملك قال: واروه فقد والله كانت الحرمة بيننا قديمة، ولكن هذا الملك عقيم، وأمر به وابنه عيسى فدفنا3858.
4 ـ ما قيل من رثاء في مصعب بن الزبير:
…اشتهر عبيد الله بن قيس الرقيات بالدفاع عن الحركة الزبيرية وكان شاعرها الأول ومما قاله في رثاء مصعب بن الزبير:
…………نَعَتِ السحائِبُ والغمام بأسرها
……………………جسداً بمسكِنَ عاري الأوصال
…………تُمسي عوائده السِّباع وداره
……………………بمنازل أطلالهن بَوَالي
…………رحل الرِّفاق وغادروه ثاوياً
……………………للرِّيح بين صَباَ وبين شمالِ3859
5 ـ سكينة بنت الحسين زوجة مصعب بن الزبير:
…كتب مصعب إلى زوجته سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب بعد خروجه من الكوفة بليال:(2/337)
…………وكان عزيزاً أن أبيت وبيننا
……………………حجاب فقد أصبحت مني على عشر
…………وأبكاهما للعين والله فاعلمي
……………………إذا ازددت مثليها فصرت على شهر
…………وأبكي لقلبي منهما أنني
……………………أخاف بأن لا نلتقي آخر الدهر
…وقيل دخل مصعب على سكينة يوم قتل، فنزع ثيابه ولبس غلالة، وتوشح بثوب، وأخذ سيفه، فعلمت سكينه أنه لا يريد أن يرجع، فصاحت: واحزناه عليك يا مصعب، فالتفت إليها وقد كانت تخفي ما في قلبها عنه، فقال: أوكل هذا لي في قلبك؟ قالت: وما أخفي أكثر، فقال: لو كنت أعلم هذا كانت لي ولك حال، ثم خرج فلم يرجع، ولما قتل مصعب خرجت سكينة تطلبه في القتلى فعرفته بشامة في خده، فأكبت عليه وقالت: يرحمك الله، نعم والله خليل المسلمة كنت أدرك والله ما قال عنترة:
وحليل غانية تركت مجندلاً
……………………بالقاع لم يعهد ولم يتكلم
…………فهتكت بالرمح الطويل إهابه
……………………ليس الكريم على القنا بمحرم3860
…وقالت سكينة في رثاء مصعب:
…………فإن تقتلوه تقتلوا الماجد الذي
……………………يرى الموت إلا بالسيوف حراماً
…………وقبلك ما خاض الحسين منية
……………………إلى القوم حتى أوردوه حماما3861
المبحث الرابع : نهاية أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير رضي الله عنه:
أولاً : محاولات الأمويين إخضاع الحجاز قبل حصار ابن الزبير الأخير:
…كانت المناوشات مستمرة بين ابن الزبير وعبد الملك بن مروان على الجبهة الحجازية ومن أهم الحملات التي شنها الطرفين.(2/338)
1 ـ حملة حبيش بن دلجة القيني: تكاد تجمع الروايات أن مروان بن الحكم هو الذي أرسل هذه الحملة إلى الحجاز وذلك بعد مقدمه من مصر3862. والذي يظهر أن هذه الحملة أرسلت في أواخر عهد مروان بن الحكم حيث توفي مروان قبل أن تكمل مهمتها، الأمر الذي حدا ببعض المؤرخين أن يذكروا أن عبد الملك بن مروان هو الذي أرسل هذه الحملة3863، وكان عدد أفراد هذه الحملة يتراوح ما بين 6400 إلى 7000 رجل3864، واستطاع ابن الزبير أن يتغلب على هذا الجيش، فقد أرسل الحارث بن أبي ربيعة وكان والياً على البصرة جيشاً بقيادة الحنتف بن السجف التميمي لمواجهة جيش حبيش بن دلجة ومن جهته أرسل ابن الزبير جيشاً آخر بقيادة عباس بن سهل بن سعد الأنصاري ليلتقي بجيش الحنتف ويتحدان للقضاء على جيش حبيش وهذا ما تمّ فعلاً3865، بالربذة3866.
2 ـ حملة نائل بن قيس الجذامي: أرسل ابن الزبير نائلاً بحملة بعد وفاة الحنتف بن السجف بوادي القرى وأمره أن يعبر إلى نواحي الشام وأن يكون مسلحة بها3867، وفي رواية أخرى تذكر أن ابن الزبير بعث نائلاً بعد وفاة مروان، وأمره أن يأتي فلسطين3868، وعلى اية حال فكلا الروايتين تتفقان على أن عبد الملك بن مروان استطاع أن يقضي على نائل بن قيس (بأجنادين)3869، وقد قتل نائل وأصحابه بفلسطين 66هـ.
3 ـ حملة عروة بن أنيف: بعث عبد الملك عروة بن أنيف في ستة آلاف إلى المدينة وأمرهم أن لا ينزلوا على أحد، ولا يدخلوا المدينة إلا لحاجة ضرورية أو يعسكروا ((بالعرصة))3870 وسار عروة بن أنيف وعسكر بالعرصة، وتشير الرواية إلى أن الحارث بن حاطب ـ عامل ابن الزبير على المدينة ـ هرب منها، وكان عروة يدخلها ويصلي الجمعة بالناس ثم يعود إلى معسكره، ومكث عروة على هذا الوضع شهراً، ولم يبعث إليه ابن الزبير أحداً، ولم يحدث أي مواجهة بين جيش عروة وابن الزبير، عندها أمر عبد الملك هذا الجيش بالعودة إلى الشام فرجع3871.(2/339)
4 ـ حملة عبد الملك بن الحارث بن الحكم: أرسل عبد الملك بن مروان هذه الحملة وقوامها أربعة آلاف إلى المدينة وكانت مهمتها الحفاظ على المنطقة ما بين الشام والمدينة. عسكر عبد الملك بن الحارث بوادي القرى ومن هناك أرسل فرقة قوامها خمسمائة رجل بقيادة أبي القمقام إلى سليمان بن خالد ـ عامل ابن الزبير على خيبر وفدك ـ للقضاء عليه وقد حاول سليمان الهرب منهم لكنهم أدركوه وقتلوه3872ولم يستطع ابن الزبير عمل شيء حيال ذلك سوى عزله الحارث بن حطاب وتولية جابر بن الأسود مكانه، وأرسل جابر بن الأسود من جهته حملة بقيادة أبي بكر بن أبي قيس إلى أبي القمقام بخيبر، واستطاع أبو بكر أن يلحق بخصمه الهزيمة3873.
5 ـ حملة طارق بن عمرو: كانت هذه الحملة هي آخر حملة وجهها عبد الملك بن مروان تجاه الحجاز وكان الهدف منها أن يسيطر فيما بين(( أيلة)) و((وادي القرى)) ويكون مدداً لمن يحتاج إليه من عمال عبد الملك بن مروان، وفي الوقت نفسه تكون سداً أمام تحركات ابن الزبير وطلب ابن الزبير من واليه على البصرة إرسال قوات لحماية المدينة، فأرسل إليه ألفي رجل بقيادة ابن رواس واستطاعت تلك القوات حماية المدينة ولكن ما لبث ابن الزبير أن أمر ابن رواس بالمسير إلى طارق بن عمرو وكانت نتيجة الصدّام انتصار طارق بن عمرو وعاد طارق بن عمرو إلى أم القرى ملتزماً بالمهمة التي أوكلها له عبد الملك3874.
ثانياً : الحصار الثاني وسقوط خلافة ابن الزبير:(2/340)
…كان انتصار عبد الملك بن مروان على مصعب بن الزبير في معركة دير الجاثليق إيذاناً بانتهاء دولة عبد الله بن الزبير فقد استقرت له الأمور في جميع الأمصار الإسلامية، وانحصرت دولة ابن الزبير في الحجاز، ولم يكن في استطاعته الصمود، لافتقاره إلى المال والرجال، كما أن مقتل أخيه مصعب قد فت في عضده وأصابه الإحباط، ولكنه لم يلق رايته وظل يقاوم حتى النهاية لم يضيع عبد الملك بن مروان وقتاً بعد انتصاره على مصعب، وقرر أن يقضي نهائياً على دولة ابن الزبير3875 ووقع الخيار لقيادة الجيش للقضاء على ابن الزبير على الحجاج بن يوسف وتوجه بجيشه إلى الحجاز، واستقر بالطائف وبدأ يرسل بعض الفرق العسكرية إلى مكة، وكان ابن الزبير يرسل إليه بمثلها فيقتتلون وتعود كل فرقة إلى معسكرها3876، وأمر عبد الملك طارق بن عمرو الذي كان مرابطاً بوادي القرى أن ينضم إلى جيش الحجاج، فتوجه طارق إليه وكان معه خمسة آلاف رجل3877.
1 ـ الحصار الاقتصادي: وفي محاولة لإنهاك ابن الزبير قام الحجاج بفرض حصار اقتصادي على مكة ويروي ابن حزم أن عبد الملك بن مروان كان يساهم في فرض هذا الحصار فقد أوكل إلى خالد بن ربيعة بمهمة قطع الميرة عن ابن الزبير وأهل مكة3878، وقد أثر هذا الحصار على ابن الزبير وأصابت الناس مجاعة شديدة حتى إن ابن الزبير اضطر إلى ذبح فرسه ليطعم أصحابه3879، وفي الوقت نفسه: كانت العير تحمل إلى أهل الشام من عند عبد الملك السويق، والكعك والدقيق3880، وقد ترتب على تردي الأحوال داخل مكة، أن بدأ التخاذل يدب بين أنصار ابن الزبير، وبدأوا يسحبون واحداً تلو الآخر، ومما شجع على تخاذل هؤلاء إعطاء الحجاج الأمان لكل من كف عن القتال وانسحب من جيش ابن الزبير3881.
2 ـ نصب المنجنيق على جبال مكة:(2/341)
…أراد الحجاج بن يوسف الثقفي أن ينهي أمر ابن الزبير فكتب إلى عبد الملك بن مروان يطلب منه الإذن بقتاله ومناجزته فأجابه عبد الملك بقوله: أفعل ما ترى3882. وهذه الإجابة تحمل في مضمونها الموافقة على طلب الحجاج المتحفز لقتال ابن الزبير وتوجه الحجاج بن يوسف بجميع جيشه إلى مكة ونصب المنجنيق على جبالها وبدأ يضرب ابن الزبير داخل الحرم ضرباً متواصلاً وفي الوقت نفسه كان بقية جيشه يقاتلون البقية الباقية مع ابن الزبير3883، وتوسط بعض أعيان مكة وعلى رأسهم ابن عمر لدى الحجاج طالبين إليه أن يكف عن استعمال المنجنيق فأجابهم: والله إني لكاره لما ترون ولكن ماذا أصنع ولقد لجأ هذا إلى البيت؟ وكانت وفود الحج قد جائت إلى مكة من كافة الأقطار الإسلامية وقد منعهم من الطواف حول البيت ما يتعرض له الطائفون من خطر المنجنيق، ولما كان في ذلك تعطيل لركن من أركان الحج فقد تدخل في الأمر ابن عمر فكتب إلى الحجاج يقول له: اتق الله فإنك في شهر حرام وبلد حرام وقد قدمت وفود الله من أقطار الأرض ليؤدوا فريضة الله ويزدادوا خيراً3884، فأرسل الحجاج إلى طارق بن عمرو بأن يكف عن استعماله حتى ينتهي الناس من الحج، وقال لهم: والله إني لكاره لما ترون، ولكن ابن الزبير لجأ إلى البيت3885، وأياً ما كان فقد كف عن استعمال المنجنيق حتى انتهى الناس من الطواف3886، وبعدما انتهى موسم الحج نادى الحجاج في الناس بالانصراف إلى البلاد وأن القتال سيستأنف ضد ابن الزبير3887، ويروي البلاذري أن العديد ممن كانوا مع ابن الزبير حاولوا اقناعه بقبول أمان الحجاج بن يوسف، فلم يستجب ابن الزبير لمحاولاتهم وأصر على القتال وقد سطرت الروايات مواقف بطولية رائعة لابن الزبير رضي الله عنه في مواجهة كتائب الحجاج ولم يمنعه كبر وخذلان من حوله، من الثبات على مبدئه الذي قاتل من أجله3888.
3 ـ أسماء بنت الصديق ترسم لابنها طريق الأحرار:(2/342)
…بعد انتهاء موسم الحج نادى الحجاج في الناس أن يعودوا إلى بلادهم لأنه سيعود إلى ضرب البيت بالحجارة3889، وبالفعل بدأ يضرب الكعبة، وشدد على ابن الزبير، وتحرج موقفه وانفض عنه معظم أصحابه، ومنهم ابناه حمزة وخبيب، اللذان ذهبا إلى الحجاج وأخذا منه الأمان لنفسيهما3890. فلما رأى ذلك دخل على أمه فقال لها: يا أمه خذلني الناس حتى ولدي وأهلي، فلم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: أنت والله يا بني اعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامضى له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك يتلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك، وأهلكت من قتل معك، وإن قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا، القتل أحسن. فدنا ابن الزبير فقبل رأسها وقال: هذا والله رأيي، والذي قمت به داعياً إلى يومي هذا ما ركنت إلى الدنيا، ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمه، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فزدتني بصيرة مع بصيرتي فانظري يا أمه فإني مقتول من يومي هذا، فلا يشتد حزنك وسلمي الأمر لله، فإن ابنك لم يتعمد منكر، ولا عملاً بفاحشة، ولم يجر في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته، ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي، اللهم إني لا اقول هذا تزكية مني لنفسي، أنت أعلم بي، ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني فقالت أمه: إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسناً إن تقدمتني، وإن تقدمتك ففي نفسي، اخرج حتى أنظر إلى ما يصير أمرك. قال: جزاك الله يا أمه خيراً، فلا تدعي الدعاء لي قبل وبعد. فقالت: لا أدعه أبداً، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في(2/343)
الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبره بأبيه وبي، اللهمّ قد سلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين3891، فتناول يديها ليقبّلها فقالت: هذا وداع فلا تبعد. فقال لها: جئت مودعاً لأنّي أرى هذا آخر أيامي من الدنيا قالت: امض على بصيرتك وادن مني حتى أودّعك. فدنا منها فعانقها وقبّلها فوقعت يدها على الدرع فقالت: ما هذا صنيع من يريد ما تريد. فقال: ما لبسته إلاّ لأشدّ منك. قالت: فإنّه لا يشدّ مني، فنزعها ثمّ أدرج كميه، وشد أسفل قميصه، وجبة خز تحت القميص فأدخل أسفلها في المنطقة، وأمه تقول: البس ثيابك مشمّرة ثم انصرف ابن الزبير وهو قول:
…………إني إذا أعرف يومي أصبر
……………………وإنما يعرف يومه الحُرّ
فسمعت والدته قوله فقالت: تصبر والله إن شاء الله، أبوك أبو بكر والزبير، وأمك صفية بنت عبد المطلب3892.
4 ـ استشهاد ابن الزبير رضي الله عنه:
…إن الثبات على المبدأ، وإن كان يعارض مصالح الشخص، ويعرضها للخطر ـ يعتبر من أنبل الصفات، وقد تأصلت هذه الصفة في ابن الزبير، فما وهن وما ضعف وما استكان في سبيل المباديء التي نادى من أجلها ففي آخر يوم من حياته صلّى ركعتي الفجر ثم تقدم واقام المؤذن فصلى بأصحابه فقرأ: ((ن والقلم)) حرفاً حرفاً، ثم سلم فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم خطب خطبة بليغة جاء فيها:... فلا يرعكم وقع السيوف فإني لم أحضر موطناً قط إلا ارتثثت فيه من القتل وما أجد من أدواء جراحها أشد مما أجد من الم وقعها. صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم، لا أعلم أمراً كسر سيفه، واستبقى نفسه، فإن الرجل إذا ذهب سلاحه فهو كالمرأة أعزل غضوا أبصاركم عن البارقة، ويشغل كل امرئ قرنه، ولا يلهينكم السؤال عني، ولا تقولن: اين عبد الله بن الزبير؟ ألا من كان سائلاً عني فإني في الرعيل الأول.
…………أبى لابن سلمى أنه غير خالد
……………………ملاقي المنايا أي صرف تيمّما(2/344)
…………فلست بُمبتاع الحياة بسُبَّة
……………………ولا مُرتَقَ من خشية الموت سُلَّما
احملوا على بركة الله. ثم حمل عليهم حتى بلغ بهم الحجون، فرُمي بآجُرَّة فأصابته في وجهه فأرعش لها، ودمي وجهه، فلما وجد سخونه الدم يسيل على وجهه ولحيته قال:
…………فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا
……………………ولكن على أقدامنا تقطر الدما3893
وقاتلهم قتالاً شديداً، فتعاونوا عليه فقتلوه يوم الثلاثاء من جمادى الآخرة وله ثلاث وسبعون سنة3894، وتولى قتله رجل من مراد، وحمل رأسه إلى الحجاج وسار الحجّاج وطارق بن عمرو حتى وقفا عليه، فقال طارق: ما ولدت النساء أذكر من هذا. فقال الحجّاج:: أتمدح مخالف أمير المؤمنين؟ قال: نعم هو أعذر لنا، ولولا هذا لما كان لنا عذر، إنّا محاصروه منذ سبعة اشهر وهو في غير جند ولا حصن ولا مَنَعة فينتصف منّا بل يفضل علينا. فبلغ كلامهما عبد الملك فصوّب طارقاً3895، ولما صلب ابن الزبير ظهرت منه رائحة المسك3896، وقد ذكر أن ابن الزبير في يوم استشهاده قال: ما أُراني اليوم إلا مقتولاً، لقد رأيت في ليلتي كأنَّ السماء فرجت لي، فدخلتها، فقد والله مللت الحياة وما فيها3897.(2/345)
5 ـ أسماء رضي الله عنها تقيم الحجة على الحجّاج: لما قتل عبد الله خرجت إليه أمُّه حتى وقفت عليه، وهي على دابة، فأقبل الحجّاج في أصحابه فسأل عنها فأخبر بها، فأقبل حتى وقف عليها فقال: كيف رأيت نصر الله الحق وأظهره؟ قالت: ربما أُديل الباطل على الحق، وإنك بين فرشها والجيّة. فقال إنّ ابنك ألحد في هذا البيت، وقد قال الله تعالى: ((وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)) (الحج الآية : 25) وقد أذاقه الله ذلك العذاب الأليم، قطع السبل قالت: كذبت، كان أوّل مولود ولد في الإسلام بالمدينة، وسُرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحنّكه بيده وكبّر المسلمون يومئذ حتى ارتجت المدينة فرحاً به، وقد فرِحتَ أنت وأصحابك بمقتله، فمن كان فرح يومئذ خير منَك ومن أصحابك، وكان مع ذلك برّاً بالوالدين صوّاماً قوّاماً بكتاب الله معظماً لحُرُم الله، يُبْغِضُ أن يُعص الله عز وجل3898، وقد دافعت عن ابنها دفاعاً مجيداً، فانكسر الحجّاج وانصرف، فبلغ ذلك عبد الملك، فكتب إليه يلومه في مخاطبته أسماء وقال: مالك ولابنة الرجل الصالح3899.
6 ـ ابن عمر وثناؤه على ابن الزبير بعد استشهاده:
…مرّ عبد الله بن عمر على ابن الزبير بعد صلبه فقال: السلام عليك أبا خبيب، السلام عليك أبا خُبيب، السلام عليك أبا خبيب، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله إن كنت ما علمت صوّاماً قوّاماً وصولاً للرحم، أما والله لأُمّة أنت شرُّها لأمة خير ثم نفذ عبد الله بن عمر فبلغ الحجّاج وقوف ابن عمر عليه وقوله، فأرسل إليه فأنزله عن جذِعة3900.(2/346)
7 ـ بيعة ابن عمر لعبد الملك: لما أجمع الناس على البيعة لعبد الملك بن مروان كتب إليه ابن عمر: أما بعد: فإني قد بايعت لعبد الملك أمير المؤمنين بالسمع والطاعة على سنة الله وسنة رسوله فيما استطعت، وإن بنيَّ ق أقرّوا بذلك3901، وجاء في رواية أن ابن عمر كتب إلى عبد الملك بن مروان فبدأ باسمه، فكتب إليه: أما بعد: فالله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه... الخ)). وقد بلغني أن المسلمين اجتمعوا على البيعة لك، وقد دخلت فيما دخل فيه المسلمون والسلام3902، وحاول بعض بطانة الخليفة أن يوغروا صدره على ابن عمر لأنه بدأ باسمه قبل اسم الخليفة، فقال عبد الملك: إن هذا من أبي عبد الرحمن كثير3903؟. وكان مما كتب به عبد الملك إلى الحجّاج بن يوسف ألا يخالف عبد الله بن عمر في الحج3904 لما يعرفه من فضله وفقهه3905.
8 ـ ابن عمر رضي الله عنه والحجاج:(2/347)
…بقي الحجّاج بن يوسف الثقفي والياً على مكة بعد مقتل ابن الزبير وكان عبد الله بن عمر يترك المدينة ويأتي مكة حاجاً أومعتمراً، ويرى أو يسمع من أفعال الحجاج وأقواله المخالفة للشرع فيأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر يرد عليه بكل جرأة وشجاعة3906 وبعدما قتل الحجاج عبد الله بن الزبير وتمت له السيطرة على مكة خطب الناس، وكان مما قال: إن ابن الزبير حرف كتاب الله وفي رواية غير كتاب الله، فقام ابن عمر وقال: كذبت كذبت كذبت، ما يستطيع ذلك، ولا أنت معه3907، وخطب الحجاج الناس يوم الجمعة، فأطال حتى كاد يذهب وقت الصلاة، فقام ابن عمر فقال: ايها الناس قوموا إلى صلاتكم فقام الناس، فنزل الحجاج فصلى، فلما انصرف قال لابن عمر ما حملك على ذلك، قال: فقال: إنما نجيء للصلاة فصل الصلاة لوقتها، ثم بقبق3908 بعد ذلك ما شئت من بقبقة3909، كما أنكر ابن عمر على الحجّاج تهاونه في إشاعة حمل السلاح في مكة وتركه لرجال جيشه يضايقون به المسلمين ويعرضون حياتهم بذلك للخطر، ففي الصحيح عن سعيد بن جبير قال: كنت مع ابن عمر حين أصابه سنان الرمح في أخمس قدمه فلزقت قدمه بالركاب فنزلت فنزعتها وذلك بمنى فبلغ الحجّاج فجعل يعوده فقال الحجّاج: لو نعلم من أصابك فقال: ابن عمر: أنت أصبتني قال وكيف قال: حملت السلاح في يوم لم يكن يحمل فيه، وأدخلت السلاح الحرم ولم يكن السلاح يدخل الحرم. وفي روية عن إسحاق بن سعيد عن أبيه قال: دخل الحجّاج على ابن عمر وأنا عنده فقال: كيف هو فقال: صالح . فقال: من أصابك قال: أصابني من أمر بحمل السلاح في يوم لا يحل فيه حمله يعني الحجّاج3910 ولما خرج الحجّاج قال ابن عمر: ما آسى على شيء من هذه الدنيا إلا على ثلاث وذكر منها: ألا أكون قاتلت هذه الفئة الباغية التي حلت بنا3911، يقول الذهبي في تعليقه: يعني بالفئة الباغية الحجّاج3912 وأنا أزيد ومن أرسله.(2/348)
9 ـ منهج ابن عمر في الفتن: لم يكن ابن عمر بمنأى عن الأحداث السياسية من حوله، بل كانت له نظراته وتحليلاته لتلك الأحداث، وتميز ابن عمر بمواقفه في الفتن تميزاً واضحاً فقد عايش عدداً من الفتن التي ابتليت بها الأمة الإسلامية آنذاك، وقد كشفت تلك الفتن عن حكمة بالغة ونظرة ثاقبة للأحداث مما جعلته بحق مدرسة مليئة بالدروس المفيدة والآداب الجمة التي اهتدى بها كثير من الناس في عصره، وأصبحت بعده معلماً يقتدي به من بعده3913، كما قال سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ: يقتدي بعمر في الجماعة وبابنه في الفرقة3914، ومن ابرز ما يميز منهج ابن عمر في التعامل مع الفتن ما يلي:
أ ـ تجنب القتال والحرص على حقن دماء المسلمين:(2/349)
…وقد وردت عدة روايات توضح موقف ابن عمر رضي الله عنهما من ذلك القتال الدائر في الفتنة الأولى والثانية فعن القاسم بن عبد الرحمن قال: قالوا لابن عمر في الفتنة الأولى ألا تخرج فتقاتل؟ فقال: قد قاتلت والأنصاب بين الركن والباب حتى نفاها الله عز وجل من أرض العرب، فأنا أكره أن أقاتل من يقول لا إله إلا الله. قالوا والله ما رأيك ذلك، ولكنك أردت أن يفني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم بعضاً، حتى إذا لم يبق غيرك قيل: بايعوا لعبد الله بن عمر بإمارة المؤمنين. قال: والله ما ذلك في، ولكن إذا قلتم حي على الفلاح أجبتكم وإذا افترقتم لم أجامعكم، وإذا اجتمعتم لم أفارقكم3915، وجاءه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس قد صنعوا ما ترى، وأنت ابن عمر وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: يمنعني أن الله حرم دم أخي قائلاً: ألم يقل الله((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ)) (البقرة ، الآية :193) فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، فلما رأى أنه لا يوافقه فيما يرد قال فما قولك في علي وعثمان قال ابن عمر: ما قولي في علي وعثمان أما عثمان فكان الله قد عفا عنه فكرهتم أن تعفوا عنه وأما علي، فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه وأشار بيده، وهذا بيته حيث ترون3916.ولم يكتف ابن عمر رضي الله عنه بالحرص على كف نفسه وتجنيبها إراقة دماء المسلمين، بل سلك بعض السبل التي تؤدي إلى تجنب المسلمين إراقة الدماء فيما بينهم، من ذلك محاولته الجادة ـ خلال الخلاف بين ابن الزبير وعبد الملك بن مروان ـ لإنهاء القتال بينهما حقناً لدماء المسلمين3917. فروى المدائني: أن عبد الله بن عمر كتب إلى عبد الملك بن مروان يأمره بتقوى الله وأن يكف نفسه، فكتب إليه عبد الملك أنه سيخرج نفسه ويجعل الأمر شورى، فلما كتب ابن عمر إلى ابن الزبير بذلك لم يلتفت إليه3918.(2/350)
ب ـ الحث على السمع والطاعة للإمام القائم ونهيه عن إثارة الفتنة وتفريق الكلمة: قال ابن عمر رضي الله عنه: جاءني رجل في خلافة عثمان فإذا هو يأمرني أن أعتب على عثمان، فلما قضى كلامه قلت له: إنا كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أفضل أمة محمد بعده: أبو بكر وعمر ثم عثمان، وإنا والله ما نعلم عثمان قتل نفساً بغير حق، وجاء من الكبائر شيئاً، ولكنه هذا المال، أن أعطاكموه رضيتم وإن أعطاه قرابته سخطتم. إنما تريدون أن تكونوا كفارس والروم، لا يتركون أميراً إلا قتلوه، ففاضت عيناه بأربع من الدمع ثم قال: اللهم لا تُرْد ذلك3919، وروى سالم بن عبد الله بن عمر أن أباه قال: لقد عتبوا على عثمان أشياء لو فعلها عمر ما عتبوا عليه3920. فانظر إلى أي مدى كان حرص عبد الله بن عمر رضي الله عنه في الدفاع عن عثمان والذب عن عرضه والتصدي لما يثيره أهل الفتنة ضد عثمان بن عفان رضي الله عنه لما كان يعلم من خطورة مثل هذا المنحى وما يؤدي إليه النيل من الخليفة والطغاة فيه من فساد، وفرقة، لذا فإن عثمان منحه ثقته فكان يستشيره إبان محنته مع الغوغاء، فحين دخل عليه ابن عمر قال له عثمان: أنظر ما يقول هؤلاء يقولون: اخلع نفسك أو نقتلك. قال له ابن عمر: أمخلد أنت في الدنيا؟ قال: لا. قال: هل يزيدون على أن يقتلونك؟ قال: لا قال: هل يملكون لك جنة أو ناراً؟ قال: لا. قال: فلا تخلع قميص الله عليك فتكون سنة، كلما كره قوم خليفتهم خلعوه أو قتلوه3921. وهذا الرأي من ابن عمر ينم عن بعد نظره وتقديره لعواقب الأمور، وقد أدى استعداده لحمل السلاح للدفاع عن أمير المؤمنين عثمان والتصدي للغوغاء المحاصرين لعثمان في داره، فقد ذكر ابن سعد عن نافع أن ابن عمر لبس الدرع يوم الدار مرتين. ولما قتل عثمان رأى ابن عمر أن الأمة وقعت في محنة، وأن قتل الخليفة بهذه الصورة معصية شؤمها على الأمة خطيرة، لذا لما عرض عليه الغوغاء الخلافة بعد مقتل عثمان(2/351)
قال: إن لهذا الأمر انتقاماً والله لا أعترض له فالتمسوا غيري3922، وكان ابن عمر رضي الله عنه كثيراً ما يركز في نصائحه للعامة على لزوم الجماعة والإعراض عن دماء المسلمين وأموالهم. فكتب له رجل: اكتب إلي بالعلم كله، فكتب إليه: إن العلم كثير، ولكن إن استطعت أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء الناس خميص البطن من أموالهم، كافا لسانك عن أعرضهم لازماً لأمر جماعتهم فافعل، والسلام3923.
جـ ـ استجابته لكل من دعاه إلى خير وتعاونه مع أطراف الخلاف فيما يخدم المصلحة: ورد أنه كان لا يأتي أميراً ـ في زمان الفتنةـ إلا صلى خلفه وأدى إليه زكاة ماله3924وقيل له أتصلي مع هؤلاء ومع هؤلاء وبعضهم يقتل بعضنا؟ فقال: من قال حي على الصلاة أجبته، ومن قال حي على الفلاح أجبته، ومن قال حي على أخيك المسلم وأخذ ماله قلت لا3925، وكان ابن عمر يتبوأ مكانة رفيعة في الأمة لصحبته لرسول الله وعلمه وعبادته وزهده وكان عبد الله بن محيريز ـ رحمه الله ـ يراه أماناً في الأرض حيث قال: والله إن كنت أعد بقاء ابن عمر أماناً لأهل الأرض3926.(2/352)
د ـ إن ابن عمر رضي الله عنه لم يدعوا إلى وجوب الخضوع المطلق للسلطان، أو جواز البيعة القهرية، أو أن في حياته ما يدل على عدم اهتمامه بأمور المسلمين السياسية أو عدم المشاركة فيها، بل على العكس، فهو كان دائماً أحد الأطراف الرئيسية في المعادلة السياسية في العهد الأموي، وكان أسلوبه هو الحوار واللجوء إلى الشورى، والابتعاد عن الاقتتال، وعندما بدأت الانشقاقات تظهر بين المسلمين اختار أن يكون محايداً وأن يعتزل الاقتتال، لا أن يعتزل الحياة السياسية، وكانت محايدته واعتزاله كنوع من التأمل والتفكر والإطلاع على مواقف الفئات المختلفة والبعد عن المشاركة في سفك دماء بسبب التصارع على السلطة، مع العمل على تهيئة الظروف، والمناخ السياسي الملائم يجمع شمل الأمة. فموقف ابن عمر المحايد كان في البداية بسبب صعوبة تكوين رأي قاطع، فضلاً عن خشية الوقوع في الفتن3927، وكان يقول: كففت يدي عن القتال فلم أندم والمقاتل على الحق أفضل3928، وهناك دلائل وحقائق تاريخية تثبت أن ابن عمر، عندما رأى ما يقوم به الحجّاج من مظالم عظيمة في الحرم المكي، وسفك الدماء به، والتعدي على حرمته غيّر رأيه في اعتزال الفتنة، بل وندم على أنه لم يقاتل في جيش علي بن أبي طالب ضد معاوية، الذي كان في نظره خارجاً عن شرعية علي وباغياً عليه، فقد روي حبيب بن ثابت أن ابن عمر عندما حضرته الوفاة قال: ما أجد في نفسي شيئاً إلا أن لم أقاتل الفئة الباغية مع علي3929، وقد مرّ معنا قول ابن عمر: ما آسى على شيء من هذه الدنيا إلا على ثلاث، ظمأ الهواجر ـ، ومكابدة الليل، وأني لم أقاتل الفئة الباغية التي نزلت بنا3930، قال الذهبي: يعني الحجّاج3931، وقد جاءت في كتب التاريخ أن ابن عمر كان يرى عبد الله بن الزبير أيضاً يندرج تحت مسمى الفئة الباغية وأنه ندم على عدم قتاله لخروجه على بني أمية وبغيه عليهم ونكثه لعهدهم3932، وهذه الرواية يؤخذ عليها عدة أمور:(2/353)
ـ…أن عبد الله بن عمر لو كان يعتقد بأحقية بني أمية بالخلافة من ابن الزبير في وقت الفتنة لبايعهم، ولكنه لم يفعل، فكيف يندم على عدم قتاله معهم، وهو لم يبايعهم ـ في الأصل ـ
ـ …أن أقوال عبد الله بن عمر الأخرى، التي تؤكد أن الفئة الباغية هي بنو أمية ورجالاتهم وخاصة الحجّاج، كانت آخر أقواله، وهي ما يعتمد عليها، وأسانيدها صحيحة3933.
…إن مواقف ابن عمر السابقة تدحض وتبين ضعف الرأي الذي جعل ابن عمر رائداً لمدرسة الخضوع السياسي للسلطان، وخاصة أن ابن عمر هو الذي روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث: على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره إلا أن يؤمر في معصية فلا سمع ولا طاعة3934، والحديث يدل على عدم طاعة الحاكم إذا أمر بمعصية أو خرج عن حكم الله، ولا يمكن لابن عمر أن يخالف حديثاً رواه، وعلى ذلك فإن نظرة ابن عمر تقوم على أن الطاعة للخليفة الشرعي، الذي بويع بالإجماع أو اتفاق الأغلبية، واجبة ما لم يؤمر بمعصية، فإن ظلم أو جار فلا طاعة له، بل يجب مناصحته، فإن لم تُجْدِ المناصحة يجب عندئذ اللجوء إلى المعارضة الصريحة، ولكنه كان يكره اللجوء إلى العنف والاقتتال، لما في ذلك من سفك الدماء وإضعاف لوحدة الجماعة3935.
10 ـ منهج أهل الحق في ابن الزبير:
…قال النووي في شرح مسلم: مذهب أهل الحق أن ابن الزبير كان مظلوماً، وأن الحجّاج ورفقته خارجون عليه. ودخل الحجّاج على أمّه بعد قتله فقال: كيف رايتني صنعت بابنكِ؟ فقالت: أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن في ثقيف مُبيراً وكذّاباً، فأمّ الكذّاب فرأيناه ـ يعني المختارـ وأما المبير3936، فلا أخالك إلا إياه3937.
11 ـ هدم الكعبة وبنائها في عهد ابن الزبير:(2/354)
…في سنة 64هـ هدم ابن الزبير الكعبة وكانت قد مال حيطانها3938، وتهدمت، وتشعّثت من حجر المنجنيق الذي كان يرمي به الحصين بن نمير وأصحابه3939، ولما أراد ابن الزبير هدم البيت شاور الناس في هدمها، فأشار عليه جابر بن عبد الله وعبيد بن عمير بذلك وقال ابن عباس: أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها، فلا تزال تهدم حتى يتهاون الناس بحرمتها ولكن أرى أن تصلح ماوهي منها، وتدع بيتاً أسلم الناس عليه، وأحجاراً بُعِث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها. فقال ابن الزبير: لو احترق بيت أحدكم ما رَضي حتى يُجَدِّده، فكيف ببيت ربِّكم3940؟، ثم إن ابن الزبير استخار الله ثلاثة أيام3941.(2/355)
…ثم عزم في اليوم الرابع على ذلك فرقت الناس وخرج بعضهم هارباً إلى الطائف وإلى عرفات ومنى وطلع ابن الزبير بنفسه واتخذ معه عبداً حبشياً دقيق السّاقين رجاء أن يكون ذا السُّويقتين الحبشي الذي يهدم الكعبة3942، فبدأ ينقض الرُّكن إلى الأساس فلمّا وصلوا إلى الأساس وجدوا أصلاً بالحجر مشبكاً كأصبع اليدين، فدعا ابن الزبير خمسين رجلاً وأشهدهم على ذلك، ثم بنى البيت وأدخل الحجر فيه3943، وجعل للكعبة بابين موضوعين بالأرض، باب يدخل منه، وباب يُخرج منه، ووضع الحجر الأسود بيده وشدَّه بفضة، لأنه كان قد تصدّع، وجعل طول الكعبة سبعة وعشرين ذراعاً، وكان طولها سبعة عشر ذراعاً فاستقصروه، وزاد في وسع الكعبة عشرة أذرع ولطخ جدرانها بالمسك، وسترها بالدِّيباج، ثم اعتمر من مساجد عائشة3944، وطاف بالبيت، وصلَّى وسعى وأزال ما كان حول البيت وفي المسجد من الحجارة والزّبالة، وما كان حولها من الدماء وكانت الكعبة قد وهت من أعلاها إلى أسفلها من حجارة المنجنيق واسوَدَّ الركن، وانصدع الحجر الأسود من النار التي كانت حول الكعبة، وكان سبب تجديد ابن الزبير لها ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من المسانيد والسُّنن من طرق، عن عائشة أم المؤمنين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لولا حدثان قومك بكفر لنقضت الكعبة ولأدخلت فيها الحجر، فإن قومك قصَّرت بهم النَّفقةُ ولجعلت لها باباً شرقياً وباباً غربياً يدخل الناس من أحدهما ويخرجون من الآخر، ولألصقت بابها بالأرض، فإن قومَك رفعوا بابها ليدخلوا من شاءُوا ويمنعوا من شاءُوا3945، فبناها ابن الزبير على ذلك كما أخبرته به خالته عائشة أم المؤمنين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجزاه الله خيراً، ثم لما غلبه الحجّاج بن يوسف في سنة 73هـ وقتله وصلبه هدم الحائط الشمالي وأخرج الحجر كما كان أولاً، وأدخل الحجارة التي هدمها إلى جوف الكعبة فرضَّها فيها، فارتفع البابُ، وسدَّ الغربيَّ وتلك آثاره(2/356)
إلى الآن، وذلك بأمر عبد الملك بن مروان له في ذلك، ولم يكن بلغه الحديث، فلمّا بلغه الحديث بعد ذلك قال: وددنا أنّا تركناه، وما تولى من ذلك3946.
ثالثاً : أسباب سقوط خلافة ابن الزبير:
…من خلال الدراسة تظهر للباحث أسباب عديدة في أسباب سقوط خلافة ابن الزبير وانتصار الأمويين ومن أهم هذه الأسباب:
1 ـ اتخاذ ابن الزبير الحجاز مقراً لخلافته:
…يجمع عدد من الباحثين على أن بقاء ابن الزبير في مكة كان من أهم أسباب أخفاقه3947، ولئن كان لتوجه ابن الزبير إلى مكة في بداية الأمر له مبرراته3948، إلا أن إصراره على البقاء فيها واتخاذها عاصمة لخلافته لم يكن في مصلحته وذلك لأن مكة بصفة خاصة والحجاز بصفة عامة لم يعد مكاناً صالحاً ليكون مركزاً لدولة كبيرة مترامية الأطراف، فمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها، فقدت دورها السياسي الذي قامت به المدينة إلى عهد عثمان بن عفان، ولما نشبت الفتنة وانتقل علي بن أبي طالب إلى الكوفة، واتخذها عاصمة له، ثم اتخذ معاوية بن أبي سفيان دمشق عاصمة له، بعد أن آلت إليه الخلافة ولم يعد للحجاز خاصة المدينة ومكة دورهما السياسي السابق ويمكن أن نجمل أثر بقاء ابن الزبير في مكة على حركته في النقاط التالية3949:(2/357)
أ ـ…الموقع: فمكة ـ كما هو معروف ـ من حيث الموقع بعيدة عن الشام والعراق وهما الإقليمان اللذان شهدا أهم مراحل الصراع بين ابن الزبير وبني أمية، فهذا البعد لم يتح لابن الزبير الاطلاع ومتابعة ما يحدث من صراع بين الموالين وخصومه، لاسيما مع ضعف إمكانات الاتصال، وبالتالي فإن ذلك لا يتيح لابن الزبير اتخاذ القرارات المناسبة إزاء ما يجري على الساحة بعكس خصومه الأمويين الذين كانوا يعيشون الأحداث مباشرة، ومن جانب آخر فإن مكة تقع في واد محصور بين عدة جبال شاهقة وهي أشبه ما تكون بالمصيدة لمن يعتصم بها حينما تحاصرها الجيوش من كل الجوانب، ويقطعون عنها الإمدادات، وكادت حركة ابن الزبير تخمد منذ وقت مبكر حينما حاصر الحصين بن نمير ابن الزبير داخل مكة سنة 64هـ لولا أن الله أنقذه بوفاة يزيد بن معاوية وانسحاب جيش الحصين إلى الشام.
ب ـ الناحية الاقتصادية: تعتمد مكة ـ بشكل خاص ـ والحجاز بشكل عام في موارده الاقتصادية على ما يأتيه من خارجها وخاصة من الشام ومصر، وانقطاع هذه الموارد يتسبب في إحداث مجاعة ترهق المقيمين فيه، وقد أفاد بنو أمية من هذا العامل إفادة كبيرة في صراعهم مع ابن الزبير، فبعد سقوط مصر والشام في أيدي الأمويين انقطعت الإمدادات التي تصل إلى المدينة3950، وبطبيعة الحال فإن مكة فسينالها ما نال المدينة كما لجأ الأمويون إلى هذا السلاح أيام الحصار الأول والثاني3951.(2/358)
جـ ـ الموارد البشرية: تبع قيام حركة الفتوح الإسلامية هجرة العديد من القبائل إلى الأقاليم المفتوحة وتركزت معظم هذه القبائل في العراق، والشام ومصر3952، وقد ترتب على ذلك اختلال معادلة التوزيع السكاني لترجيح كفة هذين الإقليمين على الحجاز الذي عانى من نقص الكوادر البشرية، وهذا النقص في الواقع لم يتح لابن الزبير تكوين جيش قوي يكون مستعداً في أية لحظة لمهاجمة الخصم، أو على أقل تقدير لصد هجومه، ولذلك نجد أن ابن الزبير إزاء هذا الوضع يلجأ دائماً إلى طلب الإمدادات من العراق وهو بذلك يربط تحركاته بما يكون عليه الوضع في هذا الإقليم من حيث استقراره، واستعداد واليه لإرسال المدد، وهذا مما يفوت على ابن الزبير الكثير من الفرص3953.(2/359)
2 ـ سياسة ابن الزبير الإدارية والمالية: لئن وفق ابن الزبير في تعيين بعض ولاته إلا أن هذا التوفيق لم يكن حليفه في جميع الأحوال، ويبدو أن بقاء ابن الزبير في الحجاز وعدم خروجه إلى الأقاليم الإسلامية لم يتح التعرف على أهل هذه الأقاليم، وطبائعهم وإتجاهاتهم، وتكوين تصور عام عنهم يعينه على اختيار الولاة المناسبين، ولعل أبرز مثال على اضطراب سياسة ابن الزبير في هذا المجال هو العراق ـ بمصرية الكوفة والبصرة ـ ذلك الإقليم الذي كان يعج بالتيارات المختلفة ـ العقدية والقبلية ـ والذي يحتاج إلى نوعية خاصة من الولاة تحسن التعامل مع أهله، فلو نظرنا إلى ولاة ابن الزبير على إقليمي العراق وسيرتهم لوجدنا ما يدلل على ذلك، ومن ولاته على الكوفة عبد الله بن مطيع العدوي الذي لم يستطع أن يواجه المختار بن أبي عبيد الثقفي، وهرب من أمامه وخلى بينه وبين الكوفة3954، وبشكل عام لم يستطع ولاة ابن الزبير ضبط هذا الإقليم الحيوي والاستفادة من طاقات أهله في حرب الأمويين، فقد كان فيه الرجال والأموال، بل على العكس من ذلك فقد كان هذا الإقليم سبباً مباشراً في سقوط خلافة ابن الزبير، وذلك حينما تواطأ أهله مع الأمويين ضد مصعب بن الزبير، أما فيما يتعلق بصلة ابن الزبير بولاته، فيلاحظ أن ابن الزبير كان يخلي بينه وبين واليه والإقليم الذي حكمه ويكل إدارته والقيام بشئونه حتى في القتال ضد الخصوم، ولم يكن ابن الزبير يتدخل في ذلك، فالصلة بين ابن الزبير وبعض ولاته تكاد تكون مقطوعة مما ترتب عليه سقوط بعض الأقاليم في يد الأمويين، في الوقت الذي كان ابن الزبير يقيم في مكة، ولعل ما حدث لقرقيسياء يدل على ذلك فقد كان زفر بن الحارث الكلابي والياً على هذا الإقليم وكان يقاتل عبد الملك بن مروان عدة سنوات، وأعاق تقدمه إلى العراق، ولما طال عليه الأمد ولم يقدم له ابن الزبير أي عون أضطر في النهاية إلى التسليم لعبد الملك بن مروان بعد أن أقنعه(2/360)
ابنه الهذيل بن زفر بأن عبد الملك بن مروان خيراً له من ابن الزبير3955، وأما عن سياسة ابن الزبير الاقتصادية فبالإضافة إلى قلة موارد ابن الزبير الاقتصادية، يلاحظ أنه كان متأثراً في نظرته لما بين يديه من المال بأسلافه من الخلفاء الراشدين وخاصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأراد أن يسلك مسلكهم في طريقة الإنفاق، فأصبح ينظر إلى هذا المال أنه مال الله، وهو حق المسلمين، ولا يجوز أن يصرف إلا في أوجهه الشرعية، وتشدد في ذلك وهذه السياسة لم ترق للكثيرين في ذلك العصر لأن الناس ـ كما يقول د. العش ـ لم يكونوا قادرين على فهم هذه السياسة وقبولها3956، فلم يسخر ابن الزبير هذا المال في توطيد حكمه، وتقوية صفه وكسب الأنصار، من الأعيان والمؤيدين واستمالتهم لمشروعه الشوري، وبطبيعة الحال لقد خسر ابن الزبير الكثير من المناصرين، خصوصاً إذا عرفنا بأن الأمويين كانوا يغدقون الأموال على والشعراء والأعيان والزعماء لكسبهم.
3 ـ عدم استيعابه لزعماء العراق: كثير من زعماء القبائل يمكن للحكام أن يستوعبوهم بالأموال والعطايا، فسلاح المال خطير يجذب القلوب ويأثر في النفوس، فقد روي أن أخاه مصعباً ذهب إليه بعد مقتل المختار بزعماء أهل العراق وقال له: يا أمير المؤمنين: قد جئتك بزعماء أهل العراق وأشرافهم كل مطاع في قومه، وهم الذين سارعوا إلى بيعتك، وقاموا بإحياء دعوتك، ونابذوا أهل معصيتك، وسعوا في قطع عدوك، فاعطهم من هذا المال: فقال لهم:... جئتني بعبيد أهل العراق وتأمرني أن أعطيهم مال الله، لا أفعل وأيم الله لوددت أن أصرفهم كما تصرف الدنانير بالدراهم، عشرة من هؤلاء برجل من أهل الشام3957، وجاء في رواية: فقال له أبو حاضر الأسيدي ـ وكان قاضي الجماعة بالبصرة ـ إن لنا ولكم مثلاً مضى يا أمير المؤمنين وهو ما قال الأعشى:
…………عُلقِّتُها عرضاً وعُلِّقَت رجلاً
……………………غيري وعُلِّقَ أُخرى غيرها الرَّجل
……(2/361)
…عُلَّقناك يا أمير المؤمنين وعُلَّقت أهل الشام، وعُلَّق أهل الشام إلى مروان، فما عسينا أن نصنع؟ قال الشعبي: فما سمعت جواباً أحسن منه3958، ثم بعد ذلك خلعوا ابن الزبير وكتبوا إلى عبد الملك بن مروان أن أقبل إلينا3959.
4 ـ عدم بيعة زعماء بني هاشم له ومعارضاتهم لدولته: فقد امتنع عن بيعته عبد الله بن عباس، ومحمد بن علي بن أبي طالب ـ ابن الحنفية ـ وغيرهم. ولم يعاملهم بالرفق واللين، بل اشتد عليهم في بعض الأحيان3960.
5 ـ إسراف أخيه مصعب في الدماء بعد القضاء على المختار: فقد جاء مصعب إلى ابن عمر فسلم عليه فقال: من أنت؟ قال: أنا ابن أخيك مصعب بن الزبير. قال: صاحب العراق؟ قال: نعم. قال لابن عمر: أسألك عن قوم خالفوا وخلعوا الطاعة وقاتلوا حتى إذا غلبوا دخلوا قصراً وتحصنوا فيه وسألوا الأمان على دمائهم فأعطوا، ثم قتلوا بعد ذلك، قال:.. يا مصعب لو أن امرؤ أتى ماشية الزبير فذبح منها خمسة آلاف شاة في غداة أكنت تعده مسرفاً؟ فسكت مصعب. فقال: أجبني، قال: نعم، إني لأعد رجلاً يذبح خمسة آلاف شاة في يوم مسرفاً. قال: أفتراه إسرافاً في البهائم؟ لا تعبد الله وما تدري ما الله، وقتلت من وحد الله؟ أما كان فيهم مستكره يراجع به التوبة أو جاهل ترجى رجعته3961؟ فهذا القتل الكثير في أهل العراق أوغر عليه صدور عشائرهم وليس ببعيد أن يكون موقفهم منه في معركة دير الجاثليق له علاقة بهذه الأحداث، فالذي قتل مصعباً هو زياد بن ظبيان، فلما ذهب إلى عبد الملك أمر له بألف دينار فرفض ابن ظبيان أن يأخذ شيئاً وقال لعبد الملك: لم أقتله على طاعتك فإنما قتلته عل قتل أخي النابيء3962، وقيل اشترك في قتله زائدة بن قدامة الثقفي وقال حين قتله: يا لثارات المختار3963.(2/362)
6 ـ تهاون ابن الزبير في أمر الأمويين: كان الأولى أن يعمل ابن الزبير على منع الأمويين من الخروج من المدينة إلى الشام وبخاصة مروان بن الحكم وابنه عبد الملك، ولو فعل ابن الزبير ذلك لما وجد الأمويون من يلم شعثهم، ويعيد السلطة ثانية، فلم يفكر مروان بن عبد الملك في الخلافة إلا بعد ما خرج من المدينة ووصل الشام، ولم يبذل الجهد المطلوب في دعم مناصريه في الشام، كخروجه على جيش كبير لضبط الأمور بها والقضاء على فتنة الأمويين عند ظهورها.
7 ـ إهماله الدعاية والإعلان: وأقصد بذلك عدم اهتمامه بالشعراء وإغداق الهدايا عليهم، صحيح أن دعوة عبد الله بن الزبير أيدها مجموعة من الشعراء كعبيد الله بن قيس الرقيات3964، الذي قال:
……………أنت ابن معتلج البطاح
……………………كُدَيَّها فكَدَائِها
……………فالبيت ذي الأركان
……………………فالمستن من بطحائها
…إلى أن قال:
……………ولدت أغرَّ مباركاً
……………………كالبدر وسط سمائها
……………في ليلية لا نحس فيه
……………………سحريها وعشائها
……………إن البلاد سوى بلادك
……………………ضاق عرض فضائها
……………فاجمع بني إلى بنيك
……………………فأنت خير رعائها
……………نشهدك منا مشهداً
……………………ضنكاً على أعدائها
……………نحن الفوارس من قريش
……………………يوم جد لقائها3965
…………………
إلا أن المعركة الإعلامية انتصر فيها الأمويون إنتصاراً كبير على ابن الزبير، فقد كانوا يعطون الشعراء ويشترون الناس بالأموال، فهذه أعشى ربيعة من الشعراء الأمويين يقول:
……………آل الزبير من الخلافة كالتي
………………… عجل النتاج بحملها فأحالها
……………أو كالضعاف من الحمولة حُملت
………………… مالا تطيق فضيعت أحمالها
……………قوموا إليهم لا تناموا عنهم
………………… كم للغواة أطلتم إمهالها
……………إن الخلافة فيكم لا فيهم
………………… ما زلتم أركانها وثمالها
……………أمسوا على المعروف قفلا مغلقاً
………………… فانهض بيمنك فافتتح أقفالها3966(2/363)
وسيأتي الحديث عن اهتمام عبد الملك بالشعر والشعراء في الصفحات القادمة بإذن الله تعالى.
8 ـ استخدام الشدة والقوة مع أخيه عمرو بن الزبير:
إن الطريقة التي اتبعها ابن الزبير في القضاء على أخيه عمرو بن الزبير بعد ما وقع في الأسر جعلت الناس ينظرون إليه على أنه رجل تنقصه العاطفة والشفقة، وكان لذلك مرده السيء على تعاطف الناس مع قضيته، فعمرو بن الزبير كان يضرب الناس في المدينة بناء على تهم موجهة إليهم بشأن تعاطفهم وتعاملهم مع ابن الزبير وكان معيناً من قبل الدولة وكانت قرارته يتخذها بطبيعة عمله، وإن كان فيها شيء من التجني والخطأ والظلم، وبالتأكيد كان الكثير من الناس يتمنون أن يقوم ابن الزبير نفسه بحبسه، أو أن يطلب من كل الذين يدّعون على عمرو بن الزبير بأنه ظلمهم أن يسامحوه ويصفحوا عنه، ويغفروا له خطأه3967، لقد اعتبر البعض أن ابن الزبير ما هو إلا طالب سلطة ودولة وإلا لما تعامل مع أخيه بتلك القسوة3968، واستغل تلك الحادثة الشعراء الخصوم فقد قال الضحاك بن فيروز الديلمي ساخراً من ادّعاء عبد الله بن الزبير الزهد والصلاح:
تخبرنا أن سوف تكفيك قبضة
وبطنك شبرٌ أو أقلُّ من الشبر
وأنت إذا ما نلت شيئاً قضمته
كما قضمت نار الغضا حطب السدر
فلو كنت تجزي أو تبيت بنعمة
…………قريباً لردتك العطوف على عمرو3969
وقال عبد الله بن الزبير الأسدي مؤلِّباً على ابن الزبير داعياً عليه:
………تحدث من لاقيت أنك عائذ
…………………وصرّعت قتلى بين زمزم والركن
………قتلتم أخاكم بالسياط سفاهة
…………………فيالك للرأي المُشَلَّلِ والأَفْن3970
إلى أن قال:
………قطعت من الأرحام ما كان واشجاً
…………………على الشَّيب وابتعت المخافة بالأمن3971
9 ـ تفوق خصوم ابن الزبير:(2/364)
…ليس بمستغرب أن يتفوق بنو أميه على ابن الزبير، الذي لم تتح له الفرصة لأن يتولى إقليماً من الأقاليم ليكتسب الخبرة، في حين أن بني أمية تهيأت لهم العديد من الفرص خاصة بعد أن آلت الخلافة إليهم في عهد معاوية بن أبي سفيان، وفي الجانب العسكري، نلمس تفوق بني أمية على ابن الزبير من حيث التكتيك الحربي، وقيادة الجيوش ولعل من أبرز ما يلاحظ في ذلك أن مروان بن الحكم قد خرج بنفسه على جيش كبير لضم مصر ثم ابنه عبد الملك باشر حرب العراق بنفسه وهذا أتاح لهما التعرف على ما يدور في ساحة القتال عن كثب، كما أنه يعطي المقاتلين دفعة معنوية كبيرة، وفي المقابل نجد ابن الزبير يعتمد على قواده أو ولاة الأقاليم في حروبه ولم يغادر مكة قط، وقد انتقد عبد الملك بن مروان هذه السياسة فقال: إن عبد الله بن الزبير لو كان خليفة كما يزعم لأبدى صفحته، وآسى أنصاره بنفسه، ولم يغرز ذنبه في الحرم3972، ويلاحظ أيضاً أن بني أمية منذ صراعهم مع ابن الزبير كانوا دائماً في موضع المهاجم بعكس ابن الزبير الذي ظل في موقف الدفاع3973.
10 ـ الظروف التي نشأت فيها حركة ابن الزبير:
…إن من الإنصاف أن تذكر أن الظروف السيئة التي وجدت فيها حركة ابن الزبير ساهمت إلى حد كبير في سقوط خلافته، تمثلت هذه الظروف بظهور التيارات والاتجاهات المذهبية، والقبلية، وانعدام الاستقرار السياسي الذي هو من أهم الشروط لقيام حكم مستقر، لقد أشغل الخوارج ابن الزبير كثيراً، كما أن حركة المختار أخذت من جهده ووقته ورجاله، فهذه الحركات ذات المنطلقات العقائدية أشغلت ابن الزبير كثيراً عن التفكير في تنظيم دولته، كما استنزفت الكثير من طاقاته المادية والبشرية3974
11 ـ رابعاً : رثاء عبد الله بن الزبير:(2/365)
…رثى ابن الزبير بقصائد كثيرة مبكية حزينة حفظها لنا التاريخ، ولم تهملها الليالي، ولم تفصلها عنّا حواجز الزَّمن، ولا أسوار القرون ومما قيل في رثائه ما قاله عبد الله بن أبي مسروح:
…………لقد أدركت كتائب أهل حمص
……………………لعبد الله طرفاً غير وعل
…………شجاع الحرب إذ شدّت وقوداً
……………………وللحادين خيرُ محلّ رحل
…………ومن ذا يكره الأبطال منه
……………………إذا اعتنشوا طريقاً غير سهل
…………فمال الشامتين بنا أصيبوا
……………………وقلُّوا من سراتهم لمثلِ3975
وقال قيس بن الهيثم السلمي:
…………فقدنا مصعباً وأخاه لمّا
……………………نَفَتْ سماؤهما المحُولا
…………وكنا لا يرام لنا حريم
……………………تُسحّبُ في مجالسنا الذيولا
…………إذا أمن الجناب وإن فزعنا
……………………ركبنا الخيل واجتنبنا الشَّليلا
…………ونرمي بالعدواة من رمانا
……………………ونوطئهم بها وطأ ثقيلاً
…………فيا لهفي ولهف أبي وأمي
……………………لقد أصبحت بعدهما ذليلا
…………ويا لهفاً على ما فات مني
……………………ألا أصبحت في القتلى قتيلا
…………ولم أصبح لأهل الشام نَصْباً
……………………يذكرني ابن مروان الذُّحولا
………فلا رفداً يعدّ ولا غناء
……………………ولا إذْناً ولا حبساً جميلا
…………ولكن بين ذلك بين بين
……………………لقد ضلّ ابن مروان السبيلا3976…
الفصل السابع
عهد أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان دون الفتوحات(2/366)
اجتمعت الأمة بعد مقتل عبد الله بن الزبير على عبد الملك بن مروان وأصبح الخليفة الشرعي وهو أول خليفة ينتزع الخلافة بقوة السيف والقتال، مما اثر على الفقه السياسي بعد ذلك أكبر الأثر، فإذا كان معاوية قد أصبح خليفة بعد الصلح مع الحسن بن علي وإجتماع الأمة عليه طواعية عام الجماعة، وإذا كان ابنه يزيد قد بويع من الأمصار في حياة أبيه ثم بعد وفاته، وإذا كان ابن الزبير قد بويع بعد وفاة يزيد وهو بمكة من عامة الأمصار عن رضا واختيار، فإن عبد الملك أول خليفة انتزع الخلافة انتزاعاً وبايعه كثير من الناس، بعد أن قتل عبد الله بن الزبير ليبدأ عصر الخليفة المتغلب وهو ما لم يكن للأمة به عهد من قبل، لقد أجمع الصحابة ـ رضي الله عليهم ـ على أن الإمامة إنما تكون بعقد البيعة بعد الشورى والرضا من الأمة، كما أجازوا الاستخلاف بشرط الشورى ورضا الأمة بمن اختاره الإمام، وعقد الأمة البيعة له بعد وفاة من اختاره دون إكراه، كما أجمعوا على أنه لا يسوغ فيها التوارث ولا الأخذ لها بالقوة والقهر، وأن ذلك من الظلم المحرم شرعاً3977. قال ابن حزم: لا خلاف بين أحد من أهل الإسلام أنه لا يجوز التوارث فيها3978، غير أن الأمر الواقع بدأ يفرض نفسه، وصار بعض الفقهاء ـ بحكم الضرورة ـ يتأولون النصوص لإضفاء الشرعية على توريثها وأخذها بالقوة لتصبح هاتان الصورتان بعد مرور الزمن هما الأصل الذي يمارس على أرض الواقع، وما عداهما نظريات لا حظ لها من التطبيق العملي3979، إلا في حالات نادرة.
وأصبحت سنة هرقل وقيصر بديلاً عن سنة أبي بكر وعمر؟3980.(2/367)
وقد أجاز كثير من الفقهاء طريق الاستيلاء بالقوة من باب الضرورة مع إجماعهم على حرمتها مراعاة لمصالح الأمة وحفاظاً على وحدتها وأصبح الواقع يفرض مفاهيمه على الفقه والفقهاء، وصارت الضرورة والمصلحة العامة تقتضي تسويغ مثل هذه الطرق إن الاستبداد والاستيلاء على حق الأمة بالقوة، وإن كان يحقق مصلحة آنية ـ إلا أنه يفضي إلى ضعف الأمة مستقبلاً وتدمير قوتها وتمزيق وحدتها، كما هو شأن الاستبداد في جميع الأعصار والأمصار وأن ما يخشى من افتراق المسلمين بالشورى خير من وحدتهم بالاستبداد على المدى البعيد3981، وإن الاستمرارية في ممارسة الشورى مع ما يعتريها من عوائق ومصاعب تثري الأمة في الفقه السياسي وتقطع بها مسافات كبيرة في هذا المجال ولهذا تعثر الفقه السياسي في مسيرته التاريخية ولم ينطلق الانطلاقة المطلوبة منه بسبب النظام الوراثي والاستبدادي.(2/368)
إن عبد الملك بن مروان شق طريقه نحو الملك بسفك الدماء وقتل الأبرياء والخروج على الخليفة الشرعي عبد الله بن الزبير، فلم يراعي حرمته كصحابي جليل، ولم يلتمس عذراً لابن عمه عمرو بن الأشدق، ويحرص على الوفاء لعهده، ولم يحترم الزمالة والصداقة مع مصعب بن الزبير،، ولا ننكر بأن عبد الملك بن مروان كان من عقلاء الرجال ودهاتهم، ومن أكثرهم حزماً وشجاعة وإقداماً3982، وقد أثبت عبد الملك كفاءة عالية في إدارة الدولة وسياستها وكان غير هياب يمضي إلى هدفه بعزيمة ثابتة، ولا يعرف اليأس إلى نفسه سبيلا، ولا يتردد عن قيادة المعارك بنفسه، ولقد استطاع بعد جهود جبارة أن يعيد الوحدة ويجمع شمل الأمة الإسلامية وأن يصفي خصومه الواحد بعد الآخر، بالصبر والجلد والمثابرة، وعمل على توطيد دعائم دولته ونجح في ذلك نجاحاً فائقاً، ولم تكن تأخذه هوادة أو رحمة بكل من يحاول أن يعكر صفو الدولة أو يخرج عليها وقد استحق عبد الملك عن جدارة لقب المؤسس الثاني للدولة الأموية، بعد معاوية مؤسسها الأول3983، وقد عمل على توطين الأمن في البلاد وتفرغ للخوارج وقمع الثورات، ومن أشهر الحركات التي خرجت في عهده، حركة الأزارقة والصفرية وابن الأشعث واستطاع أن ينتصر عليها جميعاً، إن عبد الملك بن مروان أصبح أمير المؤمنين بعد مقتل ابن الزبير وبيعة المسلمين له ومذهب عامة أهل السنة والجماعة، أن الإمامة يصح أن تنعقد لمن غلب الناس، وقعد بالقوة في موضع الحكم3984، إلا أنه يجب أن يفهم أن هذه حال ضرورة والضرورات تبيح المحظورات فهذه حال إلجاء واضطرار كأكل الميتة ولحم الخنزير، وقبولها لأنها خير من الفوضى التي تعم الناس. وعلى هذا فإنه يجب ألا توطن الأمة نفسها على دوام هذا الوضع، بل يجب عليها أن تعمل على تغيير الإمامة الناقصة بإمامة كاملة مستوفاة الشروط المطلوبة في الإمام الحق بالوسائل التي لا يكون فيها فتنة بين الناس، ويجب السعي دائماً لأن يكون الإمام(2/369)
آتياً عن الطريق الصحيح وهو طريق أهل الحل والعقد، ومع إن إمامة المتغلب تنعقد نظراً إلى حال الضرورة كما قلنا، إلا أن الغالبية العظمى من علماء المسلمين لم يجيزوا أن يكون القهر طريقاً لانعقاد إمامة الكافر للمسلمين3985، وإذ حال القهر يمكن أن يتسامح فيها في بعض شروط الإمامة كالعلم أو العدالة أو البلوغ، إلا أن شرط الإسلام لا يمكن أبداً إسقاطه عن الإمام، وعلى هذا، فلو تغلب كافر على هذا المنصب فلا يجوز شرعاً ـ كما يرى ذلك الجمهور ـ السكوت على هذا الوضع ويجب خلع هذا المتغلب بقوة السلاح3986لأن الله سبحانه يقول: ((وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا)) (النساء ، الآية : 141) .
المبحث : الأول القضاء على حركة الخوارج:
ظل الخوارج فرقة واحدة يتبنون أفكاراً ومبادئ واحدة بصفة عامة إلى ما بعد وفاة يزيد بدأوا ينشقون على أنفسهم وكلما اختلف أحدهم مع رفاقه في الرأي، انشق عنهم مكوناً له فرقة خاصة، حتى وصل عدد فرقهم إلى أكثر من ثلاثين فرقة3987، ومن أشهر فرق الخوارج التي قاتلها عبد الملك الأزارقة والصفرية.
أولاً الأزارقة: هم أتباع نافع بن الأزرق ، الذين يعدون أشد فرق الخوارج تطرفاً في الأفكار والمبادئ وجنوحاً إلى العنف، وكان زعيم هذه الفرقة هو أول من أحدث الخلاف بين الخوارج لتطرفه، فقد برئ من القاعدين، الذين لا يخرجون معه للقتال، كما قال بكفر من لم يهاجر إليه3988. فضلاً عن إباحته أموال ودماء مخالفيه، وتكفيره لمرتكب الكبيرة وحكمه بخلوده في النار3989ومن أهم ما تميزت به هذه الفرقة.
ـ الانفصال الكامل عن المجتمع المسلم، حيث زعم نافع وأتباعه أن دار مخالفيهم دار كفر.
ـ إيمانهم بمبدأ الاستعراض فكانوا يتعرضون للناس بالقتل والنهب، فقد أباحوا لأنفسهم قتل الرجال والنساء والصبيان((من المسلمين)).(2/370)
ـ أنهم كفروا القعدة. ونافع أول من أظهر البراءة من القعدة عن القتال، وإن كانوا موافقين له على دينه وكفر من لم يهاجر إليه فهذه من أهم البدع الني فارق بها الأزارقة بقية الخوارج3990.
فارق الأزارقه بقيادة نافع بن الأزرق عبد الله بن الزبير عند ما تبين لهم أنه لم يكن على رأيهم فيما يذهبون إليه، وقد أنبث أفراد هذه الفرقة الخارجية في مناطق البصرة والأهواز وما وراءها من بلاد فارس وكرمان في أيام عبد الله بن الزبير وصاروا يحاربون المسلمين جهاراً3991، وجاءت تولية المهلب على حرب الأزارقة بناء على اختيار أهل البصرة له واقتران ذلك بموافقة عبد الله بن الزبير3992، إلا أن المهلب لم يخرج لقتالهم إلا بعد أن اشترط على أهل البصرة جملة شروط أجابوه إليها، فخوّل الحق باختيار من يشاء من المقاتلة، وأن تكون له أمرة وخراج كل بلد يقع في حوزته3993، وانتخب المهلب اثني عشر ألف رجل من أخماس البصرة، ولم يكن بيت المال سوى مئتي ألف درهم عجزت عن عطاء الجند وعن تجهيزاتهم، فبعث المهلب إلى التجار وقال لهم أن تجارتكم منذ حول قد كُسرِت بانقطاع موارد الأهواز وفارس عنكم، فهلمّ فبايعوني وأخرجوا معي أُوفيكم إن شاء الله حقوقكم، فأخذ منهم من المال ما يصلح به عسكره، واتخذ لأصحابه ما يلزم من التجهيزات، فلما انتصر المهلب على الخوارج، قام بجباية الخراج من الكور حتى قضى للتجار ما أخذ منهم3994.(2/371)
استمر المهلب يقاوم الخوارج ما يقرب من عامين، ثم استدعاه مصعب بن الزبير الذي أصبح والي البصرة من قبل أخيه عبد الله ليشترك معه في حرب المختار الثقفي سنة 67هـ وبعد هزيمة المختار عين مصعب المهلب والياً على الموصل والجزيرة وأذربيجان وأرمينية3995، ولكن أحد لم يستطع أن يقوم مقام المهلب في مقاومة الخوارج مما اضطر مصعباً أن يستدعيه من الموصل ليتولى قتالهم من جديد3996، وبينما المهلب يقاوم الخوارج في الأهواز تمكن عبد الملك بن مروان من سيطرة الدولة الأموية على العراق، بعد مقتل مصعب بن الزبير سنة 72هـ3997، وولي أخاه بشر بن مروان على العراق وأمره بإبقاء المهلب على حرب الخوارج ومساعدته، فعمل بشر بما أمره به أخوه وبرهن المهلب على إخلاصه في حرب الخوارج الأزارقة مهما كانت السلطة التي تصدر إليه الأوامر3998، فكما قاتلهم تحت لواء آل الزبير استمر يقتالهم تحت لواء عبد الملك، ولما أسندت ولاية العراق إلى الحجّاج بن يوسف الثقفي سنة 75هـ جدّ في مساعدة المهلب وحشد له العراقيين وشد أزره، فاشتد في مقاومتهم حتى تمكن من القضاء على خطرهم، وقد أتاح له الخوارج أنفسهم فرصة كسر شوكتهم عندما انقسموا على أنفسهم قسمين، قسم تزعمه رجل اسمه عبد ربه فقد قضي عليه المهلب نهائياً3999، وأما قطري بن الفجاءة ومجموعته فقد رحلوا إلى طبرستان، ولكن المهلب تمكن من القضاء عليهم سنة 77هـ بمساعدة جيش أرسله إليه الحجّاج بقيادة سفيان بن الأبرد الكلبي4000، وهكذا قضى المهلب على خطر من أكبر الأخطار التي هددت الدولة الأموية في عهد عبدالملك بن مروان، وهم الخوارج الأزارقة الذين كان مسرح عملياتهم العراق وبلاد فارس وكرمان والأهواز، واستمرت حركتهم ثلاثة عشر عاماً 65 ـ 78هـ4001.
1 ـ وصف المهلب بن أبي صفرة الأزدي وشيء من أقواله:(2/372)
…وصف المهلب بأنه كان نزر الكلام وجيزه، يفضل فعله على لسانه4002، متلطفاً في إجاباته4003، كاتماً للسر4004، حليماً في موضع الحلم، شديداً في موضع الشدة، وإن كان الحلم أغلب عليه، فيروى أن رجلاً شتمه فلم يرد عليه: فقيل له لم حلمت عنه؟ قال: لم أعرف مساويه وكرهت أن أبهته بما ليس فيه4005، واتصف المهلب بصبره واناته في أعماله وحروبه وكان يقول: إناة في عواقبها فوت خير من عجلة في عواقبها درك4006، وعندما كان الحجّاج يستعجله بمناجزة الأزارقة الخوارج، أجابه بقوله: إن البلاء كل البلاء أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره4007، ومما اشتهر به المهلب في حروبه هو إعداده للبيات وأحكامه الأمور4008، أي أنه كان يباغت أعداءه بشن الهجوم عليهم ليلاً فيحرز انتصارات مؤزرة، واشتهر المهلب بكرمه وسخائه، ومن أقواله لأبنائه في هذا الباب: ما رأيت أحداً بين يدي قط إلا أحببت أن أرى ثيابي عليه، واعلموا يا بني أن ثيابكم على غيركم أحسن منها عليكم4009، وكان يحرص على شراء ود الناس وله قول مأثور في ذلك: عجبت لمن يشتري المماليك بماله ولا يشتري الأحرار بمعروفه4010، وقيل له بما ظفرت؟ قال: بطاعة الحزم، ومعصية الهوى4011.
2 ـ من أساليب المهلب في قتال الخوارج:(2/373)
…كانت سياسة المهلب تقوم على النفس الطويل في محاربة الخوارج وكان ينتظر تفجيرهم من الداخل، حتى يهون عليه أمرهم ويسهل القضاء عليهم، فقد كتب إلى الحجّاج: إني انتظر منهم ثلاث خصال: موت صاحبهم قطري بن الفجاءة أو فرقة وتشتيتاً أو جوعاً قاتلاً4012، ولم تخطيء تقديرات المهلب للخوارج إذ سرعان ما دبّ الشقاق في صفوف الأزارقة، فما كان من المهلب إلا أن انتهز الفرصة فصعّد الخلاف في صفوفهم، فعمد إلى حيلة ناجحة، فقد عرف بين الخوارج رجلاً يصنع السهام المسمومة، فأرسل المهلب أحد أصحابه، بكتاب أمره أن يلقيه بين عساكر قطري سراً كتب فيه: أما بعد، فإن نصالك وصلت وقد أنفذت إليك ألف درهم. فلما استوضح عن الصانع أنكر فقام قطري بن الفجاءة بقتله، فخالفه بذلك عبد ربه الكبير ووقع خلاف جديد4013. وتعميقاً للخلاف في صفوف الخوارج جنّد المهلب رجلاً نصرانياً وأمره أن يسجد لقطري بن الفجاءة فلما شاهده الخوارج أنكروا ذلك عليه وقتلوا النصراني واتهموا زعيمهم بتأليه نفسه4014. وأخذ الخوارج يقتتلون فيما بينهم، بينما المهلب ينتظر النتائج النهائية، التي تسفر عنها هذه التصفيات ليتفرغ لها مما جعله لا يمتثل لأمر الحجّاج عندما طالبه بمقاتلتهم، بل كتب له: إني لست أرى أن أقاتلهم ما دام يقتل بعضهم بعضاً، فإن تمّوا على ذلك، فهو الذي تريد وفيه هلاكهم، وإن اجتمعوا لم يجتمعوا إلا وقد رمق بعضهم بعضاً، فأناهضهم حينئذ، وهو أهون ما كانوا وأضعهم شوكة إن شاء الله تعالى4015، فكف عنه الحجّاج، وتركهم المهلب يقتتلون شهراً لا يحركهم4016، ثم سار إليهم المهلب وتهيأت له الخوارج بقيادة عبد ربه الكبير ثم تلا ذلك قتل شديد تمكن المهلب في نهايته من طردهم من جيرفت، ثم لاحقهم حتى هزمهم هزيمة منكرة، وقتل زعيمهم عبد ربه ولم ينج منهم إلا عدد قليل4017، ولعل نجاح المهلب يعود إلى أسلوبه الحربي، الذي يعتمد على المطاولة ويتجنب العجلة، بجانب قيادته الحكيمة(2/374)
وشجاعته وخبرته العسكرية ومكره في الحروب4018. قال الشاعر:
…………قد يدرك المرء بالتدبير ما عجزت
……………………عنه الكمأة ولم يحمل على بطل
…ونتيجة انتصاراته ضد الخوارج فقد رأى فيه الخليفة عبد الملك بأنه قادر على إيجاد التوازن بين الأطراف القبلية المتنازعة فولاّه على خراسان، فمكث فيها خمس سنوات إلى أن توفي عام 82هـ4019.
3 ـ قطري بن الفجاءة التميمي: خرج زمن مصعب بن الزبير، فبقي عشرين سنة يقاتل ويسلم عليه بالخلافة4020 ـ عند الخوارج الأزارقة ـ وهزم الجيوش، واستفحل بلاؤه، جهز إليه الحجّاج جيشاً بعد جيش فيكسرهم، وغلب على بلاد فارس، وله وقائع مشهودة، وشجاعة لم يسمع بمثلها وشعر فصيح سائر4021 فله:
…………أقول لها وقد طارت شعاعاً
……………………من الأبطال ويحك لن تراعي
…………فإنك لو سألت بقاء يوم
……………………على الأجل الذي لك لم تطاعي
…………فصبراً في مجال الموت صبراً
……………………فما نيل الخلود بمستطاعِ
…………ولا ثوب الحياة بثوب عزٍّ
……………………فيطوى عن أخي الخنع اليراع
…………سبيل الموت غاية كل حيٍّ
……………………وداعية لأهل الأرض داعي
…………ومن لم يُعتبط يهرم ويسأم
……………………وتُسلمه المنون إلى انقطاع
…………وما للمرء خيرٌ في حياة
……………………إذا ما عُدَّ من سقط المتاع4022
وقد أرسل الحجّاج لحربه سفيان بن الأبرد الكلبي فانتصر عليه وقتله، وقيل عثر به الفرس، فانكسرت فخذه بطبرستان، فظفروا به وحُمل رأسه سنة تسع وسبعين إلى الحجّاج، وكان خطيباً بليغاً كبير المحلِّ من أفراد زمانه4023.
ثانياً : الخوارج الصفرية:(2/375)
…الخوارج الصفرية هم أحد فرق الخوارج الرئيسية وفي تعيين نسبتهم أقوالاً عدة، فقيل إنهم أتباع زياد بن الأصفر، وقيل: ابن عبد الله بن صفار وقيل: عبد الله بن قبيصة وأطلق عليهم ذلك اللقب لأن العبادة أنهكتهم فاصفرت وجوههم فنسبوا إلى تلك الصفرة4024، وأي كان ذلك السبب فقد بدأت خطورة أمرهم من الصالحية أو أتباع صالح بن مسرح التميمي، ذلك الرجل الذي كان موطنه بين نصيبين ومساروين وهو مؤسس فرقة الخوارج الصالحية وسمت هذا الرجل الصمت والهدوء، وعدم التعجل لذا ظل يعلم الناس في هدوء وسكينة عشرين سنة4025، وكان من أهم أتباعه وأنصاره، ذلك الرجل المقدام الذي دوّخ جيوش الحجّاج في مواقع عدة، وهو شبيب بن يزيد الشيباني، والذي كان يسكن في الجانب الأيمن من الفرات في صحراء الكوفة، وبدأ أمر الخوارج يعلو ولاسيما بعد محاولة شبيب اغتيال عبد الملك بن مروان في موسم الحج لولا وصول الخبر إلى عبد الملك فأخذ حذره وانقضى الموسم بسلام وبدأ الحجاج في التضييق على صالح وأتباعه، فنزلوا جميعاً وبعثوا إلى إخوانهم واستعدوا للخروج على دولة الخلافة، وكان الرجل من الخوارج كأنه جيش بمفرده بعدته وعتاده، وكان وقعات الخوارج مع جيوش الحجّاج كثيرة العدد وقد بدأت هذه الفرقة بالخروج على دولة الخلافة وهم مائة وعشرون4026. وكانت بداية هذه الثورة من الموصل في شمال العراق وكانت ثورة خطيرة جداً، فقد تمكن قائدها شبيب بن يزيد من هزيمة العديد من جيوش الحجّاج الجرارة وهي في عدد قليل، وتمكن من دخول الكوفة4027، بعد أن قتل خمسة قوّاد أرسلهم الحجّاج لحربه واحداً بعد واحدة، وكانت زوجته غزالة عديمة النظير في الشجاعة4028، وكانت نذرت أن تصلي في جامع الكوفة ركعتين تقرأ فيهما بالبقرة وآل عمران4029، ووفت بنذرها4030، وعيّر عمران بن حطان شاعر الخوارج الحجّاج فقال:
………أسد عليّ وفي الحروب نعامة
…………………فتخاء تنفُرُ من صفير الصافر(2/376)
………هلاَّ كررت على غزالة في الوغى
…………………بل كان قلبك في جناحي طائر
………قرعت غزالة قلبه بفوارس
…………………تركت مناظره كأمس الغابر4031
وقد قتل شبيب عدداً من أشراف الكوفة ولكنه لم يتمكن من البقاء فيها فخرج منها، ثم عاد إليها ثانية وضرب عليها الحصار بعد أن هزم جيشاً للحجاج عدته ألوفاً وقتل قائده عتاب بن ورقاء وهو ستمائة رجل4032، ولما يئس الحجّاج من أهل الكوفة لتقاعسهم عن القتال وهالته هزائمهم المتكررة وهم في أعداد كبيرة أمام شبيب وهو في أعداد قليلة أرسل إلى عبد الملك بن مروان يطلب مدداً من أهل الشام واضطر الحجاج أن يقود الجيش بنفسه، واستطاع هزيمة شبيب لأول مرة، فلاذ بالأهواز، فأرسل الحجّاج خلفه جيشاً التقى به هناك، ولم تكن النتيجة حاسمة لأي من الفريقين، غير أن شبيب غرق بينما كان يعبر أحد الأنهار فلما سقط قال: ((ليقضي الله أمراً كان مفعولاً)) (الأنفال ، الاية : 42) وانغمس في الماء، ثم ارتفع وقال: ((ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)) (الأنعام ، الآية : 96) وغرق4033، وبهذا تخلص منه الحجّاج بعد أن كبد الدولة كثيراً من الأموال والأرواح4034، ولولا الله ثم تدخل عبد الملك لكان من الممكن أن تتغير الأوضاع السياسية في العراق والمناطق الشرقية، فقد استطاع أن يسوى المشكلة ووضع لها الحل المناسب من تجهيز الجيوش وإرسالها، وتولية القيادة المحنكين ليواجهوا شبيباً4035. ومن اللطائف التي تذكر: حضر عتبان الحروري عند عبد الملك بن مروان فقال: أنت القائل:
………فإن يك منكم كان مروان وابنه
…………………وعمرو ومنكم هاشم وحبيب
………فمنّا حُصينُ والبطينُ وقعنبٌ
…………………ومنا أميرُ المؤمنين شبيب(2/377)
فقال: إنما قلت: ومنا أميرَ المؤمنين شبيبُ. على النداء فأعجبه وأطلقه4036. وهذا الجواب في نهاية الحسن، فإنه إذا كان ((أمير)) مرفوعاً كان مبتدأ فيكون شبيب أمير المؤمنين وإذا كان منصوباً فقد حذف منه حرف النداء ومعناه يا أمير المؤمنين منا شبيب، فلا يكون شبيب أمير المؤمنين، بل يكون منهم4037.
1 ـ من شعراء الخوارج عمران بن حطان: هو عمرن بن حطّان ابن ظبيان، السدوسي البصري، من أعيان العُلماء، لكنّه من رؤوس الخوارج، حدّث عن عائشة وأبي موسى الأشعريّ وابن عباس، قال أبو داود: ليس في أهل الأهواء أصحُّ حديثاً من الخوارج ثم ذكر عمران بن حطان، وأبا حسَّان الأعرج4038، وقد تميزت حياته أول الأمر بأنه فقيه ومحدث على منهج أهل السنة ثم تزوج قريبة له ـ كانت على مذهب الخوارج ـ يريد أن يصرفها عن مذهبها، لكنها استمالته إلى مذهبها، كان ذلك وقد كبرت سنه وطال عمره، فضعف عن الحرب، وقنع بالدعاية إلى مذهبه بلسانه، ولم يستطع أن يشارك في الحرب بسيفه ورضي القَعدّة من الصفرية منه بهذا البياني وطارده الحجّاج، ففر من العراق إلى الشام وجعل يتنقل من مدينة إلى مدينة في استخفاء وتمويه وتغيير للأسماء ونزل على روح بن زنباع الجذامي وأنس إلى كرمه وأخلاقه وادّعى أنه أزديّ، فاستضافه روح سنة كاملة كان فيها معجباً بتقوى ضيفه الأزدي وعلمه وأدبه وكان روح لا يسمع شعراً نادراً أو حديثاً غريباً عند عبد الملك ثم يقصه على صاحبه، أو يسأله عنه، إلا وجده عليماً به، وزائداً عليه وذات يومٍ حدّث روح عبد الملك بن مروان بمزايا ضيفه الأزدي فقال عبد الملك إنه عمران بن حطان فأحضره4039، وكان عبد الملك بن مروان قد أهدر دمه لما بلغ شعره عبد الملك في علي رضي الله عنه وأدركته حمية لقرابته من علي رضي الله عنه ووضع عليه العيون وشعر عمران في علي قوله:
…………يا ضربة من تقيِّ ما أراد بها
……………………إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
…………إنِّي لأذكره حيناً فأحسبه(2/378)
……………………أو في البرية عند الله ميزانا
…………أكرم بقوم بطون الطير قبرهم
……………………لم يخلطوا دينهم بغياً وعدوانا4040
وعندما علم عمران بطلب عبد الملك له هرب إلى الجزيرة ثم لحق بعمان فأكرموه4041 وقال شعراً في روح بن زنباع لما فارقه حيث قال:
………يا روح كم من كريم قد نزلت به
……………………قد ظنّ ظنّك من لخم وغسان
………حتى إذا خفته زايلت منزله
……………………من بعد ما قيل: عمران بن حطان
………قد كنت ضيفَكَ حولاً ما تُروّعُني
……………………فيه طوارق من إنس ولا جان
………حتى أَردْتَ بي العظمى فأوحشني
……………………ما يوحش الناس من خوف ابن مروان
………لو كنت مستغفراً يوماً لطاغية
……………………كنت المقدَّم في سرِّ وإعلان…
………لكن أَبت لي آيات مُفصَّلةٌ
……………………عقد الولاية في ((طه)) و((عمران))4042
فهو في ثنائه على ابن زنباع لم يبح لنفسه أن يستغفر له، لأنه ليس في رأيه ممن يستحقون المغفرة، فهو طاغية وكافر، على طريقة أكثر الخوارج في تكفير مخالفيهم4043،وكان من فحول الشعراء وقد شهد له بذلك الفرذق، فقد وقف عمران بن حطان ذات يوم على الفرذدق وهو ينشد الناس فقال له:
…………أيها السائل ليُعطي
…………………إن لله ما بأيدي العباد
…………فسل الله ما طلبت إليهم
…………………وارج فضل المقسّم العواد
…………لا تقل للئيم ما ليس فيه
…………………وتسمّي البخيل باسم الجواد4044
…وجاء في رواية أن الفرزدق قال: الحمد لله الذي شغل عنا هذا ببدعته ولولا ذلك للقينا منه4045 عنتاً، ومن شعر عمران في الزهد في الدنيا والتزود للآخرة، فعن قتادة قال لقيني عمران بن حطان، فقال يا أعمى، أحفظ عني هذه الأبيات:
………حتى متى تُسقى النُّفوس بكأسها
…………………ريب المنون وأنت لاه ترتع
………أفقد رضيت بأن تُعللَّ بالمُنى
…………………وإلى المنيَّة كلَّ يوم تُدْفَعُ
………أحلامُ نوم أو كظل زائلٍ
…………………إن اللبيب بمثْلها لا يُخْدَعُ
………فتزوّدنَّ ليوم فقرك دائماً
…………………واجمع لنفسك لا لغيرك تجمع4046(2/379)
ومن شعره في الموت ورثاء مرداس قوله:
………إن كنت كارهة للموت فارتحلي
…………………ثم اطلبي أهل أرضٍ لا يموتون
………فلست واجدة أرضاً بها بشر
…………………إلاَّ يروحون أفواجاً ويغدون
………إلى القبور فما تنفك أربعة
…………………بذي سرير إلى لحد يمشونا
………يا حمز قد مات مرداسَ وأخوته
…………………وقبل موتهم مات النبيونا4047
وقد شهد له النقّاد في الشعر بأن شعره كان يتسم بانتقاء مفرداته في غير توعر وإغراب، وبجزالة عباراته في نسق لا تعقيد فيه ولا التواء ولا اعتساف بتقديم وتأخير وكان يبتعد عن الخيال وما يجره من تهويل وتضخيم4048، ومما يذكر في سيرة عمران بن حطان أن الحجّاج ظل يطارده ويطلبه طويلاً حتى ظفر به فقال للحرس: اضرب عنق ابن الفاعلة فقال عمران بئس ما أدبك به أهلك يا حجّاج أبعد الموت منزلة أمانعك عليها على ما كان منك أن ألقاك بمثل ما لقيتني به؟ فقال الحجّاج: صدق أطلقوا عنه فلما انطلق إلى الخوارج قالوا له ارجع إلى قتال الحجاج فوالله ما هو أطلقك الله الذي أطلقك فقال هيهات: غلَّ يداً مطلقها واستقر رقبة معتقها ثم قال:
……أأقاتل الحجّاج عن سلطانه
………………بيد تقر بأنها مولاته
……ماذا أقول إذا وقفت حياله
………………في الصف واحتجت له فعلاته
……وتحدث الأقوام أن صنيعه
………………غرست لدى فحنظلت نخلاته
……تالله لو جئت الأمير بآلة
………………وجوارحي وسلاحي آلاته4049
هذا وقد توفي عمران بن حطان سنة 84هـ4050
2 ـ أسباب فشل الخوارج في عهد عبد الملك:
…فشلت ثورات الخوارج في تحقيق الهدف الذي كانت تسعى إليه لأسباب منها:
أ ـ أن الخوارج كانوا يخرجون في أعداد قليلة وفي أوقات متباعدة مما سهل على ولاة الدولة الأموية القضاء عليهم.
ب ـ طغيان مذهب التشيع على أهل الكوفة ومناقضة ذلك المذهب لمبدأ الخوارج وكره أهل الكوفة والشيعة عامة للخوارج لخروجهم على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وتكفيرهم أياه فساعد هؤلاء ولاة الدولة في غالب الأحيان على قتال الخوارج.(2/380)
جـ ـ موقف أهل البصرة واندفاعهم إلى مقاومة الخوارج والقضاء عليهم ليحافظوا على تجارتهم واستمرارها.
ح ـ تفرق الخوارج إلى فرق متعددة مما أدى إلى أضعافهم وتفتيت وحدتهم، فسهل على ولاة الدولة القضاء عليهم.
س ـ الأعمال التخريبية التي كانوا يحدثونها من قتل النساء والأطفال وقتل مخالفيهم واحراق القرى وكسر الخراج وقطع طرق التجارة مما أدى إلى كرههم من جانب الناس عامة فاندفعوا إلى مساعدة ولاة الدولة في القضاء عليهم هذه هي أهم الأسباب التي جعلت الخوارج يفشلون في التخلص من الحكم الأموي، وتطبيق أفكارهم ومعتقداتهم التي يؤمنون بها4051.
المبحث الثاني : ثورة عبد الرحمن بن الأشعث:
…هذه واحدة من الثورات العديدة التي قام بها أهل العراق ضد الدولة الأموي، ولم يكن نشوبها على أساس مذهبي كما هو الحال بالنسبة لثورات الخوارج والشيعة، بل دفع إليها الكراهية المتبادلة بين قائدها وبين والي العراق الحجّاج بن يوسف وقائد هذه الثورة هو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي4052، وقد بدأت هذه الثورة العارمة من إقليم سجستان، ذلك الإقليم الذي أتعب الأمويين وكان كثير الانتقاض والتمرد عليهم4053، فلما كانت ولاية الحجّاج بن يوسف على العراق 75هـ ـ 95هـ صبر على مضض على تجاوزات رتبيل ملك سجستان ضد الدولة واستغلاله الظروف الصعبة التي كانت تمر بها، ومنعه الجزية، فلما انتهت مشاكل العراق الخطيرة، وكسرت شوكة الخوارج سنة 78هـ قرر أن يؤدب رتبيل4054، فأرسل الحجّاج إليه جيشاً بقيادة عبيد الله بن أبي بكرة سنة 79هـ، وأمره الحجّاج أن يتوغل في بلاد رتبيل وأن يدك حصونهم وقلاعهم، ففعل ما أمر به الحجّاج، وتمكن من هزيمة رتبيل واجتياح بلاده وغنم غنائم كثيرة ولكن رتبيل أخذ في التقهقر فأطمع المسلمين في اللحاق به حتى وصلوا قريباً من مدينته العظمى، عند ذاك بدأ الترك يغلقون على المسلمين الطرق والشعاب وحصروهم وقتل عامة جيش المسلمين4055.(2/381)
أولاً أعداد وأرسال جيش الطواويس إلى سجستان بقيادة عبد الرحمن الأشعث:
…أراد الحجّاج تأديب رتبيل وعقابه، فاستأذن عبد الملك بن مروان في أن يبعث جيشاً كبيراً بلغ عدده أربعين ألف مقاتل من أهل الكوفة وأهل البصرة وأنفق عليه ألفي ألف (مليونين) سوى أعطيات المقاتلين وبالغ في تجهيزه بالخيول الروائع والسلاح الكامل4056، وبلغ من فخامة الجيش أن سماه الناس جيش الطواويس4057، وأسند قيادته إلى عبد الرحمن بن الأشعث والحجّاج بإسناده قيادة هذا الجيش الكبير عدة وعدداً لابن الأشعث وهو يعلم موقفه منه، يهيء للثورة عليه وعلى الدولة الأموية، وقد نبه الحجّاج إلى هذاالخطأ الفادح، حيث قال له عم ابن الأشعث إسماعيل بن الأشعث: لا تبعثه فإني أخاف خلافه، والله ما جاز جسر الفرات قط فرأى لوال من الولاة عليه طاعة وسلطان4058، ولكن يبدو أن الحجّاج قد خانه ذكاؤه هذه المرة، أو كان مفرطاً في ثقته بنفسه، فلم يسمع نصيحة إسماعيل ورد مستخفاً بعبد الرحمن، فقال: هولي أهيب وفي أرغب من أن يخالف أمري، أو يخرج عن طاعتي4059، ومضى عبد الرحمن بهذا الجيش العظيم إلى سجستان لتأديب رتبيل، وكان ذلك في سنة 80هـ، فلما بلغته الأخبار، كتب إلى عبد الرحمن يعتذر إليه مما حل بالمسلمين في بلاده ويطلب منه الصلح ولكن عبد الرحمن لم يقبل4060، وأخذ يتوغل في بلاده، وهنا حاول رتبيل أن يكرر مع عبد الرحمن ما صنعه مع عبيد الله بن أبي بكرة، فأخذ يخلي البلاد والحصون أمامه ليوقعه في شرك، ولكن ابن الأشعث فطن إلى ذلك، وكان كما يقول الطبري: لكلما حوى بلداً بعث إليه عاملاً وبعث معه أعواناً، ووضع البرد فيما بين كل بلد وبلد، وجعل الارصاد على العقاب والشعاب ووضع المسالح بكل مكان مخوف، حتى إذا جاز من أرضه أرضاً عظيمة، وملأ يديه من البقر والغنم والغنائم العظيمة، حبس الناس عن الدخول في أرض رتبيل، وقال: نكتفي بما أصبناه العام في بلادهم، حتى نجبيها ونعرفها ويجترئ(2/382)
المسلمون على طرقها، ثم نتعاطى في العام المقبل ما وراءها، ثم لم نزل ننتقصهم في كل طائفة من أرضهم حتى نقاتلهم آخر ذلك على كنوزهم وذراريهم ، وفي أقصى بلادهم وممتنع حصونهم، ثم لا نزايل بلادهم حتى يهلكهم الله4061. وهذه خطة سديدة وعملية وتدل على ذكاء وحنكة وتجربة وقد كتب إلى الحجّاج بما حققه من فتوحات وبخطته التي اعتزم تنفيذها4062، ولكن الحجّاج ـ ودون أن يستشير أحد من أهل الحرب ـ رفض هذا الرأي واستهجنه وكتب إلى ابن الأشعث ثلاثة كتب عل التوالي سفه فيها رأي ابن الأشعث وهدده فيها بالعزل إن لم يفعل ما يأمره به ورماه فيها ببعض الأوصاف المقذعة4063.
ثانياً : تمرد عبد الرحمن بن الأشعث بجيشه على الحجّاج :(2/383)
…وبرفض الحجّاج رأي ابن الأشعث، وبأسلوبه القاسي، وتعامله السيء، أذكى نار الفتنة وعجل بأسباب الثورة عليه، وقد أعماه فرط ثقته بنفسه واحتقاره لغيره عما ستؤدي إليه تلك التصرفات الهوجاء من عواقب خطيرة وأثارت مكاتبات الحجّاج حفيظة عبد الرحمن بن الأشعث وحركت ما في نفسه من كره للحجّاج فجمع الناس وخطبهم مبيناً لهم نصحه لهم ومعرضاً برأي الحجّاج، وطلب منهم الرأي، فثار إليه الناس فقالوا: بل نأبى على عدو الله ولا نسمع له ولا نطيع4064 وانفتح الباب لكل من أراد أن يتكلم، فتكلم عامر بن واثلة الكناني وكان شاعراً خطيباً فكان مما قال: فإن الحجاج والله ما يرى بكم إلا ما رأى القائل الأول إذ قال لأخيه: احمل عبدك على الفرس، فإن هلك هلك، وإن نجا فلك وبعد كلامه دعا الناس إلى خلع الحجّاج ومبايعة عبد الرحمن بن الأشعث، فبايعهم ابن الأشعث على خلع الحجّاج والقتال معه حتى ينفي الله الحجّاج من العراق، ولم يذكر خلع عبد الملك4065، ومن هنا بدأت ثورة ابن الأشعث وهذه الثورة وإن لم تكن لها جذور بعيدة وإن لم تسبقها خطوات إعداد كبيرة إلا أنها كانت من أخطر الثورات التي قامت على الدولة الأموية أو أخطرها، حيث هددت كيان الخلافة بالزوال واضطرت الخليفة إلى مساومة أصحابها بما لم يساوم به غيرهم من أصحاب الثورات السابقة4066، وانحدار ابن الأشعث بجيشه وانضم إليه خلق كبير في طريقه إلى العراق قاصداً الحجّاج، فلما جاء الخبر الحجّاج أصيب بالهلع والذعر، فكتب إلى عبد الملك يخبره بالأمر ويطلب منه المدد، فتوالت الكتب بينه وبين عبد الملك يخبره بالأمر ويطلب منه المدد، فتوالت الكتب بينه وبين عبد الملك وتوالى إرسال الجيوش من عبد الملك في كل يوم إلى الحجّاج4067.
1 ـ موقف المهلب بن أبي صفرة من الأحداث:(2/384)
…كان المهلب بن أبي صفرة قد نهى ابن الأشعث عن فعلته قائلاً: إنك وضعت رجلك يا ابن محمد في غرز طويل الغي على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، الله الله فانظر لنفسك لا تهلكها ودماء المسلمين فلا تسفكها والجماعة فلا تفرقها، والبيعة فلا تنكثها. فإن قلت: أخاف الناس على نفسي فالله أحق أن تخافه عليها من الناس، فلا تعرضها لله في سفك دم، ولا استحلال محرم. وكتب المهلب كذلك إلى الحجّاج بما يجب عليه أن يفعله في مواجهة ابن الأشعث حيث قال: فإن أهل العراق قد أقبلوا إليك مثل السيل المنحدر من علِ، وليس شيء يرده حتى ينتهي إلى قراره، وإن لأهل العراق شرة في أول مخرجهم، وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم، فليس شيء يردهم حتى يسقطوا إلى أهليهم، ويشموا أولادهم، ثم وافقهم عندها، فإن الله ناصرك عليهم إن شاء الله4068. ولكن لم يعر ابن الأشعث نصح المهلب أدنى اهتمام، فتقدم نحو العراق، وفي وسط الطريق أقدم ابن الأشعث ومن معه على خطوة خطيرة وهي خلع الخليفة عبد الملك بن مروان والسعي إلى تنحيته4069، كما أن الحجّاج نظر إلى نصح المهلب من منظوره المتشكك فيمن حوله فعده غشاً من المهلب، فقد قال عندما قرأ كتابه: فعل الله به وفعل، والله مالي نظر، ولكن لابن عمه نصح4070.(2/385)
2 ـ معركة الزاوية4071: قرر الحجاج مواجهة ابن الأشعث، ومن معه قبل دخولهم العراق، فأرسل الكتائب تلو الكتائب ولكن لم تستطع إيقاف زحف ابن الأشعث فهزمها، وتقدم حتى دخل البصرة بعد أن خرج منها الحجّاج فاراً بنفسه ومن معه من أهل الشام، ونزل بالزاوية، عند ذلك أيقن الحجّاج بصدق المهلب في نصحه له فقال: لله أبوه، أي صاحب حرب هو! أشار علينا بالرأي فلم نقبل4072، وانضم إلى ابن الأشعث جموع كثيرة من أهل البصرة، والتقى ابن الأشعث بالحجّاج في الزاوية وتتالت الهزائم بجيش الحجّاج، إلا أنه سنحت فرصة لفرقة من فرق الحجّاج حيث تمكنت من إلحاق الهزيمة بإحدى فرق ابن الأشعث، فاستغل الحجّاج الفرصة وكثف الهجوم على خصمه، فاضطر ابن الأشعث إلى التراجع وسار نحو الكوفة تاركاً البصرة، فبايعه أهل الكوفة ولحق به أهل البصرة، وانضم إليه أهل المسالح والثغور4073، وبلغ عدد من معه مائة ألف ممن يأخذ العطاء ومعهم مثلهم من مواليهم4074، وقد دفعت الموالي أسباباً كثيرة للاشتراك في ثورة ابن الأشعث.
أ ـ…السياسة المالية التي تبعها الحجّاج نحوهم وإجبارهم على دفع الجزية بعد إسلامهم .
ب ـ حرمانههم من الأعطيات والأرزاق عند اشتراكهم في الفتوح.
جـ ـ حرمانهم من المساواة وشعورهم بالظلم من ممارسة بعض ولاة الدولة الأموية4075، وغير ذلك من الأسباب اغتم عبد الملك لما حدث ولما وصله الخبر نزل عن سريره وبعث إلى خالد بن يزيد بن معاوية، ودعاه فأقرأه الكتاب، ورأى ما به من الجزع فقال: يا أمير المؤمنين، إن كان هذا الحدث من قبل سجستان، فلا تخفه، وإن كان من قبل خراسان تخوفته، وخرج عبد الملك إلى الناس فقام فيهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن أهل العراق طال عليهم عمري فاستعجلوا قدري، اللهم سلط عليهم سيوف أهل الشام حتى يبلغوا رضاك، فإذا بلغوا رضاك لم يجاوزوا إلى سخطك. ثم نزل4076.
3 ـ استعداد عبد الملك أن يضحي بالحجّاج ومعركة دير الجماجم:(2/386)
…لما رأى أهل الشام وبنو أمية قوة ابن الأشعث أشاروا على عبد الملك بعزل الحجّاج وقالوا: إن كان إنما يرضي أهل العراق أن تنزع عنهم الحجّاج فانزعه عنهم، تخلص لك طاعتهم، فإن عزله له ـ أيسر من حربهم، فبعث عبد الملك ابنه عبد الله وأخاه محمد بن مروان بالجيش إلى العراق وأمرهما أن يعرضا على أهل العراق نزع الحجّاج عنهم، وأن يجري عليهم العطاء، وأن ينزل ابن الأشعث أي بلد شاء من العراق ويكون والياً، فإن قبلوا ذلك نزعنا عنهم الحجّاج ويكون محمد بن مروان مكانه على العراق، وإن أبوا فالحجّاج أمير الجميع وولي القتال4077، ولم يكن أمر أشق على الحجّاج ولا أغيظ له ولا أوجع لقلبه من هذا الأمر، وكان من الطبيعي أن يستاء الحجّاج من هذا، وعزّ عليه أن يضحي به عبد الملك بن مروان، بعد كل ما قدمه له من خدمات4078، وكتب إليه يذكره بما حدث من أهل العراق مع عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال له: يا أمير المؤمنين، والله لئن أعطيت أهل العراق نزعي لا يلبثون إلا قليلاً حتى يخالفونك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلا جرأة عليك، ألم ترى وتسمع بوثوب أهل العراق مع الأشتر على عثمان بن عفان، فلما سألهم ما يريدون قالوا: نزع سعيد بن العاص، فلما نزعه لم تتم لهم السنة حتى ساروا إليه فقتلوه: إن الحديد بالحديد يفلح خار الله لك فيما رأيت والسلام عليك4079. غير أن عبد الملك كان مقتنعاً بالفكرة، وأن مصلحة الدولة عنده فوق كل اعتبار ورأى في ذلك منع الحرب4080. ولكن من حسن حظ الحجّاج أنه لما عرضت الفكرة على أهل العراق رفضوها بقوة، مع أن ابن الأشعث قبلها، وحثهم على قبولها، لكنهم لم يوافقوه، بل جددوا خلع عبد الملك، وظنوا الفرصة قد واتتهم للتخلص من الحكم الأموي4081، وكان الأولى بابن الأشعث أن لا ينساق لما تطلبه الجماهير، فقد ضاعت فرصة كبيرة في التخلص من الحجّاج وكان يمكنهم رفع سقف المطالب والضغط على عبد الملك حتى يستجيب لرفع المظالم، وإقامة(2/387)
العدل، والتقيد بالكتاب والسنة وإن انحرف عن شروطهم أمكنهم بعد ذلك عزله ولكن يبدو أن الحس السياسي لدى زعماء ثورة ابن الأشعث كان غائباً، كما أن مبايعة أهل العراق لابن الأشعث جاءت في لحظات عاطفية ثورية ولم تكن نتيجة لمعرفة تامة به، وهل يستحق عن جدارة أن يكون أميرهم4082؟. رفض ابن الأشعث تنازل عبد الملك في خلع الحجّاج وغيرها فعندها سلم محمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك قيادة الجيوش الأموية للحجّاج وقالا: شأنك بعسكرك وجندك فاعمل برأيك فأنا قد أمرنا أن نسمع ونطيع لك4083.
…وبدأ الفريقان يستعدان للقتال، فاشتبكا في أشهر وقائعهم ـ التي زادت عن ثمانين موقعة ـ في دير الجماجم4084 والتي استمرت مائة يوم حتى حلت الهزيمة بابن الأشعث في الرابع من جماد الآخرة سنة 83هـ4085، ثم دارت معركة أخرى بعدها في مسكن في شعبان من نفس السنة، فهزم ابن الأشعث أيضاً، ثم ولى هارباً إلى سجستان4086، حيث كان تصالح مع رتبيل على أن يسقط عنه الخراج إن ظفر، وإن هزم يأوي إليه ويحميه4087، ولكن الحجّاج هدد رتبيل إن لم يسلم إليه ابن الأشعث ليغزون بلاده بألف ألف مقاتل4088، فرضخ للتهديد وعزم على تسليمه إليه، فلما أحسَ ابن الأشعث بغدر رتبيل ألقى بنفسه من فوق القصر الذي كان فيه، فمات فأخذ رأسه وأرسلها إلى الحجّاج وكان ذلك سنة 85هـ4089، وهكذا انتهت حياة ابن الأشعث الذي قاد أخطر ثورة …ضد عبد الملك بن مروان، أريقت فيها دماء عشرات الألوف من المسلمين وهي ثورة دفعت إليها الأحقاد الشخصية المتأصلة في نفس ابن الأشعث والحجّاج كل منهما للآخر من ناحية، وبغض أهل العراق للحكم الأموي من ناحية ثانية4090، ومظالم الحجّاج العظيمة التي دفعت بجمهور كبير من العلماء للانضمام للثورة والتخلص من الطاغية الحجّاج.
ثالثاً : موقف العلماء من ثورة ابن الأشعث :(2/388)
…يختلف موقف العلماء من حركة ابن الأشعث اختلافاً كثيراً عن موقفهم تجاه الحركات الأخرى ضد الدولة الأموية، إذ شارك جمهور غفير من العلماء في حركة ابن الأشعث هذه، سواء بتحريض الناس على المشاركة فيها أو بمشاركتهم المباشرة في القتال مع ابن الأشعث ضد الحجّاج، وقد استفاضت المصادر المتقدمة في ذكر تأييد العلماء ومشاركتهم في هذه الحركة، كما اجتمعت على كثرة عدد العلماء المشاركين ولكن على اختلاف بينهم في تقدير هذا العدد، فيذكر خليفة بن خياط، أن عددهم بلغ خمسمائة عالم، وعد منهم خمسة وعشرين عالماً4091، ولعل من أسباب كثرة تلك الأعداد المذكورة إدخال غير العلماء فيها من أهل العبادة والصلاح وإن لم يشتهر عنهم العلم، حيث تردد إطلاق اسم القراء على هؤلاء المشاركين، ولعله يشمل العلماء وأهل الصلاح، والزهادة والمشهورين بكثرة التعبد4092.
1 ـ من اشهر العلماء المشاركين في حركة ابن الأشعث:
…وبتتبع كثير من المصادر أمكن حصر العديد من أسماء العلماء المشاركين في تلك الحركة منهم:
أ ـ أنس بن مالك رضي الله عنه: العالم الجليل والصحابي الكريم، فقد كان ممن يؤلب على الحجّاج ويدعو إلى الانضمام إلى ابن الأشعث، ولكنه لم يشارك مشاركة فعالة في القتال لكبر سنه4093.
ب ـ ومنهم أبو الشعثاء سليم بن اسود المحاربي، فقد شارك مع ابن الأشعث، وقيل قتل يوم الزاوية4094.
ت ـ وعبد الرحمن بن أبي ليلى، كان من كبار المشاركين في تلك الحركة المحرضين على القتال فيها، وتوفي بوقعة الجماجم حيث اقتحم به فرسه الفرات فغرق ـ رحمه الله4095 ـ.
ث ـ الإمام الشعبي: ولكن في مشاركته شيء من الإكراه إذ لم يكن في بداية الأمر على قناعة بالمشاركة، حيث روى عنه أنه قال: فلم أزل عنده ـ أي الحجّاج ـ بأحسن منزلة حتى كان شأن ابن الأشعث، فأتاني أهل الكوفة، فقالوا: يا أبا عمرو، إنك زعيم القراء، فلم يزالوا حتى خرجت معهم4096.(2/389)
ج ـ سعيد بن جبير، ممن شارك مع ابن الأشعث وكان يحضض على القتال، ونجا من القتل وتوارى عن الحجّاج مدة ولكن تمكن منه عندما قبض عليه والي مكة وأرسله إليه فقتله الحجّاج سنة أربع وتسعين4097. وغير ذلك من العلماء وهذا يدل على أن حركة بن الأشعث لقيت من الدعم والمشاركة من العلماء ما لم تلقه أي حركة قامت ضد الدولة الأموية. وقد كان لمشاركة العلماء في هذه الحركةـ بهذا الحجم ـ أثر كبير على الحركة، فقد كانت مشاركتهم وراء انضمام كثير من الناس لتلك الحركة، ولا سيما أن بعض الفقهاء والقراء كانوا يسعون لإقناع أكبر عدد للانضمام إلى القتال خاصة من فئة العلماء4098، كما كان للعلماء المشاركين أثر كبير في ميدان القتال، فكانت لهم كتيبة خاصة بهم تسمى كتيبة القراء4099، وكان بعض العلماء يبعثون الحماس في إتباع ابن الأشعث بما يلقونه من خطب وما يصدرونه من نداءات أثناء القتال كان لها أثر في غرس الثقة في النفوس والثبات في مواطن اللقاء4100، وقد لقي الحجّاج وجيشه عنتا ومشقة من كتيبة القراء، فقد كان أصحابها يحملون حملة صادقة على جيش الحجّاج فما يعمد بها، ويضربون الكتائب حتى يفرقونها4101، لذا عبأ الحجّاج لهذه الكتيبة ثلاث كتائب توقف زحفها والتقليل من خطرها عليه4102.
2 ـ أسباب مشاركة العلماء في ثورة ابن الأشعث:(2/390)
انضم إلى حركة ابن الأشعث فئات وطوائف شتى، كل فئة مدفوعة بدافع تسعى لتحقيقه من خلال المشاركة في هذه الحركة، فهناك دوافع إقليمية، ودوافع عرقية، وأخرى اجتماعية، ولم يكن شيء من هذه حرّك العلماء للمشاركة في هذه الفتنة، وإنما انطلقوا من دوافع دينية وشرعية بحسب ما وصل إليه اجتهادهم، وقد كان القاسم المشترك لكل هذه الدوافع شخصية الحجّاج4103، الظالمة، المتعسفة، الجائرة، والمتعطشة لسفك الدماء ولذلك كان العلماء ينقمون على الحجّاج تعديه لبعض حدود الإسلام وانتهاكه لبعض حرماته، وكانوا ينقمون عليه سوء معاملته وسوء نظرته للعلماء.
أ ـ تعدي الحجّاج لبعض حدود الدين وإنتهاكه لحرماته:(2/391)
…كان الحجّاج يملك جرأة عجيبة تعدى بها إلى غير مواضعها مما أدى إلى إحداث شرخ كبير في جانب من حياته المتعددة الجوانب فأسهم بذلك في تشويه صورته وصورة الحكم الأموي، وقد حرص بعض المولعين بشخصية الحجّاج إخفاء هذا الجانب المشوه من حياته، والدراسة الواعية المنصفة تأبى هذا المنهج، وما من شك في أنه ورد الكثير من المبالغات عن انتهاكات الحجاج لحرمات الدين وكثير منها لا يصح ودخل الدس من أعداء الحجّاج وبني أمية في صياغة كثير من هذه المبالغات، لذا فقد استبعدت4104 النقل والاعتماد في هذا الأمر على الكتب التي اشتهر عن أصحابها التهاون في إيراد الروايات دون تمحيص ولاسيما كتب الأدب، كالعقد الفريد لابن عبد ربه، والأغاني للأصفهاني، أو كتب الفرق المغالية في عداوتها لبني أمية كالشيعة، وحاولت4105 النقل والاعتماد على كتب السنة المشهورة بحفظ الأحاديث النبوية الشريفة وما يخدمها من روايات، وكذلك على الكتب المعتبرة التي اشتهر عن أصحابها التحري والدقة كالذهبي في سيره وتاريخه4106. ويأتي في مقدمة تجاوزات الحجّاج الشرعية إسرافه في القتل وأمره به بأدنى شبهة حيث كان الحجّاج يرى وجوب الطاعة العمياء من الرعية له، وأن مخالفة أمره ـ في أي شأن كان صغر أم كبر ـ تبرر له القتل، فقد روى أبو داود بسند صحيح عن عاصم قال: سمعت الحجّاج يقول: اتقوا الله ما استطعتم ليس فيها مثنوية، واسمعوا وأطيعوا ليس فيها مثنوية لأمير المؤمنين عبد الملك والله لو أمرت الناس أن يخرجوا من باب من أبواب المسجد فخرجوا من باب آخر لحلت لي دماؤهم وأموالهم، والله لو أخذت ربيعة بمضر لكان ذلك لي من الله حلالاً4107، وقال ابن كثير معلقاً على بعض تجاوزات الحجّاج مما يبين سبب استهانته بالقتل:.. فإن الحجّاج كان عثمانياً أموياً، يميل إليهم ميلاً عظيماً، ويرى خلافهم كفر، ويستحل بذلك الدماء ولا تأخذه في ذلك لومة لائم وقال في موضع آخر: أعظم ما نقم عليه وصح من(2/392)
أفعاله سفك الدماء وكفى به عقوبة عند الله4108 عز وجل، بسبب هذا المعتقد الذي استقر في نفس الحجّاج استهان بالقتل واشتهر إسرافه فيه لمخالفي أوامره صغرت أم كبرت، ومع ما ورد من مبالغات في الإحصاءات التي ذكرت عدد قتلى الحجّاج، فما من شك في تعديه الحدود المشروعة في القتل، ويؤيد ذلك ما صح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم بروايات متعددة تصف الحجّاج بأنه مبير، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه قالت للحجّاج بعد قتله لابنها عبد الله بن الزبير رضي الله عنه: : إما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن في ثقيف كذاباً ومبيراً، فأما الكذاب فرأيناه وأما المبير فلا أخالك إلا إياه4109، وقد أنكر العلماء على الحجّاج هذا الإسراف في القتل، فروي عن الإمام عبد الرحمن بن أبي أنعم أنه قال للحجّاج: لا تسرف في القتل إنه كان منصوراً فقال الحجّاج: والله لقد هممت أن أروي الأرض من دمك. فقال: إن من في بطنها أكثر ممن في ظهرها4110، وكان جواب سعيد بن جبير للحجّاج عندما سأله عن رأيه فيه فقال: نعم ظهر منك جور في حد الله وجرأة على معاصيه بقتلك أولياء الله4111.(2/393)
ـ…ومن التجاوزات التي كان العلماء ينكرونها على الحجّاج تأخيره للصلاة عن وقتها، وتأخير الصلاة عن وقتها ليس خاصاً بالحجّاج بل كانت عادة عند بعض خلفاء بني أمية وسار ولاتهم على نهجم ولكن الذي يؤخذ على الحجّاج مع تأخيره الصلاة عدم قبوله تنبيه أحد من العلماء أو إبداء النصح منهم له في ذلك وهذا مأخذ آخر أخذه العلماء على الحجّاج وهو عدم قبوله لقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر4112، ومن ذلك أن الحجّاج أنكر يوماً أن يكون الحسين بن علي رضي الله عنه من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه ابن ابنته فقال له العالم الجليل يحي بن يعمر: كذبت. فقال الحجّاج: لتأتيني على ما قلت ببينة من كتاب الله أو لأضربن عنقك فقال: قال الله ((وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ)) إلى قوله ((وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى)) (الأنعام ، الآيتان : 84 و85). فعيسى من ذرية إبراهيم، وهو إنما ينسب إلى أمه مريم، والحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحجاج صدقت، فما حملك على تكذيبي في مجلسي، قال: ما أخذ الله على الأنبياء ((لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ)) (آل عمران ، الآية : 187) فنفاه إلى خراسان4113.(2/394)
ـ …ومن تجاوزات الحجّاج الشرعية تطاوله على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوء تعامله مع العلماء، ومرّ معنا معاملته القبيحة لابن عمر، وابن الزبير والسيدة أسماء بنت الصديق رضي الله عنهم جميعاً، فمن ذلك تطاول على عبد الله بن مسعود وهو متوفي رضي الله عنه فقد قال: والله لو أدركت عبد هذيل لضربت عنقه4114 وفي أخرى أنه قال: ابن مسعود رأس المنافقين، لو أدركته لأسقيت الأرض من دمه4115، وقد علق الذهبي على أقوال الحجّاج في عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بقوله: قاتل الله الحجّاج ما أجرأه على الله كيف يقول هذا في العبد الصالح عبد الله بن مسعود4116 ومن تطاول على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوء أدبه معهم ما حدث منه لكل من أنس بن مالك ـ خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجابر بن عبد الله وسهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهم، فقد ورد أنه ختم على كل واحد منهم بختمه المشهور ((عتيق الحجّاج)) أنس وسهل في عنقيهما وجابر في يده4117، أما فعله ذلك بأنس فلأنه بايع ابن الزبير وتولى له البصرة، ولأنه كان يحرص على المشاركة مع ابن الأشعث، لذا ناله ما ناله من أذى الحجّاج ولم ينقذه من إهانة الحجّاج إلا تدخل الخليفة عبد الملك حيث كتب كتاباً وبخ فيه الحجّاج على فعله بأنس وأمره بعدم التعرض له4118، وأما سهل فقد ورد أن الحجّاج أرسل إليه يقول: ما منعك من نصر أمير المؤمنين عثمان؟ قال: قد فعلت. قال كذبت ثم أمر به فختم في عنقه4119. وهذه عقدة عند الحجّاج حيث كان متعصباً للأمويين أكثر من تعصبهم لأنفسهم ففي الحين الذي نجد معاوية وعبد الملك توددوا لكثير من الرجال الذين وقفوا ضدهم مع علي أو مع ابن الزبير وعفوا عما سلف منهم واستلوا بذلك ضغائن نفوسهم نجد الحجاج يخالف هذا المنهج السديد فيصر على محاسبة الرجال على ما سالف منهم أيام الفتن فأوغر صدور الكثير عليه وعلى بني أمية بهذا المسلك4120، وأذكر مثال يوضح الفرق بين(2/395)
نظرة عبد الملك ونظرة الحجّاج للرجال وطريقة التعامل معهم، فقد كان محمد بن الحنفية ممن أمتنع عن مبايعة عبد الملك أو ابن الزبير حتى يجتمع المسلمين على واحد منهما، فلما تم قتل عبد الله ابن الزبير بعث الحجّاج على الفور لابن الحنفية يسأله البيعة ويقول: قد قتل عدو الله، فقال ابن الحنفية: إذا بايع الناس بايعت. قال والله لأقتلنك ومع أن ابن الحنيفة بايع لعبد الملك لما رأى اجتماع كلمة المسلمين عليه، إلا أن الحجّاج استمر في مضايقة ابن الحنيفة، فلما قدم على عبد الملك أكرمه عبد الملك وقضى كل حوائجه، ثم اشتكى إليه سوء معاملة الحجّاج له وكان حاضراً عند عبد الملك فقال: إن هذاـ يعني الحجّاج ـ قد آذاني واستخف بحقي ولو كانت خمسة دراهم أرسل إلى فيها. فقال عبد الملك: لا إمرة لك عليه وطلب منه أن يستل سخيمه ابن الحنيفة ويترضاه4121.
ب ـ سؤ معاملة الحجّاج ونظرته للعلماء:(2/396)
وقد كان لتجاوزات الحجّاج وسؤ تعامله مع أهل العلم والفضل في مكة والمدينة أثر في عزله عن الحجاز بعدما كثرت الشكوى منه عند عبد الملك، فلما تولى العراق استمر في سوء تعامله فوجد كثير من العلماء المضايقة والشدة منه فضرب بعض العلماء في ولايته وسجن بعضهم ونفي بعض آخر، وقد يظن بعض الكتاب أن هذا الضرب والسجن بل والقتل للعلماء إنما حدث بعد فتنه ابن الأشعث فحسب فيكون تعامل الحجّاج هذا جاء ردة فعل على مشاركة العلماء في هذه الحركة، ولكن الأمر على غير هذا الظن فقد حدثت بعض تلك المضايقات والمعاملة السيئة قبل حركة ابن الأشعث، فمعاملته لابن عمر وجابر رضي الله عنهما كانت قبل ذلك حيث توفيا قبل حركة ابن الأشعث4122، وقد تعدت مضايقة الحجّاج للعلماء للذين لم يشاركوا في هذه الحركة، ومن عهد عنهم النهي عن الخروج على الولاة ولا يرون استخدام السيف لتغير المنكر، ومن هؤلاء الحسن البصري فقد اشتهر عنه النهي عن حمل السيف ومقاومة ظلم الولاة به، وعندما أكره على المشاركة في القتال تخلص وهرب من الصف ومع ذلك فقد كان الحجّاج يطلبه وحاول قتله مراراً ولكن الله يعصمه منه4123، حتى اضطر الحسن أن يختفي عن الحجّاج في منزل بعض أصحابه وهو أبو خليفة الحجّاج بن عتاب4124، فكان أصحابه وطلابه يغشونه لمدارسته العلم والتلقي عنه في مكان تواريه4125، ومن الذين لم يشاركوا في فتنة ابن الأشعث إبراهيم النخعي، ومع ذلك فقد عاش مدة مختف عن الحجّاج والحجّاج يطلبه حتى كان لا يصلي جماعة مدة اختفائه مخافة من الحجّاج4126، وكذلك شأن الإمام مجاهد بن جبر، فإنه كان ممن يطارده الخوف من ظلم الحجّاج حتى اضطر إلى التواري عنه4127.(2/397)
…ومن هذا العرض السابق يتضح مدى ما وصلت إليه تجاوزات الحجّاج الشرعية وطبيعة علاقته مع العلماء وعلاقة العلماء به والجدير بالذكر أنه لم تصل علاقة العلماء بأي والٍ من ولاة الدولة الأموية في سوئها كما وصلت إليه علاقتهم مع الحجّاج، بل كانت علاقتهم مع ولاة الدولة في عمومها حسنة يعينونهم على الحق، ويجاهدون معهم ويأمرونهم بالمعروف ويبدون لهم النصح فيسمع منهم في كثير من الأحيان4128، ومن كل ما سبق يتضح أنه كان للحجّاج الأثر الكبير في مشاركة العلماء في حركة ابن الأشعث، بل وفي قيام تلك الحركة من وجهين. الأول: أنه بأسلوب الشدة والقسوة أضرم نيران الحقد والكراهية في قلوب مختلف الفئات من الناس في العراق ـ بما فيهم العلماء ـ عليه وعلى بني أمية والوجه الآخر: أنه كان سبباً مباشراً لإعطاء ابن الأشعث الفرصة في القيام بتلك الثورة، حيث جنده بكل ما يملك من جنود وسلاح ومال وهو يعلم ما بينهما من كره متبادل، وقد حذر من ذلك بأسلوبه المتعنت في التعامل مع ابن الأشعث وجنوده في رسائله التي تفوح بالحمق حيث ملأها بالشتائم لابن الأشعث ولم يراع مصلحة الجنود كما لم يشعرهم بأهميتهم لديه، بل العكس في ذلك كأنما أراد بتصرفه معهم التخلص من حياتهم وهذا يمثل ما وصل إليه غرور الحجّاج بنفسه4129.
3 ـ معارضة بعض العلماء لثورة ابن الأشعث:(2/398)
…كان هناك عدد من العلماء عارضوها أو اعتزلوها ولم يروا المشاركة فيها، ومن أبرز هؤلاء أبو الشعثاء جابر بن زيد الأزدي4130، فهو من الذين لم يشاركوا في هذه الثورة، وأبو قلابة الجرمي، فلم يشارك وكان يعتب على غيره ممن شارك4131، ومنهم إبراهيم النخعي، فلم يشارك وكان يعيب على سعيد بن جبير مشاركته فيها4132، وقد قيل له أين كنت يوم الزاوية؟ قال: في بيتي. قالوا: فأين كنت يوم الجماجم؟ قال: في بيتي. قالوا: فإن علقمة شهد صفين مع علي، فقال: بخ بخ من لنا مثل علي بن أبي طالب ورجاله4133، وممن لم يشارك في حركة ابن الأشعث أيوب السحتياني، فروي عنه أنه يقول في العلماء الذين خرجوا مع ابن الأشعث لا أعلم أحداً منهم قتل إلا رغب له عن مصرعه، أو نجا إلا ندم على ما كان منه4134، ومنهم طلق بن حبيب، فكان معتزلاً الفتنة وكان يقول: اتقوها بالتقوى4135، ومنهم مطرف بن عبد الله الشخير فقد امتنع عن المشاركة في هذه الفتنة، وحين جاءه ناس يدعونه للمشاركة امتنع، فلما أكثروا عليه قال: أرأيتم هذا الذي تدعوني إليه، هل يزيد على أن يكون جهاداً في سبيل الله؟ قالوا: لا. قال: فإني لا أخاطر بين هلكة أقع فيها وبين فضل أصيبه4136، ومنهم مجاهد بن جبر. فإنه لم يشارك وحين دعي للمشاركة قال لمن دعاه: عده بابا من أبواب الخير تخلفت عنه4137، ومنهم خيثمة بن عبد الرحمن الجعفي ومحمد بن سيرين فقد ورد ذكرهما مع الذين لم يشاركوا في فتنة ابن الأشعث4138.
4 ـ موقف الحسن البصري من ثورة ابن الأشعث:(2/399)
…يعد الحسن البصري واحداً من أولئك العلماء الذين اعتزلوا القرب من الولاة والأمراء وابتعدوا عن المناصب ورغبوا عن وجاهتها، فقد كان ينهي العلماء عن طرق أبواب الأمراء والتزلف لهم، لأن في ذلك إهانة للعلم وحطا من قدر العلماء ومكانتهم4139، وبقي الحسن معتزلاً القرب من الولاة بعيداً عن تولي مناصبهم حتى توفي ـ رحمه الله ـ. إلا أن ذلك لم يكن سبباً في انزوائه عما يجري في عصره من أحداث سياسية بل كان، علماً بارزاً يهتدي كثير من الناس ـ بتوجيهاته المفيدة وآرائه السديدة، لاسيما في أوقات الفتن وفترات الخلاف لذا قال فيه الثقات: كان والله الحسن من رؤوس العلماء في الفتن والدماء والفروج4140، وكان ينحى في نصحه للعامة إلى جمع الكلمة وتوحيد الصف وينهي عن الإثارة والفرقة، ويدعو إلى السمع والطاعة للولاة وكان يرى وجوب الموازنة بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووحدة الجماعة، ولقد عاصر الحسن البصري معظم فترات الحكم الأموي، وتأثر بالواقع السياسي في هذه الفترة، فأصبح يمثل مدرسة سياسية في عصره، فهو يرى أن حكم بني أمية فيه ظلم وجور، ولكنهم في نفس الوقت يملكون القوة العسكرية، وموازين القوى في صالحهم، كما أن الفئة الراغبة في التغيير والشاكية من الظلم، ينقصها التنظيم والإعداد والقوة والصبر، ويرى أن الذين يحملون راية الخروج على حكم بني أمية إما مخلص لدينه ولكنه لا يصلح للحكم ولا يقدر على إحداث التغيير، وإما رجال يستخدمون الدين والدعوة للتغيير لأغراض دنيوية، منها حبهم للسلطة والحكم، فليسوا بأحسن حال من الأمويين4141، وعلى ذلك أصبح موقفه من الحكم الأموي يقوم على أمور منها:(2/400)
أ ـ عدم الخروج على حكم بني أمية لما في ذلك: من سفك الدماء، وتقويض لقوة المسلمين، وازدياد الجور والظلم4142، فقد دخل عليه رجل فقال: يا أبا سعيد إني أريد أن أسألك عن الولاة، فقال الحسن: سل عما بدالك. فقال: ما تقول في أئمتنا هؤلاء؟ فسكت الحسن ملياً ثم قال: وما عسى أن أقول فيهم وهم يلونا من أمورنا خمساً: الجمعة والجماعة، والفيء والثغور، والحدود، والله ما يستقيم الدين إلا بهم، وإن جاروا وإن ظلموا، والله ما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون، والله إن طاعتهم لغبطة، وإن فرقتهم لكفر، فقال الرجل: يا أبا سعيد والله إني لذو مال كثير، وما يسرني أن يكون لي أمثاله وإني لم أسمع منك الذي سمعت فجزاك الله عن الدين وأهله خيراً، وحين سئل عن الحجّاج قال: يتلو كتاب الله ويعظ وعظ الأبرار ويطعم الطعام ويؤثر الصدق ويبطش بطش الجبارين. قالوا فما ترى في القيام عليه؟ فقال: اتقوا الله، وتوبوا إليه يكفيكم جوره4143. وكان إذا قيل له ألا تخرج فتغير قال: إن الله إنما يغير بالتوبة ولا يغير بالسيف4144. وكان يرى أن جور الحكام بسبب ما يحدثه الناس من ذنوب ومعاصي، وإن من أهم أسباب دفع الجور والظلم هو الرجوع إلى الله وكان يحث الناس على تجنب الفتن والبعد عن أسباب إشعالها وحين بلغ السخط على الحجّاج أوجه وثار عليه الناس مع ابن الأشعث وكان جملتهم عدد من العلماء لزم الحسن موقفه من الفتن فلم يخرج مع من خرج بل كان يكره ذلك وينهي الناس عنه وكان أخوه سعيد ممن يرى الخروج على الحجّاج ويدعو له، فعن حماد بن زيد بن أبي التياح قال: شهدت الحسن وسعيد بن أبي الحسن4145 حين أقبل ابن الأشعث، فكان الحسن ينهي عن الخروج على الحجّاج ويأمر بالكف وكان سعيد بن أبي الحسن يحضض، فقال سعيد فيما يقول: ما ظنك بأهل الشام إذا لقيناهم غداً؟ فقلنا: والله ما خلعنا أمير المؤمنين ولا نريد خلعه ولكنا نقمنا عليه استعمال الحجّاج فاعزله عنا، فلما فرغ سعيد من كلامه(2/401)
تكلم الحسن فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس إنه والله ما سلط الله عليكم الحجّاج إلا عقوبة فلا تعارضوا عقوبة الله بالسيف ولكن عليكم السكينة والتضرع، وأما ما ذكرت من ظني بأهل الشام فإن ظني بهم أن لو جاؤوا فألقمهم الحجّاج دنياه لم يحملهم على أمر إلا ركبوه، هذا ظني بهم4146، وقدم عليه جماعة من العلماء يناقشونه في الخروج مع ابن الأشعث على الحجّاج، ويحاولون إقناعه بالخروج مع ابن الأشعث على الحجّاج، ويحاولون إقناعه بالخروج، ولكنه رفض الخروج وقال: أرى أن لا تقاتلوه فإنها أن تكن عقوبة من الله فما أنتم برادي عقوبة الله بأسيافكم ولكنهم لم يسمعوا كلامه ولم يأخذوا برأيه فخرجوا مع ابن الأشعث فقتلوا جميعاً4147، وعندما أفتى رجلاً بعدم جواز الخروج على الحجّاج قال له الرجل: لقد كنت أعرفك سيء القول في الحجّاج غير راضٍ عن سيرته، فقال الحسن: وأيم الله إني اليوم لأسوأ فيه رأياً، وأكثر عتباً، وأشد ذماً ولكن لتعلم عفاك الله أن جور الملوك نقمة من نقم الله تعالى، ونقم الله لا تلاقي بالسيوف، وإنما تتقي، وتستدفع بالدعاء والتوبة والإنابة والإقلاع عن الذنوب4148 ، ولما توفي الحجّاج وجاء خبر وفاته الحسن سجد وقال: اللهم عقيرك وأنت قتلته فاقطع عنا سنته وأرحنا من سنته وأعماله الخبيثة4149، وكان يوضح للناس حقيقة ما يعيشه بعض الولاة من تقلبه في عيش الفتنة بزخرف الحياة الفانية حتى لا يغتر بهم الناس فكان يقول: هؤلاء ـ يعني الملوك ـ وإن رقصت بهم الهماليج4150، ووطيء الناس أعقابهم فإن ذل المعصية في قلوبهم، إلا أن الحق ألزمنا طاعتهم، ومنعنا الخروج عليهم، وأمرنا أن نستدفع بالتوبة والدعاء مضرتهم، فمن أراد به خيراً لزم ذلك وعمل به، ولم يخالفه4151، وكان ينهي العامة عن القتال وحمل السلاح حين تقبل الفتن، فعن سلم بن أبي الذيال قال: سأل رجل الحسن وهو يسمع وأناس من أهل الشام فقال: يا أبا سعيد ما تقول في الفتن مثل(2/402)
يزيد بن المهلب وابن الأشعث؟ فقال: لا تكن مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، فقال رجل من أهل الشام: ولا مع أمير المؤمنين يا أبا سعيد؟ فغضب ثم قال بيده فخطر بها، ثم قال: ولا مع أمير المؤمنين يا أبا سعيد، نعم ولا مع أمير المؤمنين4152، فكان يرى أنه يجب على المسلم الاعتزال وعدم المشاركة في سفك دماء المسلمين، فلا يقاتل في صفوف الخارجين على السلطة، ولا مع جيش الخليفة، إذا كان ظالماً4153.
ب ـ وبالرغم من قوله بعدم الخروج على حكم بني أمية، إلا أنه كان يرى وجوب الإنكار عليهم لظلمهم، واستئثارهم بالأموال، وتوليتهم الولاة الظلمة، كأمثال الحجّاج، وكان شديد الانتقاد للحكم الأموي وخاصة سياسات الحجّاج في العراق، وكان يواجه الحجّاج بانتقاداته غير خائف من بطشه4154، وعن ميمون بن مهران قال: بعث الحجّاج إلى الحسن وقد همّ به، فلما قام بين يديه قال: يا حجّاج، كم بينك وبين آدم من أب؟ قال كثير قال: فاين هم؟ قال: ماتوا. قال: فنكس الحجاج رأسه وخرج الحسن وقال أيوب السختياني: إن الحجّاج أراد قتل الحسن مراراً فعصمه الله منه4155، وكان يحذر العلماء من مخالطة السلاطين والحكام لكي لا يوهموا المسلمين برضاهم عن حكمهم، ولكي يشعروا الحكام بعدم رضاهم عن سياساتهم الجائرة وكان يرى أن في مخالطة العالم والمفتي للحاكم إذلالاً لمكانته العلمية، والاجتماعية، وكان يقول لبعض الفقهاء ممن كانوا يخالطون الأمراء: والله لو أنكم زهدتم فيما عندهم لرغبوا فيما عندكم وهابوكم، ولكنكم رغبتم فيما عندهم فزهدوا فيكم4156، ومع حرصه الشديد على عدم مخالطة الأمراء والحكام إلا أنه تولى القضاء في البصرة في عهد عمر بن عبد العزيز4157، نظراً لعدل وحسن سيرة عمر بن عبد العزيز4158. إن منهج الحسن في التعامل مع الحكام منهج وسط معتدل، فهو مع نهيه عن الخروج على الولاة وكرهه للمواجهة معهم لما يترتب على ذلك من مفاسد عظيمة من سفك الدماء، وتفريق الأمة، وتعطيل الجهاد(2/403)
..الخ . إلا أن ذلك لا يفهم منه تبريره لإخفاء الولاة أو عدم إنكارها، بل كان يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر.
5 ـ أسباب فشل ثورة ابن الأشعث:
أ ـ عدم تمكن العلماء من السيطرة على مسار تلك الحركة: وذلك حين تطور الأمر وخلع الثائرون الخليفة عبد الملك بن مروان، فلم يتمكن العلماء من إقناع الناس بالحفاظ على الهدف الذي قامت الثورة لأجله وهو خلع الحجّاج، بل ربما جر بعض العلماء إلى القناعة بهذا المسار الجديد ، وتأكد فشل العلماء في عدم محافظتهم على الهدف الرئيس للحركة وذلك حينما عرض عبد الملك على الثائرين عزل الحجّاج، ولكن الزهو والعجب بما تحقق من انتصارات أدى إلى رفض ذلك العرض من الخليفة ولم يتمكن العلماء من إقناع الثائرين بقبوله، وبهذا الرفض.
ب ـ تحكم أصحاب الدوافع الإقليمية والمذهبية في مسارها:
استطاع أصحاب الدوافع الإقليمية والميول المذهبية أن يسيروا بالحركة نحو التخلص من بني أمية.
ج ـ عدم امتلاك الثورة لرؤية كاملة: فقد أصبح العلماء يسيرون في طريق غير واضح المعالم، سوى تحقيق الانتصار على جيوش الأمويين، ولكن ماذا بعد؟ هل بالإمكان تغيير الخليفة بالانتصار على جيوش الأمويين في العراق، وهل يستستسلم الشام بهذه السهولة، أو تقر الأقطار الإسلامية ذلك؟ وهل يكون ابن الأشعث هو الخليفة للمسلمين في حالة القضاء على عبد الملك، لقد دخلت الثورة في طريق شائك معقد بمجرد رفضها عرض الخليفة بعزل الحجّاج واضطربت أهدافها مما أدى إلى وأدها وفشلها وانتصار جيوش الخليفة عليها4159.(2/404)
س ـ ذكاء الخليفة عبد الملك ودعمه المستمر بالجيوش للحجّاج، فقد مال للصفح والمسالمة والمسامحة ولبى طلب أهل العراق في عزل الحجّاج من أجل حقن الدماء وتوفير الجهود والحفاظ على الجبهة الداخلية الواحدة المتراصة، وكان عرضه على ابن الأشعث في عزل الحجّاج كسب سياسي له حيث تبلبل صف ثورة ابن الأشعث واختلفت الآراء، وكان عبد الملك في نفس الوقت قد أعد جيشين من أهل الشام، وسلم القيادة لأقرب الناس إليه إلى أخيه وولده وأمرهما بالتقيد بأوامر والي العراق4160، إن عدد العساكر المقاتلة والقادة وتزويدهم بكل ما يحتاجون ثم تكليفهم بالمفاوضة مع ابن الأشعث، منحت الثقة لابنه وأخيه، وهزت قرارة نفوس العراقيين وهذا من رباطة جأش الخليفة، فكأنما قد قدّم جرعة كبيرة من الحرب النفسية، الأمر الذي أدخل الرهبة في نفس المفاوض الأول حتى مالت نفس ابن الأشعث للرضوخ لولا أصحابه، كما أكسبت الثقة للجنود الشاميين فكانوا يقاتلون ببسالة، ومن هنا يظهر دور الخليفة في كبح الحجّاج حيناً، وفي إعداد الجيش حيناً آخر، فلولاه لما كان بالإمكان القضاء على هذه الانتفاضة وبهذا القدر من الجهد، ويعود ذلك إلى السياسة المتجددة، القائمة على أصول من الفهم الكامل لخطط الخليفة البعيدة المدى، فقد كان رجل دولة من الطراز الأول يملك خطة مستقبلية لدولة قادرة على وضع أهدافها التكتيكية والاستراتيجية من أجل بناء دولة القوة والمنعة4161 على أسس راسخة من الملك العضوض،
ج ـ القيادة لم تكن بيد العلماء وإنما بيد الأشعث.
خ ـ عدم وجود تنظيم قوي يتحكم في توجيه الثوار وفق الأهداف المرسومة من القادة .
ش ـ شخصية بن الأشعث وطبيعة جيشه:(2/405)
…لم تكن شخصية ابن الأشعث تملك الصفات القيادية من بعد نظر، وثاقب فكر، وتقدير للأمور، وثبات في المواقف، فقد وقع في شباك رتبيل وباعه للحجّاج مقابل مصالحه وتحالف مع الكفّار ضد المسلمين، ولم يستطع أن يقود جيشه كما يريد بل انقاد لعواطف ومشاعر الجنود فأودت به إلى حتفه، كما أن جيشه لم يكن ينقصه عدد أو عدة، ولكن حماسهم خفّ بسبب طول انتظارهم، ولم تكن لهم طاعة قوية لرؤسائهم، بعكس أهل الشام الذين كانوا جنداً نظاميين بكل ما لهذه الكلمة من معاني4162، وهذه أبيات من الشعر تصوّر حزنهم واعترافهم بأنهم لم يصبروا ويدافعوا حق المدافعة عن دنياهم التي أضاعوها بتفريطهم:
………أيا لهفاً ويا حزناً جميعاً
…………………ويا حر الفؤاد لما لقينا
………تركنا الدين والدنيا جميعاً
…………………وأسلمنا الحلائل والبنينا
………فما كنا أناساً أهل دين
…………………فنصبر في البلاء إذا ابتلينا
………وما كنا أناساً أهل دنيا
…………………فنمنعها ولو لم نرجُ دينا
………تركنا دورنا لطغام عَكٍ
…………………وأنباط القرى والأشعَرينا4163
6 ـ من نتائج فشل ثورة بن الأشعث :
أ ـ ازدياد تسلط الحجّاج:
…ترتب على فشل نتائج ثورة ابن الأشعث نتائج خطيرة وسيئة، فقد زاد انتصار الحجّاج في النهاية على الثوار من تسلطه وتجبره، واشتد أكثر في تضييقه على العلماء فقتل من قتل منهم وسجن من سجن منهم وهرب من وجهه من استطاع4164.
ب ـ ندم الكثير من العلماء:
…وندم الكثير من العلماء المشاركين في ثورة ابن الأشعث، فهذا طلحة بن مصرف يقول: شهدت الجماجم، فما رميت، ولا طعنت، ولا ضربت، ولوددت أن هذه سقطت هنا ولم أكن شهدتها4165، وعن محمد بن طلحة قال: رآني زبيد اليامي مع العلاء بن عبد الكريم ونحن نضحك فقال: لو شهدت الجماجم ما ضحكت ولوددت أن يدي ـ أو قال يميني قطعت من العضد وأني لم أكن شهدت4166، كما ندم عقبة بن عبد الغافر على مشاركته في القتال كذلك، وغيرهم من العلماء.(2/406)
جـ ـ انتصار رأي العلماء القائلين بعدم الخروج:
…علت منزلة العلماء الذين اعتزلوا تلك الفتنة ولم يشاركوا فيها، فعن ابن عون قال: كان مسلم بن يسار أرفع عندأهل البصرة من الحسن حتى خف مع ابن الأشعث وكف الحسن، فلم يزل أبو سعيد ـ يعني الحسن ـ في علو منها4167، وقد أسهمت حركة ابن الأشعث ـ بنهايتها بتلك الصور ـ في إقناع كثير ممن كان يرى استخدام القوة وحمل السيف لتغيير الجور والظلم الواقع من الولاة بعدم جدواها ولذلك قال ابن تيمية عقب الحديث عن ما حدث من فتن وقعت باجتهاد من بعض أهل العلم والصلاح، كخروج الحسين بن علي رضي الله عنه، وفتنة خروج أهل المدينة ووقعة الحرّة وفتنة ابن الأشعث قال: ولهذا استقر مذهب أهل السنة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم4168، وقال ابن حجر في ترجمة أحد هؤلاء الذين كانوا يرون السّيف: كان يرى الخروج بالسّيف على أئمة الجور، وهذا مذهب للسَّلف قديم، لكن استقر الأمر على ترك ذلك لما رأوه أفضى إلى أشدّ منه، ففي وقعة الحرّة ووقعة ابن الأشعث ـ يعني: دير الجماجم ـ وغيرها عظة لمن تدبر4169.(2/407)
س ـ ظهور بدعة الإرجاء : أو نوع منه وهو ما يسمى(إرجاء الفقهاء نسبة إلى بعض الفقهاء الذين يقولون بأن الإيمان قول بلا عمل، وأنه لا يزيد ولا ينقص، فالإيمان عندهم واحد يستوي فيه كل من اعتقده بقلبه وقال بلسانه، حيث يخرجون الأعمال ـ التي يتفاضلوا فيها المؤمنون ـ عن الإيمان، فيستوي عندهم، إيمان الصادقين الأولين كأبي بكر وعمر، وإيمان أفجر الناس كالحجّاج، وأبي مسلم الخراساني وغيرهما4170، والذي دعا إلى الربط بين ظهور ذلك النوع من الإرجاء وحركة ابن الأشعث ما يشير إليه كثير من الذين كتبوا عن تاريخ الفرق حيث اشتهر عندهم قول قتادة: إنما أحدث الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث4171، وذكروا أن الكوفة كانت موطن الإرجاء الأول ثم إنتشر منها إلى سائر الأقطار4172 ويقول الدكتور ناصر العقل: أول ما ظهرت بدعة الإرجاء بعد فتنة ابن الأشعث سنة (83)4173، وهو إرجاء العمل عن الإيمان ويسمى ((إرجاء الفقهاء))، وأول من قال به هو: ذر بن عبد الله المرهبي الهمداني، (مات قبل المائة4174 ثم ظهور القول بأن الإيمان قول: وأول من قال ذلك حماد بن أبي سليمان4175، ت 120هـ واستقر إرجاء الفقهاء على ثلاثة أسس كلها مخالفة لقول السلف وهي:
ـ زعمهم أن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان، وأن الإيمان هو التصديق.
ـ زعمهم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص.
ـ زعمهم أنه لا يجوز الاستثناء في الإيمان4176.(2/408)
ويقال أن ذراً بن عبد الله المرهبي ـ وكان ممن شارك في فتنة ابن الأشعث ـ فبعد الهزيمة أصيب بردة فعل جعلته يتحول من تكفير الحجّاج وقتاله إلى اتجاه معاكس وهو الإرجاء الذي يسوي فيه أصحابه بين إيمان الحجّاج وأيمان غيره ولو كان من أعبد الناس واتقاهم لله4177. ويقول طاووس بن كسيان ـ منتقداً ذراً المرهبي ومن سلك مسلكه من الفقهاء: عجبت لإخواننا من أهل العراق يسمون الحجّاج مؤمناً. قال الذهبي معلقاً على قول الطاووس: قلت يشير إلى المرجئة منهم، الذين يقولون: هو مؤمن كامل الإيمان مع عسفه وسفكه الدماء وسبه الصحابة4178، وهكذا دأب الفتن فإنها غالباً ما تفرز بعدها بعض التوجهات المنحرفة أو المواقف المتضاربة تجاه أمر معين، حيث لا يسلم من ذلك إلا من عصمه الله بنور الإيمان ورسوخ العلم جعلنا الله منهم4179
7 ـ ممن عفا الحجاج عنهم الشعبي وأسيرين:(2/409)
…أمر الحجّاج بعد انتهاء دير الجماجم مناديه أن يقول: من لحق بقتيبة ابن مسلم بالري فهو آمن، فكان الشعبي من الذين توجهوا إلى الري فذكره الحجّاج يوماً وسأل عنه فعلم بلحوقه بالري، فكتب إلى قتيبة بن مسلم يأمره بإرسال الشعبي إليه فأرسله إليه فلما قدم على الحجّاج لقيه يزيد بن أبي مسلم ـ حاجب الحجّاج ـ وكان صديقاً للشعبي ـ فقال للشعبي: أشر علي. فقال يزيد: اعتذر ما استطعت، وقال الشعبي: وأشار بمثل ذلك إخواني ونصحائي، فلما دخلت على الحجّاج رأيت غير ما ذكروا لي، فسلمت عليه بالإمرة وقلت: أيها الأمير إن الناس قد أمروني أن أعتذر بغير ما يعلم الله أنه الحق، وإيم الله لا اقول في هذا المقام إلا الحق، قد والله مردنا عليك وحرّضنا وجهدنا فما كنّا بالأقوياء الفجرة ولا بالأتقياء البررة، ولقد نصرك الله علينا وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا وما جرّت إليه أيدينا، وإن عفوت عنا فبحلمك، وبعد فالحجة لك علينا4180. فقال الحجاج: أنت والله أحبّ إليّ قولاً ممن يدخل علينا يقطر سيفه من دمائنا ثم يقول: ما فعلت ولا شهدت، وقد أمنت يا شعبي، كيف وجدت الناس بعدَنا؟ فقلت: أصلح اللهُ الأمير، اكتحلت بعدك السحر، واستوعرت الخباب، واستحلست الخوف وفقدت صالح الإخوان، ولم أجد من الأمير خلفاً. قال: انصرف يا شعبي فانصرفت4181، ولم يقتصر العفو على الشعبي لأنه فقيه أهل العراق فقد عفا عن أشخاص من عامة الناس لصدقهم فيروي أنه أتى بأسيرين، فأمر بقتلهما فقال أحدهما إن لي عندك يداً، قال: ما هي قال: ذكر ابن الأشعث يوماً أمك بسوء فنهيته فقال الحجّاج ومن يعلم ذلك؟ قال: هذا الأسير الآخر فسألة الحجّاج فصدقه فقال له الحجّاج: لم لم تفعل كما فعل؟ قال: ينفعني الصدق عندك؟ قال: نعم، قال: منعني البغض لك ولقومك. فقال الحجّاج: خلوا عن هذا لفعله وعن هذا لصدقه4182.
8 ـ توحيد الدولة والقضاء على الثورات الداخلية:(2/410)
…استطاع عبد الملك أن يقض على كل الحركات الداخلية وقد ذكرت أهم هذه الثورات، كثورة الأزارقة، والصفرية، وابن الأشعث، وهناك حركات أخرى ذكرتها كتب التاريخ كحركة مطرف بن المغيرة بن شعبة، وعبد الله بن الجارود، وحركة الأزد في عمان، وفي نهاية المطاف تغلب عبد الملك عليها واحدة تلو الأخرى ووضع الأساليب المناسبة لتحقيق الأهداف المخططة لذلك وقد أثبتت الأحداث قدرة الخليفة عبد الملك بن مروان على معرفة الأحداث معرفة جيدة، ثم السيطرة على هذه الأحداث والقدرة على احتوائها، باستئصال خصومه حيناً، والتسامح معهم حيناً آخر، ضمن خطة سياسية ومنهج قائم على أهداف واضحة، أدت إلى النتائج المتوخاة، وهي إعادة الوحدة السياسية مرّة أخرى، مما أدى إلى إيجاد علاقات جديدة مع الدولة البيزنطية، والقيام بفتوحات جديدة في الشرق والغرب ثم القيام بالعديد من الإصلاحات الجديدة، منحت سياسته الداخلية والخارجية قدرة على التخطيط الشامل الذي يؤدي إلى تحقيق الأهداف المنشودة4183
المبحث الثالث: النظام الإداري في عهد عبد الملك:(2/411)
أهتم عبد الملك بن مروان اهتماماً خاصاً بإدارة شؤون الدولة وسار على نهج معاوية في تطوير المؤسسات والاهتمام بالإصلاحات، وقد قام بتطوير الجهاز الإداري وتنشيطه، وقام بتعريب الإدارة والنقد وهو ما يعرف بحركة التعريب، كما استعان بنخبة من أمهر رجال عصره في الإدارة والسياسة، فقد كرّس عبد الملك كل وقته وجهده لتوطيد أركان الدولة وتنظيمها والسهر على سلامتها، حتى تركها قوية غنية مرهوبة الجانب مرعية السلطان4184، وقد أعاد عبد الملك تنظيم الحكم الأموي على أسس جديدة واستفاد من سياسة معاوية ومن الأنظمة التي وضعها ولكنّ نزعته للتفرد بالسلطان والحكم جعلته يخالف معاوية رضي الله عنه في كثير من الأمور، فمعاوية كان يُشعر جلساءه وقواده وولاته على الأقطار أن لهم الحرية في النقد والقول، والرأي، أما عبد الملك فلا يشعرهم بشيء من ذلك، فهم بين يديه ليسيروا على هواه وليقدم إليهم الأوامر فينفذوها، فما كان يسمح لجلسائه بأن يجتزئوا من سلطانه شيئاً، وقد نظم دولته على هذا الأساس من التمسك بالسلطان والسيادة والانفراد ونظم وسائل الحكم تنظيماً جعله السيد المتفرد في دولته، ويبدو أن نظرته للنظام شملت النواحي الآتية:
ـ دواوين الدولة، فهي الأسلاك التي تدير دفة الحكم والأمة.
ـ الولاة، فهم الذين ينفذون سياسة الدولة ويضبطون الملك،
ـ البريد فهو الذي يوصل بين أطراف الدولة4185.
وتلك النظرة تشير إلى مبدأ في السيطرة، فالأمور المذكورة إنما هي أسلاك وخيوط في يده يحرك بها أجزاء خلافته والآتها ويستخدمها لسلطانه4186، وإليك أهم معالم التطوير الإداري في عهد عبد الملك
أولاً: الدواوين:(2/412)
1 ـ ديوان الرسائل: وقد تطور هذا الديوان كثيراً في عهد عبد الملك وازدادت أهميته بشكل واضح ولا سيما أثناء ولاية الحجاج للعراق، نظراً للمستجدات السياسية والعسكرية ووجود المتمردين والخارجين على الدولة، مما استوجب متابعة أخبارهم، فكان الخليفة عبد الملك يكتب للحجاج بشأنهم، مما كان باعثاً مهماً لازدهار ديوان الرسائل والكتابة، فكانت هذه الرسائل تصدر من الديوان بشكل مستمر إلى من يهمه الأمر لمعالجة أوضاع تلك الإضطرابات4187، حيث أن الخليفة عبد الملك كان غالباً ما يلجأ إلى المكاتبات السياسية في محاولة منه أن يفت في عضد قادة الحركات فقد راسل وقبل اجتماع الأمة عليه ـ مصعب بن الزبير، وابن الأشتر4188، كما كان يرسل التوجيهات الإدارية والعسكرية إلى ولاته وقادته، وكان من الطبيعي أن تزداد مراسلات الحجاج إلى ولاته وقادته ومراسلاتهم إليه كالمهلب بن أبي صفرة مثلاً4189، ويلاحظ كثرة التواقيع4190، في مراسلات الخليفة عبد الملك مع الحجاج بن يوسف الثقفي والتي تؤكد أهمية ديوان الرسائل وتطوره، وتوضح في جانب منها طبيعة سياسة الخليفة الإدارية فوقع مثلاً في كتاب أرسله إلى الحجاج: جنبني دماء بن عبد المطلب فليس فيها شفاء من الطلب4191، وجاء في كتاب للحجاج: أرفق بهم فإنه لا يكون مع الرفق ما تكره ومع الخرق ما تحب4192، ونظرا لأهمية الرسائل فإن الخليفة عبد الملك بن مروان، وكذلك الحجاج لم يستخدما في هذا الديوان إلا من هو موضع ثقة وأمانة وإخلاص كما اُختير الكتاب الحاذقون الذين يجمعون بين الخبرة الإدارية وفي كتابة الرسائل وإجادة أسلوب المخاطبة، ومن اشهر من استخدمهم الخليفة عبد الملك قبيصة بن ذؤيب، وبلغ من علو مكانته انه كان يطلع على الكتب الواردة إلى الخليفة قبل أن يعرضها على الخليفة نفسه4193ومن كتابه المشهورين روح بن زنباع الجذامي، وكان روح هذا على جانب كبير من العلم والأمانة إذ كان يقول فيه عبد الملك: ما أعطى أحد(2/413)
ما أعطى أبو زرعة ـ وكانت كنيته: أعطى فقه الحجاز، ودهاء أهل العراق، وطاعة أهل الشام4194، والحق أن عبد الملك سلسل الأمور في أعمال الدولة تسلسلاً دقيقاً ووضع في ديوان الرسائل موظفين عارفين، وعلى رأسهم مستشاره الخاص، يستشيره في الرسائل التي يرسلها إلى الأقطار والتي ترد منها4195.
2 ـ ديوان العطاء: أدرك الخليفة عبد الملك بن مروان أهمية العطاء وبدأ العطاء في عهده يرتبط بشكل واضح بالنواحي العسكرية والسياسية ففي سنة 69 هـ ، خرج عبد الملك لقتال مصعب بن الزبير، فتخلف بعض من أهل الشام عن الخروج معه، فأخذ خمس أموالهم من عطاء سنة 70 هـ على الرغم من حبه العميق لهم4196، كما كان عبد الملك يضطر أحياناً وتحت ضغط الظروف إلى زيادة العطاء أو إدخال أناس آخرين في الديوان، كما فعل حين تمرد الجراجمة في لبنان، إذ أعلن قائده سحيم بن المهاجر على لسان الخليفة: من أتانا من العبيد فهو حر ويثبت في الديوان، فانفض إليه خلق كثير4197، كما استخدم سلاح زيادة العطاء أيضاً ضد عبد الله بن الزبير، حينما نادى الحجاج جنده قائلاً: يا أهل الشام قاتلوا على أعطيات عبد الملك4198، وقد حدث تطور مهم لديوان الجند في عهد عبد الملك في العراق خاصة وذلك حينما بدأ الجند يتقاعسون عن الخروج لقتال الخوارج فعين عبد الملك الحجاج على العراق، وأمره أن يعيد تنظيم ديوان الجند، وتنظيم العطاء فيه على أساس المقدرة والكفاءة، فأعاد الحجاج تنظيم ذلك على أسس دقيقة4199، ثم أمر بإعطاء الناس عطاءهم والتوجه لجبهات القتال، وتوعد المتخلفين منهم بالموت4200، كما لم يقبل إعفاء جندي من الخروج للقتال مقابل تركه عطاءه4201، وقد استخدم الخليفة عبد الملك العطاء وسيلة للقضاء على الفتنة، فقد كتب يوماً إلى الحجاج، أن يصف له الفتنة فوصفها له: فكتب إليه عبد الملك: فإن أردت أن يستقيم لك من قبلك فخذهم بالجماعة وأعطهم عطاء الفرقة4202، وكان الحجاج يصرف العطاء بأكمله(2/414)
لجنده في أوقات الأزمات السياسية أو الاستعداد للقتال، كما فعل حينما أعطى الناس اعطياتهم كاملة عند تجهيز جيش الطواويس لقتال رتبيل4203، ومن ناحية أخرى، فإن الخليفة عبد الملك بن مروان، كان يكرم من أسدى خدمة عسكرية للدولة أو أظهر بطولة وشجاعة في جبهات القتال، فقد كرّم موسى بن نصير حينما حرر إفريقية سنة 83هـ4204، كما كرّم الحجاج المهلب بن أبي صفرة وأصحابه لجهودهم في القضاء على الخوارج الأزارقة، إذ: أحسن عطاياهم وزاد في أعطياتهم ثم قال: هؤلاء أصحاب الفعال وأحق بالأموال هؤلاء حماة الثغور وغيظ الأعداء4205، وأما إدارة هذا الديوان، فكان من أشهر من تولاه للخليفة عبد الملك بن مروان هو سرجون بن منصور الذي تولى ديواني الجند والخراج في دمشق4206، ثم عزله الخليفة وعين بدله: سليمان بن سعد الخشني4207.
3 ـ ديوان الخراج: كما ذكرنا قبل قليل، أن سرجون بن منصور كان قد تولى إدارة ديوان الخراج والجند على عهد الخليفة عبد الملك4208، ثم عزله وعين بدله: سليمان بن سعد الخشني4209، وكان يساعد صاحب الخراج عدد غير قليل من الكتّاب والموظفين، إذ كان بديوان خراج مصر حوالي أربعة وأربعين موظفاً4210، ويبدو أن متولى الخراج كان يحصل على أموال طائلة من عمله، مثل ((اثيناس)) متولي الخراج في مصر على عهد عبد الملك، حيث كان واسع السلطات عظيم النفوذ4211، وكان اشهر من تولى ديوان خراج العراق هو (زادان فروخ)4212ثم صالح بن عبد الرحمن4213.(2/415)
4 ـ ديوان الخاتم: في عصر الخليفة عبد الملك بن مروان تطور ديوان الخاتم فأصبح إدارة منظمة، كما نشأت في هذه الفترة دار للمحفوظات الحكومية في دمشق4214، ومن المحتمل إن هذا الديوان لم يقتصر على العاصمة دمشق، بل ربما وجد في باقي الولايات خصوصاً بعد التنظيم الإداري الواسع الذي قام به الخليفة عبد الملك بن مروان، وكذلك لكثرة المراسلات مع الولايات المختلفة وأهميتها السياسية ولا سيما مع العراق، وكان الخليفة عبد الملك لا يولي هذا الديوان إلا أوثق الناس عنده4215.
5 ـ ديوان الطراز: يراد بالطراز في الأصل التطريز، ثم أصبح يدل على ملابس الخليفة أو الأمير ورجال حاشيته، لا سيما إذا كان فيها شيء من التطريز وعليه أشرطة من الكتابة، ثم اتسع مدلول الطراز، فأصبح يطلق على المصنع والمكان، الذي تصنع فيه مثل هذه المنسوجات4216، وفي العصر الأموي ارتفع المستوى المعاشي، فزادت عناية الناس بمظاهر الترف والأبهة، لذلك أنشأ الأمويون عدداً من المصانع عرفت بدور الطراز4217، وقد أهتم الخليفة عبد الملك بن مروان بالطراز، فنظمت صناعته بشكل واسع وأصبح أساساً لما حدث من نهضة في صناعة النسيج وبخاصة زمن الخليفة سليمان بن عبد الملك4218.(2/416)
6 ـ ديوان البريد: عندما تولى الخلافة عبد الملك طوّر الأجهزة التي تساعده على جمع المعلومات ولذلك اعتنى بشكل كبير بالبريد بوصفه وسيلة مهمة من وسائل ضبط دولته وانتظام أمورها، فطوّره ونظمه وأرسى قواعده4219، فلم يعد وسيلة لنقل الأخبار والرسائل بين العاصمة والولايات وبطريقة تبادل الخيل وحسب، بل أصبح وسيلة مهمة في العمليات العسكرية، ونقل الأشخاص المهمين والمواد المختلفة، باستخدام الرحلات السريعة والمنظمة، كما أصبح عيناً للخليفة في نقل أخبار الإقليم والعمال وشكاوي الناس من عمالهم وموظفي الدولة هناك، ومن أجل تسهيل عمل البريد وانتظامه وسرعته، قام الخليفة عبد الملك بن مروان بتنظيم طرق البريد، وتحديدها وتثبيتها، فقام ببناء الأميال في الطرقات4220، كعلامات دلالة للطرق وتحديد مسافاتها، ومما يؤكد ذلك، ما وصل ألينا من نقوش معاصرة للخليفة عبد الملك، كشفت بالقرب من بيت المقدس تشير إلى أوامره بعمل هذه الأميال4221، فقد بذل الخليفة عبد الملك عناية فائقة في تنظيم الطرق وصيانتها، فأصبحت تخترق الدولة طرق عديدة أقيمت على طولها محطات للبريد4222، وقد أفاد الخليفة عبد الملك فائدة كبيرة من البريد خصوصاً في الجوانب العسكرية، سواء كان ذلك بإرسال الجند، والإمدادات والأوامر إلى قادة جنده، أو في نقل أخبار المعارك والتحركات العسكرية إليه4223، وإدراكاً من الخليفة عبد الملك لأهمية البريد وكسباً للوقت فقد جعل على هذا الديوان أخص خاصته وهو قبيصة بن ذؤيب: وأمر بألا يحجب أي ساعة جاء من ليل أو نهار4224، وتأكيداً لذلك فقد منع عبد الملك حاجبه أن يحجب صاحب البريد، قائلاً له: وليتك ما خلف بابي إلا أربعة... والبريد متى جاء من ليل أو نهار فلا يحجب، وربما أفسد على القوم تدبير سنتهم4225، حبسهم البريد ساعة4226، ونتيجة ذلك أن انتظم البريد وأصبح الخليفة يطلع بشكل يومي على تفاصيل الأحداث4227، وقد استخدم البريد في عصر عبد الملك(2/417)
أيضاً في حمل الأشخاص ومن مختلف المستويات كالولاة والكتاب والشعراء وغيرهم، كما حمل كتب التأييد والرضا عن الخليفة من الأشخاص المهمين4228، وكان الحجّاج هو أيضاً دائم الصلة بقواده في جبهات القتال، ويتسمع أخبارهم بواسطة البريد، فكانت كتب الحجّاج ترد على محمد بن القاسم الثقفي، وكتب محمد ترد عليه بصفة ما قبله واستطلاع رأيه فيما يعمل به في كل ثلاث أيام4229ووصول الكتب بهذه السرعة يدل على التنظيم الرائع للبريد4230، ومن وسائل الاتصال والمخابرة الجديدة التي استخدمها الحجّاج في الأحوال العسكرية خاصة لايصال الأخبار بين واسط وقزوين بسرعة، هو بناء المناظر والمنائر التي توضع على المرتفعات العالية حيث تنقل الإشارات بواسطتها عن طريق إشعال النار أو الدخان، فيصل الخبر بسرعة عن طريق انتقاله من منظره لأخرى وقد وضح ياقوت الحموي ذلك بقوله:.. وكان إذا دخن أهل قزوين دخنت المناظر إن كان نهاراً، وإن كان ليلاً أشعلوا نيراناً وتجرد الخيل إليه، وكانت المناظر متصلة بين قزوين وواسط4231، ويبدو أن ما كان ينفقه عبد الملك على إدارة البريد لم يكن قليلاً لاسيما أنه قد بذل جهوداً كبيرة لتطويره وتنظيمه4232، ويمكن القول بأن الخليفة عبد الملك بن مروان هو أول من عمل ديوان البريد مؤسسة إدارية منظمة مستقلة، وهذا لا يعني عدم وجود البريد المنتظم في عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان إلا أنه لم يكن ديواناً متكاملاً مستقلاً، خصوصاً أن مصادرنا التاريخية، لا تذكر البريد بوصفه ديواناً إلا في عهد عبد الملك بن مروان4233، فالبريد في نظر عبد الملك عصب الدولة الحساس وذلك أقام له المحطات وفتح له المسالك ونظم مواعيده4234.
ثانياً : تعريب الدواوين وأسبابه والنتائج التي ترتبت عليه:(2/418)
جاءت عملية تعريب الدواوين ضمن الخطة المرسومة لسياسة الدولة الإصلاحية التي بدأها الخليفة عبد الملك بن مروان وأكملها الخلفاء الذين جاءوا من بعده والتي تضمنت نقل الدواوين من اللغات الأجنبية، الفارسية، واليونانية، والقبطية إلى اللغة العربية لإزالة النفوذ الأجنبي من مؤسسات الدولة الإدارية والمالية، وعملية التعريب التي ابتدأها عبد الملك تعتبر من الأحداث العظيمة والجليلة التي قام بها عبد الملك وفق خطة شاملة وكان لتعريب المؤسسات الإدارية (الدواوين) أسباب كثيرة منها:
1 ـ إن دخول شعوب وأقوام مختلفة اللغات والديانات إلى الإسلام يعني حاجة هؤلاء الماسة إلى التفقه بالدين وقراءة القرآن الكريم مما شدد الصراع بين اللغة العربية واللغات الأخرى، ومن ثم إلى شيوع اللحن لذلك اعتنى عبد الملك وواليه الحجّاج بن يوسف، بضبط قراءة القرآن، عن طريق تمييز الحروف المتشابهة بوضع النقط عليها4235 لذلك كان التعريب ضرورة ملحة، وكان الحرص على سلامة اللغة العربية من العوامل المهمة التي أدت تعريب الدواوين في عصر الخليفة عبد الملك بن مروان4236.
2 ـ كان الخليفة عبد الملك يهدف وراء التعريب إلى تحقيق وحدة الدولة وتماسكها، إذ أن اختلاف لغات الدواوين يكرّس اختلاف النظم المالية والإدارية، ويعيق عملية تنظيم وتوحيد إدارة الدولة، كما أن تعريب الدواوين يعني إنهاء التأثيرات الشعوبية والعنصرية مما يؤكد سيادة الدولة سياسياً على البلاد المفتوحة.(2/419)
3 ـ إن استعمال اللغات الأجنبية في الدواوين يعني بقاء هذه اللغات حية وكأنها رسمية، فيتعلمها الناس لحاجة الدولة إليها لكونها طريقاً لتولي الوظائف الكبيرة، وينتج عن ذلك استمرار منافسة هذه اللغات اللغة العربية مما يضعف من شأنها، ويضعف كيان الدولة الأموية، ولذلك كان التعريب جزءاً من سياسة عبد الملك بن مروان الهادفة إلى إعادة تنظيم جهاز الدولة الإداري وتحقيق شخصية الدولة واستقلالها عن النفوذ الأجنبي4237.
4 ـ كان للعوامل الاقتصادية أثراً مهماً في تعريب الدواوين، فقد كان متولي هذه الدواوين يحصلون على أموال طائلة من عملهم هذا، لذلك كان تعريب دواوين الخراج خطوة أولى باتجاه إعادة تنظيم طريقة جباية الضرائب في الأقاليم، وبذلك يمكن ضبط أعمال تلك الدواوين والإشراف بدقة عليها، فيمنع الغش والتزوير، أي أن تعريب الدواوين هو جزء من خطة الإصلاح المالي الذي كانت الدولة بحاجة شديدة إليه إذ ذاك4238، ولاسيما في العراق أهم أقاليم الدولة الأموية اقتصادياً، حيث حاول الحجّاج بن يوسف الثقفي معالجة الأوضاع الاقتصادية وذلك بالسيطرة على الشؤون الإدارية عن طريق السيطرة على سجلات الدواوين المالية4239، هذه هي أهم الأسباب التي دعت عبد الملك يعرّب الدواوين.
* ـ…نتائج تعريب الدواوين:
…حققت حركة تعريب الدواوين على يد الخليفة عبد الملك بن مروان نتائج ذات آثار عظيمة في جميع الميادين السياسية والإدارية والثقافية واللغوية ما زالت نتائجها شاخصة للعيان حتى اليوم ويمكن تحديد نتائج حركة التعريب بما يأتي:(2/420)
1 ـ تحقيق سيادة لغة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وتعزيز مكانتها، وانتصارها على اللغات الأجنبية في الدولة، كالفارسية واليونانية، والقبطية، إذ أصبحت لغة الدين الإسلامي، لغة السياسة والدين والعلم، وأصبحت مادة التفاهم اليومي في كل أنحاء الدولة، فانتشرت الثقافة العربية التي طغت على الثقافات الأخرى، وتفاعلت معها وأذابتها وحلت محلها، إذ اعتبر التعريب من الأحداث الكبيرة والإنجازات الضخمة في المجال الثقافي والسياسي وقد تمّ وفق خطة مدروسة.
2 ـ ظهور فئة مهمة من الكتاب العرب أو الموالي حلّوا محل الكتّاب الفرس والروم في إدارة الدواوين، إذ كان لصالح بن عبد الرحمن مهمة كبيرة في ذلك، حيث يقول عبد الحميد بن يحي المعروف بعبد الحميد الكاتب للخليفة مروان بن محمد: لله در صالح ما أعظم متنه على الكتّاب4240، وبذلك كان عامّة كتاب العراق تلامذة صالح ومن هؤلاء قحذم بن أبي سليم وشيبة بن ايمن، والمغيرة وسعيد ابنا عطية ومروان بن إياس4241.
3 ـ ظهور حركة الترجمة، من اللغات الأجنبية إلى العربية حيث كانت حركة تعريب الدواوين أول عملية ترجمة منظمة أدت إلى نقل الكثير من المصطلحات الأجنبية، وظهر من أهتم بالترجمة، مثل خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان المتوفي 85هـ فهو أول من أمر بنقل بعض كتب الكيمياء والطب من اليونانية إلى العربية4242.
5 ـ كان تعريب الدواوين سبيلاً إلى تعريب الأقاليم والجاليات غير العربية، فكان هذا من أكبر العوامل في انتشار اللغة العربية4243، كما أن أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي ما زالت إلى وقتنا الحاضر عربية ثمرة لجهود عبد الملك4244، فاللغة العربية هي الأداة التي جعلت مجتمع العرب يتسع رويداً رويداً حتى صارت حدوده تمتد من الخليج العربي شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً4245(2/421)
6 ـ تمكنت الدولة من تحقيق الإشراف التام على النواحي المالية والإدارية وضبط أعمال الدواوين وسجلات الضرائب أي أسهم ذلك في نجاح الدولة بخطه الإصلاحي.
7 ـ إتجه الموالي لتعليم اللغة العربية لكونها الطريق التي تؤدي إلى الوظائف والمناصب العالية، كما أدى من جهة أخرى إلى إشاعة اللحن في اللغة، مما دعا الحجّاج إلى معالجة ذلك، ثم اندفع الموالي للتخلص من اللحن والخطأ وتعلم النحو ودراسته، فحدثت نهضة لغوية واسعة، وهذا يفسر لنا ظهور علماء كبار من الموالي في العصر الأموي ثم العصر العباسي.
8 ـ إيجاد نظام إداري موحد وشامل، وللدلالة على حسن هذا النظام أن إتخذه العباسيون، فقد كانت الإدارة عندهم تطوراً للإدارة عند الأمويين4246، هذه هي أهم نتائج حركة التعريب التي قام بها عبد الملك بن مروان.
ثالثاً : إدارة الأقاليم في عهد الخليفة عبد الملك:(2/422)
عندما تولى الخلافة عبد الملك بن مروان (73 ـ 86هـ) قام بتنظيم دواوين الدولة ومؤسساتها، كما قام بتنظيم إدارة الأقاليم وأعاد النظر في تقسيمها وترتيبها، آخذاً بنظرة تغير الحياة وتطورها بمختلف أوجهها وكانت الدولة الأموية مقسمة إلى عدة أقاليم، ويرأس كل إقليم أمير، يكون تعيينه وعزله من الخليفة، ويملك هذا الأمير سلطات واسعة في إدارة إقليمه، فهو الذي يعين العمال على الولايات والمدن التابعة لإقليمه، كما يعين الموظفين أيضاً، وهو المسؤول عن تنظيم الجند، وتجهيز الحملات العسكرية، وغالباً ما يقودها بنفسه أو ينيب عنه قائداً لذلك، وكان له الإشراف على سك النقود أيضاً، وكان بجانب الأمير4247، موظف له أهمية كبيرة هو صاحب الخراج، فالوالي، يدير الشؤون السياسية للولاية، وعامل الخراج يتولى إدارة الشؤون المالية، ويكون صاحب الخراج بمثابة الرقيب على الوالي، ويعين صاحب الخراج هذا من الخليفة، وقد تحصل مواجهة تصادم بين الوالي وصاحب الخراج، وكذلك كان يساعد الأمير في عمله عدد من الموظفين منهم القاضي، وصاحب الشرطة، ورئيس الحرس، والكاتب والحاجب4248، وقد بلغت الدولة الإسلامية في العهد الأموي أقصى إتساعها وكانت مقسمة إدارياً في عهد عبد الملك إلى أقاليم كبرى هي:
1 ـ بلاد الشام العاصمة للدولة:(2/423)
…وكانت بلاد الشام في عصر الخليفة عبد الملك بن مروان قد استقرت إدارياً إلى خمسة أجناد وهي جند دمشق، وحاضرتها دمشق، وجند حمص وحاضرتها حمص، ومن مدنها تدمر، وجند قنسرين، وحاضرتها قنسرين، ومن مدنها حلب ومرعش، وجند فلسطين، وحاضرتها اللد، ومن مدنها تبوك وجند الأردن، وحاضرتها طبرية، ومن مدنها عكا4249، وكان لنظام الأجناد هذه أهمية إدارية وعسكرية كبيرة، إذ كان من أهم أسباب قوة الدولة الأموية، فقد كان الجند مستعدون دوماً للقضاء على أعداء الدولة في الداخل، والخارج4250، ولم يعين عبد الملك والياً خاصاً على بلاد الشام، لأنها كانت تحت إشرافه المباشر، إلا أنه عين على الأجناد ولاة خاصين بها، وكان جند دمشق يقع تحت إدارة عبد الملك مباشرة بوصفها حاضرة الدولة الأموية4251.
2 ـ إدارة الحجاز وأواسط الجزيرة العربية واليمن:(2/424)
أ ـ الحجاز: في سنة 73هـ، حدث تطور إداري مهم، إذ جمع الخليفة عبد الملك أعمال الحجاز واليمن للحجّاج بن يوسف الثقفي4252، فكان الحجّاج يستخلف على المدينة إذا أتى مكة، عبد الله بن قيس بن مخرمة الذي ولاه قضاء المدينة، وقد أدرك عبد الملك أهمية الحجاز المعنوية والمؤثرة فانتهج لذلك سياسة حكيمة، فقد أحسن إلى الناس واستجاب لطلبهم في عزل الحجّاج عن الحجاز، أدت بالتالي هذه السياسة إلى نجاحه في الحصول على بيعة كبار أهله وفي سنة 75هـ نقل عبد الملك بن مروان الحجّاج من الحجاز وولاه العراق4253، ثم ولى الخليفة عبد الملك بعد ذلك على المدينة عمه يحي بن الحكم بن أبي العاص ثم عين أبان بن عثمان سنة 76هـ وفي عام 82هـ عزل الخليفة أبان بن عثمان عن ولايته المدينة وقبل سنة 83هـ وولى مكانه هاشم بن إسماعيل المخزومي4254، فبقى في منصبه حتى وفاة الخليفة عبد الملك4255، ومن الجدير بالملاحظة أن الولاة الذين عينهم الخليفة عبد الملك بن مروان على المدينة أما من أفراد الأسرة الأموية، أو ممن لهم صلة عائلية بالأسرة مثل هشام بن إسماعيل المخزومي، ويبدو أن هذا الاختيار كان الهدف منه ضمان الولاء والإخلاص التامين للخليفة، لاسيما أن المدينة كانت من مراكز المعارضة القوية للأمويين4256.
ب ـ مكة: بعد مقتل ابن الزبير ولى الخليفة ابنه مسلمة بن عبد الملك والياً عليها، وفي السنة نفسها جمع عبد الملك الحجاز وأعماله واليمن للحجّاج حتى سنة 75هـ ثم ولى مكانه الحارث بن خالد المخزومي4257، ولا بد من القول أنه تعاقب على مكة ولاة تختلف المصادر في تسميتهم وسني حكمهم، وربما يرجع ذلك إلى كثرة عددهم من جهة، وإلى قصر فترة ولاية بعضهم من جهة أخرى4258، وكان عبد الملك يعتني بتعمير الكعبة والمحافظة على سلامتها وكان يبعث إليها بالهدايا والديباج كل سنة4259.(2/425)
ج ـ أواسط الجزيرة العربية: كانت أهم مناطقها اليمامة وكانت اليمامة منذ سنه 65 هـ مقرا لنجدة الحنفي زعيم فرقة النجدات الخارجية4260، والذي بدأ تحركاته العسكرية منطلقاً من اليمامة حتى تمكن من تأسيس دولة النجدات في اليمامة والبحرين وقد حاول عبد الملك استخدام الأساليب الدبلوماسية مع نجدة إذ وعده أن يوليه على اليمامة مقابل الدخول في طاعته4261، فكان هذا أحد أسباب انشقاق النجدات بعد ذلك إلا أن اليمامة ظلت خارج سيطرة الدولة الأموية حتى تمكن الخليفة عبد الملك من القضاء على دولة النجدات في اليمامة والبحرين سنة 73هـ4262، فولى عبد الملك يزيد بن هبيرة المحاربي ثم عزله وولى مكانه إبراهيم بن عربي وبقي الأخير إلى أن مات عبد الملك4263.
جـ اليمن: وفي عهد عبد الملك بن مروان أصبح لليمن وال واحد بعد أن كانت مقسمة إلى عدة عمال، في الحقب السابقة4264، ومن أشهر ولاة عبد الملك على اليمن محمد بن يوسف الثقفي وهو أخو الحجّاج بن يوسف وظل محمد على ولاية اليمن إلى ما بعد وفاة الخليفة عبد الملك بن مروان4265، ومحمد بن يوسف لم يحسن السيرة مع أهل اليمن كما أنه زاد ضريبة الخراج على الأراضي الزراعية4266.
3 ـ إدارة العراق والمشرق الإسلامي:
أ ـ العراق: وجه الخليفة كل إهتمامه نحو العراق واستطاع أن ينزع الحكم من مصعب بن الزبير، سنة 72هـ وبايعه أهل الكوفة، وأحسن إلى زعمائها وولى عليها أخاه بشر بن مروان وأمره باللين لأهل الطاعة والشدة على أهل المعصية4267، وفرق العمال على المدن، أما البصرة فقد وليّ عليها خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد4268 الذي فشل في قتال الخوارج في البحرين والعراق، فعزله عبد الملك، وجمع العراق لبشر بن مروان فقدم البصرة سنة 74هـ، واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث المخزومي، فأقام بشر بالبصرة شهراً ثم مات4269، ثم أسند عبد الملك ولاية العراق إلى الحجّاج إلى أن مات الخليفة عبد الملك4270.(2/426)
ب ـ الولايات التابعة للعراق في شرق الجزيرة العربية:
…كانت الأجزاء الشرقية من شبه الجزيرة العربية، والمطلة على بحر الخليج، تابعة إدارياً في العصر الأموي إلى أمير العراق، وهو الذي يعين عليها ولاة، يتولون إدارتها، وأهم هذه الأقاليم هي البحرين، وعمان، وتشمل البحرين الإقليم الممتد على ساحل الخليج العربي، بين البصرة وعمان فهو يشمل ما نعده اليوم، الكويت والإحساء وقطر وجزر البحرين الحالية المعروفة قديماَ باسم ((أوال))4271، ودولة الإمارات العربية المتحدة4272.
جـ ـ خراسان والمشرق الإسلامي: بعد أن تمكن عبد الملك من قتل مصعب وضم العراق عام 72هـ، بدأ يخطط لاسترجاع خراسان ونجح في ذلك،وفي عام 78هـ ضم عبد الملك ولاية خراسان، وسجستان وكل المشرق الإسلامي إلى ولاية العراق للحجّاج بن يوسف، فولى الحجّاج على خراسان ((المهلب بن أبي صفرة سنة 79هـ4273، ويبدو أن نجاح الدولة في القضاء على كل منافسيها في الداخل، وجه الاهتمام بجهاد العدو في الثغور، فكانت خراسان بحاجة إلى رجل عسكري قوي كالمهلب يمكن أن يحقق أهداف حركة الجهاد هناك، ومما يؤكد ذلك بقاء المهلب في ولايته حتى وفاته، كما يمكن اعتبار هذا التعيين بمثابة تكريم لجهوده في القضاء على الخوارج الأزارقة وفي ولاية المهلب هذه نشطت حركة الفتوحات وسيأتي الحديث عنها عند كلامنا عن الفتوحات في عهد عبد الملك وعين الحجّاج على سجستان عبيد الله بن أبي بكرة وذلك سنة 78هـ4274، وكتب عبد الملك إلى الحجّاج: لا تستعمل عبيد الله بن أبي بكرة على الخراج والجباية فإنه أريحي4275، وهذا يعني أن الحجّاج أصبح هو الذي يعين الولاة على الأقاليم التابعة لولايته كخراسان وسجستان في الغالب، وهي جزء من سياسة عبد الملك في الاتجاه نحو اللامركزية الإدارية4276.
4 ـ إدارة الجزيرة الفراتية وأرمينيا وأذربيجان:(2/427)
…تقع الجزيرة الفراتية بين نهري دجلة والفرات، وتشمل على ديار ربيعة وديار مضر، وديار بكر، وتمتد على نهر الفرات من شمال ملقية بمسيرة يومين شمالاً إلى الأنبار جنوباً، وعلى دجلة من تكريت جنوباً إلى شمال جزيرة ابن عمر شمالاً4277، وتقع أرمينيا وأذربيجان إلى الشرق والشمال الشرقي، للجزيرة الفراتية4278، وكانت الموصل في عهد عبد الملك، جزءاً من ولاية الجزيرة الفراتية4279، وقد أدرك عبد الملك أهمية الجزيرة هذه فعمل جاهداً على تنظيمها لتقف بمواجهة الخزر والبيزنطيين أعداء الدولة، فشجع على استيطان العرب هناك وأقطعهم الأراضي4280، أمر بنقل بعض القبائل القيسية إلى هناك4281، كما نقل بعضاً من قبائل الأزد وربيعة من البصرة إلى الموصل وحديثة4282، كما نظم الإدارة فيها، حيث فصلها عن قنسرين وجعلها فضلاً عن أرمينيا وأذربيجان، إقليماً إدارياً مستقلاً4283، ولأهميتها فقد عين على إدارتها أخاه محمد بن مروان سنة 73هـ والذي يعتبر من أقدر الولاة الأمويين، وأوكل عليها مهمة مقاتلة الأعداء من البيزنطيين والخزر، والقيام بفتح المناطق المحادة للجزيرة4284، وكانت هذه الولايات الجزيرة، وأرمينيا، وأذربيجان، فضلاً عن الموصل غالباً ما تجمع تحت إمرة أمير واحد، ولاسيما في عهد عبد الملك بن مروان، ويبدو أن محمد بن مروان هو الذي كان يعين ولاة على أرمينيا4285، أما الموصل فإن الخليفة عبد الملك بن مروان، هو الذي كان يعين ولاتها في الغالب4286.
5 ـ إدارة مصر: كان والي عبد الملك على مصر أخوه عبد العزيز، وقد أوصى عبد الملك أخاه حين ولاه مصر(2/428)
بوصية تنم عن عقلية كبيرة حيث بين له الأسس الناجحة لإدارة ولايته وكيفية اختيار موظفيه، قائلاً له: أبسط بشرك وألف كنفك واثر الرفق في الأمور فأنه أبلغ بك، وأنظر حاجبك، فليكن من خير أهلك.. وإذا خرجت إلى مجلسك فابدأ بالسلام.. وإذا انتهى إليك مشكل فاستظهر عليه بالمشاورة فإنها تفتح مغاليق الأمور، وإذا سخطت على أحد فأخر عقوبته4287، ولم تقتصر مسؤولية عبد العزيز الإدارية على مصر فقط بل امتدت إلى إفريقية أيضاً، فهو المسؤول عن إدارة إفريقية، فقد كان يعين عليها الولاة ويعزلهم في بعض الأحيان، كما فعل حين عزل حسان بن النعمان سنة 78هـ وولى مكانه موسى بن نصير4288، فأقرّ عبد الملك هذا التعيين وقد توفي عبد العزيز عام 86هـ ودامت ولايته على مصر أكثر من عشرين عاماً4289.
6 ـ إدارة إفريقية: كانت أوضاع افريقية الإدارية والسياسية قبل تولي عبد الملك الخلافة مضطربة، نتيجة عدم استقرار الأحوال السياسية في الحجاز والعراق خاصة، فارتد عن الإسلام قسم من البربر في افريقية4290، كما تمكن كسيلة ومن معه من البربر والروم من دخول القيروان، فسيطر كسيلة على شمال أفريقية4291، واستطاع عبد الملك أن يبسط نفوذ الدولة الأموية على شمال أفريقيا بعد أن تخلص من الصراعات الداخلية ومن أشهر ولاة افريقية في عهد، عبد الملك حسان بن النعمان الغساني وموسى بن نصير وسيتي الحديث عنهم بإذن الله تعالى في الفتوحات في عهد عبد الملك.
رابعاً: الخطوط العامة لسياسة الخليفة عبد الملك في إدارة شؤون الدولة:(2/429)
1 ـ المشاورة : كان يعتمد على المشاورة في إنجاز مهمات الدولة، وبخاصة في الأمور المهمة، فهو القائل: المشاورة تفتح مغاليق الأمور4292، فقد استشار أصحابه في المسير إلى مصعب بن الزبير في العراق4293، كما قبل مشورة روح بن زنباع: بتولية الشعبي قضاء البصرة، حينما استشار الخليفة أصحابه بذلك4294، وكان من أكبر مستشاريه ربيعة الجرشي، وروح بن زنباع4295، وعلى الرغم من ذلك لم يكن يأخذ بكل استشارة، فكان يشاور يحي بن الحكم، ثم يخالفه، ويقول من أراد صواب الرأي فليخالف يحي بن الحكم فيما يشير به عليه4296.
2 ـ اعتماده على أهل الشام: كان الخليفة عبد الملك يعتمد على أهل الشام، لا نهم اخلصوا له، فكان يخاطبهم: يا أهل الشام إنما أنا لكم كالظليم الرامح على فراخه يتقي عنهم القذر ويباعد عنهم الحجر، ويكفهم من المطر، ويحميهم من الضباب، ويحرسهم من الذئاب، يا أهل الشام أنتم الجبة والرداء وأنتم العدة والجداء4297، ولا غرابة في ذلك فملك بني أمية قام على أكتاف قبائل الشام وجنودها.
3 ـ الشخص المناسب في المكان المناسب: وقد حرص على تحقيق هذا المبدأ وكان يوكل المهمات لأصحابها ففي رسالة جوابية أرسلها الخليفة عبد الملك إلى خالد بن عبد الله أمير البصرة، سنة 72هـ قال له فيها:.. فقبح الله رأيك حين تبعث أخاك إعرابياً من أهل مكة عل القتال، وتدع المهلب إلى جنبك يجبي الخراج، وهو الميمون النقيبة الحسن السياسية البصير بالحرب المقاسي لها ابنها وابن أبنائها... فإذا أنت لقيت عدوك فلا تعمل برأي حتى تحضره المهلب وتستشيره فيه4298، كما كان يحسن معاملة قادته وحاشيته ويكرمهم ويمن عليهم، ويواسيهم، ويزورهم إذا مرضوا4299.(2/430)
4 ـ متابعة أخبار العمال والولاة: فقد كان يقظاً وحريصاً على نزاهة عماله، واستقامة أخلاقهم وبعدهم عن الشبهات فعندما بلغه أن عاملاً من عماله قبل هدية فاستدعاه إليه ثم سأله: أقبلت هدية منذ وليت؟ قال: يا أمير المؤمنين بلادك عامرة، وخراجك موفور ورعيتك على أفضل حال قال: أجب فيما سألتك عنه، أقبلت هدية منذ وليتك؟ قال: نعم، قال: إن كنت قبلت ولم تعوض إنك للئيم ولئن كنت أنلت مهديها من غير مالك، أو استكفيته ما لم يكن مثله مستكفاه، إنك لخائن جائر وما أتيت أمر، لا تخلو فيه من دناءة أو خيانة أو جهل مصطنع،وأمر بصرفه عن عمله4300.
5 ـ تقديم الأقرباء في المناصب وحفظ التوازن القبلي:
…كان الخليفة عبد الملك في اختياره لعماله قد حبذا أقرباءه من أفراد البيت الأموي بالدرجة الأولى، واستعملهم في المناصب المختلفة، إلا أنه كان يراقبهم مراقبة دقيقة، ويعزل من أظهر عجزاً أو أخفق في عمله، كما أنه استخدم ولاته على الأقاليم في الأغلب من قبائل عرب الشمال ((مضر)) بينما اختار موظفي إدارته إلى حد كبير من قبائل عرب الجنوب ((اليمن)) ويبدو أن هذه كانت إحدى الوسائل التي اتبعها الخليفة لحفظ التوازن القبلي4301.
6 ـ تسامحه مع أهل الكتاب: كان عهد عبد الملك عصر تسامح مع أهل الذمة، فلم يحاول الخليفة عبد الملك الاستيلاء على كنيسة يوحنا عندما رفض أهل الذمة تسليمها إليه4302، كما أنه سمح لهم بممارسة طقوسهم الدينية بحرية، وبناء الكنائس والأديرة فقد شيّد أثيناس ـ كاتب ديوان خراج مصر على عهد عبد العزيز ـ كنيسة ((أم الإله)) في الرها، كما شيّد في مصر أيضاً كنيستين وديراً، فضلاً عن أشغالهم مناصب عالية في إدارة الدولة4303،، إذ كان الخليفة يثق بهم4304.
7 ـ التحقيق مع العمال المشتبه فيهم ومقاسمة أموالهم:(2/431)
…وقد قام عبد الملك بمقاسمة بعض عماله وقد أراد التشبه بالخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا الشأن فقد جعل الضحاك بن عبد الرحمن الأشعري بمثابة المسئول عن مراقبة ومتابعة القضايا المالية في الأقاليم، فقد أرسله إلى الجزيرة الفراتية لدراسة وإصلاح الضرائب هناك4305، كما قاسم ((أثيناس)) كاتب خراج مصر أمواله4306، وبذلك اتبع نظاماً دقيقاً للاستخراج أو التكثيف، حيث كان يحقق مع الجباة وعمال الخراج ـ المشكوك في أمرهم ـ عند اعتزالهم عملهم ويستنطقون حتى يعترفوا بما ارتكبوا من مخالفات، وكان التحقيق مع هؤلاء يتم في أماكن خاصة تسمى (( دار الاستخراج4307)) .
8 ـ الإحسان لمن ندم وبايع من أصحاب ابن الأشعث:
وبعد انتهاء تمرد ابن الأشعث كتب الخليفة إلى الحجّاج، في أخذ البيعة له من الناس قائلاً: أن ادع الناس إلى البيعة، فمن أقرّ بذنبه وندم على فعله فخله سبيله4308، وعند ذلك أمر عبد الملك الحجّاج باعطاء الناس عطاءهم فكتب إليه الحجّاج: أنهم نكثوا العهد ونقضوا البيعة وفارقوا الجماعة، وطعنوا على الأئمة، فكتب إليه عبد الملك: إنما تجب طاعتنا عليهم بأن نعطيهم حقوقهم4309. وحين حاول الحجّاج أن يأخذ فضول ((فروق العملة)) أموال السواد، كتب الخليفة إليه يمنعه من ذلك قائلاً له: لا تكن على درهمك المأخوذ أحرص منك على درهمك المتروك وابق لحم لحوماً يعقدون بها شحوماً4310.
9 ـ احترام وتقدير الشخصيات البارزة في المجتمع:(2/432)
أدرك الخليفة عبد الملك أهمية توثيق العلاقة واحترامها مع الشخصيات البارزة في الجتمع، فقد حرص على كسبها وتأييدها، فحين بايع محمد بن الحنفية لعبد الملك أعطاه الخليفة ميثاقاً، وكتب إليه: إنك عندنا محمود... فلك العهد والميثاق وذمة الله ورسوله أن لا تهاج ولا أحد من اصحابك بشيء تكرهه، كما قضى حوائجه4311، وكتب عبد الملك للحجّاج: لا تعرض لمحمد ولا لأحد من أصحابه4312. فلم يعترض الحجّاج لأحد من آل أبي طالب خلال ولايته، كما عزز عبد الملك الصلات مع آل العباس، فكان يكرم علي بن عبد الله بن العباس، ويعرف له حقه ويستوصي به خيراً، وكانت كتبه ترد إلى الحجّاج يأمره فيها أن لا يسيء إلى عروة بن الزبير4313. وبذلك نجح عبد الملك في الاحتفاظ بصلات حسنة بين الأمويين وبني هاشم ـ علويين وعباسيين ـ فلم يقتل أحد من العلويين في عهده، فكانت هذه ثمرة حسن سياسته وبعد نظره4314.
10 ـ تحجيم الولاة إذا أرادوا تجاوز الخطوط حمراء:(2/433)
كان عبد الملك لا يسمع لولاته مجاوزة الخطوط الحمراء، فعندما أساء الحجّاج لأنس بن مالك كان رد عبد الملك على الحجّاج قاسياً وقصة ذلك: دخل أنس بن مالك على الحجّاج بن يوسف، فلمّا وقف بين يديه، سلمّ عليه فقال له: إيهٍ إيهٍ يا أُنيس يوم لك مع عليِّ، ويوم لك مع ابن الزبير، ويوم لك مع ابن الأشعث، والله لأستأصِلنَّك كما تستأصل الشأفة4315، ولأدمغنك كما تُدمغ الصمغة. فقال أنس: إيَّاي يعني الأمير أصلحه الله؟ قال: إياك، سك الله سمعك. قال أنس: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، والله لولا الصبية الصغار ما باليت أيَّ قتلة قُتلتُ ولا أيَّ ميتة مِتُّ. ثم خرج من عند الحجّاج، فكتب إلى عبد الملك بن مروان يخبره بما قال الحجّاج فلمّا قرأ عبد الملك كتاب أنس استشاط غضباً وصَفَّقَ عجباً، وتعاظم ذلك من الحجّاج، وكان كتاب أنس إلى عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين من أنس بن مالك أما بعد: فإن الحجّاج قال لي هُجراً4316، وأسمعي نُكراً ولم أكن لذلك أهلاً، فخذلي على يديه، فإني أمُتُّ بخدمتي رسول الله، وصحبتي إياه، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته4317، فقرأ عبد الملك الكتاب وهو يبكي وبلغ به الغضب ما شاء الله، ثم كتب إلى الحجّاج بكتاب غليظ4318، فبعث عبد الملك إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر ـ وكان مصادقاً للحجّاج ـ فقال له: دونّك كتابيَّ هذين فخذهما، وأركب البريد إلى العراق وأبدأ بأنس بن مالك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فادفع كتابي إليه وأبْلغه مني السلام، وقال له: يا أبا حمزة قد كتبت إلى الحجّاج الملعون كتاباً، إذا قرأه كان أطوع لك من أمتك وكان كتاب عبد الملك إلى أنس بن مالك: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الملك بن مروان إلى أنس بن مالك: خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد فقد قرأت كتابَك وفهمت ما ذكرت من شكايتك الحجاج، وما سلطته عليك ولا أمرته بالإساءة إليك، فإن عاد لمثلها واكتب إليَّ بذلك أُنزل به(2/434)
عقوبتي، وتَحْسُن لك معونتي والسلام. فلما قرأ أنس كتابه وأُخبر برسالته قال: جزي الله أمير المؤمنين عنِّي خيراً، وعافاه وكفاه وكفأه بالجنة، فهذا كان ظني به والرجاء منه4319، كتاب عبد الملك إلى الحجّاج وكان فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى الحجّاج بن يوسف، أما بعد: فإنَّك عبد طمَتْ4320، بك الأمور فسموت فيها، وعدوت طوَرك، وجاوزت قدرَك، وركبت داهية إدَّاً وأردت أن تَبُورني4321، فإن سوَّغتكها مضيت قُدماً، وإن لم أُسوغها رجعت القهقري، فلعنك الله عبداً أخفش العينين، منقصوص الجاعرتين4322، أنسيت مكاسب آبائك بالطائف، وحفرهم الآبار ونقلهم الصخور، على ظهورهم في المناهل؟ يا ابن المستفرمة بعجم الزبيب والله لأغمزنك غمز الليث الثعلب، والصقر الأرنب وثبت على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، فلم تقبل له إحسانه، ولم تجاوز له إساءته جُرأة منك على الربِّ عز وجل واستخفافاً منك بالعهد والله لو أنَّ اليهود والنصارى رأت رجلاً خدم عُزير بن عزرَا، وعيسى بن مريم لعظمته وشرَّفته وأكرمته، فكيف وهذا أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني سنين، يطلعه على سرِّه ويشاوره في أمره، ثم هو مع هذا بقية بقايا أصحابه، فإذا قرأت كتابي هذا فكن أطوع له من خُفِة ونعله وإلا أتاك مني سهم مثِكلٌ4323، بحتف قاضٍ، ولكل نبأٍ مستقر وسوف تعلمون4324، ولما علم الحجّاج بأن عبد الملك غاضباً عليه استوى جالساً مرعوباً، ولما قرأ الكتاب اعتذر لأنس ولم يزل مكرماً له حتى مات4325، وكتب الحجّاج خطاباً يعتذر فيه عما حدث منه في حق أنس4326.(2/435)
11 ـ محاربته للمداهنة والنفاق بين الناس: لم يكن عبد الملك يسمح لأحد أن يداهنه، أو ينافقه، أو يضيع وقته فيما لا يفيد، فقد طلب رجلاً من عبد الملك أن يخلو به فأمر من عنده بالإنصراف فلما أراد الرجل أن يتكلم بادره عبد الملك قائلاً: أحذر في كلامك ثلاثاً، إياك أن تخدعني، فأنا أعلم بنفسي منك، أو تكذبني فإنه لا رأى لكذوب أو تسعى إليّ بأحد من الرعية، فإنهم إلى عدلي وعفوي أقرب منهم إلى جوري وظلمي4327.
12 ـ مفهوم السياسة عند عبد الملك: أدرك الخليفة عبد الملك معنى السياسة بشكل دقيق واستوعب دروسها، كما أدرك السبل العملية لسياسة الناس ومن مختلف منازلهم فحين سأله الوليد وقال يا ابت ما السياسة قال: هيبة الخاصة مع صدق مودتها واقتياد قلوب العامة بالإنصاف واحتمال هفوات الصنائع4328.(2/436)
13 ـ سيرة أبي بكر وعمر ورعيتهما: قال عبد الملك: انصفونا يا معشر الرعية تريدون منا سيرة أبي بكر وعمر ولا تسيرون فينا ولا في أنفسكم بسيرة رعية أبي بكر وعمر نسأل الله أن يعين كلاً على كل، إني رأيت سيرة السلطان تدور مع الناس، فلا بد للوالي أن يسير في كل زمان بما يصلحه وهذا الكلام لا يسلم له به على إطلاقه، لأن السلطان المطلوب منه أن يسير مع القرآن الكريم وهدي النبي صلى اله عليه وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين ويعمل على نشر سير الصالحين ويقتدي بهم لا أن ينهي عن ذكر عمر ويقول، .. فإنه مرارة للأمراء، مفسدة للرعية4329. والحقيقة تقول أن الأمراء في العهد الأموي الكثير منهم لا يستطيع أن يقتفي أثر عمر ولا أن يسير بسيرته، فيحز ذلك في نفوسهم، ويترك الحسرة والمرارة في قلوبهم، وأما الرعية فإنهم يسرعون إلى المقارنة بين ما هم فيه، وبين ما كان عليه الناس في عهد عمر، وما كانوا يتمتعون به من العدل والمساواة، والحرية والتمتع بكل حقوق الإنسان فيدفعهم ذلك إلى التمرد على أمرائهم، والسخط على أوضاعهم، وعدم الرضا بما هم فيه4330، وأمثال عبد الملك يريد الأمور أن تستقر على منهاج الملك العضوض، وأما منهاج الخلافة الراشدة فيضيق عليه الخناق، وفي الحقيقة، إن سوء حال الحكم في مجتمع ما كان ذلك لنقص في الراعي والرعية معاً4331، كما أن العودة إلى صفاء الحياة في عصر الخلفاء الراشدين ليس أمر مستحيلاً، ولكن لا يأتي به الحاكم وحده وإن صلحت نيته، وعظمت عزيمته، بل لا بد من تحقيق ذلك القدر من التوافق بين الراعي والرعية، حيث يتعاون الجميع على تحقيق ذلك المجتمع الطيب وطريق ذلك طويل وشاق، ويحتاج ربما إلى أجيال من الدعاة والحكام الذين يبذلون جهدهم لتربية الرعية على معاني الإيمان ويعطون في ذلك القدوة والمثل، ويستفرغون في ذلك وذاك وقتهم وجهدهم4332.
هذه هي أهم الخطوط العامة لسياسة عبد الملك في إدارة شؤون الدولة(2/437)
خامساً : من أهم ولاة عبد الملك الحجّاج بن يوسف الثقفي:
…هو الحجّاج بن يوسف بن الحكم الثقفي، أبو محمد سمع ابن عباس وروى عن أنس وسمُرة بن جندب، وعبد الملك بن مروان، وأبي بردة بن أبي موسى وروى عنه أنس بن مالك وثابت البناني، وحميد الطويل، ومالك بن دينار، وقتيبة بن مسلم4333.
1 ـ بداية ظهوره: كان الحجّاج وأبوه يعلمان الغلمان بالطائف ثم قدم دمشق، فكان عند روح بن زنباع وزير عبد الملك فشكا عبد الملك إلى روح أنَّ الجيش لا ينزلون لنزله، ولا يرحلون لرحيله، فقال روح: عندي رجلٌ توليِّه ذلك فولى عبد الملك الحجّاج أمر الجيش، فكان لا يتأخر أحد في النزول والرحيل، حتى اجتاز إلى فسطاط روح بن زنباع وهم يأكلون، فضربهم وطوّف بهم، وأحرق الفسطاط، فشكا روح ذلك إلى عبد الملك فقال للحجّاج: لم صنعت هذا فقال: لم افعله إنما فعلته أنت، فإنَّ يدي يدُك وسوطي سوطك، وما ضرّك إذا أعطيت روحاً فسطاطين بدل فسطاطه وبدل الغلام غلامين، ولا تكسُرني في الذي وليّتني؟ ففعل ذلك وتقدم الحجّاج عنده4334.
2 ـ رأي الذهبي فيه: كان ظلوماً، جباراً خبيثاً سفّاكاً للدماء وكان ذا شجاعة وإقدام ومكر ودهاء، وفصاحة وبلاغة، وتعظيم للقرآن إلى أن قال: فنسبه ولا نحبه، بل نبغضه في الله، فإن ذلك من أوثق عري الإيمان وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه، وأمره إلى الله وله توحيد في الجُملة، ونظراء من ظلمة الجبابرة والأمراء4335.(2/438)
3 ـ رأي ابن كثير فيه: وكانت فيه شهامة عظيمة وفي سيفه رهق4336، وكان يغضب غضب الملوك، وكان ـ فيما يزعم ـ يتشبه بزياد بن أبيه، وكان زياد يتشّه بعمر بن الخطاب فيما يزعم أيضاً ولا سواء ولا قريب4337، وقال: وبالجملة فقد كان الحجّاج نقمة على أهل العراق بما سلف من الذنوب والخروج على الأئمة وخذلانهم لهم وعصيانهم ومخالفتهم، والافتيات عليهم4338، وقال:.. وكان جباراً عنيداً مقداماً على سفك الدماء بأدنى شبهة. وقد رُوِي عنه ألفاظ بشعة شنيعة ظاهرها الكفر، فإن كان قد تاب منها وأقلع عنها، وإلا فهو باقٍ في عهدتها، ولكن يخشى أنَّها رويت عنه بنوع من زيادة عليه، فإن الشيعة كان يبغضونه جداً لوجوه وربَّما حرّفوا عليه بعض الكلم، وزادوا فيما يحكونه عنه بشاعات وشناعات وقد روينا عنه أنه كان يتدين بترك المسكر، وكان يكثر تلاوة القرآن ويتجنب المحارم، ولم يُشتهر عنه شيء من التلطخ بالفروج، وإن كان متسرعاً في سفك الدماء فالله تعالى أعلم بالصواب وحقائق الأمور وسرائرها وخفيَّات الصدور وضمائرها4339.
…فلا نكفر الحجّاج، ولا نمدحه، ولا نسبه ونبغضه في الله بسبب تعديه على بعض حدود الله وأحكامه وأمره إلى الله.
4 ـ من خطب ومواعظ الحجّاج: قال الشعبي: سمعت الحجّاج تكلم بكلام ما سبقه إليه أحد، يقول: أما بعد، فإن الله تعالى كتب على الدنيا الفناء وعلى الآخرة البقاء، فلا فناء لما كتب عليه البقاء ولا بقاء لما كتب عليه الفناء. فلا يَغُرنكم شاهد الدنيا عن غائب الآخرة، واقهروا طول الأمل بقصر الأجل4340، وعن أبي عبد الله الثقفي عن عمّه، قال: سمعت الحسن البصريَّ يقول: وقذتني كلمة سمعتها من الحجّاج، سمعته يقول على هذه الأعواد: إن امرأ ذهب ساعة من عمره في غير ما خلق له لحريٌّ أن تطول عليها حسرته إلى يوم القيامة4341.(2/439)
5 ـ صدق الله وكذب الشاعر: جاء رجل إلى الحجّاج فقال إن أخي خرج مع ابن الأشعث، فضُرب على اسمي في الديوان، ومُنعتُ العطاء، وقد هُدِمت داري.
…فقال الحجّاج: أما سمعت قول الشاعر:
………جانيك من يَجْني عليك وقد
……………تُعدي الصِّحاح مبارك الجُرْب
………ولربَّ مأخوذٍ بذنب قَريبه
……………ونجا المقارف صاحب الذنب
فقال الرجل: أيها الأمير، إني سمعت الله يقول غير هذا وقول الله أصدق من هذا. قال: وما قال؟ قال(( قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه إنّا نراك من المحسنين* قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون)) ( يوسف: آية: 79،78). قال: يا غلام أَعِد اسمه في الديوان، وابْن داره، وأعطاه عطاءه، ومُرْ منادياً ينادي: صدق الله وكذب الشاعر4342، فهذه القصة تدل بوضوح على أن الشريعة الإسلامية سلطانها وهيبتها، حتى على طغاة الحكام وهذه خصيصة فريدة تتميز بها الشريعة الربانية عن الأنظمة والقوانين الوضيعة، كما تدلنا على أن أطغى الطغاة في العصور الأولى: لم يكن ليجرؤ على رفض شريعة الله أو تحدي نصوصها، ولو كان هو الحجّاج بن يوسف، المشهور بالقسوة والجبروت4343.
6 ـ الحجّاج مع أعرابي: حجّ الحجّاج مرّة، فمر يبن مكة والمدينة، فأُتى بغذائه فقال لحاجبه: انظر من يأكل معي، فذهب، فإذا أعرابي نائم فضربه برجله وقال أجب الأمير. فقام، فلمّا دخل الحجّاج قال له: اغسل يديك ثم تغدَّ معي. فقال: إنَّه دعاني من خير منك، فاجبته. قال ومن هو؟ قال: الله دعاني إلى الصوم، فأجبته. قال: في هذا الحرِّ الشديد؟ قال نعم، صمت ليوم هو أشدُّ حرَّاً منه قال: فأفطر وصُم ليوم غد، قال: إن ضمنت لي البقاء إلى غد. قال: ليس ذلك إليَّ. قال: فكيف تسألني عاجلاً بأجل لا تقدر عليه؟ قال: إن طعامنا طعام طبيب.. قال: لم تُطَّيْبه أنت ولا الطباخ، إنّما طيَّبته العافية4344.(2/440)
7 ـ زواج الحجّاج من بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب:
…قال الشافعي: لمّا تزوج الحجّاج بنت عبد الله بن جعفر قال خالد بن يزيد بن معاوية لعبد الملك بن مروان: أتُمكنه من ذلك؟ فقال: وما بأس بذلك؟ قال: أشدُّ البأس والله. قال: وكيف؟ قال: والله يا أمير المؤمنين لقد ذهب ما في صدري على آل الزبير منذ تزوجت رملة بنت الزبير. قال فكأنه كان نائماً فأيقظه، فكتب إلى الحجّاج يعزم عليه في طلاقها فطلقَّها4345، وجاء في رواية: يا أمير المؤمنين إنما خفت أن يميل الحجّاج إليهم فيسعى لمحل سلطانه فإنه لم يكن بين أهل بيتين من شحناء ما كان بيننا وبين آل الزبير، فلما تزوجت برملة بنت الزبير انقلب ذلك البغض محبة حتى إني ما أحب أكثر منهم4346، حتى قلت:
…………تجول خلاخيل النساء ولا أرى
……………………خلخالاً يجول ولا قُلْبا
…………فلا تكثروا فيها الملام فإنني
……………………تخيرتها منهم زبيرية قلبا
…………أحب بني العوام من أجل حُبِّها
……………………ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا4347
…وكان الحجّاج يحترم أهل البيت ويكرمهم وما زواجه ببنت عبد الله بن جعفر إلا مظهر من ذلك ليتقرب منهم ويصلهم وعلى الرغم من أنه طلقها فما زال واصلاً لعبد الله حتى مات، فكان يرسل له في كل شهر عيراً تحمل كسوة وتحفاً وميرة وكل ما يحتاج إليه4348، وقد تجلى ذلك في أنه قال مرة: ليقم كل رجل منك يذكر بلاءه لنعطيه فقام رجل فقال: أنا قاتل الحسين. فقال: كيف قتلته؟؟ قال: دسرته بالرمح دسراً، وهبرته بالسيف هبراً. فقال: أما والله لا يجتمع الحسين وقاتله في الجنة، وحرمه من العطاء4349، وما يذكر في كتب التاريخ من كون الحجّاج نصب العداء لأهل البيت غير صحيح، وخصوصاً إذا عرفنا معاملة عبد الملك لأهل البيت وحرصه على عدم مساسهم من قريب أو بعيد ما لم يتقربوا من كرسي الخلافة ويعملوا على الوصول إليه.(2/441)
8 ـ الحجّاج والشعراء: وكان الحجّاج يقرب الشعراء ويستمع لشعرهم وكثيراً ما كان ينقد الشعر بملكة الأديب كما يحفظ الكثير من جيد الشعر ويقتبس منه في خطبه بما يناسب المقام، ومن الشعراء الذين أحسن لهم الحجّاج جرير بن عطية، فقد أطنب في مدح الحجّاج وأنشده قصيدة من عيون الشعر منها:
…………من سَدَّ مُطَّلَع النفاق عليهم
……………………أم من يصول كصولة الحجّاج؟
…………أم من يغار على النساء حفيظة
……………………إذ لا يثقن بغيرة الأزواج
…………إن ابن يوسف فاعلموا وتيقنوا
……………………ماضي البصيرة واضح المنهاج4350
ومدحه بقصيدة أخرى من غرر الشعر جاء فيها:
…………ترى نصر الإمام عليك حقا
……………………إذا لبسوا بدينهم ارتياباً
…………عفاريت العراق شفيت منهم…
……………………فأمسوا خاضعين لك الرقابا
…………وقالوا لن يجامعنا أمير
……………………أقام الحد واتبع الكتابا4351
…وصار جرير يقول في الحجّاج قصائد من عيون الشعر وطال بقاؤه في بلاطه فخشي الحجّاج أن يكون في ذلك سبيل لدسيسة يتقرب بها بعض الناس لأمير المؤمنين فرأى أن يرسله لدمشق ليمدح عبد الملك وأجزل له العطاء4352 ، ومن الشعراء الذين مدحوا الحجّاج ليلى الأخيلية، والفرزدق والأخطل وغيرهم.
9 ـ رؤية رآها الحجّاج: رأى أن عينيه قُلعتا: وكان تحته هند بنت المُهلَّب، وهند بنت أسماء بن خارجة فطلَّقهما ليتأوَّل رؤياه بهما، فمات ابنه محمد وجاءه نعيُ أخيه محمد من اليمن، فقال: هذا والله تأويل رؤياي محمد ومحمد في يوم واحد، إنا لله وإنا إليه راجعون ثم قال من: يقول شعراً فيُسلني به فقال الفرزدق:
إن الرَّزيَّة لارزيَّة بعدها
…………فقدان مثل محمد ومحمد
………مَلِكان قد خلت المنابر منهما
………………أخذ الحمام عليهما بالمرصد4353(2/442)
10 ـ مقتل سعيد بن جبير: في عام 95هـ قتل الحجّاج سعيد بن جبير المقرئَ المفسَّر المحدث الفقيه، أحد الأعلام وله نحو من خمسين سنة أكثر روايته عن ابن عبّاس، وحدّث في حياته بإذنه، وكان لا يكتب الفتاوى مع ابن عبَّاس، فلمّا عَمِيَ ابن عباس كتب وروي أنه قرأ القرآن في ركعة في البيت الحرام، وكان يؤمّ الناس في شهر رمضان، فيقرأ ليلة بقراءة ابن مسعود، وليلة بقراءة زيد بن ثابت، وأخرى بقراءة غيرهما وهكذا أبداً، وقيل كان أعلم التابعين بالطَّلاق سعيد بن جبير، وبالحج عطاء، وبالحلال والحرام طاووس وبالتفسير مجاهد وأجمعهم لذلك سعيد بن جبير وقتله الحجّاج وما على وجه الأرض أحد إلاَّ وهو مفتقر إلى علمه4354،، وقال الحسن يوم قتله: اللهمّ أَعِنْ على فاسق ثقيف، والله لو أنّ أهل الأرض اشتركوا في قتله لأكبهم الله في النار4355، وعندما أمر الحجّاج بقتل سعيد قال سعيد: اللهم لا تحل له دمي ولا تُمهله من بعدي4356، وأصيب الحجاج بفزع عظيم وجعل يقول: مالي ولك يا سعيد بن جبير، وكان في جملة مرضه كلما نام رآه آخذاً بمجامع ثوبه يقول: يا عدو الله فيم قتلتني، فيستيقظ مذعوراً ويقول: مالي ولابن جبير4357.
11 ـ مرض الحجاج وموته:(2/443)
أ ـ خطبته قبل موته: لما مرض الحجّاج أرجف الناس بموته فقال في خطبته: إنَّ طائفة من أهل الشقاق والنفاق نزغ الشيطان بينهم، فقالوا: مات الحجّاج، ومات الحجّاج، فمه، وهل يرجو الحجّاج الخير إلا بعد الموت؟ والله ما يُسرُّني أن لا أموت وأنَّ لي الدنيا وما فيها وما رأيت الله رضي التخليد إلا لأهون خلقه عليه إبليس، قال الله له((إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ)) (الأعراف ، الآية : 15). فأنظره إلى يوم الدين، ولقد دعا الله العبد الصالح فقال: ((وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي)) (ص ، الاية : 35). فأعطاه الله ذلك إلا البقاء، فما عسى أن يكون أيُّها الرجل، وكلُّكم ذلك الرجل كأنِّي والله بكل حيٍّ منكم ميتاً، وبكل رطبٍ يابساً، ثم نُقِلَ في ثياب أكفانه إلى ثلاثة أذرع طولاً في ذراع عرضاً، فأكلت الأرض لحمه، ومصَّت صديده، وانصرف الحبيب من ولده يُقسِمُ الحبيب من ماله إن الذين يعقلون. يعقلون ما أقول4358.
ب ـ الآلام الشديدة التي تعرض لها الحجّاج في مرضه:
كان موت الحجّاج بالأكلة4359، في بطنه، سوَّغه الطبيب لحماً في خيط فخرج مملوءاً دوداً وسُلط عليه أيضاً، البرد فكان يوقد النَّار تحته وتأجِّجُ حتى تحرق ثيابه وهو لا يُحِسَّ بها، فشكا ما يجده إلى الحسن البصري ـ كما جاء في بعض الروايات ـ فقال له الم أكن نهتيْتُك أن تتعرّض للصالحين، فلججت، فقال له: يا حسن، لا أسألك أن تسأل الله أن يفرج عني ولكني أسألك أن تسأله أن يعجل قبض روحي ولا يطيل عذابي، فبكى الحسن بكاءً شديداً، وأقام الحجّاج على هذه العلة خمسة وعشر يوماً فلما أُخبر الحَسَنُ بموته سجد شكراً، وقال: اللهمَّ كما أمته أمت سنته4360، وعن الأصمعي، قال: لما حضرت الحجّاج الوفاة أنشأ يقول:
……يا ربِّ قد حلف الأعداء واجتهدوا
………………بأنني رجل من ساكني النار
……أيحلفون على عمياء ويحهم
………………ما علمهم بعظيم العفو غفار4361(2/444)
وقال عند موته: اللهم اغفر لي، فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل4362، وعن عمر بن عبد العزيز أنَّه قال: ما حسِدتُ الحجّاج عدو الله على شيء حسدي إياه على حبِّه للقرآن وإعطائه أهله، وقوله له حين حضرته الوفاة: اللهم اغفر لي فإنَّ الناس يزعمون أنك لا تفعل4363، ولما قيل للحسن البصري: إن الحجّاج قال عند الموت كذا وكذا. قال: أقالها؟ قالوا: نعم. قال: عسى4364، وقد فرح أهل العراق بموت الحجّاج، وسمي يوم موته عرس العراق4365.
ج ـ عمره لما مات وما تركه من مال:
…قال العماد في سنة 95هـ: فيها أراح الله العباد والبلاد بموت الحجاج بن يوسف الثقفي في ليلة مباركة على الأمة، ليلة سبع وعشرين رمضان، وله ثلاث وقيل أربع أو خمس وخمسون سنة أو دونها4366، وزعموا أنَّ الحجّاج مات ولم يترك إلا ثلاثمائة درهم ومصحفاً وسيفاً وسرْجاً ورحلاً ومائة درع موقوفة4367.
س ـ ما رؤي له بعد موته: وقال الأصمعي عن أبيه قال رأيت الحجّاج في المنام فقلت ما فعل الله بك؟ فقال: قتلني بكل قتلة قتلت بها إنساناً.
…وكان الحسن لا يجلس مجلساً إلا ذكر فيه الحجّاج فدعا عليه، قال: فرآه في منامه فقال له: أنت الحجّاج قال: ما فعل الله بك؟ قال: قتلت بكل قتيل قتلته ثم عُزلت مع الموحِّدين. قال: فأمسك الحسن بعد ذلك عن شتمه4368.
ش ـ حزن الوليد بن عبد الملك عليه: لما مات الحجّاج تفجع عليه الوليد وجلس للعزاء فيه محزوناً عليه ومازال مهموماً حتى دخل عليه الفرزدق ـ الشاعر ـ فرثى الحجّاج رثاءً أرضى الوليد واقر عينه فقد قال:
………لبيك على الإسلام من كان باكيا
…………………على الدين من مستوحش الليل خائف
………وأرملة لما أتاها نعيه
…………………فجادت له بالواكفات الزوارف
إلى أن قال:
………فما ذرفت عيناي بعد محمد
…………………على مثله إلا نفوس الخلايف4369(2/445)
وتتابع الناس في دخولهم على الوليد يعزونه في الحجّاج ويثنون عليه خيراً وقد وجد الوليد على عمر بن عبد العزيز لأنه لم يقل في الحجّاج شيئاً وألجأه إلى الكلام فقال: وهل كان الحجّاج إلا رجلاً من أهل البيت فنحن نُعزى فيه ولا نُعَزِّي4370، وقال الوليد: لأشفعن في الحجّاج عند الله4371، ووفاء لذكرى الحجّاج أقرّ الوليد العمال الذين استخلفهم4372.
ت ـ أقوال العلماء في موت الحجّاج:
…عن معمر، ، عن ابن طاووس، عن أبيه أنه أخبر بموت الحجّاج مراراً، فلما تحقَّق وفاته قال: ((فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين)) ((الأنعام ، الآية : 45).
ـ…ولما أخبر إبراهيم النخعي بموت الحجّاج بكى من الفرح4373، ولما بشر الحسن بموت الحجّاج سجد شكراً لله وقال اللهم أَمَتَّه، فأذهب عنا سنته4374، وخرّ عمر بن عبد العزيز ساجداً حينما بلغه النبأ4375.
المبحث الرابع : النظام المالي في عهد عبد الملك:
أولاً : مصادر دخل الدولة:
كانت من أهم مصادر دخل الدولة، الزكاة، والخراج، والجزية وخمس الغنائم والعشور والصوائف وقد تعرضت بعض هذه المصادر للإنحراف عن الشريعة من قبل القائمين عليها وعلى سبيل المثال:(2/446)
1 ـ الجزية: صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران على ما يعادل 80000 درهماً سنوياً، ولما تولى عثمان بن عفان شكوا إليه قلة عددهم وتفرقهم في البلاد فخفضها عنهم إلى 72000 درهماً، فلما تولى معاوية بن أبي سفيان، شكوا إليه نفس الشكوى فخفضها عنهم إلى 64000 درهماً، فلما تولى الحجّاج بن يوسف على العراق إتهمهم بمعاونة خصوم الدولة السياسيين فرفعها إلى 720000 درهماً4376، ويمكن القول بأن رفع نظام الجزية في العصر الأموي شهد بصفة عامة انحرافات في طريقة الجباية والتي منها ما قيل أن المهلب بن أبي صفرة، حينما صالح أهل خوارزم على ما يزيد على عشرين مليون درهماً كان يأخذ بدل النقد سلعاً عينية لعدم توفر السيولة النقدية لدى أهلها لكنه أجحف في ذلك حيث كان يأخذ الشيء بنصف قيمته، فبلغ ما أخذه منهم خمسين مليون درهماً4377، كما شهد انحرافات أخرى متمثلة في استمرار فرض الجزية على من أسلم، وقد برز هذا الأمر بصفة خاصة في ولاية الحجّاج4378، ومع ذلك يمكن القول بأن التأثير الاقتصادي لهذا الانحراف كان محدوداً، وذلك لأن قرار الحجّاج في العراق قوبل بثورة أوقفت تطبيقه4379، وأيضاً كان الانحراف الذي وقع في خراسان محدوداً، وعولج سريعاً بمجيء عمر بن عبد العزيز، ولكن للأسف لم يكتب لهذا الإصلاح الاستمرار حيث انتهى مفعوله بانتهاء عهد عمر بن عبد العزيز4380.(2/447)
2 ـ الخراج: تدنى الخراج كثيراً في عهد الحجّاج حتى وصل طبقا~ً لبعض الروايات إلى 18 مليون درهماً وقيل أنه وصل إلى 25 مليون عند موت الحجّاج4381، بعد ما كان في عهد معاوية قد بلغ 135 مليون درهماً4382. وقام عبد الملك بمسح أرض الشام والجزيرة ويبدو أنه استقل ما كان يجبى من خراجهما، وكان معياره في التقدير هو مدى القرب والبعد من الأسواق، وكانت مسيرة اليوم واليومين فأكثر هي غاية البعد عنها، وما نقص عن اليوم فهو من القرب، وبناء على ذلك كان الخراج المفروض على الأرض القريبة يزيد عن المفروض على الأرض البعيدة4383، وقد أحدث هذا المسح زيادة في حصيلة الخراج4384، ويبدو أن عبد الملك أراد أن يعوض ما حدث من نقص في خراج العراق بسبب الثورات.(2/448)
2 ـ الصوافي: وبمجيء عبد الملك أقطع جميع الصوافي للأشراف حتى لم يبق منها شيئاً، إلا أن هؤلاء الملاكين الكبار لم يتوقفوا عن المطالبة بمزيد من القطائع وأمام الحاحهم المستمر، قام الخليفة بالتصرف ببعض الأراضي الخراجية التي توفي أصحابها ولم يكن لهم ورثة فأقطعهم جميع هذه الأراضي، وجعل لأصحابها حق ملكيتها التامة، بما في ذلك توريثها على أن يدفعون عن هذه الأراضي ضريبة العشر، ورفع ضربية الخراج عن هذه الأراضي وقد أعتبر الخليفة أن تصرفه هذا عملاً مشروعاً شبيهاً بإخراجه من بيت المال الجوائز الخاصة4385.أي أن الخليفة قد بّرر موقفه معتبراً أن ما قام به وكأنه نوع من المكافأة التي يحق للخليفة أن يأمر بها، بحيث أن ذلك يقع ضمن صلاحياته التي تتيح له أن يقدم المساعدات والمكافآت التي يراها مناسبة من بيت المال. ولكن هذا الموقف، الذي لم تكن تدعمه أية سوابق إسلامية في العهد الراشدي فقط بل هو يخالف صراحة ما قرّره المسلمون بشأن أرضى الصوافي والأراضي الخراجية حيث اعتبر فيئاً للمسلمين ووقفاً لهم فلا يحق لأحد التصرف فيها بأي شكل من الأشكال، إن كان بالبيع أو بالشراء أو بمنحها قطائع، حتى وإن كان أصحابها أي العاملين على هذه الأرض قد توفوا وليس لهم وارث، ولهذا فلا يصحّ ولا يجوز أن تعتبر هذه الأراضي متساوية مع الجوائز الخاصة4386، هذه بعض الانحرافات التي حدثت في مصادر الدولة وكان لها الأثر البالغ على النظام المالي.
ثانياً: النفقات العامة:
1 ـ النفقات العسكرية: في عهد عبد الملك زادت عطاءات الجنود العرب حتى بلغ حدها الأدنى 1200 درهماً. وحدها الأوسط 1600 درهماً وحدها الأعلى 1800 درهماً4387، في ولاية العراق، والغريب أن هذا لا يتلائم مع الحالة الاقتصادية في عهد الحجّاج والتي انخفضت فيها إيرادات المال بشكل كبير لكن يفسر ذلك كثرة من خرج على الحجّاج من جنده، وكان يلقي عطاء من خرج عليه ويزيد في عطاء الباقين4388.(2/449)
2 ـ نفقات الصناعات الحربية: كان اهتمام الدولة الأموية منصباً على تطوير سلاح البحرية وسيأتي الحديث عن ذلك في الصناعات بإذن الله.
3 ـ النفقات الإدارية: كان الحد الأقصى لرواتب الكتّاب طوال العصر الأموي وطرفاً من العباسي حنى عهد المأمون هو 3600 درهماً سنوياً، وكان حدها الأدنى 720 درهماً سنوياً4389، وكان كتاب ديوان رسائل الحجّاج مرتبة ثلاثمائة درهم شهرياً، وقد كان يوزعها فيجعل لامرأته خمسين درهماً وينفق على شراء اللحم خمسة وأربعين درهماً، وما تبقى ينفقه على الدقيق وإن فضل شيء تصدق به، وقد عاده الحجّاج من علة، فوجد بين يديه كانون من طين ومنارة من خشب فقال له: ما أرى رزقك يكفيك. قال: إن كانت ثلاثمائة لا تكفيني فثلاثون ألفاً لا تكفيني4390، ويمكن اعتبار متوسط الدخل الفردي المناسب في العصر الأموي هو ما بين مائتين وخمسين إلى ثلاثمائة درهم شهرياً4391، ويدخل من ضمن النفقات الإدارية، مرتبات الولاة والقضاة وموظفي الدولة عموماً فقد كانت الدولة تتكفل بمرتباتهم.
ثالثا: تطور القطاع الزراعي:
…كان تطور الزراعي للدولة الأموية في الجانب الغربي وذلك بسبب عوامل عديدة منها:
1 ـ الاستقرار السياسي لتلك المنطقة خلال معظم العصر الأموي.
2 ـ الاستقرار النقدي الذي كانت تتمتع به المنطقة حتى قبل سك النقود الإسلامية، ذلك أنها ورثت الدنانير البيزنطية، والتي ظلت عملة مستقرة لم تتعرض لما تعرضت له الدراهم الفارسية من غشى.(2/450)
3 ـ أن المنطقة الغربية من الدولة الأموية لم تعان مما كانت منه المنطقة الشرقية من تركز في الثروة، ووجود عدد كبير نسبياً من أفراد المجتمع دخولهم منخفضة نسبياً، ويعود ذلك إلى أن مادة الجيش الأموي السياسية كانت من جند الشام، وقد تميز أهل هذه المنطقة في العطاء4392، مما جعل الدورة الاقتصادية في المنطقة الغربية تدور بسرعة أكبر وبالتالي ينشط القطاع الزراعي فيها بشكل اكبر وينمو بشكل أسرع، بينما كان معظم سكان المنطقة الشرقية هم من أصحاب الدخول المنخفضة (( الموالي)).
4 ـ استبدال الضرائب العينية في كل من الجزيرة والشام بضرائب نقدية خلال المسح الذي تمّ في عهد عبد الملك4393، وهذا أثر في العطاء، فزاد الطلب النقدي لساكني المدن على السلع الزراعية، ومنتجات الريف، واحدث نوعاً من الاستقرار وأحدث زيادة في دخول المزارعين مكنتهم من تحقيق تنمية زراعية4394.
وقد ظهرت دلائل التطور الزراعي بالمنطقة الغربية كثمرة لتلك العوامل وغيرها وكان من أبرز تلك العوامل:
1 ـ زيادة حصيلة خراج منطقتي الجزيرة والشام نتيجة المسح الذي تم لهما في عهد عبد الملك بن مروان.
2 ـ تطور نظام الري من خلال توزيع المياه بين الأنهار الفرعية4395، مما ادى إلى زيادة إنتاجية الأراضي الزراعية فهذه بعض الدلائل التي تشير إلى التطور الزراعي بالمنطقة الغربية من الدولة الأموية.
* ـ التدهور الزراعي في القسم الشرقي من الدولة الأموية:
…كان الطابع العام لقطاع الزراعة في هذا القسم السير نحو التدهور، ولعل من أبرز الأسباب التي أدت إلى تدهور القطاع الزراعي في المنطقة الشرقية من الدولة الأموية ما يلي:
1 ـ الاضطراب السياسي، وفقدان الأمن بالمنطقة، فانعكس ذلك على مستوى الإنتاجية الزراعية.(2/451)
2 ـ تركز الثروة في يد قلة من سكان المنطقة، حيث كانت معظم التركيبه السكانية من الموالي، مما ترتب عليه ضعف حركة النقود داخل المنطقة، فضعفت حركة تبادل السلع، أي حدوث كساد اقتصادي بالمنطقة4396.
3 ـ قرار بيع الأراضي الخراجية وجعل ثمنها في بيت المال، جاء ذلك لموجهة النقص في إيرادات الدولة4397. فأدى إلى توفير السيولة النقدية اللازمة للدولة على المدى القصير، لكنه على المدى الطويل كانت له آثار عكسية على إيرادات بيت المال فقد تحولت هذه الأراضي الخراجية إلى أراضي عشرية، وبينما لا تقل ضريبة الخراج عن (25%) وقد تصل إلى (50%) من حصيلة الإنتاج الزراعي سنوياً، أصبح الحد الأقصى بما تدره لبيت المال هو (10%) سنوياً، وقد أدى انخفاض إيرادات الدولة على هذا النحو إلى إضعاف مقدرة الدولة في المدى الطويل على تمويل المشاريع العامة، والتي كان غالبها يدعم قطاع الزراعة، إلى جانب ذلك كان لهذا القرار أثر مباشر على الإنتاجية الزراعية، فقد كان البائعون هم أصحاب الأرض الأصليين الذين عرفوا كيف يتعاملون معها، وأسلوب زراعتها، واكتسبوا الخبرة الزراعية من طول مكثهم فيها، بينما كان المشترون من العرب وهم ذوو خبرة قليلة بالزراعة، خاصة إذا ما قورنت بالنسبة لخبرة المزارعين الأصليين.
4 ـ إخضاع المشاريع الزراعية للضغوط السياسية، فقد أدت محاربة الدولة لخصومها السياسيين إلى تخريب أو تحجيم مشاريعهم الزراعية، فانعكس ذلك بنتائج سلبية على اقتصاد الدولة ككل، ومن صور ذلك ما حدث في عهد الحجّاج من أن بثوق انبثقت على الأرض المحياة من أرض البطائح فلم يعمل الحجّاج ـ بوصفه والي المنطقة ـ على سد تلك البثوق مضارة لأهلها ـ لاتهامهم بمساعدة ابن الأشعث في الخروج عليه ـ فغرقت أراضيهم الزراعية وتحولت إلى موات4398.(2/452)
5 ـ حدوث مواجهة عسكرية بين المزارعين المهاجرين من الأرياف إلى المدن من الموالي والدولة الأموية، وذلك حينما حاول والي العراق إعادتهم إلى أراضيهم بالقوة وإعادة فرض الجزية عليهم، وقد وافق ذلك خروج ابن الأشعث على الدولة الأموية، فانضموا تحت لوائه4399. ونتيجة لتلك الأسباب وغيرها فقد بدت علامات تدهور القطاع الزراعي العام في المنطقة الشرقية من الدولة الأموية، وكان أبرز تلك العلامات ما يلي:
1 ـ تدهور غلة الخراج، حيث أخذت في التناقص المستمر4400.
2 ـ هجرة الفلاحين للأراضي الزراعية والاتجاه نحو المدن، وذلك لزيادة حجم ضريبة الخراج ـ بالضرائب الإضافية ـ وعنف الجباية، فتركوا أراضيهم وهاجروا إلى المدن4401.
3 ـ حالة القلق التي انتابت المزارعين الذين بقوا في أراضيهم مما دفعهم لتسجيل أراضيهم لأسماء الأمراء والأشراف ـ وهو ما يعرف بالإلجاء طلباً للحماية، ومن أمثلة ذلك إلجاء كثير من المزارعين أرضيهم بمسلمة بن عبد الملك للتعزز به4402.
4 ـ حدوث نقص كبير في الإنتاج الحيواني، وبالذات حيوانات الحرث، مما دفع والي العراق إلى إصدار أمر يقضي بمنع ذبح الأبقار4403في أحد خطوات علاج الأزمة كما قام بتوريد كمية من الجواميس من إقليم السند لسد العجز الحاصل في دواب التنمية الزراعية4404.
…ومع ذلك فقد كانت خلال هذه الفترة مجموعة من الإجراءات والمشاريع التي خففت من حدة التدهور الزراعي بالمنطقة خلال عهد عبد الملك وكان من أبرزها ما يلي:
1ـ عملية نقل الأيدي العامة الزراعية من منطقة إلى منطقة أخرى، بهدف أحداث تنمية زراعية من الجهة المنقول إليها ومن أمثلة:
…أ ـ نقل الحجّاج بن يوسف عدداً من مزارعي بلاد السند بأهليهم وجواميسهم وأسكانهم في أرض موات، فأحيوها4405.(2/453)
…ب ـ نقل رؤوس الأموال إلى مناطق فقيرة لتنميتها، ومثال ذلك إسكان قتيبة بن مسلم لمجموعة من العرب في سمرقند4406، ومعلوم أن العرب كانوا من أعلى الناس ثروة في العصر الأموي4407.
رابعاً: تطور التجارة:
مر تطور التجارة الداخلية في عهد عبد الملك بمرحلة ضعف بسبب عوامل أثرت على حجم التجارة الداخلية، كان من أبرزها ما يلي:
1 ـ كثرة الفتن والقلاقل الداخلية التي عصفت بمعظم أركان الدولة الأموية، ومن المعلوم بداهة أن الاستقرار السياسي والأمن الداخلي هي من أولويات ازدهار التجارة الداخلية ونموها، ومع افتقادهما في الدولة الأموية بشكل كبير تعثرت التجارة الداخلية.
2 ـ نقص السيولة النقدية.
3 ـ صعوبة دفع الأثمان للصفقات التجارية، وعلى جهة الخصوص الكبيرة منها.
4 ـ ارتفاع نسبة الضرائب على التجارة حيث روي أنها وصلت4408 إلى 33%.
ومع بداية 77 هـ نمت التجارة الداخلية وازدهرت، وكان وراء ذلك العديد من الأسباب من أبرزها:
1 ـ زيادة السيولة النقدية الداخلية، وذلك بإصدار العملة الإسلامية الجديدة الموحدة، والتي تطورت من حيث الدقة والانضباط والعيار حتى أصبحت محل ثقة المتعاملين في الأسواق وأصبحت تلقى قبولاً عاماً مما سهل عملية المبادلات بشكل كبير وحل عدد النقود محل وزنها وبذلك كانت عملية الإصدار النقدي نقطة تحول في تطور التجارة الداخلية بشكل خاص، سواءً من حيث الزيادة في حجمها أو الاتساع في أرجائها.
2 ـ حدوث هدوء واستقرار نسبي داخل الدولة الأموية بعد القضاء على الثورات الداخلية.
3 ـ تمت في هذه المرحلة بعض الإصلاحات التي كان من شأنها تيسير الصفقات التجارية، ومن الأمثلة على ذلك ما يلي:
أ ـ توحيد وحدة الكيل والميزان من قبل الحجّاج بإقليم العراق4409.
ب ـ تنظيم الأسواق مما يسهل ويخدم الحركة التجارية4410.
ج ـ وجود خدمات لراحة التجار، كالفنادق والحمامات داخل الأسواق4411.(2/454)
وأما التجارة الخارجية في عهد عبد الملك، فقد كانت متعلقة بالدولة البيزنطية ودول المشرق الأقصى.
1 ـ العلاقة مع الدولة البيزنطية: وقد مرّة العلاقة التجارية بمرحلتين:
* ـ مرحلة نمو وقوة وازدهار: وقد نشأ هذا النمو والقوة والازدهار نتيجة عدة عوامل لعل من أهمها:
أ ـ : كثرة الإضطرابات والحروب في المنطقة الشرقية من الدولة الأموية، مما خفض من حجم المبادلات التجارية بينها وبين دول المشرق ولو بشكل جزئي، وبالتالي زيادة حجم المبادلات التجارية مع دولة بيزنطية بالغرب.
ب ـ الاستقرار الأماني في المناطق الغربية مع الدولة الأموية، دفع بكثير من رؤوس الأموال للهجرة من مناطق التوتر في الشرق إلى إقليم الشام، بحثاً عن فرص استثمارية آمنة.
ج ـ الاعتماد الكلي لكل من الدولتين على الأخرى في مجال هام وحيوي بالنسبة لها، فكما كانت الدولة البيزنطية تعتمد كلياً على أوراق البردي، كانت الدولة الأموية تعتمد كلياً في حجم النقد الذهبي داخلها على ما يردها من الدولة البيزنطية4412.
* ـ مرحلة تدهور المبادلات التجارية بين البلدان:
وقد شهدت هذه المرحلة انخفاضاً كبيراً في المبادلات التجارية بين الدولتين ويعود ذلك إلى عدة عوامل من أبرزها ما يلي:
1 ـ تدهور العلاقات السياسية بين الدولتين بشكل كبير.
2 ـ حدوث هدوء نسبي في الأقاليم الشرقيةـ بعد قضاء على الثورات الداخلية ـ مما أدى إلى رفع معدلات التبادل التجاري مع دول الشرق الأقصى.
ح ـ دخول معظم دول المشرق تحت مظلة الدولة الإسلامية فتهيأ لها نوعاً من الاكتفاء الذاتي لتلك الدولة، لا سيما بعد دخول بلاد الهند والسند.(2/455)
س ـ تزايد اعتماد الدولة الأموية في تجارتها مع دول الشرق الأقصى على التجارة البحرية عن طريق الخليج العربي، لا سيما بعد تطور صناعة السفن بها4413، بشكل أصبحت معه قادرة على الخوض في المحيطات، مما جعل معظم تجارة الدولة الأموية مع دول الشرق الأقصى تتم بواسطة الطرق البحرية4414، فنتيجة لتلك العوامل وغيرها تدهورت التجارة بين البلدين.
2 ـ العلاقات التجارية مع دول المشرق الأقصى:
كانت تعتمد التجارة بين الدولة الأموية ودول المشرق على نوعين من الخطوط، وهما خطوط التجارة البرية وخطوط التجارة البحرية.
أ ـ التجارة عن طريق الخطوط البرية:
دخلت كثير من دول المشرق تحت مظلة الدولة الإسلامية لا سيما بلاد الهند، والسند، والتي كانت تحتل صادراتها نسبة كبيرة من واردات الدولة الأموية، ومعنى ذلك تحول جزء من التجارة الخارجية مع الشرق إلى تجارة داخلية بين أرجاء الدولة الإسلامية4415.
ب ـ التجارة عن طريق الخطوط البحرية:
اهتمت الدولة بالتجارة البحرية وأكدت على عنصر الأمن للطرق التجارية ومن صور ذلك إرسالها جيش للقضاء على قراصنة كانوا يقطعون الطريق على تلك الخطوط البحرية فقضى عليهم4416، واهتم الحجاج بتحصين المدن التجارية4417، كما طور صناعة السفن التجارية وأصبحت وسائل النقل البحري والرحلات التجارية أكثر أمناً، وسرعة وأعلى كفاءة مما شجع على رواج التجارة4418.
خامساً: الحرف والصناعات: من أشهر الصناعات في عهد عبد الملك:
1 ـ صناعة المنسوجات: وقد تطورت صناعة النسيج في الدولة الأموية كثيراً وأصبحت لها مصانع خاصة بها سميت دور الطراز، وكان دورها إنتاج الملابس الخاصة بموظفي الدولة الكبار، كالأمراء والولاة، وقد تحدثت عن ذلك في كلامنا عن ديوان الطراز.(2/456)
2 ـ التشييد وصناعة مستلزمات البناء: شهدت الدولة الأموية إهتماماً بالعمران، وتشييد المساكن، وزخرفتها، ومن أبرز ذلك المسجد الأقصى وقبة الصخرة وقد أدى الإقبال على تزيين البيوت والتأنق فيها إلى ظهور صناعات تلبي تلك الرغبات، فظهرت على سبيل المثال صناعة قطع الرخام وزخرفته، وكذا استخدام الزخارف الحبيسة لتزيين المباني4419
3 ـ الصناعات الحربية: توسعت هذه الصناعة في عهد عبد الملك بن مروان وفتح داراً بتونس لصناعة السفن الحربية وكانت نواة تلك الدار ألف عامل متخصص في صناعة السفن ثم نقلهم من دار الصناعة ـ المنطقة الصناعية ـ بمصر، وقد تم وضع التنظيم اللازم وطريقة إمداد تلك الدار بالأخشاب من الغابات الإفريقية الداخلية، واختيار جماعات من البربر من سكان تلك المناطق للقيام بتلك المهمة، حيث هم أخبر الناس بمناطق وجود الأخشاب الجيدة الملائمة لتلك الصناعة4420، وفي إرسال دار الصناعة بمصر لألف عامل ليكونوا نواة التصنيع بتونس ما يدل على مدى تطور تلك الصناعة بمصر وكبر حجمها وفي تطور لاحق لصناعة السفن الحربية بتونس، قام والي تونس بتوسيع دار الصناعة بها فشق قناة بين الميناء وبين المدينة بطول اثني عشر ميلاً4421، وشكلت هذه القناة ما يماثل اليوم أحواض بناء السفن أو الأحواض الجافة4422وأصبحت مناطق دور صناعة السفن الحربية مناطق جذب سكاني4423، ولم تكن السفن الحربية تختلف كثيراً عن السفن التجارية، وقد تطورت صناعة السفن التجارية في ولاية الحجّاج بصفة عامة4424، وكان من أشهر أماكن صناعتها البحرين ومدينةواسط بالعراق4425.(2/457)
4 ـ صناعة البردي في مصر: كان لهذه الصناعة أهميتها الخاصة، ذلك لأن البردي كان يستخدم قبل ظهور صناعة الورق آنذاك في المكاتبات وأعمال الدولة وكانت الدولة تشرف على الإنتاج إشرافاً مباشراً لأهمية تلك الصناعة، وكانت صادرات البردي تدر أرباحاً طيبة، وما ذكر عنها من تطور أنها استبدلت العبارات البيزنطية التي كانت تطبع على البردي المخصص للتصدير بعبارات دينية إسلامية، وكان ذلك في عهد عبد الملك4426.
5 ـ صناعات وحرف أخرى: ومن أهمها، حرفة الحدادة والصناعات الخشبية، صناعة الحلي والمجوهرات4427.
سادساً : إحداث دور ضرب العملة وتعريب النقد:
كانت عوامل عديدة تتجمع في الأفق كلها تشير إلى وجوب حدوث تطور كبير في نظام العملة المتعارف عليه في العالم الإسلامي بعد أن اتسعت رقعته ذلك الاتساع الكبير، واستقرت أحواله الداخلية بعد مضي فترة من خلافة عبد الملك بن مروان، فقد كان العالم الإسلامي يتعامل حتى ذلك الوقت بالعملة المالية لفارس والروم من دراهم، ودنانير، وهذه العملات المالية قد تناقصت كمياتها المتداولة بشكل يثير القلق بعد انهيار الإمبراطورية الفارسية واضطراب الأحوال في إمبراطورية الروم، فلم يعد حجم هذه العملات المتوافر يكفي لتغطية النشاط التجاري والاقتصادي والحاجة المالية للدولة الإسلامية الواسعة والنشيطة4428،(2/458)
وقد قام عبد الملك بتعريب النقد تعريباً نهائياً وأحدث دور الضرب التي تضرب فيها الدنانير، وجعلها بإشراف الخلافة، ويود المؤرخون أن يشعرونا بأنه فعل ذلك لأنه تخاصم مع ملك الروم فيقولون: إن الروم كانوا يأخذون من البلاد العربية صحائف البَرْدي، وأمر عبد الملك أن يكتب على رأس صحائف البردي ((شهد الله أن لا إله إلا هو))، فغضب لذلك ملك الروم، وكان محتاجاً إلى البردي، فهدد بأن يطبع على الدنانير عبارات القذف بحق الرسول صلى الله عليه وسلم، إن استمرت تلك العبارة على صحف البردي، فاعتمد عبد الملك أن يضرب السكة في بلاده ويستغنى عن الدنانير التي تأتيه من بلاد الروم4429. على أن الأمر يبدو أوسع من هذا، فقد كان في بلاد المسلمين نقود فارسية ونقود حميرية قديمة، وغيرها، وقد حاول الخلفاء من قبله ضرب النقود، بل يرجع إلى عمر بن الخطاب أنه ضرب الدراهم لكنه استبقى عليها العبارات الفارسية، وأضاف بعض العبارات العربية فيها كقول ((جائز))، واستمر ضرب النقود في عهد عثمان ومعاوية وابن الزبير، فكان من الطبيعي أن يستأنف عبد الملك عمله، وهو ما فعل. على أن عبد الملك يمتاز بأنه وضع لذلك مخططاً واضحاً، فليست القضية قضية إنشاء مصنع للنقود، ونقل السكة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية فحسب، بل يدخل في هذا الأمر وزن النقود وشكلها4430. وقد تحدث المؤرخون عن أسباب دينية وسياسية واقتصادية قد لعبت دوراً أساسياً في بناء موقف الخليفة، تتلخص هذه الأسباب على الشكل التالي:
1 ـ كان الخليفة حريصاً على صبغ الدولة الأموية بصبغة إسلامية، ولذا فإن الإصلاح النقدي يندرج ضمن خطة شاملة لتعريب مؤسسات الدولة4431.
2 ـ حرص الخليفة على إنهاء التبعية الاقتصادية للدولة البيزنطية التي كانت تسيطر دنانيرها الذهبية على الجانب النقدي من اقتصاديات الدولة4432.(2/459)
3 ـ توقف حجم السيولة النقدية للدولة الأموية على ما يرد عليها من الدولة البيزنطية، مما يعرضها لأزمات اقتصادية حادة، خاصة في حالات انقطاع هذه السيولة بسبب ممارسة ضغوط اقتصادية، أو نشوب معارك حربية أو نحوها.
4 ـ سيطرت الدولة على مصادر عرض النقود، وضمان تخليصها من الغش وكسب ثقة الناس في النقود المتداولة.
5 ـ حاجة الدولة الفعلية إلى عملة داخلية موحدة ومنضبطة حتى تستوفي بها حقوقها لدى الأفراد، وتسهل لها القيام بوظائفها الاقتصادية4433.
6 ـ إن إصدار النقود يعبر عن السيادة الكاملة للدولة الإسلامية ويحررها من النفوذ الأجنبي4434، فقد أراد عبد الملك بن مروان أن يقيم سلطانه على أساس اقتصادي مستقل عن بيزنطة وعدم الارتباط بنقدها، كما أن إصدار أول دينار إسلامي يرتبط بحالة الصراع مع البيزنطيين حيث استطاع الخليفة أن يوجه ضربة اقتصادية موجعة للدولة البيزنطية.
7 ـ يعتبر سك النقود الإسلامية وتوحيدها في الدولة اتجاهاً نحو الدولة المركزية وضبط جهازها المالي4435.
8 ـ ومن المعلوم الأكثر أهمية التي جعلت الخليفة يقدم على إصدار النقود الإسلامية، توفر كميات كبيرة من الذهب والفضة لدى المسلمين في البلاد المفتوحة، فاستند على قاعدة هذا المخزون الكبير من المعادن في إصدار النقد الإسلامي الجديد4436.
أهم خصائص النقود الإسلامية في عهد عبد الملك:
1 ـ أنه ألغى العبارات والإشارات التي تشير إلى العقيدة المسيحية المحرفة واستبدلها بعبارات تدل على عقيدة التوحيد الإسلامية.
2 ـ إنها موافقة في أوزانها النسبية لنصاب زكاة النقدين ومقدارها.
3 ـ أنه حدد وزن الدينار باثنين وعشرين قيراطاً إلا حبة4437، وجعل الدرهم خمسة عشر قيراطاً أو ستة دوانق4438.
4 ـ أنه حدد بناء على الوزن السابق سعر الصرف بين الدرهم والدينار، فكانت كل عشرة دراهم تساوي سبعة دنانير4439.(2/460)
5 ـ تحددت تواريخ إصدار النقود الأموية بالتاريخ الهجري المتسلسل، إي وفق المتعارف عليه، بينما افتقرت النقود الساسانية والبيزنطية إلى التواريخ التقويمية، إذ اعتمدت تواريخها على بداية حكم كل ملك4440.
محاربة تزييف العملة: تشدد عبد الملك وخلفاءه من بعده وولاتهم في تعقب أية محاولة لغش النقود وتزييفها ومعاقبة من يثبت عليه ذلك، فقد روي أنه أخذ رجلاً يضرب على غير سكة المسلمين فأراد قطع يده، ثم ترك ذلك وعاقبه، فاستحسن ذلك شيوخ المدينة4441.
سابعاً : العمارة والبناء في عهد عبد الملك:
اقتضت أهداف دولة عبد الملك بإنشاء مدينة واسط، وتونس.
1 ـ بناء واسط: اختطها الحجّاج بن يوسف الثقفي في أرض كسكر4442، وهي تتوسط عدة مدن، فهي تبعد عن الكوفة أربعين فرسخاً، وكذلك عن المدائن والأهواز والبصرة وهي إحدى مدن العراق الكبرى قبل بناء بغداد4443، وقد بدأ الحجّاج في بنائها عام 83هـ وانتهى منها سنة 86هـ4444، وكان شروعه في البناء بعد موافقة عبد الملك وقد أنفق على بنائها خراج العراق كله لخمس سنوات4445، كانت رؤية تخطيطها تتضح فيها الملامح الأساسية للتخطيط للمدينة الإسلامية، فاشتملت المدينة على المسجد ـ الجامع ـ ودار الإمارة في الوسط، وتضمينها الأسواق اللازمة لحياة مدينة مستقرة وفيها كذلك الملامح الجديدة ما يعكس ملامح النظام الأموي الجديد ولعبت واسط دوراً سياسياً مهماً، فكانت المناظر المتصلة بينها وبين قزوين وكان إذا دخن أهل قزوين دخنت المناظر إن كان نهاراً وإن كان ليلاً أشعلوا نيراناً، فتجرد الخيل إليهم، فكانت قزوين ثغراً4446، فمنها كانت تتحرك الجيوش، وفيها ضربت النقود4447، وازدهرت واسط من الناحية الاقتصادية فكثرت فيها المحلات التجارية، وتقدمت فيها الزراعة، وكانت عاصمة العراق في عهد الحجّاج.(2/461)
2 ـ بناء تونس: اختط هذه المدينة القائد حسان بن النعمان الغساني عام 82هـ، لتكون قاعدة عسكرية بحرية، ولتحول دون تكرار البيزنطيين الهجوم على قرطاجة عام 78هـ4448، بنى حسان بن النعمان مدينة تونس على أنقاض قرية قديمة عرفت باسم ترشيش القديمة4449، وإنما سميت تونس في أيام الإسلام لوجود صومعة الراهب، وكانت سرايا المسلمين تنزل بإزاء صومعته، وتأنس لصوت الراهب، فيقولون هذه الصومعة تؤنس، فلزمها هذا الإسم فسميت باسم تونس4450، واختط حسان تونس غربي البحر المتوسط بنحو عشرة أميال4451، فقام بحفر قناة تصل المدينة بالبحر لتكون ميناء بحرياً ومركزاً للأسطول الإسلامي بعد أن أنشأ فيها صناعة المراكب4452، بخبراء في هذه الصناعة زوده بها والي مصر عبد العزيز بن مروان بناء على توجيه الخليفة عبد الملك4453، وقد بنيت مدينة تونس طبقاً لأهداف سياسية استراتيجية، وأهداف اقتصادية إجتماعية تبناها الخليفة عبد الملك، أما الأهداف السياسية البعيدة المدى، فيتضح ذلك بوضع حد لاعتداءات الروم والمتمثلة بإغارتهم على الساحل الإفريقي، والسبيل الأمثل هو إيجاد قاعدة بحرية، وصناعة بحرية قادرة على إنشاء أسطوله مهمته صد العدوان الرومي بادي الأمر، ثم الانتقال من مرحلة التصدي إلى الغزو والفتح فيما بعد، وقد تمثل تطبيق هذه المرحلة من قبل الخليفة عبد الملك فقام بالإيعاز لشقيقه والي مصر: عبد العزيز بن مروان، لإرسال ألفي قبطي من مهرة الصناع لإقامة صناعة مراكب بحرية وقام هؤلاء بالمهمة الموكلة إليهم خير قيام، وأما الهدف الثاني: فيتمثل بإيجاد حياة إجتماعية بايجاد المؤسسات القادرة على خدمة الأفراد، فأقام في المدينة المسجد الجامع ودار الإمارة وثكنات للجند للمرابطة وأخذ يقوم بتدوين الدواوين4454، تنظيم الخراج والعناية بالدعوة الإسلامية بين البربر، فقام بإرسال الفقهاء ليعلموهم اللغة العربية والدين الإسلامي4455، وسارت المدينة لتكون معسكراً(2/462)
حربياً في البداية، ومركز استيطان وإدارة لدعم الفتوحات وأخيراً مركزاً حضارياً ومركز إشعاع فكري وعلمي وثقافي4456. وهكذا رسخ الخليفة عبد الملك بن مروان إقدام الدولة الأموية بتأسيس مدينة تونس، وقطع دابر الغارات اليبزنطية بإيجاد مدينة إسلامية مرتبطة بالأهداف العليا للدولة4457.
3 ـ بناء مسجد قبة الصخرة:
…بنى هذا المسجد الخليفة عبد الملك بن مروان وسماه الأوربيون خطأ مسجد عمر، وقد رصد الخليفة لأعماره أموالاً طائلة4458، قال ابن كثير: ولما أراد عبد الملك عمارة بيت المقدس وجه إليه بالأموال والعمال ووكل بالعمل رجاء بن حيوة ويزيد بن سلام مولاه، وجمع الصناع من أطراف البلاد وأرسلهم إلى بيت المقدس، وأرسل إليه بالأموال الجزيلة الكثيرة، وأمر رجاء بن حيوة ويزيد أن يفرغا الأموال إفراغاً ولا يتوقفا فيه، فبثوا النفقات وأكثروا، فبنوا القبة فجاءت في أحسن البناء، وفرشاها بالرخام الملون وحفاها بأنواع الستور، وأقاما لها سدنة وخداماً بأنواع الطيب والمسك والعنبر وماء الورد والزعفران، يعملون منه غاليه ويبخرون القبة والمسجد من الليل، وجعلا فيها من قناديل الذهب والفضة والسلاسل الذهبية والفضية شيئاً كثيراً، وفرشاها بأنواع البسط الملونة، وكانوا إذا أطلقوا البخور شمَّ من مسافة بعيدة، وقد عملوا فيها من الإشارات والعلامات المكذوبة شيئاً كثيراً مما في الآخرة، فصورا فيه صورة الصراط وباب الجنة وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووادي جهنم وكذلك في أبوابه ومواضع منه، فاغتر الناس بذلك إلى زماننا... وبالجملة فإن صخرة بيت المقدس لما فرغ من بنائها لم يكن لها نظير على وجه الأرض بهجة ومنظراً، وقد كان فيها من الفصوص والجواهر والفسيفساء وغير ذلك شيء كثير وأنواع باهرة، ولما فرغ رجاء بن حيوة ويزيد بن سلام من عمارتها على أكمل الوجوه، فضل من المال الذي أنفقاه على ذلك ستمائة ألف مثقال، وقيل ثلاثمائة ألف مثقال، فكتبا إلى عبد(2/463)
الملك يخبرانه بذلك، فكتب إليهما قد وهبته لكما، فكتبا إليه إنا لو استطعنا لزدنا في عمارة هذا المسجد من حلي نساءنا، فكتب إليهما: إذا أبيتما أن تقبلاه فأفرغاه على القبة والأبواب، فما كان أحد يستطيع أن يتأمل القبة مما عليها من الذهب القديم والحديث4459، وهناك عدة أسئلة تطرح نفسها: ما سبب بناء هذا المسجد وبهذا الإتقان والإبداع؟ ولماذا تزامن مع حركة ابن الزبير في الحجاز؟، إن أول المؤرخين الذين حاولوا إيجاد التسويغ لبناء مسجد قبة الصخرة المشرفة هو اليعقوبي (ت 284) وقد ربط ذلك بالحكم والخلافة حينئذ، وأوجد صيغة مشتركة في التعامل بين السلطة الأموية والمجتمع، لأن معظم العالم الإسلامي كان قد بايع عبد الله بن الزبير بالخلافة (64 ـ 73هـ) ما عدا إقليم الأردن4460، فقد قال في كتابه: ومنع عبد الملك أهل الشام من الحج، وذلك لأن ابن الزبير كان يأخذهم إذا حجوا بالبيعة، فلما رأى عبد الملك ذلك منعهم من الخروج إلى مكة فضج الناس وقالوا: تمنعنا من حج بيت الله الحرام، وهو فرض علينا، فقال: هذا ابن شهاب الزهري يحدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي ومسجد بيت المقدس. وهو يقوم لكم مقام المسجد الحرام، وهذه الصخرة التي يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع قدمه لما صعد إلى السماء4461. واليعقوبي راوي الأثر السابق مؤرخ شيعي إمامي كان يعمل في كتابة الدواوين في الدولة العباسية حتى لقب بالكاتب العباسي، وقد عرض اليعقوبي تاريخ الدولة الإسلامية من وجهة نظر الشيعة الإمامية، فهو لا يعترف بالخلافة إلا لعلي بن أبي طالب وأبنائه حسب تسلسل الأئمة عند الشيعة، ويسمي علي بالوصي، وعندما أرخ لخلافة أبي بكر وعمر وعثمان لم يضف إليهم لقب الخلافة إنما تولى الأمر فلان، ثم لم يترك واحداً منهم دون أن يطعن فيه، وكذلك كبار الصحابة، وقد ذكر عن عائشة رضي الله عنها أخباراً(2/464)
سيئة وكذلك عن خالد بن الوليد4462، وعمرو بن العاص،4463، ومعاوية بن أبي سفيان4464، وعرض خبر السقيفة خبراً مشيناً4465، إدعى فيه إنه قد حصلت مؤامرة على سلب الخلافة من علي بن أبي طالب الذي هو الوصي في نظره، وطريقته في سياق الاتهامات ـ الباطلة ـ هي طريقة قومه من أهل التشيع وهي إما اختلاق الخبر بالكلية4466، أو التزيد في الخبر4467، والإضافة عليه أو عرضه في غير صياغه ومحله حتى يتحرف معناه، ومن الملاحظ أنه عندما ذكر الخلفاء الأمويين وصفهم بالملوك وعندما ذكر خلفاء بني العباس وصفهم بالخلفاء، كما وصف دولتهم في كتابه البلدان باسم الدولة المباركة4468، مما يعكس نفاقه وتستره وراء شعار التقية وهذا الكتاب يمثل الانحراف والتشويه الحاصل في كتابة التاريخ الإسلامي، وهو مرجع لكثير من المستشرقين والمستغربين الذين طعنوا في التاريخ الإسلامي وسيرة رجاله، مع أنه لا قيمة له من الناحية العلمية إذ يغلب على القسم الأول القصص والأساطير والخرافات، والقسم الثاني كتب من زاوية نظر حزبية، كما أنه يفتقد من الناحية المنهجية لأبسط قواعد التوثيق العلمي4469. هذا هو اليعقوبي الذي اعتمده المؤرخون المتأخرون في روايته قصة بناء مسجد قبة الصخرة أو مسجد بيت المقدس على حد تعبيره، وعلينا أن نتحفظ من رواية اليعقوبي الآنفة الذكر ونعتبرها خارجة عن الإطار المقبول لأنه لا يعقل رجل بمستوى عبد الملك في دهائه ومكره وعقله وفقهه يضع نفسه موضع شبهة الكفر، فيصد الناس عن الحج إلى بيت الله الحرام4470، هذا من ناحية العقل والمنطق،وأما من ناحية السند فقد بينا ولم نسمع أن أحداً من خصوم الأمويين أوردوا ذلك في مطاعنهم على عبد الملك ـ سوى الشيعة ـ. كما أن الإمام الزهري لم يلتق بعبد الملك إلا بعد مقتل ابن الزبير، فقد نقل الذهبي عن الليث بن سعد أنه قال: قدِم ابن شهاب على عبد الملك سنة اثنين وثمانين4471. وقد نص على أن ابن الزبير قتل سنة 72هـ4472،(2/465)
وبعد مقتله استوثقت الممالك لعبد الملك4473، فليس هو في حاجة لمن يضع له أحاديث لصرف الناس عن الحج والزهري لم يكن عند مقتل ابن الزبير ذائع الصيت عند الأمة الإسلامية بحيث تتقبل منه حديثاً موضوعاً يلغي به فريضة الحج الثابتة بالقرآن والأحاديث الصحيحة وذلك لصغر سنه، فإنه قد ولد بعد الخمسين من الهجرة4474، وصداقته بعبد الملك وتردده عليه لا يقدح في أمانته ودينه، وأما حديث شد الرحال فهو صحيح رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم من العلماء، قال عنه ابن تيميه: وهو حديث مستفيض، متلقى بالقبول، أجمع أهل العلم على صحته وتلقيه بالقبول والتصديق4475، ولم ينفرد الزهري رحمه الله برواية هذا الحديث حتى يتهم بوضعه، والحديث ليس فيه فضل قبة الصخرة وليس فيه الدعوة إلى الحج إليها والطواف حولها بدلاً عن الكعبة كما يدعي بعض المزورين، وغاية ما فيه فضل الصلاة في بيت المقدس وزيارته4476، وأما الصخرة فقد ذكر ابن القيم أن كل حديث فيها فهو كذب مفترى4477، وقد قام الدكتور حارث بن سليمان الضاري بنسف هذه الشبهة في كتابه القيم الإمام الزهري وأثره في السنة4478 في ثلاثة عشر صفحة وأتى بحجج دامغة قوية لمن يبحث عن الحقيقة العلمية، وسيأتي الحديث عن الإمام الزهري في عهد هشام بن عبد الملك بإذن الله تعالى.
المبحث الخامس : النظام القضائي والشرطة:
أولاً : القضاء: كان القضاء على عهد عبد الملك استمراراً لما كان عليه زمن من سبقه من الخلفاء، فضلاً عن إسهاماته الرائدة بتنظيم جوانب متعددة منه، فهو أول من أفرد للمظالم4479 يوماً، كما أوجب أن تقرأ عهود القضاة، أي أوامر تعيينهم، في المسجد الجامع أولاً، ثم يتوجهون إلى دار الأمير حيث يُتلى أمامه عهد توليه القاضي4480، وكان الخليفة عبد الملك يختار من القضاة من يتصف بالتقوى والنزاهة فقد ولى على القضاء بلال بن أبي الدرداء4481.(2/466)
1 ـ أشهر قضاة عبد الملك: وكان من أشهر قضاة عبد الملك أبا أدريس الخولاني وذلك سنة 74هـ وكانت له المظالم أيضاً حتى أعفاه عبد الملك بطلب منه4482، ثم ولى عامر الأشعري4483، ثم عبد الله بن عامر اليحصبي4484، وعبد الله بن قيس ثم سليمان المحاربي،ومعظم هؤلاء القضاة من الفقهاء ومن رواة الحديث4485.
2 ـ رزق القاضي: ولما قدم عبد الملك بن مروان النخيلة سنة 72 هـ قال ما فعل شريح العراقي؟ قيل حي قال: عليَّ به. فجاءه فقال: ما منعك من القضاء؟ فقال:ما كنت أقضي بين أثنين في فتنة4486.قال: وفقك الله عد إلى قضائك، فقد أمرنا لك بعشرة ألف درهم، وثلاثمائة جريب فأخذها بالفلوجة وقضى إلى سنة ثمان وسبعين4487.
3 ـ مراقبة القضاة: كان عبد الملك يراقب قضاته ويتابع أخبارهم، فقد أخبر أن زوجة قاضية الحارث الأشعري، كلمت زوجها في رجل يقضي له بقضية، وأن الرجل أهدى إلى زوجة القاضي هدية، فقال عبد الملك:
… … إذا رشوة من باب بيت تقحمت
………………لتسكن فيه والأمانة فيه
سعت هرباً منه وولت كأنها
… ……………حليم تولى عن جوار سفيه4488
4 ـ عدم التدخل في أحكامهم وأعمالهم: فقد كان موقف عبد الملك من القضاء والقضاة مبني على الاحترام وعدم التدخل في عملهم وأحكامهم4489.
5 ـ احترامه لقضاء عبد الله بن الزبير رضي الله عنه:(2/467)
أرسل أبان بن عثمان عامل عبد الملك على المدينة رسالة يسأله عن موقفه من أقضية وأحكام عبد الله بن الزبير، قائلاً له: إن عبد الله بن الزبير قضى بين الناس بأقضية، فما يرى أمير المؤمنين. أمضيها أم أردها؟ فكتب عبد الملك إلى ابان بن عثمان: إنا والله ما عبنا على ابن الزبير أقضيته، ولكن عبنا عليه ما تناول من الأمر، فإذا أتاك كتابي هذا، فأنفذ أقضيته، فإن ترداد الأقضية عندنا يتعسر4490، وهذه الرسالة تبين لنا جانباً مهماً من سياسة عبد الملك الحازمة، وحكمته في عدم التدخل في المؤسسة القضائية، إذ سد باباً على الحكام والولاة كان فتحه أن يعرض أحكام القضاة إلى النقص المستمر4491.
6 ـ تحديد مهور النساء: قام عبد الملك بتحديد المهور وجعلها (400) أربعمائة دينار، حداً أعلى، وهو أول من فعل ذلك إقتداء بما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما خطب أم حبيبة بنت أبي سفيان4492، وربما قام عبد الملك بذلك منعاً للمغالات في المهور، وتشجيعاً للزواج والإنجاب4493.
7 ـ ديوان المظالم: كان الخليفة عبد الملك أول من أفراد يوماً للنظر في المظالم، حيث جلس في يوم محدد يتصفح فيه قصص المتظلمين من غير مباشرة للنظر فيها، فكان إذا وقف منها على مشكل، أو احتاج فيها إلى حكم منفذ رده إلى قاضيه4494، أبي إدريس الخولاني فنفذ فيه أحكامه، وقد قام للجلوس بنفسه حتى يرتدع الناس، فكان أبو إدريس هو المباشر وعبد الملك الآمر4495، وكان عبد الملك حين يجلس للمظالم يستعد لها، فكان يلبس جبة ورداء4496، كما ويقام على رأسه بالسيوف4497، ويأمر شخصاً من هؤلاء القائمين على رأسه لإنشاد شعر لسعيه بن عُريض وهو:
…………إنا إذا ما دواعي الهوى
…………………وأنصت السامع للقائل
…………وأصطرع القوم بألبابهم
…………………نقضي بحكم عادل فاصل
…………لا نجعل الباطل حقاً ولا
…………………نلفظ دون الحق بالباطل
…………نخاف أن تسفه أحلامنا
…………………فنخمل الدهر مع الخامل4498(2/468)
…ثم يجتهد عبد الملك في الحق بين الخصمين4499. وهذا يعني أن جلوس الخليفة عبد الملك للمظالم كان جلوساً منظماً ومتكاملاً، ولا بد أن جلسات الخليفة هذه كان يحضرها كتاب يدونون هذه الجلسات وأحكامها، كما أن تحديد الخليفة عبد الملك يوماً معيناً من كل أسبوع للنظر في المظالم، وتعيين قاضٍ لذلك وتعيين من يقوم على رأسه بالسيوف وهم من الحماة والأعوان، وارتداء الخليفة ملابس معينة، وانعقاد هذه الجلسات في مكان محدد، كل هذا يعني وجود الأسس لديوان مستقل لكل ذلك يمكننا أن نقول بأن الخليفة عبد الملك ربما كان أول من أسس ديوان النظر في المظالم في الدولة4500.(2/469)
ثانياً : الشرطة: ومن الأجهزة المهمة التي كان لها أثر فاعل في إدارة بلاد الشام، جهاز الشرطة، وعلى رأسه صاحب الشرطة ولابد أن الخليفة عبد الملك كان لا يختار لهذا المنصب إلا من توفرت فيه شروط صعبة التوفر4501، وعين الخليفة عبد الملك بن مروان على شرطته: عبد الله بن هاني الأودي4502، ثم استبدل به يزيد بن كبشة السكسكي ثم عزل الكثير من هذا المنصب وآخرهم في عهد عبد الملك، كعب بن حامد العبسي4503، ولم تكن مهمة الشرطة في عهد عبد الملك هي الجناة واللصوص فحسب، بل مارست الشرطة عملاً مهماً، إلا وهو عملية تنظيم وضبط نزول جيوش الخلافة ورحيلها أثناء الحملات العسكرية، فقد قلد الخليفة الحجّاج بن يوسف الثقفي هذه المهمة، فنجح فيها في عدة مناسبات وتمكن من ضبط جيش الخليفة وتأدية مهمته على أحسن وجه4504، وكانت الشرطة موجودة في كافة أقاليم الدولة وتابعة لولاتها. واتخذ الخليفة عبد الملك بن مروان، حرساً خاصاً به4505، ويرأس هؤلاء الحرس رئيس، يعين ويعزل من الخليفة، وهو المسئول عن أفراد حرسه أمام الخليفة. ويبدو أن أعدادهم لم تكن قليلة، وكانت مهمة الحرس الأساسية، هي حماية الخليفة، والمحافظة على سلامته، في حله وترحاله، وتنفيذ أوامره ومن الجدير بالذكر أن جميع رؤساء حرس عبد الملك كانوا من الموالي وبخاصة من موالي الخليفة نفسه، ويبدو أن ذلك راجع إلى طبيعة أعمال هؤلاء المرتبطة دوماً بالخليفة، والتي تستوجب أن يكونوا موضع ثقة الخليفة للاطمئنان على سلامته وكان الخليفة ينتقل في مدن بلاد الشام، ونظم إقامته على هذا الأساس، فلن يكن يقيم بدمشق طوال العام، بل كان يشتو بالصَنبرة من الأردن، وإذا انتهى الشتاء نزل الجابية، وفرّق الأرزاق على أصحابه، فإذا مضت أيام من آذار دخل دمشق، حتى إذا اشتد الحر أتى بعلبك فقام بها حتى تهيج رياح الشتاء فيرجع إلى دمشق، فإذا اشتد البرد خرج إلى الصنبرة4506، وهذه التنقلات كانت تخضع لنظام حراسة(2/470)
مشدد، ومن أراد التفصيل فليراجع كتاب الشرطة في العصر الأموي، للدكتور أرسن موسى رشيد.
المبحث السادس : العلماء والشعراء في عهد عبد الملك:
أولاً : العلماء: اختلف موقف العلماء من عبد الملك فهناك من خرج عليه، كعبد الرحمن بن أبي ليلى، وسعيد بن جبير، وهناك من ابتعد عنه والتزم بالبيعة كالحسن البصري وغيره، وهناك من كان قريباً منه ناصحاً له كقبيصة بن أبي ذؤيب وقد اخترت مجموعة من العلماء لمن كانت لهم قربة ومنزلة من عبدالملك، أو نصحوه أو ذكّروه ولم يكن عبد الملك بعيداً عن أجواء العلماء وطلاب العلم، فقد كان في المدينة في مقبل شبابه مشمراً في طلب العلم وعرف عنه أنه كان يلزم المسجد ولا يكاد يبرحه حتى سمي حمامة المسجد لعبادته، وطول انقطاعه للدراسة مقبلاً على طلب العلم مجلاً لشيوخه، ولما كان متوقد الذكاء، شديد الفطنة، قوي الذاكرة، فقد وعي كل ما سمع منهم، واتقنه لمجالسته لهم4507، وهذا أكسبه قدرة بحيث صار حجة في المعارف الدينية كقراءة القرآن التي كان يطيل في تلاوتها بالمدينة4508، كما كان يحضر دراسته بدمشق4509، وعرف بروايته للحديث وإن كان مقلاً4510، على الرغم أنه كان ثقة فيما رواه4511، وروايته مثبتة في الصحيحين البخاري ومسلم4512، وكان فقيهاً من الفقهاء، ومن أهل العلم بالمغازي والسير4513، وأخباريا له علم واسع بأحاديث العرب وآثارهم في الجاهلية والإسلام، كثير المحاورة لرواة وسادة القبائل ونسابه له معرفة دقيقة بأنساب العرب وبخاصة أنساب قريش4514 ولذلك كان عارفاً بنفسية العلماء قادراً على التعامل معهم، ومن اشهر العلماء الذين احتك بهم أو كانت له مواقف وعظ أو تذكيراً له هم:(2/471)
1 ـ قبيصة بن ذؤيب: نشأ قبيصة في المدينة وكان في عداد علماءها ولكنه انتقل إلى الشام بجانب عبد الملك وأصبح من خاصته واختاره عبد الملك لعلاقته القديمة به في المدينة، ولما يتمتع به قبيصة من روح مرنة تراعي الأحوال، وتقدر المواقف، وتوازن بين المصالح وصاحب هذه الروح هو القادر على الصبر والقرب من الخلفاء والسلاطين وهو من يرغب الخلفاء في تقريبه عادة، ومن المواقف ظهرت فيها هذه الروح عند قبيصة ما ذكره ابن سعد في طبقاته، حيث ذكر أن الصحابي الجليل جابر بن عبد الله رضي الله عنه دخل على عبد الملك وقربه فقال جابر: يا أمير المؤمنين إن المدينة حيث ترى، وهي طيبة سماها النبي عليه الصلاة والسلام، فأهلها محصورون، فإن رأى أمير المؤمنين أن يصل أرحامهم ويعرف حقهم فعل، قال: فكره ذلك عبد الملك وعرض عنه، وجعل جابر يلح عليه حتى أومأ قبيصة إلى ابنه ـ وهو قائده وكان جابر قد ذهب بصره ـ أن أسكته، قال: فجعل ابنه يسكته، قال جابر: ويحك؟ ما تصنع بي؟ قال: اسكت فسكت جابر، فلما خرج أخذ قبيصة بيده فقال: يا أبا عبد الله إن هؤلاء القوم صاروا ملوكاً. فقال جابر: أبلى الله بلاءً حسناً فإنه لا عذر لك وصاحبك يسمع منك. قال يسمع ولا يسمع وما وافقه سمع، وقد أمر لك أمير المؤمنين بخمسة ألف درهم، فاستعن بها على زمانك فقبضها جابر4515. فمن هذا الموقف يتضح كيف أدرك قبيصة عدم رضا الخليفة عن فتح هذا الموضوع معه من قبل جابر، وكيف أنهى الموضوع حتى لا يتطور إلى ما لا تحمد عقباه للطرفين، فأشار على ابن جابر بإيقاف والده عن الكلام ثم يطيب خاطر جابر بأخذه بيده، والاعتذار إليه بألا يستغرب هذا التصرف من عبد الملك، فلا يتعامل معه على أنه عبد الملك العالم وإنما على أنه عبد الملك الذي صار ملكاً ينظر إلى الأمور من نافذة الملك ومصالحه، ثم هو يعتذر لنفسه عندما وجه جابر اللوم له بأنه ليس له عذر في عدم المطالبة بحقوق أهل المدينة ما دام له هذه(2/472)
المكانة عند عبد الملك، لأن الأمر ليس كما يتصور جابر وغيره بأنه قادر على تحقيق كل ما يريده من عبد الملك بل الواقع أنه يُسمع ولا يسمع، وفي هذا دليل على مراعاة قبيصة للأحوال والأشخاص4516.
أ ـ مكانته من عبد الملك: جمع قبيصة عدداً من المهام في عهد عبد الملك، وتعددت مسميات مهامه عند عبد الملك، فيذكر ابن سعد4517، وابن عساكر، وابن عبد الهادي: إن قبيصة كان على الخاتم والبريد، وأما الذهبي، فقد ذكر هذه المهام السابقة وأضاف أخرى حيث ذكر أنه كان كاتباً لعبد الملك، ووصفه، بأنه الوزير4518. وكان يدخل على عبد الملك طروقاً4519، وأن عبد الملك تقدم إلى حاجبه فقال: لا يحجب قبيصة أي ساعة جاء من الليل أو نهار إذا كنت خالياً أو كان عندي رجل واحد، أو كنت عند النساء أدخل المجلس ثم أعلمت مكانه. وكانت تأتيه الأخبار قبل عبد الملك فيقرأ الكتب قبله ثم يأتي بها منشورة إلى عبد الملك فيقرأها إعظاماً لقبيصة4520، فقبيصة بهذا وزيراً لعبد الملك ومستشاراً له وساعده الأيمن في إدارة الدولة وتصريف شئونها، وكان ملازماً له في سفره وإقامته4521.(2/473)
ب ـ موقف قبيضة من محاولة عبد الملك خلع أخيه عبد العزيز: كان مروان بن الحكم قد عقد ولاية العهد لابنيه عبد الملك ومن بعده عبد العزيز4522، وبعد وفاة مروان تمت البيعة بالخلافة لعبد الملك بولاية العهد لأخيه عبد العزيز بن مروان من قبل المؤيدين لبني أمية، ثم تأكدت تلك البيعة من الأمة بعد مقتل ابن الزبير ونهاية سلطانه، ولكن عبد الملك بعدما استقرت له الأمور، وتذوق حلاوة الملك في دنياه ورغب في استمرار الذكر له بعد الوفاة لاسيما وقد رأى أن كل من ابنيه الوليد وسليمان قد بلغ من الرشد مبلغه، وتحركت فيه عاطفة الأبوة تجاههما، وأحب أن يصرف ولاية العهد من بعده لهما دون أخيه عبد العزيز، وكان قد عزم على ذلك إلا أن قبيصة بن ذؤيب نهاه عن ذلك، فقد أورد ابن سعد هذا الخبر: قالوا: كان عبد الملك بن مروان قد همّ أن يخلع أخاه عبد العزيز بن مروان ويعقد لابنيه الوليد وسليمان بعده بالخلافة، فنهاه قبيصة بن ذؤيب وقال: لا تفعل هذا فإنك تبعث عليك صوتاً نعار4523، ولعل الموت يأتيه فتستريح منه، فكف عبد الملك عن ذلك ونفسه تنازعه أن يخلعه فدخل عليه ليلة روح بن زنباع الجذامي وكان يبيت عند عبد الملك، وكان أحلى الناس كلاماً عند عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين لو خلعته ما انتطحت فيه عنزان، قال: ترى ذلك يا أبا زرعة؟ قال: أي والله وأنا أول من يجيبك إلى ذلك، فقال: نصبح إن شاء الله، فبينما هو على ذلك، وقد نام عبد الملك بن مروان وروح بن زنباع إلى جنبه إذ دخل عليهما قبيصة بن ذؤيب.. فقال: آجرك الله يا أمير المؤمنين في أخيك. فقال: فهل توفي؟ قال: نعم. فاسترجع عبد الملك بن مروان ثم أقبل على روح فقال:: أبا زرعة كفانا الله ما كنا نريد وما أجمعنا عليه4524. ومن خلال هذا الموقف لقبيصة يمكن أن نستشف منهجه في التعامل مع عبد الملك كمشير ووزير، ويتمثل ذلك المنهج في صدقه في النصيحة ومراعاة المصلحة العامة للأمة والدولة، فهو لم يجامل(2/474)
عبد الملك بموافقته له فيما يوده ويهواه، بل دفعه إخلاصه لله وتقديره لمصلحة الأمة بعامة والبيت الأموي بخاصة أن يقول رأيه بصراحة وإن كان يعلم أنه يخالف ما في نفس عبد الملك ويضاد رغباته وعواطفه تجاه بنيه4525.
ج ـ موقفه من محنة الإمام الجليل سعيد بن المسيب: بعد وفاة عبد العزيز بن مروان عقد عبد الملك البيعة من بعده لابنيه الوليد وسليمان، وبعث إلى البلدان لأخذ البيعة لهما، ففي المدينة دعا واليها هشام بن إسماعيل المخزومي الناس إلى البيعة فبايعوا إلا سعيد بن المسيب فإنه أبى وقال: أنظر، فضربه هشام وطاف به ثم سجنه وبعث إلى عبد الملك يخبره بما فعل4526. وكانت الرسائل تصل إلى قبيصة بن ذؤيب ويقرؤها قبل عبد الملك، فلما وصل كتاب هشام واطلع على ما فيه كان له موقف من تصرف هشام مع سعيد بن المسيب يصور لنا ابن سعد هذا الموقف:... دخل قبيصة بن ذؤيب على عبد الملك بن مروان بكتاب هشام بن إسماعيل يذكر أنه ضرب سعيداً وطاف به قال قبيصة: يا أمير المؤمنين يقتات عليك هشام بمثل هذا؟ يضرب ابن المسيب ويطوف به؟ والله لا يكون سعيد أبداً أمحل وألج4527. منه حين يضرب، سعيد لو لم يبايع ما كان يكون منه؟ ما سعيد مما يخاف فتقه ولا غوائله على الإسلام وأهله، وإنه لمن أهل الجماعة والسنة. وقال قبيصة: أكتب إليه يا أمير المؤمنين في ذلك. فقال عبد الملك: أكتب أنت إليه عني تخبره برأي فيه ومخالفتي من ضرب هشام إياه. فكتب قبيصة إلى سعيد بذلك. فقال: سعيد حين قرأ الكتاب الله بيني وبين من ظلمني4528، وكتب إلى والي المدينة كتاباًَ باسم عبد الملك: سعيد كان والله أحوج إلى أن تصل رحمه من أن تضربه، وإنا لنعلم ما عند سعيد شقاق ولا خلاف4529. ويتضح من هذا أثر قبيصة الكبير في صياغة موقف عبد الملك وقراره في مثل هذه القضايا المهمة والخطيرة، كما يظهر أثره الفعال في إطفاء الفتن وحسن معالجته لها معالجة تنم عن بعد نظره ومعرفته بعواقب الأمور منطق(2/475)
إرضاء الله أولاً ثم الحرص على مصلحة الأمة والدولة ثانية4530.
س ـ محاولته إصلاح بطانة عبد الملك: كانت له محاولات تستهدف إصلاح بطانة عبد الملك وذلك بتقريب العلماء له وجعلهم ضمن جلسائه ليكثر بذلك سوادهم عنده ويكون تأثيرهم أقوى وأنفع، ومن ذلك محاولته تقريب الإمام الزهري إلى عبد الملك فتسير بعض الروايات التي ذكرت صلة الزهري بعبد الملك أن الزهري خرج من المدينة لما اشتد به ضيق ذات اليد وساءت أحوال أهله وليس له مورد فرحل إلى الشام، وذكرت بعض الروايات أنه اتصل بقبيصة وجالسه مدة قبل اتصاله بعبد الملك4531، وقد أكرم قبيصة الزهري وقال: له: ائتني في المنزل فلحق به الزهري فلما بلغ منزله كساه ومنحه بغلة ومائة دينار وغلاماً4532، وعمل على تعريف عبد الملك بمكانة الزهري العلمية حتى أصبح من أصحابه وفرض له العطاء وتوطدت العلاقة بين الزهري وعبد الملك، وتكرر الدخول على عبد الملك بانتظام شأنه شأن أصحابه وجلسائه ولكن حرص الزهري على العودة إلى المدينة لمواصلة طلب العلم وتولي مؤونة أهله وذويه جعله يرحل وينقطع عن عبد الملك فكانت صلته هذه على يد قبيصة بداية اتصال الزهري بخلفاء بني أمية بعد عبد الملك4533وقد قال ابن سعد في أثر قبيصة لتقريب الزهري لبني أمية بقوله: وهو الذي أدخل الزهري على عبد الملك بن مروان ففرض له ووصله وصار من أصحابه4534. وكان هذا من قبيصة حرصاً على مصلحة الزهري، كما كان همه إصلاح بطانة عبد الملك وتكثير سواد أهل العلم والصلاح في بلاطه مما سيكونه له أثر في توجيه سياسة الدولة نحو الأصلح بالتأثير على عبد الملك من قبل جلساته وبطانته4535.(2/476)
…وقال الذهبي عن قبيصة: الإمام الكبير، الفقيه، أبو سعيد الخزاعي، وعن الشعبي قال: كان قبيصة أعلم الناس بقضاء زيد بن ثابت، وعن ابن شهاب، قال: كان قبيصة بن ذؤيب من علماء هذه الأمة. وعن مكحول قال: ما رأيت أحداً أعلم من قبيصة. وقد توفي سنة 86 هـ وقيل: 87 هـ وقيل سنة88 هـ4536.
2 ـ عطاء بن أبي رباح ونصيحته لعبد الملك: دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك وهو جالس على السرير وحوله الأشراف وذلك بمكة في وقت حجه في خلافته، فلما بَصُر به عبد الملك قام إليه فسلم عليه وأجلسه معه على السرير وقعد بين يديه وقال: يا أبا محمد: حاجتك؟ قال: يا أمير المؤمنين اتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار، فإنك بهم جلست هذا المجلس، واتق الله في أهل الثغور فإنهم حصن المسلمين، وتفقد أمور المسلمين فإنك وحدك المسئول عنهم، واتق فيمن على بابك فلا تغفل عنهم ولا تغلق دونهم بابك. فقال له: أفعل، ثم نهض، وقام فقبض عليه عبد الملك وقال: يا أبا محمد إنما سألتنا حوائج غيرك، وقد قضيناها فما حاجتك؟ فقال: مالي إلى مخلوق حاجة، ثم خرج، فقال عبد الملك: هذا وأبيك الشرف، هذا وأبيك السؤدد4537. وكان بنو أمية في عهدهم يأمرون منادياً يصيح في الحج لا يُفتي الناس إلا عطاء بن رباح، فإن لم يكن عطاء، فعبد الله بن أبي نجيح4538، وقد فاق عطاء أهل مكة في الفتوى4539وكان المسجد فراش عطاء عشرين سنة، وكان من أحسن الناس صلاة4540، وكان معاشه، صلة الأخوان ونيل السلطان4541، ومن أقوال عطاء: إن من قبلكم كانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو أن تنطق في معيشتك التي لابد لك منها، أتنكرون أن عليكم حافظين كرام كاتبين، عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، أما يستحي أحدكم لو نشرت صحيفته التي أملى صدر نهاره وليس فيها شيء من أمر آخرته4542 ، وعن عطاء: إن الرجل ليحدثني بالحديث، فأُنصتُ له كأني لم(2/477)
أسمعه، وقد سمعته قبل أن يولد4543. وعطاء هذا الذي كان مرجع الأمة في موسم الحج كان أسود أعرج، أفطس، أعور ثم أعمى من الموالي فهذا الذي تجمعت فيه كل العاهات الجسدية جعلته الحضارة الإسلامية رأس الفتوى في أقدس بقعة عند المسلمين في مكة، فضلاً عن كونه من أشهر علماء الحجاز الذين يستقطبون طلبة العلم من مختلف أرجاء المعمورة4544 .
3 ـ يزيد بن الأصم وأجابته لعبد الملك: سأل عبد الملك يزيد بن الأصم عن معنى قوله تعالى ((تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين )) (القصص :الآية: 83) فأجاب بكل صراحة بقوله: التجبر في الأرض، والأخذ بغير الحق ـ أي من العلو والفساد في الأرض ـ فنكس عبد الملك برأسه، وجعل ينكث في الأرض، وكان إطراق عبد الملك وتنكيسه لرأسه حياء من يزيد لإدراكه أنه المعني لذلك بالتوجيه4545
ثانياً: عبد الملك والشعر والشعراء:
كان عبد الملك بن مروان راويا للشعر ناقداً له، كثير الاستشهاد به في كثير من المناسبات يكثر من الأسئلة والمحاورة منه في مجلسه، فضلاً عن اهتمامه بمعانيه، كما كان يعلم خطورته في التأثير الإعلامي في كسب الأنصار والهجوم على خصومه ولذلك اهتم بالشعراء اهتماماً كبيراً ووظفهم لمدحه ودولته وبني أمية ولم يبخل عليهم بالعطاء ولذلك كان كبار شعراء عصره من الأمويين مثل الأخطل، والفرزدق، وجرير، وغيرهم كما أنه عمل على كسب خصومه حتى أنهم مدحوه بعد أن هجموا عليه بقصائد قوية في سبه وذمه مثل عبيد الله الرقيات وإليك شيء من شعر شعراء الدولة الأموية:(2/478)
1 ـ الأخطل: هو غياث بن غوث التغلبي النصراني شاعر زمانه وقد قيل للفرزدق: من اشعر الناس؟ قال: كفاك بي إذا افتخرت، وبجرير إذا هجا، وبابن النصرانية إذا امتدح4546، وكان عبد الملك بن مروان يجزل عطاء الأخطل، ويفضله في الشعر على غيره4547، فقد كان شاعر الدولة الرسمي الذي أكثر من مدح خلفائها، والدعاية لها، والترويج لسادتها نحو ربع قرن4548، ومن مدحه في بني أمية:
………تمت جدودهم والله فضلهم
…………………وجد قوم سواهم خامل نكد
………وأنتم أهل بيت لا يوازنهم
…………………بيت إذا عدت الأحساب والعدد4549
ومن شعره المتميز في بني أمية قوله:
………حشدٌ على الحق عيَّافو الخنا أُنُفٌ
…………………إذا ألمَّت بهم مكروهة صبروا
………شمس العداوة حتى يستقاد لهم
…………………وأعظم الناس أحلاماً إذا قدروا4550
…وكان كثير المديح لعبد الملك والتنويه بصلاح السياسة في عهده كقوله:
…………إلى إمام تغدينا فواضله
……………………أظفره الله فليهنأ له الظفر
…………الخائض الغمر والميمون طائره
……………………خليفة الله يستقي به الله المطر
…………والمستمر به أمر الجميع فما
……………………يغتره بعد توكيد له غرر
…………نفسي فداء أمير المؤمنين إذا
……………………أبدى النواجز يوماً عارم ذكر4551
وعرف الأخطل بأنه يعاود شعره بالتنقيح والصقل، حتى لقد قالوا إنه كان ينظم القصيدة تسعين بيتاً ثم يضرب عن ستين ويبقي ثلاثين، وهذا هو السبب في جودة تعبيره، وندرة سقطه وهو بهذا يشبه المنقحين القدماء، مثل زهير والحطيئة وأضرابهما مما سماهم الأصمعي عبيد الشعر4552. ومن أحسن ما قال من الشعر قوله:
………والناس همهم الحياة ولا أرى
…………………طول الحياة يزيد غير خبال
………وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد
…………………ذخراً يكون كصالح الأعمال4553
2 ـ الفرزدق: هو همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن مجاشع4554، وكان ممن مدح بني أمية وقال في عبد الملك بن مروان:
…………فالأرض لله ولاّها خليفته
……………………وصاحب الله فيها غير مغلوب(2/479)
…………بعد الفساد الذي قد كان قام به
……………………كذاب مكة من مكر وتخريب
…………راموا الخلافة في غدر فأخطأهم
……………………منها صدور وفازوا بالعراقيب
…………والناس في فتنة عمياء قد تركت
……………………أشرافهم بين مقتول ومحروب
…………دعوْ ليستخلف الرحمن خيرهم
……………………والله يسمع دعوى كل مكروب
…………فأصبح الله ولَّى الأمر خيرهم
……………………بعد اختلاف وصدع غير مشعوب
…………تراث عثمان كانوا الأولياء به
……………………سربال ملك عليهم غير مسلوب4555
وكان للفرزدق أخٌ شاعر وهو هميم وهو القائل:
…………لعمر أبيك فلا تكذبن
……………………لقد ذهب الخير إلا قليلا
…………وقد فتن الناس في دينهم
……………………وخلىَّ ابن عفان شراً طويلا4556
3 ـ جرير: هو جرير بن عطية بن الخطفي التميمي البصري مدح خلفاء بني أمية، وشعره مدون4557، وقد مدح عبد الملك ووصفه بأنه ركن الدين، والحفيظ عل أحكام الشرع، ولولاه ما اجتمع المسلمون في صلواتهم في المساجد في الجمع، ثم يصفه بأنه أمين الله، والمبارك الذي يهدي به الله عباده، ويقول إن أوامره ميمونة مطاعة وإن الله فضل بني أمية على غيرهم من أهل البدع، يريد الأحزاب المعادية لبني أمية4558، حيث قال:
…………لولا الخليفة والقرآن يقرأه
……………………ما قام للناس أحكام ولا جمع
…………أنت الأمين أمين الله لا سرف
……………………فيما وليت ولا هيابة ورع4559
…………أنت المبارك يهدي الله شيعته
……………………إذا تفرقت الأهواء والشيع
…………فكل امرئ على يمن أمرت به
……………………فينا مطاع ومهما قلت يستمع
…………يا آل مروان إن الله فضلكم
……………………فضلاً عظيماً على من دينه البدع4560
…………
ومدح عبد الملك بقصيدة جاء فيها:
…………سأشكر إن رددت علي ريشي
……………………وأنبت القوادم من جناحي
…………ألستم خير من ركب المطايا
……………………وأند العالمين بطون راح
…………(2/480)
فقال عبد الملك: من مدحنا فليمدحنا بمثل هذا أو ليسكت ووهبه مائة ناقة، فسأله الرعاء، فوهبه ثمانية أعبد، ورأى صحاف ذهب بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين والمحلب4561، وأشار إليها، فنحاها إليه بالقضيب وقال: خذها لانفعتك4562. وكان في جرير على هجائه للناس عفة ودين، وحسن خلق، ورقة طبع، اتفق علماء الأدب وأئمة نقد الشعر، على أنه لم يوجد في الشعراء الذين نشأوا في ملك بني أمية أبلغ من جرير والفرزدق والأخطل وإنما اختلفوا في أيهم أشعر4563. وإن لجرير في كل باب من الشعر أبياتاً سائرة، هي الغاية التي يضرب بها المثل:
أ ـ فيقال إن أغزل شعر قالته العرب هو قوله:
………إن العيون التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيينا قتلانا
………يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به
……………………وهنَّ أضعف خلق الله إنسانا
ب ـ أفخر بيت قوله:
………إذا غضبت عليك بنو تميم
……………………رأيت الناس كلهم غضابا
جـ ـ أهجى بيت مع التصون عن الفحش قوله:
………فغض الطرف إنك من نمير
…………………فلا كعب بلغت ولا كلابا
س ـ أصدق بيت قوله:
………إني لأرجو منك خيراً عاجلاً
…………………والنفس مولعة بحب العاجل
ل ـ أشد بيت تهكما قوله:
………زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً
…………………أبشر بطول سلامة يا مربع4564
ومن جيد شعره قوله من قصيدة يرثي به امرأته:
………لولا الحياء لهاجني استعبار
…………………ولزرت قبرك والحبيب يزار
………ولقد نظرت وما تمنَّع نظرة
…………………في اللحد حيث تمكن الإحفار
………ولّهْتِ قلبي إذ علْتني كبرة
…………………وذوو التمائم من بنيك صغار
………لا يلبث القرناء أن يتفرقوا
…………………ليل يكرُّ عليهم ونهار4565
………صلى الملائكة الذين تخيَّروا
…………………والطيّبون عليكِ والأبرار
………فلقد أراكِ كسيت أحسن منظر
…………………ومع الجمال سكينة ووقار
………كانت إذا هجر الحبيبُ فرَاشَها
…………………خُزِنَ الحديث وعَفَّتِ الأَسرار4566
وكان قد افتخر على الأخطل في قصيدة وبين أن عبد الملك ابن عمه ولو شاء ساق إليه قبيلة الأخطل حيث قال:(2/481)
………إن الذي حرم المكارم تغلبا
…………………جعل النبوة والخلافة فينا
………هل تملكون من المشاعر مشعرا
…………………أو تشهدون مع الأذان أذينا؟
………مضر أبي وأبو الملوك فهل لكم
…………………يا حُرزَ تغلب من أب كأبينا
………هذا ابن عمي في دمشق خليفة
…………………لو شئت ساقكم إليَّ قطينا4567
قال الذهبي عن جرير: كان عفيفاً منيباً توفي 110هـ بعد الفرزدق بشهر4568
4 ـ الراعي: من كبار الشعراء هو أبو جندل، عبيد بن حصين النُّميري، وإنما لقب بالراعي لكثرة ما يصف الإبل في شعره، وقد امتدح عبد الملك4569، وانضم إلى الفرزدق على جرير فقال فيه جرير قصيدته المشهورة التي صارت وبالاً على بني نمير:
…………أقِلىَ اللوم عاذل والعتابا
……………………وقولي إن أصبت لقد أصابا
…وفيها يقول له:
…………فغض الطرف إنك من نُمير
……………………فلا كعباً بلغت ولا كلابا
…وأهم ما بقي للراعي لاميته التي مدح بها عبد الملك بن مروان ويشكو له العريف أو الجابي، ويرجو التخفيف عن قومه، ويتبرأ من الخوارج النجدية والزبيريين ويعد نفسه بذلك مخلصاً للأمويين4570، ويبدو الراعي كان اموياً لأجل قومه ورغبة في عبد الملك أن يرفع عن قومه ظلم الجباة ومن شعر الراعي لعبد الملك:
إنّي حلفت على يمين برَّة
…………لا أكذب اليوم الخليفة قيلا
ما إن أتيت نُجيدة بن عويمر
…………أبغي الهدى فيزيدني تضليلا4571
إلى أن قال في رواية أخرى:
……أحليفة الرحمن إنا معشر
………………حُنفاء نسجد بكرة وأصيلا
……عُربٌ نرى لله في أموالنا
………………حق الزكاة منزلاً تنزيلا
……إن السُّعاة عصوك يوم أمرتهم
………………وأتوا دواهي لو علمت وغُولا4572
……أخذوا العريف فقطعوا حيزومه
………………بالأصبحية قائماً مغلولا4573
……إن الذين أمرتهم أن يعدلوا
………………لم يفعلوا مما أمرت فتيلا
……فادفع مظالم عيَّلَت أبناءنا
………………عنا وأنقِذْ شِلْونا المأكولا4574(2/482)
هؤلاء من أشهر شعراء عهد عبد الملك وكان يهتم بهم ويسمع لهم ويجزل لهم في العطاء وكسبهم في صفه وأصبحوا من أبرز المدافعين عن الخليفة ودولته وكان لا يتورع عن دفع الأموال للشعراء ما داموا يمدحون ويبجلون خلفاء بني أمية.
الفصل الثامن
الفتوحات الإسلامية في عهد عبد الملك والوليد وسليمان
وتجدر الإشارة في هذا الفضل سوف نجمع الفتوحات في عهد عبد الملك والوليد وسليمان لكي نعطي صورة متكاملة عنها بسبب ترابطها ببعضها .
المبحث الأول : الفتوحات في بلاد الروم:(2/483)
في أواخر عام 73هـ شعر عبد الملك أن الدولة استعادت قوتها، وأنها تستطيع أن تستأنف جهادها وتعلي إرادتها، وكانت العلاقات قد ساءت بين دولة الروم والدولة الإسلامية في هذه الفترة، وأخذ الروم يتأهبون للانتقاض فكان عبد الملك لهم بالمرصاد وقد أحكم إعداده، فعين أخاه محمد بن مروان والياً على الجزيرة وأرمينية ليكون القائد في هذه الجبهة، ومنع عبد الملك إرسال النقود التي كانت يدفعها وقت الضرورة فأثار هذه حنق الأمبراطور الروماني البيزنطي، فأعلن الحرب، وقدم بجيش كبير ليغزو المسلمين من ناحية أرمينية، فلاقاه محمد بن مروان بجيشه ودارت موقعة عنيفة هزم فيها الروم على كثرة عددهم هزيمة شنيعة وفر الإمبراطور بنفسه وانفض عنه أكثر جنوده وكان ذلك عام 74هـ، فزعزعت هذه الوقعة الدولة البيزنطية4575، واستغل عبد الملك هذا النصر وواصل ضغطه على الدولة البيزنطية عبر الحدود وانتظمت غزوات الصوائف والشواتي وشرع في التوغل داخل الأراضي البيزنطية القريبة فكانت الصوائف تخرج بانتظام للإغارة على هذه الأراضي يقودها محمد بن مروان أو غيره من أمراء بني أمية. وفي عام 81هـ بعث عبد الملك ابنه عبد الله بن عبد الملك ففتح ((قاليقالا)) وهي إحدى مدن الروم الكبيرة، وفي عام 84هـ تمكن عبد الله بن عبد الملك من فتح مدينة أخرى رئيسية، داخل دولة الروم في آسيا الصغرى، وهي مدينة ((المصيصة) فبنى حصنها، ووضع بها حامية من ثلاثمائة مقاتل من ذوي البأس، ولم يكن المسلمون يسكنوها من قبل وبني مسجدها وهكذا اندفعت قوة المسلمين إلى الإمام، تفتح المعاقل وتستولي على الحصون داخل أرض العدو في دولة الروم، منذ تحققت الوحدة في عهد عبد الملك4576. ولقد أثبت عبد الملك بعد إعادة الوحدة السياسية أن الدولة وأن قوّتها الموحدة قادرة على التفوّق وإحراز السيادة، وتحقيق النصر على البيزنطيين، وأن قوتها الموحدة قادرة على الاندفاع في الجبهات كافة4577، واستمرت الجيوش(2/484)
الإسلامية في جهادها طوال مدة الوليد ثم سليمان، وقد برز مسلمة بن عبد الملك في تلك الحروب كقائد فذ، ومقاتل عظيم، فكان في كل سنة يفتح بلداً أو حصناً من الحصون العظيمة التي أقامها الروم لتأمين سلامة بلادهم والمحافظة عليها من غارات الأعداء، وكان يغزو معه هذه الغزوات ـ في عهد الوليد ـ فتح هذه الفتوح العباس بن الوليد بن عبد الملك ومن الحصون التي فتحها: حصن عمورية وهرقلية وقمونية، وحصن طوانة وسمطية والمرزبانين وطروس، وكثير غير هذه الحصون4578.
ففي جماد الآخرة سنة 88هـ ـ 707م فتح مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد حصن طوانة وشتوا بها، وهزم المسلمون الأعداء حتى صاروا إلى كنيستهم ثم رجعوا فانهزم الناس، وبقي العباس ومعه نُفير، منهم ابن محيريز الجُمحي، فقال العباس لابن محيرز: أين أهل القرآن الذين يريدون الجنة؟ فقال ابن محيريز: نادهم يأتوك. فنادى العباس: يا أهل القرآن، فأقبلوا جميعاً فهزم الله العدو حتى دخلوا طوانة4579. وهكذا لا تمر سنة وإلا ويغزو المسلمون أرض الروم ويستولون على بعض حصونهم ومعاقلهم، ومن الجدير بالذكر أن معظم الذين كانوا يقودون هذه الحملات هم من أبناء البيت الأموي، أولاد الخليفة الوليد نفسه وأخوه مسلمة الذي لم يكد يتخلف سنة واحدة عن غزو أرض الروم، وهذا أمر له مغزاه فقد كان مسلمة هو الذي قاد الجيش الذي حاصر القسطنطينية الحصار الأخير في عهد سليمان ـ كما سنذكر قريباً بإذن الله ـ ومعنى هذا أن اشتراكه المستمر في غزو بلاد الروم كان مقصوداً ليزداد معرفة وخبرة بالطرق والمسالك إلى عاصمة البيزنطيين، التي كانت إحدى الأهداف الرئيسية من هذه الغزوات4580.
أولاً : البيزنطيون يرصدون تحركات المسلمين العسكرية:(2/485)
من الطبيعي أن تكون عيون البيزنطيين دائماً مفتوحة على حدودهم مع المسلمين، فجبهة الحدود دائماً ملتهبة والغزو الإسلامي لا يكاد يتوقف ولكي يتأكد البيزنطيون من نوايا المسلمين وأهدافهم من وراء هذا النشاط العسكري المستمر، أرسل الإمبراطور البيزنطي انسطاس 713 ـ 716م سفارة إلى دمشق لتستطلع الأخبار عن كثب، وتعرض على الخليفة الوليد مشروع عقد هدنة بين الدولتين، ولما وصلت السفارة البيزنطية إلى دمشق، شاهدت عظمة المسلمين في عاصمتهم ونشاط الخليفة في إعداد الجيوش لتوجيهها إلى القسطنطينية وعاد السفير إلى الإمبراطور يؤكد صدق عزيمة المسلمين على الجهاد وينصح بضرورة إتخاذ الإحتياطات اللازمة للدفاع عن العاصمة فأخذ اسنطاس برأي سفيره، وأعلن في القسطنطينية أخبار الحملة الإسلامية المنتظرة، وأمر كل فرد أن يخزن لنفسه مؤونة تكفيه ثلاث سنوات وأن يخرج من المدينة كل معوز وغير قادر على تدبير مؤونته، ثم ملأ الخزائن الإمبراطورية بكميات كبيرة من القمح وغيره من الحاجيات التي يتطلبها المدافعون عن المدينة، واهتم كذلك بتجديد أسوار المدينة لاسيما الجهات المطلة منها على المياه، حيث كان التداعي قد دب فيها، ووضع على الأسوار البرية كل الآلات الحربية من المجانيق وغيرها من وسائل الدفاع4581، وبينما يمضي الخليفة الوليد في استعداداته للزحف على العاصمة البيزنطيين إذ وافته منيته سنة 96هـ، فخلفه أخوه سليمان ليواصل جهوده في هذا الميدان4582.
ثانياً : سليمان بن عبد الملك وحصاره للقسطنطينية:(2/486)
يبدو أن اهتمام الخلفاء بفتح القسطنطينية، إنما يرجع لرغبتهم الشديدة في أن يكونوا المقصدوين بقوله عليه الصلاة والسلام: لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش4583، ويضاف إلى ذلك رغبة سليمان الشديدة، في وضع حد للهجمات البيزنطية المتكررة على الشواطئ الشامية والمصرية، والتي من شأنها بث حالة من عدم الاستقرار في تلك النواحي وبالتالي المساس بسيادة الدولة الإسلامية، فقد هاجم البيزنطيون ساحل جند حمص، وسبوا ((امرأة وجماعة))، وللمرأة فيهم ذكر إذ ذاك، فغضب سليمان وقال: ما هو إلا هذا نغزوهم ويغزوننا والله لأغزونهم غزوة أفتح فيها القسطنطينية، أو أموت دون ذلك4584.
1 ـ الاستعداد للحملة:
شملت الاستعدادات للحملة معظم العالم الإسلامي، فقد ضمت الحملة البرية نحو مائةً وعشرون ألفاً من الشام والجزيرة والموصل وضمت الحملة البحرية ألف مركب من أهل مصر وإفريقيا4585ويبدو أن تقدير المسلمين بحصانة القسطنطينية، وطول أمد الحرب، تقدير سليم وقوي، حيث أنهم أدركوا أن حصارها يتطلب قوات كبيرة ووقتاً طويلاً وأسلحة متنوعة لذلك جمعوا: آلات الحرب للصيف والشتاء والمجانيق والنفط وغير ذلك4586.
2 ـ سير الحملة:(2/487)
…تجاذبت قادة المسلمين العسكريين خطتان حول سير الحملة، الأولى طرحها موسى بن النصير، وفحواها أن على المسلمين احتلال المدن والحصون التي دون القسطنطينية، لتجريدها من المواقع الحصينة المحدقة بمسالكها، والتي قد تعيق حركة الجيش الإسلامي، ويستمر الأمر بهذه الخطة حتى تفتح القسطنطينية، وأما الخطة الثانية، فطرحها مسلمة بن عبد الملك والذي ارتأى أن إتباع خطة موسى، يحتاج إلى أمد بعيد جداً حتى يتحقق حصار القسطنطينية، وفتحها، لذلك أشار بضرورة التوجه مباشرة إلى القسطنطينية دون التعرض للمدن والحصون المحدقة بجانبي الطريق إلا ما كان ضرورياً، ويبدو أن رأي مسلمة لقي قبولاً لدى الخليفة ومستشاريه العسكريين لذلك تقرر سير الحملة حسب خطته4587، وسار سليمان من القدس إلى دمشق ومضى حتى نزل دابق4588، وأقسم ألا ينتقل منها حتى يفتح القسطنطينية، فأقام بها4589، وفي سنة 98هـ تحركت الحملة بقيادة مسلمة بن عبد الملك من سوريا براً، وبحراً باتجاه القسطنطينية واستمر مسلمة في سيره ووصلت الحملة البرية القسطنطينية عام 98هـ ووصلها الأسطول في عام 99هـ، وضرب المسلمون الحصار على المدينة، وقاتلوا الروم قتالاً شديداً واستبسلوا في جهادهم، ورغم المصابرة التي استمرت قرابة سنة، فإن المحاولة فشلت وخسر المسلمون خسارة كبيرة في العدد والعدة4590، وقد وصفت المصادر الإسلامية الحالة السيئة، التي آل إليها الجيش الإسلامي في الفترة الأخيرة من الحصار، فالبسوي يقول: وقد كان الناس لقوا جهداً من القسطنطينية من الجوع4591، ويقول الطبري: فلقي الجند ما لم يلق جيش، حتى أن كان الرجل ليخاف أن يخرج من العسكر وحده، وأكل الدواب والجلود وأصول الشجر والورق وكل شيء غير التراب4592، كما أن البيزنطيين داخل القسطنطينية كانوا في حالة سيئة أيضاً ولعل من الشواهد التاريخية على ذلك ما يأتي:(2/488)
أ ـ إن مخاطرة السفن البيزنطية في الخروج لجلب القمح من شواطئ البحر الأسود وخروج المراكب الصغيرة لجلب الطعام، وصيد الأسماك، دليل قوي على الضنك الاقتصادي عند أهل القسطنطينية بالرغم من إنكسار حدة القتال.
ب ـ سعي البيزنطيين إلى عقد صلح مع مسلمة، حيث عرض بطريقهم، دفع دينار عن كل رجل محتلم في القسطنطينية دليل، آخر على سوء الأوضاع الداخلية.
ج ـ الصلح الذي تم إبرامه بين المسلمين والبيزنطيين، قبيل إنسحاب الجيش الإسلامي، وتعهد البيزنطيين بموجبه المحافظة على المسجد الذي بناه مسلمة4593.
3 ـ انسحاب الجيش الإسلامي:
…لما مات سليمان بن عبد الملك تولى عمر بن عبد العزيز أمر الخلافة، فوجه إلى مسلمة وهو محاصر للقسطنطينية وأمره بالقفول منها بمن معه من المسلمين، ووجه إليه خيلاً عتاقاً وطعاماً كثيراً وحث الناس على معونتهم، وكان عدد الخيل التي وجهها لمسلمة خمسمائة فرس4594، لأنه كان قد أصاب المسلمين مجاعة فقواهم بذلك4595، وكان قرار عمر بن عبد العزيز بانسحاب مسلمة حصيفاً صائباً، لا لأنَّ عمر غير مبال إلى حروب الفتح والاستيلاء4596 بل لأنّ موقف المسلمين المحاصرين للقسطنطينية كان ميئوساً منه، فأمر بانسحابهم حقناً لدمائهم، بعد أن بلغ بهم الجهد4597، إذ لم يغفل عمر أبداً عن غزو الروم دفاعاً عن حدود أرض الشام الشمالية الغربية4598 لقد أحسن عمر بن عبد العزيز في قراره بانسحاب المسلمين عن القسطنطينية، لأن الموقف العسكري كان يتطلب إصدار مثل هذا القرار، ولو كانت كفة المسلمين راجحة في حينه لكان من المستحيل عليه الأمر بانسحاب المسلمين، ولكن هناك مسوِّغ للإدعاء بأن عمر بن عبد العزيز غير ميال لحروب الفتح دون تمحيص للموقف العسكري الراهن4599.
4 ـ أسباب فشل الحملة:(2/489)
أ ـ غدر وخيانة: تناولت الأخبار غزوة القسطنطينية وذكرت أن ليو حاكم ـ بطريق ـ عمورية اتصل بسليمان بن عبد الملك وحرّضه على حرب تيودوسيوس ـ تيدوس ـ ووعد ليون سليمان أن يقف إلى جانب المسلمين ويسلمَّهم أرض الروم، وقيل الذي عرض التحالف على الآخر هو سليمان بن عبد الملك، وقيل مسلمة بن عبد الملك عرض ذلك أثناء حصار القسطنطينية وهو يتظاهر أمام مسلمة أنه يحاول إقناعهم في النزول على رغبة مسلمة، وكان مسلمة حسب هذه الأخبار طلب إليهم ليرحل عنهم أن يملَّكوا حليفه ليو عليهم، وأما ليو فكان في حقيقة الحال يطلب الملك لنفسه ويريد أن ينقذ البلد من خطر المسلمين، ولما أطمأن الأساقفة والبطارقة إليه وحلف لهم انقادوا له واستوى له الأمر، فخرج إلى مسلمة وأشار عليه أن يحرق ما عنده من الطعام لييأسوا من المطاولة ويصح عندهم عزم مسلمة على المناجزة فيعطوا ما بأيديهم، وقيل أشار عليه أيضاً أن يأذن لأهل القسطنطينية لليلة واحدة أن يحملوا مما عنده من الغلال ليروا حسن رأيه فيهم وأن أمره وأمر ليو واحد وانطلت الخديعة على مسلمة وأطاع ليو، وأما ليو فقد استولى على الحكم وأعلن الحرب على مسلمة في الوقت الذي صار مسلمة في حال لا يحسد عليه من سوء الأحوال الجوية وقلة الميرة لجنده حتى لقوا من الشدة ما لم يلق أحد قط، واضطروا إلى أكل الدواب والجلود والميتة وأصول الشجر وغير ذلك4600، وخلاصة القول، أن هذه الأخبار تلقي مسئولية الفشل على عاتق مسلمة بن عبد الملك الذي كان عندها شجاعاً فحسب ولم يكن من ذوي الرأي والبصيرة في الحرب، ولم يكن له رأي فيها يرجع إليه4601، ولو صدقنا هذه الأخبار لكانت الدولة أي سليمان بن عبد الملك ابتداء، ومسلمة بن عبد الملك قائد الجيوش تالياً ربطا مصير فتح القسطنطينية ومصير الجند المسلمين هناك بوعود شخص هو ليو مظنة كذب وخديعة، وهو حال يتناقض واستعدادات الدولة في هذا الوجه4602، وقد علق الأستاذ محمود شيت خطاب على(2/490)
حصار القسطنطينية فقال: وإذا كان هناك ما يلام عليه مسلمة في معركة حصار القسطنطينية فهو عدم استفادته كما ينبغي من الصفة الأولى من صفات حصار ((القسطنطينية)) وهي صفة ((المبادرة)) في التركيز بالهجوم على المدينة المحاصرة وإدامة زخم الهجوم عليها أولاً، وثقته غير المحدودة بحليفه ((ليو)) لأن الذي يخون بلاده وقومه أولى به أن يخون غير بلاده وغير قومه، فكانت هذه الثقة العمياء في هذا العميل لا مسوِّغ لها ثانياً، فالحرب من القضايا المصيرية، ولا بدّ من إدخال أسوأ الاحتمالات في كلِّ ما يؤَّثر في نتائجها من قريب أو بعيد4603.
ب ـ ضراوة الشتاء: بخصوص ضراوة الشتاء عام 99هـ قيل أن الثلج غطى وجه الأرض، وهلك فيه كثير مما كان مع المسلمين من الجمال والخيل والبغال ولابدّ أن المسلمين في هذه الأحوال الجوية القاسية أتوا على أكثر ما كان معهم من الطعام وأصبحوا في نقص من الميرة وعضّهم الجوع، ولذلك قيل، استطاع ليو أن يفخر بأن ديسمبر (كانون الأول) ويناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) كانوا أعظم قواده4604.
ت ـ مناعة أسوار المدينة وتحصيناتها الدفاعية:
…أخذ حكام بيزنطة في تحصين أسوار القسطنطينية وتسليحها بالمجانيق، منذ علموا بعزم المسلمين على غزوها، وزادها ليو الذي تقلد الحكم فيها زمن الحصار تحصناً، وأمر حكام بيزنطة بتخزين الطعام بالقدر الذي يكفي أهلها لثلاث سنوات ومنعوهم من أن يغادروها4605.
ج ـ استخدام سلاح جديد ضد المسلمين: ((النار الإغريقية)):(2/491)
…استخدم البيزنطيون النار اليونانية فأثرت في جيش المسلمين وكبّدتهم خسائر في الأرواح والسفن والمعدات وتاريخ الحرب في جميع العصور يقرر إن من أهم أسباب عوامل النصر هو استخدام سلاح فتاك جديد لا يتوقعه الخصم أو استخدام أسلوب قتالي جديد لا يتوقعه الخصم، أو إستعمالهما معاً في الزمن والمكان المناسبين بشكل لا يتوقعه الخصم، وكل ذلك يباغت هذا الخصم ويربك قيادته وخطته المرسومة والمباغتة كما هو معروف هي أهم مبادئ الحرب على4606 الإطلاق ومن الإنصاف أن نضيف إلى عوامل انتصار الروم في الدفاع عن القسطنطينية عاملاً آخر هو: كفاية (ليو الثالث) المتميزة في القيادة، وتشبعه بمزية إرادة القتال4607.
س ـ التيارات المائية: واجه المسلمون في البحر صعوبات كثيرة فقد جعلت التيارات المائية المنحدرة من البحر الأسود إلى بحر مرمرة حركة السفن الإسلامية بطيئة، وأدى تغير الريح إلى اضطرابها، ونالت النار الإغريقية منها وألحقت بها أضراراً كثيرة4608.
ش ـ المصالحة بين البيزنطيين والبلغار والخزز:
…صالح ليو الحاكم البيزنطي إعداءه الخارجين عليه من الخزر والبلغار، وبذلك ضمن الجبهة الشمالية مما جعله يصب جل إهتمامه على القوات الإسلامية لغرض تدميرها وإيقاف زحفها على المدينة4609.
ك ـ الاستعجال وعدم التريث:
…ويبدو أن المسلمين لو تريثوا حتى أتموا فتح البر الآسيوي البيزنطي، ثم تقدموا إلى القسطنطينية من مواقع مجاورة وبأحوال جوية مماثلة ومألوفة للمقاتلة وخطوط ومواصلات قصيرة وإمدادات قريبة وأعداد بشرية كثيرة فربما وجدوا المهمة أيسر، ولكنهم عمدوا إلى صقع من البلاد في محيط من الأعداء حصين وبعيد فاستعصى عليهم4610.
و ـ ضعف خبرة مسلمة العسكرية:
…كان مسلمة بن عبد الملك القائد الأموى في حصار القسطنطينية صغيراً في السن واقل تجربة من عظماء الفتح الإسلامي في ذلك العهد مما أثر في فشل الحصار.(2/492)
5 ـ نتائج الحملة: ترتب على حملة القسطنطينية العديد من النتائج ولعل من أبرزها ما يلي:
أ ـ تأكد للمسلمين أنهم لا يستطيعون فتح القسطنطينية دون فتح المناطق المجاورة لها، وتثبيت أقدامهم فيها حتى تكون عوناً لهم، لا عليهم في حالة حصار القسطنطينية، وبالرغم من ذلك فقد كانت للمسلمين سيطرة واضحة على العديد من موانئ البحر الأبيض المتوسط خاصة في حوضه الغربي.
ب ـ تخلي أباطرة البيزنطيين عن فكرة استعادة شمال إفريقيا، وعدوا الدفاع عن هذه المنطقة في المرتبة الثانية، بعد الدفاع عن عاصمتهم، وبالتالي أصبحت منطقة شمال إفريقيا ركناً هاماً من أركان الدولة الإسلامية قوية الأوتاد4611.
جـ ـ ولعل من أهم النتائج المباشرة لغزو القسطنطينية، ازدياد نشاط الأسطول البيزنطي في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط فقد هاجم البيزنطيون بالإغارة على تِنِّيْس4612 في خلافة يزيد بن عبد الملك4613.(2/493)
6 ـ من خطب عبد الملك في التحريض على قتال الروم: وفي عهد عبد الملك عندما علم بتحرك الروم بأرض القسطنطينية وغيرها من بلاد الروم على غزو المسلمين ومفاجأتهم نادى بالنفير العام وحين اجتمع لديه جند المسلمين قام فيهم محرضاً فقال لهم بعد أن حمد الله عز وجل وأثنى عليه: أيها الناس إنكم قد علمتم ما ذكر الله عز وجل في كتابه من فضل الجهاد وما وعد الله عليه من الثواب ألا وأني قد عزمت أن أغزو بكم غزوة شريفة على أليون صاحب الروم فإنه طغى وبغى وقد بلغني أنه قد جمع للمسلمين جموعاً كثيرة وعزم على غزوكم ومفاجأتكم في دياركم وقد علمت أن الله تعالى مهلكه ومبدد شمله وجاعل دائر السوء عليه وعلى أصحابه وقد جمعتكم من كل بلد وأنتم أهل البأس والنجدة، والشجاعة والشدة وأنتم من قام لله بحقه ولدينه بنصرته وهذا ابني مسلمة وقد أمرته عليكم، فاستمعوا له وأطيعوا يوفقكم الله ويرشدكم لصالح الأمور فقال الناس جميعاً سمعاً وطاعة يا أمير المؤمنين4614، وعندما سير عبد الملك بن مروان ابنه مسلمة لمحاربة الروم أوصاه بالعسكر بقوله: فكن يا بنيَّ بالمسلمين باراً رحيماً وأميراً حليماً ولا تكن عنيداً كفوراً ولا مختالاً فخوراً4615، كما أوصى عبد الملك قائداً آخر سيره إلى أرض الروم: أنت تاجر الله لعباده فكن كالمضارب الكيس الذي إن وجد ربحاً تاجر، وإلا احتفظ برأس المال ولا تطلب الغنيمة حتى تحرز السلامة وكن من احتيالك على عدوك أشد حذراً من احتيال عدوك عليك4616.
7 ـ من أشهر قادة المسلمين ضد الروم: مسلمة بن عبد الملك:(2/494)
…مسلمة بن عبد الملك الأمير الضرغام، قائد الجيوش، أبو سعيد الأموي الدمشقي، ويلقب بالجرادة الصفراء4617، له مواقف مشهودة مع الروم، وهو الذي غزا القسطنطينية وكان ميمون النقيبة، وقد ولى العراق لأخيه يزيد ثم أرمينية4618، قال عنه الذهبي: كان أولى بالخلافة من سائر أخوته4619، وقد ظهرت مزايا مسلمة وألمعيته مبكراً وهو صغير السن، فركز أبوه عبد الملك عليه وبخاصة في وصيته أبناءه وبنيه وهو على فراش الموت فقال فيه:.. وانظروا مسلمة فاصدروا عن رأيه، فإنه نابكم الذي عنه تفترون ومِجّنَّكم الذي عنه ترمون4620. فهو قائد من قواد الفكر وقائد من قادة الجهاد بالنسبة لبني أمية، لا يخالفون له رأياً، ولا يعصون له أمراً، ويلجأون إليه في أيام المحن والحروب4621، ومسلمة هذا عُرف في التاريخ مع قصة صاحب النقب، حيث حاصر مسلمة حصناً، فندب الناس إلى نَقْب منه، فما دخله أحد فجاء رجل من عُرض الجيش، فدخله ففتحه الله عليهم: فنادى مسلمة: ((أين صاحب النِّقب؟)) فما جاء أحد. فنادى: إني قد أمرت الأذن بإدخاله ساعة يأتي، فعزمت عليه إلا جاءا فجاء رجل فقال: استأذن لي على الأمير. فقال له: أنت صاحب النِّقب؟ قال: أنا أخبركم عنه، فأتى مسلمة فأخبره عنه، فإذن له، فقال: إن صاحب النِّقب يأخذ عليكم ثلاثاً: ألا تسودوا إسمه في صحيفة إلى الخليفة، ولا تأمروا له بشيء، ولا تسألوه: ممن هو؟ قال مسلمة: فذاك له، قال: ((أنا هو)). فكان مسلمة لا يصلي بعدها إلا قال: اللهم أجعلني مع صاحب النقِّب4622. وكان مسلمة في جهاده يحرص على سلامة جنده وفي قتاله للخزر، تكالب عليه الأعداء مما اضطره إلى خداعهم بإشعال النيران ليوهمهم بمكوثه وجعل خيامه مضروبة بعد العشاء الآخرة جعل مسلمة يطوي المراحل طياً في العودة فقد جعل كل مرحلتين في مرحلة غير أنه قدم الضعفاء بين يديه واهتم بهم وجعل الأقوياء أهل الجلد والشجاعة على الساقة، فلم يزل كذلك حتى جاوز الخطر4623. وكان(2/495)
يمقت العجز ويمدح الحزم، فقد قال: ما حمدت نفسي على ظفر ابتدأته بعجز ولا ذممتهما على مكروه ابتدأته بحزم4624، ومن أقواله في الزهد: إن اقل الناس هماً في الدنيا أقلهم هماً في الآخرة4625. وكانت تجربته العملية غنية إلى أبعد الحدود، فقد شهد كيف تدار الدولة على أعلى المستويات مع أبيه عبد الملك بن مروان ومع إخوته من بعده، وكان الخلفاء من إخوته يحرصون على أن يبقى إلى جانبهم مستشاراً يتعلمون منه أكثر مما يتعلم منهم إلا إذا حزبهم أمر يهدد أمن الدولة ومصيرها تهديداً خطيراً، فيبعثونه، ليقضي على الثورات، وليقمع الإضطرابات، وليعيد الأمن والاستقرار4626. وكان مسلمة مخلصاً غاية الإخلاص لبني أمية ويدين بالولاء المطلق للخلفاء، ولم يكن يطمح لتولي الخلافة لأن بني أمية لم يكونوا يبايعون لبني أمهات الأولاد، ولم يكن لعبد الملك بن مروان ابن أسدَّ راياً ولا أذكى عقلاً، وأشجع قلباً، وأسمح نفساً ولا أسخى كفاً من مسلمة، وإنما تركوه لهذا المعنى4627. وكانت بني أمية لا تستخلف بني الإماء، وقالوا: لا تصلح لهم العرب4628. ولم يكن لمسلمة أمل في تولي الخلافة مع أنه ـ كما قال الذهبي ـ: كان أحق بالملك من سائر إخوته4629. وكان ذا عقل راجح ورأي سديد يحولان بينه وبين مغامرة تشق صفوف المسلمين، وكان بحق من أكثر الناس حرصاً على رص الصفوف والوحدة، كما أنه كان يعتبر الخلافة (وسيلة) من أجل خدمة الأمة لا (غاية) من أجل أطماع شخصية، وأمجاد أنانية، وهو بحق خدم الأمة أجل الخدمات، وبذلك حقق (الوسيلة) واستغنى عن (الغاية)4630، وكان رحمه الله جميل الصورة حسن الوجه صبيحاً، من أجمل الناس وهو معدود من الطبقة الرابعة من تابعي أهل الشام4631، توفي 120هـ4632.(2/496)
8 ـ أبو محمد البطال: كان من أبطال المسلمين وأمرائهم الشاميين وكان مع جيش مسلمة بن عبد الملك وكان مقره بإنطاكية أوطأ الروم خوفاً وذلاً. ولكن كذب عليه أشياء مستحيلة في سيرته الموضوعة، وعن عبد الملك بن مروان أنه أوصى مسلمة أن صير على طلائعك البطال ومره فليعس بالليل، فإنه أمير شجاع مقدام4633، وعقد مسلمة للبطال على عشرة آلاف وجعلهم طلائع للجيش4634، ومن نوادر ما يحكى عن البطال أنه قال: اتفق لي إنا أتينا قرية لنغير، فإذا بيت فيه سراج وطفل صغير يبكي، فقالت أمه أسكت، أو لأدفعنك إلى البطال فبكى وقالت: خذه يا بطال فقلت: هاتيه: وجرت له أعاجيب وفي الآخر أصبح في معركة مثخوناً وبه رمق فجاء الملك ليون، فقال: أبا يحي، كيف رأيت؟ قال: وما رأيت؟ كذلك الأبطال تقتل ولا تُقتل، فقال: عليَّ بالأطباء، فأتوا فوجوده قد أنفذت مقاتله،، فقال: هل لك حاجة؟ قال: تأمر من يثبت معي بولايتي وكفني والصلاة عليَّ ثم تطلقهم، ففعل، قتل 112هـ وقيل 113هـ4635. قال عنه ابن العماد:.. وله حروب ومواقف ولكن كذبوا عليه، فأفرطوا، ووضعوا له سيرة كبيرة، تقرأ كل وقت، يزيد فيها من لا يستحي من الكذب4636
9 ـ عامر الشعبي سفير عبد الملك لعظيم الروم:
…وجه عبد الملك بن مروان الشعبي إلى ملك الروم ـ يعني رسولاً ـ فلما انصرف من عنده قال: يا شعبي، أتدري ما كتب به إليّ ملك الروم؟ قال: وما كتب به يا أمير المؤمنين؟ قال: كنت أتعجب لأهل ديانتك، كيف لم يستخلفوا عليهم رسولك. قلت: يا أمير المؤمنين لأنه رآني ولم يرك، وفي رواية: يا شعبي، إنما أراد أن يغريني بقتلك. وبلغ ذلك ملك الروم فقال لله أبوه، والله ما أردت إلا ذاك4637. وفي هذا ما يدل على أن الروم لم تكن نياتهم سليمة مع المسلمين حتى في زمن السلم والمراسلات وعقود الصلح، وأنهم يستخدمون الكيد والمكر لشق الصفوف، والتخلص من الأفذاذ.
المبحث الثاني : الفتوحات في الشمال الإفريقي والأندلس:(2/497)
أولا: فتوحات حسان بن النعمان الغساني:
استشهد زهير البلوي وأصحابه في معركة مع البيزنطيين في مدينة درنة بشرق ليبيا ودفن مع أصحابه، وقبورهم هناك معروفة إلى اليوم تسمى مقبرة الشهداء وكان ذلك 71هـ4638، وكان وقع استشهاد زهير بن قيس البلوي ورفاقه عظيماً على الخليفة عبد الملك بن مروان لذلك ما إن انتهى من حربه مع ابن الزبير حتى أولى اهتماماً خاصاً إلى الوضع في شمال إفريقيا، لذلك نراه يجهز جيشاً كبيراً قوامه نحو أربعين ألف مقاتل غالبيتهم من أهل الشام، وعهد بقيادته إلى حسان بن النعمان الغساني الذي كان رجلاً ورعاً تقياً يدل على ذلك تسميته بـ((الشيخ الأمين))4639، وقد أقر الخليفة حسان بن النعمان أن يقيم بمصر استعداداً لإنجاز مهمته وكتب إليه: إني قد أطلقت يدك في أموال مصر، فأعط من معك ومن ورد عليك من الناس، وأخرج إلى جهاد إفريقيا على بركة الله4640. وقد وصف ابن الأثير عظمة هذا الجيش من حيث تعداده وعدته بقوله: لم يدخل إفريقيا جيش مثله4641، وكان بداية الغزو في عام 74هـ4642، وقد تمكن هذا الجيش من فتح المناطق التي مر بها وكان على مقدمته كل من محمد بن أبي بكير وهلال بن ثروان اللواتي4643 ووجود هذا الأخير كقائد على مقدمة الجيش حسان يشير إلى مشاركة البربر بشكل كبير في هذه الحملة4644.
1 ـ فتح قرطاجنة:(2/498)
…وصل حسان القيروان ودخلها دون أن يواجه أي مقاومة ثم توجه بعد ذلك إلى الشمال حيث قرطاجنة القاعدة البيزنطية على الساحل4645، وسار حسان إلى قرطاجنة وكان صاحبها أعظم ملوك إفريقية، فلما وصل إليها رأى بها من الروم والبربر ما لا يحصى كثرة4646، ولم تطل المعركة مع البيزنطيين ودخل حسان قرطاجنة عنوة، ولم يكد حسان ينصرف منها عائداً إلى القيروان حتى عاد أهلها للاعتصام بها مرة أخرى، مما اضطر حسان لفتحها مرة الثانية4647، فهدم المسلمون ما أمكنهم منها4648، لكي لا يعود إليها من يطمع بالتحصن بها. ثم أعقب حسان حملته هذه بحملة على ططفورة وبنزرت فافتتحها ولم يتبع المنهزمين من الروم الذين تحصنوا في مدينة باجة ولا البربر الذين تحصنوا في مدينة بونة4649. وعاد حسان إلى القيروان، لأن الجراح قد كثرت في أصحابه فأقام بها حتى صحوا4650.
2 ـ هزيمة حسان أمام الكاهنة:(2/499)
…وبعد ضرب الروم التفت حسان إلى زعامة البربر، فقال: دلوني على أعظم من بقي من ملوك إفريقية؟ فدلوه على إمرأة تملك البربر وتعرف بالكهانة4651، والتقى حسان بن النعمان بالكاهنة عند نهر يدعى نيني أو مسكيانة على مرحلة من باغاي ومجانة فانتصرت الكاهنة وقتل من المسلمين خلق كثير وانسحب حسان إلى قابس4652، وقامت الكاهنة بالهيمنة على المغرب كله بعد حسان خمس سنين، فلما رأت إبطاء العرب عنها قالت: إن العرب إنما يطلبون من إفريقية المدائن والذهب والفضة ونحن إنما نريد منها المزارع والمراعي فلا نرى لكم إلا خراب بلاد إفريقية كلها، حتى ييأس منها العرب فلا يكون لهم رجوع إليها إلا آخر الدهر4653، واستجاب لها قومها من جراوة الذين كان يغلب عليهم الطابع البدوي فذهبوا إلى كل ناحية يقطعون الشجر، ويهدمون الحصون4654.. فكانت إفريقية من طرابلس إلى طنجة ظلا وقرى متصلة فأخرجت جميع ذلك4655، وقد أضر هذا التخريب بالبرانس والأفارقة حتى ألجأهم إلى الفرار وطلب المساعدة، وخرج يومئذ من النصارى والأفارقة خلق كثير مستغيثين مما نزل بهم من الكاهنة، فيتفرقوا على الأندلس وسائر الجزر البحرية4656، وملكت الكاهنة إفريقية وأساءة السيرة في أهلها وعسفتهم وظلمتهم4657.
3 ـ استعادة البيزنطيين قرطاجنة وانسحاب حسان إلى سرت بليبيا:(2/500)
…كان لسقوط قرطاجنة بيد المسلمين أثر بالغ على البيزنطيين ووجدوا في خروج حسان من إفريقية والفوضى التي عمّت البلاد مجالاً لإعادة نفوذهم في الشمال الإفريقي، فجهز الإمبراطور ليونتوس ـ الذي خلف جستنيان الثاني ـ سنة 695م حملة كبيرة بقيادة البطريق يوحنا إلى إفريقية وأعد أسطولاً كبيراً لنقل الجند إليها، فتمكنت القوة البيزنطية من استعادة قرطاجنة سنة 78هـ، دون مقاومة تذكر واضطر أبو صالح نائب حسان عليها أن ينسحب منها مع من كان معه من المسلمين ودخلها البطريق يوحنا4658، ويتضح من دراسة حركة الفتح أن مصير المغرب كان مرتبطاً إرتباطاً وثيقاً بالأوضاع في المشرق وأقام حسان في منطقة طرابلس قرب سرت في المكان المسمى قصور حسان خمس سنين، وحين استقرت الأوضاع في المشرق سارع عبد الملك بإرسال المدد إلى حسان وأمره بالمسير إلى إفريقية في أواخر سنة 81هـ4659.
4 ـ مقتل الكاهنة: 82هـ
…كان خالد بن يزيد العبسي أسيراً عند الكاهنة، فأرسل إلى حسان: إن البربر متفرقون لا نظام لهم ولا رأي عندهم فأطوي المراحل وجد في السير4660. ودارت المعركة بين الكاهنة وحسان على مقربة من قابس وانتهت بنصر كبير للمسلمين، وبمقتل الكاهنة عند بئر سمي بئر الكاهنة4661، وبعد هذا الانتصار عاد حسان إلى القيروان في سنة 82هـ، ومنها زحف إلى قرطاجنة وأعاد فتحها4662. وبهذا النصر المزدوج خلصت أرض إفريقية للمسلمين، تلت ذلك فترة استقرار ثم انطلاق لفتح ما تبقى من المغرب4663.
5 ـ سياسة حسان مع البربر:
أ ـ إدخالهم في قيادة الجيوش:(3/1)
…نهج حسان نفس السياسة التي سار عليها أبو المهاجر وهي تأليف البربر وإشراكهم في الفتوح ولعله توسع في ذلك بإدخالهم في الجيش على نطاق واسع4664، فكانت سياسته خطوة كبيرة في اكتساب ولاء البربر وإخلاصهم، ففي حملته الأولى عين هلال بن شروان اللواتي قائداً على مقدمته مع اثنين من العرب هما محمد بن بكير وزهير بن قيس4665، كما استعان بالبربر كعيون فقد أرسل أحد رجالهم الذي أسلم طوعاً ليأتيه بالأخبار عما يجري في معسكر الكاهنة4666، ورحب بولدي الكاهنة وولى أكبرهما قيادة الجيش في منطقة الأوراس واثقاً بإخلاصه وحسن إسلامه مما أدى إلى إسلام نفر كبير من البتر4667. ويبدو نجاح سياسته من استغاثة أهل قابس وقفصه وأهل نقراوة به فسره ذلك4668.
ب ـ المساواة بين البربر والعرب المسلمين:
…حين جند حسان البربر ساوى بينهم وبين العرب المسلمين وذلك وفقاً لمبادئ المساواة في الإسلام، ففرض لهم ومنحهم نصيبهم من الغنائم4669. ثم خطا خطوى كبرى بأن قسم المغرب خططاً للبربر4670. ويبدو أن حساناً اعتبر أرض المغرب أرضاً أسلم عليها أهلها4671.
ج ـ الاهتمام بالتنظيم الإداري:
…كان حسان قد اعتنى بالتنظيم الإداري في المغرب خلال مدة إقامته (82هـ ـ 86هـ). فقد أنشأ الديوان أو ديوان الجند، وهو سجل يحفظ فيه أسماء المقاتلين وأنسابهم وصفاتهم ومقدار أعطياتهم، ونظم ديوان الخراج بأن عني بتحديد الجزية والخراج. يقول ابن عذاري فدون الدواوين وصالح على الخراج وكتبه على عجم إفريقية وعلى من أقام معهم على دين النصرانية4672، وكان عامتهم من البرانس إلا قليلاً من البتر4673.(3/2)
…وقام حسان ببناء دار لصناعة السفن، وأنشأ مدينة إسلامية ثانية وهي تونس أصبحت رباطاً يحمي القيروان ومحرساً للبحر وميناء جديداً للبلاد. وصارت تونس ثانية العواصم الإفريقية حين أولاها حسان اهتمامه4674، واهتم بالقيروان فجدد بناء مسجدها أحسن مما كان عليه أيام عقبة4675، واهتم بتعليم البربر مبادئ الإسلام، وترك معهم ثلاثة عشر رجلاً من علماء التابعين يعلمونهم القرآن وشرائع دينهم4676،، وبث الدعاة في مختلف القبائل لنشر الإسلام بين البربر، فبنوا المساجد، واستلموا المنابر ومن ذلك بناؤهم لمسجد أغمات سنة 85هـ4677، وانتشرت الكتاتيب لتعليم أولاد المسلمين مبادئ القراءة والكتابة4678
6 ـ عزل حسان عن ولاية إفريقية:
…في سنة 85هـ عزل حسان بن النعمان من قبل والي مصر عبد العزيز بن مروان، ويذكر أن خلافاً نشب بين حسان وعبد العزيز على ولايتي برقة وطرابلس أثر تعيين عبد العزيز والياً منفصلاً عليها، فلم يوافق حسان على هذا الأمر4679، ويبدو أن المشكلة هي أن حسان رأى أنه تابع للخليفة مباشرة وأن إفريقية ولاية4680، بينما رأى أمير مصر أنها تابعة له وأن حسان يجب أن يراجعه ولذلك أخذ أغلب الغنائم والهدايا الثمينة التي كان حسان ينوي أن يحملها إلى الخليفة في دمشق، فحين وصل حسان إلى دمشق شكاه للخليفة وأعطاه ما تبقى من الغنائم4681، وواضح من شكوى حسان أنه يرى أن عبد العزيز يتهمه بالخيانة المالية ظلماً، فحين أراد الخليفة مكافأته برده إلى ولاية إفريقية رفض حسان وأقسم أنه لا يولى لبني أمية أبداً4682، ولا يستبعد أن عبد العزيز كان يرغب أن تدار إفريقية من قبل أحد رجاله وإصرار عبد العزيز لتولية موسى بن نصير دليل على ذلك4683.(3/3)
…قال الذهبي عن حسان بن النعمان الغسّاني: من ملوك العرب ولي المغرب فهذَّبه وعَمَره وكان بطلاً شجاعاً، مجاهداً لبيباً، ميمون النقيبة كبير القدر، وجهه معاوية في سنة 57هـ فصالح البربر ، ورتب عليهم الخراج وانعمرت البلاد، وله غزوات مشهودة بعد قتل الكاهنة وكان يدعى الشيخ الأمين، توفي سنة 80هـ4684.
ثانياً : فتوحات موسى بن نصير 85هـ:
…لا يتفق المؤرخون على تاريخ محدد لتولية موسى بن نصير على المغرب وعزل حسان بن النعمان عنه، ولكن الأقرب إلى تسلسل الأحداث أن يكون عزل حسان وتوليه موسى بن نصير في سنة 85هـ، قبيل وفاة عبد العزيز ابن مروان والذي ينسب إليه المؤرخون عزل حسان وتولية موسى4685، وبعد أن عزل عبد العزيز بن مروان والي مصر حسان بن النعمان والي إفريقية وليَّ مكانه موسى بن نصير، وكان في أواخر سنة خمس وثمانين الهجرية أو في أوائل سنة ست وثمانين الهجرية وعندما توافدت الجيوش، قام موسى بن نصير خطيباً، فكان مما قاله: وإنما أنا رجل كأحدكم، فمن رأى مني حسنة، فليحمد الله، وليحض على مثلها، ومن رأى مني سيئة، فلينكرها، فإني أخطئ كما تخطئون، ,أصيب كما تصيبون، وقد أمر الأمير أكرمه الله لكم بعطاياكم وتضعيفها ثلاثاً، فخذوها هنيئاً مريئاً، من كانت له حاجة فليرفعها إلينا، وله عندنا قضاؤها على ماعز وهان مع المواساة إن شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله4686، وهكذا أنجز موسى قبل أن يدخل إفريقية حشد جيشه وأكمل استحضاراته الإدارية وساوى نفسه برجاله، وسار موسى متوجهاً إلى الغرب وكان الأمن غير مستتب، فلما وصل إفريقية برز موسى بن نصير قائداً منتصراً في فتح المغرب ويرجع ذلك إلى السياسة التي اتبعها مع الأهالي وهي سياسة التعاون والاندماج الكلي مع البربر4687، فحين كان يقدم على موسى وفود القبائل ليعلنوا ولاءهم كان يولي عليهم رجلاً منهم ويأخذ رهائن من خيارهم لضمان هذا الولاء، كما فعل مع وفد كتامة4688ومع وفد مصمودة(3/4)
وغيرهم4689، ولكن ما أن يعتنق البربر الإسلام، كان موسى يقر زعمائهم في الرئاسة مقابل مساهمة كل قبيلة بعدد كان من المقاتلين للانضمام للمقاتلة العرب. وأعطت سياسة التفاهم هذه ثمارها، فقد استطاع موسى أن يجند أعداداً كبيرة من قبائل البربر مثل كتامة وهوارة وزناتة ومصمودة4690، وألحق موسى بن نصير هؤلاء المقاتلة من البربر مع جراوة الذين كانوا قد جندوا في عهد حسان، ووضعهم جميعاً في حامية طنجة تحت قيادة طارق بن زياد الذي وليها سنة 90 هـ من قبل موسى بن نصير4691، ومن الوسائل التي استخدمها موسى في تأليف القلوب وضبط الأمور، وتقوية الدولة الإسلامية:
1 ـ عتق بعض السبايا:كان موسى بن نصير يعتق بعض سباياهم ويتولاهم في نطاق خطته لتشجيع البربر على الدخول في الإسلام، فكان يشتري من السبايا من كان في ظنه أن يقبل الإسلام.
2 ـ تطبيق مبدأ المساواة:في النفل بين البربر المسلمين والعرب الذين أبلوا بلاء حسناً وذلك تشجيعاً وتقديراً لبلائهم وبهذا التصرف تمكن موسى من جلب أعداد كبيرة إلى الإسلام وإشراكهم في الجيش الإسلامي4692.
3 ـ التنظيم الإداري: ويبدو أن موسى بن نصير حين دخل إفريقية وجدها في حاجة ماسة إلى إدارة مستقرة، فقد انفردت كل قبيلة بربرية بناحيتها واستبدت بها دون أن تخضع لولاة أو عمال، فأخذ موسى يعمل على إخضاع كل المغرب إلى الحكم الإسلامي فبدأ ينقل البيزنطيين من المدن الساحلية والنواحي الداخلية وأسكنهم قرب مراكز الحكم الإسلامي مما يتيح للمسلمين مراقبتهم ودعوتهم وتعليمهم.
4 ـ تكوين القوة البحرية: أنشأ حسان بن النعمان دار صناعة السفن بتونس ثم استكملها بعده موسى بن نصير وعبيد الله بن الحباب، ويذكر أنه صنع بها مراكب مما مكنه من غزو صقلية.
5 ـ سك النقود: ويبدو أنه بادر بسك النقود بإفريقية، إذ يرى حسن حسني عبد الوهاب أن أول أمير سك النقود بإفريقية، هو موسى بن نصير سنة 95هـ4693.(3/5)
…وتتلخص أعمال موسى بن نصير في حرصه على نشر الإسلام بين البربر ولهذا كان يختار عمالاً يحسنون السيرة في أهالي المناطق المفتوحة4694، واختار فئة من أصحابه لتعليم البربر حديثي الإسلام، القرآن ومبادئ الإسلام. فقد أمر العرب أن يعلموا البربر القرآن وأن يفقهوهم في الدين4695، وذكر ابن عذارى أن موسى ترك سبعين رجلاً من العرب في طنجة يعلمون البربر القرآن وشرائع الإسلام. وهذه السياسة هي استمرار لسياسة عقبة بن نافع وحسان بن النعمان4696. وهذا أدى إلى انتشار الإسلام في المغرب الأقصى4697. واستطاع موسى بن نصير بعد حملات جهادية منظمة السيطرة على جميع شمال إفريقية من برقة إلى المحيط الأطلسي وأصبح سيد إفريقية بدون منازع، وكان أولاده من ضمن قادته في فتوحاته الكبرى وكانت له حملات بحرية على جزر البحر الأبيض المتوسط ومن أشهر تلك الحملات ما سمي بحملة الأشراف بسبب اشتراك أشراف الناس فيها وكانت وجهتها جزيرة صقلية حيث بلغ عدد مقاتليها بين التسعمائة والألف وكانت بقيادة ابنه عبد الله الذي حقق نصراً حاسماً حتى غنم المسلمون غنائم كثيرة بلغ فيها سهم المقاتل مائة دينار ذهب4698. هذا ولم تقتصر حملات موسى بن نصير البحرية على مقاتلة إفريقية بل شملت دعم الحملات البحرية في ولاية مصر4699، هذا وقد توجت هذه الانتصارات البحرية الرائعة التي حققها الأسطول الإسلامي بفتح بلاد الأندلس الذي خطط له موسى بن نصير ونفذه طارق بن زياد وتم بشكل نهائي بتوفيق الله ثم جهود هذين القائدين العظيمين4700.
* ـ…فتح الأندلس وجهود طارق بن زياد:(3/6)
…كان الفتح الإسلامي لشبه الجزيرة الايبيريَّة (أسبانيا والبرتغال) أمراً طبيعياً حسب الخطة التي اتبعها المسلمون أثناء فتوحاتهم، وهي تأمين حدودهم ونشر دعوتهم وذلك بالمضي في جهادهم إلى ما وراء تلك الحدود، لنشر العقيدة الإسلامية التي تقتضي أن يستمر المدُّ الإسلامي ما دامت فيه القوة على الاستمرار، وبعد أن أرسى موسى بن نصير، ومن معه، كلمة الإسلام بجهودهم في المغرب الكبير، كانت الخطوة التالية الطبيعية هي فتح الأندلس وقد عمل موسى على إكمال جهود من سبقه من الجند الدعاة ـ قادة وجيشاً ـ في ترسيخ قدم الإسلام في الشمال الإفريقي، فقد عمل على تثبيت الإسلام في قلوب الناس ونشط في تعليمهم وتربيتهم على مبادئ الدين الحنيف، وآتت جهوده الدعوية ثمارها الزكية فقد أصبح البربر في تلك الديار من أخلص الناس للإسلام والدعوة إليه والجهاد في سبيل نشر تعاليمه، ولقد كانت أكثرية جيش طارق إلى الجزيرة الايبيريَّة من المسلمين البربر، الذين تحمسوا لدعوة الإسلام، حباً لها وتضحية من أجلها، لا طمعاً في مغنم أو حرصاً على جاه، فهذا هو هدف جميع الفتوحات الإسلامية التي يكفي الاطَّلاع عليها ومعرفة طبيعتها لرفض الإدعاءات وإسقاط المفتريات المزوّرة، التي تشير ـ تلميحاً أو تصريحاً ـ إلى إعتبار الغنائم سبب هذا الفتح، وهو أمر عاري من الحجج والبراهين والأدلة، وإنما هي أوهام لا تحمل أي رائحة من الطابع العلمي أو السند التاريخي4701.(3/7)
1 ـ فكرة الفتح: يمكن القول بأن فكرة فتح الجزيرة الايبيريَّة هي فكرة إسلامية تماماً. بل يُروى بأنها فكرة قديمة تمتد إلى أيام الخليفة الراشد عثمان بن عفان، فقد كان عقبة بن نافع الفهري يفكر في إجتياز المضيق إلى أسبانيا لو استطاع وسبق للمسلمين نشاط على شواطئ أسبانيا الشرقية وبعض الجزر القريبة منها، وهي مَيورْقة ومَنورقة، واليابسة، يذكر الذهبي أنه في سنة 89هـ: جهز موسى بن نصير ولده عبد الله، فافتتح جزيرتي مَيورْقة ومَنورقة4702، أما الإتصال بيُليان حاكم مدينة سبتة أو بغيره من الأسبان فإنها جاءت مواتية على ما يبدو وفي الوقت الذي كان موسى بن نصير يفكر في تنفيذ فكرة الفتح ولكن كيف تم الاتصال بالجانب الأسباني ((يُليْان وأنصار الملك المخلوع وغيرهم،؟ اختلفت الأقوال فيما إذا تم الأمر بالمراسلة أو باللقاء الشخصي وأين؟ إذا كان هذا الاتصال أصلاً قد تمّ وبهذا المستوى على كل حال فإن اتصالات الجانب الأسباني بموسى ومساعداتهم ـ أثناء عمليات الفتح ـ ربما كانت عاملاً مساعداً سهّل سير الفتح أو عجّل به. لكن المبادأة ومردّ العمليات وإنجازها كانت من الجانب الإسلامي الذي اندفع مع الفتح بقوة فائقة معتمداً على الله في تحقيق ما يصبوا إليه من هداية الناس وقد استشار موسى الوليد بن عبد الملك (86 ـ 96هـ) قبل اتصالاته بليُليان، أو اتصال هذا الأخير بموسى. وقد ترددت الخلافة ـ بادي الأمر ـ بالقيام بمثل هذا العمل الكبير، خوفاً على المسلمين من المخاطرة في مفاوز أو إيقاعهم في مهالك، ولكن موسى أقنع الخليفة بالأمر، ثم تمّ الاتفاق على أن يَسبق الفتح اختبار المكان بالسرايا أو الحملات الاستطلاعية4703.
2 ـ الحملة الاستطلاعية ، أو حملة طريف:(3/8)
…نفذ موسى أوامر الوليد بأن جهز حملة استطلاعية مؤلفة من خمسمائة جندي منهم مائة فارس بقيادة طريف بن مالك الملقب بأبي زُرعة وهو مسلم من البربر وجاز هذا الجيش الزُّقاق ـ اسم يطلق أحياناً على المضيق4704 ـ من سبتة بسفن يُليْان أو غيره، ونزل قرب أو في جزيرة بالوما في الجانب الأسباني وعرفت هذه الجزيرة فيما بعد باسم هذا القائد: جزيرة طريف4705، وكان إبحار هذه الحملة من سبتة في رمضان عام 91هـ )تموز 710م) وقد جال طريف في المدينة والنواحي المحيطة بها واستطلع أخبار العدو في تلك الجهات4706، وعادت حملة طريف بالأخبار المطمئنة والمشجعة على الاستمرار في عملية الفتح4707،، فقد درس أحوال المنطقة وتعرّف على مواقعها وأرسل جماعات إلى عدة أماكن ـ منها جبل طارق ـ لهذا الغرض فكانت هذه المعلومات عوناً في وضع خُطة الفتح ونزول طارق بجيشه على الجبل4708.
3 ـ العبور:(3/9)
…لما رأى موسى بن نصير ما حققته حملة طريف، وصحّ عنده ما نقل إليه من أحوال الأندلس، بعث طارق بن زياد في سبعة آلاف من المسلمين أكثرهم من البربر والموالي وأقلهم من العرب ولما احتاج طارق إلى أعداد في فترة تالية أمدّه موسى بخمسة آلاف فتمّ جيش طارق من السفن لنقل الجنود إلى بر الأندلس وقد حرص القائمون على الحملة لاستكمال عملية نزول الجند أن يُعموُا أخبار الحملة على الناس، لذلك أحضر يوليان السفن إلى سبتة ليلاً وأخذت تنقل الجنود تباعاً، ويبدو أن عملية إبحار الجند اقتضت أكثر من ليلة، فقيل أن الجند الذين نزلوا بر الأندلس كانوا يكمنون في النهار حتى لا يشعر بهم أحد، وكانت السفن تختلف بين سبتة والأندلس وأهل الأندلس لا يظنون إلا أنها تختلف بمثل ما كانت السفن تختلف به من المنافع والمتاجر، ولما علم أهل الأندلس بالحملة كانت عملية الإبحار قد تمت بسلام في رجب من عام اثنين وتسعين للهجرة، ونزل طارق، بالجند عند جبل كالبي، وهو الجبل الذي أخذ اسم طارق وصار يعرف بجبل طارق، وقيل لما ملك رئيس الموحدين عبد المؤمن الأندلس وعبر جبل طارق أمر ببناء مدينة على الجبل وسماه جبل الفتح ولكن الاسم لم يثبت له وظل اسم جبل طارق جارياً على الألسنة4709، وسار طارق بالجيش نحو الجزيرة الخضراء ففتحها، وكان لذريق في شمال الأندلس مشغولاً في محاربة البشكنس، وقيل في محاربة الفرنسيين، فأرسل خليفته تدمير يُعْلِمُه بالهجوم الإسلامي، فعاد لذريق مسرعاً لصده، وفي طريقه لقتال المسلمين عرّج على العاصمة طليطلة دون أن يدخلها وصالح أسرة غيطشة ودعاهم والقوط المخالفين له إلى الانضمام إليه في حرب العدو المشترك فساروا معه، وقيل أن لذريق عهد بقيادة ميمنة جيشه وميسرته إلى ابني غيطشة4710، وعلم طارق بالحشود التي حشدها لذريق لمجابهته فكتب إلى موسى ينبئه بضخامتها ويطلب منه مدداً، فأمدّه موسى بخمسة آلاف مقاتل4711، ويصف المقري، نقلاً عن بعض(3/10)
المؤرخين جند طارق لقد أقبلوا وعليهم ((الزرد)) وفوق رؤوسهم ((العمائم البيض)) وبأيديهم ((القسي العربية)) وقد تقلدوا السيوف وحملوا الرماح فلما رآهم لذريق دخله منهم الرعب4712، وذكر ابن الأثير: أن طارقاً لما ركب البحر غلبته عينه فرأى النبي صلى الله عليه وسلم ـ في نومه ـ ومعه المهاجرون والأنصار قد تقلّدوا السيوف وتنكّبوا القسّي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا طارق تقدم لشأنك، وأمره بالرفق بالمسلمين، والوفاء بالعهد، فنظر طارق فرأى النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه قد دخلوا الأندلس أمامه، فاستيقظ من نومه مستبشراً وبشر أصحابه وقويت نفسه ولم يشك في الظفر4713.
4 ـ معركة وادي لكّة أو العبور إلى الأندلس:(3/11)
…لم يعد بين طارق وخصمه لذريق سوى عاملي الزمن، والأرض وأصبح من الواضح أن طارقاً أكثر حرية من خصمة بعد سقوط ولاية ((الجزيرة الخضراء)) بيده وهزيمة قائد القوط ((بنج)) وهلاك فرقته بكاملها على يدي جيش طارق، وأصبح قادراً على اختيار المكان المناسب للقتال، فقد كان اختيار ميدان القتال من قبله من أهم عناصر نجاحه في هذه المعركة4714، إذ كان قد أسند ميمنة جيشه إلى بحيرة خاندا شرقاً، الممتدة عدة كيلومترات والتي يصب فيها نهر البرباط الذي بمر بوادي البرباط وأسند ميسرته إلى الوادي المذكور غرباً، كما اسند مؤخرة هذا الجيش إلى جبال ((رتينا)) العالية جنوباً، منتظراً أن يأتيه العدو من الشمال بعد أن وضعه في موضع الاضطرار لا الاختيار4715، وما أن استكمل لذريق عدة الجيش وعديدة حتى تحرك جنوباً لمواجهة طارق وجيشه في المكان الذي اختاره هذا الأخير، فوصله في الأيام الأخيرة من شهر رمضان عام 92هـ وعسكر بجيشه على الجهة الشمالية للوادي4716، والتقى الجيشان على نهر لكة من أعمال شذونة لليلتين بقيتا من رمضان سنة 92هـ واتصلت الحرب بين الجانبين ثمانية أيام استشهد فيها ثلاثة آلاف من المسلمين ولكن الهزيمة دارت على لذريق وجيشه، وقيل أن لذريق غرق وقتل كثير من جيشه، ومما يروي عن ابناء غيطشة أنهم خذلوا لذريق وتركوهم وأنصارهم مواقفهم أمام المسلمين ظناً منهم أن المسلمين إذا امتلأت أيديهم من الغنائم عادوا إلى بلادهم فبقي الملك لهم4717، ولعل خذلان آل غيطشة وأنصارهم لذريق كان بدافع الانتقام منه4718، ولا شك أن هذا الفتح مثل غيره يعود إلى قوة المسلمين بتمكن العقيدة وتغلغل معانيها في نفوسهم وحرصهم على الشهادة في سبيلها4719.
…وبعد هذا النصر العظيم تعقب طارق فلول الجيش القوطي التي لاذت بالفرار. وسار الجيش الإسلامي فاتحاً لبقية مناطق الجزيرة الإيبيريّة4720.
5 ـ الدروس المستخلصة من معركة وادي لكّة:(3/12)
أ ـ أسلوب ((الحذر واليقظة)) تجاه الحلفاء: لم يكتف موسى بن نصير بقول يليان ووعده بالعون والمساعدة في فتح الأندلس بل كلفه مهمة استطلاعية في تلك البلاد ليختبر صدقه ووفاءه بعهده، وقد كان يليان صادقاً بما قال ووفياً لما تعهد به، كما كان موسى حذراً ويقظاً ونبهاً.
ب ـ أسلوب الاستطلاع قبل الانزال: أراد موسى أن يستطلع البيئة التي سوف يقتحمها والعدو الذي سوف يقاتله والبقعة التي سوف يتم النزول فيها، وذلك قبل أن يدفع بجيشه في مغامرة مجهولة النتائج، فأرسل حملة استطلاعية بقيادة طريف بن مالك وما أن عادت تلك الحملة بالمعلومات الوافية عن البيئة والعدو وبقعة النزول حتى اطمأن إلى سلامة قراره فكتب إلى الخليفة يستأذنه بالفتح4721
ج ـ الأسلوب المتكرر في الاختبار والحيطة: رغم ما سبق من اختبار سواء بواسطة الحملة التي قام بها يليان أو حملة طريف، فقد أبى الخليفة إلا أن يكرر الاختبار فقال لموسى: خضها بالسرايا حتى ترى وتختبر شأنها، ولا تغرر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال4722. ولما لفت موسى نظر الخليفة إلى سهولة عملية الإبحار والإنزال أصر الخليفة قائلاً: وإن كان، فلابد من اختباره بالسرايا قبل اقتحامه4723. وذلك يدل على مدى حرص الخليفة على التأكد من نجاح العملية وسلامتها وتأمين الفوز للمسلمين بدل أن يغرر بهم في بحر شديد الأهوال. وهذا الأسلوب المتكرر في الاختبار والحيطة قبل الإنزال والاقتحام سهّل عملية الفتح إلى حد كبير وأعان المسلمين في مواجهتهم الحاسمة للعدو، إذ أمّن لهم عملية (( المباغتة)) لعدو لم يكن ينتظر مثل هذه المفاجأة أبداً4724.(3/13)
خ ـ أسلوب المباغتة: إن الأسلوب الذي اتبعه طارق في إيصال المسلمين إلى ساحل الأندلسي منفذاً تعليمات الخليفة، كان أسلوباً بارعاً إلى حد كبير، فهو لم يبحر بالمسلمين دفعة واحدة بل أبحر بهم على دفعات متتالية وفي مراكب تجارية، وما أن التأم شمل المسلمين في تلك البلاد، حتى فوجئوا بالهزيمة الساحقة التي لحقت بهم على يد هؤلاء المسلمين ومقتل أحد أهم قادتهم ((بنج)) ابن أخت مليكهم لذريق، فانتزع المسلمون، بهذه المباغتة وهذا الانتصار، المبادرة من يد أعدائهم وأسقط في يد القوط، وأصبحت هزيمتهم على يد المسلمين قدراً محتوماً4725.
س ـ تنفيذ أسلوب (( رأس الجسر)): نفذ طارق، فور وصول جيشه إلى الساحل الأندلسي، أسلوب (( رأس الجسر)) وهو أسلوب يعمل به في الحروب الحديثة، فأقام على الساحل قاعدة حصينة سوّرها وحماها وانطلق منها في فتوحاته، تماماً كما يفعل أي جيش في أيامنا هذه4726.
ش ـ اختيار ميدان القتال: لقد أحسن طارق اختيار ميدان القتال وفرض على العدو أن يجابهه من جهة واحدة هي جبهة الشمال، ووضعه في موضع الاضطرار الاختيار.
ص ـ المبادرة بالقتال: كان طارق في هذه المعركة هو البادئ بالقتال بل بادر إلى اجتياز النهر لملاقاة عدوه، فناوشه ثلاثة أيام ثم شن عليه بعد ذلك هجوماً عاماً انتهى بهزيمته.
ر ـ صدق المسلمين ووفاؤهم بالعهود: كان المسلمون صادقين ووفوا بعهودهم تجاه يليان وأبناء غيطشة فأعادوا لهؤلاء ضياع أبيهم واحترموا تعهداتهم ليليان وأنصاره، وكانت نتيجة ذلك أن أعتقت سلالة كل من يليان وأبناء غيطشة الإسلام، فكان فيها من حسن إسلامه مثل أيوب ( توفي سنة226 هـ) وسليمان( توفي سنة 379 هـ) وأحمد(( توفي سنة 388 هـ)) من سلالة يليان، ومثل أبي بكر محمد بن عمر المعروف بابن القوطية صاحب كتاب تاريخ افتتاح الأندلس وهو من سلالة سارة بنت المنذر بن غيطشة آخر ملوك القوط4727.(3/14)
ك ـ استثمار النصر: طبق طارق بالبداهة، مبدأ من أهم المبادئ العسكرية الحديثة وهو استثمار النصر، إذ أنه ما أن هزم لذريق في وادي لكّة حتى لاحق فلول جيشه دون أن يترك لهذا الجيش مجالاً للتجمع وإعادة التنظيم من جديد، وكان طارق قد وضع لنفسه هدفاً أساسياً هو احتلال طليطلة عاصمة العدو، إذ أنه يعرف ولا شك، أنه باحتلاله لعاصمة المملكة، تفقد هذه المملكة مركزيّتها، ويفقد الملك قاعدة ملكه وحكمه، ولكن طارقاً مع ذلك، لم ينس أن يرسل جيشه في حملات إلى مختلف أنحاء البلاد لكي يحتل المواقع الاستراتيجية فيها فيفقد القوط كل أمل بمتابعة القتال والنصر، فأرسل إحداها إلى داخل البلاد شمالاً نحو قرطبة، وكانت قصبة هامة في الأندلس، وأرسل أخرى شرقاً، على الساحل الجنوبي للبلاد، نحو ملقة، وأرسل ثالثة إلى داخل البلاد شمالاً بشرق، نحو غرناطة وكانت تشكل موقعاً استراتيجياً هاماً في البلاد، ثم توجه بنفسه شمالاً إلى العاصمة طليطلة واستولى عليها، فظل الحكم القوطي، من جراء ذلك، شديداً طريداً في أنحاء الأندلس إلى أن سقط4728.
6 ـ الخطبة المنسوبة إلى طارق وحرق السفن:(3/15)
يعتقد كثير من المؤرخين أن طارقاً أحرق سفنه، بعد أن أنزل جيشه على الساحل الأندلسي، ثم خطب بجنده الخطبة الشهيرة، أيها الناس، أين المفر البحر ورائكم، والعدو أمامك وليس لكم والله إلا الصدق والصبر...، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوِّكم وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمراً ذهبت ريحكم، وتعوَّضت القلوب من رُعْبها... وجاء في الخطبة:,, وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان، من بنات اليونان، الرافلات بالدّر والمرجان والحُلل المنسوجة بالعقبان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عُربانا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهاراً وأختاناً، ثقة منه بارتياحكم للطعان، واستماحكم بمُجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حظه منكم ثواب الله إلى إعلاء كلمته،.. الخ الخطبة4729، وبالإمكان إيراد الملاحظات التالية حول الخطبة:
أ ـ لم تكن الخطبة وما فيها من السجع من أسلوب ذلك العصر القرن الأول الهجري، وغير متوقع لقائد جيش أن يعتني بهذا النوع من الصياغة.
ب ـ إن المعاني التي تناولتها الخطبة لا تتلاءم وروح الإسلام العالية، التي توفرت لدى الفاتحين، ومقدار حبهم للإسلام وإعلاء كلمته، ورغبتهم في الاستشهاد من أجل ذلك،، فهي لا تشيد بدوافع الفتح وأهدافه ـ وهي معروفة مألوفة ـ التي أنبتتها ورعتها العقيدة الإسلامية، عاملة على ابتغاء مرضات الله تعالى وحده، لتعلو راية الإسلام وتسود شريعته ويكون الدين كله لله، ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) (الأنفال ، الآية : 39).(3/16)
ت ـ يلاحظ في الخطبة عديد من الأخطاء ويلاحظ فيها التناقض في المعاني، وبعض ما فيها مخالف لحقائق تاريخية، كاستعمال ((اليونان)) التي ربما جاء ذكرها للسجع فالمؤرخون الأندلسيون اعتادوا أن يستعملوا في هذه المناسبة القوط أو الروم4730، وكذلك العلوج والعجم أو المشركين والكفار4731، وليس لدينا نص يحتوي مثل هذا الاستعمال، غير أن ابن خلكان ـ وهو مشرقي ـ أورد هذا الاستعمال في غير الخطبة4732 ثم. ((وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين..)) فالذي انتخبهم موسى بن نصير وليس الوليد4733.
ج ـ كان المتوقع أن تحتوي الخطبة على آيات من القرآن الكريم وأحاديث الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم، أو وصايا وأحداث ومعاني إسلامية أخرى تناسب المقام كالمعهود4734. وغير ذلك من الملاحظات.
…وكل ما تقدم لا يمنع أن يكون طارق جيد الكلام، وأنه خطب جنده يحُّثهم على الجهاد4735، ويروي المَقَّري أبياتاً قالها طارقاً بهذه المناسبة:
………ركبنا سَفينا بالمجاز مُقَيَّرا
………………عسى أن يكون الله منا قد اشترى
………نفوساً وأمولاً وأهلاً بجنَّة
………………إذا ما اشتهينا الشيء منها تيسَّرا
………ولسنا نُبالي كيف سالت نفوسنا
………………إذا نحن أدركنا الذي كان أجْدرا4736
وقال ابن بشكوال: إن طارقاً كان حسن الكلام ينظم ما يجوز كتبه4737. ووجهة هذه الأبيات تغاير وجهة الخطبة، فهي منسجمة والمعاني الإسلامية ومستمدة من قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) (التوبة ، الآية : 111) .(3/17)
وأما موضوع حرق طارق للسفن التي عبر بها المضيق، كي يقطع على الجيش الإسلامي كل أمل في العودة، فيستميت في الدفاع؟ ذكر بعض المؤرخين ذلك؟
لكن لماذا يحرق طارق السفن، سواء امتلكها المسلمون أم يُلْيان؟ وكان طارق وجيشه يقاتلون من أجل عقيدة وإنهم في ساعة عبورهم جاؤوا مجاهدين مستعدين للشهادة، وطارق متأكد من هذه المعاني، فإذا كانت السفن ليُليان فليس من حق طارق التصرف بها، وإن كانت للمسلمين فليس حرقها عملاً عسكرياً سليماً أو مناسباً، ما دام يحتاج إليها وإلى النجدة والاتصال الدائم بالمغرب لأي غرض، وقد رأينا كيف احتاج إلى النجدة قبل خوض هذه المعركة واحتاجها فيما بعد4738، كما أن طارقاً كان قادراً على إعادتها إلى الساحل الأفريقي إن الدوافع الإسلامية والهدف الذي جاء الجيش من أجله أقوى في الاندفاع من أي سبب آخر، وما كان المسلمون يتخلفون عن خوض معركة أو تقديم أنفسهم لإعلاء كلمة الله، بل لذلك أتوا، والمصادر الأندلسية ـ لاسيما الأولى ـ لا تشير إلى قصة حرق السفن التي لا تخلو من علاقة وارتباط بقصة الخطبة4739.
7 ـ عبور موسى بن نصير إلى الأندلس:(3/18)
…كان موسى بن نصير من التابعين ـ رحمهم الله تعالى ـ وقد روى تميم الداري رضي الله عنه، وكان عالماً كريماً شجاعاً ورعاً تقياً لله تعالى4740، وكان من رجال العلم حزماً ورأياً وهمّة ونبلاً وشجاعة وإقداماً4741، وكان حين وجّه طارقاً لفتح الأندلس كان يتلقى الأخبار ويراقب الأحداث، منذ بدايتها، ويُهيء المتطلبات لإنجاز هذا الفتح الكبير، بهمة المؤمن وإخلاص التقي، ويدعو الله أن ينزل نصره على المسلمين4742. وكان موسى بن نصير يعتقد اعتقاداً كبيراً في أهمية الدعاء والتضرع لتحقيق النصر على الأعداء ويعتبر الدعاء من أسباب النصر التي أرشد إليها القرآن الكريم ومارسها رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول ابن الكردبوس: وكان موسى بن نصير حين أنفذ طارقاً مُكبَّاً على الدعاء والبكاء والتضرع لله تعالى، والابتهال إليه في أن ينصر جيش المسلمين، وما عُلم أنه هزم له جيش قط4743، وكان طارق بن زياد على صلة بقائده موسى بن نصير، يفتح الفتوحات باسمه وبتعليماته، ويخبره عن كل شيء أولاً بأول منذ بداية الفتح، ويستشيره فيما يحتاج إليه وقد رأينا كيف طلب المدد قبل معركة وادي لكّة وكان موسى على علم تام بأحوال الفتوح وبعد سنة تقريباً من عبور طارق، وتفرق جيشه وتوزيعه على المناطق والمدن التي فتحت ـ خاف طارق أن يُغلب وأن يُستغل القوط قلة جيشه، فأرسل إلى موسى يستنجده واستخلف موسى على القيروان ولده عبد الله.. ونهض من القيروان سنة ثلاث وتسعين من الهجرة في عسكر ضخم4744، وتحرك موسى بجيشه نحو شذونة فكانت أول فتوحاته ثم توجه إلى مدينة قرمونة وليس بالأندلس أحصن منها، ولا أبعد على من يرومها بحصار أو قتال فدخلها بحيلة توجهت بأصحاب يُلْيان، دخلوا إليهم كأنهم فُلاّل وطرقهم موسى بخيله ليلاً ففتحوا لهم الباب، وأوقعوا بالأحراس، فملكت المدينة4745 فافتتحها. وتوجه بعد ذلك: إلى أشبيلية جارتها فحاصرها وهي أعظم مدائن الأندلس... فامتنعت شهراً على(3/19)
موسى ثم فتحها الله عليه،.. ثم سار إلى مدينة ماردة وفتح في طريقه إليها لَبْلَة وباجة ثم فتح ماردة صلحاً بعد قتال وجهاد عظيم4746، وأقام موسى في ماردة زيادة على شهر يرتب أحوالها وينظم أمورها ويريح الجند من العناء ويستعد لاستئناف السير4747، ووجه موسى ابنه عبد العزيز من ماردة إلى أشبيلية، وكانت فلول القوط من لبلة وباجة قد اجتمعت فيها وقتلوا العديد من المسلمين، منتهزين فرصة انشغال موسى بحصار ماردة وبلغه الخبر خلال الحصار، فأعاد عبد العزيز فتح أشبيلية ثم فتح لبلة وباجة4748، وأصبحت المدن والقرى تتساقط أمام جيوش الفاتحين كتساقط الأوراق من على الأشجار في فصل الخريف.
8 ـ لقاء موسى وطارق:
…في بداية ذي القعدة سنة 94هـ ابتدأ موسى بالسير صوب طليطلة ـ وكتب إلى طارق بالتوجه إليه في مجموعة من جيشه ثم جاءه طارق. ذكر البعض أن لقاءهما كان عند طليطلة أو قرطبة، ورجح الدكتور الحجي العالم البارز في تاريخ الأندلس: بأن اللقاء كان خارج مدينة طلبيرة التي تبعد 150كم غرب طليطلة4749، ووصل موسى وطارق إلى طليطلة ذو القعدة ـ ذي الحجة أو آخر سنة 94هـ وأقاما بالجيش الإسلامي فصل الشتاء أو جله في طليطلة يرتبون أحولها وينظمون شئونها، ويستريحون ويتهيأون ويخططون لفتح شمال شبه الجزيرة الأيبيريَّة، وكتب موسى والقادة الآخرون إلى الخليفة الوليد ـ وربما ليس لأول مرة ـ أخبار الفتح، وضربت العملة الإسلامية لأول مرة في الأندلس وقام بالدعوة إلى الله وتعليم الناس حقائق الإسلام وشرحه لهم ودعوتهم إليه بعد أن رآه أهل البلاد عملياً في خلق الفاتحين. ولعلهم أرسلوا فرقاً إلى بعض المناطق، فقد كان طارق خبر أحوال طليطلة لاسيما شمالها، إذ كان قد وصل إلى المدينة المائدة (في منطقة وادي الحجارة)4750.(3/20)
…وأما ما تحدثت عنه المصادر عن قصة الخلاف الذي قيل إنه حدث بين القائدين الكبيرين موسى وطارق، وتبالغ هذه المصادر فترجع أمر هذا الخلاف إلى حسد دب في نفس موسى على مولاه طارق وعلى ما حققه من نجاح، وتنسب إلى موسى أنه أهان طارقاً بأن وضع السوط على رأسه4751، فهذه روايات ناقشها عدد من الباحثين وأبانوا ضعفها وسقوطها وتفاهتها، كمحمود شيت خطاب4752، وعبد الله عنان4753، ود. عبد الرحمن الحجي4754، ود. محمد بطاينة4755، ود. عبد الشافي محمد عبد اللطيف4756، وغيرهم وإن كان حدث شيء فلا يعدو أن يكون مناقشة القضايا أو استفهامه من طارق خطته وإبداء الملاحظات عنها، تخوفاً من الأذى، وعندما استفسر موسى من طارق عن سبب الايغال والتقحم في بلاد العدو، اعتذر إليه طارق بخطته العسكرية أمام الظروف المحيطة والضرورة الداعية لأسلوبه، وقبل موسى عذره. وسارا بعده ـ سوية إخوة مجاهدين، ينشرون دين الله ويُعلون كلمته ويبلغون للناس شريعته4757، كما لا ننسى أن طارق جندي من جنود موسى والانتصارات التي حققها طارق إنجازات تكتب في صفحة موسى القيادية4758.(3/21)
…وعند انتهاء الشتاء وحلول الربيع سنة 95هـ تهيأ الجيش الإسلامي لترك طليطلة ثم أوغل شمالاً ففتح مدن لاردة ووشقة وطركونة وبرشلونة، كما فتح بلنسية وطرطوشة على الساحل الشرقي للأندلس وفي هذا الوقت وصل مغيت الرومي مبعُوثاً من جانب الخليفة الوليد عبد الملك يحمل إلى موسى بن نصير أمر الخليفة بالقدوم إلى دمشق، ولكن فتح الأندلس لم يكن قد اكتمل بعد، لذلك لاطف موسى مغيثاً وسأله إنظاره إلى أن ينفذ عزمه في دخول بلاد جليقية واشتوريس ويكمل فتح الأندلس ويكون مغيث شريكه في الأجر والغنيمة ـ أي يصبح له سهماً في القيمة ـ ففعل مغيث ومشى في ركاب موسى إلى جليقية والأشتوريس ففتحها وتعقب موسى وطارق فلولا القوط حتى اضطرّ هؤلاء إلى الفرار إلى جبال كنتبرية في أقصى الشمال الغربي من الأندلس4759، ولما تأخرت أخبار موسى قلق الخليفة الوليد على مصير الجيش الذي مضى على وجوده في البعوث ما يقارب أربع سنين، لذلك أرسل الوليد رسولاً ثانياً، فوصل الرسول الأندلس وموسى في مدينة لَكْ بحُليقية يُوجَّهُ السرايا والبعوث التي بلغت صخرة بلاك التي تقع في الشمال الغربي على البحر الأخضر ـ خليج بسكاي ـ من المحيط الأطلسي، فاستجاب موسى إلى الرسول وعاد إلى طليطلة ثم غادرها إلى قرطبة ومنها إلى أشبيلية حيث استخلف فيها ولده عبد العزيز والياً واتخذ منها عاصمة للبلاد، ولكن أشبيلية لم تمكث طويلاً عاصمة للبلاد وإنما استعيض عنها بقرطبة منذ عام 97هـ وظلت قرطبة مركز الديار الأندلسية حتى نهاية عهد الخلافة في الأندلس4760، ويبدو أن موسى اختار اشبيلية عاصمة في هذه المرحلة من تاريخ الأندلس لوقوع اشبيلية في منطقة تتساوى عندها احتمالات الخطر والسلامة، وواجبات الحفاظ على البلاد وحمايتها، فهي لم تخرج إلى الأطراف بعيداً عن الوسط،ولم تقترب من خطوط المواجهة مع الأعداء بعيداً عن بلاد المغرب وإمداداتها4761.
9 ـ رجوع موسى إلى عاصمة الخلافة دمشق:(3/22)
…غادر ركب موسى وطارق بن زياد الأندلس في ذي الحجة عام 95هـ يحمل معه الأسرى والغنائم الوفيرة والهدايا الثمينة وغيرها من الكنوز، فلما بلغ طنجة ترك ابنه عبد الملك فيها حاكماً، ثم انصرف منها إلى القيروان فأقرّ ابنه عبدالله الذي كان قد استخلفه في أثناء غيابه في الأندلس4762، ثم سار من هناك يريد دمشق فوصلها في عام 96هـ قبل وفاة الوليد وقيل إن سليمان بن عبد الملك بعث إلى موسى بن نصير أن لا يدخل دمشق يريد أن ينتظر وفاة أخيه الوليد بن عبد الملك ثم يدخلها، فتكون علامات الفتح ودلائل النصر من الأسرى والغنائم والهدايا فاتحة عهده فيعظم مقامه عند الناس ولكن موسى خالف سليمان ودخل، فلما ولى سليمان الخلافة حقد على موسى وعزله وحبسه وأغرمه أموالاً كثيرة4763، ويبدو أن تدخل يزيد بن المهلب وعمر بن عبد العزيز لصالح موسى، لدى سليمان بن عبد الملك أثمر عن رضا سليمان عن موسى وأصبح فيما بعد عظيم المنزلة، وكان سليمان يستشيره في بعض الأمور العسكرية، كما هو الحال في الخطة العسكرية الواجب إتباعها في سير الحملة المتجهة إلى القسطنطينية كما أن سليمان كان يخرج إلى بعض أمواله متنزهاً وبرفقته موسى بن نصير4764، ويبدو أن سعة البلاد التي صارت إلى نظر موسى وتحت سلطانه وكانت تمتد من غرب مصر إلى جنوب فرنسا، وقيام موسى بتوزيع الحكم فيها على أبنائه، كان مما يثير الشكوك في نفوس أولي الأمر، لذلك بادر سليمان حرصاً على وحدة الدولة وسلامتها من الإنقسام إلى عزل موسى بن نصير عما كانت تحت يده من الأعمال4765، ومن الأسباب التي ذكرت في سبب استدعاء موسى إلى دمشق تخوف الوليد على المسلمين أن يكونوا في أرض منقطعة، ومحاطة بمناطق غير إسلامية وعلى اتصال بها، هي أقرب إليها من العالم الإسلامي أو مراكز ارتباطه واستمداده وهو الذي رأيناه عارض فتح الأندلس خوفاً على المسلمين أن يخوضوا المخاطر ويركبوا المهالك حتى بين له موسى ألا داعي للخوف4766،(3/23)
ويرى الكثير من المؤرخين أن موسى بن نصير لم يكن يعتزم التوقف في فتوحاته عند هذا الحد وإنما كان يخطط لعبور جبال البرانس واجتياح أوربا كلها والوصول إلى القسطنطينية وفتحها من جهة الغرب لولا أن استدعاه الخليفة الوليد إلى دمشق وأمره بالتوقف بالفتح عند هذا الحد، ويؤكد المؤرخون أنه لو قد قدر لموسى بن نصير أن يمضي قدماً في مشروعه هذا لتغير شكل النظام الدولي تماماً ولقضى على القوى غير الإسلامية، ذلك أنهم باستقرائهم النظام الدولي وقتئذ فإنهم يؤكدون أن احتمالات نجاح مشروعه هذا كانت عالية جداً، إذا لم تكن الظروف مواتية لنجاحه مثلما كانت مواتية وقتها، فمملكة الفرنجة كانت مشغولة وقتها بصراعاتها مع الممالك الأخرى ولم يكن هناك كيان سياسي واحد في أوربا كلها يعادل قوة الدولة الإسلامية أو حتى بدايتها، ويشير هؤلاء المؤرخون إلى أنه لما قدر للمسلمين في هذه المنطقة قائد كفء بعد عشرين عاماً من ضياع هذه الفرصة كانت الظروف الدولية قد تغيرت لغير صالح المسلمين، فلما حاول هذا القائد إحياء مشروع موسى بن نصير هزم هزيمة ضخمة تدخل في تاريخ العلاقات الدولية بوصفها نقطة تحول وهي معركة بلاط الشهداء4767، وقد تكرست الآثار السلبية لعدم استكمال موسى بن نصير لمشروعه بفشل حصار المسلمين للقسطنطينية بعد ذلك بسنوات قليلة وهو ما أغلق أوربا أمام المسلمين من الشرق بعد أن كانت قد أُغلقت أمامهم من الغرب، ولقد فشل المحللون في تفسير سبب استدعاء الخليفة الوليد لموسى بن نصير، فبعضهم قائل إنه أشفق على المسلمين من مخاطر هذا المشروع البحري، وبعضهم الآخر يؤكد أن الخليفة إنما خاف على سلطانه من تصاعد نفوذ وقوة موسى بن نصير وسواء صحت هذه التفسيرات أو أخطأت، فإن ما حدث بالفعل بعد استدعاء موسى بن نصير إلى دمشق، هو تقويض هدف مصيري للأمة أضاعت فيه فرصة ثمينة في فتح أوربا وجعلها تحت نفوذ الدولة الإسلامية4768.(3/24)
10 ـ خاتمة موسى بن نصير وطارق بن زياد رحمهما الله تعالى:
…تخبطت الروايات في الحديث عن نهاية موسى وما لقيه من الخليفة سليمان من الأذى والغمط والنكران وفي هذه الروايات غموض وتشويش وتناقض ومبالغات كبيرة4769، والصحيح أن سليمان كان عاتباً على موسى، لأمر لا نستطيع تحديده على وجه الدقة ثم رضي عنه سليمان وقرّبه منه وأصبح من خاصته4770، وكانت بينه وبين سليمان محاورات وتساؤلات فقد قال له سليمان يوماً: ما كنت تفزع إليه عند الحرب؟ قال الدعاء والصَّبْر، قال: فأي الخيل رأيت أصبر؟ قال:الشُقُر، قال: فأي الأمم أشدُّ قتالاً؟ قال: هم أكثر من أن أصف؟ قال: قال: فأخبرني عن الرُّوم، قال: أُسْدٌ في حصونهم عِقبان على خيولهم، نساء في مَراكبهم، إن رأَوا فرصة انتهزوها، وإن رأَوْا غلبة، فأُوعال تذهب في الجبال، لا يرون الهزيمة عاراً. قال: فالبربر؟ قال: هم أشبه العجم بالعرب لقاء ونجدة وصبراً وفروسية، غير أنهم أغدر الناس قال: فأهل الأندلس؟ قال: ملوك مترفون وفرسان لا يجبنون، قال: فالفرنج؟ قال: هناك العدد والجلد والشدة والبأس، قال: فكيف كانت الحرب بينكم وبينهم؟ قال: أمَّا وهذا فوالله ما هُزمت لي راية قط ولا بُدِّد لي جمع، ولا نُكب المسلمون معي منذ اقتحمت الأربعين إلى أن بلغت الثمانين، ولقد بعثت إلى الوليد بتور4771 زبرجد كان يجعل فيه اللبن حتى ترى فيه الشعرة البيضاء ثم أخذ يُعدِّد ما أصاب من الجوهر والزبرجد حتى تحير سليمان4772، وقد وصف الذهبي موسى بن نصر بقوله: الأمير الكبير، أبو عبد الرحمن اللخمي، متولي إقليم المغرب، وفاتح الأندلس، قيل: كان مولى امرأة من لخم، وقيل: ولاؤه لبني أمية. وكان أعرج مهيباً ذا رأي وحزم4773، وكان من اصحاب الهمم الكبيرة فقد قال مرّة: والله لو انقاد الناس لي، لقدتهم حتى أُوقعهم على رُومية ثم ليفتحنها الله على يدي4774، وكان موسى بن نصير بوسعه أن يستقل على الخلافة ويقيم ملكاً له ولأولاده(3/25)
في المغرب والأندلس، ولكن إيمانه العميق بتعاليم الإسلام وتمسكه والتزامه بها جعله لا يفكر بذلك حتى إن يزيد بن المهلب ابن أبي صفرة سأله عن ذلك فقال موسى: والله لو أردت ذلك ما نالوا من أطرافي طرفاً، ولكني آثرت الله ورسوله، ولم نر الخروج عن الطاعة والجماعة4775، وقد توفي موسى بن نصير رحمه الله تعالى وهو متجه للحج برفقة الخليفة سليمان بن عبد الملك في المدينة المنورة ـ على سكانها أفضل الصلاة والسلام ـ أو في وادي القرى ((العُلا ، حاليا) أواخر سنة 97هـ4776 وعمره ثمان وسبعون سنة أو يزيد (في سنة 97هـ)4777، وقال صاحب معالم الإيمان: توفي بالمدينة متوجهاً إلى الحج وكان قد سأل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة أو يموت بالمدينة فأجاب الله دعاءه4778، وصلى عليه مسلمة بن عبد الملك4779، لقد كانت الدنيا وما فيها صغيرة ولا قيمة لها عند موسى بن نصير ويرجع الفضل في ذلك إلى الله ثم نصيحة العالم الجليل أبو عبد الله علي بن رباح اللخمي لموسى بن نصير، فقد أورد صاحب كتاب رياض النفوس أن موسى بن نصير لما وصل من الأندلس إلى القيروان قعد يوماً في مجلسه، فجاءه العرب يسلمون عليه، فلما احتفل المجلس قال: إنه قد صحبتني ثلاث نعم: أما واحدة فإن أمير المؤمنين كتب إلى يهنئني في كتابه وأمر بقراءة الكتاب، فهنيء بذلك وأما الثانية فإن كتاب ابني قدم علي بأنه فتح له بالأندلس فتح عظيم، وأمر بالكتاب فقريء فهنيء بذلك، وكان علي بن رباح ساكت فقال له موسى: مالك يا علي لا تتكلم؟ فقال: أصلح الله الأمير، قد قال القوم فقال: وقل أنت أيضاًَ. فقال: أنا أقول ـ وأنا أنصح القائلين لك ـ إنه ما من دار امتلأت حبرة إلا امتلأت عبرة، وما انتهى شيء إلا رجع، فارجع قبل أن يرجع بك، فانكسر موسى بن نصير وخشع وفرق جواري عدة.. وقال صاحب الرياض: ونفعه الله عز وجل بموعظة أبي عبد الله بن رباح، فصغرت عنده الدنيا وما فيها ونبذها وانخلع مما كان فيه من(3/26)
الإمارة4780، فرضي الله عن التابعي الجليل، والإداري الحازم، والبطل المغوار، والقوي الأمين، القائد الفاتح، موسى بن نصير اللخمي الذي فتح المغرب الأقصى، واستعاد فتح المغرب الأوسط، وأنه دعم الفتح الإسلامي في الشمال الإفريقي وأنه فتح الأندلس وقسماً من جنوب فرنسا وأنه كان من أعظم قادة الفتح الإسلامي4781، لقد مات موسى بن نصير بعد أن ملأ جهاده ـ بقيادة المد الإسلامي المبارك ـ وديان المغرب الإسلامي ((الشمال الإفريقي والأندلسي)) وجباله وسهوله وهضابه ووجه دعاة الحق لإسماع ساكنيه دعوة الإسلام الخالدة، فكانت سبباً في إخراجهم من الكفر إلى الإيمان، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الظلمات إلى النور، أما ترى معي موسى وهو يجوب الصحاري والوديان والسهول والجبال وقد سلخ من سني عمره خمساً وسبعين سنة ممتطياً جواده يتحرك في أعماقه إيمان بالله العلي القدير قد دفعه للجهاد والدعوة والعلم والتربية وأحكام أمور الدولة رغم ما علا رأسه من الشيب الوقور، منقاد لإصرار العقيدة السمحة، وهمة الإيمان الفتي4782، التي كانت سبباً في كل خير أصاب المسلمين,(3/27)
…أما عن البطل الكبير طارق بن زياد، فلا نكاد نعرف عما حدث له بعد وصوله دمشق غير أن رواية تذكر رغبة سليمان في تولية طارق الأندلس4783، وبعد ذلك قضى آخر أيامه مغموراً4784 فهل عاد إلى المغرب والأندلس؟ أم بقي في دمشق ولا يستبعد أن يكون عاد إلى الأندلس أو المغرب4785، كان طارق من البربر وعامّة جنوده كذلك، فيهم شجاعة وإقدام، فقد تربوا في أحضان الإسلام وعلى تعاليم القرآن الكريم وأصبحوا أصحاب رسالة خالدة صنعت منهم الأبطال، وقدموا في سبيل دينهم وعقيدتهم الغالي والنفيس، بل نجزم بأن الجيوش الإسلامية الضاربة التي اصطدمت بالأسبان اعتمدت بعد الله على إخواننا من البربر الذين اندفعوا خلف طارق في سبيل هذا الدين ونشره، إن العقيدة الإسلامية صهرت المنتسبين إليها عرباً وعجماً في رحاب الإسلام العظيم4786.
11 ـ الأندلس بعد موسى بن نصير:(3/28)
…تولى الأندلس منذ عودة موسى بن نصير إلى دمشق وحتى قيام الإمارة الأموية سنة 138 حوالي عشرين أميراً، كان أولهم عبد العزيز بن موسى بن نصير الذي ألقى أبوه بزمام الأندلس بين يديه، وكان خير خلف لخير سلف، فقط ضبط الأمور وسد الثغور وافتتح مدائن كثيرة وكان من خيرة الولاة4787، ولكن لم تطل مدة عبد العزيز في حكم الأندلس، فقد قتله بعض جنده غيلة لأشياء ونقموها عليه، وكان ذلك في مستهل رجب سنة 97هـ4788، وأعقب مقتل عبد العزيز بن موسى فترة من الاضطراب، ومكث أهل الأندلس شهوراً لا يجمعهم وال. حتى اجتمعوا على أيوب بن حبيب اللخمي ابن أخت موسى بن نصير4789، وكان أيوب رجلاً صالحاً فاضلاً ولكن مدة ولايته لم تطل، ويبدو أن الناس هناك هم الذين نصبوه ليدبر الأمور حتى تعين الخلافة والياً من قبلها، وقد عينت الحر بن عبد الرحمن الثقفي الذي كان أهم أعماله نقل مقر إمارة الأندلس من اشبيلية ـ حيث كان يحكم عبد العزيز بن موسى ـ إلى قرطبة4790. كما كانت له غزوات تجاوز بها حدود بلاد الأندلس إلى بلاد الفرنجة ونواحي أربونة، فسبى وغنم وقفل بالأسارى والغنائم4791، وقد أدى انشغال الحر الثقفي بالغزو في الشمال الشرقي إلى انتعاش حركة المقاومة المسيحية ـ في المنطقة التي لم يتمكن المسلمون من فتحها وهي المنطقة الشمالية الغربية بزعامة بلاي4792، مما اضطره إلى العودة للقضاء على تلك المقاومة، وبينما هو مشغول بذلك عزله الخليفة عمر بن عبد العزيز 99 ـ 101هـ وعين مكانه السمح بن مالك الخولاني 100هـ ـ 102هـ4793.
المبحث الثالث : فتوحات المشرق:(3/29)
أولاً : فتوحات المهلب بن أبي صفرة: كوفئ المهلب بن أبي صفرة على إخلاصه للدولة وتفانيه في محاربة الخوارج أميراً على خراسان عام 78 هـ بناء على توصية الخليفة عبد الملك، فنزل العاصمة مرو، ثم أخذ يعيد الهدوء والأمن والنظام إلى البلاد، ولأول مرة بعد أربع عشرة سنة، تمّ إرسال جحافل المسلمين من جديد نحو الشرق إلى بلاد تركمان 80 هـ4794، فعبر المهلب بنفسه نهر بلخ(( سيحون)) ونزل كش4795، ثم جعل يغزو البلاد غزواً متواصلاً لا يفتر عن الجهاد، فخيل له بسمرقند، وأخرى ببخاري وثالثة بطخارستان ورابعة ببست4796، وكان كلما فتح فتحاً أخرج الخمس لبيت المال وأرسله إلى الحجّاج ويقسم الباقي بين أصحابه4797، وكان على مقدمته أبو الأدهم الزماني في ثلاثة الآلف وهو في خمسة الآلف، ووجه المهلب ابنه يزيد إلى بلاد الختل، وملكها الشبل بناء على ترغيب ابن عم الملك وفي بلاد الختل تمكن الملك الشبل من ابن عمه فقتله، أما يزيد بن المهلب، فقد استطاع تحقيق أهداف الحملة، فقد اضطره إلى المصالحة ودفع الفدية، بعد أن هزمه عسكرياً وقام. بمضايقته في حصار قلعة الشبل، وأرسل ابنه الثاني حبيب إلى رابنجن، فوافى صاحب بخاري في أربعين ألفاً، فقام قسم من أهالي بخار بالهروب والاختباء بإحدى القرى فاجتثهم وعاد حبيب إلى أبيه منتصراً4798.
1 ـ وفاة المهلب:(3/30)
كان المهلب من التابعين، فقد ولد عام الفتح الذي كان سنة ثمان الهجرية ومات سنة 82 هـ في ولاية خراسان وكان يقال: ساد الأحنف بحلمه ومالك بن مسمع بمحبته للعشيرة، وقيبة بدهائه وساد المهلب بهذه الخلال جميعاً4799. وكان سيداً جليلاً نبيلاً خطيباً شجاعاً فقيها وكان على جانب عظيم من السخاء والكرم ومما يدل على كرمه أنه أقبل يوماً في بعض غزواته فتلقته امرأة فقالت له: أيها الأمير إني نذرت إن أقبلت سالماً أن أصوم شهراً وتهب لي جارية وألف درهم، فضحك المهّلب وقال: قد وفينا نذرك فلا تعودي لمثله، فليس كل أحد يفي لك به4800. ووقف رجل فقال: أريد منك حُويجة. فقال المهلب: أطلب لها رُجيْلا يعني أن مثلي لا يسأل إلا عن حاجة عظيمة4801، وكان حليماً من أخبار حلمه، أنه مرّ يوماً بالبصرة، فسمع رجلاً يقول: هذا أعور قد ساد الناس، ولو خرج إلى السوق لا يساوي أكثر من مائة درهم فبعث إليه المهلب بمائة درهم وقال: لوزدتنا في الثمن زدناك في العطية4802، وكان قد فقئت عينه بسمرقند4803، وكان بليغاً في كلامه حكيماً في آرائه، له كلمات لطيفة وإشارات مليحة تدل على مكارمه ورغبته في حسن السمعة والثناء الجميل ومن ذلك قوله: الحياة خير من الموت، والثناء خير من الحياة، ولو أعطيت ما لم يعطه أحد لا حببت أن تكون لي أذن أسمع بها ما يقال فيَّ غداً إذا مت4804، وقيل يوماً للمهلّب: ما خير المجالس؟ فقال: ما بعد فيه مدى الطرف وكثر فيه فائدة الجليس. وقال يوماً: أدنى أخلاق الشريف كتمان السر وأعلى أخلاقه نسيان ما أسرّ إليه4805.(3/31)
2 ـ وصيته لأبنائه حين حضرته الوفاة: دعا ابنه حبيباً ومن حضره من ولده، ودعا بسهام فحزمت ثم قال: أفترونكم كاسريها مجتمعة؟ قالوا: لا. فقال: أفترونكم كاسريها متفرقة؟ قالوا: نعم. قال: فهكذا الجماعة، فأوصيكم بتقوى الله ، وصلة الرحم، فإن صلة الرحم تنسيء في الأجل وتثري المال وتكثر العدد، وأنهاكم عن القطيعة فإن القطيعة تعقب النار وتورث الذلة والقلّة، فتحابوا وتواصلوا وأجمعوا أمركم لا تختلفوا، وتبارّوا تجتمع أموركم. إن بني الأم يختلفون فكيف ببني العَلات؟ وعليكم بالطاعة والجماعة وليكن فعالكم أفضل من قولكم، فإني أحبّ للرجل أن يكون لعمله فضل على لسانه، واتقوا الجواب وزلة اللِّسان فإن الرجل تزلّ قدمه فينتعش من زلّته ويزلّ لسانه فيهلك. اعرفوا لمن يغشاكم حقّه، فكفى بغدو الرجل ورواحه إليكم تذكرة له، وآثروا الجود على البخل، وأحبوا العرب واصطنعوا العرف، فإن الرجل من العرب تَعده العِدة فيموت دونك، فكيف الصنيعة عنده؟ عليكم في الحرب بالإناة والمكيدة فإنها أنفع في الحرب من الشجاعة وإذا كان اللقاء نزل القضاء، فإن أخذ الرجل بالحزم فظهر على عدوه قيل: أتى الأمر من وجهه ثم ظفر فَحُمد وإن لم يظفر بعد الأناة قيل: ما فرّط ولا ضيّع، ولكن القضاء غالب، وعليكم بقراءة القرآن وتعلم السنن وأدب الصالحين وإياكم والخفة وكثرة الكلام في مجالسكم4806.(3/32)
…وبعد وفاة المهلب وليّ الحجّاج ابنه يزيد خراسان، فقام يزيد عام 84هـ بفتح قلعة باذنجس4807، التي كان ينزلها ينزك، بعد أن وضع عليه العيون، وتأكد من خلو القلعة بخروج ينزك منها فسار إليها وحاصرها فتم له فتحها، واستولى على ما فيها من الأموال والذخائر وكانت القلعة على جانب كبير من المنعة بحيث أن صاحبها ينْزك كان يسجد لها4808، وعزل الحجّاج يزيد بن المهلب وعين أخاه المفضل على ولاية خراسان عام 85هـ فولى المفضل البلاد تسعة أشهر قام خلالها بغزو باذنجس، ففتحا وأصاب منها مغنماً فقسم المغانم بين المقاتلين، فأصاب كل رجل منهم ثمانمائة درهم ثم غزا المفضل آخرون وثومان، فظفر وغنم، وكان يقسم الأموال مباشرة لعدم وجود بيت مال عنده4809 .
…وفي عام 86هـ عين الحجّاج قتيبة بن مسلم على خراسان4810 وقبل الحديث عن قتيبة وفتوحاته لابد من الإشارة إلى فتوحات سجستان.(3/33)
3 ـ سجستان: ولى الخليفة عبد الملك: أمية بن عبد الملك بن خالد بن أسيد بن أبي العيص فوجه هذا ابنه عبد الله فصالحه رتبيل القائم على ثلاثمائة ألف درهم، ولما بلغ الخليفة ذلك عزله، ثم ولى الحجّاج عام 78هـ عبيد الله بن أبي بكرة فلبث سنة بلا غزو، وفي السنة التالية تحرك لمناجزة رتبيل الذي كان مصالحاً، ولكنه يؤدي الخراج حيناً ويمنع حيناً آخر، فقام عبيد الله بن أبي بكرة عام 79هـ، ومضى إليه غازياً حتى دخل بلاده، فأصاب منها الغنائم وهدم الحصون وغلب على أرض من أرضيهم وهرب أتباع رتبيل من الترك أمام جحافل المسلمين، حتى اقتربوا من عاصمتهم كابل، فأخذ الترك على المسلمين الشعاب والمسالك، فسقط في أيديهم المسلمين حتى شعر الجنود المسلمين بالضيق والهلاك، مما دفع عبيد الله بن أبي بكرة إلى مصالحة رتبيل ليمكن المسلمين الخروج من أرض الترك سالمين4811، وكان بين المقاتلين أحد الزهاد ممن يعشق الجهاد، ويعرف باسم شريح بن هانيء، فقام شريح ودعا الجنود إلى الاستمرار في القتال لطلب الشهادة ومما جاء في دعوته: يا أهل الإسلام، من أراد منكم الشهادة فإلي: فاتبعه أُناس من المتطوعة وفرسان الناس، وأهل الحفاظ فقاتلوا الترك حتى أصيبوا إلا قليلاً، وعادوا من بلاد رتبيل فاستقبلهم الناس بالأطعمة، فكان أحدهم إذا أكل وشبع مات، وبذلك لم تحقق هذه الغزوة أهدافها العسكرية مما دفع الحجّاج إلى استئذان الخليفة عبد الملك بإرسال جيش جديد4812، يعيد للدولة هيبتها ومكانتها4813، فأعد الحجّاج في عام 80هـ جيشاً قوياً من أهل الكوفة بلغ عدد عسكره أربعين ألفاً، عشرون ألفاً من الكوفة ومثلهم من البصرة وتشجيعاً للجنود ورفعاً لروحهم المعنوية أعطاهم أعطياتهم مسبقة، وأنفق فيها الأموال، وأنجدهم بالخيل والسلاح، حتى سمي هذا الجيش ((جيش الطواويس)) فقد بلغت الأموال التي أنفقها على تجهيزه سوى الأعطيات مليوني درهم4814، واختار لهذا الجيش الكبير عبد الرحمن(3/34)
بن الأشعث الذي سار بهم حتى وصل سجستان4815. وقد تحدثنا عن هذا الجيش وما قام به من حروب أهلية عند دراستنا لثورة عبد الرحمن بن الأشعث.
ثانياً : فتوحات قتيبة بن مسلم في بخارى وسمرقند وغيرها:
هو قتيبة بن مسلم الباهلي الأمير أبو حفص، أحد الأبطال والشجعان، ومن ذوي الحزم والدهاء والرأي والغَنَاء، وهو الذي فتح خوارزم وبخارى وسمرقند وكانوا قد نقضوا وارتُّدوا. ثم أنه افتتح فرغانه، وبلاد الترك في سنة 95هـ4816، ولي خراسان عشر سنين وله رواية عن عمران بن حصين، وأبي سعيد الخدري4817، ولم ينال قتيبة أعلى الرتب بالنسب، بل بكمال الحزم والعزم والإقدام، والسَّعد، وكثرة الفتوحات ووفور الهيبة4818.(3/35)
…تولى قتيبة خراسان بعد المفضل بن المهلب وكان من الأبطال الشجعان ذوي الحزم والدهاء والرأي والغناء، ويعتبر بحق من أعظم القادة الفاتحين، الذين عرفهم التاريخ الإسلامي عامة وتاريخ الدولة الأموية خاصة4819، ففي عشر سنين فتح أقاليم شاسعة: وقد هدى الله على يديه خلقاً لا يحصيهم إلا الله، فأسلموا ودانوا لله عز وجل4820، وكانت بداية فتوحاته عندما وصل لخراسان، فقد جمع الناس وخطبهم قائلاً: إن الله أحلكم هذا المحل ليعز دينه ويذب بكم عن الحرمات، ويزيد بكم المال استفاضة والعدو ـ وقماً ـ أي ذلاً ـ ووعد نبيه صلى الله عليه وسلم النصر بحديث صادق وكتاب ناطق فقال : ((هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)) (الصف ، الآية : 9). ووعد المجاهدين في سبيله أحسن الثواب وأعظم الذخر عنده فقال: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) إلى قوله: ((أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) (التوبة ، آية : 120 ـ 121) ثم أخبر عمن قتل في سبيله أنه حي مرزوق، فقال: ((وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)) (آل عمران ، الآية 169) فتنجزوا موعود ربكم ووطنوا أنفسكم على أقصى أثر وأمضى ألم وإياي والهويني))4821، بهذه الخطبة الموجزة ذكر قتيبة المسلمين برسالتهم، ومسئولياتهم تجاهها، وأهاب بهم أن يوطنوا أنفسهم على تحمل المشقة في سبيل الله وأن يسيروا في طريق إسلامهم طريق الجهاد، والعزة في الدنيا والفوز بالجنة في الآخرة4822، وشرع قتيبة في الفتوحات وفتح منطقة ما وراء النهر ثم عبر نهر سيحون وفتح أقاليم كبرى، حتى وصل كاشغر متاخماً بذلك حدود الصين وأهم المراحل الكبرى في هذه الفتوحات:
المرحلة الأولى : استعادة الطالقان4823 والصغانيان وطخارستان4824:(3/36)
عرض قتيبة جنده وحثهم على الجهاد وسار غازياً، فلما كان بالطالقان أتاه دهاقين (بلخ) وساروا معه، فقطع نهر ((جيحون)) فتلقاه ملك (الصغانيان) بهدايا ومفاتيح من ذهب ودعاه إلى بلاده وسلّمها إليه، لأنّ ملك شومان4825 وأخْرون4826، كان يسيء جواره، وسار قتيبة منها إلى أخرون وشُومان وهما من الصَغَانيان، فصالحه ملكها على فدية أداها إليه، فقبلها قتيبة ثم انصرف عائداً إلى (مرو) واستخلف على جنده أخاه صالح بن مسلم، ففتح صالح بعد رجوع قتيبة (كاشان)4827 وأورشت4828، وفتح أخسيكت4829وهي مدينة (فرغانة)4830 القديمة4831، بهذا الفتح الكبير، استهل قتيبة ولايته لخراسان سنة 86هـ4832.
المرحلة الثانية : فتح إقليم بخارى 87 ـ 90هـ:(3/37)
كانت أول مدينة غزاها في هذا الإقليم، وهي مدينة بيكند، يقول الطبري: إن قتيبة لما صالح نيزك، أقام إلى وقت الغزو ثم غزا في تلك السنة 87هـ فقطع النهر وسار إلى بيكند، وهي أدنى مدائن بخارى إلى النهر فلما نزل قريباً منها استنصروا الصغد واستمدوا من حولهم، فأتوهم في جمع كثير، وأخذوا بالطريق فلم ينفذ لقتيبة رسول ولم يصل إليه رسول، ولم يعرف له خبر شهرين، وأبطأ خبره على الحجّاج، فأشفق الحجّاج على الجند، فأمر الناس بالدعاء لهم في المساجد، وكتب بذلك إلى الأمصار، وهم يقتتلون كل يوم، فكانت بين الناس مشاولة4833، ثم تزاحفوا والتقوا وأخذت السيوف مأخذها وأنزل الله على المسلمين الصبر، ثم منح الله المسلمين أكتافهم فانهزموا يريدون المدينة واتبعهم المسلمون فشغلوهم عن الدخول فتفرقوا وركبهم المسلمون قتلاً وأسراً كيف شاءوا واعتصم من دخل المدينة بالمدينة وهم قليل، فوضع قتيبة الفَعَلة في اصلها ليهدمها، فسألوه الصلح فصالحهم، واستعمل عليها رجلاً من بني قتيبة4834، ولكنهم سرعان ما نقضوا الصلح، وقتيبة منهم على خمس فراسخ فرجع إليهم، وقتل من كان في المدينة، وغنم غنائم كثيرة، ورجع قتيبة إلى مرو، وقوى المسلمون، فاشتروا السلاح والخيل.. وتنافسوا في حسن الهيئة والعدة4835، واستمرت حملات قتيبة على إقليم بخارى في هذه المرحلة بصفة منظمة كل سنة، وكان غزوه يتم في فصل الصيف فإذا دخل الشتاء عاد إلى مرو وفي سنة 88هـ ترك أخاه بشاراً على مرو وعبر النهر ففتح نومشكت ورامثنة من أعمال بخاري صلحاً بناء على طلب أهلها4836، ولكن هاله حلف من أهل فرغانة والصغد في مائتي ألف عليهم ابن أخت ملك الصين ـ كور مغايون ـ وواضح من هذا التجمع الكبير أن الأمم في هذه المناطق قد تداعت وتحالفت على المسلمين، ولكن الله نصر قتيبة وجنده على هذا الحلف، ثم عاد إلى مرو4837، وفي عام 89هـ استأنف قتيبة فتوحاته وقصد بخاري هذه السنة بناء على أوامر الحجّاج،(3/38)
فلقيه في طريقه جمع من أهل كش ونسف فظفر بهم ومضى إلى بخاري، فتصدى له ملكها ـ وردان خذاه ـ فلم يستطع الاستيلاء عليها، فرجع إلى مرو، وكتب إلى الحجّاج يخبره فطلب منه الحجّاج أن يصورها له فبعث إليه بصورتها، فنصحه وأمده وعرفه الموضع الذي يأتيها منه، وأمره بالمسير إليها، فسار إليها سنة 90هـ ومع أن وردان خذاه كان قد استجاش الصغد والترك ليساعدوه في التصدي لقتيبة، إلا أنه تمكن من الانتصار عليهم بعد معارك شرسة، واستولى على بخاري، وكتب بالفتح إلى الحجّاج4838، وبهذا استكمل قتيبة فتح إقليم بخارى كله في ثلاث سنوات.(3/39)
المرحلة الثالثة من 90 ـ 93هـ فتح سمرقند: وهي المرحلة التي فرض فيها قتيبة السيادة الإسلامية على حوض نهر جيحون وتوج عمله فيها بالاستيلاء على مدينة سمرقند، أعظم المدائن في بلاد الصغد، وكان طرخون ملك الصغد، قد أرسل إلى قتيبة بعد انتصاره في معركة بخارى سنة 90هـ يطلب الصلح4839، فأجابه قتيبة وصالحه، ورجع قتيبة4840، وفي سنة 91هـ كان غدر نيزك ـ صاحب قلعة بادغس ـ وتأليبه ملوك طخارستان ورتبيل ملك سجستان على المسلمين، وقد نكل به قتيبة سجستان من الشمال وربما كانت تلك أول مرة يغزو فيها قتيبة سجستان وربما كان قد أراد تأديب رتبيل ملكها لانضمامه إلى نيزك في غدره، ولكن رتبيل قدر العواقب وطلب الصلح فقبل قتيبة وصالحه، وانصرف عائداً إلى مرو، وترك عبد ربه بن عبد الله بن عمير الليثي عاملاً على سجستان4841، وقد توج قتيبة فتوحاته في هذه المرحلة بفتح سمرقند، وهي أعظم مدائن ما وراء النهر والذي دعاه إلى ذلك أن طرخون ملكها كان قد نقض الصلح الذي أبرمه معه قتيبة سنة 90هـ، وامتنع عن دفع ما كان صالح عليه، فقرر قتيبة أن يضع حداً لهذا العبث، فجمع جنده وأخبرهم بنقض طرخون الصلح وبعزمه على فتح سمرقند بالقوة وجهز أخاه عبد الرحمن بن مسلم في عشرين ألف مقاتل وأمره بالسير أمامه، ثم تبعه هو في أهل خوارزم وأهل بخاري وضرب عليها الحصار وقال: إنا إذا نزلنا بساحة قوم ((فساء صباح المنذرين))4842، متيمناً بقول: رسول الله صلى الله عليهوسلم عندما حاصر خيبر، فلما رأى أهل سمرقند أن مدينتهم قد حوصرت خافوا طول الحصار فكتبوا إلى ملوك الشاش وفرغانة يستغيثوهم، ويحرضونهم على المسلمين وقالوا لهم: إن العرب إذا ظفروا بنا عادوا عليكم بمثل ما أتونا به فانظروا لأنفسكم4843، استجاب هؤلاء الملوك لنداء أهل سمرقند واختاروا عدداً من أولادهم ومن أهل النجدة والبأس من ابناء المرازبة والأساورة والأبطال وأمروهم أن يفاجأوا قتيبة في معسكره، وهو مشغول(3/40)
بحصار سمرقند، ولكن قتيبة كان يقظاً باثاً عيونه ولم يغب عن باله حدوث مثل هذه المفاجآت، فعلم بخبرهم، وأرسل لهم فرقة من جنده بقيادة أخيه صالح بن مسلم، فبدد شملهم وقتلهم ولم يفلت منهم إلا الشريد، وغنم السملمون أمتعتهم وأسلحتهم4844، فلما رأى الصغد ما حل بهؤلاء انكسروا وضيق عليهم قتيبة الخناق ونصب المنجنيق على المدينة واستطاع إحداث ثلمة فيها وصاح صيحة الأسد: حتى متى يا سمرقند يعشش فيك الشيطان أما والله لئن أصبحت لأحاولنّ من أهلك أقصى غاية، فلما أصبح أمر الناس بالجد في القتال فقاتلوهم، واشتد القتال، وأمرهم قتيبة أن يبلغوا ثلمة المدينة ورماهم الصغد بالنشاب فلم يبرحوا، فأرسل الصغد إلى قتيبة، فقالوا له: انصرف عنا اليوم، حتى نصالحك غداً، فقال: لا نصالحهم إلا ورجالنا على الثلمة.. فصالحهم من الغد على ألفي ألف ومائتي ألف مثقال في كل عام، وأن يعطوه تلك السنة ثلاثين ألف رأس وأن يخلو له المدينة فلا يكون فيها مقاتل، فيبني فيها مسجداً، ويدخل ويصلي ويخطب ويتغذى ويخرج4845. دخل قتيبة سمرقند وحطم ما بها من الأصنام ولم يعبأ بما خوفه منها حيث قال له أحدهم مدعياً نصيحته: لا تتعرض لهذه الأصنام فإن منها أصناماً من أحرقها أهلكته، فقال له: أنا أحرقها بيدي، فأمر بإشعال النار، وكبر ثم أحرقها، فوجدوا من بقايا مسامير الذهب والفضة خمسين ألف مثقال4846،وبعد أن أتمّ قتيبة هذا الفتح العظيم عاد إلى مرو، لكي يستريح، ثم يستعد لجولته الأخيرة، التي سيفتح فيها المناطق السيحونية4847.
المرحلة الرابعة : أقاليم الشاش وفرغانة وكاشغر 94هـ ـ 96هـ:(3/41)
وهي المرحلة التي فتح الله فيها على يديه أقاليم الشاش وفرغانة وكاشغر وقد بدأ هذه المرحلة سنة 94هـ، حيث سار في موعد غزوه ـ في الصيف ـ ومعه عشرون ألفاً من أهل بخارى وكش ونسف، وخوارزم4848، فوجه قسماً منهم إلى الشاش وتوجه هو بالقسم الآخر إلى فرغانه، حيث دار بينه وبين الترك قتال عنيف حول مدينة خجنده، ويبدو أن نتيجة المعركة لم تكن حاسمة، حيث توجه قتيبة إلى كاشان قبل أن يحسم أمر خجنده وهناك أتاه جنوده الذين كان أرسلهم إلى الشاش ويبدو أن قتيبة قد وجد مقاومة شرسة من الأتراك في هذه البلاد، فقد كتب إلى الحجّاج يطلب مدداً، فأرسل إليه جيشاً من العراق4849، ثم أمر محمد بن القاسم الثقفي أن يوجه إليه من السند مدداً4850 أيضاً، فإمداد قتيبة بهذه الجيوش من العراق ومن السند4851، فوق ما معه من قوات كبيرة، يدل على قوة المقاومة التي لقيها في أقاليم سيحون، كما يدل على قوة عزم المسلمين في الجهاد، وأنه أراد أن يكون متفوقاً عليهم، حتى يحقق هدفه، وقد نجح بالفعل وفتح أقاليم الشاش وفرغانة 95هـ4852، وبعد أن أتم هذا الفتح الكبير، جاءته الأخبار بموت الحجّاج في شوال في تلك السنة، فاغتم لموته، لما كان يجد منه من التأييد والتشجيع والمساندة وقفل راجعاً إلى مرو، وتمثل قول الحطيئة:
………لعمري لنعم المرء من آل جعفر
…………………بحوران أمس أعلقته الحبائل
………فإن تحي لا أملل حياتي وإن تمت
…………………فما في حياة بعد موتك طائل4853(3/42)
عاد قتيبة إلى مرو وقد ترك حاميات من جنده في بخارى وكش ونسف، وانتظر ما تأتي به الأقدار بعد موت الحجّاج. وكان الخليفة الوليد بن عبد الملك يعرف طبيعة العلاقة بين الحجّاج وقتيبة، وأن للحجّاج دوراً كبيراً في نجاح قتيبة في مهمته، فقدر وقوع نبأ موت الحجّاج عليه، لذلك واساه وأرسل إليه رسالة كلها تشجيع وثناء وتزكية، قال له فيها:. قد عرف أمير المؤمنين بلاءك وجدك في جهاد أعداء المسلمين، وأمير المؤمنين رافعك وصانع بك الذي يجب لك، فأتمم مغازيك، وانتظر ثواب ربك، ولا تغيب عن أمير المؤمنين كتبك، كأني أنظر إلى بلادك والثغر الذي أنت فيه4854.
ـ فتح كاشغر وغزو الصين:(3/43)
أحدثت رسالة الخليفة الوليد بن عبد الملك أثراً طيباً في نفس قتيبة وأعطته دفعة قوية من العزم والتصميم فتوجه من مرو ليواصل فتوحاته، فقصد مدينة كاشغر التي يقول عنها الطبري: إنها أدنى مدائن الصين4855، ومع أن الوليد بن عبد الملك قد توفي في جمادي الآخرة سنة 96هـ، وصل نبأ وفاته إلى قتيبة وهو في فرغانة4856، وقبل أن يصل إلى كاشغر، إلا أنه واصل سيره حتى فتحها، وهنا جاءه رسول مالك الصين يطلب منه أن يوجه إليه وفداً ليعرف خبرهم، فاختار قتيبة عشرة ـ وقيل اثني عشر ـ من خيرة رجاله برئاسة هبيرة بن المشمرج الكلابي، فأرسلهم إلى ملك الصين ويقص الطبري خبر هذه السفارة في حديث طويل، نكتفي منه بما انتهى إليه الحوار مع ملك الصين، حيث قال لهم مهدداً فانصرفوا إلى صاحبكم، فقلوا له: ينصرف، فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه، وإلا بعثت عليكم من يهلككم ويهلكه، فرد عليه هبيرة في شجاعة المؤمن وعزته فقال له: كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك، وآخرها في منابت الزيتون؟ وكيف يكون حريصاً من خلف الدنيا قادرا عليها وغزاك؟ وأما تخويفك إيانا فإن لنا آجالاً إذا حضرت فأكرمها القتل، فلسنا نكرهه، ولا نخافه. أعادت هذه المقالة ملك الصين إلى صوابه، وأيقن أنه أمام قوم لا يجدي معهم التهديد ولا الوعيد فاعتدل في كلامه، وقال لهبيرة: فما الذي يرضي صاحبكم؟ قال: إنه قد حلف ألا ينصرف حتى يطأ أرضكم، ويختم ملوككم، ويعطي الجزية، قال: فإنا نخرجه من يمينه، نبعث إليه بتراب من أرضنا فيطؤه، ونبعث ببعض أبنائنا فيختمهم، ونبعث إليه بجزية يرضاها قال: فدعا بصحائف من ذهب فيها تراب وبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم، ثم أجازهم فأحسن جوائزهم فساروا فقدموا بما بعث به، فقبل قتيبة الجزية، وختم الغلمان وردهم، ووطئ التراب4857، وهكذا انتهت هذه المرحلة من فتوحات قتيبة، التي طوى فيها أقاليم ماوراء جيحون، ثم عبر نهر سيحون، وفتح فرغانة(3/44)
والشاش، وأشروسنه، وكاشغر، وفرض سيادة الإسلام على ملك الصين، وجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، وكان قتيبة قائداً عسكرياً فذا، وبطلاً سياسياً بارعاً، قهر الصعاب وتغلب على كل المشاكل التي واجهته، ولم يثنه عن عزمه لا صعوبة الطرق ووعورتها ولا قسوة المناخ وشدته، فقد كان عزمه حديداً، وكان هدفه رشيداً، وغايته عظيمة، والعون من الله مكفول للمخلصين لهذا الدين العظيم4858
1 ـ جهود قتيبة في نشر الإسلام:(3/45)
…كان قتيبة ومن معه من الفاتحين يحرصون على دعوة الناس للإسلام, وإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام, فكان قتيبة يهتم ببناء المساجد في المدن والقرى والأرياف ويصنع فيها العلماء والفقهاء لتربية الناس وتعليمهم الإسلام وقام بتسكين المسلمين بين السكان الأصليين, ليطلعوا على تعاليم الإسلام وعادات المسلمين واخلاقهم عن طريق الاحتكاك بهم, مثل ما حدث مع أهل بخارى4859 فأظهر الإسلام بهذه الطريقة, وازال آثار الكفر ورسم المجوسية وبني ببخارى المسجد الجامع وأمر المسلمين باداء صلاة الجمعة فيه, ومن اساليب قتيبة في ترغيب الناس في الدخول في الإسلام, كان يأمر بمنادٍ كل يوم يقول : بأن كل من يأتي لصلاة الجمعة يعطى درهمين4860, ويعد هذا العمل طريقة جديدة في ذلك العهد في تأليف قلوب الناس للإسلام والحفاظ على الذين اعتنقوه4861, وكان في جيشه مجموعة من العلماء, كمحمد بن واسع, والقاضي يحي بن يعمر والضحاك بن مزاحم صاحب التفسير فقد ساهم أمثال هؤلاء في نشر الإسلام وكان محمد بن واسع ينافس قتيبة في بناء المساجد وقد صاحب عمليه انتشار الإسلام بين سكان ما وراء النهر سرعة تعلمهم اللغة العربية, حيث كان قتيبة يصدر أوامره ببناء المساجد ولم تكن تقتصر على اقامة شعائر الصلاة فقط وإنما فيها حلقات الدرس في تعليم القران الكريم والأحاديث النبوية الشريعة, وكان للمسجد والعلماء الذين أشرفوا عليها دور عظيم في تعليم السكان اللغة العربية4862, وقد قال ابن كثير عن قتيبة : انه ما انكسرت له راية وكان من المجاهدين في سبيل الله واجتمع له من العسكر مالم يجتمع لغيره4863. وكان من نتائج الجهود التي بذلها قتيبة في نشر الإسلام, أن أصبحت بخارى وسمرقند وأقليم خوارزم مراكز للثقافة العربية ونشر الإسلام في اسيا الوسطى, كما كانت مرو ونيسابور في خراسان, ومنها ايضاً دخول كثير من أهلي ما وراء النهر في دين الله أفواجا, فظهر بينهم عدد من الكتاب(3/46)
والمحدثين والفقهاء والمؤرخين, ممن لا يزال ذكرهم خالد, وآثارهم عظيمة في تاريخ الإسلام4864.
2 - من حكم قتيبية وأقواله المأثورة :
قوله : ملاك الأكثر في السلطان الشدة على المذنب واللين للمحسن4865, وكان يقول : الخطأ مع الجماعة خير من الصواب مع الفرقة, وأن كانت الجماعة لا تخطيء والفرقة لا تصيب4866 وخاطب قتيبة الحجاج حين ظفر باصحاب ابن الأشعث فأراد قتلهم : أن الله قد اعطاك ما تحب من الظفر, فاعطه مايحب من العفو4867. وقال : الكامل المرؤة من احرز دينه ووصل رحمه وتوقى مايلائم عليه4868.
3 - مدح الشعراء له :
قال نهار بن توسعة يذكر انتصار قتيبة على الاتراك :
…………أراك الله في الأتراك حكماً
…………………كحكم في قريظة والنفير
…………قضاء من قتيبة غير جور
…………………به يُشفي الغليلُ من الصدور4869
وقال كعب الأشقري يمدح قيادة قتيبة :
…………كل يوم يخوي قتيبة نهباً
…………………ويزيد الأموال مالا جديداً
…………باهليٌ قد ألبس التاج حتى
…………………شاب منه مفارق كنّ سُودا
…………دوّخ (السُّغد) بالكتائب حتى
…………………ترك (الصُّغد) بالعراء قُعودا
…………فوليد يبكي لفقد أبيه
…………………وأب موجع يبكي الوليدا
…………كلما حلّ بلدة أو أتاها
…………………تركت خيله بها أخدودا4870
ونهار بن توسعة هو القائل :
…………أبي الإسلام لا أب لى سواه
…………………إذا هتفوا ببكر أو تميم4871
4 - مقتل قتيبة ونهايته : 96هـ(3/47)
انتهت حياة هذا المجاهد الكبير نهاية حزينة أليمة, فقد مات الخليفة الوليد وتولى أخوه سليمان بن عبد الملك 96- 99هـ وكانت العلاقة بين سليمان والحجاج ورجاله, ومنهم قتيبة غير حسنة, قيل لأنهم كانوا وافقوا الوليد على خلع أخيه سليمان, وتولية ابنه عبد العزيز بن الوليد4872, فخشي قتيبة أن يعزله سليمان, فأرسل إليه رسائل يعزيه في الوليد ويهنئه بالخلافة, ويختبر نواياه نحوه, لكن سليمان لم يعزله, بل أرسل له عهداً بولاية خراسان4873, مع رسول خاص من عنده, تكريماً له ولكن قتيبة تعجل وخلع طاعة سليمان قبل وصول ذلك العهد, فغضب الناس واستنكروا خلع سليمان وثار الجند على قتيبه فقتلوه4874 يقول الذهبي : ولما بلغه موت الوليد, نزع الطاعة, فاختلف عليه جيشه, وقام عليه رئيس تميم وكيع بن حسَّان, وألَّب عليه, ثم شَدَّ عليه في عشرة في فرسان تميم فقتلوه في ذي الحجة سنة ستِّ وتسعين, وعاش ثمانياً وأربعين سنة4875, وقال ابن كثير في سبب مقتل قتيبة بن مسلم : وذلك أنَّه جمع الجند والجيوش, وعزم على خلع سليمان وترك طاعته وذكر لهم همّته وفتوحه وعدله فيهم ودفعه الأموال الجزيلة إليهم, فلما فرغ من مقالته, لم يجبه أحد منهم إلى مقالته, فشرع في تأنيبهم وذمِّهم قبيلة قبيلة وطائفة طائفة, فغضبوا عند ذلك ونفروا عنه وتفرَّقوا, وعملوا على مخالفته وسعوا في مقتله وكان القائم بأعباء ذلك رجل يقال له : وكيع بن أبي سُود, فجمع له جموعاً كثيرة, ثم ناهضه فلم يزل به حتى قتله في ذى الحجة من هذه السنة, وقتل معه أحد عشر رجلا من إخوته وأبناء إخوته, ولم يبق سوى ضرار بن مسلم وكانت أُمُّه الغراء بنت ضرار بن القعقاع بن معبد بن سعد بن زُرارة, فحمته أخواله - وعمرو بن مسلم, وكان عامل الجوزجان وقتل قتيبة وعبد الرحمن وعبد الله وعبيد الله وصالح, وبشار, وهؤلاء أبناء مسلم وأربعة من أبنائهم فقتلهم كلهم وكيع بن سُود4876, وقد كان قتيبة بن مسلم من سادات الأمراء(3/48)
وخيارهم, وكان من القادة النجباء الكبراء, والشجعان وذوي الحروب والفتوحات السعيدة والآراء الحميدة, وقد هدى الله على يديه خلقاً لا يُحصيهم إلا الله فأسلموا ودانوا لله عز وجل, وفتح من البلاد والأقاليم الكبار والمدن العظام شيئاً كثيراً, كما تقدم ذلك مفصَّلاَّ مبيَّناَّ والله سبحانه لا يضيِّعُ سعيه ولا يخيِّبُ تعبه وجهاده, ولكن زلَّ زلة كان فيه حتفه وفعل فعلة رغم فيها أنفه, وخلع الطاعة فبادرت إليه المنية, وفارق الجماعة, فمات ميتة جاهلية, لكن سبق له من الأعمال الصالحة ماقد يكِّفرُ الله بها عنه من سيئاته, ويمحو عنه من خطيَّاتِه والله يسامحه ويعفو عنه ويتقبَّلُ منه, ما كان يكابده من مُناجرة الأعداء4877.
5 - بين قتيبة بن مسلم ومحمد بن واسع : أصبعه أحب إلى قتيبة من ألف سيف شهير :(3/49)
لما صافَّ قتيبة بن مسلم للترك, وهاله أمرهم, سأل عن محمد بن واسع, فقيل : هو ذاك في الميمنة جامح على قوسه, يبصبص بأصبعه نحو السماء. قال : تلك الأصبع أحب إليّ من مئة ألف سيف شهير وشاب طرير4878, وهذا فهم راسخ من قتيبة بن مسلم الباهلي لأسباب النصر, ألا وهو التوكل على الله تعالى, وتوثيق الصلة به واستلهام النصر منه, ولقد عبأ جيشه وتأكد من حسن إعداده ولكنه بحاجة إلى التأكد مما هو أهم من الإعداد المادي حيث يتجاوز المسلمون بالسلاح المعنوي حدود التكافؤ المادي في القُوَى بمراحل عديدة ولما كان محمد بن واسع في جيشه سارع إلى السؤال عنه, فلما أخبر بأنه مستغرق في مناجاة الله تعالى ودعائه واطمأن قلبه وارتفع مستوى الأمل بالنصر عنده قال تلك الكلمات الإيمانيه الرفيعة : تلك الإصبع أحب إلى من مائة ألف سيف شهير وشاب طرير4879. إن قوى الأرض كلها بيد الله تعالى, وإن النظر إلى القوى المادية من حيث العدد والعُدد والمواقع, إنما هو حسابات البشر والله جل جلاله قادر على تغيير هذه الموازين في لحظة, وإن من أهم استجلاب نصر الله تعالى دعاء الصالحين, فلذلك استبشر قتيبة خيراً حينما علم باستغراق محمد بن واسع في الدعاء, وهذا الفهم الرفيع من قتيبة رحمه الله يبين لنا سبباً مهما من أسباب انتصاراته الباهرة, التي ظلت تتولى أكثر من عشر سنوات فبالرغم من كونه بطلا لا يُشَقُّ له غبار, وقائداً مخططا يضع للأمور أقرانها, وسياسيا محنكا لا يُخدع, فإنه لم يغتر بكل ذلك بل اعتبر ذلك كله من الأمور الثانوية, ونظر قبل ذلك إلى مدى توثيق الحبل الذي يصل جيشه بالله تعالى فلما عرف بأن محمد بن واسع قد وصل ذلك الحبل بالدعاء وبما سبق ذلك من شهرته بالإيمان القوي والعمل الصالح حصل له اليقين وزال عنه سبب من أسباب الخوف المتمثل بضعف الصلة بالله تعالى4880.(3/50)
إن محمد بن واسع رحمه الله تعالى معدود من العلماء الربانيين المشهورين بالزهد والورع والخشوع وهو مدرسة في معالجة أمراض النفوس وتطهير القلوب, ومن أقواله النيَّرة في الزهد والورع واليقين : إني لأغبط رجلا معه دينه ومامعه من الدنيا شيء وهو راض4881 وإذا كان محمد بن واسع يغبط أهل الدين المجردين من الدنيا فما أكثر من يغبطون أصحاب الأموال, وما أبعد الفرق بين السابقين بالخيرات والمقصِّرين4882. وقيل إنه قال لرجل : هل أبكاك قط سابق علم الله فيك4883 يعني أن المقربين مع ما يقومون به من الورع والعمل الصالح يخشون من سابق قدر الله فيهم, حيث يخافون من سوء الخاتمة, فإن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن جل جلاله يقلبها كيف يشاء وقيل له كيف أصبحت؟ قال : قريباً أجلي بعيداً أملي, سِّيئاً عملي4884. وهذا من عمق الإدراك وقوة تصور ما بعد الموت, وإذا كان محمد بن واسع الذي قيل عنه إنه أفضل أهل البصرة في زمنه يتهم نفسه بطول الأمل وسوء العمل فكيف بحال المقصرين4885 _ أمثالي . وذات يوم قال له رجل لمحمد بن واسع : أوصيني, قال : أوصيك أن تكون ملكا في الدنيا والآخرة, قال : كيف؟ قال : ازهد في الدنيا4886 وهذه وصية نافعة من طبيب ماهر في طب القلوب فهذا الرجل يطلب الوصية من محمد بن واسع فيوصيه بأعلى مرتبة تطمح لها النفوس عادة, وهي أن يكون ملكاً في الدنيا والآخرة, فيتعجب الرجل لأنه لم يرد الدنيا حينما طلب منه الوصية, ثم كيف يجمع بين الأمرين, فيكون ملكاً في الدنيا ولآخرة, فلذلك استفهم منه استفهام تعجب, فكان جواب ابن واسع له : ازهد في الدنيا4887, ومن كلامه التربوى العميق قوله : ما آسى على الدنيا إلا على ثلاث : صاحب إذا اعوججت قوَّمني, وصلاة في جماعة يُحمَل عني سهوُها وأفوز بفضلها, وقوتٍ من الدنيا ليس لأحد منه فيه منّة ولا لله علىَّ فيه تَبِعة4888. فهذا العالم الرباني كان من ضمن جنود الفاتحين الذين نفع الله بهم شعوب(3/51)
المشرق, كأهل بخارى, وسمرقند وخراسان وغيرها.
6 - المشرق بعد مقتل قتيبة بن مسلم :
لم تحدث فتوحات إسلامية فيما تبقى في عهد الدولة الأموية في هذه الجهات بعد فتوحات قتيبة, وتوقفه عن كاشغر على حدود الصين, ذلك لأن الظروف التي مرت بها الدولة الأموية منذ هذا التاريخ, وحتى سقوطها سنه 132هـ - لم تكن تسمح بذلك . فقد انشغلت بالثورات التي بدأت تهب في وجهها من جديد مثل ثورات الخوارج وثورة يزيد بن المهلب في عهد يزيد بن عبد الملك 101 - 105 هـ كما أن الخلافات نشبت من جديد بين العرب في خراسان, وفي هذا الجو بدأت الدعوة السرية للرضا من آل محمد وهي الدعوة التي كان يوجهها العباسيون لمصلحتهم بكتمان ومقدرة رائعة, والتي نجحت في النهاية في الإطاحة بالدولة الأموية, كما أن التناحر والتنافس والنزاع قد احتدم بين أبناء البيت الأموي أنفسهم, وأصبحوا يقاتل بعضهم البعض, مما أضعف هيبة الدولة في عيون الناس, كما أن هذه البلاد نفسها التي فتحها قتيبة لم تكف عن التمرد والثورة ونقض العهود, فأصبح جهد الخلفاء والولاة منصبا - بعد مرحلة قتيبة - على إخضاع الثائرين والمتمردين وردهم إلى الطاعة والنظام4889, وقد نجحت الدولة الأموية في ذلك, فهي وإن كانت لم تضف جديداً إلى فتوحات قتيبة في هذا الجزء من العالم, إلا أنها لم تتراجع ولم تخسر أرضا واحتفظت بمواقعها, ونهض الولاة في هذه المناطق بمسؤلياتهم, وهيأوها لقبول الإسلام, وجعلها جزءاً لا يتجزأ من العالم الإسلامي4890
ثالثاً : محمد بن القاسم الثقفي وفتح السند : 89 - 96هـ :(3/52)
كان انتصار المسلمين في معركة القادسية في عهد عمر بن الخطاب إيذاناً لهم بفتح السند, فقد استنجد كسرى الفرس ببعض ملوك البلاد المجاورة ومنها مملكة السند حيث أمده ملك السند بالمال والرجال الأمر الذي اضطر المسلمين بمهاجمة السند رداً على تدخلهم ضدهم في معركة4891 القادسية ولذلك فإن البلاذري يحدثنا عن حملات إسلامية مبكرة على السند كان أولها في عهد عمر بن الخطاب, وكان ثانيها في عهد علي بن أبي طالب, كما نفهم من رواية البلاذري أن عثمان بن عفان كان أيضا مهتما بتقصي تحركات السند4892, كما أن البلاذري يوضح الأسباب التي حولت هذه الحملات إلى فتح منظم للسند في الأسباب الآتية
…* ـ اكتشاف تحالف آخر بين السند والترك حيث لقي المهلب في عهد معاوية بن أبي سفيان ثمانية عشر فارساً من الترك ببلاد القيقان بالهند4893, لذلك تلاحقت حملات معاوية فأغار عبد الله بن سوار وسنان بن سلمة بن المحبق الهذلي فأنى الثغر ففتح مكران عنوة ومصرها وأقام بها4894
…* ـ أعمال القرصنة البحرية التي كان يقوم بها الهنود حيث يذكر البلاذري أن البوارج الهندية قد استولت على سفينة كانت تحمل نساء مسلمات أرسلهن ملك جزيرة الياقوت هدية إلى الحجاج بن يوسف فنادت امرأة من تلك النسوة وكانت من يربوع : يا حجاج وبلغ الحجاج ذلك فقال : يا لبيك فأرسل إلى داهر يسأله تخلية النسوة . فقال أخذهن لصوص لا أقدر عليهم4895, لذلك أرسل الحجاج بن يوسف عبيد الله بن نبهان إلى الديبل "كراتشي اليوم" فقتل, فكتب إلى بديل بن طهفة البجلي وهو بعمان يأمره أن يسير إلى الديبل, لكن الهنود استطاعوا محاصرته وقتله أيضا4896.
1 - تعيين محمد بن القاسم على ثغر الهند وتجهيزات الحجاج لجيشه :(3/53)
تبدّى للحجاج مدى الإهانة التي تلحق بهيبة المسلمين وخطورتها إن هو سكت على هذا الأمر, فاختار محمد بن القاسم وكان بفارس, وكان قد أمره أن يسير إلى (الريّ), فردّه إليه4897, وعقد له ثغر (السند), وضمّ إليه ستة الآف من جند أهل الشام, وجهّزه بكلِّ ما احتاج اليه - حتى الخيوط والإبر والمال- وأمره أن يقيم بشيراز حتى يكمل حشد رجاله ويوافيه ما أعدّ له4898واهتمّ الحجاج اهتماما بالغاً في إنجاز إستحضارات جيش محمد بن القاسم حتى بلغ بذلك حدّ الروعة حقاً فلم ينس أصغر التفاصيل الإدارية لإكمال الستحضارات هذا الجيش, حتى إنه عمد إلى القطن المحلوج فنُقع في الخل الأحمر الحاذق, ثم جُفِّف في الظل وقال لهم : إذا صرتم إلى (السِّند) فإن الخل بها ضيِّق, فانقعوا هذا القطن في الماء, ثم اطبخوا به واصطبغوا . ويقال : إن محمداً لما صار إلى ثغر السِّند, كتب يشكو ضيق الخلِّ عليهم, فبعث الحجاج إليه بالقطن المنقوع في الخل.
2 - المعارك التي خاضها محمد بن القاسم :(3/54)
مضى محمد إلى مكران فأقام بها أياماً, ثم أتى فنزبور4899 ففتحها, ثم أتى (أرمائيل4900) ففتحها أيضا, فقدم (الديبل) يوم جمعة, فوافته هناك سفنه التي كانت تحمل الرجال والسِّلاح والعتاد والمهمات, فخندق حيث نزل (الديبل) وأنزل الناس منازلهم ونصب منجنيقاً يقال له: العروس, الذي كان يعمل لتشغيله خمسمائة من الرجال ذوي الكفاية المدربين على استخدامه, فدكّ بقذائفه معبد الهنادكة الأكبر (البد)4901, وكان على هذا البد دقل عظيم وعلى الدقل راية حمراء إذا هبّت الريح أطافت المدينة4902, وحاصر محمد الديبل وقاتل حماتها بشدّة, فخرجوا إليه, ولكنه هزمهم حتى ردهم إلى البلد, ثم أمر بالسلالم فنصبت وصعد عليها الرجال, وكان أولهم صعوداً رجل من بني مراد من أهل الكوفة ففتحت المدينة عنوة فاستباحها محمد ثلاثة أيام, ولكنّ عامل (داهر) ملك السند عليها هرب عنها سالما4903, فأنزل فيها محمد بن القاسم أربعة الآف من المسلمين وبنى عليها جامعها, فكان أول جامع بني في هذه المنطقة4904, وسار محمد عن الديبل إلى النيرون4905, وكان أهلها بعثوا إلى الحجّاج فصالحوه, فلقوا محمداً بالميرة وأدخلوه مدينتهم ووفوا بالصلح4906, وسار محمد عن (نيرون) وجعل لايمر بمدينة إلاَّ فتحها حتى عبر نهراً دون "مهران"4907, فأتاه أهل (سربيدس)4908, وصالحوه ففرض عليهم الخراج وسار عنهم إلى (سهبان)4909, ففتحها ثم سار إلى نهر (مهران) فنزل في وسطه, وبلغ خبره (داهر) فاستعدّ لمجابهته4910, وبعث محمد إلى (سدوستان)4911, فطلب أهلها الأمان والصلح, فأمنهم محمد وفرض عليهم الخراج أيضا4912.
3 - مقتل داهر ملك الهند :(3/55)
عبر محمد بن القاسم نهر (مهران) مما يلى بلاد الملك (راسل) ملك (قصة) من الهند على جسر عقده, و (داهر) مستخف به لاهٍ عنه, ولقيه محمد والمسلمون وهو على فيل وحوله الفيلة فاشتد القتال بشكل لم يسمع بمثله وترجّل (داهر) وقاتل حتى قتل عند المساء, فانهزم أصحابه وقتلهم المسلمون كيف شاءوا فقال قاتل داهر4913
…………الخيل تشهد يوم داهر والقنا
……………………ومحمد بن القاسم بن محمد
…………أني فرجت الجمع غيرُ مَعرد4914
……………………حتى علوت عظيمهم بمهند
…………فتركته تحت العجاج مجندلا
……………………متعفر الخدين غير موسّد(3/56)
فلما قتل (داهر) غلب محمد على بلاد السند فتح (راوَر)4915عنوة، وكان بها امرأة4916 لدهر فحرقت نفسها وجواريها وجميع مالها4917، وتقدم المسلمون بعد ذلك صوب الشمال مشرقين حتى بلغوا (برهمنآباد)4918 العتيقة على فرسخين من المنصورة4919 وكان موضعها غيضة، وكان المنهزمون من أصحاب داهر بها، ففتحها محمد وقتل بها بشراً كثيراً وخرّبها4920، وسار محمد يريد(الرور) و(بغرور4921)، فلقيه أهل ساوندري4922، وسألوه الأمان، فأعطاهم إياه، واشترط عليهم ضيافة المسلمين، فأسلم أهلها من بعد ذلك4923 ، وتقدم نحو (بسمد)4924،على مثل صلح (ساوندري) فسار عنها حتى انتهى إلى (الرور) وهي من مدائن السند تقع على جبل فحاصرها شهوراً ثم فتحها صلحاً4925 وسار محمد إلى (السكة)4926، فتحها ثم عبر نهر (بَياس)4927 رافد نهر السند إلى مدينة (المُلْتان)4928،، أعظم مدن السند الأعلى وأقوى حصونه، فامتنعت عليه شهوراً وقاتله أهلها، فانهزموا فحصرهم، فأتاه رجل مستأمن دلّه على مدخل الماء الذي يشرب منه السكان، فقطعه عليهم، فنزلوا على حكمه، فقتل محمد المقاتلة وسبى الذرية وسبى سدنة (البد) وهم ستة آلاف، وأصاب مالاً كثيراً جمعه في بيت طوله عشرة أذرع وعرضه ثمانية أذرع يلقى إليه في كوّة في وسطه، فسميت (الملتان: فرج4929 بيت الذهب4930. وكان (بد) الملتان (بداً) تهدى إليه الأموال وتنذر له النذور ويحجّ إليه السند فيطوفون به ويحلقون رؤوسهم ولحاهم عنده ويزعمون أنه صنماً فيه هو أيوب النبي صلى الله عليه وسلم4931، وعظمت فتوح محمد، فراجع الحجّاج حساب نفقاته على هذه الحملة، فكانت ستين ألف ألف درهم فقال: شفينا غيضنا، وأدركنا ثأرنا، وازددنا ستين ألف ألف درهم ورأس داهر4932. لقد أنجز محمد هذا الفتح كله في المدة بين سنة تسع وثمانين الهجرية وأربع وتسعين الهحرية4933.(3/57)
4 ـ نهاية محمد بن القاسم: بينما محمد بن القاسم يدبر أمر السند وينظم أحواله بعد الفتح ويستعد لفتح إمارة قنوج وهي أعظم الإمارات في شمال الهند توفي الخليفة الوليد بن عبد الملك سنة 96هـ وتولى أخوه سليمان 96ـ 99 هـ الذي بدأ يغير ولاة الحجّاج، فعين على العراق رجلاً من ألد أعداء الحجّاج، وهو صالح بن عبد الرحمن، الذي كان الحجّاج قد قتل أخاً له اسمه آدم بن عبد الرحمن كان يرى رأي الخوارج4934، فقرر صالح بن عبد الرحمن أن ينتقم من أقرب الناس إلى الحجّاج، وهو محمد بن القاسم فعزله عن السند وولى رجلاً من صناعه وهو يزيد بن أبي كبشة، وأمره بالقبض على محمد، فقبض عليه وأرسله إليه، فحبسه في واسط في رجال من آل أبي عقيل4935، وقد ادعت ابنة ملك السند الذي قتله ابن القاسم أنه راودها عن نفسها أو نالها قسراً، ولذا فقد سجن في واسط وعذب، ثم تضاربت الروايات بشأنه فقيل إنه مات تحت العذاب، وقيل إنه أطلق سراحه ثم قتل، وقيل بل قتل بدسائس من أتباع داهر فأتهم به الخليفة، ثم اعترفت ابنة داهر فيما بعد بانها كانت كاذبة في إدعائها4936، وهكذا انتهت حياة هذا البطل وهذا الفاتح الكبير هذه النهاية الأليمة، وحرمة الأمة الإسلامية من هذه العبقرية الشابة، فإن محمداً حقق هذه الأمجاد وهو في مقتبل العمر حتى قال فيه الشاعر:
…………إن الشجاعة والسماحة والندى
……………………لمحمد بن القاسم بن محمد
…………قاد الجيوش لسبع عشرة حجة
……………………يا قرب ذلك سؤدداً من مولد
……
وقد ساس الجيوش وقادها وعمره سبع عشرة سنة قال فيه الشاعر يزيد بن الأعجم:
…………ساس الجيوش لسبع عشرة حجة
……………………ولداته عن ذاك في أشغال
…………فغدت بهم أهواؤهم وسمت به
……………………همم الملوك وسورة الأبطال
وكان محمد بن القاسم يهتف في أعماق سجنه وفي ظلماته:
…………أتنسى بنو مروان سمعي وطاعتي
……………………وإني على ما فاتني لصبور
…………فتحت لهم ما بين (سابور)4937 بالقنا
……………………إلى الهند منهم زاحف ومغير(3/58)
…………فتحت لهم ما بين جُرجان4938 بالقنا
……………………إلى الصين ألقى مرة وأغير4939
…………وما وطئت خيل السكاسك عسكري
……………………ولا كان من (عك) عليّ أمير4940
مات محمد بن القاسم بالتعذيب، أو قتل بعد تعذيبه، دون أن يشفع لهذا القائد الشاب، بلاؤه الرائع في توسيع رقعة الدولة الإسلامية، ولا مهارته الفذة في القيادة والإدارة ولا انتصاراته الباهرة في السند، ولكنَّ آثاره الخالدة وأعماله المجيدة باقية بقاء الدهر، ولم يختره الله إلى جواره إلا بعد أن أبقى اسمه على كلِّ لسان وفي كل قلب، رمزاً للجهاد الصادق والتضحية الفذّة والصبر الجميل. أما الذين عذبوه فقد ماتوا وهم أحياء ولانزال حتى اليوم نذكر محمد بن القاسم بالفخر والاعتزاز، ونذكر الذين عذّبوه بالخزي والاشمئزاز4941، رحم الله محمد القاسم الشاب المظلوم، الأمير العادل الإداري الحازم، لقد بكاه أهل السند من المسلمين، لأنه كان يساويهم بنفسه ولا يتميز عليهم بشيء، ويعدل بالرعية ولأنه نشر الإسلام في ربوعهم فأرسل دعاته شرقاً وغرباً يجوبون البلاد التي فتحها وكان أكثر من هداهم الله إلى الإسلام من أهل السند على يديه4942، فمنذ الخطوات الأولى للفتح بدأت شخصيات كبيرة تعتنق الإسلام فعندما فتح محمد بن القاسم مدينة الديبل واستولى على قلعتها التي كان بها الأسرى من الجنود والتجار المسلمين والنساء المسلمات وقتل حرّاس القلعة بناء على أوامر الحجّاج انتقاماً لشهداء المسلمين، عندئذ جاء مدير السجن الذي كان به المسلمون طالباً العفو عنه لأنه كان محسناً للأسرى المسلمين ويعاملهم معاملة كريمة، فلما تأكد محمد بن القاسم من صدقه عفا عنه، بل فوض إليه مهمة الإشراف على الشئون الاقتصادية بمدينة الديبل ثم أعلن الرجل إسلامه، فقربه محمد أكثر، وعينه مترجماً لرئيس الوفد الذي أرسله إلى داهر ملك السند لتوجيه الإنذار إليه4943، وعندما تقدم محمد بن القاسم في السند، بعد فتح الديبل، وجه الدعوة إلى(3/59)
الأمراء والحكام والوزراء والأعيان وعامة الشعب للدخول في الإسلام، فاستجاب له كثيرون وبصفة خاصة من البوذيين4944، وقد كان لسلوك المسلمين وقائدهم الشاب، واهتمامه بإقامة المساجد وأداء شعائر الإسلام، أثر كبير في جذب الأهلين إلى الإسلام، فلم يكن محمد القاسم يدخل مدينة إلا ويبني فيها مسجداً4945، فقد بنى مساجد في الديبل والرور والبيرون والملتان وغيرها من المدن السندية4946، فرحمة الله على هذا الفاتح الكبير.
5 ـ السند بعد محمد بن القاسم:
توقفت الفتوحات في هذه الجبهة عند الحدود التي وصل إليها محمد بن القاسم، ولم يستطع ولاة بني أمية ـ فيما تبقى من عمر دولتهم ـ أن يضيفوا جديداً، ولكنهم استطاعوا المحافظة على ما تحقق من فتوحات، وبذلوا قصار جهدهم في تثبيت أقدام الإسلام في إقليم السند، ووقفوا بالمرصاد لكل حركات التمرد والثورات التي قام بها الأمراء الهندوس، بعد رحيل محمد بن القاسم، فقد حاول هؤلاء الأمراء استرداد إماراتهم، وبصفة خاصة ابن داهر المسمى حليشة أو جيشبة، الذي حاول الرجوع إلى برهمنآباذ ولكن حبيب بن المهلب الذي ولاه سليمان بن عبد الملك السند ـ لم يمكنه من ذلك4947.
المبحث الرابع : أهم الدروس والعبر والفوائد من الفتوحات في عهد عبد الملك والوليد وسليمان:
أولاً : بماذا انتصر المسلمون:؟(3/60)
إن ما حدث في عهد عبد الملك من فتوحات هي امتداد طبيعي للأسس المتينة والقواعد الراسخة لفقه النهوض الذي أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكمل بناؤه الخلفاء الراشدون، وكانت الأمة وكثير من حكامها يعيشون لأجل العقيدة والدعوة الإسلامية وقد انتصر المسلمون بالإسلام نفسه، فهم قد فهموه فهماً صحيحاً دقيقاً وطبقوه على أنفسهم فأنشأ منهم خلقاً جديداً، غير النفوس والقلوب والعقول، وحررها من الوثنية وعبادة غير الله وفتح أمامهم آفاق الإيمان والعمل فاندفعوا يحملون رسالة التوحيد إلى الإنسانية كلها فأقاموا أمة وأنشأوا دولة كبرى وأعلنوا كلمة الله في الأرض حقاً وصدقاً4948، لقد صيغت هذه الأمة منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم على أساس واضح من الترابط بين الإسلام والإيمان، والعقيدة والعمل، وفق أصفى مفهوم للتوحيد وأصدق فهم لإقامة المجتمع الإنساني واجتمع لها في إيمانها: العقيدة والشريعة والأخلاق دون أن ينفصل أحدها عن الآخر، وتكامل لها مفهوم المعرفة القائم على القلب والعقل4949، وقد ظلت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بكل دقائقها وتفاصيلها أمام المسلمين قدوة صادقة وأسوة حسنة وقد كانت المثل الأعلى أمام القادة والمصلحين والأبطال والمجاهدين وما زالت وستظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولقد انتصر المسلمون بقيم ومقومات ومثل كثيرة تعلموها وتربوا عليها من القرآن الكريم وهدي الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم ومن أبرز هذه القيم والمقومات عقيدة سليمة، عبادة صحيحة، كتاب منير، أسوة حسنة، شريعة عادلة، أخلاق حميدة، جهاد في سبيل الله، تربية صالحة مستمرة، مفهوم شامل للحياة والمجتمع، بطولة في المواقف، وصمود في وجوه4950 العدو وغير ذلك من القيم والمقومات.
ثانياً : أسباب دخول الإسلام في البلاد المفتوحة:
كانت هناك عدة أسباب أدت إلى هذا منها:(3/61)
1 ـ عالمية الدعوة: الحقيقة الثابتة التي تؤيدها النصوص القاطعة أن الإسلام دين عالمي،ورسالته للجنس البشري كله، لا لأمة دون أمة، ولا لشعب دون شعب، فمحمد رسول الله إلى الناس كافة ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا)) (سبأ ، الآية : 28) ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)) (الأنبياء ، الآية : 107). إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي توضح أن الرسالة الإسلامية للناس كافة، وأنها خاتمة رسالات السماء إلى أهل الأرض، فليس بعد القرآن الكريم كتاب من الله، وليس بعد محمد صلى الله عليه وسلم رسول ((مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)) (الأحزاب ، الآية : 40) وقد قام بالتبشير بعالمية الدعوة ودعوة الأمم قادة وعلماء كموسى بن نصير، وقتيبة بن مسلم، ومحمد بن القاسم وغيرهم كثير.(3/62)
2 ـ المعاملة السمحة الكريمة: إن النماذج التي خرجها الإسلام من القادة والجنود قد اتصفوا بأخلاق حميدة وقيم سامية، فرفعت من المستوى الإنساني عند معتنقيها، فكان لها أثر كبير في إقبال أبناء البلاد المفتوحة على اعتناق الإسلام، فكم من أفواج من البربر دخلوا في الإسلام وقاتلوا في سبيله في عهد موسى بن نصير وكذلك في الهند، وبخاري وسمرقند وغير ذلك من البلدان فالمسلمون لم يفتحوا البلاد ليدمروها ويذلوا أهلها، وإنما ليعمروها ويعزوا أهلها، ويحرروهم من عبادة العباد إلى عبادة خالق العباد، ويخرجوهم من ضيق الدنيا إلى سعةالدنيا والآخرة، فهم أصحاب رسالة خالدة، تحمل للناس العدل والإنصاف وتحقق لهم الحرية والمساواة والكرامة الإنسانية، وبمجرد ما عرف الناس في البلاد المفتوحة أهداف المسلمين الحقيقية وتكشفت لهم حقيقة الإسلام أسرعوا إلى اعتناقه بأعداد كبيرة ـ كما سنعرفه فيما بعد ـ ولقد حرص المسلمون، على الوفاء بكل ما التزموا به ولم يكن هذا من حسن السياسة فقط فالوفاء بالعهد ليس تبرعاً من المسلمين يمنون به على الناس ولكنه مسئولية واجبة عليهم4951، قال تعالى ((وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا)) (الإسراء ، الآية : 34) .
3 ـ إشراك أبناء البلاد المفتوحة في إدارة بلادهم:(3/63)
…كانت سياسة المسلمين منذ بداية الفتوحات من سعة الأفق والمرونة بحيث أدركوا إن استتباب الأمن وسير الأمور سيراً حسناً في البلاد المفتوحة بما يحقق خير أهلها ومصالحهم يكمن في الأسلوب الإداري الذي سيسيرون عليه، فلم يترددوا في الاستفادة من النظم الإدارية التي وجدوها في البلاد المفتوحة سواء كانت خاضعة للبيزنطيين مثل الشام ومصر أو خاضعة للفرس مثل العراق وبلاد فارس نفسها واستفادوا من الجهاز الإداري وطبقة الموظفين الذين كانوا يسيّرون دولاب العمل في البلاد، فقد كان الوالي في العهد الأموي يتمتع بكل السلطات والصلاحيات الإدارية والمالية والعسكرية في إقليمه، وكان المسلمون يحتفظون بمناصب القضاء والشرطة والحسبة أما ما عدا ذلك من الوظائف الإدارية فكان المجال فيها متسعاً أمام أبناء البلاد المفتوحة في الإدارة، بل إن كثيراً منهم وصلوا إلى مناصب إدارية في ظل الحكم الإسلامي كانوا محرومين منها في ظل حكومات ما قبل الإسلام كما هو الحال في مصر، فقد كان البيزنطيون يستحوذون على معظم المناصب الإدارية، بالإضافة إلى المناصب العسكرية العليا ولا يتركون للمصريين إلا أقل القليل4952، وقد توسع الأمويون في استخدام أهل الذمة في الإدارة، مما أشعرهم بالأمان والاطمئنان تجاه الدولة، فبدأوا يقبلون على اعتناق الإسلام لترتفع مكانتهم أكثر فأكثر4953.
4 ـ الوضع الديني في البلاد المفتوحة: ومما جعل أبناء البلاد المفتوحة يقبلون على الإسلام بسرعة، فساد الأديان في بلادهم وانحلالها، وفساد رجالها، سواء كانت هذه الأديان سماوية كاليهودية والمسيحية أو وضعية كالبوذية والزرادشتية والمانوية والمزدكية وغيرها من الأديان الوثنية التي كانت سائدة في البلاد المفتوحة4954.
…هذه هي أهم العوامل والأسباب التي ساعدت في دخول شعوب البلاد المفتوحة في الإسلام.
ثالثاً : تفسير حركة التعريب بين الشعوب المفتوحة:(3/64)
نعني بالتعريب تحول لسان الأهالي في البلاد المفتوحة إلى اللسان العربي وهجر لغاتهم المحلية، وقد حدث هذا في عهد الخلافة الراشدة والدولة الأموية في المنطقة المحصورة بين الخليج والمحيط والمعروفة حالياً بمنطقة الدول العربية فقد هجر أهالى تلك البلدان لغاتهم الأعجمية وحلت اللغة العربية محل الآرامية والسريانية في الشام والعراق، والقبطية في مصر، والبربرية في بلدان المغرب ومن أهم أسباب التعريب4955
1 ـ …انتشار الإسلام: ومهما يكن من أمر فإن انتشار الإسلام بتلك السرعة والسهولة اللتين تم بهما جاء ظاهرة فريدة من نوعها في التاريخ، ذلك أنه لم تكد تنقضي على وفاة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مائة سنة حتى كان الإسلام قد ثبتت ركائزه في بلاد ممتدة من المحيط الأطلسي وشبه جزيرة أيبيريا غرباً حتى بلاد الهند وحدود الصين شرقاً، وكان لا بد أن يأتي انتشار الإسلام مصحوباً بالتعريب، لأن معتنقيه كانوا مطالبين بأداء فروضه ومن الواضح أن النطق بالشهادتين يتطلب نطق بعض الألفاظ العربية وفهم معناها، فضلاً عن أن أداء شعائر الصلاة يتطلب معرفة فاتحة الكتاب وحفظ بعض قصار السور من القرآن الكريم، ثم إن الإسلام يطلب من المسلم الإنصات للقرآن الكريم إذا قرئ على مسمع منه وترتيله وتدبر ما فيه من آيات بينات، وهذه كلها أمور ترتبط بمعرفة اللغة العربية وفهمها. وطبيعي أن يكون من المتعذر على اللغات المحلية أن تستمر فأخذت تتقلص تدريجياً، وتنكمش دائرة استعمالها لتفسح المجال أمام العربية4956 . وهناك حالات ترتبط ببلاد فتحها المسلمون وحكموها بضعة قرون ومع ذلك لم تعرب أي منهم، ونعني بهذه البلاد فارس والتركستان، فالفرس اعتنقوا الإسلام ولكنهم احتفظوا بلغتهم، وإن جاء هذا الاحتفاظ جزئياً غير كامل حيث إن اللغة الفارسية غدت تكتب وتدون بأحرف عربية من ناحية، كما أن كثيراً من الألفاظ العربية، وخاصة تلك المرتبطة بالإسلام وعلوم الدين دخلت(3/65)
الفارسية من ناحية أخرى4957، وأما التركستان، فقد كانت حماية ما وراء النهر من عدوان الأتراك الشرقيين من أهم منجزات العصر الأموي التي مكنت السيادة الإسلامية في ما وراء النهر، وأضافوا إلى هذه الجهود جهوداً أخرى في ميدان الدعوة إلى الإسلام ونشر الثقافة العربية في البلاد، وقد وضحت هذه الجهود منذ فجر الفتح الأول، فقد كان قتيبة بن مسلم يبني المساجد في بخاري وسمرقند ولم تكن المساجد دوراً للعبادة فحسب إنما كانت مدارس الثقافة العربية الإسلامية، وأتبع ذلك بتوطين القبائل العربية في المدن الكبرى، وتتابعت الجهود في عهد عمر بن عبد العزيز الذي أسقط الجزية عمن أسلم وأمر عماله بالدعوة إلى الإسلام واستمرت هذه الجهود بعد عمر وخاصة في عهد الوالي أشرس بن عبد الله السلمي (108 ـ 110هـ) إذ كان أول من أنشأ الربط والخوانق والمدارس وعمل على تثبيت قدم الثقافة العربية في البلاد4958.
…ومع كل ذلك فإن اللغة العربية لم تستطع أن تنتشر رغم إسلام الأتراك وحماسهم الشديد له وكل ما عمله الأتراك أنهم انتحلوا الخط العربي بحيث لا تجد تركيا على شيء من التعليم لا يستطيع أن يفهم لغة القرآن في سهولة4959، وهنا لابد أن نأتي إلى تلك النتيجة المنطقية وهي أن انتشار الإسلام قد أدى إلى انتشار اللغة العربية ولكنه لم يؤد بالضرورة إلى التعريب4960 في المناطق الفارسية والتركية وغيرها.
2 ـ هجرة القبائل العربية إلى البلاد المفتوحة:
…ساعد على تعريب البلاد المفتوحة أن العرب الذين نزحوا إلى الأرض الجديدة استقر معظمهم فيها، ولم يستمروا طويلاً في حالة عزلة وإنما أخذوا يندمجون تدريجياً مع الأهالي الأصليين، ولعل أول موجة نذكرها جاءت إلى مصر مع عمرو بن العاص واستمرت الهجرة في العهد الأموي وأخذوا يندمجون تدريجياً مع الأهالي الأصليين4961.
3 ـ تعريب الدواوين:(3/66)
…ومن الأمور التي ساعدت على حركة التعريب، ما قام به عبد الملك من حركة التعريب في الدواوين فقد أدى هذا الفعل إلى تعريب اللسان ونشر الخط العربي في كل البلدان التي توالى فيها بعد ذلك نقل دواوينها إلى اللغة العربية، ذلك أن: استخدام اللغة العربية في الشئون الإدارية كان وسيلة فعالة كبرى إلى نشر العلم بطراز معهود في الكتابة العربية، ومن الثابت أيضاً أن هذا الطراز لم يتم تطوره الكامل بتحقيق حروف الهجاء من أواخر القرن الأول بعد الهجرة4962.
4 ـ تفوق الحضارة الإسلامية: ساعد ازدهار الحضارة الإسلامية واتساع نطاقها وتنوع آفاقها على حركة التعريب فهذه الحضارة ساهمت في كافة الميادين ذات الخبرة الإنسانية، سواء الدراسات القطرية والعملية والأطعمة والأشربة والعقاقير والأسلحة والفنون والصناعات والنشاط التجاري والبحري، وكانت اللغة العربية أداة تلك الحضارة العظيمة4963، وقد استفاد العرب من حضارات الأمم الأخرى وقد أدى تفوق الحضارة الإسلامية إلى انتشار اللغة العربية في ربوع العالم ولكنه لم يؤد إلى التعريب4964.(3/67)
5 ـ لغة الغالبين الفاتحين: كانت اللغة العربية هي لغة الغالبين الفاتحين، سادة البلاد، وحكامها الجدد، وثمة علاقات متبادلة بين الحاكم والمحكوم تتطلب قدراً من التفاهم المشترك الذي لا يتحقق إلا داخل إطار لغة متفق عليها بين الطرفين، ولما كان الحكام الجدد لا يعرفون لغة إلا العربية، فلم يبق أمام الشعوب التي خضعت لهم سوى تعلم العربية، هذا فضلاً عما يقال من أن ثمة عقدة نفسية عند البشر تجعل الضعيف شغوفاً بمحاكاة القوي، والمغلوب مولعاً دائماً أبداً بتقاليد الغالب4965 وهذا القول ليس على اطلاقه فهناك أمثلة عديدة في التاريخ قبل حركة الفتوح الإسلامية وبعدها تثبت أن تحول شعوب بأكملها إلى لغة الحكام الفاتحين ونبذها لغة الآباء والأجداد ليست القاعدة في التاريخ فاللغة العربية وإن كانت لغة غالب الفاتحين فإن ذلك لم يؤد إلى تعريب كل الشعوب، وإن أدى ذلك إلى انتشار اللغة العربية في تلك البلاد المفتوحة وذلك أن الإسلام لا يجبر الشعوب على ترك لغتها وأعرافها وعاداتها ما لم تخالف الشرع4966. هذه هي أهم الأسباب التي ساهمت في انتشار اللغة العربية وحركة التعريب في بعض البلدان المفتوحة.
رابعاً : الحرص على سلامة الجيوش: كان عبد الملك بن مروان يوصي قادته بالحذر من البيات والتيقظ والحرص على سلامة العسكر، بإقامة الحرس فكان قادته لا يسيرون ولا ينزلون إلا على تعبئة ويتخذون في نزولهم الخنادق والمسالح بكل مكان مخوف والأرصاد على العقاب والشعاب4967، واهتم عبد الملك بجمع الأخبار عن العدو، فلا يسير له جيش إلا وقد سبقته العيون لترصد أخبار العدو واستطاع قادته استمالة بعض أبناء البلاد المفتوحة ليكونوا عيوناً لهم يقدمون لهم المعلومات الصحيحة عن تحركات العدو، واستعانوا أيضاً بالتجار في هذه المهمة4968، فكل قادة الفتح لهم عيون يجمعون لهم المعلومات على الأعداء، وهذا دليل على حرص القيادة على سلامة جنودها وجيوشها.(3/68)
خامساً أهمية الشورى في إدارة الصراع: ومما أوصى به الخليفة عبد الملك بن مروان أخاه عبد العزيز عندما أبقاه على ولاية مصر قوله: ((وإذا انتهى إليك مشكل، فاستظهر عليه بالمشورة فإنها تفتح مغاليق الأمور المبهمة، واعلم أن لك نصف الرأي ولأخيك نصفه ولن يهلك امرؤ عن مشورة4969. كما أوصى أحد قواده بقوله: لا تستعن في أمر دهمك برأي كذاب ولا معجب، فإن الكذاب يقرب لك البعيد ويبعد عنك القريب، وأما المعجب فليس له رأي صحيح ولا روية تسلم4970، ومما قاله عبد الملك في المشورة: لأن أخطئ وقد استشرت أحب إليّ من أن أصيب وقد أستبددت برأي وأمضيته من غير مشورة لأن المقدم على رأيه يزري به أمران تصديقه رأيه الواجب عليه تكذيبه وتركه من المشورة ما يزداد به بصيرة4971، وعندما تحركت الروم بأرض القسطنطينية حيث عزموا على غزو المسلمين وبلغ أمرهم عبد الملك بن مروان نادى في أهل الشام وجمعهم في المسجد الأعظم ثم صعد المنبر وقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس إن العدو قد كلب عليكم وطمع فيكم وهنتم عليه لترككم العمل بطاعة الله تعالى واستخفافكم بحق الله وتثاقلكم عن الجهاد في سبيل الله ألا وإني قد عزمت على بعثكم إلى أرض الروم فماذا عندكم من الرأي4972؟ وهنا نجد أن الخليفة عبد الملك بن مروان شاور المسلمين في مرحلة الإعداد والإقرار فيبرز بذلك مبدأ الشورى في إتخاذ القرار العسكري في الإدارة العسكرية الأموية وأخذ قادة الخليفة عبد الملك بن مروان يعملون بالمشورة فيما بينهم في إدارتهم للمعارك الحربية وبين القيادة العليا المركزية4973، وحين حضرت الخليفة عبد الملك الوفاة أوصى أبناءه بقوله: وانظروا ابن عمكم عمر بن عبد العزيز فاصدروا عن رأيه ولا تَخَلَّوا عن مشورته اتخذوه صاحباً لا تجفوه، ووزيراً لا تعصوه فإنه من علمتم فضله ودينه وذكاء عقله فاستعينوا به على كل مهم، وشاوروه في كل حادث4974. وبإنتقال الخلافة إلى ابنيه الوليد(3/69)
وسليمان سلكاً نهجه في إدارتهما العسكرية بمبدأ الشورى وأخذهما بها لدى فتوحاتهم الإسلامية في مرحلة الإعداد والإقرار أو التخطيط والتنفيذ4975.
سادساً : الاهتمام بالحدود البرية:
اهتم الخليفة عبد الملك بالحدود البرية، فقام ببناء عسقلان وحصّنها ورمّ قيسارية، وبنى بها بناءً كثيراً وبنى مسجدها، وقام بتجديد وترميم صور وعكا وأردبيل وبرذعه لما لهذه الثغور من أهمية حربية4976، وبنى واليه الحجّاج بن يوسف مدينة واسط كقاعدة عسكرية تتوسط بين الأهواز والبصرة والكوفة بمقدار واحد قدره خمسون فرسخاً وذلك أنه كان حينما يريد غزو خراسان ينزل جيش الشام على أهل الكوفة فكانوا يتأذون منهم فبنى واسطاً، كمعسكر لهم ولقد لعبت دوراً مهماً في عملية الإمداد لثغور المشرق4977، وفي عهد عبد الملك فتح حصن سنان4978، من بلاد الروم حيث استفاد منه بشحنه بالجند لحماية الحدود4979، واهتم عبد الملك في إدارته العسكرية بحملات الصوائف والشواتي، فكان يوليها كبار رجالات البيت الأموي، مما يدل على حرصه وعنايته في حماية وتأمين حدود الدولة الإسلامية ضد هجمات الأعداء، وكان من هؤلاء الأمراء ابنه الوليد، ومن أمراء البيت الأموي الذين تولوا حملات الصوائف والشواتي لعدة سنوات أخو الخليفة عبد الملك محمد بن مروان والذي له الأثر الجميل في مباشرة تحصين وإنشاء حصن المصيصة وشحنه بالجند وبنائه لطرندة وتعزيزه إياها بالعسكر، وابنه مسلمة بالإضافة إلى كبار القادة أمثال يحي بن الحكم وعثمان بن الوليد وغيرهما4980، واهتم الخليفة الوليد بالحدود البرية وقام بتحصينات ثغرية كالتي أنشأها بالثغور الشامية على الخط الساحلي للبحر الأبيض المتوسط لحماية حدود الدولة الإسلامية من هجمات الروم استحداثه لأربع نقاط حصينة هي حصن سلوقية4981 وإقطاعه الجند للأرضي بها لتعميرها وإلصاقهم بالثغر وحصن بغراس وعين السلور4982، وبحيرتها والإسكندرونة4983، فأصبح هذا الخط الساحلي أكثر(3/70)
مناعة وحصانة في عهده من قبل4984،وقام بفتح حصون كثيرة ثم شحنها بالجند المرابطين منها حصن طوانة4985 وغيرها من الحصون، واهتم الوليد بالطرق الموصلة إلى الثغور وقام بتسهيلها وتأمينها وبنى بها القناطر لعبور الجند عليها في حملاتهم الصائفة والشاتية4986 واستمر والي العراق من قبل الوليد الحجّاج بن يوسف بتحصين ثغور المشرق وعمل المراصد بها وبناء القواعد العسكرية فيها كخوارزم4987، وشيراز وخراسان وغيرها من ثغور المشرق4988، واستمر الخليفة سليمان على نهج والده وأخيه في الاهتمام بالحدود البرية4989.
سابعاً : الأثر الاقتصادي والاجتماعي للفتوحات:
من الآثار الاقتصادية والاجتماعية في عهد الخليفة عبد الملك للفتوحات ظهور التجار برفقة العسكر بشراء بعض ما يغنمه الجند من العدو،، فبذلك تنشط الحركة التجارية وتزدهر، كما أنه أثناء سير العسكر نحو العدو وحين يصادف مرورهم بالمدن والقرى المتواجدة في طريقهم يقومون بشراء احتياجاتهم4990 منها وكان والي مصر عبد العزيز بن مروان من قبل عبد الملك يحفر الخلجان بها وكانت له بمصر ألف جفنة كل يوم تنصب حول داره ومائة جفنة يطاف بها على القبائل، تحمل على عجل من أجل الإطعام4991، وحين انتقلت الخلافة إلى الوليد كانت إدارته من أفضل الإدارات في تقديم الخدمات الاجتماعية والاقتصادية بين أفراد المجتمع وسيأتي عنها الحديث في محلها بإذن الله تعالى هذه هي أهم الدروس والعبر والفوائد من الفتوحات في عهد عبد الملك وبنيه .
المبحث الخامس : ولاية العهد وموقف سعيد بن المسيب منها ووصية عبد الملك لأولاده ووفاته:
أولاً : ولاية العهد وموقف سعيد بن المسيب منها:(3/71)
عقد مروان بن الحكم ولاية العهد لابنيه عبد الملك ومن بعده عبد العزيز بعد عودته من مصر وبعد وفاته سنة 65هـ تولى عبد الملك الحكم وكانت العلاقة التي تربط بين الخليفة وأخيه وولي عهده، عبد العزيز يسودها الصفاء ولم يتوان الأخير في خدمة الخلافة طيلة حياته وبعد أن مضى ما يقارب عشرين سنة على هذه الحال بدأت تظهر فكرة تحويل ولاية العهد من عبد العزيز إلى الوليد وأخيه سليمان ابني الخليفة، وقد تباينت الروايات في ذكرها لمن أشار بأمر الخلع ومهما يكن من أمر هذا الاختلاف فعلى ما يبدو أن الخليفة عبد الملك بعد أن ظهرت هذه الفكرة لديه كتب إلى أخيه يطلب منه أن يتنازل عن ولاية العهد لابنيه الوليد وسليمان، فأبى عبد العزيز وأراد عبد الملك أن ينتقم من عبد العزيز ويضيق عليه4992، فكتب عبد العزيز إلى أخيه: يا أمير المؤمنين إني وإياك قد بلغنا سناً لم يبلغها أحد من أهل بيتك إلا كان بقاؤه قليلاً. وإني لا أدري ولا تدري أينا يأتيه الموت أولاً فإن رأيت ألا تغثث علي بقية عمري فافعل. فقال الخليفة عبد الملك: لعمري لا أغثث عليه بقية عمره، وقال لابنيه أن يرد الله أن يعطيكموها لا يقدر أحد من العباد على رد ذلك4993، وحسم موت عبد العزيز الخلاف مع أخيه وعقد عبدالملك بيعة ولاية العهد للوليد وسليمان من بعده وأمر ولاته في جميع الأمصار بأخذ البيعة لهما، فكان موقف سعيد بن المسيب هو الامتناع عن البيعة لأن ذلك التزام بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في نظره لأنه نهى عن البيعة لاثنين، فلا بد من تنفيذ ذلك، مهما كلفه الامتناع من ثمن باهظ. قال عمران بن عبد الله: دعي سعيد للبيعة للوليد وسليمان بعد عبد الملك بن مروان فقال: لا أبايع لاثنين ما اختلف الليل والنهار. قال: فقيل له: أدخل من الباب واخرج من الباب الآخر، قال: والله لا يقتدي بي أحد من الناس4994.(3/72)
وكان حجة سعيد بن المسيب في امتناعه عن البيعة أنه لا يجوز أن يبايع لاثنين بالخلافة في آن واحد4995. وقال عبد الرحمن بن عبد القاري، لسعيد بن المسيب، حين قدمت البيعة للوليد وسليمان بالمدينة من بعد أبيهما: إني مشير عليك بخصال ثلاث، قال: وما هي؟ قال" تعتزل مقامك، فإنك هو وحيث يراك هشام بن إسماعيل ـ والي المدينة ـ قال: ما كنت لأغيّر مقاماً قمته منذ أربعين سنة. قال: تخرج معتمراً؟ قال: ما كنت لأنفق مالي، وأجهد بدني في شيء ليس فيه نيه. قال: فما الثالثة.قال: تبايع. قال: أرأيت إن كان الله أعمى قلبك، كما أعمى بصرك. قال: فما علي!4996 ـ وكان أعمى ـ قال رجاء بن جميل الإيلي: فدعاه هشام إلى البيعة، فأبى فكتب فيه إلى عبد الملك، فكتب إليه عبد الملك، مالك ولسعيد، ما كان علينا منه شيء نكرهه، فأما إذا فعلت، فاضربه ثلاثين سوطاً، وألبسه تُبَّان4997 شعر، وأوقفه للناس4998.
وكان للفقيه الكبير قبيصة بن ذؤيب دور في ندم الحكام على صنيعهم، ولام الخليفة على ما فعل بابن المسيب وتم اخلاء سبيله من السجن من قبل والي المدينة الذي سجنه وجلده4999.(3/73)
فهذا هو موقف سعيد بن المسيب وتمسكه بفتواه فقد رفض بشدة الخضوع للسلطان وخداع الأمة، فهو يرى أن امتناعه عن البيعة، إذا لم يعلمه الناس فلا جدوى منه فلابد للعالم والفقيه أن يبين ما يحدد موقفه5000، وكان سعيد بن المسيب عنده أمر عظيم من بني أمية وسوء سيرتهم وكان لا يقبل عطاءهم5001، وقد اختلف المؤرخون في أمر سعيد بن المسيب، بأن والي المدينة هو الذي عرض سعيد للعقوبة بدون أمر عبد الملك، والبعض الآخر الآخر قال: بأن عبد الملك هو الذي أمر، فالذي يهمنا هنا هو موقف سعيد من ولاية العهد للوليد وسليمان وتعرضه للعقوبة والمحنة مما زاد من حدة الخلاف بينه وبين بني مروان وأسهم في توسيع الفجوة في علاقته بهم وولاتهم5002 وكانت له مواقف صلبة أمام عبد الملك وابنه الوليد من بعده5003، ويلحظ المتمعن في خلاف سعيد بن المسيب ـ رحمه الله ـ لبني أمية وولاتهم ـ التزامه بآداب جمة يجدر الوقوف عندها وتأملها للإفادة منها ومن أهم تلك الآداب ما يلي:(3/74)
1 ـ إنه على الرغم مما حدث بينه وبين بعض خلفاء بني أمية وولاتهم فإنه يعترف بإمامتهم وشرعية خلافتهم، فهو يعترف لعبد الملك بن مروان وابنه الوليد بإمرة المؤمنين، كما ورد ذلك في قوله لحاجب عبد الملك حين دعاه لمقابلة عبد الملك فقال سعيد: ما لأمير المؤمنين5004 حاجة. وكذلك قالها للوليد حين قدم الوليد المدينة ودخل المسجد مع عمر بن عبد العزيز ودار فيه مع عمر حتى قربا من سعيد بن المسيب ووقفا عليه، فقال الوليد لسعيد كيف أنت أيها الشيخ؟ فقال سعيد: خير والحمد لله. فانصرف وهو يقول لعمر هذا بقية الناس، فقال عمر: أجل يا أمير المؤمنين5005. كما أنه على الرغم من ما صنع به والي المدينة ـ هشام بن إسماعيل ـ فإنه كان يصلي خلفه، وكل ما فعله مقابل إساءته له أن قال: الله بيني وبين من ظلمني أو اللهم انصرني من هشام5006، وكان يمتثل أوامرهم فيه، فحين أخرج من السجن نهوا أن يجالسه أحد، فكان إذا أراد أحد أن يجالسه قال: إنهم قد جلدوني، ومنعوا الناس أن يجالسوني5007.
2 ـ ومن أدب خلافه أنه لم يشغل نفسه بسب بني أمية أو ولاتهم، أو التعرض لهم بالقدح وإثارة الناس عليهم، فحين قيل له: ادع على بني أمية، قال: اللهم أعز دينك وأظهر أولياءك وأخز أعداءك في عافية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم5008.
3 ـ كما لم يدفعه كرهه لبني أمية أن يضع يده مع كل معارض لهم ويسعى لتأييده نكاية للأمويين.(3/75)
4 ـ كما أنه على الرغم من كرهه القرب من خلفاء بني أمية ـ لاسيما بني مروان منهم ، وربما انتقاده لبعض العلماء الذين خالطوهم كقبيصة بن ذؤيب والزهري، على الرغم من ذلك إلا أن كرهه لهذا العمل من العلماء لم يمتد ليشمل نظرته وتقويمه لهم، بل كان يقدر لهم عملهم واجتهادهم، فروى عنه قوله في الزهري: ما مات من ترك مثلك5009. فانظر إلى هذا الأدب في الخلاف بين العلماء حين يختلفون في قضية من القضايا أو موقف من المواقف، فإنه لا يمتد هذا الخلاف ليفسد ذات بينهم أو يشعل فتيل التهم فيما بينهم5010.
وقد استطاع عمر بن عبد العزيز حين تولى الحجاز في عهد الوليد أن يحسن التعامل مع العلماء بشكل عام وقدر لهم قدرهم وجعلهم مستشاريه، وخص سعيداً بمزيد من التقدير والاحترام، ونتيجة لحسن معاملة عمر بن عبد العزيز له تجاوب سعيد معه قال ابن كثير: وكان سعيد لا يأتي أحد من الخلفاء وكان يأتي عمر بن عبد العزيز وهو بالمدينة ومرة أرسل عمر بن عبد العزيز رسولاً إلى سعيد ليسأله في مسألة فأخطأ الرسول فدعاه فلما جاء سعيد قال عمر: أخطأ الرسول، إنما أرسلناه يسألك في مجلسك5011. فانظر كيف كان حرص عمر على تقديره، وانظر أيضاً كيف سارع سعيد إلى المجيء إليه تقديراً له5012. كان عالم المدينة وسيد التابعين مدرسة في الأخلاق والقيم والمبادئ ومن حياته يستفاد دروس وعبر وفوائد منها:(3/76)
1 ـ تزويجه ابنته: كانت بنت سعيد قد خطبها عبد الملك لابنه الوليد، فأبى عليه5013، وزّوج سعيد ابنته لابن أبي وداعة أحد تلاميذه فعن ابن أبي وداعة ـ قال: كنت أجالس سعيد بن المسِّيب، ففقدني، اياماً، فلما جئته قال: أين كنت؟ قلت: تُوُفِّيت أهلي فاشتغلت بها، فقال: ألاَّ أخبرتنا فشهدناها، ثم قال: هل استحدثت امرأة؟ فقلت: يرحمك الله، ومن يزوِّجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ قال: أنا فقلت: وتفعل؟ قال: نعم، ثم تحمَّد، وصلىَّ على النبي صلى الله عليه وسلم وزوّجني على درهمين ـ أو قال: ثلاثة فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح فصرت إلى منزلي وجعلت أتفكر فيمن أستدين. فصليتُ المغرب، ورجعت إلى منزلي، وكنت وحدي صائماً، فقدمت عشائي أُفطر وكان خبزاً وزيتاً، فإذا بأبي يقرع فقلت من هذا؟ فقال: سعيد. فأفكرت في كل من اسمه سعيد إلا ابن المسيِّب، فإنه لم يُر أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد، فخرجت، فإذا سعيد، فظننت أنه قد بدا له فقلت يا أبا أحمد ألا أرسلت إليَّ فآتيك؟ قال: لا أنت أحق أن تؤتي، إنك كنت رجلاً عزباً فتزوجت، فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه أمرتك، فإذا هي قائمة من خلفه في طوله، ثم أخذ بيدها فدفعها في الباب، وردَّ الباب. فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب، ثم وضعت القصعة في ظلَّ السراج لكي لا تراه، ثم صعدت إلى السطح فرميت الجيران، فجاؤوني فقالوا: ما شأنك؟ فأخبرتهم. ونزلوا إليها وبلغ أميَّ، فجاءت وقالت" وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أُصلحها إلى ثلاثة أيام، فأقمت ثلاثاً ثم دخلت بها، فإذا هي من أجمل الناس، وأحفظ الناس لكتاب الله، وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرفهم بحق زوج، فمكثت شهراً لا آتي سعيد بن المسيب ثم أتيته وهو في حلقته فسلَّمت، فردَّ عليَّ السلام، ولم يُكلمني حتى تقوَّض المجلس، فلما لم يبق غير قال: ما حال ذلك الإنسان؟ قلت: خير يا أبا محمد، على ما يحب الصديق، ويكره(3/77)
العدو، قال: إن رابك شيء فالعصا. فانصرفت إلى منزلي، فوجَّه إليَّ بعشرين ألف درهم5014.
2 ـ معرفته بتأويل الرؤى: كان سعيد من أعبر الناس للرؤيا أخذ ذلك عن أسماء بنت أبي بكر الصِّديق وأخذته أسماء عن أبيها5015، وعن عمر بن حبيب بن قُليع قال: كنت جالساً عند سعيد بن المسيِّب يوماً، وقد ضاقت بي الأشياء ورهقني دين، فجاءه رجل، فقال: رأيت كأنِّي أخذت عبد الملك بن مروان، فأضجعته إلى الأرض، وبطحته فأفندت في ظهره أربع أوتاد. قال: ما أنت رأيتها قال: بلى. قال: لا أخبرك أو تخبرني قال: ابن الزبير رآها، وهو بعثني إليك قال: لئن صدقت رؤياه قتله عبد الملك، وخرج من صُلب عبد الملك أربعة كلهم يكون خليفة. قال: فرحلت إلى عبد الملك بالشام فأخبرته، فسُرَّ، وسألني عن سعيد بن المسيِّب وعن حاله فأخبرته وأمر بقضاء ديني وأصبت منه خيراً5016. وعن إسماعيل بن أبي حكيم، قال: قال رجل: رأيت كأنّ عبد الملك بن مروان يبول في قبلة مسجد النبي صلى اله عليه وسلم أربع مرار. فذكرت ذلك لسعيد بن المسيِّب، فقال: إن صدقت رؤياك قام فيه من صلبه أربعة خلفاء5017. وعن عمران بن عبد الله ، قال: رأى الحسن بن علي كأن بين عينيه مكتوب ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) فاستبشر به، وأهل بيته، فقصُّوها على سعيد بن المسيِّب، فقال: إن صدقت رؤياه فقلَّما بقي من أجله، فمات بعد أيام5018.(3/78)
3 ـ من كلام سعيد بن المسيب: قال: أيس الشيطان من شيء إلا أتاه من قبل النساء5019، ثم قال لنا سعيد ـ وهو ابن أربع وثمانين سنة قد ذهبت إحدى عينينه وهو يعشو بالأخرى: ما شيء أخوف عندي من النساء5020، وقال: لا تقولوا مصيحف ولا مسيجد، ما كان لله فهو عظيم حسن جميل5021، وقال: لا خير في من لا يُريد جمع المال من حلِّه، يعطي منه حقه، ويكف به وجهه عن الناس5022، فقال: من استغنى بالله، افتقر الناس إليه5023. وقال: برد مولى بن المسيب لسعيد بن المسيب، ما رأيت ما أحسن ما يصنع هؤلاء! قال سعيد: وما يصنعون؟ قال: يصلي أحدهم الظهر، ثم لا يزال صافاً رجليه حتى يصلي العصر. فقال:
…ويحك يا برد أما والله ما هي العبادة، إنما العبادة التفكر في أمر الله، والكف عن محارم الله5024. وقال:
…ما خفت على نفسي شيئاً مخافة النَّساء، قالوا: يا أبا محمد إنَّ مثلك لا يريد النساء ولا تريده النساء، فقال: هو ما أقول لكم. وكان شيخاً كبيراً أعمش5025.
4 ـ دعاء مستجاب: عن علي بن يزيد قال: قال لي سعيد بن المسيِّب: قل لقائدك يقوم، فينظر إلى وجه هذا الرجل وإلى جسده، فقام، وجاء فقال: رأيت وجه زنجيٍّ وجسده أبيض. فقال سعيد: إن هذا سبَّ طلحة والزبير وعلياً رضي الله عنهم، فنهيته، فأبى، فدعوت الله عليه، قلت: إن كنت كاذباً فسود الله وجهك، فخرجت بوجهه قرحة فأسود وجهه5026. توفي رحمه الله عام 94هـ، وسميت السنة التي مات فيها سنة الفقهاء لكثرة من مات منهم فيها5027. ولما اشتد به الوجع دخل عليه نافع بن جبير يعوده، فأغمي عليه فقال نافع: وجِّهوه، ففعلوا، فأفاق فقال: من أمركم أن تحولوا فراشي إلى القبلة، أنافع؟ قال: نعم. قال له سعيد: لئن لم أكن على القبلة والملة والله لا ينفعني توجيهكم فراشي5028.
ثانيا : وصية عبد الملك لأولاده ووفاته:(3/79)
لما احتضر عبد الملك أمر بفتح الأبواب من قصره، فلما فتحت سمع قصاراً ـ أي: غسالاً ـ بالوادي، فقال: ما هذا قالوا: قصار، فقال: يا ليتني كنت قصاراً أعيش من عمل يدي، فلما بلغ ذلك سعيد بن المسيِّب قال: الحمد لله الذي جعلهم عند موته يفرون إلينا ولا نفر إليهم5029.
1 ـ ولما حضره الموت جعل يندم ويندب ويضرب بيده على رأسه ويقول: وددت لو أكتسب قوتي يوماً بيوم واشتغلت بعبادة ربي5030.
2 ـ وقيل له لما حضره الموت: كيف تجدك؟ قال: أجدني كما قال الله تعالى: ((وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ))5031(الأنعام ، الآية : 94).
3 ـ وقيل إنه لما حضرته الوفاة دعا بنيه فوصاهم فقال: الحمد لله الذي لا يسأل أحداً من خلقه صغير أو كبيراً ثم أنشد:
………فهل من خالد إما هالكنا
…………………وهل بالموت للباقين عار
وقيل: إنه قال: أرفعوني فرفعوه حتى شم الهواء وقال: يا دنيا ما أطيبك؟ إن طويلك لقصير، وإن كثيرك لحقير، وإن كنا بك لفي غرور، ثم تمثل بهذين البيتين:
……إن تناقش يكن نقاشك يا رب
………………عذاباً لا طوق لي بالعذاب
……أو تجاوز فأنت رب صفوح
………………عن مسيء ذنوبه كالتراب5032
وخطب عبد الملك يوماً خطبة بليغة، ثم قطعها وبكى بكاءً شديداً، ثم قال: يا رب إن ذنوبي عظيمة، وإن قليل عفوك أعظم منها، اللهم فامح بقليل عفوك عظيم ذنوبي فبلغ ذلك القول زاهد العراق الحسن البصري فبكى وقال: لو كان كلام يكتب بالذهب لكتب هذا الكلام5033، وقال الشعبي: خطب عبد الملك، فقال: اللهمّ إن ذنوبي عظام وهي صغار في جنب عفوك يا كريم، فأغفرها لي5034.
4 ـ جاء ابنه الوليد بباب المجلس وهو غاص بالنساء، فقال: كيف أصبح أمير اامؤمنين؟ قيل له يُرجى له العافية وسمع عبد الملك ذلك فقال:
………وكم سائل عنا يريد لنا الرَّدى
…………………وكم سائلات والدموع ذوارف(3/80)
ثم أمر النساء، فخرجن وأذن لبني أمية فدخلوا عليه وفيهم خالد وعبد الله ابنا يزيد بن معاوية فقال لهما: يا بني يزيد أتحبان أن أقيلكما بيعة الوليد؟
…قالا معاذ الله يا أمير المؤمنين. قال: لو قلتما غير ذلك لأمرت بقتلكما على حالتي هذه. ثم خرجوا عنه واشتد وجعه، فتمثل ببيت أمية بن الصَّلت:
………ليتني كنت قبل ما قد بدا لي
…………………في قلال الجبال أرعى الوعولا5035
* وصية عبد الملك لابنه الوليد عند موته تدل على حزمه:
لما احتضر عبد الملك دخل ابنه الوليد فبكى، وقال له عبد الملك: ما هذا؟ أتخن حنين الجارية والأمة، إذا مت فشمر واتزر، وألبس جلد النمر وضع الأمور عند أقرانها واحذر قريشاً:
1 ـ يا وليد: أتقي الله فيما استخلفك فيه، واحفظ وصيتي.
2 ـ انظر إلى أخي معاوية فصل رحمه واحفظني فيه.
3 ـ وانظر إلى أخي محمد فأمره على الجزيرة ولا تعزله عنها.
4 ـ أنظر إلى ابن عمنا علي بن عباس، فإنه قد انقطع إلينا بمودته ونصيحته وله نسب وحق فصله رحمه، واعرف حقه.
5 ـ وانظر إلى الحجّاج بن يوسف فاكرمه، فإنه هو الذي مهد لك البلاد، وقهر الأعداء، وخلص لك الملك وشتت الخوارج.
6 ـ وأنهاك وإخوتك عن الفرقة، وكونوا أولاد أمٍ واحدة، وكونوا في الحرب أحراراً، وللمعروف مناراً، فإن الحرب لم تدن منية قبل وقتها، وإن المعروف يشيد ذكر صاحبه، ويميل القلوب بالمحبة، ويذلل الألسنة بالذكر الجميل، ولله در القائل:
…………إن الأمور إذا اجتمعنا فرامها
……………………بالكسر ذو حنقٍ وبطشٍ مفند
…………عزت فلم تكسر وإن هي بددت
……………………فالكسر والتوهين للمتبدد
7 ـ ثم قال: إذا أنا مت فادعو الناس إلى بيعتك، ومن أبى فالسيف، وعليك بالإحسان إلى أخواتك فاكرمهن، وأحبهن إليَّ فاطمة، وكان قد أعطاها قرطي ماريا، والدرة اليتيمة، ثم قال: اللهم أحفظني فيها5036، وكان قد تزوجها عمر بن عبد العزيز وهو ابن عمها.
ـ وصيته لبنيه:(3/81)
…لما حضرت عبد الملك بن مروان الوفاة دعا بنيه، فأوصاهم فقال:
1 ـ يا بني: أوصيكم بتقوى الله، فإنها أحصن كهف وأزين حلة ليعطف الكبير منكم على الصغير، وليعرف الصغير منكم حق الكبير.
2 ـ وإياكم والاختلاف والفرقة، فإنها بها هلكة الأولون قبلكم، وذل ذو العدد والكثرة.
3 ـ وانظروا مسلمة فاصدروا عن رأيه فإنه جنتكم الذي به تستجنون، ونابكم الذي عنه تفترون.
4 ـ اكرموا الحجّاج، فإنه وطأ لكم المنابر وكونوا عند القتال أحراراً وعند المعروف مناراً، وكونوا بني أم بررة، أحلولوا في مرارة ولينلوا في شدة ثم رفع رأيه إلى الوليد فقال:
5 ـ يا وليد: لأعرفنكم إذا وضعتني في حفرتي تمسح عينيك وتعصرهما فعل الأمة ولكن إذا وضعتني في حفرتي فشمر واتزر، والبس جلد النمر، ثم أصعد المنبر فادعو الناس إلى البيعة، من قال كذا فقل كذا5037.
* ـ وفاته ودفنه:
…كان عبد الملك يقول: ولدت في رمضان، وفطمت في رمضان، وختمت القرآن في رمضان، وأتتني الخلافة في رمضان، وأخشى أن أموت في رمضان، فلما دخل شوال وأمن مات5038، مات بدمشق سنة 86هـ يوم الجمعة وقيل الأربعاء وصلى عليه ابنه الوليد ولي عهده من بعده وكان عمره يوم مات ستين سنة، وقيل ثلاث وستين سنة وقيل ثمان وخمسين سنة5039، ودفن بين باب الجابية وباب الصغير5040، وكان نقش خاتمه (آمنت بالله مخلصاً)5041، وانفرد بالخلافة منذ مقتل ابن الزبير إلى وفاته، والصحيح أنه لما مات كان عمره ستين سنة حيث ولد عام ستة وعشرين هجرية5042.
المبحث السادس : خلافة الوليد بن عبد الملك: 86 إلى 96 هـ(3/82)
هو أبو العباس الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي، الدمشقي بويع بعهد من أبيه، وكان مترفاً دميماً، قليل العلم نهمته في البناء، أنشأ جامع بني أمية وأنشأ أيضاً مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وزخرفه ورزق في دولته سعادة، ففتح بوابة الأندلس، وبلاد الترك، وكان لحنة وحرص على النحو أشهراً، فما نفع وغزا الروم مرات في دولة أبيه، وحج وقيل كان يختم في كل ثلاث، وختم في رمضان سبعة عشرة ختمة، وكان يقول: لولا أن الله ذكر قوم لوط ما شعرت أن أحداً يفعل ذلك. وكان فيه عسف وجبروت. وقيام بأمر الخلافة، وقد فرض للفقهاء والأيتام والزّمنى والضعفاء وضبط الأمور5043.
أولاً : أهم أعماله الحضارية والإنسانية:
1 ـ توسيع المسجد النبوي:(3/83)
كان الوليد بن عبد الملك من اشهر خلفاء بني أمية وهو أكثرهم عناية بالبناء والعمران حتى لقب مهندس بني أمية، وأراد الوليد أن يبني المسجد النبوي ويشيده بما يليق به وبعظمة الخلافة في عهده، فصمم على تنفيذ ذلك المشروع وهو توسعة المسجد النبوي، وأدخل حجر أمهات المؤمنين وحجرة فاطمة وحجرة عائشة رضي الله عنهن جميعاً في المسجد إضافة إلى أن المؤرخين قد ذكروا أن بعض جدران الحجرة قد بدأ فيه الخلل نتيجة القدم5044، وعندما وصل خطابه بذلك إلى واليه على المدينة عمر بن عبد العزيز جمع الفقهاء العشرة5045 ووجوه الناس وأخبرهم بما أمر به الوليد فأنكروا ذلك وكرهوه ورأوا أن بقاء بيوت النبي صلى الله عليه وسلم على حالها أدعى للعبرة والاتعاظ5046،وقد قال الفقهاء: هذه حجر قصيرة السقوف وسقوفها من جريد النخل وحيطانها من اللبن وعلى أبوابها المسوح وتركها على حالها أولى، ينظر فيها الحجاج والزوار والمسافرون إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم فينتفعوا بذلك ويعتبر به، ويكون ذلك أدعى لهم إلى الزهد في الدنيا، فلا يعمرون فيها إلا بقدر الحاجة، وهو ما يستر ويكن، ويعرفون أن هذا البنيان العالي إنما من أفعال الفراعنة والأكاسرة، وكل طويل الأمل راغب في الدنيا وفي الخلود فيها. فعند ذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى الوليد بما أجمع عليه الفقهاء العشرة المتقدم ذكرهم، فأرسل إليه يأمره بتجديد البناء، كما أراد الوليد، ويحكى أن سعيد بن المسيِّب أنكر إدخال حجرة عائشة في المسجد كأنه خشي أن يتخذ القبر مسجداً5047. ومن الأعمال التي مهدت للبدع حول القبور من البناء عليها والصلاة إليها، ودعاء الأموات، إدخال حجرة النبي صلى الله عليه وسلم في ناحية المسجد في عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك، وزخرفته وتزيينه بالفسيفساء5048، ثم تدرج الحال إلى إدخال جميع الحجرة في المسجد، ثم البناء عليها، وبناء القبة، ثم اتخاذها مصلى واتخاذها ذريعة للبناء على القبور(3/84)
واتخاذها مساجد، والوقوع فيما حذر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر مما صنعوا5049. وقال صلى الله عليه وسلم: ألا، لا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك5050، وقد بنى التابعون على القبر حيطاناً مرتفعة مستديرة حوله، لئلا يظهر في المسجد فيصلى إليه العوام ويؤدي إلى المحظور، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا حتى لا يتمكن من استقبال القبر5051. هذا ما فعله أهل العلم وأولو الأمر عندما اضطروا إلى ذلك ستراً للقبر ستراً كاملاً، فلا ينظر، ولا يتمكن أحد من الصلاة إليه، وما ذلك إلا أنهم فهموا الأحاديث الناهية عن الصلاة على القبور وإليها وعن اتخاذ القبور مساجد، وفهم العلة في ذلك النهي فعملوا على إزالة تلك العلة وفي هذا أبلغ رد على شبهة بعض الناس الذين يحتجون بأن قبر النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده5052، وقد كتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز أن يحفر الفوارة بالمدينة، وأن يجري مائها ففعل، وأمره أن يحفر الآبار وأن يسهل الطرق والثنايا، وساق إلى الفوارة الماء من ظاهر المدينة، والفوارة بنيت في ظاهر المسجد عند بقعة رآها فأعجبته5053.
2 ـ بناء المسجد الأموي:(3/85)
…قال ابن كثير في حوادث عام 96هـ: فيها تكامل بناء الجامع الأموي بدمشق على يد بانيه أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك بن مروان، جزاه الله عن المسلمين خير الجزاء وكان أصل موضع هذا الجامع قديماً معبداً بنته اليونان الكلدانيون الذين كانوا يعمرون دمشق، وهم الذين وضعوها وعمروها أولاً... ثم ـ إن النصارى حولوا بناء هذا المعبد الذي هو بدمشق معظماً عند اليونان، فجعلوه كنيسة واستمر النصارى على دينهم هذا بدمشق وغيرها نحو ثلاثمائة سنة حتى ـ جاء الإسلام ـ وعندما صارت الخلافة إلى الوليد عزم على تحويلها إلى مسجد، بعد أن تفاوض مع النصارى وقام بترضيتهم مقابل عروض مغرية5054. ثم أمر الوليد باحضار آلات الهدم واجتمع إليه الأمراء والكبراء من رؤساء الناس وجاء إليه أساقفة النصارى وقساوستهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن نجد في كتبنا أن من يهدم هذه الكنيسة يجن. فقال: أنا أحب أن أجن في الله عز وجل والله لا يهدم فيها أحد شيئاً قبلي5055، ثم صعد المنارة ثم إلى أعلى مكان من الكنيسة وضرب بها في أعلى حجر فألقاه، فتبادر الأمراء إلى الهدم5056، فهدم الوليد والأمراء جميع ما جدده النصارى في تربيع هذا المكان من المذابح والأبنية.. ثم شرع في بنائه وقد استعمل الوليد في بناء هذا المسجد خلقاً كثير من الصناع والمهندسين والفعلة، وكان المستحث على عمارته أخوه، وولي عهده من بعده سليمان بن عبد الملك5057، وقد أنفق في مسجد دمشق أربعمائة صندوق في كل صندوق أربعة عشر ألف دينار وفي رواية: في كل صندوق ثمانية وعشرون ألف دينار. قلت فعلى الأول يكون ذلك خمسة آلاف وألف دينار وستمائة ألف دينار، وعلى الثاني يكون المصروف في عمارة الجامع الأموي أحد عشر ألف ألف دينار، ومائتي ألف دينار5058،وقد نقل إلى الوليد بأن الناس يقولون أنفق الوليد أموال بيت المال في غير حقها فنودي في الناس: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فصعد الوليد المنبر وقال: إنه بلغني(3/86)
عنكم إنكم قلتم: أنفق الوليد بيوت الأموال في غير حقها. ثم قال: يا عمر بن مهاجر، قم فاحضر أموال بيت المال، فحملت على البغال إلى الجامع وبسطت الأنطاع تحت القبة ثم أفرغ عليها المال ذهباً صبيباً وفضة خالصة حتى صارت كوماً حتى كان الرجل لا يرى الرجل من الجانب الآخر وهذا شيء كثير، فوزنت الأموال، فإذا هي تكفي الناس ثلاث سنين مستقبلة، وفي رواية: ستة عشرة سنة مستقبلة ولو لم يدخل للناس شيء بالكلية ـ ففرح الناس وكبروا وحمدوا الله عز وجل على ذلك، ثم قال الوليد: يا أهل دمشق إنكم تفخرون على الناس بأربع: بهوائكم ومائكم، وفاكهتكم، وحماماتكم، فأحببت أن أزيدكم خامسة وهي هذا الجامع فاحمدوا الله تعالى. وانصرفوا شاكرين داعين5059. وقد كان الجامع الأموي لما كمل بناؤه لم يكن على وجه الأرض بناء أحسن منه، ولا أبهى ولا أجل منه، بحيث أنه إذا نظر الناظر إليه، أو إلى أي جهة منه، أو إلى أي بقعة أو مكان منه، تحير فيما ينظر إليه لحسنه جميعه، ولا يمل ناظره، بل كلما أدمن النظر، بانت له أعجوبة ليست كالأخرى5060.
3 ـ المستشفيات في عهد الوليد:(3/87)
…كان الخليفة الوليد بن عبد الملك أول من أسس مستشفى خاصاً بالمجذومين وذلك سنة 88هـ، وجعل فيه أطباء مهرة، وأجرى عليهم الأرزاق، وأمر بعزلهم عن الأصحاء كي لا تنتقل العدوى من المصابين إلى الأصحاء، وهذا ما يعرف في التاريخ بدور المجذومين5061. يقول الأستاذ الدكتور أحمد شوكت الشطي:.. أول مؤسسة عرفت هي مجذمة الوليد بن عبد الملك في دمشق سنة 88هـ، ثم تعددت الملاجئ بعد ذلك في مختلف البلاد العربية لبذل العناية الإنسانية لهؤلاء التعساء، وتعد المجاذم العربية أول دور عولج فيها المصابون بالجذام معالجة فنية5062، ويقول أحمد عيس بكر: قال الشيخ أبو العباس أحمد القلقشندي، إن أول من اتخذ البيمارستان بالشام للمرضى الوليد بن عبد الملك وهو سادس خلفاء بني أمية.. وقال رشيد الدين بن الوطواط: أول من عمل البيمارستان وأجرى الصدقات على الزَمْنَى والمجذومين والعميان والمساكين واستخدم لهم الخدام الوليد بن عبدالملك. وقال تقي الدين المقريزي: أول من بنى البيمارستان في الإسلام ودار المرضى الوليد بن عبد الملك وهو أيضاً أول من عمل دار الضيافة وذلك سنة 88هـ وجعل في البيمارستان أطباء، وأجرىلهم الأرزاق وأمر بحبس المجذومين لئلا يخرجوا وأجرى عليهم وعلى العميان الأرزاق، ولم يصل إلينا إي علم أو إشارة عن المكان الذي أنشأ فيه الوليد البيمارستان5063.
4 ـ كفالة الدولة للمحتاجين وتطوير الطرق:(3/88)
…كان الوليد يخصص الأرزاق للفقهاء والضعفاء والفقراء ويحرم عليهم سؤال الناس، ويفرض لهم ما يكفيهم كما فرض على العميان والمجذومين5064، فقد أعطى المجذومين وقال: لا تسألوا الناس وأعطى كل مقعد خادماً وكل ضرير قائداً وفتح في ولايته فتوح عظام5065، وقد اهتم الوليد بتعبيد الطرق وبخاصة تلك التي تؤدي إلى الحجاز لتيسير سفر الحُجاج إلى بيت الله الحرام، فكتب إلى عمر بن عبد العزيز في تسهيل الثنايا وحفر الآبار وعمل الفوارة في المدينة وأمر لها بقوام يقومون عليها وأن يسقى منها أهل المساجد5066.
ثانياً : ديوان المستغلات:
يعتبر عهد الوليد امتداد لأبيه في النظام السياسي والاقتصادي والإداري وغيرها ويبدو أن ديوان المستغلات ظهر ذكره في عهد الوليد، وكان هذا الديوان ينظر في إدارة أموال الدولة غير المنقولة من أبنية وعمارات وحوانيت ولأول مرة ترد إشارة ديوان المستغلات في عهد الوليد حيث ذكر أن نفيع بن ذؤيب تقلد للوليد بن عبد الملك ديوان المستغلات، وأن اسمه مكتوب على لوح في سوق السراجين بدمشق5067. وهذا يدل على: أن الديوان كان قائماً في خلافة الوليد، ولعله أحدث قبل هذا الوقت، وأن وجود اسمه على لوح في سوق دمشق له دلالته على وجود أملاك عائدة إلى الدولة، وإن نفيع كان يشرف على جباية وارداتها5068.
ثالثاً : الوليد والقرآن الكريم:(3/89)
أخذ الخلفاء الأمويون والأمراء أنفسهم بتلاوة القرآن وختمه من وقت لآخر وقد شب الوليد على حب القرآن الكريم والاكثار من تلاوته وحث الناس على حفظه وإجازتهم على ذلك، حدث إبراهيم بن أبي عبلة قال: قال لي: الوليد بن عبد الملك يوماً في كم تختم القرآن؟ قالت: كذا وكذا، فقال: أمير المؤمنين على شغله يختمه في ثلاث ـ وقيل في سبع ـ قال: وكان يقرأ في شهر رمضان سبعة شعرة ختمة، قال إبراهيم: رحم الله الوليد، وأين مثله؟ بنى مسجد دمشق، وكان يعطيني قطع الفضة، فأقسمها على قرّاء بيت المقدس5069، ورى الطبري أن رجلاً من بني مخزوم سأل الوليد قضاء دين عليه. فقال: نعم إن كنت مستحقاً لذلك، قال: يا أمير المؤمنين، وكيف لا أكون مستحقاً لذلك مع قرابتي؟ قال: أقرأت القرآن؟ قال: لا، قال: أدن مني فدنا منه، فنزع عمامته بقضيب كان في يده وقرعه قرعات بالقضيب، وقال للرجل: ضم إليك هذا فلا يفارقك حتى يقرأ القرآن، فقام إليه عثمان بن يزيد بن خالد... فقال يا أمير المؤمنين إن علي ديناً، فقال: أقرأت القرآن قال: نعم، فاستقرأه عشر آيات من الأنفال، وعشر آيات من براءة، فقرأ، فقال: نعم نقض عنكم، ونصل أرحامكم على هذا5070. وقال عنه ابن كثير: .. فقد كان صيناً في نفسه حازماً في رأيه يقال: إنه لا تعرف له صبوة ومن جملة محاسنه ما صح عنه أنه قال: لولا أن الله قص علينا قصة لوط في كتابه ما ظننت أنَّ ذكراً يأتي ذكراً كما تؤتي النَّساءُ5071
رابعاً : عروة بن الزبير في ضيافة الوليد:(3/90)
عروة بن الزبير بن العوام، ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، الإمام، عالم المدينة، المدني، الفقيه، أحد الفقهاء السبعة5072، كان عروة يقرأ القرآن كل يوم في المصحف نظراً ويقوم به الليل فما تركه إلا ليلة قطعت رجله وقصة ذلك، أن عروة خرج إلى الوليد بن عبد الملك، حتى إذا كان بوادي القُرى، وجد في رجله شيئاً، فظهرت به قرحة، ثم ترقّى به الوجع، وقدم على الوليد وهو في محمل، فقال: يا أبا عبد الله أقطعها، قال: دونك. فدعا له الطبيب وقال: أشرب المُرْقد5073. فلم يفعل، فقطعها من نصف الساق فما زاد أن يقول: حسِّ5074 حسِّ، فقال الوليد: ما رأيت شيخاً قط أصبر من هذا. وأصيب عُرْوة بابنه محمد في ذلك السفر، في إصطبل5075 الوليد فضربته الدواب بقوائمها فقتلته، فأتى عروة رجل يعزيه فقال: إن كنت تُعزِّيني برجلي فقد احتسبتها، قال: بل أُعَزِّيك بمحمد ابنك، قال: وما له؟ فأخبره فقال:: اللهم أخذت عضواً وتركت أعضاء، وأخذت ابناً وتركت أبناء5076، وجاء في رواية: اللهم كان لي بنون سبعة، فأخذت واحداً، وأبقيت لي ستة، وكان لي أطراف أربعة، فأخذت طرفاً، وأبقيت ثلاثة، ولئن ابتليت، لقد عافيت، ولئن أخذت لقد أبقيت5077. وجاء في رواية عن ابنه عبد الله: نظر أبي إلى رجله في الطست، فقال: إنَّ الله يعلم أنِّي ما مشيت بك إلى معصية قط وأنا أعلم5078، ولما قدم المدينة أتاه ابن المنكدر فقال: كيف كنتَ؟ قال: ((لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا)) (الكهف ، الآية : 62) .(3/91)
وجاء عيسى بن طلحة إلى عروة بن الزبير حين قدم، فقال عروة لبعض بنيه: اكشف لعمك رجلي، ففعل، فقال عيسى: إنا والله يا أبا عبد الله ما أعددناك للصراع، ولا للسباق، ولقد أبقى الله منك لنا ما كُنَّا نحتاج إليه، رأيك وعلمك. فقال: ما عزَّاني أحد مثلك5079، قال ابن خلِّكان: كان أحسن من عزّه إبراهيم بن محمد بن طلحة فقال: والله ما بك حاجة إلى المشي، ولا أربٌ في السَّعي، وقد تقدّمك عضو من أعضاك وابن من أبنائك إلى الجنَّة، والكل تبع للبعض إن شاء الله، وقد أبقى الله لنا منك ما كنَّا إليه فقراء من علمك ورأيك، والله وليٌّ ثوابك والضمين بحسابك5080، وقد توفي عروة وهو ابن سبع وستين سنة، سنة 93 هـ5081.
خامساً: الوليد يطلب من الحجّاج أن يكتب له سيرته:
كتب الوليد إلى الحجّاج أن يكتب إليه بسيرته، فكتب إليه إني أيقظت رأيي وأنمت هواي وأدنيت السيد المطاع في قومه ووليت الحرب الحازم في أمره وقلدت الخراج الموفر لأمانته وقسمت لكل خصم من نفسي قسماً يعطيه حظاً من نظري، ولطيف عنايتي، وصرفت السيف إلى النَّطِف5082 المسيء، والثواب إلى المحسن البريء5083، فخاف المذنب صولة العقاب وتمسك المحسن بحظه من الثواب5084.
سادساً : أم البنين زوجة الوليد بن عبد الملك:
هي أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان الأموية أخت عمر بن عبد العزيز وزوجة الوليد بن عبد الملك كانت إحدى فضليات النساء في عصرها وقد ذكرها أبو زرعة في طبقاته فيمن حدَّث بالشام من النساء فقال أم البنين ابنة عبد العزيز بن مروان وروى عنها ابن أبي عَبْلة5085. وكانت رحمها الله ـ دائمة الذكر لله سبحانه وتعالى موصولة القلب بكتابه الكريم، تتعاهد القرآن صباح مساء فلا تكاد ترى إلا وهي تالية للقرآن خاضعة لذكر الرحمن، وكانت تسابق زوجها الوليد في تلاوة القرآن ولها مواقف وأقوال محمودة منها:(3/92)
1 ـ خشيتها لله عز وجل: كانت تختلف عما كانت عليه عامّة النساء، فإذا ما ذكر الله عز وجل، استشعرت خشيته ومهابته في قلبها، ورأت بنور بصيرتها أنَّ السعداء هم الذين يخافون الله ومن أقوالها في هذا: ما تحلّى المتحلّون بشيء أحسن عليهم من عظيم مهابة الله عز وجل في صدورهم وكانت تتقرّب إلى الله عز وجل بكل ما يرضيه ويقرّبها إليه. ومن صور حياتها المضيئة ما ذكره ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ أنَّها كانت تعتق في كل جمعة رقبة، وتحمل على فرس في سبيل الله عزَّ وجل5086، وبلغت هذه التابعية درجة عالية من الورع والخوف من الله تعالى فقد كانت تتحرى أمورها بدقة وتعقل، فلا تكاد تقبل عرضاً أو مالاً جاء إلا من وجه شرعي وترفض كل ((هدية)) جاءت من أي مصدر غير مشروع , وإليك هذه القصة: حجَّ الوليد بن عبد الملك، وحجّ محمد بن يوسف من اليمن وحمل هدايا للوليد، فقالت أم البنين للوليد ـ زوجها ـ: يا أمير المؤمنين اجعل لي هدية محمد بن يوسف، فأمر بصرفها إليها فجاءت رسل أم البنين إلى محمد بن يوسف فيها فأبى وقال: ينظر فيها أمير المؤمنين، فيرى رأيه ـ وكانت هدايا كثيرة: فقالت يا أمير المؤمنين إنك أمرت بهدايا محمد بن يوسف أن تُصرف إليَّ، ولا حاجة لي بها قال: ولم؟ قالت: بلغني أنّه غصبها الناس، وكلَّفهم عَمَلها وظَلَمهم، وحمل محمد بن يوسف المتاع إلى الوليد. فقال له الوليد: بلغني أنَّك أصبتها غصباً. قال: معاذ الله، فأمر الوليد، فاستُحلف بين الرُّكن والمقام خمسين يميناً لله ما غصب شيئاً منها، ولا ظلم أحداً ولا أصابها إلا من طَيّب، فحلف، فقبلها الوليد ودفعها إلى أم البنين، فمات بن يوسف باليمن5087.(3/93)
2 ـ جودها وكرمها: قيل لأمِّ البنين ـ رحمها الله ـ: ما أحسن شيء رأيت؟ قالت: نعم الله مقبلة عليّ5088. ومن أقوالها في ذم البخل والبخلاء: لو لم يدخل على البخلاء في بخلهم إلا سوء ظنّهم بالله عز وجل لكان عظيماً. ومن أخبار جودها أنها كانت تدعو النِّساء إلى بيتها، وتكسوهن الثياب الحسنة، وتعطيهن الدنانير وتقول: الكسوة لكُنَّ والدّنانير أقسمتها بين فقرائكن ـ تريد بذلك أن تعلمهن وتعودهن على البذل والجود. وكانت تقول: أفٍ للبخل والله لو كان ثوباً ما لبسته ولو كان طريقاً ما سلكته5089، وكانت تقول: البخل كل البخل من بخل عن نفسه بالجنة5090، ويبدو أن أم البنين قد أحبت بذل المال، وإنفاقه في طرق مشروعة لتشعر بنعمة الله عليها، ولم تكن الدراهم والدنانير تعرف إلى بيتها سبيلا فسرعان ما تنفقها، ولله در الشعر فكأنه عناها بقوله:
…………وإني امرئ لا تستقر دراهمي
……………………على الكف إلا عابرات سبيل5091
وكانت تقول: جُعل لكل قوم نهمه في شيء وجعلت نهمتي في البذل والإعطاء والله للصِّلة والمواساة أحب إليّ من الطعام الطيب على الجوع ومن الشراب البارد على الظمأ5092، ولشدة حرصها على الإنفاق، ووضع في مواضعه واصطناع آيات المعروف كانت ـ تقول ـ: ما حسدت أحداً قط على شيء إلا أن يكون ذا معروف، فإني كنت أحب أن أشركه في ذلك. ومن الروائع أقوالها في هذا: وهل ينال الخير إلا باصطناعه5093؟ فمن جملة اصطناعها للمعروف، والإعانة عليه ما ورد أن الثريا بنت علي بن عبد الله، لما مات زوجها سهيل بن عبد الرحمن بن عوف عنها أو طلقها ـ خرجت إلى الوليد بن عبد الملك وهو خليفة بدمشق في دين كان عليها، فبينما هي عند زوجه أمِّ البنين بنت عبد العزيز، إذ دخل عليها الوليد، فقال: من هذه عندك؟ قالت أم البنين: الثُّريا بنت علي جاءتني أطلب إليك في قضاء دين عليها وحوائج لها. فقضيت حوائجها وانصرفت شاكرة لأمِّ البنين وزوجها الوليد5094.(3/94)
3 ـ أم البنين والحجّاج:
…تذكر كتب التاريخ أن الحجّاج بن يوسف قدم على الوليد بن عبد الملك، فإذن له بالدخول، فدخل عليه، وعليه عمامة سوداء وقوس عربية، وكنانة. فبعثت إليه أمِّ البنين فقالت: من هذا الإعرابي المستلئم ـ المتسلح في السِّلاح عندك، وأنت في غِلالة غررٌ، فأرسل إليها أنه الحجّاج بن يوسف الثقفي. فراعها ذلك وأوجست خيفة في نفسها وقالت: والله، لأن يخلو بك ملك الموت، أحب إليَّ من أن يخلو بك الحجّاج بن يوسف وقد قتل الخلق وأهل الطاعة ظلماً وعدواناً، فعرف الحجّاج رأي أم البنين، فقال للوليد: يا أمير المؤمنين، دع عنك مفاكهة النساء بزخرف القول، فإنما المرأة ريحانة، وليس بقهرمانة، ولا تطلعهن على أمرك ولا تطلعهن في سرّك، ولا تستعملهن لأكثر من زينتهن، وإياك ومشاورتهن، فإنّ رأيهن إلى أفن وعزمهن إلى وهن، ولا تملك الواحدة منهن من الأمور ما يجاوز نفسها ولا تطمعها أن تشفع عندك لغيرها ولا تطل الجلوس معهن، فإنَّ ذلك أوفر لعقلك وأبين لفضلك ثم نهض الحجّاج وخرج من عند الوليد، فدخل الوليد على أم البنين، فأخبرها بمقالة الحجّاج ورأيه، فقالت: يا أمير المؤمنين، أحبُّ أن يأمره أمير المؤمنين بالتسليم علي غداً قال: أفعل فغدا الحجّاج على الوليد فقال: ائت أم البنين، فسلم عليها. فقال: أعفني من ذلك يا أمير المؤمنين فقال الوليد: لتفعلنّ، فلا بدّ من ذلك، وأسقط في يد الحجّاج، فهو يعلم رأيها فيه، وفي أخيه محمد بن يوسف من قبل، واللقاء معها لا يبشر بخير، ولكن، ليس في الأمر حيلة، ولا مخرج له من هذا الموقف المحرج. فمضى وأتى مكانها ، فحجبته طويلاً، ثم أذنت له، وتركته قائماً ولم تأذن له في الجلوس، ثم قالت له: أنت الممتنُّ على أمير المؤمنين بقتل ابن الزبير وابن الأشعث؟ ثم ذكرت له قتل عبد الله بن الزبير، وعددت له فظائعه وأنكرت عليه قوله بالأمس ـ بالنساء ـ مع زوجها الوليد، وذكرت له قبح منظره وسوء خلقه، ثم قالت تعرّض(3/95)
به: قاتل الله الذي يقول وسنان غزالة الحرورية بين كتفيك:
…………أسدٌ عليَّ وفي الحروب نعامة
……………………ربداء تنفر من صفير الصَّافر
إلى أخر الأبيات: ثم أمرت جارية لها، فأخرجته مقبوحاً مذموماً مدحوراً، فلما دخل على الوليد سأله فقال: ما كنت فيه يا أبا محمد؟ قال: والله يا أمير المؤمنين، ما سكتت حتى كان بطن الأرض أحب إلي من ظهرها، فضحك الوليد وقال: يا حجّاج إنها ابنة عبد العزيز بن مروان5095، وأما ما ينسب إلى أم البنين في قصتها المكذوبة مع وضاح اليمني، فهي ليس لها نصيب من الصًّحة5096، وماذكرته كتب الأدب من الأكاذيب والأباطيل في حق هذه التابعية لا ينظر إليه ولا يعتمد في تقرير الحقائق التاريخية.
سابعاً : المراسلات بين الوليد وملك الروم:(3/96)
كانت هناك مراسلات بين الوليد وبين ملك الروم ولاسيما حينما هدم الوليد كنيسة دمشق، فكتب إليه ملك الروم: إنك هدمت الكنيسة التي رأى أبوك تركها، فإن كان صواباً فقد أخطأت، وإن كان خطأ فما عذرك؟. فكتب إليه الوليد: ((وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا)) (الأنبياء ، الآيتان : 78 ـ 79). وحين قرر الوليد بن عبد الملك فتح القسطنطينية وأعد العدة لذلك أرسل قيصر الروم سفيراً يدعى دانيا حاكم مدينة سينوب إلى دمشق للتداول مع الخليفة حول إمكانية عقد هدنة بين الطرفين وزوده بتعليمات سرية ترمي إلى الوقوف على مدى استعدادات المسلمين لحصارالقسطنطينية، وعند رجوعه اطلعهم على استعداد العرب للحملة وحث الروم على اتخاذ التدابير الكفيلة لمواجهة الموقف5097، وهذا يدل على أن الروم كانوا يتخذون من السفراء والوفد وسيلة لجمع المعلومات في الدولة الإسلامية واستعداداتهم إتجاه الروم والتجسس على الدولةالإسلامية مستغلين كونهم رسلاً بين الدولتين مستفيدين من طبيعة المهمة السلمية التي يقومون بها وكانت هناك مراسلات وتبادل هدايا بين الخليفة الوليد بن عبد الملك وبين ملوك الروم حين أراد بناء الجامع الأموي، فعلى سبيل المثال لا الحصر ما أهداه الوليد إلى ملك الروم من كميات الفلفل قدرت قيمتها بعشرين ألف دينار5098، وهناك روايات كثيرة تشير إلى التعامل السلمي وتبادل الخبرات كان موجود بين الوليد وقيصر الروم، فقد أراد الوليد الاستفادة من خبرات الروم في صناعة الفسيفساء والبناء والعمران5099، وكانت هناك مراسلات متعلقة بالأسرى والرهائن بين الطرفين، فقد كانت من المسائل المهمة جداًَ وكانت المفاوضات بشأنها تجري أما في دمشق أو في القسطنطينية، وليس في مدن محلية صغيرة5100.(3/97)
ثامناً: محاولة نزع سليمان من ولاية العهد ووفاة الوليد عام 96 هـ:
وفي سنة 96 هـ كان الوليد يريد الشخوص إلى أخيه سليمان لخلعه، وأراد البيعة لابنه من بعده، وذلك قبل مرضته التي مات فيها، فقد أراد من سليمان أن يبايع لابنه عبد العزيز فأبى سليمان، فأراده على أن يجعله من بعده فأبى، فعرض عليه أموالاً كثيرة فأبى، فكتب إلى عماله أن يبايعوا لعبد العزيز ـ ابنه ـ ودعا الناس إلى ذلك فلم يجبه أحد إلا الحجّاج وقتيبة وخواصَّ من الناس5101، وطلب الوليد من عمر بن عبد العزيز، فامتنع عمر وقال: لسليمان في أعناقنا بيعة، فغضب الوليد، وطيَّن على عمر، ثم فتح عليه بعد ثلاث، وقد ذبل ومالت عنقه وقيل: خنق بمنديل حتى صاحت أمُّ البنين أخت الوليد، فلذلك شكر سليمان لعمر وأعطاه الخلافة من بعده وقد حج عبد العزيز بن الوليد بالناس وكان لبيباً عاقلاً، دعا إلى نفسه بالخلافةـ بعد موت سليمان ـ فلمّا سمع باستخلاف خاله سكن، ودخل في الطاعة5102.
وأصرّ الوليد على بيعة ابنه وخلع أخيه سليمان وكتب إليه يأمره بالقدوم فأبطا، فاعتزم الوليد المسير إليه وعلى أن يخلعه، فأمر الناس بالتأهب وأمر بحُجَره فأخرجت، فمرض ومات قبل أن يسير وهو يريد ذلك5103، وكان آخر ما تكلم به الوليد عند موته: سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله وكان نقش خاتمه: يا وليد إنك ميت5104، وكان عمر بن عبد العزيز ممن حضر دفنه قال: لتنزلنه غير موسد ولا ممهد قد، خلفت الأسباب وفارقت الأحباب، وسكنت التراب، وواجهت الحساب، فقيراً إلى ما تقدم عليه غنيِّا عما يخلف5105.(3/98)
وكانت وفاة الوليد يوم السبت في النصف من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين في قول جميع أهل السير5106، واختلف في قدر مدة خلافته واخترت قول الزهري في ذلك: ملك الوليد عشر سنين إلا شهراً5107، واختلف في سنه لما مات فقيل ست وأربعين سنة وأشهر، وقيل توفي وهو ابن خمس وأربعين سنة وقيل وهو ابن اثنتين وأربعين سنة وأشهر وقيل سبع وأربعين سنة5108، وقيل صلى عليه عمر بن عبد العزيز وكان له: تسعة عشر ابناً: عبد العزيز ومحمد والعباس، وإبراهيم، وتمام، وخالد، وعبد الرحمن، ومبشر، مسرور، وأبو عبيدة، وصدقة، ومنصور، ومروان، وعنبسة، وعمرو، وروح، وبشر، ويزيد، ويحي،. وأم عبد العزيز ومحمد أم البنين بينت عبد العزيز بن مروان، وأم أبي عبيدة فزارية، وسائرهم لأمهات شتى5109.
المبحث السابع: خلافة سليمان بن عبد الملك: 96هـ 99هـ:
هو سليمان بن عبد الملك بن أبي العاص بن أمية الخليفة أبو أيوب القرشي الأموي بويع بعد أخيه الوليد سنة ست وتسعين، وكان له دار كبيرة مكان طهارة جيرون5110، وكان دينا فصيحاً مفوها عادلاً محباً للغزو5111، وكان جميلاً ويرجع إلى دين وخير ومحبة للحق وأهله وأتباع القرآن والسنة وإظهار الشرائع الإسلامية5112، وكان يستعين في أمر الرعية بعمر بن عبد العزيز، وعزل عُمّال الحجّاج. وكتب إن الصلاة قد أميتت فأحيوها بوقتها، وهمَّ بالإقامة ببيت المقدس، ثم نزل قنسرين للرباط وحجّ في خلافته5113، وعن ابن سيرين قال: يرحم الله سليمان افتتح خلافته بإحياء الصلاة واختتمها باستخلاف عمر5114، وكان سليمان ينهي الناس عن الغناء5115.
أولاً: سياسته العامة:(3/99)
كان عهد سليمان يمثل بداية المرحلة الجديدة من مراحل الخلافة الأموية وعلى الأخص، المروانية منها، لما امتاز به من خصائص جديدة وتغير في أسلوب الحكم عن سابقيه منهم، إذ اتسمت سياسته بإيثار السلامة والعافية والنزوع إلى الموادعة والأخذ برأي أهل العلم والفضل من باب العمل بمفهوم الشورى والتمسك بالتعاليم والأحكام الإسلامية، والحرص على تنفيذها، وهي الأمور التي وضحها في خطبته التي خطبها بعد استخلافه، وبين فيها سياسته التي سينتهجها في الحكم5116 .
1 ـ حض الناس على الرجوع إلى القرآن الكريم: إذ يقول: اتخذوا كتاب الله إماماً وارضو به حكماً واجعلوه قائداً فإنه ناسخ لما قبله، ولن ينسخه كتاب بعده5117.(3/100)
2 ـ مفهومه للخلافة: وقال في موضع آخر من خطبته مؤكداً على تمسكه بتعاليم الإسلام ورغبته بالموادعة والمسالمة ومبيناً مفهومه للخلافة، وما يترتب على ذلك: جعل الله الدنيا داراً لا تقوم إلا بأئمة العدل، ودعاة الحق، وإن لله عباداً يملكهم أرضه، ويسوس بهم عباده، ويقيم بهم حدوده ورعاة عباده... ولولا أن الخلافة تحفة من الله كفر بالله خلعها، لتمنيت أني كأحد المسلمين يضرب لي بسهمي، فعلى رسلكم بني الوليد، فإني شبل عبد الملك، وناب مروان لا تضلعني حمل النائبة ولا يفزعني صريف الأجفر5118، وقد وليت من أمركم ماكنت له مكفياً وأصبحت خليفة وأميراً وما هو إلا العدل أو النار.. فمن سلك المحجة حُذي نعل السلامة، ومن عدل عن الطريق وقع في وادي الهلكة والضلالة، إلا فإن الله سائل كلا عن كل، فمن صحت نيته ولزم طاعته، كان الله له بصراط التوفيق، وبرصد المعونة فكتب له سبيل الشكر والمكافأة فأقبلوا العافية فقد رزقتموها، والزموا السلامة فقد وجدتموها، فمن سلمنا منه، سلم منا ومن تاركنا تاركناه ومن نازعنا نازعناه فارغبوا إلى الله في صلاح نياتكم وقبول أعمالكم وطاعة سلطانكم، فإني غير مبطل لله حداً ولا تارك له حقاً، أنكثها عثمانية عمريه5119. أي الشدة واللين5120.(3/101)
3 ـ مفهوم الشورى عند سليمان: وتأكيداً على مفهوم الشورى الذي جعله سليمان أحد دعائم حكمه، وصفة لنهجه الجديد قال: وقد عزلت كل أمير كرهته رعيته، ووليت على أهل كل بلد، من أجمع عليه خيارهم واتفقت عليه كلمتهم5121. ويقول رحم الله امرءاً عرف سهو المغفل عن مفروض حق واجب فأعان برأي5122. ويقول أيضاً في موقع آخر: أيها الناس رحم الله من ذُكِّرَ فاذّكر فإن العظة تجلو العماء5123 هذا النهج الجديد، مخالف لما نهجه عبد الملك والوليد في سياسة الدولة، القائمة على بسط النفوذ والسلطة بالقوة والتضييق على الناس5124، فعبد الملك بن مروان يقول في إحدى خطبه: والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه5125، وكان عبد الملك بن مروان: أول من نهى عن الكلام بحضرة الخلفاء، وكان الناس قبله يراجعون الخلفاء ويعترضون عليهم فيما يفعلون5126، ولما حضرته الوفاة قال للوليد وكان يبكي عليه عند رأسه: يا وليد، لا ألفينك إذا وضعتني في حفرتي أن تعصر عينيك كالأمة الورهاء5127، بل ائتزر وشمر، والبس جلد النمر، وادع الناس إلى البيعة ثانياً، ومن قال برأسه كذا، فقل بالسيف كذا5128، وقد سار الوليد بن عبد الملك على هذا النهج، فمن خطبته عندما تولى الخلافة قوله:.. أيها الناس من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي في عيناه ومن سكت مات بدائه5129. فهذا النهج الذي وضحه سليمان في خطبته وسار عليه في خلافته تنبه عدد من المؤرخين القدامى إليه وأشاروا إلى جوانبه المختلفة في كتاباتهم فوصفه بعضهم بأنه من خيار بني أمية5130، وحتى المؤرخ الشيعي المسعودي وصفه إلى إشارة السلامة والعافية ونزوعه إلى الموادعة واستشارة أهل العلم بقوله: كان سليمان لين الجانب.. لا يعجل إلى سفك الدماء ولا يستنكف عن مشورة النصحاء5131، ووصفه ابن كثير بقوله: يرجع إلى دين وخير ومحبة للحق وأهله، وإتباع القرآن والسنة وإظهار الشرائع الإسلامية رحمه الله5132، ووصفه لسان الدين(3/102)
الخطيب بقوله: وكان قائماً برسوم الشريعة5133. وأما ابن قتيبة فيقول: افتتح بخير وختم بخير لأنه رد المظالم إلى أهلها، ورد المسيرين وأخرج المسجونين الذين كانوا بالبصرة واستخلف عمر بن عبد العزيز وأغز أخاه الصائفة حتى بلغ القسطنطينية، فأقام بها حتى مات5134، وأما أبي زرعة الدمشقي، فقد عد خلافة سليمان، وخلافة عمر بن عبد العزيز واحدة، حيث يقول: كانت خلافة سليمان بن عبد الملك كأنها خلافة عمر بن عبد العزيز، كان إذا أراد شيئاً قال له: ما تقول يا أبا حفص؟ قالا جميعاً5135
ثانياً: سياسة سليمان في اختيار الولاة:
راعى سليمان اختيارات عدة في اختيار ولاته على الأمصار ونظراً لحساسية هذا الموضوع، فقد أوضح جانباً من سياسته تلك في خطبته التي خطبها بعد استخلافه، حيث قال: قد عزلت كل امير كرهته رعيته ووليت أهل كل بلد، من أجمع عليه خيارهم واتفقت عليه كلمتهم5136.
1 ـ استشارة العلماء والنصحاء من ذوي الخبرة:
ولعل من هذه الاعتبارات استشارة العلماء والنصحاء من ذوي الخبرة في كل أمور الأمصار، فقد أتخذ عمر بن عبد العزيز وزيراً ومستشاراً5137، وقد صدر سليمان عن رأيه في عزل عمال الحجاج5138، وممن كان يستشيرهم رجاء بن حيوة الكندي، فقد ولى سليمان محمد بن يزيد الأنصاري ـ ويقال القرشي ـ إفريقية بمشورته5139.
2 ـ اختيار العلماء وأهل الصلاح:(3/103)
ومن هذه الاعتبارات في اختيار الولاة أيضاً اختيار الفقهاء، وأهل الصلاح والزهد، آملاً من ذلك استبدال الظلم بالعدل،وبالتالي تغيير نظرة المجتمع الإسلامي آنذاك إلى الخلافة الأموية، وكسب الرأي العام لصالحها، ومن هؤلاء أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري على المدينة، وهو أحد فقهائها وكان ثقة كثير الحديث5140، وكذلك الأمر مع عروة بن محمد بن عطية السعدي5141، الذي ولاه سليمان اليمن وكان من الزهاد5142وولى اليمن أيضاً في عهدي عمر بن عبد العزيز ويزيد بن عبد الملك5143وخرج من اليمن وما معه إلا سيفه ورمحه ومصحفه5144، ويروى أنه لما دخل اليمن قال:يا أهل اليمن هذه راحلتي فإن خرجت بأكثر منها فأنا سارق5145، والشيء ذاته يمكن أن يقال عن عبد الملك بن رفاعة الفهمي والي مصر، حيث اتصف بحسن السيرة والتدين والعفة عن الأموال والعدل في الرعية بالإضافة إلى كونه ثقة أميناً فاضلاً5146، وكذلك الأمر بالنسبة لمحمد بن يزيد والي إفريقية، حيث اتصف بحسن السيرة والعدل بين الرعية5147
3 ـ مصلحة الدولة فوق كل الاعتبارات:
في سنة 96هـ جمع سليمان عبد الملك العراق ليزيد بن المهلب حربها وصلاتها5148 ، وأضيفت له خراسان حربها وصلاتها سنة 97هـ5149، ويمكن رد أسباب تولية يزيد لعدة اعتبارات منها:
أ ـ انقطاع يزيد بن المهلب إلى سليمان، بعد أن أجاره سليمان من الحجاج والوليد، وتعاظم ما بينهما لدرجة كبيرة جداً فالطبري يقول: وكان لا تأتي يزيد بن المهلب هدية إلا بعث بها إلى سليمان، ولا تأتي سليمان هدية ولا فائدة إلا بعث بنصفها إلى يزيد بن المهلب، كما أن من دلائل تعاظم حظوة يزيد عند سليمان، أن يزيد كان يجلس على سريره5150.(3/104)
ب ـ اتخذ سليمان يزيداً مستشاراً له فيما يخص المشرق الإسلامي، ويعزز هذا الرأي أن يزيد كان في خراسان في حياة أبيه ووالياً بعد وفاة أبيه حتى عزله الحجاج عن خراسان، وبالتالي فإن الحجاج باعتباره قائداً عسكرياً وإدارياً كبيراً أحدث بوفاته فراغاً كبيراً ووجد سليمان أن يزيد هو الأفضل لملء الفراغ الذي أحدثته وفاة الحجاج5151، وكانت مصلحة الدولة عند سليمان تفوق كل اعتبار في تولية الولاة فقد ولى يزيد بن المهلب حرب العراق وصلاته، إلا أنه لم يوله الخراج وإنما عهد بأمره إلى أهل المعرفة والكفاية والدراية في أمور الخراج في العراق وهو صالح بن عبد الرحمن ـ مولى تميم5152، كما أنه أقر تولية وكيع بن حميد الدوسي على خراج خراسان، وهو من أهل المعرفة والكفاية والدراية في هذا المجال5153.
ثالثاً: سياسة سليمان تجاه حركات المعارضة:
1 ـ الخوارج: لم يعد لهم قوة تذكر وكل ما كان منه في عهد سليمان لا يعدو عن كونه عصيان مجموعات صغيرة أو قل كبيرة فردية لا تكاد تقوم لها قائمة بمجرد إعلانها، ويذكر لسليمان بأنه كان أقل شدة من سابقيه في تعامله مع الخوارج غير الثائرين فاكتفى بسجن من يسبون الخلفاء منهم5154، وكان يستشير عمر بن عبد العزيز في أمرهم ويصدع لحكمه فيهم، معلماً سليمان عدم وجود سبة، تحل دم المسلم غير سبة الأنبياء5155، وكان عمر يرى حبسهم أو العفو عنهم5156.
2ـ الهاشميون: أما بالنسبة لعلاقة سليمان بالعلويين اتسمت بالمودة والهدوء، حيث كان يقرِّب العلويين ويقضي حوائجهم5157، وليس من الثابت أن سليمان تحامى أبا هاشم ـ عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب ت 98هـ ـ وأرصد له من سمه ويبدو لنا من دراسة تلك الروايات المتعلقة بهذه القصة أنها موضوعة للأسباب التالية:(3/105)
أ ـ تختلف الروايات اختلافاً بيناً في تحديد اسم الخليفة الذي دبر حادثة السم، وبعضها تنسب ذلك إلى الوليد بن عبد الملك، وبعضها تنسب إلى سليمان بن عبد الملك، أما الجاحظ فقد حمّل الأمويين مسئولية سم أبي هاشم دون تحديد الشخص المسؤول عن ذلك .
ب ـ وحتى هذه المصادر التي صرحت بأن سليمان سمَّ أبا هاشم، فإنها تختلف في تحديد كيفية وحيثيات هذه المؤامرة.
جـ ـ لا تجمع المصادر التي بين أيدينا على أن أبا هاشم توفي مسموماً، فهناك عدة مصادر يستشف منها أن وفاته كانت طبيعية5158.
د ـ وهناك عدة رجال وافتهم المنية بعد عودتهم من عند الخليفة سليمان أو أثناء إقامتهم عنده5159، ولا يمكن اعتبار وفاة هؤلاء الرجال جميعاً، أو أحدهم من تدبير الخليفة لمجرد وفاتهم وهم في صحبته، أو أثناء عودتهم من عنده. والذي يبدو، أن وفاة أبي هاشم كانت طبيعية وليست بالسم، وأن ادعاء السم ما هي إلا روايات موضوعة5160..
3 ـ الزبيريون: اتسمت علاقة سليمان بالزبيريين بالمودة، كان سليمان يسأل عن أحوالهم ويتفقدهم، حيث قضى دين جعفر بن الزبير، عندما علم به5161، وتَردُ المصادر قوة علاقة سليمان بالزبيريين إلى يد سلفت لعبد الله بن الزبير على سليمان، ففي أثناء الصراع بين عبد الله بن الزبير والأمويين أتى إليه بسليمان بن عبد الملك من الطائف، وكان يومئذ غلاماً صغيراً فكساه وجهزه إلى أبيه للشام، بعد أن وصله ووصل جميع من كان معه: فكان سليمان يشكر ذلك لعبد الله بن الزبير، فلما ولي أحسن إلى جميع ولده وكثيراً ما يأتونه فيبرهم ويصلهم، وكان يعظِّم ثابت بن عبد الله من بينهم5162. إن عهد سليمان اتسم بهدوء نسبي إلى درجة كبيرة، فلم يشهد حركات معارضة عنيفة، فكانت حركات الخوارج صغيرة ولم تهدد كيان الدولة، ووادع الهاشميين وأحسن إليهم، كما وادع الزبيريين مكافأة لهم باليد التي كانت لعبد الله بن الزبير عليه5163.
رابعاً : سليمان والعلماء :(3/106)
تميز سليمان بن عبد الملك بحرصه على تقريب العلماء وقبول نصيحتهم والاستماع إليهم من اشهر هؤلاء العلماء الذين كانوا مستشارين، رجاء بن حيوه، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم..
1 ـ رجاء بن حيوة: أبو نصر الكندي، والإمام القدوة، الوزير العادل، الفقيه، من جلة التابعبين، حدث عن معاذ بن جبل وأبي الدرداء، وعبادة بن الصامت وطائفة5164، قال عنه مسلمة بن عبد الملك أمير السرايا: برجاء ابن حيوة وبأمثاله ننصر5165. وهو من العلماء الذين كان لهم قرب وحظوة عند خلفاء بني أمية قال عنه صاحب الحلية: مشير الخلفاء والأمراء5166، وقد بدأ اتصاله بهم منذ عهد عبد الملك وقد بلغت مشاركة رجاء وتأثيره السياسي في عهد سليمان بن عبد الملك الذروة، فقد اتخذه سليمان وزير صدق له يستشيره في كثير من الأمور والقضايا المتعلقة بسياسة الدولة وإدارتها فقال عنه سعيد بن صفوان: وكانت له من الخاصة والمنزلة عند سليمان بن عبد الملك ما ليس لأحد يثق به ويستريح إليه5167، وقد كان رجاء ملازماً لسليمان بن عبد الملك حتى في سفره بدليل أنه كان مع سليمان حين خرج إلى دابق5168، وكان يخلو معه في مجلسه وأشرف بنفسه على تمريضه حتى مات5169، على أن أكبر تأثير سياسي لرجاء في عهد سليمان يظهر في إشارته عليه باستخلاف عمر بن عبد العزيز من بعده والتخطيط الدقيق لتنفيذ ذلك بحكمة وحنكة5170، وسيأتي الحديث عن ذلك في محله بإذن الله لقد كان لموقف رجاء في استخلاف عمر أثر سياسي كبير غير مجرى التاريخ الأموي بصفة خاصة والإسلامي بصفة عامة وفي عهد عمر بن عبد العزيز ظل رجاء يتبوأ مكانة كبيرة ومنزلة عالية من خلال قربه من عمر وملازمته له، حيث جعله عمر من خواصه وسماره يستشيره ويستنصحه في أمور العامة والخاصة5171، وبعد وفاة عمر بن عبد العزيز أقبل على شأنه وترك القرب من الخلفاء وذلك حين رأى أنه لم يعد لقربه من الخليفة ما كان يهدف إليه من تحقيق المصالح وبذل الخير لعامة الأمة5172.(3/107)
2 ـ سليمان ونصيحة أبي حازم:
…حج سليمان بالناس سنة 97هـ فمرّ على المدينة وهو يريد مكة فقال: أهاهنا أحد يذكّرنا؟ فقيل له: أبو حازم، فأرسل إليه فدعاه، فلما دخل عليه.
…قال له: يا أبا حازم ما هذا الجفاء؟ قال:: يا أمير المؤمنين، أعيذك بالله أن تقول ما لم يكن، ما عرفتني قبل ولا أنا رأيتك، فالتفت سليمان إلى محمد بن شهاب وقال: أصاب الشيخ وأخطأت أنا. فقال سليمان: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم أخربتم آخرتكم وعمرتم الدنيا فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب، قال: صدقت. فكيف القدوم على الله عز وجل غداً؟ قال: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه، فبكى سليمان وقال: ليت شعري، ما أنا عند الله؟ قال: يا أمير المؤمنين، اعرض عملك على كتاب الله عز وجل، قال: وأين أجده؟ قال: ((إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)) (الانفطار ، الآيتان : 13 ـ 14) قال: يا أبا حازم، فأي عباد الله أفضل،؟ قال: أولو المروءة والتقى، قال: فأي الأعمال أفضل؟ قال: أداء الفرائض مع اجتناب المحارم قال: فأي الدعاء أسمع؟ قال: دعوة المحسن للمحسن، قال فأي الصدقة أزكى؟ قال: صدقة السائل البائس وجهد من مقلّ ليس فيها منُّ ولا أذى، قال: فأي القول أعدل، قال: قول الحق عند من يخافه أو يرجوه، قال فأي الناس أحمق؟ قال: رجل انحط من هوى أخيه وهو ظالم فباع آخرته بدنيا غيره. قال: صدقت، فما الذي تقول فيما نحن فيه؟ قال: يا أمير المؤمنين تعفيني من ذلك؟ قال: لا، ولكن نصيحة تلقيها إليّ، قال: إن آباءك قهروا الناس بالسيف وأخذوا الملك عنوة من غير مشورة من المسلمين ولا رضى حتى قتلوا عليه مقتلة عظيمة، وارتحلوا عنها، فلو سمعت ما قالوا وما قيل لهم، فغش على سليمان، فقال رجل من جلسائه: بئس ما قلت يا أبا حازم، قال أبو حازم كذبت يا عدو الله إن الله أخذ ميثاق العلماء ليبينُنّه للناس(3/108)
ولا يكتمونه فأفاق سليمان فقال: يا أبا حازم كيف لنا أن نصلح للناس؟ قال: تدع الصلف وتستمسك بالمروّة وتقسم بالسويّة، قال سليمان: كيف المأخذ به؟ قال: أن تأخذ المال من حله وتضعه في أهله، قال سليمان: هل لك أن تصحبنا فتصيب منا ونصيب منك؟ قال: أعوذ بالله يا أمير المؤمنين! قال: ولمَ؟ قال: أخشى أن أركن إليكم شيئاً قليلاً فيذيقني الله ضعف الحياة وضعف الممات، قال: يا أبا حازم ارفع إليّ حوائجك، قال: تنجيني من النار وتدخلني الجنة، قال: ليس ذلك إليّ، قال: فلا حاجة لي غيرها، قال: فادع لي الله يا أبا حازم، قال: اللهمّ إن كان سليمان وليَّك فيسّره بخير الدنيا والآخرة، وإن كان عدوّك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى، قال سليمان: زدني، قال: يا أمير المؤمنين قد أوجزت وأكثرت إن كنت من أهله، وإن لم لم تكن من أهله فما ينبغي لي أن أرمي عن قوس ليس لها وتر، قال: أوصني يا أبا حازم، قال: سأوصيك وأوجز: عظِّم ربك ونزّهه أن يراك حيث نهاك أو يفقدك من حيث أمرك، ثم قام، فبعث إليه سليمان بمائة دينار وكتب إليه أن أنفقها ولك مثلها كثير فردها عليه وكتب إليه: يا أمير المؤمنين أعوذ بالله أن يكون سؤالك إياي هزلاً وردّي عليك باطلاً، فوالله ما أرضاها لك فكيف أرضاها لنفسي؟ يا أمير المؤمنين، إن كانت هذه المائة عوضاً لما حدثتك فالميتة ولحم الخنزير في حال الاضطرار أحلُّ من هذه، وإن كانت هذه حقاً لي في بيت المال فلي فيها نظر، فإن سويت بيننا وإلا فلا حاجة لي فيها، قال له جلساؤه: يا أمير المؤمنين أيسرّك أن يكون الناس كلهم مثله؟ قال: لا والله5173.
خامساً : إكرام سليمان لأهل الوفاء ووفاة ابنه أيوب:
1 ـ إكرام سليمان لأهل الوفاء:(3/109)
…دعا سليمان بن عبد الملك يزيد بن أبي مسلم وهو موثوق في الحديد، وكان صاحب أمر الحجّاج، فلما دخل عليه ازدراه حين رآه ونبت عنه عيناه، وقال: ما رأيت كاليوم، وكان يزيد لا يملأ العين منظره، ثم قال له سليمان: لعن الله رجلاً أقادك رسَنه وحكمك في أمره فقال له يزيد: لا تقل هذا يا أمير المؤمنين، إنك ازدريتني والأمر عني مدبر، وعليك مقبل، ولو رأيتني والأمر عليّ مقبل، لاستعظمت من أمري ما استحقرت واستكبرت منه ما استصغرت، فقال له سليمان: صدقت، ثكلتك أمك اجلس فجلس في قيوده، فقال له سليمان: عزمت عليك يا ابن أبي مسلم، لتخبرني عن الحجّاج، أتراه يهوى في جهنم، أم قد قرّبها، قال: يا أمير المؤمنين لا تقل هذا في الحجّاج، وقد بذلك لكم النصيحة، وأخفر دونكم الذمة، وآلى وليكم وأخاف عدوكم وأنه يوم القيامة لعن يمين عبد الملك ويسار الوليد، فجعله حيث شئت، وصاح سليمان استكراهاً لكلامه وأمر باخراجه، ثم التفت إلى جلسائه وقال: ثكلته أمه، ما أحسن بديهته، وأحد قريحته، وأجمل تزيينه لنفسه ولصحابه، لقد أحسن المكافآت على الصنيعة، وراعى اليد الجميلة، خلو سبيله، وأمر بحل قيوده ولم يتعرض لمضرته5174.
2 ـ وفاة أيوب بن سليمان:(3/110)
…لما حضر أيوب بن سليمان بن عبد الملك الوفاة ـ وكان ولي عهد أبيه ـ دخل عليه أبوه وهو يجود بنفسه، ومعه عمر بن عبد العزيز وسعيد بن عقبة ورجاء بن حيوه، فجعل سليمان ينظر في وجه أيوب، فخنقته العبرة، ثم قال: إنه ما يملك العبد نفسه أن يسبق إلى قلبه الوجد عند المصيبة والناس في ذلك أضاف: فمنهم المحتسب ومنهم من يغلب صبره وجزعه فذلك الجلد الحازم، ومنهم من يغلب جزعه صبره فذلك المغلوب والضعيف، وإني أجد في قلبي لوعة إن أنا لم أبردها خفة أن تتصدع قلبي كمداً، فقال له عمر: يا أمير المؤمنين، الصبر أولى بك فلا يحبطن أجرك قال سعيد بن عقبة: فنظر إلي وإلى رجاء بن حيوه نظر المستغيث يرجو أن نساعده على ما أدركه من البكاء، فأما أنا فكرهت أن آمره أو أنهاه، وأما رجاء فقال: يا أمير المؤمنين، إني لا أرى بذلك بأساً ما لم يأت الأمر المفرط، وإني قد بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم دمعت عيناه، فقال: تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون. فبكى سليمان حين اشتد بكاؤه فظننا أن نياط قلبه قد انقطع، فقال عمر بن عبد العزيز لرجاء بن حيوه: بئس ما صنعت بأمير المؤمنين، فقال: دعه يا أبا حفص يقضي من بكائه وطراً، فإنه لو لم يخرج من صدره ما ترى خفت أن يأتي عليه، ثم أمسك عن البكاء، ودعا بماء فغسل وجهه، وقضى الفتى، فأمر بجهازه، وخرج يمشي أمام جنازته، فلما دفن وقف ينظر إلى قبره ثم قال:
………وقفت على قبر مقيم بقفرة
…………………متاع قليل من حبيب مفارق
ثم قال: السلام عليك يا أيوب، وقال:
………كنت لنا أنساً ففارقتنا
……………… …فالعيش من بَعدك مرُّ المذاق
ثم قال: يا غلام أدن دابتي مني، فركب وعطف دابته إلى القبر، وقال:
………فإن صبرت فلم ألفظكَ من شبع
…………………وإن جزعت فعلِقٌ منفسٌ ذهبا
فقال عمر: بل الصبر أقرب إلى الله عز وجل، قال: صدقت وانصرف5175(3/111)
سادساً : سليمان والأكل والغناء ومدح الشعراء له:
1 ـ سليمان والأكل: قدمت المصادر الشيعية وصفاً للعديد من مناقب سليمان، حيث ذكرت محاسنه الخلقية5176، ووصفته بالفصاحة5177، والتوقف عن سفك الدماء، وباستشارة النصحاء5178، ورد المظالم5179، وبتوالي الفتوحات في أيامه5180، وعلى النقيض من ذلك، فإن رواة الشيعة لما لم يجدوا ما يقدح بسيرة سليمان ومنجزاته، نجدهم يركزون جل اهتمامهم على وصفه بالشراهة وبالغوا في ذلك أيما مبالغة، فتارة يصفونه بأنه لا يكاد يشبع5181، وتارة يصفونه بأنه المصيبة العظمة في الأكل5182، وتارة يصفونه بأنه أكولاً نهماً نكاحاً5183. ويبدو أن الروايات الموالية للعباسيين، والروايات الشيعية تناست صعوبة وربما استحالة أن من جمع بين هذه المحاسن أن تكون همته مصروفة إلى النكاح والطعام، ولو كان الأمر على ما يقولون، فلن ينتصف سليمان للمظلومين، ولن يعير السياسة الداخلية، والخارجية أي اهتمام، ولكان إنكفى على تلبية ملذاته ورغباته، ولكن سيرته وسياسته ومنجزاته العمرانية والعسكرية كفيلة بالرد على هذا الاتهام5184، وقد ذكرت قصص في هذا الميدان، تشبه الأساطير كالتي ذكرها ابن أبي الحديد: وكان سليمان بن عبد الملك المصيبة الكبر في الأكل، حيث أكل ثلاثين خروفاً بثمانين رغيفاً ثم أكل مع الناس كأنه لم يأكل شيئاً5185، وغيرها من القصص الغريبة والعجيبة ويتبين للدارس المحقق أن المبالغة واضحة جلية في تصوير شره سليمان لعدة أسباب:
أ ـ مخالفتها للطبيعة البشرية التي لا تستطيع إلتهام هذا الكم الهائل من الطعام مع ملاحظة أن المصادر تصفه بنحافة البدن5186 مما يتعارض وشرهه الموصوف في هذه الروايات.
ب ـ أن هذه الروايات جاءت من طريقين هما:
ـ…المؤرخون ذو الميول الشيعية مثل: اليعقوبي، والمسعودي، وابن أبي الحديد، وابن الطقطقا.(3/112)
ـ…المؤرخون ذو الميول العباسية مثل: الواقدي، والمدائني، ويبدو أن الأمر لم يعد كونه وجود شهية قوية للأكل عند سليمان، واستغل خصوم الأمويين من عباسيين وشيعة هذا الأمر وضخموه5187.
2 ـ موقفه من الغناء: كان ينهي الناس عن الغناء5188، لوجود شواهد تؤيد ذلك، ويضاف إلى ذلك أن روايات الأصفهاني التي قالت بحب سليمان للغناء اتسم سندها بالضعف، حيث ضم سندها محمد بن زكريا الغلابي5189، وهو ضعيف5190، وهناك مسألة أخرى متصلة بالغناء، وهي خصي المخنثين كنتيجة مترتبة على الغناء وهناك من يرى أن سليمان قد أمر بإخصاء المخنثين فتدخل عمر بن عبد العزيز موضحاً بأن هذا العمل مثلة ولا يحل فارتجع عن ذلك5191.
3 ـ مدح الشعراء له:
…قال جرير في مدحه:
…………سليمان المبارك قد علمتم
……………………هو المهدي وقد وضح السبيل
…………أجرت من المظالم كل نفس
……………………وأديت الذي عهد الرسول5192
وقال الفرزدق:
…………يداك يد الأسرى التي أطلقتهم
……………………وأخرى هي الغيث المغيث نوالها
…………وكم أطلقت كفاك من قيد بائس
……………………ومن عقدة ما كان يرجى انحلالها
…………كثيراً من الأسرى التي قد تكنعت
……………………فككت وأعناقاً عليها غلالها5193
سابعاً : ولاية العهد ووفاة سليمان 99هـ:(3/113)
ذكر الفضل بن المهلب وغيره، أنه لبس في يوم جمعة حلة صفراء ثم نزعها ولبس بدلها حلة خضراء واعتم بعمامة خضراء وجلس على فراش أخضر، وقد بسط ما حوله بالخضرة ثم نظر في المرآة فأعجبه حسنه وشمر عن ذراعيه وقال: أنا الخليفة الشاب وقيل إنه كان ينظر في مرآة من فرقه إلى قدمه ويقول: أنا الملك الشاب5194، وفي رواية أنه كان ينظر فيها ويقول: كان محمد نبياً صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر صديقاً وعمر فاروقاً، وكان عثمان حيياً، وكان علي شجاعاً وكان معاوية حليماً، وكان يزيد صبوراً، وكان عبد الملك سائساً، وكان الوليد جباراً، وأنا الملك الشاب5195، قالوا: فما دار عليه شهر وفي رواية: جمعة حتى مات5196، ولمّا حُمَّ شرع يتوضأ فدعا بجارية فصبت عليه ماء الوضوء ثم أنشدته:
…………أنت نعم المتاع لو كنت تبقى
……………………غير أن لا بقاء للإنسان
…………ليس فيما علمته فيك عيب
……………………كان في الناس غير إنك فان
فصاح بها وقال: عزتني في نفسي وصرفها ثم أمر خاله الوليد بن القعقاع العنسي أن يصب عليه وقال:
………قرّ وضوءك يا وليد فإنما
…………………هذه الحياة تعلة ومتاع
………
فقال الوليد:
………فاعمل لنفسك في حياتك صالحاً
…………………فالدهر فيه فرقة وجماع
………(3/114)
وكان سليمان بمرج دابق من أرض قنسرين، فأمر خاله فوضأه، ثم خرج يصلي بالناس، فأخذته لجة في الخطبة ثم نزل وقد أصابته حمى، فاستمر فيها حتى مات في الجمعة المقبلة5197، وكان قد أقسم أنه لا يبرح دابقاً حتى يرجع إليه الخبر بفتح القسطنطينية، أو يموت قبل ذلك، فمات قبل ذلك ـ رحمه الله وأكرم مثواه ـ وكان آخر ما تكلم به أن قال: أسألك منقلباً كريماً. ثم قضى5198، وكان لرجاء بن حيوه أثر كبير في تولية عمر بن عبد العزيز، ولم يكن للشيطان نصيب في قرار سليمان بتولية عمر الخلافة من بعده، وقال عبد الرحمن بن حسان الكناني: لما مرض سليمان بن عبد الملك المرض التي توفي فيه، وكان مرضه بدابق، ومعه رجاء بن حيوه، فقال لرجاء بن حيوه: يا رجاء من لهذا الأمر من بعدي. استخلف ابني؟ قال: ابنك غائب. قال: فالآخر؟ قال: ذاك صغير. قال: فمن ترى؟ قال: أرى أن تستخلف عمر بن عبد العزيز. قال: أتخوف من بني عبد الملك ألا يرضوا. قال: فولي عمر بن عبد العزيز ومن بعده يزيد بن عبد الملك، وتكتب كتاباً وتختم عليه وتدعوهم إلى بيعة مختومة عليها، قال: لقد رأيت، إئتني بقرطاس. قال: فدعا بقرطاس فكتب فيه العهد لعمر بن عبد العزيز ومن بعده يزيد بن عبد الملك، ثم ختمه، ثم دفعه إلى رجاء، قال: أخرج إلى الناس فمرهم أن يبايعوا على ما في هذا الكتاب مختوماً. قال: فخرج إليهم رجاء فجمعهم، وقال: إن أمير المؤمنين يأمركم أن تبايعوا لمن في هذا الكتاب من بعده. قالوا: ومن فيه؟ قال: مختوم، لا تخبرونا بمن فيه حتى يموت، قال: لا نبايع حتى نعلم ما فيه. قال: فرجع رجاء إلى سليمان، قال: إنطلق إلى أصحاب الشرطة والحرس، وناد الصلاة جامعة، ومر الناس فليجتمعوا، ومرهم بالبيعة على ما في هذا الكتاب، فمن أبى أن يبايع منهم فاضرب عنقه، قال: ففعل، فبايعوا على ما فيه. قال رجاء: فلما خرجت إلى منزلي، فبينما أنا أسير في الطريق، إذ سمعت جلبة موكب فالتفت فإذا هشام، فقال لي: يا رجاء(3/115)
قد علمت موقعك منا وإن أمير المؤمنين قد صنع شيئاً لا أدري ما هو، وأنا أتخوف أن يكون قد أزالها عني فإن عدلها عني فأعلمني ما دام في الأمر نفس، حتى أنظر في هذا الأمر قبل أن يموت. قال: قلت: سبحان الله، يستكتمني أمير المؤمنين أمراً أطلعك عليه لا يكون ذلك أبداً، فأدارني وألاصنى5199، فأبيت عليه، قال: فانصرف، بينما أنا اسير إذ سمعت جلبة خلفي، فإذا عمر بن عبد العزيز فقال لي: يا رجاء إنه قد وقع في نفسي أمر كثير من هذا الرجل، أتخوف أن يكون قد جعلها إلي، ولست أقوم بهذا الشأن، فاعلمني ما دام في الأمر نفس لعلي أتخلص منه ما دام حياً. قلت: سبحان الله، استكتمني أمير المؤمنين أمراً وأطلعك عليه، فأدارني وألاصني، فأبيت عليه5200. قال رجاء: وثقل سليمان، وحجب الناس عنه حتى مات فلما مات أجلسته وأسندته وهيأته، وخرجت إلى الناس، فقالوا: كيف أصبح أمير المؤمنين؟ فقلت: إن أمير المؤمنين أصبح ساكناً وقد أحب أن تسلموا عليه، وتبايعوا على ما في هذا الكتاب، والكتاب بين يديه. قال: فإذنت للناس فدخلوا عليه وأنا قائم عنده فلما دنوا قلت إن أمير المؤمنين يأمركم بالوقوف ثم أخذت الكتاب من عنده5201 ثم تقدمت إليهم فقلت: إن أمير المؤمنين يأمركم أن تبايعوا على ما في هذا الكتاب. قال: فبايعوا، وبسطوا أيديهم، فلما بايعتهم على ما فيه أجمعين وفرغت من بيعتهم قلت لهم: آجركم الله في أمير المؤمنين قالوا فمن؟ فافتتح الكتاب فإذا فيه العهد لعمر بن عبد العزيز، فلما نظرت بنو عبد الملك تغيرت وجوههم5202. وفي رواية أنه لما انتهى رجاء إلى عمر بن عبد العزيز نادى هشام بن عبد الملك: لا نبايعه أبداً. فقال رجاء: أضرب والله عنقك، قم فبايع. فقام يجر رجليه5203. فلما قرأوا من بعده يزيد بن عبد الملك كأنهم تراجعوا5204، وقد توفي سليمان يوم الجمعة لعشر بقين من صفر 99هـ وكانت وفاته بمرج دابق، واختلف المؤرخون بنوع مرضه الذي مات فيه. فقسم منهم، قال: إنه(3/116)
أصيب بالتخمة وهذا رأي ضعيف، وقسم آخر قال: إنه أصيب بذات الجنب5205، وظهرت له أعراض المرض فعرضت له سعلة وهو يخطب فنزل وهو محموم، فما جاءت الجمعة التالية حتى مات، كما روى سبط ابن الجوزي ما نصه: ما زال سليمان بعد وفاة ابنه يذوب وينحل حتى مات كمداً5206، وقد توفي وعمره على الأرجح 39 سنة5207، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز5208. وكان في نقش خاتمه: آمنت بالله مخلصاً5209، وقد حفظ لسليمان بعض أبيات الشعر التي نظمها منها:
……ومن شيمتي أن لا أفارق صاحبي
………………وإن ملّني إلا سألت له رشدا
……وإن دام لي بالود ولم أكن
………………كآخر لا يراعى ذماماً ولا عهدا5210
هذا وقد كانت خلافته ثلاث سنين إلا أربعة أشهر وقيل ثلاث سنين، وقيل كانت ولايته سنتين وثمانية أشهر إلا خمسة أيام5211.
الفصل التاسع
عهد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز:
المبحث الأول : من الميلاد إلى خلافته:
أولاً : اسمه ولقبه وكنيته وأسرته:
هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، الإمام الحافظ العلامة المجتهد الزاهد العابد، السيد أمير المؤمنين حقاً أبو حفص القرشي الأموي المدني ثم المصري، الخليفة الزاهد الراشد أشج بني أمية5212، كان من أئمة الاجتهاد ومن الخلفاء الراشدين5213، وكان حسن الأخلاق والخُلق، كامل العقل، حسن السمت، جيِّد السياسة حريصاً على العدل بكل ممكن، وافر العلم، فقيه النفس، طاهر الذكاء والفهم، أوّاها منيباً، قانتا لله حنيفاً، زاهداً مع الخلافة ناطقاً بالحق مع قلة المعين، وكثرة الأمراء الظلمة الذين ملُّوهُ وكرهوا محاققته لهم، ونقصه أُعطياتهم، وأخذه كثيراً مما في أيديهم، مما أخذوه بغير حقٍّ، فمازالوا به حتى سقوه السم فحصلت له الشهادة والسعادة، وعُد عند أهل العلم من الخلفاء الراشدين والعلماء العاملين5214، وكان رحمه الله فصيحاً مُفوَّهاً5215.(3/117)
1 ـ والده: هو عبد العزيز بن مروان بن الحكم، وكان من خيار أمراء بني أمية، شجاعاً كريماً بقي أمير لمصر أكثر من عشرين سنة، وكان من تمام ورعه وصلاحه أنه لما أراد الزواج قال لقيمه: اجمع لي أربعمائة ديناراً من طيب مالي، فإني أريد أن أتزوج إلى أهل بيت لهم صلاح5216، فتزوج أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهي حفيده أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب وقيل اسمها ليلى5217، كما أن زواجه من آل الخطاب ما كان ليتم لولا علمهم بحاله وحسن سيرته وخلقه، فقد كان حسن السيرة في شبابه، فضلاً عن التزامه وحرصه على تحصيل العلم واهتمامه بالحديث النبوي الشريف فقد جلس إلى أبي هريرة وغيره من الصحابة وسمع منهم، وقد واصل اهتمامه بالحديث بعد ولايته مصر، فطلب من كثير بن مرة في الشام أن يبعث إليه ما سمعه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما كان من طريق أبي هريرة فإنه عنده5218، وقد كان والد عمر بن عبد العزيز ذا نفس تواقة إلى معالي الأمور سواء قبل ولايته مصر أو بعدها فحين دخل مصر أيام شبابه تاقت نفسه إليها وتمنى ولايته فنالها5219، ثم تاقت إلى الجود فصار أجود أمراء بني أمية وأسخاهم5220، فكانت له ألف جفنة كل يوم تنصب حول داره وكانت له مائة جفنة يطاف بها على القبائل تحمل على العجل5221، ومن جوده كان يقول: إذا أمكنني الرجل من نفسه حتى أضع معروفي عنده فيده عندي أعظم من يدي عنده5222. وقد أكثر المؤرخين من الثناء عليه لجوده وهذا الجود كان ممتزجاً باليقين بأن الله سبحانه وتعالى يخلف على من يرزقه فيقول: عجب لمؤمن يؤمن أن الله يرزقه ويخلف عليه كيف يحبس ماله عن عظيم أجر وحسن ثناء، وكان ذا خشية من الله، ونستقرأ هذه الخشية من قوله حين أدركه الموت: وددت أني لم أكن شيئاً مذكوراً، ولوددت أني أكون هذا الماء الجاري أو نبته بأرض الحجاز5223.(3/118)
2 ـ أمه: أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ووالدها، عاصم بن عمر بن الخطاب، الفقيه، الشريف أبو عمرو القرشي العدوي ولد في أيام النبوة وحدّث عن أبيه وأمه هي جميلة بنت ثابت بن أبي الأقلح الأنصاريّة، وكان طويلاً جسيماً وكان من نبلاء الرجال، ديِّنا، خيِّراً، صالحاً، وكان بليغاً، فصيحاً، شاعراً، وهو جد الخليفة عمر بن عبد العزيز لأُُمِّه، مات سنة سبعين، فرثاه ابن عمر أخوه
………فليت المنايا كُنَّ خلَّفن عاصماً
…………………فعشنا جميعاً أو ذهبنا بنا معاً5224(3/119)
وأما جدته لأمه فقد كان لها موقف مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فعن عبد الله بن الزبير بن أسلم عن أبيه عن جده أسلم قال: بينما أنا وعمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يَعُسُّ5225، بالمدينة إذ أعيا فاتكأ على جانب جدار في جوف الليل، فإذا امرأة تقول لابنتها: يا بنتاه قومي إلى ذلك اللبن فامذ قيه بالماء فقالت لها: يا أمتاه أو ما علمت ما كان من أمير المؤمنين اليوم قال: وما كان من عزمته يا بنية؟ قالت: إنه أمر منادياً ، فنادى أن لا يشاب اللبن بالماء، فقالت: لها يا بنتاه قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء فإنك بموضع لا يراك عمر ولا منادي عمر فقالت الصبية لأمها: يا أمتاه والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء، وعمر يسمع كل ذلك، فقال : يا أسلم عَلِّم الباب وأعرف الموضع، ثم مضى في عسه، فلما أصبحا قال: يا أسلم أمض إلى الموضع فانظر من القائلة، ومن المقول لها وهل لهم من بعل؟ فأتيت الموضع فنظرت فإذا الجارية أيِّم لا بعل لها وإذا تيك أمها وإذا ليس بها رجل، فأتيت عمر أخبرته، فدعا عمر ولده، فجمعهم، فقال: هل فيكم من يحتاج إلى امرأة أزوجه.. فقال عاصم: يا أبتاه لا زوجة لي فزوجني، فبعث إلى الجارية، فزوجها من عاصم فولدت لعاصم بنتاًَ وولدت البنت عمر بن عبد العزيز5226، ويذكر أن عمر بن الخطاب رأى ذات ليلة رؤيا، ويقول: ليت شعري من ذو الشين5227من ولدي الذي يملؤها عدلاً، كما ملئت جوراً5228، وكان عبد الله بن عمر يقول أن آل الخطاب يرون أن بلال بن عبد الله بوجهه شامة فحسبوه المبشر الموعود حتى جاء الله بعمر بن عبد العزيز5229.
3 ـ ولادته ومكانها : 61هـ، المدينة:(3/120)
…اختلف المؤرخون في سنة ولادته والراجح أنه ولد عام 61هـ وهو قول أكثر المؤرخين ولأنه يؤيد ما يذكر أنه توفي وعمره أربعون سنة حيث توفي عام 101هـ5230، وتذكر بعض المصادر أنه ولد بمصر وهذا القول ضعيف لأن أباه عبد العزيز بن مروان بن الحكم إنما تولى مصر سنة خمس وستين للهجرة، بعد استيلاء مروان بن الحكم عليها من يد عامل عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، فولّى عليها ابنه عبد العزيز ولم يعرف لعبد العزيز بن مروان إقامة بمصر قبل ذلك، وإنما كانت إقامته وبني مروان في المدينة5231، وذكر الذهبي أنه ولد بالمدينة زمن يزيد5232.
4 ـ أشج بني أمية: كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يلقب بالأشج، وكان يقال له أشج بني مروان، وذلك أن عمر بن عبد العزيز عندما كان صغيراً دخل إلى اصطبل أبيه عندما كان والياً على مصر ليرى الخيل فضربه فرس في وجهه فشجه، فجعل أبوه يمسح الدم عنه ويقول: إن كنت أشج بني أمية إنك إذاً لسعيد5233، ولما رأى أخوه الأصبغ الأثر قال: الله أكبر! هذا أشج بني مروان الذي يملك، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إن من ولدي رجلاً بوجهه أثر يملأ الأرض عدلاً5234. وكان الفاروق قد رأى رؤيا تشير إلى ذلك وقد تكررت هذه الرؤيا لغير الفاروق حتى أصبح الأمر مشهوراً عند الناس بدليل ما قاله أبوه عندما رأى الدم في وجهه وما قاله أخوه عندما رأى الشج في وجهه كلاهما تفاءل لعله أن يكون ذلك الأشج الذي يملأ الأرض عدلاً5235
5 ـ إخوته: كان لعبد العزيز بن مروان والد عمر بن عبد العزيز عشرة من الولد وهم: عمر وأبو بكر ومحمد وعاصم وهؤلاء أمهم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وله من غيرها ستة وهم: الأصبغ وسهل وسهيل وأم الحكم وزبّان وأم البنين5236، وعاصم هو من تكنى به والدته ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب فكنيتها أم عاصم5237.(3/121)
6 ـ أولاده: كان لعمر بن عبد العزيز رحمه الله أربعة عشرة ذكراً منهم: عبد الملك وعبد العزيز وعبد الله وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وبكر والوليد وموسى وعاصم ويزيد وزبان وعبد الله5238 وبنات ثلاثة أمينة وأم عمار وأم عبد الله وقد اختلفت الروايات عن عدد أولاد وبنات عمر بن عبد العزيز فبعض الروايات تذكر أنهم أربعة عشر ذكراً كما ذكره ابن قتيبة وبعض الروايات تذكر أن عدد الذكور اثنا عشر وعدد الإناث ست كما ذكره ابن الجوزي5239 والمتفق عليه من الذكور اثنا عشر، وحينما توفي عمر بن عبد العزيز لم يترك لأولاده مالاً إلا الشيء اليسير أنه أصاب الذكر من أولاده من التركة تسعة عشر درهماً فقط، بينما أصاب الذكر من أولاد هشام بن عبد الملك ألف ألف (مليون) وما هي إلا سنوات قليلة حتى كان أحد أبناء عمر بن عبد العزيز يحمل على مائة فرس في سبيل الله في يوم واحد، وقد رأى بعض الناس رجلاً من أولاد هشام يتصدق عليه5240. فسبحان الله رب العالمين..
7 ـ زوجاته: نشأ عمر بالمدينة وتخلق بأخلاق أهلها، وتأثر بعلمائها وأكب على أخذ العلم من شيوخها، وكان يقعد مع مشايخ قريش ويتجنب شبابهم، ومازال ذلك دأبه حتى اشتهر، فلما مات أبوه أخذه عمه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فخلطه بولده، وقدمه على كثير منهم، وزوجه، ابنته فاطمة بنت عبد الملك5241، وهي امرأة صالحة تأثرت بعمر بن عبد العزيز وآثرت ما عند الله على متاع الدنيا وهي التي قال فيها الشاعر:
…………بنت الخليفة والخليفة جدها
……………………أخت الخلائف والخليفة زوجها(3/122)
…ومعنى هذا البيت أنها بنت الخليفة عبد الملك بن مروان والخليفة جدها مروان بن الحكم، وأخت الخلائف فهي أخت الخلفاء الوليد بن عبد الملك وسليمان بن عبد الملك ويزيد بن عبد الملك وهشام بن عبد الملك، والخليفة زوجها فهو عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، حتى قيل عنها: لا نعرف امرأة بهذه الصفة إلى يومنا هذا سواها5242. وقد ولدت لعمر بن عبد العزيز إسحاق ويعقوب وموسى، ومن زوجاته لميس بنت علي بن الحارث وقد ولدت له عبد الله وبكر وأم عمار، ومن زوجاته أم عثمان بنت شعيب بن زيان، وقد ولدت له إبراهيم. وأما أولاده: عبد الملك والوليد وعاصم ويزيد وعبد الله وعبد العزيز وزيان وأمينة وأم عبد الله فأمهم: أم ولد5243.
8 ـ صفاته الخلقية: كان عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ أسمر رقيق الوجه أحسنه، نحيف الجسم حسن اللحية، غائر العينين بجبهته أثر نفحة دابة وقد خطه الشيب5244، وقيل في صفته: أنه كان رجلاً أبيض دقيق الوجه، جميلاً، نحيف، وقيل في صفته: أنه كان رجلاً أبيض دقيق الوجه، جميلاً، نحيف الجسم، حسن اللحية5245.
ثانياً : العوامل التي أثرت في تكوين شخصية عمر بن عبد العزيز:
1 ـ الواقع الأسري:(3/123)
…نشأ عمر بن عبد العزيز في المدينة، فلما شب وعقل وهو غلام صغير كان يأتي عبد الله بن عمر بن الخطاب لمكان أمه منه، ثم يرجع إلى أمه فيقول: يا أمه أنا أحب أن أكون مثل خالي ـ يريد عبد الله بن عمر ـ فتؤفف به ثم تقول له: أغرب أنت تكون مثل خالك وتكرر عليه ذلك غير مرة. فلما كبر سار أبوه عبد العزيز بن مروان إلى مصر أمير عليها، ثم كتب إلى زوجته أم عاصم أن تقدم عليه وتقدم بولدها، فأتت عمها عبد الله بن عمر فأعلمته بكتاب زوجها عبد العزيز إليها فقال لها: يا أبنة أخي هو زوجك فالحقي به، فلما أرادت الخروج قال لها: خلفي هذا الغلام عندنا ـ يريد عمر ـ فإنه أشبهكم بنا أهل البيت فخلفته عنده ولم تخالفه، فلما قدمت على عبد العزيز اعترض ولده فإذا هو لا يرى عمر، قال لها: وأين عمر؟ فأخبرته خبر عبد الله وما سألها من تخليفه عنده لشبهه بهم، فسرّ بذلك عبد العزيز، وكتب إلى أخيه عبد الملك يخبره بذلك، فكتب عبد الملك أن يجري عليه ألف دينار في كل شهر، ثم قدم عمر على أبيه مسلماً5246، وهكذا تربى عمر رحمه الله تعالى بين أخواله بالمدينة من أسرة عمر بن الخطاب، ولا شك أنه تأثر بهم وبمجتمع الصحابة في المدينة5247.
2 ـ إقباله المبكر على طلب العلم وحفظه القرآن الكريم:(3/124)
…فقد رزق منذ صغره حب الإقبال على طلب العلم وحب المطالعة والمذاكرة بين العلماء كما كان يحرص على ملازمة مجالس العلم في المدينة وكانت يومئذ منارة العلم والصلاح زاخرة بالعلماء والفقهاء والصالحين، وتاقت نفسه للعلم وهو صغير وكان أول ما استبين من رشد عمر بن عبد العزيز حرصه على العلم ورغبته في الأدب5248، وجمع عمر بن عبد العزيز القرآن وهو صغير وساعده على ذلك صفاء نفسه وقدرته الكبيرة على الحفظ وتفرغه الكامل لطلب العلم والحفظ. وقد تأثر كثيراً بالقرآن الكريم في نظرته لله عز وجل والحياة والكون والجنة والنار، والقضاء والقدر، وحقيقة الموت وكان يبكي لذكر الموت بالرغم من حداثة سنه فبلغ ذلك أمه فأرسلت إليه وقالت ما يبكيك؟ قال: ذكرت الموت. فبكت أمه حين بلغها ذلك5249، وقد عاش طيلة حياته مع كتاب الله عز وجل متدبراً ومنفذاً لأوامره، ومن مواقفه مع القرآن الكريم:
أ ـ عن ابن أبي ذيب: قال: حدثني من شهد عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة، وقرأ عنده رجل: ((وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا)) (الفرقان ، الآية : 13). فبكى عمر حتى غلبه البكاء وعلا نشيجه، فقام من مجلسه فدخل بيته، وتفرق الناس5250. ومفهوم هذه الآية: إذا ألقي هؤلاء المكذبون بالساعة من النار مكاناً ضيقاً، قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال ((دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا)). والثبور في هذا الموضوع دعا هؤلاء القوم بالندم على انصرافهم عن طاعة الله في الدنيا والإيمان بما جاء به نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى استوجبوا العقوبة5251 .(3/125)
ب ـ وعن أبي مودود قال: بلغني أن عمر بن عبد العزيز قرأ ذات يوم: ((وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا)) ( يونس ، الآية : 61). فبكى بكاءً شديداً حتى سمعه أهل الدار، فجاءت فاطمة ـ زوجته ـ فجعلت تبكي لبكائه وبكى أهل الدار لبكائهم، فجاء عبد الملك، فدخل عليهم وهم على تلك الحال يبكون فقال: يا أبه، ما يبكيك؟ قال: خير يا بني، ود أبوك أنه لم يعرف الدنيا ولم تعرفه، والله يا بني لقد خشيت أن أهلك والله يا بني لقد خشيت أن أكون من أهل النار5252. ومعنى الآية: إن الله تعالى يخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يعلم جميع أحواله وأحوال أمته وجميع الخلائق في كل ساعة وأوان ولحظة وأنه لا يعزب عن علمه وبصره مثقال ذرة في حقارتها وصغرها في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر منها ولا أكبر إلا في كتاب مبين كقوله: ((وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)) (الأنعام ، الآية 59) . فأخبر تعالى أنه يعلم حركة الأشجار وغيرها من الجمادات، وكذلك الدواب السارحة في قوله: ((وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ)) (الأنعام ، الآية 38)، وقال تعالى : ((وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)) (هو ، الآية :6)، وإذا كان هذا علمه بحركات هذه الأشياء فكيف علمه بحركات المكلفين المأمورين بالعبادة؟ كما قال تعالى: ((وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)) (الشعراء ، الآيات : 217 ، 219)، ولهذا قال(3/126)
تعالى: إذ تأخذون في ذلك الشيء نحن مشاهدون لكم راءون سامعون5253
ج ـ وعن عبد الأعلى بن أبي عبد الله العنزي قال: رأيت عمر بن عبد العزيز خرج يوم الجمعة في ثياب دسمة ووراءه حبشي يمشي فلما انتهى إلى الناس رجع الحبشي، فكان عمر إذا انتهى إلى الرجلين قال: هكذا رحمكما الله، حتى صعد المنبر، فخطب فقرأ: ((إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ))، فقال: وما شأن الشمس؟ ((وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ))، حتى انتهى إلى ((وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ)) (التكوير: الآيتان: 11 ، 12) فبكى وبكى أهل المسجد، وارتج المسجد بالبكاء حتى رأيت أن حيطان المسجد تبكي معه5254. وهذه السورة جاء فيها الأوصاف التي وصف بها يوم القيامة من الأوصاف التي تنزعج لها القلوب، وتشتد من أجلها الكروب، وترتعد الفرائص، وتعم المخاوف، وتحث أولي الألباب للاستعداد لذلك اليوم، وتزجرهم عن كل ما يوجب اللوم، ولهذا قال بعض السلف: من أراد أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليتدبر سورة((إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ))5255. بل ثبت مرفوعاً من حديث أبن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ ((إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)) ((إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ)) ((إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ))5256.
س ـ وعن ميمون بن مهران قال: قرأ عمر بن عبد العزيز ((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)) فبكى ثم قال: ((حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)) ما أرى المقابر إلا زيارة، ولابد لمن يزورها أن يرجع إلى جنة أو إلى النار5257، هذه بعض المواقف التي تبين تأثير القرآن الكريم على شخصية عمر بن عبد العزيز.(3/127)
3 ـ الواقع الاجتماعي: إن البيئة الاجتماعية المحيطة لها دور فعال ومهم في صناعة الرجال وبناء شخصيتهم، فعمر بن عبد العزيز عاش في زمن ساد فيه مجتمع التقوى والصلاح والإقبال على طلب العلم والعمل بالكتاب والسنة، فقد كان عدد من الصحابة لا زالوا بالمدينة، فقد حدث عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والسائب بن يزيد، وسهل بن سعد، واستوهب منه قدحاً شرب منه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمّ بأنس بن مالك، فقال: ما رأيت أحداً أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى5258، فكان للإقامة بالمدينة آثار نفسية ومعان إيمانية، وتعلق روحي، وكان لذلك المجتمع قوة التأثير في صياغة شخصية عمر بن عبد العزيز العلمية والتربوية5259.
4 ـ تربيته على أيدي كبار فقهاء المدينة وعلمائها:(3/128)
اختار عبد العزيز والد عمر صالح بن كيسان ليكون مربياً لعمر بن عبد العزيز، فتولى صالح تأديبه وكان يلزم عمر الصلوات المفروضة في المسجد، فحدث يوماً أن تأخر عمر بن عبد العزيز عن الصلاة مع الجماعة فقال صالح بن كيسان ما يشغلك؟ قال: كانت مرجّلتي5260تسكن شعري، فقال: بلغ منك حبك تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة؟ فكتب إلى عبد العزيز يذكر ذلك، فبعث أبوه رسولاً فلم يكلمه حتى حلق رأسه5261، وحرص على التشبه بصلاة رسول الله أشد الحرص، فكان يتم الركوع والسجود ويخفِّف القيام، والقعود وفي رواية صحيحة: أنّه كان يسبح في الركوع والسجود عشراً عشراً5262، ولمّا حج أبوه ومرّ بالمدينة سأل صالح بن كيسان عن ابنه فقال: ما خبرت أحداً الله أعظم في صدره من هذا الغلام5263، ومن شيوخ عمر بن عبد العزيز الذين تأثر بهم عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، فقد كان عمر يجله كثيراً ونهل من علمه وتأدب بأدبه وتردد عليه حتى وهو أمير المدينة، ولقد عبّر عمر عن إعجابه بشيخه وكثرة التردد إلى مجلسه فقال: لمجلس من الأعمى: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحب إليّ من ألف دينار5264، وكان يقول في أيام خلافته لمعرفته بما عند شيخه من علم غزير، لو كان عبيد الله حياً ما صدرت إلا عن رأيه ولوددت أن لي بيوم واحد من عبيد الله كذا وكذا5265، وكان عبيد الله مفتي المدينة في زمانه، وأحد الفقهاء السبعة5266، قال عنه الزهري: كان عبيد الله بن عبد الله بحراً من بحور العلم5267، وكان يقرض الشعر، فقد كتب إلى عمر بن عبد العزيز هذه الأبيات:
………بسم الذي أنزلت من عنده السور
…………………والحمد لله أمّا بعد يا عمر
………إن كنت تعلم ما تأتي وما تذر
…………………فكن على حذر قد ينفع الحذر
………واصبر على القدر المحتوم وأرض به
…………………وإن أتاك بما لا تشتهي القدر
………فما صفا لامرئ عيش يُسرٌّ به
…………………إلا سيتبع يوماً صفوه كدر5268(3/129)
…وقد توفي هذا العالم سنة 98هـ، وقيل 99هـ5269.
…ومن شيوخ عمر سعيد بن المسيب وقد تحدثت عن سيرته في عهد عبد الملك بن مروان وكان سعيد لا يأتي أحداً من الأمراء غير عمر5270، ومن شيوخه سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي قال فيه سعيد بن المسيب: كان عبد الله بن عمر أشبه ولد عمر به وكان سالم أشبه ولد عبد الله به5271، وكان ابن عمر يحب ابنه سالم وكان يلام في ذلك فكان يقول:
…………يلومنني في سالم وألومهم
…………………وجلدة بين العين والأنف سالم5272(3/130)
…كانت أمه أم ولد وقال فيه ابن أبي الزناد: كان أهل المدينة يكرهون اتخاذ أمهات الأولاد حتى نشأ فيهم الغُرُّ السادة علي بن الحسين، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله ففاقوا أهل المدينة علماً وتقىً وعبادة وورعاً، فرعب الناس حينئذ في السراري5273، وقال عنه الإمام مالك: لم يكن أحد في زمان سالم أشبه بمن مضى من الصالحين، في الزهد والفضل والعيش منه، كان يلبس الثوب بدرهمين، ويشترى الشمال5274 ليحملها. قال: فقال سليمان بن عبد الملك لسالم ورآه حسن السّحنة. أي شيء تأكل؟ قال: الخبر والزَّيت، وإذا وجدت اللحم، أكلته. فقال له عمر: أو تشتهيه؟ قال: إذ لم أشتهه تركته حتى أشتهيه5275، وذات يوم دخل سالم بن عبد الله على سليمان بن عبد الملك، وعلى سالم ثياب غليظة رثَّه، فلم يزل سليمان يرحب به، ويرفعه حتى أقعده معه على سريره، وعمر بن عبد العزيز في المجلس، فقال له رجل من أُخريات الناس: ما استطاع خالك أن يلبس ثياباً فاخرة أحسن من هذه، يدخل فيها على أمير المؤمنين؟ وعلى المتكلم ثياب سريَّة، لها قيمة، فقال له عمر: ما رأيت هذه الثياب التي على خالي وضعته في مكانك، ولا رأيت ثياباً هذه رفعتك إلى مكان خالي ذاك5276وتربي وتعلم عمر بن عبد العزيز على يدي كثير من العلماء والفقهاء وقد بلغ عدد شيوخ عمر بن عبد العزيز ثلاثة وثلاثين، وثمانية منهم من الصحابة وخمسة وعشرون من التابعين5277، فقد نهل من علمهم وتأدب بأدبهم ولازم مجالسهم حتى ظهرت آثار هذه التربية المتينة في أخلاقه وتصرفاته5278فامتاز بصلابة الشخصية والجدية في معالجة الأمور والحزم وإمعان الفكر وإدامة النظر في القرآن، والإرادة القوية والترفع عن الهزل والمزاح5279، هذه هي أهم العوامل التي أثرت في تكوين شخصيته ومن الدروس المستفاده هو أن العلماء الربانيين يقع على عاتقهم مسؤولية كبيرة وهي الاهتمام بأولاد الأمراء والحكام وأهل الجاه والمال ففي صلاحهم خير عظيم للأمة(3/131)
الإسلامية.
ثالثاً: مكانته العلمية: اتفقت كلمة المترجمين له على أنه من أئمة زمانه، فقد أطلق عليه كل من الإمامين: مالك وسفيان بن عيينة وصف إمام5280، وقال فيه مجاهد: أتيناه نعلمه فما برحنا حتى تعلمَّنا منه5281، وقال ميمون بن مهران: كان عمر بن عبد العزيز معلمَّ العلماء5282، قال فيه الذهبي: كان إماماً فقيهاً مجتهداً، عارفاً بالسنن، كبير الشأن، حافظاً، قانتاً لله أوَّاهاً منيباً يعد في حسن السيرة والقيام بالقسط مع جده لأمه عمر، وفي الزهد مع الحسن البصري وفي العلم مع الزهري5283، وقد احتج الفقهاء والعلماء بقوله وفعله ومن ذلك رسالة الإمام الليث بن سعد إلى الإمام مالك بن أنس رضي الله عنهما وهي رسالة قصيرة وفيها يحتج الليث ـ مراراً ـ بصحة قوله، بقول عمر بن عبد العزيز على مالك فيما ذهب إليه في بعض مسائله5284، ويرد ذكر عمر بن عبد العزيز في كتب الفقه للمذاهب الأربعة المتبوعة على سبيل الاحتجاج بمذهبه، فاستدل الحنفية بصنيعه في كثير من المسائل وجعلوا له وصفاً يتميَّز به عن جدّه لأمه: عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال القرشي في الجواهر المضيئة: فائدة يقول: أصحابنا في كتبهم في مسائل الخلاف: وهو قول عمر الصغير. يريدون به عمر بن عبد العزيز الإمام الخليفة المشهور5285، ويكثر الشافعية من ذكره في كتبهم ولذلك ترجم له الإمام النووي ترجمة حافلة في تهذيب الأسماء واللغات وقال في أولها: تكرر في المختصر والمهذب5286. وأما المالكية فيكثرون من ذكره في كتبهم أكثر من غيرهم، ومالك إمام المذهب ذكر في ((الموطأ)) محتجاً بفتواه وقوله في مواضع عديدة في موطئه5287، وأما الحنابلة فكذلك، يذكرونه كثير، وعمر هو الذي قال فيه الإمام أحمد: لا أدري قول أحد من التابعين حجة إلا قول عمر بن عبد العزيز وكفاه هذا5288، وكفانا قول الإمام أحمد أيضاً: إذا رأيت الرجل يحب عمر بن عبد العزيز ويذكر محاسنه وينشرها فاعلم أن من وراء ذلك خيراً إن(3/132)
شاء الله5289، ومن أراد أن يتبحر في علم عمر بن عبد العزيز ويعرف مكانته العلمية، فليراجع الكتب الآتية: الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة للأستاذ حياة محمد جبر والكتاب في مجلدين، وهي رسالة علمية وكذلك فقه عمر بن عبد العزيز للدكتور محمد سعد شقير في مجلدين وهي رسالة علمية نال بها المؤلف درجة الدكتوراه، وموسوعة فقه عمر بن عبد العزيز لمحمد رواس قلعجي وسوف نرى في بحثنا فقه عمر بن عبد العزيز بإذن الله تعالى في العقائد والعبادات والسياسة الشرعية، وإدارة الدولة، والنظم المالية والقضائية والدعوية وتقيده بالكتاب والسنة والخلفاء الراشدين في خطواته وسكناته.
رابعاً : عمر في عهد الوليد بن عبد الملك:
يعد عمر بن عبد العزيز من العلماء الذين تميزوا بقربهم من الخلفاء وكان لهم أثر كبير في نصحهم وتوجيه سياستهم بالرأي والمشورة ويحتل عمر بن عبد العزيز مكانة متميزة في البيت الأموي، فقد كان عبد الملك يجله ويعجب بنباهته أثناء شبابه مما جعله يقدمه على كثير من أبنائه ويزوجه من ابنته، ولكن لم يكن له مشاركات في عهد عبد الملك بسبب صغر سنه واشتغاله بطلب العلم في المدينة، ومع ذلك فقد أورد ابن الجوزي أنه كتب إلى عبد الملك كتاباً يذكره فيه بالمسئولية الملقاة على عاتقه وقد جاء فيها: أما بعد: فإنك راعٍ، وكل مسؤول عن رعيته حدثنا أنس بن مالك أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل راعٍ مسئول عن رعيته5290. ((اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)) (النساء ، الآية : 87) .(3/133)
ويقال بأن عمر بن عبد العزيز ولاّه عمه عبد الملك خناصره لكي يتدرب على الأعمال القيادية في وقت مبكر5291، وقد قيل: إن سليمان بن عبد الملك هو الذي ولاه على خناصره، وهناك من رجح القول وقد تأثر عمر بن عبد العزيز لموت عمه وحزن عليه حزناً عظيماً وقد خاطب عمر ابن عمه مسلمة بن عبد الملك فقال له: يا مسلمة إني حضرت اباك لما دفن، فحملتني عيني عند قبره فرايته قد أفضى إلى أمر من أمر الله، راعني وهالني فعاهدت الله ألا أعمل بمثل عمله إن وليت وقد اجتهدت في ذلك5292.
1 ـ ولايته على المدينة:
…في ربيع الأول من عام 87هـ ولاّه الخليفة الوليد بن عبد الملك إمارة المدينة المنورة، ثم ضم إليه ولاية الطائف سنة 91هـ وبذلك صار والياً على الحجاز كلها: واشترط عمر لتوليه الإمارة ثلاثة شروط:
…الشرط الأول:أن يعمل في الناس بالحق والعدل ولا يظلم أحداً ولا يجور على أحد في أخذ ما على الناس من حقوق لبيت المال، ويترتب على ذلك أن يقل ما يرفع للخليفة من الأموال من المدينة. الشرط الثاني: أن يسمح له بالحج في أول سنة لأن عمر كان في ذلك الوقت لم يحج.
الشرط الثالث: أن يسمح له بالعطاء أن يخرجه للناس في المدينة فوافق الوليد على هذه الشروط، وباشر عمر بن عبد العزيز عمله بالمدينة وفرح الناس به فرحاً شديد5293.
2 ـ مجلس شورى عمر بن عبد العزيز: مجلس فقهاء المدينة العشرة:(3/134)
…كان من أبرز الأعمال التي قام بها عمر بن عبد العزيز تكوينه لمجلس الشورى بالمدينة، فعند ما جاء الناس للسلام على الأمير الجديد بالمدينة وصلى، دعا عشرة من فقهاء المدينة، وهم عروة ابن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأخوه عبد الله بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة وخارجه بن زيد بن ثابت، فدخلوا عليه فجلسوا فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: إني دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعواناً على الحق، إني لا أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحداً يتعدى، أو بلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحرّج الله على من بلغه ذلك إلا أبلغني5294. لقد عرفت أن عمر بن الخطاب كان يجمع المجلس للأمر يطرأ، فيرى ضرورة الشورى فيه، أما عمر بن عبد العزيز، وهو سبط عمر بن الخطاب، فقد أحدث مجلساً، حدّد صلاحياته بأمرين:
أ ـ أنهم أصحاب الحق في تقرير الرأي، وأنه لا يقطع أمراً إلا برأيهم. وبذلك يكون الأمير قد تخلى عن اختصاصاته إلى هذا المجلس، الذي نسميه ((مجلس العشرة)).
ب ـ أنه جعلهم مفتشين على العمال، ورقباء على تصرفاتهم فإذا ما اتصل بعلمهم أو بعلم أحدهم أن عاملاً ارتكب ظلامة، فعليهم أن يبلغوه وإلا فقد استعدى الله على كاتم الحق. ونلاحظ كذلك على هذا التدبير قد تضمن أمرين:
…أحدهما: أن الأمير عمر بن عبد العزيز لم يخصص تعويضاً لمجلس العشرة لأنهم كانوا من أصحاب العطاء، وبما أنهم فقهاء، فماندبهم إليه داخل في صلب اختصاصهم.(3/135)
…الثاني: إن عمر افترض ـ غياب أحدهم عن الحضور لعذر من الأعذار ولهذا لم يشترط في تدبيره حضورهم كلهم، وإنما قال: ((أو برأي من حضر منكم))5295، إن هذا المجلس كان يستشار في جميع الأمور دون استثناء5296، ونستنتج من هذه القصة أهمية العلماء الربانيين وعلو مكانتهم وأنه يجب على صاحب القرار أن يدنيهم ويقربهم منه ويشاورهم في أمور الرعية، كما أنه على العلماء أن يلتفوا حول الصالح من أصحاب القرار من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن للمصالح وتقليل ما يمكن من المفاسد، كما أن عمر بن عبد العزيز لم يختصر في شوراه على هؤلاء فحسب، بل كان يستشير غيرهم من علماء المدينة، كسعيد بن المسيِّب، والزهري، وغيرهم، وكان لا يقضي في قضاء حتى يسأل سعيد، وفي المدينة أظهر عمر عبد العزيز إجلاله للعلماء وإكباره لهم، وقد حدث أن أرسل رحمه الله تعالى رسولاً إلى سعيد بن المسيِّب يسأله عن مسألة، وكان سعيد لا يأتي أمير ولا خليفة فأخطأ الرسول فقال له: الأمير يدعوك، فأخذ سعيد نعليه وقام إليه في وقته، فلما رآه عمر قال له: عزمت عليك يا أبا محمد إلا رجعت إلى مجلسك حتى يسألك رسولنا عن حاجتنا، فإنا لم نرسله ليدعوك، ولكنه أخطأ أنما أرسلناه ليسألك5297، وفي إمارته على المدينة المنورة وسع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر من والوليد بن عبد الملك، حتى جعله مائتي ذراعاً في مائتي ذراع، زخرفه بأمر الوليد أيضاً، مع إنه رحمه الله تعالى كان يكره زخرفة المساجد5298، ويتضح من موقف عمر بن عبد العزيز هنا أنه قد يضطر الوالي للتجاوب مع قرارات ممن هو أعلى منه حتى وإن كان غير مقتنع بها إذا قدر أن المصلحة في ذلك أكبر من وجوه أخرى. وفي أمارته على المدينة في سنة 91هـ حج الخليفة الوليد بن عبد الملك فاستقبله عمر بن عبد العزيز أحسن استقبال، وشاهد الوليد بأم عينيه الإصلاحات العظيمة التي حققها عمر بن عبد العزيز في المدينة المنورة5299.(3/136)
3 ـ الحادث المؤسف في ولاية عمر:
…قال العلماء في السير: كان خبيب بن عبد الله بن الزبير قد حدَّث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا بلغ بنو أبي العاص5300 ثلاثين رجلاً اتخذوا عباد الله خولاً، ومال الله دولاً5301وهو حديث ضعيف فبعث الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز ـ واليه على المدينة ـ يأمره بجلده مائة سوط وبحبسه فجلده عمر مائة سوط، وبرد له ماءً في جرّة ثم صبه عليه في غداة باردة فكزّ5302، فمات فيها. وكان عمر قد أخرجه من السجن حين اشتد وجعه، وندم على ما صنع منه وحزن عمر على موت خبيب، فقد روى مصعب بن عبد الله عن مصعب بن عثمان أنهم نقلوا خبيباً إلى دار عمر بن مصعب بن الزبير ببقيع الزبير واجتمعوا عنده حتى مات، فبينما هم جلوس، إذ جاءهم الماجشون يستأذن عليهم وخبيب مسجى بثوبه. وكان الماجشون مع عمر بن عبد العزيز في ولايته على المدينة. فقال عبد الله بن عروة: ائذنوا له. فلما دخل قال: كأن صاحبكم في مرية من موته اكشفوا له عنه، فكشفوا عنه، فلما رآه الماجشون انصرف. قال الماجشون: فانتهيت إلى دار مروان، فقرعت الباب ودخلت فوجدت عمر كالمرأة الماخض قائماً وقاعداً فقال لي: ما وراءك فقلت: مات الرجل. فسقط على الأرض فزعاً ثم رفع رأسه يسترجع فلم يزل يعرف فيه حتى مات. واستعفى من المدينة، وامتنع من الولاية. وكان كلما قيل له: إنك قد صنعت كذا فأبشر فيقول: كيف بخبيب5303 ، ولم يذكرها ويتصورها أمام عينه حتى مات5304، ومن الأدلة على صلاح عمر بن عبد العزيز وقت ولايته على المدينة غير ما ذكر: ما رواه أبو عمر مولى أسماء بنت أبي بكر قال: فأتيته في مجلسه الذي يصلي فيه الفجر والمصحف في حجره، ودموعه تسيل على لحيته5305، وحدّث ابن أبي الزناد عن أبيه، قال: كان عمر بن عبد العزيز وهو أمير على المدينة إذا أراد أن يجود بالشيء قال: ابتغوا أهل بيت بهم حاجة5306.
4 ـ عظة مزاحم مولى عمر بن عبد العزيز له:(3/137)
…حبس عمر رجلاً بالمدينة، وجاوز عمر في حبسه القدر الذي يستحقه فكلمه مزاحم في إطلاقه، فقال له عمر: ما أنا بمخرجه حتى أبلغ في الحيطة عليه بما هو أكثر مما مرّ، فقال: مزاحم: مغضباً. يا عمر بن عبد العزيز، إني أحذرك ليلة تمخض بالقيامة، وفي صبيحتها تقوم الساعة يا عمر: ولقد كدت أنسى أسمك مما اسمع: قال الأمير قال الأمير. قال الأمير، قال عمر: إن أول من أيقظني لهذا الشأن مزاحم، فوالله ما هو إلا أن قال ذلك، فكأنما كشف عن وجهي غطاء5307. وهذه القصة تبين لنا أهمية الصديق الصالح المخلص الذي يذكرك بالله حين الغفلة .
5 ـ بين عمر بن عبد العزيز والحجّاج في خلافة الوليد:(3/138)
ذكر ابن الجوزي أن عمر بن عبد العزيز قد استعفى من المدينة كما مرّ ذكره ولكن ذكر غيره أنه عزل عنها، ففي سنة 92هـ عقد الخليفة الوليد لواء الحج للحجاج بن يوسف الثقفي ليكون أميراً على الحج ولما علم عمر بن عبد العزيز بذلك، كتب رحمه الله تعالى إلى الخليفة يستعفيه أن يمرَّ عليه الحجاج بالمدينة المنورة، لأن عمر بن عبد العزيز كان يكره الحجّاج ولا يطيق أن يراه، لما هو عليه من الظلم، فامتثل الوليد لرغبة عمر، وكتب إلى الحجّاج: إن عمر بن عبد العزيز كتب إليَّ يستعفيني من ممرك عليه، فلا عليك أن لا تمر بمن كرهك فتنحّ عن المدينة5308، وقد كتب عمر بن عبد العزيز وهو والٍ على المدينة إلى الوليد بن عبد الملك يخبره عما وصل إليه حال العراق من الظلم والضيم والضيق بسبب ظلم الحجّاج وغشمه، مما جعل الحجّاج يحاول الانتقام من عمر لاسيما وقد أصبح الحجاز ملاذاً للفارين من عسف الحجاج وظلمه حيث كتب الحجّاج إلى الوليد: إن من قبلي من مراق أهل العراق وأهل الثقاف قد جلوا عن العراق، ولجأوا إلى المدينة ومكة، وإن ذلك وهن: فكتب إليه يشير عليه بعثمان بن حبان، وخالد بن عبد الله القسري، وعزل عمر عبد العزيز5309. وقد كان ميول الوليد لسياسة الحجّاج واضحاً وكان يظن بأنه سياسة الشدة والعسف هي السبيل الوحيد لتوطيد أركان الدولة، وهذا ما حال بينه وبين الأخذ بآراء عمر بن عبد العزيز ونصائحه، وقد أثبتت الأحداث فيما بعد أن ما كان يراه عمر أفضل مما كان يسير عليه الوليد، وذلك بعد تولي عمر الخلافة وتطبيقه لما كان يشير به5310.
6 ـ عودة عمر بن عبد العزيز إلى دمشق:(3/139)
…خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة المنورة وهو يبكي ومعه خادمه مزاحم، فالتفت إلى مزاحم وقال: يا مزاحم، نخشى أن نكون من نفت المدينة5311، يشير بذلك إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا وإن المدينة كالكير يخرج الخبث، لا تقوم الساعة حتى تفني المدينة شرارها، كما ينفي الكير خبث الحديد5312. وقال مزاحم: ولما خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة نظرت فإذا القمر في الدبران5313 ـ كأنه تشاءم من ذلك ـ فقال: فكرهت أن أقول ذلك له فقلت: ألا تنظر إلى القمر ما أحسن استواءه في هذه الليلة! فنظر عمر فإذا هو بالدبران فقال: كأنك أردت أن تعلمني أن القمر بالدبران. يا مزاحم: إنا لا نخرج بشمس ولا بقمر ولكن نخرج بالله الواحد القهار5314، وسار عمر حتى وصل السويداء، وكان له فيها بيت ومزرعة، فنزل فيها فأقام مدة يرقب الأوضاع عن بعد، ثم رأى أن مصلحة المسلمين تقتضي أن تكون إقامته في دمشق، بجوار الخليفة، لعله بذلك يستطيع أن يمنع ظلماً، أو يشارك في إحقاق حق، فانتقل إلى دمشق فأقام بها5315، ولم يكن عمر بن عبد العزيز على وفاق تام مع الخليفة الوليد بن عبد الملك، ولذلك فإن إقامته في دمشق بجوار الوليد لم تخل من مشاكل، فالوليد يعتمد في تثبيت حكمه على ولاة أقوياء قساة يهمهم إخضاع الناس بالقوة، وإن رافق ذلك كثير من الظلم، بينما يرى عمر إن إقامة العدل بين الناس كفيل باستقرار الملك وإئتمارهم بأمر السلطان، فكان رحمه الله يقول: الوليد بالشام والحجّاج بالعراق، ومحمد بن يوسف ـ أخ الحجّاج ـ في اليمن، وعثمان بن حيان بالحجاز، وقرة بن شريك في مصر،.. امتلأت والله الأرض جوراً5316.
7 ـ نصح عمر للوليد بالحد من صلاحيات عماله في القتل:(3/140)
…سلك عمر بن عبد العزيز بعض الطرق والوسائل لإصلاح هذا الوضع، فمن ذلك نصحه للوليد بالحد من صلاحيات عماله في القتل، وقد نجح في بادي الأمر في استصدار قرار يمنع أي والٍ من القتل إلا بعد علم الخليفة وموافقته على ذلك، فيذكر ابن عبد الحكم أن عمر بن عبد العزيز دخل على الوليد بن عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين إن عندي نصيحة، فإذا خلا لك عقلك، واجتمع فهمك فسلني عنها، قال: ما يمنعك منها الآن؟ قال: أنت أعلم، إذا اجتمع لك ما أقول فإنك أحق أن تفهم فمكث أياماً ثم قال: يا غلام من بالباب؟ فقيل له ناس وفيهم عمر بن عبد العزيز، فقال: أدخله، فدخل عليه فقال: نصيحتك يا أبا حفص فقال عمر: إنه ليس بعد الشرك إثم أعظم عند الله من الدم، وأن عمالك يقتلون، ويكتبون إن ذنب فلان المقتول كذا وكذا، وأنت المسئول عنه والمأخوذ به، فاكتب إليهم ألا يقتل أحد منهم أحداً حتى يكتب بذنبه ثم يشهد عليه، ثم تأمر بأمرك على أمر قد وضح لك. فقال: بارك الله فيك يا أبا حفص ومنع فقدك. عليَّ بكتاب، فكتب إلى أمراء الأمصار كلهم فلم يحرج من ذلك إلا الحجّاج فإنه أمضه، وشق عليه وأقلقه. وظن أنه لم يكتب إلى أحد غيره، فبحث عن ذلك، فقال: من أين ذهبنا؟ أو من أشار على أمير المؤمنين بهذا؟ فأخبر أن عمر بن عبد العزيز هو الذي فعل ذلك فقال: هيهات إن كان عمر فلا نقض لأمره. ثم أن الحجّاج أرسل إلى إعرابي حروري ـ من الخوارج ـ جاف من بكر بن وائل، ثم قال له الحجّاج ما تقول في معاوية؟ فنال منه. قال: ما تقول في يزيد؟ فسبه. قال: فما تقول في عبد الملك؟ فظلمه. قال: فما تقول في الوليد؟ فقال: أجورهم حين ولاك وهو يعلم عداءك وظلمك. فسكت الحجّاج وافترصها منه5317، ثم بعث به إلى الوليد وكتب إليه: أنا أحوط لديني، وأرعى لما استرعيتني واحفظ له من أن أقتل أحداً لم يستوجب ذلك، وقد بعثت إليك ببعض من كنت أقتل على هذا الرأي فشأنك وإياه. فدخل الحروري على الوليد وعنده(3/141)
أشراف أهل الشام وعمر فيهم فقال له الوليد: ما تقول فيّ؟ قال ظالم جبار. قال: ما تقول في عبد الملك؟ قال: جبار عاتٍ. قال فما تقول في معاوية؟ قال: ظالم. قال الوليد لابن الريان أضرب عنقه فضرب عنقه، ثم قام فدخل منزله وخرج الناس من عنده فقال: يا غلام أردد عليّ عمر، فرده عليه فقال: يا أبا حفص ما تقول بهذا؟ أصبنا أم أخطأنا؟ فقال عمر: ما أصبت بقتله، ولغير ذلك كان أرشد وأصوب، كنت تسجنه حتى يراجع الله عز وجل أو تدركه منيته، فقال الوليد شتمني وشتم عبد الملك وهو حروري أفتستحل ذلك؟ قال لعمري ما استحله، لو كنت سجنته إن بدا لك أو تعفو عنه، فقام الوليد مغضباً، فقال ابن الريان لعمر: يغفر الله لك يا أبا حفص، لقد راددت أمير المؤمنين حتى ظننت أنه سيأمرني بضرب عنقك5318، وهكذا احتار الحجّاج على الوليد ليصرفه على الأخذ برأي عمر في الحد من سرف الحجّاج وأمثاله في القتل5319.
8 ـ رأي عمر بن عبد العزيز في التعامل مع الخوارج:
…فبالإضافة إلى الموقف الذي مرّ ذكره آنفاً ـ في شأن الحروري الذي بعث به الحجّاج ـ وردت روايات توضح الموقف نفسه فعن ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز أخبره أن الوليد أرسل إليه بالظهيرة، فوجده قاطباً بين عينيه، قال: فجلست وليس عنده إلا ابن الريان، قائم بسيفه، فقال: ما تقول فيمن يسب الخلفاء؟ أترى أن يقتل؟ فسكت، فانتهرني، وقال: مالك؟ فسكت، فعاد لمثلها، فقلت: أقتل يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، ولكنه سب الخلفاء قلت: فإني أرى أن ينكل فرفع رأسه إلى ابن الريان، فقال الوليد: إنه فيهم لتائه.
9 ـ نصحه الوليد عندما أراد خلع سليمان والبيعة لابنه"(3/142)
…ومن آخر مواقفه التي ذكرت لعمر بن عبد العزيز في عهد الوليد بن عبد الملك نصحه للوليد عندما أراد خلع سليمان والبيعة لابنه عبد العزيز من بعده، فوقف عمر من ذلك موقفاً حازماً حيث لم يستجب لأمر الوليد في ذلك وقال حين أراده على ذلك: يا أمير المؤمنين إنما بايعنا لكما في عقدة واحدة فكيف نخلعه ونتركك: فغضب الوليد على عمر، وحاول استخدام الشدة معه لعله يوافقه على ما أراد، فيذكر أنه أغلق عليه الدار وطين عليه الباب حتى تدخلت أم البنين أخته وزوجة الوليد ففتح عنه بعد ثلاث وقد ذبل ومالت عنقه5320.
خامساً: عمر في عهد سليمان بن عبد الملك:
في عهد سليمان تهيأت الفرص لعمر بن عبد العزيز بقدر كبير فظهرت آثاره في مختلف الجوانب، فبمجرد تولي سليمان الخلافة قرب عمر بن عبد العزيز وأفسح له المجال واسعاً حيث قال: يا أبا حفص إنا ولينا ما قد ترى، ولم يكن بتدبيره علم، فما رأيت من مصلحة العامة فمر به5321 وجعله وزيراً ومستشاراً ملازماً له في إقامته أو سفره وكان سليمان يرى أنه محتاج له في صغيره وكبيره، فكان يقول: ما هو إلا أن يغيب عني هذا الرجل فما أجد أحداً يفقه عني5322. وفي موضع آخر قال: يا أبا حفص ما اغتممت بأمر ولا أكربني أمر إلا خطرت فيه على بالي5323.
1 ـ أسباب تقريب سليمان لعمر:
والذي دفع سليمان إلى إفساح المجال أمام عمر بهذه الصورة يعود في نظري إلى عدة أسباب منها:
أ ـ شخصية سليمان بن عبد الملك: حيث لم يكن مثل أخيه الوليد معجباً بنفسه معتداً برأيه وواقعاً تحت تأثير بعض ولاته، بل كان سليمان على العكس من ذلك غير معتد برأيه خالياً من التأثيرات الأخرى عليه .
ب ـ قناعة سليمان بما يتمتع به عمر من نظرات وآراء صائبة.
جـ ـ موقف عمر من محاولة الوليد لخلع سليمان مما جعل سليمان يشكر ذلك لعمر، وقد أشار لهذا الذهبي حيث قال بعد عرضه لموقف عمر: فلذلك شكر سليمان وعمر وأعطاه الخلافة بعده5324.(3/143)
2 ـ تأثير عمر على سليمان في إصدار قرارات إصلاحية:
فقد كان لعمر أثر كبير على سليمان في إصدار عدد من القرارات النافعة ومن أهمها: عزل ولاة الحجّاج، وبعض الولاة الآخرين، كوالي مكة، خالد القسري ووالي المدينة عثمان بن حيان5325، ومنها الأمر بإقامة الصلاة في وقتها، فأورد ابن عساكر عن سعيد بن عبد العزيز: أن الوليد بن عبد الملك كان يؤخر الظهر والعصر، فلما ولي سليمان كتب إلى الناس ـ عن رأي عمر ـ أن الصلاة كانت قد أميتت فأحيوها5326 وهناك أمور أخرى أجملها الذهبي بقوله: مع أمور جليلة كان يسمع من عمر فيها5327.
3 ـ إنكاره على سليمان بن عبد الملك في تحكيمه كتاب أبيه:
كلمّ عمر بن عبد العزيز سليمان بن عبد الملك في ميراث بعض بنات عبد العزيز من بني عبد الملك، فقال له سليمان بن عبد الملك: إن عبد الملك كتب في ذلك كتاباً منعهن ذلك، فتركه يسيراً ثم راجعه فظن سليمان أنه اتهمه فيما ذكر من رأي عبد الملك في ذلك الأمر فقال سليمان لغلامه: ائتني بكتاب عبد الملك، فقال له عمر: أبا المصحف دعوتَ يا أمير المؤمنين؟ فقال أيوب بن سليمان: ليوشكن أحدكم أن يتكلم الكلام تضرب فيه عنقه، فقال له عمر: إذا أفضى الأمر إليك فالذي دخل على المسلمين أعظم مما تذكر، فزجر سليمان أيوب، فقال عمر: إن كان جهل فما حلمُنا عنه5328. فهذا موقف من مواقف الجرأة في قول الحق الذي يُحمد لعمر حيث اعتبر سليمان بن عبد الملك كتابة أبيه شرعاً لا يمكن تغييره فنبهه عمر إلى أن الكتاب الذي لا ينقض ولا يغيّر هو كتاب الله تعالى وحده، وهكذا يصل الطغيان بضحاياه إلى تعظيم شأن الآباء والأجداد الذين ورّثوا ذلك المجد الزائل لأبنائهم إلى الحد الذي يعتبرون فيه قضاءهم شرعاً نافذاً من غير نظر في موافقته لحكم الإسلام أو مخالفته، وموقف يذكر لسليمان حيث وبخّ ولده الذي هدد عمر أن قال كلمة الحق، وهذا يدل على ما يتصف به سليمان من سرعة الرجوع إلى الحق إذا تبين له5329.(3/144)
4 ـ إنكاره على سليمان بن عبد الملك في الإنفاق:
…قدم سليمان بن عبد الملك المدينة فأعطى بها مالاً عظيماً، فقال لعمر بن عبد العزيز: كيف رأيت ما فعلنا يا أبا حفص؟ قال: رأيتك زدت أهل الغنى غنى وتركت أهل الفقر بفقرهم5330. فهذا تقويم جيد من عمر بن عبد العزيز لعمل سليمان بن عبد الملك، فقد كان سليمان لجهله بدقائق أحكام الشريعة في مجال الإنفاق ـ يظن أنه بإنفاقه ذلك المال الكثير على الرعية قد عمل صالحاً، فأفاده عمر بن عبد العزيز بأنه قد أخطأ حينما صرف ذلك المال لغير مستحقيه وحرم منه أهله5331، فقد بين عمر رحمه الله أهمية التفريق بين بذل الخير وصرفه لمستحقيه.
5 ـ حث عمر سليمان على رد المظالم:
…خرج سليمان ومعه عمر إلى البوادي، فأصابه سحاب فيه برق وصواعق، ففزع منه سليمان ومن معه، فقال عمر: إنما هذا صوت نعمة فكيف لو سمعت صوت عذاب؟ فقال سليمان: خذ هذه المائة ألف درهم وتصدق بها، فقال عمر: أو خير من ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: وما هو؟ قال: قوم صحبوك في مظالم لم يصلوا إليك، فجلس سليمان فرد المظالم5332، ويظهر عند عمر وضوح فقه ترتيب الأولويات فرد المظالم مقدم على بذل الصدقات.
6 ـ أرى دنيا يأكل بعضها بعضاً: أقبل سليمان بن عبد الملك وهو أمير المؤمنين، ومعه عمر بن عبد العزيز على معسكر سليمان، وفيه تلك الخيول والجمال والبغال والأثقال والرجال، فقال سليمان ما تقول يا عمر في هذا؟ قال: أرى دنيا يأكل بعضها بعضاً، وأنت المسئول عن ذلك كله. فلما اقتربوا من المعسكر، إذا غراب قد أخذ لقمة في فيه من فسطاط سليمان وهو طائر بها ونعب نعبة5333، فقال له سليمان: ما تقول في هذا يا عمر؟ فقال: لا أدري. فقال: ما ظنك أنه يقول؟ قال: كأنه يقول: من أين جاءت؟ وأين يذهب بها؟ فقال له سليمان: ما أعجبك؟ فقال عمر: أعجب مني من عرف الله فعصاه، ومن عرف الشيطان فأطاعه5334.(3/145)
7 ـ هم خصماؤك يوم القيامة: لما وقف سليمان وعمر بعرفة جعل سليمان يعجب من كثرة الناس، فقال له عمر: هؤلاء رعيّتُك اليوم،، وأنت مسئول عنهم غداً وفي رواية: وهم خصماؤك يوم القيامة فبكى سليمان وقال: بالله استعين5335.
8 ـ زيد بن الحسن بن علي مع سليمان:
…كان زيد بن الحسن بن علي قد أجاب الوليد بن عبد الملك في مسألة خلع سليمان خوفاً من الوليد، وكتب بموافقته من المدينة إلى الوليد، فلما استخلف سليمان وجد الكتاب، فبعث إلى واليه على المدينة، أن يسأل زيداً عن أمر الكتاب، فإن هو اعترف به فليبعث بذلك إليه، وإن أنكر عليه اليمين أمام منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بعث باعترافه إلى سليمان كتب سليمان إلى والي المدينة أن يضربه مائة سوط ويمشيه حافياً.. فحبس عمر الرسول وقال: لا تخرج حتى أكلم أمير المؤمنين، فيما كتب في زيد بن حسن لعلي أطيب نفسه فيترك هذا الكتاب. فجلس الرسول فمرض سليمان، فقال للرسول لا تخرج فإن أمير المؤمنين مريض، فلما توفي سليمان وأفضى الأمر إلى عمر دعا بالكتاب ومزقه5336. وظل عمر بن عبد العزيز قريباً من سليمان طيلة مدة خلافته يحوطه بنصحه ويشاركه مسئولياته5337، ويرى الدكتور يوسف العش أن سياسة عمر بن عبد العزيز ومنطلقاتها بدأت منذ بداية خلافة سليمان، نعم أن سليمان كان يشتط حيناً في سياسته، فيتخذ تدابير لعل عمر لا يقرها، لكن عمر بن عبد العزيز كان بالرغم من ذلك راجح القوة في خلافته وسياسة عمر لم تتغير، فهو في دمشق مثله في المدينة، على أنه في دمشق يستطيع أن يفعل أكثر من المدينة، والأمر المهم عنده هو منع الجور5338، والظلم والعسف، ونلاحظ أن عمر بن عبد العزيز تعامل مع سنة التدرج وفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في رد المظالم ومنعها وعندما وصل للخلافة إزداد في إحقاق العدل ومحاربة الظلم لأن الصلاحيات المتاحة كانت أكبر، فهو نصح عمه عبد الملك وذكره بالآخرة مع جبروته وظلمه، ولم(3/146)
يتقاعس في عهد ابن عمه الوليد، وتقدم خطوات ووفق حسب الإمكان في عهد سليمان وأتيحت له الفرصة في خلافته وبالتالي لا نقول أن ما حدث لعمر على مستواه الشخصي انقلاب وإنما الانقلاب في توظيف الدولة لخدمة الشريعة في كافة شؤون الحياة ولو كان على حساب العائلة الحاكمة، التي كانت لها مخصصاتها وصلاحياتها والتي اعتبرها عمر بن عبد العزيز حقوق للأمة يجب ردها إلى بيت المال أو إلى أصحابها الأصليين.
سادساً : خلافة عمر بن عبد العزيز:(3/147)
ومن حسنات سليمان عبد الملك قبوله لي نصيحة الفقيه العالم رجاء بن حيوة الكندي الذي اقترح على سليمان في مرض موته أن يولي عمر بن عبد العزيز، وكانت وصية لم يكن للشيطان فيها نصيب5339، قال ابن سيرين: يرحم الله سليمان افتتح خلافته بإحياء الصلاة، واختتمها باستخلافه عمر بن عبد العزيز، وكانت سنة وفاته سنة 99هـ، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، وكان منقوش في خاتمه: (أؤمن بالله مخلصاً)5340، وتعددت الروايات في قصة استخلاف سليمان لعمر ، وقد ذكرت بعضها في حديثي عن عهد سليمان، ومن الروايات أيضاً ما ذكره ابن سعد في طبقاته، عن سهيل بن أبي سهيل قال: سمعت رجاء بن حيوة يقول: لما كان يوم الجمعة لبس سليمان بن عبد الملك ثياباُ خضر من خز ونظر في المرآة فقال: أنا والله الملك الشاب فخرج إلى الصلاة يصلي بالناس الجمعة فلم يرجع حتى وعك، فلما ثقل كتب كتاب عهده إلى ابنه أيوب، وهو غلام لم يبلغ فقلت: ما تصنع يا أمير المؤمنين؟ إنه مما يحفظ به الخليفة في قبره أن يستخلف الرجل الصالح، فقال سليمان: كتاب استخير الله فيه، وانظر، ولم أعزم عليه، فمكث يوماً أو يومين، ثم خرقه ثم دعاني، فقال: ما ترى في داود بن سليمان؟ فقلت هو غائب بقسطنطينية، وأنت لا تدري أحي هو أم ميت. قال: يا رجاء فمن ترى؟ قال: فقلت: رأيك يا أمير المؤمنين وأنا أريد أن أنظر من يذكر. فقال: كيف ترى في عمر بن عبد العزيز؟ فقلت: أعلمه والله فاضلاً خياراً مسلماً. فقال: هو على ذلك والله لئن وليته، ولم أول أحداً من ولد عبد الملك لتكونن فتنة ولا يتركونه أبداً يلي عليهم إلا أن أجعل أحدهم بعده ـ ويزيد بن عبد الملك غائب على الموسم ـ قال: فيزيد بن عبد الملك أجعله بعده، فإن ذلك مما يسكنه ويرضون به، قلت : رأيك قال: فكتب بيده بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز، إني وليته الخلافة من بعدي، ومن بعده يزيد بن عبد الملك،(3/148)
فاسمعوا له وأطيعوا، واتقوا الله، ولا تختلفوا، فيطمع فيكم. وختم الكتاب فأرسل إلى كعب بن حامد صاحب الشرطة أن مرّ أهل بيتي فليجتمعوا، فأرسل إليهم كعب، فجمعهم، ثم قال سليمان: لرجاء بعد اجتماعهم: أذهب بكتاب هذا إليهم، فاخبرهم، إنه كتابي ومرهم فليبايعوا من وليت. قال: ففعل رجاء، فلما قال لهم ذلك رجاء قالوا: سمعنا وأطعنا لمن فيه، وقالوا: ندخل فنسلم على أمير المؤمنين، قال نعم. فدخلوا فقال لهم سليمان: هذا الكتاب ـ وهو يشير لهم وهم ينظرون إليه في يد رجاء بن حيوة ـ هذا عهدي، فاسمعوا، وأطيعوا وبايعوا لمن سميت في هذا الكتاب. قال فبايعوا رجلاً. قال: ثم خرج بالكتاب مختوماً في يد رجاء. قال رجاء: فلما تفرقوا جاءني عمر بن عبد العزيز فقال: يا أبا المقدام، إن سليمان كانت لي به حرمة ومودة، وكان بي براً ملطفاً، فأنا أخشى أن يكون قد أسند إلي من هذا الأمر شيئاً، فأنشدك الله وحرمتي ومودتي، ألا أعلمتني إن كان ذلك حتى أستعفيه الآن قبل أن يأتي حال لا أقدر فيها على ما أقدر الساعة. فقال رجاء: لا والله حرفاً واحداً. قال: فذهب عمر غضبان. قال رجاء: ولقيني هشام بن عبد الملك، فقال: يا رجاء، إن لي بك حرمة ومودة قديمة وعندي شكر، فأعلمني أهذا الأمر إليّ؟ فإن كان إلي علمت، وإن كان إلى غيري تكلمت، فليس مثلي قصر به، ولا نحي عنه هذا الأمر، فأعلمني فلك الله لا أذكر اسمك أبداً. قال رجاء: فأبيت وقلت لا والله لا أخبرك حرفاً واحداً مما أسر إلي.، فانصرف هشام..، وهو يضرب بإحدى يديه على الأخرى، وهو يقول: فإلى من إذا نحيت عني؟ أتخرج من بني عبد الملك؟ فوالله إني لعين بني عبد الملك قال رجاء: ودخلت على سليمان بن عبد الملك، فإذا هو يموت. قال: فجعلت إذا أخذته سكرة من سكرات الموت، حرفته إلى القبلة، فجعل يقول وهو يفأق: لم يأت ذلك بعد يا رجاء. حتى فعلت ذلك مرتين. فلما كانت الثالثة قال: من الآن يا رجاء، إن كنت تريد شيئاً أشهد أن لا(3/149)
إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. قال فحرفته، ومات، فلما أغمضته سجيته بقطيفة خضراء وأغلقت الباب، وأرسلت إلى زوجته تنظر إليه، كيف أصبح فقلت: نام وقد تغطى، فنظر الرسول إليه، مغطى بالقطيفة فرجع، فأخبرها، فقبلت ذلك وظنت أنه نائم. قال رجاء: وأجلست على الباب من أثق به وأوصيته أن لا يريم حتى آتيه، ولا يدخل على الخليفة أحداً. قال: فخرجت، فأرسلت إلى كعب بن حامد العنسي، فجمع أهل بيت أمير المؤمنين، فاجتمعوا في مسجد دابق فقلت: بايعوا، قالوا: قد بايعنا مرة ونبايع أخرى! قلت: هذا أمير المؤمنين، بايعوا على ما أمر به، ومن سمى في هذا الكتاب المختوم، فبايعوا الثانية رجلاً رجلاً. قال رجاء: فلما بايعوا بعد موت سليمان، رأيت أني قد أحكمت الأمر، قلت قوموا إلى صحابكم فقد مات. قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون وقرأت عليهم الكتاب، فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز نادى هشام: لا نبايعه أبداً. قال قلت: أضرب والله عنقك، قم فبايع. فقام يجر رجليه. قال رجاء: وأخذت بضبعي عمر، فأجلسته على المنبر وهو يسترجع، لما وقع فيه، وهشام يسترجع لما أخطاه فلما انتهى هشام إلى عمر، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، أي حين صار هذا الأمر إليك على ولد عبد الملك، قال فقال عمر: نعم، فإنا لله وأنا إليه راجعون، حين صار إلي ـ لكراهتي له5341. وقال أبو الحسن الندوي على موقف رجاء بن حيوة: وكان لرجاء مأثرة لا ينساها الإسلام، ولا أعرف رجلاً من ندماء الملوك ورجالهم انتفع بقربه ومنزلته عند الملوك مثل انتفاعه، وانتهز الفرصة مثل انتهازه وأسدى للإسلام خدمة مثله5342، فرحم الله رجاء بن حيوة فقد رسم منهجاً لمن يجلس مع الملوك من العلماء كيف يعز الإسلام ويذكر الخلفاء بالله وينتهز الفرص المناسبة لخدمة دين الله.
1 ـ منهج عمر في إدارة الدولة من خلال خطبته الأولى:(3/150)
صعد عمر المنبر وقال في أول لقاء مع الأمة بعد استخلافه: أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم. فصاح الناس صيحة واحدة. قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضينا بك فوّل أمرنا باليمن والبركة وهنا شعر أنه لا مفر من تحمل مسؤولية الخلافة فأضاف قائلاً يحدد منهجه وطريقته في سياسة الأمة المسلمة5343: أما بعد فإنه ليس بعد نبيكم نبي، ولا بعد الكتاب الذي أنزل عليه كتاب، ألا إن ما أحل الله حلال إلى يوم القيامة، ألا إني لست بقاض، ولكني منفذ، ألا وإني لست بمبتدع ولكني متبع، ألا إنه ليس لأحد أن يطاع في معصية الله، ألا إني لست بخيركم، ولكني رجل منكم غير أن الله جعلني أثقلكم حملاً. أيها الناس من صحبنا فليصحبنا بخمس، و إلا فلا يقربنا: يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده ويدلنا من الخير على ما نهتدي إليه، ولا يغتابن عندنا الرعية ولا يعترض فيما لا يعنيه. أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خلف من كل شيء وليس من تقوى الله عز وجل خلف، واعملوا الآخرتكم، فإنه من عمل لآخرته كفاه الله تبارك وتعالى أمر ديناه، وأصلحوا سرائركم، يصلح الله الكريم علانيتكم، وأكثروا من ذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم، فإنه هادم اللذات... وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها عز وجل، ولا في نبيها صلى الله عليه وسلم، ولا في كتابها وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم، وإني والله لا أعطي أحداً باطلاً، ولا أمنع أحداً حقا. ثم رفع صوته حتى أسمع الناس فقال: يا أيها الناس، من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم. وإن من حولكم من الأمصار والمدن فإن هم أطاعوا كما أطعتم فأنا وليكم، وإن هم نقموا فلست لكم بوال5344، ثم نزل. وهكذا عقدت الخلافة لعمر(3/151)
بن عبد العزيز في ذلك اليوم، وهو يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة تسع وتسعين5345، ويظهر لنا من هذه الخطبة السياسية التي قرر عمر بن عبد العزيز أتباعها في الحكم وهي:
أ ـ الترامه بالكتاب والسنة، وأنه غير مستعد للاستماع إلى أي جدل في مسائل الشرع، والدين على أساس أنه حاكم منفذ وأن الشرع بين من حيث تحليل ما أحل الله وتحريم ما حرم الله ورفضه للبدعة والآراء المحدثة.
ب ـ حدد لمن يريد أن يتصل به ويعمل معه من رعيته أن يكون اتصاله معه لخمسة أسباب:
* ـ أن يرفع إليه حاجة من لا يستطيع أن يصل إلى الخليفة، أي أنه جعل المقربين منه همزة وصل بينه، وبين من لا يستطيعون الوصول إليه، فيعرف بذلك حوائج الناس، وينظر فيها.
* ـ أن يعينه على الخير ما استطاع، أي أن علاقة هؤلاء به تقوم على أساس نزعة الخير يعين الخليفة عليه، وبالتالي يحذره من أي شر.
* ـ فرض على من يقترب إليه فريضة أن يرشده، ويهديه إلى ما فيه خير الأمة، وخير الدين.
* ـ نهى من يريد أن يتقرب إليه، عن أن يغتاب إليه أحد.
* ـ أن لا يتدخل أي متقرب منه في شؤون الحكم، وفيما لا يعنيه عامة .
لقد كان يدرك مدى تأثير البطانة والمقربين من الحاكم على الحاكم وعلى الرعية، وعلى أسلوب الحكم، فآثر أن ينبه الناس حتى يتركوه يحكم بما ارتضى في نطاق شرع الله، دون أن يبعدهم نهائياً لأنه أجاز لهؤلاء المقربين أن يدلوه على الخير، ويعينوه عليه، وأن ينقلوا إليه حاجة المحتاج5346.
ج ـ كما أنه حذر الناس من عواقب الدنيا لو أساؤوا فيها، وطلب إليهم أن يصلحوا سرائرهم ويحذروا الموت، ويتعظوا به.(3/152)
ح ـ قطع على نفسه عهداً بأن لا يعطي أحداً باطلاً، ولا يمنع أحداً حقاً، وأنه أعطاهم حقاً عليه، وهو أن يطيعوه ما أطاع الله، وأنه لا طاعة له عليهم إذا عصاه سبحانه وتعالى. هذه هي الخطوط العريضة لسياسة عمر، ذكرها في أول لقاء له مع الرعية وأهل الحل والعقد في المسجد، بعد بيعته فدولته قد حدّدها بالسير على كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم وقد آثر أن لا يدع لأي عامل من عماله حجة عليه بعد ذلك ففصل ما أجمل في خطبته الأولى في كتب أرسلها إلى عماله وقد كانت هذه الكتب نوعين:
ـ كتب إلى العمال يبصرهم بما يجب عليهم أن يلتزموا به في مسلكهم الشخصي، والخاص، إزاء الرعية ـ وسوف نتحدث عن ذلك بإذن الله.
ـ وكتب إلى عماله التي حددت سياستهم، وطريقة تعاملهم مع أفراد الرعية من المسلمين، وغير المسلمين، ممن كانوا يسكنون دار الإسلام وعمر في هذه الكتب ـ كما سيظهر بإذن الله ـ تكلم عن موقفه كفقيه متبحر في أصول الدين5347، وسيأتي الحديث عن منهجه من خلال أعماله.
2 ـ الحرص على العمل بالكتاب والسنة:(3/153)
من أهم ما يميز منهج عمر في سياسته، حرصه على العمل بالكتاب والسنة ونشر العلم بين رعيته وتفقيههم في الدين وتعريفهم بالسنة، ومنطلق عمر في ذلك فهمه لمهمة الخلافة، فهي حفظ الدين وسياسة الدنيا به5348، فهو يرى أن من أهم واجباته تعريف رعيته بمبادئ دينهم وحملهم على العمل بها، فورد عنه أنه قال: في إحدى خطبه: إن للإسلام حدوداً وشرائع وسنناً فمن عمل بها استكمل الإيمان، ومن لم يعمل بها لم يستكمل الإيمان، فلأن أعش أعلمكموها وأحملكم عليها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص5349. وقال أيضاً: فلو كان كل بدعة يميتها الله على يدي وكل سنة يعيشها الله على يدي ببضعة من لحمي حتى يأتي آخر ذلك على نفسي كان في الله يسيراً. وفي موضع آخر قال: والله لولا أن أنعش سنة أو أسير بحق ما أحببت أن أعيش فواقاً5350، لهذا بادر عمر في تنفيذ هذه المسئولية المهمة، فبعث العلماء في تعليم الناس وتفقيههم إلى مختلف أقاليم الدولة وفي حواضرها وبواديها، وأمر عماله على الأقاليم بحث العلماء على نشر العلم، فقد جاء في كتابه الذي بعث إلى عماله: ومر أهل العلم والفقه من جندك فلينشروا ما علمهم الله من ذلك، وليتحدثوا به في مجالسهم5351، ومما كتب به إلى بعض عماله: أما بعد فأمر أهل العلم أن ينشروا العلم في مساجدهم فإن السنة كانت قد أميتت5352، كما أمر عماله أن يجروا الرواتب على العلماء ليتفرغوا لنشر العلم5353، وانتدب العديد من العلماء لتفقيه الناس في الدين، فبعث يزيد بن أبي مالك الدمشقي والحارث بن يمجد الأشعري يفقهان الناس والبدو5354، وذكر الذهبي أن عمر ندب يزيد بن أبي مالك ليفقه بني نمير ويقرئهم، وبعث نافع مولى ابن عمر إلى أهل مصر ليعلمهم السنن5355، وكان قد بعث عشرة من الفقهاء إلى إفريقية يفقهون أهلها وسيأتي الحديث عنهم بإذن الله، ولم تنحصر مهمة هؤلاء العلماء في التعليم فحسب، بل منهم من أسند إليه بعض الولايات، ومنهم من تولي القضاء وأسهم(3/154)
أكثرهم بالإضافة إلى نشر العلم في مجال الدعوة والجهاد في سبيل الله ، وهذا الاهتمام الذي تميز به منهج عمر لتعليم الناس وتفصيلهم لأمور دينهم له أبعاد سياسية وآثار أمنية، ذلك أن نشر الوعي الديني الصحيح والفقه فيه بين أفراد الرعية له أثر في حماية عقول أبناء الأمة من عبث الأفكار التي ينعكس خطرها على الاستقرار السياسي والأمني، كأفكار الخوارج5356 وغيرهم.
3 ـ الشورى في دولة عمر بن عبد العزيز: قال تعالى: ((وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)) (الشورى / الآية : 38). وقال تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)) (آل عمران : الآية : 159). وقد اهتم عمر بن عبد العزيز بتفعيل مبدأ الشورى في خلافته، ومن أقواله في الشورى: إن المشورة والمناظرة باب رحمة ومفتاح بركة لا يضل معهما رأي، ولا يفقد معهما حزم5357، وكان أول قرار اتخذه عمر بعدما ولي أمر المدينة للوليد بن عبد الملك، يتعلق بتطبيق مبدأ الشورى، وجعله أساساً في إمارته، حين دعا من فقهاء المدينة وكبار علمائها، وجعل منهم مجلساً استشارياً دائماً5358 ـ كما مر معنا ـ حري بمن جعل الشورى أحد مبادئ إمارته حين كانت مسئوليته جزئية أن يطبقه وقت المسئولية الكاملة، والمهمة العظمى، ألا وهي ولاية أمر المسلمين كافة وقد تبين مبدأ الشورى من أول يوم في خلافته، وقال للناس: أيها الناس، إني قد ابتليت بهذا الأمر، من غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، (فاختاروا لأنفسكم) فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك فول أمرنا باليمن والبركة5359، وبذلك خرج عمر من مبدأ توريث الولاية الذي تبناه معظم خلفاء بني أمية إلى مبدأ الشورى(3/155)
والانتخاب، ولم يكتف عمر باختياره ومبايعة الحاضرين، بل يهمه رأي المسلمين في الأمصار الأخرى ومشورتهم، فقال في خطبته الأولى ـ عقب توليه الخلافة ـ:.. وإن من حولكم من الأمصار والمدن إن أطاعوا كما أطعتم.، وإن هم أبوا فلست لكم بوال، ثم نزل5360. وقد كتب إلى الأمصار الإسلامية فبايعت كلها، وممن كتب لهم يزيد بن المهلب يطلب إليه البيعة بعد أن أوضح له أنه في الخلافة ليس براغب، فدعا يزيد الناس إلى البيعة فبايعوا5361. وبذلك يتضح أنه لم يكتف بمشورة من حوله بل امتد الأمر إلى جميع أمصار المسلمين ونستنتج من موقف عمر هذا ما يلي:
أ ـ أن عمر كشف النقاب عن عدم موافقة الأصول الشرعية في تولي معظم الخلفاء الأمويين.
ب ـ حرص عمر على تطبيق الشورى في أمر يخصه هو، ألا وهو توليه الخلافة.
جـ ـ أن من طبق مبدأ الشورى في أمر مثل تولي الخلافة حري بتطبيقه فيما سواه.
…وكان عمر يستشير العلماء، ويطلب نصحهم في كثير من الأمور أمثال سالم بن عبد الله، ومحمد بن كعب القرطبي، ورجاء بن حيوة وغيرهم، فقال: إني قد ابتليت بهذا الأمر فأشيروا عليّ5362. كما كان يستشير ذوي العقول الراجحة من الرجال5363، وقد حرص عمر على إصلاح بطانته لما تولى الخلافة، فقرب إلى مجلسه العلماء وأهل الصلاح، وأقصى عنه أهل المصالح الدنيوية والمنافع الخاصة ولم يكتف ـ رحمه الله ـ بانتقاء بطانته، بل كان زيادة على ذلك يوصيهم ويحثهم على تقويمه، فقال لعمر بن مهاجر: إذا رأيتني قد ملت عن الحق فضع يدك في تلبابي ثم هزني ثم قل يا عمر ما تصنع5364؟، وقد كان لهذا المسلك أثر في تصحيح سياسته التجديدية ونجاحها، حيث كان لبطانته أثر في شد أزره، وسداد رأيه وصواب قراره5365، فمن أسباب نجاح عمر بن عبد العزيز تقريبه لأهل العلم والصلاح وانشراح صدره لهم ومشاركتهم معه لتحمل المسئولية فنتج عن ذلك حصول الخير العميم للإسلام والمسلمين.
4 ـ العدل في دولة عمر بن عبد العزيز:(3/156)
…قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)) (النحل ، الآية : 90) وأمر الله بفعل كما هو معلوم يقتضي وجوبه. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خبِيراً)) (النساء ، الآية : 135) وللعدل صورتان: صورة سلبية بمنع الظلم وإزالته عن المظلوم، أي بمنع انتهاك حقوق الناس المتعلقة بأنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وإزالة آثار التعدي الذي يقع عليهم وإعادة حقوقهم إليهم ومعاقبة المعتدي عليها فيما يستوجب العقوبة5366.وصورة إيجابية: وتتعلق أكثر ما تتعلق بالدولة، وقيامها بحق أفراد الشعب في كفالة حرياتهم وحياتهم المعاشية، حتى لا يكون فيهم عاجز متروك، ولا ضعيف مهمل، ولا فقير بائس، ولا خائف مهدد، وهذه الأمور كلها من واجبات الحاكم في الإسلام5367. وقد قام أمير المؤمنين عمر بهذا الركن العظيم والمبدأ الخطير على أتم وجه وكان يرى أن المسئولية والسلطة في نظر عمر هي القيام بحقوق الناس والخضوع لشروط بيعتهم، وتحقيق مصلحتهم المشروعة، فالخليفة أجير عند الأمة وعليه أن ينفذ مطالبها العادلة حسب شروط البيعة5368، وقد أحب الإستزاده من فهم صفات الإمام العادل وما يجب أن يقوم به ليتصف بهذه الخصلة الفريدة الحميدة فكتب إلى الحسن البصري يسأله في ذلك فأجابه الحسن: الإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأب الحاني على ولده يسعى لهم صغاراً، ويعلمهم كباراً، يكتب لهم في حياته ويدخرهم بعد مماته، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة البّرة الرفيقة بولدها، حملته كرهاً، ووضعته كرهاً، وربته طفلاً، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه،(3/157)
ترضعه تارة وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتمّ بشكايته، والإمام العدل يا أمير المؤمنين وصيّ اليتامى، وخازن المساكين يربي صغيرهم، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كقلب بين الجوانح، تصلح الجوانح بصلاحه، وتفسد بفساده والإمام العدل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويُسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم وينقاد إلى الله ويقودهم، فلا تكن يا أمير المؤمنين، فيما ملَّكك الله كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله، فبدَّد، وشرَّد العيال، فأفقر أهله وفرَّق ماله5369.
أ ـ سياسته في رد المظالم:(3/158)
ـ…أمير المؤمنين يبدأ بنفسه: تنفيذاً لما أراده عمر من رد المظالم مهما كان صغيراً أو كبيراً بدأ بنفسه، روى ابن سعد: أنه لما رد عمر بن عبد العزيز المظالم قال: إنه لينبغي أن لا أبدأ بأول من نفسي5370. وهذا الفعل جعله قدوة للآخرين، فنظر إلى ما في يديه من أرض، أو متاع، فخرج منه حتى نظر إلى فص خاتم. فقال: هذا مما كان الوليد بن عبد الملك أعطانيه مما جاءه من أرض المغرب فخرج منه5371. وكان ذلك لإصراره على قطع كل شك بيقين، وحتى يطمئن إلى أن ما في يده لا شبهة فيه لظلم أو مظلمة حتى ولو كان ورثه، خصوصاً وأن القصص والحكايات كانت كثيرة يتناقلها الناس عن مظالم ارتكبت على عهد خلفاء بني أمية، وعمالهم وقد بلغ به حرصه على التثبت أنه نزع حلي سيفه من الفضة، وحلاه بالحديد، قال عبد العزيز بن عمر: كان سيف أبي محلى بفضة فنزعها وحلاه حديداً5372، وكان خروجه مما بيده من أرض أو متاع بعدة طرق كالبيع، ذلك أنه حين استخلف نظر إلى مكان له من عبد، وإلى لباسه وعطره وأشياء من الفضول، فباع كل ما كان به عنه غني، فبلغ ثلاثة وعشرين ألف دينار، فجعله في السبيل5373. أو عن طريق ردها إلى أصحابها الأصليين، وهذا ما فعله بالنسبة للقطائع التي أقطعه إياها قومه، يروي ابن الجوزي عن إسماعيل بن أبي حكيم أنه قال: كنا عند عمر بن عبد العزيز حتى تفرق الناس ودخل إلى أهله للقائلة فإذا منادٍ ينادي: الصلاة جامعة. قال: ففزعنا فزعاً شديداً مخافة أن يكون قد جاء فتق من وجه من الوجوه أو حدث. قال جويرية: وإنما كان أنه دعا مزاحماً فقال يا مزاحم، إن هؤلاء القوم قد أعطونا عطايا والله ما كان لهم أن يعطوناها، وما كان لنا أن نقبلها، وإن ذلك قد صار إلي ليس علي فيه دون الله محاسب. فقال له مزاحم: يا أمير المؤمنين، هل تدري كم ولدك؟ هم كذا وكذا، قال: فذرفت عيناه، فجعل يستدمع ويقول: أكِلهم إلى الله؟ قال: ثم انطلق مزاحم من وجهه ذلك حتى استأذن على عبد الملك،(3/159)
فأذن له ـ وقد اضطجع للقائه ـ فقال له عبد الملك: ما جاء بك يا مزاحم هذه الساعة؟ هل حدث حدث؟ قال: نعم أشد الحدث عليك وعلى بني أبيك. قال: وما ذاك؟ قال: دعاني أمير المؤمنين ـ فذكر له ما قاله عمر ـ فقال عبد الملك: فما قلت له؟ قال: قلت له يا أمير المؤمنين، تدري كم ولدك؟ هم كذا وكذا قال: فما قال لك؟ قال: جعل يستدمع ويقول أكِلهم إلى الله تعالى. قال عبد الملك بنس وزير الدين أنت يا مزاحم. ثم وثب فانطلق إلى باب أبيه عمر، فاستأذن عليه، فقال له الآذن: أما ترحمونه ليس له من الليل والنهار إلا هذه الوقعة؟ قال عبد الملك: استأذن لي، لا أم لك. فسمع عمر الكلام، فقال من هذا؟ قال: هذا عبد الملك. قال: ائذن له. فدخل عليه ـ وقد اضطجع عمر للقائلةـ فقال: ما حاجتك يا بني هذه الساعة؟ قال: حديث حدثنيه مزاحم. قال: فأين وقع رأيك من ذلك؟ قال: وقع رأيي على إنفاذه. قال: فرفع عمر يديه. ثم قال: الحمد لله الذي جعل لي من ذريتي من يعينني على أمر ديني. نعم يا بني أصلي الظهر، ثم أصعد المنبر فأردها علانية على رؤوس الناس. فقال عبد الملك: يا أمير المؤمنين، ومن لك إن بقيت إلى الظهر أن تسلم لك نيتك إلى الظهر. قال عمر: قد تفرق الناس ورجعوا للقائلة، فقال عبد الملك: تأمر مناديك ينادي: الصلاة جامعة، فيجتمع الناس. فنادى المنادي: الصلاة جامعة. قال: فخرجت فأتيت المسجد فجاء عمر فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن هؤلاء القوم قد كانوا أعطونا عطايا، والله ما كان لهم أن يعطوناها وما كان لنا أن نقبلها. وإن ذلك قد صار إلي ليس علي فيه دون الله محاسب، ألا وإني قد رددتها، وبدأت بنفسي وأهل بيتي: إقرأ يا مزاحم، قال ـ وقد جيء بسفط قبل ذلك، أو قال جرنة ـ فيها تلك الكتب. قال: فقرأ مزاحم كتاباً منها، فلما فرغ من قراءته ناوله عمر ـ وهو قاعد على المنبر وفي يده جلم ـ قال: فجعل يقصه بالجلم. واستأنف مزاحم كتاباً آخر فجعل يقرؤه،(3/160)
فلما فرغ منه دفعه إلى عمر فقصه ثم استأنف كتاباً آخر فما زال حتى نودي بصلاة الظهر5374ومن بين مارده عمر مما كان في يده من القطائع جبل الورس باليمن وقطائع باليمامة5375، إلى جانب فدك وخيبر5376، والسويداء، فخرج منها جميعاً إلا السويداء، فقد قال عمر فيها: ما من شيء إلا وقد رددته في مال المسلمين إلا العين التي بالسويداء فإني عمدت إلى أرض براح ليس فيها لأحد من المسلمين ضربة سوط، فعملتها من صلب عطائي الذي يجمع لي مع جماعة المسلمين وقد جاءت غلتها مائتا دينار5377. وأما قرية فدك ـ التي تقع شمال المدينة ـ فقد كانت تغل في السنة عشرة آلاف دينار تقريباً، فلما ولي عمر الخلافة سأل عنها وفحصها، فأخبر بما كان من أمرها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ...فكتب ـ بناء على ذلك ـ إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم كتاباً قال فيه: أما بعد فإني نظرت في أمر فدك وفحصت عنه، فإذا هو لا يصلح لي، ورأيت أن أردها على ما كنت عليه في عهد رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان، وأترك ما حدث بعدهم، فإذا جاءك كتابي هذا فاقبضها وولها رجلاً يقوم فيها بالحق والسلام5378. وأما الكتيبة فهي حصن من حصون خيبر، وعندما تولى عمر بن عبد العزيز كتب على عامله على المدينة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم يقول: إفحص لي عن الكتيبة، أكانت من خمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، من خيبر أم كانت لرسول الله خاصة؟ قال أبو بكر: فسألت عمرة بنت عبد الرحمن فقالت: إن رسول الله لما صالح بني أبي الحقيق جزأ النطاة والشق خمسة أجزاء فكانت للكتيبة جزءاً منها، وأعادها عمر بن عبد العزيز إلى ما كانت إليه في عهد رسول الله5379، كما أرجع عمر للرجل المصري الذي أرضه بحلوان بعد أن عرف أن والده عبد العزيز قد ظلم المصري فيها، وحتى الدار التي كان والده عبد العزيز بن مروان قد اشترها من الربيع بن خارجه الذي كان يتيماً في حجره، ردها عليه، لعلمه أنه(3/161)
لا يجوز إشتراء الولي ممن يلي أمره، ثم التفت إلى المال الذي كان يأتيه من جبل الورس باليمن، فرده إلى بيت مال المسلمين رغم شدة حاجة أهله إلى هذا المال، لكنه كان يؤثر الحياة الآخرة على الحياة الدنيا، كما أمر عمر بن عبد العزيز مولاه مزاحماً برد المال الذي كان يأتيه من البحرين كل عام إلى مال الله5380. وهكذا بدأ عمر بنفسه يضرب المثل ويكون الأسوة أمام رعيته حين رد من أملاكه كل ما شابته شائبة الظلم، أو الشك في خلاص حقه فيه، فرد كل ذلك إلى أصحابه، إنطلاقاً من تمسكه بالزهد، وإيمانه برد المظالم إلى أصحابها تقوى الله، ووضعاً للحق في نصابه، بعد أن انتهى من رد كل مال شك بأنه ليس له فيه حق اتجه إلى زوجته فاطمة بنت عبد الملك ـ وكان لها جوهر ـ فقال لها عمر: من أين صار هذا المال إليك؟ قالت: أعطانيه أمير المؤمنين، قال: إما أن ترديه إلى بيت المال وإما أن تأذني لي في فراقك، فإني أكره أن أكون أنا وأنت وهو في بيت5381، وقد أوضح عمر لها سبب كرهه له بقوله: قد علمت حال هذا الجوهر وما صنع فيه أبوك، ومن أصابه، فهل لك أن أجعله في تابوت ثم أطبع عليه وأجلعه في أقصى بيت مال المسلمين وأنفق ما دونه، وإن خلصت إليه أنفقته، وإن مت قبل ذلك فلعمري ليردنه إليك. قالت له: أفعل ما شئت وفعل ذلك: فمات ـ رحمه الله ـ ولم يصل إليه، فرد ذلك عليها أخوها يزيد بن عبد الملك فامتنعت من أخذه، وقالت: ما كنت لأتركه ثم آخذه، وقسمه يزيد بين نسائه ونساء بنيه5382.(3/162)
ـ…رد مظالم بني أمية: وإذا كان عمر قد بدأ بنفسه في رد المظالم فقد ثنى في ذلك بأهل بيته وبني عمومته وبإخوته من أفراد البيت الأموي، وفور فراغه من دفن بن عمه سليمان بن عبد الملك، فقد رأى ما أذهله وهو أن أبناء عمه من الأمويين أدخلوا الكثير من مظاهر السلطان التي لم تكن موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أو خلفائه الراشدين، فأنفقوا الكثير من المال من أجل الظهور بمظاهر العظمة والأبهة أمام رعيتهم ومن تلك المظاهر المراكب الخلافية التي تتألف من براذين وخيول وبغال، ولكل دابة سائس، ومنها أيضاً تلك السرادقات والحجرات والفرش والوطاءات التي تعد من أجل الخليفة الجديد وفوجيء بتلك الثياب الجديدة وقارورات العطر والدهن التي أصبحت له بحجة أن الخليفة الراحل لم يصبها فهي من حقه بصفته الخليفة الجديد، وهذا كله إسراف وتبذير لا مبرر له يتحمله بيت مال المسلمين، وهو بأمس الحاجة لكل درهم فيه لينفق في وجهه الصحيح الذي بينه الله ورسوله، وهنا أمر مولاه مزاحماً فور تقديم هذه الزينة له ببيعها، وضم ثمنها إلى بيت مال المسلمين5383. ولقد كانت لعمر بن عبد العزيز سياسة محددة في رد المظالم من أفراد البيت الأموي تكون لديه خطوطها فور تسلمه زمام الخلافة، حين وفد عليه أفراد البيت الأموي عقب انصرافه من دفن سليمان يسألونه ما عودهم الخلفاء الأمويون من قبله، وحين أراد عبد الملك أن يرد أفراد البيت الأموي عن أبيه كشف له أبوه عن سياسته تلك حين قال له: وما تبلغهم؟ قال: أقول أبي يقرئكم السلام ويقول لكم: ((قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ))(الزمر ، الآية : 13) . ثم أوضحها له مرة أخرى حين جاءه يطالبه بالإسراع باستخلاص ما بأيدي الأمويين من مظالم، فقال: يا بني، إن قومك قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة، وعروة عروة، ومتى ما أريد مكايدتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا عليّ فتقاً تكثر فيه(3/163)
الدماء والله لزوال الدنيا أهون علي من أن يهراق في سببي محجمة من دم أو ما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة ويحي فيه سنة حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الحاكمين5384؟ ثم زاد في توضيح سياسته تلك حينما قال له ولده عبد الملك: ما يمنعك أن تمضي الذي تريد؟ فوالذي نفسي بيده ما أبالي لو غلت بك وبي القدور، قال وحق هذا منك، قال: نعم والله قال عمر: الحمد لله الذي جعل من ذريتي من يعينني على أمر ديني إني لو باهت الناس بالذي تقول لم آمن أن ينكروها، فإذا أنكروها لم أجد بداً من السيف ولا خير في خير لا يجيء إلا بالسيف، يا بني، إني أروض الناس رياضة الصعبة، فإن بطأ بي عمر أرجو أن ينفذ الله مشيئتي وأن تعدو منيتي فقد علم الله الذي أريده5385. وهكذا يتبع عمر أسلوب الحكمة والحسنى في تنفيذ سياسته وتطبيقاً لهذه السياسة فإنه قد مهد لهذه الخطوة الحاسمة، والخطيرة بخطوات تسبقها خروجه هو أولاً مما بيده من مظالم وردها إلى أصحابها، أو بيت المال، ثم إتجه إلى أبناء البيت الأموي فجمعهم وطلب إليهم أن يخرجوا مما بأيدهم من أموال وإقطاعات أخذوها بغير حق5386. وشهدت الأيام الأولى من خلافة عمر تجريداً واسع النطاق لكثير من أموال وأملاك بني أمية، ظلت تنمو في الماضي وتتضخم لكونهم العائلة الحاكمة ليس إلا.. وها هي الآن ترد إلى بيت مال المسلمين لكي يأخذ العدل مجراه، وتعود أموال المسلمين إلى المسلمين، لا يستأثر بها أحد دون أحد، ولا حزب دون حزب.. أموال وأملاك من شتى الصنوف والأنواع، جمعت بمختلف الطرق وسائر الأساليب جرد عمر بني أمية منها ومزق مستنداتها واحدة واحدة، وردها إلى مكانها الصحيح: مظالم وجوائز وهدايا ومخصصات استثنائية وضياع وقطاع، جمعت كلها على شكل ممتلكات ثابتة ونقود سائلة بلغت في تقدير عمر شطراً كبيراً من أموال الأمة جاوزت النصف5387، ولا تمضي سوى أيام معدودات حتى يجد(3/164)
بنو أمية أنفسهم مجردين إلا من حقهم الطبيعي المشروع، فيضجون ضد سياسة عمر هذه ويعلنون معارضتهم الصارمة لها، فماذا يكون جواب عمر. أنظروا: والله لوددت أن ألا تبقى في الأرض مظلمة إلا ورددتها على شرط ألا أرد مظلمة إلا سقط لها عضو من أعضائي أجد ألمه ثم يعود كما كان حياً، فإذا لم يبق مظلمة إلا رددتها سألت نفسي عندها5388، ولكن بني أمية لم ييأسوا من هذا الحزم والعزم إزاء حقوق الأمة، وهم الذين ما خطر ببالهم يوماً أن يجردوا هذا التجريد فاجتمعوا وطلبوا من أحد أولاد الوليد وكان كبيرهم ونصيحهم، أن يكتب إلى عمر، فكتب إليه: أما بعد فإنك أنسيت ممن كان قبلك من الخلفاء وسرت بغير سيرتهم وسميتها المظالم نقصاً لهم لأعمالهم، وشاتماً لمن كان بعدهم من أولادهم ولم يكن ذلك لك، فقطعت ما أمر الله أن يوصل، وعملت بغير الحق في قرابتك وعمدت إلى أموال قريش ومواريثهم وحقوقهم فأدخلتهم بيت مالك ظلماً وجوراً وعدواناً فاتق الله يا ابن عبد العزيز وارجعه، فإنك قد أوشكت لم تطمئن على منبرك إن خصصت ذوي قربتك بالقطيعة والظلم، فوالله الذي خص محمد صلى اله عليه وسلم بما خصه من الكرامة لقد ازدادت من الله بعداً في ولايتك هذه التي تزعم أنها بلاء عليك، وهي كذلك، فاقتصد في بعض ميلك وتحاشيك5389، ويظهر في هذا الكتاب مآخذ الأمويين على سياسة عمر وهي:
ـ…خالف سيرة من قبله من الخلفاء وأزرى بهم وعاب أعمالهم.
ـ…أساء إلى أولاد من قبله من الخلفاء.
ـ…لم يكن عمله منسجماً مع الحق.
ـ…إن قطيعة أهل بيته يهدد مكانه من الخلافة.(3/165)
…ولا ريب أن سياسة عمر بن عبد العزيز تهدد مكانة الأسرة الأموية وتضعف مراكز قوتها، وقد تؤدي إلى دفعها لإتخاذ مواقف مهددة للخليفة القائم، وفي هذا خطر كبير عليه وعلى الخلافة5390، وكان رد عمر حمم من نار الحق تتفجر في كل كلمة فيها:.. ويلك وويل أبيك ما أكثر طلابكما وخصمائكما يوم القيامة... رويدك فإنه لو طالت بي حياة ورد الله الحق إلى أهله، تفرغت لك ولأهل بيتك، فأقمت على المحجة البيضاء، فطالما تركتم الحق وراءكم5391..
ـ…بنو أمية يلجأون إلى أسلوب الحوار الهادي :
…وما أن يأس بنو أمية من صمود عمر إزاء معارضتهم الجماعية الشديدة هذه، لجأوا إلى أسلوب الحوار الهادي، علهم يصلون عن طريقه إلى ما يشتهون فيتكلمون معه يوماً مستشيرين فيه نزعة القربى وعاطفة الرحم، فيجيبهم: أن يتسع مالي لكم، وأما هذا المال ـ أي المال العام ـ فحقكم فيه كحق أي رجل من المسلمين. والله أني لا أرى أن الأمور لو استحالت حتى يصبح أهل الأرض يرون مثل رأيكم لنزلت بهم بائقة من عذاب الله5392ودخل عليه هشام بن عبد الملك يوماً فقال: يا أمير المؤمنين إني رسول قومك إليك، وإن في أنفسهم ما جئت لأعلمك به أنهم يقولون: إستأنف العمل برأيك فيما تحت يدك وخل بين من سبقك وبين ما ولوا بما عليهم ولهم، وببديهة يجيب عمر: أرأيت أن أتيت بسجلين أحدهما من معاوية والآخر من عبد الملك فبأي السجلين آخذ؟ قال هشام: بالأقدم. فأجب عمر: فإني وجدت كتاب الله الأقدم، فأنا حامل عليه من أتاني ممن تحت يدي وفيما سبقني5393.
ـ …بنو أمية يرسلون عمة عمر بن عبد العزيز:(3/166)
…فعندما عجز الرجال من بني أمية عن جعل عمر يخاف أو يلين عن سياسته إزاءهم، لجأوا إلى عمته فاطمة بنت مروان، وكانت عمته هذه لا تحجب عن الخلفاء ولا يرد لها طلب أو حاجة، وكانوا يكرمونها ويعظمونها، وكذلك كان عمر يفعل معها قبل استخلافه، فلما دخلت عليه عظمها وأكرمها كعادته وألقى لها وسادة لتجلس عليها. فقالت: إن قرابتك يشكونك ويذكرونك أنك أخذت منهم خير غيرك قال: ما منعتهم حقاً أو شيئاً كان لهم، ولا أخذت منهم حقاً أو شيئاً كان لهم فقالت: إني رأيتهم يتكلمون، وإني أخاف أن يهيجوا عليك يوماً عصيباً. فقال: كل يوم أخافه دون يوم القيامة فلا وقاني الله شره. قال: فدعا بدينار، وجنب، ومجمرة، فألقى ذلك الدينار بالنار، وجعل ينفح على الدينار إذا احمر تناوله بشيء، فألقاه على الجمر فنشى وقتر فقال: أي عمه أما ترثين لابن أخيك من هذا5394؟ وتؤخذ العمة بهذا المشهد المؤثر، وتلتفت إلى عمر طالبة منه أن يستمر في الكلام واسمعوه يقول وكأنه يرسم لوحة فنية رائعة للعدالة الاجتماعية التي جاء بها الإسلام لكي يجعلها تفجر الخير والنعيم على الجميع قال: إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة ولم يبعثه عذاباً إلى الناس كافة، ثم اختار له ما عنده وترك للناس نهراً شربهم فيه سواء ثم ولي أبو بكر وترك النهر على حاله، ثم ولي عمر فعمل عملهما، ثم يزل النهر يستقي منه يزيد ومروان وعبد الملك وابنه الوليد وسليمان أبناء عبد الملك حتى أفضى الأمر إلي وقد يبس النهر الأعظم فلم يرو أصحابه حتى يعود إلى ما كان عليه فقالت: حسبك، قد أردت كلامك فأما إذا كانت مقالتك هذه فلا أذكر شيئاً أبداً. فرجعت إليهم فأخبرتهم كلامه5395 وجاء في رواية: إنها قالت لهم:.. أنتم فعلتم هذا بأنفسكم، تزوجتم بأولاد عمر بن الخطاب فجاء يشبه جده: فسكتوا5396
ـ…تلاشي المعارضة الجماعية لابني أمية:(3/167)
…وسرعان ما تلاشت السمة الجماعية لمعارضة بني أمية بعد ما رأوا من جد عمر إزاء أموال الأمة وقالوا: ليس بعد هذا شيء5397. ومن ثم أخذ كل منهم يسعى على إنفراد ليسترد ما يستطيع استرداده من الأموال، ولكن عمر الذي وقف تجاه رغباتهم مجتمعين، أحرى به الآن أن يتصدى لكل واحد منهم على انفراد ويعلمه أنّ حق الأمة لا يمكن أن يكون موضع مساومة في يوم من الأيام5398.
أ ـ رد الحقوق لأصحابها: لم يقف عمر عند حد استرداد الأموال من بني أمية وردها إلى بيت المال، بل يخطو خطوة أخرى ويعلن لأبناء الأمة الإسلامية أن كل من له حق على أمير أو جماعة من بني أمية أو لحقته منهم مظلمة، فليتقدم بالبينة لكي يرد عليه حقه.. وتقدم عدد من الناس بظلامتهم وبيّناتهم وراح عمر يردها واحدة بعد الأخرى: أراضٍ ومزارع وأموال وممتلكات5399، ومرة بعث إليه واليه على البصرة برجل اغتصب أرضه فرد عمر هذه الأرض إليه ثم قال له: كم أنفقت في مجيئك إلي؟ قال: يا أمير المؤمنين تسألني عن نفقتي وأنت قد رددت علي أرضي وهي خير من مائة ألف؟ فأجابه عمر: إنما رددت عليك حقك، ثم ما لبث أن أمر له بستين درهماً كتعويض له عن نفقات سفره5400، وقد قال ابن موسى: ما زال عمر بن عبد العزيز يردّ المظالم منذ يوم استخلف إلى يوم مات5401، وذات يوم قدم عليه نفر من المسلمين وخاصموا روح بن الوليد بن عبد الملك في حوانيت5402، قد قامت لهم البينة عليه، فأمر عمر روحاً برد الحوانيت إليهم، ولم يلتفت لسجل الوليد، فقام روح فتوعدهم، فردع رجل منهم وأخبر عمر بذلك، فأمر عمر صاحب حرسه أن يتبع روحاً فإن لم يرد الحوانيت إلى اصحابها فليضرب عنقه، فخاف روح على نفسه وردّ إليهم حوانيتهم5403 ، وردّ عمر أرضاً كان قوم من الأعراب أحيوها، ثم انتزعها منهم الوليد بن عبد الملك فأعطاها بعض أهله، فقال عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:.. من أحيا أرضاً ميتة فهي له5404، ولقد أحبّ آل البيت وأعاد إليهم(3/168)
حقوقهم وقال مرة لفاطمة بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما: يا بنت علي والله ما على ظهر الأرض أهل بيت أحبّ إليَّ منكم ولأنتم أحب إليَّ من أهل بيتي5405
ب ـ عزله جميع الولاة والحكام الظالمين:
…لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة عمد إلى جميع الولاة والحكام المسؤولين الظالمين فعزلهم عن مناصبهم، ومنهم خالد بن الريان وصاحب حرس سليمان بن عبد الملك الذي كان يضرب كل عنق أمره سليمان بضربها، وعين محله عمرو بن مهاجر الأنصاري فقال عمر بن عبد العزيز: يا خالد ضع هذا السيف عنك، اللهم، إني قد وضعت لك خالد بن الريان اللهم لا ترفعه أبداً، ثم قال لعمرو بن مهاجر: والله؟ إنك لتعلم يا عمرو، إنه ما بيني وبينك قرابة إلا قربة الإسلام ولكني سمعتك تكثر تلاوة القرآن، ورأيتك تصلي في موضع تظن ألا يراك أحد، فرأيتك حسن الصلاة خذ هذا السيف قد وليتك حرسي5406. وهكذا يعزل عمر الظالمين وهذا أسلوبه في اختيار الولاة والقضاة والكتاب وغيرهم، إنه يبحث عن أصلح الناس ديناً وأمانة، ولما انتقد أحد ولاته الذين اختارهم نكت بين عينيه بالخيزرانة في سجدته وقال: هذه غرتني منك. يريد سجدته أي أثر السجود في وجهه، فهذه علامة من علامات صلاح الرجل وهي دليل على كثرة السجود، ومن أجل ذلك اختاره عمر بن عبد العزيز، وعمر لا يكتفي بمظهر الرجل ولكنه يختبره أيضاً، قد رأى رجلاً كثير الصلاة، وأراد أن يمتحنه ليوليه، فأرسل إليه رجلاً من خاصته فقال: يا فلان إنك تعلم مقامي عند أمير المؤمنين فمالي لو جعلته يوليك على أحد البلدان؟ فقال الرجل: لك عطاء سنة، فرجع الرجل إلى عمر وأخبره بما كان من هذا الرجل، فتركه لأنه سقط في الاختبار5407ن وكان من ضمن من عزلهم عمر بن عبد العزيز: أسامة بن زيد التنوخي وكان على خراج مصر، لأنه كان غاشماً ظلوماً يعتدي في العقوبات بغير ما أنزل الله عز وجل، يقطع الأيدي في خلاف ـ دون تحقق شروط القطع ـ فأمر به عمر بن عبد العزيز أن(3/169)
يحبس في كل جُنُد5408 سنة ويقيد ويحل عنه القيد عند كل صلاة ثم يرد في القيد، فحبس بمصر سنة، ثم فلسطين سنة ثم مات عمر وولي يزيد بن عبد الملك الخلافة فردّ أسامة على مصر في عمله5409، وكتب عمر بن عبد العزيز بعزل يزيد بن أبي مسلم عن إفريقية وكان عامل سوء يظهر التأله والنفاد لمل ما أمر به السلطان مما جل أو صغر من السيرة بالجور، والمخالفة للحق، وكان في هذا يكثر التسبيح والذكر ويأمر بالقوم فيكونون بين يديه يعذبون وهو يقول: سبحان الله والحمد لله شد يا غلام موضع كذا وكذا، لبعض مواضع العذاب وهو يقول: لا إله إلا الله والله أكبر، شد يا غلام شد موضع كذا وكذا، فكانت حالته تلك شر الحالات، فكتب عمر بعزله5410، وهكذا استمر عمر في عزل الولاة الظلمة وتعيين الصالحين وسيأتي الحديث عن فقه عمر في تعامله مع الولاة في محله بإذن الله تعالى.
ج ـ …رفع المظالم عن الموالي:(3/170)
…تعرض الموالي قبل عمر بن عبد العزيز للمظالم فقد فرضت الجزية على من أسلم منهم، كما منعوا من الهجرة مثلما حدث للموالي في العراق ومصر وخراسان وفي عهد عبد الملك أوقع الحجّاج بالموالي ظلم عظيم، فقد عمل على إبقاء الجزية على من أسلم منهم، وحرمهم من الهجرة من قراهم وهذا ما دفعهم للاشتراك في ثورة ابن الأشعث ضد الحجّاج، كما وقع الظلم على الموالي في مصر وخراسان، فلما تولى عمر بن عبد العزيز أزال تلك المظالم التي لحقت بهؤلاء الموالي وكتب إلى عماله يقول".. فمن أسلم من نصراني أو يهودي أو مجوسي من أهل الجزيرة اليوم فخالط المسلمين في دارهم، وفارق داره التي كان بها فإن له للمسلمين وعليه ما عليهم، وعليهم أن يخالطوه وأن يواسوه غير أرضه وداره إنما هي من فيء الله على المسلمين عامة، ولو كانوا أسلموا عليها قبل أن يفتح الله للسملمين كانت لهم، ولكنها فيء الله على المسلمين عامة5411، وكتب إلى عامله على مصر حيان بن شريح ـ يقول: وأن تضع الجزية عمن أسلم من أهل الذمة فإن الله تبارك وتعالى قال: ((فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) (التوبة ، الآية : 5) وقال: ((قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)) (التوبة ، الآية : 29). إلا إن هذا العامل أرسل إلى عمر يقول: أما بعد، فإن الإسلام قد أضر بالجزية حتى سلفت من الحارث بن نابتة عشرون ألف دينار أتممتها عطاء أهل الديوان، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بقضائها فعل5412. وجاء رد عمر:أما بعد ، فقد بلغني كتابك وقد وليتك جند مصر وأنا عارف بضعفك، وقد أمرت رسولي يضربك على رأسك عشرين سوطاً، فضع(3/171)
الجزية عن من أسلم ـ قبح الله رأيك ـ فإن الله إنما بعث محمداً صلى الله عليه وسلم هادياً ولم يبعثه جابياً، ولعمري ولعمر أشقى من أن يدخل الناس كلهم الإسلام على دينه5413 . وفي رواية ابن سعد: أما بعد، فإن الله بعث محمداً داعياً ولم يبعثه جابياً، فإذا أتاك كتابي هذا فإن كان أهل الذمة أسرعوا في الإسلام وكسروا الجزية فاطو كتابك وأقبل5414. ولم يكن عامل عمر على مصر هو الوحيد الذي طلب من عمر السماح له في أخذ الجزية ممن أسلم، فها هو عامله على الكوفة ـ عبد الحميد بن عبد الرحمن ـ يسأله أخذ الجزية المتراكمة على اليهود والنصارى والمجوس الذين أسلموا، فجاءه رد عمر الواضح أيضاً يقول: كتبت إلي تسألني عن أناس من أهل الحيرة يسلمون من اليهود والنصارى والمجوس وعليهم جزية عظيمة، وتستأذنني في أخذ الجزية منهم، وإن الله جل ثناؤه بعث محمداً صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الإسلام ولم يبعثه جابياً، فمن أسلم من أهل تلك الملل فعليه في ماله الصدقة ولا جزية عليه، وميراثه ذوي رحمه إذا كان منهم يتوارثون أهل الإسلام، وإن لم يكن له وارث فميراثه في بيت مال المسلمين الذي يقسم بين المسلمين، وما أحدث من حدث ففي مال الله الذي يقسم بين المسلمين يعقل عنه منه والسلام5415. كما كتب إليه عامله على البصرة ـ عدي بن أرطأة ـ يقول: أما بعد، فإن الناس كثروا في الإسلام وخفت أن يقل الخراج. فكتب إليه عمر: فهمت كتابك، والله لوددت أن الناس كلهم أسلموا حتى نكون أنا وأنت حراثين نأكل من كسب أيدينا5416. هذا إلى جانب إبطاله لمظلمة المنع من الهجرة التي أوقعها الحجّاج بالموالي في العراق، وهكذا أبطل عمر تلك المظالم التي أصابت الموالي، فترتب على ذلك أن أعاد إليهم حقوقهم المسلوبة والهدوء والطمأنينة إلى نفوسهم، وباتوا ينعمون بالمساواة والعدل مع غيرهم من أبناء الأمة الإسلامية5417.
ح ـ رفع المظالم عن أهل الذمة:(3/172)
…زاد عبد الملك في عهده الجزية على أهل قبرص وكان معاوية بن أبي سفيان غزا قبرص بنفسه وصالحهم صلحاً دائماً على سبعة آلاف دينار وعلى النصيحة للمسلمين، وإنذارهم عدوهم من الروم ولم يزل أهل قبرص على صلح معاوية حتى ولي عبد الملك بن مروان، فزاد عليهم ألف دينار، فجرى ذلك إلى عهد عمر بن عبد العزيز فحطها عنهم5418، كما أصابت الزيادة فيما يجبى من جزية أهل الذمة في العراق وقد وضعها عنهم عمر بن عبد العزيز كسياسة عامة التزم بها في أن يرفع المظالم عن أهل الذمة حتى يدعهم ينعمون بحياتهم في ظل الشرائع الإسلامية السمحة ويؤيد ذلك ما جاء في كتابه إلى عامله على البصرة ـ عدي بن أرطأة: أما بعد، فإن الله سبحانه إنما أمر أن تؤخذ الجزية ممن رغب عن الإسلام واختار الكفر عتيا5419، وخسراناً مبيناً، فضع الجزية على من أطاق حملها، وخل بينهم وبين عمارة الأرض، فإن في ذلك صلاحاً لمعاش المسلمين، وقوة على عدوهم، وانظر من قبلك من أهل الذمة ممن قد كبرت سنه، وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه. فلو أن رجلاً من المسلمين كان له مملوك كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب كان من الحق عليه أن يقوته حتى يفرق بينهما موت أو عتق، وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس فقال: ما أنصفناك، إن كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك ثم ضيعناك في كبرك. قال: ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه5420، كما بلغت سياسة عمر بن عبد العزيز في وضع المظالم عن الناس ومساعدتهم أيضاً حين كتب إلى عامله على الكوفة يقول: انظر من كانت عليه جزية فضعف عن أرضه فأسلفه ما يقوي به على عمل أرضه، فإنا لا نريدهم لعام ولا لعامين5421، وقد أمر عمر ولاته بالأخذ بالرحمة والرأفة بالناس، فقد منع تعذيب أهل البصرة وغيرهم لاستخراج الخراج منهم، وعندما أرسل إليه عامله على البصرة عدي بن أرطأة يقول: إن أناساً(3/173)
قبلنا لا يؤدون ما عليهم من الخراج حتى يمسهم شيء من العذاب فكتب إليه عمر: أما بعد، فالعجب كل العجب من استئذانك إياي في عذاب البشر كأني جنة لك من عذاب الله، وكأن رضاي ينجيك من سخط الله، وإذا أتاك كتابي هذا فمن أعطاك فاقبله عفواً وإلا فأحلفه، فوالله لأن يلقوا الله بخياناتهم أحب إلى من أن ألقاه بعذابهم. والسلام5422. ومما أصاب أهل الذمة من المظالم قبل عهد عمر بن عبد العزيز سبى بنات ونساء من لواتة بشمال أفريقية ولكن عمر رد هذه المظلمة يذكر أبو عبيد: أن عمر بن عبد العزيز كتب في اللواتيات: من أرسل منهن شيئاً فليس من ثمنها شيء وهو ثمن مرجها الذي استحلها به ـ أو كلمة تشبه الثمن ـ قال: ومن كانت عنده امرأة منهن فليخطبها إلى أبيها، وإلا فليردها إلى أهلها قال أبو عبيد: قوله اللواتيات هن من لواتة: فرقة من البربر، يقال لهم لواتة أراه قد كان لهن عهد، وهم الذين كان ابن شهاب يحدث: أن عثمان أخذ الجزية من البربر، ثم أحدثوا بعد ذلك فسبوا. فكتب عمر بن عبد العزيز بما كتب به5423، كما أرجع عمر بن عبد العزيز إلى أهل الذمة كل أرض أو كنيسة أو بيت اغتصب منهم5424، ومما رفعه عمر عن أهل الذمة من المظالم السخرة التي على أساس أنه يحل للمسلمين أن يسخروا أهل الذمة لمصالحهم الشخصية طالما أن هذا غير موجود في صلحهم5425. فكتب إلى عماله يقول:... ونرى أن توضع السخر عن أهل الأرض، فإن غايتها أمر يدخل فيه الظلم5426، وهكذا رد عمر بن عبد العزيز ما اصاب أهل الذمة من مظالم، فترتب على ذلك أن أعاد السكينة، والطمأنينة والهدوء إليهم، وأوضح لهم، إن بإمكانهم أن يعيشوا في ظل الإسلام آمنين مطمئنين تشملهم سماحة الدين ويظلهم عدله، وتستقيم أمورهم وشؤونهم في كنفه، لا يضارون ولا يستضعفون ولا يستعبدون لهم حقوقهم المعلومة وعليهم واجباتهم المحددة ضمنها لهم الشارع الحكيم، وما تأسس من أحكام كتاب الله وسنة رسوله الكريم5427.(3/174)
س ـ إقامة العدل لأهل سمرقند:
…لما وصل خبر تولية عمر بن عبد العزيز الخلافة إلى سكان ما وراء النهر، اجتمع أهل سمرقند وقالوا لسليمان بن أبي السرّي: إن قتيبة غدر بنا، وظلمنا وأخذ بلادنا، وقد أظهر الله العدل والانصاف، فإذن لنا فليفذ منا وفد إلى أمير المؤمنين، يشكو ظلامتنا، فإن كان لنا حق أعطيناه، فإن بنا إلى ذلك حاجة. فإذن لهم سليمان، فوجهوا منهم قوماً فقدموا على عمر، فكتب لهم عمر إلى سليمان بن السري: إن أهل سمرقند، قد شكوا إليَّ ظلماً أصابهم،، وتحاملاً من قتيبة عليهم أخرجهم من أرضهم فإذا أتاك كتابي، فأجلس لهم القاضي فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم فأخرجهم5428 إلى معسكرهم كما كانوا وكنتم قبل أن ظهر عليهم قتيبة. فأجلس سليمان جُمَيْعَ بن حاضر القاضي فقضى أن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم وينابذوهم على سواء فيكون صلحاً جديداً أو ظفراً عنوة، فقال أهل الصُّغد5429: بل نرضى بما كان ولا نجدِّد حرباً، وتراضوا بذلك، فقال أهل الرأي: قد خالطنا هؤلاء القوم وأقمنا معهم، وأمنونا وأمنّاهم، فإن حكم لنا عدْنا إلى الحرب ولا ندري لمن يكون الظفر، وإن لم يكن لنا اجتلبنا عداوة في المنازعة، فتركوا الأمر على ما كان ورضوا ولم ينازعوا5430. أية دولة في القرن العشرين تحني رأسها هكذا للعدل كي يأخذ مجراه وللحق كي يعود إلى أصحابه؟ وأي حاكم في تاريخ الشعوب التي لم تعرف الله، استجاب، هكذا، لنداءات المظلومين الذين سلبت حقوقهم، كهذه الاستجابة السريعة الحاسمة من عمر بن عبد العزيز؟ ألا أنه المسؤول الذي نذر نفسه للدفاع عن قيم الحق والعدل في أقطار الأرض، فبدونهما تفقد شريعة الله مقوماتها وأهدافها العليا5431. فهذا مثل رفيع من عدل عمر وإننا لنلاحظ في هذا الخبر عدة أمور:(3/175)
ـ…أن الناس يقبلون على التظلم والشكوى والمطالبة بالحقوق حينما يكون الحكام عادلين، لأنهم يعلمون أن دعواهم ستؤخذ مأخذ الجد وسينظر فيها بعدل، فهؤلاء المتظلمون قد سكتوا على ما هم فيه من الشعور بالظلم طيلة ولاية الوليد وسليمان، فلما رأوا عدل عمر بن عبد العزيز رفعوا قضيتهم.
ـ …أن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز لم يهمل قضيتهم وإنما أحالها إلى القضاء الشرعي، وهذا مثل من الخضوع للإسلام والتجرد من هوى النفس، وكان باستطاعته أن يعمل كما يعمل كثير من المسئولين، من إرسال خطابات الوعيد والتهديد والبحث عن رؤوس القوم وإجراء العقوبات المناسبة عليهم ولكنه قد نذر نفسه لرفع المظالم وإقرار العدالة، وذلك لا يكون إلا بحكم الشرع والتحاكم إليه.
ـ…أن أولئك القوم قد أسقط في أيديهم لما اطلعوا على كتاب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ورأى أهل الرأي منهم أنهم خاسرون في كلا الحالين، سواء حكم لهم أو عليهم، وأن مصلحتهم في بقائهم على ما هم عليه، وبهذا زال تظلمهم وشعروا بعدالة الحكم الإسلامي5432.
ش ـ الاكتفاء باليسير من البينات في رد المظالم:(3/176)
…نظراً لمعرفة عمر بن عبد العزيز بغشم الولاة قبله وظلمهم للناس حتى أصبحت المظالم كأنها شيء مألوف، فإنه لم يكلف المظلوم بتحقيق البينة القاطعة على مظلمته، وإنما يكتفي باليسير من البينة، فإذا عرف وجه مظلمة الرجل ردها إليه دون أن يكلفه تحقيق البيئة، فقد روى ابن عبد الحكم وقال: قال أبو الزناد: كان عمر بن عبد العزيز يرد المظالم إلى أهلها بغير البينة القاطعة، وكان يكتفي باليسير، إذ عرف وجه مظلمة الرجل ردها عليه، ولم يكلفه تحقيق البينة، لما يعرف من غشم الولاة قبله على الناس،ولقد أنقذ بيت مال العراق في رد المظالم حتى حُمل إليه من الشام5433. فما أحسن ما فعله عمر بن عبد العزيز وما أحسن التيسير على الناس قدر المستطاع لأن فيه اختصار للوقت وتوفيراً للجهود5434، كما أن هذا العمل نستنبط منه قاعدة هامة في التفريق بين أصول التحقيق في القضاء العادي وبين أصول التحقيق في القضاء الإداري، وضعها عمر بن عبد العزيز، فالبينة القاطعة قد تستحيل إقامتها، وجمع عناصرها، فإذا كان الظلم واضحاً، اكتفى قاضي المظالم بالبينة اليسيرة5435.(3/177)
ر ـ وضع المكس5436: لما كان المكس من الظلم والبخس، لأنه جباية أو ضريبة تؤخذ من الناس بغير وجه شرعي، ولما كانت الزكاة على المسلم والجزية والعشور والخراج على الذمي كافيه عما سواها، فقد نهى عمر عن المكس وشدد في ذلك ومنعه كما يأتي: عن محمد بن قيس قال: لما ولي عمر بن عبد العزيز وضع المكس عن كل أرض ووضع الجزيه عن كل مسلم5437وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة أن ضع عن الناس... والمكس ولعمري ما هو بالمكس ولكنه البخس الذي قال الله فيه: ((ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين)). فمن أدى زكاة ماله فاقبل منه ومن لم يأت فالله حسيبه5438، وكتب إلى عامله عبد الله بن عوف على فلسطين: أن: أركب إلى البيت يقال له: المكس، فاهدمه ثم أحمله إلى البحر فأنسفه في اليم نسفاً5439. نعلم مما سبق أن المكس دراهم تؤخذ من بائع السلع في الأسواق وأن ذلك يصدق على الجمارك التي تؤخذ على السلع عند استيرادها في هذا الزمان، وأن عمر بن عبد العزيز يرى أن ذلك من الظلم فمنعه5440. والحجة فيما فعله عمر بن عبد العزيز قول الله تعالى: ((وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)) (الشعراء ، الآية : 183) .
ز ـ …رد المظالم وإخراج زكاتها:(3/178)
…قرر عمر بن عبد العزيز رد المظالم التي في بيوت المال، وأخذ زكاتها لسنة واحدة5441، عن مالك بن أنس عن أيوب السختياني أن عمر بن عبد العزيز رد مظالم في بيوت الأموال فرد ما كان في بيت المال وأمر أن يزكي لما غاب عن أهله من السنين، ثم كتب بكتاب آخر: إني نظرت فإذا هو ضمار5442 لا يزكي إلا لسنة واحدة5443، وعن عمرو بن ميمون قال: أخذ الوالي في زمن عبد الملك مال رجل من أهل الرقة يقال له أبو عائشة عشرين ألفاً فأدخلت في بيت المال، فلما ولي عمر بن عبد العزيز أتاه ولده فرفعوا مظلمتهم إليه، فكتب إلي ميمون: أدفعوا إليهم أموالهم، وخذوا زكاة عامه هذا، فلولا أنه كان مالاً ضماراً أخذنا منه زكاة ما مضى5444.(3/179)
…هذا هو عمر بن عبد العزيز في دولته التي أقامها على العدل وكان رحمه الله يعلم ولاته أنه بالعدل تستقيم الحياة بكل شئونها فلما أرسل إليه بعض عماله يقول: أما بعد، فإن مدينتنا قد خربت، فإن يرى أمير المؤمنين أن يقطع لنا مالاً نرمّها به فعل. فكتب إليه عمر: أما بعد، فقد فهمت كتابك، وما ذكرت أن مدينتكم قد خربت، فإذا قرأت كتابي هذا فحصِّنها بالعدل، ونَقِّ طرقها من الظلم، فإنَّه مرمَّتها والسلام5445، وكتب إلى بعض عماله: إن قدرت أن تكون في العدل والإحسان والإصلاح كقدر من كان قبلكم في الجور والعدوان والظلم، فافعل ولا حول ولا قوة إلا بالله5446، وكتب إلى أبي بكر بن حزم: أن استبرئ الدواوين، فانظر إلى كل جور جاره من قبلي من حق مسلم أو معاهد فردَّه إليه، فإن كان أهل تلك المظلمة قد ماتوا فادفعه إلى ورثتهم5447. وكان رحمه الله يواجه في تنفيذ ما يريده من العدل مصاعب ومشقات ومقاومة، وعقبات، فكان ينفق بعض المال في سبيل تهدئة بعض النفوس، لإنفاذ الحق ونشر العدل، ورفع الظلم، دخل عليه ابنه عبد الملك ذات يوم، فقال: يا أبتِ ما يمنعك أن تمضي لما تريد من العدل؟ فوالله ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك؟ قال: يا بني، إنما أروِّض الناس رياضة الصَّعْب، إني لأريد أن أحيي الأمور من العدل، فأوفِّر ذلك حتى أُخرج معه طمعاً من طمع الدنيا، فينفروا لهذا ويسكنوا لهذه5448، وقام برصد الجوائز لمن يدل لمن يدل على خير، أو ينبه على خطأ، أو يشير إلى وقوع مظلمة لم يستطع صاحبها إبلاغها فكتب كتاباً أمر أن يُقرأ على الحجيج في المواسم وفي كل المحافل والمجامع جاء فيه: أما بعد، فأيما رجل قدم علينا في رد مظلمة، أو أمر يصلح الله به خاصاً أو عاماً من أمر الدين، فله ما بين مائة دينار إلى ثلاثمائة دينار، بقدر ما يرى من الحسبة، وبعد الشقة. رحم الله أمراً لم يَتَكَاءده بعد سفر، لعل الله يحي به حقاً، أو يمت به باطلاً أو يفتح من(3/180)
ورائه خيراً5449. ولاستعذابه حلاوة العدل ورحمته وتنعم الناس بتفيّؤ ظِلاله كان يقول: والله لوددت لو عدلت يوماً واحداً وأن الله تعالى قبضني5450، ومع أنه رأى ثمرات العدل التي قطف منها جميع الناس في خلافته إلا أن نفسه التوّاقة لكل شامخ ورفيع كانت تطمح للمزيد ولقد عبر عن ذلك بقوله: (لو أقمت فيكم خمسين عاماً ما استكملت العدل5451. وحتى الحيوانات نالهن عدله وانصافه ورفع الظلم عنه وإليك هذه المشاهد:
ـ…النهي عن نخس الدابة بالحديدة وعن اللجم الثقال: فقد أكد عمر بن عبد العزيز على الرفق بالحيوان وعدم ظلمه أو تعذيبه قال أبو يوسف: حدثنا عبيد الله بن عمر: أن عمر بن عبد العزيز نهى أن يجعل البريد في طرف السوط حديدة ينخس بها الدابة، ونهى عن اللجم الثقال5452، وقد أصدر أوامره بمنع استخدام اللجم الثقيلة مع الخيول والبغال، كما منع استخدام المناخس ذات الرؤوس الحديدة5453.
ـ …في تحديد حمولة البعير بستمائة رطل:
وحين بلغه أن قوماً يحملون على الجمال ما لا تطيق وذلك في مصر كتب إلى واليها يحدد أقصى حمولة للبعير بستمائة رطل وطلب منه إبلاغ قراره هذا الناس وأمره بتنفيذه5454.
ـ …هذه بعض الملامح السريعة على إقامة العدل في دولة عمر بن عبد العزيز، إن من أهداف التمكين إقامة المجتمع الذي تسود فيه قيم العدل ورفع الظلم، ومحاربته بكافة أشكاله وأنواعه وهذا ما قام به عمر بن عبد العزيز رحمه الله .(3/181)
5 ـ المساواة: قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)) (الحجرات ، الآية : 13). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى5455،، وقد قام عمر بن عبد العزيز بتطبيق هذا المبدأ في دولته، وكان أول مؤشر على رغبته في تطبيق مبدأ المساواة، حين أقسم أنه يودُّ أن يساوي في المعيشة بين نفسه ولحمته التي هو منها وبين الناس5456، فقال: أم والله لوددت أنه بُدئ بي، وبلحمتي، التي أنا منها، حتى يستوي عيشنا وعيشكم، أم والله، أم والله لو أردت غير هذا من الكلام، لكان اللسان به منبسطاً ولكنت بأسبابه عارفاً5457. وقال في خطبة له:.. وما منكم من أحد تبلغنا حاجته إلا أحببت أن أسد من حاجته، ما قدرت عليه5458. كما أن عمر اتخذ مبدأ المساواة بين الناس، في الحقوق والواجبات في كافة مجالات الحياة، فلم يميز بين الناس في حقهم في تولي الوظائف والولايات، ولم يعط أحداً كائناً من كان شيئاً ليس له فيه حق، فقد ساوى بين أمراء وأشراف بني أمية وبين الناس، فمنع عنهم العطايا والأرزاق الخاصة، وقال لهم حين كلموه في ذلك: لن يتسع مالي لكم، وأما هذا المال ـ يقصد المال الذي في بيت مال المسلمين ـ فإنما حقكم فيه كحق رجل، بأقصى برك الغماد5459، فكانت سياسته المالية تقوم على مبدأ المساواة، فبيت المال لجميع المسلمين ولكل واحد منهم حق أن يأخذ منه أسوة بغيره، فلا يكون حكراً على فئات معينة من الناس، ومن أعماله التي تدل على ترسيخه بمبدأ المساواة بين الناس ما أعلنه عندما رأى أمراء بني أمية قد استحوذوا على قطع واسعة من الأرض وجعلوها حمى، يحرم من الاستفادة منها عامة الناس،(3/182)
فقال: إن الحمى يباح للمسلين عامة.. وإنما الإمام فيها كرجل من المسلمين، إنما الغيث ينزله الله لعباده، فهم فيه سواء5460. كما ساوى بين من أسلم من أهل الأديان الأخرى من النصارى واليهود وبين المسلمين، وعمل على كسر حاجز التنافر بينهم، فقال:... فمن أسلم من نصراني أو يهودي أو مجوسي، من أهل الجزية اليوم، فخالط عمّ المسلمين في دارهم وفارق داره التي كان بها، فإن له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وعليهم أن يخالطوه وأن يواسوه5461، ويروي ابن سعد: أن عمر بن عبد العزيز جعل العرب والموالي في الرزق والكسوة والمعونة والعطاء سواء، غير أنه جعل فريضة المولى المعتق خمسة وعشرين ديناراً5462، وفي مجال المساواة بين الناس أمام القضاء، وأحكام الإسلام، نكتفي بهذا الدليل الذي كان عمر فيه أحد أطراف النزاع أمام القاضي، وتفصيل ذلك أنه: أتى رجل من أهل مصر عمر بن عبد العزيز، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن عبد العزيز ـ يقصد والد عمر ـ أخذ أرضي ظلماً، قال: وأين أرضك يا عبد الله؟ قال: حلوان، قال عمر: أعرفها ولي شركاء ـ أي شركاء في حلوان ـ وهذا الحاكم بيننا، فمشى عمر إلى الحاكم فقضى عليه، فقال عمر: قد أنفقنا عليها، قال القاضي: ذلك بما نلتم غلتها، فقد نلتم منها مثل نفقتكم، فقال عمر: لو حكمت بغير هذا ما وليت لي أمراً أبداً، وأمر بردها5463. وكان عمر يقيم وزناً لمبدأ المساواة بين المسلمين، حتى في الأمور العامة، ومن ذلك أمره بأن لا يخص أناس بدعاء المسلمين والصلاة عليهم، فكتب إلى أمير الجزيرة يقول:.. وقد بلغني أن أناساً من القصاص قد أحدثوا صلاة على أمرائهم، عِدل ما يصول على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاءك كتابي هذا، فمر القصاص، فليجعلوا صلاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وليكن دعاؤهم للمؤمنين والمسلمين عامة، وليدعو ما سوى ذلك5464، ومن ذلك يتضح اهتمام عمر بالمساواة بين عامة الناس حتى في الدعاء لهم، ولا يختص أحد(3/183)
بدعاء، فالمسلمون عامة في حاجة دعوة الله عز وجل لهم والله سبحانه وتعالى جدير بالإجابة5465، وقد طبق مبدأ المساواة بينه وبين عامة الناس، فقد حصل أن شتمه رجل بالمدينة لسبب أو لآخر، فلم يكن ما أمر به سوى ما قد يأمر به كما لو كان المشتوم أحد أفراد الأمة، ذلك ما حدث حين حُكم رجل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بن محمد بن حزم والي عمر على المدينة في صلاته ـ فقطع عليهم الصلاة، وشهر السيف، فكتب أبو بكر إلى عمر، فأتي بكتاب عمر، فقرئ عليهم، فشتم عمر، والكتاب ومن جاء به، فهمَّ أبو بكر بضرب عنقه، ثم راجع عمر وأخبره أنه شتمه، وأنه همَّ بقتله: فكتب إليه عمر: لو قتلته لقتلك به، فإنه لا يقتل أحد، بشتم أحد ألا أن يُشتم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فإذا أتاك كتابي فاحبس على المسلمين شره، وادعه إلى التوبة في كل هلال، فإذا تاب فخلِّ سبيله5466، ولم يكتف عمر بالأخذ بمبدأ المساواة بنفسه فحسب، بل كان يأمر عماله وولاته بذلك، فقد كتب إلى عامله على المدينة يقول له: أخرج للناس فآسي بينهم في المجلس والمنظر، ولا يكن أحد الناس آثر عندك من أحد، ولا تقولن هؤلاء من أهل بيت أمير المؤمنين، فإن أهل بيت أمير المؤمنين وغيرهم عندي اليوم سواء، بل أنا أحرى أن أظن بأهل بيت أمير المؤمنين، فإن أهل بيت أمير المؤمنين وغيرهم عندي اليوم سواء، بل أنا أحرى أن أظن بأهل بيت أمير المؤمنين أنهم يقهرون من نازعهم5467. كانت تلك بعض مواقف عمر، وإن كانت متفاوتة، إلا أن فيها دلالة واضحة على أخذ عمر بمبدأ المساواة في دولته5468..(3/184)
6 ـ الحريات في دولة عمر بن عبد العزيز: إن مبدأ الحرية من المبادئ الأساسية التي قام عليها الحكم في دولة عمر بن عبد العزيز، ويقضي هذا المبدأ بتأمين وكفالة الحريات العامة للناس كافة ضمن حدود الشريعة الإسلامية وبما لا يتناقض معها، فقد اهتم عمر بكافة صور الحرية الإنسانية، فجاء مستعرضاً لأنواع وصور الحرية، فأقر ما كان فيها موافقاً، لتعاليم الإسلام، وأعاد ما لم يكن كذلك إلى دائرة التعاليم الإسلامية وإليك بعض التفاصيل عن الحريات في دولة عمر بن عبد العزيز.
أ ـ الحرية الفكرية والعقدية: حرص عمر بن عبد العزيز على تنفيذ قاعدة حرية الاعتقاد في المجتمع وكان سياسته حيال النصارى واليهود تلتزم بالوفاء بالعهود والمواثيق وإقامة العدل معهم ورفع الظلم وعدم التضييق عليهم في معتقدهم ودينهم انطلاقاً من قوله تعالى: ((لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)) (البقرة ، الآية : 256) وكان عمر ينهج أسلوب الدعوة مع ملوك الهند، والقبائل الخارجة عن الإسلام وسيأتي الحديث عن ذلك بالتفصيل بإذن الله تعالى، ولم يكره عمر أحداً من النصارى أو غيرهم على الدخول في الإسلام، وأما حرية الفكر من حيث الرأي والتعبير، فقد أخذت نطاقاً واسعاً في إدارة الدولة، وقيادته لعماله ورعيته، فقد أتاح لكل متظلم أن يشكو من ظلمه وأطلق للكلمة حريتها، وترك للناس حرية أن يقول كلُّ ما يريد وقد عبر عن هذا القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق بقوله: اليوم ينطق كل من كان لا ينطق5469. إذا لم يخالف الشرع.(3/185)
ب ـ الحرية السياسية: كما أعلن عمر استئناف الحرّية السياسية التي منحها الإسلام للمسلمين إذ لإطاعة لا مخلوق في معصية الخالق، حتى وإن كان حاكما أو والياً، فقد أعلن عمر في أول يوم من أيام حكمه الحرية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، منكراً على الناس واقعهم المظلم، وأن الإسلام لا يرضى السكوت عن الظلم، فقد خطب الناس يوماً فقال:... ألا لأسلامة لامريء في خلاف السنة، ولا طاعة لمخلوق في معصية الله، ألا وإنكم تسمون الهارب من ظلم إمامه: العاصي، إلا وإن إولاهما بالمعصية الإمام الظالم5470، ومما يدل على إعطاء عمر للناس الحرية السياسية، أن أول إجراء اتخذه عقب إعلان العهد له بالخلافة تنازله في الخلافة وطلب من الناس أن يختاروا خليفة، فإذا كانت الحرية السياسية تتجلى في ممارستها في موضعين: أولهما المشاركة في اختيار الحاكم، عن طريق أهل الحل والعقد، وبيعة المسلمين ورضاهم، وثانيهما: إبداء الرأي والنصح للحكام، ونقد أعمالهم بمقاييس الإسلام5471، فإن عمر قد مارس الحرية السياسية في هذين الموضعين فجعل لهم الخيار في توليه الخلافة قبل الوعظ والنصح5472، وسيأتي بيان ذلك في محله بإذن الله.(3/186)
ت ـ الحرية الشخصية: عمل عمر بن عبد العزيز على تحقيق وتدعيم الحرية الشخصية لأفراد الأمة الإسلامية، إذ بدا له بعض القيود على الهجرة أو ما يسمى بحرية التنقل، أو الغدو والرواح، فاتخذ إجراء فتح فيه باب الهجرة لمن يريد، إذ قال:.. وأما الهجرة فإنا نفتحها لمن هاجر من إعرابي فباع ماشيته، وانتقل من دار إعرابيته إلى دار الهجرة وإلى قتال عدونا، فمن فعل ذلك فله أسوة المهاجرين فيما أفاء الله عليهم5473، كما قال في كتابه لعماله:.. وأن يفتح لأهل الإسلام باب الهجرة5474، وإذا كان ذلك موقفه من حرية الناس في الهجرة والتنقل فقد تجلى حرصه على مبدأ حرية الإنسان في أمر قل من يراعيه، أو يهتم به، أمر يخص من هم في ملكه، ألا وهو تخييره لجواريه عقب تولي الخلافة بين العتق والإمساك على غير شيء، فقد علم أن لهنّ عليه حقوقاً لن يستطيع الإيفاء بها بعد توليه الخلافة، فترك لهنّ حرية الإقامة معه من غير شيء أو العتق، فتكون الواحدة منهنّ حرة حرية شخصية كاملة5475، فقد روي ابن عبد الحكم (أن عمر خيّر جواريه، فقال: إنه قد نزل بي أمر شغلني عنكنّ فمن اختارت منكنّ العتق أعتقتها، ومن أمسكتها لم يكن لها مني شيء، فبكين بكاءً شديداً يأساً منه5476.(3/187)
ج ـ حرية التجارة والكسب: أما في حرية التجارة والكسب وابتغاء فضل الله في البر والبحر، كجزء من الحرية الاقتصادية، فقد أكد في كتاب له إلى عماله على ضرورة منح الناس حرية استثمار أموالهم، والاتجار بها في البر والبحر على حد سواء، فقد كتب إلى عماله:.. وإن من طاعة الله التي أنزل في كتابه أن يدعى الناس إلى الإسلام كافة،... وأن يبتغي الناس بأموالهم في البر والبحر، ولا يمنعون ولا يحبسون5477. وكتب أيضاً:.. وأما البحر، فإنا نرى سبيله سبيل البر، قال الله تعالى: ((اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) (الجاثية، الآية : 12)، فإذن أن يتجر فيه من شاء، وأرى أن لا نحول بين أحد من الناس وبينه، فإن البر والبحر لله جميعاً سخرهما لعباده يبتغون فيهما من فضله، فكيف نحول بين عباد الله وبين معايشهم5478. ويقول عمر في موضع آخر:.. أطلق الجسور والمعابر للسابلة يسيرون عليها دون جعل5479، لأن عمال السوء تعدوا غير ما أمروا به5480، وأما عن الأسعار والتسعير زمن عمر، فقد قال أبي يوسف: حدثنا عبد الرحمن بن شوبان عن أبيه قال: قلت لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين، ما بال الأسعار غالية في زمانك وكانت في زمان من قبلك رخيصة؟ قال: إن الذين كانوا قبلي كانوا يكلفون أهل الذمة فوق طاقتهم، ولم يكونوا يجدون بداً من أن يبيعوا ويكسروا ما في أيديهم، وأنا لا أكلف أحداً إلا طاقته، فباع الرجل كيف شاء، قال: فقلت: لو أنك سعَّرت، قال: ليس إلينا من ذلك شيء إنما السعر إلى الله5481. وتشدد عمر في أمر السلع المحرمة، ومنع التعامل بها فالخمر من الخبائث التي لا يجوز التعامل فيها بين المسلمين، لحرمتها ولضررها حيث يؤدي شربها إلى استحلال الدم الحرام وأكل المال الحرام5482، ويقول عمر: فإنا من نجده يشرب منه شيئاً بعد تقدمنا إليه فيه نوجعه عقوبة في(3/188)
ماله ونفسه ونجعله نكالاً لغيره5483. ولقد أثمرت سياسة عمر في رد الحقوق وإطلاق الحرية الاقتصادية المنضبطة، حيث وفرت للناس الحوافز للعمل والإنتاج، وأزالت العوائق التي تحول دون ذلك، وهذا أدى إلى نمو التجارة ونمو التجارة أدى إلي زيادة حصيلة الدخل الخاضع للزكاة، وهذا يؤدي بدوره إلى زيادة الزكاة، مما يؤدي إلى رفع مستوى الطبقات الفقيرة، وارتفاع قوتها الشرائية والتي ستتوجه إلى الاستهلاك وبالتالي إلى زيادة الطلب على السلع والخدمات وهذا كله يؤدي إلى انتعاش الاقتصاد، وارتفاع مستوى المعيشة وزيادة الرفاه5484. لقد كانت الحرية في دولة عمر بن عبد العزيز مصونة ومكفولة ولها حدودها وقيودها، ولذلك ازدهر المجتمع وتقدم في مدار الرقي، فالحرية حق أساسي للفرد والمجتمع، ليتمتع بها في تحقيق ذاته وإبراز قدراته وسلب الحرية من المجتمع سلب لأهم مقوماته فهو أشبه بالأموات، إن الحرية في الإسلام إشعاع داخلي ملأ جنبات النفس الإنسانية بارتباطها بالله، فارتفع الإنسان بهذا الارتباط إلى درجة السمو والرفعة، فأصبحت النفس تواقة لفعل الصالحات، والمسارعة في الخيرات ابتغاء رب الأرض والسماوات، فالحرية في المجتمع الإسلامي دعامة من دعائمه تحققت في دولة عمر بن عبد العزيز في أبهى صورة انعكست أنوارها على صفحات الزمن5485.
المبحث الثاني : أهم صفاته ومعالم تجديده:(3/189)
أولا : أهم صفاته: إن شخصية عمر بن عبد العزيز تعتبر شخصية قيادية جذابة، وقد اتصف رضي الله عنه بصفات القائد الرباني، ومن أهم هذه الصفات: إيمانه الراسخ بالله وعظمته، وإيمانه بالمصير والمآل، وخوفه من الله تعالى والعلم الغزير، والثقة بالله، والقدوة، والصدق، والكفاءة والشجاعة والمروءة والزهد، وحب التضحية، والتواضع، وقبول النصيحة، والحلم والصبر، وعلو الهمة، والحزم، والإدارة القوية، والعدل، والقدرة على حل المشكلات، وقدرته على التخطيط والتوجيه والتنظيم والمراقبة، وغير ذلك من الصفات، وبسبب ما أودع الله فيه من الصفات الربانية استطاع أن يقوم بمشروعه الإصلاحي ويجدد كثيراً من معالم الخلافة الراشدة التي اندثرت أمام زحف الملك العضوض، واستطاع أن يتغلب على العوائق في الطريق، وتوجت جهوده الفذة بنتائج كبيرة على مستوى الفرد والمجتمع والدولة وأصبح منهج عمر بن عبد العزيز الإصلاحي التجديدي مناراً للعاملين على مجد الإسلام وقد ترسم نور الدين زنكي خطوات عمر بن عبد العزيز في عهده، فحقق نجاحاً كبيراً للأمة في صراعها مع الصليبيين، وكان الفضل لله ثم الشيخ أبي حفص عمر محمد الخضر المتوفي عام 570هـ والذي كان أحد شيوخ نور الدين زنكي حيث كتب لنور الدين كتابه الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز لكي يسير عليها نور الدين زنكي في خطواته وجهاده، وإن من أهم الصفات التي تجسدت في شخصية عمر بن عبد العزيز هي:(3/190)
1 ـ شدة خوفه من الله تعالى: كانت ميزته الكبرى والسمة التي اتسم بها ودافعه إلى كل ذلك هو إيمانه القوي بالآخرة وخشية الله والشوق إلى الجنة، وليس لغير هذا الإيمان القوي، الذي إمتاز به عمر بن عبد العزيز أن يحفظ إنساناً في مثل شباب عمر بن عبد العزيز، وقوته وحريته وسلطانه ـ من إغراءات مادية قاهرة ـ ومن تسويلات الشيطان، والنفس المغرية، وتفرض عليه المحاسبة الدقيقة للنفس، والاستقامة على طريق الحق5486، فقد كان مشتاقاً إلى الجنة مؤثراً الآخرة على الدنيا، مؤمناً بقوله تعالى: ((يا قوم ـ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَار)) (غافر ، الآية : 39) فأدرك عمر بفطرته السليمة وعقيدته الصحيحة، أن آخرة المسلم أولى باهتمامه من دنياه، يقول عمر في كتاب له إلى يزيد بن المهلب:.. لو كانت رغبتي في اتخاذ أزواج، واعتقال أموال، كان في الذي أعطاني من ذلك، ما قد بلغ بي أفضل ما بلغ بأحد من خلقه، ولكنِّي أخاف ـ فيما أبتليت به ـ حساباً شديداً، ومسألة عظيمة، إلا ما عافى الله ورحم5487 ، كما كان عمر شديد الخوف من الله تعالى، تقول زوجته فاطمة بنت عبد الملك: والله ما كان بأكثر الناس صلاة، ولا أكثرهم صياماً، ولكن والله ما رأيت أحداً أخوف لله من عمر، لقد كان يذكر الله في فراشه، فينتفض انتفاض العصفور من شدة الخوف حتى نقول: ليصبحَنَّ الناس ولا خليفة لهم5488، وقال مكحول: لو حلفت لصدقت، ما رأيت أزهد ولا أخوف لله من عمر بن عبد العزيز5489، ولشدة خوفه من الله، كان غزير الدمع وسريعه، فقد: دخل عليه رجل وبين يديه كانون فيه نار، فقل: عظني. قال: يا أمير المؤمنين ما ينفعك من دخل الجنة، إذا دخلت أنت النار، وما يضرّك من دخل النار، إذا دخلت أنت الجنة، قال: فبكى عمر5490 حتى طفئ الكانون الذي بين يديه من دموعه، وقد كان جلّ خوفه ـ رحمه الله ـ من يوم القيامة، فيدعو الله، ويقول:(3/191)
اللهم إن كنت تعلم إني أخاف شيئاً دون القيامة، فلا تؤمن خوفي5491، ذلك اليوم الذي أحدث تغيراً جذرياً في مجرى حياته ذلك اليوم الذي يقول عنه عمر: ((..لقد عنيتم بأمر، لو عنيت به النجوم لانكدرت، ولو عنيت به الجبال لذابت، ولو عنيت به الأرض لتشققت، أما تعلمون أنه ليس بين الجنة والنار منزلة، وأنكم صائرون إلى أحداهما5492، نعم إن الخوف من الله، والرؤية الواضحة للحياة، والفناء والخلود، والإحساس بيوم الحساب، والانفعال بمشاهد الجنة والنار، هي التي تضع المسؤولين، وتجعلهم يرتعدون خوفاً إن هم انحرفوا قيد شعرة عما يريد الله5493، فالوعي والإحساس بيوم الحساب، وغيرها من الصفات الاعتقادية، تجعل القائد لا يخطو خطوة، ولا يقول قولاً، ولا يفعل فعلاً، إلا ربط ذلك بما يرضي الله عز وجل، وتلك الصفات والجوانب، لم تعط حقها من البحث والتحرى في الدراسات القيادية الحديثة وهي أساس النجاح في القيادة، وأهم الصفات القيادية التي ينبغي للقائد أن يتحلى بها، وإن من أهم صفات عمر بن عبد العزيز، الإيمان الراسخ بالله واليوم الآخر، وشدة خوفه من الله والوجل من يوم القيامة5494.
2 ـ زهده: فهم عمر بن عبد العزيز من خلال معايشته للقرآن الكريم ودراسته لهدي النبي الأمين صلى الله عليه وسلم ومن تفكره في هذه الحياة بأن الدنيا دار ابتلاء واختبار، وإنها مزرعة للآخرة، ولذلك تحرّر من سيطرة الدنيا بزخارفها، وزينتها، وبريقها وخضع وانقاد وأسلم لربه ظاهراً وباطناً، وكان وصل إلى حقائق استقرت في قلبه ساعدته على الزهد في هذه الدنيا ومن هذه الحقائق:
أ ـ اليقين التام بأننا: في هذه الدنيا أشبه بالغرباء، أو عابري سبيل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل5495.(3/192)
ب ـ وأن هذه الدنيا: لا وزن لها ولا قيمة عند رب العزة إلا ما كان منها طاعة لله ـ تبارك وتعالى ـ إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء5496.
ج ـ وأن عمرها قد قارب على الانتهاء:إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: بعثت أنا والساعة كهاتين بالسبابة والوسطى5497.
د ـ وأن الآخرة هي الباقية وهي دار القرار، فلهذه الأمور وغيرها زهد عمر بن عبد العزيز في الدنيا وأول الزهد الزهد في الحرام، ثم الزهد في المباح، وأعلى مراتب الزهد أن تزهد في الفضول وكل مالك عنه غنى5498، وكان زهد عمر بن عبد العزيز مبني على الكتاب والسنة ولذلك ترك كل أمر لا ينفعه في آخرته فلم يفرح بموجود وهي الخلافة، ولم يحزن على مفقود من أمور الدنيا، وقد ترك ما هو قادر على تحصيله من متاع الدنيا إنشغالاً بما هو خير في الآخرة ورغبة في ما عند الله عز وجل5499، قال مالك بن دينار: الناس يقولون: مالك بن دينار زاهد، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها5500، قال ابن عبد الحكم: ولما ولي عمر بن عبد العزيز زهد في الدنيا، ورفض ما كان فيه وترك ألوان الطعام، فكان إذا صنع له طعام هيىء على شيء وغطي، حتى إذا دخل اجتذبه فأكل5501، فكان لا يهمه من الأكل إلا ما يسد جوعه ويقيم صلبه وكانت نفقته وعياله في اليوم كما في الأثر، فعن سالم بن زياد: كان عمر ينفق على أهله في غدائه وعشائه كل يوم درهمين5502، وكان لا يلبس من الثياب إلا الخشن، وترك مظاهر البذخ والإسراف التي سادت قبله وأمر ببيعها وأدخل أثمانها في بيت مال المسلمين5503، وهكذا فعل بالجواري والعبيد حيث رد الجواري إلى أصحابهن إن كن من اللاتي أخذن بغير حق ووزع العبيد على العميان وذوي العاهات وحارب كل مظاهر الترف والبذخ، والإسراف5504، وأما ما قيل عن زهده بالنسبة للنكاح، فقد روى ابن عبد الحكم فقال: وقالت فاطمة زوجته ما اغتسل من(3/193)
جنابة منذ ولي حتى لقي الله غير ثلاث مرات، ويقال: ما اغتسل من جنابة حتى مات5505، فهذا ينافي ما اشتهر به عمر بن عبد العزيز من حبه الشديد لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فيستبعد منه رحمه الله أن يترك السنة، وأن يقع في ظلم زوجاته وحقوقهن، فإن ترك الزواج وتحريم ذلك لا علاقة له بالزهد الإسلامي الذي بينه رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو دخيل على المجتمع المسلم، وهو ما تفتخر به بعض الفرق المنحرفة عن الإسلام وتدعي أنه من الزهد الإسلامي، ولهم في ذلك حكايات لا يشك من تأملها أنها لا تمت إلى الإسلام بصلة، ولهم في ذلك وصايا عجيبة وتوجيهات غريبة، فمن أقوالهم:
ـ من ترك النساء والطعام فلابد له من ظهور كرامة .
ـ من تزوج فقد أدخل الدنيا بيته، فاحذروا من التزويج.
ـ لا يبلغ الرجل إلى منازل الصديقين حتى يترك زوجته كأنها أرملة وأولاده كأنهم أيتام، ويأوي إلى منازل الكلام.
ـ من تعود أفخاذ النساء لا يفلح.(3/194)
ـ …من تزوج فقد ركن إلى الدنيا5506. إلى غير ذلك من العجائب والغرائب وهذا المفهوم يخالف الإسلام دين التوسط والاعتدال، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن رغب عن سنتي فليس مني5507. وجملة القول أن زهد عمر بن عبد العزيز كان مقيداً بالكتاب والسنة وأن كثيراً مما نسب إليه في هذا الباب لا يصح لمخالفته هدى النبي صلى الله عليه وسلم، ومن زهد عمر بن عبد العزيز في جمع المال، فقد كان على النقيض ممن يلي منصباً في وقتنا الحاضر فقد كانت غلته حين استخلف أربعين ألف دينار، ثم أصبحت حين توفي أربعمائة دينار، ولو بقي لنقصت5508، حيث لم يرتزق رحمه الله من بيت المسلمين شيئاً5509، فقد كان رحمه الله من زهاد زمانه إن لم يك أزهدهم، فكان يقول: إن الدنيا لا تسر بقدر ما تضر، تسر قليلاً وتحزن طويلاً5510. وأخباره في الزهد كثيرة ذكر منها الشيخ أبو حفص عمر بن محمد الخضر المعروف بالملاء حوالي ثمانية وعشرين أثراً5511، لقد وصل عمر بن عبد العزيز إلى مرحلة متقدمة في الزهد والتحلي بصفات الزاهدين، وذلك ما لا يستطيع الوصول إليه أصحاب العيش في الظروف المادية في وقتنا الحاضر، الذي طغت فيه المادة على كل شيء في الحياة، وأصبح الناس يقيسون بعضهم البعض بما يملك من الدنيا وحطامها، حسبنا من قادة وزعماء هذا العصر المادي إن لم يتصفوا بصفة الزهد، على أقل تقدير، أن يكفوا أنفسهم عن الطمع، والجشع، وأن يسعوا إلى الكسب الحلال وأن يعملوا على قهر رغباتهم الدنيوية، لينالوا ما تاقت إليه نفس عمر بن عبد العزيز إلى ما هو أسمى من الدنيا.. إلى جنات النعيم5512، ونختم حديثنا عن الزهد عند عمر بن عبد العزيز بهذا الأثر فقد قال لمولاه مزاحم: إني قد اشتهيت الحج، فهل عندك شيء؟ قال: بضعة عشر ديناراً. قال: وما تقع مني؟ ثم مكث قليلاً، ثم قال له: يا أمير المؤمنين تجهّز، فقد جاءنا مال سبعة عشر ألف ديناراً من بعض مال بني مروان، قال: اجعلها في بيت(3/195)
المال، فإن تكن حلالاً فقد أخذنا منها ما يكفينا، وإن تكن حراماً فكفانا ما أصابنا منها قال مزاحم: فلما رأى عمر ثقل ذلك علي قال: ويحك يا مزاحم لا يكثرن عليك شيء ضعته لله، فإن لي نفساً توّاقة لم تَتُق إلى منزلة، فنالتها إلا تاقت إلى ما هي أرفع منها، حتى بلغت اليوم المنزلة التي ليس بعدها منزلة، وإنها اليوم قد تاقت إلى الجنة5513.
3 ـ تواضعه: قال تعالى:(( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ...)) (الفرقان:آية : 63). قال ابن القيم: أي يمشون بسكينة ووقار متواضعين5514. وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله أوحى إليّ: أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغى أحد على أحد5515. وهذه الصفة الحميدة كانت إحدى الصفات الأساسية التي تميز بها عمر بن عبد العزيز، فقد أدى زهد عمر إلى تواضعه، لأن شرط الزهد الحقيقي هو التواضع لله5516، وقد كان تواضع عمر في جميع أمور حياته ومعاملاته، فذلك ما يتطلبه الأمر من قائد خاف الله، ورجاء ما عنده، وأراد الطاعة والولاء من رعيته5517، ومما يذكر من تواضع عمر جوابه لرجل ناداه: يا خليفة الله في الأرض، فقال له عمر: مه: إني لما ولدت أختار لي أهلي أسماً فسموني عمر، فلو ناديتني: يا عمر، أجبتك، فلما اخترت لنفسي الكُنى فكنيت بأبي حفص، فلو ناديتني يا أبا حفص أجبتك، فلما وليتموني أموركم سميتموني: أمير المؤمنين، فلو ناديتني يا أمير المؤمنين أجبتك، وأما خليفة الله في الأرض، فلست كذلك ولكن خلفاء الله في الأرض داوود والنبي صلى الله عليه وسلم وشبهه5518، مشيراً على قوله تعالى:(( يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ)) (ص :آية :36). ومن تواضعه أن نهى الناس عن القيام له، فقال: يا معشر الناس: إن تقوموا نقم، وإن تقعدوا نقعد، فإنما يقوم الناس لرب العالمين، وكان يقول للحرس: لا تبتدئوني بالسلام، إنما السلام علينا لكم5519، وكان متواضعاً حتى في(3/196)
إصلاح سراجه بنفسه، فقد: كان عنده قوم ذات ليلة في بعض ما يحتاج إليه، فغشى سراجه، فقام إليه فأصلحه فقيل له: يا أمير المؤمنين ألا نكفيك؟ قال: وما ضرني؟ قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز5520، ومن تواضعه أيضاً قال يوماً لجارية له:يا جارية روّحيني قال: فأخذت المروحة فأقبلت تروحه، فغلبتها عينها فنامت، فانتبه عمر، فإذا هو بالجارية قد أحمّر وجهها، وقد عرقت عرقاً شديداً ـ وهي نائمة ـ فأخذ المروحة واقبل يروحها، قال: فانتبهت، فوضعت يدها على رأسها فصاحت، فقال لها عمر: إنما أنت بشر مثلي أصابك من الحر ما أصابني، فأحببت أن أروحك مثل الذي روحتني5521، وكان يمتنع عن كثرة الكلام ـ وهو العالم الفصيح المفوّه ـ خشية على نفسه من المباهاة بما عنده، أو يظن الناس به ذلك، فكان يقول: إنه ليمنعني من كثير من الكلام مخافة المباهاة5522، ودخل عليه رجل فقال له: يا أمير المؤمنين، إن من كان قبلك كانت الخلافة لهم زيناً، وأنت زين الخلافة، وإنما مثلك كما قال الشاعر:
…………وإذا الدرّ زان حسن وجوه
…………………كان للدرّ حسن وجهك زيناً
فأعرض عنه5523. وقال له رجل: جزاك الله عن الإسلام خيراً. فقال: لا بل جزى الله الإسلام عني خيراً5524، ودخل عليه رجل، وهو في ملء من الناس فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقال عُمّ سلامك5525، وهكذا أمير المؤمنين عمر، يخفض الجناح للمؤمنين، ولا يتكبر على أحد من عباد الله، ولم تزده الخلافة إلا تواضعاً ورأفة ورحمة، ولم يحمله المنصب إلا على الإخبات والخضوع لسلطان الحق، يصلح سراجه بنفسه، ويجلس بين يدي الناس على الأرض، ويأبى أن يسير الحراس والشُّرط بين يديه، ويعنّف من يعظمه أو يخصه بسلام من بين الجالسين، ويتأبى أن يتميز على الناس بمركب، أو مأكل، أو ملبس، أو مشرب5526.(3/197)
4 ـ ورعه: من صفات أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الورع، والورع هو الإمساك عما قد يضر، فتدخل المحرمات والشبهات لأنها قد تضر، فإنه من اتقى الشبهات إستبرأ لعرضه ودينه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي حول الحمى يوشك أن يواقعه5527 ، والورع في الأصل الكف عن المحارم والتحرج منها، ثم استعير للكف عن الحلال المباح5528. وللدلالة على ما كان يتصف به عمر من الورع، وتحري السلامة من الشبهات، فقد روي أنه كان: يعجبه أن يتأدم بالعسل، فطلب من أهله يوماً عسلاً فلم يكن عنده، فأتوه بعد ذلك بالعسل، فأكل منه، فأعجبه، فقال لأهله: من أين لكم هذا؟ قالت امرأته بعثت مولاي بدينارين على بغل البريد، فاشتراه لي، فقال: أقسمت عليك لما أتيتني به، فأتته بُعكَّة5529، فيها عسل، فباعها بثمن يزيد على الدينارين، ورد عليها مالها وألقى بقيته في بيت مال المسلمين وقال: انصبت دواب المسلمين في شهوة عمر5530. ومن ورعه أنه: كان له غلام يأتيه بقمقم5531، من ماء مسخن، يتوضأ منه، فقال للغلام يوماً: أتذهب بهذا القمقم إلى مطبخ المسلمين، فتجعله عنده، حتى يسخن، ثم تأتي به؟ قال: نعم أصلحك الله، قال: أفسدته علينا، قال: أفسدته علينا، قال: فأمر مزاحماً أن يغلي ذلك القمقم، ثم ينظر ما يدخل فيه من الحطب ثم يحسب تلك الأيام، التي كان يغليه فيها، فيجعله حطباً في المطبخ5532. ومن أمثلة ورعه كان لا يقبل أي هدية من عماله أو من أهل الذمة خوفاً من أن يكون ذلك من باب الرشوة، فعن عمرو بن مهاجر قال: اشتهى عمر بن عبد العزيز تفاحاً فقال: لو كانت لنا أو عندنا ـ شيء من التفاح، فإنه طيب الريح طيب الطعم فقام رجل من أهل بيته فأهدى إليه تفاحاً، فلما جاء به الرسول، قال عمر: ما أطيب ريحه وأحسنه، ارفعه يا غلام، فأقرئ فلاناً السلام وقل له:إن هديتك قد وقعت منا بموقع بحيث تحب، فقلت يا أمير المؤمنين ابن عمك ورجل من أهل بيتك وقد بلغك أن النبي صلى الله عليه(3/198)
وسلم كان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة قال: ويحك؟ إن الهدية كانت للنبي هدية وهي لنا اليوم رشوة5533، ومن ورعه أنه كان لا يرى لنفسه أن تشم رائحة مسك أتته من أموال المسلمين، فعندما وضعت بين يديه مسكة عظيمة فأخذ بأنفه، فقيل يا أمير المؤمنين إنما هو ريح قال: وهل ينتفع منها إلا بريحها5534،وكان يحترز من استعمال أموال المسلمين العامة، فكان يسرج السراج من بيت إذا كان في حاجة المسلمين، فإذا فرغ من حوائجهم أطفأها ثم أسرج عليه سراجه الخاص به من ماله الخاص5535، وقد ذكر المؤرخون كثيراً من الأمثلة التي تدل على ورعه، فقد اعتبر أن البعد عن أموال السملين حتى في الأشياء اليسيرة القليلة هو من باب الابتعاد عن الشبهة، فكان بعيد عن الشبهات5536احتياطاً لدينه، وذلك أن الأمور ثلاثة كما قال هو بنفسه:
1 ـ أمر استبان رشده فاتبعه .……2 ـ وأمر تبين خطؤه فاجتنبه .
3 ـ وأمر أشكل عليك فتوقف عنه5537 .
…وكان رحمه الله ورعاً حتى في الكلام فعندما قيل له: ما تقول في أهل صفين؟ قال: تلك دماء طهر الله يدي منها، فلا أحب أن أُخضب لساني بها5538، وهكذا يتضح أن ورع عمر كان في شأنه كله، في مأكله وحاجته وشهوته، ومال المسلمين وفي كافة أمور حياته، ذلك الورع النابع مع الإيمان القوي، والشعور بالمسئولية واستحضاره الآخرة، فقد كانت صفة الورع من صفاته الجلية، فقد بلغ به مبلغاً جعله يشتري مكان قبره الذي سيواري فيه، فلا يكون له من الدنيا شيء دون مقابل حتى موضع قبره5539.
5 ـ حلمه وصفحه وعفوه:(3/199)
…ومن الصفات التي تجسدت في شخصية عمر بن عبد العزيز الحلم والصفح والعفو، فعن شيخ من الخناصريين قال: كان لعمر بن عبد العزيز ابن له من فاطمة، فخرج يلعب مع الغلمان فشجه غلام فاحتملوا ابن عمر والذي شجه فأدخلوهما على فاطمة، فسمع عمر الجلبة وهو في بيت آخر فخرج، وجاءت امرأة فقالت: هذا ابني وهو يتم قال: أله عطاء؟ قالت: لا. قال: فاكتبوا في الذرية فقالت فاطمة: فعل الله به وصن إن لم يشجه مرة أخرى فقال عمر: إنكم أفزعتموه5540. وعن إبراهيم بن أبي عبلة قال: غضب عمر بن عبد العزيز يوماً غضباً شديداً على رجل، فأمر به فأحضر وجرِّد وشُدَّ في الحبال وجيء بالسياط فقال: خلُّوا سبيله ثم قال: أما أني لولا أن أكون غضباناً لسُؤْتُك. وتلا: ((وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)) (آل عمران ، الآية : 134)، وعن عبد الملك قال: قام عمر بن عبد العزيز إلى قائلته، وعرض له رجل بيده طومار5541، فظن القوم أنه يريد أمير المؤمنين، فخاف أن يُحبس دونه فرماه بالطومار، فالتفت عمر فوقع في وجهه فشجه. قال: فنظرت إلى الدماء تسيل على وجهه وهو قائم في الشمس، فلم يبرح حتى قرأ الطومار وأمر له بحاجته وخلَّى سبيله5542وروى أن رجلاً نال من عمر فلم يجبه. فقيل له: ما يمنعك منه؟ قال: التقيُّ مُلجم5543، وعن حاتم بن قدامه أن رجلاً قام إلى عمر بن عبد العزيز وهو يخطب فقال له: أشهد ـ\أنك من الفاسقين. فقال له عمر: وما يدريك؟ وأنت شاهد زور فلا نجيز شهادتك5544، وروي أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة خرج ليلة في السحر إلى المسجد ومعه حرسي فمرا برجل نائم على الطريق فعثر به عمر. فقال له: أمجنون أنت؟ فقال عمر: لا فهمَّ الحرسي به. فقال له عمر: مه، فإنه سألني أمجنون أنت؟ فقلت: لا5545. وروي أن رجلاً قام إلى عمر بن عبد العزيز وهو على المنبر فنال منه وأغضبه، فقال له عمر يا هذا أردت أن يستفزني الشيطان مع عزة السلطان أن أفعل بك(3/200)
اليوم ما تفعل بي غداً مثله. اذهب غفر الله لي ولك5546. وقيل: أتى ولد لعمر بن عبد العزيز وهو يبكي، فقال له: ما شأنك؟ فقال: ضربني فلان العبد. فجيء به. فقال له: ضربته؟ قال: نعم. فقال له: اذهب فلو أني معاقب أحداً على الصدق لعاقبتك اذهب ولم يكلمه5547. والمواقف في حلمه وصفحه وعفوه كثيرة وهذا غيض من فيض.
6 ـ صبره: ومن صفاته رحمه الله الصبر والشكر، روى أنه لما مات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز حضر عند قبره فقال: لا تعمقه فإن ما علا من الأرض أفضل مما سفل منها5548، وروي أن حين مات عبد الملك ولده، وسهل بن عبد العزيز أخوه ومزاحم مولاه، قال رجل من أهل الشام: والله لقد ابتلى أمير المؤمنين ببلاء عظيم: مات ولده عبد الملك لا والله إن رأيت ولداً كان أنفع لوالده منه، ثم أصيب أمير المؤمنين بأخ لا والله ما رأيت أخاً أنفع لأخ منه. قال: وسكت عن مزاحم. فقال عمر بن عبد العزيز: لم سكت عن مزاحم، فوالله ما هو أدنى الثلاثة عندي، رحمك الله يا مزاحم مرتين أو ثلاثاً والله لقد كنت كفيت كثير الدنيا، ونعم الوزير كنت في أمر الآخرة5549، وعن حفص بن عمر قال: لما مات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز جعل أبوه يثني عليه عند قبره فقال مسلمة: أرأيت لو بقي أكنت تولِّيه؟ قال: لا. قال: فأنت تثني عليه بهذا الثناء قال: إني أخاف أن يكون زيِّن لي من المحبة له ما يزين في عين الوالد من حبِّ ولده5550. وخطب عمر في خطبته فقال: ما من أحد يصاب بمصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.إلا كان الذي أعطاه الله من الأجر فيها أفضل مما أخذ منه، وقال: الرضى قليل والصبر معتمد المؤمن. وقال: من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح، ومن لم يَعدَّ كلامه من عمله كثرت خطاياه، والرضا قليل ومعول المؤمن على الصبر5551. وكان من أجل ما صبر عليه عمر في حياته: أمر الخلافة، فقد قال: والله ما قعدت مقعدي هذا إلا خوفاً أن يثبت عليه من ليس بأهل، ولو أني(3/201)
أطاع فيما أعمل لسلمتها إلى مستحقيها ـ يعني الخلافة ـ ولكنني أصبر حتى يأتي الله بأمر من عنده، أو يأتي بالفتح5552.
7 ـ الحزم: لقد اتسم عمر بن عبد العزيز بهذه الصفة، في وقت أكثر ما يكون فيه أمر الأمة والخلافة في حاجة إلى الحزم، وبخاصة فيما يتعلق بالولاة والأمراء والعمال وللدلالة على تحلّي عمر بصفة الحزم وضبط الأمور، وعدم التهاون فيما يراه ضرورياً لخدمة الصالح العام، وما يصلح به أمر المسلمين، ولقد أخذ حزم عمر صوراً مختلفة ومجالات عدة، كحزمه مع أمراء وأشراف بني أمية ومع الذين يريدون شق عصا المسلمين والخروج على جادتهم وإثارة الفتن وسفك الدماء وغير ذلك من الأمور، فقد كان أول مؤشر على حزمه موقفه من بني مروان، إذ قال لهم: أدوا ما في أيديكم ولا تُلجئوني إلى ما أكره، فأحملكم على ما تكرهون، فلم يجبه أحد منهم. فقال: أجيبوني فقال رجل منهم: والله لا نخرج عن أموالنا التي صارت إلينا من آبائنا، فنُفقِّر أبناءنا ونكفر آباءنا، حتى تتزايل رؤوسنا فقال عمر: أما والله لولا أن تستعينوا عليَّ بمن أطلب هذا الحق له، لأضرعت خدودكم عاجلاً، وكني أخاف الفتنة، ولئن أبقاني الله لأُردَّنَّ إلى كل ذي حق حقه إن شاء الله5553 ، وكان إذا وقع في أمر مضى فيه، وجاءه يوماً كتاب من بعض بني مروان فأغضبه فاشتاط5554 ثم قال: إن لله من بني مروان يوماً ـ وقيل ـ وذبحاً ـ وأيم الله، لئن كان ذلك الذبح على يدي، فلما بلغهم ذلك، كفوا وكانوا يعلمون صرامته، وأنه إذا وقع في أمر مضي فيه5555، وأما فيما يتعلق بمن يريد شق عصا المسلمين والخروج عليهم، فقد اتبعه معهم أسلوب الحوار والمناظرة ـ وهم الخوارج الذين ثاروا ضد بني أمية بقيادة شوذب الخارجي 100هـ ليقف على ما دفعهم إلى ذلك ويرى إن كان الحق معهم نظر في أمره، وإلا فليدخلوا فيما دخل فيه الناس، إلا أنه في الوقت نفسه قرن إجراءاته تلك بشيء من الحزم والصلابة، عندما يصل الأمر إلى مرحلة سفك(3/202)
دماء المسلمين أو الإفساد، إذ كتب إلى عامله على العراق يقول: ألا تحركهم إلا أن يسفكوا دماً، أو يفسدوا في الأرض، فإن فعلوا فخل بينهم وبين ذلك، وانظر رجلاً طيباً حازماً فوجهه إليهم، ووجه معه جنداً، وأوصه بما أمرتك به5556، وهكذا كان عمر في حزمه، فقد أخذ الإجراءات والمواقف الحازمة والتي كانت على درجة كبيرة من الأهمية والحساسية وكان لذلك الحزم مردوداً إيجابياً كبيراً على سير الأمور وتنفيذ ما كان يسعى لتحقيقه من العدل والطمأنينة ومعالم الخلافة الراشدة5557.(3/203)
8 ـ العدل:إن صفة العدل من أبرز صفات عمر بن عبد العزيز القيادية على الإطلاق ـ وقد تحدث عن العدل في دولته وسياسته في رد المظالم فيما مضى، ولقد أجمع العلماء قاطبة على أنه ـ أي عمر بن عبد العزيز ـ من أئمة العدل، وأحد الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين5558، ولعل عدل عمر من أهم أسبابه يرجع إلى إيمانه بأن العدل أحد نواميس الله في كونه ويقينه التام بأن العدل ثمرة من ثمرات الإيمان، وأنه من صفات المؤمنين المحبين لقواعد الحق وإلى إحساس عمر بوطأة الظلم للناس في خلافة من سبقه من الخلفاء والأمراء الأمويين بالإضافة إلى السبب الأهم وهو: ما أمر الله به من العدل والإحسان، وأنهما الأسس العامة لأحكام الشرائع السماوية، وما نماه الإسلام في نفس عمر، من حب للعدل وإحياء لقيمه5559، وإليك هذه الصور من عدله والتي لم أذكرها فيما مضى، فتورد ما رواه الآجري من أن رجلاً ذمّياً من أهل حمص قدم على عمر، فقال: يا أمير المؤمنين: أسألك كتاب الله عز وجل، قال: وما ذاك، قال العباس بن الوليد بن عبد الملك: اغتصبني أرضي ـ والعباس جالس ـ فقال له: يا عباس ما تقول؟ قال: أقطعنيها يا أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك، وكتب لي بها سجلاً، فقال عمر: ما تقول يا ذمي؟ قال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله عز وجل. فقال عمر: كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد بن عبد الملك، فأردد عليه يا عباس ضيعته فردّها عليه5560. ومن مواقفه العادلة ما حدّث به الحكم بن عمر الرعيني، قال: شهدت مسلمة بن عبد الملك يخاصم أهل دير إسحاق عند عمر بن عبد العزيز بالناعورة5561، فقال عمر لمسلمة: لا تجلس على الوسائد، وخصماؤك بين يدي، ولكن وكّل بخصومتك من شئت، وإلا فجاثي القوم بين يدي، فوكل مولى له بخصومته ـ يعني مسلمة ـ فقضى عليه بالناعورة5562، وهذا قليل من كثير، مما أوردته كتب السير عن عدل عمر.
9 ـ تضرعه ودعاؤه واستجابة الله لدعائه:(3/204)
كان عمر بن عبد العزيز كثير التضرع والدعاء، فقد كان يقول: يا رب خلقتني ونهيتني ووعدتني بثواب ما أمرتني، ورهبتني عقاب ما نهيتني عنه وسلطت علي عدواً أسكنته صدري وأجريته مجرى دمي، إن أهمّ بفاحشة شجعني وإن أهم بصالحة ثبطني، لا يغفل إن غفلت، ولا ينسى إن نسيت، ينصب لي في الشهوات، ويتعرض لي في الشبهات، وإلا تصرف عني كيده يستذلني، اللهم فأقهر سلطانه علي بسلطانك عليه حتى أحبسه بكثرة ذكري لك فأكون مع المعصومين بك، ولا حول ولا قوة إلا بالله5563، وكان يقول: اللهم أصلح صلاح أمة محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم أهلك من كان في هلاكه صلاح أمة محمد صلى الله عليه وسلم5564، وكان يدعو بهذا: اللهم ألبسني العافية حتى تهنّيني المعيشة، واختم لي بالمغفرة حتى لا تضرني الذنوب، واكفني كل هول دون الجنة حتى تبلغنيها برحمتك يا أرحم الراحمين5565، وكان يقول: اللهم إني أطعتك في أحب الأشياء إليك وهو التوحيد، ولم أعصك بأبغض الأشياء إليك وهو الشرك، فأغفر لي ما بينهما5566.وكان يقول: اللهم أني أعوذ بك أن أُبدّل نعمتك كفراً، أو أن أكفرها بعد موتها، أو أن أنساها فلا أثني بها5567. وكان كثيراً ما يدعو بها: اللهم رضني بقضاك، وبارك لي في قدرك، حتى لا أحب تعجيل شيء أخرته، ولا تأخير شيء عجلته5568. وكان رحمه الله مستجاب الدعوة، فروى ابن الحكم أن ابن الريان كان سيافاً للوليد بن عبد الملك، فلما ولي عمر الخلافة قال: إني أذكر ابأوه وتيهه، ثم قال: اللهم إني قد وضعته لك فلا ترفعه، فما رئي شريف قد خمد ذكره مثله حتى لا يذكر5569، وقد دعا عمر رحمه الله حين حج وأخبر قبل دخوله إلى مكة بقلة الماء فيها، فدعا عند ذلك، فأجاب الله دعاءه، فسقوا وهذا حين كان أمير على المدينة5570، كما دعا على غيلان القدري حين ناظره فقال: اللهم إن كان عبدك غيلان صادقاً وإلا فأصلبه، فصلب بعد في خلافة هشام بن عبد الملك5571.(3/205)
ثانياً: معالم التجديد عند عمر بن عبد العزيز:
يرى المتتبع لأقوال العلماء والمؤرخين والمهتمين بدراسة الحركة التجديدية، إجماعاً تاماً على عدّ الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز المجدد الأول في الإسلام5572، وكان أول من أطلق عليه ذلك الإمام محمد بن شهاب الزهري، ثم تبعه على ذلك الإمام أحمد بن حنبل فقال:يروى في الحديث إن الله يبعث على رأس كل مائة عام من يصحح لهذه الأمة أمر دينها، فنظرنا في المائة الأولى فإذا هو عمر بن عبد العزيز5573، وتتابع العلماء على عدّه أول المجددين وذكر بعض أهل العلم هو من المقصودين بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها5574. ولا شك أن عمر بن عبد العزيز خليق بأن يكون ممن يحمل عليه هذا الحديث، فقد كان عالماً عاملاً، همه كله، وعزمه، وهمته، آناء الليل والنهار إحياء السنن وإماتة البدع ومحدثات الأمور ومحوها، وكسر أهلها باللسان، والسنن5575، يقول ابن حجر العسقلاني: إن إجمّاع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد، إلا أن يدعى ذلك في عمر بن عبد العزيز، فإنه كان القائم بالأمر على راس المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير وتقدمه فيها ومن ثم أطلق أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه، وأما من جاء بعده فالشافعي، وإن كان متصفاً بالصفات الجميلة إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد والحكم بالعدل5576. ومع أن بعض العلماء رأى أن مقام المجدد الكامل لا يستحقه إلا مهدي آخر الزمان، وأنه لم يولد في الأمة المسلمة مجدد كامل حتى الآن، وإن كان عمر بن عبد العزيز أوشك أن يبلغ مرتبة المجددية الكاملة لو أنه استطاع إلغاء طريقة الحكم الوراثية، وإعادة انتخاب الخليفة عن طريق الشورى5577.وسواء استحق عمر بن عبد العزيز لقب المجدد الكامل أم لا، فإن الأعمال التجديدية التي قام(3/206)
بها، والجهود الكبيرة التي بذلها لاستئناف الحياة الإسلامية، وإعادتها إلى نقائها وصفائها زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين تجعله على رأس المجددين الذين جاد بهم الزمان حتى يومنا هذا، وقد ساعده على ذلك موقعه الذي تبوأه على راس خلافة قوية، منيعة الجانب، مترامية الأطراف، ولكي ندرك حجم الأعمال التجديدية التي إضطلع بها هذا الخليفة، وقدر الإصلاح الذي أحدثه، ينبغي أن نقف على حجم الانحرافات التي طرأت على الحياة الإسلامية والتغيّر والانقلاب الذي حدث للخلافة الإسلامية، ولعلنا لا نجانب الحقيقة إذا حصرنا الانحراف في ذلك الوقت بنظام الحكم، وما نتج عن ذلك مظالم وفساد وأما الحياة العامة فكانت أنوار النبوة لازالت ذات أثر بالغ فيها وكان الدين صاحب السلطان الأول في قلوب الناس5578.
1 ـ من إصلاحات عمر وأعماله التجديدية:
أ ـ الشورى: قد مرّ معنا أن عمر بن عبد العزيز في أول لقاء له مع الناس حمد الله وأثني عليه وقال: يا أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لآنفسكم فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك: فَلِ أمرنا باليُمن والبركة5579. وبهذا يكون عمر قد قام بأول عمل تجديدي، حيث أعفى الناس من الملك العضوض، ولم يجبرهم على القبول بمن لم يختاروه، بل رد الأمر إليهم وجعله شورى بينهم5580.
ب ـ الأمانة في الحكم وتوكيل الأمناء:(3/207)
…فقد تواترت النقول المفيدة أنه بلغ من حرصه على ذلك أقصى المراتب فقد استشعر عظم المسؤولية وضخامة الحمل منذ اللحظة الأولى لاستلامه الخلافة، فقال لمن سأله: مالي أراك مغتماً؟ قال: لمثل ما أنا فيه فليُغتم، ليس أحد من الأمة إلا وأنا أريد أن أوصل إليه حقه غير كاتب إليّ فيه، ولا طالبه مني5581. وقال: لست بخير من أحد منكم، ولكن أثقلكم حملاً5582. وكان يطالب عمّاله باختيار أصحاب الكفاءة والدين فيمن يولونه شأنا من شؤون المسلمين، فقد كتب إلى أحد عمّاله: لا تولين شيئاً من أمر المسلمين إلا المعروف بالنصيحة لهم، والتوفير عليهم، وأداء الأمانة فيها استرعى5583، ولم تكن سياسته في التورع عن أموال المسلمين سياسة طبقها على خاصة نفسه فقط بل أزم بها عمّاله وولاته، فقد كتب إلى عامله أبي بكر بن حزم: أن أدق قلمك، وقارب بين أسطرك، فإني أكره أن أخرج من أموال المسلمين مالاً ينتفعون به5584، وقد ساس رعيته سياسة رحيمة، وأمَّن لهم عيشاً رغيداً وكفاهم مذلة السؤال، فقسم فضول العطاء في أهل الحاجات5585، وقسم في فقراء أهل البصرة ثلاثة دراهم لكل إنسان، وأعطى الزمنى خمسين خمسين5586، وطلب من عماله أن يجهزوا من أراد أداء فريضة الحج5587، وكتب إلى عماله: أن اعملوا خانات في بلادكم فمن مر بكم من المسلمين، فاقروهم يوماً وليلة وتعهدوا دوابهم فمن كانت به علّة فاقروهم يومين وليلتين، فإن كان منقطعاً به فقوّوه بما يصل به إلى بلده5588، وقد عزّ في زمن عمر وجود من يقبل الزكاة يقول عمر بن أسيد: والله ما مات عمر بن عبد العزيز حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون، فما يبرح يرجع بماله كله قد أغنى عمر الناس5589، وكانت حرمة المسلمين فوق كل الأموال فقد كتب إلى عماله: أن فادوا بأسارى المسلمين، وإن أحاط ذلك بجميع مالهم5590، ولاتزال خلافة عمر بن عبد العزيز حجة تاريخية، على كل أولئك الذين يشككون في إمكانية إقامة(3/208)
نظام اقتصادي إسلامي وبرهاناً ساطعاً على أن الاحتكام للشريعة الربانية هو وحده الذي يكفل للناس السعادة في الدنيا والآخرة5591.
ج ـ مبدأ العدل:
…فقد كان فيه لعمر القدح المعلاّة، وكان بحق وارثاً فيه لجدّه لأمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد ضرب فيه على النقود عبارة: أمر الله بالوفاء والعدل5592، وطلب أن لا يقام على أحد حد إلا بعد علمه5593، وكتب لعامله الجراح بن عبد الله الحكمي أمير خراسان: يا ابن أم جراح: لا تضربن مؤمناً ولا معاهداً سوطا إلا في حق، واحذر القصاص، فإنك صائر إلى من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وتقرأ كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا إحصاها5594. وأنصف أهل الذمة وأمر أن لا يعتدي عليهم أو على معابدهم وكتب إلى عماله: لا تهدموا كنيسة ولا بيعة، ولا بيت نار صولحتم عليه5595، وقد رفع المكس وحطّ العشور والضرائب التي فرضتها الحكومات السابقة، وأطلق للناس حرية التجارة في البر والبحر، وقد تبرأ من المظالم التي كان يرتكبها بنو أمية وتبرأ من الحجّاج وأفعاله و أنكر على عمّاله الاستنان بسنته5596.
س ـ أحياؤه مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:(3/209)
…أخذت الخلافة تتراجع عن الغاية التي قامت من أجلها وهي حراسة الدين، فنهض عمر بهذا المبدأ ورفع لواءه وأعلى شأنه وجعله المهيمن والمقدّم على ما سواه وما حقق عمر ما حققه من أعمال وإنجازات إلا انطلاقاً من خوفه الشديد من الله، وطلبه فيما فعله مرضاته، وقد ساعده على ذلك أنه كان من أجلة العلماء التابعين وأئمة الاجتهاد5597حتى قال عنه عمر بن ميمون: كان العلماء مع عمر بن عبد العزيز تلامذة5598وقد كان لسلامة دينه وصدق عقيدته الأثر البالغ في تجديده وإصلاحاته، فقد حارب الأهواء والبدع، وشدد النكير على أهلها5599ـ وسيأتي بيان ذلك بالتفصيل بإذن الله تعالى. وقد نقل عنه الإمام الأوزاعي قوله: إذا رأيت قوماً يتناجون في دينهم بشيء دون العامة، فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة5600. وكان يرى أنه لا قيمة لحياته لولا سنة يحيها، أو بدعة يميتها5601، وقد أهتم اهتماماً شديداً بديانة الناس وأخلاقهم، فكتب إلى عمّاله: اجتنبوا الأشغال عند حضور الصلوات فمن أضاعها فهو لما سواها من شرائع الإسلام أشدّ تضييعاً5602. والناظر في رسائل عمر وخطبه وموعظة وهي أكثر من أن تحص يرى إيماناً قوياً، ومراقبة جلية وخوفاً من يوم يقف فيه الناس بين يدي رب العالمين، وقد أثرت شخصية عمر وسياسته العادلة تأثيراً بالغاً في حياة العامة وميولهم وأذواقهم ورغباتهم5603يدل على ذلك ما ذكره الطبري في تاريخه مقارناً عهد عمر بعهود من سبقه من الحكام السابقين: كان الوليد صاحب بناء واتخذ المصانع والضياع وكان الناس يلتقون في زمانه، فكان يسأل بعضهم بعضاً عن البناء والمصانع، فولي سليمان فكان صاحب نكاح وطعام، فكان الناس يسأل بعضهم عن التزويج والجواري، فلمّا ولي عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل: ما وراءك الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى تختم، ومتى ختمت. وما تصوم من الشهر5604؟ ولم يكتف عمر بإقامة الدين داخل دولته، بل وجّه عنايته إلى غير المسلمين،(3/210)
ودعاهم إلى الدخول في الإسلام، وراسل ملوك الهند وملوك ما وراء النهر، ووعدهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، فأسلم الكثير منهم وتسموا باسماء5605العرب، ولعل من أجّل الأعمال التي خدم بها هذا الدين أمره بتدوين العلوم الإسلامية وخاصة علم الحديث، وسيأتي بيان ذلك بالتفصيل بإذن الله تعالى، كل هذه الأعمال العظيمة والإصلاحات الجليلة حققها عمر في مدة خلافته الوجيزة، فغدا درة للأمة، ومنارة يستهدي بنورها الملتسمون دروب التجديد والإصلاح5606.
2 ـ من شروط المجدد وصفاته:
…نستطيع أن نحدد أهم شروط المجدد والصفات التي ينبغي أن تتوافر فيه حتى يعد من المجددين من خلال سيرة عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
…أ ـ أن يكون المجدد معروفاً بصفاء العقيدة وسلامة المنهج:
…وذلك لأن من أخص مهمات التجديد إعادة الإسلام صافياً نقياً من كل العناصر الدخيلة، وهذا لا يحصل إلا إذا كان المجدد من السائرين على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، ومن الطائفة الناجية المنصورة التي جاء وصفها بأنها فرقة من ثلاث وسبعين فرقة وأنها تلزم ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في عقيدته، ومنهجه وتصوراته5607وهذا الشرط قد توفر في عمر بن عبد العزيز، وسوف نوضحها في آثاره العقدية عند دراستها بإذن الله تعالى.
…ب ـ أن يكون عالماً مجتهداً:(3/211)
…وهذا الشرط تحقق في عمر بن عبد العزيز فقد واجه المشكلات التي تولدت في عصره واجتهد في وضع الحلول الشرعية لها، وفي الحقيقة أن رتبة الاجتهاد ليست عسيرة إلى الحد الذي تصوره بعض كتب أصول الفقه وممن ذهب إلى وضع شروطاً يكاد يكون من المحال الإحاطة بها، حيث أوجبوا أن يحيط المجتهد بعلوم الآلة كلها من نحو ولغة وبلاغة وبعلوم الشريعة من تفسير وحديث وأصول فقه وعلوم قرآن ومصطلح حديث وسيرة، وبعلمي المنطق وعلم الكلام، وغير ذلك مما يصعب الإحاطة به5608، والصواب أن الاجتهاد سهل ميسور، لمن كانت عنده أهلية النظر، والمهم أن نعلم أن المجدد يشترط فيه أن يكون محيطا بمدارك الشرع، قادراً على الفهم والاستنباط مطَّلعاً على أحوال عصره، فقيها بواقعة5609، يقول المناوي: إن على المجدد أن يكون: قائماً بالحجة، ناصراً للسنة، له ملكة رد المتشبهات إلى المحكمات، وقوة استنباط الحقائق والنظريات، من نصوص الفرقان وإرشاداته ودلالاته واقتضاءاته من قلب حاضر وفؤاد يقظان5610ويقول العظيم آبادي: إن المجدد للدين لابد أن يكون عالماً بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة، ناصراً للسنة، قامعاً للبدعة5611، ويقول المودودي: من الخصائص التي لابد أن يتصف بها المجدد هي: الذهن الصافي، والبصر النفاذ، والفكر المستقيم بلا عوج والقدرة النادرة على تبيين سبيل القصد بين الإفراط والتفريط، ومراعاة الاعتدال بينهما، والقوة على التفكير المجرد عن تأثير الأوضاع الراهنة، والعصبيات الراسخة على طول القرون، والشجاعة والجرأة على مزاحمة سير الزمان المنحرف5612، ويقول في تعداده لعمل المجدد: الاجتهاد في الدين، والمراد به أن يفهم المجدد كليات الدين، ويتبين اتجاه الأوضاع المدنية والرقي العمراني في عصره ويرسم طريقاً لإدخال التعبير والتعديل على صورة التمدن القديمة المتوارثة، يضمن للشريعة سلامة روحها وتحقيق مقاصدها، ويمكّن الإسلام من الإمامة العالمية في رقي المدينة(3/212)
الصحيح.
ج ـ أن يشمل تجديده ميداني الفكر والسلوك في المجتمع:وذلك لأن تصحيح الانحراف من أخص المهمات التي ينبغي أن يقوم بها المجدد، ومعلوم أن الانحراف يطرأ على السلوك كما يطرأ على الفكر، بل إن غالب الانحرافات السلوكية منشؤها الخرافات فكرية، فيقوم المجدد بتصويب الأفهام والأفكار، وتخليصها مما داخلها من شكوك وشبهات، ويحيى العلم النافع، والفهم الصحيح للإسلام، ويبثه بين الناس، وينشره بالتدريس، وتأليف الكتب، وغير ذلك من الوسائل المتاحة، ثم يعمد إلى إصلاح سلوك الناس وتقويم أخلاقهم، وتزكية نفوسهم، وإبطال التقاليد المخالفة للشريعة، وإعلان الحرب على البدع والخرافات، والمنكرات المتفشية في حياة الناس، ومواجهة الفساد بمختلف أشكاله وصوره، وخاصة الفاسد في الحكم والإمارة، بهذا يكون المجدد قد جمع بين القول والفعل، والعلم والعمل، قد أثار السلف إلى هذا الشرط بقولهم عن المجدد إنه ينصر السنة ويقمع البدعة5613.
س ـ أن يعم نفعه أهل زمانه:
…وذلك لأن المجدِّد رجل مرحلة زمنية، تمتد قرناً من الزمن، فلابد إذن من أن يكون منارة يستضيء بها الناس ويسترشدون بهداها، حتى مبعث المجدد الجديد على الأقل، وهذا يقتضي أن يعم علم المجدد ونفعه أهل عصره، وأن تترك جهوده الإصلاحية أثراً بيناً في فكر الناس وسلوكهم، وغالباً ما يتم تحقيق ذلك عبر من يربيهم من تلامذة، وأصحاب أوفياء، يقومون بمواصلة مسيرته الإصلاحية وينشرون كتبه وأفكاره ويؤسسون مدارس فكرية تترسم خطاه في الإصلاح والتجديد5614.
3 ـ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها5615. والدروس والعبر والفوائد المستنيطه منه:(3/213)
…يعد هذا الحديث إحدى البشائر بحفظ الله لهذا الدين مهما تقادم الزمان وبكفالته سبحانه إعزاز هذه الأمة ببعثة المجددين الربانيين الذين يحيونها بعد موات، ويوقظونها من سبات، بما يحملونه من الهدى والنور، وأن هذا الحديث يمنح المسلم طاقة من الأمل الأكيد، بأن المستقبل للإسلام مهما تكاثرت قوى الشر، وتعاظم طغيان أهل الباطل، وبأن النور سيسطع مهما احلولك الليل، واشتد الظلام، ونحن في الوقت الحاضر بحاجة ماسّة لتأكيد هذا المعنى، ونشره بين الناس، حتى نقاوم موجات اليأس والقنوط التي عمَّت النفوس، فجعلتها تستسلم للذل والخضوع والخنوع، بحجة أننا في آخر الزمان وأنه لا فائدة ولا رجاء من كل جهود الإصلاح التي تبذل لأن، الإسلام في إدبار والكفر في إقبال، وها قد ظهرت علامات الساعة الصغرى، ونحن في انتظار العلامات الكبرى التي سيعقبها قيام الساعة، وقد يستدل أصحاب هذا الاتجاه ببعض الأحاديث، ويفهمونها على غير الوجه المراد منها، من ذلك استدلا لهم ببعض الأحاديث، ويفهمونها على غير الوجه المراد منها5616. من ذلك استدلا لهم بحديث أنس رضي الله عنه عند البخاري: لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شرُّ منه حتى تلقوا ربكم5617، وحديث بدأ الإسلام غريباً وسيعود قريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء5618. وينسون أنه لا يجوز أن نفهم هذه الأحاديث بمعزل عن الأحاديث الأخرى التي تحمل البشرة والأمل للأمة، مثل حديث: مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أو آخره5619، وفي قوم دون غيرهم، وفي زمن دون زمن، كما ذكر ابن القيم5620 ولذلك شهد التاريخ الإسلامي حقباً من الظهور والإشراق كعهد عمر بن عبد العزيز5621، ونور الدين، وصلاح الدين، ويوسف بن تاشفين، ومحمد الفاتح، وغيرهم، وتجب الشارة هنا إلى أن حديث التجديد الذي نحن بصدد شرحه، وكذا الأحاديث التي تحمل البشرى بعودة الإسلام إلى واجهة الحياة، وإن كانت أخباراً يقينية صدرت عن الصادق المعصوم، ولابد أن(3/214)
تتحقق كما أخبر، إلا أنها تحمل في مضمونها تكليفاً واستنهاضاً لعزمات المسلمين بوجوب السعي الدؤوب لتحقيق نصر الله لهذا الدين وإعزاز أهله كما هي سنة الله في ترتيب المسببات على الأسباب5622.
…أ ـ في قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله يبعث لهذه الأمة5623: إن هذا المبعوث لم يعد همه نفسه فقط، بل تجاوز ذلك ليعيش لهذه الأمة، فهو صاحب عزيمة وهمة يعيش هموم أمته ويبذل قصارى جهده مواصلاً عمل النهار بالليل، لينقذ هذه الأمة من وهدتها، ويعيد لها ثقتها بدينها، ويردها إلى المنهج الصحيح، مصابراً على ما يعترض سبيله من عقبات ومغالباً كل المشقات والتحديات، ليصل إلى رفعة هذه الأمة وعودة مجدها5624.
ب ـ قوله: على رأس كل مائة سنة5625
الرأس في اللغة يمكن أن يراد به أول الشيء، كما أن يمكن أن يراد به آخره5626، وقد اختلف العلماء في المراد من الرأس في هذا الحديث، فقال بعضهم: المراد: أول المائة وقال آخرون: المراد آخرها5627، وهذا ما اختاره ابن حجر5628، والطيبي5629، والعظيم آبادي5630، وقد احتج العظيم آبادي لاختياره بكون الإمامين الزهري وأحمد بن حنبل وغيرهما من الأئمة المتقدمين والمتأخرين، اتفقوا على أن من المجددين على رأس المائة الأولى عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وعلى رأس المائة الثانية الإمام الشافعي رحمه الله، وقد توفي عمر بن عبد العزيز سنة احدى ومائة، وله أربعون سنة، ومدة خلافته سنتان ونصف، وتوفي الشافعي سنة أربع ومائتين5631، ولا يمكن عد عمر بن عبد العزيز مجدد المائة الأولى اعتباره أولها لأنه لم يكن مولوداً أولها فضلاً عن أن يكون مجددها وكذا الإمام الشافعي لم تكن ولادته بداية المائة الثانية فضلاً عن أن يكون مجددها5632.
ج ـ هل يشترط لعد المجدد أن تقع وفاته على رأس المائة؟(3/215)
…يشترط بعض العلماء لاستحقاق المجدد هذا الوصف أن تقع وفاته على رأس القرن، إلا أن هذا الرأي مرجوح لأن كلمة (البعث) في الحديث تدل على الإرسال والإظهار والموت قبض وزوال، فالمقصود من الحديث: أن المجدد من تأتي عليه نهاية القرن وقد ظهرت أعماله التجديدية، واشتهر بالصلاح وعمّ نفعه، ولا يشترط أن تقع وفاته قبيل نهاية القرن أو أن يبقى حياً حتى يدخل عليه القرن التالي5633.
س ـ هل مجدد القرن واحد أو متعدد؟
…أثار قوله صلى الله عليه وسلم: من يجدد لها دينها سؤالاً في الماضي والحاضر، هو: هل المقصود بلفظة (من) الواردة في الحديث فرداً واحداً من أفراد الأمة وأفذاذها يحي الله بها دينها، أم المراد بها ما هو أوسع من ذلك فيشمل الأفراد والجماعات، وذهب كثير من العلماء إلى أن المجدد فرد واحد، ونسب السيوطي هذا الرأي إلى الجمهور فقال في أرجوزته عن المجددين:
………وكونه فرداً هو المشهور
………………قد نطق الحديث والجمهور5634
وذهب فريق آخر من العلماء إلى أن كلمة (من) في الحديث للعموم في أصل وضعها اللغوي5635، فتشمل الواحد والجماعة على حد سواء5636، ومن هؤلاء العلماء ابن حجر وابن الأثير والذهبي وابن كثير والمناوي والعظيم آبادي5637، ويتبين من خلال البحث أن حمل لفظة (من) في الحديث عن العموم أولى، لأن التاريخ والواقع يثبت وجود أكثر من مجدد رأس كل قرن من القرون الخوالي، ولأن مهمة التجديد مهمة ضخمة واسعة لكونها لا تقتصر على جانب من جوانب الدين، ولأن رقعة الأمة الإسلامية تمتد على مساحة شاسعة يصعب معها على فرد بل مجموعة أفراد أن يقوموا بعملية التجديد الشامل المطلق5638.
ك ـ المجدد هو دين الأمة وليس الدين نفسه:(3/216)
…يلاحظ المتأمل في قوله صلى الله عليه وسلم (من يجدد لها دينها) أنه أضاف الدين إلى الأمة ولم يقل يجدد لها الدين، وذلك لأن الدين بمعنى المنهج الإلهي الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وما إشتمل عليه من عقائد وعبادات وأخلاق وشرائع تنظم علاقة العبد بربه وعلاقته بغيره من بني جنسه، ثابت كما أنزله الله لا يقبل التغيير ولا التجديد، وأما دين الأمة بمعنى علاقة الأمة بالدين ومدى تمسكها وتخلقها به وترجمتها له واقعاً ملموساً على الأرض، فهو المعنى القابل للتجديد ليعيد الناس إلى المستوى الذي ينبغي أن يكونوا عليه بعلاقتهم مع الدين5639.
المبحث الثالث : اهتمام عمر بن عبد العزيز بعقائد أهل السنة:
اهتم عمر بن عبد العزيز بعقائد أهل السنة وحرص على تعلمها وتعليمها وبثها بين الناس، وتناثرت أقواله في عقائد أهل السنة بين المراجع والمصادر الإسلامية من عقائد وتفسير وحديث وفقه وغيرها، وقام الأستاذ حياة بن محمد بن جبريل بجمع الكثير منها ونال بهذا الجهد العلمي رسالة الماجستير والكثير ممن كتب عن حياة عمر بن عبد العزيز لم يسلط الأضواء على هذا البعد المهم في حياته والمتعلق بحرصه على توعية الناس وتعليمه المعتقد الصحيح الذي جاء ذكره في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أهم الجوانب العقائدية التي تحدث فيه عمر بن عبد العزيز رحمه الله:(3/217)
أولاً : توحيد الألوهية: توحيد الألوهية أساس دين الإسلام، بل هو أساس كل دين سماوي، به أرسل جميع الرسل وأنزلت عليهم جميع الكتب، وهو الذي دعا إليه كل رسول من آدم عليه السلام إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بل هو الغاية من خلق الجن والإنسان، قال تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) (الذاريات ، الآية :56). وكان سلف هذا الأمة رحمهم الله يهتمون بهذا النوع من التوحيد وممن كان له إسهام في هذه المسألة عمر بن عبد العزيز5640، وقبل بيان ما اثر عنه فمن الأهمية بمكان بيان المقصود من توحيد الألوهية عند إطلاقه: فعرف بأنه: استحقاق الله سبحانه وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له5641. وعرفه بعض الباحثين بأنه: توحيد الله بأفعال العباد وهو المعبر عنه بتوحيد الطلب والقصد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له ومحبته وخوفه ورجاءه والتوكل عليه والرهبة والرغبة منه وإليه وحده، والتقرب إليه بسائر العبادات البدنية والمالية دون إشراك أحد أو شيء من خلقه5642، وقد ورد عن عمر بن عبد العزيز آثار في الدعاء والتبرك والخوف والرجاء والتوكل والشكر:
1 ـ الدعاء:
أ ـ مر عمر بن عبد العزيز برجل في يده حصاة يلعب بها وهو يقول: اللهم زوجني من الحور العين، فقام إليه فقال: بئس الخاطب أنت، ألا ألقيت الحصاة، وأخلصت إلى الله الدعاء5643. وفي هذا الأثر بين عمر بن عبد العزيز أن من شروط الدعاء الإخلاص وحضور القلب وهذا ما دل عليه الكتاب والسنة. قال تعالى:(( فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) (غافر :آية: 14)وقال صلى الله عليه وسلم: ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه5644.(3/218)
ب ـ قال عمر بن عبد العزيز:اللهم إني أطعتك في أحب الأشياء إليك وهو التوحيد، ولم أعصك في أبغض الأشياء إليك وهو الكفر فاغفر لي ما بينهما5645. فهنا توسل عمر بن عبد العزيز بالطاعة والتوحيد وطلب الغفران من الله تعالى، ولا شك أن التوسل بالأعمال الصالحة مشروع كحديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار5646، فإنهم توسلوا بأعمالهم الصالحة ليجيب الله دعاءهم ويفرج كربتهم وقد توسل المؤمنون بأعمالهم الصالحة من الإيمان وقدموه قبل الدعاء قال تعالى: ((رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ)) (آل عمران ، الآية : 193)، فإنهم قدموا الإيمان قبل الدعاء وأمثال ذلك كثير5647.
ج ـ حصلت زلزلة بالشام، فكتب عمر بن عبد العزيز: أما بعد: فإن هذا الرجف شيء يعاتب الله به العباد، وقد كتب إلى أهل الأمصار أن يخرجوا يوم كذا من شهر كذا، فمن كان عنده شيء فليتصدق5648. قال الله عز وجل:(( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)) (الأعلى، آية: 14 ـ 15) وقولوا كما قال آدم: ((رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (الأعراف ، الآية : 13)، وقولوا كما قال نوح عليه السلام: ((وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (هود ، الآية : 47) قولوا كما قال يونس عليه السلام: ((لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)) (الأنبياء ، الآية : 87)، فقد أمر رحمه الله الرعية بالالتجاء إلى الله تعالى والتصدق والاستغفار والخروج إلى المصلى عندما حصلت الزلزلة بالشام5649.(3/219)
س ـ قال ميمون بن مهران: كنت عند عمر بن عبد العزيز: فكثر بكاؤه ومسالته ربه الموت، فقلت: لم تسأل الموت، وقد صنع الله على يديك خيراً كثيراً، أحيا بك سنناً، وأمات بك بدعاً، قال: أفلا أكون مثل العبد الصالح حين اقر الله عينه وجمع له أمره قال: ((رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)) (يوسف ، الآية : 101). وقد طلب الدعاء له بالموت على الإيمان ودعا به إقتداء بالصالحين، فهذا الدعاء من سنن المرسلين وهو من شعار الصالحين، وقد يكون أيضاً دعا به ـ رحمه الله ـ خوفاً من الفتنة في الدين لاسيما عند وفاة أعوانه ابنه عبد الملك ومولاه مزاحم وأخيه سهل، كما جاءت في بعض الروايات5650
2 ـ الشكر: عن يحي بن سعيد قال: بلغني أن عمر بن عبد العزيز قال: ذكر النعم شكرها5651، وقال عمر بن عبد العزيز: شيدوا نعم الله عز وجل بالشكر لله تعالى5652،، وكتب إلى بعض عماله فقال:.. أوصيك بتقوى الله وأحثك على الشكر فيما عندك من نعمته وآتاك في كرامته فإن نعمه يمدها شكره ويقطعها كفره5653 حث عمر بن عبد العزيز على شكر الخالق فتبارك وتعالى على نعمه الكثيرة وآلائه الجسيمة، وهذا ما دل عليه الكتاب والسنة،، قال تعالى: ((وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون)) (البقرة ، الآية : 172) وقال عز وجل: ((وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ)) (البقرة ، الآية : 152). والشكر يستلزم المزيد قال تعال: ((وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)) (إبراهيم ، الآية : 7) وما أثر عن عمر ـ رحمه الله تعالى ـ في هذا الجانب يبين منهج السلف في التعامل مع النعم التي ينعمها الخالق على عباده5654.(3/220)
3 ـ التوكل: قال الحكم بن عمر: كان لعمر بن عبد العزيز ثلاثمائة حرسيّ وثلاثمائة شرطي فشهدته يقول لحرسه: إن لي عندكم بالقدر حاجزاً، وبالأجل حارساً من أقام منكم فله عشرة دنانير ومن شاء فليلحق بأهله5655. ولما خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة نظر مولاه مزاحم إلى القمر فإذا القمر في الدبران5656، قال: فكرهت أن أقول ذلك له فقلت: ألا تنظر إلى القمر ما أحسن استواءه في هذه الليلة فنظر عمر فإذا هو بالدبران فقال: كأنك أردت أن تعلمني أن القمر بالدبران يا مزاحم إنا لا نخرج بشمس ولا قمر ولكننا نخرج بالله الواحد القهار5657. يظهر حرص عمر على التوكل مع الأخذ بالأسباب المشروعة، والتوكل هو الاعتماد على الله مع الأخذ بالأسباب، وهو أصل من أصول التوحيد قال تعالى: ((فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ)) وقال عز وجل: ((وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ)) (الفرقان ، الآية : 58) . والتوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب، ويدفع بها المكروه، فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل ولكن من تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب. وقطع علاقة القلب بها، فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها وحال بدنه قيامه بها5658.(3/221)
4 ـ في الخوف وارجاء: عن يزيد بن عياض بن جعدبة، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى سليمان بن أبي كريمة: إن أحق العباد بإجلال الله والخشية منه من ابتلاه بمثل ما ابتلاني به، ولا أحد أشد حساباً ولا أهون على الله إن عصاه مني فقد ضاق بما أنا فيه ذرعي وخفت أن تكون منزلتي التي أنا بها هلاكاً إلا أن يتداركني الله منه برحمة، وقد بلغني أنك تريد الخروج في سبيل الله، فأحب يا أخي إذا أخذت موقفك أن تدعو الله أن يرزقني الشهادة فإن حالي شديدة وخطري عظيم، فأسأل الله الذي ابتلاني بما ابتلاني به أن يرحمني ويعفو عني5659. وقال ربيع بن سبرة لعمر بن عبد العزيز وقد هلك ابنه وأخوه ومولاه مزاحم في أيام ـ: يا أمير المؤمنين ما رأيت رجلاً أصيب في أيام متوالية بأعظم من مصيبتك، ما رأيت مثل ابنك ابناً، ولا مثل أخيك أخاً، ولا مثل مولاك مولى، قال: فنكس ساعة ثم قال لي: كيف قلت يا ربيع؟ فأعدتها عليه. فقال: لا والذي قضى عليهم الموت ما أحب أن شيئاً من ذلك كان لم يكن من الذي أرجو من الله فيهم5660، وعن قتادة أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى ولي العهد من بعده: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى يزيد بن عبد الملك: السلام عليك: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد: فإني كتبت إليك وأنا دنف5661 من وجعي وقد علمتني أني مسؤول عما وليت يحاسبني عليه مليك الدنيا والآخرة ولست أستطيع أن أخفي عليه من عملي شيئاً يقول: ((فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ)) (الأعراف ، الآية : 7) فإن يرضى عني الرحيم فقد أفلحت ونجوت من الهول الطويل، وإن سخط علي فيا ويح نفسي إلى ما أصير، أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجيرني من النار برحمته وأن يمن علي برضوانه والجنة5662. ومن كلام عمر يتبين لنا جمعه بين الخوف والرجاء ولا شك أن الجمع بين الخوف والرجاء هو من عقيدة السلف الصالح، وهو توسط المؤمن بين(3/222)
الأمن من مكر الله واليأس من روح الله، فالسلف كانوا يخافون ربهم، ويرجون رحمته5663 وهم سائرون على ما قال تعالى: ((أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ)) (الأسراء ، الآية : 57). وقد مدح الله أهل الخوف والرجاء بقوله: ((أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ)) (الزمر ، الآية : 9).
ثانياً : معتقد عمر بن عبد العزيزو في أسماء الله الحنسى:
…أسماء الله الحسنى: هي كلماته الدالة على ذاته المتضمنة إثبات صفات الكمال له بلا مماثلة وتنزيهه عن صفات النقص والعيب5664. والأسماء الحسنى المعروفة هي التي يدعى الله بها، وهي التي جاءت في الكتاب والسنة، وهي تقتضي المدح والثناء بنفسها5665، ولا شك أن كل قاري للقرآن الكريم، وللأحاديث النبوية يجد أن الله تبارك وتعالى في كتابه قد سمى نفسه بأسماء، وأن رسوله صلى الله عليه وسلم قد سمى ربه بأسماء ومن المعلوم أن السلف الصالح يثبتون لله تعالى من الأسماء ما أثبته الله نفسه أو أثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا أحد أعلم بالله من الله، ولا أحد أعلم بالله بعد الله من رسوله صلى الله عليه وسلم وأسماء الله تعالى كلها حسنى، وهي أعلام، وأوصاف وهي أسماؤه حقيقة دالة على ذاته وصفاته وهي توقيفية، وغير محصورة بعدد معين، وغير مخلوقة، ولا يجوز الإلحاد فيها5666، ومن خلال رسائل وخطب عمر بن عبد العزيز نوضح بعض أسماء الله تعالى التي ذكرها في رسائله وخطبه ومنهج عمر بن عبد العزيز هو منهج الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وقد قعد أهل السنة قواعد في أسماء الله تعالى يمكن استنتاج بعضها من كلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله فمن هذه القواعد ما يلي:(3/223)
ـ أن أسماء الله تعالى أزلية، قال عمر بن عبد العزيز:.. ولقد أعظم بالله الجهل من زعم أن العلم كان بعد الخلق بل لم يزل الله وحده بكل شيء عليماً، وعلى كل شيء شهيداً قبل أن يخلق شيئاً وبعد ما خلق5667فبين عمر أن الله له الأسماء الحسنى وهي العليم، والشهيد أزلاً وهذا معتقد أهل السنة والجماعة5668.
ـ أن أسماء الله تعالى توقيفية، وهذا منهج أهل السنة والجماعة وهو ما تبين بالاستقراء من كلامه حيث لم يذكر حسب إطلاعي إلا أسماء الله الواردة في الكتاب والسنة، وهو الحق إذ لا يجوز أن يسمى الله إلا بما سمى به نفسه في كتابه الكريم أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم5669.
ـ…أن أسماء الله تعالى أعلام وأوضاف، أعلام باعتبار دلالتها على الذات وأوصاف باعتبار ما دلت عليه من المعاني وهي بالاعتبار الأول ـ أي أعلام ـ مترادفة، وبالاعتبار الثاني ـ أي أنها أوصاف ـ متباينة للدلالة كل واحد منها على معناه الخاص، فالحي الرحمن الرحيم كلها أسماء لمسمى واحد لكن معنى الحي غير معنى الرحمن هكذا5670. وقد خالف معتقد السلف الصالح في توحيد الأسماء الحسنى بعض الفرق المنتسبة إلى الإسلام فالجهمية5671، أنكرت الأسماء الحسنى وذلك لظنهم أن التوحيد نقي محض، وأن إثبات الأسماء الحسنى إثبات لأعراض حادثة ولم يثبتوا من الأسماء الحسنى غير اسم (القادر والخالق) لأن الجهم لا يسمى أحداً من المخلوقين قادراً لنفيه استطاعة العباد ولا يسمي أحداً خالقاً غير الله تعالى، لأن عنده أن كل صفة أو اسم يجوز أن يسمي أو يتصف به غير الله فلا يجوز إطلاقه على الله تعالى5672، وعلى هذا يجب على المسلم الوقوف عندما ثبت وترك الابتداع، والتحريف والتأويل المفضي إلى الإلحاد5673 فإن الله تعالى قال: ((وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) (الأعراف ، الآية : 180) .(3/224)
…وقد وردت في رسائل عمر بن عبد العزيز وخطبه كثير من أسماء الله الحسنى، كالله عز وجل، والرب، والرحمن والرحيم، المليك والخبير، والكريم، والحي، والرقيب، والشهيد والواحد القهار، والعلي العظيم، والعفو الغفور، والعزيز الحكيم، والوارث، والخالق، والعليم5674، ونتحدث عن بعض هذه الأسماء.
1 ـ في أسمه تعالى ((الرب)): كان عمر يقول: يا رب انفعني بعقلي5675 والرب من اسماء الله الحسنى، قال تعالى: ((بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)) (سبأ ، آية : 15) . ومعنى الرب: المصلح للشيء . ورب الشيء: مالكه فالله عز وجل مالك العباد ومصلحهم ومصلح شئونهم5676 ومصدر الرب الربوية، وكل من ملك شيئاً فهو ربه، يقال: هذا رب الدار، ورب الصنيعة ولا يقال: الرب: معرفاً بالألف واللام مطلقاً إلا لله عز وجل لأنه مالك كل شيء5677.
2 ـ في اسمه تعالى ((الحي)): كان لعمر بن عبد العزيز صديق، فأخبر أنه قد مات فجاء إلى أهله يعزيهم، فصرخوا في وجهه، فقال لهم عمر: إن صاحبكم هذا لم يكن يرزقكم، وإن الذي يرزقكم حي لا يموت5678 فالحي اسم من اسماء الله الحسنى. قال تعالى: ((اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)) (البقرة ، الآية : 255). وحياته تعالى لم تسبق بعدم ولا يلحقها زوال، الحياة المستلزمة لكمال الصفات في العلم والقدرة والسمع والبصر، وغيرها5679.
3 ـ في اسميه : الواحد القهار: قال عمر بن عبد العزيز لمولاه مزاحم: يا مزاحم إنا لا نخرج بشمس ولا قمر، ولكنا نخرج بالله الواحد القهار5680. من أسماء الله الحسنى الواحد القهار قال تعالى: ((يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)) (إبراهيم ، الآية : 48)، والواحد القهار أي: المتفرد بعظمته واسمائه وصفاته وأفعاله العظيمة وقهره لكل العوالم، فكلها تحت تصرفه وتدبيره، فلا يتحرك منها متحرك ولا يسكن ساكن إلا بإذنه5681.(3/225)
4 ـ في اسميه تعالى: العلي العظيم: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أمراء الأجناد رسالة واختتمها بقوله:.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم5682، العلي العظيم من الأسماء الحسنى قال تعالى: ((وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)) (البقرة ، الآية : 255). والعلي: بذاته فوق عرشه، العلي بقهره لجميع المخلوقات، العلي بقدره لكمال صفاته،5683 والعظيم: الذي تتضاءل عند عظمته جبروت الجبابرة، وتصغر في جانب جلاله أنوف الملوك القاهرة، فسبحان من له العظمة العظيمة5684. فهذه بعض أسماء الله الحسنى التي جاءت في رسائل أو الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز وهي للمثال وليست للحصر.
ثالثاً : معتقد عمر بن عبد العزيز في صفات الله تعالى:(3/226)
صفات الله عز وجل هي نعوت الكمال القائمة بالذات الإلهية، كالعلم والحكمة، والسمع، والبصر، واليدين والوجه، وغيرها مما أخبر الله تعالى بها عن نفسه في كتابه وعلى لسانه نبيه صلى الله عليه وسلم وتوحيد الله عز وجل في صفاته هو أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه وبما وصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم نفياً وإثباتاً، فيثبت ما أثبته لنفسه وينفي عنه ما نفاه عن نفسه5685. فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله نفياً وإثباتاً فيثبت ما أثبته لنفسه، وينفي عنه ما نفاه عن نفسه، وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه، مع إثبات ما أثبته من الصفات من غير إلحاد لا في أسمائه ولا في آياته، فإن الله تعالى ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته كما قال تعالى: ((وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) (الأعراف ، الآية : 180). وقال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ)) (فصلت ، الآية : 40). فطريقتهم تتضمن إثبات الأسماء والصفات مع نفي مماثلة المخلوقات إثباتاً بلا تشبيه، وتنزيهاً بلا تعطيل، كما قال تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) رد للتشبيه والتمثيل، وفي قوله: ((وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) رد للإلحاد والتعطيل5686. وقد جاءت الآثار عن عمر بن عبد العزيز في باب الصفات، فأثبت ما أثبته الله لنفسه، وتحدث عن إثبات صفة النفس، والوجه، والعلم، والكبرياء والقدرة، والعلو، والمعية والقرب، وصفة المشيئة والإرادة وصفة الغضب، والرضى، وصفة الرحمة5687، وإليك(3/227)
الحديث عن بعضها:
1 ـ صفة النفس: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الضحاك بن عغبد الرحمن رسالة فقال: أما بعد فإن الله عز وجل جعل الإسلام الذي رضي به لنفسه ومن كرم عليه من خلقه لا يقبل دنيا غيره5688. وهذا الأثر يبين إثبات صفة النفس وهو ما دل عليه الكتاب والسنة، قال تعالى: ((وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)) (آل عمران ، الآية : 28). وقال صلى الله عليه وسلم في ثنائه على ربه: ((.. لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك5689، فنفسه تعالى هي ذاته المقدسة، كما تبين ذلك من الكتاب والسنة5690. فنفسه تعالى هي ذاته المتصفة بصفاته وليس المراد بها ذاتاً منفكة عن الصفات، ولا المراد بها صفة الذات5691.
2 ـ صفة الوجه لله تعالى: كتب عمر إلى الخوارج رسالة وفيها:.. وإني أقسم لكم بالله لو كنتم أبكاري من ولدي.. لدفقت دماءكم ألتمس بذلك وجه الله والدار الآخرة5692. صفة الوجه من الصفات الخبرية الذاتية دل عليها الكتاب والسنة، قال تعالى: ((وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ)) (الرعد ، الآية : 22). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربه ما لا يجوز، ففي سؤاله ربه لذة النظر إلى وجهه يقول: وأسألك لذة النظر إلى وجهك5693.(3/228)
3 ـ صفة القدرة لله تعالى: كتب عمر إلى بعض عماله: أما بعد، فإذا دعتك قدرتك على الناس إلى ظلمهم، فاذكر قدرة الله عليك في نفاذ ما يأتي إليهم وبقاء ما يأتي إليك5694. وقال في رسالته في الرد على القدرية وفيها:.. فالله أعز في قدرته وأمنع من أن يملك أحداً إبطال علمه5695. يتبين من خلال الأثرين السابقين إثبات عمر بن عبد العزيز صفة القدرة لله تبارك وتعالى وهي من الصفات التي دل عليها السمع والعقل قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) (البقرة ، الآية : 20). ومن السنة حديث أبي مسعود البدري لما ضرب غلامه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: اعلم يا أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام5696.
…هذه بعض الأثار التي تدل على إثبات عمر بن عبد العزيز لصفات الله تعالى على أصول منهج أهل السنة والجماعة.(3/229)
رابعاً : نهيه عن اتخاذ القبور مساجد: عن إسماعيل بن أبي حكيم أنه سمع عمر بن عبد العزيز يقول: آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد لا يبقى ـ أو قال: لا يجتمع: دينان بأرض العرب5697، حدثنا حصين، أن عمر بن عبد العزيز نهى أن يبنى القبر بآجر وأوصى بذلك5698. والحديث الذي أرسله عمر رحمه الله ـ يبين تحذير رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته من اتخاذ القبور مساجد وبين أن ذلك فعل اليهود والنصارى والمسلم منهي عن الاقتداء بهؤلاء الضلال المغضوب عليهم بنص القرآن، ولا شك أن اتخاذ القبور مساجد والبناء عليها وتجصيصها مما أجمع على منعه سلف هذه الأمة كما مر عن عمر بن عبد العزيز حيث نهى أن يبني القبر بآجر وأوصى أن لا يفعل ذلك بقبر5699، ولما أمر الوليد بن عبد الملك ببناء المسجد النبوي حين كان عمر عاملاً له على المدينة وإدخال حجرات الرسول صلى الله عليه وسلم ومنها حجرة عائشة رضي الله عنه ـ التي فيه قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه كان عمر بن عبد العزيز هو الذي جعل مؤخر القبر محدداً بركن، لئلا يستقبل قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي إليه جعل ذلك حين إنهدم جدار البيت فبناه على هذا فصار للبيت خمسة أركان5700، والمقصود أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى قد سد منافذ الشرك بعلمه وحكمته كما تبين من نقل من شاهدوا بناء المسجد النبوي في عهد ولايته على المدينة النبوية، ولا شك أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجداً كان خوفاً من المبالغة في تعظيمه والافتتان به، بل ربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية5701. وقد منع عمر من اتخاذ البناء لقبره وأوصى بذلك مع أنه كان في الزمن الذي فيه العقيدة صافية نقية إذا قورن ذلك الزمان بما بعده، ولكن لفهمه الصحيح لمقاصد السنة ولاتباعه المنهج الصحيح منهج النبي صلى(3/230)
الله عليه وسلم وأصحابه وفقه الله تعالى للوصية بأن لا يبني على قبره خشية أن يتخذ مسجداً فحسم الموقف قبل أن يستفحل، ولا شك أن ما ذهب إليه عمر هو ما يدل عليه الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبني عليه5702.
خامساً : مفهوم الإيمان عند عمر بن عبد العزيز: قال عدي بن عدي. قال: كتب إليّ عمر بن عبد العزيز أما بعد: فإن الإيمان فرائض وشرائع وحدوداً، وسنناً فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص5703،، وعن جعفر بن برقان قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز أما بعد: فإن عرى الدين وقوائم الإسلام الإيمان بالله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فصلوا الصلاة لوقتها5704. بين عمر بن عبد العزيز أن الإيمان فرائض أي : أعمالاً مفروضة كالصلاة والحج والصوم، وشرائع أي: عقائد دينية كالإيمان بالله وملائكته، وحدوداً أي: منهيات ممنوعة كشرب الخمر والزنا، وسنناً أي مندوبات كإماطة الأذى عن الطريق، وغيرها من المندوبات فهذه الأمور كلها من الإيمان5705، وهذا المأثور عن عمر هو الحق الذي يدل عليه الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح، فالإيمان عند أهل الحق: قول اللسان، وتصديق بالجنان وعمل بالأركان5706، فمن الأدلة الدالة على أن الإيمان قول باللسان قوله تعالى:(( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ)) (البقرة:آية:136). وقوله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه وحسابه على الله5707. ومن الأدلة على أن أعمال القلوب من الإيمان قوله تعالى:(( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ(3/231)
قُلُوبُهُمْ..))(الأنفال:آية:3). والوجل من أعمال القلوب. وقد سمي في الآية إيماناً، ومن الأدلة على أن أعمال الجوارح من الإيمان قوله تعالى:((.. وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ...)) (البقرة:آية :143). يبين ذلك سبب نزول الآية حين سئل عليه السلام أرأيت الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله عز وجل((...وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ..)). وفي هذا دلالة على أنه تعالى سمى صلاتهم إلى بيت المقدس إيماناً، فإذا ثبت ذلك في الصلاة ثبت ذلك في سائر الطاعات5708، وكتب عمر بن عبد العزيز رسالة وفيها..أسأل الله برحمته وسعة فضله أن يزيد المهتدي هدى، وأن يرجع بالمسيء التوبة في عافيته5709، وفي قوله عن الحديث عند الإيمان، ...فمن استكملهن فقد استكمل الإيمان ومن لم يستكملهن لم يستكمل الإيمان5710. فهذه الآثار تبين أن الإيمان يزيد وينقص وهذا ما دل عليه الكتاب والسنة والآثار عن السلف الصالح. قال تعالى:(( تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا))(الأنفال:آية:2). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا إيمان لمن لا أمانة له5711، ومن أقوال سلف الأمة قول البخاري: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحداً يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص5712.
سادساً: الإيمان باليوم الآخر:
الحديث عن الإيمان باليوم الآخر يشتمل على أمور كثيرة، فكل ما أخبر به الله ورسوله مما يكون بعد الموت من عذاب القبر ونعيمه، وما يكون من البعث والنشور، وما يكون في يوم القيامة من ثواب وعقاب وجنة ونار...الخ وقد تحدث عمر بن عبد العزيز عن هذه الأمور منها:(3/232)
1 ـ عذاب القبر ونعيمه: قال عمر بن عبد العزيز لرجل: يا فلان قرأت البارحة سورة فيها زيارة((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ))(التكاثر:الآيتان:1، 2). فكم عسى يلبث عند المزور حتى ينكفي إما إلى جنة وإما إلى نار5713.وخطب مرة فقال: أيها الناس ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين وفي بيوت الميتين وفي دور الظاعنين جيراناً كانوا معكم بالأمس أصبحوا في دور خامدين، بين آمن روحه إلى يوم القيامة وبين معذب روحه إلى يوم القيامة5714. وخطب مرة أخرى بخناصرة فقال: ..في كل يوم تشيعون غادياً إلى الله ورائحاً قد قضى نحبه وانقضى أجله ثم تغيبونه في صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد قد فارق الأحباب وخلع الأسباب وواجه الحساب وسكن التراب مرتهناً بعمله غنياً عما ترك فقيراً إلى ما قدم5715، وما قاله عمر بن عبد العزيز يدل على أثبات عذاب القبر ونعيمه وهو معتقد أهل السنة والجماعة وبهذا دلت النصوص من الكتاب والسنة قال تعالى:(( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)) . فقد ثبت في الصحيح أنها نزلت في عذاب القبر5716. وقال تعالى:(( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا)) (غافر:آية:45).(3/233)
2 ـ الإيمان بالمعاد ونزول الرب لفصل القضاء: خطب عمر بن عبد العزيز بخناصرة فقال: أيها الناس إنكم لم تخلقوا عبثاً، ولم تتركوا سدى، وإن لكم معاداً ينزل الله تبارك وتعالى للحكم فيه والفصل بينكم5717. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عماله، أما بعد: فكأن العباد قد عادوا إلى الله فينبئهم بما عملوا ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى5718، وعن جرير بن حازم قال قرأت كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عدي:... اعلم أن أحداً لا يستطع إنفاذ قضايا ما بين الناس حتى لا يبقى منها شيء لابد أن تتأخر قضايا ليوم الحساب5719. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة، أما بعد: فإني أذكرك ليلة تمخض بالساعة وصباحها القيامة فيالها من ليلة وياله من صباح كان على الكافرين عسرين5720. وكتب إلى بعض الأجناد أما بعد: أوصيكم بتقوى الله ولزوم طاعته.. فمن كان راغباً في الجنة أو هارباً من النار، فالآن في هذه الأيام الخالية، والتوبة مقبولة، والذنب مغفور قبل نفاذ الأجل وانقضاء المدة وفراغ الله عز وجل للثقلين ليدينهم بأعمالهم في موطن لا تقبل فيه فدية، ولا تنفع فيه الحيلة تبرز فيه الخفيات، وتبطل فيه الشفاعات، يرده الناس جميعاً بأعمالهم، ويتفرقون منه أشتاتاً إلى منازلهم، فطوبى يومئذ لمن أطاع الله عز وجل وويل يومئذ لمن عصى الله عز وجل5721, إن الإيمان بالمعاد والبعث والنشور وأن الله تبارك وتعالى يجمع كل الخلائق وبيان الحكمة من ذلك وبيان شدة هذا اليوم على الكفار هو مدلول الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى هنا، ولا شك أن الإيمان بالمعاد من أهم العقائد التي تميز بها الإسلام، وقد تحدث القرآن الكريم عن الإيمان بالمعاد، إما تصريحاً وتأكيداً أو تلميحاً وإشارة وقد بين الله تبارك في كثير من آيات الكتاب وجوب الإيمان بالبعث وبين في بعضها الرد على من ينكر حشر الأجساد بحجج عقلية لا يمكن للمنكرين إلا(3/234)
الإذعان لها أو المكابرة5722، قال تعالى ((اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) ( الروم، آية: 11) وقال عز وجل:(( ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ)) ( المؤمنون، الآيات: 16) وقال في منكري البعث((أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)) (ياسين، آية: 77ـ79). وقال تعالى:(( أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)) ( القيامة، الآيات: 36ـ40). كما ثبت في الأحاديث الإيمان بالبعث منها ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ صحابة ولا ولداً5723. ومضمون هذه النصوص هو المأثور عن عمر5724.
3 ـ الميزان: قال عمر بن عبد العزيز: أو ما رأيتم حالات الميت؟ وجهه مفقود وذكره منسي، وبابه مهجور، كأن لم يخالط إخوان الحفاظ ولم يعمر الديار: واتقوا يوماً لا يخفي فيه مثقال ذره في الموازين5725. قال:.. أعوذ بالله أن أمركم بما أنهى عنه نفسي فتخسر صفقتي وتظهر عولتي وتبدو مسكنتي في يوم يبدو فيه الغنى والفقر، والموازين منصوبة5726.(3/235)
وعن بجدل الشامي عن أبيه وكان صاحباً لعمر بن عبد العزيز قال: رأيت عمر بن عبد العزيز يتلو على هذه الآية((وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)) (الأنبياء، الآية: 47) حتى ختمها فمال على أحد شقيه يريد أن يقع5727. فهذه الآثار تدل على أن بعد القيام من القبور والذهاب إلى المحشر، ونزول الرب تبارك وتعالى ـ يليق بجلاله ـ لفصل القضاء ينصب الميزان، وهو ميزان حقيقي توزن به أعمال العباد، وهذا ما عليه أهل السنة والجماعة5728، قال ابن حجر: قال أبو إسحاق الزجاج: أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان وأن أعمال العباد توزن به يوم القيامة، وأن الميزان له لسان وكِفَّتان ويميل بالأعمال. وأنكرت المعتزلة الميزان وغيرهم وقالوا: هو عبارة عن العدل فخالفوا الكتاب والسنة، لأن الله أخبر أنه يضع الموازين لوزن الأعمال ليري العباد أعمالهم ممثلة ليكونوا على أنفسهم شاهدين5729، وهذا الميزان دقيق لا يزيد ولا ينقص قال تعالى: ((وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)) (الأنبياء ، الآية : 47) .(3/236)
4 ـ الحوض: كتب عمر بن عبد العزيز إلى صاحب دمشق أن سل أبا سلام عما سمع من ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحوض فإن كان يثبته فاحمله على مركبة من البريد5730. وفي رواية: بعث عمر بن عبد العزيز إلى أبي سلام الحبشي يحمل على البريد، فلما قدم عليه قال: لقد شق علي، قال: عمر: ما أردنا ذلك، ولكنه بلغني عنك حديث ثوبان في الحوض، فأحببت أن أشافهك به فقال: سمعت ثوبان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن حوضي من عدن إلى عمان البلقاء5731 ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل وأكوابه عدد نجوم السماء من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، أول الناس ورووداً عليه فقراء المهاجرين5732. ولا شك أن الإيمان بالحوض هو عقيدة أهل السنة والجماعة استناداً إلى النصوص الصريحة بذلك وأدلة إثبات الحوض في السنة بلغت حد التواتر.(3/237)
5 ـ الصراط: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أخ له: يا أخي إنك قد قطعت عظيم السفر وبقي أقله، فاذكر يا أخي المصادر والموارد، فقد أوحي إلى نبيك صلى الله عليه وسلم في القرآن أنك من أهل الورود ولم يخبر أنك من أهل الصدور والخروج، وإياك أن تغرك الدنيا فإن الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له5733، وهذا الأثر الوارد عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى يدل على الإيمان بالصراط، وذلك أنه بعد الخروج من عرصات القيامة في اليوم العصيب يمر الناس على الصراط، وهو جسر ممدود على متن جهنم، أدق من الشعرة، وأحد من السيف، يردوه الأولون والآخرون من أتباع الرسل الموحدون وفيهم أهل الذنوب والمعاصي، وفيهم أهل النفاق فتلقى عليهم الظلمة قبل الصراط وفي هذا الموضع يفترق المنافقون عن المؤمنين ويتخلفون عنهم ويسبقهم المؤمنون ويُحال بينهم بسور يمنعهم من الوصول إليهم، ويعطي كل مؤمن نوره بقدر عمله يضيء له الطريق فيمرون على الصراط، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، وكالريح، ومنهم من يرمل رملاً حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه تَخِرّ يدُ وتعلق يد وتخر رجل وتصيب جوانبه النار5734 وقد دل الكتاب والسنة على المرور على الصراط. قال تعالى: ((وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا)) (مريم ، الآية : 72) وقال تعالى: ((ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)). وقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفس بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة قالت حفصة: فقلت يا رسول الله أليس الله يقول: ((وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا)) فقال ألم تسمعه قال: ((ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)) (مريم ، الآية : 72). أشار إلى أن ورود النار لا يستلزم دخولها، وأن النجاة من الشر لا تستلزم حصوله. فالمؤمنون يمرون فوق النار على الصراط ثم ينجي الله الذين(3/238)
اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا، فبين صلى الله عليه وسلم أن الورود هو الورود على الصراط5735، والحق أن الورود على النار ورودان: ورود الكفار أهل النار، فهذا ورود دخول لا شك في ذلك، كما قال تعالى: ((يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ)) (هود ، الآية : 98). أي بئس المدخل المدخول، والورود الثاني: ورود الموحدين وهو مرورهم5736 على الصراط وهو ما عناه عمر بن عبد العزيز رحمه الله في الأثر الماضي.(3/239)
6 ـ الجنة والنار: بكى عمر بن عبد العزيز، فبكت فاطمة، فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما تجلى عنهم الصبر قالت فاطمة بأبي أنت يا أمير المؤمنين مم بكيت؟ قال: ذكرت يا فاطمة منصرف القوم من بين يدي الله فريق في الجنة وفريق في السعير، ثم صرخ وغشي عليه5737. وعن سفيان قال: كان عمر بن عبد العزيز يوماً ساكتاً وأصحابه يتحدثون فقالوا له: مالك لا تتكلم يا أمير المؤمنين؟ قال: كنت مفكراً في أهل الجنة كيف يتزاورون فيها وفي أهل النار كيف يصطرخون فيها ثم بكى5738. وكتب إلى بعض الأجناد.. واعلم أنه ليس يضر عبداً صار إلى رضوان الله وإلى الجنة ما أصابه في الدنيا من فقر وبلاء، وأنه لن ينفع عبداً صار إلى سخط الله وإلى النار ما أصاب في الدنيا من نعمة أو رخاء. وما يجد أهل الجنة من مكروه أصابهم في دنياهم وما يجد أهل النار طعم لذة نعموا بها في دنياهم كل شيء من ذلك لم يكن5739 وعن الفضل بن ربيع قال: سمعت فضيل بن عياض يقول: بلغني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز شكا إليه فكتب إليه عمر: يا أخي أذكر طول سهر أهل النار مع خلود الأبد وإياك أن ينصرف بك من عند الله فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء، فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر فقال له ما أقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك. لا أعود إلى ولاية أبداً حتى ألقى الله تعالى5740، ومعتقد عمر بن عبد العزيز في الجنة والنار هو ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: ((إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ)) الانفطار ، الآيتان : 13 ـ 14)، وقال تعالى: ((وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى))(طه ، الآيتان : 75 ـ 76). وقال صلى الله عليه وسلم: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي(3/240)
إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة5741.
7 ـ رؤية المؤمنين ربهم في الجنة: كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض أمراء الأجناد: أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله والتمسك بأمره والمعاهدة على ما حملك الله من دينه، ، واستحفظك من كتابه، فإن بتقوى الله نجا أولياؤه من سخطه، وبها تحقق لهم ولايته، وبها وافقوا5742 أنبياءه وبها نضرت وجوههم ونظروا إلى خالقهم5743. وهذا المعتقد الذي كان يعتقده عمر بن عبد العزيز في رؤية الله تعالى في الجنة من أعظم النعم بعد نعمة التوفيق والهدايا قال تعالى في وصف المؤمنين في ذلك اليوم: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)) (القيامة ، الآيتان : 22 ـ 23) وقال جل شأنه ((لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)) (يونس ، الآية : 26)، وعن صهيب قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ((لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)) قال" إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ينادي منادٍ يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فقالوا: ألم تبيض وجوهنا وتثقل موازيننا وتجرنا من النار. قال: فيكشف الحجاب فينظروا إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل5744.
سابعاً : الاعتصام بالكتاب والسنة وسنة الخلفاء الراشدين:(3/241)
1 ـ إتباع الكتاب والسنة: لما ولي عمر بن عبد العزيز كتب: أما بعد: فإني أوصيكم بتقوى الله ولزوم كتابه والإقتداء بسنة نبيه وهديه5745، وليس لأحد في كتاب الله ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم أمر ولا رأى إلا إنفاذه والمجاهدة عليه5746... فإن الذي في نفسي وبقيتي في أمر أمة محمد صلى الله عليه ومسلم أن تتبعوا كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأن تجتنبوا ما مالت إليه الأهواء والزيغ البعيد، من عمل بغيرهما فلا كرامة ولا رفعة له في الدنيا والأخرى، وليعلم من عسى أن يذكر له ذلك، ولعمري لأن تموت نفسي في أول نفس أحب إلى من أن أحملهم على غير إتباع كتاب ربهم وسنة نبيهم إلتي عاش عليها من عاش وتوفاه الله عليها حين توفاه ـ إلا أن يأتي علي وأنا حريص على إتباعه ـ وإن أهون الناس علي تلفاً وحزناً لمن عسى أن يريد خلاف شيء من تلك السنة5747. وقال عمر بن عبد العزيز: إن الله فرض فرائض وسنّ سنناً من أخذ بها لحق ومن تركها محق5748. وقال: يا ليتني عملت فيكم بكتاب الله وعملت به، فكلما عملت فيكم بسنة وقع مني عضو، حتى يكون آخر شيء منها، خروج نفسي5749، واكتب إلى الخوارج:... فإني أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم5750. وقال: سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سنناً، الأخذ بها، الاعتصام بكتاب الله وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر في أمر خالفها، من اهتد بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاّه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً5751. فهذه الآثار توضح إتباع عمر للكتاب والسنة ولزومهما، وبذل الجهد، والطاقة في تطبيقها، وإن أدى ذلك إلى قطع الأعضاء، وإزهاق النفس وما ذهب إليه عمر هو أصل الدين واساسه قال تعالى: ((فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي(3/242)
أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) (النساء ، الاية : 65) وقال صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس: إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً كتاب الله وسنتي5752.
2 ـ الاعتصام بسنة الخلفاء الراشدين: عن حاجب بن خليفة البرجمي قال: شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب الناس وهو خليفة فقال في خطبته: ألا إن ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه فهو دين نأخذ به وننتهي إليه وما سن سواهما فإنا نرجئه5753، وكتب إلى سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب: من عمر بن عبد العزيز إلى سالم بن عبد الله أما بعد: فقد ابتليت بما ابتليت به من أمر هذه الأمة من غير مشاورة مني، ولا إرادة يعلم الله ذلك، فإذا أتاك كتابي هذا، فاكتب به سيرة عمر بن الخطاب في أهل القبلة وأهل العهد، فإني سائر بسيرته إن أعانني على ذلك والسلام5754، وعن عون بن عبد الله، قال: قال لي عمر بن عبد العزيز أعدلان عندك عمر وابن عمر؟ قال: قلت نعم، قال: إنهما لم يكونا يكبران هذا التكبير5755. وعن الأزهري، قال: قال رجل لعمر بن عبد العزيز: طلقت امرأتي وأنا سكران، قال الزهري، فكان رأي عمر بن عبد العزيز أن يجلده ويفرق بينه وبين امرأته حتى حدثه أبان بن عثمان (عن أبيه): ليس على المجنون ولا السكران طلاق، فقال عمر: تأمروني وهذا يحدثني عن عثمان بن عفان؟ فجلده وردّ إليه امرأته5756، وقال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سنناً الأخذ بها اعتصام بكتاب الله، قوة على دين ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر في أمر خالفها من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر فهو منصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين، ولاه الله ما تولّى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً5757، إن عمر بن عبد العزيز تمسك بسنة رسول الله وخلفائه الراشدين وأعاد للخلافة الراشدة معالمها وملامحها وسار على هديها وعض على سننهم بالنواجز ورجع(3/243)
إلى أقوالهم عند النزاع وأخذ بها في الحكم على أهل القبلة وأهل العهد، كما أخذ بها في العبادات والمعاملات وقد أولى الخليفة الأول والثاني أبا بكر وعمر جل اهتمامه، وعدّ الأخذ بسنتهم أخذاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أخذ بسنة الخليفة الثالث فور سماعه وطبّق تلك السنة، واعتصم بسنة الخليفة الرابع في معاملة الخوارج حيث ناظرهم وكتب إليهم فلما تمادوا حاربهم، وحكم على أموالهم وذراريهم وأسراهم بقضاء الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنهم5758، بل يرى عمر بن عبد العزيز أن من خرج عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين رضي الله عنهم فهو خارج عن سبيل المؤمنين، وهو من الفرقة الهالكة، وكل ما سنه الخلفاء الراشدون فإنه من سنته صلى الله عليه وسلم لأنهم إنما سنوه بأمره ولا يكون في الدين واجباً إلا ما أوجبه ولا حراماً إلا ما حرمه ولا مستحباً إلا ما استحبه ولا مكروهاً إلا ما أكرهه ولا مباحاً إلا ما أباحه واتباع سنة الخلفاء الراشدين في العقائد والأحكام هو ما عليه السلف الصالح وهو الذي دل عليه الكتاب والسنة قال تعالى: ((وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)) (النساء ، الآية : 115) . وقال صلى الله عليه وسلم: فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة5759. وعن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوساً فقال: إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي وأشار إلى أبي بكر وعمر5760.
3 ـ التمسك بما تدل عليه الفطرة:(3/244)
…عن جعفر بن رقان، قال: جاء رجل إلى عمر بن عبد العزيز فسأله عن شيء من الأهواء فقال: الزم دين الصبي في الكُتّاب والأعرابي، والْهَ عما سوى ذلك5761. وعمر بن عبد العزيز هنا يرى أن العباد مخلوقون على الدين القويم، وأن الانحراف عنه طاريء وحادث، وهذا ما دل عليه القرآن الكريم، قال تعالى: ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)) (الروم ، الآية : 30)، وقال صلى الله عليه وسلم: ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء5762، هل تحسون فيها من جدعاء5763، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنهـ فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم5764. فالفطرة السليمة تقر بخالقها وتحبه وتتذلل له وتخلص له الدين وفيها قوة موجبة لذلك، وكذلك تقرّ بشرعه وتؤثر هذا الشرع على غيره، فهي تعرف هذا الشرع وتشعر به مجملاً ومفصلاً بعض التفصيل فجاءت الرسل تذكرها بذلك وتنبهها عليه وتفصله لها وتبينه وتعرفها الأسباب المعارضة لموجب الفطرة المانعة من اقتضائها أثرها5765.(3/245)
ثامناً : موقفه من الصحابة والخلاف بينهم: عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه أنه قال:: لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا لأنه لو كان قولاً واحداً كان الناس في ضيق وإنهم أئمة يقتدى بهم ولو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة5766. قال أبو عمر رحمه الله هذا فيما كان طريقه الاجتهاد5767، وسئل عمر بن عبد العزيز عن علي وعثمان وصفين وما كان بينهم فقال: تلك دماء كف الله يدي عنها وأنا أكره أن أغمس لساني فيها5768 وعن محمد بن النضر قال: ذكروا اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عند عمر بن عبد العزيز فقال: أمر أخرج الله أيديكم منه ما تعملون ألسنتكم فيه5769. وعمر بن عبد العزيز كغيره من علماء السلف الصالح حريص على إبراز فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم لا يكون ذلك وقد قال الله تعالى: ((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيباًً)) (الفتح ، الآية : 18) ومعتقد أهل السنة: بأن لا يذكر أحد من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بأحسن ذكر والإمساك عما شجر بينهم، وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج ويظن بهم أحسن المذاهب5770، وقال ابن حجر: واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عرف المحق منهم، لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد، بل ثبت أنه يؤجر أجراً واحداً وأن المصيب يؤجر أجرين5771، ومضمون الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز توضح معتقده في الصحابة وهو معتقد أهل السنة والجماعة.(3/246)
تاسعاً : موقفه من أهل البيت: قال ابن القيم أن العلماء اختلفوا في تحديد المراد بأهل البيت على أقوال، قال رحمه الله واختلف في آل النبي صلى الله عليه وسلم على أربعة أقوال: فقيل هم الذين حرمت عليهم الصدقة وفيهم ثلاثة أقوال:
1 ـ أنهم بنو هاشم وبنو المطلب.
2 ـ أنهم بنو هاشم خاصة.
3 ـ أنهم بنو هاشم ومن فوقهم إلى غالب.
والقول الثاني : أن آل النبي صلى الله عليه وسلم هم ذريته وأزواجه خاصة.
والقول الثالث : أن آله أتباعه إلى يوم القيامة.(3/247)
والقول الرابع: أن آله هم الأتقياء من أمته5772. ثم رجح رحمه الله القول الأول وهو أن آله صلى الله عليه وسلم هم الذين حرمت عليهم الصدقة5773. هذا ويرى الشيعة أن آل النبي صلى الله عليه وسلم هم: علي وفاطمة والحسن والحسين وذريتهما، وقولهم هذا مخالف للنصوص الصحيحة ولا تؤيده اللغة ولا العرف، لأن لفظة أهل البيت وردت في القرآن الكريم في سياق الخطاب لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: ((وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا))(الأحزاب ، الآية : 28) وقد تحدثت عن هذه الآية ورددت على أفهام الشيعة الإمامية لها في كتابي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. هذا وقد عرف عمر بن عبد العزيز حقوق أهل البيت المادية والمعنوية وأداها إليهم كافة مستوفاة كاملة بدون بخس ولا شطط5774، وأزال عنهم المظالم التي وقعت عليهم وأحسن إليهم غاية الإحسان المعنوي والمادي، فعن جويرية بن أسماء قال: سمعت فاطمة بنت علي بن أبي طالب ذكرت عمر بن عبد العزيز، فأكثرت الترحم عليه، وقالت: دخلت عليه وهو أمير المدينة يومئذ فأخرج عني كل خصي وحرسي، حتى لم يبق في البيت غيري وغيره ثم قال: يا بنت علي والله ما على ظهر الأرض أهل بيت أحب إلى منكم ولأنتم أحب إلي من أهل بيتي5775، وعن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب قال: أول مال قسمه عمر بن عبد العزيز لمال بعث به إلينا أهل البيت فأعطى المرأة منا مثل ما يعطي الرجل وأعطى الصبي مثل ما تعطي المرأة قال: فأصابنا أهل البيت ثلاثة آلاف دينار وكتب لنا: إني إن بقيت لكم أعطيتكم جميع حقوقكم5776، وعن حسين بن صالح قال: تذاكروا الزهاد عند عمر بن عبد العزيز فقال قائلون فلان وقال قائلون(3/248)
فلان، فقال عمر بن عبد العزيز: أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب رضي الله عنه5777، فعمر بن عبد العزيز كغيره من السلف الصالح كان قائماً بأداء حقوق أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم امتثالاً لما أمر به صلى الله عليه وسلم:... وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي5778، وقال ابن تيمية: وإن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته صلى الله عليه وسلم لهم من الحقوق ما يجب رعايتها فإن الله جعل لهم حقاً في الخمس والفيء وأمر بالصلاة عليهم مع الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم5779. والحقوق التي ذكرها ابن تيمية رحمه الله هي التي حرص عمر بن عبد العزيز رحمه الله على أدائها على الوجه المطلوب شرعاً فرد على آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدك كما قام برد خمس الخمس عليهم كما أطعمهم في الفيء5780، وقام رحمه الله بالاهتمام بحقوق أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم المادية والمعنوية، حرصاً منه على إتباع ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه وحباً منه لإتباع السلف الصالح5781 رضوان الله عليهم وأما ما تذكره كتب التاريخ أن ولاة بني أمية قتل عمر بن عبد العزيز كانوا يشتمون علي وهذا الأثر الذي ذكره ابن سعد لا يصح، قال ابن سعد: أخبرنا علي بن محمد، عن لوط بن يحي قال: كان الولاة من بني أمية قبل عمر بن عبد العزيز يشتمون رجلاً رضي الله عنه، فلما ولي هو ـ عمر بن عبد العزيز ـ أمسك عن ذلك فقال كثير عزة الخزاعي:
…………وليت فلم تشتم علياً ولم تخف
……………………برياً ولم تتبع مقالة مجرم
…………تكلمت بالحق المبين وإنما
……………………تبين آيات الهدى بالتكلم
…………فصدَّقت معروف الذي قلت
……………………بالذي فعلت فأضحى راضياً كل مسلم5782
…(3/249)
…فهذا الأثر واهٍ، فعلي بن محمد هو المدائني فيه ضعف وشيخه لوط بن يحي واهٍ بمرة، قال عنه يحي بن معين: ليس بثقة، وقال أبو حاتم: متروك الحديث وقال الدارقطني أخباري ضعيف ووصفه صاحب الميزان: أخباري تالف لا يوثق به5783. وعامة رواته عن الضعفاء والهلكى والمجاهيل5784 وقداتهم الشيعة معاوية رضي الله عنه بحمل الناس على سب علي رضي الله عنه ولعنه فوق منابر المساجد، فهذه الدعوة لا أساس لها من الصحة، والذي يقصم الظهر أن الباحثين قد التقطوا هذه الفرية على هوانها دون إخضاعها للنقد والتحليل، حتى صارت عند المتأخرين من المُسلَّمات التي لا مجال لمناقشتها علماً بأنها ولم تثبت قط في رواية صحيحة، ولا يعول على ما جاء في كتب الدميري، واليعقوبي، وأبي الفرج الأصفهاني، علماً بأن التاريخ الصحيح يؤكد خلاف ما ذكره هؤلاء5785، ومن احترام وتقدير معاوية لأمير المؤمنين علي وأهل بيته الأطهار، فحكاية لعن علي على منابر بني أمية لا تتفق مع منطق الحوادث ولا طبيعة المتخاصمين، فإذا رجعنا إلى الكتب التاريخية المعاصرة لبني أمية، فإننا لا نجد فيها ذكراً لشيء من ذلك أبداً، وإنما نجده في كتب المتأخرين الذين كتبوا تاريخهم في عصر بني العباس بقصد أن يسيئوا إلى سمعة بني أمية في نظر الجمهور الإسلامي وقد كتب ذلك المسعودي في مروج الذهب وغيره من كتّاب الشيعة وقد تسربت تلك الأكذوبة إلى كتب تاريخ أهل السنة ولا يوجد فيها رواية صحيح، فهذه دعوة مفتقرة إلى صحة النقل، وسلامة السند من الجرح، والمتن من الاعتراض، ومعلوم وزن هذه الدعوة عند المحققين والباحثين، ومعاوية رضي الله عنه بعيد عن مثل هذه التهم بما ثبت من فضله في الدين، وكان محمود السيرة في الأمة أثنى عليه بعض الصحابة ومدحه خيار التابعين، وشهدوا له بالدين والعلم، والعدل والحلم، وسائر خصال الخير5786. وقد ثبت هذا في حق معاوية ـ رضي الله عنه ـ كما أنه من أبعد المحال على من كانت هذه(3/250)
سيرته، أن يحمل الناس على لعن علي رضي الله عنه على المنابر، وهو من هو في الفضل، ومن علم سيرة معاوية ـ رضي الله عنه في الملك وما اشتهر به من الحلم والصفح، وحسن السياسة للرعية ظهر له أن ذلك من أكبر الكذب عليه، فقد بلغ معاوية رضي الله عنه في الحلم مضرب الأمثال، وقدوة الأجيال5787. وقد تحدثت عن هذه الفرية بنوع من التوسع في كتابي خامس الخلفاء الراشدين الحسن بن علي بن أبي طالب. وقد بينت فيه علاقة معاوية بأولاد علي رضي الله عنه بعد استقلاله بالخلافة وما كان بينهم من الألفة والمودة والاحتفاء والتكريم، كما أن المجتمع في عمومه مقيد بأحكام الشريعة حريصاً على تنفيذها ولذلك كانوا أبعد الناس عن الطعن واللعن والقول الفاحش والبذيء. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سب الأموات المشركين، فكيف بمن يسب أولياء الله المصلحين، فعن عائشة رضي الله عنها ـ مرفوعاً ـ لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا5788.
المبحث الرابع : موقف عمر بن عبد العزيز من الخوارج والشيعة والقدرية، والمرجئة والجهمية:
أولاً : الخوارج:
برزت هذه الفرقة أثناء خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبالتحديد عام 37هـ بعد معركة صفين وقبول علي رضي الله عنه تحكيم الحكمين وقد تحدثت عن هذه الفرقة بشيء من التفصيل في كتابي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن أهم آرائهم الاعتقادية:
1 ـ تكفير علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعثمان بن عفان رضي الله عنه والحكمين رضي الله عنهما أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص.
2 ـ القول بالخروج على الإمام الجائر.
3 ـ قولهم بتكفير مرتكب الكبيرة وتخليده في النار5789.(3/251)
…هذه المباديء الثلاثة هي جوهر اعتقاد الخوارج، وليس بينهم في ذلك خلاف إلا خلافاً لبعضهم في تطبيق هذه المباديء5790. يقول أبو الحسن الأشعري في حكاية ما أجمع عليه الخوارج من الآراء: أجمعت الخوارج على إكفار علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن حكم وهم مختلفون هل كفره شرك أم لا؟
…وأجمعوا على: أن كل كبيرة كفر إلا النجدات5791، فإنها لا تقول ذلك. وأجمعوا على أن الله سبحانه وتعالى يعذب أصحاب الكبائر عذاباً دائماً إلا النجدات أصحاب نجدة5792، وقال المقدسي في ذلك: وأصل مذهبهم: إكفار علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والتبرؤ من عثمان بن عفان، والتكفير بالذنب، والخروج على الإمام الجائر5793.
…استمر الخوارج في حربهم للدولة الأموية أحياناً ينشطون وفي الغالب، تتغلب عليهم الدولة بالقوة وتكسر شوكتهم إلى أن جاء عمر بن عبد العزيز فدخل معهم في محاورات ونقاشات واستخدم معهم القوة عند اللزوم، وكان عمر بن عبد العزيز يذم الجدال المذموم ويناظر ويجادل بالتي هي أحسن، فقد قال: من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل5794. وقال: احذروا المراء فإنه لا تؤمنه فتنة ولا تفهم حكمته5795، وقال قد أفلح من عصم من المراء والغضب والطمع5796، فقد كان رحمه الله ينهى عن المراء العقيم ويحث على الجدال بالتي هي أحسن وقد كان لعمر بن عبد العزيز مواقف مشهورة واقوال مأثورة في التعامل مع الخوارج ومناظرتهم ودحض شبهاتهم بالحجة وآرائهم بالدليل وإيضاح الحق لهم ودليله حباً منه للسنة وإتباعاً للسلف الصالح رحمة الله عليهم5797.(3/252)
1 ـ موقفه من خروج الخوارج عليه: عن هشام بن يحي الغساني، عن أبيه أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه في الخوارج إن كان من رأي القوم أن يسيحوا في الأرض من غير فساد على الأئمة ولا على أحد من أهل الذمة، ولا يتناولون أحداً، ولا قطع سبيل من سبل المسلمين فليذهبوا حيث شاءوا وإن كان رأيهم القتال فوالله لو أن أبكاري من ولدي خرجوا رغبة عن جماعة المسلمين لأرقت دماءهم ألتمس بذلك وجه الله والدار الآخرة5798. وجاء في رواية: أقسم بالله لو كنتم أبكاري من أولادي ورغبتم عما فرشنا للعامة فيما ولينا لدفقت دماءكم ابتغي بذلك وجه الله الدار الآخرة، فإنه يقول: ((تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين)) (القصص ، الآية : 83)، فهذا النصح إن أحببتم وإن تستغشوني فقديماً ما استغش الناصحون والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته5799، يتبين من الآثار السابقة منهج عمر بن عبد العزيز في التعامل مع الخوارج، فمع خروجهم عليه وهو الخليفة الحق لم يحركهم، وإنما كتب إليهم وحذرهم من الخروج عن الجماعة الذين هم أهل الحق، لقد أمر الله تبارك بالاجتماع ونهى عن التفرق وأمر بلزوم الجماعة ونهى عن الخروج عنها وجعل إجماع هذه الأمة حجة فإذا اجتمعوا على أمير وجب طاعته وحرم الخروج عليه ما لم يأمر بمعصية ولم يظهر كفراً بواحاً5800، والآثار المروية عن عمر بن عبد العزيز هنا تبين منهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع الخوارج الذين هم أوائل الفرق ظهوراً في الإسلام فمع خروجهم عليه وهو الخليفة الحق لم يحركهم، ولم يرسل عليهم الحملة تلو الحملة، وإنما عاملهم معاملة أتاحت لهم الفرصة في الرجوع إلى الحق مستناً بسنن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في معاملة الخوارج حين خرجوا عليه5801.(3/253)
2 ـ مناظرته للخوارج: تبين موقف عمر ابن عبد العزيز من الخوارج عموماً فيما سبق وفي هذا المبحث يتضح موقفه من الذين كتبوا إليه وكتب إليهم طالباً المناظرة معهم، إذا كانوا مستعدين لذلك، وقد وجد من بعضهم استجابة قال ابن عبد الحكم: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الخوارج: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى هذه العصابة، أما بعد: أوصيكم بتقوى الله فإنه ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًاً * ويََرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ * وَمَنْ يَتَوكّلْ عَلَى الله فَهَوَ حَسَبُه إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)) (الطلاق ، الآيتان : 2 ، 3). أما بعد: فقد بلغني كتابكم والذي كتبتم فيه إلى يحي بن يحي، وسليمان بن داود الذي أتى إليهما وإن الله تبارك وتعالى يقول: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) (الصف ، الآية : 7)، وقال تعالى: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)) (النحل ، الآية 125)، وقال تعالى ((فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ)) (محمد ، الآية : 35). وإني أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر إن شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وادعوكم أن تدعو ما كانت تهراق عليه الدماء قبل يومكم هذا بغير قوة ولا تشنيع، وأذكركم بالله أن تشبهوا علينا كتاب الله وسنة نبيه، ونحن ندعوكم إليهما. هذه نصيحة منا نصحنا لكم فإن تقبلوها فذلك بغيتنا، وإن تردوها على من جاء(3/254)
بها فقديماً ما استغش الناصحون، ثم لم نر ذلك وضع شيئاً من حق الله قال العبد الصالح لقومه: ((وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ)) (هود ، الآية : 3). وقال الله عز وجل: ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) (يوسف ، الآية : 108)5802. وجاء في رواية وكتب عمر كتاب إلى الخوارج فلما قرؤوها قالوا نوجه رجلين يكلمانه فإن أجابنا فذاك، وإن أبا كان الله من ورائه، فأرسلوا مولى لبني شيبان يقال له عاصم ورجلاً من بني يشكر من أنفسهم فلما دخلا عليه قالا: السلام عليكم وجلسا، وقال لهما عمر: أخبراني ما أخرجكما مخرجكما هذا؟ وأي شيء نقمتم علينا؟ قال عاصم وكان حبشياً: ما نقمنا عليك في سيرتك لتحري العدل والإحسان فأخبرنا عن قيامك بهذا الأمر أعن رضا من المسلمين ومشورة أم ابتززتهم إمرتهم؟، قال ما سألتهم الولاية عليهم ولا غلبتهم على مشيئتهم وعهد إليّ رجل عهداً لم أسأله قط لا في سر ولا علانية فقمت به ولم ينكره عليّ أحد ولم يكرهه غيركم وأنتم ترون الرضا بكل من عدل وأنصف من كان من الناس فأنزلوني ذلك الرجل فإن خالفت الحق وزغت عنه فلا طاعة لي عليكم، قالا: بيننا وبينك أمر إن أعطيتناه فأنت منا ونحن منك، وإن منعتنا فلست منا ولسنا منك. قال عمر: وما هو؟ قالا: رأيتك خالفت أعمال أهل بيتك وسلكت غير طريقهم وسميتها مظالم، فإن زعمت إنك على هدى وهم على ضلال فابرأ منهم وألعنهم، فهو الذي يجمع بيننا وبينك أو يفرق، قال: فتكلم عمر عند ذلك، فقال: إني قد عرفت أو ظننت أنكم لم تخرجوا لطلب الدنيا، ولكنكم أردتم الآخرة فأخطأتم سبيلها. وأنا سائلكم عن أمر فبالله لتصدقاني عنه فيما بلغكم علمكما. قالا: نفعل. قال: أرأيتم أبا بكر وعمر أليسا من أسلافكم وممن تتولون وتشهدون لهما بالنجاة؟ قالا: بلا. فقال: هل(3/255)
تعلمون أن العرب ارتدت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلهم أبا بكر فسفك الدماء وسبى الذراري وأخذ الأموال؟ قالا: قد كان ذاك. قال: فهل تعلمون أن عمر لما قام بعده رد تلك السبايا إلى عشائرهم؟ قالا: قد كان ذلك. قال: فهل بريء أبو بكر من عمر أو عمر من أبي بكر؟ قالا: لا قال: فهل تبرأون من واحد منهما؟ قالا: لا. قال: أخبراني عن أهل النهروان أليسوا من أسلافكم وممن تتولون وتشهدون لهم بالنجاة؟ قالا: بلا.؟ قال: فهل تعلمون أن أهل الكوفة حين خرجوا إليهم كفوا أيديهم فلم يخيفوا أمناً، ولم يسفكوا دماً، ولم يأخذوا مالاً؟ قالا: قد كان ذلك. قال: فهل تعلمون أن أهل البصرة حين خرجوا إليهم مع عبد الله بن وهب الراسبي5803، واستعرضوا الناس فقتلوهم وعرضوا لعبد الله بن خباب5804، صاحب رسول الله فقتلوه وقتلوا جاريته، ثم صبحوا حياً من العرب يقال لهم بنو قطيعة فاستعرضوهم فقتلوا الرجال والنساء والولدان حتى جعلوا يلقون الأطفال في قدور الإقط وهي تفور بهم، قالا: قد كان ذلك. قال: فهل بريء أهل الكوفة من أهل البصرة؟ أو أهل البصرة من أهل الكوفة؟ قالا: لا. قال: فهل تبرأون من طائفة منهما. قالا: لا. قال عمر: أخبراني أرأيتم الدين واحداً أم أثنين؟ قالا: بل واحد. قال: فهل يسعكم فيه شيء يعجز عني؟ قال: لا. قال: فكيف وسعكم أن توليتم أبا بكر وعمر وتولى كل واحد منهما صاحبه وقد اختلفت سيرتهما؟ أم كيف وسع أهل الكوفة أن تولوا أهل البصرة واهل البصرة أهل الكوفة وقد اختلفوا في أعظم الأشياء: في الدماء والفروج الأموال، ولا يسعني بزعمكما إلا لعن أهل بيتي والبراءة منهم، فإن كان لعن أهل الذنوب فريضة مفروضة لابد منها فأخبرني عنك أيها المتكلم متى عهدك بلعن فرعون، ويقال: بلعن هامان؟ قال: ما أذكر متى لعنته. قال: ويحك فيسعك ترك لعن فرعون، ولا يسعني بزعمك إلا لعن أهل بيتي والبراءة منهم؟ ويحك أنهم قوم جهال. أردتم أمراً فأخطأتموه، فأنتم(3/256)
تقبلون من الناس ما رد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتردون عليهم ما قبل منهم، ويأمن عندكم من خاف عنده، ويخاف عندكم من أمن عنده. قال: ما نحن كذلك. قال: بلى تقرون بذلك الآن. هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس وهم عبدة أوثان فدعاهم إلى أن يخلعوا الأوثان، وأن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فمن فعل ذلك حقن دمه وأمن عنده، وكان أسوة المسلمين ومن أبى ذلك جاهده؟ قالا: بلى. قال: أفلستم أنتم اليوم تبرأون ممن يخلع الأوثان وممن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. وتلعنونه وتقتلونه وتستحلون دمه وتلقون من يأبى ذلك من سائر الأمم من اليهود والنصارى فتحرمون دمه ويأمن عندكم؟ فقال الحبشي: ما رأيت حجة أبين ولا أقرب مأخذاً من حجتك، أما أنا فأشهد أنك على الحق وأنني بريء ممن خالفك. وقال للشيباني فأنت ما تقول؟ قال: ما أحسن ما قلت وأحسن ما وصفت ولكن أكره أن أفتات على المسلمين بأمر لا أدري ما حجتهم فيه حتى أرجع إليهم فلعل عندهم حجة لا أعرفها. قال: فأنت أعلم. قال: فأمر للحبشي بعطائه وأقام عنده خمس عشرة ليلة ثم مات ولحق الشيباني بقومه فقتل معهم5805. وجاء في رواية ودخل رجلان من الخوارج على عمر بن عبد العزيز فقالا: السلام عليك يا إنسان، فقال وعليكما السلام يا إنسانان قالا: طاعة الله أحق ما اتبعت. قال: من جهل ذلك ضل. قالا: الأموال لا تكون دولة بين الأغنياء. قال: قد حرموها. قالا: مال الله يقسم على أهله. قال: الله بين في كتابه تفصيل ذلك. قالا: تقام الصلاة لوقتها. قال: هو من حقها. قالا: إقامة الصفوف في الصلوات. قال: هو من تمام السنة. قالا: إنما بعثنا إليك. قال: بلغا ولا تهابا. قالا: ضع الحق بين الناس. قال: الله أمر به قبلكما. قالا: لا حكم إلا لله. قال: كلمة حق إن لم تبتغوا بها باطلاً. قالا: ائتمن الأمناء. قال: هم أعواني. قالا: احذر الخيانة. قال السارق(3/257)
محذور. قالا: فالخمر ولحم الخنزير. قال: أهل الشرك أحق به. قالا: فمن دخل في الإسلام فقد أمن. قال: لولا الإسلام ما أمنا. قالا: أهل عهود رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: لهم عهودهم. قالا: لا تكلفهم فوق طاقاتهم. قال: ((لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)) (البقرة، الآية : 286). قالا: ذكرنا بالقرآن. قال: ((وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ)) (البقرة، الآية : 281). قالا: تردنا على دواب البريد. قال: لا هو من مال الله لا نطيبه لكما. قالا: فليس معنا نفقة. قال: أنتما إذن إبنا سبيل على نفقتكما5806، وعن أرطأة بن المنذر قال: سمعت أبا عون يقول: دخل ناس من الحرورية على عمر بن عبد العزيز فذاكروه شيئاً، فأشار إليه بعض جلسائه أن يرعبهم، ويتغير عليهم فلم يزل عمر بن عبد العزيز يرفق بهم حتى أخذ عليهم ورضوا منه أن يرزقهم ويكسوهم ما بقي فخرجوا على ذلك فلما خرجوا ضرب عمر ركبة رجل يليه من أصحابه فقال: يا فلان إذا قدرت على دواء تشفي به صاحبك دون الكي فلا تكوينه أبداً5807. وجاء في رواية: عندما خرج شوذب واسمه بسطام من بني يشكر على عبد الحميد بن عبد الرحمن بالعراق في خلافة عمر بن عبد العزيز، وكان مخرجه بجوخي5808في ثمانين فارساً أكثرهم من ربيعة، كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد ألا تحركهم إلا أن يسفكوا دما، أو يفسدوا في الأرض، فإن فعلوا فحل بينهم وبين ذلك، وانظر رجلاً صليباً حازماً فوجهه إليهم، ووجه معه جندا. وأوصه بما أمرتك به، فعقد عبد الحميد لمحمد بن جرير بن عبد الله البجلي في ألفين من أهل الكوفة، وأمره بما أمره به عمر، وكتب عمر إلى بسطام يدعوه ويسأله عن مخرجه، فقدم كتاب عمر عليه. وقد قدم عليه محمد بن جرير، فقام بإزائه لا يحركه ولا يهيجه، فكان في كتاب عمر إليه: إنه بلغني أنك خرجت غضباً لله ولنبيه، ولست بأولى بذلك مني. فهلم أناظرك فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل(3/258)
فيه الناس، وإن كان في يدك نظرنا في أمرك، فلم يحرك بسطام شيئاً وكتب إلى عمر: قد أنصفت، وقد بعثت إليك رجلين يدارسانك ويناظرانك قال أبو عبيدة: معمر بن المثنى: الرجلين اللذين بعثهما شوذب إلى عمر مخدوج مولى بني شيبان، والآخر من صليبة بني يشكر ـ قال: فيقال: أرسل نفراً فيهما هذان، فأرسل إليهم عمر: أن اختاروا رجلين فاختاروهما، فدخلا عليه فناظره، فقالا له: أخبرنا عن يزيد لم تقره خليفة بعدك؟ قال: صيره غيري، قالا: أفرأيت لو وليت مالا لغيرك، ثم وكلته إلى غير مأمون عليه، أتراك كنت أديت الأمانة إلى من ائتمن5809، وتذكر الروايات تخميناً: إن بني مروان خافوا أن يخرج عمر ما عندهم وما في أيديهم من الأموال، وأن يخلع يزيد بن عبد الملك، فدسوا عليه من سقاه سماً، فلم يلبث أن مات في اليوم الذي تقرر أن يعطي فيه جوابه للمتفاوضين5810. يتضح من الآثار السابقة أن عمر بن عبد العزيز سلك معهم المسلك الصحيح الذي تبعه سلفنا الصالح كابن عباس وأمير المؤمنين علي رضي الله عنهما ويبدو أن عمر قد طمع في رجوع هؤلاء الخوارج ولذلك لم يترك لهم شبهة إلا كسرها وبين زيفها وكشف عوارها5811، ولم يجادلهم في الحق الذي معهم ولكنه طلب مهلة إلا أنه مات قبل انتهائها، وعندما استخدم خوارج العراق القوة ضد واليه عبد الحميد وتمكن الخوارج من دحر جيش الوالي، أسرع عمر بن عبد العزيز فأرسل إلى الخوارج مسلمة بن عبد الملك على رأس جيش من أهل الشام، وكتب إلى عبد الحميد: قد بلغني ما فعله جيشك، جيش السوء، وقد بعثت مسلمة فخل بينه وبينهم، وتقدم مسلمة على رأس قواته إلى حيث عسكر الخوارج ودارت معركة بين الطرفين انتهت بانتصار جيش الخلافة5812. إن اضطرار عمر إلى استخدام القوة إزاء فئة من الخوارج، لم يدفعه أبداً إلى تطبيق أسلوب الشدة تجاه كل الخوارج، فما دام خصمه مستعد للحوار، فلا داعي أبداً لإراقة الدماء5813.(3/259)
3 ـ السبب المفضي لقتال الخوارج: لم يأمر عمر بن عبد العزيز بقتال الخوارج لما اختلفوا معه في الرأي ولا عندما عارضوه وسبوه، بل صبر عليهم لعل الله أن يهديهم إلى الصواب، ثم لما وصلوا إلى مرحلة خطيرة وهي أخذ المال وإخافة السبيل وسفك الدماء عند ذلك أمر بقتالهم5814.
4 ـ رد متاع الخوارج إلى أهليهم: لم يسب عمر بن عبد العزيز نساء الخوارج وذراريهم ولم يستحل أموالهم، بل أمر برد متاعهم إلى أهليهم، فقد كتب إلى عامله في الخوارج: فإن أظفرك الله بهم وأدالك عليهم فرد ما أصبت من متاعهم إلى أهليهم5815، وهذا رأي علي بن أبي طالب فيهم في عدم سبي ذرية ونساء الخوارج وعدم استحلال أموالهم5816.
5 ـ حبس أسرى الخوارج حتى يحدثوا خير: فلما قاتلهم، فقتل منهم من قتل، واسر منهم من أسر، أمر عمر بن عبد العزيز بسجنهم حتى يحدثوا خيراً، من الرجوع إلى الحق والتخلي عن أفكارهم الضالة5817، فلقد مات عمر بن عبد العزيز وفي حبسه منهم عدة5818. فهذا منهج وفقه عمر بن عبد العزيز في التعامل مع المعارضين من الخوارج.(3/260)
ثانياً : الشيعة: تذكر في الإصلاح كإسم لكل من فضل علياً رضي الله عنه على الخلفاء الراشدين قبله رضي الله عنهم جميعاً ورأى أهل بيته أحق بالخلافة5819، وقد تحدثت عن الشيعة بالتفصيل في كتابي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه. والشيعة فرق عديدة منهم الغلاة الذين خرجوا عن الإسلام وهم يدعونه ويدعون التشيع، ومنهم دون ذلك ومن أهم فرقهم: الكسيانية، والسبئية والإمامية وغيرها. وكان لعمر بن عبد العزيز أقوال في الشيعة الغلاة، فقد قال عمر بن عبد العزيز: إني لا أعرف صلاح بني هاشم وفسادهم بحب كُثير5820، فمن أحبه منهم فهو فاسد، ومن أبغضه فهو صالح لأنه كان خشبياً يؤمن بالرجعة5821، وجاء عمر بن عبد العزيز كتاب من عامله على الكوفة يخبره بسوء طاعة أهلها فرد عمر: لا تطلب طاعة من خذل علياً رضي الله عنه وكان إماماً مرضياً5822، وعن إسحاق بن طلحة بن أشعث قال: بعثني عمر بن عبد العزيز إلى العراق فقال: أقرئهم ولا تستقرئهم وحدثهم ولا سمع منهم، وعلمهم ولا تتعلم منهم. فقد كان عمر بن عبد العزيز على معرفة بعقيدة كثير الشاعر ويؤيدها ما يروى أن كثير عزة له أبيات يثبت فيها عقيدته الفاسدة في الغلو في أهل البيت مثل قوله: ألا إن الأئمة من قريش
……………………ولاة الحق أربعة سواء
……………علي والثلاثة من بنيه
……………………هم الأسباط ليس بهم خفاء
……………فسبط سبط إيمان وبر
……………………وسبط غيبته كربلاء
……………وسبط لا يذوق الموت حتى
……………………يقود الخيل يقدمها اللواء5823(3/261)
…قال الذهبي قال الزبير بن بكار عن كثير: كان شيعياً يقول بتناسخ الأرواح ويقرأ ((فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ)) (الانفطار ، الآية : 8) قال: وكان خشبياً يؤمن بالرجعة يعني رجعة علي رضي الله عنه إلى الدنيا5824. ولم يهتم عمر بالرد على ما كان يراه كثير وغيره من الشيعة الغلاة كما اهتم بالرد على القدرية والخوارج، وحذر عمر بن عبد العزيز من مخالطة ومجالسة أصحاب البدع والأهواء5825، ومن أشهر آراء الشيعة الغلاة:
ـ…القول بوجوب إمامة علي رضي الله عنه، وتقديمه وتفضيله على سائر الصحابة وأن الرسول نص على إمامته.
ـ…القول بعصمة الأنبياء والأئمة وجوباً عن الكبائر والصغائر.
ـ…القول بالتولي والتبري قولاً وفعلاً، أي تولي علي رضي الله عنه والتبري من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاسيما الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم5826، ومن أراد الرد على هذه المعتقدات فليراجع كتابي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ثالثاً : القدرية في عهد عمر بن عبد العزيز:
1 ـ تعريف القدرية في الاصطلاح: للقدرية إطلاقات، خاص وعام
أ ـ فالقدرية بالمعنى الخاص: هم المنكرون للقدر: أي المكذبون بتقدير الله تعالى لأفعال العباد أو بعضها أي: الذين قالوا: لا قدر (من الله) والأمر أنف أي مستأنف ليس لله فيه تقدير سابق كما سيأتي بيانه بإذن الله.
ب ـ القدرية بالمعنى العام: هم الخائضون في علم الله تعالى وكتابته ومشيئته وتقديره وخلقه بغير علم، وبخلاف مقتضى النصوص وفهم السلف5827
2 ـ نشأة القول بالقدر في الإسلام:(3/262)
…عن جابر بن سمرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث أخاف على أمتي الاستسقاء بالأنوار، وحيف السلطان، وتكذيب بالقدر5828، كما حذر النبي صلى الله عليه وسلم من المراء والجدل في الدين عموماً وفي القدر على جهة الخصوص، وعن ضرب آيات الله والأحاديث الصحيحة بعضها ببعض، وعن إثارة الشبهات والمعارضات في نصوص القدر من ذلك ما رواه أحمد في المسند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: خرج رسول الله ذات يوم والناس يتكلمون في القدر قال: فكأنما تفقأ في وجهه حبّ الرمان من الغضب قال: فقال لهم: مالكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم5829.
ب ـ تتابع الفرق ومقالاتها في القرن الأول إلى ظهور القدرية:
…بعد ظهور الفرق الأولى سنة (37 ـ 40هـ) الخوارج والشيعة بقي الحال على هذا إلى ما بعد سنة (62هـ) حيث بزغ نجم القدرية النصرانية والمجوسية حين نبغ بها بعد معبد الجهني ثم توالت المقولات على منوالها تترى، أو كما قال ابن تيمية: فالبدع تكون في أولها شبراً ثم تكثر في الأتباع حتى تصير أذراعاً وأميالاً وفراسخ5830.(3/263)
ج ـ ظهور القدرية الأولى: وتتمثل في مقولات معبد الجهني ت(80)هـ وأتباعه، ثم غيلان الدمشقي وأتباعه (105)هـ وتتلخص بأن الله تعالى (بزعمهم) لم بقدِّر أفعال العباد ولم يكتبها، وأن الأمر أنف (أي مستأنف) لم يكن في علم الله ولا تقديره السابق، وكانت بدايات كلامهم في هذا بعد سنة 63هـ وهو تاريخ نشأة القدرية الأولى، إذن فالقدرية الأولى هم: الذين أنكروا علم الله السابق، وزعموا أنه تعالى لم يقدر أفعال العباد سلفاً ولم يعلمها ولم يكتبها في اللوح المحفوظ، وأن الأمر أنف (أي مستأنف) ليس بتقدير سابق من الله تعالى مما استقل العباد بفعلها وهذه مقولة غالية في القدر حيث تنكر العلم والكتابة وتقدير عموم أفعال المكلفين خيرها وشرّها فيما يظهر، هذا أول أمرهم، فلما أنكر الأئمة هذا القول صار جمهور القدرية يقرون بالعلم المتقدم والكتاب السابق، لكن ينكرون عموم مشيئة الله وقدرته وخلقه لأفعال العباد فأنكروا أن يكون الله خالقاً لأفعال العباد أو بعضها وقالوا: إن الله لا يخلق الشر، هذا ما استقرت عليه القدرية الثانية وعلى رأسهم المعتزلة5831.
…وكانت مقالات القدرية الأولى تتخلص في قولين.
ـ…إن الأمر أنف ((أي مستأنف)) ويعنون بذلك أفعال المكلفين5832 فيزعمون أن الله تعالى لم يقدرها ولم يعلمها إلا أثناء حدوثها من المكلف ويفسره الثاني.
ـ…قولهم: إن الله تعالى لم يقدر الكتابة (أي في اللوح المحفوظ) ولا الأعمال5833،، في السابق.
س ـ رؤوس القدرية الأولى:
ـ…معبد الجهني ت(80)هـ: ساق ابن حجر في تهذيب التهذيب أقوال بعض أهل الجرح والتعديل فيه فقال: وقال أبو حاتم: كان صدوقاً في الحديث وكان أول من تكلم في القدر بالبصرة وكان رأساً في القدر، قدم المدينة فأفسد بها ناساً5834.(3/264)
…وقال الدارقطني: حديثه صالح ومذهبه ردي5835، وقال محمد بن شعيب بن شابور عن الأوزاعي: أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق يقال له سوسن، وكان نصرانياً، فأسلم ثم تنصر فأخذ عنه معبد الجهني، وأخذ غيلا عن معبد5836. وكان مسلم بن يسار يقعد على هذه السارية فقال: إن معبداً يقول بقول النصارى
ـ…غيلان الدمشقي المقتول (105)هـ:
…غيلان الدمشقي هو الرجل الثاني بعد معبد الجهني من رؤوس بدعة القدرية وقد ظهرت مقولته بالشام وافتتن بها خلق5837، ولم يقتصر غيلان على مقولات معبد، بل تكلم في الصفات فنفى بعض الصفات، كالاستواء5838، ونسب إليه كذلك: القول بأن الإيمان هو المعرفة، وأن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان والقول بخلق القران5839، وهي أصول الجعد بن درهم بعده، ثم أصول الجهمية والمعتزلة، حيث وضعوا بها القواعد والأصول وناطروا فيها وتوسعوا في هذه البدع5840، ويقال إن أول من أنكر استواء الله على عرشه وأوله بالاستيلاء. غيلان الدمشقي (قتل 105هـ) أو الجعد بن درهم (قتل 124هـ)، وقيل الجهم بن صفوان ((قتل 128هـ). وإنكار الاستواء ينسجم مع قاعدة الجعد الخبيثة في التعطيل التي أنكر بها الكلام والخلة، والأرجح أن أول من حفظ عنه أنه قال بأن الله ـ تعالى. ليس على العرش حقيقة: الجعد، ثم أخذها عنه الجهم وأظهرها5841، وإنكار الاستواء وتأويله هو الشرارة الأولى لأهل الأهواء والتي فيها خاضوا في صفات الله ـ تعالى ـ نفياً وتعطيلاً وتأويلاً، ذلك أن الاستواء مرتبط بالعلو والفوقية، فالرؤية، ثم صفات الله الفعلية، ومنها تجرؤوا على بقية الصفات الخبرية كاليد والعين والوجه وهلم جرا5842.
3 ـ موقف عمر بن عبد العزيز من غيلان الدمشقي:(3/265)
…عن عمرو بن مهاجر قال: بلغ عمر بن عبد العزيز أن غيلان بن مسلم يقول في القدر، فبعث إليه فحجبه أياماً، ثم أدخله عليه فقال: غيلان ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال عمرو بن مهاجر. فأشرت إليه أن لا يقول شيئاً، قال: فقال: نعم يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قال: ((هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ، إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا، إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)) (الإنسان ، الآية 1 ـ 3). قال إقرأ آخر السورة ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)) (الإنسان ، الآيتان : 30 ـ 31) ثم قال: ما تقول يا غيلان؟ قال: أقول: قد كنت أعمى فبصرتني وأصم فأسمعتني وضالاً فهديتني5843. وفي رواية: دعا عمر بن عبد العزيز غيلان فقال: يا غيلان بلغني أنك تتكلم في القدر فقال: يا أمير المؤمنين إنهم يكذبون علي؟ فقال يا غيلان إقرأ أول ((يس)) فقرأ ((يس والقرآن الحكيم)) حتى قول: ((إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)) (يس ، آيات : 1 : 10). فقال غيلان: يا أمير المؤمنين، والله لكأني لم أقرأها قط قبل اليوم أشهدك يا أمير المؤمنين أني تائب مما كنت أقول فقال عمر: اللهم إن كان صادقاً فثبته وإن كان كاذباً فاجعله آية للمؤمنين5844، وجاءت روايات كثيرة في محاورة عمر بن عبد العزيز لغيلان الثقفي وكان له حديث طويل(3/266)
في معتقد أهل السنة في مسالة الإيمان بالقدر، وقد ناقش عمر بن عبد العزيز القدرية وسألهم عن العلم وذلك بسؤالهم عن علم الله، فإذا أقروا به خصموا وإن جحدوا كفروا فقال لغيلان الدمشقي: ما تقول في العلم. قال: قد نفد العلم. قال: فأنت مخصوم اذهب الآن فقل ما شئت ويحك يا غيلان إنك إن أقررت بالعلم خصمت وإن جحدته كفرت، إن تقر به فتخصم خير لك من أن تجحده فتكفر5845. ولعل عمر بن عبد العزيز أول من نهج هذا النهج في سؤال القدرية عن العلم، ثم صار هذا المنهج منهجاً لأهل السنة بعده، وقد استدل رحمه الله في ردوده على غيلان بآيات صريحة في الرد على المكذبين بالقدر كما جاء في بعض الروايات ـ وهي قوله تعالى: ((فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِي الْجَحِيمِ)) (الصافات ، الآيات : 161 ـ 163). قال ابن حجر رحمه الله في تفسير هذه الآيات: يقول تعالى: فإنكم أيها المشركون بالله وما تعبدون من الآلهة والأوثان ما أنتم عليه بفاتنين أي بمضلين أحداً إلا من سبق في علمي أنه صال الجحيم5846. وقد بين عمر في خطبه ورسائله أن الله تبارك وتعالى هو الهادي وهو المضل، وهذا ما جاء في الكتاب العزيز قال تعالى: ((مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) (الأنعام ، الآية 39). وغيرها من الآيات وقد كانت القدرية تنكر أن يكون الله تعالى هو الهادي وهو الفاتن. وإنما العبد هو الذي يهدي نفسه إذا شاء ويضلها إذا شاء فلعل رسائل عمر وخطبه في الجمع من الردود على هؤلاء المبتدعة وسواء قصدهم عمر بخطبه أو ألقاها بدون قصد الرد عليهم تبقى ردوداً قوية على كل من انحرف في باب القدر عن منهج الكتاب والسنة، وقد بين عمر بن عبد العزيز أن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى مقدرة له مكتوبة على عباده، وهذا ما دل عليه الكتاب والسنة، قال تعالى: ((وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ(3/267)
وَمَا تَعْمَلُونَ)) (الصافات ، الآية : 96). وقال صلى الله عليه وسلم: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس5847)). وقد بين عمر بن عبد العزيز ـ كما جاء في خطبه ـ أن العبد إذا أذنب فعليه أن يتوب ويستغفر الله تعالى ولا يحتج على الله بالقدر ولا يقول أي ذنب لي وقد قدر علي هذا الذنب، بل يعلم أنه هو المذنب العاصي الفاعل للذنب وإن كان ذلك كله بقضاء الله وقدره ومشيئته، إذ لا يكون شيء إلا بمشيئته وقدرته وخلقه، كما رد عمر على القدرية القائلين بأن العبد له مشيئة مستقلة يستطيع بها رد علم الله فبين أن العبد له قدرة ومشيئة ولكنها تابعة لمشيئة الله تعالى5848.
4 ـ بيان مراتب القدر:(3/268)
…إن الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تدل بمجموعها على الإيمان بالقدر، كما تدل على الإيمان بمراتب القدر الأربعة التي اتفق السلف الصالح رحمهم الله تعالى ومن سار على نهجهم على أنه لا يتم الإيمان بالقدر، إلا بالإيمان بها كلها. وهي: العلم، والكتابة والمشيئة والخلقَ، وكانت القدرية الموجودون في زمن عمر بن عبد العزيز ينكرون العلم والكتابة وهؤلاء هم الذين تبرأ منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب بقوله: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم براء مني5849. ومن كلام عمر بن عبد العزيز في بيان مراتب القدر رده على الرجل الذي كتب إليه فجاء في رسالته:.. كتبت تسأل عن الإقرار بالقدر فعلى الخبير بإذن الله وقعت، وما أعلم ما أحدث الناس من محدثة ولا ابتدعوا من بدعة هي أبين أثرا ولا أثبت أمرا من الإقرار بالقدر، لقد كان ذكره في الجاهلية الجهلاء يتكلمون به في كلامهم وفي شعرهم يعزون به أنفسهم على ما فاتهم، ثم لم يزده الإسلام بعد إلا شدة، ولقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث ولا حديثين، وقد سمعه منه المسلمون فتكلموا به في حياته، وبعد وفاته يقيناً وتسليماً، لربهم وتضعيفاً لأنفسهم أن يكون شيء لم يحط به علمه ولم يحصه كتابه ولم يمض فيه قدره وأنه مع ذلك لفي محكم كتابه: منه اقتبسوه ومنه تعلموه، ولئن قلتم لم أنزل الله آية كذا ولم قال كذا، لقد قرأوا منه ما قرأتم وعلموا من تأوليه ما جهلتم، وقالوا بعد ذلك كله بكتاب وقدر وكتب الشقاوة وما يقدر يكن وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا نملك لأنفسنا ضراً ولا نفعاً ثم رغبوا بعد ذلك ورهبوا5850. ومن خلال رسائل وخطب عمر بن عبد العزيز يتضح معتقد عمر بن عبد العزيز في القدر وفي بيانه لمراتبه، فأول مراتبه:(3/269)
أ ـ العلم: والمقصود أن الله تبارك وتعالى قد علم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون قبل أن يخلقهم بعلمه القديم الذي هو صفة من صفات ذاته وأنه يعلم أهل الجنة وأهل النار قال تعالى:(( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا)) (الأنعام، آية: 59) .
…ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم لرجل سأله بقوله يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم. قال: ففيم يعمل العاملون؟ قال: كل مسير لما خلق له5851.
ب ـ مرتبة الكتابة: خطب عمر بن عبد العزيز فقال: أيها الناس من عمل منكم خيراً فليحمد الله تعالى ومن أساء فليستغفر الله، ثم إن عاد فليستغفر الله فإنه لابد لأقوام أن يعملوا أعمالاً وضعها الله في رقابهم وكتبها عليهم5852. وخطب يوماً فقال: إن الدنيا ليست بدار قرار، دار كتب الله عليها الفناء وكتب على أهلها منها الظعن5853. فهذا هو المأثور عن عمر من كتابة الله مقادير الخلائق قبل خلقهم وإحصائه كل ذلك وعلمه جزائيات كل5854 شيء. قال تعالى:(( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا)) (الحديد، آية: 22) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء5855.(3/270)
ج ـ المشيئة: والمقصود لها: أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا حركة ولا سكون في السماوات والأرض إلا بمشيئته سبحانه وتعالى فلا يكون في ملكه إلا ما يريد، وقد حرص عمر بن عبد العزيز على توضيح هذه المرتبة والرد على من أنكرها ففي رسالته إلى عامله يقول: وما يقدر يكن وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وكان يقول: لو أراد الله أن لا يعصى ما خلق إبليس5856، وناظر غيلان الدمشقي وأفحمه حين بين له خطأ، في الإحتجاج بأوائل الآيات من سورة الإنسان فطلب منه أن يقرأ آخر السورة وقال له: ويحك أما تسمع الله يقول: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)). وقال تعالى: ((مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) (الأنعام، آية: ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها كيف يشاء. ثم قال: يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك5857.(3/271)
س ـ الخلق: المقصود بها: إن الله تعالى هو خالق الخلق وخالق كل شيء، فهو الذي خلق الكون وأوجده، فهو الخالق وما سواه مربوب مخلوق5858، ولعمر بن عبد العزيز في تقرير هذه المرتبة أبلغ البيان، فقد كتب في قوله تعالى: ((وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ)) (هود ، الآيتان : 118 ـ 119). قال: الذين لا يختلفون خلقهم لله للرحمة5859. فهذه الآية تضمن خلق العباد وأعمالهم5860، ولذلك قال تعالى: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ..)) (هود ، الآيتان : 118 ـ 119). وكتب إلي عدي بن أرطأة أما بعد: فإن استعمالك سعد بن مسعود على عمان من الخطايا التي قدر الله عليك وقدر أن تبتلي بها5861، وهذا الذي قررّه عمر بن عبد العزيز دلّ عليه الكتاب والسنة، قال تعالى: ((اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)) (الزمر ، الآية : 6) وقال: ((وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)) (الصافات ، الآية : 96) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس5862.
5 ـ الفرق بين القضاء والقدر في الاصطلاح:(3/272)
…قيل المراد بالقدر: التقدير، وبالقضاء الخلق، كقوله تعالى: ((فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ)) (فصلت ، الآية : 12). أي خلقهن في القضاء والقدر أمران متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر لأن أحدهما بمنزلة الأساس، وهو القدر والآخر بمنزلة البناء وهو القضاء، فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه5863. وقيل: إن القضاء هو العلم السابق الذي حكم الله به في الأزل، والقدر هو وقوع الخلق على وزن الأمر المقضي السابق5864، وقال ابن حجر: وقالوا ـ أي العلماء: القضاء هو الحكم الكلي الإجمالي في الأزل، والقدر جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله5865. وقيل: إذا اجتمعا افترقا بحيث يصبح لكل واحد منهما مدلول يحسب ما مر في القولين السابقين، وإذا افترقا اجتمعا، بحيث إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر5866، قياساً على ما جاء في التفريق بين الإيمان والإسلام والفقير والمسكين ونحو ذلك ولعل هذا التعريف توفيق بين من يرى التفرقة بين القضاء والقدر وبين من لا يرى ذلك. والذي يظهر أنه ليس هناك فرق واضح بين القضاء والقدر5867 ولا فائدة من هذا الخلاف، لأنه قد وقع الاتفاق على أن أحدهما يطلق على الآخر وعند ذكرهما معاً فلا مشاحة من تعريف أحدهما بما يدل على الآخر5868.(3/273)
6 ـ الرضا بالقضاء والقدر: قال عمر بن عبد العزيز: ما أصبح لي اليوم في الأمور هوى إلا في مواقع قضاء الله فيها5869، وكان يدعو بهذا الدعاء: اللهم رضني بقضائك، وبارك لي في قدرك حتى لا أحب تعجيل ما أخرت ولا تأخير ما عجلت. وكان عمر يقول: ما برح بي هذا الدعاء حتى لقد أصبحت ومالي في شيء من الأمور هوى إلا في موضع القضاء5870. وقال حين دفن ابنه عبد الملك: رضينا بقضاء الله وسلمنا لأمره والحمد لله رب العالمين5871. ولما عزي في ابنه عبد الملك قال: وأنا أعوذ بالله أن يكون لي محبة في شيء من الأمور تخالف محبة الله فإن ذلك لا يصلح لي في بلائه عندي وإحسانه إلي5872. تحث الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في هذا المبحث على الرضا بالقضاء والمقصود بالقضاء الذي قدره الله على عبده من المصائب التي ليست ذنوباً، فإن الصبر على المصائب واجب وأما الرضا بها فهو مشروع لكن هل هو واجب أو مستحب؟ على قولين لأصحاب أحمد وغيرهما أصحها أنه مستحب ليس بواجب5873. ولا شك أن الرضا بالقضاء من تمام الإيمان بالقضاء والقدر وهو دليل على الثقة بما عند الله تعالى، فلا يندم على ما فات، ولا يفرح بما هو آت مما قدره الله تعالى له، فهو يرضى به على وفق قضاء الله له5874.
رابعاً : المرجئة:
نسبة إلى الإرجاء، وهو تأخير العمل عن الإيمان5875.
والإرجاء على معنيين:
أحدهما: بمعنى التأخير في قوله تعالى: ((قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ)) أي: أمهله وأخره. والثاني: إعطاء الرجاء5876(3/274)
والمرجئة في الاصطلاح فقد عرفهم الإمام أحمد بقوله: هم الذين يزعمون أن الإيمان مجرد النطق باللسان وأن الناس لا يتفاضلون في الإيمان وأن إيمانهم وإيمان الملائكة والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم واحد، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وأن الإيمان ليس فيه استثناء وأن من آمن بلسانه ولم يعمل فهو مؤمن حقاً5877. والمرجئة الخالصة: وهم الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، ومن هؤلاء جهم وأصحابه5878، وأول من تكلم في الإرجاء الذي هو تأخير الأعمال عن الإيمان غيلان الدمشقي، كما يقول الشهرستاني5879، وأما الإرجاء المنسوب إلى أبي محمد الحسن بن محمد المعروف بابن الحنفية فليس هو الإرجاء في الإيمان، وإنما هو إرجاء أمر المقاتلين من الصحابة إلى الله عز وجل5880، وقال ابن سعد في ترجمته وهو أول من تكلم في الإرجاء ـ ويذكر كذلك ـ أن زاذان وميسرة دخلا عليه فلاماه على الكتاب الذي وضع في الإرجاء فقال لزاذان: يا أبا عمر لوددت أني كنت مت ولم أكتبه5881، فهذا الكتاب إنما فيه إرجاء أمر المشتركين في الفتنة التي حدثت بعد خلافة أبي بكر وعمر إلى الله عز وجل5882، وقد ذكر ابن حجر: أنه أطلع على هذا الكتاب الذي ألفه الحسن بن محمد وقال: المراد بالإرجاء الذي تكلم الحسن بن محمد في غير الإرجاء الذي عيبه أهل السنة: المتعلق بالإيمان5883، وأهم أقوالهم التي فاقوا فيها أهل السنة:
ـ قولهم بتأخير الأعمال عن مسمى الإيمان .
ـ وقول الخالصة منهم: أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة5884.(3/275)
وقد جاءت عن عمر بن عبد العزيز آثار خاصة تدل على زيادة الإيمان وإدخال الأعمال فيه. وهذه الآثار رد على المرجئة ولاسيما وأن أهل العلم قد ذكروا هذه الآثار في معرض ردودهم على المرجئة. كما ورد عنه ـ رحمه الله تعالى ـ التحذير عن البدع كلها ولا بدعة أظهر من بدعة الإرجاء5885، وهاهي الآثار الواردة عنه في هذا المبحث، فقد مرّ معنا قوله: إن للإسلام حدوداً وشرائع وسنناً فمن عمل بها استكمل الإيمان، ومن لم يعمل بها لم يستكمل الإيمان فإن أعشى أعلمكموها وأحملكم عليها، وإن مت فما أنا على صحبتكم بحريص5886. وقال: لا عذر لأحد بعد السنة في ضلالة ركبها يحسب أنها هدى5887. وقال: فلو كان كل بدعة يميتها الله على يدي وكل سنة ينعشها الله على يدي ببضعة من لحمي حتى يأتي آخر ذلك على نفسي كان في الله يسيرا5888. يتبين مما سبق أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى كان حريصاً على رد البدع كلها. حتى ولو أدى ذلك إلى أن يضحي بأعضائه كلها وقد بين في تلك الآثار القول الصحيح في الإيمان وأنه يشمل العبادات كلها وأولى عناية خاصة بشعبه، ووعد بأنه إن عاش فسيحمل رعيته عليها، ففي هذا المأثور عنه بيان للقول الصحيح في الإيمان، وقد وضحت مفهومه للإيمان عند الحديث عن اهتمامه بعقائد أهل السنة، كما أن فيه الرد على بدعة الإرجاء لأن إحقاق الحق إبطال للباطل، وهذا المأثور عنه هو الحق الثابت عنه في مسألة الإيمان5889. وأما ما رواه ابن سعد في الطبقات أن عمر بن عبد العزيز لما تولى الخلافة جاءه راحلاً إليه عون بن عبد الله وموسى بن أبي كثير وعمر بن حمزة وفي بعض المراجع عمر بن ذر فكلموه في الإرجاء وناظروه فزعموا أنه وافقهم ولم يخالفهم في شيء منه5890. فهذا لا يثبت عنه لما يلي:
ـ لأن ابن سعد رواه بدون سند فهو إذا منقطع.
ـ ولأنه زعموا فيه صيغة التمريض (زعموا).
ـ وأيضاً إن مثل هذا الزعم والادعاء لا يعول عليه لأن رواته متهمون بالإرجاء5891.(3/276)
هذا وعلى فرض تسليم تلك الرواية فإن عون بن عبد الله قد تاب عن الإرجاء. وقد روى ذلك اللالكائي بسنده عن نوفل الهذلي عن أبيه قال: كان عون بن عبد الله بن مسعود من آداب أهل المدينة وأفقههم وكان مرجئاً ثم رجع فأنشد يقول:
………لأول ما نفارق غير شك
………………نفارق ما يقول المرجئونا
………وقالوا مؤمن من أهل جور
………………وليس المؤمنون بجائرينا
………وقالوا مؤمن دمه حلال
………………وقد حرمت دماء المؤمنين5892
فثبت أن عون بن عبد الله رحمه الله قد رجع عن القول بالإرجاء ولعل قوله بالإرجاء كان قبل اتصاله بعمر رحمه الله تعالى اتصالاً وثيقاً وكونه من المقربين عنده5893.
خامساً: الجهمية: تنتسب الجهمية إلى الجهم بن صفوان من أهل خراسان ومولى لبني راسب، تتلمذ على الجعد بن درهم وكان كاتباً للحارث بن سريح5894، الذي أثار الفتن ضد الدولة الأموية في خراسان، وكان جهم يقرأ سيرته ويدعو إلى توليته5895، ويحرص الناس على الخروج معه وفي سنة 128هـ وقعت معركة بين جيش أمير خراسان ـ نصر بن سيار ـ وجيش الحارث بن سريح، وكان جهم بن صفوان في جيش الحارث، فطعنه رجل في فمه فقتله، وقيل بل اسر وأوقف بيت يدي سلم بن أحوز5896فأمر بقتله5897، وأهم أصول الجهمية:
1 ـ تبنى الجهم آراء الجعد بن درهم والتي هي نفي صفات الله عز وجل، والقول بخلق القرآن ثم زاد عليها بدعاً أخرى.
2 ـ القول بالجبر، حيث زعم أن الإنسان لا يقدر على شيء ولا يوصف بالاستطاعة وإنما هو مجبور على أفعاله.
3 ـ القول بأن الإيمان هو المعرفة حيث زعم أن الإيمان هو المعرفة بالله تعالى فقط وأن الكفر هو الجهل به فقط.
4 ـ القول بفناء الجنة والنار حيث زعم أنهما تفنيان بعد دخول أهلها فيهما، إذا لا يتصور على حسب زعمه حركات لا تتناهى.(3/277)
5 ـ القول بأن علم الله حادث، حيث زعم أنه لا يجوز أن يعلم الشيء قبل خلقه5898. فنفي الصفات أخذها الجهم من الجعد ومن الفلاسفة، والسمنية5899، وذلك أن الجهم كان فصيح اللسان ولم يكن له علم ولا مجالسة لأهل العلم فكلم السمنية فقالوا له: صف لنا ربك عز وجل الذي تعبده، فدخل البيت ولم يخرج ثم خرج إليهم بعد أيام فقال: هو هذا الهواء مع كل شيء وفي كل شيء ولا يخلو منه شيء، وروى الإمام أحمد يرحمه الله مناظرة وقعت بين الجهم والسمنية في إثبات الله عز وجل انتهى فيها الجحم إلى أن شبه الله فيها الروح التي لا ترى ولا تحس ولا تسمع5900. ويقول ابن تيمية: إن الجعد بن درهم قيل أنه من أهل حران وكان فيهم خلق كثير من الصائبة والفلاسفة...ومذهب النفاه من هؤلاء في الرب: إنه ليس له إلا صفات سلبية أو إضافية أو مركبة منها...فيكون الجعد قد أخذها من الصائبة والفلاسفة5901، وكان الجهم قد أخذ بمعتقدات الجعد5902. وأما القول بالجبر فقد قاله المشركون من العرب قبله، قال تعالى: ((وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)) (النحل:آية:35).فيخبر الله تعالى عن اغترار المشركين بما هم فيه من الإشراك محتجين بالقدر، فمضمون كلامهم أنه لو كان تعالى كارهاً لما فعلناه لأنكره علينا بالعقوبة ولما مكننا منه5903، وأما القول بأن الإيمان هو المعرفة فقد قالت بهذا القول المرجئة قبله، وأما القول بفناء الجنة والنار فمصدره الإسماعيلية5904والباطنية وأهل الكلام واليهود، يقول ابن أبي العز يرحمه الله عن الجهم بن صفوان: وقال بفناء الجنة والنار الجهم بن صفوان إمام المعطلة وليس له سلفاً قط لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان ولا من أئمة(3/278)
المسلمين ولا من أهل السنة...وهذا قاله لأصله الفاسد الذي اعتقده وهو امتناع وجود ما لا يتناهى من الحوادث وهو عمدة أهل الكلام المذموم5905. وأهل الكلام المذموم عامتهم لا يرون قطيعة شيء من دلالة الكتاب والسنة، دلالتها كلها عندهم ظنية، فالمتكلمون قد أخذوا علومهم ومصطلحاتهم من الفلاسفة والمناطقة5906، الذين يرجعون في أصولهم إلى المجوس والنصارى واليهود. وأم القول بأن علم الله حادث فقد اقتبسه الجهم من معبد، ومعبد أخذه من سوسن النصراني، فدل ذلك على مدى تأثر كبار الفرق وأخذه من الأمم الهالكة ، فما بالك بمن جاء بعدهم5907. وما جاء من الآثار عن عمر بن عبد العزيز تعتبر ردوداً عامة على الجهمية وقد أوردها علماء السلف ضمن ردودهم عليهم كالإمام أحمد والدارمي، وغيرهما من علماء السلف. فعن جعفر بن برقان، قال: جاء رجل إلى عمر بن عبد العزيز فسأله عن بعض الأهواء فقال: انظر دين الإعرابي والغلام في الكتاب فاتبعه وإله عما سوى ذلك5908. وقال: سن رسول الله صلى اله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سنناً الأخذ بها اعتصام بكتاب الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر في أمر خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً5909. قال عبد الله بن عبد الحكم، فسمعت مالكاً يقول: وأعجبني عزم عمر في ذلك5910. وقال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل5911. وهذه الآثار عن عمر بن عبد العزيز أوردها علماء السلف في ردهم على الجهمية، ولا شك أنها تعتبر رداً على جميع المبتدعة، وذلك في أمره رحمه الله بالتمسك بما تدل عليه الفطرة من إثبات ما للخالق من صفات الكمال ونعوت الجلال، كإثبات الفوقية والعلو، وغير ذلك مما تدل عليه الفطرة السليمة. وكذلك أمره بالنهي عن الخصومات في الدين بغير علم، ولم يقع جهم فيما وقع(3/279)
فيه إلا بسبب الخصومات فيما لا علم له به، فضل وأضل وكان السلف الصالح يستدلون بما أثر عن عمر بن عبد العزيز في الأخذ بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنن الخلفاء الراشدين من بعده في ردهم على الجهمية مثلما فعله ابن تيمية في الفتوى الحموية حيث ذكر أن أبا القاسم الأزجي روى بإسناده عن طرف بن عبد الله، قال: سمعت مالك بن أنس إذا ذكر عنده من يدفع أحاديث الصفات يقول: قال عمر بن عبد العزيز ويذكر الأثر سن رسول الله ولاة الأمر من بعده.. وقال الشاطبي متحدثاً عن هذا الأثر: إنه كلام مختصر جمع أصولاً حسنة من السنة منها قطع مادة الابتداع جملة. ومنها المدح لمتبع السنة وذم لمن خالفها ومنها أن سنة ولاة الأمر وعملهم تفسير لكتاب الله وسنة رسوله فقد جمع كلام عمر أصولاً حسنة وفوائد مهمة5912، وقد أورد الإمام أحمد في كتابه ((الرد على الجهمية)) أثر عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر5913 التنقل، وقد أخذت المعتزلة من الجهمية نفي صفات الله والقول بخلق القرآن وهذا الاتفاق بين الجهمية والمعتزلة على نفي صفات الله والقول بخلق القرآن جعل كثيراً من محققي علماء المسلمين يسمون المعتزلة جهمية ولهذا لا بد من الحذر عند اطلاق أسماء الفرق بعضها على بعض، لأنه لا يكاد توجد فرقة إلا وتشترك مع أخرى في جانب من الاعتقاد، فلو تجوزنا في إطلاق اسم هذه الفرقة على من شاركها لحصل الإلتباس وما استقام المنهج أبداً، إذن لا بد من إطلاق اسم الفرقة على المسمى الصحيح بحيث لا يستعار لغيرها البتة وهذا من ناحية علمية أدق وأسلم5914.
سادساً : المعتزلة: اسم يطلق على تلك الفرقة التي ظهرت في الإسلام في أوائل القرن الثاني على يد واصل بن عطاء5915، وسلكت منهجاً عقلياً صرفاً في بحث العقائد، وقررت أن المعارف كلها عقلية حصولاً، ووجوباً، قبل الشرع وبعده، وهم أرباب الكلام، وأصحاب الجدل5916.
1 ـ نشأة المعتزلة وسبب التسمية:(3/280)
…دخل رجل على الحسن البصري فقال: يا إمام الدين، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر وهم وعيدية الخوارج وجماعة يرجئون مصير أصحاب الكبائر لأمر الله تعالى، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان، وهم مرجئة الأمة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟ ففكر الحسن في ذلك، وقبل أن يجيب قال واصل: أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً، ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، ثم قام لفوره، واعتزل حلقة شيخة إلى اسطوانة من اسطوانات المسجد يقرر ما أجاب به على جماعة من اصحاب الحسن فقال الحسن: اعتزل عنا واصل، فسمي هو وأصحابه معتزلة5917، وهذا القول يكاد يجمع عليه مؤرخي الفرق5918، ولا علاقة بتسمية المعتزلة بالصحابة الكرام لا من قريب ولا بعيد، فالصحابة الذين اعتزلوا الفتنة بين علي ومعاوية وفي الجمل رضي الله عنهم لم يسموا معتزلة بالمعنى الاصطلاحي الذي يفهم من مدلول هذه الكلمة وإنما بالمعنى اللغوي، يؤيد ذلك أن المعتزلة الذين نحن بصدد الحديث عنهم إنما سموا بذلك لاعتزالهم مذهب أهل السنة والجماعة، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أئمة أهل السنة والجماعة، فكيف يُجعلون سلفاً للمعتزلة الذين اقتفوا أثر العقل دون الشرع؟ وبذلك يعلم خطأ من جعل أصحاب رسول الله سلفاً لهؤلاء المعتزلة فإن المعتزلة جعلوا الاعتزال ديناً لهم يتعبدون الله تعالى على أساس تعاليمه، وأما أولئك الصحابة اعتزلوا الفتنة طلباً للسلامة من الإثم وصوناً للدماء5919. وقد تميز المعتزلة عن أهل السنة والجماعة بمدرسة منهجية فكرية خاصة، الهيمنة فيها للعقل وحده بلا منازع وتركوا التمسك بالنصوص الشرعية، التي فيها محض الهدى والعصمة من الانحراف والضلال5920.(3/281)
2 ـ فرق المعتزلة: فلمّا كانت القاعدة الرئيسة التي اعتمد عليها المعتزلة هي العقل به يثبتون وبه ينفون، وبسبب انغماس المعتزلة في الفلسفة اليونانية القائمة على الجدل والخصومة دبَّ الخلاف بين رجال هذه الفرقة، وتشعبت أراؤهم، وتفرقوا إلى اثنتين وعشرين فرقة منها: الواصلية والعمروية والهذلية والنظامية... الخ. ولكل فرقة من هذه الفرقة بدع خاصة بها، وكلهم يجتمعون على الأصول الخمسة في الجملة، لكنهم يختلفون في جزئيات داخل هذه الأصول، ولا عجب في ذلك ما دام العقل هو المحكِّم عندهم ولكل اهتماماته المختلفة عن الآخر5921.
3 ـ دور المعتزلة في إحياء عقائد الفرق التي سبقتها:
…أخذت المعتزلة عن ثلاث فرق سابقة عليها، وأحييت بدورها تلك العقائد ولكن بشكل آخر، فأخذت عن الخوارج، وعن القدرية الغلاة، وعن الجهمية5922.
* ما أخذته من الخوارج:
أ ـ حكم مرتكب الكبيرة في الآخر:
…يقول البغدادي: ثم إن واصلاً وعمراً، وافقا الخوارج في تأييد عقاب صاحب الكبيرة في النار مع قولهما بأنه موحِّد، وليس بمشرك ولا كافر5923. من هذا النص يظهر لنا أن المعتزلة أحيت عقيدة الخوارج في صاحب الكبيرة في الآخرة، ولكن لم تحكم عليه بالكفر في الدنيا5924.
ب ـ الخروج على أئمة الجور:
…إن مما أجمعت الخوارج: وجوب الخروج على الإمام الجائر بالقوة والسلاح لإزالة الظلم والبغي، وإقامة العدل والحق كما يقولون5925، وصرفوا نصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى منازعة الأئمة والخروج عليهم وقتال المخالفين5926. وقد أخذت المعتزلة هذا المبدأ عن الخوارج وأحيوه نظرياً تحت أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول أبو الحسن الأشعري: أجمعت المعتزلة إلاّ الأصم على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الإمكان والقدرة باللسان، واليد، والسيف، كيف قدروا على ذلك5927. وقال في موطن آخر: وأوجبوا الخروج على السلطان على الإمكان والقدرة5928.(3/282)
ج ـ قضية التأويل5929: الخوارج هم أول من فتح باب التأويل الباطل في تاريخ الأمة، فأعملوا التأويل في نصوص الحكم بغير ما أنزل الله، ونصوص الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم جاءت الفرق بعدها فورثت هذا المنهج وطبقته في الاستدلال على بدعها التي أحدثتها، ومن تلك الفرق: المعتزلة التي أعملت التأويل في نصوص الصفات لتقرر التعطيل، بينما لم يكن استعماله في نصوص الصفات عند الخوارج5930. وقال ابن تيمية: ولم يعرف فيهم ـ الخوارج ـ الكلام وتأويل الصفات إلا بعد ظهور المعتزلة5931. واستخدم المعتزلة التأويل في نصوص القدر، ولم يكن هذا عند الخوارج أيضاً وهكذا، فالخلاصة: أن المعتزلة ورثت منهج التأويل من الخوارج، وعضّت عليه بالنواجذ، وأصبح عندهما قاعدة للتعامل مع نصوص الكتاب والسنة.
* ـ…القدرية: وأما عن القدرية، فأخذ المعتزلة القول بنفي القدر وأحيته، ولكن ليس بشكله الغالي الذي يتضمن نفي علم الله تعالى وهو الذي كان عليه القدرية الأوائل، فإن هذا القول قد تلاشى وسقط لسببين:
ـ…قلة عدد القائلين بالقدر على هذا النحو.(3/283)
ـ…وقوف الصحابة الذين أدركوا هذه المقالة وعلماء التابعين ضد هذه المقولة بحزم، تارة بالبراءة من أهلها كما فعل ابن عمر رضي الله عنه، فقد قال لمن جاء بخبرهم: فأخبرهم إني بريء منهم، وإنهم برآء مني5932، أو بإهانتهم واحتقارهم، كما فعل طاووس بن كيسان مع معبد الجهني حين رآه في المطاف حيث التفت إلى الناس وقال: هذا معبد فأهينوه5933، أو بقتلهم وقطع دابر فتنتهم بعد تكفيرهم كما فعل بغيلان الدمشقي حين أصر على هذه العقيدة الفاسدة5934. لكن المعتزلة أحيت هذه العقيدة بطريقة خفضت فيها من غلو السابقين فأثبتت لله تعالى العلم والكتابة، وأنكرت مرتبتي الإرادة والخلق حيث قرروا أن العباد هم الخالقون بأفعالهم، وأنهم يفعلونها بمحض مشيئتهم دون مشيئة الله تعالى5935. ولهذا لم يكفرهم العلماء كما كفروا القدرية الغلاة السابقين، قال ابن تيمية: وأما القدرية الذين ينفون الكتابة والعلم فكفروهم ولم يكفروا من أثبت العلم ولم يثبت خلق الأفعال5936.
* ـ…الجهمية: مهد التعاصر والتزامن بين الفرقتين والاتصالات الشخصية التي كانت بين جهم وبعض أصحاب واصل لأخذ المعتزلة من الجهمية عقيدتهم في التوحيد والتي تضمنت:
أ ـ…نفي الصفات: يقول ابن تيمية: ثم أن أصل هذه المقالة ـ مقالة التعطيل للصفات ـ إنما هو مأخوذ من تلامذة اليهود والمشركين.. فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام.. هو الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان، وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه5937. ثم إن المعتزلة ورثت هذه البدعة من الجهمية وأحيتها ولكن بشكل خفضت فيه من غلو الجهمية، فإن الجهمية كانت تنفي عن الله الأسماء والصفات5938، كما ذكر ابن تيمية: أن الجهم زاد نفي الأسماء على نفي الصفات5939، أما المعتزلة فإنهم يثبتون الأسماء وينفون الصفات5940.(3/284)
ب ـ القول بخلق القرآن، ونفي رؤية الله تعالى مطلقاً: قال ابن تيمية في المعتزلة: وتوحيدهم هو توحيد الجهمية الذي مضمونه نفي الصفات وغير ذلك، قالوا: إن الله لا يرى وأن القرآن مخلوق5941. فهذه جملة ما أخذه المعتزلة عن الفرق السابقة عليها وهم الخوارج والقدرية والجهمية، وقد ظهر دورهم في إحيائها وقد غير المعتزلة في كثير منها حتى تخف الوطأة عليها، كما أنها جمعت لتلك العقائد الأدلة العقلية الفلسفية ثم جاءت الفرق فأخذت تلك العقائد بصورتها عن المعتزلة واستدلت بأدلة المعتزلة عليها5942.
4 ـ أصول المعتزلة الخمسة: اتفق جميع المعتزلة فيما بينهم على أصول خمس عقدية، جعلوها أساساً مهماً لمذهبهم الإعتزالي، وهذه الأصول هي: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر5943 ومصطلح الأصول الخمسة لم يظهر عند واصل بن عطاء، وإنما أخذ عن تلاميذه واكتمل عند أبي الهذيل العلاف، والذي وصلت به الفرقة إلى ذروة الاعتزال، واكتملت على يديه موضوعاته، وقد كتب في الأصول الخمسة بعض فصول كتبه، ثم تتالت الكتب التي تحمل هذا المصطلح على يد جعفر بن حرب، والقاضي عبد الجبار وغيرهما من رجال المعتزلة5944، ومع بداية الدولة العباسية نشطت حركة المعتزلة، وبدأوا يرسلون الرسل في الآفاق للدعوة إلى مذهبهم ومعتقدهم، وقد حظي مذهبهم بتأييد بعض الخلفاء العباسيين وخاصة في عهد المأمون، ونترك مناقشة أصول الاعتزال وموقف أهل السنة منها عند حديثنا عن الدولة العباسية بإذن الله تعالى.
المبحث الخامس : حياته الاجتماعية والعلمية والدعوية:
أولاً : الحياة الاجتماعية:
* إهتمامه بأولاده وأسرته:
أشرف عمر بن عبد العزيز على تربية وتعليم أولاده بنفسه ولم تشغله مسئولياته عن تنشئتهم التنشئة الصالحة، المستمدة من تعاليم الدين الإسلامي ونستشف ذلك من خلال رسائله لهم، ولمن أوكل إليه تأديبهم.(3/285)
1 ـ ربطهم بالقرآن الكريم: ربط عمر بن عبد العزيز أولاده بالقرآن الكريم وكان يأذن لهم يوم الجمعة بالدخول عليه قبل أن يأذن للناس ليتدارس معهم القرآن الكريم: فإذا قال: إيها5945 قرأ الأكبر منه ثم إذ قال: إيها، قرأ الذي يليه حتى يقرأ طائفة منهم5946
2 ـ تعهدهم بالنصيحة: فقد أرسل في العام الذي استخلف فيه إلى أبنه عبد الملك، وهو إذ ذاك في المدينة يقول فيما قال فيها: ...فمن كان راغباً في الجنة وهارباً من النار ـ يقصد عبد الملك وأخوته ـ فالآن التوبة مقبولة، والذنب مغفور، قبل نفاذ الأجل، وانقضاء العمل، وفراغ من الله للمنقلبين ليدنيهم بأعمالهم في موضع لا تقبل فيه الفدية، ولا تنفع فيه المعذرة، تبرز فيه الخفيات، وتبطل فيه الشفاعات، يردُدُه الناس بأعمالهم، ويصدرون عنه أشتاتاً إلى منازلهم، فطوبى يومئذ لمن أطاع الله، وويل يومئذ لمن عصى الله5947. وفي موضع آخر من هذه الوصية يحث ولده على ذكر الله وشكره عز وجل ومراقبته في القول والعمل، فيقول: ..فاذكر فضل الله عليك وعلى أبيك، وإن استطعت أن تكثر تحريك لسانك بذكر الله تحميداً، وتسبيحاً، وتهليلاً فافعل، فإن أحسن ما وصلت به حديثاً حسناً حمد الله وشكره، وإن أحسن ما قطعت به حديثاً سيئاً حمداً لله وذكره5948.
3 ـ الحث على التسامح وحسن الظن: كان رحمه الله يحثهم على التسامح وحسن الظن في الناس، فإن بعض الظن إثم، فيروى قال مرة لابنه عبد العزيز: إذا سمعت كلمة من امرئ مسلم، فلا تحملها على شيء من الشر،(3/286)
4 ـ الأسلوب اللين والمحاورة العاقلة: كان رحمه الله يتعامل معهم بالأسلوب اللين، دون أن ينصرف إلى التدليل الذي يفسد الأبناء ويحاورهم محاورة العقلاء ويستخدم أسلوب الإقناع والمنطق في التفاهم معهم، وتلبية طلباتهم5949، فيروى أن أبنه عبد الله استكساه ذات مرة وهو خليفة، فأرسله إلى الخيار بن رباح البصري وقال له:خذ مما عنده لي من ثياب. فلم تعجبه فعاد إلى أبيه وقال: يا أبتاه استكسيتك، فأرسلتني إلى الخيار بن رباح، فأخرج لي ثياباً ليست من ثيابي ولا من ثياب قومي، فقال: ذاك ما لنا عند الرجل. فأنصرف عبد الله، فما كان عمر رضي الله عنه الأب المربي، إلا أن اتخذ موقفاً وسطاً مقنعاً، فجمع بين إجابة طلب ولده، وأنه لا يتوفر كل مطلوب أو مرغوب دائماً: فناداه قبل أن ينصرف وقال له مخيراً إياه: هل لك أن أسلفك من عطائك مئة درهم؟ قال: نعم يا أبتاه: فأسلفه مائة درهم فلما خرج عطاؤه حُوسب بها فأخذت منه5950، ومما يروى أيضاً في حسن إجابته لأولاده وإقناعهم، أن ابنة له بعثت إليه بلؤلؤة وقالت له: إن رأيت أن تبعث لي بأخت لها، حتى أجعلها في أذني فلم يرد عليها بالإجابة ولا بالرفض، وإنما الأمر مرتبط بصبرها على الجمر، إذ أرسل لها بجمرتين وقال لها: إن استطعت أن تجعلي هاتين الجمرتين في إذنيك بعثت إليك بأخت لها5951، فكان جواب مقنع لها5952.
5 ـ حرصه على العدل بينهم:(3/287)
…وما يذكر من حسن معاملته رحمه الله لأولاده، حرصه على العدل بينهم مع كثرتهم، حتى لا يحقد أحدهم على الآخر أو يبغضه، فقد تحرى رحمه الله العدل حتى إيثاره لابن الحارثية أن ينام معه، إذ تركه خشية أن يكون جوراً5953، وفي هذا الصدد يروى عن عبد العزيز ابن عمر بن عبد العزيز قوله: كان عمر بن عبد العزيز له ابن من امرأة من بلحارث بن كعب، وكان يحبه وينام في بيته، قال: فتعرضت له ذات ليلة، فقال: أعبد العزيز؟ قلت: نعم. قال: شرٌ ما جاء بك؟ ادخل، فجلست عند شاذكونته5954، وهو يصلي.. فأتاني فقال: مالك؟ فقلت: ليس أحد أعلم بولد الرجل منه، وإنك تصنع بابن الحارثية ما لا تصنع بنا، فلست آمن أن يقال ما هذا إلا من شيء تراه عنده ولا تراه عندنا. فقال: أعلمك هذا أحد؟ فقلت: لا. قال: فأعد عليّ. فأعدت عليه. فقال: أرجع إلي بيتك. فرجعت، فكنت أنا وإبراهيم وعاصم وعبد الله ـ وهم من أخوانه ـ نبيت جميعاًُ فإذا نحن بفراش يحمل وتبعه ابن الحارثية ـ وهو أخوهم ـ فقلنا: ما شأنك؟ قال: شأني ما صنعت بي، قال: كأنه خشي أن يكون جوراً5955.
6 ـ تنمية الأخلاق الفاضلة عندهم: كان يحرص على تنمية الأخلاق الفاضلة عند أولاده ويتحين الفرص لتحقيق ذلك ما استطاع، ففي سياق رسالته رحمه الله إلى ولده عبد الملك، وهو في المدينة ينهاه عن التفاخر والمباهاة في الكلام، والإعجاب بالنفس، والغرور والتعالي على الناس، فيقول له:.. وإياك أن تفحر بقولك، وأن تعجب بنفسك أو يخيل إليك إن ما رزقته لكرامة لك على ربك، وفضيلة على من لم يرزق مثل غناك5956.(3/288)
7 ـ تربية أولاده على الزهد والاقتصاد في المعيشة: تتجلى شخصية عمر رحمه الله التربوية بقدرته على جعل أولاده يتقبلون التحول من فترة النعيم إلى فترة الزهد والتقشف، وأن يقنعهم بالعيش كعامة الناس، بدلاً من حياة الترف والرفاهية، فمن أول إجراءاته إن جاء في سياق رسالته التربوية لابنه عبد الملك وهو في المدينة والتي جاء فيها:.. فإن ابتلاك الله بغنى اقتصد في غناك، وضع لله نفسك، وأد إلى الله فرائض حقه من مالك ـ يقصد الزكاة والصدقة وعدم الإسراف ـ وقل كما قال العبد الصالح: ((هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)) (النمل ، الآية : 40). وكانت هذه الرسالة عقب توليه الخلافة مباشرة، في حين لا تزال فترة النعيم والرفاهية قائمة، إذ إتبع أسلوباً تربوياً رائعاً في ذلك، حيث أخذ الأمر بالتدرج، فأشعره بأن الغنى وكثرة المال ابتلاء من الله عز وجل، ثم أمره بالاقتصاد فيما هو فيه من الغنى، ثم قرن الأمر بالتواضع لله وأخيراً أكد على ضرورة أداء حق الله، من زكاة الأموال والصدقات وامتثال أمر الله عز وجل5957. وفي موقف آخر، إذ بلغه رحمه الله إن ابناً له إتخذ خاتماً، واشترى لهذا الخاتم فصاً بألف درهم، فكتب إليه عمر: أما بعد : فقد بلغني أنك اشتريت فصَّاً بألف درهم، فبعه، وأشبع ألف جائع، واتخذ خاتماً من حديد صيني، واكتب عليه: رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه5958. ونلاحظ أن عمر ربط أمره ببيع الفص بوجود جائعين وحاجتهم للإشباع ليكون ذلك أجدى لإدراك مغزى الأمر، والتحري في إنفاق الأموال مستقبلاً، وليكن أمر الفقراء والمساكين نصب أعين أبنائه دائماً5959، وذات يوم طلب أحد أبناء عمر بن عبد العزيز إلى أبيه أن يزوجه، وأن يُصدق عنه من بيت المال ـ وقد كان لابنه ذلك امرأة ـ فغضب رضي الله عنه لذلك، وكتب يقول: لقد أتاني(3/289)
كتابك تسألني أن أجمع لك بين الضرائر من بيت المال، وأبناء المسلمين لا يجد أحدهم امرأة يستعف بها، فلا أعرفن وما كتبت بمثل هذا.. ثم كتب إليه أن أنظر إلى ما قبلك من نحاسنا ومتاعنا فبعه، واستعن بثمنه على ما بدا لك5960. ولم يقتصر الأمر على الذكور من أولاده، بل شمل الذكور والإناث على ذلك أن ابنة لعمر بن عبد العزيز يقال لها ((أمينة)) مرت به يوماً، فدعاها عمر: يا أمينة، فلم تجبه فأمر بها، فقال: ما منعك أن تجيبي؟ فقالت إني عارية ـ أي ملابسها ليست حسنة ـ فقال: يا مزاحم: انظر إلى تلك الفرش التي فتقناها، فاقطع لها منها قميصاً5961، هذا عن كساء بنات عمر، أما عن طعامهن، فيروى ابن عبد الحكم أن عمر: كان يصلي العتمة5962، ثم يدخل على بناته فيسلم عليهن، فدخل عليهن ذات ليلة فلما أحسنَّه وضعن أيديهن على أفواههن ثم تبادرن الباب، فقال للحاضنة: ما شأنهن؟ فقالت: إنه لم يكن عندهن شيء يتعشينه إلا عدس وبصل فكرهن أن تشم ذلك من أفواههن فبكى عمر. ثم قال لهن: يا بناتي ما ينفعكن أن تعشين الألون، ويمر بأبيكن على النار، فبكين حتى علت اصواتهن ثم انصرفن5963وكان عمر بدأ الانتقال بأهل بيته من فترة الرفاه والتنعيم إلى فترة القناعة والزهد في الدنيا، بأن وضع حلي ومجوهرات زوجه فاطمة بنت عبد الملك في بيت المال، إذ قال لها: اختاري، إما أن تردي حليَّك إلى بيت المال وإما أن تأذني لي في فراقك، فإني أكره أن أكون أنا وأنت وهو في بيت واحد. قالت: لا بل أختارك يا أمير المؤمنين عليه وعلى أضعافه إن كان لي5964.(3/290)
* ـ اهتمامه بتعليم أولاده: أولى عمر رحمه الله تعليم وتأديب أولاده جانباً من الاهتمام، إذ اتبع إجراءات تعليمية جعل منها منهجاً جديراً يلبي حاجات الناشئ المسلم،ليكون موحد الذات والأهداف، غير منقسم على نفسه بين القول والعمل، أو بين الواقع والمثال5965، حيث تتضح معالم ذلك المنهج في رسالته رضي الله عنه إلى معلمهم ومؤدبهم مولاه سهل بن صدقة، إذ قرر اختياره وتكليفه بمهام تعليم وتأديب أولاده، ثم حدد الطريقة المثلى للتأديب5966، فقد قال: من عبد الله عمر، أمير المؤمنين، إلى سهل مولاه. أما بعد: فإني اخترتك على علم منيّ بك لتأديب ولدي، فصرفتهم إليك من غيرك من مواليّ وذوي الخاصة بي، فحدثهم بالجفاء، فهو أمعن لإقدامهم، وترك الصحبة فإن عادتها تكسب الغفلة، وقلة الضحك، فإن كثرته يميت القلب، وليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم، أن حضور المعازف5967 واستماع الأغاني، واللهج5968 بها ينبت النفاق في القلب، كما ينبت العشْبَ الماء ولعمري لتوقي ذلك، بترك حضور تلك المواطن، أيسر على ذي الذهن من الثبوت على النفاق في قلبه، وهو حين يفارقها لا يعتقد مما سمعت أذناه على شيء مما ينتفع به، وليفتتح كل غلام منهم بجزء من القرآن يثبت في قراءته، فإذا فرغ، تناول قوسه ونبله وخرج إلى الغرض5969حافياً، فرمى سبعة أرشاق5970. ثم أنصرف إلى القائلة5971، فإن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول: يا بَني قيلوا، فإن الشياطين لا تقيل5972. ونلاحظ على هذه التوجيهات الأمور الآتية:(3/291)
1 ـ اختيار المعلم والمؤدب الصالح: فالمعلم أو المربي يعد حجر الزواية في عملية التعليم، فقد اختار معلم أولاده من خاصته ومواليه وعلى علم به وثقة فيه، ولم يكتف عمر بمولاه سهل لتأديبهم وتعليمهم بل عهد بتأديبهم أيضاً إلى أستاذه ومؤدبه الأول صالح بن كيسان5973. ولم يقف حرص عمر رحمه الله على تعليم أولاده وأدبهم عند هذا الحد، بل اختار من كبار علماء عصره من يختبر عقل أولاده وأدبهم عند هذا الحد، بل وجدناه يختار من كبار عصره من يختبر عقل أولاده وأدبهم، فقد كلف ميمون بن مهران أن يأتي ابنه عبد الملك فيستشيره وينظر إلى عقله. قال ميمون: فأتيناه ـ يعني عبد الملك بن عمر ـ فاستأذنت عليه فقعدت عنده ساعة، فأعجبت به5974.
2 ـ تحديد المنهج التعليمي: حدد عمر بن عبد العزيز المنهج التعليمي والمقررات الدراسية التي يريد لأولاده أن يتعلموها، حيث يتكون من القرآن الكريم وعلومه وبقية العلم من العلوم الأخرى، والتدريب على الجهاد والقتال والصبر عليه، وكذلك التمرين على الرماية ودقة الإصابة وممارسة الرياضة البدنية بالسير إلى الأهداف حفاة ليعتادوا على ذلك مع ما يحتويه المنهج من أوقات للراحة، أما حجم المقرر اليومي فجزء واحد من القرآن الكريم بتثبت ووعي بالإضافة إلى ما يتناسب مع ذلك الجزء من علوم الدين الأخرى وكذلك الرمي بسبعة أرشاق مع ما يتطلبه ذلك من السير إلى أغراض والسير بينها فكان منهج ذا أهداف سامية، إذ يجمع بين الدين والدنيا، ويراوح بين البدن والروح، والقول والعمل5975 تلك أهداف ارتدت عنها خائبة، جلّ برامج التعليم والتربية الحديثة5976.(3/292)
3 ـ تحديد طريقة التأديب والتعليم: لم يقف عمر بن عبد العزيز عند اختيار معلم أولاده، وتحديد مواد المنهج التعليمي، بل امتد الأمر إلى رسم الطريقة التي ينبغي لمؤدب أولاده إتباعها، وكيفية التنفيذ ودقة الأداء وإتقان العمل، ففي سياق رسالته رحمه الله. طلب إلي سهل أن يلتزم الجد في قوله لهم، فذلك أمعن لإقدامهم وأحرز لانتباههم، وطلب إليه كمؤدب لهم أن يترك صحبتهم، فإن عادتها تكسب الغفلة، ولتبقى مكانته عندهم، فليس للمعلم أن يتخذ من تلاميذه أصدقاء وأصحاب له يودعهم أسراره، ويشاركهم وقته وحياته، فقد لا تعجبهم مواقفه، فيكون ذلك، أدعى للاستهانة به، وعدم الاستجابة لما يطلب منهم5977 وربما يؤدي ذلك إلى عدم الإكتراث بالمعلم، والغفلة عما يقوله من العلم، كما طلب عمر إلى مؤدب أولاده أن يكون في أدبه لهم ما يصرفهم عن الملاهي وحضور المعازف وسماع الغناء، لما لها من الأثر السيء في حياة المسلم ويلاحظ أن عمر لا يصدر أمراً، أو يحدد طريقة أو أسلوباً حتى يوضح ما دفعه لذلك، وما فائدته وجدواه5978.
4 ـ تحديد أوقات وأولويات التعليم:
…ومما اشتمل عليه المنهج الذي حدده عمر بن عبد العزيز في رسالته لمؤدب أولاده ما يسمى بإدارة الوقت، إذ حدد برنامجاً يومياً يبدأ الأولاد ومؤدبهم في تنفيذه من الصباح الباكر بجزء من القرآن الكريم، فكان البدء بالقرآن في الفترة الصباحية، ولما فيها من صفاء ذهن التلميذ، بعد أخذ قسطاً من الراحة في ليلته، فجعل أولوية القرآن الكريم في وقت صفاء الذهن والاستعداد الجيد للمتعلم كما ربط الانتقال إلى المادة الأخرى من البرنامج اليومي بالتثبت والإتقان ثم جاء توقيت الخروج بين الأغراض وممارسة متطلبات الرماية، ويكون الخروج للرمي بعد العلم، وهم في شوق إليه، فيتحقق لهم بذلك أعلى درجات الكفاءة والإتقان، ويأتي في ختام البرنامج اليومي فترة القيلولة، تلك الفترة الضرورية لراحة البدن والنفس والعقل5979.(3/293)
5 ـ مراعاة المؤثرات التعليمية: راعى عمر بن عبد العزيز كل ما له ارتباط بالعلم، ومال له تأثير على الفهم وحسن التلقي، وما يزيد من إدراك العقل من قريب أو بعيد، فكان أول أمر اهتم به وبتأثيره على علم أولاده وأخلاقهم وأدبهم هو: معلمهم وجدوى علمه، واقتداؤهم بأدبه وخلقه، والأمر الثاني: مراعاة ما قد يسببه اللين وعدم التزام الجد في القول، وإكثار الضحك، والهزل واللعب أحياناً، من التباطؤ في أداء متطلبات التعليم، من إقدام وعلوِّ همه، وفهم وإدراك بالكفاءة المطلوبة، والثالث: ما ينجم عن تيار المجون والملاهي والغناء، وحضور المعازف، من ضياع وقت أولى أن يكون للعلم، وتبلد الإحساس العلمي، ورابعها: مراعاة النواحي النفسية للناشئين، وما قد يصيبهم من الملل،وتأثير ذلك على المستوى المطلوب من الفهم، وضرورة الترويح عن النفس ساعة بعد ساعة، وجعل وقتاً للراحة بين الحين والآخر، وأخير الإهتمام بالمردود الإيجابي للرياضة وممارسة الرماية والسير بين الأغراض على الجسم وصحته والعقل وسلامته والذهن وصفائه5980
* ـ من نتائج منهج عمر بن عبد العزيز في تربية أولاده: ابنه عبد الملك:
…من نتائج منهج عمر في تربية أولاده ذلك النموذج الرباني المتمثل في ابنه عبد الملك، ويعتبر عبد الملك نموذج للشباب الذي عاش في رغد العيش، وسعة الرزق، ورفاهية الحياة، فحياته مثال لكثير من أبناء المسلمين الذين كانوا على شاكلته وإليك شيء من مواقفه:(3/294)
1 ـ عبادته وبكاؤه: عن عاصم بن أبي بكر بن عبد العزيز بن مروان وهو ابن أخي عمر بن عبد العزيز قال: وفدت إلى سليمان بن عبد الملك، ومعنا عمر بن عبد العزيز، فنزلت على ابنه عبد الملك وهو عزب، فكنت معه في بيت فصلينا العشاء، وأوى كل رجل منا إلى فراشه، ثم قام عبد الملك إلى المصباح فأطفأه، ثم قام يصلِّي، حتى ذهب بي النوم، فاستيقظت فإذا هو في هذه الآية: ((أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ..)) (الشعراء ، الآيتان : 205 ـ 206). فبكى، ثم يرجع إليها، فإذا فرغ منها فعل مثل ذلك، حتى قلت: سيقتله البُكاءُ، فلما رأيت ذلك قلت: لا إله إلا الله والحمد لله كالمستيقظ من النوم لأقطع ذلك عليه، فلما سمعني سكت فلم أسمع له حِسَّا5981 رحمه الله.
2 ـ علمه وفقهه وفهمه: جمع عمر بن عبد العزيز الناس واستشارهم في رد مظالم الحجّاج، فكان كلما استشار رجلاً قال له: يا أمير المؤمنين، ذاك أمر كان في غير سلطانك ولا ولايتك، فكان كلما قال له رجل ذلك أقامه، حتى خلص بابنه عبد الملك، فقال له ابنه عبد الملك: يا أَبَهْ ما من رجل استطاع أن يردَّ مظالم الحجَّاج إن لم يردها أن يشركه فيها. فقال عمر: لولا أنك ابني، لقلت أنك أفقه الناس، وهذا الذي قاله عبد الملك، ومدحه عليه أبوه، وهو الصواب، فإن الإمام إذا قدر على رد مظالم من قبله من الولاة وجب عليه وهو ذلك بحسب الاستطاعة5982.
…وقد كان عمر بن عبد العزيز وأبنه عبد الملك من العلماء الذين جمعوا بين العلم بالله الذي يقتضى خشيته ومحبته والتبتل إليه، وبين العلم بالله الذي يقتضي معرفة الحلال والحرام والفتاوى والأحكام5983.(3/295)
3 ـ تذكيره والده بالموت: مات ابن لعمر بن عبد العزيز، فجاء عمر فقعد عند رأسه، وكشف الثوب عن وجهه فجعل ينظر إليه ويستدمع، فجاء عبد الملك ابنه فقال: أشغلك يا أمير ما أقبل من الموت إليك؟ بل هو في شغل عما حل لديك، فكأن قد لحقت به وساويته تحت التراب بوجهك. فبكى عمر ثم قال: رحمك الله يا بني، فوالله، إنك لعظيم البركة ما علمتك على أبيك نافع الموعظة لمن وعظت، وأيم الله، إن كان الذي رأيت من جزعي على أخيك، ولكن لما علمت أن ملك الموت دخل داري فراعني دخوله، فكان الذي رأيت، ثم أمر بجهازه5984.
4ـ صلابته في الدين وقوته في تنفيذ الحق: قال ميمون بن مهران قال: بعث إليّ عمر بن عبد العزيز وإلى مكحول وإلى أبي قلابة فقال: ما ترون في هذه الأموال التي أخذت من الناس ظلماً فقال مكحول يومئذٍ قولاً ضعيفاً، فكرهه فقال: أرى أن تستأنف فنظر إليَّ عمر كالمستغيث بي، فقلت: يا أمير المؤمنين، ابعث إلى عبد الملك، فأحضره. فإنه ليس بدون من رأيت. فلما دخل عليه قال: يا عبد الملك، ما ترى في هذه الأموال التي أخذت من الناس ظلماً، وقد حضروا يطلبونها وقد عرفنا مواضعها؟ قال: أرى((أن تردّها)) فإن لم تفعل كنت شريكاً لمن أخذها5985.(3/296)
5 ـ مرضه وموته رحمه الله: دخل عمر بن عبد العزيز على أبنه في وجعه ـ من الطاعون ـ فقال: يا بني، كيف تجد؟ قال: أجدني في الحق. قال: يا بني، إن تكن في ميزاني أحبُّ علي من أن أكون في ميزانك. فقال ابنه: وأنا يا أبه لئن أكون ما تحب أحب إليّ من أن يكون ما أُحب5986. وحين دفن ابنه خطب على قبره فقال: رحمك الله يا بني، فلقد كنت برَّاً بأبيك، وما زلت منذ وهبك الله لي مسروراً، ولا والله ما كنت أشدَّ سروراً ولا أرجى لحظي من الله فيك، منذ وضعتك في الموضع الذي صيرك الله إليه، فرحمك الله وغفر ذنبك وجزاك الله بأحسن عملك وتجاوز عن مسيئه، ورحم كلَّ شافع يشفع لك بخير من شاهد وغائب، رضينا بقضاء الله وسلّمنا لأمره، والحمد الله رب العالمين. ثم انصرف5987. ثم كتب إلى نائبه على الكوفة كتاباً ينهى أن يناح على ابنه، كما كانت عادة الناس حينئذٍ في الناحية على الملوك وأولادهم وفي ذلك الكتاب كان فيه: أن عبد الملك ابن أمير المؤمنين كان عبداً من عباد الله، أحسن الله إليه في نفسه، وأحسن إلى أبيه فيه، أعاشه الله ما أحبّ أن يعيشه، ثم قبضه إليه حين أحب أن يقبضه، وهو فيما علمت بالموت مرتبط، نرجو فيه من الله رجاء حسناً، فأعوذ بالله أن تكون لي محبة في شيء من الأمور تخالف محبة الله فإن خلاف ذلك لا يصح في بلائه عندي وأحسانه إلي ونعمته علي ثم قال: أحببت أن أكتب إليك بذلك وأعلمكه من قضاء الله فلا أعلم، من ينوح عليه في شيء من قبلك، ولا اجتمع على ذلك أحد من الناس، ولا رخصت فيه لقريب ولا بعيد، واكفني في ذلك بكفاية الله ولا ألو منَّك فيه ـ إن شاء الله ـ والسلام عليك5988. وجاء في رواية: لما هلك عبد الملك بن عمر قال أبوه: يا بني، لقد كنت كما قال الله عز وجل: ((الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) (الكهف، آية: 146). وإني لأرجو أن تكون اليوم من الباقيات الصالحات التي هي خير ثواباً وخير أملاً. والله ما يسرني أني(3/297)
دعوتك فأجبتني5989. وقد توفي عبد الملك بن عمر وكان عمره تسع عشرة سنة5990. وكان عمر بن عبد العزيز يثني على ولده وقال لابنه ذات يوم: يا عبد الملك إني أخبرك خبراً: لا والله ما رأيت فتى ماشياً قط أنسك منك نسكاً ولا أفقه فقهاً ولا أقرأ منك، ولا أبعد في صبوة في صغير ولا كبير5991. وقال عمر بن عبد العزيز والله لولا أن يكون بي زينة من أمر عبد الملك ما يُزين في عين الوالد من ولده لرأيت أنه أهل للخلافة5992، وجاء في رواية: إن عبد الملك لما توفي جعل أبوه يثني عليه عند قبره، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، لو بقي كنت تعهد إليه؟ قال: لا، قال: لم؟ وأنت تثني عليه؟ قال: أخاف أن يكون زُيِّن في عيني منه ما يُزيِّن في عين الوالد من ولده5993، وقال ميمون بن مهران: ما رأيت ثلاثة في بيت خيراً من عمر بن العزيز، وابنه عبد الملك، ومولاهم مزاحم5994. هذا من نتائج المنهج التربوي والعلمي الذي سار عليه عمر في تربية أولاده.
* ـ…حياته مع الناس:
1 ـ اهتمامه بإصلاح المجتمع:(3/298)
…كان اهتمامه بإصلاح المجتمع كبيراً وعمل على إزالة ما يتفشى فيه من المنكرات، وقد كتب في ذلك إلى أحد ولاته كتاباً طويلاً بليغاً، فورد بعض فقراته للأهمية وعظيم الفائدة، وفيه يقول: أما بعد فإنه لم يظهر المنكر في قوم قط ثم لم ينههم أهل الصلاح منهم إلا أصابهم الله بعذاب من عنده…أو بأيدي من يشاء من عباده، ولا يزال الناس معصومين من العقوبات والنِّقمات ما قمع فيهم أهل الباطل، واستخفي فيهم بالمحارم، فلا يظهر من أحد منهم محرَّم إلا انتقموا ممن فعله، فإذا ظهرت فيهم المحارم فلم ينههم أهل الصلاح نزلت العقوبات من السماء إلى الأرض على أهل المعاصي والمداهنين لهم، ولعل أهل الإدهان أن يهلكوا معهم وإن كانوا مخالفين لهم، فإني لم أسمع الله تبارك وتعالى فيما نزَّل من كتابه عند مَثُلَة أهلك بها أحداً نجَّى أحداً من أولئك، إلا أن يكونوا الناهين عن المنكر، ويسلط الله على أهل تلك المحارم إن هو لم يُصبهم من عنده أو بأيدي من يشاء من عباده من الخوف والذل والنِّقم، فإنه ربما انتقم بالفاجر من الفاجر وبالظالم من الظالم، ثم صار كلا الفريقين بأعمالهما إلى النار، فنعوذ بالله أن يجعلنا ظالمين، أو أن يجعلنا مداهنين للظالمين، وإنه قد بلغني أنه قد كثر الفجور فيكم وأمن الفسَّاق في مدائنكم وجاهروا من المحارم بأمر لا يحب الله تعالى من فعله، ولا يرضى المداهنة فيه، كان لا يُظهرِ مثلَه علانية قوم يرجون لله وقاراً ويخافون منه غيراً، وهم الأعزون الأكثرون من أهل الفجور، وليس بذلك مضى أمر سلفكم، ولا بذلك تمت نعمة الله تعالى عليهم، بل كانوا كما قال تعالى((أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)) (الفتح، آية: 19).(( أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ)) (المائدة، آية: 24). ولعمري إن من الجهاد في سبيل الله الغلظة على أهل محارم الله تعالى بالأيدي والألسن(3/299)
والمجاهدة لهم فيه، وإن كانوا الآباء، وإنما سبيل الله طاعته ولقد بلغني أنه بطأ بكثير من الناس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اتقاء التلاوم أن يقال: فلان حسن الخلق قليل التكلفُّ، مقبل على نفسه، وما يجعل الله أولئك أحسانكم أخلاقاً، بل أولئك أسوأكم أخلاقاً، وما أقبل على نفسه من كان كذلك، بل أدبر عنها، ولا سلم من الكلفة لها بل وقع فيها، إذ رضي لنفسه من الحال غير ما أمر الله أن يكون عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر5995. ففي هذا الكتاب المهم يبين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى سنة الله جل وعلا التي لا تتخلف، وهي أن أيَّ مجتمع يجاهر فيه أهل الفساد بمعاصيهم، ثم لا ينهاهم أهل الصلاح ولا ينكرون عليهم فلا بد أن يصيبهم الله تعالى بإحدى ثلاث ـ أن يصيبهم الله بعذاب من عنده، أو أن يصيبهم بعذاب على أيدي من يشاء من عباده، وقد يكون هؤلاء من الظلمة الجبارين فينتقم الله بهم من العصاة الفجار، أو يصيبهم الله بالخوف والجوع والذل وأنواع النِّقم والمصائب. ويبين عمر في هذا الكتاب أن السكوت عن أهل المعاصي المجاهرين ليس من عمل الصحابة رضي الله عنهم، بل قد وصفهم الله تعالى بالشدة والغلظة على المخالفين المجاهرين بالمعاصي، ويذكر أن من الجهاد في سبيل الله تعالى الغلظة على منتهكي محارم الله والإنكار عليهم بالأيدي والألسن وإن كانوا من أقرب الأقارب، وهذا التوسع في معنى الجهاد له أدلته الشرعية مثل قول الله جل وعلا((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِير)) (التحريم، آية: 9). وإنما يكون جهاد المنافقين بالإنكار عليهم والشدة في معاملتهم5996ويصحح عمر في هذا الكتاب مفهوماً خاطئاً عند بعض الناس، وهو وصفهم القاعد عن إنكار المنكر بأنه حسن الخلق قليل التكلف مقبل على نفسه، حيث يبين أن هذا سيء الخلق، حيث يتعامل مع(3/300)
المخالفين بالسلبية وعدم المبالاة مع أنهم بحاجة إلى الشفقة والرحمة، وإنما يظهر ذلك بمحاولة إصلاحهم، ويرد على قولهم بأنه قليل التكلف مقبل على نفسه بأنه لم يقبل على نفسه بمحاولة إنقاذها من النار ورفع درجتها في الجنة بل أقبل على هلكتها، حيث أن السكوت عن الإنكار معصية يحاسب عليها مرتكبها وقد تورده إلى النار، وإذا كان في مفهوم الناس أن الساكت قليل التكلف فإنه قد تكلف أمراً عظيماً حيث خالف أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بما وجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 5997، وكانت كتب عمر بن عبد العزيز كلها في إصلاح المجتمع كما جاء في خبر إبراهيم بن جعفر عن أبيه قال: ما كان يقدم على أبي بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم كتاب من عمر إلا فيه رد مظلمة أو إحياء سنة أو إطفاء بدعة أو قَسْم أو تقدير عطاء أو خير، حتى خرج من الدنيا5998.(3/301)
2 ـ تذكيره الناس بالآخرة: خطب عمر بن عبد العزيز ذات يوم فقال: إني لم أجمعكم لأمر أحدثته، ولكني نظرت في أمر معادكم وما أنتم أليه صائرون فوجدت المصدِّق به أحمق، والمكذب به هالكاً ثم نزل5999. وهذه خطبة بليغة على قصرها، فإنها تذكرة حية بمصير الإنسان بعد الموت، فالذي يؤمن بالبعث بعد الموت وما قبله من عذاب القبر ونعيمه وما بعد ذلك من الحساب والمصير إلى النعيم الدائم أو إلى الشقاء الدائم، ثم لا يعد العدة الكافية لذلك اليوم يعتبر حقاً أحمق حيث لم يستعمل عقله في الإعداد لمستقبله بعد الموت مع إيمانه بما سيكون فيه6000 ، ومن خطبه في تذكير الناس بالموت والآخرة، فقد بين عمر في بعض خطبه أن الإنسان خلق للأبد ولكنه من دار إلى دار قال عمر: إنما خلقتم للأبد، ولكنكم من دار إلى دار تنقلون6001. وقال في إحدى خطبه: يا أيها الناس، لا تغرنكم الدنيا والمهلة فيها، فعن قليل عنها تنقلون وإلى غيرها ترحلون، فالله الله عباد الله في أنفسكم فبادروا بها الفوت قبل حلول الموت، ولا يطل بكم الأمد، فتقسوا قلوبكم فتكونوا كقوم دعو إلى حظهم فقصروا عنه بعد المهلة، فندموا على ما قصروا عند الآخرة6002، وقد تحدث عمر بن عبد العزيز عن الموت والآخرة والاستعداد للقاء الله كثيراً في خطبه ومواعظه رحمه الله.(3/302)
3 ـ تصحيح المفاهيم الخاطئة: قال عمر في إحدى خطبه: أما بعد أيها الناس فلا يطولن عليكم الأمد، ولا يبعدن عليكم يوم القيامة، فإن من وافته منيته فقد قامت قيامته، لا يستعتب من شيء ولا يزيد في حسن، ألا لا سلامة لا مرئ في خلاف السنة، ولا طاعة لمخلوق في معصية الله، ألا وإنكم تعدون الهارب من ظلم إمامه عاصياً، ألا وأن أولاهما بالمعصية الإمام الظالم، ألا وإني أعالج أمراً لا يعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه ديناً لا يرون الحق غيره ثم قال: إنه لحبيب عليّ أن أوفر أموالكم وأعراضكم إلا بحقها ولا قوة إلا بالله6003. ففي هذه الخطبة يُذكر عمر بن عبد العزيز المسلمين بقرب يوم القيامة، فإن من وافته منيته قامت قيامته، فلينظر إلى الموت الذي قد يفاجئه في أية لحظة، وحينها لا يستطيع أن يعتذر من أعماله السيئة التي سوّد بها صحيفته، ولا يستطيع أن يستزيد من عمل صالح بيضّ به صحيفته،ويندم حينما لا ينفع الندم على ما فاته في حياته يوم أن كان قادراً على التوبة النصوح والتزود بالعمل الصالح، ثم يبين أن السلامة كل السلامة من إتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا بيان لأحد عنصري العمل الصالح وهم الإخلاص لله تعالى ومتابعة السنة، وهو بهذا يعالج واقعاً لا ينقص العمل فيه الإخلاص وإنما ينقصه إتباع السنة، حيث فشت البدع بعد انقراض عهد الصحابة رضي الله عنهم، وفساد بعض الولاة الذين يحاربون بعض السنن التي لا تتفق مع أهوائهم، ثم بين أحد العواصم التي تعصم من انتشار البدع وفساد أمور الأمة حيث قال: ولا طاعة لمخلوق في معصية الله.فإذا كان بعض الولاة قد تسوّل لهم نفوسهم الأمارة بالسوء أو مجاملة الآخرين بأن يأمروا الناس بمعصية الله، أو يمهدوا السبل لذلك، فأنه لا طاعة لهم، وبهذا ينقطع سبب مهم من أسباب سريان تلك المخالفات وهو ما لولاة الأمر من طاعة على(3/303)
الأمة، فإذا تحددت هذه الطاعة بطاعة الله تعالى لم يكن لهوى النفوس تأثير على انتشار الفساد في المجتمع وتصبح الكلمة لأهل الإصلاح. ثم يبين أن ما جرى عليه العرف من اعتبار الهارب من إمامه الظالم عاصياً ليس له اعتبار في النظر الشرعي لأن تصرفه هذا هو أحد الأسباب التي يتخذها للخلاص من الظلم، وأولى من يوصف بالمعصية من وقع منه الظلم، وكون عمر يبين هذا وهو في أعلى موقع من المسئولية ـ كخليفة ـ دليل على تجرده من حظ النفس ومن العصبية للقرابة، وإخلاصه لله تعالى ثم يصف الواقع الاجتماعي الذي اختلطت فيه العادات بالدين والبدع بالسنن، ونشأ عليه أفراد المجتمع، وتربّى على توجيهه من أسلم من العجم، ومن هاجر من الأعراب حتى حسبوه هو الدين، وحينما يختلط العرف الاجتماعي فيتسرب إلى العرف الإسلامي بعض الأعراف الجاهلية فإن ذلك يؤثر على تربية أفراد المجتمع وتتشربه قلوبهم لأن الأعراف الجاهلية تميل إلى تلبية أهواء النفوس وإن كانت منحرفة جائرة، فيصعب بعد ذلك على المصلحين أن يخلّصوا العرف الاجتماعي الإسلامي من تلك الأخلاط المتسرّبة المتراكمة على مر الزمن، لأن كل انحراف له أنصاره ومؤيدوه، وليس كل أفراد المجتمع يفهمون الأمور على حقيقتها، وحينما يقوم المصلحون بمحاولة التنقية يقوم دعاة السوء بتشويه إصلاحهم ودعوة الناس إلى البقاء على الموروثات، لأن كونها موروثات يعطيها في نظر بعض الناس شيئاً من القداسة، ولكن حينما ينبع الإصلاح من أعلى قمة في المسئولية كما هو الحال في عهد عمر بن عبد العزيز فإن نتائج الإصلاح تكون كبيرة وسريعة المفعول، لأن معه ما خولّه الله تعالى من طاعة الرعية ما دام في طاعة الله تعالى إلى جانب قوة السلطان المعهودة6004.(3/304)
4 ـ إنكاره العصبية القبلية: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الضحاك بن عبد الرحمن وكان مما جاء في كتابه: إن ما هاجني على كتابي هذا أمر ذكر لي عن رجال من أهل البادية، ورجال أمروا حديثاً، ظاهر جفاؤهم قليل علمهم بأمر الله اغتروا فيه بالله غرة عظيمة، ونسوا فيه بلاءه نسياناً عظيماً، وغيروا فيه نعمه تغييراً لم يكن يصلح لهم أن يبلغوه وذكر لي أن رجالاً من أولئك يتحاربون إلى مُضر وإلى اليمن، يزعمون أنهم ولاية على من سواهم، وسبحان الله وبحمده ما أبعدهم من شكر نعمة، وأقربهم من كل مهلكة ومذلة وصُغُر، قاتلهم الله أية منزلة نزلوا، ومن أي أمان خرجوا، أو بأي أمر لصقوا ولكن قد عرفت أن الشقي بنيته يشقى، وأن النار لم تخلف باطلاً. أو لم يسمعوا إلى قول الله في كتابه: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)) (الحجرات، آية: 10). وقوله: ((الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) (المائدة، آية:3).وقد ذكر لي مع ذلك أن رجالاً يتداعون إلى الحلف، لا حلف في الإسلام قال: وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة فكان يرجو أحد من الفريقين حفظ حلفه الفاجر الآثم الذي فيه معصية الله ومعصية رسوله، وقد ترك الإسلام حين انخلع منه وأنا أحذر كل من سمع كتابي هذا ومن بلغه أن يتخذ غير الإسلام حصناً أو دون الله ودون رسوله ودون المؤمنين وليجة، تحذيراً بعد تحذير، وأذكرهم تذكيراً بعد تذكير وأشهد عليهم الذي آخذ بناصية كل دابَّة، والذي هو أقرب إلى كل عبد من حبل الوريد، وإني لم آلُكم بالذي كتبت به إليكم نصحاً(3/305)
مع إني لو أعلم أن أحداً من الناس يحرّك شيئاً ليُخذ له به أو ليدفع عنه ـ أحرص ـ والله المستعان ـ على مذلته من كان: رجلاً أو عشيرة أو قبيلة أو أكثر من ذلك، فادع إلى نصيحتي وما تقدمت إليكم به، فإنه هو الرشد ليس له خفاء ثم ليكن أهل البر وأهل الإيمان عوناً بألسنتهم، وإن كثيراً من الناس لا يعلمون: نسأل الله أن يخلف فيما بيننا بخير خلافة في ديننا وأُلفتنا وذات بيننا والسلام6005. في هذا الكتاب يعالج أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز انحرافاً خطيراً طرأ على المجتمع الإسلامي آنذاك، وهو أن طائفة من المسلمين الذين لم يتمكن الإيمان من قلوبهم، ولم تعمر أفكارهم بالعلم الشرعي، فقد اتخذوا لأنفسهم علاقات من روابط الجاهلية التي تقوم على القبائل والعشائر، فيعطي الواحد منهم ولاءه لقبيلته سواء بالحق أو بالباطل وسواء بالعدل أو بالظلم، ويجعل من قبيلته قضية يهتم لها ويدافع عنها ويدعو لها، حتى أصبحوا بها إخوة في الله متحابين بعد أن كانوا أعداء متحاربين، وسادوا بجماعتهم العالم وقد استفحلت هذه القضية حتى أصبح بعض المجاهدين يتحاربون بينهم بدعوى قبلِّية، مما سبب تأخراً في تقدم الجهاد، وجرأ أصحاب البلاد المفتوحة على الانتقاض على المسلمين مرة بعد مرة، ووصلت الحال في بعض البلاد إلى أنه كلما تولى رجل له قبيلة في تلك البلاد قرب أفراد قبيلته وقواهم وتقوى بهم، فتحدث الفتنة وتثور القبائل الأخرى، وما ذاك إلا بسبب طرح رابطة الإسلام التي هي نعمة كبرى على المسلمين، وإتخاذ الروابط الجاهلية بديلاً عنها6006.(3/306)
5 ـ رفضه للقيام بين يديه: لما ولي عمر بن عبد العزيز قام الناس بين يديه، فقال: يا معشر المسلمين إن تقوموا نقم وإن تقعدوا نقعد، فإنما يقوم الناس لرب العالمين، وإن الله فرض فرائض وسن سنناً، من أخذ بها لحق ومن تركها مُحِق6007. أراد عمر أن يقضي على العادات الموروثة التي أشبه بها الولاة آنذاك الأكاسرة والقياصرة، وعزم صارم على العودة بالأمة إلى منهج الخلفاء الراشدين، وعمر هنا يحجِّم دافعين قويين يدفعانه إلى مجاراة عشيرته في مظاهرهم.. أولهما طموح النفس نحو الظهور وفرض السلطة والهيبة في قلوب الناس، وثانيهما رغبة عشيرته الملحة في الإبقاء على هذه المظاهر، وتشنيعهم عليه في مخالفة ما كان عليه أسلافه ولكنه تغلب على هذين الدافعين بحزم وإيمان قوي، وكان الدافع الذي يدفعه إلى التواضع ورفض المظاهر الدنيوية هو خوفه من الله تعالى ورغبته فيما عنده، وطموح فكره نحو الآخرة وتجاوز المستقبل الدنيوي، وكان هذا الدافع أقوى بكثير من الجواذب الأرضية، فنجح في إلجام نفسه عن هواها وإسكات أصحاب المظاهر الخادعة، وتصحيح مفاهيم المجتمع فيما يجب أن تكون عليه الولاة والعلاقة بينهم وبين الرعية. وفي قوله: إن الله فرض فرائض. بيان لأسباب السعادة والشقاوة الحقيقية في الدنيا والآخرة، فمن طبقها لحق بركب المتقين في الدنيا، وأكرم به من رفقة صالحة ، وسيق يوم القيامة إلى رضوان الله تعالى والجنة وأكرم به من مآل وعاقبة6008.
6 ـ تقديره أهل الفضل: ذكر الحافظ ابن كثير أن ولد قتادة بن النعمان وفد على عمر بن عبد العزيز فقال له: من أنت؟ فقال مرتجلاً:
أنا ابن الذي سالت على الخدِّ عينه
………… فرُدَّت بكفِّ المصطفى أحسن الرَّدِّ
فعادت كما كانت لأول أمرها
…………فيا حُسْنَها عيناً ويا حُسْنَ ما رَدِّ
فقال عمر بن عبد العزيز عند ذلك:
………تلك المكارم لا قعبان من لبن
…………………شيباً بماء فعادا بعد أبوالا(3/307)
…ثم وصله وأحسن جائزته رضي الله عنه6009. ففي هذا الخبر موقف لأمير عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى في إكرام ولد قتادة بن النعمان لما وفد عليه حينما عرف نفسه بما حدث لأبيه رضي الله عنه في هذا الخبر على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على تفوق عمر بن عبد العزيز في المجال الأخلاقي، وذلك بتقدير أهل الفضل، والتقدم في خدمة الإسلام والمسلمين، فإن ما حدث لقتادة رضي الله عنه من اقتلاع عينه بتلك الصورة شاهد على إيغاله في القتال وتعرضه للمهالك، كما أنه شرف له أن تمثلت فيه تلك المعجزة النبوية6010. ومن تقديره لأهل الفضل ما قام به لزياد مولى ابن عياش، فقد قدم عليه زياد مولى ابن عياش، وأصحاب له، فأتى الباب وبه جماعة من الناس فأذن له دونهم، فدخل عليه فنسي أن يسلم عليه بالخلافة، ثم ذكر فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال له عمر: والأُولى لم تضرني، ثم نزل عمر عن موضع كان عليه إلى الأرض وقال: إني أعظم أن أكون في موضع أعلو فيه على زياد، فلما قضي زياد ما يريد خرج، فأمر عمر خازن بيت المال أن يفتحه لزياد ومن معه يأخذون منه حاجتهم، فنظر إليه خازن بيت المال فاقتحمته عينه أن يكون يُفتح لمثله بيت المال ويسلَّطُ عليه ـ وهو به غير عارف ـ ففعل الخازن ما أمر به، فدخل زياد فأخذ لنفسه ولأصحابه بضعاً وثمانين درهماً أو بضعاً وتسعين درهماً، فلما رأى ذلك الخازن قال: أمير المؤمنين أعلم بمن يسلط على بيت المال6011. ففي هذا الخبر صور من تواضع عمر بن عبد العزيز رحمه الله وتقديره للعلماء الربانيين فهو أولاً لم يبال بلقب الخلافة وهو أعلى لقب عند المسلمين، والمناصب لها فتنة يقع في حبائلها من اغتروا بالجاه والمنزلة الدنيوية، أما أقوياء الإيمان فإن شخصيتهم لا تتغير بعد المنصب بل يظلون على ما هم عليه من التواضع، وربما زادوا تواضعاً في مقابلة احترام الناس لهم. ثم هو ثانياً نزل من مكانه حتى لا يعلو ذلك(3/308)
العالم الرباني زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، وكون ذلك العالم من الموالي لا ينزل من قدره ابن عمر، فإن العبرة بالعلم والتقوى لا بشرف النسب، وموقف كريم لهذا العالم الرباني حيث لم يأخذ من بيت المال إلا ذلك القدر الزهيد مع أنه قد مكن منه، وهذا مثال رفيع من أمثلة الزهد والورع، وحين ما تكون النفوس كبيرة والعقول راجحة فإنها تعف عن متاع الدنيا الذي يتنافس عليه الصغار، وتطمح ببصرها نحو نعيم الآخرة الخالد الذي يتنافس فيه الكبار6012.(3/309)
7 ـ المرء بأصغريه قلبه ولسانه: كان بين وفد المهنئين لعمر بالخلافة من أهل الحجاز غلام صغير وكان الوفد قد اختار الغلام ليتكلم عنهم، وهو أصغرهم، فلما بدأ بالكلام قال له عمر: مهلاً يا غلام ليتكلم من هو أسن منك، فقال الغلام: مهلاً يا أمير المؤمنين، المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، فإذا منح الله العبد لساناً لافظاًُ وقلباً حافظاً، فقد إستجاد له الحلية6013، يا أمير المؤمنين لو كان التقدم بالسن لكان في الأمة من هو أسن منك ـ أي أحق بمجلسك هذا ممن هو أكبر منك سناً6014 ـ. فقال عمر: تحدث يا غلام، قال: نعم يا أمير المؤمنين، نحن وفود التهنئة لا وفود المرزئة6015، قدمنا إليك من بلدنا، نحمد الله الذي منَّ بك علينا لم يخرجنا إليك رغبة ولا رهبة، أما الرغبة فقد أتانا منك إلي بلدنا، وأما الرهبة فقد أمّننا الله بعدلك من جورك6016 فأعجب عمر بفصاحة الغلام وعلمه، وسداد رأيه، فما كان من عمر إلا أن شجعه على ذلك، وزاده ثقة بنفسه وجراءة ليكون هذا الحادث موقفاً تربوياً يتعلم فيه الغلام في حضرة خليفة المسلمين، فطلب منه الموعظة فقال: عظنا يا غلام وأوجز، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، إن أناساً من الناس غرهم حلم الله عنهم، وطول أملهم وحسن ثناء الناس عليهم، فلا يغرنك حلم الله عنك، وطول أملك وحسن ثناء الناس عليك فتزل قدمك ثم نظر عمر في سن الغلام فإذا هو قد أتت عليه بضع عشرة سنة، فأنشأ يقول:
…………تعلم فليس المرء يولد عالماً
……………………وليس أخو علم كمن بات جاهل
…………وإن كبير القوم لا علم عنده
……………………صغير إذا التفت عليه المحافل6017(3/310)
8 ـ امرأة مصرية مسكينة تشتكي لعمر: كان عمر يتابع أمور المسلمين ويفتح الأبواب على مصرعيها لسماع أخبارهم: فقد كان بريد عمر بن عبد العزيز لا يعطيه أحداً من الناس إذا خرج كتاباً إلا حمله، فخرج بريد من مصر فدفعت إليه فرتونة السوداء مولاة ذي أصبح كتاباً تذكر فيه أن لها حائطاً قصيراً، وأنه يقتحم عليها فيسرق دجاجها، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله أمير المؤمنين إلى فرتونة السوداء مولاة ذي أصبح، بلغني كتابك وما ذكرتي من قصر حائطك وأنه يدخل عليك فيسرق دجاجك، فقد كتبت كتاباً إلى أيوب بن شرحبيل ـ وكان أيوب عامله على صلاة مصر وحربها ـ آمره بأن يبني لك ذلك يحصنه لك مما تخافين إن شاء الله، وكتب إلى أيوب بن شرحبيل: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى ابن شرحبيل، أما بعد: فإن فرتونة مولاة ذي أصبح كتبت تذكر قصر حائطها، وأنه يسرق منه دجاجها وتسأل تحصينه لها، فإذا جاءك كتابي هذا فاركب أنت بنفسك إليه حتى تحصنه لها، فلما جاء الكتاب إلى أيوب ركب ببدنه حتى أتى الجيزة يسأل عن فرتونة حتى وقع عليها، وإذا هي سوداء مسكينة، فأعلمها بما كتب به أمير المؤمنين وحصنه لها6018.(3/311)
9 ـ اهتمامه بفداء الأسرى: كتب إلى الأسارى بالقسطنطينية: أما بعد: فإنكم تعدون أنفسكم أسارى، معاذ الله بل أنتم الحبساء في سبيل الله، واعلموا أنني لست أقسم شيئاً بين رعيتي إلا خصصت أهليكم بأوفر نصيب وأطيبه وأني قد بعثت إليكم خمسة دنانير ولولا إني خشيت إن زدتكم أن يحبسه طاغية الروم عنكم لزدتكم، وقد بعثت إليكم فلان بن فلان يفادي صغيركم وكبيركم، ذكركم وأنثاكم، حركم ومملوككم بما سئل به، فأبشروا ثم أبشروا والسلام عليكم6019. وفي هذا الكتاب يتجلى سمو أخلاق عمر وعظم شعوره بالمسئولية كنموذج راقي لحاكم مسلم الذي يخاف الله فيراعيه، ويتقى الله في حقوق رعيته بمنتهى الإخلاص والأمانة حيث واسى أسرى المسلمين لدى الروم، حيث شبههم بالمرابطين الذين حبسوا أنفسهم في سبيل الله تعالى، فهم بهذا ينالون أجر المرابطين وإلى جانب هذه المواساة المعنوية فإنه قد واساهم بالمال الذي أمدهم به، وأزاح الهمّ عنهم وبما أخبرهم به من كفالة أسرهم في حال غيبتهم، كما أنه وعدهم جميعاً بمفاداتهم لفك أسرهم، وهذه معاملة كريمة يستحقها هؤلاء الأسرى الذين خرجوا بأنفسهم لحماية الإسلام ونصره6020.
10 ـ قضاء ديون الغارمين: كتب إلى عماله: أن اقضوا عن الغارمين فكتب إليه: إن نجد الرجل له المسكن والخادم، وله الفرس، وله الأثاث في بيته، فكتب عمر: لابد للرجل من المسلمين من مسكن يأوي رأسه، وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوه، وأثاث في بيته، ومع ذلك فهو غارم، فاقضوا عنه ما عليه من الدين6021، ففي هذا الخبر يأمر أمير المؤمنين عمر بقضاء الديون عن الغارمين وإن كانوا يملكون المسكن والأثاث والخادم والفرس، وهو مظهر عظيم من مظاهر الرحمة والمواساة، والاهتمام بشئون الرعية، وهكذا يتصرف الأئمة العادلون بأموال الأمة، حيث يغنون بها فقيرها ويجبرون به كسيرها، ويفكون بها أسيرها، ويقضون به عن معسرها، ويسدون به خلة معوزها6022.(3/312)
11 ـ خبر الأسير الأعمى عند الروم: أرسل عمر بن عبد العزيز إلى صاحب الروم رسولاً، فأتاه وخرج من عنده يدور، فمر بموضع فسمع فيه رجلاً يقرأ القرآن ويطحن، فأتاه فسلم عليه فلم يرد عليه السلام ـ مرتين أو ثلاث ـ ثم سلم عليه فقال له: وأنىّ بالسلام في هذا البلد، فاعلمه أنه رسول عمر إلى صاحب الروم، قال له: ما شأنك؟ فقال: وإني أسرت في موضع كذا وكذا، فأتى بي إلى صاحب الروم، فعرض علي النصرانية فأبيت، وقال لي: إن لم تفعل سملت عينيك، فاخترت ديني على بصري، فسمل عيني وصيرني إلى هذا الموضع، يرسل إلي كل يوم بحنطة أطحنها وبخبزة آكلها ، فسار الرسول إلى عمر بن عبد العزيز فأخبره، خبر الرجل، قال: فما فرغت من الخبر حتى رأيت دموع عمر قد بلّت ما بين يديه ثم أمر، فكتب إلى صاحب الروم: أما بعد: فقد بلغني خبر فلان بن فلان فوصف له صفته، وأنا أقسم بالله لئن لم ترسله إلي لأبعثنَّ إليك من الجنود جنوداً يكون أولها عندك وأخرها عندي. ولما رجع إليه الرسول قال: ما أسرع ما رجعت! فدفع إليه كتاب عمر بن عبد العزيز، فلما قرأه قال: ما كنا لنحمل الرجل الصالح على هذا، بل نبعث إليه به قال: فأقمت انتظر متى يخرج به، فأتيته ذات يومٍ فإذا هو قاعد قد نزل عن سريره أعرف في وجهه الكآبة، فقال: تدري لم فعلت هذا؟ فقلت: لا ـ وقد أنكرت ما رأيت ـ فقال: إنه قد أتاني من بعض أطرافي أن الرجل الصالح قد مات، ولذلك فعلت ما فعلت، ثم قال: إن الرجل الصالح إذا كان بين القوم السوء لم يترك بينهم إلا قليلاً حتى يخرج من بين أظهرهم. فقلت له: أتأذن لي أن أنصرف ـ وأيست من بعثه الرجل معي فقال: ما كنا لنجيبه إلى ما أمر في حياته ثم نرجع فيه بعد مماته، فأرسل معه الرجل6023.(3/313)
12 ـ المرأة العراقية التي فرض لبناتها من بيت المال: قدمت امرأة من العراق على عمر بن عبد العزيز فلما صارت إلى باباه قالت: هل على أمير المؤمنين حاجب؟ فقالوا: لا فلجي إن أحببت، فدخلت المرأة على فاطمة وهي جالسة في بيتها، وفي يدها قطن تعالجه، فسلمت فردت عليها السلام وقالت لها: أدخلي، فلما جلست المرأة رفعت بصرها ولم تر شيئاً له بال، فقالت: إنما جئت لأعمر بيتي من هذا البيت الخرب فقالت لها فاطمة: إنما خرب هذا البيت عمارة بيوت أمثالك، قال: فأقبل عمر حتى دخل الدار، فمال إلى بئر في ناحية الدار فانتزع منها دلاء فصبها على طين كان بحضرة البيت ـ وهو يكثر النظر إلى فاطمة ـ فقالت لها المرأة: استتري من هذا الطيّان فإني أراه يديم النظر إليك، فقالت: ليس هو بطيان، هو أمير المؤمنين. قال: ثم اقبل عمر فسلم ودخل بيته، فمال إلى مصلى كان له في البيت يصلي فيه، فسأل فاطمة عن المرأة، فقالت: هي هذه، فأخذ مكتلاً له فيه شيء من عنب فجعل يتخير لها خيره يناولها إياه ثم اقبل عليها وقال: ما حاجتك؟ فقالت: امرأة من أهل العراق لي خمس بنات كُسْلٌ كٌسْد، فجئتك أبتغي حسن نظرك لهنَّ، فجعل يقول: كسل كسد، ويبكي، فأخذ الدواة والقرطاس فكتب إلى والي العراق، فقال: سمي كبراهنّ، فسمتها ففرض لها، فقالت المرأة: الحمد لله، ثم سأل عن الثانية والثالثة والرابعة، والمرأة تحمد الله ففرض لها، فلما فرض للأربعة استفزها الفرح فدعت له فجزته خيراً، فرفع يده وقال: كنا نفرض لهنّ حيث كنت تولين الحمد أهله، فمري هؤلاء الأربع يفضنّ على هذه الخامسة. فخرجت بالكتاب حتى أتت به العراق، فدفعته إلى والي العراق، فلما ذهبت إليه بالكتاب بكى واشتد بكاؤه، وقال: رحم الله صاحب هذا الكتاب، فقالت: أمات؟ قال: نعم، فصاحت وولولت، فقال: لا بأس عليك، ما كنت لأرد كتابه في شيء، فقضى حاجتها وفرض لبناتها6024.(3/314)
13 ـ إحياؤه لسنة العطاء: قال عمر بن عبد العزيز: إنه لا يحل لكم أن تأخذوا لموتاكم فارفعوهم إلينا واكتبوا لنا كل منفوس6025 نفرض له6026. وفي رواية أخرجها ابن سعد من خبر أبي بكر بن حزم قال: كنا نخرج ديوان أهل السجون فيخرجون إلى أعطياتهم بكتاب عمر بن عبد العزيز، وكتب إليّ: من كان غائباً قريب الغيبة فأعط أهل ديوانه، ومن كان منقطع الغيبة، فأعزل عطاه إلى أن يقدم أو يأتي نعيه، أو يوكل عندك بوكالة ببينة على حياته فادفعه إلى وكيله6027. وبهذا أحيا عمر بن عبد العزيز سنة العطاء الإسلامي التي كانت في عهد الخلفاء الراشدين وعهد معاوية رضي الله عنهم ثم اندثرت بعد ذلك واقتصر العطاء على بعض وجهاء الأمة، وكان بنو أمية يأخذون من ذلك الشيء الكثير على مراتبهم، فلما قسم عمر بن عبد العزيز ذلك على الأمة شمل جميع أفرادهم، وهذا من ابرز مواقفه6028 وإصلاحاته التجديدية.
14 ـ أغناؤه المحتاجين عن المسألة: قدم على عمر بن عبد العزيز بعض أهل المدينة فجعل يسأله عن أهل المدينة: فقال: ما فعل المساكين الذين كانوا يجلسون في مكان كذا وكذا؟ قال: قد قاموا منه يا أمير المؤمنين، قال: ما فعل المساكين الذين كانوا يجلسون في مكان كذا وكذا؟ قال: قد قاموا منه وأغناهم الله. قال: وكان من أولئك المساكين من يبيع الخبط للمسافرين6029، فالتمس ذلك منهم بعد، فقالوا: قد أغنانا الله عن بيعه بما يعطينا عمر بن عبد العزيز6030. وهذا من نتائج المنهج العادل الذي سلكه عمر بن عبد العزيز في توزيع أموال المسلمين، حيث حُرِمَت القلة المتمكنة من الإسراف وأصبح ما يصرف لفرد من هذه الفئة يصرف لعشرات المسلمين،، فوصل المال العام إلى فئات من لم يكن يصل إليها قبل فاستغنوا به عن بعض الأعمال الشاقة التي كانت تُدِرُّ عليهم مبالغ زهيدة6031.(3/315)
15 ـ دفع المهور من بيت المال: اهتمّ عمر بن عبد العزيز بأداء مهور الزواج من بيت المال لمن لم يستطع توفير ذلك، فقال أبو العلاء: قُرِئَ كتاب عمر بن عبد العزيز رحمه الله في مسجد الكوفة وأنا أسمع: من كانت عليه أمانة لا يقدر على أدائها فأعطوه من مال الله ومن تزوج امرأة لا يقدر أن يسوق إليها صداقها فأعطوه من مال الله6032. وهذا قرار مهم في إصلاح المجتمع، لأن صلاحه يتوقف علىتحصين أبنائه بالزواج وظفرهم بالسعادة الزوجية، وقد يكون المهر عائقاً لبعض الفقراء دون الزواج، خصوصاً في حال غلاء المهور، فإذا كانت الدولة توفر ذلك لمن لا يستطيع ذلك فإنها تسهم في تكوين المجتمع الصالح وحفظه من أسباب الفساد والاضطراب6033.(3/316)
16 جهوده في التقريب بين طبقات المجتمع: قال يونس بن أبي شبيب: شهدت عمر بن عبد العزيز في بعض الأعياد وقد جاء أشراف الناس حتى حُفُّوا بالمنبر وبينهم وبين الناس فرجة، فلما جاء عمر صعد المنبر وسلم عليهم، فلما رأى الفرجة أومأ إلى الناس: أن تقدموا فتقدموا حتى اختلطوا بهم6034. لقد دأب الولاة من بعد عهد أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه على رفع طبقات من الناس وتمييزهم على غيرهم بالعطاء والمجالس وغير ذلك، وسرى ذلك في الأمة حتى أصيب بعض أفرادها بالضعف وأصبحوا يرون أنهم ليسوا أهلاً للجلوس مع أفراد الطبقات المميزة الذين أصبح الناس يطلقون عليهم اسم ((الأشراف)) ولقد بلغ الضعف بعامة المجتمع إلى عدم التجاسر على الاقتراب من أفراد الطبقة الخاصة حتى في المساجد التي من المفترض فيها أن يتنافس المصلون على القرب من الإمام لما في ذلك من زيادة الثواب، فلما تولى الخلافة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز كان من أجلِّ اهتماماته أن يقارب بين فئات المجتمع فذلك بأن يضع من سمعة الطبقات العالية وأن يزيل كبرياءهم، وأن يرفع من شأن الطبقات المستضعفة وأن يقوي معنوياتهم ويزيل شعورهم بالضعف، فكان من جهوده في ذلك المساواة بينهم في العطاء ولا شك أن المال له أهمية كبرى في الرفع من شأن الناس وخفضهم، وفي هذا الخبر تبين لنا اهتمامه في هذا المجال بالإشارة إلى عموم الناس ليقتربوا من الخاص، ويختلطوا بهم حتى تزول تلك الفجوة بين المسلمين التي خلفها ظلم الولاة وسوء إدارتهم6035.
17 ـ شعوره الكبير بالمسئولية اتجاه أفراد المجتمع:(3/317)
…قالت فاطمة بنت عبد الملك زوجة عمر:.. إن عمر رحمة الله عليه كان قد فَرَّغ للمسلمين نفسه، ولأمورهم ذهنه، وكان إذا أمسى مساء لم يفرغ فيه من حوائج يومه وصل يومه بليلته، إلى أن أمسى مساء وقد فرغ من حوائج يومه، فدعا بسراجه الذي كان من ماله، فصلى ركعتين ثم أقعى واضعاً رأسه على يديه، تسيل دموعه على خديه، يشهق الشهقة يكاد ينصدع قلبه لها، وتخرج لها نفسه حتى برق الصبح فأصبح صائماً، فدنوت منه فقلت: يا أمير المؤمنين أليس كان منك ما كان؟ قال: أجل فعليك بشأنك وخلِّيني وشأني، قالت: فقلت إني أرجو أن أتَّعظ، قال: إذاَ أخبرك، إني نظرت فوجدتُني قد وليت أمر هذه الأمة أسودها وأحمرها، ثم ذكرت الفقير الجائع، والغريب الضائع، والأسير المقهور، وذا المال القليل والعيال الكثير، وأشباه ذلك في أقاصي البلاد وأطراف الأرض، فعلمت أن الله سائلي عنهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيجي فيهم، فخفت أن لا يقبل الله تعالى مني معذرة فيهم، ولا تقوم لي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة، فرحمت والله يا فاطمة نفسي رحمة دمعت لها عيني، ووجع لها قلبي، فأنا كلما ازددت لها ذكراً ازددت منها خوفاً، فاتَّعظي إن شئت أو ذَرِي6036. وهذا تقدير بالغ من عمر رحمه الله للمسئولية التي تحملها حيث تذكر ضعفاء المسلمين وأصحاب الحاجات، بالرغم مما يبذله من جهد متواصل في التعرف على أحوال الأمة، ولكن لما كان هذا الأمر غير محصور خشي أن يكون قد لقي من المسلمين من لم تُرفع إليه حاجته، فيكون مسئولاً عنه في تذكره للحساب والجنة والنار دليل على عمق إيمانه بالغيب حتى أصبح أمامه كالمشاهد، فأصبح ذلك دامعاً له إلى العدل والرحمة، والمبالغة في تفقد أحوال الأمة وفي بكائه الشديد دلالة على عظمة خوفه من الله عز وجل، وقد عصمه الله تعالى لهذا الخوف، فارتفع بفكره وسلوكه عن المغريات، وقوى أمام جميع التحديات، فكلما عظم عليه خطب مجابهة الناس تذكر النار(3/318)
والحساب فهان عليه كل خطب عظيم وصغر في نظره كل أمر جسيم6037.
18 ـ في الإنفاق على الذمي إذا كبر ولم يكن له مال:
…الإسلام دين العدالة والسماحة والاهتمام بالضعيف والإسلام يهتم بكل من يعيش على أرضه ولو كان على غير دين الإسلام، وعمر بن عبد العزيز يُجَسِّد هذه القيم الرفيعة بتطبيقه أحكام هذا الدين فيقرر أن الذمي إذا كبر ولم يكن له مال ولا حميم ينفق عليه فإن نفقته في بيت مال المسلمين6038، فقد روى ابن سعد: قال عمر بن بهرام الصرّاف: قرئ كتاب عمر بن عبد العزيز علينا بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عدي بن أرطأة ومن قبله من المسلمين والمؤمنين سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فانظر أهل الذمة فأرفق بهم، وإذا كبر الرجل منهم وليس له مال فأنفق عليه، فإن كان له حميم فمر حميمه ينفق عليه6039.
19 ـ أكله مع أهل الكتاب: كان عمر بن عبد العزيز يجعل كل يوم من ماله درهماً في طعام المسلمين ثم يأكل معهم، وكان ينزل بأهل الذمة فيقدمون له من الحلبة المنبوتة والبقول وأشباه ذلك مما كانوا يضعون من طعامهم فيعطيهم أكثر من ذلك ويأكل معهم، فإن أبوا أن يقبلوا ذلك منه لم يأكل منه6040.
20 ، عمر والشعراء: لما استخلف عمر بن عبد العزيز وفد الشعراء إليه فأقاموا ببابه أياماً لا يؤذن لهم، فبينما هم كذلك وقد أزمعوا على الرحيل إذ مر بهم رجاء بن حيوة ـ وكان من خطباء أهل الشام ـ فلما رآه جرير داخلاً على عمر أنشأ يقول:
………يا أيها الرجل المرخي عمامته
…………………هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا
………
…قال: فدخل ولم يذكر من أمرهم شيئاً، ثم مرّ بهم عدي بن أرطأة، فقال له جرير:
………يا أيها الرجل المرخي مطيته
…………………هذا زمانك إني قد مضى زمني
………أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه
…………………أنَّي لدى الباب كالمصفود في قرن
………لا تنس حاجتنا لقّيت مغفرة
…………………قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني(3/319)
…فدخل عدي على عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، الشعراء ببابك وسهامهم مسمومة وأقوالهم نافذة، قال: ويحك يا عدي مالي وللشعراء، قال: أعز الله أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، قال: كيف؟ قال: امتدحه العباس بن مرداس السلمي فأعطاه حلة قطع بها لسانه، قال: أو تروي من قوله شيئاً؟ قال: نعم، فأنشده يقول:
……رأيتك يا خير البرية كلها
………………نشرت كتاباً جاء بالحق معلماً
……شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا
………………عن الحق لما أصبح الحق مظلماً
……ونورت بالتبيان أمراًَ مدلساً
………………وأطفأت بالقرآن ناراً تضرماً
……
قال: ويحك يا عدي، من بالباب منهم، فذكر له أسماء الشعراء، عمر بن عبد الله بن ربيعة، والفرزدق، والأخطل وجرير، فرد الجميع إلا جرير فسمح له بالدخول، فدخل جرير وهو يقول:
……إن الذي بعث النبي محمداً
………………جعل الخلافة للإمام العادل
……وسع الخلائق عدله ووفاؤه
………………حتى أرعوى فأقام ميل المائل
……إني لأرجو منك خيراً عاجلاً
………………والنفس مولعة بحب العاجل
……
…فلما مثل بين يديه قال: ويحك يا جرير ، اتق الله ولا تقل إلا حقاً6041، نشأ جرير يقول:
……أأذكر الجهد والبلوى التي نزلت
………………أم قد كفاني بما بُلِّغْتَ من خيري
……كم باليمامة من شعثاءَ أرملة
………………ومن يتيم ضعيف الصوت والنَّظَرِ
……ممن يعدُّكَ تكِفي فقد والِدِه
………………كالفَرخَ في العش لم ينهض ولم يطر
……يدعوك دعوة ملهوف كأنَّ به
………………خبلاً من الجِنَّ أو مساّ من البشر
……خليفة الله ماذا تأمرون بنا
………………لسنا إليكم ولا في حار منتظر
……ما زلت بعدك في هم يُؤرقني
………………قد طال في الحيِّ إصعادي ومنحدري
……لا ينفع الحاضر المجهود بادينا
………………ولا يعود لنا بادٍ على حضر
……إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا
………………من الخليفة ما نرجو من المطر
……نال الخلافة إذ كانت له قدراً
………………كما أتى ربَّهُ موسى على قدر
……هذي الأرامل قد قضَّيت حاجتها(3/320)
………………فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
……الخير ما دمت حياً لا يفارقنا
………………بوركت يا عمر الخيرات من عمر
…فقال: يا جرير ما أرى لك فيما ها هنا حقاً، قال: بلى يا أمير المؤمنين أنا ابن سبيل ومنقطع. فأعطاه من صلب ماله مائة درهم... ثم خرج، فقال له الشعراء: ما وراءك؟ قال: ما يسوءكم، خرجت من عند أمير المؤمنين وهو يعطي الفقراء ويمنع الشعراء وإني عنه لراضٍ، ثم أنشأ يقول:
……رأيت رُقَي الشيطان لا تستفزه
………………وقد كان شيطاني من الجن راقيا6042
…وهذا منهج جديد في عهد الدولة الأموية للتعامل مع الشعراء فقد كان الشعراء يمدحون الملوك والأمراء طلباً لرفدهم، ويدخلون في قصائدهم المبالغات والكذب إلى أن تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز، فقصدوه، فكان موقفه من الشعراء كما تبين من الخبر المذكور، فقطع تلك العادة التي تفسد بنية المجتمع وتشجع على سيادة الأخلاق السيئة من الكذب والتغرير والنفاق، فقطع تلك العادة السيئة ولم تعد إلى الظهور إلا بعد وفاته6043 ولقد اعترف جرير بأن الشياطين كانوا من وراء الشعراء في استفزاز الأمراء الممدوحين، وأن عمر بن عبد العزيز قد تميز بحصانته من أولئك الشياطين6044:
21 ـ تأثره بشعر الزهد وعلاقته بسابق البربري:
…قرّب عمر بن عبد العزيز من الشعراء من التزم شعر الزهد وذكر الموت والخوف من الآخرة ويبدو أن أقرب الشعراء لقلب عمر هو سابق البربري6045، فكان يعظ عمر وينشده الشعر فيتأثر عمر ويبكي وذات يوم دخل سابق البربري وهو ينشد شعراً فانتهى في شعره إلى هذه الأبيات:
………فكم من صحيح بات للموت آمناً
…………………أتته المنايا بغتة بعدما هَجَع
………فلم يستطع إذ جاءه الموت بغتة
…………………فراراً ولا منه بقوَّتِهِ امتنع
………فأصبح تبكيه النساء مُقَنَّعاً
…………………ولا يسمع الداعي وإن صوته رفع
………وقُرّبَ من لحدٍ فصارَ مقيله
…………………وفارق ما قد كان بالأمس قد جمع(3/321)
…قال الرواي: ميمون بن مهران: فلم يزل عمر يبكي ويضطرب حتى غشي عليه فقمنا، فانصرفنا عنه6046.
…وقد قال سابق البربري قصيدة طويلة فيها مواعظ وحكم، تأثر بها عمر بن عبد العزيز تأثراً بالغاً. وهي:
………بسم الذي أنزلت من عنده السُّوَرُ
…………………والحمد لله أما بعد يا عمر
………إن كنت تعلم ما تأتي وما تذر
…………………فكن على حذر قد ينفع الحذر
………واصبر على القدر المجلوب وارض به
…………………وإن أتاك بما لا تشتهي القدر
………فما صفا لامرئٍ عيش يُسَرُّ به
…………………إلا سيتبع يوماً صفوه كدر
………واستخبر الناس عما أنت جاهله
…………………إذا عميت فقد يجلو العمى الخبر
………قد يرعوي المرء يوماً بعد هفوته
…………………وتحكم الجاهلَ الأيام والعبر
………من يطلب الجور لا يظفر بحاجته
…………………وطالب الحق قد يُهدى له الظَّفرُ
………وفي الهدى عبرٌ تشفى القلوبُ بها
…………………كالغيث ينضُر عن وسميِّه6047 الشجر
………وليس ذو العلم بالتقوى كجاهلها
…………………ولا البصير كأعمى ماله بَصرُ
………والرُّشد نافلة تُهدى لصاحبها
…………………والغيُّ يكره منه الوِرْدُ والصَّدر6048
………وقد يوبق6049 المرءَ أمرٌ وهو يحقره
…………………والشيءُ يا نفسُ ينمى وهو يُحَتَصرُ
………لا يشبع النفس شيء حين تحرزه
…………………ولا يزال لها في غيره وطر
………ولا تزال، وإن كانت لها سعة
…………………كما تُعيِّرُ لون اللمة الغِير6050
………وكل شيء له حال تغيره
…………………لها إلى الشيء لم تظفر به نظر
………والذكرُ فيه حياة للقلوب كما
…………………يحيي البلاد إذا ما ماتت المطر
………والعلم يجلو العمى عن قلب صاحبه
…………………كما يُجلّي سوادَ الظلمةِ القَمَرُ
………لا ينفع الذكر قلباً قاسياً أبداً
…………………وهل يلين لقول الواعظ الحجر؟
………والموت جسرٌ لمن يمشي على قدم
…………………إلى الأمور التي تخشى وتُنتظَرُ
………فهم يمرّون أفواجاً وتجمُعُهم
…………………دار إليها يصير البدو والحَضَرُ
………من كان في معقل للحِرز6051 أسلمه
…………………أو كان في خمر لم ينجه خَمَرُ(3/322)
………حتى متى أنا في الدنيا أخو كَلَفٍ
…………………في الخير مني لَذَّاتِها صَعَرُ6052
………ولا أرى أثراً للذكرِ في جسدي
…………………والماء في الحجر القاسي له أثَرُ
………لو كان يسهر عيني ذكر آخرتي
…………………كما يُؤرِقني للعاجل الشَّهَرُ
………إذا لداويت قلباً قد أضرّ به
…………………طول السقام ووهن العظم ينجبرُ
………ما يلبثُ الشيءُ أن يبلى إذا اختلفت
…………………يوماً على نقضه الروحات والبَكَرُ6053
………والمرءُ يصعد ريعان الشباب به
…………………وكل مصعدة يوماً ستنحدر6054
………وكل بيت خراب بعد جِدًَّتِهِ
…………………ومن وراء الشباب الموت والكَبَرُ
………بينا يُرى الغُصن لَدْنا6055 في أرومته
…………………ريان أضحى خُطاماً جوفه نَخِرُ
………وكم من جميع أَشَتَّ الدهر شملَهُمُ
…………………وكل شمل جميع سوف ينتثِرُ
………وربَّ أصيد سامي الطرف معتصب
…………………بالتاج نيرانه للحرب تستعر
………يظل مفترِشَ الديباج محتجباً
…………………عليه تبني ثباب الملكِ والحَجرُ
………قد غادرته المنايا وهو مستلب
…………………مُجَدَّل ترب الخدين منعفِر6056
………أبعد آدم ترجون البقاء وهل
…………………تبقى فروع لأصل حين ينعقر
………لهم بيوت بمستن السيول وهل
…………………يبقى على الماء بيت أُسُّه مَدَرُ
………إلى الفناءِ ـ وإن طالت سلامتهم
…………………مصير كل بني أنثى وإن كثروا
………إنَّ الأمور إذا استقبلتَها اشتبهت6057
…………………وفي تدبرها التبيان والعِبَرُ
………والمرء ما عاش في الدنيا له أملٌ
…………………إذا انقضى سفر منها أتى سفر
………لها حلاوةُ عيشٍ غيرُ دائمة
…………………وفي العواقب منها المرُّ والصَّبُرُ
………إذا انقضت زمر آجالها نزلت
…………………على منازلها من بعدها زُمر6058
………وليس يزجرُكُم ما توعظون به
…………………والبُهْمُ يزجرها الراعي فتنزجر6059
………أصبحتم جَزَراً للموت يقبضكم
…………………كما البهائم في الدُّنيا لها جزر
………لا تبطروا واهجروا الدُّنيا فإن لها
…………………غِباً وخيماً ، وكفر النعمة البطر
………ثم اقتدوا بالأُلى كانوا لكم غُرَرا(3/323)
…………………وليس من أمة إلا لها غُرَرُ6060
………حتى تكونوا على منهاج أو لكم
…………………وتصبروا عن هوى الدنيا كما صبروا
………مالي أرى الناس والدنيا مولية
…………………وكل حبل عليها سوف ينبتر6061
………لا يشعرون بما في دينهم نَقَصوا
…………………جهلاً وإن نقصا دنياهم شعروا6062
…وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يتمثل بالشعر كثيراً ومن تلك الأبيات التي ترنّم بها :
………ولا خير في عيش امرئ لم يكن له
…………………من الله في دار القرار نصيب6063
………
…ومن ذلك أيضاً:
………تُسَرُّ بما يَبْلى6064 وتفرح بالمنى
…………………كما اغتر باللذات في النوم حالم
………نهارك يا مغرور سهو وغفلة
…………………وليلُكُ نوم والرّدَى لك لازم
………وسعيك فيما سوف تكره غبَّه
…………………كذلك في الدنيا تعيش البهائم6065
…وذات يوم نظر عمر بن عبد العزيز، وهو في جنازة إلى قوم قد تلثَّموا من الغبار والشمس، وانحازوا إلى الظلِّ، فبكى وأنشد:
………من كان حين تصيب الشمسُ جبهته
…………………أو الغبارُ يخاف الشَّينَ والشعثا
………ويألف الظلَّ كي تبقى بشاشته
…………………فسوف يسكن يوماً راغماً جدَثا
………في قعر مُظلمةٍ غبراء موحشةٍ
…………………يطيل في قعرها تحت الثَّرى لُبْثا
………تجهَّزي بجهاز تبلُغين به
…………………يا نفس قبل الرّدى لم تُخلقى عبثا6066
22 ـ بين الشاعر دكين بن رجاء وعمر بن عبد العزيز:(3/324)
…قال دكين: امتدحت عمر بن عبد العزيز وهو والي المدينة، فأمر لي بخمس عشرة ناقة كرائم صعاب6067، فكرهت أن أرمي بها الفجاج فتنتشر عليَّ، ولم تطب نفسي ببيعها، فقدمت علينا رفقة من مُضر، فسألتهم الصحبة، فقالوا: إن خرجت في ليلتك، فقلت: إنّي لم أودِّع الأمير، ولا بدَّ من وداعه، قالوا: إنّه لا يحتجب عن طارق ليل، فأتيته، فاستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت وعنده شيخان أعرفهما، فودّعته. فقال لي: يا دكين، إنَّ لي نفساً توّاقة فإن أنا صرت إلى أكثر ممّا أنا فيه، فبعَيْنٍ ما أرَيَنَّك، فقلت: أشهد لي عليك بذلك، فقال: أُشهد الله به، قلت: ومن خلقه؟ قال: هذين الشخصين، فأقبلت على أحدهما فقلت: من أنت أَعرفُك؟ قال: سالم بن عبد الله، قلت: لقد استسمنت الشاهد وقلت للآخر: من أنت؟ قال: أبو يحي مولى الأمير6068، فخرجت بهنَّ إلى بلدي، فرمى الله في أذنابهنَّ بالبركة حتى اعتقدت منهنَّ الإبل والغلمان فإني لبصحراء فلج6069، إذ ناعٍ ينعى سليمان بن عبد الملك، قلت: فمن القائم بعده؟ قال: عمر بن عبد العزيز، فتوجهت نحوه، فلقيني جرير بالطريق جائياً من عنده، فقلت: يا أبا حزرة من اين؟ فقال: من عند من يعطي الفقراء ويمنع الشعراء، ولكن عوِّل عليه في مال ابن السبيل، فانطلقت فإذا هو في عرصة داره6070 قد أحاط به الناس، فلم يمكنِّي الرِّجْل إليه، فناديت:
………يا عمر الخيرات والمكارم
…………………وعُمر الدَّسائع العظائم6071
………إنِّي امرءُ من قطن بن دارم
…………………أطلب دَيْنٍ من أخ مكارم
………إذ ننتجي والله غير نائم
…………………في ظلمة الليل وليل عاتم6072
عند أبي يحيي وعند سالم(3/325)
فقام أبو يحيي فقال: يا أمير المؤمنين، لهذا البدوي عندي شهادة عليك، قال: أعرفها: ادنُ منِّي يا دُكين، أنا كما ذكرت لك، إنَّ نفسي لم تنل أمراً إلا تاقت إلى ما هو فوقه، وقد نلت غاية الدنيا، فنفسي تتوق إلى الآخرة، والله ما رزأت من أموال الناس شيئاً فأعطيك منه، وما عندي إلا ألفا درهم، أعطيك أحدهما، فأمر لي بألف، فوالله ما رأيت ألفاً كان أعظم بركة منه6073. ودكين هو القائل:
………إذا المرء لم يدنس من اللُّؤم عِرضُهُ
…………………فكل رداء يرتديه جميل
………وإن هو لم يُضْرِع عن الُّلؤم نَفْسَهُ
…………………فليس إلى حسن الثَّناء سبيل6074
* ـ من معالم عمر بن عبد العزيز في التغيير الإجتماعي:
ومن خلال حياة عمر بن عبد العزيز الإجتماعية يمكننا معرفة معالم منهجه في التغيير الإجتماعي والتي من أهمها:
1 ـ القدوة:
…حيث ضرب من نفسه مثالاً رائعاً في الزهد والورع ومحاسبة النفس والأهل والعشيرة وإقامة الشرع على نفسه ومن حوله.
2 ـ التدرج والمرحلية:
…حيث أخذ بسنة التدرج في الإصلاح الإجتماعي، وإماتة البدع وإحياء السنن، كما مرّ معنا.
3 ـ فهم النفوس البشرية: ولهذا كان يتبع مع الناس أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة، ويرّغب ويرهب، ويعطي شيئاً من الدنيا لتهدئة النفوس ثم أخذها للحق وإقامة العدل وإزالة الظلم.
4 ـ ترتيب الأولويات: فقد قدم رد المظالم على غيرها من الأعمال، ولهذا انتهج سياسة واضحة في رد المظالم، بدأ بنفسه، ثم أهله وعشيرته، وعزل الولاة الظلمة وعين الأخيار من أهل الكفاءة والأمانة والعلم، لإقامة العدل وتطبيق الشرع.. الخ.(3/326)
5 ـ وضوح الرؤية في خطواته الإصلاحية: حيث جدّد مفهوم الشورى وبيعة الحاكم وحق الأمة في الإختيار، عمل على توكيل الأمناء على الولايات، نشره للعدل في كافة الدولة، إحياؤه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حرصه على سلامة معتقد الأمة الصحيح ومحاربته للمعتقدات الفاسدة، إهتمامه بالعلماء وتوظيفه لخدمة الإسلام من خلال الدعوة والعلم والتعليم والتزكية،...الخ من الأعمال في مجال الاقتصاد، والسياسة والإجتماع حيث كان يملك رؤية إصلاحية تجديدية شاملة ـ كما سوف يتضح من خلال هذا الكتاب .
6 ـ التقيد بالقرآن الكريم والسنة النبوية: وهدي الخلفاء الراشدين في رؤيته الإصلاحية، وبذلك يمكننا القول بأن وضوح الرؤية انبثق من خلال ثوابت راسخة متمثلة في المرجعية الشرعية للرؤية الإصلاحية الشاملة التي قام بها عمر بن عبد العزيز، والتي من جوانبها الحياة الإجتماعية.
ثانياً : عمر بن عبد العزيز، والعلماء:(3/327)
كانت أيام سليمان بن عبد الملك بداية لمشاركة العلماء في مسؤوليات الدولة وقربهم من مصدر القرار السياسي وتأثيرهم فيه، فلما جاء عهد عمر بن عبد العزيز ـ أصبحت مشاركة العلماء في إدارة شؤون الدولة قوية فعالة، وشاملة متنوعة، فعلى رأس الدولة عمر وهو يعد من أبرز العلماء وكبار الفقهاء وساس الدولة، كعالم وليس كملك، وتوسعت دائرة مشاركة العلماء في عهده فبدأت في مركز اتخاذ القرار في العاصمة حيث أحاط عمر نفسه بجملة من العلماء للإشارة عليه ومعاونته وأبعد من سواهم، فأصبحوا فرسان الحلبة وحدهم، فساهموا في صياغة سياسة الدولة صياغة شرعية خالصة، وامتدت مشاركتهم في المسئولية إلى بقية مرافق الدولة، فأسندت إليهم مختلف المناصب والأعمال، ولا يعدو القول الحقيقة إذا قلنا إن الدولة في عهد عمر بن عبد العزيز كانت دولة العلماء، فهي نموذج لما ينبغي أن تكون عليه الدولة الإسلامية اتحدت فيها السلطة التشريعية مع السلطة التنفيذية على أحسن حال6075، وقد اتسعت مشاركة العلماء في عهد عمر بن عبد العزيز بشكل لم يسبق له مثيل في الدولة الأموية، ويرجع السبب في ذلك إلى أمور، أهمها حرص عمر على تقريب العلماء وجعلهم بطانته ووزراءه وأعوانه، ويتعلق السبب الآخر بالعلماء حيث لم ير أحد من العلماء لنفسه أي مبرر في البعد عن عمر والمشاركة في أعماله، فمن كان منهم اعتزال الخلفاء والأمراء من منطلق أن على العلماء أن يصونوا العلم ولا يذهبوا للسلاطين ابتداء بل على السلاطين أن يقدروا العلم والعلماء ويسعوا إليهم، من كان يرى ذلك فقد تحقق له شرطه حيث كان عمر يقصد العلماء ويبعث إليهم، ومن كان يرى اعتزال الخلفاء والأمراء خوفاً على دينه من مخالطتهم لم يعد لهذا المحذور وجود حيث إن مجالس عمر ومخالطته تعين المرء على دينه، لهذا أخبر العلماء على عمر ورأوا أن من الواجب عليهم تحمل عبْ المسئولية الملقاة على عاتقه، ولم يعد لمعتذر عذر، بل اقبلوا عليه6076،(3/328)
وقالوا كما ذكر ابن عساكر: ما يسعنا أن نفارق هذا الرجل حتى يخالف فعله قوله6077. فهذا ميمون بن مهران الذي يقول: لا تدخل على سلطان وإن قلت آمره بطاعة والذي يقول: لا تعرف الأمير ولا تعرف من يعرفه ومع هذا لا يجد لنفسه بداً من العمل عند عمر بن عبد العزيز ومشاركته6078. وتتجلى مشاركة العلماء في عهد عمر في عدة مظاهر أهمها:
1 ـ قربهم من الخليفة وشد أزره للسير في منهجه الإصلاحي:
…أسهم العلماء في مساعدة عمر بن عبد العزيز في السير في منهجه الإصلاحي حيث أيدوه فيما اتخذه من قرارات إصلاحية، كما كان لبعضهم أثر في اتخاذ عمر لبعض تلك القرارات. فمن ذلك ما أثر على العالم العامل عراك بن مالك6079، فقد ذكر ابن عمه أنه كان من اشد أصحاب عمر بن عبد العزيز على بني مروان في انتزاع ما حازوا من الفيء والمظالم من أيديهم، وقد تعرض بسبب هذا الموقف لغضب بني أمية فيما بعد فنفاه يزيد بن عبد الملك بعد توليه الخلافة إلى دهلك6080. وكان عراك بن مالك الغفاري شيخاً كبيراً ومحدثاً تابعي ثقة من خيار التابعين وكان زاهداً عابداً وقد انتفع به أهل تلك الجزيرة التي نفي إليها6081، وكان هذا التابعي الجليل يسرد الصوم قال فيه عمر بن عبد العزيز: ما أعلم أحداً أكثر صلاة من عراك بن مالك، وقد مات في منفاه رحمه الله في إمرة يزيد بن عبد الملك عام 104هـ6082، وكان ميمون بن مهران من المقربين من عمر بن عبد العزيز فقد روى ابنه عمر بن ميمون بن مهران عن أبيه قال: ما زلت ألطف في أمر الأمة وأنا وعمر بن عبد العزيز حتى قلت له: ما شأن هذه الطوامير التي تكتب فيها بالقلم الجليل وهي من بيت المال، فكتب إلى الآفاق لتركه فكانت كتبه نحو شبر6083. وميمون بن مهران قال عنه الذهبي الإمام الحجة عالم الجزيرة ومفتيها6084، وقال عنه عمر بن عبد العزيز: إذا ذهب هذا وضرباؤه، صار الناس بعده رجراجة6085، وكان يكبر عمر بن عبد العزيز بعشرين سنة6086، وكان ميمون بن(3/329)
مهران من علماء السلف ومن له مواقف وأقوال في نصرة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمن أقواله: لا تجالسوا أهل القدر، ولا تسبوا أصحاب محمد صلى اله عليه وسلم، ولا تَعَلَّموا النجوم6087. وكتب ذات يوم إلى عمر بن عبد العزيز: إني شيخ كبير رقيق، كلَّفتني أن أقضي بين الناس، وكان على الخراج والقضاء بالجزيرة، فكتب إليه: إني لم أُكَلِّفك ما يُعنِّيك اجْب الطَّيَِبَ من الخراج، واقضي بما استبان لك، فإذا لُبس عليك شئ، ارفعه إليّ، فإن الناس لو كان إذا كبُر عليهم أمرٌ تركوه لم يقم دين ولا دنيا6088. ومن أقوال ميمون بن مهران: لا يكون الرجل تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، وحتى يعلم من أين ملبسه ومطعمه ومشربه6089. وقال: ثلاثة تُؤدَّى إلى البرِّ والفاجر: الأمانة، والعهد وصلة الرحم6090. قال رجل لميمون بن مهران: يا أبا أيوب، ما يزال الناس بخير ما أبقاك الله لهم، قال: أقبل على شأنك: ما يزال الناس بخير ما اتقوا ربهم6091، وقال:من أساء سراً، فليتب سراً، ومن أساء علانية، فليتب علانية، فإن الناس يعيرون ولا يغفرون، والله يغفر ولا يعيّر6092. وعن جعفر بن برقان: قال لي ميمون بن مهران: يا جعفر قل في وجهي ما أكره، فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره6093، وعن أبي المليح قال: قال ميمون: إذا أتى رجل باب سلطان، فاحتجب عنه، فليأت بيوت الرحمن، فليصلي ركعتين، وليسأل حاجته6094، وعن ميمون بن مهران قال: ثلاث لا تبلون نفسك بهنَّ: لا تدخل على السلطان، وإن قلت: آمره بطاعة الله، ولا تصغين بسمعك إلى هوى، فإنك لا تدري ما يعلق بقلبك منه، ولا تدخل على امرأة ولو قلت: أعلمها كتاب الله6095. وقال: ما نال رجل من جسيم الخير ـ نبي ولا غيره ـ إلا بالصبر6096. وتوفي ميمون رحمه سنة سبع عشرة ومائة6097، وقيل سنة ست عشرة6098.(3/330)
2 ـ تعهدهم عمر بالنصح والتذكير بالمسئولية: يعتبر عمر بن عبد العزيز أكثر خليفة وجهت إليه النصائح والتوجيهات في عهد بني أمية فقد شهد أكبر عدد من الرسائل بين الخليفة والعلماء ولو إستعرضنا أولئك العلماء الذين وجهوا النصح والتذكير لعمر وما كتبوه من رسائل لطال بنا الحديث، ولكن نذكر منهم على سبيل المثال، سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ومحمد بن كعب القرظي، وأبا حازم سلمة بن دينار، والقاسم بن مخيمرة وحسن البصري وغيرهم، وكانت نصائح العلماء تتضمن عدداً من التوجيهات التي لها صلة بمنهج عمر السياسي، مما يؤكد أن عمر بن عبد العزيز استقى منهجه من المنهل الذي نبعث منه هذه التوجيهات6099، فمما جاء في موعظة محمد بن كعب القرظي:.. يا أمير المؤمنين أفتح الأبواب، وسهل الحجاب، وانصر المظلوم، ورد الظالم6100، وبمثل هذا المعنى جاءت موعظة القاسم بن مخيمرة حيث قال لعمر:.. بلغنا أن من ولي على الناس فاحتجب عن فاقتهم وحاجتهم احتجب الله عن فاقته وحاجته يوم يلقاه. قال عمر: فما تقول: ثم أطرق طويلاً وبرز للناس6101، وجاء في إحدى رسائل الحسن البصري لعمر:... أما بعد يا أمير المؤمنين فكن للمثل أخاً وللكبير ابناً وللصغير أباً، وعاقب كل واحد منهم بذنبه على قدر جسمه، ولا تضربن لغضبك سوطاً واحداً فتدخل النار6102، وقد كان عمر كما سلف يحرص على تطبيق مثل هذا التوجيه ويأمر عماله بذلك6103، ومما جاء في رسالة سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ المليئة بالتوجيهات:.. فإنه قد كان قبلك رجال عملوا وأحيوا ما أحيوا وأتوا ما أتوا حتى ولد في ذلك رجال ونشؤوا فيه وظنوا أنها السنة فسدوا على الناس أبواب الرخاء، فلم يسدوا منها باباً إلا فتح الله عليهم باب بلاء، فإن استطعت ـ ولا قوة إلا بالله ـ أن تفتح على الناس أبواب الرخاء فافعل، فإنك لن تفتح باباً إلا سد الله الكريم عنك باب بلاء يمنعك من نزع عامل أن تقول لا أحد يكفيني(3/331)
عمله، فإنك إذا كنت تنزع لله وتستعمل لله أتاح الله لك أعواناً فأتاك بهم. وجاء فيها أيضاً:.. فمن بعثت من عمالك إلى العراق فأنهه نهياً شديداً بالعقوبة عن أخذ الأموال وسفك الدماء إلا بحقها المال. المال يا عمر والدم فإنه لا نجاة لك من هول جهنم من عامل بلغك ظلمه ثم لم تغيره6104. وهذه التوجيهات هي عين سياسة عمر في السعي لإغناء رعيته وإنتقائه لعماله ومحاسبته لهم6105.
3 ـ مشاركتهم في تولي مختلف مناصب الدولة وأعمالها: لم تقتصر مشاركة العلماء لعمر بن عبد العزيز على الإشارة عليه وتقديم النصح له، بل تعدت ذلك إلى تولي عدد من المناصب في مختلف الأقاليم وأهم هذه المناصب وأكثرها أثراً في سياسة الدولة: الإمارة على الأقاليم، وبيت المال6106، وحين نتتبع ولاة عمر على الأقاليم نجد أن جلهم من العلماء فمن ذلك: الإمام الثقة والأمير العادل عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب على ولاية الكوفة6107، والعالم القدير أبو بكر بن عمر بن حزم على المدينة6108، والإمام الكبير إسماعيل بن أبي المهاجر على إفريقية6109، والفقيه المحدث عدي بن عدي الكندي على الجزيرة الفراتية وأرمينية وأذربيجان6110، والإمام القاضي عبادة بن نسي على الأردن6111، والثقة الصالح عروة بن عطية السعدي على اليمن6112، والقاضي الفاضل سالم بن وابصة العبدي على الرقة6113، وأما بيت المال فقد تولى العمل فيه عدد من العلماء ومنهم: العالم الجليل ميمون بن مهران على خراج الجزيرة6114، والثقة الصالح صالح بن جبير الصدائي على الخراج لعمر بن عبد العزيز6115، والعالم وهب بن منبه على بيت مال اليمن وأبو زناد وتولى عمر بن ميمون البريد لعمر بن عبد العزيز6116. ولا شك أنه كان لهذه المشاركة الواسعة من العلماء بتوليهم الإمارة، وبيوت الأموال في مختلف الأقاليم الأثر الكبير في ضبط شئون الدولة الإدارية والمالية وما ترتب على ذلك من آثار حسنة في الحياة السياسية في عهد عمر(3/332)
بن عبد العزيز6117.
ثالثاً : المدارس العلمية في عهد عمر بن عبد العزيز والدولة الأموية:
تحدثت في كتابي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المدارس العلمية واتخاذه من عاصمة الدولة مدرسة يتخرج منها العلماء والدعاة والولاة والقضاة فنشطت المدارس العلمية في مكة والمدينة والبصرة والكوفة والشام ومصر وغيرها وأشرف الصحابة الكرام على تعليم وتربية الناس فيها، واستطاعت تلك المدارس أن تخرج كوادر علمية وفقهية ودعوية متميزة ساندت المؤسسة العسكرية التي قامت بفتح العراق وإيران والشام ومصر وبلاد المغرب، واستطاع علماء الصحابة الذين تفرغوا لدعوة الناس وتربيتهم أن ينشئوا جيلاً من العارفين للدين الإسلامي من أبناء المناطق المفتوحة، وقد استطاعوا أن يتغلبوا على مشكلة إعاقة الحاجز اللغوي، بل تعلم الكثير من الأعاجم لغة الإسلام، وأصبح كثير من رواد حركة العلم بعد عصر الصحابة من العجم، لقد أثرت المدارس العلمية والفقهية في المناطق المفتوحة، وشكلت جيلاً من التابعين نقلوا إلى الأمة علم الصحابة وأصبحوا من ضمن سلسلة السند التي نقلت للأمة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويرجع الفضل ـ بعد الله ـ في نقل ما تلقاه الصحابة من علم من الرسول بالدرجة الأولى بعد الله إلى مؤسسي المدارس العلمية بمكة والمدينة والبصرة والكوفة وغيرها من الأقطار6118. وقد استمرت مدارس التابعين في النشاط العلمي في عهد الدولة الأموية وكثير من العلماء الذين تخرجوا من تلك المدارس أعانوا عمر بن عبد العزيز على مشروعه الإصلاحي التجديدي الراشدي المنضبط بمنهاج النبوة، ومن أهم تلك المدارس:
1 ـ مدرسة الشام:
…تأسست في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وأشهر مؤسسيها من الصحابة، معاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وعباد بن الصامت رضي الله عنهم وحمل التابعون الراية العلمية والتربوية والدعوية بعد الصحابة ومن أشهرهم:(3/333)
أ ـ الإمام الفقيه أبو إدريس الخولاني ، عائذ بن عبد الله:
…قاضي دمشق وعالمها، روى عن أبي الدرداء، وأبي هريرة وابن عباس وخلق غيرهم، كان أبو إدريس عالم الشام بعد أبي الدرداء قال: أدركت أبي الدرداء ووعيت عنه، وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس ووعيت عنهما6119. كان أبو إدريس ثقة من أهل الفقه في الدين وعلم الحلال والحرام، وكان من أحسن الناس تلاوة للقرآن، فعن يزيد بن عبيدة أنه رأى أبا إدريس في زمن عبد الملك ابن مروان، وأن حلق المسجد بدمشق يقرؤون القرآن، يدرسون جميعاً، وأبو إدريس جالس إلى بعض العمد، فكلما مرت حلقة بآية سجدة بعثوا إليه يقرأ بها، وانصتوا له وسجد بهم جميعاً... حتى إذا فرغوا من قراءتهم قام أبو إدريس يقصُ6120. وعن يزيد بن أبي مالك، قال: كنا نجلس إلى أبي إدريس الخولاني فيحدثنا، فحدث يوماً عن بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استوعب الغزاة، فقال له رجل من ناحية المجلس: أحضرت هذه الغزوة؟ فقال: لا وقال الرجل: قد حضرتها مع رسول الله، ولأنت أحفظ لها مني6121، وقد عزل عبد الملك بن مروان بلال بن أبي الدرداء عن القضاء ـ وولى أبا إدريس6122. ثم أن عبد الملك عزل أبا إدريس عن القصص، وأقره على القضاء، فقال أبو إدريس: عزلتموني عن رغبتي وتركتموني في رهبتي6123. توفي عام 80هـ6124.
ب ـ الفقيه قبيصة بن ذؤويب الدمشقي:
…روي عن عمر بن الخطاب، وأبي الدرداء وعبد الرحمن بن عوف وخلق غيرهم. كان قبيصة من علماء التابعين ثقة مأموناً كثير الحديث، قال الشعبي: كان أعلم الناس بقضاء زيد بن ثابت6125، قال عنه مكحول: ما رأيت أحداً أعلم من قبيصة6126، وعن ابن شهاب، قال: كان قبيصة بن ذؤويب من علماء هذه الأمة6127، توفي سنة 86هـ وقيل 87هـ، وقيل88هـ6128. وقد توسعت في ترجمته عند حديثي عن عبد الملك.
ج ـ رجاء بن حيوة الفلسطيني:(3/334)
…من أجلة التابعين وشيخ أهل الشام حدث عن معاذ بن جبل وأبي الدرداء وعباد بن الصامت وطائفة6129، كان شامياً ثقة فاضلاً كثير العلم6130، ويروى عن رجاء بن حيوة أنه قال: من لم يؤاخ إلا من لا عيب فيه قلَّ صديقه، ومن لم يرضى من صديقه بالإخلاص له دام سخطه ومن عاتب إخوانه على كل ذنب كثر عدوُّه6131. كان رجاء كبير المنزلة عند سليمان بن عبد الملك وعند عمر بن عبد العزيز وأجرى الله على يديه الخيرات، ثم أنَّه بعد ذلك أُخِّر، فأقبل على شأنه6132، توفي سنة 1126133.
س ـ مكحول الشامي الدمشقي:
…عالم أهل الشام عداده في أواسط التابعين من أقران الزهري سمع من واثلة بن الأسقع وواثله آخر من مات من الصحابة بدمشق6134، وتوفي عام 85هـ وله ثمان وتسعون سنة6135، قال عنه الزهري: العلماء أربعة: سعيد بن المسيب بالمدينة والشعبي بالكوفة، والحسن بالبصرة، ومكحول بالشام6136. وكان مكحول أفقه أهل الشام، ولم يكن في زمنه أبصر بالفتيا منه6137توفي 112هـ وقيل 113هـ وقيل غير ذلك6138.
ع ـ عمر بن عبد العزيز: ومن علماء المدرسة الشامية والمدينة وذلك بعد انتقاله إلى الشام وقيامه بأعباء الخلافة، وكان معروفاً بالفقه بصير بالسنة، يرجع إليه القضاة في الأمور التي يختلفون فيها6139. وقد بدأت بالمدرسة الشامية لأنها ترعرعت في عاصمة الخلافة الأموية.(3/335)
س ـ بلال بن سعد السكوني: الإمام الرباني الواعظ أبو عمرو الدمشقي شيخ أهل دمشق كان لأبيه صحبة، كان بليغ الموعظة، حسن القصص نافعاً للعامة وكان لأهل الشام كالحسن البصري بالعراق وكان قارئ أهل الشام جهير الصوت6140يقول الأوزاعي: لم أسمع واعظاً قط أبلغ من بلال بن سعد6141، ومن مواعظه العميقة: يا أهل التُقى إنكم لم تُخلقوا للفناء وإنما تُنقلون من دار إلى دار، كما نُقلتم من الأصلاب إلى الأرحام، ومن الأرحام إلى الدنيا، ومن الدنيا إلى القبور، ومن القبور إلى الموقف، ومن الموقف إلى الخلود في جنة أو نار6142. ومن أقواله: لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن أنظر من عصيت6143. وقال الأوزاعي سمعته يقول: والله لكفى به ذنباً أن الله يزهدنا في الدنيا ونحن نرغب فيها6144. وقد توفي سنة نيف وعشرة ومائة.
2 ـ المدرسة المدنية:
لما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى كانت المدينة عاصمة الدولة الإسلامية وموطن الخلافة، وفيها تفتق عقل الصحابة في استخراج أحكام إسلامية، تصلح لما جد من شئون في المجتمعات الإسلامية، بعد الفتوح التي كثرت وفي عهد عمر بن الخطاب بلغ فقهاء الصحابة المفتون 130 مائة وثلاثين صحابياً وكان المكثرون منهم سبعة: عمر وعلي وعبد الله بن مسعود، وعائشة، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر6145، وورث علماء التابعين الفقه والعلم والتربية والدعوة، وأما أشهر علماء التابعين: سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير، وعمرة بنت عبد الرحمن بن سعد الأنصارية، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وسليمان بن يسار، ونافع مولى ابن عمر6146، وقد تحدثت عن دور فقهاء وعلماء التابعين بالمدينة في نشأة عمر بن عبد العزيز.
3 ـ المدرسة المكية:(3/336)
احتلت هذه المدرسة المكانة في قلوب المؤمنين، الساكنين والثائبين على بلد الله الحرام، الحجاج والعمار والزوار، بل أخذت مكة بألباب كل مؤمن رآها أو تمنى أن يراها، ولقد كان العلم بمكة يسير زمن الصحابة، ثم كثر في أواخر عصرهم وكذلك في أيام التابعين، وزمن أصحابهم، كابن أبي نجيح، وابن جريج6147، إلا أن مكة اختصت زمن التابعين بحبر الأمة وترجمات القران ابن عباس رضي الله عنهما الذي صرف جل همه، وغاية وسعه إلى علم التفسير، وربى أصحابه على ذلك، فنبع منهم أئمة كان لهم قصب السبق بين تلاميذ المدارس في التفسير، وقد ذكر العلماء مجموعة من الأسباب أدت إلى تفوق المدرسة المكية في هذا العلم وأهم هذه الأسباب والأساس فيها إمامة ابن عباس رضي الله عنهما وأستاذيته لها6148، ومن أشهر علماء التابعين في المدرسة المكية.
أ ـ مجاهد بن جبر المكي:(3/337)
أخذ الفقه والتفسير عن ابن عباس وغيره من الصحابة، كان فقيهاً عالماً ثقة من أوعية العلم6149، وعن مجاهد قال: عرضت القرآن ثلاث عرضات على ابن عباس، أَقِفُه عند كل آية، اسأله فيم نزلت، وكيف كانت6150، وقال قتادة: أعلم من بقي بالتفسير مجاهد6151، وقال مجاهد: صحبت ابن عمر وأنا أريد أن أخدمه فكان يخدمني6152، وقدم مجاهد على سليمان بن عبد الملك ثم على عمر بن عبد العزيز، وشهد وفاته وعن مجاهد قال. قال لي عمر بن عبد العزيز في مرض وفاته: يا مجاهد ما يقول الناس فيّ قلت: يقولون مسحور، قال: ما أنا بمسحور، ثم دعا غلاماً له فقال: ويحك، ما حملك على أن سقيتني السُّمُّ؟ قال: ألف دينار أُعطيتها وأن أُعتق، قال: هاتها، فجاء بها، فألقاها في بيت المال وقال: اذهب حيث لا يراك أحد6153، وقال مجاهد: ما أدري أي النعمتين أعظم، أن هداني للإسلام، أو عافاني من هذه الأهواء6154. قال الذهبي معلقاً على قول مجاهد: مثل الرّفض والقدر والتجهّم6155. وعن عبد الوهاب بن مجاهد، قال: كنت عند أبي فجاء ولده يعقوب فقال: يا أبتاه، إن لنا أصحاب يزعمون أن إيمان أهل السماء وأهل الأرض واحد. فقال: يا بني ما هؤلاء بأصحابي، لا يجعل الله من هو منغمس في الخطايا كمن لا ذنب له6156، ومات مجاهد سنة اثنتين ومائة وهو ساجد6157، وكان عمره ثلاث وثمانين سنة6158.
ب ـ عكرمة مولى ابن عباس:(3/338)
كان مكياً تابعياً ثقة من أعلم التابعين، روى عن ابن عباس، وعائشة وأبي هريرة وابن عمر، وابن عمرو، وعقبة بن عامر، وعلي بن أبي طالب6159، قال: طلبت العلم أربعين سنة، وكنت أفتي بالباب وابن عباس بالدار وعن عكرمة أن ابن عباس رضي الله عنه قال له: انطلق فأفت الناس وأنا لك عون، قلت: لو أن هذا الناس ومثلهم مرتين لأفتيتهم. قال ابن عباس: انطلق فأفتهم فمن جاءك يسألك عما يعنيه فأفته ومن سألك عما لا يعنيه فلا تُفته، فإنك تطرح عنك ثلثي مؤونة الناس6160، وكان عكرمة كثير الأسفار ونزل على عبد الرحمن الحسّاس الغافقي، وصار إلى إفريقية6161، وقد اتهم عكرمة بالصفرية فرقة من فرق الخوارج ولم تثبت هذه التهمة بسند صحيح وإنما بصيغة يقال6162، وقد دافع علماء الجرح والتعديل عن عكرمة، كابي حاتم الرازي، وابن حبان، والعجلي، وابن منده وابن عبد البر ونقل ذلك ابن حجر في مقدمة الفتح وقال: لا تثبت عنه بدعة6163. وقال البخاري: ليس أحد من أصحابنا إلا هو يحتج بعكرمة6164، توفي سنة 105هـ6165.
ج ـ عطاء بن أبي رباح:
مفتي الحرم وأحد الفقهاء الأئمة روى عن ابن عباس وأبي هريرة وأم سلمة وعائشة ورافع بن خديج وزيد بن أرقم وابن الزبير، وابن عمرو وابن عمر وجابر ومعاوية وأبي سعيد وعدة من الصحابة6166. وكان ثقة فقيهاً عالماً كثير الحديث انتهت إليه فتوى أهل مكة. قال عنه ابن عباس: يا أهل مكة تجتمعون علي وعنكم عطاء، ولسعة علمه وجلالة قدره كانوا في عهد بني أمية يأمرون في الحج منادياً يصيح لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح توفي سنة 115 هـ6167. هؤلاء بعض علماء التابعين من المدرسة المكية الذين نهضوا بعبء الدعوة والتعليم وإتمام البناء العلمي6168.
4 ـ المدرسة البصرية:(3/339)
وهي منافسة للكوفة في كل الفنون، وقد نزلها من الصحابة جمع كثير، منهم أبو موسى الأشعري، وعمران بن حصين وأنس بن مالك وغيرهم، ويعتبر أنس بن مالك رضي الله عنه شيخ السادة من علماء التابعين أمثال الحسن البصري، وسليمان التيمي، وثابت البناني، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وإبراهيم بن أبي ميسرة، ومحمد بن سيرين، وقتادة وغيرهم6169. ومن أشهر علماء المدرسة البصرية:
أ ـ محمد بن سيرين البصري:
كان مولى أنس بن مالك، سمع من ابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة وخلق سواهم6170، وعن حبيب بن الشهيد قال: كنت عند عمرو بن دينار فقال: والله ما رأيت مثل طاووس، فقال أيوب السختياني وكان جالساً: والله لو رأى محمد بن سيرين لم يقله6171، وقال عثمان البتي: لم يكن بالبصرة أعلم بالقضاء من ابن سيرين6172. وكان الحسن البصري يقدمه على غيره، فعن ثابت البُناني، قال: كان الحسن متوارياً من الحجّاج فماتت بنت له، فبادرت إليه رجاء أن يقول لي صلّ عليها، فبكى حتى ارتفع نحيبه، ثم قال لي: اذهب إلى محمد بن سيرين، فقل له ليُصل عليها، فعرف حين جاء الحقائق، أنه لا يعدل بابن سيرين أحداً6173. وكان محمد بن سيرين يصوم يوماً ويفطر يوماً6174، وكان قد أشتهر بتفسير الأحلام وهو اشهر من أن يعرف في هذا الباب قال عنه الذهبي: قد جاء عن ابن سيرين في التعبير عجائب، وكان له في ذلك تأييد الهي6175. وكان يلبس الثياب الثمينة والطيالس والعمائم6176، وكان صاحب ضحك ومزاح6177وكان باراً بأمه قالت حفصة بنت سيرين: كانت والدة محمد حجازية وكان يعجبها الصبغ، وكان محمد إذا أشترى لها ثوباً أشترى ألين ما يجد، فإذا كان عيد، صبغ لها ثياباً وما رأيته رافعاً صوته عليها، كان إذا كلمها كالمصغي إليها6178، وعن ابن عون، أن محمداً كان إذا كان عند أمه لو رآه رجل لا يعرفه ظن أن به مرضاً من خفض كلامه عندها6179. وقال ابن عون: كانوا إذا ذكروا عند محمد رجلاً بسيئة ذكره هو بأحسن ما يعلم.(3/340)
وجاءه ناس فقالوا: إنا نلنا منك فاجعلنا في حلّ، قال: لا أُحلّ لكم شيئاً حرّمه الله6180. توفي ابن سيرين بعد الحسن البصري بمئة يوم، سنة عشر ومئة6181.
ب ـ قتادة بن دعامة السدوسي:
كان من أوعية العلم، روى عن بعض الصحابة وكبار التابعين وكان ثقة حجة في الحديث6182، قال عنه أحمد بن حنبل: كان قتادة عالماً بالتفسير وباختلاف العلماء ثم وصفه بالفقه والحفظ وقال: قلما تجد من يتقدمه6183. وقال: كان قتادة أحفظ أهل البصرة لا يسمع شيئاً إلا حفظه قرئ عليه صحيفة جابر مرة واحدة فحفظها6184. قال سلام بن مطيع: كان قتادة يختم القرآن في سبع، وإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث6185. قال عنه الذهبي: حافظ العصر، قدوة المفسرين والمحدثين6186، كان رأساً في العربية والغريب وأيام العرب وأنسابها6187، وكان من تلاميذ الحسن البصري، وجالسه اثنتي عشرة سنة وصلى معه الصبح ثلاث سنين6188، توفي سنة ثماني عشرة ومائة6189.
5 ـ المدرسة الكوفية:
…نزل الكوفة ثلاثمائة من أصحاب الشجرة، وسبعون من أهل بدر رضي الله عنهم أجمعين، وقد اهتم عمر بالكوفة ووجه عبد الله بن مسعود واجتهد ابن مسعود في إيجاد جيل يحمل دعوة الله فهماً وعلماً وكان له الأثر البالغ في نفوس الملازمين له، أو من جاء بعدهم، وقد اشتهر مجموعة من تلاميذ ابن مسعود بالفقه والعلم والزهد والتقوى منهم، علقمة بن قيس، مسروق بن الأجدع، عبيدة السلماني، الأسود بن يزيد، ومرة الجعفي6190 وغيرهم، ومن أشهر علماء التابعين في المدرسة الكوفية:
أ ـ عامر بن شرحبيل الشعبي:(3/341)
…كان علامة عصره ومن أفقههم، روى عن عائشة وابن عمر وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر وجمهرة غيره حتى قيل أنه أدرك خمسمائة من الصحابة6191، لذلك كان صاحب آثار كثير العلم والفقه. قال محمد بن سيرين: لقد رأيته يستفتى والصحابة متوافرون بالكوفة ورغم هذا العلم الواسع فقد كان ينقبض عند الفتوى، وكثيراً ما يقول لا أدري، لأنه كان يعتبرها نصف العلم6192.، وقد قال الشعبي: إنا لسنا بالفقهاء، ولكنّا سمعنا الحديث فرويناه ولكن الفقهاء من إذا علم عمل6193، ومن نكاته اللاذعة، ما رواه الأعمش قال: أتى رجل الشعبيَّ، فقال: ما اسم امرأة أبليس؟ قال: ذاك عرس ما شهدته6194، توفى سنة أربع ومائة وقيل ست ومائة وقيل خمس ومائة6195.
ب ـ حمّاد بن أبي سلمة:
…فقيه أهل العراق، روى عن أنس بن مالك وتتلمذ على يدي إبراهيم النخعي وهو أنبل أصحابه وأفقههم وأقيسهم وأبصرهم بالمناظرة6196. وكان أحد العلماء الأذكياء والكرام الأسخياء، له ثروة وحشمة وتجمُّل6197، وكان أفقه أهل الكوفة عليّ وابن مسعود وأفقه أصحابها علقمة، وكان أفقه أصحابه إبراهيم، وأفقه أصحاب إبراهيم حماد، وأفقه أصحاب حماد أبو حنيفة، وأفقه أصحابه أبو يوسف، وانتشر أصحاب أبي يوسف في الآفاق، وأفقههم محمد، وأفقه أصحاب محمد أبو عبد الله الشافعي6198 رحمهم الله تعالى. وقد توفي حماد سنة عشرين ومائة6199.
6 ـ المدرسة اليمنية:
…من أشهر علمائها من الصحابة الذين ساهموا في دخول الإسلام فيها معاذ بن جبل، علي بن أبي طالب وأبو موسى الأشعري وغيرهم ، ومن أراد التوسع فليراجع الرسالة العلمية للدكتور عبد الله الحميري، الحديث والمحدثون في اليمن في عصر الصحابة، ومن أشهر علماء التابعين في المدرسة اليمنية:
أ ـ طاووس بن كيسان:(3/342)
…فقيه أهل اليمن وقدوتهم، وأعلمهم بالحلال والحرام من سادات التابعين، روى عن ثلة من الصحابة الكرام، كزيد بن ثابت وأبي هريرة، وزيد بن أرقم، وابن عباس وهو معدود من كبراء أصحابه6200. وروى عن معاذ مرسلاً6201. كان من أبناء الفرس الذين جهزهم كسرى لأخذ اليمن له6202، كان فقيهاً جليلاً بركة لأهل اليمن6203. أدرك خمسين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم6204. قال له عمر بن عبد العزيز في عهد سليمان: أرفع حاجتك إلى أمير المؤمنين. قال: ما لي إليه حاجة فكأن عمر عجب من ذلك6205. ومن أقواله: لا يتم نسك الشاب حتى يتزوج6206. وقال: البخل أن يبخل الرجل بما في يديه، والشح أن يحب أن يكون له ما في أيدي الناس6207. وقال عنه قيس بن سعد الطاووس فينا مثل ابن سيرين فيكم. وقال بن المديني: كان سفيان لا يعدل من أصحاب ابن عباس بطاووس أحد6208. وكان رحمه معتزلاً الأمراء والسلاطين إلا إذا أكره على عمل لهم، وإذا طلب أداء نصيحة فإنه لا يجامل أحداً ويصدع بالحق، توفي بمكة سنة ست ومائة للهجرة6209.
ب ـ وهب بن منبه:(3/343)
…أبو عبد الله وهب بن منبه من أبناء فارس كان ينزل ذمار6210. وكان ممن قرأ الكتب ولزم العبادة وواظب على العلم وتجرد للزهادة6211. وقال عنه الذهبي: الإمام العلامة، الأخباري القصصي. وقال العجلي: تابعي ثقة كان على قضاء صنعاء وذكره شيرازي في فقهاء التابعين باليمن6212. وكان صاحب حكمة وفطنة، وكان له أثر في محاربة الخوارج في اليمن وتحذير الناس من آرائهم6213، وإليك حواره مع أبي شمَّر الخولاني لما دخل على وهب بن منبه برفقة داود بن قيس، وتكلم داود لوهب وقال عن صاحبه أبي شمّر الخولاني إنه من أهل القرآن والصلاح، والله أعلم بسريرته، فأخبرني أنه عرض له نفر من أهل حروراء ـ يعني الخوارج ـ فقالوا له: زكاتك التي تؤديها إلى الأمراء لا تجزئ عنك، لأنهم لا يضعونها في موضعها، فأدها إلينا، ورأيت يا أبا عبد الله أن كلامك أشفى له من كلامي، فقال: يا ذا خولان أتريد أن تكون بعد الكبر حرورياً تشهد على من هو خير منك بالضلالة؟ فماذا أنت قائل لله غداً حين يقفك الله؟ ومن شهدت عليه، فالله يشهد له بالإيمان، وأنت تشهد عليه بالكفر، والله يشهد له بالهدى وأنت عليه بالضلالة، فأين تقع إذا خالف رأيك أمر الله وشهادتك شهادة الله؟ أخبرني يا ذا خولان ماذا يقولون لك؟ فتكلم عن ذلك وقال لوهب: إنهم يأمرونني أن لا أتصدق إلا على من يرى رأيهم ولا أستغفر إلا له، فقال: صدقت، هذه محنتهم الكاذبة، فأما قولهم في الصدقة، فإنه قد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن امرأة من أهل اليمن دخلت النار في هرة ربطتها6214، أفإنسان مما يعبد الله يوحده ولا يشرك به أحب إلى الله أن يطعمه من جوع أو هرة؟ واله يقول: ((وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا)) (الإنسان ، الآية : 8). وأما قولهم لا يستغفر إلا لمن يرى رأيهم أهم خير أم الملائكة، والله يقول: ((وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ)) (الشورى ، الآية :(3/344)
5) فوالله ما فعلت الملائكة ذلك حتى أمروا به ((لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)) (الأنبياء ، الآية : 27). وجاء ميسراً ((وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا)) (غافر ، الآية : 7)، واستمر معه في الحوار والنقاش إلى أن قال ذو خولان: فما تأمرني؟ قال: انظر زكاتك فأدها إلى من ولاه الله أمر هذه الأمة، وجمعهم عليهم، فإن الملك من الله وحده وبيده يؤتيه من يشاء فإذا أديتها إلى والي الأمر برئت منها، وإن كان فضل فصل به أرحامك ومواليك وجيرانك والضيف، فقال: أشهد إني نزلت عن رأي الحرورية6215. توفي وهب رحمه الله سنة عشر ومائة في خلافة هشام بن عبد الملك6216، وقيل إن يوسف بن عمر والي اليمن ضربه حتى قتله6217، ولعل ذلك بسبب موقف وهب من جور يوسف بن عمر المشهور بعنفه وظلمه6218.
7 ـ المدرسة المصرية:
…تكونت في مصر مدرسة كان شيوخها من الصحابة الذين رحلوا إليها أيام الفتح ونزلوا في موضع الفسطاط والأسكندرية، ومن هؤلاء عمرو بن العاص، عبد الله بن عمرو بن العاص، الزبير بن العوام، وكان من أكثر الصحابة تأثيراً في مصر عقبة بن عامر رضي الله عنه6219، وغير ذلك من الصحابة يرجع إليهم الفضل في دعوة الناس وتوجيههم نحو دينهم6220، وجاءت طبقة التابعين، وكان منهم أئمة ودعاة، ومن هؤلاء:
…يزيد بن أبي حبيب: الإمام الحجة، مفتي الديار المصرية أبو رجاء الأزدي كان من جلة العلماء العاملين، ارتفع بالتقوى مع كونه مولى أسود6221. قال عنه الليث بن سعد: يزيد بن أبي حبيب سيدنا وعالمنا6222. توفي سنة ثمان وعشرين ومائة6223.
8 ـ مدرسة شمال إفريقيا:(3/345)
…دخل القادة الفاتحون شمال إفريقيا وكان على رأسهم عمرو بن العاص ثم عبد الله بن سعد بن أبي السرح رضي الله عنهم ثم تابع معاوية بن حديج فتح إفريقية، وولى معاوية بن أبي سفيان على مصر وإفريقية، وجاء بعده عقبة بن نافع الفهري فاختط مدينة القيروان، وسار في الناس سيرة حسنة وكان من خيار الولاة والدعاة، الذين جاهدوا ودعوا بالسيف والكلمة ثم قام على إفريقية ولاة صالحون ساروا على النهج نفسه6224. وفي عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز بعث إسماعيل بن أبي المهاجر والياً على إفريقية سنة مائة، فكان داعية إلى الإسلام بلسانه وأعماله وأخلاقه، فأحبه الناس، وأحبوا دينه، وحرص على دعوة البربر إلى الإسلام، فاستجابوا لدعوته، وأسلموا على يديه، واهتم إسماعيل بتعليم الناس أحكام الشريعة، وتفقيههم في الحلال والحرام وكان عمر بن عبد العزيز بعث معه عشرة من التابعين من أهل العلم والفضل، وأهل إفريقية يومئذ من الجهل بحيث لا يعرفون أن الخمر حرام حتى وصل هؤلاء فعلموا الناس الحلال والحرام6225، وسيأتي الحديث عن الفقهاء العشرة في محله بإذن الله ومن خلال ما سبق من الحديث عن المدارس العلمية يظهر أهمية توريث العلم والخبرات الدعوية عند السلف وامتداد ذلك يشمل أقاليم الدولة الإسلامية ونستفيد أيضاً أهمية تفريغ مجموعة من أذكياء الأمة للتعلم والتعليم والافتاء والإرشاد والوعظ ونشره بين الناس.
رابعاً : منهج التابعين في تفسير القرآن الكريم:
سلك التابعون منهاجاً واضحاً في تفسير القرآن الكريم، فكانوا يفسرون القرآن بالقرآن، والقرآن بالسنة، والقرآن بأقوال الصحابة، واللغة العربية، والاجتهاد وقوة الاستنباط
1 ـ تفسير القرآن بالقرآن:
تعددت طرق التابعين في تفسير القرآن بالقرآن ومن هذه الطرق:(3/346)
أ ـ نظائر القرآن الكريم: كتفسير الآية بآية أخرى تحمل الموضوع نفسه وإن اختلف اللفظ وقد أكثر التابعون من ذلك ومن ذلك ما ورد عن مجاهد في تفسير الكلمات في قوله تعالى: ((فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ)) (البقرة، الآية:37). قال: قوله((قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا)) (الأعراف، الآية23). حتى فرغ منها6226. وجاء عن عكرمة، والحسن في تفسير قوله تعالى: ((وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا)) (الإسراء، الآية:110). قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى يجهر بصلاته، فآذى ذلك المشركين بمكة حتى أخفى صلاته هو وأصحابه، فلذلك قال: ((وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا)). وقال في الأعراف: ((وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ)) (الأعراف، الآية:205). وفي تفسير قوله تعالى: ((قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ))(البقرة، الآية:94) .قال قتادة: وذلك أنهم قالوا: ((لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى)) (البقرة، الآية:111). وقالوا: ((نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)) (المائدة، الآية:18). فقيل لهم((فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ))6227(البقرة ، الآية : 94).(3/347)
ب ـ الأشباه: والمراد بالأشباه تفسير الآية بما يشبهها من الآيات كتفسير الآية بالآيات التي تحمل بعض معناها مع تقارب اللفظ6228، فمن ذلك ما ورد عن مجاهد في تفسير النفس بالغير، فإنه قال في تفسير قوله تعالى: ((لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا)) (النور، الآية:12). قال لهم خيراً، ألا ترى أنه يقول((وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)) (النساء، الآية:29). يقول: بعضكم بعضا و((فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ)) (النور، الآية:61). قال يسلم بعضكم على بعض6229. ففسر مجاهد هنا النفس بالغير واستدل بورود ذلك في آيات متشابهة في القرآن تدل على هذا الجزء من المعنى6230.
ج ـ الدلالة على التفسير بالسياق: وفي هذا النوع يلحظ المفسّر منهم سياق الآية فيربطها بما قبلها، أو بما بعدها سواء كان ذلك في الآية نفسها، أو في مجموعة من الآيات6231، مثل تفسير قوله تعالى: ((وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ)) (الأنعام ، الآية : 83). قال مجاهد في تفسيرها: هي ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ 6232)) (الأنعام ، الآية : 82).(3/348)
ح ـ بيان المجمل: وفي هذا الطريق يقوم المفسر بالنظر في آيات القرآن التي فيها إجمال، وينظر في الآيات الأخرى التي يمكن أن تكون بياناً لهذا الإجمال، كحمل المجمل على المبين ومن ذلك ما ورد عن مجاهد في تفسير قوله تعالى: ((خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا)) (نوح ، الآية : 14): قال : من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم ما ذكر حتى يتم خلقه6233. فأشار بقوله إلى الآيات التي فيها ذكر ذلك مثل قوله تعالى: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)) (المؤمنون ، الآيات 12 ، 14).
خ ـ تفسير العام بالخاص: وفي هذا يعمد المفسر منهم إلى آية ظاهرها العموم فيحملها على معنى آخر ذكرت فرداً من أفراد العموم6234، كقوله تعالى : ((مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)) (النساء ، الآية : 123). قال الحسن البصري: الكافر ثم قرأ: ((وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ)) قال: من الكفار6235. وفي رواية عنه قال: (وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ)) يعني الكفار، لا يعني بذلك أهل الصلاة6236. فالآية الأولى جاء فيها العموم في لفظة ((من)) ليعم المؤمن والكافر، فجاء الحسن فبين أنها خاصة بالكافر مستدلاً بأسلوب الحصر في الآية الثانية6237. وأصرح من ذلك ما جاء عنه في تفسير الآية نفسها أنه قال: ((مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)) (النساء ، الآية : 123) إنما ذلك لمن أراد الله هوانه، فأما من أراد كرامته، فإنه من أهل الجنة ((وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ)) (الأحقاف ، الآية : 166238).(3/349)
ر ـ التفسير باللازم: المراد بالتفسير باللازم أن المفسر لا يذكر صراحة تفسيراً للآية التي هو بصددها، بل يذكر شيئاً من لوازم ذلك، ويربطه بآية أخرى، فمن ذلك ما جاء عن سعيد بن جبير في تفسير قوله تعالى: ((إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)) (البقرة ، الآية 156)، فقد قال: لو أعطيها أحد لأعطيها يعقوب، ألم تسمع: ((يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ 6239)) (يوسف ، الآية : 84). أنه لم يكن يعرف ((إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ))، وإلا لقالها، بدلاً من تأسفه على ذهاب يوسف6240.
ز ـ توضيح المبهم: ومن طرق التفسير التي اتبعها التابعون ـ أيضاً ـ إيضاح مبهم آية بآية أخرى لإزالة الإبهام6241، ومن ذلك ما قام به عكرمة من رفع الإبهام الواقع في لفظه ((الحين)) استدل بالآية التي تبين أن المراد منه سنة فعنه أنه قال: أرسل إليّ عمر بن عبد العزيز فقال: يا مولى ابن عباس: إني حلفت أن لا أفعل كذا وكذا حيناً، فما الحين الذي تعرف به؟ قلت: إن من الحين حيناً لا يدرك، ومن الحين حين يدرك، وأما الحين الذي لا يدرك فقول الله: ((هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا)) (الإنسان ، الآية : 1). والله ما يدري كم أتى له إلى أن خلق، وأما الذي يدرك فقوله: ((تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا)) (إبراهيم ، الآية : 25). فهو ما بين العام إلى العام المقبل، فقال: أصبت يا مولى ابن عباس، ما أحسن ما قلت6242.(3/350)
س ـ بيان معنى (لفظ)، أو إيضاح مشكلة: وقد كثر هذا النوع في تفسير التابعين فصاروا يتناولون آيات القرآن بالتفسير بآيات أخرى تبين هذا المعنى، وتلكم الألفاظ6243، ومثال ذلك كتفسير الحسن البصري ((يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ)) (النازعات ، الآية : 6). قال: النفختان، أما الأولى فتميت الأحياء، وأما الثانية فتحي الموتى ثم تلا الحسن: ((وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ6244)) (الزمر ، الآية : 68). والأمثلة كثيرة على تفسير التابعين للقرآن بالقرآن، ومن أراد المزيد فليراجع تفسير التابعين6245.(3/351)
2 ـ تفسير القرآن بالسنة: لا شك أن السنة مبينة للقرآن موضحة له قال الشاطبي: وهي راجعة في معناها إلى الكتاب، فهي تفصيل مجمله وبيان مشكله، وبسط مختصره6246، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو أعلم بكلام الله وأكثر قدرة على فهم نصوص الآيات من غيره مع ما أوحاه الله تعالى من المعاني، فهو صلى الله عليه وسلم: ((وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)) (النجم ، الآية : 3)، وقال صلى الله عليه وسلم: ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه6247. يقول ابن تيمية: فإن قال قائل، فما أحسن طرق التفسير؟ فالجواب أن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن... إلى أن يقول ـ فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن، قال تعالى: ((إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا)) (النساء ، الآية : 105) . وقال تعالى : ((وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)) (النحل ، الآية : 44). وقال تعالى: ((وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) (النحل ، الآية : 646248). وقد اتفق العلماء على أن الأخذ بالسنة واجب والعمل بها حتم وتحكيمها فرض بل جاء عن مكحول التابعي أنه قال: القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن6249. وقد كثر عن التابعين النقول التي تدل على شدة متابعتهم للسنة، قال ربيعة للزهري: إذا سُئلت عن مسألة فكيف تضع؟ قال: أحدث فيها بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم فعن أصحابه، فإن(3/352)
لم يكن عن أصحابه اجتهدت رأيي6250، ومما يدل على عظيم احتفائهم وعنايتهم بالمروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قل أن نجدهم يخالفون ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من تفسيره وفيما يلي بعض الأمثلة الدالة على ذلك:
أ ـ فمن هذا ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله((غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)) (الفاتحة، آية:6). قال صلى الله عليه وسلم: اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضلال6251. وبذلك فسرها: مجاهدٍ6252، وسعيد بن جبير6253وغيرهما. قال ابن حاتم: لا أعلم خلافاً بين المفسرين في تفسير((الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)) باليهود، و((الضَّالِّينَ)) بالنصارى 6254.
ب ـ ومنه أيضاً ما صح عنه صلى الله عليه وسلم في بيان قوله: ((وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)) (البقرة ، الآية 187). قال صلى الله عليه وسلم: هو سواد الليل وبياض النهار6255، ولم يخالف في ذلك أحد من التابعين وبه قال الحسن6256، وقتادة6257.
جـ ـ من ذلك ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام في تفسير معنى الظلم الذي ورد في قوله تعالى: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)) (الأنعام ، الآية : 82). قال صلى الله عليه وسلم حين شق ذلك على أصحابه فقالوا: أيُّنا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال: ليس بذلك ألم تسمعوا قول لقمان: ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم 6258)). وهذا هو المنقول عن التابعين قال به: إبراهيم النخعي، وقتادة، ومجاهد، وسعيد بن جبير6259.(3/353)
س ـ ومنه ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في تفسير للسبع المثاني في قوله تعالى: ((وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)) (الحجر ، الآية : 87). قال صلى الله عليه وسلم لأبي سعيد بن المعلى: ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد؟ فذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج، فذكرته، فقال: الحمد لله رب العالمين، هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته6260. وهذا التفسير هو المروي عن سعيد بن جبير والحسن، ومجاهد، وقتادة6261.
ش ـ ومن ذلك بيانه صلى الله عليه وسلم لمعنى: الأمة الوسط، التي وردت في قوله تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)) (البقرة، آية: 143). ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:(( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)) قال((عَدُولاً))6262وبهذا التفسير قال: مجاهد، وعطاء وقتادة6263. هذه بعض الأمثلة التي اعتمدها التابعون في تفسير القرآن الكريم بالسنة النبوية.
3 ـ تفسير القرآن بأقوال الصحابة:
…إن التابعين ما علموا كيفية التلقي من الكتاب والسنة وكذلك الاجتهاد، ونحو ذلك إلا بسبب تربيتهم على أيد الصحابة وخبرتهم بمناهجهم الاستدلالية، وتعلمهم لطرق الاستنباط وتلقيهم الرواية النبوية، ورؤيتهم التطبيق العملي لذلك كله ولقد استوعب التابعون رسالة الصحابة وعرفوا فضلهم، فها هو مجاهد يقول: العلماء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم6264، وكان التابعون يقدمون قول الصحابي على قولهم يقول الشعبي: إذا اختلف الناس في شيء فانظر كيف صنع عمر؟ فإن عمر لم يكن يصنع شيئاً حتى يشاور، فقال أشعث ـ راوي الأثر ـ فذكرت ذلك لابن سيرين فقال: إذا رأيت الرجل يخبرك أنه أعلم من عمر فأحذره6265، وكان منهج التابعين في الأخذ عن الصحابة يدور حول:(3/354)
أ ـ إذا كان تفسير الصحابي يرفعه للنبي صلى الله عليه وسلم، فهذا هو المطلب الرئيس، والغاية القصوى، وليس بعده قول، وكذلك ما كان من تفسير الصحابي، وهو وارد في سبب النزول بالصيغة الصريحة6266، وكذلك فيما لا مجال للرأي فيه، فهذا يقف عنده لا يجاوزونه، لأن الصحابي شاهد التنزيل، ومثال ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى: ((حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ)) (الأنعام، آية: 61). فقد قال فيها ابن عباس رضي الله عنهما: إن لملك الموت أعواناً من الملائكة رواه عنه إبراهيم6267. ولذ جاءت الرواية من تفسير إبراهيم نفسه بالاقتصار على قول ابن عباس ولم يزد عليه شيئاً فقال: أعوان ملك الموت6268، وكذا جاء عن قتادة، ومجاهد والربيع6269.
ب ـ وإذا كان التفسير الوارد عن الصحابي من باب الاجتهاد، وجار على مقتضى اللغة، فإنهم في الغالب لا يخالفونه، فإن الصحابة أهل اللسان والبيان والفهم، ولأجل ذلك اعتمد مجاهد تفسير ابن عباس دون غيره عندما تعرض لتفسير قوله تعالى: ((فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ)) (الأنعام، آية: 98). فقد قال ابن عباس: المستقر بالأرض والمستودع عند الرحمن6270. وجاءت رواية عن ابن عباس: أن المستقر في الرحم، والمستودع في الصلب6271، موافقة للرواية الثانية لشخصية، وهكذا كان حال ابن جبير في تفسير الآية6272.(3/355)
ج ـ إذا تعارضت الأقوال المنقولة في الصحابة، فإن التابعين يسلكون مسلك الترجيح بينها، والترجيح قد يكون باللغة، أو بالحديث أو بقول صحابي آخر يجمع بين الأقوال، فمن الأول ما جاء في تفسير قوله تعالى: ((أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)) (الإسراء، آية: 78). جاء عن ابن عباس في تفسيرها أن دلوكها غروبهاً6273، وجاء عنه أن دلوكها: زيغها بعد نصف النهار6274، وجاء عن ابن مسعود أن دلوكها غروبها6275، وجاء عنه أيضاً أن دلوكها ميلها يعني: الزوال6276. فاختار قتادة أن دلوكها زوالها، ففسرها به6277، مع أنه نقل القول بغروبها عن ابن مسعود6278، ولعل سبب هذا الاختيار هو أن اللغة تدل على أن الدلوك هو الميل، فيكون المراد صلاة الظهر، ورجحه ابن جرير، وناقش الأول6279، وقد يكون الترجيح لأثر مرفوع، ومنه ما جاء عن قتادة وهو يحدث عن سعيد بن المسيب، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى، وشبك بين أصابعه6280، فرجح الحسن أنها صلاة العصر6281، متابعاً في ذلك عدداً من الصحابة رضي الله عنهم، والمرجح هنا هو الأثر المرفوع الذي رواه الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصلاة الوسطى صلاة العصر6282. وقد يكون الترجيح بقول صحابي آخر يقدِّم به عموم الآية على ما. ما ورد في خصوصها، ويجمع به بين الأقوال، فمن ذلك تفسيرهم لقوله تعالى: ((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)) (الكوثر ، الآية : 1). فقد جاء تفسير الكوثر عن جمع من الصحابة أنه نهر في الجنة6283، وعن ابن عباس أنه الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه6284، وتابعه على ذلك سعيد بن جبير، فقال أبو بشر لسعيد: إنا كنا نسمع أنه نهر في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه6285 فهنا رجح ابن جبير العموم في الآية مستنداً لقول ابن عباس، ولم يذهب إلى الخصوص الأثر الوارد في ذلك، أما إذا لم يكن ثمة مروي عن الصحابة في ذلك، فعندئذ يدخل منهم من يدخل(3/356)
في باب الاجتهاد6286. وقد أدت الرواية عن الصحابة والاعتماد عليها في التفسير إلى ظهور نتائج وآثار ترتبت على ذلك منها، حفظ أخبار الصحابة ومعرفة دقيق أحوالهم والتمييز بينهم، والالتزام بمناهجهم والإفادة منها، وتبني أقوالهم6287.
4 ـ اللغة العربية: لقد تنوعت مشارب التابعين في اعتمادهم على اللغة وجعلها مصدراً من مصادر التفسير وذلك لعدة أسباب منها معرفة لغة العرب ومعرفة عادات العرب وأخبارهم، والإلمام بأشعار العرب، ومعرفة فقه اللغة من الاشتقاق، والإيجاز والحذف، والتقديم والتأخير، وغير ذلك من الأسباب6288.
5 ـ الاجتهاد: ظهرت اجتهادات التابعين في التفسير، حتى إبان عهد الصحابة، وشملت إجتهاداتهم مواطن كثيرة، غالبها مما سكت عنه الصحابة ومن أهمها:
أ ـ بيان المراد من النص، وذلك، إذا كان النص خفي الدلالة بسبب إجمال في اللفظ أو التركيب.
ب ـ استنباط بعض الأحكام من النصوص القرآنية.
ج ـ بيان الفروق بين ما تشابه من الكلمات، والمعاني، والتفسير بين النظائر.
س ـ العناية الفائقة بدقائق من علم الكتاب العزيز، كمباحث عد الآيات، والكلمات في القرآن الكريم6289 وغيرها، وقد كان لاجتهاد التابعين في تفسير الآيات مميزات منها:
ـ…تنوع عبارات الاجتهاد وتعددها.
ـ…الإيجاز غير المخل.
ـ…عمق التأمل ودقة التفسير.
ـ…قوة الاستنباط.
خامساً : جهود عمر بن عبد العزيز والتابعين في خدمة السنة:(3/357)
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كتابة غير القرآن في أول الأمر، مخافة اختلاط غير القرآن به، واشتغال الناس عن كتاب ربهم بغيره، ثم جاء بعد ذلك الإذن النبوي بالكتابة والإباحة المطلقة لتدوين الحديث الشريف فنسخ الأمر، وصار الأمر إلى الجواز6290. وقد ثبت أن كثيراً من الصحابة قد أباحوا تدوين الحديث وكتبوه لأنفسهم، وكتب طلابهم بين أيديهم، وأصبحوا يتواصلون بكتابة الحديث وحفظه6291. وقام الجهابذة من أهل العلم، والغيورين من المسلمين بجهود جبارة لتدوين السنة المطهرة وجمع الحديث النبوي، وتنقيته من شوائب الوضع، وبذلوا في ذلك مهجهم وأوقاتهم، فأسهروا ليلهم، وضربوا في الأرض نهارهم، وأصَّلوا لذلك أصولاً، وقعّدوا قواعد، حتى أثمرت تلك الجهود المباركة هذه الدواوين العظيمة، التي يعكف المسلمون على قراءتها وحفظها والعمل بها والفضل كل الفضل لله ـ ثم لأولئك البررة الذين كانوا السبب في جمعها، وليس لهم مكافأة أعظم من أجر الله الجزيل لهم يوم القيامة إن شاء الله تعالى6292، ولعل طلائع التدوين الرسمي للحديث النبوي، الذين قامت به جهة مسؤولة في الدولة الإسلامية، كان على يدي عبد العزيز بن مروان ـ والد عمر ـ عندما كان أميراً على مصر كما مرّ معنا، بيد أن التدوين الذي آتى ثماره هو ما قام به أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، وقد تجلى ذلك في إرشاداته لكتابة العلم وتدوين الحديث، وأوامره للخاصة والعامة بذلك، فمن إرشاداته قوله: أيها الناس قيدوا العلم بالشكر، وقيدوا العلم بالكتابة6293، لكن أمير المؤمنين عمر لم يكتف بهذا الإرشاد العام والحض على حفظ العلم بكتابته، بل سعى ـ بحكمه خليفة المسلمين ـ إلى إصدار أوامره إلى بعض الأئمة العلماء بجمع سنن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حمله على ذلك ما رآه عند كثير من التابعين في إباحة كتابة الحديث، وهم قد حملوا علماً كثيراً، فخشي عمر على ضياعه، خاصة وأنه ليس دائماً(3/358)
تتوفر الحفظة الواعون لنقله، دونما احتياج إلى كتابة الكتب والرجوع إليها للاستذكار وثمة سبب آخر يضاهي سابقه في الأهمية، وهو فشوّ الوضع ودسّ الأحاديث المكذوبة، وخلطها بالصحيح من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بسبب الخلافات المذهبة والسياسية، وإلى هذا يشير كلام الإمام الزهري: لولا أحاديث تأتينا من قبل المشرق ننكرها لا نعرفها، ما كتبت حديثاً ولا أذنت في كتابه6294. ورأي الزهري هذا كان رأي كثير من أئمة ذلك العصّر، حيث خافوا على الحديث النبوي من الضياع، واختلاطه بالمكذوب، مما حفز العلماء… على حفظ السنة بتدوينها، وجاء رأي السلطة العليا ممثلاً بالخليفة الورع العالم المجتهد أمير المؤمنين عمر، فاتخذ خطوة حاسمة بتدوين سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل من مسؤوليات الدولة حفظ السنة المطهرة6295. وإليك خطواته ومجهوداته في هذا الشأن:
1 ـ كتب إلى الإمام الثبت أمير المدينة وأعلم أهل زمانه بالقضاء، أبي بكر بن حزم، يأمره بذلك، ففي صحيح البخاري: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاكتبه، فإن خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم ما لم يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً6296، وروى ابن سعد عن عبد الله بن دينار ـ قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن أنظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سنّة ماضية أو حديث عمرة بن عبد الرحمن، فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب أهله6297.(3/359)
2 ـ كذلك وجه كتاباً بهذا الشأن إلى الإمام الحجة ابن شهاب الزهري، فقد ذكر ابن عبد البر عن ابن شهاب قال: أمرنا عمر بن عبد العزيز، بجمع السنن، فكتبناها دفتراً دفتراً، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفتراً6298، وروى أبو عبيد أن عمر أمر ابن شهاب أن يكتب له السنّة في مصارف الزكاة الثمانية، فلبى الزهري أمره، وكتب له كتاباً مطولاً يوضح ذلك بالتفصيل6299. ومن هنا قال ابن حجر: وأول من دون الحديث ابن شهاب الزهري على رأس المائة بأمر عمر بن عبد العزيز، ثم كثر التدوين ثم التصنيف، وحصل بذلك خير كثير، فلله الحمد6300.
3 ـ بل إن عمر وجه أوامره إلى أهل المدينة جميعاً يأمرهم ويحثهم على جمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشارك في هذا كل من لديه علم، ولو كان بضعة أحاديث، فقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل المدينة: أن انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبوه، فإني قد خفت دروس العلم وذهاب أهله6301.
4 ـ ولم يقف عمر عند ذلك، بل عمَّمَ أوامره إلى جميع الأمصار في الدولة الإسلامية، ليقوم كل عالم بجمع وتدوين ما عنده من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما سمعه من أصحابه الكرام6302، وروى: انظروا حديث رسول الله صلى اله عليه وسلم فاجمعوه واحفظوه، فإني أخاف دروس العلم وذهاب العلماء6303.
…وقد اهتم عمر رضي الله عنه باللغة العربية: فشجع أهل البلاد المفتوحة على تعلمّها وإتقانها، وكان يغدق عليهم ـ لذلك ـ العطايا، كما أنه يعاقب من يلحن بالعربية وينقص من عطائه، لما يعلم من أهمية العربية في فهم كتاب الله والسنة النبوية الشريفة6304.
* ـ…منهج عمر بن عبد العزيز وطريقته في التدوين:
…اتبع عمر في جمع الحديث النبوي وتدوينه منهجاً سديداً قويماً وسلك فيه شروطاً صارمة ووضع له أبعاداً هادفة مفيدة. ويتجلى ذلك في أربع أمور:(3/360)
1 ـ حسن اختياره للقائمين بهذا الأمر: فأبو بكر بن حزم هو أحد أوعية العلم ومن أعلام عصره قال فيه الإمام مالك: ما رأيت مثل ابن حزم أعظم مروءة ولا أتمَّ حالاً، ولا رأيت من أوتي مثل ما أوتي: ولاية المدينة، والقضاء، والموسم. وقال: كان رجل صدق، كثير الحديث. وقال ابن سعد: كان ثقة عالماً كبير الحديث توفي 120هـ6305. وأما الزهري، فهو العالم العَلَم، حافظ زمانه، وشهرته ملأت الآفاق، قال فيه الليث بن سعد: ما رأيت عالماً قط أجمع من ابن شهاب، محدث في الترغيب والترهيب، فتقول: لا يحسن إلا هذا، وإن حدَّث عن العرب والأنساب، قلت: لا يحسن إلا هذا. وإن حدّث عن القرآن والسنة، كان حديثه وقال عمر بن عبد العزيز: عليكم بابن شهاب، فإنه ما بقي أحد أعلم بسنة ماضية منه6306.(3/361)
2 ـ أنه طلب ممّن يدوّن له السنة جمع الأحاديث مطلقاً وتدوينها، وتتبع أناس مخصوصين لما امتازوا بتدوين أحاديث معينة لأهميتها: فقد أمر ابن حزم بتدوين حديث عًمْرَة بنت عبد الرحمن لأنها من أثبت الناس بأم المؤمنين عائشة والسيدة عائشة هي أعلم الناس بأحوال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشؤونه الخاصة داخل بيته ومع أهله6307، وعمرة هذه هي: عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة الأنصارية النّجارية المدينة الفقيهة، تربية عائشة وتلميذتها، وجدّها سعد من قدماء الصحابة، وهو أخو النقيب الكبير أسعد بن زرارة، ذكرها ابن المديني فضخَّم أمرها وقال: عمرة إحدى الثقات العلماء بعائشة، الإثبات فيها6308. وقال الزهري: أتيتها فوجدتها بحراً لا يُنْزَف6309. توفيت عام 98هـ وقيل 106هـ6310. وذكرت إحدى الروايات أنه أمر ابن حزم بجمع التدوين حديث عمر بن الخطاب. وذلك لما يقصده ابن عبد العزيز من تتبع سيرة الفاروق وأقضيته وسياسته في الصدقات، وكتبه إلى عماله فيها وقد طلب ذلك أيضاً من سالم بن عبد الله بن عمر. وكل ذلك واضح من النهج الذي سلكه عمر بن عبد العزيز في الإقتداء بجده رضي الله عنهما6311. كذلك كتب إلى آل عمرو بن حزم أن ينسخوا له كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم في الصدقات، كي يسير عليه في خلافته وفي تسيير أمور رعيته6312.
3 ـ أنه ألزم من يدوّن السنة النبوية أن يميز الصحيح من السقيم، ويتحرى الثابت من الحديث، وذلك واضح في رواية الدارمي حيث يقول عمر لابن حزم: اكتب إليَّ بما ثبت عندك من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحديث عمر. وعند الإمام أحمد في العلل: أكتب إلي من الحديث بما ثبت عندك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديث عَمْرَة6313. وهذه نقطة عظيمة الأهمية في تأسيس منهج التدوين على أسس راسخة، ثابتة صحيحة، قويمة مستقيمة6314.(3/362)
4 ـ تثبته من صحة الحديث والتحديث: فعمر من كبار العلماء، وليس بأقل شأناً في العلم ممن أمرهم بالتدوين، لذلك قام بمشاركة العلماء في مناقشة بعض ما جمعوه، زيادة في التثبيت6315، من ذلك ما رواه أبو الزناد عبد الله بن ذكوان القرشي قال: رأيت عمر بن عبد العزيز جمع الفقهاء، فجمعوا له أشياء من السنن، فإذا جاء الشيء الذي ليس العمل عليه قال: هذه زيادة ليس العمل عليها6316.
* ـ…ثمرة هذا التدوين:
…لقد آتت هذه الجهود الباكرة المباركة بعض أكلها، وتمثل ذلك بتلك الدفاتر التي جمعها الإمام الزهري، فأمر عمر بن عبد العزيز بنسخها عدة نسخ، ثم أرسل إلى كل بلد في دولته الكبيرة دفتراً منها، ويلاحظ أن كثيراً من العلماء جمع لنفسه مسموعاته، ليعود إليها كلما وجد في نفسه الحاجة إلى إتقان حفظها، أما التدوين الرسمي الذي تولّته الدولة، وعممت ثمرته على الأمصار ، فكان بأمر عمر بن عبد العزيز، ومن الثمرات الطيبة ـ أيضاً ـ ذلك المنهج السديد الذي اتبعه أمير المؤمنين عمر، بوضع الأسس والنقاط الهامة أثناء التدوين، فكانت نواة لمنهج واسع متكامل جاء بعده، وهذا كله ناتج من دقة فهمه، وغزارة علمه، ونفاذ بصيرته، وقبل ذلك وبعده توفيق الله تعالى له، ولئن كان عمر بن الخطاب قد أشار على الصديق بجمع القرآن، ففعل، فكان لهما الفضل الكبير على الأمة. ثم جاء عثمان فجمع الناس على مصحف واحد، وحرف واحد، ولهجة واحدة هي لهجة قريش، فإن الله سبحانه قد ادّخر لعمر بن عبد العزيز ـ نحسب ذلك ولا نزكي على الله أحد ـ تلك المنقبة العظيمة، والمكرمة الجليلة، في إصدار أوامر الخلافة بجمع السنة وتنقيحها وتدوينها، وجعل من الدولة حماية السنة التي هي المصدر الثاني للتشريع. وهذا من توفيق الله للعظماء، وكبار المصلحين، عندما تخلص سرائرهم، لله يوفقهم الله للحق ويدلهم على الخيرات، ويسدّد خطواتهم، ويهيء لهم من أمرهم رشداً6317.
…قال الشعر الليبي أحمد رفيق المهدوي:(3/363)
…………فإذا أحب الله باطن عبده
……………………ظهرت عليه مواهب الفتّاح
وإذا صفت لله نية مصلح
…………مال العباد عليه بالأرواح6318
…ويعتبر ((التدوين الرسمي)) بحق أحد الأعمال العظيمة والإنجازات الكبيرة التي تحققت في عهد عمر بن عبد العزيز6319 رحمه الله.
* ـ…جهود التابعين في خدمة السنة النبوية الشريفة:
…تحمل التابعون الحديث النبوي عن الصحابة وضبطوا الإسناد مع الدقة والإتقان، وأصبح الحديث أمانة في أعناقهم عليهم أن يجتهدوا في تبليغها وإيصالها إلى من وراءهم لاسيما وقد ظهر في عصرهم بسبب الخلافات السياسية والكلامية وبسبب الزندقة المتمثلة في التظاهر بالإسلام مع كراهيته، ديناً، ودولة، وبسبب التعصب للجنس، واللغة والقبيلة، والبلد، وبسبب التكسب والارتزاق عن طريق القصاص والوعظ وبسبب الجهل من بعض الزهاد والعباد وغير ذلك من الأسباب، ظهر الكذب والوضع في الحديث، فانبرى هؤلاء يؤدون الأمانة ويقومون بواجبهم في مواجهة الكذابين والوضاعين، وكانت لهم في ذلك جهود ضخمة مشكورة6320 يمكن تلخيصها في الآتي:
1 ـ الالتزام بالإسناد ومطالبة الغيرية:
أ ـ قال ابن سيرين: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة، فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم6321.
ب ـ جاء عن عتبة بن أبي الحكم: أنه كان عند إسحاق بن أبي فروة وعنده الزهري، قال: فجعل ابن أبي فروة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:... فقال له الزهري: قاتلك الله يا ابن أبي فروة ما أجرأك على الله لا تسند حديثك، تحدثنا بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة6322.
2 ـ عقد الحلقات العلمية:
…يقول ابن سيرين: قدمت الكوفة، وللشعبي حلقة علمية عظيمة، والصحابة يومئذ كثير6323. وعن ابن شهاب قال: كان يقص لنا سعيد بن جبير كل يوم مرتين: بعد الفجر، وبعد العصر6324.(3/364)
3 ـ الحرص على أداء الحديث على وجهه: يعني روايته بلفظه، فإن لم يتيسر ذلك رووه بالمعنى مراعين شروطه وضوابطه المعروفة6325. فعن ابن عون قال: كان إبراهيم، والشعبي، والحسن، يأتون بالحديث على المعاني، وكان القاسم، وابن سيرين، ورجاء يعيدون الحديث على حروفه6326. وقال ليث بن أبي سليم: كان طاووس يعد الحديث حرفا حرفا6327، وقال جرير بن حازم: سمعت الحسن يحدث بالحديث: الأصل واحد، والكلام مختلق6328.
4 ـ وضع معايير علمية لمعرفة حال الرواة تجريحاً وتعديلاً:
…ـ مثل مقابلة روايات الضابطين ببعضها، كقول ابن شهاب الزهري: إذا حدثني عَمْرَة ثم حدثني عروة صدق عندي حديث عمرة حديث عروة، فلما تبحرتهما إذا عروة بحر لا ينزف6329.
…ـ أو مقابلة حديث الراوي بحديث نفسه ولكن على فترات متباعدة: كما جاء أن هشام بن عبد الملك أراد التأكد من حفظ الزهري، فاختبره بنفسه حيث سأله أن يملي على بعض ولده فدعا بكتاب، فأملى عليه أربعمائة حديث، ثم إن هشاماً قال له بعد شهر أو نحوه، يا أبا بكر إن ذلك الكتاب ضاع، فدعا، بكتاب فأملاها عليه، ثم قابله هشام بالكتاب الأول فما غادر حرفاً6330.
…ـ أو بقلب الأسانيد والمتون: كما جاء عن حماد بن سلمة قال: كنت أسمع أن القصاص لا يحفظون الحديث، فكنت أقلب الأحاديث على ثابت: أجعل أنسا لابن أبي ليلى وبالعكس أشوشها عليه فيجئ بها على الاستواء6331.
…ـ ومن معرفة المبتدع بإعراضه عن السنة إلى القرآن: عن أبي قلابة: قال: إذا حدثت الرجل بالسنة فقال: دعنا من هذا، وهات كتاب الله فأعلم أنه ضال6332.
…ـ ومن ضرورة حفظ القرآن قبل الاشتغال بالحديث: عن حفص بن غياث قال: أتيت الأعمش فقلت: حدثني، قال: أتحفظ القرآن؟ قلت: لا قال: أذهب، فاحفظ القرآن، ثمّ هلمّ أحدثك، قال: فذهبت فحفظت القرآن، ثم جئته فاستقرآني، فقرأته، فحدثني.
5 ـ إجابة المستفتين، والقضاء بين الناس:(3/365)
كان من جهود التابعين في خدمة أداء: إجابة المستفتين، والقضاء به بين الناس، هذا علقمه بن قيس النخعي يتفقه به أئمة، كإبراهيم، والشعبي، ويتصدى للإمامة والفتيا بعد علي وابن مسعود، وكان يشبه بابن مسعود في هديه، ودله، وسمته وكان طلبته يسألونه ويفقهون به، والصحابة متوافرون6333. وعن أبي الزناد قال: كان الفقهاء السبعة الذين يسألون بالمدينة، وينتهي إلى قولهم: سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وعروة، والقاسم، وعبيد الله بن عبد الله وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسار6334. ولا شك أن إجابة المستفتين والقضاء بين الناس ما كان لهما أن يظهرا على أرض الواقع مع الدعة والراحة والنوم، وإنما تتطلبا جهداً ووقتاً ونفقة للإعداد والتحضير، ثم الأداء6335.
6 ـ بيان حال الرواة لمعرف من يحتج بحديثه ومن لا يحتج6336:
…كان من جهود التابعين في خدمة الحديث النبوي أداء بيان حال الرواة لمعرفة من يحتج بحديثه ومن لا يحتج.
أ ـ عن محمد بن سيرين قال: أدركت أهل الكوفة وهم يقدمون خمسة: من بدأ بالحارث الأعور ثنى بعبيدة السلماني، ومن بدأ بعبيدة ثنى بالحارث، ثم علقمة، ثم مسروق، ثم شريح6337.
ب ـ وعن قتادة قال: إذا اجتمع لي أربعة لم ألتفت إلى غيرهم، ولم أبال من خالفهم: الحسن، وابن المسيب، وإبراهيم، وعطاء هؤلاء أئمة الأمصار6338.
…هذه هي أهم الجهود التي بذلوها في خدمة الحديث النبوي ومن أراد التوسع فليراجع السنة قبل التدوين6339 للدكتور محمد عجاج الخطيب، والتابعون وجهودهم في خدمة الحديث النبوي .
سادساً : منهج التزكية والسلوك عند التابعين مدرسة الحسن البصري مثالاً:
* ـ الحسن البصري في عهد عمر بن عبد العزيز والدولة الأموية:(3/366)
يعتبر الحسن البصري من المعاصرين لعمر بن عبد العزيز، كما أنه كان له تأثير واضح في الحياة الدينية والإجتماعية في عهد الدولة الأموية والحسن البصري هو أبو سعيد الحسن بن يسار ـ مولى زيد بن ثابت رضي الله عنه، من كبار التابعين، وإمام أهل البصرة، وحبر الأمة وقتها، وأمه ((خيرة)) مولاة أم المؤمنين أم سلمة ـ رضي الله عنها. ولد عام 21هـ في المدينة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ويقال الحسن أرضعته ـ أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ حيث كانت أمه ـ خيرة ـ تخرج لشراء بعض الحاجيات، فيبكي الطفل فتأخذه أم سلمة بين يديها، وتضعه في حجرها، وتلقمه ثديها، فيدر الثدي لبناً، فيرضع الحسن، وبذلك تكون أمه من الرضاعة، وقد كانت فصاحته وعلمه من هذه البركة ومن البديهي أن يتعرف الطفل الصغير على بيوت أمهات المؤمنين وينهل من معينهن، ويتأدب بأدبهن ويتخلق بأخلاقهن، ومن جهة أخرى يتتلمذ على كبار الصحابة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأبي موسى الأشعري، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين، وانتقل مع أبويه فيما بعد إلى ((البصرة)) وإليها ينسب فيقال الحسن البصري، وكان عمره وقتها أربع عشرة سنة، فلزم مسجد البصرة ينهل من معين علمائها وخاصة حلقة حبر الأمة وعالمها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وما هو إلا قليل حتى التف الناس حوله، وقصدوه من كل حدب وصوب، وكما قيل فيه كان قوله كفعله، لا يقول ما لا يفعل. سريرته كعلانيته، إذا أمر بمعروف كان أعمل الناس به، وإذا نهى عن منكر كان أنزل الناس له، مستغنياً عما في أيدي الناس، زاهداً به، والناس محتاجون إليه بما عنده6340.(3/367)
1 ـ أسباب تأثيره في قلوب الناس: جمع الله فيه من الفضائل والمواهب ما استطاع به أن يؤثِّر في قلوب الناس، ويرفع به قيمة الدين وأهل الدين في المجتمع، فقد كان واسع العلم غزير المادة في التفسير والحديث، ولم يكن لأحد في ذلك العصر أن ينشر دعوته ويقوم بالإصلاح، إلا إذا كان متوفراً على هذين العلمين وقد أدرك الصحابة وعاصر كثيراً منهم ويظهر من حياته ومواعظه أنه درس هذا العصر دراسة عميقةـ وأدرك روحه وعرف كيف تطور المجتمع الإسلامي، ومن أين انحرف، وكان واسع الإطلاع، دقيق الملاحظة للحياة ومختلف الطبقات وعوائدها وأخلاقها وعِللها وأدوائها، كطبيب مارس العلاج مدة6341، وكان مع ذلك غاية في الفصاحة وحلاوة المنطق والتأثير في مستمعيه يقول أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحسن البصري، والحجاج بن يوسف والحسن أفصح منه6342، وكان آية في اتساع المعلومات ووفور العلم، قال الربيع بن أنس: اختلفت إلى الحسن عشر سنين، وما من يوم إلا أسمع منه ما لم أسمع قبله. وقال محمد بن سعد: كان الحسن جامعاً عالماً رفيعاً فقيهاً، ثقة مأموناً، عابداً ناسكاً، كثير العلم، فصيحاً، جميلاً وسيماً، وقدم مكة فأجلس على سرير، واجتمع الناس إليه، وقالوا: لم نرَ مثل هذا قط، وقد وصفه ثابت بن قُرة ـ كما نقل عنه أبو حيان التوحيدي. فقال: كان من ذراري النجوم علماً وتقوى، وزهداً وورعاً، وعفة ورقَّة، وفقهاً ومعرفة، يجمع مجلسه ضروباً من الناس، هذا يأخذ عنه الحديث، وهذا يًلقفُ منه التأويل6343، وهذا يسمع منه الحلال والحرام، وهذا يحكي به الفتيا، وهذا يتعلم الحكم والقضاء، وهذا يسمع الوعظ وهو في جميع ذلك كالبحر اللَّجاج تدفقاً، وكالسِّراج الوهاج تألقاً ولا تُنسَ مواقفه ومشاهده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عند الأمراء وأشباه الأمرء، بالكلام الفصل واللفظ الجزل6344، وكان فوق ذلك كله وهو سر تأثيره في القلوب، وسحره في النفوس، وخضوع الناس له ـ أنه(3/368)
كان صاحب عاطفة قوية، وروح ملتهبة وكان من كبار المخلصين، وكان الذي يقول يخرج من القلب فيدخل في القلب وكان إذا ذكر الصحابة أو وصف الآخرة، أدمع العيون وحرك القلوب6345، قال عنه مطر الوراق: لما ظهر الحسن جاء كأنَّما كان في الآخرة فهو يخبر عمَّا عاين6346. وقال عوف: ما رأيت رجلاً أعلم بطريق الجنة من الحسن6347. فقد كان يتذوق الإيمان، ويتكلم عن عاطفة ووجدان، لذلك كانت حلقته في البصرة أوسع الحلقات، وانجذب الناس إليه انجذاب الحديد إلى المغناطيس ـ وذلك شأن أهل القلوب والإخلاص في كل زمان ـ وكان من أعظم ما امتاز به هو أنَّ كلامه كان أشبه ما سمع الناس بكلام النبوة وقال الغزالي في إحياء علوم الدين: ولقد كان الحسن البصريُّ رحمه الله أشبه الناس كلاماً بكلام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأقربهم هدياً من الصحابة رضي الله عنهم، اتّفقت الكلمة في حقه على ذلك6348، وكانت نتيجة المواهب العظيمة والفضائل الكثيرة، أنه كان صاحب شخصية قوية جذابة حبيبة إلى النفوس، وكان الناس مأخوذين بسحرها، خاضعين لعظمتها، حتى قال ثابت بن قرّة الحكيم الحرّاني: إن الحسن من أفراد الأمة المحمدية التي تتباهى بهم على الأمم الأخرى6349. وكان من أعظم أسباب تأثير الحسن البصري في المجتمع، ونفوذه في القلوب والعقول، أنه ضرب على الوتر الحساس، ونزل أعماق المجتمع، ووصف أمراضه، وانتقده انتقاد الحكيم الرفيق، والناصح الشفيق، لقد كان عصره يغُصُّ بالدعاة والوعاظ، ولكنََّ المجتمع لم يتأثر لأحد كتأثره بالحسن، لأنه كان يَمسُّ قلبه وينزل في صميم الحياة، ويعارض التيار، لإنه كان ينعى على الإخلاد إلى الحياة والإنهماك في الشهوات، وقد انتشر هذا المرض في الحياة، إنه كان يذكر بالموت ويستحضر الآخرة، والمترفون يتناسون ذلك ويُعلِّلون نفوسهم بالأماني الكذابة والأحلام اللذيذة، ويتضايقون بذكر ما يكدِّر عليهم الحياة ويُعكرِّ صفو عيشهم، فكان دائماً في صراع(3/369)
مع الجاهلية، والجاهلية لا تخضع إلا لمن صارعها، ولا تعترف إلا بوجود الرجل الذي يحاربها وكان الحسن البصري هو ذاك الرجل، فعظم تأثيره وكثر التائبون والمُقْلعون عن المعاصي والحياة الجاهلية التي كانوا يعيشونها وانطلقت موجة الإصلاح قوية مؤثرة، لأن الحسن لم يقتصر على مواعظ وخطب كان يُلقيها، بل كان يُعني بتربية من يتصل به ويجالسه. فكان جامعاً بين الدعوة والإرشاد، وبين التربية العملية والتزكية الخُلقية والروحية فاهتدى به خلائق لا يحصيهم إلا الله، وذاقوا حلاوة الإيمان وتحلوا بحقيقة الإسلام6350.
2 ـ ملامح التصوف السني عند الحسن البصري:
…يعتبر الحسن البصري من علماء السلوك النادرين وممن اهتموا بأمراض النفوس وعلاجها، وإحياء القلوب وإمدادها بالإيمان والمعاني الربانية السامية، وكان رحمه الله سليم العقيدة، متقيد بالكتاب والسنة في تعليمه وتربيته، ولا شك أن الأساس في التصوف السني هو الالتزام بالكتاب والسنة وفق منهج السلف الصالح في العقيدة والعبادة والسلوك والمعاملة وسنرى ذلك من خلال سيرة الحسن ومن الأمور التي اهتم بها الحسن رحمه الله.
أ ـ قسوة القلب ومواته وإحياؤه:(3/370)
…قال رجل للحسن: يا أبا سعيد، أشكو إليك قسوة قلبي قال: أدنه من الذكر6351، وقال: إن القلوب تموت وتحيا، فإذا ماتت فاحملوها على الفرائض، فإذا هي أحييت فأتبعوه بالتطوع6352، إن قسوة القلب ذمها المولى عز وجل قال تعالى: ((ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)) (البقرة ، الآية : 74)، ثم بين وجه كونها أشد قسوة، بقوله ((وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)) (البقرة ، الآية : 74). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير الله قسوة للقلب وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي6353. وأما أسباب القسوة كثيرة منها: كثرة الكلام بغير ذكر الله، نقض العهد مع الله ((فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً)) (المائدة ، الآية : 13)، ومنها كثرة الضحك، ومنها كثرة الأكل لاسيما من الحرام، ومنها كثرة الذنوب6354، وغيرها وقد ذكر الكثير منها الحسن البصري في كلامه. وأما مزيلات القسوة فمتعددة منها:(3/371)
ـ…كثرة ذكر الله يتواطأ عليه القلب واللسان. قال تعالى: ((اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)) (الزمر ، الآية 23) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذه القلوب لتصد كما يصدأ الحديد، قيل: فما جلاؤها يا رسول الله قال: تلاوة كتاب الله وكثرة ذكره6355. وكان الحسن البصري رحمه الله يقول: أيها الناس أني أعظكم ولست بخيركم ولا أصلحكم وإني لكثير الإسراف على نفسي، غير محكم لها، ولا حاملها على الواجب في طاعة ربها، ولو كان المؤمن لا يعظ أخاه إلا بعد إحكام أمر نفسه لعدم الواعظون، وقل المذكرون، ولما وجد من يدعو إلى الله جل ثناؤه، ويرغب في طاعته وينهى عن معصيته ولكن في اجتماع أهل البصائر ومذاكرة المؤمنين بعضهم بعضاً حياة لقلوب المتقين وأذكار من الغفلة، وأمن من النسيان، فالزموا عافاكم الله مجلس الذكر ، فرب كلمة مسموعة، ومحتقر نافع، اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون6356. وكان يقول: سبحان من أذاق قلوب العارفين من حلاوة الانقطاع إليه، ولذة الخدمة، له ما علق همهم بذكره وشغل قلوبهم عن غيره فلا شيء ألذ عندهم من مناجاته، ولا أقر إلى أعينهم من خدمته ولا أخف على ألسنتهم من ذكره سبحانه وتعالى مما يقول الظالمون علواً كبيراً6357، وكان يقول: تفقد الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة والقراءة والذكر، فإن وجدت ذلك فامض وأبشر وإلا فاعلم أن بابك مغلق فعالج فتحه6358، ومن أفضل الذكر العمل بالقرآن وتلاوته وكان الحسن البصري يقول: من أحب أن يعلم ما هو فيه، فليعرض عمله على القرآن، ليتبين الخسران من الرجحان6359، وكان يقول رحم الله عبداً عرض نفسه على كتاب الله، فإن وافق أمره حمد الله وسأله المزيد وإن خالف إستعتب ورجع من قريب6360، وكان يقول: أيها الناس إن(3/372)
هذا القرآن شفاء للمؤمنين، وإمام للمتقين فمن اهتدى به هُدي، ومن صرف عنه شقي وابتلي6361 وكان يقول: قراء القرآن ثلاثة نفر: قوم اتخذوه بضاعة يطلبون به ما عند الناس، وقوم أجادوا حروفه وضيعوا حدوده استدروا به أموال الولاة واستطالوا به على الناس ـ وقد كثر هذا الجنس من حملة القرآن ـ فلا كثر الله جمعهم ولا أبعد غيرهم، وقوم قرءوا القرآن فتدابروا آياته وتداووا به6362، وأما قيام الليل فكان يقول فيه: إذا لم تقدر على قيام الليل ولا صيام النهار فاعلم أنك محروم، قد كبلتك الخطايا والذنوب6363. وقال له رجل: يا أبا سعيد: أعياني قيام الليل فما أطيقه؟ فقال: يا ابن أخي، استغفر الله وتب إليه، فإنها علامة سوء6364، وقال: إن الرجل ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل6365.(3/373)
ـ…كثرة ذكر الموت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكثروا ذكر هاذم اللذات6366. وقال الحسن البصري: فضح الموت الدنيا، فلم يترك فيها لذي لب فرحا6367. وعن صالح بن رسم قال: سمعت الحسن يقول: رحم الله رجلاً لم يغره كثرة ما يرى من كثرة الناس: ابن آدم إنك تموت وحدك وتدخل القبر وحدك، وتبعث وحدك وتحاسب وحدك، ابن آدم وأنت المعنّى وإياك يراد6368. وقال الحسن: ما أكثر عبد ذكر الموت إلا رأى ذلك في عمله، ولا طال أمل عبد قط إلا أساء العمل6369. وقيل: رأى الحسن شيخاً في جنازة فلما فرغ من الدفن، قال له الحسن يا شيخ، أسألك بربك: أتظن أن هذا الميت يود أن يرد إلى الدنيا فيتزيد من عمله الصالح، ويستغفر الله من ذنوبه السالفة، فقال الشيخ اللهم نعم، فقال الحسن: فما بالنا لا نكون كهذا الميت، ثم انصرف وهو يقول: أي موعظة؟ ما أنفعها لو كان بالقلوب حياة؟ ولكن لا حياة لمن تنادي6370. وقال: حقيق على من عرف أن الموت مورده والقيامة موعده، والوقوف بين يدي الجبار مشهده أن تطول في الدنيا حسرته وفي العمل الصالح رغبته6371. وكان يقول: ما رأيت يقيناً لا شك فيه أصبح شكاً لا يقين فيه من يقيننا بالموت وعملنا لغيره6372. وكان يقول: عباد الله إن الله سبحانه لم يجعل لإعمالكم أجلاً دون الموت، فعليكم بالمداومة، فإنه جل ثناؤه يقول: ((وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)) (الحجر ، الآية : 99). وكان يقول: ابن آدم إنك تموت وحدك، وتحاسب وحدك، ابن آدم، لو أن الناس كلهم أطاعوا الله وعصيت أنت لم تنفعك طاعتهم، ولو عصوا الله وأطعت أنت لم تضرك معصيتهم، ابن آدم: ذنبك ذنبك، فإنما هو لحمك ودمك، فإن سلمت من ذنبك سلم لك لحمك ودمك، وإن تكن الأخرى فإنما هي نار لا تطفأ وجسم لا يبلى، ونفس لا تموت6373. وكان يقول: لولا ثلاثة ما طأطأ ابن آدم رأسه: الموت والمرض والفقر وإنه بعد ذلك لوثاب6374. وكان الحسن إذا تلا هذه الآية: ((فَلَا(3/374)
تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الغَرُور)) (لقمان ، الآية : 33) قال: من قال ذا؟ قال: من خلقها وهو أعلم بها6375. وقال: إياكم وما شغل من الدنيا، فإن الدنيا كثيرة الاشتغال لا يفتح رجل على نفسه باب شغل، إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب6376.
ـ…زيارة القبور بالتفكر في حال أهلها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم زوروا القبور، فإنها تذكِّر الموت6377، وفي رواية: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكر الآخرة6378، وكان الحسن البصري كثير الزيارة للقبور، فلما ماتت النوار بنت أعين بن ضبعية المجاشعي امرأة الفرزدق، وكانت قد أوصت أن يصلي عليها الحسن البصري، فشهدها أعيان أهل البصرة مع الحسن والحسن على بغلته، والفرزدق على بعيره، فسار فقال الحسن للفرزدق، ماذا يقول الناس؟ قال يقولون: شهد هذه الجنازة اليوم خير الناس يعنونك، وشر الناس يعنوني، فقال له: يا أبا فراس، لست بخير الناس، ولست أنت بشر الناس، ثم قال الحسن: ما أعددت لهذا اليوم؟ قال شهادة أن لا إله إلا الله منذ ثمانين سنة، فلما أن صلى عليها الحسن مالوا إلى قبرها فأنشأ الفرزدق يقول:
………أخاف وراء القبر إن لم يعافني
…………………أشد من القبر التهاباً وأضيقا
………إذا جاءني يوم القيامة قائد
…………………عنيف وسوّاق يسوق الفرزدقا
………لقد خاب من أولاد دار من مشى
…………………إلى النار مغلولا القلادة أزرقا
………يساق إلى نار الجحيم مسربلا
…………………سرابيل قطران لباساً مخرقا
………إذا شربوا فيها الصديد رأيتهم
…………………يذوبون من حرّ الصديد تمزقا(3/375)
…قال: فبكى الحسن حتى بلّ الثرى، ثم التزم الفرزدق وقال: لقد كنت من أبغض الناس إليَّ، وإنك اليوم من أحب الناس إلي6379. وكان الحسن يتعظ بالمقابر ويتدبر في أحوالها، فعن عوانه قال: قال الحسن: قدم علينا بشر بن مروان ـ أخو عبد الملك بن مروان الخليفة ـ أمير المصرين، وأشب الناس، وأقام عندنا أربعين يوماً، ثم طعن في قدميه فمات،، وأخرجناه إلى قبره، فلما صرنا إلى الجبان فإذا نحن بأربعة سودان يحملون صاحباً لهم إلى قبره، فوضعنا السرير فصلينا عليه، ووضعوا صاحبهم فصلوا عليه، ثم حملنا بشراً إلى قبره وحملوا صاحبهم إلى قبره، ودفنا بشراً ودفنوا صاحبهم ثم انصرفوا وانصرفنا، ثم التفت التفاتة فلم أعرف قبر بشر من قبر الحبشي، فلم أر شيئاً قط كان أعجب منه6380. وقد ذكر العلماء أمور أخرى تزيل قسوة القلوب كالإحسان إلى اليتامى والمساكين، والنظر في ديار الهالكين والاعتبار بمنازل الغابرين6381.
ب ـ حثه على الإخلاص، وطاعة الله وإصلاح ذات البين والتفكر:(3/376)
ـ…الإخلاص: إن لإخلاص العمل تأثيراً عظيماً في مكارم الأخلاق، فهو يمد قلب صاحبه بقوَّة، تجعله ينهض للمكارم ابتغاء وجه الله، غير منتظر من أحد جزاءً ولا شكوراً يشرح صدره للحلم والعفو ومعالي الأخلاق امتثالاً لأمر الله، وطلباً لرضاه والفوز بنعيم الآخرة، فهو إن أبغض فبغضه لله وهكذا في شأنه كله6382، قال تعالى: ((قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)) (الأنعام ، الآيتان : 162 ـ 163). فكان الحسن يقول: من تزين للناس بما لا يعلمه الله منه شانه ذلك6383. وكان يقول: روي عن بعض الصالحين أنه كان يقول: أفضل الزهد إخفاء الزهد6384 وقيل وعظ يوماً، فتنفس رجل الصعداء، فقال: يا ابن أخي ما عساك أردت بما صنعت؟ إن كنت صادقاً فقد شهرت نفسك، وإن كنت كاذباً فقد أهلكتها ولقد كان الناس يجتهدون في الخفاء وما يسمع لأحدهم صوت، ولقد كان الرجل ممن كان قبلكم يستكمل القرآن فلا يشعر به جاره، ولقد كان الآخر يتفقه في الدين ولا يطلع عليه صديقه، ولقد قيل لبعضهم، ما أقل التفاتك في صلاتك وأحسن خشوعك؟ فقال: يا ابن أخي وما يدريك أين كان قلبي6385؟ وكان يقول: نظر رجاء بن حيوة إلى رجل يتناعس بعد الصبح، فقال: انتبه عافاك الله لا يظن ظان أن ذلك عن سهر وصلاة فيحبط عملك6386. وقال الحسن: ولقد حُدثت أن رجلاً مر برجل يقرأ: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)) (مريم ، الآية : 96). فقال: والله لأعبدن الله عبادة أذُكَر بها في الدنيا، فلزم الصلاة واعتكف على الصيام حتى كان لا يفطر ولا يرى مصلياً وذاكراً ، وكلما مر على قوم قالوا: ألا ترون هذا المرائي ما أكثر رياءه، فأقبل على نفسه وقال: ثكلتكِ أمك لا أراك تذكري إلا بِشرَ ولا أراك أُصِبتِ إلا بفساد نيتكِ وفساد معتقدكِ، وأنك(3/377)
لم تردى الله بعملك، ثم بقى على عمله لم يزد عليه شيئاً إلا إن نيته انقلبت6387، فتغير الحال ووضع الله له القبول ـ ولا يمر بقوم إلا قالوا: يرحم الله هذا، ثم يقولون: الآن الآن وكان الحسن يقول: أخلصوا لله أعمالكم6388، وكان يقول: ابن آدم تلبس لُبسة العابدين، وتفعل أفعال الفاسقين، وتخبت أخبات المريدين، وتنظر نظر المغترين، ويحك! ما هذا خصال المخلصين، إنك تقوم يوم القيامة بين يدي من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور6389، وكان يقول روي أن سعيد بن جبير رأى رجلاً متماوتاً في العبادة فقال يا ابن أخي إن الإسلام حيّ فأحيه ولا تمته أماتك الله ولا أحياك وكان يقول: من ذم نفسه في الملأ فقد مدحها وبئس ما صنع6390.
ـ…الحث على طاعة الله: قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تأْوِيلا)) (النساء ، الآية : 59)، وقال تعالى: ((وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)) (الشورى ، الآية : 10). وكان الحسن يقول: في قول الله عز وجل، ((وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا)) (المؤمنون ، الآية : 60) قال: يعطون ما أعطوا ((وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)) قال: يعملون ما عملوا من أعمال البر وهم يخشون أن لا ينجيهم من عذاب ربهم عز وجل6391. وعنه أنه قال: إذا نظر إليك الشيطان فراك مداوماً في طاعة الله فبغاك وبغاك ـ أي طلبك مرة بعد مرة ـ فرآك مداوماً ومّلك ورفضك، وإذا كنت مرة هكذا ومرة هكذا طمع فيك6392وعن الحسن قال: هرم بن حيان: ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها6393.(3/378)
…ومن القصص التي حدثت للحسن: لما ولى عمر بن هبيرة العراق أرسل إلى الحسن وإلى الشعبي فأمر لهما بيت وكانا فيه شهراً ـ أو نحوه ـ ثم إن الخادم غداً ذات يوم فقال إن الأمير دخل عليكما، فجاء عمر يتوكأ على عصا له، فسلم ثم جلس معظماً لهما، فقال: إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك ينفذ كتاباً أعرف أن في انفاذها الهلكة فإن أطعته عصيت الله، وإن عصيته أطعت الله عز وجل، فهل تريا لي في متابعتي إياه فرجاً؟ فتكلم الشعبي فانحط في حبل ابن هبيرة، فقال: ما تقول أنت يا أبا سعيد فقال: أيها الأمير، قد قال الشعبي ما قد سمعت، قال: ما تقول أنت يا أبا سعيد؟ فقال: أقول يا عمر بن هبيرة يوشك أن ينزل بك ملك من ملائكة الله تعالى فظ غليظ لا يعصى الله ما أمره فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، يا عمر بن هبيرة إن تتق الله يعصمك من يزيد بن عبد الملك، ولا يعصمك يزيد بن عبد الملك من الله عز وجل، يا عمر بن هبيرة لا تأمن أن ينظر الله إليك على أقبح ما تعمل في طاعة يزيد بن عبد الملك نظر تمقت فيغلق بها باب المغفرة دونك، يا عمر بن هبيرة لقد أدركت ناساً من صدر هذه الأمة كانوا والله على الدنيا وهي مقبلة أشد إدباراً من إقبالكم عليها وهي مدبرة، يا عمر بن هبيرة إني أخوفك مقاما خوفكه الله تعالى فقال((ذلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ)) يا عمر بن هبيرة إن تك مع الله تعالى في طاعته كفاك بائقة يزيد بن عبد الملك، وإن تك مع يزيد بن عبد الملك على معاصي الله وكلك الله إليه، قال فبكى عمر وقام بعبرته، فلما كان من الغد أرسل إليهما بإذنهما وجوائزهما، وكثر منه ما للحسن وكان في جائزته للشعبي بعض الإقتار، فخرج الشعبي إلى المسجد، فقال: يا أيها الناس من استطاع منكم أن يؤثر الله تعالى على خلقه فليفعل فوالذي نفسي بيده ما علم الحسن منه شيئاً فجهلته ولكن أردت وجد ابن هبيرة، فأقصاني الله منه6394. وقال الحسن: لا تخالفوا الله عن أمره، فإن(3/379)
خلافاً، عن أمره عمران دار قد قضى الله عليها بالخراب6395. وقال الحسن في قوله عز وجل((فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا)) قال: المتوجه بقلبه وعمله إلى الله عز وجل6396. وكان يقول: رحم الله امرءاً كان قوياً فاعمل قوته في طاعة الله، أو كان ضعيفاً فكّف عن معاصي الله6397.
…ـ الاعتبار والتفكر: قال تعالى: ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)) ( آل عمران، آية: 190). وقال تعالى: ((وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)) (الذاريات، آية: 21). فالتأمل والتفكر في الكون والنفس وآيات الله المنظورة داع قوي للإيمان، لما في هذه الموجدات من عظمة الله الخالق الدالة على قدرة خالقها وعظمته، وما فيها: من الحسن والانتظام والإحكام الذي يحير الألباب، الدال على علم سعة الله، وشمول حكمته، وما فيها من أصناف المنافع والنعم الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى، الدالة على سعة رحمة الله، وجوده وبره، وذلك يدعو إلى تعظيم مبدعها وبارئها وشكره واللهج بذكره، وإخلاص الدين له وهذا هو روح الإيمان وسره6398، فعبادة التفكر والاعتبار دعا إليهما الحسن البصري وحث الناس عليها، فقال رحمه الله: إن من أفضل العمل الورع والتفكر6399، وقال: من عرف ربه أحبه، ومن أبصر الدنيا زهد فيها، والمؤمن لا يلهو حتى يغفل، وإذا فكر حزن6400. وكان يقول: رحم الله امرءاً نظر ففكر، وفكر فاعتبر، واعتبر فأبصر وأبصر فصبر، لقد أبصر أقوام ثم لم يصبروا فذهب الجزع بقلوبهم، فلم يدركوا ما طلبوا ولا رجعوا إلى ما فارقوا فخسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين6401، وقال: تفكر ساعة خير من قيام ليلة6402، وكان يقول: الفكرة مرأة تريك حسناتك من سيئتك، فمن اعتمد عليها أفلح ومن أغفلها افتتضح6403.(3/380)
ـ…العلم والعلماء: وكان يقول: الفهم وعاء العلم، والعلم دليل العمل، والعمل قائد الخير، والهوى مركب المعاصي والمال داء المتكبرين، والدنيا سوق الآخرة، والويل كل الويل لمن قوى بنعم الله على معاصيه6404، وقال: قد كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يرى ذلك في تخشعه وهديه، وفي لسانه وبصره وبره6405.
ج ـ النهي عن طول الأمل وذم الكبر:
ـ…النهي عن طول الأمل: قال الحسن: إن المؤمن في الدنيا غريب لا يجزم ذلها ولا ينافس أهلها في غرها، الناس منه في راحة، ونفسه منه في شغل طوبى لعبدٍ كسب طيباً، وقدم الفضل ليوم فقره وفاقته ووجهوا هذا الفضل حيث وجهه الله، ولا تلقوها هاهنا فيما يضركم6406. وكان يقول: ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل6407، ومن درر كلامه قوله: يا ابن آدم إنما أنت أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضك6408.
ـ …النهي عن الكبر: قال الحسن: يا ابن آدم، كيف تتكبر وأنت من سبيل البول مرتين6409، وقيل رأى الحسن نعيم بن رضوان يمشي مشية المتكبر فقال: انظروا إلى هذا ليس فيه عضو إلا ولله تعالى فيه نعمة وللشيطان لعنة6410.
3 ـ من تلاميذ الحسن البصري الذين اشتهروا بعلم السلوك:
…كان الحسن البصري من علماء أهل السنة واهتم رحمه الله بعلم السلوك، وكان له مجلس خاص في منزله لا يكاد يتكلم فيه إلا في معاني الزهد والنسك6411، وقد تأثر بمدرسة الحسن البصري مجموعة خيرة، لكوكبة نيرة، ونجوماً ساطعة من علماء أهل السنة، منهم:
أ ـ أيوب السختياني:(3/381)
…هو الإمام الحافظ سيد العلماء، أبو بكر بن أبي تميمة كيسان6412، كان ثقة ثبتاً في الحديث، جامعاً عدلاً، ورعاً، كثير العلم6413، وكان إذا سئل عن شيء ليس عنده فيه شيء قال: أسأل أهل العلم وكان كثيراً ما يقول: لا أدري. حتى قال حماد بن زيد: ما رأيت أحداً أكثر من قول: لا أدري من أيوب ويونس، وكان يحب ستر زهده ويقول: لأن يستر الرجل زهده خير له من أن يظهره6414، وحج أيوب أربعين حجة، وكان عبيد الله بن عمر يرتاح قلبه في موسم الحج بلقاء أقوام نور الله قلوبهم بالإيمان، منهم أيوب6415، وكان صديقاً ليزيد بن الوليد بن عبد الملك، فلما تولى يزيد الخلافة قال أيوب: اللهم أنسه ذكري6416، وكان شديد التبسم في وجوه الناس6417.
* ـ…من مواقف وكلمات أيوب:
ـ تعظيمه لأهل السنة: قال أيوب: انه ليبلغني موت الرجل من أهل السنة فكأنما يسقط عضو من أعضائي6418.
ـ موقفه من أهل الأهواء والبدع: قال: ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا ازداد من الله بعد6419. وعن أيوب قال: قال أبو قلابة: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم، فإني لا آمن من أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون6420. قال أيوب: وكان والله من الفقهاء ذوي الألباب6421.
ـ محبته للقاء إخوانه في الله: قال: إنه يزيدني في حب الموسم وحضوره أن ألقى أخوانا لي فيه لا ألقاهم في غير6422.
ـ عبادته: كان من العباد المشهورين بحسن العبادة وكثرتها وكان شديد الحرص على إخفائها عن الناس وتصفيتها وإخلاصها لرب الناس6423، وكان من سادات أهل البصرة، وعبّاد أتباع التابعين وفقهائهم ممن اشتهر بالفضل والعلم والنسك6424، وكان كثير الحج والعمرة رحمه الله لوصية رسول الله بذلك: تابعوا بين الحج والعمرة6425، وحج أيوب أربعين سنة6426،، وكان يقوم الليل يخفي ذاك، فإذا كان قبل الصبح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة6427(3/382)
ـ …الزهد: قال أيوب: الزهد في الدنيا ثلاث أشياء، أحبها إلى الله وأعلاها عند الله وأعظمها عند الله تعالى، الزهد في عبادة من عبد دون الله من كل ملك وصنم وحجر ووثن، ثم الزهد فيما حرم الله تعالى من الأخذ والإعطاء ثم يقبل علينا فيقول: زهدكم هذا يا معشر القراء فهو أخسه عند الله، الزهد في حلال الله عز وجل،6428.
ـ …شهادة الحسن البصري فيه: قال فيه الحسن: هذا سيد الفتيان6429، قال: أيوب سيد شباب أهل البصرة6430، وأما شهادة أيوب في شيخه الحسن فقد قال: كان الحسن يتكلم بكلام كأنه الدر، فتكلم قومٌ من بعده بكلام يخرج من أفواههم كأنه القيء6431. وقال: جالست الحسن أربع سنين فما سألته هيبة له6432.
ـ…وفاته: بعد عمر قضاه في عبادة الله تعلماً وتعليماً وتربية وخشية لله، وتمسكاً بالسنة وتعظيماً بأهلها وقمعاً لأهل البدع والأهواء وإخلاص العلم والعمل لله توفي في مرض الطاعون بالبصرة عام 131هـ6433، وروى أبو نعيم بسنده إلى حماد بن زيد قال: غدا علي ميمون أبو حمزة يوم الجمعة قبل الصلاة، وقال: فقال إني رأيت البارحة أبا بكر وعمر في النوم فقلت لهما: ما جاء بكما؟ قالا: جئنا نصلى على أيوب السختياني: قال: ولم يكن علم بموته فقلت له: قد مات أيوب البارحة6434.
ب ـ مالك بن دينار: علم العلماء الأبرار، معدود من ثقات التابعين، ومن أعيان كتبة المصاحف، كان من ذلك بلغته6435.
ـ…من مواقفه وأقواله:
ـ عدم تأثره بالمدح والذم: قال: مذ عرفت الناس لم أفرح بمدحهم ولم أكره ذمهم لأن حامدهم مفرط، وذامهم مفرط، إذا تعلم العالم العلم للعمل كسره، وإذا تعلمه لغير العمل زاده فخراً6436.
ـ…حزن القلب: قال: إذا لم يكن في القلب حزن خرب. وقال: من تباعد من زهرة الدنيا، فذاك الغالب هواه6437.(3/383)
ـ…جاء يسرق فسرقناه: قيل دخل عليه لص، فما وجد ما يأخذ، فناداه مالك: لم تجد شيئاً من الدنيا فترغب في شيء من الآخرة؟ قال: نعم. قال: توضأ، وصل ركعتين، ففعل ثم جلس وخرج إلى المسجد، فسأل من ذا؟ قال: جاء ليسرق فسرقناه6438.
ـ…أطيب شيء من الدنيا معرفة الله: قال: خرج أهل الدنيا من الدنيا ولم يذوقوا أطيب شيء فيها، قيل: وما هو؟ قال: معرفة الله.
ـ…محبة أنس بن مالك له: قال مالك بن دينار: أتينا أنساً أنا وثابت ويزيد الرقاشي، فنظر إلينا فقال: ما أشبهكم بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لأنتم أحب إلي من عدة ولدي إلا أن يكون في الفضل مثلكم، إني لأدعو لكم في الأسحار6439.
ـ…مصدر كسبه: كان ينسخ المصحف في أربعة أشهر، فيدع أجرته عند البقال فيأكله، وكان أدم مالك بن دينار في كل سنة بفلسين ملح6440.
ـ…وفاته: توفي سنة 127هـ وقيل 130هـ6441. فمالك بن دينار من علماء أهل السنة ولا ينظر لمن ألصق به آثار واهية نسبها إليه وزعم أنه خلط الروحية الإسلامية بعناصر غير إسلامية وكتابية على وجه التخصيص6442. بل الثابت من سيرته بأنه من أعلام السلوك ومن تلاميذ الحسن البصري، وأنس بن مالك والأحنف بن قيس وسعيد بن جبير، ومحمد بن سيرين، والقاسم بن محمد6443 وغيرهم من علماء أهل السنة.(3/384)
ج ـ محمد بن واسع: الإمام الرباني، القدوة6444، ترجمت له في حديثي عن الفتوحات في عهد عبد الملك، وكان من ضمن جيش قتيبة بن مسلم وقد قام مدة في خراسان6445. قال عنه مالك بن دينار: القراء ثلاث: فقاريء للرحمن، وقاريء للدنيا، وقاريء للملوك، ويا هؤلاء محمد بن واسع عندي من قراء الرحمن6446، وكان الحسن البصري يسميه زين القراء6447، ومن أقواله: إذا أقبل العبد بقلبه على الله أقبل الله بقلوب العباد عليه. وقال: يكفي من الدعاء مع الورع يسير6448 العمل هؤلاء هم أشهر تلاميذ الحسن البصري في علم السلوك والذين كان لهم تأثير كبير في حياة الناس، واليوم نحن في أشد الحاجة لإحياء هذا العلم الذي أصبح نادراً وتصدر له بعد المحسوبين على العلم من أصحاب العقائد الفاسدة والتصورات السقيمة والأفكار المنحرفة، فالأمة في حاجة ماسة لمنهج تربوي سني تستلهم أصوله وفروعه من كتاب الله وسنة رسوله وهدي الصحابة الكرام ومن سار على نهجهم من العلماء الراسخين لكي تقف أمام الهجمة المادية، والطغيان الشهواني، الذي يبث في وسائل الإعلام العالمية والإقليمية والقُطرية، كما أن من عوامل نهوض الأمة كبح شهواتها، وتطهير نفوسها من أمراضها وإحياء القلوب بالمعاني الرفيعة والأعمال القلبية، كالرجاء والخوف والإخلاص والإنابة لله رب العالمين.
4 ـ براءة الحسن البصري من الاعتزال:
…يزعم المعتزلة أن الحسن البصري قال بالقدر على مذهبهم وإنه منهم فيروون عند داود بن أبي هند أنه قال: سمعت الحسن يقول: كل شيء بقضاء وقدر إلا المعاصي6449. ويوردون رسائل أرسلها إلى عبد الملك بن مروان وفيها قوله بالقدر على مذهب المعتزلة، ويقولون: إن رسائله مشهورة6450. وقد تحمس الشيخ محمد أبو زهرة ليثبت أن الحسن البصري كان يقول بالقدر على مذهب المعتزلة6451، والرد على هذه الدعاوي الخالية من الحجج والبراهين والأدلة كتالي:(3/385)
أ ـ أن المعتزلة أنفسهم لا يقطعون بنسبة الحسن إليهم، ولذا نرى ابن المرتضى لما ذكر الحسن وقوله في القدر قال: ((فإن قلت: فقد روى أيوب، أتيت الحسن، فكلمته في القدر فكف عن ذلك، قلت: فقد روى أنه خوفه بالسلطان فكف عن الخوض فيه6452. وهل يخاف الحسن السلطان وهو الرجل الذي يجهر بالحق دائماً.
ب ـ أما بالنسبة للرسالة المنسوبة إليه فيقول عنها الشهرستاني: ورأيت رسالة نسبت إلى الحسن البصري كتبها إلى عبد الملك بن مروان، وقد سأله بالقول بالقدر والجبر فأجبه فيها بما يوافق مذهب القدرية، واستدل فيها بآيات من القرآن الكريم ودلائل من العقل، ولعلها لواصل بن عطاء، فما كان الحسن ممن يخالف السلف في أن القدر خيره وشره من الله ـ تعالى ـ فإن هذه الكلمات المجمع عليها عندهم6453. وهذه الرسالة لم تصح نسبتها إلى الحسن والمعتزلة ينسبون إلى الحسن أقوالاً بروايات منقطعة، فالمرتضى حين ذكر أهل العدل والتوحيد عد منهم الحسن البصري وترجم له ترجمة طويلة، ولما أراد أن يثبت أنه من أهل العدل قال: فمن تصريحه بالعدل، ما رواه علي بن الجعد قال: سمعت الحسن يقول: من زعم أن المعاصي من الله عز وجل جاء يوم القيامة مسوداً وجهه وقرأ: ((وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ)) (الزمر ، الآية : 60). وعلى بن الجعد الذي يقول: سمعت الحسن لم يسمع منه ولم يلقه6454،فهذه رواية منقطعة6455.(3/386)
ج ـ وابن قتيبة يذكر عن الحسن البصري أنه تكلم في شيء من القدر، ثم رجع عنه، ولكنه يذكر بعد ذلك مباشرة أن عطاء بن يسار ومعبداً الجهني كانا يأتيان الحسن، فيسألانه ويقولان: يا أبا سعيد إن الملوك يسفكون دماء المسلمين، ويأخذون الأموال، ويفعلون ويفعلون، ويقولون: إنما تجري أعمالنا على قدر الله، فقال: كذب أعداء الله6456، قال ابن قتيبة: فتعلق عليه بمثل هذا وأشباهه6457. ويشبه هذا ما يورى عن الحسن أنه قال ـ وهو محق في قوله ـ إن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى العرب وهم قدرية مجبرة يحملون ذنوبهم على الله ويقولون: إن الله سبحانه قد شاء ما نحن فيه وحملنا عليه وأمرنا به ، فقال عز وجل: ((وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)) (الأعراف ، الآية 28)6458. فهل كلام الحسن ـ رحمه الله ـ في الروايتين دل على أنه قدري؟ إن الجواب على ذلك واضح بداهة لأنه يرد على الذين يحتجون بالقدر على كفرهم ومعاصيهم ولا شك أن هذا الاحتجاج باطل وكلام الحسن حق6459. وقد أشار ابن تيمية إلى أنه قال: قد اتهم بمذهب القدر غير واحد، ولم يكونوا قدرية، بل كانوا لا يقبلون الاحتجاج على المعاصي بالقدر، كما قيل للإمام أحمد: كان بن أبي ذؤيب قدرياً، فقال: الناس كل من شدد عليهم بالمعاصي قالوا: هذا قدري. وقد قيل: لهذا السبب نسب إلى الحسن القدر6460.(3/387)
د ـ وهناك روايات تنفي هذا الزعم، فعن عمر مولى غفرة قال: كان أهل القدر ينتحلون الحسن بن أبي الحسن، وكان قوله مخالفاً لهم كان يقول: يا ابن آدم، لا ترض أحداً بسخط الله ولا تطيعنّ أحداً في معصية الله، ولا تحمدن أحداً على فضل الله، ولا تلومن أحداً فيما لم يؤتك الله، إن الله خلق الخلق والخلائق، فمضوا على ما خلقهم عليه فمن كان يظن أنه مزداد بحرصه في رزقه فليزداد بحرصه في عمره، أو يغير لونه، أو يزيد في أركانه أو بنانه6461.
هـ ومعلوم أن المعتزلة أجمعوا على اصولهم الخمسة، والحسن البصري يعتبر القول بالمنزلة بين المنزلتين بدعة تخرج صاحبها عن عقيدة الجماعة، ولذلك اعتزل واصل بن عطاء حلقة الحسن لما خالفه في هذا الأصل، فكيف مع هذا يعتبر الحسن من علمائهم المنتسبين إليهم6462؟.(3/388)
و ـ وقد اشتهر عن بعض المعتزلة القدرية أنهم يكذبون على الحسن البصري، فقد ذكر عبد الله بن أحمد في كتاب السنة عدة روايات تدل على ذلك، فمن ذلك ما رواه عن حميد قال: قدم الحسن مكة فقال فقهاء مكة: الحسن بن مسلم وعبد الله بن عبيد: لو كلمت الحسن فأخلانا يوماً. فكلمت الحسن فقلت: يا أبا سعيد إخوانك يحبون أن تجلس لهم يوماً، قال: نعم ونعمة عين، فواعدهم يوماً فجاءوا فاجتمعوا، وتكلم الحسن وما رأيته قبل ذلك اليوم ولا بعده أبلغ منه ذلك اليوم، فسألوه عن صحيفة طويلة فلم يخطئ فيها شيئاً إلا في مسألة، فقال له رجل: يا أبا سعيد من خلق الشيطان؟ قال: سبحان الله، سبحان الله، وهل من خالق غير الله ثم قال: إن الله خلق الشيطان وخلق الشر والخير فقال رجل منهم: قاتلهم الله يكذبون على الشيخ6463. وقال حميد لمن نقل عن عمرو بن عبيد حديثاً رواه الحسن: لا تأخذ عن هذا فإنه يكذب على الحسن6464. وروى عبد الله بن أحمد عن حماد بن زيد قال: قيل لأيوب: إن عمراً ((أي عمرو بن عبيد)) روى عن الحسن أنه قال: لا يجلد السكران من النبيذ، قال: كذب، أنا سمعت الحسن يقول: يجلد السكران من النبيذ6465 . فهذه الروايات وغيرها، تدل على أن دعوى أن الحسن البصري ـ رحمه الله ـ كان قدرياً أو كان يقول بقولهم ليست صحيحة6466. وإنما غرض المعتزلة هو التشرف بانتسابه إليهم، وإلا فكيف عدّوه منهم6467. والمعتزلة ذكروا مع الحسن غيره، بل وعدّوا من الطبقة الأولى من طبقاتهم الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة6468. وواضح إن إدراج هؤلاء ضمن المعتزلة إنما قصد به بيان أن المعتزلة هي أتقى الفرق وأبرها6469. ومعلوم لدى طلاب العلم وعموم المسلمين أن الخلفاء الراشدين والصحابة الكرام براء من تهمة الإعتزال وإنما هم سادة علماء أهل السنة والجماعة الذين ساروا على منهاج النبوة..
5 ـ الإمام العادل في نظر الحسن البصري:(3/389)
…عندما جاء عمر بن عبد العزيز للخلافة نجد الحسن البصري قريباً من الخليفة الجديد يتعهده بالوعظ والإرشاد ويرسم له منهاجاً للإمام العادل وهذا دور إيجابي من الحسن ـ رحمه الله ـ يبين العمل المطلوب من العالم الرباني الذي يسعى لمساعدة المصالحين من أصحاب القرار لنصرة الإسلام وهذا يدلنا على تكامل شخصية الحسن الإسلامية فقد شارك في الجهاد والتعليم والتربية، وكان رائد المدرسة
… الإصلاح الاجتماعي بين الناس في حياتهم، واهتم بأمراض القلوب، وعلاجها، وكانت له مواقفه السياسية من الثورات، ومن الحكام الظالمين، وهنا تتجلى شخصيته السياسية أكثر من قربه من عمر بن عبد العزيز وشد أزره والوقوف بجانبه والتنظير لمعالم الإصلاح والتجديد الراشدي الذي قاده عمر بن عبد العزيز، فقد جاء في رسالته التي كتبها إلى عمر بن عبد العزيز: أعلم يا أمير المؤمنين: أن الله جعل الإمام العادل قوَّام كل مائل وقصد كل جائر، وصلاح كل مفسد، وقوة كل ضعيف ونصفة6470 كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله، الرفيق الذي يرتاد لها أطيب المرعى ويزودها عن مراتع الهلكة، ويحميها من السباع، ويكنفها من أذى الحر والقر6471.(3/390)
…والإمام العدل، يا أمير المؤمنين، كالأب الحاني على ولده، يسعى لهم صغيراً، ويعلمهم كباراً، يكتسب لهم في حياته، ويدخر لهم بعد مماته. والإمام العدل، يا أمير المؤمنين، كالأم الشفيقة البرة الرفيقة بولدها: حملته كرهاً ووضعته كرهاً، وربته طفلاً تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، ترضعه تارة، وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتم بشكايته. والإمام العادل، يا أمير المؤمنين وصي اليتامة، وخازن المساكين: يربي صغيرهم، ويمون كبيرهم، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوانح: تصلح الجوانح بصلاحه وتفسد بفساده، والإمام العادل، يا أمير المؤمنين، هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم، فلا تكن يا أمير المؤمنين، فيما ملكك الله كعبد إئتمنه سيده، واستحفظه ماله وعياله، فبدل المال وشرد العيال، فأفقر أهله، وفرق ماله. وأعلم يا أمير المؤمنين إن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش، فكيف إذا أتاها من يليها؟ وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم؟ واذكر، يا أمير المؤمنين، الموت وما بعده وقلة أشياعك عنده، وأنصارك عليه: فتزود له ولما بعده من الفزع الأكبر واعلم يا أمير المؤمنين، أن لك منزلاً غير منزلك الذي أنت فيه، يطول فيه ثواؤك، ويفارقك أحباؤك، ويُسلمونك في قعره فريداً وحيداً، فتزود له ما يصحبك يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه واذكر، يا أمير المؤمنين، إذا بعثر ما في القبور، وحُصل ما في الصدور، فالأسرار ظاهرة والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فالآن، يا أمير المؤمنين، وأنت في مهل قبل حلول الأجل، وانقطاع الأمل ـ لا تحكم، يا أمير المؤمنين، في عباد الله بحكم الجاهلين، ولا تسلك بهم سبيل الظالمين ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين، فإنهم لا يرقبون في مؤمن إلاّ6472، ولا ذمة فتبوء بأوزارك وأوزار مع(3/391)
أوزارك، وتحمل أثقالك، وأثقالاً مع أثقالك، ولا يغُرنّك الذين يتنعمون بما فيه بؤسك، ويأكلون الطيبات في دنياهم بإذهاب طيّباتك في آخرتك. لا تنظر إلى قدرتك اليوم، ولكن انظر إلى قدرتك غداً وأنت مأسور في حبائل الموت، وموقوف بين يدي الله في مجمع من الملائكة والنبيين والمرسلين وقد عنت الوجوه للحي القيوم، إني يا أمير، وإن لم أبلغ بعظتي ما بلغه أولو النهى من قبلي، فلم آلك6473شفقة ونصحك فأنزل كتابي إليك كمداوي حبيبه يسقيه الأدوية الكريهة لما يرجو له من ذلك من العافية والصحة والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته6474. والمعاني الرئيسية في هذه الرسالة:
أ ـ أن أهم صفة في الإمام هي العدل ولكنه عدل ممزوج بالرحمة الأبوية.
ب ـ وأن أولى الناس بإتباع حدود الله هو الإمام، لأنه إن لم يتبعها، فأجدر بالرعية ألا يتبعوها.
ج ـ وأن الإمام هو المنفذ للقصاص، فلا يحق له أن يقتل أحداً بغير حق، إن في القصاص حياة، فكيف يقضي على الحياة من وُكل إليه أمر توفير الحياة؟.
ح ـ أن صلاح الرعية بصلاح الإمام وفسادها بفساده، فمسئوليته عن أفعاله هي في الوقت نفسه مسئوليته عن أفعال كل رعيته، فما أعظم مسئوليته إذن.
س ـ وتظهر هذه المسئولية خصوصاً في تعيين الولاة، فما يرتكبه ولاة الإمام وعُمّاله الإمام هو أول مسئول عنها، ولهذا يجب على الإمام ألا يسلط المستكبرين على المستضعفين، لأن المتكبرين لا يرعون الحرمات ولا يراقبون الله في أعمالهم وأحكامهم، فإذا عيّن الإمام واحداً من هؤلاء، فقد تحمّل مع أوزاره الخاصة أوزارهم6475.
6 ـ الحسن البصري يصف الدنيا لعمر بن عبد العزيز:(3/392)
كتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز واصفاً له الدنيا: أما بعد: يا أمير المؤمنين فإن الدنيا دار ظعن وانتقال وليست بدار إقامة على حال، وإنما أنزل إليها آدم عقوبة فأحذرها، فإن الراغب فيها تارك، والغني فيها فقير، والسعيد من أهلها من لم يتعرض لها، إنها إذا اختبرها اللبيب الحاذق وجدها تذل من أعزها، وتفرق من جمعها، فهي كالسم يأكله من لا يعرفه ويرغب فيه من يجهله، وفيه والله حتفه، فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوي جراحه يحتمي قليلاً، مخافة ما يكره طويلاً، الصبر على لوائها، أيسر من احتمال بلائها، واللبيب من حذرها، ولم يغتر بزينتها، فإنها غدارة ختالة خداعة، قد تعرضت بآمالها وتزينت لخطابها، فهي كالعروس العيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، وهي والذي بعث محمداً بالحق لأزواجها قاتلة، فاتق يا أمير المؤمنين صرعتها، واحذر عثرتها، فالرخاء فيها موصول بالشدة والبلاء، والبقاء مؤد إلى الهلكة والغناء واعلم يا أمير المؤمنين أن أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، وتاركها موفق، والمتمسك بها هالك غرق، والفطن اللبيب من خاف ما خوفه الله، وحذر ما حذره، وقدر من دار الفناء إلى دار البقاء فعند الموت يأتيه اليقين، الدنيا يا أمير المؤمنين دار عقوبة، لها يجمع من لا عقل له، وبها يغتر من لا علم عنده، والحازم اللبيب من كان فيها كالمداوي جراحه، يصبر على مرارة الدواء، لما يرجو من العافية، ويخاف من سوء عاقبة الدار والدنيا وأيم الله، يا أمير المؤمنين حلم، والآخرة يقظة، والمتوسط بينهما الموت، والعباد في أضغاث أحلام، وإني قائل لك يا أمير المؤمنين ما قال الحكيم:
…………فإن تنج من ذي عظيمة
…………………وإلا فإني لا أخالك ناجيا(3/393)
…ولما وصل كتابه إلى عمر بن عبد العزيز بكى وانتحب حتى رحمه من كان عنده وقال: يرحم الله الحسن فإنه لا يزال يوقظنا من الرقدة، وينبهنا من الغفلة، ولله دره من مشفق ما أنصحه وواعظ ما أصدقه وأفصحه. وكتب إليه عمر بن عبد العزيز: وصلت مواعظك النافعة فاستشفيت بها، ولقد وصفت الدنيا بصفتها، والعاقل من كان فيها على وجل، فكأن كل من كتب عليه الموت من أهلها قد مات والسلام عليك ورحمة الله، وبركاته، فلما وصل كتابه إلى الحسن قال: لله درّ أمير المؤمنين من قائل حق وقابل وعظاً لقد أعظم الله جل ثناؤه بولايته المنة، ورحم بسلطانه الأمة، وجعله بركة ورحمة6476. وكتب إليه: أما بعد: فإن الهول الأعظم، والأمر المطلوب أمامك، ولا بد من مشاهدتك ذلك، إما بنجاة أو بعطب6477.
7 ـ موقفه من الثورات التي حدثت في عهده:(3/394)
كان يرى أن تغيير الفساد لا يكون بالسيف وإنما يكون بالتوبة والرجوع إلى الله والنصح لأصحاب الأمور وقد قال: وما أعجب أمر من يحاول أن يغير بالسيف، فإن التغيير لا يكون إلا بالتوبة6478وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوب الصبر على ما تكرهه منهم: من رأى من أمير شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية6479. ويرى بعد فقهه لهذا الحديث وأمثاله أن تسلط الحكام عقوبة من الله تعالى تحتاج لصبر ويقول: لو أن الناس إذا ابتلوا من قِبل سلطانهم صبروا ما لبثوا أن يُفرج عنهم، ولكنهم يجزعون إلى السيف فيوكلون إليه فوالله ما جاءوا بيوم خير قطّ6480. وكان موقفه من ثورة ابن الأشعث كما مر معنا وكان يرى أن ولاة الأمور طالما أنهم يقيمون الجمعة والجماعة والفيء، والثغور6481والحدود، فلا يجوز الخروج عليهم6482، وقد علق المودودي على منهج الحسن البصري في التعامل مع الثورات بأنه كان يشك بجدوتها6483، وكان موقفه من ثورة يزيد بن المهلب ينظر إليها بقلق شديد خصوصاً وأن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز كان قد حبس يزيد بن المهلب لفساده ولأنه إن تولى أموال المسلمين6484 فسينفقها في ملذاته، ويرى الحسن أن غضبة ابن المهلب غضبة لنفسه ومطامعه، فيذهب الحسن إلى حيث اجتمع الناس في الجامع يتوكأ على عاتق معاذ بن سعد وهو يقول له: انظر هل ترى رجلاً نعرفه؟ وسر الحسن عندما لم ير في المجموع رجلاً من أصحابه6485. وتزداد جرأة الحسن وصدعه بالحق، ويتقدم من المنبر ويزيد يخطب. وقال بصوت مرتفع يخاطب ابن المهلب: ((والله لقد رأيناك والياً ومولى عليك فما ينبغي لك ذلك. ويقف موقفاً أشد جرأة من سابقه فقد خرج على الناس وقد نصبوا الرايات، واصطفوا صفين، وهم ينتظرون خروج يزيد بن المهلب، ويقولون: يدعونا لسنة العمرين، فقال الحسن: إنما كان يزيد بالأمس يضرب أعناق هؤلاء الذين ترون، ثم يسرح بهم إلى بني مروان يريد(3/395)
بهلاك هؤلاء رضاهم، فلما غضب غضبة نصب قصباً، ثم وضع عليها خرقاً ثم قال: إني قد خالفتهم فخالفوهم وقال: أدعوكم إلى سنة العمرين، وإن من سنة العمرين أن يوضع قيد في رجله ثم يرد إلى السجن ويوضع في جبة6486. وتزداد مواعظ الحسن وكراهيته للثورة فيخطب الناس ويقول: أيها الناس، الزموا رحالكم وكفوا أيديكم، واتقوا الله مولاكم، ولا يقتل بعضكم بعضاً على دنيا زائلة وطمع فيها يسير، ليس لأهلها بباق، وليس عنهم فيما اكتسبوا براض، إنه لم يكن إلا كان أكثر أهلها الخطباء، والسفراء والسفهاء، وأهل التيه والخيلاء، وليس يسلم منها إلا المجهول الخفي، والمعروف التقي6487. وعلى أثر هذه الخطبة، يهدد مروان ابن المهلب خليفة يزيد في الثورة فيقول: لقد بلغني أن هذا الشيخ الضال المرائي يثبط الناس، والله لو أن جاره نزع من خص داره قصبة لظل يرعف أنفه، والله ليكُفنّ عن ذكرنا وعن وجهه علينا سقاط الأبلة6488، وعلوج فرات البصرة، أو لأنخين عليه مبرداً خشناً6489. ووقف الناس مع الحسن وقالوا له: لو أرادوك ثم شئت لمنعناك، فأجابهم بقوله: فقد خالفتكم إذا إلى ما نهيتكم عنه، آمركم ألا يقتل بعضكم بعضاً مع غيري وأدعوكم إلى أن يقتل بعضكم بعضاً دوني6490؟ هذا هو موقف الحسن من كل فتنة يسعى لجمع شمل المؤمنين وينهى عن كل فرقة بينهم6491وعن سلم ابن أبي الذّيّال قال: سال رجل الحسن وهو يسمع وأناس من أهل الشام فقال: يا أبا سعيد ما تقول في الفتن مثل يزيد بن المهلب وابن الأشعث؟فقال: لا تكن مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، فقال رجل من أهل الشام، ولا مع أمير المؤمنين يا أبا سعيد، نعم ولا مع أمير المؤمنين6492وقد سلك الحسن منهج السلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يؤيد الثورة المسلحة لأسباب:
أ ـ أن الدعوة إلى الخروج عليهم يتبعها فوضى في أمور، واضطراب الأمن وفساد الأحوال، وفوضى ساعة يرتكب فيها المظالم ما لا يرتكب في استبداد السنين.(3/396)
ب ـ رأى أن كثرة الخروج على الولاة يضعف الدولة الإسلامية ويجعل بأس المسلمين بينهم شديداً، فيكلب فيهم عدوهم، ويخرب عليهم حقوقهم.
ج ـ ولأنه رأى أن الدماء تراق في الخروج بدون حق يقام، ومظلمة تدفع والناس يخرجون من يد ظالم إلى أظلم.
س ـ وجد أن الطريق المعبّد لإصلاح هذا، إصلاح فساد المحكومين إذا تعذر عليه إصلاح فساد الحاكم، رأى أن الفساد عمّ الاثنين وتغلغل في الفريقين، فاعتقد أن الحكام ما لم يتغير الشعب والملازمة ثابتة بينهما6493.
8 ـ كيف يضل قوم هذا فيهم؟
قال خالد بن صفوان: لقيت مسلمة بن عبد الملك فقال: يا خالد، أخبرني عن حسن أهل البصرة؟ قلت: أصلحك الله، أُخبرك عنه بعلم، أنا جاره إلى جانبه وجليسه في مجلسه وأعلم من قبلي به: أشبه الناس سريرة بعلانية، وأشبهه قولاً بفعل، إن قعد على أمر قام به، وإن قام على أمر قعد عليه، وإن أمر بأمر كان أعمل الناس به، وإن نهى عن شيء كان أشرك الناس له، رأيته مستغنياً عن الناس، ورأيت الناس محتاجين إليه، قال:حسبك، كيف يضل قوم هذا فيهم6494. ومن أقوال الحسن البصري ما رواه هشام بن حسّان: سمعت الحسن يحلف بالله، ما أعز أحد الدرهم إلا أذلهُ الله6495، وقال: بئس الرفيقات، الدينار والدرهم، لا ينفعانك حتى يُفارقاك6496.
9 ـ وفاة الحسن البصري:(3/397)
…مرض الحسن البصري مرض الموت وابنه إلى جانبه يمرضه ويعنى به وهو على سريره يسترجع ويكثر من الاسترجاع فيقول له ابنه: أمثلك يسترجع على الدنيا؟ فيجيبه بقوله: يا بني لا استرجع إلا على نفسي التي لم أصب بمثلها6497، وعن أبان بن محبر عن الحسن أنه لما حضره الموت دخل عليه رجال من أصحابه فقالوا له: يا أبا سعيد زودنا منك كلمات تنفعنا بهن. قال: إني مزودكم ثلاث كلمات، ثم قوموا عني ودعوني ولما توجهت له، ما نهيتهم عنه من أمر، فكونوا من أترك الناس له، وما أمرتم به من معروف فكونوا من أعمل الناس به، واعلموا أن خطاكم خطوتان، خطوة لكم وخطوة عليكم، فانظروا أين تغدون وأين تروحون6498. وقبل أن يسلم الحسن روحه أغمى عليه ثم أفاق إفاقة فقال: لقد نبهتموني من جنان وعيون ومقام كريم6499. وفي ليلة الجمعة وفي مستهل رجب سنة عشر ومائة6500، أسلم الروح إلى بارئها وعاش نحواً من ثمان وثمانين سنة. كما قال ابنه عبد الله6501، وقبيل وفاته قال رجل لابن سيرين: رأيت كأن طائراً أخذ أحسن حصاة في المسجد فقال: إن صدقت رؤياك مات الحسن، فلم يكن إلا قليلاً حتى مات الحسن6502. وقام بتغسيله تلميذاه: أيوب السختياني، وحميد الطويل، وصلى عليه عقيب الجمعة النضر بن عمر المقري6503، قال حميد الطويل: توفي الحسن عشية الخميس وأصبحنا يوم الجمعة ففرغنا من أمره وحملناه بعد صلاة الجمعة ودفناه، فتبع الناس كلهم جنازته، واشتغلوا به، فلم تقم صلاة العصر بالجامع، ولا أعلم أنها تركت منذ كان الإسلام إلا يومئذ، لأنهم تبعوا كلهم الجنازة، حتى لم يبق بالمسجد من يصل العصر6504. رحم الله الحسن البصري النموذج الرفيع لورثة الأنبياء والعلماء الربانيين، فقد كان من الرجال العظماء، قلما تجد له مثيلاً زهداً، وورعاً، وعلماً، وحكماً، وشجاعة، وأدباً6505، وكان من العلماء الذين نشطوا في دولة الفقهاء التي قادها عمر بن عبد العزيز ولم يبخل بوقت ولا نصيحة ولا موعظة ولا توجيه(3/398)
ولا إرشاد.
سابعاً: عمر والفتوح ورفع الحصار عن القسطنطينية:
عندما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة كان من أول أعماله إيقاف التوسع في المناطق النائية في أطراف الدولة، ومحاولة سحب القوات الإسلامية من مناطق القتال، وأول أعماله في هذا المضمار كان في القوات التي عُني الخليفة سليمان بحشدها وإنفاذها بقيادة أخيه مسلمة لفتح القسطنطينية وظلت تحاصرها مدة سنتين لاقت فيها مصاعب كثيرة دون أن تفلح في تحقيق هدفها، فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة: كتب بقفل مسلمة بن عبد الملك من القسطنطينية وقد كان سليمان أغزاه إياها برّاً وبحراً. فأشتد عليهم المقام وجاعوا حتى أكلوا الدواب من الجهد والجوع، حتى يتنح الرجل عن دابته فتقطع بالسوق .. ولجّ سليمان في أمرهم، فكان ذلك يغم عمر، فلما ولي، رأى أنه لا يسعه فيها بينه وبين الله عز وجل شيء من أمور المسلمين ثم يؤخر فعله ساعة، فذلك الذي حمله على تعجيل الكتاب6506، وقد وجه عمر بن عبد العزيز إلى مسلمة وهو بأرض الروم يأمره بالقفول منها بمن معه من المسلمين، فوجه إليهم خيلاً عتاقاً وطعاماً كثيراً وحث الناس على معونتهم، فكان الذي وجه إليه الخيل العتاق فيما قيل خمسمائة رأس6507. ويروي خليفة أنه في سنة 99هـ حمل عمر بن عبد العزيز الطعام والدواب إلى مسلمة بن عبد الملك إلى بلاد الروم وأمر من كان له هناك حميم أنه يبعث إليه وبعث معه بعثاً فأغاث الناس، وأذن لهم بالقفول6508، وفي الأندلس ولىّ عمر بن عبد العزيز السمح بن مالك الخولاني، وعهد إليه: بإخلاء الأندلس من الإسلام إشفاقاً عليهم، إذ خشى تغلب العدو عليهم .. لانقطاعهم من وراء البحر من المسلمين6509. غير أن السمح لم ير الانسحاب الكامل في الأندلس، وكتب إلى الخليفة يقول: إن الناس قد كثروا بها وانتشروا في أقطارها، فاضرب عن ذلك، وأزال الأندلس عن عمالة أفريقية6510. وفي المشرق، كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الرحمن والي خراسان يأمره(3/399)
بإقفال من وراء النهر من المسلمين بذراريهم، فأبوا وقالوا: لا يسعنا مرو (قاعدة خراسان). فكتب إلى عمر بذلك، فكتب إليه عمر، اللهم إني قد قضيت الذي عليّ فلا تغزُ بالمسلمين، فحسبهم الذي فتح الله عليهم6511ويقتصر خليفة بن خياط على القول بأن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الجراح بن عبد الله الحكمي: ((لا تغزُ، وتمسكوا بما في أيديكم6512)) وفي جبهة بلاد السند: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام والطاعة على أن يملكهم ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وقد كانت بلغتهم سيرته ومذهبه، فأسلم جيشه والملوك، وتسموا بأسماء العرب وكان عمرو بن مسلم الباهلي عامل عمر على ذلك الثغر6513. إن إيقاف عمر بن عبد العزيز التوسع القائم على استخدام المُقاتلة في الأطراف النائية للدولة وعمله على إحلال الحوار السلمي في إخماد الحركات المسلحة للمعارضة، لا يعني أنه أراد إلغاء المؤسسة العسكرية التي تمتد جذورها إلى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان لها الدور الأكبر في حماية الدولة وتوسيعها وتثبيت الأمن والاستقرار فيها، والواقع أن التنظيمات المتصلة بالمُقاتِلة كانت تمسُّ صميم الحياة المدنية، ولا غنى لأي دولة عن مؤسسة الجيش في حفظ حدودها والمخاطر التي قد تتعرض لها لذلك كان لا بد من إبقاء الجند والمؤسسات المتصلة به، فظلت الأمصار، وهي مراكز إقامة المقاتلة العرب، قائمة دون أن يلغيها، أو يبدلها، أو يدخل تعديلات في تنظيماتها السكانية والإدارية وقضت الأحوال أن يتابع خلال مدة خلافته القصيرة، استمرار الحركات العسكرية المحدودة النطاق في عدد من الجبهات. ففي أذربيجان أغار الترك على المسلمين: فقتلوا من المسلمين جماعة ونالوا منهم، فَوَجَّه إليهم عمر بن عبد العزيز حاتم بن النعمان الباهلي، فقتل أولئك الترك، فلم يفلت منهم إلا اليسير، فقدم منهم على عمر بخناصرة خمسون أسيراً6514. وفي سنة 100 هـ أغارت الروم في البحر على ساحل(3/400)
اللاذقية، فهدموا مدينتها وسَبَوْا أهلها، فأمر ببنائها وتحصينها6515. وفي 101 هـ: أغزى عمر بن عبد العزيز الوليد بن هشام المعيطي، وعمرو بن قيس الكندي من أهل حمص، الصائفة6516. وأمر بترحيل أهل طرندة6517وهم كارهون، وذلك لإشفاقه عليهم من العدو6518. وأراد أن يهدم المصيصة لتعُّرضها لغارات الروم، ثم أمسك عن ذلك وبنى لأهلها مسجداً جامعاً من ناحية كفرييا واتخذ فيه صهريجاً وكان اسمه عليه مكتوباً6519. وجعلها مركزاً متقدماً لدرء الخطر عن انطاكية من غزوات الروم المتكررة6520، ورغم أن الخليفة عمر بن عبد العزيز كان قد حد من النشاط العسكري مع الروم وسحب الجيش الذي كان يحاصر القسطنطينية وبعض الحصون المتقدمة في بلد الروم، إلا أنه كان حازماً شديداً في أخذ الحق والدفاع عنه، وهذا ما تشير إليه رواية ابن عبد الحكم، حيث يذكر أنه عندما أرسل الخليفة عمر بن عبد العزيز رسولاً إلى ملك الروم، وقص عليه قصة رجل أسير في بلد الروم ـ وقد مرت معنا ـ أجبر على ترك الإسلام وإعتناق النصرانية، قائلين له: إن لم تفعل سملت عينك، فاختار دينه على بصره فسملت عيناه، فأرسل الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى ملك الروم وقال له: أقسم بالله، لأن لم ترسله إلي لأبعثن إليك من الجنود جنوداً يكون أولهم عندك وآخرهم عندي6521، فاستجاب ملك الروم لطلبه، وبعث بالرجل إليه6522. وكان سياسة عمر بن عبد العزيز المرحلية تقوم على ضبط الثغور وحدود الدولة الإسلامية والإهتمام بفتح العقول، وأحياء القلوب وتطهير النفوس للشعوب الجديدة التي دخلت في الإسلام ولذلك بدأ يرسل سرايا الدعاة والعلماء للبدو القاطنين داخل الدولة الإسلامية وللشعوب التي كانت في أشد حاجة لتعاليم الإسلام.
ثامناً الإهتمام بالدعوة الشاملة:(3/401)
ركز عمر جهوده بالبناء الداخلي للدولة لترسيخ وحدتها وأمنها ونشر العلم وتوصيله لكل أفراد الأمة ما أمكن لذلك سبيلا، كما اهتم على نشر العدل بين الرعية وإزاحة الضغائن والأحقاد من بين المسلمين وقد استهدف عمر بن العزيز قلوب الناس وعقولهم ونفوسهم بتعاليم الإسلام ووضع مشروعاً كبيراً لتحقيق ذلك الهدف العظيم ولم يكن عمر بالإنسان الذي تستهويه المشاريع الكبرى، فيقف عند حدود الخيال لا يتعداه، بل حوّل مشروعه إلى برنامج عملي قابلاً للتطبيق، بعدما مهد الظروف، وأحاط برامجه بالضمانات العملية وهيَ له الأسباب مما جعله يحيله إلى واقع مشهود وقد ساعده على نجاح مشروعه الدعوي التربوي العلمي أمور منها:(3/402)
1ـ وضع قانون التفرغ للدعاة: حيث الزم الدولة بكفالة عدد من العلماء والدعاة والمفكرين، كي تتيح لهم التفرغ الكامل لا نجاز مشاريع فكرية دعوية التي يعكفون عليها باختيار أو بتوجيه من الدولة، فأجرى الأرزاق على العلماء ورتب لهم الرواتب يتفرغوا لنشر العلم ويكفوا مؤونة الاكتساب6523، فقارئ القرآن الذي حفظه وقام يقرئه للناس ويعلمهم أحكامه والمحدث الذي يعقد مجالس الإملاء وينشر الحديث النبوي، والفقيه الذي ينظر في الكتب ويستنبط منها ويعلم الناس أمور دينهم ليعبدوا الله على بصيرة، والطالب الذي يتفرغ للعلم أو البحث والدرس، كل أولئك قد يشغلهم أمر ذويهم وأبنائهم وسدّ حاجتهم وتدبير أمور معاشهم، فقام عمر بقطع هذا الهاجس عنهم، وكفل لهم ولمن يعولون ما يعيشون به حياة كريمة، تتكفل به الدولة، ويؤخذ من بيت المال، ونعمّا ما فعل رضي الله عنه، فبذلك شجع كل من وجد في نفسه الإمكانية لنشر العلم وخدمة الدين والأمة6524. وكان يمنح من بيت المال مبلغاً قدره مائة دينار لكل من انقطع إلى مسجد جامع في أي بلد إسلامي، لغرض التفقه ونشر العلم، وتدريس القرآن وتلاوته6525وعن أبي بكر بن أبي مريم قال: كتب عمر بن عبد العزيز على والي حمص: مُرْ لأهل الصلاح من بيت المال بما يُغنيهم لئلا يشغلهم شيء عن تلاوة القرآن وما حملوا من الأحاديث6526. وعن أبي مريم قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى والي حمص: ((انظروا إلى القوم الذين نصبوا أنفسهم للفقه، وحبسوها في المسجد عن طلب الدنيا، فأعط كل رجل منهم مائة دينار، يستعينون بها على ما هم عليه، من بيت مال المسلمين، حين يأتيك كتابي هذا، وإن خير الخير أعجله. والسلام عليك6527. وفرض الرزق لمن يحدث الناس بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومناقب أصحابه، وللقصّاص والواعظين كذلك، وذكر ابن شبة" أن عمر بن عبد العزيز أمر رجلاً ـ وهو بالمدينة ـ أن يقص على الناس، وجعل له دينارين كل شهر، فلما قدم هشام بن عبد(3/403)
الملك جعل له ستة دنانير كل سنة6528. ومما جاء في كتبه بشأن إجراء الرزق على طلبة العلم لينقطعوا عن الشواغل، ما ذكره ابن عبد البر عن يحي بن أبي كثير قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: أن أجْرُوا على طلبة العلم الرزق، وفرّغوهم للطلب6529.
2 ـ حض العلماء على نشر العلم وعلنيته، وإتخاذ المساجد مراكز لتعليم الناس أمور دينهم، وإقراء طلبة العلم وإسماعهم، وإملاء الحديث النبوي، وإحياء السنة6530. قال عكرمة بن عمار وهو من أهل اليمن ـ سمعت كتاب عمر بن عبد العزيز يقول: أما بعد: فأمر أهل العلم أن ينشروا العلم في مساجدهم، فإن السنة كانت قد أميتت6531، وأسند ابن عبد البر عن جعفر بن برقان الرَّقي ـ نسبة إلى الرقة شمال شرقي سورية ـ قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز: أما بعد فَمُرْ أهل الفقه والعلم من عندك، فلينشروا ما علمهم الله في مجالسهم، ومساجدهم6532.
3 ـ توجيه الأمة إلى أهمية العلم: وفي ذلك يقول: إن استطعت فكن عالماً فإن لم تستطع، فكن متعلماً، فإن لم تستطع فأحبهم، فإن لم تستطع فلا تبغضهم. ثم قال: لقد جعل الله له مخرجاً إن قبل6533.
4 ـ إرسال العلماء الربانيين في شمال أفريقيا:(3/404)
…كان عمر بن عبد العزيز يرسل العلماء إلى الأمصار بل البوادي ليعلّموا أهلها شرع الله، ويفقهوهم فيه، فقد بعث يزيد بن أبي مالك والحارث بن محمد إلى البادية ليعلما الناس السنة، وأجرى عليهم الرزق، فقبل يزيد ولم يقبل الحارث وقال: ما كنت لآخذ على علم علمنيه الله أجراً. فذكر ذلك لعمر فقال: ما نعلم بما صنع يزيد بأساً، وأكثر الله فينا مثل الحارث6534. وقد عبر عمر بهذا الجواب عما يجب أن يتحلى به الحاكم المسلم من مرونة فكرية، وعدم جمود على الأشكال، حيث أعلن أن أخذ الأموال لقاء لخدمات العلمية أمر لا بأس به، وسأل الله ـ من جهة أخرى ـ أن يكثر أولئك الذين يقومون بهذه الخدمات دون أجر إلا أجر الله6535. وقد بعث عمر إلى مصر الإمام المفتي الثبت، عالم المدينة (نافعاً) مولى ابن عمر، وراويته، فعن عبد الله بن عمر: بعث عمر بن عبد العزيز نافعاً مولى ابن عمر إلى أهل مصر يعلمهم السنن6536، وأرسل عشرة من فقهاء المدرسة المصرية من رجال التابعين على أفريقية، ليفقهوا أهلها ويعلموهم، وينشروا بينهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لينالهم من الخير مثل الذي عمّ إخوانهم من أهل الحجاز والشام والعراق، وكانت معاقل العلم6537، وتطلع إلى شمال أفريقيا، ليغزو القلوب والعقول والنفوس بدين الله، فأرسل العلماء الربانيين العشرة بعد أن وضع أهدافاً لخطته التعليمية في ذلك الإقليم منها:
أ ـ…اختيار علماء ربانيين اشتهروا بالعلم والفقه والدعوة والتجرد للإشراف على التربية والتعليم.
ب ـ وضع خطة بعيدة المدى لنشر تعليم اللغة العربية، ومحو الأمية في أوساط القبائل البربرية، حتى يسهل عليها بعد ذلك فهم القرآن والسنة والتعامل معهما.
ج ـ الاهتمام بربط الناس بالقرآن المجيد الذي هو حبل الله المتين، ويكون ذلك بفتح الكتاتيب، وجمعيات تحفيظ القرآن وتجويده.
ح ـ البلاغ الواضح البين لعقائد أهل السنة.
س ـ تعليم الناس الحلال والحرام6538.(3/405)
…ولقد بدأت بركات عهد عمر بن عبد العزيز على الشمال الإفريقي بتعيين أمير صالح عليه وبإرسال الفقهاء والعلماء الربانيين وإليك ترجمة الأمير والفقهاء:
ـ…إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر:
…ولاه عمر بن عبد العزيز على إفريقية في المحرم سنة 99 ـ 100هـ فكان خير أمير، قال ابن خلدون: وأسلم جميع البربر في أيامه، وأرسل معه عشرة من فقهاء التابعين وعلمائهم يفقهون الناس في أمور الدين، ويبينون لهم الحلال والحرام6539. وكان هذا الأمير في غاية الزهد والتواضع حريصاً على نشر العلم وسار في أهل البلاد بسيرة العدل، وكان شديد الحفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى عنه ابن عساكر إنه قال: ينبغي لنا أن نحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسيلم كما نحفظ القرآن، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وأحمد، وغيرهم. ومكث في القيروان معلماً للناس، ناشراً للسنة، لمدة ثلاث وثلاثين سنة حيث توفي بها سنة 131هـ6540، وقد جمعت شخصية إسماعيل رحمه الله، الكفاءة، والعلم والورع، فأنتجت هذه الثمار التي ساهمت في ترسيخ الإسلام في شمال إفريقيا وينبغي لنا أن نهتم بتحقيق هذه الصفات وغيرها في نفوس القادة والولاة.
ـ بكر بن سوادة الجذامي، أبو ثمامة(ت128 هـ بإفريقية):
أقام في الشمال الإفريقي أكثر من ثلاثين سنة محدثاً ومفتياً، وفقيهاً وقد انتفع به أهلها، ورووا عنه، أدخل على القيروان حديث عدد من الصحابة، منهم: عقبة بن عامر، وسهل بن سعد الساعدي، وسفيان بن وهب الخولاني، كما روى عن جماعة من التابعين منهم: سعيد بن المسيب وابن شهاب الزهري، وقد قارب شيوخه الأربعين، وروى عنه كثير من أهل القيروان منهم عبد الرحمن بن زياد، وأبو زرعة الإفريقي وكان ثقة في حديثه، أخرج له مسلم والأربعة، والبخاري تعليقاً، وأحمد، والطبراني، وغيرهم، وعداده في المصريين رغم طول مكثه بالقيروان ووفاته بها6541.(3/406)
ـ جُعثلُ بن عاهان الرُّعيني القتباني، أبو سعيد(ت حوالي 115 هـ)
…عده أبو العرب وابن حجر وغيرها في التابعين، ولم يذكروا عمن روى من الصحابة، وكان محدثاً، فقيهاً مقرئاً، تولى قضاء الجند بالقيروان وبث فيها علماً كثيراً لمدة زادت عن خمسة عشر عاماً، وروى عنه من أهل القيروان عبيد الله بن زحر، وعبد الرحمن بن زياد، وبكر بن سوادة وهو زميله في البعثة العلمية، وثقه أكثر النقاد، وأخرج له الأربعة وأحمد وغيرهم: توفي في خلافة هشام بن عبد الملك سنة 115 هـ6542.
ـ حبان بن جبلة القرشي: مولاهم، ودفع الوهم بأن عمر رضي الله عنه أرسله لتفقيه أهل مصر ت 125 هـ وقيل 122 هـ بالقيروان أدخل في الشمال الإفريقي حديث جملة من الصحابة منهم: ابن عباس وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، ووالده عمرو، وبقي يبث العلم في عاصمة الشمال الإفريقي في مدينة القيروان أكثر من خمس وعشرين سنة، أنتفع به أهلها، وروى عنه كثيراً منهم، كعبد الرحمن بن زياد، وعبيد الله بن زحر، وموسى بن علي بن رباح وغيرهم، وهو عند النقاد ثقة في حديثه، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وابن سنجر في مسنده والحاكم في المستدرك وغيرهم6543.
ـ سعد بن مسعود التجيبي: أبو مسعود(ت بالقيروان): يروي عن جماعة من الصحابة، منهم: أبو الدرداء، ويروي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً حتى وهم بعضهم فعده في الصحابة، ولذلك نبهت معظم المصادر على أنه لا صحبة له، وقد سكن القيروان وبث في الشمال الإفريقي علماً كثيراً وكانت مجالسه مليئة بالحكم والمواعظ البليغة، وكان شديداً على الأمراء، روى عنه من أهل القيروان: مسلم بن يسار الإفريقي، وعبيد الله بن زحر، وعبد الرحمن بن زياد، في جامع ابن وهب وغيره، وذكر الدباغ أنه توفي بالقيروان بعد أن بث فيها علماً كثيراً، ولم يذكر تاريخ وفاته6544.(3/407)
ـ طلق ابن جعبان الفارسي، وقيل: جابان، والصواب الأول كما في الإكمال، تابعي، لقي عمر وسأله، وأكثر روايته عن التابعين كان فقيهاً عالماً، وروى عنه من أهل القيروان: موسى بن علي، وابن أنعم، ولم يذكروا مدة إقامته بها ولا تاريخ وفاته6545.
ـ عبد الرحمن بن رافع التنوخي، أبو الجهم (ت بالقيروان سنة 113 هـ): دخل القيروان في وقت مبكر، سنة 80هـ، وهو أجل قضاتها، وذلك على عهد حسان بن النعمان واستمر يبث فيها العلم ما يقارب ثلاثاً وثلاثين سنة، حتى إنتفع به خلق كثير من أهلها وقد أدخل إلى القيروان حديث جماعة الصحابة عرفنا منهم: عبد الله بن عمرو بن العاص، وحدث عنه من القرويين: عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، وعبد الله بن زحر الكناني، وبكر بن سواد الجذامي وغيرهم... وهو أول من ولي قضاء القيروان وتوفي بها سنة 113هـ6546.
ـ …عبد الله بن المغيرة بن أبي بردة الكناني:
…كان مقيماً في القيروان قبل زمن بعثة عمر بن عبد العزيز بمدة طويلة معروفاً لدى أهلها مشهوراً بينهم بالعدالة والتقى، وقد ولاه عمر بن عبد العزيز قضاء القيروان سنة 99هـ، لما علمه من فضله ودينه وعلمه فاستمر في منصبه إلى أن استقال منه سنة 123هـ، وكان زاهداً ورعاً عالماً، سار في أهل القيروان بالكتاب والسنة ونشر العلم بينهم لمدة طويلة زادت عن خمس وعشرين سنة، ذكره ابن حبان في الثقات وأثنى عليه المصنفون بالفضل والعلم والدين6547.(3/408)
ـ…عبد الله بن يزيد المعافري الحبلي ، أبو عبد الرحمن ت بالقيروان 100هـ: دخل القيروان في زمن مبكر، ولعل ذلك كان مع موسى بن نصير سنة 86هـ لأنه شهد فتح الأندلس، ثم عاد إلى القيروان وسكنها وبنى بها داراً ومسجداً ثم عين ضمن أفراد البعثة العلمية إلا أن وفاته كانت سنة 100هـ، أي بعد سنة واحدة من التكليف الرسمي، ومع ذلك فقد قال عنه المالكي: فانتفع به أهل إفريقية وبث فيها علماً كثيراً وأدخل القيروان حديث جماعة من الصحابة ممن لم يدخلها، وزاد في إفشاء حديث من دخلها منهم، حدث عن ابن عمر وعقبة بن عامر، وابن عمرو، وأبو ذر، وروى عنه من أهلها عبد الرحمن بن زياد، وأبو كريب جميل بن كريب القاضي (ت 139)هـ وغيرهما، كان رجلاً صالحاً ورعاً شديد الإقبال على نشر السنة، وكان تأثيره في الحياة العلمية ـ خاصة الجانب الحديثي منها ـ بالقيروان كبيراً، وقد بنى فيها مسجداً لمجالسه العلمية أجمع النقاد على توثيقه، وحديثه عند مسلم، والأربعة، وابن وهب في جامعه وأحمد وغيرهم6548.(3/409)
ـ…وهب بن حي المعافري: وقد ذكر ابن أبي حاتم أن هناك من قلبه إلى: حي بن موهب، وأن أبا زرعة قد صحح ذلك، غزا إفريقية قديماً، لأنه سأل ابن عباس المتوفى سنة 68هـ عن آنية أهل المغرب كما في الرياض والمعالم، وهو من أفراد بعثة عمر، وقد سكن القيروان، وبث فيها علماً كثيراً وبها كانت وفاته، وقد أدخل إلى القيروان حديث ابن عباس وغيره، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وروى عنه من أهل القيروان عبد الرحمن بن زياد الإفريقي ولم تظهر المصادر حاله من حيث التعديل والجرح6549، هؤلاء الفقهاء العشرة من خيرة فقهاء التابعين أرسلهم عمر بن عبد العزيز إلى الشمال الإفريقي ليفقهوا ويعلموا الناس دينهم فكانوا عند حسن ظنه بهم وكانوا للناس قدوة صالحة، وقد سبق هؤلاء العشرة كثير من التابعين الذين قاموا بتعليم أهل البلاد أحكام الدين علماً وعملاً6550. وكان لهؤلاء العشرة آثار هامة في القرآن الكريم وتفسيره والحديث وفي نشر السنة العملية والإعتقادية الصحيحة، وساعدوا ولاة أمور المسلمين على مقاومة النحل الخارجية وتركيز أحكام الإسلام بين البربر فقد روى المالكي أنه لما ثارت الخوارج على حنظلة ابن صفوان بطنجة سنة 122هـ جمع حنظلة علماء إفريقية وهم الذين بعثهم عمر بن عبد العزيز إلى إفريقية ليفقهوا أهلها فكتبوا هذه الرسالة ليقتدي بها المسلمون ويعتقدوا ما فيها:... فإن أهل العلم بالله وبكتابه وسنه نبيه صلى الله عليه وسلم يعلمون أنه يرجع جميع ما أنزل الله عز وجل إلى عشر آيات: آمرة وزاجرة ومبشرة، ومنذرة، ومخبرة، ومحكمة، ومتشابهة، وحلال وحرام وأمثال، فآمرة بالمعروف وزاجرة عن المنكر، ومبشرة بالجنة، ومنذرة بالنار ومخبرة بخبر الأولين، والآخرين، ومحكمة يعمل بها، ومتشابهة يؤمن بها، وحلال أمر أن يؤتى، وحرام أمر أن يجتنب، وأمثال واعظة فمن يطع الآمرة وتزجره الزاجرة فقد استبشر بالمبشرة وأنذرته المنذرة، ومن يحلل الحلال ويحرم الحرام،(3/410)
ويرد العلم فيما اختلف فيه الناس إلى اله، مع طاعة واضحة ونية صالحة فقد فاز وأفلح وأنجح وحيا حياة الدنيا والآخرة والسلام6551، إن هذه الرسالة تعتبر وثيقة عظيمة الأهمية إذ تدل على أصالة علم هذه البعثة العلمية، ووضوح أهدافهم الشرعية أمامها، حتى أنهم أوجزوا فحوى الرسالة ونظراً لعظيم فائدتها عممت على أن تقرأ على منابر المساجد في جميع ضواحي إفريقية6552.
5 ـ رسائله الدعوية إلى الملوك في الهند وغيرها:
…كتب عمر بن عبد العزيز إلى ملوك السند يدعوهم إلى الإسلام على أن يملكهم بلادهم ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وقد كانت سيرته بلغتهم، فأسلم جيشبة بن داهر6553، والملوك تسموا له بأسماء العرب... وبقي ملوك السند مسلمين على بلادهم أيام عمر ويزيد بن عبد الملك6554. وقد أرسل عليهم عمر من يعلمهم دينهم6555، كما أرسل عمر برسائل إلى ملوك ما وراء النهر يدعوهم فيها إلى الإسلام فأسلم بعضهم6556، وأما أليون قيصر الروم فقد بعث إليه عمر وفداً برئاسة عبد الأعلى بن أبي عمرة لدعوته إلى الإسلام6557.
6 ـ تشجيع غير المسلمين على الدخول في الإسلام:
…قام عمر بتشجيع غير المسلمين على الدخول في الإسلام عن طريق إعطائهم الأموال لتألفة قلوبهم، وذلك إتباعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيذكر ابن سعد عن عيس بن أبي عطاء رجل من أهل الشام كان على ديوان أهل المدينة عن عمر بن عبد العزيز أنه ربما أعطى المال من يستألف على الإسلام6558. كذلك ذكر عن عمر بن عبد العزيز أنه أعطى بطريقاً ألف دينار إستألفه على الإسلام6559.
7 ـ تصحيح الوضع الخاص لأهل الذمة:(3/411)
…لقد كان لإنصافه لأهل الذمة الذين أسلموا بوضع الجزية عنهم أثر واضح في زيادة إقبال الذميين على الدخول في الإسلام برغم كل ما ترتب على ذلك بالنسبة لبيت المال مثل ما فعل مع واليه على خراسان الجراح بن عبد الله الحكمي حيث أرسل إليه يقول: انظر من صلى قبلك إلى القبلة، فضع عنه الجزية6560، ثم أرسل بدعوة أهل الذمة إلى الدخول في الإسلام، فمثلاً أرسل إلى عامله الجراح بن عبد الله الحكمي يأمره بدعوة أهل الجزية إلى الدخول في الإسلام فإن أسلموا قبل إسلامهم، وأن يضع الجزية عنهم، ثم كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين6561. وقد ترتب على هذه الدعوة دخول عشرات الألوف من الناس في الإسلام طائعين ففي خراسان أسلم نحو من أربعة آلاف ذمي على يد واليه الجراح بن عبد الله6562، أما في المغرب فقد أسلم عامة البربر على يد والي عمر على المغرب إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر6563. وكان ذلك دليلاً على بعد نظر عمر في الإهتمام بالدعوة إلى الإسلام عن طريق الحكمة والموعظة الحسنة، إذ كانت نتائجها لا تقل عن نتائج غيرها إيجابية بل تتعدى ذلك إلى أنه اكتسب مسلمون جدد دون أن يتكلف شهيداً، أو نفقة لإعداد جيوش وهم رعاياه ويعيشون بين أظهر المسلمين، وبالتالي أولى من غيرهم بالدعوة إلى الإسلام. وبهذا يكون الإسلام قد انتشر على عهد عمر بن عبد العزيز بالحكمة والموعظة الحسنة، والاستمرار في أسلوب الجهاد الدعوي على أيدي علماء ربانيين ترخجوا من المدارس العلمية التي نضجت في عهد الدولة الأموية وهؤلاء العلماء الدعاة هم الذين نفذوا مشروع عمر بن عبد العزيز الدعوي العلمي.
المبحث السادس: الإصلاحات المالية في عهد عمر بن عبد العزيز:
لم تكن سياسة عمر المالية ارتجالية فهو مسئول عن دولة وكان يحسب حساباً لكل خطوة يخطوها ويضع الضمانات لكل عمل يعتزم تنفيذه6564. ولقد سار في سياسته على أمور منها:(3/412)
ـ العزم على الاعتصام بالكتاب والسنة، والتضحية قي سبيل ذلك، وهذا ما يبدوا واضحاً من كتبه للعمال وخطبه إلى رعيته ومثال ذلك قوله: سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سنناً الأخذ بها اعتصام بكتاب الله وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر في أمر خالفها6565.
ـ ترسيخ قيم الحق والعدل ودفع الظلم: وهذا هو أساس سياسة عمر، فجميع الأهداف والوسائل التي اتبعها كانت تنسجم مع هذا الأساس، وإحقاق الحق ودفع الظلم هو أصل من أصول الشريعة، ومقصد رئيسي من مقاصدها قال تعالى: ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)) (الحديد، الآية:25). يقول ابن القيم: فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة6566. ولقد كان عمر يرجع للحق إذا تبين له الخطأ، ويقول في ذلك: ما من طينة أهون عليّ فتّاً ولا كتاب أيسر عليّ رداً من كتاب قضيت به، ثم أبصرت أن الحق في غيره ففتتها6567.
أولاً: أهداف السياسة الاقتصادية عند عمر:
1 ـ إعادة توزيع الدخل والثروة بشكل عادل:(3/413)
لقد سعى عمر بن عبد العزيز لإعادة توزيع الدخل والثروة بالشكل العادل، الذي يرضى الله تعالى ويحقق قيم الحق والعدل والظلم، والتي وضعها عمر نصب عينيه فقد كان يراقب الانحرافات السابقة قبل خلافته ويلاحظ آثارها السلبية على نفوس الرعية ولقد انتقد سياسة سليمان بن عبد الملك التوزيعية فقال له: لقد رأيتك زدت أهل الغنى وتركت أهل الفقر بفقرهم6568. فقد أدرك عمر بن عبد العزيز أن التفاوت الاجتماعي هو نتيجة لسوء توزيع الثروة، فرسم سياسته الجديدة لإنصاف الفقراء والمظلومين ولقد استخدم عمر للوصول إلى هذا الهدف بعض الوسائل العملية منها:
ـ منع الأمراء والكبراء من الاستئثار بثروة الأمة، ومصادرة الأملاك المغصوبة ظلماً، والتي استولى عليها الأمراء والكبراء، وإعادة هذه الأموال إلى أصحابها إذا عرفوا أو إلى بيت المال، إذا لم يعرف أصحابها، أو كانت من الأموال العامة.(3/414)
ـ زيادة الإنفاق على الفئات الفقيرة والمحرومة ورعايتها وتأمين مستوى الكفاية لها عن طريق الزكاة وموارد بيت المال الأخرى6569. وقد قام بتنفيذ هذه السياسة، كما مرّ معنا في سياسته في رد المظالم ولقد كانت سياسة عمر التوزيعية تهدف على إيصال الناس إلى حد الكفاية: يلاحظ ذلك من خطبه، فقد خطب الناس يومياً فقال: وددن أن أغنياء الناس اجتمعوا فردوا على فقرائهم حتى نستوي نحن وهم وأكون أنا أولهم6570. وفي خطبة أخرى:.. ما أحد منكم تبلغني حاجته إلا حرصت أن أسدّ من حاجته ما قدرت عليه وما أحد لا يسعه ما عندي إلا وددت أنه بُدِئ بي وبلحمتي الذي يلونني حتى يستوي عيشنا وعيشكم6571 وقد طبق عمر هذا التطور علمياً عندما أمر بقضاء دين الغارمين فكتب إليه عامله: إنا نجد الرجل له المسكن والخادم، وله الفرس والأثاث في بيته، فأجاب عمر: لا بدّ للرجل من المسلمين من مسكن يأوي إليه رأسه وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوه، وأثاث في بيته، فهو غارم فاقضوا عنه6572، فسياسة عمر التوزيعية تهدف إلى كفاية الناس من حيث المسكن والمركب والأثاث، وهي عبارة عن حاجات أساسية، وضرورية للإنسان تصعب الحياة بدونها6573.
2 ـ تحقيق التنمية الاقتصادية والرفاه الإجتماعي:(3/415)
…سعى عمر بن عبد العزيز عن طريق العديد من الوسائل لتحقيق هذا الهدف، فقد أوجد المناخ المناسب للتنمية عن طريق حفظ الأمن والقضاء على الفتن، ورد الحقوق لأصحابها، وبذلك باتت الرعية مطمئنة على حقوقها، آمنة في أوطانها كذلك أمر ببناء المرافق العامة، والتي تسمى اليوم بمشاريع البنية التحتية، ولا تقوم التنمية إلا بهذه المرافق الضرورية من أنهار وترع ومواصلات وطرق، وقد أكد عمر على مبدأ الحرية الاقتصادية المقيدة بضوابط الشريعة، فانتشر الناس في تجارتهم وتثمير أموالهم واهتم كذلك إهتماماً بالغاً بالزراعة، حيث كان القطاع الزراعي من أكبر القطاعات على المستوى الفردي، وله مردود كبير على ميزانية الدولة وقد جنى عمر والأمة كلها ثمرات هذه السياسة، فقد عمّ الرخاء البلاد والعباد6574، قال رجل من ولد زيد بن الخطاب: إنما ولي عمر بن عبد العزيز سنتين ونصفاً وذلك ثلاثون شهراً فما مات حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: أجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله، يتذكر من يضعه فيهم فما يجده، فيرجع بماله قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس6575.
ثانياً : وسائل عمر بن عبد العزيز لتحقيق الأهداف الاقتصادية لدولته:
سعى عمر بن عبد العزيز لتحقيق أهدافه الاقتصادية بوسائل منها:
1 ـ توفير المناخ المناسب للتنمية: وقد عمل عمر على توفير المناخ المناسب للتنمية، وقام بالآتي:
أ ـ رد الحقوق لأصحابها: فتوفرت أجواء الأمن والطمأنينة، وترسخت قيم الحق والعدالة وردّ الحقوق المغتصبة إلى أبناء الأمة وسمّاها مظالم6576، وقد تحدثت عن سياسته في رد المظالم والحقوق إلى أهلها وذكرت الكثير من المواقف في هذا الشأن.(3/416)
ب ـ فتح الحرية الاقتصادية بقيود: فقد أكد عمر على مفهوم الحرية الاقتصادية المقيدة، وكتب إلى العمال:.. وإن من طاعة الله التي أنزل في كتابه أن يدْعى الناس إلى الإسلام كافة وأن يبتغي الناس بأموالهم في البر والبحر ولا يمنعون، ولا يحبسون6577. وقدم في موضوع آخر:... أطلق الجسور المعابر للسابلة يسيرون عليها دون جُعْل6578، لأن عمال السوء تعدوا غير ما أمروا به6579. ولم يتدخل عمر بن عبد العزيز في الأسعار، فعن عبد الرحمن بن شوبان قال: قلت لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين ما بال الأسعار غالية في زمانك وكانت في زمان ما قبلك رخيصة؟ قال: إن الذين كانوا قبلي كانوا يكفلون أهل الذمة فوق طاقتهم فلم يكونوا يجدون بُداً من أن يبيعوا ويكسروا ما في أيديهم، وأنا لا أكلف أحداً إلا طاقته، فباع الرجل كيف شاء، قال: فقلت: لو أنك سعَّرت، قال: ليس إلينا من ذلك شيء إنما السعر إلى الله6580، وتشدد عمر في أمر السلع المحرومة ومنع التعامل بها فالخمر من الخبائث التي لا يجوز التعامل فيها بين المسلمين لحرمتها ولضررها حيث يؤدي شربها إلى استحلال الدم الحرام وأكل المال الحرام. ويقول عمر: فإن من نجده يشرب منه شيئاً بعد تقدمنا إليه فيه نوجعه عقوبة في ماله ونفسه ونجعله نكالاً لغيره6581. وقد أثمرت سياسة عمر في رد الحقوق وإطلاق الحرية الاقتصادية المنضبطة، حيث وفرت للناس الحوافز للعمل والانتاج، وأزالت العوائق التي تحول دون ذلك وهذا أدى إلى نمو التجارة، وبالتالي إلى زيادة حصيلة الدخل الخاضع للزكاة، وهذا يؤدي بدوره إلى زيادة الزكاة ممّا يؤدي إلى رفع مستوى الطبقات الفقيرة وارتفاع قوتها الشرائية والتي ستتوجه إلى الاستهلاك، وبالتالي إلى زيادة الطلب على السلعة، والخدمات وهذا كله يؤدي إلى انتعاش الاقتصاد وارتفاع مستوى المعيشة وزيادة الرفاه6582.(3/417)
2 ـ إتباع سياسة زراعية جديدة: فقد إتبع خطوات ترمي إلى زيادة الإنتاج الزراعي للأمة وإليك تفصيل هذه الخطوات:
أ ـ منع بيع الأرض الخراجية: سأل الناس عبد الملك بن مروان والوليد وسليمان أن يأذنوا في شراء الأرض من أهل الذمة، فأذنوا لهم شريطة أن يضعوا أثمانها في بيت المال، فلما ولي عمر بن عبد العزيز، ترك هذه الأشرية على حالها، وذلك لما وقع فيها من المواريث ومهور النساء وقضاء الديون ولم يقدر على تخليصه، وكتب كتاباً قريء على الناس سنة المائة: أن من اشترى شيئاً بعد سنة مائة فإن بيعه مردود وسميت سنة مائة سنة المدة، فتناهي الناس بعدها عن الشراء6583. ولقد طلب أهل الأرض أن يضع عليهم الصدقة بدل الخراج، فأجاب عمر: إني لا أعلم شيئاً أثبت لمادة الإسلام من هذه الأرض التي جعلها الله لهم فيئاً.. قال أبو عبيدة فكأن مذهب عمر بن عبد العزيز في الأرض أنه كان يراها فيئاً، ولهذا كان يمنع أهلها من بيعها6584. وكتب إلى ميمون بن مهران: أما بعد، فحُل بين أهل الأرض وبين بيعها ما في أيديهم، فإنهم إنما يبيعون فيء المسلمين6585. كذلك رفض عمر تحويل الأرض التي دخل أهلها في الإسلام من أرض خراج إلى أرض عشر6586، وأبقى الخراج عليهم والعشر وقال: الخراج على الأرض والعشر على الحب6587. وبذلك حافظ على المورد الرئيس للإنتاج وجعله ملكاً عاماً للأمة بدلاً من تحويله إلى ملكيات صغيرة6588
ب ـ العناية بالمزارعين وتخفيف الضرائب عنهم:(3/418)
اعتاد بعض الخلفاء الأمويين قبل عمر بن عبد العزيز على إرهاق المزارعين بالضرائب، فكثرت الضرائب وتنوعت، واشتد الأمر على أهل الأرض فهجروها، فخرجت، فأضرّ ذلك بمالية الدولة، ولقد لجأوا إلى أساليب العذاب في الجباية فاضطر المزارعون إلى بيع دوابهم أو كسوتهم لشديد ما عليهم6589، وعندما تولى عمر سعى إلى إلغاء جميع الضرائب المخالفة للشريعة، وكتب بذلك إلى العمال كتاباً منها: فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدة وجور في أحكام الله، وسنة خبيثة استنها عليهم عمال السوء.. ولا تأخذن في الخراج إلا وزن سبعة6590، ليس لها آيين ولا أجور الضرابين6591، ولا هدية النيروز والمهرجان6592، ولا ثمن الصحف ولا أجور البيوت6593. وقد ألغى القبالة وكانت مألوفة في البصرة، وألغى أسلوب الخرص6594. حيث كان العمال يقدرون الثمار بسعر عالٍ ويقبضونه نقداً، وبذلك يرهقون الزراع، فقرر عمر وضع الضريبة حسب الأسعار الفعلية وكتب لعامله: بلغني أن عمالك بفارس يخرصون الثمار ثم يقومونها على أهلها بسعر فوق سعر الناس الذي يتبايعون ثم يأخذون ذلك ورقاً على قيمتهم التي قوموها.. وقد بعثت بشر بن صفوان وعبد الله بن عجلان للنظر في ذلك ورد الثمن الذي أخذ من الناس إلى ما باع أهل الأرض به غلاتهم6595. ولقد أمر عمر بالغاء ضريبة ثابتة على أهل اليمن، كالخراج مع أن أرضها أرض عشرية، وكتب إلى عامله على اليمن: أما بعد، فإنك كتبت إليَّ أنك قدمت اليمن فوجدت على أهلها ضريبة من الخراج مضروبة ثابتة في أعناقهم كالجزية يؤدونها على كل حال، أخصبوا أو أجدبوا أو حيوا أو ماتوا، فسبحان الله رب العالمين ثم سبحان الله رب العالمين.. إذا أتاك كتابي هذا فدع ما تنكره من الباطل إلى ما تعرفه من الحق ثم ائتنف الحق فاعمل به بالغاً بي وبك وإن أحاط بمهج أنفسنا، وإن لم ترفع إليّ من جميع اليمن إلا حفنة من كتم6596، فقد علم الله إني بها مسرور إذا كانت موافقة للحق6597 والسلام.(3/419)
ويلاحظ من كتب عمر إلى عماله الانحرافات السابقة الظالمة وإنكار عمر لها، وقد كان لها أثر اقتصادي سيء حيث جعلت أصحاب الأرض يضعفوا عن أرضهم ويتركوها فضعف الإنتاج وترتب على ذلك خسارة للبلاد ولبيت المال، وأما عمر بن عبد العزيز فكان مصراً على تطبيق الحق وعدم إهتمامه بالكم بل بالكيف، فهو لا يريد إيراداً كثيراً ظالماً6598، وقد ساهمت إصلاحات عمر في إلغائه للضرائب الجائرة إلى انتعاش اقتصاد الدولة.
ج ـ الإصلاحات والإعمار وإحياء أرض الموات:
…شجع عمر على إحياء الأرض الموات وعلى إصلاح الأراضي للزراعة، وكتب بذلك إلى عامله على الكوفة: لا تحمل خراباً على عامر ولا عامراً على خراب6599، انظر إلى الخراب فخذ منه ما أطاق، وأصلحه حتى يعمر، ولا تأخذ من العامر إلا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض6600. وكتب عمر: من غلب الماء على شيء فهو له، وعن حكيم بن زريق قال: قرأت كتاب عمر بن عبد العزيز إلى أبي من أحيا أرضاً ميتة ببنيان أو حرث، ما لم تكن من أموال قوم إبتاعوها من أموالهم، أو أحيوا بعضاً وتركوا بعضاً، فاجز للقوم أحياءهم الذي أحيوا ببنيان أو حرث6601، وحرص عمر على استغلال أرض الصوافي6602، ورأى أن ملكيتها لبيت المال، ومنع الإقطاع منها وأمر بإعطائها مزارعة على النصف فإن لم تزرع فعلى الثلث، فإن لم تزرع فأمر بإعطائها حتى تبلغ العشر فإن لم يزرعها أحد فأمر بمنحها، فإن لم يزرعها أحد فأمر بالإنفاق عليها من بيت المال6603. وقد اهتم عمر بالمزارعين ورفع الضرر عنهم ويروى في ذلك أن جيشاً من أهل الشام مر بزرع رجل فأفسده، فأخبر الرجل عمر بذلك، فعوضه عشرة آلاف درهم6604، وكان يقدم القروض للمزارعين، فقد جاء في رسالته لواليه على العراق: أن انظر من كانت عليه جزية فضعف عن أرضه فأسلفه ما يقوى به على عمل أرضه فإنا لا نريدهم لعام ولا لعامين6605.(3/420)
س ـ عمر والحمى : منع عمر الحمى الخاص وأباح هذه الأراضي للمسلمين جميعاً، لا تختص بها طائفة على أخرى وفي ذلك يقول: ونرى أن الحمى يباح للمسلمين عامة، وكانت تحمى وتجعل فيها نعم الصدقات، فيكون في ذلك قوة ونفع لأهل فرائض الصدقات، وأدخل فيها وطعن فيها طاعن من الناس، فنرى في ترك حماها والتنزه عنها خيراً، إذا كان ذلك من أمرها، وإنما الإمام فيها كرجل من المسلمين، وإنما هو الغيث ينزله الله لعباده فهم فيه سواء6606، وعندما أباح الإحماء كلها استثنى النقيع6607 الذي حماه الرسول عليه الصلاة والسلام لإبل الصدقة6608. فبالحمى تصبح الأرض لجماعة المسلمين، ونفعها مصروف لهم، فالحمى نقل الأرض من الإباحة إلى الملكية العامة، لتبقى موقوفة على جماعة المسلمين6609.
ش ـ توفير مشاريع البنية التحتية:
سعى عمر بن عبد العزيز لتوفير هذه المشاريع منذ كان أميراً على المدينة حتى أصبح خليفة للمسلمين، فاهتم بالمشاريع التي تخدم التجار والمزارعين والمسافرين وعندما كان والياً على المدينة كتب إليه الوليد بن عبد الملك كتاباً في تسهيل الثنايا وحفر الآبار في المدينة فحفر منها بئر الحفير وكانت طيبة الماء6610. كذلك عمل عمر بأمر الوليد فوّارة ماء، وأجرى ماءها ووسع المسجد النبوي ورفع منارته وجوّف محاربيه، وأنشأ الخانات والفنادق ودار الضيافة للحجاج والمسافرين6611. كما استمر حفر خليج أمير المؤمنين بين النيل والبحر الأحمر لتسهيل نقل الطعام من مصر إلى مكة حتى أيام عمر بن عبد العزيز6612. وكتب إليه عامله على البصرة يعرض طلب أهلها بحفر نهر لهم، فأذن له عمر وحفر النهر، وسمي نهر عدي6613.
ثالثاً: سياسة عمر بن عبد العزيز المالية في الإيرادات:(3/421)
إن السياسة المالية بإراداتها ونفقاتها تعتبر أداة هامة لتحقيق الأهداف الاقتصادية6614، لذلك بدأ عمر سياسته المالية بزيادة الإنفاق على عامة الشعب، فأنفق في رد المظالم حتى أنفذ بيت مال العراق، وجلب إليه من الشام6615، وأنفق على المشاريع الزراعية، ومشاريع البنى الأساسية، كما أنفق على الرعاية الاجتماعية لجميع طبقات الشعب وفي جانب الإيرادات، سعى إلى إلغاء الضرائب الظالمة، فرفع الجزية عمن أسلم، وألغى الضرائب الإضافية التي كانت تؤخذ من المزارعين، وألغى المكوس والقيود، كما حافظ على حقوق بيت المال المسلوبة، فأعاد إليه القطائع، والمظالم، وأوقف إمتيازات الأمراء والموظفين، وبالغ في الاقتصاد في الإنفاق الإداري والحربي6616، كل ذلك أدى إلى إطلاق الطاقات، فنمت الزراعة والتجارة، وجنى ذلك بزيادة ونمو الإيرادات، فزادت إيرادات الزكاة والخراج والعشور وفاضت ميزانية الدولة، فوجّه عمر الفائض لزيادة الإنفاق العام لتحقيق الأهداف الإقتصادية ونلاحظ في التاريخ كلما استقام أمر الدولة وسارت على نهج الشريعة الإسلامية الغرّاء فاض ميزانها المالي، ولم يشعر أفرادها بعسف ولا إرهاق، ولم تهمل مصلحة من مصالحها، وكلما أعوج أمر الدولة، وحادت عن سبيل الشريعة، اختل التوازن المالي، فميزانية الدولة مرآة عدلها وجورها ونظامها وفوضاها6617.
هذا وقد تكونت إيرادات بيت المال زمن عمر بن عبد العزيز من الزكاة والجزية والخراج والعشور والخمس والفيء.
1 ـ الزكاة:(3/422)
…اهتم عمر بالزكاة وحرص عليها لأنها حق فرضه الله للفقراء والمساكين والمنقطعين، والمستعبدين، ولا يجوز التهاون فيه، واهتمّ بتوزيعها على مستحقيها6618، فأمر ولاته بالبحث عنهم وإعطائهم حقهم وفي حالة عدم وجود فقراء أو مساكين أو محتاجين وأمر عمر بشراء رقاب المستعبدين وإعتقاهم من مال الزكاة6619. وعزم عمر على إتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الزكاة وكان الولاة قبله قد تهاونوا فيها، فأخذوها من غير حقها، وصرفوها في غير مصارفها6620، ومن مظاهر إتباعه للسنة فيها طلبه لكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقات، ولكتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ وأمره بأن تنسخ هذه الكتب فنسخت له وكانت تشتمل على صدقة الإبل والبقر والغنم، والذهب، والورق، والتمر، والحب، والزبيب وبيّنت الأنصبة لكل هذه الأصناف6621واتبع عمر السنة في مصارف الزكاة، فاستشهد بقوله تعالى: ((إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل)) (التوبة ، الآية : 60) ثم أمر أن توضع الصدقات كما أمر الله تعالى في كتابه6622،كما اتّبع عمر السنة في جباية الزكاة فعين عمالاً ثقاة مؤتمنين وأمرهم بجبابتها دون ظلم أو تعدِّ وأمرهم بكتابة براءة إلى الحول لدافعها6623. وأمر عمر بأخذ الزكاة من جميع الأموال التي تجب فيها، فأخذت من عطاء العمال ومن المظالم إذا رُدّت لأصحابها، ومن الأعطية إذا أخرجت لأهلها6624. وأكد عمر على أحقية كل قوم بزكاتهم إذا لم يستغنوا6625وعندما أحضر العمال الزكاة إلى عمر أمرهم بردّها وتوزيعها في البلاد التي جمعت منها6626. وكانت لهذه الإصلاحات الاقتصادية في جباية الزكاة أثر على زيادتها ولقد ساهمت سياسته الاقتصادية إلى زيادة تحصيل الزكاة، فتوفيره لأجواء الأمن والطمأنينة، واهتمامه بإقامة المشاريع، الأساسية للزراعة والتجارة وأتّباعه لسياسة الحرية الاقتصادية المقيدّة،(3/423)
وإلغاؤه للضرائب الظالمة، أدّت جميعاً إلى ازدهار التجارة والزراعة وإلى زيادة حصيلة الزكاة6627، ولقد كان عمر من الموسعين لإيتاء الزكاة برز هذا من خلال فقهه في زكاة الثروة الزراعية، وزكاة الإبل العامة، وزكاة السمك، وزكاة العسل، وهذا الفقه من شأنه أن يزيد الأموال الخاضعة للزكاة، مما يؤثر على زيادة جبايتها وأما زيادة الدعوة زمن عمر، ودخول أهل الذمة في الإسلام أفواجاً فالراجح أنه رفع من حصيلة الزكاة، لأن هؤلاء المسلمين الجدد فيهم الأغنياء وفيهم الفقراء، وسيدفع الأغنياء حقاً مفروضاً عليهم وهو الزكاة وأما سيرة عمر وتقواه فقد أثرت على دفع الزكاة للدولة مباشرة لزيادة الثقة بين الحاكم والمحكوم وهذا واضح من تدافع الناس لأداء الزكاة عندما سمعوا بخلافة عمر، وهذا يؤدي إلى زيادة حصيلة أموال الزكاة وزيادة آثارها الاقتصادية عند إنفاقها في مصارفها6628. وتؤكد الروايات التاريخية أن الزكاة كانت فائضة عن حاجات الناس في ذلك الزمن، فكان الرجل يأتي بزكاته، فلا يجد من يأخذها6629، ومن أسباب هذا الفائض اندفاع أفراد المجتمع للعمل والإنتاج، فكثر عدد المؤدِّين للزكاة، وانخفاض عدد القابضين لها6630.
2 ـ الجزية:(3/424)
…والجزية في الاصطلاح: هي الوظيفة(الضريبة) المأخوذ من الكافر لإقامته بدار الإسلام في كل عام والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع6631، وقد قام عمر بن عبد العزيز بإتباع السنة في إيراد الجزية، فقد أسقطها عمّن أسلم، لأن الجزية فرضت على الكافرين وتسقط بالإسلام6632، ومع ذلك فقد استمر بعض خلفاء بني أمية في أخذ الجزية ممن أسلم، فأخذها الحجّاج لظنِّه أنهم دخلوا الإسلام هربا من الجزية، ولقد أدى ذلك إلى زيادة النقمة على الحجّاج وعلى الأمويين6633، وعندما تولى عمر الخلافة سارع إلى إلغاء الجزية عن المسلمين6634، وتشدّد في ذلك، وكتب إلى العمال كتاباً جاء فيه((من شهد شهادتنا واستقبل قبلتنا واختتن فلا تأخذوا منه الجزية6635. ولما سمع أهل الذمة عن عدالة عمر وسيرته سارعوا للدخول في الإسلام، فشكا عامله ذلك، لأنه أدى إلى نقصان الجزية، فأجابه عمر: أما بعد، فإن الله قد بعث محمداً داعياً ولم يبعثه جابياً6636. ولأن عمر اعتمد في سياسته على ترسيخ قيم الحق والعدل، ورفع الظلم عن أهل الذمة ورفق بمزارعيهم وفرض الجزية عليهم حسب المقدرة المالية للفرد، فجعلها على ثلاث طبقات للغني وللمتوسط وللفقير، وجعل صاحب الأرض يعطي جزيته من أرضه والصانع يخرجها من كسبه والتاجر من تجارته6637، وفرض الجزية حسب طاقة البلاد المالية، فجعلها على أهل الشام أكثر منها على أهل اليمن بسبب غناهم ويسارهم6638، ورفع الجزية عن الفقراء الذين لا يستطيعون دفعها، وأجرى عليهم رزقاً من بيت المال، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه6639، وخفَّضَ عمر الجزية عن أهل نجران حيث أمر بإحصائهم، فتبين له أن عددهم نقص إلى العشر، وجزيتهم بقيت كما هي، فأخذ منهم مئتي حلة بدلاً من ألفين، وأسقط جزية من مات أو أسلم6640، وقد كانت للإصلاحات في جباية الجزية آثار مالية لصالح بيت المال، فإسقاط الجزية عمن أسلم أدّى إلى زيادة الثقة بين الحاكم والمحكوم والشعور بالعدل(3/425)
والإنصاف، وبالتالي أدّى إلى إيقاف القلاقل والفتن التي كلفت الدولة نفقات طائلة، كما إن إسلام كثير من أهل الذمة جعلهم يدفعون الزكاة بدل الجزية والزكاة مقدارها أكبر هذا مع استمرار دفع الخراج على الأرض، أما انتشار أجواء الأمن والعدل فقد زاد الإنتاج حيث اندفع الناس للإنتاج والتنمية6641.
3 ـ الخراج:
هو ما تأخذه الدولة من ضرائب على الأرض المفتوحة عنوة أو الأرض التي صالح أهلها عليها6642. لقد ارتفع إيراد الخراج في زمن عمر بن عبد العزيز وبلغ مائة وأربعة وعشرين مليون درهم6643. وكانت هذه الزيادة في إيراد الخراج نتيجة لسياسته الإصلاحية فقد منع بيع الأرض الخراجية فحافظ على المصدر الرئيسي للإنتاج، كما اعتنى بالمزارعين، ورفع عنهم الضرائب والمظالم التي كانت تعوق إنتاجهم واتبع سياسة الإصلاح والإعمار وإحياء الأرض الموات، كما اهتم ببناء مشاريع البنية الأساسية للقطاع الزراعي فبنى الطرق والقنوات6644، فمشاريع الطرق سهلت على المزارعين تسويق إنتاجهم، ومشاريع القنوات والآبار سهلت عليهم سقي محاصيلهم بكلفة أقل، كل هذه الإصلاحات الخراجية أثمرت في النهاية وأدت إلى ارتفاع الخراج زمن عمر، فقد بلغ خراج العراق في عهده مائة وأربعة وعشرين مليون درهم، وهذا المقدار أكبر مما جبى في العهود السابقة، فقد بلغ خراج العراق زمن الحجاج أربعين مليون درهم، وفي عهد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ مائة مليون درهم6645. أما خراج خراسان زمن عمر بن عبد العزيز فقد كان فائضاً عن حاجات الدولة وبلغ الخراج زمن عمر أقصى قدر ممكن أن يبلغه في الأحوال العادية6646. وهذا الارتفاع في مقدار الخراج يشير إلى قوة الدولة المالية، لأن خراج العراق كان يشكل أكبر نصيب من إيراداتها6647، مما ساعد على تحقيق الأهداف الاقتصادية من دعم مشاريع البنية التحتية والمشاريع الإنتاجية والإنفاق على الطبقات الفقيرة والعاجزة، ذلك لأن إيراد الخراج يتسم بالمرونة من(3/426)
حيث مصارفه بعكس الزكاة فهي محددة المصارف6648.
4 ـ العشور:
في الإصطلاح: ما يؤخذ على تجار أهل الحرب وأهل الذمة عندما يجتازون بها حدود الدولة الإسلامية6649، فتؤخذ العشور من تجارة الحربي العُشر ومن تجارة الذمي نصف العشر، ولا تؤخذ في السنة لنفس المال إلا مرة واحدة ونصابها عشرون ديناراً للذمي، وعشره للحربي6650، وقد اهتم عمر بن عبد العزيز بإيراد العشور فوضح مبادئها للعمال، وأمر بكتابة كتاب لدافعها لإعفائه منها للحول القادم، كما منع قبض العشور، والتي كانت تفرض على الناس بغير حق6651، وقد نشطت التجارة في عهده وتوافرت موارد جديدة للدولة واستطاع أن يوظفها للإنفاق العام وكانت الإجراءات التي اتخذها عمر لتنشيط الحركة التجارية كالآتي:
أ ـ إلغاء الضرائب الإضافية التي كانت مفروضة على القطاع الزراعي6652 وقد انعكس هذا إيجاباً على القطاع التجاري في صورة انخفاض ملحوظ في أسعار السلع الزراعية، فزاد في الطلب عليها، وأحدث رواجاً في تجارتها، وفي ظل اقتصاد قوامه الزراعة فإن زيادة عرض السلع الزراعية وانخفاض أثمانها على النحو الذي واكب السياسة الرشيدة لعمر بن عبد العزيز أحدث رواجاً لا في التجارة فحسب، ولكن في بقية قطاعات الاقتصاد الإسلامي6653.
ب ـ إلغاء الضرائب على القطاع التجاري، والاقتصار على العشور6654، وكان لهذا تأثير ايجابي على قطاع التجارة، وقد أدى إلى تشجيع مزاولة التجارة، وزاد من أرباح التجارة فزاد معها حجم المبادلات التجارية6655.
…ج ـ إلغاء أسلوب العنف في تحصيل مستحقات الدولة المالية6656على التجار وغيرهم، وهذا أيضاً من عوامل تشجيع التجارة وتنميتها.(3/427)
…ح ـ عمل استراحات6657على طريق التجارات مع بلاد الشرق، ومطالبة الولاة على البلاد التي توجد بها هذه الاستراحات بأن يضيفوا من مر بهم من المسلمين المسافرين6658يوماً وليلة، وأن يتعاهدوا دوابهم على حساب الدولة ومضاعفة هذه المدة لمن يشكو منهم علة، وبالنسبة لمن مر بهذه الاستراحات وكان منقطعاً أو سرقت تجارته أو تلفت لأي سبب، فكان يعطي من المال ما يكفيه للوصول إلى بلده، ولا يخفى ما كان بهذه التسهيلات والضمانات من عوامل تشجيع للتجار وللتبادل التجاري6659.
…د ـ منع العطاء عن التجار، حتى تكون التجارة مصدر رزقهم الوحيد فيهتموا بها أكثر وينشطوا فيها، لاسيما وأن التجارة كانت في ذلك الوقت متعبة من حيث السفر، والترحال، لعدم توفر وسائل المواصلات المريحة التي نشاهدها اليوم.
ذ ـ قضاء ديون كل من أدان في غير سفه ولا سرف6660، ويدخل ضمنهم التجار إن لم يكونوا جلهم، وقد أدى هذا القرار إلى إقالة عثرات التجار الذين أفلسوا ومكنهم من العودة إلى مزاولة التجارة، وخاصة تلك الفئة من التجار الذين بدأوا تجارتهم عن طريق اقتراض رأس المال المطلوب.
ر ـ الحرص على ضبط ومعايرة وتوحيد المكاييل والموازين في كافة أنحاء الدولة، وجعل ذلك من مواد القانون الأساسي للدولة.
ز ـ منع الولاة والأمراء من الاشتغال بالتجارة، حتى لا يكون في دخولهم السوق أفساد للمنافسة الشريفة بين التجار، أو تأثير على الأسعار لصالحهم، وهي محاولة من عمر بن عبد العزيز بالبعد بالأسواق عن أي مؤثرات غير طبيعية تؤثر في تلقائية تحديد السعر6661.(3/428)
ط ـ منع الاحتكار ومن ذلك أعادته دكاكين بحمص كانت في يد مجموعة من أهل السوق، وكان ابن الوليد بن عبد الملك قد استولى عليها، وحولها إلى ملكية خاصة له، فنزعها وأعادها إلى أصحابها6662، وبهذا يعد بهذا الموقف الاحتكاري وجود6663هذه الإجراءات الإصلاحية ساهمت في ازدهار الحركة التجارية في عهد عمر بن عبد العزيز وبذلك زادت حصيلة إيرادات العشور وتوافرت موارد جديدة للدولة استطاع عمر أن ينفقها على الصالح العام.
5 ـ خمس الغنائم والفيء:(3/429)
فالغنيمة في الإصطلاح: ما استولى عليه من أموال الكفار المحاربين عنوة وقهراً حين القتال6664، والفيء في الإصطلاح: كل مال وصل من المشركين من غير قتال ولا بإيجاف خيل ولا ركاب6665، فعندما تولى عمر الخلافة توجه لإصلاح الأوضاع الداخلية للدولة لذلك لم تكثر الفتوحات في ومنه حيث استعاض عنها بالدعوة والقدوة الحسنة، فقد بعث بكتب للملوك والشعوب فدخل البربر في الإسلام بدون قتال6666، ولهذا لم تتحقق موارد كثيرة من خمس الغنائم زمن عمر، وما كان موجوداً في بيت المال منه كان مصدره الفتوحات السابقة6667. ومع ذلك فقد سعى لإصلاح موازنة خمس الغنائم، فقد جعل للخمس بيت مال مستقل عن الأموال الأخرى6668،وأمر بوضعه في مواضعه المذكورة في سورة الأنفال، وآثر به أهل الحاجة منهم حيث كانوا6669. وقد أمر بعشرة آلاف دينار من سهم ذوي القربى فقسمها في بني هاشم وساوى بين الذكر والأنثى، والصغير والكبير، فكتبت إليه فاطمة بنت الحسين تشكر له ما صنع وتقول: يا أمير المؤمنين قد أخدمت من كان لا خادم له واكتسى منهم من كان عارياً، واستنفق من كان لا يجد ما يستنفق6670، ولقد تمسك عمر في حق الخمس، فلما فتحت الأندلس قبل خلافة عمر لم يخمسوها، فأمر عامله عليها أن يبين العنوة من أرضها ويأخذ منها الخمس6671. وأما في تصرفه في الفيء، فقد كان متبعاً للقرآن والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين، فقد كتب كتاباً ذكر فيه عن الأموال والقرى التي أفاء الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب واستدل بآيات سورة الحشر التي نزلت في ذلك، وبين أن ما من أحد من المسلمين إلا له حق في الفيء، فقد ذكرت الآيات المهاجرين والأنصار ومن جاء بعدهم من المسلمين بعد الهجرة الأولى حتى تنقضي الدنيا6672. وهو بذلك كان موافقاً لاجتهاد عمر بن الخطاب في جعل الفيء موقوفاً على أجيال المسلمين6673. ونظر عمر في مصارف الخمس فوجدها موافقة لمصارف الفيء،(3/430)
فرأى أن يضمه إليه كما فعل عمر بن الخطاب6674، ويصرف منها على جميع مصالح المسلمين، وكتب في ذلك كتاباً: ..وأما الخمس فإن من مضى من الأئمة اختلفوا في موضعه .. ووضع مواضع شتى فنظرنا فإذا هو على سهام الفيء في كتاب الله لم تخالف واحدة من الاثنتين الأخرى، فإذا عمر بن الخطاب رحمه الله قد قضى في الفيء قضاءً قد رضي به المسلمون، فرض للناس أعطية وأرزاقاً جارية لهم، ورأى أن لن يبلغ بتلك الأبواب ما جمع من ذلك، ورأى أن فيه لليتيم والمسكين، وابن السبيل، فرأى أن يُلحق الخمس بالفيء وأن يوضع مواضعه التي سم الله وفرض... فاقتدوا بإمام عادل فإن الآيتين متفقتان آية الفيء وآية الخمس... فنرى أن يُجمعا جميعاً فيُجعلا فيئاً للمسلمين ولا يستأثر عليهم6675. لقد ساعدت إصلاحات عمر في إيرادات الخمس والفيء على تحقيق أهداف سياسته الاقتصادية، فتوزيعه للخمس على الأسهم المذكورة في القرآن مع إيثاره لذوي الحاجة أينما وجدوا ساعد على تحقيق إعادة توزيع الدخل والثروة، وشعر الناس بالعدل وزوال الظلم، بسبب هذه السياسة الرشيدة السديدة.
رابعاً: سياسة الإنفاق العام لعمر بن عبد العزيز:
…1 ـ إنفاق عمر على الرعاية الاجتماعية:(3/431)
…لتحقيق هدف إعادة توزيع الدخل والثروة سعى عمر إلى زيادة الإنفاق على الفقراء والمحتاجين، وتأمين الرعاية الصحية والاجتماعية لهم وهذه مطالب شرعية جاءت في القرآن الكريم والسنة النبوية ولقد اهتم منذ الأيام الأولى لخلافته بإتباع الشرع والتزام الحق والعدل، فأرسل إلى العلماء يستفسر وقد كتب ابن شهاب الزهري لعمر كتاباً عن مواضع السنة في الزكاة ليعمل خلافته فذكر فيها: إن فيها نصيباً للزمنى والمقعدين(أصحاب العجز الأصلى) ونصيباً لكل مسكين به عامة لا يستطيع عَيْلة وتقليباً في الأرض(أصحاب العجز الطارئ كالعامل الذي يصاب في عمله والمجاهد الذي يصاب في الحرب). ونصيباً للمساكين الذين يسألون ويستطعمون الغنى حتى يأخذوا كفايتهم ولا يحتاجون بعدها إلى سؤال).. ونصيباً لمن في السجون من أهل الإسلام ممن ليس له أحد... ونصيباً لمن يحضر المساجد الذين لا عطاء لهم ولا سهم ((أي ليست لهم رواتب ومعاشات منتظمة)) ولا يسألون الناس... ونصيباً لمن أصابه فقر وعليه دين ولم يكن شيء منه في معصية الله، ولا يُتهم في دينه .. ونصيباً لكل مسافر ليس له مأوى، ولا أهل يأوي إليهم، فيؤوى ويُطعم وتُعلف دابته حتى يجد منزلاً أو تقضى حاجته6676.(3/432)
أ ـ الإنفاق على الفقراء والمساكين:فقد كان يفكر في الفقراء والمساكين، ويسعى إلى اغنائهم، فقد مرت معنا قصته مع زوجته فاطمة وسألته عن سر بكائه فقال لها: تقلّدت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فتفكرت في الفقير الجائع والمريض الضائع، والعاري المجهود، والمظلوم المقهور، والغريب المأسور، والكبير، وذي العيال في أقطار الأرض فعلمت أن ربي سيسألني عنهم، وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم ـ فخشيت ألا تثبت حجتي عند خصومته، فرحمت نفسي فبكيت6677. هذه الحادثة تلخص سياسة عمر في الإنفاق على الفئات المحتاجة، والحادثة مليئة بالمعاني وتحتاج إلى وقفات فقد شعر عمر بعظم المسئولية الملقاة على عاتقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته6678. وقد عمل عمر على سد احتياجات الناس، جاء رجل لعمر فقام بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين اشتدت بي الحاجة وانتهت بي الفاقة، والله سائلك عن مقامي غداً بين يديه، وكان عمر قد اتكأ على قضيب، فبكى حتى جرت دموعه على القضيب، ثم فرض له ولعياله، ودفع له خمسمائة دينار حتى يخرج عطاؤه6679، وكان رحمه الله يهتم بشأن الأرامل وبناتهن كما حدث مع المرأة العراقية التي مرّ ذكرها وقد قال صلى الله عليه وسلم: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو كالذي يصوم النهار ويقم الليل6680. وقد خصصّ عمر داراً لإطعام الفقراء والمساكين وأبناء السبيل6681، ولم يكتف عمر بالاعتناء بالفقراء فحسب، بل امتدت رعايته إلى المرضى وذوي العاهات والأيتام، فقد كتب كتاباً إلى أمصار الشام: ادفعوا إليّ كل أعمى في الديوان أو مقعد، أو من به فالج، أو من به زمانة، تحول بينه وبين القيام إلى الصلاة، فرفعوا إليه، فأمر لكل أعمى بقائد، وأمر لكل اثنين من الزمنى بخادم.. ثم كتب ارفعوا إليّ كل يتيم، ومن لا أحد له... فأمر لكل خمسة بخادم يتوزعون بينهم بالسوية6682.(3/433)
ب ـ الإنفاق على الغارمين:من الفئات التي اهتم بها عمر الغارمون، فقد كتب ابن شهاب الزهري لعمر عن سهم الغارمين: لمن يصاب في سبيل الله في ماله.. ولمن أصابه فقر، وعليه دين لم يكن شيء منه في معصية الله، ولا يُتهم في دينه6683. ولذلك أمر عمر بقضاء الدين عن الغارمين، فكتبوا إليه، إنا نجد الرجل له المسكن، والخادم، وله الفرس والأثاث في بيته، فكتب عمر: لابد للرجل من المسلمين من سكن يأوي إليه رأسه، وخادم يكفيه مهنته وفرس يجاهد عليه عدوّه، وأثاث في بيته، فهو غارم فاقضوا عنه6684. وكتب إلى والي الكوفة وقد اجتمعت عنده أموال فسأل عمر عنها فأجاب: كتبت تذكر أنه قد اجتمعت عندك أموال بعد أعطية الجند، فأعط منهم من كان عليه دين في غير فساد، أو تزوّج فلم يقدر على نقد والسلام6685وكتب كتاباً قُرء في مسجد الكوفة: من كانت عليه أمانة لا يقدر على أدائها فأعطوه من مال الله، ومن تزوج إمرأة فلم يقدر أن يسوق إليها صداقها فأعطوه من مال الله6686.
ج ـ الإنفاق على الأسرى: قال تعالى: ((ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً *إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً * إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريرا)) (الإنسان،الآية:8 ـ10). اهتم عمر بن عبد العزيز بالأسرى وبالإنفاق عليهم من بيت مال المسلمين، فقد كتب كتاباً إلى أسرى المسلمين في القسطنطينية6687 وقد تحدثت عن الكتاب في كلامي عن الحياة الاجتماعية واهتم بالسجناء في سجون المسلمين بسبب جرم أو قصاص، فقد أمر عمر برعايتهم والإنفاق عليهم وكتب عمر إلى العمال: لا تدعُنِّ في سجونكم أحداً من المسلمين في وثاق لا يستطيع أن يصلي قائماً، ولا يبيتنّ في قيد إلا رجل مطلوب بدم، وأجروا عليهم من الصدقة ما يصلحهم في طعامهم وإدامهم6688. وأمر لأهل السجون برزق وكسوة في الصيف والشتاء6689.
ح ـ الإنفاق على المسافرين وأبناء السبيل:(3/434)
…اهتم عمر بالمسافرين وأبناء السبيل، فأمر عماله ببناء بيوت الضيافة على الطرق لرعاية المسافرين والاهتمام بهم، وكتب إلى أحد عمّاله: اعمل خانات في بلادك، فمن مرّ بك من المسلمين فأقروهم يوماً وليلة وتعهدوا دوابهم، فمن كانت به علَّة فأقروه يومين وليلتين، فإن كان منقطعاً به فقوّوه بما يصل به إلى بلده6690، وأمر عمر بالاهتمام بالحجّاج، والإنفاق عليهم ورعاية ضعيفهم وإغناء فقيرهم6691.
د ـ الإنفاق لفك الرقاب:
…بعد أن أنفق عمر على الفقراء والمساكين، والعاجزين، والغارمين وأبناء السبيل وجه الأموال لفك رقاب المستعبدين، وقال عامل صدقات افريقية: بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات افريقية فاقتضيتها، وطلبت فقراء نعطيها لهم فلم نجد بها فقيراً.. فاشتريت بها رقاباً وولاؤهم للمسلمين6692،
…وقد مرّ معنا إنفاق عمر على العلماء لكي يتفرغوا لدعوة الناس وتعليمهم، واتسعت رعايته الاجتماعية لتشمل جميع فئات الأمة حتى الأطفال الصغار وحدّد لهم مبلغاً من المال ليستعين به ذووهم على تربيتهم، واهتم بمواطنيه من أهل الذمة، فكان ينفق على فقرائهم ومحتاجيهم من بيت المال6693، كما أنه لا بد من الإشارة إلى أن سياسة عمر بن عبد العزيز الراشدة ساهمت في إغناء عدد كبير من المسلمين وزيادة ثرواتهم في المجال التجاري والزراعي وغيرها وساهمت في سريان روح التدين وحب الآخرة في نفوس الناس ورغبوا في الإكثار من فعل الخيرات ابتغاء مرضات الله تعالى والرغبة فيما عند الله، فكثر الإنفاق في سبيل الله لمساعدة الفقراء والمساكين والأرامل وبناء المرافق العامة وحفر الآبار، وتشييد المساجد وغير ذلك، وهذا يخفف الأعباء المالية على بيت مال المسلمين في العاصمة وأقاليمها الواسعة.
2 ـ ترشيد الإنفاق في مصالح الدولة:(3/435)
…كانت سياسة عمر بن عبد العزيز في ميدان الإنفاق تقوم على أساس مبدأ الرشد الاقتصادي أو ما يعبر عنه بمبدأ القوامة في الإنفاق ومقتضاه البعد عن الإسراف والتبذير والبعد عن الشح والتقتير6694. ومن الخطوات التي اتخذها في مجال ترشيد الإنفاق في مصالح الدولة:
أ ـ قطع الإمتيازات الخاصة بالخليفة وبأمراء الأمويين:
أعاد عمر القطائع والحقوق الخاصة إلى أصحابها والحقوق العامة إلى بيت المال، وبدأ بنفسه وبآل بيته ـ كما مرّ معنا ـ وكان عمر لا يأخذ من بيت المال شيئاً فقالوا له: لو أخذت ما كان يأخذ عمر بن الخطاب، قال: كان عمر لا مال له، وأنا مالي يغنيني6695. وعندما أُحضرت مراكب الخلافة لعمر بعد موت سليمان، طلب بغلته وأمر بوضع المراكب والفرش والزينة في بيت المال وكانت عادة الخلفاء قبله أن يأخذ ورثة الخليفة الميت ما استعمل من ثيابه وعطوره ويُردّ الباقي إلى الخليفة الجديد، فلما استخلف عمر قال: ما هذا لي ولا لسليمان، ولا لكم ولكن يا مزاحم ضُمّ هذا كله إلى بيت مال المسلمين6696، وكان عمر لا يستعمل الأموال العامة لحاجته الخاصة مطلقاً. فمرة بعث أمير الأردن بسلتي رطب إلى عمر، وقد جيء على دواب البريد، فلما وصلت عمر أمر ببيعها وجعل ثمنها في علف دواب البريد6697، ومرة طلب من عامله أن يشتري له عسلاً فحمل له على دواب البريد، فأمر ببيع العسل وجعل ثمنه في بيت المال، وقال له: أفسدت علينا عسلك6698.
ب ـ ترشيد الإنفاق الإداري:(3/436)
سعى عمر على تعويد أعوانه وولاته على الاقتصاد في أموال المسلمين، فعندما طلب والي المدينة أن يصرف له شمع فأجابه عمر: لعمري لقد عهدتك يا ابن أم حزم وأنت تخرج من بيتك في الليلة الشاتية المظلمة بغير مصباح، ولعمري لأنت يومئذ خير منك اليوم، ولقد كان في فتائل أهلك ما يغنيك والسلام6699. وكتب إليه أيضاً وقد طلب قراطيس للكتابة: ...إذا جاءك كتابي هذا فأدق القلم واجمع الخطّ، واجمع الحوائج الكثيرة في الصحيفة الواحدة، فإنه لا حاجة للمسلمين في فضل قول أضرّ بيت مالهم6700. يلاحظ حرص عمر على المال العام ويرشد ولاته للاستغلال الأمثل لموارد الدولة، فعمر يريد من العامل أن يستغل الأوراق في الرسائل إلى أقصى درجة.
ج ـ ترشيد الإنفاق الحربي:
خاضت الدولة الأموية حروباً خارجية وداخلية فكلّفت ميزانية الدولة الشيء الكثير منها حملة القسطنطينية زمن سليمان بن عبد الملك، حيث كلفت الكثير من الأموال والشهداء دون جدوى، فما كان من عمر بعد استخلافه إلا أن أرسل كتاباً يأمر فيه مسلمة بن عبد الملك قائداً الحملة بالعودة بعد أن أصاب الجيش ضيق شديد وقد أدّت سيرة عمر وسياسته إلى استقرار الأوضاع الداخلية وتوقفت الحروب والفتن، ولما بلغت سيرته الخوارج، اجتمعوا وقالوا: ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا الرجل6701، ولقد ساهم إيقاف الحروب والفتن في إيجاد مناخ عام من الراحة والطمأنينة والاستقرار ساهم في النمو الاقتصادي للدولة وتحسن أوضاع الطبقات الفقيرة والمحتاجة بفضل الله ثم سياسة عمر الرشيدة.
المبحث السابع: المؤسسة القضائية في عهد عمر بن عبد العزيز وبعض إجتهاداته الفقهية:
أولاً: في الأقضية والشهادات:
1 ـ في صفات القاضي:(3/437)
كان عمر بن عبد العزيز يدقق في اختيار القضاة حتى لا يُبتلى الناس بقاض يتخبط فيهم بغير حق، ولهذا فقط اشترط عمر بن عبد العزيز في القاضي خمسة شروط ولا يجوز له أن يلي القضاء حتى تكتمل فيه هذه الشروط وهي: العلم، والحلم، والعفة، والاستشارة، والقوة في الحق6702. فعن مزاحم بن زفر قال: قدمت على عمر بن عبد العزيز في وفد أهل الكوفة فسألنا عن بلدنا وأميرنا وقاضينا، ثم قال: خمس إن أخطأ القاضي منهن خصلة كانت فيه وصمة، أن يكون فهيماً، وأن يكون حليماً وأن يكون عفيفاً وأن يكون صليباً وأن يكون عالماً يسأل عما لا يعلم6703، وفي رواية عن يحيى بن سعيد عن عمر بن عبد العزيز قال: لا ينبغي للقاضي أن يكون قاضياً حتى تكون فيه خمس خصال: عفيف، حليم، عالم بما كان قبله، يستشير ذوي الرأي، لا يبالي ملامة الناس6704. وقد قال بهذا المعنى عمر بن الخطاب6705، وعلي بن أبي طالب6706 رضي الله عنهما، وذهب الأئمة الأربعة إلى موافقة عمر بن عبد العزيز في كل أو جل هذه الصفات6707.
2 ـ في حكم القاضي في ما استبان له ويرفع ما التبس عليه:(3/438)
قد يكون هناك بعض القضايا المتشابكة والتي أمرها يحيّر القاضي فهل يحكم القاضي فيها وإن لم يظهر له الحق أم يتركها لمن هو أعلم منه؟ لقد قرر عمر بن عبد العزيز قراراً هو درس في القضاء يجب أن يعمل به إلى يوم القيامة، ذلك أنه يرى أن القاضي إن تبين له الحق حكم به وإن لم يظهر له فلا يترك القضية وإنما يرفعها إلى من هو فوقه لينظرها6708، عن ميمون بن مهران أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز يشكو شدة الحكم والجباية ـ وكان قاضي الجزيرة وعلى خراجها ـ قال: فكتب إليه عمر: إني لم أكلفك ما يُعنتك، أجب الطيب، واقضي بما استبان لك من الحق، فإذا التبس عليك أمر فارفعه إليّ، فلو أن الناس إذا ثقل عليهم أمر تركوه، ما قام دين ولا دنيا6709. وهذا الأثر يبين أن الله ـ سبحانه وتعالى لم يجعل الناس في العلم ولا في الفهم سواء بل هم درجات في ذلك والذي يولي القضاء عليه أن يحكم بين الناس الذين ولي أمرهم وذلك فيهم ظهر له من الحق، فإذا شق عليه أمر من هذه القضايا فعليه أن يستشير أهل العلم في بلاده، فإن لم يجد عندهم معرفة لهذا الأمر رفعه إلى من هو أعلم منه أو إلى الأمر ليحوِّل هذه القضية إلى غيره، أو ليحكم فيها إن كان من أهل العلم6710، وكان عمر بن عبد العزيز له مجالس علمية يستشير فيها العلماء والفقهاء وأصحاب الرأي في أمور الدين والدنيا، وكان يقتطع من أوقات راحته في الليل، الذي أدرك عمر كم هو حيوي للتوصل إلى الحقائق وقد أعرب عن إدراكه العميق لما يأتي عن التقاء الأفكار من نتائج فكرية إيجابية ، عندما سأله رجاء بن حيوة: يا أمير المؤمنين نهارك كله مشغول، وهذا جزء من الليل وأنت تسمر معنا؟ فقال عمر: يا رجاء، إن ملاقاة الرجال تلقيح لألبابها، وإن المشورة والمناظرة باب رحمة ومفتاح بركة، لا يضل معهما رأى ويقعد معهما حزم6711. وجدت ملاقاة الرجال تلقيح لألبابها6712.
3 ـ في الرفق بالحمقى والنهي عن العقوبة في الغضب:(3/439)
…كتب عمر بن عبد العزيز: من عبد الله عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين إلى أمراء الأجناد. أما بعد.. فإذا حضرك الخصم الجاهل الخرق ممن قدر الله أن يوليك أمره، وأن تبتلي به فرأيت منه سوء رِعة، وسوء سيرة في الحق عليه، والحظ له، فسدده ما استطعت وبصره وأرفق به وعلمه، فإن اهتدى وأبصر وعلم كانت نعمة من الله وفضلاً ، وإن هو لم يبصر ولم يعلم كانت حجة اتخذت بها عليه، فإن رأيت أنه أتى ذنباً استحل فيه عقوبة فلا تعاقبه بغضب من نفسك ولكن عاقبه وأنت تتحرى الحق على قدر ذنبه بالغاً ما بلغ وإن لم يبلغ ذلك إلا قدر جلدة واحدة تجلده إياها، وإن ذنبه فوق ذلك، ورأيت عليه من العقوبة قتلاً فما دونه فأرجعه إلى السجن، ولا يسرعن بك إلى عقوبته حضور من يحضرك6713، وكان عمر بن عبد العزيز إذا أراد أن يعاقب رجلاً حبسه ثلاثة أيام، ثم عاقبه كراهة أن يعجل في أول غضبه6714.
…إن العقوبة أثناء الغضب يحتمل أن يتجاوز القاضي فيها الحق تحت تأثير الغضب فيظلم المذنب، وخوفاً من التعدي في العقوبة فقد طلب عمر بن عبد العزيز من القاضي أن يحبس المذنب حتى يذهب غضب القاضي، ثم يحكم عليه وهو في هدوء على قدر ذنبه6715.
4 ـ خطأ الوالي في العفو خير من تعديه في العقوبة:
…عن أبي عقبة أن عمر بن عبد العزيز قال: ادرؤوا الحدود ما استطعتم في كل شبهة، فإن الوالي إذا أخطأ في العفو خير من أن يتعدى في العقوبة6716.(3/440)
5 ـ في ترك العمل بالظن: ولى عمر بن عبد العزيز الوليد بن هشام المعيطي على جند قنسرين، والفرات بن مسلم على خراجها، فتباغيا.. ولم قدم قابل، وقدم الوليد ومع رؤوس أنباط قنسرين كتب عمر إلى الفرات أن أقدم فقدم، وإنه لقاعد خلف سرير عمر إذ دخل الأنباط فقال لهم عمر: ماذا أعددتم لأميركم في نُزله لمسيره إليّ. قالوا: وهل قدم يا أمير المؤمنين، قال: ما علمتم به. قالوا: لا والله يا أمير المؤمنين، فأقبل عمر بوجهه على الوليد، فقال: يا وليد: إن رجلاً ملك قنسرين وأرضها خرج يسير في سلطانه وأرضه حتى انتهى إليَّ لا يعلم به أحد، ولا ينفر أحداً ولا يروعه، لخليق أن يكون متواضعاً عفيفاً، قال الوليد: أجل والله يا أمير المؤمنين، إنه لعفيف وإني له لظالم، وأستغفر الله وأتوب إليه، فقال عمر: ما أحسن الاعتراف، وأبين فضله على الإصرار وردهما عمر على عملهما: فكتب إليه الوليد ـ وكان مرائياً ـ خديعة لعمر وتزينا بما هو ليس عليه: إني قدرت نفقتي لشهر فوجدتها كذا وكذا درهماً، ورزقي يزيد على ما أحتاج إليه، فإن رأى أمير المؤمنين أن يحط فضل ذلك، فقال عمر: أراد الوليد أن يتزين عندنا بما لأظنه عليه، ولو كنت عازلاً أحداً على ظن لعزلته، ثم أمر بحط رزقه الذي سأله، ثم أمر بالكتاب إلى يزيد بن عبد الملك وهو ولي عهده: إن الوليد بن هشام كتب إلي كتاباً ظني أنه تزين بما ليس هو عليه ولو أمضيت شيئاً على ظني ما عمل لي أبداً، ولكني آخذ بالظاهر وعند الله علم الغيوب، فأنا أقسم عليك إن حدث بي حادث وأفضى هذا الأمر إليك فسألك أن ترد إليه رزقه وذكر أني نقضته فلا يظفر منك بهذا أبداً فإنما خادع بالله والله خادعه، فلما مات عمر واستخلف يزيد كتب الوليد: إن عمر نقصني وظلمني، فغضب يزيد وبعث إليه فعزله، وأغرمه كل رزق جرى عليه في ولاية عمر ويزيد كلها فلم يلِ له عملاً حتى هلك6717.
6 ـ في الهدية لولاة الأمر:(3/441)
…ذهب عمر بن عبد العزيز إلى اعتبار الهدية لولاة الأمر من خلفاء وولاة الأقاليم وقضاة وغيرهم رشوة وقد رفض الهدية مع شدة حاجته إليها وأمر الناس بعدم تقديم الهدايا لولاة الأمر كما أمر الولاة بأن لا يقبلوا شيئاً من الهدايا6718، عن فرات بن مسلم قال: اشتهى عمر بن عبد العزيز التفاح فبعث فلم يجد شيئاً يشترون له به، فركب وركبنا معه فمر بدير فتلقاه غلمان للديرانيين معهم أطباق فيها تفاح، فوقف على طبق منها فتناول تفاحة فشمها ثم أعادها إلى الطبق، ثم قال: ادخلوا ديركم لا أعلمكم بعثتم إلى أحد من أصحابي بشيء قال: فحركت بغلتي فلحقته فقلت: يا أمير المؤمنين، اشتهيت التفاح فلم يجدوه لك فأُهدي لك فرددته قال: لا حاجة لي فيه، فقلت: ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يقبلون الهدية. قال: إنها لأولئك هدية وهي للعمال بعدهم رشوة6719.
7 ـ في نقض الأحكام إذا خالفت النصوص الشرعية:
…كتب عمر بن عبد العزيز برد أحكام من أحكام الحجاج مخالفة لأحكام الناس6720. وقد وافق عمر بن عبد العزيز في رد الأحكام إذا خالفت كتاب الله أو سنة نبيه أو الإجماع، الشورى وذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد أنه ينقضي الحكم إذا خالف الكتاب والسنة أو الإجماع6721.
8 ـ في من ضيع أمانته فعليه اليمين بعدم التفريط:
…كتب وهب بن منبه إلى عمر بن عبد العزيز: إني فقدت من بيت مال اليمن دنانير. فكتب إليه عمر: أما بعد فإني لست أتهم دينك ولأمانتك ولكن أتهم تضييعك وتفريطك، وإنما أنا حجيج المسلمين في مالهم، وإنما لأشحهم يمينك6722 فاحلف لهم والسلام6723.
9 ـ في أثر البينة الغائبة على تأخير القضاء:(3/442)
…كان عند عمر بن عبد العزيز نفر من قريش يختصمون إليه فقضى بينهم فقال: المقضي عليه: أصلحك الله! إن لي بينة غائبة فقال عمر: إني لأؤخر القضاء بعد أن رأيت الحق لصاحبه، ولكن انطلق أنت فإن أتيتني بينة وحق هو أحق من حقهم فأنا أول من رد قضاءه على نفسه6724.
10 ـ نفقة البعير الضال:
…عن الشعبي قال: أضل رجل بعيراً فوجده عند رجل قد أنفق عليه، أعلفه وأسمنه، فاختصما إلى عمر بن عبد العزيز، وهو يومئذ أمير على المدينة فقضى لصاحب البعير ببعيره وقضى عليه بالنفقة6725.
11 ـ في حرية اللقيط:
…جاء كتاب عمر بن عبد العزيز إلى أهل مكة أن اللقيط حر6726.
12 ـ شهادة الرجل لأخيه أو لأبيه:
…إن عمر بن عبد العزيز كتب: أن أجز شهادة الرجل لأخيه إذا كان عدلاً6727.
ثانياً : في الدماء والقصاص:
1 ـ تخيير الأوفياء في قتل العهد بين العفو والدية والقتل:
…كتب عمر بن عبد العزيز في امرأة قتلت رجلاً : إن أحب الأولياء أن يعفو عفواً، وإن أحبوا أن يقتلوا قتلوا، وإن أحبوا أن يأخذوا الدية أخذوها وأعطوا امرأته ميراثها من الدية6728.
2 ـ في التأني حتى يبلغ ولي المقتول:
…كتب عمر بن عبد العزيز في رجل قُتل وله ولد صغير، فكتب أن يتأنى بالصغير حتى يبلغ6729.
3 ـ في عفو بعض الأولياء يسقط القود:
…عن الزهري قال: وكتب به عمر بن عبد العزيز أيضاً: إذا عفا أحدهم فالدية6730.
4 ـ في القتل بعد أخذ الدية:(3/443)
…قال عمر بن عبد العزيز: والاعتداء الذي ذكر الله أن الرجل يأخذ العقل، أو يقتص، أو يقضي السلطان فيما بين الجارح والمجروح أو يعدو بعضهم بعد أن يستوعب حقه، فمن فعل ذلك فقد اعتدى والحكم فيه إلى السلطان بالذي يرى فيه من العقوبة، ولو عفا عنه لم يكن لأحد من طلبة الحق أن يعفو عنه بعد اعتدائه إلا فإذن السلطان، وعلى تلك المنزلة كل شيء من هذا النحو فإنه بلغنا أن هذا الأمر الذي أنزل الله فيه: ((فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)) (النساء ، آية 59) الآية ، وما كان من جرح فوق الأدنى ودون الأقصى فهو يرى فيه بحساب الدية6731.
5 ـ في القتيل يوجد في السوق:
…كتب عدي بن أرطأة قاضي البصرة إلى عمر بن عبد العزيز إني وجدت قتيلاً في سوق الجزارين قال: أما القتيل فديته من بيت المال6732.
6 ـ في القتل في الزحام:
…إذا قتل الإنسان بسبب إزدحام الناس ولم يعلم من قتله فهل يذهب دمه هدراً؟ إن عمر بن عبد العزيز يرى أن مات بهذا السبب فديته في بيت المال6733. فعن عمر بن عبد العزيز أنه كتب في رجلين ماتا في الزحام: أن يؤديا من بيت المال فإنما قتله يد أو رجل6734
ثالثاً : في الديات:
1 : مقدار الدية:
…كتب عمر بن عبد العزيز إلى أمراء الأجناد أن الدية كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بعير6735.
2 ـ في دية اللسان:
…عن سليمان بن موسى قال: في كتاب عمر بن عبد العزيز في الأجناد: ما قطع في اللسان فبلغ أن يمنع الكلام كله ففيه الدية كاملة وما نقص دون ذلك فبحسابه6736.
3 ـ في دية الصوت والحنجرة:
…حيث إن الصوت مصدره الحنجرة وأن إتلافها قد يذهب بالصوت ومن ثم فلا كلام فقد رأى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن فيها الدية كاملة إذا انقطع الصوت من ضربة6737، عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: في الحنجرة إذا كسرت فانقطع الصوت الدية كاملة6738.
4 ـ في دية الذكر:(3/444)
…وأما الذكر فلأهميته للرجل ولأنه إذا ذهب انقطعت شهوته وذهب نسله فقد رأى عمر بن عبد العزيز أنه إذا ذهب كله ففيه الدية كاملة، وما كان دون ذلك فيحاسبه، فعن عبد العزيز عن عمر بن عبد العزيز في الذكر الدية، فما كان دون ذلك فبحسابه6739.
5 ـ في دية إفضاء المرأة:
…إذا أصاب الرجل المرأة فأفضاها فقد ينتج عن ذلك منع اللذة والجماع، وقد نتج عنه عدم حبس الحاجتين والولد، ونظراً لخطورة هذا الأمر فقد جعل فيه عمر بن عبد العزيز الدية كاملة وفي رواية عنه أنه جعل فيه ثلث الدية6740، ويمكن الجمع بين الروايتين بأن عمر بن عبد العزيز يجعل في إفضاء المرأة الدية كاملة إذا لم يحبس الحاجتين والولد، وثلث الدية إذا حبس الحاجتين والولد6741.
6 ـ في دية الأنف:
…نظراً للمصالح المترتبة على وجود الأنف من التنفس عن طريقه ومعرفة الروائح والتمييز بينها، إضافة إلى جمال الوجه بوجود الأنف، والتشويه الحاصل بقطعه كما أن العرب ترى في جدع الأنف إهانة لا يعدلها إهانة، لذلك فقد جعل عمر بن عبد العزيز فيه الدية كاملة إذا جدع من أصله، وأن ما كان دون ذلك فبحسابه6742.
7 ـ في دية الأذن:
…حيث إن الأذن تؤدي نصف منفعة السمع ولأنها مهما يكون في الإنسان منه اثنتان فإن عمر بن عبد العزيز يرى إذا استؤصلت أو ذهبت منفعتها ففيها نصف الدية حيث إن قوله في الأذن نصف الدية يتناول ذهاب سمعها ويتناول استئصالها6743.
8 ـ في دية الرجل:
…لما كان الإنسان لا يستطيع المشي إلا بالرجلين وأنه بالرجل الواحدة يكون قعيداً ولأن الرجل مما يكون في الإنسان منه اثنتان، فقد جعل عمر بن عبد العزيز في الرجل نصف الدية6744.
9 ـ في دية ما بين الحاجبين:(3/445)
…هناك بعض الجزئيات في الديات لم يتعرض لها العلماء وقبل عمر بن عبد العزيز، وهاهو عمر بن عبد العزيز يرى فيها رأيه، من هذه الأمور دية الكسر إذا وقع بين الحاجبين وشان الوجه ولم ينقل منها العظام6745، فقد قال:.. فإن كان بين الحاجبين كسر شان الوجه ولم ينقل منها العظام فربع الدية6746.
10 ـ في دية الجبهة إذا هشمت:
…قال عمر بن عبد العزيز: في الجبهة إذا هشمت وفيها غوص من داخل مائة وخمسون ديناراً6747.
11 ـ في دية الذقن:
…وأما الذقن إذا كسرت فإن عمر بن عبد العزيز يرى أن فيها ثلث الدية، فقد قال: في الذقن ثلث الدية6748. هكذا يقرر عمر بن عبد العزيز باجتهاده وبرأيه السديد أموراً لم يسبق إليها منها دية الذقن إذا كسرت فإنه جعل فيها ثلث الدية نظراً لأهميتها حيث يمتنع مع كسرها مضغ الطعام وفتح الفم. ويبدو أن هذا القول تفرد به6749.
12 ـ في دية الأصابع:
…نظراً لأهمية الأصابع وخاصة أصابع اليد، فقد رأى عمر بن عبد العزيز أن في كل أصبع من أصابع اليد أو الرجل عشر الدية وفي كل قصبة من قصب الأصابع ثلث دية الأصبع إلا الإبهام لأنه قصبتان ففي كل قصبة منه نصف دية الأصبع، فعن عمر بن عبد العزيز: في كل أصبع عشر من الإبل أو عدل ذلك من ذهب أو ورق6750.
13 ـ في دية الظفر:
…حتى الظفر لم يغفل عنه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فقد جعل فيه إذا اسود أو سقط عشر دية الأصبع عشرة دنانير، فعن عمر بن عبد العزيز أنه اجتمع له في الظفر إذا نزع فعرّ6751، أو سقط أو اسود، العشر في دية الأصبع، عشرة دنانير6752.
رابعاً : في الحدود:
1 ـ أهمية إقامة الحدود:
…حيث إن إقامة الحدود سبب في حفظ دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم واستتباب الأمن في بلادهم، فقد أكد عمر بن عبد العزيز على إقامة الحدود حتى جعلها من حيث الأهمية كإقامة الصلاة والزكاة6753، فقد كتب عمر بن عبد العزيز: إن إقامة الحدود عندي كإقامة الصلاة والزكاة6754.(3/446)
2 ـ في منع الرجوع عن الحدود بعد بلوغها الإمام:
…ذهب عمر بن عبد العزيز إلى مسائل الحدود إذا رفعت إلى الإمام أو القاضي فإنها تكون قد بلغت حداً لا يمكن الرجوع فيه بل يجب تنفيذ ما ثبت من الحدود6755.
3 ـ في اجتماع أكثر من حد على رجل واحد:
…قد يأتي الرجل بعدة جرائم قبل أن يقام عليه الحد مثل أن يزني ويسرق ويقتل، فهل قتل كاف عن الحدود الأخرى فيأتي عليها؟ أم أنها تقام عليه الحدود ثم يقتل؟ إن الرواية عن عمر بن عبد العزيز تدل على أنه يقيم الحدود أولاً ثم يقتله6756.
4 ـ في عدم القطع أو الصلب إلا بعد مراجعة الخليفة:
…رأى عمر بن عبد العزيز أن على الولاة مراجعة الخليفة في قضايا القتل والصلب، وأن يُقتل أحد ولا يُصلب إلا بعد موافقة الخليفة على ذلك6757.
5 ـ يشترط في المقذوف لحده أن يكون مسلماً:
…ذهب عمر بن عبد العزيز إلى أنه لا حد في قذف كافراً، وذلك لأن الكفر أكبر من الزنا المقذوف به، فلا حاجة إلى إثبات براءته من هذا الذنب ما دام فيه أكبر منه وهو الكفر6758، فعن طارق بن عبد الرحمن ومطرف بن طريف قالا: كنا عند الشعبي فرفع إليه رجلان، مسلم ونصراني، قذف كل واحد منهما صاحبه فضرب النصراني للمسلم ثمانين، وقال للنصراني: لما فيك أعظم من قذف هذا فتركه، فرفع ذلك إلى عبد الحميد بن زيد، فكتب فيه إلى عمر بن عبد العزيز فذكر ما صنع الشعبي، فكتب عمر يحسِّن ما صنع الشعبي6759. هكذا يرى عمر بن عبد العزيز أنه لا حد على قذف الكافر إذ ليس بعد الكفر ذنب، ولأن الكافر فيه الكفر وهو أكبر مما قذف به، إذ لو وجد فيه الزنا فهو أقل من الكفر، إذن فلا حد على من قذف الكافر6760.
6 ـ عدم سقوط الحد بقذف الرجل ابنه:(3/447)
…إذ قذف الرجل ابنه، فهل يقام عليه الحد أم لا يقام؟ وهل من حق الأب على ابنه أن يقذف بما ليس فيه؟ وإذا كان عليه حد فهل يسقط عنه إذا عفا الابن؟ ذهب عمر بن عبد العزيز إلى أن من قذف ابنه يقام عليه الحد، إلا أنه إذا عفا الولد عن والده فلا يقام عليه حد6761، فعن ابن جريح قال: أخبرني رزيق ـ صاحب أيلة ـ أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز في رجل افترى على ابنه، فكتب بحد الأب إلا أن يعفوا عنه أبنه6762.
7 ـ عقوبة قذف النصرانية تحت المسلم:
…إذا كانت النصرانية تحت مسلم، ونظراً لأن قذفها يتعدى لزوجها المسلم أو ابنها المسلم فإن عمر بن عبد العزيز يجلد من قذفها دون الحد6763. فعن أبي إسحاق الشيباني عن عمر بن عبد العزيز في رجل قذف نصرانية لها ولد مسلم، فجلده عمر بضعة وثلاثين سوطا6764. وقد وافق عمر بن عبد العزيز في رأيه هذا الزهري، وقال قتادة: يجلد الحد6765. وقد اتفق أصحاب المذاهب الأربعة على أنه لا يحد، وأما المالكية فقالوا: ينكل من أجل أولادها المسلمين6766 .
8 ـ قذف المرأة للرجل بنفسها:
…عن عمر بن عبد العزيز أنه أتته امرأة فقالت: إن فلاناً استكرهني على نفسي، فقال: هل سمعك أحد أو رآك؟ قالت: لا، فجلدها بالرجل6767. هذه مسألة لا تتناول عقوبة الزنا، وإنما هي خاصة بالقذف، فالمرأة التي تدعى على الرجل أنه استكرهها على الزنا، هي بكلامها هذا تعتبر قاذفة له بنفسها وعليه حد القذف إلا أن تأتي ببينة تدرأ عنها هذا الحد، فسماع صياح المرأة هو عند عمر بن عبد العزيز يعفيها من حد القذف أو أن يكون أحد رآها وقد وافق عمر بن عبد العزيز في جلدها إن لم يكن لها بينة وافقه الزهري وقتادة وربيعة ويحي بن سعيد الأنصاري6768.
9 ـ قطع السارق قبل خروجه بسرقته:
…ذهب عمر بن عبد العزيز بأنه لا قطع على السارق حتى يخرج بسرقته، فعن عمر بن عبد العزيز قال: لا يقطع حتى يخرج بالمتاع من البيت6769.
10 ـ النباش سارق يستحق القطع:(3/448)
…إن من الناس من يأتي أموراً تشمئز منها النفوس، حتى الميت في قبره لم يسلم من بعض المنحرفين، فهناك سارق يحفر القبر ويأخذ أكفان الميت، وهذا عمر بن عبد العزيز يرى أن النباش سارق يستحق القطع، لأن من سرق من الأموات كما سرق من الأحياء6770، فعن معمر قال بلغني أن عمر بن عبد العزيز قطع نباشاً6771.
11 ـ عقوبة شرب الخمر للمرّة الثانية:
…عن عبادة بن نسي قال: شهدت عمر بن عبد العزيز يضرب رجلاً حداً في خمر فخلع ثيابه ثم ضربه ثمانين رأيت منها ما بضع ومنها ما لم يبضع ثم قال: إنك إن عدت الثانية ضربتك ثم ألزمتك الحبس حتى تُحدث خيراً. قال يا أمير المؤمنين أتوب إلى الله أن أعود في هذا أبداً فتركه عمر6772.
12 ـ عقوبة ساقي الخمر:
…إن من يوفر الخمر أو يقدمها لم يشربها ينبغي أن لا تقل عقوبته عن شاربها لأنه تسبب في إيصالها لمن يشربها، ولذلك فقد جلد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ساقي الشراب مع الذين يشربون6773، فعن ابن التميمي أن عمر بن عبد العزيز وجد قوماً على شراب، ووجد معهم ساقياً، فضربه معهم6774.
13 ـ إتلاف أواني الخمر مع الخمر:
…عن هارون بن محمد عن أبيه قال: رأيت عمر بن عبد العزيز بخناصرة يأمر بزقاق الخمر أن تشقق وبالقوارير أن تكسر6775.
14 ـ إدخال الكفار الخمر إلى بلاد المسلمين:(3/449)
…إذا كان الكفار يعتقدون حل الخمر ويشربونها في بلادهم، فإذا جاؤوا إلى بلاد المسلمين ومعهم الخمر فهل يسمح لهم بدخولها معهم؟ أو يسمح بتوفيرها لهم ليشربوها في بلاد المسلمين؟، إن الكفار في بلاد المسلمين أن يصبروا عن الخمر ما داموا يرغبون العيش في بلاد المسلمين، وإذا كان لكل دولة نظمها والداخل إليها يجب أن يراعيها، ولأن هذا نظام دولة الإسلام وهو أيضاً نظام رب العالمين فهو أحق بالرعاية والالتزام، ومن هذا المنطلق نجد عمر بن عبد العزيز يمنع أهل الذمة من إدخال الخمر معهم إلى بلاد المسلمين فقد كتب عمر في خلافته: أن لا يدخل أهل الذمة بالخمر أمصار المسلمين فكانوا لا يدخلونها6776.
15 ـ في عقوبة الساحر:
…عن همام عن يحي أن عامل عُمان كتب إلى عمر بن عبد العزيز في ساحرة أخذها، فكتب إليه عمر: إن اعترفت أو قامت عليها البينة فاقتلها6777. وهذا مذهب الأئمة الثلاثة أبي حنيفة ومالك وأحمد6778، وقد كتب عمر بن الخطاب في خلافته إلى الولاة أن اقتلوا كل ساحر وساحرة6779.
16 ـ استتابة المرتد:
…المسلمون لا يكرهون أحداً على الإسلام ولكنهم أيضاً لا يقبلون التلاعب بالدين، فمن دخل في دين الإسلام طائعاً مختاراً أو ولد في الإسلام ثم كفر بعد إيمانه فإن عمر بن عبد العزيز يرى أن يستتاب ويدعى إلى الإسلام ثلاثة أيام فإن تاب ورجع إلى الإسلام قبل منه فإن أبى ضربت عنقه6780.(3/450)
17 ـ طريقة استتابة المرتد: عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن أبيه قال: كنت عاملاً لعمر بن عبد العزيز فكتبت إليه أن رجلاً كان يهودياً فأسلم ثم تهود فرجع عن الإسلام، فكتب إلى عمر: أن ادعه إلى الإسلام، فإن أسلم فخل سبيله وإن أبى فادع بالخشبة فاضجعه عليها، ثم ادعه، فإن أبى فأوثقه ثم ضع الحربة على قلبه ثم ادعه، فإن رجع فخل سبيله وإن أبى فاقتله. قال: ففعل ذلك به حتى وضع الحربة على قلبه، فأسلم فخلى سبيله6781. قال الدكتور محمد شقير: لم أر قولاً لغير عمر بن عبد العزيز بهذا التفصيل وذهب الأئمة الأربعة إلى أن المرتد يقتل بعد استتابته إذا لم يرجع إلى الإسلام6782.
18 ـ عقوبة المرتدة:
…رأى عمر بن عبد العزيز أن تستتاب المرتدة، فإن تابت وإلا تسترق وتباع على غير أهل دينها6783. وهذا رأي قتادة قال: تُسبى وتباع، وكذلك فعل أبو بكر بنساء أهل الردة6784،، وروي عن الحسن قال: لا تقتلوا النساء إذا هنّ ارتددن عن الإسلام ولكن يدعين إلى الإسلام، فإن هن أبين سبين فيجعلن إماء المسلمين ولا يقتلن6785.
خامساً : في التعزيرات:
1 ـ في الحد الأقصى للضرب تعزيراً:(3/451)
…العقوبة بالجلد تنقسم إلى قسمين: حد وتعزير، فالحد قد نص الشارع الحكيم عليه، فمقداره محدد، لا مجال لأحد أن يزيد عليه أو ينقص منه، وأما الجلد تعزيراً فهو عقوبة لإتيان أمر لا حد فيه، أو أي جناية لا حد فيها فهو متروك للحاكم ليحدد مقداره حسب ما يرى، إلا أن عمر بن عبد العزيز جعل لذلك حداً أقصى لا تجوز الزيادة عليه على قولين6786، الأول، لا تجوز الزيادة على ثلاثين جلدة، فعن محمد بن قيس أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله بمصر: لا تبلغ العقوبة أكثر من ثلاثين سوطاً إلا في حد من حدود الله6787. وفي القول الثاني: لا يبلغ بالجلد تعزيراً أقل الحدود فعلى هذه الرواية لا يزاد للحر عن تسع وثلاثين جلدة ولا يزاد للعبد على تسع عشرة جلدة، لأن العشرين للعبد والأربعين للحر هي أقل الحدود6788 وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: أن عاقبوا الناس على قدر ذنوبهم، وإن بلغ ذلك سوطاً واحداً وإياكم أن تبلغوا بأحد حداً من حدود الله6789.
2 ـ النهي عن أخذ الناس بالمظنة وضربهم على التهمة:(3/452)
ذهب عمر بن عبد العزيز إلى عدم جواز الأخذ بالظن أو الضرب على التهمة فهو يقرر بهذا مبدأ العدالة وترجيح التحقيق العادل على التحقيق الحازم، وذلك خوفاً من أن يظلم برئ فقد فضل عمر بن عبد العزيز أن يلقوا الله بخيانتهم على أن يلقى الله بدمائهم6790، عن إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني قال حدثني أبي عن جدي، قال لما ولاني عمر بن عبد العزيز الموصل، قدمتها فوجدتها من أكبر البلاد سرقاً ونقباً6791، فكتبت إلى عمر أعلمه حال البلد وأسأله أخذ الناس بالمظنة وأضربهم على التهمة أو أخذهم بالبينة وما جرت عليه عادة الناس، فكتب إلي أن أخذ الناس بالبينة وما جرت عليه السنة، فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحهم الله، قال يحيى ففعلت ذلك فما خرجت من الموصل حتى كانت من أصلح البلاد وأقله سرقاً ونقباً6792 وكتب عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز. ... أما بعد أصلح الله أمير المؤمنين فإن قبلي أناساً من العمال قد إقتطعوا من مال الله عز وجل، مالاً عظيماً لست أرجو إستخراجه من أيديهم إلا أن أمسهم بشئ من العذاب، فإن رأى أمير المؤمنين ـ أصلحه الله ـ أن يأذن لي في ذلك أفعل. قال: فأجابه أما بعد: فالعجب كل العجب من إستئذانك إياي في عذاب بشر كأني لك جنة من عذاب وكأن رضائي عنك ينجيك من سخط الله عز وجل، فانظر من قامت عليه بينة عدول فخذه بما قامت عليه البينة، ومن أقر لك بشئ فخذه بما أقر به، ومن أنكر فأستحلفه بالله العظيم، وخل سبيله، وأيم الله، لأن يلقوا الله عز وجل بخيانتهم أحب إلي من أن ألقى الله بدمائهم6793. وهكذا يقرر عمر بن عبد العزيز الأخذ بالتحقيق العادل لا بالتحقيق الحازم. وقد قال بعدم الأخذ بالمظنة والضرب على التهمة كل من عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعطاء6794.(3/453)
3 ـ…النهي عن المثلة: حلق الرأس جعله الله نسكاً وسنة ـ في الحج والعمرة ـ كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن حلق اللحية ولكن بعض الناس خالفوا ذلك كله وجعلوا حلق الرأس واللحية عقوبة، وهذا عمر بن عبد العزيز ينهى عن هذا العمل ويسميه المثلة6795. فقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامل له: إياك والمثلة جز الرأس واللحية6796 ومذهب الأئمة، الأربعة أن لا يجوز التعزير بحلق اللحية وعند مالك وأبي حنيفة ولا يحلق الرأس6797.
سادساً: في أحكام السجناء:
1ـ…تعجيل النظر في أمر المتهمين: أمر عمر بن عبد العزيز بتعجيل النظر في أمور المتهمين، فمن كان عليه أدب فيؤدب ويطلق سراحه ومن لم يثبت عليه قضية يخلي سبيله، ويرى أن إقامة الحدود سبب لقلة السجناء لأنه يكون زاجراً لا هل الفسق والزعارة6798، فعن جعفر بن برقان قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز. ... فلو أمرت بإقامة الحدود لقلَّ أهل الحبس، ولخاف أهل الفسق والدعارة، ولتناهوا عما هم عليه، إنما يكثر أهل الحبس لقلة النظر في أمورهم، إنما هو حبس وليس نظر، فمر ولاتك جميعاً بالنظر في أمر أهل الحبوس في كل الأيام، فمن كان عليه أدب وأطلق، ومن لم تكن له قضية خلي عنه6799.
2 ـ…في الإهتمام بأمور المسجونين:(3/454)
قام عمر بن عبد العزيز رحمه الله بالإصلاح على كل طريق، وحقق العدل على كل صعيد، فقد أهتم بأمر المسجونين إهتماماً شديداً، وأصدر تعليماته بتعهدهم بكل ما يحتاجونه من طعام وأدم وكسوة وغير ذلك6800، وعن جعفر بن برقان قال: كتب عمر بن عبد العزيز: . .... وأجروا عليهم من الصدقة ما يصلحهم في طعامهم وأدمهم. ..فمر بالتقدير لهم مايقوتهم في طعامهم وأدمهم، وصير ذلك دراهم تجري عليهم في كل شهر يدفع ذلك إليهم، فإنك إن أجريت عليهم الخبز ذهب به ولاة السجن والقوام والجلاوزة6801، وول ذلك رجلاً من أهل الخير والصلاح، ويدفع ذلك إليهم شهراً بشهر، يقعد ويدعو بإسم رجل رجل ويدفع ذلك إليه في يده... وكسوتهم في الشتاء قميص وكساء وفي الصيف قميص وإزار، وتزاد المرأة مقنعة. ...ومن مات منهم ولم يكن له ولي ولا قرابة يغسل ويكفن من بيت المال ويصلى عليه ويدفن6802. وكتب إلى أمراء الأجناد: وأنظروا من في السجون ممن قام عليه الحق. ..ولاتعد في العقوبة، ويعاهد مريضهم ممن لا أحد له ولا مال. ...وأنظر من تجعل على حبسك ممن تثق به ومن لا يرتشي، فإن من إرتشى صنع ما أمر به6803.
3 ـ …سجن خاص بالنساء:(3/455)
يمضي عمر بن عبد العزيز قدماً في تنظيم السجون والاهتمام بأمر المسجونين وتعاهدهم، فيأمر بأن يجعل للنساء حبس خاص بعيداً عن الإختلاط بالرجال مما يؤكد على اختيار أهل الدين والأمانة، ليتولوا أمور السجناء6804. فقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى أمراء الأجناد: وأنظروا من في السجون ممن قام عليه الحق فلا تحبسه حتى تقيم عليه، ومن أشكل أمره إلي فيه، واستوثق من أهل الزعارات فإن الحبس لهم نكال، ولا تعد في العقوبة، ويعاهد مريضهم ممن لا أحد له ولا مال، وإذا حبست قوماً في دين فلا تجمع بينهم وبين أهل الزعارات في بيت واحد ولا حبس واحد وأجعل للنساء حبساً على حدة، وانظر من تجعل على حبسك ممن تثق به ومن لا يرتشي فإن من إرتشى صنع ما أمر به6805 ومما سبق نلاحظ إهتمام عمر بن عبد العزيز بالسجناء وحرصه على إقامة العدل فيهم وإصلاح ما أفسده من قبله في التعامل معهم
سابعاً: في أحكام الجهاد.
1 ـ…سن من يشرع له الإشتراك في القتال:
كان شباب الرعيل الأول من المسلمين يتاسبقون ويتنافسون على الإشتراك في القتال، وإذا لم يسمح لا حدهم بالإشتراك في القتال فإنه يتحسر ويحاول إقناع ولي الأمر بأنه لا يستطيع القتال وقد حدد عمر بن عبد العزيز سن من يسمح له بالقتال، والفرض له مع المقاتلة حدده بخمس عشرة سنة ومن كان دون ذلك فيكون فرضة في الذرية ولا يسمح له بالإشتراك في القتال6806.
2 ـ…كيفية بداية قتال غير المسلمين:
عن صفوان ابن عمرو قال: جاءنا كتاب عمر بن عبد العزيز وهو خليفة إلى عامله أن لا تقاتلن حصناً من حصون الروم ولا جماعة من جماعتهم حتى تدعوهم إلى الإسلام فإن قبلوا فاكفف عنهم وإن أبوا فالجزية، فإن أبوا فانبذ إليهم على سواء6807.
3 ـ في مدة الرباط:(3/456)
الرباط في سبيل الله من أحب الأعمال إلى الله تعالى ويترتب عليه الأجر الوفير من الله سبحانه وتعالى، وقد ذهب عمر بن عبد العزيز إلى أن مدة الرباط أربعون يوماً، فقد قال: تمام الرابط أربعون يوماً6808.
4 ـ في حكم تصرف المقاتل في ماله:
قال عمر بن عبد العزيز: إذا كان الرجل في الحرب على ظهر فرسه يقاتل فما صنع في ماله فهو جائز6809.
5 ـ …في بيع الخيل للعدو:
بيع السلاح ونقله أو الخيل أو ما يقوى الأعداء ويشد من أزرهم ويقويهم على حرب المسلمين، جريمة في حق من يفعله وينبغي حجز هذه الأشياء وما في حكمها حتى لا تصل إلى العدو ومن هذا المنطلق منع عمر بن عبد العزيز حمل الخيل إلى الهند بإعتبارها بلد من بلدان المشركين في زمن عمر بن عبد العزيز، والعداوة لا تخفى بين أهل الإسلام وأهل الشرك6810.
6 ـ إفتداء أسارى المسلمين ولو كثر الثمن:
أكد عمر بن عبد العزيز على وجوب فك أساري المسلمين في رسائله إلى عماله بأن يغادروا مهما بلغ ذلك من المال، فقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عماله أن فاد بأسارى المسلمين وإن أحاط ذلك بجميع مالهم6811، وعن ربيعة بن عطاء عن عمر بن عبد العزيز أنه أعطى برجل من المسلمين عشرة من الروم وأخذ المسلم6812. وفي رواية أن فادوا بأساري المسلمين وإن أحاط ذلك بجميع مالهم6813.
7 ـ إفتداء الرجل والمرأة والعبد والذمي: عن ربيعة بن عطاء قال: كتب عمر بن عبد العزيز معي وبعث بمال إلى ساحل عدن أن أفتدي الرجل والمرأة والعبد والذمي6814. مما تقدم يظهر عدل عمر بن عبد العزيز جليا حيث أمر بإفتداء من يعيش على أرض المسلمين حتى ولو كان عبداً أو ذميا لأن الذمي له أن يحفظ ويدافع عنه ويفتد لو وقع في الأسر، وهذا أكبر دليل على وفاء المسلمين بذمتهم إلى أبعد مما يتصوره أحد6815.
8 ـ كراهة قتل الأسرى:(3/457)
عن معمر قال: أخبرني رجل من أهل الشام ممن كان يحرس عمر بن عبد العزيز ما رأيت عمر بن عبد العزيز قتل أسيراً قط، إلا واحداً من الترك قال: جئ بأسرى من الترك، قال: فأمر بهم أن يسترقوا، فقال رجل ممن جاء بهم يا أمير المؤمنين لو كنت رأيت هذا ـ لأحدهم ـ وهو يقتل في المسلمين لكثر بكاؤك عليهم: قال: فدونك: فأقتله، قال: فقام إليه فقتله6816.
لقد كره عمر بن عبد العزيز قتل الأسرى، ومنع ذلك إلا واحداً قتل كثيراً من المسلمين، ولكنه أذن في أن يسترقون6817.
ثامناً: في النكاح والطلاق:
1ـ زواج المرأة بغير ولي:
عن سفيان عن رجل من أهل الجزيرة عن عمر بن عبد العزيز أن رجلاً تزوج إمرأة ولها ولي هو أدنى منه بدروب الروم، فرد عمر النكاح وقال: الولي وإلا فالسلطان6818.
2 ـ… تزويج الوليين للمرأة على رجلين:
عن ثابت بن قيس الغفاري قال: كتبت إلى عمر بن عبد العزيز في جارية من جهينة زوجها وليها رجلاً من قيس، وزوجها آخر رجلاً من جهينة، فكتب عمر بن عبد العزيز أن أدخل عليها شهودا عدولاً وخيرها فأيهما اختارت فهو زوجها.
3 ـ… زواج الرجل بالمرأة بعد الفجور بها:
…إذا زنى رجل بأمرأة ثم بدا له أن يتزوجها فهل يحل له ذلك ؟ ذهب عمر بن عبد العزيز إلى جواز ذلك إذا رأى منها خيراً، وهذا رأي رشيد لأنه يسد كثيراً من أبواب الشر لأنه لا فرق بين من فجر بها ومن لم يفجر بها، فلو قلنا لا يجوز ذلك فغير هذا الرجل أولى بأن لا يقبلها، وفي هذا شرور ومفاسد عظيمة6819، عن يحيى بن سعيد قال: بلغني أن عمر بن عبد العزيز سئل عن إمرأة أصابت خطيئة، ثم رأى منها خيراً، أينكحها الرجل؟ فقال له: الظن كما بلغني، أي إنها له6820.
4 ـ… نكاح أمرأة الأسير:(3/458)
عن عمر بن عبد العزيز قال: لا تنكح أمرأة الأسير أبداً مادام أسيراً6821. فالأسير المسلم إنما وقع في الأسر نتيجة لا قدامه وبلائه في قتال الإعداء رفعاً لرأية الإسلام، أو دفاعاً عن بلاد المسلمين وتقديراً لهذا الموقف النبيل حيث ضحى بنفسه في سبيل دينه، فإن على أمرأته أن تقدر له ذلك وأن تصبر حتى يفك الله أسره ثم يعود إليها خاصة وأن بقاءه في الأسر وغيبته هذه ليست من إختيا ره، كما أن إطلاق سراحه محتمل في كل وقت ولذلك كله كان من العدل والإنصاف أن لا تتزوج إمرأة الأسير مادام أسيراً6822.
5 ـ… نكاح إمرأة المفقود:
إذا فقد الرجل وإنقطعت أخباره، فلا يدرى أحي هو أم ميت فهل تبقى زوجته تنتظره؟ وما مدة الإنتظار؟ ذهب عمر بن عبد العزيز إلى أن إمرأة المفقود تعتد أربع سنين وبعدها تتزوج6823، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة: أن إمرأة المفقود تعتد أربع سنين6824، والظاهر أن عمر بن عبد العزيز يرى جواز زواج إمرأة المفقود بعد مضي السنين الأربع، والعدة بعدها أربعة أشهر وعشراً6825.
6 ـ… صداق المطلقة قبل الدخول بها في مرض زوجها:
ذهب عمر بن عبد العزيز إلى أن لها نصف المهر، فلا تأثير لتطليق زوجها في حال المرض6826، فعن عمر بن عبد العزيز قال: لها نصف الصداق ولاميراث لها ولا عدة عليها6827.
7 ـ… إشتراط الرجل لنفسه شيئاً عند زواج إبنته:
ذهب عمر بن عبد العزيز إلى أن المهر للمرأة وإن إشترط والدها شيئاً لنفسه فهو للمرأة دون الأب6828، وعن الأوزاعي أن رجلاً زوج إبنته على ألف دينار وشرط لنفسه ألف دينار فقضى عمر بن عبد العزيز للمرأة بألفين دينار دون الأب6829.
8 ـ في اللعب بالطلاق جد:
يرى عمر بن عبد العزيز، أن الرجل يحاسب على الطلاق سواء كان جاداً أوهازلاً، فعن سليمان بن حبيب المحاربي قال: كتب إليّ عمر بن عبد العزيز: مهما أقلت السفهاء عن شئ فلا تقيلوهم الطلاق والعتاق6830.(3/459)
9 ـ في طلاق المكره: قد يحصل للإنسان بعض مواقف يكره فيها على الطلاق كأن يستحلف بالطلاق على أن يفعل كذا أو يترك كذا، وقد يكره ويهدد إذا لم يطلق إمرأته، فهل هذا النوع من الطلاق على الصفة يقع ؟ ذهب عمر بن عبد العزيز إلى أن طلاق المكره لا يقع6831، عن عمر بن عبد العزيز قال: لا طلاق ولاعتاق على مكره6832.
10 ـ في تطليق الرجل نصف تطليقة:
قيل لعمر بن عبد العزيز: الرجل يطلق إمرأته نصف تطليقة قال: هو تطليقة6833.
11 ـ تطليق المرأة نفسها إذا جعل أمرها بيدها:
ذهب عمر بن عبد العزيز إلى أن الطلاق يقع وأن هذا الطلاق وإن كان ثلاثاً يعتبر واحدة، وهو أحق بها إن أراد مراجعتها، فقد كتب عمر بن عبد العزيز في رجل من بني تميم جعل أمر إمرأته بيدها، قال: إن ردت الأمر عليه فلا شيء وإن طلقت نفسها فهي واحدة وهو أحق بها6834.
12 ـ إسلام المرأة تحت الكافر:
إذا أسلمت المرأة تحت الرجل الكافر فإنها تخرج منه، ويفرق بينهما، فعن معمر بن سليمان عن أبيه أن الحسن وعمر بن عبد العزيز قالا في النصرانية تسلم تحت زوجها، قالا: الإسلام أخرجها منه6835. فمتى أسلمت المرأة وبقى الرجل على الكفر فلابد من التفريق بينهما، حتى لا تكون للكافر ولاية على مسلمة، لأن هذا غير مقبول في شرع الله، فعن عمر بن عبد العزيز يرى أنه إذا أسلمت المرأة تحت الرجل الكافر فإنها تخرج منه ويفرق بينهما6836، وهذا التفريق لا يأتي إلا بعد عرض الإسلام عليه فإن أسلم فهي أمرأته وإن أبى فإن عمر بن عبد العزيز يرى أن ذلك تطليقه بائنة6837. وأما إذا أسلم ولازالت إمرأته في العدة فهو أحق بها6838.
13 ـ مدة إنتظار الغائب:
ذهب عمر بن عبد العزيز إلى أن هناك حداً أقصى لمدة الغيبة وهو سنتان، وبعدها إما أن يقفل الغائب إلى زوجته، وإما أن يطلقها، فقد كتب: من غاب عن إمرأته سنتين فليطلق أو ليقفل6839 إليها6840.(3/460)
هذه بعض الإجتهادات الفقهية والفتاوى والأحكام القضائية التي مارسها عمر بن عبد العزيز والتي تدل على تبحره في المسائل الشرعية وقدرته على الإجتهاد وإصدار الأحكام من كتاب الله وسنة رسوله ومن سبقه من الخلفاء الراشدين وعلماء الأمة، وقد قام الدكتور محمد شقير بجمع فقه عمر بن عبد العزيز، في مجلدين فمن أراد التوسع فليرجع إلى هذه الرسالة العلمية التي نال بها صاحبها درجة الدكتوراة من المعهد العالي للقضاء بالرياض في المملكة العربية السعودية.
المبحث الثامن: الفقه الإداري عند عمر بن عبد العزيز وأيامه الأخيرة ووفاته رحمه الله.
أولاً: أشهر ولاة عمر بن عبد العزيز:
أختار عمر لسياسة الرعية وأعمال الحق بين الناس الولاة الثقات الخيرين الأبرار ممن إشتهروا بالأمانة والعلم والقوة والتواضع وعفة النفس، والعدالة، وحسن الخلق والرحمة والقدوة الحسنة ومشاورة الآخرين والنصح وعدم الأنانية والكفاءة والذكاء و الحكمة وقد قال ابن كثير في ولاة عمر بن عبد العزيز: وقد صرح كثير من الأئمة بأن كل من أستعمله عمر بن عبد العزيز ثقة6841 ومن هؤلاء:
1 ـ الحجاج بن عبد الله الحكمي (ولي خراسان وسجستان):(3/461)
قال عنه الذهبي: مقدم الجيوش، فارس الكتائب، أبوعقبة الجراح بن عبد الله الحكمي ولي البصرة من جهة الحجاج، ثم ولي خراسان وسجستان لعمر بن عبد العزيز وكان بطلاً شجاعاً مهيباً، عابداً، قارئاً، كبير القدر6842. قال الجراح الحكمي: تركت الذنوب حياءً أربعين سنة، ثم أدركني الورع6843. كان على خراسان كلها حربها وصلاتها ومالها6844. قتل عام 112هـ في خلافة هشام، فعن سليم بن عامر: دخلت على الجراح فرفع يديه، فرفع الأمراء أيديهم، فمكث طويلاً، ثم قال لي: يا أبا يحيى، هل تدري ما كنا فيه ؟ قلت: لا ،وجدتكم في رغبة فرفعت يدي معكم، قال: سألنا الله الشهادة، فوالله ما بقى منهم أحد في تلك الغزاة حتى أستشهد6845. قال خليفة: زحف الجراح من برذعة6846 سنة اثنتي عشر إلى ابن خاقا، فاقتتلوا قتالاً شديداً فقتل الجراح في رمضان وغلبت الخرز على أذربيجان وبلغوا إلى قريب الموصل6847، وكان البلاء بمقتل الجراح على المسلمين عظيماً، بكوا عليه في كل جند6848.
2 ـ عدي بن أرطاة الفزاري (والي البصرة):
كان أمير البصرة لعمر بن عبد العزيز، حدث عن عمرو بن عبسة وأبي أمامة، قال عباد بن منصور: خطبنا عدي على منبر المدائن حتى بكى وأبكانا6849، وكان عمر بن عبد العزيز يتفقده بالنصائح والمواعظ، قال معمر: كتب عمر إلى عدي بن أرطاة: إنك غررتني بعمامتك السوداء، ومجالستك القراء، وقد أظهرنا الله على كثير مما تكتمون أما تمشون بين القبور6850؟ قدم عدي على البصرة، فقيد يزيد بن المهلب، ونفذه إلى عمر بن عبد العزيز فلما مات عمر، انفلت، ودعا إلى نفسه وتسمى بالقحطاني، ونصب رايات سوداً، وقال: أدعو إلى سيرة عمر بن الخطاب، فحاربه مسلمة بن عبد الملك، وقتله، ثم وثب ولده معاوية فقتل عديا ، وجماعة صبراً، سنة إثنتين ومائة6851. قال الدار قطني: يحتج بحديثه.
3 ـ عبدالحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب (والي الكوفة):(3/462)
الإمام الثقة الأمير العادل أبو عمر العدوي الخطابي المدني ولي إمرة الكوفة لعمر بن عبد العزيز، كان قليل الرواية، كبير القدر توفي سنة 115هـ6852.
4 ـ عمر بن هبيرة (والي الجزيرة):
كان من الدهاة الشجعان، وكان رجل أهل الشام ولاه عمر الجزيرة (100هـ) فتوجه إليها وغزا الروم من ناحية أرمينية، فهزمهم وأسر منهم خلقاً كثيراً، واستمر على الجزيرة إلى خلافة يزيد بن عبد الملك فولاه إمارة العراق وخراسان، ثم عزله هشام بخالد القسري فقيده وألبسه عباءة وسجنه، فتحيل غلمانه ونقبوا سربا وأخرجوه منه فهرب وإستجار بالأمير مسلمة بن عبد الملك، فأجاره ثم لم يلبث أن مات سنة سبع ومائة تقريباً6853.
5 ـ أبوبكر محمد بن عمرو بن حزم (والي المدينة): وهو أحد الأئمة الأثبات الثقات أمير المدينة ثم قاضي المدينة، قيل كان أعلم أهل زمانه بالقضاء، روي عن أبيه وعباد بن تميم وعن سلمان الأغر وخالته عمرة بنت عبد الرحمن وطائفة وعداده في صغار التابعين6854، روى عطاف بن خالد عن أمه عن زوجة إبن حزم: أنه ما اضطجع على فراشه منذ أربعين سنة6855، وقيل كان رزقه في الشهر ثلاثة مائة دينار6856.
6 ـ…عبد العزيز بن عبد الله بن أسيد الأموي (والي مكة):
أقر عمر على مكة عبد العزيز بن عبد الله الأموي والي سليمان بن عبد الملك، وثقة النسائي وابن حبان توفي في خلافة هشام بن عبد الملك6857.
7 ـ رفاعة بن خالد بن ثابت الفهمي (والي مصر):
ذكر ابن تغري بردى خبراً انفرد به وهو: أن عمر بن عبد العزيز أقر على مصر عبد الملك بن رفاعة بن خالد بن ثابت الفهمي المصري الذي كان حسن السيرة عفيفاً عن الأموال ثقة فاضلاً عادلاً بين الرعية روى عنه الليث بن سعد وغيره، ثم عزله في شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين دون أن يذكر سبب عزله6858 وولي مكانه أيوب بن شرحبيل بن أكسوم بن أبرهة بن الصباح6859.
8 ـ إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر المخزومي (والي المغرب):(3/463)
كان صالحاً فاضلاً زاهداً قدم أفريقية سنة (99هـ) ويقال سنة (100هـ) كان حسن السيرة، سار فيهم بالحق فأسلم على يديه عامة البربر وكان حريصاً على إسلامهم وكان عمر يرسل إليه بالرسائل لدعوة أهل الذمة للدخول في الإسلام، فيقرأها عليهم توفى إسماعيل بن عبيد الله سنة (132هـ)6860.
9 ـ…السمح بن مالك (بالأندلس): الأمير الشهير، إستعمله عمر على الأندلس وأمره أن يميز أرضها و يخرج منها ماكان فتحه عنوة فيا خذ منه الخمس وأن يكتب إليه بصفة الأندلس، فقدمها سنة (100هـ) وفعل ما أمره به عمر، واستشهد غازيا بأرض الفرنجة6861.
هؤلاء من أشهر ولاة عمر بن عبد العزيز الذين عينهم على الأقاليم والولايا ت والذين كانوا عند حسن الظن.
ثانيا : حرص عمر بن عبد العزيز على إنتقاء عماله من أهل الخير والصلاح:(3/464)
إن عمال الخليفة وأمراء البلدان بخاصة هم نواب الخليفة في أقاليمهم، والواسطة بينه ورعيته ومهما كان الخليفة على درجة من الدراية في تصريف أمور السياسة إلا أنه لا يستطيع تحقيق النجاح إلا إذا أختار عماله بعناية تامة، لذا عني عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ عناية فائقة بإختياره عماله وولاته، وحين نتبع أخباره في هذا الصدد نجد أن له شروطاً لا بد من تحققها فيمن يختار العمل عنده، ومن أهم هذه الشروط: التقوى، الأمانة، وحسن التدين، فلما عزل خالد بن الريا ن الذي كان رئيسا للحرس في عهد الوليد بن سليمان ـ نظر عمر في وجوه الحرس فدعا عمرو بن المهاجر الأنصاري فقال: والله إنك لتعلم يا عمرو أنه مابيني وبينك قرابة إلا الإسلام، ولكني سمعتك تكثر تلاوة القرآن، ورأيتك تصلي في موضع تظن انه لا يراك أحد فرأيتك تحسن الصلاة، خذ هذا السيف قد وليتك حرسي6862، وكان يكتب إلى عماله: إياكم أن تستعملوا على شئ من أعمالنا إلا أهل القرآن، فإنه لم يكن عند أهل القرآن خير فغيرهم أحرى بأن لا يكون عندهم خير6863. وإذا شك في أمر من ينوي توليته لم يقدم على توليته حتى يتبين له حاله، فحين ولى الخلافة وفد عليه بلال بن أبي بردة فهنأه وقال: من كانت الخلافة ـ يا أمير المؤمنين ـ شرفته فقد شرفتها، ومن كانت زانته فقد زنتها وإستشهد بأبيات من الشعر في مدح عمر فجزاه عمر خيراً، ولزم بلال المسجد يصلي، ويقرأ ليله ونهاره، فهم عمر أن يوليه العراق، ثم قال: هذا رجل له فضل، فدس إليه ثقة له فقال له: إن عملت لك في ولاية العراق ما تعطيني؟ فضمن له مالاً جليلاً، فأخبر بذلك عمر، فنفاه وأخرجه6864، وكان يكره أن يولي أحداً ممن غمس نفسه في الظلم أو عمل مع الظلمة لاسيما الحجاج6865، وإذا كان من قبل عمر يجعل للعصبية والقرابة من البيت الأموي وزنا في تولية العمل، فإنه لم يكن شئ من ذلك في ميزان عمر فحدث الأوزاعي أن عمر بن عبد العزيز جلس في بيته وعنده أشراف(3/465)
بني أمية، فقال: أتحبون أن أولي كل رجل منكم جنداً من هذه الأجناد ؟ فقال رجل منهم: تعرض علينا مالا تفعله؟ قال: ترون بساطي هذا؟ إني لا علم أنه يصير إلى بلى، وإني أكره أن تدنسوا علي بأرجلكم، فكيف أوليكم ديني؟ وأوليكم أعراض المسلمين وأبشارهم تحكمون فيهم؟هيهات هيهات6866. وقد كان لهذا النهج الذي تميزت به سياسة عمر بن عبد العزيز في إختيار الولاة والعمال أثر في الإستقرار السياسي في الأقاليم، حيث رضي الناس سير عماله وحمدوا فعالهم، إذ لم يكن في عماله من هو على شاكلة الحجاج يتعامل مع الناس بالشدة ويا خذهم بالتهمة، كما لم يكن منهم صاحب عصبية يرفع أناساً ويضع أخرين فيجدوا عليه في أنفسهم6867.
ثالثاً: الإشراف المباشر على إدارة شئون الدولة:(3/466)
أشرف عمر بن عبد العزيز بنفسه على ما يتم في دولته من أعمال صغرت أو كبرت، وكان يتابع عماله في أقاليمهم وساعده على ذلك أجهزت الدولة التي طورها عبد الملك بن مروان، كالبريد، وجهاز الإستخبارات الكبير الممتد في أطراف الدولة والذي كان الخلفاء يستخدمونه في جمع المعلومات، وعلى الرغم من عناية عمر بن عبد العزيز في إختيار الولاة، إلا أن هذا لم يمنعه من العمل على متابعة أمر الرعية وتصريف شئون الدولة وقد إشتهر عنه الدأب والجد في العمل حتى أصبح شعاره لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد، فقد قيل له: يا أمير المؤمنين لو ركبت فتروحت، قال: فمن يجزي عني عمل ذلك اليوم ؟ قيل: تجزيه من الغد قال: فدحني عمل يوم واحد، فكيف إذ اجتمع علي عمل يومين6868. وقال ميمون بن مهران: كنت ليلة في سمر عمر بن عبد العزيز فقلت: يا أمير المؤمنين ما بقاؤك على ما أرى ؟ أنت بالنهار في حوائج الناس وأمورهم وأنت معنا الآن ثم الله أعلم ما تخلو عليه6869، فقد كان ـ رحمه الله ـ يمضي الكثير من وقته لرسم سياسته الإصلاحية التي شملت مختلف الحياة، السياسية والإقتصادية والإدارية، وغيرها.. حتى خلف رحمه الله كماً هائلاً من تلك السياسات التي تمثل مواد نظام حكمه الإصلاحي الشامل، وقد بعث لهذه السياسات إلى عماله لتنفيذها في مختلف الأقاليم وكثيراً ما يردفها بتوجيهات تربوية يذكر فيها عماله بعظم الأمانة الملقاة على عواتقهم، ويخوفهم بالله ويأمرهم بمراقبته وتقواه فيما يعملون ويذرون6870، وقد كان لمواعظ عمر وتوجيهاته أثر في نفوس عماله أشد من وقع السياط، وأبلغ من أوامر العزل والإعفاء، فكتب مرة إلى أحدهم: يا أخي أذكرك طول سهر أهل النار مع خلود الأبد، وإياك أن ينصرف بك من عند الله فيكون أخر العهد وإنقطاع الرجاء. فلما قرأ عامله الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر، فقال له: ما أقدمك ؟ قال: خلعت قلبي بكتابك لا أعود إلى ولاية أبداً حتى ألقى الله تعالى6871، ولم(3/467)
يكتف عمر ببعث تلك السياسات والتوجيهات إلى عماله، بل كان يحرص على متابعة تنفيذها، وتحقق آثارها على رعيته. فلا يفتأ يسأل القادمين عن ذلك، فقال زيا د بن أبي زيا د المدني حين قدم على عمر من المدينة: فسألني عن صلحاء أهل المدينة ورجالهم ونسائهم. .. وسألني عن أمور كان أمر بها بالمدينة فأخبرته6872. وخرج عمر بن عبد العزيز يوماً فركب هو ومزاحم، وكان كثيراً ما يركب فيلقى الركبان ويتحسس الأخبار عن القرى، فلقيهما راكب من أهل المدينة وسألاه عن الناس وما وراءه، فقال لهما: إن شئتما جمعت لكما خبري وإن شئتما بعضته تبعيضاً، فقالا: بل أجمعه، فقال : إني تركت المدينة والظالم بها مقهور، والمظلوم بها منصور والغني موفور، والعائل مجبور، فسر عمر بذلك وقال: والله لأن تكون البلدان كلها على هذه الصفة أحب إلي مما طلعت عليه الشمس6873. وحين قدم عليه رجل من خراسان وأراد العودة إلى بلاده طلب من عمر أن يحمله على البريد، فقال له عمر وقد إطمأن لسيرته: هل لك أن تعمل لنا عملاً وأحملك ؟ فقال الرجل نعم. فقال عمر: لا تأت على عامل لنا إلا نظرت في سيرته، فإن كانت حسنة لم تكتب بها , وإن كانت قبيحة كتبت بها. قال مزاحم: فمازال كتاب منه يجيئنا في عامل فنعزله حتى قدم خراسان6874. ونلاحظ أن عمر بن عبد العزيز كان يهتم بمصادر متنوعة بجمع المعلومات، لعلمه أن المعرفة الدقيقة بأمور الرعية والولاة تحتاج لجمع معلومات صحيحة التي يبني عليها التوجيهات والأوامر والنواهي النافعة للأمة والدولة. لقد آتت هذه المتابعة الدقيقة من عمر لعماله والتوجيهات التفصيلية لهم ثمارها في إستقرار أحوال الأقاليم، كما أن هذه التوجيهات والمتابعة من عمر جعلت العمال والولاة في حالة تحفز دائمة للعمل حيث كانت تلك التوجيهات تقع في نفوسهم بمكان، فحدث إبراهيم بن جعفر عن أبيه قال: رأيت أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم يعمل بالليل كله بالنهار لاستحثاث عمر إياه6875.(3/468)
وكان رحمه الله يرسل المفتشين في الأقاليم ليا توه بالأخبار: فقد بعث على خراسان ثلاثة مفتشين، يبحثون في ظلامات الناس من نظام خراجها، الذي قرره عدي بن أرطاة على الأهالي وأرسل مفتشاً إلى العراق، ليا تيه بأخبار الولاة والناس فيها6876. ولقد أعلن عمر في إطار متابعته لشؤون الدولة ما يمكن تسميته بالرقابة العامة، إذ كتب لا هل الموسم في يوم الحج الأكبر:...إني برئ من ظلم من ظلمكم... ألا وإنه لا إذن على مظلوم دوني، وأنا معوِّل كل مظلوم ألا وأي عامل من عمالي رغب عن الحق، ولم يعمل بالكتاب والسنة فلا طاعة له عليكم. ..ألا وأيما وارد في أمر يصلح الله به , خاصة أو عامة , فله ما بين مائة دينار إلى ثلاثمائة دينار، على قدر ما نوى من الحسبة6877. فقد أعلن في أكبر تجمع إسلامي، بل شجع ماديا ومعنويا على مراقبته، ومراقبة عماله، والإفصاح عن كل ما لا يوافق الكتاب والسنة، وبطبيعة الحال فالأمة الإسلامية لا تحتاج إلى غير تعاليم الكتاب والسنة، إذا كان الإلتزام بها هدف منشود6878.
رابعاً: التخطيط في إدارة عمر بن عبد العزيز:(3/469)
يعرف التخطيط في معناه العام بأنه: العملية التي تتخذ لتلبية إحتياجات المستقبل، وتحديد وسائل تحقيقها6879، كما عرف التخطيط بأنه: الجسر بين الحاضر والمستقبل، ومن هذا التعريف العام يمكن أن نقول: أن التخطيط في الإسلام هو الإستعداد في الحاضر لما يواجهه الإنسان في عمله , أو حيا ته في المستقبل6880. وعمر بن عبد العزيز لم يكن ليتخذ قراراً دونما تخطيط، وتوخ لعواقب الأمور، وأخذها بعين الإعتبار، ولعل من أهم المؤشرات على إدراك عمر لأهمية التخطيط والتفكير في الأمور قوله لرجاء: يا رجاء: إني لي عقلاً أخاف أن يعذبني الله عليه6881, وكان عمر بن عبد العزيز يعتمد على الله ثم جمع المعلومات والقدرة على حسن قرأتها، واستشراف المستقبل وتحقيق الأهداف المطلوبة، ففي ذلك يقول عمر: من عمل على غير علم كان يفسد أكثر مما يصلح6882، وقد كان عمر بن عبد العزيز في تخطيطه يضع الأهداف ويختار السياسات، ويحدد الإجراءات ويبلور العمل في خطه ففي إطار بلورة الأهداف كان هناك هدف رئيسي يسعى عمر لتحقيقه ألا وهو الإصلاح والتجديد الراشدي على منهاج النبوة والخلافة الراشده، والقيا م بكل مقومات هذا المشروع الإصلاحي من إقامة العدل والحق وإزالة الظلم، وإعادة الإنسجام بين الإنسان وبين الكون والحياة وخالقهما في إطار الفهم الشمولي للإسلام وأما إختيار السياسات كأحد مقومات التخطيط، فإنه قد تجلى ذلك في تطبيقات عمر للتخطيط الإداري، ولا أدل على ذلك من عزم عمر على الإكتفاء بالكتاب الكريم والسنة الشريفة6883، وأنه غير مستعد للإستماع إلى أي جدل في مسائل الشرع، والدين، على أساس أنه حاكم منفذ وأن الشرع من جانبه على نفسه وعلى رعيته، كما ألزم الرعية بالتمسك بذلك الشرع القويم6884، هذا في إطار تحديد وإختيار السياسة العامة، أما تحديد الإجراءات كأحد مقومات التخطيط أيضاً، فإن ذلك يتضح من خلال الإجراءات التي حددها لتنفيذ هذه السياسة من اللقاء الأول مع(3/470)
الأمة عند وضع شروطاً لصحبته والتي قد بينتها فيما مضى وأما بلورة طريقة العمل، فإنه قد وضح بأنه منفذ وليس مبتدع ـ أي منفذاً لتعاليم الدين وأن الطاعة لمن أطاع الله6885ـ وأن يكون أساس العمل إقامة العدل والإصلاح والإحسان بدلاً من الظلم والفجور والعدوان6886 وقد مارس عمر التخطيط من حيث الشمول وشمل تخطيطه كافة المجالات، فلم يترك مجالاً إلا طرق بابه، في أمور السياسة والحكم، والقضاء والإقتصاد والتربية والتعليم والنواحي الإجتماعية فضلاً عن التخطيط للأمور العامة، كما أهتم ببعض الأقاليم بشكل منفصل مثل خراسان والعراق وأهتم بمؤسسات تنظيمية أخرى مثل القضاء، وبيت المال وولاة الخراج وغير ذلك6887.
خامساً: التنظيم في إدارة عمر بن عبد العزيز:
إن التنظيم يأتي مكملاً للتخطيط لبناء المتطلبات الإجرائية لتنفيذ الخطط، وقد جعل عمر بن عبد العزيز التنظيم أهم أولويات العمل الإداري ورسخ مفهوم التنظيم في سلوكه الإداري.
فمن حيث التنظيم الهيكلي للعمل، نجده قد جزأ أعمال الدولة إلى أربعة أجزاء رئيسية، تأتي تحت مسئولية أربعة أركان هم: الوالي والقاضي وصاحب بيت المال والخليفة6888 بالإضافة إلى تنظيمات أخرى مثل: الخراج والجند والكتاب والشرطة والحرس وصاحب الخاتم والحاجب وغير ذلك وفيما يلي اللائحة التنظيمية لمسئوليات العمل في عهد عمر بن عبد العزيز6889.
رئيس الدولة الخليفة عمر بن عبد العزيز
المستشارون والمعاونون… الخاتم… الكاتب… الحاجب… الحرس… الشرطة
الخراج والجند … الصائغة البريد… الولاة بيت المال المركزي دار ضرب العملة الصدقات
القضاة المفتون والمعلمون الكاتب الخراج الصدقات البريد الشرطة الجواز أمور الحرب عند الحاجة(3/471)
وأما فيما يتعلق بالتنظيم من حيث الإجراءات والعلاقات بين الخليفة والولاة والعمال وتحديد أوجه العمل وأساليب التنفيذ فإنه يمكننا القول أن الكثير من كتب عمر لعماله تسعى لتحقيق هذا الغرض وإيضاح هذا الجانب التنظيمي من العملية الإدارية، فعلى سبيل المثال، أوضح أسلوب التعامل بينه وبين المظلومين وكيفية الإتصال بينه وبينهم، إذ باح دخول المظلومين عليه من غير إذن ومن صور التنظيم إعادة الكثير من الأمور والقضايا إلى ماكانت عليه في عهد الرسول (عليه الصلاة والسلام) والخلفاء الراشدين، ومثال ذلك أمره بإرجاع مزرعته في خيبر إلى ماكانت عليه في عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وتم الشئ نفسه بشأن (فدك)6890 إذكتب إلى أبي بكر بن حزم واليه على المدينة يقول: إني نظرت في أمر فدك، فإذا هو لا يصلح، فرأيت أن أردها على ما كانت عليه في عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأبي بكر وعمر وعثمان، فأقبضها وولها رجلاً يقوم فيها بالحق، وسلام عليك6891. كما كتب إلى عماله بكل ما يتعلق بتنظيم الأمور المالية والصدقات والضرائب والأخماس والزكاة في الأموال والممتلكات وتنظيم العمال التجارية ومن ليس له الحق في ممارسة التجارة6892 وغير ذلك، كما أهتم عمر بتنظيم أمور القضاء بإعتباره السبيل الرئيسي للفصل بين الناس في منازعتهم وحماية حقوقهم، فكان لكل مصر أو ولاية قاضي يقضي بما في الكتاب والسنة وكان قضاته في كل مصر أجل وأفقه وأصلح علماء ذلك المصر6893، كعامر بن شرحبيل الشعبي6894 بالكوفة والحارث بن يمجد الأشعري6895 بحمص، وعمر بن سليمان بن خبيب المحاربي بدمشق6896 وغيرهم، كما كان عمر يمارس القضاء بنفسه6897، وكان الإعتبار الأساسي في التنظيم القضائي في نظر عمر هو مراجعة الحق، فالرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل6898، وعندما إشتكى أهل سمرقند من قتيبة بن مسلم، عين لهم قاضي ليحكم في هذه القضية وقد مرت معنا، وفي هذه الحادثة أدرك(3/472)
عمر بن عبد العزيز مبدأ الفصل بين السلطات على أتم وجه ذلك بأنه حينما عرف مظلمة أهل سمرقند لم يبث هو بها، مع أنه كان يسعه ذلك، وهو خليفة المسلمين ولم يعهد بذلك إلى عامله على سمرقند سليمان بن أبي السرى، مخافة أن يجمع به الهوى، أو أن تأخذه العزة بالإثم، ولأنه عامل بإسم الخليفة الذي أبى هو نفسه أن يبث بالخلاف، ولم يفوض ذلك إلى القائد العسكري، بل أمر بأن يجلس لهم القاضي لأن القاضي لا يتأثر بالإعتبارات العكسرية أو السياسية، ولا يأبه إلا لحكم الله، يطبق أوامر الشريعة كما وردت، وهكذا تحقق ظن عمر بن عبد العزيز، وحكم القاضي بأن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم، أي أنه أمرهم بالجلاء، لأن الإحتلال وقع بصورة غير مشروعة6899. كما شملت تطبيقات عمر للتنظيم بيت الخلافة، فقد أعاد تنظيمه بما يتوافق مع نظرته في أنه واحد من عامة المسلمين وأنه ليس في حاجة إلى أبهة الملك، فانصرف عن كل مظاهر الخلافة التي سادت قبله، وألغى بعض الوظائف، كصاحب الشرطة الذي يسير بين يدي الخليفة بالحربة، كعادته مع الخلفاء السابقين له وقال له عمر: تنح عني مالي ولك ؟ إنما أنا رجل من المسلمين ثم سار وسار معه الناس6900.
سادساً: الوقاية من الفساد الإداري في عهد عمر بن عبد العزيز:
سعى عمر بن عبد العزيز لتحقيق السلامة من الفساد الإداري، بالحرص على سبل الوقاية منه، وسد المنافذ على السموم الإدارية مثل الخيانة، والكذب والرشوة والهدايا للمسئولين والأمراء والإسراف وممارسة الولاة والأمراء للتجارة وإحتجاب الولاة والأمراء عن الناس ومعرفة أحوالهم، والظلم للناس والجور عليهم وغير ذلك وإليك شئ من التفصيل:
1 ـ التوسعة على العمال في الأرزاق:(3/473)
كان أول إجراء إداري رأى فيه عمر الوقاية من الخيانة أن وسع على العمال في العطاء، رغم تقتيره على نفسه وأهله وأراد بذلك أن يغنيهم عن الخيانة6901، فقد كان يوسع على عماله في النفقة، يعطي الرجل منهم في الشهر مائة دينار، ومائتي دينار وكان يتأول أنهم إذا كانوا في كفاية تفرغوا لا شغال المسلمين فقيل له: لو أنفقت على عيا لك، كما تنفق على عمالك؟ فقال لا أمنعهم حقاً لهم، ولا أعطيهم حق غيرهم، وكان أهله قد بقوا في جهد عظيم، فاعتذر بأن معهم سلفاً كثيراً قبل ذلك6902، وبهذا الإجراء ألا وهو التوسع على عماله يحقق عمر أمرين هامين:
أ ـ سد منفذ الخيانة، وما يدفع العمال من حاجة إلى الخيانة وسرقة أموال المسلمين.
ب ـ ضمان فراغ الولاة والعمال والأمراء لإشغال المسلمين وحوائجهم6903.
2 ـ حرصه على الوقاية من الكذب: قال ميمون بن مهران: دخلت على عمر بن عبد العزيز وعنده عامله على الكوفة، فإذا متغيظ عليه، فقلت: ماله يا أمير المؤمنين قال: أبلغني أنه قال: لا أجد شاهد زور إلا قطعت لسانه: قال: فقلت: يا أمير المؤمنين: إنه لم يكن بفاعل. قال: فقال: أنظروا إلى هذا الشيخ ـ مستنكراً ماقال ميمون ـ إن منزلتين أحسنهما الكذب لمنزلتا سوء6904. والمقصود فإن الكذب أحد منازل السوء وبذلك يسعى عمر إلى قطع دابر الفساد الإداري بالتحذير من الوقاية عما يجر إليه الكذب والتحايل في إتخاذ القرارات6905.
3 ـ الإمتناع عن أخذ الهدايا والهبات:(3/474)
رد على من قال له: ألم يكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقبل الهدية ؟ قال بلى، ولكنها لنا ولمن بعدنا رشوة6906، كما أبطل عمر أخذ الهدايا التي كان الولاة الأمويون يا خذونها وبخاصة هدايا النيروز والمهرجان، وهي هدايا تعطي في مناسبات وأعياد الفرس، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله كتاباً، يقرأ على الناس، يبطل فيه أخذ التوابع والهدايا ، التي كانت تؤخذ منهم في النيروز والمهرجان وغيرها من الأثمان والأجور6907، كما أنذر ولاته وعماله من أن يتخذ أحداً منهم تلبية طلبات الخليفة أو أحد أهله شئ مسلم به، ومن ذلك ماحدث عندما أرسلت فاطمة بنت عبد الملك إلى أبن معدي كرب6908، تطلب عسلاً من عسل سينين أو لبنان، فبعث إليها، وأيم الله لئن عدت لمثلها، لا تعمل لي عملاً أبداً، ولا أنظر إلى وجهك6909.
4 ـ النهي عن الإسراف والتبذير:(3/475)
فقد إتخذ قرارات تنم على حرص شديد على أموال المسلمين فكان أول إجراء له بعد توليه الخلافة هو إنصرافه عن مظاهر الخلافة، إذ قربت إليه المراكب، فقال ماهذه ؟ فقالوا: مراكب لم تركب قط، يركبها الخليفة أول ما يلي فتركها وخرج يلتمس بغلته، وقال: يا مزاحم ـ يعني مولاه ـ ضم هذه إلى بيت مال المسلمين، ونصبت له سرادقات وحجر لم يجلس فيها أحد قط، يجلس فيها الخليفة أول ما يلي، قال يا مزاحم ضم هذه إلى أموال المسلمين، ثم ركب بغلته، وأنصرف إلى الفرش والوطاء الذي لم يجلس عليه أحد قط، يفرش للخلفاء أول مايلون، فجعل يدفع ذلك برجله، حتى يفضي إلى الحصير، ثم قال: يا مزاحم ضم هذه لا موال المسلمين6910. وأخذ إجراء آخر لمحاربة الإسراف في الدولة، فحين قال له ـ ميمون بن مهران ـ وهما ينظران في أمور الناس: ما بال هذه الطوامير6911 التي تكتب فيها بالقلم الجليل، وتمد فيها وهي من بيت مال المسلمين ؟ فكتب إلى العمال أن لا يكتبوا في طومار ولا يمد فيه، قال: فكانت كتبه شبراً أو نحو ذلك6912. وقد مر معنا كتابه لا بي بكر بن محمد بن حزم الأنصاري والي المدينة في قصة الشموع، وتوجيه عمر له في ذلك وكيف يكتب له عندما قال: إذا جاءك كتابي هذا فأرق القلم، وأجمع الخط واجمع الحوائج الكثيرة في الصحيفة الواحدة، فإنه لا حاجة للمسلمين في فضل قول أضر ببيت مالهم والسلام عليك6913. ذلك هو شأن عمر في كل أمر يخص مال المسلمين، صغر أو كبر ومع كافة الولاة، فإنه من المسلم به أن عمر لن يكون كذلك مع والي المدينة فحسب بل هو كذلك مع غيره من الولاة والعمال فكان يسعى للتوفير والإقتصاد في الإنفاق من بيت المال، ليحول بذلك دون الإسراف والبذخ6914.
5 ـ منع الولاة والعمال من ممارسة التجارة:(3/476)
قال في كتاب له إلى عماله: نرى أن لا يتجر إمام ولايحل لعامل تجارة في سلطانه الذي هو عليه، فإن الأمير متى يتجر يستأثر ويصيب أموراً فيها عنت وإن حرص أن لا يفعل6915، وذلك إدراك منه أن ممارسة العمال والولاة للتجارة، لا تخلو من أحد أمرين، إن لم تكن الإثنان معاً: فإما أن ينشغل في تجارته ومتابعتهما عن أمور واحتياجات المسلمين، وإما أن تحدث محاباة له في التجارة لموقعه، ويصيب أموراً ليست له من الحق في شئ، وبهذا القرار سد عمر منفذاً خطيراً قد يؤدي إلى فساد إداري قل ماتتوارى عواقبه6916. وبعد ثمانية قرون جاء ابن خلدون وكتب في مقدمته العظيمة بعد تجارب طويلة ودراسة واسعة، ما يصدق عمر بن عبد العزيزفي نظرته الصادقة، وحكمته البالغة قال: إن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا معسرة للجباية6917.
6 ـ فتح قنوات الإتصال بين الوالي والرعية:
كانت الحاشية حول الخلفاء قبل عمر بن عبد العزيز قد حجبت الناس عن الوصل إلى الخليفة وقد بنى الحاشية سياجاً من حديد لا ينفذ منه إليه إلا ما يشتهون وما تسمح به مصالحهم أما عمر بن عبد العزيز، فقد أعلن بالجوائز والمكافأة المالية لمن يخبره بحقيقة الحال، أو يشير عليه بشئ فيه مصلحة المسلمين ومصلحة لدولتهم، وكتب إلى أهل المواسم: أما بعد فأيما رجل قدم إلينا في رد مظلمة أو أمر يصلح الله به خاصاً أو عاماً من أمر الدين، فله ما بين مائة دينار إلى ثلاثمائة بقدر ما يرى الحسبة وبعد السفر، لعل الله يجيء به حقاً أ أو يميت باطلاً، أو يفتح به من ورائه خيراً6918. كما أمر العمال والولاة، بأن يحرصوا على فتح قنوات الإتصال بينهم وبين الرعية ويسمعوا منهم ويتعرفوا على أحوالهم فإن ذلك يمنع ممارسة الظلم والتعدي على حقوق الأخرين ويتيح لكل فرد طلب ما يريد دو ن اللجوء إلى أساليب وطرق لا تمت للإسلام بصلة6919.
7 ـ محاسبته لولاة من قبله عن أموال بيت المال:(3/477)