المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُون)) (آل عمران ، الآية : 102).
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) (النساء ، الآية : 1).
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)) (الأحزاب ، الآيتان : 70 ـ 71).
يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، ولك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضى، أما بعد:(1/1)
هذا الكتاب امتداد لما سبقه من كتب درست عهد النبوة وعهد الخلافة الراشدة، وقد صدر منها السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلى بن أبي طالب، والحسن بن علي، رضي الله عنهم جميعاً، وقد سميت هذا الكتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار ويتحدث هذا الكتاب عن الجذور التاريخية للأسرة الأموية، وشهادة التاريخ بين الهاشميين والأمويين، وموقف بني أمية من الدعوة الإسلامية، وعن الأمويين الذين أسلموا منذ بداية الدعوة الإسلامية وعن المصاهرات بين بني هاشم وبني أمية، وعن شخصية معاوية بن أبي سفيان وعصره رضي الله عنه، فيتطرق لأسمه ونسبه وكنيته وأسرته وعن إسلام أبي سفيان والد معاوية رضي الله عنه، وعن هند بنت عتبة بن ربيعة أم معاوية رضي الله عنهما، وعن أخوان وأخوات معاوية ويتحدث عن زوجات معاوية وأولاده وعن إسلام معاوية رضي الله عنه وشيء من فضائله، وعن رواية معاوية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الأحاديث الباطلة التي لا تصح في شأن معاوية مدحاً وذماً، ويتكلم الكتاب عن دور بني أميه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعهد الخلافة الراشدة، ويشير إلى متى بدأ نجم معاوية في الظهور وعن ولايته على دمشق وبعلبك والبلقان في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وعلاقته بعمر رضي الله عنهما، ويبين الكتاب جهود معاوية رضي الله عنه على جبهة الشام، وعن سنّ نظام الصوائف والشواتي في عهد عمر، وعن تكوين أسطول إسلامي في البحر، وعن أعمال معاوية في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنهما، فيوضح فتوحاته في عهده، وإصراره في الطلب من عثمان السماح له بالغزو البحري، وعن غزوه لقبرص واستسلام أهلها وطلب الصلح ثم نقض القبارصة للصلح ثم فتحها، ويتعرض الكتاب لحقيقة الخلاف بين أبي ذر ومعاوية وموقف عثمان رضي الله عنهم منه ويرد الكتاب عن الشبهات التي ألصقت بعثمان رضي الله عنه(1/2)
كاتهامه بإعطاء أقاربه من بيت المال، وتعيينه لأقاربه في مناصب الدولة على حساب المسلمين، ويتطرق الكتاب لأسباب فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه كالرخاء وأثره في المجتمع وطبيعة التحول الاجتماعي في عهده وظهور جيل جديد، واستعداد المجتمع لقبول الشائعات، ومجيء عثمان بعد عمر رضي الله عنهما، وخروج كبار الصحابة من المدينة، والعصبية الجاهلية، وتوقف الفتوحات بسبب موانع طبيعية أو بشرية، والمفهوم الخاطيء للورع، وظهور جيل جديد من الطامحين، ووجود طائفة موتورة من الحاقدين، والتدبير المحكم لإثارة المآخذ ضد عثمان رضي الله عنه واستخدام الأساليب والوسائل المهيِّجة للنَّاس، ودور عبد الله بن سبأ في تحريك الفتنة، وموقف معاوية بن أبي سفيان في الفتنة، ويتحدث عن مشورة عثمان لولاة الأمصار ورأي معاوية في ذلك، وعن مقتل عثمان وموقف الصحابة منه، وعن معاوية في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ويتطرق الكتاب إلى اختلاف الصحابة في الطريقة التي يأخذ بها القصاص من قتلة عثمان، وإلى معركة صفين وإلى تسلسل الأحداث، ابتداءً من إرسال أم حبيبة أم المؤمنين بنت أبي سفيان لنعمان بن بشير بقميص عثمان إلى معاوية وأهل الشام، ودوافع معاوية رضي الله عنه في عدم بيعه علي رضي الله عنه ورده على أمير المؤمنين علي، وعن تجهيز أمير المؤمنين علي لغزو الشام، وإرساله جرير بن عبد الله إلى معاوية بعد معركة الجمل لدعوته للبيعة، ومسيرة أمير المؤمنين علي إلى الشام، وخروج معاوية إلى صفين، وبداية المناوشات بين الطرفين، والموادعة بينهما ومحاولات الصلح ثم نشوب القتال ثم الدعوة إلى التحكيم ويتكلم الكتاب عن مقتل عمّار بن ياسر رضي الله وأثره على المسلمين، وعن المعاملة الكريمة أثناء الحرب المواجهة، ومعاملة الأسرى عند أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وعن عدد القتلى، وعن تفقد أمير المؤمنين علي للقتلى وترحمه عليهم، وعن موقف لمعاوية مع ملك الروم في تلك(1/3)
الأحداث، وعن قصة باطلة في حق عمرو بن العاص بصفين، وعن إصرار قتلة عثمان رضي الله عنه أن تستمر المعركة وعن نهي أمير المؤمنين علي شتم معاوية ولعن أهل الشام، وعن التحكيم، وعن نص وثيقة التحكيم وعن قصة التحكيم المشهورة وبيان بطلانها، وعن حقيقة قرار التحكيم، ومكان انعقاد المؤتمر، وأشار الكتاب إلى إمكانية الاستفادة من حادثة التحكيم في فض المنازعات بين الدول الإسلامية هذا وقد بينت موقف أهل السنة والجماعة من تلك الحروب، وتكلمت عن تغيير الموازين لصالح معاوية بعد معركة صفين، وعن المهادنة بين أمير المؤمنين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وعن استشهاد أمير المؤمنين علي واستقبال معاوية خبر مقتله، ثم تحدثت عن المشروع الإصلاحي الكبير في عهد الحسن بن علي والذي توّج بوحدة الأمة وذلك بتنازل الحسن بالخلافة لمعاوية رضي الله عنهما وأشرت إلى مراحل الصلح وشروطه وأسبابه ومعوقاته، ونتائجه، كما وضحت الفقه الكبير في مقاصد الشريعة وفقه المصالح والمفاسد وفقه الخلاف الذي تميز به الحسن بن علي والذي بنى عليه مشروعه الإصلاحي العظيم والذي ترتب عليه دخول الأمة الإسلامية في مراحل جديدة تمّ فيها بيعة معاوية رضي الله عنه من كافة الصحابة الأحياء وأبناء الأمة ووضحت صفات معاوية رضي عنه والتي من أهمها، العلم والفقه، والحلم والعفو، والدهاء والحيلة، وعقليته الفذة وقدرته على الاستيعاب، وتواضعه وورعه، وبكاؤه من خشيت الله، ونقلت ثناء العلماء على معاوية، وأشرت إلى دخول دولة بني أمية في خير القرون والتي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم1، وتحدثت عن عاصمة الدولة الأموية وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في فضائل أهل الشام، وعن أهل الحل والعقد في عهد معاوية رضي الله عنه، وعن الشورى، وحرية التعبير وعن سياسته الداخلية، من الإحسان إلى كبار الشخصيات من شيوخ الصحابة، وأبنائهم، وحسن(1/4)
علاقته مع الحسن والحسين وابن الزبير وابن عباس وغيرهم رضي الله عنهم وبينت بيان بطلان تعميم معاوية سب أمير المؤمنين علي على منابر الدولة، الأموية؟ وزعم بعض المؤرخين بأن معاوية سمّ الحسن بن علي، فأثبتت بالحجج العلمية والبراهين الساطعة بطلان ذلك أيضاً، وتعرضت لموقف معاوية من قتلة عثمان بعد ما أصبح أمير المؤمنين، وكذلك مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه، وموقف عائشة أم المؤمنين من مقتله كما أوضحت حرص معاوية على مباشرة الأمور بنفسه وتوطين الأمن في خلافته، فتحدثت عن مجلسه في يومه، وعن الدواوين المركزية التابعة له، كديوان الرسائل، وديوان الخاتم، وديوان البريد وعن نظام الحجابة، والحرس، والشرطة، وعن حسن اختياره للرجال والأعوان وعن استخدامه للمال في تأكيد ولاء الأعوان وتأليف القلوب وإتباعه سياسة الشدة واللين، وسياسة المنفعة المتبادلة بين بني أمية ورعيتهم، واتخاذه سياسة إعلامية للإشادة به وبخلافته وجعل الناس يميلون إليهم، وعن اهتمامه بجهاز الاستخبارات، وبناء الجيش الإسلامي وتطويره وعن فقهه الكبير في سياسة الموازنات بين القبائل، والعشائر، وأعيان المجتمع وعن سياسته مع الأسرة الأموية، وتكلمت عن حياته في المجتمع وعن اهتماماته العلمية والتاريخية والشعرية واللغوية والعلوم التجريبية، وأفردت مباحثاً في علاقته بالخوارج، ووسائله في تحجيم دورهم وإضعافهم، وبينت النظام المالي في عهده، ومصادر دخل الدولة، كالزكاة، والجزية، والخراج، والعشور، والصوافي، والغنائم، وعن النفقات العامة، كالنفقات العسكرية، والإدارية، والاجتماعية واهتمامه بالزراعة والتجارة الداخلية والخارجية، والحرف والصناعات، وأثرت قضية الشبهات حول مصارف الأموال في عهد معاوية وناقشتها بعلم وأنصاف، كالتفرقة في العطاء وكذبة أعطاء مصر طعمه لعمرو بن العاص وكالتوسع في إنفاق الأموال لتأليف القلوب واكتساب الأنصار، ومظاهر النزف عند الأمويين، وأفردت(1/5)
مبحثاً عن القضاء في عهد معاوية، والدولة الأموية، وصلته بالعهد الراشدي وتخلي الخلفاء عن ممارسة القضاء وفصل السلطات، ومرتبات القضاة وتسجيل الأحكام والأشهاد عليها، وأعوان القضاة، كالمنادي والحاجب، والترجمان أو المترجم، والمراقبة والمتابعة وعن مصادر الأحكام القضائية في العهد الأموي وعن اختصاص القضاة وذكرت أسماء أشهر القضاة في عهد معاوية كما أشرت إلى ميزات القضاء في عهد معاوية والأموي عموماً وإلى خطاب عمر بن الخطاب إلى معاوية رضي الله عنهما في القضاء، وتكلمت عن مؤسسة الشرطة في عهد معاوية وواجباتها، كحماية الخليفة وولاة الأمصار ضد مناوئيهم في الداخل، ومعاقبة المذنبين والخارجين عن القانون، وتنفيذ العقوبات الشرعية، وعن قوات ومؤسسات أخرى وعلاقتها بالشرطة كالحرس والعرفاء، وصاحب الاستخراج أو العذاب، وجهاز الحسبة، ونظام المراقبة، ومؤسسة الدرك، وتحدثت عن مؤسسة الولاة والإدارة في عهد معاوية رضي الله عنه وأهم الأقاليم التابعة لدولته وأسماء أشهر ولاته وأهم أعمالهم في تلك الأقاليم، وعند ما تحدثت عن المدينة النبوية ترجمت لشخصية أبي هريرة رضي الله عنه حيث توفي بها عام 58 هـ أو 59 هـ وقد عاش في عهد معاوية ما يقرب من ثمانية عشر سنة وقد تعرض هذا الصحابي الجليل لهجمة ظالمة من قبل أعداء الصحابة في القديم والحديث وتلقف تلك الاتهامات الباطلة مجموعة من المستشرقين فرأيت لازماً عليّ أن أدافع عن هذا الصحابي الجليل الذي يعتبر من أكبر رواة السنة النبوية الشريفة، فعرفت به وبشيء من حياته، كعبادته وعفافه وحلمه وعفوه، واهتمامه بالعلم ورددت على الشبهات التي أثيرت حوله والتي هدفها التشكيك في ما وصل إلينا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بالطعن في هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه وكان لسان حالي في مجادلة أولئك الكذابين قول الشاعر:
………وإذا اضطررت على الجدال ولم تجد
……………………لك مهربا وتلاقت الصَّفان(1/6)
………فاجعل كتاب الله درعاً سابغاً
……………………والشرع سيفك وابد في الميدان
………والسُّنةُ البيضاء دونك جنة
……………………واركب جواد العزم في الجولان
………واثبت بصبرك تحت ألوية الهدى
……………………فالصبر أوثق عدة الإنسان
………واطعن برمح الحق كل معاند
………………… لله درُّ الفارس الطعان
………واحمل بسيف الصِّدق حملة
……………………مخلص متجرداً لله غير جبان
هذا وقد وصفت حركة الفتوحات في عهد معاوية رضي الله عنه وقدمت بين يدي حركة الفتوحات مقدمه تناقش الشبهات التي ألصقت كذباً وزوراً وبهتاناً بحركة الفتوحات إن معاوية رضي الله عنه حمى وعزّز منجزات الموجة الأولى في حركة الفتح التي قادها وخطط لها الخلفاء الراشدون، فالموجة الثانية لحركة الفتوح هي التي بدأت في عهد معاوية نفسه واستمرت فيما بعد لكي تبلغ أقصى أتساعها في عهد الوليد بن عبد الملك، لقد وصفت ما قام به معاوية من حركة الجهاد ضد الدولة البيزنطية واهتمامه بفتح القسطنطينية، وتخطيطه الاستراتيجي للاستيلاء عليها، كاهتمامه بدور صناعة السفن في مصر والشام وتقوية الثغور البحرية بهما، واستيلاؤه على الجزر الواقعة شرقي البحر المتوسط، وتحصينه أطراف الشام الشمالية، وقد قام بحصار القسطنطينية، وقد توفي أبو أيوب الأنصاري في حصار القسطنطينية، وقد ترك أبو أيوب رضي الله عنه في وصيته بأن يدفن في أقصى ما يمكن من أرض العدو ، وهذه صورة رائعة تدل على تعلقه بالجهاد، فيكون بين صفوفهم حتى وهو في نعشه على أعناقهم وأراد أن يتوغل في أرض العدو حياً وميتاً، وكأنما لم يكفه ما حقق في حياته فتمنى مزيداً عليه بعد مماته، وهذا مالا غاية بعده في مفهوم المجاهد الحق بالمعنى الأصح الأدق.(1/7)
هذا وقد استطاع معاوية رضي الله عنه أن يضيق الخناق على الدولة البيزنطية بالحملات المستمرة براً وبحراً وقد أرهق البيزنطيين وأذاقهم ألوان الضنك والخوف وأنزل بهم خسائر فادحة بالرغم من كل ذلك لم يستطع اقتحام القسطنطينية بسبب عوامل عديدة سيراها القاريء في الكتاب بإذن الله تعالى، وقد دخل معاوية في علاقات سلمية مع الدولة البيزنطية وتم تبادل المراسلات والخبرات، والسفراء فيما بين الدولتين الأموية والبيزنطية وواصل معاوية فتوحاته في الشمال الإفريقي، وانطلقت حملة معاوية بن حديج رضي الله عنه في عهده، وبرز اسم عقبة بن نافع في تلك الفتوحات وقام ببناء مدينة القيروان بتونس اليوم وكان ذلك في عهد معاوية وقد أصبحت القيروان مركز الإشعاع الحضاري الإسلامي بالمغرب وعاصمتها العلمية وسيمضي القاريء مع الفتوحات في الشمال الإفريقي حتى استشهاد عقبة رحمه الله تعالى وتحدثت في فتوحات معاوية في الجناح الشرقي للدولة الأموية في خراسان وسجستان وما وراء النهر، وعن فتوحات السند في عهده ولخصت أهم الدروس والعبر والفوائد من الفتوحات والتي من أهمها، أثر الآيات والأحاديث النبوية في نفوس المجاهدين، وسنن الله في الفتوحات، كسنة الله في الاتحاد والاجتماع، وسنة الأخذ بالأسباب، وسنة التدافع، وسنة الله في الظلم والظالمين، وسنة الله في المترفين، وسنة الله في الطغيان والطغاة، وسنة التدرج، وسنة تغيير النفوس، والتخطيط الاستراتيجي للفتوحات عند معاوية، وسياسته تجاه الروم، وجبهة الشمال الإفريقي، وجبهة سجستان وخراسان وما وراء النهر، وإدارته للشورى في حركة الفتوحات، ومركزية القيادة والإمداد في إدارته، ونظام الألوية والرايات واهتمامه بالعيون والبريد، والحدود البرية للدولة، واهتمامه بالأسطول والحدود البحرية، وبديوان الجند والعطاء، والأثر العلمي والاقتصادي والاجتماعي في عهده، وتحدثت عن بعض كرامات المجاهدين في عهده.(1/8)
إن من فضائل الدولة الأموية في عهد معاوية وعبد الملك وبنيه الوليد وسليمان الفتوحات الواسعة التي تمت على أيديهم والتي امتدت ديار الإسلام نتيجة ذلك بين الصين في الشرق وبلاد الأندلس وجنوبي فرنسا في الغرب وكان الخلفاء يرسلون أبناءهم إلى الجهاد ويشهدون القتال وكان الصحابة وكبار التابعين من ضمن تلك الجيوش، فحركة الفتوحات أشرفت عليها الدولة وتفاعل معها المجتمع الإسلامي بكافة ألوانه من العلماء والفقهاء والتجار والزهاد والعباد وتحركت تلك الجيوش في المشارق والمغارب، كان الفاتحون لتلك الشعوب المترامية الأطراف قد جاؤوها بالعدل والإحسان ومطالب الروح ومطالب البدن، وجاءوا إليهم بدين الإسلام الذي يقرّر الإنسانية بمعناها الصحيح في هذه الأرض لذلك كان الإسلام سريع المدخل إلى نفوسهم، لطيف التخلل في الأفكار، قوي التأثير على الألباب والعقول وجاء الفاتحون لتلك الشعوب بالحقائق التي سعد بها أصحاب محمد وأسعدوا بها تلك الأمم قال الشاعر:
……الله أكبر إن دين محمد
………………وكتابه أقوى وأقوم قيلا
……طلعت به شمس الهداية للورى
………………وأبى لها وصف الكمال أفولا
……والحق أبلج في شريعته التي
………………جمعت فروعاً للهدى وأصولا
……لا تذكروا الكتب السوالف عنده
………………طلع الصباح فأطفئوا القنديلا
لقد كانت الفتوحات الكبرى في عهد معاوية والدولة الأموية دليلاً ملموساً على حيوية الأمة وتفاعلها مع دين الله وحرصها على هداية الشعوب.(1/9)
هذا وقد تكلمت عن فكرة ولاية العهد والخطوات التي اتبعها معاوية لبيعة يزيد، من مشاورات، وحملات إعلامية وقبول أهل الشام لبيعة يزيد، وبيعة الوفود، وطلب البيعة من أهل المدينة واعتراض عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير والحسين بن علي رضي الله عنهم عن تلك البيعة وعن أسباب ترشيح معاوية لابنه يزيد، كالحفاظ على وحدة الأمة، وقوة العصبية القبلية، ومحبة معاوية لابنه وقناعته به، وعن الانتقادات التي وجهت لمعاوية بشأن البيعة ليزيد، وعن المآخذ على فكرة ولاية العهد في عهد معاوية وعن الأيام الأخيرة من حياته وعن دعائه وهو في سكرات الموات وقوله: اللهم أقل العثرة، واعف عن الزلة وتجاوز بحلمك عن جهل ما لم يَرْجُ غيرك فإنك واسع المغفرة ليس لذي خطيئة مهرب إلا إليك ثم مات وتحدث الكتاب عن عهد يزيد بن معاوية بن أبي سفيان وأهم صفاته وبيعته وموقف الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير منها والأسباب التي أدت إلى خروج الحسين والفتوى التي بنها على خروجه، وعزم الحسين على الذهاب إلى الكوفة ونصائح الصحابة والتابعين ورأيهم في ذهابه إليها، وعن موقف يزيد من أحداث الكوفة ودور عبيد الله بن زياد في القضاء على مسلم بن عقيل وأنصاره وعن أحداث معركة كربلاء واستشهاد الحسين بن علي رضي الله عنه وعن المواقف الرائعة التي كانت بجانب الحسين رضي الله عنه وموقف يزيد بن معاوية من قتله ومن أبناء الحسين وذريته وبينت من المسئول عن قتل الحسين وذكرت أقوال الناس في يزيد بن معاوية وهل يجوز لعنه؟ وحذرت من الأساطير التي نسجت حول مقتل الحسين رضي الله عنه ووضعت أهم الدروس والعبر والفوائد من سيرته في نقاط والتي كان من أهمها، هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عاشوراء، وآداب التعامل مع المصائب في الإسلام والتحقيق في مكان رأس الحسين، وحكم الإسلام من تقديس أضرحة الأئمة وزيارة قبر الحسين وقدسية كربلاء، وهدى الإسلام في(1/10)
زيارة القبور، والبناء، عليها واتخاذها مساجد، وخروج الحسين رضي الله عنه، واستغلال القوى المضادة للإسلام لمقتله وحادثة كربلاء ثم تحدثت عن وقعة الحرّة، وما قيل حول انتهاك الأعراض في تلك الوقعة ودواعي فشل أهل المدينة في تلك المعركة، وتكلمت عن حركة ابن الزبير في عهد يزيد، وأسباب اختيار ابن الزبير لمكة في مقاومته للحكم الأموي، وأسباب خروجه عليهم والجهود السليمة التي بذلها يزيد لاحتواء ابن الزبير، والجهود الحربية أيضاً، وحصار الكعبة وضربها بالمنجينف واحتراقها ووفاة يزيد بن معاوية المفاجيء، ثم تحدثت عن خلافة معاوية بن يزيد ومدة حكمه وتنازله عن الخلافة وتركه للأمر شورى ثم ذكرت خلافة عبد الله بن الزبير. وشيء من سيرته وصفاته وبيعة الناس له بالخلافة وكون بيعته كانت شرعية، فقد بايعه معظم المسلمين إلا أقليم الأردن، وبعض الشخصيات المهمة بالحجاز كعبد الله بن عمر وابن عباس ومحمد بن الحنيفة ثم تعرضت لخروج مروان بن عبد الحكم على ابن الزبير وأهمية مؤتمر الجابية ومعركة مرج راهط في حسم الصراع لصالح البيت الأموي، وتحدثت عن ضم مصر للدولة الأموية ومحاولتها لإعادة العراق والحجاز لهيمنتها، وعن تولي عبد الملك الزعامة الأموية بعد وفاة أبيه مروان وبينت سياسته الداخلية وترتيبه للأولويات في الصراع حتى استطاع القضاء على الخليفة الشرعي عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وأشرت على أهم أسباب سقوط خلافة ابن الزبير رضي الله عنه ثم دخلت في عهد عبد الملك بن مروان، وصراعه مع الخوارج، ودور المهلب بن أبي صفرة في القضاء على الخوارج الأزارقة واهتمام الدولة الأموية بمحاربة الخوراج الصفرية، وترجمت لشخصيات من الخوارج كقطري بن الفجاءة وعمران بن حطان وذكرت شيئاً من إشعارهم وأشرت إلى أسباب فشل الخوارج في عهد عبد الملك، وقمت بدارسة لثورة عبد الرحمن بن الأشعث وأسباب خروجه وموقف العلماء منها وأسباب فشلها وتكلمت عن جهود عبد الملك(1/11)
في توحيد الدولة والقضاء على الثورات الداخلية وعن النظام الإداري وأهم الدواوين التي كانت في عهده كديوان الرسائل،والعطاء والخراج والخاتم، والبريد، وعن دوره في تعريب الدواوين وأسباب ذلك والنتائج التي ترتبت عليه، وعن إدارته للإقليم وألمحت للخطوط العامة لسياسته في إدارة شؤون الدولة، كالمشاورة واعتماده على أهل الشام، ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب ومتابعة أخبار والولاة، وتقديم الأقرباء في المناصب وحفظ التوازن القبلي، وتسامحه مع أهل الكتاب واحترام وتقدير الشخصيات البارزة في المجتمع، وتحجيم الولاة إذ أرادوا تجوز الخطوط الحمراء،..الخ وترجمت لأهم ولاته كالحجّاج بن يوسف الثقفي، وذكرت النظام المالي في عهده وأشرت إلى القطاع الزراعي والصناعي، ودور عبد الملك في إحداث دور ضرب العملة، وتعريب النقد وتطرقت للعمارة والبناء والنظام القضائي والشرطة في عهده، واهتمامه بالعلماء والشعراء، وأفردت فصلاً كاملاً عن الفتوحات في عهده وعهد ولديه الوليد وسليمان لكي نعطي صورة متكاملة عنها بسبب ترابطها ببعضها، ولخصت أهم الدروس والعبر والفوائد من الفتوحات، كأسباب دخول الإسلام في البلاد المفتوحة، كعالمية الدعوة، والمعاملة السمحة الكريمة من المسلمين، وكتفسير حركة التعريب بين الشعوب من هجرة القبائل العربية إلى البلاد المفتوحة، وتعريب الدواوين وتفوق الحضارة الإسلامية..الخ وتحدثت عن عقد عبد الملك لولاية العهد ثم لأبنه الوليد ثم سليمان وموقف العالم الجليل سعيد بن المسيب من ذلك وما تعرض له من الابتلاء بسبب ذلك، وذكرت وصية عبد الملك لابنه الوليد عند موته ووصيته لبنيه ثم دخلت في عهد الوليد بن عبد الملك وتحدثت عن أهم أعماله الحضارية والإنسانية، من توسيع المسجد النبوي، وبناء المسجد الأموي، والمستشفيات في عهده، وكفالة الدولة للمحتاجين وتطوير الطرق، وغير ذلك من الأعمال. وترجمت لزوجته أم البنين بنت عبد العزيز بن(1/12)
مروان، فذكرت خشيتها لله وجودها وكرمها، وبينت بطلان ما ينسب إليها في كتب الأدب في قصتها المكذوبة مع وضاح اليمن وحذرت من الأكاذيب والأباطيل التي تذكر أحياناً في كتب التاريخ وأدب في حق مثل هذه التابعية الجليلة ثم دخلت في عهد سليمان بن عبد الملك وتحدثت عن سياسته العامة، مفهوم الشورى عنده وسياسته في اختيار الولاة وسياسته تجاه الحركات المعارضة وعلاقته بالعلماء وتقريبه لعمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة، ونسفت بعض الشبهات الملصقة بسيرته كوصف بعض المؤرخين له بأنه المصيبة العظمى في الأكل فبنيت بطلان ذلك ثم ذكرت جهود رجاء بن حيوة في تولية عمر بن عبد العزيز ثم دخلت في عهد الإصلاحي الكبير والمجدد الشهير عمر بن عبد العزيز، فتحدثت عن حياته وسيرته وطلبه للعلم وعن أهم أعماله في عهد الوليد وسليمان وعن خلافته وبيعته ومنهجه في إدارة الدولة، واهتمامه بالشورى والعدل وسياسته في رد المظالم وعزله لجميع الولاة الظالمين، ورفع المظالم عن الموالي وأهل الذمة وإقامة العدل لأهل سمرقند وعن الحريات في دولته، كالحرية الفكرية والعقدية والسياسية والشخصية، وحرية التجارة والكسب، وذكرت أهم صفاته، كشدة خوفه من الله تعالى، وزهده، وتواضعه وورعه، وحلمه وصفحه وعفوه، وصبره، وحزمه، وعدله وتضرعه ودعاؤه واستجابة الله له، وتحدثت عن معالم التجديد عند عمر بن عبد العزيز، كالشورى، والأمانة في الحكم وتوكيل الأمناء، وأحياؤه مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومبدأ العدل، وعن شروط المجدد، كأن يكون معروفاً بصفاء العقيدة وسلامة المنهج وأن يكون عالماً مجتهداً، وأن يشمل تجديده ميدان الفكر والسلوك وأن يعم نفعه أهل زمانه، وتكلمت عن اهتمام عمر بن عبد العزيز بعقائد أهل السنة والجماعة، في توحيد الألوهية وفي باب أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وفي مفهوم الإيمان والإيمان باليوم الآخر والمعتقدات الغيبية، كعذاب القبر ونعيمه والمعاد،(1/13)
والميزان والحوض والصراط والجنة والنار ورؤية المؤمنين ربهم في الجنة والدعوة للاعتصام بالكتاب والسنة وسنة الخلفاء الراشدين، وموقفه من الصحابة والخلاف بينهم وموقفه من أهل البيت وتحدثت عن معاملته للخوارج والشيعة والقدرية وعن حياته الاجتماعية، واهتمامه بأولاده وأسرته ومنهجه في تربيته لأولاده كاختيار المعلم والمؤدب الصالح، وتحديد المنهج العلمي وتحديد طريقة التأديب والتعليم، وتحديد أوقات وأولويات التعليم، ومراعاة المؤثرات التعليمية وعن نتائج ذلك المنهج وتأثر ابنه عبد الملك به، وتكلمت عن حياته مع الناس، واهتمامه بإصلاح المجتمع، وتذكيره الناس بالآخرة، وتصحيح المفاهيم الخاطئة، وإنكاره العصبية القبلية، وتقديره لأهل الفضل وقضاؤه ديون الغارمين، وفك أسرى المسلمين، وإغناؤه المحتاجين عن المسألة، ودفع المهور من بيت المال، وجهوده في التقريب بين طبقات المجتمع، ومعاملته للشعراء، واهتمامه الكبير بالعلماء، ومشاركتهم الفعّالة معه لإنجاح مشروعه الإصلاحي، فترقبوا منه وشدوا أزره للسير في منهجه التجديدي، وتعهدوه بالنصح والتذكير بالمسؤولية، واستعدادهم لتولي مختلف مناصب الدولة وأعمالها، وتحدثت عن المدارس العلمية في عهده وعهد الدولة الأموية، كمدرسة الشام والحجاز، والعراق ومصر..الخ، وعن منهج التابعين في تفسير القرآن الكريم، وجهودهم في خدمة السنة ودور عمر بن عبد العزيز في تدوينها، وأشرت إلى منهج التزكية والسلوك عند التابعين وأخذت مدرسة الحسن البصري مثالاً على ذلك فتحدثت عنها وعن تلاميذها كأيوب السختياني، ومالك بن دينار، ومحمد بن واسع، وبينت براءة الحسن البصري من الاعتزال وتحدثت عن علاقة الحسن البصري بعمر بن عبد العزيز ورسائله إليه، التي يبين فيها صفات الإمام العادل في نظره، وذكرت موقف عمر بن عبد العزيز وأسباب رفعه لحصار القسطنطينية واهتمامه بالدعوة الشاملة، ووضعه لقانون التفرغ للدعاة والعلماء وحضه على(1/14)
نشر العلم وتعليمه وتوجيه الأمة إلى أهميته، وإرسال العلماء الربانيين في شمال أفريقيا وغيرها لتعليم الناس وتربيتهم على الكتاب والسنة، وإرساله الرسائل الدعوية إلى الملوك بالهند وغيرها، وتشجيعه غير المسلمين على الدخول في الإسلام، وأفردت مبحثاً لإصلاحاته المالية وسياسته الحكيمة في ذلك وحرصه على ترسيخ قيم الحق والعدل ورفع الظلم، فبينت أهداف السياسة الاقتصادية عنده، من إعادة توزيع الدخل والثروة بشكل عادل وتحقيق التنمية الاقتصادية والرفاه الاجتماعي، وأشرت لتحقيق تلك الأهداف كتوفير المناخ المناسب للتنمية ورد الحقوق لأصحابها وفتح الحرية الاقتصادية بقيود، وإتباع سياسة زراعية جديدة تمنع بيع الأرض الخراجية، وتعتني بالمزارعين وتخفف الضرائب عنهم، وحث الناس على الإصلاح والإعمار وإحياء أرض الموات، وتوفير مشاريع البنية التحتية، وتحدثت عن سياسته في الإنفاق العام، كإنفاق عمر على الرعاية الإجتماعية وترشيد الإنفاق في مصالح الدولة، كقطع الامتيازات الخاصة بالخليفة وبأمراء الأمويين، وترشيد الإنفاق الإداري والحربي وتكلمت عن المؤسسة القضائية في عهده وبعض اجتهاداته الفقهية كرأيه في الهدية لولاة الأمر ونقض الأحكام إذا خالفت النصوص الشرعية وغير ذلك من الاجتهادات الفقهية والقضائية وتحدثت عن سياسته الإدارية وأشهر ولاته وحرصه على انتقاء عماله من أهل الخير والصلاح، وإشرافه المباشر على إدارة شئون الدولة وعن قدراته في التخطيط والتنظيم وعن أسلوبه في الوقاية من الفساد الإداري، كالتوسعة على العمال في الأرزاق وحرصه على الوقاية من الكذب، والامتناع عن أخذ الهدايا والهبات والنهي عن الإسراف والتبذير، ومنع الولاة والعمال من ممارسة التجارة، وفتح قنوات الاتصال بين الوالي والرعية، ومحاسبته لولاة من قبله عن أموال بيت المال، وتطرقت إلى مفهوم المركزية واللامركزية في إدارة عمر بن عبد العزيز واهتمامه بمبدأ المرونة، وتوظيفه(1/15)
للوقت في خدمة الدولة والرعية، وممارسته لمبدأ تقسيم العمل في الإدارة وحرصت على بيان بواعث عمر بن عبد العزيز في إصلاحه وتجديداته، المالية والسياسية والإدارية،..الخ وأشرت إلى حرصه على تنفيذ أحكام الشريعة على الدولة والأمة والمجتمعات والأفراد وأشرت إلى آثار التمسك بأحكام القرآن الكريم والسنة النبوية وهدي الخلافة الراشدة على دولته، من التمكين والأمن والاستقرار، والنصر والفتح، والعز والشرف وبركة العيش ورغده وعشت مع الأيام الأخيرة من حياة هذا المصلح الكبير حتى وفاته.
إن ظهور عمر بن عبد العزيز في تلك المرحلة التاريخية الحرجة من تاريخ الأمة ومحاولته العظيمة للعودة بالحياة إلى تحكيم الشريعة وآفاق الخلافة الراشدة الملتزمة بمعطيات القرآن والسنة، ظاهرة فذة تحمل في دلالتها ليس على بطولة القائد فحسب، وإنما على قدرة الإسلام نفسه على العودة باستمرار لقيادة الحياة السياسية والتشريعية والحضارية في نهاية الأمر وصياغتها بما ينسجم ومبادئه الأساسية2.
إن خلافة عمر بن عبد العزيز حجة تاريخية على من لا يزال يردد الكلمات والأصوات القائلة: إن الدولة التي تقوم على الأحكام الإسلامية والشريعة عرضة للمشاكل والأزمات وعرضة للإنهيار في كل ساعة، وإنها ليست إلا حُلماً من الأحلام ولا يزال التاريخ يتحدى هؤلاء ويقول لهم: ((قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)) (البقرة ، الآية : 111).
ولقد سار نور الدين زنكي المتوفى عام 568 على منهج عمر بن عبد العزيز وأخذه نموذجاً ومثالاً له في القدوة والتأسي، فآتت محاولته الإصلاحية ثمارها للأمة وساهمت في نهوضها وعودة الوعي لها وتغلبت على أعدائها الصليبيين وطهرت بيت المقدس على يدي تلميذه، القائد الأشم، البطل المغوار صلاح الدين الأيوبي، كثر الله من أمثاله في جيلنا.(1/16)
إن الإصلاح ـ كما يفهمه المسلمون الصادقون لا كما يروّج أعداء الإسلام ـ هو الغاية من إرسال الله تعالى الرسل إلى الناس قال شعيب عليه السلام لقومه الغارقين في الضلال والفساد في العقيدة والسلوك: ((قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقاً حسناً وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب)) (هود ، الآية : 88).
وقد اضطلع بمهمة الإصلاح لشؤون البشر ـ بعد مصلح الإنسانية الأعظم محمد ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ وسار على منهاج النبوة خلفاؤه الراشدون، وعلماء الأمة الأبرار كعمر بن عبد العزيز، والأمة الآن في أشد الحاجة لمعرفة هدي المصلحين ابتداء من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فقد اصابها التخلف والتيه والتفرق والضعف والاستكانة،(1/17)
إن فقه حركة التاريخ الإسلامي يرشدنا إلى أن عوامل النهوض وأسباب النصر كثيرة منها صفاء العقيدة، ووضح المنهج، وتحكيم شرع الله في الدولة، ووجود القيادة الربانية التي تنظر بنور الله وقدرتها في التعامل مع سنن الله في تربية الأمم وبناء الدول وسقوطها، ومعرفة علل المجتمعات وأطوار الأمم، وأسرار التاريخ، ومخططات الأعداء من الصليبيين واليهود والملاحدة والفرق الباطنية، والمبتدعة وإعطاء كل عامل حقه الطبيعي في التعامل معه، فقضايا فقه النهوض، والمشاريع النهضوية البعيدة المدى متداخلة متشابكة لا يستطيع استيعابها إلا من فهم كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وارتبط بالفقه الراشدي المحفوظ عن سلفنا العظيم، فعلم معالمه وخصائصه وأسباب وجوده وعوامل زواله واستفاد من التاريخ الإسلامي وتجارب النهوض، فأيقن بأن هذه الأمة ما فقدت الصدارة قط وهي وفية لربها ونبيها صلى الله عليه وسلم وعلم بأن الهزائم العسكرية عرض يزول، أما الهزائم الثقافية فجرح مميت، والثقافة الصحيحة تبني الإنسان المسلم، والأسرة المسلمة، والمجتمع المسلم، والدولة المسلمة، على قواعدها المتينة من كتاب الله وسنة رسوله، وهدى الخلفاء الراشدين، ومن سار على نهجهم، وعبقرية البناء الحضاري الصحيح هي التي أبقت صرح الإسلام إلى يومنا هذا بعد توفيق الله وحفظه.(1/18)
إن سيرة عمر بن عبد العزيز تمدنا بالمفهوم الصحيح لكلمة الإصلاح للمفهوم القرآني الأصيل الذي فهمه علماؤنا المصلحون فهماً صحيحاً وطبّقوه تطبيقاً، سليماً، لا المفهوم الغربي الحديث الذي تسرَّب إلى أذهان بعض المفكرين السياسيين المقلدين للغرب في حقّه وباطله حتى أصبح من المسلم به عند كثير من أبنائنا اليوم أن الثورة أعمّ وأشمل وأعمق من الإصلاح الذي يرادف في الغرب معنى التغيير الخفيف الذي يحدث بتدرج ومن دون عنف، بينما الثورة هي عندهم انقلاب جذري دون تدرّج، عنيف ومفاجيء، وما دروا أن الإصلاح بالمفهوم القرآني الصحيح له معنى أشمل وأعمّ وأكبر من الثورة، فهو دائماً نحو الأحسن والأكمل، بينما الثورة قد تكون من الصالح إلى الفاسد أصلاً، ويتم ذلك بتغيير سلطة بسلطة وحاكم بحاكم3.
إن عمر بن عبد العزيز نموذج إصلاحي لمن يريد السير على منهاج النبوة وعهد الخلافة الراشدة، ولقد أخلص لله تعالى في مشروعه الإصلاحي فتولى الله توفيقه وأطلق ألسنة الناس بمدحه والثناء عليه، قال الشاعر أحمد رفيق المهدوي الليبي:
………فإذا أحب الله باطن عبده
…………………ظهرت عليه مواهب الفتاح
………وإذا صفت لله نية مصلح
…………………مال العباد عليه بالأرواح(1/19)
هذا وقد تحدثت عن عهد يزيد بن عبد الملك وهشام، وعهد الوليد بن يزيد، ويزيد بن الوليد، وإبراهيم بن الوليد، وأشرت إلى أهم أعمال يزيد وهشام واعتبرت وفاة هشام، بداية الانحدار والضعف للدولة الأموية، وتعرضت للدعوة العباسية وجذورها التاريخية ومشروعها الذي قدمته لاتباعها في المرحلة السرية والعلنية وتكلمت عن قيادتها، وهيكلها التنظيمي والبعد التخطيطي وقراءة الواقع عند زعمائها، وفقهها الحركي المستمد من ابن عباس ومتى أعلنت الثورة العباسية؟ وتحدثت عن الخليفة الأموي الأخير مروان بن محمد وجهوده في القضاء على الثورات التي اندلعت في عهده؟ وعن انتصار العباسيين على الأمويين في معركة الزاب، وافردت مبحثاً لأسباب سقوط الدولة الأموية وناقشتها من خلال سنن الله في حركة المجتمعات وبناء الدول وسقوطها، ومن الأسباب التي ذكرتها، الثورة المضادة على حركة عمر بن عبد العزيز الإصلاحية، والظلم والترف والانغماس في الشهوات، ونظام ولاية العهد، وتعطيل الخيار الشوري، والثورات ضد النظام الأموي كثورة الحسين بن علي رضي الله عنه، وثورة زيد بن علي بن الحسين، وثورات الخوارج المستمرة، ومن الأسباب التي ذكرتها العصبية، والموالي، وفشل الأمويين في إيجاد تيار حضاري، والنزاع الداخلي بين الأسرة الحاكمة، وفشلهم في آخر عهدهم في تكوين جيش نظامي مرتبط بالدولة وموالٍ لها ومدافع عن شرعيتها، وأشرت إلى أسباب فشل مروان في إنقاذ الخلافة الأموية، فذكرت، عدم شرعيته ونقله لعاصمة الدولة إلى حرّان، وعدم قدرته على تنظيم حكومة مركزية قوية، واحتقاره للخصوم في خراسان، والاستبداد بالرأي، وإبعاد الأولياء وتقريب الأعداء، ولم يلجأ إلى المال والسياسة في تفتيت الخصوم، وشؤم بدعة الجهمية على الدولة، وإنحلال الضبط، وتجاوز الاحتياط وضعف الثقة بينه وبين رجاله وبغض الناس له، وخذلان أهل الشام له في معركة الزاب، وتكلمت عن الدعوة العباسية وكيف استفادت من تلك(1/20)
الأسباب؟ وفي نهاية الكتاب قمت بدراسة علمية لبعض الكتب التي ساهمت في تشوية تاريخ صدر الإسلام كالإمامية والسياسة المنسوب زوراً لابن قتيبة، وكتاب الأغاني للأصفهاني وتاريخ اليعقوبي، ومروج الذهب للمسعودي، وحذرت من بعض المستشرقين الذين عملوا على تشويه التاريخ الإسلامي وطمس حقائقه الناصعة ثم خاتمة الكتاب.
إن تاريخ الدولة الأموية تعرض لهجمة شرسة من قبل خصومه وأعدائه، وحاولوا طمس كل ما لهم من فضائل وإيجابيات وتوسعوا في ذكر السلبيات وافترى عليهم الكذب فنسب لهم ما لم يكن منهم، ويعود ذلك إلى كتابة التاريخ إنما كانت في عهد خصومهم السياسيين من بني العباس هذا من جهة ومن جهة ثانية، فإن هذه الكتابة كانت بأيد شيعية حاقدة لا تعرف الإنصاف ولا العدل ولا تتكلم بعلم ولا معرفة وقد تحدث الدكتور حمدي شاهين في كتابه عن الدولة الأموية المفترى عليها عن أسباب تزوير التاريخ الأموي، ومناهج المؤرخين في كتابتها فمن أراد التوسع فليرجع إليه وأما عن منهجي في كتابة الدولة الأموية فقد التزمت بمنهج أهل السنة والجماعة في النقد والحكم على الآخرين والذي من قواعده، الخوف من الله عز وجل عند الكلام في الآخرين، وتقديم حسن الظن بالمسلم، والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وإنصاف لا بجهل وظلم، كحال أهل البدع، والعدل في وصف الآخرين والعبرة بكثرة الفضائل، والنظر في حال الجارح، والتثبت من الأخبار، وغير ذلك من القواعد المعروفة عند أهل السنة وقد تركت الحديث عن الدولة الأموية بالمغرب لقناعتي بأن دولة عبد الرحمن الداخل لها علاقة أصيلة بتاريخ الأندلس وتعتبر جزءاً من تاريخها لا يمكن فصله.
هذا وقد انتهيت من هذا الكتاب يوم الثلاثاء الساعة الخامسة وثمان دقائق بعد صلاة العصر بتاريخ 2/ربيع الآخر/1426 الموافق 10/5/2005م/(1/21)
والفضل لله من قبل ومن بعد، وأسأله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل عملي لوجهه خالصاً ولعباده نافعاً، وأن يثيبني على كل حرف كتبته ويجعله في ميزان حسناتي، وأن يثيب إخواني الذين ساهموا في إتمام هذا الجهد المتواضع، ونرجو من كل مسلم يطلع على هذا الكتاب أن لا ينسى العبد الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه من دعائه ((رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديَّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين)) (النمل ، الآية : 19). قال تعالى: ((ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم)) (فاطر ، الآية : 2). وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
سبحانك اللهم وبحمدك أشد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربا العالمين
الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه
علي محمد محمد الصًّلاَّبيَّ
الأخوة القرّاء الكرام، يسر المؤلف أن تصله ملاحظاتكم حول هذا الكتاب وغيره من كتبه من خلال دور النشر، ويطلب من إخوانه الدعاء في ظهر الغيب بالإخلاص والصواب ومواصلة المسيرة في خدمة تاريخ أمتنا
……………عنوان المؤلف
E_mail : abumohamed2@maktoob.com
بسم الله الرحمن الرحيم
الجذور التاريخية للأسرة الأموية :
…ينتسب الأمويون إلى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وفي عبد مناف يلتقي بنو أمية مع بني هاشم، وكان بنو عبد مناف يتمتعون بمركز الزعامة في مكة، لا يناهضهم فيه أحد من بطون قريش.. وجميع قريش تعرف ذلك وتسلم لهم الرياسة عليها4 .
أولاً : شهادة التاريخ بين الهاشميين والأمويين :(1/22)
…كان بنو عبد مناف بن قصي وحدة واحدة في محاولتهم اقتسام السلطة في مكة مع بني عمهم عبد الدار بن قصي، الذي فضله والده على سائر أبنائه، رغم شرفهم عليه، وجعل له الحجابة واللواء والسقاية والرفادة، وكان زعيمهم في هذه المحاولة هو عبد شمس، أبو أمية، إذ كان أس بني عبد مناف، وتفرقت قريش على ذلك بين فريقين، عبد مناف وعبد الدار، ثم تداعوا إلى الصلح على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة، وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار، فولي الرفادة والسقاية هاشم بن عبد مناف، وذلك أن عبد شمس كان رجلاً سفاراً، قلما يقيم بمكة، وكان مقلاً ذا ولد، وكان هاشم موسراً5.. وهكذا كانت السلطة في مكة عبارة عن مراكز نفوذ تقررها الأهمية الاقتصادية، دون أن يكون لأسرة ما أو زعيم ما السيادة الكاملة على غرار ما كان لقصي زعيم قريش الأول6 .. وكذلك اشترك بنو عبد مناف معاً في جهودهم لتنظيم التجارة بين مكة وما حولها7، وهكذا كانوا يداً واحدة تتحرك في تفاهم وتآلف، فلما ماتوا رثاهم الشعراء معاً، دون تفريق بينهم تماماً كما كانوا يمتدحونهم معاً8، وهكذا تقتضي طبيعة الحياة العربية في الجاهلية أن يتناصر أبناء الأب الواحد، وأن تجتمع كلمتهم ما وجدوا إلى ذلك سبيلا9، وأما الروايات التي تزعم وجود عداء مستحكم بين بني هاشم وبني عبد شمس وأميه قبل الإسلام، فهي واهية الأسانيد، لا تثبت، فهي تروي أن هاشماً وعبد شمس ولدا ملتصقين ففصل بينهما بالسيف، فكان بين أبنائهما الدماء لأجل ذلك10، فهذه رواية لقيطة ليس لها راوي، تفوح منها رائحة الأسطورة والخيال، ويكذبها ما رواه ابن اسحاق من أن عبد شمس كان أسن بني عبد مناف11 والروايات التي تروي أن منافرات حدثت بين هاشم وأمية بن عبد شمس، وبين عبد المطلب بن هاشم وحرب بن أمية12، وكلتا الروايتين ترويان عن هشام الكلبي وهو رواية شيعي كذاب يرويهما كلتهما عن رجال مجهولين لا يعرف أسماءهم13، إذ إن هذه(1/23)
الروايات كما يبدو واضحاً من سندها المعتل ومتنها المصطنع كانت صدى لما حدث فيما بعد من صراع بين بني أمية وبني هاشم حاول الرواة أن يجعلوا له سنداً تاريخياً ثابتاً، وتظل حقيقة العلاقة الطيبة بين الفريقين لا شك فيها14 ولذلك يقول ابن خلدون : كان لبني عبد مناف في قريش جمل من العدة والشرف لا يناهضهم فيها أحد من سائر بطون قريش: وكان فخذاهم بنو أمية وبنو هاشم هما جميعاً ينتمون لعبد مناف، وينتسبون إليه، وقريش تعرف ذلك وتسأل لهم الرياسة عليهم، إلا أن بني أمية كانوا أكثر عدداً من بني هاشم وأوفر رجالاً والعزة إنما هي بالكثرة، قال الشاعر: وإنما العزة للكاثر15 .. ولعل ما يشير إليه ابن خلدون من تفوق بني أمية قد اتضح قبيل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم لما مات عبد المطلب بن هاشم الذي ورث شرف أبيه وبرز نجم أبي سفيان بن حرب فذلك ما يبدو من هذا الوصف الدقيق لطبيعة العلاقة بين بين بني أمية وبني هاشم على لسان معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لما سئل: أيكم كان أشرف أنتم أو بنو هاشم؟ فأجاب: كنا أكثر أشرافاً وكانوا هم أشرف، وكان فيهم عبد المطلب ولم يكن فينا مثله، فلما صرنا أكثر عدداً وأكثر أشرافاً، ولم يكن فيهم واحد كواحدنا، فلم يكن إلا كقرار العين حتى قالوا: منا نبي، فجاء نبي لم يسمع الأولون والآخرون بمثله، محمد صلى الله عليه وسلم، فمن يدرك هذه الفضيلة وهذا الشرف16؟ . إن كل ذلك لا ينفي احتمال وجود نوع من التنافس بين الجانبين قبل الإسلام، في ضوء ما نعرف من طبيعة الحياة العربية في مكة قبل الإسلام، ولكنه تنافس يحدث بين الإخوة أحياناً، وبين أبناء الأب الواحد، غير أنه لم يتطور ليصبح تربصاً وعداء كما يزعم المتزيدون17، ولدينا من شواهد التاريخ ما يدل على قوة العلاقة بين بني هاشم وبني أمية، فقد كان عبد المطلب بن هاشم ـ زعيم الهاشميين في عصره ـ صديقاً لحرب بن أمية ـ زعيم الأمويين ـ كما كان العباس بن عبد(1/24)
المطلب ابن هاشم صديقاً حميماً لأبي سفيان بن حرب بن أمية، وفي قصة إسلام أبي سفيان عند فتح مكة، ودور العباس فيها أكبر دليل على ذلك، كما سنبينها في الصفحات القادمة بإذن الله، والغريب أن المقريزي الذي ألف كتاباً خاصاً عن علاقات الهاشميين والأمويين وجعل محوره النزاع والتخاصم ، يعترف بالصداقة الوطيدة التي كانت بين العباس وأبي سفيان18، فإذا كانت الصداقة الوطيدة قائمة، ووطيدة بين زعماء البيتين ـ الأموي والهاشمي ـ وهما ابناء أب واحد، وهو عبد مناف بن قصي، فإن الحدس بتأصيل النزاع بينهما بعد الإسلام والرجوع به إلى ما قبل الإسلام لا سند له من تاريخ19 .(1/25)
…إن الكتاب المنسوب للمقريزي "النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم، لا يمكن أن أن يتصور عاقل أن يد المقريزي قد خطت حرفاً واحداً من هذا الكتاب. لأن المقريزي ـ لا يمكن أن ينزل إلى هذا الدرك من إلغاء العقل، والجهل بالأحكام، فمؤلف هذا الكتاب ألفه صاحبه في عصر الإنحدار الطائفي، والتهافت العاطفي، وتخلى فيه عن صفة المؤرخ، وبعد عن سجية العلماء، حيث جعل هذا الكتاب متنفساً عن بغضاء مكتومة، وحقد دفين، جعلها أساساً لحكمه وشعاراً لكتابه20، ويرى الدكتور إبراهيم شعوط أن الكتاب منسوب للمقريزي21، والذي يهمنا أن ما قرّره صاحب الكتاب من أن العداوة مستحكمة بين بني أمية وهاشم وأنها قديمة لا يثبت هذا الإدعاء أمام البحث العلمي النزيه، إن الذين ينظرون إلى تاريخ بني أمية من خلال موقف أبي سفيان من الإسلام في مكة ومن خلال ما دار بين علي ومعاوية رضي الله عنهما من حروب يبنون على ذلك كما فعل العقاد أوهاماً من صراع تاريخي قبل الإسلام وبعده بين بني هاشم وبني أمية وتلك أوهام ليس لها من التاريخ إلا رواية ملفقة أو أحداثاً عارضة لا تمثل قط صراعاً بين هذين الفرعين الكريمين من بني عبد مناف وهما ذروة الشرف في قريش22، والذي يظهره البحث العلمي النزيه وبعد ترك الروايات والأساطير الساقطة يتضح أن العلاقة بين البطنين كانت طبيعية مثلها مثل العلاقة بين باقي بطون قريش.
ثانياً : موقف بني أمية من الدعوة الإسلامية :(1/26)
…لقد كان تعامل الأمويوين مع الدعوة الناشئة هو نفس تعامل بقية بطون قريش للدعوة الجديدة من أمثال بني مخزوم وبني هاشم وغيرهم ولنأخذ على ذلك مثالاً وهو كيفية تعامل بني هاشم رهط النبي صلى الله عليه وسلم وأقرب بطون قريش إليه مع الدعوة، فإن منطق العصبية السائد في الجاهلية يقتضي أن يتلقف بنو هاشم الدعوة الجديدة التي تحقق لهم العزة والشرف بالإيمان والنصرة وأن يقفوا خلف النبي الهاشمي بالتأييد والبذل، وقد وقفوا إلى جواره فعلاً في بعض المواقف ولعل أشهرها حصار الكافرين لهم في شعب بني هاشم، ولكنهم في النظرة الشاملة انقسموا عليه بين مؤيد ومعارض ومؤمن وكافر، شأنهم في ذلك شأن غيرهم من قبائل مكة، والمثال المشهور لكفار بني هاشم هو أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان أول من جهر بعداوة الإسلام لما جهر الرسول بدعوته، ولم يكتف بالمعارضة الصريحة بل عضدها بالعمل والكيد، فقد مارس صور شتى تعذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وصد الناس23 عنه، وكانت معه زوجته أم جميل بنت حرب الأموية، وإبنيه عتبة وعتيبة اللذين طلقا بنتي النبي رقية وأم كلثوم ليشغلا محمداً24 ببنتيه، وكان ابنه عتبة يشارك في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى دعا عليه فنهشه أسد في بعض أسفاره25، بل إن أبا لهب لم يدخل مع قومه شعب بني هاشم لما حاصرتهم قريش26 فيه، ولما لم يستطع الخروج مع قريش لقتال الرسول يوم بدر استأجر بدلاً منه العاص بن هشام بن المغيرة بأربعة آلاف درهم27، وقد كان أبو لهب في كفره وعناده مثالاً مشهوراً ولكنه لم يكن الهاشمي الوحيد الذي كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم وجهد في إيذائه وحربه، فقد كان في أسرى المشركين يوم بدر من بني هاشم العباس بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، وحليفهم عتبة بن عمرو بن جحدم، وقد قبل الرسول صلى الله عليه وسلم فداءهم فيمن افتدى من أسرى قريش28، وكان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ممن(1/27)
شهد قتال يوم بدر مع المشركين ونجا من القتل والأسر29 وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة ـ أرضعتهما حليمة السعدية أياماً ـ وكان يألف رسول الله وكان له ترباً فلما بعث رسول الله عاداه عداوة لم يعادها أحد قط، ولم يدخل الشعب مع بني هاشم وهجا رسول الله وأصحابه، وكان من المجاهرين بالظلم له صلى الله عليه وسلم ولكل من آمن به قبل الهجرة30.
…إن أعظم النصرة والتأييد لقيهما النبي صلى الله عليه وسلم من عمه أبي طالب الذي تحمل في سبيل ذلك ضغوطاً هائلة من قريش ولكنه ظل حتى اللحظات الأخيرة من حياته وفياً لدين آبائه، فمات على ملة الأشياخ من قومه31، وظل العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم الآخر في مكة، واشترك مكرهاً ضده في غزوة بدر وأسر بها، ولكنه لم يهاجر إلى المدينة ويعلن إسلامه إلا والرسول صلى الله عليه وسلم في طريقه لفتح مكة32، وقد أسلم في مكة نفر من بني هاشم وبذلوا في سبيل الدعوة الكثير مثل على بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب، وجعفر بن أبي طالب وغيرهم ولكنهم كانوا يشاركون غيرهم من غير بني هاشم في ذلك كأبي بكر وعمر وعثمان، ولم يكن بذلهم لأنهم هاشميون بل لأنهم مسلمون، ويظل إيمانهم دليلاً على صدق القول باختلاف استجابة الأفراد للدعوة الإسلامية بغض النظر عن انتماءاتهم القبلية33، وبالنسبة لبني أمية وموقفهم من الإسلام فإن مؤرخينا لا يتحدثون عنهم كبطن مستقل من بطون قريش وإنما يتحدثون عنهم مع غيرهم من بني عبد شمس والد أمية، فيعدونهم وحدة واحدة34، وقد كانوا أبناء أب واحد وتربطهم علاقات التصاهر والترابط الاجتماعي ولذلك فإنهم عند حديثهم عن عداء بني أمية للرسول يذكرون إسمي عتيبة وشيبة إبني ربيعة بن عبد شمس، ورغم أنهما ليسا من بني أمية.. ويذكرون معهما أيضاً أبا سفيان بن حرب وعقبة بن أبي معيط، فأما عقبة بن أبي معيط هذا فقد كان من مردة قريش، فقد تفل في وجه رسول الله، وأنه(1/28)
رمى عليه صلى الله عليه وسلم سلى جزور وهو يصلي، وأنه خنقه بثوب في عنقه حتى دفعه أبو بكر الصديق35، وقد نال جزاءه لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله بعد أسره يوم بدر، والغريب أنه كان يذكره بما بينهما من رحم36، ومثل هذه النماذج الطائشة لم ينفرد بها بنو أمية أو عبد شمس في مكة آنذاك37 وأما معارضة عتبة وشيبة إبني ربيعة فمعلومة ومشهورة ومع هذا لما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وصده عنها أهلها وتبعه الصبيان والغلمان يرمونه ويصيحون به لجأ إلى حائط إبني ربيعة عتبة وشيبة، فلما رأياه على هذا الحال تحركت له رحمهما، فدعوا غلاماً نصرانياً يقال له عداس، فقالا له: خذ قطعاً من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم إذهب إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه38.
ثالثاً : أمويون مسلمون منذ بداية الدعوة الإسلامية :(1/29)
…وإذا جارينا نهج المؤرخين في الحديث عن بني أمية وبني عبد شمس معاً، فإننا نرى منهم جماعة كانوا من السابقين إلى الإسلام، فمنذ المرحلة السرية للدعوة وقبل الجهر بها كان قد أسلم كل من عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية، وكان إسلامه على يد أبي بكر الصديق في أيام الإسلام الأولى39، وكذلك كان إسلام خالد بن سعيد بن العاص بن أمية، وقد أسلم في هذه المرحلة السرية التي دامت حوالي ثلاث سنين40ـ أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس41، كما أسلم في مرحلة مبكرة حليفان لبني أمية وهما عبد الله بن جحش بن رئاب وأخوه أبو أحمد بن جحش وهما إبنا عمة النبي صلى الله عليه وسلم فأمهما أميمة بنت عبد المطلب42، وفي الهجرة الأولى إلى الحبشة شارك نفر من مسلمي بني أمية مثل عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وزوجته سهلة بنت سهيل بن عمرو43، كما كان لبني أمية مشاركة في الهجرة الثانية ومعهم بعض حلفائهم، وقد ذكر الدكتور حمدي شاهين قائمة طويلة بأسمائهم، مما يؤكد استجابة بعض بني أمية للإسلام منذ بداية الدعوة44، وقد ساهمت نساء بني أمية وعبد شمس في صنع مسيرة الإسلام وفي إعطاء الأسوة وضرب المثل في نبل التضحية وعزيز العطاء، فقد أسلمت رملة بنت شيبة بن ربيعة زوجة عثمان بن عفان وهاجرت معه إلى المدينة وثبتت معه على دينه رغم مقتل أبيها وعمها وابنه في بدر مما أهاج عليها غضب هند بنت عتبة فقالت تعيبها :
…………لحى الرحمن صابئة بوج
…………………ومكة أو بأطراف الحجون
…………تدين لمعشر قتلوا أباها
…………………أقتل أبيك جاءك باليقين45
…(1/30)
…وهاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط إلى المدينة في الهدنة التي كانت بين النبي والمشركين في الحديبية على أن الصورة الأزهى والنموذج الأرقى في ذلك المجال هو إسلام أم المؤمنين أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، فقد أسلمت مبكراً46، وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة وسيأتي الحديث عنها بإذن الله تعالى .
رابعاً : المصاهرات بين بني هاشم وبني أمية :
…لم يكن بين بني هاشم وبني أمية من المباغضة والعداوة والمنافرة التي اخترعها وابتكرها أعداء الإسلام والمسلمين ونسجوا الأساطير والقصص حولها، فالحقيقة التاريخية تقول، بأن علاقتهم كانت علاقة أبناء العمومة والأخوان والخلان، فهم من أقرب الناس فيما بينهم، يتبادلون الحب والتقدير، والاحترام، ويتقاسمون الهموم والآلام والأحزان، فبنو أمية وبنو هاشم كلهم أبناء أب واحد، وأحفاد جد واحد، وأغصان شجرة واحدة قبل الإسلام وبعد الإسلام وكلهم استقوا من عين واحدة ومنبع صاف واحد، وأخذوا الثمار من دين الله الحنيف الذي جاء به رسول الله الصادق الأمين، المعلم، المربي، خاتم الأنبياء والمرسلين، ولقد كان بين أبي سفيان وبين العباس صداقة يضرب بها الأمثال47، كما كانت بينهم المصاهرات قبل الإسلام وبعده وكان على رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي زوج بناته الثلاثة من الأربعة من بني أمية، وهذه نماذج من المصاهرات بينهم
أ ـ …عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية، فقد تزوج رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بعد وفاتها تزوج أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ب ـ…أبو العاص بن الربيع وهو من بني أمي، فقد تزوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وولدت زينب له ابنة وهي أمامة، وتزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد وفاة فاطمة الزهراء48
ت ـ…خديجة بن علي بن أبي طالب ، تزوجها عبد الرحمن بن عامر بن كريز الأموي49 .
ث ـ…رملة بنت علي بن أبي طالب، تزوجها معاوية بن مروان بن الحكم50 .(1/31)
ج ـ…زينب بنت الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب تزوجها الوليد بن عبد الملك بن مروان51 .
ح ـ…فاطمة بنت الحسين بن علي علي بن أبي طالب ، تزوجها عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان52، وقد اكتفيت ببيان بعض منها، وفيها كفاية لمن أراد الحق والتبصر53.
الفصل الأول
معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه من مولده حتى نهاية عهد الخلافة الراشدة
المبحث الأول : اسمه ونسبه وكنيته وأسرته
أولاً : اسمه ونسبه وكنيته ومولده :
هو معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب أمير المؤمنين ملك الإسلام، أبو عبد الرحمن، القرشي الأمويُ المكي54، ولد قبل البعثة بخمس سنين، وقيل بسبع، وقيل : بثلاث عشرة، والأول أشهر55، وكان رجلاً طويلاً، أبيض، جميلاً، مهيباً، وقد تفرس فيه والده ووالدته منذ الطفولة بمستقبل كبير، فهذا أبو سفيان ينظر إليه وهو يحبو فيقول لوالدته : إن إبني هذا لعظيم الرأس، وإنه لخليق أن يسود قومه، فقالت هند : قومه فقط، ثكلته إن لم يسد العرب قاطبة56، وعن أبان بن عثمان قال : كان معاوية يمشي مع أمه هند، فعثر، فقالت: قم لا رفعك الله، وأعرابي ينظر، فقال: لما تقولين له؟ فوالله إني لأظنه سيسود قومه: قالت: لا رفعه الله إن لم يسد إلا قومه57 .
ثانياً : إسلام أبي سفيان والد معاوية رضي الله عنهما :(1/32)
كان أبو سفيان من عتاة الجاهلية الذين حاربو الإسلام .. وكتب السيرة النبوية وصفت أعماله ضد الدعوة الإسلامية إلا أن الله تعالى أراد الهداية له، فأسلم قبل فتح مكة بقليل، وقد أكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح مكة وأعلن: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن58، وفي هذا الإكرام النبوي الشريف لأبي سفيان لفتة تربوية، ففي تخصيصه صلى الله عليه وسلم بيت أبي سفيان شيء يشبع ما تطلع إليه نفس أبي سفيان، وفي هذا تثبيت له على الإسلام وتقوية لإيمانه59، وكان هذا الأسلوب النبوي الكريم عاملاً على امتصاص الحقد من قلب أبي سفيان، وبرهن له بأنَّ المكانة التي كانت له عند قريش لن تنتقص شيئاً في الإسلام، إن هو أخلص له، وبذل في سبيله60، وهذا منهج نبوي كريم، على العلماء والدّعاة إلى الله أن يستوعبوه، ويعملوا به في تعاملهم مع الناس61 وقد حسن إسلام أبي سفيان وشاهد المواقع وقدم خدمات جليلة للإسلام، فقد كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حنين، وشارك في حصار الطائف وفقد إحدى عينيه فيها، وفي اليرموك فقد الثانية62، وبعد ثقيف أرسله رسول الله مع المغيرة بن شعبة لهدم اللات63 ـ صنم ثقيف، وقد كانت اللات معظمة عند قريش كذلك، وكانوا يحلفون بها، وهذا دليل على تغلغل الإيمان في قلب أبي سفيان رضي الله عنه، لقد أسلم أبو سفيان إذن بعد أن ظل حبه للرياسة وممارسته لها حائلاً بينه وبين الإسلام وقد راعى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه العوامل النفسية المؤثرة على نفس أبي سفيان ونفوس علية القوم من قريش بعد الفتح، فقد جعل من دخل دار أبي سفيان آمناً، كما أعطاه من غنائم حنين مع غيره ممن سموا آنذاك بالمؤلفة قلوبهم64 .(1/33)
ولم ينس أبو سفيان ما فعله ضد الإسلام أيام الجاهلية، وحرص على مضاعفة جهده في خدمة الإسلام، وقال عنه إبن كثير: من سادات قريش في الجاهلية، وتفرَّد فيهم بالسؤدد بعد يوم بدر، ثم لما أسلم حسن بعد ذلك إسلامه، وكانت له مواقف شريفة، وآثار محمودة في اليرموك وما قبله وما بعده65.
وروي عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: فقدت الأصوات يوم اليرموك إلا صوت رجل واحد يقول: يا نصر الله اقترب، والمسلمون يقتتلون هم والروم، فذهبت أنظر فإذا هو أبو سفيان تحت راية إبنه يزيد66، وروي أنه كان يوم اليرموك يقف على الكراديس: فيقول الناس: الله الله إنكم ذادة العرب وأنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك، اللهمَّ هذا يوم من أيامك، اللهمَّ أنزل نصرك على عبادك67، وقيل مات سنة إحدى أو إثنتين أو ثلاث أو أربع وثلاثين68، وصلى عليه ابنه معاوية، وقيل : بل صلى عليه عثمان، وله ثلاث وثمانون، وقيل: كان له بضع وتسعون سنة69.
ثالثاً : هند بنت عتبة بن ربيعة أم معاوية رضي الله عنهما :(1/34)
هي أم معاوية، أسلمت يوم الفتح، بعد إسلام زوجها أبي سفيان، فأقاما على نكاحهما، ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيعة الرِّجال، بايع النساء، وفيهنَّ هند بنت عتبة وكانت متنكرة، خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها، لما صنعت بحمزة ـ على ألاَّ يشركن بالله شيئاً، ولا يسرقن، ولا يزنين، ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن، وأرجلهن، ولا يعصين في معروف، ولما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ولا يسرقن قالت هند: يا رسول الله، إن أبي سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني، ويكفي بنيَّ، فهلَّ عليَّ من حرج إذا أخذت من ماله بغير علمه؟ فقال لها صلى الله عليه وسلم: خذي من ماله ما يكفيك وبنيك بالمعروف، ولما قال: ولا يزنين قالت هند: وهل تزني الحرّة؟ ولمّا عرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: وإنك لهند بنت عتبة؟ قالت: نعم، فاعف عمّا سلف عفا الله عنك، وقد بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير مصافحة، فقد كان لا يصافح النساء، ولا يمس يد إمرأة إلا إمرأة أحلّها الله له، أو ذات محرم منه، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: لا والله! ما مست يد رسول الله يد إمرأة قط70. وروى ابن سعد بسنده عن عبد الله بن الزبير إنه لما بايعت هند تكلمت فقالت: يا رسول الله، الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه، لتنفعني رحمك يا محمد، إنني إمرأة مؤمنة بالله، مصدقة برسوله، ثم كشفت عن نقابها وقالت: أنا هند بنت عتبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مرحباً بك، فقالت: والله ما كان على الأرض أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض من أهل خباءٍ أحب إليَّ أن يذلوا من أهل خِبائك، قال: وأيضاً والذي نفسي بيده. قالت: يا رسول الله، إنَّ أبا سفيان رجل ممسك، فهل عليَّ حرج أن أُطعم من الذي له عِيالنا قال: لا أراه إلا بالمعروف71. ولما أسلمت هند(1/35)
وبايعت عادت إلى بيتها فجعلت تكسر صنماً كان عندها حتى فلذته فلذة وهي تقول: كنت منك في غرور72، ولما رأت المسلمين ببيت الله الحرام قالت: والله ما رأيت الله عُبد حق عبادته في هذا المسجد قبل الليلة، والله إن باتوا إلا مصلين قياماً وركوعاً وسجوداً73. وكان لهند في جاهليتها موقف مع زينب بنت المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد كانت بمكة مع زوجها أبي العاص بن الربيع وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم من يأتيه بها إلى المدينة، وكان ذلك بعد ((بدر)) ولم تجف دماء قريش بعد، وكانت ((هند)) قد أصيبت بأبيها وأخيها وعمها، وكانت تطوف على مجالس قريش وأنديتها تُذكي نار الثأر، وتؤجج أوار الحرب، وفي الطريق لقيت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد تسرَّب خبر استعدادها للخروج لأبيها فقالت هند: أي بنت محمد: بلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك!!.. أي إبنة عمي، إن كانت لك حاجة بمتاع مما يعينك في سفرك، أو بمال تبلغين به إلي أبيك، فعندي حاجتك فلا تستحي مني، فإنه لا يدخل بين النساء ما يكون بين الرجال، تروي زينب رضي الله عنها ذلك، وتقول: ووالله ما أراها قالت إلا لتفعل74. ثم يوم خروج زينب يتعرض لها رجال من قريش، يريدون إرجاعها، فتسقط من على ناقتها وكانت حاملاً، فتنزف، وتسمع هند، فتخرج مسرعة وترفع عقيرتها في وجه قومها: معركة مع أنثى عزلاء؟؟ أين كانت شجاعتكم يوم بدر؟ وتحول بينهم وبين زينب وتضمها إليها وتمسح عنها ما بها، وتصلح شأنها، حتى إستأنفت الخروج إلى أبيها في أمن وأمان75. وكانت هند إمرأة حازمة شاعرة ذات نفس وأنفة. ويروى أنها كانت قبل أبي سفيان عند الفاكه بن المغيرة، وكان من فتيات قريش، له مجلس يأتيه ندماؤه فيدخلون بغير استئذان، فدخلته هند يوماً وليس فيه أحد، فنامت فيه، وجاء بعض ندماء الفاكه فدخل البيت، ورأى هند نائمة فخرج، فلقيه الفاكه خارجاً، ثم دخل فوجد هند في المجلس نائمة فقذفها بالرجل فشرى76 الأمر إلى(1/36)
أن إتفقوا على أن يتحاكموا إلى كاهن في بعض النواحي، فحملها أبوها عتبة وخرج معهم الفاكه حتى إذا دنوا من الكاهن رآها أبوها متغيرة مصفراً لونها، فخلا بها وقال: يا بُنية مالي أراك قد اصفرّ لونك وتغيّر جسمك، فإن كنت قد ألممت بذنب بأخبريني حتى أفلّ77 هذا الأمر قبل أن نفتضح على رؤوس الناس. فقالت: يا أبتي إني لبريئة، ولكني أعلم أنا نأتي بشراً يخطئ ويصيب، فأخشى أن يخطئ فيّ بقول يكون عاراً علينا إلى آخر الدهر. قال عتبة: فإني سأختبره، فخبأ له حبة بُرّ في إحليل مهر78، ثم ربط عليها، فلما أتى الكاهن قال: قد خبأت لك خبيئاً فما هو؟ قال: ثمرة في كَمَرةٍ، قال: بيِّن، قال: حبة بُر في إحليل مهر. فأجلسوا هنداً بين نساء ثم سألوا الكاهن، فقام فضرب بيده بين كتفي هند وقال: قومي حصاناً غير زانية وَلَتَلِدَنَّ ملكاً يقال له معاوية: فوثب الفاكه، فأخذ بيدها وقال: إمرأتي، فنزعت يدها من يده وقالت: والله لأحرصنَّ أن يكون من غيرك، فتزوجها أبو سفيان، وولدت له معاوية79. وهذا وقد توفيت في ولاية عمر بن الخطاب رضي الله عنه80.
رابعاً : من إخوان وأخوات معاوية رضي الله عنه :(1/37)
1 ـ يزيد بن أبي سفيان، وكان يقال له يزيد الخير، وهو أفضل بني أبي سفيان، أسلم يوم الفتح وشهد حنيناً، وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم من غنائمها مائة بعير وأربعين أوقيّة81، واستعمله أبو بكر على أول الجيوش التي أرسلها إلى الشام وكانت مهمته الوصول إلى دمشق وفتحها ومساعدة الجيوش الإسلامية الأخرى عند الضرورة، وكان جيش يزيد أول الأمر ثلاثة آلاف رجل، وقبل رحيل جيش يزيد أوصاه الخليفة أبو بكر وصية بليغة عالية المستوى تشتمل على حكم باهرة في مجالي الحرب والسلم، وشيعه ماشياً وأوصاه بما يأتي: إني قد وليتك لأبلوك وأجرِّبك وأخَرجِّك، فإن أحسنت رددتك إلى عملك وزدتك، وإن أسأت عزلتك، فعليك بتقوى الله فإنه يرى من باطنك مثل الذي من ظاهرك، وإن أولى الناس بالله أشدهم تولياً له، وأقرب الناس من الله أشدُّهم تقرباً بعمله، وقد وليتك عمل خالد82، فإياك وعبِّية الجاهلية83 فإن الله يبغضها ويبغض أهلها، وإذا قدمت على جندك فأحسن صحبتهم وأبدأهم بالخير وعدهم إياه، وإذا وعظتهم فأوجز فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضاً، وأصلح نفسك يصلح لك الناس، وصلِّ الصلوات لأوقاتها بإتمام ركوعها وسجودها، والتخشع فيها، وإذا قدم عليكم رسل عدوك فأكرمهم وأقْلل لبثهم حتى يخرجوا من عسكرك وهم جاهلون به، ولا ترينّهم فيروا خَلَكَ84، ويعلموا علمك، وأنزلهم في ثروة عسكرك85، وامنع من قبلك من محادثتهم وكن أنت المتولي لكلامهم، ولا تجعل سرك لاعلانيتك فيخلط أمرك، وإذا استشرت فأصدق الحديث تُصدق المشورة، ولا تخزُ عن المشير خبرك فتُوْتى من قبل نفسك، واسمر بالليل في أصحابك تأتك الأخبار وتنكشف عنك الأستار وأكثر حرسك، وبدِّدهم في عسكرك، وأكثر مفاجأتهم في محارسهم بغير علم منهم بك، فمن وجدته غفل عن محرسه فأحسن أدبه، وعاقبه في غير إفراط، وأعقب بينهم بالليل، واجعل النَّوبة الأولى أطول من الأخيرة، فإنها أيسرهما لقربها من النهار، ولا تَخَفْ من عقوبة(1/38)
المستحق ولا تلجَّنَّ فيها، ولا تسرع إليها، ولا تتخذ لها مدفعاً، ولا تغفل عن أهل عسكرك فتفسده، ولا تجسّس عليهم فتفضحهم، ولا تكشف الناس عن أسرارهم، واكتف بعلانيتهم ولا تجالس العبّاثين، وجالس أهل الصدق والوفاء وأصدق اللقاء ولا تجبن فيجبن الناس، واجتنب الغلول فإنه يقرب الفقر، ويدفع النصر، وستجدون أقواماً حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعهم وما حبسوا أنفسهم له قال ابن الأثير: وهذه من أحسن الوصايا وأكثرها نفعاً لولاة الأمر86. ومن فوائد هذه الوصية:
ـ…أن الولايات والمناصب ليست حقاً ثابتاً لأصحابها وإنما بقاؤهم فيها مرهون بالإحسان والنجاح في العمل، ومن واجب المسئول الأعلى أن يَعْزلهم إذا أساؤوا وإن هذا الشعور يدفع صاحب العمل إلى مضاعفة الجهد في بذل الطاقة ليصل إلى مستوى أعلى من النجاح في العمل، أما إذا ضمن البقاء فإنه قد يميل إلى الكسل والاشتغال بمتاع الدنيا، فيخل بمسئولته ويعرّض من تحت ولايته إلى أنواع من الفساد والفوضى والنزاع .
_…إن تقوى الله عز وجل هي أهم عوامل النجاح في العمل، لأن الله تعالى مطلع على ظاهر أعمال الناس وباطنهم، فإذا اتقوه في باطنهم فَحَريٌّ بهم أن يتقوه في ظاهرهم، وبذلك يتجنب الوالي كل مظاهر الفساد والإفساد، التي تكون عادة من الاستجابة للعواطف الجامحة التي لا تلتزم بتقوى الله تعالى.
_ …التحذير من التعصب للآباء والأجداد والأقوام، فإن التعصب لذلك قد يحمل الإنسان على الإنحراف عن الطريق المستقيم، إذا كان ما عليه الآباء والأجداد مخالفاً للاستقامة، إضافة إلى أنه يضعف من الإنتماء للرابطة الإسلامية الوحيدة وهي الأخوة في الله .
_ …الإيجاز في الموعظة فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضاً، فيضيع المقصود، ويغلب على السامع الأعجاب ببلاغة المتكلم إن كان بليغاً عن استيعاب ما يقول والاستفادة من مواعظه، وإن لم يكن بليغاً فإن الملل يأخذ بالسامع فلا يعي ما يقول المتكلم.(1/39)
_…إذا أصلح المسئول نفسه وتفقد عيوبه وجعل من نفسه نموذجاً صالحاً للقدوة الحسنة فإن ذلك يكون سبباً في صلاح من هم تحت رعايته .
_…الإهتمام بإقامة الصلاة كاملة مظهراً ومخْبراً مَظْهَراً من ناحية إكمال أقوالها وأفعالها، ومَخْبَراً من ناحية الخشوع فيها وحضور القلب مع الله تعالى، فإن هذه الصلاة الكاملة يقام بها ذكر الله في الأرض، وتهذّب السلوك، وتقوِّي القلوب، وتبعث على ارتياح النفوس، وتعتبر ملاذاً للمسلم عند الشدائد.
_…إكرام رسل العدو إذا قدموا مع الاحتراس منهم، وعدم تمكينهم من معرفة واقع الجيش الإسلامي، فإكرامهم نوع من الدعوة إلى الإسلام فيما إذا عرف العالم ما يتحلى به المسلمون من مكارم الأخلاق، ولكن لا يصل هذا الإكرام إلى حد إطلاعهم على بطانة أمور المسلمين، بل ينبغي إطلاعهم على قوة جيش المسلمين ليُرهبوا بذلك أقوامهم87.
_…الاحتفاظ بالأسرار، وعدم التهاون بإفشائها، خاصة فيما يتعلق بأمور المسلمين العامة، فإن الحكيم يستطيع التعرف في الأمور وإن تغيرت وجوهها ما دام سرُّه حبيساً في ضميره، فإذا أفشاه اختلطت عليه الأمور ولم يستطع التحكم فيها.
_…إتقان المشورة أهم من النظر في نتائجها فإن المستشار وإن كان حصيف الرأي ثاقب الفكر، فإنه لا يستطيع أن يفيد من استشاره حتى ينكشف له أمره بغاية الوضوح، فإذا أخفى المستشير بعض تفاصيل القضية فإنه يكون قد جنى على نفسه، حيث قد يتضرر بهذه المشورة.
_…أن على القائد وكل مسئول أن يكون مخالطاً لمن ولي أمرهم على مختلف طبقاتهم ليكون دقيق الخبرة بأمورهم، وفي هذا أكبر العون له على تصور مشكلاتهم والمبادرة بإيجاد الحلول لها، أما المسئول الذي يعيش في عزلة ولا يختلط إلا بأفراد من كبار رعيته، فإنه لا يصل إليه من المعلومات إلا ما كان من طريق هؤلاء، وقد لا يكشفون له الأمور بكل تفصيلاتها، فقد يحللون له الأمور على غير وجهها الصحيح.(1/40)
_…الاهتمام بأمر حراسة المسلمين خاصة من مكامن الخطر، واختبار الحرّاس الأمناء من ذوي النباهة وعدم وضع الثقة الكاملة بهم، بل لا بدَّ من الرقابة عليهم حتى يؤتى المسلمون من قبلهم.
_…أن يسلك المسئول في عقاب المخالف مسلكاً وسطاً، فلا يتهاون فيترك عقوبة المستحق، فإن ذلك يجرِّئه على مزيد من المخالفة، ويجريْ غيره على ارتكاب المخالفات، فتسود الفوضى وينفلت الأمر، ولا يشتد في العقوبة فينفِّر الرعية، ويدفعهم إلى التسخط والتحزب، بل تكون عقوبته بحكمة واتزان بعد النظر والتروي بحيث تؤدي غرضها التربوي بدون إثارة ضجة، ولا دفع إلى النقد والتسخط88.
_…أن يكون لدى المسئول يقظة وإنتباه لكل ما يجري في حدود المسئولية المناطة به حتى يشعر أفراد الرعية بأن هناك إهتماماً بأمورهم فيزيد المحسن إحساناً ويقتصر المسيء عن الإساءة، ولكن بدون تجسس عليهم، فإن ذلك يعتبر فضيحة لهم، وقد ينقطع بذلك خيط العلاقة الذي يربط المسئول بأفراد رعيته، من المودة والإعجاب والشكر على الجميل، وهذا الخيط ما دام قائماً فإنه يمنع أصحاب الجنوح من إرتكاب المخالفات التي تفسد المجتمع وتحدث الفوضى، فإذا انقطع ولم يكن هناك عاصم من تقوى الله تعالى فإن أهم الحواجز التي تحول دون الإنطلاق وراء الشهوات تكون قد تحطمت، ويصعب بعد ذلك علاج الأمور لأنها تحتاج إلى قوة رادعة وهذه لها سلبياتها المعروفة.
_…أن يحرص المسئول على مجالسة أهل الصدق والوفاء والعقول الراجحة وإن سمع منهم ما يكره أحياناً من النقد والتوجيه، فإن ذلك يعود عليه وعلى من استرعاه الله أمرهم بالنفع، وأن لا يجالس أصحاب اللهو والأهداف الدنيوية فإن هؤلاء وإن أنس بكلامهم وثنائهم فإنهم يحولون بينه وبين التفكير في الأمور الجادة، فلا يستفيق بعد ذلك إلا والنكبات قد حلت به وبمن ولي أمورهم.(1/41)
_…أن يصدق القائد في لقاء الأعداء وأن لا يجبن، فإن جُبنه يسري على جنده فيقع بذلك الفشل والهزيمة، وفي غير الحرب أن يكون المسئول شجاعاً في مواجهة المواقف، وأن لا يضعف فيسري ضعفه على من هم تحت إدارته من العاملين ، فيقل بذلك مستوى الأداء ويضعف الإنتاج.
_…أن يتجنب القائد الغلول، وهو الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها هذا في مجال الحرب، وفي مجالات السلم أن يتجنب المسئول أية استفادة دنيوية من علمه لا تحل له شرعاً، مثل أخذ الهدايا التي يقصد لها دفعها الاستفادة من المسئول في مجانبة الحق، فإن ذلك من الغلول، والغلول كما جاء في هذه الوصية يقرب إلى الفقر، ويدفع النصر.(1/42)
_…ومن هذه الفوائد تبين لنا عظمة الوصية التي أوصى بها أبو بكر رضي الله عنه أحد قواده، وهي تبين لنا أنه كان يعيش بفكره مع قضايا المسلمين وأنه كان يتصور ما قد يواجهه قواده فيحاول تزويدهم بما ينفعهم في تلافي الوقوع في المشكلات، وحلها إذا وقعت، وهذه الوصية وأمثالها تسجِّل إضافة جديدة لمواقف أبي بكر المتعددة89، وجاء في رواية أن أبا بكر رضي الله عنه لم ينس اللمسات الإنسانية في وصيته لجيش يزيد حيث وصاه بدستور المسلمين للحرب المكون من عشرة نقاط تجسد إنسانية الحضارة الإسلامية وروحها المفعمة بالرحمة، والشفقة، وقد جاءت هذه الوصية على شكل مقتبس من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال: أيها الناس: قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني : لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تفسدوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً ولا شيخاً كبيراً، ولا إمرأة، ولا تقعروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة، ولا بعيراً إلا لأكله، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له.. اندفعوا باسم الله90. وقد استفاد منها يزيد بن أبي سفيان غاية الاستفادة، ولما فتح الشام، في عهد عمر ولّى الفاروق يزيد فلسطين وناحيتها، ثم لما مات أبو عبيدة استخلف معاذ بن جبل، فلما مات معاذ بن جبل استخلف يزيد بن أبي سفيان، ثم مات يزيد فاستخلف أخاه معاوية، وكان موت هؤلاء كلهم في طاعون عمواس سنة ثمان عشرة: وقيل: مات يزيد سنة تسع عشرة بعد فتح قيسارية، وقيل: بل مات قبل فتح قيسارية وإنما افتتحها معاوية91. وقال أبو إسماعيل محمد بن عبد الله البصري: جزع عمر على يزيد جزعاً شديداً، وكتب إلى معاوية بولايته على الشام92 .
2 ـ عتبة بن أبي سفيان :(1/43)
يكنى أبا الوليد، ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاه عمر بن الخطاب الطائف وصدقاتهم، ثم ولاه معاوية مصر حين مات عمرو بن العاص، وحكى عنه أنه اعترضه إعرابي وهو على مكة فقال: أيها الخليفة. قال: لست به ولم تبعد. قال: فيا أخاه. قال: أَسْمَعْتَ فقل: قال: شيخ من بني عامر يتقرب إليك بالعمومة، ويختص بالخؤولة93، ويشكو إليك كثرة العيال، ووطأة الزمان، وشدة فقر، وترادف ضُرّ، وعندك ما يسعه ويصرف عنه بؤسه، استغفر الله منك، واستعينه عليك. قال: قد أمرنا لك بغناك، فليت إسراعنا إليك يقوم بإبطائنا عنك94، وكان خطيباً فصيحاً، يقال: إنه لم يكن في بني أمية أخطب منه95، وأقام بمصر والياً سنة ثم توفي بها، ودفن في مقبرتها سنة أربع وأربعين وقيل سنة ثلاث وأربعين96.
3 ـ عنبسة بن أبي سفيان :
يكنّى أبا عثمان، روي عن أبي أمامة قال: لما حضر عنبسة بن أبي سفيان الموت اشتد جزعه وجاءه الناس يعودونه فجعل عنبسة يبكي ويجزع، فقال له القوم: يا أبا عثمان ما يبكيك وما يحزنك وقد كنت على سمت من الإسلام حسن وطريقة إن شاء الله حسنة!؟ فإزداد حزناً وشدة بكا وقال: ما يمنعني ألاّ أبكي وأن لا يشتد حزني من هول المطلع، وما يدريني ما أُشرفُ عليه غداً، وما قدمت من كبير عمل تثق به نفسي97 .
4 ـ أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها :(1/44)
هي رملة بنت أبي سفيان زوج النبي صلى الله عليه وسلم تكنى أم حبيبة وهي بها أشهر من أسمها وأمها صفية بنت أبي العاص بن أمية ولدت رضي الله عنها قبل البعثة بسبعة عشر عاماً وكانت قبل النبي صلى الله عليه وسلم عند عبيد الله بن جحش بن رباب بن يعمر الأسدي من بني أسد بن خزيمة، فأسلما ثم هاجرا إلى الحبشة فولدت حبيبة وبها كانت تكنى، وقد ارتد زوجها عبيد الله بن جحش عن الإسلام ودخل في النصرانية فهلك وهو على تلك الحالة وتمسكت بدينها وذلك من فضل الله عليها ليتم لها الإسلام والهجرة فأبدلها الله عز وجل به خير البشر عليها وأفضلهم سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهي أقرب أزواجه نسباً إليه وأكثرهن صداقاً رضي الله عنها وأرضاها98. قال الذهبي عنها: وهي من بنات عم الرسول صلى الله عليه وسلم وليس في أزواجه من هي أكرم نسباً إليه منها ولا في نسائه من هي أكثر صداقاً منها ولا من تزوج بها وهي نائية الدار أبعد منها، عقد له صلى الله عليه وسلم عليها بالحبشة وأصدقها عنه صاحب الحبشة أربع مائة دينار، وجهزها بأشياء99. وقد ورد لها بعض المناقب التي تدل على علو مكانتها وعظيم شأنها رضي الله عنها وأرضاها ومن تلك المناقب:(1/45)
أ ـ …أنها كانت ممن هاجر في الله الهجرة الثانية إلى الحبشة فارة بدينها رضي الله عنها، فقد روى الحاكم بإسناده إلى إسماعيل بن عمرو بن سعيد بن العاص قال: قالت أم حبيبة رأيت في النوم عبيد الله بن جحش زوجي بأسوأ صورة وأشوهه ففزعت فقلت تغيرت والله حاله، فإذا هو يقول حيث أصبح: يا أم حبيبة إني نظرت في الدين فلم أر ديناً خيراً من النصرانية وكنت قد دنت بها، ثم دخلت في دين محمد، ثم قد رجعت إلى النصرانية فقلت: والله ما خير لك وأخبرته بالرؤيا التي رأيت له فلم يحفل بها وأكب على الخمر حتى مات فأرى في النوم كأن آتياً يقول لي: يا أم المؤمنين ففزعت وأولتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوجني قالت: فما هو إلا أن انقضت عدتي فما شعرت إلا برسول النجاشي على بابي يستأذن فإذا جارية له يقال لها: أبرهة كانت تقوم على ثيابه ودهنه فدخلت عليَّ فقالت: إن الملك يقول لك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليَّ أن أزوجكه فقالت: بشرك الله بخير قالت: يقول لك الملك وكِّلي من يزوجك فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص فوكلته100.. ففي هذا الحديث فضيلة ظاهرة ومنقبة عالية لأم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها وهي أنها كانت ممن شرف بالهجرة إلى أرض الحبشة وثبتت على إسلامها وهجرتها101 .(1/46)
ب ـ ومن ماقبها أنها أكرمت فراش رسول الله من أن يجلس عليه أبوها، لما قدم المدينة لعقد الهدنة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين قريش ومنعته من الجلوس عليه لأنه كان يومئذ على الشرك ولم يكن قد أسلم102، فقد روى ابن سعد بإسناده إلى محمد بن مسلم الزهري قال: لما قدم أبو سفيان بن حرب المدينة جاء إلى رسول الله وهو يريد غزو مكة، فكلمه أن يزيد في هدنة الحديبية قلم يقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش النبي صلى الله عليه وسلم طوته دونه فقال: يا بنية أرغبت بهذا الفراش عني أم بي عنه، فقالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت إمرؤ نجس مشرك فقال: يا بنية أصابك بعدي شر103 .
ج ـ ومن مناقبها ما رواه ابن سعد والحاكم عن عوف بن الحارث قال: سمعت عائشة تقول: دعتني أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عند موتها فقالت: قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك فقالت: غفر الله لك ذلك كله وتجاوز وحللك من ذلك فقالت: سررتيني سرك الله، وأرسلت إلى أم سلمة فقالت لها مثل ذلك، وتوفيت سنة أربع وأربعين في خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما104 .
5 ـ أم الحكم بنت لأبي سفيان رضي الله عنهما :
هي أم عبد الرحمن بن أم الحكم، كانت من مسلمة الفتحة ، كانت حين نزول قوله تعالى : ((وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ)) (الممتحنة : آية 10) تحت عياض بن غنم الفهري، ففارقها حينئذ، فتزوجها عبد الله بن عثمان الثقفي105 .
6 ـ عزة بنت أبي سفيان ـ رضي الله عنهما :(1/47)
ذكرها ابن شهاب في حديث أم حبيبة في الرضاع، أخرج مسلم حديثها وهو ما يروي عن أم حبيبة أنها قالت: يا رسول الله هل لك في أختي؟ قال: ما أصنع بها؟ قالت: تنكحها، قال: أتحبين ذلك؟ قالت: نعم لست بمخلية لك وأحبّ من شركني في خير أختي106، وبين لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذلك لا يحل له107 إذ لا يجوز في الإسلام الجمع بين الأختين108. هذا وقد عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم حبيبة بنت أبي سفيان سنة ست للهجرة109 وكان عمرها 33 سنة يوم عقد عليها رسول الله، وقال الذهبي: فكان لها يوم قدم بها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية إلى المدينة بضع وثلاثون سنة110، وقد توفيت سنة 44هـ111.
7 ـ أميمة بنت أبي سفيان :
ولدت أبا سفيان بن حويطب بن عبد العُزّى وجويرية وذكرها ابن قدامة في التبيين في أنساب القرشيين باقتضاب112.
خامساً : زوجات معاوية رضي الله عنه وأولاده :
1 ـ من نساء معاوية رضي الله عنه ميسون بنت بحدل الكلبي ، ولدت له يزيد بن معاوية، وأمة رب المشارق فماتت صغيرة113، وكان معاوية رضي الله عنه يجل ميسون بنت بحدل ويحترمها إلا أنها كانت تحن إلى مرتع طفولتها في البادية، وتكثر ذكر أهلها وحياتهم البسيطة وصوف عيشتهم، وبعدهم عما يكدرهم، وتزهد في حياة القصور، بما فيها من الخدم والوصيفات، وذات يوم تذكرت باديتها وحنت إلى أترابها وأناسها، وتذكرت مسقط رأسها فبكت وتنهّدت فقالت لها بعض حظاياها: ما يبكيك وأنت في مُلْكٍ يضاهي ملك بلقيس؟ فتنفست الصعداء ثم أنشدت :
لبيت تخفق الأرواح فيه
………أحبّ إليَّ من قصر منيف
وبكر114 يتبع الأظعان سبقاً
………أحبّ إليَّ من بَغْلِ زفوف115
وكلب ينبح الطّراق عني
………أحبّ إليَّ من قطٍ أليف
ولبسُ عباءةٍ وتقرّ عيني
………أحبّ إليَّ من لبس الشفوف116
وأكل كُسيرة في كِسْر بيتي
………أحبّ إليَّ من أكل الرّغيف117
وأصوات الرّياح بكلِّ فجٍّ
………أحبّ إليَّ من نقر الدفوف
وخِرْق من بني عمي نحيف(1/48)
………أحبّ إليَّ من عِلْج كليف118
خشونة عيشي في البدو أشهى
………إلى نفسي من العيش الطّريفِ
فما أبغي سوى وطني بديلاً
………فحسبي ذاك من وطن شريف
فلما دخل معاوية عرَّفَته الحظيّة بما قالت: وقيل: إنه سمعها وهي تنشد ذلك فقال: ما رضيت ابنة بحدل حتى جعلتني عِلجاً علوفاً، هي طالق، مُرُوها فلتأخذ جميع ما في القصر فهو لها، ثمَّ سيرها إلى أهلها بالبادية فأخذت معها ابنها يزيد فنشأ في البريّة فصيحاً119
ونقل البغدادي ـ رحمه الله ـ في خزنة الأدب، إن معاوية لما طلقها قال لها كنت فبْنت، فأجابته: ما سُررنا إذْ كُنَّا، ولا أسفنا إذْ بِنَّا120. والله درَّ القائل حيث أشار إلى هذا في قوله:
………وحبّبَ أوطان الرّجال إليهم
………………مآرب قضاها الشباب هنالك
………إذا ذكروا الأوطان ذكّرتهم
………………عهود الصِّبا فيها فحنّوا لذلكا121
2 ـ ومن زوجاته، فاخته ابنة قرَظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف، ولدت له عبد الرحمن وعبد الله ابني معاوية، وكان عبد الله محمّقاً ضعيفاً وكان يكنى أبا الخير، وأما عبد الرحمن122، فمات صغيراً.
3 ـ ومن زوجاته، كنود بنت قَرَظة وهي أخت فاخته تزوجها منفردة عنها بعدها، وهي التي كانت معه حيث افتتح قبرص123.
4 ـ وتزوج نائلة بنت عمارة الكلبية ثم طلقها124، ومن بناته رملة تزوجها عمرو بن عثمان بن عفان125، وهند بنت معاوية تزوجها عبد الله بن عامر126 وعائشة وعاتكة وصفية127.
سادساً : إسلام معاوية رضي الله عنه وشئ من فضائله :(1/49)
أسلم معاوية مع أبيه وأخيه يزيد رضي الله عنهم يوم الفتح128 هذا على المشهور، ولكن يروى عنه أنه قال: أسلمت يوم القضية ـ أي عمرة القضاء سنة 7 هـ ـ ولكن كتمت إسلامي من أبي، ثم علم بذلك، فقال لي: هذا أخوك يزيد وهو خير منك على دين قومه فقلت له: لم آل نفسي جهد، ولقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء وإني لمصدق به، ثم لما دخل عام الفتح أظهرت إسلامي، فجئته فرحب بي وكتبت بين يديه129، وشهد معاوية ـ رضي الله عنه ـ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً وأعطاه مائة من الأبل وأربعين أوقية من الذهب130 وقد ذكر العلماء لمعاوية رضي الله عنه فضائل كثيرة من هذه الفضائل:
1 ـ من القرآن الكريم:
…فقد اشترك معاوية رضي الله عنه في غزة حنين قال تعالى: ((ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ)) (التوبة ، الآية : 26). ومعاوية رضي الله عنه من الذين شهدوا غزوة حنين وكان من المؤمنين الذين أنزل الله سكينته عليهم مع النبي صلى الله عليه وسلم131، كما أنه ممن وعدهم الله الحسنى: قال تعالى: ((لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)) (الحديد ، الآية : 10). ومعاوية رضي الله عنه ممن وعدهم الله الحسنى، فإنه أنفق في حنين والطائف وقاتل فيهما132.
2 ـ من السنة:
أ ـ دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاوية رضي الله عنه، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: اللهم اجعله هادياً133، مهدياً134، واهد به135.
وقال صلى الله عليه وسلم: اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب136.(1/50)
ب ـ ما أخرجه مسلم من طريق عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت ألعب مع الصبيان فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتواريت خلف الباب، قال: فجاء فحطأني حطأةً وقال اذهب وادع لي معاوية، قال: فجئت فقلت: هو يأكل، قال: ثم قال لي: اذهب فادع لي معاوية، قال: فجئت فقلت: هو يأكل، فقال: لا أشبع الله بطنه137
قال النووي معلقاً على هذا الحديث. وقد فهم مسلم رحمه الله من هذا الحديث أن معاوية لم يكن مستحقاً للدعاء عليه، فلهذا أدخله في هذا الباب138، وجعله غيره من مناقب معاوية لأنه في الحقيقة دعاء له139، ولذلك قال ابن عساكر عن حديث لا أشبع الله بطنه: أصح ما روي في فضل معاوية.. وبعده حديث.. اللهم علمه الكتاب، وبعده حديث.. اللهم اجلعه هادياً مهدياً140. وعن الحديث نفسه قال الذهبي: قلت: لعل أن يقال، هذه منقبة لمعاوية لقوله صلى الله عليه وسلم: اللهم من لعنته أو سببته، فاجعل ذلك له زكاة ورحمة141. وقال الألباني: قد يستغل بعض الفرق هذا الحديث ليتخذوا منه مطعناً في معاوية رضي الله عنه، وليس فيه ما يساعدهم على ذلك، كيف وفيه أنه كان كاتب النبي صلى الله عليه وسلم142، وقيل في لا أشبع الله بطنه: أنها كلمة جرت على عادة العرب نحو قاتله الله ما أكرمه، ويل أمه وأبيه ما أجوده، مما لا يراد معناه143.(1/51)
جـ ـ ما أخرجه البخاري من طريق أنس بن مالك ، عن خالته أم حرام بنت ملحان قالت: نام النبي صلى الله عليه وسلم يوماً قريباً مني، ثم استيقظ يبتسم، فقلت: ما اضحكك؟ قال: أنس من أمتي عرضوا علي، يركبون هذا البحر الأخضر، كالملوك على الأسرة، قالت: فادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، ثم نام الثانية، ففعل مثلها، فقالت قولها، فأجباها مثلها، فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت من الأولين، فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازياً أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية144، فلما انصرفوا من غزوتهم قافلين، فقُرِّبت إليها دابة لتركبها فصرعتها فماتت145. قال ابن حجر معلقاً على رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوله:: ناس من أمتي عرضوا على غُزاة.. يشعر بأنه ضحكه كان إعجاباً بهم، وفرحاً لما رأى لهم من المنزلة الرفيعة146 .
د ـ ما أخرجه البخاري من طريق أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا147، قالت : يا رسول الله أنا فيهم؟ قال: أنت فيهم. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر148 مغفور لهم فقلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: لا149.
قال المهلب150 معلقاً على هذا الحديث: في هذا الحديث منقبة لمعاوية لأنه أول من غزا البحر151. وكان معاوية رضي الله عنه يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم152، وكذلك رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى زعماء القبائل153، وكتبة معاوية للوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتاح له لون من القرب الطبيعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الفترة التي أعقبت فتح مكة حتى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يستتبع بالضرورة التأثر بشخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، والأخذ المباشر منه154 .
سابعاً : رواية معاوية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/52)
يعد معاوية رضي الله عنه من الذين نالوا شرف الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرد ذلك إلى ملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة وكان عمره في فتح مكة حوالي ثماني عشرة سنة155، ولكونه صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاتبه فقد أتيحت له فرصة عظيمة مكنته من الاستفادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا وقد روى معاوية رضي الله عنه مائة وثلاثة وستين حديثاً156عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفق له البخاري ومسلم على أربعة أحاديث، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بخمسة157، ومن هذه الأحاديث التي رواها معاوية رضي الله عنه :
1 ـ دخل معاوية على عبد الله بن الزبير وابن عامر، فقام ابن عامر، ولم يقم ابن الزبير فقال معاوية: مَهْ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب أن يمثل له عباد الله قياماً، فليتبوَّأ مقعده من النار158.
2 ـ عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أراد الله بعبد خيراً فقهه في الدين159.
3 ـ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد، فقال: ما أجلسكم160، قالوا: جلسنا نذكر الله عزل وجل قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: الله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إنِّي لم استحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسبم أَقلَّ عنه حديثاً مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله عز وجل، ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنّ علينا بك، قال: آللهِ ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك. قال: أما إنيِّ لم استحلفكم تهمة لكم، وإنَّه أتاني جبريل عليه السلام فأخبرني أنّ الله عز وجل يباهي بكم الملائكة161.(1/53)
4 ـ عن معبد الجهني، قال: كان معاوية قلّما يُحدِّثُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، ويقول هؤلاء الكلمات قلَّما يدعهنَّ أو يحدِّثُ بهنَّ في الجمع، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإن هذا المال حُلوٌ خضرٌ فمن يأخذه بحقه يبارك له فيه، وإياكم والتمادح، فإنَّهُ الذبح162.
5 ـ عن عبد الرحمن بن عبد عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من شَرِب الخمر ، فاجلدوه، فإن عاد، فاجلدوه ، فإن عاد فاجلدوه فإن عاد الرّبعة، فاقتلوه163.
6 ـ عن عيسى بن طلحةقال سمعت معاوية يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن المؤذِّنين أطول الناس أعناقاً يوم القيامة164.
7 ـ عن مجاهد وعطاء عن ابن عباس أن معاوية أخبره: أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قصَّر من شعره بمشقص فقلنا لابن عباس: ما بلغنا هذا إلا عن معاوية، فقال: ما كان معاوية على رسول الله متهماً.
8 ـ عن الزهري قال حدثني حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنَّه سمع معاوية يخطب بالمدينة يقول:: يا أهل المدينة، أين علماؤكم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هذا يوم عاشوراء ولم يفرض علينا صيامه، فمن شاء منكم أن يصوم فليصم فإني صائم، فصام النَّاس165 بداية.
9 ـ عن الحَكَم بنِ ميناء أن يزيد بن جارية الأنصاري أخبره أنه كان جالساً في نفر من الأنصار، فخرج عليهم معاوية، فسألهم عن حديثهم، فقالوا: كُنَّا في حديث من حديث الأنصار فقال معاوية: ألا أَزِيدكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحبَّ الأنصار أحبَّهُ الله عز وجل، ومن أبغض الأنصار، أبغضه الله عز وجل166.
10 ـ عن أبي صالح عن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية167.(1/54)
11 ـ قال محمد بن كعب القُرَظي، سمعت معاوية يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا انصرف من الصَّلاة: اللَّهم لا مانع لما أعطيت ولا مُعطي لما منعت ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجَدُّ168.
12 ـ عن أبي بردة عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلا كفَّر الله عنه به من سيِّئاته169.
13 ـ وعن معاوية رضي الله عنه قال: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقِّ لا يرضهم من خالفهم حتي يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس170.
14 ـ وعن معاوية بن أبي سفيان أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من نسي شيئاً من صلاته فليسجد سجدتين وهو جالس171 .
15 ـ وعن معاوية بن أبي سفيان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كذب عليَّ متعمِّداً فليتبوأ مقعده من النار172.
16 ـ وعن عمير بن هانيء قال سمعت معاوية بن أبي سفيان على هذا المنبر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لاتزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله عز وجل وهم ظاهرون على الناس. فقام مالك بن يخامر السكسكيُّ فقال: يا أمير المؤمنين سمعت معاذ بن جبل يقول: وهم أهل الشام، فقال معاوية ورفع صوته: هذا مالك يزعم أنه سمع معاذاً يقول: وهم أهل الشام173.
17 ـ حدّثنا روح، قال: حدّثنا أبو أميّة عمرو بن يحي بن سعيد قال: سمعت جدِّي يُحَدِّث أن معاوية أخذ الإِداوة بعد أبي هريرة يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بها واشتكى أبو هريرة فبينما هو يوضيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع رأسه إليه مرة أو مرتين وهو يتوضأ، فقال: يا معاوية إن وليت أمراً فاتق الله عز وجل واعدل، قال: فما زلت أني مُبتلىً بعملٍ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى ابتُليتُ174.(1/55)
18 ـ وعن أبي عامر عبد الله بن لُحَيِّ، قال: حججنا مع معاوية بن أبي سفيان، فلمَّا قدمنا مكة قان حين صَلَّى صلاة الظهر، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأُمَّة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة، ـ يعني الأهواء ـ كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، وإنه سيخرج في أمتي أقوام تَجَارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقي منه عرق ولا مفصل إلا دخله. والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم، لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به175
ثامناً : من الأحاديث الباطلة التي لا تصح في شأن معاوية مدحاً وذماً :
1 ـ من الأحاديث الباطلة التي لا تصح في مدح معاوية :
وقد ساق ابن عساكر في ترجمته لمعاوية أحاديث واهية وباطلة طوّل بها جداً ، فمن الأباطيل المختلفة176
أ ـ عن واثلة مرفوعاً: كاد معاويةأن يبعث نبياً من حلمه وائتمانه على كلام ربي177 .
ب ـ وعن أبي موسى: نزل عليه الوحي، فلما سُرِّي عنه، طلب معاوية، فلما كتبها ـ يعني آية الكرسي . قال: غفر الله لك يا معاوية ما تقدم إلى يوم القيامة178 .
ت ـ وعن أنس: هبط جبريل بقلم من ذهب، فقال يا محمد: إن العليَّ الأعلى يقول: قد أهديت هذا القلم من فوق عرشي إلى معاوية، فمره أن يكتب آية الكرسي به ويشكله ويعجمه، فذكر خبراً طويلاً179 .
ث ـ وعن ابن عباس، قال: لما أنزلت آية الكرسي، دعا معاوية فلم يجد قلماً، وذلك أن الله أمر جبريل أن يأخذ الأقلام من دواته، فقام ليجيء بقلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خذ القلم من أذنك، فإذا قلم ذهب مكتوب عليه لا إله إلا الله، هدية من الله إلى أمينه معاوية .
ج ـ وعن حذيفة مرفوعاً: يبعث معاوية وعليه رداء من نور الإيمان180.(1/56)
ح ـ وعن أنس مرفوعاً: لا أفتقد أحداً غير معاوية، لا أراه سبعين عاماً، فإذا كان بعد أقبل على ناقة من المسك، فأقول: أين كنت؟ فيقول في روضة تحت العرش .
س ـ وعن ابن عمر مرفوعاً: يا معاوية، أنت مني وأنا منك، لتزاحمنِّي على باب الجنة181
…قال الذهبي بعد ذكر هذه الأحاديث وغيرها: فهذه الأحاديث ظاهرة الوضع والله أعلم182. وقد ذكر أكثر هذه الأحاديث الشوكاني في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة183، وقال ابن كثير بعد أن ذكر حديثاً منها وقد أورد ابن عساكر بعد هذا أحاديث كثيرة موضوعة184، والعجب منه مع حفظه واطلاعه كيف لا ينبِّهُ عليها وعلى نكارتها وضعف حالها185.
2 ـ من الأحاديث الباطلة في ذم معاوية:
قال ابن الجوزي: قد تعصب قوم ممن يدعي السنة فوضعوا في فضله أحاديث ليغضبوا الرافضة وتعصب قوم من الرافضة فوضعوا في ذمه أحاديث، وكلا الفريقين على الخطأ القبيح186 ومن الأحاديث الواهية في ذمه:(1/57)
أ ـ …الحديث المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطلع عليكم رجل يموت على غير سنتي فطلع معاوية. وقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً، فأخذ معاوية بيد ابنه يزيد وخرج ولم يسمع الخطبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لعن الله القائد والمقود، أي يوم يكون للأمة مع معاوية ذي الإساءة وهذا الحديث لا يصح وهو كذب على رسول الله، وهو من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث التي يرجع إليها في معرفة الحديث، ولا له إسناد معروف187، ثم من المعلوم من سيرة معاوية أنه كان من أحلم الناس، وأصبرهم على من يؤذيه، وأعظم الناس تأليفاً لمن يعاديه، فكيف ينفر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه أعظم الناس مرتبة في الدين والدنيا، وهو محتاج إليه في كل أموره؟ فكيف لا يصبر على سماع كلامه وهو بعد المُلك يسمع كلام من يسبّه قي وجهه، فلماذا لا يسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم؟ وكيف يتخذ النبي صلى الله عليه وسلم كاتباً من هذه حالة188.
3 ـ دور بني أمية في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:(1/58)
…رغم إسلام الكثير من رجال بني أمية منذ بداية الدعو، وتضحياتهم وهجرتهم إلى الحبشة، ورغم إسلام جميع بني أمية عند فتح مكة، وترحيب الرسول بهم وفرحه بإسلامهم، والاعتماد عليهم في جلائل الأعمال وقد أفسح لهم مكاناً في دولته لتستفيد بجهودهم ومقدرتهم، فقد أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم لآبي سفيان ميزة لم يعطها أحد من أهل مكة، حين قال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن189، وهذا شرف كبير حازه أبو سفيان يدل على تقدير الرسول للزعماء وأصحاب الكلمة في قومهم، واستعمل الرسول صلى الله عليه وسلم أبا سفيان على نجران، واتخذ ابنه معاوية كاتباً له190. روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس، أن أبا سفيان طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمره حتى يقاتل الكفار كما كان يقاتل المسلمين، وأن يجعل معاوية كاتباً بين يديه، فاستجاب له النبي صلى الله عليه وسلم191، وكان أول وال على مكة ـ وهي أشرف بلاد الله ـ بعد فتحها رجلاً من بني أمية، هو عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس ، يروى ابن إسحاق عن زيد بن أسلم أنه قال:: لما استعمل النبي صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة رزقه كل يوم درهماً: فقال أيها الناس: أجاع الله كبد من جاع على درهم فقد رزقني رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم درهماً فليست بي حاجة إلى أحد192، كما استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية على قرى خيبر ووادي القرى وتيماء وتبوك، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرو عليها193، كما استعمل الحكم بن سعيد بن العاص على سوق مكة194، واستعمل خالد بن سعيد بن العاص على صنعاء195، واستعمل أبان بن سعيد بن العاص على البحرين، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عليها196، كما كان أبان وخالد إبنا سعيد بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان إضافة إلى عثمان بن عفان رضي الله عنهم ـ من كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم197. وخلاصة القول: فقد قبض(1/59)
رسول الله صلى الله عليه وسلم ومُعظم رجالات بني أمية على مختلف الأعمال، من الولاية والكتابة، وجباية الأموال، ولا نعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمال الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر منهم198، واستعمال النبي صلى الله عليه وسلم لأكثر رجال بني أمية، أكبر دليل على كفاءتهم وأمانتهم199. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: اذهبوا فأنتم الطلقاء200، فهذه الكلمات، جعل بعض الناس منها سبة في جبين بني أمية وحدهم، وجعلوا يعيرونهم بأنهم الطلقاء وأبناء الطلقاء، ولم يفهموا أن هؤلاء الطلقاء وأبناءهم قد أسلموا وحسن إسلامهم، وكانت لهم مواقف مشهودة في نصرة الإسلام في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعده في الفتوحات في عهد خلفائه الراشدين201، ونحب أن نشير إلى عدة نقاط متعلقة بوصف الطلقاء منها:
1 ـ إن هذا الاتهام وليد عصر الخصومة الحزبية الحادة، لما تفجرت الأحقاد ضد بني أمية في أواخر عهد عثمان رضي الله عنه وبعد بروز نجم معاوية بن أبي سفيان وخلافه مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حيث أصبح ذلك الوصف يعني عندهم أنهم قوم ضعاف الإيمان، دخلوا الإسلام رغبة في غنائمه، أو رهبة من القتل، ليكيدوا لأهله ويفيدوا أنفسهم.(1/60)
2 ـ أن أبا سفيان بن حرب وابنه معاوية ليسا من الطلقاء بالمعنى الدقيق السابق لهذه الكلمة فقد أسلم أبو سفيان قبيل فتح مكة والرسول وجيشه بمر الظهران خارجها، وقد جاء فور إسلامه يدعو قومه إلى المسالمة والفتح، أما معاوية ابنه فقد أكدت بعض الروايات أنه أسلم قبل الفتح أيضاً، غير أنه كان يخفي إسلامه، ـ شأن بعض الناس آنذاك ـ لمكانته من أبيه الذي كان يقود القتال ضد المسلمين، فقد روى أنه أسلم سراً يوم عمرة القضاء، أو عام الحديبية202، وإنما وضعهم المؤرخون في زمرة هؤلاء الطلقاء لقرب وقت إسلام أبي سفيان من الفتح، ولأنه كان زعيم مكة الذي ارتبط إسلامه بإسلامها، كما أن معاوية كان إسلامه سراً لم يشع، ولم يعرف إسلامه إلا مع الطلقاء بعد فتح مكة.
3 ـ إن وصف الطلقاء لا يقتضي الذم، فإن الطلقاء هم مسلمة الفتح الذين أسلموا عام فتح مكة وأطلقهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانوا نحو من ألفي رجل، ومنهم من صار من خيار المسلمين كالحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل، ويزيد بن أبي سفيان وحكيم بن حزام، وأبي سفيان بن الحارث، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يهجوه ثم حسن إسلامه، وعتاب بن أسيد الذي ولاه النبي مكة لما فتحها، وغير هؤلاء ممن حسن إسلامهم.
4 ـ إن النظرة الإسلامية في هذا الشأن أن الإسلام يجب ما قبله، ويفسح المجال للإفادة من جميع الطاقات والقدرات ويدفع بها نحو تحقيق غاياته الكبرى، وينزل الناس منازلهم، وأن خيار الناس في الإسلام خيارهم في الجاهلية إذا فقهوا، ولم يمنع تأخر إسلام خالد وعمرو بن العاص من تبوئهما المكانة العالية عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل عمراً أميراً على ذات السلاسل، وسمّى خالداً سيف الله.. هذا مع حفظ المكانة الأسمى والمنزلة العظمى للسابقين الصادقين في الإسلام، ومن هؤلاء السابقين كان جماعة من بني أمية وغيرهم، كما كان من الطلقاء بني أمية وغيرهم203.(1/61)
المبحث الثاني : الأمويون ومعاوية في عهد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم:
أولاً : في خلافة أبي بكر رضي الله عنه :
واجه المسلمون بعد موت نبيهم صلى الله عليه وسلم ظروف عصيبة وأجمع المسلمون على بيعة أبي بكر خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام بجهود عظيمة في مواجهة الأخطار، فحارب المرتدين حتى ردهم إلى الإسلام والجماعة وبدأ حركة الفتوح في بلاد الفرس والروم، وكان أول كتاب كتبه أبو بكر بشأن حروب الردة إلى عامله الأموي على مكة عتاب بن أسيد حيث كتب إليه بركوب من ارتد من أهل عمله بمن ثبت على الإسلام، فواجههم عتاب في تهامة حتى ظفر بهم204، ثم جهز من أهل مكة وأعمالها خمسمائة رجل وأمر عليهم أخاه خالد بن أسيد، فاشتركوا في قتال المرتدين باليمن205، وإعادة أهل حضرموت وكندة إلى حظيرة الإسلام206، وفي حروب المسلمين ضد مسيلمة الكذاب كان قائد الجيش خالد بن الوليد الذي جعل على قيادة المهاجرين في جيشه أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ومعه زيد بن الخطاب207 فقاتل أبو حذيفة قتالاً مجيداً، ولما انكشف المسلمون في أول القتال كان أبو حذيفة يهتف فيهم: يا أهل القرآن، زينوا القرآن بالفعال، وقاتل حتى قتل رضي الله عنه208، وحمل راية المهاجرين يومذاك مولاه سالم وقاتل بها حتى قتل أيضاً209، وشهد حروب اليمامة ضد مسيلمة معاوية رضي الله عنه210، كما استشهد من حلفاء بني أمية عكاشة بن محصن الأسدي في قتال طليحة الأسدي211، وساهم العلاء الحضرمي حليفهم أيضاً في أخماد الردة في البحرين، ففعل وظفر بهم بعد بلاء حسن وآيات عجيبة212، وكان من الطبيعي بعد انتهلء حروب الردة وعودة المرتدين إلى حظيرة الدين وانصياعهم للحكومة الراشدة، أن تطمح الأبصار إلى تخليص الشعوب المستعبدة من حكوماتها الظالمة ودعوتها إلى الإسلام، وبدأ ما عرف في التاريخ بحركة الفتوح الكبرى على جبهتي فارس والروم.. وقد كان لبني أمية دور بارز في هذه الحروب(1/62)
مما يؤكد عمق التزامهم الإسلامي وحيوية دورهم التاريخي في هذه الفترة، غير أننا نشير في البداية إلى وضوح سمتين ظاهرتين صاحبتا حركة الفتوح213:
الأولى: هي تعاظم دور مسلمة الفتح وطلقاء مكة في الفتوح ـ ومنهم بعض بني أمية ـ وقد كان ذلك متوقعاً لسببين، الأول هو ما قرره أبو بكر من ضرورة عدم الاستعانة بمن ارتد عن الإسلام ثم عاد إليه في الفتح214. وقد كان هذا يعود إلى حرص أبي بكر الصديق رضي الله عنه على نقاء هذه الفتوحات من آثار رقة الدين أو شهوات هذه النفوس التي لم تخلص بعد للإسلام، أو لم تبرهن على إخلاصها له.
والثاني : يعود إلى حرص هؤلاء السادة والأشراف على تعويض ما فاتهم من خدمة قضية الإسلام وأن يلحقوا بإخوانهم الذين سبقوهم إلى الإسلام فسادوا بذلك وعلت أقدارهم215.(1/63)
والسمة الظاهرة الثانية : هي تركز نشاط الأمويين في الفتوح على جبهة الشام يشاركهم في ذلك كثير من الفاتحين من أهل مكة عموماً، ويبدو أن ذلك كان أمراً مقصوداً من الخليفة الصديق الذي أدرك وجود صلات عميقة الجذور بين بني أمية والمكيين والقبائل العربية المقيمة ببلاد الشام تحت الحكم البيزنطي، تلك الصلات التي تعمقت من خلال النشاط التجاري المتواصل بين مكة والشام في الجاهلية والذي كان بنو أمية أبرز قواده ورواده216، وأما عن مشاركة الأمويين في حروب الفتح، فقد جاءت مبكرة، حيث شارك الوليد بن عقبة بن أبي معيط مع خالد بن الوليد في فتوح العراق الأولى، وشهد معه قتل هرمز، وأرسله خالد إلى أبي بكر بالغنائم وبشارة الفتح وأخباره عن جمع جديد من الفرس217، ثم وجهه الخليفة مدداً إلى عياض بن غنم الذي كان قد أمره بفتح العراق من جهة الشمال، وكان يحاصر دومة الجدل فيجد العنت والمشقة في فتحها، فأشار عليه الوليد باستمداد خالد بن الوليد، فاستمده، فأنجده، وفتحوا معاً دومة الجندل218، ثم ولاه أبو بكر على النصف من صدقات قضاعة مما يلي دومة الجندل219، ولكن الخليفة ما لبث أن كتب إليه يعرض عليه الجهاد في سبيل الله، ويخبره بينه وبين أن يظل على عمله الذي ولاه إياه فأجابه بإيثار الجهاد، فوجه به إلى الشام220، وكان أول لواء عقده أبو بكر في حروب الشام لخالد بن سعيد بن العاص الأموي ثم عزله وولى بدله يزيد بن أبي سفيان بن حرب الأموي أيضاً221، وأما جيش يزيد بن أبي سفيان، فكان أول جيش كبير يوجهه أبو بكر إلى الشام ويودعه ماشياً222، ثم أتبعه بثلاثة جيوش أخرى يقودها عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة وأبو عبيدة بن الجراح223، يقول الذهبي عن يزيد بن أبي سفيان: وهو أحد الأمراء الأربعة الذين ندبهم أبو بكر لغزو الروم، عقد له أبو بكر، ومشى تحت ركابه يسايره ويودعه ويوصيه، وما ذلك إلا لشرفه، وكمال دينه224. ثم اتبع الصديق بأناس آخرين يرغبون في(1/64)
الجهاد والحقهم بجيش يزيد وجعل عليهم أميراً معاوية بن أبي سفيان225.. وخرج أبو سفيان بن حرب ـ وهو يومئذ شيخ كبير226، كما اشترك في الجهاد في الشام أيضاً خالد بن سعيد، وأبان بن سعيد، وعمرو بن سعيد، وقاتلوا جميعاً هناك وقتلوا، حتى قيل: ما فتحت بالشام كورة من كورها إلا وجد عندها رجل من بني سعيد بن العاص شهيداً227، وقيل معركة اليرموك عقد قادة الجيوش مؤتمراً للحرب في الجولان.. ومر بهم أبو سفيان بن حرب فقال: ما كنت أظن أن أبقى حتى أرى أغلمة من قريش يذكرون أمر حربهم ويتذاكرون ما يكيدون به عدوهم ـ في منزلي ـ ولا يحضروني فاشترك معهم في مشورتهم، فأفسحوا له، فأسهم معهم في رسم خطة القتال228. ولما أزفت ساعة الحرب في اليرموك عمد قادة الفريقين إلى إذكاء حماس الجنود، فبينما كان الروم يحضضهم القسيسون والرهبان، وينعون لهم النصرانية، حتى تشجعوا وخرجوا للقتال الذي لم يكن بعده قتال مثله229، كان المسلمون يتبادرون إلى لقاء الخطب البليغة والأرجاز المشيرة230، بل أنهم عينوا أحد كبار شيوخهم والمخضرمين من رجالهم في مهمة ((القاص)) وكان ذلك الرجل هو أبو سفيان بن حرب نفسه231، ولا شك أن توليه ذلك العمل المهم هو أكبر دليل على صدقه وإخلاصه في دينه وإسلامه، إذ إن قادة الجيش لو علموا فيه آنذاك غير هذا الإخلاص ما جعلوه أميناً على تعبئة حماس الجند وإثارة حميتهم الإسلامية، ولو علم الجنود منه غير ذلك الصدق ما كان لعمله فيه ذلك الأثر العظيم، وقد كان اختياراً موفقاً فعلاً يتسق مع طبيعة تكوين ذلك الجيش الذي يضم الكثير من أهل مكة وقبائل العرب الذين تأخر إسلامهم، والذين احتفظوا بثقتهم القديمة في أبي سفيان، زعيمهم الذي خبروه232، وكان أبو سفيان رضي الله عنه يقف على الكراديس233، فيقول: الله الله ، إنكم ذادة العرب وأنصار الإسلام وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك، اللهم إن هذا يوم من أيامك، اللهم أنزل النصر على عبادك234.(1/65)
ثانياً : في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
…عندما توفي الصديق عام 13هـ بويع الفاروق بالخلافة سار على نهج صاحبيه في استعمال بني أمية والثقة بهم، فلم يعزل أحد منهم من عمل، ولم يجد على أحد منهم مأخذاً والكل يعرف صرامة عمر، وتحريه أمر ولاته وعماله وتقصيه أعمالهم وأخبارهم، ومحاسبتهم بكل دقة وحزم، فاستمرارهم في عهده يدل على أمانتهم وكفايتهم، فقد بقي يزيد بن أبي سفيان والياً على دمشق، كما زاد عمر في عمل معاوية بالشام235.
1 ـ بدا نجم معاوية في الظهور :(1/66)
…بدا نجم معاوية رضي الله عنه في الظهور في ميدان العمل السياسي والإداري في عهد الخليفة عمر رضي الله عنه فقد ولاه فتح قيسارية236سنة خمس عشرة للهجرة237، وجاء في كتاب توليته له: أما بعد فقد وليتك قيسارية فسر إليها واستنصر الله عليهم، وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، الله ربنا وثقتنا ومولانا فنعم المولى ونعم النصير238، كانت هذه المهمة الجسيمة اختبار كبير من عمر لمعاوية في ميدان الواقع، فقد استطاع تجاوز هذا الاختبار بكل نجاح، فقد سار إلى قيسارية بجنوده الذين أعدهم له أخوه يزيد بن أبي سفيان ـ أحد ولاة الشام لعمر رضي الله عنه وكانت تلك المدينة محصنة وبأس أهلها شديد، فحاصرها معاوية طويلاً وزاحف أهلها مرات عديدة، فلم ييأس معاوية، فصمم على فتحها، واجتهد في القتال حتى فتح الله على يديه، وكان فتحه كبيراً فقد قتل من أهلها ما يقرب من مائة ألف239 وبعث بالفتح والأخماس على أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه240، وقد أثبت معاوية بعد توفيق الله ـ بهذا الفتح جدارته وحسن قيادته، فأكسبه ذلك ثقة الجميع، فأسند له أخوه يزيد ـ أمير دمشق ـ مهمة فتح سواحل الشام، وقد أبلى في ذلك بلاءً حسناً241، فكان يقيم على الحصن اليومين والأيام اليسيرة فربما قوتل قتالاً شديد، وربما رمى ففتحها، وكان المسلمون كلما فتحوا مدينة ظاهرة أو عند ساحل رتبوا فيها قدر ما يحتاج لها إليه من المسلمين فإن حدث في شيء منها حدث من قبل العدو سربوا إليها الإمداد242، ويرى الدكتور عبد الرحمن الشجاع أن مدن الشام تساقطت تحت ضربات المجاهدين الواحدة تلو الأخرى، لأن الروم كانوا من الهزيمة بمكان لا تجعلهم يفكرون في المقاومة فتساقطت مدن بيروت، وصيدا، ونابلس، واللد، وحلب، وأنطاكية، وكانت قيسارية آخر مدن الشام فتحاً على يد معاوية بن أبي سفيان، وكان ذلك بعد القدس243.(1/67)
…وكان عبادة بن الصامت على ميمنة جيش المسلمين في حصار قيسارية، فقام رضي الله عنه بوعظ جنده ودعاهم إلى تفقد أنفسهم والحيطة من المعاصي، ثم قاد هجوماً قتل فيه كثيراً من الروم، لكنه لم يتمكن من تحقيق هدفه، فعاد إلى موقعه الذي انطلق منه، فحرّض أصحابه على القتال، وأبدى لهم استغرابه الشديد لعدم تحقيق أهداف ذلك الهجوم فقال: يا أهل الإسلام، إني كنت من أحدث النقباء سنّاً ,ابعدهم أجلاً، وقد قضى الله أن أبقاني حتى قاتلت هذا العدو معكم.. والذي نفسي بيده ما حملت قط في جماعة من المؤمنين على جماعة من المشركين، إلا خلوا لنا الساحة وأعطانا الله عليهم الظفر فما بالكم حملتم على هؤلاء فلم تزيلوهم244؟ ثم بين لهم ما يخشاه منهم، فقال: إني والله لخائف عليكم خصلتين، أن تكونوا قد غللتم، أو لم تناصحوا الله في حملتكم245، وحض أصحابه على طلب الشهادة بصدق، وأعلمهم أنه سيكون في مقدمتهم وأنه لن يعود إلى مكانه، إلا أن يفتح الله عليه أو يرزقه الشهادة246، فلم التحم المسلمون والروم، ترجل عبادة عن جواده وأخذ راجلاً، فلما رآه عمير بن سعد الأنصاري نادى المسلمون يعلمهم بما فعل أميرهم ويدعوهم إلى الاقتداء به، فقاتلوا الروم حتى هزموهم وأحجروهم في حصنهم247 وبعد فتح قيسارية ونجاح معاوية في فتح سواحل دمشق ولاه عمر بن الخطاب ولاية الأردن وكان ذلك عام 17هـ248.
2 ـ ولايته على دمشق وبعلبك والبلقاء:(1/68)
…في سنة ثمان عشرة للهجرة توفي يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهما في طاعون عمواس، فولى عمر معاوية عمل أخيه ـ دمشق وبعلبك والبلقاء249، وقد كان لعمل عمر هذا أكبر الأثر على نفسية والد معاوية ووالدته، فحين عزا عمر أبا سفيان في وفاة ابنه يزيد قال: يا أمير المؤمنين من وليت مكانه؟ قال: أخوه معاوية. قال: وصلت رحماً يا أمير المؤمنين. وكتب أبو سفيان لمعاوية ينصحه في بداية عمله هذا فمما قال: يا بني إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخرنا، فرفعهم سبقهم وقدمهم عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم وقصر بنا تأخيرنا، فصاروا قادة وسادة، وصرنا أتباعاً، وقد ولوك جسيماً من أمورهم فلا تخالفهم، فإنك تجري إلى أمد فنافس، فإن بلغته أورثته عقبك250، وكذلك كتبت له والدته هند بنت عتبة تقول: والله يا بني إنه قل أن تلد مثلك وإن هذا الرجل قد استنهضك في هذا الأمر، فاعمل بطاعته فيما أحببت وكرهت251.
…وكان بعض الناس ـ لا سيما شيوخهم ـ استغربوا تولية عمر رضي الله عنه لمعاوية رضي الله عنه مع حداثة سنه ووجود من هو أكبر منه وأفضل، لذا سوغ عمر رضي الله عنه عمله هذا ـ حيث قالوا: ولى حدث السن ـ بقوله: تلومنني في ولايته، وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اجعله هادياً مهدياً واهد به252 .
3 ـ معاوية في موكب عظيم وإنكار عمر عليه:(1/69)
…كان عمر رضي الله عنه ـ وهو الخبير بمعادن الرجال ـ يدرك أكثر من غيره ما يتمتع به معاوية من صفات تؤهله للقيادة، فحين قدم عمر الشام وافاه معاوية بموكب عظيم أنكره عليه عمر فقال: أنت صاحب الموكب العظيم؟ قال: نعم. قال: مع ما بلغني عنك من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك. قال: هو ما بلغك من ذلك. قال: ولم تفعل هذا؟ لقد هممت أن آمرك بالمشي حافياً إلى بلاد الحجاز. قال: يا أمير المؤمنين إنا بأرض جواسيس العدو فيها كثيرة، فيجب أن تظهر من عز السلطان ما يكون فيه عز للإسلام وأهله ويرهبهم فإن أمرتني فعلت، وإن نهيتني انتهيت، فقال له عمر: ما سألتك عن شيء إلا تركتني في مثل رواجب253 الضرس، لئن كان ما قلت حقاً، إنه لرأي أريب254، ولئن كان باطلاً إنه لخديعة أديب255. قال: فمرني يا أمير المؤمنين قال: لا آمرك ولا أنهاك. فقال رجل: يا أمير المؤمنين، ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته فيه، فقال عمر: لحسن مصادره وموارده جَشَّمناه ما جَشَّمناه256، وفي رواية أن الرجل الذي قال لعمر ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته فيه هو عبد الرحمن بن عوف، وكان مع عمر حين استقبلهما معاوية بهذا الموكب العظيم257. وهذا الجواب من معاوية ـ رضي الله عنه ـ يدل على خبرة سياسية عالية، ومعرفة واعية بأحوال الأمم، ودراية كاملة بسياسة الرعية والمحافظة على الوضع الأمني للدولة التي يحكمها، ومن أجل هذا رضي عمر سياسته على الرغم من أنها تخالف سياسة عمر في اهتمامه بأحوال رعيته وبحث شكاواهم، ولعل كلمة عمر ـ رضي الله عنه ـ من أجل ذلك جشمناه ما جشمناه تدل على رضاه عن سياسة معاوية258. وكان عمر رضي الله عنه يتعهد معاوية بالتربية والوعظ والنصح، وأحياناً يشتد ويغلظ عليه، فعن أسلم مولى عمر رضي الله عنه قال: قدم علينا معاوية وهو أبيض أو أبضُّ الناس وأجملهم، فخرج إلى الحج مع عمر، فكان عمر ينظر إليه، فيعجب له، ثم يضع أُصبُعَه على متنه ثم يرفعها عن مثل الشِّراك،(1/70)
فيقول: بخ بخ، نحن إذا خير الناس، أن جمع لنا خير الدنيا والآخرة، فقال معاوية: يا أمير المؤمنين، سأحدثك، إنّا بأرض الحمّامات والريف فقال عمر: سأحدثك ما بك إلطافك نفسك بأطيب الطعام وتصبحك حتى تضرب الشمس متنيك وذوو الحاجات وراء الباب. قال فلما جئنا ذا طوى أخرج معاوية حُلة فلبسها، فوجد عمر منها ريحاً كأنه ريح طيب، فقال: يعمد أحدكم فيخرج حاجّاً تَفِلاً، حتى إذا جاء أعظم بُلدان الله حرمة أخرج ثوبيه كأنهما كانا في الطيب فلبسهما، فقال معاوية: إنما لبستهما لأدْخل فيهما على عشيرتي أو قومي، والله لقد بلغني أذاك ههنا وبالشام، والله يعلم إني لقد عرفتُ الحياء فيه ثم نزع معاوية ثوبيه، ولبس ثوبيه اللذين أحرم فيهما259، وقال عمرو بن يحي بن سعيد الأموي، عن جَدِّه قال: دخل معاوية على عمر وعليه حُلَّةٌ خضراء فنظر إليها الصّحابة، فلما رأى ذلك عمر وثب إليه بالدِّرَّة، فجعل يضربه بها، وجعل معاوية يقول: يا أمير المؤمنين، الله الله فيَّ فرجع عمر إلى مجلسه، فقال له القوم: لم ضربته يا أمير المؤمنين وما في قومِك مثله؟، فقال: والله ما رأيت إلا خيراً وما بلغني إلا خير، ولكنِّي رأيته وأشار بيده260 ـ فأحببت أن أضع منه261، وكان عمر بن الخطاب إذا رأى معاوية قال: هذا كسرى العرب262. وكان معاوية رضي الله عنه في إمارته بالشام في أبهة الملك وزيه من العديد والعدة وكان يرى أنه في ثغر تجاه العدو ويحتاج إلى مباهاتهم بزينة الحرب والجهاد263 وإظهار الملك والسلطان، وكان يرى أن الملك لما ذمه الشارع لم يذم منه الغلب بالحق وقهر الكافة على الدين، ومراعاة المصالح وإنما ذمه لما فيه التغلب بالباطل وتصريف الآدميين طوع الأغراض والشهوات، فلو كان الملك مخلصاً في غلبه للناس أنه لله ولحمله على عبادة الله وجهاد عدوه لم يكن ذلك مذموماً264، وقد قال الله تعالى: ((رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي(1/71)
إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)) (ص ، آية : 33) لما علم من نفسه أنه بمعزل عن الباطل في النبوة والملك وكانت أبهة معاوية في الملك لها أغراض ومقاصد شرعية ولذلك سكت عمر رضي الله عنه، وذات يوم ذكر معاوية عند عمر فقال: دعوا فتى قريش وابن سيدها إنه لمن يضحك في الغضب ولا يُنال منه إلا على الرِّضا، ومن لا يأخذ من فوق رأسه إلا من تحت قدميه265، ومهما يكن في هذه الرواية وغيرها من مبالغة، فإن ثقة عمر في معاوية تظل فوق مستوى الشبهة والشك266، فقد برهن معاوية لعمر عمق فهمه لضرورات السياسة وتغير البيئة والمجتمع، وأثر ذلك كله على التطوير السياسي لأدوات الحكم، ومهما يكن من أمر فقد عظمت مكانة معاوية عند عمر رضي الله عنه، فولاه أهم أقاليم دولته، وزاد في ولايته، ولم يعزله، على كثرة من كان يعزل من عماله وأمرائه، وكان معجباً بذكائه وإدارته ولا يكتم ذلك الإعجاب267 حتى قال يوماً لجلسائه تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية268.
4 ـ جهود معاوية رضي الله عنه على جبهة الشام :
لما تولى معاوية أمر الشام، وانطلق عمرو بن العاص لفتح مصر، أصبحت مهمة حماية الحدود الشامية للدولة الإسلامية والتوسع منها منوطة به، وتتلخص أهم إنجازاته العسكرية في أمرين هما: سن نظام الصوائف والشواتي269، وتكوين أسطول بحري إسلامي لأول مرة في تاريخ الإسلام270.
أ ـ سن نظام الصوائف والشواتي في عهد عمر:(1/72)
…أصيب الروم على يد جنود الإسلام بهزائم مريرة متتالية فقدوا على أثرها الشام ومصر، بكل ما تمثلانه من أهمية اقتصادية وسياسية وعسكرية، غير أنهم لم يسلموا بهذه الهزائم، بل استمرت هجماتهم على الشام من خلال الدروب الجبلية التي تفصلهم عن باقي أجزاء إمبراطورية الروم، مما جعل عمر بن الخطاب يقول في جولته بالشام سنة 16هـ: والله لوددت أن الدرب جمرة بيننا وبينهم لنا ما دونه، وللروم ما وراءه271، وفي رحلته هذه إلى الشام سمى عمر الصوائف والشواتي، وسد فروج الشام ومسالكها272، ومن المحتمل أن يكون هدف الروم من هجماتهم على المدن الإسلامية الحدودية منذ البداية، هو اعتماد ذلك كتدبير وقائي لحماية بلاد الروم وردع المسلمين، لكن استجابة معاوية كانت فوق التحدي، فقد نقل المعركة إلى بلاد العدو، وابتعد بالحرب عن بلاد المسلمين، وكان لا بد لمعاوية ـ من أجل تحقيق ذلك الهدف ـ من تطوير وسائط الدفاع، واعتبار العواصم والثغور مجرد قواعد متقدمة واجبها تلقي الصدمة والإنذار، مع استخدام هذه القواعد مركز انطلاق للهجمات المضادة، وقد قاد معاوية بنفسه بعض هذه الصوائف منها صائفة سنة 22هـ حيث دخل بها بلاد الروم في عشرة آلاف، وصائفة 23هـ273، حيث أوغل حتى بلغ عمورية، ومعه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عبادة بن الصامت، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو ذر الغفاري، وشداد بن أوس274.
ب ـ تكوين أسطول إسلامي في البحر :(1/73)
…ويعود الفضل إلى الله ثم إلى معاوية في هذه المرحلة المبكرة إلى فتح باب الجهاد في البحر الذي أصبح ضرورياً لحماية الشام ومصر ومواجهة النشاط المتزايد للأسطول البيزنطي، وغاراته المتكررة على سواحل الإقليمين، وإمداداته للثائرين بهما. وقد استطاعت عمليات الصوائق والشواتي أن تضع حداً للتهديدات البرية، لكن المدن الساحلية، بداية من إنطاكية ونهاية بالأسكندرية، بقيت تحت رحمة البحرية البيزنطية، وأدرك معاوية أيضاً أنه من المحال تطوير عمليات الفتوح في أفريقيا ما لم يتم انتزاع السيطرة البحرية من البيزنطيين275 ، ولم يبدأ معاوية في غزو البحر فعلياً إلا في عهد عثمان وسيأتي بيان ذلك بإذن الله تعالى .
ثالثاً : معاوية رضي الله عنه في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه:(1/74)
…حينما جاء عثمان إلى الخلافة كان معاوية رضي الله عنه والياً على معظم الشَّام، فأقرَّه عثمان عليها276، كما أقرَّ بعض الولاة الآخرين على ولاياتهم، كاليمن، والبحرين، ومصر وغيرها من الولايات، وقد تطورت الأحداث، وضُمَّت إلى معاوية بعض المناطق الأخرى حتى أصبح معاوية هو الوالي المطلق لبلاد الشام، بل أصبح أقوى ولاة عثمان، وأشدّهم نفوذاً وقد كان في بداية خلافة عثمان ولاة آخرون، منهم: عمير بن سعد الأنصاري، وكان على حمص، وينافس معاوية بن أبي سفيان في المكانة لدى عثمان رضي الله عنه إلا أن عميراً مرض مرضاً أعياه عن القيام بأعباء الولاية، فطلب من الخليفة عثمان أن يعفيه، فأعفاه، وضم ولايته إلى معاوية بن أبي سفيان، وبذلك زاد نفوذ معاوية، فامتد إلى حمص التي ولى عليها من قبله عبد الرحمن بن خالد بن الوليد277، كما توفي علقمة بن محرز، وكان على فلسطين، فضمّ عثمان ولايته إلى ولاية معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فاجتمعت الشَّام لمعاوية بعد سنتين من خلافة عثمان رضي الله عنه، وأصبح الوالي المطلق فيها طيلة السنوات الباقية من خلافة عثمان رضي الله عنه حتَّى توفي عثمان وهو عليها كما هو معروف278، وقد كانت فترة معاوية على الشَّام مليئة بالأحداث، وكانت الشَّام من أهم مناطق الجهاد، ومع أن الشَّام في داخلها قد استقرت أوضاعها، وسادها الإسلام، وقلَّت محاولات الرُّوم إثارة القلاقل فيها، إلا أن الشام كانت متاخمة لأرض الروم، وبالتالي كان المجال مفتوحاً أمام معاوية للجهاد في تلك النواحي وسيأتي الحديث عنها بإذن الله، وقد كان لمعاوية ثقله السياسي في الدولة الإسلامية أواخر خلافة عثمان رضي الله عنه، إذ كان ضمن الولاة الذين جمعهم عثمان ليستشيرهم، حين بدأت ملامح الفتنة تلوح في الأفق، كما ظهرت له آراء خاصة في هذا الاجتماع، وجَّهها إلى عثمان279 رضي الله عنه وسيأتي الحديث عنها بإذن الله تعالى.(1/75)
1 ـ فتوحات حبيب بن سلمة الفهري رضي الله عنه:
…كان حبيب بن سلمة الفهري من أبرز أمراء الجهاد في زمن ولاية معاوية على بلاد الشَّام، فعند أجلبت الرُّوم على المسلمين بالشام بجموع عظيمة أوّل خلافة عثمان، كتب معاوية إلى عثمان يستمده، فكتب عثمان إلى الوليد بن عقبة والي الكوفة عندما انتهى من مهمته في أذربيجان وعاد إلى الموصل جاء في خطاب الخليفة إلى الوليد بن عقبة: أمَّا بعد: فإن معاوية بن أبي سفيان كتب إليَّ يخبرني: أن الرُّوم قد أجلبت280 على المسلمين بجموع عظيمة، وقد رأيت أن يمدّهم إخوانهم من أهل الكوفة، فإذا أتاك كتابي هذا، فابعث رجلاً ممَّن ترضى نجدته، وبأسه، وشجاعته، وإسلامه في ثمانية آلاف، أو تسعة آلاف، أو عشرة آلاف إليهم من المكان الذي يأتيك فيه رسولي281 والسَّلام. فقام الوليد في الناس، فحمد الله وأثني عليه، ثم قال: أمّا بعد أيها الناس، فإن الله قد أبلى المسلمين في هذا الوجه بلاءً حسناً، وردَّ عليهم بلادهم التي كفرت، وفتح بلاداً لم تكن افتتحت، وردَّهم سالمين غانمين مأجورين، فالحمد لله رب العالمين، وقد كتب إليَّ أمير المؤمنين يأمرني أن أندب منكم ما بين العشر آلاف إلى الثمانية آلاف، تمدُّون إخوانكم من أهل الشام، فإنَّهم قد جاشت عليهم الروم، وفي ذلك الأجر العظيم، والفضل المبين، فانتدبوا ـ رحمكم الله مع سليمان بن ربيعة، فانتدب النّاس، فلم يمض ثالثة حتى خرج ثمانية آلاف رجل من أهل الكوفة، فمضوا، حتى دخلوا الشام إلى أرض الروم، وعلى جند أهل الشام حبيب بن مسلمة بن خالد الفهريُّ، وعلى جند أهل الكوفة سلمان بن ربيعة الباهليُّ، فسنُّوا الغارات على أرض الروم، فأصاب الناس ما شاؤوا من سبي، وملؤوا أيديهم من المغنم، وافتتحوا بها حصوناً كثيرة282، وكان على المسلمين حبيب بن مسلمة، وكان صاحب كيد لعدوه، فأجمع أن يبيت قائدهم الموريان ـ أي : يباغته ليلاً ـ فسمعته امرأته أمُّ عبد الله بنت يزيد الكلبية(1/76)
يذكر ذلك، فقالت: فأين موعدك؟ قال: سرادق الموريان أو الجنة.. ثم بيتهم، فغلبهم. وأتى سرادق الموريان فوجد امرأته، قد سبقته إليه283، وواصل حبيب جهاده، وإنتصاراته المتوالية في أراضي أرمينية، وأذربيجان، ففتحها إمّا صلحاً. أو عنوة284، وقد كان حبيب بن سلمة الفهري من أبرز القادة الذين حاربوا في أرمينية البيزنطية، فقد أباد جيوشاً بأكملها للعدوِّ،وفتح حصوناً، ومدناً كثيرة285، كما غزا ما يلي ثغور الجزيرة العراقية من أرض الروم فافتتح عدة حصون هناك، مثل شمشاط، وملطية، وغيرها286،
2 ـ غزوات معاوية في عهد عثمان في البر :(1/77)
…أدرك معاوية رضي الله عنه بأن إزالة خطر الروم وتهديدهم للمسلمين لا يتم إلا بمواصلة غزو الروم وتنشيط حركة الجهاد بشكل مستمر في الثغور الشامية والجزرية287 وشحنهما بالمرابطين وتعهدها على الدوام، وقد أخذ منه ذلك وقتاً طويلاً وبذل فيه جهداً كبير خلال ولايته تلك في عهد عثمان، ففي سنة خمس وعشرين للهجرة قام معاوية بجولة عسكرية على الثغور الشامية، فوجد الحصون فيما بين أنطاكية وطرسوس خالية فوقف عندها جماعة من أهل الشام والجزيرة وقنسرين حتى انصرف من غزاته، ثم أغزى بعد ذلك بسنة أو سنتين يزيد بن الحر العبسي الصائفة وأمره ففعل مثل ذلك. وكانت الولاة تفعله288، وفي سنة إحدى وثلاثين غزا من ناحية المصيصة فبلغ درولية289، فلما خرج جعل لا يمر بحصن فيما بينه وبين النطاكيه إلا هدمه290، وكذلك الشأن في الثغور الجذرية فقد أولاها عنايته فقد وجه في الأيام الأولى لولايته تلك، كلا من حبيب بن مسلمة الفهري وصفوان بن المعطل السلمي إلى شمشاط ففتحها. كما وجه حبيب بن مسلمة إلى إعادة فتح ملطية بعد أن انتقضت، ففتحها عنوة، ورتب فيها رابطة من المسلمين مع عاملها، كما قام معاوية بنفسه بعد ذلك بحملة أخرى يريد التوغل في أرض الروم فقد مرَّ على ملطية فشحنها بجماعة من أهل الشام والجزيرة وغيرهما وذلك لكي تكون طريقاً آمناً لحملات الصوائق. كما غزا حصن المرأة من الثغور الجزرية في السنة نفسها291، وكان يتعهد حصن الحدث، وبنى مدينة مرعش وأسكنها الجند، وكل هذه المدن والحصون من الثغور الجزرية292، ولما اطمأن معاوية إلى قوة جانبه بعد تلك الإجراءات أخذ يغزو في عمق الأراضي الرومية، فقد قاد بنفسه غزوة سنة اثنين وثلاثين للهجرة توغل فيها بجيشه حتى وصل مضيق القسطنطينية293.
3 ـ معاوية يلتمس من عثمان رضي الله عنهما السماح له بالغزو البحري:(1/78)
…كان معاوية رضي الله عنه يلح على عمر في غزو البحر، ويصف له قرب الرُّوم من حمص، ويقول: إن قرية من قرى حمص يسمع أهلها نباح كلابهم، وصياح دجاجهم حتى كان ذلك يأخذ بقلب عمر، فكتب عمر إلى عمرو بن العاص: صف لي البحر وراكبه، فإن نفسي تنازعني إليه، فكتب إليه عمرو: إني رأيت خلقاً كبيراً يركبه خلق صغير، إن ركن خرَّق القلب، وإن تحرك أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلة، والشك كثرة هم كدود على عود، إن مال غرق، وإن نجا برق. فلما قرأ عمر بن الخطاب كتاب عمرو بن العاص كتب إلى معاوية: أن لا، والذي بعث محمداً بالحق لا أحمل فيه مسلماً أبداً، وتالله لمسلم أحبُّ إليَّ مما حوت الروم، فإياك أن تعرض لي، وقد تقدمت إليك، وقد علمت ما لقي العلاء منَّي، ولم أتقدم إليه في ذلك294. ولكن الفكرة لم تبرح نفس معاوية، وقد رأي في الرُّوم ما رأى، فطمع في بلادهم وفتحها، فلمَّا تولَّى الخلافة عثمان عاود معاوية الحديث، وألحَّ به على عثمان، فردّ عليه عثمان رضي الله عنه قائلاً: أن قد شهدت ما ردَّ عليك عمر ـ رحمه الله ـ حين استأذنته في غزو البحر. ثم كتب إليه معاوية مرَّة أخرى يهوِّن عليه ركوب البحر إلى قبرص فكتب إليه: فإن ركبت معك امرأتك فاركبه مأذوناً وإلا فلا295. كما اشترط عليه الخليفة عثمان رضي الله عنه أيضاً بقوله: لا تنتخب الناس، ولا تقرع بينهم، خيِّرهم، فمن اختار الغزو طائعاً، فاحمله وأعنه296، فلما قرأ معاوية كتاب عثمان نشط لركوب البحر إلى قبرص، فكتب لأهل السواحل يأمرهم بإصلاح المراكب، وتقريبها إلى ساحل عكَّا، فقد رمَّه ليكون ركوب المسلمين منه إلى قبرص297.
4 ـ غزو قبرص:(1/79)
…أعدَّ معاوية المراكب اللازمة لحمل الجيش الغازي، واتَّخذ ميناء عكَّا مكاناً للإقلاع، وكانت المراكب كثيرة، وحمل معه زوجه فاخته بنت قرظة، كذلك ، كذلك حمل عبادة بن الصَّامت امرأته أمَّ حرام بنت ملحان معه في تلك الغزوة298، وأمُّ حرام هذه صاحبة القصَّة المشهورة: عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على أمَّ حرام بنت ملحان، فتطعمه، وكانت أمُّ حرام تحت عبادة بن الصَّامت، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فأطعمته، ثم جلست تفلي من رأسه، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استيقظ وهو يضحك. فقالت: ما يضحكك يا رسول الله؟: قال ناس من أمتي عُرضوا عليَّ غزاة في سبيل الله، يركبون ثبيج هذا البحر ملوكاً على الأسرَّة، أو مثل الملوك على الأسرَّة. وقالت: فقلت: يا رسول الله: ادع الله أن يجعلني منهم! فدعا لها ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ، وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟!.(1/80)
…قال: ناس من أمتي عرضوا عليَّ في سبيل الله...)) ـ كما قال في الرواية الأولى ـ. قال: أنت من الأوّلين. فركبت أمّ حرام بنت ملحان في البحر في زمن معاوية، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر، فهلكت299 . ورغم أن معاوية رضي الله عنه لم يجبر الناس على الخروج، فقد خرج معه جيش عظيم من المسلمين300، مما يدل أن المسلمين قد هانت في أعينهم الدُنيا بما فيها، فأصبحوا لا يعبؤون بها بالرَّغم من أنها قد فتحت عليهم أبوابها، فصاروا يرفلون في نعيمها. أن المسلمين قد ترّبوا على أنّ ما عند الله خير، وأبقى، وأن الله اصطفاهم لنصرة دينه، وإقامة العدل، ونشر الفضيلة، والعمل على إظهار دين الله على كلِّ ما عداه، وهم يعتقدون: أنّ هذه المهمَّة هي رسالتهم الحقيقية، وأن الجهاد في سبيل الله هو سبيل الحصول على مرضاة الله، فإن هم قصَّروا في مهمَّتهم، وقعدوا عن أداء واجبهم، فسيمسك الله عنهم نصره في الدُّنيا، ويحرمهم مرضاته في الآخرة، وذلك هو الخسران المبين، من أجل هذا هُرعوا مع معاوية، وتسابقوا إلى السفن يركبونها، ولعلَّ حديث أمِّ حرام قد ألمَّ بخواطرهم، فدفعهم إلى الخروج للغزو في سبيل الله تصديقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك بعد انتهاء فصل الشتاء في سنة ثمان وعشرين من الهجرة 649م301، وسار المسلمون من الشام وركبوا من ميناء أم حرام لتركب دابَّتها، فنفرت الدّابة، وألقت أمَّ حرام على الأرض، فاندقت عنقها، فماتت302، وترك المسلمون أمَّ حرام بعد دفنها في أرض الجزيرة عنواناً على مدى التضحيات التي قدَّمها المسلمون في سبيل نشر دينهم، وعرف قبرها هناك بقبر المرأة الصالحة303، واجتمع معاوية بأصحابه، وكان فيهم: أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاريُّ، وأبو الدَّرداء، وأبو ذر الغفاريُّ، وعبادة بن الصَّامت، وواثله بن الأسقع، وعبد الله بن بشر المازنيُّ،وشدّاد بن أوس بن ثابت، والمقداد بن الأسود، وكعب الحبر بن ماتع، وجبير بن(1/81)
نضير الضرمي. وتشاوروا فيما بينهم، وأرسلوا إلى أهل قبرص يخبرونهم: أنهم لم يغزوهم للاستيلاء على جزيرتهم304،ولكن أرادوا دعوتهم لدين الله، ثمَّ تأمين حدود الدولة الإسلامية بالشام، وذلك لأنَّ البيزنطيِّين كانوا يتخذون من قبرص محطَّة يستريحون فيها؛ إذا غزوا، ويتموَّنون منها، إذا قلَّ زادهم، وهي بهذه المثابة تهدِّد بلاد الشام الواقعة تحت رحمتها، فإذا لم يطمئن المسلمون على مسالمة هذه الجزيرة لهم، وخضوعها لإرادتهم، فإن وجودها كذلك سيظلُّ شوكة في ظهورهم، وسهماً مسدَّداً في صدورهم، ولكنّ سكّان الجزيرة لم يستسلموا للغزاة، ولم يفتحوا لهم بلادهم، بل تحصّنوا في العاصمة، ولم يخرجوا لمواجهة المسلمين، وكان أهل الجزيرة ينتظرون تقدّم الروم للدّفاع عنهم، وصدّ هجوم المسلمين عليها305.
5 ـ الاستسلام وطلب الصلح:
……تقدّم المسلمون إلى عاصمة قبرص ((قسطنطينا )) وحاصروها وما هي إلا ساعات حتى طلب الناس الصلح، وقدّموا للمسلمين شروطاً، واشترط عليهم المسلمين شروطاً، وأما شرط أهل قبرص، فكان هي طلبهم ألا يشترط عليهم المسلمون شروطاً تورّطهم مع الروم، لأنهم لا قبل لهم بهم، ولا قدرة لهم على قتالهم، وأمّا شروط المسلمين، فهي :
أ ـ ألا يدافع المسلمون عن الجزيرة، إذا هاجم سكانها محاربون.
ب ـ أن يدلّ سكان الجزيرة المسلمين على تحركات عدوّهم من الروم.
ج ـ أن يدفع سكان الجزيرة للمسلمين سبعة آلاف ومئتي دينار في كل عام.
د ـ أن يكون طريق المسلمين إلى عدوّهم عليهم.
س ـ ألا يساعدوا الروم إذا حاولوا غزو بلاد المسلمين، ولا يُطلعوهم على أسرارهم306.
وعاد المسلمون إلى بلاد الشام، وأثبتت هذه الحملة قدرة المسلمين على خوض غمار المعارك البحرية بجدارة وأعطت المسلمين فرصة المران على الدخول في معارك من هذا النوع مع العدوّ المتربص بهم سواء بالهجوم على بلاد الشام، أو على الإسكندرية307
6 ـ عبد الله بن قيس قائد الأسطول الإسلامي في الشام:(1/82)
استعمل معاوية بن أبي سفيان على البحر عبد الله بن قيس الجاسيّ حليف بني فزارة فغزا خمسين غزاة ما بين شاتية، وصائفة في البحر، ولم يغرق فيه أحد، ولم ينكب، وكان يدعو الله أن يرزقه الله العافية في جنده، وألا يبتليه بمصاب أحد منهم، ففعل، حتّى إذا أراد أن يصيبه وحده، خرج في قاربه طليعة، فانتهى إلى المرفأ من أرض الروم وعليه سُؤَّال يعترّون 308 بذلك المكان، فتصدق عليهم، فرجعت امرأة من السُّوَّال إلى قريتها، فقالت للرجال : هل لكم في عبد الله بن قيس ؟ قالوا وأين هو ؟ قالت : في المرفأ، قالوا : أي عدوّة الله، ومن أين تعرفين عبد الله بن قيس ؟ فوبّختهم، وقالت : أنتم أعجز من أن يخفى عبد الله على أحد فساروا إليه، فهجموا عليه، فقاتلوه، وقاتلهم، فأصيب وحده، وأفلت الملاح حتى أتى أصحابه، فجاؤوا حتى أرقوا، والخليفة منهم سفيان بن عوف الأزدي، فخرج فقاتلهم، فضجر وجعل يعبث بأصحابه، ويشتمهم، فقالت جارية عبد الله : وا عبد الله ما هكذا كان يقول حين يقاتل! فقال سفيان : وكيف كان يقول؟ قالت : الغمرات ثم ينجلينا وأصيب في المسلمين يومئذ، وذلك آخر زمان عبد الله بن قيس: الجاسيِّ309، وقيل لتلك المرأة التي استشارت الروم على عبد الله بن قيس: كيف عرفته؟ قالت: كان كالتَّاجر، فلمّا سألته، أعطاني كالملك، فعرفت أنه عبد الله بن قيس310. وهكذا حينما أراد الله تعالى أن يمنىَّ بالشهادة على هذا القائد العظيم أتيحت له وهو في وضع لا يضرُّ بسمعة المسلمين البحرية، حيث كان وحده يتطلع ويراقب الأعداء فكانت تلك الكائنة الغريبة التي أبصرت غورها تلك المرأة الَّذكَّية من نساء تلك البلاد، حيث رأت ذلك الرَّجل يظهر من مظاهر الخارجَّية بمظهر التُّجار العاديين، ولكنَّه يعطي عطاء الملوك، فلقد رأت فيه أمارات السِّيادة مع بساطة مظهره فعرفت: أنه قائد المسلمين، الذي دوّخ المحاربين في تلك البلاد، وهكذا كانت نسمات ذلك القائد وسخاؤه البارز حتى مع(1/83)
غير المسلمين في كشف أمره، ومعرفة مركزه، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، فيتمَّ بذلك الهجوم عليه، وظفرْ بالشهادة، وهكذا يضرب قادة المسلمين المُثُل العليا بأنفسهم، لتتمَّ الإنجازات الكبرى على أيديهم، وليكونوا قدوة صالحة لمن يخلفهم، فقد قام هذا القائد الملهم بهمّة الاستطلاع بنفسه، ولم يكل الأمر إلى جنوده، وفي انفراده بهذه المهمة مظنة للتورط مع الأعداء، والهلاك على أيديهم، ولكنه مع ذلك يغامر بنفسه، فيتولىَّ هذه المهمة، ثمّ نجده يتخلفَّ بأخلاق الإسلام العليا حتى مع نساء الأعداء، وضعفتهم فيمدُ لهم يد الحنان، والعطف، ويسخو لهم بالمال الذي هو من أعزِّ ما يملك الناس، ونجدة قبل ذلك مع جنده رفيقاً صبوراً، ولا معنِّفاً، ولا مستكبراً، وإذا ادلهمِّت الخطوب، تفان بانكشاف الغّمة، ولم يجأ إلى لوم أصحابه، وتعنيفهم، ولم يهيمن عليه الارتباك الذي يفسد العمل، ويعجِّل بالخلل، والفوضى، وأمَّا خليفته سفيان الأزديَّ، فلعلهَّ وقع فيما وقع فيه من الإرتباك، والاشتغال بطرح اللائمة على جنده لكونه حديث العهد بأمور القيادة، ولكن مَّما يُحفظ له: أنَّه لما نبَّهته جارية عبد الله بن قيس إلى ذلك الأسلوب الحكيم الذي كان أميره ينتهبه في القيادة سارع في التأسي به في ذلك، ولم يحمله التكبُّر على عدم سماع كلمة الحقِّ، وإن صدرت من جارية مغمورة. وهذا مثل من أمثلة التجرد من هوى النفس، هذا الخلق العظيم الذي كان غالباً في الجيل الأوَّل، وبه تمّ إنجاز الفتوحات العظيمة، ونجاح الولاة، والقادة في إدارة أمور الأمة، فلله درُّ أبناء ذلك الجيل: ما أبلغ ذكرهم وما أبعد نحورهم! وما أعظم وطأتهم في الأرض على الجبارين أو ما أعذب لمساتهم في الأرض عل المستضعفين والمساكين311.
7ـ القبارصة ينقضون الصلح :(1/84)
في سنة أثنتين وثلاثين هجرَّية، وقع سكان قبرص تحت ضغط رومي عنيف أجبرهم على إمداد جيش الرُّوم بالسُّفن، ليغزوا بها بلاد المسلمين، وبذلك يكون القبرصيون قد أخلوُّا بشروط الصلح، وعلم معاوية بخيانة أهل قبرص، فعزم على الاستيلاء على الجزيرة، ووضعها تحت سلطان المسلمين، فقد هاجم المسلمون الجزيرة هجوماً عنيفاً، فقتلوا، وأسروا وسلبوا، وهجم عليها جيش معاوية من جهة، وعبد الله بن سعد من الجانب الآخر، فقتلوا خلقاً كثيراً، وسبوا سبياً كثيراً، وغنموا مالا جزيلاً312، وتحت ضغط القوات الإسلامية اضطر حاكم قبرص أن يستسلم للفاتحين ويلتمس منهم الصلح، فأقرهم معاوية على صلحهم الأول313، وخشي معاوية أن يتركهم هذه المرة بغير جيش يرابط في الجزيرة، فيحميها من غارات الأعداء، ويضبط الأمن فيها حتى لا تتمرد على المسلمين، فبعث إليهم اثني عشر ألفاً من الجنود، ونقل إليهم جماعة من بعلبك، وبنى هناك مدينة، وأقام فيها مسجداً، وأجرى معاوية على الجنود أرزاقهم، وظلّ الحال على ذلك، الجزيرة هادئة والمسلمون آمنون من هجمات الروم المفاجئة، ولاحظ المسلمون: أنّ أهل قبرص ليس فيهم قدرات عسكرية، وهم مستضعفون أمام من يغزوهم، وأحس المسلمون: أن الروم يغلبونهم على أمرهم، ويسخّرونهم لمصالحهم فرأوا أن من حقهم عليهم أن يحموهم من ظلم الروم، وأن يمنعوهم من تسلطّ البيزنطيين وقال: إسماعيل بن عيّاش: أهل قبرص أذلاء مقهورون ويغلبهم الروم على أنفسهم، ونسائهم، فقد يحق علينا أن نمنعهم، ونحميهم314.
8 ـ ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه:
وقد جاء في سياق هذه الغزوة المذكورة خبر أبي الدرداء رضي الله عنه حينما نظر إلى سبي الأعداء فبكى، ثمّ قال: ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه، فانظر إلى هؤلاء القوم بينما هم ظاهرون قاهرون لمن ناوأهم، فلما تركوا أمر الله ـ عز وجلّ ـ وعصوه، صاروا إلى ما ترى315.(1/85)
وجاء في روايةٍ: فقال له جبير بن نفير أتبكي وهذا يوم أعزّ الله فيه الإسلام وأهله، فقال: ويحك: إن هذه كانت أمّة قاهرة لهم ملك، فلما ضيّعوا أمر الله، صيرّهم إلى ما ترى، سلط الله عليهم السبي، وإذا سلط على قوم السّبي، فليس لله فيهم حاجة، وقال: ما أهون العباد على الله تعالى، إذا تركوا أمره316. إن ما تفوّه به أبو الدرداء، يعتبر مثلاً للبصيرة النافذة، والفقه في أمر الله تعالى، فهذا الصحابي الجليل يبكي حسرة على هؤلاء الذين أعمى الله بصائرهم، فلم ينقادوا لدعوة الحق، فباؤوا بهذا المصير المؤلم، حيث تحولوا من الملك، والعزة إلى الاستسلام والذّلة، لإصرارهم على لزوم الباطل، والتكبر على الخضوع لدعوة الحق، ولو أنهم عقلوا، وتدبّروا لكان في دخولهم في الإسلام بقاء ملكهم، وعمران ديارهم، والظفر بحماية دولة الإسلام، وإن هذا التفكير العميق من أبي الدرداء مظهرٌ من مظاهر الرّحمة، والعطف، تفتحت عنه نفسه الزكية، فتشكل ذلك في الظاهر على هيئة دموع تتحدّر من عيني هذا الرجل العظيم، ليعبّر عمّا يجول في نفسه من نظرات الحنان، والرّحمة، والأسى على مصير تلك الأمة التي اجتمع البقاء على الضلال، والمآل السيء بزوال الملك، والوقوع في الذل والهوان، وإنّه بقدر ما يفرح المسلم بدخول الناس في الإسلام، فإنه يحزن من رؤية الكافرين وهم يعيشون في ضلال مع إدراكه ما ينتظرهم من العذاب الأليم المؤبد في الآخرة، فكيف إذا أضيف إلى ذلك وقوعهم في الأسر، والتشرّد، وتعرضهم للقتل في الحياة الدنيا317؟
9 ـ معاوية يوليّ عبادة بن الصامت رضي الله عنهما على قسمة غنائم قبرص :(1/86)
قال عبادة بن الصامت لمعاوية رضي الله عنهما : شهدت رسول الله عليه وسلم في غزوة حنين الناس يكلمونه في الغنائم، فأخذ وبرة من بعير، وقال: مالي مما أفاء الله عليكم من هذه الغنائم إلا الخمس، والخمس مردود فيكم318. فأتق الله يا معاوية! واقسم الغنائم على وجهها، ولا تعطي منها أحداً أكثر من حقه! فقال له معاوية: قد وليتك قسمة الغنائم، ليس أحد بالشّام أفضل منك، ولا أعلم، فاقسمها بين أهلها، واتق الله فيها، فقسمها عبادة بين أهلها، وأعانه أبو الدرداء، وأبو أمامة319.
وعبادة بن الصامت رضي الله عنه من مؤسسي المدرسة الشامية فقد وجهه عمر إلى الشام قاضياً ومعلماً، فأقام بحمص ثم انتقل إلى فلسطين فولي قضاءها، واستقر به المقام فيها، فكان أول من تولى قضاء فلسطين، وكان أيضا يعلم أهلها القرآن وظل على هذا النحو إلى أن مات بها320، وقد أسهم عبادة رضي الله بنصيب كبير في تنفيذ سياسة الخلافة الراشدة العلمية والتربوية والجهادية، وكان رضي الله عنه من أهل الزهد والخشونة، فعندما وصل إلى حمص قال لأهلها: ألا أن الدنيا عرض حاضر، وإن الآخرة وعد صادق، ألا أن للدنيا بنين وإن للآخرة بنين، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن كل أم يتبعها بنوها321.
10 ـ حقيقة الخلاف بين أبي ذر ومعاوية وموقف عثمان رضي الله عنهم منه :(1/87)
إن مبغضي عثمان بن عفان رضي الله عنه كانوا يشنّعون عليه أنه نفى أبا ذر رضي الله عنه إلى الربذة وزعم بعض المؤرخين: أن ابن السوداء عبد الله بن سبأ لقي أبا ذر في الشام، وأوحى إليه بمذهب القناعة، والزهد، ومواساة الفقراء، ووجوب أنفاق المال الزائد عن الحاجة، وجعله يعيب معاوية، فأخذه عبادة بن الصامت إلى معاوية، وقال له: هذا والله الذي بعث أليك أبا ذر. فأخرج معاوية أبا ذر من الشام322، وقد حاول أحمد أمين أن يوجد شبهاً بين رأي أبي ذر، ورأي مزدك الفارسي، وقال بأن وجه الشبه جاء من أن ابن سبأ كان في اليمن وطوّف في العراق، وكان الفرس في اليمن، والعراق قبل الإسلام، فمن المحتمل القريب أن يكون قد تلقَّى هذه الفكرة من مزدكية العراق، واعتنقها أبو ذرّ على حسن النية في اعتقادها323. وكلَّ ما قيل في قصَّة أبي ذرّ، ممّا يُشَّنع به على عثمان باطل لا يُبنى على رواية صحيحة، وكلُّ ما قيل حول اتصال أبي ذر رضي الله عنه بإبن السَّوداء باطل لا محالة324. والصحيح: أن أبي ذرّ رضي الله عنه نزل في الربذة باختياره، وأنَّ ذلك كان بسبب اجتهاد أبي ذرّ في فهم آية خالف فيه الصَّحابة، وأصرَّ على رأيه، فلم يوافقه أحد عليه، فطلب أن ينزل بالربذة325، التي كان يغدو إليها زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن نزوله بها نفياً قصرياً، أو إقامة جبرية، ولم يأمره الخليفة بالرّجوع عن رأيه، لأن له وجهاً مقبولاً، لكنَّه لا يجب على المسلمين الأخذ به326. وأصحُّ ما روي في قصة أبي ذرّ رضي الله عنه ما رواه البخاري في صحيحه عن زيد بن وهب، قال: مررت بالرَّبذة، فإذا أنا بأبي ذرٍّ رضي الله عنه فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشَّام، فاختلفت أنا ومعاوية في ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ(1/88)
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أليم)) (التوبة ، آية : 34) قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا، وفيهم، فكان بيني وبينه في ذاك، وكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إليَّ عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها، فكثر عليَّ الناس حتَّى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال لي: إن شئت فكنت قريباً فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمّروا عليَّ حبشيّاً، لسمعت وأطعت327. وقد أشار هذا الأثر إلى أمور مهمة منها:
أ ـ سأله زيد بن وهب، ليتحقَّق ممَّا اشاعه مبغضون عثمان: هل نفاه عثمان أو اختار أبو ذرّ المكان؟ فجاء سياق الكلام: أنه خرج بعد أن كثر النّاس عليه يسألونه عن سبب خروجه من الشَّام، وليس في نص الحديث: أنَّ عثمان أمره بالذهاب إلى الربذَّة، بل اختارها بنفسه، ويؤيد هذا ما ذكره ابن حجر عن عبد الله بن الصَّامت قال: دخلت على أبي ذرِّ عند عثمان، فحسر رأسه، فقال: والله ما أنا منهم ـ يعني : الخوارج ـ فقال: إنَّما أرسلنا إليك لتجاورنا بالمدينة، فقال: لا حاجة لي في ذلك، إئذن لي بالرَّبذة. قال: نعم328 .
ب ـ قوله: كنت بالشَّام: بيَّن السَّبب في سكناه الشَّام، ما أخرجه أبو يعلي عن طريق زيد بن وهب: حدَّثني أبو ذرَّ، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا بلغ البناء ـ أي المدينة ـ سَلْعَاً، فارتحل إلى الشَّام. فلمَّا بلغ البناء سلعاً، قدمت الشام فسكنت فيها329.(1/89)
جـ ـ إنَّ قصة أبي ذرِّ في المال جاء من اجتهاده في فهم الآية الكريمة ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أليم* يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)) (التوبة ، آية : 34 ـ 35). وروى البخاري عن أبي ذرِّ ما يدل على أنَّه فسرَّ الوعيد ((يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا)) الآية، وكان يخوِّف النَّاس به، فعن الأحنف بن قيس، قال: جلستُ إلى ملأ من قريش في مسجد المدينة، فجاء رجل خَشِن الشَّعر، والثّياب، والهيئة، حتى قام عليهم، فسلَّم، ثم قال: بشرِّ الكانزين بَرضفٍ330 يُحمى عليه في نار جهنَّم ثم يوضع على حلمة ثَدْي أحدهم، حتَّى يخرج من نُفضي كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه، يتزلزل331. ثمَّ ولّى فجلس في سارية، وتبعته، وجلست إليه، وأنا لا أدري من هو، فقلت له: لا أرى القوم إلا قد كرهوا الذي قلت قال: إنَّهم لا يعقلون شيئاً. واستدلَّ أبو ذرّ رضي الله عنه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحبُّ أنَّ لي مثل أحد ذهباً، أنفقه كُلَّه إلا ثلاث دنانير332.(1/90)
د ـ وقد خالف جمهور الصحابة أبا ذرّ، وحملوا الوعيد على مانعي الزّكاة واستدلوا على ذلك بالحديث، الذي رواه أبو سعيد الخدريُّ، قال: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: ليس فيما دون خمس أواق صدقة، وليس دون خمس ذَوْدٍ صدقة وليس وفيما دون خمسة أو ست صدقة333. وقال الحافظ ابن حجر: ومفهوم الحديث: أنَّ ما زاد على الخمس ففيه صدقة، ومقتضاه: أنَّ كلَّ ما أخرجت منه الصَّدقة، فلا وعيد على صاحبه، فلا سمَّى ما يفضل بعد إخراجه الصدقة كنزاً334، هذا وقد فصلت في موضع أبي ذرّ وخلافه مع معاوية رضي الله عنهما في كتابي عثمان بن عفان رضي الله عنه وأثبت بالحجج والأدلة والبراهين بأن عثمان رضي الله عنه لم ينف أبا ذرِّ رضي الله عنه ، إنما استأذنه، فأذن له ولكنَّ أعداء عثمان رضي الله عنه كانوا يشيعون عليه بأنَّه نفاه، ولذلك لمَّا سأل غالب القطان، الحسن البصري: عثمان أخرج أبا ذرِّ؟ قال الحسن: لا معاذ الله335، وكل ما روي في إنه أنَّ عثمان نفاه إلى الربَّذة فإنه ضعيف الإسناد، لا يخلو من علة قادحة، مع ما في متنه من نكارة لمخالفته للمرويَّات الصحيحة والحسنة، التي تبيِّن أن أبا ذرِّ استأذن للخروج إلى الرّبذة، وأنَّ عثمان أذن له336، بل إن عثمان أرسل يطلبه من الشام، ليحاوره بالمدينة، فقد قال له عندما قدم من الشام: إنا أرسلنا إليك لخير، لتجاورنا بالمدينة337. وقال له أيضا: كن عندي، تغدو عليك، وتروح اللقاح338. أفمن يقول ذلك ينفيه339. ولم تنصّ على نفيه إلا رواية رواها ابن سعد، وفيها بريدة بن سفيان الأسلمي الذي قال عنه الحافظ ابن حجر: ليس بالقوي، وفيه رفض. فهل تقبل رواية رافضي تتعارض مع الروايات الصحيحة، والحسنة340؟ واستغل الرّافضة هذه الحادثة أبشع استغلال، فأشاعوا: أن عثمان رضي الله عنه نفي أبا ذر إلى الربذة، وأن ذلك مما عيب عليه من قبل الخارجين عليه،، أو أنّهم سوّغوا الخروج عليه341، وعاب عثمان رضي الله عنه بذلك ابن(1/91)
المطهّر الحلِّي الشيعي المتوفي سنة 726هـ، بل زاد: أن عثمان رضي الله عنه ضرب أبا ذرٍّ ضرباً وجيعاً، ورد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رداً جامعاً قوياً342، وكان سلف هذه الأمَّة يعلمون هذه الحقيقة، فإنَّه لما قيل للحسن البصريِّ: عثمان أخرج أبا ذرِّ؟ قال: لا، معاذ الله343. وكان ابن سيرين إذا ذُكر له: أنَّ عثمان رضي الله عنه سيَّر أبا ذرّ، أخذه أمرٌ عظيم، ويقول: هو خرج من نفسه، ولم يسيِّره عثمان344، وكما تقدم في الرِّواية الصحيحة الإسناد: أنَّ أبا ذرّ رضي الله عنه لمَّا رأى كثرة النَّاس عليه خشي الفتنة، فذكر ذلك لعثمان كأنه يستأذنه في الخروج، فقال له عثمان رضي الله: إن شئت تنحيت، فكنت قريباً345. كما أن أبا ذرِّ رضي الله عنه لم يتأثر لا من قريب ولا من بعيد بآراء عبد الله بن سبأ اليهوديِّ، وقد أقام بالرَّبذة حتى توفيِّ، ولم يحضر شيئاً مما وقع في الفتن346، ثمَّ قد روى حديثاً من أحاديث النَّهي عن الدخول في الفتنة347، وبعد وفاة أبي ذرِّ رضي الله عنه ضمّ أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه عياله إلى عياله348، فرضي الله على جميع الصحابة الأبرار، الطيبين الأطهار
11 اتهام عثمان رضي الله عنه بإعطاء أقاربه من بيت المال:(1/92)
اتُّهم عثمان رضي الله عنه من قبل الغوغاء، والخوارج بإسرافه في بيت المال، وإعطائه أكثره لأقاربه، وقد ساند هذا الاتِِّهام حملة دعائية باطلة قادها أعداء الإسلام ضدَّه، وتسرَّبت في كتب التاريخ، وتعامل معها بعض المفكِّرين، والمؤرخين على كونها حقائق، وهي باطلة لم تثبت، لأنها مختلقة، والذي ثبت من إعطائه أقاربه أمور تعد مناقبه، لا من المثالب349فيه. إن عثمان رضي الله عنه كان ذا ثروة عظيمة، وكان وصولا للرحم350يصلهم بصلات كثيرة وفيرة، فنقم عليه أولئك الأشرار، وقالوا بأنَّه إنما كان يصلهم من بيت المال، وعثمان قد أجاب عن موقفه هذا بقوله: وقالوا: إني أحبُّ أهل بيتي، وأعطيهم.. فأمّا حبِّي لهم؛فإنَّه لم يمل معهم إلى جور، بل أحمل الحقوق عليهم.. وأما إعطاؤهم، فإني إنّما أعطيهم من مالي،ولا استحلُّ أموال المسلمين لنفسي ولا لأحد من الناس،وقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرَّعية من صلب مالي أزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر،وعمر،وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتيت على أسنان أهل بيتي351، وفني عمري، وودَّعت الذي لي في أهلي،قال الملحدون ما قالوا352؟ وكان عثمان قد قسم ماله، وأرضه في بني أميه، وجعل ولده كبعض مَنْ يعطي، فبدأ ببني أبي العاص، فأعطى آل الحكم رجالهم عشرة الآف، فأخذوا مئة ألف، وأعطى بني عثمان مثل ذلك، وقسم في بني العاص، وفي بني العيص، وفي بني حرب353، فهذه النصوص وغيرها وممَّا اشتهر عنه، وما صحَّ من الأحاديث في فضائله الجمّة تدل على ما قيل فيه من إسرافه في بيت المال، وإنفاق أكثره على أقاربه، وقصوره حكايات بدون زمام، ولا خطام354.(1/93)
إن سيرة عثمان رضي الله عنه في أقاربه تمثِّل جانباً من جوانب الإسلام الكريمة الرحيمة،لقوله تعالى:(( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا)) (الإسراء ، الآية :26).كما أنَّها تمثِّل جانباً عملياً من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد رأى عثمان رضي الله عنه من رسول الله وعلم من حاله ما لم ير،أو يعلم غيره من منتقديه وعقل من الفقه ما لم يعقله مثله من جمهرة النَّاس، وكان ممَّا رأى شدَّة حبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقاربه وبرِّه لهم، وإحسانه إليهم،وقد أعطى عمَّه العَّباس ما لم يعط أحداً عندما ورد عليه مال البحرين355، ولعثمان وسائر المؤمنين في رسول الله أعظم القدوة356، وقد ردَّ ابن تيمية ـ رحمه الله ـ على من اتَّهم عثمان بتفضيله أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال فقال: وكان يؤثر أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال حتَّى إنَّه دفع إلى أربعمائة نفر من قريش زوَّجهم بناته أربعمائة ألف دينار، ودفع إلى مروان ألف وألف دينارـ مليون دينارـ فالجواب يقال: أين النقل الثابت بهذا؟. نعم كان يعطي أقاربه، ويعطي غير أقاربه أيضاً، وكان يحسن إلى جميع المسلمين، وأمَّا هذا القدر الكثير فيحتاج إلى نقل ثابت، ثم يقال ثانياً:هذا من الكذب البيِّن، فإنه لا عثمان ولا غيره من الخلفاء الراشدين أعطوا أحداً ما يقارب هذا المبلغ357.
12ـ هل عين عثمان رضي الله عنه أحداً من أقربائه على حساب المسلمين؟(1/94)
لم يكن عثمان رضي الله عنه عين أحداً من أقاربه على حساب المسلمين ولو أراد أن يجامل أحداً من أقاربه على حساب المسلمين لكان ربيبه محمد بن أبي حذيفة أولى النَّاس بهذه المجاملة، ولكنَّ الخليفة أبى أن يوليه شيئاً ليس كفؤاً له بقوله: يابنيَّ لو كنت رضاً ثمّ سألتني العمل، لاستعملتك، ولكن لست358هناك.ولم يكن ذلك كراهية له، ولا نفوراً منه، وإلا لما جهَّزه من عنده، وحمله، وأعطاه حين أستأذن في الخروج إلى مصر359وأمّا استعمال الأحداث فكان لعثمان رضي الله عنه في رسول الله أسوة حسنة فقد جهَّز جيشاً لغزو الرُّوم في آخر حياته واستعمل عليه أسامة بن زيد، رضي الله عنهما360، وعندما توفيِّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم تمسَّك الصديق رضي الله باء نفاذ هذا الجيش، لكنَّ بعض الصحابة رغبوا في تغيير أسامة بقائد أحسن منه، فكلَّموا عمر في ذلك ليكلمِّ أبا بكر، فغضب أبو بكر لمَّا سمع هذه المقالة، وقال لعمر: يا عمر استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم،وتأمرني أن أعزله361. ويجيب عثمان بنفسه على هذه المآخذ أمام الملاء من الصحابة بقوله: ولم أستعمل إلا مجتمعاً، محتلماً، مرضياً، وهؤلاء أهل عملهم، فسلوهم عنهم، وهؤلاء أهل بلدهم وقد ولىَّ من قبلي أحدث منهم، وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ممَّا قيل لي في استعماله لأسامة،أكذلك؟ قالوا: نعم يعيبون للنَّاس مالا يفسرون362. ويقول عليّ رضي الله عنه: ولا يولِّ أي: عثمان ـ إلا رجلاً سويا، عدلا، وقد ولىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عتّاب بن أسيد على مكّة وهو ابن عشرين سنة363ولم يكن ولاة الأمصار في عهد عثمان رضي الله عنه جاهلين بأمور الشَّرع، ولم يكونوا من المفرِّطين في الدِّين، وإذا كانت لهم ذنوب، فلهم حسنات كثيرة، ومع ذلك فإن سيئات وذنوب هؤلاء تعود عليهم ولم يكن لها تأثير في المجتمع المسلم، وقد تتبعنا آثار هؤلاء الولاة أيَّام ولايتهم، ووجدناها عظيمة الفائدة للإسلام(1/95)
والمسلمين، وقد اهتدى على يدي ولاة عثمان مئات الألوف إلى الإسلام، وبسبب فتوحاتهم انضمّ إلى ديار الإسلام أقاليم واسعة، ولو لم يكن عند هؤلاء من الشجاعة، والدّين ما يحثهم على الجهاد، ما قادوا الجيوش إلى الجهاد، وفيه مظنة الهلاك، وفيه ترك الراحة، ومتاع الدنيا وقد تتبعت سيرة هؤلاء الولاة، فوجدت لكل واحد منهم فتحاً، أو فتوحاً في الجهات التي تجاور ولايته، مع مناقب وصفات حسنة تؤهله للقيادة وقد فصلت في كتابي عن عثمان رضي الله عنه في مبحث مستقل حقيقة ولاة عثمان364رضي الله عنه.
إن الذي يرجع إلى الصحيح الممحّص من وقائع التاريخ، ويتتبع سيرة الرجال الذين استعان بهم أمير المؤمنين ذو النورين ـ رضوان الله عليهم ـ وما كان لجهادهم من جميل الأثر في تاريخ الدعوة الإسلامية، بل ما كان لحسن إدارتهم من عظيم النتائج في هناء الأمّة، وسعادتها، فإنه لا يستطيع أن يمنع نفسه عن الجهر بالإعجاب، والفخر كلمّا أمعن في دراسة ذلك من أدوار التاريخ الإسلامي365.(1/96)
إن عثمان رضي الله عنه وولاته انشغلوا بمدافعة الأعداء، وجهادهم، وردّهم، ولم يمنعهم ذلك من توسيع رقعة الدولة الإسلامية، ومدّ نفوذها في مناطق جديدة، وقد كان للولاة تأثير مباشر في أحداث الفتنة حيث كانت التهمة موجهة إليهم، وأنّهم اعتدوا على الناس، ولكنّنا لم نلمس حوادث معينة يتّضح فيها هذا الاعتداء المزعوم، والمشاع، كما اتُّهم عثمان بتولية أقاربه، وقد دحضنا تلك الفرية، وهكذا نرى: أنّ عثمان لم يألُ جهداً في نصح الأمة، وفي تولية من يراه أهلاً للولاية، ومع هذا لم يسلم عثمان، وولاته من اتهامات وجهت إليهم من قبل أصحاب الفتنة في حينها، كما أن عثمان رضي الله عنه لم يسلم من كثير من الباحثين في كتاباتهم غير المحقّقة عن عهد عثمان وخصوصاً الباحثين المحدثين الذين يطلقون أحكاماً لا تعتمد على التحقيق، أو على وقائع محددة، يعتمدون فيها على مصادر موثوقة، فقد تورّط الكثير منهم في الرّوايات الضّعيفة، والرافضّية، وبنو أحكاماً باطلة وجائرة في حق الخليفة الرّاشد عثمان بن عفان، مثل طه حسين في كتابه: الفتنة الكبرى، وراضي عبد الرحيم في كتابه: النظام الإداري والحربي، وصبحيّ الصالح في كتابه: النُّظم الإسلامية، ومولوي حسين في كتابه: الإدارة العربية، وصبحي محمصاني في كتابه: تراث الخلفاء الراشدين في الفقه، والقضاء، وتوفيق اليوزبكي في كتابه: دراسات في النظم العربية والإسلامية، ومحمد الملحم في كتابه: تاريخ البحرين في القرن الأول الهجري، وبدوي عبد اللطيف في كتابه: الاحزاب السياسية في فجر الإسلام، وأنور الرِّفاعي في كتابه: النظم الإسلامية، ومحمد الرّيِّس في كتابه: النظريات السياسية، وعلي حسني الخربوطلي في كتابه: الإسلام والخلافة، وأبي الأعلى المودودي في كتابه الملك والخلافة وسيد قطب في كتابه: العدالة الاجتماعية، وغيرهم366.(1/97)
ولقد أكثر المؤرخون من الحديث عن محاباة عثمان أقاربه، وسيطرتهم على أزمة الحكم في عهده، حتّى أثاروا عليه نقمة كثير من الناس، فثاروا ناقمين عليه إطلاقه يد ذوي قرباه في شئون الدولة367، وأقارب عثمان الذي ولاهم رضي الله عنه أوّلهم معاوية بن أبي سفيان، والثاني عبد الله بن أبي السرح، والثالث الوليد بن عقبة، والرّابع سعيد بن العاص، والخامس عبد الله بن عامر، هؤلاء خمسة ولاهم عثمان، وهم من أقاربه، وهذا في زعمهم مطعن عليه،فلو أخذنا إحصائية لوجدنا: أن عدد الولاة في عهد عثمان ستة وعشرون والياً، ألا يصح أن يكون خمسة من بني أمية يستحقون الولاية وبخاصة إذا علمنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوليّ بني أمية أكثر من غيرهم؟ علماً بأن هؤلاء الولاة لم يكونوا كلّهم في وقت واحد، بل كان عثمان رضي الله عنه ولىّ الوليد بن عقبة، ثمّ عزله، فولى مكانه سعيد بن العاص، فلم يكونوا خمسة في وقت واحد، ولم يتوفّ عثمان إلا وقد عزل أيضا سعيد بن العاص، فعندما توفي عثمان لم يكن من بني أمية من الولاة ألا ثلاثة وهم معاوية، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح، وعبد الله بن عامر بن كريز فقط، عزل عثمان الوليد بن عقبة، وسعيد بن العاص، ولكنّه عزلهما من أين؟ من الكوفة التي عزل منها عمر سعد بن أبي وقاص، الكوفة التي لم ترض بوالٍ أبداً إذ عزلُ عثمان رضي الله عنه لأولئك الولاة لا يعتبر مطعناً فيهم، بل مطعن في أهل الشغب في المدينة التي وُلُّوا عليها368. إن بني أمية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعملهم في حياته، واستعملهم بعده من لا يُتهم بقرابة منهم أبو بكر، وعمر، رضي الله عنهما، ولا نعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمّال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من بني عبد شمس! لأنهم كانوا كثيرين وكان فيهم شرف وسؤددّ، فاستعمل النبي صلى الله عليه وسلم عتّاب بن أسيد بن أبي العاص على مكة، وأبا سفيان بن حرب على نجران، وخالد بن سعيد على(1/98)
صدقات بني مدحج، وأبان بن سعيد على بعض السّرايا ثمّ على البحرين فعثمان رضي الله عنه، لم يستعمل إلا من استعمله النبي صلى الله عليه وسلم، ومن جنسهم، وقبيلتهم، وكذلك أبو بكر وعمر بعده فقد ولى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان في فتوح الشام، وأقرّه عمر، ثمّ ولىّ عمر بعده أخاه معاوية369. والسؤال الذي يطرح نفسه أأثبت هؤلاء كفاءتهم أم لا؟ والحقيقة العلمية التي أثبتها في كتابي عن عثمان رضي الله عنه بأن ولاة عثمان أثبتوا كفاءتهم، فالولاة الذين ولاهم عثمان رضي الله عنه من أقاربه قد أثبتوا الكفاءة والمقدرة في إدارة شؤون ولاياتهم، وفتح الله على أيديهم الكثير من البلدان وساروا في الرعية سيرة العدل والإحسان370، فمثلاً معاوية رضي الله عنه كانت سيرته مع الرعية في ولايته من خير سير الولاة ممّا جعل النّاس يحبونه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خيار أئمتكم ـ حكامكم ـ الذين تحبونهم، ويحبونكم، وتصلون عليهم ـ تدعون لهم ـ ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم، ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم371، وقد بين القاضي ابن العربي وأثبت أن رسول الله استكتبه، وأن سند ولايته الأعمال في الدولة الإسلامية لم يكن لأحد قبله، ولم يكن لأحد بعده، حيث أجتمع على توليته: رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بعده خلفاؤه الثلاثة، ثم صالحه وأقرّ له بالخلافة الحسن بن علي بن أبي طالب372.
13 ـ أسباب فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه:(1/99)
قال الزهري: ولي عثمان اثنتي عشرة سنة أميراً للمؤمنين، أوّل ستّ سنين منها لم ينقم الناس عليه شيئاً، وإنّه لأحبُّ إلى قريش من عمر بن الخطاب، لأنّ عمر كان شديداً عليهم، أمّا عثمان، فقد لان لهم، وَوَصَلَهم، ثمّ حدثت الفتنة بعد ذلك، وقد سمّى المؤرِّخون المسلمون الأحداث في النِّصف الثاني من ولاية عثمان 30 ـ 35هـ (الفتنة)، التي أدَّت إلى استشهاد عثمان رضي الله عنه373، وكان المسلمون في خلافة أبي بكر، وعمر، وصدراً من خلافة عثمان، متَّفقين، لا تنازع بينهم، ثم حدثت في أواخر خلافة عثمان أمور، أوجبت نوعاً من التفرق، وقام قوم من أهل الفتنة، والظلم فقتلوا عثمان، فتفرق المسلمون بعد مقتل عثمان،374 وكان المجتمع الإسلامي في خلافة الصديق، والفاروق، والنِّصف الأوَّل من خلافة عثمان يتَّصف بالسِّمات الآتية.
أنه في عمومه ـ مجتمع مسلم بكل معنى الإسلام، عميق الإيمان بالله واليوم الآخر، مطبق الإسلام بجدية واضحة، والتزام ظاهر، وبأقلّ قدر من المعاصي وقع في أي مجتمع في التَّاريخ.
_ أنه المجتمع الذي تحقَّق فيه أعلى مستوى للمعنى الحقيقيِّ للأمَّة بمعناها الرَّباني، فهي الأمة التي تربط بينها رابطة العقيدة، بصرف النظر عن اللغة، والجنس، واللَّون، ومصالح الأرض القريبة، وهذه لم تتحقَّق في التاريخ كما تحقّقت في الأمة الإسلامية.
ـ أنه مجتمع أخلاقيُّ يقوم على قاعدة أخلاقية واضحة مستمدة من أوامر الدين، وتوجيهاته.
ـ أنه مجتمع جادٌ، مشغول بمعالي الأمور لا بسفاسفها، وليس الجدُّ بالضرورة عبوساً، وصرامة، ولكنه روح تبعث الهمّة في الناس، وتحثُّ على النشاط، والعمل، والحركة.
ـ أنه مجتمع مجنَّد للعمل، في كلِّ اتجاه، تلمس فيه روح الجنديَّة واضحة لا في القتال في سبيل الله فحسب، ولكن في جميع الاتجاهات، فهو معبَّأ من تلقاء نفسه بدافع العقيدة وبتأثير شحنتها الدّافعة لبذل النشاط في كلِّ اتجاه375(1/100)
ـ أنه مجتمع متعبِّدُ نلمس فيه روح العبادة واضحة في تصرفاته ليس فقط في أداء الفرائض، والتطوّع بالنَّوافل ابتغاء مرضات الله، ولكن في أداء الأعمال جميعاً والعمل في حسِّه عبادةٌ، يؤديه بروح العبادة376.
هذه من أهم صفات عهد الخلفاء الراشدين ـ بصفة عامة ـ إلا أن تلك السِّمات كانت أقوى كلمَّا اقتربنا من عهد النبوة وتضعف كلَّما ابتعدنا عن عصر النُّبوة، وقد بدأ التغير على عهد الخلافة الراشدة مع ظهور فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه وكان لظهور هذه المحنة العظيمة التي مرت بها الأمة أسباب منها :(1/101)
أ ـ الرخاء وأثره في المجتمع : وغنيٌّ عن الإشارة: أنَّ النِّعم، والخيرات، وتلك الواردات من الفتوح سيكون لها أثرها على المجتمع، إذ تجلب الرَّخاء وما يترتَّب عليه من إنشغال النَّاس بالدُّنيا، والافتتان بها، كما أنَّها مادة للتنافس، والبغضاء خاصة بين أولئك الذين لم يصقل الإيمان نفوسهم، ولم تهذبهم التَّقوى من أعراب البادية، وجفاتها، ومن مسلمة الفتوحات، وأبناء الأمم المترفة، وقد أدرك عثمان رضي الله عنه هذه الظاهرة وأنذر بما سيؤول إليه أمر الأمّة من التَّبذُّل والتغيُّر في كتابه الموجه إلى الرّعية: فإن أمر هذه الأمة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاثةٍ فيكم: تكامل النِّعم، وبلوغ أولادكم من السبايا، وقراءة الأعراب والأعاجم للقرآن377، وحدث ما توقعه عثمان رضي الله عنه وبدأ التغير أثره يظهر أولاً على أطراف الدّولة الإسلامية ثم أخذ يزحف إلى عاصمة الخلافة، ممّا دفع عثمان رضي الله عنه إلى تذكير المسلمين في خُطَبهِ بضرورة الحذر من التهالك على الدنيا، وحطامها، فكان مما قاله في إحدى خطبه: إنَّ الله إنَّما أعطاكم الدُّنيا، لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها، لتركنوا إليها، إن الدنيا تفنى، وإن الآخرة تبقى، ولا تبطرنَّكم الفانية، ولا تشغلنكم عن الباقية،... واحذروا ومن الله الغير، والزموا جماعتكم،لا تصيروا أحزاباً378، ثم قرأ: ((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))(1/102)
(آل عمران ، آية: 103 ـ 104).
…وفي مثل هذه الظروف، والخيرات، فاضت الدُّنيا على المسلمين وتفرّغ الناس بعد أن فتحوا الأقاليم، واطمأنُّوا فأخذوا ينقمون على خليفتهم379. ومن هنا يُعلم أثر الرخاء في تحريك الفتنة، ومن هنا أيضاً يمكن فهم مقالة عثمان رضي اله عنه لعبد الرَّحمن بن ربيعة ـ له صحبة ـ وهو على الباب380: إن الرَّعية قد أبطر كثيراً منهم البطنة، فقصِّر بهم، ولا تقتحم بالمسلمين، فإنِّي خاشٍ أن يبتلوا381.
ب ـ طبيعة التحول الإجتماعيِّ في عهد عثمان رضي الله عنه:(1/103)
…حدثت تغيران إجتماعية عميقة، ظلَّت تعمل في صمت، وقوة لا يلحظها كثير من الناس، حتى ظهرت على ذلك الشكل العنيف المتفجِّر بدءاً من النِّصف الثاني من خلافة عثمان بلغت قمّة فورانها في التمرُّ الذي أدَّى إلى استشهاد عثمان رضي الله عنه382، ولما توسَّعت الدولة الإسلامية عبر حركة الفتوح، حصل تغيُّر في تركيبة المجتمع والاختلالات في نسيجه، لأنَّ هذه الدَّولة بتوسُّعها المكانِّي، والبشريِّ، ورثت ما على هذه الرقعة الواسعة من أجناس، وألوان ولغات، وثقافات، وعادات، ونظم، وأفكار، ومعتقدات، وفنون أدبية، وعمرانية، ومظاهر، وظهرت على سطح هذا النسيج ألوان مضطربة، وخروقات غير منتظمة، كما صيَّرت المجتمع غير متجانس في نسيجه التَّركيبيِّ، وبالذات في الأمصار الكبرى المؤثِّرة: البصرة، الكوفة، والشّام، ومصر، والمدينة ومكة، فقد كانت الأمصار الكبيرة ربموقعها وأهمينهار تدفع لجيش الفتوح، وتستقيلها وهي عائدة، وقد نقص عددها بالموت والقتل، وتستقبل بدلا عنهم أو أكثر منهم أعداداً وفيرة من أبناء المناطق المفتوحة، فرس، وترك، وروم، وقبط، وكرد، وبربر، وكان أكثرهم من الفرس، أو النَّصارى العرب، أو غيرهم، أو من اليهود383، وأكثر سكان هذه الأمصار، وكان أغلب هؤلاء من القبائل العربَّية من جنوبها، وشمالها، وشرقها، والذين لم يكونوا ـ عادة ـ من الصَّحابة، وبمعنى أدق: ليسوا ممَّن تلقَّوا التَّربية الكافية على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو على أيدي الجيل الأوَّل من الصحابة، إمَّا لانشغالهم بالفتوح، أو لقلة الصحابة، وقد حصلت تغيراتٌ في نسيج المجتمع البشريِّ المكوَّن من الجيل السَّابقين، وسكّان البلاد المفتوحة، والأعراب، ومن سبقت لهم ردَّة، واليهود، والنَّصارى وفي تكوين نسيج المجتمع الثَّقافي، وفي بسطة عيش المجتمع، وفي ظهور لون جديد من الانحرافات، وفي قبول الشائعات384(1/104)
ث ـ ظهور جيل جديد: فقد حدث في المجتمع تغيُّر أكبر، ذلك: أن جيلا جديداً من الناس ظهر، وأخذ يحتل مكانه في المجتمع وهو غير جيل الصحابة، جيل يعيش في العصر غير الذي كانوا يعيشون فيه، ويتَّصف بما لا يتَّصفون به، فهو جيل385، يعتبر في مجموعه أقلَّ من الجيل الأوَّل الذي حمل على كتفه عبء بناء الدّولة، وإقامتها، فقد تمَّيز الجيل الأوَّل من المسلمين بقوَّة الإيمان، والفهم السَّليم لجوهر العقيدة الإسلامَّية، والاستعداد التّام، لإخضاع النَّفس لنظام الإسلام المتمثلَّ في القرآن والسُّنَّة، وكانت هذه الميِّزات أقل ظهوراً في الجيل الجديد الذي وُجد نتيجة للفتوحات الواسعة، وظهرت فيه المطامع الفرديَّة، وبُعثت فيه العصبية للأجناس، والأقوام، وبعضهم يحملون رواسب كثيرة من رواسب الجاهليَّة التي كانوا عليها ولم ينالوا من التربية الإسلامية على العقيدة الصحيحة السَّليمة مثل ما نال الرَّعيل الأوَّل من الصَّحابة رضي الله عنهم على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لكثرتهم، وانشغال الفاتحين بالحروب والفتوحات الجديدة386، فالصَّحابة كانوا أقلَّ فتناً من سائر من بعدهم، فإنَّه كلما تأخَّر العصر عن النبوة كثر التفرق والخلاف387، ووجد دعاة الفتنة في المنحرفين من الجيل الجديد بغيتهم.
ج ـ استعداد المجتمع لقبول الشائعات :(1/105)
…ندرك من خلال هذا الخليط غير المتجانس في نسيج المجتمع: أنه صار مهيَّئاً للهزَّات، مستعدَّاً للاضطراب، قابلاً لتلقِّي الإذاعات، والأقاويل والشائعات388 ، ولهذا لما كان الناس في خلافة أبي بكر وعمر ـ أقرب عهداً بالرِّسالة، وأعظم إيماناً، وصلاحاً، وأئمتهم أقوم بالواجب، وأثبت في الطمأنينة لم تقع فتنة، إذ كانوا في حكم القسط، أي: النفوس المطمئنة389، ولما كان في آخر خلافة عثمان، وخلافة عليَّ، كثر: ـ أهل النفس اللَّوَّامة التي تخلط عملاً صالحاً، وآخر سيئاً ـ فصار فيهم شهوة، وشبهة مع الإيمان، والدِّين، وصار ذلك في بعض الولاة، وبعض الرِّعايا، ثمَّ كثر هذا القسم، الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فنشأت الفتنة التي سببها ما تقدَّم من عدم تمحيص التَّقوى، والطَّاعة في الطَّرفين، واختلاطهما بنوع من الهوى، والمعصية في الطَّرفين، وكل منهم متأوِّلٌ وأنه يأمر بالمعروف، وينهي عن المنكر، وأنَّه مع الحقِّ، والعذل، ومع هذا التأويل نوع من الهوى، ففيه من الظنِّ، وما تهوى الأنفس، وإن كانت إحدى الطائفتين أولى بالحقِّ من الأخرى390، ويوضِّح هذا الواقع بدقة أكثر ذلك الحوار الذي دار بين أمير المؤمنين على بن أبي طالب، وأحد أتباعه، قال الرَّجل: ما بال المسلمين اختلفوا عليك، ولم يختلفوا على أبي بكر، وعمر؟ قال علي: لأنَّ أبا بكر، وعمر كانا واليين على مثلي، وأنا اليوم والٍ على مثلك391، وكان أمير المؤمنين عثمان بن عفان مدركاً لما يدور في وسط المجتمع حيث قال في رسالته إلى الأمراء: أمّا بعد، فإن الرَّعَّية قد طعنت في الانتشار، ونزعت إلى الشَّره، وأَعْدّاها على ذلك ثلاث: دنيا مؤثرة، وأهواء مسرعة، وضغائن محمولة، يوشك أن تنفر، فَتُغيَّر392.
خ ـ مجيء عثمان بعد عمر، رضي الله عنهما:(1/106)
…كان مجيء عثمان رضي الله عنه مباشرة بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه واختلاف الطبع بينهما مؤدِّياً إلى تغيُّر أسلوبهما في معاملة الرَّعية، فبينما كان عمر قوي الشكيمة، شديد المحاسبة لنفسه، ولمن تحت يديه، كان عثمان ألين طبعاً وأرقَّ في المعاملة، ولم يكن يأخذ نفسه، أو يأخذ النّاس بما يأخذ به عمر حتّى يقول عثمان لنفسه: يرحم الله عمر: ومن يطيق ما كان عمر يطيق393؟! لكن النَّاس، وإن رغبوا في الشَّوط الأوَّل من خلافته، لأنَّه لان معهم، وكان رضي الله عنهم شديداً عليهم حتَّى أصبحت محبَّته مضرب المثل، فقد أنكروا عليه بعد ذلك، ويرجع هذا إلى نشأة عثمان في لطفه، ولين عريكته، ورقة طبعه ودماثة خلقه، ممّا كان له بعض الأثر في مظاهر الفرق عند الأحداث بين عهده، وعهد سلفه عمر بن الخطَّاب، وقد أدرك عثمان ذلك حين قال لأقوام سجنهم: أتدرون ما جرّأكم عليَّ؟ ما جرَّأكم عليَّ إلا حلمي394، وحين بدأت نوايا الخارجين وقد ألزمهم عثمان الحجَّة في ردّه على المآخذ التي أخذوها عليه أمام الملأ من الصَّحابة والنّاس أبى المسلمون إلا قتلهم وأبى عثمان إلا تركهم، لحلمه، ووداعته قائلاً: بل نعفو، ونقبل، ولنصبرهم بجهدها، ولا نحادّ أحداً حتى يركب حدّاً، أ, يبدي كفراً395.
ح ـ خروج كبار الصَّحابة من المدينة:(1/107)
…كان عمر رضي الله عنه قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان إلا بإذن، وأجلٍ، فشكوه، فبلغه، فقام، فقال: ألا أنِّي قد سننت الإسلام سَنُّ البعير، يبدأ فيكون جذعاً، ثم ثَنِيّاً، ثمّ رباعيّاً، ثم سدسيّاً، ثمّ بازلا396، فهل ينتظر بالبازل إلا النقصان، ألا فإنَّ الإسلام قد نَزَل، ألا وإنَّ قريشاً يريدون أن يتخذوا مال الله معوناتٍ دون عباده، ألا فأمّا وابن الخطاب حيٌّ فلا، إني قائم دون شِعب الحرَّة، آخذ بحلاقيم397 قريش، وَحُجَزِها أن يتهافتوا في النَّار398، لقد كان عمر يخاف على هؤلاء الصَّحابة من انتشارهم في البلاد المفتوحة، وتوسُّعهم في القطاع والضِّياع فكان يأتيه الرَّجل، من المهاجرين، وهو ممَّن حبس في المدينة، فيستأذنه في الخروج، فيجيبه عمر: لقد كان لك في غزوك مع رسول الله ما يبلغك، وخير لك من الغزو اليوم ألا ترى الدُّنيا، ولا تراك399، وأمَّا عثمان فقد سمح لهم بالخروج، ولان معهم.
س ـ العصبية الجاهلية:(1/108)
…يقول ابن خلدون: لما استكمل الفتح، واستكمل للملَّة الملك ونزل العرب بالأمصار في حدود ما بينهم وبين الأمم من البصرة، والكوفة، والشّام ومصر، وكان المختصُّون بصحبة الرَّسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهديه، وآدابه: المهاجرين والأنصار، وقريش، وأهل الحجاز، ومن ظفر بمثل ذلك من غيرهم، وأمَّا سائر العرب من بني بكر بن وائل، وعبد القيس، وسائر ربيعة، والأزد، وكنده، وتميم، وقضاعة، وغيرهم فلم يكونوا في تلك الصحبة بمكان إلا قليل منهم. وكانت لهم في الفتوحات قدم، فكانوا يرون ذلك لأنفسهم مع ما يدين به فضلاؤهم من تفضيل أهل السَّابقة، ومعرفة حقِّهم، وما كانوا فيه من الذهول، والدَّهش لأمر النٌّبوّة، وتردُّد الوحي، وتنزل الملائكة، فلمَّا انحصر ذلك العباب، وتنوسي الحال بعض الشَّيء، وذل العدوُّ، واستفحل الملك، كانت عروق الجاهليَّة تنبض، ووجدوا الرِّياسة عليهم من المهاجرين، والأنصار، وقريش، وسواهم، فأنفت نفوسهم منه، ووافق ذلك في أيَّام عثمان، فكانوا يظهرون الطعن في ولاته بالأمصار، والمؤاخذة لهم باللَّحظات، والخطوات، والاستبطاء عليهم بالطاعات، والتَّجنِّي بسؤال الاستبداد منهم، والعزل ويفيضون في النّكير على عثمان، وفشت المقالة في ذلك في أتباعهم، وتناولوا بالظُّلم في جهاتهم، وانتهت الأخبار بذلك إلى الصَّحابة بالمدينة، فارتابوا، وأفاضوا في عزل عثمان، وحمله على عزل أمرائه، وبعث إلى الأمصار من يأتيه بالخبر.. فرجعوا إليه فقالوا: ما أنكرنا شيئاً، ولا أنكره أعيان المسلمين ولا عوامُّهم400.
ش ـ توقُّف الفتوحات بسبب حواجز طبيعية أو بشرية:(1/109)
…حيث توقَّفت الفتوح في أواخر عهد عثمان أما حواجز طبيعية أو بشرية لم تتجاوزها، سواء في جهات فارس، وشمالي بلاد الشَّام، أو في جهة إفريقية، توقفت الغنائم على أثرها، فتساءل الأعراب، أين ذهبت الغنائم القديمة؟ أين ذهبت الأراضي المفتوحة التي يعدونها حقاً من حقوقهم401، وانتشرت الشائعات الباطلة التي اتهمت عثمان رضي الله عنه بأنه تصرف في الأراضي الموقوفة على المسلمين وفق هواه، وأنه أقطع منها لمن شاء من النَّاس، وقد كان لها أثر، وواقع على الأعراب، وخاصة وأنَّ معظمهم بقي بدون عمل يقضون شطراً من وقتهم في الطعام،والنَّوم والشطر الآخر بالخوض في سياسة الدّولة، والحديث عن تصرُّفات عثمان التي كانت تهوِّلها السبئيَّة، وقد أدرك أحد عمّال عثمان هذا الأمر، وهو عبد الله بن عامر، فأشار على الخليفة حيث طلب من عماله ـ وهم وزراؤه، ونصحاؤه ـ أن يجتهدوا في آرائهم، ويشيروا عليه، فأشار عليه أن يأمر النَّاس بالجهاد ويجمرهم في المغازي حتَّى لا يتعدَّى همُّ أحدهم قمل فروة رأسه، ودبر دابته402، وفي ذلك الجو من الحديث، والفكر عند أفراد تعوَّدوا الغزو، ولم يفقهوا من الدِّين شيئاً كثيراً يمكن أن يتوقع كلُّ سوء ويكفي أن يحرّك هؤلاء الأعراب، وأن يُوجَّهوا توجيهاً، فإذا هم يثورون، ويحدثون القلاقل والفتن، وهذا ما حدث بالفعل، فإنَّ الأعراب ـ بسبب توقف الفتوحات ـ ساهموا في بوادر الفتنة الأولى، وكان سبباً من أسباب اندلاعها403.
ص ـ المفهوم الخاطيء للورع بتحريم الحلال:(1/110)
…الورع في الشريعة طيِّبٌ، وهو أن يُترك ما لا بأس به، ومخافة ممَّا فيه بأس، وهو في الأصل ترفع عن المباحات في الله، والله، والورع شيء شخصي يصحُّ للإنسان أن يطالب به نفسه، ولكن لا يصح أن يطالب به الآخرين، ومن أخطر أنواع الورع: الورع الجاهل الذي يجعل المباح حراماً، أو مفروضاً، وهذا الذي وقع فيه أصحاب الفتنة404، فقد استغلَّ أعداء الإسلام يومها مشاعرهم هذه، ونفخوا فيها، فرأوا فيما فعله عثمان من المباحات، أو المصالح خروجاً على الإسلام، وتغييراً لسنَّة من سبقه، وعظمت هذه المسائل في أعين الجهلة، فاستباحوا أو أعانوا من استباح ـ دم الخليفة الراشد عثمان بن عفّان رضي الله عنه وفتحوا على المسلمين باب الفتنة إلى اليوم405.
ط ـ ظهور جيل جديد من الطامحين:
…وجد في الجيل الثاني من أبناء الصحابة رضي الله عنهم من يعتبر نفسه جديراً بالحكم والإدارة، ووجد أمثال هؤلاء أنَّ الطريق أمامهم مغلق، وفي العادة أنه متى وجد الطَّامحون الذين لا يجدون لطموحهم متنفساً، فإنَّهم يدخلون في كل عملية تغيير، ومعالجة أمر هؤلاء في غاية الأهمية406.
ع ـ وجود طائفة موتورة من الحاقدين:(1/111)
…لقد دخل في الإسلام منافقون موتورون اجتمع لهم من الحقد، والذكاء والدَّهاء، ما استطاعوا به أن يدركوا نقاط الضَّعف التي يستطيعون من خلالها أن يوجدوا الفتنة، ووجدوا من يستمع إليهم بآذان صاغية، فكان من آثار ذلك ما كان407، فقد عرفنا سابقاً وجود يهود، ونصارى، وفرس، وهؤلاء جميعاً معروف باعث غيظهم، وحقدهم على الإسلام، والدولة الإسلامّية، ولكنَّنا هنا نضيف من وقع عليه حدٌ أو تعزير لأمر ارتكبه في وسط الدولة، وعاقبه الخليفة، أو ولاته في بعض الأمصار وبالذّات البصرة، والكوفة، ومصر، والمدينة، فاستغلَّ أولئك الحاقدون من اليهود، ونصارى، وفرس، وأصحاب الجرائم مجموعات من الناس كان معظمهم من الأعراب، ممّن لا يفقهون هذا الدِّين على حقيقته، فتكوَّنت لهؤلاء جميعاً طائفة، وصفت من جميع من قابلهم بأنَّهم أصحاب شرِ، فقد وُصفُوا: بالغوغاء من أهل الأمصار، ونزَّاع القبائل، وأهل المياه، وعبيد المدينة408، وبأنهم ذؤبان العرب409، وأنَّهم حثالة النَّاس ومتَّفقون على الشَّرِّ410، وسفهاء عديمو الفقه411، وأرذال من أوباش القبائل412، فهم أهل جفاء، وهمج، ورعاع من غوغاء القبائل، وسفلة الأطراف الأراذل413، وأنَّهم آلة الشيطان414، وقد تردَّد في المصادر اسم عبد الله بن سبأ الصَّنعاني اليهوديِّ ضمن هؤلاء الموتورين الحاقدين، وأنه كان من اليهود، ثمّ أسلم، ولم يًنقَّب أحد عن نواياه، فتنقَّل بين البلدان الإسلاميَّة باعتباره أحد أفراد المسلمين،415، وسيأتي الحديث عنه بإذن الله.
غ ـ التّدبير المحكم لإثارة المآخذ ضدّ عثمان رضي الله عنه:(1/112)
…كان المجتمع مهيَّئاً لقبول الأقاويل، والشائعات نتيجة عوامل وأسباب متداخلة، وكانت الأرض مهيَّأةً، ونسيج المجتمع قابلاً لتلقي الخروقات، وأصحاب الفتنة أجمعوا على الطّعن في الأمراء بحجَّة الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، حتى استمالوا النَّاس إلى صفوفهم، ووصل الطَّعن إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه عن نفسه باعتباره قائد الدَّولة، وإذا ما حصرنا الدّعاوي التي رُوِّجت ضد الخليفة، وطعنوه بها، فيمكننا تصنيفها إلى مجموعات خمس:
ـ …مواقف شخصَّية له قبل توليه الخلافة (تغيبه عن بعض الغزوات، والمواقع.
ـ…سياسته الإدارية النَّافذة: توليه أقاربائه، طريقته في التَّولية.
ـ…اجتهادات خاصة به، أو بمصلحة الأمَّة (إتمام الصَّلاة بمنى ، جمع القرآن ، الزِّيادة في المسجد.
ـ…معاملته لبعض الصًّحابة: عمَّار، أبي ذرّ، ابن مسعود.
وقد بينت موقف عثمان رضي الله عنه في كلِّ ما وجه إليه في كتابي تيسير الكريم المنان في سيرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان شخصيته وعصره. وقد حدث تزيُّد في إبراز المطاعن على عثمان رضي الله عنه سواء في عهده، وما واجهوه بها، وردُّه عليها في حينه، أو ما تُقوِّل عليه فيما بعد عند الرُّواة، والكتَّاب، فإنهّا لم تصح، ولم تصل إلى حدِّ أن تكون سبباً في قتله416.(1/113)
إن المآخذ السَّابق ذكرها والمدوَّنة في تاريخ الطَّبري، وغيره من كتب التاريخ والمرويّة عن طريق المجاهيل، والإخباريين الضُعفاء ـ خاصَّة الشيعة ـ كانت وما تزال بليَّة عظمى على الحقائق في سير الخلفاء والأئمَّة، خاصة في مراحل الاضطرابات والفتن، وقد كان مع الأسف لسيرة عثمان أمير المؤمنين رضي الله عنه من ذلك الحظِّ الوافر، فرواية الحوادث ووضع الأباطيل على النَّهج الملتوي بعض ما نال تلك السيرة النيرة، من تحريف المنحرفين، وتشويه الغالين، بغية التأليب عليه، أو التشهير به وقد أدرك عثمان رضي الله عنه بنفسه ذلك عندما كتب إلى أمرائه: أمّا بعد، فإن الرَّعية طعنت في الانتشار ونزعت إلى الشرِّ، أعداها على ذلك ثلاث: دنيا مؤثرة، وأهواء متسرّعة، وضغائن محمولة417، وقال ابن العربي على تلك المآخذ: قالوا متعدِّين متعلِّقين برواية كذَّابين: جاء عثمان في ولايته بمظالم، ومناكير،... هذا كله باطل سنداً ومتناً418.
ف ـ استخدام الأساليب والوسائل المهيِّجة للنَّاس:(1/114)
وأهم هذه الأساليب: إشاعة الأراجيف، حيث تردّدت كلمة الإشاعة، والإذاعة كثيراً، والتَّحريص، والمناظرة، والمجادلة للخليفة أمام النَّاس، والطَّعن على الولاة، واستخدام تزوير الكتب، واختلاقها على لسان الصَّحابة رضي الله عنهم، كعائشة، وعليِّ، وطلحة، والزبير، والإشاعة بأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه الأحق بالخلافة، وأنَّه الوصي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنظيم فرق في كل من البصرة، والكوفة، ومصر، أربع فرق من كلِّ مصر ممّا يدل على التَّدبير المسبق، وأوهموا أهل المدينة: أنهم ما جاؤوا إلا بدعوة الصَّحابة، وصعَّدوا الأحداث، حتى وصل الأمر إلى القتل419، وإلى جوار هذه الوسائل استخدموا مجموعة من الشعارات منها: التّكبير ومنها: أنَّ جهادهم هذا ضدَّ المظالم، ومنها: أنَّهم لا يقومون إلا بالأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، ومنها: المطالبة باستبدال الولاة، وعزلهم، ثمَّ تطورت المطالبة إلى خلع عثمان، إلى أن تمادوا في جرأتهم وطالبوا، بل سارعوا إلى قتل الخليفة، وخاصَّة حينما وصلهم الخبر بأنَّ أهل الأمصار قادمون لنصرة الخليفة، فزادهم حماسهم المحموم لتضيق الخناق على الخليفة، والشوُّق إلى قتله بأيِّ وسيلة420.
ك ـ دور عبد الله بن سبأ في تحريك الفتنة:(1/115)
…في السَّنوات الأخيرة من خلافة عثمان رضي الله عنه بدت في الأفق سمات الاضطراب في المجتمع الإسلامِّي نتيجة عوامل التَّغيير التي ذكرنها، وأخذ بعض اليهود يتحيَّنون فرصة الظهور مستغلِّين عوامل الفتنة، ومتظاهرين بالإسلام، واستعمال التَّقيَّة، ومن هؤلاء: عبد الله بن سبأ الملقَّب بابن السَّوداء وإذا كان ابن سبأ لا يجوز التَّهويل في شأنه كما فعل بعض المغالين في تضخيم دوره في الفتنة421، فإنه كذلك لا يجوز التَّشكيك فيه، أو الاستهانة بالدَّور الذي لعبه في أحداث الفتنة، كعامل من عواملها، على أنَّه أبرزها، وأخطرها، إذ أنَّ هناك أجواء للفتنة مهَّدت له، وعوامل أخرى ساعدته، وغاية ما جاء به ابن سبأ آراء، ومعتقدات ادّعاها، واخترعها من قبل نفسه، وافتعلها من يهوديَّته الحاقدة، وجعل يروِّجها لغاية ينشدها، وغرض يستهدفه، وهو الدس في المجتمع الإسلامي بغية النَّيل من وحدته، وإذكاء نار الفتنة، وغرس بذور الشِّقاق بين أفراده، فكان ذلك من جملة العوامل التي أدَّت إلى قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وتفرُّق الأمة شيعاً وأحزاباً422. وخلاصة ما جاء به أن أتى بمقدِّمات صادقة، وبنى عليها مبادئ فاسدة راحت لدى السُّذَّج، والغلاة، وأصحاب الأهواء من النَّاس، وقد سلك في ذلك مسالك ملتوية لبَّس فيها على من حوله، حتى اجتمعوا عليه، فطرق باب القرآن بتأوّله على زعمه الفاسد، حيث قال: لَعَجبٌ ممَّن يزعم أنَّ عيسى يرجع، ويكذَِب بأن محمَّداً يرجع، وقد قال تعالي: ((إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ)) (القصص ، آية : 85) فمحمد أحق بالرجوع من عيسى423، كما سلك طريق القياس الفاسد من ادِّعاء إثبات الوصَّية لعليٍّ رضي الله عنه بقوله: إنَّه كان ألف نبيِّ، ولكل نبيٍّ وصيٌّ، وكان عليُّ وصيَّ محمد، ثمّ قال: محمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء، وحينما استقر الأمر في نفوس أتباعه انتقل إلى هدفه(1/116)
المرسوم، وهو خروج النَّاس على الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه فصادف ذلك هوىً في نفوس بعض القوم، حيث قال لهم: من أظلم ممَّن لم يُجِزْ وصيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووثب على وصيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وتناول أمر الأمّة، ثمَّ قال لهم بعد ذلك: إن عثمان أخذها بغير حقٍّ، وهذا وصيُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فانهضوا في هذا الأمر، فحرَّكوه، وابدؤوا بالطَّعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، تستميلوا النَّاس، وادعوهم إلى هذا الأمر424، وبثِّ دعاته، وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه، ودعوا في السِّر إلى ما عليه رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم، ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، ويكتب أهل كلِّ مصر منهم إلى مصر آخر بما يضعون، فيقرأه أولئك في أمصارهم، وهؤلاء في أمصارهم حتَّى تناولوا بذلك المدينة، وأوسعوا الأرض إذاعة، وهم يريدون غير ما يظهرون ويسُّرون غير ما يبدون، فيقول أهل كل مصر: إنّا لفي عافية ممَّا ابتلي به هؤلاء، إلا أهل المدينة فإنَّهم جاءهم ذلك عن جميع الأمصار، فقالوا: إنَّا لفي عافية ممّا فيه النَّاس425، ويظهر من هذا النَّصِّ الأسلوب الذي تبعه ابن سبأ، فهو أراد أن يوقع في أعين الناس بين اثنين من الصَّحابة حيث جعل أحدهما مهضوم الحقِّ وهو عليُّ، وجعل الثاني مغتصباً وهو عثمان، ثمّ حاول بعد ذلك أن يحرِّك النَّاس ـ خاصَّة في الكوفة ـ على أمرائهم باسم الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر فجعل هؤلاء يثورون لأصغر الحوادث على ولاتهم، علماً بأنَّه ركَّز في جملته هذه على الأعراب الذين وجد فيهم مادّة ملائمة لتنفيذ خطّته، فالقرَّاء منهم استهواهم عن طريق الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وأصحاب المطامع منهم هيّج أنفسهم، بالإشاعات المغرضة المفتراة على عثمان، مثل تحيزه لأقاربه، وإغداق(1/117)
الأموال من بيت مال المسلمين عليهم، وأنّه حمى الحمى لنفسه، إلى غير ذلك من التُّهم، والمطاعن التي حرك بها نفوس الغوغاء ضدّ عثمان رضي الله عنه، ثمّ إنه أخذ يحض اتباعه على إرسال الكتب بأخبار سيئة مضعمة عن مصرهم إلى بقية الأمصار، وهكذا يتخيل النّاس في جميع الأمصار: أ نّ الحال بلغ من السوء ما لا مزيد عليه، والمستفيد من هذه الحال هم السبئية، لأن تصديق ذلك من الناس يفيدهم في إشعال شرارة الفتنة داخل المجتمع الإسلامي426، هذا وقد شعر عثمان رضي الله عنه بأن شيئاً ما يحاك في الأمصار، وأنّ الأمّة تمخض بشرٍّ، فقال: والله أن رحى الفتنة لدائرة، فطوبى لعثمان إن مات، ولم يحرّكها427، على أن المكان الذي رتع فيه أبن سبأ هو مصر، وهناك أخذ ينظّم حملته ضدّ عثمان رضي الله عنه، ويحثُّ على التوجّه إلى المدينة لإثارة الفتنة بدعوى: أنّ عثمان أخذ الخلافة بغير حقٍّ، ووثب على وصيِّ رسول الله، يقصد عليَّا428، وقد غشهم بكتب أدعّى أنها وردت من كبار الصحابة حتى إذا أتى هؤلاء الأعراب المدينة المنَّورة واجتمعوا بالصحابة لم يجدوا منهم تشجيعاً، تبرّؤوا ممّا نسب إليهم من رسائل تؤلّب النَّاس على عثمان429، ووجدوا عثمان مقدّراً للحقوق، بل وناطرهم فيما نسبوا إليه، وردّ عليهم افتراءهم وفسر لهم صدق أعماله حتى قال أحد هؤلاء الأعراب وهو مالك بن الأشتر النّخعي: لعله مُكر به وبكم430، ويعتبر الذهبي: أنّ عبد الله بن سبأ المهيِّيج للفتنة بمصر، وباذر بذور الشِّقاق والنَّقمة على الولاية ثمَّ الإمام ـ عثمان ـ فيها431، ولم يكن ابن سبأ وحده وإنَّما كان عمله ضمن شبكة من المتآمرين، وأخطبوطاً من أساليب الخداع، والاحتيال، والمكر، وتجنيد الأعراب، والقرّاء وغيرهم، ويروي ابن كثير: أنَّ من أسباب تألُّب الأحزاب على عثمان ظهور ابن سبأ، وذهابه إلى مصر، وإذاعته بين النَّاس كلاماً اخترعه من عند نفسه، فافتتن به بشر كثير من أهل مصر432.(1/118)
…إنَّ المشاهير من المؤرِّخين والعلماء من سلف الأمَّة وخلفها يتَّفقون على أنَّ ابن سبأ ظهر بين المسلمين بعقائد، وأفكار، وخطط سبئيَّة، ليلفت المسلمين عن دينهم، وطاعة إمامهم، ويوقع بينهم الفرقة، والخلاف، فاجتمع إليه من غوغاء الناس ما تكوَّنت به الطائفة السَّبيئيَّة المعروفة التي كانت عاملاً من عوامل الفتنة المنتهية بمقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفّان رضي الله عنه والذي يظهر من خطط السَّبئيَّة أنّها كانت أكثر تنظيماً، إذ كانت بارعة في توجيه دعايتها، ونشر أفكارها، لامتّلاكها ناصية الدِّعاية، والتَّأثير بين الغوغاء والرُّعاع من النَّاس، كما كانت نشيطة في تكوين فروع لها سواء في البصرة، أم الكوفة، أم مصر، مستغلة العصبية القبليَّة ومتمكَّنة من إثارة مكامن التَّذمُر عند الأعراب، والعبيد، والموالي، عارفة بالمواضع الحسَّاسة في حياتهم، وبما يريدون433.
موقف معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في الفتنة:(1/119)
…في يوم من أيام سنة ثلاث وثلاثين جلس والي الكوفة سعيد بن العاص في مجلسه العام، وحوله عامَّة النَّاس، وكانوا يتحدَّثون، ويتناقشون فيما بينهم، فتسلَّلَ الخوارج من السَّبئيين إلى المجلس، وعملوا على إفساده، وعلى إشعال نار الفتنة وجرى كلام وحوار في المجلس بين سعيد بن العاص، وبين أحد الحضور، وهو خًنيس بن حُبيش الأسدي، واختلفا على أمر، وكان سبعة من الخوارج، أصحاب الفتنة جالسين، منهم: جندب الأزديُّ، الذي قتل ابنه السَّارق بسبب تورطه في قضية قتل، ومنهم الأشتر النَّخعيُ، وابن الكوَّاء، وصعصعة بن صحوان، فاستغل أصحاب الفتنة المناسبة، وقاموا بضرب خُنيس الأسدي في المجلس، ولمَّا قام أبوه يساعده، وينقذه، ضربوه، وحاول سعيد منعهم من الضَّرب، فلم يمتنعوا، وأُغمي على الرَّجل وابنه من شدَّة الضَّرب، وجاء بنو أسد للأخذ بثأر أبنائهم، وكادت الحرب تقع بين الفريقين، ولكنَّ سعيداً تمكَّن من إصلاح الأمر434، ولمّأ علم عثمان بالحادثة، طلب من سعيد بن العاص أن يعالج الموضوع بحكمة، وأن يضيق على الفتنة ما استطاع، وذهب الخوارج المفتونون إلى بيوتهم، وصاروا ينشرون الإشاعات، ويُذيعون الافتراءات والأكاذيب ضدّ سعيد والي الكوفة، وضدَّ عثمان، وضدَّ أهل الكوفة ، ووجوهها، فاستاء أهل الكوفة منهم، وطلبوا من سعيد أن يعاقبهم، فقال له سعيد: إنَّ عثمان قد نهاني عن ذلك، فإذا أردتم ذلك، فأخبروه، وكتب أشراف أهل الكوفة، وصلحاؤهم إلى عثمان بشأن هؤلاء النَّفر، وطلبوا منه إخراجهم من الكوفة، ونفيهم عنها، فهم مفسدون مخرِّبون فيها، فأمر عثمان واليه سعيد بن العاص بإخراجهم من الكوفة وكانوا بضعة عشر رجلاً، وأرسلهم سعيد إلى معاوية في الشام بأمر عثمان، وكتب عثمان إلى معاوية بشأن هؤلاء، فقال له: إنَّ أهل الكوفة قد أخرجوا إليك نفراً خلقوا للفتنة. فَرُعْهُم، وأخِفْهم، وأدِّبهم، وأقم عليهم، فإن آنست منهم رشداً، فأقبل منهم435. ومن الذين تمَّ(1/120)
نفيهم إلى الشام، الأشتر النَّخعيُّ، وجندب الأزديُّ، وصعصعة بن صوحان، وكميل بن زياد، وعمير بن ضابئ، وابن الكوَّاء436، ولمّا قدموا على معاوية رحب بهم، وأحسن ضيافتهم، وأجرى عليهم بأمر عثمان ما كان يُجرى عليهم بالعراق، وجعل لا يزال يتغدَّى، ويتعشَّى معهم فقال لهم يوماً: إنكم قوم من العرب لكم أسنان، وألسنة، وقد أدركتم بالإسلام شرفاً، وغلبتم الأمم، وحويتم مراتبهم، ومواريثهم، وقد بلغني أنكم نقمتم قريشاً وإنّ قريشاً لو لم تكن، لعدتم أذلة كما كنتم437. كان عثمان رضي الله عنه يدرك: أنَّ معاوية للمعضلة، فله من فصاحته وبلاغته، وله من حلمه، وصبره، وله من ذكائه، ودهائه ما يواجه به الفتن، ومن أجل ذلك ما إن تقع المعضلة حتَّى يرسلها لابن أبي سفيان كي يحلَّها، وفعلاً بذل معاوية رضي الله عنه ما بوسعه من أجل إقناع هؤلاء النَّفر: أكرمهم أوّلاً، وخالطهم، وجالسهم، وعرف سرائرهم من خلال هذه المجالسة قبل أن يحكم عليهم بما نُقل عنهم، وبعد أن أزال الوحشة عنهم، وأزال الكلفة بينه وبينهم، لاحظ أنَّ النَّعرة القبلية هي التي تحرِّكهم، وأنَّ شهوة الحكم والسُّلطة هي التي تثيرهم، فكان لا بدَّ أن يلج عليهم من زاويتين اثنين:
…الأولى: أثر الإسلام في عزَّة العرب.(1/121)
…الثانية: دور قريش في نشر الإسلام وتحمُّل أعبائه فإن كان للإسلام أثرٌ في تكوينهم، فلا بدَّ أن يرعَوَا لهذا الحديث، بعد هذا وضع أمامهم صورة لوضع العرب، وقد انقلبوا بالإسلام أمَّة واحدة تخضع لإمام واحد وودعوا حياة الفوضى، وسفك الدِّماء، والقبليَّة المنتنة438، ويتابع معاوية حديثه معهم، فيقول: إن أئمَّتكم لكم إلى اليوم جُنَّة439، فلا تشذوا عن جنَّتكم، وإنَّ أئمتكم اليوم يصبرون لكم على الجور، ويحتملون منكم المؤونة، والله لتنتهنَّ أو ليبتلينَّكم الله بمن يسومكم، ثمَّ لا يحمدكم على الصَّبر، ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرَّعيَّة في حياتكم، وبعد موتكم، فقال رجل من القوم: أمَّا ما ذكرت من قريش، فإنها لم تكن أكثر العرب، ولا أمنعها في الجاهلية، فتخوفنا، وأما ما ذكرت من الجُنَّة، فإن الجُنَّة إذا اخترقت خلص إلينا. فقال معاوية: عرفتكم الآن، علمت: أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول، وأنت خطيب القوم، ولا أرى لك عقلاً. أُعْظِم عليك أمر الإسلام، وأذكِّرك به، وتذكِّرني الجاهليَّة؟ وقد وعظتك وتزعم لما يُجنُّك: أنه يخترق، ولا ينسب ما يخترق إلى الجُنَّة، أخزى الله أقواماً أعظموا أمركم، ورفعوا إلى خليفتكم440. وعرف معاوية أنَّ الإشارة العابرة لن تقنعهم، ولا بد من شرح مسهب لواقع قريش أوَّلاً، فقال: افقهوا ـ ولا أظنكم تفقهون ـ أنَّ قريش لم تعزَّ في جاهليةٍ ولا في إسلام إلا بالله، عزَّ وجلَّ ـ، لم تكن أكثر العرب، ولا أشدَّهم، ولكنَّهم كانوا أكرمهم أحساباً، وأمحضهم أنساباً، وأعظمهم أخطاراً، وأكملهم مروءةً، ولم يمتنعوا في الجاهلية والناس يأكل بعضهم بعضاً، إلا بالله الذي لا يُستَذَل من أعزَّ، ولا يوضع من رفع، هل تعرفون عرباً، أو عجماً، أو سوداً، أو حمراً إلا قد اصابه الدّهر في بلده، وحرمته بدولةٍ، إلا ما كان من قريش، فإنَّه لم يردهم أحد بكيد إلا جعل الله خدَّه الأسفل، حتى أراد الله أن ينقذ من(1/122)
أكرم، واتَّبع دينه من هوان الدٌّنيا، وسوء مردِّ الآخرة، فارتضى لذلك خير خلقه، ثمَّ ارتضى له أصحاباً، فكان خيارهم قريشاً، ثمَّ بنى هذا الملك عليهم، وجعل هذه الخلافة فيهم، ولا يصلح ذلك إلا عليهم، فكان الله يحوطهم وهم على دينه، وقد حاطهم الله في الجاهليَّة من الملوك الذين كانوا يدينونكم ـ أفٍّ لك، ولأصحابك ولو أن متكلماً غيرك تكلَّم، ولكنَّك ابتدأت، فأمَّا أنت يا صعصعة فإنَّ قريتك شرُّ قرىً عربية، أنتنها نبتاً، وأعمقها وادياً، وأعرفها بالشَّرِّ، وألأمها جيراناً، لم يسكنها شريف قط ولا وضيع إلا سُبَّ بها، وكانت عليه هُجنة. ثمَّ كانوا أقبح العرب ألقاباً، وألأمها أصهاراً نزّاع441 الأمم، وأنتم جيران الخطِّ وفعلة فارس، حتَّى أصابتكم دعوة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، ونكبتك دعوته، وأنت نزيع شطير442في عمان، لم تسكن البحرين، فتشركهم في دعوة النَّبي صلى الله عليه وسلم، فأنت شرُّ قومك، حتى إذا أبرزك الإسلام، وخلطك بالنَّاس، وحملك على الأمم التي كانت عليك، أقبلت تبغي دين الله عوجاً وتنزع إلى اللآمة، والذِّلة، ولا يصنع ذلك قريش، ولن يضرَّهم، ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم، إنَّ الشَّيطان عنكم غير غافل، قد عرفكم بالشَّر من بين أمَّتكم،، فأغرى النَّاس، وهو صارعكم، لقد علم: أنَّه لا يستطيع أن يردَّ بكم قضاء الله، ولا أمراً أراد الله، ولا تدركون بالشَّر أمراً إلا فتح الله عليكم شراً منه، وأخزى، ثم قام وتركهم فتذامروا، فتقاصرت إليهم أنفسهم443وبذلك بذل معاوية كلَّ طاقاته الفكريُّة، والثقافية، والسياسية، لإقناعهم:
ـ …عرض لهم أولاً أمر قريش في الجاهلية والإسلام .
ـ …تناول قبائل هؤلاء النّفر، ووضعها في الجاهلية، حيث كانت تعاني سوء المناخ، ونتن المنبت من الناحية الطبيعية، ثمّ الذلة والتبعية لفارس من الناحية السياسية، إلى أن أكرمها الله بالإسلام فعزت بعد ذلِّ، وارتقت بعد هوانٍ.(1/123)
ـ …تناول معاوية رضي الله عنه صعصعة بن صوحان خطيب القوم، وكيف تلكأّ عن تلبية نداء الرسالة، وقد دخل قومه بها، ثمّ عاد وأنضم إلى الإسلام، ورفعه الإسلام ثانية بعد انحدار.
ـ …كشف معاوية رضي الله عنه مخطّطات صعصعة، وأصحابه، وكيف يبغون الفتنة، ويبغون دين الله عوجاً.
ـ …وإن الشيطان هو وكر هذه الفتنة، ومحرّك هذا الشّر، وبذلك ربط تاريخ الأمة بالله، ثمّ الإسلام، والعقيدة ثمّ كشف عن زيف هؤلاء النّفر، وفضحهم عن آخرهم، وأبان عن مخطّطاتهم، وصلتها بدعوى الجاهلية444.
5 ـ جلسة أخرى:(1/124)
…ثمّ أتاهم القابلة فتحدَّث عنهم طويلاً، ثم قال: أيُّها القوم! ردُّوا عليَّ خيراً، أو اسكتوا، وتفكَّروا، وانظروا فيما ينفعكم، وينفع أهليكم، وينفع عشائركم، وينفع جماعة المسلمين، فاطلبوه، تعيشوا، ونعش بكم قال صعصعة، لست بأهل لذلك، ولاكرامه لك أن تطاع في معصية الله. فقال معاوية: أوليس ما ابتدأتكم به أن أمرتكم بتقوى الله، وطاعته، وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن تعتصموا بحبله جميعاً، ولا تفرقوا؟ قالوا: بل أمرت بالفرقة، وخلاف ما جاء به النَّبي صلى الله عليه وسلم! قال: إنَّي آمركم الآن، إن كنت فعلت، فأتوب إلى الله، وآمركم بتقواه، وطاعته، وطاعة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، ولزوم الجماعة، وكراهة الفرقة، وأن توفِّروا أئمتكم، وتدلوُّهم على كلِّ حسن ما قدرتم، وتعظوهم في لينٍ، ولطف في شيءٍ إن كان معهم، قال صعصعة: فإنا نأمرك أن تعتزل عملك فإنَّ من المسلمين من هو أحقُّ به منك. قال معاوية: من هو؟ قالوا: من كان أبوه أحسن قِدْماً من أبيك، وهو بنفسه أحسن قِدْماً منك في الإسلام، قال معاوية والله إن لي في الإسلام قِدْماً، ولغيري كان أحسن قِدماً منَّي،، ولكنَّه ليس في زماني أحدُ أقوى على ما أنا فيه منّي، ولقد رأى ذلك عمر بن الخطَّاب، فلو كان غيري أقوى منَّي، لم يكن لي عند عمر هوادة، ولا لغيري، ولم أحدث من الحدث ما ينبغي لي أن أعتزل عملي، ولو رأى ذلك أمير المؤمنين، وجماعة المسلمين، لكتب بخطِّ يده، فاعتزلت عمله، ولو قضي الله أن يفعل ذلك، لرجوت أن يعزم له على ذلك إلا هو خير. فمهلاً فإنَّ في ذلك وأشباهه ما يتمنَّى الشيطان، ويأمر، ولعمري لو كانت الأمور تُقضى على رأيكم، وأمانيِّكم ما استقامت الأمور لأهل الإسلام يوماً ولا ليلة، ولكنَّ الله يقضيها، ويدبِّرها وهو بالغ أمره، فعاوِدوا الخير، وقولوه. قالوا: لست لذلك أهلاً. قال معاوية: أما والله إنَّ لله سطوات، ونقمات، وإنِّي لخائف عليكم أن تتابعوا في(1/125)
مطاوعة الشَّيطان حتَّى تُحَّلكم مطاوعة الشَّيطان، ومعصية الرّحمن دار الهوان من نقم الله في عاجل الأمر، والخزي الدّائم في الآجل فوثبوا عليه، فأخذوا بلحيته، ورأسه، فقال: مه! إن هذه ليست بأرض الكوفة، والله لو رأى أهل الشّام ما صنعتم بي وأنا إمامهم ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم، فلعمري إنَّ صنيعكم ليشبه بعضه بعضاً، ثم قام من عندهم: فقال: والله لا أدخل عليكم مدخلاً ما بقيت445، هذه المحاولة الأخيرة التي بذل فيها معاوية أمير الشَّام كلَّ جهده واستعمل حلمه، وثقافته، وأعصابه كي يثنيهم عن الفتنة، إنَّه يدعوهم إلى تقوى الله، وطاعته، والاستمساك بالجماعة، والابتعاد عن الفرقة، وإذ بهم يرفعون عقيرتهم قائلين: ليس لك أن تطاع في معصية الله446. وبحلمه الكبير، وصدره الواسع عاد، فذكَّرهم بأنَّه لا يأمرهم إلا بطاعة الله، وعلى حدَّ زعمهم، فهو يتوب من المعصية، إن وقعت، ثمَّ يعود لدعوتهم إلى الطَّاعة، والجماعة، والابتعاد عن تفريق كلمة الأمَّة، ولو كان الوعظ يجدي معهم، لأمكن أن تتأثَّر قلوبهم لهذه المعاملة، وهذا اللُّطف، وهذا يوجِّههم إلى أن يستعملوا الأسلوب الهاديء في العظة، واللين في النُّصح، فوجدنا المال رحباً أن يكشفوا في مكنون قلوبهم. فقالوا: فإنَّا نأمرك أن تعتزل عملك، فإنَّ في المسلمين من هو أحقُّ به منك، وانتبه معاوية انتباهاً مفاجئاً إلى ما يكنُّون، فأحبَّ أنَّ يتعرف جانباً غامضاً عليه لعلَّ في هذا التعرُّف ما يوصله إلى من يحرِّكهم، ويبثًّ في ذهنهم الأراجيف المغرضة، ولكنَّهم أخفوا ما يكنُّون واكتفوا بالإشارة إلى أنَّهم يحبون أن يدع العمل لمن هو أفضل منه، ولمن أبوه أفضل من أبيه، ثم تحلَّم عليهم أكثر فأكثر رغم الأسلوب الفجِّ الذي سلكوه معه، وهم يأمرونه بأن يعتزل العمل. وهنا نجد لمعاوية جواباً مستفيضاً عن وجهة نظره في الحكم، والإمارة، والقيادة، وقد لخَّص معاوية إجابته في ستِّ نقاط(1/126)
أساسيَّة ومهَّمة:
ـ …هي أنَّ له قِدْماً، وسابقة في الإسلام، فهو حامي ثغر الشَّام منذ وفاة أخيه يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهما .
ـ…أنَّ هناك في المسلمين من هو أفضل منه، وأكرم، وأحسن سابقة، وأكثر بلاءً وهو يرى أنَّه أقوى من يحمي هذا الثَّغر الإسلاميَّ العظيم ـ الشّام ـ فمنذ أن تولاه تمكن من ضبطه، وسياسته، وفهم نفسيَّات أهله حتَّى أحبُّوه.
ـ …إنَّ الميزان الحساس، والمعيار الدِّقيق الذي يقيِّم الولاة هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، فلو وجد من معاوية شططاً، أو انحرافاً عمل له طيلة خلافته، كما ولاه من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعض عمله، واستخدمه كاتباً بين يديه، وولاه أبو بكر الصَّدَّيق من بعده، ولم يطعن في كفاءته أحد.
ـ …إنَّ اعتزال العمل يجب أن يستند لأسباب موجبة للاعتزال، فما هي الحجَّة التي يقدِّمها دعاة الفتنة، ليتمَّ الاعتزال على أساسها؟
ـ…إنَّ الذي يقرِّر العزل عن العمل، أو البقاء في الإمارة ليس هؤلاء الأدعياء، إنَّ ذلك من حقَّ أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وهو الذي له الحقُّ في تعيين الولاة، وعزلهم.
ـ…إنَّ أمير المؤمنين عثمان يوم يقرِّر عزل معاوية، فهو واثق، أنَّ أمره خير كلَّهُ، ولا غضاضه في ذلك فهو أمير مأمور، وهو أمر خليفة المسلمين.447 كان ختام الجلسة مؤسفاً أشدَّ الأسف، مؤلماً أشدَّ الألم، لقد حذَّرهم نقمة الله، وغضبه، وحذَّرهم الانقياد إلى أهوائهم وغرورهم، فماذا كان منهم مقابل ذلك؟ وثبوا عليه وأخذوا برأسه ولحيته، وعندئذ زجرهم، وقمعهم، ووجَّه لهم كلاماً قاسياً مبطَّناً بالتهديد، وعرف: أنَّ هؤلاء يستحيل أن ينصاعوا للحقِّ، فلا بدَّ من إبلاغ أمرهم لأمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وكشف هويَّاتهم، وخطرهم، ليرى فيهم أمير المؤمنين رأياً آخر448.
ـ…كتاب معاوية إلى عثمان رضي الله عنهما بشأن أهل الفتنة من الكوفة:(1/127)
…كتب معاوية إلى عثمان رضي الله عنهما قائلاً: بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله عثمان أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان، أما بعد يا أمير المؤمنين، فإنك بعثت إليَّ أقواماً يتكلمون بألسنة الشياطين وما يُملون عليهم، ويأتون النَّاس ـ زعموا ـ من قِبَل القرآن فيشبهون على الناس،، وليس كل النَّاس يعلم ما يريدون، وإنما يريدون فرقة ويقربون فتنة، قد أثقلهم الإسلام وأضجرهم، وتمكنت رُقَي الشيطان من قلوبهم، فقد أفسدوا كثيراً من النَّاس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة، ولست آمن إن أقاموا وسط أهل الشام أن يغروهم بسحرهم وفجورهم فارددهم إلى مصرهم، فلتكن دارهم في مصرهم الذي نجا فيه نفاقهم449، فكتب عثمان إلى سعيد بن العاص بالكوفة، فردّهم إليه، فلم يكونوا إلا أطلق ألسنة منهم حين رجعوا، وكتب سعيد إلى عثمان يضجّ منهم، فكتب عثمان إلى سعيد أن سيِّرهم إلىعبد الرحمن بن خالد بن الوليد،، وكان أميراً على حمص450، فلما وصلوا إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، استدعاهم، وكلَّمهم كلاماً شديداً، وكان ممَّا قاله لهم: يا آلة الشيطان ألا مرحباً بكم، ولا أهلاً، لقد رجع الشيطان محسوراً خائباً، وأنتم مازلتم نشيطون في الباطل، خَسَّرَ الله عبد الرحمن إن لم يؤدِّ بكم ويخزِكم! يا معشر من لا أدري من أنتم أعرب، أم عجمٌ؟ لن تقولوا لي كما كنتم تقولون لسعيد ومعاوية، أنا ابن خالد بن الوليد، أنا ابن من قد عَجمته العاجمات، أنا ابن فاقيء الرِّدَّة، والله لأذلنَّكم! وأقامهم عبد الرحمن بن خالد عنده شهراً كاملاً، وعاملهم بمنتهى الحزم، والشَّدَّة، ولم يَلِن معهم كما لان سعيد، ومعاوية، وكان إذا مشى مشوا معه، وإذا ركب ركبوا معه، وإذا غزا غزوا معه، وكان لا يدع مناسبة إلا ويذلهُّم فيها، وكان إذا قابل زعيمهم صعصعة بن صوحان يقول له: يا بن الخطيئة! هل تعلم أنَّ من لم يصلحه الخير أصلحه الشَّرُّ، وأن من لم يصلحه اللِّين أصلحته(1/128)
الشدَّة؟ وكان يقول لهم: لماذا لا تردُّون عليَّ، كما كنتم تردُّون على سعيد في الكوفة، وعلى معاوية بالشام؟ لماذا لا تخاطبوني، كما كنتم تخاطبوهما؟ ونفع معهم أسلوب عبد الرَّحمن بن خالد، وأخرسهم حزمه، وشدَّته، وقسوته، وأظهروا له التَّوبة والنَّدم، وقالوا له: نتوب إلى الله، ونستغفره أقِلْنَا أقالك الله وسامحنا سامحك الله: بقي القوم في الجزيرة عند عبد الرَّحمن بن خالد، وأرسل عبد الرّحمن أحد زعمائهم وهو الأشتر النَّخعي إلى عثمان ليخبره بتوبتهم، وصلاحهم، وتراجعهم عمَّا كانوا عليه من الفتنة، فقال عثمان للأشتر: احللُ أنت ومن معك حيث شئتم، فقد عفوت عنكم. قال الأشتر: نريد أن نبقى عند عبد الرَّحمن في الجزيرة مدّةً، أظهروا فيها التّوبة، والاستقامة والصَّلاح451، وسكت أصحاب الفتنة في الكوفة إلى حين، وكان هذا في شهور سنة ثلاثة وثلاثين، بعدما تمَّ نفي رؤوس الفتنة إلى معاوية في الشَّام،ثمَّ إلى عبد الرّحمن بن خالد، فرأى أصحاب الفتنة في الكوفة أنَّ المصلحة تقتضي أن يسكتوا إلى حين452. إلا أن بقية دعاة الفتنة كانوا يشتغلون في البصرة، ومصر، وغيرها وفي سنة أربع وثلاثين ـ السنة الحادية عشرة من خلافة عثمان ـ أحكم عبد الله بن سبأ خطته، ورسم مؤامرته، ورتب مع جماعته السَّبئيِّين الخروج على الخليفة، وولاته، فقد اتَّصل ابن سبأ اليهودي من وكر مؤامراته في مصر بالشَّياطين من حربه في البصرة، والكوفة، والمدينة، واتفق معهم على تفاصيل الخروج، وكاتبهم، وكاتبوه، وراسلهم، وراسلوه وكان ممَّن كاتبهم، وراسلهم السَّبئيُّون في الكوفة، وقد كانوا بضعة عشر رجلاً منهم منفيين في الشَّام، ثمَّ في الجزيرة عند عبد الرَّحمن بن خالد بن الوليد، وبعد نفي أولئك الخارجين، كان زعيم السَّبئيِّين الحاقدين في الكوفة يزيد بن قيس453. وقد خلت الكوفة في سنة أربع وثلاثين من وجوهها، وأشرافها، لأنََّّهم توجَّهوا للجهاد في سبيل الله، ولم يبق(1/129)
إلا الرُّعاع، والغوغاء الذين أثر فيهم السَّبئيُون والمنحرفون، وشحنوهم بأفكارهم الخبيثة، وهيَّجوهم ضدَّ والي عثمان إلى الكوفة سعيد بن العاص رضي الله عنه454 واستطاع القعقاع بن عمرو التميميُّ أمير الحرب بالكوفة أن يقضي على التحرك الأوّل بقيادة يزيد بن قيس، ولما رأى يزيد شدة القعقاع ويقظته، وبصيرته، لم يجاهره بهدفهم وخطتهم في الخروج على الخليفة عثمان، وخلعه، وأظهر له كل ما يريده هو وجماعته عزل الوالي سعيد ابن العاص، والمطالبة بوالٍ آخر مكانه، فاستُجيب لطلبهم، ولذلك أطلق القعقاع سراح الجماعة، لما سمع كلام يزيد، ثمّ قال يزيد: لا تجلس لهذا الهدف في المسجد، ولا يجتمع عليك أحد، واجلس في بيتك واطلب ما تريد من الخليفة، وسيحقِّق لك ذلك بإذن455الله، واستمر يزيد بن قيس في إشعال الفتنة، واضطر إلى تعديل خطّته في الخروج وبعد كيد ومكر وتدبير من أتباع السبيئيِّن، قرّر الغوغاء والرُّّعاع بقيادة يزيد بن قيس منع سعيد بن العاص من دخول الكوفة وكان سعيد بالمدينة456.(1/130)
ولمّا خرج السبيُّون، والغوغاء طلبا الفتنة، والتمُّرد، وإحداث القلاقل بقي في المسجد وجوه المسلمين، وأشرافهم، وحلماؤهم، فصعد المنبر نائب الوالي عمرو بن حُريث وطالب المسلمين بالأخوَّة، والوحدة، ونهاهم عن التفُّرق، والاختلاف، والفتنة، والخروج، ودعاهم إلى عدم الاستجابة للخارجين والمتمرِّدين457، قال القعقاع بن عمرو التميمي: أتردُّ السَّيل عن عبابه، فاردد الفرات عن أدراجه، هيهات: لا والله لا تُسكِّن الغوغاء إلا المشرفيَّة458، ويوشك أن تُنْتضى، ثمَّ يعجُّون عجيج العتدان459، ويتمنون ما هم فيه، فلا يردهم عليهم أبداً، فاصبر، فقال: أصبر، وتحوَّل إلى منزله460واستطاع أهل الفتنة أن يمنعوا سعيد بن العاص من دخول الكوفة ورجع إلى المدينة، وكان من رأيه: أن من الحكمة عدم مواجهتهم، وعدم تأجيج نار الفتنة، بل محاولة إخمادها، أو تأجيل اشتعالها على الأقلِّ، وبعد رجوعه إلى المدينة أخبر سعيد عثمان بما حصل. قال له عثمان: ماذا يريدون؟ هل خلعوا يداً من طاعة؟ وهل خرجوا على الخليفة؟ وأعلنوا عدم طاعتهم له؟ قال له سعيد: لا لقد أظهروا أنَّهم لا يريدونني والياً عليهم، ويريدون والياً آخر مكاني. قال له عثمان: من يريدون والياً؟ قال سعيد بن العاص: يريدون أبا موسى الأشعريِّ، قال عثمان: قد عيَّنا، وأثبتنا أبا موسى والياً عليهم، ووالله لن نجعل لأحد عُذراً ولن نترك لأحدٍ حجة، ولنصبرنَّ عليهم كما هو مطلوب منَّا، حتى نعرف حقيقة ما يريدون، وكتب عثمان إلى أبي موسى بتعيينه والياً على الكوفة461، وكان أبو موسى رضي الله عنه يقوم بتهدئة الأمور، وبنهى النَّاس عن العصيان. وقال لهم: أيها الناس لا تخرجوا في هذه المخالفة، ولا تعودوا لمثل هذا العصيان، والزموا جماعتكم، والطاعة وإياكم والعجلة، اصبروا، فكأنَّكم بأمير462. فقالوا: فصلِّ بنا، قال: لا، إلا على السمع والطاعة لعثمان بن عفان قالوا: على السَّمع، والطاعة لعثمان463. وما كانوا(1/131)
صادقين في ذلك، لكنَّهم كانوا يخفون أهدافهم الحقيقيَّة عن الآخرين وكان أبو موسى يصليِّ بالنَّاس إلى أن جاءه كتاب عثمان بتعيينه والياً على الكوفة، وكتب عثمان بن عفان إلى الخارجين من أهل الكوفة: أما بعد فقد أمَّرت عليكم من اخترتم، وأعفيتكم من سعيد، والله لأفرشنَّ لكم عِرضي، ولأبذُلنَّ لكم صبري، ولأستصلحنَّكم بجهدي، واسألوني كلَّ ما أحببتم، ممَّا لا يعصي الله فيه، فسأعطيه لكم، ولا شيئاً كرهتموه لا يُعصي الله فيه إلا استعفيتم منه، أنزل فيه عندما أحببتم، حتَّى لا يكون لكم عليّ حجّة وكتب بمثل ذلك إلى الأمصار464، رضي الله عن أمير المؤمنين عثمان، ما كان أصلحه وأوسع صدره وكم ظلمه السَّبئيُّون والخارجون الحاقدون، واختلفوا عليه.
ـ…مشورة عثمان لولاة الأمصار ورأي معاوية في ذلك:(1/132)
…واجه عثمان بن عفان الفتنة بوسائل وأساليب متنوعة منها، إرسال لجان تفتيش وتحقيق إلى الولايات، ومحاولة معرفة أغراض أهل الفتنة واستطاع أن يخترق صفوفهم، وأقام الحجة على الغوغاء والمتمردين بالحوار والنقاش، والاستجابة لبعض مطالبهم وقد فصلت ـ الحديث عن سياسة عثمان في التعامل مع الفتنة في كتابي عن عثمان بن عفان رضي اله عنه ومن الأساليب التي اتخذها عثمان رضي الله عنه مشورته لولاة الأمصار رضي الله عنه حيث بعث إلى ولاة الأمصار واستدعاهم على عجلٍ وكانوا: عبد الله بن عامر، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبد الله بن سعد، وأدخل معهم في المشورة سعيد بن العاص، وعمرو بن العاص ـ وهم من الولاة السابقين وكانت جلسة مغلقة وخطيرة، وقال فيه كل المشاركين برأيه وكان رأي معاوية: أشير عليك أن تأمر أمراء الأجناد فيكفيك كل رجل منهم ما قبله، وأكفيك أنا أهل الشام465، وبعد أن سمع عثمان من المشاركين اقتراحاتهم قام، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: كل ما أشرتم به عليَّ قد سمعت، ولكلِّ أمر باب يؤتي منه، إنَّ هذا الأمر الذي يخاف على هذه الأمَّة كائن وإن بابه الذي يغلق عليه، فيُكفكف به اللِّين، والمؤاتاة والمتابعة، إلا في حدود الله تعالى ذكره، التي لا يستطيع أحد أن يبادي بعيب أحدها، فإن سدَّه شيء فرفق، فذاك والله ليُفتحنَّ، وليست لأحد عليَّ حجة حقٍّ، وقد علم الله إنِّي لم آل الناس خيراً، ولا نفسي. والله إنَّ رحا الفتنة لدائرة فطوبى لعثمان إن مات ولم يحرِّكها، كفكفوا النَّاس، وهبوا لهم حقوقهم، واغتفروا لهم، وإذا تعوطيت حقوق الله، فلا تُدِهنوا فيها466، فمنع عثمان رضي الله عنه منع الولاة من التَّنكيل بمثيري الشَّغب، وحبسهم، أو قتلهم، وقرَّر أن يعاملهم بالحسنى واللِّين467، وطالب من عماله أن يعودوا إلى أعمالهم، وفق ما أعلنه لهم من أسلوب مواجهة الفتنة التي كان كلُّ بصير يرى أنَّها قادمة468، وقبل أن يتوجه معاوية بن أبي سفيان إلى(1/133)
الشَّام أتى عثمان وقال له: يا أمير المؤمنين: انطلق معي إلى الشَّام، قبل أن يهجم عليك من الأمور والأحداث مالا قِبَل لك بها. قال عثمان أنا لا أبيع جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، ولو كان فيه قطع خيط عنقي. قال له معاوية: إذاً أبعث لك جيشاً من الشَّام، يقيم في المدينة، لمواجهة الأخطار المتوقعة، ليدافع عنك، وعن أهل المدينة، قال عثمان: لا حتى لا أقترّ على جيران رسول الله صلى الله غليه وسلم الأرزاق، بجند، تساكنهم ولا أضيِّيق على أهل الهجرة والنُّصرة. قال له معاوية: يا أمير المؤمنين: والله لتُغتلنَّ، أو لتُغزينَّ. قال عثمان: حسبي الله ونعم الوكيل469. ولقد حدث كل ما توقعه معاوية، فجاءت جموع أهل الفتنة لتحاصر عثمان رضي الله عنه وتغتاله في النهاية. وحين جاء هؤلاء الثوار من مختلف الأقاليم لا نجد من بينهم جماعة من أهل الشام470، من كل ما سبق نجد أننا أمام وال كبير يشق طريقه بجدارة من بين الولاة إلى ما هو أبعد من الولاية فقد استطاع أن يجعل من إقليم الشام الإقليم المهيأ لقيادة بقية الأقاليم في الدولة الإسلامية بما عمق فيه من حسن الطاعة للقيادة، وبما ثبت فيه من دعائم الاستقرار، وقطعه لأسباب الفتنة وعوامل الفرقة فيه. وهذا ما لا نجده في غيره من الأقاليم471.
ـ…مقتل عثمان رضي الله عنه وموقف الصحابة من ذلك:(1/134)
…اشتد الحصار على عثمان رضي الله عنه، حتى منع من أن يحضر للصَّلاَّة في المسجد، وكان صابراً على هذه البلوى التي أصابته كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وكان مع إيمانه القوي بالقضاء والقدر، يحاول أن يجد حلاً لهذه المصيبة، فنراه تارة يخطب الناس عن حرمة دم المسلم، وإنه لا يحل سفكه إلا بحقه وتارة يتحدث في الناس ويظهر فضائله وخدماته الجليلة في الإسلام ويستشهد على ذلك ببقية العشرة رضوان الله عليهم472، وكأنه يقول من هذا عمله وفضله هل من الممكن أن يطمع بالدنيا ويقدمها على الآخرة وهل يعقل يخون الأمانة ويعبث بأموال الأمة ودمائها وهو يعرف عاقبة ذلك عند الله وهو الذي تربى على عين النبي صلى الله عليه وسلم والذي شهد له وزكاه وكذلك أفاضل الصحابة ومتى بعد ما تجاوز السبعين وقارب الثمانين من عمره أهكذا تكون معاملته؟ واشتدت سيطرة المتمردون على المدينة حتى أنهم ليصلون بالناس في أغلب الأوقات473، وحينها أدرك الصحابة أن الأمر ليس كما حسبوا، وخشوا من حدوث ما لا يحمد عقباه، وقد بلغهم أن القوم يريدون قتله، فعرضوا عليه أن يدافعوا عنه، ويخرجوا الغوغاء عن المدينة إلا أنه رفض أن يراق دم بسببه474، وأرسل كبار الصحابة أبناءهم دون استشارة عثمان رضي الله عنه، ومن هؤلاء الحسن بن علي رضي الله عنهما، وعبد الله بن الزبير، فقد كان عثمان يحب الحسن ويكرمه فعندما وقعت الفتنة وحوصر عثمان رضي الله عنه أقسم على الحسن رضي الله عنه بالرجوع إلى منزله وذلك خشية عليه أن يصاب بمكروه475، وقد قال عثمان للحسن رضي الله عنهما: أرجع ابن أخي حتى يأتي الله بأمره476، وقد صحت روايات أن الحسن حمل جريحاً من الدار يوم الدار477، كما جرح غير الحسن، عبد الله بن الزبير، ومحمد بن حاطب، ومروان بن الحكم، كما كان معهم الحسين بن علي، وابن عمر رضي الله عنهما478، وقد كان علي رضي الله عنه من أدفع الناس عن عثمان رضي الله عنه، وشهد له بذلك(1/135)
مروان ابن الحكم479، كما أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، إن علياً أرسل إلى عثمان فقال: إن معي خمسمائة دارع، فأذن لي فأمنعك من القوم، فإنك لم تحدث شيئاً يستحل به دمك، فقال: جزيت خيراً، ما أحب أن يهراق دم في سببي480، وقد وردت روايات عديدة تفيد وقوفه بجانب عثمان رضي الله عنهما، أثناء الحصار فمن ذلك: أن الثائرين منعوا عن عثمان الماء حتى كاد أهله أن يموتوا عطشاً، فأرسل علي رضي الله عنه إليه بثلاث قرب مملؤة ماء فما كادت تصل إليه، وجرح بسببها عدة من موالي بني هاشم وبني أمية حتىوصلت ولقد تسارعت الأحداث فوثب الغوغاء على عثمان فقتلوه رضي الله عنه، وأرضاه، ووصل الخبر إلى الصحابة وأكثرهم في المسجد، فذهبت عقولهم، وقال علي لأبنائه وابناء أخيه كيف قتل عثمان وأنتم على الباب؟ ولطم الحسن، وكان قد جرح481، وضرب صدر الحسين وشتم ابن الزبير وابن طلحة، وخرج غضبان إلى منزله وهو يقول: تباً لكم سائر الدهر، اللهم أني أبرأ إليكم من دمه أن يكون قتلت أو مالأت على قتله482، وهكذا كان موقف علي رضي الله عنه، نصح وشورى سمع وطاعة، ووقفة قوية بجانبه أثناء الفتنة، ومن أدفع الناس عنه، ولم يذكره بسوء قط، يحاول الإصلاح وسد الخرق بين الخليفة والخارجين عليه لكن الأمر فوق طاقته، وخارج إرادته، إنها إرادة الله عز وجل أن يفوز أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه بالشهادة483.... ويبوء المفسدين بالإثم. إن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنكر قتل عثمان، وتبرأ من دمه، وكان يقسم على ذلك في خطبه، وغيرها: إنه لم يقتله ولا أمر بقتله، ولا مالأ عليه، ولا رضي، وقد ثبت ذلك عنه بطرق تفيد القطع484، خلافاً لما تزعمه الشيعة الرافضة من أنه كان راضياً بقتل عثمان رضي الله عنهما485، وقال الحاكم بعد ذكر بعض الأخبار الواردة في مقتله رضي الله عنه: فأما الذي ادعته المبتدعة من معونة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه،(1/136)
فإنه كذب وزور، فقد تواترت الأخبار بخلافه486. وقال ابن تيمية: وهذا كله كذب على علي رضي الله عنه، وافتراء عليه، فعلي رضي الله عنه لم يشارك في دم عثمان رضي الله عنه، ولا أمر ولا رضى، وقد روي عنه ذلك وهو الصادق البار487، وقد قال علي رضي الله عنه: اللهم أني أبرأ إليك من دم عثمان488. وقد شوهت بعض كتب التاريخ مواقف الصحابة من فتنة مقتل عثمان، وذلك بسبب الروايات الضعيفة والموضوعة التي ذكرها كثير من المؤرخين والمتتبع لأحداث الفتنة في تاريخ الإمام الطبري، وكتب التاريخ الأخرى من خلال روايات أبي مخنف، والواقدي، وابن أعثم، وغيرها من الأخبار حبكت بطريقة ذات ميول عدائية للتاريخ الصحيح ويشعر أن الصحابة هم الذين كانوا يحركون المؤامرة، ويثيرون الفتنة، فأبي مخنف ذو الميول الشيعية لا يتورع في إتهام عثمان بأنه الخليفة الذي كثرت سقطاته، فاستحق ما استحق، ويظهر طلحة في مروياته كواحد من الثائرين على عثمان، والمؤلبين ضده، ولا تختلف روايات الواقدي عن روايات أبي مخنف، وقد كثرت الروايات الشيعية التي تتهم الصحابة بالتآمر ضد عثمان رضي الله عنه وأنهم هم الذين حركوا الفتنة، وأثاروا الناس، وهذا كله كذب وزور489، وخلافاً للروايات الموضوعة والضعيفة فقد حفظت لنا كتب المحدثين بحمد الله، الروايات الصحيحة التي يظهر فيها الصحابة من المؤازرين لعثمان والمنافحين عنه والمتبرأين من قتله490، والمطالبين بدمه بعد مقتله وبذلك يستبعد أي اشتراك لهم في تحريك الفتنة، أو إثارتها491.(1/137)
…إن الصحابة جميعاً رضي الله عنهم أبرياء من دم عثمان رضي الله عنه ومن قال خلاف ذلك، فكلامه باطل ولا يستطيع أن يقيم عليه أي دليل ينهض إلى مرتبة الصحة، ولذلك أخرج خليفة في تاريخه عن عبد الأعلى بن الهيثم، عن أبيه، قال: قلت للحسن: أكان فيمن قتل عثمان أحد من المهاجرين، والأنصار؟ قال: لا، كانوا أعلاجاً492 من أهل مصر. وقال الإمام النَّووي: ولم يشارك في قتله أحد من الصحابة، وإنما قتله همج، ورعاع من غوغاء القبائل سفلة الأطراف والأراذل، تحزَّبوا، وقصدوه من مصر، فعجزت الصحابة الحاضرون عن دفعهم، فحضروه حتَّى قتل، رضي الله عنه493، وقد وصفهم الزبير رضي الله عنه بأنهم غوغاء من الأمصار ووصفتهم السيدة عائشة بأنَّهم نزّاع القبائل494، ووصفهم ابن تيمية بأنهم خوارج مفسدون ضالون، باغون معتدون495، ووصفهم الذهبيُّ بأنهم رؤوس شرًٍّ، وجفاء496، ووصفهم ابن العماد الحنبلي في الشذرات بأنَّهم أراذل من أوباش القبائل497، ويشهد على هذا الوصف تصرُّف هؤلاء الرُّعاع منذ الحصار إلى قتل الخليفة رضي الله عنه ظلماً. وعدواناً، فكيف يمنع الماء عنه، والطعام وهو الذي طالما دفع من ماله الخاص ما يوري ظمأ المسلمين بالمجّان498، والذي يساهم بأموال كثيرة عندما يلمُّ النَّاس مجاعة، أو مكروه وهو الدائم العطاء عندما يصيب النَّاس ضائقة، أو شدَّة من الشدائد499، حتى أن علياً رضي الله عنه يصف هذا الحال، وهو يؤنب المحاصرين بقوله: يا أيها الناس: إن الذي تفعلونه لا يشبه أمر المؤمنين، ولا أمر الكافرين، فلا تمنعوا عن هذا الرّجل الماء، ولا المادة ـ الطعام ـ فإنّ الروم، وفارس لتأسر وتطعم وتسقي500، لقد صحَّت الأخبار وأكّدت حوادث التاريخ على براءة الصَّحابة من التَّحريض على عثمان أو المشاركة في الفتنة ضدّه501، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتابي تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان502.(1/138)
المبحث الثالث : معاوية بن أبي سفيان في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهما :
كان معاوية رضي الله والياً على الشام في عهدي عمر وعثمان رضي الله عنهما، والياً على الشام في عهدي عمر وعثمان رضي الله عنهما، ولما تولى علي رضي الله عنه الخلافة أراد عزله ـ ويبدو أن هناك ضغوط على علي رضي الله عنه من قبل الغوغاء لكي يعزل معاوية، وخصوصاً أن الغوغاء يعرفون معاوية جيداً والذي جعلني أقول ذلك أن العلاقة بين علي ومعاوية قبل خلافة علي، لا يوجد ما يشوبها، بل كانت جيدة، كما أن الغوغاء فيما بعد ضغطوا على أمير المؤمنين علي في عزل قيس بن سعد من مصر ونجحوا في ذلك وترتب على ذلك ضياع مصر، وقد فصلت ذلك في كتابي أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، هذا وقد اختار أمير المؤمنين علي بدلاً من معاوية عبد الله بن عمر فأبي عليه عبد الله قبول ولاية الشام واعتذر في ذلك، وذكر له القرابة والمصاهرة التي بينهما503، ولم يلزمه أمير المؤمنين علي وقبل منه طلبه بعدم الذهاب إلى الشام، وأما الروايات التي تزعم أن علياً قام بالتهجم على عبد الله بن عمر رضي الله عنه، لاعتزاله وعدم وقوفه إلى جانبه، ففي ذلك الخبر تحريف وكذب504، وأقصى ما وصل إليه الأمر في قضية عبد الله بن عمر وولاية الشام ما رواه الذهبي من طريق سفيان بن عيينة: عن بن نافع عن أبيه عن ابن عمر قال: بعث إليَّ علي قال: يا أبا عبد الرحمن إنك رجل مطاع في أهل الشام، فسر فقد أمرتك عليهم، فقلت: أذكرك الله وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبتي إياه، إلا ما أعفيتني، فأبى علي، فاستعنت بحفصة فأبى، فخرجت ليلاً إلى مكة505، وهذا دليل قاطع على مبايعة ابن عمر، ودخول في الطاعة، إذ كيف يوليه علي وهو لم يبايع، وفي الاستيعاب، لابن عبد البر من طريق أبي بكر بن أبي الجهم عن ابن عمر أنه قال حين احتضر: ما آسي على شيء إلا تركي قتال الفئة الباغية مع علي(1/139)
رضي الله عنه506، وهذا مما يدل أيضاً على مبايعته لعلي، وإنه إنما ندم على عدم خروجه مع علي للقتال، فإنه كان ممن اعتزل الفتنة، فلم يقاتل مع أحد، ولو كان قد ترك البيعة، لكان ندمه على ذلك أكبر وأعظم ولصرح به، فإن لزوم البيعة والدخول فيما داخل الناس، فيه واجب، والتخلف عنه متوعد عليه برواية ابن عمر نفسه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة الجاهلية507. وهذا بخلاف الخروج للقتال مع علي، فإنه مختلف فيه بين الصحابة، وقد اعتزله بعض الصحابة، فكيف يتصور أن يندم ابن عمر على ترك هذا القتال، ولا يندم على ترك البيعة لو كان تاركاً لها، مع ما فيه من الوعيد الشديد، وبهذا يظهر بطلان قول بعض المؤرخين في زعمهم من ترك ابن عمر البيعة لعلى رضي الله عنه حيث ثبت أنه كان من المبايعين له بل من المقربين منه، الذين كان يحرص على توليتهم، والاستعانة بهم، لما رأى فيه من صدق الولاء والنصح له508، وبعد اعتذار ابن عمر من قبول ولاية الشام، أرسل أمير المؤمنين علي سهيل بن حنيف بدلاً منه، إلا أنه ما كاد يصل مشارف الشام حتى أخذته خيل معاوية وقالوا له: إن كان بعثك عثمان فحي هلا بك وإن كان بعثك غيره فارجع509، وكانت بلاد الشام تغلي غضباً على مقتل عثمان ظلماً وعدواناً،
أولاً : اختلاف الصحابة في الطريقة التي يأخذ بها القصاص من قتلة عثمان :(1/140)
إن الخلاف الذي نشأ بين أمير المؤمنين علي من جهة، وبين طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم من جهة أخرى ثم بعد ذلك بين علي ومعاوية رضي الله عنهما لم يكن سببه ومنشؤه أن هؤلاء كانوا يقدحون في خلافة أمير المؤمنين علي وإمامته، وأحقيته بالخلافة والولاية على المسلمين، فقد كان هذا محل إجماع بينهم، قال ابن حزم: ولم ينكر معاوية قط فضل عليّ، واستحقاقه الخلافة، ولكنَّ اجتهاده أدّاه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان رضي الله عنه على البيعة، ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان510
وقال ابن تيمية: ومعاوية لم يدّع الخلافة، ولم يبايع له بها حين قاتل علياً، ولم يقاتل على أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة، ويقرون له بذلك، وقد كان معاوية يقرُ بذلك لمن سأله عنه، ولا كان معاوية وأصحابه يرون أن يبتدئوا علياً وأصحابه بالقتال، ولا فعلوا511، وقال أيضاً: وكل فرقة من المتشيعين مقرّة مع ذلك بأنه ليس معاوية كفؤاً لعلي بالخلافة، ولا يكون خليفة مع إمكان استخلاف علي، فإن فضل علي وسابقته وعلمه ودينه وشجاعته، وسائر فضائله كانت عندهم ظاهرة معلومة، كفضل إخوانه أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم512.(1/141)
إن منشأ الخلاف لم يكن قدحاً في خلافة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وإنما اختلافهم في قضية الاقتصاص من قتلة عثمان، ولم يكن خلافهم في أصل المسألة، وإنما في الطريقة التي تعالج بها هذه القضية، إذ كان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه موافقاً من حيث المبدأ على وجوب الاقتصاص من قتلة عثمان، وإنما كان رأيه أن يرجيء الاقتصاص من هؤلاء إلى حين استقرار الأوضاع وهدوء الأمور واجتماع الكلمة وهذا هو الصواب513، قال النووي: وأعلم أن سبب تلك الحروب أن القضايا كانت مشتبهة، فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم وصاروا ثلاثة أقسام: قسم ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف، وأن مخالفه باغ، فوجب عليهم نصرته، وقتال الباغي عليه فيما اعتقدوه ففعلوا ذلك، ولم يكن يحل لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده، وقسم عكس هؤلاء: ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في الطرف الآخر، فوجب عليهم مساعدتهم وقتال الباغي عليه، وقسم ثالث: اشتبهت عليهم القضية، وتحيروا فيها، ولم يظهر لهم ترجيح أحد الطرفين فاعتزلوا الفريقين، وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم، لأنه لا يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر أنه مستحق لذلك، ولو ظهر لهؤلاء رجحان أحد الطرفين، وأن الحق معه، لما جاز لهم التأخر عن نصرته في قتال البغاة عليه514.
ثانياً معركة صفين : 37هـ
ـ تسلسل الأحداث التي قبل المعركة:(1/142)
1 ـ أم حبيبة بنت أبي سفيان، ترسل النعمان بن بشير بقميص عثمان إلى معاوية وأهل الشام: لما قُتل عثمان رضي الله عنه: أرسلت أم المؤمنين، أم حبيبة بنت أبي سفيان إلى أهل عثمان: أرسلوا إليّ بثياب عثمان التي قُتل فيها، فبعثوا إليها بقميصه مضّرجاً بالدم، وبخصلة الشعر التي نتفت من لحيته، ثم دعت النعمان بن بشير، فبعثته إلى معاوية، فمضى بذلك وبكتابها515، وجاء في رواية: خرج النعمان بن بشير ومع قميص عثمان مضمخ بالدماء، ومعه أصابع نائلة التي أصيبت حين دافعت عنه بيدها516، وكانت نائلة بنت الفرافصة الكلبية زوج عثمان كلبية شامية517، فورد النعمان على معاوية بالشام فوضعه معاوية على المنبر ليراه الناس وعلق الأصابع في كم القميص يرفع تارة ويوضع تارة، والناس يتباكون حوله، وحث بعضهم بعضاً على الأخذ بثأره518، وجاء شرحبيل بن السمط الكندي وقال لمعاوية: كان عثمان خليفتنا، فإن قويت على الطلب بدمه وإلا فاعتزلنا519 وآلى رجال الشام ألاَّ يمسوا النساء ولا يناموا على الفرش، حتى يقتلوا قتلة عثمان ومن عرض دونهم بشيء أو تفنى أرواحهم520، وكان ذلك ما يريده معاوية، فقد كانت الصورة التي نقلها النعمان بن بشير إلى أهل الشام كانت بشعة: مقتل الخليفة، سيوفاً مصلته من الغوغاء على رقاب الناس بالمدينة، بيت المال منتهكاً مسلوباً، وأصابع نائلة مقطوعة، فهاجت النفوس والعواطف، واهتزت المشاعر، وتأثرت بها القلوب، وذرفت منها العيون. ولذلك كان إصرار معاوية ومن معه من أهل الشام على المطالبة بدم عثمان، وتسليم القتلة للقصاص قبل البيعة. وهل تتصور أن يتم مقتل أمير المؤمنين وسيد المسلمين من حاقدين محتالين متآمرين، ولا يتماوج العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه للقصاص من أصحاب هذه الجريمة البشعة521؟
2 ـ دوافع معاوية رضي الله عنه في عدم البيعة:(1/143)
…كان معاوية رضي الله عنه والياً على الشام في عهد عمر وعثمان رضي الله عنهما، ولما تولى الخلافة عليّ رضي الله عنه أراد عزله وتولية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فاعتذر ابن عمر، فأرسل عليّ سهل بن حنيف بدلاً منه، إلا أنه ما كان يصل مشارف الشام ـ وادي القرى ـ حتى عاد من حيث جاء، إذ لقيته خيل لمعاوية عليها حبيب بن مسلمة الفهري، فقالوا له: إن كان بعثك عثمان فحي هلا بك وإن كان بعثك غيره فارجع522، لقد امتنع معاوية وأهل الشام عن البيعة ورأوا أن يقتصّ علي رضي الله عنه من قتلة عثمان رضي الله عنه ثم يدخلون البيعة523، وقالوا لا نبايع من يأوي القتلة524. وتخوّفوا على أنفسهم من قتلة عثمان رضي الله عنه الذين كانوا في جيش علي، فرأوا أن البيعة لعلي لا تجب عليهم قبل القصاص، وأنهم إذا قوتلوا على ذلك كانوا مظلومين، قالوا: لأن عثمان قتل مظلوماً باتفاق المسلمين، وقتلته في عسكر علي، وهم غالبون لهم شوكة، فإذا بايعنا ظلمونا واعتدوا علينا وضاع دم عثمان، وكان معاوية رضي الله عنه يرى أن عليه مسئولية الانتصار لعثمان والقود من قاتليه، فهو ولي دمه والله يقول: ((وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا)) (الإسراء ، الآية : 33). لذلك جمع معاوية الناس، وخطبهم بشأن عثمان، وأنه قتل مظلوماً على يد سفهاء منافقين لم يقدروا الدم الحرام،، إذ سفكوه في الشهر الحرام في البلد الحرام، فثار الناس، واستنكروا وعلت الأصوات وكان منهم عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام أحدهم واسمه مرة بن كعب فقال: لولا حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تكلمت: .. وذكر الفتن وقربها، فمر رجل متقنع في ثوب، فقال: هذا يومئذ على الهدى، فقمت إليه، فإذا هو عثمان بن عفان، فأقبلت عليه بوجهه فقلت: هذا؟ قال: نعم525. وهناك حديث آخر له تأثيره في طلب(1/144)
معاوية القود من قتلة عثمان، ومنشطاً ودافعاً قوياً للتصميم على تحقيق الهدف، وهو : عن النعمان بن بشير عن عائشة رضي الله عنهما قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فكان من آخر كلمة أن ضرب منكبه، فقال، يا عثمان إن الله عسى أن يلبسك قميصاً، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني ثلاثاً، فقلت لها: يا أم المؤمنين فأين كان هذا عنك؟ قالت: نسيته والله ما ذكرته، قال: فأخبرته معاوية بن أبي سفيان لم يرضى بالذي أخبرته، حتى كتب إلى أم المؤمنين أن اكتبي إلي به، فكتبت إليه كتاباً526. لقد كان الحرص الشديد في تنفيذ حكم الله في القتلة السبب الرئيسي في رفض أهل الشام بزعامة معاوية بن أبي سفيان بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، ورأوا أن تقديم حكم القصاص مقدم على البيعة، وليست لأطماع معاوية في ولاية الشام فضلاً عن طلبه للخلافة، إذ كان يدرك إدراكاً تاماً أن هذا الأمر في بقية الستة من أهل الشورى، وأن علياً أفضل منه وأولى بالأمر منه527، فعن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية: أنت تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال: لا والله إني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً، وأنا ابن عمه، والطالب بدمه، فأتُوه، فقولوا له، فليدفع إلي قتلة عثمان وأسلم له، فأتوا علياً فكلموه، فلم يدفعهم إليه528، وأما ما شاع بين الناس قديماً وحديثاً أن الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما كان سببه طمع معاوية في الخلافة، وأن خروج هذا الأخير على عليّ وامتناعه عن بيعته كان بسبب عزله عن ولاية الشام، فهذه روايات لا تصح ولا ثبتت، فقد جاء في كتاب الإمامة والسياسة المنسوب لآبن قتيبة الدينوري، وهو لا يثبت له وإنما صاحبه ذو أنفاس شيعية رافضية، فقد ذكر أنَّ معاوية ادّعى الخلافة، وذلك من خلال الرواية التي ورد فيها ما قاله ابن الكواء لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: اعلم أن معاوية طليق(1/145)
الإسلام، وأنا أباه رأس الأحزاب، وأنه ادعى الخلافة من غير مشورة فإن صدقك فقد حلّ خلعه، وإن كذبك فقد حرم عليك كلامه529، وهذا كلام لا يثبت عن أمير المؤمنين علي وإنما من كلام الشيعة الروافض، وسيأتي الحديث عن كتاب الإمامة والسياسة وبيان كذبه وزوره ودوره في تشويه حقائق التاريخ في موضعه بإذن الله، وقد امتلأت كتب التاريخ والأدب بالروايات الموضوعة والضعيفة التي تزعم أن معاوية اختلف مع علي من أجل الملك والزعامة والإمارة530. والصحيح أن الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما كان حول مدى وجوب بيعة معاوية وأصحابه لعلي قبل توقيع القصاص على قتلة عثمان أو بعده، وليس هذا في أمر الخلافة في شيء فقد كان رأي معاوية رضي الله عنه ومن حوله من أهل الشام أن يقتص عليّ رضي الله عنه من قتلة عثمان، ثم يدخلون بعد ذلك في البيعة531، يقول القاضي ابن العربي أن سبب القتال بين أهل الشام وأهل العراق يرجع إلى تباين المواقف بينهما: فهؤلاء ـ أي أهل العراق ـ يدعون إلى عليّ بالبيعة وتأليف الكلمة على الإمام، وهؤلاء ـ أي أهل الشام ـ يدعون إلى التمكين من قتلة عثمان ويقولون: لا نبايع من يأوي القتلة532، ويقول إمام الحرمين في ((لمع الأدلة)): إن معاوية وإن قاتل عليّاً، فإنه لا ينكر إمامته ولا يدّعيها لنفسه، وإنما كان يطلب قتلة عثمان ظآنَّاً منه أنه مصيب، وكان مخطئاً533. ويقول الهيثمي: ومن اعتقاد أهل السنة والجماعة أنَّ ما جرى بين معاوية وعلي رضي الله عنهما من الحروب، لم يكن لمنازعة معاوية لعلي في الخلافة للإجماع على أحقيتها لعليّ، فلم تهج الفتنة بسببها، وإنما هاجت بسبب أن معاوية ابن عمّه فامتنع علي534، لقد تضافرت الروايات وأشارت إلى أنّ معاوية رضي الله عنه اتخذ موقفه للمطالبة بدم عثمان، وأنه صرح بدخوله في طاعة علي رضي الله عنه إذا أقيم الحد على قتلة عثمان ولو افترض أنه اتخذ قضية القصاص والثأر لعثمان ذريعة لقتال علي وطمعاً(1/146)
في السلطة، فماذا سيحدث لو تمكن علي من إقامة الحد على من قتله عثمان؟ حتماً ستكون النتيجة خضوع معاوية لعلي ومبايعته له، لأنه التزم بذلك في موقفه من تلك الفتنة، كما أن كل من حارب معه كانوا يقاتلون على أساس إقامة الحد على قتلة عثمان، على أن معاوية إذا كان يخفي في نفسه شيئاً آخر لم يعلن عنه، سيكون هذا الموقف بالتالي مغامرة، ولا يمكن أن يقدم عليها إذا كان ذا أطماع535
…إن معاوية رضي الله عنه كان من كتّاب الوحي، ومن قادة الصحابة، وأكثرهم حلماً، فكيف يعتقد أن يقاتل الخليفة الشرعي ويهرق دماء المسلمين من أجل مُلك زائل؟ وهو القائل: والله لا أخير بين الله وبين غيره إلا اخترت الله على ما سواه536، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه: اللهم اجعله هادياً مهدياً واهد به537، وقال: اللهم علمه الكتاب وقه العذاب538. وأما وجه الخطأ في موقفه من مقتل عثمان رضي الله عنه، فيظهر في رفضه أن يبايع لعلي رضي الله عنه قبل مبادرته إلى الاقتصاص من قتلة عثمان، ويضاف إلى ذلك خوف معاوية على نفسه لمواقفه السابقة من هؤلاء الغوغاء، وحرصهم على قتله بل ويلتمس منه أن يمكنه منهم، أن الطالب للدم لا يصح أن يحكم، بل يدخل في الطاعة ويرفع دعواه إلى الحاكم، ويطلب الحق عنده539، وقد اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتصّ من أحد ويأخذ حقه دون السلطان، أو من نصبه السلطان لهذا الأمر، لأن ذلك يفضي إلى الفتنة وإشاعة الفوضى540. ويمكن القول: إن معاوية رضي الله عنه كان مجتهداً، متأولاً يغلب ظنه أن الحق معه، فقد قام خطيباً في أهل الشام بعد أن جمعهم وذكّرهم أنه ولي عثمان ـ ابن عمه ـ وقد قتل مظلوماً، وقرأ عليهم الآية الكريمة: ((وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا)) (الإسراء ، الآية : 33). ثم قال: أنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في(1/147)
قتل عثمان، فقام أهل الشام جميعهم وأجابوا إلى الطلب بدم عثمان، وبايعوه على ذلك، وأعطوه العهود والمواثيق على أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم حتى يدركوا ثأرهم أو يفنى الله أرواحهم541. وإذا قارنّا بين طلحة والزبير رضي الله عنهما،ومعاوية لاحظنا أنهما أقرب إلى الصواب من معاوية رضي الله عنه ومن معه من أربعة أوجه كان أولها: مبايعتهما لعليّ رضي الله عنه طائعين مع إعترافهما بفضله، ومعاوية لم يبايعه وإن كان معترفاً بفضله542. والثاني: منزلتهما في الإسلام وعند المسلمين وسابقتهما على معاوية ولاشك أن معاوية دونهما فيها543. الثالث: أنهما أرادا قتل الخوارج على عثمان فقط ولم يتعمدا محاربة علي ومن معه في وقعة الجمل544، بينما أصر معاوية على حرب عليّ ومن معه في صفين545، والرابع: لم يتهما عليّاً بالهوادة في أخذ القصاص من قتلة عثمان، ومعاوية ومن معه اتهموه بذلك546. ونضيف نقطة خامسة: أن طلحة والزبير اقتنعا بصواب موقف علي ودخلا في الطاعة عندما اتفقا مع القعقاع بن عمر وإنما الحرب بإثارة الغوغاء والسبائية لها .
3 ـ معاوية يرد على أمير المؤمنين علي رضي الله عنهما :
…بعث علي رضي الله عنه كتباً كثيرة إلى معاوية فلم يرد عليه جوابها وتكرر ذلك مراراً إلى الشهر الثالث من مقتل عثمان رضي الله عنه في صفر، ثم بعث معاوية طُوماراً547 مع رجل، فدخل به على عليِّ رضي الله عنه فقال له علي: ما وراءك؟ قال: جئتك من عند قوم لا يريدون إلا القوَدَ548، كلهم موتور549، تركت ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان، وهو على منبر دمشق، فقال علي: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان. ثم خرج رسول معاوية من بين يدي عليَّ، فهمَّ به أولئك الخوارج الذين قتلوا عثمان يريدون قتله، فما أفلت إلا بعد جهد550
4 ـ تجهيز أمير المؤمنين علي لغزو الشام:(1/148)
…بعد وصول رد معاوية لأمير المؤمنين علي رضي الله عنهما عزم الخليفة على قتال أهل الشام، وكتب إلى قيس بن سعد بمصر يستنفر الناس لقتالهم، وإلى أبي موسى الأشعري بالكوفة، وبعث إلى عثمان بن حنيف بالبصرة بذلك، وخطب الناس فحثهم على ذلك، وعزم على التجَهّزُ وخرج من المدينة، واستخلف عليها قثم بن العباس، وهو عازم أن يقاتل بمن أطاعه من عصاه وخرج عن أمره ولم يبايعه مع الناس، وجاء إليه ابنه الحسين رضي الله عنهما فقال: يا أبتِ دع هذا فإن فيه سفك دماء المسلمين، ووقع الاختلاف بينهم، فلم يقبل منه ذلك، بل صمم على القتال، ورتّب الجيش، فدفع اللواء إلى محمد بن الحنفية، وجعل ابن عباس على الميمنة، وعمر بن أبي سلمة على المسيرة وقيل جعل على الميسرة عمرو بن سفيان بن عبد الأسد، وجعل على مقدمته أبا ليلى بن عمرو بن الجراح ابن أخ أبي عبيدة، واستخلف على المدينة قثم بن العباس، ولم يبق شيء إلا أن يخرج من المدينة قاصداً الشام، جاءه ما يشغله عن ذلك551، وقد تمَّ تفصيل ذلك من خروج عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم إلى البصرة إلى معركة الجمل، فليرجع إليه في كتاب أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب552.
5 ـ إرسال أمير المؤمنين علي جرير بن عبد الله إلى معاوية بعد معركة الجمل:(1/149)
…ذُكر أن المدة بين خلافة أمير المؤمنين عليّ إلى فتنة السبئية الثانية أو ما يسمى البصرة، أو معركة الجمل، خمسة أشهر وواحد عشرين يوماً، وبين دخوله الكوفة شهر، وبين ذلك وخروجه إلى صفين ستة أشهر553، وروي شهران أو ثلاثة554، وقد كان دخول أمير المؤمنين الكوفة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة ست وثلاثين، فقيل له: أنزل بالقصر الأبيض: فقال: لا إن عمر بن الخطاب كان يكره نزوله، فأنا أكره لذلك، فنزل في الرحبة وصلَّى بالجامع الأعظم ركعتين ثم خطب الناس فحثهم على الخير، ونهاهم عن الشر ومدح أهل الكوفة في خطبته هذه، ثم بعث إلى جرير بن عبد الله، وكان على همدان من زمان عثمان، وإلى الأشعث بن قيس وهو على نيابة أذربيجان من أيام عثمان يأمرهما أن يأخذا البيعة له على من هنالك ثم يُقبلا إليه، ففعلا ذلك، فلما أراد علي أن يبعث إلى معاوية يدعو إلى بيعته، قال جرير بن عبد الله البجلي: أنا ذاهب إليه يا أمير المؤمنين، فإنَّ بيني وبينه وُدَّاً، فآخذ لك البيعة منه، فقال الأشتر: لا تبعثه يا أمير المؤمنين، فإني أخشى أن يكون هواه معه. فقال علي: دعه، فبعثه وكتب معه كتاباً إلى معاوية يعلمه باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته ويخبره بما كان في وقعة الجمل، ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس، فلمَّا انتهى إليه جرير بن عبد الله، أعطاه الكتاب، وطلب معاوية رضي الله عنه عمرو بن العاص ورؤوس أهل الشام، فاستشارهم، فأبوا أن يبايعوا حتى يقتل قتلة عثمان، أو يسلم إليهم قتلة عثمان، وإن لم يفعل قاتلوه ولم يبايعوه حتى يقتلهم عن آخرهم. فرجع جرير إلى علي فأخبره بما قالوا، فقال الأشتر: ألم أَنْهك يا أمير المؤمنين أن تبعث جريراً؟ فلو كنت بعثتني لما فتح معاوية باباً إلا أغلقته. فقال له جرير: لو كنت لقتلوك بدم عثمان. فقال الأشتر: والله لو بعثتني لم يعنني جواب معاوية ولأعجلنَّه عن الفكرة ولو أطاعني فيك أمير المؤمنين، لحبسك(1/150)
وأمثالك حتى يستقيم أمر هذه الأمَّة. فقام جرير مغضباً فأقام بقرقيسياء وكتب إلى معاوية يخبره بما قال وقيل له، فكتب إليه معاوية يأمره بالقدوم عليه555 . وهكذا كان الأشتر سبباً في إبعاد الصحابي جرير بن عبد الله، الذي كان والياً على قرقيسياء وعلى غيرها ورأساً في قبيلته بجيلة، ويضطره إلى مفارقة أمير المؤمنين علي، وهذا الصحابي جرير بن عبد الله البجلي قال: ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي، وقال صلى الله عليه وسلم: يطلع عليكم من هذا الباب رجل من خير ذي يمن، على وجهه مسحة مَلَكَ556.
6 ـ مسيرة أمير المؤمنين علي إلى الشام:
…استعد أمير المؤمنين علي لغزو الشام، فبعث يستنفر الناس، وجهز جيشاً ضخماً اختلفت الروايات في تقديره، وكلها روايات ضعيفة557، إلا رواية واحدة حسنة الإسناد ذكرت أنه سار في خمسين ألفاً558، وكان مكان تجمع جند أمير المؤمنين بالنخلة559، وهو على ميلين من الكوفة آنذاك فتوافدت عليه القبائل من شتى أقليم العراق560، واستعمل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أبا مسعود الأنصاري، وبعث من النخيلة زياد بن النضر الحارثي طليعة في ثمانية آلاف مقاتل، وبعث شريح بن هاني في أربعة آلاف، ثم خرج علي رضي الله عنه بجيشه إلى المدائن (بغداد) فانضم إليه من فيها من المقاتلة، وولى عليها سعد بن مسعود الثقفي، ووجه منها طليعة في ثلاثة آلاف إلى الموصل561، وسلك علي رضي الله عنه طريق الجزيرة الرئيسي على شط الفرات الشرقي حتى بلغ قرب قرقيسياء562، فأتته الأخبار بأن معاوية قد خرج لملاقاته وعسكر بصفين، فتقدم علي رضي الله عنه إلى الرقة563، وعبر منها الفرات غرباً ونزل على صفين564.
7 ـ خروج معاوية إلى صفين:(1/151)
…كان معاوية جادَّاً في مطاردة قتلة عثمان رضي الله عنه فقد استطاع أن يترصد بجماعة ممن غزا المدينة من المصريين أثناء عودتهم وقتلهم ومنهم: أبو عمرو بن بديل الخزاعي565، ثم كانت له أيد في مصر، وشيعة في أهل ((خربتا) تطالب بدم عثمان رضي الله عنه، وقد استطاعت هذه الفرقة من إيقاع الهزيمة بمحمد بن أبي حذيفة في عدة مواجهات عام 36هـ، كما استطاع أيضاً أن يوقع برؤوس مدبري ومخططي غزو المدينة من المصريين مثل عبد الرحمن بن عديس، وكنانة بن بشر، ومحمد بن حذيفة فحبسهم في فلسطين، وذلك في الفترة التي سبقت خروجه إلى صفين، ثم قتلهم في شهر ذي الحجة عام 36هـ566، وعندما علم معاوية بتحرك جيش العراق نحو صفين جمع مستشاريه من أعيان أهل الشام، وخطب فيهم وقال: إن عليَّاً نهد إليكم في أهل العراق،.. فقال ذو الكلاع الحميري: عليك أم رأي وعلينا أم فعال567. وكان أهل الشام قد بايعوا معاوية على الطلب بدم عثمان رضي الله عنه والقتال568، وقد قام عمرو بن العاص رضي الله عنه بتجهيز الجيش وقاد الألوية، وقام في الجيش خطيباً يحرضهم، فقال: إن أهل العراق قد فرقوا جمعهم وأوهنوا شوكتهم، وفلوا حدهم، ثم إن أهل البصرة المخالفين لعلي قد وترهم وقتلهم، وقد تفانت صناديدهم وصناديد أهل الكوفة يوم الجمل، وإنما سار في شرذمة قليلة ومنهم من قد قتل خليفتكم، فالله الله في حقكم أن تضيعوه، وفي دمكم أن تبطلوه569. وسار معاوية في جيش ضخم، اختلفت الروايات في تقديره وكلها روايات منقطعة أسانيدها، وهي عين الروايات التي قدرت جيش علي رضي الله عنه، فقدر بمائة ألف وعشرين ألفاً570، وقدر بسبعين ألف مقاتل، وقدر بأكثر من ذلك بكثير إلا أن الأقرب للصواب أنهم ستون ألف مقاتل، فهي وإن كانت منقطعة الإسناد إن أن راويها صفوان بن عمرو السكسي، حمصي من أهل الشام ولد عام ((72هـ)) وهو ثبت ثقة، وقد أدرك خلق ممن شهد صفين، كما تبين من دراسة ترجمته571، والإسناد إليه(1/152)
صحيح572، وكان قادة جيش معاوية على النحو التالي: عمرو بن العاص، على خيول أهل الشام كلها، والضحاك بن قيس على رجالة الناس كلهم، وذو الكلاع الحميري على ميمنة الجيش، وحبيب بن مسلمة على ميسرة الجيش، وأبو الأعور السلمي على المقدمة، هؤلاء هم القادة الكبار وتحت كل قائد من هؤلاء قادة وزعوا على حسب القبائل، وكان هذا الترتيب عند مسيرهم إلى صفين، ولكن أثناء الحرب تغير بعض القادة وظهر قادة آخرين مما اقتضته الظروف، ولعل هذا يكون السبب في اختلاف أسماء القادة في بعض المصادر573. وبعث معاوية أبا الأعور السلمي مقدمة للجيش، وكان خط سيرهم إلى الشمال الشرقي من دمشق، ولما بلغ صفين أسفل الفرات، عسكر في مكان سهل فسيح، إلى جانب شريعة ماء في الفرات، ليس في ذلك المكان شريعة غيرها وجعلها في حيزه574.
8 ـ القتال على الماء:(1/153)
…وصل جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى صفين، حيث عسكر معاوية، ولم يجد موضعاً فسيحاً سهلاً يكفي الجيش، فعسكر في موضع وعر نوعاً ما إذ أغلب الأرض صخور ذات كدى وأكمات575، ففوجيء جيش العراق بمنع معاوية عنهم الماء، فهرع البعض إلى علي رضي الله عنه يشكون إليه هذا الأمر، فأرسل علي إلى الأشعث ابن قيس فخرج في ألفين ودارت أول معركة بين الفريقين، انتصر فيها الأشعث واستولى على الماء576، إلا أنه قد وردت رواية تنفي وقوع القتال من أصله مفادها: أن الأشعث بن قيس جاء إلى معاوية فقال: الله الله يا معاوية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم! هبوا إنكم قتلتم أهل العراق، فمن للبعوث والذراري؟ إن الله يقول: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)) (الحجرات ، الآية :9) قال معاوية: فما تريد؟ قالوا خلوا بيننا وبين الماء، فقال لأبي الأعور: خل بين إخواننا وبين الماء577، وقد كان القتال على الماء في أول يوم تواجها فيه في بداية شهر ذي الحجة فاتحة شر على الطرفين من المسلمين، إذا استمر القتال بينهما متواصلاً طوال هذا الشهر، وكان القتال على شكل كتائب صغيرة، فكان علي رضي الله عنه يخرج من جيشه كتيبة صغيرة يؤمر عليها أميراً، فيقتتلان مرة واحدة في اليوم في الغداة أو العشي، وفي بعض الأحيان يقتتلان مرتين في اليوم، وكان أغلب من يخرج من أمراء الكتائب في جيش علي، الأشتر، وحجر بن عدي وشبت بن ربعي، وخالد بن المعتمر، ومعقل بن يسار الرياحي، ومن جيش معاوية أغلب من يخرج، حبيب بن مسلمة، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وعبيد الله بن عمر بن الخطاب، وأبو الأعور السلمي، وشرحبيل بن السمط وقد تجنبوا القتال بكامل الجيش خشية الهلاك والاستئصال، وأملاً في وقوع صلح بين الطرفين تصان به الأرواح والدماء578.
9 ـ الموادعة بينهما ومحاولات الصلح :(1/154)
…ما إن دخل شهر المحرم، حتى بادر الفريقان إلى الموادعة والهدنة، طمعاً في صلح يحفظ دماء المسلمين، فاستغلوا هذا الشهر في المراسلات بينهم ولكن المعلومات عن مراسلات هذه الفترة ـ شهر المحرم ـ وردت من طرق ضعيفة579، مشهورة إلا أن ضعفها لا ينفي وجودها. كان الباديء بالمراسلة، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأرسل بشير بن عمرو الأنصاري، وسعيد بن قيس الهمداني وشبت بن ربعي التميمي إلى معاوية رضي الله عنه يدعوه كما دعاه من قبل إلى الدخول في الجماعة والمبايعة فرد معاوية عليه برده السابق المعروف، بتسليم قتلة عثمان أو القود منهم أولاً، ثم يدخل في البيعة، وقد تبين لنا موقف علي من هذه القضية580، كما أن قُرَّاء الفريقين قد عسكروا في ناحية من صفين، وهم عدد كبير، قد قاموا بمحاولات للصلح بينهما، فلم تنج تلك المحاولات لالتزام كل فريق منهما برأيه وموقفه581، وقد حاول اثنان من الصحابة وهما أبو الدرداء، وأبو أمامة رضي الله عنهما الصلح بين الفريقين، فلم تنجح مهمتهما، فتركا الفريقين ولم يشهدا معهما أمرهما582، وكذلك حضر مسروق بن الأجدع أحد كبار التابعين وخطب الناس في محاولة منه لرأب الصدع بينهم فقال: أيها الناس أنصتوا ثم قال: أرأيتم لو أن منادياً ناداكم من السماء فسمعتم كلامه ورأيتموه فقال: إن الله ينهاكم عما أنتم فيه، أكنتم مطيعيه، قالوا: نعم: قال فوالله لقد نزل بذلك جبرائيل على محمد.. فما زال يأتي من هذا. ثم تلا: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رحيماً))(النساء ، الآية : 29). ثم أنساب في الناس فذهب583. وقد انتقد ابن كثير التفصيلات الطويلة التي جاءت في روايات أبي مخنف ونصر بن مزاحم، بخصوص المراسلات بين الطرفين فقال:... ثم ذكر أهل(1/155)
السير كلاماً طويلاً جرى بينهم وبين علي، وفي صحة ذلك عنهم وعنه نظر، فإن في مطاوي ذلك الكلام من علي ما ينتقص فيه معاوية وأباه، وأنهم إنما دخلوا في الإسلام ولم يزلا في تردد فيه، وغير ذلك وأنه قال في غضون ذلك؟ لا أقول إن عثمان قُتل مظلوماً ولا ظالماً، وهذا عندي لا يصح من علي رضي الله عنه584. وموقف علي رضي الله عنه من قتل عثمان رضي الله عنه واضح، وقد بينته في كتابي عن عثمان بن عفان رضي الله عنهما وفي هذا الكتاب.
ثالثاً : نشوب القتال:
…عادت الحرب على ما كانت عليه في شهر ذي الحجة من قتال الكتائب والفرق والمبارزات الفردية، خشية الالتحام الكلي إلى أن مضى الأسبوع الأول منه، وكان عدد الوقعات الحربية بين الفريقين إلى هذا التاريخ أكثر من سبعين وقعة وذكر أنها تسعون585، إلا أن علياً أعلن في جيشه أن غداً الأربعاء سيكون الالتحام الكلي لجميع الجيش، ثم نبذ إلى معاوية يخبره بذلك586، فثار الناس في تلك الليلة إلى أسلحتهم يصلحونها ويحدونها وقام عمرو بن العاص بإخراج الأسلحة من المخازن لمن يحتاج من الرجال ممن فل سلاحه، وهو يحرض الناس على الاستبسال في القتال587، وبات جميع الجيش في مشاورات وتنظيم للقيادات والألوية588.
1 ـ اليوم الأول :(1/156)
…أصبح الجيشان في يوم الأربعاء قد نظمت صفوفهم ووزعوا حسب التوزيع المتبع في المعارك الكبرى، قلب، وميمنة، وميسرة، فكان جيش علي رضي الله عنه على النحو التالي589: علي بن أبي طالب على القلب، وعبد الله بن عباس على الميسرة، وعمّار بن ياسر على الرجالة، ومحمد بن الحنفية حامل الراية وهشام بن عتبة (المرقال) حامل اللواء، والأشعث بن قيس على الميمنة. وأما جيش الشام، فمعاوية في كتيبة الشهباء أصحاب البيض والدروع على تل مرتفع وهو أمير الجيش، وعمرو بن العاص قائد خيل الشام كلها، وذو الكلاع الحميري على الميمنة على أهل اليمن، وحبيب بن مسلمة الفهري على الميسرة على مضر والمخارق بن الصباح الكلاعي حامل اللواء590، وتقابلت الجيوش الإسلامية ومن كثرتها قد سدت الأفق، ويقول كعب بن جعيل التغلبي أحد شعراء العرب591 وذلك عندما رأى الناس في ليلة الأربعاء وقد ثبتوا إلى نبالهم وسيوفهم يصلحونها استعداداً لهذا اليوم:
أصبحت الأمة في أمر عجب
………والملك مجموع غداً لمن غلب
فقلت قولاً صادقاً غير كذب
………إن غداً تهلك أعلام العرب592(1/157)
وتذكر بعض الروايات الضعيفة أن علياً خطب في جيشه، وحرضهم على الصبر والإقدام والإكثار من ذكر الله593، وتذكر أيضاً أن عمرو بن العاص، قد استعرض جيشه، وأمرهم بتسوية الصفوف وإقامتها594، وهذه الروايات لا يوجد مانع من الأخذ بها، لأن كل قائد يحرض جيشه ويحمسه، ويهتم بكل ما يؤدي به إلى النصر وألتحم الجيشان في قتال عنيف، استمر محتدماً إلى غروب الشمس لا يتوقف إلا لأداء الصلاة، يصل كل فريق في معسكره وبينهما جثث القتلى في الميدان تفصل بينهما، وسأل أحد أفراد جيش على رضي الله عنه حين إنصرافه من الصلاة، فقال: ما تقول في قتلانا وقتلاهم يا أمير المؤمنين؟ فقال: من قتل منا ومنهم يريد وجه الله والدار الآخرة دخل الجنة595 وقد صبر بعضهم على بعض فلم يغلب أحد أحداً، ولم ير مولياً حتى إنتهى ذلك اليوم. وفي المساء خرج علي رضي الله عنه إلى ساحة القتال فنظر إلى أهل الشام، فدعا ربه قائلاً: اللهم أغفر لي ولهم596.
2 ـ اليوم الثاني:
…في يوم الخميس تذكر الروايات أن علياً رضي الله عنه قد غلس بصلاة الفجر واستعد للهجوم، وغير بعض القيادات، فوضع عبد الله بن بديل الخزاعي على الميمنة بدلاً من الأشعث بن قيس الكندي الذي تحول إلى الميسرة597، وزحف الفريقان نحو بعضهما واشتبكوا في قتال عنيف أشد من سابقه، وبدأ أهل العراق في التقدم وأظهروا تفوقاً على أهل الشام واستطاع عبد الله بن بديل أن يكسر ميسرة معاوية وعليها حبيب بن مسلمة ويتقدم باتجاه كتيبة معاوية (الشهباء) وأظهر شجاعة وحماساً منقطع النظير، وصاحب هذا التقدم الجزئي، تقدم عام لجيش العراق، حتى أن معاوية، قد حدثته نفسه بترك ميدان القتال، إلا أنه صبر وتمثل بقول الشاعر:
…………أبت لي عفتي وأبى بلائي
…………………وأخذي الحمد بالثمن الربيح
…………واكراهي على المكروه نفسي
…………………وضربي هامة البطل المشيح
…………وقولي كلما جشأت وجاشت
…………………مكانك تحمدي أو تسريحي598(1/158)
…واستحث كتيبته الشهباء واستطاعوا قتل عبد الله بن بديل، فأخذ مكانه في قيادة الميمنة الأشتر وتماسك أهل الشام وبايع بعضهم على الموت، وكروا مرة أخرى بشدة وعزيمة وقتل عدد من أبرزهم ذو الكلاع، وحوشب وعبيد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وإنقلب الأمر لجيش الشام، وأظهر تقدماً، وبدأ جيش العراق في التراجع، واستحر القتل في أهل العراق، وكثرت الجراحات ولما رأى علي جيشه في تراجع، أخذ يناديهم ويحمسهم، وقاتل قتالاً شديداً واتجه إلى القلب حيث ربيعة، فثارت فيهم الحمية وبايعوا أميرهم خالد بن المعمر على الموت وكانوا أهل قتال599.
وكان عمّار بن ياسر رضي عنه قد جاوز الرابعة والتسعين عاماً، وكان يحارب بحماس، يحرض الناس، ويستنهض الهمم ولكنه بعيد كل البعد عن الغلو، فقد سمع رجلاً بجواره يقول: كفر أهل الشام، فنهاه عمار عن ذلك وقال: إنما بغوا علينا، فنحن نقاتلهم لبغيهم، فإلهانا واحد ونبينا واحد وقبلتنا واحدة600.(1/159)
ولما رأى عمار رضي الله عنه تقهقر أصحابه، وتقدم خصومه، أخذ يستحثهم ويبين لهم أنهم على الحق ولا يغرنهم ضربات الشاميين الشديدة، فيقول رضي الله عنه: من سره أن تكتنفه الحور العين فليقدم بين الصفين محتسباً، فإني لأرى صفاً يضربكم ضرباً يرتاب منه المبطلون والذي نفسي بيده، لو ضربونا حتى يبغلوا منا سعفات هجر، لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل لعلمنا أن مصلحينا على الحق وأنهم على الباطل601، ثم أخذ في التقدم، وفي يده الحربة ترعد ـ لكبر سنه ـ ويشتد على حامل الراية هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ويستحثه في التقدم ويرغبه ويطمعه فيما عند الله من النعيم، ويطمع أصحابه أيضاً فيقول: أزفت الجنة وأزينت الحور العين، من سره أن تكتنفه الحور العين، فليتقدم بين الصفين محتسباً وكان منظر مؤثر فهو صحابي جليل مهاجري بدري جاوز الرابعة والتسعين يمتلك كل هذا الحماس وهذا العزم والروح المعنوية العالية واليقين الثابت، فكان عاملاً هاماً من عوامل حماس جيش العراق ورفع روحهم المعنوية مما زادهم عنفاً وضراوة وتضحية في القتال حتى استطاعوا أن يحولوا المعركة لصالحهم وتقدم هاشم بن عتبة بن أبي وقاص وهو يرتجز بقوله:
………أعور يبغي أهله مَحَلاَّ………قد عالج الحياة حتى ملاَّ
…………… لا بد أن يَفُلّ أو يُفَلاَّ602
وعمار يقول: تقدم يا هاشم، الجنة تحت ظلال السيوف، والموت في أطراف الأسل603، وقد فتحت أبواب السماء وتزينت الحور العين
…………اليوم ألقى الأحبة……محمّداً وحزبه604
وعند غروب الشمس ذلك اليوم الخميس، طلب عمار شربة من لبن ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: إن آخر شربة تشربها من الدنيا شربة لبن605. ثمّ تقدم واستحث معه حامل الراية هاشم بن عتبة بن أبي وقاص الزهري فلم يرجعا وقتلا606 رحمهما الله رضي الله عنهما.
3 ـ ليلة الهرير ويوم الجمعة:(1/160)
…عادت الحرب في نفس الليلة بشدة وإندفاع لم تشهدها الأيام السابقة وكان اندفاع أهل العراق بحماس وروح عالية حتى أزالوا أهل الشام عن أماكنهم، وقاتل أمير المؤمنين علي قتالاً شديداً وبايع على الموت607، وذكر أن علياً رضي الله عنه صلى بجيشه المغرب صلاة الخوف608، وقال الشافعي: وحفظ عن علي أنه صلى صلاة الخوف ليلة الهرير609، يقول شاهد عيان: إقتتلنا ثلاثة أيام وثلاثة ليالي حتى تكسرت الرماح ونفدت السهام ثم صرنا إلى المسايفة فأجتلدنا بها إلى نصف الليل حتى صرنا نعانق بعضنا بعض ولما صارت السيوف كالمناجل تضاربنا بعمد الحديد فلا تسمع إلا غمغمة وهمهمة القوم ثم ترامينا بالحجارة وتحاثينا بالتراب وتعاضينا بالأسنان وتكاد منا بالأفواه إلى أن أصبحوا في يوم الجمعة وارتفعت الشمس وإن كانت لا ترى من غبار المعركة وسقطت الألوية والرايات وأنهك الجيش التعب وكلت الأيدي وجفت الحلوق610.
…ويقول ابن كثير في وصف ليلة الهرير ويوم الجمعة: وتعاضوا بالأسنان يقتتل الرجلان حتى يثخنا ثم يجلسان يستريحان وكل واحد منهما ليهمر على الآخر، ويهمر عليه ثم يقومان فيقتتلان كما كانا فإنا لله وإنا إليه لراجعون ولم يزل ذلك دأبهم حتى أصبح الناس من يوم الجمعة وهم كذلك وصلى الناس الصبح إيماؤهم في القتال حتى تضاحا النهار وتوجه النصر لأهل العراق على أهل الشام611.
4 ـ الدعوة إلى التحكيم:(1/161)
…إن ما وصل إليه حال الجيشين بعد ليلة الهرير لم يكن يحتمل مزيد قتال، وجاءت خطبة الأشعث بن قيس زعيم كندة أصحابه ليلة الهرير فقال: قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي، وما قد فني فيه من العرب، فوالله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ، فما رأيت مثل هذا قط، ألا فليبلغ الشاهد الغائب، إن نحن توافقنا غداً إنه لفناء العرب، وضيعة الحرمان، أما والله ما أقول هذه المقالة جزعاً من الحرب، ولكن رجل مسن،وأخاف على النساء والذراري غداً إذا نحن فنينا اللهم إنك تعلم أني قد نظرت لقومي ولأهل ديني فلم آلُ612.(1/162)
…وجاء خبر ذلك إلى معاوية فقال: أصاب ورب الكعبة، لئن نحن إلتقينا غداً لتميلين الروم على ذرارينا ونسائنا ولتميلين أهل فارس على أهل العراق وذراريهم وإنما يبصر هذا ذوو الأحلام والنهى ثم قال لأصحابه: اربطوا المصاحف على أطراف القنا613، وهذه رواية عراقية لا ذكر فيها لعمرو بن العاص ولا للمخادعة والاحتيال وإنما كانت رغبة كلا الفريقين، ولن يضير معاوية أو عمرو بشيء أن تأتى أحدهم الشجاعة فيبادر بذلك وينقذ ما تبقى من قوى الأمة المتصارعة إنما يزعج ذلك أعداء الأمة الذين أشعلوا نيران هذه الفتنة، وتركوا لنا ركاماً من الروايات المضللة بشأنها، تحيل الحق باطلاً، وتجعل الفضل، كالمناداة بتحكيم القرآن لصون الدماء المسلمة جريمة ومؤامرة614وحيلة ونسبوا لأمير المؤمنين علي أقوالاً مكذوبة تعارض ما في الصحيح على أنه قال: (إنهم ما رفعوها، ثم لا يرفعونها، ولا يعملون بما فيها، وما رفعوها لكم إلا خديعة ودهناً ومكيدة615، ومن الشتائم قولهم عن رفع المصاحف: إنها مشورة ابن العاهرة616، ووسّعوا دائرة الدعاية المضادة على عمرو بن العاص رضي الله عنه حتى لم تعد تجد كتاباً من كتب التاريخ إلا فيه انتقاص لعمرو بن العاص وأنه مخادع وماكر بسبب الروايات الموضوعة التي لفقها أعداء الصحابة الكرام، ونقلها الطبري، وابن الأثير وغيرهم، فوقع فيها كثير من المؤرخين المعاصرين مثل حسن إبراهيم حسن في تاريخ الإسلام، ومحمد الخضري بك في تاريخ الدولة الأموية، وعبد الوهاب النجار في تاريخ الخلفاء الراشدون وغيرهم كثير، مما ساهم في تشوية الحقائق التاريخية الناصعة.(1/163)
…إن رواية أبي مخنف تفترض أن علياً رفض تحكيم القرآن لما اقترحه أهل الشام، ثم استجاب بعد ذلك له تحت ضغط القراء الذين عرفوا بالخوارج فيما بعد617، وهذه الرواية تحمل سباً من علي لمعاوية وصحبه يتنزه عنه أهل ذاك الجيل المبارك فكيف بساداتهم وعلى رأسهم أمير المؤمنين علي، ويكفي للرواية سقوطاً أن فيها أبا مخنف الرافضي المحترق، فهي روية لا تصمد للبحث النزيه ولا ما يرويه الأمام أحمد بن حنبل عن طريق حبيب بن أبي ثابت قال: أتيت أبا وائل ـ أحد رجال علي بن أبي طالب ـ فقال: كنا بصفين، فلما استحر القتل بأهل الشام قال عمرو لمعاوية: أرسل إلى علي المصحف، فادعه إلى كتاب الله، فإنه لا يأبى عليك، فجاء به رجل فقال: بيننا وبينكم كتاب الله ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ)) (آل عمران ، الآية 23). فقال علي: نعم، أنا أولى بذلك، فقال القُراء الذين صاروا بعد ذلك خوارج، بأسيافهم على عواتقهم فقالوا: يا أمير المؤمنين ألا نمشي إلى هؤلاء حتى يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقام سهل بن حنيف الأنصاري رضي الله عنه فقال: أيها الناس اتهموا أنفسكم، لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديبية، ولو نرى قتالاً لقاتلنا، وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، ثم حدثهم عن معارضة عمر رضي الله عنه للصلح يوم الحديبية ونزول سورة الفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علي: أيها الناس إن هذا فتح فقبل القضية ورجع، ورجع الناس618. وأظهر سهل بن حنيف رضي الله عنه اشمئزازاً ممن يدعون إلى استمرار الحرب بين الإخوة وقال: أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم619، وبين لهم بأنه لا خيار عن الحوار والصلح لأن ما سواه فتنة لا تعرف عواقبها، فقد قال: ما وضعنا سيوفنا على عواتقنا(1/164)
إلى أمر إلا أسهلن بنا إلى ما نعرفه قبل هذا الأمر ما سد منها خُصماً إلا تفجر علينا خُصم ما ندري كيف نأتي له620، وفي هذه الروايات الصحيحة رد على دعاة الفتنة، ومبغضي الصحابة الذين يضعون الأخبار المكذوبة، ويضعون الأشعار ونسبونها إلى أعلام الصحابة والتابعين الذين شاركوا في صفين، ليظهروهم بمظهر المتحمس لتلك الحرب ليزرعوا البغضاء في النفوس ويعملوا ما في وسعهم على استمرار الفتنة621، إن الدعوة إلى تحكيم كتاب الله دون التأكيد على تسليم قتلة عثمان إلى معاوية وقبول التحكيم دون التأكيد على دخول معاوية في طاعة علي والبيعة له، تطور فرضته أحداث حرب صفين، إذ أن الحرب التي أودت بحياة الكثير من المسلمين، أبرزت اتجاهاً جماعياً رأى أن وقف القتال وحقن الدماء ضرورة تقتضيها حماية شوكة الأمة وصيانة قوتها أمام عدوها، وهو دليل على حيوية الأمة ووعيها وأثرها في إتخاذ القرارات622.
إن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قبل وقف القتال في صفين ورضي التحكيم وعد ذلك فتحاً ورجع623 إلى الكوفة، وعلق على التحكيم آمالاً في إزالة الخلاف وجمع الكلمة، ووحدة الصف، وتقوية الدولة، وإعادة حركة الفتوح من جديد. إن وصول الطرفين إلى فكرة التحكيم ساهمت عدة عوامل به للتحكيم منها:
أ ـ…أنه كان آخر محاولة من المحاولات التي بذلت لايقاف الصدام وحقن الدماء سواء تلك المحاولات الجماعية، أم المحاولات الفردية التي بدأت بعد موقعة الجمل ولم تفلح، أما الرسائل التي تبودلت بين الطرفين لتنفيذ وجهات نظر كل منهما، ولم تُجْد هي الأخرى ـ شيئاً وكان آخر تلك المحاولات ما قام به معاوية في أيام اشتداد القتال حيث كتب إلى علي رضي الله عنه يطالبه بتوقف القتال فقال: فإني أحسبك أن لو علمت وعلمنا أن الحرب تبلغ بك ما بلغت لم نجنها على أنفسنا، فإنا إن كنا قد غُلبنا على عقولنا فقد بقي لنا منا ما ينبغي أن نندم على ما مضى ونصلح ما بقي624.(1/165)
ب ـ…تساقط القتلى وإراقة الدماء الغزيرة ومخافة الفناء، فصارت الدعوة إلى إيقاف الحرب مطلباً يرنو إليه الجميع.
جـ ـ الملل الذي أصاب الناس من طول القتال، حتى وكأنهم على موعد لهذا الصوت الذي نادى بالهدنة والصلح، وكانت أغلبية جيش علي في إتجاه الموادعة وكانوا يرددون: قد أكلتنا الحرب، ولا نرى البقاء إلا في الموادعة625، وهذا ينقض ذلك الرأي المتهافت الذي رُوِّج بأن رفع المصاحف كان خدعة من عمرو بن العاص. والحق أن فكرة رفع المصاحف لم تكن جديدة وليست من إبتكار عمرو بن العاص، بل رفع المصحف في الجمل ورشق حامله كعب بن سور قاضي البصرة بسهم وقتل.
س ـ…الاستجابة لصوت الوحي الداعي للإصلاح قال تعالى ((فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)) (النساء ، الآية : 59) ويؤيد هذا ما قاله علي بن أبي طالب حينما عرض عليه الاحتكام إلى كتاب الله قال: نعم أنا أولى بذلك بيننا وبينكم كتاب الله626.
5 ـ …مقتل عمّار بن ياسر رضي الله عنه وأثره على المسلمين:(1/166)
…يعد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمّار رضي الله عنه: تقتلك الفئة الباغية627من الأحاديث الصحيحة والثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد كان لمقتل عمّار رضي الله عنه أثر في معركة صفين، فقد كان علماً لأصحاب رسول الله يتبعونه حيث سار وكان خزيمة بن ثابت حضر صفين وكان كافاً سلاحه، فلما رأى مقتل عمّار سل سيفه وقاتل أهل الشام، وذلك لأنه سمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمّار: تقتله الفئة الباغية628، واستمر في القتال حتى قتل629، وكان لمقتل عمّار أثر في معسكر معاوية، فهذا أبو عبد الرحمن السلمي دخل في معسكر أهل الشام، فرأى معاوية وعمرو بن العاص وابنه عبد الله بن عمرو، وأبو الأعور السلمي، عند شرعة الماء يسقونـ وكانت هي شربة الماء الوحيدة التي يستقي منها الفريقان، وكان حديثهم عن مقتل عمّار بن ياسر، إذ قال عبد الله بن عمرو لوالده: لقد قتلنا هذا الرجل وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، قال: وأي رجل؟ قال: عمّار بن ياسر.. قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تقتله الفئة الباغية. فقال عمرو لمعاوية لقد قتلنا الرجل وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال! فقال معاوية: اسكت فوالله ما تزال تدحض630 في بولك أنحن قتلناه؟ إنما قتله من جاء به631، فانتشر تأويل معاوية بين أهل الشام إنتشار النار في الهشيم، وجاء في رواية صحيحة أن عمرو بن حزم دخل على عمرو بن العاص فقال: قتل عمار وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: تقتله الفئة الباغية. فقام عمرو بن العاص فزعاً يرجع حتى دخل على معاوية، فقال له معاوية: ما شأنك؟ فقال: قتل عمار، فقال معاوية: قتل عمار فماذا؟ قال عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: تقتلك الفئة الباغية فقال له معاوية دحضت في بولك، أونحن قتلناه، إنما قتله علي وأصحابه، جاؤا به حتى ألقوه بين رماحنا، أو قال بين سيوفنا632. وفي رواية صحيحة(1/167)
أيضاً: جاء رجلان عند معاوية يختصمان في رأس عمار يقول كل واحد منهما: أنه قتلته، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: ليطلب به أحدكما نفساً لصاحبه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" تقتله الفئة الباغية. قال معاوية: فما بالك معنا؟ قال: إن أبي شكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أطع أباك ما دام حياً ولا تعصه. فأنا معكم ولست أقاتل633. من الروايات السابقة نلاحظ أن الصحابي الفقيه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما حريص على قول الحق، والنصح، فقد رأى أن معاوية وجنده، هم الفرقة الباغية لقتلهم عماراً، فقد تكرر منه هذا الاستنكار في مناسبات مختلفة، ولا شك أن مقتل عمار رضي الله عنه قد أثر في أهل الشام بسبب هذا الحديث، إلا أن معاوية رضي الله عنه أول الحديث تأويلاً غير مستساغ ولا يصح في أن الذين قتلوا عمار هم الذين جاءوا به إلى القتال634، وقد أثر مقتل عمار كذلك على عمرو بن العاص، بل كان استشهاد عمار دافعاً لعمرو بن العاص للسعي لإنهاء الحرب635، وقد قال رضي الله عنه: وددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة636، وقد جاء في البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا نحمل لبنة لبنة وعمّار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، فينفض التراب عنه ويقول: ويح عمّار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار. قال عمّار: أعوذ بالله من الفتن637، وقال ابن عبد البر: تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: تقتل عمار الفئة الباغية، وهذا من إخباره بالغيب وأعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وهو من أصح الأحاديث638، وقال الذهبي بعد ما ذكر الحديث: وفي الباب عن عدة من الصحابة، فهو متواتر639.
* ـ …فهم العلماء للحديث:(1/168)
أ ـ …قال ابن حجر : وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة، وفضيلة ظاهرة لعلي وعمار، وردُّ على النواصب الزاعمين أن علياً لم يكن مصيباً في حروبه640، وقال أيضاً: دل الحديث: تقتل عماراً الفئة الباغية، على أن علياً كان المصيب في تلك الحروب، لأن أصحاب معاوية قتلوه641.
ب ـ…يقول النووي: وكانت الصحابة يوم صفين يتبعونه حيث توجه لعلمهم بأنه مع الفئة العادلة لهذا الحديث642.
ت ـ…قال ابن كثير: كان علي وأصحابه أدنى الطائفتين إلى الحق من أصحاب معاوية، وأصحاب معاوية كانوا باغين عليهم، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث شعبة عن أبي سلمة عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري، قال: حدثني من هو خير مني ـ يعني أبا قتادة ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار: تقتلك الفئة الباغية643. وقال أيضاً: وهذا مقتل عمار بن ياسر رضي الله عنهما مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، قتله أهل الشام، وبان وظهر بذلك سر ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أن تقتله الفئة الباغية، وبان بذلك أن علياً محق، وأن معاوية باغ، وما في ذلك من دلائ النبوة644.
ث ـ…وقال الذهبي: هم طائفة من المؤمنين، بغت على الإمام علي، وذلك بنص قول المصطفى صلوات الله عليه لعمار: تقتلك الفئة الباغية645.
جـ ـ قال القاضي أبو بكر بن العربي في قوله تعالى: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ )) (الحجرات ، الآية : 9)، هذه الآية أصل في قتال المسلمين، والعمدة في حرب المتأولين، وعليها عوّل الصحابة، وإليها لجأ الأعيان من هذه الملة، وإياها عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: تقل عمار الفئة الباغية646.(1/169)
ح ـ…وقال ابن تيمية: وهذا يدل على صحة إمامة علي ووجوب طاعته، وأن الداعي إلى طاعته داع إلى الجنة، والداعي إلى مقاتلته داعٍ إلى النار ـ وإن كان متأولاً ـ وهو دليل على أنه لم يكن يجوز قال علي، وعلي هذا فمقاتله مخطئ ـ وإن كان متأولاً ـ أو باغ ـ بلا تأويل ـ وهو أصح القولين لأصحابنا، وهو الحكم بتخطئة من قاتل علياً، وهو مذهب الأئمة الفقهاء الذين فرعوا على لذك قتال البغاة المتأولين647. وقال أيضاً: مع أن علياً أولى بالحق ممن فارقه، ومع أن عمار قتلته الفئة الباغيةـ كما جاءت به النصوص ـ فعلينا أن نؤمن بكل ما جاء من عند الله ونقر بالحق كله، ولا يكون لنا هوى، ولا نتكلم بغير علم، بل نسلك سبل العلم والعدل، وذلك هو اتباع الكتاب والسنة، فأما من تمسك ببعض الحق دون بعض، فهذا منشأ الفرقة والاختلاف648.
س ـ …وقال عبد العزيز بن باز: وقال صلى الله عليه وسلم في حديث عمار: تقتل عمار الفئة الباغية: فقتله معاوية وأصحابه في وقعة صفين، فمعاوية وأصحابه بغاة، لكن مجتهدون ظنوا أنهم مصيبون في المطالبة بدم عثمان649.
و ـ…وقال سعيد حوى: بعد أن قتل عمار الذي وردت النصوص مبينة أنه تقتله الفئة الباغية، تبين للمترددين أن علياً كان على حق وأن القتال معه كان واجباً ولذا عبّر ابن عمر عن تخلُّفه بأنه يأس بسبب هذا التخلف، وما ذلك إلا أنه ترك واجباً وهو نصرة الإمام الحق على الخارجين عليه بغير حق كما أفتى بذلك الفقهاء650
* ـ…الرد على قول معاوية رضي الله عنه: إنما قتله من جاء به651:(1/170)
…إن جل الصحابة والتابعين قد فهموا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار: تقتلك الفئة الباغية652، إن المقصود جيش معاوية رضي الله عنه، مع أنهم معذورون في اجتهادهم فهم يقصدون الحق ويريدونه، ولكنهم لم يصيبوه، وفئة علي أولى بالحق منهم كما قال صلى الله عليه وسلم653، ومع أن الأئمة لم يعجبهم تأويل معاوية ـ كما سأنقل ـ إلا أنهم عذروه في إجتهاده، فهاهو ابن حجر يقول في قوله صلى الله عليه وسلم: يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار654. فإن قيل: كان قتله بصفين وهو مع علي، والذين قتلوه مع معاوية، وكان معه جماعة من الصحابة، فكيف يجوز عليهم الدعاء إلى النار؟ فالجواب: أنهم كانوا ظانين أنهم يدعون إلى الجنة، وهم مجتهدون لا لوم عليهم في إتباع طنونهم، فالمراد بالدعاء إلى الجنة الدعاء إلى سببها، وهو طاعة الإمام وكذلك معذورون للتأويل الذي ظهر لهم655.(1/171)
…وقال القرطبي: وقال الإمام أبو المعالي في كتاب الإرشاد، فصل: علي رضي الله عنه، كان إماماً حقاً في توليته، ومقاتلوه بغاة، وحسن الظن بهم يقتضي أن يظن بهم قصد الخير وإن أخطأوه656، وقال أيضاً: وقد أجاب علي رضي الله عنه عن قول معاوية بأن قال: فرسول الله صلى الله عليه وسلم إذن قتل حمزة حين أخرجه، وهذا من علي رضي الله عنه إلزام، لا جواب عنه، وحجة لا اعتراض عليها قاله الإمام الحافظ أبو الخطاب ابن دحية657، وقال ابن كثير: فقول معاوية: إنما قتله من قدمه إلى سيوفنا، تأويل بعيد جداً، إذ لو كان كذلك لكان أمير الجيش هو القاتل للذين يقتلون في سبيل الله، حيث قدمهم إلى سيوف الأعداء658، وقال ابن تيمية: وهذا القول لا أعلم له قائلاً من اصحاب الأئمة الأربعة ونحوهم من أهل السنة، ولكن هو قول كثير من المروانية ومن وافقهم659، وقال ابن القيم معلقاً على هذا التأويل: نعم التأويل الباطل تأويل أهل الشام قوله صلى الله عليه وسلم لعمار: تقتلك الفئة الباغية660، فقالوا: نحن لم نقتله إنما قتله من جاء به حتى أوقعه بين رماحنا، فهذا هو التأويل الباطل المخالف لحقيقة اللفظ وظاهره، فإن الذي قتله هو الذي قتله، لا من استنصر به661.
6 ـ…من هو قاتل عمّار بن ياسر؟(1/172)
…قال أبو الغادية الجهني وهو يحدث عن قتله لعمار: فلما كان يوم صفين، أقبل يستن أول الكتيبة رَجِلاً، حتى إذا كان بين الصفين فأبصر رجلٌ عورة، فطعنه في ركبته بالرمح فعثر، فانكشف المغفر عنه، فضربته فإذا هو رأس عمار. ثم قتل عماراً، واستسقى أبو غادية/ فأتي بماء في زجاج، فأبى أن يشرب فيها، فأتى بماء في قدح فشرب، فقال رجل:... يتورع عن الشرب في الزجاج ولم يتورع عن قتل عمار662، ويخبر عمرو بن العاص رضي الله عنه الخبر فيقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قاتل عمار وسالبه في النار663. قال ابن كثير ومعلوم أن عماراً كان في جيش علي يوم صفين، وقتله أصحاب معاوية من أهل الشام، وكان الذي تولى قتله يقال له أبو الغادية، رجل من أفناد الناس، وقيل إنه صحابي664، وقال ابن حجر: والظن بالصحابة في تلك الحروب أنهم كانوا متأولين للمجتهد المخطيء أجر، وإذا ثبت هذا في حق آحاد الناس فثبوته للصحابة بالطريق الأولى665، وقال الذهبي: وابن ملجم عند الروافض أشقى الخلق في الآخرة، وهو عندنا أهل السنة ممن نرجو له النار، ونجوّز أن الله يتجاوز عنه، لا كما يقول الخوارج والروافض، وحكمه حكم قاتل عثمان، وقاتل الزبير، وقاتل طلحة، وقاتل سعيد بن جبير، وقاتل عمار وقاتل خارجة، وقاتل الحسين، فكل هؤلاء نبرأ منهم ونبغضهم في الله، ونكل أمورهم إلى الله عز وجل666، وقد وفق الألباني في تعليقه على قول ابن حجر: هذا حق، لكن تطبيقه على كل فرد من أفرادهم مشكل، لأنه يلزم تناقض القاعدة المذكورة بمثل حديث الترجمة، أي (قاتل عمار وسالبه في النار)667، إذ لا يمكن القول بأن أبا غادية القاتل لعمار مأجور، لأنه قتله مجتهداً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قاتل عمار في النار668، فالصواب أن يقال: إن القاعدة صحيحة، إلا ما دل الدليل القاطع على خلافها، فيستثنى ذلك منها كما هو الشأن هنا، وهذا خير من ضرب الحديث الصحيح بها669. وقد ترجم لأبي(1/173)
الغادية الجهني ابن عبد البر فقال: اختلف في اسمه، فقيل: يسار بن سًبُع وقيل يسار بن أزهر، وقيل إن اسمه مسلم. سكن الشام ونزل في واسط، يعدُّ في الشاميين أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام، رُوي عنه أنّه قال: أدركت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أيفع، أرد على أهلي الغنم، وله سماع من النبي صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض670، وكان محباً لعثمان، وهو قاتل عمار بن ياسر، وكان يصف قتله إذا سئل عنه لا يباليه وفي قصته عجبٌ عند أهل العلم671.
7 ـ المعاملة الكريمة أثناء الحرب والمواجهة:(1/174)
…إن وقعت صفين كانت من أعجب الوقائع بين المسلمين.. كانت هذه الوقعات من الغرابة إلى حد أن القارئ لا يصدق ما يقرأ ويقف مشدوهاً أمام طبيعة النفوس عند الطرفين، فكل منهم كان يقف وسط المعركة شاهراً سيفه وهو يؤمن بقضيته إيماناً كاملاً، فليست معركة مدفوعة من قبل القيادة يدفعون الجنود إلى معركة غير مقنعين بها، بل كانت معركة مدفوعة من قبل القيادة، معركة فريدة في بواعثها وفي طريقة أدائها وفيما خلفتها من آثار فبواعثها في نفوس المشاركين يعبر عنها بعض المواقف التي وصلت إلينا في المصادر التاريخية، فهم إخوة يذهبون معاً إلى مكان الماء فيستقون جميعاً ويزدحمون وهم يغرفون الماء وما يؤذي إنسان إنساناً672، وهم إخوة يعيشون معاً عندما يتوقف القتال فهذا أحد المشاركين يقول: كناإذا تواعدنا من القتال دخل هؤلاء في عسكر هؤلاء وهؤلاء في معسكر هؤلاء.. وتحدثوا إلينا وتحدثنا إليهم673، وهم أبناء قبيلة واحدة ولكل منهما اجتهاده، فيقتل أبناء القبيلة الواحدة كل في طرف674، قتالاً مريراً، وكل منهما يرى نفسه على الحق وعنده الاستعداد لأن يُقْتَل من أجله، فكان الرجلان يقتتلان حتى يُثْخِنا (وهنا وضعفاً) ثم يجلسان يستريحان، ويدور بينهما الكلام الكثير، ثم يقومان فيقتتلان كما كانا675، وهما أبناء دين واحد يجمعهما، وهو أحب إليهما من أنفسهما، فإذا حان وقت الصلاة توقفوا لأدائها676، ويوم قتل عمار بن ياسر صلى عليه الطرفان677، ويذكر شاهد عيان إشترك في صفين: تنازلنا بصفين، فاقتتلنا أياماً فكثر القتلى بيننا حتى عقرت الخيل، فبعث علي إلى عمرو بن العاص أن القتلى قد كثروا فأمسك حتى يدفن الجميع قتلاهم فأجابهم، فاختلط بعض القوم ببعض حتى كانوا هكذا وشبك بين أصابعه، وكان الرجل من أصحاب علي يشد فيقتل في عسكر معاوية، فيستخرج منه، وقد مر أصحاب علي بقتيل لهم أمام عمرو، فلما رآه بكى وقال: لقد كان مجتهداً أخشن في أمر الله678. وكانوا يسارعون(1/175)
إلى التناهي عن المنكر حتى في مثل هذه المواقع، فكانت هناك مجموعة عرفوا بالقراء، وكانوا من تلامذة عبد الله بن مسعود من أهل العراق ومن أهل الشام معاً، فلم ينضموا إلى أمير المؤمنين علي، ولا إلى معاوية بن أبي سفيان وقالوا لأمير المؤمنين: إنا نخرج معكم ولا ننزل عسكركم، ونعسكر على حدة حتى ننظر في أمركم وأمر أهل الشام، فمن رأيناه أراد ما لا يحل له، أو بدا منه بغي كنا عليه فقال علي: مرحباً وأهلاً، هذا هو الفقه في الدين، والعلم بالسنة من لم يرضى بهذا فهو جائر خائن679. والحقيقة أن هذه المواقف منبعثة من قناعات وإجتهادات استوثقوا منها في قرارة أنفسهم وقاتلَّوا عليها680
8 ـ معاملة الأسرى عند أمير المؤمنين علي رضي الله عنه:
إن المعاملة الحسنة للأسير وإكرامه في صفين من الأمور البدهيه بعد ما استعرضنا المعاملة الكريمة أثناء القتال، وقد بين الإسلام معاملة الأسرى، فقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على إكرام الأسرى، وإطعامه أفضل الأطعمة الموجودة، هذا مع غير المسلمين فكيف إذا كان الأسير مسلماً، لا شك إن إكرامه والإحسان إليه أولى، ولكن الأسير في هذه المعركة يعتبر فئة وقوة لفرقته681، لذلك كان علي رضي الله عنه يأمر بحبسه، فإن بايع أخلى سبيله وإن أبى أخذ سلاحه ودابته أو يهبها لمن أسره ويحلفه إلا يقاتل وفي رواية يعطيه أربعة دراهم682وغرض الخليفة الراشد من ذلك واضح، وهو إضعاف جانب البغاة وقد أتى بأسير يوم صفين فقال الأسير: لا تقتلني صبراً فقال علي رضي الله عنه: لا أقتلك صبراً إني أخاف الله رب العالمين، فخلى سبيله ثمّ قال: أفيك خير تبايع683. ويبدو من هذه الروايات أن معاملته للأسرى كما يلي:
ـ إكرام الأسير والإحسان إليه.
ـ يعرض عليه البيعة والدخول في الطاعة، فإن بايع أخلى سبيله.
ـ إن أبى البيعة أخذ سلاحه ويحلفه أن لا يعود للقتال ويطلقه.(1/176)
ـ إن أبى إلا القتال تحفظّ عليه في الأسر ولا يقتله صبرا684. وقد أتى رضي الله عنه مرة بخمسة عشرا أسيراً ويبدو أنهم جرحى فكان من مات منهم غسله وكفنه وصلى عليه685. ويقول محب الدين الخطيب معلقاً على هذه الحرب: ومع ذلك، فإن هذه الحرب المثالية هي الحرب الإنسانية الأولى في التاريخ الذي جرى فيها المتحاربان معاً على مبادئ الفضائل التي يتمنى حكماء الغرب لو يعمل بها في حروبهم ولو في القرن الحادي والعشرين، وإن كثيراً من قواعد الحرب في الإسلام لم تكن لتعلم وتدون لولا وقوع هذه الحرب، ولله في كل أمر حكمة686، قال أبن العديم: قلت: وهذا كله حكم أهل البغي، ولهذا قال أبو حنيفة: لولا ما سار علي فيهم، ما علم أحد كيف السيرة في المسلمين687.
9 ـ عدد القتلى:
تضاربت أقوال العلماء في عدد القتلى فذٍكر ابن أبي خيثمة أن القتلى في صفين بلغ عددهم سبعين ألفاً، من أهل العراق خمسة وعشرين ألفاً، ومن أهل الشام خمسة وأربعين ألف مقاتل688، كما ذكر أبن القيم أن عدد القتلى في صفين بلغ سبعين ألفاً أو أكثر689، ولا شك أن هذه الأرقام غير دقيقه، بل أرقام خيالية، فالقتال الحقيقي والصدام الجماعي استمر ثلاثة أيام مع وقف القتال بالليل إلا مساء الجمعة فيكون مجموع القتال حوالي ثلاثين ساعة690، ومهما كان القتال عنيفاً، فلن يفوق شدة القادسية التي كان عدد الشهداء فيها ثمانية الآلف وخمسمائة691، وبالتالي يصعب عقلاً أن نقبل تلك الروايات التي ذكرت الأرقام الكبيرة،
10 ـ تفقد أمير المؤمنين على القتلى وترحمه عليهم:(1/177)
كان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بعد نهاية الجولات الحربية يقوم بتفقد القتلى، فيقول شاهد عيان: رأيت عليا على بغلة النبي صلى الله عيه وسلم الشهباء، يطوف بين القتلى692، وأثناء تفقده القتلى ومعه الأشتر، مر برجل مقتول ـ وهو أحد القضاء والعباد المشهورين بالشام ـ فقال الأشتر ـ وفي رواية أخرى عدي بن حاتم ـ: يا أمير المؤمنين أحابس693 معهم؟ عهدي والله به مؤمن فقال علي، فهو اليوم مؤمن. ولعل هذا الرجل المقتول هو القاضي الذي أتى عمر بن الخطاب وقال: ياأمير المؤمنين، رأيت رؤيا أفضعتني، قال: ما هي؟ قال: رأيت الشمس والقمر يقتتلان والنجوم معهما نصفين قال: فمع أيهما كنت؟ قال؟ مع القمر على الشمس، فقال عمر: قال تعالى:(( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً)) (الإسراء ، آية : 12) فانطلق فوالله لا تعمل لي عملاً أبداً، قال الرواي: فبلغني أنه قتل مع معاوية بصفين694، وقد وقف علي على قتلاه وقتلى معاوية فقال: غفر الله لكم، غفر الله لكم، للفريقين جميعاً695، وعن يزيد بن الأصم قال: لما وقع الصلح بين علي ومعاوية، خرج علي فمشى في قتلاه فقال: هؤلاء في الجنة ثم خرج إلى قتلى معاوية فقال: هؤلاء في الجنة، ويصير الأمر إلي وإلى معاوية696، وكان يقول عنهم هم: المؤمنون697، وقوله رضي الله عنه في صفين لا يكاد يختلف عن قوله في أهل الجمل698.
11 ـ موقف لمعاوية مع ملك الروم:(1/178)
…استغل ملك الروم الخلاف الذي وقع بين أمير المؤمنين علي ومعاوية رضي الله عنهما وطمع في ضم بعض الأراضي التي تحت هيمنة معاوية إليه، قال ابن كثير: .. وطمع في معاوية ملك الروم بعد أن كان أخشاه وأذله، وقهر جندهم ودحاهم، فلم رأى ملك الروم اشتغال معاوية بحرب علي تدانى إلى بعض البلاد في جنود عظيمة وطمع فيه، فكتب معاوية إليه والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين لأصطلحن أنا وابن عمي عليك ولأخرجنك من جميع بلادك ولأضيقنَّ عليك الأرض بما رحبت، فعند ذلك خاف ملك الروم وانكف، وبعث يطلب الهدنة699. وهذا الأثر يدل على أن الخلاف الذي بينه وبين علي رضي الله عنه لن يبقى لحظة واحدة فيما لو تعرض أمن الدولة الإسلامية في الشام للخطر، ولولا أن الروم يعلمون أن هذه الخلافات قابلة للنسيان المطلق ما أخذوا تحذير معاوية مأخذ الجد وكفوا أيديهم700
12 ـ قصة باطلة في حق عمرو بن العاص بصفين:
…قال نصر بن مزاحم الكوفي: وحمل أهل العراق وتلقَّاهم أهل الشام باجتلدوا وحمل عمرو بن العاص.... فاعترضه علي وهو يقول:
قد علمت ذات القرون الميل
……………………والخضر والأنامل الطفول701
…إلى أن يقول: ثم طعنه فصرعه واتقاه عمرو برجله، فبدت عورته، فصرف علي وجهه عنه وارتُثَّ. فقال القوم: أفلتَ الرجل يا أمير المؤمنين. قال: وهل تدرون من هو؟ قالوا: لا. قال فإنه عمرو بن العاص تلقاني بعورته فصرفت وجهي702، وذكر القصة ـ أيضاً ـ ابن الكلبي كما ذكر ذلك السهيلي في الروض الأنف: وقول علي: إنه اتقاني بعورته فأذكرني الرَحِمَ إلى أن قال:.. ويروى مثل ذلك عن عمرو بن العاص مع علي رضي الله عنه ـ يوم صفين، وفي ذلك يقول الحارث بن النضر الشهمي رواه ابن الكلبي وغيره:
……………أفي كل يوم فارس غير منته
……………………وعورته وسط العجاجة بداية
……………يكف لها عنه علي سنانه
……………………ويضحك منه في الخلاء معاوية703…(1/179)
…والرد على هذا الافتراء والأفك المبين كالآتي، فراوي الرواية الأولى، نصر بن مزاحم الكوفي صاحب وقعة صفين شيعي جلد لا يستغرب عنه كذبه وافتراؤه على الصحابة، قال عنه الذهبي في الميزان: نصر بن مزاحم الكوفي: رافضي جَلد، تركوه قال عنه العقيلي: شيعي في حديثه اضطراب وخطأ كثير، وقال أبو خيثمة: كان كذاباً704، وقال عنه ابن حجر: قال العجلي: كان رافضياً غالياً... ليس بثقة ولا مأمون705وأما الكلبي، هشام بن محمد بن السائب الكلبي، اتفقوا على غلوه في التشيع قال الإمام أحمد: من يحدث عنه؟ ما ظننت أن أحداً يحدث عنه وقال الدارقطني: متروك706، وعن طريق هذين الرافضين سارت هذه القصة في الآفاق وتلقفها من جاء بعدهم من مؤرخي الشيعة، وبعض أهل السنة ممن راجت عليهم أكاذيب الرافضة707، وتعد هذه القصة أنموذجاً لأكاذيب الشيعة الروافض وافتراءاتهم على صحابة رسول الله، فقد اختلق أعداء الصحابة من مؤرخي الرافضة مثالب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاغوها على هيئة حكايات وأشعار لكي يسهل انتشارها بين المسلمين، هادفين إلى الغض من جناب الصحابة الأبرار ـ رضي الله عنهم ـ في غفلة من أهل السنة الذين وصلوا متأخرين إلى ساحة التحقيق في روايات التاريخ الإسلامي بعد أن طارت تلكم الأشعار والحكايات بين القصَّاص وأصبح كثير منها من المسَلَّمات، حتى عند مؤرخي أهل السنة للأسف708.
13 ـ مرور أمير المؤمنين علي بالمقابر بعد رجوعه من صفين:(1/180)
…لما انصرف علي أمير المؤمنين رضي الله عنه من صفين مرّ بمقابر، فقال: السلام عليكم أهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة من المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، أنتم لنا سلف فارط، ونحن لكم تبعٌ، وبكم عمّا قليل لاحقون، اللهم اغفر لنا ولهم، وتجاوز بعفوك عنا وعنهم، الحمد لله الذي جعل الأرض كفاتاً، أحياءً وأمواتاً، الحمد لله الذي خلقكم وعليها يحشركم، ومنها يبعثكم، وطوبى لمن ذكر المعاد وأعدّ للحساب، وقنع بالكفاف709.
14 ـ إصرار قتلة عثمان رضي الله عنه على أن تستمر المعركة:
…إن قتلة عثمان كانوا حريصين على أن تستمر المعركة بين الطرفين، حتى يتفانى الناس، وتضعف قوة الطرفين، فيكونوا بمنأى عن القصاص والعقاب، ولذلك فإنهم فزعوا وهم يرون أهل الشام يرفعون المصاحف، وعلي رضي الله عنه يجيبهم إلى طلبهم فيأمر بوقف القتال وحقن الدماء فسعوا إلى محادثة ثني أمير المؤمنين في عزمه لكن القتال توقف، فسقط في أيديهم، فلم يجدوا بداً من الخروج على علي رضي الله عنه فاخترعوا مقولة (الحكم لله) وتحصنوا بعيداً عن الطرفين، والغريب أن المؤرخين لم يركزوا على ما فعله هؤلاء في هذه المرحلة، كما فعلوا في معركة الجمل، رغم أنهم كانوا موجودين في جيش علي، وعن سر إخفاق تلك المفاوضات التي دامت أشهر عديدة، وعن الدور الذي يمكن أن يكون قتلة عثمان قد قاموا به في معركة صفين لإفشال كل محاولة صلح بين الطرفين، لأن إصلاح علي مع معاوية هو أيضاً إصطلاح عل دمائهم، فلا يعقل أن يجتهدوا في الفتنة في وقعة الجمل، ويتركوا ذلك في صفين710.
15 ـ نهي أمير المؤمنين علي عن شتم معاوية ولعن أهل الشام:(1/181)
…روي أن علياً ـ رضي الله عنه ـ لمّا بلغه أن اثنين من أصحابه يظهران شتم معاوية ولعن أهل الشام أرسل إليهما أن كفّا عمّا يبلغني عنكما، فأتيا فقالا: يا أمير المؤمنين: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى وربّ الكعبة المسدّنة، قالا: فلم تمنعنا من شتمهم ولعنهم؟ قال: كرهت لكم أن تكونوا لعّانين، ولكن قولوا: اللهم أحقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، وأبعدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي من لجج به711، وأما ما قيل من أن علياً كان يلعن في قنوته معاوية وأصحابه، وأن معاوية إذا قنت لعن عليّاَ وابن عباس والحسن والحسين، فهو غير صحيح، لأنَّ الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ كانوا أكثر حرصاً من غيرهم على التقيد بأوامر الشارع الذي نهى عن سباب المسلم ولعنه712، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: من لعن مؤمناً فهو كقتله713، وقوله صلى الله عليه وسلم: ليس المؤمن بطعان ولا بلعّان714، وقوله صلى الله عليه وسلم: لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة715، كما أن الرواية التي جاء فيها لعن أمير المؤمنين في قنوته لمعاوية وأصحابه ولعن معاوية لأمير المؤمنين وابن عباس والحسن والحسين لا تثبت من ناحية السند حيث فيها أبي مخنف لوط بن يحي الرافضي المحترق الذي لا يوثق في رواياته. كما أن في أصح كتب الشيعة عندهم النهي عن سب الصحابة، فقد أنكر علي من يسب معاوية ومن معه فقال: إني أكره لكم أن تكونوا سبابين ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم اللهم أحقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم716، فهذا السب والتكفير لم يكن من هدي علي باعتراف أصح كتاب في نظر الشيعة717.
رابعاً : التحكيم:(1/182)
تم الاتفاق بين الفريقين على التحكيم بعد إنتهاء موقعة صفين، وهو أن يحكّم كل واحد منهما رجلاً من جهته ثم يتّفق الحكمان على ما فيه مصلحة المسلمين، فوكّل معاوية عمرو بن العاص ووكل علي أبا موسى الأشعري رضي الله عنهما جميعاً، وكتب بين الفريقين وثيقة في ذلك، وكان مقر اجتماع الحكمين في دومة الجندل في شهر رمضان سنة 37هـ، وقد رأى قسم من جيش علي رضي الله عنه أن عمله هذا ذنب يوجب الكفر فعليه أن يتوب إلى الله تعالى وخرجوا عليه فسموا الخوارج، فأرسل علي رضي الله عنه إليهم ابن عباس (رضي الله عنهما فناظرهم وجادلهم ثم ناظرهم علي رضي الله عنه بنفسه فرجع طائفة منهم وأبت طائفة أخرى، فجرت بينهم وبين علي رضي الله عنه حروب أضعفت من جيشه وأنهكت أصحابه، وما زالوا به حتى قتلوه غيلة.(1/183)
تعتبر قضية التحكيم من أخطر الموضوعات في تاريخ الخلافة الراشدة وقد تاه فيها كثير من الكتاب، وتخبط فيها آخرون وسطروها في كتبهم ومؤلفاتهم، وقد اعتمدوا على الروايات الضعيفة والموضوعة التي شوهت الصحابة الكرام وخصوصاً: ابو موسى الأشعري الذي وصفوه بأنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوع في القول، وبأنه كان على جانب كبير من الغفلة ولذلك خدعه عمرو بن العاص في قضيّة التحكيم، ووصفوا عمرو بن العاص رضي الله عنه بأنه كان صاحب مكر وخداع، فكل هذه الصفات الذميمة حاول المغرضون والحاقدون على الإسلام إلصاقها بهذين الرجلين العظيمين الذين اختارهما المسلمون ليفصلا في خلاف كبير أدّى إلى قتل الكثير من المسلمين، وقد تعامل الكثير من المؤرخين والأدباء والباحثين مع الروايات التي وضعها خصوم الصحابة الكرام على أنها حقائق تاريخية، وقد تلقاها الناس منهم بالقبول دون تمحيص لها وكأنها صحيحة لا مرية فيها، وقد يكون لصياغتها القصصية المثيرة وما زعم فيها من خداع ومكر أثر في إهتمام الناس بها وعناية المؤرخين بتدوينها، وليعلم أن كلامنا هذا ينصب على التفصيلات لا على أصل التحكيم حيث أن أصله حق لا شك فيه718.
خامساً : نص وثيقة التحكيم :
بسم الله الرحمن الرحيم.
1 ـ هذا ما تقاضى عليه عليُّ بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان وشيعتهما، فيما تراضيا فيه من الحكم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
2 ـ قضية علي على أهل العراق شاهدهم وغائبهم، قضية معاوية على أهل الشام شاهدهم وغائبهم.
3 ـ إنّا تراضينا أن نقف عند حُكم القرآن فيما يحكم من فاتحته إلى خاتمته، نُحي ما أحْيى ونُميت ما أمات. على ذلك تقاضينا وبه تراضينا.
4 ـ وإن علياً وشيعته رضوا بعبد الله بن قيس ناظراً وحاكماً، ورضي معاوية بعمرو بن العاص ناظراً وحاكماً.(1/184)
5 ـ على أن علياً ومعاوية أخذا على عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه وذِمّته وذِمّة رسوله، أن يتخذا القرآن إماماً ولا يعدوا به إلى غيره في الحكم بما وجداه فيه مسطوراً وما لم يجدا في الكتاب ردّاه إلى سنة رسوا الله الجامعة، لا يتعمّدان لها خلافاً، ولا يبقيان فيها بشبهة.
6 ـ وأخذ عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص على علي ومعاوية عهد الله وميثاقه بالرضا بما حكما به مما في كتاب الله وسنة نبيه وليس لهما أن ينقُصا ذلك ولا يخالفاه إلى غيره.
7 ـ وهما آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما وأشعارهما وأبشارهما وأهاليهما وأولادهما، لم يعدو الحق، رضي به راض أو سخط ساخط، وإن الأمة أنصارهما على ما قضيا به من الحق مما في كتاب الله.
8 ـ فإن توفي أحد الحكمين قبل انقضاء الحكومة، فلشيعته وأنصاره أن يختاروا مكانه رجلاً من أهل المعدلة والصلاح، على ما كان عليه صاحبه من العهد والميثاق.
9 ـ وإن مات أحد الأميرين قبل إنقضاء الأجل المحدود في هذه القضية، فلشيعته أن يُوِلوّا مكانه رجلاً يرضون عدله.
وقد وقعت القضية بين الفريقين والمفاوضة ورفع السلاح.
10 ـ وقد وقعت القضية بين الفريقين والمفاوضة ورفع السلاح .
11 ـ وقد وجبت القضية على ما سمّيناه في هذا الكتاب، من موقع الشرط على الأميرين والحَكمين والفريقين والله أقرب شهيد وكفى به شهيداً، فإن خالفا وتعدّيا، فالأمّة بريئة من حُكمهما، ولا عهد لهما ولا ذِمّة.
12 ـ والناس آمنون على أنفسهم وأهليهم وأولادهم وأموالهم إلى انقضاء الأجل، والسلاح موضوعه، والسبل آمنة، والغائب من الفريقين مثل الشاهد في الأمر.
13 ـ وللحَكمين أن ينزلا منزلاً متوسطاً عدلاً بين أهل العراق والشام.
14 ـ ولا يحضرهما فيه إلا من أحبَّا عن تراضٍ بينهما .
15 ـ والأجل إلى انقضاء شهر رمضان، فإن رأى الحَكمان تعجيل الحكومة عجّلاها، وإن رأى تأخيرها إلى آخر الأجل أخَّراها.(1/185)
16 ـ فإن هما لم يحكُما بما في كتاب الله وسنة نبيه إلى انقضاء الأجل، فالفريقان على أمرهم الأول في الحرب.
17 ـ وعلى الأمّة عهد الله وميثاقه في هذا الأمر، وهم جميعاً يد واحدة على من أراد في هذا الأمر إلحاداً أو ظلماً أو خلافاً، وشهد على ما في هذا الكتاب الحسن والحسين، إبنا علي، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والأشعث بن قيس الكندي، والأشتر بن الحارث، وسعيد بن القيس الهمداني، والحصين والطفيل ابنا الحارث بن عبد المطلب، وأبو سعيد بن ربيعة الأنصاري، وعبد الله بن خباب بن الأرت، وسهل بن حنيف، وأبو بشر بن عمر الأنصاري، وعوف بن الحارث بن عبد المطلب، ويزيد بن عبد الله الأسلمي، وعقبة بن عامر الجهني، ورافع بن خديج الأنصاري، وعمر بن الحمق الخزاعي، والنعمان بن عجلان الأنصاري، وحجر بن عدي الكندي، ويزيد بن حجية النكري، ومالك بن كعب الهمداني، وربيعة بن شرحبيل، والحارث بن مالك، وحجر بن يزيد، وعلبة بن حجية، ومن أهل الشام،حبيب بن مسلمة الفهري، وأبو الأعور السلمي، وبشر بن أرطأة القرشي، ومعاوية بن خديج الكندي، والمخارق بن الحارث الذبيدي، ومسلم بن عمرو السكسي، وعبد الله بن خالد بن الوليد، وحمزة بن مالك، وسبيع بن يزيد الحضرمي، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعلقمة بن يزيد الحضرمي، ويزيد بن أبجر العبسي، ومسروق بن حبلة العكي، وبسر بن يزيد الحميري، وعبد الله بن عامر القرشي، وعتبة بن أبي سفيان، ومحمد بن أبي سفيان، ومحمد بن عمرو بن العاص، وعمّار بن الأحوص الكلبي، ومسعدة بن عمرو العتبي، والصباح بن جلهمة الحميري، وعبد الرحمن بن ذي الكلاع، وتمامة بن حوشب، وعلقمة بن حكم.
وكتب يزم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من صفر سنة سبع وثلاثين719.
سادساً : قصة التحكيم المشهورة وبطلانها من وجوه:(1/186)
…لقد كثر الكلام حول قصة التحكيم، وتداولها المؤرخون والكتاب على أنها حقيقة ثابتة لا مرية فيها، فهم بين مطيل في سياقها ومختصر وشارح ومستنبط للدروس وبان للأحكام على مضامينها وقلما تجد أحداً وقف عندها فاحصاً محققاً، وقد أحسن ابن العربي في ردها إجمالاً وإن كان غير مفصل وفي هذا دلالة على قوة حاسته النقدية للنصوص، وإذ إن جميع متون قصة التحكيم لا يمكن أن تقوم أمام معيار النقد العلمي، بل هي باطلة من عدة وجوه720.(1/187)
1 ـ أن جميع طرقها ضعيفة، وأقوى طريق وردت فيه هو ما أخرجه عبد الرزاق والطبري بسند رجالة ثقات عن الزهري مرسلاً قال: قال الزهري: فأصبح أهل الشام قد نشروا مصافحهم، ودعوا إلى ما فيها، فهاب أهل العراق، فعند ذلك حكموا الحكمين، فاختار أهل العراق أبا موسى الأشعري، واختار أهل الشام عمرو بن العاص فتعرق أهل صفين حين حكم الحكمان، فاشترطا أن يرفعا ما رفع القرآن ويخفضا من خفض القرآن، وأن يختار لأمّة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهما يجتمعان بدومة الجندل، فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح، فلما انصرف عليّ خالفت الحرورية وخرجت ـ وكان ذلك أول ما ظهرت ـ فآذنوه بالحرب، وردوا عليه: أن حكم بن آدم في حكم الله عز وجل، وقالوا: لا حكم إلا لله سبحانه، وقالوا، فما اجتمع الحكمان بأذرح، وافاهم المغيرة بن شعبة فيمن حضر من الناس، فأرسل الحكمان إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن الزبير في إقبالهم في رجال كثير، ووافى معاوية بأهل الشّام، وأبي علي وأهل العراق أن يوافوا، فقال المغيرة بن شعبة لرجال من ذوي الرأي من قريش: أترون أحداً من الناس برأي يبتدعه يستطيع أن يعلم أيجتمع الحكمان أم يفترقان؟ قالوا: لا نرى أحداً يعلم ذلك، قال: فوالله إني لا أظن أني سأعلمه منهما حين أخلو بهما وأرجعهما، فدخل عمرو بن العاص وبدأ به فقال: يا أبا عبد الله، أخبرني عما أسألك عنه، كيف ترانا معشر المعتزلة، فإنا قد شككنا في الأمر الذي تبين لكم من هذا القتال، ورأينا أن نستأني ونتثبت حتى تجتمع الأمّة، قال: أراكم معشر المعتزلة خلف الأبرار، وأمام الفجار، فانصرف المغيرة ولم يسأله عن غيره ذلك، حتى دخل على أبي موسى فقال له مثل ما قال لعمرو وقال أبو موسى: أراكم أثبت الناس رأياً، فيكم بقية المسلمين، فانصرف المغيرة ولم يسأله عن غير ذلك، فلقي الذين قال لهم ما قال من ذوي الرأي من قريش، فقال: لا يجتمع هذان على أمر واحد، فلما(1/188)
اجتمع الحكمان وتكلما قال عمرو بن العاص: يا أبا موسى، رأيت أول ما تقضي به من الحق أن تقضي لأهل الوفاء بوفائهم، وعلى أهل الغدر بغدرهم، قال أبو موسى: وما ذاك؟ قال: ألست تعلم أن معاوية وأهل الشّام قد وفوا، وقدموا للموعد الذي واعدناهم إياه؟ قال: بلى، قال عمرو: اكتبها فكتبها أبو موسى، قال عمرو: يا أبا موسى، أأنت على أن تسمي رجلاً يلي أمر هذه الأمّة؟ فسمه لي، فإن أقدر على أن أتابعك فلك عليّ أن أتابعك وإلا فلي عليك أن تتابعني، قال أبا موس أسمي لك معاوية بن أبي سفيان فلم يبرحا مجلسهما حتى استبا، ثم خرجا إلى الناس، فقال أبو موسى: إني وجد مثل عمرو كمثل الذي قال الله عز وجل ((وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا)) (الأعراف ، آية : 175). فلما سكت أبو موسى تكلم عمرو فقال: أيها الناس وجدت مثل أبي موسى كمثل الذي قال الله عز وجل ((مَثََلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا)) (الجمعة ، آية : 5). وكتب كل واحد منهما مثله الذي ضرب لصاحبه إلى الأمصار721. والزهري لم يدرك الحادثة فهي مرسلة، ومراسيله كأدراج الرياح لا تقوم بها حجة722، كما قرّر العلماء ، وهناك طريق أخرى أخرجها ابن عساكر بسنده إلى الزهري وهي مرسلة وفيها أبو بكر بن أبي سبرة قال عنه الإمام أحمد: كان يضع الحديث723. وفي سنده أيضاً الواقدي، وهو متروك724، وهذا نصها: ... رفع أهل الشّام المصاحف وقالوا: ندعوكم إلى كتاب الله والحكم بما فيه وكان ذلك مكيدة من عمرو بن العاص، فاصطلحوا وكتبوا بينهم كتاباً على أن يوافوا رأس الحول أذرح، وحكموا حكمين ينظرون في أمور الناس فيرضوا بحكمها، فحكّم علي أبا موسى الأشعري، وحكم معاوية عمرو بن العاص، وتفرق الناس فرجع علي إلى الكوفة بالاختلاف والدغل، واختلف عليه أصحابه فخرج عليه الخوارج من أصحابه ممن كان معه،(1/189)
وأنكروا تحكيمه وقالوا: لا حكم إلا لله ورجع معاوية إلى الشام بالإلفة واجتماع الكلمة عليه ووافى الحكمان بعد الحول بأذرح في شعبان سنة ثمان وثلاثين، واجتمع الناس إليهما وكان بينهما كلام اجتمعا عليه في السر خالفه عمرو بن العاص في العلانية، فقدم أبا موسى فتكلم وخلع عليا ومعاوية، ثم تكلم عمرو بن العاص فخلع علياً وأقر معاوية، فتفرق الحكمان ومن كان اجتمع إليهما وبايع أهل الشام ومعاوية في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين725، وأما طرق أبي مخنف فهي معلولة به، وبأبي جناب الكلبي فالأول: وهو أبو مخنف لوط بن يحيى، ضعيف ليس بثقة726، وأخباري تالف غالي من الرفض وأما الثاني قال فيه أبن سعد: كان ضعيفاً727، وقال البخاري وأبو حاتم: كان يحيى القطان يضعفه728وقال عثمان الدارمي: ضعيف729، وقال النسائي: ضعيف730. هذه طرق قصة التحكيم المشهور، والمناظرة بين أبي موسى وعمرو بن العاص المزعومة، أفمثل هذا تقوم حجة، أو يعول على مثل ذلك في تاريخ الصحابة الكرام وعهد الخلفاء الراشدين، عصر القدوة والأسوة، ولو لم يكن في هذه الروايات إلا الاضطراب في متونها لكفاها ضعفاً فكيف إذا أضيف إلى ذلك ضعف أسانيدها731.
2 ـ أهمية هذه القضية في جانب الاعتقاد والتشريع، ومع ذلك لم تنقل لنا بسند صحيح، ومن المحال أن يطبق العلماء على إهمالها مع أهميتها وشدة الحاجة إليها732.(1/190)
3 ـ وردت رواية تناقض تلك الروايات تماماً، وذلك فيما أخرجه البخاري في تاريخه مختصراً بسند رجاله ثقات، وأخرجه أبن عساكر مطولاً، عن الحصين بن المنذر أن معاوية أرسله إلى عمرو بن العاص فقال له: إنه بلغني عن عمرو وأبو موسى فيه كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال الناس وقالوا ولا والله ما كان ما قالوا ولكن لما اجتمعت أنا وأبو موسى قلت له: ما ترى في هذا الأمر؟ قال: أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض قال: فقلت: أين تجعلني من هذا الأمر أنا ومعاوية؟ قال: أن يستعن بكما ففيكما معونة، وإن يستغني عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما733. وقد روى أبو موسى عن تورّع عمرو ومحاسبته لنفسه، وتذكُّره سيرة أبي بكر وعمر، وخوفه من الإحداث بعدهما، قال أبو موسى: قال لي عمرو بن العاص: والله لئن كان أبو بكر وعمر تركا هذا المال وهو يحلُّ لهما، غُبِنا وأخطأ أو نقص رأيهما، ووالله ما كان مغبونين ولا مخطئين ولا ناقصي الرأي. ووالله ما جاءنا الوهم والضعف إلا من قِبلنا734.ٍ(1/191)
4ـ إن معاوية كان يقر بفضل علي عليه وأنه أحق بالخلافة منه فلم ينازعه الخلافة ولا طلبها لنفسه في حياة علي فقد أخرج يحي بن سليمان الجعفي بسند جيد735، عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية: أنت تنازع علياً في الخلافة أو أنت مثله؟ قال: لا وإني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً وأنا أبن عمه ووليه أطلب بدمه؟ فأتوا عليا فقولوا له يدفع لنا قتلة عثمان وأسلم له، فأتوا عليا فكلموه فلم يدفعهم إليه736، فهذا هو أصل النزاع بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، فالتحكيم من أجل حل هذه القضية المتنازع عليها لا لاختبار خليفة أو عزله737، ويقول ابن حزم في هذا الصدد بأن علياً قاتل معاوية لإمتناعه من تنفيذ أوامره في جميع أرض الشام، وهو الإمام الواجب طاعته، ولم ينكر معاوية قط فضل عليّ واستحقاقه الخلافة، لكن اجتهاده أَدَّاه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان على البيعة، ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان والكلام فيه من أولاد عثمان وأولاد الحكم بن أبي العاص لسنّه وقوته على الطلب بذلك وأصاب في هذا وإنما أخطأ في تقديمه ذلك على البيعة فقط738، وفهم الخلاف على هذه الصورة ـ وهي صورته الحقيقية ـ يبين إلى أيِّ مدى تخطئ الروايات السابقة عن التحكيم في تصوير قرار الحكمين، إن الحكمين كانا مفوضين للحكم في الخلاف بين علي ومعاوية، ولم يكن الخلاف بينهما حول الخلافة ومن أحق بها منهما، وإنما كان حول توقيع القصاص على قتلة عثمان، وليس هذا من أمر الخلافة في شيء، فإذا ترك الحكمان هذه القضية الأساسية، وهي ما طلب إليهما الحكم فيه، واتخذا قراراً في شأن الخلافة كما تزعم الرواية الشائعة، فمعنى ذلك أنهما لم يفقها موضوع النزاع، ولم يحيطا بموضوع الدعوى، وهو مستبعد جدّا739(1/192)
5 ـ أن الشروط التي يجب توفرها في الخليفة هي العدالة والعلم،والرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح، وأن يكون740قرشياً وقد توفرت هذه الشروط في علي(رضي الله عنه)فهل بيعته منعقدة أم لا؟ فإن كانت منعقدة ـ ولا شك وقد بايعه المهاجرون والأنصار أهل الحل والعقد، وخصومه يقرون له بذلك، فقول معاوية السابق يدل عليه بأن((الإمام إذا لم يَخْل عن صفات الأئمة، فرام العاقدون له عقد الإمامة أن يخلعوه، لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً باتفاق الأئمة، فإن عقد الإمام لازم، لا اختيار في حله من غير سبب يقتضيه، ولا تنتظم الإمامة ولا تفيد الغرض المقصود منها إلا مع القطع بلزومها، ولو تخير الرعايا في خلع إمام الخلق على حكم الإيثار والاختبار لما استتب للإمام طاعة ولما استمرت له قدرة واستطاعة ولما صح لمنصب الإمام معنى741. وإذا فليس الأمر بهذه الصورة التي تحكيها الروايات كل من لم يرضى بإمامه خلعه، فعقد الإمامة لا يحله إلا من عقده، وهم أهل الحل والعقد وبشرط إخلال الإمام بشروط الإمامه، وهل علي رضي الله عنه فعل ذلك واتفق أهل الحل والعقد على عزله عن الخلافة وهو الخليفة الراشد حتى يقال إن الحكمين اتفقا على ذلك، فما ظهر منه قط إلى أن مات رضي الله عنه، شيء يوجب نقض بيعته، وما ظهر منه قط إلا العدل، والجد والبر والتقوى والخير742
6 ـ أن الزمان الذي قام فيه التحكيم زمان فتنة، وحالة المسلمين مضطربة مع وجود خليفة له، فكيف تنتظم حالتهم مع عزل الخليفة! لا شك أن الأحوال ستزداد سوءاً، والصحابة الكرام أحذق وأعقل من أن يقدموا على هذا وبهذا يتضح بطلان هذا الرأي عقلاً ونقلاً.(1/193)
7 ـ إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حصر الخلافة في أهل الشورى وهم الستة وقد رضي المهاجرون والأنصار بذلك، فكان ذلك إذناً في أن الخلافة لا تعدوا هؤلاء إلى غيرهم ما بقي منهم واحد ولم يبق منهم في زمان التحكيم إلا سعد بن أبي وقاص وقد أعتزل الأمر ورغب عن الولاية، والإمارة، وعلي بن أبي طالب القائم بأمر الخلافة وهو أفضل الستة بعد عثمان فكيف يتخطى بالأمر إلى غيره743.
8 ـ أوضحت الروايات أن أهل الشام بايعوا معاوية بعد التحكيم . والسؤال ما المسوغ الذي جعل أهل الشام يبايعون معاوية؟ إن كان من أجل التحكيم فالحكمان لم يتفقا ولم يكن ثمة مبرر آخر حتى ينسب عنهم ذلك، مع أن ابن عساكر نقل بسند رجاله ثقات عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي744، أعلم الناس بأمر الشام745 أنه قال: كان علي بالعراق يدعى أمير المؤمنين وكان معاوية بالشام يدعى الأمير فلما مات علي دعي معاوية بالشام أمير المؤمنين746. فهذا النص يبين أن معاوية لم يبايع بالخلافة إلا بعد وفاة علي وإلى هذا ذهب الطبري، فقد قال في آخر حوادث سنة أربعين: وفي هذه السنة بويع لمعاوية بالخلافة بإيلياء747، وعلق على هذا ابن كثير بقوله: يعني لما مات علي قام أهل الشام فبايعوا معاوية على إمرة المؤمنين لأنه لم يبق له عندهم منازع748، وكان أهل الشام يعلمون بأن معاوية ليس ((كفئا لعلي بالخلافة ولا يجوز أن يكون خليفة مع إمكان استخلاف علي ((رضي الله عنه))، فإن فضل علي وسابقته وعلمه، ودينه، وشجاعته، وسائر فضائله: كانت عندهم ظاهرة معروفة، كفضل إخوانه، أبي بكر، وعمر، وعثمان وغيرهم رضي الله عنهم749، وإضافة إلى ذلك فإن النصوص تمنع من مبايعة خليفة مع وجود الأول، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما750، والنصوص في هذا المعنى كثيرة751 ومن المحال أن يطبق الصحابة على مخالفة ذلك752.(1/194)
9ـ أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر قال: دخلت على حفصة ونسوتها تنطف قلت قد كان من أمر الناس ما ترين فلم يجعل لي من الأمر شيء فقالت: إلحق فإنهم ينتظرونك وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة، فلم تدعه حتى ذهب، فلما تفرق الناس خطب معاوية قال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه فلنحن أحق به منه ومن أبيه، قال حبيب بن مسلمة: فهلا أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي وهممت أن أقول أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم ويحمل عني غير ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان. قال حبيب حفظت وعصمت753، هذا الحديث قد يفهم منه مبايعة معاوية بالخلافة، وليس فيه تصريح بذلك، وقد قال بعض العلماء إن هذا الحديث كان في الاجتماع الذي صالح فيه الحسن بن علي رضي الله عنه معاوية ( رضي الله عنه )، وقال ابن الجوزي إن هذه الخطبة كانت في زمن معاوية لما أراد أن يجعل ابنه يزيد ولي عهده، ويرى ابن حجر في التحكيم754، ودلالة النص على القولين الأولين أقوى. فقوله: فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم. دليل على اجتماع الكلمة على معاوية، وأيام التحكيم أيام فرقة واختلاف لا أيام جمع وإتلاف755.(1/195)
10 ـ حقيقة قرار التحكيم: ليس من شك في أن أمر الخلاف الذي رأى الحكمان رده إلى الأمة أو إلى أهل الشورى ليس إلا أمر الخلاف بين علي ومعاوية حول قتلة عثمان، ولم يكن معاوية مدعيا للخلافة ولا منكراً حق عليّ فيها كما تقرر سابقاً، وإنما كان ممتنعاً عن بيعته وعن تنفيذ أوامره في الشام حيث كان متغلباً عليها بحكم الواقع لا بحكم القانون، مستفيداً من طاعة الناس له بعد أن بقي واليا فيها زهاء عشرين سنة756، وقد قال ابن دحية الكلبي في كتابه ((أعلام النصر المبين في المفاضلة بين أهل صفين)): قال أبو بكر محمد بن الطيب الأشعري ـ الباقلاني ـ في مناقب الأئمة: فما اتفق الحكمان قط على خلعه ـ علي بن أبي طالب ..... وعلى أنهما لو اتفقا على خلعه لم ينخلع أو أحد منهما على ما شرطا في الموافقة بينهما أو إلى أن يبيّنا ما يوجب خلعه من الكتاب والسنة، ونصّ كتاب عليّ ـ عليه السلام ـ اشترط على الحكمين أن يحكما بما في كتاب الله عز وجلّ من فاتحته إلى خاتمته لا يجاوزان ذلك ولا يحدان عنه، ولا يميلان إلى هوى ولا إدهان، وأخذ عليهما أغلظ العهود والمواثيق، وإن هما جاوزا بالحكم كتاب الله فلا حكم لهما ... والكتاب والسنة يثبتان إمامته، ويعظمانه ويثنيان عليه، يشهدان بصدقه وعدالته، وإمامته، وسابقته في الدين، وعظيم جهاده في جهاد المشركين، وقرابته من سيد المرسلين، وما خص به من القدم في الحلم والمعرفة بالحكم، ووفور الحلم، وأنه حقيق بالإمامة، وأهل الحمل أعباء الخلافة757.
11 ـ مكان انعقاد المؤتمر:(1/196)
…كان الموعد المحدد لاجتماع الحكمين ـ كما جاء في الوثيقة ـ في رمضان في عام 37هـ، إذا لم تحدث عوائق، في موضع وسط بين العراق والشام وهذا الموضع المختار هو دومة الجندل758، في روايات موثقة، وأذرح759 في روايات أخرى دونها في الاتقان، ولعل لقرب المكانين من بعضهما أثر في اختلاف الروايات، إذ يقول خليفة بن خياط760... ويقال بأذرح وهي من دومة الجندل قريب، وقد تم الاجتماع في الموعد المحدد بدون عوائق761.
…إن المكان الذي اجتمع فيه الحكمان هو دومة الجندل، وهذا بخلاف ما جزم به ياقوت الحموي من أن التحكيم حدث في أذرح واستدل على ذلك ببعض روايات لم يبينها وبالأشعار وبخاصة بشعري ذي الرمة762، في مدح بلال بن أبي بردة763 وهو قوله:
……………أبوك تلافى الدين والناس بعدما
……………………تشاءوا وبيت الدين منقلع الكسر
……………فشد إصار الدين أيام أذرح
……………………ورد حروباً قد لقحن إلى عقر764
12 ـ هل حضر سعد بن أبي وقاص اجتماع الحكمين:
…اجتمع الحكمان في موعدهما المحدد، ومع كل واحد منهما بضع مئات يمثلون وفدين، وفد عن أهل العراق، وآخر يمثل أهل الشام وطلب الحكمان من عدد من أعيان قريش وفضلائهم الحضور لمشاورتهم والاستئناس برأيهم، ولم يحضر الاجتماع عدد من كبار الصحابة كانوا قد اعتزلوا القتال منذ بدايته، وأفضل هؤلاء: سعيد بن أبي وقاص رضي الله عنه فإنه لم يحضر التحكيم ولا أراد ذلك ولاهمَّ به765، فعن عامر بن سعد أن أخاه عُمرَ انطلق إلى سعد في غنم له خارجاً من المدينة فلمّا أتاه رآه سعد قال: أعوذ بالله من شرِّ هذا الركب، فلمَّا أتاه قال: يا أبة، أرضيت أن تكون أعرابياً في غنمك والناس يتنازعون في الملك بالمدينة؟ فضرب سعد صدر عمر وقال: اسكت فإنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي766.
سابعاً : هل يمكن الاستفادة من حادثة التحكيم في فض النزاعات بين الدول الإسلامية؟(1/197)
…يمكن الاستفادة من حادثة التحكيم في فض النزاعات بين الدول الإسلامية وذلك بتحمل قادة البلاد الإسلامية جميعاً مسؤولياتهم ومن ورائهم الأمّة الإسلامية التي يحكومنها في الضغط الجادِّ الصادق، على الطرفين المتنازعين، لكي يوقفا بينهما من قتال، ويلجأ إلى التحكيم الشرعي في الإسلام فيرسل هذا الطرف حكماً من قبله، وذلك حكماً آخر من قبلة أيضاً، للفصل في النزاع القائم وذلك على ضوء ما يلي:
1 ـ تحديد صلاحيات الحكمين في إصدار الأحكام التي لا بُدّ منها لحل المشكلات التي هي سبب النزاع.
2 ـ جعل مصادر التشريع الإسلامي هي المرجع الوحيد لإصدار تلك الأحكام والحلول، التي تفصل في مسائل النزاع.
3 ـ أخذ العهد على كل طرف من طرفي النزاع، وأخذ العهد على جميع قادة البلاد الإسلامية بقبول ما يصدره الحكمان من أحكام، وحلول مشروعة إنهاء النزاع الرّاهن، على أنها واجبة التنفيذ بحكم الإسلام، وأن الخروج عليها، أو الرضى بذلك الخروج يترتب عليه الإثم شرعاً.
4 ـ إذا أصدر الحكمان ما اتِّفَقَا عليه من أحكام، وحلول، وإنقاد لها الطرفات المتنازعان ـ قُضي الأمر، وكفى الله المؤمنين القتال.
5 ـ إذا رفض أحد الطَّرفين، أو كلاهما الانقياد لقضاء الحكمين اعتبر الطرف الرافض هو الطرف الباغي، سواء صدر الرفض من أحدهما، أو من كليهما، ووجب شرْعاً على القوات الإسلامية في الأقطار الأخرى أن تضع نفسها تحت تصرُّف ما يصدره الحكمان من قرارات عسكرية، من أجل التدخل لحسم النزاع بالقوة على وجه لا تترتب عليه أضرار ومخاطر هي أكبر من ضرر النزاع القائم.(1/198)
6 ـ ويكون من صلاحيّات الحكمين بالاِّتفاق ـ إصدار القرارات التي تخص كيفية تحريك القوات المسلحة في الأقطار الإسلامية الأخرى، من أجل حل النزاع القائم على ضوء ما سلف بيانه767، ولعلّ اللجوء إلى مثل هذه الطريقة في حل المنازعات بين الأقطار الإسلامية، كفيل بسد الطريق على أيّة قوة خارجية تتدخل في نزاعات المسلمين بحجة أنَّ بعض أطراف النِّزاع دعاها إلى هذا التدخل.. ومن ثم تستغل هذه الفرصة، لكي تتآمر على المسلمين، فتعمل على تصعيد تلك النزاعات، وفرض الحلِّ الذي يَحْلو لها، ويكون فيه مصلحتها فقط وليعان المسلمون، بعدئذ، من آثار ذلك الحلِّ أسوأ ممّا كانوا يُعَانُون من فتنة النِّزَاع نفسها، فهذه المعاناة لا تهمها في شيء، لا بل إنَّ هذه المعاناة هي من جملة الاهتمامات التي فرضت من أجل تفجيرها ذلك الَحلَّ المشؤُوم، قلنا: لعل اللُّجُوء إلى التحكيم، على نحو ما سلف بيانه، يسد الطريق في وجه تلك القوى الخارجيّة التي تبغي في صفوف المسلمين الفساد، هذا، وإن الصفة الإلزميَّة شرعاً للحل عن طريق التحكيم الذي عرضانه ـ تستند إلى إجماع الصحابة، فقد أجمع الصحابة كلهم في عهد النِّزاع الذي نشب بين علي ومعاوية على اللجُوء التحكيم، والقبول به.. سواء في ذلك الصحابة الذين كانوا مع علي، والصحابة الذين كانوا مع معاوية، والصحابة الذين اعتزلوا الطريقين، كسعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وغيرهما ـ رضي الله عنهم أجمعين768،
ثامناً : موقف أهل السنة من تلك الحروب:(1/199)
…إن موقف أهل السنة والجماعة من الحرب التي وقعت بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم هو الإمساك عما شجر بينهم إلا فيما يليق بهم رضي الله عنهم لما يسببه الخوض في ذلك من توليد العداوة والحقد والبغض لأحد الطرفين وقالوا: إنه يجب على كل مسلم أن يحب الجميع ويترضى عنهم ويترحم عليهم ويحفظ لهم فضائلهم، ويعترف لهم بسوابقهم، وينشر مناقبهم وأن الذي حصل بينهم إنما كان عن اجتهاد والجميع مثابون في حالتي الصواب والخطأ، غير أن ثواب المصيب ضعف ثواب المخطيء في اجتهاده وأن القاتل والمقتول من الصحابة في الجنة، ولم يجوز أهل السنة والجماعة الخوض فيما شجر بينهم، وقبل أن أذكر طائفة من أقوال أهل السنة التي تبين موقفهم فيما شجر بين الصحابة أذكر بعض النصوص التي فيها الإشارة إلى ما وقع بين الصحابة من الاقتتال وبما وصفوا به فيها وتلك النصوص هي769.
1 ـ قال تعالى: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)) (الحجرات ، آية : 9).
…ففي هذه الآية أمر الله تعالى بالإصلاح بين المؤمنين إذا ما جرى بينهم قتال لأنهم إخوة وهذا الاقتتال لا يخرجهم عن وصف الإيمان حيث سماهم الله ـ عز وجل ـ مؤمنين وأمر بالإصلاح بينهم وإذا كان حصل اقتتال بين عموم المؤمنين ولم يخرجهم ذلك من الإيمان فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اقتتلوا في موقعة الجمل وبعدها أول من يدخل في اسم الأيمان الذي ذكر في هذه الآية فهم لا يزالون عند ربهم مؤمنين إيماناً حقيقياً ولم يؤثر ما حصل بينهم من شجار في إيمانهم بحال لأنه كان عن اجتهاد770(1/200)
2 ـ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق771. والفرقة المشار إليها في الحديث هي ما كان من الاختلاق بين علي ومعاوية رضي الله عنهما وقد وصف صلى الله عليه وسلم الطائفتين معاً بأنهما مسلمتان وأنهما متعلقتان بالحق، والحديث علم من أعلام النبوة: إذ وقع الأمر طبق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام، وفيه الحكم بإسلام الطائفتين: أهل الشام وأهل العراق، لا كما يزعمه فرقة الرافضة والجهلة من تكفيرهم أهل الشام، وفيه أن أصحاب علي أدنى الطائفتين إلى الحق وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة أن علياً هو المصيب وإن كان معاوية مجتهداً وهو مأجور إن شاء الله ولكن علي هو الإمام فله أجران كما ثبت في صحيح البخاري: إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجره772.
3 ـ وعن أبي بكرة قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب جاء الحسن فقال النبي: ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين773ففي هذا الحديث شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام الطائفتين أهل العراق وأهل الشام والحديث فيه رد واضح على الخوارج الذين كفروا علياً ومن معه ومعاوية ومن معه بما تضمنه الحديث من الشهادة للجميع بالإسلام ولذا كان يقول سفيان بن عيينة: قوله فئتين من المسلمين يعجبنا جداً. قال البيهقي: وإنما أعجبهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماهم جميعاً مسلمين وهذا خبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان من الحسن بن علي بعد وفاة علي في تسليمه الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان774(1/201)
فهذه الأحاديث المتقدم ذكرها فيها الإشارة إلى أهل العراق الذين كانوا مع علي وإلى أهل الشام الذين كانوا مع معاوية بن أبي سفيان وقد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم من أمته775 . كما وصفهم بأنهم جميعاً متعلقون بالحق لم يخرجوا عنه كما شهد لهم صلى الله عليه وسلم بأنهم مستمرون على الإيمان ولم يخرجوا عنه بسبب القتال الذي حصل بينهم وقد دخلوا تحت عموم قوله تعالى:" وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا " (الحجرات ، آية:9). وقد قدمنا أن مدلول الآية ينتظمهم رضي الله عنهم أجمعين فلم يكفروا ولم يفسقوا بقتالهم بل هم مجتهدون متأولون وقد بين الحكم في قتالهم ذلك علي بن أبى طالب رضي الله عنه كما مر معنا. فالواجب على المسلم أن يسلك في اعتقاده فيما حصل بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم مسلك الفرقة الناجية من أهل السنة والجماعة وهو الإمساك عما حصل بينهم رضي الله عنهم ولا يخوض فيه إلا بما هو لائق بمقامهم وكتب أهل السنة مملؤه ببيان عقيدتهم الصافية النقية في حق أولئك الصفوة المختارة وقد حددوا موقفهم من تلك الحرب التي وقعت بينهم في أقوالهم الحسنة التي منها776
1- سئل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى عن القتال الذي حصل بين الصحابة فقال تلك دماء طهر الله يدي منها أفلا أطهر بها لساني مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه سلم مثل العيون, ودواء العيون ترك مسها777. قال البيهقي معلقاً على قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى : هذا حسن جميل لأن سكوت الرجل عما لا يعنيه هو الصواب778(1/202)
2- سئل الحسن البصري رحمه الله تعالى عن قتال الصحابة فيما بينهم فقال : قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغبنا, وعلموا وجهلنا, واجتمعوا فاتبعنا, واختلفوا فوقفنا 779.ومعنى قول الحسن هذا : أن الصحابة كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا وما علينا إلا أن نتبعهم فيما اجتمعوا عليه, ونقف عندما اختلفوا فيه ولا نبتدع رأيا منا, ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا الله ـ عز وجل - إذ كانوا غير متهمين في الدين780
3- سئل جعفر بن محمد الصادق عما وقع بين الصحابة فأجاب بقول : أقول ما قال الله : ((عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى781)) (طه, الآية:52)
4- قال الإمام أحمد رحمه الله بعد أن قيل له : ما تقول فيما كان بين علي ومعاوية قال: ما أقول فيهم إلا الحسنى782, وعن إبراهيم بن آرز الفقيه قال حضرت أحمد بن حنبل وسأله رجل عما جرى بين علي ومعاوية ؟ فأعرض عنه فقيل له : يا أبا عبد الله هو رجل من بني هاشم فأقبل عليه فقال : اقرأ ((تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) (البقرة ,الآية :141)
5- وقال ابن أبي زيد القيرواني في صدد عرضه لما يجب أن يعتقده المسلم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ينبغي أن يذكروا به فقال : وأن لا يذكر أحد من صحابة الرسول إلا بأحسن ذكر والإمساك عما شجر بينهم وأنهم أحق الناس أن يلتمس ـ لهم أحسن المخارج ويظن بهم أحسن المذاهب783(1/203)
6- وقال أبو عبد الله بن بطه أثناء عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة: ومن بعد ذلك نكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد شهدوا المشاهد معه وسبقوا الناس بالفضل فقد غفر الله لهم وأمرك بالاستغفار لهم والتقرب إليه بمحبتهم وفرض ذلك على لسان نبيه وهو يعلم ما سيكون منهم وأنهم سيقتتلون وإنما فضلوا على سائر الخلق لأن الخطأ والعمد قد وضع عنهم وكل ما شجر بينهم مغفور لهم784
7- قال أبو بكر بن الطيب الباقلاني : ويجب أن يعلم : أن ماجرى بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم من المشاجرة نكف عنه ونترحم على الجميع ونثني عليهم ونسأل الله تعالى لهم الرضوان والأمان والفوز والجنان ونعتقد أن عليا عليه السلام أصاب فيما فعل وله أجران, وأن الصحابة رضي الله عنهم إن ما صدر منهم كان باجتهاد فلهم الأجر ولا يفسقون ولايبدعون والدليل عليه قوله تعالى: ((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا" (الفتح, الآية: 18) وقوله صلى الله عليه وسلم "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" فإذا كان الحاكم في وقتنا له أجران على اجتهاده فما ظنك باجتهاد من رضي الله عنهم ورضوا عنه, ويدل على صحة هذا القول : قوله صلى الله عليه وسلم للحسن رضي الله عنه: إن أبي هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين785, فأثبت العظمة لكل واحدة من الطائفتين وحكم لهما بصحة الإسلام وقد وعد الله هؤلاء القوم بنزع الغل من صدورهم بقوله تعالى: ((وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)) (الحجر,الآية:47)... إلى أن قال: ويجب الكف عمّا شجر بينهم والسكوت عنه786(1/204)
8- وقال ابن تيمية في صدد عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة فيما شجر بين الصحابة : ويمسكون عما شجر بين الصحابة ويقولون : إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب ومنها ما هو زيد فيه ونقص وغيرّ عن وجهه والصحيح منه هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون, وإما مجتهدون مخطئون787
9- وقال ابن كثير : أما ما شجر بينهم بعده عليه الصلاة والسلام فمنه ما وقع من غير قصد كيوم الجمل ومنه ما كان عن اجتهاد كيوم صفين والإجتهاد يخطئ ويصيب ولكن صاحبه معذور وإن أخطأ ومأجور أيضاً : وأما المصيب فله أجران788
10- وقال ابن حجر : واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عرف المحق منهم لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن إجتهاد بل ثبت أنه يؤجر أجراً واحداً, وأن المصيب يؤجر أجرين789
فأهل السنة مجمعون على وجوب السكوت عن الخوض في الفتن التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم بعد قتل عثمان والترحم عليهم وحفظ فضائل الصحابة والاعتراف لهم بسوابقهم ونشر محاسنهم رضي الله عنهم و أرضاهم790
تاسعاً: تغير الموازين لصالح معاوية بعد معركة صفين
بعد معركة صفين بدأت الموازين تتبدل لصالح معاوية رضي الله عنه فقد خرج الخوارج من جيشى علي رضي الله عنه, وانشغل بقتالهم, بينما ازداد أمر معاوية قوة لا سيما بعد انتهاء أمر التحكيم, وعدم الوصول إلى حل جزري زكان معاوية رضي الله عنه يعمل بشتى الوسائل سرَّاً وعلانية على إضعاف جانب أمير المؤمنين علي رضي الله عنه, واستغل ما أصاب جيشه من تفكك وخلاف, فأرسل جيشاً إلى مصر بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه سيطر عليها وضمها إليه وقد ساعده على ذلك عدة أمور منها :
1- انشغال أمير المؤمنين علي بالخوارج(1/205)
2- عامل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه على مصر - محمد بن أبي بكر- لم يكن على قدر من الدهاء كسلفه قيسى بن سعد الساعدي الأنصاري, فدخل في حرب مع المطالبين بدم عثمان ولم يسايسهم كما كان يضع الوالي السابق فهزموه
3- اتفاق معاوية مع المطالبين بدم عثمان رضي الله عنه في مصر في الرأي, فساعده في السيطرة عليها791
4- بعد مصر عن مركز أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وقربها من الشام
5- طبيعتها الجغرافية فهي متصلة بأرض الشام عن طريق سيناء وتمثل امتداداً طبيعياً, وقد أضافت مصر قوة كبيرة لمعاوية رضي الله عنه, قوة بشرية واقتصادية كبيرة, وكذلك أرسل معاوية بعوثه إلى شمال الجزيرة الغربية, ومكة والمدينة وإلى اليمن ولكن لم تلبث هذه البعوث أن ردت على أعقابها عندما أرسل أمير المؤمنين عليُّ من يصدها792, وعمل معاوية رضي الله عنه على استمالة كبار أعيان القبائل وعمال علي رضي الله عنه, فقد حاول سحب قيس بن سعد رضي الله عنه عامل علي علي مصر إليه فلم يستطيع, ولكنه استطاع أن يثير شك حاشية علي رضي الله عنه ومستشاريه فيه فعزله793, وكان عزل سعد عن ولاية مصر مكسباً كبيراً لمعاوية, كما حاول سحب زياد بن أبية عامل علي رضي الله عنه على فارس ففشل في ذلك794, وقد استطاع معاوية رضي الله عنه أن يؤثر على بعض الأعيان والولاة بسبب ما يمنيهم ويعدهم به, ولما يرونه من علو أمر معاوية وتفرق أمر علي رضي الله عنه؛ إذ يقول في إحدى خطبه : ألا إن بسراً قد أطلع من قبل معاوية, ولا أرى هؤلاء القوم إلا سيظهرون عليكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم وبطاعتهم أميرهم ومعصيتكم أميركم, وبأدائهم الأمانة وبخيانتكم, استعملت فلاناً فغلَّ وغدر وحمل المال إلى معاوية, واستعملت فلاناً فخان وغدر وحمل المال إلى معاوية, حتى لو ائتمنت أحدهم على قدح خشيت على عِلاَ قَتِهِ, اللهم إني أبغضتهم, وأبغضوني فأرحهم مني وأرحني منهم795. ولم يستسلم أمير المؤمنين(1/206)
علي رضي الله عنه لهذه المصائب, وهذا التقاعس, والتخاذل فقد بذل جهده في استنهاض همة جيشه بكل ما أوتي من علم وفصاحة وبيان, فخطبه الحماسية المشهورة التي اشتهرت عنه, وتعتبر من عيون التراث لم يقلها من فراغ أوخيال, بل مرتجرعه, وواقع أليم عاصره ولقد ذكرت منها في كتابي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه796.
عاشراً: المهادنة بين أمير المؤمنين علي ومعاوية رضي الله عنهما : بالرغم من كل هذه المحاولات والجهود المضنية لم يستطع أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أن يحقق مايريد؛ إذ لم يستطع أن يغزو الشام بسبب التفكك والتصدع الذي حدث في داخل جيشه وتفرق كلمتهم وظهور الأهواء, فاضطر أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في سنة أربعين للهجرة أن يوافق لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه على أن يكون العراق له, والشام لمعاوية ولا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش ولا غارة ولا غزو797, قال الطبري في تاريخه : وفي هذه السنة -40هـ- جرت بين علي وبين معاوية رضي الله عنهما المهادنة بعد مكاتبات جرت بينهما يطول بذكرها الكتاب على وضع الحرب بينهما, ويكون تعلي العراق, ولعاوية الشام, فلا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش ولا غارة ولا غزو798, ويبدو أن هذه المهدنة لم تستمر, فمعاوية أرسل بسر بن أطأة إلى الحجاز واليمن في العام الذي استشهد فيه علي رضي الله عنه799,
الحادي عشر : استشهاد أمير المؤمنين علي واستقبال معاوية خبر مقتله:(1/207)
ولما لم يتمكن علي رضي الله عنه من تجهيز الجيش بما يصبو ويريد ورأى خذلانهم كره الحياة وتمنى الموت الموت وكان يتوجه إلى الله بالدعاء ويطلب منه عز وجل أن يعجل منيته, فمما روي عنه أنه خطب يوماً فقال : اللهم إني قد سئمتهم وسئموني ومللتهم وملوني, فأرحني منهم وأرحهم مني, فما يمنع أشقاكم أن يخضبها بدم, ووضع يده على لحيته800,وقد ألح عليُّ رضي الله عنه في الدعاء في أيامه الأخيرة, فعن جندب قال: ازدحموا على علي رضي الله عنه حتى وطئوا على رحاله فقال: اللهم إني قد مللتهم وملوني وأبغضتهم وأبغضوني, فأرحني منهم وأرحهم 801, وفي رواية أخرى عن أبي صالح قال : شهدت علياً وضع المصحف على رأسه حتى سمعت تقعقع الورق, فقال : اللهم إني سألتهم ما فيه فمنعوني, اللهم إني قد مللتهم وملوني, وأبغضتهم وأبغضوني, وحملوني على غير أخلاقي, فأبدلهم بي شراً مني, وأبدلني بهم خيراً منهم ومث قلوبهم ميثة الملح في الماء802, وفي رواية فلم يلبث إلا ثلاثاً أو نحو ذلك, حتى قتل رحمه الله803, وقال الحسن ابن علي : قال لي علي رضي الله عنه : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنح لي الليلة في منامي, فقلت : يارسول الله ماذا لقيت من أمتك من الأود واللدد804؟ قال : ادع عليهم قلت : ,اللهم أبدلني بهم من هو خير منهم , وأبدلهم بي من هو شر مني لهم . قال الحسن رضي الله عنه فخرج فضربه الرجل805. ولما جاء خبر قتل علي إلى معاوية رضي الله عنهما جعل يبكي, فقالت له امرأته : أتبكيه وقد قاتلته؟ فقال : ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم806 وكان معاوية يكتب فيما ينزل به يسأل له علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن ذلك, فلما بلغه قتله قال : ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبي طالب, فقال له أخوه عتبة : لا يسمع هذا منك أهل الشام, فقال له : دعني عنك807, وقد طلب معاوية رضي الله عنه في خلافته من ضرار الصُّدائي أن يصف له علياً رضي الله عنه فقال :(1/208)
أعفني يا أمير المؤمنين قال : لتصفنَّه, قال : أما إذا لابد من وصفه فكان والله بعيد المدى, شديد القُوى, يقول فصلا808, ويحكم عدلا, يتفجر العلم من جوانبه, وتنطق الحكمة من نواحيه, ويستوحش من الدنيا وزهرتها, ويستأنس بالليل ووحشته وكان غزير العبرة, طويل الفكرة, يعجبه من اللباس ما قصر ومن الطعام ما خشن, وكان فينا كأحَدِنا, يجيبنا إذا سألناه وينبئنا إذا استنبأناه, ونحن والله - مع تقريبه إيانا وقربه منا- لانكاد نكلمه هيبة له, يعظمِّ أهل الدين ويُقرِّب المساكين, لا يطمع القويُّ في باطله, ولا ييأس الضعيف من عدله وأشهد أنه لقد رأيته في بعض مواقفه - وقد أرخى الليل سُدولَه809, وغارت نجومه- قابضاً على لحيته, يتململ تململ السقيم, ويبكي بكاء الحزين, ويقول : يادنيا غُرِّي غيري إلي تعرضّت أم إليًّ تشوًّفتِ: هيهات هيهات, قد باينتك ثلاثاً لا رجعة فيها, فعمرك قصير, وخطرك كثير, آه من قلة الزاد, وبُعد السفر, ووحشة الطريق, فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا الحسن, كان والله كذلك, فكيف حزنك عليه ياضرار؟ قال حزن من ذبح ولدها وهو في حجرها810, وعن عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - : قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأبو بكر وعمر جالسان عنده فسلمت عليه وجلست فبينما أنا جالس إذ أتي بعلي ومعاوية فأدخلا بيتاً وأجيف811 الباب وأنا أنظر, فما كان بأسرع من خرج علي وهو يقول : قضي لي ورب الكعبة, ثم ما كان بأسرع من أن خرج معاوية وهو يقول : غفر لي ورب الكعبة812
المبحث الرابع : معاوية رضي الله عنه في عهد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم :(1/209)
كانت بيعة الحسن بن علي رضي الله عنهما في شهر رمضان من سنة 40 هـ وذلك بعد استشهاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه على يد الخارجي عبد الرحمن بن ملجم المرادي813, وقد اختار الناس الحسن بعد والده ولم يعين أمير المؤمنين أحد من بعده, فعن عبد الله بن سبع قال : سمعت علياً يقول : لتُخضبن هذه من هذا814 فما ينتظر بي الأشقى815. قالوا يا أمير المؤمنين, فأخبرنا به نبير816عترته قال : إذن والله تقتلون بي غير قاتلي. قالوا فاستخلف علينا قال : لا, ولكن أترككم إلى ما ترككم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : فما تقول لربك إذا أتيته, قال وكيع817 مرة : إذا لقيته قال : أقول : اللهم تركتني فيهم ما بدا لك, ثم قبضتني إليك وأنت فيهم, فإن شئت أصلحتهم وإن شئت أفسدتهم818, وفي رواية : أقول : اللهم استخلفني فيهم ما بدا لك ثم قبضتني وتركتك فيهم819, وبعد مقتل علي صلى عليه الحسن بن علي وكبر عليه أربع تكبيرات, ودفن بالكوفة, وكان أول من بايعه قيس بن سعد, قال له : أبسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة نبيه وقتال المُحلِّين, فقال له الحسن رضي الله عنه : على كتاب الله وسنة نبيه فإن ذلك يأتي من وراء كل شرط : فبايعه وسكت , وبايعه الناس820, وقد اشترط الحسن بن علي على أهل العراق عندما أرادوا بيعته فقال لهم : إنكم سامعون مطيعون, تسالمون من سالمت, وتحاربون من حاربت821, وفي رواية قال لهم : والله لا أبايعكم إلا على ما أقول لكم قالوا : ما هو؟ قال تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت822, وفي رواية ابن سعد : إن الحسن بن علي بن أبي طالب بايع أهل العراق بعد علي على بيعتين, بايعهم على الأمرة, وبايعهم على أن يدخلوا فيما دخل فيه, ويرضوا بما رضي به823, ويستفاد من الروايات السابقة ابتداء الحسن رضي الله عنه في التمهيد للصلح فور استخلافه وقد باشر الحسن بن علي سلطته كخليفة, فرتب العمال وأمّر الأمراء وجند الجنود وفرق(1/210)
العطايا, وزاد المقاتلة في العطاء مائة مائة فاكتسب بذلك رضاءهم824, وكان في وسعه أن يخوض حرباً لاهوادة فيها ضد معاوية,وكانت شخصيته الفذة من الناحية العسكرية والأخلاقية, والسياسية, والدينية تساعده على ذلك مع وجود عوامل أخرى, كوجود قيس بن سعد بن عبادة, وحاتم بن عدي الطائي وغيرهم في صفه من الذين لهم من القدرات, القيادية الشيء الكثير, إلا أن الحسن بن علي, مال إلى السلم والصلح لحقن الدماء, وتوحيد الأمة, والرغبة فيها عند الله وزهده في الملك وغير ذلك من الأسباب وقد قاد الحسن بن علي مشروع الإصلاح الذي توّج بوحدة الأمة, وقد تنازل الحسن بن علي من موقف قوة وهناك دلائل تشيرُ إلى ذلك منها :
1- الشرعية التي كان يملكها الحسن :(1/211)
لقد اختير الحسن بن علي بعد والده اختياراً شورياً وأصبح الخليفة الشرعي على الحجاز واليمن والعراق, وكل الأماكن التي كانت خاضعة لوالده, وقد استمر في خلافته ستة أشهر وتلك المدة تدخل ضمن الخلافة الراشدة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن مدتها ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً, فقد روى الترمذي بإسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك825, وقد علق ابن كثير على هذا الحديث فقال : إنما كملت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي, فإنه نزل عن الخلافة لمعاوية في ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين سنة, وذلك كمال ثلاثين سنة من موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه توفي في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة وهذا من دلائل النبوة صلوات الله وسلامه عليه وسلم تسليماً826, وبذلك يكون الحسن بن علي خامس الخلفاء الراشدين827, وقد تحدث عن شرعية الحسن بن علي بالخلافة كثير من علماء أهل السنة منهم أبو بكر بن العربي828, والقاضي عياض829, وابن كثير830, وشارح الطحاوية831, والمناوي832, وابن الحجر الهيثمي833, ولو أراد الحسن أن يتعب معاوية بحكم أن الشرعية معه لأمكن ذلك, ولقام بترتيب حملة إعلامية منظمة في أوساط أهل الشام, لكسب ثقتهم أو على الأقل زعزعة موقف معاوية بينهم, فقد كان يملك قوة معنوية ونفوذ روحي لا يستهان به بحكم الشرعية التي يستند إليها, ولكونه حفيد الرسول صلي الله عليه وسلم
2- تقييم الحسن بن علي للموقف وقدراته القيادية :(1/212)
فعندما قال له نفير بن الحضرمي: إن الناس يزعمون إنك تريد الخلافة، فقال: كانت جماجم العرب بيدي يسالمون من سالمت، ويحاربون من حاربت، فتركتها ابتغاء وجه الله834، فهذه شهادة الحسن رضي الله عنه، بأنه كان في وضع قوي، وبأن اتباعه على استعداد لمحاربة من يريد أو مسالمتهم، كما كان رضي الله عنه يملك من الملكات الخطابية والفصاحة البيانية، وصدق العاطفة وقوة التأثير والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجعله أكثر قوة وتماسكاً ودليلنا على ذلك، ما قام به من إستنفار أهل الكوفة للخروج مع والده، وكان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قد ثبط الناس ونهاهم عن الخروج والقتال والفتنة وأسمعهم ما سمعه من رسول الله من التحذير من الاشتراك في الفتنة835، فقد أرسل علي رضي الله عنه قبل الحسن محمد بن أبي بكر، ومحمد بن جعفر، ولكنهما لم ينجحا في مهمتهما، وأرسل علي بعد ذلك هشام بن عقبة بن أبي وقاص، ففشل في مهمته لتأثير أبي موسى عليهم836، وأتبعه علي بعبد الله بن عباس، فأبطوا عليه، فأتبعه بعمار بن ياسر والحسن837 وكان للحسن أثر واضح، فقد قام في الناس خطيباً وقال: أيها الناس، أجيبوا دعوة أميركم، وسيروا إلى إخوانكم، فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه، والله لأن يليه ألوا النهى838، أمثل في العاجلة وخير في العاقبة، فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا به839 وابتليتم ولبى كثير من أهل الكوفة وخرجوا مع عمار والحسن إلى علي ما بين الستة إلى سبعة آلاف رجل840، ولا ننسى أن أبا موسى الأشعري كان والياً على الكوفة ومن قيادات العراق المحبوبين من عهد عمر وهو من هو في علمه وزهده ومكانته عند الناس ومع ذلك فقد استطاع الحسن أن يكسب أهل الكوفة لصفه وخرجوا معه .(1/213)
3 ـ وجود بعض القيادات الكبيرة في صفه: كان معسكر الحسن بن علي فيه من القيادة الكبيرة، كأخيه الحسين، وابن عمه عبد الله بن جعفر، وقيس بن سعد بن عبادة، ـ وهو من دهاة العرب. وعدي بن حاتم وغيرهم فلو أراد الخلافة لأعطي المجال لقياداته للتحرك نحو تعبئة الناس والدخول في الحرب مع معاوية وعلى الأقل يكون خليفة على دولته إلى حين.
4 ـ معرفته لنفسية أهل العراق : كان له قدرات خاصة في التعامل مع أهل العراق ومعرفة نفوسهم ولذلك زاد لهم في العطاء منذ بداية خلافته، كما أن مهمته التي قادها في نجاح مشروعه الإصلاحي كانت أصعب من حربه لمعاوية، ومع ذلك تغلب على الكثير من العوائق التي واجهته، فقد حاولوا قتله، ورفض بعض الناس الصلح وغير ذلك من العوائق إلا أنه تغلب عليها كلها وحقق الأهداف التي رسمها من حقن الدماء، ووحدة الأمة، وأمن السبيل، وعودة حركة الفتوح.. إلخ مما يدل على قدراته القيادية الفذّة .
5 ـ تقييم عمرو بن العاص ومعاوية لقوات الحسن رضي الله عنهم : فقد جاء في البخاري: استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاص: إني أرى لا تُولي حتى تقتل أقرانها. فقال معاوية ـ وكان خير الرجلين ـ أي عمرو، إن قتل هؤلاء من لي بأمور الناس من لي بنسائهم من لي بضيعتهم؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس ـ عبد الرحمن بن سمرة، وعبد الله بن عامر بن كريز ـ فقال: أذهب إلى هذا الرجل فأعرضا عليه قولا له، واطلبا إليه841 .
أ ـ فعمرو بن العاص رضي الله عنه، القائد العسكري الشهير والسياسي المحنك والذي عركته الحروب يقول: إني أرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها.(1/214)
ب ـ وأما معاوية رضي الله عنه، فتقييمه للموقف العسكري بأنه لا يستطيع أحد أن ينتصر ويحقق حسماً عسكرياً إلا بعد خسائر فادحة للطرفين، ولا يستطيع معاوية حتى لو كان هو المنتصر أن، يتحمل تركت الحرب من أرامل وأيتام وقتل خير المسلمين، وما يترتب على ذلك من مفاسد كبرى إجتماعية وسياسية واقتصادية، وأخلاقية للأمة الإسلامية، ولذلك اختار معاوية شخصيتين كبيريتين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أصحاب النفوذ في المجتمع الإسلامي ولهم حضور واحترام عند الحسن وهما من قريش، فالشخصيتان اللتان أرسلهما معاوية رضي الله عنه تدل على حرصه على نجاح الصلح مع الحسن بأي ثمن ممكن، وقد ظل زمام الموقف بيد الحسن بن علي رضي الله عنه ويد أنصاره، ولو لم يكن الحسن مرهوب الجانب لما احتاج معاوية إلى أن يفاوضه ويوافق على ما طلب من الشروط والضمانات، ولكان عرف ضعف جانب الحسن، وانحلال قوته عن طريق عيونه، ولدخل الكوفة من غير أن يكلف نفسه مفاوضة أحد أو ينزل على شروطه ومطالبه842 كان الحسن بن علي رضي الله عنه ذا خلق يجنح إلى السلم، وكان رضي الله عنه يملك رؤية إصلاحية واضحة المعالم ، خضعت لمراحل وبواعث وتغلب على العوائق، وكتب شروطه، وترتب على صلحه نتائج، وأصبح هذا الصلح من مفاخر الحسن على مر العصور وتوالي الأزمان، فكان في صلحه مع معاوية وحقنه لدماء المسلمين، كعثمان في جمعه للقرآن، وكأبي بكر في حربه للمرتدين843، ولا أدل على ذلك في كون هذا الفعل من الحسن يعد علماً من أعلام النبوة، والحجة في ذلك ما أخرجه البخاري من طريق أبي بكرة رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبرـ والحسن بن علي على جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين844.
أولاً : أهم مراحل الصلح: مر الصلح بمراحل من أهمها :
المرحلة الأولى:(1/215)
1 ـ دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم للحسن بأن يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، فتلك الدعوة المباركة دفعت الحسن رضي الله عنه إلى الإقدام على الصلح بكل ثقة وتصميم845
المرحلة الثانية:
شرط البيعة الذي وضعه الحسن رضي الله عنه أساساً لقبول مبايعة أهل العراق له، ذلك الشرط الذي نص على أنهم يسالمون من يسالم ويحاربون من يحارب846.
المرحلة الثالثة: وقوع المحاولة الأولى لإغتيال الحسن رضي الله عنه بعد أن كشف عن نيته في الصلح مع معاوية رضي الله عنه وهذه المحاولة يبدو إنها قد جرت بعد استخلافه بقليل847
المرحلة الرابعة: خروج الحسن بجيش العراق من الكوفة إلى المدائن ، وإرساله للقوة الضاربة من الجيش وهي الخميس إلى مسكن بقيادة قيس بن سعد بن عبادة848
المرحلة الخامسة: خروج معاوية رضي الله عنه من الشام وتوجهه إلى العراق بعد أن وصل خبر خروج الحسن من الكوفة إلى المدائن بجيوشه
المرحلة السادسة: تبادل الرسل بين الحسن و معاوية ، ووقوع الصلح بينهما رضوان الله عليهما،
المرحلة السابعة: محاولة اغتيال الحسن رضي الله عنه، فبعد نجاح مفاوضات الصلح بين الحسن ومعاوية رضي الله عنهما، شرع الحسن رضي الله عنه في تهيئة نفوس أتباعه على تقبل الصلح الذي تم، فقام فيهم خطيباً ليبين لهم ما تم بينه وبين معاوية، وفيما هو يخطب هجم عليه بعض معسكره محاولين قتله، لكن الله سبحانه وتعالى أنجاه كما أنجاه من قبل849(1/216)
المرحلة الثامنة: تنازل الحسن بن علي عن الخلافة وتسليمه الأمر إلى معاوية رضوان الله عليهم أجمعين، بعد أن أنجى الله سبحانه وتعالى الحسن بن علي من الفتنة التي وقعت في معسكره، ترك المدائن وسار إلى الكوفة وخطب في أهلها فقال: أما بعد فإن أكيس الكيس850 التُّقى ، وإن أحمق الحمق الفجور، وإن هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إما كان حقاً لي تركته لمعاوية إرادة إصلاح هذه الأمة وحقن دمائهم، أو يكون حقاً كان لإمرئ كان أحق به مني ففعلت ذلك ((وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ))851 (الأنبياء ، آية : 111)
ثانياً : أهم أسباب ودوافع الصلح :
وأما أهم الأسباب والدوافع للصلح الذي تمَّ بين الحسن ومعاوية فهي :
1 ـ الرغبة فيما عند الله وإرادة صلاح هذه الأمة :
…قال الحسن بن علي رضي الله عنه رداً على نفير الحضرمي عندما قال له: إن الناس يزعمون أنك تريد الخلافة. فقال: كانت جماجم العرب بيدي، يسالمون من سالمت ويحاربون من حاربت فتركتها ابتغاء وجه الله852
2 ـ دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم له : إن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين853 دفعت الحسن إلى التخطيط والاستعداد النفسي للصلح والتغلب على العوائق التي في الطريق، فقد كان هذا الحديث الكلمة الموجهة الرائدة للحسن في اتجاهاته وتصرفاته ومنهج حياته، فقد حلت في قرارة نفسه واستولت على مشاعره وأحاسيسه واختلطت بلحمه ودمه، ومن خلال هذا التوجيه واستيعابه وفهمه له بنى مشروعه الإصلاحي وقسم مراحله، وكان متيقناً من نتائجه، فالحديث النبوي كان دافعاً أساسياً وسبباً مركزياً في اندفاع الحسن للإصلاح .(1/217)
3 ـ حقن دماء المسلمين: قال الحسن رضي الله عنه:... خشيت أن يجئ يوم القيامة سبعون ألفاً، أو أكثر أو أقلُّ كلهم تنضج أوداجهم دماً، كلهم يستعدي الله فيما هُرِيقَ دمه854؟ وقال رضي الله عنه: ألا إن أمر الله واقع إذ لا له دافع وإن كره الناس، إني ما أحببت أن لي من أمة محمد مثقال حبة من خردل يهراق فيه محجمة من دم، قد علمت ما ينفعني ممَّا يضرني ألحقوا بطيتكم855 .
4 ـ حرص على وحدة الأمة: قام الحسن بن علي خطيباً رضي الله عنه في إحدى مراحل الصلح فقال: أيها الناس، إني قد أصبحت غير محتمل على مسلم ضغينة856، وإني نظار لكم كنظري لنفسي، وأرى رأياً فلا تردوا علي رأيي، إن الذي تكرهون من الجماعة أفضل مما تحبون من الفرقة857، وقد تحقق بفضل الله ثم حرص الحسن على وحدة الأمة ذلك المقصد العظيم، فقد ارتأى رضي الله عنه أن يتنازل في الخلافة حقناً لدماء المسلمين، وتجنباً للمفاسد العظيمة التي ستلحق الأمة كلها في المآل إذا بقى مصراً على موقفه، من استمرار الفتنة، وسفك الدماء، وقطع الأرحام واضطراب السبل، وتعطيل الثغور وغيرها ـ وقد تحققت بحمد الله ـ وحدة الأمة بتنازله عن عرض زائل من أعراض الدنيا حتى سمّي ذلك العام عام الجماعة858، وهذا يدل على فقه الحسن في معرفته لاعتبار المآلات ومراعاته التصرفات .
5 ـ مقتل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه :(1/218)
…ومن الأسباب التي دعت أمير المؤمنين الحسن بن علي إلى الصلح ما روّع به من مقتل أبيه، فقد ترك ذلك فراغاً كبيراً في جبهة العراق وأثر اغتياله على نفسية الحسن رضي الله عنه، فترك فيها حزناً وأسى شديداً، فقد قتل هذا الإمام العظيم بدون وجه حق ولم يرع الخوارج سابقته في الإسلام ولأفضاله العظيمة، ولخدماته الجليلة التي قدمها للإسلام فقد كانت حياته حافلة بالقيم والمثل والعمل على تكريس أحكام الشريعة على مستوى الدولة والشعب، لقد كان علياً رضي الله عنه معلماً من معالم الهدى وفارقاً بين الحق والباطل فكان من الطبيعي أن يتأثر المسلمين لفقده ويشعروا بالفراغ الكبير الذي تركه، فقد كان وقع مصيبة مقتله على المسلمين عظيماً، فجللّهم الحزن، وفاضت مآقيهم بالدموع ولهجت ألسنتهم بالثناء والترحم عليه، وكان مقتله سبباً في تزهيد الحسن في أهل العراق أولئك الذين غمرتهم مكارم أخلاق أمير المؤمنين وشرف صحبته فأضلتهم الفتن والأطماع، وانحرفوا عن الصراط المستقيم، ونستثنى من أولئك الصادقين المخلصين لدينهم وخليفتهم الرّاحل العظيم رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان مقتله ضربة قوية وجهت لعهد الخلافة الراشدة وكانت من أسباب زوالها فيما بعد.
6 ـ شخصية معاوية: إن تسليم الحسن بن علي الخلافة إلى معاوية مع أنه كان معه أكثر من أربعين ألفاً بايعوه على الموت، فلو لم يكن أهلاً لها لما سلمها السبط الطيب إليه ولحاربه859، فقد ذكر المترجمون والمؤرخون لسيرته فضائل كثيرة وأعمال جليلة يأتي ذكرها بإذن الله تعالى في هذا الكتاب.
7 ـ اضطراب جيش العراق وأهل الكوفة:(1/219)
…كان لخروج الخوارج أثر في إضعاف أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، كما أن الحروب في الجمل وصفين والنهروان، تسببت في ملل أهل العراق للحرب ونفورهم منها، وخاصة أهل الشام في صفين، فإن حربهم ليس كحرب غيرهم، فمعركة صفين الطاحنة لم تفارق مخيلتهم فكم يتمت من الأطفال ورملت من النساء، بدون أن يتحقق مقصودهم ولولا الصلح أو التحكيم الذي رحب به أمير المؤمنين علي وكثير من أصحابه لكانت مصيبة على العالم الإسلامي لا يتخيل آثارها السيئة، فكان هذا التخاذل عن المسير مع علي رضي الله عنه إلى الشام مرة أخرى إلى فريق منهم وتميل إليه نفوسهم وإن كانوا يعلمون أن علياً على حق860، فقد استلم الحسن رضي الله عنه الخلافة، وجيش العراق مضطرب وأهل الكوفة مترددون في أمرهم861 وهذا ليس على إطلاقه فجيش الحسن يمكن تقويته كما أن هناك فصائل منه على استعداد للقتال على رأسهم قيس بن سعد الخزرجي وغيره من القادة862.
8 ـ قوة جيش معاوية: وفي الجانب الآخر كان معاوية رضي الله عنه يعمل بشتى الوسائل سراً أو علانية على إضعاف جانب أهل العراق منذ عهد علي رضي الله عنه فاستغل ما اصاب جيشه من تفكك وخلاف، واجتمعت لمعاوية رضي الله عنه عوامل ساعدت على قوة جبهته منها، طاعة الجيش له، اتفاق الكلمة عليه من أهل الشام، خبرته الإدارية في ولاية الشام، وثبات مصادره المالية، وعدم تحرجه من دفع الأموال من أجل تحقيق أهدافه التي يراها مصلحة للأمة.
ثالثاً : شروط الصلح :
تحدثت الكتب التاريخية والمصادر الحديثة وأشارت إلى حصول الصلح وفق شروط وضعها الطرفان، وقد تناثرت تلك الشروط بين كتَّاب التاريخ وحاول بعض العلماء جمعها وترتيبها واستئناساً إلى ما وصلوا إليه نذكر أهم شروط الصلح منها :(1/220)
1 ـ العمل بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخلفاء : وقد ذكر هذا الشرط مجموعة من العلماء منهم ابن الحجر الهيثمي حيث ذكر صورة الصلح بين الحسن ومعاوية وجاء فيها: صالحه على أن يُسلم إليه ولاية المسلمين وأن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين863، وحتى بعض كتب الشيعة ذكرت هذا الشرط وهذا دليل على توقير الحسن بن علي لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي إلى حد جعل من إحدى الشروط على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم: إنه يعمل ويحكم في الناس بكتاب الله وسنة رسوله، وسيرة الخلفاء الراشدين864، وفي النسخة الأخرى ـ الخلفاء الصالحين865، ففي هذا الشرط ضبط لدولة معاوية مرجعيتها ومنهجها في الحياة.
2 ـ الأموال :
…ذكر البخاري في صحيحه أن الحسن قال لوفد معاوية عبد الرحمن بن سمرة، وعبد الله بن عامر بن كريز: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال.. فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك866 به.
…فالحسن يتحدث عن أموال سبق أن أصابها هو وغيره من بني عبد المطلب يريد الحسن أن لا يطالبهم معاوية، ولا ذكر لأموال يطلب من معاوية أن يدفعها إليه من قادم867، وأما الروايات التي تشير بأن يجري معاوية للحسن كل عام مليون درهم وأن يحمل إلي أخيه الحسين مليوني درهم في كل عام ويفضل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس، وكأن الحسن باع الخلافة لمعاوية، فهذه الروايات، وما قيل حولها من تحليل وتفسير لا تقبل ولا يعتمد عليها، لأنها تصور إحساس الحسن بمصالح الأمة يبدو ضعيفاً أمام مصالحه الخاصة868. أما حقه من العطاء فليس الحسن فيه بواحد من دون المسلمين، ولا يمنع أن يكون حظه منه أكثر من غيره، ولكنه لا يصل إلى عشرة معشار ما ذكرته الروايات869.(1/221)
3 ـ الدماء : ويتضمن اتفاق الصلح بين الجانبين أن الناس كلهم آمنون لا يؤخذ منهم أحد منهم بهفوة أو أحنة، ومما جاء في رواية البخاري أن الحسن قال لوفد معاوية.. وأن هذه الأمة عاثت في دمائها، فكفل الوفد للحسن العفو للجميع فيما أصابوا من الدماء870، وقد تمّ الاتفاق على عدم مطالبة أحد بشيء كان في أيام علي وهي قاعدة بالغة الأهمية تحاول دون الالتفاف إلى الماضي وتركز على فتح صفحة جديدة تركز على الحاضر والمستقبل871، وقد تمّ التوافق المبني على الالتزام والشرعية حيث تمّ الصلح على أساس العفو المطلق من كل ما كان بين الفريقين، قبل إبرام الصلح، وبالفعل لم يعاقب معاوية بذنب أحداً بذنب سابق وتأسس بذلك صلح الحسن على الإحسان والعفو، وتأليف القلوب،
4 ـ ولاية العهد، أم ترك الأمر شورى بين المسلمين :(1/222)
…قيل ومما اتفق الجانبان عليه من الشروط أن يكون الأمر من بعد معاوية للحسن872، وإن معاوية وعد أن حدث به حدث والحسن حي يُسمينَّه وليجعلن الأمر إليه873، ولكن ابن أكثم روى في هذا الخصوص عن الحسن إنه قال: إما ولاية الأمر من بعده، فما أنا بالراغب في ذلك ولو أردت هذا الأمر لم أسلمه874، وجاء في نص الصلح الذي ذكره ابن الحجر الهيثمي:.. بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين875، وعند التدقيق في روايات طلب الحسن الخلافة بعد معاوية، نجد أنها تتنافى مع أنفة وقوة وكرم الحسن، فكيف يتنازل عن الخلافة حقناً لدماء المسلمين وابتغاء مرضاة الله ثم يوافق على أن يكون تابعاً يتطلب أسباب الدنيا، وتشرأب عنقه للخلافة مرة أخرى، والدليل على أن هذا غير صحيح ما ذكر جبير بن نفير قال: قلت للحسن بن علي أن الناس يزعمون أنك تريد الخلافة، فقال كانت جماجم العرب بيدي يسالمون من سالمت ويحاربون من حاربت، فتركتها ابتغاء مرضاة الله876، ومن الملاحظ أن أحداً من أبناء الصحابة أو الصحابة لم يذكروا خلال بيعة يزيد شيئاً من ذلك، فلو كان الأمر كما تذكر الروايات عن ولاية عهد الحسن بن معاوية، لاتخذها الحسين بن علي رضي الله عنه حجة، ولكن لم نسمع شيئاً من ذلك على الإطلاق مما يؤكد على أن مسألة خلافة الحسن لمعاوية لا أساس لها من الصحة، ولو كان الحسن رضي الله عنه أسند إليه منصب ولاية العهد في الشروط لكان قريباً في عهد معاوية من إدارة الدولة أو تولي إحدى الأقاليم الكبرى، لا أن يذهب إلى المدينة وينعزل عن إدارة شئون الحكم، كما أن روح ذلك العصر يشير إلى مبدأ اختبار الأمة للحاكم عن طريق الشورى هو الأصل.
رابعاً نتائج الصلح :
…إن أهم نتائج الصلح هي :
…1 ـ توحد الأمة تحت قيادة واحدة .
…2 ـ عودة الفتوحات إلى ما كانت عليه .
…3 ـ تفرغ الدولة للخوارج .
…4 ـ انتقال العاصمة الإسلامية إلى بلاد الشام
الفصل الثاني
بيعة معاوية وأهم صفاته ونظام حكمه(1/223)
المبحث الأول : بيعة معاوية وأهم صفاته وثناء العلماء عليه :
أولاً : بيعة معاوية رضي الله عنه :
…وبتنازل الحسن بن علي رضي الله عنه اكتملت عوامل تولي معاوية الخلافة، وتهيأت له جميع أسبابها، فبويع أميراً للمؤمنين عام واحد وأربعين للهجرة وسمي هذا العام بعام الجماعة877، وسجل في ذاكرة الأمه عام الجماعة وأصبح هذا الحدث من مفاخرها التي تزهو به على مر العصور، وتوالي الدهور، فقد التقت الأمة على زعامة معاوية، ورضيت به أميراً عليها، وأبتهج خيار المسلمين بهذه الوحدة الجامعة، بعد الفرقة المشتتة، وكان الفضل في ذلك لله ثم للسيد الكبير مهندس المشروع الإصلاحي العظيم الحسن بن علي بن أبي طالب، ويعد عام الجماعة من علامة نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم وفضيلة باهرة من فضائل الحسن ولا يلتفت إلى ما قال العقاد من فهم غير صحيح عن عام الجماعة في هجومه الخاطيء على المؤرخين الذين سموا سنة إحدى واربعين هجرية بعام الجماعة، فقد قال: فليس أضل ضلال، ولا أجهل جهلاً من المؤرخين الذين سموا سنة إحدى وأربعين هجرية بعام الجماعة لأنها السنة التي استأثر فيها معاوية بالخلافة فلم يشاركه أحد فيها، لأن صدر الإسلام لم يعرف سنة تفرقت فيها الأمة كما تفرقت في تلك السنة، ووقع فيها الشتات بين كل فئة من فئاتها كما وقع فيها878، والعقاد رحمه الله لم يأت بجديد في حكمه الخاطيء بل سبقه إليه كثير من مؤرخي الشيعة، ويكفي معاوية فخراً أن كل الصحابة الأحياء في عهده بايعوه، فقد أجمعت الأمة على معاوية وبايعه علماء الصحابة والتابعين وعدوا خلافته شرعية ورضوا إمامته، ورأوا أنه خير من يلي أمر المسلمين ويقوم به خير قيام في تلك المرحلة، فروي عن الأوزاعي أنه قال: أدركت خلافة معاوية عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم سعد، وأسامة، وجابر، وابن عمر، وزيد بن ثابت، ومسلمة بن مخلد، وأبوسعيد الخدري، ورافع بن خديج، وأبو أمامة، وأنس بن مالك،(1/224)
ورجال أكثر مما سميت بأضعاف مضاعفة، كانوا مصابيح الهدى، وأوعية العلم.
حضروا من الكتاب تنزيله، وأخذوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأويله، ومن التابعين لهم بإحسان إن شاء الله، منهم: المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وسعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير، وعبد الله بن محيريزفي أشباه له ، لم ينزعوا يده عن مجامعة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم879. وقال ابن حزم : فبويع الحسن ثم سلّم الأمر إلى معاوية، وفي بقايا الصحابة من هو أفضل منهما بلا خلاف ممن أنفق قبل الفتح وقاتل، وكلهم أولهم عن آخرهم بايع معاوية ، ورأى إمامته880. فالصحابة لم يبايعوا معاوية رضي الله عنه إلا وقد رأوا فيه شروط الإمامة متوفرة، ومنها العدالة ، فمن يطعن في عدالة معاوية وإمامته فقد طعن في عدالة هؤلاء الصحابة جميعهم وخونّهم وتنقصهم. فمن رضيه هؤلاء لدينهم ودنياهم ألا نقبله ونرضى به نحن؟؟ ومن قال لعلهم بايعوا خوفا فقد أتهمهم بالجبن وعدم الصدع بالحق، وهم القوم المعلوم من سيرتهم الشجاعة والشهامة وعدم الخوف في الله لومة لائم881. وفي مبايعة سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي لمعاوية درس بليغ وفهم عميق لآيات النهي عن الاختلاق، قال تعالى : ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (الأنعام ، آية : 153). فالصراط المستقيم هو: القرآن، والإسلام، والفطرة التي فطر الناس عليها، والسبل هي: الأهواء، والفرق، والبدع، والمحدثات، قال مجاهد: ولا تتبعوا السبل: يعني! البدع، والشبهات والضلالات882، ونهى الله سبحانه وتعالى هذه الأمة عما وقعت فيه الأمم السابقة من الاختلاف والتفرق من بعد ما جاءتهم البيانات، وأنزل الله إليهم الكتب، فقال سبحانه: ((وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا(1/225)
وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) (آل عمران ، آية : 105). وقد أمر الله تعالى بالاعتصام بحبله، قال تعالى: ((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)) (آل عمران ، الآية : 103) لقد تحقق بفضل الله تعالى ثم بنجاح الحسن بن علي في صلحه مع معاوية مقصد عظيم من مقاصد الشريعة من وحدة المسلمين واجتماعهم وهذا المقصد من أهم أسباب التمكين لدين الله تعالى ونحن مأمورون بالتواصي بالحقِّ والتواصي بالصبر، فلا بدّ من تضافر الجهود بين الدعاة، وقادة الحركات الإسلامية، وبين علماء المسلمين، وطلبة العلم لإصلاح ذات البين إصلاحاً حقيقياً لا تلفيقياً، لأن أنصاف الحلول تفسد أكثر ممّا تصلح، وقد تحدث الشيخ السعدي على الجهاد المتعلّق بالمسلمين بقيام الالفة، واتفاق الكلمة وبعد أن ذكر الآيات، والأحاديث الداّالة على وجوب تعاون المسلمين ووحدتهم قال: فإن من أعظم الجهاد السَّعي في تأليف قلوب المسلمين، واجتماعهم على دينهم، ومصالحهم الدينية والدنيوية883. ولا ينظر للحديث الضعيف الذي رواه ابن عدي من طريق عليِّ بن زيد، وهو ضعيف، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد ومن حديث مجالد884، وهو ضعيف أيضاً، عن أبي الودَّاك عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه885. أسنده أيضاً من طريق الحكم بن ظهيره886، وهو متروك. وهذا الحديث كذب بلا شك، ولو كان صحيحاً لبادر الصحابة إلى فعل ذلك، لأنَّهم كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم887
1 ـ انتهاء عهد الخلافة الراشدة :(1/226)
انتهى عهد الخلافة الراشدة على منهاج النبوة بتنازل الحسن بن علي لمعاوية رضي الله عنه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء، أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء أن تكون، يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت888. وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم: خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك، أو ملكه من يشاء889، وقوله صلى الله عليه وسلم: الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك890. وإنما كملت الثلاثون بخلافة الحسن، فإنه نزل عن الخلافة لمعاوية في ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين، وذلك كمال ثلاثين سنة من موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه توفي في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، وهذا من دلائل النبوة صلوات الله وسلامه عليه وسلم تسليماً891، وبذلك تكون مرحلة خلافة النبوة قد انتهت بتنازل الحسن رضي الله عنه عن الخلافة لمعاوية في شهر ربيع الأول من سنة 41 هـ892 فالحديث النبوي الكريم أشار إلى مراحل تاريخية وهي :
أ ـ عهد النبوة.
ب ـ عهد الخلافة الراشدة.
جـ ـ عهد الملك العضوض893.
د ـ عهد الملك الجبري.
س ـ ثم تكون خلافة على منهاج النبوة.(1/227)
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ستكون خلافة نبوة ورحمة ثم يكون ملك ورحمة894 ويجوز تسمية من بعد الخلفاء الراشدين خلفاء وإن كانوا ملوكاً، ولم يكونوا خلفاء الأنبياء بدليل ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كانت بنو إسرائيل يسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا فما تأمرنا؟ قال: وفوا بيعة الأول، فالأول، ثم أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم895. فقوله: فتكثر دليل على من سوى الراشدين فإنهم لم يكونوا كثيراً وأيضاً قوله وفوا بيعة الأول فالأول دل على أنهم يختلفون، والراشدين لم يختلفوا، وقوله: فأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم دليل على مذهب أهل السنة، في إعطاء الأمراء حقهم من المال والمغنم896، فمعاوية رضي الله عنه أفضل ملوك هذه الأمة، والذين كانوا قبله خلفاء نبوة، وأما هو فكانت خلافته ملك، وكان ملكه ملكاً ورحمة وكان في ملكه من الرحمة والحلم ونفع المسلمين، ما يعلم أنه كان خيراً من ملك غيره897، ومعاوية رضي الله عنه كان عالماً ورعاً عدلاً دون الخلفاء الراشدين في العلم والورع والعدل، كما ترى من التفاوت بين الأولياء، بل الملائكة والأنبياء، فإمارته وإن كانت صحيحة بإجماع الصحابة وتسليم الحسن ـ رضي الله عنه ـ إلا أنها ليست على منهاج خلافة من قبله، فإنه توسع في المباحات، وتحرز عنها الخلفاء الأربعة، وأما رجحان الخلفاء الأربعة في العبادات والمعاملات فظاهر مما لا سترة فيه898, وقد حدد ابن خلدون مدى التغير الذي حدث, فقدر أن خلافة وإن كانت تحولت إلى ملك, فإن معاني الخلافة بقيت - بعضها- وإنما كان التغير في الوازع فبعد أن كان ديناً انقلب عصبية وسيفاً : يقصد بذلك أنه بعد أن كان الناس يتصرفون بوازع الدين, والخلافة شورى, صار الحكم مستنداً إلى العصبية والقوة, ولكن معاني(1/228)
الخلافة أي مقاصدها وأهدافها بقيت أي أن غايات هذا الملك كان لاتزال تحقيق مقاصد الدين والحكم وفق الشريعة الإسلامية بالعدل وتنفيذ الواجبات التي يأمر بها الإسلام : أي أن الحكم أو الملك استمر إسلامياً وشرعياً899ولخص الأدوار التي مرت بها الخلافة فقال : فقد بين أن الخلافة قد وجدت بدون الملك أولاً, ثم التبست معانيها واختلطت بالملك, ثم انفرد الملك حيث افترقت عصبية الخلافة والله مقدر الليل والنهار900. فالدور الأول الذي يشير إليه هو عصر الخلفاء الراشدين وهو عصر الخلافة الخالصة أو الكاملة, والدور الثاني هو عصر الخلفاء الأمويين والعباسيين - ولا يمنع كذلك العثمانيين- وهذا عصر الخلافة المختلطة بالملك أو الملك المختلط بالخلافة : أي الذي يحقق في الوقت مقاصد الخلافة, أما الدور الثالث فهو عصر الملك المحض الذي صار بقصد لذات الملك والأغراض الدنيوية, وانفصل عن حقيقة الخلافة أو معانيها الدينية, فهذا وصف أو تفسير ابن خلدون المؤرخ الفقيه للتطور الذي حدث والأدوار التي مرت بها الخلافة901.(1/229)
إن الخلافة الحقيقة أو الكاملة أو خلافة النبوة استمرت ثلاثين عاماً وهو عصر الخلفاء الراشدين ثم تحولت إلى ملك, ولكن لكي نعبر عن الحقيقة يجب أن يراعى هذا التحديد, وهو أن الخلافة لم تنته أو تذهب كلية, وإنما بقيت معانيها أو مقاصدها, وأن التغيير حصل في الأساس التي قامت عليه, أما حقيقتها فقد بقيت, فالتغير إذن لم يكن كليا ولكن جزئياً : أي أن الخلافة في العصر الأول كانت هي الخلافة الكاملة المثالية, ثم نقصت عن المثال من وجه أو بعض الوجوه, لكن معظم عناصره بقيت, فهي خلافة أقل في الرتية أو خلافة مختلطة بالملك902, والرأي العام في الإسلام يتمسك بالمثال, أو خلافة النبوة, أو الخلافة الكاملة, وهي تلك التي تقوم على الشورى والاختيار التام من الأمة وأنه إذا كان الظروف الواقعية والعوامل الاجتماعية قد حتمت أو أدت إلى هذا التطور, فإن تحمل ذلك أو قوله لا يكون إلا مؤقتاً أو من باب الضرورة, ولكن لايلزم أن يكون المثل الكامل حاضراً دائماً في فكر الرأي العام, وبمجرد أن تزول تلك العوامل والظروف تجب العودة إلى تحقيق المثل الكامل, ولذا فإن الكتابات الإسلامية الأصيلة ظلت ملتزمة ومتشبتة بالمثال الكامل ولا تستخلص مبادائها إلا منه وتفرق بين الخلافة وهي الخلافة الحقيقية الشرعية, والخلافة الواقعية التي بعدت قليلاً أو كثيراً عن الحقيقة903, وقد ذكر ابن تيمية : أن مصير الأمر - أي الخلافة - إلى الملوك ونوابهم من الولاة والقضاة الأمراء ليس لنقص فيهم فقط, بل لنقص في الراعي والرعية جميعاً, فإنه كما تكونوا يوّل عليكم وقد قال تعالى :" وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا" ( الأنعام : 129). لقد ذهبت دولة الخلفاء الراشدين, وصار ملكاً ظهر النقص في الأمراء, وكذلك في أهل العلم والدين وجمهور الصحابة انقرضوا بانقراض خلافة الخلفاء الأربعة, حتى إنه لم يبق من أهل بدر إلا نفر قليل وجمهور التابعين بإحسان انقرضوا في(1/230)
أواخر عصر أصاغر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك, وجمهور تابعي التابعين انقرضوا في أواخر الدولة الأموية, وأوائل الدولة العباسية904.
2- هل يعتبر معاوية رضي الله عنه أحد الخلفاء الاثني عشر؟
عن جابر بن سمرة رضي الله عنه : دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه وسلم, فسمعته يقول : إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة, قال : ثم تكلم بكلام خفي عليَّ, قال : فقلت لأبي : ما قال, قال : كلهم من قريش905, وفي رواية أخرى عن جابر : لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشرة خليفة .. كلهم من قريش906 وفي رواية أخرى عنه : لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة .. كلهم من قريش907, زاد أبو داود في سننه, بإسناده عن جابر رضي الله عنه قال : فلما رجع إلى منزله أتته قريش فقالوا : ثم يكون الهرج908. وقد شرح ابن كثير هذا الحديث فقال : ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحاً يقيم الحق ويعدل فيهم, ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم, بل قد وجد منهم أربعة على نسق وهم الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم, ومنهم عمر بن عبدالعزيز بلا شك عند الأئمة, وبعض بني العباس, ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة, والظاهر أن منهم المهدي المُسرِّ به في الأحاديث الواردة بذكره .... وليس هذا بالمنتظر الذي تتوهم الرافضة وجوده ثم ظهوره من سرداب سامراء909, فإن ذلك ليس له حقيقة ولا وجود بالكلية, بل هو من هوس العقول السخيفة وتوهم الخيالات الضعيفة, وليس المراد بهولاء الخلفاء الاثنى عشر الأئمة الاثنى عشرة الذين يعتقد فيهم الاثنا عشرية910. وبالتأمل في النص بكل حيدة وموضعية نجد أن هؤلاء الاثني عشر وصفوا بأنهم يتولون الخلافة, وأن الإسلام في عهدهم يكون في عزة ومنعة وأن الناس تجتمع عليهم ولا يزال أمر الناس ماضياً وصالحاً في عهدهم وكل هذا الأوصاف لا تنطبق على من تدعي الاثنا(1/231)
عشريه فيهم الإمامة فلم يتول الخلافة منهم إلا أمير المؤمنين علي والحسن911... ثم أنه ليس في الحديث حصر لأئمة بهذا العدد, بل نبوة منه, بأن الإسلام لا يزال عزيزاً في عصور هؤلاء, وكان عصر الخلفاء الراشدين وبني أميه عصر عزة ومنعه912, ولهذا قال ابن تيمية : إن الإسلام وشرائعه في بني أمية أظهر وأوسع مما كان بعدهم913, وعدّ معاوية من الائمة المقصودين بالحديث914.
ثانياً : أهم صفات معاوية رضي الله عنه:
أشتهر معاوية رضي الله عنه بصفات كثيرة من أهمها
1- العلم والفقه:(1/232)
استفاد معاوية رضي الله عنه من ملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم علماً وتربية وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيره قد ذكرت بعضها وقد روى له البخاري ومسلم مع شرطهما أن لا يرويان إلا عن ثقة ضابط صدوق915 وشهد له ابن عباس بالفقة, فعن ابن أبي مليكة قال: قيل لابن عباس رضي الله عنه: هل لك في أمير المؤمنين معاوية فإنّه ما أوتر إلا بواحدة؟ قال: أصاب إنه فقيه رواه البخاري916. قال الشرّاح: أي مجتهد, وفي رواية أُخرى للبخاري عن أبي مليكة قال : أوتر معاوية : رضي الله عنه - بعد العشاء بركعة وعنده مولى لابن عباس ـ رضي الله عنه ـ فأتى ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: دَعْهُ فإنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ من فضلاء الصحابة، ويُلقّب: البحر، لسعة علمه وحبر الأمة، وترجمان القرآن، وقد دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بالعلم والحكمة والتأويل، فاستجيب وكان من خواص أصحاب علي رضي الله عنه وشديد الإنكار على أعدائه، وأرسله علي رضي الله عنه ليحاج الخوارج فحاجهم حتى لم يبق لهم حجة، فإذا شهد مثله لمعاوية بأنه مجتهد وكف مولاه عن الإنكار مستدلاً بأنه من الصحابة917، كما أنه كان كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكره مفتى الحرمين أحمد بن عبد الله بن محمد الطبري في خلاصة السير إن كتَّابه صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر: الخلفاء الأربعة وعامر بن فهيرة، وعبد الله بن أرقم، وأبي بن كعب، وثابت بن قيس بن شماس، وخالد بن سعيد بن العاص، وحنظلة بن الربيع الأسلمي، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وكان معاوية وزيد ألزمهم لذلك وأخصهم به918، كما أن الفقهاء يعتمدون على اجتهاده ويذكرون مذهبه كسائر الصحابة، كقولهم: ذهب معاذ بن جبل، ومعاوية وسعيد بن المسيب إلى أن المسلم يرث الكافر وقولهم: روى919 استلام الركنين اليمانيين عن الحسن أو الحسين وصح عن معاوية.(1/233)
وقال أبو الدراء الصحابي لأهل الشام: ما رأيت أحد أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من إمامكم هذا ـ يعني معاوية920 وكان رضي الله عنه حريصاً على تعليم الناس العلم، فعن أبي أمامة سهل بن حنيف قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان وهو جالس على المنبر أذن المؤذن قال: الله أكبر الله أكبر، قال معاوية: الله أكبر الله أكبر. قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال معاوية: وأنا فقال: أشهد أن محمداً رسول الله، فقال معاوية: وأنا. فلما قضي التأذين قال: يا أيها الناس، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا المجلس ـ حين أذن المؤذن ـ يقول ما سمعتم مني من مقالتي921، وكان رضي الله عنه يحث الناس على الفقه في الدين ويروي لهم الأحاديث الدالة على أهمية التفقه في الدين، فعن الزهري قال أخبرني حميد قال سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم، ويعطي الله، ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيماً حتى تقوم الساعة. أو حتى يأتي أمر الله922، وكان رضي الله عنه يكاتب أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ليتعلم منهم ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن وراد مولى المغيرة بن شعبة قال: كتب معاوية إلى المغيرة: أكتب إلي ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول خلف الصلاة، فأملى علي المغيرة، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول خلف الصلاة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد. وقال ابن جريج أخبرني عدة أن وراداً أخبره بهذا. ثم وفدت بعد إلى معاوية فسمعته يأمر الناس بذلك القول923، وكان رضي الله عنه حريصاً على اتباع السنة النبوية، فعن سعيد بن المسيب، وعن حمد بن عبد الرحمن بن عوف: أن معاوية لما قدم المدينة في آخره مقدمه قدمها، قال على منبر رسول الله صلى : أين علماؤكم يا(1/234)
أهل المدينة؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم ـ يوم عاشوراء ـ يقول: من شاء منكم أن يصومه فليصمه وفي رواية: وإني صائم، فصام الناس924، قال: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ينهي عن مثل هذا. وأخرج قصة من شعر من كمه، فقال: إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذها نساؤهم925 يعني وصل المرأة شعرها بشعر آخر، وقد صح في عدد من الأحاديث لعن الواصلة والمستوصلة. وفي رواية أخرى أنه قال لهم إنكم أحدثتم أي حدث سوء نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن (الزور)926. سماه الرسول زوراً لما فيه من التزوير والتغيرير فهنا نراه حريصاً على إحياء سنة كصوم عاشوراء الذي رأى أن الناس أهملوه، كما نراه حريصاً على إماتة بدعة ظهرت في الناس، وهي تقليد اليهوديات بوصل الشعر927. وروى عبد الرحمن بن هرمز الأعرج: أن العباس بن عبد الله بن عباس أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته، وأنكحه عبد الرحمن ابنته، وقد جعلا ـ أي العقدين ـ صداقاً ( أي كل منهما صداق الأخرى ، فكتب معاوية بن أبي سفيان ـ وهو خليفة ـ إلى مروان، يأمره بالتفريق بينهما، وقال في كتابه: هذا السِّفار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم928، فهو يراعي إقامة السنة في حياة الناس في الأمور كلها، أمور الفرد، وأمور الأسرة، وأمور الجماعة،929، وكان رضي الله عنه لا يروي الحديث عن رسول الله إلا بمناسبة اقتضته فقد ورد أنه دخل على عبد الله بن الزبير وابن عامر، فقام ابن عامر له، ولم يقم ابن الزبير، فقال معاوية: مَهْ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب أن يَمثُل له عباد الله قياماً، فليتبوّأ مقعده من النار930. وعن مجاهد وعطاء عن ابن عباس: أن معاوية أخبره أن رسول الله قصر من شعره ـ أي في العمرة ـ بمِشْقَص، فقلنا لابن عباس: ما بلغنا هذا إلا عن معاوية. فقال: ما كان معاوية على رسول الله متّهماً931، وكان رضي الله عنه يهتم بمذاكرة العلم ويحرص عليه، فعن عبد(1/235)
الله بن الحارث قال: دخلت مع ابن عباس على معاوية فأجلسه على السرير، وفي تلك القصة سأله معاوية عن مسألة فقهية، وكان رضي الله عنه يعلم الناس ويحثهم على سؤاله والاستفادة من علمه، فقد خطب يوم جمعة وقال: أيها الناس أعقلوا قولي، فلن تجدوا أعلم بأمور الدنيا والآخرة مني، أقيموا وجوهكم وصفوفكم في الصلاة فلتقيمن وجوهكم وصفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم، خذوا على أيدي سفهائكم أو ليسلطنهم الله عليكم، فليسومنكم سوء العذاب، تصدقوا لا يقولنَّ الرجل: إني مقلُّ. فإن صدقة المقلِّ أفضل من صدقة الغنى، إياكم وقذف المحصنات، وأن يقول الرجل: سمعت: وبلغني فلو قذف أحدكم امرأة على عهد نوح لسُئل عنها يوم القيامة932. وكان رضي الله عنه حريصاً على متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعندما دخل مكة سأل ابن عمر أين صلى رسول الله؟ فقال: اجعل بينك وبين الجدار ذراعين أو ثلاثة933 وله اجتهاد في تعيين ليلة القدر، فقد روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن معاوية قال: ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين934، وكان يعترف بالحجة والبرهان لغيره، فعن ابن عباس أنه طاف مع معاوية وكان معاوية يستلم الأركان بالبيت، فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: إنه لا يستلم هذان الركنان. فقال: ليس شيء من البيت مهجوراً935 وجاء في رواية: فقال له ابن عباس ((لقد كان لكم في رسول الله أُسوة حسنة)) (الأحزاب ، آية : 21) فقال معاوية: صدقت936، ومن الأحكام التي قضاها معاوية، رضي الله عنه ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن معقل قال: ما رأيت قضاء أحسن من قضاء قضى به معاوية: نرث أهل الكتاب ولا يرثونا، كما يحل النكاح فيهم ولا يحل لهم937ومن المسائل الفقهية التي أثرت عن معاوية رضي الله عنه:
أ ـ أثر عنه رضي الله عنه أنه أوتر بركعة938.
ب ـ أثر عنه رضي الله عنه الاستقاء بمن ظهر صلاحه939.
جـ ـ أنه يجزيء إخراج نصف صاع من البر في زكاة الفطر940 .(1/236)
س ـ استحباب تطيب البدن لمن أراد الإحرام941 .
ش ـ جواز بيع وشراء دور مكة942 .
ع ـ التفريق بين الزوجين بسبب العُنَّة943 .
غ ـ وقوع طلاق السكران944 .
ك ـ عدم قتل المسلم بالكافر قصاصاً945
ل- حبس القاتل حتى يبلغ ابن القتيل946
وأما علومه في الفقه السياسي والسياسة الشرعية, ومقاصد الشريعة, وفقه الجهاد, فالكاتب سوف يحدثنا عن الكثير من فقه في إدارة الدولة وتحقيق أهدافها .
2- الحلم والعفو :
اشتهر أمير المؤمنين معاوية بصفة الحلم وكان يضرب به المثل في حلمه رضي الله عنه, وكظم غيظه وعفوه عن الناس وقد ذكر ابن كثير ما كان يتصف به أمير المؤمنين معاوية من الحلم حيث قال : وقال بعضهم : أسمع رجل معاوية كلاماً سيئاً شديداً, فقيل له : لو سطوت عليه : فقال: إني لأستحي من الله أن يضيق حلمي عن ذنب أحد من رعيتي, وفي رواية قال له رجل : يا أمير المؤمنين ما أحلمك!! فقال : إني لا ستحي أن يكون جرم أحد أعظم من حلمي وقال الأصمعي عن الثوري قال : قال معاوية : إني لأستحي أن يكون ذنب أعظم من عفوي, أو جهل أكبر من حلمي, أو تكون عورة لا أواريها بستري. وقال معاوية : يابني أمية فارقوا قريشاً بالحلم, فوالله لقد كنت ألقى الرجل في الجاهلية فيوسعني شتما وأوسعه حلما, وأرجع وهو لي صديق, إن استنجدته أنجدني, وأثور به فيثور معي, وما وضع الحلم عن شريف شرفه, ولا زاده إلا كرماً, وقال : لا يبلغ الرجل مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ الرجل ذلك إلا بقوة الحلم947 وسئل معاوية : من أسود الناس؟ فقال : أسخاهم نفساً حين يسأل, وأحسنهم في المجالس خلقا, وأحلمهم حين يستجهل948, وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى : كان معاوية يتمثل بهذه الأبيات كثيراً :
……فما قتل السفاهة مثل حلم
…………يعود به على الجهل الحليم
……فلا تسْفَه وإن ملِّئتَ غيظاً
…………على أحد فإن الفحش لُوْمُ
……ولا تقطع أخاً لك عند ذنب
…………فإن الذنب يغفره الكريم949(1/237)
وكتب معاوية إلى نائب زياد : إنه لا ينبغي أن يُساسَ الناس سياسة واحدة باللين فيمرحوا, ولا بالشدة فيُحَْمَلَ الناس على المهالك, ولكن كن أنت للشدة والفظاظة والغلظة, وأنا للين والألفة والرحمة, حتى إذا خاف خائف وجد بابا يدخل منه950 .
فهذه الأقوال المروية عن أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه تبين لنا شيئاً مما اشتهر عنه من الاتصاف بخلق الحلم, وقد كان هذا الخلق همزة وصل بينه وبين من يعاملونه بشيء من الجفاء من أفراد رعيته, أو يصارحونه بقوة - بما يرونه حقاً وهو يخالفهم في ذلك, وكان لتخلقه بخلق الحلم الذي لم يخالطه ضعف أثر في نجاحه في تثبيت أركان دولته, وذلك بمقدرته الفائقة على امتصاص غضب المخالفين, وتحويلهم إلى الرضى والقناعة بسياسته, وهكذا تأتي مكارم الأخلاق التي من أهمها الحلم والعفو والصبر والكرم لتكون من أهم عناصر السيادة, وقد أبان في هذه الأقوال بأن الحلم يخالطه شيء من الذل كما أن النصر يخالطه شيء من العز, ولكن أبدى سروره بذلك الذل لما يترتب عليه من النتائج الحميدة التي منها اكتساب الأصدقاء والأنصار951 وفي كتابه إلى زياد أمير العراق بيان لسياسته الجيدة التي تخيف المتهورين الميالين إلى إحداث الفوضى والإخلال بالأمن, ولكنها في الوقت نفسه تبعث الأمل لدى من يراجعون أنفسهم ويريدون سلوك طريق الاستقامة والسلامة952, ولقد أثنى على أمير المؤمنين معاوية حكماء عصره وذكروا اتصافه بمكارم الأخلاق وخاصة الحلم, وفي ذلك يقول الحافظ بن كثير : وقال عبد الملك بن مروان - يوما وذكر معاوية فقال -: ما رأيت مثله في حلمه واحتماله وكرمه953, وقال قبيصة بن جابر : مارأيت أحداً أعظم حلماً, ولا أكثر سؤدداً, ولا أبعد أناة, ولا ألين مخرجاً, ولا أرحب بالمعروف من معاوية954. وقال عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما : لله در ابن هند, إن كنا لنُفرْقه955, وما الليث على براثنه بأجرأ منه فيتفارق لنا, وإن كنا لنخدعه وما ابن(1/238)
ليلةٍ من أهل الأرض بأدهى منه فيتخادع لنا, والله لوددت أنا مُتِّعنا به مادام في هذا الجبل حجر- وأشار إلى أبي قبيس956. وفي قول ابن الزبير هذا وصف دقيق لمعاملة معاوية لقادة المسلمين وسادتهم, فهو جريء شجاع ولكن يظهر عمدا ليصل من ذلك إلى عدم إثارة المخالفين, لأن إظهار الشجاعة يثير عنصر التحدي لديهم, وهو أدهى أهل الأرض في زمانه, ولكنه يظهر الانخداع أمام محدثيه ليصل إلى تجفيف منابع نقمتهم عليه, وهو في ذلك كله يخدم هدفاً سامياً وهو تحقيق حياة الرخاء والأمن للأمة الإسلامية, ولقد تمنى ابن الزبير أن يطول عمر معاوية لأنه يخشى من تغير الأحوال من بعده957, ويصف حبر الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنهما سياية معاوية بكلام موجز, لكنه يعني خلاصة تفكير عميق حيث يقول : قد علمت بِمَ غلب معاوية الناس, وكانوا إذا طاروا وقع, وإذا وقع طاروا958. وهذا يعني أنه إذا رأى السيول الجارفة قد أقبلت لم يقاومها, وإنما يفسح لها حتى تمر, ثم يحتوي الميدان وقد زال إقبال الناس الشديد فيتمكن مما يريد, وقد عبر معاوية عن هذه السياسة بقوله المشهور : لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت, إذا جذبوها أرخيتها, وإذا أرخوها جذبتها ومن مواقفه في الحلم أنه : جرى بين رجل يقال له أبو جهم وبين معاوية كلام, فتكلم أبو جهم بكلام فيه غَمْرٌ لمعاوية, فأطرق معاوية ثم رفع رأسه فقال : يا أبا الجهم إياك والسلطان فإنه يغضب غضب الصبيان ويأخذ أخذ الأسد, وإن قليله يغلب كثير الناس, ثم أمر معاوية لأبي الجهم بمال, فقال أبو الجهم في ذلك يمدح معاوية :
……نميل على جوانبه كأنا
…………نميل إذا نميل على أبينا
……نُقلِّبه لنخبر حالتيه
…………فنخبر منهما كرماً ولينا959(1/239)
وهكذا كان لحلم معاوية رضي الله عنه وحسن خلقه ومبادلته الإساءة بالإحسان الأثر الكبير في نفس أبي الجهم فقال هذين البيتين في الثناء على معاوية, ولقد كان سلوك أمير المؤمنين معاوية تطبيقاً لقوله الله تعالى : ((وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ? وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ )) (فصلت ، الآيتان :35,34).
ونظراً لحلم معاوية الكبير وما يتصف به من الشجاعة والعزة فإن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أثنى عليه960 بقوله : دعوا فتى قريش وابن سيدها, إنه لمن يضحك في الغضب ولا يُنال منه إلا على الرضا, ومن لا يؤخذ ما فوق رأسه إلا من تحت قدميه961. فهذا قول دقيق من عمر في وصف معاوية, فقد وصفه بالدرجة العالية من الحلم, والعزة التي تجعله منيعا لا ينال ما عنده على قهر منه, وهذه الصفة من صفاته التي جعلة أمير المؤمنين عمر يبقيه أميراً على الشام لخطورة ذلك الثغر962 .
وقال معاوية رضي الله عنه : العقل والحلم أفضل ما أعطي العبد, فإذا ذُكِّر ذكر وإذا أُعطي شكر, وإذا بتلي صبر, وإذا غضب كظم, وإذا قدر غفر, وإذا أساء استغفر, وإذا وعد أنجز963 ففي هذا الخبر جمع أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه درراً من الحكم, وهي الشكر عند الرخاء, والصبر عند الابتلاء والتحكم في السلوك عند الغضب, والعفو عند المقدرة, والوفاء بالوعد, والاستغفار عند الإساءة, فهذا الخبر على قصره قد جمع ستة موضوعات, كل موضوع يحتاج إلى أن يكتب عنه في صفحات, وهذا من جوامع الكلم, وهو يعتبر من أعلى أنواع البلاغة, وذلك في جمع المعاني الكثيرة في ألفاظ قليلة, وقد اشتهر في هذا البيان عدد من الصحابة رضي الله عنهم تتلمذوا في ذلك على رسول الله صلى الله الذي أوتي جوامع الكلم964.(1/240)
3- الدهاء والحيلة
ومن الصفات التي تميز بها معاوية رضي الله عنه صفة الدهاء والحيلة ومما يروى من دهائه وحسن إدارته وتدبيره, أن المسلمين غزوا في أيامه فأسر جماعة منهم, فوقفوا بين يدي ملك الروم بقسطنطينية, فتكلم بعض أسارى المسلمين, فدنا منه بعض البطارقة965, ممن كان واقفاً بين يدي الملك فلطم حرّ وجهه966, وكان رجلاً من قريش فصاح : واسلاماه أين أنت عنا يا معاوية إذ أهملتنا وأضعت ثغورنا وحكَّمت العدو في دمائنا وأعراضنا فنمى ذلك الخبر إلى معاوية, فآلمه وامتنع من لذيذ الطعام والشراب, فخلا بنفسه, وامتنع عن الناس ولم يظهر ذلك لأحد من المخلوقين, ثم أعمل الحيلة في إقامة الفداء بين المسلمين والروم, إلى أن فدى ذلك الرجل, ومن أسر معه من المسلمين, فلما صار الرجل إلى دار الإسلام, دعاه معاوية فبره وأحسن إليه ثم قال له : لم نهملك, ولم نضيعك, ولا أبحنا دمك وعرضك ومعاوية أثناء ذلك يدبر الرأى ويعمل الحيلة ثم بعث إلى رجل من ساحل دمشق من مدينة صور, وكان عارفاً كثير الغزوات في البحر صُمكّ967 من الرجال مرطان بالرومية, فأحضره وخلابه, وأخبره بما قد عزم عليه وسأله إعمال الحيلة فيه, والتأني له, فتوافقا على أن يدفع للرجل مالا عظيماً, ليبتاع به أنواعاً من الطرف والملح والجهاز من الطيب والجوهر وغير ذلك, وأنشأ له مركبا لا يلحق في جريه سرعة, ولا يدرك في سيره, إنشاءً عجيباً, فسار الرجل حتى أتى مدينة قبرص فاتصل برئيسها وأخبره أن معه حاجه للملك, وأنه يريد التجارة إلى القسطنطينية, قاصداً إلى الملك وخواصه بذلك فروسل968 الملك بشأنه, فأذن له, فدخل خليج القسطنطينية, فلما وصلها أهدى للملك وجميع بطارقته, وبايعهم وشاراهم, وقصدهم, إلا ذلك البطريق الذي لطم, القرشي, وتأنى الصوري من الأمور على حسب مارسمها له معاوية, وأقبل الرجل من القسطنطينية إلى الشام, وقد أمره أكثر البطارقة أن يبتاع حوائج ذكروها, وأنواعاً من الأمتعة(1/241)
وصفوها, فلما صار إلى الشام سار إلى معاوية سراً, وذكر له من الأمر ما جرى فابتيع له ما طلب منه وما علم أن رغبتهم فيه وتقدم إليه معاوية فقال : إن ذلك البطريق إذا عدت في كرتك هذه سيعذلك عن تخلفك عن بره, واستعانتك به, فاعتذر إليه ولاطفه بالقول والهدايا, واجعله القيم بآمرك, والتفقد لأحوالك تزداد عندهم, فإذا أتقنت جميع ما أمرتك به, وعلمت ما غرض البطريق وإيش الذي يأمرك بابتياعه فعد به إلينا لتكون الحيلة على حسبه, فلما رجع الصوري إلى القسطنطينية ومعه جميع ما طلب منه والزيادة مما لم يطلب زادت منزلته, وارتفعت أحواله عند الملك والبطارقة وسائر الحاشية, فلما كان في بعض الأيام وهو يريد الدخول إلى الملك, قبض عليه ذلك البطريق في دار الملك, وقال له : ما ذنبي إليك؟ وبم استحق غيري أن تقصده, وتقضي حوائجه وتعرض عني, قال الصوري : أكثر من ذكرت ابتدأني وأنا رجل غريب, وأرحل إلى هذا البلد كالمتنكر من أسارى المسلمين, وجواسيسهم لئلا يَنِمُّو خبري ويوشوا بأمري إلى المسلمين فيكون في ذلك بواري والآن فإذا قد علمت ميلك إلى فلست أحب أن يعتني بأمري سواك, ولا يقوم بحالى عند الملك وغيره غيرك, فمرني بحوائجك وجميع ما يعرض من أمورك بأرض الإسلام, وأهدى إلى ذلك البطريق هدية حسنة من الزجاج المخروط والطيب والجوهر والطرف والثياب ولم يزل هذا فعله, يتردد من الروم إلى معاوية ومن معاوية إلى الروم ويسأله الملك والبطريق وغيره من البطارقة الحوائج الجليلة والحيلة لا تتوجه إلى معاوية, حتى مضى على ذلك سنين فلما كان في بعضها قال البطريق للصوري, وقد أراد الخروج إلى دار الإسلام قد اشتهيت أن تعمدني بقاء حاجة, وتمن بها على, وهي أن تبتاع لى بساط سوسنجرد بمخاده ووسائده, ويكون فيه من أنواع الألوان الحمرة والزرقة وغيرها, ويكون من صفة كذا وكذا, ولو بما بلغ ثمنه كل مبلغ, فأنعم له بذلك, وكان من شأن الصوري أن يكون مركبه إذا ورد القسطنطينية(1/242)
بالقرب من موضع ذلك البطريق وكان للبطريق ضيعة سرية, وفيها قصر مشيد, ومنتزه حسن على أميال من القسطنطينية راكبه على الخليج, وكان البطريق أكثر أوقاته في ذلك المنتزه وكانت الضيعة فيما بين قسم الخليج من يلي بحر الروم والقسطنطينية فانصرف الصوري إلى معاوية سراً, فأخبره بالحال فأحضر معاوية بساطا بوسائد ومخاد ومجلس حسن969, فانصرف به مع جميع ما طلب منه من أرض الإسلام, وقد تقدم إليه معاوية بالحيلة, وكيفية إيقاعها وكان الصوري فيما وصفنا من هذه المدة قد صار كأحدهم في المؤنسة والعشرة, وفي الروم طمع وشره فلما دخل من البحر إلى خليج القسطنطينية, وقد طابت له الريح, وقرب من ضيعة البطريق, أخذ الصوري أخبار البطريق من أصحاب القوارب والمراكب, فأخبر أن البطريق في ضيعته, وذلك أن الخليج طوله نحو من ثلاثمائة وخمسين ميلاً, والضياع والعمائر على حافتيه, والمراكب تختلف, والقوارب بأنواع المتاع والأقوات, إلى القسطنطينية من هذه العمائر لا تحصى كثرة, فلما علم الصوري أن البطريق في ضيعته فرش البساط ونضد ذلك الصدر والمجلس بالوسائد والمخاد في صحن المركب ومجلسه, والرجال تحت المجلس بأيديهم المقاذيف مشكله قائمة غير قاذفين بها, ولا يعلم بهم أنهم في بطن المركب إلا من ظهر منهم في عمله والريح في القلع, والمركب مار في الخليج كأنه سهم خرج عن كبد قوس لا يستطيع القائم على الشط أن يملأ بصره منه لسرعة سيره واستقامته في جريه, فأشرفه على قصر البطريق, وهو جالس في مستشرفه مع حرمه, وقد أخذت منه الخمر, وعلاه الطرب, وذهب به الفرح والسرور كل مذهب, فلما رأى البطريق مركب الصوري زعق طربا, وصاح فرحاً وسروراً وابتهاجاً بقدومه, فدنا من أسفل القصر فحط القلع, وأشرف البطريق على المركب فنظر إلى ما فيه من حسن ذلك البساط, ونظم تلك الفرش, كأنه رياض يزهر, فلم يستطيع اللبث في موضعه, حتى نزل قبل أن يخرج الصوري من مركبه إليه, فطلع إلى المركب فلما(1/243)
استقر قدمه على المركب ودنا من المجلس, وضرب الصوري بعقبه على من تحت البساط وكانت علامة بينه وبين الرجال الذين في بطن المركب, فما استقر دقه في المركب بقدمه, حتى اختطف المركب, بالمقاذيف, وإذا هو وسط الخليج يطلب البحر لا يلوي على شيء وارتفع الصوت ولم يدر ما الخبر لمعالجة الأمر, فلم يكن الليل حتى خرج عن الخليج وتوسط البحر, وقد أوثق البطريق كتافاً, وطابت له الريح, وأسعده الجد, وحمله المقدار في ذلك اللج, فتعلق في اليوم السابع بساحل الشام, ورأى البر وحمل الرجل فكان في اليوم الثالث عشر مأسوراً بين يدي معاوية فسر بذلك معاوية970. وقال : عليّ بالرجل القرشي, فأتى به وقد حضره خواص الناس, فأخذوا مجالسهم, وغص المجلس بأهله, فقال معاوية للقرشي : قم فاقتص من هذا البطريق الذي لطم وجهك على بساط معظمَّ الروم, فإنا لم نضيعك ولا أبحنا دمك ولا عرضك فقام القرشي فدنا من البطريق, فقال معاوية : انظر لا تتعدى ما جرى عليك, واقتص منه على حسب ما ضع بك ولا تعتد, وارع ما أوجب الله عليك من المماثلة, فلطمه القرشي لطمات ووكزه في حلقه, ثم أكب القرشي على يدي معاوية وأطرافه يقبلها, وقال : ما ضاع من سوَّدك, ولا خاب فيك من رأسك, أنت ملك لا يستضام971 تمنع حماك, وتصون رعيتك وأرق في وصفه ودعائه, وأحسن معاوية إلى البطريق, وخلع عليه وبرّه, وحمل معه البساط, وأضاف إلى ذلك أشياء كثيرة وهدايا إلى الملك, وقال له : ارجع إلى ملكك, وقل له : تركت ملك المسلمين972 يقيم الحدود على بساطك, ويقتص لرعيته في دار مملكتك وسلطانك وعزك, وقال للصوري : سر معه حتى تأني الخليج فتطرحه فيه ومن أسر معه, ممن كان بادر فصعد إلى المركب من غلمان البطريق, وخاصته فحملوا إلى صور مكرمين, وحمل الجميع في المركب, وطابت لهم الريح, فكانوا في اليوم الحادي عشر متعلقين بأرض الروم فقربوا من الخليج, فإذا قد أحكم فمه بالسلاسل والمنعة من الموكولين به, فطرح البطريق,(1/244)
وحمل من وقته إلى الملك ومعه الهدايا والأمتعة وتباشرت الروم بقدومه, وتلقوه مهنئين له بخلاصه من الأسر, فكافأ الملك معاوية على ما كان من فعله في أمر البطريق والهدايا, فلم يكن يستضام أسير من المسلمين في أيامه, وقال الملك : هذا أدهى العرب وأمكر الملوك, ولهذا قدمته العرب عليها, فأساس أمورها, ولو هَمَّ بأخذي لتمت له الحيلة علي973. وهذه القصة دليل على دهاء معاوية رضي الله عنه وحسن سيايته واهتمامه بأمور رعيته والمحافظه على حقوق كل فرد فيها وصيانة974 كرامته .
4- عقليته الفذه وقدرته على الاستيعاب :
امتاز معاوية رضي الله عنه بالعقلية الفذة, فإنه كان يتمتع بالقدرة الفائقة على الاستيعاب, فكان يستفيد من كل مايمر به من الأحداث, ويعرف كيف يتوقاها, وكيف يخرج منها إذا تورط فيها, وكانت خبراته الواسعة وممارسته لأعباء الحكم على مدى أربعين سنة, منذ ولاه عمر رضي الله عنه الشام, فكانت ولا يته على الشام عشرين سنة أميراً, وعشرين سنه خليفة975, هذه الفترة الطويلة التي تقلب فيها بين المناصب العسكرية والولاية المدينة اكسبتة خبرة في سياسة البلاد, والاستفادة من كل الظروف والأوضاع التي تمر بها, حتى استطاع أن يسير بالدولة عشرين سنة دون أن ينازعه منازع976, يقول الشيخ الخضري : أما معاوية نفسه, فلم يكن أحد أوفر منه يداً في السياسة, صانع رؤوس العرب, وكانت غايته في الحلم لا تدرك, وعصابته فيه لا تنزع ومرقاته فيه تزل عنها الأقدام977, ومن المعلوم أن السياسة الناجحة تتوقف على القدرة على ضبط النفس عند الغضب, واحتواء الشدائد حتى تنجلي, ولمعاوية في ذلك نصيب وافر -رضي الله عنه - وكانت تلك سياسته مع العامة والخاصة, وهذه طريقه مع الملوك والسوقة, وهذه أمثلة من سياسته في معاملة الناس .
أ- المسور بن مخرمة رضي الله عنه واعتراضه على معاوية :(1/245)
عن عروة بن الزبير : أن المسور ابن مخرمة أخبره أنه قدم وافداً على معاوية بن أبي سفيان فقضى حاجته, ثم دعاه فأخلاه فقال : يامسور ما فعل طعنك على الأئمة؟ فقال :المسور دعنا من هذا وأحسن فيما قدمنا له. قال : معاوية لا والله لتكلمنَّ بذات نفسك, والذي تعيب عليّ. قال المسور. فلم أترك شياً أعيبه عليه إلا بينته له. قال معاوية : لا بريء من الذنب, فهل تعد يامسور مالي من الأصلاح في أمر العامة, فإن الحسنة بعشر أمثالها؟ أم تعد الذنوب وتترك الحسنات. قال المسور : لا والله ما نذكر إلا ما ترى من هذه الذنوب. قال معاوية : فإنا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه فهل لك يامسور ذنب في خاصتك تخشى أن تهلكك إن لم يغفرها الله؟ قال مسور : نعم! قال معاوية : فما يجعلك أحق أن ترجو المغفرة مني؟ فو الله لما ألي من الإصلاح أكثر مما تَليِ ولكن والله لا أُخير بين أمرين, وبين الله وغيره إلا اخترت الله تعالى على ما سواه, وأنا على دين يقبل الله فيه العمل, ويجزي فيه بالحسنات, ويجزي فيه بالذنوب إلا أن يعفو عمن يشاء, فأنا احتسب كل حسنة عملتها بأضعافها, وأوازي أموراً عظاماً لا أحصيها ولا تحصيها من عمل لله في إقامة صلوات المسلمين, والجهاد في سبيل الله عز وجل, والحكم بما أنزل الله تعالى, والأمور التي ليست تحصيها وإن عددتها لك. قال المسور : فعرفت أن معاوية قد خصمني حين ذكر لي ما ذكر. قال عروة : فلم يُسمع المسور بعد ذلك يذكرمعاوية إلا استغفر له978 وفي هذا الخبر مثل جيد في فن الإقناع ومحاولة إمتصاص غضب المخالفين وتحويل قناعاتهم, فقد استطاع أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه أن يقنع المسور بن مخرمة رضي الله عنه بتقبل سياسته التي يسير عليها, وعاد مادحاً داعياً له بعدما كان منتقداً مهاجما له, وفي هذا الخبر لفتة تربوية من معاوية حيث أبان من العدل في الحكم على المسلم أن ينظر الحاكم عليه إلى حسناته وصوابه مع أن ينظر إلى سيئاته وخطئه, ثم(1/246)
يوازن بين الجانبين, فلعل هذا المسلم الذي برزت أخطاؤه في ذهن من تصدى لنقده تكون له حسنات كثيرة جليلة قد لا تعد أخطاؤه إلى جانبها شيئاً مذكوراً979.
ب ـ ثابت بن قيس بن الخطيم الانصاري رضي الله عنه :
كان ثابت بن قيس بن الخطيم, شديد النفس, وكان له بلاء مع علي بن أبي طالب, واستعمله علي بن طالب على المدائن, فلم يزل عليها حتى قدم المغيرة بن شعبة الكوفه, وكان معاوية يتقي مكانه. انصرف ثابت بن قيس إلى منزله فوجد الأنصار مجتمعة في مسجد بني ظفر يريدون أن يكتبو إلى معاوية في حقوقهم أول ما استخلف,... فقال : ما هذا, فقالوا : نريد أن نكتب إلى معاوية. فقال ما تصنعون أن يكتب اليه جماعة؟ ! يكتب إليه رجل منا فإن كانت كائنة برجل منكم فهو خير من أن تقع بكم جميعاً وتقع أسماؤكم عنده فقالوا : فمن ذلك الذي يبذل نفسه لنا؟ قال : أنا. قالوا : فشأنك, فكتب إليه وبدأ بنفسه فذكر أشياء منها : نصرة النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك. وقال : حبست حقوقنا واعتديت علينا وظلمتنا, ومالنا إليك ذنب إلا نصرتنا للنبي صلى الله عليه وسلم, فلما قدم كتابه إلى معاوية دفعه إلى يزيد فقرأه ثم قال له : ما الرأي, فقال : تبعث فتصلبه على بابه, فدعا كبراء أهل الشام فاستشارهم, فقالوا : تبعث إليه حتى تقدم به ههنا وتقفه لشيعتك ولأشراف الناس حتى يروه, ثم تصلبه. فقال : هل عندكم غير هذا؟ قالوا : لا, فكتب إليه : قد فهمت كتابك, وما ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم وقد علمت أنها كانت ضجرة لشغلي وما كنت فيه من الفتنة التي شهرت فيها نفسك فأنظرني ثلاثاً, فقدم كتابه على ثابت فقرأه على قومه, وصبَّحهم العطاء في اليوم الرابع980. فهذا الخبر فيه موقف كبير لأمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه في الحكمة والسياسة, فهو بعد أن استشار ابنه يزيد بعض وجهاء الشام لم يعجبه رأيهم ولم يوافقهم على أخذ الناس بالشدة والعنف والجبروت, بل سارع إلى إرسال عطاء الأنصار رضي(1/247)
الله عنهم, ولم يؤاخذ ثابت بن قيس رضي الله عنه على شدة اللهجة في كتابة إليه, وبهذا التصرف الحكيم والسياسة الرشيدة لم يخسر شيئاً بل كسب رضى الأنصار عنه ورضى غيرهم ممن يطلع على خبره معهم, ولو أنه أخذ بمشورة السذج المتجبرين فبطش بصاحب ذلك الكتاب لثار عليه الأنصار, ولناصرهم طوائف من المسلمين لشهرتهم ومكانتهم في الإسلام981.
جـ - الأحنف بن قيس - رحمه الله - :
ذكر ابن خلكان في ترجمته : ثم إن عبيد الله - يعني ابن زياد أمير العراق - جمع أعيان العراق وفيهم الأحنف وتوجه بهم إلى الشام للسلام على معاوية, فلما وصلوا دخل عبيد الله على معاوية وأعلمه بوصول رؤساء العراق, فقال : أدخلهم عليَّ أوَّ لاً فأوَّل على قدر مراتبهم عندك, فخرج إليهم وأدخلهم على الترتيب كما قال معاوية, وآخر من دخل الأحنف, فلما رآه معاوية - وكان يعرف منزلته ويبالغ في إكرامه لتقدمه وسيادته - قال : إليَّ يا أبا بحر, فتقدم إليه فأجلسه معه على مرتبته, وأقبل عليه يسأله عن حاله ويحادثه, وأعرض عن بقية الجماعة. قال : ثم إن أهل العراق أخذوا في الشكر في عبيد الله والثناء عليه, والأحنف ساكت, فقال له معاوية : لم لا تتكلم يا أبا بحر؟ فقال : إن تكلمت خالفتهم, فقال له معاوية : اشهدوا علي أنني قد عزلت عبيد الله عنكم, قوموا انظروا في أمير أوليه عليكم وترجعون إلىَّ بعد ثلاثة أيام. قال: فلما خرجوا من عنده كان فيهم جماعة يطلبون الإمارة لأنفسهم, وفيهم من عيَّن غيره, وسعوا في السَّر مع خواص معاوية أن يفعل لهم ذلك, ثم اجتمعوا بعد انقضاء الثلاثة كما قال معاوية, والأحنف معهم, ودخلوا عليه فأجلسهم على ترتيبهم في المجلس الأول, وأخذ الأحنف إليه كما فعل أوّلا وحادثه ساعة, ثم قال : ما فعلتم فيما انفصلتم عليه؟ فجعل كل واحد يذكر شخصاً وطال حديثهم في ذلك وأفضى إلى منازعة وجدال, والأحنف ساكت, ولم يكن في الأيام الثلاثة تحدث مع أحد في شيء, فقال له معاوية :(1/248)
لم لا تتكلم يا أبا بحر؟ فقال الأحنف : إن ولَّيت أحداً من أهل بيتك لم تجد من يعدل عبيد الله ولا يسد مسدَّه, وإن وليت من غيرهم فذلك إلى رأيك, ولم يكن في الحاضرين الذين بالغوا في المجالس الأول في الثناء على عبيد الله, من ذكره في هذا المجلس ولا سأل عوده إليهم. قال : فلما سمع معاوية مقالة الأحنف قال للجماعة : اشهدوا علي أني قد أعدت عبيد الله إلى ولايته, فكل منهم ندم على عدم تعيينه, وعلم معاوية أن شكرهم لعبيد الله لم يكن لرغبتهم فيه, بل كما جرت العادة في حق المتولي. قال : فلما فصل الجماعة من مجلس معاوية خلا بعبيد الله وقال له : كيف ضيعت مثل هذا الرجل - يعني الأحنف- فإنه عزلك وأعادك إلى الولاية وهو ساكت, وهؤلاء الذين قدمتهم عليه واعتمدت عليهم لم ينفعوك ولا عرجوا عليك لما فوضت الأمر إليهم, فمثل الأحنف من يتخذه الإنسان عوناً وذخراً قال : فلما عادوا إلى العراق أقبل عليه عبيد الله وجعله بطانته وصاحب سره982 وفي هذا الخبر موقف لمعاوية رضي الله عنه حينما علم قدر الأحنف بن قيس رحمه الله وأدرك رفعة منزلته, فرفعه وأدناه منه وأظهر له كثيراً من الاهتمام والاحترام وهذا كما أنه يعتبر من تقدير أهل الفضل فهو يعتبر من السياسية الجيدة في احتواء أهل القوة والتأثير على الناس983 واستيعابهم ومن القصص التي حدثت بين معاوية والأحنف والتي تدل على سعة صدر معاوية ومعرفته بعواقب الأمور, فعندما استقر الأمر لمعاوية دخل عليه يوما, فقال له معاوية : والله يا أحنف ما أذكر يوم صفين إلا كانت حزازة في قلبي إلى يوم القامة؟ فقال له الاحنف : والله يا معاوية إن القلوب التي ابغضناك بها لفي صدورنا, وإن السيوف التي قاتلناك بها لفي أغمادها, وإن تدن من الحرب فتراً ندن منه شبراً, وإن تمشى اليها نهرول اليها, ثم قام وخرج وكانت اخت معاوية من وراء حجاب تسمع كلامه فقالت : يا أمير المؤمنين من هذا الذي يتهدد ويتوعد؟ قال هذا الذي إذا(1/249)
غضب غضب لغضبه مائة ألف من تميم لا يدرون فيم غضب984.
س- أبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه :
ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب وجاء بالسند فقال : من جامع معمر رواية عبد الرزاق 985, قال : حدّثنا معمر, عن عبد الله بن محمد بن عقيل : أن معاوية لما قدم المدينة لقيه أبو قتادة الأنصاري , فقال له معاوية : يا أبا قتادة, لم يكن معنا دواب, قال معاوية : فأين النَّواضح؟ قال أبو قتادة : عقرناها في طلبك, وطلب أبيك يوم بدر, قال : نعم يا أبا قتاده : قال أبو قتادة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا : إنَّا سنرى بعده أثرة, قال معاوية : فما أمركم به عند ذلك؟ قال : أمرنا بالصبر, قال : فاصبروا حتَّى تلقوه986.
5- تواضعه وورعه :(1/250)
ومن صفات معاوية رضي الله عنه التي اشتهر بها صفة التواضع فقد كان في خطبه العامة يعترف بأن في الناس من هو خير منه وأفضل, وكان ذلك بعد أن تولى أمر المسلمين, واجتمع عليه الناس, فأصبح الأمير الذي لا ينازع, خطب مرة فقال : أيها الناس ما أنا بخيركم, وإن منكم لمن هو خير مني, عبد الله بن عمر, وعبد الله بن عمرو, وغيرهما من الأفاضل, ولكن عسى أن أكون أنفعكم ولاية, وأنكاكم في عدوكم, وأدرككم حلبا987, وروى الإمام أحمد بسنده إلى علي بن أبي حملة عن أبيه قال : رأيت معاوية على المنبر بدمشق يخطب الناس وعليه قميص مرقوع988, وعن يونس بن ميسر الحميري قال : رأيت معاوية في سوق دمشق, وهو مردف وراءه وصيفاً, وعليه قميص الجيب, يسير في أسواق دمشق989, وبلغ من ورعه أنه لما رأى إحدى جواريه, ونظر إليها بشهوة, ولكنه شعر بعجزه عن وطئها, قال لمن أحضرها إليه : اذهب بها إلى يزيد بن معاوية, ثم قال : لا ادع لي ربيعة بن عمرو الجرشي ـ وكان ربيعة فقيها ـ فلما دخل عليه قال : إن هذه أتيت بها مجردة, وقد رأيت منها ذلك وذلك, وإني أردت أن أبعث بها إلى يزيد. فقال ربيعة : لا تفعل يا أمير المؤمنين : فإنها لا تصلح له, فقال معاوية : نعم ما رأيت, ثم وهب معاوية الجارية لعبد الله بن مسعدة الفزاري, مولى فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أسود, فقال له : بيض بها ولدك990 ويعلق ابن كثير على ذلك بقوله : وهذا من فقه معاوية وتحريه, حيث كان نظر إليها بشهوة, ولكن استعفف نفسه عنها, فتحرج أن يهبها لولده يزيد لقوله تعالى : (( وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ )) (النساء ، الآية : 22) وقد وافقه على ذلك ربيعة بن عمرو الجرشي الدمشقي991
6- بكاؤه من خشيت الله :(1/251)
روي في مجلس معاوية رضي الله عنه حديث أبي هريرة عن رسول الله, في أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة من أمة محمد. القاري المرائي, والمنفق المرائي, والمجاهد المرائي, وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حيث قال : أن الله تبارك وتعالي إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية, فأول من يدعو به رجل جمع القرآن ورجل يقتل في سبيل الله, ورجل كثير المال, فيقول الله للقاريء : ألم أعلمك ما أنزلت على رسلي؟ قال بلى يا رب, قال : فماذا علمت فيما علمت؟ قال : كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار, فيقول الله له : كذبت, وتقول له الملائكة : كذبت. ويقول الله : بل أردت أن يقال إن فلاناً قاريء فقد قيل ذلك ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له : ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال : بلى يا رب. قال : فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال : كنت أصل الرحم وأتصدق, فيقول الله له : كذبت, وتقول له الملائكة : كذبت, ويقول الله تعالى : بل أردت أن يقال فلان جواد فقد قيل ذلك, ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله, فيقول الله له :فبماذا قتلت؟ فيقول : أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت. فيقول الله تعالى له : كذبت, وتقول له الملائكة : كذبت, ويقول الله : بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذلك, ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال : يا أبا هريرة, أولئك الثلاثة أول خلق الله تُسعَّر بهم النار يوم القيامة. فعند ما سمع معاوية هذا الحديث قال : قد فعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بقي من الناس؟ ثم بكى معاوية بكاءً شديداً حتى ظن من حوله أنه هالك, ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه وقال : صدق الله ورسوله :((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ? أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا(1/252)
فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ992" (سورة هود ، الآيتان : 15و16) هذه أهم صفات معاوية التي خرجت لي عند البحث في سيرته .
ثالثاً : ثناء العلماء على معاوية ودخول دولة بني أميه في خير القرون :
1- عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
قال عمر بن الخطاب : تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية993, وقال أبو محمد الأموي : خرج عمر بن الخطاب إلى الشام فرأى معاوية في موكب يتلقاه, وراح إليه في موكب, فقال له عمر : يا معاوية, تروح في موكب وتغدو في مثله, وبلغني أنك تصبح في منزلك وذوو الحاجات بباك : قال يا أمير المؤمنين إن العدو بها قريب منا, ولهم عيون وجواسيس, فأردت يا أمير المؤمنين أن يروا للإسلام عزاً، فقال له عمر : إن هذا لكيد رجل لبيب, أوخدعة رجل أريب؛ فقال معاوية : يا أمير المؤمنين, مرني بما شئت أصر إليه؛ قال : ويحك : ما ناظرتك في أمر أعيب عليك فيه إلا تركتني ما أدري آمرك أم أنهاك994.
2- علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : لا تكرهوا إمارة معاوية فوالله لئن فقد تموه لترون رؤوساً تندر عن كواهلها كأنها الحنظل995. فهذا توجيه من أمير المؤمنين علي لأصحابه لعدم كراهيتهم إمارة معاوية.
3- عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال : ما رأيت أحداً أسود من معاوية قال : قلت : ولا عمر؟ قال : كان عمر خيراً منه وكان معاوية أسود996 منه وفي رواية : مارأيت أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية. قيل ولا أبابكر؟ قال : كان أبو بكر وعمر وعثمان خيراً منه, وهو أسود منهم997.(1/253)
4- عبد الله بن عباس رضي الله عنه : قال رضي الله عنه : ما رأيت رجلاً كان أخلق بالملك من معاوية998, وفي صحيح البخاري أنه قيل لابن عباس : هل لك في أمير المؤمنين معاوية فإنه ما أوتر إلا بواحدة قال : إنه فقيه999, وذكر بن عباس معاوية فقال : لله درَّ ابن هند ما أكرم حسبه وأكرم مقدرته, والله ما شتمنا على منبر قط, ولا بالأرض ضَّناً منه بأحسابنا وحسبه1000 وحين عزى معاوية عبدالله بن عباس في الحسن بن علي بقوله : لا يخزيك الله ولا يسوؤك في الحسن فقال : له ابن عباس : أما ما أبقى الله لي أمير المؤمنين, فلن يسؤني الله ولن يخزيني1001.
5- سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : قال رضي الله عنه : ما رأيت أحداً بعد عثمان أقضى بحقٍّ من صاحب هذا الباب, يعني : معاوية1002.
6- أبو هريرة رضي الله عنه : كان يمشي في سوق المدينه وهو يقول : ويحكم تمسكوا بصدغي معاوية, اللهم لا تدركني إمارة الصبيان1003.
7- أبو الدرداء رضي الله عن : ما رأيت أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة برسول الله من أميركم هذا- يعني معاوية1004- قال ابن تيميه : بعد أن أورد أثر ابن عباس السابق, وأثر أبي الدرداء هذا : فهذه شهادة الصحابة بفقهه ودينه والشهاد بالفقه ابن عباس وبحسن الصلاة أبو الدرداء وهما هما والآثار الموافقة لهذا كثيرة1005.
8- سعيد بن المسيب رحمه الله : قال ابن وهب عن مالك عن الزهري قال : سألت سعيد بن المسيِّب عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي : اسمع يا زهري, من مات محباً لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي, وشهد للعشرة بالجنة, وترحم على معاوية كان حقيقاً على الله أن لا يناقشه الحساب1006.(1/254)
9- عبدالله بن المبارك- رحمه الله - : قال : معاوية عندنا محنة, فمن رأيناه ينظر إليه شزراً, اتهمناه على القوم, يعني الصحابة1007 وسئل ابن المبارك عن معاوية فقال : ما أقول في رجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سمع الله لمن حمده. فقال خلفه : ربَّنا ولك الحمد؟ فقيل أيُّما أفضل؟ هو أم عمر بن عبد العزيز؟ فقال : لتراب في منخري معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير وأفضل من عمر بن عبدالعزيز1008.
10- عمر بن عبد العزيز : رحمه الله : قال ابن المبارك عن محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة قال : ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنساناً قط إلا إنساناً شتم معاوية, فإنه ضرب أسواطا1009.
11- وقال محمد بن عبدالله بن عمار الموصلي وغيره : سئل المعافي بن عمران : أيهما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ فغضب وقال للسائل : أتجعل رجلاً من الصحابة مثل رجل من التابعين, معاوية صاحبه وصهره, وكاتبه, وأمينه على وحي الله1010.
12- أحمد بن حنبل -رحمه الله- : سئل الإمام أحمد : ما تقول رحمك الله فيمن قال : لا أقول إن معاوية كاتب الوحي, ولا أقول إنه خال المؤمنين فإنه أخذها بالسيف غصباً؟ قال أبو عبدالله : هذا قول سوءٍ رديء, يجانبون هؤلاء القوم, ولا يجالسون, ونبين أمرهم للناس1011.
13- الربيع بن نافع الحلبي - رحمه الله- : قال : معاوية ستر لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, فإذا كشف الرجل الستر, اجترأ على ماوراء1012.
14- قال ابن أبي العز الحنفي : وأول ملوك المسلمين معاوية وهو خير ملوك المسلمين1013.(1/255)
15- القاضي بن العربي المالكي : رحمه الله : تحدث ابن العربيِّ عن الخصال التي اجتمعت في معاوية رضي الله عنه, فذكر منها : ... قيامه بحماية البيضة, وسدِّ الثغور, وإصلاح الجند, والظهور على العدوِّ, وسياسة الخلق1014, وقال في موضع آخر من كتابه العواصم من القواصم : فعمر ولاه, وجمع له الشَّامات كلّها, وأقرَّه عثمان, بل إنَّما ولاه أبو بكر الصَّديق, لأنَّه ولي أخاه يزيد, واستخلفه يزيد, فأقرّه عمر, فتعلَّق عثمان بعمر وأقرَّه فانظر إلى هذه السِّلسلة ما أوثق عُراها1015. وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استكتبه ..., ثمَّ صالحه وأقرَّ له بالخلافة الحسن بن عليِّ سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم1016.
16- يقول ابن تيمية - رحمه الله - : واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة, فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة وهو أول الملوك, كان ملكه ملكا ورحمة1017 وقال : فلم يكن من ملوك المسلمين خيراً منهم في زمان معاوية1018 إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده أما إذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل, وذكر ابن تيمية قول الأعمش عندما ذكر عنده عمر بن العزيز فقال : فكيف لو أدركتم معاوية؟ قالوا : في حلمه, قال لا والله في عدله.
17- وقال الذهبي - رحمه الله - : أمير المؤمنين, ملك الإسلام1019 وقال ومعاوية من خيار الملوك الذين غلب عدلهم على ظلمهم وما هو ببريء من الهَنَات, والله يعفو عنه1020 وحسبك بمن يؤمره عمر ثم عثمان على إقليم - هو ثغر- فيضبطه ويقوم به أتم قيام ويرضى الناس بسخائه وحلمه ... فهذا الرجل ساد وساس العالم بكمال عقله وفرط حلمه وسعة نفسه وقوة دهائه ورأيه1021.(1/256)
18- وقال ابن كثير رحمه الله - : وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين ... فلم يزل مستقلا بالأمر في هذه السنة التي كانت فيها وفاته, والجهاد في بلاد العدو قائم, وكلمة الله عاليه, والغنائم تَرِد إليه من أطراف الأرض, والمسلمون معه في راحة وعدل, وصفح وعفو1022 وقال : كان حليماً وقوراً, رئيساً, سيداً في الناس, كريماً, عادلا, شهماً1023. وقال عنه أيضاً : كان جيد السيرة, حسن التجاوز جميل العفو, كثير الستر رحمه الله تعالى1024.
19- قال ابن خلدون رحمه الله : وقد كان ينبغي أن تلحق دولة معاوية وأخباره بدول الخلفاء وأخبارهم فهو تاليهم في الفضل والعدالة والصحبة.... والحق إن معاوية في عداد الخلفاء وإنَّما أَخَّره المؤرخون في التأليف عنهم لأمرين :(1/257)
الأول : إن الخلافة لعهده كانت مغالبة لأجل ما قدّمناه من العصبية التي حدثت لعصره, وأما قبل ذلك فكانت اختياراً واجتماعاً, فيمَّيزوا بين الحالتين. فكان معاوية أوّل خلفاء المغالبة والعصبَّية الذين يعبرّ عنهم أهل الأهواء بالملوك, ويشبِّهون بعضهم ببعض, وحاش لله أن يشبَّه معاوية بأحد ممَّن بعده. فهو من الخلفاء الراشدين ومن كان تلوه في الدين والفضل من الخلفاء المروانيَّة ممن تلاه في المرتبة كذلك وكذلك من بعدهم من خلفاء بني العباس, ولا يقال : إن الملك أدون رتبة من الخلافة, فكيف يكون خليفة ملكاً, واعلم أن الملك الذي يخالف بل ينافي الخلافة هي الجبروتّية المعبَّر عنها بالكسروية التي أنكرها عمر على معاوية حين رأى ظواهرها, وأما الملك الذي هو الغلبه والقهر بالعصبية والشوكة فلا ينافي الخلافة ولا النبوَّة, فقد كان سليمان بن داود وأبوه صلوات الله عليهما نبيَّين ومَلِكيْن كانا على غاية الاستقامة في دنياهما وعلى طاعة ربِّهما عز وجل. ومعاوية لم يطالب ولا أبَّهته للاستكثار في الدنيا, وإنما ساقه أمر العصبية بطابعها لمّا استولى المسلمون على الدولة كلّها, وكان هو خليفتهم فدعاهم بما يدعو الملوك إليه قومهم عندما تستفحل العصبية وتدعو لطبيعة الملك وكذلك شأن الخلفاء أهل الدين من بعده, إذا دعتهم ضرورة الملك إلى استفحال أحكامه ودواعيه والقانون في ذلك عرض أفعالهم على الصحيح من الأخبار, لا بالواهي, فمن جرت أفعاله عليها فهو خليفة النبي صلى الله عليه وسلم في المسلمين, ومن خرجت أفعاله من ذلك فهو من ملوك الدنيا, وإن سميّ خليفة بالمجاز.(1/258)
الأمر الثاني : في ذكر معاوية مع خلفاء بني أميه دون الخلفاء الأربعه إنهم كانوا أهل نسب واحد, وعظيمهم معاوية فجعل مع أهل نسبه والخلفاء الأولون مختلفون الأنساب, فجعلوا في نمط واحد, وألحق بهم عثمان وإن كان من أهل هذا النسب للحوقه بهم قريباً في الفضل1025. وكلام بن خلدون ليس على اطلاقه وفيه نوع من المبالغة فهذه بعض أقوال علماء الأمة من الصحابة والتابعين ومن تلاهم على الثناء على معاوية رضي الله عنه ملوك المسلمين ومن خيارهم الذين غلب عدلهم وظلمهم وما هو ببريء من الهنات والله يعفو عنه, وهو على دين كما قال عن نفسه : يقبل الله فيه العمل ويجزي فيه بالحسنات, ويجزي فيه بالذنوب إلا أن يعفو عمن يشاء, ولقد تعّرض معاوية رضي الله عنه ودولته ودولة بني أميه عموماً لسهام بعض الكتاّب, وزعم بعضهم أنها دولة مدينه, وقال بعضهم : أنها كانت دولة عربية ولم تكن دولة إسلامية؛ بل قال بعضهم : إنها دولة علمانية لاصلة لها بالدين, ولا بالأخلاق, وهذه فرية تكذبها حقائق الدين وشواهد التاريخ, أما حقائق الدين, فقد بدأت دولة بني أمية 40 هـ من الهجرة, واستمرت إلى سنة 132 هـ. فقد شملت القرون الثلاثة التي هي خير قرون الأمة : قرن الصحابة, وقرن التابعبن, وقرن أتباع التابعين1026 وهي التي جاءت بها الأحاديث الصحاح المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : مثل حديث ابن مسعود؛ خير القرون قرني, ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم1027, ومثله حديث عمران بن حصين : خيركم قرني, ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم قال عمران : لا أدري : أذكر النبي بعد قرنين أو ثلاثة1028 وكذلك حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً : قال يأتي زمان يغزو فئام من الناس فيقال : فيكم من صحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقال : نعم, فيفتح. ثم يأتي زمان, فيقال : فيكم من صحب من صحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقال : نعم فيفتح1029.(1/259)
ومعنى قول "قرْني" أي أهل عصري. وهم الصحابة ثم قرن التابعين, ثم قرن الأتباع, وبعض الشرّاح حددوا القرن بزمن, فقال بعضهم : القرن أربعون سنة, وبعضهم قال : ثمانون سنة. وبعضهم جعله مائة سنة, وهو الذي اشتهر في الاستعمال الآن, وأمسى حقيقة عرفية. وتكون القرون المفضلة والموصوفة بالخيريه على هذا : ثلاثمائة سنة. وهذا غير منسجم مع منطق الواقع التاريخي, فالراجح تفسيره بِما ذكرنا, من عصر الصحابة, وعصر التابعين, وعصر الأتباع1030 ومن الأحاديث الصحيحة التي يستدل بها على منزلة الدولة الأموية من الإسلام. مارواه البخاري في صحيحه عن خالد بن مهران : أن عمير بن الأسود العنْسي حدثه أنه أتى عبادة بن الصامت, وهو نازل في ساحة حمص, وهو في بناء له, ومعه أم حَرام (زوجه) قال عمر : حدثتنا أم حرام : أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا . (أى فعلوا فعلا وجبت لهم به الجنة) قالت أم حرام قلت : يا رسول الله, أنا فيهم؟ قال : أنت فيهم. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر : مغفور لهم : فقلت : أنا فيهم يا رسول الله؟ قال : لا1031, ومدينة قيصر هي القسطنطينية, عاصمة الدولة البيزنطينية1032. قال الشراح : في هذا الحديث منقبة لمعاوية؛ لأنه أول من غزا البحر, وذلك في خلافه عثمان مازال معاوية يغريه بالغزو في البحر, حتى استجاب له, وبدأ الأسطول الإسلامي منذ عهد عثمان, ثم اتسع وازداد في عهد معاوية1033, وفي هذه الغزوة مات أبو أيوب الأنصاري وكان في هذا الجيش رضي الله عنه, فأوصى أن يدفن عند باب القسطنطينية, والذي يهمنا هو أن هذا الجيش المغفور له بالجملة, كان في عهد بني أمية. إذ كانت هذه الغزوة سنه اثنين وخمسين من الهجرة النبويه , أى في عهد معاوية ومن نظر في سيرة معاوية بعد أن آلت إليه الخلافة, وبعد تنازل الحسن السبط رضي الله عنه له, وتأمل هذه السيرة بإنصاف :(1/260)
وجد الرجل حريصاً على إقامة الإسلام في شعائره وشرائعه, وعلى اتباع السنة النبوية في مجالات الحياة المختلفة.
المبحث الثاني : العلاقة بين الأمة ومعاوية كرئيس الدولة الإسلامية :
للخليفة كما للأمة حقوق, كما أن على كل منها واجبات مطالب بها محاسب عليها وإليك شيء من الإيضاح :
أولا : واجبات الخليفة :
بين الفقهاء الواجبات الملقاة على عاتق رئس الدولة, وحدودها التحديد الذي يوضح مدى ما هو موكول إليه من المهام ومهما اختلفت أساليب العلماء في التعبير عن هذه الواجبات وتعدادها, فإنه يمكن القول بأن هذه الواجبات في حقيقتها لاتتعدى المحافطة التامة على المصالح الدينية والدنيوية وإليك هذه الواجبات :
1- العمل بشتى الوسائل على أن يكون الدين مصون عن كل ما يسيء إليه, سواء في هذا ما يتعلق بالعقيدة الإسلاميه, أو ما يتعلق بغيرها, وهذا الواجب ما عبر عنه الماوردي قائلا : حفظ الدين على أصوله المستقرة, وما أجمع عليه سلف الأمة فإن نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه أوضح له الحجة, وبين له الصواب, وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود, ليكن الدين محروساً من خلل والأمة ممنوعة من زلل1034.
2- نصب القضاة ليحكموا بين الناس بشريعة الله, حتى لا يكون هناك معتدٍ لا يخاف جزاء, ولا مظلوم لا يستطيع وصولا إلى حق كفله الشارع له1035, وسوف نتعرف على مؤسسة القضاء في عهد الدولة الأموية في هذا الكتاب.
3- توفير الأمن لكل آحاد الأمة, حتى يستطيع كل فرد أن ينصرف إلى سبيل عيشه آمناً على نفسه وأهله وماله.
4- إقامة الحدود التي بينها الله سبحانه على مقترفي كل جريمة تستأهل حداً, لا يفرق في ذلك بين شريف وحقير حتى تصان محارم الله من الانتهاك, وتحفظ حقوق عباده عن إتلاف واستهلاك كما هو تعبير الماوردي1036.(1/261)
5- إحاطة ثغور البلاد بسياج منيع من القوة, حتى لا يجد أعداء الإسلام ثغرة يتسللون منها إلى ضرب الأمة على حين غفلة, فيجب على رئيس الدولة أن يعمل على استكمال كل الوسائل التي تكلف الأمة الحماية التامة من شرور الأعداء.
6- جهاد أعداء الإسلام الذين عاندوا دعوتهم إليه, حتى يدخلوا في الإسلام أو يدخوا في الذمة.
7- جباية الأموال المستحقة, سواء أكانت هذه الأموال صدقات أم فيئاً وإخضاع ذلك إلى القواعد التي أوجبها الشارع نصاً واجتهاداً من غير زيادة أو نقصان في الجباية, إذ أن الزيادة تقضي إلى خسران من تجب عليهم الزكوات, والنقصان مفضٍ إلى تضييق مجال الصرف على الفقراء والمساكين والعاملين ونحوهم.
8- تقدير الحقوق والرواتب المستحقة في بيت مال المسلمين, كالإعانات الاجتماعية للأسر المحتاجة, ورواتب الجند والموظفين, والعمل على إرساء قواعد تكون ضابطة لكل ما يتصل بهذا الواجب.
9- اختيار الأكفاء الذين يثق في مقدرتهم ودينهم وصلاحهم للمناصب القيادية التي توكل إليهم, حتى يسير دولاب الأعمال بيد الأمناء الذين يخافون الله ولا يثبتون على حقوق الناس.
10- الإشراف بنفسه على ما هو متصل بما يجب عليه نحو الأمة, ولا يترك الأمور تسير بدون إشراف مباشر منه, إذ إن كل تقصير من أي من عماله الذين وكل إليهم بعض الأمور, منسوب إليه متحمل خطئه, محاسب عليه أمام الله إن قصر في المتابعة, فإن الإمام راعٍ وهو مسؤل عن رعيته كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
11- الشورى, لأنها من سمات الحكم الإسلامي1037.
وسوف نرى بإذن الله تعالى كيف تعامل معاوية رضي الله عنه والخلفاء الأمويين من بعده مع هذه الواجبات, ولا نريد أن نستعجل الأحداث, وسنقف مع كل واجب من هذه الواجبات في موقفه ونرى قرب الخلفاء الأمويين وبعدهم من تطبيق هذه الواجبات.
ثانياً : حقوق الخليفة(1/262)
إن الخليفة له حقوقاً على الأمة من شأنها أن تعينه على القيام بما هو موكول إليه من المهام وقدبين علماء الإسلام هذه الحقوق وإهمها:
1- طاعته والانقياد له في كل ما أمر به ونهى عنه ما دامت هذه الأوامر والنواهي في المعروف ولم تتعارض مع الأحكام التي بينتها شريعة الإسلام, فما دام الخليفة أو رئيس الدولة قد التزم في أوامره ونواهيه جانب الشرع فلم يحد في ذلك عن الحدود التي رسمتها. له الشريعة, فله حق ولاء المواطنين جميعاً, سواء في ذلك أهل الحل والعقد الذين بايعوه رئيساً للأمه, وسائر المواطنين الذين يلزمهم الانقياد له بمجرد تمام هذه البيعة.
2- القيام بنصرتة إذا احتاج الأمر إلى ذلك, فما دام يسير في حكمه على طريق الحق فقد وجب على سائر الأمة نصرته على البغاة وكل من رفع عليه السلاح, ... لأن نصرة الإمام الحق في الواقع ما هي إلا نصرة للمسلمين وتأييد له في العمل على أن يكون الدين قائماً وكف للمعتدين عن كل ما يمكن أن يصدر عنهم من جرائم.
3- جعل راتب له مع مخصصات له, تكفيه ومن يعوله, فإن رئيس الدولة سيشغل نفسه بواجبات الرياسة التي ستستحوذ على وقته, مما لا يترك له فرصة السعي في اكتساب رزقه, فيجب أن يجعل له راتب يغنيه ويليق بهذا المنصب بحيث لا يكون فيه تقتير ولا إسراف لأن رواتب الولاة والقضاة من أموال المسلمين التي يحتاط في وجوه صرفها.
4- إخباره بأحوال من ولاهم المناصب العامة كالولاة والقضاة إذا انحرفوا عن الطريق الذين كلفوا بسلوكه, وذلك لأن الإمام مكلف شرعاً بمتابعة أعمال هؤلاء لإصلاح ما اعوج من أفعالهم وتنبيههم إلى ما غفلوا عنه من وجوه المصلحة, وهو محاسب أمام الله على ما ارتكبه هؤلاء من أخطاء في حق الله, والأمة إذا هو قصر في منع ذلك, ولا طاقة له على متابعة أعمالهم ومراقبة سيرهم إلا إذا عاونته الأمة في ذلك.(1/263)
5- تقديم كافة المساعدات إليه إن احتاج إلى ذلك في أداء ماتحمله من أعباء مصالح الأمه لقوله تعالى :"وتعاونوا على البر والتقوى" وولاة الأمور أحق من أعين على ذلك1038. والأمه في عمومها لم تبخل على أمير المؤمنين معاوية بحقوقه وعلى الخلفاء الذين جاءوا من بعده ولم يخل الأمر من ثورات ضد الخلفاء سنبينها في موضعها بإذن الله تعالى.
ثالثاً : عاصمة الدولة الأموية وأحاديث الرسول في فضائل الشام :
كانت الشام إحدى الولايات الهامة في الامبراطرية الرومانية الشرقية "البيزنطية", بل كانت لقربها من بيت المقدس, وتاريخها القديم, إحدى المراكز الحضارية في هذه الامبراطورية, وكان العرب قبل الإسلام ينظرون إليها نظرة كبيرة, لما تحتويه من حضارة, فضلاً عما بها من خيرات وخضرة وأسواق, وتعتبر مدينة دمشق المدينة الأولى في بلاد الشام, فهي قاعدتها ومدينتها العظمى, ولعبت دوراً كبيراً في تاريخ المنطقة, لذلك اتخذها الحاكم الروماني قاعدة حكمه, ولما دخل الإسلام الشام ودمشق خاصة, حافظ عليها, واحتفظ الولاة لها بميزاتها وظل معاوية الوالي يعتني بها طوال فترة ولايته عليها, وأقام علاقات وطيدة مع سكانها1039, وعرف أهمية القبائل اليمنية في دمشق والشام, فتزوج من إحداها وهي بني كلب وأنجب من زوجته الكلبية ابنه يزيد, فضمن ولاءهم له ولأبنائه من بعده, لأن الخؤولة من أبرز ما تتحزب له القبائل العربية, هذا فضلا عن أن التصاهر عند العرب بمثابة التحالف السياسي1040, وقد كان معاوية ذكيا في اعتماده على القبائل اليمنية بدمشق والشام1041, ولما قامت الدولة الأموية, رأى معاوية أن الدولة الإسلامية توسعت وامتدت شرقاً وغرباً فلم يجد أفضل من دمشق عاصمة للخلافة الأمويه وذلك لأنها تقع بين جزئي العالم الإسلامي؛ الجزء الشرقي الذي يشمل العراق وفارس, والجزء الغربي الذي يشمل مصر والمغرب, فضلا عن أن القبائل التي ارتبطت به أيدته ودعمت موقفه وصارت يده الطولى(1/264)
في تدعيم حكمه, أي أنها كانت القوة العسكرية والسياسية التي استند عليها الحكم والدولة الأموية, كما قدم له سكان البلد ما يمكن أن يقدموه من خبرة وعمل إدراي1042, فقد وجد معاوية في دمشق تقاليد عريقة في الحكم والادارة, كما وجد جهازاً إدارياً متمرساً ساعده على تأسيس مهمته في فترة التأسيس هذه التي لا تحتاج الارادة الطيبة, فحسب, بل الخبرة والمران اللذين وفرهما له جهاز الموظفين الذين كانوا يعملون في ظل الادارة البيزنطية في الميدانين الإداري والمالي, كما أنه لابد لنا أن نلاحظ حظ الشام من الحضارة كان أوفر من حظ الأمصار الأخرى, فالقبائل العربية التي هاجرت إليها واستقرت فيها قبل الفتح كانت قد اعتادت فكرة الحكم المركزي وفكرة الدولة عموماً, على عكس عرب العراق مثلاً الذين لم يتقبلوا هذه الفكرة بسهولة, وينطبق هذا على من سكن العراق منهم قبل الفتح وبعده, فالذين سكنوا العراق قبل الفتح كانوا في خصومة وصراع دائمين مع الحكم الفارسي1043, وسكان بلاد الشام كانوا قد اعتادوا الخضوع والتعايش مع البيزنطيين, كما أن العرب الذين هاجروا إلى الشام بعد الفتح لم يعيشوا في معسكرات مستقلة, كما كانت الحال في العراق (البصرة والكوفة), بل عاشوا جنباً إلى جنب مع السكان المحليين والقبائل التي كانت تقطن الشام قبلاً, وقد ساعد هذا الاختلاط على كسر حدة التمرد القبلي1044 وقد ساعد على تحقيق انتصارت معاوية في الخارج الجيش الشامي الذي جمعه ونظمه ودربه منذ أن كان والياً, والذي أغدق عليه العطاء, ولم يبخل عليه بكل مايوفر له سبل الرضا والاخلاص بعد أن غدا خليفة وتعددت لقاءاته في البر والبحر مع الامبراطورية البيزنطية, وقد ساعدت هذه اللقاءات المستمرة على اعطاء جيش الشام فرصاً كثيره للتدريب العملي وقدمت له الخبرة اللا زمة1045, كما كان لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أثرها في هجرت الناس للشام, واعتزاز أهلها بالإسلام وحرصهم على(1/265)
زعامة العالم الإسلامي, فالنبي صلى الله عليه وسلم ميز أهل الشام بالقيام بأمر الله دائماً إلى آخر الدهر, وبأن الطائفة المنصورة فيهم إلى آخر الدهر, فهو إخبار عن أمر دائم مستمر فيهم مع الكثرة والقوة1046، وقد كان معاوية يحتج لأهل الشام بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله, لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم, حتى تقوم الساعة1047,فقام ملك بن يخامر يذكر أنه سمع معاذاً يقول : وهم بالشام, فقال معاوية : وهذا مالك بن يخامر يذكر أنه سمع معاذا يقول : وهم1048 بالشام ومارواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لايزال أهل الغرب ظاهرين1049, قال الإمام أحمد : وأهل الغرب هم أهل الشام1050. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مقيماً بالمدينة فما يغرب عنها فهو غربه, وما يشرق عنها فهو شرقه1051... فقد أخبر أن الطائفة المنصورة القائمة على الحق من أمته بالمغرب وهو الشام وما يغرب عنها ... وكان أهل المدينة يسومون أهل الشام, أهل المغرب, ويقولون عن الأوزاعي : إنه إمام أهل المغرب1052, فإذا دلت النصوص على أن الطائفة القائمة بالحق من أمته التي لا يضرها خلاف المخالف, ولا خذلان الخاذل هي بالشام, فهذا لا يعارض قوله صلى الله عليه وسلم : تقتل عماراً الفئة الباغية1053, وقوله في الخوارج صلى الله عليه وسلم : تقتلهم أولى الطائفتين بالحق1054, ولا ريب أن هذه النصوص لابد من الجمع بينها, فيقال, أما قول صلى الله عليه وسلم : لا يزال أهل الغرب ظاهرين1055. ونحو ذلك مما يدل على ظهور أهل الشام وانتصارهم, فهذا وقع وهذا هو الأمر فإنهم ما زالوا ظاهرين منتصرين1056, وأما قوله : عليه السلام : لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله 1057, والذي هو ظاهر, فلا يقتضي ألا يكون فيهم من فيه بغي ومن غيره أولى بالحق منهم, بل فيهم هذا وهذا1058 وأما قوله : تقتلهم أولى(1/266)
الطائفتين بالحق فهذا دليل على أن علياً ومن معه كان أولى بالحق إذ ذاك من الطائفة الأخرى, وإذا كان الشخص أو الطائفة مرجوحاً في بعض الأحوال لم يمنع أن يكون قائماً بأمر الله, وأن يكون ظاهراً بالقيام بأمر الله عن طاعة الله ورسوله, وقد يكون الفعل طاعة وغيره أطوع منه وأما كون بعضهم باغياً في بعض الأوقات, مع كون بغيه خطأ مغفوراً له, أو ذنباً مغفوراً, فهذا -أيضاً- لا يمنع ما شهدت به النصوص؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن جملة أهل الشام وعظمتهم, ولا ريب أن جملتهم كانوا أرجح في عموم الأحوال1059, وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يفضلهم في مدة خلافته على أهل العراق, حتى قدم الشام غير مرة وامتنع من الذهاب إلى العراق, واستشار فأشار عليه أنه لا يذهب إليها, وكذلك حين وفاته لما طغى أدخل عليه أهل المدينة أولا وهم كانوا إذ ذاك أفضل الأمة, ثم أدخل عليه أهل الشام, ثم أدخل عليه أهل العراق, وكانوا آخر من دخل عليه1060 وكذلك الصديق كانت عنايته بفتح الشام أكثر من عنايته بفتح العراق حتى قال : لَكَفرْ الشام أحب إلى من فتح مدينة العراق 1061, والنصوص التي في كتاب الله وسنة رسوله وأصحابه في فضل الشام, وأهل الغرب على نجد والعراق وسائر أهل المشرق, أكثر من أن تذكر هنا, بل عن النبي صلى الله عليه وسلم من النصوص الصحيحه في ذم المشرق وإخباره بأن الفتنة ورأس الكفر منه ماليس هذا موضعه, وإنما كان فضل المشرق عليهم بوجود أمير المؤمنين علي, وذلك كان أمراً عارضاً ولهذا لما -مات- علي رضي الله عنه أظهر منهم من الفتن, والنفاق, والردة, والبدع, مايعلم به أن أولئك كان أرجح1062. وكذلك - أيضاً - لاريب أن في أعيانهم من العلماء والصالحين من هو أفضل من كثير من أهل الشام, كما كان علي وابن مسعود, وعمار وحذيفة ونحوهم, أفضل من أكثر من بالشام من الصحابة, لكن مقابلة الجملة وترجيحها لا يمنع اختصاص الطائفة الأخرى بأمر(1/267)
راجح وهذا يبين رجحان الطائفة الشامية من بعض الوجوه مع أن علياً رضي الله عنه كان أولى بالحق ممن فارقه, ومع أن عماراً قتلته الفئه الباغية - كما جاءت به النصوص - فعلينا أن نؤمن بكل ما جاء من عند الله, ونقر بالحق كله, ولا يكون لنا هوى, ولانتكلم بغير علم, بل نسلك سبل العلم والعدل, وذلك هو اتباع الكتاب والسنة, فأما من تمسك ببعض الحق دون بعض, فهذا منشأ الفرقة والإختلاف1063 .
رابعاً : أهل الحل والعقد في عهد معاوية رضي الله عنه:(1/268)
كان المجتمع الإسلامي في عصر الراشدين يتطور تطوراً سريعاً وخطيراً بشكل يهدد المحافظة على السمات الأساسية لحكمهم والتي تظهر في ذلك الحب والانسجام والحرص المتبادل بين الخليفة والرعية وخوف الله في معاملة بعضهم للبعض، وقد تمثل ذلك التطور في تقلص دور أهل الحل والعقد المقيمين في المدينة بوفاة معظمهم أو بتفرقهم في الأمصار، وباكتساب تلك الأمصار مكانة ضخمة تفوق مكانة الحجاز مقر الخلافة نتيجة نمو دور القبائل العربية التي أسلمت متأخراً ولكنها حملت على أكتافها عبء الفتوحات الإسلامية الكبرى، التي أدت إلى إثراء المجتمع الإسلامي بصورة لم يعرفها من قبل، تغيرت معها بعض النفوس والأخلاق1064، وبدأت تدريجياً تتغير بعض المفاهيم، كمفهوم أهل الحل والعقد، فلم يعودوا هم أهل بدر، أو جماعة السابقين إلى الإسلام في المدينة، التي تقلصت أعدادها بمضي الزمن، وبرز إلى ساحة التأثير والفاعلية زعماء الأمصار، وزعماء الشام من بينهم، فحين نحتكم إلى أحداث التاريخ نجدها تؤكد قدرة أهل الأمصار آنذاك على الحسم السياسي، وعجز أهل المدينة عن ذلك ثم تؤكد بعد ذلك تميز أهل الشام بقدر هائل من الطاعة والتوحد الإجتماعي والتعود على الخضوع لنظم الدولة، ، وأساليب الإدارة وأنماط الحضارة، وقد مكنتها هذه المؤهلات من فرض اختيارها على العراق وسائر الأمصار الإسلامية حتى بايعت معاوية، ثم استطاعت الاحتفاظ بهذه القدرات أكثر من تسعين عاماً هي عمر الدولة الأموية.. مما يؤكد أن قادتها أصبحوا هم بحكم الواقع السياسي جل أهل الحل والعقد في المجتمع الإسلامي والقادرين على اختيار الخليفة، وإقناع بقية الأمصار بذلك الاختيار ـ إن سلماً أو عنفاً ـ في ذلك المجتمع الذي أصبحت تحكمه عصبيات مختلفة الرغبات والأهواء والمطامع1065.
1 ـ رأي الفقهاء في معنى أهل الحل والعقد:(1/269)
وحين نحتكم إلى أقوال علمائنا في معنى أهل الحل والعقد نجدهم يختلفون إلى عدة أقوال1066، ويذكرون مصطلحات متعددة منها:
أ ـ أولو الأمر: وهو مصطلح شرعي جاء بنص القرآن الكريم وذلك في قوله تعالى: ((ي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)) (النساء ، آية : 59) وقد اختلف في المراد بهم على أقوال من اشهرها:
ـ…أنهم الأمراء، ورجحه الإمام الطبري1067، وقال النووي: هو قول جمهور السلف والخلف1068.
ـ…أنهم العلماء وبه قال بعض السلف منهم: جابر بن عبد الله والحسن البصري، والنخعي وغيرهم.
ـ…أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
ـ …أنهم أبو بكر وعمر .
ـ…أنها عامة في كل أولى الأمر والعلماء، ومال إليه الإمام ابن كثير1069، وابن القيم1070، والشوكاني1071 وغيرهم.
ـ…أنهم العلماء والأمراء والزعماء وكل من كان متبوعاً وهو رأي ابن تيمية1072، ومحمد عبده1073، وقال: إنهم هم أهل الحل والعقد1074، ولعل القولين الخامس والسادس هما الأقرب إلى الصواب، وليس بينهما فرق كبير1075.
ب ـ العلماء : والمراد بهم علماء الشريعة: وهو لفظ قراني: قال سبحانه ((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)) (فاطر ، الآية : 28) وربما جاء بلفظ ((وَأُولُو الْعِلْمِ))كما في قوله تعالى: ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ)) آل عمران ، الآية : 18). وفي السنة النبوية جاء هذا المصطلح في أحاديث لا تكاد تحصر ومن ذلك الحديث المشهور: إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن بموت العلماء1076.
ت ـ أهل الاختيار: وهم الذين يوكل إليهم اختيار الإمام ومبايعته، وهم أهل الحل والعقد1077، وهو مصطلح اجتهادي اصطلح عليه بعض أهل العلم1078.(1/270)
س ـ أهل الاجتهاد وهم : العلماء الذين بلغوا درجة الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، ويكونون مؤهلين للأعمال المهمة: كالإمامة الكبرى، والقضاء، والفتوى ونحو ذلك، وممن أطلق هذا المصطلح: البغدادي1079، والقرطبي1080.
ر ـ أهل الشورى وهم : الذين يستشارون في أمر المسلمين وفق الآية الكريمة، ((وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)) (آل عمران ، الآية : 159) وقوله: ((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)) (الشورى ، الآية : 38).
ك ـ أهل الشوكة وهم : أصحاب القدرة والسلطان، لتوافر القدرة والبأس لديهم، وممن استعمل هذا المصطلح ابن تيمية1081.
ل ـ أهل الرأي والتدبير وهم : من يتسمون بالعقل والفكر الناضج مع القدرة على تصريف الأمور وتسييرها وممن استعمل هذا المصطلح ابن عابدين1082.
…فأهل الحل والعقد هم الذين لهم القدرة على عقد نظام جماعة المسلمين في شؤونهم العامة، والسياسية، والإدارية، والتشريعية، والقضائية، ونحوها ثم حل هذا النظام لأسباب معينة ليعاد ترتيب هذا النظام وعقده من جديد1083(1/271)
…والذي تحقق في عهد معاوية رضي الله عنه أن أهل الحل والعقد في دولته كانوا هم الولاة، وزعماء القبائل، وقادة الجيوش ونحوهم، وتركزت الشوكة والقوة الفعلية في أهل الشام، حيث كانوا قادرين على الاختيار وتحقيق إرادتهم، وإمضاء رغبتهم على مخالفيهم، وهذا ما تحقق في ذلك الظرف التاريخي في أهل الشام وإذا أردنا أن نكون أكثر إنصافاً، قلنا إنه كان يجب أن تتسع دائرة أهل الحل والعقد هذه لتشمل بجانب زعماء الشام بقية زعماء الأمصار الإسلامية في العراق والحجاز، ومصر وغيرهم، وأن تضم بجوار أصحاب العصبيات القوية، أصحاب الرأي من علماء الأمة وأهل الديانة فيهم، وأن يؤكل إلى هذه الطائفة منهم اختيارالخليفة أو عزله، علاوة على الفصل في المسائل المهمة في حياة الأمة.. ولو حدث ذلك في مسيرة الدولة الأموية لتجنبت الأمة كثيراً من الاختلاف وإراقة الدماء.. ولكن الذي حدث فعلاً هو انفراد أهل الشام باختيار الخلفاء في العصر الأموي من الأسرة الأموية ذاتها، وكانت بداية ذلك هي البيعة ليزيد بن معاوية بولاية العهد من أبيه، وبعد خطوب شتى أصبح تسلسل الخلفاء من البيت الأموي أمراً واقعاً، رضيت بذلك بقية الأمصار أم عارضت1084 . وسيأتي الحديث عن ولاية العهد في حينه بإذن الله تعالى.
خامساً : الشورى في عهد معاوية رضي الله عنه:(1/272)
…عندما آلت الخلافة إلى بني أمية، لم يكن معاوية بن أبي سفيان ممن يجهل فوائد الشورى ويهمل الأخذ بها ، وما كان يصد في المهمات إلا عن مشورة، فقد كان يشاور ذوي الرأي من الولاة ووجوه الناس وأشراف القوم وأهل العلم وكان ذلك سنة من جاء بعده من الخلفاء من بني أمية، وكان من كبار مستشاري معاوية رضي الله عنه عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وكان يستشير الوفود التي كانت تأتيه1085، وكان الناس يتكلمون بحرية فيعرضون آراءهم ، ويهتم الخليفة بها كل الاهتمام، ويناقشهم فيها ويحقق ما يمكن تحقيقه منها والحكم يعتمد على مستشارين أكفاء وكتّاب قادرين، أطلقت يدهم في العمل، ومنحهم الخليفة ثقته، وشدّهم بسلطانه، والحكم لم يكن متمركزاً في شخص الخليفة ، فمملكته واسعة ولا يستطيع أن يضطلع بكل أمر، وهو يرسل ولاته على الأقطار ويطلق لهم اليد في شؤونها، وهو لا يولي إلا من يثق به، ولا يعطي السلطان إلا لمن لا يخشاه1086، وولاته يستشيرهم في حدود معينة. وأما أمر الخلافة فحصر في بني أمية، وأصبح أمرها خاصاً بالبيت الأموي، يفتي فيها بالمجامع الأموية خاصة من دون الناس، وكان الخلفاء من بني أمية يرجعون في شورى استخلاف السلطان ورد الطامعين به إلى الجماعة الأموية غالباً1087. ومن هنا يمكن القول بوجود نوعين من الشورى في عهد بني أمية أولهما شورى تتعلق بالأمور والمصالح العامة، وكان الخلفاء من بني أمية يرجعون فيها إلى ذوي الرأي من أشراف القوم والولاة وغيرهم وثانيها شورى تتعلق بالسلطان خاصة، وكان الخلفاء من بني أمية يفزعون فيها إلى آل بيتهم ويقضون فيها بينهم1088 . وقيادة معاوية للدولة لم تكن فردية خالصة، فاللامركزية في الحكم والإدارة في الأغلب، ومشاركة الرجال من أهل الرأي والخبرة في حمل المسئولية والقيام بأعباء الدولة في السلم والحرب وفي المركز والولايات، ووجود الإسلام في حياة الفرد والمجتمع والدولة سلوكاً ونظام حكم منذ عصر الرسول(1/273)
صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، تقلل من مظهر القيادة الفردية ومساوئها، وتعزز مظهر الشورى وغلبة الاتجاه العام الثابت في السياسة والقيادة والإدارة وتصريف الأمور ورعاية المصالح1089، كما أن تحول الخلافة الراشدة إلى ملك وراثي لم يكن يعني تحولاً كاملاً عن شورى الراشدين أو ارتداداً عن أوامر الإسلام ومنهجه في الحكم، وقد كان لذلك ما يبرره من تطور إجتماعي وسياسي ولقد بقيت ـ في عهد معاوية ـ والعصر الأموي ـ كما يقرر ابن خلدون ـ: معاني الخلافة من تحري الدين ومذاهبه، والجري على مذاهب الحق، ولم يظهر التغير إلا في الوازع الذي كان ديناً ثم انقلب عصبية وسيفاً، وهكذا كان الأمر لعهد معاوية ومروان وابنه عبد الملك والصدر، الأول من خلفاء بني العباس إلى الرشيد وبعض ولده، ثم ذهبت معاني الخلافة ولم يبق إلا إسمها1090. وما ذهب إليه ابن خلدون ليس على إطلاقه ففي عهد الدوة العثمانية في زمن محمد الفاتح انتعشت بعض معاني ومقاصد الخلافة، من الفتوحات، والدعوة، وإعزاز الإسلام، والعدل، ولم يذم الشرع العصبية أو الملك لما كان القصد منها إقامة الدين، وإظهار الحق، وقد سأل سليمان عليه السلام ربه فقال : ((رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي)) (ص ، الآية : 35)، لما علم من نفسه أنه بمعزل عن الباطل في النبوة والملك1091، وعلى ذلك فإن (( الملك الذي يخالف بل ينافي الخلافة هو الجبروتية1092، التي يقصد بها قهر الناس بغير حق، ولم يكن ذلك شأن معاوية في خلافته، وقد استرعى انتباه بعض فقهائنا ومؤرخينا ذلك القرب الشديد بين مقاصد خلافة معاوية ومقاصد خلافة الراشدين، لذلك فقد رأى ابن تيمية:.. فهذا يقتضي أن شوب الخلافة بالملك جائز في شريعتنا، وأن ذلك لا ينافي العادل، وإن كانت الخلافة المحضة أفضل1093، ولن نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا إن معاوية وبعض خلفاء بني أمية كان يود لو سار سيرة الراشدين(1/274)
كاملة، ولكنهم كانوا قادرين على ذلك في تفاعلهم مع أحوال رعيتهم وظروف عصرهم، وإن ذلك الأفق العالي والمثل الرفيع الذي قدمه الخلفاء الراشدون للسياسة الإسلامية والإنسانية كان يعمل تأثيره الجذاب عند بعض الخلفاء والرعية على السواء، ولكنه كان أيضاً يستعلي على قدراتهم، فيجهدون أنفسهم لتحقيقه، ثم يعودون إلى جذبة الواقع مقرين بصعوبة المحاولة والتجربة1094، ولقد سأل معاوية يوماً ولده وولي عهده يزيد كيف سيعمل بعد استخلافه؟ فقال: أعمل فيهم عمل عمر بن الخطاب، فتبسم معاوية وقال: والله لقد جهدت أن أعمل فيها عمل عثمان فلم أقدر، أتعمل أنت فيهم بعمل عمر بن الخطاب1095؟، ولا يعني ذلك أن العودة إلى صفا الحياة في عصر الخلفاء الراشدين أمر مستحيل، ولكن لا يأتي به الحاكم وحده وإن صلحت نيته، وعظمت عزيمته، بل لا بد من تحقيق ذلك القدر من التوافق والانسجام بين الراعي والرعية حيث يتعاون الجميع على تحقيق ذلك المجتمع الطيب، وطريق ذلك طويل وشاق ويحتاج إلى أجيال من الدعاة والحكام الذين يبذلون جهدهم لتربية الرعية على كمال الإيمان، ويعطون القدوة في ذلك والمثل، ويستفرغون في ذلك وذاك وقتهم وجهدهم1096، وقد كان ابن تيمية يعبر عن هذه الحقيقة حين يرى أنه إن ساء الحكم في مجتمع ما كان ذلك لنقص في الراعي والرعية1097 معاً. إن الشورى في عهد معاوية والدولة الأموية تقلصت عمّا كانت عليه في عهد الخلافة الراشدة وبقيت في عهد معاوية بعض جوانبها ولم تتقدم كلياً كما يطرح البعض .(1/275)
سادساً : حرية التعبير في عهد معاوية رضي الله عنه : المعارضة السلمية كان معاوية رضي الله عنه يفرق بين المعارضة السلمية والمسلحة فهو يطلق حرية الكلام والتعبير عن الرأي ما دام ذلك في حدود التعبير عن الرأي، أما إذا انقلب الأمر إلى حمل السلاح وسلَّ السيوف، فإنه لا يجد مفراً من مواجهة هذه الثورات كما فعل مع الخوارج ـ وسيأتي بيان ذلك بإذن الله تعالى، فقد روي عن معاوية أنه قال: إني لا أحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا1098. وقال عامله على العراق زياد بن أبيه في خطبته لأهل البصرة: إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السلَّ من بغضي لم أكشف له قناعاً ولم أهتك له ستراً، حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل لم أناظره1099، ويقول عن أحد معارضيه: لو علمت أن مخ ساقه قد سال من بغضي ما هجته حتى يخرج علي1100 وإليك الكثير من المواقف التي تدل على حرية التعبير، وحق المعارضة السلمية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمعاوية وكيف كان يستقبل تلك الانتقادات .(1/276)
1 ـ أبو مسلم الخولاني : فقد كان رحمه الله من العلماء الربانيين وكان ممن لا يجامل ولا يدهن، فقد قام أمام معاوية فوعظه وقال: إياك أن تميل على قبيلة من العرب فيذهب حيفك بعدلك1101 وكان يذكر معاوية بمسئولياته تجاه رعيته ويحثه على أداء حقوقه، فقد دخل ذات يوم على معاوية فقال: السلام عليك أيها الأجير. فقال الناس: الأمير. فقال معاوية: دعوا أبا مسلم فهو أعلم بما يقول. قال أبو مسلم: إنما مثلك مثل رجل استأجر أجيراً فولاه ماشيته، وجعل له الأجر على أن يحسن الرعية، ويوفر جزازها وألبانها، فإن أحسن رعيتها ووفر جزازها حتى تلحق الصغيرة، وتسمن العجفاء، أعطاه أجره وزاده من قبله زيادة، وإن هو لم يحسن رعيتها وأضاعها حتى تهلك العجفاء وتعجف السمينة ولم يوفر جزازها وألبانها غضب عليه صاحب الأجر. فقال معاوية: ماشاء الله1102، فانظر كيف حث أبو مسلم الخولاني معاوية رضي الله عنه على الاهتمام بأمر الرعية وحذره من التهاون أو التفريط في إصلاح شؤونهم وذلك عن طريق ضرب المثل تقريباً للصورة وتشبيهاً للحال1103، وهناك موقف عملي آخر لأبي مسلم الخولاني مع معاوية أيضاً، وذلك عندما صعد معاوية المنبر ـ وكان قد حبس العطاء ـ فقام أبو مسلم وقال له: لم حبست العطاء يا معاوية؟ إنه ليس من كدك ولا من كد أبيك، ولا كد أمك حتى تحبس العطاء، فغضب معاوية غضباً شديداً، ونزل عن المنبر، وقال للناس مكانكم، وغاب عن أعينهم ساعة ثم عاد إليهم فقال: إن أبا مسلم كلمني بكلام أغضبني، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الغضب من الشيطان، والشيطان خلق من نار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليغتسل1104 وإني دخلت فاغتسلت وصدق أبو مسلم: إنه ليس من كدي ولا كد أبي، فهلموا إلى أعطياتكم1105.
2 ـ الفرزدق يهجو معاوية :(1/277)
…هجا الفرزدق معاوية وافتخر عليه بنسبه وآبائه وذلك لغرض شخصي، حيث أعطى معاوية عم الفرزدق الحتات بن يزيد المجاشعي، وكان ضمن (وفد أتي معاوية) جائزة أقل من الآخرين، ولما مات الحتات بن يزيد المجاشعي، في الطريق أخذ معاوية تلك الجائزة وردها إلى بيت المال، فقال الفرزدق يخاطب معاوية:
…………فلو كان هذا الأمر في جاهلية
………………… علمت من المرء قليل جلائبه
…………ولو كان هذا الأمر في غير ملككم
………………… لأبديته أو غص بالماء شاربه
…………وكم من أب لي يا معاوي لم يكن
………………… أبوك الذي من عبد شمس يقاربه
فما زاد معاوية على أن بعث إلى أهل الحتات بجائزته1106
…وقد ظفر معاوية بتقدير زعماء المسلمين من أبناء الصحابة رغم نقد بعضهم المرير له، وكان كثيراً ما يقول: إني لأرفع نفسي أن يكون ذنب أعظم من عفوي، وجهل أكثر من حلمي، أو عورة لا أواريها بستري، أو إساءة أكثر من إحساني1107، وكان أحياناً يتمثل بهذه الأبيات:
…………تعفو الملوك عن الجليل من الأمور بفضلها
…………ولقد تعاقب في اليسير وليس ذاك لجهلها
…………إلا ليعرف فضلها ويخاف شدة نكلها1108
3 ـ أم سنان بنت خيثمة في مجلس معاوية :
…كانت أم سنان بنت خيثمة المذحجية من أنصار أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وفي عهد معاوية قدمت على دمشق واستأذنت عليه فأذن لها، فانتسبت له فعرفها، وأمرها بالجلوس، فلما جلست قال لها: مرحباً يا ابنة خيثمة، ما أقدمك أرضنا وقد عهدتك تبغضين قومي، وتحضّين عليَّ عدوى؟ قالت: يا أمير المؤمنين، إنّ لبني عبد مناف أخلاقاً طاهرة، وأعلاماً ظاهرة، وأحلاماً وافرة، لا يجهلون بعد علم، ولا يسفهون بعد حلم، ولا يتعقبون بعد عفو، وإنَّ أولى النَّاس باتباع سنن آبائه لأنْتَ. قال معاوية ـ رضي الله عنه ـ صدقتِ يا أم سنان، نحن كذلك ثم سادت فترة صَمْتٍ، قطعها بسؤال لأمّ سنان يذكرها فيها بشعرها وتحريضها عليه، فقال لها: كيف قولك:
…………عَزبَ الرقاد فمقلتي ما ترقد(1/278)
…………………والليل يُصدر بالهموم ويورد
…………يا آل مذحج لا مُقام فشمّروا
…………………إن العدوَ لا أحمد يقصد
…………هذا عليُّ كالهلال تحفُّهُ
…………………وسْطَ السماء من الكواكب أسعد
…………ما زال مُذْ شهد الحروب مظفراً
…………………والنّصرُ فوق لوائه ما يُفقد
وكانت أمّ سنان ـ رحمها الله ـ تصغي لما ينشده معاوية من شعرها، ولما انتهى قالت له: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين، وإنَّا لنطمع أن تكون لنا خلفاً بعده، فمثلك جدير بذلك وقبل أن يتكلم معاوية بكلمة، قال رجل من جلسائه: كيف يا أمير المؤمنين، وأنا أحفظ من شعرها خلاف ما تقول لك الآن فهي القائلة:
…………إما هلكت أبا الحُسين فلم تزل
…………………بالحق تُعرف هادياً مهديا
…………فاذهب عليك صلاة ربك ما دعت
…………………فوق الغُصون حمامة قمريا
…………فاليوم لا خلف يؤمّل بعده
…………………هيهات نمدح بعده إنْسِيا1109
…عندئذ قالت أمُّ سنان وعلائم الحزم والصِّدقِ ترتسم على وجهها وهي تعّرضُ بجلسائه: يا أمير المؤمنين، لسان نطق، وقول صدق، ولئن تحقّق فيك، ما ظننّا فحظُّك الأوفر، والله ما ورّثك الشَّناءة ـ البغض ـ في قلوب المسلمين إلا هؤلاء ـ وأشارت إلى بعض جلسائه ، فادحض مقالتهم، وابعد منزلتهم، فإنك إن فعلت ذلك ازدت من الله عز وجل قرباً ومن المسلمين حباً. وتعجب معاوية مما تقول، فقطع عليها مقالتها قائلاً: وإنّك لتقولين ذلك يا أم سنان؟(1/279)
…قالت: سبحان الله يا أمير المؤمنين، والله ما مثلك مدح بباطل، ولا اعتذر إليه بكذب، وإنك لتعلم ذلك من رأينا وضمير قلوبنا، كان والله عليُّ ـ رضي الله عنه ـ أحب إلينا منك إذ كان حياً، وأنت أحبّ إلينا من غيره إذ أنت باق. فسألها معاوية: وممن أنا أحب إليكم ما دمت باقياً؟ فقالت: يا أمير المؤمنين، أنت أحبّ إلينا من مروان بن الحكم وسعيد بن العاص. قال: وبم استحققت بذلك عليهما؟. قالت بحسن حلمك، وكرم عفوك1110. وبعد حديث انتهى الحوار، سألها: ما حاجتك الآن يا أم سنان؟ فسألته حاجتها في حفيدها بالمدينة أن يفك أسره، فلبى معاوية طلبها، وأكرمها ووصلها وردّها إلى المدينة، وقد قضيت حاجتها، وكان لسانها يلهج بالدعاء لمعاوية1111. هذه أمُّ سنان المذحجيّة، إحدى نساء عصر التابعين وممن فُطرت نفسها على الصَّفاء والصَّراحة، وأوتيت شطراً من البلاغة والحكمة ما جعلها في سجل ناصع يحكي خلودها وخلود أمثالها1112 ولم تكن أم سنان المذحجية وحدها التي كانت تعبر عن رأيها، وتتكلَّم بوضوح عن معتقداتها، بل كانت مثيلاتها كثير مثل، الزرقاء بنت عدي1113، وأم الخير بنت الحريش1114، لقد كان معاوية رضي الله عنه، يجرّيء الناس على الصدع بمعتقداتهم وآرائهم، ويشجعهم على حرية الرأي والتعبير وحق النقد والمعارضة السلمية.
الفصل الثالث
السياسة الداخلية لمعاوية رضي الله عنه
……انعقد إجماع الأمة الإسلامية على خلافة معاوية سنة 41هـ فأخذ يعمل بكل ما أوتي من ذكاء وفطنة ودهاء على توطيد دعائم الأمن والاستقرار في ربوع العالم الإسلامي ، فانتهج سياسة داخلية، تقوم على عدة أمور:(1/280)
المبحث الأول : الإحسان إلى كبار الشخصيات من شيوخ الصحابة وأبنائهم وبخاصة بنو هاشم فقد خطب مرة في أهل الحجاز بعد توليه الخلافة فاعتذر عن عدم سلوكه طريقة الخلفاء الراشدين قبله، فقال: وأين مثل هؤلاء؟ ومن يقدر على أعمالهم؟ هيهات أن يدرك فضلهم أحد من بعدهم؟ رحمة الله ورضوان الله عليهم، غير أني سلكت بها طريقاً لي فيه منفعة، ولكم فيه مثل ذلك، ولكم فيه مؤاكلة حسنة، ومشاربة جميلة، ما استقامت السيرة وحسنت الطاعة: فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم، والله لا أحمل السيف على من لا سيف معه، ومهما تقدم مما قد علمتموه فقد جعلته دبر أذني، وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فارضوا مني بعضه.. وإياكم والفتنة فلا تهموا بها فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمة، وتورث الاستئصال، استغفر الله لي ولكم1115، وبمثل هذه السيرة صار خليفة المسلمين وانقاد له أبناء المهاجرين والأنصار، وكل من يعتقد أنه أولى منه بالخلافة، كان رضي الله عنه، يهتم بغزو القلوب والإحسان إليها، مع الوعي والحذر الشديدين أن لا تنتقض الأمة عليه، لقد كان يبذل المال بلا حساب لكبار الشخصيات القيادية في المجتمع ويعتبر أن عليها مسؤوليات ضخمة تجاه رعاياها من أبناء الأمة، فلا بد أن تكون مليئة لسد الخلّة وتلبي الحاجة، وتحلّ المعضلة، ولعل أشراف بني هاشم كانوا في هذا الصدد أكثر قيادات الأمة إغداقاً عليهم بالمال، ولا بدع فهم لايزالون في عرف الناس القيادات الشعبية التي تمثل جماهير الأمة، وتلجأ الأمة إليهم أكثر مما تلجأ إلى الولاة والأمراء، وهذه القيادات لم تشارك في الحكم ولم تكن لها رغبة في ذلك1116.
أولاً : العلاقة بين الحسن ومعاوية رضي الله عنهما بعد الصلح :(1/281)
…كان الحسن بن علي يقدم على معاوية في خلافته، فقدم عليه ذات مرة فقال له معاوية: لأجيزنك بجائزة ما أجزت بها أحداً قبلك ولا أجيز بها أحداً بعدك، فأعطاه أربع مائة ألف فقبلها1117، وجاء في رواية:... أن الحسن بن علي كان يفد كل سنة إلى معاوية فيصله بمائة ألف درهم، فقعد سنة عنه ولم يبعث إليه معاوية بشيء فدعا بدواة ليكتب إليه فأغفى قبل أن يكتب فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه كأنه يقول: يا حسن أتكتب لمخلوق تسأله حاجتك وتدع أن تسأل ربك؟ قال: فما أصنع يا رسول الله وقد كثر ديني؟ قال: قل اللهم إني أسألك من كل أمر ضعفت عنه قوتي وحيلتي ولم تنته إليه رغبتي، ولم يخطر ببالي ولم يبلغه أملي، ولم يجر على لساني من اليقين الذي أعطيته أحداً من المخلوقين الأولين والمهاجرين والآخرين إلا أخصصتني يا أرحم الراحمين. قال الحسن: فانتبهت وقد حفظت الدعاء، فكنت أدعو به فلم يلبث معاوية أن ذكرني فقيل له: لم يقدم السنة، فأمر له بمائتين ألف درهم1118. وجاء في رواية: بأن الدعاء الذي علمه رسول الله للحسن في المنام هو: اللهم أقذف في قلبي رجاك، واقطع رجائي عمّن سواك لا أرجو أحداً غيرك اللهم وما ضعفت عنه قوتي وقصر عنه عملي ولم تنته إليه رغبتي، ولم تبلغه مسألتي ولم يجر على لساني مما أعطيت أحداً من الأولين والآخرين من اليقين فخصّني به يا رب العالمين قال: فوالله ما ألححت به أسبوعاً حتى بعث إليّ معاوية بألف ألف وخمس مائة ألف، فقلت: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره، ولا يخيّب من دعاه، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: يا حسن كيف أنت؟ فقلت: بخير يا رسول الله وحدثته حديثي فقال: يا بُني هكذا من رجا الخالق ولم يرج المخلوق1119. وروى الزهري:... لما قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجاء الحسن بن علي رضي الله عنهما إلى معاوية فقال له معاوية: لو لم يكن لك فضل على يزيد إلا أن أمك إمرأة من قريش وأمه إمرأة من كلب لكان(1/282)
لك عليه فضل، فكيف وأمك فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم1120
ثانياً : صلات معاوية للحسن وابن الزبير رضي الله عنهم :
…عن جعفر بن محمد عن أبيه أن الحسن والحسين رضي الله عنهما كانا يقبلان جوائز معاوية رضي الله عنه1121، وكان يرسل للحسن والحسين، فقد أمر معاوية مرّة للحسن بن علي بمائة ألف فذهب بها إليه فقال لمن حوله: من أخذ شيئاً فهو له، وأمر للحسين بن علي بمائة ألف فذهب بها إليه وعنده عشرة فقسمها عليهم عشرة آلاف، عشرة آلاف، وأمر لعبد الله بمائة ألف1122، وكان معاوية رضي الله عنه إذا لقي الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: مرحباً بابن رسول الله وأهلاً، ويأمر له بثلاثمائة ألف، ويلقي ابن الزبير رضي الله عنه فيقول: مرحباً بابن عمة رسول الله وابن حواريه، ويأمر له بمائة ألف1123، وقد أشاد ابن الزبير بذكر معاوية بعد وفاته، فقد حدث هشام بن عروة بن الزبير قال: صلى يوماً عبد الله بن الزبير، فوجم بعد الصلاة ساعة، فقال الناس: لقد حدث نفسه ثم التفت إلينا فقال: لا يبعدن ابن هند: إن كانت فيه لمخارج لا نجدها في أحد بعده أبداً، والله إن كنا لنفرقه ـ أي نخوفه ـ وما الليث الحرب على براثنه بأجرأ منه فيتفارق لنا وإنا كنا لنخدعه، وما ابن ليلة من أهل الأرض بأدهى منه فيتخاع لنا، والله لوددت أنا متعنا به ما دام في هذا حجر ـ وأشار إلى أبي قبيس1124. وقول ابن الزبير هذا قاله عندما حصر في عهد عبد الملك بن مروان1125.
ثالثاً : عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مع معاوية :(1/283)
…وكان معاوية يحترمه ويقدره وكان يفد على معاوية، فأكرمه وقرّبه واحترمه وعظّمه، وكان يلقي عليه المسائل المعضلة فيجيب عنها سريعاً، فكان معاوية يقول: ما رأيت أحداً أحضر جواباً منه. ولما جاء الكتاب بموت الحسن بن علي اتفق كون ابن عباس عند معاوية فعزّاه فيه بأحسن تعزية، وردّ عليه ابن عباس ردّاً حسناً1126، وبعث معاوية ابنه يزيد فجلس بين يدي ابن عباس وعزّاه بعبارة فصيحة وجيزة شكره عليها ابن عباس1127، أما تعزية معاوية رضي الله عنه وإجازته لابن عباس. فكما رواها قتادة: ثم قال لابن عباس: لا يسؤك الله ولا يحزنك في الحسن بن علي فقال ابن عباس لمعاوية: لا يحزنني الله ولا يسوءني ما أبقى الله أمير المؤمنين. قال: فأعطاه ألف ألف درهم وعروضاً وأشياء وقال: خذها فاقسمها في أهلك1128. وكان ابن عباس رضي الله عنه من سادات المجتمع الإسلامي وقائد من قاداتها الكبار وكان معاوية رضي الله عنه يعرف مكانته الاجتماعية والعلمية، فابن عباس كان بمثابة المستشار للشئون العلمية للخليفة، وقد كان معاوية رضي الله عنه يعترف بفضل بني هاشم على بني أمية، فقد قيل له: أيكم كان أشرف، أنتم أو بنو هاشم؟ قال: كنا أكثر أشرافاً، وكانوا، وكانوا أشرف واحداً، لم يكن في عبد مناف مثل هاشم، فلم هلك كنا أكثر عدداً، وأكثر أشرافاً وكان فيهم عبد المطلب، ولم يكن فينا مثلهم، فصرنا أكثر عدداً وأكثر أشرافاً ولم يكن فينا واحد كواحدنا، فلم يكن إلا كقرار العين حتى جاء شيء لم يسمع الأوًّلون بمثله، ولا يسمع الآخرون بمثله، محمد صلى الله عليه وسلم1129، وكان معاوية رضي الله عنه يحذر بني أمية من الإساءة إلى آل علي بن أبي طالب قائلاً: إن الحرب أولها نجوى، وأوسطها شكوى، وآخرها بلوى: وكان يطلب من خلصاء علي رضي الله عنه، وصفه وسرد روائع خصاله وأعماله1130.
رابعاً : هل عمّم معاوية سب أمير المؤمنين علي على منابر الدولة الأموية ؟(1/284)
…تذكر كتب التاريخ أن الولاة من بني أمية قبل عمر بن عبد العزيز كانوا يشتمون علي، وهذا الأثر الذي ذكره ابن سعد لا يصح، قال ابن سعد: أخبرنا علي بن محمد، عن لوط بن يحي، قال: كان الولاة من بني أمية قبل عمر بن عبد العزيز يشتمون رجلاً رضي الله عنه، فلما ولي هو ـ عمر بن عبد العزيز ـ أمسك عن ذلك، فقال كثير عزة الخزاعي:
…………وليت فلم تشتم علياً ولم تخف
…………………برياً ولم تتبع مقالة مجرم
…………تكلمت بالحق المبين وإنما
…………………تبين آيات الهدى بالتكلم
…………فصدَّقت معروف الذي قلت
……………… بالذي فعلت فأضحى راضياً كل مسلم1131(1/285)
…فهذا الأثر واهٍ، فعلي بن محمد هو المدائني فيه ضعف وشيخه لوط بن يحي، واهٍ بمرة، قال عنه يحي بن معين: ليس بثقة، وقال أبو حاتم: متروك الحديث، وقال الدارقطني: أخباري ضعيف ووصفه في الميزان: أخبار تالف لا يوثق به1132، وعامة روايته عن الضعفاء والهلكى والمجاهيل1133، وقد اتهم الشيعة معاوية رضي الله عنه بحمل الناس على سب علي ولعنه فوق منابر المساجد، فهذه الدعوة لا أساس لها من الصحة، والذي يقصم الظهر أن الباحثين قد التقطوا هذه الفرية على هوانها دون إخضاعها للنقد والتحليل، حتى صارت عند المتأخرين من المُسلَّمات التي لا مجال لمناقشتها، ولم يثبت قط في رواية صحيحة، ولا يعول على ما جاء في كتب الدميري، واليعقوبي وأبي الفرج الأصفهاني، علماً بأن التاريخ الصحيح يؤكد خلاف ما ذكره هؤلاء1134، من احترام وتقدير معاوية لأمير المؤمنين علي وأهل بيته الأطهار، فحاكيه لعن علي على منابر بني أمية لا تتفق مع منطق الحوادث، ولا طبيعة المتخاصمين، فإذا رجعنا إلى الكتب التاريخية المعاصرة لبني أمية، فإننا لا نجد فيها ذكراً لشيء من ذلك أبداً، وإنما نجده في كتب المتأخرين الذين كتبوا تاريخهم في عصر بني العباس بقصد أن يسيؤوا إلى سمعة بني أمية في نظر الجمهور الإسلامي، وقد كتب ذلك المسعودي في مروج الذهب وغيره من كتَّاب الشيعة وقد تسربت تلك الأكذوبة إلى كتب تاريخ أهل السنة ولا يوجد فيها رواية صحيحة صريحة، فهذه دعوة مفتقرة إلى صحة النقل، وسلامة السند من الجرح، والمتن من الاعتراض، ومعلوم وزن هذه الدعوة عند المحققين والباحثين، ومعاوية رضي الله عنه بعيد عن مثل هذه التهم بما ثبت من فضله في الدين، وكان محمود السيرة في الأمة، أثنى عليه بعض الصحابة ومدحه خيار التابعين، وشهدوا له بالدين والعلم، والعدل والحلم، وسائر خصال الخير1135 . وقد ثبت هذا في حق معاوية ـ رضي الله عنه ـ كما أنه من أبعد المحال على من كانت هذه سيرته، أن يحمل(1/286)
الناس على لعن علي رضي الله عنه على المنابر وهو من هو في الفضل، ومن علم سيرة معاوية ـ رضي الله عنه في الملك، وما اشتهر به من الحلم والصفح، وحسن السياسة للرعية ظهر له أن ذلك من أكبر الكذب عليه، فقد بلغ معاوية ـ رضي الله عنه في الحلم مضرب الأمثال، وقدوة الأجيال1136، وقد فصلّنا في صفة الحلم في شخصية معاوية فيما مضى. وأما ما استدل به الشيعة على تلك الفرية من صحيح مسلم فليس ما يدل على زعمهم، فعن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أن تسب أبا تراب؟ فقال: أما ذكرت ثلاثاُ قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه، لأن تكون لي واحدة منهنّ أحب إليّ من حمر النعم1137، قال النووي: قول معاوية هذا ليس فيه تصريح بأنه أمر سعداً بسبه، وإنما سأله عن السبب المانع له من السب. كأنه يقول: هل امتنعت تورعاً أو خوفاً، أو غير ذلك، فإن كان تورعاً وإجلالاً له عن السب، فأنت مصيب محسن، ولعل سعد رضي الله عنه وقد كان في طائفة يسبون فلم يسب معهم، وعجز عن الإنكار أن أنكر عليهم، فسأله هذا السؤال: قالوا: ويحتمل تأويلاً آخر أن معناه: ما منعك أن تخطئه في رأيه واجتهاده وتظهر للناس حسن رأينا واجتهادنا وأنه أخطأ1138، وقال أبو العباس القرطبي صاحب المفهم معلقاً على وصف ضرار الصُّدائي لعلي رضي الله عنه وثنائه عليه بحضور معاوية، وبكاء معاوية من ذلك وتصديقه، لضرار فيما قال: وهذا الحديث يدل على معرفة معاوية بفضل علي رضي الله عنه ومنزلته، وعظيم حقه ومكانته، وعند ذلك يبعد عن معاوية أن يصرح بلعنه وسبّه، لما كان معاوية موصوفاً به من العقل والدين، والحلم وكرم الأخلاق وما يروى عنه من ذلك فأكثره كذب لا يصح، وأصح ما فيها قوله لسعد بن أبي وقاص: ما يمنعك أن تسب أبا تراب؟ وهذا ليس بالتصريح بالسب، وإنما هو سؤال عن سبب امتناعه ليستخرج من عنده من ذلك، أو من نقيضه، كما قد ظهر من جوابه،(1/287)
ولما سمع ذلك معاوية، سكن وأذعن، وعرف الحق لمستحقه1139، قال الدكتور الرحيلي في كتابه الصحب والآل: والذي يظهر لي في هذا والله أعلم: أن معاوية إنما قال ذلك على سبيل المداعبة لسعد، وأراد من ذلك استظهار بعض فضائل علي ـ رضي الله عنه ـ فإن معاوية ـ رضي الله عنه ـ كان رجلاً فطناً ذكياً، يحب مطارحة الرجال واستخراج ما عندهم، فأراد أن يعرف ما عند سعد في علي ـ رضي الله عنه ـ فألقى سؤاله بهذا الأسلوب المثير. وهذا مثل قوله ـ رضي الله عنه ـ لابن عباس:ـ أنت على ملة علي؟ فقال له ابن عباس ولا على ملة عثمان، أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم1140. فظاهر أن قول معاوية هنا لابن عباس جاء على سبيل المداعبة، فكذلك قوله لسعد هو من هذا الباب، وأما ما إدّعى الشيعة من الأمر السب فحاشا معاوية رضي الله عنه أن يصدر منه مثل ذلك1141، والمانع من هذا عدة أمور:
1 ـ …أن معاوية رضي الله عنه ما كان يسب علياً ـ رضي الله عنه ـ كما تقدم حتى يأمر غيره بسبه، بل كان معظماً له، معترفاً له بالفضل والسبق إلى الإسلام، كما دلت على ذلك أقواله الثابته عنه، فقد قال ابن كثير: وقد ورد من غير وجه: أن أبا مسلم الخولاني وجماعة معه دخلوا على معاوية فقالوا له: هل تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال: والله إني لأعلم أنه خير مني وأفضل، وأحق بالأمر مني1142، وعن جرير بن عبد الحميد عن المغيرة قال: لما جاء خبر قتل علي إلى معاوية جعل يبكي، فقالت له إمرأته: أتبكيه وقد قاتلته؟ فقال:": ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم1143، فهل يسوغ في عقل ودين أن يسب معاوية علياً بل ويحمل الناس على سبه وهو يعتقد فيه هذا1144.(1/288)
2 ـ …أنه لا يعرف بنقل صحيح عن معاوية ـ رضي الله عنه ـ تعرض لعلي رضي الله عنه ـ بسب أو شتم أثناء حربه له في حياته، فهل من المعقول أن يسبه بعد إنتهاء حربه معه ووفاته، فهذا من أبعد ما يكون عند أهل العقول، وأبعد منه أن يحمل الناس على سبه وشتمه.
3 ـ أن معاوية رضي الله عنه كان رجلاً ذكياً مشهوراً بالعقل والدهاء، فلو أراد حمل الناس على سب علي ـ حاشاه ذلك ـ أفكان يطلب ذلك من مثل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وهو من هو في الشجاعة والفضل والورع، مع عدم دخوله في الفتنة أصلاً، فهذا لا يفعله أقل الناس عقلاً وتدبيراً، فكيف بمعاوية.
4 ـ أن معاوية ـ رضي الله عنه ـ انفرد بالخلافة بعد تنازل الحسن بن علي رضي الله عنهما له واجتمعت عليه الكلمة ودانت له الأمصار بالملك، فإي نفع له في سب علي؟ بل الحكمة وحسن السياسة تقتضي عدم ذلك، لما فيه من تهدئة النفوس، وتسكين الأمور، ومثل هذا لا يخفى على معاوية.(1/289)
5 ـ إنه كان بين معاوية ـ رضي الله عنه ـ بعد استقلاله بالخلافة وأبناء علي من الألفة والتقارب، ما هو مشهور في كتب السير والتاريخ1145، ومن ذلك أن الحسن والحسين وفدا على معاوية فأجازهما بمائتي ألف. وقال لهما: ما أجاز بهما أحد قبلي فقال له الحسين رضي الله عنه: ولم تعط أحد أفضل منا1146، ودخل مرة الحسن على معاوية فقال له: مرحباً وأهلاً بابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر له بثلاثمائة ألف1147. وهذا مما يقطع الكذب مما يدَّعي في حق معاوية من حملة الناس على سب علي، إذ كيف يحصل هذا مع ما بينه وبين أولاده من هذه الألفة والمودة والاحتفاء والتكريم، وبهذا يظهر الحق في هذه المسألة، وتتجلى الحقيقة1148، كما أن المجتمع في عمومه مقيد بأحكام الشرع حريصاً على تنفيذها، ولذلك كانوا أبعد الناس عن الطعن واللعن والقول الفاحش والبذيء 1149، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سب الأموات المشركين فكيف بمن يسب أولياء الله المصلحين، فعن عائشة رضي الله عنها ـ مرفوعاً: لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا1150.
خامساً : معاوية وسِمَّ الحسن بن علي؟(1/290)
…ذكرت بعض الروايات أن الحسن بن علي توفي متأثراً بالسم الذي وضع له، وقد اتجهت أصابع الاتهام نحو زوجة الحسن جعدة بنت الأشعث بن قيس أمير كندة فهذه أم موسى سرية علي تتهم جعدة بأنها دست السم للحسن، فاشتكى منه شكاة: فكان يوضع تحته طست1151، وترفع أخرى نحواً من أربعين يوماً1152، وهذه رواية إسنادها لا يصح وهي ضعيفة1153، وحاول البعض من الإخباريين والرواة أن يوجد علاقة بين البيعة ليزيد ووفاة الحسن، وزعموا أن يزيد بن معاوية أرسل إلى جعدة بنت قيس أن ُسمي حسناً فإني سأتزوجك، ففعلت، فلما مات الحسن بعثت جعدة إلى يزيد تسأله الوفاء: فقال: إنا والله لم نرضك له أفنرضاك لأنفسنا1154؟، وفي سندها يزيد بن عياض بن جعدية، كذبه مالك وغيره1155، وقد وردت هذه الروايات في كتب أهل السنة بدون تمحيص، مع العلم أن أسانيد تلك الروايات أسانيدها ضعيفة1156.
1 ـ قال ابن العربي: فإن قيل: دس على الحسن من تسمَّه، قلنا هذا محال من وجهين: أحدهما: أنه ما كان ليتقي من الحسن بأساً وقد سلَّم الأمر، الثاني: أنه أمر مغيب لا يعلمه إلا الله، فكيف تحملونه بغير بيَّنة على أحد من خلقه في زمن متباعد ولم نثق فيه بنقل ناقل، بين أيدي قوم ذوي أهواء، وفي حال فتنة وعصبية، ينسب كل واحد إلى صاحبه ما لا ينبغي، فلا يقبل منها إلا الصافي، ولا يسمع فيها إلا من العدل الصميم1157.(1/291)
2 ـ وقال ابن تيمية: وأما قوله: معاوية سمّ الحسن، فهذا ممن ذكره بعض الناس، ولم يثبت ذلك ببينة شرعية، أو إقرار معتبر، ولا نقل يجزم به، وهذا مما لا يمكن العلم به، فالقول به قول بلا علم1158. وقد جاء عن ابن تيمية في رده عن اتهام معاوية بسمّ الحسن وأنه أمر الأشعث بن قيس بتنفيذ هذه الجريمة وكانت ابنته تحت الحسن، حيث قال: وإذا قيل أن معاوية أمر أباها كان هذا ظناً محضاً، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: أياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث. ثم أن الأشعث بن قيس مات سنة أربعين وقيل سنة إحدى وأربعين ولهذا لم يذكر في الصلح الذي كان بين معاوية والحسن بن علي، فلو كان شاهداً لكان يكون له ذكر في ذلك، وإذا كان قد مات قبل الحسن بنحو عشر سنين فكيف يكون هو الذي أمر بنته1159. وهذا يدل على قدرة ابن تيمية للنقد العلمي القوي للروايات التاريخية .
3 ـ وقال الذهبي: قلت هذا شئ لا يصح فمن الذي أطلع عليه1160.
4 ـ وقال ابن كثير: روي بعضهم أن يزيد بن معاوية بعث إلى جعدة بنت الأشعث أن سُمَّي الحسن وأنا أتزوجك بعده ففعلت، فلما مات الحسن بعثت إليه فقال: إنا والله لم نرضك للحسن، أفنرضاك لأنفسنا؟ وعندي أن هذا ليس بصحيح، وعدم صحته عن أبيه معاوية بطريق الأولى والأحرى1161.
5 ـ وقال ابن خلدون: وما نقل من أن معاوية دس إليه السم مع زوجته جعدة بنت الأشعث، فهو من أحاديث الشيعة، حاشا لمعاوية من ذلك1162.(1/292)
6 ـ د. جميل المصري : وقد علق على هذه القضية بقوله:... ثم حدث افتعال قضية سم الحسن من قبل معاوية أو يزيد.. ويبدو أن افتعال هذه القضية لم يكن شائعاً آنذاك، لأننا لا نلمس1163 لها أثراً في قضية قيام الحسن، أو حتى عتاباً من الحسين لمعاوية. وبالنسبة لسم الحسن رضي الله عنه، فنحن لا ننكر هذا، فإذا ثبت أنه مات مسموماً فهذه شهادة له وكرامة في حقه1164، وأما اتهام معاوية وابنه فهذا لا يثبت من حيث السند، كما مر معنا، ومن حيث المتن وهل جعدة بنت الأشعث بن قيس بحاجة إلى شرف أو مال ـ كما تذكر الروايات حتى تسارع لتنفيذ هذه الرغبة من يزيد، وبالتالي تكون زوجة له أليست جعدة ابنة أمير قبيلة كندة كافة وهو الأشعث بن قيس، ثم أليس زوجها وهو الحسن بن علي أفضل الناس شرفاً ورفعة بلا منازعة، إن أمه فاطمة رضي الله عنها، وجده رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفى به فخراً، وأبوه علي بن أبي طالب أحد العشرة المبشرين بالجنة ورابع الخلفاء الراشدين، إذاً ما هو الشئ الذي تسعى إليه جعدة وتحصل عليه حتى تنفذ هذا العمل الخطير1165، إن هناك الكثير الذين هم أعداء للوحدة الإسلامية، وزادهم غيظاً وحنقاً ما قام به الحسن بن علي، كما أن قناعتهم قوية بأن وجوده حياً صمام أمان للأمة الإسلامية، فهو إمام ألفتها وزعيم وحدتها بدون منافس، وبالتالي حتى تضطرب الأحداث وتعود الفتن إلى ما كانت عليه فلا بد من تصفيته وإزالته، فالمتهم الأول في نظري هم السبئية أتباع عبد الله بن سبأ الذين وجه لهم الحسن صفعة قوية عندما تنازل لمعاوية وجعل حداً للصراع، ثم الخوارج الذين قتلوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهم الذين طعنوه في فخذه، فربما أرادوا الانتقام من قتلاهم في النهروان وغيرها1166.
سادساً : موقف معاوية من قتلة عثمان رضي الله عنهما :(1/293)
…كان من ضمن شروط الحسن في صلحه مع معاوية ألا يطلب أحداً من أهل المدينة والحجاز والعراق بشئ1167، والذي يلاحظه المؤرخ أنه من ذلك الوقت ترك الطلب بدم عثمان1168، وقد تمّ الاتفاق على عدم مطالبة أحد بشئ كان في أيام علي وهي قاعدة بالغة الأهمية تحول دون الالتفاف إلى الماضي وتركز على فتح صفحة جديدة تركز على الحاضر والمستقبل1169، وقد تمّ التوافق المبني على الالتزام والشرعية حيث تمّ الصلح على أساس العفو المطلق عن كل ما كان بين الفريقين، قبل إبرام الصلح، وبالفعل لم يعاقب معاوية أحداً بذنب سابق، وتأس بذلك صلح الحسن على الإحسان والعفو، وقد تمّ بسط الأمن وحفظ الدماء في عهد معاوية إلى حد كبير1170 وجاء في عيون الأخبار لابن قتيبة: إن معاوية بن أبي سفيان لما قدم بعد عام الجماعة ـ المدينة ـ دخل دار عثمان بن عفان، فصاحت عائشة بنت عثمان بن عفان وبكت ونادت أباها، فقال معاوية: يا إبنة أخي، إن الناس أعطونا طاعة، وأعطيناهم أماناً، وأظهرنا لهم حلماً تحته غضب، وأظهروا لنا ذلاً تحته حقد، ومع كل إنسان سيفه ويرى موضع أصحابه، فإن نكثناهم نكثوا بنا، ولا ندري أعلينا تكون أم لنا، لأن تكوني إبنة عم أمير المؤمنين خير من أن تكوني امرأة من عرض الناس1171. والذي يعتد به من كلام ابن قتيبة ما جاء عن العهود والمواثيق التي أبرمت بين معاوية والحسن وقضت بالصلح بين الناس، ووضع الحرب وحقن الدماء، وعدم تهييج النفوس، وإضافة إلى ذلك فإن السنوات الخمس التي احتضنت المعارك في الجمل وصفين والنهروان ومصر وغيرها ذهبت بأولئك الذين ترددت أسماؤهم بتهمة قتل عثمان، ومع ذلك فإن مسألة قتل عثمان ظلت حاضرة في ذهن الخلفاء من بني أمية ونوابهم في الأغلب وأما انتصار بني أمية لعثمان كان حقيقة لا شبهة فيها1172.
سابعاً : مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه:(1/294)
…تحدثت معظم المصادر في مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه ومن هذه المصادر: ابن سعد1173، وخليفة بن خياط1174، باختصار شديد والبلاذري1175، واليعقوبي1176، والمسعودي1177، وأبو الفرج الأصفهاني1178 مطولاً، وابن الجوزي1179، وابن الأثير1180 مطولاً، والذهبي1181، وابن كثير1182، وقد اعتمد الطبري في خبر حجر بن عدي وأصحابه على أبي مخنف المؤرخ الشيعي المشهور والذي ليس بثقة ولا يعتمد عليه عند علماء المسلمين من أهل السنة، فقد نقل الطبري عنه ست عشرة رواية، وعموماً فإن خبر مقتل حجر بن عدي ورد في مصادر متعددة ولم تنفرد الروايات الشيعية بسوق خبره ولكن رواية أبي مخنف الساقط الاعتبار عند علماء أهل الجرح والتعديل أشارت إلى أن معاوية أوصى المغيرة بن شعبة بشتم علي وذمه، لذلك كان المغيرة لا يترك ذمّ علي في خطبته طوال فترة ولايته على الكوفة، ونص خطبته التي أغضبت حجر بن عدي كما أوردها أبو مخنف: اللهم أرحم عثمان بن عفان وتجاوز عنه، وأجزه بأحسن عمله، فإنه عمل بكتابك، واتبع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، وجمع كلمتنا وحقن دماءنا، وقُتل مظلوماً، اللهم فارحم أنصاره وأولياءه ومحبيه والطالبين بدمه: ويدعو على قتلته1183، وكما نلاحظ من نص الخطبة أنه لم يرد فيها ذمُّ علي ومع ذلك فإن الرواية تشير أنّ هذه الخطبة تضمنت ذلك إلا إذا تأولت لعنه لقتلة عثمان بأنه ذم لعلي1184، وبراءة علي من دم عثمان يعرفها القاصي والداني وقد اثبتها في كتبي عن عثمان وعلي والحسن رضي الله عنهم جميعاً. ومهما يكن من أمر فإن الباحث في مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه، يلاحظ أن موقف حجر من أمير المؤمنين معاوية قد مرّ بمرحلتين:
ـ…المرحلة الأولى : مرحلة المعارضة القولية: 41هـ ـ 50هـ) :(1/295)
…كان حجر بن عدي الكندي، أبو عبد الرحمن الشهيد، له صحبة ووفادة، وفد مع أخيه هانئ بن الأدبر، ولا رواية له عن النبي صلى الله عليه وسلم وسمع من علي وعمار1185، وكان شريفاً، أميراً مطاعاً، أمَّاراً بالمعروف، مقداماً على الإنكار من شيعة علي رضي الله عنهما، شهد صفين أميراً، وكان ذا صلاح وتعبد1186، وكان رضي الله عنه من المعارضين للصلح الذي قام بين الحسن ومعاوية رضي الله عنهما، غير أن هذه المعارضة لم يترتب عليه في هذه المرحلة أي فعل، بل اقتصرت على الأقوال فقط1187، وفي ذلك يقول البلاذري:... لم يزل حجر بن عدي منكراً على الحسن بن علي بن أبي طالب صلحه لمعاوية، فكان يعذله على ذلك ويقول: تركت القتال ومعك أربعون ألفاً ذوو نيات، وبصائر في قتال عدوك، ثم كان بعد ذلك يذكر معاوية فيعيبه، ويُظلِّمه1188، فكان هذا هجيراه، وعادته1189.
ـ…المرحلة الثانية : مرحلة المعارضة الفعلية:
…هذه المرحلة بدأت في سنة 51هـ حيث حصل في هذه السنة تدهور مفاجئ في علاقة حجر بن عدي مع زياد بن أبيه والي العراق، وقد ذكرت المصادر سببين في سبب تدهور هذه العلاقة:
أ ـ…ما ذكر من إقدام المغيرة بن شعبة على الثناء على عثمان والترحم عليه، وذم علي بن أبي طالب، وإقدام حجر بن عدي على مدح علي بن أبي طالب، وذم عثمان بن عفان، وسكوت المغيرة عن حجر بن عدي، فلما مات المغيرة بن شعبة وتولى زياد بن أبيه، قال زياد في عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب مثلما كان يقول المغيرة، فقام حجر بن عدي وقال فيهما مثلما كان يقول المغيرة، فكان ذلك سبب ابتداء المواجهة بين حجر وزياد1190.
ب ـ…ما ذُكر من إطالة زياد الخطبة، وتأخير الصلاة، وقيام حجر بإنكار ذلك على زياد، فكان هذا سبب ابتداء المواجهة بينهما1191 وهذان السببان يكدرهما ما يلي:(1/296)
* ـ…أن سياسة المغيرة رضي الله عنه مع أهل الكوفة اتسمت بالعفو والصفح، وليس بإثارة الأحقادوالإحن، والحجة في ذلك ما أخرجه البخاري من طريق زياد بن علاقة قال: سمعت جرير بن عبد الله يقول يوم مات المغيرة بن شعبة، قام فحمد الله وأثني عليه وقال: عليكم باتقاء الله وحده لا شريك له، والوقار والسكينة حتى يأتيكم أمير، فإنما يأتيكم الآن ثم قال: ((استغفروا لأميركم، فإنه كان يحب العفو1192. ثم قال: أما بعد فإني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم قلت: أبايعك على الإسلام، فشرط عليّ: النصح لكل مسلم. فبايعته على هذا، ورب هذا المسجد إني لناصح لكم1193، ثم استغفر ونزل1194.
* ـ…أن ضم الكوفة إلى زياد كان في سنة 49هـ، وهو ما صرح به فيل مولى زياد حيث قال: ملك زياد العراق خمس سنين، ثم مات سنة ثلاث وخمسين وهذه الرواية التي تحدد تاريخ ضم الكوفة إلى زياد بن أبيه تعد أصح ما في الباب وحيث إن ولاية زياد على الكوفة كانت سنة 49هـ، ولم يحدث الصدام بين حجر وأنصاره وزياد والي الكوفة لأن الحسن بن علي رضي الله عنه لازال حياً ووجوده كان كفيلاً بردع تحركات المعارضين للصلح من أنصاره لأنه رضي الله عنه اشترط عليهم أن يحاربوا من حارب ويسالموا من سالم ولكن بعد وفاة الحسن رضي الله عنه عام 51هـ1195(1/297)
تغير موقف بعض قيادات أهل العراق ومنهم حجر بن عدي من المعارضة القولية إلى الفعلية فقد روى البلاذري بإسناده إلى الشعبي، وغيره، قالوا: لما قدم زياد الكوفة ـ عام 49هـ ـ بعث إلى حجر فقال: يا هذا، كنا على ما علمت، وقد جاء أمر غير ذلك، أمسك عليك لسانك، وليسعك منزلك، وهذا سريري فهو مجلسك، فإياك أن تستنزلك السفلة أو تستفزك، إني لو استخففت بحقك هان علي أمرك، ولم أكلمك من كلامي هذا بحرف، فلما صار إلى منزله اجتمعت إليه الشيعة فقالوا: أنت شيخنا وأحق الناس بإنكار هذا الأمر1196، فملا شخص زياد إلى البصرة استخلف عمرو بن حريث على الصلاة والحرب، ومهران مولاه على الخراج، وأمر العمال بمكاتبة عمرو.. فكتب عمرو إلى زياد: إن كانت لك بالكوفة حاجة فالعجل، فإني كتبت إليك وليس في يدي منها مع حجر إلا القصر، فأخذ السير حتى قدم الكوفةـ فبعث إلى عدي بن حاتم الطائي، وجرير بن عبد الله البجلي... فقال: ائتوا هذا الشيخ المفتون، فإني خائف أن يحملنا من أمره على ما ليس من شأننا فأتوه... وكلمه القوم، فلم يكلم منهم أحداً، فأتوا زياداً فقال: مهيم1197؟ فقال عدي: أيها الأمير، استذمه1198، فإن له سناً فقال: لست لأبي سفيان إذا، ثم أرسل إليه الشُّرَط فقوتلوا1199، وجاء في رواية أخرى: لما قدم زياد الكوفة أميراً1200 أكرم حجر بن الأدبر1201، وأدناه ، وشفَّعَه، فلما أراد الانحدار إلى البصرة1202 دعاه فقال له: يا حجر إنك قد رأيت ما صنعت بك، وإني أريد البصرة، فأحب أن تشخص معي، فإني أكره أن تتخلف بعدي، فعسى أن أبلِّغ عنك شيئاً فيقع في نفسي، وإذا كنت معي لم يقع في نفسي منك شيء، فقد علمت رأيك في علي بن أبي طالب، وقد كان رأي فيه قبلك على مثل ذلك، فلما رأيت الله صرف الأمر إلى معاوية، لم إتهم قضاء الله ورضيت به، وقد رأيت إلى ما صار أمر علي وأصحابه، وإني أحذرك أن تركب أعجاز أمور هلك من ركب صدورها1203، والمقصود من كلام زياد أنه كان من(1/298)
خواص علي رضي الله عنه ولما رأى تنازل الحسن لمعاوية وإجماع الأمة عليه دخل في الجماعة وحرص على وحدة الصف وحذر من الفتن، فقال له حجر: إني مريض ولا استطيع الشخوص. قال: صدقت، والله إنك لمريض الدين والقلب، مريض العقل، وأيم الله لئن بلغني عنك شيء أكرهه بأحرص على قتلك فانظر أو دع، فخرج زياد فلحق بالبصرة، واجتمع إلى حجر قُرّاء أهل الكوفة، فجعل لا ينفذ لعامل زياد معهم أمر، ولا يريد شيئاً إلا منعوه إياه، فكتب إلى زياد: إني والله ما أنا في شيء مع حجر وأصحابه، وأنت أعلم فركب زياد بغاله حتى اقتحم الكوفة، فلما قدمها تغيب حجر، فجعل يطلبه فلا يقدر عليه1204. أما تفاصيل المواجهة بين شرطة زياد وحجر بن عدي وأنصاره، فقد انفرد أبو مخنف من بين المصادر التي وقفت عليها بإيراد تفاصيلها1205، كذلك انفرد أبو مخنف بإيراد تفاصيل مهمة عن شهادة أهل الكوفة على حجر وأصحابه1206،
1 ـ …قضاء معاوية رضي الله عنه في حجر رضي الله عنه وأصحابه:(1/299)
…نظراً لخطورة قضية حجر بن عدي وحساسيتها، فقد وافق زياد بن أبيه على شرط حجر بن عدي عند استسلامه، وهذا الشرط هو إحالة قضية حجر ومن معه إلى معاوية ليحكم فيها1207، وقبل الحديث عن حكم معاوية في حجر وأصحابه، ينبغي التذكير بالتهم الموجهة إليهم، وهذه التهم كما وردت عن أبي مخنف هي:... إن حجراً جمع إليه الجموع، وأظهر شتم الخليفة، ودعا إلى حرب أمير المؤمنين وزعم أن هذا الأمر لا يصلح إلا في آل أبي طالب، ووثب بالمصر، وأخرج عامل أمير المؤمنين، وأظهر عذر أبي تراب1208، والترحم عليه، والبراءة من عدوه وأهل حربه، وأن هؤلاء النفر الذين معه هم رؤوس أصحابه، وعلى مثل رأيه وأمره1209، أما قضاء معاوية رضي الله عنه في حجر رضي الله عنه، وأصحابه فإنه لم يقتلهم على الفور، ولم يطلب منهم البراءة من علي رضي الله عنه كما تزعم بعض الروايات1210، بل استخار الله سبحانه وتعالى فيهم، واستشار أهل مشورته، ثم كان حكمه فيهم أن قتل بعضهم، واستحي بعضهم، والحجة في ذلك ما يرويه صالح بن أحمد بن حنبل1211، بإسناد حسن قال حدثني أبي1212، قال حدثنا أبو المغيرة1213، قال: حدثنا ابن عياش1214، قال: حدثني شرحبيل بن مسلم1215، قال: لما بُعث بحجر بن عدي بن الأدبر وأصحابه من العراق إلى معاوية بن أبي سفيان، استشار الناس في قتلهم، فمنهم المشير، ومنهم الساكت، فدخل معاوية منزله، فلما صلى الظهر قام في الناس خطيباً، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم جلس على منبره، فقام المنادي، فنادى: أين عمرو بن الأسود العنسي1216، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ألا أنا بحصن من الله حصين لم نؤمر بتركه وقولك يا أمير المؤمنين في أهل العراق ألا وأنت الراعي ونحن الرعية ألا وأنت أعلمنا بدائهم وأقدرنا على دوائهم وإنما علينا أن نقول ((سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)) (البقرة ، الآية : 285) فقال معاوية: أما عمرو بن الأسود فقد تبرأ إلينا(1/300)
من دمائهم ورمى بها ما بين عيني معاوية. ثم قام المنادي فنادى: أين أبو المسلم الخولاني، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فلا والله ما أبغضناك منذ أحببناك، ولا عصيناك منذ أطعناك، ولا فارقناك منذ جامعناك، ولا نكثنا بيعتنا منذ بايعناك، على عواتقنا إن أمرتنا أطعناك، وإن دعوتنا أجبناك، وإن سبقناك نظرناك، ثم جلس. ثم قام المنادي فقال: أين عبد الله بن مِخْمَر الشرعبي1217، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: وقولك يا أمير المؤمنين في هذه العصابة من أهل العراق، إن تعاقبهم فقد أصبت، وإن تعفو فقد أحسنت، فقام المنادي فنادى: أين عبد الله بن أسد القسري فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أمير المؤمنين، رعيتك، ووليتك، وأهل طاعتك، إن تعاقبهم فقد جنوا أنفسهم العقوبة، وإن تعفو فإن العفو أقرب للتقوى يا أمير المؤمنين ولا تطع فينا من كان غشوماً ظلوماً، بالليل نؤوماً، عن عمل الآخرة سؤوماً1218.
…يا أمير المؤمنين، إن الدنيا قد انقشعت أوتادها، ومالت بها عمادها، وأحبها أصحابها، واقترب منها ميعادها، ثم جلس فقلت1219 لشرحبيل: فكيف صنع؟ قال: قتل بعضاً واستحي بعضاً وكان فيمن قتل حجر بن عدي بن الأدبر1220، وكان حجر رضي الله عنه قبل قتله قال: يا قوم دعوني أصلي ركعتين، فتركوه فتوضأ، وصلَّى ركعتين، فطوَّل، فقيل له: طوَّلت، أجزعت؟ فقال: ما صليت صلاة أخفّ منها، ولئن جزعت لقد رأيت سيفاً مشهوراً، وكفناً منشوراً، وقبراً محفوراً، وكانت عشائرهم قد جاؤوهم بالأكفان، وحفروا لهم القبور.(1/301)
…ويقال: بل معاوية الذي فعل ذلك. وقال حجر: اللهم إنا نستعديك على أمتنا، فإن أهل العراق شهدوا علينا وإن أهل الشام قتلونا. فقيل له: مُدَّ عنقك. فقال: إنَّ ذاك لدم ما كنت لأُعين عليه1221، وجاء في رواية: لما أتي معاوية بحجر، قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين: قال: أو أمير المؤمنين أنا؟ اضربوا عنقه فصلَّى ركعتين، وقال لأهله: لا تطلقوا عني حديداً، ولا تغسلوا عني دماً، فإني ملاقٍ معاوية على الجادَّة1222. وقد علق ابن العربي على مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه فقال:.. وأراد أن يقيم الخلق للفتنة، فجعله معاوية ممن سعى في الأرض فساداً1223، وقد اعتمد معاوية رضي الله عنه في قضائه على قوله صلى الله عليه وسلم: من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يَشُقَّ عصاكم1224، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه1225، وقوله صلى الله عليه وسلم: إنه ستكون هنات1226، وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة، وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائناً من كان1227. ومما يجدر التذكير به في هذا المقام أن معاوية رضي الله عنه لم يكن ليقضي بقتل حجر بن عدي رضي الله عنه لو أن حجراً اقتصر في معارضته إلى الأقوال فقط ولم ينتقل على الأفعال ولنا في خبر المسور بن مخرمه وغيره مما مرّ معنا دلالة على ذلك1228
2 ـ موقف عائشة رضي الله عنها من مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه:(1/302)
بالغت الروايات في ذكر موقف عائشة رضي الله عنها من مقتل حجر بن عدي، حيث ذهبت بعض الروايات إلى زعم بتهديد عائشة لمعاوية بالقتل حين زارها 51هـ وكذلك التهديد بمحاربة معاوية1229 وهذه الروايات لم يصح منها شيء في حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأما حقيقة موقفها فعن ابن أبي مليكه: إن معاوية جاء يستأذن على عائشة، فأبت أن تأذن له، فخرج غلام لها يقال له: ذكوان1230، قال: ويحك أدخلني على عائشة فإنها قد غضبت علي، فلم يزل بها غلامها حتى أذنت له، وكان أطوع مني عندها، فلما دخل عليها قال: أمتاه فيما وجدت عليَّ يرحمك الله؟ قالت: ... وجدت عليك في شأن حجر وأصحابه أنك قتلتهم فقال لها: ... وأما حجر وأصحابه فإني تخوفت أمراً، وخشيت فتنة تكون، تهراق فيها الدماء، تستحل فيها المحارم، وأنت تخافيني، دعيني والله يفعل ما يشاء قالت: تركتك والله، تركتك والله، تركتك والله1231، وجاء في رواية أخرى: لما قدم معاوية دخل على عائشة، فقالت: أقتلت حجراً؟ قال: يا أم المؤمنين، إني وجدت قتل رجلٍ في صلاح الناس، خير من استحيائه في فسادهم1232.
3 ـ ندم معاوية على قتل حجر بن عدي:
جاء في رواية: .. أن عائشة أرسلت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام إلى معاوية في حجر وأصحابه فقدم عليه وقد قتلهم، فقال له عبد الرحمن: أين غاب عنك حلم أبي سفيان؟ قال: غاب حين غاب عني مثلك من حلماء1233 قومي، قال الذهبي: يعني أنه ندم1234. ومع أن قتل حجر رضي الله عنه وأن ذكر له من الأعذار والمبررات ما ذكر، ففي الحقيقة كانت غلطة من معاوية، وكان ينبغي أن يتسع حلمه لصحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وقد ندم معاوية ندماً كبيراً على قتل حجر، وظل يذكر هذه الحادثة طوال حياته1235، وقد روى أنه قال عند موته: يوم لي من ابن الأدبر طويل: ثلاث مرات ـ يعني حجراً1236.
4 ـ موقف لمالك بن هبيرة السكوني رضي الله عنه:(1/303)
لم يقبل معاوية رضي الله عنه شفاعة مالك بن هبيرة السكوني في حجر بن عدي، فجمع مالك قومه وسار ليخلصه وأصحابه، فلقي القتلة وسألهم، فقالوا: مات القوم. وسار إلى عَدِيّ فتيقن قتلهم فأرسل في أثر القتلة فلم يدركهم، وأخبروا معاوية فقال: تلك حرارة يجدها في نفسه وكأني بها قد طفئت. ثم أرسل إليه بمائة ألف وقال: خفت أن يعيد القوم حرباً فيكون على المسلمين أعظم من قتل حجر فطابت نفسه1237، وكان مالك بن هبيرة السكوني صحابي جليل وكان معاوية رضي الله عنه ولاّه حمص وكان يقول فيه: ما أصبح عندي من العرب أوثق في نفسي نصحا بجماعة المسلمين وعامتهم من مالك بن هبيرة1238.وقد كان يسعى معاوية غير القتل من العقوبات، كالسجن، أو تفريق حجر وجماعته، أويمن بهم على عشائرهم1239
5 ـ ما قيل في حجر بن عدي من رثاء:
قالت هند ابنة زيد بن مخرمة الأنصارية في رثاء حجر:
ترفع أيها القمر المنير
…………………تَبَصَّرْ هل ترى حجراً يسير
يسير إلى معاوية بن حرب
…………………ليقتله كم زعم الأمير
تجبرت الجبابر بعد حجر
…………………وطاب لها الخورنق والسدير
وأصبحت البلاد بها محولا
…………………كأن لم يحيها مزن مطير
ألا يا حجر حجر بن عدي
…………………تلقاك السلامة والسرور
أخاف عليك ما أدري عديا
…………………وشيخاً في دمشق له زئير
إلى أن قالت:
ألا ياليت حجراً مات موتاً
…………………ولم ينحر كما نحر البعير
فإن تهلك فكل زعيم قوم
…………………من الدنيا إلى هُلكٍ يصير1240.(1/304)
وفيما عدا قضية حجر وأصحابه فقد حافظ معاوية على سياسته السلمية القائمة على الحلم وسعة الصدر مع رعيته والتي لخصها هو نفسه في جمل يسيره حين قال: لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أصنع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت كانوا إذا شدوها أرخيتها وإذا أرخوها شددتها1241، وهي سياسة حكيمة تفسح المجال أمام القول إذا ما ظل في حدود لا يتعداها، فحيث يكفي المال عن اللسان يعتمده، ولا يضع السوط حيث يكفي اللسان، ولا يضع السيف حيث يكفي السوط1242، وقد قيل: بأن سليم مولى زياد فخر بزياد عند معاوية فقال معاوية: اسكت ما أدرك صاحبك شيئاً قط بسيفه إلا وقد أدركت أكثر منه بلساني1243.
المبحث الثاني: مباشرة معاوية للأمور بنفسه وحرصه على توطين الأمن في خلافته:
أولاً: مباشرة معاوية للأمور بنفسه:
ومن القواعد التي قامت عليها سياسة معاوية الداخلية مباشرة الأمور بنفسه، وكان رضي الله عنه يحرص على معرفة كل صغيرة وكبيرة في دولة فرغم أنه استعان بأمهر رجال عصره، إلا أنه لم يكن يكتفي بذلك بل كرّس كل وقته وجهده للدولة ورعاية مصالح المسلمين1244.(1/305)
1 ـ مجلس معاوية في يومه:كان معاوية رضي الله عنه، يظهر في اليوم والليلة خمس مرات، فكان إذا صلى الصبح جلس للقصاص حتى يفرغ من قصصه ثم يدخل فيؤتي بمصحفه، فيقرأ جزأه ثم يدخل إلى منزله فيأمر وينهي ثم يصلي أربع ركعات، ويخرج إلى مجلسه، فينادي بخاصته، فيحدثهم ويحدثونه، ويدخل عليه وزراءه، فيكلمونه فيما يريدون من يومهم، ثم يؤتى بالغداء الأصغر، وهو فضل عشاء الليل، ...ثم يتحدث طويلاً، ثم يدخل منزله لما أراد ثم يخرج فيقول يا غلام أخرج الكرسي، ويسند ظهره إلى المقصورة، ويقوم الحراس، فيقدم إليه الضعيف والإعرابي والصبي والمرأة فيقول: ظلمت، فيقول: أعزّوه ويقول: عدي عليّ فيقول: ابعثوا معه، ويقول صنع بي فيقول: انظروا له، حتى لم يبق أحد دخل فجلس على السرير، ثم يقول: ائذنوا للناس على قدر منازلهم ولا يشغلني أحد عن رد السلام، فيقال: كيف أصبح أمير المؤمنين أطال الله عمره؟ فيقول: بنعمة من الله، فإذا استووا جلوساً قال: يا هؤلاء إنما سُميتم أشرافاً، لأنكم شرفتم من دونكم بهذا المجلس، ارفعوا حاجة من لا يصل إلينا فيقوم الرجل فيقول: استشهد فلان، فيقول: افرضوا لولده، ويقول: غاب فلان عن أهله فيقول: تعاهدوهم وأعطوهم، واقضوا حوائجهم واخدموهم. ويؤتى بالغداء ويحضر الكاتب، فيقوم عند رأسه ويقدم الرجل فيقال له: اجلس على المائدة فيجلس فيمد يده، فيأكل لقمتين أو ثلاثاً، والكاتب يقرأ كتابه، فيأمر فيه بأمره، فيقال: يا عبد الله أعقب، فيقوم ويتقدم آخر حتى يأتي على أصحاب الحوائج كلهم، وربما قدم عليه من أصحاب الحوائج أربعون أو نحوهم على قدر الغداء، ثم يرفع الغداء، وينصرف الناس، ويدخل منزله، فلا يطمع فيه طامع حتى ينادى بالظهر، فيخرج فيصليَّ1245ثم يجلس فيأذن لخاصة الخاصة، فإن كان الوقت شتاء أتاهم بزاد الحاج، من الأخبصة اليابسة والخشكبالج1246، والأقراص المعجونة، بالسكر والليّن من دقيق السميد، والكعك المسمن والفواكه اليابسة(1/306)
وإن كان الصيف أتاهم بالفواكه الرطبة ويدخل عليه وزراءه فيؤامرونه فيما احتاجوا إليه بقية يومهم، ويجلس إلى العصر، ثم يخرج فيصلي العصر ثم يدخل منزله، فلا يطمع فيه طامع حتى إذا كان في آخر وقت العصر، خرج فجلس على سريره، ويؤذن للناس على منازلهم، فيؤتى بالعشاء فيفرغ منها مقدار ما ينادي بالمغرب فيصليها، ثم يصلي أربع ركعات، يقرأ في كل ركعة خمسين آية، يجهر تارة ويخافت أخرى. ثم يدخل منزله فلا يطمع فيه طامع حتى ينادي بالعشاء الآخرة، فيخرج فيصلي ثم يؤذن للخاصة، وخاصة الخاصة، والوزراء والحاشية، فيؤامره الوزراء فيما أرادوا صدراً من ليلتهم، ويسمر ثلث الليل في أخبار العرب وأيامها، والعجم وملوكها وسياساتها وسير الأمم وحروبها، ومكائدها وسياساتها لرعيتها، وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة، ثم تأتيه الطرف الغريبة من عند نسائه: من الحلواء وغيرها من المآكل اللطيفة، ثم يدخل فينام ثلث الليل، ثم يقوم: فيحضر الدفاتر، فيها سير الملوك وأخبارها، والحروب والمكائد فيقرأ ذلك عليه غلمان له مرتبون، وقد وكّلوا بحفظها وقراءتها، فيمر بسمعه كل ليلة جمل من الأخبار والسير والآثار، فيخرج ثم يصلي الصبح، ثم يعود فيفعل ما وصفنا كل يوم وليلة وقد تبعه في ذلك، عبد الملك بن مروان وغيره، فلم يدركوا حلمه، ولا إتقانه السياسة ولا التأني للأمور ولا مدارات الناس على منازلهم، ورفقه بهم على طبقاتهم1247.
2 ـ الدواوين المركزية التابعة لمعاوية:
أ ـ ديوان الرسائل:(1/307)
هو الهيئة المشرفة على تحرير رسائل الخليفة وأوامره وعهوده، ووصاياه، ومواثيقه إلى موظفيه في الأقاليم الإسلامية إلى البلدان الخارجية التي لها علاقة بالدولة الإسلامية1248ومن أشهر من أشرف على ديوان الرسائل وقام بمهمة الكتابة في هذا الديوان في عهد معاوية عبد الله بن اوس الغساني، وزمل بن عمرو العذري، واستمر هذان الكاتبان في خلافة يزيد الأول1249، وكانت وسيلة الرسائل في الاتصال بالولاة وقادة الجند، والقضاة، وزعماء القبائل تابعة لمعاوية وتحت إشرافه المباشر.
ب ـ ديوان الخاتم:(1/308)
أنشأ معاوية بن أبي سفيان رضي لله عنه ديوان الخاتم لتحقيق السرية والأمان لمراسلات الدولة فلا تطلع عليها عين جاسوس ولا تصل إليها يد خائن1250، وكان من أغراض هذا الديوان تحاشي التزوير، ومنع حدوث التلاعب، في الكتب التي يصدرها الخليفة، ثم أصبح الديوان بمثابة سجل للكتب الصادرة، وصارت الدولة تعتمد عليه في تدقيق الأوامر، والمراسلات التي تتعلق بالصرف والحسابات، بين مقر الخلافة والأقاليم الإسلامية الأخرى1251، كما أنه كان يقوم بالأشراف على تدقيق الدواوين الأخرى، وبيان الأخطاء التي تقع فيها، وهذا الديوان يختلف عن ختم الرسول صلى الله عليه وسلم، وختم الخلفاء الراشدين، فختم الرسول صلى الله عليه وسلم يعني التوقيع بالختم، بينما نره في عهد معاوية، وعصر الدولة الأموية ـ بمثابة ـ جهاز للفحص والتدقيق في الأعمال الصادرة عن الدواوين الأخرى، وقد تقلد الخاتم الكبير لمعاوية، عبد الله بن محصن الحميري وكان سبب ذلك أن معاوية أمر لعمرو بن الزبير في معونته وقضاء دينه بمائة ألف درهم، وكتب بذلك إلى زياد بن أبيه وهو على العراق، ففض عمرو الكتاب وصير المائة مائتين، فلما رفع زياد حسابه أنكرها معاوية، فأخذ عمراً بردها وحبسه، فأدها عنه أخوه عبد الله بن الزبير، فأحدث معاوية عند ذلك ديوان الخاتم وخزم الكتب1252، ولم تكن تخزم1253، وفي الحقيقة فإن تأسيس ديوان الخاتم أملته ظروف اتساع الدولة الإسلامية في عهد معاوية رضي الله عنه، وحاجة الخليفة إلى نظام اتصال آمن وسري لمتابعة عماله وقواده ورجال دولته1254.(1/309)
خـ ـ ديوان البريد: يذكر المؤرخون: أن معاوية بن أبي سفيان أول من ادخل نظام البريد في الدولة الإسلامية، وأصدر أوامره بوضع الخيول في عدة أماكن، وقام بتنظيمه1255، وتشير بعض المصادر إلى أنه اقتبس من الروم1256، وكانت أعماله في العصر الأموي، واسعة ومتشعبة، نظراً لسعة رقعة الدولة الإسلامية، وقد قام الخلفاء الأمويون بتحسين طرق المواصلات التي سير عليها صاحب البريد، وكانت تلك الطرق واضحة ومعلومة، والدليل على تحسين هذه الطرق هو سرعة وصول الأخبار إلى مقر الخلافة بالشام1257، ولم تكن خدمات البريد قاصرة على ما يتعلق بالدولة، بل كان في بعض الأوقات يحمل رسائل الناس من بلد إلى آخر1258، وكانت الدولة في عهد معاوية لا تستغني عن البريد في حالات السلم، وحالات الحرب، وكان موظف البريد من أهم أعوان الخليفة وقد ذكرت بعض المصادر أسماء بعض من اشتغل مع معاوية في ديوان البريد وهما: نصر ين ذبيان، والكميت، كانا على البريد في أيام معاوية واستخدامهما في نقل الأخبار بين الشام والحجاز1259 ، وكانت أهم وسائل النقل: البغال1260، والخيل1261، ويعتبر معاوية مؤسس نظام البريد في الإسلام، حيث كانت الرسائل ترسل قبل ذلك من قبل الخليفة إلى الجهة التي يراد إرسالها إليها، عن طريق رسول يحملها وينطلق بها وحده، حتى يوصلها إلى الجهة المقصودة، فكانت بذلك الرسائل تستغرق مدة طويلة حتى تصل إلى محلها وأم نظام البريد الذي استخدمه معاوية اقتباساً من البيزنطيين فقد كان يقتضي أن تقسم الطرق إلى مسافات، يوضع في نهاية كل مسافة دواب (خيل) مهيأة لحمل رسائل الخليفة إلى الجهات المختلفة، تسلم الكتب والرسائل إلى صاحب البريد، وينطلق بها مسرعاً حتى إذا بلغ نهاية المسافة سلمها لمن بعده، وتظل الرسالة تنطلق من مسافة إلى مسافة حتى تصل إلى الجهات المرسلة إليها في أقصر مدة، وأما مقدار المسافة الواحدة، فكان أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، وبذلك يكون طول(1/310)
المسافة أثنى عشر ميلاً، أي عشرين كيلو متراً تقريباً، وهذه المسافة تسمى بريداً، وبهذه الطريقة تصل الرسالة بأكبر سرعة، دون إجهاد لصاحب البريد، حيث أن المسافة يمكن قطعها بسهولة، وتناوب أصحاب البريد إذا كان سيقطع المسافة وحده، وهكذا يوفر هذا النظام الراحة لأصحاب البريد، واختصار الوقت1262، يقول أبو هلال العسكري: أول من وضع البريد في توصيلها يوفر الزمن الذي يستريحه صاحب البريد في الإسلام معاوية بن أبي سفيان، وأحكم أمره عبد الملك1263.
س ـ نظام الكتبة: كان هناك كاتب لديوان الرسائل، وآخر لديوان الخراج، وثالث لديوان الجند، ورابع لديوان الشرطة وخامس لديوان القضاء، وكان في عهد الأمويين أكبر دواوين الدولة، ويقوم الموظفون فيه بنسخ أوامر الخليفة، وإيداعها ديوان الخاتم، بعد أن تحزم وتختم بالشمع، ثم تختم بخاتم صاحب الديوان1264، وظل ديوان الخاتم من أكبر دواوين الدولة، منذ أنشأه معاوية، وحتى أواسط العهد العباسي1265، وكانت هذه الدواوين تقوم بأعمال وزارة المالية(ديوان الخراج) ووزارة الدفاع (ديوان الجند) ووزارة الداخلية (ديوان الشرطة) ووزارة العدل (ديوان القضاء) كما كان ديوان الرسائل يقوم بأعمال السكرتيرية، وديوان الخاتم يقوم بأعمال السجلات والأرشيف وكان لكل ديوان موظفوه من الكتبة المتخصصين، وكان ديوان الخراج يكتب في العراق باللغة الفارسية، وفي الشام ومصر باللغة الرومية وظل كذلك حتى عرّبه عبد الملك بن مروان1266.
ثانياً : حرصه على توطين الأمن في خلافته:
…ومن القواعد التي بنى عليها معاوية سياسته الداخلية توطيد الأمن في ربوع العالم الإسلامي وقد اتخذ معاوية عدة وسائل لتحقيق هذا الهدف.(1/311)
1 ـ الحاجب: كان معاوية بن أبي سفيان أول من اتخذ الحاجب في الإسلام، لكي يتجنب محاولات الاعتداء عليه1267، وكان بعض المظاهر الملكية له ما يبرره في هذه الحقبة التاريخية فقد عبر ابن خلدون على احتجاب الخلفاء عن الناس، على النحو التالي: كان أول شيء بدأ به في الدولة شأن الباب وستره دون الجمهور، لما كان يخشون على أنفسهم من اغتيال الخوارج وغيرهم كما وقع بعمر وعلي ومعاوية وعمر بن العاص وغيرهم، مع ما في فتحه من ازدحام الناس عليهم وشغلهم بهم عن المهمات، فاتخذوا من يقوم لهم بذلك وسموه الحاجب1268، ومما يعزز آراء ابن خلدون عن وجود العامل الأمني وراء اتخاذ معاوية من محاولة اغتياله التي دبرها الخوارج: أمر عند ذلك بالمقصورات وحرس الليل، وقيام الشرطة على رأسه إذا سجد1269، وقد كان معاوية وبنو أمية يعيشون في الشام قريباً من أعدائهم الموتورين من الروم، فضلاً عن أعدائهم الموتورين من الشيعة والخوارج المتفرقين في البلاد، وكانوا يرون لابد لهم لاستقرار الدولة الإسلامية التي قتل ثلاثة من خلفائها من اتخاذ نمط من أنماط الحراسة والاحتراز1270، وقد ذكر المؤرخون أسماء أربعة من مواليه شغلوا له وظيفة الحاجب، وهم سعد، وأبو أيوب، وصفوان1271، وكان يشترط في الحاجب أن يعرف منازل الناس وأنسابهم وطبقاتهم، لكي يتمكن أن يعرف من يأذن لهم، ومن لا يأذن لهم، فقد رويت أخبار كثيرة تؤكد ذلك، فمعاوية بن أبي سفيان قال لحصين بن المنذر، وكان يدخل عليه في آخريات الناس:
يا أبا ساسان كأنه لا يحسن أذنك؟ فأنشأ يقول:
…………وكل خفيف الساق يسعى مشمراً
……………………إذا فتح البواب بابك أصبعاً…………ونحن الجلوس الماكثون رزانة
وحلما إلى أن يفتح الباب أجمعا1272(1/312)
وعندما دخل شريك الحارثي على معاوية قال له: من أنت؟ فقال: يا أمير المؤمنين مارأيت لك هفوة قبل هذه مثلك ينكر مثلي من رعيته، فقال له معاوية: إن معرفتك متفرقة أعرف وجهك إذا حضرت الوجوه، وأعرف إسمك في الأسماء إذا ذكرت، ولا أعلم أن ذلك الاسم هو هذا الوجه ما ذكر لي اسمك تجتمع معرفتك1273، فالحاجب يخبر الخليفة والخليفة هو الذي يأذن أو لا يأذن. وذات يوم وقف الأحنف بن قيس، ومحمد بن الأشعث بباب معاوية الأول، فإذن للأحنف، ثم إذن لابن الأشعث، فأسرع في مشيته حتى تقدم الأحنف ودخل قبله، فلما رآه معاوية غمه ذلك، وأحنقه فالتفت إليه فقال: والله إني ما أذنت له قبلك وأنا أريد أن تدخل قبله، وأنا كما نلي أموركم كذلك نلي آدابكم ولا يزيد متزيد في خطوة إلا لنقص يجده في نفسه1274.
2 ـ الحرس : كان معاوية بن أبي سفيان أول من اتخذ الحرس في الدولة الإسلامية، خوفاً من الخوارج الذين كانوا يريدون قتله، فقد أمر بالمقصورات في الجوامع وكان لا يدخلها إلا ثقاة وحراسه1275، وكما يبدو أن معاوية لم يكتف باتخاذ الحرس، بل اتخذ المقاصير زيادة في التشدد وذلك لحماية نفسه من أي اعتداء قد يقع عليه1276 وقد ذكرت كتب التاريخ أسماء رؤساء الحرس في عهد معاوية وهم: المحتار: أبو المخارق1277، ويزيد بن الحارث العبسي1278.(1/313)
3 ـ الشرطة: وظيفتها المحافظة على الأمن والنظام، والقبض على اللصوص والجناة والمفسدين، والدفاع عن الخليفة، وهي غير مسؤولة عن صد أي هجوم خارجي عن الدولة1279 وقد قام معاوية بتنظيمها وتطويرها في الشام وقد ذكر المؤرخون أربعة أسماء من الذين عينهم على رئاسة الشرطة وهم: قيس بن حمزة الهمذاني، زمل بن عمرو العذري، الضحاك بن قيس الفهري ويزيد بن الحر العنسي1280 والشرطة لا يقتصر وجودها على عاصمة الخلافة فقط بل في الولايات الإسلامية الأخرى وهم يتبعون الولاة فهم الذين يختارونهم ويعينونهم وكان وجودها مهم للدولة والمجتمع، فالدولة تعتمد عليها في قمع المتمردين، وفي القضاء على الثورات، والاضطرابات، وربما كانت تحل محل الجند في حالة عنايتهم واشتراكهم في الغزوات، وهي للمجتمع، لأنها تعمل على تحقيق الأمن والاستقرار، فهي الجهة الوحيدة المسؤولة عن حماية أرواح الناس، وحفظ حقوقهم وأموالهم من اعتداء بعضهم على بعض وقد كلف الخلفاء الأمويون رؤساء الشرطة بأعمال شتى خارج بلاد الشام وداخلها: فالضحاك بن قيس كلفه معاوية، بإبلاغ وصيته لابنه يزيد، وأخذ البيعة له1281.(1/314)
4 ـ حسن اختيار الرجال والأعوان : فقد وفق معاوية رضي الله عنه في اختيار أعوانه من الرجال الموثوق بولايتهم وخبرتهم الإدارية، مع حكمتهم ودهائهم. ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر: عمرو بن العاص السهمي، والمغيرة بن شعبة الثقفي، وزياد بن أبيه الثقفي، ويزيد بن الحر العبسي، والضحاك بن قيس الفهري، وعبد الله بن عامر بن كريز، وغيرهم من القادة المقاتلين أمثال المهلب بن أبي صفرة، وعقبة بن نافع الفهري، ومالك بن هبيرة، وجنادة بن أمية الأزدي وآخرين، وكان عمرو بن العاص يقول: أنا للبديهة، ومعاوية للأناة، والمغيرة للمعضلات، وزياد لصغار الأمور وكبارها1282. وقد ساهم هؤلاء في إدارة الدولة وفتوحها والتصدي لأعدائها، فكان لهم دور كبير ومتميز في ترسيخ وتوطين وتثبيت الأمن ودعائم الخلافة الأموية1283 .
5 ـ استخدام المال في تأكيد ولاء الأعوان وتأليف القلوب: فقد اعتبر معاوية من أجواد العرب لأنه استمال القلوب بالبذل والعطاء وجاد بالمال مع المداراة وكان إذا بلغه عن رجل ما يكره أسكته بالمال1284.
6 ـ إتباع سياسة الشدة واللين: في الوقت نفسه حسب الظروف والأحوال: وظهرت هذه السياسة بشكل واضح بعد توطيد دعائم الخلافة الأموية، وكتب معاوية إلى زياد بن أبيه في ذلك وقال: إنه لا يصلح أن أسوس وتسوس الناس بسياسة واحدة إنا إن نشتد جميعاً نهلك الناس ونحرجهم، وإن نلن جميعاً نبطرهم، ولكن تلين وأشتد وتشتد وألين1285، ويمثل هذه السياسة وما نسب إلى معاوية رضي الله عنه من أقوال مثل: لا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، فإذا لم أجد من السيف بداً ركبته، إي استعملته1286، وقوله المشهور: لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، إن جبذوها أرسلتها، وإن خلوها جبذتها1287.
7 ـ إتباع سياسة المنفعة المتبادلة بين بني أمية ورعيتهم:(1/315)
لم يستطع معاوية رضي الله عنه إتباع سياسة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم الراشدة، ولا شك في أن كثرة الأموال بعد اتساع الدولة الإسلامية جعلت كثيراً من المسلمين يتطلعون إلى التمتع بالخيرات التي أخذت تتدفق عليهم وقد أعرب معاوية عن ذلك بشكل واضح وقال للمسلمين:.. غير أني سلكت طريقاً لي فيه منفعة، ولكم فيه مثل ذلك، ولكل فيه مؤاكلة حسنة ومشاربة جميلة ما استقامت السيرة، وحسنت الطاعة، فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم1288.
8 ـ اتخاذ سياسة إعلامية للإشادة به وبخلافته وجعل الناس يميلون إليهم: وكان معاوية بن أبي سفيان يقول: أحب الناس إلي أشدهم تحبيباً لي إلى الناس1289، وأتبعه بعد ذلك الخلفاء الأمويون باستمالة عشرات الشعراء وأغدقوا عليهم الأموال، فأشادوا بهم وبحقهم في الخلافة وصلاحهم لها ووجوب طاعتهم ونصرتهم نظراً لأن الشعر كان أهم وسيلة إعلامية في ذلك العصر1290، ومن الأشعار التي قيلت في هذا الاتجاه ما قاله الأخطل:
………تَمَّت جدودهم والله فضلهم
………………وجدُّ قوم سواهم خامل نكد
………وأنتم أهل بيت لا يُوازنُهم
………………بيت إذا عُدّتِ الأحساب والعدد1291
وقد إهتمّ معاوية بفن الدعاية والإعلام، وأوكله إلى عدد من الرجال يهمهم أمره ويؤيدونه، فكان يكثر أعطيات الشعراء وكذلك شيوخ القبائل، لكسبهم في صفه، ويعطي مجالاً واسعاً لولاته لكي يحققوا بعض المكاسب السياسية والإعلامية والأمنية، فقد كتب زياد والي البصرة في عهد معاوية خمسمائة من مشايخها، وأعيانها في صحابته، ورزقهم ما بين الثلاثمائة إلى الخمسمائة1292، فقال فيه حارثة بن بدر الغُدانيّ:
………ألا من مبلغ عني زياداً
………………فنعم أخو الخليفة والأمير
………فأنت إمام معدلةٍ وقصد
………………وحزم حين تحضرك الأمور
………أخوك خليفة الله بن حرب
………………وأنت وزيرة نعم الوزير1293(1/316)
وكان معاوية رضي الله عنه يحرص على امتصاص غضب الشعراء بحلمه وعفوه، فعندها هجا يزيد بن مفرِّغ الحميري بني زياد، عندما كان مع عباد بن زياد بسجستان، فاشتغل عنه بحرب الترك، فاستبطأه، فأصاب الجند مع عباد ضيق في أعلاف دوابهم فقال ابن مفرغ:
………ألا ليت اللحى عادت حشيشاً
………………فنعلفها خيول المسلمين
وكان عبّاد بن زياد عظيم اللحية، فأنهِيَ شعره إلى عبّاد وقيل: ما أراد غيرك، فطلبه عباد، فهرب منه، وهجاه بقصائد كثيرة، فكان مما هجاه به قوله:
………إذا أودى معاوية بن حرب
………………فسبِّر شعْبَ قعبك بانصداع
………فأشهد أن أمك لم تباشر
………………أبا سفيان واضعه القناع
………ولكن أمراً فيه لبس
………………على وجل شديد وارتياعٍ
………وقوله:
………ألا أبلغ معاوية بن حرب
………………مغلغلة من الرجل اليماني
………أتغضب أن يقال أبوك عَفُّ
………………وترضى أن يقال أبوك زان
………فأشهد أن رحمك من زياد
………………كرحم الفيل من ولد الأتان1294
ولما هجا ابن المفرِّغ عبَّاداً فارقه مقبلاً إلى البصرة، وعبيد الله يومئذ وافد على معاوية، فكتب عباد إلى عبيد الله ببعض ما هجاه به، فلما قرأ عبيد الله الشعر دخل على معاوية، فأنشده إياه، واستأذنه في قتل ابن مفرغ، فأبى عليه أن يقتله، وقال: أدِّبه ولا تبلغ به القتل1295... ووقع ابن مفرِّغ بين يدي عبيد الله.. فأمر به فسقي دواء، ثم حمل على حمار عليه إكاف فجعل يطاف به وهو يسلح في ثيابه1296.
وقال ابن مفرِّغ لعبيد الله:
………يُغسِل الماء ما صنعت وقولي
………………راسخ منك في العظام البوالي
ثم حمله عبيد الله إلى عباد بسجستان، فكلمت اليمانية فيه بالشام معاوية، فأرسل رسولاً إلى عباد، فحمل، ابن مفرغ من عنده حتى قدم على معاوية فقال في طريقه:
………عَدَس مالعبّاد عليك إمارة
………………نجوتِ وهذا تحملين طليق
………لعمري لقد نجاك من هوّة الرّدى
………………إمام وحبل للأنام وَثِيق
………سأشكر ما أوتيت من حسن نعمة
………………ومثلي بشكر المنعمين حقيق(1/317)
فلما دخل على معاوية بكى، وقال: ركب مني ما لم يركب من مسلم على غير حدث ولا جريرة... وبعد حوار مع معاوية قال له معاوية اذهب فقد عفونا لك عن جرمك، أما لو إيانا تعامل لم يكن مما كان شيء، فانطلق وفي أي أرض شئت فانزل. فانزل الموصل، ثم إنه ارتاح إلى البصرة، فقدمها، ودخل على عبيد الله فآمنه1297. فقد كان معاوية رضي الله عنه يحرص على كسب الشعراء لصفه، والتحبب إليهم وإكرامهم وعدم محاولة الإساءة إليهم، فقد كانوا أقرب الشبه بالفضائيات في الوقت الحاضر.
9 ـ جهاز المخابرات: كانت الأجهزة الأمنية الداخلية والخارجية في عهد معاوية قوية جداً، وكانت قدرتها على جمع المعلومات فائقة، وكان معاوية رضي الله عنه يشرف على جهاز المخابرات بنفسه وكان له جهاز سري مربوط به لمراقبة الولاة والرعية، فلم يكن في قطر من الأقطار ولا ناحية من النواحي عامل أو أمير جيش إلا وعليه عين لا يفارقه، بل وصلت عيونه حتى في البلاط البيزنطي وإليك ما يدل على ذلك:
أ ـ إطلاعه على المراسلات التي بين الحسين وأهل العراق:(1/318)
لما توفي الحسن بن علي اجتمعت الشيعة في دار سليمان بن صرد وكتبوا إلى الحسين كتاباً بالتعزية في وفاة الحسن: وقالوا في كتابهم: إن الله قد جعل فيك أعظم الخلق ممن مضى ونحن شيعتك المصابة بمصيبتك، المحزونة بحزنك، والمسرورة بسرورك، المنتظرة لأمرك، فرد الحسين على كتابهم: إني لأرجو أن يكون رأي أخي في الموادعة، ورأي في جهاد الظلمة رشداً أو سداداً، فالصقوا بالأرض وأخفوا الشخص، اكتموا الهوى، واحترسوا في الاضناء ما دام ابن هند حياً، فإن يحدث به حدث وأنا حي يأتكم رأيي إن شاء الله1298، ولقد أشارت تلك الرسائل المتبادلة بين الحسين وأهل الكوفة مخاوف بني أمية في المدينة، فكتبوا إلى معاوية يستشيرونه بشأن الحسين: فكتب إليهم بأن لا يتعرضوا له مطلقاً1299، وكان معاوية على معرفة بتلك الرسائل والعلاقات الوثيقة التي تربط بين الحسين وبين الكوفيين، ولهذا فقد طلب معاوية من الحسين: أن يتق الله عز وجل وأن لا يشق عصا المسلمين ويذكره بالله في أمر المسلمين1300، ولقد كان موقف الحسين واضحاً وإعلانه صراحة بقوله: إنا قد بايعنا وعاهدنا، ولا سبيل إلى نقض بيعتنا1301، وظل الحسين رضي الله عنه ملتزماً ببيعته وطاعته طوال عهد معاوية1302، رضي الله عنه.
ب ـ قصة معاوية مع المسور بن مخرّمة فقد صارح معاوية المسور وقال له: يا مسور ما فعل طعنك على الأئمة1303، ففيه، معرفة معاوية لما يقول كبار الشخصيات في المجتمع الإسلامي فيه.
جـ ـ قصة الأسير المسلم عند البيزنطيين، الذي لطم وجه بين يدي ملك الروم وقوله الأسير: وا إسلاماه أين أنت يا معاوية، فوصل ذلك الخبر إلى معاوية1304، هذه بعض الشواهد التي تدل على قوة جهاز المخابرات التابع للدولة الأموية.
س ـ وضع بعض أتباع علي رضي الله عنه بالكوفة تحت المراقبة:(1/319)
لم يدخل زياد في طاعة معاوية بسهولة وامتنع في بداية أمره على طاعته وتحصن ببلاد فارس واستطاع معاوية بعد أخذ ورد إقناع زياد في دخوله طاعته وسيأتي تفصيل ذلك بإذن الله وسأل زياد معاوية أن يسمح له في نزول الكوفة، فأذن له، فشخص إلى الكوفة، فكان المغيرة يكرمه ويعظمه، فكتب معاوية إلى المغيرة: خذ زياداً وسليمان بن صرد، وحجر بن عدي، وشَبَت بن ربعي، وابن الكواء، وعمر بن الحمق بالصلاة في الجماعة، فكانوا يحضرون معه في الصلاة1305، فقد كان هذا إجراء احتياطياً من معاوية حتى يكون هؤلاء القوم تحت ناظري والي الكوفة باستمرار، وذلك أن صلح الحسن ومعاوية يوجد له معارضون،ولا يستبعد التفافهم حول بعض رجالات علي ـ رضي الله عنه ـ حسماً منه لمادة الفتنة1306.
10 ـ الاهتمام ببناء الجيش الإسلامي :
كان لمعاوية بعد نظر سياسي تمثل في بناء جيش قوي منذ أن كان والياً على الشام وتمحور دور هذا الجيش في استتباب الأمن داخل الولاية ومن ثم القيام بعمليات توسع خارجية قبل وبعد نيله الخلافة1307 تمثلت في حركة الفتوحات في عصره وهذا سيأتي تفصيلها في محله بإذن الله تعالى.(1/320)
11 ـ سياسة الموازنات : على الرغم من نفوذ الكلبيين في الدولة الأموية، فإن المعادلة لم تكن قائمة على التحالف الأموي ـ الكلبي، ولكنها اتخذت في عهد معاوية رضي الله عنه منحىً توازنياً ما بين كلب وفهر بصورة خاصة، وقحطان وقيس بصورة عامة، فإذا كان الكلبيون قد حملوا عبء الدفاع المسلح عن الدولة، مؤثرين الإقامة في جنوب الشام (جند الأردن)، فإن الفهريين كان لهم الدور السياسي والإداري البارز فضلاً عن الدور العسكري، حيث شارك زعيمهم الضحاك بن قيس في صفين، وكان بالإضافة إلى ذلك في طليعة الذين اعتمد عليهم معاوية في حضِّ الناس على البيعة ليزيد1308، وقد ارتفع الضحاك في السياسة الأموية، وفي أعقاب الدور الأمني الذي شغله في عهد معاوية كقائد على شرطته1309، والدور السياسي في عهد يزيد، كعامل له على دمشق، مما هيأه من خلال هذا الموقع الهام، لدور أكثر خطورة بعد وفاة معاوية الثاني الذي أوصى بأن: يصلي الضحاك بالناس بدمشق1310، وهكذا نجح مؤسس الدولة الأموية في الإمساك بزمام الأمور من خلال الموازنة بين القبائل الشامية الكبرى، كون أن يدع لأي منها مجالاً بأن تتجاوز حدودها المرسومة لها في الدولة، بما في ذلك القبيلة الكلبية الأثيرة. وقد اتسعت دائرة هذه السياسة، لتصبح ظاهرة من ظواهر عهد معاوية رضي الله عنه، حيث نجح معاوية في تحقيق التوازن المنشود داخل قريش (المهاجرة، وغير المهاجرة، فضلاً عن التوازن داخل الأسرة الأموية (بنو حرب ، وبنو العاص) واحتواء الثقفيين بعد منحهم إدارة العراق الذي ارتبط تاريخه أو كاد بهذه الأسرة، إلى آخر هذه التوازنات المتقنة التي ضبطها معاوية رضي الله عنه1311.
12 ـ سياسته مع الأسرة الأموية:(1/321)
لم يأت معاوية رضي الله عنه للخلافة بدعم مادي أو معنوي من الأسرة الأموية، وإنما أتاه من جبهة شامية قبلية متماسكة وقفت وراءه لذلك لم يكن لهذه الأسرة دور بارز في إدارة الدولة في عهده من الناحية الإدارية أو من الناحية العسكرية، نلاحظ ذلك من خلال استعراض أسماء ولاة وقادة معاوية الذين استعان بهم1312، إلا أن معاوية لم يجاف أسرته جفاءً تاماً، بل استعان بأفراد منها واضعاً نصب عينيه هدفين:
أ ـ الاستعانة بالأكفاء منهم.
ب ـ الحيلولة دون ازدياد سلطانهم ونفوذهم بشكل يهدد مخططاته السياسية1313، وقد استطاع معاوية تحقيق وحدة الصف الأموي بما كان يملك من صفات ومؤهلات قيادية فذة1314.
هذه هي أهم الوسائل التي اتخذها معاوية لتوطيد الأمن في دولته رضي الله عنه.
المبحث الثالث : حياة معاوية في المجتمع وإهتماماته العلمية:
أولاً : حياة معاوية في المجتمع :
1 ـ بين معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما:
قال عمرو بن العاص لمعاوية: يا أمير المؤمنين ألست أنصح الناس لك؟ قال: بذلك نلتَ ما نلت1315.
2 ـ مشاجرة في مجلس معاوية:
عن جويرية بن أسماء، أن بسر بن أبي أرطاة نال من علي عند معاوية وزيد بن عمر بن الخطاب جالس، فعلاه بعصاً فشجعه، فقال معاوية لزيد: عمدت إلى شيخ من قريش سيد أهل الشام فضربته وأقبل على بسر فقال: تشتم علياً وهو جده وابن الفاروق على رؤوس الناس، أو كنت ترى أنه يصبر على ذلك ثم أرضاهما جميعاً1316.
3 ـ أنا أحق بهذا منك:
قال معاوية: ما من شيء أحب إلي من عين خرارة في أرض خوّارة فقال عمرو بن العاص: ما من شيء أحب إلي من أن أبيت عروساً بعقيلة من عقائل العرب، فقال وردان مولى عمرو بن العاص: ما من شيء أحب إليّ من الإفضال على الأخوان فقال معاوية: أنا أحق بهذا منك، قال: ما تحب فافعل1317.
4 ـ نعي إلى نفسي:(1/322)
كان عامل معاوية على المدينة إذا أراد أن يبرد بريداً إلى معاوية أمر مناديه فنادى: من له حاجة يكتب إلى أمير المؤمنين، فكتب زِرّ بن حبيش ـ أو أيمن بن خُريَم ـ كتاباً لطيفاً ورمى به إلى الكتب وفيه:
………إذا الرجال ولدت أولادها
………………واضطربت من كبر أعْضادُها
………وجعلت أسقامها تعتادها
………………فهي زروع قد دنا حصادها
فلما وردت الكتب عليه فقرأ هذا الكتاب، قال: نعى إلي نفسي1318.
5 ـ نصيحة معاوية لشاعر من بني أمية:
قال معاوية رضي الله عنه، لعبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص: يا ابن أخي، إنك قد لهجت بالشعر، فإياك والتشبيب بالنساء فتعُرّ الشريفة1319، والهجاء فتعر كريماً، وتستثير لئيماً، والمدح، فإنه طعمه الوّقاح، ولكن افخر بمفاخر قومك، وقل من الأمثال ما تزين به نفسك، وتؤدب به غيرك1320.
6 ـ لا تقل داري في البصرة، ولكن قل: البصرة في داري:
ذكر أن رجلاً سأل معاوية أن يساعده في بناء دار باثني عشر ألف جذع من الخشب. فقال له معاوية: اين دارك؟ قال بالبصرة. قال: وكم اتساعها؟ قال: فرسخان في فرسخين: قال: لا تقل داري بالبصرة، ولكن قل: البصرة في داري1321
7 ـ علمت أن أكله سيُورِثه داءً:
ذكر أن رجلاً دخل بابن معه، فجلسا على سماط معاوية فجعل ولده يأكل أكلاً ذريعاً، فجعل معاوية يلاحظه، وجعل أبوه يريد أن ينهاه عن ذلك فلا يفطن، فلما خرجا لامه أبوه وقطعه عن الدُّخول، فقال له معاوية: أين ابنك التِّلقامة1322؟ قال: اشتكى. قال: قد عملت أن أكله سيورثه داء1323.
8 ـ وإنك لتلحظ الشعرة في لقمتي:
روي أن معاوية قال للأعرابي: ارفع الشعرة من لقمتك فقال: وإنك لتلحظ الشعرة في لقمتي، والله لا أكلت معك طعاماً1324.
9 ـ إنك لا تخاطب العباءة ، إنما يخاطبك من فيها :
نظر معاوية إلى رجل وقف بين يديه يخاطبه وعليه عباءة، فجعل يزدريه، فقال: يا أمير المؤمنين، إنك لا تخاطب العباءة، إنما يخاطبك من فيها1325.(1/323)
10 ـ يا بنية إنه زوجك الذي أحله الله لك :
تزوج عبد الله بن عامر هند بنت معاوية، فلمّا أدخلت عليه بالخضراء، أرادها عن نفسه فتمنَّعت عليه وأبت أشد الإباء فضربها فصرخت، فلمّا سمع الجواري صوتها صرخن وعلت أصواتهنّ، فسمع معاوية فنهض إليهنّ، فاستعلمهن ما الخبر، فقلن: سمعنا صوت سيدتنا فصِحنا. فدخل فإذا هي تبكي من ضربه، فقال لابن عامر: ويحك مثل هذه تضرب في مثل هذه الليلة؟ ثم قال له: اخرج من ههنا، فخرج وخلا بها معاوية فقال لها: يا بُنَّيةُ، إنه زوجك الذي أحله الله لك، أو ما سمعتِ قول الشاعر:
………من الخَضِرات1326 البيض أمّا حرامها
…………………فصعب وأمّا حِلُّها فذلول
ثم خرج معاوية من عندها، وقال لزوجها: أدخل فقد مهدت لك خُلُقها ووطَّأته، فدخل ابن عامر، فوجدها قد طابت أخلاقها فقضى حاجته منها1327 رحمهم الله تعالى .
11 ـ هل يصح قول معاوية: إن الكريم طروب:
عن محمد بن عامر، قال: لام معاوية عبد الله بن جعفر على الغناء، فدخل يوماً على معاوية ومعه بُديح1328، ومعاوية واضع رجلاً على رجل، فقال: عبد الله لبديح: أيها1329 يا بديح، فتغنى، فحرك معاوية رجله، فقال عبد الله: مه يا أمير المؤمنين. فقال معاوية: إن الكريم طروب1330 ، هذا الخبر أورده البلاذري1331 بنحوه، وأورده ابن عبد ربه1332، مع بعض الزيادات المنكرة1333 وهذه الرواية الضعيفة يردها ما أخرجه الطبراني بإسناد حسن، من طريق كيسان مولى معاوية قال: خطب معاوية الناس فقال: يا ايها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تسع، وأنا أنهاكم عنهن، النوح، والشَّعر، والتبرُّج، والتصاوير، وجلود السباع، والغناء، والذهب، والحِرُّ والحرير1334، وكان رضي الله عنه ـ ينهي عن الاستماع إلى الغناء وينكر ذلك على من يعرف به، وكان عامله على المدينة بن الحكم شديداً على أهل الدعارة والفسوق، فكانوا يهربون من المدينة أثناء ولايته1335.(1/324)
12 ـ قضاء ديون السيدة عائشة رضي الله عنه :
كان معاوية رضي الله عنه يهتم بالسيدة عائشة ويقضي عنها ديونها، فعن سعيد بن عبد العزيز، قال: قضى معاوية عن عائشة ثمانية عشرة ألف دينار1336. وقال عروة: بعث معاوية مرةً إلى عائشة بمائة ألف، فوالله ما أمْست حتى فرَّقتها1337
13 ـ الاهتمام بحوائج الناس:
كان معاوية رضي الله عنه يشفق علىنفسه أن يكون احتجابه أحياناً عن المسلمين ذنباً يحاسب عليه، فلما سمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم: من ولاه الله شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره، جعل معاوية على حوائج الناس رجلاً يبلغه بها، كي لا يغيب عنه شيء منها1338، وكان عامله علىالمدينة إذا أراد أن يبرد بريداً إلى معاوية أمر مناديه فنادى: من له حاجة، يكتب إلى أمير المؤمنين1339.
14 ـ تأثر معاوية رضي الله عنه بموت الصالحين:
حين توفي ابن لعتبة بن أبي سفيان وجاء ناس إلى معاوية يعزونه فيه قال: إن موت غلام من آل أبي سفيان قبضه الله، ليس بمصيبة، إنما المصيبة كل المصيبة لموت أبي مسلم الخولاني وكريب بن سيف الأنصاري1340.
15 ـ اهتمام معاوية بالمساجد والعيون:(1/325)
اهتم معاوية بن أبي سفيان بالمسجد الحرام وأمر بتوسعته وأجرى له القناديل والزيت من بيت المال وأضاء المصابيح فيه لأهل الطواف، واهتم بالمسجد الأقصى، وقام مسلمة بن مخلد أمير مصر من قبل معاوية بالزيادة في المسجد الجامع بالفُسطاط عام 53هـ وطلا جدرانه بالجص وزخرف بنيانه وبنى له أربع منارات شامخة وفرشه بالحصير . وأخذ أهل مصر ببيان المنارات للمساجد، وأمر المؤذنين أن يكون أذانهم في الليل في وقت واحد1341، ووسع المغيرة بن شعبة المسجد الجامع بالكوفة، ثم قام زياد بن أبيه فبناه وزاد فيه وأحكمه وفرشه بالحصى، وكان يقول: أنفقت على كل أسطوانة من أساطين مسجد الكوفة ثماني عشرة مئة درهم واتخذ فيه مقصورة جدّدها خالد بن عبد الله القسري في اثناء ولايته على العراق، ثم قام عبيد الله بن زياد وزاد في المسجد الجامع وفرشه بالحصى1342، وزاد زياد بن أبيه في المسجد بالبصرة زيادة كبيرة، وبناه، بالآجر والجص واستعمل الأساطين في البناء، وسقفه بالساج وبنى منارته بالحجارة، وبنى في البصرة المساجد الكثيرة، ثم قام عبيد الله بن زياد فزاد في المسجد الجامع1343، واهتم معاوية بالمرافق العامة في الدولة الإسلامية، وحرص على توفير مياه الشرب في المدينة، وأجرى في الحرم المكي عيوناً1344 وأنشأ آبار المياه على الطرقات، فربط بين أجزاء مملكته ربطاً محكماً1345.
16 ـ سباق الخيل في عهد معاوية رضي الله عنه :
ويعد معاوية رضي الله عنه من أوائل الخلفاء الذين أرسوا تقاليد سباقات الخيل في تاريخنا الإسلامي حيث كان يقيم سباق الخيل في دمشق، حيث يشترك فيه فرسان من جميع أطراف الدولة، وكان هؤلاء يدخلون الحلبة وهم يقولون الشعر في الفخر بأنفسهم وخيلهم، وعند انتهاء السابق كان الخليفة يقدم جوائز ثمينة للفائزين1346.
17 ـ اطعام الحجاج والصائمين :(1/326)
جعل أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه دار المراجل بمكة، والتي كان يطبخ فيها طعام الحجاج وطعام الصائمين من الفقراء في شهر رمضان المبارك1347 وقفاً في سبيل الله.
18 ـ الله أقدر عليك منك عليه :
رأى معاوية ابنه يزيد يضرب غلاماً له فقال له: أعلم أن الله أقدر عليك منك عليه، سوأة لك!! أتضرب من لا يستطيع أن يمتنع منك؟ والله لقد منعتني القدرة من الانتقام من ذوي الإحن، وإن أحسن من عفا لمن قدر1348. فهذا توجيه سديد من أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه لابنه يزيد نحو التخلق بهذا الخلق الكريم. العفو عند المقدرة، هذا الخلق الذي يعتبر من أهم عناصر السيادة وسياسة الأمة، ولقد ذكَّره بقدرة الله جل وعلا عليه ليحطَّ من تعاظمه بنفسه وليخشى الله سبحانه فيمن هم تحت يده1349
ثانياً : اهتماماته العلمية :
كان معاوية رضي الله عنه يشجع الولاة والعلماء وأبناء الأمة على إيجاد نهضة ثقافية حضارية، وشهد عصره نهضة في التفسير وعلوم القرآن والفقه والعقيدة، وتأالق فيه نجم عديد من العلماء الذين ظل المسلمون بعد ذلك يأخذون من علومهم ويستشهدون بأقوالهم واجتهاداتهم، كابن عباس وأبي هريرة، وابن عمر، وغيرهم وكانت العلوم الرئيسية هي القرآن الكريم والسنة النبوية والفقه واللغة العربية واهتم معاوية رضي الله عنه بغيرها من العلوم أيضاً منها:(1/327)
1 ـ اهتمام معاوية بالتاريخ : كان معاوية رضي الله عنه الراعي الذي عمل على أول تدوين باللغة العربية للتاريخ بمعناه العام لا على أنه المغازي النبوية وقصص الأنبياء، ولا على أنه الأنساب , وأيام العرب، ولكن على أنه تاريخ الأمم السالفة، وسير الملوك والحروب وأنواع السياسات مما هو جدير بالقراءة على الملوك1350، فقد كان ينام ثلث الليل، ثم يقوم فيقعد فيحضر الدفاتر فيها سير الملوك وأخبارها والحروب والمكائد، فيقرأ ذلك غلمان له مرتبون، وقد وكلوا بحفظها وقراءتها، فتمر بسمعه كل ليلة جملة من الأخبار والآثار وأنواع السياسات1351، وقد استدعى معاوية عبيدة بن شرية وهو أحد علماء التاريخ البارزين في بلاد اليمن إلى دمشق وسأله عن أخبار القدماء وملوك العرب والعجم وأمر معاوية كتّابه أن يدونوا ما يتحدث به عبيد الله بن شربة كتاب الأمثال وكتاب الملوك وأخبار الماضين1352، ولم يكن عبيدة هذا هو العالم الوحيد الذي استقدمه معاوية إلى دمشق فكتب عنه روايات وصيرها كتباً، بل أن كثيراً من الأخباريين أهل الدراية بأخبار الماضين وسير الغابرين من العرب وغيرهم من المتقدمين وفدوا على معاوية أيضاً1353، والدرس البالغ الأهمية يظهر في أهمية التاريخ للساسة والحكام والملوك والزعماء، فالسياسي المستوعب لحركة التاريخ وسننه ينجح في ميدان عمله أكثر من غيره، فهناك علاقة متينة بين التاريخ والسياسة.
2 ـ اهتمام معاوية بالشعر واللغة:(1/328)
كان معاوية رضي الله عنه يدرك أهمية الشعر تواقاً له ولم يغب عن حسه أهميته في الدعاية السياسية للدولة، وكان يهتم بتربية أبنائه وأبناء أخيه على تعلم ومعرفة وتذوق الشعر، فقد كتب إلى زياد أن أوفد إلي ابنك، فلما قدم عليه لم يسأله معاوية عن شيء إلا نفذ منه، حتى سأله عن الشعر فلم يعرف منه شيئاً، فقال له: ما منعك من تعلم الشعر، فقال: يا أمير المؤمنين إني كرهت أن أجمع في صدري مع كلام الرحمن كلام الشيطان، فقال معاوية: اغرب؟ فوالله ما منعني في الفرار يوم صفين إلا ابن الاطنابة حيث قال:
أبت لي عفتي وأبى بلائي
………………وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإعطائي على الإعدام مالي
………………وإقدامي على البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت
………………مكانك تحمدي أو تستريحي1354
ثم كتب إلى أبيه أن روه الشعر، فرواه حتى كان لا يسقط عنه شيء منه1355، وكان معاوية رضي الله عنه يتمثل بهذه الأبيات كثيراً:
فما قتل السفاهة مثل حلم
………………يعود به على الجهل الحليم
فلا تسفه وإن مُلِّئت غيطاً
………………على أحد فإن الفحش لوم
ولا تقطع أخاً لك عند ذنب
………………فإن الذنب يغفره الكريم1356
ومن اهتمام معاوية بالشعر حفظه له، فقد دخل ذات يوم على معاوية في مجلسه ابن أبي محجن الثقفي فقال له معاوية: أبوك الذي يقول:
إذا مت فادفني إلى جنب كَرْمة
………………تُرَوِّى عظامي بعد موتي عُرُوقُها
………ولا تدفننَّي بالفلاة فإنَّني
………………أخاف إذا مامت أن لا أَذُوقها
فقال ابن أبي محجن: لو شئت ذكرتُ أحسن من هذا من شعره قال: وما ذاك؟ قال: قوله:
………لا تسأل الناسَ: مالي وكثرته
………………وسائل القوم ما حزمي وما خلقي
………القوم أعلم أني من سراتهم
………………إذا تَطِيش يد الرِّعديده الفَرِق
………قد أركب الهوْل مسدولاً عساكره
………………وأكتُم السرَّ فيه ضربةُ العُنُقِ
وهو القائل:
………إن يكن ولىَّ الأمير فقد
………………طاب منه النَّجْلُ والأثرُ
………فيكم مستيقظ فَهِمٌ
………………قُلْقُلانٌ حَيَّةٌ ذكرُ(1/329)
………أحمد الله إليك فما
………………وصلة إلا ستنبترُ1357
وكان الشاعر مسكين الدارمي من المقربين من معاوية وابنه، فقد سأل معاوية عنه عطارد بن حاجب، وقال له: ما فعل الدارمي الصبيح الوجه الفصيح اللسان ـ يعني مسكيناً؟ فقال: صالح يا أمير المؤمنين، قال: أعلمه أني قد فرضت له فله شرف بالعطاء وهو في بلاده، فإن شاء أن يقيم بها أو عندنا فليفعل، فإنّ عطاءه سيأتيه، وبشرّه بأن قد فرضت لأربعة آلاف من قومه من خِنْدِف1358، وهذا الشاعر هو القائل في معاوية رضي الله عنه:
………إليك أمير المؤمنين رحلتها
………………تُثير القطا ليلاً وهن هُجُود
………على الطائر الميمون والجدّ صاعد
………………لكل أناس طائر وجدود
………إذا المنبر الغربي خلّى مكانه
………………فإن أمير المؤمنين يزيد1359
ويقال أن معاوية أمر مسكين الدارمي أن ينظم قصيدة في البيعة ليزيد وبعد أن أنشد قصيدته وكان بنو أمية واشراف الناس حاضرين لم يتكلم أحد من بني أمية في ذلك إلا بالإقرار والموافقة... ثم وصله يزيد ووصله معاوية فاجزلا صلته1360، ويعتبر مسكين الدرامي من شعراء عهد معاوية وممن ترك أبيان جميلة منها قوله:
………وإذا الفاحش لاقى فاحشاً
………………فهناكم وافق الشن الطبق
………إنما الفُحُش ومن يعتاده
………………كغراب السَّوءِ ما شاء نعق
………أو حمار السوءِ إن أشبعته
………………رمح الناس وإن جاع نهق
………أو غلامِ السوءِ إن جوعته
سرق الجار وإن يُشبع فسق
………أو كَغَيْرى رَفَعَتْ من ذَيْلِها
………………ثم أَرخَته ضِراراً فامَّزَق
………أيها السائلُ عن منَّ قد مضى
………………هل جديد مثل ملبوس خَلَقْ1361
…وهو القائل :
………ناري ونارُ الجار واحدة
………………وإليه قبلي تُنَزَل القِدْرُ
………ما ضرَّ جاراً لي أُجاورُهُ
………………أَلاَّ يكون لبابه سترُ
………أعمى إذا ما جارتي برزت
………………حتي يغيب جارتي الخدر1362(1/330)
وكان معاوية رضي الله عنه يستنكر اللحن فحين أرسل زياد بن أبيه والي العراق ابنه عبيد الله إلى معاوية بن أبي سفيان لحن في كلامه، فكتب إليه معاوية: إن ابنك كما وصفت ولكن قوِّم من لسانه1363، ولما ارتفع إلى زياد رجل وأخوه في ميراث، فقال: أنّ أبونا لما مات وإن أخينا وثب على مال أبانا فأكله. فأفأ زياد فقال: الذي أضعت من لسانك أضرُّ عليك مما أضعت من مالك1364، وقد برز في البصرة في عهد معاوية كثير من النحويين فكان أبو الأسود الدؤلي أول من وضع أساس النحو في البصرة وكان أول من استَنَّ العربية، وفتح بابها، وأنهج سبيلها، ووضع قياسها، فكان سراة الناس يلحنون ووجوه الناس، فوضع باب الفاعل، والمفعول به، والمضاف، وحرف الجر والرفع والنصب والجزم1365، وألف كتاباً في النحو1366وكان شاعراً، ومن أشهر أبياته قوله:
………يا أيها الرجل المعلم غيره
………………هلا لنفسك كان ذا التعليم؟
………تصف الدواء لذي السقام
………………وذي الظنا كيما يصح به وأنت سقيم
………ونراك تصلح بالرشاد عقولنا
………………أبداً وأنت من الرشاد عديم
………إبدأ بنفسك فانهَها عن غيّها
………………فإذا انتهت عنه، فأنت حكيم
………فهناك يسمع ما تقول ويهتدي
………………بالقول منك وينفع التعليم
………لا تنه عن خلق وتأتيَ مثله
………………عارٌ عليك إذا فعلت عظيم1367
وله في الزهد المبرأ من الكسل كقوله:
………وإذا طلبت من الحوائج حاجة
………………فادع الإله وأحسن الأعمال
………فليعطينك ما أراد بقدرة
………………فهو اللطيف لما أراد فعالا
………ودع العباد وشأنهم وأمورهم
………………بيد الإله يقلّب الأحوال1368
3 ـ اهتمام معاوية بالعلوم التجريبية:(1/331)
…ورثت الدولة الأموية علوم الأعاجم من الفرس والروم بعد انهيار دولتهم، وكان لابد ـ للإفادة من ذلك التراث ـ من ترجمته ونقله إلى العربية بعد أن غدا: تراثاً تقليدياً تداولته أيدي الشارحين والمحترفين ممن أجادوا اليونانية أو السريانية1369، وقد كان بعض هذه الترجمات حافزاً على الاهتمام بالعلوم التجريبية وربما العكس صحيحاً أحياناً.. ومعلوم أن كل ذلك يحتاج إلى جهد كبير تعجز عنه إمكانات الأفراد العاديين، ولذا فقد وقف الأمويون يشجعون على ذلك حتى تحققت أعمال جيدة على نحو ما سنرى بإذن الله ـ كانت بدياتها من عهد معاوية فقد كان سباقاً إلى رعاية العلوم وأهلها فأنشأ بيتاً للحكمة: أي مركز للبحث ومكتبة، واستمر المروانيون يعنون بهذا البيت حتى في أسفارهم وحروبهم يسألون عنه ويهتمون به1370، ويشير بعض المؤرخين إلى دور ابن أثال النصراني طبيب معاوية في نقل بعض معارف الطب إلى العربية1371، على أن بداية الجهود الحقيقية في الترجمة بدأت مع خالد بن يزيد أول من عني بنقل الطب والكيمياء إلى العربية، فقد أمر بإحضار جماعة من اليونانيين ممن درسوا بمدرسة الأسكندرية في مصر وتفصحوا بالعربية كذلك، فطلب منهم نقل كثير من الكتب من اللسان اليوناني والقبطي إلى اللسان العربي، وكان هذا أول نقل في الإسلام1372، كما طلب منهم أن يترجموا كتب جالينوس في الطب، فوضع بذلك أساس العلوم الطبية وهو أول من أعطى الترجمة والفلاسفة وقرب أهل الحكمة ورؤساء كل صنعة، وترجمت له كتب النجوم والطب والكيمياء، والحروب والآلات والصناعات، وهو أول من جمعت له الكتب وجعلها في خزانة الإسلام، ففي دمشق إذن أنشئت أول دار للكتب في العالم الإسلامي1373. وقد ظهرت دلائل كثيرة تدل على تزايد عدد المشتغلين في الطب في عهد معاوية بحيث أصبحت النسبة طبيب لكل 534 خمسمائة وأربع وثلاثين فرداً وهذه النسبة تمّ أخذها مما أورده ابن كثير من أن زياد بن أبيه والي البصرة حينما طعن(1/332)
في يده جمع مائة وخمسين طبيباً ليداووه1374، وكان عدد سكان البصرة ثمانين ألفاً تقريباً1375.
المبحث الرابع : الخوارج في عهد معاوية:
عرف الخوارج بهذا الإسم بعد التحكيم في معركة صفين، وكانوا قبلها من أشد أنصار علي بن أبي طالب رضي الله عنه وحضروا مع موقعة الجمل وصفين، ولكنهم أنشقوا عليه بعدها، ورفضوا التحكيم، وحاول علي إقناعهم وردهم إلى الجماعة ولكنهم تشبثوا بموقفهم، وبالغوا في شقاقهم وتطرفوا، حتى عاثوا في الأرض فساداً، مما جعل علياً يقاتلهم ويقض على معظمهم في معركة النهروان، وهم لا يرضون عن تسميتهم خوارج، لأن هذه التسمية أطلقها عليهم خصومهم لخروجهم على الإمام، وعلى جماعة المسلمين، أما هم فيسمون أنفسهم الشراة، لأنهم باعوا أنفسهم لله تعالى، على أن لهم الجنة يبشرون بذلك إلى قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ...)) (التوبة ، الآية : 111). ويسمون المحكمة، لأنهم قالوا: لا حكم إلا لله، وكان يطلق عليهم أيضاً الحرورية، نسبة إلى قرية حروراء التي انحازوا إليها بظاهر الكوفة لأول خروجهم على علي1376، ولما كان سبب خروجهم هو قبول علي التحكيم بينه وبين معاوية رضي الله عنهما، فقد صاغوا لأنفسهم نظرية في الخلافة تقوم على مبدأين عامين يجمعان بين فرقهم المتباينة1377، المبدأ الأول أن الخلافة ليست وقفاً على قريش كما يذهب أهل السنة1378، بل تجوز لكل مسلم يكون أهلاً لها حتى ولو كان عبداً حبشياً، ويجب أن يكون الخليفة باختيار حر من المسلمين، وأنه إذا تم اختياره لا يصح له أن يتنازل عنها، أو يقبل التحكيم، وفي ضوء هذا المبدأ اعترفوا بخلافة أبي بكر وعمر، أما عثمان فقد اعترفوا بخلافته في شطرها الأول، ثم تبرؤوا منه وكفروه في بقية عهده، وأما علي فقد اعترفوا بخلافته من بدايتها إلى أن قبل التحكيم، وبعد قبوله التحكيم لم يعترفوا بخلافته بل(1/333)
كفروه1379، وكذلك لم يعترفوا بخلافة معاوية وبني أمية1380، وكفروهم، كما كفروا عائشة وطلحة والزبير وعمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري. وعلى الجملة كفروا كل من لم ير رأيهم ويذهب مذهبهم من المسلمين، واعتبروا دارهم دار كفر، وأباحوا أموالهم ودماءهم، حتى قتل أطفالهم1381. المبدأ الثاني الذي قامت عليه نظرية الخوارج، هو وجوب الخروج على الإمام الجائر1382، وهنا وجوه الخطورة في حركتهم كلها، فلو اقتصروا على الخلاف النظري في الرأي، أو الجدال بالحجة والبرهان، لكان الأمر أهون، ولكنهم شهروا السلاح في وجه مخالفيهم، بدءاً من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحاولوا فرض آرائهم ومذهبهم بالقوة، وكما تطرفوا إلى أبعد حد في الرأي والمذهب، فقد تطرفوا في اللجوء إلى القوة والعنف، وكبدوا الأمة وأنفسهم خسائر فادحة، وعكروا صفو الدولة الأموية، وكانوا من أشد مناوئيها1383، وقد تحدثت عن الخوارج بنوع من التفصيل في كتابي أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب شخصيته وعصره1384، ذكرنا قبل قليل أن خطورة حركة الخوارج تكمن في لجوئهم إلى الثورة والعنف، ولشدة إيمانهم بمبادئهم فقد ضحوا في سبيلها بأرواحهم وأبدوا كثيراً من ضروب الشجاعة والإقدام في حروبهم مع الدولة الأموية، وكانوا أشبه بالفرق الانتحارية، فكثيراً ما كانت أعداد قليلة منهم تهزم جيوشاً جرارة للدولة، ولو أن هذه الشجاعة والإقدام والتضحية اتجهت اتجاهاً سليماً، ووحد الخوارج جهودهم مع جهود الدولة في محاربة أعداء الإسلام لربما تغير وجه التاريخ الإنساني كله بشكل جذري، والحقيقة أنهم لم يكونوا طلاب دنيا، ولم يجروا وراء المادة، وإنما أخلصوا للفكرة التي آمنوا بها وملكت عليهم جوانب حياتهم1385، وأفنوا أنفسهم، وكلفوا الأمة الكثير من الجهد والوقت والمال والأرواح، وإذا كان الخوارج قد خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وكفروه وحاربوه، فسيكون موقفهم من الدولة(1/334)
الأموية أعنف وبغضهم لها أشد، فقد شهروا السلاح في وجهها من أول لحظة فثاروا على معاوية رضي الله عنه قبل أن يغادر الكوفة عام 41هـ1386
أولاً : حركات الخوارج في الكوفة:
1 ـ حركة فروة بن نوفل الأشجعي:
قال الطبري في حادث عام 41هـ: وفيها خرجت الخوارج التي اعتزلت أيام علي عليه السلام بشهرزور1387 علىمعاوية1388، وقال: حدثت عن زياد، عن عوانه، قال: قدم معاوية قبل أن يبرح الحسن من الكوفة حتى نزل النخيلة، فقالت الحرورية1389، الخمسمائة التي كانت اعتزلت بشهرزور مع فروة ابن نوفل الأشجعي: قد جاء الآن مالا شك فيه، فسيروا إلى معاوية فجاهدوه، فأقبلوا وعليهم فروة بن نوفل حتى دخلوا الكوفة، فأرسل إليهم معاوية خيلاً من خيل أهل الشام، فكشفوا أهل الشام، فقال معاوية لأهل الكوفة: لا أمان لكم والله عندي حتى تكفوا بوائقكم، فخرج أهل الكوفة إلى الخوارج فقاتلوهم، فقالت لهم الخوارج: ويلكم ما تبغون منا، أليس معاوية عدونا وعدوكم، دعونا حتى نقاتله، وإن أصبناه كنا قد كفيناكم عدوكم، وإن أصابنا كنتم كفيتمونا، قالوا: لا والله حتى نقاتلكم، فقالوا: رحم الله إخواننا من أهل النهر1390، هم كانوا أعلم بكم يا أهل الكوفة، وأخذت أشجع صاحبهم فروة بن نوفل ـ وكان سيد القوم ـ واستعملوا عليهم عبد الله بن أبي الحر1391 ـ رجلاً من طيء ـ فقاتلوهم فقتلوا1392. وفروة بن نوفل الأشجعي هو القائل قبيل معركة النهروان: والله ما أدري على أي شيء نقاتل علياً، لا أرى إلا أن انصرف حتى تنفذ لي بصيرتي في قتاله أو أتباعه، وانصرف في خمسمائة فارس1393. وذكر ابن حجر رواية هامة تبين موقف معاوية رضي الله عنه من الخوارج بعد توليه الخلافة، وفيما يلي نص رواية ابن حجر:... فرجع الناس فبايعوا معاوية ولم يكن لمعاوية هَمُّ إلا الذين بالنهروان1394، فجعلوا يتساقطون عليه فيبايعونه، حتى بقي منهم ثلاثمائة أو نيف1395، وهم أصحاب النخيلة1396.(1/335)
2 ـ حركة المستورد بن عُلَّفة التميمي:1397 تحدث الطبري في تاريخه عن حركة المستورد بن عُلَّفة التميمي بإسهاب وتفصيل بعكس أكثر المصادر التي تناولت هذا الحدث، حيث تحدث خليفة1398 بن خياط عن هذه الحركة باختصار شديد، وقد أطال الطبري الحديث عن حركة المستور بن عُلَّفة التيمي، ولعل ذلك إشارة منه لأهميتها وأهمية هذه الحركة تعود إلى كون أصحابها بمثلون الامتداد الطبيعي لفكر خوارج النهروان الذين قاتلهم علي رضي الله عنه، إذ أن معظم المنتسبين إلى هذه الحركة كانوا في خندق واحد في معركة النهروان، وهذا الأمر هو الذي دفع المغيرة بن شعبة والي الكوفة إلى اللجوء إلى أنصار علي رضي الله عنه، وخاصة الذين شاركوا في معركة النهروان من أمثال معقل بن قيس الرياحي الذي كان أحد قادة علي يوم النهروان1399، وتكليفه قيادة الحملة المتوجهة لقتال الخوارج، لأن أنصار علي رضي الله عنه هم أخبر الناس بالخوارج وأشدهم عليهم وما جاء من مرويات في تاريخ الطبري قدمت لنا تفاصيل هامة عن الحدث: منها:
أ ـ موقف الخوارج من استشهاد علي رضي الله عنه، ويستفاد هذا من قول الخوارج:.. لا يقطع الله يميناً علت قذاله1400 بالسيف قال: فأخذ القوم يحمدون الله على قتله1401.
ب ـ أسباب خروجهم على جماعة المسلمين: ويستفاد هذا من قول الخوارج: فلنأت إخواننا فلندعهم إلى أمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلى جهاد الأحزاب، فإنه لا عذر لنا في القعود، وولاتنا ظلمة، وسُنَّة الهدى متروكة، وثأرنا الذين قتلوا إخواننا في المجالس آمنون، فإن يظفرنا الله بهم نعمد بعد إلى التي هي أهدى وأرضى وأقوم، ويشفي الله بذلك صدور قوم مؤمنين، وإن نقتل فإن في مفارقة الظالمين راحة لنا، ولنا بأسلافنا أسوة1402.(1/336)
جـ ـ سياسة المغيرة بن شعبة رضي الله عنه مع الخوارج : ويستفاد هذا مما يلي : وأحسن في الناس السيرة، ولم يفتش أهل الأهواء عن أهوائهم، وكان يؤتي ويقال له: إن فلاناً يرى رأي الشيعة، وإن فلاناً يرى رأي الخوارج، وكان يقول: قضي الله ألا تزالون مختلفين، وسيحكم الله بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون1403. وقال المغيرة لقبيصة بن الدمون: الصق لي بشيعة علي، فأخرجهم مع معقل بن قيس، فإنه كان من رؤوس أصحابه، فإذا بعثت بشيعته الذي كانوا يعرفون فاجتمعوا جميعاً، استأنس بعضهم ببعض وتناصحوا، وهم أشد استحلالاً لدماء هذه المارقة، وأجرأ عليهم من غيرهم، وقد قاتلوا قبل هذه المرة1404. قال المغيرة: يا معقل بن قيس، إني قد بعثت معك فرسان أهل مصر، أمرت بهم فانتخبوا انتخاباً، فسر إلى هذه العصابة المارقة الذين فارقوا جماعتنا، وشهدوا عليها بالكفر، فادعهم إلى التوبة، وإلى الدخول في الجماعة، فإن فعلوا فاقبل منهم، واكفف عنهم، وإن هم لم يفعلوا فناجزهم، واستعن بالله عليهم1405.
س ـ حركة حيان بن ظبيان السلمي : كانت هذه الحركة عام 58هـ وكانت في ولاية عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان بن ربيعة الثقفي، وهو ابن أم الحكم أخت معاوية بن أبي سفيان، ففي أثناء ولايته خرجت الطائفة الذين كان المغيرة بن شعبة حبسهم في السجن من الخوارج الذين كانوا بايعوا المستورد بن علفة، فظفر بهم فاستودعهم السجن، فلما مات خرجوا من السجن1406، وقام بحركة مضادة للخلافة وكان رئيسهم حيان بن ظبيان السُّلَمِّي، فبعث إليهم والي الكوفة جيشاً فقتلوا الخوارج جميعاً1407.
ثانياً : حركات الخوارج في البصرة:
1 ـ حركة يزيد الباهلي وسهم الهجيمي :(1/337)
في عام 41هـ خرج في ولاية عبد الله بن عامر لمعاوية، يزيد بن مالك الباهلي، وخرج معه سهم بن غالب الهجيمي، فأصبحوا عند الجسر، فوجدوا عبادة بن قرص الليثي أحد بني بجر ـ وكانت له صحبة ـ يصلي عند الجسر، فأنكروه فقتلوه ثم سألوا ابن عامر الآمن فآمنهم وكتب إلى معاوية قد جعلت لهم ذمتك، فكتب إليه معاوية: تلك ذمة لو أخفرتها لا سُئلت عنها، فلم يزالوا آمنين حتى عزل ابن عامر1408. وفي عام 46هـ خرج سهم الهجيمي والخطيم وهو يزيد بن مالك الباهلي لما تولى زياد، فأما سهم فخرج إلى الأهوار فأحدث وحكَّم ثم رجع فاختفى وطلب الأمان، فلم يؤمنه زياد حتى أخذه وقتله وصلبه على بابه وأما الخطيم فإن زياداً سيره إلى البحرين، ثم أذن له فتقدم، فقال له: الزم مصرك، وقال لمسلم بن عمرو الباهلي1409: أضمنه، فأبى وقال: إن بات عن بيته أعلمتك، ثم أتاه مسلم فقال: لم يبت الخطيم الليلة في بيته فأمر به فقتل، وألقي في باهلة1410
2 ـ حركة قريب الأزدي وزحاف الطائي:
في عام 50هـ خرج قريب الأزدي وزحّاف الطائي بالبصرة وهما ابنا خالة، وزياد بالكوفة وسمرة1411 على البصرة، فأتيا بني ضُبيعة، وهم سبعون رجلاً، وقتلوا منهم شيخاً، وخرج على قريب وزحّاف شباب من بني علي وبني راسب فرموهم بالنَّبل، وقتل عبد الله بن أوس الطاحيّ قريباً وجاء برأسه واشتد زياد على المنبر فقال: يا أهل البصرة والله لتكفُننّي هؤلاء أو لأبدأنّ بكم، والله لئن أفلت منهم رجل لا تأخذون العام من عطائكم درهماً، فثار الناس بهم فقتلوهم1412.
3 ـ خبر عروة بن أُدية الخارجي:(1/338)
في سنة 58هـ اشتد عبيد الله بن زياد على الخوارج، فقتل منهم صبراً جماعة كثيرة، وفي الحرب جماعة أخرى، وممن قتل، منهم صبراً عروة بن أديَّة أبي بلال مرداس بن أدية1413، وكان سبب قتله أن ابن زياد قد خرج في رهان له، فلما جلس ينتظر الخيل اجتمع إليه الناس وفيهم عروة، فأقبل على ابن زياد يعظه، وكان مما قال له: ((أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ)) (الشعراء ، الآيات : 128 ـ 130). فلمّا قال ذلك ظن ابن زياد أنه لم يقل ذلك إلا ومعه جماعة، فقام وركب وترك رهانه. فقيل لعروة: ليقتلنّك، فاختفى، فطلبه بن زياد فهرب وأتى الكوفة فأخذ وقدم به علىابن زياد فقطع يديه ورجليه1414.. ثم دعا به فقال: كيف ترى؟ قال أرى أنك أفسدت دنياي وأفسدت آخرتك، فقتله وأرسل إلى ابنته فقتلها1415، بسبب اعتناقها مذهب والدها1416. وذكر المبرد في كتابه الكامل في اللغة سببين هامين كان لهما أثر كبير في مقتل عروة بن أدية، الأول: تكفير هذا الخارجي لعثمان وعلي رضي الله عنهما، والثاني: إقدامه على مساعدة أخيه مرداس بن أديه على الخروج1417.(1/339)
4 ـ حركة مرداس بن أدية: وفي عام 58هـ خرج مرداس بن أُديَّة، بالأهواز وكان ابن زياد قبل ذلك حبسه فيمن حبس من الخوارج، فكان السجان يرى عبادته، واجتهاده، وكان يأذن له في الليل، فينصرف، فإذا طلع الفجر أتاه حتى يدخل السجن، وكان صديق لمرداس يسامر ابن زياد، فذكر ابن زياد الخوارج فعزم على قتلهم، إذا أصبح، فانطلق صديق مرداس إلى منزل مرداس فأخبرهم، وقال: أرسلوا إلى أبي بلال في السجن فليعهد فإنه مقتول، فسمع ذلك مرداس، وبلغ الخبر صاحب السجن، فبات بليلة سوء إشفاقاً من أن يعلم الخبر مرداس فلا يرجع، فلما كان الوقت الذي كان يرجع فيه إذا به قد طلع، فقال له السجان: هل بلغك ما عزم عليه الأمير؟ قال: نعم، قال: ثم غدوت! قال: نعم، ولم يكن جزاؤك مع إحسانك أن تعاقب بسببي، وأصبح عبيد الله فجعل يقتل الخوارج، ثم دعا مرداس، فلما حضر وثب السجان ـ وكان ظئراً1418 لعبيد الله، فأخذ بقدمه، ثم قال: هب هذا، وقص عليه قصته، فوهبه له وأطلقه1419. وقد أشار البلاذري إلى أن عزم عبيد الله بن زياد على قتل من في السجن من الخوارج كان بسبب إقدام بعضهم على قتل أحد الحرّاس1420. ثم أن مرداس خاف ابن زياد فخرج في أربعين رجلاً إلى الأهواز، فكان إذا اجتاز به مال لبيت المال أخذ منه عطاءه وعطاء أصحابه ثم يرد الباقي، فلما سمع ابن زياد خبرهم بعث إليهم جيشاً عليهم أسلم بن زرعة الكلابي سنة ستين، وقيل أبو حصين التميمي، وكان الجيش ألفيْ رجل، فلمّا وصلوا إلى أبي بلال ناشدهم الله أن يقاتلوه فلم يفعلوا، ودعاهم أسلم إلى معاودة الجماعة، فقالوا: أتردَّوننا إلى ابن زياد الفاسق؟ فرمى أصحاب أسلم رجلاًمن أصحاب أبي بلال فقتلوه، فقال أبو بلال: قد بدؤوكم بالقتال. فشدّ الخوارج علىأسلم وأصحابه شدّة رجل واحد فهزموهم فقدموا البصرة، فلام ابن زياد أسلم وقال: هزمك أربعون وأنت في ألفين، لا خيرَ فيك. فقال: لأن تلومني وأنا حي خير من تثني عليّ وأنا ميت، فكان(1/340)
الصبيان إذا رأوا أسلم صاحوا به: أما أبو بلال وراءك! فشكا ذلك إلى ابن زياد، فنهاهم فانتهوا1421فهذه أهم حركات الخوارج في عهد معاوية.
ثالثاً : أهم الدروس والعبر والفوائد:
أهم الدروس والعبر والفوائد في محاربة معاوية للخوارج :
1 ـ إن الناظر في سلوك الخوارج زمن معاوية يجد أن خروجهم في ذلك العهد كان يستهدف إزعاج نظام حكم بني أمية وإضعافه، دون أن يكون لهم أمل في القضاء عليه1422.
2 ـ كانت بعض هذه الحركات مقتصرة على المجموعات المنسحبة من النّهروان والتي ظلت مشتتة في الأرياف وعدم وجود ما يشير إلى مشاركة الخوارج المقيمين في الكوفة فيها، وهو ما يؤكد عدم حصول تحوّل في موقف هؤلاء رغم التغيير الذي طرأ على السلطة1423.
3 ـ ومن الملاحظات، ما يخصّ الكوفيين الذين أبدى العديد منهم حماساً في محاربة الخوارج، وإذا كنا نعتقد أن تهديدات معاوية وعداء بعض الكوفيين للخوارج بسبب موقفهم من علي قد لعبت دوراً في دفع هؤلاء إلى المشاركة في قمع الثائرين، فإننا لا نستبعد أن تكون الرغبة الملحّة في إنهاء الحروب والانقسامات والعودة إلى الوحدة قد ساهمت بدورها في دفع الكوفيين إلى مساعدة معاوية في القضاء على هؤلاء المعارضين، رغم يقينهم أنَّهم سيفقدون مع الحكم الجديد امتيازاتهم و سيفقد مصرهم المكانة التي كان يتمتع بها في خلافةعلي1424
4 ـ كان معاوية رضي الله عنه على وعي تام بحقيقة المعارضة الخارجيّة و موقفها من السلطة ومن شخصه بالذّات، ولذلك لم يعمل على جلب الخوارج إلى صفّه وقرّر منذ اللحظة الأولى التصدي لهم بالقوة1425(1/341)
5 ـ لم يتردد المغيرة بن شعبة في محاربة الخارجين على السلطة بالشرطة والجيش، ولم يقتصر استعمال القوة على الثائرين بل شمل حتى الذين بلغه أنهم ينوون الخروج مثل معين بن عبد الرحمن المحاربي وحيان بن ظبيان السّلمي وغيرهما وهو ما يدل على أن المغيرة كان يقوم بمراقبة تحركات الخوارج داخل المصر، ويتجسس عليهم وينزل عقوباته بهم تبعاً لما يصله عنهم من أخبار1426.
6 ـ أهم وأخطر ما قام به المغيرة رضي الله عنه هواستعماله أنصار علي رضي الله عنه ضد الخوارج مستفيداً من العداوة التي كانت بينهم وهو عمل استفادت منه الدولة الأموية على المدى القريب والبعيد، فعلى المدى القريب، حاصر المغيرة بأعماله الفكر الخارجي في الكوفة، وأسكت المعارضين الموجودين فيها دون أن يكلف الدولة خسارة تُذكر،.. فضلاً عن أنه شغل الكوفيين عن معارضة الدولة الأموية وأعطاها بذلك الفرصة لتدعيم نفوذها1427. أما عن المدى البعيد فقد عمَّق المغيرة الهوّة بين الخوارج والشيعة وأبعد إمكانية التقارب بين هاتين الحركتين لفترة طويلة، مجنباً بذلك الدولة الأموية خطر مواجهة معارضة موحدة وقوية، غير أن ما قام به المغيرة تجاه المعارضة في الكوفة لم يكن سوى تطبيق لأوامر الخليفة نفسه مع بعض الاجتهادات التي رأى أنّها تخدم الدولة أكثر1428... وأما أنصار أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وخاصة الزعماء منهم، فقد عملت الدولة الأموية على تقريبهم وكسبهم ولذلك سلك المغيرة سياسة اللين معهم وهو ما ضمن الهدوء في الكوفة طيلة ولايته عليها1429.(1/342)
7 ـ مع تولي زياد البصرة: تصاعدت عمليات القمع ضد الخوارج فبالإضافة إلى القتل كان زياد يمثل بالمقتولين فيصلبهم في الأماكن العامة، أو في دُورهم، وقد شمل التمثيل الخارجين من الرجال والنساء، ورغم أن التمثيل يعد من الأعمال البشعة التى نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القيام بها حتى مع الكفّار، فإن زياداً استعمله مع المسلمين رجالاً ونساءً ليروِّع بقية السكان ويلزمهم الهدوء، ولم تكن العقوبات المسلطة على الخوارج مقتصرة على القتل والتمثيل والتسيير والإقامة الجبرية، بل شملت كذلك العطاء، وقد تجاوز زياد في هذا المجال من سبقه من الحكّام، إذ قام بشطب أسماء الخوارج من سجلات الديوان1430.
8 ـ أقحم زياد بأعماله العنف في سياسة الدولة وجعله إحدى ركائزها، واعتبر أن مصلحتها تقتضي استعماله ضدّ كل الذين يرفضون الخضوع لسلطتها1431
9 ـ أدّت سياسة زياد ـ العنيفة ـ إلى إخماد تحرّكات الخوارج، وفرضت هيبة الدولة على الجميع، وحوّلت القبائل إلى طرف له دور في سياستها ومنحتها مهمة توفير الأمن داخل المصر بعد أن كانت مهامها تقتصر على دفع الدّية والتأطير العسكري، إلا أنّها أضعفت التضامن القبلي وأفقدت القبيلة القدرة على حماية أبنائها الخارجين على السُّلطة وأجبرتها على القبض عليهم ومعاقبتهم أحياناً، ولئن نجح زياد في إخماد تحرّكات المعارضين وزرع الرّعب في نفوس بقية سكان العراق وتحويلهم من مقاتلة يتمتعون بقدر كبير من الحرية إلى رعية خاضعة كلياً لأجهزة الدّولة، فقد فشل في خنق إرادة الخروج لدى قسم كبير من الخوارج، وهو ما يفسر عودة الانتفاضات في ولاية ابنه عبيد الله1432(1/343)
10 ـ تجاوز عبيد الله بن زياد والده في قمع الخوارج بفرضه العقوبات على الجميع المعلن والمسر على حدّ السواء، وإذا كان القتل هو عقوبته المفضلة فقد كان يعمد أحياناً إلى سجن البعض منهم، كما كان يسمح أحياناً أخرى وتحت تأثير رجال القبائل بإطلاق سراح البعض الآخر مع فرض الإقامة الجبرية عليهم وتكليف من يقوم بعملية المراقبة التي كانت غالباً ما تنتهي بقتلهم لمخالفتهم الأوامر... ولم يكن ابن زياد ينتظر خروج الحروريَّة عليه بل كان يبحث عنهم مستعملاً كل الوسائل بما في ذلك تشجيع السّكان بالمال لتتبّع تحرّكات أبناء قبائلهم ونقلها إليه أو إلى أعوانه، وقد أدّت هذه الطريقة إلى ألقاء القبض على العديد ممّن يحمل هذا الفكر أو يتعاطف معه أو يُشتبه فيه ذلك، ولكنها فسحت في الوقت نفسه المجال أمام الوشاية وتلفيق التّهم بالباطل1433، فأججت بذلك الحزازات القبلية القديمة، وخلقت خلافات جديدة بين القبائل1434
11 ـ السمات العامة لحركات الخوارج في خلافة معاوية رضي الله عنه كالتالي:
أ ـ اتسمت بالعشوائية والارتجال وقلة التنظيم .
ب ـ كانت أشبه ما تكون بعمليات انتحار جماعي، لأنهم يخرجون بفئات قليلة لا تلبث أن تستأصل.
جـ ـ افتقارهم إلى قيادة واعية ومحنكة تستطيع استثمار شجاعتهم وفروسيتهم لتحقيق أهدافهم .
ح ـ تكرارهم لأخطاء بعضهم وعدم استفادة كل حركة من تجربة سابقتها.
خ ـ استبعادهم لأسلوب الحوار والمناظرة في عودتهم، ومحاولة فرض فكرهم على المجتمع المسلم بالقوة.
س ـ اختلاط الدوافع الدينية التي دعتهم للخروج ـ بزعمهم ـ مع دوافع العصبية الجاهلية في حركاتهم، والمتمثلة بخروج بعضهم ثأراً لمن قتل من أصحابهم.
ع ـ شعورهم بالغربة داخل المجتمع المسلم، ونفورهم منه، واقتناعهم أن قتال أهل القبلة أولى من جهاد الكفار.
ل ـ عدم بحثهم عن أرض جديدة لنشر دعوتهم، واقتصارهم على بعض مدن العراق، وخاصة الكوفة والبصرة.(1/344)
ك ـ سلوكهم طريقة منكرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي طريقة الاستعراض، ومرد ذلك إلى الجهل بالدين وقلة العلم، لأن كثرة العبادة ليست دليلاً على فقه الرجل، وإلا لكان الخوارج أفقه أهل زمانهم1435، ولكنهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه، بمروق من الدين كما يمرق السهم من الرمية1436
و ـ وافتقارهم لطول النفس والصبر في مشروعهم التغييري.
12 ـ شفاعة أبي بكرة الثقفي لبعض الخوارج عند معاوية ونصيحته له:
في عام 41هـ وثب حمران بن ابان على البصرة، فأخذها وتغلب عليها، فبعث معاوية إليه جيشاً ليقتلوه ومن معه، فجاء أبو بكرة الثقفي إلى معاوية، فسأله في الصفح عنهم والعفو، فعفا عنهم وأطلقهم وولّى على البصرة بسر بن أبي أرطأة1437.. وقد قال معاوية لأبي بكرة: هل من عهد تعهده إلينا؟ قال: نعم، أعهد إليك يا أمير المؤمنين أن تنظر لنفسك ورعيّتك وتعمل صالحاً، فإنك قد تقلَّدت عظيماً، خلافة الله في خلقه، فاتق الله، فإن لك غاية لا تعدوها، ومن ورائك طالب حثيث، وأوشك أن تبلغ المدى، فيلحق الطالب، فتصير إلى من يسألك عمّا كنت فيه، وهو أعلم به منك، وإنما هي محاسبة وتوقيف، فلا تُوثرن على رضا الله شيئاً1438
13 ـ استخدام العواطف في حرب الخوارج:(1/345)
خرج حوثرة بن وداع بن مسعود الأسدي على الدولة الأموية، فدعا معاوية أبا حوثرة فقال له: اخرج إلى ابنك فلعله يرق إذا رآك فخرج إليه وكلمه وناشده وقال: ألا أجيئك بابنك فلعلّك إذا رأيته كرهت فراقه؟ فقال: أنا إلى طعنة بيد كافر برمح أتقلّب فيه ساعة أشوق مني إلى ابني. فرجع أبوه فأخبر معاوية بقوله، فسير معاوية إليهم عبد الله بن عوف الأحمر في ألفين، وخرج أبو حوثرة فيمن خرج فدعا ابنه إلى البراز، فقال: يا أبة لك في غيري سعة. وقاتلهم ابن عوف وصبروا، وبارز حوثرة عبد الله بن عوف فطعنه ابن عوف فقتله وقتل أصحابه إلا خمسين رجلاً دخلوا الكوفة، وذلك في جمادي الأخرة سنة إحدى وأربعين، ورأى ابن عوف بوجه حوثرة أثر السجود، وكان صاحب عبادة، فندم على قتله، وقال:
………قتلت أخا بني أسدٍ سفاهاً
………………لعمرُ أبي فما لُقّيتُ رُشدي
………قتلت مصلياً محِياءَ لَيْلٍ
………………طويل الحزن ذابرٍ وقصد
قتلت أخا تُقىً لأنال دنيا
وذاك لشِقوَتي وعِثارِ جَدّي
………فهب لي توبة يا رب واغفر
………………لما قارفت من خطاءٍ وعمد1439
رابعاً : من قصائد الخوارج في عهد معاوية رضي الله عنه:
1 ـ ما قاله معاذ بن جوين بن الحصين في سجن المغيرة بن شعبة:
ألا أيها الشارون قد حان لأمريء
………………شرى نفسه لله أن يترحلا
………أقمتم بدار الخاطئين جهالة
………………وكل امرىءٍ منكم يُصادُ لُيقَلاَ
………فشدوا على القوم العُداة فإنما
………………أقامتكم للذبح رأياً مضَلَّلا
………ألا فاقصدوا يا قوم للغاية التي
………………إذا ذكرت كانت أبرّ وأعدلا
………فيا ياليتني فيكم على ظهر سابح
………………شديد القصيرى دارعاً غير أعزلا
………ويا ليتني فيكم أُعادي عدوّكم
………………فيسقيني كأس المنية أوّلا
………يعزّ عليّ أن تخافوا وتُطردوا
……………ولما أُجرِّد في المُحِلِّين مُنصُلا
………ولما يفرق جمعهم كلُّ ماجد
……………إذا قلت ولىَّ وأدبر أقبَلا
………مُشيحاً بنصل السيف في حمس الوغى
……………يرى العبر في بعض المواطن أمثلا(1/346)
………وعّز عليّ أن تصابوا وتُنقصوا
……………وأُصبح ذا بتٍّ أسيراً مكبلاً
………ولو أنني فيكم وقصدوا لكم
……………أثرت إذا بين الفريقين قَسْطَلا
………فيا رُبّ جمعٍ قد فَللتُ وغارة
……………شهدت وقرْنٍ قد تركت مُجدَّلا1440
2ـ ماقال رجل من بني تيم الله بن ثعلبة عندما انتصر مرداس أبو بلال بن أدية من بني ربيعة وكان في اربعين رجلاً على جيش لعبيد الله بن زياد حيث قال :
………أألفا مؤمن منكم زعمتم
……………ويقتلهم بآسَكَ1441 أربعونا
………كذبتم ليس ذاك كما زعمتم
……………ولكنّ الخوارج مؤمنونا
………هي الفئة القليلة قد علمتم
……………على الفئة الكثيرة ينصرونا1442
وفي رواية أخرى نسبت قصيدة إلى عيس بن فاتك قال فيها :
………فلما أصبحوا صلوا وقاموا
……………إلى الجُرْد العِتاق مسوَّمينا1443
………فلما استجمعوا حملوا عليهم
……………فظل ذوو الجعائل يقتلونا1444
………بقية يومهم حتى أتاهم
……………سوادُ الليل فيه يراوغونا
………يقول بصيرهم لما أتاهم
……………بأن القوم ولوا هاربينا
………أألفاً مؤمن فيما زعمتم
……………ويهزمهم بآسك أربعونا1445
المبحث الخامس : النظام المالي في عهد معاوية رضي الله عنه :
أولا : مصادر دخل الدولة :(1/347)
1ـ الزكاة : وهي أهم مكونات النظام المالي الإسلامي وذلك لكونها ثابتة بالكتابة والسنة, إذ يقول عنها سبحانه: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ" (البينة, اية 5), كما أجمع المسلمون على وجوبها باعتبارها أحد أركان الإسلام الخمسة, ومن ذلك اتفاق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال ما نعيها في عهد أبي بكر الصديق1446, وقد أسند إلى السلطان مهمة تحصيلها وإنفاقها, فقد كان رسول الله يجمعها ويقوم على تفريقها, وكذلك فعل أبو بكر وعمر أما في عهد عثمان لما كثرت الأموال فقد رأى أن يفوض الممولين فيما يتعلق بالأموال الباطنة كالوكلاء عن الإمام1447, أما الأموال الظاهرة كالزروع والمواشي ونحوها، فقد استمرت الدولة في جبايتها وإنفاقها، وقد ورد عن أبي أبكر وعثمان بن عفان أنهما كانا يأخذان زكاة المال من عطاء الرجل1448. ثم اختلف بعد مقتل عثمان هل تدفع الزكاة إلى الولاة أم لا1449، وهذا الخلاف بشأن الأموال الباطنة أما الأموال الظاهرة ظلت تحصلها الدولة، وهذا يدل على سبب نقص حصيلة الزكاة بشكل عام في العصر الأموي، لامتناع جماعة من الناس عن دفعها للولاة، وتفريقها بمعرفتهم، عدا عهد عمر بن عبد العزيز الذي ما إن سمع الناس بولايته حتى سارعوا إلى دفعها للدولة1450. كما أعاد كذلك أخذ الزكاة من العطاء1451، أي بالخصم عند المنبع، وهكذا يعكس تعاظم دور الزكاة كأحد المكونات الإيرادات العامة إبان عهد عمر بن عبد العزيز، ولا يعني هذا إغفال دورها الهام طيلة العصر الأموي، فبالرغم من عدم توافر أرقام عنه إلا أن الدلائل تشير إلى كبر أهميتها وذلك لأنها كانت تحصل من قطاعين رئيسيين من قطاعات الاقتصاد الأموي، هما الزراعة وقطاع التجارة خاصة في ظل نظام العشور1452، ومنها أيضاً وجود ديوان خاص يسمى ديوان(1/348)
الصدقات1453، وهو الديوان الذي يتولى النظر في أمور الزكاة والصدقات التي تجبي من القادرين والمتمكنين مالياً ليتم توزيعها على مستحقيها في الوجوه الشرعية التي ذكرها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة1454، وأشار إليه الجهشياري أول مرة في خلافة هشام بن عبد الملك، ويذكر أن: إسحاق بن قبيصة بن ذؤيب كان يتقلد ديوان الصدقة للخليفة هشام بن عبد الملك، وقد يعود عدم وجود أرقام عن حصيلة الزكاة لعدم تسجيل مقادير تلك الصدقات، إذ كانت تدفع جميعها أو معظمها في الحال إلى مستحقيها1455، وبصفة عامة يمكن القول إن نظام الزكاة كان مطبقاً في العهد الأموي وفقاً للأسس الشرعية الخاصة به، وأن قمة التطور بالنسبة لحصيلة الزكاة كان في عهد عمر بن عبد العزيز حيث وثق الشعب في الدولة نتيجة حرصها على تطبيق الإسلام كواقع عملي ـ فسارع إلى دفع الزكاة إليها وكذلك أخذ الزكاة من العطاء فيه تخفيف لتكاليف جباية الزكاة فزيادة الموارد مع قلة التكاليف أحدثت نمواً ملحوظاً في حصيلة الزكاة1456.(1/349)
2 ـ الجزية: ما يؤخذ من أهل الذمة، وهي ضريبة على الذمي المستوفي لشروطها مقابل الدفاع عنه، وكانت تمثل أحد الموارد الثابتة للدولة الأموية، عملاً بقوله تعالى: ((قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)) (التوبة ، الآية : 29). وهي ثابتة في السنة لما قاله المغيرة بن شعبة لترجمان عامل كسرى:.. فأمرنا نبينا رسول ربنا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤتوا الجزية1457. وهي ثابتة أيضاً بالإجماع1458، ولم يضف الأمويون شيئاً يذكر بالنسبة لتنظيم الجزية، ويمكن القول بأن جبايتها خضعت لما استقر عليه تنظيمها في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فمن حيث ضوابطها تمثلت في أربعة هي: تحديد الشريحة التي تؤخذ منها الجزية متمثلة في الذكور العقلاء البالغين1459، ثم تحديد الفئات المعفاة منها: وهم: الصبيان والنساء، المرضى المزمنون، العبيد، المجانين، العميان، الشيوخ، الرهبان الذين لا مورد لهم1460، وكذلك مراعاة مستوى دخل الممول يساراً وإعساراً، حيث كانت تفرض على الفرد الغني (48) درهماً سنوياً، وعلى المتوسط (24) درهماً سنوياً وعلى ما دون ذلك (12) درهماً سنوياً بشرط أن يكون ذا حرفة1461، وأما عن تصنيفها فيمكن تقسيم الجزية وفق المعيارين التاليين:(1/350)
أ ـ…معيار المسؤولية : وطبقاً له تنقسم الجزية إلى فردية وجماعية، فالجزية الفردية هي التي تفرض على كل ذمي مستوف لشروطها في صورة مبلغ محدد يسقط عنه حالة إسلامه، أما الجماعية أو المشتركة فكانت تتم بوضع مبلغ إجمالي معين على أهل القرية أو المدينة، ثم يتولون هم توزيعه بين أفرادهم، ومثالها من عهد النبي صلى الله عليه وسلم صلحه صلى الله عليه وسلم لأهل أذرح على مائة دينار في كل رجب1462، وكان غالب الجزية في العصر الأموي من هذا النوع1463.
ب ـ معيار النقدية والعينية: وطبقاً له انقسمت الجزية إلى ثلاثة أقسام: جزية نقدية، جزية عينية، جزية مشتركة، وكانت جميع أصناف الجزية معمولاً بها في العصر الأموي، ولم يوجد ما يشير إلى الخروج عن ذلك، وخاصة وأن الشريعة الإسلامية تقتضي بالالتزام بعقود الصلح، والوفاء بها، لكن هذا لم يمنع من خروج بعض الولاة أحياناً عن الضوابط الشرعية1464، وبالنسبة لحجم غلة الجزية ونسبتها إلى إجمالي الإيراد الكلي للدولة فهذا مما يصعب تحديده، لكن هناك مؤثرات تدل على عظم حجم إيراد الجزية وما يتضح من الدور الكبير الذي قامت به الدولة الأموية في نشر الإسلام في بلدان كثيرة تم فتحها وفرض الجزية على من لم يسلم من أهلها1465.(1/351)
3 ـ الخراج : كبقية المصادر المالية للدولة التي كان لعمر بن الخطاب الريادة في تنظيمها، فقد استفادت الدولة الأموية من تنظيم عمر له، إذ سارت في أغلب أقاليمها عليه، إلا ما طرأ من تعديلات سوف يتم التعرض لها1466، وللخراج معنى خاص: وهو إيراد الأراضي التي افتتحها المسلمون عنوة وأوقفها الإمام لمصالح المسلمين على الدوام كما فعل عمر بأرض السواد من العراق والشام1467، والخراج كما قال ابن رجب الحنبلي: لا يقاس بإجارة ولا ثمن، بل هو أصل ثابت بنفسه لا يقاس بغيره1468، وكان للخراج أهمية كبرى بالنسبة للدولة الأموية وكانت غلة الخراج في منطقة السواد على سبيل المثال في عهد ابنه عبيد الله سنة 54هـ ـ 66هـ بلغ 135 مليون درهماً1469، وأما منطقة الجزيرة والشام: فقد استمر الخراج في هذه المنطقة وفقاً لما وضعه معاوية بن أبي سفيان، الذي فرض ضرائب على أهل المدن ذات شقين، شق منه جزية والآخر خراج وهو كما يلي:
أ ـ على أهل قنسرين حوالي مليون وخمسمائة ألف درهماً .
ب ـ على الأردن ستمائة ألف درهماً .
جـ ـ على فلسطين حوالي ستمائة ألف درهماً1470.
وقد حدثت بعض الانحرافات في تحصيل الخراج في عدة صور أهمها:
ـ…فرض الخراج على أرض مستثناة منه بنص عقود الصلح1471، فقد حدث ذلك في عهد يزيد بن معاوية(60 ـ 64) حيث فرض الخراج على أرض السامرة1472، بالأردن وفلسطين.
ـ…استخدام العنف في تحصيل الخراج، في بعض الأقاليم ـ باستثناء عهد عمر بن عبد العزيز ، حيث استخدمت الشدة في تحصيل الإيرادات بأنواعها1473.(1/352)
ـ…تحميل نفقات جباية الخراج على الممول، ومن تلك النفقات قيمة الورق الذي يكتب عليه مقادير الخراج، قيمة إيجار المستودعات التي يتم تخزين حصيلة الخراج العينية فيها، أجرة الجابي الذي يقوم بالجباية وبقية نفقات تحصيل الخراج1474، وقد حدث ذلك خاصة في إقليم العراق وكان قبل عهد عمر بن عبد العزيز، فلما ولي الخلافة أبطلها ثم عادت بعد موته1475، وكان للخراج في عهد الدولة الأموية ديوان خاص به، يسمى ديوان الخراج: وهو الذي يتولى النظر في جباية ضريبة الخراج، ويقوم بجمعها وتسجيلها، ووضع تقديرات لها، لأنها أعظم واردات الدولة1476، وكان الأمويون قد فصلوا بين الولاية والجباية وعينوا مسؤولين عنها لكي يحصروا المسؤولية، وقد ذكرت المصادر قائمة بأسماء الذين أسندت إليهم مهمة الجباية والإشراف على أعمال الديوان، فمعاوية رضي الله عنه عين على خراج دمشق ـ سرجون بن منصور1477، وعلى خراج فلسطين: سليمان المشجعي1478، وعلى خراج حمص بن أثال النصراني1479، وفي خلافة يزيد بن معاوية استمر على الديوان: سرجون بن منصور، كما بقي عليه طوال حكم معاوية الثاني، ومروان بن الحكم، وعبد الملك، حتى عزله1480، وقد أولى معاوية رضي الله عنه ولاته في الأقاليم الأرض ومن عليها عناية متزايدة فاستصلح البطائح وهي أرض واسعة مغمورة بالمياه، بقطع القصب وعلب الماء بالمسنيات مما أدّى إلى عمارة البلاد وزيادة الوارد العام بمقدار خمسة آلاف ألف درهم وراعى معاوية حالة السكان وسعى لتطمينهم والتخفيف عن كاهلهم بمجموعة من الإجراءات يتعلق بعضها بضريبة الخراج ذاتها، وبعضها الآخر يتعلق بالقائمين على الضريبة 1481. ومن ناحية أخرى، فقد عمل معاوية على إنصاف دافعي الضريبة باختيار عماله ومتابعته لهم، وإن كانوا من المقربين، فقد عزل ابن أم الحكم وهو عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي ـ وهو ابن اخته ـ لأنه اشتد في أمر الخراج ولم يقبل من عامل خراجه جباية الخراج قبل موعده(1/353)
الموجود1482. وفي الفترة الأموية تكثر الإشارة إلى استعمال الأعاجم في الخراج، وصلاحهم لذلك لأسباب عبر عنها زياد بن أبيه بوضوح منها معرفتهم بأمور الخراج ودورهم في إعمار الأرض1483، حيث يقول: وينبغي أن يكون كتاب الخراج من رؤساء الأعاجم العالمين بأمور الخراج1484، ودعا زياد إلى مراعاة الدهاقين والإحسان إليهم: أحسنوا إلى الدهاقين1485، فإنكم لن تزالوا سماناً ما سمنوا1486
4 ـ العشور : هي الأموال التي يتم تحصيلها على التجارة التي تمر عبر حدود الدولة الإسلامية سواء داخلة أو خارجة من أرض الدولة وهي أشبه ما تكون بالرسوم الجمركية في العصر الحاضر، ويقوم بتحصيلها موظف يقال له العاشر أي الذي يأخذ العشور1487، وأول من وضعها في الإسلام هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد فرضها على الحربي بنسبة العشر، وعلى الذمي نصف العشر، وعلى المسلم ربع العشر1488، وقد استمر هذا النظام في العهد الأموي وفق القواعد التالية:
أ ـ…إعفاء الحد الأدنى لرأس المال، والذي قدر بالنسبة للمسلم بمائتي درهماً1489، أما بالنسبة للحربي والذمي فقد اختلف فيه1490.
ب ـ…لا تحصل العشور إلا مرة واحدة في السنة .
جـ ـ يشترط لتحصيل العشر من النعم التي للمسلم أن تكون سائمة.
ح ـ…لا تؤخذ العشور من عبد ولا مكاتب ولا مضارب ولا بضاعة، وإنما من رب المال نفسه1491.
خ ـ…أن يكتب للتاجر سند بالمبلغ الذي دفعه، وبمقتضاه لا تأخذ منه العشور إلا في السنة التالية1492.
س ـ أن لا يتم تفتيش التاجر ولا تعنيفه1493.
ش ـ…أن من ادعى ديناً يستغرق ما معه من التجارة، صدق إن كان مسلماً، وإن ارتاب في أمره استحلفه (على خلاف ذلك)1494، وأما الذمي فأقرب الأقوال فيه أن يشهد له شاهدان من المسلمين حتى يعفى1495.
ع ـ…أن العشور التي تأخذ من المسلمين هي الزكاة فلا يجمع على المال زكاة وعشور1496.(1/354)
غ ـ…أن غير المسلم إذا مر بما يوصف بالمالية عندهم وليس بمال عند المسلمين كالخمر والخنزير ونحوها، يقومه أناس من غير المسلمين، ويضاف إلى قيمة ما معه من تجارة ويؤخذ منه العشور1497. وهناك من الدلائل ما يشير إلى أن العشور كانت تشكل جزءاً مهماً في إيرادات الدولة، من ذلك ما لمسه ابن الزبير من نقص في مواد الدولة حينما منع تحصيل العشور لمدة عام واحد مما حمله على التراجع على ذلك القرار1498.
5 ـ الصوافي : هو ما اصطفاه الإمام لبيت المال من أرض الفيء كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من البلاد المفتوحة عنوة بحق الخمس أو باستطابة نفوس الغانمين، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه1499.. ثم أقطعت أجزاء منها إلى بعض من كان يتولى إستثمارها، على أن يؤدي لبيت المال ما عليها، وأول من أقطع عثمان بن عفان رضي الله عنه1500، وذلك بدافع زيادة غلتها، وقد اشترط على من يقطعه إياها حق الفيء1501، فبلغت غلتها آنذاك خمسين مليون درهماً1502، وانتبه معاوية بن أبي سفيان للصوافي في وقت مبكر، وكتب إلى الخليفة عثمان سأله أن يقطعه إياها، ليقوى بها على ما وصف في كتابه يقول ابن عساكر: حتى كتب معاوية في إمرته على الشام إلى عثمان أن الذي أجراه عليه من الرزق في عمله ليس يقوم بمؤن من يقدم عليه من وفود الأجناد ورسل أمرائهم، ومن يقدم عليه من رسل الروم ووفودها. ووصف في كتابه هذه المزارع الصافية وسماها له، وسأله أن يقطعه إياها ليقوى بها على ما وصف له وأنها ليست من قرى أهل الذمة ولا الخراج، فكتب إليه عثمان بذلك كتاباً1503، يضاف إلى تلك المزارع، مزارع وأراضي بني فوقا الذين لا وراث لهم، فأخذ معاوية ما يليهم1504. ولما أفضى الأمر إليه، جعل هذه الأراضي حبساً1505 على فقراء أهل بيته والمسلمين1506، وأشار المؤرخ الشيعي اليعقوبي إلى أن معاوية جعل هذه الأراضي، وضياع الملوك في الشام والجزيرة واليمن والعراق خالصة لنفسه عندما أفضى(1/355)
الأمر إليه1507 .
فاقطع منها فقراء أهل بيته وخاصته، واعتبر بذلك: أول من كانت له الصوافي في جميع أرجاء الدنيا1508، وهذه الإشارة من اليعقوبي تلفت الإنتباه نظر إلى الالتباس الواضح في لغتها، فقد ذكرت صوافي في الجزيرة واليمن علماً بأن عمر بن الخطاب كان قد أصفى مجموعات خاصة في أراضي السواد وأراضي الشام لم يدخل فيها صوافي الجزيرة واليمن1509. كما أشار اليعقوبي إلى أن معاوية جعل هذه الأراضي خالصة لنفسه، فأقطع منها فقراء أهل بيته وخاصته، وبمقارنة هذا النص، بنص ابن عساكر عن الموضوع نفسه، يظهر مدى المبالغة في تلك الرواية يقول ابن عساكر عن تلك الأراضي: فلم تزل بيد معاوية حتى قتل عثمان وأفضى إلى معاوية الأمر، فأقرّها على حالها ثم جعل من بعده حبساً على فقراء أهل بيته والمسلمين إي أن معاوية لم يتصرف فيها ابتداء بل تركها على حالها1510 ولكن يبدو أن هناك ضرورات سياسية نشأت في الشام دفعت الدولة إلى اتخاذ ضرب جديد من التنظيم والسعي لخدمة مصالح الدولة، ومن هذه الضرورات محاولة إقامة توازن قبلي في بلاد الشام بين اليمانية وبين القيسية ولذلك أقطع معاوية اقطاعات واسعة في هذا المجال1511، ولقد أسي فهم هذا الإجراء وفسر بعض المؤرخين كاليعقوبي، موضوع مصالح الدولة بأنه يعني مصالح الأسرة الأموية وبالتحديد معاوية1512، ولا شك أن معاوية استخدم هذه الأموال في تثبيت دعائم الدولة، وحفظ وحدة الأمة، فكان يتصرف وفق ما يراه مناسباً للصالح العام1513، ولا يمنع ذلك الإحسان إلى أسرته والمقربين إليه بالمعروف،وقد أمر معاوية بإعادة مسح للصوافي في أمصار الدولة الأموية وأضاف أراضي واسعة بعد العثور على سجل الضياع الساسانية1514 أصبحت تحت تصرف معاوية المباشر فكان يسد منها بعض حالات العجز في النفقات العامة، فقد بلغ غلة صوافيه بالعراق وما يتبعه مائة مليون درهماً1515 وكذلك فعل بصوافي أرض الشام والجزيرة واليمن حتى فدك اصطفاها لنفسه(1/356)
ثم أقطعها لمروان بن الحكم1516، وظلت كذلك طيلة العهد الأموي، باستثناء عصر عمر بن عبد العزيز الذي أعادها للملكية العامة وشجع القطاع الخاص على استثمارها1517، كما رد فدك لبيت المال ووضع ما يأتي منها في أبناء السبيل، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده1518، كما أمر باستثمار أراضي الصوافي حين كتب إلى واليه على العراق: انظر ما قبلكم من أرض الصافية، فاعطوه حتى تبلغ العشر فإن لم يزرعها أحد فامنحها فإن لم تزرع فانفق عليها من بيت مال المسلمين، ولا تبتزن قبلك أرضاً1519، ونلاحظ من هذا النص اهتمام عمر بن عبد العزيز بأمر الصوافي مما يدل على أهميته في موارد الدولة.. لكن أمر الصوافي عاد إلى ما كان عليه الأمر بعد عهد عمر بن عبد العزيز1520،
6 ـ خمس الغنائم : تعرّف الغنيمة : ما غلب عليه المسلمون بالقتال حتى يأخذوه عنوة1521، وقد نص عليها القرآن الكريم، وفي العصر الأموي ازدادت حركة الفتوحات وبالتالي زادت الغنائم كأحد موارد بيت المال، وقد اتبع الأمويون نفس النهج العمري بالنسبة للغنائم والأراضي المفتوحة، فكان تخميس الغنائم وتقسيمها بين الفاتحين وترك الأرض فيئاً لمجموع المسلمين مع ضرب الخراج عليها1522، هذه أهم المصادر المالية للدولة مع وجود مصادر أخرى كنظام خمس الركاز، ومال من لا ورث له إذ ظل في العصر الأموي على ما كان عليه عهد رسول الله والخلفاء الراشدين إضافة إلى أن نسبة هذين العنصرين بسيطة جداً بالنسبة لغيرها من المصادر1523.
ثانياً : النفقات العامة:(1/357)
1 ـ النفقات العسكرية: حملت الدولة الأموية على عاتقها مهمة مواصلة نشر الإسلام في أرجاء المعمورة، ولذلك اتسعت الدولة الإسلامية في العصر الأموي اتساعاً كبيراً، وقد تم لها ذلك على الرغم مما كانت تعانيه من فتن وقلاقل داخلية تتطلب أموالاً طائلة لإخمادها، وتتضح معالم النفقات العسكرية في العصر الأموي من خلال نفقات الجند والصناعات الحربية1524 .
أ ـ رواتب الجند : ويشرف عليها ديوان الجند، وتجمع المصادر على أن أول من وضعه ورتبه هو الخليفة عمر بن الخطاب سنة 20هـ1525، وقد بقي هذا الديوان على الأساس نفسه من حيث تحفظ سجلات بأسماء المقاتلين وأوصافهم، وأنسابهم ومقدار أعطياتهم1526، وقد عمل معاوية بن أبي سفيان على تحسين حالة الجند المعاشية فزاد في أعطياتهم، بسبب الظروف المستجدة وتحسن الأحوال الاقتصادية في الدولة، وكان أمير المؤمنين معاوية: يتفقد أحوال القبائل، كجزء من سياسته في حفظ التوازن بين قبائل اليمن والقبائل القيسية، وكان قد جعل على كل قبيلة من قبائل العرب بمصر رجلاً يصبح كل يوم فيدور على المجالس فيقول هل ولد الليلة فيكم مولود وهل نزل بكم نازل فيقال ولد لفلان غلام ولفلان جارية، فيقال سموهم فيكتب ويقال نزل بنا رجل من أهل اليمن بعياله فيسمونه وعياله فإذا فرغ من القبائل كلها أتى الديوان1527، وكان للجند ديوان مركزي في دمشق في حين وجدت دواوين فرعية في مراكز الولايات: كالكوفة والبصرة والفسطاط1528، وكان سلم رواتب الجند في عهد معاوية كالآتي: على درجات: شرف العطاء والمرتب 2000 درهم، عطاء العرب فئة(أ) 300 درهم، فئة (ب) 1000 درهم، فئة (جـ) 1500 درهم، وأدخل الموالي في العطاء1529، وكانت نفقات رواتب الجند في عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه كالآتي:(1/358)
ـ…في منطقة مصر : كان عدد المسجلين في الديوان 40000 ألف جندي منهم أربعة آلاف مسجلين بشرف العطاء1530، وبالتلي يكون مجمل عطاؤهم 8000000 درهماً، أما بقية المسجلين في الديوان فكان عددهم 36000 جندياً وعلى فرض أن عطاء الجندي سنوياً هو 300 درهماً يصبح إجمالي عطاؤهم 10800000 درهماً1531
ـ…في منطقة الشام: كان عدد الجند المسجلين في ديوان الشام ستون ألف جندي، كان الدخل السنوي لكل جندي ألف درهماً، أما إجمالي نفقات جند الشام فبلغ ستين مليون درهم1532.
ـ …في العراق نأخذ مثالاً ديوان البصرة: حيث بلغ عدد المسجلين به ثمانين ألف مقاتل1533، وبلغت مرتباتهم في عهد زياد 36000000 درهماً ، فإذا أخرجنا منهم نسبة 10% مسجلين في شرف العطاء، (قياساً على ديوان مصر) يكون المتبقي20000000 درهماً، وعليه يكون متوسط الدخل للجندي في ديوان البصرة حوالي 278 درهماً ويمكن قياس بقية منطقة العراق على هذا1534.
…وقامت الدولة الأموية بتطوير ديوان الجند، وهو الجهة المسؤولة عن نفقات ورواتب الجند وكان من أبرز صور هذا التطوير ما يلي:
* ـ…فقد قام مندوب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه المكلف بتوزيع عطاء المدينة بدفع عطاء كل رجل في يده مباشرة وكان النظام السابق هو أن يدفع العطاء إلى العرفاء. لكن هؤلاء العرفاء لم يكونوا يغيبون غائباً ولا يميتون ميتاً1535.
* ـ…وفي عهد معاوية قام واليه على العراق زياد بن أبيه، بتخفيض النفقات الإدارية لديوان الجند، حيث اختصر عدد العرافاء المسئولين عن توزيع العطاء ليصبح لكل قبيلة عريف واحد1536 .(1/359)
ب ـ…نفقات الصناعات الحربية: على الرغم من عدم وجود أرقام محددة في نفقات الدولة على الصناعات الحربية، إلا أن هناك ما يدل على اتجاه هذه النفقة نحو التزايد، فقد كان اهتمام الدولة الأموية منصباً على تطوير سلاح البحرية، وقد بلغ عدد قطع الأسطول البحري الإسلامي في بداية تكوينه مائتي مركب1537، ثم تطور على يد الدولة الأموية ليبلغ في عهد سليمان بن عبد الملك ألف وثمانمئة سفينة كبيرة1538.
2 ـ …النفقات الإدارية :
…تقسم هذه النفقات إلى قسمين، رواتب الموظفين ونفقات المستلزمات الإدارية، وكانت هذه الأخيرة ضئيلة للغاية، ومتمثلة في الشموع وأوراق الكتابة، وغيرها من الأدوات البسيطة التي لا تشكل شيئاً يذكر بالنسبة لما هو عليه الأمر اليوم ومع ذلك فقد تميز عهد عمر بن عبد العزيز بالحساسية للمال العام، فكانت هذه النفقات في عهده أقل من غيره من العهود1539، وسنركز الحديث عن رواتب الموظفين، ويبدو أن رواتب الموظفين كان متروكاً إلى والي الإقليم، يحدد لنفسه ولعماله رواتبهم حسب ما يرى، وقد ساعدت هذه اللامركزية على ظهور مرتبات كبيرة نسبياً ـ إذا ما قورنت بالمرتبات في عهد عمر بن الخطاب وبمتوسط مستوى المعيشة المتواضع نسبياً في الدولة الأموية ـ حيث بلغ مرتب والي العراق زياد بن أبيه خمسة وعشرين ألف درهماً شهرياً1540، وظهرت أيضاً إلى جانب المرتبات الكبيرة مخصصات إضافية، فهذا زياد بن أبيه يجعل لأحد الولاة التابعين لإدارته مائة ألف درهم سنوياً عدا مرتبه1541 وهذه بعض النماذج من رواتب الموظفين خلال فترات من العصر الأموي، يمكن اعتبارها مؤثراً على مستوى رواتب ومكافآت موظفي الدولة، وذلك لعدم العثور على معلومات تفصيلية عنها.
أ ـ…كان الحد الأقصى لرواتب الكتاب طوال العصر الأموي وطرفاً من العباسي حتى عهد المأمون هو 3600 درهماًَ سنوياً، وكان حدها الأدني 720 درهماً سنوياً1542.(1/360)
ب ـ…يرجح أن أكبر مرتب لصاحب الشرطة في العصر الأموي بلغت مائة ألف درهماً سنوياً1543.
جـ ـ مرتبات القضاة كانت عبارة عن رزق يجري عليهم من بيت المال ليتفرغوا للقضاء1544، وكان حده الأدنى ألف ومائتي درهماً سنوياً1545، وأما الحد الأقصى فقد بلغ ثلاثة آلاف درهماً سنوياً1546.
3 ـ مصارف الزكاة : حيث يقول الله سبحانه وتعالى: ((إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)) (التوبة ، الآية :60) .
4 ـ مصارف الفي : قال سبحانه وتعالى: ((مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ... )) (الحشر ، الآية : 7) .
5 ـ معظم مصارف العشور: التي تأخذ من المسلمين هي نفقات تحويلية لأنها تعتبر في حقهم زكاة فتصرف في مصارف الزكاة .(1/361)
6 ـ نفقات الضمان الاجتماعي: تطورت نفقات الضمان الاجتماعي في الدولة الأموية كانت في صورة عينية، وكمثال على ذلك ما ورد من أن الفقراء في إقليمي الحجاز والعراق خلال الفترة (45هـ ـ 53هـ) كانوا يحملون بطاقات محدد لهم فيها الكمية المخصصة لكل فرد منهم من المعونة العينية1547 ثم أصبحت في عهد عمر بن عبد العزيز (99هـ ـ 101هـ) مزيجاً من النفقات النقدية والعينية، وكمثال على المعونات النقدية قضاء دين من أدان في غير سفه، ولا سرف، وتزويج الرجل الذي ليس له مال وله رغبة في الزواج1548، ومثال النفقات العينية، أنه أمر لكل أعمى بقائد، ولكل خمسة من اليتامى بخادم1549، وشملت في عهده نفقات الضمان الاجتماعي إلى غير المسلمين1550، ثم تطور الأمر حتى مثلت نفقات الضمان الاجتماعي بنداً محدداً من بنود النفقات العامة للدولة، ومثال ذلك يوجد ضمن بنود النفقات العامة السنوية في إقليم العراق خلال الفترة (120 ـ 126هـ) مبلغ عشرة آلاف درهم1551، مخصصاً لبيوت رعاية الأحداث1552، والعواتق1553.
ثالثاً : اهتمام الدولة بالزراعة :(1/362)
…مع بداية الدولة الأموية ظهرت الملكيات الزراعية الكبيرة وذلك نتيجة لدخول الولاة والخلفاء في هذا الميدان، ولذلك اهتموا بإحياء الأرض الموات من أراضي الصوافي وغيرها، من الأراضي المفتوحة الخصبة، وبالذات إقليم العراق وما شابهه، وقد ساعدهم في ذلك حجم السيولة التي يملكونها، فقد أحيا والي معاوية رضي الله عنه على خراج العراق أرضين من البطائح لمعاوية، حيث قام بقطع الماء عنها وتجفيفها وزراعتها، وقد بلغت غلتها خمسة ملايين درهم1554، وهذا مما يدل على عظم مساحتها، ولم يكن معاوية رضي الله عنه يجعل ريعها كله داخلاً في نفقاته الخاصة، وإنما كان يتدارك منها شيء من النقص في النفقات العامة1555، ولم يدخل تلك الأرضين في ملكه يتوارثها من بعده، بدلالة أن الأرض التي أحياها الحجاج فيما بعد لعبد الملك هي نفس الأرض التي أحياها معاوية رضي الله عنه، إلا أنها عادت مواتاً لغلبة الماء عليها1556. ومن الناحية الشرعية فإن أحياء الأرض بصفة عامة مباح، بل هو سبب من أسباب الملك لها وذلك استناداً على الأحاديث الواردة في ذلك، وهي إباحة عامة يستوي فيها الحاكم، والمحكوم، إلا أنه في حق الحاكم ينبغي أن تكون هناك قيود إضافية لعل من أبرزها:
ـ …عدم استغلال الحاكم لسلطته ومكانته، وإنما يدخل في عملية الاحياء كأي فرد من أفراد الشعب.
ـ…عدم استخدام أموال المسلمين في عملية الاحياء، بل يقوم بإحيائها من ماله الخاص.(1/363)
ـ…ألا يترتب على تملكه للأرض بطريق الإحياء ضرر على المسلمين، الأفراد أو جماعة المسلمين، وكذا من له ذمة1557، وقد ساهم الاقطاع ـ أي الاقطاع يقصد الإحياء والإعمار ـ في تكوين الملكيات الزراعية الكبيرة، فقد أقطع معاوية رضي الله عنه بعض أخوته الجزيرة التي بين النهرين، فأرسل زياد بن أبيه الماء، فلما نظر إليها المقطوعة له ظن أنها بطيحة، فاشتراها منه زياد بمائتي درهم، وقد أقطع زياد بعد ذلك من تلك الأرض غيره، مما يدل على عظم حجمها، حتى أنه أيضاً حفر لها أنهاراً وليس نهراً واحداً1558، وأقطع زياد بن أبيه مرّة مائة جيب1559 على نهر الأبلة فحفر لها نهراً فسمي باسمه، كما أقطع أيضاً كل بنت من بناته ـ أي بنات زياد ـ ستين جريباً1560 واستمرت الملكيات الزراعية بالتوسع مع مجيء الخلفاء الأمويين بعد معاوية رضي الله عنه، ولم ينحصر الإقطاع للأراضي على الأسرة الأموية وبعض وجهاء قريش، وإن كان هو الغالب1561، إذ كانت هناك إقطاعات لعامة الشعب، ومثال ذلك أن زياداً كان يقطع الرجل القطعية ويتركه سنتين فإن لم يعمرها أخذها منه1562، وقد كانت تقدر مساحات تلك الاقطاعات بين (60 ـ 100) جريب1563، وقد كانت إقطاعات الدولة الأموية من الصوافي أو من الأراضي الموات ولكن بصفة عامة يؤخذ على القطاع في العصر الأموي عنصر المحاباة، إذ أن أصحاب الملكيات الكبيرة كانوا إما من الأسرة الأموية أو من أشراف قريش، وبحثت الدولة عن أصحاب السيولة النقدية القادرين على استثمار تلك الأراضي، لكن ترتب على ذلك السلوك تركز الثروة الكبيرة في أيدي قلة من أفراد المجتمع1564، كانت الزراعة في العصر الأموي تعتمد بصفة رئيسية على مياه الأنهار، ولذا نجد أن مراكز الإنتاج الزراعي الرئيسية كانت هي العراق ومصر والشام، وبالذات حول الأنهار1565، وكان للقطاع الخاص دوره في تطوير الزراعة في العهد الأموي، وقد قام القطاع الخاص باستصلاح أراضي زراعية جديدة بمساحات(1/364)
واسعة ومثال ذلك أراضي البطائح التي كانت منذ عهد الفرس وحتى عهد الدولة الأموية أراضي مغمورة بالمياه، فبدأت من بداية الدولة الأموية حركة استصلاحها بحجز المياه عنها وتجفيفها، وقد خرجت منها أراضي واسعة وخصبة وفيرة الإنتاج1566، وقد توسعت الملكيات الزراعية الخاصة، وترتب عليها زيادة في الإنتاج الزراعي، مما أدى إلى وجود أراضي بعيدة عن مصدر الري وهو النهر الأساسي، فحدث تطور في تقنية الري حيث ظهرت حركة حفر الأنهار والقنوات الفرعية وفق طرق هندسية تسمح لتلك الأراضي بالاستفادة من ماء النهر دون أن يؤدي ذلك إلى إغراقها، وقد توسع القطاع الخاص في حفر هذه الأنهار والقنوات، فحدثت تنمية زراعية نتيجة استفادة الأراضي التي كانت تمر بجوارها تلك الأنهار والقنوات الفرعية1567، وقد تمّ نقل التقنية الزراعية من البلاد المفتوحة حديثة إلى مراكز الإنتاج الزراعي الرئيسية في الدولة الأموية1568إلا أن القطاع الزراعي تعرض للتدهور في المنطقة الشرقية من الدولة الأموية بسبب عوامل متعددة منها:
1 ـ…الاضطراب السياسي ، وفقدان الأمن بالمنطقة، فانعكس ذلك على مستوى الإنتاجية الزراعية، ويبدأ هذا الاضطراب مع مجيئ يزيد بن معاوية، ومعاوية الثاني، ومروان بن الحكم.. الخ.
2 ـ… تركز الثروة في يد قلة من سكان المنطقة، حيث كانت معظم التركيبة السكانية من الموالي1569، مما ترتب عليه ضعف حركة النقود داخل المنطقة، فضعفت حركة تبادل السلع، أي حدوث كساد اقتصادي بالمنطقة.(1/365)
3 ـ…إعادة ضريبة النيروز والمهرجان التي روي أنها بدأت مع عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه1570، وكان السبب في إعادتها أن الناس اعتادوا دفعها على الرغم من منع الإسلام لها1571، فأراد معاوية رضي الله عنه سحب مبالغها من غير المسلمين من الدهاقنة المسئولين عن الجباية، حتى لا يكونوا مراكز ثروة يتقوون بها ضد الدولة الإسلامية، وكان ينفقها رضي الله عنه في مصالح الأمة الإسلامية، لكن الدهاقنة والأمراء المحليين أخذوا فيما بعد في إبتكار ضرائب إضافية عديدة1572، أرهقت كاهل المزارعين، بالإضافة إلى ما صاحب تلك الضرائب من عنف في الجباية1573.
4 ـ…إخضاع المشاريع الزراعية للضغوط السياسية، فقد أدت محاربة الدولة لخصومها السياسيين إلى تخرب أو تحجيم مشاريعهم الزراعية، فانعكس ذلك بنتائج سلبية على اقتصاد الدولة ككل، ومن صور ذلك ما حدث في عهد الحجاج من أن بثوق انبثقت على الأرض المحيا من أرض البطائح فلم يعمل الحجاج ـ بوصفه والي المنطقة ـ على سد تلك البثوق مضارة لأهلها (لاتهامهم بمساعدة ابن الأشعث في الخروج عليه). فغرقت أراضيهم الزراعية وتحولت إلى موات1574.
5 ـ معاناة الدولة الأموية في بداية نشأتها من مجموعة من المهاجرين الذين قدموا إلى إقليم العراق، وكانوا يعانون من البطالة، حيث لم يكونوا مسجلين بالعطاء، وليس لديهم أراضي يقومون بزراعتها، فبدلاً من أن يقوموا بالعمل في مجال من المجالات الأخرى قامت فئة منهم بإحداث بثوق في نظام الري، فأدى ذلك إلى تخريب المزارع وإغراقها، فلما ولي زياد العراق قام بالقضاء على مثل تلك الأعمال1575.(1/366)
6 ـ حدوث مواجهة عسكرية بين المزارعين المهاجرين من الأرياف إلى المدن من الموالي والدولة الأموية، وذلك حينما حاول والي العراق ـ الحجاج بن يوسف ـ إعادتهم إلى أراضيهم بالقوة وإعادة فرض الجزيرة عليهم، وقد وافق ذلك خروج ابن الأشعث على الدولة الأموية، فانضموا تحت لوائه1576. ونتيجة لتلك العوامل وغيرها، فقد بدت علامات تدهور القطاع الزراعي العام في المنطقة الشرقية من الدولة الأموية1577. ومع ذلك فقد كانت خلال تلك الفترة مجموعة من الإجراءات والمشاريع التي خففت من حدة التدهور الزراعي بالمنطقة خلال هذه الفترة، وكان من أبرزها ما يلي:
أ ـ …إنشاء زياد بن أبيه جسراً يمنع طغيان الماء على الكوفة1578 مما وفر الفرصة لاستغلال أراضي كانت تعطل فترة من السنة نتيجة فيضان الماء عليها، وينتظر حتى تنتهي فترة الفيضان، وتجف الأرض حتى يمكن إعادة زراعتها مرة أخرى، كما أعطى هذا المشروع فرصة إدخال زراعة النباتات المعمرة إلى تلك الأراضي بدلاً من افتقار الزراعة فيها على المحاصيل الموسمية، وبلغ من أهمية هذا الجسر أن الولاة ظلوا يتعاهدونه طيلة فترة العصر الأموي1579.
ب ـ عملية نقل الأيدي العاملة الزراعية من منطقة إلى منطقة أخرى، بهدف إحداث تنمية زراعية في الجهة المنقول إليها ومن أمثلة ذلك ما يلي:
ـ…نقل زياد خمسين ألف أسرة من البصرة والكوفة من ذوي الخبرة الزراعية المشهورة إلى خراسان لتعميرها1580.(1/367)
…هذا وقد كانت الدولة الأموية تتولى مسؤولية إقامة منشآت الري الكبرى والعمل على صيانتها وتطهيرها، كحفر الآبار ومجاري الأنهار، وسد البثوق (التصدع)، وفتح البريدات (مفاتيح الماء)، وإقامة المسنيات (السدود)، أما أصحاب الأراضي فكانوا يشاركون أحياناً في نقطة تطهير الأقنية الكبيرة، وكذلك الأمر فإنه كان يقع على عاتقهم، بطبيعة الحال مسؤولية إقامة الأقنية ووسائل الري داخل ممتلكاتهم الخاصة1581، وقد حاول الحكام الأمويون استغلال ما أمكنهم من الأراضي، فعملوا على توسيع نطاق الأراضي الزراعية، وبخاصة تجاه بداية الشام، عن طريق استصلاحها وتأمين المياه، ووسائل الري لها1582، حتى أن قصور الأمويين في الصحراء كانت مراكز مهمة للاستثمار الزراعي حيث أقيمت حولها منشآت الري، من قنوات وصهاريج، ومجاري وتوسعوا بذلك في استصلاح الأراضي بواسطة توفير الري لها1583، وكان الخليفة معاوية بن أبي سفيان يبدي اهتماماً كبيراً بتنمية الزراعة ورفع مستوى إنتاجها، فكان يولي عنايته لتطوير وسائل الري، وإخصاب الأراضي عن طريق الاستعانة بأصحاب الخبرة والاختصاص من السكان المحليين1584، كما أن يزيد بن معاوية كان يلقب بالمهندس نظراً لخبرته الهامة في الشؤون الزراعية، وإبداء اهتمامه بإصلاح أنظمة الري والعناية بها، فقد أمر بحفر قناة سميت باسمه بنهر يزيد، وكانت هذه القناة في الأساس رافداً صغيراً بالكاد يروي ضيعتين بالغوطة، فقام يزيد بتوسيعها وتعميقها حتى أصبحت بعرض ستة أشبار، وبعمق ستة أشبار كذلك، الأمر الذي أدى إلى زيادة تدفق المياه وغزارتها، بحيث أصبحت تكفي لري أراضي واسعة في الغوطة1585 ، وبذلك أتيح المجال أمام المزارعين للقيام باستصلاح بعض أراضيهم المتروكة والعمل على استغلالها1586، وكانت غالبية الأراضي في بلاد الشام تعتمد في ريها على مياه الأمطار التي تتساقط عليها خلال الفترة الممتدة بين تشرين الأول ونيسان، إلا أن أراضي واسعة1587(1/368)
كانت تروي سيحاً، أي من المياه الجارية على سطح الأرض حيث تأتي من مياه بعض الأنهار ومن مياه العيون في الجداول والقنوات وكذلك فإن قسماً آخر من الأراضي كانت تروى بواسطة الآلات التي ترفع المياه من منخفضات بعض الأنهر إلى سواقي أعلى لري الأراضي التي يعلو مستواها عن مجاري الأنهر، أو التي ترفع المياه من الآبار والخزانات1588، وتعتبر مياه العيون مهمة في ري المزروعات، حيث كانت تروي قسماً كبيراً من الأراضي في أنحاء الشام1589وكانت الغلات والمزروعات المتوفرة، القمح والشعير والرز والزيتون، والنخيل والعنب والتين والفواكه والقطن، وقصب السكر، والبقول، والسمسم، والرياحين، وغير ذلك1590.
رابعاً : اهتمام الدولة بالتجارة الداخلية والخارجية :(1/369)
…يتوسط موقع الدولة الأموية بين دول الشرق الأقصى من ناحية مثل الصين والهند ونحوهما وبين الدولة البيزنطية من ناحية أخرى، ومعنى ذلك بالضرورة وطبقاً لمعايير ذلك العصر ـ أن أهم علاقاتها التجارية ارتبطت بهاتين الدولتين1591، وبعد تولي معاوية الخلافة استقرت الأمور وبدأت حركة التجارة الداخلية تزدهر كما كانت عليه قبل ذلك، واهتم معاوية بمصالح التجار وعمل على توسيع نطاق التجارة، وتميز أهل الشام في حرفة التجارة وفتحوا علاقات تجارية مع غربي أوربا واستفادوا من الأسطول الإسلامي ومن بين العوامل التي ساعدت على نشاط حركة التجارة الثراء العريض الذي نعمت به طبقة الحكم وحاشيتهم، حيث نمّا في نفوسهم حب البذخ والرفاهية، وبالتالي توفر عندهم الميل والحاجة إلى اقتناء المنتوجات الكمالية، فأقبلوا على شراء السلع التجارية الباهظة الثمن، مما زاد في فعالية التجار وازدهار التجارة1592، وكان الأمويون يقومون بدور كبير في عالم التجارة وخصوصاً أن الخليفة معاوية رضي الله عنه والده كان من كبار تجار قريش، كما أن معاوية نفسه لما كان والياً في عهد عثمان بن عفان على بلاد الشام كان يرسل بقوافله التجارية من الشام إلى حاضرة الجزيرة العربية1593، وكان التجار يحتلون مكانة اجتماعية عالية في العصر الأموي وكانوا يقومون بتأسيس الشركات في سبيل زيادة فعالية التجارة، حيث كانوا يساهمون في الشركة بتقديم المال وممارسة العمل كذلك، أو بواحد منهما، فإذا أقدم صاحب المال على تقديم ماله لآخر ليتاجر به لقاء حصة من الربح يتفق عليها، فيسمى ذلك الاتفاق بالمضاربة1594. وقد ازدهرت شركات المضاربة وأصبحت وسيلة مهمة في مجال العمل التجاري1595، وكانت تجارة الأسواق المحلية مليئة بالحركة والنشاط، وقد أصبحت عاصمة الدولة دمشق مركزاً تجارياً مهماً يعود إلى الظروف السياسية الجديدة التي نشأت، فغيرت من سبل واتجاهات حركة التجارة عما كانت عليه سابقاً في العصر(1/370)
البيزنطي، حيث أصبحت دمشق عاصمة للخلافة الأموية، ومحط للتجارة الشرقية1596، وبالتالي مركزاً لتوزيع البضائع إلى الجهات المختلفة، بعد أن كانت القوافل المحملة بالبضائع الشرقية تتجه مباشرة إلى إنطاكية على ساحل الشام الشمالي، وهكذا كان لأهمية تجارة دمشق التي تتكدّس في أسواقها البضائع المتنوعة، المنتجة محلياً والمستوردة أن قال ياقوت بأنه يستحيل أن يطلب شيء في الأسواق دمشق غير موجود، حتى إن السلع الغالية الثمن التي تستورد من جميع أنحاء العالم المتمدن موجودة فيها1597. ثم إن دمشق كانت بحكم موقعها الجغرافي المتاخم للبادية المركز التجاري الهام الذي يقصده البدو والمقيمين في الصحراء1598، وقد اشتهرت مدن الشام كحلب والرصافة، وحمص، والرملة والقدس وإنطاكية بأهميتها التجارية، ونشاط أسواقها1599 وكانت عاصمة الشام، محط رحال القوافل التجارية الآتية من الشرق، ولا شك أن الكوفة والبصرة والموصل، ومدن الحجاز، ونجد وغيرها قد ازدهرت حركة التجارة فيها أيضاً إلا أن مدن الشام كانت تزدهر فيها التجارة أكثر من غيرها، حيث أنها تعتبر مراكز تجارية كبرى وأسواقاً هامة، كما أن الأسواق الموسمية التي كانت تقام في بعض المدن، تعرض فيها البضائع المتنوعة بكثرة، كانت توفر مجالاً أوسع لتأمين كافة متطلبات واحتياجات سكان المدن والقرى كذلك، بالإضافة إلى أن هذه الأسواق كانت مناسبة هامة للتجار الذين يأتون إليها من أماكن مختلفة تستفيد من كل ذلك. وقد كان من هذه الأسواق التي كانت قائمة في العصر البيزنطي واستمر قيامها في العصر الأموي سوق بصري الذي كانت تطول مدة إقامته، حيث كان يستمر من ثلاثين إلى أربعين يوماً وكذلك فقد كان هناك سوق أذرعات الذي استمر قيامه حتى ما بعد العصر الأموي1600.(1/371)
وأما بالنسبة للتجارة الخارجية في عهد معاوية رضي الله عنه وابنه، فقد ازدهرت التجارة مع الدولة البيزنطية، وازدادت نمواً وقوة، وقد ساهمت عدة عوامل في هذا الازدهار منها :
1 ـ …كثرة الاضطرابات والحروب في المنطقة الشرقية من الدولة الأموية، مما خفض من حجم المبادلات التجارية بينها وبين دول المشرق ولو بشكل جزئي، وبالتالي زيادة حجم المبادلات التجارية مع دولة بيزنطة بالغرب.
2 ـ…الاستقرار الأمني من الدولة الأموية، دفع بكثير من رؤوس الأموال للهجرة من مناطق التوتر في الشرق إلى إقليم الشام، بحثاً عن فرص استثمار تجارية آمنة.
3 ـ…الاعتماد الكلي لكل من الدولتين على الأخرى في مجال هام وحيوي بالنسبة لها، فكما كانت الدولة البيزنطية تعتمد كلياً على أوراق البردي، كانت الدولة الأموية تعتمد كلياً في حجم النقد الذهبي داخلها على ما يردها من الدولة البيزنطية. ومن العلامات التي تدل على ازدهار التجارة بين الطرفين في عهد معاوية ومن بعده ما يلي:
أ ـ…كمية الدنانير الذهبية البيزنطية التي كانت موجودة في داخل الدولة الأموية تتم بها عمليات التداول الداخلية .
ب ـ…استمرار مصانع إنتاج البردي في مصر في إنتاجه على النهج البيزنطي للتصدير حتى عهد عبد الملك بن مروان1601.
خامساً : الحرف والصناعات :(1/372)
…تأثرت الحرف والصناعات في العصر الأموي بالبيئة الاقتصادية المحيطة بها، كما تأثرت الصناعات والحرف بطبيعة الاقتصادي الأموي، حيث كان النشاط الزراعي هو النشاط الرئيسي فيه، فظهرت وتطورت صناعات تعتمد في موادها الخام على القطاع الزراعي، مثل صناعة النسيج وصناعة المعاصر والمطاحن، كما واكبت الصناعة حركة التطور العمراني بالدولة الأموية، فظهرت وتطورت صناعة مستلزمات البناء، إضافة إلى تأثر الصناعة بالجو العسكري السائد في معظم فترات العصر الأموي، حيث تطورت صناعة السفن التجارية1602، وقد اهتمت الدولة الأموية ببناء أسطول حربي، ليقف في وجه الأسطول الحربي البحري البيزنطي، والذي كان يهدد سلامة الشواطئ الغربية للدولة الإسلامية، فتطورت صناعة السفن الحربية في العصر الأموي بشكل كبير ومتلاحق، فقد كان الإنتاج في بداية العصر الأموي مقتصراً على السفن، التي كانت تنفرد مصر بصنعها حتى عام 49هـ، حيث أمر معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، بإنشاء دار لصناعة السفن بالشام بمدينة عكا، وقد استقدم من مصر الخبراء للاستفادة منهم في دار الصناعة الجديدة، والتي تميزت بسهولة حصولها على الأخشاب من جبال لبنان1603. ثم تطورت هذه الصناعة، فأنشأت في مصر منطقة صناعية جديدة، خاصة بصناعة السفن الحربية، وذلك عام (54هـ)1604واستمرت الدولة الأموية في تطوير صناعة السفن فيما بعد عهد معاوية رضي الله عنه وقد أصبحت مناطق دور صناعة السفن الحربية مناطق جذب سكاني، كما أصبحت مناطق جذب وتوطن صناعي، فأصبحت أماكن استثمار خصبة، حيث أنشأت فيها الفنادق، والمطاحن، ونحوها من الأنشطة الأخرى وساعد على نمو وتطور هذه الصناعة، ما اتسمت به منذ بداية نشأتها، من دقة التنظيم، ومن صورة هذه الدقة ابتكار وظيفة المشرف العام على دار الصناعة ويسمى متولي الصناعة، ومن أبرز مهامه جمع الطاقات البشرية الفنية العاملة في هذا المجال من نجارين وحدادين وعمال ونحوهما، سواء(1/373)
من الأقاليم المجاورة للصناعة، أو من مختلف أقاليم الدولة، ومن مهامه أيضاً توفير الأدوات الخام، مثل الأخشاب والمسامير وغيره من مستلزمات دار الصناعة، وعليه يمكن القول أن التنظيم كعنصر من عناصر الإنتاج في العصر الحديث ترجع جذوره إلى القطاع العام الصناعي في العصر الأموي، أو ((متولي الصناعة))، ومن صور دقة تنظيم هذه الصناعة، الاهتمام بتحديد أجور العمال، وتوفير الكميات الغذائية اللازمة لهم، كما حرصت الدولة على توفير سبل الراحة للعاملين في هذه الصناعة، وكان من بين ذلك رفعها كل ظلم يقع على العامل، وتوفير وحدات سكنية للعمال، والمشرفين على هذه الصناعة بداخل دور الصناعة، وكذا وحدات لتموين السفن الحربية بالسرعة والدقة المطلوبة1605، ونتج عن ذلك كله تطور هائل في حجم الأسطول البحري إبان العهد الأموي1606:(1/374)
…لقد كانت الدولة البيزنطية متفوقة على الدولة الإسلامية الأموية في ميادين البحر، فاتخذ معاوية الوسائل المناسبة لإضعافها ثم القضاء عليها فيما بعد وفي هذا الفقه درس عظيم لقادة الأمة في معرفة عوامل قوة العدو، وجوانب تفوقه ثم السعي للوصول لنقطة تساوي ثم تفوق على الخصوم، سواء في الميادين العسكرية، أو السياسية، أو الاقتصادية أو الإعلامية، ومما نلاحظه الآن القوى العسكرية الهائلة التي تميز بها عدونا سواء على مستوى السلاح الجوي أو النووي والذري، فواجب على الأمة أن تسعى لإيجاد حلول حتى تستطيع أن تقاوم أعداءها وعلى علماء الأمة ومفكريها ألا يخضعوا للضغوط النفسية والسياسية والإعلامية التي يمارسها الأعداء علينا، وعليهم أن يبينوا أحكام الله في امتلاك لما يسمى بأسلحة الدمار الشامل. إن استمرار الأعداء في امتلاك الأسلحة الرادعة والتي لها قدرة بإذن الله على حسم المعارك العسكرية، جعلهم يتجبرون ويتغطرسون ويعملون على إفساد عقائدنا وثقافتنا وديننا، ويستولون على خيراتنا وثرواتنا وديننا يوجب علينا أن نعد لأعدائنا ما استطعنا من قوة، فلذلك وجب علينا أن نسعى لامتلاك الأسلحة الرادعة لكي نحمي بها أمننا وديننا ونقيم العدل وندفع الظلم عن البشرية.(1/375)
…ومن الصناعات التي اشتهرت في العهد الأموي، صناعة السفن التجارية، ولم تكن السفن الحربية تختلف كثيراً عن السفن التجارية، ومع ذلك كانت مناطق تصنيعها مختلفة، فقد اختصت منطقة البحرين أكثر من غيرها بإنتاج السفن التجارية، في حين كانت مصر، وعكا، وتونس مواطن تصنيع السفن الحربية، وساعد البحرين على ذلك وقوعها على الخليج العربي، والذي كان يعد من أهم طرق المواصلات التجارية البحرية بين الشرق والغرب وكذا ما اكتسبه أهلها من خبرة ملاحية نتيجة احتكاكهم بشعوب لديها خبرات ملاحية كشعوب الهند، والصين1607. ولم تقتصر صناعة السفن على البحرين، بل امتدت إلى مدينة واسط بالعراق وقد تطورت هذه الصناعة في عهد ولاية الحجاج بصفة خاصة1608، فقد أدخل تحسينات على صناعة السفن التجارية لتستطيع السير في عرض البحر، فأمر بتكبير حجمها، واستخدام المسامير لتقويتها، والاهتمام بهيكلها العظمي1609، وكانت السفن التي تصنع في واسط تسمى الواسطية، وكانت تنتج مدينة واسط القوارب الصغيرة، والتي كانت تستخدم للنزهة والسفر ونقل السلع التجارية بين واسط والبصرة لضحالة الطريق النهري بينهما وعدم قدرة السفن على السير فيه1610، ولم تكن مراكز إنتاج السفن الشرقية بالدولة الأموية متخصصة في إنتاج السفن التجارية فقط وإن كان هو الغالب عليها، بل كان لديها القدرة المزدوجة، فقد قام الحجاج أيضاً ببناء قوة عسكرية بحرية بالخليج العربي وبحر الهند1611.
سادسا : شبهات حول مصارف الأموال في عهد معاوية :
…أثار بعض المؤرخين شبهات حول مصارف الأموال في عهد معاوية رضي الله عنه، وذكروا عدة مصارف وسموها بأنها جائرة وغير شرعية منها:
1 ـ…التفريط في خراج بعض الأقاليم والتفرقة في العطاء:
أ ـ…إعطاء مصر طعمة لعمرو بن العاص:(1/376)
…تتعدد الروايات التي تنص على أن معاوية أعطى مصر طعمة لعمرو بن العاص لقاء تأييد الأخير له في حربه ضد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وجل هذه الأخبار تحوي روحاً عدائية لعمرو ومعاوية وتصور اتفاقهما على حرب علي كما لو كانت مؤامرة دَنيئة أو صفقة مريبة، خان فيها الرجلان ربهما ودينهما، وتاريخهما مقابل عرض زائل أو نصر سريع، وكأنه من المستحيل أن يبذل ابن العاص نصره لقضية اجتمع حولها آلاف الرجال في الشام وغيرها ـ وهي الطلب بدم عثمان ـ إلا إذ نال ولاية مصر وخراجها لنفسه، وبعض هذه الروايات تحوي سباباً لهذين الصحابيين، كأن تزعم أن عمرو فضل ولاية مصر على حسنى الآخرة وصرح بذلك فقال: إنما أردنا هذه الدنيا1612، أو أنه قال لمعاوية: لا أعطيك من ديني حتى آخذ من دنياك1613، أو قوله: إنما أبايعك بها ديني ((أي بمصر1614، أو قوله لمعاوية: ولولا مصر وولايتها لركبت المنجاة منها، فإني أُعلم أن علي بن أبي طالب على الحق وأنت على ضده1615، إلى غير ذلك من الروايات1616، وهكذا روايات باطلة وموضوعة عند المسعودي وكتاب الإمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة وغيرها تمسخ عمرو بن العاص إلى رجل مصالح، وصاحب مطامع وراغب دنيا، وقد تأثر بالروايات الضعيفة والموضوعة والسقيمة مجموعة من الكتّاب والمؤرَّخين، فأهووا بعمرو إلى الحضيض، كالذي كتبه محمود شيت خطاب1617وعبد الخالق سيِّد أبو رابية1618، وعباس محمود العقَّاد الذي يتعالى عن النَّظر في الإسناد، ويستخفُّ بقارئه، ويظهر له صورة معاوية وعمرو رضي الله عنهما بأنَّهما: انتهازيَّان، صاحبا مصالح، ولو أجمع الناَّقدون التاريخيون على بطلان الرِّوايات التي استند إليها في تحليله فهذا لا يعني للعقَّاد شيئاً، فقد قال بعد أن ذكر روايات ضعيفة، واهية، لا تقوم بها حجة:... وليقل الناقدون التاريخيون ما بدا لهم أن يقولوا في صدق هذا الحوار، وصحَّة هذه الكلمات، وما ثبت نقلة، ولم يثبت منه سنده، ولا(1/377)
نصُّه فالذي لا ريب فيه، ولو أجمعت التواريخ قاطبة على نقضه: أن الاتفاق بين الرجلين، كان اتفاق مساومة، ومعاونة على الملك، والولاية، وأن المساومة بينهما كانت على النصَّيب الذي آل على كلِّ منهما، ولولاه لما كان بينهما اتفاق1619.
…وهناك عدة دلائل ترد على الروايات الضعيفة والموضوعة والسقيمة التي لاقت رواجاً واستقرار في تشويه عمرو بن العاص ومعاوية بالظلم والبهتان منها ما عرف من صحة إسلام وتقوى معاوية وعمرو، وتاريخهما المضيء في خدمة دين الله منذ أسلما1620، ففي معاوية يكفي دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: اللهم اجعله هادياً مهدياً، واهد به1621، وقوله صلى الله عليه وسلم اللّهمّ علِّم معاوية الكتاب والحساب، وقه العذاب1622، وأما عمرو بن العاص رضي الله عنه فقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيمان حيث قال: أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص1623 وفي حديث آخر قال: ابنا العاص مؤمنان عمرو وهشام1624، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :.. وصدق عمرو، إن لعمرو عند الله لخيراً كثيراً1625.(1/378)
ـ…كانت بيعة عمرو لمعاوية في عهد علي على الطلب بدم عثمان، فقد كان تأثر عمرو بمقتل عثمان عظيماً، فعندما سمع خبر مقتل عثمان... ارتحل راجلاً يبكي، ويقول: يا عثماناه: أنعي الحياء والدين... حتَّى قدم دمشق1626، فقد كان من أقرب أصحابه، وخلانه، ومستشاريه، وكان يدخل في الشُّورى ـ في عهد عثمان ـ من غير ولاية، ومضى إلى معاوية رضي الله عنهما ليتعاونا معاً على الاقتصاص من قتلة عثمان والثأر للخليفة الشهيد1627، لقد كان مقتل عثمان كافياً لأن يحرِّك كلَّ غضبه على أولئك المجرمين السَّفَّاكين، وكان لابدَّ من اختيار مكان غير المدينة للثأر من هؤلاء الذين تجرَّؤوا على حرم رسول الله، وقتلوا خليفته على أعين النَّاس، وأيُّ غرابة أن يغضب عمرو لعثمان؟ وإن كان هناك من يشك في هذا الموضوع، فمداره على الرِّوايات المكذوبة التي تصوِّر عمراً: كلُّ همه السُّلطة والحكم1628.
ـ…ومن الدلائل على بطلان فرية إعطاء مصر طعمة لعمرو بن العاص ، ما ذكره أبو مخنف أحد رواة الفرية السابقة، أن دفع معاوية جيشه إلى فتح مصر وأخذها من يد أنصار علي بن أبي طالب سنة 38هـ ـ وكان عمرو قائده في هذه الحملة ـ أنه كان: يرجو أن يكون إذا ظهر عليها ظهر على حرب علي لعظم خراجها1629... فكيف يهب معاوية ذلك الخراج كله لعمرو وهو في مسيس الحاجة إليه؟(1/379)
ـ …ومن الدلائل أيضاً: أن معاوية كتب بعد استخلافه إلى عامله على خراج مصر ـ وردان ـ أن زد على كل امرئ من القبط قيراطاً، فرد عليه: كيف وفي عهدهم أن لا يزاد عليهم1630؟ ولم يل وردان خراج مصر لمعاوية إلا في ولاية عمرو بن العاص لأن من ولوا مصر بعد موت عمرو ـ وهم عتبة بن أبي سفيان وعقبة بن عامر ومسلمة بن خالد ـ كانوا يتولون صلاتها وخراجها، وهذه الرواية صريحة قاطعة في الدلالة على اهتمام معاوية بزيادة حصيلة الخراج في مصر، وفي ولاية عمرو بن العاص عليها، وهذا الاهتمام لا معنى له إلا إذا كان فائض الخراج في مصر يحمل إلى معاوية في دمشق ليواجه به وجوه الإنفاق المتنوعة1631. كما أن معاوية لم يكن يستحل أن يتنازل عن خراج مصر ـ وهي من أغنى أقاليم الدولة الإسلامية آنذاك ـ لفرد واحد وهو يعلم أنه حق الأمة كلها، وأنه لا يملك التنازل عنه، وقد روى ابن تيمية عن عطية بن قيس قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطبنا يقول: إن في بيت مالكم فضلاً بعد أعطياتكم وإني قاسمه بينكم، فإن كان يأتينا فضل عاماً قابلاً قسمناه عليكم، وإلا فلا عتبة علي، فإنه ليس بمالي وإنما هو مال الله الذي أفاءه عليكم1632، وإذا أضفنا إلى ذلك ما نعرفه من تنافس الأمصار الإسلامية مع بعضها، ووجود معارضة للأمويين في مصر كانت حديثة العهد منذ تبعية مصر لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى ـ دخلها ـ عمرو بن العاص سنة 38هـ، لازددنا يقيناً أن أهلها لم يكونوا يقبلون ما يزعمه الرواة حول إعطائها طعمة لابن العاص وعلى ذات السبيل نذكر أن من رجال مصر من بذل في سبيل نصرة معاوية مثلما بذل عمرو بن العاص، إن لم يفقه، كمعاوية بن حديج وأصحابه من العثمانية، وهؤلاء لا يقبلون بحال أن يمتاز عمرو عليهم كل هذا الامتياز، قد مر بنا فيما مضى أن معاوية بن حديج هذا قد أرجع ابن أخت معاوية ـ عبد الرحمن بن أم الحكم ـ الذي ولاه معاوية مصر، من قبل أن يدخلها، ورفض أن يتولى إمارتهم(1/380)
ورده إلى الشام على نحو غير كريم، فما استطاع معاوية أن يغضب بن حديج1633.
ب ـ…التنازل عن خراج ((دارابجرد)) للحسن بن علي:
…زعم بعض المؤرخون أن معاوية تنازل للحسن بن علي رضي الله عنهما عن خراج ((دارابجرد)) وأن يعطيه مما في بيت مال الكوفة مبلغ خمسة آلاف ألف درهم مقابل تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية، وأن الحسن قد أخذ ما في بيت مال الكوفة ولكنه لم يستطع الحصول على خراج ((دارابجرد)) إذ إن أهل البصرة قد منعوه منه، ويزعمون أن ذلك كان بتحريض معاوية أو بمبادرة من البصريين على أن هذه الرواية تغض من شأن الحسن ومعاوية معاً وتجعلهما في موقف التواطؤ على أكل أموال المسلمين بالباطل1634وهذا باطل ولا يصح والصحيح مثبت في البخاري بأن الحسن قال لوفد معاوية عبد الرحمن بن سمرة، وعبد الله بن عامر بن كريز: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال.. فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به1635، فالحسن يتحدث عن أموال سبق أن أصابها هو وغيره من بني عبد المطلب، يريد الحسن أن لا يطالبهم معاوية، ولا ذكر لأموال يطلب من معاوية أن يدفعها إليه قادم1636، وذكر ابن أعثم أن الحسن قال: أما المال فليس لمعاوية أن يشترط لي فيء المسلمين1637، والمعلوم أن جباية الخراج من مهام الدولة، ولا علاقة مباشرة بين الحسن وأهل البصرة في هذا الجانب، ولكن الرواية أشارت إلى أن خراج دار بجرد لم يكن في الأموال التي صيرت إلى الحسن1638، ورُوي أن الحسن قال لمعاوية: إن عليَّ عِدَّات ودُيوناً، فأطلق له من بيت المال نحو أربعمائة ألف أو أكثر1639، وذكر ابن عساكر: يُسلَّم له بيت المال فيقضي منه ديونه ومواعيده التي عليه، ويتحمل منه هو ومن معه عيال أهل أبيه وولده وأهل بيته1640، وذهب بعض المؤرخين إلى أن إبقاءه ما في بيت المال معه (خمسة ملايين درهم)، استبقاه لأولئك المحاربين الذين كانوا معه، يوزِّعه بينهم، ويبقى لمعيشته له ولأهل بيته ولأصحابه1641. ولا شك أن توزيع(1/381)
الأموال على بعض الجنود يساعد في تخفيف شدة التوتر .
…إن الذي جاء في رواية البخاري هو الذي أميل إليه فالأمر لا يكون تجاوز طلب العفو عن الأموال التي أصابها الحسن وآله في الأيام الخالية. وأما الروايات التي تشير بأن يجري معاوية للحسن كل عام مليون درهم وأن يحمل إلى أخيه الحسين مليوني درهم في كل عام ويفضل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس1642، وكأن الحسن باع الخلافة لمعاوية، فهذه الروايات وما قيل حولها من تحليل وتفسير لا تقبل ولا يعتمد عليها، لأنها تصور إحساس الحسن بمصالح الأمة يبدو ضعيفاً أمام مصالحه الخاصة1643. وأما حقه في العطاء فليس الحسن فيه بواحد من دون المسلمين، ولا يمنع أن يكون حظه منه أكثر من غيره، ولكنه لا يصل إلى عشرة معشار ما ذكرته الروايات1644.
جـ ـ التفرقة في العطاء:(1/382)
…أول من سن ديوان العطاء في الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه أما قبل ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت غنائم الحرب توزع على المسلمين فور إنتهاء المعارك1645، وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم من غنائم حنين، وكان شيئاً كثيراً1646، فتقرر بذلك أن تفضيل بعض الناس في توزيع الغنائم أمر مباح وقد يكون مستحباً إذا اقتضت مصلحة المسلمين ذلك1647، وإن كان ذلك يزيد في غنائمهم عن بقية المسلمين، ثم كثرت بعد ذلك الغنائم المجلوبة إلى حاضرة المسلمين نتيجة اتساع نطاق الغزو زمن عمر بن الخطاب فاستشار أصحابه وانتهى أمره إلى تدوين ديوان العطاء ليكفل توزيعه على نحو معروف، وفضل أصحاب السابقة والقرابة من النبي صلى الله عليه وسلم على من عداهم1648،.. ولما جاء الأمويون فضلوا أهل الشام على من عداهم، فقد كانوا أنصارهم المخلصين، وهم عماد الجيوش المجاهدة سواء في الشمال في جهاد الروم أو في الغرب في فتوح إفريقية والأندلس، وهم المحافظون على سلامة الدولة وقمع مخالفيها، وكم استنجد بهم ولاة الأمصار حين خرج عليهم خارجون وعجز جند المصر في الدفاع عن أنفسهم ونظامهم كما حدث في قتال ابن الأشعث1649، ومواجهة ثورة يزيد بن المهلب زمن يزيد بن عبد الملك1650، وكما حدث في انتقاض البربر الخوارج بإفريقية في عهد هشام1651.
2 ـ …التوسع في إنفاق الأموال لتأليف القلوب واكتساب الأنصار:(1/383)
…أنفق معاوية رضي الله عنه أموال كبيرة ليتألف بها قلوب الزعماء والأشراف ويوطد أركان الدولة الإسلامية التي قامت بعد فترات من الصراع والتطاحن، فقد رأى معاوية رضي الله عنه أن إراقة بعض المال خير من إراقة كثير من دماء المسلمين.. فأعطى هؤلاء الرجال المال يستميل به قلوبهم، قلوب أتباعهم وأنصارهم، ويعلي به مكانتهم ويسد خلة من وراءهم، ولعله قد فهم من إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم بعد فتح مكة ليستميلهم نحو الدين ويسيل سخائم نفوسهم، أنه يجوز أن يعطي أمثال هؤلاء الرجال ليتألف قلوبهم ويضمن ولاءهم، والولاء للدين والدولة يختلطان في فهم معاوية وبني أمية حيث قامت دولتهم فيما اعتقدوا لنصرة الدين وجمع شمل أهله1652، وأخيراً فإن كان معاوية مخطئاً في ذلك فما القول في هؤلاء السادة الذين قبلوا عطاياه وجوائزه وفيهم من اشتهر بالتقوى والورع والخوف من الله تعالى؟ إن من الحق أن نقول إن المجتمع الإسلامي في ذلك العهد كان يشهد تغيراً كبيراً عن زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين حتى صارت بعض فعالياته السياسية ترى أن من حقها التميز في العطاء1653.
3 ـ مظاهر النزف عند الأمويين:(1/384)
…هذا ويحتل الحديث عن ترف الأمويين وبذخهم مكانة واسعة عند مؤرخينا، والحق أنه كان عندهم لون من ألوان البذخ في سكناهم وفي لباسهم وفي عطائهم ونفقاتهم، وقد لفت معاوية نظر عمر بن الخطاب رضي الله عنهم إليه وهو بعد أحد ولاة الشام، يغدو في موكب ويروح في آخر، ولكن من الحق أيضاً ألا ننظر إلى حياة الأمويين بمعزل عن حياة المجتمع العربي والإسلامي آنذاك، فهي جزء منه، تتأثر به، كما تؤثر فيه، وفي ذلك العصر كان التطور الاجتماعي يتلاحق، ومظاهر الغنى وانثيال الأموال والرغبة في التمتع الحلال به تصبح أمراً ظاهراً يدفع الذوق العام والقيم الاجتماعية الحاكمة آنذاك إلى مزيد من التفتح والاتساع.. وأن هذه السمة الظاهرة لا تنفيها ورود أخبار مؤكدة في زهد معاوية ورقة ثيابه1654، أو زهد عامله زياد ولباسه المرقوع1655، فلا تناقض بين هذه الروايات وما عرف من التلبس بمظاهر الملك، بل هي دليل على نفوس عالية لا ترى الزهادة نقصاً ولا ترى التنعم حراماً1656، وهكذا إذا نظرنا نظرة شاملة في وجوه الإنفاق المالي في ذلك العصر لا نجد مظاهر الترف والبذخ قصراً على بني أمية، خلفائهم وولاتهم، فبعض بني هاشم وبني الزبير وغيرهم من معارضي الأمويين لم يكونوا أقل سماحة بالمال من بني أمية ولا أكثر حرصاً عليه1657، وإذا كان بنو أمية قد ابتنوا القصور فقد بنى رجال من أشراف العرب قصوراً كان لها ذكر وبهاء وكان العرب يعدون ذلك كرماً، ويتفاخرون به، ويتوقعون مثله من كل شريف من أشرافهم وإن لم يكن حاكماً1658، والترف في المجتمعات الإسلامية ظاهرة سلبية لها ما بعدها، إن بحبحة الأمويين في الإنفاقات المالية أدت إلى ظهور الترف ثم تعمق وتجذر في الأمة حتى أصبح ترفاً مدمراً، ظهرت معالمه وآثاره في سقوط بلاد الشام في الصليبيين ثم سقوط بغداد في يد المغول وزوال الدولة العباسية، لذلك يكره الإسلام الترف ويحذر منه أشد التحذير: ((وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ(1/385)
قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)) (الإسراء ، الآية : 16). إنه كالحمض الأكال الذي ينخر في جسم المادة فيذهب بصلابتها، فتصبح هشة سهلة القصف، أو تصبح لينة لا قوام لها في الصدام، وقد كانت وفرة المال في أيدي الناس هي الباب المؤدي إلى الترف بطبيعة الحال ـ ولكن هذا ـ يفسر ولا يبرر، فإنه لا يوجد تبرير لمعصية الله، وقد جاء المال بوفرة نسبية على أيام عمر رضي الله عنه ولكنه تصرف بشأنه بمنع الفساد، فمنع الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ من الخروج من المدينة ـ للضياع والتجارة ـ حتى لا تتكون منهم طبقة تملك المال في أيديها وتملك السلطان ((الأدبي)) على الناس، فيحدث التميز وتفسد الأحوال، فضلاً عن احتمال إصابتهم هم أنفسهم بالترف وهم هيئة المشورة إلى جانب الخليفة، فتفسد مشورتهم حين تترهل نفوسهم ـ وإلى جانب ذلك ـ وقبل ذلك، أخذ عمر رضي الله عنه نفسه وأهل بيته بالشدة الحازمة، حتى لا يكونوا قدوة سيئة أمام الناس، فيفسد الناس، أما حين يترك المال بدون تصرف معين من ولي الأمر، يسمح بالنفع ويمنع الضرر، فإنه لا بد أن يؤدي إلى نتائجه المحتومة حسب السنة الإلهية، لا لأن المال في ذاته هكذا يضع، ولكن لأن الجهد البشري المطلوب لإصلاح الآفة لم يبذل فتنفرد الآفة وحدها بالسلطان، وآفة المال الترف، وعلاجها في يد ولي الأمر... بنشر روح الجد في المجتمع وبإعطاء القدوة من نفسه لبقية الناس. أما حين يترك في أيدي الناس بلا ضابط ـ مع وجود فئة تعمل جاهدة في إفساد أخلاق المجتمع وروحه كما فعل الفرس، فالنتيجة هي ما قررته السنة الربانية التي جاء بيانها في كتاب الله: ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)) (الروم ، الآية : 41). والترف مُعْد ككل آفة.. فحين لا(1/386)
يعالج، ولا يوقف فإنه ينتشر ولا بد.. وحين يكون مبتدؤه في قصور الخلافة فأمهر أسوأ، لأن الحكام دائماً قدوة، وقد كان الأمويون ـ برغم وجود الترف بينهم ـ أقل فساداً بالمال من العباسيين، لأنهم كانوا أكثر انشغالاً بتثبيت دولتهم من ناحية، وبالجهاد في سبيل الله من ناحية أخرى، فأما العباسيون فبعد أن استتب لهم الملك أخذ الترف يسري بينهم سريعاً، خاصة بفعل الحاشية الفارسية المفسدة المتعمدة للفساد ومن قصور الخلافة انتقل الترف بالعدوى إلى قصور الأمراء والوزراء، ثم قصور التجار الذين وصل دخلهم في التجارة العالمية إلى ملايين الدنانير، وشيئاً فشيئاً غلب الفساد على عاصمة الخلافة بغداد ثم العواصم الإسلامية الأخرى1659.
المبحث السادس : القضاء في عهد معاوية رضي الله عنه والدولة الأموية :
يعتبر القضاء في العهد الأموي من الدرجة الثالثة بعد القضاء في العهد النبوي والقضاء في العهد الراشدي، لأن العصر الأموي كان زاهياً وفيه كثير من آثار العهد الراشدي، وكانت كثير من الأعمال امتداداً للعهد الراشدي، وخاصة في جانب الفتوحات الإسلامية، وانتشار الدعوة في المشارق والمغارب ودخول الناس في دين الله أفواجاً، وازدهار الحضارة الإسلامية1660.
أولاً : صلة العهد الأموي بالعهد الراشدي :(1/387)
كان العهد الأموي وخصوصاًَ عهد معاوية امتداداً للعهد الراشدي في عدة جوانب، فبقي كثير من الصحابة إلى العهد الأموي، وشاركهم في العلم والفقه والقضاء وغيرها كبار التابعين، ثم صغار التابعين، كما بقي بعض قضاة العهد الراشدي يمارسون القضاء في العهد الأموي، وبعدهم طال قضاؤهم كشريح بن الحارث رحمه الله، وبقيت في العهد الأموي آثار التربية الدينية وسمو العقيدة، وآثار الإيمان، والالتزام بأهداب الدين، والتقيد بالأحكام الشرعية، وظهر في العهد الأموي عدد كبير من المجتهدين الذين كانوا صلة الوصل بين الصحابة والمذاهب الفقهية، وكان العلماء والمجتهدون في العهد الأموي أساتذة لأئمة المذاهب التي ظهرت في العهد العباسي، وكان لهذه الصورة الفقهية الزاهية أثرها الكبير والمحمود على حسن سير القضاء والعدالة في العهد الأموي، وزهر التوسع بالاجتهاد، كما بدأت حركة تدوين العلوم الإسلامية، والانفتاح على الحضارات الأخرى، وترجمة الثقافات والعلوم من الأمم المجاورة1661.
ثانياً : تخلي الخلفاء عن ممارسة القضاء، وفصل السلطات:(1/388)
كان الخلفاء الراشدون يتولون القضاء بأنفسهم، ويفصلون في القضايا والدعاوى والمنازعات، وصدرت عنهم أقضية كثيرة، وكان الولاة في الأمصار يتمتعون بنفس السلطات والصلاحيات الممنوحة للخليفة لأنهم نواب عنه، إلا إذا قيدت سلطتهم ومنعوا من القضاء، وعين معهم القضاة للفضل بين الناس، ومن هؤلاء الولاة معاوية بن أبي سفيان الذي بقي والياً على الشام عشرين سنة، وكان يتولى القضاء والحكم بنفسه1662، ولما تولى معاوية الخلافة تخلى عن ممارسة القضاء، وعين القضاة في حاضرة الدولة الإسلامية بدمشق وفوَّض إليهم السلطة القضائية، وخولهم الصلاحيات الكاملة في الدعاوى، وسار ولاته في الأمصار على هذا النهج، وابتعد الولاة عن أعمال القضاء، وسار خلفاء بني أمية على هذه الخطة طوال العهد الأموي، سواء في عاصمة الدولة الأموية، أم في سائر الأمصار والمدن والولايات وانقطعت صلة خلفاء بني أمية عن القضاء الإسلامي إلا في ثلاثة أمور:
1 ـ تعيين القضاة مباشرة بالعاصمة دمشق.
2 ـ الإشراف على أعمال القضاة وأحكامهم، ومتابعة شؤونهم الخاصة في التعيين والعزل، والرزق، وحسن السيرة، ومراقبة الأحكام القضائية التي تصدر عنهم، للتأكد من مطابقتها للحق والعدل، والشرع والدين، والالتزام بالسلوك القضائي القويم.(1/389)
3 ـ ممارسة قضاء المظالم، وقضاء الحسبة. وقد أولى خلفاء بني أمية أهمية خاصة ورعاية كاملة لقضاء المظالم حتى وقف على قدميه، وأصبح له جهاز كامل مستقل. ومن ذلك نرى أن القضاء في العهد الأموي كان مستقلاً عن أي سلطة أخرى حتى سلطة الخليفة أو الوالي الذي كانت سلطته تنتهي عند تولية القاضي أو عزله، دون أن يكون لهم تدخل في أعمال القاضي واجتهاده وحكمه، وما على الخلفاء والولاة إلا تنفيذ الأحكام التي يصدرها القضاة1663. قال النُباهي: ولما أفضى الأمر إلى معاوية بن صخر جرى بجهده على سنن من تقدّمه من ملاحظة القضاة، وبقي الرسم على حذو ترتُّبه زماناً1664. فقد كان معاوية رضي الله عنه أول خليفة امتنع من القضاء تماماً، ودفعه إلى غيره، فكان له قضاة في قاعدة ملكه، فضلاً عن قضاته في الأمصار1665.(1/390)
ثالثاً : رزق القضاة : من المعلوم أن عمر بن الخطاب هو الذي فصل القضاء عن الولاية، وهو أول من رتب أرزاق القضاة، وأمَّا أمير المؤمنين علي وهو المعروف بالزهد والقناعة فقد قال لعامله على مصر في شأن القضاة:... وافسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس1666، واستمر الحال على ذلك في العهد الأموي، فكانت تجري على القضاة أرزاقهم من بيت المال1667، مع التوسع عليهم، واختلاف المقدار بحسب البلدان والظروف1668، وروى الشعبي عن شريح أنه كان يأخذ على القضاء خمسمائة درهم كل شهر ويقول: استوفي لهم، وأوفيهم ويقول أيضاً: أجلس لهم على القضاء وأحبس نفسي ولا أرزق؟؟ ولما قدم عبد الملك بن مروان النخيلة سنة 72هـ، وسأل عن شريح، فعلم أنه امتنع عن القضاء في ـ عهده ـ ابن الزبير، فاستدعاه وقال له: وفقك الله، عُدْ إلى قضائك، فقد أمرنا لك بعشرة آلاف درهم، وثلاثمائة جريب، فأخذهما وقضى إلى سنة ثمان وسبعين1669، وكان بعض القضاة لا يأخذون على القضاء أجراً ويحتسبون أجرهم عند الله تعالى في إقامة شرعه، منهم مسروق بن الأجدع القاضي والمفتي ت 63هـ وكان أعلم بالفتيا من شريح، وشريح أبصر منه في القضاء، وقالت امرأة مسروق: كان مسروق لا يأخذ على القضاء رزقاً، وقال القاسم: كان مسروق يقول: لأن أقضي يوماً فأقول فيه الحق أحب إلي من أن أرابط سنة في سبيل الله1670.
رابعاً : تسجيل الأحكام والإشهاد عليها :(1/391)
…ظهر في العهد الأموي لأول مرة تسجيل الأحكام القضائية التي يصدرها القاضي في سجله، وديوان المحكمة ليرجع إليه القاضي عند الحاجة، وأول من سجل الأحكام سُليَم بن عنز التجيبي قاضي مصر في عهد معاوية، لما تخاصم إليه أشخاص في توزيع ميراث، فحكم بينهم، فغابوا مدة، واختلفوا وتناكروا وتجاحدوا الحكم، وعادوا يطلبون فصل الخلاف ثانية، فتذكر القاضي قصتهم، وكاشفهم بها، فاعترفوا، فأعادوا الحكم بينهم، وطلب من كاتبه أن يُسجل الأحكام القضائية وكتب لهم كتاباً بقضائه، وأشهد عليه1671. وقال الكندي: فكان سليم أول القضاة بمصر سجّل سجلاً بقضائه1672 وكان سُليم ـ فيما وصل إلينا ـ أول من أشهد على الأحكام القضائية لتوثيقها، ومنع جحودها أو إنكارها، ثم توسع الأمر في العهد العباسي1673.
خامساً : أعوان القضاة : يحتاج القضاة عادة إلى أعوان يساعدونهم في حسن التقاضي وسير القضاء، منهم كاتب القاضي أو كاتب المحكمة، أو كاتب الضبط، وأول ما ظهر في العهد الراشدي1674 ثم شاع استعماله فيما بعد، وظهر أعوان جدد في العهد الأموي بحسب الحاجة، وتطور الحياة، واتساع أعمال القاضي، وكثرة الدعاوي، ونذكر أهمهم:
1 ـ المنادي : وهو الذي يجلس عند القاضي، لبيان مكانة القاضي، ومعرفته، والمناداة على الخصوم، وكان يطلق عليه ((الذي على رأس القاضي)) أو ((صاحب المجلس)) وأول ما ظهر ذلك في عهد شريح، قال وكيع: عن عمرو بن قيس الماضي، قال: رأيت رجلاً كان يقوم على رأس شريح، وكان إذا تقدم إليه خصمان، فيقول: أيكما المدعي فليتكلم))، وروى وكيع أيضاً ((كان شريح إذا جلس للقضاء لم يقم حتى: يُنادي: هل من خصم أو مستثبت؟ أو مستفت1675؟(1/392)
2 ـ الحاجب : وهو الذي يقف على باب القاضي، ليحجب عنه الناس أثناء النظر في الدعاوي، ويرتب دخول المتداعين عليه عند تزاحمهم وتعددهم، وقد يكون الحاجب هو المنادي الذي يقف على رأس القاضي، ويقوم بالعملين معاً، وقد يكون هو نفسه الجلواز ((التابع للشرطي ، أو أحد الشرطة القضائية))، وقد يكلفه القاضي القيام ببعض الأعمال في المحكمة، أو أداء بعض المهمات خارجها1676، وذكر وكيع أن إبراهيم النخعي كان جلواذاً للقاضي شريح1677، وكان على رأس شريح شرطي بيده سوط1678.
3 ـ الترجمان أو المترجم : اتخذ القضاة الترجمان لكثرة الشعوب غير العربية التي دخلت في الإسلام، وتعارفت هذه الشعوب واختلطت مع بعضها، تحقيقاً لقوله تعالى: ((وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)) (الحجرات ، الآية : ) فإذا حصل نزاع أو اختلاف، أو دعوى، استعان القاضي بالترجمان الثقة المقبول لينقل أقوال الخصوم له1679.
سادساً : المراقبة والمتابعة : إن تخلي الخلفاء والولاة عن ممارسة القضاء، والاقتصار على التعيين والعزل لم يمنع الخلفاء من مراقبة أعمال القضاة ومراجعة أحكامهم ومتابعة الدعاوة والأقضية التي تصدر عنهم، لأن الخليفة هو المسؤول عن القضاء، وجميع ما يخص الأمة والأفراد في سياسة الدين والدنيا، وتفويض القضاء للقضاة لا ينجي الخليفة من المسؤولية في الدنيا والآخرة، لذلك كان الخلفاء يراقبون أعمال القضاة، ويتابعون ما يصدر عنهم، فإن وجدوا فيه خللاً أو انحرافاً، أو تقصيراً، تصدوا للتقويم والتصحيح1680، وهذا ما نقلناه سابقاً عن النباهي قال: ((ولما أفضى الأمر إلى معاوية بن صخر جرى بجهده على سنن من تقدَّمه من ملاحظة القضاة، وبقي الرسم حذو ترتبه زماناً1681.
سابعاً : مصادر الأحكام القضائية في العهد الأموي :(1/393)
…اعتمد القضاة على المصادر نفسها التي جرى عليها القضاة في العهد الراشدي، وذلك بالالتزام بالكتاب والسنة، والإجماع، والسوابق القضائية والاجتهاد مع الاستشارة، وكان الالتزام بالقرآن والسنة هو الأساس، وهو ما تلتزم به الخلافة، وتتم عليه البيعة، وتطور الأمر في السوابق القضائية على الإشادة بقول الصحابة رضوان الله عليهم والتقيد غالباً بما صدر عنهم، لأنهم أقرب عهداً وصلة بمدرسة النبوة، ونزول الوحي، وخصوصاً أقضية الخلفاء الراشدين، كما بدأ يظهر في هذا العهد أثر العرف والعادة على أقضية الحكام، نظراً لاختلاف الأعراف والعادات في أصقاع الخلافة الأموية المترامية الأطراف، فكان القضاة ينظرون في الأقوال والدعاوى والأيمان والتهم بحسب الأعراق التي تظلهم وتحدد المراد من الألفاظ والمصطلحات1682، وكان الفقهاء والقضاة والخلفاء يحرصون على التثبت من نقل النصوص، وصحة الأحاديث للاعتماد عليها، وحذر معاوية رضي الله عنه من الاعتماد على الأحاديث المكذوبة، فخطب في وفد من قريش، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد، فإنه قد بلغني أن رجالاً فيكم يتحدثون بأحاديث ليست في كتاب الله، ولا تُؤْثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأولئكم جهالكم1683، وكان القضاة يعينون من الخلفاء والولاة، وتطلق يد القضاة يتقيدون برأي اجتهادي معين من أحكامهم، إلا ما ورد في النصوص والإجماع، وإلى حد ما إلى السوابق القضائية وقول الصحابة، ولم تكن المذاهب الفقهية قد ظهرت، ولم تدن الأحكام، فكان الأمر راجعاً إلى القضاة أنفسهم، وبما يصلون إليه مع استشارة الفقهاء والعلماء والمجتهدين في كل مصر على حده1684.
ثامناً: اختصاص القضاة، وتخصيص القضاء:(1/394)
كان لاتساع الدولة الإسلامية في العهد الأموي، وكثرة الناس، وانشغال الخلفاء بالفتوحات، وإدارة الدولة، وإخماد الفتن الداخلية أن انصرفوا عن القضاء، وفوضوا جميع اختصاصاته إلى القضاة، وتنازلوا عن النظر في الجنيات والحدود، وكلفوا القضاة النظر فيها، وكان معاوية بن أبي سفيان أول من تنازل عن النظر في الجراح والقتل والقصاص إلى القضاة، فكتب إلى القاضي سُلَيم بن عِتر ((قاضية على مصر)) يأمره بالنظر في الجراح، وأن يرفع ذلك إلى صاحب الديوان، وكان سُليم أول قاض نظر في الجراح، وحكم بها، فكان الرجل إذا أصيب فجرح أتى إلى القاضي، وأحضر بينته على الذي جرحه، فيكتب القاضي بذلك الجُرح قصته علىعاقلة الجارح ويرفعها إلى صاحب الديوان، فإذا حضر العطاء اقتص من أعطيات عشيرة الجارح ما وجب للمجروح، وينجَّم ((يقسَّط)) ذلك في ثلاث سنين، فكان الأمر على ذلك1685، وكان القاضي في العهد الأموي عام النظر في الحقوق والأموال، وأحكام الأسرة، والمواريث والقصاص والحدود، ويظهر ذلك جلياً في من سيرة القضاة وأقضيتهم التي ذكرها وكيع في كتابه، أخبار القضاة، والكندي في كتابةه((الولاة والقضاة))1686 وفي العهد الأموي ضُم إلى القاضي أعمال أخرى بعضها شبه قضائية، وبعضها إدارية، فمن أهم هذه الأعمال في ذلك العصر، النظر في أموال الأيتام، الإشراف على الأوقاف، الإفتاء1687.
تاسعاً : القضاة والأعمال المختلفة : نظراً لما يتمتع به القضاة من الثقة، وما يتصفون به من العدل والنزاهة، والورع والتقوى، فقد أسند لهم الخلفاء في العهد الأموي عدة أعمال هي:(1/395)
1 ـ الشرطة : تولى القضاة رئاسة الشرطة بالإضافة إلى أعمالهم القضائية، فجمعوا بين ولاية القضاء وولاية الشرطة وذلك في عدة مدن إسلامية، فقد روى وكيع أن معاوية عزل سعيد بن العاص عن المدينة سنة ثلاث وخمسين، ويقال سنة أربع وخمسين في شهر ربيع، وأعاده مروان بن الحكم، فعزل مروان أبا سلمة، واستقضى أخاه مصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وضم إليه الشُرَط مع القضاء أخذ الناس بالشدة1688، وقال الكندي عن مسلمة بن الحكم، فعزل مروان أبا سلمة، واستقضى أخاه مصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وضم إليه الشُرَط مع القضاء، وكان شديداً صلباً في ولايته، ولما ولي الشُرَط أخذ الناس بالشدة1689، قال الكندي عن مسلمة بن مخلَّدَ أنه: قدم مسلمة الفُسطاط، فعزل السائب بن هشام بن كنانة العامري عن شُرطَه، وولّى عليها عابس بن سعيد، وعزل سُليمان بن عنز عن القضاء وجعله إلى عابس، فجمع له القضاء والشّرط، وهو أول من جمع له سنة ستين1690، ولما تولى مسلمة سنة 62هـ، بعد أن مكث والياً على مصر أكثر من 15 سنة وليها سعيد بن يزيد الأزدي في رمضان سنة 62هـ،فاقر عابس بن سعيد على القضاء والشُرط جميعاً، ولما جاء عبد الرحمن بن عتبة بن جَحْدم الفهري أميراً على مصر أقر عابساً على الشُرط والقضاء وذكر الكندي أن مسلمة بن مخلِّد والي مصر عين عابس بن سعيد على شُرطته، ثم جمع له الشُرط والقضاء1691، وذلك في أول سنة إحدى وستين1692.
2 ـ الإمارة : استعمل بعض القضاة ولاة في بعض الأحيان، كما كان الخليفة أحياناً ينيب القاضي مكانه في الإمارة إذا خرج عن دمشق، وكان كثير من الولاة يستخلفون القاضي على إدارة الأمور، وتصريف شؤون المصر أثناء غيابهم، أو خروجهم لمهمة، قال أبو زرعة: لما خرج معاوية إلى صفين استخلف القاضي فضالة بن عُبيد على دمشق1693.
عاشراً : أسماء القضاة في عهد معاوية :
1 ـ أشهر قضاة دمشق :(1/396)
أ ـ فضالة بن عُبيد الذي ولاه معاوية القضاء في الشام بترشيح أبي الدرداء رضي اله عنه، وبقي فضالة على القضاء حتى مات في خلافة معاوية سنة 53هـ وحضر معاوية جنازته وحمل بجانب السرير، وكان معاوية يستخلفه على دمشق عندما يخرج منها1694، وقضى فضالة بدر الحد عندما أتاه رجل بسارق يحمل سرقته، فقال له فضالة: لعلك وجدتها، لعلك التقطتها، فقال له الرجل: إنّا لله وإنا إليه راجعون، إنه ليلقنه، قال: إي والله، أصلحك الله، وجدتها، فخلا سبيله، وأجاز الفقهاء تلقين المتهم في الحدود، كما فعل رسول الله صلى اله عليه وسلم مع ماعز1695.
ب ـ النعمان بن بشير بن سعد ، أبو إدريس الأنصاري الخزرجي، الصحابي الذي ولي القضاء بالشام بعد فضالة وتوفي سنة 64هـ قتلاً بقرب حمص1696.
2 ـ قضاة المدينة :
أ ـ أبو هريرة الصحابي المشهور رضي الله عنه : قضى بالمدينة، لما رواه وكيع عن نعيم قال: شهدت أبا هريرة يقضي.. وأمر بالتسوية بين الخصوم، ورفض حبس مدين معسر، وحكم على قاذف بثمانين جلدة، وكان أبو هريرة يسكن المدينة حتى توفي فيها سنة 59هـ1697، ولعله استقضى قبل عبد الله بن الحارث
ب ـ عبد الله بن الحارث بن نوفل ، أبو عبد الله بن نوفل بن الحارث: وهو أول قاض في المدينة لواليها مروان بن الحكم في خلافة معاوية، وكان أول ما قضى حقاً على آل مروان، فزاده ذلك عند مروان بن الحكم خيراً، وكان يقضي باليمين مع الشاهد، وتوفي سنة 84هـ، وكان من صلحاء المسلمين وفقهائهم1698.
جـ ـ أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف (94هـ ت) وهو من كبار التابعين، وكان يزعم عن نفسه أنه أفقه الناس، واستعمله سعيد بن العاص والي معاوية على قضاء المدينة، وكان يستحلف صاحب الحق مع الشاهد الواحد1699.(1/397)
س ـ مصعب بن عبد الرحمن بن عوف (64هـ) توفي استقضاه مروان بن الحكم سنة 53هـ أو 54هـ وضمَّ إليه الشُرط مع القضاء، وكان شديداً صلباً في ولايته، ولما ولي الشُرط أخذ الناس بالشدة في جرائم القتل التي انتشرت في المدينة1700، ولما مات معاوية واستخلف يزيد استعمل على المدينة عثمان بن محمد بن أبي سفيان، فاستقضى طلحة بن عبد الله بن عوف، وهو أحد الأجواد، ويقال له طلحة الجواد1701.
3 ـ قضاة البصرة: تولى القضاة في البصرة كثيرون، نذكر منهم:عُميرة بن يثربي الضِّبي الذي استقضاه عبد الله بن عامر بن كُريز عامل معاوية على البصرة، وكان عميرة يحكم بضمان العارية، وبقي في القضاء حتى سنة 45هـ، فعزله زياد الذي ولي إمارة البصرة، وولي القضاء عمران بن حصين فاستعفاه بطلبه، وولي عبد الله بن فضالة ثم أخاه عاصم بن فضالة، ثم زرارة بن أوفى1702 .
4 ـ قضاة الكوفة: كانت الكوفة من أنشط المدن العلمية وكانت مركز النشاط والحركة والعلم منذ أسست في عهد عمر رضي الله عنه واتخذها علي رضي الله عنه عاصمة وكان من أشهر قضاة الكوفة شريح القاضي فقد كان من عهد عمر واستمر في القضاء طوال العهد الراشدي، ومدة طويلة في العهد الأموي تزيد عن خمس وثلاثين سنة وتوقف (في عهد بن الزبير) ثم عاد إلى القضاء حتى استعفى من الحجاج فأعفاه سنة 78هـ1703، ومن قضاة الكوفة في عهد معاوية رضي الله عنه، مسروق بن الأجدع الهمداني، ولي لمعاوية في إمرة زياد القضاء، وكان من الفضلاء1704.
5 ـ قضاة مصر : ومن اشهر قضاة مصر في عهد معاوية سُلَيْم بن عنز التجيبي وهو أول من ولي القضاء بمصر في أيام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه سنة أربعين هـ1705، وعابس بن سعيد المرادي الذي عينه مسلمة بن مخلد على الشرطة، ثم عزل سُليم بن عنز عن القضاء، وجعله إلى عابس فجمع له القضاء والشُّرط1706، هؤلاء هم أشهر القضاة في عهد معاوية رضي الله عنه.(1/398)
الحادي عشر : ميزات القضاء في عهد معاوية والأموي عموماً :
من أهم ميزات وخصائص القضاء في العهد الأموي الآتي:
1 ـ بقي القضاء في العهد الأموي، كما كان في العهد النبوي والعهد الراشدي، في معالمه الأساسية، وتنظيمه الجوهري، ووسائله وأهدافه، وكان استمراراً لما سبق في إقامة الحق والعدل، والنزاهة والموضوعية، مع مراعاة التطور والتوسع في الخلافة الأموية.
2 ـ استعمل القضاة في العهد الأموي وسائل الإثبات الشرعية نفسها المعمول بها في العهد الراشدي، مع التوسع في الفراسة، واستعمال الحيل على المتهم، لكشف الحق، والوصول إلى الصواب والعدل1707.
3 ـ ظهرت في العهد الأموي مصادر جديدة للأحكام القضائية وهي العرف، وقول الصحابي، وإجماع أهل المدينة إحياناً بالإضافة إلى المصادر الأصلية في العهد النبوي وهي القرآن الكريم والسنة الشريفة، والمصادر الاجتهادية في العهد الراشدي وهي: الإجماع، والقياس، والسوابق القضائية، والرأي1708.
4 ـ كان الخلفاء يعينون القضاة في الشام، وقد يرشحون بعض القضاة للأقاليم، وكان الولاة في الأمصار يعينون القضاة، ويعزلونهم.
5 ـ حرص الخلفاء والولاة على إختبار أحسن الناس لولاية القضاء، من العلماء والفقهاء والشرفاء وخيرة القوم، الذين تتوفر فيهم صفات القاضي الشرعية ، ويخشون الله تعالى، ويلتزمون بالحق والشرع، ويقيمون العدل بين الناس.
6 ـ طرأت تغييرات بارزة على القضاء في العهد الأموي، وأضيفت لأول مرة، وهي:
أ ـ تسجيل الأحكام خوفاً من النسيان، ومنعاً للتجاحد،ووضعها في ديوان خاص.
ب ـ الإشراف على الأوقاف من أجل حسن تطبيقها .
جـ ـ النظر في أموال اليتامى ومراقبة الأوصياء .
د ـ ترتيب الدعاوي، واستعمال الرقعة لادخال الخصوم والمناداة على الناس بالترتيب.
هـ ـ وجود المساعدين للقضاة، وهم الأعوان، والحاجب والشرطي في مجلس القضاة .
و ـ الاستعانة بالشرطة لتنفيذ الأحكام القضائية، وإجراءات الخصومة.(1/399)
7 ـ كان القضاة مجتهدين في إصدار الأحكام القضائية، ولهم الحرية المطلقة في استنباط الأحكام من القرآن والسنة ومقاصد الشريعة، وبقية المصادر، ولم يتقيدوا برأي الخلفاء، ولم يلتزموا بمذهب فقهي، ولكن هذا لم يمنعهم من مشاورة العلماء والفقهاء، ومشاركتهم في المجالس القضائية1709.
8 ـ لم يتأثر القضاة بسياسة الحكام والخلفاء، وكان القضاة مستقلين في عملهم، ولم تؤثر عليهم الميول السياسية، والحركات الثورية، والخلافات الفكرية، والفتن الداخلية1710. هذا هي أهم ميزات القضاء في العهد الأموي.
الثاني عشر : خطاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى معاوية في القضاء: كتب عمر إلى معاوية رضي الله عنهما: أما بعد فإنني كتبت في القضاء كتاباً لم آلك. ونفسي. فيه خيراً، .. ثم إن عمر قال:
1 ـ الزم خمس خصال يسلم لك دينك، وتأخذ فيه بأفضل حظك، إذا تقدم إليك الخصمان، فعليك بالبينة العادلة، واليمين القاطعة فهو الطريق للقاضي الذي لا يعلم الغيب. فمن تمسك به سلم له دينه، ونال أفضل الحظ والثواب في الآخرة1711. فمعنى اليمين. القاطعة للخصومة والمنازعة1712.
2 ـ وأدنِ الضعيف حتى يشتد قلبه، وينبسط لسانه1713، ولم يرد بهذا الأمر تقديم الضعيف على القوي، وإنما أراد الأمر بالمساواة، لأن القوي يدنو بنفسه لقوته، والضعيف لا يتجاسر على ذلك، والقوي يتكلم بحجته، وربما يعجز الضعيف عن ذلك. فعلى القاضي أن يدني الضعيف ليساويه بخصمه حتى يقوى قلبه، وينبسط لسانه، فيتكلم بحجته1714.(1/400)
3 ـ وتعاهد الغريب، فإنك إن لم تعاهده ترك حقه، ورجع إلى أهله، فربما ضيع حقه من لم يرفع به رأسه1715. قيل هذا أمر بتقديم الغرباء عند الازدحام في مجلس القضاء، فإن الغريب قلبه مع أهله، فينبغي للقاضي أن يقدمه في سماع الخصومة، ليرجع إلى أهله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاهد الغرباء. وقيل: مراده أن الغريب منكسر القلب، فإذا لم يخصه القاضي بالتعاهد عجز عن أظهار حجته، فيترك حقه، ويرجع إلى أهله، والقاضي هو السبب، لتضييع حقه، حين لم يرفع به رأسه ثم قال:
4 ـ وعليك بالصلح بين الناس، ما لم يستبين لك فصل القضاء1716. وفيه دليل أن القاضي مندوب إليه أن يدعو الخصم إلى الصلح، خصوصاً في موضع اشتباه الأمر1717.
المبحث السابع : الشرطة في عهد معاوية :(1/401)
…شهد عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه تطوراً كبيراً في نظام الشرطة من جهة نموها وترسخها كمؤسسة رسمية على مستوى الدولة وبصورة لم تُعرف من قبل، لقد أصبحت مؤسسة الشرطة مسئولة مسئولية كاملة ومباشرة عن توفير الأمن وإقرار النظام في جميع الأمصار الإسلامية، لقد أصبحت أهم قوة أمن يعتمد عليها معاوية وولاته لتحقيق الأمن الشخصي من جهة، وحفظ الأمن والنظام في الداخل من جهة أخرى، يضاف إلى هذا كله، أن أصبحت الشرطة المدافع الأول عن نظام الأمن الأموي وحمايته من اعتداءات الفرق الأخرى المعارضة له كالخوارج والشيعة وغيرهما التي كانت تعمل على إسقاطه بشتى السبل، وقد استعمل معاوية رضي الله عنه الشرطة كحرس خاص لحمايته شخصياً ودونما شك أن المحاولة الفاشلة التي قام بها الخوارج لاغتيال معاوية كان لها دور كبير في دفع معاوية لاتخاذ قراره بالاعتماد على الشرطة كحرس خاص لضمان عدم تكرار المحاولة، وخصوصاً أن علياً وعمرو بن العاص قد تعرضا للمحاولة نفسها، قُتل على أثرها أمير المؤمنين عليّ، وكان ذلك عام 40هـ، ومنذ ذلك ومعاوية لا يخرج بدون حماية خاصة، وحتى أوقات الصلوات، كان يأمر حراسه بالوقوف عند رأسه حماية له من الاعتداءات المحتملة من مناوئيه1718.(1/402)
أولاً : الشرطة في العراق : يعتبر المغيرة أول والٍ يعينه معاوية في الكوفة وقد استعان برجال الشرطة لغرض بسط الأمن، وعين صاحب الشرطة عُرف بشراسته وقسوته وكان يُدعى قبيصة بن دمّون1719، ومن الحوادث التي تبين مدى فعالية الشرطة في حفظ الأمن والنظام ما أورده الطبري حول صراع المغيرة مع الخوارج، وذلك حين أخبره صاحب الشرطة باجتماعهم في الكوفة لإثارة القلاقل والاضطرابات، فأصدر المغيرة أوامره إلى صاحب الشرطة لمحاصرة مكان الاجتماع، وبعد أن ألقى القبض عليهم أودعهم السجن. وفي البصرة، عين معاوية عبد الله بن عامر والياً عليها ثم عزله في عام 45هـ وعين زياد بن أبيه والياً على البصرة. وقد تبين لزياد عند وصوله البصرة مدى التدهور الحاصل في الأمن، فذكره وشدّد عليه في خطبه التي افتتح بها ولايته، جرياً على العادة في ذلك الوقت فألقى خطبة طويلة سيأتي الحديث عنها بإذن الله، بين فيها أسلوبه الذي سوف يتبعه في معالجة التدهور الأمني، ومن قراءة تلك الخطبة تبين أن زياد كان مصمماً على إقامة الأمن والنظام بغض النظر عن الوسيلة التي تحقق ذلك الهدف1720، ولو كانت بالعسف وخصوصاً حين يقول: وإني أقسم بالله لأخذنّ الولي بالولي، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: أنج يا سعد فقد هلك سعيد، أو تستقيم لي قناتكم1721، ويروي البلاذري كيف استتب الأمن في البصرة في عهد زياد، وذلك في حادثة مفادها أن زياداً سمع جلباً وأصواتاً بين العامة، فسأل عن السبب فقيل له إنّ قد استأجر من يحمي له بيته، وذلك نظراً لعدم وجود الشرطة، وانتشار السَّراق1722، وفي اليوم التالي أمر زياد صاحب الشرطة بأن يقوم الشرطة بحراسة الطرقات بعد صلاة العشاء1723، ويضيف البلاذري أنّ الشرطة قد قتلت ما يقارب الخمسمائة نفر من لص ومنتهب للبيوت1724، ويعتبر زياد أول من منع التجول وذلك بمنع العامة من الخروج من منزلهم(1/403)
ليلاً1725، وكان يأمر صاحب شرطته بالخروج فيخرج ولا يرى إنساناً إلا قتله. فأخذ ليلة أعرابياً، فأتى به زياداً فقال: هل سمعت النداء؟ ـ يقصد نداء منع التجاول ليلاً ـ قال: لا والله، قدمت بحلوبة1726 لي وغشيني الليل فاضطررتها إلى موضع، فأقمت لأصبح، ولا علم لي بما كان من الأمير: قال: أظنك والله صادقاً، ولكن في قتلك صلاح هذه الأمة، ثم أمر به فضربت عنقه1727. ومثل هذا الفعل الظالم لا تقرّه الشريعة مهما كانت التبريرات1728. وعلى ما يبدو أن قتل البدو لم يكن لمجرد الرغبة في القتل ذاته، بل تمّ لإقناع أهل البصرة بجدية الوالي في تنفيذ أوامره، وأن لا أحد منجى من العقوبة إذا خرق القانون، حتى لو كان بريئاً لا ذنب له، كما سبق وهدّد في خطبته البتراء، لقد كان الهدف النهائي عند زياد، إقرار هيبة الدولة والحصول على طاعة العامة، ولو عن طريق الإرهاب، وبذلك تستقيم الأمور في البصرة حيث ترى العامة أن الأمر لا هزل فيه ولا هوان في تطبيق العقاب1729، ولم يكن خافياً على زياد بن أبيه ضرورة إعادة تنظيم جهاز الشرطة حتى يتمكن من تحقيق سيطرة فعالة على الأوضاع الأمنية، لذلك عمل زياد على اتخاذ بعض الإجراءات التي تسمح له بفرض هيمنته، منها زيادة عدد الأفراد العاملين في الشرطة فصعّد عددهم1730 حتى وصل أربعة آلاف فرد، وعين اثنين في منصب صاحب الشرطة بدلاً من واحد1731 إن ارتفاع عدد رجال الشرطة إلى أربعة آلاف يدل على أمرين: أولهما: ـ شدة الاضطراب الداخلي. الثاني: ـ أن الشرطة كانت ترفد الجيش في كثير من الأحيان1732. وبلغ من دقته في عهده أنه قال: لو ضاع حبل بيني وبين خراسان علمت من أخذه1733، وترتب على ذلك ما قاله الطبري:... وكان زياد أول من شد أمر السلطان، وأكد الملك لمعاوية، وألزم الناس الطاعة، وتقدم في العقوبة، وجرد السيف، وأخذ بالظنَّة، وعاقب على الشبهة وخافه الناس في سلطانه، خوفاً شديداً، حتى أمن الناس بعضهم بعضاً، حتى كان(1/404)
الشيء يسقط من الرجل أو المرأة فلا يعرض له أحد حتى يأتيه صاحبه فيأخذه، وتبيت المرأة فلا تغلق عليها بابها، وساس الناس سياسة لم ير مثلها، وهابه الناس هيبة لم يهابوها أحداً قبله، وأدرّ العطاء، وبنى مدينة الرزق1734، وعندها ضمّ معاوية الكوفة إلى ولاية زياد واستطاع أن يفرض النظام الأمني حيث حقق للأمويين رغبتهم في استقرار النظام والأمن في كل من البصرة والكوفة، وحيث أصبحت الشرطة أهم قوة داخلية وأكثرها فاعلية1735.
ثانياً : الشرطة في الأقاليم الأخرى : عند مقارنة مثلاً مصر بغيرها من الأمصار الإسلامية كالبصرة مثلاً، نجد أن الشرطة لم تلعب الدور نفسه وذلك لبعد مصر عن الاضطرابات التي يحدثها عادة الخوارج وكذلك تذكر المصادر في العادة حرص الولاة عند اختيار صاحب الشرطة، وقد عين مروان بن الحكم والي المدينة مصعب بن عبد الرحمن بن عوف في منصبي صاحب الشرطة والقضاء في آن واحد ـ كما مرّ معنا وكان ذلك في عهد معاوية1736. ويروي ابن سعد أن مصعباً كان شديداً على المذنبين والخارجين على القانون1737، وقد طلب مصعب من الوالي مروان بن الحكم أن يزوده بعدد كبير من أفراد الشرطة، إذا كان يريد الحفاظ على الأمن في المدينة، حيث لم يكن عدد الشرطة المتوفر كافياً لهذه المهمة1738، وأجابه مروان إلى طبه وأرسل إليه مائتي شرطي، وظل مصعب في منصب صاحب الشرطة حتى وفاة معاوية1739.
ثالثاً : واجبات الشرطة : كان للشرطة في الدولة الأموية مكانة مميزة بسبب الواجبات المهمة التي كانت تقوم بها هذه المؤسسة تجاه السلطة والمجتمع ومن هذه الواجبات:
1 ـ حماية الخليفة وولاة الأمصار ضد مناوئيهم في الداخل :(1/405)
…أول من استخدم الشرطة لحمايته الشخصية من الاغتيال، الخليفة معاوية مؤسس الدولة الأموية، الذي خاض صراعاً سياسياً ـ عسكرياً عنيفاً مع معارضيه من الخوارج وغيرهم وكان الشرطة يحرسون معاوية بشكل دائم في حله وترحاله، بل حتى وقت الصلاة كان هناك حارس يقف عند رأسه وهو يصلى في المحراب، وعلى ما يبدو أن الخليفة كان يسير بين يديه صاحب الشرطة متقلداً كامل سلاحه، وكذلك تقوم الشرطة بتوفير الحماة للولاة في الأمصار المختلفة، بالطريقة السابقة نفسها، وكما ذُكر سابقاً أن زياد بن أبيه كان يستخدم الشرطة لأمنه الشخصي وكان صاحب الشرطة هو المسئول الأول عن سلامة الوالي1740. إن ظهور صاحب الشرطة في مقدمة موكب الخليفة أو الوالي في الأماكن العامة ليس دليلاً فقط على الحماية، بل لإشعار العامة أيضاً بالهيمنة والسلطة، إلى جانب ذلك كانت الشرطة أداة بيد الخليفة والولاة لفرض سلطة الدولة على الذين يحاولون التمرد عليها أو معارضتها1741، وكانت تعين الخليفة على جمع المعلومات، فقد كان معاوية رضي الله عنه قد بلغ من اهتمامه في الحصول على أخبار عماله ورعيته أن بثَّ عيونه في كل قطر وكل ناحية، فكانت تصله الأخبار أولاً بأول فأنتظم له أمره، وطالت في الملك مدته1742، وحذا زياد بن أبيه حذو معاوية، ومما يحكي عنه: أن رجلاً كلمه في حاجه له فتعرف عليه وهو يظنّ أنّه لا يعرفه فقال: أصلح الله الأمير أنا فلان بن فلان. فتبسم زياد وقال: أتتعرّف إليّ وأنا أعرف منك بنفسك، والله إني لأعرفك وأعرف أباك وأمك وجدك وجدتك، وأعرف هذا البُرد1743 الذي عليك وهو لفلان.. فبُهت الرجل وأرعد حتى كاد يغشى عليه1744.
2 ـ معاقبة المذنبين والخارجين عن القانون:(1/406)
…الشرطة بحكم كونها القوة الرئيسية المسئولة عن حفظ الأمن، والنظام داخل المدن، إضافة إلى واجبها فرض القانون ولكن الأحوال الاجتماعية في المدن الكبرى كانت تدفع الشرطة إلى اتخاذ إجراءات مشددة تجاه العامة وقد بين زياد بن أبيه في خطبته البتراء خطورة التجاوزات التي حدثت من الناس فقال:... من بُيّت منكم فأنا ضامن لما ذهب له، إياي ودلج الليل، فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه،... وقد أحدثتم أحداثاً لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غرّق قوماً، غرقناه، ومن حرّق على قوم حرقناه، ومن نقب بيتاً نقبت عن قلبه، ومن نبش قبراً دفنته فيه حياً1745... من هذه الخطبة يتبين مدى التدهور الحاصل في البصرة، من خلال طبيعة الجرائم التي كان يرتكبها بعض المنحرفين من أهلها قبل قدوم زياد، وحين انتهى من خطبته أمر صاحب الشرطة بحراسة الطرقات وقتل كل من يوجد خارج منزله ليلاً1746 ويروي البلاذري أن زياداً لم يتردد في تنفيذ ما توعّد به1747حرفياً.
3 ـ تنفيذ العقوبات الشرعية:(1/407)
من الواجبات التي كانت الشرطة تقوم بها، تنفيذ الحدود الشرعية، التي يأمر بها القضاة، ضد كل من يظهر منه فساد في المجتمع الإسلامي، والحدود الشرعية كما هو معروف، مذكورة في القرآن الكريم والسنة النبوية بينت ذلك وكان الصحابة والتابعين رضي الله عنهم لديهم غيرة وحرص على أوامر الدين وتنفيذها، ومن ذلك ما رواه الإمام مالك أنّ عبداً سرق وديّا1748فوجدوه، فاستعدى على العبد مروان بن الحكم1749، فسجن مروان العبد، وأراد قطع يده، فانطلق سيد العبد إلى رافع بن خديج رضي الله عنه، فسأله عن ذلك، فأخبره: أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا قطع في ثمر ولا كثر1750، فقال الرجل: فإنَّ مروان بن الحكم أخذ غلاماً لي وهو يريد قطع يده، وأنا أحبّ أن تمشي معي إليه فتخبره بالذي سمعت من رسول الله، فمشى معه رافع إلى مروان بن الحكم، فقال: أخذت غلاماً لهذا، فقال: نعم، فقال: ماأنت صانع به؟ قال: أردت قطع يده، فقال له رافع: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا قطع في ثمر ولا كثر، فأمر مروان بالعبد فأرسل1751، ويستفاد من هذه اللمحة كذلك، احترام الولاة والعمال للصحابة الكرام، وعدم التعرّض لتصرّفاتهم ما دامت منبثقة من الحرص على تنفيذ أمر الله ورسوله حتى وإن كانت داخلة ضمن مهام الوالي1752، ومن مظاهر الغيرة على أوامر الدين وتغليب أمر الله على ما سواه، امتناع والي شرطة المدينة مصعب بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما من هدم دور بني هاشم، ومن كان في حيّزهم، ودور بني أسد بن العزّي، والشدّة عليهم، وذلك لموالاتهم الحسين بن علي وابن الزبير، وامتناعهم عن بيعة يزيد، إذ قال مصعب لأمير المدينة عمرو سعيد1753: أيها الأمير إنّه لا ذنب لهؤلاء ولست أفعل، فقال له الأمير: انتفخ سحرك يا ابن أم حريث، إليّ سيفنا، فرمى إليه بالسيف وخرج عنه1754. وهذا الفعل يدل على قوة إيمان مصعب ، وأنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق1755، ومن(1/408)
واجبات الشرطة، مساعدة الجيش ضد أعداء الدولة1756، وتنفيذ أحكام الإعدام والتعذيب للمناوئين السياسيين وكل ما يتصل بالسجناء عند صاحب السجن1757، وإن كانت الواجبات الأخيرة تتضح ملامحها في عهد الخلفاء الذين بعد معاوية أكثر.
رابعاً قوات ومؤسسات أخرى وعلاقتها بالشرطة :
…تعتبر الشرطة العمود الفقري للجهاز الأمني في الدولة الأموية، وكانت المهمة الرئيسية لهم حفظ الأمن الداخلي بالدرجة الأولى، ومع ذلك عرف العصر الأموي مؤسسات أخرى لعبت دوراً مشابهاً ومكملاً نفسه للشرطة وهذه المؤسسات هي:
1 ـ الحرس : استخدمت كلمة حرس في بدايات العصر الأموي لوصف كل من يقوم بمهمة الحراسة بغض النظر عن المكان أو الشخص الذي يحرسه، وفي العصر الأموي كان الحرس يمثلون تلك الفئة التي تقوم بمهمة حماية الخلفاء والولاة وعلى ما يظهر أن معاوية كان أول خلفاء بني أمية يتخذ الحرس لحمايته الشخصية من احتمال الاعتداء عليه من قبل الخوارج وغيرهم، وفي خلافة معاوية استخدم الولاة الحرس، كقوة أمنية داخلية إلى جانب الشرطة،، وقد استخدم زياد بن أبيه، خمسمائة رجل في قوات الحرس الخاصة به، وعين عليهم رجلاً من بني سعد أطلق عليه صاحب الحرس1758، ومنذ ذلك الحين وخلفاء بني أمية يعينون من يثقون به1759، وخلاصة القول: أن مفهوم الشرطة يتسع إلى الدرجة التي يضم فيها نشاط الحرس تحت سلطته، في حين أن الحرس لا يدخلون ضمن الشرطة1760، ويورد الجاحظ شطر بيت من الشعر: كأنه شرطي بات في حرس. للدلالة على التفرقة بين المؤسستين1761.(1/409)
2 ـ الحرس من غير العرب : عرف العرب، قبل قيام الدولة الأموية، بعض الألفاظ الأجنبية التي تطلق على الحرس الذين كانوا يحرسون بيت المال في البصرة1762. وهذه الألفاظ هي الأساورة والسيابجة والزطّ، ويشرح البلاذري هذه الألفاظ فيقول إنّ الأساورة من الفرس، أما السيابجة والزطّ فينحدرون على ما يظهر من الهند1763، ويتضح من تاريخ الخلافة الأموية أن الولاة كانوا يستخدمون لضرب الثورات التي تقوم بها المعارضة، بين حين وآخر، وكان يُطلق على هذه العناصر لفظ البخارية تبعاً لرواية البلاذري أيضاً، أن والي خراسان عبيد الله بن زياد، اسر في احدي المعارك عدداً كبيراً من أهل بخاري وجعل من البصرة مستقراً لهم، وأجرى لهم من الأعطيات ما كان يدفعه نفسه للقبائل العربية، وذلك حين أصبح والياً على العراق1764، وقد استخدم عبيد الله هذه القوة الجديدة لمساندة قوة الشرطة للقضاء على ثورة الخوارج في العراق1765، وأما ابن سعد، فيذكر أن البخارية قد استعملوا أول الأمر كقوة أمنية، على يد والد عبيد الله حين كان والياً على العراق، ويضيف ابن سعد أن زياداً استخدم البخارية لمساعدة الشرطة في محاولتهم للقبض على حجر بن عدي1766 رضي الله عنه. ويشيد البلاذري بمهارة البخارية في الرمي يالقوس1767، ويظهر من مراجعة المصادر التاريخية أن استعمال هذه الفرقة كقوة بشرية لم يكن مقتصراً على الولاة، بل وجد أنهم كانوا يقومون بخدمة الأشراف، ففي مدينة البصرة مثلاً، كان أبناء عبد الله بن عامر والي العراق في السابق، يستخدمون البخارية كحرس خاص لحمايتهم الشخصية1768.(1/410)
3 ـ العرفاء : ونظراً لما يتمتع به العرفاء من مكانة لدى الولاة فإن بعضهم يستطيع من الأمور ما لا يقدر عليه غيره، ونظراً لكون العريف مسئولاً عن مراقبة العامة وتبليغ السلطات عن الحركات المشبوهة أو عن الأفراد الذين يُشك في ولائهم للسلطة... ولذلك لم يكك لهذا المنصب شعبية، إلاّ أن ذلك لم يمنع كبار القوم من توليه، إذ يورد ابن سعد في طبقاته أسماء كثيرة تولت مهام هذا المنصب1769.
4 ـ صاحب الاستخراج أو العذاب :
…شهد العهد الأموي قيام جهة خاصة مهمتها استخراج الأموال من الذين يختلسونها بحكم مناصبهم الرسمية، وكان يطلق على الشخص المكلف بمهمة تعذيب المختلسين لكي يقروا بمكان وجودها، لقب ((صاحب الاستخراج)) ويروي ابن قتيبة أن هذه المهنة ظهرت في عهد زياد بن أبيه، الذي كان دائم التحذير لمن يعينهم لمساعدته في الإدارة، وكان لا يتردد في إعفائهم من مناصبهم إذا ظهرت منهم خيانة، ويكون العزل بعد إيقاع العقوبة بهم1770، ويورد كثير من المؤرخين حوادث تتصل بالولاة الذين استخدموا صاحب الاستخراج لاسترداد الأموال المختلسة من المختلسين أو ممن ظهرت عليهم إمارات الخيانة أو ما شابه ذلك من أمور. من ذلك أن والي العراق عبيد الله بن زياد عزل من مساعديه رجلاً يدعى عبد الرحمن واستخلص منه مائتي ألف درهم1771، كما استخلص مبلغ مئة ألف درهم اختلسها أحد العاملين في إدارته1772.
5 ـ جهاز الحسبة: والمقصود هنا بالحسبة: المعنى الضيق، أي عملية الأشراف على تنظيم الأسواق والعمليات التجارية فيها، وقد كان من مهام المحتسب في الدولة الأموية جباية ضرائب المبيعات وتحصيل أجرة الدكاكين التابعة للدولة1773، إضافة إلى مسؤليات السوق والتي من أبرزها1774.
أ ـ التأكد من دقة الأوزان، والمكاييل، والمقاييس المستعملة في عمليات السوق، منعاً لحدوث غبن في التعامل.
ب ـ التفقد المفاجئ لعيار الحبات، والمثاقيل لضمان عدم الإخلال بها.(1/411)
جـ ـ منع الارتفاع الفاحش لأسعار السلع الأساسية .
د ـ منع حالات الاحتكار إن وجدت وإجبار المحتكر على بيع ما احتكره. ووفق هذا المفهوم نجد أن الحياة الاقتصادية في بداية الدولة الأموية كانت بسيطة، وعليه فقد سار ولاة الأقاليم على نهج الخلافة الراشدة فكان الولاة ـ كل في إقليمه ـ يباشر الحسبة بنفسه1775. لكن هذا لم يمنع من ظهور وظيفة العامل على السوق في مدينة البصرة في عهد ولاية زياد بن أبيه (45 ـ 53هـ)1776 ويمكن القول ـ من خلال التتبع ـ بأن نظام الحسبة كان موجوداً منذ بداية العصر الأموي، وإن لم يكن يحمل لفظ الحسبة، إنما دور المحتسب في تنظيم السوق كان متواجداً طوال العصر الأموي، وقد نما النظام وتطور بما يوافق تطور قطاع التجارة، والأسواق، فيلاحظ أنه في بداية الأمر كان الوالي يتولى بنفسه أعمال الحسبة ثم تطور الأمر لأن يكون هناك شخص معين وظيفته الأشراف على السوق، ثم تطور الأمر ليكون لهذا المعين أعوان يعينونه في عمله1777.
6 ـ نظام المراقبة: ظهر هذا النظام في دمشق في عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، في عدة صور .
أ ـ إلزام بعض مناوئيه السياسيين بأداء الصلاة في الجماعة في مساجد معينة1778. ويشبه هذا الإجراء ما هو معمول به في بعض الدول المعاصرة من إلزام المشبوهين بالتردد على مراكز الشرطة في أوقات محددة1779.
ب ـ إسكان بعض مناوئيه في مساكن خاصة أعدّها لهم في دمشق ـ وغيرها لتسهل عليه مراقبتهم .
جـ ـ إحكام المراقبة الشخصية على الأجانب الذين يدخلون دار الإسلام1780(1/412)
7 ـ مؤسسة الدرك : والدرك في الإصطلاح: مؤسسة تضم قوى الدولة العاملة في سبيل الأمن خارج حدود المدن الكبير1781، وفي الطبري نص يفيد اهتمام زياد عام 45، أي أيام معاوية بالسُّبلُ ـ أي الطرق ـ جاء فيه: قيل لزياد: إن السبل مخوفة. فقال: لا أعاني شيئاً سوى المصر، حتى أغلب على المصر وأصلحه، فإن غلبني المصر، فغيره أشد غلبة، فلما ضبط المصر تكفل ما سوى ذلك، فأحكمه1782. وكان يقول: لو ضاع حبل بيني وبين خراسان علمت من أخذه1783. وهذا لا يكون إلا إذا كان رجاله متمكنين من الطرق والسبل1784. وقد طرح زياد نظرية أمنية مفادها التمكن أولاً من داخل الأمصار ثم التوسع لما حولها من طرق وسبل. هذه بعض الملامح والمعالم الكبيرة عن نظام الشرطة في عهد معاوية رضي الله عنه.
المبحث الثامن: الولاة والإدارة في عهد معاوية رضي الله عنه:(1/413)
حاول معاوية رضي الله عنه طيلة فترة خلافته أن يجعل أسلوب حكمه في وضع بين المركزية واللامركزية. فقد اتخذ من دمشق عاصمة للدولة، وغدت المركز الرئيسي الذي تصدر منه الأوامر السياسية والاقتصادية والإدارية للدولة، أما ترتيب أمور الولايات داخلياً فقد ترك معاوية رضي الله عنه للولاة ليقوموا به كل حسب خبرته وجدارته على أن يكونوا جميعاً مسئولين أمام معاوية رضي الله عنه مسئولية مباشرة ومحاسبين على كل عمل يقوموا به، ولعل من ضمن الأسباب التي حدت بمعاوية لأن يتخذ من دمشق عاصمة للدولة الأموية هو معرفته الجيدة بأهل الشام وثقته التامة فيهم وفي ولائهم له، فقد أمضى معاوية رضي الله عنه هناك قرابة عشرين عاماً أميراً على بلاد الشام، كان خلالها يتمتع خلالها بشعبية كبيرة بينهم، ولعلّ معاوية رضي الله عنه كذلك كان يشعر أن استمرار دولة الأمويين يعتمد في درجة كبيرة على مدى المساعدة التي يقدمها إليه أهل الشام خاصة، كان معاوية رضي الله عنه يعي هذه المسائل جيداً ويعيرها جلّ انتباهه، لذلك حاول جهده منذ البداية أن يعمل على حفظ التوازن بين رجالات القبائل العربية المختلفة في بلاد الشام وعلى درجة الخصوص القبائل اليمانية والقبائل القيسية1785، وقد عمل معاوية رضي الله عنه كل ما في استطاعته لإبعاد التوازن بين مصالح الطرفين في بلاد الشام، فقد كان في خدمة معاوية رضي الله عنه رجالات من القيسية أمثال الضحاك بين قيس الفهري وحبيب بن مسلمة الفهري، مثلما كان هناك رجالات من اليمانية أمثال مالك بن هبيرة السكوني، وشرحبيل بن سمط الكندي وحسان بن بحدل الكلبي وغيرهم، كما أن معاوية رضي الله عنه حصل على مساعدات من كلا الطرفين إبان فترتي ولايته وخلافته وكانوا يحاربون إلى جانبه في جيش واحد وتحت إمرة واحدة1786، وكانت سياسة معاوية تقوم على الاستعانة بأفراد من أقاربه أبناء البيت الأموي مثل: عنبسة بن أبي سفيان، وعتبة بن أبي سفيان،(1/414)
والواليد بن عتبة بن أبي سفيان وسعيد بن العاص بن أمية، ومروان بن الحكم وابنه عبد الملك1787، وعمرو بن سعيد بن العاص1788، وغيرهم. كما حرص معاوية رضي الله عنه على اختيار أعوانه وولاته من ذوي التجارب الواسعة من المسلمين، كعبد الله بن عامر بن كريز، والمغيرة بن شعبة، والنعمان بن بشير الأنصاري، ومسلمة بن مخلد الأنصاري1789، وغيرهم. ولم تكن المحاباة هي الأساس الأهم والأوحد في انتقاء معاوية لهؤلاء الرجال دون غيرهم وإنما كان كثير منهم ممن خدم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ورأى أن يستفيد بجهودهم ومواهبهم ولاسيما أولئك الذين أظهرتهم أحداث الفتوحات الإسلامية بالشام1790. ونلاحظ أن معاوية استعان بأهل الصحبة والكفاية والولاء ولاة على الأمصار، ومع أن معاوية رضي الله عنه اختار بعض أعوانه من أهل بيته، يوليّهم الولايات إلاّ أنه كان يعاملهم بحذر شديد إلى أن يطمئن لهم، ويقتنع بمقدرتهم الإدارية فقد كان يختارهم أول الأمر لولاية مدن صغيرة كالطائف1791 مثلاً، فإذا ما أظهر أحدهم مقدرة، إدارية، فإن معاوية ((رضي الله عنه)) يضم إليه مكة لتكون تحت إشرافه ثم يتبعها بالمدينة وعند ذلك يقال: هو قد حذق1792. وغني عن البيان أن الطائف كانت مدينة مهمة في ذلك الوقت حيث تتمركز فيها قبيلة ثقيف1793، القوية وأن من يستطيع من الولاة أن يسيطر على الطائف ـ سياسياً واقتصادياً ـ فإن بقية المدن تسهل السيطرة عليها بعد ذلك. وتشير نجدة خمَّاش إلى أن معاوية رضي الله عنه جعل من مدن الحجاز مدرسة يدّرب فيها أبناء البيت الأموي على إدارة تلك الولاية والسماح لهم بالتدرّج في تلك الإدارة وفق خطوات مقررة1794. وقد اتبع معاوية رضي الله عنه أسلوباً مميزاً في معاملته لبني أهله ممن يستعين بهم. فقد كان يحاول أن يجعلهم متفرقين عن بعضهم البعض وذلك كي يتجنب أي تحالف ضده1795. وفي خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه تمتع رعايا الدولة من غير المسلمين(1/415)
بمنتهى التسامح والرفق، وحصلوا على امتيازاتهم بسهولة ويسر. فقد كانوا يعملون في مختلف الوظائف الحكومية، ذلك أن معاوية رضي الله عنه أبقى على النظم البيزنطية والقبطية التي كان معمولاً بها في الشام ومصر والمغرب. كما أبقى على النظم الفارسية في العراق وخراسان. وكان ترك معاوية رضي الله عنه هذه النظم على حالتها بسبب نقص من كانوا يعرفون لغات ونظم إدارة البلاد المفتوحة من المسلمين في أوائل العهد الأموي، وعلاوة على ذلك فقد كان طبيب معاوية رضي الله عنه الخاص، ويدعى ابن أُثال1796، غير مسلم، وكذلك سريج(سرجون) بن منصور الرومي مستشاره المالي1797، وابن مينا1798، وابن النضير1799، مولاه من عماله على الصوافي، كانوا أيضاً من سلالة غير المسلمين وأسلم بعضهم فيما بعد. وفضلاً عن ذلك ترك معاوية لرعايا الدولة من غير المسلمين أيضاً حرية تامة هي ممارسة طقوسهم الدينية: فاستجاب لطلب نصارى دمشق بعدم زيادة كنيسة يوحنا في مسجد دمشق1800. كما: رممّ لهم كنيسة الرَّها(أُديسَّا) والتي كانت قد تهدمت من جراء الزلازل1801. كما بنيت أول كنيسة بالفسطاط في حارة الروم في ولاية مسلمة بن مخلد الأنصاري على مصر ما بين عامي47هـ، 68هـ1802. كما استعان معاوية رضي الله عنه بمهندسين وفنّيين من غير المسلمين في بناء قصر الخضراء بدمشق الذي اتخذه معاوية مقراً لإقامته في فترة إمارته على بلاد الشام ثم في فترة خلافته بعد ذلك ويروي البلاذري أنهم بنوه لمعاوية رضي الله عنه من الحجارة بعد أن كان قبل مبنياً باللِّبن والطين1803. وكما كانت سياسة التسامح مع الرعايا غير المسلمين هي الطابع المميز لفترة خلافة معاوية رضي الله عنه كذلك نرى سياسة التعاطف والإهتمام المتزايد وحسن المعاملة تجاه الموالي من المميزات الأخرى في عصر معاوية. فنجد معاوية رضي الله عنه استعان بكثير من الموالي في إدارة بعض شؤون الدولة: فعين مولاه عبد الله بن درّاج على خراج الكوفة(1/416)
ومعونتها في ولاية المغيرة بن شعبة1804. وكان وردْان مولاه على خراج مصر في ولاية عتبة بن أبي سفيان1805، وكان على حرسه رجل من الموالي يقال له المختار وقيل رجل يقال له مالك ويكن أبا المخارق مولى لحمير وكان على حجابه سعد مولاه1806. وكان يلي أمواله بالحجاز أيضاً. وهو الذي قال فيه: معاوية: أغبط الناس عيشاً مولاي سعد، كان يتربع جدَّة، ويتقيَّظ الطائف، ويشتو بمكة1807. واتخذ زياد بن أبي سفيان من مهران مولاه، حاجباً له وكاتبه على الخراج في العراق1808. وكان أبو المهاجر دينار مولى لمسلمة بن مخلد الأنصاري فتولى له إدارة شؤون المغرب1809 في سنة 55هـ وبالرغم من هذه الأمثلة نجد أن عباس محمود العقاد يشير إلى أن معاوية كان لا يلتفت إلى الموالي، وردّد ما سبقه إليه المستشرقون في طعنهم في تسامح معاوية رضي الله عنه مع الموالي، رغم ما تزخر به المؤلفات العربية القديمة من أمثلة على هذا التسامح1810، ومن ناحية أخرى، فقد ترك معاوية رضي الله عنه الإصلاحات الضرورية لعماله على الأقاليم ليقوم كل واحد منهم بواجبه تجاه الإقليم الذي يرى شؤونه1811، وقد أصبح التقسيم الإداري للدولة في عهده كالآتي: دمشق عاصمة للدولة، وقسم البلاد إلى ولايات يحكم كل ولاية منها وال من قبل الخليفة، وكان لكلِّ سلطة غير محدودة في الولاية التي يحكمها، وفي بعض الأحيان أطلقت الدولة للوالي سلطة التصرف كما يشاء، حتى كان بعضهم يقتل وينفي، ويسجن، ويشرد،... وقد لاحظنا أن هذا الحكم المطلق لم يتكرر، بل كان دائماً محصوراً في ولاية العراق، وذلك لما كان يحدث فيها من اضطرابات وفتن أكثر من غيرها، وكان الخليفة يختار لهذه الولاية ولاة مشهورين بالحزم والشدة، فكان زياد بن أبيه من أشهر ولاة معاوية، أما بقية الولايات فكانت تحكم بطابع الدولة المألوف، فالوالي مقيد بأوامر الخليفة، لا يقضي إلا بعد رأيه، ولا يفصل إلا بعد مشاورته، وكان الوالي يرجع إلى الخليفة في(1/417)
كل ما يتصل بالمصالح العامة، فإذا كان الأمر خاصاً بولايته له أن يتصرف فيه بحسب ما يحقق المصلحة العامة، وإلا فهو مسؤول أمام الخليفة عن كل تصرفاته وكان ولايات الدولة الكبرى في عهد معاوية1812، دمشق العاصمة، والبصرة، والكوفة، والمدينة ومكة، ومصر وغيرها وأما ولاة الأمصار في عهد معاوية فسوف نتحدث عنهم في حديثنا عن كل إقليم بإذن الله تعالى:
أولاً : البصرة: ومن أشهر ولاتها في عهد معاوية فهم:
1 ـ بسر بن أرطأة رضي الله عنه تولى الولاية عام 41هـ وجاءت روايات لم تصل إلى درجة الصحة تشير إلى تعرض بسر لأبنا زياد بن أبيه1813 ثم عزل وعين بدله عبد الله بن عامر:
2 ـ عبد الله بن عامر رضي الله عنه : 41 ـ 44هـ : ففي هذه السنة أي 41هـ ولى معاوية عبد الله بن عامر البصرة، وحرب سجستان1814، وخراسان1815. ولم يكن تعيين عبد الله بن عامر على البصرة لأسباب شخصية، لأنه لم ترد رواية صحيحة تؤكد ذلك ولكن اختيار معاوية رضي الله عنه له كان نتيجة خبرته السابقة في ولاية البصرة وحرب سجستان وخراسان أيام عثمان، فما كان من معاوية إلا أن أسند الأمن إلى أهله، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب1816، وبعد أن مضى ابن عامر ثلاث سنوات تمكن فيها من تثبيت الفتح في سجستان وخراسان واستفاد المسلمون من خبرته العسكرية، ثم دعت الحاجة إلى تغييره، فعزله معاوية وولى الحارث بن عبد الله الأزدي البصرة في أول سنة خمس وأربعين، فأقام بالبصرة أربعة أشهر، ثم عزله وولاها زياداً1817.
3 ـ زياد بن أبيه 45هـ إلى 53هـ:(1/418)
أ ـ نسبه: يعتبر نسب زياد المكنى بأبي المغيرة، من أكثر القضايا غموضاً في حياته، فقد كانت أمه أمة اسمها سمية1818، ولم يتفق المؤرخون من هو أبوه وبالتالي هم مختلفون في ذكر نسبه فقد ذُكر اسمه في المصادر، تارة زيادة بن سمية1819، وتارة زياد بن عبيد1820، ومرة زياد الأمير1821، وأخرى زياد بن أبي سفيان1822، وفي أغلب الأحيان عرف بابن أبيه1823، وذلك لما وقع فيه أبيه من الشك1824.
ب ـ صلح زياد مع معاوية:
كان زياد بن أبيه والياً على خراسان لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه وكان مخلصاً له غاية الإخلاص وحاول معاوية أن يكسب زياد ويضمه إلى صفه في عهد علي رضي الله عنه إلا أنه فشل في ذلك وبعد مقتل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وجد معاوية فرصة طيبة لإعادة النظر في مساعيه الهادفة إلى استمالة زياد بأقل التكاليف، واستخدم معاوية لغة التهديد والترغيب مع زياد بقلعة عرفت باسمه فخافه معاوية وهو من أكثر الناس معرفة بصلابته، ولا شك أن اعتصام زياد بفارس مع علمه بأنه الوحيد الذي لم ينزل على حكم معاوية، ويدخل فيما دخل فيه الناس، إنما يدل على ثقته بنفسه أولاً وبإمكانيات إقليم فارس الاقتصادية والبشرية ثانياً، إلا أن هذه الأمور وحدها ليس كافية لمواجهة معاوية إذا ما لجأ إلى استخدام القوة، الأمر الذي دفع زياد في المرحلة التالية في علاقته بمعاوية إلى تبديل موقفه الرافض بموقف أكثر إيجابية، وبعد صلح الحسن حاول معاوية الاتصال بزياد وسمح للمغيرة بن شعبة أن يتدخل لحل هذا المشكل واستطاع المغيرة بن شعبة أن ينجح في إقناع زياد ببيعة معاوية والدخول في طاعته وكان هذا النجاح من المغيرة من أعظم ما قدمه لمعاوية من خدمات، فقد كان من الصعب على معاوية أن يصل إلى زياد أو يوفق في إخضاعه إلا بعد قتال عنيف، لا يدري أحد من سيكون الرابح في مثل ذلك الموقف الخطير1825، وقد تمّ لمعاوية احتواء حركة اعتصام زياد بفارس، ولم يستعجل في الأمر،(1/419)
وابتعد عن استخدام القوة، وأعطى للزمن فرصته، واستعان بداهية من دهاة العرب في اقناع زياد وهذا من حكمته1826 رضي الله عنه.
جـ ـ حول استلحاق معاوية زياد بن أبيه :
قال الطبري في عام 44هـ: في هذه السنة استلحق معاوية نسب زياد بن سمية بأبيه أبي سفيان فيما قيل1827، وقال الطبري:... زعموا أن رجلاً من عبد القيس كان مع زياد لما وفد على معاوية فقال لزياد: إن لابن عامر عندي يداً، فإن أذنت لي أتيته، قال: على أن تحدثني ما يجري بينك وبينه، قال: نعم، فإذن له فأتاه، فقال له ابن عامر: هيه هيه أو ابن سمية يقبح آثاري، ويعرض بعمالي، لقد هممت أن آتي بقسامه1828 من قريش يحلفون أن أبا سفيان لم ير سمية، قال: فلما رجع سأله زياد، فأبى أن يخبره، فلم يدعه حتى أخبره فأخبر ذلك زياد معاوية، فقال معاوية لحاجبه: إذا جاء ابن عامر فاضرب وجه دابته عن أقصى الأبواب، ففعل ذلك به، فأتى ابن عامر يزيداً، فشكا إليه ذلك، فقال له: هل ذكرت زياداً؟ قال: نعم، فركب معه يزيد حتى أدخله، فلما نظر إليه معاوية قام فدخل، فقال يزيد لابن عامر: أجلس فكم عسى أن تقعد في البيت عن مجلسه فلما أطال خرج معاوية، وفي يده قضيب يضرب به الأبواب، ويتمثل:
………لنا سياق1829 ولكم سياق
………………قد علمت ذلكم الرفاق1830(1/420)
ثم قعد فقال: يا ابن عامر، أنت القائل في زياد ما قلت: أما والله لقد علمت العرب أني كنت أعزها في الجاهلية، وإن الإسلام لم يزدني إلا عزاً، وإني لم أتكثر بزياد من قلة، ولم أتعزز به من ذلة، ولكن عرفت حقاً له فوضعته موضعه1831، وقد اتهم معاوية رضي الله عنه عندما استلحق زياد بن أبيه إلى أبيه بأنه خالف أحكام الإسلام لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: لا دعوة في الإسلام، ذهب أمر الجاهلية، الولد للفراش1832، وللعاهر الحجر1833. وقد ردّ على هذا الاتهام الدكتور خالد الغيث في رسالته مرويات خلافة معاوية بقوله:.. أما اتهام معاوية رضي الله عنه باستلحاق نسب زياد، فإني لم أقف على رواية صحيحة صريحة العبارة تؤكد ذلك، هذا فضلاً عن أن صحبة معاوية رضي الله عنه، وعدالته ودينه وفقهه تمنعه من أن يرد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لاسيما وأن معاوية أحد رواة حديث: الولد للفراش وللعاهر الحجر1834. ووجه التهمة إلى زياد بن أبيه بأنه هو الذي ألحق نسبه بنسب أبي سفيان واستدل برواية أخرجها مسلم في صحيحه من طريق أبي عثمان1835 قال: لما إدعى زياد لقيت أبا بكر فقلت له: ما هذا الذي صنعتم؟ إني سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: سمع أذناي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: من ادعى أباً في الإسلام غير أبيه، يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام. فقال أبو بكرة: وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم1836. قال النووي رحمه الله معلقاً على هذا الخبر:... فمعنى هذا الكلام الإنكار على أبي بكرة، وذلك أن زياداً هذا المذكور هو المعروف بزياد بن أبي سفيان، ويقال فيه: زياد بن أبيه، ويقال: زياد بن أمه، وهو أخو أبي بكرة لأمه... فلهذا قال ابو عثمان لأبي بكرة: ما هذا الذي صنعتم؟ وكان أبو بكرة رضي الله عنه ممن أنكر ذلك وهجر بسببه زياداً وحلف أن لا يكلمه أبداً، ولعل أبا عثمان لم يبلغه إنكار أبي بكرة حيث قال هذا الكلام، أو يكون مراده(1/421)
بقوله ما هذا الذي صنعتم؟ أي هذا الذي جرى من أخيك ما أقبحه وأعظم عقوبته فإن النبي صلى الله عليه وسلم حرم على فاعله الجنة1837. وبذلك يكون زيادا هو المدِّعي، وفي حقيقة الأمر فإن مسألة استلحاق معاوية زياد هي مسألة اجتهادية ويذهب الكثير من المؤرخين بأن هناك دلائل عديدة تثبت أن أبا سفيان قد باشر سمية ـ جارية الحارث بن كلدة الثقفي ـ وكانت من البغايا ذوات الرايات ـ في الجاهلية ، فعلقت منه بزياد ، وذكروا بأن أبا سفيان اعترف بنفسه بذلك أمام علي بن طالب رضي الله عنه وآخرين بعدما شب ونبغ في عهد عمر بن الخطاب1838، وقال ابن تيمية بأن أبا سفيان كان يقول زياد من نطفته1839، فلما كانت خلافة معاوية شهد لزياد بذلك النسب أبو مريم السلولي وهو صحابي كان يعمل في الجاهلية خماراً بالطائف، وهو الذي جمع بين أبي سفيان وسمية، وكان ذلك أمراً مألوفاً آنذاك1840، ويبدو أن هذا النسب قد شاع أمره حتى لقد شهد بذلك أحد رجال البصرة لزياد قبل استلحاق معاوية أياه1841، فهي دعوة قديمة إذن ولم تكن كما يزعم الرواة نتيجة مشورة المغيرة بن شعبة على معاوية كجزء من صفقة متبادلة بين معاوية وزياد أو غير ذلك من التفاصيل التي اخترعها الرواة1842. وبعد عقود من السنين نجد الإمام مالك بن أنس ـ إمام أهل المدينة ـ يذكر زياداً في كتابه الموطأ بأنه زياد بن أبي سفيان، ولم يقل زياد بن أبيه، وذلك في عصر بني العباس1843، والدولة لهم والحكم بأيديهم فما غيروا عليه، ولا أنكروا ذلك منه، لفضل علومهم ومعرفتهم بأن مسألة زياد قد اختلف الناس فيها، فمنهم من جوزها، ومنهم من منعها، فلم يكن لاعتراضهم عليها سبيل1844، وفي نسبة الإمام مالك لزياد إلى أبي سفيان فقه بديع لم يفطن له أحد ، وهو أنها لما كانت مسألة خلاف ونقد الحكم فيها بأحد الوجهين لم يكن لها رجوع فإن حكم القاضي في مسائل الخلاف بأحد القولين يمضيها ويرفع الخلاف فيها والله أعلم1845. وأما تعارض هذا(1/422)
الاستلحاق مع نص الحديث الشريف، فمن اعتذر لمعاوية قال: إنما استلحق معاوية زياداً لأن أنكحت الجاهلية كانت أنواعاً ، وكان منها أن الجماعة يجامعون البغي، فإذا حملت وولدت ألحقت الولد لمن شاءت منهم فيلحقه، فلمّا جاء الإسلام حرّم هذا النكاح، إلا أنّه أقر كل ولد كان يُنسب إلى أب من أي نكاح كان من أنكحتهم على نسبه، ولم يفرّق بين شيء منها، فتوهم معاوية أنّ ذلك جائز له ولم يفرّق بين استلحاق في الجاهلية، والإسلام1846 وأجاز الإمام مالك أن يستلحق الأخ أخا له ويقول: هو ابن أبي، ما دام ليس له منازع في ذلك النسب. فالحارث بن كلدة (الذي كانت سمية جارية له) لم ينازع زياداً ، ولا كان إليه منسوباً ، وإنما كان ابن أمة بغي ولد على فراشه ـ أي في داره ـ فكل من ادعاه فهو له، إلا أن يعارضه من هو أولى به منه، فلم يكن على معاوية في ذلك مغمز، بل فعل الحق على مذهب مالك، فإن قيل: فلم أنكر عليه الصحابة؟ قلنا: لأنها مسألة اجتهاد1847....................... والحوادث تثبت أن معاوية كان مقتنعاً بحق زياد في ذلك، ولابد أنه كان قد سمع من أبيه ولهذا فإن معاوية كان مؤمناً بأن عمله لم يكن عملاً موضوعياً وواجباً ضرورياً من باب وضع الشيء في محله، ولا ريب أن هذا كان معروفاً عند الناس غير أن معاوية أراد أن يثبته1848.
س ـ خطبة زياد المعروفة بالبتراء بالبصرة:(1/423)
لما تولى زياد ولاية البصرة، عام 45هـ، خطب خطبة بتراء1849، لم يحمد الله فيها وقيل: بل حمد الله فقال: الحمد لله على أفضاله وإحسانه، ونسأله المزيد من نعمه، اللهم كما رزقتنا نعماً، فألهمنا شكراً على نعمتك علينا. أما بعد، فإن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والفَجر1850 الموقد لأهله النار، الباقي عليهم سعيرها، ما يأتي سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم، من الأمور العظام، ينبت فيها الصغير، ولا ينحاش منها الكبير، كأن لم تسمعوا بأي الله، ولم تقرءوا كتاب الله، ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته، في الزمن السرمد1851الذي لا يزول. أتكونون كمن طرفت1852 عينه الدنيا وسدت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية، ولا تذكروا أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا به، من ترككم هذه المواخير المنصوبة، والضعيفة المسلوبة، في النهار المبصر، والعدد غير قليل: ألم تكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج1853 الليل وغاره النهار اقربتم القرابة، وباعدتم الدين، تعتذرون بغير العذر، وتغطون على المختلس1854 كل امرى منكم يذب عن سفيهه، صنيع من لا يخاف عقاباً، ولا يرجو معاداً، ما أنتم بالحلماء، ولقد اتبعتم السفهاء ولم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم، حتى انتهكوا حرم الإسلام، ثم أطرقوا وراءكم كنوساً في مكانس الريب1855، حُرِّم عليّ الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدماً وإحراقاً، إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح أوله، لين في غير ضعف، وشدة في غير جبرية وعنف، وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالولي1856، والمقيم بالظاعن1857، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم بالسقيم حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: أنج سعد فقد هلك سعيد1858، أو تستقيم لي قناتكم، إن كذبة المنبر تبقى مشهورة، فإذا تعلقتم عليّ بكذبة فقد حلت لكم معصيتي1859 من بُيِّت1860 منكم، فأنا ضامن لما ذهب له، إياي ودلج الليل،(1/424)
فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه، وقد أجلتكم في ذلك بقدر ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إلي، وإياي ودعوى الجاهلية1861، فإني لا أجد أحد دعا بها إلا قطعت لسانه، وقد أحدثتم أحداثاً لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غُرَّق قوماً غرقته، ومن حرَّق على قوم حرقناه، ومن نقب بيتاً نقبت عن قلبه، ومن نبش قبراً دفنته1862، حياً، فكفوا عني أيديكم وألسنتكم أكفف يدي وأذاي، لا يظهر من أحد منكم خلاف ما عليه عامتكم إلا ضرب عنقه. وقد كانت بيني وبين أقوام إحن1863، فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي، فمن كان منكم محسناً فليزدد إحساناً، ومن كان مسيئاً فلينزع عن إساءته، إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعاً، ولم أهتك له ستراً، حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل لم أناظره، فاستأنفوا أموركم وأعينوا على أنفسكم، فرب مبئس بقدومنا سيسر، ومسرور بقدومنا سيبتئس1864. ايها الناس، إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة1865، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء1866 الله الذي خولنا، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا1867بمناصحتكم واعلموا أني مهما قصرت ولو أتاني طارقاً بليل، وحابساً رزقاً ولا عطاءً عن إبانة1868، ولا مُجمَّراً1869 لكم بعثاً، فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم، فإنها ساستكم المؤدبون لكم، وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى تصلحوا يصلحوا، ولا تشربوا قلوبكم بغضهم، فيشتد لذلك غيظكم، ويطول له حزنكم ولا تدركوا حاجتكم، مع أنه لو استجيب لكم كان شراً لكم، أسأل الله أن يعين كلاً على كل، وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فليحذر كل امريء منكم أن يكون من صرعاي: فقام عبد الله بن الأهتم فقال: أشهد ايها الأمير أنك قد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب، فقال كذبت، ذاك نبي الله داود عليه السلام1870. قال الأحنف: قد قلت فأحسنت أيها الأمير، والثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء(1/425)
وإنا لن نُثني حتى نُبتلي، فقال زياد: صدقت1871. وهذه الخطبة تعتبر من الخطب المشهورة في التاريخ ومع الرغم من كثرتها وكثرة المصادر التي أوردتها إلا أنها لم تأت بإسناد صحيح يجعل القاريء يطمئن إلى صحة ما ورد فيها، لاسيما أنها تحتوي على مآخذ عديدة، وتناقضات واضحة تقلل من صحة نسبة جميع ما جاء فيها إلى زياد وقد نبه إلى هذه المآخذ والتناقضات الدكتور1872 خالد الغيث حفظه الله منها .
ـ…تحدثت الخطبة عن انتشار الفجور في البصرة وكثرة بيوت الدعارة فيها ، ويستفاد ذلك من قول زياد: .. من ترككم هذه المواخير المنصوبة، قوله: ... حُرِّم عليّ الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدماً وإحراقاً1873. وهذا الكلام المنكر عن حال البصرة عند قدوم زياد، يرده حقيقة ما كانت عليه البصرة منذ تأسيسها في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث بنيت لتكون قاعدة تنطلق منها الجيوش الإسلامية لمواصلة الفتح ونشر الإسلام في ربوع البلاد المفتوحة، ومن أجل هذه الغاية استوطن البصرة أكثر من خمسين ومائة صحابي، حملوا على عواتقهم مهمة الدعوة إلى الله وتعليم الناس أمور دينهم، فأنَّى لهذه المنكرات أن تنبت وتنتشر في مجتمع عماده الصحابة والتابعون دون أن ينكروه ويلزموه، كذلك فإن وجود الخوارج في البصرة وما عرف عنهم من الاستعجال والاندفاع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دليل آخر على انتفاء وجود هذه المنكرات في مجتمع البصرة وبالحجم الذي ورد في خطبة زياد1874.(1/426)
ـ ومن التناقضات الواردة في الخطبة: ورد قول زياد: وإياي ودعوى الجاهلية، فإني لا أجد أحداً دعا بها إلا قطعت لسانه1875 مع أنه ذكر في موضع آخر من الخطبة نقيض ذلك وهو قوله: وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالولي، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم بالسقيم1876. وورد في الخطبة قول زياد: إياي ودلج الليل، فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه1877. لكنه عاد في موضع آخر من الخطبة لينقض ما ذكره آنفاً فقال: لست محتجباً عن طالب حاجة منكم ولو أتاني طارقاً بليل1878. وهذه التناقضات الواردة في الخطبة يستغرب صدورها من زياد مع ما عرف عنه من البلاغة والفصاحة، وهذا يقودنا إلى قضية أخرى وهي احتمال كون النص الذي بين أيدينا عن خطبة زياد عند مجيئة إلى البصرة عبارة عن أكثر من خطبة تم دمجها في سياق واحد ويؤيد ذلك ثناء عبد الله بن الأهتم والأحنف بن قيس على زياد بعد انتهاء الخطبة من أن الخطبة تستوجب النقد وليس الثناء، لما فيها من تقديم حكم الجاهلية على حكم الله1879. وعن الشعبي، قال: ما سمعت متكلماً قد تكلم فأحسن إلا أحببت أن يسكت خوفاً أن يسيء إلا زياداً، فإنه كان كلما أكثر كان أجود كلاماً1880. وهذا الثناء من الشعبي على زياد يقوي الشك حول خطبة زياد البتراء التي سبق الحديث عنها في الرواية السابقة1881.
ش ـ استعانة زياد بصحابة رسول الله:
استعان زياد بعدةٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم عمران بن الحصين الخزاعي1882، ولاه قضاء البصرة، والحكم بن عمرو الغفاري1883، ولاه خراسان، وسمرة بن جندب، وأنس بن مالك، وعبد الرحمن بن سمرة، فاستعفاه عمران فأعفاه، واستقضى عبد الله بن فضالة الليثي1884 ثم أخاه عاصم بن فضالة1885، ثم زرارة بن أوفى الحرشي1886، وكانت أخته لبابة عند زياد1887.
ل ـ من سياسة زياد في العراق :(1/427)
يعتبر زياد بن أبي سفيان عامل معاوية على البصرة والكوفة بعد عبد الله بن عامر والمغيرة بن شعبة، هو الذي قام بمعظم الإصلاحات الضرورية في ذلك الجناح الشرقي من الدولة الأموية وكان هذا الرجل يتمتع بقدرة إدارية فائقة1888. وقد استن زياد عدة قوانين وتنظيمات وقام بكثير من الإصلاحات في البصرة أولاً (45 ـ 50هـ) ثم في الكوفة بعد أن جُمعت المدينتان تحت إمرته في ولاية واحدة وذلك منذ سنة 50هـ، وحتى سنة 53هـ. فبنى دار الرزق في البصرة1889، وهي شبيهة بمخزن المؤن في أيامنا هذه، فكان الأهالي يتمونون منها وعين أشخاصاً يشرفون عليها منهم، عبد الله بن الحارث بن نوفل، وروَّاد بن أبي بكرة. كما عين الجَعْد بن قيس النّمري مشرفاً على السوق ومراقباً على أسعار المواد الغذائية فيه1890. وكان يعطي قروضاً للتجار إذا ما ارتفعت الأسعار كي يحثهم على المحافظة على سعر السلعة أو بزيادة بسيطة. وإذا ما تحقق ذلك وتوفرت الحاجات: ارتجع ماله1891. وترك زياد الناس في البصرة أخماساً أما الكوفة فقد قسمهم إلى أرباع1892، بدل الأسباع. واختار عريفاً لكل قسم يقوم بمهمة توزيع الإعطيات عل أفراد عشيرته، كما أنه كان مسئولاً أمام زياد عما يحدث في ناحيته، فيقوم بإرسال التقارير بما حصل فيها أولاً بأول إلى زياد واستطاع أن يضبط الأمور في المدينتين برجال من أهلها، وأصدر زياد أوامره بألاَّ يدخل أو يخرج أحد من الكوفة أو البصرة بعد صلاة العشاء وأوقع القصاص بالسارق وقاطع الطريق فعمَّ الأمن والطمأنينة بحيث أن المرأة كانت تنام وباب بيتها مفتوحاً، وأن الشيء ليسقط على الأرض فيظل ملقى دون أن يحركه أحد1893. ونظم العطاء من الديوان فحذف منه أسماء الذين توفوا ومن كان غائباً عن قطره ومن كان عابثاً بالأمن، فكان: إذا جاء شعبان أخرج أعطية المقاتلة فملأوا بيوتهم من كل حُلْو وحامض واستقبلوا رمضان بذلك، وإذا كان ذو الحجة أخرج أعطية الذرية1894،ويشير البلاذري(1/428)
إلى أنه: كان لكل عيِّل جريبان ومائة درهم، ومعونة الفطر خمسين، ومعونة الأضحى خمسين1895، واختار زياد حوالي خمسمائة رجل من أهل البصرة ليعملوا كحرس خاص له وكذلك حماية الأماكن الهامة وأعطى لكل واحد منهم ما بين ثلاثمائة إلى خمسمائة درهم، وأسند قيادتهم إلى شيبان بن عبد الله السعدي فكانوا يبرحون المسجد1896، وبنى زياد مساجد عديدة، منها: مسجد بني عدي، ومسجد بني مجاشع، ومسجد الأساورة. وكان لا يدع أحداً يبني بقرب مسجد الجماعة مسجداً، فكان مسجد بني عدي أقربها منه1897. ويذكر ابن الفقيه: إن زياداً بنى سبعة مساجد فلم يُنسب إليه شيء منها، وأن كل مسجد بالبصرة كانت رحبته مستديرة فإنه من بناء زياد1898.وزاد زياد في مسجد البصرة زيادة كثيرة، وبناه بالآجر والجص، وسقفه بالساج، وبنى منارته بالحجارة1899. وكان يهتم بنظافة المدينة ويعتبر الأفراد مسئولين على نظافة بيوتهم ويعاقب من يهمل ذلك، فقد كان يأخذ صاحب كل دار بعد المطر إذا أضحت برفع ما بين يدي فنائه من الطين، فمن لم يفعل أمر ذلك الطين فألقي في مجلسه، وكان يأخذ الناس بتنظيف طرقهم من القذر والكناسات، ثم أنه اشترى عبيداً ووكلهم فكانوا يلمونه1900 فهذه الرواية تشير إلى وجود موظفين مهمتهم مراقبة النظافة من ناحية، كما تشير إلى أن زياداً تنبه إلى أن نظافة الطرق أمر يجب أن يتولاه أشخاص معينون فاشترى عبيداً وكل إليهم تنظيف الطرق من القذر والكناسات1901 واهتم زياد بتقدم الزراعة وتنظيم طرق الري: فبنى السدود1902، وحفر القنوات1903، كما أنه كان يمنح المزارع قطعة من الأرض الزراعية، مساحتها 60 جريباً ثم يدعه عامين فإن عمّرها أصبحت له، وإلا استردها منه، وأعطاها آخرين ينتظرونها1904، ولكي يسهل الاتصال بين ضفتي نهر الفرات، فقد أصلح زياد قنطرة الكوفة وأعاد بناءها باللبِّن والطوب المقوّى، بعد أن كانت من أخشاب القوارب المتهالكة. وأصبحت تعرف بعد ذلك بجسر الكوفة1905. وأما(1/429)
عن كيفية تصرف زياد في موارد بيت مال الولاية فيشير البلاذري إلى: أن زياداً كان يجبي من كُوَر البصرة ستين ألف ألف، فيعطي المقاتلة من ذلك ستة وثلاثين ألف ألف، ويعطي الذرية ستة عشرة ألف ألف درهم، وينفق من نفقات السلطان ألفي ألف، ويجعل في بيت المال للبوائق والنوائب ألفي ألف درهم، ويحمل إلى معاوية أربع آلاف (ألف) درهم، وكان يجبي من الكوفة أربعين ألف ألف، ويحمل إلى معاوية ثُلثي الأربعة الآلاف ألف لأن جباية الكوفة ثلثا جباية البصرة. كما أن عبيد الله زياد، والذي خلف أباه على ولاية العراق حمل إلى معاوية ستة آلاف درهم فقال معاوية: اللهم أرض عن ابن أخي1906.
4 ـ ولاية سمرة بن جندب رضي الله عنه:
عن جعفر بن سليمان الضبعي، قال: أقر معاوية سمرة بعد زياد ستة اشهر، ثم عزله فكذبوا على سمرة وزعموا أنه قال: لعن الله معاوية: والله لو أطعت الله كما أطعت معاوية ما عذبني أبداً1907. هذا الخبر المنسوب إلى سمرة بأنه شتم معاوية خبر مكذوب على هذه الصحابي الكريم، وفي ذلك يقول ابن كثير وهذا لا يصح عنه1908، كما أن معرفة ميول مصدر الخبر جعفر بن السليمان الضبعي، والذي قال عنه ابن حجر: صدوق زاهد لكنه يتشيع1909، تبين أثر التشيع في تشويه التاريخ الإسلامي1910.
5 ـ ولاية عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي :
قال الطبري وفي هذه السنة ـ 54هـ كان عزل معاوية بن أبي سفيان لسمرة بن جندب عن البصرة، واستعمل عبد الله بن غيلان1911.
6 ـ ولاية عبيد الله بن زياد خراسان ثم البصرة :(1/430)
قال الطبري: وفي هذه السنة ولى معاوية عبد الله بن زياد خراسان1912، وفي عام 55هـ عزل معاوية بن عمرو بن غيلان عن البصرة وولاها عبد الله بن زياد1913وأوصى معاوية عبد الله بن زياد بهذه الوصية: إني قد عهدت إليك مثل عهدي إلى عمالي، ثم أوصيك وصية القرابة لخاصتك عندي، لا تبيعن كثيراً بقليل، وخذ لنفسك من نفسك، واكتف فيما بينك وبين عدوك بالوفاء تخفّ عليك المؤونة وعلينا منك، وافتح بابك للناس تكن في العلم منهم أنت وهم سواء، وإذا عزمت على أمر فأخرجه إلى الناس، ولا يكن لأحد فيه مطمع، ولا يرجعن عليك وأنت تستطيع، وإذا لقيت عدوك فغلبوك على ظهر الأرض فلا يغلبونك على بطنها، وإن أحتاج أصحابك إلى أن تواسيهم بنفسك فآسيهم1914. وفي رواية قال له: اتق الله ولا تؤثرن علىتقوى الله شيء، فإن في تقواه عوضاً، وقِ عرضك من أن تندسه، وإذا أعطيت عهداً فوف به، ولا تبيعنَّ كثيراً بقليل، ولا تخرجن منك أمراً حتى تُبرمه، فإذا خرج فلا يردن عليك، وإذا لقيت عدوك فكن أكثر من معك، وقاسمهم على كتاب الله، ولا تطمعن أحداً في غير حقه، ولا تؤيسن أحداً من حق له. ثم ودعه1915.
ثانياً : الكوفة : 41هـ :(1/431)
1 ـ المغيرة بن شعبة رضي الله عنه : الأمير أبو عيسى، ويقال أبو عبد الله، وقيل: أبو محمد. من كبار الصحابة أولي الشجاعة والمكيدة. شهد بيعة الرضوان، كان رجلاً طوالاً مهيباً، ذهبت عينه يوم اليرموك وقيل يوم القادسية1916. وكان يقول أنا آخر الناس عهداً برسول الله صلى الله عليه وسلم، لما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر، فألقيت خاتمي، فقلت يا أبا الحسن، خاتمي قال: انزل فخذه، قال: فمسحت يدي على الكفن ثم خرجت1917. وله مواقف في الدهاء والمكر والكيد منهما، عن زيد بن أسلم، عن أبيه،، أن عمر استعمل المغيرة بن شعبة على البحرين، فكرهوه، فعزله عمر، فخافوا أن يردّه، فقال دهقانهم1918: إن فعلتم ما آمركم لم يردَّه علينا. قالوا: مُرْنا. قال: تجمعون مائة ألف حتى أذهب بها إلى عمر، وأقول: إن المغيرة اختان هذا، فدفعه إليَّ. قال: فجمعوا له مائة ألف، وأتى عمر، فقال ذلك، فدعا المغيرة، فسأله، قال: كذب أصلحك الله، إنما كانت مائتي ألف، قال: ما حملك على هذا؟ قال: العيال والحاجة. فقال عمر للعِلْج: ما تقول؟ قال: لا والله لأصَدُقنَّك ما دفع إليَّ قليلاً ولا كثيراً فقال عمر للمغيرة: ما أردت إلى هذا؟ قال: الخبيث كذب عليَّ، فأحببت أن أخزيه1919.
وعن الشعبي: سمعت قبيصة بن جابر يقول: صحبت المغيرة بن شعبة، فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب، لا يخرج من باب إلا بمكر، لخرج من أبوابها كلها1920، وقال الشعبي:.. والدهاة أربعة: معاوية وعمرو بن العاص، والمغيرة، وزياد1921. وكان المغيرة بن شعبة من أنصار التعدد فكان يقول: صاحب المرأة الواحدة يحيض معها ويمرض معها، وصاحب المرأتين بين نارين تشتعلان1922. فهو يدعو للزواج من ثلاث أو أربع.(1/432)
وقد استعمل معاوية المغيرة على الكوفة عام 41هـ1923، وقام بجهود عظيمة في قتال الخوارج ووجد وقتاً كافياً قام فيه بتوسيع مسجد الكوفة فجعله يتسع لأربعين ألفاً من المصلين1924. وبقى في الولاية إلى عام 49هـ وقيل 50هـ، وهو الراجح وعندما مات ضم معاوية الكوفة إلىزياد، فكان أول من جمع له الكوفة والبصرة1925.
2 ـ ولاية زياد بن أبيه على الكوفة:
كان زياد على البصرة وأعمالها إلى سنة خمسين، فمات المغيرة بن شعبة بالكوفة وهو أميرها، فكتب معاوية إلى زياد بعهده على الكوفة والبصرة، فكان أول من جمع له الكوفة والبصرة، فاستخلف على البصرة سمرة بن جندب، وشخص إلى الكوفة، فكان زياد يقيم ستة أشهر بالكوفة وستة أشهر بالبصرة1926. وقد تحدثنا عن سياسة زياد فيما سبق بالعراق وقد وصفه الذهبي فقال فيه:.. كان من نُبلاء الرجال، رأيا، وعقلاً وحزماً ودهاءً، وفطنة وكان يضرب به المثل في النُّبل والسؤدد وكان كاتبا بليغاً كتب للمغيرة، ولابن عباس وناب عنه بالبصرة1927. وقال الشعبي: ما رأيت أحداً أخطب من زياد1928. وقال فيه ابن حزم: لقد امتنع زياد وهو فِقَعَةُ القاع1929، لا نسب له ولا سابقة، فما أطاقة معاوية إلا بالمداراة، ثم استرضاه وولاّه1930 وقال أبو الشعشاء: كان زياد أفتك من الحجَّاج لمن يخاف هواه1931 وعندما استقر أمره بالعراق وتمكن منها ، كتب زياد إلى معاوية: قد ضبطت لك العراق بشمالي ويميني فارغة، فاشغلها بالحجاز... فلما بلغ ذلك أهل الحجاز أتى نفر منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب، فذكروا ذلك له، فقال: ادعوا الله عليه فيكفيكموه، فاستقبل القبلة، واستقبلوها فدعوا ودعا، فخرجت طاعونة1932 على أصبعيه، فأرسل إلى شريح1933 ـ وكان قاضيه ـ فقال: حدث بي ما ترى، وقد أمرت بقطعها، فأشر علي، فقال له شريح: إني أخشى أن يكون الجراح على يدك، والألم على قلبك، وأن يكون الأجل قد دنا، فتلقى الله عز وجل أجذم1934 وقد قطعت يدك كراهية للقائه، أو أن(1/433)
يكون في الأجل تأخير، وقد قطعت يدك فتعيش أجذم وتعير ولدك، فتتركها وخرج شريح فسألوه، فأخبرهم بما أشار به، فلاموه وقالوا: هل أشرت عليه بقطعها، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المستشار مؤتمن1935. وقد مات زياد سنة ثلاث وخمسين1936 .
3 ـ ولاية عبد الله بن خالد بن أسيد :
عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص، ولي فارس لزياد، ثم1937 استخلفه زياد على الكوفة عند مماته، وهو الذي صلى على زياد .
4 ـ ولاية الضحاك بن قيس الفهري :
وفي سنة 55هـ عزل معاوية عبد الله بن خالد بن أسيد عن الكوفة، وولاها الضحاك بن قيس الفهري1938.
5 ـ ولاية عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي : 58هـ :
وفي سنة 58هـ ولي معاوية الكوفة عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الله بن عثمان بن ربيعة الثقفي، وهو ابن أم الحكم أخت معاوية بن أبي سفيان، وعزل عنها الضحاك بن قيس1939.
هذا وقد قام معاوية رضي الله عنه بعزل عبد الرحمن بن أم الحكم عن الكوفة بسبب إقدامه على قتل أحد أهل الذمة، ودليل ذلك ما أخرجه أحمد بن حنبل، بإسناد صحيح، قال: حدثني هارون بن معروف قال: حدثنا سفيان، عن مطرف، قال: أخبرني بن سعيد قال:.. ثم إن ابن الحكم عزل حين قتل ابن صلوبا1940.
6 ـ ولاية النعمان بن بشير رضي الله عنه : 59 ـ 60هـ :
وفي سنة 59هـ عزل عبد الرحمن بن أم الحكم عن الكوفة، واستعمل عليها النعمان بن بشير الأنصاري1941.
فهولاء هم ولاة الكوفة في عهد معاوية رضي الله عنه.
ثالثاً : المدينة النبوية :(1/434)
تعتبر المدينة من أهم الولايات للنفوذ الروحي والديني على الدولة الأموية بسبب وجود الصحابة وأبناؤهم من المهاجرين والأنصار، ولا تكاد تنعقد البيعة إن لم يبايع أهل المدينة إذ فيها عدد من أهل الحل والعقد، ومن يطيعه الناس ويسيرون برأيهم1942، وقد دخلت المدينة في سلطان معاوية رضي الله عنه بعد عام الجماعة سنة 41هـ وقد حرص معاوية على زيارتها منذ بيعته فقدم المدينة وتلقته رجال من وجوه قريش فقالوا: الحمد لله الذي أعزّ نصرك وأعلى أمرك، فما رَدَّ عليهم جواباً حتى دخل المدينة، فقصد المسجد، وعلا المنبر، فحمد الله وأثنى عليه فقال:... ولقد رمت نفسي على عمل ابن أبي فخافه فلم أجدها تقوم بذلك ولا تقدر عليه، وأردتها على عمل ابن الخطاب، فكانت أشد نفوراً وأعظم هرباً من ذلك، وحاولتها على مثل سنيّان عثمان، فأبت علي، وأين مثل هؤلاء ومن يقدر علىأعمالهم، هيهات أن يدرك فضلهم أحد ممن بعدهم.. غير أني سلكت بها طريقاً لي منفعة ولكم فيه مثل ذلك، ولكم فيه مؤاكلة حسنة ومشاربه جميلة، ما استقامت السيرة وحسنت الطاعة، فإن لم تجدوني خيركم، فأنا خير لكم، والله لا أحمل السيف على من لا سيف معه ومهما تقدم مما قد علمتموه قد جعلته دُبر أذني، وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله، فارضوا مني ببعضه، وإياكم والفتنة، فلا تهموا بها، فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمة1943، ونلاحظ في هذه الخطبة حرص معاوية رضي الله عنه على أن يكسب ودهم ويحافظ على عهده لهم، ما حافظوا على بيعتهم له1944. وقد هدأت المدينة بعد بيعة معاوية وأخلدت إلى السكينة، وانصرف أهلها إلى أعمالهم وانقطع أهل العلم إلى رواية ما حفظوه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغدق معاوية الأموال على سراة الناس لاستمالتهم وكان كرم هؤلاء يسع الكثير من أجل المدينة1945 وكان معاوية عند عهده لأهل المدينة وفياً بالسياسة التي رسمها في خطبته عند زيارة المدينة، وكان يقدم من الترغيب أكثر مما(1/435)
يعلن من الترهيب وكان أكرامه لرجالات المدينة إكراماً يفوق كل وصف، وما قصده أحد في طلب إلا أعطاه. لقد كان يخص وجهاء القوم، ولكن هؤلاء كانوا موزعين لعطايا معاوية، كلما كثرت عطايا معاوية كثر إنفاقهم على أهل المدينة1946، فقد روي أن معاوية قضى عن عائشة أم المؤمنين ثمانية عشر ألف دينار، وما كان عليها من الدَّين الذي كانت تعطيه الناس1947، وبعث معاوية إلى أم المؤمنين عائشة بمائة ألف، ففرقتها من يومها، فلم يبق منها درهم، فقالت لها خادمتها: لو اشتريت لنا من ذلك بدرهم لحماً؟ فقالت ألا ذكّرتني1948وأما ولاة المدينة فهم:
1 ـ مروان بن الحكم 42 ـ 49هـ:
في عام 42هـ ولى معاوية مروان بن الحكم المدينة، فاستقضى مروان عبد الله بن الحارث بن نوفل1949.
2 ـ ولاية سعيد بن العاص رضي الله عنه 49 ـ 54هـ :
في سنة 49هـ عزل معاوية مروان بن الحكم عن المدينة في شهر ربيع الأول، وأمَّر فيها سعيد بن العاص على المدينة في شهر ربيع الآخر وقيل في شهر ربيع الأول1950.
3 ـ ولاية مروان بن الحكم الثانية: 54 ـ 57هـ:
في عام 54هـ عزل معاوية سعيد بن العاص عن المدينة، واستعمل عليها مروان بن الحكم1951.
4 ـ ولاية الوليد بن عتبة بن أبي سفيان:
استعمل معاوية على المدينة حين صرف عنها مروان، الوليد بن عتيبة بن أبي سفيان1952وكان ذلك عام 57هـ1953
* وفاة أبي هريرة رضي الله عنه بالمدينة 58هـ وقيل 59هـ:
توفي أبو هريرة رضي الله عنه في عهد معاوية وقد تعرّض للهجوم الشرس من قبل أعداء السنة النبوية بسبب خدمته لها، فرأيت من المناسب أن أترجم لأبي هريرة وأتعرض للشبهات المثارة حوله وبيان بطلانها وزيفها.(1/436)
أ ـ التعريف به : هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي اليماني، كان اسمه في الجاهلية عبد شمس، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن واشتهر أبو هريرة بكنيته، حتى غلبت على اسمه فكاد ينسى، وسئل أبو هريرة: لم كنيت بذلك؟ قال كنيت أبا هريرة لأني وجدت هرة فحملتها في كمي، فقيل لي: أبو هريرة: وكان يرعى غنم أهله في صغره، ويداعب هرته وكان يقول: لا تكنوني أبا هريرة، فإن النبي الله صلى الله عليه وسلم كناني أبا هر، والذكر خير من الأنثى1954.
ب ـ إسلامه: هاجر أبو هريرة من اليمن إلى المدينة ليالي فتح خيبر، وكان ذلك سنة سبع من الهجرة، وكان قد أسلم على يد الطفيل بن عمرو في اليمن، ووصل المدينة وصلى الصبح خلف سباع بن عرفظة الذي كان قد استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة أثناء غزوة خيبر1955. وقد لازم أبو هريرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخر حياته، وقصر نفسه على خدمته، وتلقى العلم الشريف منه، فكان يدور معه ويدخل بيته، ويصاحبه في حجه وغزوه، ويرافقه في حله وترحاله، في ليله ونهاره،حتى حمل عنه العلم الغزير الطيب، فكانت صحبته أربع سنوات، وقد اتخذ الصُّفة مقاماً له، وخدم الرسول صلى الله عليه وسلم على ملء بطنه، وجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عريف أهل الصفة، فقد كان أعرف الناس بهم وبمراتبهم1956.(1/437)
ت ـ دعوته لأمه للإسلام : قال أبو هريرة رضي الله عنه كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبو هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللَّهم أهد أم أبي هريرة ، فخرجت مستبشراً بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جئت إلى الباب فإذا هو مجاف، فسمعت أمي خشف قدمي فقالت: مكانك يا أبا هريرة وسمعت خضخضة الماء، قال: فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها ففتحت الباب ثم قالت: أبا هريرة أشهد أن لا إليه إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت يا رسول الله أبشر، قد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة: فحمد الله وأثنى عليه وقال خيراً. قالت: يا رسول الله ادعو الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللَّهم حبب عُّبيدك هذا ـ يعني أبا هريرة ـ وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهم المؤمنين. فما خلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني 1957.
ت ـ عبادة أبي هريرة رضي الله عنه وأسرته:(1/438)
كان أبو هريرة رضي الله عنه ورعاً، ملتزماً سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، يحذر الناس في الانغماس في ملذات الدنيا، وشهواتها، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لا يفرق في ذلك بين غني ولا فقير، أو بين أمير وحقير وأخباره في هذا الصدد كثيرة، وكان يخشى الله كثيراً في السر والعلن، ويذكر الناس به، ويحثهم على طاعته1958، وكان عابداً، يصوم النهار ويقوم الليل، ويتناوب قيامه هو وزوجته، وابنته1959، وكان يهتم بعمران بيته بعبادة الله تعالى فعن أبي عثمان النهدي قال: تضيَّفت ابا هريرة سبعاً، فكان هو وامرأته وخادمه يعتقبون الليل أثلاثاً: يصلي هذا، ثم يوقظ هذا، ويصلي هذا ثم يوقظ هذا1960 فبيت أبي هريرة أشراقة مضيئة تبين لنا بيوت المسلمين في ذلك العهد، فهو بيت عامر بالصلاة طوال الليل، فأين تجد الشياطين لها مكاناً في هذا البيت؟ إنها تربية عالية على التقوى والعمل الصالح من الحافظ الكبير والعالم الرباني أبي هريرة رضي الله عنه، واستجابة كريمة من امرأة طاهرة زكية وخادم صالح مطيع. إن أبناء الدنيا حينما يكلفون خدمهم، بعمل كبير، فإنما يكلفونهم بأعمال الدنيا، ويرون أنه لا مصلحة لهم بتكليفهم بعمل الآخرة، أما أبناء الآخرة فإنه من كمال سرورهم أن يروا خدمهم يجتهدون في أعمال الآخرة، لأنهم يكسبون بذلك أجراً على حسن توجيههم1961.
ث ـ فقره وعفافه :(1/439)
كان أبو هريرة أحد أعلام الفقراء والمساكين، صبر على الفقر الشديد حتى أنه كان يلصق بطنه بالحصى من الجوع، يطوي نهاره وليله من غير أن يجد ما يقيم صلبه1962، قال سعيد بن المسيب ـ رحمه الله ـ: رأيت أبا هريرة يطوف بالسوق، ثم يأتي أهله فيقول: هل عندكم من شيء؟ فإن قالوا: لا قال: فإني صائم1963، وكان قنوعاً راضياً بنعم الله، فإذا أصبح لديه خمس عشرة تمرة أفطر على خمس، وتسحر على خمس، وأبقى خمس لفطره1964، وكان كثير الشكر لله، كثير الحمد والتسبيح والتكبيرعلى ما أتاه الله من فضل وخير1965 .
جـ ـ حلمه وعفوه :
كانت عند أبي هريرة زنجية قد غمتهم بعملها، فرفع يوماً السوط ثم قال: لولا القصاص يوم القيامة لأغشينك به، ولكن سأبيعك ممن يوفيني ثمنك أحوج ما أكون إليه، أذهبي فأنت حرة لله عز وجل1966، وهكذا يوازن أبو هريرة رضي الله عنه بين قدرته على تلك الخادمة وقدرة الله تعالى عليه، فيفضل اتقاء سخط الله سبحانه وتعالي وعذابه على تنفيذ مقتضى سخطه هو، فيتورع عن عقوبة تلك الخادمة ويحسن إليها بدلاً من إساءتها بإعتاقها لوجه الله عز وجل، وبهذا يكون قد جمع بين عدد من الأعمال الصالحة،.. خشية الله تعالى، والعفو عن المسيء، والإحسان إليه، وهذا يبين لنا عمق تصور الصحابة رضي الله عنهم للحياة الآخرة واستحضارهم رقابة الله تعالى وسعيهم الحثيث لبلوغ رضاه1967.
ح ـ ولايته على البحرين في عهد عمر رضي الله عنه:(1/440)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسل أبا هريرة مع العلاء الحضرمي إلى البحرين، لينشر الإسلام، ويفقه المسلمين، ويعلمهم أمور دينهم، فحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفتى الناس، وفي عهد عمر رضي الله عنه استعمله على البحرين فقدم بعشرة آلاف، فقال له عمر: استأثرت بهذه الأموال يا عدو الله وعدو كتابه؟ فقال أبو هريرة: لست بعدو الله وعدو كتابه، ولكني عدو من عاداهما، قال: فمن أين هي لك؟ قال: خيل نتجت، وغلة رقيق لي، وأعطية تتابعت عليّ. فنظروا فوجدوا كما قال1968، وقد قاسمه عمر رضي الله عنه مع جملة من قاسمهم من العمال، وكان أبو هريرة يقول: اللَّهم اغفر لأمير المؤمنين1969، وبعد ذلك دعاه عمر ليوليه، فأبى، فقال: تكره العمل وقد طلب العمل من كان خير منك، يوسف عليه السلام، فقال: يوسف نبي ابن نبي، وأنا أبو هريرة ابن أميمة وأخشى عملكم ثلاثاً واثنتين، فقال: فهل قلت خمساً، قال: لا. أخاف أن أقول بغير علم وأقضي بغير حلم، وأن يضرب ظهري، وينزع مالي، ويشتم عرضي1970.
خ ـ اعتزاله الفتن :
كان أبو هريرة يوم حصار عثمان رضي الله عنه عنده في الدار مع بعض الصحابة وأبناءهم، الذين جاءوا ليدفعوا الغوغاء عنه، وقد حفظ ولد عثمان له يده واحترموه حتى أنه لما مات أبو هريرة كان يحملون سريره حتى بلغوا البقيع1971، وقد اعتزل أبو هريرة رضي الله عنه الفتن بعد استشهاد عثمان رضي الله عنه1972.
ر ـ مرحه ومزاحه :(1/441)
كان أبو هريرة رضي الله عنه حسن المعشر، طيب النفس، صافي السريرة، كان يحب الفكاهة والمزاح ومع هذا كان يعطي كل شيء حقه، فقد نظر إلى الدنيا بعين الراحل عنها، فلم تدفعه الإمارة إلى الكبرياء، بل أظهرت تواضعه، وحسن خلقه، فربما استخلفه مروان على المدينة، فيركب حماراً قد شدَّ عليه بَرْذعه وفي رأسه خلبة من ليف، يسير فيلقى الرجل، فيقول: الطريق قد جاء الأمير1973. ويمر أبو هريرة في السوق، يحمل الحطب على ظهره ـ وهو يومئذ أمير لمروان ـ فيقول لثعلبة بن أبي مالك القرظي: أوسع الطريق للأمير يا ابن مالك، فيقول: يرحمك الله يكفي هذا!! فيقول أبو هريرة: أوسع الطريق للأمير والحزمة عليه1974. وكان يحب إدخال السرور إلى نفوس الأطفال، فقد يراهم يلعبون بالليل لعبة الإعراب، فلا يشعرون به حتى يلقي نفسه بينهم ويضرب برجليه كأنه مجنون فيفزع الصبيان منه ويفرون1975، هاهنا وهاهنا يتضاحكون1976. قال أبو رافع: وربما دعاني أبو هريرة إلى عشائه في الليل، فيقول: دع العُراق للأمير ـ يعني قطع اللحم ـ فانظروا فإذا ثريد بزيت1977.
ز ـ حياته العلمية:(1/442)
صحب أبو هريرة رسول اله صلى الله عليه وسلم أربع سنوات، وسمع منه كثيراً، وشاهد دقائق السنة، ووعى تطبيق الشريعة، وكان همه طلب العلم وأمله التفقه في الدين1978، وكان حفظ أبي هريرة الخارق من معجزات النبوة1979، فعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا تسألني من الغنائم التي يسألني أصحابك؟ قلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله، فنزع نمرة كانت على ظهري، فبسطها بيني وبينه، حتى كأني انظر إلى النمل يدب عليها، فحدَّثني حتى إذا استوعبت حديثه، قال: اجمعها فصُرْها إليك. فأصبحت لا أسقط حرفاً مما حدّثني1980، وكان يقول رضي الله عنه: إنّكم تقولون: إنَّ أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يُحدِّثون مثله وإن إخواني من المهاجرين يشغلهم الصَّفق في الأسواق، وكان إخواني من الأنصار يشغلهم عمل أموالهم، وكنت أمرأ مسكيناً من مساكين الصفة، ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني فأحضر حين يغيبون، وأعي حين ينسون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث يحدثه يوماً: إنَّه إنه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضي جميع مقالتي، ثم يجمع إليه ثوبه، إلا وعى ما أقول. فبسطت نمرة عليَّ، حتى إذا قضي مقالته، جمعتها إلى صدري. فما نسيت من مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك شيئاً1981، وفي رواية: إنه حدثنا يوماً فقال: من يبسط ثوبه حتى أقضي مقالتي، ثم قبضه إليه، لم ينس شيئاً سمع مني أبداً. ففعلت فوالذي بعثه بالحق، ما نسيت شيئاً سمعته منه1982. وعن أبي هريرة، قلت: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: لقد ظننت يا أبا هريرة لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أوّل منك، لما رأيت من حرصك على الحديث: إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من نفسه1983. وكان أبو هريرة حافظاً متقناً، ضابطاً لما يروي، دقيقاً في أخباره، فقد اجتمعت فيه(1/443)
صفتان عظيمتان تتم إحداهما الأخرى، الأولى: سعة علمه وكثرة مروياته، والثانية: قوة ذاكرته وحسن ضبطه وهذا غاية ما يتمناه أولو العلم1984، ويذكر لنا أبو الزعيزعة كاتب مروان ما يثبت اتقانه وحفظه فيقول: دعا مروان أبا هريرة فجعل يسأله، واجلسني خلف السرير، وجعلت أكتب عنه، حتى إذا كان رأس الحول، دعابه، فأقعده من وراء الحجاب، فجعل يسأله عن ذلك الكتاب، فما زاد ولا نقص ولا قدم ولا أخر1985. ولم يكن أبو هريرة راوية للحديث فقط، بل كان من رؤوس العلم في زمانه، في القرآن والسنة والاجتهاد، فإن صحبته وملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتاحت له أن يتفقه في الدين، ويشاهد السنة العملية، عظيمها ودقيقها فتكونت عنده حصيلة كثيرة من الحديث الشريف كل ذلك هيأ أبو هريرة لأن يفتي المسلمين في دينهم نيفاً وعشرين سنة والصحابة كثيرون آنذاك1986.
ص ـ أصح الطرق عن أبي هريرة في الحديث عن رسول الله:
حكى عن ابن المديني أن من أصح الأسانيد إطلاقاً حماد بن يزيد عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة1987، وأصح ما روي من الحديث عن أبي هريرة ما جاء عن:
ـ …الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.
ـ…أبو الزناد عن الأعرج ـ عبد الرحمن بن هرمز ـ عن أبي هريرة.
ـ…مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة.
ـ…سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة.
ـ…معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة.
ـ…معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة1988.
* الرد على الشبه التي أثيرت حول أبي هريرة رضي الله عنه:(1/444)
كتب بعض أهل الأهواء قديماً في الطعن في أبي هريرة وتابعهم في هذا العصر بعض المستشرقين أمثال (جولد تسهير) وشبرنجر) في الطعن في أبي هريرة رضي الله عنه بالظلم والبهتان، وكتب عبد الحسين شرف الدين العاملي الشيعي كتاب تحت عنوان (أبو هريرة) وافترى فيه على أبي هريرة افتراءات يندي لها جبين العلم وتخز ضمير العلماء، وتجرح الحق، ولا تلتقي معه، حتى انتهى إلى تكفير أبي هريرة1989، وقد استقى من هذا الكتاب أبو رية صاحب كتاب أضواء على السنة المحمدية. فكان أشد على أبي هريرة من أستاذه وأكثر ضلالاً وزيفاً، وأهم هذه الشبهات التي ألصقت بأبي هريرة رضي الله عنه:
أ ـ عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما:
اتهم عبد الحسين شرف الدين وأبو رية1990 أبا هريرة بأنه سرق عشرة آلاف دينار حينما ولي البحرين لعمر، فعزله وضربه بالدرة حتى أدماه، لقد ذكرت جميع الروايات المعتمدة أن عمر رضي الله عنه قاسمه ماله، كما قاسم غيره من الولاة1991 ، وليس فيها أنه ضربه حتى أدماه، وكان أبو هريرة يقول: اللَّهم اغفر لأمير المؤمنين فلم يحقد على عمر رضي الله عنه مع أنه يعلم أن ما قاسمه إياه إنما هو عطاياه وأسهمه وغلة رقيقة ولو أن عمر شك في أمانة أبي هريرة بعض الشك لحاكمه وعاقبه العقوبة الشرعية، ولكنه عرف فيه الأمانة والإخلاص فعاد إليه بعد حين يطلبه للولاية فأبى أبو هريرة قبولها كما أسلفنا. هذا وجه الحق الذي أخفاه عبد الحسين وأبو ريه، فعبد الحسين نقل رواية واحدة عن العقد الفريد لابن عبد ربه1992، حيث وجد فيها ما يوافق هواه واكتفى أبو رية بالنقل عن عبد الحسين من غير أن يشير إلى المصدر ومن غير بحث أو مقارنة وتمحيص1993. وهذا يدل على حرصهم على التزوير والإخلال بالأمانة العلمية.
ب ـ هل تشيع أبو هريرة للأمويين؟ ووضع أحاديث في ذم علي وأبنائه؟(1/445)
…وقد اتهمه عبد الحسين بأنه دعاية الأمويين في سياستهم فتارة يفتئت الأحاديث في فضائلهم.. وتارة يلفق أحاديث في فضائل الخليفتين نزولاً على رغائب معاوية وفئته الباغية1994وجمع أبو رية في هذا الموضوع كل شتائم كتب الشيعة في أبي هريرة ونبش الأكاذيب والافتراءات على صحابة رسول الله واعتمد الكتب التي لم يعرف مؤلفوها بالصدق ولا بالتمحيص في الرواية أو التي عرف مؤلفوها بالبغض القاتل لأبي هريرة، والعقيدة التي ندين بها أن أبا هريرة رضي الله عنه كان محباً لآل بيت رسول الله صلى عليه وسلم روى في فضائل الحسن والحسين أكثر من حديث1995 ولم يناصب أهل البيت العداء قط ومشهور عنه أنه تمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يحب من أحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن العجيب أن يدعي إنسان نهل عن العلم بعضه أن أبا هريرة يكره علياً وأهله رضي الله عنهم1996، وقد كتب الأستاذ عبد المنعم صالح العزي كتابه القيم في الدفاع عن أبي هريرة، وبين حبه لعلي وفاطمة رضي اله عنهما وبين بأنه يروي منقبة علي يوم خيبر، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال يوم خيبر: لأعطين هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه ـ ثم روى إعطاءه إياها1997، أفهذه رواية كاره لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه1998 وفي مناقب فاطمة رضي الله عنها يروي أبو هريرة قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن فاطمة سيدة نساء أمتي1999، وروى أبو هريرة أحاديث في حب الحسن بن علي وله معه وقائع وأخبار تدل على حب عظيم كان يكنه للحسن2000. ويروي لنا أبو هريرة صورة لحبه للحسن رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: لا أزال أحب هذا الرجل بعد ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يدخل أصابعه في لحية النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي يدخل لسانه في فمه، ثم قال: اللّهم إني أحبه فأحبه2001. فلا غرابة بعد هذا الحب أن رأينا أبا هريرة يبكي يوم يموت(1/446)
الحسن ويدعو الناس إلى البكاء2002، يقول من حضر ذاك اليوم: رأيت أبا هريرة قائماً على المسجد يوم مات الحسن يبكي وينادي بأعلى صوته: يا أيها الناس: مات اليوم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فابكوا2003، ولم يكن حب الحسين بن علي أقل ظهوراً عند أبي هريرة من حب الحسن، إذ ينقل لنا حادثة أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم فيقول: ما رأيت الحسين بن علي إلا فاضت عيني دموعاً، وذاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً فوجدني في المسجد، فأخذ بيدي واتكأ علي، فانطلقت معه حتى جاء سوق بني قينقاع، قال: وما كلمني فطاف ونظر، ثم رجع ورجعت معه فجلس في المسجد واحتبى، وقال لي: ادع لي لكاع، فأتى حسين يشتد حتى وقع في حجره ثم أدخل يده في لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح فم الحسين فيدخل فاه فيه ويقول: اللَّهم إني أحبه فأحبه2004. والقصة هذه رواها البخاري وفيها أن الحسن لا الحسين، لكن الحاكم أشار إلى أن كلاً الروايتين محفوظة واردة، وذلك محتمل، لأن فيها ذكر الرجوع إلى المسجد2005، ولقد أثبت عبد المنعم العزي في كتابه أقباس من مناقب أبي هريرة بالدلائل القطعية الكافية اعتداد أبناء علي رضي الله عنهم بحديث أبي هريرة، وروايتهم عنه، ورواية كبار فرسان علي وأمراء جنده، الذين قاتلوا معه في معارك الجمل وصفين والنهروان عن أبي هريرة، ورواية جمهرة من التابعين عنه ممن لاقوا علياً رضي الله عنه ورووا عنه، ورواية عدد كبير آخر من جماهير الشيعة والكوفيين ومحبي ذرية علي من طبقة أتباع التابعين والطبقة التي تليهم لحديث أبي هريرة، واستعماله له، واستدلالهم به، وتدوينه في كتبهم2006.(1/447)
…إن الحقيقة العلمية التاريخية تقول لا يوجد أي دليل يعتمد عليه في تشيع أبي هريرة للأمويين، أو محاربته وعداوته لعلي وأبنائه وإنما ظلم وافتراء واختلاق على الحقيقة، وإنما ما نسب إليه من أحاديث في مدح الأمويين، إنما هي ضعيفة وموضوعة عليه وأهل الخبرة في هذا الشأن بينوا الكذابين والواضعين لها2007.
…وأما دعوى كون الدولة الأموية وضعت أحاديث لتعمم بها رأياً من آرائها، فهذه دعوى لا وجود لها إلا في خيال الكذّابين، فما روى لنا التاريخ أن الحكومة الأموية وضعت أحاديث، ونحن نسأل من زعم ذلك أين هي تلك الأحاديث التي وضعتها الحكومة؟ إن علماءنا اعتادوا ألا ينقلوا حديثاً إلا بسنده، وها هي أسانيد الأحاديث الصحيحة محفوظة في كتب السنة، ولا نجد حديثاً واحداً من آلافها الكثيرة في سنده عبد الملك أو يزيد أو الوليد أو أحد عمالهم كالحجاج وخالد القسري وأمثالهم، فأين ضاع ذلك في زوايا التاريخ لو كان له وجود؟ وإذا كانت الحكومة الأموية لم تضع بل دعت إلى الوضع، فما الدليل على ذلك2008؟ وأما ما زعمه عبد الحسين وأبو رية بأن أبا هريرة كذب على رسول الله إرضاء للأمويين ونكاية بالعلويين2009، فأبو هريرة من كل هذا براء ولكنهما أوردا أخباراً ضعيفة وموضوعة لا أصل لها2010، وكل ما كان في هذا الشأن وما جاءنا من هذه الأخبار الباطلة إنما كان عن طريق أهل الأهواء الداعين إلى أهوائهم، المتعصبين لمذاهبهم، فتجرؤوا على الحق، ولم يعرفوا للصحبة حرمتها، فتكلموا في خيار الصحابة واتهموا بعضهم بالضلال والفسق، وقذفوا بعضهم بالكفر وافتروا على أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم2011. ولقد كشف أهل الحديث عن هؤلاء الكذبة، وكشف الله بهم أمر هذه الفرق وأماط اللثام عن وجوه المتسترين وراءها فكان أصحاب الحديث هم جنود الله عز وجل، بينوا حقيقة هؤلاء، وأظهروا نواياهم وميولهم، فما من حديث أو خبر يطعن في صحابي أو يشكك في عقيدة، أو يخالف مبادئ الدين الحنيف إلا(1/448)
بين جهابذة هذا الفن يد صانعه، وكشفوا عن علته، فادعاء هؤلاء مردود حتى يثبت زعمهم بحجة صحيحة مقبولة، وكيف نتصور معاوية يحرض الصحابة على وضع الحديث كذباً وبهتاناً وزوراً، ليطعنوا في أمير المؤمنين علي رضي الله عنه2012، وقد شهد علماء الأمة من الصحابة والتابعين على عدالة معاوية، وقد بين مواقفه من أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ولم يذكر في مصدر موثوق به ما يدل على أن علياً رضي الله عنه كذّب أبا هريرة أو نهاه عن الحديث، ولكن بعض أعداء أبو هريرة يستشهدون برواية مكذوبة عن أبي جعفر الاسكافي، وهي أن علياً لما بلغه أبي هريرة قال: ألا إن أكذب الناس ـ أو قال أكذب الأحياء على رسول الله ـ أبو هريرة الدوسي2013. فهذه رواية مردودة لا نقبلها عن الإسكافي، لأنه شيعي محترف، ومعتزلي ناصب أهل الحديث العداء2014، وقد رد ابن قتيبة على جميع ما ألصقوه بالإمام علي طعناً في أبي هريرة2015.
جـ ـ كثرة حديثه :(1/449)
…أخذ النظام المعتزلي على أبي هريرة كثرة حديثه وتابعه بعض المعتزلة قديماً ومنهم بشر المريسي، وأبو القاسم البلخي، وقد ردّ ابن قتيبة على النظام في كتابه (تأويل مختلف الحديث) ولقيت هذه الشبهة صدى في نفوس بعض المتأخرين كعبد الحسين شرف الدين الشيعي الذي سود صفحات كثيرة من كتابه (أبو هريرة)2016، يشك في مروياته ويستكثرها، ويوهم القاريء أن ما رواه أبو هريرة مما رواه الصحابة الذين اشتغلوا بأمور الدولة وسياستها، ويثير هذه الشبهة نفسها أبو رية في كتابه أضواء على السنة المحمدية2017، ويستشهد هؤلاء جميعاً بأخبار ضعيفة أو موضوعة أحياناً، وبتأويلات وموازنات باطلة أحياناً أخرى، وتلتقي أهواء هؤلاء بأهواء بعض المستشرقين أمثال ((جولد تسيهر)) الذي استكثر أيضاً مرويات أبي هريرة2018، وخلاصة أقوالهم، أن أبا هريرة تأخر إسلامه، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (5374) حديثاً، وهي أكثر كثيراً مما رواه الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة الذين سبقوه إلى الإسلام2019، ومن الخطأ الفاحش أن يقارن الخلفاء الراشدون وأبو هريرة في مجال الحفظ وكثرة الرواية لأسباب عديدة منها:
ـ…صحيح أن الخلفاء الراشدين الأربعة رضي الله عنهم سبقوا أبا هريرة في صحبتهم وإسلامهم، ولم يرو عنهم مثل ما روي عنه، إلا أن هؤلاء اهتموا بأمور الدولة، وسياسة الحكم، وأنفذوا العلماء والقراء والقضاة إلى البلدان فأدوا الأمانة التي حملوها، كما أدى هؤلاء الأمانة في توجيه شئون الأمة فكما لا نلوم خالد بن الوليد على قلة حديثه عن الرسول صلى الله عليه وسلم لانشغاله بالفتوحات، لا نلوم أبا هريرة على كثرة حديثه لانشغاله بالعلم2020
ـ…انصراف أبي هريرة إلى العلم والتعليم،(1/450)
…واحتياج الناس إليه لامتداد عمره، يجعل الموازنة بينه وبين غيره من الصحابة السابقين أو الخلفاء الراشدين غير صحيحة، بل هي خطأ كبير2021، وكون أبي هريرة رضي الله عنه أكثر رواية من السيدة عائشة رضي الله عنها لأنها كانت تفتي الناس في دارها، وأما أبو هريرة، فقد اتخذ حلقة له في المسجد النبوي، كما كان أكثر احتكاكاً بالناس من السيدة أم المؤمنين عائشة بصفته رجلاً، كثير الغدو والرواح، وأضيف إلى هذا أن السيدة عائشة كان جل همها موجهاً نحو نساء المؤمنين، وكان يتعذر دخول كل إنسان عليها2022. إن نظرة مجردة عن الهوى تدرك أن ما روي عن أبي هريرة من الأحاديث لا يثير العجب والدهشة، ولا يحتاج إلى هذا الشغب الذي اصطنعه أهل الأهواء وأعداء السنن، وإن ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء أسمعه منه أم من الصحابة لا يشك فيه لقصر صحبته، بل إن صحبته تحتمل أكثر من هذا، لأنها كانت في أعظم سنوات دولة الإسلام دعوة ونشاطاً، وتعليماً وتوجيهاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم2023
ـ…كثرة ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم فقد صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين، فعن أبي هريرة قال: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله، ما حدثت حديث ثم يتلوا: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)) (البقرة ، آية : 159) . إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وإن أخواننا الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطنه ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون2024.(1/451)
ـ…دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له في الحفظ : فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله إني أسمع منك حديثاً كثيراً أنساه، قال: أبسط رداءك. فبسطه، قال: فغرف بيديه ثم قال: ضمه. فضممته فما نسيت شيئاً بعده2025
ـ كثرة تلامذته والناقلين عنه، فكان عدد تلامذته قريباً من ثمانمائة2026
ـ تأخر وفاته، فقد قيل 58هـ وقيل 59هـ. ثم إن هذه الأحاديث المنقولة عنه تنقسم إلى ما يلي
*ـ ما كان ضعيف السند لا يصح عن أبي هريرة
*ـ ما كان مكرراً
*ـ ما كان له أكثر من اسناد
*ـ ما رواه عن أكابر الصحابة كالعشرة وأمهات المؤمنين وغيرهم
*ـ ما كان موقوفاً عليه من كلامه2027. وقد اتفق البخاري ومسلم على إخراج ثلاثمائة وستة وعشرين حديثاً، وانفرد البخاري بثلاثة وتسعين، وانفرد مسلم بثمانية وتسعين، ثم إن جُلَّ الأحاديث التي رواها أبي هريرة لم ينفد بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل شاركه في روايتها غيره من الصحابة2028، وأما اعتراض الشيعة على مروياته، فإن جابر بن يزيد الجعفي روى عن محمد الباقر رضي الله عنه سبعين ألف حديث وعن باقي مائة وأربعين ألف حديث2029، وروى أبان بن تغلب عن جعفر الصادق رضي الله عنه ثلاثين ألف حديث2030، وروى محمد بن مسلم عن الباقر ثلاثين ألف حديث، وعن الصادق ستة عشرة ألف حديث2031. وهذا يبين تناقضهم .
وقد شهد لأبي هريرة. الصحابة والتابعون وجهابذة العلم بقوة الحفظ وحضور الذاكرة2032. فقد قال ابن عمر: يا أبا هريرة كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمنا بحديثه2033، وقال الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره2034. وقال الذهبي:.. سيد الحفاط الأثبات2035، وقال أيضاً: وأبو هريرة إليه المنتهى في حفظ ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدائه بحروفه2036.(1/452)
وقد دافع الكثير من العلماء عن أبي هريرة وردوا الشبهات التي ألصقت به ومن الكتب المعاصرة التي نسفت الأباطيل التي اتهم به ابو هريرة، العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب2037، وموقف المدرسة العقلية من السنة النبوية2038.
ك ـ بكاء أبي هريرة في مرض موته ووصية معاوية بورثته :
لما حضر أبو هريرة الموت بكى فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: ما أبكي دنياكم هذه، ولكن أبكي على بعد سفري وقلَّة زادي، وإني أصبحت في صعود مهبط على جنة ونار، لا أدري إلى أيُّهما يُؤخذ بي2039. وجاء في رواية: وصلى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان والي المدينة وفي القوم ابن عمر وأبو سعيد الخدري وخلق، وكانت وفاته في داره بالعقيق، فٌحمل إلى المدينة، فصُلِّيَ عليه ثم دفن بالبقيع ـ رحمه الله ورضي الله عنه ـ وكتب الوليد بن عتبة إلى معاوية بوفاة أبي هريرة، وكتب إليه معاوية أن أنظر ورثته فأحسن إليهم، وأصرف إليهم عشرة آلاف درهم، وأحسن جوارهم، وأعمل إليهم معروفاً، فإنه كان ممن نصر عثمان، وكان معه في الدار2040.
* ـ هل أراد معاوية أن ينقل منبر رسول الله من المدينة إلى الشام؟(1/453)
ذكر الطبري في تاريخه في أحاديث عام 50هـ بأن معاوية أمر بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يحمل إلى الشام فحُرِّك فكسفت الشمس حتى رُئيت النجوم بادية يومئذ فأعظم الناس ذلك، فقال: لم أرد حمله، إنما خفت أن يكون قد أرِضْ2041، فنظرت إليه، ثم كساه يومئذٍ2042، وجاء في رواية أخرى: قال معاوية: أني رأيت أن منبر رسول الله وعصاه2043، لا يتركان بالمدينة، وهم قتلة أمير المؤمنين عثمان وأعداؤه، فلما قدم طلب العصاه وهي عند سعد القرظ، فجاء أبو هريرة وجابر بن عبد الله، فقالا: يا أمير المؤمنين، نذكرك الله عز وجل أن تفعل هذا، فإن هذا لا يصح، تُخرج منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من موضع وضعه، وتخرج عصاه من المدينة. فترك، ذلك معاوية، ولكن زاد في المنبر ستَّ درجات، واعتذر إلى الناس2044، تحدثت الروايات السابقة عن القضايا التالية:
1 ـ عزم معاوية رضي الله عنه على نقل منبر رسول الله، وعصاه إلى الشام، فقد ذكره الزبير بن بكار2045، واليعقوبي وابن الجوزي2046، دون أن يشيروا إلى خبر العصا، أما ابن الأثير2047، وابن كثير2048، فقد أورد خبر المنبر والعصا، هذا وقال الدكتور خالد الغيث: ولم أقف على رواية صحيحة تؤكد مزاعم الواقدي هذا فضلاً عن أن دين معاوية، وعدالته، وصحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم تمنعه من حمل منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى الشام وهو يعلم قوله صلى الله عليه وسلم: ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة2049. هذا وقد أورد عبد الرزاق2050، خبر قدوم معاوية رضي الله عنه المدينة وزيادته درجات المنبر دون الإشارة إلى إرادة معاوية نقل المنبر إلى الشام، أو أخذ العصا، وزيادة معاوية رضي الله عنه للمنبر وكسوته تعد من مناقب معاوية التي حاول بعض الأخباريين طمسها وتشويهها2051(1/454)
2ـ خبر ربط كسوف الشمس بتحريك المنبر فقد ذكره عبد الرزاق والزبير بن بكار2052، وابن الجوزي2053، وابن الأثير2054، وابن كثير2055، بينما ذهب اليعقوبي2056، الشيعي إلى حدوث زلزلة عن تحريك المنبر، وهذا الخبر لم يرد بإسناد صحيح، هذا فضلاً عن أن كسوف الشمس على افتراض حدوثه. فإنه لم يكن نتيجة لتحريك المنبر ليس إلا، وقد حصل ما يشبه ذلك في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث أخرج البخاري من طريق المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد، ولا لحياته، فإذا رايتم فصلوا، وادعوا الله، وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد، ولكن الله تعالى يخوف بهما عباده2057
3 ـ اتهام معاوية رضي الله عنه ببغض أهل المدينة (الأنصار) لكونهم قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه، هذا الخبر أورده ابن الأثير2058، وهو خبر ضعيف الإسناد2059. وقد بينت موقف الصحابة من فتنة مقتل عثمان، وكيف أن كعب بن مالك الانصاري حث الأنصار على نصرة عثمان رضي الله عنه، وقال لهم يا معشر الأنصار: كونوا أنصار الله مرتين، فجاءت الأنصار عثمان، ووقفوا ببابه ودخل زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، وقال له: هؤلاء الأنصار بالباب، إن شئت كنّا أنصار الله مرتين2060. فرفض القتال، وقال: لا حاجة لي في ذلك، كفُّوا2061. وأما زعمهم أن معاوية يبغض الأنصار رضي الله عنهم لكونهم قتلة عثمان رضي الله عنه، فمردود بما ورد من حقيقة موقف الأنصار من عثمان رضي الله عنه، كما أن تقريب معاوية للأنصار وتوليته إياهم في مناصب هامة وحساسة يرد هذه الفرية، ومن الشواهد على ذلك:(1/455)
1ـ توليته فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه قضاء دمشق2062، وتوليته إياه منصب أمير البحرية الإسلامية في مصر2063
2ـ تعيينه النعمان بن بشير الأنصاري رضي الله عنه أميراً على الكوفة2064
3ـ تعيينه مسلمة بن مخلد الأنصاري رضي الله عنه أميراً على مصر والمغرب معا2065
4ـ تعيينه رويفع بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه أميراً على طرابلس2066
رابعاً: مكة
1ـ ولاية خالد بن العاص بن هشام رضي الله عنه:
ولى معاوية في سنة 42هـ.. مكة خالد بن العاص بن هشام2067، وبعد أن سمى الطبري من ولى مكة في سنة 42هـ وسنة 43هـ نجده بعد ذلك يسكت عن تسمية عمال مكة2068، ويكتفي بعبارة وكانت الولاة والعمال على الأمصار في هذه السنة من تقدم ذكره قبل2069، أو عبارة نحوها وقد تابعه كل من ابن الجوزي2070، وابن الأثير2071.
خامساً: ولاة الطائف:
لم يذكر الطبري أسماء ولاة الطائف، لكن وردت عنده رواية تفيد تولي بعض بني حرب الطائف، وفيما يلي نص هذه الرواية: وكان معاوية إذا أراد أن يولي رجلاً من بني حرب ولاه الطائف فإن رأى منه خيراً وما يعجبه ولاه مكة معها، فإن أحسن الولاية وقام بما ولى قياماً حسناً جمع له معهما المدينة، فكان إذا ولى الطائف رجلاً قيل: هو أبي جاد2072، فإذا ولاه مكة قيل: هو في القرآن، فإذا أولاه المدينة قيل: هو قد حذق2073. أما بالنسبة لمن ولى الطائف من بني حرب فإن رواية الطبري تسكت عن تسميتهم، لكن ورد عند البلاذري ما يفيد تولية عنبسة بن أبي سفيان بن حرب وعتبة بن أبي سفيان بن حرب على الطائف2074.
سادساً: مصر:
1ـ ولاية عمرو بن العاص رضي الله عنه:(1/456)
ولى معاوية عمرو بن العاص على مصر عام 41هـ2075.وهذا من باب وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، فعمرو فاتح مصر وواليها على عهد عمر وعثمان رضوان الله عليهم، وهو أقرب الناس لتولي هذه الولاية الهامة2076 وقد تكاثرت الروايات الموضوعة والضعيفة في العلاقة بين عمرو ومعاوية رضي الله عنهما واشتمل على مغامز خفية ومعلنة على الرجلين، وتشير بعضها إلى أن معاوية قد أعطى ولاية مصر لعمرو بن العاص مكافأة له نظير وقوفه إلى جانبه أثناء الفتنة التي أعقبت استشهاد عثمان بن عفان رضي الله عنه وهذا الأمر قد بينته في كتابي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إن وقوف عمرو بن العاص مع معاوية في المطالبة بالتعجيل بتطبيق القصاص على قتلة عثمان لم يكن تضامناً من عمرو على شخص معاوية بل كان نابعاً من اجتهاد عمرو الشخصي في هذه المسألة، حيث رأى رضي الله عنه الأخذ بالقَودَ من قتلة عثمان على الفور، فكان هذا الاجتهاد من عمرو بن العاص متطابقاً مع اجتهاد معاوية في القضية نفسها2077. وقد كانت ولاية عمرو بن العاص على مصر ذات صلاحيات واسعة بسبب ما كان يتمتع به من مقدرة إدارية فائقة، وقابليات سياسية وعسكرية متميزة، فقد واصل فتوحات الشمال الأفريقي ونظم أمر العطاء والأعمار والبناء والزراعة والري بمصر2078وقد بقي عمرو في ولاية مصر حتى وفاته عام43هـ.
*ـ وصيته عند موته:(1/457)
يروي ابن شماسة المهري وصية عمرو بن العاص لحظة احتضاره فيقول: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت2079، فبكى طويلاً وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ قال فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إني كنت على أطباق ثلاث2080. لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، لو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال فقبضت يدي، قال مالك يا عمرو؟ قال قلت: أردت أن اشترط، قال تشترط بماذا؟ قلت: أن يغفر لي، قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله2081، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ وما كان أحد أحب إلي من رسول الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه، ما أطقت، لأني لم أكن أملأ عيني منه، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة2082. وجاء في رواية: ثم تلبست بعد ذلك بالسلطان وأشياء، فلا أدري عليّ أم لي، فإذا مت فلا تبكينَّ عليّ باكية، ولا تتبعني مادحاً ولا ناراً وشُدُّوا عليّ إزاري فإني مخاصم وشُنُّوا عليّ التراب شَنَّا فإن جنبي الأيمن ليس بأحق بالتراب من جنبي الأيسر، ولا تجعلُنَّ في قبري خشبة ولا حجراً، وإذا واريتموني فاقعدوا عندي قدر نحر جذور وتقطيعها، أستأنس بكم2083. وقد روى مسلم هذا الحديث في صحيحه: كي أستأنس بكم لأنظر ماذا أراجع به رسل ربي عز وجلّ2084، وفي رواية: أنه بعد هذا حوّل وجهه إلى الجدار وجعل يقول: اللهم أمرتنا فعصينا، ونهيتنا فما انتهينا، ولا يسعنا إلا عفوك. وفي رواية: أنه وضع يده على موضع(1/458)
الغُلِّ من عنقه، ورفع رأسه إلى السماء، وقال: اللهم لا قويُّ فأنتصر، ولا بريء فأعتذر، ولا مستكبر بل مستغفر، لا اله إلا أنت، فلم يزل يُردّدها حتى مات رضي الله عنه2085.
2 ـ ولاية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه:
كانت وفاة عمرو ليلة الفطر سنة ثلاث وأربعين، واستخلف ابنه عبد الله على صلاتها وخراجها2086وبعد وصول خبر وفاة عمرو بن العاص إلى معاوية قام بتعيين أخيه عتبة على مصر وذلك في شهر ذي القعدة من سنة ثلاث وأربعين2087. أي أن ولاية عبد الله بن عمرو على مصر لم تزد على شهرين وهي الفترة التي استغرقها وصول خبر وفاة عمرو إلى معاوية، واتخاذه لقرار تعيين الوالي الجديد2088. وقد وصف الذهبي عبد الله بن عمرو بقوله: الإمام الحبر العابد، صاحب رسول الله وابن صاحبه أبو محمد وقيل أبو عبد الرحمن ... وليس أبوه أكبر منه إلا بإحدى عشرة سنة أو نحوها، وقد أسلم قبل أبيه فيما بلغنا ويقال: كان اسمه العاص، فلما أسلم، غيره النبي صلى الله عليه وسلم بعبد الله2089، وقد ورث عبد الله من أبيه قناطير مقنطرة من الذهب فكان من ملوك الصحابة2090.
3 ـ ولاية عتبة بن أبي سفيان:(1/459)
ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه الطائف وصدقاتها ثم ولاه معاوية مصر حين مات عمرو بن العاص، وكان فصيحاً خطيباً، يقال: إنه لم يكن في بني أمية أخطب منه. خطب أهل مصر يوماً وهو والٍ عليها فقال: يا أهل مصر خفّ على ألسنتكم مدح الحق ولا تأتونه، وذم الباطل وأنتم تفعلونه، كالحمار يحمل أسفاراً يثقُله حملها، ولا ينفعه علمها وإني لا أُداوي داءكم إلاّ بالسيف، ولا أُبلغ السيف ما كفاني السوط، وأبلغ السوط ما صلحتم بالدّرة، وأبطيء عن الأولى إن لم تسرعوا إلى الآخرة، فألزموا ما ألزمكم الله لنا تستوجبوا ما فرض الله لكم علينا. وهذا يوم ليس فيه عقاب، ولا بعده عتاب2091وجاء في رواية: ... لنا عليكم السمع ولكم علينا العدل واتينا عذر فلا ذمة له عند صاحبه، فناداه المصريون من حنيات المسجد سمعاً، سمعاً، فناداهم عدلا عدلا2092، وقد قام عقبة ببناء دار الإمارة بعد أن خرج مرابطاً في الاسكندرية2093، وكان عتبة قد اتخذ لأولاده مؤدباً، يعلمهم ويربيهم، فقد عهد لعبد الصمد بن عبد الأعلى ليكون مؤدباً لولده2094، ووجه مؤدب أولاده بتتبع أساليب التشويق وتحبيب دراسة كتاب إلى نفوسهم فقال له: علمهم كتاب الله، ولا تكرههم عليه فيملوه ولا تتركهم منه فيهجروه2095، وجاء في رواية: ليكن أول ما تبدأ به من إصلاحك بني إصلاحك نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينيك فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبح عندهم ما استقبحت، علمهم كتاب الله ولا تكرههم عليه فيملوه ولا تتركهم منه فيهجروه، ثم روهم من الشعر اعفه، ومن الحديث أشرفه، ولا تخرجهم من علم إلى غيره حتى يحكموه فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم وعلمهم سير الحكماء وأخلاق الأدباء وجنبهم محادثة النساء، وتهددهم بي، وأدبهم دوني وكن لهم كالطبيب الذي لا يعجل بالدواء حتى يعرف الداء، ولا تتكل على عذري، فإني قد اتكلت على كفايتك، وزد في تأديبهم ازدك في بري أن شاء(1/460)
الله2096، يتضح من هذه الوصية حرص الولاة الأمويين على تعليم أبناءهم القرآن الكريم والحديث والشعر وغيرها إضافة إلى التأكيد على الجانب التربوي وتزويدهم بالآداب والأخلاق الحسنة، كما أنهم يمنحونهم المؤدبين صلاحيات واسعة، ويكرمونهم2097.
4 ـ ولاية عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه: 45هـ ـ 47هـ
أغفل الطبري ذكر ولاية عقبة بن عامر الجهني على مصر، وتابعه ابن الجوزي، وأبن الأثير وأبن كثير، مع أن ولايته على مصر قد أثبتتها المصادر التاريخية المختصة بالديار المصرية2098، وهي مقدمة على غيرها في هذا المقام2099، كما أثبتها له أبن عبد البر2100، وأبن حجر2101، وكان عالماً مقرئاً، فصيحاً فقيهاً فرضياً، شاعراً كبير الشأن، وكان من أحسن الناس صوتاً بالقرآن فقال له عمر بن الخطاب: اعرض عليّ فقرأ. فبكى عمر وكانت له صحبة وبايع رسول الله على الهجرة وأقام معه وكان من أهل الصفة وكان من الرماة المذكورين، مات سنة 58هـ2102
5 ـ ولاية مسلمة بن مُخلدّ الأنصاري 47هـ ـ62هـ:(1/461)
هو مسلمة بن مُخلدّ الأنصاري الخزرجي، الأمير، نائب مصر لمعاوية يكنى أبا معن وقيل أبو سعيد، وقيل أبو معاوية له صحبة ولا صحبة لأبيه2103. قال مجاهد: صليت خلف مسلمة بن مُخلدّ، فقرأ سورة البقرة، فما ترك واواً ولا ألفاً2104. قال الليث: عزل عقبة بن عامر عن مصر في سنة سبع وأربعين فوليها مسلمة حتى مات زمن يزيد2105وقد توفي سنة 62هـ في ذي القعدة بالأسكندرية2106، وكانت له جهود في الفتوحات بالشمال الأفريقي يأتي ذكرها بإذن الله تعالى، وكان المغرب كله تابعاً له2107. هذه هي أهم الولايات والولاة في عهد معاوية رضي الله عنه، ويمكن تلخيص صلاحيات الولاة بالولايات على الإجمال، كتعيين الموظفين، وتشكيل مجالس شورى، إنشاء الجيوش وتجهيزها بالنسبة للولايات التي قريبة من حركة الفتح الإسلامي، كمصر والبصرة، والحفاظ على الأمن الداخلي، والإشراف على الجهاز القضائي بالولاية، والنفقات المالية، ومراقبة الأوضاع بالولاية وغير ذلك من الصلاحيات.
الفصل الرابع
الفتوحات في عهد معاوية رضي الله عنه(1/462)
نريد أن نسجل حركة الانسياح الإسلامي في الأرض، التي تمت في عهد بني أمية منذ عهد معاوية رضي الله عنه، لندحض كل وهم بأن الإسلام قد انتهى بعد عهد الخلفاء الراشدين، فحركة الفتح الإسلامي التي قامت في عهد الخلافة الراشدة وبني أمية ليست مجرد توسع في الأرض، ولا يجوز النظر إليها بهذا الاعتبار، إنما هي حركة أكبر حركة ((هداية)) للناس في التاريخ وأكبر حركة إخراج للناس من الظلمات إلى النور، وقد يبدو هذا الكلام في حس المثقفين لأول وهلة مجرد تشابه مع دعوى كل ((دولة عظمى)) أنها نشرت الحضارة في الأرض، وأن حركتها التوسعية كانت من أجل نشر تلك الحضارة، فلننظر إذن في تاريخ ((الإمبراطوريات)) في القديم والحديث: الإمبراطورية الفرعونية، والإمبراطورية الأشورية، الإمبراطورية الفينيقية، والرومانية، والفارسية، والهندية، والصينية، والبريطانية، والفرنسية، والأمريكية، والروسية،... إلى آخر تلك الإمبراطوريات الجاهلية التي يعج بها تاريخ الأرض، كيف قامت أولاً؟ وما نشرت في الأرض؟، فأما قيامها على التسلط بالقوة، وقهر الآخرين وإذلالهم، وإخضاعهم لسيطرة الدولة الأم، وتحويلهم خدماً لتلك الدولة الأم، يمدونهم بالرجال المقاتلين، ويمدونهم بمختلف الخيرات، لتنتفش هي وتشبع وتتخم على حساب الجائعين المقهورين الأذلاء، فهذا أمر لا يحتمل المراء2108، وأما الذي نشرته في الأرض فلا شك أنها نشرت بعض الخير، إلى جانبه كثيراً من الفساد، لأن حياتها هي ذاتها وهي لا تهتدي بمنهج رباني ـ لا تشتمل إلا على بعض الخير والكثير من الفساد، وكل إناء ينضح بما فيه، وفاقد الشيء لا يعطيه، وأما الحضارة الغربية اليوم، ففظائع الاستعمار الذي صاحب تلك الحضارة من احتلال أراضي الشعوب ونهب خيراتها وإذلال أهلها خير شاهد على فسادها، كما أن آخر إفرازات هذه الحضارة الذي يسمى النظام العالمي الجديد، إن هو إلا نوع جديد من الطغيان تمارسه الدول القوية على الدول(1/463)
الضعيفة، ومن أبرز مآثره التخطيط للتحكم في الدول المنتجة للبترول لحساب الدول الغربية القوية المتحكمة، وذلك باستنزاف هذا البترول في مدة أقصر، وطرحه في الأسواق بسعر أقل، لكي تزداد الدول الطاغية غنى ويزداد الفقراء فقراً وذلاً وضياعاً باسم ((النظام العالمي الجديد)). ومآثره كذلك إمداد إسرائيل بكل وسائل العدوان وحرمان الدول العربية من إمكانية صد العدوان، وأما أصحاب الرسالات السماوية السابقة من اليهود والنصارى فماذا نشروا في الأرض؟ فأما اليهود فقد حولوا دينهم إلى عصبية خاصة ببني إسرائيل، لا يحبون نشره في الأرض لكي يبقى الإله خالصاً لهم لا يشاركهم فيه أحد من الناس، وأما النصارى فمنذ بولس وهم يسعون إلى نشر دينهم على نطاق واسع فأي شيء نشروه؟، لقد نشروا باديء ذي بدء ديناً وثنياً بدلاً من الدين الرباني الذي أنزله الله على عيسى بن مريم. ديناً يعبد فيه عيسى وروح القدس جبريل عليه السلام مع الله: قال تعالى ((لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)) (المائدة ، الآية : 72). وقال تعالى: ((لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ)) (المائدة ، الآية : 73). وقال تعالى: ((مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ)) (آل عمران ، الآيتان : 79 ، 80). ونشروا ديناً يدعو إلى الرهبانية، وإهمال الحياة الدنيا واحتقار الجسد ودوافعه فنشأ عنه تعطيل دفعة الحياة وإهمال عمارة الأرض، ثم نشأ عنه رد فعل أسوأ: إنكباب على لذائذ الجسد وماديات الحياة2109، قال تعالى: ((وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ(1/464)
اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)) (الحديد ، الآية : 27)، ونشأ مع ذلك الدين نظام كهنوتي يتمثل في الكنسية ورجالها على رأسهم البابا يمارس ألواناً من الطغيان البشع في جميع نواحي الحياة، ويعادي الفكر ويحجر على العقل، ويضطهد العلماء ويمنعهم من البحث العلمي التجريبي أو النظري، فتأخرت الحياة في كل جانب، ثم حدث رد فعلٍ أسوأ، تمثل في الإلحاد وإقامة الحياة على مبعدة من الدين، بل في عداء مع الدين، وهكذا تحولت رسالة السماء على يد الكنيسة إلي غير ما نزلت من أجله، ونشرت الفساد بدلاً من الإصلاح، سواء في الفترة التي كانت تمارس سلطانها على الناس، أو في الفترة انقلب فيها الناس على سلطانهم ورفضوا الخضوع للدين2110، وفي مقابل ذلك كان الإنسياح الإسلامي في الأرض فريداً في التاريخ، شيئاً غير التوسع((الإمبراطوري)) الذي مارسته الجاهليات القديمة والحديثة، وغير الطغيان المفسد الذي مارسته النصرانية المحرفة وهي تتوسع في الأرض، في تلك الحركة الفريدة في التاريخ كان المسلمون ينشرون الهدى في مكان الضلال، والنور في مكان الظلام، والعبودية الصحيحة في مكان العبوديات الزائفة للحكام والكهنة والأوثان، ويحررون المستعبدين في الأرض، ويردون إليهم إنسانيتهم الضائعة، ويرفعونهم إلى المكان اللائق بالإنسان وكانوا ينشرون قيماً من العدل والأخوة والتسامح والتكافل لا عهد للبشرية بها من قبل ولا رأتها من بعد في غير الإسلام، وينشرون حضارة حقيقة شاملة شامخة، لا يستأثرون بها لأنفسهم، بل يفتحون أبوابها لكل مسلم في الأرض، بل يستظل بظلها النصارى في الأندلس وشرق أوربا، واليهود في مختلف بلاد العالم الإسلامي، والوثنيون عباد البقر في الهند، وكل من أراد أن يتعلم أو يمارس الحياة دون عدوان2111. لم ينهب المسلمون خيرات البلاد المفتوحة، ولم يستذلوها(1/465)
ليتمتعوا بالسلطان، ولم يحافظوا عليها متأخرة متدينة ليبرروا استمرار سيادتهم عليها واستعلاءهم على أهلها... إنما دعوهم أولاً إلى الخير وهو الإسلام ـ فإن استجابوا فهم إخوة في الدين.. وإن أبوا طلبوا منهم جزية تدل على عدم مقاومتهم للخير المنزل من السماء أن يصل إلى قلوب الناس صافياً بلا غش، فإن أبوا هذا وذاك فعندئذ يقع القتال، لا لإكراه أحد على اعتناق الإسلام، إنما لإزالة مراكز القوى التي تمنع الحق أن يصل إلى الناس على حقيقته.. فإذا أزيلت مراكز الطغيان، وزال تأثيرها على النفوس، ترك الناس أحراراً في ظل الإسلام، يعتنقون ما يشاءون2112. أن حركة الفتح الإسلامي: دوافعها وخصائصها، وآثاره الواقعة لهي فصل أساسي في كتابة التاريخ الإسلامي، لابد أن يعالج باستفاضة لدحض مزاعم المستشرقين ومن يتتلمذ عليهم من بعض المؤرخين العرب وغيرهم.. وإن كنا نورده هنا من زاوية معينة: هي دلالتها على مدى عمق الوجود الإسلامي في نفوس الأمة التي تتحرك به، ولن تتحرك به أمة هذه الحركة الواسعة السريعة الفعالة المؤثرة وهي نفسها خاوية منه أو غير ممتلئة به حتى أعماقها2113. وأول ما يسقط من دعاوي المغرضين في هذا الشأن ـ لفرط هشاشته ـ قول من قال إن الدوافع الاقتصادية هي التي دفعت حركة الفتح الإسلامي! إن الذي تحركة الدوافع الاقتصادية لا يخرج ليدعوا الناس ـ أول ما يدعوهم ـ إلى الإسلام، فإن أسلموا ألقى سلاحه وعانقهم كما يعانق الأخ أخاه، وأخذ يعلمهم تعاليم الإسلام ليشاركوه في الخير الرباني الذي هداه الله إليه، فأصحاب هؤلاء الفرية يفترون الكذب على التاريخ2114، وتسقط الدعاوى الأخرى تباعاً وتبقى حقيقة مهمة هي أن هذه الحركة لا يمكن أن تأخذ صورتها التي أخذتها بالفعل، إلا أن تكون صادرة عن أمة ممتلئة بهذا الدين حتى أعماقها، حريصة عليه، مؤمنة به، راغبة فيه، راغبة في نشره في آفاق الأرض، فالقوة وحدها لا تفسر ما حدث في هذه الحركة من(1/466)
العجائب، فكم استخدمت القوى الطاغية في الأرض قوتها للتوسع في الأرض، فلم تصنع ما صنعته الحركة الإسلامية. إن السيف، يمكن أن يفتح الأرض،ولكنه لا يفتح القلوب، والذي حدث في حركة الفتح الإسلامي لم يكن مجرد التوسع في الأرض، إنما كان فتح القلوب لتعتنق الإسلام، وكان ـ في كثير من الأقطار اتخاذ لغة الدين لغة رسمية، ونسيان الشعوب المفتوحة ما كانت تستعمله من قبل من اللغات، حتى الذين بقوا على دينهم بغير إكراه لو لم يكن الفاتحون مسلمين حقاً، بمعنى الإيمان بهذا، وممارسته في عالم الواقع والتمكن منه عقيدة وسلكاً وحركة، ما حدثت هذه العجائب في الفتح الإسلامي وأمر آخر يتعلق بهذه القوة ذاتها إنها في غالب الأحيان لم تكن هي الأكبر عدداً وعدة وخبرة حربية...، إنما كان العدد والعدة والخبرة في الجانب الآخر، جانب الذين انهزموا أمام قوة المسلمين، فلو لم يكن هناك عنصر آخر غير مادي ـ في جانب الفاتحين ما تمكنوا من التغلب على أعدائهم الذين يفوقونهم في فنون الحرب، كما يفوقونهم في العدد والعدة سواء، ذلك العنصر هو العقيدة الحية التي تملأ القلوب وهذه هي الدلالة التي نركز عليها هنا في وجه الدعاوي التي تقول إن انحرافات بني أمية قضت على هذا الدين وهو بعد في المهد وتلك نقطة ينبغي أن نقف عندها طويلاً حتى نقومها في نفوس الدارسين، ينبغي أن نلغي من حسهم ذلك الإيحاء الخبيث بأن الإسلام قد انتهى بعد الخلافة الراشدة ولم يعد له وجود، ويكون ذلك بعرض الواقع الإسلامي بأمانة كاملة ودقة كذلك .. وسيتبين لنا بالحساب، حساب مجموع الانحرافات ومجموع الاستقامات أن الحصيلة المتبقية ضخمة جداً رغم وجود الانحراف. ويكون هذا بالتالي فرصة سانحة لتقدير عظمة هذا الدين وضخامته، وأصالة جذوره في التربة وتعمقها، بحيث تبقى هذه الحصيلة الضخمة وتبقى تلك الحيوية، التي تسعى لنشر الدين في الأرض بكل الإصرار والتدفق والحماسة التي قام بها المسلمون في العهد(1/467)
الأموي بالذات2115. وأما ما حدث من الهبوط عن مستوى الذروة فقد حدث ولا شك على درجات متفاوتة في بعض أفراد المجتمع، أو قل إن شئت في كثير منهم، وهذا لا يعتبر في ذاته انحرافاً إنما هو الأمر المتوقع بعد غياب شخص الرسول، صلى الله عليه وسلم عن ذلك المجتمع، وبعد زوال أثر النشأة الجديدة من نفوس الناس، فنحن الآن لسنا في العهد الذي شهد التحول العظيم من الجاهلية إلى الإسلام، إنما العصر الذي يليه، ولكن فلنذكر جيداً تزكية رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك الجيل من الناس: خيركم قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم2116. فنحن إذن ما زلنا مع القرون المفضلة، وليس بعد شهادة رسول الله، صلى الله عليه وسلم شهادة بشر2117، صحيح أننا الآن مع المستوى العادي للإسلام، ولكنا ـ ذلك المستوى رفيع في ذاته، وإن لم يكن على مستوى الذروة التي وصل إليها الجيل الفريد، وأنه يحقق للناس من الخير حين يلتزمون به ما لا يحققه نظام آخر2118، والحق أنه قد بقي في مجتمع بني أمية أفراد على المستوى الرائع، بل لم يخل جيل من أجيال المسلمين كلها ـ حتى في عصور الانحطاط ـ من نماذج متفرقة على ذلك المستوى الرفيع، إنما الملحوظة أن كثافة تلك النماذج في مجتمع الذروة كانت فذة بصورة غير عادية، ثم ظلت تخف تدريجياً مع مرور الزمان2119. إن استئناف حركة الجهاد في عهد معاوية لم يكن بدعة على سياسته فقد استمد كثيراً من الشهرة العريضة والمكانة العريضة من كفايته كوال على بلاد الشام وهي جبهة واسعة من جبهات الجهاد، ومن شهرته كمجاهد موفق في البر والبحر منذ عهد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وكان له فتوحاته الكبرى في الساحل الشمالي للشام، كما أن له الفضل ـ بعد الله ـ في تأسيس البحرية الإسلامية وهزيمة الروم في البحر وانتزاع السيادة منهم لأول مرة في تاريخ المسلمين2120، فالجهاد في سبيل الله أصل في حياة المسلمين في عهد الدولة الأموية،(1/468)
ولم تكن الغنائم هي الدافع للقيادة الإسلامية الرئيسي نحو الفتح والجهاد، وإن وجد لدى بعض الأفراد وهؤلاء لا يخلو منهم جيش حتى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (( منكم من يريد الدنيا ... )) وغيرها ولكن هذا بالطبع لا يمثل وجهة نظر المسلمين في فتوحاتهم، ولا يمثل القيادة الفكرية التي كان يتبناها الخليفة والقادة وينفذها الجند، كما أنه لا يمثل وجهة نظر الأمة ورأيها العام2121، ومما يدل على ذلك مشاركة كبار الصحابة في ذلك الوقت فيها وحثهم المسلمين على الجهاد في سبيل الله، وحوادث الجهاد وجهود الأمويين على جبهات القتال توضح ذلك: فجبهة الروم مثلاً وهي التي كانت مثار الشجاعة ومرتع البطولة ما كانت تدر الربح الكثير بل كان بيت المال يئن منها، لأن حملاتها ما كانت تنتهي إلى تقدم2122، خاصة إذا ذكرنا الحملات الثلاثة الكبرى التي توجهت إلى القسطنطينية وتكلفت نفقات باهظة2123. لقد أعطى المجاهدون المسلمون في العهد الأموي صوراً رائعة للتضحية والبطولة والتجرد وإخلاص النية لله في جهادهم، سواء كانوا من القادة أو الأمراء أو من عامة الجند، أو من جماعات العلماء والزاهدين والربانيين الذين فهموا عبادة الجهاد، ومارسوا ذلك على نحو مثير للإعجاب ودافع إلى التأسي، وقد توزعت صور الإخلاص والتضحية هذه على جميع جبهات القتال، وفي جميع مراحل الجهاد، مما يدل دلالة واضحة على عمق التوجه الإسلامي للفتوحات في العهد الأموي، وينفي الغبش الذي يثيره المنحرفون عن بني أمية على أنصع منجزاتهم وأحراها بالفخر والإعزاز، ومما شك فيه إسلامية الفتوح في العهد الأموي2124، وقد كانت الحصيلة النهائية والحصيلة التاريخية لحركة الفتوح لذلك العصر، امتداد عالم الإسلام إلى آفاق بعيدة وكسب ـ عبر امتداده هذا ـ الأرض والإنسان، كما أنه حمى وعزّز في الوقت نفسه منجزات الموجة الأولى في حركة الفتح التي قادها وخطط لها الخلفاء الراشدون، فالموجة الثانية(1/469)
لحركة الفتوح هي التي بدأت في عهد معاوية نفسه واستمرت فيما بعد لكي تبلغ أقصى اتساعها في عهد الوليد2125.
المبحث الأول: حركة الجهاد ضد الدولة البيزنطية :
كان معاوية رضي الله عنه يرى أن الخطر الأكبر من وجهة نظره الدولة البيزنطية، وإن كانت قد خسرت أهم أقاليمها في الشرق ـ الشام ومصر ـ إلا أن جسم الدولة لا زال سليماً لم يمس، فعاصمتها باقية، وممتلكاتها في آسيا الصغرى وأوربا وشمال إفريقيا لا زالت شاسعة وإمكانياتها كبيرة، وقدرتها على المقاومة هائلة، وهي لم تكف بعد عن مناوأة المسلمين، وباختصار فهي العدو الرئيسي والخطر الأكبر الماثل أمام المسلمين، وكان معاوية رجل المرحلة وقادراً على فهم وتقدير هذا الخطر، وعلى مواجهته، أيضا، فقد كان موجوداً بالشام منذ مطلع الفتوحات في عهد أبي بكر الصديق، وأصبح والياً عليه ولمدة عشرين سنة تقريباً، وهو يشكل مع مصر خط المواجهة الرئيسي مع الدولة البيزنطية، فطول إقامة معاوية رضي الله عنه بالشام، أكسبته خبرة واسعة بأحوال البيزنطيين وسياستهم وأهدافهم مما أعانه على أن يعرف كيف يتعامل معهم، لكل ذلك فليس غريباً أن نرى معاوية يولي حدوده مع الدولة البيزنطية وعلاقاته معها جل اهتمامه ويرسم لنفسه نحوها سياسة واضحة ثابتة سار عليها هو وخلفاؤه من الأمويين إلى نهاية دولتهم، وقد كان من أهدافه الرئيسة الاستيلاء على عاصمتهم القسطنطينية2126.
أولاً : معاوية والقسطنطينية:(1/470)
بعد أن أستقر الأمر لمعاوية بن أبي سفيان سنة 41هـ خليفة للمسلمين باشر في تطوير الأسطول البحري ليكون قادراً على دك معاقل القسطنطينية عاصمة الروم ومبعث العدوان والخطر الدائم ضد المسلمين، فبعد أن قضى معاوية على حركات المردة أو الجراجمة الذين أستخدمهم الروم وسيلة لرصد حركات الدولة الإسلامية ونقاط ضعفها وإبلاغ الروم عنها متخذين من مرتفعات طوروس وجبل اللكام مقراً لهم2127، بدأ الخليفة نشاطه البحري بإرسال حملات بحرية استطلاعية منها حملة فضالة بن عبيد الأنصاري2128، للوقوف على تحركات الروم وجلب المعلومات الدقيقة عنهم لمنعهم من استخدام جزر قبرص، وأرواد2129، ورودس ذوات الخدمة التعبوية والعسكرية في عملياتهم ضد الأسطول الإسلامي وقد باشر أعماله الاستطلاعية بإحدى الشواتي وهي شاتية بسر بن أبي أرطأة في البحر عام 43هـ2130 وأعقبها بشاتية مالك بن عبد الله بأرض الروم سنة 46هـ وصائفة عبد الله بن قيس الفزاري بحراً وحملة عقبة بن عامر الجهني بأهل مصر في البحر سنة 48هـ، وصائفة بن عبد الله بن كرز البجلي، وحملة بن عبد الله بن يزيد بن شجر الرهاوي، وشاتيته بأهل الشام في سنة 49هـ2131، وكان نظام الشواتي والصوائف مستمراً. فقد وضع معاوية أمامه هدفاً واضحاً وهو محاولة الضغط على الدولة البيزنطية من خلال الضغط على عاصمتها القسطنطينية تمهيداً للاستيلاء عليها، ولعل معاوية رضي الله عنه كان يرمي إلى إسقاط الدولة البيزنطية ذاتها بالاستيلاء على عاصمتها فهو يعلم أن هذه العاصمة العتيدة هي مركز أعصاب الدولة ومستقر الأموال والرجال، وفيها العقول المفكرة، فإذا سقطت في يده فإن هذا سيؤدي إلى شلل كامل في الدولة كلها، وأمامه تجربة المسلمين مع الفرس، فبعد سقوط المدائن عاصمتهم في أيديهم أصابهم الارتباك ولاحقهم الفشل، ولم تقم لهم قائمة وزالت دولتهم، فإذا استطاع إسقاط عاصمة البيزنطيين فسيكون ذلك نذيراً بإسقاط الدولة، ويستريح من(1/471)
خصم عنيد وعدو رئيسي، لذلك واصل ضغطه ومحاولاته لتحقيق هدفه، وليس من المبالغة القول إن الدولة البيزنطية ظلت على قيد الحياة مدة تقرب من ثمانية قرون، وهي مدينة ببقائها لعاصمتها القسطنطينية، فمناعة المدينة وصمودها أمام محولات الأمويين المستمرة لفتحها، حال دون ذلك وبالتالي حال دون سقوط الدولة والدليل على هذا أنه عندما استطاع السلطان العثماني محمد الفاتح فتح القسطنطينية والاستيلاء عليها في سنة 857هـ التاسع والعشرين من مايو سنة 1453م كان إيذاناً بسقوط الدولة البيزنطية وزوالها من الوجود2132.
ثانياً: التخطيط الاستراتيجي عند معاوية للاستيلاء على القسطنطينية:
حرص معاوية رضي الله عنه أن يكون زمام المبادرة دائماً في يده، لأنها هي التي تمد جزر شرق البحر المتوسط بالقوات والعتاد وتشجع أهلها على شن الغارات على ساحل مصر والشام، وقد سار في تحقيق هذا الهدف في عدة اتجاهات:(1/472)
1 ـ الاهتمام بدور صناعة السفن في مصر والشام ، واختيار أمهر الصناع للعمل فيها والإغداق عليهم بالأجور والهبات حتى يبذلوا قصارى جهدهم بالعمل2133، فقد أدرك معاوية ـ رضي الله عنه ـ بحسه العسكري وفكره العبقري أن معارك المسلمين مع الروم، ستعتمد أساساً على الأسطول البحري، وزاد هذا الإحساس عمقاً في قلب معاوية ونفسه تكتل الروم وإعدادهم أكثر من خمسمائة سفينة في معركة ذات الصواري لقهر الأسطول الإسلامي، ومع أن الروم باءوا بفشل ذريع في هذه المعركة، إلا أنهم لم يكفوا عن الإعداد ولم ينتهوا عن تجميع قواتهم لمواجهة قوة المسلمين في البحر، لقد كانوا يظنون أن قوة المسلمين البحرية يمكن القضاء عليها لأنها لا زالت في دور التكوين، ولكنهم فوجئوا بهزيمتهم المنكرة في ذات الصواري، فتوقعوا بعد ذلك أن تكون المعركة القادمة على أسوار العاصمة القسطنطينية فراحوا يستعدون لذلك2134، وقد أدى التعاون بين مصر والشام في صناعات السفن إلى الوصول إلى نتائج ممتازة، ففي الشام كانت تتوفر أخشاب الصنوبر القوي والبلوط والعرعر التي تصلح لبناء السفن وفي مصر كانت توجد الأخشاب التي تصلح لعمل الصواري، وضلوع جوانب السفن، وخشب الجميز واللبخ والدوم التي تصلح لصناعة المجاديف2135، وكذلك استغل معاوية معدن الحديد الذي كان متوافراً في مصر والشام واليمن لعمل المسامير والمراسي والخطاطيف والفؤوس، كما كان يتوافر في مصر مادة القطران اللازمة لقلفطة السفن، ونبات الدقس الذي كانت تصنع منه الحبال، وباختصار فقد أدى التعاون المصري الشامي إلى ازدهار البحرية الإسلامية التي ازدادت أهميتها بعد أن أمر معاوية عامله على مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري ببناء دار لصناعة السفن في جزيرة الروضة عام 54هـ2136. وذلك على أثر غارة شنها البيزنطيون على مصر2137.(1/473)
2ـ تقوية الثغور البحرية في مصر والشام،فقد آثر أن يحصن المدن الساحلية ويزودها بالقوات المجاهدة بما يجعلها قواعد تنقل منها الجنود بحراً إلى أي مكان يشاء ووضع لهذه المدن نظاماً عرف بالرباط، وهو ما يقصد به الأماكن التي تتجمع بها الجند والركبان استعداداً للقيام بحملة على أرض العدو، واعتني بهذا النظام حتى أصبح جزءاً مرتبطاً اشد الارتباط بالجهاد، إذ اجتذب الرباط إليه كل الأتقياء المتحمسين العاملين على إعزاز الإسلام ونصرته2138، وتدرج معاوية رضي الله عنه في تدعيم هذا النظام على نحو ما اتبعه في كل أعماله التي اتسمت بالدقة والابتعاد عن الارتجال والاندفاع، فأعد الرباط لتكون حصوناً يتجمع فيها الجند للدفاع عن المناطق المعرضة لإغارات الأساطيل البيزنطية، ولتكون ملجأً يحتمي بها الأهالي في المناطق الساحلية بأن يأخذوا حذرهم إذا ما لاح خطر السفن البيزنطية في المياه الإقليمية، فكان الحصن في الرباط يضم حجرات للجند ومساكن لهم، ومخازن للأسلحة والمؤن، وبرج للمراقبة، ثم لم يلبث أن أتسع وازدادت أهميته حتى أصبح قاعدة للهجوم وشن الغارات2139، وتعتبر سياسة منح الإقطاعات بالسواحل الخطوة الأخيرة في سلم السياسة البحرية الدفاعية التي رسمها معاوية قبل أن يستطيع ركوب البحر في عهد عثمان، إذ أتم بفضل هذه الامتيازات إعداد القواعد البحرية التي أخذ ينشىء فيها أساطيله، وكانت آية ازدهار المدن الساحلية نقل جماعات من أهالي بعلبك وحمص وأنطاكية عام 42هـ إلى صور وعكا وغيرهما من المدن بسواحل الأردن، كذلك أصلح معاوية رضي الله عنه حصون هاتين المدينتين ولاسيما عكا التي خرج منها بأولى حملاته البحرية ضد قبرص، وبسط معاوية رضي الله عنه اهتمامه إلى سائر المدن الساحلية2140.(1/474)
3 ـ الاستيلاء على الجزر الواقعة شرقي البحر المتوسط ، وقد بدأ ذلك بالاستيلاء على جزيرة قبرص ـ كما سبق ذكره ـ ثم استولى جزيرة أخرى هامة وهي رودس وأمر ببناء حصن بها وبعث إليها جماعة من المسلمين يتلون الدفاع عنها، وجعلها رباطاً يدفعون منه عن الشام، وآثر معاوية أن يحيط المسلمين في رودس بالجو الإسلامي الديني ويعلي راية الإسلام بين أهاليها، فأرسل إليها فقيهاً يدعى مجاهد بن جبر يقرئ الناس القرآن2141 وأراد معاوية أن يتوج حملاته البحرية بغلق بحر إيجة وسد منافذه الرئيسية في وجه السفن البيزنطية، ومنعها من الوصول إلى بلاد المسلمين وعمل على تحقيق ذلك في الاستيلاء على جزيرة ((كريت)) إذ تسيطر هذه الجزيرة تماماً على بحر إيجة، الذي يشبه طرفه الجنوبي فوهة قربة تمتد جزيرة ((كريت)) عبرها، بامتدادها البالغ 160 ميلاً وتقسم الجزيرة هذه فتحة إلى مدخلين يتحكم في كل منهما، وأرسل معاوية جنده الذي استولى على رودس لفتح هذه الجزيرة الهامة ومنع الأساطيل البيزنطية من التسلل عبر الفتحات البحرية المتاخمة لها لمهاجمة الشام على أن جنادة بن أمية الأزدي لم يستطع الاستيلاء على هذه الجزيرة لضخامتها، واكتفى بالإغارة عليها والبطش بالبيزنطيين وأساطيلهم بها، وهكذا وجه معاوية رضي الله عنه أنظار المسلمين شطر البحر الأبيض المتوسط، وأوقفهم على أهمية جزره، فاستولى على ما استطاعت أساطيله أن تفتحه منها، وطرق باب غيرها ومهد الطريق لمن يأتي بعده من الخلفاء الأمويين، وكفل معاوية للمسلمين قوة بحرية نافست البيزنطيين أنفسهم سيادتهم القديمة على البحر الأبيض المتوسط ثم أخذ يعبئها لأهم عمل في تاريخها، وهو ضرب عاصمة البيزنطيين أنفسهم والاستيلاء عليها، ولكن تريث معاوية في تحقيق الهدف الأخير حتى يمكن لنفسه من التفوق البحري على البيزنطية2142.(1/475)
4 ـ كان من الضروري لكي تؤتي هذه الاستعدادات البحرية، ثمارها وتحقق أهدافها أن يصاحبها تحصين أطراف الشام الشمالية، التي تشكل مناطق الحدود بين الدولتين الإسلامية والبيزنطية، ضد غارات البيزنطيين من ناحية ولتكون سنداً للقوات الزاحفة على القسطنطينية من ناحية ثانية ذلك لأن المسلمين في فتوحاتهم الأولى في عهد الخلفاء الراشدين، وصلوا إلى أطراف الشام الشمالية، ثم وقفت أمامهم سلسلة جبال طوروس تحول دون وصولهم إلى آسيا الصغرى البيزنطية، وكان البيزنطيون عند انسحابهم وتقهقرهم أمام المسلمين قد قاموا بتخريب المناطق الواقعة شمال حلب وإنطاكيا لئلا يستفيد منها المسلمون، كما خربوا معظم الحصون فيما بين الأسكندرونة وطورسوس2143، فرأى معاوية ضرورة الاهتمام بهذه المناطق وتعميرها وتحصينها، فاهتم أولاً بمدينة أنطاكيا التي كانت معرضة دائماً للإغارات البيزنطية المفاجئة، واتبع في تعميرها السياسة التي سار عليها إزاء المدن الساحلية للشام، وأغرى الناس على الإقامة بأنطاكيا، بأن منحهم اقطاعات من الأرض، وقوى الرباط المخصص للدفاع عنهم وأخذ معاوية يوالي تدريجياً تعمير المدن الواقعة بين الأسكندرونة وطرسوس أثناء غاراته على أراضي البيزنطيين حتى أصبحت حدود الشام تتاخم مباشرة جبال طوروس الحد الفاصل بين الشام وآسيا الصغرى ولإحكام سيطرته على المعاقل الهامة الواقعة في مناطق التخوم الإسلامية البيزنطية، استولى على سميساط وملطية، كما جدد حصوناً أخرى مثل مرعش والحدث، ثم استولى على حصن زبطرة البيزنطي الهام وأعاد تحصينه2144، ولكي تكون الحركة مستمرة وتكون مناطق الحدود ميداناً عملياً لتدريب جند المسلمين، وتعويدهم على الدروب والطرق والممرات الجبلية الوعرة دأب معاوية على الغزو المستمر، وأصبح هذا النشاط العسكري يعرف بغزوات الصوائف والشواتي2145 فلا تكاد تمر سنة وإلا ونجد ذكراً عند الطبري وغيره لغزو في البر أو البحر كأن يقول: وفيها(1/476)
شتى فلان بأرض الروم أو كانت صائفة فلان إلى أرض الروم2146، وكانت هذه الغزوات تنطلق إلى بلاد الأعداء وتخرب تحصيناتهم وتغنم وتعود، وكان تكرار هذه الغزوات يشكل ضغطاً على الدولة البيزنطية ويرهق أعصابها وينهك قواها2147، وقد برز في هذه الحملات المستمرة عدد من كبار القادة المسلمين الذين تلقوا تدريباتهم في ميدانها وأتقنوا فن الحرب،، مثل عبد الله بن كرز البجلي، ويزيد بن شجرة الرهاوي، ومالك بن هبيرة السكوني، وجنادة بن أمية الأزدي، وسفيان بن عوف، وفضالة بن عبيد2148، ومالك بن عبد الله الخثعمي، الذين أطلقوا عليه مالك الصوائف لعلو كعبه في الميدان الحربي في آسيا الصغرى2149، وهؤلاء القادة ابلوا بلاءً حسناً في الجهاد ضد البيزنطيين لإعلاء كلمة الله2150.
ثالثاً : الحصار الأول للقسطنطينية :(1/477)
بعث معاوية رضي الله عنه سنتي 47 ـ 48هـ سرايا من قواته لتغيرعلى الأراضي البيزنطية لتمهد الطريق في سبيل الوصول إلى القسطنطينية فتمكن مالك بن هبيرة السكوني من قضاء الشتاء في الأراضي البيزنطية2151، ولقد شهدت سنة 49هـ/669م أول حصار إسلامي لمدينة القسطنطينية ذلك أن نجاح قوات المسلمين في توغلهم في الأراضي البيزنطية بالإضافة إلى الصراعات الداخلية التي واجهها الإمبراطور قُسطانز الثاني نتيجة تمرد اثنين من قادته هما سيليوس وميزيريوس2152، كل ذلك ساعد معاوية رضي الله عنه على أن يبعث قواته في البر والبحر بقيادة كل من فضالة بن عبيد الليثي وسفيان بن عوف العامري يساعدهم يزيد بن شجرة الرهاوي، تجاه القسطنطينية2153، ووصل الأسطول الإسلامي إلى خلقيدونيةـ ضاحية من ضواحي القسطنطينية على البر الآسيوي ـ وحاصرها توطئة لاقتحامها في محاولة لاختراق المدينة من تلك الناحية، ولكن انتشار مرض الجدري وفتكه بكثير من جند المسلمين علاوة على حلول الشتاء القارص جعل ظروف الجيش المحاصر صعبة للغاية، فما كان من فضالة بن عبيد الليثي، قائد الجيش البري إلا أن استنجد بمعاوية طالباً منه أن يمده بقوات إضافية، فأرسل معاوية رضي الله عنه مدداً من الجيش يضم بين أفراده مجموعة من الصحابة، أمثال: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد اله بن عمرو بن العاص، وأبو أيوب خالد بن يزيد الأنصاري، رضي الله عنهم2154، وكان القائد العام لهذه الفرقة هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وعندما وصل يزيد بقواته إلى خلقيدونية انضم إلى الجيش المرابط هناك، وزحفوا جميعهم نحو القسطنطينية وعسكروا خلف أسوارها ضاربين عليها الحصار حوالي ستة أشهر ((من الربيع إلى الصيف)) وكان يتخلل هذا الحصار اشتباكات بين قوات القوتين، وأبلى يزيد في هذا الحصار بلاءً حسناً وأظهر من دروب الشجاعة والنخوة والإقدام ما حمل المؤرخين على أن يلقبوه بـ((فتى العرب))2155. وكادت القوات(1/478)
الإسلامية أن تحرز انتصاراً لولا أنه واجهوا صعوبات جمة منها: الشتاء الغزير المطر والبرد القارص مما أدى إلى نقص الطعام والأغذية، وتفشي الأمراض بينهم، كما كان لمناعة أسوار القسطنطينية أثرها في تراجع المسلمين وإجبارهم مرة أخرى على العودة إلى بلاد الشام2156، كما كانت النار التي فتحها المتحصنون بها على جيش المسلمين من أهم الأسباب التي عوقت قدرتهم على فتحها، فقد أحرقت النار كثيراً من سقى المسلمين2157، ويعد غزو القسطنطينية من دلائل النبوة حيث أخبر به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال:... أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم2158، وقد اشترك في غزو القسطنطينية عدد من كبراء الصحابة رضوان اله عليهم، طلباً للمغفرة التي بشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم2159.
رابعاً : وفاة أبي أيوب الأنصاري في حصار القسطنطينية:(1/479)
هو خالد بن زيد بن كليب، أبو أيوب الأنصاري الخزرجي، شهد بدراً والعقبة والمشاهد كلها، وشهد مع علي رضي الله عنه قتال الخوارج وفي داره كان نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قدم المدينة مهاجراً من مكة فأقام عنده شهراً حتى بنى المسجد ومساكنه حوله، ثم تحوَّل إليها2160، وقدوفد أبو أيوب على عبد الله بن عباس لما كان والياً على البصرة في عهد علي، فبالغ في إكرامه، وقال لأجزينَّك على إنزالك النبي صلى الله عليه وسلم عندك، فوصله بكل ما في المنزل فبلغ ذلك أربعين ألفاً2161، وجاء في رواية لما أراد الانصراف خرج له عن كل شئ بها، وزاده تحفاً وخدماً كثيراً وأعطاه أربعين ألفاً وأربعين عبداً، إكراماً له لما كان أنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره، وقد كان من أكبر الشرف له2162. وهو القائل لزوجته أم أيوب حين قالت له: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ ـ أي في حديث الافك ـ فقال لها: أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ فقالت: لا والله. فقال: والله لهي خير منك فأنزل الله2163(( لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا)) (النور ، الآية : 12) . وقد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي أيوب ومصعب بن عمير2164 رضي الله عنهما صاحب الفتح السلمي الكبير بالمدينة المنورة. وكانت وفاته ببلاد الروم قريباً من سور قسطنطينية، وكان في جيش يزيد بن معاوية وإليه أوصى وهو الذي صلى عليه2165. وقد جاء في رواية: أغزى أبو أيوب، فمرض، فقال: إذا متُّ فاحملوني، فإذا صافقتم العدوَّ، فارموني تحت أقدامكم. أما إني سأحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة2166، ودفن أبو أيوب عند سور القسطنطينية، وقالت الروم لمن دفنه: يا معشر العرب قد كان لكم الليلة شأن. قالوا: مات رجل من أكابر أصحاب نبينا، والله لئن نُبش، لاضُرِبَ بناقوس في بلاد(1/480)
العرب2167، وبعد مجيء الدولة العثمانية وفتح القسطنطينية أصبحت مكانة أبي أيوب الأنصاري عظيمة في الثقافة العثمانية، فقد درج السلاطين العثمانيون يوم يتربعون على الملك أن يقيموا حفلاً دينياً في مسجد أبي أيوب، حيث يتقلدون سيفاً للرمز إلى السلطة، التي أفضت إليهم وكان لأبي أيوب رضي الله عنه عند الترك خواصهم وعوامهم رتبة ولي الله الذي تهوي إليه القلوب المؤمنة وينظرون إليه كونه مضيف رسول الله، فقد أكرمه وأعانه وقت العسرة كما أنه له مكانة مرموقة بين المجاهدين واعتبروها ضيافته لرسول الله وجهاده في سبيل الله أعظم مناقبه وأظهر مآثره2168. وقد ترك أبو أيوب رضي الله عنه في وصيته بأن يدفن في أقصى نقطة من أرض العدو صورة رائعة تدل علىتعلقه بالجهاد، فيكون بين صفوفهم حتى وهو في نعشه على أعناقهم وأراد أن يتوغل في أرض العدو حياً وميتاً، وكأنما لم يكفه ما حقق في حياته فتمنى مزيد عليه بعد مماته، وهذا ما لا غاية بعده في مفهوم المجاهد الحق بالمعنى الأصح الأدق2169. ومن الغريب ما نراه في حياتنا من حرص بعض المسلمين إذا مات خارج بلده أن يوصي أهله بأرجاعه ودفنه في أرضه والأرض الأرض الله والبلاد بلاد الله. وقد مدحه شعراء الأتراك في أشعارهم وهذا شيخ الإسلام، أسعد أفندي يشير أشارة لامحة إلى موقعه بقوله:
………شهد المشاهد جاهداً ومجاهداً
…………………ومكابداً بحروبه ما كابدا
………حتى أتى بصلابة ومهابة
…………………في آخر الغزوات هذا المشهدا
………قد مات مبطوناً غريباً غازيا
…………………فغدا شهيداً قبل أن يستشهدا(1/481)
كان أبو أيوب رضي الله عنه عندما خرج في غزوة الفسطنطينية قد تقدمت به السن وأصبح شيخاً كبير وكان يقول: قال الله تعالى: ((انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا...)) (التوبة ، الآية :41) لأجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً2170، وكان أبو أيوب رضي الله عنه يعلم الناس الفهم الصحيح لآيات الله ومفاهيم الإسلام فعن أبي عمران التجيبي قال: غزونا من المدينة نريد القسطنطينية، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ـ يعني الجماعة الذين غزو من المدينة ـ والروم ملصقوا ظهورهم بحائط القسطنطينية، فحمل رجل على العدو فقال الناس مه، مه لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة: فقال أبو أيوب: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأظهر الإسلام قلنا: هلمَّ نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله تعالى: ((وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)) (البقرة ، الآية : 195) فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد قال أبو عمران، فلم يزال أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية2171 فهذا الحديث يبين لنا خطورة الاشتغال بالأموال عن الجهاد في سبيل الله تعالى، وإن الهلاك الحقيقي هو هلاك الآخرة بسبب التهاون في واجبات الإسلام2172.
خامساً : الحصار الثاني للقسطنطينية :(1/482)
استطاع معاوية رضي الله عنه أن يضيق الخناق على الدولة البيزنطية بالحملات المستمرة والاستيلاء على جزر رودس وأرواد اللتين سبقت الإشارة إليهما، وقد كان لجزيرة أرواد والتي تسميها المصادر الأوربية كزيكوس أهمية خاصة لقربها من القسطنطينية، حيث اتخذ منها الأسطول الإسلامي في حصاره الثاني للمدينة أو حرب السنين السبع 54 ـ 60هـ قاعدة لعملياته الحربية، وذلك أن معاوية أعد أسطولاً ضخماً، وأرسله ثانية لحصار القسطنطينية، وظل مرابطاً أمام أسوارها من سنة 54هـ إلى سنة 60هـ2173، فكانت الأساطيل تنقل الجنود من هذه الجزيرة إلى البر لمحاصرة أسوار القسطنطينية على حين يكمل الأسطول الحصار، واستمر الحصار البري والبحري للقسطنطينية من شهر أبريل إلى سبتمبر، تتخلله مناوشات بين أساطيل المسلمين وجنود البيزنطيين من الصباح إلى المساء، على حين تتراشق القوات البرية الإسلامية مع الجند البيزنطي المرابط على أسوار القسطنطينية بالقذائف والسهام، استمر هذا الوضع طيلة سبع سنوات2174، حتى أرهقت البيزنطيين، وأذاقتهم ألوان الضنك والخوف وأنزلت بهم خسائر فادحة، وبالرغم من كل ذلك لم تستطع اقتحام المدينة أو التغلب على حراسها المدافعين عن أسوارها2175، وكانت العوامل التي ساعدت القسطنطينية على الصمود عديدة منها:(1/483)
1 ـ استعمال البيزنطيين في هذه المعارك ناراً سموها النار البحرية أو النار الأغريقية وهو عبارة عن مركب كيمائي مكون من النفط والكبريت، القار، وكان هذا المركب يشعل بالنار وتقذف به المراكب فيشعل فيه النار والعجيب أنه كان يزداد اشتعالاً إذا لامس الماء ومخترع هذا المركب الكيميائي الفتاك، الذي فتك بالعديد من سفن المسلمين وجنودهم هو مهندس سوري الأصل اسمه كالينكوس، كان في أوائل الأمر في خدمة المسلمين ثم هرب إلى القسطنطينية، ووضع خبرته في خدمة البيزنطيين2176. وكان هذا السلاح الجديد من أهم العوامل التي ساعدت البيزنطيين على الصمود والاستمرار في الدفاع عن العاصمة وظل هذا السلاح سراً خفياً، لا يعرفه إلا المتخصصون في صناعته، وكان الأباطرة يمدون حلفاءهم بهذا السلاح دون أن يطلعوهم على سره،، ومرت أربعة قرون، وهو سلاح غامض لم يعرف كنهه سوى مخترعه، وفي القرن العاشر المسيحي، الرابع الهجري، عرف الباحثون سر هذه النار، وبينوا العناصر التي تكونت منها، والوسائل التي يمكن إخمادها بها، وتطور هذا السلاح حتى كان منه ما يشبه المفرقعات، وكانت تلقى على الأعداء بواسطة المجانيق، أو أنابيب نحاسية تقذف من السفن، وكان لها صوت مدو يصحبه دخان كثيف مسبوق بلهب خاطف، وشغل هذا الاختراع عقول العلماء المسلمين، فراحوا يبحثون ويفكرون، حتى عرفوا سره في مطلع القرن الحادي عشر المسيحي، الخامس الهجري، وأدخلوا عليه تعديلات جعلته أشد فتكاً، وأقوى أشراً من النار الأغريقية واستخدم المسلمون هذا السلاح الفتاك في حروبهم مع الصليبيين بأرض الشام، وكان وقعه شديداً على الصليبيين، ونشر فيهم الرعب والفزع، ومن ذلك الحين عرفت هذه النار ((بالنار2177 الإسلامية))، يقول الدكتور إبراهيم العدوي: لأن الأعداء عجزوا عن معرفة هذا السلاح الجديد الذي احتضنه المسلمون، وظل استخدام النار الإسلامية سائد حتى القرن الرابع عشر المسيحي،الثامن الهجري حيث دخلت(1/484)
عليها تطورات وتعديلات كثيرة، أدت أخيراً إلى صناعة البارود. ومن ثم تعتبر النار الإسلامية أساس هذا الانقلاب الخطير في أساليب الحرب التي عرفها العالم الحديث وبرهن المسلمون على أنهم لا يقفون مكتوفي الأيدي أمام أي سلاح جديد يفاجئهم به الأعداء، وأنهم قادرون على استغلاله فيما بعد لما فيه صالحهم ونفعهم2178. ونسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين لا يجاد حل للتفوق العسكري الأمريكي والغربي عليهم.
2 ـ السلسلة الحديدية الضخمة، الحاجزة ما بين القرن الذهبي ميناء القسطنطينية وبين الشاطئ الآسيوي، حيث كان يتم إقفالها في حالات الحرب أو التهديد بالحصار2179.
3 ـ الموقع الجغرافي في الفريد الذي وصفه المؤرخ بينز بأنه ((استقر على شبه الجزيرة البارز من أوروبة، والذي يكاد يلاقي الشاطئ الآسيوي وفي وسط الطريق بين الحدود الشمالية والشرقية في بقعة يحميها مدّ مرمرة العنيف من الهجمات البحرية.
4 ـ الأسوار الداخلية والخارجية الضخمة والمزوّدة بعدد كبير من أبراج المراقبة التي كان لها دور في كشف التحركات المعادية وإبطال عنصر المفاجأة فيها .
5 ـ ضعف التجربة الأموية في حرب الحصار للمدن المتداخلة مع مياه البحر، مثل القسطنطينية، حيث تطلب ذلك أسلحة متطورة بأساليب جديدة في القتال، لم تكن في متناول القوات الأموية حتى ذلك الحين2180.(1/485)
6 ـ دبلوماسية الدولة البيزنطية والإسلامية: لقد تظاهرت عدة عوامل ساهمت في منع سقوط القسطنطينية منها، مناعة المدينة الطبيعية وقوة تحصيناتها، والنار الإغريقية، ورداءة الطقس وقسوته، والتيارات المائية الشديدة الانحدار الآتية من البحر الأسود لتحول دون استيلاء المسلمين على المدينة، رغم صبرهم وبسالتهم وتحملهم المشاق وفي النهاية دعت الظروف الداخلية في كل من الدولتين إلى إنهاء الحصار، فدخلوا في مفاوضات انتهت بعقد صلح بينهما،عاد بمقتضاه الجيش الإسلامي والأسطول إلى الشام.. ففيما يتعلق بالدولة الأموية أدرك معاوية أن مدة الحصار قد طالت دون أن يتحقق الهدف، ولما كانت سنّه قد كبرت، وأحس بدنو أجله، رأى من المصلحة أن يعود هذا الجيش الكبير المرابط حول المدينة تحسباً لأي مشاكل قد تواجه ابنه وخليفته يزيد بعد موته، فيكون وجود هذا الجيش عنده ضرورياً لضبط الأمور داخلياً، كذلك كانت الدولة البيزنطية تواقة إلى إنهاء هذا الحصار عن عاصمتها، فقد أرهقها وأنهك قواها، ولذلك يقال: إنها أرسلت إلى دمشق رجلاً يدعى يوحنا من أشهر رجالها الدبلوماسيين، وأكثرهم ذكاء وفطنة وحضر هذا الرجل جلسات كثيرة تضم خيرة أبناء البيت الأموي وأبدى فيها من الإجلال للدولة الإسلامية، ما أكسبه تقدير معاوية واحترامه ونجحت مفاوضاته في عقد صلح بين الطرفين، وبعد إبرام المعاهدة أخذت القوات الإسلامية المرابطة براً وبحراً أمام القسطنطينية طريق العودة إلى الشام، وتركت عاصمة البيزنطيين تئن من جراحها المثخنة2181.
سادساً: العلاقات السلمية بين الدولتين:(1/486)
رغم أن الطابع العام الذي ميز العلاقات بين الدولة الإسلامية والبيزنطية في عصر الخلافة الراشدة والعصر الأموي كان عسكرياً نتيجة لحركة الجهاد واستمرارها في العهد الأموي من حملات الصوائف والشواتي طوال السنة تقريباً، وكذلك الدور الجهادي الذي كانت تؤديه مدن الثغور، إلا أن هذا لا يعني أن الطابع السلمي المتمثل فيما جرى من مفاوضات ومداولات كان مفقوداً فقد اتخذت العلاقات السلمية بين الدولتين، الإسلامية والبيزنطية في العهد الأموي أشكالاً مختلفة منها المراسلات، وتبادل الخبرات، والمناظرات في المجالات الثقافية، وتبادل الأسرى والسفراء2182.
1ـ المراسلات:(1/487)
فقد تم مراسلة قيصر الروم من قبل معاوية في فترة الفتنة وتوصل معه إلى عقد صلح على أن يؤدي معاوية له مالاً وأن يأخذ كل طرف رهناً من الطرف الآخر2183، وارتهن معاوية منهم رهناء فوضعهم ببعلبك، ثم إن الروم غدرت فلم يستحل معاوية والمسلمون قتل من في أيديهم من رهنهم، وخلوا سبيلهم وقالوا: وفاء بغدر خير من غدر بغدر2184،والمهم أن مثل هذه الحوادث يجب أن تُقدَّر بقدرها فلا يجوز للدولة الإسلامية ـفي الأصل ـ أن تتهاون وتتكاسل عن الأخذ بأسباب القوة حتى تصل إلى مرحلة من الضعف تمكّن الأعداء منها أو يطمع فيها الطامعون، بل الأصل في دولة الإسلام أن تكون دولة قوية يهابها الأعداء، فإذا مرت بها فترة ضعف أو احتاجت إلى دفع ضرر عليها بمال أو نحوه فذلك يدخل من باب ((الضرورات)) وليس حكماً عاماً وما (( أبيح للضرورة يُقدّر بقدرها، كما قرر الفقهاء2185، فلا ينبغي عقد صلح دائم مع العدو بدفع المال إليه، بل يجب أن يكون الصلح والدفع لفترة ضعف المسلمين أو حالة الضرورة، مع العمل الجاد على رفع حالة الضعف وبناء قوة الأمة وقدراتها المطلوبة بكل جدية وعزم، فإذا زالت يجب على المسلمين أن يمتنعوا من عقد أي معاهدة فيها ذلة أو مفسدة لهم، والخلاصة: إنه يجوز للدولة الإسلامية عقد معاهدة اضطرارية تُقدّر بقدرها وتنتهي بانتهاء حالة الضرورة التي عُقدت من أجلها2186.(1/488)
لم تقتصر المراسلات على الجانب العسكري فقط، ولكن رويت بعض المراسلات التي تتناول المناظرة في الجوانب العلمية والأمور العامة، فقد كتب قيصر الروم إلى معاوية سلام عليك أما بعد: فانبئني بأحب كلمة إلي الله وثانية وثالثة ورابعة وخامسة وعن أربعة أشياء، فيهن روح ولم يرتكضن في رحم، وعن قبر يسير صاحبه، ومكان في الأرض لن تصبه الشمس إلا مرة واحدة وغير ذلك من الأسئلة، فكتب إليه معاوية: أما أحب كلمة إلى الله، فلا إله إلا الله لا يقبل عملاً إلآ بها، وهي المنجية، والثانية سبحان الله صلاة الخلق، والثالثة الحمد لله كلمة الشكر والرابعة الله أكبر، فواتح الصلوات والركوع والسجود، والخامسة لا حول ولا قوة إلا بالله. والأربعة فيهن روح ولم يرتكضن في رحم فآدم، وحواء وعصا موسى والكبش، والموضع الذي لم تصله شمس إلا مرة واحدة، فالبحر حين انفلق لموسى وبني إسرائيل والقبر الذي سار بصاحبه، فبطن الحوت الذي كان فيه يونس2187.(1/489)
2 ـ تبادل الخبرات : وهي مجال تبادل الخبرات حاول كل من العرب والروم الاستفادة من خبرات الطرف الثاني في مجالات الحياة كافة، معتمدين على الاقتباس تارة، والإبداع تارة أخرى، على أن ما أخذه المسلمين من الروم في هذا المجال لم يكن مجرد اقتباس، بل طور كثيراً بأن أضيف إليه أحياناً وشذب في أحيان أخرى، حتى أصبح يتماشى مع روح الدين الإسلامي، ويتمثل ذلك في معالم النهضة العمرانية المتمثلة في اهتمام الأمويين بالمساجد والتوسع في إقامتها2188، وقد استخدم معاوية عدداً من الروم ممن كانوا في الإدارة البيزنطية في بلاد الشام قبل فتحها، كتّاباً في الأمور الإدارية، حيث عين سرجون بن منصور الرومي كاتباً له، كما استخدم بن اثال النصراني طبيباً له2189، وكان معاوية رضي الله عنه متسامحاً مع النصارى حتى شهد له بروكلمان بهذا التسامح: واختلطوا بالمسيحية اختلاطاً بعيداً... وفي بلاط معاوية لعب سرجون بن منصور النصراني دور المستشار المالي المتنفذ وحفظ النصارى للخليفة معاوية هذا التسامح واخلصوا له، وأعظموه إعظاماً، لاتزال تقع عليه في الروايات النصرانية، وحتى في كتب التاريخ الأسبانية2190.
3 ـ تأثر الدولة البيزنطية بالتسامح الإسلامي:(1/490)
يذكر العدوي: إن انعكاس التسامح الديني مع النصارى ظهر تأثيره على الدولة البيزنطية، إذ من المعروف، إنها كانت تضظهد رعاياها من أصحاب المذاهب الأخرى وتعاملهم معاملة قاسية وتعتبرهم هراطقة، وبظهور دولة الإسلام ودخول كثير من المسيحيين في التبعية لها، اتجهت الإمبراطورية البيزنطية إلى تجديد أساليبها وسياستها، وجعلت من نفسها صاحبة الحق في رعاية المسيحيين في بلاد الشام2191، وكان معاوية رضي الله عنه يجلس إلى جماعات المسيحيين من المذاهب المختلفة ويستمع إلى جدلهم الديني ومناقشاتهم المختلفة2192، وبهذا ضربت الدولة الإسلامية الأموية مثلاً سامياً، يدل على عظمة الرسالة الإسلامية ومدى التسامح الديني تجاه رعاياها من غير المسلمين وابتعادها عن التعنت والتعصب الديني الذي يتهمهم به قسم من المستشرقين2193.(1/491)
4 ـ آداب السفراء: لم يكن نظام الموفدين والسفراء مقتصراً على العهد الأموي بل له امتداداته من عهد(رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، فكان السفير يختار وفق مواصفات خاصة تتمثل في قوة شخصيته ونباهته ورجاحة عقله، وكان السفير من كلتا الدولتين، يزود بخطاب يحمل تعريفاً بشخصية الرسول والغرض من رسالته وتخويله حق التحدث رسمياً باسم دولته2194. ولم يكن الموفدون والسفراء مدار اهتمام الدولة الإسلامية الأموية فقط، بل اهتم الروم كذلك بسفرائهم أيضاً، فكانوا يختارونهم من رجال الدين الدهاة العارفين بأمور دينهم وأصحاب قدرة على النقاش والجدال، فصيحي اللسان، عارفين بالعربية إضافة إلى لغتهم الأصلية2195، وكان الخلفاء والملوك يهتمون بالسفراء والمبعوثين، ويستقبلون في قصور الخلفاء وتسمع آراؤهم فيها، فحين سأل معاوية رسول البيزنطيين، بعد أن فرغ من بناء قصره المعروف بالخضراء، أبدى عليه ملاحظاته قائلاً: أما أعلاه فللعصافير، وأما أسفله فللفار وعندما أدرك معاوية صحة انتقاد السفير وصواب رأيه جعله يعيد بناء قصره بالحجارة2196، وأما البيزنطيون فكانوا يستقبلون السفراء العرب في كنيسة أيا صوفيا وقناطير المياه والأديرة حول القسطنطينية2197، وعند رجوع السفير كانت تقدم له الهدايا والمجوهرات الثمينة إكراماً له ولمن بعثه2198، ويبدو أن الهدف من وراء ذلك عند كلتا الدولتين، هو إظهار صيغ الاحترام المتبادل والنيات الحسنة في إقامة الصلح وإنابة السلام وكذلك إظهار كل دولة للأخرى مدى قوتها ورخائها، كي تكون محط أنظار السفير ومهابته من أجل وصف ما يشاهده إلى من بعثه عند رجوعه إليه2199، ورغم ما أشير إليه من الصفات التي يجب توفرها في السفير إلا أنه يبقى محط أنظار الخليفة أو الملك وتراقب تصرفاته وحركاته خشية الوشاية والكيد وإشعال نار الحرب وهذا ما حدث مع سفير معاوية إلى القسطنطينية الذي أرسل لعقد هدنة مع الروم وكان السفير(1/492)
مزود بتعليمات مشددة تقتضي ألا يخفف من شروط الهدنة مع البيزنطيين ولكن لم يستطع هذا السفير تنفيذ وصية معاوية وتهاون في عقد الهدنة حتى جاءت في صالح البيزنطيين2200، فلما عاد عزله من منصبه2201.
سابعاً: الجراجمة في عهد معاوية رضي الله عنه:
في أثناء الحروب والغارات بين المسلمين والبيزنطيين، في عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، كان هناك طرف ثالث يشارك في النزاع القائم بينهما، يطلقون على أنفسهم اسم((الجُرَاجمِة)) نسبة إلى مدينة((الجُرَجُومة))2202، وأصولهم غير معروفة، ويشير البلاذري إلى أنهم كانوا يدينون بالنصرانية وأنهم كانوا لذلك يتبعون((بطريق أنطاكية وواليها))2203. وعندما فتح المسلمون بلاد الشام أرسل أبو عبيدة عامر بن الجراح حبيب بن مسلمة الفهري: فغزا الجرجومة فلم يقاتلها أهلها ولكنهم بادروا بطلب الأمان والصلح، فصالحوه على أن يكونوا أعواناً للمسلمين وعيوناً ومسالح في جبل اللكام، وأن لا يُؤخَذوا بالجزية، وأن يُنَفَّلوا أسلاب من يقتلون من عدوّ المسلمين إذا حضروا حرباً معهم في مغازيهم2204. ولكن الجراجمة لم يلبثوا أن نقضوا اتفاقهم هذا، وصنعواً حاجزاً بين المسلمين والبيزنطيين واستطاعوا عرقلة سير الفتوحات الإسلامية في آسيا الصغرى، فكانوا متذبذبين مرّة مع المسلمين وأخرى مع الروم وقد بقيت شوكة في ظهر الجيوش الإسلامية ليس في عهد معاوية لكن حتى عهد عبد الملك، ثم ما لبثت أن تفرقت في بلاد الشام وآسيا الصغرى، فخفَّ خطرها2205. وعلى أية حال، فلابد من القول بأن الانشاءات والمجهودات التي قام بها معاوية رضي الله عنه في سبيل الوصول إلى القسطنطينية وان كانت لم تثمر خلال حياته إلا أنها لعبت دوراً أساسياً في حفز من جاؤوا بعده من الخلفاء لأن يكملوا المسيرة التي بدأها2206.
ثامناً: أبو مسلم الخولاني من الغزاة في أرض الروم:(1/493)
وهذا مثال من عظماء الرجال في ذلك العصر الذين ساهموا في صياغة نموذج إسلامي في السلوك والتعامل مع الحكام والمشاركة الإيجابية في المجتمع وحركة الفتوحات.
قال عنه الذهبي: سِّيد التابعين وزاهد العصر واسمه عبد الله بن ثوب على الأصح2207قدم المدينة وقد قبض النبي صلى الله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر2208، وكانت له مواقف محموده في ضد الأسود العنسي الذي تنبَّأ باليمن، وثبت أبو مسلم على الإسلام فبعت إليه الأسور، فأتاه بنار عظيمة، ثم إنَّه ألقى أبا مسلم فيها، فلم تضُرَّه، فقيل للأسود: إن لم تَنْفِ هذا عنك أفسد عليك من اتَّبعك. فأمره بالرحيل، فقدم المدينة فأناخ راحلته ودخل المسجد يُصليِّ، فبصُر به عمر رضي الله عنه، فقام إليه، فقال: ممَّن الرجل؟ قال: من اليمن. قال: ما فعل الذي حَرقُه الكذاب بالنار؟ قال: ذاك عبد الله بن ثوب. قال: نشدتك بالله، أنت هو؟ قال: اللهمَّ نعم: فاعتنقه عمر وبكى، ثم ذهب به حتى أجلسه فيما بينه وبين الصِّدِّيق. فقال: الحمدلله الذي لم يُمتني حتَّى أراني في أمة محمد من صنع به كما بإبراهيم الخليل2209. وهذا التابعي الكبير كان من أهل الشام في عهد معاوية وقد تأثر به خلق كثير بها وكان رحمه الله كثير العبادة، فعن أبي العاتكة: قال: علَّق أبو مسلم سوْطا في المسجد2210، فكان يقول: أنا أولى بالسَّوط من البهائم، فإذا فتر مَشَقَ2211، ساقيه سوطا أو سوطين. وروى أنه كان يقول: لو رأيت الجنة عياناً أو النَّار عياناً ما كان عندي مستزاد2212، وعن شرحييل، أن رجلين أتيا أبا مسلم، فلم يجداه في منزله، فأتيا المسجد، فوجداه يركع فانتظراه فأحصى أحداهما أنه ركع ثلاث مئة ركعة2213، وكان أبو مسلم، إذا استسقى سُقي2214، وكان مستجاب الدعوة فعن محمد بن زياد، عن أبي مسلم، أن امرأة خَبَّبتَ2215، عليه امرأته،فدعا عليها،فعميت، فأتته فأعرضت وتابت، فقال: اللهُمَّ إن كانت صادقة، فاردُد بصرها، فأبصرت2216وشارك رحمه(1/494)
الله بالجهاد في أرض الروم وعن أبي مسلم الخولاني، أنَّه كان إذا غزا أرض الروم، فمُّروا بنهر فقال: أجيزوا بسم الله، ويمر بين أيديهم، فيمرون بالنهر الغَمرْ، فربما لم يبلغ الدَّوابِّ إلا الرُّكب، فإذا جازوا قال: هل ذهب لكم شيء؟ فمن ذهب له شيء فأنا ضامن له، فألقى بعضهم مِخْلاته عمداً. فلما جاوزوا قال الرجل: مِخْلاتي وقعت، قال: اتَبعني فاتّبعه، فإذا بها معلَّقةٌ يعود في النهر، قال: خذها2217، وكان الولاة يتيَّمنون بأبي مسلم، ويؤَمِّرونه على المقدِّمات2218، وقد توفي رحمه الله بأرض الروم، وكان شتا مع بُسر بن أبي أرطاة فأدركه أجله، فعاده بُسر في مرضه فقال له أبو مسلم: يا بُسر، اعقد لي على من مات في هذه الغزاة فإني أرجو أن آتي بهم يوم القيامة على لوائهم2219، وعندما سمع معاوية رضي الله عنه بموته قال: إنما المصيبة كل المصيبة بموت أبي مسلم الخولاني وكريب بن سيف الأنصاري2220، وكان رحمه الله من أهل الحكمة فقد روي عن أبي مسلم الخولاني في مجال الرَّضى التام بقضاء الله وقدره، قوله: لأن يولد لي مولود يحسن الله عز وجل نباته حتى إذا أستوى على شبابه وكان أعجب ما يكون إليّ قبضه منيّ أحب إليّ من أن يكون لي الدنيا وما فيها2221. وهذا دليل على كمال توحيد أبي مسلم عبد الله بن ثوب الخولاني حيث جاوز مرحلة الصبر على أقدار الله المؤلمة إلى مرحلة الرضى بقضاء الله، فاعتبر المصيبة بفقد ولد قد أحسن الله نباته وكان على خير ما يتمناه المؤمن شباباً صلاحاً أحبّ إليه من الدنيا وما فيها2222. هذه بعض الملامح العريضة على الجبهة الشامية المتعلقة بالجهاد في عهد معاوية رضي الله عنه.
المبحث الثاني: فتوحات الشمال الأفريقي في عهد معاوية رضي الله عنه:
أولاً: حملة معاوية بن حديج رضي الله عنه:(1/495)
معاوية بن حديج الكندي له صحبة ورواية قليلة عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد روي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كان في شيء شفاء فشربة عسل أو شرطة محجم، أو كية نار، وما أحب أن أكتوي2223، وكان رضي الله عنه ملكاً مطاعاً من أشراف كندة2224، وكان من خيرة الأمراء، فعن عبد الرحمن بن شماسة قال: دخلت على عائشة، فقالت: ممن أنت؟ قلت من أهل مصر، قالت: كيف وجدتم ابن حُديج في غزاتكم هذه؟ قلت: خير أمير، ما يقف لرجل منا فرس ولا بعير إلا أبدل مكانه بعيراً، ولا غلاماً إلا أبدل مكانه غلاماً. قالت: إنه لا يمنعني قتله أخي أن أُحدثكم ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم من ولي من أمر أُمتي شيئاً فرفق بهم فأرفق به، ومن شقّ عليهم فأشقق عليه2225، وبعد أن استتب الأمر لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، كانت جبهة شمال أفريقيا، من أولى الجبهات التي وجه إليها اهتمامه، لأنها تتاخم حدود مصر الغربية من ناحية ومن ناحية أخرى فهي تخضع لنفوذ الدولة البيزنطية، العدو اللدود للمسلمين والتي صمم أمير المؤمنين معاوية على تضييق الخناق عليها، وعدم إعطائها فرصة لالتقاط أنفاسها، ففي الوقت الذي واصل فيه ضغطه عليها من الشرق، وزحفه على جزرها في البحر المتوسط تمهيداً للوصول إلى عاصمتها القسطنطينية ـ كما سبق ذكره ـ نراه قد قرر أن يطوقها من الجنوب، من شواطي شمال إفريقيا التي كانت تعتبرها من أملاكها، ففي أول سنة من حكمه 41هـ أرسل معاوية بن حديج على رأس حملة إلى إفريقيا ثم أرسله ثانية سنة 45هـ على رأس حملة من عشرة الآف مقاتل، فمضى حتى دخل إفريقيا وكان معه عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن الزبير، وعبد الملك بن مروان، ويحيى بن الحكم بن العاص، وغيرهم من أشراف قريش، فبعث ملك الروم إلى إفريقية بطريقاً يقال له: نقفورا في ثلاثين ألف مقاتل، فنزل الساحل، فأخرج إليه معاوية بن حديج عبد الله بن الزبير في خيل كثيفة،(1/496)
فسار حتى نزل على شرف عال ينظر منه إلى البحر بينه وبين مدينة سوسة2226، اثنا عشر ميلاً، فلما بلغ ذلك نقفوراً أقلع من في البحر منهزماً من غير قتال، ورجع بن الزبير إلى معاوية بن حديج وهو بجبل القرن، ثم وجه ابن حديج عبد الملك بن مروان في ألف فارس إلى مدينة جلولاء2227فحاصرها وقتل من أهلها عدداً كثيراً حتى فتحها عنوة، وأغزى معاوية بن حديج جيشاً في البحر إلى صقلية في مائتي مركب، فسبوا وغنموا وأقاموا شهراً، ثم انصرفوا إلى إفريقيا بغنائم كثيرة2228، وبعد هذه الفتوح عاد معاوية بن حديج إلى مصر دون أن يترك قائداً أو عاملاً، ويفهم من هذا التصرف ومن سلوك معاوية بن حديج أثناء هذه الغزوة أن البربر أهل البلاد كانوا قد أصبحوا حلفاء للمسلمين على الروم، وأن المسلمين كانوا يكتفون إلى ذلك الحين بإبعاد الخطر الرومي من هذه الناحية2229وعندما استعاد معاوية بن حديج طرابلس الغرب ترك فيها رويفع بن ثابت الأنصاري والياً عليها سنة 46هـ فغزا منها إفريقيا ((تونس)) ودخلها سنة 47هـ ، وفتح جزيرة جربة التي كان يسكنها البربر2230، وقد تحدثت المراجع عن كثرة السبايا في هذه الغزوة وقام رويفع بن ثابت الأنصاري بتذكير المسلمين في هذه بأحكام وطء السبايا، حيث قال: أما أني لا أقول لكم إلا ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم حنين: لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقى ماءه زرع غيره2231، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع2232على امراة من السبي حتى يستبرئها2233، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما2234حتى يُقسم2235. وقد بقي في ولاية طرابلس الغرب ثم ولاه مسلمة بن مخلد ولاية مصر وبرقة، وبقي عليها أميراً ومات بها سنة 56هـ وقبره معروف في الجبل الأخضر ببرقة في مدينة البيضاء وهو آخر من توفي من الصحابة هناك، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية أحاديث، وان فقيهاً من أصحاب الفتيا من(1/497)
الصحابة وكان خطيباً مفوهاً2236
ثانياً: عقبة بن نافع وفتح إفريقية:
هو عقبة بن نافع القرشي الفهري، نائب إفريقيا لمعاوية وليزيد، وهو الذي أنشأ القيروان واسكنها الناس2237، وكان ذا شجاعة، وحزم، وديانة، لم يصحّ له صحبة، شهد فتح مصر، واختطّ بها2238، فقد اسند معاوية بن أبي سفيان قيادة حركة الفتح في إفريقية إلى هذا القائد الكبير الذي خلد التاريخ اسمه في ميدان الفتوحات، وكان عقبة قد شارك في غزو إفريقية منذ البداية مع عمرو بن العاص واكتسب في هذا الميدان خبرات واسعة، وكان عمرو بن العاص قد خلفه على برقة عند عودته إلى الفسطاط، فظل فيها يدعو الناس إلى الإسلام، وقد جاء إسناد القيادة إلى عقبة بن نافع خطوة موفقة في طريق فتح شمال إفريقيا كله، ذلك أنه لطول إقامته في برقة وزويلة وما حولها، منذ فتحها أيام عمرو بن العاص، أدرك أنه لكي يستقر الأمر للمسلمين في إفريقية ويكف أهلها عن الارتداد، فلا بد من بناء قاعدة ثابتة للمسلمين ينطلقون منها في غزواتهم، ويعودون إليها ويأمنون فيها على أهلهم وأموالهم، فلما أسند إليه معاوية بن أبي سفيان قيادة الفتوحات في إفريقية، أرسل إليه عشرة آلاف فارس وانضم إليه من اسلم من البربر فكثر جمعه2239، وسار في جموعة حتى نزل بمغمداش من سرت2240، فبلغه أن أهل ودان2241 قد نقضوا عهدهم مع بسر بن أبي أرطأة الذي كان عقده معهم حين وجهه إليهم عمرو بن العاص ومنعوا ما كانوا اتفقوا عليه من الجزية، فوجه إليهم عقبة قسماً من الجيش عليهم عمر بن علي القرشي وزهير بن قيس البلوي، وسار معهم بالقسم الآخر من الجيش واتجه إلى فزان2242، فلما دنا منها دعاهم إلى الإسلام فأجابوا2243، ثم واصل فتوحاته، فتح قصور كُوّار2244، وخاور2245، وغدامس2246، وغيرها2247، ومما يلاحظ أن عقبة تجنّب في مسيرة المناطق الساحلية، فقصد المناطق الداخلية يفتحها بلداً بلداً، ويبدو أنه فعل ذلك ليأخذ البربر إلى جانبه ويقيم جبهة(1/498)
داخلية تحيط بالبيزنطيين على الساحل وتمدّه بالطاقات البشرية للاستقرار والإطاحة بالوجود البيزنطي2248.
ثالثاً : بناء مدينة القيروان :
في سنة 50هـ بدأت إفريقية الإسلامية عهداً جديداً مع عقبة بن نافع، المتمرس بشؤون إفريقية منذ حداثة سنّه، فقد لاحظ كثرة ارتداد البربر، ونقضهم العهود، وعلم أن السبيل الوحيد للمحافظة على إفريقية ونشر الإسلام بين أهلها هو إنشاء مدينة تكون محط رحال المسلمين، ومنها تنطلق جيوشهم فأسس مدينة القيروان وبنى جامعها2249، وقد مهد عقبة قبل بناء المدينة لجنوده بقوله: إن إفريقية إذا دخلها إمام أجابوه إلى الإسلام، فإذا خرج منها رجع من كان أجاب منهم لدين الله إلى الكفر، فأرى لكم يا معشر المسلمين أن تتخذوا بها مدينة تكون عزاً للإسلام إلى آخر الدهر، فاتفق الناس على ذلك وأن يكون أهلها مرابطين، وقالوا: نقرب من البحر ليتم لنا الجهاد والرباط، فقال عقبة إني أخاف أن يطرقها صاحب القسطنطينية بغتة فيملكها، ولكن اجعلوا بينها وبين البحر ما لا يوجب فيه التقصير للصلاة فهم مرابطون2250، ولم يعجبه موضع القيروان الذي كان بناه معاوية بن حديج قبله، فسار والناس معه حتى أتى موضع القيروان اليوم2251، وكان موضع غيضة لا يرام من السباع والأفاعي، فدعا عليها، فلم يبق فيها شئ ، وهربوا حتى أن الوحوش لتحمل أولادها2252، وعن يحي بن عبد الرحمن بن حاطب قال: يا أهل الوادي! إنا حالون إن شاء الله، فظعنوا، ثلاث مرات فما رأينا حجراً ولا شجراً إلا يخرج من تحته دابة حتى هبطنا بطن الوادي: ثم قال للناس: انزلوا بسم الله2253، وكان عقبة بن نافع مجاب الدعوة2254، وقد رأى قبيل من البربر كيف أن الدواب تحمل أولادها وتنتقل، فأسلموا ثم شرع الناس في قطع الأشجار وأمر عقبة ببناء المدينة فبنيت وبني المسجد الجامع، وبنى الناس مساجدهم ومساكنهم وتم أمرها سنة 55هـ وسكنها الناس، وكان في الناس، وكان في أثناء عمارة المدينة يغزو(1/499)
ويرسل السرايا، فتغير وتنهب ودخل كثيراً من البربر الإسلام، واتسعت خطة المسلمين وقوي جنان من هناك من الجنود بمدينة القيروان وأمنوا واطمأنوا على المقام فثبت الإسلام فيها2255، وتم تخطيط مدينة القيروان على النمط الإسلامي، فالمسجد الجامع ودار الإمارة توأمان، لا ينفصل أحدهما عن الآخر، فهما دائماً إلى جوار بعضهما، ويكونان دائماً في قلب المدينة التي يخطتها المسلمون ويرتكزان في وسطها2256، وبينهما يبدأ الشارع الرئيسي للقيروان، الذي سيسمى باسم السماط الأعظم، ثم ترك عقبة فراغاً حول المسجد ودار الإمارة في هيئة دائرة واسعة، ثم قسمت الأرض خارج الدائرة إلى خطط القبائل، ليكون استمراراً للشارع الرئيسي في الاتجاهين إلى نهاية المدينة، وانجفل البربر من نواحي إفريقية إلى القيروان، وسكنوا حولها وكان الكثير منهم دخل في الإسلام، وشرعوا في تعلم اللغة العربية والقرآن الكريم وأمور دينهم وهكذا نشاهد فيما بين سنتي 50 و55هـ حركة قوية بدأت في تعريب الشمال الأفريقي2257.
1 ـ الخصائص المتوفرة في موضع القيروان :
…كانت الدوافع السياسية والعسكرية والإدارية والدعوية دوافع قوية في قرار عقبة في اتخاذ موقع القيروان، فقد تميز موقع القيروان بالآتي :
أ ـ بأنه لا يفصله عن مركز القيادة العسكرية في الفسطاط إي بحر أو نهر، فهو يقع على الطريق البري الذي يربط بين الفسطاط (بمصر) وبين المغرب، ويبدو أن عقبة رحمه الله أخذ بنظرية عمر بن الخطاب في بناء الأمصار والمعسكرات بألا يفصلها فاصل من نهر أو بحر أو جسر عن المدينة أو مركز القيادة، وأن تكون على طرف البر أو أقرب إلى البر والصحراء،(1/500)
ب ـ موافقة الموضع لذهنية العرب ومتطلباتهم الضرورية. وتتجلى هذه الخصوصية من خلال قراءة توصية عقبة بن نافع في أن يكون الموضع قريباً من السبخة: فإن أكثر دوابكم الإبل تكون أبلكم على بابها في مراعيها2258..، وكذلك في الكلمات التي عبر عنها أصحاب عقبة عندما استجمع رأيهم في الموضع المنتخب، إذ قالوا: نحن أصحاب أبل ولا حاجة لنا بمجاورة البحر2259.
جـ ـ بأنه يتمتع ببعض الانتاجات والموارد الذاتية، فالمنطقة التي كان فيها موضع القيروان عبارة غيضة، كما أورد الجغرافيون، وكان مواجهاً لجبال أوراس، معقل قبائل البربر، إذن، فإنه كان في بقعة زراعية تتضمن بعض المحاصيل التي تكفل للمجاهدين المسلمين مورداً غذائياً مهماً2260.
س ـ صحيح أن المشكلة الرئيسية التي جابهتها القيروان بعد اتخاذها كانت متمثلة بالموارد المائية، كما هي الحال في مدينة البصرة، مع وجود فارق بين المصرين، فإن مياه البصرة كانت مع الأنهار غير أنها مالحة. أما مياه القيروان الصالحة للشرب فكانت تعتمد على مصدرين، الأول منهما الأمطار حيث كانت تخزن في صهاريج يطلق عليها اسم (المواجل) ، وثانيها مياه وادي السراويل في قبلة المدينة، لكنه كان مالحاً. لذلك فإن بعض المؤرخين حدد مصدر مياه القيروان قائلاً: وشربهم من ماء المطر. إذا كان الشتاء ووقعت الأمطار والسيول دخل ماء المطر من الأودية إلى برك عظام يقال لها (المؤجل).. ولهم وادٍ يسمى وادي السراويل في قبلة المدينة يأتي فيه ماء مالح.. يستعملونه فيما يحتاجونه2261، ومع ذلك، فإن هذه المشكلة المعقدة يبدو أنها أخذت تتضاءل تدريجياً إلى حد ما2262.
2 ـ القيروان مركز الحضارة الإسلامية بالمغرب وعاصمتها العلمية :(2/1)
…لم تبدأ الحياة العلمية المركزة إلا بعد تأسيس القيروان سنة 50هـ، فسرعان ما أصبحت القيروان مركز الحضارة الإسلامية بالمغرب وعاصمته العلمية، منها انطلق الدعاة وإليها رحل طلاب العلم من الآفاق ومما رشح القيروان في هذه المكانة ما يلي:
أ ـ إن إنشاء مدينة القيروان يعني أن إفريقية أصبحت ولاية إسلامية جديدة وجزءاً لا يتجزأ من العالم الإسلامي الكبير، وبالتالي سيعيش المسلمون فيها حياتهم العادية، على رأسها التعليم وبث الثقافة الإسلامية، فإن القيروان مدينة رسالة وعلى أهلها تلقى مسئولية نشر الإسلام في المغرب، فكما كانت منطلق الجيوش الفاتحة، كانت كذلك منطلق الدعاة إلى الأنحاء لنشر الإسلام، وقد شعر الصحابة بهذه المكانة للقيروان منذ تأسيسها2263.
ب ـ لقد تم بناء الجامع وهو المدرسة الأولى في الإسلام، ولا شك أن الصحابة الذين كانوا في جيش عقبة قد جلسوا للتدريس فيه على النمط الموجود في مدن المشرق آنذاك، فقد كان مع عقبة أثناء تأسيس القيروان ثمانية عشر صحابياً2264، وقد مكثوا فيها خمس سنوات كاملة كان عملهم فيها، ولا شك، نشر اللغة العربية، وتعليم القرآن والسنة في جامع القيروان، وذلك أثناء بناء مدينة القيروان، حيث لم تكن هناك غزوات كبيرة تتطلب غياباً طويلاً عن القيروان، أما في غزوة عقبة الثانية فقد كان معه خمسة وعشرون صحابياً2265، وسائر جيشه من التابعين، وقد انتشرت رواية الحديث النبوي الشريف في هذه الفترة مما دعا عقبة أن يوصي أولاده من ورائهم جميع المسلمين بتحري حديث الثقات وعدم كتابة ما يشغلهم عن القرآن2266.(2/2)
ت ـ لقد استقطبت القيروان أعداداً هائلة من البربر المسلمين الذين جاءوا لتعلم الدين الجديد، قال ابن خلدون عند حديثه عن عقبة: فدخل إفريقية وانضاف إليه مسلمة البربر، فكبر جمعه ودخل أكثر البربر في الإسلام ورسخ الدين2267، ولا شك أن الفاتحين قد خصصوا لهم من يقوم بهذه المهمة2268. ومن القيروان انتشر الإسلام في سائر بلاد المغرب، فقد بنى عقبة بالمغربين الأقصى والأوسط عدة مساجد لنشر الإسلام بين البربر، كما ترك صاحبه شاكراً في بعض مدن المغرب الأوسط لتعليم البربر الإسلام2269، ولما جاء أبو المهاجر دينار لولاية إفريقية تألف كُسيلة وقومه وأحسن إلى البربر، فدخلوا في دين الله أفواجاً ودعّم حسان بن النعمان ـ فيما بعد جهود عقبة في نشر الإسلام بين البرير حيث خصّص ثلاثة عشر فقيهاً من التابعين لتعليم البربر العربية والفقه ومبادئ الإسلام2270، وواصل موسى بن نُصير هذه المهمة حيث: أمر العرب أن يعلّموا البربر القرآن وأن يفقّهوهم في الدِّين2271، وترك في المغرب الأقصى سبعة وعشرين فقيهاً لتعليم أهله2272.(2/3)
جـ ـ كان كثير من أفراد الجيش قد صحبوا معهم زوجاتهم، ومنهم من اتخذ بإفريقية السراري وأمهات الأولاد، قال أبو العرب2273: روى بعض المحدثين أن عبد الله بن عمر بن الخطاب لما غزا مع معاوية بن حديج كانت معه أم ولد له، فولدت له صبية من أم الولد وماتت، فدفنها في مقبرة قريش بباب سلم، فاتخذتها قريش مقبرة يدفنون فيها لمكان تلك الصبية2274. ومن هنا كان لابد من الاهتمام بتعليم النشئ المسلم مبادئ الإسلام واللغة العربية ولذلك فقد نشأت الكتاتيب بالقيروان في وقت مبكر جداً، فقد روي عن غياث بن شبيب أنه قال: كان سفيان بن وهب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بنا ونحن غلمة بالقيروان فيسلم علينا ونحن في الكُتّاب وعليه عمامة قد أرخاها من خلفه2275، وكان سفيان بن وهب قد دخل القيروان مرتين أولاهما سنة 60هـ أي بعد الانتهاء من تأسيس القيروان بخمس سنوات، والثانية سنة 78هـ2276.
س ـ إن الموقع الجغرافي لمدينة القيروان كان له دور كبير في إثراء الحياة العلمية وإنعاشها، فقد كانت في موقع متوسط بين الشرق والغرب يمرّ بها العلماء والطلبة من أهل المغرب والأندلس في ذهابهم إلى المشرق، فيسمعون من علمائها2277، وكثير منهم يصبح أهلاً للعطاء عند عودته فيسمع منه أهلها، كما كان يدخلها من يقصد المغرب أو الأندلس من أهل المشرق2278.
ش ـ لقد كانت التجارة في القيروان رابحة والسلع فيها نافقة ولذلك أمّها كبار التجار من المشرق والمغرب وكثير منهم من المحدّثين والفقهاء، فكان ذلك عاملاً مهماً في إزدهار الحياة العلمية بالقيروان2279.(2/4)
ص ـ وممّا أسهم في شراء الحياة العلمية كون القيروان آنذاك هي العاصمة السياسية، ذلك أنّه كلما جاء أمير جديد اصطحب معه مجموعة من العلماء والأدباء، كما أن كثيراً من المحدثين والفقهاء يفدون إلى العاصمة الإفريقية ضمن الجيوش القادمة من المشرق والتي استمر مجيئها إلى بعض منتصف القرن الثاني، هذا بالإضافة إلى من كان يقصد الأمراء للمدح والتسلية من أهل الشعر والأدب2280.
ل ـ كما أن القيروان اكتسبت نوعاً من الاحترام والتعظيم باعتبارها البلد الذي أسسه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهر بها على أيديهم كثير من الكرامات، واستقر بها بعضهم مدة من الزمن، وهي آخر ما دخله الصحابة من بلاد المغرب2281، كل هذه الأمور هيأت القيروان لدور الريادة العلمية في إفريقية والمغرب حتى وصفها أبو إسحاق الجبنياني قوله: القيروان رأس وما سواها جسد، وما قام برد الشبه والبدع إلا أهلها ولا قاتل ولا قتل على أحياء السنة إلا أئمتها2282، وقد لهج المؤلفون القدامى بفضل القيروان على سائر بلاد المغرب في المجال العلمي من ذلك ما وصفها به ماقديشي بأنها: منبع الولاية والعلوم، فهي لأهل المغرب أصل كل خير، والبلاد كلها عيال عليها، فما من غصن من البلاد المغربية إلا منها علا، ولا فرع في جميع نواحيها إلا عليها ابتنى، كيف لا ومنها خرجت علوم المذهب وإلى أئمتها كل علم ينسب ولا ينكر هذا خاص ولا عام، ولا يزاحمها في هذا الفضل أحد على طول الأمد والأيام2283، وهكذا أصبحت القيروان دار العلم الإفريقية وبرز فيها كبار المحدثين والفقهاء والقراء ورحل إليها أهل المغرب والأندلس لطلب العلم، وقد نافح أهلها عن مذاهب السلف فصارت دار السنة والجماعة بالمغرب2284، لقد قامت القيروان بدور كبير في فتح شمال إفريقية كله والأندلس ونشر الإسلام في المغرب وأصبحت من أهم مراكز الحضارة الإسلامية2285.
رابعاً : عزل عقبة وتولي أبي المهاجر دينار سنة 55هـ :(2/5)
بينما كان عقبة يواصل فتوحاته، وينظم مدينته الجديدة، إذ بوالي مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري يعزله ويولي مكانه مولاه أبا المهاجر بولاية إفريقية، وقد صرح هو نفسه بذلك حينما قالوا له: لو أقررت عقبة فإن له جزالة وفضلاً فقال: ... إن أبا المهجر صبر علينا في غير ولاية، ولا كبير نيل فنحن نحب أن نكافئه2286، ولما عزل عقبة ذهب إلى معاوية في دمشق معاتباً، وقال له: فتحت البلاد، وبنيت المنازل، ومسجد الجماعة ودانت لي، ثم أرسلت عبد الأنصار، فأساء عزلي. فاعتذر إليه معاوية، وقال له: عرفت مكان مسلمة بن مخلد من الإمام المظلوم، وتقديمه إياه، وقيامه بدمه وبذله مهجته2287، ووعد معاوية عقبة برده إلى ولايته، ولكن الأمر تراخي كما يقول ابن عذارى حتى توفي معاوية وأفضى الأمر إلى يزيد، فرد عقبة والياً على إفريقية2288. وهناك نقطة في هذا الموضوع، وهي الإساءة التي تعرض لها عقبة من أبي المهاجر أثناء عزله فقد ذكرت المصادر أن أبا المهاجر أساء إلى عقبة إساءة بالغة، فقد سجنه وأوقره حديداً2289، ولا ندري ما الذي حمل أبا المهاجر على هذا؟ قال الدكتور عبد الشافي محمد عبد اللطيف في كتابه القيم: ولا ندري ما الذي حمل أبا المهاجر على هذا؟ ويصعب علينا أن نقبل اتهام الدكتور حسين مؤنس لمسلمة بن مخلد، بأنه هو الذي أوعز إلى أبي المهاجر أن يسيء إلى عقبة2290. فهذا اتهام لا يستند إلى دليل، خصوصاً وأن ابن عبد الحكم يقول عن مسلمة حين ولي أبا المهاجر: وأوصاه حين ولاه أن يعزل عقبة بأن يحسن العزل، فخالفه أبو المهاجر، فأساء عزله وسجنه وأوقره حديداً، حتى أتاه كتاب من الخليفة بتخلية سبيله وإشخاصه إليه2291. ثم يذكر أن مسلمة ركب إلى عقبة حين مر بمصر وترضاه وأقسم له بالله لقد خالفه ما صنع أبا المهاجر وقال له: ولقد أوصيته بك خاصة2292، ولكن لماذا خالف أبو المهاجر وصية مولاه مسلمة وأساء إلى عقبة، مع أنه هو شخصياً كان يجل عقبة، ويعرف مقامه، وقد(2/6)
جزع عندما دعا عليه عقبة، وقال هذا رجل لا يرد له دعاء، هذا هو السؤال الذي لا نملك عليه جواباً شافياً .. اللهم إلا الاستنتاج الذي أخذ به محمد علي دبوز، وهو أن أبا المهاجر ربما يكون قد أضطر اضطراراً إلى القبض على عقبة وسجنه، لأن عقبة خاشنه ولم يرضخ للعزل بسهولة لأنه كان يرى نفسه أحق بالولاية والقيادة من أبي المهاجر: ولعل أبا المهاجر قد خاف من خلاف يقع بين المسلمين لعدم رضوخ عقبة له فيستغله أعداؤهم الروم، فاضطر إلى سجنه حتى لا يحدث خلل بين المسلمين2293. إن كان هذا الاستنتاج صحيحاً وهو على كل حال معقول، فقد يخفف من شدة اللوم الذي يوجهه إلى أبي المهاجر كل مسلم حريص على أن تسود روح الاحترام والإجلال بين القادة المسلمين مهما كانت خلافاتهم، وأن يحاول اللاحق منهم الاستفادة من جهود السابق وخبرته، بدلاً من الإساءة وتبادل الأحقاد وأن يكون السابق منهم حريصاً كذلك على أن يعطي خبرته وتجاربه ونصائحه للاحق، حتى ينجح في مهمته لأن هدفهم واحد وهو الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته ونشر دينه2294.
خامساً : فتوحات أبي المهاجر دينار 55 ـ 62هـ :(2/7)
…على الرغم… من الخطأ الكبير الذي ارتكبه أبو المهاجر في حق سلفه، المجاهد الكبير عقبة بن نافع، إلا أن الإنصاف يقتضينا أن نقول أنه قام بدور عظيم في فتح المغرب وتمهيده لقبول الإسلام ديناً ونظام حياة، فقد كان أبو المهاجر يتمتع بقدر كبير من الكياسة والسياسة وحسن التصرف، وقد رأى ـ بثاقب نظرة ـ أن سياسة الشدة التي كان يسير عليها عقبة بن نافع لا بد أن تغير، وعليه أن يصطنع بدلها سياسة كسب القلوب، فالبربر قوم أشداء يعتدون بكرامتهم وحريتهم فسياسة اللين معهم قد تكون أجدى من سياسة الشدة وقد نجح أبو المهاجر في سياسته تلك نجاحاً كبيراً، كما أن أبا المهاجر قد أدرك أن الذين يحركون البربر في شمال أفريقيا ضد المسلمين ويؤلبونهم عليهم، هم الروم2295، الذين أخذوا يتحببون إلى البربر ولذلك انتهج سياسة تقوم على كشف حقيقة الروم وعلى إقناع البربر أن المسلمين ما جاءوا إلى هذه البلاد يستعمروهم ويستعبدونهم ويستغلوا بلادهم، كما يحاول الروم أن يفهموهم، وإنما جاءوا لهدايتهم ولخيرهم ودعوتهم إلى الإسلام الذي فيه سعادتهم ومساعدتهم على التحرر من ربقة الروم، الذين يستغلون بلادهم منذ قرون، وكان الروم رغم الهزائم التي حلت بهم في وسط إقليم إفريقية وجنوبه، لازالوا قوة في الشمال، ولازالت عاصمتهم قرطاجنة عذراء لم يقصدها أحد من الفاتحين الأولين، ثم إنهم لازالوا قوة في ساحل المغرب من بنزرت إلى طنجة، فكان على أبي المهاجر أن يضرب الروم ضربة قوية ليضعضع نفوذهم في تلك النواحي، ويكسر الحلف الذي عقدوه مع البربر، فسار إلى قرطاجنة ونازلها2296، فاستغلقت وتحصنت بالأسوار العالية، فشدد أبو المهاجر الحصار عليها فعلم الروم أنه لا قبل لهم بالجيش الإسلامي، وأن أبا المهاجر لا بد أن ينتصر عليهم، فيدخل العاصمة باقتداره وقوته، فطلبوا الصلح فصالحهم بإخلاء جزيرة شريك2297، لتنزل فيها جنوده، وكان أبو المهاجر يهدف من احتلال جزيرة شريك، القريبة(2/8)
من قرطاجنة، أن يراقب الروم وتحركاتهم، وترك فيها حامية من الجيش جعل على رأسها قائده حنش الصنعاني ليصد الروم إذا حاولوا مهاجمة المسلمين أثناء غزوهم للبلاد2298. رفع أبو المهاجر الحصار عن قرطاجنة بعد أن انتزع من الروم جزيرة شريك، ذلك الموقع الاستراتيجي الهام، وترك فيها حامية تؤمن ظهر المسلمين، وتراقب تحركات الروم، ثم اتجه بعد ذلك مسايراً الساحل ناحية الغرب، وقد خافه الروم والبربر جميعاً، فلم يتعرض له أحد، حتى وصل إلى مدينة ميلة2299، على خمسين ميلاً من بجاية في جنوبها الشرقي2300 فوجدها مستعدة للقتال، وكان فيها طائفة من البربر والروم، تحصنوا بها، فنازلها أبو المهاجر واحتلها، وغنم ما فيها واستقر بها، وكانت ميلة تتوسط المغربين الأدني والأوسط، فهي أحسن مكان يراقب منه أمور البربر والروم في هذه البقاع، فجعلها مقره، وأقام بها نحواً من سنتين وقد استثمر هذه المدة في الاتصال بالبربر، وإفهامهم حقيقة الإسلام، ودعوتهم إليه، وقد نجح في سياسته نجاحاً كبيراً فأقبل البربر على الإسلام وآية ذلك أن المؤرخين لم يتحدثوا عن معارك وقعت له في هذه النواحي من المغرب، قسطنطينية الآن ونواحيها إلى بجاية2301. لأن الروم كانوا يتقوون بالبربر، وهاهو أبو المهاجر قد نجح في اجتذاب البربر وفصلهم عن الروم، فسكنت تلك النواحي، سكون البحر بعد العاصفة2302، وترامت الأخبار إلى أبي المهاجر أن جمعاً من الروم والبربر يستعد لحربه، فقرر المسير إليهم، وكانت زعامة المغربين الأوسط والأقصى لقبيلة أوربة2303، وهي قسم كبير من أقسام البربر البرانس، وكان زعيم هذه القبيلة كسيلة بن لمزم، وكان كسيلة قوي الشخصية ذكي الفؤاد، غيوراً على وطنه وكان البربر يجلونه ويحبونه وكان نصرانياً متمسكاً بدينه، وكان لا يعرف حقيقة الإسلام والمسلمين،فاستطاع الروم أن يوحوا إليه ما أرادوا في الإسلام والمسلمين فرآهم عدواً لدينه ووطنه، ورأى أن أبا المهاجر في(2/9)
ميلة، فعلم أنه لا بد أن يسير لافتتاح المغرب الأوسط والأقصى، فذهب يدعو البربر لمكافحة المسلمين والاستعداد لحربهم وإجلائهم عن بلادهم، فتحمس البربر بثورة أميرهم كسيلة فلبسوا لامة الحرب، واستعدوا للقراع، فتجمع لكسيلة جيش كثيف من البربر والروم2304.
1 ـ معركة تلمسان2305: بعد أن استكمل كسيلة عدته عسكر في تلمسان، وانتظر اللقاء المرتقب مع أبي المهاجر ولم يطل انتظاره، فقد وصل أبو المهاجر، وعسكر بجيشه حول تلمسان، فألتقى الجيشان ودارت معركة قاسية، أبلى فيها كل من الفريقين بلاءً كبيراً، وأدركوا خطورتها وأن لها ما بعدها، وكثر القتلى من الجيشين، ثم أنزل الله نصره على المسلمين، فهزموا جيش كسيلة فولى الأدبار.
2 ـ إسلام كسيلة:(2/10)
…أسر كسيلة في معركة تلمسان وحمل إلى أبي المهاجر فأحسن إليه وقربه وعامله معاملة الملوك2306، وطمع في إسلامه، فحدثه عن الإسلام وعرفه حقيقته، وإنه دين التوحيد الخالص، والعدل والمساواة، والأخوة، وأنه لو أسلم فلن يخسر شيئاً، بل العكس سوف يكسب الكثير روحياً ومادياً، وكان كسيلة ذكياً طموحاً مخلصاً لقومه لا يريد لهم إلا الإصلاح، فآمن كسيلة، وأصبح من المسلمين وأغرم بالعربية فصار يتعلمها، وأصبح من المقربين من أبي المهاجر وشمّر كسيلة لمناصرة الإسلام والمسلمين ودعا قومه البربر للدين الحنيف، وكان البربر قد تفتحت قلوبهم للإسلام والمسلمين وعاد أبو المهاجر بعد أن اطمأن إلى أمور المغرب الأوسط وإلى إسلام البربر إلى مقره قريباً من القيروان، وأقام بقرية تسمى دكرور يراقب الأمور، ويرصد تحركات الروم ودسائسهم ويعمل على إزالة نفوذهم من الشمال الإفريقي، لكن لسوء الحظ لم يطل به المقام، فقد توفي مولاه مسلمة بن مخلد الأنصاري والي مصر سنة 62هـ وكان مسلمة سنداً قوياً لأبي المهاجر فلما زال هذا السند أعاد يزيد بن معاوية 60 ، 64هـ عقبة بن نافع إلى إفريقية ثانية وعزل أبا المهاجر2307، وفي تولية أبو المهاجر على إفريقية دليل على ثقة مسلمة بن مخلد الأنصاري فيه وحسن معاملة الموالي في الإسلام وبيان أن الناس كلهم سواسية في الإيمان سواء أكانوا عرباً مسلمين أو أجناساً أخرى من غير العرب، ونستدل من هذا الاختيار على أن الموالي قد تمتعوا بمكانه مرموقة في العصر الأموي بعكس ما تصوره بعض الأقوال، وقيل أنا أبا المهاجر من موالي النوبة في مصر وقيل بأنه يرجع إلى أصول بربرية2308.
سادساً : حملة عقبة بن نافع الثانية 62 ـ 63هـ:(2/11)
…وصل عقبة بن نافع إلى إفريقية ورتب أمورها وعامل أبا المهاجر معاملة قاسية، فقد أوثقه في وثاق شديد2309، ومع هذا فقد كان أبو المهاجر مخلصاً وفياً شهماً غيوراً فلم يبخل بنصائحه لعقبة بالرغم ما حدث بينهما من الجفوة ومن أبرز هذه النصائح إشارته على عقبة بإكرام زعيم البربر كسيلة، ومحاولة تأليفه ليبقى على الإسلام، ولكن عقبة أهان ذلك الزعيم، حيث أمره يوماً أن يسلخ شاة بين يديه، فدفعها كسيلة إلى غلمانه، فأراده عقبة على أن يتولاها بنفسه وانتهره، فقام كسيلة مغضباً وجعل كلما دس يده في الشاة مسح بلحيته، وبلغ ذلك أبا المهاجر فبعث إليه ينهاه ويقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألف جبابرة العرب وأنت تعمد إلى رجل جبَّار في قومه وبدار عزه حديث عهد بالشرك فتفسد قلبه؟ توثَّق من الرجل فإني أخاف فتكه2310 فتهاون به عقبة، وسيأتي الحديث عن غدر كسيلة بالمسلمين وكيف اغتنم فرصة انفراد عقبة في بعض جيشه كما سيأتي بيانه وكيف قال عقبة لأبي المهاجر: الحق بالقيروان وقم بأمر المسلمين وأنا اغتنم الشهادة، فقال أبو المهاجر: وأنا اغتنم الشهادة مثلك، فكسر كل واحد منهما غمد سيفه وكسر المسلمون أغماد سيوفهم وقاتلوا حتى قتلوا2311. قد لاحظنا أن أبا المهاجر خاض معركة واحدة كبرى دوخ بها الروم والبربر، وخضع له البربر، ودخل بعض زعمائهم في الإسلام وأبرزهم كسيلة، ودخل كثير من قومه في الإسلام ووفر أبو المهاجر بذلك جهوداً كبيرة لابد من بذلها في فتح بلاد المغرب لو بقي أولئك البربر على كفرهم، ولاشك أن عقبة حينما أهان ذلك الزعيم البربري لم يكن يعتقد بصحة إسلامه إذ أن عقبة كان في غاية التواضع للمسلمين وكان اجتهاده يقضي بمحاولة إذلال ذلك الرجل حتى يتحطم طغيانه وتهون مكانته في نفوس قومه فلا يستطيع بعد ذلك أن يستنفرهم لحرب ضد المسلمين، ولكنه أخطأ في اجتهاده لأن قوم ذلك الرجل كانوا حديثي عهد بالإسلام، ومهما كان لظن عقبة فيه من(2/12)
احتمال في عدم الصدق في الولاء فإن كسبه وبقاءه في جيش المسلمين وتحت سلطتهم أولى بكثير من معاداته وإتاحة الفرصة له لضرب المسلمين من مكامن الخطر، وهو الذي صحبهم وحاز على شيء من ثقتهم2312، ومن موقف عقبة المذكور تظهر لنا نتيجة مهمة من نتائج العمل بسنن الإسلام التي من أهمها العمل بالشورى وأخذ رأي أهل الحل والعقد خاصة في الأمور المهمة، وعلى أي حال فإن كلا القائدين كان مجتهداً في تصرفه ولا يظن بواحد منهما أنه كان يعمل لصالح نفسه أو لصالح عشيرته وإنما كان رائدهما النظر في مصلحة الإسلام والمسلمين، ولكن كان اجتهاد أبي المهاجر أقرب إلى الصواب في هذه القضية2313.
1 ـ جهاده من القيروان إلى المحيط:(2/13)
بعد اكتمال بناء القيروان عام خمسة وخمسين عُزل عقبة بن نافع عن ولاية إفريقية، ثم أُعيد إليها عام اثنين وستين قام برحلته الجهادية المشهورة التي قطع فيها ما يزيد على ألف ميل من القيروان في تونس إلى ساحل المحيط الأطلسي في المغرب، وقد استخلف على القيروان زهير بن قيس البلوي ودعا لها قائلاً: يا رب أملأها علماً وفقهاً وأملأها بالمطيعين لك، واجعلها عزاً لدينك وذلاً على من كفر بك .. وامنعها من جبابرة الأرض2314، وخرج عقبة بأصحابه الذين قدم بهم من الشام وعددهم عشرة ألف إلى جانب عدد كبير انضم إليهم من القيروان، ودعا بأولاده قبل سفره وقال لهم: إني قد بعت نفسي من الله عز وجل فلا أزال أجاهد من كفر بالله ثم قال: ـ يا بني أوصيكم بثلاث خصال فاحفظوها ولا تضيعوها: إياكم أن تملئوا صدوركم بالشعر وتتركوا القرآن، فإن القرآن دليل على الله عز وجل، وخذوا من كلام العرب ما يهتدي به اللبيب ويدلكم على مكارم الأخلاق، ثم انتهوا عما وراءه، وأوصيكم أن لا تُداينوا ولو لبستم العباء فإن الدّين ذُلُّ بالنهار وهم بالليل، فدعوه تسلم لكم أقداركم وأعراضكم وتبق لكم الحرمة في الناس ما بقيتم، ولا تقبلوا العلم من المغرورين المرخصين فيجهلوكم دين الله ويفرقوا بينكم وبين الله تعالى، ولا تأخذوا دينكم إلا من أهل الورع والاحتياط فهو أسلم لكم، ومن احتاط سلم ونجا فيمن نجا ـ ثم قال: عليكم سلام الله واُراكم لا ترونني بعد يومكم هذا ـ ثم قال: اللهم تقبّل نفسي في رضاك واجعل الجهاد رحمتي ودار كرامتي عندك2315. وهكذا ما ان وطئت أقدام عقبة أرض القيروان حتى عزم على الخروج للجهاد غير هياب ولا متردد، ومما يدل على مبلغ حبه للجهاد وهيامه به قوله في وصيته لأولاده: إني قد بعت نفسي من الله عز وجل فلا أزال أجاهد من كفر بالله. فهو قد باع نفسه من الله عز وجل، واشتاق إلى الثمن العظيم الغالي ((إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ(2/14)
وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) ( التوبة :أية 111) . فجعل عمله الذي نذر حياته لأجله هو الجهاد، ونصب أمام عينيه الهدف السامي، وهو إعلاء كلمة الله في الأرض2316، وفي وصيته المذكورة لأولاده فوائد جليلة، فقد أوصاهم بثلاث وصايا:
أ ـ الوصية الأولى: الاهتمام بانتقاء العلم واختيار أطيبه، وذلك بالاهتمام أولاً بالقرآن الكريم، حيث إنه الكتاب الذي يدل على الله عز وجل، وما ابلغه من وصف يهدي إلى بلوغ الهدف السامي الذي يسعى إليه كل مؤمن، وهو ابتغاء رضوان الله تعالى ونعيمه، ولا شك أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يدخل في مقاصد القرآن الكريم لقوله تعالى: ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) (الحشر :أية :7) . ثم انتقاء الطيب من كلام العرب الذي يرشد إليه العقل السليم ويحث على مكارم الأخلاق.
بـ ـ الوصية الثانية : البعد عن الاستدانة ولو دفع إليها الفقر لأن الدين ذل بالنهار حيث يدفع المستدين إلى بعض مواقف الذل أمام الدائن ومن لهم علاقة به، وهمُّ بالليل حيث يخلو المستدين إلى نفسه فيتذكر حقوق الناس عليه.(2/15)
جـ ـ الوصية الثالثة: التحري في تلقي العلم، وذلك باختيار العلماء الربانيين أهل الورع والتقوى، والبعد عن العلماء المغرورين أهل الدنيا والجاه، فإنهم يزيدون المتعلم جهلاً حيث يبعدونه عن حقيقة العلم وثمرته وهي تقوى الله عز وجل2317. ونجد عقبة في نهاية وصيته لأولاده يسلمّ عليهم سلام المودع، مما يدل على استماتته في سبيل الله تعالى، ثم يقول: اللهم تقبل نفسي في رضاك، واجعل الجهاد رحمتي ودار كرامتي عندك2318. وبهذا الاهتمام الكبير نجح عقبة بن نافع رحمه الله في فتوحاته حيث جعل الجهاد قضيته الكبرى في هذه الحياة2319. سار عقبة في جيش عظيم متجهاً إلى مدينة باغية2320، حيث واجه مقاومة عنيفة من البيزنطيين الذين انهزموا أمامه ودخلوا مدينتهم وتحصنوا بها، فحاصرهم مدة ثم سار إلى تلمسان وهي من أعظم مدائنهم فانضم إليها من حولها من الروم والبربر فخرجوا إليه في جيش ضخم والتحم القتال، وثبت الفريقان حتى ظن المسلمون أن في تلك المعركة فناءهم ولكن منَّ عليهم بالصبر فكانوا في ذلك أشدَّ وأصبر من أعدائهم فهاجموا الروم هجوماً عنيفاً حتى ألجئوهم إلى حصونهم فقاتلوهم إلى أبوابها وأصابوا منهم غنائم كثيرة2321، ثم استمر غربا قاصداً بلاد الزاب، فسأل عن أعظم مدنها فقيل له(( أَرَبَه)) وهي دار ملكهم وكان حولها ثلاثمائة وستون قرية كلها عامرة، فامتنع بها من كان هناك من الروم وأهل المدينة وهرب بعضهم إلى الجبال، فاقتتل المسلمون مع أهل تلك المدينة فانهزم أهل تلك البلاد وقُتل كثير من فرسانهم ورحل عقبة إلى(( تاهرت)) فاستغاث الروم بالبربر فأجابوهم ونصروهم، وقام عقبة بن نافع في الناس خطبةً فقال بعدما حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس إن أشرافكم وخياركم الذين رضي الله تعالى عنهم وأنزل فيهم كتابه بايعوا رسول الله بيعه الرضوان على من كذب بالله إلى يوم القيامة، وهم أشرافكم والسابقون منكم إلى البيعة، باعوا أنفسهم من رب العالمين بجنته(2/16)
بيعة رابحة، وأنتم اليوم في دار غربة وإنما بايعتم رب العالمين، وقد نظر إليكم في مكانكم هذا، ولم تبلغوا هذه البلاد إلا طلبا لرضاه وإعزازاً لدينه، فأبشرو فكلما كثر العدو كان أخزى لهم وأذل إن شاء الله تعالى وربكم عز وجل لا يُسلمكم، فالقوهم بقلوب صادقة، فإن الله عز وجل جعلكم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين فقاتلوا عدوكم على بركة الله وعونه والله لا يرد بأسه عن القوم المجرمين2322. وهذه خطبة عظيمة تدل على أن عقبة بن نافع رضي الله عنه قد اعتمد في حروبه على السلاح الأعظم الذي فيه سر انتصارات المسلمين الباهرة .. ألا وهو التوكل على الله تعالى، واستحضار عظمته وجلاله، ومعيته لأوليائه المؤمنين بالنصر والتأييد، فهو لا يبالي بجيوش الأعداء مهما كثرت، وإنما الذي يهتم به أن يتأكد جيداً من أن هذا السلاح المعنوي الفعال قد توفر في جيشه، وحينما يضمن ذلك فإنه يرحب باجتماع جيوش الأعداء ليكون ذلك أسرع في هلاكهم وتمزيق جمعهم على يد أولياء الله الصالحين وما أعظم شبه عقبة بخالد بن الوليد رضي الله عنه، الذي كان يُسَرُّ ويداخله شعور بالقوة والتعاظم ـ من غير غرور ولا استهانة ـ كلما تضخم جيش الأعداء وتعددت عناصره، وكأن عقبة قد تأس به واتخذه له قدوة في القيادة والإقدام الذي لا يعرف التردد والسآمة، وهو في إقدامه واندفاعه يدرك أن جنود الإسلام الصادقين هم بأس الله تعالى المسلط على أعدائه الكفار، والله تعالى لا يُردّ بأسه عن القوم المجرمين. إن شعوره الدائم بأن المجاهدين المسلمين هم سيف الله تعالى وبأسه الموجه ضد أعدائه يجعله عظيم الثقة بنصر الله تعالى وحسن الظن به2323.هذا وقد التقى المسلمون بأعدائهم في مدينة ((تاهرت)) وقاتلوهم قتالاً شديداً، فاشتد الأمر على المسلمين لكثرة عدوهم، ولكنهم انتصروا أخيراً، وانهزم أعداؤهم من الروم والبربر، وقتل منهم عدد كبير، وغنم منهم المسلمون أموالهم وسلاحهم2324، ثم توجه إلى(2/17)
جهات المغرب الأقصى فوصل إلى طنجة، حيث قابل بطريق من الروم اسمه (( جوليان )) الذي: أهدى له هدية حسنة، ونزل على حكمه2325ولما سأله عقبة عن بحر الأندلس قال عنه: لا إنه محفوظ لا يرام2326، ثم سأله عن البربر والروم بقوله: دلني على رجال البربر والروم فقال: قد تركت الروم خلفك وليس أمامك إلا البربر وفرسانهم في عدد لا يعلمهم إلا الله تعالى وهم أنجاد البربر وفرسانهم، فقال عقبة: فأين موضعهم؟ قال: في السوس الأدنى، وهم قوم ليس لهم دين2327.. استفاد عقبة من هذه المعلومات واتجه إلى الجنوب الغربي، قاصداً بلاد السوس الأدنى حيث التقى بجموع بربر أطلس الوسطى، فهزمهم وطاردهم نحو صحراء وادي درعا، حيث بنى مسجداً في مدينة درعا ثم غادر صحاري مراكش باتجاه الشمال الغربي إلى منطقة ((تافللت)) من أجل أن يدور حول جبال أطلس العليا كي يدخل بلاد صنهاجة الذين أطاعوه دون قتال، وكذلك فعلت قبائل هكسورة في مدينة ((اغمات))، بعدها اتجه عقبة نحو الغرب إلى مدينة تفيس2328، حيث حاصر بها جموعاً من البيزنطيين والبربر، فلم ينفعهم تحصنهم، فدخل المدينة منتصراً وبذلك أتم تحرير بلاد السوس الأقصى ودخل عاصمتها ((ايجلي)) التي بنى فيها مسجداً، ثم دعا القبائل فيها هناك إلى الإسلام فأجابته قبائل جزولة، وبعد ذلك سار إلى مدينة ((ماسة)) ومنها إلى رأس ((ايفران)) على البحر المحيط2329، وبوصول عقبة بن نافع إلى ساحل المحيط الأطلسي يكون قد أنجز تحرير معظم بلاد المغرب، وتشير مصادرنا التاريخية أن عقبة لما وصل إلى المحيط الأطلسي قال: يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك. ثم قال: اللهم أشهد أني قد بلغت الجهود، ولولا هذا البحر لمضيت في البلاد أقاتل من كفر بالله حتى لا يعبد أحد من دونك ثم وقف ساعة ثم قال لأصحابه: ارفعوا أيديكم، ففعلوا، فقال: اللهم لم أخرج بطراً ولا أشراً وإنك لتعلم أنما نطلب السبب الذي طلبه عبدك ذو القرنين وهو أن(2/18)
تُعبد ولا يُشرك بك شيء، اللهم إنا معاندون لدين الكفر، ومدافعون عن دين الإسلام، فكن لنا ولا تكن علينا يا ذا الجلال والإكرام، ثم انصرف راجعاً2330. وندرك من قوله المذكور مدى حبه للجهاد وشعوره بالمسئولية الكبرى التي حملها على عاتقه نحو تبليغ الإسلام وتقوية دولته والقضاء على دول الكفر التي حجبت نور الإسلام عن شعوبها، فهو يقف على البحر المحيط ويعلم آنذاك أنه نهاية المعمور من الأرض من ناحية المغرب، ثم نجده يُشهد الله تعالى على أنه قد بلغ المجهود الذي تحت مقدرته، وهذه الشهادة تشعرنا بمدى ارتباط عقبة بالله تعالى، وأنه لم يكن يسير خطوة إلا وهو يستلهم التوفيق منه جل وعلا ويطلب رضوانه، وهذا الكلام يدل على وضوح الهدف من الجهاد عند عقبة حيث بيّن أن الحد الذي يقف عنده الجهاد، أن يزول الشرك من الأرض، وأن لا يعبد إلا الله وحده، ومادام الشرك قائماً فإن الجهاد لا بد أن يكون موجوداً، فالجهاد أذن هو جهاد الدعوة إلى الله تعالى، وذلك بإزالة الطغيان البشري وإخضاع دول العالم لحكم الإسلام لكي يكون فهم الإسلام واعتناقه متيسراً لكل الناس2331. ولم يقف عمل عقبة على الجهاد بل رافق ذلك بناء المساجد مثل مسجد درعة ومسجد ماسة بالسوس الأقصى2332، كما كان يترك نفراً من أصحابه يعلمون الناس القرآن وشرائع الإسلام، ومن هؤلاء شاكر الذي بنى رباطاً ما بين بلدتي مراكش وموجادور ولا زال موقعه باقياً إلى اليوم وهو المعروف عند العامة بالمغرب الأقصى بسيدي شاكر2333، ويظهر أن أغلبية بربر المغرب الأقصى أسلموا على يده طوعاً مثل صنهاجة وهسكورة وجزولة2334، كما أخضع المصامدة، وحملهم على طاعة الإسلام2335، وكي يأمن القبائل الكثيرة من الانتقاض عليه، كان عقبة يأخذ منها رهائن ويولي عليها رجلاً منها مثلما فعل مع مصمودة فقد ترك عليها أبا مدرك زرعة بن أبي مدرك، أحد رؤسائها، الذي شارك في فتح الأندلس فيما بعد2336، ويلاحظ أن الوثنية كانت(2/19)
غالبة على بربر المغرب الأقصى مما يفسر كثرة السبايا والغنائم، وأصاب ((عقبة)) نساء لم يرى الناس مثلهن فقيل أن الجارية كانت تساوي بالمشرق ألف مثقال وأكثر2337، وكان السبي أحد عوامل انتشار الإسلام بين البربر بحكم اختلاطهم بالبيئة العربية الإسلامية ثم إن الاحتكاك والاختلاط المستمرين بين المقاتلة العرب، والبربر أوجد صلات وروابط تجلت في الحلف والولاء في هذا الوقت المبكر2338. يذكر السلاوي أن عقبة حين وصل إلى جبل درن: نهضت زناته وكانت خالصة للمسلمين منذ إسلام مغراوة2339وهذا يشعر بأن بعض زناته ومغراوة كانتا قد أسلمتا منذ زمن وكانتا حليفتان للمسلمين فنهضتا للدفاع عن المسلمين2340.
2 ـ استشهاد عقبة بن نافع وأبو المهاجر رحمهما الله تعالى:(2/20)
يبدو أن عقبة المجاهد المخلص، كان يحس إحساس المؤمن الصادق، أنه سيلقى ربه شهيداً في هذه الجولة، فعندما عزم على المسير من القيروان في بداية الغزو دعا أولاده وقال لهم: إني قد بعت نفسي من الله عز وجل ... إلى أن قال ولست أدري أتروني بعد يومي هذا أم لا، لأن أملي الموت في سبيل الله، وأوصاهم بما أحب، ثم قال: عليكم سلام الله .. اللهم تقبل نفسي في رضاك2341. نعى عقبة نفسه إلى أولاده، فتقبل الله منه وحقق له أمله في الشهادة، فقد أعد له الروم والبربر كميناً عند تهوذة2342، وأوقعوا به وقضوا عليه هو ومن معه من جنوده، وترجع المصادر أمر الكارثة التي تعرض لها عقبة عند تهوذة إلى سبب رئيسي وهو سياسته نحو البربر بصفة عامة، وزعيمهم كسيلة بصفة خاصة ذلك الزعيم صاحب النفوذ والمكانة في قومه، والذي كان أبو المهاجر قد تألفه وأحسن إليه، فأسلم وتبعه كثير من قومه، لكن عقبة أساء إلى هذا الرجل إساءة بالغة، فأدرك أبو المهاجر عاقبة الخطأ الذي وقع فيه عقبة ولم يكتم نصيحته عنه ـ رغم أنه كان في حكم المعتقل ـ ولكن عقبة لم يسمع منه، وكان أبو المهاجر من معاشرته للبربر وزعيمهم، قد عرف مدى اعتزازهم بكرامتهم وأدرك أنهم لن يقبلوا هذه الإهانة، وهذا الإذلال الذي لحق بزعيمهم من عقبة فخاف غدرهم، فأشار على عقبة بالتخلص من كسيلة وقال له: عاجله قبل أن يستفحل أمره2343، ولكن عقبة لم يصغ إلى هذه النصيحة أيضاً وليته احتاط للأمر، بل أقدم على عمل آخر في غاية الخطورة، حيث جعل معظم جيشه يسير أمامه بعد أن رجع من رحلته الطويلة من المغرب الأقصى قاصداً القيروان، ولما صار قريباً من القيروان أرسل غالب جيشه على أفواج إلى القيروان وبقي هو على رأس الفوج الأخير، ومعه ما يقرب من ثلاثمائة من الفرسان من الصحابة والتابعين، وكان من عادة عقبة أنه يكون في مقدمة الجيش عند الغزو ويكون في الساقة عند قفول الجيش، فهو بذلك يعرض نفسه لخطر مواجهة العدو دائماً(2/21)
وإن هذه التضحية الكبيرة جعلته محبوباً لدى أفراد جيشه بحيث لا يعصون له أمراً ويتسابقون على التضحية اقتداء به، وهذه الصفة تعتبر من أهم عوامل نجاح القائد في أي عمل يتوجه إليه ولما علم الروم بانفراد عقبة بهذا العدد القليل من جيشه انتهزوا هذه الفرصة لمحاولة القضاء عليه، وهم يدركون أن وجوده القوي يعتبر أهم العوامل في تماسك المسلمين وبقاء قوتهم، فتآمروا عليه مع كسيلة البربري، فجمعوا لعقبة وأصحابه جمعاً لا قِبَلَ لهم2344 به وإذا بكسيلة يحيط بجيش عقبة في جمع عدته خمسون ألفاً2345. وكان أبو المهاجر موثقاً في الحديد مع عقبة، فلمّا رأى الجموع تمثل بقول أبي محن الثقفي:
……………كفى حزناً أن تمرغ الخيل بالقنا
………………………وأُترك مشدوداً عليّ وثاقيا
……………إذ قمتُ عنّاني الحديد وأُغلت
………………………مصارع من دوني تصمّ المناديا(2/22)
فلما سمع عقبة ذلك أطلقه، فقال له: الحق بالمسلمين وقم بأمرهم وأنا اغتنم الشهادة، فلم يفعل وقال: وأنا أيضاً أريد الشهادة2346، وهكذا كان أبو المهاجر نموذجاً من تلك النماذج الفريدة من الرجال، الذين هانت عليهم الحياة الدنيا واستولى على قلوبهم حب الآخرة وكسب رضوان الله تعالى، ومن هذا المنطلق أقدم عقبة ومعه عدد قليل على معركة غير متكافئة، وكان بإمكان بعضهم الفرار ولكنهم ثبتوا ثبات الأبطال حتى استشهدوا جميعاً في بلاد ((تهوذة)) من أرض الزاب ويَذكر المؤرخون أن قبور هؤلاء الشهداء معروفة في ذلك المكان وأن المسلمين يزورونها2347. وهكذا تحقق أمل عقبة في أبو المهاجر ونالا الشهادة في سبيل الله بعد ما قاموا بالواجب الذي عليهم، واستقبلوا الشهادة في سبيل الله بنفس راضية مطمئنة إلى حسن ثواب ربها، وقد استطاع عقبة أن يشق بجهاده للإسلام طريقه في هذا الجزء من العالم الذي سار فيه خلفاؤه من بعده، زهير بن قيس البلوي، وحسان بن النعمان الغساني، وموسى بن نصير، فقد حقق أهدافه من التمهيد لنشر الإسلام والجهاد في سبيل الله2348، ولقد كان استشهاد عقبة بن نافع ومن معه في عام ثلاثة وستين للهجرة وعمره آنذاك في حدود أربع وستين سنة، وبهذا ندرك مبلغ القوة التي كان يتمتع بها أسلافنا حيث قام بتلك الرحلة الشاقة وخاض المعارك الهائلة وقد جاوز الستين من عمره وهكذا استشهد هذا القائد العظيم بعد جهاد دام أكثر من أربعين عاماً قضاها في فتوح شمال أفريقيا، ابتداء بمصر وإنتهاء بالمغرب الأقصى2349
3 ـ أثر معركة تهوذة على المسلمين 63هـ :(2/23)
…كانت معركة تهوذة مصيبة على المسلمين، فقد استشهد القائد المجاهد عقبة بن نافع وصحبه وكان لاستشهاده وقع أليم على المسلمين، وانتابتهم حالة من الهلع والفزع، فمع أن العدد الذي استشهد مع عقبة كان قليلاً ـ قيل حوالي ثلثمائة جندي ـ وأن معظم الجيش كان قد سار متقدماً ونجا من المعركة، وكان من الممكن أن يتماسك هذا الجيش ويقاوم، حتى يحتفظ بوجوده في القيروان، إلا أن الحالة النفسية للجنود لم تسمح بذلك، وقد حاول زهير بن قيس البلوي خليفة عقبة على القيروان أن ينفخ في الجنود روح المقاومة والتصدي لكسيلة عندما زحف على القيروان، وهتف قائلاً: يا معشر المسلمين إن أصحابكم قد دخلوا الجنة، وقدمنّ الله عليهم بالشهادة، فاسلكوا سبيلهم، أو يفتح الله عليكم دون ذلك2350، ولكن صيحة زهيرة هذه لم تجد استجابة، بل لقيت معارضة وتثبيطاً، حيث تصدى له حنش الصنعاني وقال له: لا والله ما نقبل قولك ولا لك علينا ولاية، ولا عمل أفضل من النجاة بهذه العصابة من المسلمين إلى مشرقهم، ثم قال يا معشر المسلمين من أراد منكم القفول إلى مشرقة فليتبعني فاتبعه الناس، ولم يبق مع زهير إلا أهل بيته، فنهض في أثره، ولحق بقصره ببرقة وأقام بها مرابطاً إلى دولة عبد الملك بن مروان2351، وأما كسيلة فاجتمع إليه جميع أهل إفريقية، وقصد القيروان، وبها أصحاب الأثقال والذراري من المسلمين، فطلبوا الأمان من كسيلة فأمنهم، ودخل القيروان، واستولى على إفريقية وأقام بها غير مدافع إلى أن قوى أمر عبد الملك بن مروان2352، ولئن أخرجت إفريقية من يد المسلمين فإنها لم تخرج عن الإسلام، فقد أسلمت قبائل من البربر وثبتت على إسلامها وكان تعيش بالقيروان وكان كسيلة يحسب حسابها ويتفادها لشدة باسها فقد اعترف كسيلة بذلك حين اقترح على جيشه الخروج من القيروان واختيار موضع آخر لمواجهة جيش زهير الذي أمده به عبد الملك بن مروان قال كسيلة: إني أردت أن أرحل إلى ممس فأنزلها، فإن هذه(2/24)
المدينة ((يعني القيروان)) فيها خلق عظيم من المسلمين ولهم علينا عهد فلا نغدر بهم ونحن نخاف إذا التحم القتال أن يثبتوا علينا2353. هذا وقد بقيت القيروان بيد كسيلة مدة تقارب خمس سنوات من عام 64هـ ـ 69هـ حتى خلصها زهير البلوي من قبضته بعد أن أمده عبد الملك بن مروان بجيش كبير يأتي الحديث عن زهير بإذن الله في عهد عبد الملك بن مروان . وفي مقتل عقبة رحمه الله درس بليغ وهو أهمية الحذر من العدو فقد أرسل جنوده وبقي في مجموعة قليلة من المقاتلين رغباً في الشهادة وهذا مطلب سامي وكبير إلا أن استشهاده كان له آثار سيئة على الفتوحات في شمال إفريقيا وضاعت القيروان من أيدي المسلمين لمدة خمس سنوات وتأخرت الدعوة الإسلامية لذلك يجب على القادة أن يوازنوا بين مصالح الأمة الكبرى وحرصهم على الشهادة .
المبحث الثالث : فتوحات معاوية في الجناح الشرفي للدولة الأموية:
كان المسلمون حتى خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه قد أتموا فتح البلاد التي تقع بين العراق ونهر جيحون، وتضم جرجان وطبرستان وخراسان وفارس وكرمان وسجستان، فلما قتل عثمان تعثرت حركة الفتح، وخرج أكثر أهل هذه البلاد عن الطاعة، حتى إذا جاء عهد معاوية رضي الله عنه أخذت دولته تبذل جهوداً بالغة لإعادة البلاد المفتوحة إلى الطاعة ومد حركة الفتح2354.
أولاً : فتوحات خراسان2355 وسجستان وما وراء النهر :(2/25)
لما استقامت الأمور لمعاوية بن أبي سفيان ولّى عبد الله بن عامر البصرة وحرب سجستان وخراسان2356، ولقد جاء تعيين عبد الله بن عامر في هذا المنصب نظراً لخبرته السابقة في هذه المنطقة وفي سنة 42هـ ـ 43هـ عين ابن عامر، عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس والياً على سجستان فأتاها وعلى شرطته عبّاد بن الحصين الحبطي ومعه من الأشراف عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وعبد الله بن خازم السُّلمي، وقطري بن الفجاءة، والمهلب بن أبي صفرة الأزدي ففتحوا في هذه الحملة مدينة زرنج2357، صلحا ووافق مرزبانها على دفع ألفي ألف (مليوني) درهم، وألفي وصيف. ثم تقدموا نحو مدن خواش2358، وبست2359 ، وخُشَّك2360، وغيرها من البلدان وتمكنوا من فتحها ، كما تمكنوا من فتح مدينة كابل بعد أن ضربوا عليها حصاراً استمر لعدة أشهر2361. وما لبث أن جعل معاوية رضي الله عنه إقليم سجستان ولاية مستقلة وأمّر عليها عبد الرحمن بن سمرة كمكافأة له على تحقيقه مثل تلك الفتوحات2362. وظل عبد الرحمن والياً عليها حتى قدم زياد بن أبي سفيان البصرة معيناً عليها بدل عبد الله بن عامر، والذي عزله معاوية سنة 45هـ كما مر معنا وعادت ولاية خراسان وسجستان مرة أخرى تحت إشراف والي البصرة. وعند وصول زياد البصرة سنة 45هـ قسم خراسان أربعة أقسام هي: مرو وعليها أُمَير أحمد اليشكري والذي كان أول من أسكن العرب في مرو2363 ونيسابور وعليها خُلَيد بن عبد الله الحنفي، مرو الرُّود والطالقان والفارياب وعليها قيس بن الهيثم السُّلمي، هَراة وباذغيس وبوشنج وقاديس وعين عليها نافع بن خالد الطاحي الأزدي2364، وفي سنة 47هـ عمل زياد على جعل السلطة المركزية في خراسان في مدينة مرو ((القاعدة الأساسية فيها)).
ثانياً : تعيين الحكم بن عمرو الغفاري :(2/26)
…وكان عفيفاً وله صحبة2365، وفي سنة 47هـ غزا الحكم ((طخارستان))2366، فغنم غنائم كثيرة ثم سار إلى جبال الغور2367 وغزا أهلها الذين ارتدوا على الإسلام فأخذهم بالسيف عنوة وفتحها وأصاب منها مغانم كثيرة2368، وكان المهلب بن أبي صفرة مع الحكم بخراسان، فغزا معه بعض جبال الترك وغزا معه جبل ((الأشل))2369 من جبال الترك، إلا أن الترك أخذوا عليهم الشعاب والطرق واحتار الحكم بالأمر، فولى المهلب الحرب، فلم يزل المهلب يحتال حتى أسر عظيماً من عظماء الترك، فقال له: إما أن تخرجنا من هذا الضيق أو لأقتلنك، فقال له: أوقد النار حيال طريق من هذه الطرق، وسير الأثقال نحوه، فإنهم سيجتمعون فيه ويخلون ما سواه من الطرق، فبادرهم إلى طريق أخرى، فما يدركونكم حتى تخرجوا منه، وفعل ذلك المهلب، فسلم الناس بما معهم من الغنائم2370، وقطع الحكم نهر جيحون وعبر إلى ما وراء النهر2371 في ولايته ولم يفتح وكان أول من شرب من مائه من المسلمين هو أحد موالي الحكم، فقد اغترف بترسه بماء النهر، فشرب وناول الحكم فشرب وتوضأ وصلى ركعتين، وكان الحكم أول من فعل ذلك2372. وقد قال عبد الله بن المبارك لرجل من أهل ((الصغانيات)): ((من فتح بلادك؟)) فقال الرجل: لا أدري!! فقال ابن مبارك: فتحها الحكم بن عمرو الغفاري2373. وقد مات الحكم سنة50هـ2374، فخلفه الصحابي الجليل غالب بن فضالة الليثي والذي واصل سياسة سلفه في إرسال حملات منظمة في فتح طخارستان ولكنه، رغم كل الجهود التي بذلها لم يحرز إي تقدم يذكر في ولايات طخارستان2375 لذلك عزله زياد وولى مكانه الربيع بن زياد الحارثي ((50 ـ 53هـ2376))، وقد استطاع الربيع بن زياد إبان فترة ولايته على خراسان أن يغزو بلخ فصالحه أهلها، ثم غزا قوهستان ففتحها عنوة ثم أن ابنه عبد الله، الذي خلفه لبضعة أشهر من عام 53هـ وخلفه خليد بن عبد الله الحنفي في إدارة الإقليم، وظل خليد في منصبه هذا حتى وصل عبيد الله بن زياد بن(2/27)
أبي سفيان عامل معاوية رضي الله عنه المعين على خراسان في سنة 54 ـ 55هـ وكان عبيد الله ابن 25 عاماً2377.
ثالثاً : عبيد الله بن زياد :
…ما أن وصل عبيد الله إلى مرو حتى قاد حملة مكونة من 24 ألف رجل وقطعوا نهر جيحون على الإبل وفتحوا راميثين2378 ونسف2379 وبيكندة2380 فأرسلت ((خاتون)) ملكة ((بخارى)) إلى الترك تستمدهم فجاءهم منهم عدد كبير، فلقيهم المسلمون وهزموهم، وعند القتال انتصروا عليهم2381، فبعثت خاتون تطلب الصلح والأمان وصالحها عبيد الله على ألف ألف درهم فلم يفتح بخارى وفتح بيكندة2382، وكان قتال عبيد الله الترك من زحوف ((خراسان)) التي تذكر، وقد ظهر منه بأس شديد2383، فقد ذكر شاهد عيان، فقال: ما رأيت أشجع بأساً من عبيد الله بن زياد لقينا زحف الترك بـ((خراسان)) ، فرأيته يقاتل فيحمل عليهم، فيطعن فيهم ويغيب عنا ثم يرفع رايته تقطر دماً ، وبقي عبيد الله بخراسان سنتين2384، إذ ولاه معاوية البصرة سنة 55هـ2385، فقدم معه البصرة بخلق من أهل بخارى2386 وهم ألفان كلهم جيد الرمي بالنشاب2387، وتولى ابن زياد أرفع المناصب في أيام معاوية ويزيد ومروان وعبد الملك، وكان موضع ثقة بني أمية وكان يعتمد في حكمه على القسوة القاسية لفرض سيطرته على الناس، وكان لا يبالي من أجل تدعيم سيطرته أن يرتكب كل أنواع الإجراءات الرادعة قتلاً وتعذيباً وحجزاً للممتلكات والأموال2388، فقد كان ذا شخصية طاغية يحب الإمارة ويحب السيطرة ولقد أساء ابن زياد، فترك تصرفه الأهوج في قتل الحسين رضي الله عنه أثراً بالغاً في أيامه ولا نزال نعاني من نتائج قتله حتى اليوم2389، وسيأتي بيان تفصيل ذلك بإذن الله عند الحديث عن مقتل الحسين رضي الله عنه. وفي سنة 55 هـ قدم أسلم بن زرعة الكلابي خراسان والياً عليها من قبل معاوية بن أبي سفيان بدلاً من عبيد الله بن زياد والذي ندبه معاوية لولاية البصرة وظل أسلم في ولايته مدة تقارب السنة2390.(2/28)
رابعاً : سعيد بن عثمان بن عفان : 56هـ
…تروى المصادر التاريخية أن سعيداً بن عثمان بن عفان قد اصطحب معه إلى خراسان حوالي أربعة آلاف رجل فيهم عدد من مشاهير رجالات القبائل العربية في البصرة والكوفة كما كان من ضمنهم حوالي خمسين عابثاً وقاطعاً للطريق من أمثال مالك بن الرِّيب المازني التميمي وهؤلاء تابوا ورجعوا إلى رشدهم وفضلوا الجهاد في سبيل الله2391 ومالك بن الريب هو القائل:
……………ألم ترني بعت الضلالة بالهدى
……………………وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا2392(2/29)
وقدم سعيد خراسان فقطع النهر إلى (سمرقند) وبلغ خاتون ملكة بخاري عبوره النهر، فحملت إليه الصلح الذي صالحت عليه عبيد الله بن زياد وأقبل أهل الصُّغد وكِش ونسف إلى سعيد في مائة ألف وعشرين ألفاً، فالتقوا ببخاري، وقد ندمت خاتون على أدائها الجزية، فنكثت العهد ولكن قسماً من الحشود المجتمعة لقتال سعيد انصرفوا قبل مباشرة القتال، فأثّر انصرافهم في معنويات الآخرين واهتزّت معنوياتهم، فلما رأت خاتون ذلك، أعادت الصلح، فدخل سعيد مدينة بخاري فاتحاً2393، وطلب سعيد من خاتون أن تبعث إليه بثمانين من أعيان بلادها ممن كانوا على رأس الخارجين عليها، وممن تخشى غدرهم بها وتهديدهم لعرشها، وتخلّصت بذلك من أشدَّ أعدائها خطراً على عرشها وحاضرها، ومستقبلها، وحين تمَّ الصلح بين خاتون وسعيد، زارت خاتون سعيداً بمقرِّه، فطلعت عليه في زينتها الملكية، وكانت نادرة الجمال على ما يقال، فادّعى أهل بخاري أن القائد المسلم أعجب بجمالها أيّما أعجاب، وجرى ذكر إعجاب سعيد بها في الأغاني الشعبية التي لا يزال أهل بخاري يردِّدونها ويتغنون بها حتى اليوم ولكن هذا الإعجاب لا ذكر له في المصادر العربية الإسلامية المعتمدة، ومن الواضح أنه أقرب إلى خيال الأدباء والفنانين منه إلى حقائق المؤرخين. وغزا سعيد سمرقند، فأعانته خاتون بأهل بخاري، فنزل على باب سمرقند، وحلف ألاّ يبرح أو يفتحها وقاتل المسلمون أهل سمرقند ثلاثة أيام، وكان أشدّ قتالهم في اليوم الثالث حيث فُقئت عين سعيد، ولزم أهل سمرقند أن يفتح سعيد ذلك القصر عنوة ويقتل من فيه، فطلبوا الصلح، فصالحهم على سبعمائة ألف درهم، وعلى أن يعطوه رهناً من أبناء عظمائهم، وعلى أن يدخل المدينة ومن شاء ويخرج من الباب الآخر، فأعطوه خمسة وعشرين من أبناء ملوكهم، ويقال: إنهم أعطوه أربعين من أبناء ملوكهم، ويقال: ثمانين2394 وكان معه من الأمراء المهلب بن أبي صُفرة الأزدي وغيره واستشهد معه يومئذ قثم بن(2/30)
العباس بن عبد المطلب، وكان يُشبَّه بالنبي صلى الله عليه وسلم2395، وكان أخوه عبد الله بن عباس دفن بالطائف وأخوه معبد استشهد بأفريقية وعبيد الله بالمدينة وكلهم من أب واحد وأم واحدة قال تعالى: ((وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) (لقمان ، الآية : 34) .
…هذا وانصرف سعيد بن عثمان إلى (تِرْمِذ) ففتحها صلحاً2396 وقد كان سعيد شاعراً ومن شعره في معاوية قوله:
……………ذكرت أمير المؤمنين وفضله
………………………فقلت جزاه الله خيراً بما وصل
……………وقد سبقت مني إليه بوادر
………………………من القول فيه آفة العقل والزلل
……………فعاد أمير المؤمنين بفضله
………………………وقد كان فيه قبل عودته ميل
……………وقال: خراسان لك اليوم طعمه
………………………فجوزي أمير المؤمنين بما فعل
……………فلو كان عثمان الغداة مكانه
………………………لما نالني من ملكه فوق ما بذل2397
وعزل معاوية سعيد عام 57هـ، فأخذ سعيد ما لا من خراج خُراسان، فوجّه معاوية من لقبه بـ((حلوان))2398 وأخذ المال منه ومضى سعيد بالرهن الذين أخذهم من أبناء عظماء (سمرقند) حتى ورد بهم المدينة النبوية، فدفع ثيابهم ومناطقهم إلى مواليه، وألبسهم جباب الصوف، وألزمهم السقي والعمل2399، وألقاهم في أرض يعملون له فيها بالمساحي،فأغلقوا يوماً باب الحائط ووثبوا عليه فقتلوه ثم قتلوا أنفسهم2400، فقال خالد بن عقبة بن أبي معيط الأموي2401:
…………ألا إنّ خير الناس نفساً ووالداً
……………………سعيد بن عثمان قتيل الأعاجم
…………فإن تكن الأيام أردت صروفها
……………………سعيداً فهل حيٌ من الناس سالم؟
…وقال أيضتً يرثيه:
…………يا عين جودي بدمع منك تهتاناً
……………………وأبكي سعيد بن عثمان بن عفانا(2/31)
لم يف سعيد لأهل ((سمرقند)) بإعادة الرهن لهم، بل جاء بالغلمان معه إلى المدينة النبوية وجعل يستعملهم في النخيل والطين وهم أولاد الدهاقين وأرباب النِّعم، فلم يطيقوا ذلك العمل وسئموا عيشهم فوثبوا عليه في حائط له، وبذلك غدر بهم2402، فكان هذا الغدر وبالاً عليه، إذ قدم حياته ثمناً لغدره2403، لقد كان سعيد شهماً غيوراً يعتد بشخصيته، طموحاً، مُتْرَفاً،سخياً وكان من شخصيات قريش البارزة2404
خامساً: فتح سلم بن زياد أخو عبيد الله بن زياد: 57هـ(2/32)
عزل معاوية بن أبي سفيان سعيد بن عثمان بن عفان سنة سبع وخمسين الهجرية، وأُضيفت إلى ولاية عبيد الله بن زياد في رواية2405، وفي رواية أخرى، أن معاوية بن أبي سفيان ولّى خراسان عبد الرحمن بن زياد، وكان شريفاً، فلم يصنع شيئاً في مجال الفتح، وكان ذلك في سنة 59هـ2406 ومات معاوية وعلى خراسان عبد الرحمن بن زياد ولما سار سلم إلى خراسان، كتب معه يزيد إلى أخيه عبيد الله بن زياد في العراق ينتخب له ستة ألف فارس، وقيل: ألفي فارس، وكان سلم ينتخب الوجوه، فخرج معه عمران بن الفضيل البُرجُميّ والمهلب بن أبي صفرة، وعبد الله بن خازم السُّلمي، وطلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي وخلق كثير من رؤساء البصرة وأشرافهم، فأخذ سلم هؤلاء الفرسان معه من البصرة، وتجهز ثم سار إلى خراسان2407، وبدأ سلم بغزو خوارزم، فصالحوه على أربعمائة درهم وحملوها إليه وقطع سلم النهر (جيحون) ومعه امرأته أم محمد بنت عبد الله بن عثمان بن أبي العاص الثقفي، وكانت أوّل امرأة عربية عُبر بها النهر، فأتى (سمرقند) فصالحه أهلها2408ووجد (خاتون) ملكة بخارى قد نقضت العهد، واستنجدت بجيرانها من الصُّفد، وأتراك الشمال، فجاء طرخون على جيش الصُّفد، كما جاء ملك الترك في عسكر كثيف ولم تؤثر تلك الحشود الضخمة من القوات المعادية في معنويات المسلمين، فحاصروا بخارى دون أن يهجموا عليها، ليقفوا أولاً على تفاصيل قوات أعدائهم ومواضعها، وهي متربصة بهم في ومواضع ليست بعيدة عن بخارى وأمر سلم المهلب بن أبي صفرة الأذدي أن يستطلع أحوال العدو فاقترح المهلب أن يكلف غيره بهذه المهمة، وحجته أنه معروف المكانة بين قومه والمسلمين وقد يفشي تغيبه عن معسكر المسلمين سرّ الواجب الذي أُلقي على عاتقه، وهذا الواجب ينبغي أن يبقى سرّاً مكتوماً حتى يتم إنجازه بسرية تامة وكتمن شديد وحذر بالغ، لأن إفشاءه يعرّض المسلمين لخطر جسيم ولكنّ سلم بن زياد أصرّ على إيفاء المهلب دون غيره في هذا(2/33)
الواجب الحيوي الذي قد يعجز غيره عن النهوض به كما ينبغي، وأرسل معه ابن عمه ورجلاً من كل لواء من ألوية المسلمين، وأشترط المهلب على سلم إلا يبوح لأحد من الناس كائناً من كان بمهمته، ثم مضى إلى سبيله ليلاً مع جماعته الاستطلاعية، فكمن في موضع مستور، واستطلع قوات العدو دون أن يشعر العدو بموضعه المخفيّ المستور، ويبدو أن قوم المهلب والمسلمين افتقدوا المهلب في صلاة الفجر من تلك الليلة التي تسلل بها المهلب إلى موضع قريب من العدو، فما كان تغيب مثله أن يخفى على أحد وهو ليس مجهول المكان والمكانة يملأ الأعين قدراً وجلالاً، فألحّوا على سلم بالسؤال عن المهلب وألحفوا عليه، فلم يستطع أن يكتم أمره وأخبرهم أنه أرسله في مهمة استطلاعية ليلاً، وفشا الخبر بسرعة خاطفة في العسكر، فأسرع جمع من المسلمين بالركوب وتوجّهوا صوب موضع المهلب المستور، فكشفوا موضعه وموضع رجاله للعدو، وأبصرهم المهلب مقبلين نحوه يتسابقون بدون نظام ولا تنظيم فلامهم أشد اللوم على ما أقدموا عليه، لأنهم كشفوا موضع جماعته الاستطلاعية للعدو دون مسوِّغ، فعرّضهم لخطر محدق أكيد، وأصبح موقف المهلب ومن معه من المسلمين في خطر داهم فبذل المهلب قصارى جهده لمعالجة موقفه الخطير وتدارك ما يمكن تداركه، وأحصى المهلب المسلمين الذين التحقوا به متطوّعين، فكانوا تسعمائة من الفرسان المجاهدين، فقال لهم: والله لتندمُّن على ما فعلتم، وحدث ما توقعه المهلب، فما كاد ينظِّم المسلمين صفوفاً، حتى هاجمهم الترك وأبادوا منهم أربعمائة فارس مجاهد، ولاذ الباقون منهم على قيد الحياة بالفرار وأحيط بالمهلب ومن بقي معه من جماعته الاستطلاعية ذات العدد المحدود، ولكنه ثبت ثباتاً راسخاً لا يتزعزع عن موضعه، فالموت بالنسبة لأمثاله أهون عليهم من الفرار، وصاح المهلب بصوته الجهوريّ القوي مستغيثاً بالمسلمين، فسُمع صوته من معسكر المسلمين القريب، الذي كان على نصف فرسخ من موضعه(2/34)
المواجه للعدو، وبادر فوراً إلى نجدته من قومه الأزد، فشاغلوا الترك ريثما أقبل المسلمون خفافاً لنجدته على عجل بقيادة سَلْم، ونشب القتال بين الجانبين، فقاتل المسلمون الترك حين هزموهم هزيمة نكراء حيث هربوا منساحة المعركة مخلِّفين أموالهم وأثقالهم فغنمها المسلمون حتى أصاب كلّ فارس ألفين وأربعمائة درهم في رواية وعشرة آلاف درهم في رواية أخرى، وطارد المسلمون الترك المنهزمين، فلم ينج منهم إلا الشريد، وكان من بين القتلى (بندون) أو (بيدون) الصُّغدي ملك الصُّغد ,اعادت خاتون الصُّلح من جديد مع سلْم ، فاستعاد فتح بخاري2409، وبعث سَلْم وهو بالصّغد جيشاً من المسلمين إلى ((خُجَنْدة)) وفيهم الشاعر أعشى همدان، فهزم المسلمون فقال الأعشى:
……………ليت خيلي يوم الخُجَنْدة لهم يهزم
………………………وغودرت في المكرِّ سَلِيْبَا
……………تحضُرً الطيرُ مصرعي وتروحت
………………………إلى الله في الدماء خصيبا2410(2/35)
وكان عمّال خراسان قبل سَلْم يغزون، فإذا دخل السِّتاء رجعوا إلى ((مزوا الشَّاهجان))، فإذا انصرف المسلمون اجتمع ملوك خراسان بمدينة مما يلي خُوارِزم، فيتعاقدون أن لا يغزو بعضهم بعضاً، ويتشاورون في أمورهم. فلما قدم سَلْم غزا فشتا في تلك السنة، فألحّ عليه المهلّب بن أبي صفرة وسأله التوجه إلى تلك المدينة، فوجّهه في ستة آلاف، وقبل: أربعة آلاف، فحاصرهم، فطلبوا أن يصالحهم على أن يغدو أنفسهم، فأجابهم إلى ذلك وصالحوه على نيِّف وعشرين ألف درهم، وكان في صلحهم أن يأخذ منهم عروضاً، فكان يأخذ الرأس والدّابة بنصف ثمنه، فبلغت قيمة ما أخذ منهم خمسين ألف ألف درهم2411، وعاد سلم إلى( مَرْو) بعد جهاد هذه السنة الذي استمرّ سنتي إحدى وستين الهجرية واثنتين وستين الهجرية، ويبدو أنه قطع النهر ثانية في سنة ثلاث وستين الهجرية2412، لأنه علم بأنّ الصُّغد قد جمعت له، فقاتلهم وقتل ملكهم2413، ولكنه عاد مسرعاً إلى (مرو) ليعالج مشاكل المنطقة الداخلية، فقد أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم2414، فقد مات يزيد بن معاوية سنة أربع ستين فبويع بعده معاوية بن يزيد بن معاوية فلم يمكث إلا ثلاثة اشهر حتى هلك، وقيل: بل ملك أربعين يوماً ثمّ مات2415، وقيل غير ذلك، ولم بلغ سلم موت يزيد بن معاوية كتم ذلك، ولكنّ الخبر انتشر بين الناس في خُراسان انتشار النار في الهشيم، فمثل هذا الخبر يستحيل كتمانه مدة طويلة، ولما علم سلم بانتشار خبر موت يزيد بين الناس، أظهر موت يزيد وابنه معاوية، ودعا الناس إلى البيعة على الرضى حتى يستقيم أمر الناس على خليفة، فبايعوه ثمّ نكثوا بعد شهرين، وكان سلم محسناً إليهم محبوباً فيهم، ولكن قسما من القبائل العربية خلعوه عصبية وتعصباً وفتنة، فلم يجد أهل خُراسان أميراً قد حبهم مثل سَلْم بن زياد2416، ولكن قائلهم قال: بئس ما ظنّ سَلْم، إن ظنَّ أنه يتأمر علينا في الجماعة والفتنة2417، ووثب أهل خُراسان بعمالهم(2/36)
فأخرجوهم، وغلب كل قوم على ناحية، ووقعت الفتنة، ووقعت الحرب2418، ونسب الاقتتال بين القبائل العربية ، وأصبحت خراسان مناطق في كل منطقة قائد وأمير، وتساقطت القتلى بين المسلمين بالسيوف، وتوقف الفتح وتوجه سَلْم إلى عبد الله بن الزبير في مكة المكرمة2419.
سادساً : فتوحات السند في عهد معاوية :
…تمكن المسلمون في عهد معاوية رضي الله عنه من بسط نفوذهم إلى ما وراء نهر السند، ففي سنة 44هـ غزا المهلب بن أبي صفرة ثغر السند فأتى بَنَّة2420، ولاهور، وهما بين المًلتان2421، وكابل، وأما في مستهل سنة 45هـ فقد أرسل والي البصرة عبد الله بن عامر: عبد الله بن سوّار العبيدي إلى ثغر السند على رأس حملة قوامها أربعة آلاف رجل، ولم وصل ابن سوّار إلى مدينة مكران، بقي هناك أربعة أشهر يعدّ نفسه وجنده للحملة المرتقبة. ثم تقدم وجماعته نحو بلاد القيقان2422، وفتحها، وكانت هديته إلى معاوية رضي الله عنه خيلاً قيقانية2423سلّمها بنفسه إليه في الشام، فأصل البرازين القيقانية من نسل تلك الخيول2424. وعلى أية حال، فلم يدم المقام لابن سوّار طويلاً في ثغر السند فقد قتلته جماعة من الترك هناك في سنة 47هـ2425، وفي سنة 48هـ اختار زياد بن أبي سفيان سنان بن سلمة بن المُحَبَّق الهذلي ليكون والياً على الاقاليم المفتوحة من ثغر السند وما أن وصل سنان إلى هناك حتى تمكن من فتح مدينة مكران ((عنوّة)) ومصَّرها وأقام بها وضبط البلاد2426. ولكن سنان لم يمكث هناك سوى سنة أو سنتان ثم عزله زياد. وولى مكانه راشد بن عمرو الأزدي، فأتى مكران ثم تقدم في بلاد القيقان، فظفر، ثم اتجه نحو الميد، فقتل هناك2427، وبعد ذلك تولَّى عباد بن زياد بن أبي سفيان أمر سجستان فقاد حملة توغل فيها في منطقة حوض نهر السند فنزل كِشْ، ثم سار إلى قُنْدُهار2428: فقاتل أهلها فهزمهم، وفتحها بعد أن أصيب رجال من المسلمين2429، وكان آخر الولاة الذين تولوا أمر الفتوحات في هذا(2/37)
الجزء هو المنذر بن الجارود العبدي أبو الأشعث والذي وصل ثغر السند معيناً عليه من قبل عبد الله بن زياد بن أبي سفيان والي البصرة سنة 62هـ فقاد المنذر حملة ضد مدينة قُصدار2430، وتمكن من فتحها2431.
المبحث الرابع : أهم الدروس والعبر والفوائد في فتوحات معاوية رضي الله عنه:
أولاً : أثر الآيات والأحاديث في نفوس المجاهدين :
…كان للآيات والأحاديث التي تتحدث عن فضل الجهاد أثرها في نفوس المجاهدين، فقد بين المولى عز وجل أن حركات المجاهدين كلها يثاب عليها قال تعالى: ((مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) (التوبة ، الآيتان : 120 ـ 121) .(2/38)
…وقد تلعموا أن الجهاد أفضل من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج فيه قال تعالى: ((أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)) (التوبة ، الآيات : 19 ـ 22) .(2/39)
…واعتقدوا أن الجهاد فوز على كل حال قال تعالى: ((قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ)) ( التوبة ، الآية : 52)، وأن الشهيد لا تنقطع حياته بل هو حي قال تعالى: ((وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)) (آل عمران ، الآيات : 169 ـ 171)، وكانوا يشعرون بسمو هدفهم الذي يقاتلون من أجله قال تعالى: ((فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا * الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)) (النساء ، الآيات : 74 ـ 76). وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين فضل الجهاد فألهبت أحاديثه مشاعرهم وعواطفهم وفجرت طاقاتهم ومن هذه(2/40)
الأحاديث ما ورد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مؤمن يجاهد بنفسه وماله2432، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم درجات المجاهدين فقال: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة2433. وقد وضح صلى الله عليه وسلم فضل الشهداء وكرامتهم فقال: انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يُخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرّية ولوددت أني اقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم اقتل ثم أحيا ثم أقتل2434وقال صلى الله عليه وسلم: ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة2435. وغير ذلك من الأحاديث وقد تأثر المسلمون الأوائل ومن سار على نهجهم بهذه الآيات والأحاديث، فكان كبار الصحابة رضي الله عنهم يغزون وقد تقدم بهم العمر فيشفق عليهم الناس وينصحونهم بالقعود عن الغزو، لأنهم معذورون فيجيبونهم أن سورة التوبة تأبى عليهم القعود ويخافون على أنفسهم من النفاق إذا ما تخلفوا عن الغزو2436. كما كان للعلماء والفقهاء والزهاد دور كبير في تربية الناس على هذه الآيات والأحاديث ومن هؤلاء العلماء كبار الصحابة كأبي أيوب الأنصاري، وابن عمر، وغيرهم ومن التابعين كأبي مسلم الخولاني، يرون أن الجهاد في سبيل الله ضرورة من ضرورات بقاء الأمة الإسلامية، فقاموا بهذه الفريضة في فتوحات بلاد الشام والشمال الأفريقي وخراسان وسجستان والسند، وترتب على قيامهم بهذه الفريضة ثمرات كثيرة منها: تأهيل الأمة الإسلامية لقيادة البشرية، القضاء على شوكة الكفار وإذلالهم وإنزال الرعب في قلوبهم، ظهور صدق الدعوة(2/41)
للناس الأمر الذي جعلهم يدخلون في دين الله أفواجا فيزداد المسلمون بذلك عزّاً والكفار ذُلاً وتوحدت صفوف المسلمين ضد أعدائهم وأسعدوا الناس بنور الإسلام وعدله ورحمته2437.
ثالثاً: من سنن الله في فتوحات معاوية:
يلاحظ الباحث في دراسته للفتوحات في عهد معاوية بعض سنن الله في المجتمعات والشعوب والدول ومن هذه السنن:
1 ـ سنة الله في الاتحاد والاجتماع:
كانت الفتنة التي أدت إلى استشهاد عثمان رضي الله عنه أكبر معوق أصاب حركة الفتوحات بعد الردة أيام أبي بكر رضي الله عنه، حيث أدى استشهاد عثمان إلى توقف الجهاد، واتجاه سيوف المسلمين إلى بعضهم في فتنة كادت تعصف بالأمة الإسلامية لولا أن تداركتها رحمة الله ـ سبحانه وتعالى بصلح الحسن بن علي مع معاوية رضي الله عنهما وقد امتلأت المصادر بالنصوص التي تبين أثر الفتنة في انحسار حركة الجهاد2438ومن هذه الآثار:
ـ …عن الحسن بن علي رضي الله عنه أنه قال: قد رأيت أن أعمد إلى المدينة فأنزلها وأخلي بين معاوية وبين هذا الحديث، فقد طالت الفتنة، وسقطت فيها الدماء وقطعت فيها الأرحام وقطعت السبل، وعُطلت الفروج ـ يعني الثغور2439.
ـ …ما أخرجه أبو زرعة الدمشقي بإسناده قال: لما قتل عثمان، واختلف الناس، لم تكن للناس غازية، ولا صائفة حتى اجتمعت الأمة على معاوية2440.(2/42)
ـ …قول أبي بكر المالكي: فوقعت الفتنة .. واستشهد عثمان رضي الله عنه، وولى بعده علي رضي الله عنه، وبقيت إفريقية على حالها إلى ولاية معاوية رضي الله عنه2441، ولكن بعد الصلح وما ترتب عليه من الاتحاد والاجتماع عادت حركة الفتوحات إلى ما كانت عليه وأصبحت في عهد معاوية على ثلاث جبهات كما مر معنا . إن الاتحاد والاجتماع على كتاب الله وسنة رسوله مقصد من مقاصد الشريعة وهذا المقصد من أهم أسباب التمكين لدين الله واستمرار حركة الفتوحات، فالأخذ بالأسباب نحو تأليف قلوب المسلمين، وتوحيد صفهم من أعظم الجهاد، لأن هذه الخطوة مهمة جداً في إعزاز المسلمين، وإقامة دولتهم، وتحكيم شرع ربهم2442فحركة الفتوحات بين الانطلاق والتوقف مرهون بتحقيق سنة الاتفاق والاتحاد والاجتماع ونبذ الفرقة والخلاف والشقاق قال تعالى: ((واعتصموا بحبل الله جميعا.. ))
2 ـ سنة الأخذ بالأسباب:(2/43)
قال تعالى: ((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ)) (الأنفال : 60) وقد قام معاوية رضي الله عنه بالعمل بهذه الآية وحث ولاته على العمل بها ويظهر أخذ معاوية رضي الله عنه بسنة الأخذ بالأسباب، في اهتمامه ببناء الأسطول البحري وتطويره، وتقوية الجيش، والقضاء على الفتن الداخلية، ودعم الثغور، وأماكن الرباط والتخطيط الاستراتيجي للدولة في سياستها الداخلية والخارجية، والتكتيك العسكري، في نظام المعسكرات ونظام الرباط والثغور، والصوائف والشواتي، وبناء الحصون، ونظام التعبئة، وتوطين القبائل، لنشر الإسلام وتثبيت الفتوحات والتصدي لحركات التمرد، فبعدما زال خطر الهجوم العسكري من الفرس قام بتوطين عشرات الألوف من الأسر العربية في الجناح الشرقي من الدولة خاصة خراسان وقد نجحت هذه السياسة وأتت ثمارها في هذا الجناح2443.
3 ـ سنة التدافع:
قال تعالى: ((وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)) (البقرة، أية :251) وقد تحققت هذه السنة في حركة الفتوحات عموماً، وسنة التدافع من أهم سنن الله تعالى في كونه وخلقه، وهي من أهم السنن المتعلقة بالتمكين للأمة الإسلامية، وقد استوعب المسلمون الأوائل هذه السنة وعملوا بها وعلموا: أن الحق يحتاج إلى عزائم تنهض به، وسواعد تمضي به وقلوب تحنو عليه وأعصاب ترتبط به. إنه يحتاج إلى جهد بشري، لأن هذه سنة الله في الحياة الدنيا وهي ماضية2444.
4 ـ سنة الابتلاء:(2/44)
قال تعالى: ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)) (البقرة، آية: 214) . وقد وقع البلاء في حصار القسطنطينية وتعرض الكثير من المسلمين للقتل وفي فتوحات الشمال الإفريقي، واستشهاد القادة كعقبة بن نافع وأبي المهاجر دينار، وغيرهم، فهذه سنة الله في العقائد والدعوات فلا بد من الأذى في الأموال والأنفس ولا بد من صبر ، واعتزام2445.
5 ـ سنة الله في الظلم والظالمين:
قال تعالى: ((ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)) (هود، الآيات: 100ـ102) . وسنة الله مطردة في هلاك الأمم الظالمة، وقد مارست الدولة الفارسية الظلم على رعاياها وتمردت على منهج الله فمضت فيها سنة الله وسلط الله عليها المسلمين فأزالوها من الوجود2446، وكذلك نفوذ الدولة البيزنطية من الشام ومصر، وتزعزع وجودها في الشمال الإفريقي وما جاء عهد الوليد بن عبد الملك حتى زال نفوذها من الشمال الإفريقي كلياً.
6 ـ سنة الله في المترفين:(2/45)
قال تعالى: ((وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)) (الإسراء، آية:16). وجاء في تفسيرها: وإذا دنا وقت هلاكها أمرنا بالطاعة مترفيها، أي: متنعميها وجبّاريها وملوكها، ففسقوا فيها فحق عليها القول فأهلكها، وإنما خص الله المترفين بالذكر مع توجه الأمر بالطاعة إلى الجميع، لأنهم أئمة الفسق ورؤساء الضلال وما وقع من سواهم إنما وقع باتباعهم وإغوائهم، فكان توجه الأمر إليهم آكد2447، وقد مضت هذه السنة في زعماء الفرس وأئمتهم في بلاد فارس وزعماء الروم في الشام ومصر والشمال الأفريقي
7ـ سنة الله في الطغيان والطغاة: قال تعالى((إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)) ((الفجر،آية:14)) والاية وعيد للعصاة مطلقاً، وقيل: وعيد للعصاة ووعيد لغيرهم2448. وفي تفسير القرطي: أي يرصد كل إنسان حتى يجازيه به2449، وواضح من أقوال المفسرين في الآيات التي ذكرناها في الفقرة السابقة أن سنة الله في الطغاة إنزال العقاب بهم في الدنيا، فهي سنة ماضية لا تتخلف جرت على الطغاة السابقين وستجري على الحاضرين والقادمين فلن يفلت منهم أحد من عقاب الله2450. وسنة الله في الطغاة وما ينزله الله بهم من عقاب في الدنيا، إنما يعتبر بها من يخشى الله جلّ جلاله ويخاف عقابه ويعلم أن سنة الله قانون ثابت لا يحابي أحداً، قال تعالى في بيات المعتبرين بسنته في الطغاة ـ بعد أن ذكر ما حلّ بفرعون من سوء عقاب ـ: ((فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى)) (النازعات، الآيتان:26،25)، فهؤلاء الطغاة من زعماء الفرس، وزعماء الروم في في مصر والشام مضت فيهم سنة الله.
8 ـ سنة التدرج(2/46)
خضعت الفتوحات الإسلامية لسنة التدرج ويعتبر الحصار الأول والثاني للقسطنطينية مرحلة مبكرة لفتح القسطنطينية على عهد السلطان العثماني محمد الفاتح، فالأعمال التي قام بها المسلمون ضد الدولة البيزنطية قبل محمد الفاتح ساهمت في عمل تراكمي توّج بفتح القسطنضيه في عهد العثمانيين.
9ـ سنة الله في الذنوب والسيئات: قال تعالى:(( أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ)) ( الأنعام، آية:6)
وقد أهلك الله تعالى أمة الفرس بسبب ذنوبهم التي اقترفوها وأزال ملك الروم من مصر والشام وليبيا بسببها، وفي هذه الآية حقيقة ثابتة وسنة مطردة: أن الذنوب والمعاصي تهلك أصحابها، وأن الله تعالى هو الذي يهلك المذنبين بذنوبهم2451، وقد سلط الله أمة الإسلام على الفرس والروم عندما حققت شروط التمكين وعملت بسننه وأخذت بأسبابه وحققت أهدافه
10ـ سنة تغير النفوس: قال تعالى:(( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)) (الرعد، آية:11).
وقد قام الصحابة الكرام رضوان الله عليهم والتابعون بإحسان في فتوحات الشام ومصر والشمال الأفريقي وبلاد المشرق، بالعمل بهذه السنة الربانية مع الشعوب التي أرادت أن تدخل في دين الله. فشرعوا في تربية الناس على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فغرسوا في نفوسهم العقائد الصحيحة والأفكار السليمة والأخلاق الرفيعة.
رابعاً: التخطيط الاستراتيجي للفتوحات عند معاوية رضي الله عنه:
خضعت الفتوحات في عهد معاوية للتخطيط الدقيق والمحكم، فقد كانت سياسته في الفتوحات كالآتي:
1ـ سياسته تجاه الروم:
فقد سلك الخطوات التالية:(2/47)
أ ـ التركيز على عمليات الصوائف والشواتي، من أجل تحقيق عدة أهداف منها:
ـ استنزاف قوة الروم.
ـ انتزاع زمام المبادرة من الروم، وجعلهم في حالة دفاع مستمر2452.
ـ أرغام الروم على توزيع قواتهم بحيث لا يستطيعون القيام بهجمات حاسمة وقوية ضد الدولة الإسلامية2453.
ب ـ مهاجمة الروم في عقر دارهم ومحاصرة عاصمتهم، وما يترتب على ذلك من إضعاف معنوياتهم، وقذف الرعب في قلوبهم.
جـ ـ تقليص النفوذ البحري للروم عن طريق فتح الجزر الواقعة في بحر الشام2454، وما يترتب على ذلك من حرمان سفن الروم من قواعدها البحرية الهامة.
2 ـ سياسته في جبهة الشمال الإفريقي:
أ ـ أولى معاوية رضي الله عنه جبهة المغرب اهتماماً خاصاً تمثل بارتباط هذه الجبهة به شخصياً، حيث كان معاوية رضي الله عنه المرجع المباشر لقادة هذه الجبهة إلى سنة 47هـ، وهي السنة التي ضُمت فيها جبهة المغرب إلى والي مصر2455
ب ـ عمل معاوية رضي الله عنه على إقامة قاعدة جهادية متقدمة في قلب بلاد المغرب وقد قام عقبة بن نافع ببناء القيروان لكي تكون عزاً للإسلام والمسلمين.
3 ـ سياسته في جبهة سجستان وخراسان وما وراء النهر:
أ ـ استعانة معاوية رضي الله عنه بفاتح سجستان وخراسان أيام عثمان رضي الله عنه، وهو عبد الله بن عامر رضي الله عنه وتكليفه، بإعادة فتحها مرة أخرى.
ب ـ العمل على تثبيت الحكم الإسلامي، ونشر دعوة الإسلام في هذه المنطقة عن طريق إسكان خمسين ألف من العرب بعيالهم في خراسان2456.
خامساً: الشورى في إدارة حركة الفتوحات:(2/48)
عند انتقال الخلافة إلى معاوية رضي الله عنه كان مجلس الشورى لديه يتألف من كبار أعيان عصره وولاته ومعاونيه الذين يتصفون بالبلاغة والسياسة وحسن التدبير في أمور الإدارة العسكرية، وكان من هؤلاء عمرو بن العاص رضي الله عنه الذي كان مشهوراً بالصفات السابقة، مما جعل الخليفة معاوية يعتمد عليه كالوزير المدبر لدولته والمشير ومنهم أيضاً زياد بن أبيه ولم تكن الوزارة في عهد بني أمية مقننة القواعد ولا مقررة القوانين، وكان ذوو الآراء من مستشاري الخليفة يقومون مقام الوزراء، وكان الواحد منهم يسمى كاتباً أو مشيراً2457 إضافة إلى ذلك كان الخليفة معاوية يعتمد في إدارته العسكرية على مشورة قادة وأمراء القبائل وخصوصاً التي بالشام، فقد كان يقربهم ويدني مجلسهم ويستشيرهم، وسار قادة معاوية بن أبي سفيان سيرته بمبدأ المشورة في إدارتهم العسكرية للمعارك الحربية2458.
سادساً: مركزية القيادة والإمداد في إدارة معاوية:(2/49)
عندما انتقلت الخلافة إلى بني أمية أصبحت دمشق مقر الخلافة ومركز القيادة العليا للإدارة العسكرية، فكان الخليفة بها هو الذي يقرر السياسة الحربية كما كان مسئولاً عن الحرب والسلم فكان التنظيم الإداري العام للجيش أمراً من الأمور المركزية التي يشرف الخليفة مباشرة عليها2459، وذلك بالرغم من وجود عمال الولايات والأقاليم الذين كان لهم مطلق السلطات والتي منها قيادة الجيوش بأنفسهم أو تعيين القادة المناسبين من قبلهم ووضع الخطط لهم وإمدادهم وتموينهم ومن أمثلة هؤلاء زياد بن أبيه وابنه عبيد الله2460، فمن مركزية القيادة لإدارة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في تعيين القادة أنه كتب إلى واليه بالبصرة زياد بن أبيه يأمره أن يوجه إلى خراسان رجلاً يقوم بأمرها فولى زياد الحكم بن عمرو الغفاري رضي الله عنه، وكتب له عهده على خراسان وولاه حربها، وخراجها وسار إليها بمن يريد الجهاد في سبيل الله، من المتطوعة من أهل البصرة، إضافة إلى الجند النظامي أصحاب الديوان، فوضع لهم الأرزاق، وأعطاهم وقواهم وسار لما أمر به2461. ومن مركزية القيادة العليا في إدارة معاوية العسكرية تسيير الجيوش والإمدادات العسكرية لها، فنرى القائد، علقمة بن يزيد الغطيفي كتب إليه قائلاً: إنك خلفتني بالإسكندرية وليس معي إلا اثنا عشر ألفاً ما يكاد بعضنا يرى بعض من القلة فكتب إليه الخليفة معاوية: إني قد أمددتك بعبد الله بن مطيع في أربعة الآف من أهل المدينة، وأمرت معن بن يزيد السلمي أن يكون بالرملة في أربعة الآف مسكين بأعنة خيولهم متى يبلغهم عنك فزع يعبروا إليك2462.
سابعاً: الألوية والرايات:(2/50)
حين انتقلت الخلافة إلى معاوية تعددت الألوية والرايات في إدارتهم العسكرية، كما تعددت ألوانها كاللون الأخضر والأحمر والأبيض بالرغم من اتخاذهم اللون الأبيض شعاراً ورمزاً لخلافتهم2463، فمنذ عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لا نرى جيشاً يخرج ويسير نحو العدو إلا ويعقد لقائه لواء أو راية تكون لهم شعاراً ورمزاً يسيرون خلفها ويذودون عنها فنرى الواحد يصرع تلو الآخر وكل همه بقاءها منصوبة2464، وكان القادة من الشجاعة والإقدام ما جعلهم يكونون أكفاء لحمل هذه الراية مثل عقبة بن نافع والحكم بن عمرو الغفاري وفضالة بن عبيد الله، وقد جعل والي العراق من قبل الخليفة معاوية زياد بن أبيه خروج القبائل على الرايات، ويبدو أن الغاية من ذلك معرفة مدى جدية كل منها في القتال والتزامها بالأوامر2465.
ثامناً: اهتمامه بالعيون والبريد:(2/51)
كان اهتمام معاوية رضي الله عنه بأمر المخابرات وجمع المعلومات على الأعداء قديماً منذ كان أميراً على بلاد الشام وتطور جهاز المخابرات لما تولى الخلافة، وزاد اهتمامه به، ففي عهده أسر رجل من المسلمين بالقسطنطينية وأهين ببلاطهم فاستغاث وا معاوياه: لقد أغفلت أمورنا وأضعتنا فوصل الخبر إليه عن طريق جواسيسه المتواجدين بأرض الروم فقام بفدائه وبأسر من أهانه وجعل المسلم يقتص منه بمثل ما أهانه وأن لا يزيد وهذا دليل على مدى دقة نظام المخابرات في إدارته2466. ولقد ذكرت القصة فيما مضى بالتفصيل، كما قام الخليفة رضي الله عنه بفرض رقابة دقيقة ومحكمة على أفراد الحاميات وأسرهم وعين موظفاً في كل حامية ليتحرى عن الداخلين والخارجين حتى لا يتسلل عين للعدو إلى أرض المسلمين فتعرفوا على مواقع معسكراتهم ونقاط الضعف بها إن وجدت2467. وفي إدارته أنشأ ديوان البريد وأعتنى به عناية فائقة وذلك لتسرع إليه أخبار البلاد من جميع أطرافها بما في ذلك أخبار الثغور، ولم يكن للبريد ديوان قبل ذلك2468،وأما علاقة صاحب البريد بالإدارة العسكرية فقد كان عبارة عن عين الخليفة الباصرة وأذنه السامعة ينقل إليه أخبار عماله وقادته وسائر رجال دولته فكان له عيون يوافونه بكل جديد كما كان البريد واسطة بين الولاة والخلفاء والقادة لنقل الأوامر العسكرية وكان أصحاب البريد رقباء ومفتشين من قبل الدولة يرفعون التقارير عن أحوال الجند في مختلف حالات القتال وفي كل الظروف والأوقات ويخبرونه بحال المال والعطاء وذلك أنه يوكل بمجلس عرض الأولياء وأعطياتهم من يراعيه ويطالع ما يجري فيه ويكتب بما يقف عليه من الحال في وقته، إضافة إلى ذلك كان من واجبات صاحب البريد مساعدة الإدارة العسكرية في التموين والإمداد وحفظ الطرق وصيانتها من الأعداء وانسلال الجواسيس في البر والبحر وإليه كانت ترد كتب أصحاب الثغور وولاة الأطراف فيقوم بتوصيلها بوجه السرعة من اختصار للطرق(2/52)
واختيار المراكب لمعرفته بالطرق والمسالك إلى جميع النواحي وكان الخليفة يجد عنده ما يحتاج إليه من المعرفة عند إنفاذ جيش وغيره وقت الحاجة إلى ما هنالك من مهام قام البريد بتأديتها في الإدارة العسكرية2469، على الجملة كان يقال للبريد جناح المسلمين لما كان يطير به من الأخبار2470.
تاسعاً: اهتمام معاوية بالحدود البرية للدولة:
حين انتقلت الخلافة إلى معاوية زاد الاهتمام والاعتناء بهذه التحصينات لحماية الحدود الإسلامية وبخاصة إذا علمنا أن المؤسس الأول للدولة الأموية معاوية رضي الله عنه قد قام بتولي حملات الصوائف والشواتي بنفسه حين كان قائداً ووالياً للخليفتين عمر وعثمان رضي الله عنهما كما أسند إليه في خلافتيهما إنشاء وترميم بعض الحصون الدفاعية على الحدود الإسلامية كما سبق وأشرنا مما جعله ملماً بهذه الثغور والتحصينات، فأستكمل ما بدأه حين استقرت بيده الخلافة، فقام ببناء وتحصين مرعش والحدث من ثغور الجزيرة وأسكنها الجند وكان يتعهدهما باستمرار2471، واتخذ معاوية رضي الله عنه لتحصين المدن الساحلية سياسة التهجير أو النواقل بنقل قوم من فرس بعلبك وحمص وأنطاكية إلى سواحل الأردن وصور وعكا وغيرها، ونقل من الزط وأساورة البصرة والكوفة وفرس وبعلبك وحمص إلى ثغر أنطاكية2472، وولى القائد عبد العزيز بن حاتم الباهلي أرمينية وأذربيجان فبنى مدينة دبيل2473، وعمل عدة تحصينات دفاعية كما بنى مدينة النشوي2474ورم مدينة برذعة2475، وجدد بناء البيلقان2476، إلى ما هنالك من تحصينات دفاعية قام بإنشائها2477، كما قلد الوالي زياد بن أبيه القائد الربيع بن زياد الحارثي2478، ثغر خراسان وأرسل معه من المصرين ((الكوفة ـ البصرة)) زهاء خمسين ألفا من الجند بعيالاتهم وأسكنهم ما دون النهر لحماية حدود الدولة الإسلامية هنالك2479، ويظهر لنا اهتمام زياد بأمر الثغور في قوله لحاجبه وليتك حجابتي وعزلتك عن أربع وذكر منها: ورسول صاحب ثغر(2/53)
فإنه إن أبطأ ساعة أفسد عمل سنة فأدخله علي وإن كنت في لحافي2480، وسأل زياد جلساءه عن أنعم الناس عيشاً؟ فأجابوه قائلين أنت أيها الأمير فقال: فأين ما يرد علي من الثغور والخراج2481. وهذا يبين مدى ما كان يلقاه زياد من عناء الثغور في إدارتها والإشراف على أمرها لحفظها وسدها ومما أثر عن زياد أيضاً قوله: أربعة أعمال لا يليها إلا المسن الذي عض على ناجذه. الثغر والصائفة والشرط والقضاء2482، وكان عمرو بن العاص رضي الله عنه في إدارته لثغر مصر من قبل معاوية لا يحمل له من الخراج إلا الشيء اليسير وينفق جل الأموال على التحصينات وعطاء الجند المرابطين بالثغر2483، واهتم معاوية بأمر الصوائف والشواتي حيث كانت تخرج في كل عام في وقتها المحدد لها لأداء مهمتها المنوطة بها وكان يختار لها كبار القواد والأمراء، وكانوا يتمنون إدارتها ويعدون ذلك شرفاً وفخراً لهم فمن ذلك قول الخليفة معاوية لابنه يزيد: يا بني إن أمير المؤمنين قد بسط أملك فأذكر حاجتك فطلب منه مطالب كان أولها قوله: يجعل أمير المؤمنين غزو الصائفة العام إليّ لأفتح أمري بتجهيز الجيوش في سبيل الله2484، ومن أبرز الولاة والقادة الذين تولوا إدارة حملات الصوائف والشواتي في عهد معاوية لعدة مرات هم سفيان بن عوف الغامدي الأزدي، ومالك بن هبيرة السكوني2485، وكان أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه قبل أن يعين القادة على هذه الحملات يجري لهم إختباراً لمعرفة مدى حصافة القائد الإدارية ومن الذين كان يعتمد عليهم من قادته سفيان بن عوف الغامدي لخبرته الإدارية وقد توفي وهو بالصائفة يدير أعمالها وحين بلغ الخبر معاوية تأثر وكتب إلى أمصار وأجناد المسلمين ينعاه، وكان معاوية إذا رأى خللاً في الصوائف قال: واسفياناه ولا سفيان لي2486، وكان معاوية رضي الله عنه لا يقصر في اتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة لحماية حدود وأراضي الدولة الإسلامية والدفاع عنها2487.(2/54)
عاشراً : إهتمام معاوية بالأسطول والحدود البحرية:
عندما قامت الدولة الأموية استكمل معاوية رضي الله عنه ما بدأه في بناء القوة البحرية لحماية سواحل الدولة الإسلامية بإقامة المراكب للغزو إلى جانب ترتيب الحفظة في السواحل مما استولى عليه المسلمون من قواعد ومنشآت بحرية، وعندما خرجت الروم في عهده إلى السواحل الشامية أمر بجمع الصناع من النجارين فجمعوا ورتبهم في السواحل الشامية وجعل مقر دار صناعة السفن في جند الأردن بعكا وكما هو معلوم أن بلاد الشام غنية بالأخشاب التي تعتبر من أجزاء السفن الأساسية يومئذ2488، كما أنشأ الخليفة معاوية أول دار صناعة للأساطيل لإنتاج السفن الحربية المختلفة بمصر سنة 54هـ في عهد واليها مسلمة بن مخلد الأنصاري، وكان مقرها بجزيرة الروضة لذا عرفت بإسم صناعة الروضة2489، وكان قادة بحرية الخليفة معاوية ذوي خبرة وفن ببناء السفن الحربية فقد كلف أحدهم بمهمة عسكرية نحو الروم وطلب منه قائلاً: أنشيء مركباً يكون له مجاديف في جوفه واستعمله للسفر إلى بلاد الروم2490، إي بعمل فتحات جانبية للمجاديف2491، وبلغت السفن الحربية في عهد معاوية رضي الله عنه نحواً من ألف وسبعمائة سفينة شراعية مشحونة بالرجال والسلاح وجميع العتاد، والمستلزمات القتالية البحرية2492، وبذلك نجد أن معاوية رضي الله عنه قد أدرك بصائب رأيه أن سواحل الشام ومصر لا ينجيها من غزوات الروم إلا إيجاد هذا الأسطول الإسلامي التي يحافظ على الحدود البحرية ويغزو سواحل الروم الحين بعد الحين حتى يرتدع العدو ويحسب لهم ألف حساب2493، وأخذ الأسطول الإسلامي في عهد معاوية في فتح الجزر الواقعة بالبحر المتوسط الواحدة تلو الأخرى والتي منها جزيرة رودس2494، بقيادة القائد جنادة بن أمية الزهراني الأزدي2495، حيث فتحها ـ كما مر معنا ـ عنوة وكانت غيضة في البحر وهي من أخصب الجزائر بالمنطقة وأنزلها قوماً من المسلمين بأمر الإدارة العليا المركزية(2/55)
واتخذ بها حصناً وناطوراً يحذرهم ما في البحر ممن يريدهم بكيد، وكان المسلمون بها على جزر من الروم وكان الخليفة معاوية يعاقب بين الجند فيها ولم يجمرهم وأدر عليهم الأرزاق والعطاء وكان الجند المقيمون بها أشد شيء على الروم يعترضونهم في البحر ويأخذون سفنهم وقد خافهم العدو2496 واستمر في فتح الجزر وشحنها بالجند المرابطين وأصبحت قواعد بحرية لحماية سواحل الدولة الإسلامية2497، وأخذت حملات الصوائف والشواتي البحرية تجوب البحر وتمخر في عبابه في عهد معاوية رضي الله عنه وتسير جنباً مع جنب مع شقيقتها الحملات البرية حيث كانت تخرج من مصر والشام لتحمي سواحل المنطقة البحرية وتولى قيادتها كبار القادة المشهورين كالقائد يزيد بن شجرة الرهاوي وموسى بن نصير، وبسر بن أبي أرطأة العامري،وجنادة بن أمية الزهراني، وعقبة بن عامر وغيرهم من القادة، وسار خلفاء بني أمية من بعد الخليفة معاوية على سنته وأصبح الأسطول الإسلامي في نمو مطرد وأكثروا من إنشاء سفنه وتفننوا في إتقانه وجهزوه بالأدوات والمعدات الملاحية والقتالية، ورتبوا عليه الجند والقواد وزودوه بالتموين اللازم والأرزاق وظلت صوائفه وشواتيه تقلق الروم في كل عام وتهدد سواحلهم وحدودهم البحرية2498.
الحادي عشر : الاهتمام بديوان الجند والعطاء:(2/56)
…استمر ديوان الجند في أداء مهامه المناطة به وحدث به تطور بسبب كثرة الفتوحات وإتساع رقعة الدولة الإسلامية فقد أصبح ديوان الجند مؤسسة كبيرة حظيت باهتمام الخلفاء وولاتهم ومر بعدة مراحل تطويرية خلال هذه الفترة، فعندما تولى معاوية رضي الله عنه الخلافة تقاعس بعض الجند عن الحرب في بداية إدارته العسكرية إثر الفتن والصراعات الداخلية، فتمكن بحسن إدارته ودهائه بالإغلاق عليهم في العطاء حتى تمكن مرة أخرى من إلزامهم مرة أخرى بالجندية وتأليف القلوب2499، وقرب إليه زعماء القبائل وقد بلغ عدد الجند النظامي الذين يستلمون العطاء في بداية العصر الأموي نحواً من ثمانين ألف جندي بالبصرة، وستين ألفاً بالكوفة وبمصر أربعون ألفاً وبالشام نحوا من ذلك، هذا سوى من في باقي الأقاليم الأخرى من جند كفارس وما وراء النهر وغيرهما من الأقاليم وأمصار الدولة الإسلامية2500، كما كان بالكوفة من أبناء العجم زهاء عشرين ألف رجل فرض لهم وكانوا يسمون الحمراء2501، وبالبصرة ألفا رجل من سبي بخاري كلهم جيد الرمي بالنشاب فقد ألحقهم الخليفة معاوية بالخدمة العسكرية وفرض لهم العطاء، وقد ولي كتابة الجند في إدارة الخليفة معاوية المركزية بدمشق عمرو بن سعيد بن العاص، هذا بالإضافة إلى دواوين الجند المحلية بالأقاليم الإسلامية المحلية الأخرى التي تتحمل مهام الإدارة العسكرية المحلية2502، وظل دور أمر العرفاء والنقباء سائراً ومستمراً كما كان في السابق، وذلك لاعتماد الإدارة عليهم في الشئون العسكرية والمالية وبخاصة في توزيع العطاء على الجند، فقد كان الخليفة معاوية يدفع إلى العرفاء العطاء وكان لكل قبيلة عريف يأخذ أعطيتهم ويدفعها إليهم2503، هذا مع ما يقومون به من التعرف على أحوال الجند وأخبارهم ورفع التقارير عنهم للإدارة العليا2504، وقد طور زياد الهيكل التنظيمي العسكري للعرفاء، فجعل الناس في البصرة أخماساً وجعل على كل خمس رجلاً كما جعل في(2/57)
الكوفة أرباعاً على قيادة عشرة جنود في القتال، بل أصبحوا مسئولين عن النواحي الأمنية ومثيري الشغب والفتن والقلاقل داخل قبائلهم ومعسكراتهم، فكانوا حلقة الاتصال في الإدارة العسكرية بين القبائل العربية في الأمصار الإسلامية وبين السلطات الإدارية للدولة فيما يختص بتثبيت أسماء الجند في الدواوين وتوزيع العطاء عليهم واستدعائهم عند الحاجة، وقد حل أولئك العرفاء في القوة والنفوذ محل رؤساء القبائل والعشائر وكان اختيارهم يتم من بين ذوي النفوذ ليستطيعوا أداء واجباتهم تجاه الإدارة العسكرية2505 ومثال على ذلك ما قام به زياد حيث خطب في أهل البصرة وهددهم بقطع العطاء إذا لم يكفوه الخوارج حيث قال: يا أهل البصرة والله لتكفني هؤلاء أو لأبدأنّ بكم والله لئن أفلت منهم رجل لا تأخذون العام من عطائكم درهماً، فثار الناس بهم فقتلوهم2506. كما استخدمت الزيادة في العطاء للقادة والجند المتجاوبين والمنفذين للأوامر تشجيعاً وحث لهم على المضي قدماً في مهامهم ومناصبهم العسكرية المسئولين عنها2507، كما فعل معاوية مع أشراف أهل الشام.
الثاني عشر: الأثر العلمي والاقتصادي الاجتماعي للفتوحات في عهد معاوية رضي الله عنه:(2/58)
ومن الظواهر العلمية التي زادت إزدهاراً في عهد معاوية طائفة القصاص،، وقد كانوا ينتشرون بين الجند كالقراء يقصون عليهم أمجاد أسلافهم ويلقون عليهم الشعر الحماسي فتجيش له همم العسكر فيسارعون للقتال، وقد كان الخطباء والوعاظ يقومون بنفس المهمة كما يقوم بها القراء والقصاص والشعراء لينشروا في الجند روح الفداء ويرفعوا من روحهم المعنوية القتالية2508، وسلك الخليفة معاوية في وصاياه وتوجيهاته العلمية للأمراء والقادة والجند على منوال من سبقه من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم فعندما عين عبيد الله بن زياد على ثغر خراسان كان من نماذج وصاياه قوله: اتق الله ولا تؤثرن على تقوى الله شيئاً2509... وقد سبق الحديث عن وصيته لعبيد الله، ومن الآثار العلمية للحضارة الإسلامية في عهد معاوية أنه حينما فتح جزيرة رودس كان ممن اشترك في فتحها مجاهد بن جبر المقريء ، فكان مقيماً بها يقريء الناس القرآن ويفقههم في الدين في المسجد الذي بني فيها اثناء الفتح، وهذا أنموذج ومثال من ألوف النماذج والأمثلة حيث أن هذا الأثر العلمي لا يقتصر على جزيرة رودس بل شمل كافة الأمصار والشعوب الإسلامية2510 ومن الآثار الاقتصادية والإجتماعية للفتوحات أن والي مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري رضي الله عنه وغيره من الولاة في عهد معاوية رضي الله عنه كانوا يبعثون إليه بأموال الخراج بعد أن يستقطعوا منها ما ينفق على الأراضي الزراعية بمصر لاستصلاحها من الخلجان والقناطر والجسور وحملا القمح إلى الحجاز لتفريقه وتوزيعه على سكان الحرمين الشريفين، كمعونة لهم2511، وكان بالجزيرة مكان الروضة قبل أن تبنى بها دار صناعة السفن في عهد معاوية خمسمائة عامل مستعد لأي حريق يكون في البلاد أو هدم للإعانة في الكوارث وتقديم الخدمات الاجتماعية لأهل المنطقة2512، ومن التكافل الاجتماعي في عهد معاوية مراعاته لأبناء الشهداء في إدارته ورعاية شئونهم والفرض لهم2513، فقد كان يقول(2/59)
لجلسائه: يا هؤلاء، إنما سميتم أشرافاً لأنكم شرفتم على من دونكم بهذا المجلس، ارفعوا إلينا حوائج من لا يصل إلينا فيقوم الرجل فيقول: استشهد فلان، فيقول أفرضوا لولده2514، وعندما أذن معاوية رضي الله عنه لعبد الله بن صفوان بن أمية بالدخول عليه والمثول بين يديه طلب من معاوية أن يفرض للمنقطعين من ديوان العطاء، كما ذكّره بأن لا يغفل عن قواعد قريش والبر إليهم، وأن يقدم لهم الخدمات الاقتصادية والإجتماعية التي تكفل لهم الحياة الرغدة2515، ومن الآثار الحضارية للفتوحات في النواحي الاقتصادية والاجتماعية استمرارية معاوية في توطين الجند بالثغور وإقطاعهم القطائع والأراضي والمساكن بها وشقه للأنهار وجلبه للمياه. فقد أمر عسكره المقيم بجزيرة رودس بأن يزرعوا ويتخذوا بها أمولاً ومواشي يرعونها حولها2516.
الثالث عشر : كرامات للمجاهدين في عهد معاوية رضي الله عنه:(2/60)
…حدثت كرامات للمجاهدين في عهد معاوية رضي الله عنه منها ما كان لأبي مسلم الخولاني والتي مرّ ذكرها وما حدث لعقبة رحمهما الله، حينما نادى الوحوش والدواب وطلب منها الرحيل، فرحلت بإذن الله تعالى حيث قال: فارحلوا عنّا فإنّا نازلون ومن وجدناه بعد هذا قتلناه، فنظر الناس بعد ذلك إلى أمر مُعْجِب ، من أن السباع تخرج من الشَّعْراء2517 وهي تحمل أشبالها سمعاً وطاعة، والذئب جرْوَه، والحية تحمل أولادها. ونادى في الناس: كُفُّوا عنهم، حتى يرحلوا عنها، فخرج ما فيها من الوحش والسباع والهوامّ والناس ينظرون إليها، حتى أوجعهم حرُّ الشمس، فلمَّا لم يروا منها شيئاً، دخلوا، فأمرهم أن يقطعوا الشجر، فأقام أهل أفريقية ـ بالقيروان ـ بعد ذلك أربعين عاماً لا يرون بها حيَّة، ولا عقرباً، ولا سَبُعاً: فاختط عقبة أولاً دار الإمارة، ثم أتى إلى موضع المسجد الأعظم فاختَّطه، ولم يُحدث فيه بناء. وكان يصلي فيه وهو كذلك فاختلف الناس عليه في القبلة وقالوا: إن جميع أهل المغرب يضعون قِبلتهم على قبلة هذا المسجد، فأجهد نفسك في تقويمها، فأقاموا أيّاماً ينظرون إلى مطالع الشتاء والصيف من النجوم ومشارق الشمس، فلمَّا رأى أمرهم قد اختلف بات مغموماً، فدعا الله ـ عز وجل ـ أن يُفرَج عنه، فأتاه آت في منامه فقال له: إذا أصبحت فخذ اللواء في يدك، واجعله على عُنُقك. فإنك تسمع بين يديك تكبيراً لا يسمعه أحد من المسلمين غيرك، فانظر الموضع الذي ينقطع عنك فيه التكبير فهو قبلتك ومحرابك، وقد رضي الله لك أمر هذا العسكر وهذا المسجد وهذه المدينة، وسوف يعز الله بها دينه، ويذل بها من كفر به، فاستيقظ من منامه وهو جزع، فتوضأ للصلاة، وأخذ يصلي وهو في المسجد ومعه أشراف الناس، فلما انفجر الصبح وصلى ركعتي الصبح بالمسلمين إذا بالتكبير بين يديه، فقال لمن حوله: أتسمعون ما أسمع؟ فقالوا: لا، فعلم أنَّ الأمر من عند الله، فأخذ اللواء فوضعه على عُنُقه، وأقبل(2/61)
يتبع التكبير حتى وصل إلى موضع المحراب فانقطع التكبير فركز لواءه وقال: هذا محرابكم فاقتدى به سائر مساجد المدينة ثم أخذ الناس إليها المطايا من كل أُفق وعظم قدرها... وكان عقبة خير والٍ وخير أمير، مستجاب الدعوة2518 وفي هذه القصة عبرة بليغة فيما حدث من عقبة حينما نادى تلك الوحوش والدواب فاستجابت له وغادرت ذلك المكان وهذه كرامة من الله تعالى يكرم بها أولياءه لما يريد بهم نصر الإسلام ونشره في الأرض، حيث أسمع تلك الدواب كلام عقبة وأوقع في قلوبها الخوف منه، وقدَّر لها أن تسمع وتطيع كما لو كانت ذات عقل وإدراك وقد رأى ذلك قبيل كبير من البربر فاسلموا، كما ذكر ابن الأثير في روايته2519.(2/62)
…هذا وقد حمل بعض الباحثين هذا الخبر على أنه من الأساطير التي نسجها الرواة حول عقبة، وعللواهذا الخبر بأن تلك الدواب فزعت لما سمعت ضجيج الجيش الإسلامي فحملت أولادها وولَّت هاربة، وهذا التأويل من عجائب بعض الباحثين حيث يُغفلون تفكيرهم الصحيح من أجل ردِّ مالا يؤمن به العقل المجرد، كما أنهم يستغفلون المؤرخين الذين رووا هذه الحادثة وأمثالها على أنها من الأمور الخارقة للعادة، ويتهمونهم بالسذاجة لتحويلهم الوقائع المعتادة في حياة الناس إلى ما يشبه الأساطير، فإن التفكير الصحيح يرى أن التأويل الذي اعتمدوه لا ينسجم مع العقل السليم، لأن الوحوش والدواب البرية إذا تعرضت للفزع تأوي إلى حجورها الآمنة لتسخفي بها ولا تلجأ إلى الهرب حتى لا تتعرض للأذى مما فزعت منه، ثم إنه لو حصل خلاف الغالب من المعتاد فهربت تلك الدواب من أمر عادي وهو فزعها من الجيش لم يكن هناك ما يدعو إلى عجب البربر وانبهارهم الذي حملهم على الدخول في الإسلام من أجل ذلك، ولم يكن في ذلك ما يحمل طائفة من المؤرخين على رواية هذه الحادثة الغريبة وقد جاء في إحدى روايات ابن عبد الحكم عن الليث بن سعد قال: فحدثني زياد بن العجلان: إن أهل أفريقية اقاموا بعد ذلك أربعين سنة ولو التُمست حية أو عقرب بألف دينار ما وجدت2520، وعبرة أخرى في تلك الرؤيا التي رآها عقبة بن نافع في أمر تحديد القبلة وما تلا ذلك من سماعة التكبير الذي لم يسمعه من حوله، وهذه كرامة أخرى لهذا الولي الصالح فرج الله تعالى بها عن المسلمين كربة كانوا يعانون منها من عدم مقدرتهم على تحديد القبلة بدقة، وهذا هو أحد المقاصد التي تظهر فيها الكرامات على أيدي أولياء الله الصالحين، وقد كان عقبة مستجاب الدعوة، فاستجاب الله تعالى دعاءه في تفريج همه وهموم المسلمين في هذا الأمر2521. وأهل السنة والجماعة يثبتون الكرامات للصالحين: فأولياء الله المتقون هم المقتدون بمحمد صلى الله عليه وسلم،(2/63)
فيفعلون ما أمر الله به وينتهون عما عنه زجر، ويقتدون به فيما بين لهم أن يتبعوه فيه، فيؤيدهم بملائكته وروح منه، ويقذف الله في قلوبهم من أنواره، ولهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتقين، وخيار أولياءه كراماتهم لحاجة في الدين أو لحاجة بالمسلمين، كما كانت معجزات نبيهم صلى الله عليه وسلم كذلك، وكرامات أولياء الله إنما حصلت ببركة إتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم2522 ومما ينبغي أن يعرف أن الكرامات قد تكون بسبب حاجة الرجل، فإذا احتاج إليها الضعيف الإيمان أو المحتاج، أتاه منها ما يقوي إيمانه أو يسد حاجته، ويكون من هو أكمل ولاية منه مستغنياً عن ذلك، فلا يأتيه مثل ذلك لعلو درجته وغناه عنها، لا لنقص ولايته ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة2523. ومن عقيدة أهل السُّنة والجماعة الإيمان بكرامات الأولياء2524.
الرابع عشر : قسمة الحكم بن عمرو الغفاري للغنائم في غزو جبل الأسل بخراسان:(2/64)
…عن عبد الرحمن بن صبح، قال: كنت مع الحكم بن عمرو بخراسان، فكتب زياد إلى عمرو، إن أهل جبل الأشل سلاحهم اللبود2525، وآنيتهم الذهب2526، فغزاهم حتى تواسطوا، فأخذوا بالشعاب والطرق، فأحدقوا به ، فعيَّ2527 بالأمر فولى المهلب الحرب، فلم يزال المهلب يحتال حتى أخذ عظيماً من عظمائهم، فقال له: اختر بين أن أُقتلك، وبين أن تخرجنا من هذا المضيق، قال له: أوقد النار حيال الطريق لتسلكوه فإنهم يستجمعون لكم، ويعرون ما سواه من الطرق، فبادرهم إلى غيره فإنهم لا يدركونك حتى تخرج منه، ففعلوا ذلك، فنجا وغنموا غنيمة عظيمة2528، وعن عبد الرحمن بن صبح قال: كتب إليه زياد: والله لئن بقيت لك لأقطعن منك طابقاً سحتاً2529، وذلك أن زياداً كتب إليه لما ورد بالخبر عليه بما غنم: إن أمير المؤمنين كتب إلى أن أصطفى له صفراء وبيضاء2530،والروائع2531، فلا تحركن شيئاً حتى تخرج ذلك2532، فكتب إليه الحكم: أما بعد، فإن كتابك ورد، تذكر أن أمير المؤمنين كتب إلي أن أصطفي له كل صفراء وبيضاء والروائع، ولا تحركن شيئاً، فإن كتاب الله عز وجل قبل كتاب أمير المؤمنين، وإنه والله لو كانت السماوات والأرض رتقاً2533على عبد اتقى الله عز وجل جعل الله سبحانه وتعالى له مخرجاً، وقال للناس: اغدوا على غنائمكم، فغداً الناس، وقد عزل الخمس، فقسم بينهم تلك الغنائم، قال: فقال الحكم: اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني، فمات بخراسان بمرو2534. إن خبر قسمة الحكم بن عمرو الغفاري رضي الله عنه الغنائم بين أفراد جيشه ذكره ابن عبد البر2535، وابن الجوزي2536، وابن الأثير2537، وابن كثير2538، وتتفق هذه المصادر حول طلب معاوية رضي الله عنه اصطفاء الذهب والفضة وعدم قسمتها بين الجيش ـ لكنها لم تورد هذا الخبر بأسانيد صحيحة ـ وزاد بن كثير أن معاوية رضي الله عنه طلب أن يرسل الذهب والفضة إلى بيت المال2539، وهنا يجدر التذكير بأن مصارف الغنيمة في الإسلام قد بينها الله(2/65)
سبحانه وتعالى في قوله: (( واعلموا أنما غنمتم من شيءٍ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القُربى واليتامى والمساكين وابن السبيل)) (الأنفال: 41). وهذا يعني أن أربعة أخماس الغنيمة يقسم بين الجيش، ويبقى خمس الغنيمة فيقسم كما ورد في الآية السابقة وهذا الحكم لا يخفي على معاوية رضي الله عنه، كما أن دين معاوية وعدالته تمنعه من رد حكم الله سبحانه وتعالى2540، وبالرجوع إلىرواية الطبري نلاحظ أن الحكم بن عمرو الغفاري رضي الله عنه لم يبادر إلى قسمة الغنائم بين الجيش على الفور ـ مع وضوح حكم الشرع في ذلك ـ بل دارت بينه وبين زياد مراسلات في شأن الغنائم، وهذا التأخير في قسمة الغنائم يقودنا إلى عدة احتمالات يمكن من خلالها إزالة الغموض الوارد في الرواية وهذه الاحتمالات هي:
1 ـ…رغبة معاوية رضي الله عنه في أن يكون خمس الغنيمة ـ الذي يتولى إمام المسلمين قسمته ـ من الذهب والفضة.
2 ـ…رغبة معاوية رضي الله عنه في حمل ما غنم المسلمون من ذهب وفضة قبل تخميسه وقسمته ـ إلى الهند وبيعه هناك2541 بقيمة مرتفعة ثم يخمس ثمنه بعد ذلك، وفي ذلك خير للجميع2542.
3 ـ…وجود نقصٍ طارئ في بيت مال المسلمين، فأراد معاوية رضي الله عنه أن يقترض ما غنمه جيش الحكم رضي الله عنه إلى أجل معلوم، وتأخير قسمة الغنائم بين الجيش إلى وقت لاحق2543.
…ومن الدروس المهمة إن ثبتت الرواية التزام الحكم بن عمرو الغفاري بمبدأ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وتمسكه بأداء الأمانة في قسمة الغنائم، ولم يغل منها شيئاً ووزعها على العسكر بعد أن عزل الخمس2544،
…هذه أهم الدروس والعبر والفوائد من الفتوحات في عهد معاوية.
الخامس عشر : استشهاد صلة بن أشيم وابنه بسجستان عام 62هـ:(2/66)
…صلة بن أشيم هو الزاهد، العابد، القدوة، أبو الصهباء العدويُّ البصري، زوج العالمة معاذة العدوية، وكان صلة له مواقف في المجتمع الإسلامي مؤثرة ومن هذه المواقف، عن ثابت قال: جاء رجل إلى صلة بنعي أخيه، فقال له: أدن فكل، فقد نُعي إليَّ أخي منذ حين، قال تعالى: ((إنك ميت وإنهم ميتون)) (الزمر ، الآية : 30)، وكان صلة له كرامات منها، عن حمّاد بن جعفر بن زياد أنّ أباه أخبره، قال: خرجنا في غزاة إلى كابل، وفي الجيش صلة، فنزلوا فقلت: لأَرمُقَنَّ عمله، فصلَّى ثم اضطجع، فالتمس غفلة الناس، ثم وثب، فدخل غَيْضَةً، فدخلتُ فتوضَّأ وصلّى، ثم جاء أسد حتى دنا منه، فصعدت شجرة، أفتراه التفت إليه حتى سجد؟ فقلت: الآن يفترسه فلا شيء، فجلس ثم سلَّم فقال: يا سبع اطلب الرِّزق بمكان آخر، فولىّ وإن له زئيراً أقول: تصدّع منه الجبل فلمّا كان الصبح فجلس، فحمد الله بمحامد لم أسمع بمثلها، ثم قال: اللَّهم إني أسألك أن تُجيرني من النار، أو مثلي يَجتَرِئُ أن يسألك الجنَّة2545، وعن العلاء بن هلال، أن رجلاً قال لصلة: يا ابا الصهباء رأيت أني أعطيت شهدة، وأعطيت شهدتين فقال: تستشهد وأنا وابني، فلما كان يوم يزيد بن زياد، لقيتهم الترك بسجستان، فانهزموا. وقال صلة: يا بُنيَّ ارجع إلى أمك. قال: يا أَبَة، تريد الخير لنفسك، وتأمرني بالرجوع! قال: فتقدَّمْ، فتقدَّم، فقاتل حتى أصيب، فرمى صلةُ عن جسده، وكان رامياً، حتى تفرَّقوا عنه، وأقبل حتى قام عليه، فدعا له، ثم قاتل حتى قُتل2546، وعن حمّاد بن سلمة: أخبرنا ثابت أنّ صلة كان في الغزو، ومع ابنه، فقال: أي بني، تقدم فقاتل حتى احتسبك، فحمل، فقاتل، حتى قُتل، ثم تقدَّم صلة فقتل، فاجتمع النساء عند امرأته معاذة، فقالت: مرحباً إن كنتنّ جئتنَّ لتُهنَّئنني، وإن كنتنَّ جئتُنَّ لغير ذلك فارجعنَّ2547 وكانت الملحمة التي استشهد فيها سنة 62هـ2548.(2/67)
المبحث الخامس : ولاية العهد ووفاة معاوية رضي الله عنه:
أولاً : بداية التفكير ببيعة يزيد:
…يُحمَّل كثير من الباحثين، المغيرة بن شعبة، المسئولية عن بيعة يزيد بن معاوية، وذلك باعتباره العقل المدبر، وصاحب الفكرة الأولى، حين عرض على معاوية بأن يتولى يزيد الخلافة من بعده، وتكفل بالدعوة ليزيد وتهيئة أهل الكوفة لتقبل خبر اختيار يزيد لولاية العهد وكل من اتهم المغيرة بن شعبة، كان حجته في ذلك تلك الرواية التي أوردتها بعض المصادر القديمة ومفادها: أن المغيرة بن شعبة ـ رضي الله عنه ـ دخل على معاوية واستعفاه من ولاية الكوفة فأعفاه، وأراد معاوية أن يولي بدلاً منه سعيد بن العاص، فبلغ ذلك أحد الموالين للمغيرة، وتأثر المغيرة عند ذلك، وتمنى العودة للإمارة، فقام فدخل على يزيد وعرّض له بالبيعة، فأخبر يزيد والده بما قال له المغيرة، فاستدعى معاوية المغيرة بن شعبة وأمره بالرجوع والياً مرة أخرى على الكوفة وأن يعمل في بيعة يزيد2549، وأسانيد هذه الرواية ضعيفة، فسند هذه الرواية لا يشجع على قبولها أو الاستئناس بها بأي حال من الأحوال، كما أن المغيرة رضي الله عنه صحابي جليل تمّ التعريف به في موضعه من هذا الكتاب وقد توفي عام 50هـ2550 قبل ظهور فكرة ولاية العهد عند معاوية، حيث بدأت هذه الفكرة في الظهور في عهد زياد بن أبيه على العراق وقد صرّح الطبري بأن معاوية إنما دعا إلى بيعة يزيد سنة 56هـ2551، فلماذا تأخر كل هذه السنين إذا كان المغيرة قد شرع في التمهيد لهذه الفكرة قبل موته2552.
ثانياً : الخطوات التي اتبعها معاوية لبيعة يزيد:(2/68)
1 ـ…المشاورات : لم نعثر في المصادر التاريخية على تحديد دقيق لتلك الفترة التي بدأ فيها معاوية رضي الله عنه يفكر تفكيراً جدياً في تولية ولده يزيد من بعده خليفة المسلمين. ولكنه بالتأكيد لم يفكر إلا بعد سنه الخمسين من الهجرة، وذلك بعد أن خلت الساحة من وجود الصحابة الكبار المبشرين بالجنة من أمثال سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن يزيد بن عمرو، وبعد وفاة الحسن بن علي رضي الله عنهم جميعاً، وبعد أن عرف يزيد عند قيادته لجيش المسلمين الذي حاصر القسطنطينية، وبعدها أصبح معاوية يهيء الأمور لترشيح يزيد للخلافة، وكان من الطبيعي يستشير زياد بن أبيه بعدما أصبح أخاً له، وصار يقال له: زياد بن أبي سفيان، وولاه العراق، ولنسمع إلى رواية الطبري لهذه الاستشارة، وماذا صنع زياد2553، قال الطبري: لما أراد معاوية أن يبايع ليزيد، كتب إلى زياد يستشيره، فبعث زياد إلى عبيد بن كعب النميري، فقال إن لكل مستشير ثقة، ولكل سر مستودع وإن الناس قد أبدعت2554 بهم خصلتان: إذاعة السر، وإخراج النصيحة إلى غير أهلها وليس موضع السر إلا أحد رجلين: رجل آخره يرجو ثواباً ورجل دينا له شرف في نفسه، وعقل يصون حسبه، وقد عجمتهما2555 منك، فأحمدت الذي قبلك. وقد دعوتك لأمر اتهمت عليه بطون الكتب2556: إن أمير المؤمنين كتب إليّ يزعم أنه قد عزم على بيعة يزيد، وهو يتخوّف نفرة الناس ويرجو مطابقتهم، ويستشيرني. وعلاقة أمر الإسلام، وضمانه عظيم، ويزيد صاحب رَسْلة2557، وتهاون، مع ما قد أولع به من الصيد، فالق أمير المؤمنين مؤدياً عني، فأخبره عن فعلات يزيد، فقال له: رويدك بالأمر فأقمن أن يتم لك ما تريد، ولا تعجل فإن دركاً في تأخير خير من تعجيل عاقبته الفَوْت. فقال عبيد له: أفلا غير هذا قال: ما هو؟ قال: لا تفسد على معاوية رأيه، ولا تمقِّت إليه ابنه، وألقى أنا يزيد سراً من معاوية فأخبره عنك أن أمير المؤمنين كتب إليك يستشيرك في بيعته، وأنك تخوَّفُ خلاف(2/69)
الناس لهنات ينقمونها عليه، وأنك ترى له ترك ما يُنقَمُ عليه، فيستحكم لأمير المؤمنين الحجة على الناس ويسهل لك ما تريد، فتكون قد نصحت يزيد وأرضيت أمير المؤمنين، فسلمت مما تخاف من علاقة أمر الأمة. فقال زياد: لقد رميت الأمر بحجره، أشخص على بركة الله، فإن أصبت فما لا ينكر، وإن يكن خطأ فغير مستغَشّ وأبعد بك إن شاء الله من الخطاءِ قال: أتقول بما ترى، ويقضي الله بغيب ما يعلم. فقدم على يزيد فذاكره ذلك. وكاتب زياد إلى معاوية يأمره2558،بالتؤدة، وألا يعجل، فقبل ذلك معاوية وكفّ يزيد عن كثير مما كان يضع2559.
إن تحليل هذا النص يكشف لنا عن الحقائق التالية:
أ ـ إن بداية الفكرة كانت من معاوية وأنه كان يدرك أنه كان يقدم على أمر خطير، لا بل على حدث لم يسبق إليه، ولهذا اصطفى زياداً للاستشارة وزياد هو الذي قال عنه الأصمعي: الدهاة أربعة: معاوية للروية، وعمرو بن العاص للبديهة، والمغيرة بن شعبة للمعضلة، وزياد لكل صغيرة وكبيرة. وقد أشار عليه زياد بالتؤدة فقبل. ولهذا لم يُقدم معاوية على الأمر الخطير إلا بعد وفاة زياد2560. قال الطبري: لما مات زياد، دعا معاوية بكتاب فقرأه على الناس باستخلاف يزيد، إن حدث به حدث الموت، فيزيد ولي عهد، فاستوثق2561له الناس على البيعة ليزيد غير خمسة2562.
بـ ـ إن معاوية لم يكن يريد حين الاستشارة الاكتفاء بالعهد، وإنما أراد الناس على مبايعة يزيد وهو حي، وهو حدث جديد أيضا لم يعهد من قبل، لأن الناس لم يبايعوا عمر إلا بعد وفاة أبي بكر رضي الله عنه.
جـ ـ إن زياداً قد أحس خطورة الأمر، فلم يشأ بادئ الأمر أن يكتب لمعاوية بنصيحته، بل أراد أن يحمّلها لرسول خاص وهو ((عبيد الله بن كعب النميري)) ليؤديها عنه إلى معاوية شفهياً وفي ذلك من الحيطة الشيء الكثير، لئلا يشيع خبر الكتاب، فيحدث ما لا يحمد. ولهذا قال لعبيد: ولهذا دعوتك لأمر اتهمت عليه بطون الصحف.(2/70)
ح ـ إن معاوية كان يتخوف نفرة الناس، فليس العهد لولد الخليفة والخليفة حي ...بالأمر اليسير.
خ ـ إن زياداً كان يخشى على الأمة من يزيد، ولذلك يقول: وعلاقة أمر الإسلام وضمانه عظيم، ويزيد صاحب رسلة وتهاون مع ما قد أولع به من الصيد. ولهذا أيضا نرى في جواب عبيد له أن سيلقى يزيد وينقل إليه: أن زياداً يرى ترك ما ينقم عليه وبذلك: يسلم ما تخاف من علاقة.
س ـ إن زياداً كتب أخيراً إلى معاوية، ولكن لينصحه بالتؤدة وألا يعجل فقبل ذلك معاوية2563.
ـ وممن شاورهم معاوية رضي الله عنه الأحنف بن قيس، فقد روي أن معاوية لما نصبّ ولده يزيد لولاية العهد، أقعده في قبة حمراء، فجعل الناس يسلمون على معاوية ثم يميلون إلى يزيد، حتى جاء رجل ففعل ذلك، ثم رجع إلى معاوية، فقال: يا أمير المؤمنين: اعلم أنك لو لم تول هذا أمور المسلمين لأضعتها، والأحنف بن قيس جالس. فقال له معاوية: ما بالك لا تقول يا أبا بحر؟ قال: أخاف الله إن كذبت، وأخافكم إن صدقت، فقال له معاوية: جزاك الله عن الطاعة خيراً، وأمر له بألوف فلما خرج لقيه ذلك الرجل بالباب، فقال: يا أبا بحر أني لأعلم أن شر من خلق الله سبحانه وتعالى هذا وأبنه، ولكنهم قد استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال، فليس نطمع في استخراجها إلا بما سمعت، فقال له الأحنف: أمسك عليك، فأن ذا الوجهين خليق أن لا يكون عند الله وجيها2564.
2 ـ الحملات الإعلامية:(2/71)
ومن التمهيدات الإعلامية الناجحة التي قدمها معاوية رضي الله عنه لابنه توليته أميراً على الجيش الذي وجهه إلى غزو القسطنطينية وبعد أن رجع من الغزو ولاه إمارة الحج، ولكنه كان يتخوف نفرة الناس ويتهيب من بعض المعارضين2565، ولذلك كان يواصل إعداد العدة للأمر، ويستشير ولاته ورجال دولته ويستعين بهم في تذليل العقبات وتهيئة الأجواء لأخذ البيعة ليزيد ومما يذكر في هذا الجانب، أن الشاعر ربيعة بن عامر الدارمي المعروف ب(( مسكين الدارمي))، وكان مما يؤثره يزيد ويصله، أنشد في مجلس معاوية، وكان المجلس حافلاً ويحضره وجوه بني أمية فقال:
ألا ليت شعري ما يقول ابن عامر ومروان أم ماذا يقول سعيد
بني خلفاء الله مهلاً فإنما يبوئها الرحمن حيث يريد
إذا المنبر الغربي خلاّه ربُّه فإن أمير المؤمنين يزيد
فقال معاوية، ننظر فيما قلت يا مسكين ونستخير الله ولم يتكلم أحد من بني أمية إلا بالإقرار والموافقة2566
3 ـ قبول أهل الشام لبيعة يزيد:(2/72)
أدرك معاوية رضي الله عنه حرص أهل الشام على بقاء الخلافة فيهم، فقد حسم أهل الشام أمرهم وأصبح خيارهم في ولاية العهد ليزيد ووجدوا فيه ضالتهم لاستمرار صدارتهم في الدولة الإسلامية ولم يكن أهل الشام يستغربون فكرة توريث الخلافة كما كان يستغربها أهل الحجاز، فقد عهدوها من قبل إبان حكم البيزنطيين لهم، بل إن بعض أهل العراق أيضا كانوا فيما يبدو مهيئين لتقبل فكرة توريث الخلافة ولكن من منظور خاص، حيث يرون أحقية أهل البيت بها واستمرارها فيهم وقد تأثروا في ذلك بنظام الحكم الساساني للفرس قبل الفتح الإسلامي لهذه البلاد2567، إن أهل الشام استجابوا لرغبة معاوية في تولية يزيد ولياً لعهده من بعده وكان ذلك بعد رجوع يزيد من غزوة القسطنطينية، وقد أدى طرح هذه الفكرة إلى قبول وإجماع من أهل الشام بالموافقة على بيعة يزيد، ولم يكن هناك أي معارض2568، وقد أسهم أهل الشام فيما بعد في أخذ البيعة ليزيد من الأمصار الأخرى مثل الحجاز2569.
4 ـ بيعة الوفود:
عقد معاوية رضي الله عنه اجتماعاً موسعاً في دمشق بعد ما جاءت الوفود من الأقاليم وكانت هذه الوفود تضم مختلف رجالات القبائل العربية، فمثلاً من بلاد الشام: الضحاك بن قيس الفهري، ثور بن معن السلمي2570، عبد الله بن عضاة الأشعري، عبد الله بن مسعدة الفزاري، عبد الرحمن بن عثمان الثقفي، حسان بن مالك بن بحدل الكلبي2571 وغيرهم، كما حضر عن أهل المدينة عمرو بن حزم الأنصاري ـ وذلك في وقت متأخر ـ وحضر عن أهل البصرة الأحنف بن قيس التميمي، ثم تكلم كل زعيم من هؤلاء الزعماء ورحبوا بالفكرة وأثنوا عليها وأكدوا أن هذه هي الطريقة الأصوب لحقن الدماء وحفاظ الألفة والجماعة2572، فحصلت المبايعة ليزيد بولاية العهد على أن الشيء المؤكد أن عمرو بن حزم الأنصاري لم يحضر هذا الاجتماع وذلك لأحد أمرين:(2/73)
الأمر الأول: هو أن أهل المدينة لم يوافقوا في الأصل على البيعة وعارضوها بشدة فلم يرسلوا في موعد الوفود أحد .
الأمر الثاني: هو أن معاوية قد رفض الالتقاء بعمرو بن حزم وما ذلك إلا لأنه بلغه معارضة أهل المدينة، وعرف أن عمرو بن حزم مندوب عن أولئك المعارضين، فخشي إن حضر الاجتماع سوف يشتت الآراء، ويحدث بلبلة من خلال معارضته ولهذا استجاب له أخيراً فالتقى به على انفراد وحصل بالفعل ما كان يظن معاوية ولكن معاوية تقبل الانتقاد وأجزل له العطاء2573وكان ذلك بعدما عزل رأي ابن حزم عن الوفود.
5 ـ طلب البيعة من أهل المدينة:
مثلما أرسل معاوية رضي الله عنه إلى الأقاليم يطلب منهم البيعة ليزيد أرسل إلى المدينة يطلب من أميرها أخذ البيعة ليزيد2574 فقام مروان بن الحكم أمير المدينة خطيباً فحض الناس على الطاعة وحذرهم الفتنة ودعاهم إلى بيعة يزيد، وقال مروان سنة أبي بكر الراشدة المهدية واستدل على ذلك بولاية العهد من أبي بكر لعمر، فرد عليه عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهم2575، ونفى أن تكون هناك مشابهة بين هذه البيعة وبيعة أبي بكر وقال: فقد ترك أبو بكر الأهل والعشيرة وعمد إلى رجل من بني عدي بن كعب إذ رأى أنه لذلك أهل فبايعه. ثم قال: هذه البيعة شبيهة بيعة هرقل وكسرى ثم حدث بينه وبين مروان نزاع2576، وجاء في رواية عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: يا معشر بني أمية اختاروا منها بين ثلاثة بين سنة رسول الله، أو سنة أبي بكر أو سنة عمر.. ألا وإنما أردتم أن تجعلوها قيصرية كلما مات قيصر كان قيصر2577، فقال مروان: خذوه، فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا عليه2578، فقال: إن هذا الذي أنزل الله فيه ((وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي)) (الاحقاف ، الآية : 17) فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا من القرآن إلا أن الله أنزل عذري2579.(2/74)
وقد سبق طلب مروان بن الحكم من أهل المدينة البيعة ليزيد تمهيد من معاوية رضي الله عنه حيث أرسل رسالة لم يذكر فيها يزيد وإنما جاء فيها: إني قد كبرت سني وخشيت الاختلاف على الأمة بعدي، وقد رأيت أن أتخير لهم من يقوم بالأمر بعدي، وكرهت أن اقطع أمراً دون مشورة من عندك فاعرض عليهم ذلك، وأعلمني بالذي يردون عليك فقام مروان في الناس فأخبرهم بما أراد معاوية فقال الناس: أصاب معاوية، ووفق وقد أحببنا أن يتخير لنا فلا يألوا2580،ولكن عندما ذكر في المرة التالية اسم يزيد امتنع أهل المدينة في بداية الأمر وعبَّر عبد الرحمن بن أبي بكر عمّا في نفوسهم2581.
ومما سبق نلاحظ أن مروان بن الحكم لم يوفق في المهمة التي كلفه بها معاوية رضي الله عنه، وعند ذلك قرر معاوية المجيء بنفسه إلىالحجاز ومعرفة موقف الصحابة من هذه القضية المهمة ـ فجاء رضي الله عنه معتمراً في شهر رجب من سنة 56هـ2582، فلما علم عبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر وابن الزبير بقدوم معاوية خرجوا من المدينة، واتجهوا من المدينة إلى مكة2583، فلما قدم معاوية المدينة خطب الناس وحثهم على البيعة وبيّن أن يزيد هو أحق الناس بالخلافة2584، ثم قال: قد بايعنا يزيد فبايعوه2585، ويبدو أن معاوية قد ذكر أنه يخشى على ابن عمر وغيره من القتل إن مانعوا، ويقصد بخوفه عليهم من أهل الشام، الذين لا يمكن أن يتصوروا أن أحداً يخالف أمير المؤمنين في أمر اتفق عليه كثير من الناس، فقد ذكر أن معاوية قال: والله ليبايعنَّ ابن عمر أو لاقتلنّه، فلما بلغ الخبر عبد الله بن صفوان2586، غضب وعزم على مقاتلة معاوية إن ثبت هذا. فلما سأل معاوية أنكر ذلك وقال: أنا اقتل ابن عمر: إني والله لا أقتله2587.
أ ـ عبد الله بن عمر رضي الله عنه في مجلس معاوية رضي الله عنه:(2/75)
…فلما قدم معاوية مكة، وقضى نسكه بعث إلى ابن عمر فقدم عليه فتشهد معاوية وقال: أما بعد يا ابن عمر فإنك قد كنت تحدثني أنك لا تحب أن تبيت ليلة سوداء وليس عليك أمير، وإني أحذرك أن تشق عصا المسلمين، وأن تسعى على فساد ذات بينهم، فرد ابن عمر على معاوية، وبين له كيف كانت طريقة بيعة الخلفاء الراشدين، وذكر له كيف أن لهم أبناء خير من يزيد، فلم يروا في أبنائهم ما يرى معاوية في يزيد ثم بين له أيضاً أنه لا يريد أن يشق عصا المسلمين وأنه موافق على ما تجتمع عليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فأثلج هذا القول صدر معاوية رضي الله عنه وقال: يرحمك الله2588. فقد أشترط أبن عمر حدوث الإجماع على بيعة يزيد حتى يعطيه البيعة2589، وكان معاوية رضي الله عنه قد أرسل بمائة ألف درهم لابن عمر، فلما دعا معاوية لبيعة يزيد قال: أترون هذا أراد، إن ديني إذا عندي لرخيص2590، وكان ابن عمر رضي الله عنه يرى أنه لا يجوز أن يؤخذ على البيعة الدراهم، لأنها من باب الرشوة فإن كانت البيعة حقاً فلا يجوز له أن يأخذ على الحق أجراً وإن كانت باطلاً، فلا يجوز له أن يبذل البيعة لمن لا يستحقها من أجل المال2591. موقف ابن عمر رضي الله عنه هو عدم الرضا بالأسلوب الوراثي للحكم أو أخذ البيعة عن طريق المال2592.
بـ ـ عبد الرحمن بن أبي بكر في مجلس معاوية رضي الله عنهم:
وخرج ابن عمر ـ من مجلس معاوية ـ واستدعى عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، فأخذ معاوية في الكلام، فقاطعه عبد الرحمن ورد عليه بلهجة شديدة، وذكر أنه يمانع بيعة يزيد، وطلب أن يكون الأمر شورى، وتوعد معاوية بالحرب2593. ثم قام فقال معاوية: اللهم اكفنيه بم شئت، وطلب منه أن يتمهل وأن لا يعلن رفضه أمام أهل الشام فيقتلوه، فإذا جاء العشي وبايع الناس ثم يكن بعد ذلك على ما عنده من رأي2594. وكان الأولى لمعاوية رضي الله عنه أن يطلب من أهل الشام ألا يتعرضوا لمن خالفه(2/76)
جـ ـ عبد الله بن الزبير رضي الله عنه:
ثم استدعى ابن الزبير، واتهمه معاوية بأنه السبب في منع البيعة، وأنه وراء ما حدث من ابن عمر وابن أبي بكر، فردّ عليه ابن الزبير وطلب منه أن يتنحى عن الإمارة إن كان ملّها ثم طلب من معاوية أن يضع يزيد خليفة بدلاً منه فيبايعه. ثم استدل على عدم موافقته على المبايعة بما استنبطه من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لا يجوز مبايعة اثنين في آن واحد2595ن ثم قال: وأنت يا معاوية أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان في الأرض خليفتان فاقتلوا أحدهما2596.
س ـ الحسين بن علي رضي الله عنه:
ومن الملاحظ أن الرواية السابقة لم تذكر الحسين بن علي ضمن من استشارهم معاوية في بيعة يزيد، ولعل السبب يعود إلى أن معاوية أدرك العلاقة بين أهل العراق وبين الحسين وأنهم كانوا يكتبون له ويمنونه بالخلافة من بعد معاوية، ثم إن الحسين قد قابل معاوية بمكة فكلمه طويلاً كما يبدو في أمر الخلافة الأمر الذي أغضب يزيد فقال لأبيه: لا يزال رجل قد عرض لك، فأناخ بك، قال: دعه لعله يطلبها من غيري فلا يسوغه فيقتله2597.
ويتبين لنا من خلال الحوار الذي دار بين معاوية وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم أنهم يمانعون البيعة لسببين:
أ ـ اعتراضهم على تولية يزيد للعلاقة بين الأب والابن وأن هذه لم تكن طريقة الخلفاء الراشدين .(2/77)
بـ ـ الاستدلال على بطلان هذه البيعة ورفضها لمخالفتها النص الصريح الذي ورد في الحديث النبوي والذي لا يجيز البيعة لشخصين في آن واحد. والملاحظ هنا هو أن المعارضين لم يذكروا قدحاً في يزيد وإلا كيف يمكن أن يتجاهلوا صفات يزيد التي اتهم بها فيما بعد، وخاصة في ذلك الموقف الذي يتطلب حشد أي دليل في مقابل الخصم2598. والحقيقة أنه كان هناك شعور قوي بين بعض الناس خاصة بين أبناء المهاجرين هو كيف أن معاوية الذي أسلم في فتح مكة يتولى خلافة المسلمين، وهناك من هو أقدم إسلاماً وأحق منه2599، وكان البعض معترضاً على تقديم يزيد خوفاً من القيصرية والهرقلية على حد تعبير عبد الرحمن بن أبي بكر. ولما رأى معاوية أوجه الانتقادات التي انتقد فيها أبناء الصحابة بيعة يزيد، ورأى أنها لا تمس يزيد شخصياً بل أنها وجهات نظر أرتاؤها ورأى معاوية خلافها، فهؤلاء مدفعون بحرصهم على جعل منصب الخلافة لا تتطرق إليه العلاقات الأسرية والرغبات الشخصية، ومن ثم تكون قيمة الخليفة واختياره مبنية على علاقته بالخليفة الذي قبله2600. قام معاوية بعد اجتماعه مع ابن عمر وابن الزبير وابن أبي بكر، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن وجدنا أحاديث الناس ذات عوار زعموا أن ابن عمر وابن الزبير، وابن أبي بكر الصديق لم يبايعوا يزيد، قد سمعوا وأطاعوا وبايعوا له. فقال أهل الشام: لا والله لا نرضى حتى يبايعوا على رؤوس الناس وإلا ضربنا أعناقهم، فانتهرهم معاوية وقال: مه سبحان الله ما أسرع الناس إلى قريش بالسوء لا أسمع هذه المقالة من أحد بعد اليوم، ثم نزل. فقال الناس بايع ابن عمر وابن الزبير وابن أبي بكر ويقولون لا والله ما بايعنا، ويقول الناس: بلى لقد بايعتم، وارتحل معاوية ولحق بالشام2601. وبهذه الرواية الصحيحة يتبين لنا كذب تلك الرواية التي تتهم معاوية رضي الله عنه بأنه أقام على رأس كل رجل من الصحابة الأربعة وهم عبد الله بن عمر، عبد الله بن(2/78)
الزبير،عبد الرحمن بن أبي بكر، والحسين بن علي رضوان الله عليهم أقام على رأس كل واحد منهم رجلين، وأعطى الإشارة لكل حارس بقتل من يمانع البيعة، فبايع الناس وبايع ابن عمر، وابن الزبير، وابن أبي بكر تحت تهديد السلاح فبالإضافة على ضعف الرواية سنداً، فإن متنها لا يقل عن سندها من حيث الضعف ولا يقف أمام النقد الدقيق2602، فمثلاً في بداية الرواية: أن معاوية لما كان قريباً من مكة قال لمرقال صاحب حرسه: لا تدع أحداً يسير معي إلا من حملته أنا فخرج يسير وحده حتى إذا كان وسط الأراك لقيه الحسين بن علي فوقف وقال: مرحباً وأهلاً بابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيد شباب المسلمين دابة لأبي عبد الله يركبها، ثم طلع عبد الرحمن بن أبي بكر فقال: مرحباً وأهلاً بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن الصديق وسيد المسلمين ودعا له بدابة فركبها، ثم طلع ابن الزبير فقال مرحباً وأهلاً بابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن الصديق وابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دعا له بدابة فركبها ولم يعرض لهم شيء حتى قضى نسكه2603. وأما ما يتعلق بباقي الرواية التي تذكر أن معاوية أوقف على رأس كل رجل حارسين وأمرهما بقتل من يحاول الاعتراض على البيعة، إذا بويع يزيد فهذا مستبعد لأمرين أحدهما: أليس من الغريب جداً على معاوية أن يستخدم العنف بهذه الصفة مع أبناء الصحابة، والصحابة أنفسهم ومن ثم يتسبب في توسيع الخلاف ويباعد الشق بينه وبين يزيد من جهة، وبين الصحابة وأبنائهم من جهة أخرى.
والأمر الآخر: عندما يقف الحراس على رؤوس الأربعة، ابن عمر، وابن الزبير، وابن أبي بكر والحسين، أليس هذا المنظر أمام الناس يجعل الشك عند الناس يتضاعف حول مكانة يزيد، ويعرف الناس أن أولئك الحراس الذين يقفون على رأس كل شخص إنما يتربصون به ويبغونه شراً، ثم يصبح لدى الناس اقتناعاً كاملاً بأن هذه البيعة بيعة إكراه وخديعة فيمانعوا2604.(2/79)
ثالثاً: تاريخ ترشيح يزيد بن معاوية لولاية العهد:
اختلفت المصادر حول تاريخ ترشيح يزيد بن معاوية لولاية العهد على النحو التالي:
1 ـ ذكر خليفة بن خياط2605، والذهبي2606، أنه كان في سنة 51هـ .
2 ـ ذكر ابن عبد ربه2607، أن ذلك كان في سنة 55هـ .
3 ـ ذكر الطبري2608، وابن الجوزي2609، وابن الأثير2610، وابن كثير2611، أن ذلك كان في سنة 56هـ
هذا وبعد دراسة التواريخ السابقة اتضح عدم صحة ترشيح يزيد بن معاوية سنة 51هـ2612للأسباب التالية:
أ ـ أن وفاة الحسن بن علي رضي الله عنه كانت في السنة نفسها أي في سنة 51هـ واتخاذ قرار ترشيح يحتاج لوقت من طرف معاوية لكي يدرسه ويستشير فيه، كما أنه ليس من الحكمة إعلان قرار الترشيح بعد وفاة الحسن رضي الله عنه مباشرة.
ب ـ قتل حجر بن عدي رضي الله عنه في السنة نفسها، أي في سنة 51هـ، لذا فإنه أيضاً ليس من الحكمة إعلان ترشيح يزيد بن معاوية في هذه السنة، لأن الأنفس لم تكن مهيأة لمثل هذه القرارات الجريئة، التي يعتبر توقيت إعلانها على الناس من أهم عوامل نجاحها.
جـ ـ إن ترشيح يزيد بن معاوية لولاية العهد كان أثناء ولاية مروان بن الحكم على الحجاز2613، وهي بلا شك الفترة الثانية من ولاية مروان بن الحكم والتي امتدت من سنة 54هـ ـ 57هـ وذلك أن الفترة الأولى من ولاية مروان بن الحكم كانت من سنة 42ـ 49هـ .(2/80)
بعد ذلك يتبقى تاريخان لإعلان ترشيح يزيد بن معاوية لولاية العهد وهما 55هـ وسنة 56هـ وهذان التاريخان يكمل أحدهما الآخر ـ كما سيتضح لاحقاً ـ ولكن يرد في هذا المقام سؤال حول السبب الذي جعل معاوية رضي الله عنه يؤخر ترشيح ابنه يزيد ولياً للعهد على سنة 55هـ أو سنة 56هـ مع أن الحسن بن علي رضي الله عنه توفي سنة 51هـ، وجواب هذا السؤال يكمن في معرفة أهم حدث وقع في سنة 55هـ حيث توفي في هذه السنة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، آخر الستة الذين رضيهم ورشحهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه للخلافة من بعده2614.
رابعاً: وفاة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد:(2/81)
حاول بعض الإخباريين أن يوجدوا علاقة بين وفاة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وبين بيعة يزيد بن معاوية فذكر البعض أن معاوية رضي الله عنه لما رأى مكانة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد عند أهل الشام ـ بسبب مآثر عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، ولغنائه عن المسلمين في أرض الروم وبأسه ـ خافه معاوية فأمر ابن أثال الطبيب النصراني فدس إليه السم2615، في حين يرجح ابن الكلبي سبب القتل إلى أمر آخر وهو: أن معاوية لما أراد أن يولي الأمور رجلاً من بعده فماذا ترون؟ فقالوا عليك بعبد الرحمن بن خالد، وكان فاضلاً فسكت معاوية وأضمرها في نفسه ثم إن عبد الرحمن اشتكى، فدعا معاوية طبيبه بن اثال وأمره بدس السم إلى عبد الرحمن2616. فهذه الروايات بالإضافة إلى ضعف سندها يوجد اختلاف في متنها مع الواقع الملموس فمعاوية رضي الله عنه بيده عزل الأمراء أو توليتهم كما هو معروف، وليس بالصعوبة على معاوية أن يطلب من عبد الرحمن بن خالد أن يتنحى عن قيادة الصوائف على الثغر الرومي، ويهمل عبد الرحمن بن خالد ثم لا يكون له أي مكانة يُخشى منها وقد ورد أن معاوية عزله وولى بدلاً منه سفيان بن عوف الغامدي2617على إحدي الصوائف2618، وليس هذا يشكل صعوبة على معاوية، بل إن معاوية كان يعزل عن الإمارة من هو أعظم وأقوى من عبد الرحمن بن خالد ثم كيف يقوم معاوية بقتله وقد أورد الطبري ذكر غزوة البحر سنة 48هـ وكان قائد أهل مصر عقبة بن عامر الجهني، وعلى أهل المدينة المنذر بن زهير، وعلى جميعهم خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد2619، فكيف يرضى معاوية أن يكون ولده قائداً كبيراً من بعد أبيه هذا من ناحية ومن ناحية أخرى كيف يرضى أن يقوم ولده بقيادة الجيش لمعاوية إن كان معاوية قاتل أبيه، وهل يمكن أن يخفى على ولده هذا الأمر وهو أقرب الناس إليه2620؟ فهذه أكاذيب واضحة حاولت أن توجد علاقة بين موت عبد الرحمن بن خالد بن الوليد والبيعة ليزيد، ومثلها مثل(2/82)
الأكاذيب التي حاولت أن تربط بين موت الحسن بن علي والبيعة ليزيد ـ كما مرّ ذكره.
إن خبر وفاة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بالسم أورده القاسم بن سلام، وابن حبيب البغدادي2621، وذكر أن الدافع هو الخوف من منافسة عبد الرحمن ليزيد في ولاية العهد2622، كذلك أورد الخبر البلاذري2623، وأبو الفرج الأصفهاني2624، وأبو هلال العسكري2625، وخبر اتهام معاوية رضي الله عنه بحادثة سم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد لم يرد بإسناد صحيح، بل هو من الأخبار المكذوبة على هذا الصحابي الكريم2626وفي ذلك يقول ابن كثير: وقد ذكر بن جرير وغيره، أن رجلاً يقال له: ابن أثال ـ وكان رئيس الذمة بأرض حمص ـ سقاه شربة فيها سم فمات، وزعم بعضهم أن ذلك عن أمر معاوية له في ذلك ولا يصح2627.
خامساً: أسباب ترشيح معاوية لأبنه يزيد:
1 ـ الحفاظ على وحدة الأمة:(2/83)
نظر معاوية رضي الله عنه إلى ابنه يزيد على أنه المرشح الذي سيحظى بتأييد أهل الشام الذين يمثلون العامل الأقوى في استقرار الدولة وقد أبرز معاوية رضي الله عنه السبب الذي دعاه لاختيار ابنه يزيد وذلك أثناء جمع التأييد له من كبار أبناء الصحابة أثناء رحلته الأخيرة للحج إذا كان الدافع لمعاوية ـ رضي الله عنه ـ عندما سارع في أخذ البيعة ليزيد هو خوفه من الاختلاف2628، الذي قد يطرأ على الأمة بعد موته، وربما تنخرط في قتال جديد لا يعلم سعته ومداه إلا الله عز وجل2629. كان معاوية يرهب أن يدع أمة محمد صلى الله عليه وسلم كالضأن لا راعي لها2630، ولذلك عمل على اختيار من يخلفه وكان الأولى بمعاوية رضي الله عنه أن يعين من أفاضل المجتمع الإسلامي رجالاً يجعلهم موضع شورى يختاروا من كان أهلاً للخلافة ويبتعد عن ترشيح ابنه يزيد، لأن اختيار يزيد لم يكن أماناً من الاختلاف والقتال وسفك الدماء ولقد وقع المحظور بعد وفاة معاوية، وسفكت الدماء ولم يزح اختيار معاوية يزيد ما تعلل به من المخاوف، ويبدو أنه وقع ما وقع بسبب شخصية يزيد، وإتباع الوراثة بديلاً من الشورى في اختيار الخليفة ولأسباب أخرى وعلى كل حال فمعاوية رضي الله عنه اجتهد ولم يكن مصيباً في تولية يزيد لولاية العهد، فقد كان بوسعه وقدراته السياسة الفائقة أن يطمئن في حياته على اجتماع كلمة المسلمين في أمر الخلافة من بعده باختيار واحد من قريش يشهد له الناس بحسن السيرة أكثر من يزيد ابنه ويجتمع عليه أعيان المجتمع الإسلامي في الشام والعراق وبلاد الحجاز وغيرها.
2 ـ قوة العصبية القبلية:(2/84)
خاض معاوية رضي الله عنه الحرب وتولى الخلافة بنصرة من أهل الشام، وكانوا من أشد الناس طاعة لمعاوية رضي الله عنه ومحبة لبني أمية ومن الدلائل على تلك الطاعة والمحبة هو أن معاوية رضي الله عنه لما عرض خلافة يزيد بن معاوية على أهل الشام وافقوا موافقة جماعية ولم يتخلف منهم أحد، وبايعوا ليزيد بولاية العهد من بعد أبيه2631، ومن الدلائل على قوة العصبية في بلاد الشام لبني أمية أن مروان بن الحكم تمكن من الانتصار بأهل الشام على عمال عبد الله بن الزبير، ثم تبعه بعد ذلك ابنه عبد الملك بن مروان، حتى تمكن من الانتصار بأهل الشام على ابن الزبير وقتله73هـ رضي الله عنه، ومع ذلك لم نجد أهل الشام انقادوا لأبن الزبير، بل إن أهل العراق غدروا بأخيه مصعب ابن الزبير ومالوا مع عبد الملك بن مروان فلماذا لم تجتمع الأمة على ابن الزبير وهو في ذلك الحين لا يشاركه أحد في فضائله ومكانته؟ بل نجد العكس نجد أن عبد الملك بن مروان الذي يعتبر في السن كأحد أبناء عبد الله بن الزبير، تمكن من تولي زعامة المسلمين2632، فعصبية أهل الشام كانت سبباً مهماً في تولية يزيد وليست عصبية بني أميه فإن أسرة بني أميه لم تكن ذات تأثير كبير على الأحداث في مجيء معاوية رضي الله عنه إلى منصب الخلافة وقد بنى ابن خلدون دفاعه عن صنيع معاوية في ولاية العهد أن المصلحة تقتفي ذلك حيث قال: والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون سواه أنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد حينئذٍ من بني أميه، إذ بنو أمية يومئذٍ لا يرضون سواهم، وهم عصابة قريش، وأهل الملة أجمع وأهل الغلب منهم، فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها، وعدل عن الفاضل إلى المفضول حريصاً على الاتفاق واجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع، وأن كان لا يظن بمعاوية غير هذا فعدالته وصحبته مانعة سوى ذلك، وحضور أكابر الصحابة لذلك وسكوتهم عنه دليل(2/85)
على انتفاء الريب فيه، فليسوا ممن يأخذهم في الحق هوادة، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق، فإنهم كلهم من أجل ذلك2633، وقال أيضاً: عهد معاوية إلى يزيد خوفاً من افتراق الكلمة، بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه2634. أي إن قوة عصبية بني أمية وسطوتهم، ونفورهم من الانقياد لغيرهم، جعلت معاوية رضي الله عنه يختار مرشحاً من بني أمية، فكان ابنه يزيد خوفاً منه على الأمة من الفرقة والاختلاف2635، ومما لا شك فيه لو جاء معاوية برجل من ذوي الكفاءة من قريش غير ابنه يزيد واستفتى ذوي الرأي والنهي بشأنه، ثم وقف وراءه بثقله الكامل وتأييده الصريح، وطلب من أهل الحل والعقد في الأمة مبايعته بولاية العهد، فهل كان يعترض أحد؟ طبعاً لا، ذلك لأن أمير المؤمنين هو الداعي، ولأن المرشح لولاية العهد رجل أريد بترشيحه، ومبايعة مصلحة الأمة والدولة مجردة من كل شبهة أو عاطفة ألا ترى معي أن ذلك كان ممكناً وأنه كان محققاً للغرض القائل بأن القصد من ولاية العهد هو سد أبواب الخلاف بين المسلمين، وتجنب الأمة أخطار التنازع والفتن من جديد؟ ولكن معاوية رضي الله عنه على كل حال اجتهد، فإن كان مصيباً فله أجران، وإن كان مخطئاً فله أجر2636.
3 ـ محبة معاوية لابنه وقناعته به:(2/86)
قال ابن كثير: وقد كان معاوية لما صالح الحسن، عهد للحسن بالأمر من بعده، فلما مات الحسن قوي أمر يزيد عند معاوية ورأى أنه لذلك أهل، وذاك من شدة محبة الوالد لولده، ولما كان يتوسم فيه من النجابة الدنيوية، وسيما أولاد الملوك، ومعرفتهم بالحروب وترتيب الملك والقيام بأبهته، وكان ظن أن لا يقوم أحد من أبناء الصحابة في هذا المعنى2637. وقال معاوية رضي الله عنه لعمرو بن حزم الأنصاري، الذي كان معارضاً للبيعة، فذكّر معاوية بالله، وطلب منه أن ينظر في عاقبة الأمور، فشكره معاوية وقال، إنك امرؤ ناصح. ثم أخذ معاوية يُبيّن له بصراحة أنه لم يبق إلا ابنه وأبنائهم وابنه أحق من أبنائهم2638، وكانت ليزيد بعض الصفات التي شجعت معاوية على جعله ولياً للعهد قال الذهبي في ترجمة يزيد: كان قوياً شجاعاً، ذا رأي وحزم، وفطنة وفصاحة2639، وقال ابن كثير: وكان يزيد فيه خصال محمودة من الكرم، والحلم، والفصاحة، والشعر، والشجاعة، وحسن الرأي في الملك2640، ربما كانت هذه الصفات دافعة لمعاوية وكافية له ليكون صالحاً للخلافة2641، ولا شك أن الصحابة وأبنائهم أفضل من يزيد وأصلح ولكن مع ذلك فإن معاوية ربما رأى في ولده مقدرة لا تكن لغيره في قيادة الأمة، بسبب عيشته المتواصلة مع أبيه ومناصرة أهل الشام وولائهم الشديد له، ثم اطلاعه عن قرب على معطيات ومجريات السياسة في عصره وقد أنس معاوية رضي الله عنه من ولده يزيد حرصاً على العدل وتأسياً بالخلفاء الراشدين، فقد كان يسأله عن الكيفية التي سيسير بها في الأمة فيرد عليه يزيد بقوله: كنت والله يا أبت عاملاً فيهم عمل عمر بن الخطاب2642. وغير ذلك من الأسباب. فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوة، قدم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضرراً فيها، فيقدم في إمارة الحرب، الرجل القوي الشجاع، وإن كان فيه فجور، على الرجل الضعيف، وإن كان أميناً2643. فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها، وسئل(2/87)
الأمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو أحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف مع أيهما يغزو، فقال: أما الفاجر القوي، فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف، فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، يُغزى مع القوي الفاجر2644. ومعظم المقصود من نصب الأئمة حياطة المسلمين، ودفع عدوهم، والأخذ على يد ظالمهم، وإنصاف مظلومهم، وتأمين سبلهم، وتفريق بيت مالهم فيهم، على ما أوجبه الشرع، فمن كان ناهضاً بهذه الأمور ونحوها فيه يحصل مقصود الإمامة، ويطيب عيشهم، ويأمنون فيه على أنفسهم وأموالهم وحرمهم وإن كان غيره أكثر علماً منه، أو أوسع عبادة، أو أعظم ورعاً فإنه إذا كان غير ناهض بالقيام بهذه الأمور، فلا يعود على المسلمين من علمه أو ورعه وعبادته فائدة، ولا ينفعهم كونه مريداً للصلاح وإجراء الأمور مجاريها الشرعية مع عجزه عن ذلك وعدم قدرته على إنفاذه2645. فقد كان معاوية رضي الله عنه يرى بولاية المفضول مع وجود الفاضل هذه أهم أسباب ترشيح معاوية رضي الله عنه لابنه.
سادساً: الانتقادات التي وجهت لمعاوية بشأن البيعة ليزيد:(2/88)
لقد حمّل كثير من المؤرخين السابقين والمعاصرين معاوية رضي الله عنه مسئولية البيعة الكاملة، وبالتالي حملوه جميع الأخطاء التي يقع فيها الحكام من زمان معاوية حتى عصرنا الحاضر، فمنهم من اتهمه بالخروج على نظام الشورى في الإسلام فكان أول محطم لنظام الإسلام2646. ومنهم من اتهم معاوية بأنه أقر النظام الذي يعتمد على السياسة أولاً وإلى الدين ثانياً2647، والبعض شبه معاوية بالملوك الأقدمين من الفرس والروم2648، والبعض يجعل معاوية بهذه البيعة هو رائد المدرسة ((المكيافيلية)) في السياسة القائمة على تسويغ الوسيلة من أجل الغاية2649، والبعض حكم على معاوية بارتكابه كبيرة أضافها إلى كبائره السابقة2650، والبعض أعتبر معاوية خارجاً على إجماع المسلمين بهذه البيعة2651. ولمعرفة صحة هذه الاتهامات من عدمها يجدر بنا أن نعرف ماهية الشورى وكيفية تطبيقها، فالشورى دعامة من دعائم الحكم في الإسلام، وقاعدة صلبة من قواعده كما أن اختيار الحاكم في الإسلام وتولي أمر الأمة المسلمة لا تعطيه صفة مقدسة، أو سلطة مطلقة2652، بل إنه مسئول عن كل عمل يقوم به وينفذ فيه ما ينفذ في شعبه وأما طريقة الشورى فلم يحدد لها نظام خاصاً، فتطبيقها إذن متروك للظروف والمقتضيات الجارية2653، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشير المسلمين فيما لم ينزل فيه وحي ويأخذ برأيهم فيما هم أعرف به من شئون دنياهم، وكذلك سار الخلفاء الراشدون في استشارة المسلمين وإليك استعراض موجز لكيفية انعقاد إمامة الخلفاء الراشدين:
1 ـ طريقة انعقاد بيعة أبي بكر رضي الله عنه:(2/89)
قام أهل الحل والعقد في سقيفة بني ساعدة بيعة الصديق بيع خاصة ثم رشحوه للناس في اليوم الثاني وبايعته الأمة في المسجد البيعة العامة2654، وقد أفرز ما دار في سقيفة بني ساعدة مجموعة من المبادئ منها: أن قيادة الأمة لا يقام إلا بالاختيار، وأن البيعة هي أصل من أصول الاختيار وشرعية القيادة، وأن الخلافة لا يتولاها إلا الأصلب ديناً والأكفأ إدارة، فاختيار الخليفة يكون وفق مقومات إسلامية، وشخصية، وأخلاقية، وأن الخلافة لا تدخل ضمن مبدأ الوراثة النسبية أو القبلية، وإن إثارة ((قريش)) في سقيفة بني ساعدة باعتباره واقع يجب أخذه في الحسبان، ويجب اعتبار أي شيء مشابه ما لم يكن متعارضاً مع أصول الإسلام، وأن الحوار الذي دار في سقيفة بني ساعدة قام على قاعدة الأمن النفسي السائد بين المسلمين حيث لا هرج ولا مرج، ولا تكذيب ولا مؤامرات ولا نقض للاتفاق، ولكن تسليم للنصوص التي تحكمهم حيث المرجعية في الحوار إلى النصوص الشرعية2655
أ ـ وأول ما قرره اجتماع يوم السقيفة هو أن (نظام الحكم ودستور الدولة) يقرر بالشورى الحرة، تطبيقاً لمبدأ الشورى الذي نص عليه القرآن الكريم، ولذلك كان هذا المبدأ محل إجماع، وسند هذا الإجماع هو النصوص القرآنية التي فرضت الشورى، أي أن هذا الإجماع كشف وأكد أول أصل شرعي لنظام الحكم في السلام وهو الشورى الملزمة، وهذا أول مبدأ دستوري تقرر بالإجماع بعد وفاة رسولنا صلى الله عليه وسلم، ثم إن هذا الإجماع لم يكن إلا تأييداً وتطبيقاً لنصوص الكتاب والسنّة التي أوجبت الشورى.(2/90)
ب ـ تقرر يوم السقيفة أيضاً أن اختيار رئيس الدولة أو الحكومة الإسلامية وتحديد سلطاته يجب أن يتم بالشورى، أي البيعة الحرة التي تمنحه تفويضاً ليتولى الولاية بالشروط والقيود التي يتضمنها عقد البيعة الاختيارية الحرة ـ الدستور في النظم المعاصرة ـ وكان هذا ثاني المبادئ الدستورية التي أقرها الإجماع، وكان قراراً إجماعياً كالقرار السابق.
جـ ـ تطبيقاً للمبدأين السابقين قرر اجتماع السقيفة اختيار أبي بكر ليكون الخليفة الأول للدولة الإسلامية2656، ثم أن الترشيح لم يصح نهائياً إلا بعد أن تمت له البيعة العامة، أي موافقة جمهور المسلمين في اليوم التالي بمسجد الرسول صلى اله عليه وسلم، ثم قبوله لها بالشروط التي ذكرها في خطابه2657المشهور الذي جاء فيه: أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمّهم الله بالبلاء أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله2658. وقال عمر لأبي بكر يومئذ: اصعد المنبر، فلم يزل به حتى صعد المنبر فبايعه الناس عامة2659، وتعتبر هذه الخطبة الرائعة من عيون الخطب الإسلامية على إيجازها وقد قرر الصديق فيها قواعد العدل والرحمة في التعامل بين الحاكم والمحكوم وركز على أن طاعة ولي الأمر مترتبة على طاعة الله ورسوله، ونص على الجهاد في سبيل الله لأهميته في إعزاز الأمة، وعلى اجتناب الفاحشة لأهمية ذلك في حماية المجتمع من الانهيار والفساد2660.
2 ـ طريقة انعقاد بيعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه:(2/91)
لما اشتد المرض بالصديق رضي الله عنه جمع الناس إليه فقال: إنه قد نزل بي ما قد ترون ولا أظنني إلا ميت لما بي وقد أطلق الله إيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمّروا عليكم من أحببتم فإنكم إن أمّرتم في حياة مني كان أجدر أن لا تختلفوا بعدي2661، وقد قام أبي بكر رضي الله عنه بعدة إجراءات لتتم عملية اختيار الخليفة القادم.
أ ـ استشارة أبي بكر كبار الصحابة:
تشاور الصحابة رضي الله عنهم وكل يحاول أن يدفع الأمر عن نفسه ويطلبه لأخيه إذ يرى فيه الصلاح والأهلية لذا رجعوا إليه، فقالوا: رأينا يا خليفة رسول الله رأيك، قال: فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده فدعا أبو بكر عبد الرحمن بن عوف فقال له: أخبرني عن عمر بن الخطاب فقال له: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني، فقال أبو بكر: وإن فقال عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه، ثم دعا عثمان بن عفان فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب. فقال: أنت أخبرنا به. فقال: على ذلك يا أبا عبد الله فقال عثمان: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله. فقال أبو بكر: يرحمك الله والله لو تركته ما عدتك. ثم دعا أسيد بن حضير فقال له مثل ذلك، فقال أسيد: اللهم أعلمه الخيرة بعدك، يرضى الرضا، ويسخط للسخط، والذي يسر خير من الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه وكذلك استشار سعيد بن زيد وعدداً من الأنصار والمهاجرين، وكلهم تقريباً كانوا برأي واحد في عمر إلا طلحة بن عبيد الله خاف من شدته، فقد قال لأبي بكر: ما أنت قائل لرَبِّك إذا سألك استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني أبالله تخوفوني؟ خاب من تزوَّد من أمركم بظلم أقول اللهم استخلفت عليهم خير أهلك2662 وبين لمن نبهه إلى غلظة عمر وشدته فقال: ذلك لأنه يراني رقيقاً ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما عليه2663.
ب ـ…نص العهد الذي كتبه أبو بكر لكي يقرأ على الناس:(2/92)
…بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، يوقن الفاجر ويصدق الكاذب، إني استخلف عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاستمعوا له وأطيعوا وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي، وإياكم خيراً، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امريء ما اكتسب الخير أردت ولا أعلم الغيب ((وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)) (الشعراء ، الآية : 227).
جـ ـ إبلاغ الناس بنفسه:
إنه أراد إبلاغ الناس بلسانه واعياً مدركاً حتى لا يحصل أي لبس فأشرف أبو بكر على الناس وقال لهم: أترضون بما استخلف عليكم، فإني والله ما ألوت من جهد الرأي ولا وليت ذا قربة، وإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا. فقالوا سمعنا وأطعنا2664.
ر ـ…التوجه بالدعاء لله: أنه توجه بالدعاء إلى الله يناجيه ويبثه كوامن نفسه، وهو يقول: اللهم وليته بغير أمر نبيك، ولم أرد بذلك إلا إصلاحهم وخفت عليهم الفتنة، واجتهدت لهم رأيي، فولَّيت عليهم خيرهم وأحرصهم على ما أرشدهم، وقد حضرني من أمرك ما حضر فاخلفني فيهم فهم عبادك2665.
س ـ تكليف عثمان بقراءة العهد على الناس: كلف أبو بكر رضي الله عنه عثمان بن عفان أن يتولى قراءة العهد على الناس وأخذ البيعة لعمر قبل موت أبي بكر بعد أن ختمه لمزيد من التوثيق والحرص على إمضاء الأمر، دون أي آثار سلبية، وقال عثمان للناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم. فأقروا بذلك جميعاً ورضوا به2666.
ش ـ…وصية الصديق لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما :(2/93)
…اختلى الصديق بالفاروق وأوصاه بمجموعة من التوصيات لإخلاء ذمته من أي شيء، حتى يمضي إلى ربه خالياً من أي تبعة بعد أن بذل قصارى جهده واجتهاده2667، وقد جاء في الوصية: اتق الله يا عمر، واعلم أن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل، وعملاً بالليل لا يقبله بالنهار، وأنه لا يقبل نافلة حتى تؤدي فريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة بإتباعهم الحق في دار الدنيا وثقله عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الحق غداً أن يكون ثقيلاً، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل غداً أن يكون خفيفاً، وإن الله تعالى ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئه،فإذا ذكرتهم قلت: إني أخاف أن لا ألحق بهم وأن الله تعالى ذكر أهل النار، فذكرهم بأسوأ أعمالهم، ورد عليهم أحسنه، فإذا ذكرتهم، قلت: إني لأرجو أن لا أكون مع هؤلاء ليكون العبد راغباً راهباً، لا يتمنى على الله ولا يقنط من رحمة الله، فإن أنت حفظت وصيتي فلا يك غائب أبغض إليك من الموت وليس تعجزه2668.(2/94)
…ونلاحظ أن عمر رضي الله عنه وليَّ الخلافة باتفاق أصحاب الحل والعقد وإرادتهم فهم الذين فوضوا لأبي بكر انتخاب الخليفة، وجعلوه نائباً عنهم في ذلك، فشاور ثم عين الخليفة، ثم عرض هذا التعيين على الناس فأقروه وأمضوه، ووافقوا عليه، وأصحاب الحل والعقد في الأمة هم النواب (( الطبيعيون )) عن هذه الأمة، وإذن فلم يكن أستخلا ف عمر رضي الله عنه إلا على أصح أساليب الشورية وأعدلها2669 إن الخطوات التي سار عليها أبوبكرالصديق في اختيارخليفته من بعده لاتتجاوز الشورى بأي حال من الأحوال، وإن كانت الاجراءات المتبعة فيها غير الاجراءات المتبعة في تولية أبي بكر نفسه2670. وهكذا تم عقد الخلافة لعمر رضي الله عنه بالشورى والاتفاق، ولم يرد التاريخ أي خلاف وقع حول خلافته بعد ذلك، ولا أن أحداً نهض طوال عهده لينازعه الأمر، بل كان هناك إجماع على خلافته وعلى طاعته في أثناء حكمه، فكان الجميع وحدة واحدة2671 .
3 ـ طريقة انعقاد بيعة عثمان رضي الله عنه:(2/95)
…استطاع الفاروق رضي الله عنه في اللحظات الأخيرة وهو على فراش الموت، رغم ما يعانيه من آلام جراحاته البالغة أن يبتكر طريقة جديدة لم يسبق إليها في اختيار الخليفة الجديد، وكانت دليلاً ملموساً، ومعلماً واضحاً على فقهه في سياسة الدولة الإسلامية، لقد مضى قبله الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف بعده أحداً بنص صريح، ولقد مضى أبو بكر الصديق واستخلف الفاروق بعد مشاورة كبار الصحابة، ولما طلب من الفاروق أن يستخلف وهو على فراش الموت، فكر في الأمر ملياً وقرر أن يسلك مسلكاً آخر يتناسب مع المقام، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الناس وكلهم مقر بأفضلية أبي بكر وأسبقيته عليهم، فاحتمال الخلاف كان نادراً، وخصوصاً أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه الأمة قولاً وفعلاً إلى أن أبي بكر أولى بالأمر من بعده، والصديق لما رشح عمر كان يعلم أن عند الصحابة أجمعين قناعة بأن عمر أقوى وأقدر وأفضل من يحمل المسئولية بعده،فاستخلفه بعد مشاورة كبار الصحابة ولم يخالف رأيه أحد منهم وحصل الاجماع على بيعة عمر2672، وأما طريقة انتخاب الخليفة الجديد فتعتمد على جعل الشورى في عدد محصور، فقد حصر ستة من صحابة رسول الله كلهم بدريون وكلهم توفي رسول الله عليه وسلم وهو عليهم راضٍ، وكلهم يصلحون لتولي الأمر ولو أنهم يتفاوتون وحدد لهم طريقة الانتخاب ومدته وعدد الأصوات، وأمر مجموعة من جنود الله لمراقبة سير الانتخابات في المجلس ومنع الفوضى بحيث لا يسمحون لأحد يدخل أو يسمع ما يدور في مجلس أهل الحل والعقد2673. وبهذا يكون أمير المؤمنون أرسى نظاماً صالحاً للشورى لم يسبقه إليه أحد ولا يشك أن أصل الشورى مقرر في القرآن والسنة القولية والفعلية، وقد عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ولم يكن عمر مبتدعاً بالنسبة للأصل، ولكن الذي عمله عمر هو تعيين الطريقة التي يختار بها الخليفة وحصر عدد معين جعلها فيهم وهذا لم يفعله الرسول صلى الله(2/96)
عليه وسلم ولا الصديق ـ رضي الله عنهم ـ بل أول من فعل ذلك عمر ونعم ما فعل، فقد كانت أفضل الطرق المناسبة لحال الصحابة في ذلك الوقت2674.
وبهذا جعل أمير المؤمنين هيئة سياسيسة عليا وهم أهل الشورى وأناط بهم وحدهم اختيار الخليفة من بينهم، ومن المهم أن نشير إلى أن أحداً من أهل الشورى لم يعارض هذا القرار الذي اتخذه عمر، كما أن أحداً من الصحابة الآخرين لم يثر أي اعتراض عليه، ذلك ما تدل عليه النصوص التي بين أيدينا، فحن لا نعلم: إن اقتراحاً آخر صدر عن أحد من الناس في ذلك، أو أن معارضة ثارت حول أمر عمر خلال السَّاعات الأخيرة من حياته، أو بعد وفاته وإنما رضي الناس كافة هذا التدابير، ورأوا فيه مصلحة لجماعة المسلمين، وفي وسعنا أن نقول: إنَّ عمر قد أحدث هيئة سياسية عليا مهمَّتها انتخاب رئيس الدولة أو الخليفة، وهذا التنظيم الدستوري الجديد، الذي أبدعته عبقرية عمر لا يتعارض مع المباديء الأساسية التي أقرها الإسلام ولاسيما فيما يتعلق بالشورى، لأن العبرة من حيث النتيجة العامة التي تجري في المسجد الجامع. وعلى هذا لا يتوجّه السؤال الذي قد يرد على بعض الأذهان، وهو: من أعطى عمر هذا الحق؟ ما هو مستند عمر في التدبير؟ ويكفي أن نعلم أن جماعة من المسلمين قد أقرت هذا التدبير، ورضيت به ولم يُسمع صوت اعتراض عليه حتى نتأكَّد: أنَّ الاجماع ـ وهو مصدر من مصادر التشريع ـ قد انعقد على صحته ونفاذه2675، ولا ننسى : أن عمر خليفة راشد، كما ينبغي أن نؤكِّد أن أهل الشورى أعلى هيئة سياسية قد أقرّه نظام الحكم في الإسلام في العهد الراشدي، كما: أنَّ الهيئة التي سمّاها عمر، تمتَّعت بمزايا لم يتمتع بها غيرها من جماعة المسلمين، وهذه المزايا منحت لها من الله وبلغها الرسول، فلا يمكن عند المؤمنين أن يبلغ أحد من المسلمين مبلغ هؤلاء العشرة من التقوى، والأمانة2676.(2/97)
ومن الأمور المهمة حرص الفاروق على ابعاد الإمارة عن أقاربه، مع أن فيهم من هو أهل لها، فهو يبعد قريبه سعيد بن زيد عن قائمة المرشحين للخلافة2677 وقد أوصى بأن يحضر عبد الله بن عمر مع أهل الشورى وأن ليس له من الأمر شيء، ولكن قال لهم: فإن رضي ثلاثة رجل منهم، وثلاثة رجل منهم، فحكِّموا عبد الله بن عمر، فأي الفريقين حكم له، فليختاروا رجل منهم، فإن لم يرضوا يحكم عبد الله بن عمر، فيكون مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، فوصف عبدر الرحمن بن عوف بأنه مسدد رشيد، له من الله حافظ فاسمعوا له2678، وقد أشرف على العملية الانتخابية عبد الرحمن بن عوف وشاور الناس في أمر علي وعثمان رضي الله عنهما وكان يشاور كل من يلقاه في المدينة من كبار الصحابة، وأشرافهم، ومن أمراء الأجناد ومن يأتي للمدينة وشملت مشاوراته النساء في خدورهنَّ، وقد أبدين رأيهنّ، كما شملت الصَّبيان، والعبيد في المدينة وكانت نتيجة مشاورات عبد الرحمن بن عوف: أن معظم المسلمين كانوا يشيرون بعثمان بن عفان، ومنهم من كان يشير بعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما... ثم بعد ذلك أعلن عبد الرحمن بعد صلاة الصبح من اليوم الأخير من شهر ذي الحجة 23 النتيجة التي وصل إليها فبعد أن تشهد عبد الرحمن ثم قال: أما بعد: يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعل على نفسك سبيلا ثم بايع عثمان على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده. فبايعه الناس: المهاجرون ، والأنصار، ,امراء الأجناد والمسلمون2679، وجاء في روية صاحب التمهيد، والبيان:أن علي بن أبي طالب أوّل من بايع عبد الرحمن بن عوف2680، وقد اعتبر الذهبي ما قام به عبد الرحمن بن عوف من أفضل أعماله حيث قال: ومن أفضل أعمال عبد الرحمن عزله نفسه من الأمر وقت الشورى، واختياره للأمة من أشار به أهل الحلِّ، والعقد، فنهض في ذلك أتمَّ نهوض على جمع الأمَّة على عثمان، ولو كان محابياً فيها، لأخذها لنفسه، أو(2/98)
لولاها ابن عمّه وأقرب الجماعة إليه سعد بن أبي وقاص2681، وبهذا تحققت صورة أخرى من صور الشورى في أحد الخلفاء الراشدين: وهي الاستخلاف عن طريق مجلس الشورى، ليعينوا أحدهم بعد أخذ المشورة العامّة، ثم البيعة العامّة2682.
4 ـ طريقة إنعقاد بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
تمت بيعة علي رضي الله عنه بالخلافة بطريقة الاختيار وذلك بعد أن استشهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه على أيدي الخارجين المارقين الشذاذ الذين جاءوا من الآفاق ومن أمصار مختلفة وقبائل متباينة لا سابقة لهم، ولا أثر خير في الدين، فبعد أن قتلوه رضي الله عنه ظلماً وزوراً وعدواناً، يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين2683، قام كل من بقي بالمدينة من أصحاب رسول الله بمبايعة علي رضي الله عنه بالخلافة وذلك لأنه لم يكن أحد أفضل منه على الاطلاق في ذلك الوقت، فلم يدع الإمامه لنفسه أحد بعد عثمان ولم يكن أبو السبطين رضي الله عنه حريصاً عليها، وذلك لم يقبلها، إلا بعد إلحاح شديد ممن بقي من الصحابة بالمدينة وخوفاً من ازدياد الفتن وانتشارها ومع ذلك لم يسلم من نقد بعض الجهال أثر تلك الفتن كموقعة الجمل وصفين التي أوقد نارها وأنشبها الحاقدون على الإسلام كابن سبأ وأتباعه الذين استخفهم فأطاعوه لفسقهم ولزيغ قلوبهم عن الحق والهدى، وقد روي الكيفية التي تم بها اختيار علي رضي الله عنه للخلافة بعض أهل العلم2684، فقد روى أبو بكر الخلال بإسناده إلى محمد الحنفية قال: كنت مع علي رحمه الله وعثمان محصر قال فأتاه رجل فقال: إن أمير المؤمنين مقتول الساعة قال: فقال علي رحمه الله: قال محمد: فأخذت بوسطه تخوفاً عليه فقال: خل لا أم لك قال: فأتى علي الدار وقد قتل الرجل رحمه الله فأتى داره فدخلها وأغلق بابه، فأتاه الناس فضربوا عليه الباب فدخلوا عليه فقالوا: إن هذا قد قتل، ولا بد للناس من خليفة ولا نعلم أحداً أحق بها منك فقال(2/99)
لهم علي: لا تريدوني فإني لكم وزير خير مني لكم أمير، فقالوا: لا والله لا نعلم أحداً أحق بها منك، قال: فإن أبيتم علي فإن بيعتي لا تكون سراً، ولكن أخرج إلى المسجد فبايعه الناس2685.
5 ـ طريقة انعقاد بيعة الحسن بن علي رضي الله عنه:
كانت بيعة الحسن بن علي رضي الله عنه في شهر رمضان من سنة 40هـ وذلك بعد استشهاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد اختار الناس الحسن بعد والده ولم يعين أمير المؤمنين أحداً من بعده، فعن عبد الله بن سبع قال: سمعت علياً يقول: لتخضبن هذه من هذا2686، فما ينتظربي الأشقى2687 قالوا: يا أمير المؤمنين، فأخبرنا به نبير عترته2688، قال: إذن تالله تقتلون بي غير قاتلي0 قالوا: فاستخلف علينا قال: لا، ولكن أترككم إلى ماترككم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: فما تقول لربك إذا أتيته قال: أقول: اللهم تركتني فيهم ما بدا لك، ثم قبضتني إليك وأنت فيهم، فإن شئت أصلحتهم، وإن شئت أفسدتهم وفي رواية: أقول اللهمّ استخلفني فيهم ما بدا لك، ثم قبضتني وتركتك فيهم وبعد مقتل علي صلى عليه الحسن ابن علي وكبر عليه أربع تكبيرات، ودفن بالكوفة، وكان أول من بايعه قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي، قال له: أبسط يدك أبايعك على كتاب الله عز وجل وسنه نبيه، وقتال المُحليِّن، فقال له الحسن رضي الله عنه: على كتاب الله وسنة نبيه فإن ذلك يأتي من وراء كل شرط: فبايعه وسكت وبايعه الناس2689 وقد اشترط الحسن بن علي على أهل العراق عندما أرادوا بيعته فقال لهم: إنكم سامعون مطيعون، تسالمون من سالمت، وتحاربون من حاربت2690، وفي رواية قال لهم: والله لا أبايعكم إلا على ما أقول لكم قالوا: ما هو؟ قال تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت2691، وفي رواية ابن سعد: إن الحسن بن علي بن أبي طالب بايع أهل العراق بعد علي على بيعتين، بايعهم على الإمرة، وبايعهم على أن يدخلوا فيما دخل فيه ويرضوا بما رضي به2692.(2/100)
6 ـ طريقة انعقاد بيعة معاوية رضي الله عنه:
تمت بيعة معاوية بتنازل الحسن بن علي رضي الله عنه في الخلافة وتهيأت له جميع أسبابها، فبويع أميراً للمؤمنين عام واحد وأربعين للهجرة وسمي هذا العام بعام الجماعة2693، وقد بايع معاوية رضي الله عنه كل الصحابة الأحياء وأجمعت الأمة عليه وعدوا خلافته شرعية ورضوا إمامته، ورأوا أنه خير من يلي أمر المسلمين ويقوم به خير قيام.
7 ـ المآخذ على فكرة ولاية العهد في عهد معاوية:(2/101)
صحيح أن النظام الإسلامي للحكم لم ينص على طريقة معينة لاختيار ولي الأمر، ولكنه وضع الأساس التي لا تجوز الحيدة عنه، إلا في حالات الضرورة والاضطرار، وهو الشورى وليس للشورى أسلوب خاص، وطريقة واحدة، لا تتحقق إلا بها، ولكن تتحقق بأساليب شتى كما مرّ معنا في اختيار الأمة للخلفاء الراشدين، ولئن قصد معاوية رضي الله عنه بإحداث ولاية العهد في نظام الحكم الإسلامي جمع كلمة المسلمين، وحقن دمائهم، فهو إن شاء الله تعالى مأجور على أنه كان قادراً على أن يجعل العهد بعده لغير ولده من كبار الصحابة الموجودين في تلك الفترة، وكان فيهم كفاءات لو أسند إليهم الأمر، فقد كان الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن عمر وغيرهم موجودين في هذا الوقت ولكن معاوية رضي الله عنه عدل عن هؤلاء وقصد لولده ليكون خليفة بعده، وبذلك حصل التغير الحقيقي في نظام الحكم الإسلامي، فليس التغيير في إيجاد نظام ولاية العهد... ولكن التغيير في أن يكون ولي العهد ولد الخليفة أو أحد أقاربه، حتى أصبحت الحكومة ملكية بعد أن كانت خلافة راشدة2694، وإذا كنا مأمورين باتباع سنة الرسول وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، فإن التزام نظام الوراثة ليس من سنة النبي ولا من سنة خلفائه الراشدين، كما أن ترشيح يزيد لم يكن موفقاً لأسباب منها: إن المجتمع الإسلامي يومئذ كان فيه من أحق وأولى بالخلافة من يزيد في سابقته وعلمه وعمله ومكانه وصحبته كعبد الله بن عمر وابن عباس وغيرهم فأين الثرى من الثرية2695؟ ومهما مبدأ توريث الحكم من الأب لابنه.(2/102)
وعلى كل تقدير فهذا لا يقدح فيما عليه أهل السنة، فإنهم لا ينزهون معاوية ولا من هو أفضل منه من الذنوب، فضلاً عن تنزيههم عن الخطأ في الاجتهاد، بل يقولون إن للذنوب أسباب تدفع عقوبتها من التوبة والاستغفار والحسنات المحاية، والمصائب المكفرة، وغير ذلك وهذا أمر يعم الصحابة وغيرهم2696، ومعاوية رضي الله عنه من خيار الملوك الذين غلب عدلهم على ظلمهم وما هو ببريء من الهنات والله يعفو عنه2697، والذي يجب أن نعتقده في معاوية أن قلوبنا لا تنضوي على غل لأحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بل نقول: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) (الحشر ، الآية : 10) ونقول بأن معاوية اجتهد للأمة خوفاً عليها من الانقسام والفتن، ولا يمكن أن يحمل تبعات كل أخطاء الملوك والأمراء الذين جاؤوا من بعده، كما قرره عبد القادر عوده ـ رحمه الله ـ: حيث يقول: وأقام معاوية أمر الأمة الإسلامية على المحجات والظلم وإهدار الحقوق، وقضى على الشورى وعطل قول الله تعالى: ((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)) (الشورى ، الآية : 38) وحوّل الحكم العادل النظيف إلى حكم قذر قائم على الأهواء والشهوات، ووجه الناس إلى النفاق والذلة والصغار، ولا شك فيه أن كل من جاؤوا بعده إلى عصرنا هذا قد عمل بسنته وتثبتوا ببدعته حاشا عمر بن عبد العزيز، فعلى معاوية وقد استن هذه السنة السيئة إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة2698. وإذا كان معاوية أو الخلفاء الأمويين قد حوّل الخلافة من الشورى إلى الملك، فإن حفيده معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، ثالث خلفاء الأمويين قد أعاد الخلافة من الملك العضوض إلى الشورى الكاملة.. وإنه لما يستوجبه الإنصاف أن تصاغ القضية على هذا النحو بدلاً(2/103)
من التركيز على الشق الأول الخاص بتوريث الخلافة فقط ولم تستطع الأمة التي أعطيت حقها في اختيار خليفتها أن تعود إلى شكل من أشكال الاختيار السابق في عصر الراشدين، وبرز بوضوح دور العصبية الإقليمية والقبلية وحسم في النهاية الصراع الدائر حول منصب الخلافة لمصلحة البيت الأموي واستطاعت الشام أن تحقق الحسم التاريخي بعمق الالتحام بين بنائها القبلي والوجود الأموي بها2699، وسيأتي بإذن الله التفصيل عن حديثنا عن معاوية الثاني والحقيقة أن بيعة يزيد قد قبلها الكثير حتى الصحابة رضوان الله عليهم فقد بايعه ستوت من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فيهم ابن عمر2700 خوفاً من الفتنة وحرصاً على وحدة الصف، فقد توفي عبد الرحمن بن أبي بكر بعيد خروج معاوية من المدينة ولم يبق من المعارضين إلا ثلاثة هم ابن عمر وابن الزبير والحسين بن علي، أما ابن عمر فلما رأى الناس مجتمعة على يزيد بايعه وأرسل بيعته بعد وفاة معاوية رضي الله عنه وقال: إن كان خيراً رضينا به وإن كان بلاءً صبرنا2701، وانحصرت المعارضة في شخص ابن الزبير والحسين بن علي رضي الله عنهما، وقد حاول بعض الناس أن يلفقوا على معاوية رضي الله عنه تحسره من بيعة يزيد فنقلوا عنه أنه قال: لولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي2702. والسند من طريق الواقدي وهو متروك2703، ونسبوا إليه أيضاً أنه قال ليزيد: ما ألقى الله بشيء أعظم من نفسي من استخلافك2704. والسند من الطريق الهيثم بن عدي وهو كذاب2705، ولقد اعتمد محمد رشيد رضا رحمه الله على هذه الرواية وتحامل على معاوية تحاملاً قاسياً2706، ولقد تورط الكثير من الباحثين في الروايات الضعيفة والموضوعة فيما يتعلق بتاريخ صدر الإسلام وبنوا عليها تصورات وأفكار وأحكام تحتاج إلى إعادة نظر من جديد.(2/104)
ومع ما وقع من إنحراف في تغيير النموذج الأعلى لنظام الحكم الإسلامي، الذي تتمثل فيه روح الإسلام كاملة وهو الخلافة واستبدال الملك العضوض به2707، إلا أن الطابع الإسلامي هو الصفة الغالبة على مظهر الدولة، وتصرفات الحكام، فالصلاة تؤدي في أوقاتها، والزكاة تحصَّل من أربابها والصوم فريضة لا يُعارض في أدائها، وإقامة الحدود دون هوادة لم يقف شيء دون تنفيذها، والجهاد في سبيل الله فريضة ماضية بين رجالها، وبالجملة كانت تعاليم الإسلام مطبقة بحذافيرها2708.
سابعاً : الأيام الأخيرة في حياة معاوية:
1 ـ وصية معاوية رضي الله عنه ليزيد:(2/105)
لما حضر معاوية الموت وذلك سنة 60هـ وكان يزيد غائباً، دعا بالضحاك بن قيس الفهري ـ وكان صاحب شرطته ـ ومسلم بن عقبة المري، فأوصى إليهما فقال: بلغا يزيد وصيني، أنظر أهل الحجاز فإنهم أصلك، فأكرم من قدم عليك منهم وتعهد من غاب، وانظر أهل العراق، فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملاً فافعل، فإن عزل عامل أحب إلي من أن تشهر عليك مائة ألف سيف، وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك فإن نابك شيء من عدوك فانتصر بهم، فإن أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم، فإنهم إن اقاموا بغير بلادهم أخذوا بغير أخلاقهم، وإني لست أخاف من قريش إلا ثلاثة حسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، فأما ابن عمر فرجل قد وقذه الدين، فليس ملتمساً قِبَلك، وأما الحسين بن علي فإنه رجل خفيف، وأرجو أن يكفيه الله بمن قتل أباه، وخذل أخاه، وإن له رحماً ماسّة، وحقاً عظيماً، وقرابة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أظن أهل العراق تاركيه حتى يخرجوه، فإن قدرت عليه فاصفح عنه، فإني لو أني صاحبه عفوت عنه، وأما ابن الزبير فإنه خَبُّ ضَبُّ، فإذا شخص لك فالبد له، إلا أن يلتمس منك صلحاً، فإن فعل فاقبل، واحقن دماء قومك ما استطعت2709. تظهر في هذه الوصية كفاية معاوية ودهائه السياسي من خلال تشخيصه لأهمية الأمصار ومدى تأثيرها المستقبلي على أوضاع الدولة الأموية فذكر في وصيته ثلاث أقاليم فقط هي الحجاز والعراق والشام، ذلك أن الأوضاع السياسية خارج دائرة هذه الأقاليم، لم تكن تثير أي هموم جدية لدى معاوية2710.(2/106)
أ ـ الحجاز : فالبنسبة للحجاز يوصي معاوية ابنه قائلاً: انظر أهل الحجاز فإنهم أصلك، فأكرم من قدم عليك منهم وتعهد من غاب2711، ويأتي اهتمام معاوية بالحجاز فضلاً عن كونه محل أهله وعشيرته فهو من الناحية السياسية كان ولوقت قريب مركز الثقل السياسي للدولة الإسلامية ((مقر الخلافة)) ومن الناحية الدينية لم يزل يحتل مركز الصدارة لاحتضانه جل ما تبقى من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبإمكانه تقويض حكم بني أمية فيما لو اجتمعت كلمته وأتيحت الفرصة، له وهو بعد ذلك لايزال المكان الحقيقي للبيعة2712، والأهم من ذلك كله فإنه يضم عدداً من الشخصيات المعارضة للحكم الأموي، أمثال الحسين بن علي رضي الله عنه، وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وابن عباس رضي الله عنهم جميعاً كما سنرى ذلك في الفقرات اللاحقة من الوصية، ولذلك نرى معاوية يحث يزيد على استخدام مختلف الوسائل لاستقطاب الحجاز بما في ذلك أغداق الأموال2713، ولهذه الأسباب أيضاً وضع معاوية السلطة في هذا الإقليم تحت مراقبته المباشرة، حيث قام بتنفيذ سياسته في البيت الأموي، وقام بتشجيع مختلف النشاطات غير السياسية المناهضة له فيه2714، واهتم بأهله اهتماماً خاصاً.
ب ـ العراق: أما الأقليم الثاني الذي يثير اهتمام معاوية فهو العراق، لذا يوصي ولي عهده أن يعامل أهل العراق معاملة خاصة فيقول: انظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل كل يوم عاملاً فافعل، فإن عزل عامل أحب إليّ من أن يشهر عليك مائة ألف سيف2715، ومن الجدير بالذكر أن شكاية أهل العراق من ولاتهم كان منذ عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.(2/107)
جـ ـ الشام: أما الإقليم الثالث هو الشام، فإن وصية معاوية به تأتي من باب رد الجميل لأهل الشام لدورهم الكبير في مساندته بالوصول إلى الحكم وتأييدهم المستمر لسياسته لذا يوصي ابنه أن يجعلهم محل ثقته وعنايته وأن يذخرهم للمهمات الجسام في قوله: وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك فإن نابك شيء من عدوك فانتصر بهم فإذا أصبتهم فأردد أهل الشام إلى بلادهم فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم أخذوا بغير أخلاقهم2716، وتظهر الفقرة الأخيرة من هذا النص بعد نظر معاوية السياسي، فهو يسدي مخاوفه من اختلاط أهل الشام2717، ببقية سكان الأقاليم الأخرى فتتبدل أخلاقهم نتيجة مكوثهم مدة طويلة ولربما استطاع المعارضون للحكم الأموي التأثير على جند الشام، على الرغم من التقاء مصالحهم مع مصالح البيت الأموي، فتسقط من يد الخلافة الأموية الورقة الرابحة التي طالما استخدمها معاوية وقطف ثمارها ولهذا يوصي معاوية ابنه بأن يسرع في إعادة جند الشام إلى بلادهم حال انتهاء مهمتهم2718، ومن أهم ما في وصية معاوية خطته التي رسمها لولي عهده في مواجهة الأحداث المقبلة، وأوكل إليه تنفيذها بعد أن عجز هو من اقناع نفر من قريش بالبيعة ليزيد على الرغم من أن الروايات تذكر أن معاوية ذهب إلى الحجاز لهذا الغرض والتقى بالشخصيات التي رفضت البيعة ليزيد كلاً على انفراد في محاولة للحصول منهم على وعود بالبيعة2719، إلا إن هذه الجهود لم تثمر في تذليل المصاعب قب ظهورها2720، والوصية تظهر أن الحجاز، وتحديداً المدينة، هي أكثر البلدان معارضة لحكم بني أمية ولهذا يوصي معاوية إبنه أن يكون حذراً ودقيقاً في تعامله معها، وأن يكون حازماً شديدا حين يتطلب الأمر ذلك، ومرناً ليناً مع من لا يشكلون خطراً حقيقاً عليه، لما للحجاز من أهمية بالغة في تقرير وتثبيت الحكم2721.(2/108)
وكان معاوية رضي الله عنه مصيباً في رأيه بعبد الله بن عمر من أنه رجل قد وقذه الدين، ولا خطر على يزيد منه، وذلك أن الوليد بن عتبة حين طلبه للبيعة قال: إذا بايعت الناس بايعت فتركوه لثقتهم بزهادته في الأمر وشغله بالعبادة2722، وكان مصيباً في حدسه من أهل العراق لن يتركوا الحسين بن علي رضي الله عنه حتى يخرجوه، ويبدو أنه كان متأكداً من وقوع الاصطدام بينهما، لذلك طلب من يزيد أن يعفوا عنه إذا تمكن منه، أما الخطر الحقيقي والذي يتطلب الحزم والشدة فإنه يأتي من عبد الله بن الزبير الذي كان يتمتع على ما يبدو من تأييد واسع النطاق بين معظم المعارضين للحكم الأموي، ولأنه كان رجل سياسة وحرب من الطراز الأول، وعلى الجملة فإن وصية معاوية تعكس سياسته ودهاءه في تصريف الأمور، فنراه من خلال الوصية يتعامل مع الأحداث التي تتطلب الشدة حزماً، وفيما عدا ذلك فهو يستخدم خبرته وتجربته السياسية الطويلة في مواجهة الأحداث، وقد وصف معاوية نفسه مشيراً إلى هذه السياسة بقوله: إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت أبداً. فقيل له وكيف ذلك؟ قال: كنت إذا مدوها أرخيتها وإذا أرخوها مددتها2723، وكان على الدوام يوصي يزيد بهذه السياسة فيقول له: عليك بالحلم، والاحتمال حتى تمكنك الفرصة فإذا أمكنك فعليك بالصفح فإنه يدفع عنك معضلات الأمور، ويقيك مصارع المحذور2724. وفي هذه الوصية يلخص معاوية رضي الله عنه منهجه وخبرته في السياسة والإدارة لابنه يزيد في كلمات قليلة جامعة تنم عما يتمتع به هذا الصحابي الكريم من حنكة سياسية وبراعة إدارية2725.
2 ـ آخر خطبة لمعاوية رضي الله عنه واشتداد مرضه ووفاته:(2/109)
كانت آخر خطبة خطبها معاوية رضي الله عنه قوله: أيُّها الناس إني من زرع قد استحصد، وإني قد وليتكم ولن يليكم أحد بعدي إلا من هو شر مني، كما كان من وليكم قبلي خيراً مني، ويا يزيد إذا وفى أجلي فوَلِّ غسلي رجلاً لبيباً، فإن اللبيب من الله بمكان فليُنعم الغسل وليجهر بالتكبير، ثم أعمد إلى منديل في الخزانة فيه ثوب من ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقُراضة من شعره وأظفاره فاستودع القراضة أنفي وفمي وأُذُنيَّ وعيْنيَّ، واجعل الثوب يلي جلدي دون أكفاني، ويا يزيد احفظ وصية الله في الوالدين، فإذا أدرجتموني في جريدتي، ووضعتموني في حفرتي فخلوا معاوية وأرحم الراحمين2726.
ولما احتضر معاوية جعل يقول:
………لعمري لقد عُمِّرتُ في الدهر بُرهة
…………………ودانت لي الدنيا بوقع البواتر
………وأعطيت حُمْرَ المال والحكم والنّهى
…………………وسِلْمَ قماقيم2727 الملوك الجبابر
………فأضحى الذي قد كان مما يَسُرُّني
…………………كحلم مضى في المزمنات الغوابر
………فيا ليتني لم أُعن في الملك ساعة
…………………ولم أُعْنَ في لذات عيشٍ نواضر
………وكنت كذي طمرين عاش ببُلْغةٍ
…………………من العيش حتى زار ضيق المقابر2728(2/110)
وقد أوصى معاوية بنصف ماله أن يرد إلى بيت المال كأنه أراد أن يُطيَّب له، لأن عمر بن الخطاب قاسم عمّاله2729. وذكروا أنه في آخر عمره اشتد به البَرْدُ فكان إذا لبس أو تغطَّى بشيء ثقيل يَغُمُّه، فاتُّخذ له ثوب من حواصل الطير2730، ثم ثقل عليه بعد ذلك، فقال: تبَّاً لك من دار ملكتك أربعين سنة، عشرين أميراً، وعشرين خليفة، ثم هذا حالي فيك، ومصيري منك، تباً للدنيا ومُحبِّيها2731، ولما اشتد المرض وتحدث الناس أنه الموت قال لأهله، أحشوا عيْنيّ إثمداً، وأوسعوا رأسي دُهناً. ففعلوا وبرّقوا2732 وجهه بالدهن، ثم مُهِّد له فجلس وقال: أسندوني. ثم قال: إئذنوا للناس فليُسلموا عليَّ قياماً ولا يحبس أحد. فجعل الرجل يدخل فيُسلم قائماً فيراه متكحِّلاً مُتدهِّناً، فيقول متقوِّل الناس: هو لمّا به2733، وهو أصح الناس، فلما خرَجوا من عنده2734 تمثل معاوية بقول أبي ذؤيب الهذلي الشاعر:
…………وتجلدي للشامتين أريهم
…………………أني لريب الدهر لا أتضعضع
…………وإذا المنية أنشبت أظفارها
…………………ألفيت كلَّ تميمة لا تنفع
وكان به النقابة2735، فمات من يومه ذلك2736، وكان يقول لما نزل به الموت: يا ليتني كنت رجلاً من قريش بذى طوى ولم أَلِ من هذا الأمر شيئاً2737، ومن الشعر الذي تمثل به أيضاً قول الشاعر:
…………إن تناقش يكن نقاشك يا ربِّ
…………………عذاباً لا طوق لي بالعذاب
…………أو تجاوز تجاوز العفو فاصفح
…………………عن مسيءٍ ذنوبه كالتُّراب2738
وقال رضي الله عنه وهو يُقَلبّ في مرضه، وقد صار كأنه سعفة محترقة: أي شيخ تقلِّبون إن نجاه الله من النار غداً2739؟، وقال الحسن البصري: دُخل علىمعاوية وهو بالموت، فبكى، فقيل: ما يبكيك؟
قال: ما أبكي على الموت أن حل بي، ولا على دنيا أخلفها ولكن هما قبضتان: قبضة في الجنة، وقبضة في النار، فلا أدري في أي القبضتين أنا2740(2/111)
وأغمى على معاوية رضي الله عنه في سكرات الموت ثم أفاق فقال لأهله: اتّقوا الله، فإن الله يَقي من اتَّقاه ولا يَقي من لا يَتَّقي2741، وجعل معاوية رضي الله عنه لما احتضر يضع خده على الأرض ثم يُقلِّب وجهه ويضع الخد الآخر ويبكي ويقول: اللهم إنك قلت في كتابك: ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)) (النساء ، الآية : 48) اللهم اجعلني ممَّن تشاء أن تغفر له2742، ومن دعائه في ذلك اليوم: اللهم أقل العثرة، واعف عن الزلة وتجاوز بحلمك عن جهل من لم يَرْجُ غيرك فإنك واسع المغفرة ليس لذي خطيئة من خطيئته مهرب إلا إليك ثم مات2743. وجاء في رواية: اللهم إني قد أحببت لقاءك فأحبب لقائي2744رحم الله معاوية رضي الله عنه.
3 ـ سنة وفاة معاوية ومن صلى عليه:
قال الطبري: في هذه السنة هلك معاوية بن أبي سفيان بدمشق، فاختلف في وقت وفاته بعد إجماع جميعهم على أن هلاكه كان في سنة ستين من الهجرة وفي شهر رجب2745، وقال ابن حجر: مات معاوية في رجب سنة ستين على الصحيح2746 وصلى على معاوية الضحاك ابن قيس الفهري، وكان يزيد غائباً حين مات معاوية2747، فقد خرج الضحاك حتى صعد المنبر وأكفان معاوية على يديه تلوح، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن معاوية كان عود العرب2748، وحدّ العرب2749، قطع الله عز وجل به الفتنة وملَّكهُ على العباد، وفتح به البلاد. ألا إنه قد مات، فهذه أكفانه فنحن مدرجوه فيها، ومدخلوه قبره، ومُخَلُّون بينه وبين عمله، ثم هو البرزخ إلى يوم القيامة، فمن كان منكم يريد أن يشهده فليحضر عند الأولى2750، وبعث البريد إلى يزيد بوجع معاوية وقد اختلف المؤرخون هل حاضر يزيد وفاة أبيه أم لا؟ والصحيح أن يزيد لم يدرك والده حياً وإنما جاء بعد موته2751. ولما وصل يزيد الخبر قال:
………جاء البريد بقرطاس يخب به
…………………فأوجس القلب من قرطاسه فزعا
………قلنا: لك الويل ماذا في كتابكم؟(2/112)
…………………قالوا : الخليفة أمس مثبتاً وجعا
………فمادت الأرض أو كادت تميد بنا
…………………كأن أغبر من أركانها انقطعا
………من لا تزال نفسه توفي على شرف
…………………توشك مقاليد تلك النفس أن تقعا
………لما انتهينا وباب الدار منصفق
…………………وصوت رملة2752 رِيعَ القلب فانصدعا2753
4 ـ عمر معاوية رضي الله عنه عند وفاته:
علىالقول الراجح: توفي معاوية وهو ابن ثمان وسبعين سنة2754، بدليل قول ابن حجر: إن مولده كان قبل البعثة بخمس سنوات على الأشهر2755، وكما هو معروف فإن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة بثلاث عشرة سنة، وبذلك يكون مولد معاوية قبل الهجرة بثمان عشرة سنة، ولما كانت وفاته سنة ستين، فهذا يعني أن عمره عند وفاته كان ثمان وسبعين سنة2756.
5 ـ مدة خلافته:
تنازل الحسن بن علي لمعاوية بالتخيلة وتمت بيعته في شهر ربيع الأول من عام 41هـ ومات بدمشق سنة 60هـ يوم الخميس لثمان بقين من رجب، وكانت ولايته تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وسبعة وعشرين يوماً2757
6 ـ ما قيل فيه من رثاء:
…قال أبو الورد العنبري يرثي معاوية رضي الله عنه:
…………ألا أنعي معاوية بن حرب
…………………نعاه الحل للشهر الحرام
…………نعاه الناعجات2758 بكل فجٍّ
…………………خواضع في الأزمَّةِ كالسِّهام
…………فهاتيك النجوم وهنَّ خُرْسٌ
…………………ينخن على معاوية الشآم
وقال أيمن بن خزيم يرثيه أيضاً:
…………رمى الحدثانَّ نسوة آل حرب
…………………بمقدار سمدن له سُمودا
…………فرَدَّ شعورهنَّ السُّود بيضاً
…………………ورد وجوههن البيض سُودا
…………فإنك لو شهدت بكاء هند
…………………ورملة إذ يُصَفِّقْن الخُدودا
…………بكيت بكاء مُعْوِلةٍ قّرِيح2759
…………………أصاب الدهر واحدها الفريدا2760
7 ـ ما قاله ابن عباس في موت معاوية رضي الله عنهم :(2/113)
قال عامر بن مسعود الجهني : مرّ بنا نعيُ معاوية ونحن في المسجد, فأتينا ابن عباس, فوجدناه جالساً وقد وضع خوانه2761, وعنده نفر, ولم يوضع الطعام, فقلنا يا : ابن عباس : أما علمت بهذا الخبر ؟ فقال : وما هو ؟ قلنا : هلك معاوية. فقال : ارفع خوانك ياغلام, وسكت ساعة هاجما2762, ثم قال : جبل تزعزع ثم زال بجمعه في البحر2763 . قال القاضي أبو يعلى بعدما ذكر القصة : اللهم أنت أوسع لمعاوية كنفاً, وأحسن من تجاوز عنه وعنّا2764.
8 ـ نقش خاتمه :
كان نقش خاتمه : لكل عمل ثواب2765, وقيل : لا قوة إلا بالله2766.
9 ـ التبرك بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم :
عن عبد الأعلى بن ميمون, عن أبيه : أن معاوية قال في مرضه الذي مات فيه : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كساني قميصاً فرفعته, وقلَّم أظفاره يوماً, فأخذت قلامته فجعلتها في قارورة, فإذا مت فألبسوني ذلك القميص, وقطعِّوا تلك القلامة, واسحقوها وذُرٌّوها في عيني, وفي فيّ2767, فعسى الله أن يرحمنى ببركتها2768.
ويعتبر تبرك الصحابة رضوان الله عليهم بآثار النبي صلى الله عليه وسلم الحسية المنفصلة عنه, من أنواع التبرك المشروع حيث فعله الصحابة رضوان الله عليهم أثناء حياته صلى الله عليه وسلم وبعد مماته2769 كما فعله السلف الصالح رحمهم الله تعالى ومن الأدلة على ذلك :
أ ـ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض لا أعقل, فتوضأ, وصب علي من وضوئه فعقلت2770.(2/114)
ب ـ عن عثمان بن عبد الله بن وهب قال : أرسلني أهلي إلى أم سلمة بقدح من ماء .. فيها شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم, وكان إذا أصاب الإنسان عين أو شيء بعث إليها مخضبة2771. قال ابن حجر: بعث إليها مخضبة ـ وهو من جملة الآنية ـ والمراد أنه كان من اشتكى أرسل إناء إلى أم سلمة فتجعل فيه تلك الشعرات وتغسلها فيه وتعيده فيشربه صاحب الإناء أو يغتسل بعده استشفاءً بها فتحصل له2772.
جـ ـ وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت في جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه كانت عند عائشة حتى قبضت فلما قبضت، قبضتها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها2773.(2/115)
وقد فرّع العلماء على مسألة التبرك بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم مسألة التبرك بفضلات الصالحين، وآثارهم ففي حديث عروة بنى مسعود وهو يصف أصحاب رسول الله عليه وسلم حوله، قال: فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلاوقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده... وإذا توضَّأ كادوا يقتتلون على وضوئه2774، وقد علق الشاطبي على هذا الحديث، وأحاديث أخرى تماثله، فقال: فالظاهر في مثل هذا النَّوع أن يكون مشروعاً في حق من ثبتت ولايته، واتِّباعه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يتبرك بفضل وضوئه، ويُتدلَّك بنخامته، ويُستشفى بآثاره كلِّها، إلا أنَّه عارضنا في ذلك أصل مقطوع به في متنه مشكل في تنزيله، وهو أن الصحابة رضي الله عنهم بعد موته عليه السلام لم يقع من أحد منهم في شيء من ذلك بالنِّسبة إلى مَنْ خَلَفه، إذ لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فهو خليفته، ولم يفعل به شيء من ذلك، ولا عمر رضي الله عنه وهو كان أفضل الأمة بعده، ثمّ كذلك عثمان بن عفان، ثمّ علي، ثمّ سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمَّة، ثمَّ لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أن متبرِّكاً تبرك به أحد تلك الوجوه، أو نحوها، بل اقتصروا على الاقتداء بالأفعال، والأقوال، والسِّير التي اتَّبعوا فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فهو إذا إجماع منهم على ترك تلك الأشياء2775
الفصل الخامس
عهد يزيد بن معاوية بن أبي سفيان
المبحث الأول : اسمه ونسبه وكنيته ونشأته وحياته وتوليه الخلافة
أولاً : اسمه ونسبه وكنيته :(2/116)
هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس القرشي، يكنى ((أبو خالد))2776، وجدته من جهة أبيه: هند بنت عتبة بن ربيعة، أسلمت يوم الفتح، وكانت من أعقل النساء، حازمة شاعرة ذات نفس وأنفة2777، وأمه ميسون بنت بحدل الكلبية شاعرة من شاعرات العرب، وكانت امرأة لبيبة وأبوها من أشراف قبيلة كلب2778.
ثانياً : ولادته ونشأته :
…كانت ولادة يزيد بن معاوية في خلافة عثمان رضي الله عنه2779 في سنة ست وعشرين2780، وقيل أن ولادته وولادة عبد الملك بن مروان في سنة واحدة سنة ست وعشرين من الهجرة2781، نشأت والدته في البادية حيث أن والدته طلقها أبوه فعاش مع أمه وأخواله وهم زعماء قبيلة كلب، فأثرت في طباعه تلك النشأة فتراه يتميز بالفصاحة والخطابة والكرم، والشجاعة2782، واستمر متعلقاً بالبادية، حتى أنها أثرت في لباسه وعدم التكلف في حياته، فقد تلقوه أهل الشام بعد موت أبيه عائداً من أخواله ليس له عمامة ولا سيف فقال الناس: هذا الأعرابي الذي ولي أمر هذه الأمة2783، واهتم به والده وعين له مؤدباً ليعلمه وهو دغفل بن حنظلة السدوس الشيباني2784، وجعل معاوية ابنه يحضر في مجالسه ويستفيد من سياسته وتدبيره للملك2785، واستفاد يزيد من عبيد بن شرية الجهرمي الذي استقدمه معاوية من صنعاء اليمن، وكان عالماً بأيام العرب، وأحاديثها وله كتاب الأمثال، وكتاب الملوك وأخبار الماضين2786، وقد تأثر يزيد من هذا الشيخ الحكيم الذي حنكته التجارب والسنون وقد توفي عبيد بن شرية سنة 70هـ2787، وأصبح يزيد يتحدث عن الأنساب تحدث الخبير2788، قال الذهبي في ترجمة عبد الصمد بن علي الهاشمي وكان في تعدُّد النسب نظير يزيد الخليفة2789، وقد توفر ليزيد ما لم يتوفر لغيره إضافة إلى أن أباه هو أحد الصحابة الأجلاء رضي الله عنهم وكاتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روى عن أبيه أحاديث منها: من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين2790، وقد(2/117)
ذكره أبو زرعة الدمشقي في الطبقة التي تلي الصحابة وقال له أحاديث2791، وقد كان معاوية رضي الله عنه يحاول دوماً أن يوجه يزيد نحو الاستفادة من مجالس الوفود التي تفد عليه، فقد ذكر ابن المبارك أن معاوية قال لبعض رجالات الوفود ما تعدون المروءة فيكم قالوا: العفاف في الدين، والإصلاح في المعيشة، فقال معاوية: أسمع يا يزيد2792، فقد كان معاوية رضي الله عنه منذ أن استقر له الأمر في الشام شديد الاهتمام بتربية ولده، فأشركه منذ وقت مبكر في الصوائف وتحمل المسئوليات2793، وكان معاوية دائم الاتصال بمؤدبي ولده، كي يتعرف على ما أحرزه ابنه من تقدم، كما كان يسأل ابنه عن أحواله مع المؤدبين، فتشير إحدى الروايات إلى أن معاوية سأله في أحد الأيام قائلاً: أيضربك معلمك يا يزيد قال: لا يا أمير المؤمنين قال: ولم؟ قال: لأنه استن بسنة أمير المؤمنين بالعدل2794، وعلاوة على ذلك فإننا نجد روايات أخرى تشير إلى أن بعض المناظرات الثقافية كانت تقع بين معاوية وولده ، على الرغم من صغر سنه مما يدل على مدى إهتمام أبيه به، فيروي ابن ظفر الصِّقلّي: أن معاوية بن أبي سفيان قال لابنه يزيد، وقد أتت عليه سبع سنين: يا بني في أي سورة أنت؟ فقال: في السورة التي تلي يا أمير المؤمنين. فقال: يا بني إن هذه السورة تليها سورتان وهي بينهما، ففي أيهما أنت؟ قال: في السورة التي في أولها((والذين آمنوا وعلموا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم)) (محمد ، الآية : 2). فتمثل معاوية بقول حذافة بن غانم العدوي حيث يقول:
………
ملوك وأبناء الملوك وسادة
……………تفلّق عنهم بيضة الطائر الصّقر
……متى تلقَ منهم ناشئاً في شبابه
……………تجده على أعراق والده يجري
……فهم يغفرون الذَّنب ينقم مثله
……………وهم تركوا رأي السَّفاهة والهجر2795(2/118)
وكان معاوية يوجه أبنه ويرشده وينصحه ويدله على الصواب فقد رأى ابنه يضرب غلاماً له، فقال له: سوأة لك، أتضرب من لا يستطيع أن يمتنع عليك؟ والله لقد منعتني القدرة من ذوى الإحن، وإنَّ أحقَّ من عفا لمن قدر2796، وقد ثبت في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أبا مسعود يضرب غلاماً له، فقال له: اعلم أبا مسعود للهُ أقدر عليك منك عليه2797، وذات يوم غضب معاوية على ابنه يزيد فهجره، فقال له الأحنف بن قيس: يا أمير المؤمنين، أولادنا ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا ونحن لهم سماء ظليلة، وأرضى ذليلة إن غضبوا فأرضهم، وإن طلبوا فأعطهم ولا تكن عليهم ثقلاً فيملّوا حياتك ويتمنَّوا موتك، فقال معاوية: لله درُّك يا أبا بحر، يا غلام ائت يزيد فأَقْرِئه مني السلام، وقل له: إن أمير المؤمنين قد أمر لك بمائه ألف. فقال يزيد: من عند أمير المؤمنين؟ فقال: الأحنف. فقال: لا جرم لأُقاسمنه فبعث إلى الأحنف بخمسين ألف وخمسين ثوباً2798 ، وكان يزيد حاضر البديهة، قال العتبي: وقدم زياد بأموال عظيمة، وبسفط مملوءة جواهر على معاوية، فسرُّ بذلك معاوية، فقام زياد فصعد المنبر، ثم افتخر بما يفعله بأرض العراق من تمهيد الممالك لمعاوية، فقام يزيد فقال: إن تفعل ذلك يا زياد فنحن نقلناك من ولاء ثقيف إلى قريش، ومن القلم إلى المنابر، ومن زياد بن عُبيد إلى حرب بن أميه. فقال له معاوية أجلس فداك أبي وأمي وكان معاوية يربي يزيد على القيام بالواجبات الاجتماعية مع أعيان المجتمع، فعندما وفد عبد الله بن عباس إلى معاوية، أمر ابنه يزيد أن يأتيه فيعزيه في الحسن بن علي، فلمّا دخل على ابن عباس رحّب به وأكرمه وجلس بين يديه، فأراد ابن عباس أن يرفع مجلسه، فأبى وقال: إنما أجلس مجلس المُعزِّي لا المُهَنِّي، ثم ذكر الحسن فقال: رحم الله ابا محمد أوسع الرحمة وأفسحها، وأعظم الله أجرك وأحسن عزاءك، وعوّضك من مُصابك ما خير لك ثواباً وخيرٌ عقبى. فلمّا نهض(2/119)
يزيد من عنده قال ابنُ عباس: إذا ذهب بنو حرب ذهب حلماء الناس. ثم أنشد متمثلاً
………مَغَاضٍ عن العوراءِ لا ينطقونها
………………وأهلُ وِراثات الحلوم الأوائل2799
وكان معاوية رضي الله عنه يختبر ابنه بين الفينة والأخرى فذات يوم سأله: كيف تُراك فاعلاً إن وُلّيت؟ قال: يُمتعُ الله بك. قال: لتُخبرني قال: كنت والله يا أبة عاملاً فيهم عمل عمر بن الخطاب. فقال معاوية: سبحان الله، سبحان الله، والله يا بُنيَّ لقد جهدت على سيرة عثمان فما أطقتها2800.
ثالثاً : زوجاته وأولاده :
تزوج يزيد أم هاشم بنت أبي سفيان بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس فأنجبت له:
1 ـ معاوية بن يزيد: ويكنى أبا عبد الرحمن كما يعرف باسم أبي ليلى وهو الذي يقول فيه الشاعر:
………إني أرى فِتنة قد حان أوَّلُها
………………والملك بعد أبي ليلى لمن غلب2801
2 ـ خالد بن يزيد: ويكنى أبا هاشم وقد انصرف إلى عمل الكيمياء.
3 ـ أبو سفيان بن يزيد: وبعد وفاة يزيد تزوج أم هاشم مروان بن الحكم2802.
وتزوج أيضاً يزيد أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر، فأنجبت له عبد الله بن يزيد ويعرف بلقب ((الأسوار))2803. وكان من أرمى العرب وهو الذي يقول فيه الشاعر:
………زعم الناسُ أن خيرَ قريش
………………كلِّهم حين يُذكرُ الأُسوار2804
وكان له عدد من الأولاد من أمهات أولاد كثيرة ومن أبنائه هؤلاء: عبد الله الأصغر، وأبو بكر، وعمر، وعتبة، وعبد الرحمن، وحرب، والربيع، ومحمد2805، ويبدو أن لمحمد هذا الأخير عقب لا يزال موجوداً حتى الآن في شبه جزيرة العرب في المنطقة المعروفة باسم عسير، إذ فرّ أحد أحفاده إلى هذه البقعة عند قيام الدولة العباسية وملاحقة الأمويين، واستطاع بعد مدة من تأسيس إمارة بسطت نفوذها على المنطقة واستمرت في أمرها حتى العصر الحديث، وكان منها آل عائض بن مرعي الذين كان لهم حكم المنطقة قبل سيطرة عبد العزيز آل سعود على أكثر الجزيرة2806.(2/120)
رابعاً : أهم أعمال يزيد في عهد والده غزو القسطنطينية:
تكمن أهمية هذه الغزوة بذكرها في الحديث الشريف، وفضيلتها وفضيلة أهلها المجاهدين، فقد ثبت في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول صلى الله عليه وسلم إذا ذهب إلى قباء يدخل إلى أم حرام بنت ملحان فتطعمه ـ وكانت تحت عبادة بن الصامت ـ فدخل يوماً، فأطعمته، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استيقظ يضحك، قالت: فقلت، ما يضحكك يا رسول الله؟ فقال: ناس من أمتي عُرضوا عليَّ غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة، أو قال: مثل الملوك على الأسرة ـ قلت: ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا ثم وضع رأسه فنام ثم استيقظ يضحك، فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ فقال ناس من أمتي عُرضوا عليّ غزاة في سبيل الله يركبون ثبج البحر ملوكاً على الأسرة ـ أو مثل الملوك على الأسرة، فقلت ادع الله أن يجعلني منهم قال: أنت من الأولين، فركبت البحر زمن معاوية، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر، فهلكت2807. وفي رواية: أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم2808.(2/121)
قال ابن كثير في تعليقه على هذا الحديث: وقد كان ذلك في سنة سبع وعشرين مع معاوية حين استأذن عثمان في غزو قبرص، فأذن له فركب المسلمون في المركب حين دخلها وفتحها قسراً، وتوفيت أم حرام في هذه الغزوة في البحر وكانت مع معاوية فاخته بنت قرظة وأما الثانية فكانت في سنة اثنين وخمسين في أيام ملك معاوية، بعث ابنه يزيد ومعه الجنود إلى غزو القسطنطينية ومعه في الجيش جماعة من سادات الصحابة منهم أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد رضي الله عنه، فمات هناك وأوصى إلى يزيد بن معاوية، وأمره أن يدفنه تحت سنابك الخيل، وأن يوغل إلى أقصى ما يمكن أن تنتهي به إلى نحو جهة العدو، ففعل ذلك2809، وفضيلة غزو القسطنطينية ليزيد، جعلت الذهبي مع شدة حمله على يزيد يقول: يزيد بن معاوية أبو خالد الأموي له هنات حسنة، وهي غزو القسطنطينية، وكان أمير ذلك الجيش وفيهم مثل أبي أيوب الأنصاري2810، وما أجمل قول ابن تيمية: ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيحمد ويذم، ويثاب ويعاقب، ويحب من وجه ويبغض من وجه وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، خلافاً للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم2811، ويبدو أن يزيد قد قام ببعض الحملات حتى وصل إلى خليج القسطنطينية ومعه زوجته أم كلثوم2812، ويبدو أن معرفة يزيد بحرب الروم، وإدراكه بخطرهم الداهم، وأخذه بنصيحة والده رضي الله عنه، فكان آخر ما أوصى به معاوية أن قال: شد خناق الروم2813، كل هذه الأمور جعلته بعد أن تولى الخلافة يسير على خطته في جهاد الروم، ولم تمنعه أحداث ابن الزبير وشيعة العراق من قتالهم2814، وقد كانت وفاة يزيد فيما بعد متنفساً للروم، ليس فقط في وقف الهجمات الحربية عليهم من قبل المسلمين، بل بلغت بهم الجرأة إلى الإكثار من الغارات على بلاد الشام ومنطقة الثغور2815،ولما عاد يزيد من غزوة القسطنطينية في نفس السنة حج بالناس2816، وهذه الأعمال التي قام بها يزيد في غاية الأهمية في ذلك العصر، فكان(2/122)
يزيد يقود جيشاً من أعظم الجيوش في عصره، ويضم نخبة من الصحابة وأكابرهم وساداتهم وأبناءهم ويتجه هذا الجيش بقيادة يزيد إلى أهم جبهة في الدولة الإسلامية، وغير هذه الاعتبارات تدل على أن يزيد الذي يبلغ من العمر حين قيادة هذا الجيش ما بين (21 ـ 23) يملك روحاً قيادية وكفاءة حربية2817، ولم يعترض أحد من الصحابة أو غيرهم على قيادة يزيد في تلك المرحلة، كما أن هذا التصرف من معاوية رضي الله عنه في توليه يزيد هذا الجيش ـ والذي يضم أكابر الصحابة وأبنائهم وفقهائهم وسادات المسلمين فيه دلالة على أن معاوية رضي الله عنه، يرى في ولده يزيد ملامح النجابة والكفاءة التي تؤهله لقيادة هذا الجيش2818.
خامساً : أهم صفات يزيد بن معاوية:
إن المصادر التاريخية والأدبية على حد سواء تزودنا بأخبار قليلة عن صفات يزيد المكتسبة والموروثة، إلا أنها تحدد لنا بعض الملامح من شخصية يزيد بن معاوية2819 فمنها:(2/123)
1 ـ القوة والشجاعة: قال عنه الذهبي: كان قوياً شجاعاً، ذا رأي وحزم وفطنة وفصاحة2820، وكان يتمنى أن يوليه أبوه في الغزو على الصائفة بالمسلمين. وكان يحرص على إقامة السباقات بين الخيل، ويجعل الجوائز، لرفع مستوى الفروسية عند المسلمين2821، علاوة على تمكنه من قيادة الجيش الإسلامي الذي حاصر القسطنطينية وسيطرته على مجريات القتال2822، وذكر صفوان بن عمرو أن المسلمين لما جاوزوا بالأسارى من الروم، ضرب أعناقهم يزيد بن معاوية والروم تنظر إليهم2823، كما أن من حزمه ما حكاه العتبي بإسناد أن أبا أيوب الأنصاري مرض في غزوة القسطنطينية، فأتاه يزيد عائداً فقال: ما حاجتك يا ابا أيوب؟ قال: ادفني عند اسوار القسطنطينية... فلما مات أمر يزيد بتكفينه وحُمل على سريره، ثم أخرج الكتائب فجعل قيصر يرى سريراً والناس يقتتلون فأرسل إلى يزيد: من هذا الذي أرى؟ قال: صاحب نبينا وقد سألنا أن نقدمه في بلادك ونحن منفذون وصيته أو تلحق أرواحنا بالله. قال: العجب كيف من ينسب أبوك للدهاء ويرسلك فتأتي بصاحب نبيك، وتدفنه في بلادنا، فإن وليت أخرجناه إلى الكلاب، فقال يزيد: إني والله ما أردت إيداعه بلادكم حتى أودع كلامي آذانكم، فإنك كافر بالذي أكرمت هذا له، لئن بلغني أنه نبش من قبره أو مثل به، لا تركت بأرض العرب نصرانياً إلا قتلته، ولا كنيسة إلا هدمتها فبعث إليه قيصر: أبوك أعلم بك، فوحق المسيح لأحفظنه بيدي2824.(2/124)
2 ـ الفصاحة والشعر: ذكر الذهبي بأنه صاحب فصاحة2825. ولما تكلم الخطباء عند معاوية قال والله لأرمينهم بالخطيب الأشدق، قم يا يزيد تكلم2826، وقد ذكر المدائني بإسناده أن رجلاً قال لسعيد بن المسيب: أخبرني عن خطباء قريش، قال: معاوية، وابنه يزيد، ومروان بن الحكم، وابنه عبد الملك، وسعيد بن العاص وابنه وما ابن الزبير بدونهم2827، وأما شعره فقد كان شاعراً مجيداً2828، جعل الناس يقولون بدء الشعر بملك، وختم بملك، إشارة إلى امرؤ القيس وإلى يزيد2829، ومن شعره ما كان ينشده هارون الرشيد ليزيد بن معاوية:
…………إنها بين عامر بن لؤَيِّ
…………………حين تَنْمِي وبين عبد مناف
…………ولها في المُطَيَّبِين جدودٌ
…………………ثم نالت مكارم الأخْلافِ
…………بنتُ عمِّ النبي أكرمُ من
…………………يمشي بنعل على التُّراب وحافي
…………لن تراها على التَّبَذُّل والغلظة
…………………إلا كدرة الأصداف2830
3 ـ الكرم: اشتهر عن يزيد الكرم فكان يجزل العطاء لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب2831، وليس غريباً عنه وهو الذي يقول: حفظ النديم والجليس وإكرامهما من كرم الخليفة وقضاء حق النعمة2832، ولقد حازت هذه الأعطيات على إعجاب عبد الله بن جعفر وقال له: فداك أبي وأمي فوالله ما قلتها لأحد قبلك2833،وكان يقول: أتلوموني على حسن الرأي في يزيد2834. ومن كرمه أيضاً: أن عبد الله بن حنظلة عندما قدم عليه من المدينة وبنيه أعطاه مائة ألف وأعطى كل واحد منهم شعرة آلاف سوى كسوتهم وحملانهم2835 وقصته مع الأحنف في مقاسمته الجائزة التي أمر بها معاوية قد مرت معنا.
وأما صفاته الخَلْقية: فقد كان ضخم الجسم سمينا طويلاً غليظ الأصابع كثيف الشعر جعده أسمر البشرة في وجهه أثر الجدري أحور العينيين حسن اللحية خفيفها، وبالجملة كان جميلاً2836.
سادساً : بيعة يزيد:(2/125)
كان يزيد غائباً حين حضر معاوية الموت، فلما حضر يزيد كان قد دفن، فقصد يزيد باب الصغير حيث دفن أبوه، وهناك صلى على أبيه ومن خلفه المسلمون، فكبر أربعاً2837، ولما خرج من المقبرة أُتي بمراكب الخلافة فركب، ثم دخل البلد، وأمر فنودي في الناس إن الصلاة جامعة، ودخل الخضراء ـ وهو قصر بناه معاوية ـ فاغتسل ولبس ثياباً حسنة، ثم خرج فخطب الناس أول خطبة خطبها وهو أمير المؤمنين، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس، إن معاوية عبداً من عبيد الله، أنعم الله عليه، ثم قبضه إليه، وهو خير ممن بعده، ودون من قبله، ولا أزكيه على الله ـ عز وجل ـ فإنه أعلم به، إن عفا عنه فبرحمته، وإن عاقبه فبذنبه، وقد وليت الأمر من بعده ولست آسى على طلب، ولا أعتذر من تفريط، وإذا أراد الله شيئاً كان وقال لهم في خطبته هذه: إن معاوية كان يغزيكم في البحر، وإني لست حاملاً أحداً من المسلمين في البحر، وإن معاوية كان يشتيكم بأرض الروم، ولست مشتياً أحداً بأرض الروم، وإن معاويةكان يخرج لكم العطاء أثلاثاً، وأنا أجمعه لكم كله: فافترق الناس، وهم لا يفضلون عليه أحد2838.(2/126)
وفي هذه الخطبة شرح يزيد سياسته في قيادة الأمة، ووضح خطته التي سيلتزمها أثناء خلافته، وهي سياسة استطاع أن يكسب بها قلوب أهل الشام. وقد أجمعت ـ غالبية ـ الأمة على بيعة يزيد أو بمعنى آخر جددت له البيعة بعد وفاة أبيه ولم يبايع إلا الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما2839. وسيكون لكل منهما مع يزيد شأن ـ كما سنرى بإذن الله تعالى ـ أما بقية الصحابة فقد بايعوا يزيد جمعاً للكلمة وحفظاً لوحدة الأمة وخوف الفتنة، مثل عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن الحنفية2840، أما أهل الشام والعراق وغيرها من الأقاليم فقد بايعوا وكانت المعارضة ليزيد في أهل الحجاز يتزعهما الحسين بن علي وابن الزبير، ومما قيل من الشعر في بيعة يزيد ما قاله عبد الله بن همَّام يعزِّيه في أبيه:
………أصبر يزيد أعظم فقد فارقت ذا مقة2841
…………………واشكر حُباء الذي بالملك حاباكا
………لا رُزءَ أعظم في الأقوام نعلمه
…………………كما رُزِئت ولا عُفبى كعُقباكا
………أصبحت راعى أهل الدِّين كلهم
…………………فأنت ترعاهم والله يَرْعاك
………وفي معاوية الباقي لنا خلف
…………………إذا نعيت و لا نسمع بمنعاك
يعني معاوية بن يزيد2842(2/127)
تولى يزيد الأمر بعد أبيه في رجب سنة 60هـ ـ 680م فأقر عمال أبيه على ولاياتهم، فكان على المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وأمير مكة عمرو بن سعيد بن العاص، وأمير الكوفة النعمان بن بشير وأمير البصرة عبد الله بن زياد2843، وركز يزيد في أخذ البيعة من النفر الذين لم يبايعوه في حياة أبيه وكان أهمهم عنده الحسين بن علي، فكتب إلى أميرها الوليد بن عتبة كتاباً يخبره فيه بوفاة معاوية فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، من يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة أما بعد، فإن معاوية كان عبداً من عباد الله، أكرمه الله واستخلفه، وخوّله ومكّن له، فعاش بقدر، ومات بأجل فرحمه الله، فقد عاش محموداً، ومات براً تقياً والسلام2844. ونظراً لتساهل الوليد بن عتبة بن أبي سفيان في أخذ البيعة من الحسين وابن الزبير لأنه كان رجلاً يحب العافية2845، وأنه كان رجلاً رفيقاً سرياً كريماً2846، كما أنه كان يخشى عذاب الله وعقابه، فقد امتنع عن سجن الحسين أو قتله وقال:... والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وإني قتلت حسيناً سبحان الله! اقتل حسيناً أن قال: لا أبايع؟ والله إني لا أظن أمراً يحاسب بدم الحسين لخفيف الميزان عند الله يوم القيامة. فقال مروان: فإذا كان هذا رأيك فقد أصبت فيما صنعت2847.(2/128)
كان إصرار يزيد على طلب البيعة من الحسين وابن الزبير ـ رضي الله عنهما ـ هو الشرارة الأولى في الفتنة التي اندلعت بين المسلمين فقد شعر كل منهما بأنه مطلوب، وأنه إذا لم يبايع فسيكون ضحية طيش يزيد، وأن سيوف أعوان الخليفة الجديد أصبحت مسلولة عليهم، فعادا إلى البيت الحرام، ولجآ إلى مكة المكرمة يطلبان فيها الأمان، ويحتميان بحمى الله فيها، ولئن أصاب يزيد حين أبقى عمال أبيه على الولايات، ليضمن استقرار الأمور فيها، فقد خانته عبقريته في إصراره على طلب البيعة من الحسين وابن الزبير، حيث كان إصراره هذا موحياً بعدم تأمين الحياة لهما، وبأن بقاءهما في عهد يزيد محفوف بالمخاطر، وذلك أدى بهما إلى أن يبحثا عن الأمان، ولم يجداه إلا في تجييش أنصارهما، وحشدهم في مكان يصعب على يزيد وأعوانه أن يقتحموه وكان ذلك في مكة المكرمة، في جوار بيت الله الذي قال فيه: ((وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ً)) (آل عمران ، الآية : 97). ولم يكن لهذا التجمع وذلك الحشد نتيجة سوى المواجهة التي أودت بحياة الآلاف من المسلمين، وكان على رأس هؤلاء جميعاً الحسين بن علي ـ رضي الله عنهما ـ حيث قتل في كربلاء ـ شهيداً ـ على يد فئة ظالمة من جيوش يزيد2848.(2/129)
لقد كانت غلطة من يزيد، بدأ بها حياته، وظلت تلاحقه حتى مماته، ولم يستطع التخلص منها، وبدأت سلسلة الأخطاء تتوالى في حياة الخليفة، وكلما أدلهمت الأمور من حوله، عظمت الأخطاء، وتضخمت المشكلات، وكلما أراد حل مشكلة، عرض لها بمشكلة أخطر منها وأفظع، فمن الإصرار على عدم البيعة إلى تكوين جبهة معارضة تستعد للقتال، ومنها إلى معركة كربلاء، ثم تتمخض هذه المعركة عن قتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتؤدي إلى غضب المسلمين، وإعلان ابن الزبير الخروج على الخليفة، وتستمر العداوة والبغضاء حتى تكون وقعة الحرة، وتتشوه صورة الخليفة في أعين المسلمين ثم يتوفى بعد ذلك بقليل أين غاب حلم معاوية عن ولي عهده؟ أغلب الظن أن الذي ورط يزيد في هذه الأخطاء الشنيعة هو غياب المستشارين الحكماء عن مجلسه وحداثة سنه وقلة خبرته. كما أن يزيد كان يفقد حلم أبيه، وتنقصه قوة إرادته في الحلول السلمية، لقد كانت الكوارث الكبرى في عهد يزيد مقتل الحسين رضي الله عنه، ووقعة الحرّة بالمدينة وحصار مكة لابن الزبير، لقد وصم يزيد عهده بوصمة لن يمحوها ماء البحار، ولن تزيل مرارتها عذوبة الأنهار2849.
إن أهل السنة والجماعة يعتبرون بيعة يزيد صحيحة ولكنهم عابوا عليها أمرين:
1 ـ قالوا إن هذه بدعة جديدة وهي أنه جعل الخلافة في ولده فكأنها صارت وراثة بعد أن كانت شورى وتنصيص على غير القريب، فكيف قريب وابن مباشر، فمن هذا المنطق رُفض المبدأ بغض النظر عن الشخص فهم رفضوا مبدأ أن يكون الأمر وراثة.
2 ـ أنه كان هناك من هم أولى من يزيد بالخلافة كإبن عمر وابن الزبير والحسين وغيرهم هذا من وجهة نظر أهل السنة2850.(2/130)
أما من وجهة نظر الشيعة فإنهم يرون الإمامة والخلافة في علي وأبنائه فقط، فهم لا يعيبون بيعة يزيد بذاتها وإنما يعيبون كل بيعة لا تكون لعليّ وأولاده، فهم يعيبون بيعة أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية كلها بغض النظر عن المبايع له، لأنهم يرون أنها نص لعليّ وأبنائه إلى أن تقوم الساعة2851، وقد ناقشت معتقد الشيعة في الإمامة في كتابي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبينت بطلانه.
المبحث الثاني : خروج الحسين بن علي رضي الله عنه:
أولاً : اسمه ونسبه وشيء من فضائله:
هو أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وريحانته ومحبوبه، ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاطمة رضي الله عنها، كان مولده سنة أربع للهجرة، ومات ورضي الله عنه قتيلاً شهيداً، في يوم عاشوراء من شهر المحرم سنة إحدى وستين هجرية بكربلاء من أرض العراق فرضي الله عنه وأرضاه2852.
وقد وردت في مناقبه وفضائله أحاديث كثيرة منها:
1 ـ ما رواه أحمد بإسناده إلى يعلي العامري رضي الله عنه أنه خرج مع رسول الله يعني إلى طعام دعوا له قال فاستمثل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام القوم، وحسين مع غلمان يلعب فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذه فطفق الصبي يفر هنا مرة وهاهنا مرة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يضاحكه حتى أخذه قال: فوضع إحدى يديه تحت قفاه الأخرى تحت ذقنه ووضع فاه وقبله وقال: حسين مني وأنا من حسين اللهم أحب من أحب حسيناً، حسين سبط من الأسباط2853.
2 ـ ما رواه البخاري بإسناده إلى ابن عمر قد سأله رجل من العراق عن المحرم يقتل الذباب فقال رضي الله عنه: أهل العراق يسألون عن الذباب وقد قتلوا ابن ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال النبي صلى الله عليه وسلم: هما ريحانتاي من الدنيا2854.(2/131)
3 ـ وروى أحمد بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة2855
وغير ذلك من الأحاديث وفي النية أفراد كتاب مستقل عن أبي عبد الله الشهيد الحسين بن علي رضي الله عنهما بإذن الله تعالى.
ثانياً : الأسباب التي أدت إلى خروج الحسين والفتوى التي بنى عليها خروجه رضي الله عنه:
كان موقف الحسين من بيعة يزيد بن معاوية هو موقف المعارض وشاركه في المعارضة عبد الله بن الزبير والسبب في ذلك: حرصهما على مبدأ الشورى وأن يتولى الأمة أصلحها ـ وتلك الممانعة الشديدة من قبل الحسين وابن الزبير، قد عبرت عن نفسها بشكل عملي فيما بعد فالحسين رضي الله عنه كما مر معنا، كان معارضاً للصلح، والذي حمله على قبوله هو متابعة أخيه الحسن بن علي ثم أن الحسين بن علي استمر على صلاته بأهل الكوفة وقد كان يعدهم بالمعارضة ولكن بعد وفاة معاوية، والدليل على ذلك أنه بمجرد وفاة معاوية سارع زعماء الكوفة بالكتابة إلى الحسين، وطلبوا منه المسير إليهم على وجه السرعة2856 ومن الأسباب التي أدت إلى خروج الحسين رضي الله عنه:
1 ـ هو إرادة الله عز وجل وأن ما قدره سيكون وإن أجمع الناس كلهم على رده فسينفذه الله، لا راد لحكمه ولا لقضاءه سبحانه وتعالى2857.
2 ـ قلب الحكم من الشورى إلى الملك الوراثي:
ومن الأسباب: ما كان من عدم التزام معاوية بشروط الحسن في الصلح والتي من ضمنها ما ذكره ابن حجر الهيثمي:.. بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين2858.(2/132)
ورأى الحسين في محاولة معاوية توريث الحكم من بعده لابنه يزيد مخالفة واضحة لمنهج الإسلام في الحكم، ومع ذلك فإنه لم يهتم بالخروج على معاوية، نظراً لمبايعته له بالخلافة، فظل على عهده والتزامه2859. ولكن بعد وفاة معاوية تغير الموقف، فالحسين لم يعد في عنقه بيعة توجب عليه السمع والطاعة، ويدل على ذلك محاولة والي المدينة الوليد بن عتبة أخذ البيعة من الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير وخروجهما بعد ذلك إلى مكة دون أن يأخذ بيعتهما2860.
إن موقف الحسين وفتواه ضد الحكم الأموي مرت بمرحلتين:
الأولى: مرحلة عدم البيعة ليزيد، وذهابه إلى مكة، وهذه المرحلة أسس فيها الحسين موقفه السياسي من حكم يزيد، بناء على نظرته الشرعية لحكم بني أمية، فهو يرى عدم جواز البيعة ليزيد، وذلك لسببين، فعلى الصعيد الشخصي فإن يزيد لا يصلح خليفة للمسلمين نظراً لانعدام توفر شرط العدالة فيه2861، كما أن الحسين أفضل وأحق منه بمنصب الخلافة، فهو أكثر منه علماً، وصلاحاً وكفاءة وأكثر قبولاً لدى الناس من يزيد، أما الصعيد السياسي فلانعدام شرط الشورى، والاستئثار بالسلطة للحكم الأموي، والذي يخالف المنهج الإسلامي في الحكم. ولم يغب عن الحسين رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية2862، ولكن فهمه لهذاالحديث أنه في حق من كان صالحاً للخلافة وأهلاً لها وكان عن شورى المسلمين2863. وعدم مبايعة الحسين ليزيد كانت تعني عدم إعطاء الشرعية للحكم الأموي وهو أمر كان الأمويين يحرصون عليه أشد الحرص وقد كتب يزيد إلى واليه في المدينة بأخذ البيعة من الحسين وابن عمر وابن الزبير، وأن يأخذهم بالشدة حتى يبايعوا2864، وفي نفس الوقت فإن عدم البيعة يسهل له حرية العمل السياسي واتخاذ القرار الذي يراه مناسباً لمقاومة الحكم الأموي.(2/133)
المرحلة الثانية: وهي مرحلة العمل على مقاومة الحكم الأموي وطرح نفسه بديلاً للسلطة الأموية في دمشق، وهو ما يعبر عنها الفقهاء بالخروج على الإمام. وهنا لابد من الإشارة إلى أن الحسين قد مكث في مكة بضعة أشهر قبل خروجه إلى العراق فقد قدم إلى مكة في الثالث من شعبان سنة 60هـ للهجرة، وخرج إلى العراق في الثامن من ذي الحجة من نفس السنة2865. وفي هذه الفترة كان رضي الله عنه يراسل أهل العراق، وتقدم إليه الوفود، حتى رأى أنه لابد من مقاومة الظلم وإزالة المنكر وأن هذا أمر واجب عليه، وكانت شيعته بالعراق على اتصال به وتمت بينهم مراسلات2866، وقد وصل الحسين بن علي إلى قناعة راسخة وبنى قراره السياسي على فتوى اقتنع بها في مقاومته للحكم الأموي، فهو يرى أن بني أمية لم يلتزموا حدود الله في الحكم، وخالفوا منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وبنى الحسين رضي الله عنه فتواه بتسلسل منطقي شرعي، فاستبداد بني أمية، والشك في كفاءة وعدالة يزيد، توجب عدم البيعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على علماء الأمة، ومن أكبر المنكر حكم بني أمية واستبدادهم، وبما أن الحسين ليس في عنقه بيعة، وهو أحد علماء الأمة وسادتها، فهو أحق الناس بتغيير هذا المنكر، وعلى ذلك فليس موقفه خروجاً على الإمام، بل هو تغيير المنكر، ومقاومة للباطل، وإعادة الحكم إلى مساره الإسلامي الصحيح2867، ومما يدل على حرص الحسين رضي الله عنه على أن تكون فتواه وتحركاته السياسية في مقاومته للحكم الأموي متماشية مع تعاليم الإسلام وقواعده، امتناعه عن البقاء في مكة عندما عزم على مقاومة يزيد حتى لا تستحل حرمتها وتكون مسرحاً للقتال وسفك الدماء، فيقول لابن عباس: لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إلي من أن أقتل بمكة وتستحل بي2868.
ثالثاً: عزم الحسين على الخروج إلى الكوفة ونصائح الصحابة والتابعين ورأيهم في خروج الحسين إلى الكوفة:(2/134)
1 ـ عزم الحسين على الخروج إلى الكوفة:
بعد توافد الرسائل من زعماء الكوفة على الحسين رضي الله عنه والتي تطلب منه المسارعة في القدوم إليهم، ولما كان العدد مشجعاً أراد أن يطلع على حقيقة الأمر، فبعث ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب ليستجلي له حقيقة الخبر، ثم يكتب إليه بواقع الحال، فإن كان ما يقولون حقاً قدم عليهم2869، خرج مسلم بن عقيل بصحبة عبد الرحمن بن عبد الله الأرحبي، وقيس بن مسهر الصيداوي، وعمارة بن عبيد السلولي فلما وصل مسلم المدينة أخذ معه دليلين، وفي الطريق إلى الكوفة تاهوا في البرية ومات أحد الدليلين عطشاً، وكتب مسلم إلى الحسين يستعفيه، وذلك بسبب إحساسه النفسي لمدى الصعوبات التي تنتظره في الكوفة، ولكن الحسين رفض طلبه، وأمره بمواصلة المسير نحو الكوفة2870، ولما وصل مسلم بن عقيل إلى الكوفة نزل عند المختار بن أبي عبيد2871 في أول قدومه فلما جاء ابن زياد وتولى إمارة الكوفة، وأخذ يشدد على الناس انتقل مسلم عند هانيء بن عروة وذلك خشية انكشاف أمره ثم لمكانة هانيء وأهميته كأحد أعيان الكوفة، ولما بدا الشك يساور ابن زياد من هانيء بن عروة خشي مسلم بن عقيل على نفسه، وانتقل أخيراً ولفترة قصيرة جداً عند مسلم بن عوسجة الأسدي أحد دعاة الشيعة2872، ولما بلغ أهل الكوفة قدوم مسلم بن عقيل قدموا إليه فبايعه اثنا عشر ألف2873، وتمت تلك المبايعة بصورة سرية مع تحرص شديد، ولما تأكد لمسلم بن عقيل رغبة أهل الكوفة في الحسين وقدومه إليهم كتب إلى الحسين أما بعد، فإن الرائد لا يكذب أهله إن جميع أهل الكوفة معك فأقبل حين تنظر في كتابي2874، وهنا تأكد للحسين صدق نوايا أهل الكوفة وأنه ليس عليهم إمام كما ذكروا من قبل2875، فلا بد في هذه الحالة أن يفي لهم بما وعدهم به، حين كتب إلى أهل الكوفة: وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي، وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم، فإذا كتب إلي أنه قد أجمع رأي(2/135)
ملئكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأته في كتبكم، أقدم عليكم إن شاء الله2876، فلما وصل إلى الحسن بن علي كتاب مسلم بن عقيل والذي طلب منه القدوم إلى الكوفة وأن الأمر مهيأ لقدومه تجهز الحسين بن علي وعزم على المضي إلى الكوفى بأهله وخاصته2877.
2 ـ مواقف الصحابة والتابعين من خروج الحسين:
أ ـ محمد بن الحنفية: لما بلغ محمد بن الحنفية عزم أخيه الحسين على الخروج إلى الكوفة قدم عليه وقال: يا أخي أنت أحب الناس إلي، وأعزهم علي، ولست أدخر النصيحة لأحد من الخلق أحق بها منك، تنح ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثم أبعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك، فإن بايعوا لك حمدن الله على ذلك، وإن أجمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك، ويذهب به مروءتك ولا فضلك أني أخاف أن تدخل مصراً من هذه الأمصار وتأتي جماعة من الناس فيختلفون بينهم، فمنهم طائفة معك، وأخرى عليك فيقتلون فتكون لأول الأسنة، فإذا خير هذه الأمة كلها نفساً، وأباً، وأماً، أضيعها دماً، وأذلها أهلاً فقال الحسين: فإني ذاهب يا أخي، قال: فانزل مكة فإذا أطمأنت بك الدار فسبيل ذلك، وإن نبت بك لحقت بالرمال وشعف الجبال، وخرجت من بلد إلى بلد حتى تنتظر إلى ما يصير أمر الناس وتعرف عند ذلك الرأي فإنك أصوب ما تكون رأياً وأحزمه عملاً حين تستقبل الأمور استقبالاً، ولا تكون الأمور عليك أبداً أشكل منها حين تستدبرها استدباراً قال: يا أخي قد نصحت فأشفقت وأرجوا أن يكون رأيك سديداً2878 وجاء في رواية:.. فإن الحسين حين عزم على الخروج بعث إلى بني عبد المطلب في المدينة يدعوهم للخروج معه، فقدم عليه من خف منهم، وتبعهم محمد بن الحنفية فأدرك الحسين بمكة فأعلمه أن الخروج ليس له برأي يومه هذا، فأبى الحسين أن يقبل في نفسه على أخيه محمد وقال: ترغب بولدك عن موضع أصاب فيه؟ فقال محمد وما حاجتي أن تصاب ويصابون معك، وإن كانت(2/136)
مصيبتك أعظم عندنا منهم2879.
ب ـ عبد الله بن عباس رضي الله عنه: ولما بلغ خبر عزمه على الخروج إلى ابن عمه عبد الله بن عباس أتاه وقال: يا ابن عم أنه قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق، فبيّن لي ما أنت صانع؟ قال: قد أجمعت المسير في أحد يومي هذين إن شاء الله تعالى، فقال له ابن عباس: أخبرني إن كان عدوك بعد ما قتلوا أميرهم ونفوا عدوهم وضبطوا بلادهم فسر إليهم، وإن كان أميرهم حي وهو مقيم عليهم، قاهر لهم وعماله تجبي بلادهم فإنهم إنما دعوك للفتنة والقتال، ولا آمن عليك أن يستفزوا عليك الناس ويقلبوا قلوبهم عليك، فيكون الذي دعوك أشد الناس عليك. فقال الحسين إني استخير الله وأنظر ما يكون. ولكن ابن عباس أدرك من كلام الحسين واستعداده أنه عازم على الخروج ولكنه يحاول إخفاء الأمر عنه لعلمه بعدم رضاه عن ذلك، لذا جاء ابن عباس إلى الحسين من الغد فقال: يا ابن عم إني أتصبر ولا اصبر، وإني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك، أن أهل العراق قوم غدر فلا تغترن بهم، أقم في هذا البلد حتى ينفي أهل العراق عدوهم ثم أقدم عليهم، وإلا فسر إلى اليمن فإن به حصوناً وشعاباً، ولأبيك به شيعة، وكن عن الناس بمعزل، واكتب إليهم وبث دعاتك فيهم، فإني أرجو إذا فعلت ذلك أن يكون ما تحب. فقال الحسين: يا ابن عم! والله إني لأعلم أنك ناصح شفيق، ولكني قد أزمعت المسير. فقال له: فإن كنت ولا بد سائراً فلا تسر بأولادك ونسائك، فوالله إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه، إلى أن قال: فوالله الذي لا إله إلا هو لو أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع علي وعليك الناس أطعتني واقمت لفعلت ذلك2880. وهكذا نجد أن محاولات ابن عباس لم تجد في إقناع الحسين على الرغم من أنه أظهر له ـ لما علم تصميمه على عدم رضاه بيزيد وضرورة العمل على تغييره ـ أنه لا يقف عند فكرة الحسين تماماً، ولكنه يوضح له عوامل فشل ما هو سائر لتحقيقه، ويطرح له(2/137)
البدائل التي ربما تكون أقرب لتحقيق ما يصبو إليه، وذلك بالانتظار حتى يقوم أهل العراق بالسيطرة التامة على إقليمهم ويحرروه من سلطان بني أمية وهو يدرك أنهم عاجزون عن ذلك فبالتالي هم عاجزون عن حماية الحسين أو أن يذهب إلى اليمن ويعمل بما أرشده إليه فإن عوامل النجاح فيه أكثر وعوامل الفشل فيه أقل من رحيله إلى العراق ولعل ابن عباس قد لا يريد للحسين لا هذا ولا ذاك ولكن أراد تأخير الحسين عن اتخاذ تلك الخطوة السريعة بخروجه إلى العراق والتي لا ينفع معها تدارك الأمر، أما لو اقتنع برأي ابن عباس من الانتظار حتى يتهيأ له الأمر في العراق، أو يعدل عنه إلى اليمن وهذا سيأخذ وقتلاً طويلاً لترتيب الأمور هناك، وبهذا أو ذاك فإنه يمكن أن يكون لعامل الوقت أثر في حل الوضع وإطفاء الفتنة2881 . ويفهم من كلام ابن عباس بأنه لا يخالف الحسين في خروجه على يزيد من الناحية الشرعية، ولكن كان يخالفه من الناحية الاستراتيجية فكان يرى ألا يخرج الحسين للعراق حتى يتأكد من قوة شيعته وأنصاره هناك، وأن الأمويين لم يعد لهم نفوذ، وإلا فإن اليمن بعيدة عن النفوذ الأموي وله فيها أنصار، وبها أماكن كثيرة للتخفي، حتى يتمكن من جمع القوى الكافية لمقاومة الأمويين2882.(2/138)
ت ـ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: فقد نصح الحسين رضي الله عنه في أكثر من موقف، فحين بلغه خروج ابن الزبير والحسين إلى مكة رافضين بيعة يزيد لقيهما وقال: أذكركما الله إلا رجعتما فدخلتما في صالح ما يدخل فيه الناس وتنظران، فإن اجتمع عليه الناس لم تشذا، وإن افترق عليه كان الذي تريدان2883، ولما قدم المدينة وبلغه خروج الحسين لأهل الكوفة لحقه ابن عمر على مسيرة ليلتين فقال: أين تريد؟ قال: العراق، ومعه طوامير وكتب، فقال: لا تأتهم قال: هذه كتبهم وبيعتهم. فقال: إن الله خير نبيه بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة، وإنكم بضعة منه، لا يليها أحد منكم أبداً، وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم، فارجعوا فأبى، فاعتنقه ابن عمر، وقال: استودعك الله من قتيل2884. وكان ابن عمر يقول بعد ذلك: غلبنا الحسين بن علي بالخروج، ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة، ورأى من الفتنة وخذلان الناس لهم ما كان ينبغي له ألا يتحرك ما عاش وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس، فإن الجماعة خير2885.
ج ـ عبد الله بن الزبير رضي الله عنه: اتهمته بعض الروايات الضعيفة أنه أحد المتسببين في إقناع الحسين بالخروج إلى الكوفة هو نفسه ثبت عنه بأنه قد أسدى النصائح للحسين، وحذره من مغبة مغادرة مكة والذهاب إلى الكوفة وقد نصح الحسين قائلاً: أين تذهب إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك، فقال له الحسين لإن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إلي من أن تستحل بي ـ يعني مكة2886...
…وقد نظر بعض الصحابة إلى العمل الذي سيقدم عليه الحسين بأنه في حقيقته خروج على الإمام صاحب البيعة، كما نظروا إلى خروج الحسين وما يحمله خروجه على أنه نذر شر وبلاء على الأمة مهما كانت النتائج لأي من الطرفين2887 منهم:
ح ـ أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : حيث قال: غلبني الحسين على الخروح وقد قلت له: اتق الله في نفسك والزم بيتك، ولا تخرج على إمامك2888.(2/139)
خ ـ وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: كلمت حسيناً فقلت له اتق الله ولا تضرب الناس بعضهم ببعض فوالله ما حمدتم ما صنعتم فعصاني2889 ولم تتوقف المحاولات الهادفة بين الحسين وبين خروجه إلى الكوفة فكتب إليه ابن جعفر:
ر ـ عبد الله بن جعفر رضي الله عنه: كتب إلى الحسين وأرسل كتابه مع ابنيه محمد وعون: أما بعد، فإني أسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي، فإني مشفق عليك من الوجه التي توجهت له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك2890، ولكن الحسين رفض الرجوع وهنا ظن عبد الله بن جعفر أن سبب خروج الحسين هو خوفه من الوالي عمرو بن سعيد بن العاص، فذهب إلى عمرو بن سعيد بن العاص وطلب منه أن يكتب كتاباً إلى الحسين يؤمنه فيه ويعده بالخير، وكان رد عمرو بن سعيد أن قال لعبد الله بن جعفر: اكتب ما شئت وائت به أختمه2891. فكتب ابن جعفر" بسم الله الرحمن الرحيم من عمرو بن سعيد إلى الحسين بن علي، أما بعد، فإني أسأل الله أن يصرفك عما يبوقك، وأن يهديك لما يرشدك، بلغني أنك قد توجهت إلى العراق، وإني أعيذك بالله من الشقاق، فإني أخاف عليك فيه الهلاك، وقد بعثت إليك عبد الله بن جعفر، ويحي بن سعيد، فأقبل إليّ معهما، فإن لك عندي الأمان والبر والصلة وحسن الجوار لك، والله بذلك شهيد وكفيل، ومراع ووكيل، والسلام عليك2892، ولكن الحسين رضي الله عنه رفض هذا الرجاء أيضاً وواصل مسيره.
ز ـ أبو واقد الليثي رضي الله عنه: فقد روي عنه أنّه قال: بلغني خروج الحسين، فأدركته بملل، فناشدته الله ألا يخرج، فإنّه يخرج في غير وجه خروج، إنما يقتل نفسه، فقال: لا أرجع2893.
د ـ عمرة بنت عبد الرحمن: فقد كتبت إليه تعظّم عليه ما يريد أن يصنع، وتأمره بالطاعة ولزوم الجماعة، وتخبره أنّه إنّما يساق إلى مصرعه2894.(2/140)
ذ ـ أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث: يا ابن عَمِّ إن الرحم تظأرُني2895 عليك وما أدري كيف أنا عندك في النصيحة لك؟ قال: يا أبا بكر ما أنت ممن يُستغشُّ ولا يُتَّهمُ، فقل. قال: قد رأيت ما صنع أهل العراق بأبيك وأخيك، وأنت تريد أن تسير إليهم وهم عبيد الدنيا، فيُقاتلك من قد وعدك أن ينصرك، ويخذلك من أنت أحب إليه ممن ينصره فأُذكِّرك الله في نفسك. فقال: جزاك الله يا ابن عمِّ خيراً، ومهما يقضي الله من أمر يكن. فقال أبو بكر: إنا لله عند الله نحتسب أبا عبد الله2896.
س ـ عبد الله بن مطيع فقد قال: إني فداك أبي وأمي! متعنا بنفسك، ولا تسر إلى العراق، فوالله لئن قتلك هؤلاء القوم ليتخذنا خولا وعبيداً2897.
ش ـ سعيد بن المسيب: فقد نقل عنه الذهبي أنه قال: لو أن الحسين لم يخرج لكان خيراً له2898.
ك ـ عمرو بن سعيد بن العاص: فقد كتب إليه يقول: إني أسأل الله أن يلهمك رشدك وأن يصرفك كمّا يرديك، بلغني أنك قد اعتزمت على لشخوص إلى العراق، فإني أعيذك بالله من الشّقاق2899.
و ـ الفرزدق: فقد لقيه بالصّفاح2900، فسأله الحسين عمّا وراءه فقال: أنت أحب النّاس إلى النّاس، والقضاء في السماء، والسيوف مع بني أمية2901. وفي خبر آخر قال أنّه قال: قلت له: يخذلونك، لا تذهب إليهم فلم يطعني2902.(2/141)
…هذه أقوال الصّحابة والتّابعين في موقفهم من خروج الحسين، وهذه فلسفتهم في هذه القضية، الهامّة، فهم لم يبايعوا يزيد لأنّهم يرونه أفضل من غيره من الصّحابة والتّابعين، ولكنهم فعلوا ذلك درءاً لمفسدة التّفرق والاختلاف بين المسلمين، ودليل ذلك ما رواه خليفة بن خياط وابن سعد، عن داود بن عبد الله الأودي، عن حميد بن عبد الرحمن قال: دخلنا على رجل من أصحاب رسول الله صلى اله عليه وسلم، حين استخلف يزيد بن معاوية، فقال: أتقولون إن يزيد ليس بخير أمة محمد، لا أفقه منها فقهاً، ولا أعظمها فيها شرفاً؟ قلنا. نعم. قال: وأنا أقول ذلك، ولكن ـ والله ـ لأن تجتمع أمة محمد أحب إليَّ من أن تفترق أرأيتم باباً لو دخل فيه أمة محمد وسعهم، أكان يعجز عن رجل واحد لو دخل فيه؟ قلنا: لا. قال: أرأيتم لو أن أمّة محمد قال كل رجل منهم: لا أهريق دم أخي، ولا آخذ ماله، أكان هذا يسعهم؟ قلنا: نعم. قال: فذلك ما أقول لكم2903، ومن الملاحظ إجماع كل من نصح الحسين ـ حتى من لم ير بأساً برفضه البيعة ـ على أن لا يخرج للعراق ولا يثق في أهل الكوفة، فقد كتب إليه المسور بن مخرمة رضي الله عنه بأن لا يغتر بكتب أهل العراق، ونصحه بأن لا يبرح الحرم فإن كانت لهم حاجة فسيضربون إليه آباط الإبل حتى يوافوه فيخرج في قوة وعدة2904. ومما يلفت الانتباه ـ زيادة على إجماع الناصحين للحسين على خيانة أهل الكوفة ووجوب عدم الثقة بوعودهم ـ كذلك يلفت الانتباه إجماعهم في توقعهم لمقتل الحسين كما يبدو ذلك من أسفهم عليه وكلمات التوديع له. وما ذلك إلا دليل على معرفة أولئك الناصحين من العلماء بالأوضاع، ووعيهم لما سبق من أحداث جرت إبان الفتنة بين علي ومعاوية عرفوا من خلالها الدوافع والأهواء التي تدفع ببعض الأقوام للاستفادة من إثارة الإحن ودوام الفتن2905.
رابعاً : موقف يزيد من أحداث الكوفة:(2/142)
…لما تأكد ليزيد تصميم الحسين على الاستجابة لدعوة أهل الكوفة، كتب لإبن عباس لأنه شيخ بني هاشم في عصره وعالم المسلمين قائلاً، ونحسب أن رجالاً أتوه من المشرق فمنّوه الخلافة، فإنهم عندك منهم خبرة وتجربة، فإن كان فعل فقد قطع وشائج القرابة وأنت كبير أهل بيتك والمنظور إليه، فاكففه عن السعي في الفرقة2906 ثم كتب بهذه الأبيات إليه وإلى مكة والمدينة من قريش:
…………يا أيها الراكب الغادي لطيته
…………………على عُذَاقِرةِ في سيرها قحم
…………أبلغ قريشاً على نأي المزار بها
…………………بيني وبين حسين الله والرحم
…إلى أن قال:
…………يا قومنا لا تشبوا الحرب إذ خمدت
…………………وأمسكوا بجبال السلم واعتصموا
…………لا تركبوا البغي إن البغي مصرعه
…………………وإن شارب كأس البغي يتخم
…………فقد غرّت الحرب من كان قبلكم
…………………من القرون وقد بادت بها الأمم
…………فأنصفوا قومكم لا تهلكوا بذخاً
…………………قرب ذي بذخ زلت به القدم2907
فكتب إليه ابن عباس: إني لأرجو أن لا يكون خروج الحسين لأمر تكرهه، ولست أدع النصيحة له في كل ما يجمع الله به الألفة وتطفي بها الثائرة2908.
وفي تلك الأثناء كانت الأحداث تتسارع، وذلك بعدما أخذ الشيعة يختلفون على مسلم بن عقيل ويبايعونه وعندما أحس النعمان بن بشير الأنصاري والي الكوفة بخطورة الوضع قام فخطب في الناس وقال: اتقوا الله عباد الله ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة فإن فيها يهلك الرجال، وتسفك الدماء وتغصب الأموال وقال: إني لم أقتل من لم يقاتلني ، ولا أثب على من لا يثب علي، لا أشاتمكم ولا أتحرش بكم، ولا آخذ بالقرف ولا الظنة والتهمة، ولكن إن أبديتم صفحتكم لي، ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم، فوالله الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم ناصر، أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل2909.(2/143)
…وأشارت سياسة النعمان بن بشير رضي الله عنه مع أنصار الحسين حفيظة الناصحين للأمويين، وأحد الموالين لهم في الكوفة وهو عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي، حليف بني أمية، فقام إلى النعمان بن بشير وبين له أن طريقته هذه إنما هي طريقة المستضعفين وأنه يجب عليه أن ينهج سياسة البطش والقوة حيال المتربصين بأمن الكوفة، ولكن رد النعمان بن بشير رضي الله عنه كان واضحاً بأنه يراقب الله في سياسته2910
…ولم تعجب يزيد سياسة النعمان فعزله من ولاية الكوفة وعين بدله عبيد الله بن زياد وكتب إليه: إن شيعتي من أهل الكوفة كتبوا إليّ يخبروني أن ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع ليشق عصا المسلمين فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي أهل الكوفة فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة، حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه والسلام2911، وغادر ابن زياد البصرة بعد أن اتخذ عدة إحتياطات خوفاً من حدوث إضطرابات وأناب عنه أخوه عثمان بن زياد على البصرة2912 ثم خرج من البصرة ومعه وجوه أهل البصرة أمثال مسلم بن عمرو الباهلي، وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته2913. وأقبل ابن زياد إلى الكوفة ودخلها متلثماً والناس قد بلغهم إقبال الحسين إليهم، فهم ينظرون قدومه، فظنوا حين قدم عبيد الله أنه الحسين بن علي، فأخذ لا يمر على جماعة من الناس إلا سلموا عليه وقالوا: مرحباً بك يا ابن رسول الله، قدمت خير مقدم، فلما أكثروا عليه صاح فيهم مسلم بن عمرو وقال: تأخروا هذا الأمير عبيد الله بن زياد فلما نزل في القصر نودي الصلاة جامعة فاجتمع الناس فخرج إليهم ثم خطبهم ووعد من أطاع منهم خيراً وتوعد من خالف وحاول الفتنة منهم شراً2914.
خامساً : عبيد الله بن زياد وخطواته للقضاء على مسلم بن عقيل وأنصاره:
1 ـ اختراق تنظيم مسلم بن عقيل:(2/144)
…حرص عبيد الله بن زياد على جمع المعلومات بواسطة جواسيسه على الفئات المعارضة واستطاع أن يخترق أتباع مسلم بن عقيل وقد كلّف أحد رجاله بهذه المهمة فأعطاه مبلغاً من المال وكان الرجل من أهل الشام يقال له معقلاً وكان مقدار المبلغ ثلاثة آلاف درهم وقال: خذ هذا المال، وانطلق فالتمس مسلم بن عقيل، وتأتّ له بغاية التأتي2915، فانطلق الرجل حتى دخل المسجد الأعظم، ثم نظر إلى رجل يكثر الصلاة إلى سارية من سواري المسجد، فجلس الرجل حتى إذا انفتل2916 من صلاته، فدنا منه وجلس، فقال: جعلت فداك إني رجل من أهل الشام مولى لذي الكلاع، وقد أنعم الله علي بحب أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحب من أحبهم، ومعي هذه الثلاثة الآلاف درهم، أحب إيصالها إلى رجل منهم، بلغني أنه قدم هذا المصر داعية للحسين بن علي، فهل تدلني عليه لأُوصل هذا المال إليه؟ ليستعين به على بعض أموره ويضعه حيث أحب من شيعته قال له الرجل: وكيف قصدتني بالسؤال عن ذلك دون غيري ممن هو في المسجد قال: لأني رأيت عليك سيما2917 الخير فرجوت أن تكون ممن يتولى أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال له الرجل: ويحك قد وقعت عليّ بعينك، أنا رجل من إخوانك، واسمي مسلم بن عوسجة، وقد سُرِرت بك وساءني ما كان من حسي قبلك فإني رجل من شيعة أهل هذا البيت، خوفاً من هذا الطاغية ابن زياد، فأعطني ذمة الله وعهده أن تكتم هذا عن جميع الناس فأعطاه من ذلك ما أراد، واستطاع الشامي في نهاية المطاف الوصول إلى مسلم بن عقيل، فكان يغدو إلى مسلم بن عقيل فلا يحجب2918 عنه، فيكون نهاره كله عنده فيتعرّف جميع أخبارهم، فإذا أمسى وأظلم عليه الليل دخل على عبيد الله بن زياد، فأخبره بجميع قصصهم، وما قالوا وما فعلوا في ذلك، وأعلمه نزول مسلم بن عقيل في دار هاني بن عروة2919. وهكذا استطاع ابن زياد أن يعرف أخبار مسلم بن عقيل وتحركاته2920.
2 ـ سجن هانيء بن عروة:(2/145)
…كان محمد بن الأشعث وأسماء بن خارجة يدخلون على ابن زياد مُسَلّمين، فقال لهما: ما فعل هانيء بن عروة؟ فقالا أيها الأمير، إنه عليل2921 منذ أيام فقال ابن زياد: وكيف. بلغني أنه يجلس على باب داره عامّة نهاره، فما يمنعه من إتياننا وما يجب عليه في حق التسليم؟ قالا: سنعلمه ذلك، ونخبره باستبطائك إياه فخرجا من عنده، وأقبلا حتى دخل على هانيء بن عُروة، فأخبراه بما قال لهما ابن زياد، وما قالا له، ثم قالا له: اقسمنا عليك إلاّ قمت معنا إليه الساعة لَتُسلُ سخيمة2922 قلبه. فدعا ببغلته فركبها ومضى معهما، حتى إذا دنا من قصر الإمارة خبُثت2923 نفسه فقال لهما: إن قلبي قد أوجس2924 من هذا الرجل خيفة. قالا: ولم تحدث نفسك بالخوف وأنت بريء الساحة؟
…فمضى معهما حتى دخلوا على ابن زياد، فأنشأ ابن زياد يقول متمثلاً:
…………أريد حياته ويريد قتلي
…………………عَذِيرَك من خَلِلِكَ من مراد
قال: هانيء وما ذاك أيها الأمير؟(2/146)
…قال ابن زياد: وما يكون أعظم من مجيئك بمسلم بن عقيل وإدخالك إياه منزلك، وجمعك له الرجال ليبايعوه؟ فقال هانيء: ما فعلت وما أعرف من هذا شيئاً فدعا ابن زياد بالشامي، وقال: يا غلام، ادع لي معقلاً. فدخل عليهم. فقال: ابن زياد لهانيء بن عروة: أتعرف هذا؟ فلما رآه علم أنه إنما كان عيناً عليهم. فقال هانيء: أصدُقُك والله أيها الأمير، وإني والله ما دعوت مسلم بن عقيل وما شعرت به، ثم قصّ عليه قصّته على وجهها. ثم قال: فأمّا الآن فأنا مخرجه من داري لينطلق حيث يشاء، وأعطيك عهد وثيقاً أن أرجع إليك. قال ابن زياد" لا والله لا تفارقني حتى تأتيني به. فقال هانيء: أو يجمل بي أن أسلم ضيفي وجاري للقتل والله لا أفعل ذلك أبداً. فاعترضه ابن زياد بالخيزرانة، فضرب وجهه، وهشم2925 أنفه،، وكسر حاجبه، وأمر به فأدخل بيتاً2926. فبلغ الخبر عمرو بن الحجاج الزبيدي أن هانئاً قد قتل، فأقبل في قبيلة مذجح، وأحاط بالقصر، ونادى بأنه لم يخلع الطاعة، وإنما أراد الاطمئنان إلى سلامة هانيء، فأمر ابن زياد القاضي شريح بأن يدخل على هانيء، وينظر إليه ويخبرهم أنه حي. ففعل2927. فقال لهم سيدهم عمروبن الحجّاج: أما إذا كان صاحبكم حياً فما يعجلكم الفتنة؟ انصرفوا فانصرف.
3 ـ استخدام ابن زياد للأشراف للقضاء على تمرد الكوفة:(2/147)
…لما بلغ مسلم بن عقيل خبر ضرب وجه هانيء بن عروة، أمر أن ينادي في أصحابه الذين بايعوه، واستخدم كلمة السر وهي: يا منصور أمت، فتنادى أهل الكوفة فاجتمعوا إليه وكان عدد الذين حصروا أربعة آلاف رجل2928، فعقد مسلم لعبيد الله بن عمرو بن عزيز الكندي على ربع كنده وربيعة، وأمره أن يسير أمامه بالخيل، ثم عقد لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع مذجح وأسد وأمّره على الرجّالة، وعقد لأبي ثمامة الصائدي على ربع تميم وهمدان، وعقد لعباس بن جعدة الجدلي على ربع المدينة، ثم قدم نحو القصر، ولما بلغ ابن زياد إقباله تحرّز وتمنّع بالقصر2929، وكان ابن زياد يملك قدراً كبيراً من الدهاء والمكر والخداع، حيث أنه بمجرد دخوله القصر جمع وجوه الكوفة واحتفظ بهم عنده حتى يكونوا وسيلة ضغط مهمة عنده ستثمر عن نتائج إيجابية جداً لصالح ابن زياد2930. وتقدم مسلم بهذه الجموع، صوب قصر الإمارة التي يتحصن بها ابن زياد، وهنا طلب ابن زياد من أشراف الناس وزعماء الكوفة الذين معه أن يعظوا الناس ويخذلوهم ويخوفونهم بقرب أهل الشام وصار هؤلاء الأمراء والزعماء يثبطون الناس، ويذكرونهم بالسلامة والأمن، وأنهم إن لم ينصرفوا سيحرمون من العطاء، وسيساقون إلى الثغور وسينالهم العقاب الشديد2931، ولم يكن التثبيط مقصوراً على الأمراء فقط، بل إن النساء كان لهن دوراً كبيراً في إضعاف عزيمة المناصرين لمسلم، إضافة إلى الآباء وكبار السن فقد كان لهم نفس الدور. وكانت المرأة تأتي أبنها وأخاها وتقول: انصرف، الناس يكفونك، ويجيء الرجل إلى ابنه وأخيه ويقول غداً يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب والشر انصرف2932. وأخذت هذه الحرب النفسية التي جوبه بها المؤيدون لمسلم بن عقيل من التهويل والتخويف تعمل عملها بين صفوف الناس، فبدأوا ينصرفون عن مسلم بن عقيل وأخذ العدد يتضاءل سريعاً حتى أنه لما قرب المساء لم يبقى مع مسلم بن عقيل إلا عدداً بسيطاً يتراوح بين الثلاثمائة والخمسمائة(2/148)
رجل2933، وكان غالبية الذين بقوا مع مسلم بن عقيل من مذجح فأمر ابن زياد، عبيد الله بن كثير بن شهاب الحارثي أن يخرج فيمن أطاعه من مذجح ويسير بالكوفة ويخذل الناس عن ابن عقيل، ويخوفهم بالحرب وعقوبة السلطان2934، ثم أمر ابن زياد محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كنده وحضرموت ويرفع راية الأمان لمن يأته من الناس وقال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذهلي، وشبت بن ربعي التميمي وحجار بن أبجر العجلي، وشمر بن ذي الجوشن العامري، وأبقى سائر وجوه الناس معه2935 وأمام هذه الإجراءات السريعة من ابن زياد، وأمام الشد النفسي الذي نازع غالبية من انضموا إلى مسلم بن عقيل أخذ هذا العدد يتضاءل حتى وصل إلى ستين رجلاً2936، ثم حدثت معركة بين مسلم وأتباعه وبين ابن الأشعث، والقعقاع بن شور، وثبت بن ربعي عند الرحبة، ويبدو أن هذه المعركة لم تدم طويلاً عندما تنبه القعقاع بن شور إلى أن المقاتلين إنما يقاتلون لأجل النجاة، عند ذلك أمر بإفساح الطريق لهم، فهربوا نحو المسجد، ولما أمسى المساء تفرق الناس، وبقي مسلم بن عقيل وحيداً في طرقات الكوفة2937.
4 ـ القبض على مسلم بن عقيل وقتله:(2/149)
…أصبح مسلم بن عقيل وحيداً يتردد في طرق الكوفة، فأتى بيتاً فخرجت إليه امرأة، فقال: اسقني، فسقته، ثم دخلت، ومكثت ما شاء الله، ثم خرجت، فإذا به على الباب، فقالت: ياهذا، إن مجلسك مجلس ريبة، فقم، فقال: أنا مسلم بن عقيل، فهل عندك مأوىً؟ قالت: نعم فادخلته، وكان ابنها مولى لمحمد بن الأشعث، فانطلق إلى مولاه فأعلمه، فبعث عبيد الله الشُّرَط إلى مسلم، فخرج وسل سيفه، وقاتل فأعطاه ابن الأشعث أمانً فسلمّ نفسه2938، وفي الطريق نحو ابن زياد بكى مسلم فقيل له: إن من يطلب مثل ما تطلب لا يبكي إذا نزل به مثل الذي نزل بك. قال: إني والله ما لنفسي أبكي ومالها من القتل أرثي وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفاً، ولكني أبكي لأهلي المقبلين إلى الكوفة، أبكي حسيناً وآل الحسين. وأقبل مسلم على محمد بن الأشعث فقال: يا عبد الله، إني والله أراك ستعجز عن أماني، فهل عندك خير تستطيع أن تبعث رجلاً على لساني يبلغ حسيناً عني رسالة؟ فإني لا أراه إلا قد خرج إليكم اليوم أو غداً هو وأهل بيته، وإن ما تراه من جزعي لذلك، فتقول: إن ابن عقيل بعثني إليك وهو في أيدي القوم أسير لا يدري أيصبح أم يمسي حتى يقتل، وهو يقول لك: ارجع بأهلك ولا يغرنك أهل الكوفة، فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل، إن أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني وليس لكاذب رأي. فقال محمد بن الأشعث: والله لأفعلن ولأعلمن ابن زياد أني قد أمنتك ودعا ابن الأشعث إياس بن العباس الطائي، وقال له: اذهب فالق حسيناً فأبلغه هذا الكتاب، ثم أعطاه راحلة وتكفل له بالقيام بأهله وداره2939، وأدخل محمد بن الأشعث مسلم بن عقيل على ابن زياد، وأخبره بما أعطاه من الأمان، فقال ابن زياد: ما بعثناك لتؤمنه ولم يقبل أمانه2940، واستسقى مسلم وهو بباب القصر، فجاءه عمار بن عقبة بماء بارد، ولكنه لم يستطع أن يشرب لما كان يختلط به من دمه فتركه ودخل على بن زياد فقال له: إني قاتلك. قال:(2/150)
كذلك؟ قال: نعم. قال: فدعني أوصي إلى بعض قومي، قال: أوصي: فنظر مسلم في جلسائه وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص، فقال: عمر، إن بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وهي سر، فقم معي إلى ناحية القصر حتى أقولها لك، فأبى أن يقوم معه حتى أذن له ابن زياد، فقام فتنحى قريباً من ابن زياد، فقال له مسلم: إن علي ديناً في الكوفة سبعمائة درهم، فأقضها عني، واستوهب جثتي من ابن زياد فوارها، وابعث إلى الحسين، فإني كنت قد كتبت إليه أن الناس معه، ولا أراه إلا مقبلاً, فقام عمر، فعرض على ابن زياد ما قال له: فأجاز ذلك كله، وقال: أما حسين فإنه لم يردنا ولا نرده، وإن أرادنا لم نكف عنه ثم أمر ابن زياد بمسلم بن عقيل، فأصعد إلى أعلى القصر، وهو يكبر ويهلل ويسبح ويستغفر ويصلي على ملائكة الله ويقول: اللهمّ أحكم بيننا وبين قوم غرونا وخذلونا، ثم ضرب عنقه رجل يقال له: بكير بن حمران ثم ألقى رأسه إلى أسفل القصر، وأتبع رأسه بجسده2941.
5 ـ قتل هانيء بن عروة:(2/151)
…واتخذ ابن زياد إجراءً يدل على قسوته وجبروته وظلمه، فقد أمر بهانيء فأخرج إلى السوق وقتل وظل هانيء يصيح لقبيلته مذحج ولكن لم ينصره أحد، ثم صلب هانيء ومسلم في سوق أمام الناس2942، ثم أمر بضرب أعناق اثنين من الذين كانوا يخططون لنصر مسلم بن عقيل وصلبهما في السوق أيضاً2943. وكان في وسع ابن زياد أن يرسل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة إلى الخليفة بدمشق، وربما يسجنون أو يعفى عنهم فيما بعد بدلاً من أراقة الدماء وإيجاد الإحن والعداوات بين المسلمين. وقد برهن ابن زياد على بطش الدولة وعسفها وأنها لا تبالي إلا بالحفاظ على سلطانها مهما كلفها ذلك من سفك الدماء ويبدو أن مسلماً ـ رحمه الله ـ لم يكن بالسياسي المحنك الذي ينظر للمستقبل بحذر، ويزن الأمور بميزان الوقائع السابقة ويقيس الأحداث القائمة على نظيراتها الماضية لهذا غرّه تكاثر المبايعين، وبكاؤهم بين يديه ووعودهم الموثقة بنصرة الحسين فأسرع وكتب إلى الحسين يستقدمه، ويحثه على سرعة الحضور فقد تمهدت له البيعة والحضور2944. فالعواطف وحدها لتكفي في قلب الأنظمة وإزالة الدول، فلا بد من القيادة الراشدة، والتنظيم المحكم، والتخطيط البعيد، وتوثيق الأفراد، والأعداد المعنوي والمادي معاً جنباً إلى جنب، ونستطيع أن نقول بأن ما اعتمد عليه مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة من حسابات كانت خاطئة وغير صحيحة، فقد ظن مسلم بن عقيل إن العاطفة المحركة لكثير من العامة هي السبيل الوحيد للنصر ولم يأخذ في الاعتبار تأييد زعماء الكوفة أو الاتصال بهم، ولم يحاول مسلم بن عقيل أن ينظم تلك الجموع، وفق اختصاصات معينة تسيطر عليها منظمة سرية تستطيع أن تتحرك في الخفاء وبدون قيود، كما أنه أخفق في توظيف الإمكانات التي توفرت له، حيث أن العاطفة المسيطرة على المجتمع الكوفي كفيلة بأن تقلب الأمور لصالحه وذلك بعد إرادة الله، فيما لو استخدمت وأرشدت تلك العاطفة إرشاداً صحيحاً مميزاً، ونجد الطرف(2/152)
الآخر النصير وهو هانيء بن عروة والذي يعتبر من أبرز الناس الذين أيدوا مسلماً وناصروه اعتمد على قوة وكثرة قبيلته، وظن أنه بمنأى عن العقاب وذلك باعتباره زعيماً لمراد التي ذكر المؤرخون أنه كان يركب في أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل، وإذا انضاف لهذه القبيلة أحلافها من كندة بلغ العدد ثلاثين ألف دارع، سوى الرجالة2945، ولكن حسابات هانيء بن عروة كانت خاسرة، فالناس قد ضعفت بينهم الروابط القديمة التي تعتبر فيها القبيلة محور الارتكاز، وزعيم القبيلة هو القائد المهيمن الذي ينصاع لأوامره الجميع بدون تردد وكان لتقسيمات الأرباع في ولاية زياد بن أبيه أثر في هذا الضعف، كما أن نظام العطاء ربط مصالح القبائل بالسلطة الأموية، لقد كانت الحسابات التي ارتكز عليها هانيء والتي اعتمد فيها على القبيلة قد أثبتت خسارتها2946، وممّا قيل من الشعر في مقتل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة:
…………فإن كنتِ لا تدرين ما الموت فانظري
……………………إلى هانيء في السُّوقِ وابن عقيل
…………أصابهما أمر الإمام فأصبحا
……………………أحاديث من يسعى بكل سبيل
…………إلى بطل قد هَشَّم السيف وجهه
……………………وآخر يَهوِي من طمار2947 قتيل
…………ترى جسداً قد غيَّر الموت لونه
……………………ونضح دمٍ قد سال كلَّ مَسيلٍ
…………فإن أنتم لم تثأَروا بأخيكم
……………………فكونوا بغيا أُرضيت بقليل2948
سادساً : وصول خبر مقتل مسلم بن عقيل للحسين ، وملاقاته طلائع جيش بن زياد :(2/153)
…خرج الحسين رضي الله عنه من مكة يوم التروية الموافق لثمان من ذي الحجة سنة ستين، أدرك والي مكة عمرو بن سعيد بن العاص خطورة الموقف فأرسل وفداً إلى الحسين وعلى رأسهم أخوه يحي بن سعيد بن العاص فحاولوا أن يثنوه عن عزمه ولكنه رفض فنادوه: يا حسين، ألا تتقي الله تخرج عن جماعة المسلمين وتفرق بين هذه الأمة، فردَّ الحسين قول الله تعالى: ((لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) ((يونس ، الآية : 41). فخرج الحسين متوجهاً إلى العراق في أهل بيته وستين شيخاً من أهل الكوفة2949. وكتب مروان بن الحكم إلى ابن زياد: أما بعد فإن الحسين بن علي قد توجه إليك، وهو الحسين بن فاطمة، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتالله ما أحد يسلمه الله أحب إلينا من الحسين، وإياك أن تهيج على نفسك ما لا يسده شيء ولا ينساه العامة، ولا يدع ذكره، والسلام عليك2950، وكتب إليه عمرو بن سعيد بن العاص ينهاه عن التعرض للحسين ويأمره بأن يكون حذراً في تعامله مع الحسين: قائلاً له: أما بعد فقد توجه إليك الحسين وفي مثلها تعتق أو تعود عبداً تسترق كما يسترق العبيد2951. وفي الطريق إلى الكوفة قابل الحسين الفرزدق الشاعر المشهور بذات عرق2952. فسأله الحسين بن علي عن تصوره لما يقوم به أهل الكوفة حياله، ثم أراد أن يعطي الفرزدق إيضاحاً أكثر وقال: هذه كتبهم معي، فرد عليه الفرزدق: يخذلونك فلا تذهب فإنك تأتي قوماً قلوبهم معك وأيديهم عليك2953. وعندما علم يزيد بن معاوية بخروج الحسين من مكة واتجاهه للكوفة، كتب إلى ابن زياد يحذره ويقول: بلغني أن حسيناً قد سار إلى الكوفة وقد ابتلى به زمانك من بين الأزمان، وبلدك من بين البلاد وابتليت به من بين العمال وعندها تعتق أو تعود عبداً كما تعتبد العبيد2954.
1 ـ ابن زياد يتخذ التدابير الأمنية:(2/154)
…اتخذ ابن زياد بعض التدابير لكي يحول بين أهل الكوفة وبين الحسين، ويحكم سيطرته على الكوفة، فقام بجمع المقاتلة وفرق عليهم العطاء حتى يضمن ولاءهم2955. ثم بعث الحصين بن تميم الطهوي صاحب شرطته حتى نزل بالقادسية، وقام بتنظيم الخيل ما بين القادسية إلى خفضان2956، وما بين القادسية إلى القطقطان2957، وإلى لعلع2958. ثم أصدر أوامره إلى الحسين بن تيم بأن يقبض على كل من ينكره2959، ثم أمر ابن زياد بأخذ كل من يجتاز بين واقصة2960 إلى طريق الشام ، إلى طريق البصرة فلا يترك أحد يلج ولا يخرج2961، وأراد ابن زياد من الإجراء الأخير قطع الاتصال بين أهل الكوفة وبين الحسين بن علي ومضى الحسين بن علي في طريقه إلى الكوفة ولم يكن يعلم بتلك التغيرات التي حدثت في الكوفة بعد خروجه من مكة ولما بلغ الحاجز من بطن الرمة بعث قيس بن مسهر الصيداوي إلى الكوفة وكتب معه إليهم برسالة يخبرهم فيها بقدومه2962 ولكن الحصين بن تميم قبض على قيس بن مسهر مبعوث الحسين حين وصوله إلى القادسية2963. ثم بعث به إلى ابن زياد فقتله مباشرة2964. ثم بعث الحسين مبعوثاً إلى مسلم فوقع في يد الحصين بن تميم وبعث به إلى ابن زياد فقتله2965، وكانت لتلك الإجراءات الصارمة التي اتخذها ابن زياد أثر كبير على نفوس أتباع الحسين، فهم يرون أن من كان له علاقة بالحسين فإن مصيره القتل وعلى أبشع صوره، فأصبح من يفكر في نصرة الحسين فإن عليه أن يتصور نهايته على ذلك النحو المؤلم2966، وكان الحسين رضي الله عنه يحس أن الأمور تسير سيراً غير طبيعي في الكوفة وخاصة عندما أخبره الأعراب أن أحداً لا يلج ولا يخرج من الكوفة مطلقاً2967. واستمر التحذير من بعض رجال القبائل العربية الذين مرّ بهم، وبينوا له ذلك الخطر الذي يقدم عليه، ولكن الحسين كان يدلل على نجاح مهمته بالإشارة إلى ذلك العدد الهائل من أسماء المبايعين التي كانت بحوزته2968، ولما بلغ الحسين زبالة2969، وقيل شراف2970(2/155)
جاءه خبر مقتل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة وعبد الله بن بقطر، إضافة إلى تخاذل أهل الكوفة عن نصرته2971. وكان لهذا الخبر المفجع المؤلم وقعه الشديد على الحسين رضي الله عنه، فهؤلاء أقرب الناس إليه قد قتلوا والشيعة في الكوفة تخاذلوا في نصرته2972.
2 ـ الحسين يعطي الأذن لأصحابه بالإنصراف:
…لما بلغ الحسين مقتل ابن عمه مسلم بن عقيل وتخاذل الناس عنه أعلم الحسين من معه بذلك، وقال من أحب أن ينصرف فلينصرف فتفرق الناس عنه يميناً وشمالاً2973، وقال له بعض من ثبتوا معه: ننشدك الله إلا ما رجعت من مكانك، فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة، بل نتخوف أن يكونوا عليك. فوثب بنو عقيل إخوة مسلم ـ وقالوا: والله لا نبرح حتى ندرك ثأرنا أو نذوق كما ذاق مسلم2974.
3 ـ ملاقاة الحر بن يزيد التميمي ومعه طلائع جيش الكوفة:(2/156)
…انصرف الناس عن الحسين ـ رضي الله عنه ـ فلم يبق معه إلا الذين خرجوا معه من مكة، واستمر في سيره حتى بلغ شراف وهناك أمر فتيانه أن يستقوا ويكثروا، ثم سار حتى إذا كان منتصف النهار كبَّر رجل من أصحابه، فقال الحسين: الله أكبر ما كبّرت؟ قال الرجل رأيت النخل، فقال رجلان، إن هذا المكان ما رأينا به نخلة قط فقال الحسين: فما تريانه رأى؟ قالا: نراه رأى هوادي الخيل فقال الرجل وأنا والله أرى ذلك2975... وبالفعل كانت طلائع خيل ابن زياد عليها الحر بن يزيد وكان عددها ألف فارس وقد أدرك الحر بن يزيد الحسين ومن معه قريباً من شراف. ولما طلب منه الحسين الرجوع منعه وذكر له أنه مأمور بملازمته حتى الكوفة وقام الحسين وأخرج خرجين مملوءة بالكتب التي تطلب منه القدوم إلى الكوفة، فأنكر الحر والذين معه أي علاقة لهم بهذه الكتب2976، وهنا رفض الحسين الذهاب مع الحر إلى الكوفة وأصر على ذلك.، فاقترح عليه الحر أن يسلك طريقاً يجنبه الكوفة ولا يرجعه إلى المدينة، وذلك من أجل أن يكتب الحر إلى ابن زياد بأمره، وأن يكتب الحسين إلى يزيد بأمره2977. وبالفعل تياسر الحسين عن طريق العذيب والقادسية واتجه شمالاً على طريق الشام2978. وأخذ الحر يساير الحسين وينصحه بعدم المقاتلة ويذكّره بالله، وبيّن له أنه إذا قاتل فسوف يقتل2979، وكان الحسين يصلي بالفريقين إذا حضرت الصلاة2980.
4 ـ ملاقاة عمر بن سعد بن أبي وقاص والمفاوضات:
…ولما وصل الحسين إلى كربلاء أدركته خيل عمر بن سعد ومعه شمر بن ذي الجوشن، والحصين بن تميم2981، وكان هذا الجيش الذي يقوده عمر بن سعد مكوناً من أربعة آلاف مقاتل وكان وجهة هذا الجيش في الأصل إلى الري لجهاد الديلم، فلما طلب منه ابن زياد أن يذهب لمقاتلة الحسين رفض عمر بن سعد في البداية هذا الطلب، ولكن ابن زياد هدده إن لم ينفذ أمره بالعزل وهدم داره وقتله، وأمام هذا الخيار رضي بالموافقة2982.(2/157)
…ولما وصل الحسين كربلاء أحاطت به الخيل، ويطلق على المنطقة كلها اسم الطف2983. وبدأ الحسين بن علي بالتفاوض مع عمر بن سعد، وبيّن الحسين أنه لم يأت إلى الكوفة إلا بطلب من أهلها. وأبرز لعمر بن سعد الدليل على ذلك، واشار إلى حقيبتين كبيرتين تضمن أسماء المبايعين والداعين للحسين، وكتب عمر بن سعد لابن زياد بما سمعه من الحسين وقال: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإني حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي، فسألته عما اقدمه وماذا يطلب، فقال: كتب إلي أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم، فسألوني القدوم ففعلت، فأما إذا كرهوني، فبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم فأنا منصرف عنهم. فلما قريء على ابن زياد تمثل قول الشاعر:
……………الآن إذا علقت مخالبنا به
……………………يرجو النجاة ولاة حين مناص
ثم كتب ابن زياد لعمر بن سعد: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد بن معاوية وجميع أصحابه فإذا فعل ذلك رأينا رأينا والسلام. ولما اطلع عمر بن سعد على جواب بن زياد ساءه ما يحمله الجواب من تعنت وصلف، وعرف أن ابن زياد لا يريد السلامة2984. رفض الحسين هذا العرض، ثم لما رأى جهامة الموقف وخطورته طلب من عمر بن سعد مقابلته2985، وعرض على عمر بن سعد عرضاً آخر يتمثل في إجابته واحدة من ثلاث نقاط2986.
أ ـ أن يتركوه فيرجع من حيث أتى.
ب ـ وإما أن يتركوه ليذهب إلى الشام فيضع يده في يد يزيد بن معاوية.(2/158)
جـ ـ وإما أن يسيّروه إلى أي ثغر من ثغور المسلمين فيكون واحداً منهم له ما لهم وعليه ما عليهم2987. وقد أكد الحسين رضي الله عنه موافقته للذهاب إلى يزيد2988. وكتب عمر بن سعد إلى ابن زياد بكتاب أظهر فيه أن هذا الموقف المتأزم قد حُلّ، وأن السلام قد أوشك، وما على ابن زياد إلا الموافقة2989. وبالفعل فقد أوشك ابن زياد أن يوافق ويرسله إلى يزيد، لولا تدخل شمر بن ذي الجوشن الذي كان جالساً في المجلس حين وصول الرسالة فقد اعترض على رأي ابن زياد في أن يرسله إلى يزيد، وبيّن لابن زياد أن الأمر الصائب هو أن يطلب من الحسين أن ينزل على حكمه ـ أي ابن زياد ـ حتى يكون هو صاحب الأمر المتحكم فيه2990. فلما وصل الخبر إلى الحسين رضي الله عنه رفض الطلب وقال: لا والله لا أنزل على حكم عبيد الله بن زياد أبداً2991، وقال لأصحابه الذين معه أنتم في حل من طاعتي، ولكنهم أصرّوا على مصاحبته والمقاتلة معه حتى الشهادة2992، واتخذ ابن زياد إجراءً احترازياً حين خرج إلى النخيلة2993، واستعمل على الكوفة عمرو بن حريث، وضبط الجسر، ولم يترك أحداً يجوزه، وخاصة أنه علم أن بعض الأشخاص من الكوفة بدأوا يتسللون من الكوفة إلى الحسين2994.
سابعاً : المعركة الفاصلة استشهاد الحسين رضي الله عنه ومن معه:(2/159)
في صباح يوم الجمعة عام 61هـ نظم الحسين رضي الله عنه أصحابه وعزم على القتال وكان معه اثنان وثلاثون فارساً، وأربعون راجلاً، فجعل زهير بن القين في ميمنته وحبيب بن مظاهر في الميسرة، وأعطى رايته العباس بن علي، وجعل البيوت وراء ظهورهم، وأمر الحسن بحطب وقصب فجعله من وراء البيوت، وأشعل فيه النار مخافة أن يأتوهم من خلفهم2995. وأما عمر بن سعد فقد نظم جيشه، وجعل على الميمنة عمرو بن الحجاج الزبيدي ـ بدلاً من الحر بن يزيد الذي انضم إلى الحسين. وجعل على الميسرة شمر بن ذي الجوشن ـ وعلى الخيل عزره بن قيس الأحمسي وعلى الرجال شبت بن ربعي الرياحي، وأعطى الراية ذويداً مولاه2996. وبدأت المعركة سريعة وكانت مبارزة في بداية الأمر، وجوبه جيش عمر بن سعد بمقاومة شديدة من قبل أصحاب الحسين، حيث أن مقاتلتهم اتسمت بالفدائية فلم يعد لهم أمل في الحياة2997، وكان الحسين رضي الله عنه في البداية لم يشترك في القتال، وكان أصحابه يدافعون عنه ولما قتل أصحابه لم يجرؤ أحد على قتله، وكان جيش عمر بن سعد يتدافعون ويخشى كل فرد أن يبوء بقتله وتمنوا أن يستسلم، ولكن الحسين رضي الله عنه لم يبد شيئاً من الليونة، بل كان رضي الله عنه يقاتلهم بشجاعة نادرة، عندئذ خشى شمر بن ذي الجوشن من انفلات زمام الأمور فصاح بالجند وأمرهم بقتله، فحملوا عليه، وضربه زرعة بن شريك التميمي ثم طعنه سنان بن أنس النخعي واحتز رأسه2998، ويقال أن الذي قتله عمرو بن بطار التغلبي، وزيد بن رقاده الحيني2999، ويقال أن المتولي لإجهاز عليه شمر بن ذي الجوشن الضبي، وحمل رأسه إلى ابن زياد خولي بن يزيد الأصبحي3000، وكان قتله رضي الله عنه في محرم في العاشر منه سنة إحدى وستين3001. وقتل مع الحسين رضي الله عنه اثنان وسبعون رجلاً، وقتل من أصحاب عمر ثمان وثمانيون رجلاً3002، وبعد إنتهاء المعركة أمر عمر بن سعد بأن لا يدخل أحد على نساء الحسين وصبيانه، وأن لا يتعرض لهم أحد(2/160)
بسوء3003، وأرسل عمر بن سعد برأس الحسين ونساءه ومن كان معه الصبيان إلى ابن زياد3004.
وكان الذين قتلوا مع الحسين رضي الله عنه من آل أبي طالب، فمن أولاد علي بن أبي طالب الحسين نفسه، وجعفر والعباس وأبو بكر ومحمد وعثمان، ومن أولاد الحسين: علي الأكبر غير عليّ زين العابدين لأنه كان عنده علي الأصغر وعلي الأكبر وعبد الله. ومن أبناء ابناء الحسن قتل عبد الله والقاسم وأبو بكر. ومن أولاد عقيل قتل جعفر وعبد الله وعبد الرحمن ومسلم بن عقيل قتل بالكوفة وعبد الله بن مسلم. ومن أولاد عبد الله بن جعفر: قتل عون ومحمد3005، ثمانية عشر رجلاً كلهم من بيت رسول الله قد قتلوا في هذه المعركة غير المتكافئة، والعجيب في هذه أن ممن قتل بين يدي الحسين بن علي رضي الله عنهما أبو بكر بن علي وعثمان بن علي وأبو بكر بن الحسن ولا تجد لهم ذكراً عندما تسمع أشرطة الشيعة وتقرأ كتبهم التي أُلفت في مقتل الحسين حتى لا يقال إن علي بن أبي طالب سمي أولاده بأسماء أبي بكر وعمر وعثمان، أو أن الحسن سمي على اسم أبي بكر وهذا أمر عجيب جداً منهم3006. وعن أنس قال: ولما أُتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين جعل ينكث بالقضيب ثناياه يقول: لقد كان ـ أحسبه جميلاً. فقلت والله لأَسوءنَّك إني رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلثم3007 حيث يقع قضيبك. قال: فانقبض3008. وفي رواية البخاري عن أنس قال: أتى عبيد الله بن زياد برأس الحسين فجعله في طست، فجعل ينكث عليه وقال في حسنه شيئاً فقال أنس: إنه كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مخضوباً بالوسمة3009.ولما وصل نساء الحسين وصبيانه صنع بهما ابن زياد أن أمر لهم بمنزل في مكان معتزل فأجرى عليهم الرزق، وأمر لهن بالكسوة والنفقة3010. وتذكر بعض الروايات التي لها ميول شيعية أن ابن زياد أمر بقتل كل من أنبت، ولعل مما يظهر كذب هذه الروايات حينما تذكر أن علي بن الحسين كشفوا عنه فوجوده قد أنبت، فأمر ابن(2/161)
زياد بقتله ولكن شفاعة أخته زينب وتعلقها به حالت دون قتله3011، وليس صحيحاً كذلك أن ابن زياد قد أساء معاملة نساء الحسين بعد قتله، أو في ترحيله لهن إلى الشام، فالروايات التاريخية تخبرنا أن أحسن شيء صنعه ابن زياد أنه أمر لهن بمنزل في مكان معتزل، وأجرى عليهن رزقاً، وأمر لهن بنفقة وكسوة3012، ويقول ابن تيمية في رده على بعض كذابي الشيعة: وأما ما ذكره من سبي نسائه والدوران بهن على البلدان وحملهن على الجمال بغير أقتاب، فهذا كذب، وباطل وماسبى المسلمون ـ ولله الحمد ـ هاشمية قط، ولا استحلت أمة محمد صلى الله عليه وسلم هاشمية قط، ولكن أهل الهوى والجهل يكذبون كثيراً3013. بل المرجح أن ابن زياد بعد أن ذهبت عنه نشوة النصر، أحس فداحة خطئه وكان ذلك الشعور هو المسيطر على بعض أفراد أسرته القريبين منه، فقد كانت أمه تقول له: ويلك ماذا صنعت، أو ماذا ركبت3014. وكان أخوه عثمان بن زياد يقول: لوددت والله أنه ليس من بني زياد رجل إلا وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة، وأن حسيناً لم يقتل: فلا ينكر عليه عبيد الله قوله3015.
ثامناً : مواقف رائعة بجانب الحسين رضي الله عنه:
كانت هناك مواقف رائعة هزت مشاعرنا وقد سطر التاريخ هذه المواقف لأصحابها لكي يتبين للناس أن في كل زمان شخصيات تقف إلى جوار الرجال تقديراً لمقامهم، ورعاية لحرمتهم، وإظهاراً للحق في مقارنة الرجال إذا واجه بعضهم بعضاً، فهم يقدرون الرجال لمكانتهم الاجتماعية ويفضلونهم على غيرهم، لما يتصفون به من العلم والشجاعة والتقوى ولو كان غيرهم هم الحكام والأمراء، فلا الخوف من الحاكم ينسيهم قدر الرجال، ولا ظلم الحكام ينحرف بهم إلى النفاق والمجاملة، ولا المناصب التي يشغلونها تلهيهم عما يجب أن يكونوا عليه من الصراحة والشجاعة الأدبية3016 ومن هذه المواقف:
1 ـ موقف الوليد بن عتبة بن أبي سفيان رحمه الله:(2/162)
…فقد امتنع عن استخدام الشدة والقسوة مع الحسين والزامه بالقوة أو قتله وقال:... والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأني قتلت حسيناً سبحان الله، أقتل حسيناً أن قال: لا أبايع والله إني لأظن أمراً يحاسب بدم حسين لخفيف الميزان عند الله يوم القيامة3017. وهكذا يقف الوليد هذا الموقف الرائع، وهو أمير المدينة يومئذ، وهو يعلم تماماً أن ذلك الموقف سيؤدي لا محالة إلى عزله عن إمارة المدينة، بل قد يزيد على ذلك، فيؤدي إلى قتله وهلاكه، وهو مع هذا يفضل هلاك الدنيا وزوال الملك والسلطان، على أن يلقى الله بدم الحسين3018 ـ رضي الله عنه ـ:
2 ـ موقف النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ : وكان أمير الكوفة فإنه بلغه خروج الحسين بن علي رضي الله عنهما ـ ووصول مسلم بن عقيل إلى الكوفة يأخذ البيعة للحسين، قام فخطب في الناس وحذرهم الخروج على الإمام وأرهبهم من السعي في الفتنة، وذكرهم بما يجره على العامة والخاصة من الخراب والدمار ومع ذلك كان ليناً مع الناس، وأخبرهم أنه لن يأخذ أحداً بظنه، ولن يقاتل أحداً لم يقاتله، ولكن شدد في نهاية الخطبة، وقال للناس: ولكنكم إن أبديتم صفحتكم لي، ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم، فوالله الذي لا إله غيره، لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولو لم يكن لي منكم ناصر ومع هذا فقد عاب عليه محبو الأمويين هذا الموقف ووسموه بالضعف، وقالوا: إن هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوك رأي المستضعفين فقال: رضي الله عنه: أن أكون من المستضعفين في طاعة الله، أحب إلي من أن أكون من الأعزِّين في معصية الله3019.(2/163)
…إن رضا الله ـ تبارك وتعالى ـ غاية يضحي المسلم في سبيلها بكل غاية، ويبذل في سبيل الحصول عليها كل غالٍ ونفيس فرضوان الله هو النعمة العظمى التي سيتجلى الله بها على عباده المؤمنين في الجنة3020، يقول الحق ـ عز وجل: ((وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) (التوبة ، الآية : 72) .(2/164)
3 ـ موقف الحر بن يزيد رحمه الله: وهو أول من لقي الحسين في جيش الكوفة، وهو الذي حال بينه وبين الرجوع إلى المكان الذي أتى منه، ولكنه مع ذلك كان نبيلاً في معاملته للحسين ـ رضي الله عنه ـ فقد قال له: أنا لم أؤمر بقتالك، ولكني أمرت أن أخرج بك إلى الكوفة إن وجدتك، ولكني أقول لك: اختر مكاناً لا يؤدي بك إلى الكوفة ولا يعود بك إلى المدينة، ثم أكتب بعد ذلك إلى يزيد بن معاوية أو إلى ابن زياد إن شئت ولم يكد يصل الجيش وعلى رأسه عمر بن سعد بن أبي وقاص، وتواجه كلا الفريقين، وتأكد الُحرّ أن الحرب دائرة بينهما لا محالة، قال الحر لعمر بن سعد: أصلحك الله! أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال عمر؟ إي والله قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي عندئذ ضرب الحر فرسه، وانطلق به نحو الحسين، وانضم إلى جماعته، ثم قال: يا أهل الكوفة، لأمكم الهَبل، أدعوتم الحسين إليكم حتى إذا أتاكم أسلمتموه، وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه، ثم عدوتم عليه لتقتلوه، ومنعتموه التوجه في بلاد الله العريضة الوسيعة التي لا يمنع فيها الكلب والخنزير وحلتم بينه وبين الماء الفرات الجاري الذي يشرب منه الكلب والخنزير، وقد صرعهم العطش؟ بئس ما خلفتم محمداً في ذريته، لأسقاكم الله يوم الظمأ الأكبر إن لم تتوبوا وتتراجعوا عما أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه واعتذر الحر عن موقفه الأول من الحسين وقبل الحسين عذره، فلما لامه بعض أصحابه عن الذهاب إلى الحسين قال: والله إني لأخير نفسي بين الجنة والنار، ووالله لا أختار على الجنة غيرها ولو قطعت وحرّقت3021(2/165)
…إن الحر بن يزيد ـ رحمه الله ـ غير موقفه من الحسين ـ رضي الله عنه ـ بعد أن جنح الحسين إلى السلم، ورأى أن موقفه ضده ليس فيه إنصاف ولا عدل، إذ كيف يقاتل رجلاً يدعو إلى السلم، ويطلبه، ويمد يده إلى عدوه ليصالحه، إن الرجولة تقتضي أن يكون الموقف مع هذا المسالم موقف العون وشد الأزر، وإن العقل يحكم بأن الحق مع من يطلب السلم وينشده والحر يعلم أن الوقوف مع حسين والميل إليه ليس له معنى إلا الموت، ولكنه اختار الموت الذي يوصل إلى الجنة3022، ومما قيل في الحر بن يزيد التميمي من شعر ما قاله جعفر بن عفان الطائي:
…………ولم يك فيهم رجل رشيد
…………………سوى الحر التميمي الرشيد
…………فواحزناه إن بني عليّ
…………………وفاطم قد أبيدوا بالحديد3023
4 ـ موقف النّوار بنت مالك الحضرمية: وهي امرأة خوليّ بن يزيد الذي بعثه عمر بن سعد برأس الحسين إلى عبيد الله بن زياد، فلما بلغ خولي الكوفة قصد القصر، فوجد بابه مغلقاً، فتوجه بالرأس الشريف إلى بيته، فوضعه هناك تحت إجاّنة ـ والإجانة إناء تغسل فيه الثياب ـ ثم دخل على زوجته، وآوى إلى فراشه فقالت له زوجته: ما الخبر؟ عندك؟(2/166)
قال: جئتك بغنى الدهر، هذا رأس الحسين معك في الدار، فقالت: ويلك جاء الناس بالذهب والفضة، وجئت برأس ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم! لا والله لا يجمع رأسي ورأسك بيت3024 أبداً ، هذه امرأة انتظرت زوجها طويلاً، ولكن زوجها جاءها بما عكر عليها صفوها، وكدر عليها حياتها، وأفسد عليها انتظارها الطويل، لقد كانت ترجو أن يعود إليها زوجها بأخبار سارة تشرح صدرها، وتملأ عليها نفسها سروراً نعم إن عودة زوجها إليها سالماً هي أحسن خبر يحمله لها، ولكنه لم يعد إليها خالي الوفاض من الذهب والفضة اللذين يعود بهما المحاربون عادة فقط، ولو كان الأمر كذلك لسُرّت بعودته، وسلامته، ولكنه حمل إليها رأس الحسين ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إنها يبلغها الخبر بفرحة تدل على رضاه وسروره، أفتفرح هي بذلك؟ أنه لو جاءها بالخبر دون أن يكون مصحوباً بالرأس كان ذلك كفيلاً بزيادة حزنها وأسفها، فكيف وهو يحدثها بالخبر مقروناً برأس الحسين ـ رضي الله عنه ـ إن كل مؤمن يحزنه الخبر، ويهدّ نفسه سماعه، لهذا غادرت النوار فراش زوجها، وأقسمت ألا تجتمع معه في بيت أبداً3025.
تاسعاً : موقف يزيد من قتل الحسين ومن أبناء الحسين وذريته:(2/167)
…كتب عبيد الله بن زياد إلى يزيد بن معاوية يخبره بما حدث ويستشيره في شأن أبناء الحسين ونسائه فلما بلغ الخبر يزيد بن معاوية بكى وقال: كنت أرضى من طاعتكم ـ أي أهل العراق ـ بدون قتل الحسين، كذلك عاقبة البغي والعقوق لعن الله ابن مرجانة لقد وجده بعيد الرحم منه، أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه فرحم الله الحسين3026، وفي رواية أنه قال:... أما والله لو كنت صاحبه، ثم لم أقدر على دفع القتل عنه إلا ببعض عمري لأحببت أن أدفعه عنه3027، فجاء رد يزيد على ابن زياد يأمره بإرسال الأسارى إليه، وبادر ذكوان أبو خالد فأعطاهم عشرة آلاف درهم فتجهزوا بها3028، ومن هنا يعلم أن ابن زياد لم يحمل آل الحسين بشكل مؤلم أو أنه حملهم مغللين، كما ورد في بعض الروايات3029، وقد مر معنا كيف أن ابن زياد قد أمر للأسارى بمنزل منعزل وأجرى عليهم الرزق والنفقة وكساهم3030.(2/168)
وتذكر رواية عوانة أن محفز بن ثعلبة هو الذي قدم بأبناء الحسين على يزيد3031، ولما دخل أبناء الحسين على يزيد قالت: فاطمة بنت الحسين: يا يزيد: أبنات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا قال: بل حرائر كرام: أدخلي على بنات عمك تجديهن قد فعلن ما فعلت. قالت فاطمة: فدخلت إليهن فما وجدت فيهن سفيانية إلا ملتزمة تبكي3032. وعندما دخل علي بن الحسين قال يزيد: إن أباك قطع رحمي وظلمني فصنع الله به ما رأيت ـ وكان علي بن الحسين في معركة كربلاء لم يشترك بسبب المرض الذي كان ملازمه، وكان أثناء احتدام المعركة طريح الفراش فحمل إلى ابن زياد مع بقية الصبيان والنساء3033 ـ فرد علي بن الحسين على يزيد ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)) (الحديد ، الآية : 22). ثم طلب يزيد من ابنه خالد أن يجبه، فلم يدر خالد ما يقول فقال يزيد: قل له ((وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)) (الشورى ، الآية : 30) .
وتحاول بعض الروايات ذات النزعات والميول الشيعية أن تصور أبناء الحسين وبناته وكأنهن في مزاد علني، جعل أحد أهل الشام يطلب من يزيد أن يعطيه إحدى بنات الحسين3034. فهذا من الكذب البين الذي لم يدعمه سند صحيح، ثم أنها مغايرة لما ثبت من إكرام يزيد لآل الحسين، ثم إن يزيد لم يستعرض النساء ويجعلهن عرضة للجمهور من أراد فليختار ما يشاء3035. وأرسل يزيد إلى كل امرأة من الهاشميات يسأل عن كل ما أخذ منهن، وكل امرأة تدعى شيئاً بالغاً ما بلغ إلا أضعفه لهن في العطية3036، وكان يزيد لا يتغذى ولا يتعشى إلا دعا علي بن الحسين3037. وذُكر إن رأس الحسين أرسل إلى يزيد فهذا لم يثبت، بل إن رأس الحسين بقي عند عبيد الله في الكوفة3038.
عاشراً : رجوع أهل الحسين وأبنائه إلى المدينة:(2/169)
…بعث يزيد إلى المدينة فقدم عليه ذوي السن من موالي بني هاشم ومن موالي بني علي3039، وبعد أن وصل الموالي أمر يزيد بنساء الحسين وبناته أن يتجهزن، وأعطاهن كل ما طلبن حتى لم يدع لهم حاجة بالمدينة إلا أمر بها3040، ثم أمر النعمان بن بشير أن يقوم بتجهيزهم3041،وقبل أن يغادروا قال يزيد لعلي بن الحسين إن أحببت أن تقيم عندنا فصل رحمك وتعرف لك حقك فعلت3042. ولكن علي بن الحسين اختار الرجوع إلى المدينة، وأكرم أبناء الحسين وخيّرهم بين المقام عنده والذهاب إلى المدينة فاختاروا الرجوع إلى المدينة3043، وعند مغادرتهم دمشق كرّر يزيد الاعتذار من علي بن الحسين وقال: لعن الله ابن مرجانة، أما والله لو أني صاحبه ما سألني خصلة أبداً إلا أعطيتها إياه، ولدفعت عنه الحتف عنه بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي ولكن الله قضى ما رأيت، كاتبني بكل حاجة تكون لك3044.
…وأمر يزيد بأن يرافق ذرية الحسين وفد من موالي بني سفيان3045، وكان عددهم ثلاثين فارساً، وأمر المصاحبين لهم أن ينزلوا حيث شاءوا ومتى شاءوا وبعث معهم أيضاً محرز بن حريث الكلبي ورجل من بهرا، وكانا من أفاضل أهل الشام3046 وخرج آل الحسين من دمشق محفوفين بأسباب الاحترام والتقدير حتى وصلوا إلى المدينة3047. قال ابن كثير في يزيد: وأكرم آل بيت الحسين ورد عليهم جميع ما فقد لهم وأضعفه، وردهم إلى المدينة في محامل وأبهة عظيمة، وقد ناح أهله على الحسين3048.
الحادي عشر : من المسئول عن قتل الحسين رضي الله عنه:
إن المسئول عن قتل الحسين أطراف متعددة منها:(2/170)
1 ـ أهل الكوفة: إن أهل الكوفة هم الذين كاتبوا الحسين بن علي وهو في المدينة ومنّوه بالخروج حتى خرج إليهم بالرغم من تحذيرات الصحابة له بعدم الخروج ولما عين ابن زياد أميراً على الكوفة تأخر الناس عن نصرة الحسين وعن تأييده بل وانخرطوا في الجيش الذي حاربه وقتله، ولذا عبّر الحافظ ابن حجر عن موقف أهل الكوفة من الحسين بقول: فخُذِل غالب الناس عنه فتأخروا رغبة ورهبة، ولما تقابل الحسن ومن معه مع جند الكوفة نادى الحسين زعماء أهل الكوفة قائلاً لهم: يا شبث بن ربعي، وياحجار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إلى أنه قد أينعت الثمار، وأخضر الجناب، وطمت الجمام، وإنما تقدم على جند لك مجند، فأقبل. قالوا: لم نفعل، فقال سبحان الله بلى والله لقد فعلتم ثم قال: أيها الناس إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني3049. وبالنظر إلى أقوال الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ فإن الاتهام موجه إلى أهل العراق، وذلك في المسؤولية المتعلقة بقتل الحسين رضي الله عنه، فهذه أم سلمة رضي الله عنها لما جاء نعي الحسين بن علي لعنت أهل العراق وقالت: قتلوه قتلهم الله عز وجل غروه ودلوه لعنهم الله3050. وابن عمر رضي الله عنهما يقول لوفد من أهل العراق حينما سألوه عن دم البعوض في الإحرام فقال: عجباً لكم يا أهل العراق تقتلون ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسألون عن دم البعوض3051. ويقول البغدادي في كتابه الفرق بين الفرق: روافض الكوفة موصوفون بالغدر والبخل، وقد سار المثل بهم فيها، حتى قيل أبخل من كوفي، وأغدر من كوفي، والمشهور من غدرهم ثلاثة أمور هي:
أ ـ بعد مقتل علي رضي الله عنه، بايعوا الحسن، وغدروا به في ساباط المدائن، فطعنه سنان الجعفي .(2/171)
ب ـ كاتبوا الحسين رضي الله عنه، ودعوه إلى الكوفة لينصروه على يزيد، فاغتر بهم، وخرج إليهم، فلما بلغ كربلاء غدروا به وصاروا مع عبيد الله يداً واحدة عليه. حتى قتل الحسين وأكثر عشيرته بكربلاء .
جـ ـ غدرهم بزيد بن علي بن الحسين، نكثوا بيعته، وأسلموه عند اشتداد القتال3052.
…إن جزءاً كبيراً من المسئولسية يقع على أهل الكوفة، الذين جبنوا ونقضوا عهودهم.
2 ـ عبيد الله بن زياد:
…استمد عبيد الله جبروته وبطشه بالمعارضين من موافقة الخليفة يزيد بن معاوية، فعندما أقدم على قتل مسلم بن عقيل النائب الأول عن الحسين بالكوفة، وداعيته هانيء بن عروة الزعيم لقبيلة مراد المشهورة، استحسن يزيد هذا الفعل ولم يعترض عليه بل إنه لم يخف إعجابه به وبطشه وعسفه، فقد قال في ردّه على رسالته: أما بعد فإنك لم تعد إن كنت كما أحببت، عملت عمل الحازم، وصلت صولت الشجاع الرابط الجأش، فقد أغنيت وكفيت، وصدقت ظني بك، ورأي فيك3053.. فهذا التشيع دفع ابن زياد للشر أكثر خصوصاً وأن نفسه كانت ميالة للشر بطبيعتها، متطلعة إلى الغلو في مسيرتها، متعطشة إلى الدماء في سلطانها، وإلا فماذا كان عليه لو أنه نهر شمر وعنفه وردعه على قوله، واستمر في قبول خطة السلم التي عرضها الحسين رضي الله عنه. إن النفوس الدنية التي ارتفعت بعد انحطاط، وعزت بعد ذل، وتمكنت بعد حرمان، يعزّ عليها أن ترى الشرفاء الأمجاد، يتمتعون باحترام الناس وتقديرهم فتحاول أن تضع من مكانتهم، وتحط من منزلتهم إشباعاً لعقدة النقص التي تطاردهم في حياتهم، ولم يكن ابن زياد إلا واحداً من أصحاب هذه النفوس الدنية، فمن ابن زياد هذا ـ مهما كانت منزلته ـ إذا قورن بالحسين بن علي ـ رضي الله عنهما ـ لهذا رفض الحسين أن يضع يده في يد ابن زياد، وقال لا أعطيهم بيدي إعطاء العبد الذليل، وقال عمر بن سعد لما وصله كتاب ابن زياد: لا يستسلم والله الحسين، إن نفساً أبية لبين جنبيه3054، لقد كان عبيد الله(2/172)
بن زياد والياً ظالماً قبيح السريرة وهو الذي دخل عليه ـ عائذ بن عمرو المزني، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لعبيد الله: أي بني: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن شر الرِّعاء الحُطمة فإياك أن تكون منهم، فقال له، اجلس فإنما أنت من نخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: هل كانت لهم نخالة3055؟ إنما كانت النخالة بعدهم، وفي غيرهم3056.
…لقد كان يتوجب على ابن زياد أن يلبي مطالب الحسين، وأن يتركه يذهب إلى يزيد، أو أي مكان آخر، خاصة أنه لن يدخل الكوفة3057، وقد قال ابن الصلاح في فتاويه: والمحفوظ أن الآمر بقتاله المفضي إلى قتله إنما هو ابن زياد3058،وقال يوسف العش: وينبغي لنا أن نقول أن المسؤول عن قتل الحسين هو أولاً شمر، وثانياً عبيد الله بن زياد3059. والصحيح أن المسئولية الأولى والإثم الأكبر في هذه المذبحة تقع على عاتق ابن زياد لأنه مدبر هذا الأمر كله وهو الذي رفض عروض الحسين، والتاريخ يستنكر كل ما فعله، ويذمه أشد الذم، ويدمغه بالبغي والطغيان3060. ويقول الذهبي في نهاية ترجمة عبيد الله: الشيعي لا يطيب عيشه حتى يلعن هذا ودونه، ونحن نبغضهم في الله، ونبرأ منهم/ ولا نلعنهم وأمرهم إلى الله3061.
3 ـ عمر بن سعد بن أبي وقاص قائد الجيش:
…ومن المسئولين على قتل الحسين رضي الله عنه قائد جيشه عمر بن سعد بن أبي وقاص، وبئس الخلف للسلف أو الابن لأبيه ثم الجنود الذين نفذوا أوامرهم في غيرما رحمة وكان لهم مندوحة أن ينأوا عن ذلك، أو ينضموا إلى جانب الحسين، كما فعل الحر بن يزيد التميمي القائد الأول الذي أرسله بن زياد، ثم رأى أن ابن زياد وصحبه اعتدوا وطغوا حين رفضوا عروض الحسين المنصفة، فتحول إلى معسكر الحسين وقاتل معه حتى قتل شهيداً3062.(2/173)
…إن عمر بن سعد لم يخرج ابتداءً لقتال الحسين، ولكنه كان خارجاً لقتال الديلم في أربعة آلاف مقاتل، فلما بلغ ابن زياد أمر حسين سيره إليه، وقال له: قاتل حسيناً فإذا انتهيت فانصرف إلى الديلم، وكان قد ولاه إمارة الرَّيّ واستعفى عمر ابن زياد من قتال الحسين، ولكن ابن زياد هدده بخلعه عن إمارة الرّي فتراجع عمر، وقال له: حتى أنظر، وأخذ يستشير الناس، وكلهم نصحوه بعدم الخروج إلى الحسين، وقال له ابن أخته ـ حمزة بن المغيرة بن شعبة ـ: أنشدك الله يا خال أن تسير إلى الحسين فتأثم بربك، وتقطع رحمك فوالله لأن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض كلها لو كان لك، خير لك من تلقى الله بدم الحسين3063. فقال عمر بن سعد: فإني أفعل إن شاء الله وبرغم نصح الناصحين، وترهيب المرهبين، إلا أن نفس ابن سعد كانت متعلقة بالدنيا وحب الإمارة ومشغولة بالمنصب وتقلد الإدارة.. والحق يقال: إنه اجتهد في محاولة إيجاد مخرج يبتعد منه عن قتال الحسين ومن معه، ولكنه لم يوفق في شيء .
…إن النفوس المتطلعة إلى الدنيا، تنسى في سبيلها شهامة الرجال، ومروءة الكرام بل تنسى ما هو أعظم من ذلك موقفها بين يدي الله عز وجل، وأنها ستحاسب على كل عمل تعمله، بل تنسى بديهيات الأمور، حيث تنسى فناء الدنيا، وزوال المنصب، وضياع الجاه والسلطان، لقد كان عمر بن سعد في غنى عن أن يقرن اسمه بأسماء الخونة الغادرين، وأن يسجل في سجل المعتدين الآثمين، لو أنه ضحى بالمنصب، وقبل طاعة الله ورسوله، ولو أنه فعل ما فاته شيء مما كتب له من متاع الدنيا، ولكان عند الله من الأبرار الصالحين3064.(2/174)
4 ـ يزيد بن معاوية: وأما يزيد، فظاهر الأمر أنه كره قتل الحسين ـ رضي الله عنه ـ وحاول أن يمنعه من الخروج، فكتب إلى ابن عباس، يسأله أن يكف الحسين عن الخروج وحين وضعت الرأس الشريفة بين يديه وقال: لعن الله ابن مرجانة كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه3065. وهذا البكاء على الحسين، وسب ابن مرجانة لا يرفع اللوم عن يزيد، ولا يخليه من تبعة قتل الحسين وأصحابه، ذلك لأنه كان قادراً على أن يوجه أوامر صريحة لابن زياد بعدم قتل الحسين رضي الله عنه، والتصرف معه بكل حكمة وتعقل، حفظاً لرحمه وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانته في قلوب المسلمين3066.
…إن تحمل يزيد لمسؤولية قتل الحسين ـ رضي الله عنه ـ قائمة كيف وقد قتل في خلافته وعلى أرض تسيطر عليها جيوشه، وقد كان أمير المؤمنين ـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ يحمّل نفسه مسؤولية بغلة عثرة في العراق أو في الشام، لم يسو لها الطريق، فكيف إذا كان القتلة هم جند أمير المؤمنين3067؟ إن مقتل الحسين رضي الله عنه سيظل وصمة عار ونقطة سوداء في عهد يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.
الثاني عشر : أقوال الناس في يزيد وهل يجوز لعنه؟
افترق الناس في يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ثلاث فرق طرفان ووسط، فأحد الطرفين قالوا: إنه كان كافراً منافقاً، وأنه سعى في قتل سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم تشفياً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتقاماً منه، وأخذاً بثأر جده عتبة وأخي جده شيبة، وخاله الوليد بن عتبة، وغيرهم ممن قتلهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بيد علي بن أبي طالب وغيره يوم بدر، وقالوا: تلك أحقاد بدرية، وآثار جاهلية وأنشدوا عنه:
…………لما بدت تلك الحمول وأشرفت
……………………تلك الرؤوس على ربي جيروني
…………نعق الغراب، فقلت نح أولاً تنح
……………………فلقد قضيت من النبي ديوني
وقالوا: إنه تمثل بشعر ابن الزَّبعري الذي أنشده يوم أحد:(2/175)
………ليت أشياخي ببدر شهدوا
…………………جزع الخزرج من وقع الأسل
………قد قتلنا الكثير من أشياخهم
…………………وعدلناه ببدر فاعتدل3068
وأشياء من هذا النمط وهذا القول سهل على الرافضة الذين يكفرون أبا بكر، وعمر، وعثمان، فتكفير يزيد أسهل.
والطرف الثاني: يظنون أنه كان رجلاً صالحاً وإمام عدل، وأنه كان من الصحابة الذين ولدوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وحمله على يديه وبرّك عليه، وربما فضله بعضهم على أبي بكر وعمر، وربما جعله بعضهم نبياً، ويقولون عن الشيخ عدي أو حسن المقتول ـ كذباً عليه ـ إن سبعين ولياً صرفت وجوههم عن القبلة لتوقفهم في يزيد، وهذا قول غالية العدوية.. ونحوهم من الضلال، فإن الشيخ عدياً كان من بني أمية وكان رجلاً صالحاً عابداً فاضلاً، ولم يحفظ عنه أنه دعاهم إلا إلى السنة التي يقولها غيره كالشيخ أبي الفرج المقدسي، فإن عقيدته موافقة لعقيدته، لكن زادوا في السنة أشياء كذب وضلال، من الأحاديث الموضوعة، والتشبيه الباطل، والغلو في الشيخ عدي وفي يزيد، والغلو في ذم الرافضة، بأنه لا تقبل لهم توبة وأشياء أخر. وكلا القولين ظاهر البطلان عند من له أدنى عقل وعلم بالأمور وسير المتقدمين، ولهذا لا ينسب إلى أحد من أهل العلم المعروفين بالسنة، ولا إلى ذي عقل من العقلاء الذين لهم رأي وخبرة3069(2/176)
…والقول الثالث : أنه كان ملكاً من ملوك المسلمين، له حسنات وسيئات، ولم يكن كافراً، ولكن جرى بسببه ما جرى من مصرع الحسين، وفعل ما فعل بأهل الحرة، ولم يكن صاحباً ولا من أولياء الله الصالحين، وهذا قول عامة أهل العقل والعلم والسنة والجماعة. ثم افترقوا ثلاث فرق: فرقة لعنته، وفرقة أحبته، وفرقة لا تسبه ولا تحبه، وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد وعليه المقتصدون من أصحابه وغيرهم من جميع المسلمين. قال صالح بن أحمد: قلت لأبي: إن قوماً يقولون: إنهم يحبون يزيد، فقال: يا بني، وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر؟ فقلت: يا ابت، فلماذا لا تلعنه؟ فقال: يا بني، ومتى رأيت أباك يلعن أحداً. وقال منها: سألت أحمد عن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان. فقال: هو الذي فعل بالمدينة ما فعل قلت: وما فعل؟ قال: قتل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل. قلت: وما فعل؟ قال: نهبها. قلت: فيذكر عنه الحديث؟ لا يذكر عنه حديث. وهكذا ذكر القاضي أبو يعلي وغيره3070، وقال أبو محمد المقدسي لما سئل عن يزيد: فيما بلغني لا يُسَبّ ولا يُحَبّ وقال ابن تيمية: وبلغني ـ أيضاً ـ أن جدنا أبا عبد الله بن تيمية سئل عن يزيد. فقال: لا تنقص ولا تزيد. وهذا أعدل الأقوال فيه وفي أمثاله وأحسنها وأما ترك سبه ولعنته فبناء على أنه لم يثبت فسقه الذي يقتضي لعنه، أو بناء على أن الفاسق المعين لا يلعن بخصوصه، إما تحريماً، وإما تنزيهاً. فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمر في قصة ((حمار)) الذي تكرر منه شرب الخمر وجلده لما لعنه بعض الصحابة قال النبي صلى الله عليه وسلم: ولا تلعنه، فإنه يجب الله ورسوله3071. وقال: لعنُ المؤمن كقتله3072 هذا مع أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن عموماً شارب الخمر ونهى في الحديث الصحيح عن لعن هذا المعين وهذا كما أن نصوص الوعيد عامة في أكل أموال اليتامى، والزاني والسارق، فلا نشهد بها عامة على معين بأنه من أصحاب(2/177)
النار، لجواز تخلف المقتضَى عن المقتضيِ لمعارض راجع: إما توبة، وإما حسنات ماهية، وإما مصائب مكفرة وإما شفاعة مقبولة وإما غير ذلك3073. ومن اللاعنين من يرى أن ترك لعنته مثل ترك سائر المباحات من فضول القول، لا لكراهة في اللعنة، وأما ترك محبته، فلأن المحبة الخاصة إنما تكون للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وليس واحداً منهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب3074، ومن آمن بالله واليوم والآخر، لا يختار أن يكون مع يزيد ولا مع أمثاله من الملوك، الذين ليسوا بعادلين. ولترك المحبة مأخذان: أحدهما: أنه لم يصدر عنه من الأعمال الصالحة ما يوجب محبته، فبقى واحداً من الملوك المسلطين ومحبة أشخاص هذا النوع ليست مشروعة، وهذا المأخذ ومأخذ من لم يثبت عنده فسقة أعتقد تأويلاً. والثاني: أنه صدر عنه ما يقتضي ظلمه وفسقه في سيرته من أمر الحسين وأمر أهل الحرة3075.
…وأما الذين لعنوه من العلماء كأبي الفرج الجوزي، والكيا الهراسي3076 وغيرهما، فلما صدر عنه من الأفعال التي تبيح لعنته، ثم قد يقولون: هو فاسق، وكل فاسق يلعن، وقد يقولون بلعن صاحب المعصية وإن لم يحكم بفسقة،... وقد يلعن لخصوص ذنوبه الكبار، وإن كان لا يلعن سائر الفساق، كما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنواعاً من أهل المعاصي، وأشخاصاً من العصاة وإن لم يلعن جميعهم فهذه ثلاثة مآخذ للعنته3077(2/178)
…وأما الذين سوغوا محبته أو أحبوه، كالغزالي، والدستي فلهم مأخذان: أحدهما: أنه مسلم ولي أمر الأمة على عهد الصحابة وتابعه بقاياهم، وكانت فيه خصال محمودة وكان متأولاً فيما ينكر عليه من أمر الحرة وغيره، فيقولون: هو مجتهد مخطيء، ويقولون: إن أهل الحرة هم نقضوا بيعته أولاً وأنكر ذلك عليهم ابن عمر وغيره، وأما قتل الحسين فلم يأمر به ولم يرض به، بل ظهر منه التألم لقتله، وذم من قتله، ولم يحمل الرأس إليه، وإنما حمل إلى ابن زياد. والمأخذ الثاني: أنه قد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له3078. وأول جيش غزاها كان أميره يزيد. والتحقيق أن هذين القولين يسوغ فيهما الاجتهاد، وكذلك محبة من يعمل حسنات وسيئات، بل لا يتنافى عندنا3079 أن يجتمع في الرجل الحمد والذم، والثواب والعقاب، كذلك لا يتنافى أن يصلى عليه ويدعى له وأن يلعن ويشتم أيضاً باعتبار وجهين. فإن أهل السنة متفقون على أن فساق أهل الملة ـ وإن دخلوا النار ، أو استحقوا دخولها فإنهم ـ لا بد أن يدخلوا الجنة، فيجتمع فيهم الثواب والعقاب، ولكن الخوارج والمعتزلة تنكر ذلك، وترى أن من استحق الثواب لا يستحق العقاب ومن استحق العقاب لا يستحق الثواب3080. وأما جواز الدعاء للرجل وعليه... فإن موتى المسلمين يُصلي عليهم، برهم وفاجرهم، وإن لعن الفاجر مع ذلك بعينه أو بنوعه، لكن الحال الأول أوسط وأعدل، وبذلك أجاب ابن تيمية رحمه الله مقدم المغول بولاي، لما قدموا دمشق في الفتنة الكبيرة وجرت بينهما وبين غيره مخطابات، فسأل ابن تيمية: ما تقولون في يزيد؟ فقال: لا نسبه ولا نحبه، فإنه لم يكن رجلاً صالحاً فنحبه ونحن لا نسب أحداً من المسلمين بعينه فقال أفلا تلعنونه؟ أما كان ظالماً؟ أما قتل الحسين؟ فقلت له: نحن إذا ذكر الظالمون ـ كالحجاج بن يوسف وأمثاله ـ نقول كما قال الله في القرآن: ((ألا لعنة الله على(2/179)
الظالمين)) (هود ، الآية : 18) ولا نحب أن نعلن أحد بعينه، وقد لعنه قوم من العلماء، وهذا مذهب يسوغ فيه الاجتهاد، لكن هذا القول أحب إلينا وأحسن وأما من قتل الحسين أو أعان على قتله، أو رضي بذلك، فعليه لعنة الله والملائكة والناس، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً. قال: فما تحبون أهل البيت؟ قلت محبتهم عندنا فرض واجب يؤجر عليه، فإنه قد ثبت عندنا في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير يدعى خمّا، بين مكة والمدينة فقال: أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله. فذكر كتاب الله وحض عليه،، ثم قال: وعترتي أهل بيتي3081 قال ابن تيمية لمقدم المغول: ونحن نقول في صلاتنا كل يوم: اللهم صلى على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد. قال مقدم المغول: فمن يبغض أهل البيت؟ قال: من أبغضهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً. ثم قال ابن تيمية للوزير المغولي: لأي شيء قال عن يزيد وهذا تتريٌّ؟ قال: قد قالوا له: إن أهل دمشق نواصب، قال ابن تيمية بصوت عال: يكذب الذي قال هذا، ومن قال هذا، فعليه لعنة الله، والله ما في أهل دمشق نواصب، وما علمت فيهم ناصبيا ولو تنقص أحد علياً بدمشق لقام المسلمون3082 عليه وعلينا أن نعرف أن لعن يزيد لم ينتشر إلا بعد أن قامت الدولة العباسية وأفسحت المجال للنيل من بني أمية3083، وأما الحديث الذي ورد مرفوعاً: ((لا يزال أمر أمتي قائماً، حتى يثلمه رجل من بني أمية يقال له: يزيد، فهو حديث غير صحيح، لأن فيه أكثر من علة3084، فقد رواه أبو يعلي في مسنده من طريق صدقة السمين، عن هشام، عن مكحول عن أبي عبيدة مرفوعاً وفيه علتان.(2/180)
أ ـ ضعف صدقة السمين، وهو أبو معاوية، صدقة بن عبد الله السمين، الدمشقي، ضعفه ابن معين والبخاري وأبو زرعة والنسائي، وقال أحمد ما كان من حديثه مرفوعاً فهو منكر، وما كان من حديثه مرسلاً عن مكحول فهو أسهل وهو ضعيف جداً وقال أيضاً: ليس يسوى شيئاً، أحاديثه مناكير وقال الدّارقطني: متروك3085
ب ـ أن هناك انقطاعاً بين مكحول وأبي عبيدة لأنه لم يدركه3086.
…وقد تحدث ابن كثير عن الأحاديث في ذم يزيد فقال: وقد أورد ابن عساكر أحاديث في ذمّ يزيد بن معاوية كلها موضوعة لا يصح منها شيء، وأجود ما ورد ما ذكرناه على ضعف أسانيده وانقطاع بعضه، والله أعلم3087
الثالث عشر : التحذير من أساطير حول مقتل الحسين رضي الله عنه:(2/181)
إن الشيعة بالغوا في نقل أخبار تلك الحادثة، وامتلأت كتب التاريخ بحوادث عجيبة قيل إنها وقعت إثر مقتل الحسين، من احمرار الأفق، وتدفق الدماء من تحت الحجارة، وبكاء الجنّ، إلى غير ذلك من الخيال الذي نسجته عقول الشيعة يومئذ، وما زالوا يردّدونه إلى اليوم تضخيماً لهذا الحادث على حساب غيره من الأحداث الأخرى3088، وإن الذي يدرس أسانيد تلك الأخبار والرّوايات لا يرى إلا ضعفاً هالكاً، أو مجهولاً لا يعرف أصله أو مدلِّساً يريد تعمية الأبصار عن الحقائق3089، ومن أكاذيب مؤرخي الشيعة على سبيل المثال في هذه الموقعة أن السبايا حملن على نجائب الأبل عرايا حتى أن الإبل البخاتي3090 إنما نبتت لها الأسنمة من ذلك اليوم لتستر عوارتهن من قبلهن ودبرهن3091. وقال ابن كثير: ولقد بالغ الشِّيعة في يوم عاشوراء، فوضعوا أحاديث كثيرة وكذباً فاحشاً، من كون الشمس كسفت يومئذ حتى بدت النجوم، وما رفع يومئذ حجر إلا وجد تحته دم، وإن أرجاء السماء احمرّت، وأن الشمس كانت تطلع وشُعاعُها كأنه الدم وصارت السماء كأنها علقة، وأن الكواكب صار يضرب بعضها بعضاً، وأمطرت السماء دماً أحمر، وأن الحمرة لم تكن في السماء قبل يومئذ.. وأن رأس الحسين لما دخلوا به قصر الإمارة جعلت الحيطان تسيل دماً، وأن الأرض أظلمت ثلاثة أيام، ولم يُمسَّ زعفران ولا ورس مما كان معه يومئذ إلا احترق مسَّه، ولم يرفع حجر من حجارة بيت المقدس إلا ظهر تحته دم عبيط. وأن الإبل التي غنموها من إبل الحسين حين طبخوها صار لحمها مثل العلقم. إلى غير ذلك من الأكاذيب والأحاديث الموضوعة التي لا يصح منها شيء3092.(2/182)
* انتقام الله من قتلة الحسين: وأما ما رُوِيَ من الأمور والفتن التي أصابت من قتله فأكثرها صحيح فإنَّه قَلَّ من نجا منهم في الدنيا إلا أُصيب بمرض، وأكثرهم أصابه الجنون، وللشيعة والرافضة في صفة مصرع الحسين رضي الله عنه، كذب كثير وأخبار طويلة، وفيما ذكرناه كفاية وفي بعض ما أوردنا نظر، ولولا أن ابن جرير وغيره من الحفاظ الأئمة ذكروه ما سُقته وأكثره من رواية أبي مخنف لوط ابن يحي، وقد كان شيعياً وهو ضعيف الحديث عند الأئمة ولكنه أخباري حافظ عنده من هذه الأشياء ما ليس عند غيره، ولهذا يترامى عليه كثير من المصنَّفين ممَّن بعده والله أعلم3093. ويقول ابن تيمية رحمه الله: وأما السؤال عن سَبْي أهل البيت وإراكابهم حتى نبت لها سنامان وهي البّخّاتي ليستتروا بذلك، فهذا من أقبح الكذب وأبينه وهو مما افتراه الزنادقة والمنافقون، الذين مقصودهم الطعن في الإسلام، وأهله من أهل البيت، وغيرهم، فإن من سمع مثل هذا وشهرته وما فيه من الكذب قد يظن أو يقول إن المنقول إلينا من معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء هو من الجنس، ثم إذا تبين أن الأمة سّبَّتْ أهل بيت نبيها، كان فيها من الطعن في خير أمة أخرجت للناس ما لا يعلمه إلا الله، إذ كل عاقل يعلم أن الإبل البَخَاتي كانت مخلوقة موجودة قبل أن يبعث الله النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل وجود أهل البيت، كوجود غيرها من الإبل والغنم، والبقر والخيل والبغال3094، وللأسف الشديد، فقد شحنت المصادر التاريخية الإسلامية، مثل تاريخ الطبري، وتاريخ ابن عساكر وغيرهما بمثل هذه الأباطيل والأكاذيب، ممّا يتطلب تحقيقاً علمياً لهذين الكتابين خاصة، ولغيرهما من كتب التاريخ3095.
الرابع عشر : ما قيل من رثاء في الحسين رضي الله عنه :
قال سليمان بن قَتّة التيمي:
………وإن قتيل الطَّف من آل هاشم
…………………أذل رقاباً من قريش فذلّت
………مررت على أبيات آل محمد
…………………فألفيتها أمثالها حين حُلّت(2/183)
………وكانوا لنا عُنْماً فعادوا زبّة
…………………لقد عظمت تلك الرازيا وجَلّت
………فلا يبعد الله الديار وأهلها
…………………وإن أصبحت منهم برغمي تخلت
………إذا افتقرت قيسٌ جبرنا فقيرَها
…………………وتقتلنا قيس إذا النّعلُ زلّت
………وعند غِنيِّ قطرة من دماءنا
…………………سنجزيهم يوماً بها حيث حَلّت
………ألم تر أن الأرض أضحت مريضة
…………………لفقد حسين والبلاد أقشعرت3096
………
وقال أبو الأسود الدِّيْلي في قتل الحسين رضي الله عنه:
………أقول وذاك من جزع ووجد
…………………أزال الله ملك بني زياد
………وأبعدهم بما غدروا وخانوا
…………………كما بعدت ثَمود وقوم عاد
………هموا خَشَمُوا الأنوف وكنا شُمّا
…………………لقتل ابن القُعَاسِ أخي مراد3097
………قتيل السوق يا لك من قتيل
…………………به نضح من أحمر كالجِساد
………وأهل نبينا من قبل كانوا
…………………ذوي كرم دعائم للبلاد
………حسين ذو الفضول وذو المعالي
…………………يزين الحاضرين وكَّلَّ باد
………أصاب العِزَّ مَهْلِكُهُ فأضحى
…………………عميداً بعد مصرعه فؤادي3098
وقال عبيد الله بن الحر أيضاً:
………يا لكِ حسرة ما دمت حيا
…………………تردّد بين حلقي والتّراقي
………حسيناً حين يطلب بذل نصري
…………………على أهل العداوة والشّقاق
………ولو أني أواسيه بنفسي
…………………لنلت كرامة يوم التّلاق
………مع ابن المصطفى نفسي فداه
…………………فولّى ثم ودّعَ بالفراق
………غداة يقول لي بالقصر3099 قولا
…………………أتتركنا وتُزمع بالظلاق؟
………فلو فلق التَلهّفُ قلب حَيّ
…………………لهمَّ اليومَ قلبي بانطلاق
………فقد فاز الأُولى نصروا حسيناً
…………………وخاب الآخرون أولو النفاق3100
وقال شاعر الإسلام محمد أقبال:
………وحسين في الأبرار والأحرار
…………………ما أزكى شمائله وما أنداها
………فتعلموا ريّ اليقين من الحسين
…………………إذا الحسين وقد أجاب نداها
………الأمهات يلدن للشمس الضياء
…………………وللجواهر حسنها وصفاها3101
المبحث الرابع : أهم الدروس والعبر والفوائد:(2/184)
أولاً : يوم عاشوراء: وهو اليوم العاشر من محرم الحرام،وقد ابتدع فيه بدع منكرة، وهلك فيه طائفتان بين إفراط وتفريط طائفة تجعله يوم فرح وسرور وأخرى يوم حزن ونياحة3102 .
لقد غلت الشيعة في مقتل الحسين رضي الله عنه غلواً مفرطاً فجعلوا يوم استشهاده رضي الله عنه العاشر من محرم مأتماً وحزناً ونياحة يكررونه في كل عام إلى يومنا هذا ورتبوا على هذا الفعل الأجر والثواب، فهو جالب للمغفرة والرحمة، مكفرة للذنوب والخطايا في زعمهم3103. فقد روي الطوسي في أماليه بسنده عن الرضا عليه السَّلام أنه قال من ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة ومن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه جعل الله عز وجل يوم القيامة، يوم فرحه، وسروره وقرت بنا في الجنان عينه3104، وبسنده أيضاً عن أبي عمارة الكوفي قال: سمعت جعفر بن محمد عليه السلام يقول: من دمعت عينه دمعة لدم سفك لنا أو حق لنا أنقضاه أو عرض انتهك لنا أو لأحد من شيعتنا بوأه الله تعالى بها في الجنة أحقاباً3105. وروى البرفي بسنده عن جعفر الصادق أنه قال: من ذكر عنده الحسين فخرج من عينه دمع مثل جناح بعوضة غفر له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر3106. وقد بوب المجلسي باباً قال فيه: باب ثواب البكاء على مصيبته ومصائب سائر الأئمة وفيه أدب المأتم يوم عاشوراء، وساق فيه أكثر من ثمان وثلاثين رواية3107 منها ما رواه بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كل الجزع والبكاء مكروه سوى الجزع والبكاء على الحسين عليه السلام3108. بل زعموا أن السماء والأرض بكت لقتله فأمطرت السماء دماً وتراباً أحمر، كما بكت الملائكة والجن وسائر المخلوقات3109، ولم يكتفوا بذلك حتى قالوا بتحريم يوم عاشوراء وأن من صامه فهو عدو للحسين وأهل بيته رضي الله عنهم أجمعين3110، فقد روى الكليني بسنده عن جعفر بن عيسى قال: سألت الرضا عليه السلام عن صوم يوم عاشوراء وما يقول الناس فيه، فقال:(2/185)
عن صوم ابن مرجانة تسألني، ذلك يوم صامه الأدعياء من آل زياد لقتل الحسين عليه السلام وهو يوم يتشاءم به آل محمد صلى الله عليه وسلم ويتشاءم به أهل الإسلام لا يصام ولا يتبرك به ويوم الاثنين يوم نحس قبض الله عز وجل فيه نبيه وما أصيب آل محمد إلا في يوم الاثنين فتشاءمنا به وتبرك به ابن مرجانة وتشاءم به آل محمد صلى الله عليه وسلم، فمن صامهما أو تبرك بهما لقي الله تبارك وتعالى ممسوخ القلب وكان حشره مع الذين سنوا صومهما والتبرك بهما3111. والأكاذيب في هذا الباب كثيرة. وهذه المآتم تظهر علناً كلما قويت شوكة الشيعة أو ظهرت لهم دولة ففي دولة بني بويه الشيعية في سنة اثنين وخمسين وثلاثمائة ألزم معز الدولة ابن بابويه يوم عاشوراء أهل بغداد بالنواح على الحسين رضي الله عنه، وأمر بغلق الأسواق ومنع الطباخين من عمل الأطعمة، وخرجت نساء الشيعة منشرات الشعور مضحمات الوجوه يلطمن ويفتن الناس، وهذا أول ما نيح عليه3112، كما اتخذت الدولة العبيدية الفاطمية على كثرة أعيادها ومناسباتها يوم عاشوراء يوم حزن ونياحة فكانت تتعطل فيه الأسواق ويخرج فيه المنشدون في الطرقات، وكان الخليفة يجلس في ذلك اليوم متلثماً يرى به الحزن كما كان القضاة، والدعاة، والأشراف، والأمراء يظهرون وهم ملثمون حفاة، فيأخذ الشعراء بالإنشاد ورثاء أهل البيت وسرد الروايات والقصص التي اختلقوها في مقتل الحسين رضي الله عنه3113. ومن مظاهرهم في هذه الأيام خروج المواكب العزائية في الطرقات والشوارع مظهرين اللطم بالأيدي على الخدود والصدور، والضرب بالسلاسل والحديد على الأكتاف حتى تسيل الدماء3114 وقد وصف ابن كثير ما يفعل الشيعة من تعدي لحدود الكتاب والسنة في دولة بني بويه في حدود الأربعمائة وما حولها فقال: فكانت الدَّبادب3115 تضرب ببغداد ونحوها من البلاد في يوم عاشوراء ويُذَرُّ الرماد والتبن في الطرقات والأسواق وتعلق المسوح على الدكاكين ويظهر الناس الحزن(2/186)
والبكاء، وكثير منهم لا يشرب الماء ليلتئذ موافقه للحسين، لأنه قتل عطشان ثم تخرج النساء حاسرات عن وجوههن ينحن ويلطمن وجوههن وصدورهن حافيات في الأسواق إلى غير ذلك من البدع الشنيعة والأهواء الفظيعة والهتائك المخترعة وإنما يريدون بهذا وأشباهه أن يُشنِّعوا على دولة بني أمية، لأنه قتل في أيامهم3116.
وقد جوّز علماء الشيعة ما يسمونه بالمواكب العزائية فقد أجاب محمد حسين الغروي النائيني عندما وجهت إليه أسئلة حول المواكب العزائية إذ قال:
1 ـ خروج المواكب العزائية في عشرة عاشوراء ونحوها إلى الطرقات والشوارع مما لا شبهة في جوازه ورجحانه وكونه من أظهر مصاديق ما يقوم به عزاء المظلوم وأيسر الوسائل لتبليغ الدعوة الحسينية إلى كل قريب وبعيد.
2 ـ لا إشكال في جواز اللطم بالأيدي على الخدود والصدور حد الاحمرار والإسوداد بل يقوي جواز الضرب بالسلاسل أيضاً على الأكتاف والظهور إلى الحد المذكور بل وإن تأذى كل من اللطم والضرب إلى خروج دم يسير على الأقوى، وأما إخراج الدم من الناحية بالسيوف والقامات فالأقوى جواز ما كان ضرره مأموناً.(2/187)
3 ـ الظاهر عدم الإشكال في جواز التشبيهات والتمثيلات التي جرت عادة الشيعة الإمامية باتخذها لإقامة العزاء والبكاء والإبكاء منذ قرون وإن تضمنت لبس الرجال ملابس النساء على الأقوى، فهذه الفتوى المعمول بها اليوم لدى الشيعة وعليها الإجماع وقد قرضها أكثر من إثني عشر من علمائهم3117، وفي وصف هذه المظاهر يقول ناصر الدين شاه: وفي الهند وباكستان وإيران والعراق تكتسي هذه المآتم حللاً مركبة إذ يخرج الرجال في الطرقات وهم يسيرون وراء هودج قد يبالغون في ارتفاعه حتى يبلغ بضعة أمتار وهم عراة وفي أيديهم زناجير من حديد وفي رؤوسها شفرات صغيرة حادة يضربون بها صدورهم وظهورهم حتى تسيل الدماء منهم، وفي كثير من الأحيان يموت بعضهم، أما النساء فإنهن يجلسن في دورهن ينحن ويبكين ويلطمن صدورهن بأيديهن كل هذا تكريماً للحسين الذي قتل مظلوماً بزعمهم3118، ويقول السيد محسن الأمين الحسيني العاملي معللاً إقامة المآتم، ونريد بإقامة المآتم البكاء لقتله (عليه السلام) بإخراج الدمع بصوت وبدونه والتعرض لما يسبب ذلك وإظهار شعار الحزن والتأسف والتألم لما صدر عليه، وتذكر مصابه ونظم الأشعار في رثائه، وتلاوتها واستماعها وتهييج النفوس بها للحزن والبكاء3119. ولم يكتفوا بذلك يقول الخميني: إن البكاء على سيد الشهداء عليه السلام وإقامة المجالس الحسينية هي التي حفظت الإسلام منذ أربعة عشر قرناً3120. فمتى كان البكاء دعوة ومتى كان العويل جهاداً فهذا معتقد الشيعة الإمامية في مقتل الحسين وفي يوم عاشوراء فهل هذا الفعل من الإسلام في شيء؟(2/188)
…إن الحسين رضي الله عنه بريء من تلك الأفعال المذكورة لئن الإسلام الذي جاء به جده عليه الصلاة والسلام لا يجوّز تلك الأفعال فقد قال صلى الله عليه وسلم: ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدوى3121 الجاهلية وقال صلى الله عليه وسلم: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال3122 من قطران3123، ودرع من جرب3124 ، وقال صلى الله عليه وسلم: أنا بريء من الصالقة والحالقة والشاقة3125، كما أن ما يفعله الشيعة في الحسينيات والمآتم تحت مسمى الشعائر الحسينية مثل: اللطم والنياحة ولبس السواد، والتطبير وغيرها والتي أفتى علماؤهم وعظماؤهم بجوازها فإنها محرمة عل لسان الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى ألسنة أئمة أهل البيت الكرام في المصادر الشيعية القديمة والحديثة، واعترف بهذا التحريم شيوخ وأعلام المذهب الشيعي الإثني عشر3126، فهذا محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي الملقب عند الشيعة بالصدوق قال: من ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لم يسبق إليها: النياحة من عمل الجاهلية3127. ورواه محمد باقر المجلسي بلفظ: النياحة عمل الجاهلية3128، فالنوح الذي استمرت عليه الشيعة جيلاً بعد جيل بعد جيل من عمل الجاهلية كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم3129. ومن هذه الروايات التي تنهي عما يقترفه الشيعة في الحسينيات ما قاله أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: وإياك والنواح على الميت ببلد يكون لك به سلطان3130، وقوله: ثلاث من أعمال الجاهلية لا يزال فيها الناس حتى تقوم الساعة: الاستسقاء بالنجوم والطعن في الأنساب والنياحة على الموتى3131، ومن الأدلة قول الإمام الباقر: أشد الجزع الصراخ بالويل والعويل ولطم الوجه والصدر وجز الشعر من النواصي، ومن أقام النواحة فقد ترك الصبر وأخذ في غير طريقه3132، وقد أنكر ما يحدث من ضرب الرؤوس بالخناجر والسيوف وإسالة الدماء الشيخ حسن مغنية: والواقع أن ضرب الرؤوس بالخناجر(2/189)
والسيوف وإسالة الدماء ليست من الإسلام في شيء ولم يرد فيها نص صريح ولكنها عاطفة نبيلة تجيش في نفوس المؤمنين لما أريق من الدماء الزكية على مذابح فاجعة كربلاء3133، ولا شك إن هذه الأمور من المنكرات والبدع الشنيعة3134. إن الإسلام علمنا آداب المصائب ومقتل الحسين رضي الله عنه مصيبة عظيمة، فمن آداب الإسلام في المصائب.
1 ـ الصبر عليها:
…وهذا أعظم آدابها، أن يصبر المؤمن على المصيبة التي تنزل به، ومن هذا الصبر حبس القلب عن التسخط، وحبس اللسان عن الشكوى وحبس الجوارح عمّا يغضب الله تعالى من لطم الخدود، وشق الجيوب وخمش الوجوه، ونتف الشعر والدعاء بدعوة الجاهلية وينبغي أن يكون هذا الصبر عند سماع الإنسان خبر المصيبة لأول مرة وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: إنما الصبر عند الصدمة الأولى3135.
2 ـ احتساب المصيبة والصبر عليها: فينبغي أن يلتمس الأجر من الله تعالى في هذا الصبر، فيصبر ابتغاء موعود الله من الأجر والثواب ويصبر لأن الله أمره بالصبر، فقال عز وجل: ((واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور)) (لقمان الآية ، 17)، ويتذكر إن فقد عزيزاً لديه، قول النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيَّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة3136، وصفيُّه: أي حبيبه من ولد أو والد أو نحوه. وهكذا فإن الله تعالى وعد بالأجر العظيم على الصبر على المصائب، ولكن بشرط أن يكون الصبر ابتغاء وجه الله تعالى، كما قال عز وجل ((وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ)) (الرعد : 22) ، فينبغي أن يكون الصبر لله تعالى، ولا صبر المغلوب. بل صبر الراضي بقضاء الله، المسلِّم به3137.(2/190)
3 ـ الاسترجاع ودعاء المصيبة: فيقول المرء عند نزول المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خير منها. فقد قال اله عز وجل ((وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)) (البقرة ، الآيات : 155 ـ 157). وقال صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلا أخلف الله له خيراً منها3138، قالت أم سلمة: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله3139.
…ويقول كذلك: الله ربي لا شريك له: فإن ذلك يكشف عنه المصائب والبلاء بإذن الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: من أصابه هم أو غم، أو سقم، أو شدة فقال: الله ربي لا شريك له. كشف ذلك عنه3140، ويدعو كذلك بدعاء المكروب الذي ذكره النبي صلى اله عليه وسلم حيث قال: دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت3141، ويقول كذلك كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: فإنه صلى الله عليه وسلم: كان إذا كربه أمر قال: يا حي يا قيوم، برحمتك استغيث3142.
4 ـ اجتناب كل ما يغضب الله: وذلك من جنس الجهر بالسوء من القول، واللطم، وشق الجيوب، وحلق الشعور، والنياحة والشكوى إلى الناس والدعاء بالموت، والويل والثبور، وغير ذلك، فهذا كله يغضب الله تعالى، وينافي الصبر على المصائب والرضا بها3143.
5 ـ تهوين المصيبة على النفس بتذكرة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم:(2/191)
…فإن وفاته وانقطاع وحي السماء من أعظم المصائب التي نزلت بالأمة، وبكل مسلم، وإذا تذكر المصاب بمصيبة ما تلك المصيبة العظيمة بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهوَّن ذلك عليه مصيبته التي نزلت به، فإن المصيبة العظيمة لا تهون إلا بالنظر إلى ما هو أعظم منها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها من أعظم المصائب3144.
6 ـ مشاهدة النعمة في المصيبة: فمن أدب المسلم مع المصيبة أن يشاهد فيها نعمة الله تعالى، ولئن كان قتل الحسين ـ رضي الله عنه ـ عظيماً وشرّاً كبيراً، فإنه بالنسبة له خير وإكرام يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ فلما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما ـ يوم عاشوراء قتلته الطائفة الظالمة الباغية وأكرم الله تعالى الحسين بالشهادة كما أكرم بها من أكرم من أهل بيته. أكرم بها حمزة وجعفراً وأباه علياً وغيرهم، وكانت شهادته مما رفع الله بها منزلته وأعلى درجته، فإنه هو وأخوه الحسن سيدا شباب أهل الجنة والمنازل العالية لا تنال إلا بالبلاء كما قال صلى الله عليه وسلم لما سئل: أي الناس أشد بلاء؟ فقال: الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خُفف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة3145. فكان الحسن والحسين قد سبق لهما من الله تعالى ـ ما سبق من المنزلة العالية، ولم يكن حصل لهما من البلاء ما حصل لسلفهما الطيب، فإنهما وُلِدا في عز الإسلام، وتربيا في عز وكرامة، والمسلمون يعظمونهما، ويكرمونهما، ومات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستكملا سن التمييز، فكانت نعمة الله عليهما أن ابتلاهما بما يُلحقهما بأهل بيتهما، كما ابتلى من كان أفضل منهما فإن علي بن أبي طالب أفضل منهما، وقد قُتل شهيداً3146.(2/192)
7 ـ تذكر القضاء السابق: فإن المسلم متى ما أيقن إن هذه المصائب مكتوبة، ومقدرة، ومتى ما استحضر في ذهنه أن كل ما قدره الله فهو لابد كائن واقع لا محيد عنه، وأن لله تعالى حكمة في تقدير هذه المصائب، كلما تذكر هذه الأمور هانت عليه المصائب3147، قال تعالى: ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)) (الحديد ، الآيتان : 22 ـ 23) .
8 ـ رأي ابن تيمية وابن كثير في ما يحدثه الشيعة يوم عاشوراء:(2/193)
أ ـ قال ابن تيمية: وصار الشيطان بسبب قتل الحسين رضي الله عنه يحدث للناس بدعتين بدعة الحزن والنوح يوم عاشوراء من اللطم والصراخ والبكاء والعطش وإنشاد المراثي وما يفضي إلى ذلك من سب السلف الصالح ولعنهم وإدخال من لا ذنب له من ذوي الذنوب حتى يسب السابقون الأولون وتقرأ أخبار مصرعه التي كثير منها كذب وقصد من سن ذلك فتح باب الفتنة والفرقة بين الأمة، فإن هذا ليس واجباً ولا مستحباً باتفاق المسلمين بل إحداث الجزع والنياحة للمصائب القديمة من أعظم ما حرم الله ورسوله3148. والذي أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم في المصيبة إذا كانت جديدة إنما هو الصبر والاحتساب والاسترجاع... وإذا كان الله قد أمر بالصبر والاحتساب والاسترجاع... وإذا كان الله قد أمر بالصبر والاحتساب عند حدثان العهد بالمصيبة، فكيف مع طول الزمان؟ فكان ما زينه الشيطان لأهل الضلال والغي من إتخاذ يوم عاشور مأتماً وما يصنعون فيه من الندب والنياحة، وإنشاد قصائد الحزن ورواية الأخبار التي فيها كذب كثير والصدق فيها ليس فيه إلا تجديد الحزن والتعصب، وإثارة الشحناء والحرب وإلقاء الفتن بين أهل الإسلام، والتوسل بذلك إلى سب السابقين الأولين، وكثرة الكذب والفتن في الدنيا3149.(2/194)
ب ـ وأما ابن كثير فيقول: فكل مسلم ينبغي له أن يحزنه هذا الذي وقع من قتله رضي الله عنه، فإنه من سادات المسلمين وعُلماء الصحابة، وابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي أفضل بناته، وقد كان عابداً وشجاعاً وسخياً ولكن لا يحسن ما يفعله الشيعة من إظهار الجزع والحزن الذي لعل أكثره تصنع ورياء وقد كان أبوه أفضل منه وهم لا يتخذون مقتله مأتماً كيوم مقتل الحسين، فإن أباه قتل يوم الجمعة وهو خارج إلى صلاة الفجر في السابع عشر من رمضان سنة أربعين، وكذلك عثمان كان أفضل من علي عند أهل السنة والجماعة وقد قُتل وهو محصور في داره في أيام التشريق من شهر ذي الحجة سنة ست وثلاثين، وقد ذبح من الوريد إلى الوريد، ولم يتخذ الناس يوم مقتله مأتماً، وكذلك عمر بن الخطاب، وهو أفضل من عثمان وعلي، قُتل وهو قائم يُصليّ في المحراب صلاة الفجر وهو يقرأ القرآن، ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتماً، وكذلك الصديق كان أفضل منه، ولم يتخذ الناس يوم وفاته مأتماً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، وقد قبضه الله إليه كما مات الأنبياء قبله ولم يتخذ أحد يوم موته مأتماً يفعلون فيه ما يفعله هؤلاء الجهلة من الرافضة يوم مصرع الحسين، ولا ذكر أحد يوم موتهم وقبلهم شيء مما ادّعاه هؤلاء يوم مقتل الحسين من الأمور المتقدمة مثل كسوف الشمس والحمرة التي تطلع في السماء وغير ذلك وأحسن ما يقال عند ذكر هذه المصائب3150 وأمثالها ما رواه الحسين بن علي عن جدّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما من مسلم يصاب بمصيبة فيتذكرها وإن تقادم عهدها، فيُحدثُ بها استرجاعاً إلا أعطاه الله من الأجر مثل يوم أصيب بها3151. يقول ابن تيمية تعليقاً على هذا الحديث: هذا حديث رواه عن الحسين ابنته فاطمة التي شهدت مصرعه وقد علم أن المصيبة بالحسين تذكر مع تقادم العهد، فكان من محاسن الإسلام أن بلغ هو هذه السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنه(2/195)
كلما ذكرت هذه المصيبة يسترجع لها، فيكون للإنسان من الأجر يوم أصيب بها المسلمون وأما من فعل مع تقادم العهد بها ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم عند حدثان العهد بالمصيبة فعقوبته أشد مثل لطم الخدود وشق الجيوب، والدعاء بدعوى الجاهلية3152.
9 ـ من يتخذ عاشوراء عيداً :
…هم من النواصب، والنواصب إحدى طوائف أهل البدع التي أصيبت في معتقدها بعدم التوفيق للإعتقاد الصحيح في الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فقد زين لهم الشيطان عدم محبة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وحملهم على التدين ببغضه وعداوته والقول فيه بما هو بريء منه، كما تعدى بغضهم إلى غيره من أهل البيت كابنه الحسين بن علي رضي الله عنهما وغيره فالنصب هو بغض علي رضي الله عنه والنيل منه والإنحراف عنه، وسمي من كانت هذه صفته ناصبياً، فالنصب كالرفض لأن الرفض هو بغض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والنيل منهم بالشتم والسب وكلاهما ضلال وابتعاد عن منهج الله، في وجوب حب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة سابقتهم في الإسلام وجهادهم بأنفسهم وأموالهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم3153، فإذا كانت الشيعة اتخذت يوم عاشوراء مأتماً وحزناً اتخذته طائفة أخرى عيداً وموسماً للفرح والسرور وهم إما من النواصب المتعصبين على الحسين وأهل بيته رضي الله عنه، وإما من الجهال الذين قابلوا الفاسد بالفاسد والكذب بالكذب والشر بالشر والبدعة بالبدعة، فوضعوا الآثار في شعائر الفرح والسرور يوم عاشوراء كالاكتحال والإختضاب وتوسيع النفقات على العيال وطبخ الأطعمة الخارجة عن العادة ونحو ذلك مما يفعل في الأعياد والمواسم، فصار هؤلاء يتخذون يوم عاشوراء موسماً كمواسم الأعياد والأفراح مقابلة لأولئك وهي بدعة ثانية ومما ورد في ذلك من أحاديث موضوعة ومكذوبة ما يلي
أ ـ حديث: من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه سنته3154.(2/196)
ب ـ ابتداع صلاة مخصوصة في يومه وليلته: روي عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى لله يوم عاشوراء ما بين الظهر والعصر أربعين ركعة يقرأ في كل رقعة بفاتحة الكتاب مرة وآية الكرسي عشر مرات وقل هو الله أحد إحدى عشرة مرة والمعوذتين خمس مرات فإذا سلم استغفر سبعين مرة أعطاه الله في الفردوس قبة بيضاء3155، وغير ذلك من البدع التي أحدثت في ذلك اليوم والتي لا أصل لها في دين الله عز وجل3156. وقد سئل ابن تيمية عما يفعله الناس في عاشوراء من الكحل والاغتسال والحناء والمصافحة وطبخ الحبوب وإظهار السرور وعزوا ذلك إلى الشارع فهل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك حديث صحيح أم لا؟ وإذا لم يرد حديث صحيح في شيء من ذلك فهل يكون فعل ذلك بدعة أم لا؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين لم يرد في شيء من ذلك حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين ولا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا روي أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئاً لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين لا صحيحاً ولا ضعيفاُ. ولا في كتب الصحيح ولا في السنن ولا في المسانيد، ولا يعرف شيء من هذه الأحاديث على عهد القرون الفاضلة وإنما حصلت هذه البدع في يوم عاشوراء، لأن الكوفة كان فيها طائفتان طائفة رافضة يظهرون موالاة أهل البيت وهم في الباطن إما ملاحدة زنادقة وإما جهال وأصحاب هوى وطائفة ناصبة تبغض علياً وأصحابه لما جرى من القتال في الفتنة ما جرى3157. فوضعت الآثار في الاحتفال بعاشوراء لما ظهرت العصبية بين الناصبة والرافضة فإن هؤلاء اتخذوا يوم عاشوراء مأتماً، فوضع أولئك آثار تقتضي التوسع فيه واتخاذه عيداً وكلاهما باطل. فهؤلاء فيهم بدع وضلال وأولئك فيهم بدع وضلال3158. فمن جعل يوم عاشوراء مأتماً وحزناً ونياحة، أو جعله يوم عيد وفرح وسرور فقد ابتدع في الدين وخالف سنة(2/197)
سيد المرسلين3159.
10 ـ هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في يوم عاشوراء:
…يوم عاشوراء من الأيام الفاضلة التي حث النبي صلى الله عليه وسلم على صيامها، فجاء في الحديث الصحيح عن أبي قتادة رضي الله عنه أنه قال: ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان فهذا الدهر كله، وصيام عرفة احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده، وصيام عاشوراء احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله3160، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء وهذا الشهر يعني شهر رمضان3161، فالسنة إذا في اليوم هذا الصيام فحسب وقد صامه صلى الله عليه وسلم وأخبر بفضل صيامه كما في الحديث السابق وأمر بقيامه، فقد جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة.
أ ـ فعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن أهل الجاهلية كانوا يصومون عاشوراء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه والمسلمون قبل أن يفترض رمضان فلما افترض رمضان. قال: صلى الله عليه وسلم: إن عاشوراء من أيام الله فمن شاء صامه ومن شاء تركه3162.
ب ـ وعن ابن عباس رضي الله عنهما: قال قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال: فأنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه. وعنه أيضاً قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: بصوم يوم عاشوراء العاشر3163.(2/198)
جـ ـ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا يوم التاسع. قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية لئن بقيت إلى قابل لأصومنّ التاسع3164. وعنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود صوموا قبله يوماً وبعده يوماً3165.
…ولقد ذكر العلماء أن صوم يوم عاشوراء على ثلاث مراتب:
أ ـ صوم التاسع والعاشر والحادي عشر لحديث: صوموا قبله يوماً وبعده يوماً.
ب ـ صوم التاسع والعاشر لحديث: إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا التاسع.
جـ ـ إفراده بالصوم أي صوم يوم عاشوراء وحده، للأحاديث الدالة على تأكيد صومه3166.
…فهذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عاشوراء ومن هنا تتجلى وسطية أهل السنة والجماعة فلا إفراط ولا تفريط إنما هو تمسك بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم وامتثال لأمره رجاء لثواب الله تعالى.
ثانياً : التحقيق في مكان رأس الحسين رضي الله عنه:(2/199)
إن سبب الاختلاف في موضع رأس الحسين رضي الله عنه عند عامة الناس إنما هو ناتج عن تلك المشاهد المنتشرة في ديار المسلمين والتي أقيمت في عصور التخلف الفكري والعقدي ـ وكلها تدعي وجود رأس الحسين ثم إن الجهل بموضع رأس الحسين جعل كل طائفة تنتصر لرأيها في إدعاء وجود الرأس عندها وإذا أردنا التحقيق في مكان الرأس فإنه يلزمنا تتبع وجود الرأس منذ إنتهاء معركة كربلاء3167. لقد ثبت أن رأس الحسين حمل إلى ابن زياد فجعل الرأس في طست وأخذ يضربه بقضيب كان في يده، فقام إليه أنس بن مالك رضي الله عنه وقال: لقد كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم3168. ثم بعد ذلك تختلف الروايات والآراء اختلافاً بيناً بشأن رأس الحسين رضي الله عنه ولكن بعد دراسة الروايات التي ذكرت أن ابن زياد أرسل الرأس إلى يزيد بن معاوية وجدت أن الروايات على النحو التالي، هناك روايات ذكرت أن الرأس أرسل إلى يزيد بن معاوية، وأخذ يزيد ينكث بالقضيب في فم الحسين، الأمر الذي حدا بأبي برزة الأسلمي رضي الله عنه على أن ينكر على يزيد فعلته، ولكن هذه الرواية التي ذكرت وصول الرأس وتعامل يزيد معه بهذا النحو ضعيفة3169. وقد استدل ابن تيمية على ضعف هذه الرواية: بأن الذين حضروا نكثه بالقضيب من الصحابة لم يكونوا بالشام، وإنما كانوا بالعراق3170، ومما يدل على فساد متن هذه الرواية هو أن متنها مخالف لتلك الروايات الصحيحة، والتي بينت حسن معاملة يزيد لآل الحسين وتألمه وبكائه على قتل الحسين رضي الله عنه3171، وقد قال ابن تيمية: ورأس الحسين إنما حمل إلى ابن زياد وهو الذي ضربه بالقضيب كما ثبت في الصحيح3172، وأما ما حمله إلى عند يزيد فباطل، وإسناده3173 منقطع، وقد ذهب ابن كثير إلى ذهاب الرأس إلى يزيد فقد قال: وقد اختلف العلماء في رأس الحسين هل سيّره ابن زياد إلى الشام أم لا؟ على قولين الأظهر منها أنه سيّره إليه،، فقد ورد في ذلك آثار كثيرة والله أعلم3174، وهو(2/200)
ما ذهب إليه الذهبي3175.
وقد ذكر بأن رأس الحسين مقبور في ستة مدن وهي:
1 ـ دمشق: ذكر البيهقي في المحاسن والمساوئ: أن يزيد أمر بغسل الرأس وجعله في حرير وضرب عليه خيمة ووكل به خمسين رجلاً3176، وساق ابن عساكر بإسناده عن ريا حاضنة يزيد بن معاوية أن الرأس مكث في خزائن السلاح حتى ولي سليمان، فبعث فجيء به فبقي عظماً فطيبه وكفّنه، فلما وصلت المسودّة3177، سألوا عن موضع الرأس ونبشوه فالله أعلم ما صنع به3178، ورواية القصة ((ريا)) هذه ذكرها ابن عساكر ولم يذكر فيها جرحاً، ولا تعديلاً وتكون بذلك مجهولة3179، وبذلك تكون رواية ساقطة لا يعتمد عليها بأي حال من الأحوال3180، وقد أورد الذهبي بإسناده عن أبي كريب قال: كنت فيمن توثب على الوليد بن يزيد بدمشق، فأخذت سفطاً وقلت فيه غنائي، فركبت فرسي، وخرجت من باب توما، قال: ففتحته، فإذا فيه رأس مكتوب عليها، هذا رأس الحسين بن علي، فحفرت فيه بسيفي فدفنته3181؟. وهي رواية ضعيفة جداً3182. ومن ناحية أخرى ما هي فائدة يزيد في احتفاظه برأس الحسين وجعله في خزائن سلاحه3183.
2 ـ كربلاء: لم يقل أحد بأن الرأس في كربلاء إلا الشيعة الإمامية، فإنهم يقولون: بأن الرأس أعيد إلى كربلاء بعد أربعين يوماً من القتل، ودفن بجانب جسد الحسين3184 رضي الله عنه وهو يوم معروف عندهم يسمون فيه زيارة الأربعين ويكفي أن هذا القول إنما تفرد به الشيعة الإمامية وهم ليس عندهم في ذلك أي دليل أنما أقاويل عارية من الحجة والبرهان وقد أنكر أبو نعيم الفضل بن دكين على من زعم أنه يعرف قبر الحسين رضي الله عنه3185، وقد ذكر ابن جرير وغيره أن موضع قتله عفي أثره حتى لم يطلع أحد على تعيينه3186.(2/201)
3 ـ الرقة: لقد انفرد سبط ابن الجوزي بإيراد خبر يذكر أن الرأس قبر بالرقة وقال: إن الرأس بمسجد الرقة على الفرات وأنه جيء به بين يدي يزيد بن معاوية قال: لأبعثن إلى آل أبي معيط عن رأس عثمان وكانوا بالرقة، فدفنوه في بعض دورهم ثم دخلت تلك الدار بالمسجد الجامع، وهو إلى جانب سور هناك3187. وهذا خبر مستبعد فالرواية ليست مسنده ثم إن الخبر فيه نكارة واضحة لمخالفته النصوص الصحيحة، والتي ثبت فيها حسن معاملة يزيد لأسرة الحسين وتحسّره وندمه على قتله3188، ثم إن سبط ابن الجوزي هذا قال عنه الذهبي: ورأيت له مصنفاً يدل على تشيعه3189.
4 ـ عسقلان: لقد أنكر جمع من المحققين الخبر القائل بأن رأس الحسين دفن في عسقلان قال القرطبي: وما ذكر أنه في عسقلان فشيء باطل3190، وأنكر بن تيمية وجود الرأس بعسقلان3191، وتابعه على ذلك ابن كثير3192.(2/202)
5 ـ القاهرة: يبدو أن اللعبة التي قام بها العبيديون (الفاطميون) قد انطلت على الكثير من الناس، فبعد أن عزم الصليبيون الاستيلاء على عسقلان سنة تسع وأربعين وخمسمائة خرج الوزير الفاطمي صالح طلائع بن زريك خرج هو وعسكره حفاة إلى الصالحية، فتلقى الرأس ووضعه في كيس من الحرير الأخضر على كرسي من الأبنوس وفرش تحته المسك والعنبر والطيب، ودفن في المشهد الحسيني قريباً من خان الخليلي في القبر المعروف. وكان ذلك في يوم الأحد الثامن من جمادي الآخر سنة ثمان وأربعين وخمسمائة3193، وقد ذكر الفارقي أن الخليفة الفاطمي نفسه قد خرج وحمل الرأس3194، وذكر الشبلنجي أن الوزير الصالح طلائع افتدى الرأس من الأفرنج ونجح في ذلك بعد تغلبهم على عسقلان وافتداه بمال جزيل3195، ولقد حاول بعض المؤرخين أن يؤكدوا على أن الرأس قد نقل فعلاً من عسقلان إلى مصر، وأن المشهد الحسيني في مصر إنما هو حقيقة مبني على رأس الحسين رضي الله عنه3196وقد أثبت أحد المتأخرين وهو حسين محمد يوسف بأن الرأس الموجود في المشهد الحسيني هو حقيقة رأس الحسين وخطأ من يقول بغير ذلك وكان الاستدلال الذي جاء به: هي تلك المنامات والكشوفات التي تجلت لبعض الصوفية والتي جاء في تلك المنامات أن الرأس هو في الحقيقة رأس الحسين ثم أورد تأييداً لهذا القول، باستحداث قاعدة قال فيها: أن الرأس يوجد في القاهرة وذلك بسبب الشك الذي تعارض مع اليقين، واليقين هم أصحاب الكشف3197. وهذا الاستدلال لا يخضع إلى عقل أو منطق أو حجة علمية، أو برهان علمي ـ فضلاً عن قواعد المنهج الإسلامي في الاستدلال إن الاستدلال على وجود رأس الحسين في القاهرة كان مبنياً على استناده بأن الرأس كان في عسقلان، وقد أثبتنا قبل قليل بطلان وجود الرأس بعسقلان، وبالتالي يكون الرأس الذي حمل إلى القاهرة، والمشهد المعروف اليوم والمقام عليه والمسمى بالمشهد الحسيني هو كذب، وليس له علاقة برأس الحسين رضي الله عنه(2/203)
وإذا ثبت أن الرأس الذي كان مدفوناً بعسقلات هو ليس في الحقيقة برأس الحسين، فإذا متى أدّعي أن رأس الحسين بعسقلان وإلى من يعود ذلك الرأس؟ يقول النويري: أن رجلاً رأى في منامه، وهو بعسقلان أن رأس الحسين في مكان بها، عُيّن له في منامه، فنبش ذلك الموضع، وذلك في أيام المستنصر بالله العبيدي صاحب مصر، ووزارة بدر الجمالي، فابتني له بدر الجمالي مشهداً بعسقلان3198، وقام الأفضل بعد ذلك بإخراجه وعطّره ووضعه في مكان آخر من عسقلان وابتنى عليه مشهداً كبيراً3199، ولعلك تعجب من إسراع العبيديين لأقامة المشهد على هذا الرأس، لمجرد رؤية رجل فقط؟ ولكن إذا عرفت تاريخ العبيديين فإن الأمر لا يستغرب لهذا الحد، فإحاسهم بأن الناس لا يصدقون نسبتهم إلى الحسين، جعلهم يلجؤون إلى تغطية هذا الجانب، باستحداث وجود رأس الحسين بعسقلان، ويظهروا من الاهتمام به وبناء المشهد عليه والإنفاق على ترميمه وتحسينه من الأموال الشيء الكثير حتى يصدقهم الناس، ويقولون: إنه لو لم يكن لهم نسب فيه لما اهتموا به إلى هذا الحد؟ ثم إن هناك بعداً سياسياً أخر باستحداث وادعاء وجود رأس الحسين بعسقلان دون غيرها من المناطق التي تقع تحت سيطرتهم وهو محاولة مجابهة الدويلات السنية التي قامت في بلاد الشام، ومن المعروف أن حكومة المنتصر بالله العبيدي قد صادفت قيام دولة السلاجقة السنية التي تمكن قائدها طغرلبك السلجوفي من دخول بغداد سنة سبع وأربعين وأربعمائة3200. ومما يدل على أن استحداث وجود رأس الحسين بعسقلان ونقله إلى مصر ما هو إلا خطة عبيدية، هو أنه لم يرد بأن رأس الحسين وجد في عسقلان في أي كتاب قبل ولاية المنتصر الفاطمي. وهذا مما يعزز كذب العبيديين وتحقيق أغراض خاصة لهم بذلك3201 ، وقد ذكر ابن تيمية أن هذا الرأس المزعوم بأنه رأس الحسين ليس في الأصل سوى رأس راهب3202. وقد نقل ابن دحية في كتابه ((العلم المشهور)) الإجماع على كذب وجود الرأس بعسقلان أو(2/204)
بمصر، ونقل الإجماع أيضاً على كذب المشهد الحسيني الموجود في القاهرة وذكر أنه من وضع العبيديين ولأنه لأغراض فاسدة وضعوا ذلك المشهد وقد أزال الله تلك الدولة وعاقبها بنقيض قصدها3203. وقد أنكر وجود الرأس في مصر كل من: ابن دقيق العيد، وأبو محمد بن خلف الدمياطي، ,ابو محمد بن القسطلاني، وأبو عبد الله القرطبي وغيرهم3204. وقال ابن كثير: وادعت الطائفة المسماة بالفاطميين الذين ملكوا مصر قبل سنة أربعمائة إلى سنة ستين وخمسمائة أن رأس الحسين وصل إلى الديار المصرية ودفنوه بها وبنوا عليه المشهد المشهور بمصر، الذي يقال له تاج الحسين، بعد سنة خمسمائة، وقد نص غير واحد من أئمة أهل العلم على أنه لا أصل لذلك وإنما أرادوا أن يروجوا بذلك بطلان ما ادعوه من النسب الشريف، وهم في ذلك كذبة خونة، وقد نص على ذلك القاضي الباقلاني وغير واحد من أئمة العلماء في دولتهم، قلت: والناس أكثرهم يروّج عليهم مثل هذا، فإنهم جاءوا برأس فوضعوه في مكان هذا المسجد المذكور، وقالوا هذا رأس الحسين، فراج ذلك عليهم واعتقدوا ذلك والله أعلم3205.(2/205)
6 ـ المدينة النبوية: إن المدن التي مرّ ذكرها لم يثبت لدينا أدنى دليل على وجود الرأس بها، ولم يبق أمامنا سوى المدينة، فقد ذكر ابن سعد بإسناد جمعي: أن يزيد بعث بالرأس إلى عمرو بن سعيد والي المدينة، فكفنه ودفنه بالبقيع إلى حيث قبر أمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم3206، وقال ابن تيمية: ثم إن دفنه بالبقيع: هو الذي تشهد له عادة القوم فإنهم كانوا في الفتن، إذا قتل الرجل منهم، ـ لم يكن منهم ـ سلموا رأسه وبدنه إلى أهله كما فعل الحجاج بابن الزبير لما قتله وصلبه، ثم سلموه إلى أهله، وقد علم أن سعي الحجاج في قتل ابن الزبير، وأن ما كان بينهما من الحروب أعظم بكثير مما كان بين الحسين وبين خصومه3207. كما أننا لا نجد انتقاداً واحداً انتقد فيه يزيد سواءً من آل البيت أو من الصحابة أو من التابعين فيما يتعلق بتعامله مع الرأس، فظني أن يزيد لو أنه تعامل مع الرأس كما تزعم بعض الروايات من الطوفان به بين المدن والتشهير برأسه، لتصرف الصحابة والتابعين تصرفاً آخر على أثر هذا الفعل، ولما رفض كبارهم الخروج عليه يوم الحرة ولرأيناهم ينضمون مع ابن الزبير المعارض الرئيسي ليزيد3208، ويؤيد هذا الرأي قول الحافظ أبو يعلي الهمداني: إن الرأس قبر عند أمه فاطمة رضي الله عنهما وهو أصح ما قيل في ذلك3209، وهو ما ذهب إليه علماء النسب مثل الزبير بن بكار ومحمد بن الحسن المخزومي3210، وذكر ابن أبي المعالي أسعد بن عمار في كتابه ((الفاصل بين الصدق، والمَيْن في مقر رأس الحسين)) أن جمعاً من العلماء الثقات كابن أبي الدنيا وأبي المؤيد الخوارزمي، وأبي الفرج بن الجوزي قد أكدوا أن الرأس مقبور في البقيع بالمدينة3211، وتابعهم على ذلك القرطبي3212، وقال الزرقاني: قال ابن دحية ولا يصح غيره3213، وابن تيمية يميل إلى أن الرأس قد بعث به يزيد إلى واليه على المدينة عمر بن سعيد وطلب منه أن يقبره بجانب أمه فاطمة رضي الله عنها والذي جعل(2/206)
ابن تيمية برأي ذلك هو: أن الذي ذكر أن الرأس نقل إلى المدينة هم من العلماء والمؤرخين الذين يعتمد عليهم مثل الزبير بن بكار، صاحب كتاب الأنساب، ومحمد بن سعد كاتب الواقدي صاحب الطبقات ونحوهما من المعروفين بالعلم والثقة والاطلاع، وهم أعلم بهذا الباب، واصدق فيما ينقلونه من المجاهيل والكذابين، وبعض أهل التاريخ، الذين لا يوثق بعلمهم، وقد يكون الرجل صادقاً، ولكن لا خبرة له بالأسانيد، حتى يميز بين المقبول والمردود أو يكون سيء الحفظ أو متهماً بالكذب أو بالتزوير في الرواية، كحال كثير من الأخباريين والمؤرخين3214.
…وقال ابو عمر عبد الله بن محمد الحمادي: وهكذا اختلفوا في موقع رأس الحسين على ثلاثة أماكن وكل واحد منهم يريد أن يكون الرأس عنده حتى تكثر الزيارات فيكثر رمي الأموال على القبر ليتقاسمه السدنة، وحرّاس القبور وبهذا الاختلاف جعلوا للحسين ثلاثة رؤوس ومعلوم يقيناً أنه كان رضي الله عنه له رأس واحد3215. ومن خلال البحث، فإنه يتضح أن جسد الحسين رضي الله عنه بكربلاء وأما رأسه بالبقيع في المدينة والله أعلم.
ثالثاً : تقديس أضرحة الأئمة وزيارة قبر الحسين رضي الله عنه عند الشيعة:(2/207)
بالغ الشيعة في تعظيم مراقد الأئمة ومنحوها من القداسة والشرف ما لم تحظ به الكعبة المشرفة والمدينة المنورة، فقد نسبوا زوراً وبهتاناً إلى علي بن الحسين أنه قال: اتخذ الله أرض كربلاء حرماً آمناً مباركاً قبل أن يخلق الله أرض الكعبة ويتخذها حرماً بأربعة وعشرين ألف عام وقدسها وبارك عليها، فما زالت قبل خلق الله الخلق ـ مقدسة مباركة ولاتزال كذلك حتى يجعلها الله أفضل أرض الجنة وأفضل منزل ومسكن يسكن فيه أولياؤه في الجنة3216 ـ كما نسبوا إلى جعفر الصادق وهو بريء مما نسبوا إليه ـ: أن أرض الكعبة قالت: من مثلي وقد بُني بيت الله على ظهري يأتيني الناس من كل فج عميق وجعلت حرم الله وأمنه، فأوحى الله إليها: أن كفّي وقرّي ما فضل ما فضلت به فيما أعطيت أرض كربلاء إلا بمنزلة الإبرة غرست في البحر فحملت من ماء البحر، ولولا تربة كربلاء ما فضلتك ولولا ما تضمنه أرض كربلاء ما خلقتك ولا خلقت البيت الذي به افتخرت، فقري واستقري وكوني ذنباً متواضعاً ذليلاً مهيناً غير مستنكف ولا مستكبر لأرض كربلاء وإلا سخت بك وهويت بك في نار جهنم3217. وهذه البقعة بالطبع لم تنل ما نالت إلا بكونها في معتقدهم مدفن الحسين رضي الله عنه: وقد جرت على ألسنة الشعراء وأقلام الكتاب من بعد الواقعة وإلى يومنا هذا المقارنة بينها وبين الكعبة وتفننوا بمختلف أساليب النثر والنظم في إثبات فضلها وقداستها وشرفها واستطالة أرضها على جميع الأقطار بالفضل والشرف، وهذه الأرض المباركة لم تنل هذا الشرف العظيم في الإسلام إلا بالحسين رضي الله عنه كما نص عليه الحديث: وزادها في تواضعها وشكرها لله بالحسين (ع) وأصحابه3218، وبناء على غلوهم واعتقادهم في الأئمة ـ والتي قد مرّ بيان معتقدهم في ذلك في كتابي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ـ ولأجل ربط الناس بأضرحتهم ومشاهدهم، وضعوا الفضائل الكبيرة والأجور الكثيرة لمن زار تلك المشاهد، ومع الكثرة الكاثرة من النصوص(2/208)
في هذا الجانب والتي تتفاوت فيها الأجور والمقارنة بين زيارة كربلاء والحج والعمرة لبيت الله الحرام، فإنني3219 سأقتصر على نصين فقط لإحتوائهما على معظم تلك النصوص وتصوير مدى الكذب والافتراء عند القوم واستخفافهم بعقول اتباعهم وجرأتهم على الله عز وجل فيما نسبوه إلى أبي عبد الله جعفر الصادق أنه قال: لو يعلم الناس ما في زيارة الحسين عليه السلام من الفضل لماتوا شوقاً وانقطعت أنفسهم عليه حسرات قلت: وما فيه؟ قال من زاره تشوقاً إليه كتب الله له ألف حجة متقبلة وألف عمرة مبرورة، وأجر ألف شهيد من شهداء بدر، وأجر ألف صائم، وثواب ألف صدقة مقبولة وثواب ألف نسخة أريد بها وجه الله، ولم يزل محفوظاً سنته من كل آفة أهونها الشيطان، وكل به ملك كريم يحفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وفوق رأسه وتحت قدمه، فإن مات من سنته حضرته ملائكة الرحمن يحضرون غسله وأكفانه والاستغفار له ويشيعونه إلى قبره بالاستغفار ويفسح له في قبره مد بصره ويؤمنه الله من ضغطة القبر ومن منكر ونكير يروعانه، ويفتح له باب إلى الجنة ويعطى كتابه بيمينه، ويعطي له يوم القيامة نور يضيء لنوره ما بين المشرق والمغرب، وينادي مناد هذا من زوار الحسين شوقاً إليه، فلا يبقى أحد يوم القيامة إلا تمنى يومئذ أنه كان من زوار الحسين عليه السلام3220. وقد سوّغ هذه المبالغات أحد أئمتهم بذكر فضائلهم وما أعطوا من صفات فوق مستوى البشر فقال: إن هذا ليس بكثير على من جعله الله إماماً للمؤمنين، وله خلق السماوات والأرضين، وجعله صراطه وسبيله وعينه ودليله وبابه الذي يؤتي منه وجعله المتصل بينه وبين عباده من رسل وأنبياء وحجج وأولياء، هذا مع أن مقابرهم رضي الله عنهم فيها أيضاً إنفاق أموال ورجاء آمال وأشخاص أبدان وهجران أوطان وتحمل مشاق، وتجديد ميثاق، وشهود شعائر وحضور مشاعر3221. ومبالغة في تقديس تلك القبور جعلوا لها مناسك خاصة بها وهذه المناسك ليست خاصة(2/209)
بقبر الحسين فقط، بل إنها عامة بجميع مشاهد أئمتهم3222، وقد قال آغا بزرك الطهراني أحد شيوخ الشيعة، أن ما صنفه شيوخهم في المزار، ومناسكه قد بلغ ستين كتاباً3223، وإليك منسكاً من تلك المناسك التي يؤدونها عند المشاهد باختصار: قال الصادق عليه السلام: إذا أردت المسير إلى قبر الحسين عليه السلام فصُم يوم الأربعاء والخميس والجمعة، فإذا أردت الخروج فاجمع أهلك وولدك وادع بدعاء السفر، واغتسل قبل خروجك، وقل حين تغتسل كذا، وكذا، فإذا خرجت فقل كذا وكذا، ولا تدّهن ولا تكتحل حتى تأتي الفرات، وأقِلْ من الكلام والمزاح، وأكثر من ذكر الله تعالى، وإياك والمزاح والخصومة، فإذا كنت راكباً أو ماشياً.. فإذا خفت شيئاً فقل.. فإذا أتيت الفرات فقل قبل أن تعبره... ثم أعبر الفرات.. ثم تفصيل إلى أن يقول واصنع هذه المناسك:.. ثم ضع خدك على القبر ((قبر علي بن الحسين)) وقل:.. ثم تدور من خلف الحسين عليه السلام إلى عند رأسه وصلّ عند رأسه ركعتين.. ثم تنكب على القبر وتقول.. ثم تخرج من السقيفة وتقف بحذاء قبور الشهداء وتوميء إليهم أجمعين3224 إلى غير ذلك من تفاصيل لبعض ما يفعلون عند المشاهد من طواف بها واستقبال لها حال الصلاة وغير ذلك آثرت تركها اختصاراً3225، وانظر بعضها في أصول مذهب الشيعة3226، كما أن الشيعة تعتقد أن بناء الأضرحة والقباب على مراقد الأنبياء والأئمة ـ والشخصيات الإسلامية من أفضل المقربات لله سبحانه وتعالى، وإليك الرد على كل من:
1 ـ قدسية كربلاء:(2/210)
…لا يوجد نص في كتاب الله ولا صح شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أو علماء الأمة في خير القرون يدل على قدسية كربلاء أو الفضائل المزعومة لها وغيرها كالنجف وما يسمى بالعتبات المقدسة، وأما الذي جاء في كتاب الله وسنة رسوله من قدسية وفضائل فهي، المسجد الحرام، والمشاعر المقدسة داخل المسجد الحرام وخارجه، كالكعبة، ومقام إبراهيم، بئر زمزم، الصفا والمروة، منى، رحاب عرفات، رحاب مزدلفة والمسجد النبوي وفضل الصلاة فيه، وفضل ما بين بيت الرسول ومنبره، وجواز شد الرحل إليه، وإلى المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وفضائل المدينة، وفضائل مسجد قباء، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة للمدينة، وجود البركة في صاع أهل المدينة والبقاء بها، تحريم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة وتحريم صيدها وشجرها، فضل وادي العقيق وبركته وفضائل المسجد الأقصى وبركاته، فضل الصلاة فيه، جواز شد الرحال إليه، وجود البركة حوله، وأنه ثاني مسجد وضع في الأرض بعد المسجد الحرام، الإسراء بالرسول صلى الله عليه وسلم، وجاءت الآيات والأحاديث في فضل سائر المساجد وبيوت الله عز وجل، فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم كون المساجد بيوت الله في الأرض، وفضل السعي إلى المساجد وملازمتها وفضل بناءها3227..ألخ أما ما نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قدسية كربلاء وفضائلها فإنه لا يصح في ذلك، وهذا يجري حكمه على البلاد والمقابر والقبور والأضرحة مما يزعم الشيعة أو جهّال السنة.
2 ـ هدي الإسلام في زيارة القبور:(2/211)
…كما هو في سائر شرائع الإسلام أنها تكون في غاية من الاعتدال والسماحة، وصادرة عن حكمة بالغة تضمن لمن عمل بها على بصيرة الفوز، والنجاح، والسعادة، دون أن يتعرض بسببها لأي نوع من أنواع الضلال والشقاء في الدنيا والآخرة، كذلك كانت شرعية زيارة القبور في الإسلام حينما كان الناس حدثاء عهد بالكفر والشرك وعبادة غير الله نهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن الزيارة حتى يكون هناك برزخ فاصل بين العهدين عهد الشرك وعهد التوحيد، وعهد الجاهلية، وعهد الإسلام حتى يذهب ما في النفوس من الإلتفات إلى الأرض وما عليها ممّا يقدِّسه الناس، وعهد السموّ الروحي والصفاء القلبي والذهني الذي لا يبقى معه إلتفات إلى غير الله عز وجل3228، وفعلاًُ حينما حصل ذلك، خاطب النبي صلى الله عليه وسلم أمته قائلاً: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها3229 فإنها تذكر الموت. وفي رواية: فإن في زيارتها تذكرة، وفي أخرى: فإنها تذكر الآخرة3230، وفي ثالثة: ((فزوروها ولتزدكم زيارتها خيراً3231، وفي رواية رابعة: فإن فيها عبرة3232، ومن حديث أنس رضي الله عنه: ثم بدا لي أنها تُرقّ القلب وتُدمع العين وتُذكر الموت، والدار الآخرة، وتزهِّد في الدنيا، وترق القلب وتدمع العين، وينبغي أن يحرص الزائر أن تزيده زيارته للمقابر خيراً، وهذا كله فيما يخص الزائر3233، وأما الأموات فإن لهم فيها نصيب أيضاً حيث كان صلى الله عليه وسلم إذا زارهم الله عنها قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلما كان ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين وأتاكم ما توعدون غداً مؤجَّلون وإنا إن شاء الله بكم للاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد3234. ففي هذه الأحاديث بيان أن من مقاصد الزيارة وعللها السلام على الأموات والدعاء والاستغفار لهم، قال الإمام الصنعاني ـ في سبل السلام ـ بعد ما شرح أحاديث الإذن بالزيارة:(2/212)
والكل دالّ على مشروعية زيارة القبور وبيان الحكمة فيها وأنها للاعتبار.. فإذا خلت من هذه لم تكن مرادة شرعاً3235. فهذه هي زيارة القبور في هدي الإسلام كما علمهم إيّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن أتى بها على هذا الوجه ولهذه الغاية ظفر بالأجر والفائدة المترتبة عليها، ومن زارها لغير ذلك فهي ردٌّ عليه. ثم إنها إما أن تكون بدعية وإما أن تكون شركية بحسب ما يحصل فيها من أعمال ويقارنها من اعتقاد وقصد ذلك هو هدي الإسلام في زيارة القبور، وتلك هي أهداف وغايات الزيارة واضحة ناصعة بعيدة عن كل ذريعة تؤدي إلى الشرك بأربابها والغلوّ في أصحابها، وقد جاءت بعض القيود التي تسد الثغرات الموصلة إلى ذلك3236.
القيد الأول: ألا تتخذ أعياداً، قال صلى الله عليه وسلم: لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم3237. فليس من هدي الإسلام تعيين يوم معين من سنة أو شهر، أو أسبوع يخصص لزيارة القبور كما هو شأن3238 بعض الناس.(2/213)
القيد الثاني: ألا تُشَدّ إليها الرحال، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام ومسجد الأقصى ومسجدي3239. فهذا النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة مقصود به أن يشد رحله مسافراً إلى مكان بعينه لعبادة الله تعالى فيه3240، ولم يثبت أن أحداً من الصحابة أو التابعين، أو علماء أتباع التابعين سافر إلى قبر، أو مشهد لمجرد الزيارة، ولم يصرح أحد منهم باستحباب ذلك العمل3241، وقال العلامة صديق حسن خان في كتابه السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم ابن الحجاج وبعد إيراد مختلف الأقوال ومناقشتها قال: وأما السفر لغير زيارة القبور كما تقدم نظائره، فقد ثبت بأدلة صحيحة، ووقع في عصره صلى الله عليه وسلم وقرره النبي صلى الله عليه وسلم فلا سبيل إلى المنع منه والنهي عنه، بخلاف السفر إلى زيارة القبور فإنه لم يقع في زمنه ولم يقر أحداً من أصحابه، ولم يشر في حديث واحد إلى فعله واختياره ولم يشرعه لأحد من أمته لا قولاً ولا فعلاً3242.
3 ـ البناء على القبور واتخاذها مساجد:(2/214)
…نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته عن البناء على القبور وتعظيمها بأي نوع من أنواع التعظيم، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا يفعل ذلك إلا شرار الخلق عند الله تعالى، فعن جندب بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول:... ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك3243، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه ويبنى عليه3244. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد.3245 ففي هذه الأحاديث التي مرت النهي الصريح عن أي نوع من أنواع التعظيم للقبور ومن ذلك، النهي عن اتخاذها مساجد، والنهي عن مجرد البناء عليها، وعن تجصيصها، والكتابة عليها، وقد توجه النهي أول ما توجه إلى قبور الأنبياء والصالحين، لماذا؟ لأنها هي التي يخشى الغلو في أربابها عكس قبور سائر الناس، والفتنة لها أعظم من غيرها. وهذا هو الواقع المشاهد فإنه ما من مشهد إلا ويزعم أنه بني على ولي صالح، ذي مناقب وكرامات عظيمة يرجى نفعه ويخاف انتقامه، أو يزعم أنه على نبي من أنبياء الله كما ظهر ذلك تخميناً في أماكن كثيرة من بلاد الله، ولكثير من الأنبياء مع تصريح العلماء أنه لا يُعلم على التحقيق واليقين إلا قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وزاد بعضهم قبر الخليل عليه في الموضع المشهور باسمه في فلسطين3246. وقد قال النووي في تعليقه على حديث رسول الله السابق: قال العلماء: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره مسجداً خوفاً من المبالغة في تعظيمه، والافتتان به، فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية ولما احتاجت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين والتابعون إلى الزيادة(2/215)
في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كثر المسلمون وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه ومنها حجرة عائشة رضي الله عنها، مدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، بنوا على القبر حيطاناً مستديرة حوله لئلا يظهر في المسجد، فيصلي إليه العوام ويؤدي إلى المحذور، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر، ولهذا قال في الحديث. ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشى أن يتخذ مسجداً. والله أعلم بالصواب3247، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتسوية القبور المشرفة مع قرن ذلك بطمس التماثيل، فعن أبي الهيّاج الأسدي ـ رحمه الله ـ قال: قال لي على بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سوّيته3248. فهذا أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يبعث رئيس شرطته أبا الهياج الأسدي لطمس القبور كما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أنه يطبق ما عرفه وفهمه من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك3249. وقد صرّح العلماء بخلوّ القرون المفضلة من وجود المشاهد قال ابن تيمية وهو يتكلم عن مشهد رأس الحسين رضي الله عنه:... دع خلافة بني العباس في أوائلها وفي حال استقامتها فإنهم حينئذ في قوتهم وعنفوانهم ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم من ذلك شيء في بلاد الإسلام لا في الحجاز ولا اليمن ولا الشام والعراق ولا مصر ولا خراسان ولا المغرب ولم يكن قد أحدث مشهد لا على قبر نبي ولا صاحب ولا من أهل البيت وصالح أصلاً، بل عامة هذه المشاهد محدثة، بعد ذلك، وكان ظهورها وانتشارها حين ضعفت خلافة بني العباس وتفرقت الأمة وكثر فيهم الزنادقة والملبسون على المسلمين وفشت فيهم كلمة أهل البدع وذلك في دولة المقتدر في أواخر المائة الثالثة، فإنه إذ ذاك ظهرت القرامطة(2/216)
العبيدية القداحية بأرض المغرب ثم جاءوا بعد ذلك إلى أرض مصر وقريباً من ذلك ظهر بنو بويه في كثير منهم زندقة وبدع قوية، وفي دولتهم قويَ بنو القداح بأرض مصر، وفي دولتهم أظهر المشهد المنسوب إلى علي رضي الله عنه بناحية النجف، وإلا فقبل ذلك لم يكن أحد يقول إن قبر علي هناك وإنما دفن علي رضي الله عنه بقصر الإمارة بالكوفة، وإنما ذكروا أن بعضهم حكى عن الرشيد أنه جاء إلى بقعة هناك وجعل يعتذر إلى المدفون فيها، فقالوا إنه علي وإنه اعتذر إليه مما فعل بولده، فقالوا هذا قبر علي، وقد قال قوم إنه قبر المغيرة بن شعبة3250.. ويقول الذهبي في ترجمة عضد الدولة البويهي: وكان شيعياً جلداً أظهر بالنجف قبراً زعم أنه قبر الإمام علي وبنى عليه المشهد وأقام شعار الرفض ومأتم عاشوراء والاعتزال ثم قال: وبه ختم ترجمة عضد الدولة: قلت: فنحمد الله على العافية فلقد جرى على الإسلام في المائة الرابعة بلاء شديد بالدولة العبيدية بالمغرب، وبالدولة البويهية بالمشرق وبالأعراب القرامطة فالأمر لله تعالى3251. وقال ابن كثير في حوادث سنة 347هـ: وقد امتلأت البلاد رفضاً وسباً للصحابة من بني بويه وبني حمدان والفاطميين، وكل ملوك البلاد مصراً وشاماً وعراقاً وخراسان وغير ذلك من البلاد كانوا رفضاً وكذلك الحجاز وغيره، وغالب بلاد المغرب، وكثر السب والتكفير منهم للصحابة3252. ويؤيده كذلك ما ذكره السمهودي ـ رحمه الله ـ في كتابه وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى، وهو يتحدث عن قبر فاطمة رضي الله عنها قال: وإنما أوجب عدم العلم بعين قبر فاطمة رضي الله عنها وغيرها من السلف ما كنوا عليه من عدم البناء على القبور وتجصيصها3253. وقال الشافعي ـ رحمه الله : ولم أر قبور المهاجرين والأنصار مجصصة، قال الراوي عن طاووس : ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تبنى القبور أو تجصص ـ قال الشافعي: وقد رأيت من الولاة من يهدم بمكة ما يبنى فيها فلم أرَ الفقهاء(2/217)
يعيبون ذلك3254
…إن الحقيقة التاريخية تقول أن القرون الثلاثة المفضلة مضت وليس هناك قبور معظمة ولا مشاهد أو قباب ولا غيرها من مظاهر القبورية، ولا شيء من طقوس ومراسيم العبادات القبورية، وما حاول فعله الشيعة من ذلك فقد جُوبه بردع قوي من خلفاء المسلمين وأمرائهم، كأبي جعفر المنصور العباسي، وهارون الرشيد3255.
رابعاً : خروج الحسين رضي الله عنه في الميزان الشرعي:
…إن عدم التمعن في معارضة الحسين ليزيد، والتأمل في دراسة الروايات التاريخية الخاصة بهذه الحادثة، قد جعلت البعض يجنح إلى اعتبار الحسين خارجاً على الإمام، وأن ما أصابه كان جزاءً عادلاً وذلك وفق ما ثبت من نصوص نبوية تدين الخروج على الولاة، فقد صلى الله عليه وسلم: من أراد أن يفرق بين المسلمين وهم جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان3256. قال السيوطي: أي فاضربوه شريفاً أو وضيعاً على إفادة معنى العموم3257. وقال النووي معلقاً على هذا الحديث: الأمر بقتال من خرج على الإمام أو أراد تفريق كلمة المسلمين ونحو ذلك وينهي عن ذلك فإن لم ينته قوتل، وإن لم يندفع شره إلا بالقتل قتل وكان دمه هدراً3258، وفي الحديث وغيره من الأحاديث المشابهة له جاء تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم على أن الخارج على سلطان المسلمين يكون جزاؤه القتل، وذلك لأنه جاء ليفرق كلمة المسلمين، والتعلق المبدئي بهذه النصوص جعلت الكثير يظنون أنا أبا بكر بن العربي يقول: إن الحسين قتل بسيف جده صلى الله عليه وسلم3259. وإن الجمود على هذه الأحاديث جعلت الكرامية مثلاً يقولون: إن الحسين رضي الله عنه باغ على يزيد، فيصدق بحقه من جزاء وقتل3260. وأما البعض فقد ذهبوا إلى تجويز خروج الحسين رضي الله عنه واعتبر عمله هذا مشروعاً، وجعلوا المستند في ذلك إلى أفضلية الحسين وإلى عدم التكافؤ مع يزيد3261، وأما البعض فقد جعل خروج الحسين خروجاً شرعياً بسبب ظهور المنكرات من يزيد3262. ولكن إذا أتينا لتحليل(2/218)
مخرج الحسين رضي الله عنه ومقتله، نجد أن الأمر ليس كما ذهب إليه هؤلاء ولا هؤلاء، فالحسين لم يبايع يزيد أصلاً، واعترض على فكرة التوريث دفاعاً عن الشورى ومبادئ الإسلام الداعمة لحق الأمة في اختيار من تريد وخرج معه إلى مكة عبد الله بن الزبير وذهبا لأجل جمع الأتباع وحث المسلمين على الوقوف في وجه الانحراف الذي أحدث في نظام الحكم وقلبه من الشورى إلى الوراثة، واستنهض الهمم لتصحيح هذا الخلل الذي استجد في عالم الإسلام وبدأت رحلة الحسين لجمع الأتباع والأنصار نحو التصحيح وإعادة نظام الشورى ومنهاج الخلافة الراشدة والمبادئ الكريمة، لا كما يزعم البعض من كونه خرج طمعاً في الحكم والسلطة لأنه ينبغي أن تكون فيه وفي ذريته. بتلك النظرة فيها بخس للحسين ومنهجه ولأهل البيت ومنهج القرآن وهدي جده عليه الصلاة والسلام3263.
…إن القول بنظرية النص في علي وذريته قول باطل ولا توجد أية آثار ـ صحيحة لنظرية النص في قصة كربلاء ـ ولا في غيرها ـ وقد تحدث عن ذلك الأستاذ أحمد الكاتب في كتابه تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه3264، وقد ناقشت نظرية النص على ولاية علي وذريته وأدله الشيعة في ذلك في كتابي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه.(2/219)
…إن الحسين رضي الله عنه لم يبايع يزيد بن معاوية وشرع في إعداده العدة ولم يخرج عن تعاليم الإسلام التي تشترط الإعداد الجيد لإزاحة الحاكم الجائر حتى يغلب الظن على القدرة على ذلك،، فهو قد أعد القوة كما تصورها حتى ظنها كافية لتحقيق غرضه، ولكن حساباته ـ بلا شك ـ كانت3265 خاطئة فالحسين لم يقم خطأ شرعي مخالف للنصوص، وخاصة إذا عرفنا أن جزءً من الأحاديث جاءت مبينة لنوع الخروج، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة المكتوبة إلى الصلاة التي بعدها كفارة لما بينهما، والجمعة إلى الجمعة، والشهر إلى الشهر يعني رمضان كفارة لما بينهما قال: ثم قال بعد ذلك: إلا من ثلاث قال: فعرفت أن ذلك الأمر حدث ـ إلا من الإشراك بالله، ونكث الصفقة، وترك السنة: قال: أما نكث الصفقة: أن تبايع رجلاً ثم تخالف إليه تقاتله بسيفك، وأما ترك السنة فالخروج من الجماعة3266.(2/220)
…والحسين رضي الله عنه ما خرج يريد القتال ولكن ظن أن الناس يطيعونه، فلما رأى انصرافهم عنه، طلب الرجوع إلى وطنه أو الذهاب إلى الثغر، أو إتيان يزيد3267، ولقد تعنّت ابن زياد أمام مرونة الحسين وسهولته وكان من الواجب عليه أن يجيبه لأحد مطالبه، ولكن ابن زياد طلب أمراً عظيماً من الحسين، وهو أن ينزل على حكمه، وكان من الطبيعي أن يرفض الحسين هذا الطلب، وحُقّ للحسين أن يرفض ذلك، ذلك لأن النزول على حكم ابن زياد لا يعلم نهايته إلا الله، ولربما كان حكمه فيه القتل، ثم إن هذا العرض إنما كان يعرضه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الكفار المحاربين أعداء الإسلام، والحسين رضي اله عنه ليس من هذا الصنف بل هو من أفاضل المسلمين وسيدهم3268، ولهذا قال ابن تيمية: وطلبه أن يستأسر لهم، وهذا لم يكن واجباً عليه3269. والحقيقة أن ابن زياد خالف الوجهة الشرعية والسياسية حين أقدم على قتل الحسين رضي الله عنه3270. فالظالم هو ابن زياد وجيشه الذين قدموا على قتل الحسين رضي الله عنه بعد أن رفضوا ما عرض الحسين من الصلح. ثم إن نصح الصحابة للحسين يجب أن لا يفهم على أنهم يرونه خارجاً على الإمام كما ذهب لذلك يوسف العش3271. بل إن الصحابة رضوان الله عليهم أدركوا خطورة أهل الكوفة على الحسين وعرفوا أن أهل الكوفة كذبة، وقد حملت تعابير نصائحهم هذه المفاهيم3272. يقول ابن خلدون: فتبين بذلك غلط الحسين، إلا أنه في أمر دنيوي لا يضره الغلط فيه، وأما الحكم الشرعي فلم يغلط فيه، لأنه منوط بظنه، وكان ظنه القدرة على ذلك3273. وأما الصحابة رضوان الله عليهم الذين كانوا بالحجاز ومصر والعراق والشام والذين لم يتابعوا الحسين رضوان الله عليه، فلم ينكروا عليه، ولا أثّموه، لأنه مجتهد، وهو أسوة للمجتهدين به3274. قال ابن تيمية: وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي يأمر فيها بقتل المفارق للجماعة لم تتناوله، فإنه رضي الله عنه لم يفارق الجماعة، ولم(2/221)
يقتل إلا وهو طالب للرجوع، إلى بلدة، أو إلى الثغر، أو إلى يزيد، داخلاً في الجماعة، معرضاً عن تفريق الأمة، ولو كان طالب ذلك أقل الناس لوجب إجابته إلى ذلك، فكيف لا تجب إجابة الحسين3275، ولم يقاتل وهو طالب الولاية، بل قتل بعد أن عرض الانصراف بإحدى ثلاث... بل قتل وهو يدفع الأسر عن نفسه، فقتل مظلوماً3276.
خامساً : بعض الرؤى في قصة الحسين رضي الله عنه:
…ومن هذه الرؤى المتعلقة بقصة مقتل الحسين رضي الله عنه، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام بنصف النهار أشعث أغبر معه قارورة فيها دم يلتقطه، قلت: يا رسول الله ما هذا؟ قال: دم الحسين وأصحابه لم أزل أتتبعه منذ اليوم قال عمار راوي ذلك الحديث: فحفظنا ذلك فوجدناه قُتِل ذلك اليوم3277، وهذا سنده صحيح عن ابن عباس3278، وروى ابن سعد بأسانيده: قالوا: وأخذ الحسين طريق العُذيب3279 حتى نزل قصر أبي مقاتل3280، فخفق خفقة، ثم استرجع، وقال: رأيت كأن فارساً يُسايرنا، ويقول: القوم يسيرون، والمنايا تًسري إليهم3281، وقال بعض الناس أن الحسين رضي الله عنه بني خروجه على يزيد على رؤية رآها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأن رسول الله أمره بأمر وهو ماضٍ له3282، وقد اعتمد على الرؤى قوم في أخذهم الأحكام ويقول الشاطبي: وأضعف هؤلاء احتجاجاً قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المقامات، وأقبلوا وأعرضوا بسببها فيقولون: رأينا فلاناً الرجل الصالح، فقال لنا: أتركوا كذا واعملوا كذا، ويتفق مثل هذا كثيراً للمترسمين برسم التصوف، وربما قال بعضهم: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال لي كذا وأمرني بكذا، فيعمل بها ويترك بها، معرضاً عن الحدود الموضوعة في الشريعة، وهو خطأ، لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعاً على حال إلاَّ أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية فإن سوغتها عمل بمقتضاها، وإلاَّ وجب تركها والإعراض عنها، وإنما(2/222)
فائدتها البشارة أو النذارة خاصة، وأما استفاده الأحكام فلا3283. وعليه فلا عصمة فيما يراه النائم، بل لا بد من عرضه على الشرع فإن وافقه فالحكم بما استقر، لأن الأحكام ليست موقوفة على ما يرى من المنامات، وإن خالف رد مهما كان حال الرائي أو المرئي، ويحكم على تلك الرؤيا بأنها حلم من الشيطان وأنها كاذبة وأضغاث أحلام3284. ولكن يبقى أن يقال: ما فائدة الرؤيا الموافقة للشريعة، إذا كان الحكم بما استقر عليه الشرع3285؟. فائدتها التنبيه والبشرى كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لم يبق من النبوة إلا المبشرات. قالوا وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة3286، فإن الرجل الصالح قد يرى في النوم ما يؤنسه أو يزعجه فيكون ذلك دافعاً له إلى فعل مطلوب أن ترك محظور3287.
سادساً : أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بمقتل الحسين رضي الله عنه:
…عن أم سلمة قالت: كان جبريل عند النبي صلى اله عليه وسلم والحسين معي فبكى الحسين فتركته فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فدنى من النبي صلى الله عليه وسلم فقال جبريل: أتحبه يا محمد؟ فقال: نعم. قال: إن أمتك ستقتله وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها فأراه إياها فإذا الأرض يقال لها كربلاء3288، وقد وقع الأمر كذلك بعد مضي سنين طويلة، وهذه معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم الدالة على نبوته وأنه رسول الله حقاً وصدقاً، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك عن طريق الوحي3289.
سابعاً : انتقام الله من قتلة الحسين رضي الله عنه:(2/223)
…لقد انتقم الله للحسين الشهيد رضي الله عنه من قاتليه وعلى رأسهم عبيد الله بن زياد، ويزيد بن معاوية، وكل من شارك في قتله لم يَسلم، أما عبيد الله بن زياد فقد قتله إبراهيم بن الأشتر وحز رأسه وأرسل به إلى المختار ـ بن أبي عبيد الله الثقفي يقول بن عبد البر ـ قتل الحسين ـ رضي الله عنه ـ يوم الأحد لعشر مضين من المحرم يوم عاشوراء سنة إحدى وستين ...وقضي الله ـ عز وجل ـ أن قتل عبيد الله بن زياد يوم عاشوراء سنة سبع وستين، قتله إبراهيم بن الأشتر في الحرب، وبعث برأسه إلى المختار، وبعث به المختار إلى بن الزبير وبعث به ابن الزبير إلى علي بن الحسين3290،وقد صحَّ من حديث عمار بن عمير قال: جيء برأس عبيد الله بن زياد وأصحابه فأتيناهم وهم يقولون: قد جاءت قد جاءت، فإذا حية تخلل الرؤوس حتى دخلت منخر عبيد الله فمكثت هُنيَّهة ثم خرجت وغابت. ثم قالوا: قد جاءت قد جاءت ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثاً3291. أما يزيد بن معاوية فقد مقته الناس وأبغضوه لمقتل الحسين وثار عليه غير واحد، وثار عليه أهل المدينة النبوية الشريفة، فارتكب جريمة أخرى هي موقعة الحرة بالمدينة فلم يمهله الله تعالى، وكانت دولته أقل من أربع سنين3292، وجاء عن أبي رجاء العطاردي قال: لا تسبوا علياً ولا أحداً من أهل البيت، كان لنا دار من بلهجيم قال: ألم تروا إلى هذا الفاسق الحسين ابن على قتله الله؟ فرماه الله بكوكبين في عينيه فطمس بصره3293. قال ابن كثير: وأما ما روي من الأحاديث والفتن التي أصابت من قتله فأكثرها صحيح، فإنه قلّ من نجا من أولئك الذين قتلوه من آفة أوعاهة في الدنيا، فلم يخرج منها حتى أصيب بمرض وأكثرهم أصابه الجنون3294.
ثامناً : القوى المضادة للإسلام ومصيبة كربلاء:(2/224)
…نجحت القوى المضادة لدولة الإسلام في حدوث واقعة كربلاء ثم وجدوا فيها الفرصة السانحة لتمزيق الجماعة الإسلامية، وتفريق الكلمة بتحويل النزاع بين المسلمين، فقد كانت الكوفة مجمع شذاذ الناس وأشرارهم مع خيارهم فقد أتى إليها الصحابة، كما أتى النصارى واليهود، وأقبلت القبائل العربية، كما أقبل الموالي وانتشرت الزندقة والسحر وانتشرت الحلقات المتعارضة والمجامع المتنافرة، وشرع اليهود بالكوفة في نشر التلمود، والنصارى كانوا ينادون بتجسيد الألوهية، فأطلت رؤوس مجامعهم السرية مع المراكز المتطفلة الخفية واستغل دم الحسين واعتبروه ذا قيمة في التضحية تشبه دم المسيح عند النصارى، وتسلل إلى نفوس من أسلم من الفرس من هذا الطريق يستثيرونهم ضد الدولة بحجة أن الحسين كان قد تزوج جيهان شاه ابنة يزدجرد أم علي بن الحسين3295، فارتفعوا بهذه الفاجعة عن مصائب البشر الاعتيادية فشبهوها بمصائب الأنبياء3296، وتسللت من خلالها أفكار أهل الكتاب بسهولة.. واعتبروا أن الحسين لم يتألم لما أصاب أهله ونفسه من القتل والإيذاء بل أنه تألم لأن أمة جدّه المسئول عن هدايتها بصفته الإمام والحجة ضلت بحربها إياه3297، وهذا يذكرنا بفكرة النصارى عن صلب المسيح وتعذيبه ـ فكان من السهل بذر هذه الفكرة من قبل أهل الكتاب في نفس من أسلم حديثاً، فأقبل الموالي على التشيع ورأوا في الحسين إنساناً روحانياً قدر له الله منذ الأزل أن يفتدي الإسلام بدمه ويحفظه بتضحية نفسه فقرن بدور المسيح المخلص3298... وكان لمستشاري يزيد من النصارى مثل سرجون أثر في تلك الأحاديث الدامية وما ترتب عليها من نكبات ومصائب3299.
تاسعاً : استشهاد الحسين رضي الله عنه نقطة تحول في التاريخ الفكري والعقدي للتشيع :(2/225)
…يعتبر استشهاد الحسين رضي الله عنه نقطة تحول في التاريخ الفكري والعقدي للتشيع، إذ لم يقتصر أثر هذه الحادثة الأليمة على إذكاء التشيع في نفوس الشيعة وتوحيد صفوفهم بل ترجع أهمية هذه الحادثة إلى أن التشيع كان قبل مقتل الحسين مجرد رأي سياسي لم يصل إلى عقائد الشيعة، فلما قتل الحسين امتزج التشيع بدمائهم وتغلغل في أعماق قلوبهم، وأصبح عقيدة راسخة في نفوسهم3300 لقد نظر الشيعة إلى استشهاد الحسين على أنه أهم من استشهاد علي بن أبي طالب نفسه، لأن الحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم3301، وقد اعتنق الفرس مبدأ التشيع وبذلك تمركزت العقيدة الشيعية حول الحسين وسلالته دون الحسن وذريته، وإلى اعتناق مبدأ حق الحسين بن علي الإلهي وذريته في الخلافة،وأن الإمامة بالنص لا بالاختيار3302، بل اعتبر الشيعة سفك دم الحسين في سهل كربلاء ذا قيمة في التضحية تشبه سفك دم المسيح المزعومة عند المسيحية3303، ولم يقتصر التمايز الفكري والعقدي بين أهل السنة والشيعة بعد مقتل الحسين، بل إن الشيعة أنفسهم قد أثر فيهم مصرع الحسين، وانقسموا على أنفسهم، وافترقوا بعد مقتله إلى فرق3304، ولكي يكون لمقتل الحسين أهمية خاصة عند الشيعة فقد أكدوا على أهمية يوم عاشوراء، وتفننوا في إظهار الحزن في ذلك اليوم كما ابتدعوا لفضائل ذلك اليوم من الأحاديث والآثار ما لا يقع عليه الحصر، وقد جعلوا البكاء على الحسين يوم عاشوراء يمسح الذنوب ويغفر ما تقدم منها، مما جعل الاحتفال بيوم عاشوراء واجباً دينياً يقوم به الحكام والمحكومين على السواء ويبالغون في إظهار عواطفهم المذهبية في هذا اليوم الحزين3305، لقد أراد واضعو التشيع وعقائده التأكيد على يوم عاشوراء3306 ويكون التشيع عقيدة ملتهبة في نفوس أتباعها وكانت دولهم تهتم بهذا الأمر، كالدولة البويهية بالعراق والدولة العبيدية الفاطمية بمصر3307، وقد تعرضت لعقائد الشيعة بنوع من التفصيل في كتابي عن أمير(2/226)
المؤممين علي رضي الله عنه .
عاشراً : من دعاء الحسين رضي الله عنه :
…دعا الحسين رضي الله عنه بهذا الدعاء قبل المعركة: الله أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من همّ يضعف فيه الفؤاد، وتقل فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو، أنزلته بك وشكوته إليك، رغبة مني إليك عمن سواك، ففرجته وكشفته، فأنت ولي كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل رغبة3308. إن الحسين رضي الله عنه يعلمنا حسن الدعاء والالتجاء إلى الله تعالى والثقة به والتوكل عليه والرغبة إليه فجدّه صلى الله عليه وسلم، قال: ليس شيء أكرم على الله من الدعاء3309، وقد تعلم الحسين رضي الله عنه من تعاليم جدّه صلى الله عليه وسلم، بأن الاستعانة لا تكون إلا بالله والشكوى لا تكون إلا إليه سبحانه، فلا يستعين المرء ولا يشكو إلا إلى لله وحده دون غيره من نبي أو إمام أو صالح.. ويعلمنا الحسين رضي الله عنه أن الدعاء لا يصرف إلا لله وحده دون سواه، فهذا الحسين رضي الله عنه لم يدعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أباه علياً، وهو في هذا الموقف العصيب الذي يودع فيه الحياة، بل دعا الله وحده وتوسل إليه فقط وفي هذا يعلمنا الحسين رضي الله عنه منهجاً يجب ألا نحيد عنه، وهو عند الدعاء لحاجة المرء أو طلب رزق أو شفاء مريض أو غيرها عليه أن يدعو الله وحده ولا يشرك في دعائه أحداً كائناً من كان هذا المدعو3310، فمن أحب الحسين رضي الله عنه فعليه أن يدعو الله كما دعا الحسين رضي الله عنه، ولا يقول يا حسين أو يا علي، فإن دعاء المخلوقين انحراف عظيم عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدي العلماء الربانيين وعلى رأسهم أئمة أهل البيت الأطهار
قال الشاعر :
…………وأفنية الملوك محجبات
……………………وباب الله مبذول الفِنَاءِ
…………فما أرجو سواه لكشف ضٌريِّ
……………………ولا أفزعُ إلى غير الدُّعاء3311
المبحث الخامس: وقعة الحرّة: 63هـ(2/227)
إن ثورة أهل المدينة ومعارضتهم للحكم الأموي وخلافة يزيد بن معاوية ما هي إلا امتداد طبيعي لمعارضة ابن الزبير التي بدأها في مكة، ثم إن قرب فترة يزيد بن معاوية (60هـ) بالخلافة الراشدة جعل أبناء الصحابة أكثر شوقاً لإعادة الشورى وتمكينها بين الناس، وعندما قتل الحسين رضي الله عنه بتلك الصورة الشنيعة ومعه أخوته وأبناء عمه على يد عبيد الله بن زياد أحس الكثير من أبناء الصحابة بحجم الاستبداد والتسلط الذي بدأت تمارسه الدولة الأمر الذي جعل الناس في الحجاز يتعاطفون مع ابن الزبير رضي الله عنه، ورفعه شعار الشورى، في الوقت الذي لم يحاكم يزيد عبيد الله بن زياد كأحد المسئولين المباشرين عن الجريمة النكراء التي لحقت بالحسين وأهله في كربلاء واعتبر الناس هذا التصرف محاباة لابن زياد من قبل ابن عمه يزيد بن معاوية3312.
ومما لا شك فيه أن مقتل الحسين ومن معه بتلك الصورة قد أهاج الناس جميعاً، وولد لديهم شعوراً بالحزن والأسى العميق على فقدانه بتلك الطريقة البشعة3313.
أولاً : وفد المدينة يزور يزيد بدمشق:
أراد والي المدينة عثمان بن محمد بن أبي سفيان أن يثبت ولاء أهل المدينة ليزيد، فاختار منها وفداً وأرسلهم إلى دمشق، وهناك استقبلهم يزيد استقبالاً حسناً، فأكرم وفادتهم، وأحسن جوائزهم وأجزل عطاءهم وكان في وفد المدينة عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري، وعبد الله بن أبي عمرو بن حفص المغيرة الحضرمي، والمنذر بن الزبير، ورجال كثير من أشراف أهل المدينة، وبعد أن أخذوا جوائزهم انصرفوا إلى المدينة، وهناك عابوا يزيد وشتموه، وأظهروا العداء له، وخلعوه3314، وأخرج أهل المدينة عامل يزيد عثمان بن محمد من المدينة كما أخرجوا مروان ابن الحكم وسائر بني أمية وبلغ الأمر يزيد، وعلم بما كان من أهل المدينة من خلعه، والميل إلى ابن الزبير فأعد جيشاً لغزو المدينة أسند قيادته لمسلم بن عقبة المري3315.(2/228)
ثانياً : موقف علماء أهل المدينة المعارضين للخروج:
1 ـ عبد الله بن عمر رضي الله عنه:
…اعترض بعض علماء المدينة عن خلع يزيد والخروج عليه ولم يؤيدوا من قام بالخروج، وقاموا بنصح إخوانهم واعتزلوا الفتنة وكان أغلب هذا الرأي من أهل العلم والفقه في الدين وفي مقدمة هؤلاء العالم الجليل الإمام القدوة عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد اشتهر عنه إنكاره على الذين رفضوا البيعة ليزيد وسعوا في خلعه3316، فعندما أراد عبد الله بن مطيع الفرار من المدينة تهرباً من البيعة ليزيد وسمع ذلك عبد الله بن عمر خرج إليه حتى جاءه فقال له: أين تريد يا ابن عم؟ فقال: لا أعطيهم طاعة أبداً. فقال له: أين تريد يا ابن عم؟ لا تفعل فإني أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من مات ولا بيعة عليه مات ميتة جاهلية3317 ، وعندما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده فقال إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله وإني لا أعلم غدر أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله ثم ينصب له القتال، وإني لا أعلم أحداً منكم خلعه ولا تابع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه3318. فقد عارض ابن عمر من خرج من أهل المدينة لسببين:(2/229)
…الأول: نقضهم البيعة، وهو يرى أنهم أعطوا البيعة عن رضى واختيار، ولم يفعلوا مثل الحسين رضي الله عنه، حيث كان موقفه واضحاً منذ البداية، ولم يعط البيعة، وذلك عند ابن عمر خيانة وغدر، ويتضح ذلك في قوله لعبد الله بن مطيع: إني سمعت رسو الله صلى الله عليه وسلم يقول: من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية3319. وأوجب على أهله الوفاء بالبيعة مذكراً لهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة. وإنا قد بايعنا هذا الرجل، ولا أعلم غدراً أعظم من أن يبايع رجل على بيعة الله ورسوله، ثم ينصب له القتال3320(2/230)
…الثاني: هو تعظيم حرمة دماء المسلمين وحرمة الاقتتال بينهم وتزداد هذه الحرمة في الأماكن المقدسة كمكة والمدينة، ولقد استدل ابن حجر بموقف ابن عمر السابق والأحاديث التي أستشهد بها على وجوب طاعة الإمام الذي انعقدت له البيعة، والمنع من الخروج عليه، ولو جار في حكمه، وأنه لا ينخلع بالفسق3321. والواقع أن موقف ابن عمر لا يدل على جواز بيعة رئيسي الدولة الفاسق الظالم، ولا على تحريم خلعه بسبب فسقه وظلمه، وإنما يدل على تحريم الغدر بكل أشكاله، وفي جميع مواضعه، بما فيها غدر الأمة برئيس الدولة الذي اختارته وبايعته3322، وكأن لسان حال ابن عمر يقول: إذا كنتم تعلمون من يزيد الفسق والظلم فلماذا بايعتموه في أول الأمر وجعلتموني أبايعه؟ لأن ابن عمر لم يبايع حتى بايع أهل المدينة جميعهم ـ أما وقد بايعتموه فيلزمكم الوفاء بالبيعة، وكان ابن عمر يشك في أقوالهم عن فسق يزيد، ولم يكن وحده في هذا الشك، بل كان محمد ابن الحنفية ينكر عليهم اتهام يزيد بترك الصلوات وشرب الخمر3323، ولعل ذلك هو ورع ابن عمر في أن يتهم أحداً في دينه ما لم يبلغ عنده ذلك الأمر مرحلة اليقين ومع ذلك فإنه، مع بقائه بيعة يزيد، اعتزل القتال ولم يشارك أياً من الطرفين3324 فهذا موقف شيخ الصحابة في عصره، وأروع الناس وأزهدهم وأفقههم في دين الله، وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاح والتقوى3325. وقالت عنه عائشة ما رأيت ألزم للأمر الأول من عبد الله بن عمر3326، وقال عنه سعيد بن المسيب: لو شهدت على أحد أنه من أهل الجنة لشهدت على ابن عمر3327،وقال عنه علي بن الحسين إن بن عمر أزهد القوم وأصوب القوم3328، وقال عنه مالك أقام ابن عمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستين سنة يفتي الناس في الموسم، وكان من أئمة الدين3329.
2 ـ محمد بن علي بن أبي طالب (ابن الحنفية):(2/231)
…فإنه لم ير خروج أهل المدينة على يزيد ولم يستجب لدعوتهم إياه بالخروج معهم بل جادلهم في نفي التهم التي أشاعوها عن يزيد، ولما رجع وفد أهل المدينة من يزيد مشى عبد الله بن مطيع وأصحابه إلى محمد بن الحنفية، فأرادوه على خلع يزيد فأبى عليهم، فقال ابن مطيع: إن يزيد يشرب الخمر، ويترك الصلاة، ويتعدى حكم الكتاب. فقال لهم: ما رأيت منه ما تذكرون، وقد حضرته واقمت عنده فرأيته مواظباً على الصلاة، متحرياً للخير، يسأل عن الفقه، ملازماً للسنة، قالوا: فإن ذلك كان منه تصنعاً لك. فقال: وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر لي الخشوع؟ فأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه، وإن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا. قالوا: إنه عندنا لحق، وإن لم يكن رأيناه فقال لهم: أبى الله ذلك على أهل الشهادة فقال: ((إلا من شهد بالحق وهم يعلمون)) (الزخرف ، الآية : 86) ولست من أمركم في شيء3330. قالوا: فلعلك تكره أن يتولى الأمر غيرك فنحن نوليك أمرنا. قال: ما أستحل القتال على ما تريدون عليه تابعاً ولا متبوعاً. قالوا: فقد قاتلت مع أبيك، قال: جيئوني بمثل أبي أقاتل على ما قاتل عليه، فقالوا: فمر ابنيك أبا القاسم والقاسم بالقتال معنا قال: لو أمرتهما قاتلت. قالوا: فقم معنا مقاماً تحض الناس فيه على القتال، قال: سبحان الله آمر الناس بما لا أفعله ولا أرضاه إذا ما نصحت لله في عباده. قالوا إذا نكرهك. قال: إذا آمر الناس بتقوى الله ولا يرضون المخلوق بسخط الخالق ولما رأى محمد بن الحنفية الأمور تسير في الاتجاه الذي لا يريده، وبدا يظهر له سوء عاقبة تصرفات المخالفين له من أهل المدينة حينما ترامى إلى الأسماع قدوم جيش أهل الشام إلى المدينة، لذلك قرر ترك المدينة وتوجه إلى مكة3331، وسار أهل بيت النبوة على هذا المنوال ولزموا الطاعة، ولم يخرجوا مع أهل المدينة ضد يزيد، فعلي بن الحسين بن علي بن أبي(2/232)
طالب لم يخرج مع أهل المدينة ولزم الطاعة ليزيد3332، وهو الذي قال فيه الزهري: كان أفضل أهل بيته وأحسنهم طاعة، وقال عنه: لم أدرك من آل البيت أفضل من علي بن الحسين3333، وكذلك ابن عباس رضي الله عنه وهو فقيه الأمة وحبرها وعالمها لم ينقل عنه تأييد لأهل المدينة كما أنه لم يذكر عنه أنه نزع بيعة يزيد بن معاوية، فهؤلاء أفضل آل بيت النبوة في زمانهم ومع ذلك لم يخرجوا مع أهل المدينة ومسوغات الخروج على يزيد عندهم هي أكثر من غيرهم3334.
3 ـ النعمان بن بشير الأنصاري رضي الله عنه:
…وممن عاب على أهل المدينة خروجهم وعارضه الصحابي الجليل النعمان بن بشير الأنصاري وقد كان إبان خروج أهل المدينة في الشام، فاستغل يزيد فرصة وجوده فبعثه إلى أهل المدينة لعله يفلح في صدهم عن الخروج ويعيدهم إلى الطاعة ولزوم الجماعة، فاستجاب النعمان لذلك وقدم المدينة فجمع عامة الناس، وأمرهم بالطاعة ولزوم الجماعة، وخوفهم الفتنة وقال لهم: إنه لا طاقة لكم بأهل الشام فقال له عبد الله بن مطيع: ما يحملك يا نعمان على تفريق جماعتنا، وفساد ما أصلح الله من أمرنا، فقال النعمان: أما والله لكأني بك لو قد نزلت تلك التي تدعو إليها، وقامت الرجال على الركب تضرب مفارق القوم وجباههم بالسيوف، ودارت رحى الموت بين الفريقين قد هربت على بغلتك تضرب جبينها إلى مكة، وقد خلفت هؤلاء المساكين3335 يقتلون في سككهم ومساجدهم وعلى أبواب دورهم فعصاه الناس، فانصرف، وكان والله كما قال3336.
4 ـ عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه:(2/233)
…فقد كان بالشام عندما عزم يزيد أن يبعث جيشاً إلى المدينة، فحاول عبد الله بن جعفر أن يتدخل في الأمر ليجنب أهل المدينة شر القتال، فكلم يزيد وطلب منه الرفق بأهل المدينة ورققه عليهم، وقال: إنما تقتتل بهم نفسك وقد تجاوب معه يزيد حين قال: فأني أبعث أول جيش وآمرهم أن يمروا بالمدينة إلى ابن الزبير، فإنه قد نصب لنا الحرب ويجعلونها طريقاً ولا يقاتلهم فإن أقر أهل المدينة بالسمع والطاعة تركهم، وقد وجد عبد الله بن جعفر مدخلاً لكف القتال والأذى عن أهل المدينة، فكتب على الفور إلى زعماء أهل المدينة يخبرهم بذلك ويقول: استقبلوا ما سلف واغنموا السلامة والأمن، ولا تعرضوا لجنده ودعوهم يمضون عنكم3337 وكان ردهم عليه: لا يدخلها علينا أبداً3338.
5 ـ سعيد بن المسيب رحمه الله:
…فإنه قد اعتزل فتنة خروج أهل المدينة ولم يدخل فيما دخلوا فيه، ولم يكن يحضر لهم أمراً من أمورهم إلا الجمعة والعيد، وقد لزم المسجد نهاره ولا يبرحه إلى الليل والناس في قتالهم أيام الحرة3339.(2/234)
…ومن كل ما سبق ندرك أن أهل المدينة انقسموا تجاه البيعة ليزيد والدخول في طاعته إلى قسمين، القسم الأول منهم تزعمه عدد من دفعه الحماس والغيرة على الدين إلى خلع يزيد ولقد اشترك بعض الفقهاء في موقعة الحرة، وانضم إلى أهل المدينة وخلع يزيد، وقاتل الجيش الأموي، ومن أبرزهم محمد بن عمرو بن حزم3340، وهذا يعطي لحركة أهل المدينة خصوصية الارتكاز على المرجعية الشرعية للفقهاء في مقاومة حكم يزيد بن معاوية ولقد اعتمدت ثورة أهل المدينة على فتوى هؤلاء العلماء ومن قبلهم الحسين بن علي في وجوب مقاومة المنكر ويتضح ذلك في خطاب عبد الله بن حنظلة حين قال: يا قوم اتقوا الله وحده لا شريك له، فوالله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بحجارة من السماء3341، وقد شارك في ثورة أهل المدينة عدد من صغار الصحابة هم: عبد الله بن زيد وعبد الرحمن بن أزهر وعبد الله بن حنظلة3342، إلا أن معظم الصحابة ممن عاش إلى وقعة الحرة لم يشتركوا فيها، وحاولوا إقناع الثائرين بعدم خلع يزيد والخروج على حكمه3343.(2/235)
…ومع أن الأسس الشرعية، التي قامت عليها حركة أهل المدينة وفتاويهم في الخروج على يزيد هي نفس الأسس التي بنى عليها الحسين موقفه، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجب على علماء الأمة وقادتها، وأن بني أمية قد تجاوزوا في حكمهم حدود الشريعة، سواء على الصعيد السياسي وطريقة الحكم كالانفراد بالسلطة وغياب الشورى، والاستبداد.. أو على الصعيد الشخصي، كانعدام الكفاءة والعدالة في شخص يزيد، إلا أن هناك اختلافاً كبيراً من الناحية الشرعية في الأصل الذي بنى عليه الحسين فتواه ومن ثم اتخذ قراره في مقاومة يزيد، فالحسين لم يعط البيعة ليزيد منذ البداية، وعلى ذلك فإنه كان يرى أنه يحق له ـ من هذا المنطق ـ حرية التصرف في مقاومة الحكم الأموي، بينما نجد أن أهل المدينة قد أعطوا البيعة ليزيد، ومن بعد ذلك رأوا أنهم يجوز لهم نقض البيعة وخلع يزيد نظراً لعدم كفاءته وصلاحه للحكم فأضافوا بذلك بعداً جديداً إلى فتوى الحسين، وهي أنه يجوز خلع الحاكم المسلم الذي يعتقد بفساده وفسوقه وهو أمر خالفهم فيه بقية الصحابة أي القسم الثاني من أهل المدينة ولعل ذلك هو السبب الرئيس الذي جعل فقهاء المدينة من الصحابة ينددون بقوة بخروج أهل المدينةـ فهم يرون أن نقض البيعة لا يجوز، وأن فسوق الحاكم لا يوجب عليه الخروج3344، يضاف إلى ذلك خوف كثير من فقهاء ومفتي الصحابة ممن حضر موقعة الحرة على أهل المدينة من القتل والخوف على انتهاك قدسية مدينة رسول الله صلى اله عليه وسلم، وقد وقع ذلك بالفعل3345، ومع ذلك فإن جميع الصحابة وفقهاء المسلمين لم يرضوا عن تصرف يزيد وقتله أهل الحرة واستباحته المدينة3346 بل إن ابن تيمية يعتبر هذا التصرف من كبائر الذنوب التي اقترفها يزيد3347 .
ثالثاً : معركة الحرّة:(2/236)
…اشتد الأمر على يزيد حين علم بأن بني أمية في المدينة محاصرون في دار مروان بن الحكم، فأرد أن يخلصهم من هذا الحصار قبل أن يقتلوا أو يحل بهم مكروه ـ وكانوا ألف رجل ـ فعز عليه أن يقتل هؤلاء، وفي سلطانه دون أن يقدم لهم عوناً فأمر بتجهيز جيش ليذهب إلى المدينة، فيخلص بني أمية، ويرد هؤلاء المتمردين إلى الطاعة وطلب عمرو بن سعيد ليقود الجيش فأبى، وأرسل إلى عبيد الله بن زياد ليرد أهل المدينة إلى الأهل الطاعة ثم يغزو ابن الزبير، فقال: لا أجمعهما للفاسق أبداً، أقتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأغزو البيت3348 ثم استقر الرأي على إرسال مسلم بن عقبة المرِّي3349.
1 ـ وصية يزيد لمسلم :
…اجتمع الجيش، وهمّ مسلم بن عقبة أن ينطلق بهم إلى المدينة فقال له يزيد: ادع القوم ثلاثاً، فإن رجعوا إلى الطاعة، فاقبل وكف عنهم، وإلا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا ظهرت عليهم فأبح المدينة ثلاثاً، ثم أكفف عن الناس، وانظر إلى علي بن الحسين فاكفف عنه، واستوصي به خيراً، وأدن مجلسه فإنه لم يدخل في شيء مما دخلوا فيه وأمر مسلماً إذا فرغ من المدينة أن يذهب لحصار ابن الزبير، وقال له إن حدث بك أمر فعلى الناس حصين بن نمير السكوني3350.
2 ـ مسلم يستعرض الجيش:(2/237)
…ركب مسلم بن عقبة فرسه واستعرض جيشه الذي سيحارب به أهل المدينة، فجعل على هل دمشق عبد الله بن مسعدة الفزاري، وعلى أهل حمص حصين بن نمير السكوني، وعلى أهل الأردن حبيس بن دلجة القيني، وعلى أهل فلسطين روح بن زنباع الجذامي، وشريك الكناني، وعلى أهل قنسرين طريف بن الحسحاس الهلالي، وعليهم جميعاً مسلم بن الوليد بن عقبة المرِّيّ الغطفاني3351، وسار مسلم إلى المدينة فوجد بني أمية وقد أخرجوا منها، وساروا في اتجاه الشام، فاستوقفهم وسألهم عن الوضع في المدينة، فلم ينطقوا بجواب، وكان أهل المدينة، قد أطلقوا حصارهم بعد أن أخذوا عليهم العهود والمواثيق ألاَّ يدلوا على عورة ولا يعاونوا عدواً، وطلب مسلم منهم أن يدلوه على ما ورائهم فلم يستجيبوا، فغضب مسلم منهم غضباً شديداً، فلم يبرد غضبه إلا عبد الملك بن مروان الذي دلَّه على الخطة التي يجب إتباعها في حرب المدينة، فأشار إليه بأن يأتيها من جهتها الشرقية، ويلحق في الجنوب منها، يواجه أهل المدينة، في مكان يسمى الحرَّة، وتأتي الشمس أمام جيش الشام فتلمع خوذهم وسلاحهم فيرهبون عدوهم، ويكون لهم السيطرة من الوجهة الحربية3352.(2/238)
3 ـ بدء المعركة : وفي يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من شهر ذي الحجة 63هـ وقعت المعركة المشؤومة، فوجه مسلم خيله نحو أهل المدينة والتقى الجيشان، وحمل عبد الله بن حنظلة الغسيل على خيل الشام، فانكشفت الخيل، وانهزموا حتى انتهوا إلى مسلم، فنهض مسلم بمن معه وقاتلوا قتالاً شديداً، وانكشف أهل المدينة من كل جانب وجاء الفضل بن عباس بن ربيعة إلى ابن الغسيل فقاتل معه، وطلب منه أن يجمع الفرسان ليقاتلوا معه وكان قد عزم على الوصول إلى مسلم بن عقبة ليقتله، فأمر بن الغسيل أن يجتمع الفرسان حول الفضل، وحمل الفضل بهم على أهل الشام فانفرجوا وجثث الرجال أمامه على الركب، ومضى نحو راية مسلم فقتل صاحبها وهو يظنه مسلماً3353، وكان الذي قتله الفضل غلاماً لمسلم اسمه رومي وأخذ مسلم الراية ونادى في جيشه يحضهم على القتال وأمر أحد قادته أن ينضحوا ابن الغسيل بالنبل ونادى مسلم: يا أهل الشام، أهذا هو قتال قوم يريدون أن يدفعوا به عن دينهم، وأن يُعزّوا به نصر إمامهم، قبح الله قتالكم منذ اليوم، ما أوجعه لقلبي، وأغيظه لنفسي، أما والله ما جزاؤكم عليه إلا أن تُحرموا العطاء، وأن تجمروا3354 في أقاصي الثغور، شدوا مع هذه الراية، ومشى برايته، وشدت الرجال أمام الراية، وصرع الفضل ابن عباس بن ربيعة وما بينه وبين أطناب مسلم إلا عشر أذرع، وقتل معه زيد بن عبد الرحمن بن عوف وإبراهيم بن نعيم العدوي في رجال من أهل المدينة كثير3355، ثم أن خيل مسلم ورجاله أقبلت نحو عبد الله بن حنظلة الغسيل ورجاله حتى دنوا منه، وركب مسلم بن عقبة فرساً له، فأخذ يسير في أهل الشام ويحرضهم ويقول: يا أهل الشام إنكم لستم بأفضل العرب في أحسابها وأنسابها، ولا أكثرها عدداً، ولا أوسعها بلداً، ولم يخصكم الله بالذي خصكم به من النصر عل عدوكم وحسن المنزلة عند أئمتكم إلا بطاعتكم واستقامتكم وإن هؤلاء القوم وأشباههم من العرب غيَّروا فغير الله بهم، فتموا على أحسن ما(2/239)
كنتم عليه من الطاعة يتمم الله لكم أحسن ما ينيلكم من النصر والظفر3356. وأمر مسلم أجدر رماته أن يصوب رميه نحو ابن الغسيل فقال ابن الغسيل: علام تستهدنون لهم؟ من أراد التعجل فليلزم هذه الراية، فقام إليه كل مستميت، فقال الغدوُّ إلى ربكم. فوالله إني لأرجو أن تكونوا عن ساعه قريري عين، فنهض القوم واقتتلوا أشد قتال رئي في ذلك الزمان، وأخذ ابن الغسيل يقدم بنيه أمامه واحد بعد واحد حتى قتلوا بين يديه وقتل هو وقتل معه أخوه3357.
4 ـ نهاية المعركة :
انتهت المعركة لصالح جيش الشام، وهزم أهل المدينة هزيمة ماحقة، قتل فيها خلق كثير من القادة ووجوه الناس ولم يخف مروان أسفه على ابن حنظلة ومحمد بن عمرو بن حزم، وإبراهيم بن نعيم بن النحام، وغيرهم، بل كان يثنى عليهم ويذكرهم بأحسن صفاتهم التي اشتهروا بها3358، وكان القتل ذريعاً في المدنيين وقد شبهتهم الرواية بنعام الشرد، وأهل الشام يقتلونهم في كل وجه3359،وقد قتل في هذه المعركة، عدد من الصحابة رضوان الله عليهم ويشهد لذلك ما ذكره سعيد بن المسيب حينما قال: وقعت الفتنة الأولى يعني مقتل عثمان ـ فلم تبق من أصحاب بدر أحداً، ثم وقعت الفتنة الثانية ـ يعني الحرَّة ـ فلم تبق من أصحاب الحديبية أحداً، ثم وقعت الثالثة فلم ترتفع وللناس طبّاخ3360، ولقد أورد خليفة في تاريخه قوائم بأسماء قتلى الحرَّة ثم قال: فجميع من أصيب من قريش والأنصار ثلاثمائة رجل وستة رجال3361، وقد تابعه على ذلك أبو العرب3362، والأتابكي3363، وهناك رواية مسندة عن الإمام مالك قال فيها: إن قتلى الحرَّة سبعمائة رجل من حملة القرآن وقال الراوي: وحسبت أنّه قال: وكان معهم ثلاثة أو أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم3364 ورواية مالك أقرب إلى الصحة من الذي ذكر خليفة3365.
5 ـ المبالغات التي أوردها البعض في تقدير نسبة القتلى من المدنيين:(2/240)